الكتاب : مجموع كتب ورسائل الإمام الهادي (ع)
المؤلف : الإمام الهادي إلى الحق يحيى بن الحسين(ع)

مقدمة التحقيق
مدخل
الحمد لله رب العالمين الرحمن الرحيم ملك يوم الدين، نحمده ونثني عليه بما أثنى به على نفسه، لا نحصي ثناء عليه، هو كما أثنى على نفسه، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، إلهاً واحداً أحداً فرداً صمداً، لم يتخذ صاحبةً ولا ولداً، ونشهد أن محمداً عبده ورسوله ومصطفاه، بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، صلى الله عليه وعلى أهل بيته الطاهرين، ورضي الله عن صحابته الراشدين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
وبعد: فإن في تاريخنا الإسلامي عموماً والزيدي خصوصاً نماذج ممتازة وعبقريات فذّة، شكلت في سلسلته الطويلة نقاطاً مضيئة على هداها يهتدي الدعاة السائرون في دروب الحياة، وخصوصاً من عباقرة البيت النبوي الطاهر؛ بما قاموا به من دور ريادي متميز وبطولات وانتفاضات استهدفت استعادة حق الأمة السليب في العيش الهانيء، والكريم في ظل عهود اتسمت بالظلم والاستبداد والغلبة والقهر وتكميم الأفواه.
وإن من تلك الشخصيات الفذَّة والمتميزة شخصية الإمام الهادي إلى الحق يحيى بن الحسين بن القاسم الرسي بما حملته من فكر قوي ناضج، مستمد من العقل والكتاب العزيز، وبما سجلته من بطولة وشجاعة ومواقف جهادية رائعة، وبما اختطته من حكم إسلامي عادل راشد مستمد من الخلافة النبوية مضيفاً إليها بعض المستجدات التي اقتضتها ظروف حكمه وعصره.

(1/1)


وقد تناوَلَتْ تلك الشخصية الكثير من الأقلام والدراسات، وقدمت (مشكورة) عطاء جيداً على الأقل من وجهة نظرها وحسب رؤيتها، وفيها الكثير من النتائج التي قد نوافقها عليها أو نختلف معها فيها، وهذا شيء طبيعي، ذلك لأن التقييمات تختلف، وتقييم أي شخصية ينطلق من وجهات ثلاث: الأولى: تقييمها كما كانت وكما هي، وهذا متعذر أو متعسر، حتى لمن عاصرها فضلاً عمن جاء بعدها لاختلاف نظرات المقيمين. والثانية: تقييمها كما يراها الدارس، وكما يعتقدها وتلك هي الأقرب إلى الواقع مهما صدقت المادة والجزئية التي يعتمد عليها في التقييم، وأحسن الأخذ عنها. والثالثة: تقييمها كما يريد أن يراها وأن تكون، وقد ينطلق في رؤيته من القداسة المطلقة فلا يرى إلا الإيجابيات وقد يضخمها، وقد ينطلق من ضدها فلا يرى إلا السلبيات وقد يضخمها أيضاً، وهكذا قد لا تأتي النتائج واقعية ودقيقة.
غير أن أوسطها وأقربها من الحقيقة هي الثانية؛ لما هي عليه من واقعية واعتدال، وكلما قربت في استنتاجاتها من واقع الشخصية وبيئتها وعصرها كلما كانت أقرب إلى الاعتدال والصواب.
وقد ينطلق بعض الدارسين للشخصية من واقعه هو وعصره، بل وحتى تفكيره غير معرج على واقع وعصر الشخصية موضوع الدراسة وبالتالي يخطي في تقييمه وفي نتائجه، ويحمل شخصيته ما لا تحتمل وربما لا يصل إلى حقيقة الشخصية ويبعد عنها كثيراً؛ لأن النظرة الصحيحة لا بد أن تأخذ واقع الشخصية ـ في غير النوابغ الذين سبقوا عصورهم ـ بكل ظروفه وأبعاده بعين الاعتبار، وخصوصاً في مجال الحكم والسياسة والتي يشهد عصرنا تجديداً فيها.

(1/2)


وحتى يكون حكمنا صحيحاً على أي دراسة لشخصية الإمام الهادي أو كتابة عنه ينبغي أن ننطلق في تقييمنا لتلك الدراسة مما تقدم؛ لكي نتعرف على بعض النتائج الخاطئة ـ في رأينا ـ التي ظهرت في بعض تلك الدراسات أو الكتابات عن الإمام منطلقين من توخي الحقيقة لا لعصبية ولا هوى، وإليك بعض النماذج من ذلك للتمثيل.
فمن تلك النماذج ما زعمه بعضهم من: (( أن وصول الإمام إلى اليمن كان وصول الغازين ذوي الأطماع التوسعية حباً في التسلط والسيطرة وتوسيع رقعة المملكة طمعاً في المال )) كما يفهمه كلامه.
وأول ما في هذه النظرة أنها انطلقت من مفهوم العصر الحاضر الذي أصبح فيه المجتمع الإسلامي مقسماً إلى أقطار ودويلات بفعل غزو الاستعمار ومطامعه التوسعية سياسياً واقتصادياً، وكأنه تناسى أن مفهوم المجتمع الإسلامي والدولة الإسلامية حسب مفهوم الخلافة الإسلامية وفي ذلك العصر لم يكن هكذا لا عند الحاكمين المستبدين ولا عند الثوار المعارضين ولا في ذهن الرأي العام، وأن ذلك المفهوم جاء بعد التقسيم الاستعماري لبلاد الإسلام ولم يكن ـ على الأقل ـ قد تبلور بالشكل الذي انتهى إليه في عصرنا.
وثانياً: أن الذي تحكيه التواريخ اليمنية ـ ومنها الإكليل ـ أن الإمام جاء بطلب من اليمنيين عبر بعثة يمنية ذهبت إلى الرس لطلب قدوم الإمام من آل فطيمة الخولانيين بصعدة كما يروي الهمداني وغيره، ومثل هذا المقدم واضح أنه ليس مقدم الغزاة الطامعين التوسعيين.
وثالثاً: أن حال أسرة الإمام من الناحية الاقتصادية بالذات كان ميسوراً في المدينة المنورة، فكانت لهم ضياع واسعة هناك كما يعرف ذلك من له أدنى إلمام بحالهم.

(1/3)


ورابعاً: أن مفردات سيرة الإمام مدة حكمه في اليمن كانت على خلاف تلك الدعوى، فلم يستأثر الإمام له أو لأسرته بشيء من الإقطاعات والضياع، بل قد حكت سيرته أنه كان يعيش مدة حكمه من غلول أرضه بالمدينة، وتحرجه في (( بيت المال )) أشهر من أن يستدل عليه، ويكفي الناظر أن يقارن حكمه بحكام عصره بل بحكم الخلفاء الراشدين وبالذات في الجانب الاقتصادي وسياسة المال ليعرف الحقيقة.
وخامساً: أن سيرته والسير غيرها حكت مغادرته اليمن حين رأى من بعض رعاياه ما لا يعجبه قائلاً (( والله لا أكون كالسراج يضيء لغيره ويحرق نفسه، والله ما هي إلا سيرة محمد أو النار ))، فذهب وفد آخر يطلب قدومه للمرة الثانية فتمنع ثم قبل العودة بشروط مذكورة في السيرة.
وسادساً: أنه اشتهر في دعوته قوله مخاطباً اليمنيين: (( يا أهل اليمن لكم عليَّ ثلاث: أن أقدمكم عند العطاء، وأتقدمكم عند اللقاء، وأن أساويكم بنفسي في الفيء، ولي عليكم اثنتان: أن تطيعوني ما أطعت الله فيكم، فإن عصيته فلا طاعة لي عليكم، وأن تنصحوا لي وتنصروني في السر والعلانية )) أو كما قال، وهذه ليست دعوة الطامعين المتسلطين، بل هي دعوة الراشدين التي تعطي للرعية دور الرقابة لسلوك الحاكم وحق الاعتراض والاستيضاح والمشورة.
هذا إضافة إلى أنه قد اكتفى عند دخوله اليمن ببعض قرابته ومواليه ومن خف معه في طريقه إلى اليمن، حيث كانوا قرابة خمسين.

(1/4)


ومن تلك النماذج ما اعترضه بعضهم من سيرة الإمام في المعارضين لحكمه والمتمردين عليه وتعامله معهم خصوصاً في بعض العقوبات التي كان ينفذها فيهم من الهدم والتحريق وقطع النخيل والأعناب، منطلقين من رؤية العصر ـ النظرية طبعاً لا العملية ـ في الحكم وفي العقوبة، ولكنهم تناسوا منطق عصر الإمام في مثل هذه القضايا، وأن الحاكم ـ بعد بيعته والرضى عن حكمه من خلال اجتهاده وورعه وتقواه ـ كان صاحب القرار الأول والأخير في ما هذا حاله، وكانت الرعية آنذاك تكتفي بطلب الحجة واستيضاحها لما أنكرته من سيرة الحاكم وسياسته، ولا شك أنه كان المستقر في الأذهان أن للإمام أن يسير على وفق رؤيته واجتهاده وظروف عصره وواقعه في ذلك، وقد وقعت بعض مفردات مثل ذلك في سيرة الرسول عليه الصلاة والسلام وآله وسيرة الخلفاء في بعض المواقف التأديبية، (بل وقد يقع مثلها في عصرنا وأشد منها تدميراً وخراباً للأرض والإنسان)، وغزوات الرسول والخلفاء في مثل هذا واضحة، وكذلك سير الحروب قديماً وحديثاً.
وقد احتج الإمام لما كان يفعله من ذلك بحجج من القرآن والسيرة كما ذلك معروف في سيرته حين اعترض عليه فيها.
ولكن خطأ التقييم جاء ـ في نظري ـ من البعد عن عصر الإمام وظروف واقعه وطبيعة (( الحكم والمعارضة )) في عصره وقبل عصره، حيث انطلق التقييم من عصرنا وطبيعة حكمه ومعارضته في الحكم الدستوري ودولة المؤسسات للحكومة المنتخبة بطريقة العصر والمعارضة السلمية المشروعة كما هي عليه في واقع الحكم النظري في عصرنا، وإذا أدركنا الفرق بني المفهومين للحكم والمعارضة في ذلك العصر وهذا العصر أدركنا مبرر تلك الأشياء المستنكرة.

(1/5)


ومن تلك النماذج ما اعترضه بعضهم على فكر الإمام ـ بعد ثنائه البالغ على فكر الإمام وإنصافه ـ قول الإمام بـ (( حصر الإمامة في البطنين )) منطلقاً في ذلك ـ على ما أرى ـ من عصرنا، متناسياً رؤية عصر الإمام وقبله لهذه القضية بالذات ومفهومه عن دعوى أحقية الخلافة بداية من سقيفة بني ساعدة وما أسفرت عنه من أخذ القرشيين للحكم بحجة القرابة من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. وبعيداً عن دعوى كل للخلافة باعتبار (( المنصب )) وحجة كل على دعواه لا سيما وأن جذورها ـ كما ذكرنا ـ قديمة، فإن الذي له إلمام بعصر الإمام وما قبله يجد لمثل هذه الدعوى مبرراً واضحاً وحضوراً واسعاً في ذهن الحكام والمحكومين آنذاك، وإذا عرفنا نزو الأمويين على الخلافة وتحويلها إلى ملك عضوض يرثه الابن عن أبيه، وكذلك العباسيون مدلين بأنسابهم معطين شرعية لذلك النوع من الحكم القائم على القرشية ومؤصلين لنظرتهم في (( الوراثة والغلبة )) مع ما هم عليه من عسف وجور في الأغلب، فهل يا ترى يصعب علينا فهم دعوى (( العلويين )) من أبناء فاطمة الزهراء ذوي القرابة القريبة من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم نسباً وسيرة لحصر الإمامة فيهم؟ أم أن ذلك وفي مثل ذلك العصر هو الشيء الطبيعي الذي لا نكر فيه ولا غرابة؟ مع ما هم عليه من عدل وسلوك مرضي في الأغلب، خصوصاً وأن للنسب في ذهن العربي حقاً مرعياً، فما بالك بالنسب الهاشمي محتد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
وهكذا لا بد من أن نستحضر ـ ونحن نقيم الشخصية ـ في أذهاننا واقعها وموقفها وطبيعة ظروفها ومفاهيم عصرها لكي نقترب أكثر من الحقيقة والصواب، ولكي نبتعد عن التحامل والأحكام المرتجلة المتعجلة ونستلهم من ماضينا ما ينبغي لنا في حاضرنا ومستقبلنا، فمن لا ماضي له لا حاضر له بل ولا مستقبل له.

(1/6)


إن دراسة الشخصية لا سيما العباقرة والمصلحون ليست بالمهمة السهلة وخصوصاً إذا اختلفت معها في فكرها ومع مراعاة الاعتدال في الطرح والحكم، وحتى تكون الدراسة متكاملة والصورة واضحة أكثر ينبغي أن تتضمن الدراسة أربعة ابعاد حين تكون الشخصية من الحكام وذوي السلطة: البعد الأول: بيئة الشخصية ونشأته في أسرته، ومحيطه الثقافي والفكري، بما في ذلك فضائله الذاتية ومقومات شخصيته. الثاني: فكره: ملامحه ومعالمه ومميزاته. الثالث: سياسته وحكمه وفكره السياسي وسلوكه على ضوء رؤيته السياسية والإقتصادية. الرابع: أصحابه ومريدوه. هذه الأبعاد تجعل دارس الشخصية قريباً من فهم واقعها لما لها من أثر في شخصيته ولما له من أثر عليها، ولأن كلاً منها يمثل جزءاً من شخصيته وانعكاساً لها.
وقد كنت رأيت أثناء تحقيقي لهذا المجموع من كتب ورسائل الإمام ـ حين قرأت الإمام من خلالها وغيرها من فكره الكلامي وغيره مع دراسة سيرته ـ أن أتناول شخصيته من تلك الأبعاد، وكنت قد تصورت خطة الدراسة ومنهج البحث معتزماً أن أرفق ذلك بالمجموع لينشر معه، ولكن لما يستدعيه ذلك من التطويل والتأخير رأيت أن الأولى نشر ذلك المجموع مفرداً مجرداً عن الدراسة تلك؛ لأن ذلك أقرب إلى غرضي الأساسي من تحقيق ونشر ذلك التراث العظيم، مرجئاً نشر الدراسة لحين استكمالها إن شاء الله مفردة مستقلة إن وفقني الله لذلك، تخفيفاً من حجم الكتاب وتسهيلاً للطلبة والباحثين الراغبين في اقتنائه.
وقد اقتصرت في مقدمة هذا المجموع على تعريف مجمل بالمؤلف وبموضوعات المجموع، وصورة مجملة عن سياسة الإمام وفكره، وعملي في الكتاب؛ لأن ذلك هو الأقرب إلى غرضي والأجدر بالباحث، ومن الله تعالى أستمد العون والتوفيق إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب.
والحمد لله رب العالمين وصلى الله على سيدنا محمد وآله الطاهرين.
نظرة عامة في المجموع

(1/7)


في دراستنا لهذا المجموع نخرج بصورة مجملة تناولتها كتب ورسائل الإمام تتمحور أساساً حول أربعة أصول، هي أصول الدين أو أصول العقيدة عند الإمام الهادي يحيى بن الحسين عليه السلام:
الأصل الأول: التوحيد بما فيه من نظرة تنزيهية لذات الله تعالى وصفاته تقرب من التجريد بعيدة عن التجسيم والتشبيه، وخلاصتها: (( أن الله واحد أحد ليس له شبه ولا نظير ولا مثل ولا عديل ولا كفؤ في وجه من الوجوه ولا معنى من المعاني، وأنه ليس بذي صورة ولا حد ولا غاية ولا نهاية، ولا بذي أجزاء ولا أعضاء، ولا بعضه غير بعض، ولا يقع عليه الطول والعرض، ولا يوصف بالهبوط ولا الصعود والتحرك والسكون والزوال والانتقال والتغير من حال إلى حال، ولا يحويه مكان ولا يمر عليه وقت ولا زمان، وأنه قبل كل مكان وحين وأوان ووقت وزمان، وأنه خلق المكان من غير حاجة إليه، وإنما خلقه لحاجة الخلق إليه، وأنه في السماء إله وفي الأرض إله وفي كل مكان إله خالق مدبر من غير أن يحويه شيء ولا يحيط به، ومن غير أن يكون حملة العرش يحملونه تعالى عن ذلك، وأنهم يحملون العرش وأما الله سبحانه وبحمده فإنه أعز وأجل من أن يحمله أحد من الخلق، والخلق أعجز وأضعف من أن ينالوا ذلك منه أو يقدروا عليه تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً، ومن غير أن يكون كما يستوي الإنسان على سريره، ولكنه استوى على العرش؛ واستواؤه: ملكه وقهره بلا ند يشاوره ولا ضد ينافره ولا معين يؤازره، وهو كما قال الملك في كتابه بلا كيف ولا تمثيل ولا تحديد، وأنه شيء لا كالأشياء ولا شيء يعدله سبحانه وبحمده، وأنه ليس بجسم ولا جسد، ولا فيه صفة من صفات الأجساد ونعتها وهيئتها؛ من تأليفها واتصالها واجتماعها وافتراقها وكينونة بعضها على بعض على المجامعة والمفارقة والمباشرة والدخول والخروج والقرب في المسافة والبعد في العزلة والغيبة وطول السفر، وأنه لا يحتجب بشيء من خلقه ولا يستتر به ولا يبدو له فيدركه، وأن الفكر لا

(1/8)


تبلغه وأن العقول لا تقدره والأوهام لا تناله والضمائر لا تمثله والأبصار لا تدركه، وأن العيون لا تراه لا في الدنيا ولا في الآخرة، ... وأن من شبهه بشيء من خلقه كائناً ذلك الشيء ما كان أو وصفه بتحديد أو زعم أن بيننا وبينه حجباً ساترة وأنه لو رفعت تلك الحجب لأدركناه ورأيناه، فقد قال قولاً عظيماً، وأن من وصفه بالكيفية والماهية، فقد جهل واجترا.
وأن من زعم أنه لا يعبد شيئاً فهو كما أخبر عن نفسه لا يعبد شيئاً، ومن قال: هو خالق الشيء ولا يقال له شيء فقد جار وحار عن طريق القصد والهدى، وأن الله علام الغيوب لا تخفى عليه خافية في الأرض ولا في السماء ولا في الدنيا. وأنه القادر الذي لا يعجزه شيء من الأشياء لم يزل عالماً قادراً ولا يزال قادراً عالماً، ليس لقدرته غاية ولا لعلمه نهاية، وليس علمه وقدرته سواه، هو القادر لا بقدرة سواه والعالم لا بعلم سواه، وهو السميع البصير، ليس سمعه غيره ولا بصره سواه ولا السمع غير البصر ولا البصر غير السمع، ولا يوصف بسمع كأسماع المخلوقين ولا ببصر كأبصارهم تعالى الله عن ذلك، ولكنه سميع لا تخفى عليه الأصوات، ولا الكلام ولا اللغات، بصير لا تخفى عليه الأشخاص ولا الصور ولا الهيئات، ولا مكان شيء من الأشياء وموضعه ولا يغيب عليه شيء من أمره وحاله، لم يزل سميعاً بصيراً ولا يزال كذلك تبارك وتعالى.، وأنه له قدرة وعلماً وسمعاً وبصراً، ليس ذلك على إضافة شيء ثان له تبارك وتعالى، ولا كما ظن المشبهون أن له وجهاً وصورة وتخطيطاً، وأنها نفس في جسده حاش لله من ذلك، ولكنه على تحقيق إثباته جل جلاله.

(1/9)


وأن من زعم أن علمه محدث وقدرته محدثة؛ كان غير عالم ثم علم وغير قادر ثم قدر فقد قال قولاً عظيماً. ومن قال: إن علمه وقدرته وسمعه وبصره صفات له، وأنه لم يزل بها موصوفاً قبل أن يخلق الخلق وقبل أن يكون أحد يصفه بها وقبل أن يصف هو بها نفسه وتلك الصفات زعم لا هي الله ولا غير الله فقد قال منكراً من القول وزوراً... ومن قال: ليس لله علم ولا قدرة ولا سمع ولا بصر فقد جهل واجترا وقال مقالة الزور والفِراء. ومن قال: لا يقال: لله علم ولا يقال: ليس له علم فقد ضيع من الدين واللغة حظاً نافعاً، ومن قال: علم الله هو الله وقدرة الله هي الله وسمع الله هو الله وبصر الله هو الله فقد قال في ذلك بالصواب. ومن قال: علم الله محدث أحدثه الله وفعل فعله وهو حركة والحركة زوال من مكان إلى مكان فقد افترى على الله الكذب. ومن قال: لا يعلم الشيء حتى يقدره فإذا قدره علمه، وكذلك من قال: محال أن يعلم الشيء قبل أن يكون، ... وكذلك من زعم أن لله خنصراً أو بنصراً وأنه أخرج خنصره للجبل لما تجلى له، ومن زعم أن له وجهاً حاراً لو كشفه لأحرق ما أدركه بصره، وأن له كفاً محدودة وأصابع معدودة وأنامل باردة، وساقاً وقدماً ولساناً وفماً، وكذلك من زعم أن له حداً ومقداراً وصورة من الصور وهيئة من الهيئات، وكذلك من زعم أن الله تبدو له البدوات؛ فإنه يريد أن يفعل الشيء ثم لا يفعله لنية تبدو له فيه، وأنه يخبر أنه سيفعل كذا وكذا ثم يبدو له فيه فلا يفعله، فكل هؤلاء قد قال الكذب، وقال ما لا برهان له به ولا سلطان، فتعالى الله عما يقولون علواً كبيراً(1) ))).
__________
(1) كتاب الديانة.

(1/10)


الأصل الثاني: العدل بما يتضمنه من تنزيه الله جل وعلى في أفعاله عن الأفعال الناقصة الذميمة واعتقاد أنها أفعال عدل وحكمة وصواب، وأن الإنسان مسئول عن فعله خيره وشره مجزي عليه {مَنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيْدِ}[فصلت:46]، وأن إرادة الله جل وعلى ـ كفعله ـ منزهة عن تعلقها بالمعاصي والقبائح التي لا تليق بالعدل الحكيم، وكذلك قضاءه وقدره، فلا يفعل الظلم ولا القبيح ولا يريده ولا يشاءه ولا يقدره ولا يقضي به ولا يأمر به ولا يحبه ولا يرضاه، وجماع العدل في فكر الإمام: (( أن الله عز وجل عدل في قضائه جواد في عطائه رحيم بعباده ناظر لخلقه، لا يكلفهم ما لا يطيقون ولا يسألهم ما لايجدون، ولا يظلم مثقال ذرة وإن تك حسنة يضاعفها ويؤت من لدنه اجراً عظيماً، وأنه لم يخلق الظلم ولا الجور والكفر في العباد، ولم يرد الظلم والفساد ولا الجهر بالسوء من القول، وأنه لا يشأ قتل أوليائه ولا تكذيب رسله، ولا يقضي ولا يقدر شتم نفسه ولا الفرية عليه، وأن من فعل ذلك أو أراد معه الصاحبة والولد فغير حكيم ولا عليم، وأن الله رحمن رحيم حكيم عليم لا يجوز عليه العبث، فكيف يمنع عباده من الإيمان ثم يقول في كتابه: {وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا}[الإسراء:94، الكهف:55]، {وَمَاذَا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُوا بِاللهِ وَالْيَومِ الآخِرِ} [النساء:39]، {فَمَالَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ}[الإنشقاق:20]؟ أو يأمرهم بالهدى ويصرفهم عنه ثم يقول: {أَنَّى تُصْرَفُونَ}؟ ويخلق فيهم الكفر ثم يقول: {لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدّاً تَكَادُ الْسَمَوَاتِ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدّاً}[مريم89 ـ 90]؟ بل نقول: سهل ربنا لعباده السبيل، وأقام لهم الدليل، وأرسل إليهم الرسول وأنزل عليهم القرآن، وجعل فيه الشفا والبرهان، أحل فيه الحلال وحرم فيه الحرام وأقام

(1/11)


الحدود والأحكام، ثم مكنهم مما طوقهم، ثم دعاهم جميعاً إلى الإيمان به ثم أمرهم ونهاهم، ثم أمنهم من ظلمه ورغبهم في جزيل ثوابه، ولم يرد منهم غير ما به أمرهم، ولم يزجرهم وينههم عما يريده منهم، ويشاؤه لما في ذلك من خلاف الحكمة والرحمة، كما قال سبحانه: {وَللهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا}، ويقول: {إِنَّهُ بِهِمْ رَؤُوفٌ رَحِيْمٌ}، وقال: {ولا تزر وزارة ورز أخرى وأن ليس للإنسان إلا ما سعى وأن سعيه سوف يرى} {وما الله بظلام للعبيد} ))(1).
وقد أوضح الإمام هذا الأصل وبينه واحتج له واهتم به ورد فيه على الجبرية القدرية رداً مقنعاً وألقمهم الحجر حتى لقد اختص هذا الموضوع برسالتين قيمتين ضمن هذا المجموع رد فيها على المجبرة القدرية (( الرد على المجبرة القدرية الأول )) و (( الرد على المجبرة القدرية الثاني ))، غير ما تعرض له في غيرهما من مثل (( الرد على ابن الحنفية )) وغيره، مما تراه في هذا المجموع.
الأصل الثالث: النبوة حيث أولاها الإمام اهتماماً لكنه ليس في درجة الأصلين قبلها، وذلك لأنه يجمع المسلمين جميعاً القول بها ووجوب اعتقادها وليست مثار خلاف، بخلافهما ففيهما تظهر شخصية وخصوصية فكر الإمام الكلامي التي تميزه عن المدارس الكلامية عموماً، والتي يقترب فيها من مدرسة الاعتزال وبالذات (( مدرسة البغداديين )) التي يتزعم متأخريها (( أبو القاسم الكعبي البلخي )) والتي يقابلها (( مدرسة البصريين )) التي يتزعم متأخريها أيضاً (( الجبائيان أبو علي وابنه أبو هاشم )).
__________
(1) كتاب أصول الدين.

(1/12)


ويتبع هذا الأصل في فكر الإمام أصل آخر، وهو (( الإمامة )) باعتبارها خلافة النبوة، وقد حظيت في فكر الإمام باهتمام بالغ لما تمثله من شخصيته (( الشيعية الزيدية )) المتميزة عن (( الإمامية )) بشتى فرقها، وكذلك عن (( الإسماعيلية )) التي كان لها حضور في اليمن كفكرة وكدولة بزعامة علي بن الفضل ومنصور بن حوشب داعية اليمن الإسماعيلي، وكذلك عن (( السنة )) و (( المعتزلة )).
وقد يلحق الإمام (( الإمامة )) بأصل آخر باعتبارها تشكل مصداقاً عملياً له، وهو (( الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر )) حيث يرى وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر (( والخروج على الظالمين )) والانتصار للمظلومين والمستضعفين، وإقامة حكم الكتاب والسنة في العباد والبلاد.
يقول الإمام: (( ثم يجب عليه (المكلف) أن يعلم أن محمد بن عبد الله بن عبد المطلب عبد الله ورسوله، وخيرته من خلقه وصفوته من جميع بريته خاتم النبيين لا نبي بعده، وقد بلغ الرسالة وأدى الأمانة، ثم قبضه الله إليه حميداً مفقوداً، فصلوات الله عليه وعلى اهل بيته الطيبين وسلم.
ثم يجب عليه أن يعلم أن علي بن أبي طالب بن عبد المطلب أمير المؤمنين وسيد المسلمين ووصي رسول رب العالمين ووزيره وقاضي دينه، وأحق الناس بمقام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وأفضل الخلق بعده وأعلمهم بما جاء به محمد وأقومهم بأمر الله في خلقه... فكان الهادي إلى الحق غير مهدي، والداعي إلى الصراط السوي والسالك طريق الرسول الزكي، ومن سبق إلى الله، وكان الهادي إلى غامض أحكام كتاب الله فهو أحق بالإمامة؛ لأن أسبقهم أهداهم، وأهداهم أتقاهم وأتقاهم خيرهم، وخيرهم بكل خير أولاهم.
ثم يجب عليه أن يعلم أن الحسن والحسين ابنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وحبيباه، وأنهما إماما عدل واجبة طاعتهما مفترضة ولايتهما...

(1/13)


ثم يجب عليه أن يعلم أن الإمامة لا تجوز إلا في ولد الحسن والحسين بتفضيل الله لهما وجعله ذلك فيهما وفي ذريتهما...
وأن الإمام من بعد الحسن والحسين من ذريتهما من سار بسيرتهما وكان مثلهما واحتذى بحذوهما؛ فكان ورعاً تقياً صحيحاً نقياً، وفي أمر الله سبحانه جاهداً وفي حطام الدنيا زاهداً، وكان فهماً لما يحتاج إليه عالماً بتفسير ما يرد عليه، شجاعاً كَمِيّاً بذولاً سخياً رؤوفاً بالرعية متعطفاً متحنّناً حليماً، ومساوياً لهم بنفسه مشاوراً لهم في أمره، غير مستأثر عليهم ولا حاكم بغير حكم الله فيهم، قائماً شاهراً لنفسه رافعاً لرأيته، مجتهداً مفرقاً للدعاة في البلاد غير مقصر في تألف العباد، مخيفاً للظالمين مؤّمناً للمؤمنين، لا يأمن الفاسقين ولا يأمنونه، بل يطلبهم ويطلبونه، قد باينهم وباينوه وناصبهم وناصبوه، فهم له خائفون وعلى إهلاكه جاهدون، يبغيهم الغوايل ويدعو إلى جهادهم القبائل، متشرداً عنهم خائفاً منهم، لا يردعه عن أمور الله ولا يمنعه عن الاجتهاد عليهم كثرة الإرجاف، شمري مشمر مجتهد غير مقصر، فمن كان كذلك من ذرية الحسن والحسين فهو الإمام المفترضة طاعته الواجبة على الأمة نصرته ))(1).
هذا رأي الإمام في موضوع الإمامة جملة، فهي عنده بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم للإمام علي، ثم للحسن والحسين عليهم السلام، ثم لمن استكمل تلك الشروط من ذريتهما، وقد اختص الإمام موضوع الإمامة في مجموعه برسائل وأجوبة مسائل منها ما يخص إمامة الإمام علي، ومنها ما يعم أهل البيت عليهم السلام.
وأما في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فهو يرى وجوبه (( وأن نصر المظلوم والأخذ على يد الظالم فرض لازم وحق واجب؛ لأن في ترك الأمر بالمعروف للحق إماتة، وفي النهي عن المنكر للباطل إماتة ))(2).
__________
(1) كتاب العدل والتوحيد.
(2) كتاب أصول الدين.

(1/14)


الأصل الرابع: الوعد والوعيد وما يتعلق به من خلود أهل الكبائر من أهل ملتنا في النار، حيث يجب على المكلف (( أن يعلم أن وعده ووعيده حق من أطاعه أدخله الجنة، ومن عصاه أدخله النار أبد الأبد لا ما يقول الجاهلون من خروج المعذبين من العذاب المهين إلى دار المتقين ومحل المؤمنين، وفي ذلك ما يقول رب العالمين: {خَالِدِيْنَ فِيْهَا أَبَداً}، ويقول: {وَمَا هُمْ بِخَارِجِيْنَ مِنْهَا}، ففي كل ذلك يخبر أنه من دخل النار فهو مقيم فيها غير خارج منها ))(1).
***
__________
(1) كتاب العدل والتوحيد.

(1/15)


وهناك منهج آخر في التأصيل يقترب فيه الإمام من منهج المعتزلة وبالذات (( واصل بن عطاء )) و (( عمرو بن عبيد ))، وقد برز هذا المنهج بوضوح في رسالة: (( المنزلة بين المنزلتين )) والذي اختصه في هذا المجموع برسالة تحمل نفس العنوان (( المنزلة بين المنزلتين ))، وفيها يقترب الإمام من منهج المعتزلة في الأصول، كما تبلور عند (( القاضي عبد الجبار بن أحمد ))، وكأن القاضي تأثر في كتاب (( الأصول الخمسة )) ـ الذي شرحه السيد الإمام مانكديم وحققه ونشره الدكتور عبد الكريم عثمان ـ بكتاب (( المنزلة بين المنزلتين )) للإمام الهادي يحيى بن الحسين، والملاحظ أن الإمام في هذه الرسالة نحن بأصول الدين منحى غير منحى الأصول الأربعة أو الخمسة التي مرت آنفاً، كما أنها برزت في هذه الرسالة شخصية الإمام الكلامية الفذة المتميزة عن المدارس والنحل والآراء الكلامية لغيره، ومدى استيعابه وهضمه لأصول فرق المسلمين وأهل الصلاة، فقد جعل أصول العقيدة خمسة كما عرفت عند المعتزلة: (( التوحيد )) و (( العدل )) و (( إثبات الوعد والوعيد )) و (( المنزلة بين المنزلتين )) و (( المعتزلة )) و (( الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ))، كما جعل أصول فرق المصلين خمسة: (( الشيعة )) و (( المرجئة )) و (( الخوارج )) و (( المعتزلة )) و(( العامة ))، ولأن الجديد في هذه الرسالة القيمة هو موضوع (( المنزلة بين المنزلتين )) فقد جعل عنواناً لها، وهي تمثل قمة اللقاء بين الإمام وبين أصول المعتزلة الخمسة على سبيل الاتفاق لا على جهة التقليد.

(1/16)


وقد أصل.... من كتاب الإمام لهذه الخمسة الأصول في هذه الرسالة من كتاب العزيز ومن شهادة تلك الفرق على سبيل الجملة حيث (( اعتبر أن جميع فرق الأمة بجملة قولنا مصدقون، ونحن لهم فيما انفردت به كل طائفة منهم مكذبون، وهم فيها ندين الله به من أصول التوحيد والعدل وإثبات الوعد والوعيد والقول بالمنزلة بين المنزلتين والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مصدقون، وجميع أهل الصلاة عندنا خمسة أصناف: الشيعة، والمرجئة، والخوارج، والمعتزلة، والعامة ))(1).
وقد عقد الإمام في هذه الرسالة باباً في حكم أهل الكبائر قرر فيه أنهم (( ليسوا بكفار ولا مشركين ولا منافقين، وأنهم ليسوا بأبرار ولا فضلاء ولا أخيار ولا أزكياء، ولا أطهار ولا عدولاً، ومن كان هكذا لم يطلق له اسم الإيمان ولا الإسلام، ولا اسم الهدى والتقوى والإحسان؛ لأنه قد غلب عليهم اسم الفسوق والفجور، والظلم والعدوان والضلال، وكانوا أهل منزلة بين منزلتين وهي منزلة الفساق والفجار التي بين منزلة المؤمنين والكافرين في هذه الدنيا ))(2).
فهذه خلاصة الأصول التي تضمنها هذا المجموع وتناولتها كتبه ورسائله، وهناك بعض التفصيلات والجزئيات في الكلام كمسائل الصفات التي استحقها الخالق جل وعلى لذاته أو لفعله كالإرادة وكالعرش والكرسي وما إليها مما يجده الباحث في هذا المجموع المبارك نرجئ تفصيلاتها للدراسة الموسعة إن شاء الله.
سياسة الإمام
من الأشياء الجديرة بالبحث والتي تعكس جانباً مهماً من شخصية الإمام الهادي يحيى بن الحسين رؤيته في موضوع الحكم وسياسته، ملامحها ومعالمها. ولها موضوع آخر هو دراسته، ونرى من المهم أن نشير إجمالاً إلى بعض ملامحها في هذه العجالة فنقول:
__________
(1) كتاب المنزلة بين المنزلتين.

(1/17)


إن للإمام نظرته المتكاملة إلى الحكم، والتي تقترب بها من الخلافة الراشدة بما فيها من تحديد دور الإمام وشروطه ومواصفاته وطريقة تعيينه، بعيداً عن إعطاء الشرعية لحكم الواقع القائم على الإرث والغلبة كما تجلى في حكم الدولتين الأموية والعباسية والنظرة التي منحتهما الشرعية تحت مبرر السمع والطاعة وإن أخذ حقك وجلد ظهرك ما لم يكن هناك كفر بواح ونحوها من النظريات التبريرية التي تناسب الحكم القائم.
ومجمل نظريته في الإمامة أنها خلافة النبوة ولا بد أن يكون الخليفة كالمستخلف في ما عدا النبوة مما يعنى أنها:
ـ أولاً: بالتعيين والإختيار من الله جل وعلى على سبيل الجملة كما في النبوة، وليس ذلك إلى الأمة ولا بالقهر أو الوراثة (( وذلك أن تثبيت الإمامة عند أهل الحق في هؤلاء الأئمة (آل محمد الصالحين) من الله عز وجل على لسان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فمن ثبت الله فيه الإمامة واختاره واصطفاه وبين فيه صفات الإمام فهو إمام عندهم مستوجب للإمامة ))(1).
وعلى ذلك (( فلا يلتفت إلى غير ما قلنا من أقاويل الهراجين وتعبث العباثين، وزخاريف كلام المتكلمين وافتراق أقاويل الجاهلين؛ ممن يقول: إن الإمامة بإجماع الرعية، وقول من يقول: بل هي لما يوجد من الآثار المروية في الملاحم المذكورة، وقول من يقول: هي بالوراثة لولد بعد والد، ولا يلتفون ـ ويلهم ـ لما تستحق به الإمامة من البينات والشواهد النيرات، همج رعاع وللجهال أتباع، لم يقتدوا بالحكمة؛ فيعلموا بما به تحق الإمامة لصاحبها على الأمة، قد جعلوا الحكم بها وفيها لغير من حكم الله وجعلوا الحكم بها إلى غير الله ))(2).
__________
(1) كتاب العدل والتوحيد.
(2) جواب مسألة النبوة والإمامة.

(1/18)


ـ وثانياً: أن الإمامة ـ كالنبوة ـ في إبراهيم وذريته، وقد ورثهم محمد صلى الله عليه وآله وسلم وذريته في النبوة والإمامة والملك والوصية، (( فكانت النبوة والإمامة والوصية والملك في ولد إبراهيم صلى الله عليه إلى أن بعث الله محمداً صلى الله عليه وآله وسلم فأفضت النبوة إليه، وختم الله الأنبياء به وجعله خاتم النبيين وسيد المرسلين.. ثم حول الله النبوة إلى محمد خاتم النبيين فقال سبحانه: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ}، ثم قال: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا}، قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (( إني تارك فيكم الثقلين ما إن تمسكتم بهما لن تضلوا من بعدي أبداً: كتاب الله وعترتي أهل بيتي، إن اللطيف الخبير نبأني أنهما لن يفترقا حتى يردا علي الحوض ))، وقال الله سبحانه : {إِنَّمَا يُرِيْدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيْراً}، فبين الأمر سبحانه فيهم وأوضحه لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل، وكان الله عزيزاً حكيماً، ومحمد من ولد إسماعيل بن إبراهيم، وكذلك ذريته، ثم قال سبحانه: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِيْنَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا} فورثة الكتاب محمد وعلي والحسن والحسين ومن أولدوه من الأخيار، ثم قال في ولدهم: {فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ}، ففيهم إذ كانوا بشراً ما في الناس، وقال: {وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِيْنَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ}، كما قال في ولد إبراهيم وإسحاق صلى الله عليهما: {وَمِنْ ذُرِّيَتَهُمَا مُحْسِنٌ وَظَالِمٌ لِنَفْسِهِ مُبِيْنٌ} ))(1).
__________
(1) كتاب العدل والتوحيد.

(1/19)


ـ وثالثاً: أن الإمامة لا تجوز في الظالم، فلا ولاية له ولا عهد ولا أمر ولا نهي، بل إن للحاكم شروطاً ومواصفات عامة لا بد من توفرها فيه حتى يكون مستحقاً لها، وقد سبقت الإشارة إلى جملة شروطه ومواصفاته ونزيد هنا قوله: (( والله عز وجل قد جعل الأمر والنهي في خيار آل محمد عليه وعلى آله السلام، وزواه عن ظالميهم وظالمي غيرهم، ومكن أهل الحق منهم وأجازه لهم، وذلك قوله تبارك وتعالى: {الَّذِيْنَ إِنْ مَكَّنَاهُمْ فِيْ الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةِ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوا عَنِ الْمُنْكَرِ وَللهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ}، ثم قال: {وَعَدَ اللهُ الَّذِيْنَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِيْ الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِيْنَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِيْنَهُمُ الَّذِيْ ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الفَاسِقُونَ..}.

(1/20)


وقوله لإبراهيم صلى الله عليه: {لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِيْنَ}، وعلى هذا النحو قال تبارك وتعالى: {قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكُ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ} يعني الأنبياء ومن تبعهم من الأئمة الصادقين... ثم قال: {وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ} فقد نزع الملك من الفراعنة والجبابرة وإنما الملك هو الأمر والنهي لا سعة المال، ثم قال: {وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ} فقد أعز الأنبياء ومن تبعهم من الأئمة الصادقين وأوليائهم الصالحين، وذلك قوله سبحانه: {فَلِلهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِيْنَ}، والمؤمن لا يملك من متاع الدنيا شيئاً، فسماه الله عزيزاً؛ إذ فعله ذلك يوصله إلى دار العز أبد الأبد، ثم قال: {وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ} فقد أذل الفراعنة ومن تبعهم من الظالمين؛ لأنهم معتدون غير محقين، فكل من كان في يده أمر ونهي وكان فعله مخالفاً للكتاب والسنة فهو فرعون من الفراعنة، وكل عالم متمرد فهو إبليس من الأبالسة، وكل من عصى الرحمن من سائر الناس فهو شيطان من الشياطين ))(1).
ـ ورابعاً: أن المستحق للإمامة وولي الأمر والنهي في الأمة من حاز شروطاً هي: (( ولادة الرسول، والعلم، والورع، والزهد، والدعاء إلى الله، وتجريد السيوف، وخوض الحتوف، وفض الصفوف، ومجاهدة الألوف، ورفع الرايات، ومباينة الظالمين، وإقامة الحدود على من استوجبها، وأخذ أموال الله من مواضعها وردها في سبلها التي جعلها الله لها وفيها، مع الرحمة والرأفة بالمؤمنين، والشدة والغلظة على الفاسقين والشجاعة عند البأس، والمجاهدة للكافرين والمنافقين ))(2).
__________
(1) كتاب العدل والتوحيد.
(2) جواب مسألة النبوة والإمامة.

(1/21)


والسؤال الذي يتوجه بإلحاح. أين موقع الإمام الهادي من هذه الشروط والمواصفات، وهل كان انعكاساً لها ومصداقاً؟ أم أن مثل هذه النظرية لا وجود لها إلا في عالم المثال وعند الحالمين؟ والحق الذي تقودنا إليه الشواهد المتعددة من صفات الإمام الخَلقية والخُلقية وسيرته التي استفاضت عند أوليائه وغير اوليائه أنه كان تجسيداً لتلك النظرية التي بلورها عن الحاكم العادل الرشيد، وهذه شهادة نسجلها للتاريخ بدافع الإنصاف ومعنا ثلة من المستبصرين الذين اتبعوه على بصيرة من أمره وأمرهم من أبناء اليمن الأشاوس وممن هاجر إليه ـ لشهرة أمره ـ من الحجازيين والعراقيين والطبريين طلباً لنصرته والشهادة بين يديه.
ولنكتف بثلاثة من أصحابه لنرى شدة حبهم له وبصيرتهم في اختباره، وليكونوا أنموذجاً لمن وراءهم من أصحابهم وإخوانهم، ولنرى كيف تركهم وقناعتهم في امره.
فأولهم وأولاهم: العلامة الفقيه الحافظ المسند قاضي قضاة الإمام قاضي صعدة علامة الشيعة محمد بن سليمان الكوفي جامع المنتخب فهو مع علمه وبصيرته يصف كيف وصلت دعوة الإمام إلى الكوفة، ويقيم الأدلة والبراهين على إمامته وجمعه للشروط ووجوب نصرته وطاعته في مقدمة كتاب المنتخب فعل ذي البصيرة والهمة العالية والنفس الأبية الغيورة على ما أصاب الأمة وحل بها من ظلم وعسف واستبداد، يرجع إليها من أرادها.
وثانيهم: العلامة الفارس النبيل علي بن محمد بن عبيد الله العلوي العباسي المدني، مصنف سيرة الإمام وأحد خلص أصحابه فقد احتج على إمامة الإمام الهادي في مقدمة السيرة بحجج وشواهد بينة.
وثالثهم: العلامة الحسين بن عبد الله الطبري أحد المهاجرين المستبصرين إلى الإمام، والذي يتساءل بكل شجاعة وبصيرة معبراً عن نفسه وعن غيره (( عن المعنى الذي وجبت به لنا على الخلق الطاعة، ووجب به علينا جهاد من أبدى لنا المعصية، وثبتت به لله سبحانه في ذلك علينا الحجة )).

(1/22)


فأجابه الإمام بكل ثقة وطمأنينة وبحجة واضحة: (( وهذا كرمك الله فقد وجب لنا على أنفسنا السؤال عنه والبحث لها فيه عندما دعتنا إليه من دعاء الخلق إلى طاعتنا والمناداة إلى إجابتنا.. فكان من جوابها لنا عندما احتجنا إليه من علم ذلك منها أن قالت: وجب لي ذلك بما وجب للأئمة من قبلي من لدن القاسم بن إبراهيم عليه السلام ومن تقدمه من الأئمة القائمين الذين كانوا حججاً لله على العالمين سواء سواء )).
ثم ذكرا لشرائط التي بها تجب للإمام الإمامة كما ذكرنا آنفاً إلى أن قال: (( فلما أن أجمعنا نحن وهي على أن من كانت فيه هذه الخصال، وثبت له ما ذكرنا في كل حال فقد وجبت له بحكم الله الإمامة، وتأكدت له بفرض الله على الخلق الطاعة؛ أوجبنا على أنفسنا المحنة فامتحناها فيما أجمعنا نحن وهي وغيرنا عليه من الشروط التي تجب بها الإمامة، وتثبت بها لأهلها على الخلق الطاعة، فلم نجدها ولله الحمد عن ذلك منصرفة ولا منه معوزة.. ولك يا أبا عبد الله أكرمك الله علينا من الحجة والسؤال والمحنة مثل الذي كان لنا على أنفسنا، فانظر في ذلك معنا بمثل ما نظرنا نحن به مع أنفسنا، فإن وجدت ما وجدنا وشهد عقلك لك في أمرنا بمثل ما شهدت به عقولنا لأنفسنا؛ فقد حق لك ما طلبت، وصح لك ما عنه سألت، وجاءتك من نفسك البينات، وأنارت لك في ذلك النيرات، وإن لم تجد الشروط التي نشهد نحن وأنت وكل المسلمين بأنها شروط الأئمة الهادين المفترضة طاعتهم والمحرمة معصيتهم؛ كنت على بينة من أمرك ورخصة في فرضك وراحة من تعبك، واعلم ـ هداك الله ـ أن الإمتحان والنظر لا يكون إلا بالنصفة من المتناظرين، وطلب الحق في ذلك من المتسائلين، وقبول الحق عند ظهوره، وأخذه بأفضل قبوله، ونحن ـ أكرمك الله ـ لكل ذلك وإليه لك مسرعون وله منك محبون ))(1).
__________
(1) جواب مسائل الطبري.

(1/23)


هذا غير شهادة أعلام أسرته على رأسهم الإمام القاسم الرسي وولده محمد بن القاسم وبقية الأسرة الكريمة الذين لم يكونوا يخاطبونه إلا بالإمام، وغير شهادة السير والتواريخ اليمنية للقدماء والمحدثين من موالين وغير موالين.
وبالجملة فحكمه وسياسته صورة واضحة للخلافة الإسلامية الرشيدة الحكيمة، وتجسيد عملي لسيرة جده الإمام علي بن أبي طالب يفخر اليمنيون عموماً بل وكل المسلمين بما فيها من جهاد واجتهاد، وبصيرة نافذة وسداد، وقدوة واتباع، وتجديد وإصلاح، وحكمة وعدالة لا تفرق بين القريب والبعيد والعدو والولي والمسلم والمعاهد والرجل والمرأة، فالقوي فيها ضعيف حتى يؤخذ الحق منه، والضعيف قوي حتى يؤخذ الحق له.
وفي سياسة الإمام الاجتماعية والإقتصادية معالم بارزة ونقاط مضيئة، وكذلك في تعامله مع رعاياه من الموالين والمعارضين والأقليات الدينية، وفي قبوله برحابة صدر للاعتراض على مفردات سيرته، والجواب عنها بالحجة الواضحة ما ينبي عن أن سياسته أقرب إلى روح الديمقراطية والشورى، وإن لم تأخذ شكلها المعاصر الذي وصلت إليه في عصرنا، فذلك ما لا لوم عليه فيه ولا هو بمنتظر منه.
وتتميز شخصيته السياسية بنظرات ورؤى موفقة في الجانب المالي وسياسة التأديب لا تعوزه فيها الحجة من سيرة المصطفى والسلف الصالح وبالذات سيرة جده الإمام علي، والتي كان يراها ـ كما يراها كل منصف غيره ـ هي المثال لسياسة الحاكم المسلم العادل الرشيد بما فيها من شدة على النفس والأقارب وسماحة على الرعايا والأتباع. وسنرجئ الحديث المفصل عنها المدعوم بالشواهد إلى الدراسة بعون الله تعالى.
فكر الإمام الهادي
الحديث عن فكر الإمام بمعالمه ومميزاته حديث طويل لا تتسع هذه العجالة للتوسع فيه، غير أنه لا بد لنا من إشارة مجملة إلى معالمه إضافة إلى ما سبق من أصول فكره العقائدية.

(1/24)


لقد قيل الكثير عن فكر الإمام الكلامي وانتمائه الفكري، كما قيل الكثير أيضاً عن فكر الزيدية الكلامي عموماً وصلته بمدرسة الاعتزال، حيث يحسبه كثير في علم الكلام على الفكر المعتزلي، وفي الفقه على مدرسة الرأي التي تزعمها الحنفية حتى لقد قال بعضهم بتتلمذ الإمام على أبي القاسم البلخي مع أن لي في هذا القول تحفظاً لا سبيل إلى شرحه الآن، وخصوصاً وأنه ـ حسب وجهة نظري ـ يستند إلى التوافق الملحوظ واللقاء في كثير من مفردات علم الكلام.
ولا أريد هنا أن أقف على النقيض من هذا الرأي عموماً ولا أتعجل الرد عليه، ولا أخوض في تفاصيل شواهد القبول والرفض، فذلك له موضع آخر غير أني أكتفي بالقول إن هناك صلة وثيقة وتوافق ملحوظ بين الإمام وبين المدرسة البغدادية الاعتزالية يراه من اطلع على تراث الإمام الكلامي ولكن مع صعوبة تحديد تاريخ بداية اللقاء والاتصال بين أعلام المدرستين في عصر الإمام وما قبله، وهل هي مجرد علاقة اتفاق عام أم هي تلمذة وتلق مباشر.
والأهم من كل ذلك عندي هو استيضاح شخصية فكر الإمام وتراثه الكلامي، وأهم ملامحه ومميزاته بعيداً عن دعوى الانتماء من عدمها، وهنا أقول: لئن كان أهل الكلام من المسلمين ينتمون عموماً إلى مدرستين أساساً: (( مدرسة النقل )) و (( مدرسة العقل )) فإن فكر الإمام أقرب إلى مدرسة العقل التي حمل لواءها مشائخ الاعتزال، ولئن كانت مدرسة الاعتزال قد انتهت إلى مدرستين أيضاً: (( مدرسة البصرة )) و (( مدرسة بغداد )) بما لكل منهما من خصائص ومميزات؛ فإن فكر الإمام أقرب إلى مدرسة بغداد، يعرف ذلك من له أدنى أنس بتراث الإمام الكلامي.
وبعد فلنعد إلى خصائص فكر الإمام الكلامي ومميزاته حيث نرى معلمين بارزين ينطلق منهما فكر الإمام هما:

(1/25)


أولاً: احترام العقل، فهو يولي العقل الإنساني أهمية كبرى حيث يجعله الحجة العظمى لله جل وعلى على الإنسان، والحاكم على بقية الحجج باعتبار أنها لا تفهم إلا به وفي ضوء أساسياته وأولياته، ولا يمكن أن تتناقض بقية الحجج معها، فالعقل في فكر الإمام هو الحجة الأولى التي يرجع إليها في ما اختلف فيه من ظواهر القرآن، ومحكم القرآن هو الحجة التي تعود إليها متشابهاته والسنة أيضاً، والسنة المجمع عليها هي المرجع للسنة المختلف فيها، والإمام هنا متأثر بفكر جده القاسم الرسي بوضوح.
وثانيا: تقديس القرآن الكريم وبالذات المحكمات منه، وهي في رأي الإمام التي توافق أصول العدل والتوحيد التي وصل إليها وقررها العقل، حيث نجد أن الإمام في كثير من كتبه ورسائله في هذا المجموع يتمحور حول الكتاب العزيز، فهو في جدله ونقاشه لابن الحنفية يستنطق القرآن ويوضح خطأ ابن الحنفية في فهمه لمتشابه الكتاب العزيز، وكذلك في جدله ونقاشه مع المجسمة والمشبهة في الآيات الكريمة التي يستشهدون بظواهرها، وكذلك مع المجبرة القدرية في رسالتيه الجوابيتين عليهما، فهو يفند شبههم في الكتاب العزيز ويورد الحجج والشواهد عليهم منه على طريقتي (( التحقيق )) و (( الإلزام )).
ولئن أغرق المتكلمون في تأثرهم بفلسفة اليونان وبرزت بوضوح في تراثهم الكلامي، فإن فكر الإمام الكلامي يمتاز بتمحوره حول القرآن واستنطاق حججه وتوضيح بيانه وآياته بما فيها من وضوح ويسر ومنطقية وبيان وقرب من مختلف الأذهان، وما أظنه كان يعوزه ذلك لو قصده، خصوصاً، وأن لدى جده القاسم الرسي ـ والذي كان الإمام يعظمه غاية التعظيم ويجله غاية ما يكون الإجلال، والذي يعتبر من أبرز فلاسفه أئمة الزيدية وحكمائهم ـ الكثير من معرفة ذلك كما يحكيه مجموعه العظيم، فلقد كان الإمام الهادي من أبرز ورثة فكر وثقافة جده القاسم الرسي سلام الله عليهما، وبرز اثره في شخصية وفكر الإمام.

(1/26)


ومما له علاقة بالقرآن في فكر الإمام وحظِيَ بإهتمام عنده أمران مهمان في فهم القرآن:
أولاً: (( النظرة الموضوعية الشاملة )) التي تجلت جذورها في فكر وتراث الإمام، حيث كان يتعامل مع القرآن الكريم كوحدة موضوعية شاملة وبالذات في مجال العقيدة، فقد وضع الإمام بذرة (( النظرة الموضوعية )) من خلال بعض المفردات العقدية التي تتبعها في مجموعه، هذا في عصر كانت (( النظرة التجزيئية )) في القرآن هي المسيطرة والسائدة، وتجلى ذلك في بعض المفاهيم والموضوعات التي نظر إليها الإمام وتتبع مواردها في الكتاب العزيز، من مثل: (( الهدى )) و (( الضلال )) و (( الكفر )) و (( الإذن )) و (( الكتاب )) و (( العبادة )) و (( الإرادة )) و (( الشرك )) و (( القضاء )) و (( القدر )) وغيرها من المفاهيم، وبالأخص التي كانت مثار خلاف ونقاش في العقيدة.
وهذه نظرة رائعة لو نسج على منوالها المؤلفون في التفسير لأتت ثماراً طيبة في الفهم الموضوعي للكتاب الحكيم، والمسلمون في حاجة ماسة إلى مثلها، فلو أفردت بالتأليف كانت جديرة، وخصوصاً مع تطور العصر وتنوع المفاهيم التي تحتاج إلى رؤية قرآنية موضوعية في شتى المجالات، وقد لفت النظرإليها في هذا القرن العلامة محمد باقر الصدر رحمه الله في بحث رائع مستقل تناول فيه موضوعين مهمين وخرج فيهما برؤية شاملة واضحة.

(1/27)


وثانياً: اللغة العربية باعتبارها الإطار الذي يفهم القرآن من خلاله، ولمعرفتها أهمية كبرى في فهم القرآن الكريم كما أن لجهلها أثراً سيئاً في فهم القرآن الكريم، ويتجلى تركيز الإمام على اللغة العربية وأسلوبها المتنوع وبالذات (( مجاز اللغة )) في جدل الإمام مع ابن الحنفية في (( مسائل ابن الحنفية )) من المجموع، وكذلك في كتاب (( المسترشد )) حيث يرى الإمام أن جهلهم للغة هو الذي جرهم إلى سوء الفهم والاعتقاد، والإمام في منهج (( التأويل )) يعول كثيراً جداً على اللغة العربية، وهو محسوب في أصحاب (( التأويل )) الذين يقابلهم أصحاب (( التسليم والتفويض )) أو بتسمية أخرى (( أصحاب الظاهر )).
***
أما مميزات (( فقه الإمام )) ومعالم شخصيته الفقهية بين مدرستي (( أهل الرأي )) و (( أهل الحديث )) الفقهيتين فإذا أردنا أن ننمي فكره إلى أي المدرستين فسنجده يقرب كثيراً من أصحاب الرأي في منهجه الفقهي، ولكنه لا يبعد في منهجه عن (( فقه أهل المدينة )) بما فيه من أثر وسنة عملية حتى على مستوى منهج التأليف، حيث يكثر في كتب فقهه في مجال الرواية من عبارة (( البلاغ )) بدل التحديث بالسند المتسلسل على نمط موطأ الإمام مالك في الأغلب.
والإمام يستشهد كثيراً في فقهه بما يأثره عن جده القاسم الرسي، وبما (( أدرك عليه مشائخ آل رسول الله )) وسمعه عنهم، وكأنه يكتفي لمعرفة ما عليه آل الرسول صلى الله عليه وآله وسلم بالاعتزاء إلى القاسم الذي يراه وارث علمهم وفقههم، وهو بحق شيخ آل الرسول وفقيههم وعالمهم المتفق فيهم على جلالة قدره وعلمه.
وأصول (( فقه الإمام )) كما نص على ذلك وكما يعرفه متتبع تراثه الفقهي الثري هي: العقل، والقرآن، والمجمع عليه من سنة رسول الله، وهي ما يطلق عليها اسم (( العلل التي معرفتها غاية الاستبصار ))، وقد ذكرها محمد بن سليمان الكوفي رحمه الله في مقدمة كتاب (( المنتخب )).

(1/28)


ونص عليها الإمام بقوله: (( إن الحق لا يؤخذ إلا من أحد ثلاثة وجوه: كتاب ناطق، أو إجماع من الأمة فيما نقلته عن النبي عليه السلام من السنة التي جاء بها عن الله، وأمر بينته وصححته العقول وميزت وأخرجت حقه وشرعت صدقه ))(1).
والجديد في فكر الإمام في (( أصول الفقه )) نظرته القيمة إلى (( السنة )) التي خصص لها في مجموعه رسالة مستقلة ناقش فيها معاني السنة وأقسامها، مميزاً بين ما هو منها عن الله مما هو بيان لمجمل الكتاب وتفصيل لمؤصلاته من الفرائض والشرائع والأحكام، وما هو من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من الآداب والفضائل، موضحاً أنها لا تخالف الكتاب العزيز، وأنها وحي من الله جاء به جبريل كما جاء بالقرآن، وضرورة عرضها عليه باعتباره المقياس لصحتها.
وكذلك أيضاً نظرته إلى (( القياس ))، فقد خصه أيضاً برسالة مستقلة في هذا المجموع وضح فيها شروط القياس الصحيح مميزاً له عن القياس الفاسد في الدين الذي هو (( دين إبليس اللعين ))، كذلك مواصفات المؤهل الذي له أن يقيس ممن ليس كذلك.
والإمام صاحب مدرسة فقهية زيدية وإمام من ائمة الفقه متبوع يوازي الأئمة الأربعة شهرة وفقهاً وأتباعاً، فمدرسته الفقهية لها خصوصياتها ومعالمها وأئمتها ورجالها الذين أثروها استدلالاً وتخريجاً وتفريعاً، وأبرزهم السيدان الإمامان الهارونيان (( المؤيد بالله أحمد بن الحسين الهاروني ))، وأخوه (( الناطق بالحق يحيى بن الحسين )) وخالهما (( أبو العباس أحمد بن إبراهيم الحسني ))، وهي المدرسة المعروفة بين مدارس الزيدية الفقهية بـ (( الهادوية )) نسبة إلى الإمام الهادي، وهي التي عليها الزيدية في اليمن، وهي امتداد لمدرسة جده القاسم التي كان لها أتباع في بلاد الجيل والديلم (( القاسمية ))، والتي يقابلها (( الناصرية )) نسبة إلى الإمام (( الناصر الحسن بن علي المعروف بالأطروش )) من أئمة الزيدية بالجيل والديلم.
__________
(1) كتاب القياس.

(1/29)


ويمتاز فقه الإمام بأنه فقه الحاكم الذي حكم دولة كما يمتاز حكمه بأنه حكم الفقيه المجتهد، وذلك يختلف بلا شك عن الفقيه المجتهد غير الحاكم، ففقهه هو فقه الدولة الإسلامية بما فيها من إقتصاد ومعاملات، وهو فقه (( المعارضة )) أيضاً، وهو فقه (( الثورة )) والانتفاضة ضد الظلم بما فيه من حصار وتطويق لدولة الظلم، وبالذات في الجانب الاجتماعي بما فيه من حرمة معاونته والاعتزاء إليه والوظيفة معه، والجانب الاقتصادي بما فيه من تجفيف منابعه الاقتصادية على كافة الأصعدة وفي كافة الموارد، وقد تأثر في ذلك مباشرة بموقف جده القاسم بما فيه من تشدد على الظالمين، حيث جعل القاسم أحد أصوله الخمسة في بعض رسائله في مجموعة: (( أن التقلب في المكاسب والتجارات ليس من الحل في عصر الظلم كما هو في عصر الأئمة الهادين ))، وتشدده وصلابته في الدخول عليهم وأخذ عطاياهم بل وحتى مجرد أن تامنهم ويأمنوك واضح فيه وفي أسرته عموماً ومنهم الإمام، امتازت به هذه الأسرة فقهياً وعملياً عن مثيلاتها من أسر الهاشميين وفقهائهم وخصوصاً أئمة العراق.
ولذلك فإن فقه الإمام يتمتع بالحيوية، ويملك مقومات البقاء والديمومة؛ لأنه فقه المجتهد الحاكم بما فيه من فقه العلاقات ومن رؤى اقتصادية وسياسية وقضائية وعسكرية، وما أحقه بدراسة لسياسته الاقتصادية والمعاملاتية تستخرج خصائصها ومميزاتها وتستجلي ملامحها.
أهل البيت في فكر الإمام

(1/30)


ومما يجب التنبيه عليه ونحن بصدد الحديث عن فكر الإمام وانتمائه الفكري نظرة الإمام إلى (( آل البيت ))، فهو يوليهم في ثنايا مجموعه أهمية قصوى ويفتخر بالانتماء إليهم، فكراً ونسباً، فهو يحمد الله جل وعلى (( على ما من به فينا وتفضل به سبحانه علينا؛ من ولادة النبيين ووراثة علم المرسلين ))، وهم أهل الحق واتباعهم سبب النجاة والإلفة ومخالفتهم سبب الهلاك والفرقة، فقد وقع الاختلاف في هذه الأمة (( لفساد هذه الأمة وافتراقها وقلة نظرها لأنفسها في أمورها، وتركها لمن أمرها الله باتباعه والاقتباس من علمه، ورفضها لأئمتها وقادتها الذين أمرت بالتعلم منهم والسؤال لهم، وجعلوا شفاء لداء الأمة ودليلاً على كل مكرمة ونهاية لكل فاضلة، وأصلاً لكل خير وفرعاً لكل بر وفصلاً لكل خطاب ودليلاً على كل الأسباب )).
وهم ورثة الكتاب المصطفين وأهل الذكر الذين أمرت الأمة بسؤالهم في الحلال والحرام؛ (( لأنهم أهل ذلك وموضعه ومكانه ومركبه الذي ركبه الله عليه وجعله معدناً له وفيه، اختاره لعلمه وفضله على جميع خلقه، نوراً على نور وهدى على هدى وحاجزاً من كل ضلال وردى، أئمة هادين ونخبة مصطفين، لا يخاف من اتبعهم غياً ولا يخشى عماً ولا ضلالاً، محجة الإيمان وخلفاء الرحمن والسبيل إلى الجنان والحاجز عن النيران، ثقاة أبرار وسادة أخيار، أولاد النبيين وعترة المصطفين، وسلالة النبي ونسل الوصي وخيرة الواحد العلي، مشرب لا يظمأ من ورده ودواء لا يسقم من تداوى به، شفاء الأدواء ووقاية من البلاء، كهف حصين ودين رصين، وعمود الدين وأئمة المسلمين، قولهم صواب بلا خطأ وقربهم شفاء بلا ردى، أعني بذلك الطاهرين المطهرين والأئمة الهادين؛ من أهل بيت محمد المصطفى وموضع الطهر والرضى، الوافين إن وعدوا والصادقين إن نطقوا، والعادلين إن حكموا )).
وهكذا يطيل الإمام الثناء عليهم في مقطوعات أدبية رائعة من (( كتاب القياس )) وغيره ضمن المجموع.

(1/31)


ويرى أنهم لا يختلفون، وذلك (( لأنهم أخذوا علمهم من الكتاب والسنة فلم يحتاجوا إلى إحداث راي ولا بدعة، تكلموا بالكتاب الناطق واعتمدوا على الوحي الصادق.. فثبتت لهم بذلك الإلفة وزالت عنهم الفرقة )). ولكن هاهنا سؤالين يوردهما الإمام على نفسه بعدما ذكره من الحضّ على اتباعهم وأنهم لا يختلفون:
الأول: هل أن كل من انتسب إلى البيت النبوي يجب اتباعه أم هم طائفة مخصوصة الذين أمرنا باتباعهم؟ ويجيب الإمام (( إن الذين أمرنا باتباعهم من آل رسول الله وحضضنا على التعلم منهم وذكرنا ما ذكرنا من أمر الله برد الأمور إليهم؛ هم الذين احتذوا بكتاب الله من آل رسول الله، واقتدوا بسنة رسول الله الذين اقتبسوا علمهم من علم آبائهم وأجدادهم جداً عن جد وأباً عن أب حتى انتهوا إلى مدينة العلم وحصن الحلم، الصادق المصدق الأمين الموفق، الطاهر المطهر المطاع عند الله المقدر محمد صلى الله عليه وآله وسلم )).

(1/32)


السؤال الثاني: أنه من أين يقع الاختلاف بينهم؟ وإذا اختلفوا فمن هو الذي يجب اتباعه؟ ويجيب الإمام: (( إن اختلاف آل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أيها السائل عن أخبارهم لم يقع ولا يقع أبداً إلا من وجهين: فأما أحدهما فمن طريق النسيان للشيء بعد الشيء والغلط في الرواية والنقل، وهذا أمر يسير حقير قليل يرجع الناسي منهم عن نسيانه إلى قول الثابت المذكر له عند الملاقاة والمناظرة. والمعنى الثاني: فهو أكبر الأمرين وأعظمهما وأجلهما خطراً وأصعبهما، وهو أن يكون بعض من يؤثر عنه العلم تعلم من غير علم آبائه واقتبس علمه من غير أجداده ))، (( والأصل الذي يثبت علم من اتبعه، ويبين قول من قال به ويصح قياس من قاس عليه ويجوز اقتداء من اقتدى به فهو كتاب الله تعالى المحكم وسنة رسول الله اللذان جعلا لكل قول ميزاناً ولكل نور وحق برهاناً ))، (( فإذا جاء شيء مما يختلف فيه آل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ميز الناظر المميز السامع لذلك بين أقاويلهم، فمن وجد قوله متبعاً للكتاب والسنة، وكان الكتاب والسنة شاهدين له بالتصديق فهو على الحق دون غيره وهو المتبع لا سواه الناطق بالصواب، المتبع لعلم آبائه في كل الأسباب ))(1).
__________
(1) كتاب القياس.

(1/33)


وهكذا يتجلى لنا اعتزاء الإمام وانتماؤه الفكري لآل البيت واعتزازه بذلك الانتماء كما جاء ذلك بوضوح في جوابه على أهل صنعاء حين سألوه عن فكره ورأيه وانتمائه، قال: (( لست بزنديق ولا دهري، ولا ممن يقول بالطبع ولا ثنوي، ولا مجبر قدري، ولا حشوي، ولا خارجي، وإلى الله أبرأ من كل رافضي غوي ومن كل حروري ناصبي ومن كل معتزلي غال، ومن جميع الفرق الشاذة، ونعوذ بالله من كل مقالة غالية، ولا بد من فرقة ناجية عالية، وهذه الفرق كلها عندي حجتهم داحضة والحمد لله، وأنا متمسك بأهل بيت النبوة ومعدن الرسالة، ومهبط الوحي ومعدن العلم وأهل الذكر، الذين بهم وُحِّد الرحمن، وفي بيتهم نزل القرآن والفرقان، ولديهم التأويل والبيان، وبمفاتيح منطقهم نطق كل لسان.. فقد أصبحوا عندي بحمد الله مفاتيح الهدى ومصابيح الدجى، لو طلبنا شرق الأرض وغربها لم نجد في الشرف مثلهم، فأنا أقفوا آثارهم وأتمثل مثالهم، وأقول بقولهم وأدين بدينهم وأحتذي بفعلهم ))(1).
****
صورة مجملة من حياة الإمام الهادي عليه السلام
هذه اللمحة تخص الجاهل بحياة الإمام ومراحل تطوره إن كان هناك من يجهل حياته.
هو الإمام الهادي إلى الحق يحيى بن الحسين بن القاسم الرسي الحسني الهاشمي المدني، ثم الصعدي.
* ولد بالمدينة المنورة، عاصمة الرسالة الإسلامية المحمدية، وحاضرة العالم الإسلامي حينذاك سنة (245هـ) قبل وفاة جده القاسم بسنة واحدة، فحمل إليه فبرّكه وعوّذه وقال: هو والله يحيى صاحب اليمن.
__________
(1) المصدر السابق.

(1/34)


* عاش في تلك البيئة ـ جبل الرس على مقربة من المدينة المنورة ـ في أحضان أسرة مثالية كريمة، انتهت إليها خير خصال الهاشميين ـ وكلُّها خيِّرة ـ، وفي تلك الأسرة التي استقرت في ذلك الجبل بعد رحلات طويلة ومعاناة كبيرة فراراً بدينها من السلطان الغشوم، ومن المدنية الفاسدة، وفي رعاية شيخ تلك الأسرة، وزعيمها الروحي الوقور (( القاسم بن إبراهيم ))، الذي طوف البلدان ـ مصر، والمغرب، والشام، وغيرها من عواصم الفكر الإسلامي ـ ليستريح بعد حصيلة كبيرة من شتى صنوف وآفاق المعرفة بأفكار وطبائع الناس على أنواعهم وأجناسهم، وبعد الإعياء في طلب خلاص للأمة من معاناتها من الحكام الظالمين، لعدم وجود الناصر بعد الدعوة للتغيير، بل وبعد البيعة، ليستريح إلى ذلك الجبل، ويتفرغ لتربية أفراد أسرته المباركة، وتعليمها كل شئون حياتها، وليغذيها بتلك الحصيلة الكبرى من المعارف الإسلامية بل وغير الإسلامية، ولينشئها على جلد البادية وكرم طباعها، لتكون مهيئة من الناحيتين العلمية والجسمية لحمل الرسالة التي أخلص لها ومنحها كل حياته، وللقيام بعبء التغيير على الظلم والظالمين بجدارة كاملة.
في أحضان تلك الأسرة التي كانت تجله أشد ما يكون الإجلال نشأ وترعرع الإمام الهادي، متميزاً بالذكاء والنبوغ، وجودة الفطنة، وسلامة القريحة في تلك الأجواء النقية الصحيحة، متمتعاً بكامل الرجولة، وفضل القوة، مطلاً على العالم من هناك، غير معزول عنه رغم عزلته، كأن يد القدر تصوغه لحمل أعباء الأمة، والنهوض بها إلى مستوى الأفضل، وعرف في طفولته بكل ما تقدم من الاشتغال بالعلم، والتحلي بأنبل وأشرف الشمائل والأخلاق التي تليق بمثله ومثل أسرته، وألَّفَ وسِنُّة سبع عشرة سنة.

(1/35)


وعندما أحس من نفسه بالنضج، والقدرة على تحمل أعباء هذه الأمة ـ التي نذر أهل البيت دماءهم ونفائسهم في سبيلها ـ وكان عنده سابق معرفة بمواطن أنصار آل البيت في شتى البلاد، رحل ـ في موكب مؤلف من أبيه وبعض عمومته والموالي ـ إلى آمل، قال راوي الرحلة: (( ولم أسمع بأنه بلغ من تعظيم بشر لإنسان ما كان من تعظيم أبيه وعمومته له، ولم يكونوا يخاطبونه إلا بـ(الإمام)، فلما وصل آمل علا صيته، وانتشر خبره وخُبره، فأوحش ذلك ابن عمه (( محمد بن زيد ))، وكان هو الإمام في ذلك البلد، فكتب وزيره (( الحسن بن هشام )) إلى الهادي: (( بأن ما يجري يوحشُ ابن عمك ))، فردّ الهادي: (( ما جئنا ننازعكم أمركم، ولكن ذكر لنا أن لنا في هذه البلدة شيعة وأهلاً، فقلنا عسى الله أن يفيدهم منا )) (1)، ورحل راجعاً.
__________
(1) الإفادة 135.

(1/36)


ولما اشتهر به من تلك الخلال التي تؤهله لحمل لواء الإصلاح في أمة محمد صلى الله عليه وآله وسلم والنهوض بأعباء الخلافة ـ وبعد تمام خمس وثلاثين من عمره عمر النضج والاستواء ـ وَرَدَ عليه وفد أهل اليمن من بلاد صعدة، يستشفعون إلى أسرته في ذهابه معهم لحمل لواء الإصلاح في (( اليمن السعيد ))، وقد كانت بينهم فتن وحروب، وكانت اليمن إذ ذاك تعيش اضطراباً سياسياً رهيباً وحرباً ضروساً على السلطة، فماذا يا ترى كان يثنيه وقد طلب إليه ما كان همه وهدفه من رحلته إلى إيران من الإصلاح في أمة جده رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، من غير ما دافع من طمع، ولا رغبة في الغزو والاحتلال، والتسلط والسيطرة، كما كان أبو العتاهية ـ عبد الله بن بشر الروياني أحد عمال صنعاء من قبل العباسيين ـ يراسله إلى المدينة بأن يحضر اليمن ليبايعه، ويستلم الأمر منه، فوصل الإمام إلى اليمن في جماعة من أسرته ومواليه مستسهلاً الصعاب، عل الله يصلح به أمر أهل اليمن، ودخل صعدة وأصلح بين أهلها، وهمدت الفتنة، وعم الاستقرار والرخاء الاقتصادي لعموم العدل، وتنفيذ أحكام الشرع.
وبدأ الإمام المشوار مع أهل اليمن بعدما بايعوه على: كتاب الله، وسنة رسوله، والقسم بالسوية، والعدل في الرعية، وعلى أن يطيعوه ما أطاع الله فيهم، وإن عصاه فلا طاعة له عليهم، ويمحضوه النصح ولا يتراجعوا عن نصرته والقيام معه بالحق، وعلى أن يقدمهم عند العطاء، ويتقدمهم عند اللقاء، وأن يساوي بينه وبين الفرد منهم، كأنه يضع للخلافة الراشدة خيوطاً وخطوطاً جديدة، ليذكر الناس بتلك العهود بعدما كانت قد غابت عن دنيا الناس، وأنساهم الظالمون تلك العهود الذهبية، وذلك الماضي المشرق الوضاء، الذي ترك بصمة على جبين التاريخ، لا يزال يذكرها ولن يزال.

(1/37)


وبدت له من أهل اليمن بوادر سيئة اعترضت سبيله في إقامة حكم الله تعالى، حيث شفع إليه في إسقاط بعض الحدود عن بعض الكبراء، فرحل عن اليمن مغاضباً راجعاً إلى المدينة، معتذراً بقوله: (( والله لا أكون كالسراج يضيء للناس ويحرق نفسه، والله ما هي إلا سيرة محمد أو النار ))، فأعاد اليمنيون الكرّة، وأرسلوا وفداً آخر يطلب عودته بعدما ذاقوا العناء السياسي والاقتصادي، (( وكانت اليمن على استعداد له، وقد دعته إليها دعوة مخلصة يمنية، وليست عراقية كالتي كانت للحسين رضي الله عنه ))، فلبى تلك الدعوة ووصل إلى صعدة في 6 صفر سنة 284هـ، ووطد لحكومة إسلامية تنشد الصلاح والإصلاح ولا تعرف التسلط والظلم والجبروت، ولا تحتجب عن رعاياها إلا من خوفهم وغدرهم، تشهد صلواتهم الخمس وتعيش آلامهم وآمالهم وتطلعاتهم، فأصبح للمذهب الزيدي في ربوع اليمن الميمون دولة حكمت مئات السنين، وضع بذرتها الإمام الهادي عليه السلام، ورعاها بنوه من بعده، والحديث عن حكومته وإصلاحاته السياسية والاقتصادية والعسكرية يطول.
بويع له سنة (284هـ) وله خمس وثلاثون سنة، وكانت له مع أنصاره وأعدائه من اليمنيين الأشاوس مواقف بطولية جريئة، دلت على بسالة منقطعة النظير، وكانت شجاعته مضرب المثل وحديث الركبان.
(( وقد سار الهادي في حكم البلاد اليمنية على سنّة العدل، مما جعل الأهلين يرون فيه مظهراً لحكم الإسلام، ومصدراً لعهد الخلفاء الراشدين الأولين، وإن رسائله وخطبه وعهوده تجعل القارئ يحس بأنه يعود بالإسلام إلى عهده الأول، عهد أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، الذين يعتبرون الحاكم منفذ أحكام الله تعالى بحيث يحس بها الصغير والكبير والأمير والحقير )) (1).
__________
(1) أبو زهرة الإمام زيد بن علي: 515.

(1/38)


وصفى حسابه مع القرامطة في اليمن، وجاهدهم بسيفه ولسانه جهاد الأبطال وأقام حكماً سياسياً واقتصادياً عادلاً، ونظاماً إدارياً وقضائياً جعله يسبق عصره، وألحقه بمصاف الراشدين، كما أسس لمذهب أصيل (( ووسع باب الاجتهاد فيه والاختيار، واجتهد اجتهاداً مطلقاً رفعه إلى مرتبة الأئمة أصحاب المذاهب ))، وقد شمر لخدمة مذهبه تخريجاً واستدلالاً أئمة المذهب الزيدي بعده في اليمن والجيل والديلم.
توفي حميداً سعيداً سنة (298هـ)، وترك آثاراً ومؤلفات رائعة.
*****
عملي في الكتاب
لنشر التراث الإسلامي عموماً أهمية عظمى في وصل الحاضر بالماضي للاستهداء به، وتراث الزيدية على وجه الخصوص لما يتمتع به من حيوية ومن معالم بارزة وشخصية ممتازة في وسطيته واعتداله وشموله واستيعابه لتراث كثير من الفرق الإسلامية، ولذلك فإنه إذا كان لكل فكر وتراث ثقافي حملته وأتباعه وأهله وأنصاره المهتمين به على وجه الخصوص فلعل تراث الزيدية الضخم مهمة كل المسلمين، وله حق على كل قادر منهم ؛ لأنه ليس تراثاً يخص الزيدية بل يشمل تراث غيرهم في الكلام والفقه؛ ولأنه لا يزال حبيس المكتبات الخاصة والعامة وفيه ثروة طائلة للمهتمين ثقافياً والباحثين.
وعندما توجهت الهمة لتحقيق ونشر هذا المجموع لما يحمله من تراث وفكر الإمام الهادي والذي سبق نشر بعض كتبه ورسائله كان جل هدفي هو إخراج النص مستقيماً للدارسين والباحثين وطلبة العلوم الدينية الذين يشدهم ويستهويهم تراث هذا الإمام الذي نشأ واعلى مذهبه، ونمت معارفهم الأولى في حضيرته وروضته. وقد لقيت عناء وعنتاً شديداً حتى تم صفه ثم لقيت عناءً آخر ربما مكرراً مرات في مقابلة رسائله على ما لدي من مخطوطات والإعتناء بنصها بالدرجة الأولى حتى صار النص بحمد الله مستقيم المعنى واضح العبارة.
وكان عملي في الكتاب على النحو الآتي:

(1/39)


1ـ رتبته ترتيباً موضوعياً على حسب موضوعات العقيدة وترتيبها في كتب علم الكلام؛ لأنني عرفت من خلال اختلاف النسخ في الترتيب أنه ليس من ترتيب الإمام، ولذلك اخترت ترتيبه ترتيباً جديداً يسهل على الدارسين والباحثين، فبدأت بالكتب والرسائل التي تجمع (( الأصول الخمسة )) أو أكثرها، ثم ثنيت بالكتب والرسائل التي تتعلق بموضوع (( التوحيد ))، ثم بموضوع (( العدل ))، ثم بموضوع (( النبوة ))، وما يتعلق بها ثم موضوع (( الإمامة ))، فهذه هي الأصول التي حظيت في المجموع واختصت برسائل أو كتب أو مسائل على تفاوت في ذلك، ثم ثلثت بالرسائل التي تتعلق (( بأصول التشريع )) من القرآن أو السنة أو القياس، ثم تلاها ماله علاقة بموضوع (( الأخلاق والآداب ))، ثم تلاها أخيراً رسائل وأجوبة مسائل متفرقة، منها في موضوع المعرفة البشرية، ومنها في تفسير آي من القرآن، ومنها في بيان أحاديث من السنة، ومنها في الفقه كل ذلك تحت عنوان (( مسائل متفرقة )) علماً بأنني لم أستكمل كل تراث الإمام ومسائله؛ لأن ذلك يقتضي وقتاً وجهداً كبيرين، ولكني فتحت الباب بنشر ما نشرت من المجموع بالترتيب المذكور للمهتمين ليلحقوا ما عثروا عليه من ثراثه كلا بموضوعه، لكي يصبح سلسلة (( تراث الإمام الهادي )) أو (( الأعمال الكاملة )). ولعلي بإذن الله أتمكن لاحقاً من تحقيق تلك الأمنية لكي يصبح كل تراث الإمام في متناول الأيدي. وسأتبع هذا بترتيب كل نسخة من النسخ التي قابلت عليها ومحتوياتها.
2 ـ قابلت المجموع على ثلاث نسخ خطية عدا المطبوعتين اللتين نشرهما الدكتوران: الكاتب وعمارة غير متمحور على نسخة بعينها تكون هي الأصل ذهاباً وراء النص المستقيم، وأثبت ما اختلف من النسخ في الهامش، وما زدته جعلته بين معكوفين هكذا: [ ].
3 ـ خرجت الآيات القرآنية مثبتاً تخريجها في الأصل بين معكوفين هكذا: [ ] لئلا أثقل الهامش وأزيد في حجم الكتاب.

(1/40)


4 ـ وضعت بعض العناوين في ثنايا المجموع وأبقيت على العناوين التي جاءت في المطبوع من المجموع كما هي.
5 ـ أبقيت على أسماء الكتب والرسائل كما جاءت في المخطوطات ولم أهتم في الأغلب بما يكون في أول الكتب والرسائل وآخرها مما ظننت أنه من عمل النساخ وكذلك ما كتبه في هوامش المخطوطات النساخ أو القراء والمشائخ.
6 ـ شرحت بعض الألفاظ الغريبة أو المصطلحات تسهيلاً على طلبة العلوم الدينية.
7 ـ عرفت بعض الأعلام في المجموع تعريفاً موجزاً وخصوصاً من اطلعت له على ترجمة من اصحاب الإمام أو تتبعت ذكره في سيرة الإمام.
8 ـ تحريت في إخراج النص مصطلحات التحقيق والنشر من تنقيط وترقيم وسائر مصطلحات النشر والتحقيق جهدي.
9 ـ أبقيت فيما اعتمدت فيه على المطبوعات ما أثبته محققوها في هوامشها معرفاً لذلك في الأعم الأغلب أو في الكل بقولي: في هامش ط.
10 ـ لم أحفل بتخريج الأحاديث الواردة في المجموع لندرتها وشهرة أكثرها وللثقة بنقل الإمام وتحريه في الرواية عن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم.
11 ـ وضعت مقدمة للمجموع ضمنتها ما رأيته مهماً على سبيل الجملة مما له علاقة بالتعريف بشخصية الإمام السياسية والفكرية وما أثير حوله، ودراسة ما تضمنه المجموع أساساً تاركاً الإشارات التفصيلية لجوانب فكره وآرائه الكلامية في مختلف موضوعات علم الكلام وغيرها للدراسة الموسعة بإذن الله تعالى.
وصف المخطوطات
لقد تحصلت على ثلاث نسخ خطية جيدة متفاوته الأزمنة والصحة والدقة، وهي على ترتيبها الزمني كالآتي:

(1/41)


1 ـ نسخة قديمة يغلب عليها الصحة ويتفاوت خطها، ويعود تاريخها إلى القرن السابع الهجري (648هـ) كما يظهر على بعض لوحاتها، وهي بمكتبة الجامع الكبير بصنعاء، وتحمل عنوان: كتاب المجموع من كتب الإمام الهادي إلى الحق يحيى بن الحسين بن القاسم بن إبراهيم بن إسماعيل بن إبراهيم بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب صلوات الله عليهم أجمعين وسلامه، وكتب في آخرها: وكتب الفقير إلى ربه المعترف بخطئه وذنبه إسماعيل بن علي. وقد رمزت لها بالحرف (أ).
ومجموع ما فيها من كتب ورسائل الإمام على الترتيب الآتي كما جاء على غلافها:

(1/42)


كتاب البالغ المدرك، كتاب الأصول، جوابه لأهل صنعاء، كتاب المسترشد، باب الرد على أهل الزيغ من المشبهين، مسألة في العلم والقدرة والإرادة والمشيئة، كتاب تفسير معاني السنة، جواب مسألة النبوة والإمامة، كتاب تثبيت إمامة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب صلوات الله عليه، باب إثبات النبوة، مسالة لرجل من أهل قم، جواب مسائل الحسين بن عبد الله الطبري، مسألة أجاب بها أيضاً في الإمامة، كتاب إثبات النبوة لمحمد صلى الله عليه وآله وسلم، كتاب الجملة، كتاب المنزلة بين المنزلتين، كتاب تفسير الكرسي، كتاب الديانة، كتاب الخشية، كتاب الرد على من زعم أن القرآن قد ذهب بعضه، جواب مسائل لابنه المرتضى ومن مسائل محمد بن عبيد الله العلوي، كتاب الرد على ابن جرير، مسالة من مسائل التباعي، رواية عنه عليه السلام ورواية أخرى، موعظة له عليه السلام، كتاب القياس، جواب مسائل أبي القاسم الرازي، كتاب المناهي، ذكر خطايا الأنبياء عليهم السلام، كتاب الرد على المجبرة القدرية، كتاب العرش والكرسي، كتاب الفنون، كتاب تثبيت الإمامة، كتاب فيه معرفة الله في العدل والتوحيد وتصديق الوعد والوعيد عن الإمام المرتضى عن أبيه، كتاب الرد على الحسن بن محمد بن الحنفية، منتزع من سياسة النفسن، كتاب عهده إلى عماله. هذا ما جاء على الغلاف وأظن فيه زيادة على ذلك رسالتين أو ثلاث تقريباً لم تذكر.
2ـ نسخة ثانية حسنة الخط بخط واحد، ولكنها كثيرة السهو والسقط، وقد صورتها مكتبة اليمن الكبرى ونشرتها بعنوان: (( المجموعة الفاخرة ))، ويعود تاريخها إلى اواخر القرن الحادي عشر الهجري: قال في آخرها: كان تمام زبر هذا الكتاب المبارك في يوم الجمعة لعله ثامن شهر الحجة الحرام سنة (1097هـ)، وذلك بعناية سيدي الصنو القاضي ضياء الدين يحيى بن الحسين السحولي حفظه الله تعالى، بخط العبد الفقير إلى الله الفقيه حسين بن علي حثيث وفقه الله. وقد رمزت لها بالحرف (ب).

(1/43)


ومجموع ما فيها كما جاء في الغلاف على الترتيب الآتي:
كتاب المسترشد، كتاب الرد على أهل الزيغ، كتاب البالغ المدرك، كتاب الخشية، جواب مسالة النبوة والإمامة، تثبيت إمامة أمير المؤمنين، جواب مسألة لرجل من أهل قم، إثبات النبوة، تثبيت نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم، مسألة في الذبائح، كتاب تفسير الكرسي، كتاب العرش والكرسي، جواب أهل صنعاء، كتاب أصول الدين، ذكر خطايا الأنبياء صلوات الله عليهم، كتاب الجملة، كتاب المنزلة بين المنزلتين، كتاب القياس، جواب مسائل الرازي، كتاب الديانة، كتاب معاني السنة، كتاب العدل والتوحيد، الرد على من قال إن القرآن قد ذهب بعضه، الرد على ابن جرير، جواب مسألة من مسائل التباعي، كتاب النهي، مسألة في العلم والقدرة والإرادة والمشيئة، جواب مسألة في أكل لحوم الخيل والبغال والحمير، كتاب الرد على الحسن بن محمد بن الحنفية، كتاب الرد على المجبرة القدرية الأول، كتاب الرد على المجبرة الثاني، كتاب دعوة إلى أحمد بن يحيى بن زيد، مسائل الحسين بن عبد الله الطبري، جواب مسائل لابنه المرتضى ومن مسائل علي بن محمد العلوي، ومن مسائل محمد بن عبيد الله، خبر دخوله اليمن.
3 ـ نسخة ثالثة جيدة الخط صحيحة اللفظ، قرئت على شيخ شيوخ صعدة العلامة الحسن بن محمد سهيل رحمه الله وهي في ملكه ويعود تاريخها إلى سنة (1372هـ) بعنوان: مجموع من كتب الإمام الهادي إلى الحق يحيى بن الحسين.. إلخ، قال في آخرها: كان الفراغ بمن الله تعالى وعونه ضحى يوم الجمعة شهر ربيع آخر سنة (1372هـ) بعناية سيدي الوالد العلامة شرف الإسلام الحسن بن محمد سهيل أطال الله مدته وغفر له ولنا ولجميع المؤمنين آمين، بقلم العبد الفقير الحقير الراجي عفو ربه ومغفرته والدعاء من إخوانه المؤمنين في الحياة وبعد الممات علي بن إسماعيل سهيل غفر الله له ولوالديه وللمؤمنين أجمعين، وقد رمزت لها بالحرف (ج).

(1/44)


ومجموع كتبها ورسائلها على الترتيب كالآتي:
كتاب البالغ المدرك، كتاب الديانة، كتاب الخشية، كتاب المسترشد، باب الرد على أهل الزيغ، مسألة في العلم والقدرة والإرادة والمشيئة، كتاب تفسير معاني السنة، جواب مسألة النبوة والإمامة، تثبيت إمامة أمير المؤمنين، باب إثبات النبوة، مسألة في الإمامة، جواب مسألة لرجل من أهل قم، جواب مسائل الطبري، الدليل على نبوة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، كتاب الجملة، مسألة في الذبائح، كتاب المنزلة بين المنزلتين، كتاب تفسير الكرسي، جواب أهل صنعاء، كتاب اصول الدين، الرد على من زعم أن القرآن قد ذهب بعضه، مسائل متفرقة، الرد على سليمان بن جرير، مسألة من مسائل التباعي، رواية عن الهادي فيها نبذ من سيرته، موعظة له، دعوة أحمد بن يحيى بن زيد، مسألة لابنه المرتضى، كتاب القياس، جواب مسائل الرازي، كتاب النهي، كتاب خطايا الأنبياء، كتاب الرد على المجبرة والقدرية الثاني، كتاب الفنون، كتاب الرضاع، كتاب تثبيت الإمامة، وقيل إنه لزيد بن علي، عهده إلى عماله، كتاب تأويل العرش والكرسي.
هذا وقد اعتمدت على المطبوعتين اللتين نشرتا بعنوان (( رسائل في العدل والتوحيد )) في الرسائل التي للإمام الهادي فيها وهما:
1 ـ رسائل العدل والتوحيد إختارها وقدم لها سيف الدين الكاتب، منشورات: دار مكتبة الحياة بيروت ـ لبنان. كتاب الرد والاحتجاج على الحسن بن محمد بن الحنفية، وهي نسخة صحيحة فيها شيء من السقط وبعض التصحيف، وقد اعتمدتها في كتاب الرد على ابن الحنفية.
2 ـ رسائل العدل والتوحيد دراسة وتحقيق الدكتور محمد عمارة، منشورات دار الشروق، وهي نسخة صحيحة أيضاً فيها شيء من السقط والتصحيف، وقد اعتمدت عليها في الرسائل التالية: الرد على المجبرة القدرية الأول، كتاب فيه معرفة الله من العدل والتوحيد وتصديق الوعد والوعيد..، كتاب الجملة، الرد على أهل الزيغ من المشبهين.

(1/45)


وقد رمزت لكل منهما في ما اعتمدت فيها عليه بالحرف (ط).
(تنبيه) تختلف النسخ الخطية الثلاث في بعض عناوين الكتب والرسائل وفي محتوياتها وفي ترتيبها، وقد ذكرت محتويات كل منها وترتيبها ليكون المطلع على معرفة بذلك ولأمانة التحقيق لمن له غرض في معرفة محتوياتها وترتيبها؛ لأنني قد رتبتها ترتيباً آخر، فكان من المناسب ذكر ذلك، كما أنه قد تظهر بعض الأخطاء المطبعية غير المقصودة والتي لا يخلو منها مطبوع مهما بلغت عنايته ودقته فمن أصلحها ونبه عليها فله جزيل الشكر، وقد يحدث خطأ أيضاً في رموز المخطوطات لمن أراد المقابلة فليتنبه لذلك، وقد دللنا المطلع على وصف المخطوطات وتواريخها لذلك والله المستعان.
****
كلمة شكر
ولا بد لي في الأخير من كلمة شكر وتقدير وعرفان لكل من أعانني في طبع ونشر وإخراج هذا المجموع في هذه الحلة البهية، وأخص منهم بالذكر صاحب الفضيلة السيد العلامة محمد بن محمد المنصور حفظه الله، لما بذله من جهد في سبيل الحصول على نسخة من مكتبة الجامع الكبير، والأخ الأستاذ العلامة المحقق صاحب مركز النور للبحوث والدراسات والتحقيق محمد يحيى سالم عزان حفظه الله لما بذل من جهد في الاشراف على صف وتصحيح وإخراج المجموع بهذه الصورة الأنيقة، وكذلك الإخ الأستاذ صالح عبدالله قربان الذي كان له شرف صف المخطوطة وإدخال التصحيحات، كما اشكر الأخوين العزيزين الأستاذ العلامة محسن بن صالح الحمزي والأستاذ العلامة صاحب مكتبة التراث الإسلامي بصعدة محمد بن قاسم الهاشمي، والأخ العزيز الأستاذ غايب جابر يحيى الرازحي لتعاونهم المادي بواسطتهم، وكل الأخوة الأعزاء الذين مدوا لي يد العون سائلاً المولى عز وجل أن يثيبهم خير الثواب.
وأدعو كل القادرين بمختلف الجهود لإخراج تراثنا اليمني العظيم لتستفيد منه أمتنا العربية والإسلامية وكل العالم، سائلاً المولى عز وجل أن يأخذ بأيدينا إلى ما فيه صلاح أمتنا الإسلامية إنه سميع مجيب، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على محمد وآله الطاهرين.
علي أحمد محمد الرازحي
صعدة: 25/1/1419هـ
الموافق: 21/5/1998م

(1/46)


رسائل جامعة في مسائل الأصول
كتاب المنزلة بين المنزلتين
m
الحمدلله وبه نستعين.
قال الإمام الهادي إلى الحق يحيى بن الحسين عليه السلام:
إن سأل سائل فقال: من أين زعمتم أن الحق في أيديكم دون غيركم، وجميع من خالفكم يدَّعي مثل ما ادعيتم؟
قلنا له: إن أقرب الأشياء عندنا الذي علمنا به أنا على الحق ومن خالفنا على الباطل؛ أن جميع فرق الأمة بجملة قولنا مصدقون، ونحن لهم فيما انفردت به كل طائفة منهم مكذبون. وهم فيما ندين اللّه به من أصول (التوحيد) و(العدل) و(إثبات الوعد والوعيد)، والقول بـ(المنزلة بين المنزلتين)، و (الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر) مصدقون.
وجميع أهل الصلاة عندنا خمسة أصناف: (الشيعة)، و(المرجئة)، و(الخوارج)، و(المعتزلة)، و(العامة)، فقد شهدت لنا هذه الفرق كلها في أصل شهادتها بما نقول، ثم نقض ذلك بعضهم، فأقمنا على أصل ما شهدوا لنا به، ولم ننقض ذلك كما نقضه بعضهم.
وذلك أنهم شهدوا: أن اللّه واحد ليس كمثله شيء؛ ثم نقضت ذلك المشبهة(1) بقول من قال منهم: إنه على صورة آدم، وبقول من قال: إنه جسم محدود، وبأقاويل لهم كثيرة، كلها تنقض قولهم: واحداً(2) ليس كمثله شيء، لوصفهم له بالأجزاء والأعضاء والحدود، والزوال والإنتقال تعالى اللّه عما قالوا علواً كبيراً.
__________
(1) في هامش (ج): المجسمة.
(2) في (أ) و(ج): واحد.

(1/47)


فعلمنا أن الذي ليس كمثله شيء لا يكون على صورة شيء، ولا يكون جسماً محدوداً، لأن من كان كذلك؛ كان أجزاء كثيرة بعضها غير بعض، ولم يكن واحداً؛ لأن الواحد في الحقيقة لا يكون له أشباه، ولا يكون له ثان.
فلما شهدوا لنا أنه واحد ليس كمثله شيء؛ أخذنا بذلك وتركنا اختلافهم؛ إذ نقضوا به شهادتهم الأولى(1).
فهذا ديننا وشهادتنا، وحجتنا على كل من خالفنا في التوحيد.
وأما شهادتهم لنا في العدل؛ فإنهم شهدوا أن اللّه تبارك وتعالى عدل لا يظلم ولا يجور، وأنه خير للخلق من الخلق لأنفسهم، وهو أرحم الراحمين.
ثم نقضت ذلك المجبرة، بقول من قال منهم: إنه كلف العباد ما لا يطيقون، وأنه أخرجهم من الطاعة، وأنه عذبهم على ما خلقه فيهم.
وبقول من قال منهم: إن اللّه يريد أن يعصى؛ ثم يغضب مما أراد.
(وبقول من قال منهم: إنه يعذب الطفل الصغير، بجرم الشيخ الكبير) (2).
وبأقاويل كثيرة كلها تنقض قولهم: إنه عدل لا يجور، تعالى اللّه عما قالوا. فعلمنا أن العدل الرحيم لا يفعل ذلك؛ إذ كان ذلك ممن فعله جوراً وظلماً وعبثاً تعالى اللّه عن ذلك.
فأخذنا بما شهدوا لنا به في أصل شهادتهم: أنه لا يظلم، ولا يجور، ولا يعبث، وأنه حكيم رحيم، عدل كريم، وتركنا ما نقضوا به جملتهم عند اختلافهم.
فهذا ديننا، وحجتنا على من خالفنا في العدل.
وأما شهادتهم لنا في الوعد والوعيد؛ فإنهم شهدوا جميعاً: أن اللّه تبارك وتعالى صادق في جميع أخباره، وأنه لا يخلف الميعاد، ولا يبدل القول لديه، صادق الوعد والوعيد في أخباره.
ثم نقض ذلك المرجئة (3)، بقول من زعم أن اللّه جائز أن يعفو لمن قد أخبر أنه يعذبه.
__________
(1) سقط من (أ) و(ج): الأولى.
(2) سقط من (أ).
(3) في (أ): المجبرة.

(1/48)


وخالف ذلك منهم، من زعم أن اللّه يقول: من زنى عذبته بالنار يوم القيامة، فيأتي الخبر من اللّه ظاهراً مطلقاً، ليس معه استثناء؛ ثم لا يعذب أحداً من الزناة يوم القيامة، ولا تمسهم النار، لأنهم زعموا أنه استثنى ذلك عند الملائكة، فقال: إني إنما أعذبهم(1) إن شئت، وإلا فإني أغفر لهم. أو يقول: إلا أن أتفضل عليهم بالعفو، وإنما عنى أني أعذبهم إلا أن يغتسلوا من جنابة الزنى، فإن اغتسلوا من جنابة الزنى أو فعلوا شيئاً من الخير غفرت لهم.
فلما جوزوا ذلك في أخبار الله؛ نقضوا معنى ما حكم اللّه به في وعده ووعيده.
وادعى بعضهم الخصوص في الأخبار؛ فزعموا أن كل خبر جاء من اللّه عاماً في الظاهر؛ فقد يجوز أن يكون خاصاً، كقول اللّه عز وجل: {وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ}[التوبة49]، فزعموا أنه يجوز أن يكون عنى بعض الكافرين دون بعض. وكذلك قوله: {إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الغَافِلاَتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ}[النور:23]، وأنه يجوز عندهم أن يكون في بعض القاذفين دون بعض، إلا أنهم يعلمون أن الكفار كلهم يعذبون بإجماع الناس على ذلك.
وأما أصحاب الكبائر فيجوز عندهم أن لا يعذب أحد منهم، ولا تمسه(2) النار.
وزعم بعضهم أنه ليس في أهل الصلاة وعيد، وإنما الوعيد في الكفار خاصة دون غيرهم.
وكل هؤلاء وغيرهم من أصناف المرجئة (3) ناقضون لمعنى ما أخبر اللّه في كتابه، وحكم به من وعده ووعيده.
__________
(1) في (أ): فقال له: إنما أعذبهم.
(2) في (ج) و(ب): ولا تمسهم.
(3) في (أ): المجبرة.

(1/49)


فلما شهدت لنا الفرق كلها أن اللّه صادق الوعد والوعيد، لا خلف لوعده، ولا تبديل لقوله؛ أخذنا بما أجمعوا عليه من ذلك، ولم ننقض معاني الأخبار كما فعلت المرجئة، وعلمنا أن اللّه تبارك وتعالى إذا أخبر بشيء كان كما قال، لا تبديل لذلك ولا نقض، ولا تكذيب ولا نكث، ولا تنسخ أخباره أبداً بشيء، ولا يظهر لنا خبراً ثم يفعل خلافه، ولا يظهر لنا عموم الأخبار في وعده ووعيده ثم يجعلها خاصة من حيث لا نعلم؛ لأن ذلك كله غير جائز على الله، تعالى اللّه عما قالت المجبرة والمرجئة(1) علواً كبيراً.
فهذا ديننا وحجتنا على من خالفنا في الوعيد.
وأما شهادتهم لنا في المنزلة بين المنزلتين، وقولنا: إن أهل الكبائر من أهل الصلاة فساق وفجار أعداء لله، ظلمة معتدون، فإنهم شهدوا لنا بذلك، فشهدنا بما شهدوا.
ثم ادعى بعض الخوارج: أنهم كفار، وأن فسقهم قد بلغ بهم الكفر والنفاق دون الشرك.
(وقال بعضهم: قد بلغ بهم فسقهم الكفر والشرك)(2). ويقال: إن الزيدية أو بعضهم يزعمون أن فسقهم قد بلغ بهم الكفر (3).
وادعت المرجئة: أنهم مع فسقهم مؤمنون، وخالفهم في ذلك عامة الأصناف.
وقالت المعتزلة: هم فساق وفجار، لا يبلغ بهم فسقهم كفراً ولا شركاً ولا نفاقاً. وكذلك قالت المرجئة والعامة.
وقالت المعتزلة أيضاً: لا يجب لهم اسم الإيمان مع الفسوق. وكذلك قالت الخوارج والشيعة الزيدية.
فوجدناهم كلهم قد أجمعوا على شهادة واحدة أنهم فساق فجار معتدون، فأخذنا بما أجمعوا عليه من ذلك، وتركنا ما اختلفوا فيه؛ مما كذب فيه بعضهم بعضاً؛ فسميناهم فساقاً فجاراً، وبرأناهم من الكفر والشرك والنفاق إذ كانوا فيه مختلفين، ولم نوجب(4) لهم اسم الإيمان؛ إذ كانوا عليه ـ عند إصابتهم الكبائر ـ غير مجتمعين، ولم يكن شيء من اختلافهم حجة من حجج رب العالمين.
__________
(1) سقط من (أ): المرجئة.
(2) سقط من (أ).
(3) لعل المراد كفراً دون كفر، أو كفر النعمة.
(4) في (أ): ولو وجب.

(1/50)


فهذا ديننا وحجتنا على من خالفنا في المنزلة بين المنزلتين.
وأما شهادتهم لنا بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: فإنهم شهدوا أن ذلك واجب إذا أمكن وقدر عليه، وشهدوا أن نصرة المظلوم فرض، والأخذ على يد الظالم فرض إذا أمكن ذلك؛ ثم اختلفوا بعد ذلك.
فقال منهم قائلون: لا ندفع الظالم عن أنفسنا ولا عن غيرنا إلا بالقول والكلام، وإن انتهبت أموالنا، وانتهكت حرماتنا لم نقاتل بالسلاح، وإن كان في ذلك دفع الظلم عنا وعن المسلمين، ولكنا نترك الظالمين والباغين يبلغون منتهى حاجاتهم منا، ومن حرماتنا وأموالنا؛ ثم يمضون سالمين.
وقال آخرون: نقاتل وندفع عن أنفسنا وعن حرماتنا وأموالنا بالسلاح وغيره، فإن قتلنا رجونا أن نكون (شهداء، وإن قتلناهم رجونا أن نكون) سعداء.
فلما شهدوا أن نصرة المظلوم حق، ودفع الظلم والأخذ على يد الظالم فريضة لازمة لمن قدر عليها؛ علمنا أنه لا يخرجنا من هذه الفريضة إلا أداؤها، والقيام بها بالسلاح وغيره، إذا أمكننا ذلك.فأخذنا بما أجمعوا عليه لنا في أصل شهادتهم، ولم نترك ذلك كما تركه الآخرون، وهم على دفعه قادرون.
فهذا ديننا وحجتنا على من خالفنا في الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، ودفع الظالم.
فمن أقام على هذه الأصول كما أقمنا، ودان بها كما دِنّا ، وعمل بما استحق اللّه عليه فيها؛ فهو منا، وأخونا وولينا، ندعوه إلى ما أجابنا، ونجيبه إلى ما دعانا، ومن خالفنا وفارقنا عليها؛ حاججناه بالمحكم من كتاب الله، ورددناه إلى المجمع عليه من سنة رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم؛ فإن قبل ذلك كان له مالنا وعليه ما علينا، وإن أبى إلا المخالفة للحق والمعاندة للصواب؛ كان اللّه حسبه(1) وولي أمره، والحاكم بيننا وبينه وهو خير الحاكمين.
وقد ذكرنا من كتاب اللّه عز وجل تحقيق ما قلنا، وتصديق ما وصفنا.
باب ذكر التوحيد في كتاب اللّه عز وجل
__________
(1) في (أ): حسيبه.

(1/51)


إن اللّه تبارك وتعالى ذكر التوحيد في كتابه فقال: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ اللَّهُ الصَّمَدُ لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُؤاً أَحَدٌ}[الصمد: 1ـ4]، فأخبر سبحانه أنه الواحد الأحد، الذي ليس بوالد ولا ولد، وأنه ليس له كفؤاً أحد ولا شبيه، في وجه من الوجوه(1).
وقال: {هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيّاً}[مريم: 65]، يقول: كفؤاً أو نظيراً.
وقال: {لَيسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ}[الشورى: 11]، وقال: {لاَ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ}[الأنعام: 103]، ولم يقل في الدنيا دون الآخرة، فنفى عن نفسه درك الأبصار في كل وقت من أوقات الدنيا والآخرة، كما نفى عن نفسه السنة والنوم في الدنيا والآخرة على كل وجه من الوجوه (فقال: {لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ}[البقرة: 255]، كما نفى عن نفسه الظلم في الدنيا والآخرة فقال: {إِنَّ اللَّهَ لاَ يَظْلِمُ النَّاسَ شَيئاً وَلَكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ}[يونس: 44]، وكما نفى عن نفسه أن يكون له شبيه في الدنيا والآخرة على كل وجه من الوجوه)(2) بقوله: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ}.
وقال: {وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَآءِ إِلَهٌ وَفِي الأَرْضِ إِلَهٌ وَهُوَ الْحَكِيمُ العَلِيمُ}[الزخرف: 84] فنفى عن نفسه أن يكون في مكان دون مكان؛ لأن من كان في مكان دون مكان فمحدود، والله غير محدود، ولا يحيط به شيء وهو بكل شيء محيط.
وقال: {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاَثَةٍ إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ وَلاَ خَمْسَةٍ إِلاَّ هُوَ سَادِسُهُمْ} [المجادلة: 7] إلى آخر الآية.
فبهذه الآيات ونحوها احتججنا على من خالفنا، ومن شبه الخالق بالمخلوق، وعلمنا أن اللّه لا يشبهه شيء (3) في وجه من الوجوه.
__________
(1) في (ب): أحد من خلقه.
(2) سقط من (أ) من قوله: فقال (لا تأخذه سنة)...إلى هنا.
(3) في (أ): لا يشبه شيئاً.

(1/52)


بابٌ في خلق القرآن
وذكر اللّه القرآن فقال: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ}[الحجر: 9] فأخبر أنه منزل محفوظ، كما قال: {وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ}[الحديد: 25]، وكقوله: {وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ}[الزمر: 6]، وقال: {وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَآءِ مَاءً مُبَارَكاً}[ق: 9] ولم يقل: خلقنا الحديد والماء والأنعام، وكل ذلك مخلوق.
وقوله: {خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ}[الأنعام: 102]، وقوله: {خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَابَيْنَهُمَا}[الفرقان: 59]، وكذلك القرآن لأنه شيء، وهو بين السموات والأرض. وليس القرآن من أعمال العباد التي أضافها اللّه إليهم في كتابه، ولا من صنعهم الذي نسبه اللّه إليهم؛ فالقرآن داخل في هذه الآيات ـ دون عمل العباد ـ كالأنعام والحديد.
وقال: {وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا}[الشورى: 52]، وقال: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ}[الأنعام: 1]، فأخبر أنه نور، والنور مخلوق. وقال: {إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً}[الزخرف: 3]، وقال: {خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوجَهَا}[الأعراف: 189]. وكذلك خلق القرآن، إذ جعله قرآناً عربياً، كما {جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَآءً وَالقَمَرَ نُوراً}[يونس: 5]؛ بأن خلقهما كذلك.
وقال: {مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلاَّ اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ}[الأنبياء: 2]، وقال: {أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْراً}[طه: 113] فأخبر أنه محدث، وأنه ليس بقديم، وإذا كان محدثاً فالله أحدثه، وهو مخلوق والله خلقه.

(1/53)


وقال: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلاَمَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ}[التوبة: 6]، وقال: {يَسْمَعُونَ كَلاَمَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ}[البقرة: 75]، وقال: {وَكَذَلِكَ أَوحَينَا إِلَيكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الكِتَابُ وَلاَ الإِيْمَانُ}[الشورى: 52]، وقال: {إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى بْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ}[النساء: 171]، وقال: {فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ}[الحجر: 29]، وقال: {وَمَرْيَمَ ابْنَةَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا}[التحريم: 12]، فأخبر أن القرآن كلامه وروح من أمره، وأن عيسى كلمته وروح منه، وأنه نفخ في آدم من روحه، وكذلك في مريم، ثم أجمل ذلك كله فقال: {إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَاللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ}[آل عمران: 59] فأخبر أن معنى الكلمة والروح خلق من خلقه، وتدبير من أمره، وكذلك القرآن سماه كلامه(1)، وروحاً من أمره، ومعنى ذلك: أنه خلقٌ من خلقه، وتدبيرٌ من تدبيره وأمره(2)، وقال: {وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ}[النحل: 101]، وقال: {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}[البقرة: 106](3).
__________
(1) في (ج): كلاماً.
(2) سقط من (أ): من قوله: وكذلك القرآن... إلى هنا.
(3) فذكر التبديل والنسخ وهما من خواص المخلوقات.

(1/54)


فبهذه الآيات ونحوها خَالَفْنا من زعم أن القرآن ليس بمخلوق، وعلمنا أنه مخلوق محدث، وأن اللّه خالقه.
باب ذكر عدل اللّه في كتابه
قال اللّه عز وجل: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَآءِ ذِي القُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ}[النحل: 90]، وقال: {وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَو كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِاللَّهِ أَوْفُوا}[الأنعام: 152]، وقال: {وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَنْ لاَ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} [المائدة: 8]، وقال: {وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَأْمُرُ بِالفَحْشَآءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَالاَ تَعْلَمُونَ قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالقِسْطِ} [الأعراف: 28ـ29]، وقال: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالبَغْيَ بِغَيرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَالَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَالاَ تَعْلَمُونَ} [الأعراف: 33]، وقال: {الشَّيطَانُ يَعِدُكُمُ الفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالفَحْشَآءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلاً وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [البقرة: 268].
فبهذه الآيات ونحوها علمنا أن العدل والإحسان من اللّه تبارك وتعالى، وأن الظلم والعدوان من عمل الشيطان، وفعْلِ الإنسان، والله من ذلك برئ، تبارك وتعالى عما يقول الجاهلون علواً كبيراً.
باب ذكر قضاء اللّه في كتابه

(1/55)


قال اللّه تبارك وتعالى: {وَقَضَى رَبُّكَ أَنْ لاَ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالوَالِدَينِ إِحْسَاناً} [الإسراء: 23]، فأخبر سبحانه أنه قضى بعبادته وبر الوالدين، (ولم يقض بعبادة غيره وعقوق الوالدين)(1)، وقال: {يَقْضِي الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الفَاصِلِينَ} [الأنعام: 57](2)، ولم يقل أنه يقضي بالباطل، وقال: {وَاللَّهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لاَ يَقْضُونَ بِشَيْءٍ} [غافر: 20]، وقال: {إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَينَهُمْ يَوْمَ القِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} [يونس: 93] فأخبر أنه لا يقضي في الدنيا ولا في الآخرة إلا بالحق.
وقال: {وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّيِنَ بِغَيرِ الْحَقِّ} [البقرة: 61] (3)، وقال: {يَا أَهْلَ الكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالبَاطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [آل عمران: 71]، وقال: {بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى البَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الوَيلُ مِمَّا تَصِفُونَ} [الأنبياء: 18]، وقال: {قُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ البَاطِلُ إِنَّ البَاطِلَ كَانَ زَهُوقاً} [الإسراء: 81]، فأخبر أن الحق من عنده ومن قضائه، وأن الباطل من المبطلين، ولا يكون الباطل من عند أصدق الصادقين.
فبهذه الآيات ونحوها علمنا أنه لا يقضي بالباطل إلا المبطلون، ولا بالجور إلا الجائرون، تعالى اللّه عن ذلك رب العالمين.
بابُ ذكر قَدَرِ اللّه تعالى في كتابه
__________
(1) سقط من (أ).
(2) في (ج) و (أ): (يقص الحق)، وما اثبته قراءة من (ب).
(3) سقط من (أ) من قوله: فأخبر أنه.. إلى هنا.

(1/56)


قال اللّه عز وجل: {وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرِّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ العَزِيزِ العَلِيمِ وَالقَمَرُ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ}[يس: 38ـ39]، وقال: {نَحْنُ قَدَّرْنَا بَينَكُمُ الْمَوْتَ} [الواقعة: 60]، وقال: {وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلاَهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ} [الفجر: 16]، وقال: {وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَراً مَقْدُوراً} [الأحزاب: 38]، وإنما أمرنا بالطاعة ولم يأمرنا بالمعصية(1)، وأَمْرُه بِها قَضاؤُه وقَدرُه، فالطاعة منسوبة إلى قضائه وقدره؛ لأنه أمر بها، والمعصية منسوبة إلى العصاة؛ لأنهم ارتكبوها بعد ما نهاهم اللّه عنها، وإنما ذكر اللّه القدر في خلقه وصنعه، وتدبيره وأمره، ومصالح عباده في دينهم ودنياهم، ولم يجعله في شتمه والفِرَى عليه، ولا في قتل أنبيائه وتكذيب رسله، ولا في شيء مما غضب منه، وعابه وعاب أهله، وعذبهم عليه.
فبهذه الآيات ونحوها علمنا أنه لا يسخط شيئاً من تقديره، ولا يقدر شيئاً ثم يغضب منه، ويعيبه ويعيب من فعَلَه، لأن الحكيم لا يغضب من تقديره، ولا يعيب شيئاً من تدبيره، تعالى اللّه عما يقول الجاهلون علواً كبيراً.
باب ذكر الإرادة
ثم ذكر اللّه سبحانه الإرادة في كتابه، فقال: {يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ} [النساء: 26]، وقال: {وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيلاً عَظِيماً يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الإِنْسَانُ ضَعِيفاً} [النساء: 27ـ28]، وقال: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ اليُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ العُسْرَ} [البقرة: 185]، وقال: {وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعِبَادِ} [غافر: 31].
__________
(1) في (أ): وإنما أمر بالطاعة ونهى عن المعصية.

(1/57)


وقال: {يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلاَّ أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ} [التوبة: 32]، وقال: {وَيُرِيدُ الشَّيطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلاَلاً بَعِيداً} [النساء :60]، وقال: {وَيُرِيدُونَ أَنْ تَضِلُّوا السَّبِيلَ} [النساء: 44]، فأخبر تبارك وتعالى أن إرادته الصلاح والرشد واليسر، وأنها ليست في الظلم والغشم والكذب والفساد، وأن إرادة الشيطان وأهل الباطل إنما هي في الكفر والظلم والمعصية والفساد، فمن أبى أن يقبل ما أمره اللّه به، وينتهي عما نهاه اللّه عنه، كان من إرادة اللّه وحكمه أن يصليه النار بما كسبت يداه، وجناه على نفسه(1). فبهذه الآيات ونحوها علمنا أن اللّه إذا (أمر بشيء فقد أراده إرادة أمر لا إرادة جبر، وإذا) (2) نهى عن شيء لم يرده، ولم يُغْلَب على كونه، (والله حكيم لا يأمر بما لا يريد، ولا ينهى عما يريد)(3) والله غالب غير مغلوب، وأنه أحكم الحاكمين.
باب ذكر المشيئة
__________
(1) سقط من (أ) و(ج): من قوله: وأن إرادة الشيطان.. إلى هنا.
(2) سقط من (أ).
(3) سقط من (أ).

(1/58)


وذكر اللّه المشيئة في كتابه فقال: {سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَآءَ اللَّهُ مَآ أَشْرَكْنَا وَلاَ آبَاؤُنَا وَلاَ حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ تَخْرُصُونَ} [الأنعام: 148]، وقال(1) أيضاً : {لَو شَآءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلاَ آبَآؤُنَا} [النحل: 35] الآية، {وَقَالُوا لَو شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ مَالَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ} [الزخرف: 20]، فَلَمَّا أضاف المشركون شركهم وكفرهم وعبادتهم لأصنامهم إلى مشيئته وأمره؛ رَدَّ اللّه في ذلك عليهم وأكذبهم، وأخبر أن ليس كما قالوا، وأنهم يتبعون الظن، ويكذبون على اللّه وعلى مشيئته وأمره، كما قال: {وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيهَا آبَآءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَأْمُرُ بِالفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَالاَ تَعْلَمُونَ} [الأعراف: 28]، فبين أنه لا يشاء الشرك ولا يأمر به، وأمره ومشيئته في الطاعة واحدة.
فبهذه الآيات ونحوها علمنا أن اللّه لا يشاء الشرك، ولا يأمر به ولا يريده، وليس بمغلوب على شيء إلا غالب غير مغلوب، تعالى اللّه عما يقول الظالمون علواً كبيراً(2).
باب ذكر المحبة في كتاب اللّه
__________
(1) في هامش (أ): وقالوا.
(2) سقط من (أ): من قوله: فبهذه الآيات..إلى هنا.

(1/59)


وذكر اللّه المحبة في كتابه فقال: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَولُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ الفَسَادَ} [البقرة: 204ـ205]، وقال: {إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ} [القصص: 77]، وقال: {وَلاَ تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} [البقرة: 190]، والمعاصي كلها كثيرها وقليلها فساد، وقد أخبر اللّه أنه لا يحب الفساد.
فبهذه الآيات ونحوها علمنا أن اللّه لا يحب المعاصي، ولا يحب أن يُعْصَى، تعالى عما يقول الجاهلون علواً كبيراً.
باب ذكر الرضى [والكراهة]
وذكر اللّه الرضى في كتابه فقال: {إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلاَ يَرْضَى لِعِبَادِهِ الكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ} [الزمر: 7]، وقال: {وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَالاَ يَرْضَى مِنَ القَوْلِ} [النساء: 108]، وقال: {اتَّبَعُوا مَآ أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ} [محمد: 28]، وقال: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنَادَونَ لَمَقْتُ اللَّهِ أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ إِلَى الإِيْمَانِ فَتَكْفُرُونَ} [غافر: 10]، وقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَالاَ تَفْعَلُونَ كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَاللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لاَ تَفْعَلُونَ} [ الصف: 2 ـ 3]، وقال: {كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهاً} [الإسراء: 38].
فبهذه الآيات ونحوها علمنا أن اللّه لا يرضى المعاصي، تعالى اللّه عن ذلك علواً كبيراً.
باب ذكر أعمال العباد

(1/60)


وذكر اللّه أعمال العباد في كتابه فقال: {يَومَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسَ أَشْتَاتاً لِيُرَوا أَعْمَالَهُمْ} [الزلزلة: 7ـ9]، إلى آخر السورة، وقال: {إِنَّمَا تُجْزَونَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [الطور: 16]، وقال: {كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ} [المدثر: 38]، وقال: {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَآءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَآءَ مَا يَحْكُمُونَ} [الجاثية: 21]، وقال: {وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيهِمْ إِلاَّ ابْتِغَآءَ رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا}[ الحديد: 27]، وقال: {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيرٌ مِنْهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ هَلْ تُجْزَونَ إِلاَّ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [النمل:90].
فبهذه الآيات ونحوها علمنا أن العباد يعملون خيراً وشراً، وطاعة ومعصية، وأنهم يكسبون ويفعلون، ويجترمون(1) ويبتدعون(2)، وتكون منهم حسنات وسيئات، وكل مافعلوه فإنما يفعلونه بقوة اللّه التي جعلها فيهم، ومنَّ بها عليهم، لا بقوة جعلوها لأنفسهم.
باب ذكر مشيئة العباد وإرادتهم
__________
(1) كذا ولعلها: ويجترحون.
(2) في (ج): ويتعدون.

(1/61)


ذكر اللّه مشيئة العباد وإرادتهم في كتابه فقال عز وجل: {تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيكَ مَنْ تَشَاءُ} [الأحزاب: 51]، وقال: {يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلاَ مِنْهَا رَغَداً حَيْثُ شِئْتُمَا} [البقرة: 35]، وقال: {وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيثُ يَشَاءُ} [يوسف: 56]، وقال: {وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ} [الكهف: 29]، وهذا على الوعيد(1) والتهدد، وكذلك قوله: {اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [فصلت: 40].
وقال: {يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلاَمَ اللَّهِ} [الفتح: 15]، وقال: {تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الآخِرَةَ} [الأنفال: 67]، وقال: {وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لأَعَدُّوا لَهُ عِدَّةً} [التوبة: 46]، وقال: {وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيلاً عَظِيماً} [النساء : 27]، وقال: {وَيُرِيدُ الشَّيطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلاَلاً بَعِيداً}[النساء: 60].
فبهذه الآيات ونحوها علمنا أن العباد يريدون ما قد جعل اللّه لهم السبل إلى إرادته، ويشاؤن ما قد قواهم على مشيئته، غير غالبين لله ولا خارجين من سلطانه ومملكته(2)، وهذا خلاف قول القدرية، الذين يزعمون أن ليس لأحد من الخلق مشيئة ولا إرادة، مع قولهم: إنهم يريدون لأنفسهم الخير، والله يريد لهم بزعمهم الشر، ولا يدعهم يصلحون. تعالى اللّه عن ذلك علواً كبيراً.
باب ذكر العبادة
__________
(1) في (ب): الوعد، وهو خطأ.
(2) سقط من (أ): ومملكته.

(1/62)


وذكر اللّه في كتابه أنه خلق الخلق لعبادته فقال: {وَمَاخَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56]، وقال: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ} [النساء: 64]، ولم يقل إني أرسلت الرسل ليُكَذَّبوا أو يُقَتَّلوا، ولا إني خلقت خلقي لعبادة غيري. وقال: {اذْهَبَا إِلَى فِرْعَونَ إِنَّهُ طَغَى فَقُولاَ لَهُ قَولاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} [طه: 43ـ44]، وقال: {وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوْتُوا الكِتَابَ إِلاَّ مِنْ بَعْدِ مَا جَآءَتْهُمُ البَيِّنَةُ وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَآءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاَةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ القَيِّمَةِ} [البينة: 4ـ5].
فبهذه الآيات ونحوها علمنا أن اللّه إنما خلق الخلق لعبادته وطاعته، لا لمعصيته والكفر به، كما زعمت القدرية المجبرة(1) أنه(2) خلق أكثر خلقه لعبادة غيره، ولم يخلقهم لعبادته تعالى عما يقولون(3) علواً كبيراً.
باب ذكر [فعل] المخلوق [وأن اللّه لم يفعله]
__________
(1) سقط من (أ): المجبرة. وفي (ج): المجورة القدرية.
(2) في (أ): أن اللّه ما خلق الخلق لعبادته وطاعته إلا لمعصيته والكفر به تعالى..إلخ.
(3) في (ج): عما قالوا.

(1/63)


وذكر اللّه في كتابه أنه لم يفعل فعل عباده، ومالم يفعله لم يخلقه، لأن الفعل والخلق منه واحد، وقال عز وجل: {الْحَمْدُلِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيراً} [الإسراء: 111]، فأخبر أن ليس له شريك في شيء مما خلق، فلو كان الأمر على ما زعمت القدرية أن اللّه خلق الكفر كله، و[أن] فعل الكافر كله لا يملكه اللّه دون الكافر، ولا يملكه الكافر دون الله، ولا يقدر العبد أن يفعله، ومتى فعله العبد خلقه الله، وإذا لم يفعله العبد لم يخلقه الله، ومحال ـ زعموا ـ أن ينفرد العبد به دون الله، أو ينفرد اللّه به دون العبد، فلو كان كما يقول الجاهلون لكان اللّه محتاجاً إلى المخلوق في فعله، وكان كل واحد منهما محتاجاً إلى الآخر فيه، وهذا الكفر بالله العظيم، تعالى اللّه عن هذه المقالة علواً كبيراً.
وقد نفى اللّه عن نفسه الكذب والكفر، وأضافهما إلى عباده؛ فقال: {وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقاً يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الكِتَابِ وَمَاهُوَ مِنَ الكِتَابِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [آل عمران: 78]، فأخبر أن شركهم وكذبهم(1) ليس من كتابه ولا من عنده، ولو كان خلقه لكان من عنده، ولم يكن ليقول ليس من عندي وهو من عنده، تعالى اللّه عن الكذب علواً كبيراً.
__________
(1) في (أ): وكفرهم.

(1/64)


وقال: {مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلاَ سَآئِبَةٍ وَلاَ وَصِيلَةٍ وَلاَ حَامٍ وَلَكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الكَذِبَ} [المائدة: 103]، وقد علمنا أن اللّه خلق الشاة والبعير، فلم ينف عن نفسه ما خلق(1)، وإنما نفى عن نفسه تحريمهم(2)ما حرموا، وكفرهم وحكمهم بمالم يأمرهم اللّه به، ولم يأذن لهم فيه؛ فقال: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَاماً وَحَلاَلاً قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ} [يونس: 59]، فلو كان ذلك التحريم، وذلك القول(3) الذي قالوه، وجعل ذلك الشق الذي شقوه في آذان أنعامهم منه؛ لم يكن ليقول مرة: ليس هو من عندي، ومرة: لم أجعله، ومرة: من عندهم، ومرة: لم آذن لهم فيه؛ وهم الذين جعلوه، تعالى اللّه عن ذلك علواً كبيراً. وقال: {وَمَا جَعَلَ أَزْوَاجَكُمُ اللاَّئِي تَظَّاهَرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهَاتِكُمْ وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ ذَلِكَ قَولُكُمْ بِأَفْوَاهِكُمْ} الآية [الأحزاب: 4]، فأخبر تبارك وتعالى أنه لم يجعل ذلك الذي جعلوه، ولم يقل ذلك القول(4) الذي قالوه، وأنه قولهم بأفواههم، وأنه لا يقول إلا حقاً، فلو كان خلقه وصنعه ـ كما يقول من لا علم له ـ لم ينفه عن نفسه سبحانه وتعالى، وينسبه إلى عباده، كما لم ينف عن نفسه خلق السموات والأرض، ولا شيئاً مما خلق، ولا نسب شيئاً مما خلق إلى فعل عباده، عز عن ذلك وتعالى علواً كبيراً.
__________
(1) في (ج): عن نفسه خلقهما.
(2) في (ج): تحريم.
(3) سقط من (ج): القول.
(4) سقط من (ج): ذلك القول.

(1/65)


وقال: {إِنْ هِيَ إِلاَّ أَسْمَآءٌ سَمَّيتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَآؤُكُمْ مَآ أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ} [النجم: 23] والسلطان: الحجة، فلو كان خلقها وصنعها كما زعموا؛ لكان قد أنزل لهم بها السلطان، والله يتعالى عن أن يكون لأحد عليه حجة.
وقال: {كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلاَّ كَذِباً} [الكهف: 5]، وقال: {وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الكِتَابِ لَو يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيْمَانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ} [البقرة: 109]، وقال: {وَرَهْبَانِيَّةٍ ابْتَدَعُوهَا}[الحديد: 27]، فلو كان خلقها وشاركهم فيها؛ لم يقل: {ابْتَدَعُوهَا}، تعالى اللّه عن ذلك علواً كبيراً.
وقال: {إِنَّمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوثَاناً وَتَخْلُقُونَ إِفْكاً} [العنكبوت: 17]، فنسب ذلك إليهم، وأخبر أنهم فعلوه، ولم يقل: إني خلقت الإفك معهم، ولا تفردت به دونهم، كما زعم الجاهلون، فلو كان كما يقول الجاهلون لكان للإفك خالقان: أحدهما الله، والآخر الإنسان، تعالى من لا شريك له، ولا خالق لخلقه سواه(1).
__________
(1) سقط من (أ): سواه.

(1/66)


وقال: {لَقَدْ جِئْتُمْ شَيئاً إِدّاً تَكَادُ السَّمَوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدّاً أَنْ دَعَوا لِلرَّحْمَنِ وَلَداً وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً} [مريم: 89ـ92] وقال: {إِنَّ الَّذِينَ جَآؤُوا بِالإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ} [النور: 11]، فبين تبارك وتعالى الذين جاؤوا بالإفك، وقالوا(1) وادعوا الولد على اللّه عزَّ وجل، ثم تبرأ من ذلك ونفاه عن نفسه؛ فقال: {وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً}، فأخبر أنَّه لم يتخذ ذلك لنفسه، فلو كان خلق مقالتهم وفعلهم، كان هو الذي جاء بها وقالها، فمن وصف اللّه بهذا لزمه أن يزعم أن اللّه اتخذ الولد(2)، تعالى اللّه عن ذلك علواً كبيراً. وكل ما قلنا لم يخلقه اللّه فإنما نعني لم يفعله، فلا يتوهم أحد علينا غير ذلك.
فبهذه الآيات ونحوها علمنا أن اللّه لم يخلق أعمال العباد، ولم يفعلها ولم يشاركهم فيها، تعالى من ليس له شريك وليس كمثله شيء.
باب ذكر الإستطاعة [وتكليف مالا يطاق]
__________
(1) سقط من (أ): وقالوا.
(2) في (ج): ولدا.

(1/67)


وذكر اللّه الإستطاعة وتكليف مالا يطاق وما خلقه من ذلك؛ فقال سبحانه: {لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيهَا مَا اكْتَسَبَتْ} [البقرة: 286]، وقال: {وَمَنْ قُدِرَ عَلَيهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ مَا آتَاهَا سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْراً} [الطلاق: 7]، وقال: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ البَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيهِ سَبِيلاً وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ العَالَمِينَ} [آل عمران: 97]، فأوجب الحج على من استطاعه، ووضعه عمن لايستطيعه. وقال: {وَسَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَوِ اسْتَطَعْنَا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} [التوبة: 42] فأخبر أنهم يستطيعون الخروج ولكن لا يفعلون. وقال: {وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَآئِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَن يَتَمَآسَّا} الآية [المجادلة: 3ـ4]، فأخبر أنَّه من لا يستطيع الصيام فلا صيام عليه.

(1/68)


وقال: {يَآ أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ أَيَّاماً مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ} [البقرة: 183ـ184] وإنما المعنى: لا يطيقونه، فأخبر أنَّه قد وضع عنهم الصيام، وجعل عليهم الفدية بدلاً من الصيام، لأن الصيام يُجْهِدُهم. وقال: {لَيْسَ عَلَى الأَعْمَى حَرَجٌ وَلاَ عَلَى الأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلاَ عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ} [النور: 61]، فوضع التكليف عمن لا يستطيع. وقال: {وَمَا جَعَلَ عَلَيكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج: 78]، وقال: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ اليُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ العُسْرَ} [البقرة: 185] فأخبر أنَّه لا عسر في دينه ولا ضيق، فلو كلف عبيده مالا يطيقون ثم عذبهم لكان ذلك من(1) أضيق الضيق وأعسر العسرة، وقال: {يَا يَحْيَى خُذِ الكِتَابَ بِقُوَّةٍ} [مريم: 12]، فلو لم يكن أعطاه القوة لم يأمره أن يأخذ بقوة. وقال: {نَحْنُ أُوْلُوا قُوَّةٍ وَأُولُوا بَأْسٍ شَدِيدٍ} [النمل: 33] فلم يكذبهم ، ولم يرد عليهم مقالتهم؛ كما أكذب المنافقين حين زعموا أنهم لا يستطيعون الخروج وأنهم لو استطاعوا الخروج لخرجوا، فقال عزَّ وجل: {يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} [التوبة: 42]. وكذلك العفريت حين قال لسليمان: {أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقَامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ} [النمل: 39] فلم يكذبه اللّه ولم يرد عليه، ولا أكذبه سليمان صلى اللّه عليه. وقال: {فُخُذْهَا بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَومَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِهَا} [الأعراف: 145]، فلولا أنَّه أعطاهم(2) القوة على الأخذ لم
__________
(1) سقط من (أ): ذلك من.
(2) في (ج): أعطاه.

(1/69)


يأمرهم(1) بذلك. ومثله: {قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَآ أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنْ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ القَوِيُّ الأَمِينُ} [القصص: 26]، فأثبتت له القوة فلم ينكر عليها أبوها، ولم يكذبها ربها.
فبهذه الآيات ونحوها علمنا أن اللّه لا يكلف أحداً من خلقه(2) مالا يطيق، وأنه قد قوى عباده على ما أمرهم به من طاعته، وبتلك القوة ـ التي جعلها فيهم لطاعته ـ يصير من صار منهم إلى معصيته، وبذلك علمنا أن الإستطاعة قبل الفعل.
باب ذكر الأطفال [وأن اللّه لايعذبهم]
وذكر اللّه في كتابه آيات دل فيها أنَّه لا يعذب الأطفال والمجانين، ولا من ليس له ذنب؛ فقال عزَّ وجل: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً} [الإسراء: 15]، والأطفال لم يأتهم رسول، وكذلك المجانين. وقال: {وَلَو أَنَّا أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلاَ أَرْسَلْتَ إِلَينَا رَسُولاً} [طه: 134]، فأخبر أنَّه لا يعذب أحداً إلاَّ بعد أن تقوم عليه الحجة بالرسل، والأطفال لم تقم عليهم حجة برسول ولا غيره، وكذلك المجانين. وقال: {وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الأنعام: 164 وغيرها] (3)، فأخبر أنَّه لا يعذب أحداً بذنب غيره. وقال: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ القُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولاً يَتْلُو عَلَيهِمْ آيَاتِنَا وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي القُرَى إِلاَّ وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ} [القصص: 59]، والأطفال والمجانين(4) فلم يأتهم رسول، ولا تلي (5) عليهم كتاب، وليسوا ظالمين.
وقال: {ذَلِكَ أَنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ القُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا غَافِلُونَ} [الأنعام: 131] ولا غفلة أشد من غفلة الأطفال والمجانين.
__________
(1) في (ج): يأمره.
(2) في (ج): من عباده.
(3) سقط من (أ، ج): من قوله: فأخبر أنه..إلى هنا.
(4) سقط من (أ): المجانين.
(5) في (أ): ولم يتل.

(1/70)


فإن زعم زاعم أن اللّه يؤاخذهم بما علم منهم فقد كذب اللّه في خبره، وجوره في حكمه؛ لأنَّه لو رد أهل النار إلى الدنيا لعادوا كما قال عزَّ وجل، فلم يؤاخذهم بما علم منهم إذ لم يفعلوه. وقال (1): {وَلَو بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوا فِي الأَرْضِ} [الشورى: 27]، فقد علم أنَّه لو بسط لبغوا؛ فلم يؤاخذهم بذلك، وَالأطفال فأجدر أن لا يؤاخذهم بما لم يكن منهم. تعالى اللّه عما يقول الجاهلون علواً كبيراً.
فبهذه الآيات ونحوها علمنا أن اللّه لا يعذب الأطفال يوم القيامة، ولا يؤاخذهم بذنوب آبائهم، ولا بما علم منهم مما لم يفعلوه، وكذلك أطفال المؤمنين والمشركين، وأولاد الزنى والمجانين؛ إذا أصابهم الجنون في صغرهم فلم يفيقوا حتى ماتوا، فتعالى اللّه عما يقول الجاهلون علواً كبيراً.
باب ذكر حسن نظر اللّه لعباده
وذكر اللّه حسن نظره لعباده، وأنه لا يفعل بهم إلاَّ ماهو أصلح لهم في دينهم ودنياهم، وأن الإختيار له، وليس لهم عليه اختيار إلاَّ اختياره لهم في دنياهم، [وأن اختياره] (2) أصوب من اختيارهم لهم؛ فقال سبحانه: {وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَآءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ} [القصص: 68]، فأخبر أنَّه ليس لأحد أن يختار غير ما قضى الله، وأن الخيرة في قضائه وقدره، فلو قضى على قوم أن يكفروا كما زعم الجاهلون؛ لم يكن لهم أن يختاروا غير ذلك، تعالى اللّه عما يصفون.
__________
(1) كذا في النسخ والأنسب: ألا ترى كيف قال. أو نحوها.
(2) ما بين المعقوفين زيادة لاستقامة المعنى.

(1/71)


وقال تعالى: {وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَآءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ} [المؤمنون: 71]، فأخبر أن تدبيره لو كان على ما يهوى العباد لفسدت الدنيا، وأنه لا يكون صلاح الدنيا وصلاح أهلها إلاَّ بما دبر لهم وخلق، وقضى وقدر واختار، وليس في الكفر والمعاصي صلاح ولا منفعة، ولا خير في دنيا ولا آخره، فبين بذلك أنها ليست من اختيار اللّه لخلقه، لأنها فساد في الدنيا والدين وسوء تدبير، وفاعلها ملوم مذموم، وهذا دليل على أنها من فعل المخلوقين، لا من فعل رب العالمين.
وقال تعالى: {وَالضُّحَى وَاللَّيلِ إِذَا سَجَى مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى وَلَلآَخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الأُوْلَى} [الضحى: 1ـ4]، فأخبر أن الآخرة في وقت وفاة النبي عليه السلام (كانت خيراً له من الدنيا وما فيها، وبقاه ما كانت الحياة خيراً له، وتوفاه)(1) حين كانت الوفاة خيراً له، لذلك قال: {وَلَلآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الأُولَى وَلَسَوفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوَى وَوَجَدَكَ ضَآلاًّ فَهَدَى وَوَجَدَكَ عَائِلاً فَأَغْنَى} [الضحى: 4ـ8].
فعلمنا بهذه الآيات ونحوها أن نظر اللّه لخلقه أحسن من نظرهم لأنفسهم، (وأن اختياره لهم أفضل من اختيارهم)(2) وأن ما صنع اللّه فهو خير، وما قضى ففيه الصلاح، وأنه لا يفعل بعباده إلاَّ ما فيه لهم الصلاح والسداد والرشاد، وأنه يتعالى عما يصفه به الجاهلون من ذلك علواً كبيراً.
باب ذكر المؤمنين [وأسمائهم وأحكامهم]
__________
(1) سقط من (أ).
(2) سقط من (أ).

(1/72)


وذكر اللّه المؤمنين في كتابه فأحسن الثناء عليهم، ومدحهم مدحاً جميلاً(1) فقال فيهم خيراً، وسماهم بأسماء حسنة، وحكم لهم بأحكام شريفة، وبين أنَّه لا يستحق هذا الاسم الحسن إلاَّ من قال بقولهم وعمل عملهم(2)؛ فقال عزَّ وجل: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَآءُ بَعْضٍ} إلى قوله: {ذَلِكَ هُوَ الفَوزُ العَظِيمُ} [التوبة: 71ـ72] فأخبر أن هذه واقعة لهم، وأن من كانت هذه صفته وفعله استحق هذا الاسم الشريف، واستوجب الجنان والرضوان.
وقال تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيْمَاناً وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقّاً لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} [الأنفال: 2ـ4]، فأخبر أن هذه صفة المؤمنين، وأنه لا يستحق أن يكون مؤمناً إلاَّ من كان كذلك، وأن المغفرة والرضوان لأهل هذه الصفة دون غيرهم، وأخبر أن الإيمان يزيد وينقص. فأي بيان يكون أبين من هذا؟ وأي حجة تكون أنور من هذا في تكذيب المرجئة؟ الذين زعموا أن الجبابرة الظلمة، العتاة الطغاة البغاة الفجرة، الذين إذا خُوِّفُوا بالله لم يخافوا، وإذا ذُكِّرُوا بالله لم يذَّكَّروا؛ مؤمنون كإيمان جبريل ومحمد صلى اللّه عليهما وسلم، وأن الإيمان ـ زعموا ـ لا يزيد ولا ينقص، وأن الوعيد ـ على ما وصفوه ـ لا يثبت، فنعوذ بالله من الجهل والعمى في الدنيا.
__________
(1) في (ج): جلياً، وفي (أ): جليلاً.
(2) في (ج): بعملهم.

(1/73)


وقال اللّه تعالى: {وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ فَضْلاً كَبِيراً} [الأحزاب: 47]، وقال: {لَقَدْ جَآءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ} [التوبة: 128]، وقال: {الزَّانِيَة وَالزَّانِي فَاجْلِدُثوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلاَ تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَومِ الآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [النور: 2]، وقال عزَّ من قائل: {يَوْمَ لاَ يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَينَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ} الآية [التحريم: 8]، وقال تعالى: {يَومَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُمْ بَينَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ} [الحديد: 12]، وقال تعالى: {إِلاَّ الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ فَأُولَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَسَوفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ} إلى قوله: {أَجْراً عَظِيماً} [النساء: 146]، وقال سبحانه: {وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ} [آل عمران: 68]، وقال: {أَلاَ إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لاَ خَوفٌ عَلَيهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ} [يونس: 62ـ63]، وقال: {وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً تَحِيَّتُهُمْ يَومَ يَلْقَونَهُ سَلاَمٌ} الآية [الأحزاب: 43ـ44]، وقال سبحانه: {التَّائِبُونَ العَابِدُونَ الْحَامِدُونَ} إلى قوله: {وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ} [التوبة: 112]، ولم يقل شيئاً من ذلك للفسقة الفجرة، ولا للعتاة الظلمة(1).
__________
(1) في (ج): للعتاة الكفره، وفي (أ): لعباده الكفره. ولعلها: العتاة.

(1/74)


فبهذه الآيات ونحوها علمنا أن اسم الإيمان فاضل شريف حسن، وأن من سماه اللّه مؤمناً مسلماً(1)؛ فقد مدحه اللّه مدحاً شريفاً، وأثنى عليه ثناء جميلاً، وسماه بالفاضل من الأسماء، التي جعلها اللّه أسماء لنبيه (2)، وصفاتاً (3) لأوليائه، وأن من استحق هذه الإسم عندالله فهو ولي الله من أهل الجنة، وأن هذه الأسماء الحسنة الشريفة لا يستحقها الفجرة الفسقة، العتاة الظلمة، أصحاب الزنى، وشرب الخمور، وشهادات الزور، وقذف المحصنات، وترك الصلوات، وقطع الطرق على الحجاج، وهدم المساجد، وتحريق المصاحف، وهدم الكعبة، وانتهاك حرم المسلمين، وفعل قوم لوط، ونحو ذلك من الأفعال الشنيعة، القبيحة الفظيعة.
باب ذكر الأعمال الصالحة [وأنها من الإيمان]
__________
(1) سقط من (ج) و(أ): مسلماً.
(2) في (ج): لدينه.
(3) في (أ، ج): وصفات.

(1/75)


وذكر اللّه الأعمال الصالحة وأخبر أنها من الإيمان والإسلام والدين؛ فقال: {وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [البينة: 5]، ثم قال سبحانه: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَاللَّهِ الإِسْلاَمُ} [آل عمران: 19]، فسمى دينه الإسلام، ثم قال: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيرَ الإِسْلاَمِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ} [آل عمران: 85]، فجعل الإسلام الدين. وقال: {فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [الذاريات: 35ـ36]، وهم أهل بيت واحد، فوصفهم مؤمنين، ثم سماهم المسلمين. ثم قال: {يَمُنُّونَ عَلَيكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لاَ تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلاَمَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلإِيْمَانِ} [الحجرات: 17]، فسمى الإسلام إيماناً، فلما سمى اللّه عزَّ وجل الصلاة والزكاة الدين، وسمى الدين إسلاماً، وسمى الإسلام إيماناً(1) علمنا أن الصلاة والزكاة من الإيمان والإسلام والدين.
فبهذه الآيات ونحوها علمنا(2) أن الأعمال الصالحة من الإيمان والإسلام والدين، وبما تقدم ـ من ذكر المؤمنين وصفاتهم وأسمائهم وما أوجب اللّه لهم بأفعالهم ـ علمنا أن من لم يدخل في مثل صفاتهم ويعمل بأعمالهم فليس منهم، ومن لم يكن منهم لم يسم بأسمائهم، ولم يوصف بصفاتهم، ولم يعط ثوابهم، ولم يجاورهم في دار كرامة اللّه التي أعدها اللّه لأوليائه، وأهل طاعته ومحبته ورضوانه، وبذلك نعلم أن من ترك الأعمال الصالحة زال عنه اسم الإيمان والدين.
__________
(1) سقط من (ج): من قوله: فلما سمى الله..إلى هنا.
(2) سقط من (أ): من قوله: أن الصلاة..إلى هنا.

(1/76)


وفيما ذكرنا ـ من قول اللّه تبارك وتعالى وحكمه ـ تكذيب قول المرجئة الذين يزعمون أن الصلاة خلف رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم والحج ودفع الزكاة والجهاد في سبيل اللّه معه ليس من دين الله، ولا من دين نبيه، ولا دين الإسلام ولا الإيمان(1)، فنعوذ بالله من إفكهم.
باب ذكر الوعيد [في اهل الكبائر]
وذكر اللّه الوعيد في كتابه في أهل الكبائر من الموحدين، وأخبر أنهم يدخلون النار بأعمالهم الردية، فيعذبون بها، ويخلدون فيها أبداً، بما قدمت أيديهم وما اللّه بظلام للعبيد، فقال عزَّ وجل: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيهِ وَلَعَنَهُ} ، واللعنة: الخلود في جهنم لكل من قتل مؤمناً متعمداً لقتله، مستحلاً لذلك أو محرماً، ولم يخص بالآية جاحداً دون مقر، ولا كافراً دون مؤمن، ولا مستحلاً للقتل دون محرِّم، ولكنه أجمل الكلام جملة واحدة، فهو على جملته(2)، وليس لأحد أن يدعي أنَّه خاص في بعض القاتلين دون بعض، لأن العام لا يكون خاصاً، كما أن الخاص لا يكون عاماً أبداً، إلاَّ أن يكون اللّه هو الذي بين ذلك؛ فيخبر انه أراد بهذه الآية فريقاً من الناس دون فريق، وأراد بها قوماً دون قوم، فإذا جاءت الآية عامة ولم يبين أنَّها خاصة فهي على إرسالها وعمومها أبداً.
وقال: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ اليَتَامَى ظُلْماً إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَاراً وَسَيَصْلَونَ سَعِيراً} [النساء: 10]، والقول في هذه الاية كالقول في الأولى. وقال: {إِنَّ الأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ وَإِنَّ الفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ} الآية [الإنفطار: 13ـ14]، فكل بَرِّ ففي الجنة، وكل فاجر ففي النار خالداً فيها مخلداً أبداً، لابثاً لا يخرج منها أبداً.
__________
(1) سقط من (أ): ولا الإيمان.
(2) في (ج): فهو في جملته وعمومه.

(1/77)


وقال: {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا} إلى قوله: {جُثِيًّا} [مريم: 71ـ72]، (فأخبر سبحانه أنَّه ينجي المتقين، ويذر الظالمين الذين ليسوا بمتقين جثياً في النار)(1)، وأصحاب الكبائر المنتهكون للمحارم ليسوا بمتقين، إنما المتقون الذين يتقون اللّه في سرهم وعلانيتهم، يغضون أبصارهم، ويحفظون فروجهم، ويؤدون الأمانات إلى أهلها، وينصحون لكل مسلم، ويتقون الشرك والكبائر كلها، فأولئك الذين ينجيهم اللّه من النار.
وقال عزَّ وجل: {يَآ أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفاً فَلاَ تُوَلُّوهُمُ الأَدْبَارَ} إلى قوله: {وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} [الأنفال: 15ـ16] فهذا وعيد جاء في أهل الصلاة، وسماهم اللّه فيه المؤمنين، وأخبر(2) أنه من فعل ذلك منهم غضب عليه، وصيره إلى جهنم، وجعل مأواه فيها، ومن كانت النار مأواه فقد يئس من الجنة.
__________
(1) سقط من (أ).
(2) في (أ): وأخبرهم.

(1/78)


وقال سبحانه: {إِنَّمَا جَزَآءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} إلى قوله: {عَذَابٌ عَظِيمٌ} [المائدة: 33] وقال: {يَآ أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالأَذَى} إلى قوله: {لاَيَهْدِي القَومَ الكَافِرِينَ} [البقرة: 264]، وقال: {وَيلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ} الآية [المطففين: 1]، وقال: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيهِمَا} [المائدة: 38] الآية، وقال: {إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الغَافِلاَتِ الْمُؤْمِنَاتِ} [النور: 4] الآية، فلم يوجب المغفرة والرحمة إلاَّ بالتوبة والإنابة، وقال: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ(1) ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَآءَ} الآية [النور: 23]، وقال: {سَأُرِيكُمْ دَارَ الفَاسِقِينَ} [الأعراف: 145] ويقال(2) إنما النار لكل صاحب كبيرة(3)، وكل صاحب كبيره فهو فاسق. وقال سبحانه: {وَلَيسَتِ التَّوبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَآتِ} الآية [النساء: 18].
فبهذه الآيات ونحوها علمنا أن كل من أصاب كبيرة فهو فاسق فاجر(4)عدو لله، وأنه إذا مات مصراً غير نادم ولا مستغفر فإنه من أهل النار خالداً فيها مخلداً، لا يخرج منها أبداً، ولا راحة له فيها، فهي أبداً مثواه، جزاء بما كسبت يداه.
باب ذكر أهل الكبائر
__________
(1) سقط من (ج): من قوله: الآية فلم يوجب ..إلى هنا.
(2) يعني إذا أريد تركيبها بالقياس المنطقي فينتج: إنما النار للفاسق.
(3) في (ج): لصاحب كل كبيره.
(4) سقط من (ج): فاجر.

(1/79)


(وذكر اللّه تعالى براءة أهل الكبائر من الكفر، وبين أنهم ليسوا بكفار؛ فقال عزَّ وجل)(1): {الْحَمْدُلِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ} [الأنعام: 1]، (فأخبر أن الكفار يعدلون بربهم)(2)، وأهل الكبائر لا يعدلون بالله إلهاً آخر. وقال: {قُلْ يَآ أَيُّهَا الكَافِرُونَ لاَ أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ وَلاَ أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ} [الكافرون: 1ـ3]، وقال: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنَادَونَ لَمَقْتُ اللَّهِ أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ إِذْ تُدْعَونَ إِلَى الإِيْمَانِ فَتَكْفُرُونَ} إلى قوله: {خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ ذَلِكُمْ بِأَنَّهُ إِذَا دُعِي اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ} إلى قوله: {العَلِيُّ الكَبِيرُ} [غافر: 10ـ12] وأهل الكبائر لا يشركون بالله شيئاً، ولا يكفرون بالله، ولا يدعون مع اللّه إلهاً آخر، ولا يعبدون إلهاً غيره، وإنما هم أصابوا(3) الكبائر على الشهوة منهم والإساءة وهم لها محرمِّون، فبذلك(4) خرجوا من اسم الإيمان، ولم يدخلوا في اسم الكفر والجحدان.وقال: {بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُكَذِّبُونَ} [الإنشقاق: 22].
فبهذه الآيات ونحوها علمنا أن فسقة قومنا من أهل الصلاة ليسوا بكفار(5)، وهذا تكذيب للخوارج المارقة الذين يشهدون على أهل التوحيد والإقرار من أهل القبلة إذا أصابوا كبيرة من الكبائر أنهم كفار بالله العظيم، خارجون من قبلة الإسلام، فنعوذ بالله من جهلهم وضلالهم.
باب ذكر الأحكام في الكفر
__________
(1) سقط من (أ).
(2) سقط من (ج).
(3) في (ج): أصحاب.
(4) في (أ): ولذلك.
(5) في هامش (ج): بكافرين.

(1/80)


وذكر اللّه عزَّ وجل حكمه في الكفار ففرق بين حكمهم وحكم أهل الكبائر من أهل الصلاة فقال تعالى: {فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبُ الرِّقَابِ} إلى قوله: {حَتَّى تَضَعُ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا} [محمد: 4]، وقال تعالى: {قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً} [التوبة: 123]، وقال: {وَلاَ تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الكَوَافِرِ} [الممتحنة: 10]، يريد: النكاح والتزويج، وذلك أنَّه لا يحل لمؤمن(1) أن يتزوج من الكفار (إلاَّ ما خص اللّه به نساء أهل الكتاب من ذلك)(2)، وقد أحل للمؤمنين أن يتزوجوا الفاسقة من أهل الصلاة.
وقال: {يَآ أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ} [التوبة: 73]، وقال: {وَلَيسَتِ التَّوبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَآتِ} الآية [النساء: 18]، فأخبر أنَّه لا يقبل التوبة من صنفين: وهم الكفار الذين يموتون على كفرهم، وأصحاب الكبائر الذين يؤخرون(3) التوبة حتى يحضرهم الموت فيتوبون عند ذلك.
فبهذه الآيات ونحوها علمنا أن فسقة قومنا من أهل الكبائر ليسوا بكفار، وإنما هم فساق ظلمة معتدون، ومن تاب منهم من ذنبه توبة نصوحاً قبل اللّه توبته، وأسكنه جنته، ومن مات مصراً غير تائب ولا نادم وأخر التوبة إلى أن يحضره الموت لم يقبل اللّه منه عند ذلك التوبة وأصلاه الجحيم.
__________
(1) في (ج): ليس لمؤمن.
(2) ليس في (أ، ج).
(3) في (أ) و(ج): يرجون التوبة حتى يحضر أحدهم الموت.

(1/81)


وذلك أن اللّه سبحانه أمر بقتال الكفار وجهادهم، وضرب رقابهم، إلاَّ أهل الجزية منهم، وحرم مناكحتهم، ولم يأمر بقتال(1) أهل الكبائر ولا بجهادهم، إلاَّ من بغى منهم على المسلمين وجرد سيفه عليهم، أو حارب اللّه ورسوله، وإلا فإنما عليهم الحدود، وما دون ذلك من الآداب ونحوها، وأباح للمؤمنين مناكحتهم، واتباع جنائزهم، والصلاة عليهم، ويدعى فيها(2) للمؤمنين والمؤمنات عامة، وأن يدفنوا في مقابر المسلمين، ولا يفعل شيء من ذلك بالكفار. (فلما فرق بين أحكام الكفار وأهل الكبائر علمنا أنهم ليسوا بكفار)(3).
وفي هذا تكذيب للخوارج(4) الذين يحكمون في فساق الموحدين بحكم الكفار، فيسبون ذراريهم، (ويسفكون دماءهم) (5) ويغنمون أموالهم، بالجهل منهم والتعسف في دين الله، فنعوذ بالله من الضلالة بعد الهدى.
باب ذكر المنافقين
وذكر اللّه المنافقين في كتابه، وأخبر بصفتهم، وفرق بينهم وبين أهل الكبائر من أهل الصلاة (6) فقال عزَّ وجل: {وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُونَ} [البقرة: 14]، وفسقة قومنا لا يستهزؤون بالله ولا بالنبي. وقال اللّه تعالى: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ} [النساء: 145]، وقال تعالى: {إِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلاَّ غُرُوراً} [الأحزاب: 12]، وأهل الكبائر لا يقولون ذلك.
__________
(1) في (ج): بقتل.
(2) في (ج): ويدعوا للمؤمنين. وفي (أ): ويدعوا فيها للمؤمنين.
(3) سقط من (أ).
(4) في (أ): تكذيب الخوارج.
(5) سقط من (أ).
(6) في (ج): أهل الضلالة.

(1/82)


وقال اللّه تعالى: {إِذَا جَآءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ} إلى قوله: {وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لاَ يَعْمَلُونَ} [المنافقون: 1ـ8].
فهذه صفة المنافقين، وليست بصفة أهل الكبائر وأهل الحدود من أهل الصلاة. وقال تعالى: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ} إلى قوله: {فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً} [النساء: 142ـ143] ومن أهل الكبائر من يقوم إلى الصلاة نشاطاً، ولا يرائي بها أحداً، ويكثر من ذكر الله، وليسوا بمرتدين(1) ولكنهم آثروا شهوتهم(2)، فبعضهم يوجب الوعيد على نفسه ويؤمل التوبة، وبعضهم يدين بدين المرجئة.
وقال اللّه عزَّ وجل: {يَآ أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ} الآية [التوبة: 73].
وقال: {يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِمْ} الآية [التوبة: 64]، (وفساقنا ليس في قلوبهم شيء إلاَّ وقد أظهروه، وهم يأتون المعاصي على جهة الشهوات). والنفاق في كلام العرب: إظهار الإيمان وإسرار الكفر، وهو الرياء، لأن الرياء إظهار الخير وإسرار الشر، والفساق قد أظهروا الفسوق ولم يسروه ولم يكتموه، فبرئوا بذلك من النفاق، كما أن المرائي إذا أظهر ما في قلبه من السر فقد برئ من الرياء، وصار فاجراً فاسقاً، وكذلك المنافقون لو أظهروا ما في قلوبهم من الكفر والنفاق لكانوا مجاهرين بالكفر، وزال عنهم اسم النفاق، ولزمهم اسم الكفر والشرك.
فبهذه الآيات ونحوها علمنا أن أصحاب الحدود من أهل الكبائر ليسوا بمنافقين ولا كفار، وإنما هم فساق ظلمة فجار معتدون، وفي هذا نقض قول من سماهم منافقين من أهل البدع.
باب ذكر المنزلة بين المنزلتين
__________
(1) في (ج): بمذبذبين.
(2) في (أ): شهواتهم.

(1/83)


وذكر اللّه تبارك وتعالى براءة أهل الكبائر من الشرك فقال سبحانه: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ} [التوبة: 5]، وحرم علينا أن نقتل أهل الكبائر حيث وجدناهم.
وقال تعالى: {وَلاَتَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ} الآية [البقرة: 221]، فحرم مناكحة المشركين والكفار كلهم، وحرم نكاح المشركات والكوافر كلهن، وفرض على المسلمين قتل المشركين والكفار كلهم، إلاَّ ما يخص(1) أهل الجزية من أهل الكتاب(2) في قوله: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلاَ بِالْيَومِ الآَخِرِ} إلى قوله: {وَهُمْ صَاغِرُونَ} [التوبة: 29]، فأمر بقتلهم حتى يسلموا، أو يعطوا الجزية، فيتركوا عند ذلك، ويرفع عنهم السيف، وقد قامت السنة عندنا بمناحكة أهل الكبائر من أهل الصلاة نسائهم ورجالهم، وموارثتهم وأكل ذبائحهم، وأنه لا يتوارث أهل ملتين شيئاً، وأهل الكفر ملة غير ملة الإسلام، وكثير من الأمة يأكلون ذبيحة المرتد، ولا يأكلون ذبيحة الكافر المشرك، والمرتدون عندنا يفرق بينهم وبين نسائهم، ولا تؤكل ذبائحهم، وليس هذا حكم أهل الكبائر وأصحاب الحدود، ولو كانوا كفاراً مشركين كانوا لا يَعْدُون أن يكونوا(3) كاليهود والنصارى والمجوس والصابئين، وعبدة الأصنام والمرتدين، ولو دخلوا في بعض هذه الأصناف كان حكمهم لازماً لنا(4)، فلما وجدنا حكمهم مفارقاً لأحكام أهل الكفر كلهم علمنا أنهم ليسوا بكفار ولامشركين، ولكنهم فساق فجار من أهل النار؛ إلاَّ أن يتوبوا ويرجعوا، ومن اجترأ من الخوارج فحكم فيهم بحكم أهل ملة من الملل: إما الكفار، وإما اليهود والنصارى والمجوس والصابئين، أو عبدة الأوثان(5)
__________
(1) في (ج): ماخص الله.
(2) في (ج): من أهل الكتابين.
(3) في (أ): إما أن يكونوا. وماهنا أولى.
(4) يعني القول بأنهم مشاركون لهم في الحكم.
(5) في (ج): الأصنام.

(1/84)


والمرتدين عن الإسلام؛ فقد خالف بحكمه حكم رسول اللّه عليه وعلى آله السلام؛ لأن هذا لم يكن حكمه في أصحاب الحدود وأهل الكبائر(1) من أمته واهل دعوته، وإنما كانوا ممن يقام عليه الحدود، ويسمون بالأسماء القبيحة؛ من الفسق والفجور، والظلم والعدوان، ولا تقبل شهادتهم، ولا يزَكَّوا حتى يتوبوا ويرجعوا، ولم يكونوا يسمون بأسماء الكفر والشرك ولا النفاق، ولا يحرم نكاحهم ولا موارثتهم(2) وأكل ذبائحهم، ولا يفرق بينهم وبين نسائهم، ولا تؤخذ منهم الجزية.
فبهذه الآيات ونحوها والتي تلونا، والأحكام التي وصفنا، والوعيد الذي ذكرنا؛ علمنا أن أصحاب الكبائر ليسوا بكفار(3) ولا مشركين ولا منافقين، وأنهم ليسوا بأبرار ولا فضلاء، ولا أخيار ولا أزكياء، ولا أطهار ولا عُدَلاء.
ومن كان هكذا لم يطلق له اسم الإيمان ولا الإسلام(4)، ولا اسم الهدى والتقوى والإحسان؛ لأنَّه قد غلب عليهم اسم الفسوق(5) والفجور والظلم والعدوان والضلال، فكانوا أهل منزلة بين منزلتين، وهي منزلة الفساق والفجار؛ التي بين منزلة المؤمنين والكافرين في هذه الدنيا.
وفي هذا تكذيب أهل البدع من الخوارج والمرجئة، فنحمدالله ربنا على الإحسان إلينا.
قالت الزيدية (6): إن اللّه عزَّ وجل حرم ذبائح اليهود والنصارى بقوله سبحانه: {وَلاَ تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ} [الأنعام: 121]، والنصارى واليهود يذكرون على ذبائحهم اسم الذي ولد عزيراً والمسيح.
__________
(1) سقط من (أ): وأهل الكبائر.
(2) في (ج): مناكحتهم، ولا موارثتهم.
(3) في (ج): بكافرين.
(4) في (ج): ولا الإسلام مطلقاً. وهذا بناء على ما مضى من ترادفهما ودخول الأعمال الصالحة في مفهومهما وحقيقتهما. والله أعلم.
(5) في (أ): الفسق.
(6) من هنا إلى آخر هذا الباب ثابت في النسخ ولاعلاقة له بالباب فيظهر أنه حاشية مدرجة، والله أعلم.

(1/85)


وقال اللّه عزَّ وجل في تحريم تزويج اليهوديات والنصرانيات: {وَلاَ تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ}، كما قال(1): {وَلاَ تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا} [البقرة: 221] أجمع المسلمون أنَّه لا يحل لامرأة مؤمنة أن تزوج(2)رجلاً يهودياً ولا نصرانياً، فالحكم في الرجال والنساء واحد؛ لقول رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم: (( لا يتوارث(3) أهل ملتين مختلفتين )) بإجماع الأمة(4) أن امرأة يهودية إذا ماتت وخلفت زوجها هذا المسلم أو مات زوجها أنَّه ليس بينهما موارثة، فافهم ذلك إن شاء اللّه تعالى.
باب ذكر القيام بالقسط
وذكر اللّه تبارك وتعالى القيام بالقسط في كتابه؛ فقال: {فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَينِكُمْ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [الأنفال: 1].
وقال: {يَآ أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالقِسْطِ شُهَدَآءَ لِلَّهِ وَلَو عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الوَالِدَينِ وَالأَقْرَبِينَ} إلى قوله: {خَبِيراً} [النساء: 135].
وقال عزَّ وجل: {لاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَئَآنُ قَومٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَنْ تَعْتَدُوا وَتَعَاوَنُوا عَلَى البِرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ العِقَابِ} [المائدة: 2]، فأمر تبارك وتعالى بإصلاح ذات البين، والقيام بالقسط في عباده وبلاده، والتعاون على البر والتقوى، وترك التعاون على الإثم والعدوان، وهذا لا يكون كما أمر اللّه به إلاَّ بمجاهدة الباغين، ومنعهم من الظلم والعدوان.
__________
(1) سقط من (ج): كما قال.
(2) في (ج): تتزوج.
(3) في (ج): لا توارث بين.
(4) كذا في النسخ، ولعلها: فإجماع الأمة.

(1/86)


وقال سبحانه: {مَآ أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَلاَ خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ وَمَا كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُداً} [الكهف: 51].
وقال سبحانه لإبراهيم عليه السلام: {إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ} [البقرة: 124]، فأخبر تبارك وتعالى أنَّه لا يتخذ الظالمين عضدا، وكذلك لا يتخذهم أمراء ولا خلفاء، ولا قضاة ولا حكاماً، وأخبر أن عهده لا ينال الظالمين، وكذلك لا يجوز لهؤلاء أن يكونوا أئمة المسلمين، وخلفاء لرب العالمين، وشهادتهم غير مقبولة، وقولهم غير مصدق.
وقال عزَّ وجل: { يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ فَاحْكُمْ بَينَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلاَ تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [ص: 26]، فلا يستحق الخلافة إلاَّ من حكم بالحق، فإذا عدل عن حكم اللّه فليس بخليفة.
وقال اللّه سبحانه: {وَلاَ تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً} [الكهف: 28].
وقال تعالى: {قَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَآءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلاَ رَبَّنَا آتِهِمْ ضِعْفَينِ مِنَ العَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْناً كَثِيراً} [الأحزاب: 67ـ68].
وقال سبحانه: {إتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحُ بْنُ مَرْيَمَ} الآية [التوبة: 31].
وقال سبحانه: {إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا العَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأَسْبَابُ وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّأُوا مِنَّا} [البقرة: 166ـ167].

(1/87)


وقال تعالى: {وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيهِ يَقُولُ يَا لَيتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً يَا وَيلَتَى لَيتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاَناً خَلِيلاً لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرَ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيطَانُ لِلإِنْسَانِ خَذُولاً} [الفرقان: 27ـ29]، فنهى سبحانه عن طاعة الآثم والكافر والمتبع لهواه، وأخبر بسوء حال من اطاع المخلوق في معصية الخالق، فكيف بمن لم يدع لهم(1) طاعة في معصية اللّه إلاَّ أتاها، ولا معصية لله في طاعتهم إلاَّ ارتكبها، ولا حرمة في هواهم(2) إلاَّ انتهكها؟ فأسخط اللّه وأرضاهم، ورضي بثوابهم عوضاً من ثواب الله، وبولايتهم بدلاً من ولاية الله، أولئك هم الخاسرون.
وقال تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَونَ عَنِ الْمُنْكَرِ} إلى قوله: {وَأَكْثَرُهُمُ الفَاسِقُونَ} [آل عمران: 110].
وقال: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَينَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَآءَتْ فَأَصْلِحُوا بَينَهُمَا} الآية [الحجرات: 9]، فأمر بقتال الفئة الباغية نصاً في كتابه، وأمر أن يكونوا مع الصادقين، ولا يكونوا مع الفاسقين الفاجرين.
وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَآءَ بِالقِسْطِ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَئَانُ قَوْمٍ} الآية [المائدة: 8].
وقال تعالى: {الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ} [البقرة: 194].
__________
(1) في (ج): يدع له.
(2) في (ج): هواه.

(1/88)


وقال: {وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ البَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ وَجَزَآءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَئِكَ مَا عَلَيهِمْ مِنْ سَبِيلٍ إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيرِ الْحَقِّ أُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [الشورى: 39ـ42].
وقال تعالى يحكي عن لقمان إذ قال لابنه: {يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاَةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَآ أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ} [لقمان: 17].
فبهذه الآيات ونحوها علمنا أن اللّه فرض على المسلمين أن يأمروا بالمعروف وينهوا عن المنكر، ويقوموا بالقسط في عباده وبلاده، ويأخذوا للمظلوم من الظالم، ويمنعوا الظالم من ظلمه ويزيلوا الجور والبغي، بما أمكنهم وقدروا عليه.
ثم إنَّا نسأل اللّه البلاغ لنا ولكم إلى ذلك، والمعونة والقيام بها هادين مهتدين، صابرين محتسبين، لا مبدلين ولا مغيرين، حتى تكون كلمة اللّه هي العليا على كل كلمة، وحكمه العالي على كل حكم، وتكون كلمة كل من جار عن سبيل اللّه وأحكام من حكم بغير حكم اللّه هي السفلى، والله عزيز حكيم، ونسأل اللّه البر(1) الرحيم أن يصلي هو وملائكته على محمد النبي وعلى أهل بيته الطاهرين الأخيار، وأن يبدلهم بالخوف أمناً، وبالذل عزاً، وبالعسر يسراً، ويمكن لهم دينهم الذي ارتضى لهم، إنَّه رؤوف رحيم.
تم الكلام في هذه الأصول والحمدلله وحده وصلواته على سيدنا محمد النبي وعلى أهل بيته الطاهرين وسلم.
*****
__________
(1) سقط من (أ): البر.

(1/89)


كتاب العدل والتوحيد وتصديق الوعد الوعيد وإثبات النبوة والإمامة في النبي وآله(1)
عن الإمام المرتضى لدين اللّه، عن أبيه الهادي إلى الحق يحيى بن الحسين صلوات اللّه عليهم أجمعين
m
قال الإمام الهادي إلى الحق يحيى بن الحسين بن رسول الله، صلوات اللّه عليه وعلى آبائه الطاهرين وسلامه:
[التوحيد]
أول ما يجب على العبد أن يعلم أن اللّه واحد أحد، صمد فرد، ليس له شبيه، ولا نظير، ولا عديل، ولا تدركه الأبصار في الدنيا ولا في الآخرة، وذلك أن ما وقع عليه البصر فمحدود ضعيف، مَحْوِيٌّ محاط به، له كُلٌّ وبعضٌ، وتحت وفوقٌ، ويمين وشمال، وأمامٌ وخلفٌ، وأن اللّه سبحانه لا يوصف بشيء من ذلك، وهكذا قال لا شريك له: {لاَ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الأنعام: 103]، وقال: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ. اللَّهُ الصَّمَدُ. لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ. وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ}[الإخلاص: 1ـ 5]، والكفو فهو المِثْل والنظير والشبيه، والله سبحانه ليس كمثله شيء. وقال: {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَمَا كُنْتُمْ}[الحديد: 4]، وقال: {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيهِ مِنْ حَبْلِ الوَرِيدِ}[ق: 16]، وقال: {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاَثَةٍ إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ وَلاَ خَمْسَةٍ إِلاَّ هُوَ سَادِسُهُمْ وَلاَ أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلاَ أَكْثَرَ إِلاَّ هُوَ مَعَهُمْ أَينَمَا كَانُوا}[المجادلة: 7]، وقال: {وَمَا كُنَّا غَائِبِيْنَ}[الأعراف: 7]، يعني في جميع ذلك أن علمه محيط بهم، لا أنَّه داخل في شيء من الأشياء كدخول الشيء في الشيء، ولا خارج من الأشياء بائن عنها فيغبى (2) عليه شيء من أمورهم، بل هو العالم بنفسه، وأنه عزَّ وجل شيء لا كالأشياء؛ إذ
__________
(1) هذا الكتاب ليس في (ج)، وأثبته من (أ) و(ب)، والنسخة (أ) عندي، وكذلك (أ) التي اعتمد عليها الدكتور محمد عمارة هي نسخة واحدة فليعلم.
(2) في ط: فيغيب، وفي هامشه، وفي (ب) معاً.

(1/90)


الأشياء من خلقه وصنعه. وقال عزَّ وجل: {قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَينَكُمْ}[الأنعام: 19]، فذكر سبحانه أنَّه شيء؛ لإثبات الوجود ونفي العدم، إذ العدم لا شيء.
[العدل]
ثم يَعْلَم أنَّه عزَّ وجل عدل في جميع أفعاله، ناظر(1) لخلقه، رحيم بعباده، لا يكلفهم مالا يطيقون، ولا يسألهم ما لا يجدون، و{لاَ يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْراً عَظِيماً}[النساء: 40]، وأنه لم يخلق الكفر ولا الجور ولا الظلم(2)، ولا يأمر بها ولا يرضى لعباده الكفر، ولا يظلم العباد، ولا يأمر بالفحشاء، وذلك أنَّه من فعل شيئاً من ذلك، أو أراده أو رضي به؛ فليس بحكيم ولا رحيم، وإن اللّه لرؤوف رحيم، جواد كريم متفضل، وأنه لم يحل بينهم وبين الإيمان، بل أمرهم بالطاعة، ونهاهم عن المعصية، وأبان لهم طريق الطاعة والمعصية، وهداهم النجدين، ومكنهم من العملين، ثم قال: {فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ}[الكهف: 29]، وقال: {فَمَا لَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ}[الانشقاق: 20]، وقال: {وَمَاذَا عَلَيهِمْ لَوْ آمَنُوا بِاللَّهِ وَاليَوْمِ الآخِرِ}[النساء: 39]، أو يأمرهم (3) بالكفر؛ ثم يقول: {وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ}[آل عمران: 101]؟ أو يصرفهم عن الإيمان، ثم يقول (4): {فَأنَّى تُصْرَفُونَ}[يونس: 32]؟ أو يقضي عليهم بقتل الأنبياء صلى اللّه عليهم؛ ثم يقول: {فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِيْنَ}[البقرة: 91]؟
[أفعال العباد]
__________
(1) المراد نظر العطف والرحمة.
(2) في أ: والجور والظلم.
(3) في (أ و ب): ويأمرهم، وما أثبت من ط، والمعنى على الاستفهام.
(4) في هامش ط: في (ب): فيقول. وما أثبته من (أ وب).

(1/91)


والله عزَّ وجل بريء من أفعال العباد، وذلك قوله تبارك وتعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي القُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ}[النحل: 90]، وقال سبحانه: {وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَأْمُرُ بِالفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَالاَ تَعْلَمُونَ}[الأعراف: 28]، ثم قال: {سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَو شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلاَ آبَاؤُنَا وَلاَ حَرَّمْنَا مِنْ دُونِه مِنْ شَيءٍ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ تَخْرُصُونَ}[الأنعام: 148]، فأكذبهم اللّه في قولهم، ونفى عن نفسه ما نسبوه إليه بظلمهم. وقال سبحانه: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ}[الذاريات: 56]، فذكر أنَّه خلقهم للعبادة لا للمعصية، وكذلك نسب إليهم فعلهم حيث يقول: {وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ}[القمر: 52]، يقول: فعلوه، ولم يقل: فعله، بل نسبه إليهم؛ إذ هم فعلوه.
وقال عزَّ وجل في فعله هو: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ}[الرعد: 16 ـ الزمر: 62]، يقول: هو خالق كل شيء يكون منه، ولم يقل: إنَّه خلق فعلهم، بل قال: {وَتَخْلُقُونَ إِفْكاً}[العنكبوت: 17]، يقول: تصنعون وتقولون إفكاً، كما قال: {تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً}[النحل: 67]، يقول: أنتم تجعلونه.

(1/92)


وتبيين الكفر والإيمان من اللّه عزَّ وجل، وفعلهما من الآدميين، ولو لا أنَّه عزَّ وجل بَيَّن لخلقه الكفر والإيمان؛ ما إذاً عرفوا الحق من الباطل(1)، ولا المعتدل من المائل، ولكن عَرَّفَهم بذلك، كما قال أمير المؤمنين علي بن أبي طالب صلوات اللّه عليه في بعض مواعظه: (( خلقنا ولم نك شيئاً، وأخرجنا من بطون أمهاتنا لا نعلم شيئاً، فغذانا بلطفه، وأحيانا برزقه، وأطعمنا وسقانا، وكفانا وآوانا، ووضع عنا الأقلام، وأزال عنا الآثام، فلم يكلفنا معرفة الحلال والحرام، حتى إذا أكمل لنا العقول، وسهل لنا السبيل، نصب لنا العَلَم والدليل، من سماء رفعها، وأرض وضعها، وشمس أطلعها، ورتوق فتقها، وعجائب خلقها، فعرفنا الخير من الشر، والنفع من الضر، والحسن من القبيح، والفاسد من الصحيح، والكذب من الصدق، والباطل من الحق، أرسل إلينا الرسل، وأنزل علينا الكتب، وبين لنا الحلال والحرام، والحدود والأحكام، فلما وصلت دعوته إلينا، وقامت حجته علينا؛ أمرنا ونهانا، وأنذرنا وحذرنا، ووعدنا وأوعدنا، فجعل لأهل طاعته الثواب، وعلى أهل معصيته العقاب، جزاءً وافق أعمالهم، ونكالاً بسوء فعالهم، {مَنْ أَحْسَنَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيْدِ} )).
__________
(1) في ط: الحق والباطل.

(1/93)


وتصديق ذلك في كتاب اللّه عزَّ وجل، حيث يقول: {وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَولاَ أَنْ هَدَانَا اللَّهُ لَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ}[الأعراف: 43]، وقال النبي صلى الله عليه وعلى أهل بيته: (( صنفان من أمتي لا تنالهما(1) شفاعتي، قد لعنوا على لسان سبعين نبياً: القدرية والمرجئة. قيل: وما القدرية يا رسول الله؟ وما المرجئة؟.. فقال: أما القدرية فهم الذي يعملون المعاصي ويقولون: إنها من الله قضى بها وقدرها علينا. وأما المرجئة فهم الذين يقولون: الإيمان قول بلا عمل )). ثم قال: صلى الله عليه وآله: (( القدرية مجوس هذه الأمة )).
[الوعد والوعيد]
ثم يجب عليه أن يعلم أن وعده ووعيده حق، من أطاعه أدخله الجنة، ومن عصاه أدخله النار أبد الأبد، لا ما يقول الجاهلون من خروج المعذبين من العذاب المهين إلى دار المتقين، ومحل المؤمنين، وفي ذلك ما يقول رب العالمين: {خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً}[النساء: 57، 122. المائدة: 119. التوبة: 22، 100. الأحزاب: 65. التغابن: 9. الطلاق: 11. الجن 23. البيَّنة: 8]، ويقول: {وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنْهَا}[المائدة: 37]، ففي كل ذلك يخبر أنَّه من دخل النار فهو مقيم فيها غير خارج منها، فنعوذ بالله من الجهل والعمى، ونسأله العون والهدى، فإنه ولي كل النعماء، ودافع كل الأسواء .
[الإيمان برسالة محمد صلى اللّه عليه وآله وسلم]
ثم يجب عليه أن يعلم أن محمداً بن عبد اللّه بن عبد المطلب، عبد اللّه ورسوله، وخيرته من خلقه، وصفوته من جميع بريته، خاتم النبيين لا نبي بعده، وأنه قد بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ثم قبضه اللّه إليه حميداً مغفوراً(2). فصلوات اللّه عليه وعلى أهل بيته الطيبين وسلم.
[إمامة علي عليه السلام]
__________
(1) في ط، ب: لاتنالهم.
(2) في (أ وب): مفقوداً.

(1/94)


ثم يجب عليه أن يعلم أن علي بن أبي طالب بن عبد المطلب أمير المؤمنين، وسيد المسلمين، ووصي رسول رب العالمين، ووزيره وقاضي دينه، وأحق الناس بمقام رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم، وأفضل الخلق بعده، وأعلمهم بما جاء به محمد، وأقومهم بأمر اللّه في خلقه. وفيه ما يقول اللّه تبارك وتعالى: {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ}[المائدة: 55]، فكان مؤتي الزكاة وهو راكع علي بن أبي طالب دون جميع المسلمين. وفيه يقول اللّه سبحانه: {وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ. أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ. فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ}[الواقعة: 10 ـ 13]، فكان السابق إلى ربه غير مسبوق، وفيه يقول اللّه عزَّ وجل: {أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعُ أَمَّنْ لاَ يَهِدِّي إِلاَّ أَنْ يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيفَ تَحْكُمُونَ}[يونس: 35]، فكان الهادي إلى الحق غير مهدي، والداعي إلى الصراط السوي، والسالك طريق الرسول الزكي، ومن سبق إلى الله، وكان الهادي إلى غامض أحكام كتاب الله؛ فهو أحق بالإمامة؛ لأن أسبقهم أهداهم، وأهداهم أتقاهم، وأتقاهم خيرهم، وخيرُهُمْ بكلِّ خَيرٍ أولاهم. وما جاء له من الذكر الجميل في واضح التنزيل؛ فكثير غير قليل.

(1/95)


وفيه أنزل اللّه على رسوله بغدير خم: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالاَتِهِ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ}[المائدة: 67]، فوقف صلى الله عليه وآله وسلم وقطع سيره، ولم يستجز أن يتقدم خطوة حتى ينفذ ما عزم عليه في علي، فنزل تحت الدوحة مكانه، وجمع الناس، ثم قال: (( أيها الناس... ألست أولى بكم من أنفسكم؟ قالوا: بلى يا رسول الله. فقال: اللهم اشهد، ثم قال: اللهم اشهد، فمن كنت مولاه فعليٌّ مولاه، اللهم والِ من والاه، وعاد من عاداه، وانصر من نصره، واخذل من خذله )). والناس كلهم مجتمعون يسمعون كلام رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم، وهو رافع بيد علي حتى أبصر بياض آباطهما وهو ينادي بهذا القول.
وفيه يقول صلى الله عليه وآله وسلم: (( عليٌّ مني بمنزلة هارون من موسى، إلاَّ أنَّه لا نبي بعدي ))، ويقول: (( عليٌّ مع الحق، والحق معه ))، ويقول (( أنا مدينة العلم وعلي بابها، فمن أراد المدينة فليأتها من بابها ))، وقال: (( الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة، وأبوهما خير منهما ))، وقال: (( أنت أخي يا علي في الدنيا والآخرة ))، وقال: (( عليٌّ أقضى الخلق وأعلمهم )).
[إمامة الحسنين عليهما السلام]

(1/96)


ثم يجب عليه أن يعلم أن الحسن والحسين ابنا رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم وحبيباه، وأنهما إماما عدل، واجبة طاعتهما، مفترضة ولايتهما، وفيهما وفي جدهما وأبيهما وأمهما يقول(1) اللّه تبارك وتعالى: {إِنَّ الأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُوراً}[الإنسان: 5] إلى قوله: {فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيْلاً}[الإنسان: 29] وفيهما ما يقول(2)رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم: (( كل بني أنثى ينتمون إلى أبيهم، إلاَّ ابْنَي فاطمة فأنا أبوهما وعصبتهما )). فهما ابناه وولداه بفرض اللّه وحكمه، وفي ذلك ما يقول اللّه سبحانه في إبراهيم الخليل صلى اللّه عليه: {وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيْسَى وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ}[الأنعام: 84]، فذكر أن عيسى من ذرية إبراهيم، كما موسى وهارون من ذريته، وإنما جعله ولده وذريته بولادة مريم، وكان سواء عنده في معنى الولادة والقرابة ولادة الابن وولادة البنت؛ إذ قد أجرى عيسى وموسى مجرى واحداً من إبراهيم صلى اللّه عليه. وفيهما وفي أبيهما وأمهما ما يقول اللّه تبارك وتعالى لرسوله صلى اللّه عليه وآله؛ إذ أمره بالمباهلة(3) للنصارى؛ فقال له: {قُلْ تَعَالُوا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَى الكَاذِبِينَ}[آل عمران: 61]، فحضر صلى اللّه عليه وآله بعلي وفاطمة والحسن والحسين صلى اللّه عليهم أجمعين.
[إمامة أهل البيت عليهم السلام، وصفات الإمام]
__________
(1) في أ: ما يقول.
(2) في (أ، ب) : يقول.
(3) المباهلة: هي الملاعنة.

(1/97)


ثم يجب عليه أن يعلم أن الإمامة لا تجوز إلاَّ في ولد الحسن والحسين؛ بتفضيل اللّه لهما، وجعله ذلك فيهما، وفي ذريتهما، حيث يقول تبارك وتعالى: {وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ}[البقرة: 124].
فكانت النبوة والإمامة والوصية والملك في ولد إبراهيم صلى اللّه عليه، إلى أن بعث اللّه محمداً صلى اللّه عليه وعلى آله فأفضت النبوة إليه، وختم اللّه الأنبياء به، وجعله خاتم النبيين وسيد المرسلين، وقال: {رَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ البَيْتِ}[هود: 73]، وقال: {وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ}[الزخرف: 28]، وقال: {أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَينَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكاً عَظِيماً}[النساء: 54]، وقال موسى صلى اللّه عليه لقومه: {يَا قَومِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيْكُمْ أَنْبِيَاءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكاً وَآتَاكُمْ مَا لَمْ يُؤْتِ أَحَداً مِنَ العَالَمِينَ}[المائدة: 20]، وقال: {وَلَقَدْ آتَينَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى العَالَمِينَ}[الجاثية: 16]، وقال: {إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْرَاهِيْمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى العَالَمِينَ. ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ وَاللَّهُ سَمِيْعٌ عَلِيْمٌ}[آل عمران: 34 ـ 35]، فكانت النبوة في إبراهيم، ثم أفضت إلى إسماعيل، ثم إلى إسحاق، ثم إلى ابنه يعقوب، ثم إلى ابنه يوسف، ثم في بني إسرائيل ـ وهو يعقوب ـ الأول فالأول، حتى كان آخرهم عيسى صلى اللّه عليهم أجمعين، ثم حول اللّه النبوة إلى

(1/98)


محمد خاتم النبيين، فقال سبحانه: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ}[الفتح: 29]، ثم قال: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا}[الحشر: 70]. وقال النبي صلى الله عليه وآله: (( إني تارك فيكم الثقلين(1) ما إن تمسكتم بهما(2) لن تضلوا من بعدي أبداً: كتاب اللّه وعترتي أهل بيتي، إن اللطيف الخبير نبأني أنهما لن يفترقا حتى يردا علي الحوض )) (3) وقال اللّه سبحانه: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ البَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً}[الأحزاب: 33]، فبين الأمر سبحانه فيهم وأوضحه، {لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً}. ومحمد من ولد إسماعيل بن إبراهيم، وكذلك ذريته.
ثم قال سبحانه: {ثُمَّ أَورَثْنَا الكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَينَا مِنْ عِبَادِنَا}، فورثة الكتاب: محمد، وعلي، والحسن، والحسين، ومن أولدوه من الأخيار. ثم قال في ولدهم: {فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ}[فاطر: 32]، ففيهم إذ كانوا بشراً ما في الناس.
وقال: {وَلاَ تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ}[هود: 113]، كما قال في ولد إبراهيم وإسحاق صلى اللّه عليهما: {وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِمَا مُحْسِنٌ وَظَالِمٌ لِنَفْسِهِ مُبِينٌ}[الصافات: 113].
__________
(1) سقط من (ط): الثقلين.
(2) في ط: به.
(3) في هامش (ط): وهذه الرواية مقصورة على المتشيعين لأهل البيت، أما جمهور السنة فيروون الحديث هكذا: (إني تارك فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا من بعدي أبداً كتاب الله وسنتي).تمت. وليس كذلك، فقد رواها كثير من أئمة الحديث، على رأسهم مسلم والترمذي ، بلفظ: وعترتي. بألفاظ مختلفة.

(1/99)


وكان فيما بَيَّن اللّه عزَّ وجل لخليله إبراهيم صلى اللّه عليه؛ إذ قال إبراهيم: {وَمِنْ ذُرِّيَّتِي}؛ فقال له ربه: {لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ}، ثم قال: {أَلاَ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ}[هود: 18]، وقال: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الكَافِرُونَ}[المائدة: 44] و{الظَّالِمُونَ}[المائدة: 45] و{الفَاسِقُونَ}[المائدة: 47].
وأن الإمام من بعد(1) الحسن والحسين من ذريتهما من سار بسيرتهما، وكان مثلهما، واحتذى بحذوهما، فكان ورعاً تقياً، صحيحاً نقياً، وفي أمر اللّه سبحانه مجاهداً، وفي حطام الدنيا زاهداً، وكان فَهِماً لما يحتاج إليه، عالماً بتفسير ما يرد عليه، شجاعاً كَمِياً(2) بذولاً سخياً، رؤوفاً بالرعية، متعطفاً محسناً(3) حليماً، مساوياً لهم بنفسه، مشاوراً لهم في أمره، غير مستأثر عليهم، ولا حاكم بغير حكم اللّه فيهم، قائماً شاهراً لنفسه، رافعاً لرايته، مجتهداً، مفرقاً للدعاة في البلاد، غير مقصر في تأليف العباد، مخيفاً للظالمين، مؤمِّناً للمؤمنين، لا يأمن الفاسقين ولا يأمنونه، بل يطلبهم ويطلبونه، قد باينهم وباينوه، وناصبهم وناصبوه، فهم له خائفون، وعلى إهلاكه جاهدون، يبغيهم الغوائل، ويدعو إلى جهادهم القبائل، متشرداً عنهم، خائفاً منهم، لا يردعه عن أمور الله ولا يمنعه عن الاجتهاد عليهم كثرةُ الإرجاف، شمري(4)
__________
(1) في هامش ط: من هنا حتى قوله (ثمانية أصناف أو ثمانية آلاف، أو ثمانية أنفس).. قبل عنوان (خطايا الأنبياء) بقليل. صفحات سقطت من النسخة أ، واعتمدنا فيها على النسخة ب فقط، وأعطيناها ترقيمها، ويقع هذا الموضع من النسخة ب باللوحة 142. وكذلك سقطت من (أ) عندي، واعتمدت: (ب).
(2) في هامش ط: الكمي، هو: الشجاع المتحصن بالدروع والأدوات الساترة لجسمه والحامية له من سهام الأعداء.
(3) في ب: متحنناً.
(4) في هامش ط: هو المجد في عمله المجرب، الماضي في الأمور، ومثله المشمر.

(1/100)


مشمر، مجتهد غير مقصر.
فمن كان كذلك من ذرية الحسن والحسين فهو الإمام المفترضة طاعته، الواجبة على الأمة نصرته، مثل من قام من ذريتهما من الأئمة الطاهرين، الصابرين لله المحتسبين، مثل زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب رضي اللّه عنه(1) إمام المتقين، والقائم بحجة رب العالمين، ومثل ابنه يحيى المحتذي بفعله، ومثل محمد بن عبد اللّه بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب، الذي جاء فيه الخبر عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وعلى آله، أنَّه خرج ذات يوم إلى باب المدينة، فوقف في موضع ومعه جماعة من أصحابه، فقال لهم: (( ألا أنَّه سيقتل في هذا الموضع رجل من ولدي، اسمه كاسمي، واسم أبيه كاسم أبي، يسيل دمه من ها هنا إلى أحجار الزيت، وهو النفس الزكية، على قاتله ثلث عذاب أهل النار ))(2).
__________
(1) في هامش ط: وكان خروجه على هشام بن عبد الملك الأموي، ولقد استشهد في نفس العام الذي خرج فيه، وهناك خلاف في تاريخ هذا الحدث هل هو سنة120 أم سنة 122 هـ؟راجع (المقصد الحسن والمسلك الواضح السنن) مخطوط مصور، دار الكتب المصرية (29137 ب) اللوحات 178، 179. لأحمد بن يحيى بن حابس الصعدي اليماني.
(2) في هامش ط: وكان خروج النفس الزكية بالمدينة ضد بني العباس، طالباً الخلافة لنفسه، كما كان مقتله في 14 رمضان سنة 145 هـ، وكانت قيادة الجيش العباسي بيد عيسى بن موسى.

(1/101)


ومثل أخويه إبراهيم(1) ويحيى(2) ابني عبد الله، ومثل الحسين بن علي بن الحسن بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب، وهو صاحب فخ(3)، ومثل محمد(4) والقاسم(5) ابني إبراهيم بن إسماعيل بن إبراهيم بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب، فمن كان كذلك من ذرية الحسن والحسين فهو إمام لجميع المسلمين، لا يسعهم عصيانه، ولا يحل لهم خذلانه، بل يجب عليهم موالاته وطاعته، ويعذب اللّه من خذله، ويثيب من نصره، ويتولى من تولاه، ويعادي من عاداه.
__________
(1) في هامش ط: وكان خروجه بالبصرة في نفس السنة التي خرج فيها النفس الزكية (سنة 145 م) ولقد قاتل العباسيين الذي قاد جيشهم عيسى بن موسى، وقتل إبراهيم في (باخمرى) في 25 ذي القعدة سنة 145 هـ.
(2) في هامش ط: وهو الذي قاتل العباسيين أيام الهادي، وأيام الرشيد، ثم أعطى له الرشيد أماناً، فجاء بغداد، ثم حبسه الرشيد لدى جعفر البرمكي الذي أطلق صراحه مما أغضب عليه الرشيد، وهناك خلاف في موته هل مات في حبسه؟ أم قتل عند سندي بن شاهك، مولى المنصور، الذي خدم الرشيد والمأمون.
(3) في هامش ط: وفخ واد بمكة، قد دفن فيه عدد من الصحابة منهم عبد اللّه بن عمر، وكان خروج الحسين هذا ومقتله به سنة 169 هـ زمن الهادي العباسي، وكان قائد جيش الهادي في هذه الموقعة محمد بن سليمان.
(4) في هامش ط: هو محمد بن طباطبا (73 ـ 199 هـ) أحد أئمة الزيدية.
(5) في هامش ط: هو الإمام القاسم الرسي، جد الإمام يحيى بن الحسين. راجع المقريزي (اتعاظ الحنفاء بأخبار الأئمة الفاطميين الخلفاء) ص 7 ـ 13.

(1/102)


ومما روى الحسين بن علي بن أبي طالب عليهم السلام، قال: أخبرني أبي، قال: قال جدي رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله، قال(1):(( إنه سيخرج منا رجل يقال له زيد، فينتهب ملك السلطان فيقتل، ثم يصعد بروحه إلى السماء الدنيا، فيقول له النبيون: جزى اللّه نبيك عنا أفضل الجزاء كما شهد لنا بالبلاغ، وأقول أنا: أقررت عيني يا بني، وأديت عني، ثم يذهب بروحه من سماء إلى سماء حتى ينتهى به إلى اللّه عزَّ وجل، ويجيء أصحابه يوم القيامة يتخللون أعناق الناس بأيديهم أمثال الطوامير(2) فيقال: هؤلاء خلف الخلف، ودعاة الحق إلى رب العالمين )).
وفيه (3)، عن محمد بن الحنفيَّة(4) أنَّه قال: (( سيصلب منا رجل يقال له زيد(5) في هذا الموضع ـ يعني موضعاً بالكوفة يقال له الكناس(6) ـ، لم يسبقه الأولون ولا الآخرون فضلاً.
__________
(1) كذا.
(2) في هامش ط: الصحائف، ومفردها طامور وطومار.
(3) الضمير للإمام زيد في جميعها.
(4) في هامش ط: هو إمام الفرقة الكيسانية من فرق الشيعة، وفي تاريخ وفاته خلاف بين سنوات 81، 83، 72، و 73 هـ، وفي محل وفاته خلاف كذلك بين المدينة، والطائف، وأيلة. راجع اتعاظ الحنفاء للمقريزي. ص 6.
(5) في ط: زيد بن علي.
(6) كذا، وفي ط: الكنائش، ولعلها: الكناسة.

(1/103)


وفيه عن محمد بن علي بن الحسين باقر العلم(1)، أن قوماً وفدوا إليه فقالوا: يا ابن رسول الله، إن أخاك زيداً فينا، وهو يسألنا البيعة، أفنبايعه؟ فقال لهم محمد: بايعوه، فأنه اليوم أفضلنا. وعنه أيضاً أنَّه اجتمع زيد ومحمد في مجلس، فتحدثوا، ثم قام زيد فمضى، فأتبعه محمد بصره، ثم قال: لقد أنجبت أمك يا زيد.
وفيه ما قال جعفر بن محمد الصادق رحمة اللّه عليه(2)، لما أراد زيد الخروج إلى الكوفة من المدينة؛ قال له جعفر: أنا معك يا عم. فقال له زيد: أوما علمت يا ابن أخي أن قائمنا لقاعدنا وقاعدنا لقائمنا، فإذا خرجت أنا وأنت فمن يخلفنا في حرمنا، فتخلف جعفر بأمر عمه زيد.
وعن جعفر أيضاً لما أراد يحيى بن زيد اللحوق إلى أبيه، قال له ابن عمه جعفر أقرئه عني السلام، وقل له: فإني أسأل اللّه أن ينصرك ويُبقيك، ولا يرينا فيك مكروهاً، وإن كنت أزعم أني عليك إمام فأنا مشرك.
__________
(1) هو أحد أئمة الشيعة الاثني عشر، وكان عالماً كبيراً، سمي بالباقر لعلمه الغزير، إذ معنى: تبقر في العلم: توسع فيه. ولد بالمدينة في 3 صفر سنة 57 هـ ومات بالحميمة، ودفن بالمدينة، وهناك خلاف في تاريخ وفاته بين سنوات 113، 114، 117، و 118 هـ راجع اتعاظ الحنفاء للمقريزي. ص 14.
(2) هو أحد أئمة الشيعة الاثني عشر ومن كبار علمائهم، توفي بالمدينة سنة 148 هـ وفي تاريخ ميلاده خلاف بين سنتي 80 و 83 هـ . راجع المصدر السابق. ص 14.

(1/104)


وعنه أيضاً لما جاءه خبر قتل أبي قرة الصقيل بين يدي زيد بن علي، تلا هذه الآية: {وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِراً إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ}[النساء: 100]، رحم اللّه أبا قرة. وعنه أيضاً، لما جاءه خبر قتل حمزة بين يدي زيد بن علي تلا هذه الآية: {رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً}[الأحزاب: 23]. وعنه لما جاءه خبر قتل عمه زيد وأصحابه، قال: ذهب والله زيد بن علي كما ذهب علي بن أبي طالب والحسن والحسين وأصحابهم شهيداً(1) إلى الجنة، التابع لهم مؤمن، والشاك فيهم ضال، والراد عليهم كافر.
وإنما فَرَّق بين زيد وجعفر قوم كانوا بايعوا زيد بن علي، فلما بلغهم أن سلطان الكوفة يطلب من بايع زيداً ويعاقبهم، خافوا على أنفسهم، فخرجوا من بيعة زيد ورفضوه مخافة من هذا السلطان، ثم لم يدروا بم يحتجون على من لامهم وعاب عليهم فعلهم، فقالوا بالوصية حينئذ، فقالوا: كانت الوصية من علي بن الحسين إلى ابنه محمد، ومن محمد إلى جعفر، ليموهوا(2) به على الناس، فضلوا وأضلوا كثيراً وضلوا عن سواء السبيل، ابتغوا(3) أهواء أنفسهم، وآثروا الدنيا على الآخرة، وتبعهم على قولهم هذا من أحب البقاء وكره الجهاد في سبيل الله.
__________
(1) في ب: شهداء.
(2) في ط: ليوهموا.
(3) في ب: اتبعوا.

(1/105)


ثم جاء قوم من بعد أولئك فوجدوا كلاماً مرسوماً في كتب ودفاتر، فأخذوا بذلك على غير تمييز ولا برهان، بل كابروا عقولهم، ونسبوا فعلهم هذا إلى الأخيار منهم؛ من ولد الرسول عليه وعليهم السلام، كما نسبت الحشوية ما روت من أباطيلها وزور أقاويلها إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم، ليثبت لهم باطلهم على من اتخذوه مأكلة لهم، وجعلوهم خدماً وخولاً، كما قال اللّه عزَّ وجل في أشباههم: {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الكِتَابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الأَدْنَى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيهِمْ مِيثَاقُ الكِتَابِ أَلاَّ يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلاَّ الْحَقَّ وَدَرَسُوا مَا فِيهِ}[الأعراف: 168].
وكذلك هؤلاء الذين رفضوا زيد بن علي وتركوه، ثم لم يرضوا بما أتوا من الكبائر؛ حتى نسبوا ذلك إلى المصطفين من آل الرسول. فلما كان فعلهم على ما ذكرنا، سماهم حينئذ زيد روافض ورفع يديه فقال: اللهم اجعل لعنتك ولعنة آبائي وأجدادي ولعنتي على هؤلاء الذين رفضوني، وخرجوا من بيعتي، كما رفض أهل حرورى(1) علي ابن أبي طالب عليه السلام حتى حاربوه.
فهذا كان خبر من رفض زيد بن علي وخرج من بيعته.
وروي عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله، أنَّه قال لعلي بن أبي طالب: (( يا علي، إنَّه سيخرج قوم في آخر الزمان، لهم نَبْر(2) يعرفون به، يقال لهم: الرافضة، فإن أدركتهم فاقتلهم، فإنهم مشركون، فهم لعمري شر الخلق والخليقة )).
__________
(1) في هامش ط: المراد الخوارج الذين رفضوا التحكيم وقاتلوا علي بن أبي طالب.
(2) كذا في النسخ. والمشهور على الألسنة: نبز، بالزاي.

(1/106)


وأما الوصية فكل من قال بإمامة أمير المؤمنين ووصيته فهو يقول بالوصية، على أن اللّه عزَّ وجل أوصى بخلقه على لسان النبي إلى علي بن أبي طالب والحسن والحسين، وإلى الأخيار من ذرية الحسن والحسين، أولهم علي بن الحسين وآخرهم المهدي، ثم الأئمة فيما بينهما.
وذلك أن تثبيت الإمامة عند أهل الحق في هؤلاء الأئمة من اللّه عزَّ وجل على لسان رسول اللّه صلى اللّه عليه وعلى آله، فمن ثَبَّت اللّه في الإمامة، وأختاره واصطفاه، وبيَّن فيه صفات الإمام؛ فهو إمام عندهم مستوجب للإمامة، لقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم، إذ يقول: (( من أمر بالمعروف ونهى عن المنكر من ذريتي فهو خليفة اللّه في أرضه، وخليفة كتابه، وخليفة رسوله )). قال: من ذريتي. فولد الحسن والحسين من ذرية النبي صلى اللّه عليه وآله. ثم قال: (( عليكم بأهل بيتي، فإنهم لن يخرجوكم من باب هدى، ولن يدخلوكم في باب ردى )). وقال: (( مثل أهل بيتي فيكم كسفينة نوح، من ركبها نجا، ومن تخلف عنها غرق وهوى ))، وقال: (( النجوم أمان لأهل السماء، وأهل بيتي أمان لأهل الأرض، فإذا ذهبت النجوم من السماء أتى أهل السماء ما يوعدون، وإذا ذهب أهل بيتي من الأرض أتى أهل الأرض ما يوعدون )) يعني في جميع ذلك: الصالحين من ولده، وقال صلى اللّه عليه وعلى أهل بيته: (( من سمع داعيتنا(1) أهل البيت فلم ينصره لم يقبل اللّه له توبة حتى تلفحه جهنم )). ثم قال: (( من مات لا يعرف إمامه مات ميتة جاهلية )).
__________
(1) في ب: واعيتنا.

(1/107)


والله عزَّ وجل قد جعل الأمر والنهي في خيار آل محمد عليه وعلى آله السلام، وزواه (1) عن ظالميهم وظالمي غيرهم، ومكن أهل الحق منهم وأجازه لهم، وذلك قوله تبارك وتعالى: {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاَةَ وَآَتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ}[الحج: 41]، ثم قال: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لاَ يُشْرِكُونَ بِي شَيئاً وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الفَاسِقُونَ}[النور: 55]، وقال سبحانه لرسله: {وَأَوْحَى إِلَيهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ}[إبراهيم: 14 ـ 15]، وقوله لإبراهيم صلى الله عليه: {لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ}[البقرة: 124]. وعلى هذا النحو قال تبارك وتعالى: {قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ}[آل عمران: 26]، يعني الأنبياء ومن تبعهم من الأئمة الصادقين، كقوله: {اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ}[التوبة: 119]، وكقول إبراهيم عليه السلام: {فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي}[إبراهيم: 36]، ثم قال: {وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ}[آل عمران: 26]، فقد نزع الملك من الفراعنة والجبابرة، وإنما الملك هو الأمر والنهي، لا المال والسعة والجِدَة، كما قال عزَّ وجل عندما قالوا: {أنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ
__________
(1) في ط: ووراه. وفي هامشه: هكذا في الأصل، والمراد منعه.

(1/108)


بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمَالِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي العِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ}[البقرة: 247]، فقد بين عزَّ وجل في هذه الآية، أن الملك هو الأمر والنهي، لا سعة المال، ثم قال: {وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ}[آل عمران: 26] فقد أعز الأنبياء ومن تبعهم من الأئمة الصادقين وأوليائهم الصالحين، وذلك قوله سبحانه: {وَلِلَّهِ العِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ}[المنافقون: 8]، والمؤمن لا يملك من متاع الدنيا شيئاً، فسماه اللّه عزيزاً؛ إذ فعله ذلك يوصله إلى دار العزِّ أبد الأبد، ثم قال: {وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ}[آل عمران: 26]، فقد أذل الفراعنة ومن تبعهم من الظالمين؛ لأنهم معتدون غير محقين. فكل من كان في يده أمر ونهي وكان فعله مخالفاً للكتاب والسنة فهو فرعون من الفراعنة، وكل عالم متمرد فهو إبليس من الأبالسة، وكل من عصى الرحمن من سائر الناس فهو شيطان من الشياطين، وذلك قوله: {شَيَاطِينَ الإِنْسِ وَالْجِنِّ}[الأنعام: 112]، ثم قال: {مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ}[الناس: 6].
والظالم وإن اتسع في هذه الدنيا من مال غيره، وأكثر من مظالم الناس، ووقع عند الجاهل أنَّه عزيز، فهو عند اللّه عزَّ وجل وعند أوليائه ذليل؛ لأنَّ فعله ذلك يورده إلى دار الذل أبد الأبد، كما قال اللّه عزَّ وجل: {مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادِ}[آل عمران: 197].

(1/109)


وقال النبي صلى الله عليه وآله في الأمراء الظالمين: (( طعمة قليلة وندامة طويلة(1) ))). وفعل هؤلاء الظالمين وأمرهم وسلطنتهم؛ إنما تقوم بأعوانهم الذين يتبعونهم، ويعينونهم على ظلمهم، وإذا تفرق الأعوان منهم وأسلموهم لم تقم لهم دولة، ولا تثبت لهم راية، فمتى كثرت جماعتهم تقووا بهم على باطلهم، واستضعفوا المستضعفين من خلق الله، وأمهل لهم ربهم وتركهم، ولم يَحُل بينهم وبين من يظلمونهم؛ إذ كُلٌّ ظالم، القوي والمستضعف، وذلك قوله عزَّ وجل: {وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضاً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ}[الأنعام: 129]، وقال: {أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزّاً}[مريم: 83]، يقول: خليناهم عليهم، كما قال: {بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَاداً لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيْدٍ}[الإسراء: 50]، وكما قال النبي صلى اللّه عليه وعلى آله: (( لتأمرنَّ بالمعروف ولتنهون عن المنكر، أو ليسلطنَّ اللّه عليكم شراركم فيسومونكم سوء العذاب، ثم يدعو خياركم فلا يستجاب لهم، حتى إذا بلغ الكتاب أجله كان اللّه المستنصر(2) لنفسه، فيقول: ما منعكم إذ رأيتموني أُعْصَى أن لا تغضبوا لي(3) ))).
__________
(1) في ط: كثيرة.
(2) في ب: المنتصر.
(3) في ب: فيَّ.

(1/110)


فمن هذه الجهة ترك الظالمين ولم يأخذهم؛ لأن الرعية في ظلمهم وتظالمهم فيما بينهم أصناف: فقوم يقولون على اللّه بالجبر والتشبيه، وينفون عنه العدل والتوحيد، وينسبون إليه عزَّ وجل أفعال العباد، ويقولون: إن هذا الظلم الذي نزل بهم بقضاء من الله(1) وقدر، ولو وأن الله قضى عليهم بهذا الظلم الذي نزل بهم من هؤلاء الظالمين ما إذاً قدر الظالم أن يظلمهم، غير أن هذا الظلم مقدر عليهم عند اللّه على يدي هذا الظالم، فإذا كانت معرفتهم هذه المعرفة، وكان معبودهم الذي يزعمون أنهم يعبدونه هذا فعله بهم؛ فمتى يصل هؤلاء إلى معرفة الخالق، ومتى يدعونه ويستعينون به على ظالمهم؟ إنما هم يدعون هذا الذي يزعمون أنَّه قضى عليهم بهذا الظلم وقدره، ولهذا يصلون، وله يصومون ويحجون، وبه في جميع ما ينزل بهم من الظلم والجور والمصائب في المال والولد والبدن يستعينون(2) به على دفع هذه المضار والبلوى التي نزلت بهم. فهم يعبدون صورة مصورة، وعلى هذا النحو أسلمهم ربهم، وتركهم من التوفيق والسداد(3)، وخذلهم ولم ينصرهم على ظالمهم. وكيف ينصرهم على ظالمهم وهو المقدر لهذا الظلم عليهم الذي نزل بهم؟ فهو الذي يدعونه بزعمهم، أما إنهم لو أنصفوا عقولهم، وعرفوا اللّه عزَّ وجل حق معرفته، ونفوا عنه ظلم عباده، كما نفاه عزَّ وجل عن نفسه، ثم أمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر، ودعوا ربهم حينئذٍ على ظالمهم؛ إذاً لاستجاب لهم دعوتهم، وكشف ما بهم من الظلم والجور، وذلك قوله عزَّ وجل: {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ}[غافر: 60].
وقال: {وَكَانَ حَقّاً عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ}[الروم: 47]، {كَذَلِكَ حَقّاً عَلَينَا نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ}[يونس: 103] (4).
****
__________
(1) سقط من ب.
(2) في ب: يستغيثون.
(3) في ب: والتسديد.
(4) إلى هنا انتهى وبعده في ط، ب: قال يحيى بن الحسين الهدى.. الخ، ولايعلم هل هي تمام الكتاب أم هي أبحاث مستقلة، وتلحق به هنا.

(1/111)


[مفاهيم شتى]
[الهُدَى(1)]
قال يحيى بن الحسين صلوات الله عليه: الهدى من الله عز وجل هديان: هدى مبتدأ، وهدى مكافأة.
فأما الهدى المبتدأ: فقد هدى الله به البَرّ والفاجر، وهو العقل والرسول والكتاب.
فمن أنصف عقله وصدق رسوله وآمن بكتابه وحلل حلاله وحرم حرامه؛ استوجب من الله الزيادة.
والهدى الثاني(2): جزاء على عمله، ومكافأة على فعله، كما قال عز وجل: {وَالَّذِيْنَ اهْتَدُوا زَادَهُمْ هُدىً وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ}[محمد:17]، وقال: {وَيَزِيْدُ اللهُ الَّذِيْنَ اهْتَدَوا هُدىً}[مريم:76].
ومن كابر عقله وكذب رسوله ورد كتابه؛ استوجب من الله الخذلان، وتركه من التوفيق والتسديد، وأضله وختم على سمعه وقلبه وجعل على بصره غشاوة، وذلك قوله تبارك وتعالى: {فَمَنْ يُرِدِ اللهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ}، عني الهدى الثاني، {وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ}، يقول: ومن يرد أن يوقع اسم الضلال عليه، بعد أن استوجب بفعله القبيح {يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرِجاً كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِيْ السَّمَاءِ كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِيْنَ لا يُؤْمِنُونَ} [الأنعام: 125]، فقد بين عز وجل في آخر الآية أنَّه لم يضله، ولم يضيق صدره إلاَّ بعد عصيانه وكفره وضلاله، لأنَّه يقول: {كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللهُ الرَّجْسَ عَلَى الَّذِيْنَ لا يُؤْمِنُونَ}، ولم يقل إنَّه يجعل الرِّجس على الذين آمنوا.
__________
(1) هذه المفاهيم اختصت بها النسختان (أ) و(ب) و(ط)، وقد جاءت فيها في آخر كتاب العدل والتوحيد متصلة، ولا علاقة لها به، كما يظهر، لذلك أفردناها بعنوان وحدها فليعلم.
(2) في (ب): الزيادة بالهدى الثاني.

(1/112)


ثُمَّ قال: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً}[الجاثية: 23]، (كما اتخذ إلهه هواه أوقع عليه اسم الضلال، وسماه ودعاه بعد أن اتخذ إلهه هواه وختم على سمعه)(1)، وتركه من التوفيق والتسديد وخذله، ولم يؤيده ولم يسدده كما أيد وسدد الذي عبده، عز وجل.
ثُمَّ قال: {يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِيْ مَنْ يَشَاءُ}[النحل:93، فاطر:8].
ثُمَّ قال: {وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ الْفَاسِقِيْنَ} [البقرة: 26] وقال: {كَذَلِكَ يُضِلُّ اللهُ الْكَافِرِيْنَ}[غافر:74]، {كَذَلِكَ يُضِلُّ اللهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتَابٌ}(2)، {كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ}[غافر: 35].
[الضّلال]
قال يحيى بن الحسين، صلوات الله عليه:
الضلال في كتاب الله عز وجل على وجوه:
فوجه منها: قول الله تبارك وتعالى: {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِيْنَ}[فاتحة الكتاب: 5]، يقول: إنهم ضلوا عن سواء السبيل، وهم النصارى.
والوجه الثاني: قوله سبحانه: {وَوَجَدَكَ ضَالاًّ فَهَدَى}[الضحى: 7]، يقول عن شرائع النبوة فهداك الله.
وقال موسى: {فَعَلْتُهَا إِذاً وَأَنَا مِنَ الضَّالِيْنَ}[الشعراء: 20]، يقول: من الجاهلين بعاقبة فعلي. وقال: أولاد يعقوب: {إِنَّ أَبَانَا لَفِيْ ضَلالٍ مُبِيْنٌ}[يوسف: 8]، يقولون: جاهل عندما يؤثر يوسف علينا، ونحن أنفع له من يوسف صلى الله عليه.
والوجه الثالث: قوله: {أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا}[البقرة: 282]، أن تنسى إحداهما الشهادة فتذكر إحداهما الأخرى.
والوجه الرابع، قوله: {أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ}[محمد: 1، 8]، يقول:أبطل أعمالهم.
__________
(1) سقط من (ب).
(2) غافر: 24، والآية مذكورة في الأصل خطأ: (مسرف هكذا) كذا في (ط) ولعلها: مسرف كذاب كما في (ب) أيضاً.

(1/113)


والوجه الخامس: قوله سبحانه، في قصة فرعون والسامري، حيث يقول: {وَأَضَلَّ فِرْعَونُ قَوْمَهُ وَمَا هَدَى}[طه:79]، يقول: أغواهم وأرداهم ولم يرشدهم.
والوجه السادس: قوله: سبحانه: {وَأَضَلَّهُ اللهُ عَلَى عِلْمٍ} [الجاثية: 23]، وقوله: {يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِيْ مَنْ يَشَاءُ}[النحل: 93، فاطر:8]، و{يُضِلُّ اللهُ الظَّالِمِيْنَ}[إبراهيم: 27]، و{كَذَلِكَ يُضِلُّ اللهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتَابٌ}[غافر: 34](1)، ونحو هذا في القرآن كثير، يعني في جميع ذلك: أنَّه يوقع عليه اسم الضلال، ويدعوه به بعد العصيان والطغيان، لا أنَّه يغويهم عن الصراط المستقيم، كما أغوى وأضل فرعون قومه، وإن اشتبه اللفظ فمعناه متباين مفترق عند أهل العلم، إذ الله عز وجل رحيم بعباده، ناظر لخلقه، وفرعون لَعين ملعون مُضل غوي، وهو عز وجل قد عذب فرعون على فعله وضلاله، وقبح سوء فعله بنفسه وقومه، وكيف يغوي خلقه ويضلهم ولا يرشدهم ثُمَّ يعذبهم على فعله؟ إذاً لكان لهم ظالماً، وعليهم متعدياً، وهو مع ذلك يعيب على من فعل مثل هذا الفعل، إذ يقول عز وجل: {وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيْئَةً أَوْ إِثْماً ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيْئاً فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتَاناً وَإِثْماً مُبِيْناً}[النساء: 112]، وبعث إليهم الرسول، وأنزل عليهم الكتاب، ثُمَّ قال: {يَا أَيُّهَا الَّذِيْنَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِيْ السِّلْمِ كَافَّةً}[البقرة: 208]، فأمرهم أن يدخلوا كلهم في الإسلام والإيمان.
__________
(1) والآية مذكورة في الأصل خطأ، هكذا: (مسرف كذاب).

(1/114)


فلو كان كما يقول الجاهلون إنَّه هدى قوماً وأضل قوماً ولم يهدهم؛ لم يكن لقوله: {أُدْخُلُوا فِيْ السِّلِمِ كَافَّةً} معنى، إذ كان عز وجل بزعمهم أدخل قوماً في الإسلام، وحال بين قوم وبين الدخول في الإسلام؟ فما معنى قوله لقوم داخلين في الإسلام: ادخلوا وهم داخلون، كما لا نقول لقائم: قم، وكما لا نقول لجالس: إجلس، ويقول لقوم حال بينهم وبين الدخول في الإسلام ادخلوا، فكيف يقدرون على ذلك، وهو قد حال بينهم وبين الدخول في الإسلام، كما لم نقل لِمُقْعَد: قم، ولا لأعمى: أبصِر.
وهو عز وجل قد فرض الجهاد على جميع الناس، فقال: {انْفِرُوا خِفَافاً وَثِقَالاً}[التوبة: 41]، ثُمَّ قال لمن أعمى بصره ولم يعطه من القوة ما أعطى غيره: {لَيْسَ عَلَى الأَعْمَى حَرَجٌ} [النور: 61، الفتح: 71]، فعذره في تخلفه عن الجهاد إذ لم يقدر على ذلك.
وقال سبحانه: {لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا}[البقرة: 262]، فلو كان عز وجل فعل لهم ما يقول المبطلون، لكان من عصى وكفر وظلم وقتل أنبياءه وأولياءه وقال عليه بالزور والبهتان معذوراً عنده سبحانه، ساعياً في قضائه وقدره، ولم يكن يوجد على الأرض عاص، إذ كان المطيع يسعى بقضاء الله وقدره، وكان العاصي كذلك يسعى ببعض قضائه وقدره؛ إذ يزعمون أنَّه خلق قوماً للجنة وخلق قوماً للنار، كذب العادلون(1) بالله وضلوا ضلالاً بعيداً وخسروا خسراً مبيناً.
[العبادة]
قال يحيى بن الحسين، صلوات الله عليه: تفسير العبادة على ثلاثة وجوه(2):
__________
(1) أي المشركون به.
(2) في (ب): أوجه

(1/115)


فوجه منها: قول الله تبارك وتعالى: {يَا بَنِيْ آدَمَ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لُكُمْ عَدُوٌ مُبِيْنٌ}، يقول: لا تطيعوه {وَأَنِ اعْبُدُونِيْ}[يس: 60]، يقول: أطيعوني، وليس على وجه الأرض أحد يصلي للشيطان ولا يصوم له، بل كلهم يجمعون على لعنه(1)؛ غير أنهم يعملون عمله، ويسعون في مرضاته، ويساعدونه على إرادته، فجعل الله عز وجل فعلهم ذلك للشيطان طاعة وعبادة، وذلك أن كل مطاع عنده عز وجل معبود. وكذلك قال رب العالمين في قصة إبراهيم الخليل صلى الله عليه حيث يقول لأبيه: {لا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ}[مريم: 44]، وقال فرعون اللعين: {أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا وَقَوْمُهُمَا لَنَا عَابِدُونَ}[المؤمنون: 47]، يقول: مطيعون. وقال: {وَإِنَّ الشَّيَاطِيْنَ لَيُوحُونَ إِلَىْ أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ}[الأنعام: 121]، فكل من أطاع عدواً من أعداء الله وعاضده أو كاتفه فقد أشرك بعبادته(2) غيره.
__________
(1) في (ب): لعنته.
(2) في (ب): بعبادة ربه غيره.

(1/116)


وقال عز وجل: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُوْنِ اللهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ}[الأنبياء:98]، يعني: العابد والمعبود من الجن والإنس، لا أنَّه يعني أنَّه يعبد المعبودات من الجماد، وذلك أن الجماد هو كما قال إبراهيم صلى الله عليه وسلم لأبيه: {لِمَ تَعْبُدُ مَا لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِيْ عَنْكَ شَيْئاً} [مريم: 42]، فضرر عبادة الصنم لا يعدو صاحبه، وهو مأخوذ بفعله مُعاقَب على عمله، وضرر عبادة شياطين الإنس والجن على عابده وعلى الإسلام والمسلمين، وذلك أن الصنم جماد، والجماد لا يفتق ولا يرتق، ولا يأمر ولا ينهى، وشيطان الإنس يأمر من تبعه وأطاعه بقتل المسلمين، وهتك حرمتهم(1)، وأخذ أموالهم، ويأمرهم بالفسق والفجور، والقول على الله بالزور والبهتان وبطاعة إبليس اللعين.
[الإرادة]
قال يحيى بن الحسين صلوات الله عليه:
الإرادة من الله عز وجل في خلقه على معنيين:
__________
(1) في (ب): حريمهم.

(1/117)


إرادة حتم وجبر وقسر: وهي إرادة الله عز وجل في خلق السماوات والأرض وما بينهما من الخلق، من الملائكة والجن والإنس والطير والدواب وغير ذلك، إرادة حتم وجبر، فجاء خَلْقُه كما أراد، لم يمتنع منه شيء، ولم يغلبه شيء من الأشياء كما قال عز وجل: {مَا تَرَى فِيْ خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ}[الملك: 3]، وقال: {ثُمُّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِيْنِ} [فصلت: 11]، يقول: كوَّنهما فكانتا من غير مخاطبة و لا أمر، وذلك أن الله عز وجل لم يخاطب أحداً من خلقه إلاَّ ذوي العقول من الملائكة والجن والإنس، وسائر خلقه حيوان لا عقول لها، وجماد لا روح فيه، وإنَّما خاطب الله عز وجل أهل العقول، وأمرهم ونهاهم، وأرسل إليهم الرسل، وأنزل عليهم الكتب، وبين لهم الحلال والحرام، فمن أطاع وائتمر بأمره وانتهى عن نهيه استوجب من الله الحفظ والحياطة في دنياه الفانية، والثواب الجزيل في آخرته الباقية، ومن عصاه منهم عذبه في الدنيا والآخرة، والذي لا عقل له من خلقه لا يجب له ثواب ولا عليه عقاب، قال عز وجل: {إِنَّمَا قُوْلُنَا لِشِيْءٍ إِذَا أَرْدْنَاهُ أَنْ نَقُوْلَ لَهُ كُنْ فَيَكُونَ} [النحل: 40]، يقول: إذا كوَّنَّاه كان بلا كلفة ولا اضطراب، ولا تحيل ولا إضمار ولا تفكر، ولا تتقدم إرادته فلعله ولا فعله إرادته، بل إرادته للشيء إيجاده وكونه، وإذا أراده فقد كونه، وإذا كونه فقد أراده، لا وقت(1) بين إرادته للشيء وكونه.
__________
(1) في (ب): لا فرق.

(1/118)


والإرادة الثانية من الله عز وجل: إرادة تخيير وتحذير، معها تمكين وتفويض، أراد من خلقه الإيمان على هذا الوجه؛ لأنَّه لو أراد منهم الإيمان على نحو ما أراد خلقهم؛ ما إذاً قَدَر واحد من خلقه على أن يخرج من الإيمان إلى الكفر، كما لا يقدرون أن يتحولوا من صورهم إلى صور غيرهم من الخلق، ولكن ركب فيهم العقول، وأرسل إليهم الرسول، وهداهم النجدين، ومكنهم من العملين، ثُمَّ قال: {فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ} [الكهف: 29]، وقال: {إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيْلَ إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً} [الإنسان:3]، وقال: {فَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى}[فصلت: 17]، فدل على أنَّه هداهم، واستحبوا هم العمى على الهدى، اختياراً من أنفسهم واستحباباً، ثُمَّ قال: {اعْمَلُوا مَاشِئْتُمْ} [فصلت: 40]، لولا أن لهم مشيئة لم يقل: {اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ}، ثُمَّ قال: {لَوْ شِئْتَ لاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً}[الكهف: 77]، لولا أن موسى صلى الله عليه علم أن للعالم فيما يريد مشيئة ما قال: {لَوْ شِئْتَ}، ثُمَّ قال: {ذَلِكَ بَأَنَّهُمْ اسْتَحَبُّوا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الآخِرَةِ}[الكهف: 77]، قال:استحبواهم لأنفسهم، ثُمَّ قال: {يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ}[الحشر:9]، وقال: {يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} [المائدة: 54]، وقال: {تُرِيْدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا}[الأنفال:67]، {يُرِيْدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللهِ بِأَفْوَاهِهِمْ}[التوبة: 32]، {يُرِيْدُونَ أَنْ يَأْمَنُوكُمْ وَيَأْمَنُوا قَوْمَهُمْ}[النساء:91].

(1/119)


ثُمَّ قال سبحانه: {سَيَحْلِفُونَ بِاللهِ لُوِ اسْتَطَعْنَا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ}[التوبة: 42](1)، فرد عليهم رب العالمين: {يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ وَاللهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ}[التوبة: 42]، فبين عز وجل أنهم قادرون على الخروج مع الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، وفي هذا القرآن من هذا النحو كثير.
ثُمَّ قال الله عز وجل: {إِنَّكَ لا تَهْدِيْ مَنْ أَحْبَبْتَ}، لولا أن محمداً صلى الله عليه وآله وسلم يقدر على أن يحب لم يقل له ربه: {مَنْ أَحْبَبْتَ}، ثُمَّ قال: {وَلَكِنَّ اللهَ يَهْدِيْ مَنْ يَشَاءُ}[القصص:56]، وقال: {وَلَوْ شِئْنَا لآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا}[السجدة: 13]، وقال: {وَلُوْ شَاءَ رَبُّكَ لآمَنَ مَنْ فِيْ الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيْعاً أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِيْنَ}[يونس: 99]، وقال: {وَلَو شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً}[هود: 118]، وقال: {وَلَوْ شَاءَ اللهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى}[الأنعام: 35]، وقال: {فَلُو شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِيْنَ}[الأنعام: 149]، يعني عز وجل في هذه الآيات كلها وما أشبهها أنَّه سبحانه لو شاء أن يجبرهم على الإيمان والهدى مشيئة حتم وجبر ويقسرهم عليه لأمكنه ذلك، وما قدر واحد من خلقه أن يخرج ممَّا حتم الله عليه وجبره وقسره؛ إذ كان محمد يعجز عن قسرهم على الإيمان، فقال له ربه: {فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاغُ} [آل عمران: 02، والرعد: 240، والنحل: 82]، فقد أبلغت وأديت ونصحت، وعرفتهم بما ينفعهم {فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلاَّ يُكُونُوا مُؤْمِنِيْنَ}، فتريد أن تقتل نفسك: {إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيْثِ أَسَفاً}[الكهف: 6]، يقول: حزناً عليهم وشفقة، فذرهم: {وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُ فِيْ ضَيْقٍ ممَّا يَمْكُرُونَ}[النحل: 127]،
__________
(1) والآية في الأصل مذكورة خطأ: (يحلفون..).

(1/120)


فقال: ممَّا يمكرون، ولولا أنهم يقدرون على المكر والخديعة والمعصية ما قال: يمكرون.
ثُمَّ قال في أهل الجنة: {وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ ممَّا عَمِلُوا}[الأنعام: 182]، {وَحُورٌ عِيْنٌ كَأَمْثَالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ، جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}[الواقعة: 22]، ثُمَّ قال: في أهل النار: {الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنْتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرِوْنَ}[الأنعام: 93]، وقال: {جَزَاءً بِمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ}[فصلت: 28]، و{يَصْنَعُونَ} [المائدة: 14، 63، والنحل: 112، والنور: 30، وفاطر: 8]، و {يَمْكُرُونَ} [الأنعام: 123، 124، ويوسف: 102، والنحل:127، والنمل: 70، وفاطر: 10]، و{يَسْتَهْزِئُونَ} [الأنعام 5، 10، وهود: 8، والحجرات: 11، والنحل: 34، والأنبياء:41، والشعراء: 6، والروم: 10، ويس:30، والزمر: 48، وغافر: 83، والزخرف: 7،والجاثية: 33، والأحقاف: 26]، و {يَسْخَرُونَ} [البقرة: 212، والصافات: 12]، و {يَخْدَعُونَ} [البقرة: 9]، و {يَفْسُقُونَ} [البقرة: 59، والأنعام: 49، والأعراف:163،165، والعنكبوت: 34]، و{يَكْذِبُونَ} [المطففين: 11، والإنشقاق:22]، و{يَقْتُلُونَ النَّبِيِّيْنَ بِغِيْرِ حَقٍ} [البقرة:61]، و{يَقْتُلُونَ الَّذِيْنَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيْمٍ} [آل عمران:21]، كل هذا اختيار من أنفسهم.
[الإذن]
قال يحيى بن الحسين صلوات الله عليه:

(1/121)


الإذن في كتاب الله على وجهين: علم، وأمر: قال الله عز وجل: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيْبَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللهِ} [التغابن:22]، يقول: بعلم الله، ويقول: {وَمَاهُمْ بِضَارِّيْنَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللهِ} [البقرة: 102]، يقول: بعلم الله، وقال: {فَقُلْ آذَنْتُكُمْ عَلَى سَوَاءٍ} [الأنبياء: 109]، يقول: أعلمتكم، وقال: {فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ}[البقرة:279]، يقول: اعلموا أنكم إن لم تقلعوا (عن)(1) الربا صرتم حرباً لله ولرسوله.
والإذن الثاني: إذن أمر، قال الله عز وجل: {وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلاَّ بِإِذْنِ اللهِ}[يونس:100]، يقول: بأمر الله، لولا أن الله أمرها بالإيمان لم تؤمن، ولكن جعل في الإنسان العقل ثُمَّ أمره بالإيمان فآمن بإذن الله وأمره.
[الكفر]
قال يحيى بن الحسين صلوات الله عليه:
الكفر في كتاب الله على معنيين.
أحدهما: كفر جحود وإنكار وتعطيل، وذلك قول الله سبحانه يحكي عن قوم من خلقه: {وَقَالُوا مَا هِيَ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلاَّ الدَّهْرُ}[الجاثية:24]، فهؤلاء الدهريون المعطلون(2)، الزنادقة(3)، الملحدون(4).
__________
(1) في الأصل: (من).
(2) الذين ذهبت بهم مبالغتهم في التنزيه لذات الله عن الصفات إلى حد تجريدها ممَّا هو ضروري كي تكون (فاعة) ومؤثرة وموجودة. كذا، ولعلها: فاعلة، وقد خلط بين معاني التعطيل، ومقصود الإمام: نفي الخالق أصلاً.
(3) الزندقة:في الأصل تعني التحرر من الإلتزام بالعقائد الدينية، وشاعت بمعنى إنكار الخالق، ورادفت الإلحاد.
(4) والإلحاد يعني رفض جميع الحجج الَّتي يؤسس عليها المؤمنون أدلتهم على وجود الله، ومعنى الكلمة في الأصل الميل عن القصد والإنحراف عن السبيل.

(1/122)


والكفر الثاني: كفر النعمة، وذلك قوله سبحانه: {وَإِذْ تَأَذَّنَ رُبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لأَزِيْدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِيْ لَشَدِيْدٌ}[إبراهيم:7]، يقول: حكم الله لشاكرالنعمة بالزيادة، ولكافر النعمة بالعذاب الأليم.
ثُمَّ قال: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ}[المائدة:44]، والكافر(1) فهو كل من ارتكب معاصي الله وخالف أمره وضاد حكمه، فهو كافر لنعم الله معاند لله يجب البراء منه(2) والمعاداة له، كما قال الله سبحانه: {لا تَجِدُ قَوماً يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَومِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللهَ وَرَسُولَهُ وَلَو كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيْرَتَهُمْ}[المجادلة:22]، فحرم الله موادة من كان لله عاصياً وله معانداً.
[الشِّرك]
قال يحيى بن الحسين صلوات الله عليه:
الشرك في كتاب الله على وجوه، قال الله عز وجل: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِيْنَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ}[التوبة:5]، فالمشرك من عبد مع الله غيره كائناً ما كان، من الجمادات والحيوان، فالجماد مثل ماكان المشركون يعبدون في الجاهلية من الأصنام، من حجر أو عود أو نجم، ويقولون إذا سئلوا عن عباداتهم(3): {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللهِ زُلْفَى}[الزمر:3]، وقوم منهم على وجه التقليد يقولون: {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ}[الزخرف: 23].
__________
(1) ليست في: (ب).
(2) في (ب): تجب البراءة منه.
(3) في (ب): عبادتهم.

(1/123)


والوجه الثاني: من الشرك: فهو: كما قال الله عز وجل: {ووَيْلٌ لِلْمُشِرِكِيْنَ الَّذِيْنَ لا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ}[فصلت:6،7]، فسماهم مشركين بتركهم أداء زكاتهم. وقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (( ما نع الزكاة وآكل الربا حرْبايَ في الدنيا والآخرة ))، ومن كان حرباً للنبي فهو مشرك، ثُمَّ قال صلى الله عليه وآله وسلم: (( لا يقبل الله صلاة إلاَّ بزكاة، كما لايقبل صدقة من غلول ))(1)، يعني أنَّه إذا غل الإنسان(2) زكاة ماله ثُمَّ تصدق ببعض ماله أو بكله أنَّ تلك الصدقة لا تقبل، وقال: (( لا تقبل صلاة إلاَّ بزكاة ))، وقال: (( الزكاة قنطرة الإسلام )).
والوجه الثالث من الشرك: أنَّه من أطاع عدواً من أعداء الله فهو مشرك بالله، كما قال الله سبحانه: {وَإِنَّ الشَّيَاطِيْنَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ}[الأنعام:121]، فمن أطاع شيطاناً من الشياطين ـ كان المطاع ظالماً أو عالماً متمرداً ـ فقد عبده.
__________
(1) أي: الذي يخون ويأخذ حق الفقراء والمساكين خفية فيخفيه تهرباً من أدائه.
(2) في (ب): إنسان.

(1/124)


والوجه الرابع من الشرك: فقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (( مدمن الخمر كعابد وثن ))، قيل: وما مدمنه يارسول الله؟ قال: (( الذي كل ما وجده شربه، ولو كان في كل عام مرة ))، فجعل شارب الخمر كعابد الحجر، والخمر فهو: ما خامر العقل فأفسده، كان من عنب أو زبيب، أو تمر أو عسل، أو ذرة أو شعير، وكل ما أسكر فهو حرام، يقول(1) النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (( ما أسكر كثيره فقليله حرام ))، وقال الله عز وجل: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيْهِمَا إِثْمٌ كَبِيْرٌ وَمَنَافِعٌ لِلَّنَاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا}[البقرة: 219]، وذلك أنهم كانوا في الجاهلية يتعاملون في الخمر والميسر فيربحون منهما؛ فقال لهم ربهم: {إِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا}، فالخمر هو ماخامر العقل فأفسده، والميسر فهو القمار كله، من نرد، أو شطرنج، أو لهو، ثُمَّ قال عز وجل: { فَإِنَّهُ رِجْسٌ} [المائدة: 90]، والرجس والإثم في كتاب الله محرمان، قال الله عز وجل: {قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوْحِيَ إِليَّ مُحَرَّماً عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاَّ أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أًوْ دَماً مَسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنْزِيْرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَو فِسْقاً} [الأنعام: 145]، فجعلها مثل الدم المسفوح ولحم الخنزير، وقال: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ}[الأعراف: 33]، فذكر أن الإثم(2) محرم، فلما نزلت الآية على النبي صلى الله عليه وآله وسلم في تحريم الخمر كان قوم من أصحابه يشربونه قبل التحريم؛ فقالوا يا رسول الله فكيف (بفلان)(3) وإخواننا الذين كانوا يشربون الخمر حتَّى ماتوا؟ فأنزل الله على رسوله: {لَيْسَ عَلَى الَّذِيْنَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيْمَا طَعِمُوا إِذَا
__________
(1) في (ب) لقول.
(2) الإثم: اسم من أسماء الخمر.
(3) في (ب): بصلاتنا.

(1/125)


مَا اتَّقُوا وَآمَنُوا} [المائدة: 93]، يقول: ليس عليهم جناح فيما شربوا قبل التحريم إذا تركوه من اليوم وأقلعوا منه، فكانت هذه الآية إلى آخرها معذرة للماضين، وحجة على الباقين، وقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (( حقيقُ على الله من ملأ جوفه في هذه الدنيا خمراً أن يملأه الله يوم القيامة جمراً إلاَّ من تاب وآمن ))، وقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (( جمعت الشرور في بيت، ثُمَّ كان مفتاحه الخمر )).
وأما قوله سبحانه: {لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى}[النساء: 43]، يعني سكر النوم، وذلك أن قوماً من أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم كانوا يصلون مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم صلاة المغرب(1) ثُمَّ يجلسون ينتظرون العتمة(2)، فإذا جاءت العتمة قام النبي صلى الله عليه وآله وسلم، يصلي بهم فيقومون وراءه وليس هم يدرون ما يقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم ممَّا بهم من الغلبة والسكر، والنوم(3) فنهاهم الله عن الصلاة وهم في ذلك حتَّى يعلموا ما يقولون؛ لأن الله عز وجل لم يحل لأحد من خلقه خمراً قط.
[الزَّكاة]
قال يحيى بن الحسين صلوات الله عليه:
وأما الزكاة فواجبة على الإنسان في ماله؛ إذا بلغ من الطعام خمسة أوسق في سنته وجب عليه أن يخرج عُشْر ما وقع من الطعام، والوَسَق: ستون صاعاً، والستون صاعاً: عشرون مكوكاً(4)، ثُمَّ ما زاد على ذلك فبحساب ذلك، كانت زيادتها قليلاً أو كثيراً.
__________
(1) في (ب): صلاة العشاء، والصواب ما أثبتناه.
(2) هي: الثلث الأول من الليل، والمراد هنا صلاة العشاء، لوقوعها فيها.
(3) في (ط): خمر النوم.
(4) وبالمكيال المصري المعاصر يساوي الصاع سدس كيلة، ومن ثَّمَّ فالوسق يساوي عشر كيلات، أما المكوك فهو صاع ونصف تقريباً. راجع محمد ضياء الدين الريس(الخراج والنظم المالية للدولة الإسلامية) ص328، 329. ط القاهرة. الطبعة الثانية: سنة 1961م.

(1/126)


وأما الماشية ففي أربعين شاةٍ شاة، وفي ثلاثين من البقر تبيع أو تبيعة(1)، وفي خمس من الإبل شاة، وفي عشر شاتان، وفي خمس عشرة ثلاث شياه، وفي عشرين أربع شياه، وفي خمس وعشرين ابنة مخاض(2)، وفي ست وثلاثين ابنة لبون(3)، فإذا كثرت الإبل ففي كل خمسين حِقًّة(4)، وإذا كثرت الغنم ففي كل مائة شاة شاة، وإذا كثرت البقر ففي كل ثلاثين تبيع أو تبيعة، وفي كل أربعين مسنة(5).
وفي الذهب والفضة كائناً ما كان من نقد أو حلي أو دين أو صداق، فإذا حال على وزن عشرين مثقالاً ذهباً ففيه ربع عُشْره، وما زاد على العشرين فبحساب ذلك.
وفي الفضة إذا بلغت مائتي درهم قفلة(6) وحال عليها الحول وجب فيها ربع عُشْرها.
وأما العطب(7)، والقصب(8)، والثمار مالم يكن يكال فإذا باع صاحبها في سنته بمائتي درهم فقلة أخرج عُشْرها.
__________
(1) التبيع هو العجل المدرك، والمراد هنا ما أوفى سنتين ودخل في الثالثة.
(2) المخاض: الحامل من الإبل، والمراد هنا ما أوفت سنة ودخلت في الثانية.
(3) أي ذات لبن، والمراد هنا ما أوفت سنتين ودخلت الثالثة.
(4) الحقة: الناقة: هي الَّتي جاءت وقت ضرابها، أي دارت السنة وتمت مدة حملها، والمراد هنا الناقة الَّتي أوفت ثلاث سنين ودخلت الرابعة.
(5) أي كبيرة، والمراد هنا ما أوفت ثلاث سنين. راجع باب الزكاة في: (كتاب منهج السالك في مذهب الإمام مالك)، للشيخ محمد الغزالي. ط القاهرة مطبعة الصدق الخيرية، بدون تاريخ، و(كتاب دليل السالك لمذهب الإمام مالك) للشيخ محمد محمد سعد، ط القاهرة: الطبعة الثانية، سنة: 1923.
(6) أي جملة ومرة واحدة. راجع أساس البلاعة للزمخشري.
(7) العطب هو: القطن.
(8) في (ب) والقضب.

(1/127)


والزكاة كلها إلى إمام المسلمين من ولد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الذي يحكم بكتاب الله رب العالمين، ويسير في رعيته بسيرة جده خاتم النبيين، لقول الله عز وجل لرسول الله صلى الله عليه وعلى آله: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرْهُمْ وَتُزَكِّيْهِمْ بِهَا}[التوبة: 103]، ثُمَّ أمر خلقه أن يدفعوا إليه، فقال: {وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ وَلا تُسْرِفُوا}[الأنعام: 141]، ولا تدفع إلى غير المحق، فإذا عدمت الرعية هذا الإمام، ولم يوجد على ظاهر الدنيا في شرقها وغربها وجب عليهم أن يقسموها بين خمسة أصناف من المسلمين: بين الفقراء، والمساكين، وابن السبيل، والغارم، وفي الرقاب، ويتركوا الثلاثة: العاملين عليها، وهم الذين يجمعون(1) الزكاة من الرعية لإمام المسلمين، والمؤلفة قلوبهم، وهم الذين لا يلحقون إمام المسلمين إلاَّ بشيء يعطيهم، ولا غناء للإمام عنهم يتألفهم بهذه الزكاة، وفي سبيل الله، فالسبيل هو: القتل والقتال وصلاح الإسلام والمسلمين.
فأما الفقير: فهو رجل ليس له مال، وله عولة(2)، ومنزل وخادم، فيجب له أن يأخذ من هذه الزكاة ما يقوم به ويعوله.
والمسكين: فهو الذي يدور ويطلب وليس معه شيء.
وابن السبيل: مار الطريق، يحتاج إلى زاد وكسوة أو كراء.
__________
(1) في (ب): يقبضون.
(2) قوت العيال.

(1/128)


وفي الرقاب: رجل يكون له عبد فيكاتبه عبده على أن يدفع إليه شيئاً معروفاً يتراضيان عليه، العبد والمولى، فيجب على صاحب الزكاة أن يعين هذا العبد على فك رقبته، وذلك قول الله تبارك وتعالى: {وَالَّذِيْنَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ ممَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيْهِمْ خَيْراً} [النور: 33]، ثُمَّ قال لأصحاب الزكاة: {وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللهِ الَّذِيْ آتَاكُمْ} [النور: 33]، فأمرهم أن يعينوا المكاتبين من أموال الله الَّتي آتاهم، فلا يجوز لأحد من المسلمين أن يدفع هذه الزكاة إلى هؤلاء المسمين(1) من الفقير والمسكين وابن السبيل والغارم والمكاتب، إلاَّ أن يكونوا عارفين بالله عز وجل وبحدوده، وأعدائه وأوليائه، فيوالون أو لياءه، ويعادون أعداءه، ويُحِلُّون حلاله، ويحرمون حرامه، ولا يتعدون حداً من حدوده؛ وجب لهم حينئذ الزكاة، وإذا لم يكونوا على هذه الصفة لم يجب لهم من الزكاة شيء وإن كانوا معدمين فقراء، لأن الله عز وجل جعل هذه الزكاة لعباده المسلمين وأوليائه الصالحين لأن يبتغوا(2) فيما رزقهم الله، ويستغنوا(3) بفضل الله الذي أفضل عليهم، ويثيب أهل الأموال فيما أخرجوا من زكوات أموالهم؛ لأن يستعين كل بنعمة الله وفضله.
__________
(1) في (ط): المسلمين.
(2) في (ب): يتَّسعوا.
(3) في (ب): ويستعينوا.

(1/129)


فإذا كان الفقير على غيرالإستواء ثُمَّ دفع صاحب الزكاة، إليه شيئاً من المال فقد قواه على فسقه وفجوره وطغيانه، وكان له شريكاً في عصيانه، كدأب الذين يعينون الظالمين، ويقيمون دولتهم بزرعهم وتجارتهم، وينصرونهم على قتل المسلمين وهتك حريمهم وأخذ أموالهم، ولولا التجار والزارعون ما قامت للظالمين دولة، ولا ثبتت لهم راية، ولذلك قال الله تبارك وتعالى: {وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِيْنَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ} [هود: 113]، وقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (( إن الله بعثني بالرحمة واللُّحمة(1)، وجعل رزقي تحت ظلال رمحي، ولم يجعلني حراثاً ولا تاجراً، ألا إن شرار عباد الله الحراثون والتجار إلاَّ من أخذ الحق وأعطى الحق ))؛ لأن الحراثين يحرثون والظالمين يلعبون، ويحصدون وينامون، ويجوعون ويشبعون، ويسعون في صلاحهم وهم يسعون في هلاك الرعية، فهم لهم خدم لا يؤجرون، وأعوان لا يشكرون، فراعنة جبارون، وأهل خنا فاسقون، إن استُرْحِمُوا لم يرحموا، وإن استنصفوا لم ينصفوا، لا يذكرون المعاد، ولا يصلحون البلاد، ولا يرحمون العباد، معتكفون(2) على اللهو والطنابير(3)، وضرب المعازف والمزامير، قد اتخذوا دين الله دغلاً(4)، وعباده خولاً، وماله دولاً، بما يقويهم التجار والحراثون، ثُمَّ هم يقولون: إنهم مستضعفون، كأن لم يسمعوا قول الله تبارك وتعالى فيهم وفيمن اعتل بمثل علتهم؛ إذ يحكي عنهم قولهم: {إِنَّ الَّذِيْنَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالَوا فِيْمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِيْنَ فِيْ الأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللهِ وَاسِعَةً فُتُهَاجِرُوا فِيْهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ
__________
(1) في (ب): والملحمة.
(2) في (ب):معتكفين.
(3) جمع طنبور، آلة موسيقية طويلة العنق ذات أو تار نحاسية.
(4) من معانيه الريبة، والحقد، والغيلة، والخيانة..ألخ..الخ.

(1/130)


مَصِيْراً}[النساء: 97]. وقال سبحانه: {وَمَنْ يُهَاجِرْ فِيْ سَبِيْلِ اللهِ يَجِدْ فِي الأَرْضِ مُرَاغَماً كَثِيْراً وَسَعَةً}[النساء: 100]، يقول: من هاجر من درا الظالمين، ولحق بدار الحق والمحقين، رزقه الله من الرزق الواسع ما يرغم أنف من ألجأه إلى الخروج من وطنه، وذلك مايروى عن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب عليهم السلام، أنَّه كان يقول: (يروى أن الله عز وجل يجعل أعوان الظالمين يوم القيامة في سرادق من نار، ويجعل لهم أظافير(1) من حديد يحكون بها أبدانهم حتَّى تبدو أفئدتهم فتحرق(2)، فيقولون: يا ربنا ألم نكن نعبدك؟ قال: بلى، ولكنكم كنتم أعواناً للظالمين)، وقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (( ملعون ملعون من كثَّر سواد ظالم ))(3).
وفي معادة الظالمين ما يقول الله عز وجل: {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِيْ إِبْرَاهِيْمَ وَالَّذِيْنَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنا بُرَءَاءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللهِ وَحْدَهُ}[الممتحنة: 4]، فباين إبراهيم والذين معه آباءهم وأبناءهم وإخوانهم الذين بادؤوا(4) الله بالعداوة، وكذلك يجب على كل مؤمن أن يقتدي بفعلهم.
[المحْكم والمتشَابه]
قال يحيى بن الحسين صلوات الله عليه:
__________
(1) جمع الجمع لأظفار، الَّتي مفردها ظفر.
(2) في (ب): فتحترق.
(3) من معاني السواد: المال الكثير، والعدد الكثير، والريف والقرى المحيطة بالمدينة.
(4) في (ب): باينوا.

(1/131)


إعلم أن القرآن محكم ومتشابه، وتنزيل وتأويل، وناسخ ومنسوخ، وخاص وعام، وحلال وحرام، وأمثال وعبر وأخبار وقصص، وظاهر وباطن، وكل ما ذكرنا يصدق بعضه بعضاً، فأوله كآخره، وظاهره كباطنه؛ ليس فيه تناقض، وذلك أنَّه كتاب عزيز، جاء من رب عزيز على يدي رسول كريم، وتصديق ذلك في كتاب الله حيث يقول: {وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيْزٌ لا يَأْتِيْهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيْلٌ مِنْ حَكِيْمٍ حَمِيْدٍ} [فصلت: 42]، ويقول: {بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيْدٌ فِيْ لَوْحٍٍ مَحْفُوظٍ}[البروج: 21]، ويقول: {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلُو كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُوا فِيْهِ اخْتِلافاً كَثِيْراً}[النساء: 82].
فإذا فهم الرجل ذلك أخذ حينئذٍ بمحكم القرآن، وأقر بمتشابهه أنَّه من الله، كما قال الله سبحانه: {هُوَ الَّذِيْ أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِيْنَ فِيْ قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ}[آل عمران: 7]، ثُمَّ بين عز وجل لأي معنى تركوا المحكم وأخذوا بالمتشابه؛ قال: لابتغاء الفتنة والهلكة، فلذلك جعل المحكم إماماً للمتشابه، كما جعله حيث يقول: {هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ}.

(1/132)


فالمحكم كما قال الله: {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ}[الإخلاص: 4]، و {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ}[الشورى: 11]، و {وَلا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ}[الأنعام: 103]، ونحو ذلك، والمتشابه مثل قوله: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ}[القيامة: 22]، معناها بَيَّن عند أهل العلم، وذلك أن تفسيره عندهم: أن الوجوه يومئذٍ تكون نضرة مشرقة ناعمة، إلى ثواب ربها منتظرة، كما تقول: لا أنظر إلاَّ إلى الله وإلى محمد، ومحمد غائب، ولا ينظر الله إليهم يوم القيامة، معناه: لا يبشرهم برحمته، ولا ينيلهم ما أنال أهل الجنة من الثواب، فعندما لا ينظر الله إليهم يوم القيامة يراهم(1).
ثُمَّ قال: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ}، يقول: ثواب ربه {فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً}[الكهف: 110] وقال: {كَلا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ}[المطففين:15](2).
وأما الله عز وجل فلا يُرى في الدنيا ولا في الآخرة، وذلك أن ما وقع عليه البصر فليس بخالق ولا قادر.
وكذلك يأخذ الإنسان في العدل والتوحيد بهذه الآيات: {إِنَّ اللهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ}[الأعراف: 28]، {وَلاَ يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ}[الزمر: 7]، وإذا مر عليه شيء من القرآن يقع عنده أنَّه مخالف لهذه الآية فليعلم أن تفسيره مثل تفسير المحكم، إلاَّ أنَّه جهل تفسيره، مثل قول الله عز وجل: {وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِيْ إِسْرَائِيْلَ فِيْ الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِيْ الأرْضِ} [الإسراء: 4]، أي: تختارون اسم الفساد، كما قال: {وَقَضِيْنَا إِلَيْهِ ذَلِكَ الأَمْرَ}[الحجر: 66](3)، يقول: أعلمناه.
__________
(1) يريد أن النظر هنا: ليس هو الرؤية بالعين، ولذلك نفاه عن نفسه سبحانه مع أنَّه يراهم فكذلك ما أثبته في قوله: {إلى ربها ناظرة}.
(2) في الأصل ذكرت الآية خطأ، هكذا: (ثم إنهم).
(3) في (ط): الحجرات، وهو غلط.

(1/133)


والوجه الثاني في القضاء: أمر، كما قال سبحانه: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ}[الإسراء: 23]، يقول: أمر ربك ألا تعبدوا إلاَّ إياه.
والوجه الثالث: قضاء خلق، وذلك قوله: {فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَوَاتٍ فِيْ يَوْمَيْنِ}[فصلت: 12]، يقول: خلقهن في يومين، فأما أن يكون يقضي رب العالمين على خلقه بمعصية ثُمَّ يعذبهم عليها فهذا محال، باطل من المقال. ثُمَّ قال: {قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍ مِنْ ذَلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللهِ مَنْ لَعَنَهُ اللهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيْرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ}[المائدة: 60]، فتفسيرها على التقديم والتأخير.
يقول: {قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍ مِنْ ذَلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللهِ مَنْ لَعَنَهُ اللهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ أُوْلَئِكَ شَرُّ مَكَاناً}، وجعل منهم القردة والخنازير خارج من الكلام(1).
__________
(1) هذه إحدى شبه المجبرة على ضلالتهم يزعمون أن الله سبحانه جعل (عبدة الطاغوت) بمعنى خلقهم وعبادتهم للطاغوت فرد عليهم الإمام شبهتهم الواهية بجعله الآية على التقديم والتأخير، وجملة قوله: {وجعل منهم القردةَ والخنازير} معترضة بين المتعاطفين، وقد ألطف في استخراج المعنى الصَّحيح رحمه الله.

(1/134)


ثُمَّ قال: {أُوْلَئِكَ الَّذِيْنَ لَمْ يُرِدِ اللهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ، لَهُمْ فِيْ الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِيْ الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيْمٌ}، بيانها في أولها حيث يقول: {يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَوَاضِعِهِ(1) يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيْتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا وَمَنْ يُرِدِ اللهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللهِ شَيْئاً أُولَئِكَ الَّذِيْنَ لَمْ يُرِدِ اللهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهَمْ} [المائدة:41]، بعد ما كان من عصيانهم، ومن مخالفتهم للحق وأهله.
__________
(1) في (ط) هكذا: (ويحرفون الكلم عن مواضعه)، وهو غلط.

(1/135)


ثُمَّ قال عز وجل: {وَقَالَ مُوسَى رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَونَ وَمَلأَهُ زِيْنَةً وَأَمْوَالاً فِيْ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيَضِلُّوا عَنْ سَبِيْلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ} [يونس: 88]، يقول: آتيتهم يا رب هذه الأموال (والأولاد)(1) والأبدان والخيل والرجال، يعني أنَّه خلقهم لا أنَّه ملكهم(2) {رَبَّنَا لِيَضِلُّوا}، يقول: لئلا يضلوا عن سبيلك، فضلوا وصرفوا نعمتك الَّتي أمرتهم أن يصرفوها في طاعتك لا في(3) معصيتك، فعندما فعلوا ذلك {رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلا يُؤْمِنُوا}، يقول: إنهم لا يؤمنون اختياراً من أنفسهم المعصية والكفر. ثُمَّ قال: {إِنْ هِي إِلاَّ فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَنْ تَشَاءُ وَتَهْدِيْ مَنْ تَشَاءُ} [الأعراف: 155]، يقول: إن هي إلاَّ محنتك، {تُضِلُّ بِهَا مَنْ تَشَاءُ}، يقول توقع(4) اسم الضلال على من يستحقه بعد هذه الفتنة، قامت: (بها) مقام (بعد)(5). [وقال:] {وَإِنَّ رَبَكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلَّنَاسِ عَلَى ظُلْمِهِمْ} [الرعد:6]، يقول بعد ظلمهم إذا تابوا(6)، وقال: {وَلأُصَلِّبَنَّكُمْ فِيْ جُذُوعِ النَّخْلِ}[طه: 71]، يقول: على جذوع النخل، قامت (في) مقام (على)، [وقال:] {وَنَصَرْنَاهُ مِنَ الْقَوْمِ}، يقول على القوم: {الَّذِيْنَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا}[الأنبياء: 77]، وقال: {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيْهَا وَالْعِيْرَ الَّتي أَقْبَلْنَا فِيْهَا} [يوسف:
__________
(1) ليس في: (ب).
(2) يريد أنَّه خلق لهم هذه الأشياء فملكوها لا أنَّه ملكهم هو إياها في قوله: {آتيت فرعون...}.
(3) كذا في (ب) أيضاً، والصواب: حذف حرف النفي.
(4) في (ط): فوقع، وسقط منها: يقول.
(5) فيكون معناها تضل بعدها من يستحق الضلال بسببها.
(6) فأقام (على) مقام: (بعد)، لأن حروف الصفات تتناوب.

(1/136)


82]، يقول أهل القرية وأهل العير. وقال: {إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ} [آل عمران: 175]، يقول: يخوف الناس بأوليائه. وقال: {يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللهِ}، يقول: يحبون أندادهم كحب المؤمنين لله {وَالَّذِيْنَ آمَنُوا أَشَدُّ حُباً للهِ}[البقرة: 165]، [وقال:] {يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللهِ} [النساء: 77]، يقول: يخشون الناس كخشية المؤمنين لله. وقال: {وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَومَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ}[الحاقة: 17]، والعرش فهو الملك، كما قال: {اللهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيْمِ} [النمل: 26]، قال الشاعر:
تداركتما(1) عَبْساً وقد ثل عرشها…وذبيان إذ زلت بأقدامها النعل
يقول: إنَّه تهدم عزها وملكها، ومعنى: {وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ..}، يقول: يتقلدون أمر الله ونهيه في خلقه، كما قال: {وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالاً مَعَ أَثْقَالِهِمْ}[العنكبوت: 13]، يقول: يتقلدون أمورهم، وقال:
حُمِّلت أمراً جليلاً فاضطلعت به…وقمت فيه بحق الله يا عمرا
يقول: قلدت أمراً جليلاً. {فَوْقَهُمْ}، يقول: منهم، قامت (فوق) مقام (من) {ثَمَانِيَةٌ}، يمكن أن تكون(2) ثمانية أصناف أو ثمانية آلاف، أو ثمانية أنفس، ويقول: {يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ}[القلم: 42]، يقول: عن شدة، كما قال:
قامت بنا الحرب على ساق فشمرنا على
__________
(1) في (ط): تداركتها.
(2) من هنا يبدأ ثانية اعتمادنا على النسخة (أ) مع النسخة (ب)، وينتهي السقط الذي وقع في النسخة (أ) ويستمر ترقيمنا معتمداً على لوحات النسخة: (أ). هذا والنسخة (أ) لدى المحقق، هي التي رمزنا لها: (أ) فهما واحد.

(1/137)


ويقول إبليس اللعين: {رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِيْ} [الحجر: 39]، يقول: دعوتني بهذا الاسم بعد أن استوجبته، و{مَا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كَانَ اللهُ يُرِيْدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ} [هود: 34]، يقول: يعذبكم، الإغواء في هذا الموضع: العذاب كما قال: {فَسَوفَ يَلْقَونَ غَيّاً} [مريم: 59].
[خَطايا الأَنبِياء]
قال يحيى بن الحسين صلوات الله عليه:
اعلم أن الأنبياء صلوات الله عليهم لم يعص أحد منهم متعمداً يعلم أن لله معصية فيتعمدها، وذلك لا يجوز على الأنبياء؛ لأنهم أصفياؤه ورسله؛ اختارهم على علم سبق منه فيهم أنَّه إذا بعثهم إلى خلقة سيبلغون الرسالة، ويؤدون الأمانة، ولا يعصونه في شيء من الأشياء، فعلى ذلك اصطفاهم واختارهم. قال في قصة آدم عليه السلام: {فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً} [طه: 115]، وقال في قصة نوح عندما دعا ربه: {رَبِّ إِنَّ ابْنِيْ مِنْ أَهْلِي}، فقال له ربه: {إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ}، يقول: ليس من أهل طاعتك، {إنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلا تَسْئَلَنَّ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ}، فقال نوح: {رَبِّ إِنِي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِيْ بِهِ عِلْمٌ وَإِلاَّ تَغْفِرْ لِيْ وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخَاسِرِيْنَ} [هود: 45 ـ 47]، فتاب عليه السلام من ذلك.

(1/138)


وكذلك يوسف صلى الله عليه عندما أخذ (يوسف)(1) أخاه في دين الملك، فقال رب العالمين في ذلك: {كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِيْ دِيْنِ الْمَلِكِ} [يوسف: 76]، وقال موسى عندما قتل القبطي: {رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِيْ فَاغْفِرْ لِيْ} [القصص: 16]، و{هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ} [القصص: 15]، وقال: {فَعَلْتُهَا إِذاً وَأَنَا مِنَ الضَّالِيْنَ} [الشعراء: 20]، يقول: من الجاهلين لعاقبة أمري. وداود عليه السلام عندما نظر إلى امرأة (أوريا) فأعجبته، ثُمَّ كان يذكرها في نفسه دائماً ويقول: لو دريت أن هذه المرأة على هذه الصفة لتزوجتها قبل أن يتزوجها (أوريا)، فلما أن بعث الله إليه الملكين اللذين تخاصما إليه وحكم داود بينهما بالحق علم أنَّه مخطئ في ذلك، فتاب إلى ربه فتاب الله عليه. وكذلك سليمان، ويونس، وأيوب وجميع الأنبياء، صلوات الله عليهم، ما كانت خطاياهم وعصيانهم إلاَّ على وجه الزلل والنسيان، فاعلم ذلك، ولا تنسب إليهم ما لا يليق بهم؛ لأنهم بررة أتقياء أصفياء صلوات الله عليهم.
[الكِتَاب]
قال يحيى بن الحسين صلوات الله عليه: تفسير(الكتاب) في القرآن على وجوه شتى:
__________
(1) ليس في: (ب).

(1/139)


فوجه منها: علم، كما قال الله تبارك وتعالى: {وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمْرِهِ إِلاَّ فِيْ كِتَابٍ} [فاطر: 11]، يقول: في علم الله، ويقول: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيْبَةٍ فِيْ الأَرْضِ وَلا فِيْ أَنْفُسِكُمْ إِلاَّ فِيْ كِتَابٍ مِنْ قَبْلُ أَنْ نَبْرَأَهَا}[الحديد: 22]، يقول: في علم الله من قبل أن يخلق الأنفس، ويقول: {كَتَبَ اللهُ}، يقول: علم الله {لأَغْلَبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي} [المجادلة: 21]، وقال: {وَلا حَبَّةٍ فِيْ ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلاَّ فِيْ كِتَابٍ مُبِيْنٍ}[الأنعام: 59]، يقول: في علم مبين، وقال: {وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِيْ الزُّبُرِ}[القمر: 52]، يقول: في علم الله، وقال: {هَذَا كَتَابُنَا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ} [الجاثية: 29]، يعني: علمه عز وجل. وقال: {لَبَرَزَ الَّذِيْنَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ} [آل عمران: 154]، يقول: علم. فالكتاب هاهنا كتاب علم؛ لأن الله (تبارك)(1) وتعالى قد علم أنَّه سيختارون البراز إلى مضاجعهم، فإذا برزوا اختياراً من أنفسهم للبراز قَتلوا أو قُتِلوا، فالبراز فعل من البارز، والقتل فعل من القاتل المعتدي، فعلم الله محيط (بالقاتل والبارز)(2)، وليس العلم الذي جبرهما على البراز والقتل، والبراز والقتل فعل من البارز والقاتل، وعلم الله محيط بهما كما قال عز وجل: {وَاللهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمْثْوَاكُمْ} [محمد: 19]، التقلب من الخلق، وعلم الله محيط بهم، ولا يقدر أحد أن يخرج من علم الله، وليس علم الله الذي يُدخلهم في الطاعة ويخرجهم من المعصية،(ولا علمه الذي يدخلهم في المعصية ويخرجهم من الطاعة)(3)، ولكن (قوماً)(4) اختاروا الطاعة على المعصية فاستوجبوا من
__________
(1) غير موجودةٌ في: (ب).
(2) في (أ):بالبارز والقاتل.
(3) غير موجودة في: (أ).
(4) في (أ) و(ب): قوم. وكذا في (ب).

(1/140)


الله الرضى والرضوان؛ لأنهم سعوا في إرادة الله ومشيئته، واختار قوم المعصية على الطاعة، فاستوجبوا من الله السخط والعقوبة، لأنهم سعوا في سخط الله وكرهوا رضوانه، {ذَلِكَ بَأَنَّهُمْ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ} [محمد: 28]، واتبعوا أهواءهم، وأرضوا الشيطان بفعلهم، فصاروا في حزبه: {أُولَئِكَ حِزْبُ الشِّيْطَانِ أَلا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الْخَاسِرُونَ} [المجادلة: 19]؛ لأن الله لا يُقدِّر أبداً ما يكره، ولا يقدر إلاَّ ما يرضى، وليست مشيئته تقع إلاَّ على رضاه، ولا يكره إلاَّ ما يسخطه، فاعلم ذلك {فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيْدٌ}، كما قال عز وجل: {يَوْمَ يَأْتِ لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلاَّ بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ} [هود: 105]، في ذلك اليوم بعمله القبيح الذي قدمه في دار دنياه، ومنهم سعيد بعمله الصَّالح الذي قدمه في هذه الدنيا، ولذلك قال عز وجل: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيْراً مِنَ الْجِنِّ وَالإِنْسِ} [الأعراف: 179]، يقول: إنَّه يعيدهم ويخلقهم يوم القيامة خلقاً ثانياً (لجهنم)(1)، من خرج من الدنيا عاصياً، وإن كان لفظ (ذرأنا) لفظ ماض فمعناه مستقبل، كما قال: {وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّةِ} [الأعرف: 44]، ونادى أصحاب الأعراف يقول: إنهم سينادون، لا أنَّه عز وجل خلقهم للنار في هذه الدنيا، وهو سبحانه يقول: خلاف ذلك في كتابه، قال: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56]، لم يخلق جميع خلقه إلاَّ لعبادته، ولذلك ركب فيهم العقول وأرسل إليهم الرسول وأنزل عليهم الكتب؛ {لِيَجْزِيَ الَّذِيْنَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِيْنَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى} [النجم: 31]، وقال: {لِلَّذِيْنَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ}[يونس: 26] في الكرامة.
__________
(1) غير موجودة في: (أ).

(1/141)


والوجه الثاني من كتاب الله: قوله سبحانه: {وَكَتَبْنَا عَلِيْهِمْ فِيْهَا}، يقول: فرضنا عليهم: {أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} [المائدة: 45] إلى آخر الآية.
والوجه الثالث، قوله عز وجل: {إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلِيْكَ الْكِتَابَ}[الزمر: 2]، يعني القرآن.
والوجه الرابع: (قوله)(1) {كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ} [الأنعام:12]، يقول: أوجب على نفسه الرحمة، أنهم إذا تابوا رحمهم، وأوجب لهم على نفسه الرحمة، فالكتاب والمكتوب عليه في هذا الموضع واحد، وهو الله رب العالمين، وكذلك قوله: {تَعْلَمُ مَا فِيْ نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ مَا فِيْ نَفْسِكَ} [البقرة: 115]، يقول عيسى عليه السلام: تعلم ما غاب عني من أمري، {وَلا أَعْلَمُ مَا فِيْ نَفْسِكَ}، يقول: لا أعلم ما غاب عني من أمرك، وكذلك قوله: {أَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ}(2)، وقوله: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهُهُ}[القصص:88]، وقوله: {تَجْرِيْ بِأَعْيُنِنَا}[القمر: 14]، و(قوله): {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} [المائدة:64]، {وَالأَرْضُ جَمِيْعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِيْنِهِ} [الزمر: 67]، فكل هذه الآيات وما أشبهها من الآيات فإنما يريد عز وجل ذاته، لا أن ثمَّ نفساً ووجهاً ويداً وعيناً ويميناً سواه، فاعلم ذلك، و(تفكر)(3) في جميعه يَبِنْ لك الصواب، وينفى عنك الشك والإرتياب بحول الله وقوته.
تم الكتاب. والحمد لله وحده وصلواته على رسوله سيدنا محمد وآله وسلامه(4).
__________
(1) غير موجودة في: (أ).
(2) غير موجودة في: (أ).
(3) في (ب): وتفسر، ومعناها بالعامية: تمَهَّل وتأنَّ.
(4) عبارة (أ): تم الكتاب المجموع، والحمد لله وحده أولاً وآخراً، وصلواته على رسوله سيدنا محمد وآله وسلامه، وحسبنا الله ونعم الوكيل، وبتمام ذكره تم الكتاب المجموع لما اتفق فيه من كتب للإمام الهادي إلى الحق يحيى بن الحسين كرم الله وجهه. وحسبنا الله ونعم الوكيل.

(1/142)


كتاب الجملة
m
[مقدمة]
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله جل ثناؤه، وتقدست أسماؤه، وهو الذي لا يمكن الأوهام أن تناله، ولا العقول أن تَخْتَالَه(2)، ولا الألسن أن تمتحنه، ولا الأَسْمَاعَ أن تشتَمِلَه، ولا الأبصارَ أن تتمثله.
إن اللّه تبارك وتعالى اصطفى الإسلام ديناً، فلم يؤامر(3) فيه مَلَكاً مقرباً، ولا نبياً مرسلاً، ولم يجعله بأماني الناس، ولم يتبع الحق أهواءهم، ولكنه اصطفى من الملائكة رسلاً إلى من انتخبه من خلقه، فبعثهم أنبياء يدعون الناس إلى خلع الأنداد، وترك عبادة الأصنام، وأن يُخلَع كل معبود من دون الله، تبارك وتعالى. ثم كلف جميع خلقه ـ الذين حَمَّلهم الدين، وكلفهم إياه، وأقام عليهم حجته ـ أن يعلموا أنَّه أحد، صمد، {لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُؤاً أَحَدٌ} [الإخلاص: 3 ـ 4]، وأنه لم يزل ولا يزول، ولا يتغير من حال إلىحال، ولا تقع عليه الأوهام، ولا تقدره العقول، ولا تحيط به الأقطار، ولا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار وهو اللطيف الخبير، وأنه ليس كمثله شيء وهو السميع البصير.
وأنه العالم الذي لا يجهل، والقادر الذي لا يعجز، والقاهر الذي لا يغلب، والدائم الذي لا يَبِيْد، والحي الذي لا يموت، والحليم الذي لا يعجل.
وأنه الأول الذي لا شيء قبله (ولا قديم غيره)(4)، والآخر الذي لا شيء بعده.
__________
(2) أي لا تلحقه الأوهام ولا تتخيله العقول.
(3) المؤامرة: المشاورة.
(4) سقط من (ج).

(1/143)


وأنه القديم وما سواه مُحْدَث، وأنه الغني وما سواه إليه فقير، وأنه العزيز وما سواه ذليل، وأنه الذي لا إله إلاَّ هو الرحمن الرحيم، وأنه العدل في قضائه، الجواد في عطائه، الناظر لخلقه، الرحيم بعباده، الذي {لاَ يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْراً عَظِيماً}[النساء:40]، وأنه خلق خلقه لعبادته، من غير حاجة منه إليهم، ولا منفعة تصل إليه من عبادتهم، تعالى اللّه عن ذلك علواً كبيراً، ولكنه تفضل عليهم بخلقه إياهم، وأنه طَوَّقهم(1) وقَوَّاهم، ثم أمرهم ونهاهم، فلم يكلف أحداً فوق طاقته، ولم يعذبه على غير معصيته، ولم يمنع أحداً ما ينال به طاعته، وينتهي به عن معصيته، وينجو به من عذابه، ويصير به إلى ثوابه (ولم يفعل بعباده إلا ما فيه رشدهم وصلاح أمرهم، ولم يعب شيئاً من قضائه)(2)، ولم يقض شيئاً عابه، ولم يَلُم أحداً على شيء من تدبيره (وتقديره)(3)، ولم يعذب أحداً على أمر خَلَقَه وأَرادَه، ولم يُرِد ما يسخطه، ولم يغضب مما كَوَّنه، ولم يكره شيئاً أراده، ولم يرض الكفر لعباده، ولم يحب الفساد، ولا الجهر بالسوء من القول، ولم يأمر بما لا يريده، ولم ينه عما يريده.
وأنه أمر بالطاعة، ونهى عن المعصية، وأن كل ما أمر به منسوب إليه، وكل ما نهى عنه فغير مضاف إليه ولا منسوب، وأنه لم يَأْخذ أَحداً على الْغِرَّة(4)، ولم يعذب إلاَّ بعد قيام الحجة، فأثاب على طاعته، وعذب على معصيته، فلن تزر وازرة وزر أخرى في حكمه، وأنه {لَيْسَ لِلإِنْسَانِ إِلاَّ مَا سَعَى وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوفَ يُرَى ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الأَوْفَى} [النجم: 39 ـ 41].
__________
(1) في هامش ط: أي جعل لهم طاقة.
(2) سقط من ط.
(3) في هامش ط: غير موجودة في ب.
(4) أي لم يعذب أحداً على غفلة بدون بيان.

(1/144)


وأن أكرم الخلق عند الله أتقاهم لله، وأشرفهم عندالله أكثرهم طاعة له، وأنه لا ذل ولا صُغْر في الجنة، ولا عزَّ ولا شرف في النار، وأنه صادق الوعد والوعيد في أخباره كلها.
وأنه لا تبديل لكلمات الله، ولا خلف لوعد الله، وأنه لا يبدل القول لديه، وأنه {لاَ يُخْلِفُ الْمِيعَادَ}[ آل عمران: 9]، وأن قوله أصوب الأقاويل، وأن حديثه أصدق الأحاديث.
وأنه أنزل على محمد كتاباً مهيمناً، {بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ}[الشعراء: 195]، وأنه {لاَ يَأْتِيهِ البَاطِلُ مِنْ بَينِ يَدَيهِ وَلاَ مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ}[فصلت: 42]، أحل فيه الحلال، وحرم الحرام، وشرع فيه الشرائع، ثم قال: {لَيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ} [الأنفال: 42].
فدعى محمد الداعي إلى معرفة الله، والإقرار بربوبيته، وإلى خلع كل معبود من دون الله، وإلى معرفة نبوته، والإقرار بذلك ظاهراً وباطناً، حتى يشهدوا بألسنتهم وقلوبهم أن لا إله إلاَّ الله، وأن محمداً عبده ورسوله، وإلى الإقرار بما جاء به من عندالله، والأداء لجميع ما افترض اللّه عليهم(1)، والإيمان بملائكته ورسله وكتبه، والإيمان بالبعث والموت والحساب والجنة والنار، وأن يقيموا الصلوات الخمس في مواقيتها، بحسن طهورها وإسباغ وضوئها، وتكبيرها وخشوعها وقراءتها وركوعها وسجودها، والْغُسْل من الجنابة بماء طاهر وضوء وغسل إذا أمكن الماء، وإلا فالتيمم بالصعيد الطَيّب، وَصِيَام شهر رمضان، باجتناب الرفث(2) والفسوق(3) والعصيان، وَغَضِّ البصر، والحَجِّ إلى بيت اللّه الحرام، من استطاع إليه سبيلاً، والسبيل: الزاد والراحلة للأصحاء البالغين.
__________
(1) في (أ): والضمان لأداء جميع ما فرض اللّه عليهم.
(2) في هامش ط: الرفث: هو قول الفحش، والمراد: الجماع.
(3) في هامش ط: الفسوق: هو الفجور والخروج عن جادة الحق.

(1/145)


والجِهَادِ في سبيل اللّه بنية صادقة، ونصح(1) لله ولدينه وللمؤمنين عامة. والْبُغض في الله، ومُوَالاةِ أولياءِ الله، من دان بدين الله، واعتصم بحبل الله. والْمُعَادَاةِ لأعداء الله، من كفر بالله، وفجر في دين الله. وتَحْرِيِم دماء المؤمنين(2) وأموالهم، وأذاهم، ومؤازرتهم على الإيمان. واسْتِحْلاَلِ دماء الكفار على ما كان يستحله منهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ما خلى من أعطى الجزية من أهل الذمة من المجوس والنصارى والصابئين واليهود.
__________
(1) في ط: ونُصْحاً.
(2) في ب، ط: المسلمين.

(1/146)


واْلأمرِ بالمعروف، والنهي عن المنكر، وإظهار الحق بِقُدْرةٍ، فمن لم يستطع فلا جناح عليه. وأداء الزكاة (على ما شرط رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم ، وتنفيذ الصدقات) (1) ووضعها على ما أمر اللّه في كتابه من قوله: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالعَامِلِينَ عَلَيهَا وَالْمُؤْلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ}[التوبة: 60]، وَوَضْع الفيء والغنيمة على ما أمر اللّه في كتابه من قوله، إذ يقول: {مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ القُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي القُرْبَى}[الحشر: 7]، وإذ يقول: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُوْلِ وَلِذِي القُرْبَى} الآية [الأنفال: 41]، وإلى تحريم ما حرم اللّه في كتابه، من الميتة، والدم، ولحم الخنزير، وما أهل لغير اللّه به، والمنخنقة، إلى قوله: {بِالأَزْلاَمِ}(2). وإلى اجتناب الخمور، وشهادات الزور، وقذف المحصنات، والفرار من الزحف، والبخس في المكيال والميزان، مع ما حرم اللّه من نكاح الأمهات، والبنات، والأخوات، وما ذكر معهن، إلى قوله: {إِلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ}(3)
__________
(1) زيادة من هامش (ج)، وقال صح.
(2) في هامش ط: وهي الاية 3 من سورة المائدة، حيث يقول اللّه سبحانه: {حرمت عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل لغير اللّه به والمنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة وما أكل السبع إلاَّ ما ذكيتم وما ذبح على النصب وأن تستقسموا بالأزلام}، والأزلام: جميع زلم، وهي الأقداح الثلاثة كانوا يجرون القرعة عليها ليقرروا المضي فيما يعزمون عليه أو العدول، وكان يكتب على أحدها: أمرني ربي، وعلى الآخر: نهاني ربي، وكان الثالث غفل من الكتابة، وفي حالة خروج الأخير يجيلون القرعة ثانية، راجع (تفسير البيضاوي) ص 167.
(3) في هامش ط: وهي الآيات 22 و23 من سورة النساء، حيث يقول الله سبحانه: {ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء إلاَّ ما قد سلف إنَّه كان فاحشة ومقتاً وساء سبيلاً حرمت عليكم أمهاتكم وبناتكم وأخواتكم وعماتكم وخالاتكم وبنات الأخ وبنات الأخت وأمهاتكم اللاتي أرضعنكم وأخواتكم من الرضاعة وأمهات نسائكم وربائبكم اللاتي في حجوركم من نسائكم اللاتي دخلتم بهنَّ فإن لم تكونوا دخلتم بهنَّ فلا جناح عليكم وحلائل أبنائكم الذين من أصلابكم وأن تجمعوا بين الأختين إلاَّ ما قد سلف إن الله كان غفوراً رحيماً}.

(1/147)


وأشباه ذلك مما قد ذكر الله من تحريم الزنى، وأكل الربا، وأخذ أموال الناس بالباطل، وأكل أموال اليتامى ظلماً، وإتيان الذُّكران من العالمين، وأخذ الرشا في الحكم، وتعطيل الحدود، والسرقة والخيانة.
فإن كان في الدنيا أحد لم تأته الأخبار، فعلم أنَّه وما أشبهه مخلوق، وأن اللّه خالقه وخالق الخلق، وأنه قديم وما سواه محدث، وأنه لا شبيه له ولا نظير، وأنه عدل لا يجور، وحَكَمٌ لا يظلم، فقد أصاب جملة التوحيد والعدل.
فإن شبهه بعد ذلك بشيء(1)، أو شَكَّ في أنَّه يشبه شيئاً، أو ظن أنَّه يظلم أو يجور، فقد نقض جملته وخرج مما دخل فيه.
وأما من أتته الأنباء والأخبار، وقامت عليه الحجة بالرسل والكتب والأنبياء(2)، فإذا هو عرف الجملة وأقر بها، وعرف الرسول، وشهد الشهادتين: [شهادة] أن لا إله إلاَّ اللّه وحده لا شريك له، وأن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم، (وأقر بجميع ما يأتي به النبي صلى الله عليه وآله، [من عند الله](3)، وأنه الحق) (4)، وضمن أداء جميع ما فرض عليه، فهو ـ بَعْدُ ـ مؤمن مسلم. فإن جحد شيئاً من تلك الأصول المنصوص عليها، أو شك فيها(5)، بعد قيام الحجة عليه فقد نقض جملته، وصار بذلك من الكافرين.
__________
(1) في أ، ب: بيسير.
(2) في ط: والأثبات، وفي هامشه: رسمها في أ، ب هكذا: والانباء.
(3) سقط من: ج.
(4) سقط من (أ).
(5) في ج: فإن جحد ذلك أو شك فيه.

(1/148)


ومن العلم بدين اللّه عندنا معرفة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ومعرفة من هو، ومِمَّن هو، وأنه لا نبي بعده، وأنه لم يكن يعلم الغيب، ولا ينتحله أحد بعده، وأن القرآن كتاب الله، وأنه أخبر فيه أن حجته بالغة، وأنها عند جميع الناس في لغاتهم معروفة، وأن أنبياء اللّه لم تزل تَحْتَج بها، وَتُقِرُّ أنها من خالقها، وأنهم جميعاً جاءوا بالبينات والآيات، وهن الحجج، وأن تلك الحجج ميراث الأنبياء يورثونها أتباعهم. وأن اللّه أبان رسله بالأعلام(1)والدلالة التي لا يقدر الخلق عليها، ولا تكون إلاَّ من فعل الخالق، كإحياء الموتى، وإلقاء العصا فصارت حية تسعى، وكمجيء الشجرة، وكلام الذئب، وأن هذا ما لا يعطاه أحد إلاَّ الأنبياء والرسل، وأن أتباع الرسل إنما يخبرون عن حجج الرسل ويدعون إليها الناس ويحتجون عليهم بها.
وأن مما أحتج اللّه به أن جعل كتابه عربياً مبيناً، بلغة العرب وكلامهم، وجعله مع ذلك لا يشبه الشعر، ولا الرسائل، ولا الخطب، ولا السَّجْع، ولكنه أَبَانَهُ من ذلك كله، فلا يطيق أحد أن يأتي بمثله.
وأن اللّه قد أقام سنة نبيه فيما لم يبينه في الكتاب مفسراً مشروحاً، من عدد الصلوات وأوقاتها وحدودها، وتفسير الحج والعمرة، وأن ذلك لا يكون إلاَّ إلى الكعبة.
__________
(1) في هامش ط: أي المعجزات.

(1/149)


وأنه جعل الزكاة في الأموال، تؤخذ من الأغنياء، وتوضع في الفقراء، وأنه لا يحل أخذ مال أحد من أهل الصلاة إلاَّ بطيب من نفسه، أو بالميراث، أو بقَرض يلزمه، أو بحق يجب عليه، وإن فجروا فقتلوا(1) بالحدود، ما لم يخرجوا من الملة وحكمها، وحرم منهم الدماء وجميع الجراحات(2)، إلاَّ ما أحل اللّه من إقامة الحدود على من أصابها، ممن أقر على نفسه في صحة من عقله، أو قامت عليه بذلك بينة، على ما بينه اللّه في كتابه وسنة رسوله عليه وعلى آله السلام.
وأن القصاص سواء بين أهل الملة جميعاً، فيما بين شريفهم ووضيعهم، وأبرارهم وفجارهم، ما لم يخرجوا من الملة.
وأن اللّه أوجب عليهم الامتناع من الظلم إذا قدروا، ومعونة المظلومين إذا استطاعوا، ولا يتعدوا في ذلك ولا في غيره حد الله.
وأن الصيام في شهر معلوم، شَهْرِ رمضان، سوى ما يجب لله من كفارة اليمين والظهار وقتل الخطأ، وفي التمتع بالعمرة إلى الحج إذا لم يجد الهَدْي، وفيمن أوجب على نفسه نذراً، وفيما أُوْجِبَ على المسافر والحائض من قضاء ما فاتهم من شهر رمضان، وكذلك المريض، ثم يبرأ(3).
وفيما يتقون(4)ويأتون من الطعام، والشراب، والنكاح. ومن الغسل من الجنابة.
وأن من الكتاب ناسخاً ومنسوخاً، نحو أمر القبلتين، وإمساك النساء الفواجر في البيوت حتى يتوفاهن الموت أو يجعل اللّه لهن سبيلاً.
وأن من تعمد أن يخبر بما يعلم أنَّه لم يكن فيقول: إنَّه قد كان، أو بما يعلم أنَّه لا يكون فيقول: إنَّه يكون، أو يقول قد كان؛ فهو كاذب، أو بما لا يعلم أو بما لا يفعل فهو جاهل، وأن اللّه من ذلك بريء.
__________
(1) في ط: وضلوا.
(2) في ج، ب: الحرمات. وفي هامش ج بعد قوله: الحرمات: ولا أذى أحد من أهل الصلاة.
(3) كذا في (أ ، ج).
(4) في ط: ينفقون، وهو خطأ.

(1/150)


وأن شرائع الأنبياء كانت مختلفة، وأنها على اختلافها يجمعها اسم الدين والطاعة والإيمان، والهدى والتقوى والبر والإحسان. وأن بعضهم لم يقصص علينا باسمه، ولم يبين لنا في كتابه، ولا سمى نبياً بعينه، وإن علم ما جهلنا من ذلك كان ديناً وإيماناً فرضه اللّه على تلك الأمم ووضعه عنا.
وأنه لا تجوز لمدع دعواه إلاَّ ببينة، فمن ادعى مما في يد غيره مما لا يدرك علمه إلاَّ بالشهود لم يعط ما ادعاه إلاَّ بشاهدي عدل، أو بإقرارٍ من المدَّعَى عليه للمدَّعِي.
ثم بين سنته في الشهود، فأبطل شهادة كل فاسق منهم أو خصم، وأن بعض الشهود ربما شهدوا بالزور الذي لا يعلمه إلاَّ الله، وأن على الحكام أن يمضوا الشهادة مع جهلهم بما تغيب به الشهود، إلاَّ أن اللّه يعلم(1) أنهم قد شهدوا على باطل.
وأن أفضل الدين كله العلم بالله تبارك وتعالى وبدينه، وأنه لا ينفع قول إلاَّ بعمل، ولا عمل إلاَّ بعلم، في إثبات اسم ولا ثواب. وذلك أن من أقر بالحق ولم يعمل به لم يستحق الأسماء الزكية، ولا ثواب أهلها، ومن ضيع العلم بالله وبدينه لم ينتفع بشيء من علمه، وأن كلهم متعلم، وكلهم محتاج إلى العلم مفضل له ولأهله، وذام للجهل عائب له ولأهله، وأنهم لم يزالوا يتقربون إلى اللّه بالقول السديد والعمل الصالح ويعبدونه بذلك، ويدينون له بذلك(2). وأن اسم دينهم الذي تعبدهم اللّه به، ودانوا به، الذي بُلِّغ: (الإيمان)(3) والإسلام والتقوى والبر ونحو ذلك.
__________
(1) في (أ): إلا أن يعلم.
(2) سقط من (ط).
(3) كذا في ط، وفي هامشه: في أ، ب: بالإيمان. وكذلك في ب، ج.

(1/151)


وأن قد حرم اللّه على المسلمين أن يزكوا أنفسهم، وأن قد أوجب عليهم أن ينسبوا جميع المسلمين إلى الإيمان والإسلام، وأنهم قد كانوا يثبتون لهم اسم الإيمان ثم لا يعلمون بسرائرهم، وأنهم قد كانوا يتولى(1) بعضهم بعضاً على أنهم سمعوا منهم بعض ذلك وإن لم يروا منهم عملاً، وكذلك يفعلون فيمن يرونه يعمل، وإن لم يسمعوا منهم قولاً، فإن الاسم الذي قد ثبت عندهم على الظاهر، وإن لم يعلموا الباطن، وأنه لا يحصي أحد منهم جميع ما فرض الله، وأن اللّه لم يكلفهم إحصاءه ولا إحصاء أهله.
وأن دينهم: أنهم يرجون ثواب الله، ويخافون عقابه، وأنه لا خوف على أولياء اللّه في الآخرة ولا هم يحزنون، وأن أولياء اللّه المؤمنون، وأن اللّه قد استحق ولاية وليه وعداوة عدوه على جميع العالمين، (الذين قامت عليهم بذلك حجة الدين)(2) وأن من لم تنفع ولايته وتضر عداوته (من جميع الخلق)(3) معيب عندهم منقوص. وأن اللّه أحق أن تنفع ولايته وتضر عداوته من جميع الخلق.
وأن الأنبياء لم تزل مستحقة لثواب اللّه منذ بعثها الله، وأنها لم تكفر قط، ولم تفسق، ولم تُقِم على شيء من الذنوب بعلم ولا بعمد، وربما أذنبت على [طريق](4) الظن وطريق النسيان، وأن ذنوبها صغائر مغفورة، وأنها لا تأتي الكبائر، وأن من قذف الأنبياء بالكفر والكبائر فهو أولى بالكفر.
وأن المؤمنين مُقِرُّون جميعاً على أنفسهم بالذنوب، وأنهم ينتفون من الكفر والفسق، ويكرهون أن ينسبوا إليه.
__________
(1) في ب: يتولوا.
(2) في هامش ط: غير موجودة في أ، وكذلك في أ.
(3) في هامش ط: غير موجودة في أ، وكذلك في أ ، ج.
(4) ليس في ج، ب.

(1/152)


وأن اللّه قد ميز بين صغائر الأمور وكبائرها، فلم يجعل السبة والكذبة والنظرة كالقتل والزنى والربا والسرقة واشباههن، ولم يجعل القتل وأشباهه كالكفر بالنبي صلى الله عليه وآله والكتاب وأشباه ذلك(1)، وأنه قد خالف بين أحكامهن، وأسمائهن واسماء أهلهن، وأنهم لا يشهدون على ذنب بعينه أنَّه صغير مغفور، (إلاَّ أن يكون اللّه قد سمى من ذلك شيئاً في الكتاب بعينه، أو سماه الرسول صلى الله عليه وآله) (2)، ما خلا ذنوب الأنبياء عليهم السلام.
وأنهم لا يزالون يُفَسِّقون أهل الكبائر من أصحاب الحدود، ويبغضونهم، ويشتمونهم، ويحبون أهل الخير وإن أذنبوا على الظن والنسيان، مالم يخرجوا إلى الكبائر.
(وأنه لا ينبغي لأحد أن يشهد على ذنب بعينه أنَّه صغير مغفور)(3)، وأنهم لا يزالون(4) يعظمون القتل والزنا والسرقة ونحوهن ممن فعلها، وأن معنى الكبير(5) والقليل والعظيم واحد.
وأن الجنة دار للمتقين، وأن النار دار للفاسقين.
وأنهم لا يزالون يبغضون من اطلعوا على فسقه وإن كان يستغفر الله حتى يظهر التوبة النصوح.
وأنهم يستحبون أن يكتم كل امرئ على نفسه وإن أصاب حداً، وأن التوبة عندهم مقبولة ممن حدَّ، وممن لم يُحَد.
وأن من سمى أهل الحدود كافرين ثم حكم عليهم بحكم الكفار عابوه، ومن سماهم مؤمنين وحكم لهم بحكم المؤمنين عابوه وعَنَّفوه. وأن اسم الملة اسم يجمع جميع المنظَوِين إلى الإسلام وإن كان فيهم فجور.
__________
(1) في ط: فلم يجعل السبة والكذبة وأشباهه كالكفر بالنبي صلى اللّه عليه وآله والكتاب وأشباه ذلك، والنظرة كالقتل والزنا والربا والسرقة وأشباههن.
(2) ليس في (أ).
(3) سقط من ط، ب، أ.
(4) في أ، ج، ب: لم يزالوا.
(5) في ج: الكثير.

(1/153)


وأن اللّه قد بين حكمه في جميع الكافرين من مشركي العرب من أهل اللات والعزى، وأهل الكتاب من اليهود والنصارى، والمجوس، والصابئين، والمنتقلين(1) من جميع أصناف أهل الكفر من دين إلى دين، والمرتدين عن الإسلام بعد إظهار الدين.
وبين حكمه في المؤمنين، والفاسقين، والمنافقين، والمستترين(2)بالكفر.
وأنه لم يكن يقاتل(3) أحداً من المشركين حتى يدعوه، وأنه قد أبان ذلك كله وفصله.
وأنه لا يوجد في زمان النبي عليه السلام كافر ليس بمشرك، وأنهم لا يعتمدون أحداً ممن أقر بالنبي عليه وعلى آله السلام بِكُفْرٍ إلى يوم القيامة، أو يُلْحَق بالمرتدين(4).
وأن النفاق استسرار بالطعن في دين اللّه ودين الرسول، وأن اللّه قد أقام حجته فيما فرض من دينه بتحريم الشك فيه والإنكار له جميعاً.
وأن التَّقية(5) جائزة فيما حُمِل الناس عليه وهم له كارهون، يخافون القتل والمُثْلَة، وذلك فيما لا يرجع ضرره على أحد من العالمين.
وأن رسول اللّه صلى الله عليه وآله قد كان يعذر نفسه وغيره فيما لم يأته به جبريل من الدين، مما لم يعرف إلاَّ بالسمع، مما لم يأت به جبريل عليه السلام حتى يأتيه به. وأنه لم يكن يترك أهل دعوته يظهرون قبيحاً. وأنه لم يكن يكتم شيئاً من الدين الذي أمره اللّه بإظهاره، ولا يعطي فيه تقية، وأنه لم يزل له مظهراً، يأمر أتباعه بإظهاره والدعاء إليه.
__________
(1) في ج، ب: والمتنقلين.
(2) في ج، ب: والمستسِرِّين.
(3) في هامش ط: أي الرسول.
(4) بمعنى إلاَّ أن يلحق بالمرتدين فيرتد.
(5) في هامش ط: هي أن يظهر الإنسان الطاعة حيث تجب عليه الثورة ضد نظام لا ترضاه عقيدته أو موقف يتنافى مع مبدئه، ولقد كان الخوارج، عموماً، ينكرون جوازها، والمؤلف يتخذ هنا موقفاً وسطاً، فيجوزها للمضطرين شريطة أن لا يكون في ذلك ما يتنافى مع الصالح العام ونفع المجموع، أي أن جوازها مشروط بأن يكون الضرر فردياً فقط.

(1/154)


وأن الشيطان يحب دفن الدين، ويدعو إلى إماتته. وأنه لا يجوز تغيير شيء مما أثبت النبي صلى الله عليه وآله وسلم. وأنه لا طاعة لمخلوق في معصية الله، وأن الدنيا فانية، وأن الآخرة باقية أبد الأبد.
(وأن الملائكة والجن والأنس أجناس شتى) (1). وأن الملائكة أفضل برية الله، وانهم مقربون في كل خير، مقربون في كل منزلة، مفضلون في كل ذكر.
وأنه جعل من دينه مُؤَقَّتاً محدوداً: صلاة وصياماً ونحوهما، وجعل منه متمهلاً(2) فيه، لا يدرك حده: بر الوالدين، وصلة الرحم، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ونحو ذلك من الأمور التي تعرف عند المشاهدة. وأن اللّه لا يُلَبس حكمه، ولا يخلف قوله، و[أن الحق الواجب على المسلمين](3) في دينهم التثبت فيما غاب عنهم، حتى يجيئهم اليقين من تواتر الأخبار وتظاهرها.
وأن اللّه لا يظلم عباده شيئاً، ولا يعذب إلاَّ بعد إنذار، ولا يكلف نفساً إلاَّ وسعها، ولا يحملها إلاَّ طاقتها، ولا يفرض طاعته إلاَّ على أهل الصحة والسلامة، والعقل والقوة، وأنه دعا جميع عباده المكلفين إلى دينه، وأنه يحب طاعته، ويبغض معصيته، وأنه جعل بعض الأعمال أفضل من بعض، وبعض الأقاويل أفضل من بعض، وبعض العلم أفضل من بعض. وأن من العلم غامضاً خفياً، ومنه واضحاً جلياً، وأن جهل بعض ذلك واسع، وجهل بعضه ضيق، وأنه لا ينزل أحدٌ(4) من الناس كلهم منزلة النبي في تصديق له، ولا في تكذيب، ولا شك في قوله(5). وأنهم يعملون(6) بالأخبار المجتمع عليها، ويَشُكُّون في القول الشاذ وإن روي عن النبي عليه السلام.
__________
(1) ليس في أ.
(2) المتمهل فيه: الذي ليس له وقت معين محدد.
(3) سقط في ج. وفي أ: وأن من دينهم.
(4) في ط: لاينزل أحداً.
(5) يريد أن أحداً لا يبلغ في تصديق اللّه وعدم تكذيبه والشك في قوله سبحانه مبلغ النبي صلى الله عليه وآله وسلم ولا ينزل منزلته.
(6) كذا في ب، ج، وفي هامش ج: يعلمون. ولعله أصوب.

(1/155)


وأن اللّه افترض اتخاذ الإمام العادل إماماً ليؤتم به، وسمي خليفة ليخلف النبي صلى الله عليه وآله وسلم في أعماله. وأنه من خالف(1) حكمه حكم النبي صلى الله عليه وآله وسلم وفارقه، فليس بإمام ولا خليفة، ولكنه مُتَبَّرٌ ظالم.
وأن الأخذ بجميع ما أجمعوا عليه صواب وبر وهدى، وأن الترك لما أجمعوا عليه ضلال وخطأ.
[خاتمة]
فهذه صفة جملة الدين، وكثير من تفسيرها في التوحيد وغيره، ونرجو أن تكون هذه الجملة تدل على الصواب كله، وتنفي الخطأ كله، وأن نكون قد ذكرنا فيها أموراً قد أقام اللّه بها حجته على جميع العالمين، في جميع ماهم ذاكرون من خطأ أو صواب، وأن يكون قد دخل في هذه الجملة جميع (أصناف)(2) الاختلاف وقول أهل البدع.
فمن زعم أن هذه الجملة على غير ما ذكرنا، فليعرض جميع ما قال الناس عليها، فما وافقها قَبِله، وما خالفها تركه، فإنا نرجو أن لا يخرج من ذلك شيء أبداً إلاَّ أدرك صوابه وخطأه من هذه الجملة، إن شاء اللّه تعالى.
ومن ظن أن شيئاً من هذه الجملة ليس بحق؛ فليعرضه على كتاب الله، وسنة رسوله عليه السلام، وفطرة العقول، فمن عمل بما أمره اللّه به، وانتهى عما نهى اللّه عنه، ودان بذلك؛ فله مالنا وعليه ما علينا، يتولى(3) كل مهتد مضى قبلنا، وسيرتنا في ولينا كسيرة نبينا عليه وعلى آله السلام في ولينا، وسيرتنا في عدونا كسيرة نبينا في عدونا.
(الله ربنا ومحمد نبينا، والقرآن إمامنا، والإسلام ديننا، والكعبة قبلتنا، [والموت غايتنا](4)، والحشر يجمعنا، والموقف موعدنا، وحُكْمُ اللّه يفصل بيننا، والجنة والنار أمامنا).
نسأل اللّه الجنة برحمته، ونعوذ بالله من النار بعفوه.
إلى هذا ندعو من أجابنا ونجيب من دعانا.
(تم الأصل)(5)
والحمدلله وحده وصلواته على رسوله (سيدنا)(6)محمد (النبي وعلى آله وسلم)(7).
__________
(1) في ب: ما خالف. والصواب ما أثبته.
(2) في هامش ط: غير موجودة في أ. وكذلك في ج، ب.
(3) في ج: نتَولَّى.
(4) ليس في ج، وأثبته في الهامش.
هذا ديننا ونحلتنا، والطيبون من آل محمد قادتنا. فمن وافقنا على هذا فهو ولينا، ومن خالفنا فهو عدونا، والله ولي المؤمنين، وعدو الفاسقين.
(5) في أ: تم ذلك.
(6) غير موجودة في
(7) عبارة أ: وعلى أهل بيته الطيبين وسلم.

(1/156)


كتاب أصول الدين
m
قال يحيى بن الحسين صلوات اللّه عليه:
سألت يا بني(4) فهّمك الله ونفعك؛ عما ندين الله به، ولا يسع أحداً من المكلفين جهله، من معرفة الأصول؛ من توحيد الله، وعدله، وإثبات وعده ووعيده، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وإثبات الإمامة في المصطفين من آل نبي الله عليهم السلام.
__________
(4) لعل السائل هو: ولده الإمام المرتضى عليه السلام.

(1/157)


فإنا ندين بأن الله واحد أحد، ليس كمثله شيء، ولا له ند من الأشياء ولا ضد؛ لأن الند لما يناده مُكافٍ، والضد لما يضاده مناف، وليس من الأشياء ما يكافيه، ولا يضاده فينافيه، وأنه ليس بجسم محدود، ولا شبح ماثل(1)، وأنه بكل مكان، على غير اجْتِنَانٍ(2) ولا كينونة. وكذلك قال تبارك وتعالى: {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَمَا كُنْتُمْ}[الحديد: 4]، وقال: {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاَثَةٍ إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ وَلاَ خَمْسَةٍ إِلاَّ هُوَ سَادِسُهُمْ وَلاَ أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلاَ أَكْثَرَ إِلاَّ هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَمَا كَانُوا}[المجادلة: 7]، وقال عزَّ وجل: {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيهِ مِنْ حَبْلِ الوَرِيدِ}[ق: 16]، وقال: {وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الأَرْضِ إِلَهٌ}[الزخرف: 84]، مع آيات كثيرة تدل على أنَّه لا يحتاج إلى المكان، وأنه بكل مكان مدبر، وأنه كان قبل كل مكان، وحين وأوان، وأنه كان ولا سماء ولا أرض، ولا عرش ولا كرسي، ولا كلام، ولا صوت ولا حروف، وأنه كان قبل التوراة والإنجيل والقرآن.
وأن القرآن أنزله على نبيه عليه السلام، وأنشأه وخلقه، ووصَّله وفصَّله، وألَّفه وأحدثه، وأنه يقدر أن يذهب به ويجيء بغيره، وأنه محفوظ، وأن الله حافظه، وأنه يقدر أن يجيء بمثله، كما قال سبحانه: {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا}[البقرة: 106].
وأن الله لا مثل له ولا نظير، وأن الأبصار لا تدركه في الدنيا ولا في الآخرة، وذلك أن كل ماوقع عليه البصر؛ فمحدود ضعيف ذليل، محتاج مَحْويٌّ محاط به، له كل وبعض، ولونٌ وطعم، ورائحة ومَحَسّة، وفوق وتحت، ويمين وشمال، وخلف وأمام.
__________
(1) في (ج): مماثل.
(2) في (ج): احتياز. يعني احتياج إلى حيز ومكان. والاجتنان: الاستتار.

(1/158)


وأن الله لا يوصف بشيء من صفات المخلوقين؛ لأنَّه غني قديم، وهكذا قال لا شريك له: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ}[الشورى: 11]. لأن الله تبارك وتعالى ليس بشخص فتجاهره الأبصار، ولا هو صوت فتعيه الأسماع(1)، ولا رائحة فتشمه المشام، ولا حار ولا بارد فتذوقه اللَّهوات، ولا ليّن ولا خشن فتلمسه الأيدي؛ لأن الله سبحانه خلق الأيدي وما لمست، وخلق الأبصار وما جاهرت، والأسماع وما وعت، والمشام وما شمت، واللهوات وما ذاقت. فهذه الخمس الحواس المُدْرِكات كلها مخلوقات، مجعولات محدثات، لس فيها شيء يشبه الله، ولا الله عزَّ وجل يشبه شيئاً منها، ولذلك(2) قال تبارك وتعالى: {لاَ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ}[الأنعام: 103]، لأن ما وقع عليه البصر فمحدود ضعيف، تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً.
***
وندين بأن الله عزَّ وجل: عدل في قضائه، جواد في عطائه، رحيم بعباده، ناظرٌ لخلقه، لا يكلفهم ما لا يطيقون، ولا يسألهم ما لا يجدون، و {لاَ يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْراً عَظِيماً}[النساء: 40]. وأنه لم يخلق الظلم ولا الجور والكفر في العباد، ولم يرد الظلم والفساد، ولا الجهر بالسوء من القول، وأنه لا يشأ قتل أوليائه(3)، ولا تكذيب رسله، ولا يقضي ولا يُقدر شتم نفسه ولا الفرية عليه، وأن من فعل ذلك؛ أو أراد معه الصاحبة والولد؛ فغير حكيم ولا عليم. وأن الله رحمن رحيم، حكيم عليم، لا يجوز عليه العبث.
__________
(1) في (ج): فتوعيه. وما هنا ـ نخ.
(2) في (أ): وكذلك.
(3) في (أ): أنبيائه.

(1/159)


وكيف يمنع عباده من الإيمان؛ ثم يقول في كتابه: {وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى}[الإسراء: 94 ، الكهف: 55]، {وَمَاذَا عَلَيهِمْ لَو آمَنُوا بِاللَّهِ وَاليَومِ الآخِرِ}[النساء: 39]، {فَمَا لَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ}[الانشقاق: 20]؟! يأمرهم بالهدى ويصرفهم عنه؛ ثم يقول: {أَنَّى يُصْرَفُونَ}[غافر: 69]؟ ويخلق فيهم الكفر؛ ثم يقول: {لَقَدْ جِئْتُمْ شَيئاً إِدّاً. تَكَادُ السَّمَوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدّاً}[مريم:89 ـ 90]؟
بل نقول: سهل ربنا لعباده السبيل، وأقام لهم الدليل، وأرسل إليهم الرسول، وأنزل عليهم(1) القرآن، وجعل فيه الشفاء والبرهان، أحل فيه الحلال، وحرم فيه الحرام، وأقام الحدود والأحكام، ثم مكنهم مماطوَّقهم(2)، ثم دعاهم جميعاً إلى الإيمان به، ثم أمرهم ونهاهم، ثم آمنهم من ظلمه، ورغبهم في جزيل ثوابه، (ولم يرد منهم غير ما به أمرهم)(3)، ولم يزجرهم وينههم عما يريده منهم ويشاه؛ لما في ذلك من خلاف الحكمة والرحمة، كما قال سبحانه: {وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا}[الأعراف: 180]، ويقول: {إِنَّهُ بِهِمْ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ}[التوبة: 117]، وقال: {أَلاَّ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى. وَأَنْ لَيْسَ لِلإِنْسَانِ إِلاَّ مَا سَعَى. وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوفَ يُرَى}[النجم: 38 ـ 40]، وما الله بظلام للعبيد.
***
__________
(1) في (أ): عليه.
(2) في (ب): ما طوقهم. أي كلفهم.
(3) في (أ): ولم يأمرهم بما لم يرد منهم. ولعل الصواب: ولم يرد منهم غير ما به أمرهم، ولم يأمرهم بما لم يرد منهم، ولم يزجرهم. الخ فتأمل.

(1/160)


وندين بأن الله صادق في أخباره كلها، وأنه لا يخلف المعياد، ولا يبدل القول لديه، وأن أهل الكبائر من أهل ملتنا إن لم يتوبوا من ذنوبهم، وخرجوا من الدنيا مصرين عليها، غير نادمين ولا مستغفرين؛ أنهم من أهل النار خالدون مخلدون، لا يخرجون منها، ولا يغيبون عنها، بل يبقون فيها أبداً سرمداً؛ لقوله: {وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ نُدْخِلْهُ نَاراً خَالِداً فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ}[النساء: 14]، ولقوله: {إِنَّ الأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ. وَإِنَّ الفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ. يَصْلَونَهَا يَومَ الدِّينِ. وَمَاهُمْ عَنْهَا بِغَائِبِينَ}[الإنفطار: 13 ـ 16]، ولقوله: {إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الغَافِلاَتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ}[النور: 23]، والملعون في الآخرة لا يدخل الجنة؛ لأن الآخرة دار جزاء، لا دار عمل وبلوى. ولقوله: {وَلاَ تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيماً. وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْوَاناً وَظُلْماً فَسَوفَ نُصْلِيهِ نَاراً وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً} [النساء: 29 ـ 30]. وبمثل آية الفار(1) من الزحف، وبمثل آية القاتل، وبمثل آية أكل أموال اليتامى ظلماً. فبهذه الآيات علمنا أن الله يعذب أهل الكبائر بالنار، ثم يخلدهم فيها أبد الأبد.
***
__________
(1) في (ج): الفرار.

(1/161)


وندين بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأن نصرة المظلوم والأخذ على يد الظالم؛ فرض لازم، وحق واجب؛ لأن في ترك الأمر بالمعروف للحق إماتة، وفي ترك النهي عن المنكر للباطل حياة(1)، ولذلك أوجبه الله على عباده، وفرضه عليهم فرضاً بكل ما أمكنهم، وكذلك(2) قال رب العالمين: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى البِرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ العِقَابِ}[المائدة: 2]، وقال: {فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ}[الحجرات: 9] وقال: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَونَ عَنِ الْمُنْكَرِ}[التوبة: 17] مع آيات كثيرة تدل على ما قلنا، وتصحح ما شرحنا.
***
وندين بأن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب صلوات الله عليه كان خير هذه الأمة بعد نبيها عليه السلام؛ لطاعته لربه، وبذله لمهجته، (واستغراقه لقوته)(3) في طاعة الله، وطاعة رسوله عليه السلام، وقرب قرابته من رسول الرحمن، وعلمه بما أنزل الله من القرآن، وزهده في هذه الدنيا.
ولأقوال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم المشهورة المعلومة فيه، يوم غدير خم (( من كنت مولاه فعلي مولاه، اللهم وال من والاه، وعاد من عاداه، واخذل من خذله، وانصر من نصره )). ولقوله: علي مني بمنزلة هارون من موسى إلاَّ أنَّه لا نبي بعدي ))، و(( أنت قاضي ديني، ومنجز وعدي )).
مع ما قد خصه به الرسول عليه السلام؛ من علم ما يكون في أمته من الأحداث والفتن، وما كان عليٌّ ينادي به من قصة المرادي(4) الذي قتله، وغير ذلك من الفرقة القاسطة، والناكثة، والمارقة.
__________
(1) في (ج): وفي النهي عن المنكر للباطل إماتة.
(2) في (أ، ج): ولذلك.
(3) سقط من (أ).
(4) هو اللعين: عبد الرحمن بن ملجم المرادي.

(1/162)


مع إجماع أمتنا(1) على أن خلال الخير كلها كانت مجتمعة فيه، مفترقة في غيره، وذلك أنهم أجمعوا أنَّه كان أحد السابقين، وأحد العلماء، وأحد الزهاد، وأحد الباذلين لأنفسهم(2)، ولم يجمعوا على أن هذه الخصال اجتمعت في غيره، فتبين فضله عليهم اجمعين. ثم كان ابن عم محمد عليهما السلام، وأبا السبطين الحسن والحسين، وزوج فاطمة صلى الله عليهم أجمعين.
وقد أجمعوا جميعاً أن علياً صلى الله عليه كان يصلح للخلافة موضعاً لها يوم قبض الله نبيه عليه السلام، واختلفوا في غيره، فالحق ما أجمعوا عليه، والباطل ما اختلفوا فيه.
وجميع أهل الصلاة عندنا خمسة أصناف: الشيعة، والمعتزلة، والخوارج، والمرجئة، والعامة(3).
فقالت المعتزلة والخوارج: الإمامة جائزة في الناس كلهم، ما صلحوا بأنفسهم، وكانوا عالمين بكتاب الله ربهم، وسنة نبيهم عليه السلام.
وقالت المرجئة والعامة: الإمامة جائزة في قريش محظورة على غيرهم.
وقالت الشيعة: الإمامة جائزة في آل محمد صلى الله عليه وآله وسلم، (محظورة على غيرهم)(4).
فإذاً ذلك إجماع من الفرق كلها في آل محمد؛ وذلك أن من أجازها (في الفرق كلهم فقد أجازها في قريش، ومن أجازها)(5) في قريش فقد أجازها في آل محمد صلى الله عليه وآله وسلم؛ إذ كانوا خير قريش، وأوسطهم داراً.
فأما المعتزلة والخوارج فشهادتهم ساقطة؛ إذ ادعوها لأنفسهم، وفي السنة أن لا تجاز شهادة الجارِّ إلى نفسه.
__________
(1) في (ب): إجماعنا.
(2) في (أ): لمهجهم.
(3) هذه أصول فرق المسلمين الجامعة؛ وقد تفرع كل واحد منها إلى فروع كثيرة يختص كل فرع منها بمقالة ويتميز بها وهي مذكورة تفصيلاً في كتب الملل والنحل. والمقصود بالعامة: المتسمون أهل السنة. والله أعلم.
(4) سقط من (ب).
(5) سقط من (ب، ج).

(1/163)


فجميع هذه الفرق قد أقرت للشيعة بجواز هذا الأمر(1) في آل محمد، وأنكرت الشيعة ان تكون جائزة في غيرهم، فالحق ما أجمعوا عليه، والباطل ما اختلفوا فيه.
وأجمعت الأمة أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: (( الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة، وأبوهما خير منهما ))، وقال: (( هما إمامان قاما أو قعدا )).
وأجمعوا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (( إني تارك فيكم الثقلين ما إن تمسكتم به لم تضلوا من بعدي(2) أبداً: كتاب الله، وعترتي أهل بيتي، إن اللطيف الخبير نبأني أنهما لن يفترقا حتى يردا على الحوض )). فكما لا يجوز ترك التمسك بالكتاب؛ كذلك لا يجوز ترك التمسك بالعترة؛ لأن الكتاب يدل على العترة، والعترة تدل على الكتاب، ولايقوم واحد منهما إلاَّ بصاحبه. وقال عليه السلام: (( مثل أهل بيتي فيكم كسفينة نوح، من ركبها نجا، ومن تخلف عنها غرق وهوى )). مع ما جاء فيهم وفي أبيهم من تواتر الأخبار وتظاهرها، عليهم صلوات الله ورحمته وبركاته.
__________
(1) في (أ): بجوازها.
(2) في (أ): ما إن تمسكتم بهما من بعدي لم تضلوا.

(1/164)


فهذه الأصول هي التي ندين الله بها، وندعو إليها، فمن دان بها فهو أخونا وولينا، ندعو إليها من أجابنا، ونجيب من دعانا، هذا ديننا ونحلتنا، والطيبون من آل محمد قادتنا، فمن وافقنا فهو ولينا، ومن فارقنا عليه حاججناه بالمحكم من كتاب الله، ورددناه إلى المجمع عليه من سنة رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم؛ فإن قبل ذلك منا، كان له ما لنا؛ وعليه ما علينا؛ نتولى كل مهتد مضى قبلنا، وسيرتنا في ولينا وعدونا سيرة نبينا، الله ربنا، ومحمد نبينا، والقرآن إمامنا، والإسلام ديننا، والموت غايتنا، والحشر يجمعنا(1)، والموقف موعدنا، وحكم الله يفصل بيننا، فمن أقر بما أقررنا به وجبت ولايته، ومحبته ومؤآخاته، ومن أبى إلا المخالفة للحق، والمعاندة للصدق؛ كان الله حسيبه وولي أمره، والحاكم بيننا وبينه، وهو خير الحاكمين.
تمت الأصول(2).
*****
__________
(1) في (ب): مجمعنا.
(2) في (أ): تم كتاب الأصول.

(1/165)


جواب لأهل صنعاء
على كتاب كتبوه إليه عند قدومه البلد(1)
m
الحمد لله الذي ليس كمثله شيء وهو السميع البصير، أما بعد:
فقد جاءني كتابكم تحذرون البدع المضلة، والأهواء المغوية، والآراء المحدثة، والميل إلى الخلاف والفرقة، وتحثون على لزوم الجماعة والأبرار، الذين كانوا أعلام الهدى، ومصابيح الدجا، وذلك عندما بلغكم من اجتماع الناس على عيبي وطعنهم عليّ، وتنقصهم إياي، وشتمهم لي، من غير حدث أحدثت، ولا خلاف أظهرت، ولا رأي قبيح ابتدعت، زعموا أني تركت المنهاج الأكبر، وأني سلكت الطريق الأوعر، وتسألوني ما أنا عليه، وما أنا متمسك به، وإيضاح ذلك من لدن التوحيد إلى آخر فريضة من فرائض الله.
وقد فسرت جميع ذلك في كتابي هذا حسب طاقتي، وبالله حولي وقوتي، وعليه أتوكل في جميع أموري.
[التوحيد]
أما الذي أرجو به الفوز، وهو لي عُدَّة من عذاب الله وحرز وجُنَّةٌ؛ فإقراري لله عزَّ وجل بالربوبية، وشهادتي له بالوحدانية، وإذعاني له بالعبودية، وأنه خالق كل شيء مما يرى ومما لا يرى، في بطن الأرض وما تحت الثرى، وما في السموات العلا، بلا معين أعانه عليه، ولا دليل احتاج إليه، ولا مثال احتذا عليه. تفرد بخلق الأشياء لا من أصول أولية، ولا أوائل كانت قبله بدية، لكن مثلها بحكمته، وابتدعها بقدرته، من غير مثال سبق إليه، ولا لغُوب دخل عليه. لا تدركه الأبصار، وهو يدرك الأبصار، ولا يوصف بتجسيد ولا أقطار، أزلي صمدي، على غير كيفية، ولا وسوسة الصدور، بل ارتفع عن تحديد بصر البصير.
[المعاد]
وأشهد أن الجنة حق، دار بقاء ونعمة، خلقها وكوَّنها من رضوانه، فجعلها للمطيعين ثواباً، وأن النار دار شقاء ونقمة، خلقها من سخطه، فجعلها للعاصين عقاباً، لا يفنى عذابه، ولا يبيد ألمه. ولا يخلف وعده ولا وعيده، ولا يظلم عبيده، وإليه يحشر الخلائق، يوم ينفخ في الصور، عند صيحة النشور، فَنَثُور بعد البِلَى من القبور، ويدعو الكافر المغرور؛ بالويل والثبور، ونعرض على الرحمن صفاً، ويعض الكافر من الندامة كفاً، فيفصل بيننا بعدل لا يجور، {فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ} [الشورى: 7]. فسبحان من ملكه دائم لا يزول.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) في (أ): وفي آخره ذكر الصحابة.

(1/166)


[النبوة]
وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اختاره بعلمه، وبعثه إلى خلقه، وائتمنه على وحيه، فدعا الناس إلى الله بجد واجتهاد، رحيماً بالعباد، ونوراً للبلاد، فافتتح الدعوة بقومه(1) صلى الله عليه، فأبوا له التسليم، وهموا به العظيم، ومنعوه الأسواق، وضيقوا عليه الآفاق(2)، ونصبوا له الحبائل، وطلبوا له الغوائل، وشحذوا له السيوف، ليذيقوه الحتوف، فعصمه الله منهم، ورد كيدهم بينهم في نحورهم، وأيده بنور ساطع، وحجج حق وسيف قاطع، وبراهين صدق في القلوب واقع، فأدخلهم في الملة بين مسلم مستسلم، وبين مستسلم مُتَجَشِّمٍ(3)، يكتمون النفاق؛ مخافة ضرب الأعناق.
فصلى الله على الناصح الشفيق؛ محمد بن عبد الله الطيب الرفيق، الدال على المنهاج الواضح، والطريق اللائح، صلوات الله عليه وعلى أهل بيته الأخيار، وعلى ابن عمه علي بن أبي طالب أسبق السابقين سبقاً، وأولهم إيماناً وسلماً، أنقذنا الله به من شفا الحفرة، ومغاليط الكفرة، وسُحقات(4) الفجرة.
[القرآن الكريم]
ثم إني أشهد أن القرآن وحي الله، وكتابه وتنزيله، أنزله على نبيه؛ عصمة لمن اعتصم به، ونجاة لمن تمسك به، من عمل به نجا، ومن خالفه غوى(5)، وفي النار غداً تردى، مفصل آياته،موصل محكماته، كثيرة عجائبه، سنيّة مذاهبه، نَيِّرٌ برهانه، واضحة حجته(6).
[أركان الإسلام]
__________
(1) في (ب): لقومه.
(2) في (أ): الأرفاق.
(3) أي متكلف للإسلام على كره
(4) في (ج): وسخطات. على الظن.
(5) في (أ): هوى.
(6) في (أ): حججه.

(1/167)


وأشهد أن الصلاة واجبة، وأن الزكاة لازمة، وشهر رمضان فرض صيامه، ولم يوجب علينا النافلة قيامَه، والحج على الناس دين من استطاع إليه سبيلاً، والإستطاعة: الزاد، والراحلة، وأمان الطريق. والجهاد قسر، تقسر النفوس على القيام بالجهاد قسراً، وفي الجهاد فضل الدرجات، والبعد من النقمات. ودفع الصدقات إلى اهلها، مع اجتناب المحرمات، والإغتسال من الجنابات، مع الوضوء بالماء الطاهر، أو التيمم بالصعيد الطيب، والمحافظة لأوقات الصلوات، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكرات(1)، وعمارة المساجد بالذكر والصلوات، لا بالفواحش والزور من الشهادات، كفعل أهل زماننا الفاسقين منهم والفاسقات، والحب في الله والبغض في الله، والموالاة لأولياء الله، والمعاداة لأعداء الله من كانوا، وأين كانوا، وكل من خالف كتاب الله في شيء من العتق والطلاق وغير ذلك؛ فمردود إلى كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وآله، والتسليم لأمر الله، والرضى بما قضى الله.
[ من كبائر الذنوب]
واجتناب الكبائر والآثام، جِلِّها ودِقِّها، وقتل النفس التي حرم الله بغير الحق، والفرار من الزحف، وأكل الربا، واجتناب الزنى، وأكل أموال اليتامى ظلماً، وترك التعرض لأموال المسلمين والمعاهدين، مع ترك الأياس من روح الله، ولا يؤمن مكر الله، وترك شرب المسكر، وتعليم(2) السحر، ولا نصدق بالكهانة والطيرة، مع العلم بأن محض الإيمان ترك النميمة، والغيبة والبهتان، والحسد والبغي، والظلم والجور، والفحش من قول الزور، والخنا والخيانة، ونقض العهد وخفر الأمانة، والعظمة في النفس، والإعجاب والكبر، والجفا بالحق وأهله، والقسوة والغلظة والفظاظة والشحنا، والسمعة والعصبية والعداوة والبغضاء، والمغالبة والمكابرة، واليمين الفاجرة، والكذب والغدر، وسوء الخلق، والأياس من الرزق.
__________
(1) في (ب، ج): المنكر.
(2) في (أ): وتعلم.

(1/168)


وعليكم بالعمل بتقوى الله، والحياء من الله، والتعظيم لأمر الله، وصدق الحديث، والمواساة في المال، لذوي القربى واليتامى والمساكين، وغض البصر، وعفة البطن، وحفظ الفرج، وأكل الحلال، والزهد في الحرام، وترك الدنيا، واستعمال الورع، والتضرع في الدعاء، والصيانة والخشوع، والرحمة والخضوع، والرأفة والرقة والرفق، وحسن الخلق، ومداراة الضعيف والمسلم، وإغاثة الملهوف، والحياء والكرم، والحلم والصبر، وكظم الغيظ، وكف الأذى، والعفو عمن ظلمك، والكف عمن شتمك، والتفضل على من حرمك، وإفشاء السلام، وإطعام الطعام، والصلاة بالليل والناس نيام.
ورأس الأمر وأوله وآخره ووسطه وتمامه؛ النصيحة للولي والعدو، والبر والفاجر، وترك الغش لجميع الخلق.
فهذا ـ وفقكم الله ـ دين المؤمنين وديني، وما عليه اعتقادي، لست بزنديق ولا دهري، ولا ممن يقول بالطبع ولا ثنوي، ولا مجبر قدريّ، ولا حشوي، ولا خارجي، وإلى الله أبرأ من كل رافضي غويٍ، ومن كل حروري ناصبي، ومن كل معتزلي غالٍ، ومن جميع الفرق الشاذة، ونعوذ بالله من كل مقالة غالية، ولا بد من فرقة ناجية (عالية)(1) وهذه الفرق كلها عندي حجتهم داحضة، والحمدلله.
وأنا متمسك بأهل بيت النبوة، ومعدن الرسالة، ومهبط الوحي، ومعدن العلم، وأهل الذكر، الذين بهم وُحد الرحمن، وفي بيتهم نزل القرآن، ولديهم التأويل والبيان، وبمفاتيح منطقهم(2) نطق كل لسان(3). وبذلك حث عليهم رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم بقوله: (( إني تارك فيكم الثقلين، لن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض: كتاب الله، وعترتي أهل بيتي، مثلهم فيكم كسفينة نوح(4) من ركبها نجا، ومن تخلف عنها غرق وهوى )).
__________
(1) سقط في (ج)، وأثبته نخ.
(2) في (ب): نطقهم.
(3) في (أ): إنسان.
(4) في (ب): كمثل سفينة.

(1/169)


فقد أصبحوا عندي بحمد الله مفاتيح الهدى، ومصابيح الدجا، لو طلبنا شرق الأرض وغربها لم نجد في الشرف مثلهم، فأنا أقفو آثارهم، وأتمثل مثالهم، وأقول بقولهم، وأدين بدينهم، وأحتذي بفعلهم.
[من مفردات العقيدة]
العمل من الإيمان، والإيمان من العمل بمنزلة الروح من الجسد، يزيد وينقص، بتمام الإيمان دخل المؤمنون الجنة، وبزيادته تفاضلوا في الدرجات عند الله، وبالنقصان منه دخل المقصرون النار.
وأنا مؤمن بقضاء الله وقدره، ما كرهت نفسي من ذلك وما رضيت. ومقر بأن القرآن كَلام الله، ووحيه وتنزيله، وحجته على خلقه، أحكم تأليفه إحكاماً، وأنشأه بأحسن الإنشاء؛ فجعله برهاناً وتفصيلاً، سماه قرآنا عربياً لقوم يعقلون.
وأدين بأن المقاييس والرأي في الدين دين إبليس اللعين.
وأشهد أن لله المشية في جميع أفعاله، من زيادة ذلك ونقصانه، ومحوه وإثباته.
وأشهد أن الله تبارك وتعالى لم يقطع وحيه، ولم يقبض نبيه صلى الله عليه وعلىآله حتى أكمل دينه، وبيّن له جميع ما يحتاج إليه؛ من الحلال والحرام، والفرائض والأحكام، والمواريث والأقسام، وجميع ما فيه النجاة من النيران والوصول إلى دار السلام.
وكذلك أشهد أنَّه صلى الله عليه وعلى آله وسلم لم يكتم شيئاً من الحق، بل أدى عن الله الصدق، ونهى عن الكذب والفسق، والكفر والظلم، والجور والبغي، وكل مالا يجوز في الدين، هذه شهادتي عليه صلى الله عليه وعلى آله وسلم(1).
[الصحابة وأمهات المؤمنين]
ولا أنتقص أحداً من الصحابة الصادقين، والتابعين بإحسان المؤمنات منهم والمؤمنين، أتولى جميع من هاجر، ومن أوى منهم ونصر، فمن سبَّ مؤمناً عندي استحلالاً فقد كفر، ومن سبّه استحراماً فقد ضل عندي وفسق.
__________
(1) سقط من هنا ورقة من المصورة عندي من (أ).

(1/170)


ولا أسبّ إلاَّ من نقض العهد والعزيمة، وفي كل وقت له هزيمة، من الذين بالنفاق تفرَّدوا، وعلى(1) الرسول صلى الله عليه مرة بعد مرة تمردوا، وعلى أهل بيته اجتروا وطعنوا.
وإني أستغفر الله لأمهات المؤمنين، اللواتي خرجن من الدنيا وهن من الدين على يقين، وأجعل لعنة الله على من تناولهن بما لايستحققن من سائر الناس أجمعين.
ولا أنكر الحوض، ولا الشفاعة. {لَيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ}[الأنفال: 42]. {مَنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ}[فصلت: 46].
فهذا ديني واعتقادي والحمدلله رب العالمين، وصلواته على خير خلقه أجمعين، محمد وعترته الطيبين، وسلم عليهم أجمعين، وحسبنا الله ونعم المعين، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وسلم.
****
__________
(1) في (ب): وعن.

(1/171)


كتاب البالغ المدرك
m
بالله تعالى أستعين وأتوكل.
قال الهادي إلى الحق يحيى بن الحسين صلوات الله عليه: يجب(1) على البالغ المدْرِك في بلاد الكفر وغيرها؛ أن ينظر إلى هذه الأعاجيب المختلفات؛ المدركات بالحواس، من السماء والأرض وما بث فيهما من الحيوان، المجتلبة إلى أنفسها المنافع، ، النافرة عن المضار؛ أنها محدثة؛ لظهور الإحداث فيها، معترفة بالعجز على أنفسها؛ أنها لم تصنع أنفسها، ولم تشاهد صنعتها، وتعجز أن تصنع مثلها، وتعجز أن تصنع ضدها. فلما شهدت العقول على أن هذا هكذا؛ ثبت أن لها مدبراً حكيماً دبرها، ومعتمداً اعتمدها، وقاصداً قصدها، ليس له شبيه، ولا مثيل؛ إذ المثل جائز عليه ما جاز على مثله؛ من الانتقال والزوال، والعجز والزيادة والنقصان. وأنَّ بإحداثه إياها له المنّة عليها، إذ كانت الرغبة(2) منها في البقاء، ونفورها عن الفناء؛ دالةً على المنّة عليها بالبقاء، وأن الممتن عليها ببقائها؛ هو المنعم عليها بإحداثه إياها.
__________
(1) في (ب): قال عليه السلام: يجب. وفي (ج): قال الإمام الهادي إلى الحق يحيى بن الحسين بن القاسم بن إبراهيم عليه وعليهم أفضل الصلاة والتسليم: يجب.
(2) في (ب): الرغبة بالبقاء لها في البقاء.

(1/172)


فإذا علم البالغ(1) أن هذا هكذا، كان عليه أن يشكر المنعم عليه، فإذا علم أن شكر المنعم عليه واجب؛ كان عليه يشكر المنعم(2)، وشكر المنعم عليه هو: الطاعة له، وفي الحكمة التقويم بين المطيع والعاصي، وفي ذلك إيجاب الثواب والعقاب. فلما تصرمت أعمار المطيعين ولم يثابوا، وتَقَضّت آجال العاصين ولم يعاقبوا؛ وجب على قَوَد التوحيد واطراد الحكمة أنَّ داراً بعد(3) هذه الدار؛ يثاب فيها المطيعون، ويعاقب فيها المسيئون. وهذه أمور أوجبتها الفطرة، واستحقت بالإيمان، وقليلٌ مَن تقررت المعرفة في قلبه إلاَّ باستقرار أوليها، وشهادة بعضها على بعض، وتضمين كل شيء منها ما قبله وبعده، واستطراد ذلك كله في العقول.
فلما أن كان ذلك كذلك، كان في ضرورة العقل أن لا سبيل له إلى علم كيفية الطاعة دون الخبر(4) من عند المنعم بكيفيّة الطاعة، إذ لا يمكن الخبر من الله مُلاقاةً لله، فإذا علم أن الخبر لا يمكن من الله مشافهة لله، علم أن خبر الطاعة لا يمكن إلاَّ برسول من عند المنعم، بائن من البشر في أعلامه وأفعاله.
فمن هاهنا لزم البالغ المدرك أن يعلم أن لله رسولاً من قبل(5) أخبار الناقلين، فلما لم يَجُز إلاَّ بعثة الرسل، وكانت الرسل من البشر، وفي مثل تركيب المبعوث إليهم، وعباداً لله مثلهم؛ لم يَجُز تصديقهم على الله إلاَّ بدلالة بينة، وحجة قاطعة؛ يعلم الخلق بعجزهم عنها أن الله تولى ذلك على أيديهم، فجاءت الرسل بالآيات التي ليس في قوى الخلق المجيء بمثلها، فوجب تصديقهم على الله بعد الحجة والبيان.
__________
(1) في (ج): المدرك.
(2) في (أ) العبارة هكذا: كان عليه أن يعلم أن شكر المنعم عليه، فإذا كان عليه أن يعلم أن شكر المنعم عليه كان عليه أن يعلم أن شكر المنعم عليه هو الطاعة.
(3) في (أ): غير.
(4) في (ب): عند الخبر.
(5) في (ج): رسولاً لا مِن قِبَل.

(1/173)


فمن أدرك أزمنتهم، وشاهدهم في عصورهم، وقامت عليه حجتهم، لزمه الإقرار بهم، والتسليم لأمرهم، والقبول لما جاؤا به، وسقط عنه كثير من الكلفة في تمييز الأخبار، وامتحان الناقلين. وبحسب ما قامت عليه الحجة؛ كلفه الله الذب عن دينه، والقيام بحجته.
ومن تراخت به الأيام عن لقائهم، وكان في غير أعصارهم، كانت الحجة عليه ـ في معرفتهم، والقبول لما جاؤا به، والديانة لما دعوا إليه ـ: توالي الأخبار التي في مثلها يمتنع الكذب، ولا يتهيأ بالاتفاق، ويكون سامعها مضطراً في فطرته إلى أن ناقليها لا يمكن مثلهم الكذب، ولا التواطؤ على مقالة(1)، كقوم مختلفي الأجناس، متبايني الديار، متقطعي الأسباب، متفاوتي اللقاء، متراخي الأزمنة، ينقلون خبراً واحداً، متسق النظام، محروساً عن الغلط، محصناً عن الوهم، ولعله يجرح(2) في مال أحدهم وبدنه، لا يعارضهم فيه معارض بتكذيب، قد كاد ـ ولَمَّا ـ أن يكون عياناً(3). وقد يجيء بين ذلك أخبارٌ بعضها مستحيل كونه في العقول، ويبعد أن يجيء بمثلها رسول؛ لما فيها من الكذب والزور(4)، ولن تجيء هذه الأخبار مجيء إجماع أبداً، وإنما سبيلها الشذوذ، والغلط في التأويل، وفي معرفة مخرج الخاص(5) من العام، وفي معرفة المحكم من المتشابه.
__________
(1) في (أ): ولا المقالة.
(2) في (ج): يخرج.
(3) في (ب): قد كاد يكون ولما لم يكن عياناً. وهذا هو الخبر (المتواتر). والمعنى: أن مُخبَره قد قارب أن يكون مشاهداً للقطع به وليس هو بمشاهد.
(4) هذا هو (المردود) وهو الذي يحكم العقل باستحالة صدوره عن الرسول لما فيه من المخالفة لصريح المعقول ونص المنقول، وذكر الإمام عليه السلام أنه لايجيء متواتراً أبداً ولامجمعاً عليه وإنما يكون آحادياً وشاذاْ، وأن المشكلة تكون في تأويله ومعرفة مخرجه ووجهه وطريقة الاستدلال به.
(5) في (ب): معرفة الخاص.

(1/174)


فمن هذه الأخبار(1): ما هو في أصله منسوخ. ومنها: ما هو في مخرجه عام وفي معناه خاص.
ومنها: متشابه يحتاج إلى بيان. ومنها: ما حفظ أوله ونسي آخره. ومنها: ما روي مرسلاً بلا حجة فيه، ولا تبيان لمتدبريه(2). ومنها: ما دُلس على الرواة في كتبهم(3). فيا لله كيف حارت العقول، وقلدت الأتباع، وتقسمت الأهواء، وتفرقت الآراء، ونبذ القرآن، وغيرت السنن، وبدلت الأحكام ، وخولف التوحيد، وعاد الإسلام غريباً، والمؤمن وحيداً خائفاً، والدين خاملاً.
فتسديدك اللهم وعونك، فإنا لم نؤت في تفرقنا من قَبلِك، ولا في اختلافنا من قَدَرك، كذب المدعون ذلك فيك، وهلك المفترون ذلك عليك، ونحن الشهود لك على خلقك، والناصبون لكل من عند عن دينك، واتهم قضاك، وجانب هداك، وأحال ذنبه عليك، ونَسَبَ جوره إليك، أو قاسك بمقدار، أو شبهك بمثال، وقد قطعت العذر بكتابك المنزل، وأكملت دينك على لسان نبيك المرسل، محمد صلى الله عليه وآله وسلم(4).
أما بعد: فإن الدين لما عفت آثاره، وانطمست أعلامه، واضمحلت أنباؤه، وسدت مطالعه، عندما فقد من أنصاره، والقائمين بحفظه وحياطته؛ نطق الكاظمون(5)، وظهر المرصدون، ولله جل ثناؤه إلى كل رصد من الباطل طلائع من الحق، ومع كل داع إلى الضلال بينات من الهدى، وإلى جنب طريق كل حيرة سببٌ واضح من الإرشاد، وفي كل شيء حجة قاطعة.
__________
(1) هذا تقسيم منه عليه السلام لأخبار الآحاد (المقبولة) باعتبار الواقع وبالنظر للمتن مع توضيح بعض أسباب الاختلاف في قبولها أو ردها، وكذلك في مدلولاتها، وهو تقسيم واقعي ذكي.
(2) لعله يريد (المجمل)، أو الذي ليس له شاهد. ولم يرد (المرسل) عند المحدثين. والله أعلم.
(3) لعله يريد (المدسوس)، ولم يرد (المدلس) عند المحدثين. والله أعلم.
(4) في (ب): تم نصف كتاب البالغ المدرك.
(5) في (ب): الجاهلون. والكاظم: الساكت.

(1/175)


فأما رسل الله صلوات الله عليهم فقد قاموا بحجج البلاغ، وأدوا وظائف الحقوق، وبلغوا ما عليهم من فرض النصيحة، وأنفذوا شرائط الله عليهم في خلقه، وأوقفوا العباد على سبيل النجاة(1)، وسلكوا بهم منهاج السلامة، وحذروهم طرق الحيرة، واحتملوا في جنب مرضاته الصبر في البأسآء والضرآء، صلوات الله عليهم ورحمته وبركاته.
وفيما بين أزمنة الرسل فتراتٌ في مثلها يتحير الضلال، ويدفن الحق، ويغمض البرهان، بتظاهر(2) الجبارين على أولياء اللّه وأهل طاعته، وهنالك يندب الشيطان ولاته، ويبث دعاته، وينصب حبائله، ويدخل على الناس الشبهة، ويضطرهم إلى الحيرة.
__________
(1) أوقفه: أطلعه وأعلمه.
(2) في (ب): بتظافر.

(1/176)


وليست فترة من الهدى، ولكنها فترة من الرسل، وفيها كتبه وحججه، وبقايا من أهل العلم يحيون العلم ويحيون به، قد وجهوا لله رغبتهم، وامتحنهم الله بأهل دهرهم، قد تمسكوا بنور كتابه، وعرفوا مواقع حججه، في كل بدعة حدثت، أو شبهة نزلت، فهم من الناس في أذى وجهد، ومن الله سبحانه في كلاءة وحفظ، فهم الأقلون عدداً، والأعظمون عند الله قدراً، ولن تخلوَ أمةٌ من مغتال لها مفرق لجماعتها، وآخر داع إلى هداها وصلاحها؛ ممن نظر فاعتدلت فطرته، وصفت طبيعته، وكان نظره بعين النصيحة لنفسه، قد ملَّك عقلَه الحكم على هواه، وقيد شهواته بإسار الذل تحت سلطان الحكمة، فأسلمه ذلك إلى مباشرة اليقين بربه، فاستلان ما استوعر منه (المترفون ، واستأنس إلى ما استوحش منه)(1) الجاهلون، وصحب الدنيا أيام حياته وقلبه معلق بالمحل الأعلى، لا تعتريه سآمة ولا فتور؛ من طلب ما أمل من عيش مقيم، قد أيقن بالخلف فجاد بالعطية، دلَّهُ الله فاستدل، وخاطبه ففهم عنه أحسن الإرشاد، طيبة نفسه(2) بكل ما بذل في جنب الله؛ لأنَّه هجم على اليقين، وأنس بالتقوى، فضمنت له النجاة، وخرج من غمرات الشكوك إلى روح الإستيقان، فأقام الدنيا مقامها الذي أقامها الله، واستهان بالعاجلة، وآثر العاقبة، ومهّد لطول المنقلب.
__________
(1) سقط من (ج).
(2) في (ب): طيب بذلك نفسه.

(1/177)


ولن يعدم أن يكون في الخلق من قد استبهم عن الفهم(1)، وولج في مضائق الحيرة، أعمى حيران، يدعو إلى العمى، ويقول: اعتزل البدع، وفيها اضطجع، ويقول: اجتنب الشبهات وفيها وقع، متبع لآثار أَوَّلِيه، مقتد بآبائه، أكثر ما عنده تقليد أسلافه، وائتمان أكابره. والإنسان على ما جرت عليه تربيته، والإلف إلى ما سبق إلى اعتقاده، ضنين بفراق عادته، لم يَتَقَسَّم التفتيش قلبه، ولم يُجْرِ في طلب طرق البحث فكره، ولم تميزه المناظرة، ولم يعتوره الإحتجاج، ولم يَتَنَسَّم(2) روائح اليقين، ولا نظر في العلل التي معرفتها نهاية الإستبصار، متوسدٌ غمرة الإختلاف وحيرة الفرقة، غُفْلٌ عن تمييز الأمور، فهو عقيم القلب من لقاح الهدى، ظمآن إلى مرشد يحسن تبصرته، ويريه الحق من وجوهه، وليس على يقينٍ مما اعتقد، والظن مستول على قلبه، والشبهة دواؤه، والحيرة ثمرته، نتاج إرادته الإختلاط، ولكل أمر سبب، والعلل كثيرة، والأسباب متفاوتة، مجتمعة ومفترقة، لا يميزها إلاَّ من وطئ أوائل الأمور التي بها يهجم على معرفتها، ولكل شيء منها حد متى تُعُدِّي سلَّم متعديه إلى الهلكة؛ لأنَّه جاز(3) الحدود المضروبة له.
__________
(1) يعني لحق بطبع البهيمة فلم يفهم.
(2) في (ج): يتنشق.
(3) في النسخ جرع كذا، وما أثبته من هامش (ج).

(1/178)


فواجب على كل بالغ عاقل أن ينظر في نجاته، ولن ينتفع ناظر بنظره إلاَّ بسلامة قلبه من الزيغ، وطهارته من الهوى، وبراءته من إلف العادة التي عليها جرى، والقصد بإرادته ونيته إلى العدل والنصفة، وإعطائه كل أمر من الأمور بقسطه، والحكم عليه بقدره، وأخذ نفسه بالوظائف المؤدية له إلى النجاة، وحراسة قلبه من الأمور المسلمة له إلى الضلال، والحائلة بينه وبين حسن الإصطفاء، وإصابة الصواب(1)، وترك التقليد، ويكون طالباً لقيام الحجة، لازماً لمنازل القرآن، متمسكاً به، مؤثراً له على ما سواه، ملتمساً للهدى فيه، فلن يعدم الهدى من قصد قصده(2)؛ لأن الله جل ذكره ضمن لمن اتبع هداه أن لا يضل في الدنيا ولا يشقى في الآخرة.
فبمثل هذه الشروط يستبان البرهان، ويستشف الغامض من الصواب، وتستبان دقائق العلوم، ويهجم على مباشرة اليقين بربه، فيهتك الشكوك عن قلبه، ويؤيد بنصرته، ويسعد في درجات اليقين بربه، أولئك أهل العقول الراجحة، والفطن الصحيحة، والآراء السليمة، وأولئك بقية الله في خلقه، وخيرته من عباده، وخلصاؤه من بريته، وأوتاد أرضه، ومعادن دينه.
تم والحمد لله وحده، تم كتاب البالغ المدرك وصلواته على محمد النبي وآله وسلم تسليماً.
__________
(1) في (ج): واختيار الصواب
(2) في (ج): قصدُه قصدَه.

(1/179)


كتاب الديانة
m
قال الإمام الهادي إلى الحق يحيى بن الحسين بن رسول الله صلى الله عليه:
إنَّا ندين بأن الله واحد أحد، ليس له شبيه(1) ولا نظير، ولا مثل ولا عديل، ولا كفؤ في وجه من الوجوه، ولا معنى من المعاني.
وأنه ليس بذي صورة، ولا حد ولا غاية ولا نهاية، ولا بذي أجزاء ولا أعضاء، ولا بعضه غير بعض، ولا يقع عليه الطول والعرض، ولا يوصف بالهبوط ولا الصعود، والتحرك والسكون، والزوال، والعجز والهرب والجهل والانتقال(2)، والتغير من حال إلى حال، ولا يحويه مكان، ولا يمر عليه وقت ولا زمان.
وأنه قبل كل مكان، وحين وأوان، (ووقت وزمان)(3)، وأنه خلق المكان من غير حاجة إليه، وإنما خلقه لحاجة الخلق إليه، وأنه في السماء إله، وفي الأرض إله، وفي كل مكان إله، خالق مدبر، تعالى من غير أن يحويه شيء، ولا يحيط به، ومن غير أن يكون حملة العرش يحملونه، تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً، (وأنهم يحملون العرش، وأما الله ـ سبحانه وبحمده ـ فإنه أعز وأجل من أن يحمله أحد من الخلق، والخلق أعجز وأضعف من أن ينالوا ذلك منه أو يقدروا عليه، تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً) (4) ومن غير أن يكون كما يستوي الإنسان على سريره، ولكنه استوى على العرش ، والعرش فهو: الملك، واستواءه مُلكه وقهره، بلا ند يشاوره، ولا ضد ينافره، ولا معين يوازره، وهو كما قال الملك في كتابه، بلا كيف، ولا تمثيل، ولا تحديد.
وأنه شيء لا كالأشياء، ولا شيء يعد له سبحانه وبحمده.
وأنه ليس بجسم ولا جسد، ولا فيه صفة من صفات الأجساد، ونعتها وهيئتها، من تأليفها واتصالها، واجتماعها وافتراقها، وكينونة بعضها على بعض على المجامعة والمفارقة والمباشرة والدخول والخروج، والقرب في المسافة، والبعد في العزلة، والغيبة وطول السفر. وأنه لا يحتجب بشيء من خلقه، ولا يستتر به، ولا يبدو له فيدركه (وأن الفكر لا يبلغه، وأن العقول لا تقدره، والأوهام لا تناله، والضمائر لا تمثله، والأبصار لا تدركه)(5)، وأن العيون لا تراه لا في الدنيا ولا في الآخرة. وأن من زعم أن الأبصار تدركه، وأن العيون تراه مجاهرة؛ فقد قال قولاً عظيماً. وأن من زعم أن العيون(6) تكيفه، أو قال يرى في القيامة بشيء مما عليه العباد، فيرونه بذلك الشيء أو يدركونه، وسمي ذلك الشيء حاش لله فقد قال إفكاً وزوراً؛ لأن كل من وقفت عليه الرؤية فمحدث ، وما مسته الأيدي أو سمعته الأذان أو أدركه الذوق أو الشم فمحدث.
__________
(1) في (أ) و(ج): شبه.
(2) في (أ): والهرم والسقم والإنتقال.
(3) ليس في (أ).
(4) سقط من (أ) و (ج).
(5) صح في (أ) و(ج).
(6) في (أ): العين.

(1/180)


وكذلك كل ما خلقه الله أو يخلقه فلا يُدْرَكُ به إلاَّ ما كان محدثاً، وكذلك كل ما في قدرته أن يخلقه؛ مما ليس في حكمه أن يكوِّنَه؛ فلو خلقه أو صنعه لم يُدْرَكْ به إلاَّ ما كان محدثاً. والله فهو القديم الدائم، فلا عين تراه، ولا يدرك بأداة، إنما يعرف بخلقه، ويستدل عليه بآياته، وتدبيره في سمائه وأرضه، من صغير الخلق وكبيره، وقليله وكثيره. فذلك سبيل العلم به، والوصول إلى معرفته، وتحقيق ربوبيته.
وتصحيح الإيمان به، أنَّه خالق هذا الخلق ومدبره، وصانعه ومقدره، وربه وإلهه ومالكه، لا شريك له ولا نظير، ولا معين ولا وزير، ولا ند ولا ضد، ولا شبه ولا مثل. وأن من شبهه بشيء من خلقه كائناً ذلك الشيء ما كان، أو وصفه بتحديد، أو زعم أن أن بيننا وبينه حجباً ساترة، وأنه لو رفعت تلك الحجب لأدركناه ورأيناه، فقد قال قولاً عظيماً. وأن من وصفه بالكيفية والماهيّة فقد جهل واجترأ، وأن من زعم أنَّه لا يعبد شيئاً؛ فهو كما أخبر عن نفسه لا يعبد شيئاً، ومن قال هو خالق الشيء ولا يقال له شيء؛ فقد حار وجار عن طريق القصد والهدى.

(1/181)


وأن الله علام الغيوب لا تخفى عليه خافية في الأرض ولا في السماء، ولا في الدنيا، وأنه القادر الذي لا يعجزه شيء من الأشياء، لم يزل عالماً قادراً، ولا يزال قادراً عالماً، ليس لقدرته غاية، ولا لعلمه نهاية، وليس علمه وقدرته سواه، هو القادر لا بِقُدْرَةٍ سواه، والعالم لا بعلم سواه، وهو السميع البصير، ليس سمعه غيره، ولا بصره سواه، ولا السمع غير البصر، ولا البصر غير السمع، ولا يوصف بسمع كأسماع المخلوقين، ولا ببصر كأبصارهم، تعالى الله عن ذلك. ولكنه سميع لا تخفى عليه الأصوات، ولا الكلام ولا اللغات، بصير لا تخفى عليه الأشخاص، ولا الصور ولا الهيئات، ولا مكان شيء من الأشياء وموضعه، ولا يغيب عليه شيء من أمره وحاله، لم يزل سميعاً بصيراً، ولا يزال كذلك تبارك وتعالى. وأن له قدرة وعلماً، وسمعاً وبصراً، ليس ذلك على إضافة شيء ثان إليه تبارك وتعالى، ولا كما ظن المشبهون أن له وجهاً وصورة وتخطيطاً، وأنَها نفس في جسد، حاش لله من ذلك، ولكنه على تحقيق إثباته جل جلاله.

(1/182)


وأن من زعم أن علمه محدث، وقدرته محدثة، كان غير عالم ثم علم، وغير قادر ثم قدر؛ فقد قال قولاً عظيماً. ومن قال: إن علمه وقدرته وسمعه وبصره صفات له، وأنه(1) لم يزل بها موصوفاً قبل أن يخلق الخلق، وقبل أن يكون أحد يصفه بها، وقبل أن يصف هو بها نفسه، وتلك الصفات ـ زعم ـ لا هي الله، ولا هي غير الله؛ فقد قال منكراً من القول وزوراً. ومن قال بهذه المقالة، ثم زعم أن هذه الصفات لا هي الله ولا هي غير الله؛ فقد أتى إثماً مبيناً. ومن قال: ليس لله علم ولا قدرة، ولا سمع ولا بصر؛ فقد جهل واجترا، وقال مقالة الزور والفرآء، ومن قال: لا يقال لله علم، ولا يقال ليس له علم، فقد ضيع من الدين واللغة حظاً نافعاً. ومن قال: علم الله هو الله، وقدرة الله هي الله، وسمع الله هو الله، وبصر الله هو الله؛ فقد قال في ذلك بالصواب. ومن قال: علم الله محدث أحدثه الله، وفعل فعله، وهو حركة؛ والحركة زوال من مكان إلى مكان؛ فقد افترى على الله الكذب. ومن قال: لا يعلم الشيء حتى يقدره، فإذا قدره علمه. وكذلك من قال: محال أن يعلم الشيء قبل أن يكون. وكذلك من زعم أنَّه على العرش دون السموات والأرض.
وأنه ليس في السماء ولا في الأرض، ولكن علمه في السموات الأرض، وفي كل مكان علمه، وفي كل شيء علمه، وعلمه معنا حيث ما كنا، وعلمه منا قريب، وهو إلينا أقرب من حبل الوريد. فأما الله فهو منا بعيد، لا أنَّه في موضع محدود، وليس هو في سائر الخلق موجوداً(2)، وكذلك من زعم (أن لله خنصراً أو بنصراً، أنَّه أخرج خنصره للجبل لما تجلى له، ومن زعم) (3) أن له وجهاً حاراً لو كشفه لأحرق ما أدركه بصره.
وأن له كفاً محدودة، وأصابع معدودة، وأنامل باردة، وساقاً وقدماً، ولساناً وفماً. وكذلك من زعم أنَّ له حداً ومقداراً، وصورة من الصور، وهيئة من الهيئات. وكذلك من زعم أن الله تبدو له البدوات.
__________
(1) في (ب): لأنه.
(2) في (ب) و(ج): موجود.
(3) زيادة من (ج).

(1/183)


وأنه يريد أن يفعل الشيء ثم لا يفعله لنيّة تبدو له فيه، وأنه يخبر أنَّه سيفعل كذا وكذا ثم يبدو له فيه فلا يفعل؛ فكل هؤلاء قد قال الكذب، وقال ما لا برهان له به ولا سلطان، فتعالى الله عما يقولون علواً كبيراً.
[تكليف أهل الفترات]
وندين بأن حجة الله قائمة على أهل الفترات البالغين، الأصحاء السالمين؛ بفطر عقولهم، وما يجدونه في أنفسهم، وما يرونه في سموات الله وأرضه، وما يأتي به الليل والنهار، من عجائب تدبيره، وما قد ورد عليهم من أخبار الأنبياء المتقدمين، وأخبار كتبهم وشرائعهم وأحكامهم، ودعوتهم القائمة إلى عبادته وحده، وإثبات ربوبيته وطاعته، وإثبات جنته وناره،ووعده ووعيده، والإيمان بالبعث والنشور، وأن لا يشركوا بعبادته أحداً، ولا يعبدوا شيئاً سواه، وأن لا يطاع المخلوق في معصية الخالق؛ فمن عرف من أهل هذه الفترات حق الله الذي أوجبه عليه، وآمن به وأطاعه، ولم يعبد شيئاً غيره، واجتنب جميع ما حرم الله عليه، وصدق الأنبياء، وآمن بكتاب الله وملائكته ووعده ووعيده، وجنته وناره، وبالبعث بعد الموت، والنشور(1) والحشر إلى يوم القيامة، والحساب، والثواب والعقاب، حتى يموت على ذلك فهو من أهل ثواب الله وجنته، ومن خالف ذلك إلى الجحود والكفر والشرك؛ فعبد شيئاً مع الله، أو شيئاً دون الله، أو جحد القيامة والبعث والنشور، ولم يؤمن بجنة ولا نار، ولا حساب، ولا ثواب ولا عقاب، ولا وعد ولا وعيد، حتى يموت على ذلك؛ فهو من أهل النار خالداً مخلداً فيها أبداً.
وندين بالإيمان باللوح المحفوظ على ما ذكره الله في كتابه، ودان به رسوله صلى الله عليه وعلىآله وسلم.
[حكم الله في المؤمن الذي سبق العلم بانتقاله عن الإيمان]
__________
(1) في (ب): والنشر.

(1/184)


وندين بأن من كان مؤمناً بالله، عاملاً بطاعته، مؤدياً لفرائضه، مجتنباً لمحارمه، وقد علم الله منه أنَّه سيغير ويبدل، وينتقل من الإيمان إلى الكفر، ومن هدى إلى ضلالة؛ أنَّه في حال إيمانه وطاعته؛ ولي الله، مستوجبٌ لثوابه وجنته، وأن الله محبٌ له راض عنه ما دام متمسكاً كذلك، فإذا بدل وغيّر، وانتقل من الإيمان إلى الكفر؛ صار عند الله عدواً لله، ملعوناً مستوجباً لسخطه وناره. ولو أن عبداً كفر بالله، وعمل بمعصيته وترك طاعته، وفي علم الله أنَّه سيتوب ويؤمن، أنَّه في حال كفره ومعصيته عدو لله ملعونٌ، مستوجبٌ لسخط الله وناره، فإذا تاب وآمن صار ولياً لله، مستوجباً لثوابه وجنته؛ لأن الله جل جلاله لا يعادي على العلم، ولا يوالي عليه، ولا يثيب عليه ولا يعاقب عليه(1)، ولا يسخط على من لم يسخطه، ولا يغضب على من لم يغضبه، ولا يرضى على من لم يرضه.
تم كتاب الديانة وصلى الله على سيدنا محمد وآله وسلم.
****
رسائل
خاصة بالتوحيد
__________
(1) يعني أن الله جل وعلا لا يوالي أحداً على ما علم منه من الطاعة ولا يعادي أحداً على ما علم منه من المعصية حتى يفعل ذلك، وعند ذلك يصير مستوجباً.

(1/185)


كتاب المسترشد(1)
m
الحمد لله رب العالمين، وصلواته على سيدنا محمد وآله الطيبين وسلم عليهم أجمعين.
الحمد لله الذي علا بطوله، وجل بحوله، الداني في علوِّه، والنائي(2) في دنوِّه، رب العالمين، وفاطر السموات والأرَضِين، الذي بان(3) عن مشابهة المخلوقين، وتقدَّس عن مناظرة المحْدُودين، المتجلِّي لعباده الموقنين؛ بما أراهم من بدائع فعله في المربوبين، بل بما أراهم في أنفسهم من عظيم تدبيره، وبين لهم فيهم من لطيف صنعه وتقديره، فكلهم يشهد له ضرورةً بالربوبية، وينطق له ويقر بالفعل والأزلية، كما قال ذو الجلال والسلطان؛ فيما نزل على نبيه من النور والفرقان، حين يقول سبحانه وتعالى عن كل شأن شأنه: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ}[الزمر: 38]، وقال سبحانه: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوتِهَا لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ}[العنكبوت: 61]، فسبحان الذي عِلْمه بخفيات ضمائر الصدور، كَعِلْمِه بما بان وظهر من الأمور، الذي لا تخفى عليه الخفيات، ولا تستتر عنه المستورات، ولا تحتجب عنه المحجوبات، ولا تَعْرُوه الغفلة والسنات، ولا تنتظمه بتحديدٍ الصفات، ولا تنقصه الأيام والساعات، بادئ خلق الإنسان من طين، والباعث له يوم الدين، المجازي لعباده على أعمالهم، المحيط بالصغير والكبير من أفعالهم، مقيل العثرات، وغافر السيئات، المعطي على الحسنة حسنات(4)، قابل التوبة من التائبين، الواحد الفرد الكريم، الرءوف بعباده الرحمن الرحيم، العدل في أفعاله الجواد، البريء من جميع أفعال العباد، المتعالي عن اتخاذ الصواحب والأولاد، كذلك اللّه ذو العزة والأياد.
__________
(1) في (ج): الجزء الأول من جزئين من كتاب المسترشد. وفي هامش ط: عبارة. وفي (أ): وكفى وصلى الله على محمد المصطفى وعلى من طاب من عترته وزكى. وفي (ج): وحسبي الله ونعم المولى ونعم النصير ولا حول ولا قوة إلاَّ بالله العلي القدير.
تنبيه: جرينا في ترتيب كتاب المسترشد على النسختين (أ) و(ج)، وفي (ب) اختلاف في الترتيب.
(2) النائي: البعيد، ولا يخفى أن المراد التجوز عن حضوره بعلمه، وبعده بذاته عن المماسة.
(3) بان هنا بمعنى: بَعُد.
(4) في (ج): الحسنات.

(1/186)


وصلى اللّه على محمد خاتم النبيين، ورسول رب العالمين، والحجة على جميع المخلوقين، المصلح لله في بلاده، والداعي إليه جميع عباده، السراج الزاهر المنير، صفوة اللطيف الخبير.
ثم نقول من بعد الحمد لله والصلاة على محمد صلى الله عليه وآله وسلم:
[باب تفسير معنى العزة في حقه تعالى]
إن سأل سائل فقال: ما معنى قول اللّه ذي الجلال: {وَلِلَّهِ العِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ}[المنافقون: 8]، وقوله: {سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ العِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ}[الصافات: 180]، وقوله: {العَزِيزُ الْجَبَّارُ}[الحشر: 23]؟
قلنا له ـ إن شاء اللّه تعالى ـ : إن معنى العزيز هو: الممتنع الذي لا يُرَام(1)، ولا يُنَاصى ولا يُضَام، ولا يَعِزُّ أبداً من أذل، ولا يَذِلُّ أبداً من أعز، الذي(2) لا يعجزه شيء، ولا يقدر عليه شيء، مُدْرِك مَطْلُوبيه، وغالبُ مُغالبيه، ومُذلُّ مُناصبيه(3).
وأما العزة فهي: العزة التي أعز اللّه بها عباده المؤمنين، وأولياءه المتقين.
__________
(1) الرَّوم: الطَّلب، والمناصاة: المنازعة، والمعنى أنَّه سبحانه لعظمته لا يطلب ولا يغلب.
(2) في (أ): فسبحان الذي.
(3) المُناصب: العدو.

(1/187)


فأول إعزازه لهم محبته إياهم، ورضاه عنهم، وغفرانه ذنوبهم، وتأييدهم وتوفيقهم، فإذا فعل ذلك بهم فقد أعزهم وأَيَّدهم، وأعطاهم من العزة ما لم يعط غيرهم، مع ما جعل وأعطى أهل المعرفة به والدين، والإخلاص له والعلم واليقين، من أهل بيت الرسول عليه وعليهم أفضل السلام(1) من الكرامة، والولاية والاستخلاف في الأرض والإمامة، فحكم بالأمر والنهي والطاعة لمن كان كذلك منهم حكماً، وعزم به لهم دون غيرهم عزماً، فجعلهم خلفاء الأرض الهادين، القائمين بقسط رب العالمين، وأمناءه على جميع عباده المؤمنين، يأمن في سلطان من كان على ما ذكرنا منهم المؤمنون، ويخاف في دولتهم وقربهم الفاسقون، خافضين لأجنحتهم، واضعين لجبريتهم، أَوِدَّاؤهم المطيعون لله وإن بعدت أرحامهم، وأعداؤهم المحادُّون له وإن قربت أنسابهم، فهم كما قال اللّه سبحانه فيهم، وفيمن كان من أوَّليهم وآبائهم، حين يقول: {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَءَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَينَكُمُ العَدَاوَةُ وَالبَغَضْاءُ أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ}[الممتحنة: 4] اتبعوا قول اللّه وعملوا به، حين يقول جل جلاله عن أن يحويه قول أو يناله: {لاَ تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَاليَوْمِ الآخِرِ يُوَآدُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَو كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ} إلى قوله: {أَلاَ إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}[المجادلة: 23]. أهل(2) فظاظة على الكافرين وغلظة، ورحمة بالمؤمنين ورأفة ورِقَّة، يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة، ويبتغون الفضل من اللّه
__________
(1) سقط من (أ) من أول الكتاب قدر ورقة وما أثبته من (ب) و(ج).
(2) في (ب) و (ج): فهم أهل.

(1/188)


والنجاة، ويطلبون منه الرضوان والرحمة(1) والحياة، فهم كما قال اللّه سبحانه فيهم وفيمن تقدم من آبائهم، ومن سلك مسلكهم(2) من أوِدَّائهم(3)، بهم ضرب اللّه الأماثيل في التوراة المطهرة والإنجيل، وهم وُعِدُوا في واضح التنزيل الرَّحمةَ والمغفرةَ والجزاءَ العظيم، ألا تسمع كيف يقول في ذلك الرحمن الرحيم: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ} إلى قوله: {مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً}[الفتح: 29]؟ فأي عزة أعز من عزة أولياء الرحمن(4) وحزبه، وأعداء الشيطان وحربه، الذين جعلهم اللّه حُكَّام أرضه، وأطلق أيديهم في إنفاذ حكمه، وأوجب طاعتهم على جميع خلقه، وأمرهم بمجاهدة الكافرين، وضمن لهم النصر على من خالفهم من الفاسقين، أولاد النبي، ونسل الوصي، ومعدن العلم والرحمة، والبر والفضل والحكمة، مختلف الملائكة المقربين، ومهبط وحي رب العالمين، الذين من الرجس طهروا(5)، وبولادة الرسول كرموا(6)، وبذلك في التنزيل ذكروا، وذلك قول الرحمن الرحيم، فيما أنزل من النور الكريم: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ البَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً}[الأحزاب: 33]، وَلَكَثيرٌ ما جاء من تفضيل اللّه عزَّ وجل لآل الرسول، فيما نزل من واضح التنزيل والقول، مما يطول ـ لو شرحناه ـ به الكتاب، ويعظم ويجل به القول والخطاب، والحمد لله على ما خصنا به من الفضل المبين، وجنبنا سبحانه عن الحظ الغبين(7).
باب جامع لمعاني الإرادة من اللّه وتفسيرها
والرد على من قال من الخلق بأزليتها
[إرادة الله في أفعاله]
__________
(1) سقط من (ب): والرحمة.
(2) في (ب): سبيلهم.
(3) في (ج): من أولادهم..
(4) في (ب): فأي عزة أعز عزاً من أولياء الرحمن.
(5) في (ب): طهرهم.
(6) في (ب): كرمهم.
(7) الغبين والمغبون: الضعيف.

(1/189)


إن سأل سائل فقال: أخبرونا عن إرادة اللّه ذي الجلال، أتقولون: إنها قديمة أوَّليَّة، كالعلم والقدرة أزلية.
قيل له: إن العلم والقدرة خلاف ما سألت عنه من الإرادة؛ لأن العلم والقدرة من صفات الذات، والإرادة حادثة بإحداث المحدثات، والإرادة فمخلوقة محدثة كسائر المحدثين، والعلم والقدرة فأزليان غير مخلوقين.
والدليل على ما قلنا به وفيه من ذلك، والشاهد لنا على أنَّه في اللّه سبحانه كذلك، أن العلم والقدرة لو كانا شيئين محدثين، لكان يلحق بالله عزَّ وجل العجز والجهل في الحالين؛ لأنَّه إن جاز أن يكون فَيْنَةً(1) غير عالم؛ فقد كان بلا شك جاهلاً، وإن جاز أن يكون فينة من الدهر غير قادر فقد كان بلا مرية في العجز داخلاً، والله يتعالى عن ذلك، فقد ثبت بحمد اللّه أنَّه لم يزل قادراً عالماً، ومن الآفات والصفات الزائلات الناقصات سالماً؛ وإذ قد صح أنَّه لم يزل عالماً قادراً في كُلَّ الحالات والأوقات؛ فقد صح أن العلم والقدرة من صفات الذات.
وأما الإرادة منه جل جلاله عن أن يحويه قول أو يناله فمُحْدَثة مُكَوَّنة موجودة، وعن صفات ذاته زائغة بائنة، تحدث بإحداث فعله؛ إذ ليس هي غير خلقه وصنعه؛ لأن إرادته للشيء خلقُهُ له، وخلقُه له فهو إيجاده إياه، وإيجاده إياه فهو إرادته له، فإذا خلق فقد أراد وشاء، وإذا أراد فقد خلق وبرأ، لا فرق بين إرادته في خلق الأجسام ومراده؛ لأن إرادته لإيجاد الأجسام؛ هو خلقه لما فطر من الصور التَّوَامِّ، لا تتقدم له إرادة فعلاً، ولا يتقدم له أبداً فعل إرادة، ولا تفترق إرادته وصنعه، بل صنعه مراده، ومراده إيجاده.
__________
(1) الفَيْنةُ: الساعة والحين.

(1/190)


وإنما تتقدم الإرادة فعل المفعول؛ إذا كان الفعل مخالفاً للمفعول المجعول، وكان الفعل متوسطاً بين الفاعل ومفعوله، فحينئذ تتقدم إرادة المريد أفاعيله ومعموله، وذلك فلا يكون إلا في المخلوقين، ولن يوجد ذلك أبداً في رب العالمين؛ لأن كل مفعول للمربوبين فإنَّما قام وتجَسَّم، واستوى من بعد العدم وتُمِّم(1)؛ بالفعل المتقدم له من الحركات؛ له بالرفع والوضع في الحالات. من ذلك ما يُعْلَم ويُرَى، من عمل الصانع البنَّاء، وإحكامه لما يُحْكِم من البناء، فالفاعل البناء قبل الفعل، والفعل قبل المفعول؛ لأن فعل البَنَّاء هو الحركات والتَّحيُّل(2) بالرفع والتسوية والتقدير، والوضع لحجر فوق حجر، ومَدَرٍ بعد(3) مدر، حتى يتم له بفعله مفعوله، ويلتئم له ببعض حركاته معموله، ولو لا ما كان منه من فعله، لما تّمَّ له ما تم من مفعوله، فبفعل الفاعل كان المفعول، وبتحيُّله قام وتم له المجعول، فالفاعل من الآدميين جسم وأدوات، وفعلُه فَعَرضٌ بيِّنٌ بالحركات، ومفعوله فبعد عَرَضِ الفعل يوجد في الحالات، فكل جدارٍ وجد أو دارٍ، أو ثوب(4) مخيط بخيوط، أو رسم بكتاب مكتوب، أو غير ذلك من الأمور والأسباب، التي هي من أفعال العباد؛ فلم تكن إلاَّ من بعد الحركات، اللواتي هن أعراض غير متلاحقات(5)، ولذلك جاز فيها تقدم الإرادات والنيات.
__________
(1) في (ج): وتم.
(2) بالحاء المهملة: يعني المعالجة.
(3) في (ب): فوق.
(4) في (ج): أو عقدة معقودة أو ثوب.
(5) لأن العرض لا يبقى زمنين كما هو معروف عند المتكلمين.

(1/191)


وكلما أوجده الرحمن؛ فهو فعل لذي الجلال والسلطان، ولا يقال: إنَّه له مفعول، إلاَّ على مجاز الكلام المعقول، لما بينا، وشرحنا في أول الكلام وقلنا؛ من أنَّ المفعول لا يكون إلاَّ وقد تقدم قبله الفعل من الفاعل، ولا يكون فعل بين مفعول وفاعل إلاَّ وهو حركات، بأدوات وتحَيُّل وتفكر وآلات(1). فتعالى عن ذلك ذو المن والجلال والسلطان، وتقدس عن الحركات والتحيل الواحد المنان، الذي كلُّ خلقه له فعل، الذي إذا أراد شيئاً أن يكون كان، بلا كلفة ولا عون أعوان، أمرُه نافذٌ كائن، ومرادُه لمراد غيره فَمُفارقٌ مباين. ومن الحجة على من زعم أن إرادة اللّه متقدمة لفعله؛ أن يقال له: ألست تزعم أن إرادته متقدمة لأفعاله؟ فإذا قال: كذلك أقول. قيل له: ألست تعلم في صحيح العقول أن ذلك إن كان كذلك فهما شيئان اثنان: الإرداةُ شيء، والفعل شيء؟ فلا يجدُ بُداً من أن يقول: أجل، فيقال له: فأي الاثنين تَقدَّم صاحبَه، فكان وحدث قبله؟ فإن قال: الإرادة حدثت قبل الفعل؛ فسواءٌ كان بينهما قليل أو كثير؛ فقد أوجب وأدخل بذلك على ربه النية والضمير، والانطواء على مالا يجوز في اللطيف الخبير، ومتى قال بذلك قائل؛ فقد شبَّه ربه بالمخلوق الزائل، ذي الجوانح(2) المضمرات، والإرادات(3) المتصرفات، والآراء المتناقلات، وهذا فإبطالُ التوحيد، ونَفْسُ الكذبِ على الواحد الحميد، ونَقْضُ ما في القرآن(4) المجيد.
__________
(1) يريد بهذا أنَّه في حقه تعالى ليس إلا فعل وهو الموجود، وفاعل وهو اللّه، وليس الفعل في حقه إلاَّ المفعول، ولا المفعول إلاَّ الفعل، ولا واسطة لأنها هي العرض، وهو من لوازم الجسم، والله ليس بجسم وأفعاله ليست أعراضاً كما عرفت، وحينئذ لا تحتاج إلى توسط الإرادة والنية.
(2) الجوانح: الضلوع تحت الترائب مما يلي الصدر.
(3) في (ب) و (ج): والأدوات.
(4) في (ج): ما نزل في الكتاب.

(1/192)


وإن هو قال: بل الفعل سبق الإرادة ـ وقد علم وعلمنا أن الفعل هو المخلوق ـ فقد قال: إن الخالق للمخلوقين غير اللّه رب العالمين(1)؛ لأن اللّه سبحانه وجل عن كل شأن شأنه لا يخلق إلاَّ ما يشاء، ولا يشاء إلاَّ ما يريد من الأشياء، وكذلك قال الرحمن، فيما نزل من الفرقان: {وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ} [القصص: 68]، وقال سبحانه: {إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ} [الحج: 14]، وقال سبحانه: {وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ} [الحج: 18]، ففي كل ذلك يخبر أنَّه لن يفعل إلاَّ ما يشاء، ولن يشاء إلاَّ ما يريد من الأشياء، فكذلك اللّه تبارك وتعالى. أَوَلا ترى أن الفاعل لما لا يريد؛ فَجَاهلٌ مذموم من العبيد، فكيف يقال بذلك في الواحد الحميد؟! ومن الحجَّةِ على من قال إن الإرادة من اللّه سابقة للمراد، وإنها في اللّه ذي العزة والأياد كالعلم والقدرة(2)، وأنه لم يزل مريداً، كما لم يزل قادراً عالماً، أَنْ يُقال لهم: هل كان اللّه في الأبد والقدم خالقاً لما أراد أن يخلق؛ إذ لم يزل في قولك مريدا للخلق، كما أنَّه لم يزل عالماً بما يكون، قادراً على فعل ما يشاء، إذا أراد فعله وشاءه؟
__________
(1) وذلك لأن اللّه تعالى لا يفعل إلاَّ ما يريد، ولو سبق الفعل الإرادة لكان قد خلى عنها، وكان قد فعل حينئذ مالا يريد، وليست تلك صفته التي أخبر بها عن نفسه، فيكون الفعل إذاً لغيره كما ترى، أو له وقد وقع بغير إرادة، تعالى عن كل ذلك الفعال لما يريد.
(2) سقط من (أ) من هنا إلى قوله: لإيجاده وصنعه.

(1/193)


فإن قال: نعم، فقد أثبت الخلق مع اللّه في القدم، فتعالى عن ذلك ذو الجلال والكرم؛ إذ قد جعل معناه ومعنى غيره من العلم والقدرة سواء، ومتى كانا سواء؛ فلم يفترقا في سبب ولا معنى، فكلُّ ما نزل بأحد هذه الثلاثة الأشياء ـ من العلم والقدرة والإرادة ـ فهو نازلٌ بصاحِبَيْه، وحالٌّ بمشاكِلَيه، ومحيط بمُناظرَيه.
ولا يخلو مَن جعل المشيئة والإرادة كالعلم والقدرة من أن يحمل العلم والقدرة على معنى الإرادة والمشيئة، أو أن يحمل معنى المشيئة والإرادة على معنى العلم والقدرة، فإن حمل العلم والقدرة على معنى المشيئة والإرادة والخلق؛ جعلهما مخلوقين محدثين بأحق الحق، وإن حمل معنى الخلق والإرادة على معنى العلم والقدرة؛ جعل الإرادة والخلق شيئاً قديماً أزلياً، وفي أزلية الإرادة أزلية الخلق، وفي ذلك إبطال التوحيد، والشرك بالله الواحد الحميد.
فقد بطل قول من قال بأحد هذين المعنيين، لما بان لأهلهما فيهما من الفساد في كلتى الحالتين، وثبت ما قلنا به؛ من أنَّه لا فرق بين إرادة اللّه تعالى ومراده، وأن الإرادة منه تعالى هي المراد، وأن مراده هو الموجود المُدبَّر، الكائن المخلوق المجعول، إذا أراده فقد كوَّنه، وإذا كوَّنه فقد أراده، لاتسبق له حالة حالة، في الفعل منه سبحانه والإرادة. فسبحان علام الغيوب، ومقلب القلوب، ونسأل اللّه الواحد الحميد أن ينفعنا بما علمنا، و أن يَمُنَّ علينا بإيزاع الشكر فيما امتن به علينا. ومما يُحْتَج به على أهل هذا المقال، المتحيَّرين في اللّه الضُّلاَّل، أن يقال لهم: خبرونا عن إرادة اللّه سبحانه لخلق السموات والأرض، هي إرادته لإبادتهما وتبديلهما في يوم الدين؟

(1/194)


فإن قالوا: نعم، قيل لهم: فهلا وقعت بهما الإبادة والتبديل مع وجود خلقهما سواء سواء، فقد يلزمكم ـ في أصل قولكم وقياسكم ـ أن تقولوا: إن الأرض والسماء قد بادَتَا وبدلتا، ساعةَ ما خُلِقَتَا وأُوْجدتا؛ إذ اللّه سبحانه قادر على ما يشاء؛ وإذ مراده نافذٌ ماضٍ أبداً؛ لأنكم تزعمون أن إرادة اللّه لخلقهما وإيجادهما هي إرادته لإبادتهما وتبديلهما، ومتى كانت الإرادة في ذلك واحدة سواء؛ فلا شك أن المراد يقع مجتمعاً معاً، لايسبق بعضه بعضاً؛ إذ لم يتقدم من الإرادة شيءٌ شيئاً.

(1/195)


فإن قالوا: ليست الإرادة من اللّه لخلقهما بإرادته لإبادتهما وتبديلهما؛ لأن إرادته نافذة، وقدرته ماضية، وقد أراد أن يخلقهما فخلقهما، وإذا أراد أن يُبدِّلهما بَدَّلهما؛ فَقَدْ أقروا أن له إرادة تحدث في كل الحالات، ومتى كانت كذلك لم تكن أبداً أزلية، وزال عنها اسم القدم والأوَّلية، وإذا ثبت أنها حادثة ثبت أنها مُحْدثة، وإذا ثبت أنها محدثة ثبت أنها مَجْعُولة مقدَّرة، وإذا ثبت أنها مَجْعُولة مقدرة ثبت أن المجعول(1) هو المخلوق المدبَّر، وأن الإرادة ليست غير الموجود المفطور المصوَّر؛ وإذا قد ثبت ذلك فقد ذهب ما يقولون به من الفرق بين إرادة اللّه وفعله، وثبت أنَّ فعلَه إرادته، وأن إرادته سبحانه فعله، إذا أوجد شيئاً فقد أراده، وإذا أراده فقد أوجده. والحمد لله رب العالمين، وصلى اللّه على محمد خاتم النبيين، وعلى أهل بيته الطاهرين. ومن الحجة على من فَرَقَ بين إرادة اللّه وفعله، فَزَعمَ أن إرادته متقدمة لإيجاده وصنعه؛ قَولُ اللّه سبحانه: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ}[يس: 82]، فمعنى قوله سبحانه لمراده: كن؛ فهو إيجاده له وخلقه إياه، لا أنَّه يكون منه إليه قول ولا له؛ لأنَّه لو كان كما يظن الجاهلون، أنَّه يامره بالكون فيكون؛ لَكَان القول من القائل؛ متوسطاً بين المفعول والفاعل، والقول فهو فعل، ولو توسط الفعل من الرحمن؛ لكان مشابهاً لفعل الإنسان، بأبين ما يكون من البيان.
فقد بطل بحمد لله أن يكون كذلك، لما ذكرنا واحتججنا به أوَّلاً في ذلك. ومن الحجة عليهم، ومما يُبْطِل ما هو في أيديهم؛ أنَّه لو كان منه أمر له كما يقولون، لم يَخْلُ من أن يكون أَمَرَه وهو عدم غير موجود. ومُخَاطَبةُ العدم الزائل المفقود؛ فَأَحْوَلُ المحال، ومخاطبة العدم من الآدميين فأَضَلُّ الضلال، فكيف يجوز أن ينسب ذلك إلى الواحد ذي الجلال؟!
__________
(1) في (ج): المقدر.

(1/196)


أو يكون أَمَرَه وهو موجود، كائن قَائِمٌ غير مفقود؛ فأَمْرُ الكائنِ القائمِ الموجودِ بأَنْ يكُونَ محالٌ؛ لأنَّه قد استغنى بتجَسُّمِه وكَيْنُونَتِه عن التَّكوين في حال من الحال، كما لا يجوز أن يُؤْمَر القائمُ بالقيام، ولا النائمُ بالمنام، ولا الراكبُ في حال ركوبه بالركوب، ولا المُهرْوِل المُدْبِر بالخَبُوب(1)؛ لأَنَّه ـ إذا كان في الحال كذلك ـ مُسْتَغْنٍ عن أن يُؤْمَر بشيء من ذلك. فقد سقط أن يكون أمر من اللّه للشيء في حال من الحال، وإذا سقط (ذلك سقط) (2) ما يتعلقون به من زور المقال، وثبت(3) ما قلنا به من إيجاد اللّه سبحانه له ذي الجلال.
فإن قال قائل: إن معنى قول اللّه للشيء: {كُنْ فَيَكُونُ} هُوَ أن يقول للشيء: كن شيئاً آخر، مثل الصَّلصَال والْحَمَأ(4)، قال له: كن صورة وبشراً، فَكَانَ كما أمره ربه حقاً. ومثل النطفة قال لها: كوني علقة، فكانت علقة، ثم أمر العلقة فكانت مضغة، ثم قال للمضغة: كوني عظاماً فكانت عظاماً، فكساها لحماً، وجَسَّمها بقدرته جسماً، فهذه أشياء غير مفقودة؛ تؤمر فتنتقل أجساماً موجودة.
__________
(1) الخبوب والخًبَب: المشي السريع.
(2) ليس في (أ).
(3) في أ: ثبت. على أنه جواب: إذا.
(4) الصلصال من الطين هو: الذي له صوت كالفخار. والحمأ: الطين الأسود.

(1/197)


قيل له: إن الفروع لا تقاس على الأصل(1)، وإنما ترد الفروع إلى ما هي منه من الأصول(2)، وهذه الأشياء التي ذكرت فإنما هي مخلوقات، تنتقل من خلق إلى خلق في الحالات، وكذلك قال فيها، وسمَّاها بالخلق ودعاها؛ رب الأرباب، فيما نزل من محكم الكتاب، ألا تسمع كيف يذكر أنَّه خَلَقها، ولم يذكر في شيء من ذلك أنَّه أَمَرَها؟ وذلك قوله عزَّ وجل: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ مِنْ سُلاَلَةٍ مِنْ طِينٍ ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا العَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَاماً فَكَسَوْنَا العِظَامَ لَحْماً ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ}[المؤمنون: 12 ـ 14] ففي كل ذلك يذكر تبارك وتعالى أنه خالق مصور(3) لعبده مَنقِّلٌ في هذه الأشياء، ولم يذكر ـ فيما احتججت به في هذه الآية ـ له دون الخلق أمراً، والخلقُ من اللّه فَلا اختلاف بيننا وبينكم فيه، وإنما الاختلاف بيننا وبينكم في الأمر؛ الذي أزحتموه عن معنى الخلق ولم تقيسوه عليه، طمعاً أن تثبتوا قِدَمَ الإرادة على الفعل من اللّه الحميد، فتثبتوا بذلك عليه سبحانه التشبيه وتدفعوا التوحيد، فتشاركوا النصارى في قولها، وتمازجوا بأموركم أمرها، وَلَو أنكم أنصفتم عقولكم، وتركتم المكابرة عنكم، ثم رددتم متشابهَ الأمور إلى محكمها، وما شَذَّ من فَرْعِهَا إلى أصلها، ثم نظرتم إلى النطفة ممَّ هي؟ وممَّ كانت؟ حتى تنتهوا إلى مَا مِنْه ابْتَدَأَت وبَانَت، لَوجَدتُم أصل ذلك إن شاء اللّه من الطين، وأًصل الطين فَمن الماء بأَيْقَن اليقين، وكذلك
__________
(1) في (ج): لا تقاس عليها الأصول.
(2) الأصول: هي العناصر الأولى التي ابتدعت من العدم، والفروع هي التي تركب وتولف من مادة موجودة، فالهواء والماء والريح والنار أصول تفرعت وركبت منها سائر الأجسام.
(3) في (أ): مصرف.

(1/198)


فَأَصْلُ خلق الشياطين فمن مارج(1) من نار، فإذا رجعتم إلى الأصول الثلاثة، المفطورة المبتدعة: من الرياح الجارية المسخرة، وما خلق اللّه سبحانه من الماء، ومافطر فوقه من عجيب الهواء، ثم خَلَق من هذه الثلاثة الأشياء؛ جمِيعَ ما ذَرَأ وبَرَأ(2)؛ لكان(3) حينئذ يصح لكم القياس، ولا يقع عليكم إن شاء اللّه الالتباس، ويبطل الأمر الذي تقولون به وتذهبون إليه؛ إذ لا بد أن تُقِرُّوا أن هذه الثلاثة الأشياء؛ خُلِقَت وابْتُدِعَت من غَيْرِ ما أصلٍ مبتدأ، وأن اللّه الأَوَّلُ المُوْجِدُ لأصل كل ما أَوْجَد(4) وبَرَأ. فيسقط ما قلتم به في معنى القول من الله للشيء من اَنَّه أَمْرٌ من الآمِرِ للمأمور، ويثبت القول للموحدين بأن القول من اللّه للشيء هو: الإيجاد له والتكوين والتقدير، والإخراجُ من العدم إلى الوجود والتَّصْويرُ، أو تثبتوا مع اللّه في الأزلية والقدم شيئاً وأشياء، فتعالى عن ذلك العلي الأعلى. ومن قال من المخلوقين بذلك، وقع بحمد اللّه في غيابات المهالك، وخرج من معرفة الرحمن، وأَكْذَب ما ذكر اللّه في القرآن؛ من قوله: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ}[الزمر: 62ـ 63]، ولو كان لم يخلق شيئاً واحداً؛ إذاً لما كان خالقاً لكل ما ذكر من الأشياء.
وفي أقل مما قلنا به وتكلمنا، فَرقٌ بين إرادة اللّه وإرادتنا.
[إرادة الله في أفعال غيره]
__________
(1) المارج: اللهب المتقطع في الهواء.
(2) الذَّرءُ والبَرْءُ بمعنى: الخلق.
(3) قوله: لكان، جواب: ولو.
(4) في (أ) و(ج): كل ما يوجد ويُرَى.

(1/199)


فإن قال ذو مقال؛ من المُتَكَمِّهِيْن(1) الضُّلاَّل، المتعلقين بالشبهات والمَحَال: أليس قد أراد اللّه من الخلق أن يطيعوه، ويعبدوه فلا يعصوه؟ قيل له: كذلك اللّه تبارك وتعالى، وفي ذلك ما يقول اللّه العلي الأعلى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ}[الذاريات: 56]، وقال: {يَآ أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}[البقرة: 21]، فَلمَّا أن أمرهم بطاعته؛ عَلِمْنَا أنَّه لم يخلقهم إلاَّ لعبادته، وذَلِكَ فَمُرَادُه منهم؛ إذ لَهُ أَوْجَدَهم.
فإن قال: فهل كَانَ ما أراد ذو الجلال والسلطان؟ فإنكم إن قلتم: إنَّه قد كان ما أراد الرحمن، من الطاعة والإحسان(2)؛ أَوْجَبْتُم أن يكون الخلق كلهم مطيعين، ونَفَيتُم أن يكون فيهم أحد من العاصين، وإن قلتم: إنَّه لم يكن ما أراد الواحد ذو الجلال؛ فقد أقررتم بتقديم إرادة اللّه على كل حال.
قلنا: إن إرادة اللّه في فعله؛ هي خلاف إرادته في فعل غيره، وكلامُنَا(3) فإنَّما هو في فعل الرحمن، لا فيمن خلق وذرأ من الإنسان، فإرادته فيما خلق هو إيجاده له، على ما تقدم في أول كلامنا من القول فيه.
__________
(1) في (ب): المتكلفين. وفي (ج): المتكلمين، وفي هامش (ج): المتكمهين. والكَامِهُ: الذي يتخبط فلا يدري أين يتوجه.
(2) سقط من (ج): من الطاعة والإحسان. وفي (ب): ما أراد الرحمن الرحيم أوجبتم.
(3) في (أ): وكلاهما. وهو سهو.

(1/200)


وإرادته في أفعال عباده؛ إنما هي إرادة نهي وأمر، لا إرادة حتم وجبر، أراد منهم الطَّاعَة غير مُكْرِهٍ لهم عليها، كما أراد أن لا تكون منهم المعصية غير حائل بينهم وبينها، بل بالطوع منهم أراد كَوْنَها، لا بالإكراه لهم والقسر عليها والإجبار، فأمرهم ونهاهم، وبَصَّرهُم وهَدَاهم، ومكنهم من العَمَلَيْن(1)، وهداهم في ذلك النجدين، ثم قال سبحانه: {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلاَ يُجْزَى الَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ إِلاَّ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}[القصص: 84]، ثم قال جل جلاله عن أن يحويَهُ قولٌ أو يناله: {فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَاراً أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا}[الكهف: 39].
فكانت إرادته في أفعالهم؛ هي الأَمْرُ لهم بالمَرْضِيِّ من أعمالهم، فنفذت إرادته في الأمر لهم كما أراد، ولو أراد أن يجبرهم على طاعته لجبرهم، ولو جبرهم على صنعهم وفعالهم؛ لكان العامل لما يعملونه ـ دونهم ـ من أعمالهم، ولو كان العامل لما عملوه(2)، لكان الآمَر لنفسه دونهم بما فعلوه، ولكان المشرك بنفسه لا هم، ولكان العابد لأصنامهم دونهم، لو كان على ما يقولون؛ إذ هو الصانع لكل ما صنعوا، الممضي دونهم لكل ما أمضوا، ولكانوا هم من كل مذمومٍ أبريآء، وفي حكم الحق مطيعين أتقياء، وعند اللّه للثواب مستأهلين سُعداء؛ إذ هم فيما صَّرفهم ربُّهم متصرفون، وفي قضائه ومشيئته ماضون. فتعالى اللّه الرحمن الرحيم، عما يقول فيه حزب الشيطان الرجيم.
[إرادة الله فيما أخبر به من المستقبل]
__________
(1) يعني عمل الخير وعمل الشر.
(2) في (ب): لما يعملونه دونهم من أعمالهم. وكذلك في (ج) بدون قوله: من أعمالهم.

(1/201)


فإن قال قائل: قَدْ فهمنا ما احتججتم به في الفرق بين إرادة اللّه في فعله، وإرادته فيما سوى ذلك من فعل غيره، فَمَا عندكم فيما قصَّه اللّه وذكره، وأخبر به من أخبار الآخرة وقيام الساعة؟ فهل أراد تبارك وتعالى أن تقوم القيامة، ويكون الثوابُ، ويقع بأهله العقاب؛ فقد نجده قد أخبرنا بذلك كله، فهل أراده كما أراد الإخبار به؟
فقولنا إن شاء اللّه لمن سأل عن ذلك: إن اللّه تبارك وتعالى أراد أن يخبر بما أخبر به ويذكر ما ذكر فكان ما أراد، وكانت إرادته في ذلك هي المراد؛ من الإخْبَار نفسِهِ، فأَمَّا أن يكون أراد أن تقوم القيامة ويقع الجزاء، عند ما أخبر به من خبرهما فلا، لم يرد ذلك، ولو كان مراده فيه كذلك لكان أول الخلق قد وَاقَعَ وعاين القيامة والجزاء، وكان قد انقطع النسل والنَّما، وحل بالأولين دون الآخرين ما يُتَّقى، ولكنه سبحانه أخبر عما سيكون من فعله، وهو سبحانه بغير شك يريد أن يقيمها في وقْت ما يشاء، والوقت فهو في علمه معلوم مسمى، فإذا أراد إقامتها قامت، وإذا شاء أن يُجَلِّيهَا تجَلَّت، ولم يشأ سبحانه أن يُجلِّيَها إلاَّ في وقتها الذي إليه أَجَّلها، كما قال سبحانه: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي لاَ يُجَلِّيهَا لَوَقْتِهَا إِلاَّ هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ لاَ تَأْتِيكُمْ إِلاَّ بَغْتَةً يَسْأَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ} [الأعراف:187] فهو سبحانه يريد أن يقيمها لوقتها، ولم يُرِدْ أن يقيمها في دون ما جعل من مُدَّتها، وبين (يريد) و(أراد) في اللغة واللسان؛ فرق عند جميع أهل العربية والبيان؛ لأن معنى: يريد فهو سيفعل، لا أَنه قد فعل، ومعنى: أراد فهو أمضى وفعل، لا أنه سيفعل، وبين الفعل المستقبل والفعل الماضي؛ فرق في جميع المعاني، من

(1/202)


القول والإعراب، وغير ذلك من غوامض الأسباب، يعرفه ويعلمه، ويقف عليه ذووا الألباب، وليس مَنْ قِيْل إنَّه يريد أن يفعل كذا وكذا؛ في الحكم كمن قيل إنَّه قد فعل ما به أقدم وعليه اجْتَرا. وَالْحُكْمُ من اللّه ورسوله، ومن الأئمة الهادين بالقطع والصَّلب، والقَتْل والضرب، والحبس والتنكيل، فَلاَ يقع على من يريد عمل ما جُعِل فيه ذلك ولم يفعله، وإنما يقع ذلك ويَجِبُ على من دخل فيه واكتَسَبه وفَعَلَه. وفي أقل من ذلك نور وبرهان، وفرق بين (أراد) و(يريد) وفصل وتبيان؛ عند كل ذي علم وحِجَى(1)، وبصيرة ويقين واهْتِداء.
(والحمد لله أولاً وآخراً، وصلى اللّه على سيدنا محمد النبي المصطفى، وعلى من طاب من عترته وزكا) (2).
باب تفسير معنى قوله: الأعلى(3)
الأعلى فهو: العظيم المستعلي على الأشياء بقدرته، القاهر الذي لايرام لعزته وعظمته، الواحد البائن عن مشابهة شيء من خلقه، وكذلك معنى: (( تعالى علواً كبيراً )). لا ما يتوهم الجاهلون أنَّه مستعلٍ فوق شيء عال، يحيط به ذلك الشيء ويحويه ويحدق به، تعالى عن ذلك وحاشاه. وكيف يكون كذلك، أو يجوز فيه القول بذلك؛ وهو بكل مكان؟! كما قال سبحانه في واضح الفرقان: {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاَثَةٍ إلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ وَلاَ خَمْسَةٍ إِلاَّ هُوَ سَادِسُهُمْ وَلاَ أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلاَ أَكْثَرَ إِلاَّ هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَمَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ القِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [المجادلة:7]، ولو كان كما يقول الضآلون، ويصفه به المشبهون؛ لبطل ما قال في القرآن؛ من أنَّه جل وعز بكل مكان.
باب تفسير قول الموحدين: إن الله بكل مكان
__________
(1) الحجى: العقل.
(2) سقط من (أ) أوله: باب تفسير معنى قوله الأعلى.
(3) من هنا إلى آخر الجزء الأول سقط من (ب).

(1/203)


إن سأل سائل مسترشد أو متعنت فقال: ما معنى قولكم: إن الله بكل مكان، تبارك وتعالى ذو المن والإحسان؟
قلنا له: معنى قولنا ذلك في ربنا: أنَّه الشاهد لنا غير الغائب عنا، (لا يغيب عن الأشياء، و)(1)لا يغيب عنه شيء قَرُبَ أو نأى، وهو الله الواحد الجليل الأعلى، لأن من غاب عن الأشياء كان في عزلة منها، والعزلة فموجدة(2) للحد والتحديد، ومن غابت عنه المعلومات كان من أمرها في أجهل الجهالات، وكانت عنه عَازِبةً غائبةً، والله سبحانه فلا تخفى عليه خافية، سراً كانت أو علانية.
فعلى ذلك يخرج قولنا(3) إن الله بكل مكان، نريد أنَّه العالم الشاهد لكل شأن.
باب الرد على من زعم أن الله عز وجل ممازج للأشياء وحال فيها
إن سأل سائل فقال: أين الله؟
قيل له: مسألتك تحتمل وجهين، وتتصرف في اللغة على معنيين:
أحدهما: أن تكون تريد:أين الله حالّ؟ وهذا فَباطِلٌ فاسد من المقال، متعال عنه ذو القوة(4) والعزة والجلال؛ لأن ذلك يوجب التحديد، ومتى وقع التحديد وقع التبعيض، ومتى وقع التبعيض وقع التشبيه،وإذا وقع التشبيه زالت الربوبية بلا شك عن ذلك الشي المبعَّض المحدَّد المُجَزَّأ، لأن الخالق على خلاف المخلوقين، ومن وصف(5) بصفة المربوبين؛ فقد أزيل(6) عنه أن يكون جاعلاً وصحح(7) أنَّه من المخلوقين، وبطلت وبَعُدت منه الوحدانية، وأزيلت(8) من صفاته ـ بغير ما لَبْسٍ ـ الأزلية، والله جل جلاله عن أن يحويه قول أو يناله فهو الواحد الأزلي، والخالق المُحْدِث الباري، الذي ليس له ضد ولا شبيه، ولا مثل(9) ولا عديل، وهو الله الواحد الفرد الصمد الجليل.
__________
(1) سقط من (أ).
(2) كذا في النسخ. وفي هامش (ج): فموجبة.
(3) في (ج): معنى قولنا.
(4) في (ج): ذو القدرة.
(5) في (ج): وصفه.
(6) في (ج): أزال.
(7) في (ج): وصحح وأثبت.
(8) في (ج): وزالت.
(9) في (ج): مثيل.

(1/204)


وإن كنت تريد بقولك: أين الرحمن؟ تقول أين هو مدبر فاعل لكل شأن؟ فهو ـ كما ذكر عن نفسه ـ بكل مكان مدبر فاعل، يفعل في كل يوم ما يريد، يميت ويحيى، ويخلق ويرزق، وهو الواحد الحميد، العالم فلا يخفى عليه مختف(1)، بل علمه به كعلمه بالظاهر المتجلي، فهو سبحانه كذلك.
وهذا جوابنا وقولنا لمن سأل عن ذلك؛ لا ما يذهب(2) إليه المشبهون لربهم، المتكمهون(3) في بحور ضلالهم، والعابدون لغير إلههم، إذ هم يعبدون الذي يذكرون،ويصفون ويَنْعتَون، ويحددون ويُبَعِّضون،والله الخالق الباري فخلاف ما يصفون، فلذلك قلنا: إنهم غيرَهُ يعبدون، فالجاهلون يعبدون صورة وجسماً، والله فهو المُجَسِّم المصوِّر لكل جسم ومصوَّر، والمصوِّر فخلاف المصوَّر، لأن المصوِّر فاعل، والمصوَّر مفعول به، والفاعل فليس بالمفعول، لأن الفاعل قبل مفعوله. فقد بان أن المشبهين يعبدون غير رب العالمين، فقد كفروا بالخالق، وعبدوا المخلوق، فبعداً لأصحاب السعير، والحمدلله الواحد القدير.
باب تفسير معنى:
القدوس السلام المؤمن المهيمن العزيز الجبار المتكبر
(القدوس) فهو: المستحق من خلقه للتقديس، والتقديس فهو: التنزيه والتعظيم، فكذلك ربنا الواحد الكريم.
و (السلام) فهو: السالم من الآفات التي تحل بغيره، النازلات بالخلائق، الحآلَّة بهم، الهاجمة عليهم.
و(المؤمن) فهو: المؤمِّن لأوليائه من أليم عذابه، الصارف عنهم ما يوقع بأعدائه من عقابه.
و(المهيمن) فهو: المتقدس الحاكم، (الفاصل حكمه العالم)(4) الشاهد على خلقه بحكمه العادل.
و(العزيز) فهو: الغالب الجليل، الممتنع المتعالي عن التشبيه والتمثيل، المتعزز فلا يرام، العظيم الجليل فلا يضام، المعز لأوليائه، المذل لأعدائه.
__________
(1) في (ج): عليه خفي من ذلك.
(2) في (ج): ذهب.
(3) في (ج): المنهمكون.
(4) ليس في (ج).

(1/205)


و(الجبار) فهو: المالك القاهر، الذي ما جَبَر من الأشياء كلها انْجَبَرَ، فكان على ما جبره عليه وصوره من الأجسام، فتبارك الله ذو الجلال والإنعام، الذي جبل الأشياء، وجبرها على ما شاء؛ من تصوير خلقها، وتركيب أجسامها وأبعاضها، وتقدير ألوانها وأماكنها، وتغيير طعم مأكولها واختلافها. فجبر السموات على ما أراد من الإرتفاع، وجبل وجبر الأرضين على ما أراد من الإندحاء والإتِّضاع. وجبر ما بينهما على ما شاء من التصوير والخلق،والتقدير والتركيب، وجبل وجبر العباد على ما شاء من تصويرهم، وخلق ما خلق من تقديرهم، فجعلهم من ضعف، ثُمَّ جعل من بعد الضعف قوة، ثُمَّ جعل من بعد القوة ضعفاً وشيبة، (يخلق ما يشاء)(1) كما قال اللّه سبحانه: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَهُوَ العَلِيمُ القَدِيرُ}[الروم: 54]. وكذلك جبلهم على ماشاء من خلق أجسامهم، فجعل منهم الطويل والقصير، وجعل منهم النبيل(2) في جسمه والحقير، وكلهم مريد للأفضل من الأمور، فكانوا كما شاء أن يجعلهم، وجعل فعله فيهم وفي غيرهم آية لهم، كما قال سبحانه: {وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآَيَاتٍ لِلْعَالمِينَ}[الروم: 22]، فكان تركيب خلقهم كما أراد من تصويرهم، لا اختلاف في ذلك ولا تفاوت، كما قال سبحانه: {مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ البَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ ثُمَّ ارْجِعِ البَصَرَ كَرَّتَينِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ البَصَرُ خَاسِئاً وَهُوَ حَسِيرٌ} [الملك: 3ـ4]، فالحمدلله الذي جبل العباد وجبرهم على ما شاء من تركيب خلقهم، محبوبهم من ذلك وغير محبوبهم، ولم يجبرهم على شيء من أفعالهم، صغيرها
__________
(1) سقط من (ج).
(2) كذا في النسخ.

(1/206)


ولا كبيرها، دقيقها ولا جليلها، بل أمرهم ونهاهم، وبصرهم غيهم وهُداهم، ثُمَّ بعث إليهم النبيئين، فأمروهم بطاعة رب العالمين، وحذروهم أن يكونوا له من العاصين، وخلق للمطيعين ثواباً، وللعاصين نكالاً وعقاباً، ثُمَّ لم يَحُلْ بين أحد وبين طاعته، ولم يجبر أحداً على معصيته، بل أمر عباده تخييراً، ونهاهم سبحانه تحذيراً، ثُمَّ قال ذو المن والعزة والجلال؛ من بعد إكمال الحجة عليهم في كل حال: {فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَاراً أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقاً} [الكهف: 29]، وقال تعالى: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيراً يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ} [الزلزلة: 7ـ8]، فتبارك المتقدس عن خلق أفعالهم، المتعالي عن جبرهم على شيء من أعمالهم، العدل في كل أفعالِهِ، الصادق في كل مَقَاِله، البري من شبه المجعولات، المتعالي عن دَرْكِ الغفلة والسِّنات.
و(المتكبر) فهو: العظيم الجبِّير، الذي لا يشبهه في القدرة والعظمة كبير.
تم الجزء الأول من جزئين من كتاب المسترشد بمن الله وعونه، يتلوه في الجزء الثاني
بسم اللّه الرحمن الرحيم
الحمدلله رب العالمين وصلى اللّه على محمد النبي وآله وسلم تسليماً.
باب معنى قوله: الكبير، ومخرج ذلك في اللطيف الخبير(1)
معنى (الكبير) فهو: البائن عن مشابهة المخلوقات، القديم الأزلي الذي لا تنقصه الساعات، الأول الذي لا تراه العيون ولا تعروه السنات، ولا تستتر عنه غوامض أسرار القلوب المحجوبات، ولا تحيط به الأقطار ولا تشتبه عليه اللغات، الذي هو من تخوم الأرضين كهو من أعالي السموات.
__________
(1) هذا الباب ساقط من (أ).

(1/207)


وكذلك القول في معنى قوله: (الجليل)، فتبارك من لا إله غيره، ولا شيء يشبهه، المصوِّر لكل صورة من خلقه، المقدِّر الذي لا يكون فعلٌ كفعله(1).
الجزء الثاني من كتاب المسترشد
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين وصلى الله على محمد النبي وآله وسلم تسليماً.
باب تفسير قول الله سبحانه{ويُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ}
ومعنى(2) مَخْرَج النفس (في الله)(3) في اللغة والبيان، وما يدور بين العرب في قَيِّم اللسان.
قال يحيى بن الحسين صلوات الله عليه:
إن سأل عن النفس سائل فقال: ما معناها عندكم في الله تبارك وتعالى ربِّكم، وعلامَ يخرج فيها تفسيركم؟ فقد نجد الله تعالى يقول لنبيئه موسى صلى الله عليه: {وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي}[طه: 41]، ويقول: {وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ}[آل عمران: 28،30].
__________
(1) إلى هنا النقص في (ب).
(2) في (ب): وما معنى.
(3) زيادة من (ج).

(1/208)


قلنا له: أيها القائل، المتحير في أمره السائل، إن الله سبحانه وتعالى عن كل شأن شأنُه لم يُرِد النفسَ التي تَتَوَهَّم، وإياها تَقْصد حين تتكلم؛ مِنَ الأنفس المُتَنَفِّسة بالرُّوح، المحتاجة إلى الرَّاحة والرَّوْح(1)، المُسْتَكِنَّة(2) في الأجواف، الجائلة في كل الأعطاف(3)، وكيف يكون ذلك وكل ذي روح أو نَفْسٍ(4)؛ فمِن خَلْقِه كائناً بغير ما شك ولا لبس؟ ألا تسمع كيف يقول عز وجل: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَّبِّي وَمَا أُوْتِيتُمْ مِنَ العِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً}[الإسراء: 85]، يريد سبحانه: مِنْ خَلْقِ خَالِقِي، وإِحْدَاثِ فَاعِلِي ومُحْدِثِي. ولو كان على ما يتوهم المشبهون، ويقول فيه المبطلون؛ مِنْ أنَّها نَفْسٌ مُسْتَجِنَّة في شيء، إذاً لقيل: إنهما اثنان، إذ النفس والشيء شيئان، ولو كانت نفساً مسْتَجِنَّة في شيء؛ لكانت النفس خلافاً لذلك الشيء، وللزم ذلك الشَّيْءَ الْعددُ والتَّحْدِيدُ، والتحرك والتحرف والانحدار والتصعيد، فتبارك من ليس كذلك، ولا على شيء من ذلك، بل هو الواحد الأحد، المتقدس الصمد، الذي ليس له شِبْهٌ(5) ولا مثيل، ولا ضدٌ ولا عَدِيل.
فأما قوله سبحانه: {وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي}[طه: 41]، فإنما أراد بذلك: اصطنعتك لي، وقربتك نجيّاً منِّي. وكذلك قوله: {وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ}[آل عمران: 28،30]، يريد: يحذركم عِقَابَهُ لتخافوه، وفي كل أموركم تَتَّقُوه، وفي سرائركم تراقبوه.
والقرآن فإنما نزل على العرب بلغتهم، وخاطبهم الله فيه بكلامهم.
__________
(1) الرَّوح بالفتح: نسيم الرّيح.
(2) يعني المستترة.
(3) الأعطاف: الجوانب.
(4) في (ب): وكل نفس أو روح. وفي (ج): وكل روح أو نفس.
(5) في (ب): شبيه.

(1/209)


والنفس تُدْخِلها العرب في كلامها، صِلَةً لجميع ما تأتي به من مقالها، وقد تزيد غير ذلك في مخاطبتها، وما تسطره من أخبارها، مثل (ما)، و(لا)،وغير ذلك مما ليس له عندها معنى، غير أنها تحَسِّن به كلامها، وتَصِلُ به قْيلَها وقالها.
من ذلك قول الرجل لصاحبه: أَتْيتُك بنفسي، وأَتيتنِي بنفسك، وإنما يريد: أتيتني أنت دون غيرك. وتقول العرب: ما منعك أن لا تأتيني؟ تريد: ما منعك أن تأتيني؟ فأدخلت (لا) صِلَةً لكلامها، وأثبَتَتْهَا كذلك في كتابها. وفي ذلك ما يقول الرحمن الرحيم، فيما نزل على نبيه من الفرقان العظيم؛ من قول موسى عليه السلام: {يَا هَارُونُ مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا أَلاَّ تَتَّبِعَنِي أَفَعَصَيتَ أَمْرِي} [طه: 92ـ93]، وإنما أراد صلى الله عليه: أن تتبعني، فأدخل (لا) صلة في الكلام.
ومثل هذا كثير فيما نَزَّل ذو الجلال والإكرام. من ذلك قوله سبحانه: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ القَلْبِ لاَنْفَضُّوا مِنْ حَولِكَ}[آل عمران: 159]، وقوله: {فَبِمَا نَقْضِهِم مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ}[المائدة: 13]، يريد سبحانه، وعَظُمَ عن كل شأن شأنهُ: فبرحمة من الله لنت لهم، وأراد فبنقضهم ميثاقَهُم، فأتى فيهما بـ(ما)؛ صلةً لغير سبب ولا معنى. وكذلك وفي مثل ذلك ما يقول الشاعر:
بِيَومِ جَدُودٍ لا(1) فَضَحْتُم أَبَاَكُم…وسَالمْتُمُ والخيلُ تدْمي شَكِيْمُها(2)
__________
(1) في (ب) و(ج): وفضحتم.
(2) البيت من أبيات لقيس بن عاصم المنقري، لفظه في أمالي المرتضى 1/114:
ويومَ جَدُودٍ قد فضحْتُم ذمارَكُم… وسَالَمتمُ والخيل تدمْي نُحُورها.
وهو قيس بن عاصم بن سنان المنقري السعدي التميمي أبو علي، أحد أمراء العرب وعقلائهم والموصوفين بالحلم والشجاعة فيهم، كان شاعراً حكيماً، اشتهر وساد في الجاهلية، وهو ممن حرم على نفسه الخمر فيها، وفد مع تميم على النبي صلى الله عليه وآله وسلم، (سنة 9هـ) وأسلم، واستعمله على صدقات قومه، روى أحاديث، نزل البصرة آخر أيامه، وتوفي بها نحو سنة (20هـ). الأعلام 5/206.
وجَدُود: موضع فيه ماء يسمى بالكلاب، وكانت فيه وقعة مرتين، وخبره في العقد والكامل.

(1/210)


فقال: لا(1) فَضَحْتُم أباكم، وإنما أراد: فضحتم أباكم، فأتى بـ (ما)(2) صلة لغير معنى.
وقال الله ذو الجبروت والإنعام، يحكي عن نبيه عيسى عليه السلام، في قوله: {تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلاَ أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلاَّمُ الغُيُوبِ}[المائدة: 116]، يعني صلى الله عليه: تعلم غَيْبَ أَمْرِي، وعلانيتي وسري، ولا أعلم ما غاب من فعلك، ولا أطَّلِعُ إلاَّ على ما أطلعتني عليه من وَحْيِك.
فهذا معنى ما عنه سألت، لا ما إليه من فاحش المقال ذهبت، في الله رب الأرباب، ومُسَبِّبِ ما يشاء من الأسباب.
__________
(1) في (ب) و(ج): لا ما فضحتم.
(2) في هامش (أ): بـ((لا)).

(1/211)


بل كيف يزعم المشبهون، ويقول على الله المبطلون: إن الله جسم وصورة،وإن فيما ذكروا من الصورة له نفساً تَجُول فيه من مكان إلى مكان؛ وقد يسمعون ويرون ما يقول الرحمن الرحيم، فيما نزل على نبيه من الوحي الكريم، حين يقول جل جلاله، عن أن يحويَهُ قول أو ينالَهُ: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ}[آل عمران: 185]؟، فماذا(1) يقولون، لو كانت نفساً كما يزعمون ـ تعالى عن ذلك الرحمن، وتقدس ذو العرش والبرهان ـ: أتموت وتفوت، أم لا تموت ولا تفوت؟ فإن قالوا: تموت كفروا، ومن الإسلام خرجوا، وعند أنفسهم ـ فضلاً عن غيرهم من أضدادهم ومناظريهم(2)ـ افتضحوا، وإن قالوا: لا تموت ولا تفوت. قيل لهم: من أَيْنَ قلتم ذلك، وكان عندكم كذلك؛ وَقَدْ تسمعون ما حتم به الرحمن، على كل نفس في القرآن، وَلَم يستثن في ذلك نفساً له ولا لغيره، كما استثنى في غير ذلك من قوله: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ}[القصص: 88]، وقوله: {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلاَلِ وَالإِكْرَامِ}[الرحمن: 26ـ27]، فاستثنى عند هلاك الأشياء، أنَّه الباقي الوارث لكل الأحياء، واستثنى عند الزوال والفنآء؛ وجهه ذا الجلال(3) والبقاء. والوجه من الرحمن؛ فليس غيره تعالى ذو العزة والسلطان، ووجهه في اللغة والبيان؛ فهو ذاته بأبين البيان، فذاته وجهه، ووجهه سبحانه ذاته، ليس بذي تحديد ولا أعضاء، وهو الله الواحد العلي الأعلى، ولم يستثن عند هلاك الأنفس وموتها؛ نفساً لخالقها ومدبرها ومشيئها(4).
__________
(1) في (أ): فما.
(2) في (أ): ومناظيرهم. كذا.
(3) في (ج): ذو الجلال، وتحمل على أنها فاعل، واستثنى إن لم يتحمل ضميراً وإلا فبدل عنه.
(4) شيئها: جعلها شيئاً وأوجدها بعد عدمها.

(1/212)


أفأنتم في قولكم أعلم بالله منه بذاته؟ إذ قد نسبتموه إلى غير ما نسب إليه نفسه من صفاته؟ ولو كان كما تقولون، وإليه في قولكم تذهبون؛ إذاً لاستثنى نفسه من الأنفس التي تموت وتفنى، كما استثنى بقاءه من الأشياء التي تزول وتبلى، تعالى الله عن ذلك الرحمن الرحيم، وتقدس الله الواحد الكريم.
فمن أين قلتم: إنها له نفس في صورة تبقى، دون الأنفس التي حتم الله عليها بالفناء؟ أوجدونا بذلك حجة وتبياناً، واشرعوا لنا فيه قولاً وبرهاناً؛ من الكتاب والتنزيل، والسنة والتأويل، فلا تجدون ولله الحمد حجة ولا قولاً، ولا تستطيعون إلى إثبات باطل سبيلاً. وكيف يكون ذلك، أو تقدرون على شيء من ذلك؛ والله ذو الطول. فيما نزل من الفرقان يقول: {بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى البَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ}[الأنبياء: 18]؟! فإن أنصفوا؛ كانوا من قولهم خارجين، و إلى قول المحقين راجعين، وإن كابروا وجحدوا، وتمردوا وعتوا؛ كانوا عند جميع الخلق مفتضحين، وبضد الحق متعلقين، والحمدلله رب العالمين، وسلام على المرسلين.
باب تفسير قول الله سبحانه:
{وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلاَلِ وَالإِكْرَامِ}
والرد على من قال: إن لله وجهاً وإنه صورة
يقال لأهل الجهالة والضلال، فيما يقولون به في الله ذي الجلال، ويصفونه به من الكذب والمحال، وينسبون إليه من فاسد المقال: ماذا تقولون في الله ربكم وما تعتقدون، إذ أنتم في قولكم تزعمون أن لربكم وجهاً كالوجوه التي تعقلون، وأنه ذو أبعاض(1) فيما تصفون، إذ يقول(2): {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [القصص: 88]؟.
أفتقولون: إنَّ ما سوى وجهه من سائر أعضائه التي تذكرون تبقى معه، أم تفنى دونه؟
__________
(1) الأبعاض: الأجزاء.
(2) سقط من (ج): إذ يقول.

(1/213)


فإن قالوا: تبقى معه، قيل: وكيف يكون ذلك كذلك، ولم يذكر البقاء لشيء من ذلك؟ فلقد قلتم بخلاف قول العلي الأعلى، إذ لم يحكم(1) لغير الوجه بالبقاء، وأنتم تقولون: إنَّه يبقى مع الوجه غيره من الأعضاء، فلقد بقى مع الوجه إذاً شيء وأشياء، وإن قالوا: لايبقى مع الوجه غيره من الأعضاء؛ قيل لهم: فقد دخل على الله سبحانه في قولكم الزوال والفناء، والإمحاق(2) والذهاب والهلاك والبلى، إذ بعضه في قولكم يموت، ويزول ويتغير ويفوت، فلقد أدخلتم على خالقكم الصفات الناقصات الزائلات، وأزحتم عنه ما وصف به نفسه من البقاء في كل الحالات.
فلا يجدون بداً من أحد هذين المعنيين المحالين، الباطلين في الله المخالفين، الذين يكونون بانتحال أحدهما بالله كافرين، وفي دينه فاجرين، ولجميع أهل الإسلام مخالفين، ومن الإيمان والحق خارجين؛ أو يرجعوا(3) إلى قول المحقين، ويتابعوا(4) ـ في مقالتهم ـ الموحدين، فيقولوا(5) كما يقولون: إن معنى الوجه في الله سبحانه وتعالى عن كل شأن شأنه هو الله، وإنه ليس بذي أعضاء، ولا أبعاض ولا أجزاء. وذلك فمعروف في العربية، يعرفه كل من فارق لسان الأعجمية، من ذلك ما تقول العرب: هذا وجه بني فلان، تريد أنَّه المنظور إليه منهم في كل شأن، وأنه رجلهم وسيدهم، والقائم في كل أمر دونهم. وتقول العرب: هذا وجه المتاع، تريد بذلك أنَّه أفضل ما يبتاع، وتقول: هذا وجه الرأي أي محضه وصدقه، وصوابه في كل أمر وحقه(6)، لا أن له وجهاً كما يعرف من الوجوه المخلوقة في البشر، المجعولة المقدرة، المركبة المصورة.
وفي ذلك وما كان كذلك ما يقول الشاعر:
__________
(1) في (ب): إذ قلتم إنه يحكم لغير الوجه بالبقاء.
(2) الإمحاق مخففاً: الهلاك، والإمحاق مشدداً: الذهاب وهما متقاربتا المعنى.
(3) في (ب): أو يرجعون.
(4) في (ب): ويتابعون.
(5) في (ب):فيقولون.
(6) انظر لسان العرب مادة: وجه.

(1/214)


وقد يهلك الإنسان من وجه أمنه…وينجو بإذن الله من حيث يحذر
فقال: من وجه أمنه، وليس للأمن وجه ولا صورة، وإنما أراد أنَّه يعطب(1) من الوجوه المأمونة عنده المحمودة.
وقال آخر:
أسلمت وجهي لمن أسلمت…له الأرض تحمل صخراً ثقالا
وأسلمت وجهي لمن أسلمت…له المزن تحمل عذباً زلالا(2)
وقال آخر:
أضحت وجوههم شتى فكلهم…يرى لوجهته فضلاً على الملل
فقال: (أسلمت وجهي)، وإنما أراد: أسلمت ديني، واستسلمت لربي، وقصدت خالقي بكل عملي، لا أنَّه أسلم وجهه دون قلبه، ولا قلبه دون عمله، ولا عمله دون نفسه وقوله.
ومن الحجة فيما قلنا به من البيان، من أن وجهه هو لا بعضه في قيم اللغة واللسان، ما يقول الشاعر:
إني بوجه الله من شر البشر…أعوذ من لم يعذ الله دمر
وقال آخر:
أعوذ بوجه الله من شر معقل… إذا معقل راح البقيع وهجرا
__________
(1) العطب محركاً: الهلاك.
(2) البيتان لزيد بن عمرو بن نفيل بن عبد العزى القرشي العدوي، أحد الحكماء، لم يدرك الإسلام ولكنه كان يكره عبادة الأوثان ولا يأكل مما ذبح عليها، رحل إلى الشام باحثاً عن عبادات أهلها فلم تعجبه اليهودية ولا النصرانية فعاد إلى مكة يتعبد على دين إبراهيم، فأخرجته قريش من مكة، وكان يكره وأد البنات ويأخذهن من عند آبائهن فيربيهن ثُمَّ يعرضهن بعد أن يترعرعن على آبائهن، فإن أبوا زوجهن الأكفاء، رآه النبي صلى الله عليه وآله وسلم قبل النبوة وسئل عنه بعدها فقال: يبعث يوم القيامة أمة وحده، توفي قبل البعثة بخمس سنين لسبع عشرة سنة قبل الهجرة، له شعر قليل.الأعلام3/60.

(1/215)


ومما يحتج به أهل اللغة لما قال الشعراء(1) في ذلك قَولُ العلي الأعلى، مما بين فيه من أن وجهه هو لا بعضه مايقول سبحانه: {وَماَ آتَيْتُمْ مِنْ زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ}[الروم:39]، فقال: تريدون وجه الله، وإنما أراد سبحانه: تريدون الله.
ومن ذلك ما حكى رب العالمين، عن خير خلقه أجمعين، محمد وأهل بيته الطيبين، في ما كان من إطعامهم لمن ذكر الله من الأسير واليتيم والمسكين، حين يقول: {إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لاَ نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلاَ شُكُوراً}[الإنسان: 9]، فقال سبحانه: {إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ} ذي الجلال والسلطان، وإنما أرادوا بذلك الله الواحد العزيز الرحمن.
وقال سبحانه في ما نزل من الفرقان:{وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ أَيْنَمَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعاً إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [البقرة: 148]، فقال سبحانه: {وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ}، أي لكلٍّ مؤتمٌّ(2) وقبلةٌ، ولم يرد بذلك من القول والخبر؛ أنَّه وجه مصور في صورة من الصور.
وقال: {بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ}[البقرة: 112]، فقال: {مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ} أراد بذلك سبحانه من أسلم نفسه لربه، فاستسلم له في جميع أموره، وأخلص له سبحانه دينه.
__________
(1) سقط من (أ): الشعراء. وفي (ب): ما قالت الشعراء، وفي (ج): وبما قالت في ذلك.
(2) المؤتم: الشيء الذي يقصد.

(1/216)


وقال جل جلاله عن أن يحويه قول أو يناله:{فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ القَيِّمِ} [الروم: 43]، فأمره بإقامة وجهه للدين، والإخلاص في ذلك لرب العالمين، ولم يرد الوجه دون القلب وسائر الأبعاض والأعضاء، وإنما أراد بذلك العلي الأعلى: أقم نفسك لخالقك وربك، وتأويل أقم وجهك(1) فهو: قم بالدين بكليتك؛ لمصورك وجاعلك. وفي ذلك ما يقول الله سبحانه: {وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الكِتَابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [آل عمران: 72]، فلم يرد سبحانه فيما ذكر عنهم: أن للنهار وجهاً كما يعقل من الوجوه ذوات التصاوير، التي أمر بغسلها عند الوضوء، فتقدس الله عن ذلك العلي الكبير(2).
وقال عز وجل: {ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهَادَةِ عَلَى وَجْهِهَا}[المائدة: 108]، يريد على حقيقتها وصدقها، لآ أن لها وجهاً عند جميع الخلق؛ غيرَ ما قلنا به من الحقيقة والصدق.
ومن الحجة في ذلك والبيان؛ ما يقول الله ذو الجلال والسلطان: {فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ}[البقرة: 115]، ولو كان كما يصف المشبهون، ويقول به في الله الجاهلون: إنَّه وجه كما يعرف من وجوه المخلوقين ـ تعالى وتقدس عن ذلك رب العالمين ـ إذاً لما كان في كل النواحي والأقطار، فتعالى عن ذلك العلي الواحد الجبار؛ إذ المتوجه يتوجه شرقاً وغرباً ويمناً وشاماً، ولن يكون أبداً وجه واحد وجوهاً، كما لا تكون الوجوه الكثيرة وجهاً، وإنما أراد بقوله: {فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ}، أي أن الموجود في كل جهة الله الذي هو سبحانه بالمرصاد، لا يغيب عنه شيء من ضمائر أسرار العباد، وهو المحيط بالغيوب ذو المن والأياد(3).
__________
(1) في (ج) و(ب): نفسك.
(2) في (ب): العلي الكبير الأعلى.
(3) اليد: النعمة والإحسان تصطنعه، جمعه: يدي مثلثة الأول وأيدٍ وجمع الجمع أياد.

(1/217)


باب تفسير قول القائل: (واحد) ومخارجه في اللسان، وما ينفى من ذلك عن الرحمن عز وجل
إن سأل سائل ذو ارتياب، عن الله رب الأرباب، فقال المشبه الجاحد: ما معنى قولكم: إن الله واحد؟.
قلنا: إن الواحد يخرج على معان كثيرة، غير معنى ولا معنيين.
فمنها: الواحد من الجماعة والإثنين.
ومنها: النظير من نظيره، والشبيه في الروية من شبيهه.
ومنها: الجزء من الأجزاء، والعضو الواحد من الأعضاء، المتباينة والمؤتلفة، والمجتمعة والمختلفة، التي بالتئآمها يكمل الواحد المصور، وباختلافها ينقص المجعول المقدر. مثل: أبعاض الإنسان، المختلفة المجتمعة في كل شأن، التي بكمالها يكمل تصويره ويتم، وبنقصانها يزول عنه اسم التمام ويعدم، فهذه أعضاء ذات أعداد، بهن يكمل الواحد ذو الأنداد. ومن ذلك الشيء المتقلب من الحالة إلى الحالة [مثل الإنسان، وخَلْقِ الله له من السُّلالة؛ التي خلقها وقدرها من طين، وجَعْلِه إياها(1) نطفةً في قرار مكين، ثُمَّ خلق النطفة علقة، ثُمَّ خلق العلقة مضغة، ثُمَّ خلق المضغة عظاماً، ثُمَّ كسا العظام لحماً، ثُمَّ أنشأه خلقاً آخر، فتم بقدرته في الحالات؛ جسماً واحداً كامل الأدوات، وذلك قوله جل جلاله، عن أن يحويه قول أو يناله: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ مِنْ سُلاَلَةٍ مِنْ طِينٍ ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا العَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَاماً فَكَسَونَا العِظَامَ لَحْماً ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ}[المؤمنون: 12 ـ 14]، والخلق الآخر: فقد يحتمل أن يكون ما جعل فيه من بعد أن كساه لحماً من العروق والعصب، والمفاصل والقصب. وما فطر من عجيب خلق الرأس، الذي جعله سواء في جميع الناس، فجعله سبحانه قواماً للبدن كله، وأظهر فيه اعاجيب صنعه وفعله، فخلقه قطعا،
__________
(1) في (ج): وجعله إياه.

(1/218)


وجعل فيه طرقاً لما فيه من الأدوات، فكلهن فيه سالكات، جاريات متشعبات، ولخالقهن بالقدرة شاهدات، وبلطيف تدبيره فيهن ناطقات. ثُمَّ ركب فيه العينين،وحَجَّر فيه المحجَرَين(1)، وجعل في المحجرين الْغَارَين، وصوَّر في الغارين المقْلَتَين، وخلق في المقلتين النَّاظِرين،وجعل المحيط بإنسانهما ـ لتكامل التحقيق من عيانهما ـ أغشيةً من مدلهمَّات الجلابيب، ومتكاثفات اسوداد الغرابيب، ضافيتي الأنطاق، ناصعتي(2) الاطباق، جعلهما ـ جل جلاله، عن أن يحويه قول أو يناله ـ شحمتين اختص أوساطهما بالسواد، وجعله آلة للنظر في القرب والإبعاد، ولغير ذلك من الإنحدار والإصعاد، ثُمَّ جعلهما حصينتي الأطباق، حديدتي الآماق، للإدارة والإطراق، وتقلب المقلة في الحُمْلاق(3)، وغشاهما بأرواق الأجفان، بالرأفة منه سبحانه والإحسان، والعائدة بالفضل على الإنسان؛ لتلتئم عند الهجوع مطابقهما، وتطمئن لذلك علائقهما، وتريح من الحركة مدامعهما، ليقوى نظرهما، ويثقب بصرهما، ولو كان مكان سواد إطباقهما، ناصعاً ببياض نطاقهما؛ لقصرتا عن بلوغ مناظرهما، ولعجزتا عن تحديد إبصارهما، ولكثر إغماضهما، ولَقَلَّ إيماضهما. ثُمَّ حجب عنهما سبحانه بأجفانهما الأذى، وأماط عنهما بأشفارهما القذى، فلَمَّا أحكمهما بالتقدير، وأتقنهما بالتدبير، غشاهما بالحاجبين، وأظل بالحاجبين ما استجنَّ من العينين، لعلمه سبحانه بضرورة الناظِرَيْن؛ إلى ما ركب من الحاجبين، ثُمَّ جعل فيهما ـ من بعد إتقان تدبيرهما ـ شَعَراً مُسْودّاً ظاهراً عليهما، ليزيد سواده في قوة نظرهما عند استقبالهما، لبُعد اعتمادهما، ولو لم يكونا بزينة الشعر مخصوصين، وكانا مما زُيِّنتا به محطوطين(4)؛ لنقص من العينين
__________
(1) محجر العين: ما دار بها وبدا من البرقع، أو ما يبدو من النقاب.
(2) في (أ): باصعتي.
(3) الحُملاق: باطن العين الذي يسوده الكحل.
(4) في (ج): مخصوصتين، وكانتا مما زينتا به محطوطتين.

(1/219)


نظرهما، ولتَضَوَّع(1) في أرجائهما نورهما، ولعَشِيَ عن مقر التحقيق بصرهما. ثُمَّ مثَّل بينهما خالقهما أنفاً مُسْتروِحاً لأنفاسه، موقوفاً لرجعه واحتباسه، فأقام رسم حَدِّه، وأحسن التصوير في قَدِّه، وجعله هواء، معتدلاً سواء، ولولا ما دبَّر فيه، ورَكبَّه من الإحكام عليه؛ لم يُؤّدِّ ـ بلطيف اعتباره، ودقيق اختباره ـ المَحْسُوس إلى قراره، ولعجز عن بلوغ مدى الإسترواح، ومستقر غاية الأرواح، فجعله سبحانه من أصليته ناشزاً، وجعل في سراته(2) حاجزاً، ليوقف(3) رجع الأنفاس، بين العجلة والإحتباس، قسمه بحكمته، لتكامل لطيف نعمته. ثُمَّ شق تحت وتر أَرْنَبتَهِ(4)، مَسْلَكَ ما قدَّر من أغذيته، وخلق فيه لساناً(5) مؤدياً عن منطقه ولفظه، بين طبقتين خلقهما لحفظه، فجعله لحماً، وأجرى فيه عروقاً ودماً، ولو جعله عصباً قاسياً، أو فطره عظماً جاسياً، لَكَانَ ذلك له من الترجمة مانعاً، وعن الجَوَلاَن بالحركات قاطعاً. فسبحان من جَعَلَه معبراً عن ضمائر الصدور، ومترجماً لكل ما تميزه العقول من الأمور، وَرَكَّبَ فيه استطاعة لفظه، وخصَّه بالوافر من حظه، وأجرى فيه عذوبة ريقه، لتمييزه بين مُختَلِفِ ذوقه. ثُمَّ علق على أقاصيه عقد لَهَاتِه، ليعرف بها لذيذ شهواته؛ نعمة من الخالق على خلقه، ليلتذوا بالطيبات من رزقه، ولو كان موضعها منها عاطلاً، لم يكن الالتذاذ إلى ملتذه واصلا، ولرجعت مختلِفَات أنفاسه، إلى المكنون من أمِّ رأسه. ثُمَّ فتق سبحانه، وعظم عن كل شأن شأنه بعد ذلك في مرتقها](6) سمعا(7)، جمع به محكم الآلات جمعاً، فأدى ذلك إلى العقول عظمة خالقها،
__________
(1) تَضَوَّع: انتشر.
(2) في (ج): سوائه.
(3) في (ج): لتوقيف.
(4) أرنبة الأنف: طرفه.
(5) سقط من (أ): لساناً. وفي (ج): وخلق فمه مؤدياً، وخدش لفظه. وفي هامشه كما أثبت.
(6) في (ب): من مرتقهما. وما بين المعكوفين ساقط من (ب).
(7) يعني أنَّه تعالى شق في ملتحمها سمعاً.

(1/220)


وشملت الجوارح به نعمة جاعلها، وألبس أرجآء السمع أذناً لاستقرار جولان الوَحَى(1) في محاله، وإزاحة الشك النازل به وإبطاله. ثُمَّ عطف أطراف غرضوفهما(2)، على البواطن من حروفهما(3)؛ للحوق جولان الأصوات، ولولا ذلك لعجزت عن درك القالات، مع ما ركب من غير ذلك في ظاهره وباطنه من المركبات، وجعل فيه سبحانه كل ما يحتاج إليه الجسم من الآلات والأدوات.
ثُمَّ علق في صدره قلباً، وركب فيه لباً، ثُمَّ جعله وعاء للعقل الكامل، وحصناً للروح الجايل، حفظه عن مزدحمات الأعذية بانحطاطه، ورفعه عن مقرها من الجوف بمتعلق نياطه، فَقَرَّ بتدبير الخالق في أحصن حصن، وأبعده مما ركب وجعل في البطن(4). وفوقه من الصدر هوآء، وتحته أدوات ومعآء، فهو مقر لثابت الأنفاس، متملك لخدمة جميع الحواس، إن شاء شيئاً شِئْنَه، وإن أباه بلا شك أَبَيْنَه، به تنزل مدلهمات الغموم، وإليه مأوى نوازل الهموم، وعند انشراحه للشيء يوجد به الفرح والسرور، وبقبوله له تكمل الغبطة في كل الأمور، جعله الله آلة للفطن والفكرة، وفطره على ذلك من الفطرة، وذلك قول الرحمن، فيما أنزل من الفرقان: {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لاَ تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى القُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ}[الحج: 46]، وقال سبحانه وعظم عن كل شأن شأنه: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ} [ق:37]، يقول: إن فيما تقدم من فعلنا بمن مضى، ممن نزل عليه ما نزل من عذابنا؛ لذكرى لمن كان له قلب يعقل به ويفهم، ويتدبر ما يرى من فعلنا فيعلم.
__________
(1) الوحى كالوغى: الصوت.
(2) الغرضوف والغضروف: العظم اللين الذي يؤكل خلاف الشديد.
(3) يعني أطرافهما.
(4) في (أ) و(ج): بطن.

(1/221)


وقد يحتمل ويكون معنى قول الرحمن، فيما نزل من واضح النور والفرقان(1): {ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقاً آخَرَ}[المؤمنون: 14]، هو ما ميز من خلق الأنثى والذكر، فيكون لما أن كسا العظام لحماً؛ جعله من بعد ذلك ذكراً أو أنثى، فحينئذ بقدرة الله تمت السلالة(2)، وفيما قلنا به من الخلق ما يقول الله عز وجل في سورة القيامة من خلق الزوجين، فهذا عندي والله أعلم فأشبه القولين.
ثُمَّ نرجع من بعد شرحنا للواحد المؤتلف، والواحد المنتقل المختلف ـ والله فبريء من ذلك، تبارك ربنا وتعالى أن يكون كذلك ـ فنقول: إنَّه قد يخرج معنى قول القائل واحد في اللسان، وفيما يقال به فيه من المعنى والبيان؛ أن يكون الواحد من الإثنين المتشابهين في المعنى، المتقاربين في الصفة والإستواء، فيقال هذا وهذا مثلان، وهما إذا ذكرا أو قيسا شيئان(3)، وهما في التشابه و الاتفاق؛ واحد بغير ما افتراق، والله سبحانه فعن مشابهة الأشياء أو مشاكلتها فبريءٌ، وعن مناظرة المجعولات فمتعال عليٌّ.
وقد يخرج معنى الواحد ـ فيقال به فيه، ويستدل به في لغة العرب عليه ـ على معنيين:
أحدهما: البائن بالسؤدد والإفضال، فيقال: هذا واحد في فعله من الرجال، إذا فعل مالا يفعله غيره، ويقصر عنه آله وقومه.
والآخر: إثبات الواحد ونفي الثاني، إذ الواحد لا أول قبله، والثاني فقبله عدد وبعده.
ويخرج معنى قولنا: الواحد على أنَّه لا شبيه له ولا نظير، ولا كفؤ صغير ولا كبير، وهو الله الواحد الأحد الخبير.
فالله سبحانه هو الواحد في فعله، الذي لم يصنع أحد كصنعه، الخالق الذي لا خالق سواه، كما قال تقدست أسماؤه: {هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيرُ اللَّهِ} [فاطر: 3].
__________
(1) في (ب): فيما قال في واضح ما نزل من النور والفرقان.
(2) السلالة: النطفة، لأن الإنسان استل منها. وهي في نسخة (أ): السلامه.
(3) في (ب): إذا نكرا.

(1/222)


وهو الواحد الذي لم يكن من شيء، وهو الموجد لكل شيء، لم يكن سبحانه من أصل، ولا يكون منه أبداً فصل، {لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُؤاً أَحَدٌ}[الصمد: 4ـ5]. الواحد في الربوبية والقدرة، والعزة والملك والكبرياء والعظمة، فكل قادر فمقدور عليه، وكل ملك فملكه مسلوب(1) من يديه، وكل عزيز فأَيْسَرَ العزة نال(2)، غير الله الواحد ذي الجلال، وذي العز الكامل الدائم، والملك السرمد الباقي الدائم، القادر فلا يقدر عليه، العادل فلا ظلم لديه، البريء من أفعال العباد، المتعالي عن اتخاذ الصواحب والأولاد، {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرٌ}[الشورى: 11]، لا تحيط به الأقطار، ولا تجول بتحديدٍ فيه الأفكار، ولا تنتظمه الصفات والأخبار، ولا تدركه سبحانه الأبصار، وهو يدرك الأبصار، وهو اللطيف الخبير، القائم سبحانه بنفسه، الذي لا قوام لغيره إلاَّ به، لا تجري عليه الأزمنة، ولا تحويه الأمكنة، وكيف تجري الأزمنة أو تحوي الأمكنة من كَوَّن كلَّ مكانٍ، وأوجد بعد العدم كل زمان؟ وهو الله الواحد الرحمن، سبحانه وتعالى ذو المن والإحسان.
بابُ الرَّد على من قال: إن اللّه جسم، وجواب من سأل عن معنى قول الموحدين: (إن اللّه شيء لا كالأشياء)
إن سأَلَ من الخلق سائلٌ، أو تعنَّتَ مُتَعِّنتٌ قائل، فقال: ماذا تقولون، وإلى أي معنى من المعاني تذهبون؛ في اللّه ذي الجلال، وذي الجَبَرُوت والمِحَال، أَشَيءٌ هو تقولون، أم غير ذلك تزعمون؟
__________
(1) في (ج) و(ب): ملك فمسلوب ملكه.
(2) في (ب): فأيسر العزة بالٍ. كذا.

(1/223)


قلنا: بل نقول: إن ربنا ـ جل وتقدس إلهُنا ـ شيءٌ لا كالأشياء، سبحانه تبارك وتعالى، لا يشبهه ولا يدانيه شيء، ولم يزل سبحانه قبل كل شيء، وهو المُشَيِّئُ لكل الأشياء، المتفرد بالخلق والرزق والإماتة والإحياء، الموجد لما يُتَوهَّم، أو يُرَى بالأعين وغيرها من الحواس، من الذوق والشم والسمع والحواس(1)، لا تحيط به الأفهام، ولا تقع عليه بِتَحْدِيدٍ الأوهامُ(2)، وهو الأول في آخريته، والآخر في أوليته، والظاهر في باطنيته، والباطن في ظاهريته، المنفرد بالوحدانية، البائن بالأزلية، الشاهد الداني في عُلُوِّه، البعيد النائي في دُنُوِّه، كما قال سبحانه: {هُوَ الأَوَّلُ وَالآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ}[الحديد: 3]،وكذلك ربنا الرحمن الرحيم، يعلم ما يكون قبل كينونته، كما يعلمه من بعد بَيْنُونَتِهِ، عِلْمُهُ بما اسْتَجَنَّ(3) في قعور البحار، وما انْطَوَتْ عليه الجَوَانِحُ من ضمائر الأسرار؛ كَعِلْمِهِ بما ظهر وأَنَار؛ مِنْ واضح القول والإخبار، الصَّمد الذي لا غاية بعدَهُ يُصْمَد(4)، الواحد الذي ليس كمثله أحد، لم يكن له قبلٌ ولا بعد، ولا يكون له أبداً مِثْلٌ ولا نِدٌّ، مبتدئ(5) الأحياء، وباعث الموتى، ووارث الآخرة والأولى.
فإن قال قائل: فماذا تريدون، وما إليه تذهبون بقولكم: شيء؟
قلنا(6): نريد بقولنا شيء: إِثْبَاتَ المَوْجُود، ونَفْيَ العدم المفقود؛ لأن الإثبات أن نقول: شيء، والعدم أن لا نثبت شيئاً؛ لأنَّ من أثبت شيئاً؛ فَقَدْ أثبت صانعاً مُدَبِّراً، ومن لم يثبت شيئاً؛ كان في أمره ذلك مُتَحيِّراً، ودخل عليه ضد الإقرار، وهو النفي والشك والإنكار.
__________
(1) في ب: والجواس بالجيم.
(2) في ج: ولايقع عليه التحديد بالأوهام.
(3) استجن: استتر وخفي.
(4) الصمد: المقصود المعتمد.
(5) في (ب): مبيد.
(6) في (ب): قيل له.

(1/224)


فإن سأل وقال(1)، وتردد في الضلال؛ فقال: فلِمَ لا تقولون، وعلى ما قلتم تقيسون؛ فتقولون: إنَّه جسم لا كالأجسام، فيكون هذا يخرج على ما يخرج عليه أول الكلام؟
قلنا له: ليس الصَّوابُ كالمَحَال، وَهَذا في اللّه فأَحْوَلُ المَقَال؛ لأنه ـ وإن اشتبه عندك فيما ترى ـ مخالف لما تقدم من الشيء في كلِّ معنى؛ لأنا نرى الجسم أبداً شيئاً مُتَجَسِّماً، ولسنا نرى كلَّ الأشياء كائناً جِسْماً، فالشَّيءُ يعم الأشياء كلها، والجِسْمُ فإنما يقع على بعضها، فلما اختلف معناه في الخاص والعام، اختلف جميع قياسه في الكلام. وكذلك كلما قِيْسَ أو ضرب له مثل(2)، فإنما يقاس ويُشَبَّه بما كان مِثْله في كلِّ مَا سَبَبٍ وحَالْ، كما يُحْذَا المِثَالُ على المثال، فأما الضد فلا يقاس بضده؛ إذ حَدُّه على خلاف حَدِّه.
وفيما قلنا به ـ من الشيء الذي لا كالأشياء ـ ما يقول اللّه الواحد الأعلى: {قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِيَ إليَّ هَذَا القُرْآنُ لأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ أَئِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللَّهِ آلِهَةً أُخْرَى قُلْ لاَ أَشْهَدُ قُلْ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ}[الأنعام: 19]، فَذَكَر ـ سبحانه وتعالى عما يصف المبطلون، ويقول عليه به الملحدون ـ أَنَّه شيء موجود، لا يذكر ولا يوصف بحد من الحدود، {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ}[الشورى: 11]، أَلا ترى أنَّ جميعَ أهل الإسلام، الذين هم على دين محمد عليه السلام؛ يقولون لمن اتهموه بسَخَافة دين، أو قِلَّةِ خشْيَةٍ أو يقين: ما تعبد من شيء، ولا توقن بشيء، يريدون ما تعبد الذي يعلم أمرك، ويوفيك أجرك.
__________
(1) في (ب): فإن سأل سائل وقال.
(2) في (ب) و(ج): مثَله.

(1/225)


فإن قال قائل: فما دليلكم على أنَّ مِنَ الأشياءِ المشاهدةِ المعلومةِ(1) بدلائلها المفهومةِ، ما ليسَ هو بجسم معروف، فأَوْجِدُونَا ذلك في أي صنف شئتم من الصنوف؟
قلنا له: من ذلك أفعالُ العبادِ، وما يكون منهم من سوءٍ ورشاد، من الصَّدقة والقيام، والصلاة والصيام، وغير ذلك من حركات السحاب في السَّير، وما يُسْمَع من خفقان أجنحة الطير، وما تكثر لو شرحناه به الأقاويل، ويطول به الكلام والتأويل، وَكُلُّ ذلك من افعال الخلق فَقَدْ سمَّاه اللّه بأحق الحق شيئاً وأشياء، في قوله تبارك وتعالى: {وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ}[القمر: 52 ـ 53]، فسمَّى أفعالهم شيئاً وأشياء، وبَيَّن ذلك فيما نزل من النور والضياء، وهي أعراض ليست بأجسام، إذ لاتقوم إلا بالأجسام، وإِنَّما هي صفاتٌ ودلالاتٌ، وحركاتٌ وعلاماتٌ تتفرَّع من الأجسام غير متلاحقات، فهي أَشْياءٌ وليست بأجسام، والأجْسامُ أبداً فليسَت غير أجسام(2).
فإن قال: فما دليلُكم على أنَّ ما يكون من حركاتكم التي هي متفرعة من أجسامِكم غيرُ أجسامكم، وأنَّ أجسامكم هي غير حركاتكم؟
__________
(1) في(ب): لا يوصف ولا يدرك.
(2) في (ج): غير الأجسام.

(1/226)


قلنا له: علمنا ذلك وفهمناه، ووقفنا عليه وعرفناه؛ لأنا نجد الأجسامَ تكون منها الحركات بالقعود والقيام وهي (1) مجتمعة متلاحقة، وتسكن وتهدأ وهي قائمة بأعيانها غير مفترقة، والحركات (2) غير متلاحقة ولامؤتلفة، بل هي متصرفة متباينة مختلفة، بعضها لا يلحق بعضاً، ولانعلم لها بعد خروجها طولاً ولاعرضاً، فاستدللنا بذلك على الفرق بين الأجسام والأفعال، في كلِّ ما حالٍ من الأحوال(3) ولذلك قلنا: إن كل جسم شيء، وأن ليس بجسم كل شيء، فلمَّا أَنْ خرج بعْضُ الأشياء من أن ينتظمه اسم الجسم، ولم يخرج الجسم من أن ينتظمه اسم الشيء في الحكم؛ قلنا: إن اللّه سبحانه وتعالى شيء ليس كسائر الأشياء، ولو كان كما يقول المبطلون إنه صورة أو جسم من الأجسام، لكان ذو الجلال والإكرام مشابهاً لما خلق من الصور والأجسام، ولَلَحِقَت به الفِكَرُ والأوهام، ولَجَرَت عليه حوادث الليالي والأيام، ولكان مضطراً محتاجاً إلى المكان، ولو احتاج إلى المكان لَخَلَتْ منه مواضع كثيرةٌ عظيمة الشأن، ولو كان ذلك كذلك ـ تعالى اللّه سبحانه ـ عن ذلك لَما كان كما قال، وذكر عن نفسه ذو الجلال والجبروت والمِحَال، حين يقول: {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاَثَةٍ إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ وَلاَخَمْسَةٍ إِلاَّ هُوَ سَادِسُهُمْ وَلاَ أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلاَ أَكْثَرَ إِلاَّ هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَمَا كَانُوا}[المجادلة: 7]، ومن خلا منه مكان فقد حواه مكان، ومن حَوَاه مكانٌ فقد حُدَّ بالنواحي والحدود، وخرج بلا شك (4) من صفة المعبود، وصار إلى حد المحدودين، وانتظمه شبه المربوبين، فتعالى عن ذلك رب العالمين، وتقدس عن مشابهة المخلوقين.
__________
(1) يعني الأجسام.
(2) في (ب) و(ج): والأفعال والحركات. وهو عطف تفسير.
(3) في في (ج): من الحال.
(4) في (ب): وخرج بذلك بلا شك.

(1/227)


فيا ويل المشبهين للرحمن، بما خلق وذرأ من الإنسان، أما سمعوه كيف نفى ذلك عن نفسه، فيما نزله من فرقانه ووحيه؟ فقال: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ اللَّهُ الصَّمَدُ لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُؤاً أَحَدٌ}[الصمد: 1 ـ 5]، والأحد فهو: الواحد الذي ليس كمثله أحد، و (الصمد) فهو: الغاية والمقصد؛ الذي ليس من ورائه مقصد. والذي لم يلد ولم يولد فهو: اللّه الذي لم يلد فيكون ولده له شِبْهاً (1) ومِثْلاً، ولم يولد فيكون والده له بُدْءاً وأصلاً، بل هو خالق الوالد والأولاد، وفاطر السموات والأرضين ذات المهاد، {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُؤاً أَحَدٌ} والكفؤ فهو: المِثْلُ والنَّظير، والعديل في الكثير كان أو اليسير، في بعض الأشياء كان أو في كلها، صغيرها وكبيرها، والأحد فهو: الواحد الذي ليس معه ثان.
فكيف يقولون ويلهم في اللّه بما لايعلمون؟! وقد يرون قوله في نفسه ويسمعون، فهم في قولهم وافترائهم كما قال الله ذو الجلال والجبروت، وذو العزة والعظمة والملكوت: {وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الكَذِبَ أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنَى لاَجَرَمَ أَنَّ لَهُمُ النَّارَ وَأَنَّهُمْ مُفْرَطُونَ}[النحل: 62]، فنعوذ بالله من الحيرة عن الهدى، ومن التَّكَمُّه في الغي والردى، وحسبنا اللّه العلي الأعلى.
[باب القول في بعض صفات الفعل وكيفية اتصاف الله بها والرد على من زعم أزليتها]
إن سأل سائل مسترشد، أو قال متعنت قائل: أتقولون: إن الله ذا الجلال والإكرام، وذا القدرة والملكوت والإنعام، لم يزل متفضلاً جواداً كريماً قوياً محسناً غفوراً رحيماً؟
__________
(1) في (ب): شبيهاً.

(1/228)


قيل له: إن هذا الذي ذكرت، ممّا عنه سألت وسطرت؛ أفاعيل من الواحد الجليل، وقد كان سبحانه وجل عن كل شأن شأنه ولما يفعل الجود والرحمة، والعفو والإحسان والنعمة، ثم فعلها، وبعد العدم أوجدها. ونحن فنقول: لم يزل المتفضل الجواد الكريم، والمحسن الغفور التواب الرحيم، فنُدخل في ذلك الألف واللام؛ ليكون قولنا وخبرنا عن الواحد الرحمن، ذي الجلال والسلطان، ولا نطلق القول عليه(1) والكلام؛ في ذلك بغير الألف واللام؛ لأن في ذلك توهيم قدم الخليقة من المرحومين، وتثبيتاً لأزلية التوابين المربوبين.
فإن قال: أفتقولون: إنه كان غير تواب رحيم، ولا متفضل محسن كريم؟ قلنا له: لا نقول ذلك؛ لما فيه من توهيم البخل والفظاظة وضد الإحسان، والله فبرئ من ذلك له الأسماء الحسنى في كل شأن.
فإن قال: أفتقولون: إنه لم يزل صمداً؟ قيل له: نقول: لم يزل الواحد الصمد، ولا نطلق(2) القول بغير الألف واللام؛ لأن الصمد عند أهل المعرفة والتمام هو الغاية المعمود، والنهاية المقصود، الذي ليس من ورائه مصمد، ولا يوجد بعده للمطلوبات مقصد، الذي تقصده البرية في شأنها، وتضرع إليه في كل أسبابها. وفي إطلاقنا ذلك على ما قلت، وقولنا فيه بما ذكرت؛ توهيم أن البرية الحادثة الفانية، من الخليقة الضارعة لم تزل، وهذا فاحش من المقال، مستنكر في كل حال. ولكن نقول: لم يزل الصمد، وكذلك نقول: لم يزل المشكور المحمود، ولا نطلق القول بلا ألف ولا لام؛ لما في ذلك من توهيم السامع من الأنام؛ من أنه لم يزل الحامد أزلياً مع المحمود، والشاكر قديماً مع المشكور.
__________
(1) سقطت عليه من (أ) و(ج).
(2) في (أ) و(ج): ولا نطلق في ذلك.

(1/229)


فإن قال أحد من أهل الضلال: أفتقولون: إنه كان في زمن من الأزمان؛ غير محمود ولا مشكور في كل شأن؟ قلنا له: لا نطلق ما تقول؛ لما فيه من توهيم الذم في اللفظ والقول، ولكن نقول: لم يزل المحمود المشكور ذو الطول؛ لأن الحمد لا يكون إلا من حامد بالحمد ناطق، والشكر لا يكون إلا من شاكر راتق فاتق(1)، فمتى أطلق القول، في الله ذي الجلال والحول، بأنه لم يزل محموداً مشكوراً، فقد أثبت معه أزلية الحامد الشكور، وفي هذا إبطال التوحيد، الذي لا يكون إلا لله الواحد الحميد، الذي لم يزل من قبل أن يوجد كل حامد شاكر، أو ضال مخالف على الله كافر.
[باب تفسير معاني الإرادة في الله عز وجل]
إن(2) سأل سائل مسترشد أو ضال، أو قال متعنت في المقال، عن إرادة الله تبارك وتعالى فقال: ما هي، وعلى أي الوجوه هي؟ قيل له: إن الإرادة تخرج على ثلاثة معان، وكلهن معروف في اللغة جار:
فأولهن: إرادة الله لا يجاد المخلوقين، وفتق رتق السماوات والأرضين، فلما أراد ذلك كان بلا كلفة ولا عون أعوان، إذا أراد شيئاً أوجده، وإذا أوجده فقد أراده، فمشيئته إرادته، وإرادته مشيئته، ليس له مثل ولا نظير، وهو الواحد اللطيف الخبير.
والثاني: فهو إرادة الأمر، وهو قوله سبحانه: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ فَسُبْحَانَ الَّذِيْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كَلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُوْنَ}[يس: 82 ـ 83]، ومن ذلك قوله: {وَمَنْ كَانَ مَرِيْضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيْدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيْدُ بِكُمُ الْعُسْرَ}[البقرة: 185]، يقول سبحانه: يأمركم بما فيه التسهيل لكم، والتيسير عليكم.
__________
(1) في (ب): رايق فاتق. والصواب: ما أثبت، هو كناية عن فعل الشيء وضده.
(2) في (ج): بسم الله الرحمن الرحيم إن.

(1/230)


وكذلك كلما أراد ذو الجلال، و(ذو)(1) القدرة والمحال، من عباده من جميع الأفعال، فإنما هو أمرٌ ونهيٌ من رب العالمين، يأمر به وينهى عنه جميع المخلوقين. فأما قوله سبحانه: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُوْنُ}، فليس يتوهم إن ثمَّ مخاطبة من الله للعدم، وإنما ذلك منه سبحانه وتعالى عن كل شأن شأنه إخبار عن نفاذ قدرته، ومضي ما أراد من مشيئته، فتعالى من ليس له شبيه ولا عديل، ولا ضد(2) ولا مثيل، وهو الله الواحد الجليل، ذو القدرة والسلطان، كما قال سبحانه في وحيه، وذكر تعالى عن نفسه، فقال فيما نزّل من الفرقان، وبين لعباده من التبيان: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيْعُ الْبَصِيْرُ}[الشورى: 11]، الذي خلق السموات والأرض وأنزل من السماء ماء، وجعل الأرض قراراً، وجعل خلالها أنهاراً، مجيب المضطرين، وكاشف السوء عن المكروبين، والمهلك لمن يشاء من العالمين، والهادي في الظلمات، والرازق في كل الحالات، والبادئ(3) خلق المخلوقين، والمعيد لهم يوم الدين، والرازق لجميع عباده المرزوقين. وفيما ذكرنا من منته على خلقه؛ ما يقول سبحانه في محكم تنزيله ووحيه، ويحتج به على عباده: {أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَّا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ أَمَّنْ جَعَلَ الأَرْضَ قَرَاراً وَجَعَلَ خِلالَهَا أَنْهَاراً وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزاً أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْقِلُوْنَ أَمَّنْ يُجِيْبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلَكُمْ خُلَفَاءَ الأَرْضِ
__________
(1) ليس في (أ) و(ج).
(2) في (أ): شبيه ولا مثيل ولا ضد.
(3) في (أ): والباري للمخلوقين.

(1/231)


أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيْلاً مَّا تَذَكَّرُوْنَ أَمَّنَ يَهْدِيْكُمْ فِيْ ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَنَ يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْراً بَيْنَ يَدِيْ رَحْمَتِهِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ أَمَّنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيْدُهُ وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِيْنَ}[النمل: 60 ـ 64].
والوجه الثالث: فهو إرادة المخلوقين، وهي بالنية والضمير، تعالى عن ذلك رب العالمين، وتقدس عن مشابهة المربوبين، وإنما يحتاج إلى النية والضمير، من لم يكن بعالم ولا خبير بعواقب أفعاله، ومتصرفات نوافذ أعماله، فهو ينوي ويضمر، ويدبر ما يورد ويصدر؛ لقلة فهمه بالعواقب، ولحاجته إلى المعين والأعوان والآلات في كل حال وأوان، إذا أراد أن يصرف فيه(1) من شأنه شأناً. فالحمد لله الذي بان عن مشابهة العجزة المربوبين، وتقدس عن مماثلة المتحرفين المتصرفين، والعاقبة للمتقين، وصلى الله على محمد خاتم النبيين وإمام المرسلين، وعلى أهل بيته الطيبين.
باب تفسير العلم في الله
والرد على من قال إن لله علماً سواه، به يعلم الأشياء
إن سأل سائل فقال: ما تقولون في الله ذي الجلال، ألَه علم؟ قيل له: إن معنى قولك: لله علم، يخرج على ثلاثة معان معروفة بينة، وكلها في اللسان فواضحة منيرة.
منهن: أن تكون تريد أن له علماً أنزله على المرسلين، وعلمه إياهم ومن تبعهم من المؤمنين، مثل التوراة والإنجيل والزبور والفرقان الجليل، فنحن بذلك في الله نقول.
والثاني: أن تكون تريد أنه العالم بالأشياء(2)، الذي لا يخفى عليه سر ولا نجوى، وأنه يعلم ما لم يكن مما سيكون، كما يعلم ما قد كان من الفعل وبان، فكذلك قولنا في الله ذي السلطان.
__________
(1) في (أ) و(ج): يصدر فيه.
(2) في هامش (ج): المتفرد بالإماتة والإحياء.

(1/232)


والثالث: أن تكون تقصد، وفيما ذكرت من قولك تعمد؛ أن لله علماً سواه، به يعلم في الحالات؛ ما يكون من المعلومات، وهذا في الله سبحانه فأحول المحال، وأبطل ما يقال به من المقال؛ لأنه لو كان كما تقول وتعبّر، أو كان على شيء مما تذكر وتسطّر؛ لم يخل من أحد معنيين، وكلاهما عن الله سبحانه زائلان:
إما أن يكون هذا العلم الذي شرحت، وقلت وادعيت وذكرت؛ علماً أزلياً، قديماً مع الله أوليّاً، فتثبت حينئذ الأزلية لشيئين، وتصح القدم لقديمين اثنين، وهذا فإبطال التوحيد، والإشراك بالله الواحد الحميد، ودفع ما قال في كتابه، الذي أنزله على خير عباده؛ حين يقول سبحانه وجل عن كل شأن شأنه: {هُوَ الأَوَّلُ وَالآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيْمٌ}[الحديد: 3]، وقوله سبحانه: {اللهُ خَالِقُ كَلَّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيْلٌ}[الزمر: 62]، وكيف يكون أولاً بديّاً؛ من كان معه في الأولية ثان؟! وكيف يخلق كل شيء، من قد كان معه قبل خلق كل الأشياء شيء، فتعالى عن ذلك الرحمن العلي(1).
__________
(1) في (أ): الرحيم.

(1/233)


أو أن يكون هذا العلم الذي عنه سألت، وفيه تكمهت وقلت؛ شيئاً أوجده الخالق المصور من بعد، وأخرجه من العدم إلى الوجود الواحد المقدر؛ فيكون في هذا غاية التجهيل، لمن له القدرة المهيمن الجليل؛ لأنه إن كان إنما علم الأشياء، بما خلق من العلم وذرأ؛ فقد كان الله الواحد الكريم، من قبل إيجاد العلم غير عليم، ومتى زال عنه في حالة من الحالات، أن يكون عالماً بالسرائر الخفيات؛ أعقب ذلك الجهل أكبر الجهالات؛ لأن العلم والجهل ضدان مختلفان، وفي كل المعاني متباينان، ومن نسب إلى الله سبحانه الجهل في حالة من الحالات، أو نفى عنه العلم في وقت من الأوقات؛ فقد أشرك به جل جلاله عن أن يحويه قول أو يناله، ومن أشرك به فقد جحده، ومن جحده فقد أنكره، ومن أنكره فلم يعرفه، ومن لم يعرفه فلم يعبده، ومن لم يعبده بعرفان، ويعرفه بغاية الإيقان، فهو كما قال سبحانه في واضح الفرقان، وفيما نزله(1) على نبيه من النور والبرهان، حين يقول: {أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُوْنَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلاَّ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضْلُّ سَبِيْلاً}[الفرقان: 44]، وكما قال سبحانه: {وَلَقْدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيْراً مِنَ الْجِنِّ وَالإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَ يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لا يَسْمَعُونَ بِهَا أُوْلَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَئِكَ هُمُ الْغَافِلُوْنَ}[الأعراف: 179]، صدق الله ورسوله، إن في خلقه لمن هو كذلك، وعلى ما ذكر الله سبحانه من ذلك، من غير أن يكون أدخلهم فيه، ولا جبلهم ـ تبارك وتعالى ـ عليه، بل هو منهم اكتساب، وقلة إنصاف منهم للألباب،ومكابرة للحق، ومعاندة للصّدق، واقتداء من الأبناء؛ بمن مضى من جهلة الآباء، فتبارك الله العالم بنفسه(2)، العادل في كل فعله، الذي لم يزل عالماً
__________
(1) في (أ) و(ج): فيما نزل.
(2) أي الذي ليس علمه سواه.

(1/234)


خابرا، ولم يكن في وقت من الأوقات بشيء جاهلاً.
باب تفسير القدرة
والرد على من زعم أن لله قدرة سواه بها يقدر على الأشياء(1)
وكذلك قولنا لمن سأل عن قدرة ربنا، فقال: هل لله قدرة فيما(2) يقولون، وإليه تذهبون مما تتقلدون(3)؟ قيل له: إن معنى قولك هذا يحتمل ثلاثة معان مختلفات متفرقات(4)، غير مجتمعات في شيء من الجهات.
فمنهن: أن تكون تريد بسؤالك عن قدرة الرحمن، على ما خلق، وذرأ ذو المن والسلطان(5)، من عجائب ما خلق من المخلوقات، ومدبّرات ما دبّر وافتطر من المفطورات، من الأرضين والسماوات، وما سوى ذلك من المجعولات، اللواتي يشهدن لمدبّرهن بالحول والقوة، وينطقن له في كل أوان بالقدرة؛ فكذلك نقول، وإليه بلا شك نؤول.
__________
(1) في (أ): قدرة بها قدر على الأشياء.
(2) في (أ): كما.
(3) في الأصل: فيما تقلدون.
(4) في (ب): مفترقات.
(5) في (ب): ما خلق ذو المن والسلطان.

(1/235)


أو أن يكون(1) رأيك ومقصدك، ومذهبك في ذلك ومعتمدك؛ ما خلق الله سبحانه وأعطى، وبث في الخلق وذرأ؛ من القدرة التي أعطاها جميع الخلق؛ من الاستطاعة التي بث في جميع أهل الباطل والحق، ليعبدوه بها ويطيعوه، ويستعملوها في طاعته ويرضوه، ثم هداهم النجدين، ومكنهم في ذلك من العملين، ولم يحُل بينهم وبين أفعالهم، ليجازيهم على جميع أعمالهم، ثم أمرهم بالطاعة، ونهاهم عن المعصية، ثم قال: {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا وَهُمْ مِنْ فَزَعِ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوْهُهُمْ فِيْ النَّارِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلاَّ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ}[النمل: 89 ـ 90]، وقال: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَراً يَرَهُ}[الزلزلة: 7 ـ 8]، ثم قال من بعد الإعذار والإنذار، والدعاء والتبصير والإخبار: {فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِيْنَ نَاراً أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِنْ يَسْتَغِيْثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقاً}[الكهف: 29]، فقصد للطاعة(2) قاصدون، ونكب عنها ناكبون، ورفض قوم الهوى وركبوا(3) التقى(4)، وترك قوم التقى واتبعوا الهوى، فحق للمطيعين الوعد من الرحمن بالجنان، ووجب على العاصين ما أوعد(5) من النيران، وفي أولئك(6) ومن كان من الخلق كذلك؛ ما يقول ذو السلطان والجبروت، وذو الرأفة والقدرة والملكوت: {فَأَمَّا مَنْ طَغَى وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا فَإِنَّ الْجَحِيْمَ هِيَ الْمَأْوَى وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى فَإِنَّ
__________
(1) في (ب): أو يكون.
(2) في (أ): الطاعة.
(3) في (أ): وارتكبوا.
(4) في الأصل: التقوى.
(5) في (ب): ما أوعدوا.
(6) في (ب): ذلك.

(1/236)


الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى}[النازعات: 37 ـ 41]، وقال في من دعي إلى الحق فأبى، وأُمر بالطاعة فعصى، وآثر على الحق الهوى: {فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيْبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّه لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِيْنَ}[القصص: 50]، وقال جل جلاله، عن أن يحويه قول أو يناله: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيْهِ مِنْ بَعْدِ اللهِ أَفَلا تَذَكَّرُونَ}[الجاثية: 23]، وقال: {أَرَأَيْتَ مَنْ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيْلاً}[الفرقان: 43]، فإن كنت تريد هذا القول فإنا به ـ ولله الحمد ـ نقول، ونشهد بالمنة فيه للعلي ذي الحول(1).
وإن كنت تريد بقولك وما تتكلم به من كلامك: إن لله قدرة سواه بها يقدر على ما يريد ويشاء، تعالى الله عن ذلك العلي الأعلى، فهذا ما لا نقوله، ولا نذهب إليه ولا نجيزه؛ لأنه من المقال قول فاسد محال؛ لأن القدرة لو كانت كذلك، تعالى الله عن ذلك، لم تخل من:
__________
(1) في (أ) و(ج): الطول.

(1/237)


أن تكون قديمة أولية فتكون ثانية مع الله أزلية، وهذا فإبطال التوحيد، وعين المضادة لله الواحد الحميد، وإبطال القرآن، وتكذيب الرحمن؛ لأنه سبحانه يقول: {هُوَ الأَوَّلُ وَالآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيْمٌ}[الحديد: 3]، ويقول: {لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ للهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ}[غافر: 16]، فقال سبحانه: {هُوَ الأَوَّلُ} فذكر أنه الأول قبل كل شيء، فلا يكون الأول إلا فرداً لا ثاني معه، كما لا يكون الآخر إلا الذي لا شيء بعده، وكذلك (الواحد)، فهو الذي لا ثاني معه، وذلك الله الجليل الرحمن، المتعالي عما يقول حزب الشيطان. فهذا من قولهم، فمعنى فاسد باطل، وعن الحق ـ ولله الحمد ـ حائل.

(1/238)


أو أن تكون محدثة مُكوَّنة تُعلم، ويكون الله أوجدها من بعد العدم؛ فيدخل بذلك العجز على الله والتضعيف، فتعالى عن ذلك القوي اللطيف؛ لأن ضد القدرة العجز، فمتى عدمت القدرة ثبت العجز، فيلزم من قال بإحداث قدرة المهيمن القادر، أن يقول: إن الله كان عاجزاً غير قادر، فإن كان كما يقول الجاهلون، وينسب إليه الضالون، إنه كان ولا يقدر، حتى أوجد وخلق ما به قدر، فبماذا ويلهم خلق القدرة التي يذكرون، أنه خلقها من بعد العدم ويقولون، فإن كان الله أحدثها وهو غير قادر، وأوجدها وصورها وفطرها ـ وهي التي لا شيء يعدلها، ولا شيء من المجعولات إلا وهو دونها، إذ لا يوجد شيئاً ولا يخلق إلا بها ـ بغير ما قدرة منه عليها؛ فلقد كان فعله في غيرها أنفذ، ومراده في سواها أوكد، فلم(1) ويلهم خلقها وأوجدها، وهو يوجد مثلها بغيرها؟ فلقد كان عنها مستغنياً، وبما خلقها به مكتفياً مستعلياً. فتبارك عن ذلك ذو الجلال والجبروت الواحد الحي الصمد الذي لا يموت، القادر العالم بنفسه، البريء من شبه خلقه، الذي لم يزل ولا يزال، وهو الواحد ذو القدرة والجلال، الأول الذي لا ثاني معه، والآخر الذي لا شيء مثله(2).
باب تفسير معنى قوله الحي
إن قال قائل، أو سأل عن معنى الحي سائل. قيل له: الحي يخرج على ثلاثة وجوه:
__________
(1) في (ج): فبم.
(2) في هامش (ج): بعده.

(1/239)


فمنهن: المتحرك من ذوي الحواس المفهومة، من الملائكة والجن والإنس وغير ذلك من الخلائق المعلومة وغير المعلومة، ذوات الأرواح الجايلة المستجنّة فيما خلق الله لها من الأبدان التي هي فيها مستكنّة، كما قال الله عز وجل: {وَاللهُ خَلَقَ كُلَّ دَآبَّةٍ مِنْ مَّاءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ يَخْلُقُ اللهُ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيْرٍ}[النور: 45]، فكلها حي ما دام فيه روحه، فإذا خرج روحه حلت به وفاته وموته، والله من ذلك سبحانه فبريء، وعن التجَسُّم(1) والزوال فمتقدس علي.
__________
(1) في (ب): التجسيم.

(1/240)


والمعنى الثاني: فما يحييه وينشيه لجميع المخلوقين، مما يذرأ ويخرج للعباد، بالماء المبارك في الأرض ذات المهاد، من النخيل الصنوان وغير الصنوان، ذوات الطلع الهضيم، وغيرها من رزق الواحد الكريم، من النبات والفواكه والأشجار، التي تخرج وتحيى بما ينزل الله عليها من الأمطار، كما قال ذو المن المهيمن الجبار: {وَجَعَلْنَا مِنْ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلا يُؤْمِنُونَ}[الأنبياء: 30]، وقال سبحانه: {وَتَرَى الأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيْجٍ}[الحج: 5]، وقال جل جلاله عن أن يحويه قول أو يناله: {وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُوراً لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنَا أَنْعَاماً وَأُنَاسِيَ كَثِيْراً وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلاَّ كُفُوْراً}[الفرقان: 48 ـ 50]. ومثل هذا مما ذكره الله أنه يحييه بالماء، مما يعاين ويرى، فكثير غير قليل، في واضح ما أنزل الله من التنزيل. فهذه أجسام تحيى بالماء ليست بذوات أرواح(1) جايلة في الأجسام؛ كما تجول الأرواح فيما خلق الله من الدواب والهوام، وإنما حياتها اخضرارها، ومكون الماء فيها وارتواؤها، [فسمى الله ما كان كذلك حيّاً كما ذكر سبحانه في كتابه، وكذلك](2) تقول العرب لما كان من الأشجار على ذلك، تقول: هذه نخل حيّة(3)، إذا كانت مخضرة روية، والله سبحانه فبريء من هذا المعنى، ومن مشابهة شيء من الأشياء.
والمعنى الثالث: فهو الذي لا يجوز غيره في الله ذي السلطان، وذي الجبروت والرأفة والإحسان، وهو أن معنى الحي: هو الذي يجوز منه الفعل والتدبير، وذلك فهو الله الحي الدائم اللطيف الخبير.
باب تفسير قوله السميع
__________
(1) في (ب): بأرواح.
(2) سقط ما بين المعكوفين من (أ).
(3) في (ج): نخلة حية.

(1/241)


والرد على من قال إنه سبحانه يسمع بحاسّة(1)
إن سأل سائل عما ذكر الله الكريم في القرآن من قوله: {وَهُوَ السَّمِيْعُ الْعَلِيْمُ} [البقرة:137. الأنعام:13، 115. الأنبياء: 4. العنكبوت: 5، 60]، فقال: ما معنى السميع عندكم، وما معناه في أصل قولكم؟ قيل له: يخرج ذلك على معان أربعة معلومة، معروفة عند جميع العرب مفهومة:
فأولهن: أن يكون معنى سميع هو (عليم)، والحجة في ذلك قول الرحمن الرحيم: {أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ}[الزخرف: 80]، والسر فهو ما انطوت عليه الضمائر ولم يبد، فذلك أسر السرائر، والنجوى فهو ما يتسارّ به ويخفيه المتناجون، من الكلام والمحاورة فيما يخفون ويكتمون. والسّر الذي في القلوب فلن يسمع؛ لأنه مستجن لم يبن فيشرح ويسمع، وإنما يسمع ما ترجمه اللسان، وباح به ضمير الإنسان. وإنما أراد ذو الجلال، بما قال في ذلك من المقال: التوبيخ لهم والإخزاء، والتوقيف لهم على ما يأتون به من الخطأ؛ إذ يتوهمون(2) أن الله تخفى عليه خافية، سراً كانت أو علانية، فقال: {أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ}[الزخرف: 80]، يقول لا نعلم ولا نحفظ من أمرهم، ما يكتمونه من سرهم، ويُكنونه في غيابات ضمائرهم.
__________
(1) في (أ): سميع بجارحة.
(2) في (ب): يتهمون.

(1/242)


والمعنى الثاني، في اسم الواحد البارئ: أن يكون السميع هو: (المجيب للداعين)، ممن دعاه من عباده المؤمنين. والحجة في ذلك فما حكى الواحد الكريم، عن نبيه زكريا وخليله إبراهيم، حين يقول زكريّا: {رَبِّ هَبْ لِي مِنَ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيْعُ الدُّعَاءِ}[آل عمران: 38]، وقول خليله إبراهيم الأواه الحليم: {إِنَّ رَبِّيَ لَسَمِيْعُ الدُّعَاءِ}[إبراهيم: 39]، يعني عليه السلام إن ربي لمجيب(1) لمن يشاء من الأنام. وفي ذلك ما تقول العرب، لمن سأل من الله أو طلب: سمع الله دعاك، أي أجاب الله طلبتك ونداك.
والوجه الثالث: قول القائل من الراكعين المصلين: (سمع الله لمن حمده)، ومعناه أي قبل الله ممن حمده، وأثاب على شكره من شكره.
فهذه الثلاثة الوجوه اللواتي يجوز أن يوصف بهن الرحمن، وهنّ فواضحات عند من عرف العربية والبيان.
__________
(1) في (أ): ربه مجيب.

(1/243)


والوجه الرابع فلن يجوز على الواحد الجليل في شيء من الأقاويل، وهو موجود في المخلوقين، متعال عنه رب العالمين، وهو (الإصغاء بالأذان) والإنصات، لجولان(1) دواخل الأصوات، ومستقر مفهوم القالات(2)، فتعالى عن ذلك المهيمن الكريم، المتقدس الواحد الفرد العظيم. وكيف يكون سبحانه كذلك، أو يجوز المقال لمن قال فيه بذلك؟! وقد يسمع(3) قول ذي الجلال، وذي القدرة والمحال: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيْعُ الْبَصِيْرُ}[الشورى: 11]، وقوله: {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُؤاً أَحَدٌ}[الصمد: 5]، والكفو فهو المثل والنظير، في الصغير كان أو في الكبير، ولو كان ذا جوارح لكان ذا أعضاء، ولو كان ذا أعضاء لكان جزءً فيه أجزاء، ولو كان جزء(4) لكان بلا شك جسماً، (ولو كان جسماً)(5) لجرت عليه الحوادث والأزمان، ولأشبه ما خلق من الإنسان، ولو كان كذلك لم يكن بخالق ولكان مخلوقاً؛ لأن كل جسم لا بد له من جاعل مجسّم، إذ لا بد لكل مجعول من جاعل، كما لا بد لكل مفعول من فاعل، ولكل مصنوع من صانع، ولكلِّ مقطوع من قاطع. فسبحان من ليس كذلك، ولا على شيء من ذلك، لا تحيط به الظنون، ولا يصفه الواصفون، إلا بما وصف به نفسه، من قوله هو وأنه(6) سبحانه كما قال في آخر الحشر: {هُوَ اللهُ الَّذِيْ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيْمُ(7) هُوَ اللهُ الَّذِيْ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوْسُ السَّلامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهِيْمِنُ الْعَزِيْزُ الْجَبَارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ هُوَ اللهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ
__________
(1) في (ب): بجولان.
(2) في (ب): المقالات.
(3) في (أ): وقد سمع.
(4) في (ب) و(ج): أجزاء.
(5) سقط سهواً من (ب).
(6) في (ب): أنه.
(7) في الأصل لم يذكر إلا إلى هنا، ثم قال: إلى آخر السورة.

(1/244)


مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيْزُ الْحَكِيْمُ}[الحشر: 22 ـ 24].
وكذلك وصفه أنبياؤه ورسله، لمن حاربه وأنكره، وجحد نعمته وعانده. من ذلك قول الملعون اللعين فرعون، للنبيَّيْنِ موسى وهارون صلى الله عليهما حين دعواه إلى الإيمان بربه، والإقرار بوحدانيته، فقال مجيباً لهما، مكذباً لقولهما: {فَمَنْ رَبُّكُمَا يَا مُوْسَى}[طه: 49]؟ فقال موسى صلى الله عليه: {رَبُّنَا الَّذِيْ أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى}[طه: 50]، فقال فرعون اللعين الأعمى: {فَمَا بَالُ الْقُرُوْنِ الأُوْلَى}[طه: 51]؟ فقال موسى صلى الله عليه: {عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّيْ فِيْ كِتَابٍ لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنْسَى الَّذِيْ جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ مِهَاداً وَسَلَكَ لَكُمْ فِيْهَا سُبُلاً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِنْ نَبَاتٍ شَتَّى كُلُوا وَارْعَوا أَنْعَامَكُمْ}[طه: 53 ـ 54]

(1/245)


ومثل هذا كثيرغير قليل، فيما أنزل الله من واضح التنزيل، من دلالة(1) أنبيائه عليه، وذكرهم له بما نسبوا من فعله إليه. من ذلك قول (هود) صلى الله عليه، لمن أرسل من الخلق إليه؛ حين يقول: {وَاتَّقُوا الَّذِيْ أَمَدَّكُمْ بِمَا تَعْلَمُونَ أَمَدَّكُمْ بِأَنْعَامٍٍ وَبَنِيْنَ وَجَنَّاتٍ وَعُيْونٍ}[الشعراء: 132، 134]. ومن ذلك قول (شعيب) صلى الله عليه لأصحاب الأيكة المخسرين، فيما أمرهم به من طاعة رب العالمين: {واتَّقُوا الَّذِيْ خَلَقَكُمْ وَالْجِبِلَّةِ الأَوَّلِيْنَ}[الشعراء: 184]، ومن ذلك قول إبراهيم، المطهر الكريم؛ لعبدة الأصنام، الشاكين في الله الطغام؛ حين يقول صلى الله عليه: {أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَعْبُدُونَ أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الأَقْدَمُونَ فَإِنَّهُمْ عَدُوٌ لِيْ إِلاَّ رَبَّ الْعَالَمِيْنَ الَّذِيْ خَلَقَنِيْ فَهُوَ يَهْدَيْنِ وَالَّذِيْ هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِيْنِ وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُو يَشْفِيْنِ وَالَّذِيْ يُمِيْتَنِيْ ثُمَّ يُحْيِيْنِ وَالَّذِيْ أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِيْ خَطِيْئَتِي يَوْمَ الدَّيْنِ رَبِّ هَبْ لِيْ حُكْماً وَأَلْحِقْنِيْ بِالصَّالِحِيْنَ وَاجْعَلْ لِيْ لِسَانَ صِدْقٍ فِيْ الآخِرِيْنَ وَاجْعَلْنِيْ مِنَ وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيْمِ}[الشعراء: 75، 85].
__________
(1) في (ب): أدلة، كذا وهو غلط.

(1/246)


ومن ذلك قوله صلى الله عليه وسلم لأبيه وقومه، ودلالته إياهم على ربهم وربه عز وجل حين يقول: {بَلْ رُبُّكُمْ رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ الَّذِيْ فَطَرَهُنَّ وَأَنَا عَلَى ذَلِكُمْ مِنَ الشَّاهِدِيْنَ}[الأنبياء: 56]. فكل الأنبياء عليهم السلام، يدل على ربه ذي الجلال والإكرام بآياته وبفعله(1)، وما ذرأ وأوجد من خلقه، لا بتبعيض ولا بتصوير ولا تحديد، ولا بمشابهة لما خلق من العبيد. فسبحان من ليس له شبيه(2) ولا عديل، ولا ضد ولا مثيل، وهو الفرد الصمد الجليل، الذي كينونته في السموات العلى، ككينونته في الأرض السابعة السفلى، الذي لا تراه العيون الناظرة، ولا تدركه(3) الأوهام الخاطرة؛ في الدنيا ولا في الآخرة، النافذ قضاؤه، والعزيز أولياؤه، والذليل أعداؤه، المرضي لمن أرضاه، المعذب لمن عصاه، الداعي إلى دار السلام(4)، المبتدئ بالفضل(5) والإنعام، مبتدئ(6) الأحياء، وباعث الموتى، وجامع الخلق ليوم لا ريب فيه، المتكفل بالكفاية لمن توكل عليه، المتولي الموفق الهادي(7) لمن انقطع إليه، كذلك(8) الله أكرم الأكرمين، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.
باب تفسير قول الله سبحانه {وَاللهُ بَصِيْرٌ بِالْعِبَادِ}
والرد على من قال من أهل الإلحاد إنه يبصر بعين كأعين العباد
إن سأل سائل مسترشد عن ذلك، أو تعنت متعنت ضال هالك. قيل له: إن معنى (بصير) يخرج على معنيين، بينين عند أهل العلم نيرين:
__________
(1) في (ج): وأفعاله.
(2) في (ج): شبه.
(3) في (أ): تتوهمه.
(4) في (ب): دار الإسلام.
(5) في (ب): بالفضائل.
(6) في (أ) و(ج): مبيد.
(7) سقط: الهادي، من (ب).
(8) في (أ): ذلك.

(1/247)


فأما أحدهما فهو: (العالم) بالأشياء طرّاً(1)، من ذلك قول العرب: فلان بصير بالفقه والنَّحو والحساب، بصير بالشعر والكلام في كل الأسباب، تريد أنه به عالم، وبه في كل حال قائم. فعلى ذلك يخرج قول الرحمن ذي الأياد، حين يقول: {وَاللهُ بَصِيْرٌ بِالْعِبَادِ}،(2) يريد عالم بهم، محيط بكل أمرهم، مطلع على خفي سرهم.
والمعنى الآخر، فهو: (البصر والنظر بالعين)(3)، والله عن ذلك فبريء، وعنه متعال علي؛ إذ ذلك ومن كان كذلك مشابه للمخلوقين، وقد نفى ذلك عن نفسه رب العالمين، حين يقول: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيْعُ الْبَصِيْرُ}[الشورى: 11]. ولو كان كما يقول من كفر بكتابه، وجحد بآياته(4)؛ لكان مشبهاً لكل ما نراه ونجده، ونحيط به ونعلمه، من المبصرين بالأعين من المربوبين، ولو كان ذلك كما يقولون؛ لبطل قوله: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ}، ولو بطل من الكتاب شيء يسير؛ لبطل منه الجليل الكثير، ولو بطل بعضه لأشبه الباطل كله؛ بل يؤكد(5) بعضه بعضاً، فلن يبطل منه حرف أبداً، وكيف يبطل أو يتناقض ما أحكمه ذو الجلال والسلطان، وحفظه من كل سوء الرحمن؟! ألا تسمع كيف يقول: {وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيْزٌ لا يَأْتِيْهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنَ يَدِيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيْلٌ مِنْ حَكِيْمٍ حَمِيْدٍ}[فصلت: 42]، ويقول جل جلاله عن أن يحويه قول أو يناله: {بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيْدٌ فِيْ لَوْحٍ مَحْفُوظٍ}[البروج: 21 ـ 22]، فكيف يتناقض أو يبطل ما حفظه الواحد الكريم، وحاطه من كل باطل أو دنس ذميم، ومنَعَهُ وحجره عن الشيطان الرجيم؟ كذب العادلون بالله وضلوا ضلالاً بعيداً، وجاروا عن قصد الحق جوراً شديداً.
تم كتاب المسترشد من أوله إلى آخره، إلا أنه على(6) التقديم والتأخير، بحمد الله ومنّه، والحمد لله أولاً وآخراً، وصلى الله على سيدنا محمد النبي وآله الأخيار وسلم(7).
__________
(1) في هامش (ج): طرّاً الذي لا تخفى عليه نية ولا نجوى.
(2) في الأصل: البصير بالعين.
(3) في (ب): البصر بالعين والنظر.
(4) في (أ): آياته.
(5) في (أ): مؤكدٌ.
(6) في (أ): وهو على.
(7) في (أ): وصلواته على محمد النبي وعلى أهل بيته الطاهرين وسلامه وحسبنا الله ونعم الوكيل.

(1/248)


كتاب الرد على أهل الزيغ من المشبهين(1)
m
قال الإمام يحيى بن الحسين صلوات الله عليه:
[ماذا نعبد ؟]
إن سأل مسترشد سائل(2) أو قال متعنت قائل (أو ملحد)(3): ماذا يعبد الخلق؟
قيل له: يعبدون الخالق الذي فطرهم وصورهم، وابتدعهم وأوجدهم.
فإن قال: وأين معبودهم؟ أفي الأرض أم في السماء؟ أم فيما بينهما من الأشياء؟
__________
(1) في (أ) و(ج): باب الرد ...إلخ.
(2) في هامش ط: في ب تقديم وتأخير يجعل العبارة: سائل مسترشد. وكذلك في ب.
(3) في هامش ط: غير موجودة في أ.

(1/249)


قيل له: بل هو فيهما وفيما بينهما، وفوق السماء السابعة العليا، ومن وراء الأرض(1) السابعة السفلى، لا تحيط به أقطار السموات والأرضين، وهو المحيط بهن وبما فيهن من المخلوقين، فكينونته فيهن ككينونته في غيرهن، مما فوقهن وتحتهن، (وكينونته فيما فوقهن وتحتهن)(2)، ككينونته قبل إيجاد ما أوجد من سمواته وأرضه، فهو الأول الموجود من قبل كل موجود، المكوِّن غير مكوَّن، والخالق غير مخلوق، والقديم الأزلي(3) الذي لا غاية له ولا نهاية، الذي لم يحدث بعد عدم، ولم يكن لأزليته غاية في القدم(4)، البريء من أفعال العباد، المتعالي عن اتخاذ الصواحب والأولاد، المتقدس عن القضاء بالفساد، صادق(5) الوعد والوعيد، المحتج بالبراهين النيرة على العبيد، الداني في علوه، والعالي في دنوه، خالق السموات والأرضين، وهو الموجد لأولهن، والمبيد آخراً لما أوجد منهن، والمبدل بهن في يوم الدين غيرهن.
فإن قال: فما معنى كينونته فيهن وفي غيرهن مما بينهن؟ ألعِظَم جسم أحاط بهن وكان كذلك فيهن؟ أم لسرعة تحَوُّل و انتقال منهن إلى غيرهن، ومن غيرهن إليهن؟
قيل له: ليس إلهنا سبحانه كذلك، ولا يقال فيه بذلك، وهو سبحانه متعال عن الانتقال، متقدس عن الزوال، وعن التصور في صور الأجسام، تعالى عن ذلك ذو الجلال والإكرام.
ولكن معنى قولنا: إنَّه فيهن، هو أنَّه مدبر لهن، قاهر لكل ما فيهن، مالك لأمرهن، ولأمر(6) ما بينهن، وما تحتهن وما فوقهن، لا أنَّه مستجن بهن(7)، ولا داخل ـ كدخول الأشياء ـ فيهن.
فإن قال السائل المتعنت: فما هو في ذاته عندكم؟ ـ إذا(8) كان كذلك في قولكم، وما تعتقدون في دينكم ـ أجسم هو أم عرض؟
__________
(1) في (ج) و (ب): ومن وراء الأرضين. وما هنا في هامش (ج).
(2) سقط من ط مابين القوسين.
(3) في ج: الأول.
(4) في ط: العدم.
(5) في ب، ط: الصادق.
(6) سقط من ط.
(7) في ط: لأنه مسخر لهن. ولعله تصحيف.
(8) في ج: إذ.

(1/250)


قيل له: تعالى ربنا عن ذلك علواً كبيراً، لا نعتقد شيئاً من ذلك، وليس ربنا سبحانه كذلك، لأن الجسم محدود مُبَعَّضٌ(1)، والله فليس كذلك، والعرض فلا قوام له إلاَّ بغيره، والله فهو المقيم لكل شيء، والذي لا يحتاج إلى معونة شيء، فلذلك قلنا: إن ربنا على خلاف قولك.
فإن قال: أفنوراً تعبدون؟ أم ظلمةً هو تقولون؟ أم غير ذلك مما يعقل تذكرون؟ وإلا فما أراكم تعبدون شيئاً عليه تقفون؟ ولا تدعونني إلى عبادة شيء أعرفه(2)؟ ولا إلى الإقرار بإله يقف(3) عقلي وفهمي(4) على صفته، فكيف أعبد ما لا أعرف؟، أو أتَعَبَّدُ لما لست عليه أقف؟ وإنما لا يجب علي أن أقر به، فضلاً عن أن أعبده. وإنما يجب عليَّ أن أعبد إلهاً عرفته فلم أنكره، ووقَعَتْ عليه حواسي فلم أَدْفعَه، فأما ما لم أقف(5) عليه بعقلي، ولم أعرفه بشيء من حواسي، فكيف يكون عندي ثابتاً، فضلاً عن أن يكون واحداً فاعلاً(6)؟! والوحدانية فإنما تكون عندي، وتثبت في قلبي؛ لما عرفته بصفاته، وحددته(7) بذاته، فحينئذٍ أقف على وحدانيته، فأما ما لم أقف له على تحديد ولم أعرفه بكون ذاته، فكيف أُوَحِّده، بل كيف أعبده؟ أوجدوني(8) بقولكم حجة وتبياناً، وأظهروا لي بذلك حقاً وسلطاناً.
__________
(1) يعني مجزَّأ.
(2) في ط: لا أعرفه. وفي هامشه: غير موجودة في الأصل. والصواب حذفها. والمعنى: ولا أراكم تدعونني إلى عبادة شيء معروف، بل إلى عبادة ما لاأعرفه ولا أقف عليه.
(3) في ط: لا يقف. وفي هامشه: غير موجودة في الأصل، والصواب حذفها.
(4) في ط: ووهمي.
(5) في ج: يقف عليه عقلي.
(6) في ب: يكون رباً فاعلاً. وفي (ط): واحداً قادراً فاعلاً.
(7) في ط: ب: ووجدته.
(8) بمعنى: اجعلوني واجداً حجة. وفي ط: أوجدوا لي.

(1/251)


قيل له: لعجز حواسك وعقلك عن دَرْك(1) معبودك جل جلاله بالتحديد، صح له سبحانه ما أنكرت من التوحيد، لأن حواسك وعقلك أدوات مجعولات، مركبات على درك المخلوقات مثلهن، المصورات بالخلق كتصويرهن، فأما ما لم يكن لهنَّ مشابهاً، ولا لمعانيهن مُشَاكِلاً، وكان عن ذلك متعالياً، ولم يكن له حد ينال، ولا شبه تضرب له به الأمثال؛ فلا يدرك جل جلاله بهن، ولا تدرك معرفته بشيء منهن، ولا يستدل عليه إلاَّ بما دل به على نفسه، من أنَّه هو، وأنه القائم بذاته.
فلما صح عند ذوي العقول والتبيان، وثبت عند(2) كل ذي فهم وبيان، أن الحواس المخلوقة، والألباب المجعولة؛ لا تقع إلاَّ على مثلها، ولا تلحق إلاَّ بشكلها، ولا تَحُدُّ إلاَّ نظيرها، صحت له سبحانه ـ لَمَّا عجزت عن درك تحديده ـ الوحدانية، وثبتت للممتنع عليها من ذلك(3) الربوبية، لأنَّه مخالف لها في كل معانيها، وبائن عنها في كل أسبابها. ولو شاكلها في سبب من الأسباب؛ لوقع عليه ما يقع عليها من درك الألباب.
__________
(1) يعني إدراكه.
(2) في ج: في عقل كل ذي.
(3) يعني من الإدراك بالحواس.

(1/252)


فلما تباينت ذاته وذاتها، فكانت هي فعله وكان هو فاعلها؛ بانت بأحق الحقائق صفاته وصفاتها، فكان دَرْك الأفهام والعقول لها بالتبعيض والتحديد، والانحدار منها والتصعيد، وكان درك معرفته سبحانه بأفعاله، وما أظهر من آياته، ودل به على نفسه من دلالاته، من خلق أرضه وسمواته، وما ابتدع بينهما من خلقه، فكان الدرك بالصنع والأفعال للصانع الفاعل؛ كالدرك بالعيان سواء سواء عند كل ذي فهم عاقل، فكان درك الحواس لما شاكلها وما كان مثلها في التحديد والعيان(1)، وكان دركها لما باينها فلم يشاكلها(2)، وكان على خلاف ما هي عليه من تقديرها وتصويرها متقدساً عن مشاكلتها، بما تدركه من أفعاله، وتقف عليه من آياته في أنفسها دون غيرها، ثم في غيرها من بعدها.
فلما أن وَجَدت العقولُ والحواسُّ أجساماً مثلها، مصوراتٍ في الخلق كتصويرها، وأعراضاً لا تقوم إلاَّ بغيرها؛ استدلت على الفاعل بفعله، ووقفت على معرفة الخالق بخلقه، كما يُعرف كل ذي عمل بعمله، ويُستدل على كل صانع بفعله، لأنك متى وقفت على جدار مبني علمت أن له فاعلاً بانياً، وكذلك إذا وقفت على ثوب معمول؛ علمت أن له عاملاً غير مجهول، وكذلك لو سمِعَتْ حاسةُ السمع(3) صوتاً؛ لعلم السامع أنَّ له مصَوِّتاً منه كان، ومن بعد خروجه من حلقه بَانَ لسامعه، ووضح علمه لعالمه(4).
__________
(1) كذا في النسخ، ولعل الصواب: بالعيان، أو: بالتحديد والعيان. ويكون متعلقاً بـ(درك).
(2) في ج، ب: يشابهها.
(3) في ب: حاسة الأذن.
(4) في ب، ط: لعامله.

(1/253)


وكذلك لما رأَتْ حاسةُ البصر الآياتِ المجعولات، وما فطر اللّه من الأرضين والسموات؛ علم ذو الحاسة بعقله وتمييزه أن لذلك مدبراً جاعلاً، وخالقاً محدثاً فاعلاً، ليس لشيء من خلقه مشابهاً ولا مُشاكِلاً، لأن كل ما يدرك بالتحديد والتبعيض والعيان من الأشياء لاتخلو من أن يكون غيرها جعلها، أو هي جعلت أنفسها، فلما أن كان ذلك كذلك؛ نظرنا في خلقها لأنفسها فاستحال عندنا، وامتنعت من قبوله عقولنا، لأنها كانت من قبل الجعل عدماً، والعدم فلا يَجْعَل موجوداً، ولا يخلق جسماً، لأنه ليس بشيء، وما لم يكُنْ بشيء فلا يفعل أبداً شيئاً، فضلاً عن أن يخلق جسماً.
فلما أن بطل ـ لما ذكرنا ـ أن تكون جعلت أنفسها، ثبت أن الجاعل لها غيرها، المصور المقدر لخلقها (فلما أن ثبت أن فاعلها غيرها؛ ثبت أنه بخلافها)(1)، وأنه مباين في كل الأمور لها، غير مشاكل لشيء منها.
فلما أن صح بُعْدُه عن مُشَاكلتها؛ صح عجز المجعولات عن درك جاعلها، وثبت انحسارها عن تحديد خالقها، فلما أن صح عجزها عن دركه، وثبت انحسارها عن تحديد خالقها؛ ثبت بذلك له أيها السائل ما أنكرت من معرفته سبحانه.
فلما ثبتت لك معرفته؛ صحت لك بلا شك وحدانيته، ولما صحت له الوحدانية؛ وجبت له جل جلاله الربوبية. فافهم ما عنه سألت، وانظر فيه إذا نظرت بِلُبٍّ حاضر، ورأي وارد صادر، يَبِن لك في ذلك الصواب، وينكشف لك عنه الحجاب، إن شاء الله، والقوة بالله وله.
[حجج العقل والنقل ـ هل تتضاد؟]
__________
(1) سقط من (ط).

(1/254)


ومن الحجة أيضاً في ذلك، ولمن قال ذلك، أن يقال له(1): أخبرنا عن العقل الذي (تريد بزعمك) (2) أن تقف به على معرفة ربك، أَحُجة هو لله فيك، أم ليس هو بحجة له عليك؟ فلا يجد بداً من أن يقول هو حجة لله فيَّ، ركبها سبحانه للاحتجاج بها علي، فإذا قال ذلك، وكان الأمر عنده فيه كذلك؛ قيل له: أو ليس كذلك القرآن، هو حجة عليك وعلى غيرك من الرحمن؟
فإذا قال: نعم، كذلك أقول، وإلى ذلك اعتقادي يؤول. قيل له: فهل يجوز أن تتضَادَّ حجج اللّه وتختلف، وتتباعد في المعاني فلا تأتلف؛ فتدل إحداهن على معنى، وتبطله وتنكره الأخرى؛ فكلما أثبتت حجة العقل لله حجة على العباد أنكرتها ودفعتها وخالفتها وأبطلتها حجة اللّه في الكتاب(3)، وكلما أثبتت حجة اللّه في القرآن شيئاً، دفعته حجة العقول دفعاً؟
فإن قال: نعم، يكون ذلك ويوجد، استُغني عن مناظرته بجهله، واستدل بذلك على كفره، وخالف الخلق أجمعين، وقال بما لم يقل به أحد من العالمين، وافتضح عند نفسه فضلاً عن غيره؛ لأنَّه يزعم أن حجج اللّه تتناقض وتتضاد، وما تناقض وتَضَادَّ فليس بحجة لله على العباد.
وإن رجع إلى الحق، وتعلق من القول بالصدق؛ فقال: لا يجوز ذلك، ولا يكون أبداً كذلك، لأن حجج اللّه على الخلق يؤكد بعضها بعضاً، ويشهد ناطقها من القرآن؛ لمُسْتَجِنِّ مُرَكَّبِها في الإنسان؛ ويشهد عقل الإنسان لنواطق حجج القرآن، وكذلك ما نطق به الرسول يشهد له القرآن والعقول.
__________
(1) في (ج): ومن الحجة في ذلك أيضاً أن يقال لمن قال ذلك: أخبرنا.
(2) في هامش (ط): مطموستان في ب.
(3) في (ج): القرآن.

(1/255)


من ذلك ما يروى عن النبي المصطفى (السراج المنير، والحجة لرب العالمين على عباده أجمعين)(1)، عليه وآله أفضل صلاة أرحم الراحمين، من أنَّه قال: (( سيكذب عليَّ (من بعدي)(2) كما كذب على الأنبياء من قبلي، فما أتاكم عني فأعرضوه على كتاب الله، فما وافق كتاب اللّه فهو مني وأنا قلته، وما خالف كتاب اللّه فليس مني ولم أقله )).
فأخبر صلى الله عليه وآله وسلم أنَّه لا يأتي منه قول مخالف للكتاب، لأنَّه حجة لله (في كل الأسباب، ولن يخالف حجة من حجج اللّه حجة، وكذلك العقل فهو حجة لله)(3) على خلقه، لا يوضح ولا يدل إلاَّ على ما دل عليه(4)القرآن وأوضح.
فإذا فهم ما قلنا به من ذلك السائل، وقال به، من أن حجج اللّه يؤكد(5) بعضها بعضاً، ولا يبطل شيء منها شيئاً، قيل له: كيف ـ يا لك الخير ـ تريد من العقل المخلوق أن يصف لك الخالق، ويقف لك عليه بتحديد، وفي ذلك إبطال ما نطق به القرآن من التوحيد لله الواحد الحميد؟ وذلك قول الرحمن، فيما نزل من النور والفرقان، حين يقول: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ}[الشورى: 11]، وحين يقول سبحانه: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ اللَّهُ الصَّمَدُ لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُؤاً أَحَدٌ}، والكفؤ هو المثل والنظير، في الصغير كان من الأمور أو الكبير.
وهذا كله، وما كان من القرآن مثله؛ فينفي عن اللّه التشبيه.
__________
(1) سقط من (ب) و(ط).
(2) زيادة من (ج).
(3) سقط من ب، ط.
(4) في (أ) و(ج): إلاَّ على ما دل عليه وأوضحه القرآن.
(5) في (أ) و(ج): ووقف على أن حجج اللّه يؤكد.

(1/256)


فكذلك حجة اللّه من العقول في الإنسان تَنْفِيْ ما نفاه عن اللّه [المحكم من] (1) القرآن، ولو ثَبَّت لك عقلك، أو صحح لك لبك (أن ربك محدود، أو أنَّه جسم كسائر الأجسام موجود؛ لكان عقلك قد ثبت لك)(2) أن ربك كغيره من الأشياء، فتعالى عن ذلك العلي الأعلى.
ولو كان ذلك كذلك لتناقضت حجج الرحمن، في كل قول وبيان، ولو تناقضت حججه؛ لبطلت فرائضه، ولو بطلت فرائضه لبطل معنى إرساله للرسل(3)، ولو بطل معنى إرساله لرسله؛ لبطل معنى أمره ونهيه، ولو بطل معنى أمره ونهيه لبطل معنى ثوابه وعقابه، ولو بطل معنى ثوابه وعقابه لبطل معنى خلقه لدنياه وآخرته، ولو بطل معنى خلقه لدنياه وآخرته لبطل معنى خلقه لسمواته وأرضه، ولو بطل معنى خلقه لسمواته وأرضه لبطل معنى خلقه لما فيهما وبينهما من خلقه، ولو بطل معنى خلقه لما فيهما وما بينهما من خلقه لَمَا كان لِمَا أَوْجَدَ من ذلك معنى، ولو لم يكن لجميع ما أوجد من الأشياء أو بعضها معنى ثابت مفهوم، صحيح بَيَّن معلوم؛ لدخل بذلك على الحكمة الفساد، لأن الحكيم لا يفعل فعلاً إلاَّ لسبب وأمر ومعنى. ومن فعل فعلاً لغير معنى فإنما ذلك منه عبث أو جهل، ولو دخل على الحكيم ضد الحكمة لكان اسم الجهل له لازماً، ومن لزمه اسم الجهل فليس بخالق، والخالق فهو الحكيم غير الجاهل. فتعالى اللّه الرحمن الرحيم، الخلاق الحكيم، [لا إله إلاَّ هو] (4) الواحد الكريم، عما يقول فيه المبطلون، ويضيف إليه الفاسقون، ويصفه به الجاهلون.
__________
(1) زيادة من (ط)، وهامش ج.
(2) سقط من ب، ط.
(3) في (أ) و(ج): لرسله.
(4) في (أ) و(ج): إلا له الواحد الكريم.

(1/257)


فلينظر من نظر في كتابنا هذا إلى ما يؤول إليه قول من قال بتناقض حجج الرحمن، واختلافها في الشرح والبيان، فإنه يؤول إلى جحدان(1) الخالق وإبطاله ودفعه له بما يُدْخل عليه من الجهل في خلق ما يخلق، إذ خلق ـ بزعم من جهل وفسق ـ لغير معنى؛ ـ وقد نعلم أن من فعل فعلاً لغير سبب ولا معنى فإنما عَبثَ واستْهزَأ، وضاد الحكمة فيما به أتى، والله سبحانه فمخالف لذلك، متعال سبحانه عن الكينونة كذلك.
فقد بان، بحمدالله، لكل ذي عقل وعرفان، وفهم وتمييز وتبيان(2)، أن من قال بتناقض حجج الرحمن غير عارف(3) به ولا مقر، ومن لم يعرف اللّه جل جلاله عن أن يحويه قول أو يناله فلم يعبده، ومن لم يعبده فقد عبد غيره، ومن عبد غيره فهو من الكافرين، ومن كان من الكافرين فقد خرج ـ بحمد الله ـ من حد المؤمنين. فنعوذ بالله من الجهل والعمى، ونسأله الزيادة في الرحمة والهدى، وحسبنا اللّه (ونعم الوكيل، ونعم المولى ونعم النصير، ولا حول ولا قوة إلاَّ بالله العلي الكبير. والحمد لله رب العالمين، وصلى اللّه على سيد المرسلين، محمد وأهل بيته الطيبين.
__________
(1) في (ج): جحد الخالق.
(2) في (ج): وبيان.
(3) في (أ) و(ج): أمر من قال بتناقض حجج الله أنَّه غير عارف...إلخ.

(1/258)


كتاب تفسير الكرسي(1)
m
قال الإمام الهادي إلى الحق يحيى بن الحيسن صلوات الله عليه:
أما بعد فإني أحمد إليك(2) الله الذي لا إله إلاَّ هو، وأسأله أن يصلي على محمد عبده ورسوله، وعلى أهل بيته، وأن يجعلك من أهل ولايته، وَيَحْبُوك بحفظه وكلاءته.
ثم إني سأذكر لك نبأ أهل الزيغ من المشبهة عليها لعنة الله، وأقص عليك سبيل ضلالها عن الهدى، ومن حيث ضلت وعميت.
واعلم رحمك الله أن فريقاً من المشبهة كانوا على عهد رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وعلى عهد علي رحمة الله عليه، وقد ذكر الله عزَّ وجل هؤلاء الذين كانوا على عهد نبيه صلى الله عليه وعلى آله في آي الكتاب الذي نزله، فقال سبحانه: {وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأَرْضِ يَنْبُوعاً. أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الأنْهَارَ خِلاَلَها تَفْجِيراً. أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفاً أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلاَئِكَةِ قَبِيلاً}[الأسراء:90 ـ92] وفيهم يقول سبحانه: { لَوْلاَ أُنْزِلَ عَلَينَا الْمَلاَئِكَةُ أَوْ نَرَى رَبَّنَا لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِم وَعَتَوا عُتُوّاً كَبِيراً. يَوْمَ يَرَونَ الْمَلاَئِكَةَ لاَبُشْرَى يَومَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ وَيَقُولُونَ حِجْراً مَحْجُوراً. وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَآءً مَنْثُوراً} [الفرقان: 21 ـ 23]. فعاب تبارك وتعالى كفرهم في اعتقادهم التشبيه في الله عزَّ وجل، وجعل مصيرهم إلى النار بذلك. وكذلك هؤلاء الملحدون أيضاً، فهم على ذلك السبيل، وبه يعتقدون، وعنهم وعن أشياعهم نقلوا هذه الروايات.
فقالت فرقة منهم: إن الله تبارك وتعالى خلق آدم صلى الله عليه على خلق نفسه، وأنه يضحك حتى تبدو نواجذه.
وقالت فرقة: بل هو نور من الأنوار، يكل عنه النظر، ولا ينفذه البصر. وزعموا في زعمهم أن لله عرشاً مشتملاً عليه، وأن النبي صلى الله عليه وآله: أسري به إلى السماء ووصل إلى الله عزَّ وجل، ووجد برد أنامله في جسده، وأنه سَمِعَ اللهَ سبحانه وهو يقول: كن فيكون.
وقالت فرقة: إن الله تعالى ذكره يظهر يوم القيامة ويرى عياناً، وأنه يكون يوم القيامة جالساً على العرش، ورجلاه على العرش، وأنه يكشف لهم ساقه، ويحتجب عن الكفار فلا يرونه.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) هذه الرسالة ليست في (أ).
(2) ليست في (أ).

(1/259)


فصغروا الله سبحانه وجل ثناؤه غاية التصغير، وجهلوا قول الله: {وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [البقرة: 247] وغيرها.
فنقول لهم: أيها القوم إنكم جهلتم الله سبحانه فلم تعرفوه، وأشركتم بالله عز وجل فلم توحدوه. والله سبحانه فقد وصف نفسه بغير ما وصفتموه، ونفى عن نفسه ما نسبتم إليه.
فاسمعوا إلى قولنا، وأنصفوا من أنفسكم، واقبلوا الحق إذا عرفتموه، ولا يفتننكم الشيطان ليخرجكم من أديانكم، فإن الله سبحانه يقول: {وَكَانَ الشَّيطَانُ لِلإِنْسَانِ خَذُولاً}[الفرقان: 29].
فمما نذكر لكم، ونحتج به عليكم، ما ذكره(1) الله سبحانه في هذه الآية من قوله: {وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَلاَ يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ العَلِيُّ العَظِيمُ}[البقرة: 255]، فأخبر الله سبحانه أن كرسيه قد وسع السموات والأرض، يريد عزَّ وجل: أن هذا الكرسي قد اشتمل على السموات السبع فأحاط بأقطارها، وكذلك اشتمل على الأرضين السفلى فأحاط بأقطارها أيضاً، فصار الكرسي مشتملاً على السموات السبع، عالياً فوقها، واسعاً لها، والواسع للشيء هو: الذي انبسط فوقه، حتى اشتمل عليه، فكانت السموات والأرض أضيق من الكرسي، وكان الكرسي أوسع منهما.
__________
(1) في (أ) و(ج): ما ذكر.

(1/260)


فنقول: إن الكرسي قد اشتمل على السموات والأرض حتى أحاط بما فوقهما وتحتهما، وأحاط بأقطارهما، فكانت السموات والأرض داخلتين في الكرسي، فصار مَثَل الكرسي ـ لإحاطته بالسموات والأرض ـ كمثل البيضة المشتملة على الفرخ في جوفها، فالبيضة مشتملة على هذا الفرخ في جوفها، ملتئمة عليه، ليس فيها صدع ولا ثقب، ولا لما في جوفها منها مخرج؛ حتى يأذن الله عزَّ وجل لما في جوفها بالخروج، وهذا الكرسي أيضاً مشتمل على هذه الأرض وهذه السماء كما اشتملت هذه البيضة على هذا الفرخ؛ لأنه محيط بأقطار السماء وأقطار الأرض، وكل شيء مما خلق الله عزَّ وجل في السموات والأرض داخل في هذا الكرسي، فليس لشيء(1) مما خلقه الله سبحانه خروج من هذا الكرسي، وهذا الكرسي فليس وراءه منتهى ولا غاية، فاعرف هذا الكرسي كيف هو؛ فقد ثبت والحمد لله أن هذا الكرسي هو المحيط بكل الأشياء، الواسع لها، فصار هذا الكرسي خارجاً منها، ظاهراً عليها وباطناً فيها، ظاهراً عليها لإحاطته بها وباطناً فيها لدخولها فيه؛ وليست هذه الأشياء الداخلة في هذا الكرسي بممازجة له لأنها أصغر شيء في إحاطته.
__________
(1) في (ب): للشيء.

(1/261)


وسأذكر لك في إحاطة الكرسي بالأشياء خبراً مذكوراً عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم. ذكر عن أبي ذر الغفاري(1) رحمة الله عليه، أنَّه قال: يا رسول الله، أي آية أنزلها الله تبارك وتعالى عليك أعظم؟ قال: (( آية الكرسي، ثم قال: يا أبا ذر ما السموات والأرض عند الكرسي إلاَّ كحلقة ملقاة في فلاة من الأرض )) فانظر إلى ما ذهب إليه النبي صلى الله عليه وآله وسلم، يريد أن الكرسي اشتمل على السموات والأض كما اشتملت الأرض على الحلقة الملقاة في جوفها، فدخلت السموات والأرض في الكرسي، كما دخلت الحلقة في الأرض، فبطل كل شيء مما خلق الله عزَّ وجل وهلك، وغاب فذهب، من كل عرش وسماء وأرض، وثبت هذاالكرسي لا غيره، وكان هذا الكرسي من وراء كل شيء، واسعاً لكل شيء، فلم يبق عرش ولا مخلوق، ولا سماء ولا أرض، ولا جنة ولا نار، ولا جن ولا إنس ولا ملائكة، ولا هواء، ولا شيء مما خلق الله عزَّ وجل حتى صار داخلاً في هذا الكرسي؛ لقول الله سبحانه: {وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ} [البقرة: 255]. فكل شيء مما خلق الله سبحانه فقد أحاطت به السموات والأرض ومابينهما، وهذا الكرسي فقد أحاط بالسموات والأرض وجميع ما فيهما.
__________
(1) اسمه: جندب بن جنادة على الأصح، الصحابي المشهور بصدق لهجته، وصراحة وصلابة مواقفه، تقدم إسلامه وتأخرت هجرته، فلم يشهد بدراً، ومناقبه كثيرة جداً، نقم على عثمان ومعاوية مظاهر البذخ والترف واستيثارهما وذويهما بأموال المسلمين؛ فنفاه عثمان إلى الربذة وبها توفي وحيداً سنة (32 هـ).

(1/262)


فاعرف هذا الكرسي معرفة جيدة، وتدبره وانظر فيه نظراً مكرراً، فإني قد كررت لك الوصف فيه لتدَّبَّره وتعرفه كيف هو، وقف على ما وصفت لك فيه وتيقنه، فإذا عرفته ووقفت عليه بما وصفت لك سواء؛ فانظر الآن إلى ما ذهبت إليه، وما الذي أريد بذكر هذا الكرسي. اعلم(1) رحمك الله أن هذا الكرسي مثل ضربه الله لعباده، ليستدل به العباد على عظمة الله تبارك وتعالى، وإحاطته بالأشياء واتساعه لها، وهذا الكرسي مَثَلٌ يحكي(2) اللّه سبحانه، وليس ثَمَّ شيء سوى الله عزَّ وجل، وهذه الإحاطة لجميع الأشياء فإنَّما هي إحاطة الله عزَّ وجل، وليس ثم كرسي مخلوق، ولا شيء سوى الخالق، أحاط بجميع ما خلق، فليس شيء مما خلق الله عزَّ وجل إلاَّ والله سبحانه محيط به، وليس شيء مما خلق الله بمحيط(3) به، هو أصغر وأحقر من ذلك؛ إِذَنْ لكان الشيء المحيط بالله ـ جل الله ـ أوسع من الله وأكبر منه.
وسأذكر لك في هذا أخباراً، وأضرب لك فيه أمثالاً؛ حتى تتحقق في قلبك المعرفة بالله عزَّ وجل، وتحذف عن قلبك الشك والإرتياب.
اعلم رحمك الله: أن هذه الفرقة من المشبهة قوم هم عند الله أكذب الكاذبين، وأخسر الخاسرين، ولأَقسمت يميناً بالله عزَّ وجل صادقاً أن الواحد منهم ممَّن يرى أنَّه على شيء ليصلي ويصوم ويتنفل؛ وإن قلبه ليحكي له بعده من الله تبارك وتعالى، وأنه لا يتقرب من الله أبداً، ولا يزداد بكثرة عمله إلاَّ بعداً، وإن قلبه لنافرٌ من الله سبحانه؛ لأن القلوب إنما تَقِرُّ وتهدأ وتطمئن على تحقيق المعرفة، فإذا عرف اطمأن وهدأ.
ونحن فلا نقول: إنهم جحدوا الله سبحانه، وذلك أن الله فطرهم على معرفته، ولكنا نقول: إنهم جهلوا الله وصغَّروه، فَلَهُمْ أصْغَرُ صغير وأحقر حقير عند الله عزَّ ذكره.
__________
(1) في (ب): واعلم.
(2) في (أ) و(ج): يحكي عن.
(3) في (ب): محيط به. أي بالله عز وجل.

(1/263)


فإذا عرفت الله سبحانه، وَوَصَفْتَه(1) بهذه الإحاطة التي ذكرت لك، فقد عرفت الله سبحانه حق المعرفة، ألا تسمع إلى قول الله عزَّ وجل: {وَلاَ يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ العَلِيُّ العَظِيمُ}[البقرة: 255]؟ يخبر عزَّ وجل أنَّه أعلى وأعظم من أن تحفظه السموات والأرض. ونحن نقول: إن الله سبحانه هو الحافظ للسماء والأرض.
وسأصف لك السموات الأرض كيف هما، وأُصغِّرهما لك على عظمهما؛ حتى تعلم أنَّه لا شيء أعظم من الله سبحانه، ولا شيء أوسع من الله سبحانه، فقف على ما أذهب إليه وتدبره.
يروى عن النبي صلى الله عليه وعلى آله أنَّه قال: (( هل تدرون ما هذه التي فوقكم؟ قالوا: الله ورسُوله أعلم. قال: فإنها أرفع سقف محفوظ، وموج مكفوف، هل تدرون كم بينكم وبينها؟ قالوا: الله ورسُوله أعلم، قال: فإن بينكم وبينها مسيرة خمسين ومائة عام، وبينها وبين السماء الأخرى مثل ذلك؛ حتى عد سبع سماوات، وغلظ كل سماء مسيرة خمسين ومائة سنة، ثم قال: هل تدرون ما هذه التي تحتكم؟ قالوا: الله ورسُوله أعلم، قال: فإنها الأرض، وبينها وبين الأرض الأخرى مسيرة خمسين ومائة عام، حتى عد سبع أرضين، وغلظ كل أرض مسيرة خمسين ومائة سنة، ثم قال: والذي نفس محمد بيده لو دلَّيتم أحدكم(2) حتى يصير إلى الأرض السابعة السفلى لكان الله عزَّ وجل معه، ثم تلا هذه الآية: {هُوَ الأَوَّلُ وَالآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [الحديد: 3]. وقد قال أمير المؤمنين علي بن أبي طالب صلوات الله عليه: (لو أن ملكاً من ملائكة الله عزَّ وجل ـ الذين عظم الله خلقهم ـ هبط إلى الأرض لما وسعته)(3)؛ لأن الله جعل السموات أوسع من الأرض، والسماء العليا من السموات السبع أوسع من السماء السفلى؛ لأن السماءالعليا مشتملة عليها.
فانظر إلى هذه السموات والأرضين ما أوسعها وأعظمها، وسأصغرهما لك الآن في عظمته سبحانه حتى تعلم علماً يقيناً أنَّه لا شيء أعظم من الله عزَّ وجل، قال الله في الأرض والسماء: {وَالأَرْضُ جِمْيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ القِيَامَةِ وَالسَّمَوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ}[الزمر: 67]. فمثل الله صغر الأرض في عظمته وقدرته؛ كالقبضة في الكف، فكان في هذا ما يدل على تعظيم الله سبحانه. وكذلك قال: {وَالسَّمَوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ} فكان هذان مثلين من أمثال الله عزَّ وجل، يحكيان عن عظم الله تبارك وتعالى وصغر الأشياء، أنها في عظم سعته واقتداره أصغر صغير عنده سبحانه وتعالى.
تم والحمد اللّه وحده وصلى الله على سيدنا محمد وآله.
__________
(1) في (ب): وَصِفَتَه.
(2) في (ب): لود أحدكم، وهو سهو.
(3) الظاهر أن كلام الإمام علي عليه السلام إلى هنا.

(1/264)


كتاب العرش والكرسي
m
قال(1) يحيى بن الحسين صلوات الله عليه:
الكرسي، والعرش، والقبضة، والبطش(2)، والإتيان، والمجيء والكتاب، والصراط، والميزان، والكشف عن ساق، واليدان، والقبض، والبسط، والوجه، والحجاب؛ أمثال كلها، لا يضاف شيء منها إلى صفات البشر، فمن أضاف شيئاً منها إلى صفات الخلق فقد كفر(3).
وإنما هذه الصفات من أمثال القرآن، وهو قوله: {وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلاَّ العَالِمُونَ}[العنكبوت: 43]. وقد ذكر الله الأمثال في كثير من القرآن.
فنقول: إن المعنى(4) في العرش والكرسي والوجه سواء، ليس بينها فرق، والمعنى فيها واحد(5).
__________
(1) في (أ): الحمدلله وحده وصلواته على محمد النبي وآله وسلامه.
(2) في (ب): والنظر.
(3) يعني ليست معانيها في حقه تعالى كما هي في حق البشر.
(4) في (أ): إن العبارة.
(5) يعني أن مدلولها واحد هو الله، وليس المضاف فيها سوى المضاف إليه؛ فقولنا: كرسي اللّه وعرش اللّه كقولنا: وجه الله. بمعنى أنه لاشيء غيره سبحانه ولاعرش ولاكرسي ولاوجه.

(1/265)


فنقول: إن معنى الوجه في الله(1) هو الله، ومعنى الكرسي في الله هو الله، ومعنى العرش في الله هو الله، لا شك في ذلك عندنا ولا ارتياب فيه.
ونقول: إن معنى قول الله سبحانه: {فَأَينَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ}[البقرة: 115]؛ كمعنى قوله: {وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ}[البقرة: 255]، ومعنى قوله عند ذكر الوجه: {إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ}[البقرة: 114] كمعنى قوله عند ذكر الكرسي: {وَلاَ يَؤُدُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ العَلِيُّ العَظِيمُ}[البقرة: 255]، وكمعنى قوله: {الرَّحْمَنُ عَلَى العَرْشِ اسْتَوَى}[طه: 5].
وإنما هذه الثلاثة أصْنَافٍ كلها تشريف لله عزَّ وجل.
فالوجه الذي ذكره الله: يستدل به على بهآئه وحسن عظمته.
والكرسي يستدل به على ملكه، ومعنى يستدل به على ملكه أنَّه يستدل به عليه؛ لأنَّه الملك نفسه، وليس شيء مما خلق يزيد في ملكه.
وكذلك الوجه يستدل به عليه.
وكذلك العرش يستدل به عليه؛ لأنها أمثال قدمها الله تحكي من حسن الله وبهائه، أعني حسنه في ذاته، وبهائه في ذاته، وليس ذلك الحسن والبَهَاء الذي هو لله عزَّ وجل على شيء من صفات حسن الخلق وبهائهم(2).
__________
(1) في (ج): إن المعنى في الوجه في الله.
(2) يريد عليه السلام أنها أمثال ليس المراد بها معانيها الحرفية المحسوسة بل ما تدل عليه مما وراء ذلك، فهي تمثيل وتخييل لعظمة اللّه وجليل سلطانه وبهائه وعظيم ملكوته وجبروته مع البعد كل البعد عن معانيها الحسية.

(1/266)


ولا نَصِفُ الله عزَّ وجل بشيء من صفات البشر، بل نقول: إن معنى ذلك كله ـ إذ يعود كل صنف إلى أصله ـ أنَّه هو الله عزَّ وجل لا غيره، وليس نقول: إن ثم عرشاً مخلوقاً، ولا كرسياً مخلوقاً، ولا وجهاً مخلوقاً. وليس شيء من هذه الثلاثة الأمثال ـ العرش والكرسي والوجه ـ يوجد أبداً بصفة من الصفات، ولا بحلية من الحليات(1)، إنما المعنى في هذا كله الله الذي لا إله غيره(2) وحده لا شريك له.
فإن قال قائل، أو سألنا سائل، فقال: ما معنى العرش الذي ذكره الله في كتابه؟
قلنا له: اسم يدل على الله في ارتفاعه، وعلوه فوق خلقه، من أهل سماواته وأرضه.
فإن قال لنا: ما الكرسي الذي ذكره الله في كتابه؟
قلنا له: اسم يحكي عن صفات الله في ذاته.
فإن قال: وكيف صفات الله في ذاته؟
قلنا له: إن الكرسي يدل على الله، وهو اسم من أسماء ملك الله، وليس ثم شيء سوى الله.
ومعنى {وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ} أنَّه وسع السموات والأرض بكرسيه، ومعنى وسع السموات والأرض بكرسيه، أي وسع السموات والأرض بعلوه واقتهاره، أو لا تسمع إلى قوله: {وَلاَيَؤُدُهُ حِفْظُهُمَا}؟ يريد سبحانه أن السموات والأرض لا يحفظانه، يخبر أنهما لا يمسكانه، وكيف يمسكانه أو يحفظانه عزَّ وجل، وهو يخبر أنه خارج منهما، محيط بأقطارهما، وَاصِلٌ بمن ورائهما ووراء ورائهما، إلى ما لا يصل إليه غيره عزَّ وجل؟!
وقد قال النبي صلى الله عليه لأبي ذر رحمة الله عليه: (( يا أبا ذر، ما السموات والأرض في الكرسي إلاَّ كحلقة ملقاة في الأرض ))، يقول صلى الله عليه وعلى آله: ما السموات والأرض بأقطارهما في ورائهما(3) مما هو أوسع منهما من حد أقطارهما إلى مالا منتهى له؛ إلاَّ كالحلقة الملقاة في الأرض.
__________
(1) في (أ، ج): الحلات، ولعلها: بخلة من الخلات.
(2) في (ب): لا إله إلا هو.
(3) في) هنا بمعنى (مع).

(1/267)


فأخبر صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ بعظمهما وجسمهما ـ أنهما داخلان في الكرسي كدخول الحلقة في الأرض، فما لَعَسَى موضع الحلقة الملقاة من الأرض، أليس كأنَّما وراء الحلقة من أقطار الأرض إلى تخومها وجبالها، وأشجارها وأنهارها، وما فوقها وتحتها؛ أوسع وأعظم وأرحب مما حوت الحلقة منها؟ وكانت الحلقة أصغر شيء منها، وكان القليل الحقير الصغير اليسير ما قد وسعه الله وأحاط به، وهو يخبر سبحانه أنه هو الذي وسعهما وأحاط بهما حتى صارتا بعظمهما وكبرهما في إحاطة علمه كالحلقة الملقاة في الأرض، ومعنى قولي: في إحاطة علمه، أي في إحاطته بنفسه؛ لأنه لا علم له غيره، فالله عز وجل قد أحاط بالسماوات والأرض كإحاطة الأرض بالحلقة الملقاة في جوفها، وهاهنا والله تاهت العقول، وضلت الأحلام، وانقطعت الفكر في الله عز وجل.

(1/268)


وفي كتاب الله عز وجل تصديق هذا الحديث عن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم قول الله عز وجل: {وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ}[البقرة: 255]، يخبر أنه هو الذي وسع السموات والأرض وأنهما لم تسعاه ولم تحوياه، ولم تمسكاه ولم تحفظاه، بل كان هو عز وجل المحيط بهما والواسع لهما، والممسك لهما والحافظ لهما. وذلك قوله عز وجل: {إِنَّ اللهَ يُمْسِكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ أَنْ تَزُوْلاَ وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ إِنَّهُ كَانَ حَلِيْماً غَفُوْراً}[فاطر: 41]، يخبر عز وجل أنه يمسك السموات بعظمها في الهواء، ويمسك السموات السبع أيضاً، وكل سماء منهن أعظم وأوسع مما دونها. وكذلك الأرضون السبع، كل أرض أوسع مما فوقها، لأن السماء العليا مشتملة على السماء السفلى، وكذلك الأرضون والسماوات السبع معلقات في الهواء لا يرفدهن شيء، ولا يمسكهن إلا الله عز وجل، وكذلك الأرضون، فكل ذلك في الهواء لا يمسكهن إلا الله عز وجل. وليس من وراء هذا شيء يمسك الله، هو أصغر وأحقر وأضعف، والله فأوسع منه وأعظم.
والدليل على أن الله أوسع من السموات والأرض قوله عز وجل: {وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ}[البقرة: 255]، فأخبر أن السموات والأرض داخلتان في كرسيه، يريد أنهما داخلتان في قبضته، وأنهما أصغر صغير وأحقر حقير عنده؛ إذ كان الممسك لهما في الهواء، ولولا إمساك الله لهما لسقطت السموات والأرض.

(1/269)


وما إمساك الله للسماء في مستقرها، بعظمها وجسمها ورحبها؛ إلا كإمساك الطير في جو السماء، لا فرق بينهما عند الله عز وجل إلا بزيادة الخلق في سعة السماء، والسماء والطير في ضعفهما وصغرهما ودناءتهما سواء سواء، وكلاهما فقد صار إلى الهواء، وقد قال الله سبحانه فيهما: {وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الأَرْضِ إِلاَّ بِإِذْنِهِ}[الحج: 65]، وقال في الطير: {أَلَمْ يَرُوا إِلَى الطَّيْرِ مُسَخَّرَاتٍ فِيْ جَوِّ السَّمَاءِ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلاَّ اللَّهُ}[النحل: 79]، فصير الطير بضعفه وصغره كالسماء بعظمها وجسمها، لا يمسكهما غيره.
فمن قال إن لله عز وجل عرشاً في السماء يحيط به(1) فقد زعم أن العرش أوسع منه وأعظم، وأقوى وأجسم، فزعم أن العرش هو المحيط بالأشياء ليس الله، وأن العرش هو الواسع ليس الله، وأن العرش هو القوي ليس الله، ويزعم في زعمه أن الله أصغر من العرش؛ إذ كان في زعمه في جوف العرش، وكان العرش مشتملاً عليه محيطاً به، فصير العرش ربه، وزعم أن العرش هو الواسع العليم؛ إذ زعم أنه أوسع من الله العزيز الحكيم، وأخرج الله عز وجل من قوله: {اللَّهُ نُورُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ}[النور: 35]، يريد: أن بحياته حييتا، وبقدرته استقامتا، ولولا هو لزالتا، وامحتا وهلكتا، وهلك ما عليهما لولا إحياءه لهما.
__________
(1) في (أ): محيطاً به.

(1/270)


وقد قال الله عز وجل: {هُوَ الأَوَّلُ وَالآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيْمٌ}[الحديد:3]، فنقول لهؤلاء الملحدين في الله سبحانه: أخبرونا عن العرش، أهو الظاهر على الله، أم الله الظاهر عليه؟ فإن قالوا: إن العرش هو الظاهر على الله.، قلنا لهم: فقد أكذبكم الله(1) في كتابه بقوله هو: {الظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ}، فأخبر عز وجل أنه هو الظاهر، وأنتم تقولون: أن العرش هو الظاهر، فقد كذبتم على الله في قولكم، وقلتم بخلاف قوله عز وجل وقد ضللتم ضلالاً بعيداً؛ بكذبكم على الله وافترائكم عليه. وإن قالوا: بل الله هو الظاهر على جميع الأشياء، لم يقدر أحد أن يدفع هذه الحجة عنهم. قلنا لهم: قد قلتم بالحق، ورجعتم إلى الصدق، فإذا كان هو الظاهر على جميع الأشياء كان ظاهراً على كل عرش وغيره، والله من وراء ذلك العرش محيط، كما قال عز وجل: {وَاللَّهُ مِنْ وَرَائِهِمْ مُحِيْطٌ}[البروج:20]، فالله عز وجل من وراء كل عرش وغيره محيط، وظاهر على كل شيء.
فإن قال قائل: فإذا قلتم إن العرش هو الله؛ فما معنى قوله: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى}[طه:5]؟ وقوله: {وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ}[هود:7]؟. قلنا له: إن العرش هو الله؛ إذ كان العرش اسماً يدل على الله؛ لأن العرش من صفات الملك، وليس هو عرش مخلوق، إنما هو اسم من أسماء المُلك يدل على ملك الله، ومعنى: يدل على ملك الله، أنه يدل على الله، إذ هو الملك بنفسه، فكان في المعنى عندنا سواء أن يقول القائل: لا ملك إلا ملك الله، أو يقول: لا عرش إلا عرش الله، فلذلك قلنا: إن العرش متصل بالله كاتصال الكف بساعدها، لأنه في غاية المعنى أن العرش علو الله على جميع الأشياء بنفسه.
وإنما مثل الله علوه على جميع الأشياء وإحاطته بها كعلو الملك على سريره إذا استوى عليه واستعلى فوقه في المثل لا غيره، وليس في الشبه والصفة إلا في المثل.
__________
(1) في (أ): فلقد كذبكم.

(1/271)


والعرش الذي ذكره الله عزَّ وجل هو مثل ضربه الله في استوائه على ملكه، وإنما تفسير هذا المثل الذي ضربه الله لعباده في العرش والكرسي، أن الملك من ملوك الدنيا إذا قعد على كرسيّه وعلى سريره استعلى فوقه، والعرش فهو السرير، فمثَّل الله عرشه وكرسيّه بهذا العرش، وهذا الكرسي، فكان كرسي الملك من ملوك(1) الدنيا كرسياً ضعيفاً صغيراً، والذي استوى فوقه أضعف منه وأحقر منه، وكذلك العرش ايضاً فهو في الضعف والصغر كمثل الكرسي، وسواء الكرسي والعرش كلاهما مقعد للمَلِكِ يقعد عليه ويستوي فوقه. وكرسي الله عزَّ وجل فقد وسع السموات والأرض، حتى صار من عظم سعته السَّمَاءُ والأرضُ في كرسيه كالحلقة الملقاة في الأرض، وصار الكرسي محيطاً بهما كإحاطة الأرض بتلك الحلقة، فكانت السموات الأرض لصغرهما وضيقهما في سعة الكرسي عليهما كضيق الحلقة وصغرها في سعة الأرض عليها، وكان الكرسي مشتملاً على السموات والأرض كما اشتملت هذه الأرض على هذه الحلقة، والواسع لهما بعظمهما كما وسعت الأرض هذه الحلقة، والله الذي لا إله إلاَّ هو وسع الأشياء كلها، حتى أحاط بها وملأها وغمرها، وليس ثم كرسي(2) غير الله، إنما هو مثل مثله الله لعباده، لتستدل به على عظمته، واتساعه على جميع الأشياء وإحاطته بها.
ومن الدليل على أن الله عزَّ وجل أراد بذكر الكرسي والعرش أن يعرف عباده عظم سعته وإحاطته بالأشياء؛ قوله عزَّ وجل: {لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً}[الطلاق: 12]، وقوله: {وَاللَّهُ مِنْ وَرَائِهِمْ مُحِيطٌ}[البروج:20] وكثير في كتاب الله عزَّ وجل مما يدل على أن الله محيط بالأشياء.
وهذا الكرسي مما يدل على إحاطة الله بجميع الأشياء واتساعه عليها. وتفسير العرش أيضاً كتفسير الكرسي سواء سواء.
__________
(1) في (أ، ج): من الملوك.
(2) في (ب): ثم شيء.

(1/272)


فهذا معنى قولنا: إن العرش هو الله، وإن الوجه هو الله، وإن الكرسي هو الله.
فإن قال قائل: ألستم تقولون: هو الله؟ قلنا له: نعم.
فإن قال: فما معنى قوله: {رَبُّ العَرْشِ العَظِيمِ}[التوبة: 129]، وقوله: {رَبُّ العَرْشِ الكَرِيمِ}[المؤمنون: 116]. قلنا له: معنى ذلك عندنا كمعنى قوله سبحانه: {رَبُّ العِزَّةِ عَمَا يَصِفُونَ}[الصآفات: 180]، وهو العزيز بنفسه. وكذلك قلنا: إن العرش هو الملك، وهو الملك بنفسه. ومعنى: رب الملك ورب العزة، أي مالك الملك، ومالك العزة، يريد صاحب الملك، وصاحب العزة.
ومالك الشيء ورب الشيء سواء في المعنى، فلذلك جعلنا العرش متصلاً بالله؛ لأنَّه ملك الله، وملك الله متصل به، ولذلك لم يكن بين الملك(1) وبين الله فرق؛ لأنَّه لو جاز لنا أن نفرق بين الله وبين ملكه؛ لقلنا: إن الله خلق(2) الملك ـ في زمن الملك ـ في ذاته، وملك الله عزَّ وجل فلا يقاس بملك العباد؛ لأن العباد إنما صاروا ملوكاً بما ملكوا، والله فهو الملك بنفسه، ولا يزيد شيء(3) مما خلق في ملكه.
فإن قال قائل: فما معنى قوله: {وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ}[هود: 7]؟
قلنا له: إن إحاطته بجميع الأشياء؛ هي العرش العالي فوق جميع الأشياء، وذلك العرش العالي فوق جميع الأشياء؛ هو الله العالي على جميع الأشياء.
فالله(4) عزَّ وجل هو المحيط بجميع الأشياء بعرشه، يريد أنَّه المحيط بجميع الأشياء بملكه، أي أنَّه علا فوق جميع الأشياء بنفسه، ليس ثم عرش ولا ملك غيره.
__________
(1) في (أ، ج): العرش.
(2) في (أ): خالق.
(3) في (أ): شيئاً، وهو خطأ.
(4) في (ج): والله.

(1/273)


ومعنى قوله: {وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ}[هود: 7]، يريد أنَّه كان المحيط بالماء؛ من قبل خلقه للأرض والسماء، فذلك العرش المحيط بالماء لم يتغير عن حاله، ولم يزل هو المحيط بالماء، والمحيط من بعد الماء بالأرض والسماء، فذلك العرش إنما هو مقام الله، ولا يجوز لنا أن نقول: هو مجلس الله، ولكنا نقول: هو مقام الله، وليس كمقام الإنتصاب، إنما ذلك كمال الله بنفسه، فهو الجليل الكامل بنفسه العظيم، الجبار ذو الشرف والبهاء والسنآء العظيم.
فهذا معنى قول الله عزَّ وجل: {وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ} يخبر(1) أنها لم تكن أرض ولا سماء سوى الماء.
ونحن نقول: إنَّه قد كان عرش الله ولا ماء، ونقول: إن عرش الله لم يزل، وإن أسماء الله لم تزل، وإن صفات الله كلها ومدائحه لم تزل؛ لأن الله يقول في كتابه: {الرَّحْمَنُ عَلَى العَرْشِ اسْتَوَى}[طه: 5]، ولا يجوز لنا أن نقول: لم يكن مستوياً على عرش ثم استوى؛ إذن لقلنا بخلاف قوله عزَّ وجل. بل نقول: إن الله لم يزل ذا عرش عظيم، يريد بذلك العرش العظيم: الله العظيم.
وقلنا له: ليس ثم عرش لله عز وجل، وإنما ذكر العرش فعرفنا به الملك، ولم(2) يصفه بصفة معلومة معروفة. وأما قوله في يوم القيامة: {وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى}[النازعات: 40] فذلك(3) المقام هو ذلك العرش، وذلك العرش هو الله العلي، لا شيءٌ استعلى، إنما هو العلي بنفسه. تم والحمد لله وحده وصلواته على رسوله سيدنا محمد النبي وعلى آله وسلم تسليماً.
__________
(1) في (ب): خَّبر.
(2) في (أ، ج): لم.
(3) في (أ، ج): فكذلك.

(1/274)


مسألة في العلم والقدرة والإرادة والمشيئة
بسم الله الرحمن الرحيم
قال يحيى بن الحسين صلوات الله عليه:
سألت أكرمك الله عما يقال لمن سأل عن علم الله، وقدرته، وإرادته ومشيئته؛ فقال: هل بينها(1) في المعنى اختلاف، أم معناها مجتمع على الإئتلاف؟
واعلم هداك الله أن ليس بين ذلك شيء من الإتفاق، بل هما على غاية ما يكون من الإفتراق. والحجة في ذلك؛ أن علم الله وقدرته صفتان قديمتان، أزليتان دائمتان، وليس قولنا: صفتان قديمتان؛ أن مع الله صفة يوصف بها(2)، ولا أن ثَمَّ(3) صفة ولا موصوفاً، ولا أن ثَمَّ شيئاً سوى الله عند ذوي العقول، مجهولا ولا معروفاً، وإنَّما نريد بقولنا صفتان؛ أنهما غير محدثتين ولا مكونتين، وإنَّما هما الذات، والذات هما، فهو سبحانه العالم بنفسه، القادر بنفسه. فتعالى من ليس كمثله شيء، وأن إرادته ومشيئته حادثتان محدثتان.
__________
(1) في (أ،ج): بينهما معناهما.
(2) في (أ): توصف.
(3) في (أ): ولا نقول إن.

(1/275)


واعلم ـ هديت ـ أن معنى أراد شاء، وأن معنى شاء أراد(1)، وإن معنى المشيئة من الله تعالى للشيء فهو إحداثه وخلقه، لا فرق بينهما في الله تبارك وتعالى، ولا يقال لله: إنَّه شاء أن يخلق، ثُمَّ خلق من بعد المشيئة، فيفصل بين المشيئة وبين الشيء بمهلة بعد قلت أم كثرت، وإنَّما يقع الفرق بين المشيئة وبين الشيء على الآدميين، ومن لا يحيط علمه بعاقبة فعله من المخلوقين، فيحتاج ويضطر إذا شاء الشيء أن ينويه ويضمره، ثُمَّ ينتظر به من الأوقات ما يصلح له (صنعه) (2) فيه من الليل والنهار، أو انتظار حركة منه، أو قعود أو قيام، أو انتظار من يأمر من الأعوان، ثُمَّ لعله أن يعجز عما أراد ويعجزوهم ولا يتهيأ له ولا لهم. والله تبارك وتعالى؛ محيط بعلم الأشياء، لا يعزب عنه شيء من الغيوب، ولا يُعِوزُه مستصعب من الأمور، إذا شاء شيئاً كان بلا كلفة ولا اضطرار، وليس المشيئة منه بالنية والإضمار، ولا بالمهلة والانتظار، مشيئته للأشياء إيجادها، وإيجادها مشيئته إياها، فتبارك من كون الأشياء بقدرته، ودل على نفسه بما ابتدع من فطرته.
فإن قال: قد فهمنا ما ذكرت وشرحت؛ من الإختلاف بين العلم والقدرة، وبين الإرادة والمشيئة، فما تنكر أن يلتئم هذا كله في أحد المعنيين في أفضلهما وأقواهما، وأكبرهما وأعلاهما.
__________
(1) في (ب،ج): واعلم هديت أن معنى الإرادة شاء، وأن معنى شاء أراد، ومعنى أراد هو شاء، وأن معنى المشيئة ...
(2) سقط من (ج).

(1/276)


قيل له: أنكرنا التئام ذلك كله على معنى واحد من أحد هذين الوجهين؛ لأنا علمنا أنا لو حملنا الإرادة والمشيئة على معنى العلم والقدرة ـ وقد علمنا وصح في معقولنا أنهما غير محدثين ولا مخلوقين، وأن الله العالم القادر بنفسه ـ، لوجب علينا أن نقول: إن المشيئة والإرادة غير محدثتين ولا مخلوقتين، وإنهما صفتان للقديم الواحد، الدائم الماجد؛ لأنَّه لا يكون قديماً إلاَّ الله وحده لا شريك له؛ فلو قلنا ذلك؛ لوجب علينا أن نقول: إن الله سبحانه قد شاء إغراق فرعون وقومه، قبل خطئهم وعصيانهم له، فتعالى عن ذلك علواً كبيراً، ولوجب علينا أن نقول: إن الله قد شاء أن يسخط على إبليس، وشاء إخراجه من الجنة؛ قبل خطيئته وعصيانه له، وقد بين وأخبر ربنا عن نفسه؛ أنه لا يشاء عقوبة عبد من عبيده؛ إلاَّ من بعد الإعذار والإنذار.
وأنا(1) لو حملنا العلم والقدرة على معنى الإرادة والمشيئة، وقد علمنا وصح عندنا أنهما حاثتان، ولو قيل بذلك لكان يلزم من قال به أن يكون قد ألحق بالله تعالى عن ذلك الجهل؛ في الدهر الذي كان قبل تكوين العلم وإحداثه، ولكان قد ألحق(2) بالله في قوله العجز؛ إذ كانت القدرة حادثة فيما كان قبل تكوين القدرة وإحداثها.
فسبحان المتعالي عن قول القائلين، وعن كل وصف الواصفين، فقد بان ولله الحمد وصح(3) لذوي العقول والفطن والأفهام؛ ما سمينا من الإختلاف، وتباعُد الإئتلاف.
تمت المسألة بحمد الله ومنّه، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وسلم.
****
__________
(1) في (ج): فإنا.
(2) في (ب،ج): يلحق.
(3) في (أ): فقد بان بحمد الله ووضح.

(1/277)


رسائل
خاصة بالعدل
الجزء الأول من كتاب الرد والاحتجاج على الحسن بن محمد بن الحنفية (4)
مقدمة
الحمدلله الذي علا على الأشياء بطوله، وتقدس عن مشابهة المخلوقين بحوله، الذي علا فقدر، وقدر فقهر، وعصي فغفر، وأطيع فشكر، الذي لا مثل له فيساويه، ولا ضد له فيناويه(1)، الذي لا تدركه الأبصار، ولا تجن منه الأستار، العالم بما تجن قعور البحور، وما تكن جوانح الصدور، العالم بما سيكون سبحانه من قبل أن يكون، اللطيف الخبير، السميع البصير، الجليل الحكيم(2)، الكريم الرحيم، الذي دنا فنأى، ونأى سبحانه فدنا، رابع كل ثلاثة، وسادس كل خمسة، الداني من الأشياء بغير ملامسة، المحيط بها من غير مخالطة، العالم بباطنها من غير ممازجة، فعلمه بما تحت الأرضين(3) السفلى؛ كعلمه بما فوق السموات العلى، الموجد للأشياء من غير شيء، وجاعل الروح في كل حي، خلق خلقه حين أراده، وإذا شاء سبحانه أباده، بلا كلفة ولا اضطرار، ولا بتخيل ولا إضمار، ولا حاجة منه إلى الأعوان(4)، إذا أراد إيجاد شيء كان بلا كلفة، البريء من أفعال العباد، المتعالي عن اتخاذ الصواحب والأولاد، الذي لم يلده والد فيكون مولوداً، ولم يلد ولداً فيكون لذلك(5) محدوداً، الخالق غير المخلوق، والرازق غير المرزوق، الذي بقدرته قامت السموات بغير عماد(6)، وفرش لعباده الأرض ذات المهاد، فاستقلت الأقطار، وسجرت(7) البحار، وهطلت الأمطار، ونبتت الأشجار، وجرت الأنهار، وأينعت الثمار. فالق الحب والنوى، ومالك الآخرة والدنيا(8)، زارع كل ما يحرثون، ومنزل الماء الذي يشربون، وخالق النار التي يورون(9)، محصي الأعمال، ومؤجل الآجال، ومجري الأرزاق، ومسبب الأرفاق، الصادق في كل قول قوله، النافذ في كل شيء فعله، الذي أمر ونهى، فأمر بالتقوى، وزهد في الدنيا، ونهى عن
__________
(1) المناوأة: المعاداة، أصله الهمز وربما لم يهمز.
(2) في (أ): الحليم.
(3) في (ب): الأرض.
(4) في (أ): أعوان.
(5) في (أ): بذلك.
(6) في (ب): عمد.
(7) في (أ): وزخرت.
(8) في (أ): والأولى.
(9) الوري: الإشعال.

(1/278)


العصيان، وحض(1) على الإحسان(2)، وخلق ثواباً، وجعل [عقاباً] (3)، فاعد للمطيعين الجنان، وأجَّج للعاصين النيران، {لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى} [النجم: 31]، قابل التوبة، مقيل العثرة، مجيب الدعوة، الذي لا يغافص(4) من عصاه، ولا يخيب أبداً من رجاه، يقبل اليسير الصغير، ويعطي عليه الكثير، الذي لم يزل قادراً ولا يزال، فسبحان ذي القدرة والعز والجلال.
أحمده على نعمائه، وأعوذ به من بلوائه، واستجير به من نقمته(5)، وأستديمه لنعمته(6)، الذي شملت خلائقه نعماؤه، وتظاهر عليهم إحسانه وآلاؤه، سائق كل غنيمة وفضل، وكاشف كل عظيمة وأَزْل(7).
أشهد له سبحانه بالربوبية، وبالعدل والصدق والوحدانية. وأشهد أن لا إله إلاَّ الله وحده لا شريك له، مقلب القلوب، الغافر لمن تاب من موبقات الذنوب، البريء المتعالي عن كل نصب ولغوب، البائن عن الصفات، فليست تحده المقالات(8)، ولا تنقصه الساعات، ولا تعروه السنات، المحمود في كل الحالات.
__________
(1) الحض: الحث.
(2) في (ب): الإيمان.
(3) سقط من (ط).
(4) غافصه: أخذه على غرَّة.
(5) في (أ): نقمه.
(6) في (أ): لنعمه. والمعنى: أطلب دوام النعمة.
(7) في المطبوع: وأذى، ولعله تصحيف. والأزْل ـ بالفتح ـ: الضيق والشدة.
(8) في (أ): فليس تحده القالات. والمعنى: البعيد عن صفات المخلوقين فلا تحيط به القالات.

(1/279)


وأشهد أن محمداً عبده ورسوله إلى خلقه، وأمينه على وحيه، صلى الله عليه وعلى آله، الداعي إليه، بعثه سبحانه بحجته، واستنقذ به من النار أهل طاعته، بعثه في طامية طمياء(1)، ودياجير ظلمة(2) عمياء، وأهاويل فتنة دهماء(3)، فدمغ فنيق الكفر والفساد(4)، وأنهج سبيل الحق والرشاد، وأدحض عبادة الأوثان، وأخلص عبادة الرحمن، وصدع بأمر ربه، وأنفذ ما أمره به، ودعا إليه علانية وسراً، وأمر بعبادته سبحانه جهراً، صابراً على التكذيب والأذى، داعياً لهم إلى الخير والهدى، حتى قبضه الله إليه، وقد رضي عمله، وتقبل سعيه، وغفر ذنبه، وشكر فعله، فصلوات الله عليه وعلى أهل بيته الطيبين الأخيار الصادقين الأبرار.
ثُمَّ نقول من بعد الحمد لله والثناء عليه، والصلاة على محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم:
…………أما بعد ...
فإنه وقع إلينا كلام للحسن بن محمد بن الحنفية(5)، يؤكد فيه الجبر، ويشدد في ذلك منه الأمر، ويزعم فيه أن الله سبحانه جبر العباد أجمعين؛ من الملائكة المقربين، والأنبياء المرسلين، وجميع الثقلين، على كل الأعمال من صالح أو فاسد أو طالح(6)؛ فرأينا أن نجيبه في ذلك، وننقض عليه ما جاء به من المهالك، ونثبت عليه في ذلك كله لربنا وسيدنا وخالقنا ما هو أهله مما هو عليه، وما لا يجوز لخلقٍ عندالله أن يقول بغيره فيه، فاختصرنا له في قوله الجواب، وتركنا ـ خشية التطويل ـ كثيراً من الأسباب.
__________
(1) في (أ) و(ب): طخياء.
(2) في (ب): مظلمة.
(3) في (أ): دهياء.
(4) في (ط): فدفع فسق.
(5) في هامش (ط): هو الحسن بن علي بن الحسن بن علي بن محمد بن الحنفية كان من أئمة الكيسانية وممن قالوا بالجبر والتشبيه، وهو غير الحسن بن علي بن محمد بن الحنفية العف الورع الذي ترجم له ابن حجر في تقريب التهذيب.
(6) في (أ): من فساد أو صلاح.

(1/280)


فلينظر من نظر في قولنا وقوله، وجوابنا لسؤاله، بلب حاضر، ورأيٍ حيٍ صادر؛ يبن له الحق إن شاء الله، ويثبت في قلبه الصدق. والحمدلله رب العالمين، وصلى الله على خير خلقه أجمعين، محمد خاتم النبيين، وعلى أهل بيته الطاهرين وسلم.
المسألة الأولى:
هل يستطيع الرسل ترك البلاغ والتغيير أم ألزموا ذلك
فكان أول ما سأل عنه أن قال: أخبرونا عن رسل الله من بني آدم، هل جعل الله لهم السبيل والإستطاعة إلى ترك البلاغ ولو شاءوا لغيروا ما أمروا به من تبليغ الوحي والعمل بالسنن؟ أو ألزموا على ذلك إلزاماً، فلا يستطيعون على تركه ولا الزيادة فيه ولا النقصان منه؟
فإن قالوا: نعم، قد جعل الله لهم سبيلاً واستطاعة لترك البلاغ؛ فلو شاءوا لغيروا ما نزل إليهم من كتابه وحكمته؛ فقد دخلوا في أعظم مما كرهوا؛ حين زعموا أن الرسل لو شاءوا لم يعبدوا الله بالتوحيد، ولم يعملوا له بطاعة، إذ زعموا أنهم كانوا يقدرون على كتمان الوحي والسنن.
فيقال لهم: وأنتم الآن لا تدرون هل بلغت الرسل كل ما جاءهم من الوحي والسنن أم لا؟
فإن قالوا: نعم، تقدر الرسل على كتمان الوحي والسنن إذا أرادت ذلك؛ احتُجَّ عليهم، وإن قالوا: لم تكن الرسل تقدر(1) على كتمان الوحي، ولا إبدال الفرائض، ولا ترك البلاغ؛ لأن الله ألزمهم البلاغ إلزاماً؛ فلا يقدرون على تركه وكتمانه؛ فقد أجابوا، وفي ذلك نقض(2) لقولهم.
[جوابها]:
بسم الله الرحمن الرحيم
فكان أول ما سأل عنه أن قال: أخبرونا عن قولكم فيما نسأل(3) عنه، نبئونا هل الأنبياء صلوات الله عليهم مستطيعون لعمل فعلين متضادين في حالين مختلفين؟
__________
(1) في (ط): يقدرون.
(2) في (أ): في ذلك بنقض قولهم.
(3) في (أ)، و(ب): نسألكم.

(1/281)


وقولنا في ذلك، والله الموفق لكل رشد وخير، والدافع لكل سوء وضير، أن رسل الله صلوات الله عليهم قد أدوا ما أمرهم الله بأدائه على ما أمرهم، لم يشبهم في ذلك تقصير، ولم يتعلق عليهم في ذلك من التفريط(1) جليل ولا صغير، وأنهم كانوا في ذلك كله لأمر الله مؤثرين، وعلى طاعته سبحانه مثابرين، وأن الله سبحانه لم يكلفهم أداء الرسالة، حتى أوجد فيهم ما يحتاجون إليه من الإستطاعة، ثُمَّ أمرهم بعد ونهاهم، وكلفهم من أداء الوحي ما كلفهم، فبلغوا عنه ما به أمرهم، على اختيار منهم لذلك، وإيثار منهم لطاعته، وحياطة لمرضاته، لم يكن منه جبر لهم على أدائه، ولا ادخال(2) لهم قسراً في تبليغه، بل أمرهم بالتبليغ فبلغوا، وحثهم على الصبر فصبروا، فقال سبحانه: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالاَتِهِ}[المائدة: 67]، فقال: بلغ ما أنزل إليك، ولو لم يكن التبليغ منه صلى الله عليه وآله باستطاعة وتخير لم يقل له: (بلغ)؛ إذ الأمر لمن لا يقدر أن يفعل فعلاً حتى يدخل فيه ادخالاً، ويقلب فيه تقليباً محال، لأن الفاعل هو المدخل لا المدخل، والمقلب لا المقلب، فلم يأمر الله عز وجل أحداً بأمر إلاَّ وهو يعلم أنَّه يقدر على ضده، فحثه بأمره على طاعته، ونهاه عن معصيته، ألا تسمع كيف يقول: {فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُوا العَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلاَ تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ يَومَ يَرَونَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلاَّ سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ بَلاَغٌ فَهْلْ يُهْلَكُ إِلاَّ القَومُ الفَاسِقُونَ}[الأحقاف: 35]، فأمره باحتذاء ما فعل من هو قبله من الرسل؛ من الصبر على الأذى والتكذيب، والشتم والترهيب، ولو كان الله سبحانه هو المدخل لهم في الصبر
__________
(1) في (أ): تفريط بجليل.
(2) في (أ): جبرا ولا إدخالاً، ويخرج على أن في يكن ضميراً عائداً على البلاغ أو نحوه.

(1/282)


ادخالاً، ولم يكن منهم له افتعالاً؛ لقال: صبرناك كما صبرناهم، ولم يقل: اصبر كما صبر أولوا العزم من الرسل. وكيف يأمر ذو الحكمة والفضل، مأموراً بما يعلم(1) أنَّه يفعله من الفعل؟ فجل الله عن ذلك، وتعالى عن أن يكون كذلك. فهل سمعه من جهله سبحانه يأمر أحداً من خلقه أن يفعل شيئاً مما هو من فعله، مما يتولى إحداثه فيهم؟ ويقضي به تبارك وتعالى عليهم، مما ليس لهم فيه فعل ولا افتعال، ولا تصرف باخراج ولا إدخال، مثل الموت والحياة وإيجاد السمع والبصر والأفئدة؟ بل ذكر ذلك كله عن نفسه، وأضاف فعله إليه بأسره، فقال: {إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَإِلَيْنَا الْمَصِيرُ} [ق: 43]، ولم يأمرهم بأن يموتوا، ولا بأن يحيوا.
__________
(1) في (أ)، و(ب): لا يعلم.

(1/283)


وقال سبحانه إخباراً عمن سلف، وتوقيفاً واحتجاجاً على من جاء بعدهم وخلف: {وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيمَا إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ وَجَعَلْنَا لَهُم سَمْعاً وَأَبْصَاراً وَأَفْئِدةً فمَا أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلاَ أَبْصَارُهُمْ وَلاَ أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِذْ كَانُوا يَجْحَدُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ} [ق:37]، فقال: جعلنا لهم، ولم يقل: اجعلوا، ولا تجعلوا(1). ثُمَّ قال: فما أغنى عنهم سمعهم ولا أبصارهم ولا أفئدتهم من شيء [إذ فعل السمع والأبصار والأفئدة](2). فأراد سبحانه منهم ـ إذ فعل لهم الأسماع ـ أن يفعلوا هم الاستماع بها، فيستمعوا ما جاء به الرسول من أخبار من هلك من قبلهم، وإنذار من أنذر ممن هو أشد منهم بطشاً فلم يقبل الهدى فأهلك. قال الله سبحانه: {وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَشَدُّ مِنْهُمْ بَطْشاً فَنَقَّبُوا فِي البِلاَدِ هَلْ مِنْ مَحِيصٍ إِنِّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ} [الأحقاف: 26]. فأراد إذ فعل لهم سمعاً أن يسمعوا به أخبار من نزل به ما نزل فينتهوا، ويسمعوا لرسله ويطيعوا، ويسلموا للحق ويجيبوا. وكذلك إذ فعل لهم أبصاراً أراد أن يبصروا بها إلى ما خلق من السموات والأرض وأنفسهم وما ذرأ وبث؛ فيعلموا أن لهذا خالقاً ومدبراً فيؤمنوا. وكذلك الأفئدة أراد بجعلها لهم ـ إذ أوجدها فيهم ـ أن يفكروا، ويدبروا فيعتبروا، ويميزوا فيهتدوا. ولو كان سبحانه وتعالى عن ذلك المتولي لفعل أفعالهم لم يحتاجوا إلى الإسماع والتبصير والتفكير(3)؛ إذ كان الله المتولي لإنفاذ ما أرادوا(4)، والممضي دونهم لكل فعل منهم؛ ولم يقل عز وجل: {فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلاَ
__________
(1) في (أ): جعلوا.
(2) سقط من (ب)، و(ط).
(3) في (أ): الإستماع والتبصر.
(4) في (أ)، و(ب): ما أراد.

(1/284)


أَبْصَارُهُمْ وَلاَ أَفْئِدَتُهُمْ}، وكيف يستمعون إذا أسمعوا(1)، ويستبصرون إذا أبصروا(2)، وينتفعون إذا فكروا؛ وهم لا ينالون ذلك ولا يقدرون عليه، وغيرهم الفاعل له المصرف لهم فيه؟
فتعالى من فعله غير فعل خلقه، ومن أمر عباده باتباع حقه. ألا تسمع كيف قوله(3) سبحانه، وإخباره عن المؤمنين والفاسقين، فقال: {مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُوا خَيْراً} [النحل: 30]، وقال في الفاسقين: {مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُوا أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ} [النحل:24]، فمدح المؤمنين على ما قالوا من الصدق في رب العالمين، وذم الفاسقين على قولهم الباطل في أحسن الخالقين.
ولو لم يكن العباد متخيرين، ولا مما أرادوا متمكنين، وكان الحامل لهم على أفعالهم، المدخل لهم في كل أعمالهم رب العالمين؛ لكان هو القائل لما نزل من الحق: (أساطير الأولين)، ولم يكونوا هم القائلون بما قالوا من قولهم، والناطقون بما أنطقهم، [ولم يكونوا](4) عند العدل الجواد الرؤوف الرحيم بالعباد بمذمومين، ولا عليه بمعاقبين. ففي أقل من ذلك حجة لذوي الإيمان(5) المميزين.
***
وأما ما قال: من أنهم إن كانوا صلوات الله عليهم قادرين على التبليغ والترك، وكان تبليغهم اختياراً منهم للطاعة على المعصية، ولرضاه على سخطه؛ فما يدريكم لعلهم قد تركوا وبدلوا، أو غيروا وخانوا، أو ستروا واجباً وخالفوا؟.
قيل له: في ذلك من الحجة والحمد لله أبين البيان، وأنور القول والبرهان، ألا تعلم(6) أيها السائل(7) أن الله سبحانه لا يزكي إلاَّ زكياً رفيعاً؟، ولا يذكر بالطاعة إلاَّ سامعاً مطيعاً؟، ولا بالأداء إلاَّ مؤدياً؟.
__________
(1) في (أ): سمعوا.
(2) في (أ)، و(ب): بصروا.
(3) في (أ): لقوله.
(4) زيادة ليستقيم الكلام.
(5) في (أ): الإيقان.
(6) في (أ): تسمع.
(7) في (أ)، و(ب): القائل.

(1/285)


وقد وجدنا الله سبحانه ذكر في توراته التي أنزلها على موسى بن عمران تبليغ من بعثه من أنبيائه بوحيه؛ من نوح وإبراهيم وغيرهما، وأثنى عليهم بذلك، وحض موسى(1)، صلوات الله عليه على الإقتداء بهم والإيثار لما آثروا من الطاعة لربهم، ثُمَّ قص قصة موسى صلى الله عليه، وذكر فضله، [وتبليغه](2) وصبره واجتهاده وفعله، في الإنجيل الذي انزل على عبده المسيح، المطهر من كل قبيح، صلوات الله عليه. ثُمَّ قص قصة عيسى على محمد، وذكر له من قصته واجتهاده وتبليغه وتبليغ غيره من الرسل؛ فقال: {وَإِذْ قَالَ عِيسَى بْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ} [الصف: 6]، فصدق بما جاء به موسى، وبشر بما أمر بالتبشير به من البشير النذير، الرؤوف بالمؤمنين الرحيم، محمد الرسول الكريم. ثُمَّ ذكر لنا في كتابه أن رسوله قد بلغ وأنذر، وأخبر أنَّه قد أدى كل ما يجب عليه؛ فقال: {مَا عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ البَلاَغُ الْمُبِينُ}[المائدة: 99]، وقال: {فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَمَا أَنْتَ بِمَلُومٍ} [الذاريات: 54]، ولو كان منه صلى اللّه عليه وآله غير الاجتهاد لم يقل سبحانه: {فَمَا أَنْتَ بِمَلُومٍ} فقد برأه الله من كل دنس ولوم.
فقد بطلت حجة من أراد الطعن على الأنبياء المهتدين، المؤدين لأمر الله الخانعين(3)، بما قال عنهم وذكر فيهم رب السموات و الأرضين. والحمدلله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، وسلام على المرسلين. تمت المسألة.
المسألة الثانية: عن إبليس
من أخطر المعصية على باله؟ ومن أين علم ما علم عن آدم وذريته؟
__________
(1) في (أ): محمداً صلى الله عليه.
(2) ليس في (أ)، و(ب).
(3) في (أ): الخائفين.

(1/286)


ثُمَّ أتبع هذه المسألة فقال: أخبرونا عن إبليس، ما أخطر المعصية على باله؟ أو من أوقع التكبر(1) في نفسه؟.
فإن قالوا: نفسه أمرته بالمعصية، وهواه حمله على التكبر، فقل: فمن جعل نفسه أمارة بالمعصية، وهواه حاملاً له على التكبر؟.
فإن قالوا: الله، كان ذلك نقضاً لقولهم.
ويقال لهم: فمن أعطاه علم الخديعة والمكر؟ آلله جعل ذلك في نفسه؟ أو شيء جعله هو لنفسه؟
فإن قالوا: الله جعل ذلك له؛ كان ذلك نقضاً لقولهم. وإن قالوا: إن ذلك لم يكن من الله عطاء ولا قسماً؛ فقد دخل عليهم أعظم مما هربوا منه؛ حين زعموا أن غير الله يجعل في خلقه مالم يرد الله أن يكون فيهم، فما أعظم هذا من القول!!
وسلهم: من أين علم إبليس أن آدم يكون له ذرية، وأن الموت يقضي عليهم، وأنه يكون بينهم(2) لله عباد مخلصون، وأنه يحتنكهم إلاَّ قليلاً منهم؟.
فإن قالوا: إن الله أعلمه ذلك؛ فقد نقض ذلك قولهم، وإن قالوا: إن إبليس علمه من قبل نفسه، فقد زعموا أن إبليس يعلم الغيب، فسبحان الله العظيم!!
***
جوابها(3)
وأما ما سأل عنه وقاله من أمر إبليس فقال: من أخطر المعصية على باله؟ ومن أوقع التكبر والمكر والخديعة في نفسه؟
__________
(1) في (أ): المكر والتكبر.
(2) في (أ)، و(ب): منهم.
(3) في (أ): جواب هذه المسألة، وفي (ب): جواب مسئلته.

(1/287)


فإنا نقول في ذلك: إن الله أعطى إبليس من الفهم واللب ما يقدر به على التمييز بين الأمور، ويعرف به الخيرات من الشرور، ويقف به على الصَّالح من ذلك والطالح، وإنما أعطاه الله ذلك، وجعله وكل الخلق المتعبدين كذلك، لأن يعرفوا [قوله](1) ويعرف ما افترض الله عليهم [وعليه](2)، فيتبع ذلك دون غيره ويثابر عليه، ويعرف ما يسخط الله فيجتنبه ويتقيه، ويحاذر انتقامه فيه، ولو لم يعطه وغيره ذلك لم يهتدوا أبداً إلى فعل خير ولا شر، ولا تخير طاعة، ولا إيثار هوى، ولا اتباع تقوى، ولو كان [ذلك وكان] (3) الخلق كذلك؛ لكان معنى الثواب ساقطاً عنهم، ولما جرى أبداً عقاب عليهم، ولو لم يجر عقاب، ولم يُنَل ثواب؛ لم يُحْتَج إلى جنة ولا نار، ولما وقع تمييز بين فجار ولا أبرار، وقد ميز الله ذلك فقال: {لاَ يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الفَائِزُونَ}[الحشر: 20]، ولو كان ذلك كذلك، لكان معنى الملك والتمليك عندالله سبحانه ساقطاً هنالك، ولكنه سبحانه لما خلق الخلق لم يكن للخلق بد من عمل، ولم يكن العمل كله لله رضى، ولا كله سخطاً [طراً معا](4)، ولَمَّا كان من الأعمال مرض لله ومسخط، لم يكن بد من الأمر بالعمل المرضي، والنهي عن العمل المسخط، فلما كان ذلك كذلك لم يكن بد من الترغيب على العمل الصَّالح بالثواب، والترهيب على العمل الطالح بالعقاب، فجعل(5)الجنان ترغيباً، والنيران ترهيباً، وترهيب الشيء من الشيء الذي لا يستطيع أن يرهبه محال، كما أن ترغيب الشيء فيما لا يقدر على أن يرغب فيه محال، فاحش من الفعال، ولا يكون ترغيب إلاَّ لمن يقدر على الرغبة، ولا ترهيب إلاَّ لمن يقدر على الرهبة، ولا أمر ولا نهي إلاَّ لمن [يقدر على أن](6) يميز بين المأمور به والمنهي عنه، فجعل
__________
(1) زيادة من (ب).
(2) زيادة من (ب).
(3) سقط من (ط).
(4) ليس في (أ).
(5) في (أ): فجعلت.
(6) ليست في (ب)، و(ط).

(1/288)


الله وركب فيهم استطاعة وتمييزاً، ليعرفوا رضاه فيتبعوه، ويفهموا سخطه فيتجنبوه ـ فيثيبهم أو يعاقبهم على ما يكون من أفعالهم باختيارهم، لأن المثيب على فعله إنَّما هو مجاز لنفسه. ثُمَّ أمرهم عز وجل ونهاهم، ثم قال: {فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ} [الكهف: 29]، ولو لم يعلم أن لهم(1) مشيئة وتمييزاً واقتداراً على الفعل والترك لم يقل: {فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ}. وقال سبحانه: {يَا يَحْيَى خُذِ الكِتَابَ بِقُوَّةٍ وَآتَينَاهُ الْحُكْمَ صَبِيّاً} [مريم: 12]، ولو لم يكن فيه استطاعة مركبة قبل الأمر، ولم يكن قادراً على أخذ الكتاب؛ لم يقل: خذ، وهو لا يقدر على الأخذ، لأن القائل للحجارة وما كان مثلها يقال (2): مخطيء محيل في المقال، فتعالى الله عن ذلك.
وقال: {قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ لِيَجْزِيَ قَوْماً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [الجاثية: 14]، ولو لم يكن المؤمنون يقدرون على الغفران لمن أمروا بالمغفرة له لم يقل: يغفروا، وكان يحدث فيهم الغفران لأولئك فيغفروا، ولم يكن ليأمرهم من الأمر بمالا يطيقون.
__________
(1) في (ب) و (ط): له.
(2) كذا، ولعلها: مقال.

(1/289)


وأعطى الله إبليس اللعين ما أعطاه من الفهم والتمييز لأن يطيعه ولا يعصيه، وأراد أن يطيعه تخيراً وإيثاراً لطاعته، فكانت هذه إرادة معها تمكين واستطاعة، ولم يرد أن يطيعه قسراً، ولا أن يمنعه من المعصية جبراً، [فيكون إبليس اللعين في ذلك غير محسن ولا مسيء. فلم يحل بينه وبين المعصية قسراً، ولم يحمله على الطاعة جبراً] (1)، فمكنه وهداه، ثُمَّ أمره ونهاه، فرفض ـ له الويل ـ تقواه، واتبع هواه، وكفر نعم ربه، وكره تنزيله وحكمه، فكان كما قال الله سبحانه: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْساً لَهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ} [محمد: 8ـ9]. فلو كانت الكراهة لما أنزل الله قضاء له فيهم، وفعلاً ادخله سبحانه عليهم؛ لكانت من الله لا منهم، ولكان الكاره لتنزيله لاهم، ولكانوا ناجين من العقاب، وكانوا متصرفين في أمره في كل الأسباب، وكذلك المهتدون، لو كان هو الذي فعل هداهم، وزادهم في تقواهم، لم يقل: {وَالَّذِينَ اهْتَدَوا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ} [محمد: 17]، ولو كان ذلك كما يقول الجاهلون، وينسب إلى الله الضالون؛ لكان من اهتدى، ومن كره وأبى، في الأمر عندالله شرعاً واحداً(2)؟ إذ كان كلهم في امره وقضائه له مطيعاً، متقلباً(3) متصرفاً في إرادته سريعاً.
__________
(1) سقط من (ط).
(2) في (أ): شرعاً سواء.
(3) في (أ): متقياً.

(1/290)


وأما قوله: من أين علم إبليس أن آدم يكون له ذرية؟ وأن الموت يقضي عليهم؟ فإن جوابنا له في ذلك: أن الله أعلمه ملائكته، فسمعه إبليس من ملائكة الله فيما كان يسترق من السمع، كما قالوا وحكى الله عنهم في قوله: {وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَن يَسْتَمِعِ الآَنَ يَجِدْ لَهُ شِهَاباً رَصَداً} [الجن: 9]، فكانوا ـ قبل أن يبعث الله نبيه صلى الله عليه، ويكرمه بما أكرمه من الوحي إليه ـ يسترقون السمع، فلما أن بعثه الله حجبهم عن المقاعد التي كانوا يقعدونها من السماء، ويسترقون من الملائكة الأخبار فيها؛ فيهبطون بها إلى إخوانهم؛ من كهنة الإنس وأوليائهم، كما قال ذو المن والجلال(1): {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُواً شَيَاطِينَ الإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ القَوْلِ غُرُوراً} [الأنعام: 113]، فلما أرسل الله رسوله بالوحي البالغ، والنور الساطع؛ حجبهم عن علم شيء من أخبار السماء، لكيلا يسبقوا به ولا يلقوه(2) إلى إخوانهم من كهنة أهل الدنيا، فقذفهم بما جعل لهم من النجوم شهباً رصدا، فرماهم بالنجوم من السماء، ولم يكن قبل ذلك بشيء منها يُرْمَى، فهيل لذلك أهل الأرض والشياطين في الهواء(3)؛ فقالوا في ذلك كما أخبر الله به عنهم، وحكى من قولهم: {وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَن يَسْتَمِعِ الآَنَ يَجِدْ لَهُ شِهَاباً رَصَداً وَأَنَّا لاَ نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَداً} [الجن: 9].
__________
(1) في (أ): والإحسان.
(2) في (أ)، و(ب): ولا يفشوه.
(3) في (أ): وشياطين الهواء. والمعنى: أصابهم الهول والدهشة.

(1/291)


فمن الملائكة علم إبليس أخبار آدم وذريته، ولو لم يعلم الله الملائكة بذلك لم يعلمه إبليس ولا هم، كما لم يعلموا بما كتمهم من أسماء الأشياء التي اعلمهم آدم بأسمائها، في وقت ما علمه الله أسماءها وكتم الملائكة إياها، كما قال سبحانه: {وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلاَئِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلاَءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ قَالُوا سُبْحَانَكَ لاَ عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ العَلِيمُ الْحَكِيمُ قَالَ يَا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ}[البقرة: 31ـ 33]، فأنبأهم حين أمره الله أن ينبئهم بأسماء من كان قد خفي عنهم علمه من الأشياء، فعندما رأى إبليس اللعين الرجيم(1) تعليم الله لآدم (2) وتعظيمه لقدره، وإسجاده الملائكة من أجله، ولما أظهر فيه من عجائب تدبيره وصنعه؛ حسده على ذلك غاية الحسد، حتى أخرجه حسده لآدم إلى أن كفر(3) بربه، وخالف فيما ترك من السجود عن أمره، ثُمَّ خشي أن يؤاخذه (4) الله مغافصة على ذنبه، فطلب الإنظار والتأخير من ربه، فأنظره وأمهله الله إلى يوم حشره.
__________
(1) في (أ): الرجس.
(2) في (أ): من كرامة اللّه لآدم.
(3) في (ط): الكفر.
(4) كذا، ولعلها: يأخذه.

(1/292)


ولو حجب الله علم آدم وذريته عن الملائكة لم يكن ليعلمه إبليس ولا هم، وليس إعلامه إياهم سبحانه بأنه سيجعل لآدم ذرية إلاَّ كإعلامه من قبل إيجاده لآدم بآدم؛ حين يقول عز وجل: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً} [البقرة: 30]، وكما أعلمنا في كتابه على لسان نبيه صلى الله عليه وآله، بما يكون في دار الآخرة من الثواب والعقاب، والمجازاة بين العباد، وليس على الله في ذلك من حجة كبيرة ولا صغيرة.
***
وأما ما سأل عنه من استكبار إبليس، وقال: ممن هو؟ أمن الله؟ أم منه؟ أم من غيره؟ فسبحان الله! ما أبين جهل من شك في هذا، أيتوهم أو يظن ذو عقل أن الله ألزم إبليس التكبر والإجتراء عليه، فأدخله قسراً فيه، وهو يسمع إخبار الله في ذلك عنه؟ وأنه نسب التكبر إليه، فقال سبحانه: {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلاَئِكَةِ اسْجُدُوا لآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الكَافِرِينَ} [البقرة: 34]، فذكر أن الاستكبار والكفر من فعل إبليس الكافر المستكبر، ولو كان الله أدخله في الاستكبار فاستكبر، وقضى عليه بالكفر فكفر؛ لم يقل فيه: وكان من الكافرين. ولكان أصدق الصادقين يقول فيه: إنَّه أطوع المطيعين. وما كان من استكبار إبليس فهو كاستكبار غيره من الناس، قال الله سبحانه: {وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا فَاليَومَ تُجْزَونَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ} [الأحقاف: 30]، ولو كان الكبر(1) والفسق من الله فيهم فعلاً، وله سبحانه عملاً؛ لم يجزهم عذاب الهون على فعله الذي أدخلهم فيه، بل كان يثيبهم عليه، ويكرمهم لديه.
المسألة الثالثة:
__________
(1) في (أ): التكبر.

(1/293)


في آدم هل شاء اللّه خلوده في الجنة أم خروجه منها؟
ثُمَّ أتبع(1) ذلك الحسن بن محمد المسألة عن آدم عليه السلام وزوجته(2)، فقال: خبرونا عن آدم وزوجته(3) حين أسكنهما الله الجنة، ما كانت محبة الله ومشيئته لهما في دخولهما فيها؟ أخلودهما فيها وإقامتهما؟ أم في خروجهما منها؟ فإن زعموا ان محبة الله ومشيئته كانت في خلودهما فقد كذبوا؛ لأن أهل الجنة لا يموتون ولا يتوالدون ولا يمرضون ولا يجوعون ولا يخرجون، وقد قضى الله الموت على خلقه جميعاً، وقضى على آدم أن تكون له ذرية تكون منهم الأنبياء والرسل والصديقون والمؤمنون والشهداء والكافرون، ثُمَّ قال: {فِيهَا تَحْيَوْنَ وَفِيهَا تَمُوتُونَ وَمِنْهَا تُخْرَجُونَ} [الأعراف: 25]، وقال: {مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى} [طه: 55]، وكيف يكون ما قالوا وقد قضى الله القيامة والحساب والموازين والجنة والنار؟ سبحان الله! ما أعظم هذا من قولهم، وإن قالوا: إن محبة الله ومشيئته كانت في خروج آدم وزوجته من الجنة وهبوطهما إلى الأرض؛ فقد زعموا أنَّه لم يكن ليخرجهما من الجنة إلاَّ الخطيئة التي عملاها، والأكل من الشجرة التي نهيا عنها، فقد أقروا لله بقدرته ونفاذ علمه، وفي ذلك نقض قولهم.
تمت مسألته (4).
[جوابها](5)
__________
(1) في (أ): هذه المسألة عن آدم.
(2) كذا في النسخ.
(3) كذا في النسخ.
(4) حاصل هذه المسألة ـ على ركتها ـ أنه أراد أن يستدل بسبق المشيئة والعلم على الجبر الذي يزعمه، وبيان ذلك أن اللّه إن أراد وعلم خلود آدم كان خروجه مع ذلك كاشفاً عن الجهل وعدم نفاذ المشيئة، وإن أراد وعلم خروجه فقد خرج لسبق ذلك في العلم والمشيئة وكان بقاؤه بالاختيار مستحيلاً لمخالفته العلم والمشيئة، وسيكشف الإمام عليه السلام سوءة حجته بأوضح بيان.
(5) في (أ): جواب المسئلة.

(1/294)


وأما ما سأل عنه من إرادة الله في آدم وزوجته (1) حين أسكنهما الجنة، أكانت إرادته خلودهما فيها؟ أم خروجهما عنها؟ وما توهم من هذه الجنة التي كان فيها آدم وزوجته أنها جنة المأوى التي جعلها الله ثواباً للعاملين، ومقراً دائماً لعباده المؤمنين.
***
فإنا نقول: إن الجنة التي كان فيها آدم وزوجته هي جنة من جنات(2) الدنيا ذوات الأنهار، والغرف والأشجار، فسماها الله جنة، وهذا فموجود في لغة العرب غير مفقود، تسمي ما كان من الضياع والبساتين ذا فواكه وأشجار وعيون جناناً، أما سمعت إلى قول الله سبحانه، ما أبين نوره وبرهانه، وكيف حكى عن الأمم الماضين، الفراعنة المتجبرين، حين يقول سبحانه: {كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوماً آخَرِينَ} [الدخان: 26].
وقال: {وَلَولاَ إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ لاَ قُوَّةَ إِلاَّ بِاللَّهِ} [الكهف: 39]، فسمى الله ما كان من الأرضين على ذلك من الحالات، في قديم الدهر وحديثه جنات (3). وإن آدم كان في موضع قد برأه الله له(4) من الأرض كريم، شريف عظيم، خلقه فيه، وأجرى رزقه ومرافقه عليه.
وليس كما ظن الحسن بن محمد وقال، وتوهم من فاحش الظن والمقال؛ أن أهل الجنة منها خارجون، وعنها منتقلون، وأن آدم وحواء كانا فيها ثُمَّ أخرجا، وليس كذلك، بل هو كما قال رب العالمين، وأصدق الصادقين، فيمن صار إلى جنة المأوى من عباده الصالحين: {خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ} [البينة: 8].
__________
(1) كذا، وستتكرر.
(2) في (أ)، و(ب): جنان.
(3) في (أ): جنة في قديم الدهر.
(4) في (أ)، و(ب): قد بوأه الله إياه كريم.

(1/295)


وكما قال: {لاَيَمَسُّهُمْ فِيهَا نَصَبٌ وَمَا هُمْ مِنْهَا بِمُخْرَجِينَ} [الحجرات: 48]، فأخبر أن من دخل جنة المأوى، غير خارج منها أبداً، وأنه لن يذوق بعد دخوله إياها نصباً ولا شقاء، وقال عز وجل إخباراً منه أنَّه لا يدخل الجنة إلاَّ المطيعون المجازون من العالمين، فقال: {فَأَمَّا مَنْ طَغَى وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى} [النازعات: 37]، فأخبر سبحانه أن الجنة لا يدخلها إلاَّ من اتقى، وتقدم منه العمل بالحسنى، فأولئك الذين تزلف لهم الجنة، قال الله تعالى: {وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ ادْخُلُوهَا بِسَلاَمٍ ذَلِكَ يَومُ الْخُلُودِ لَهُمْ مَا يَشَاؤُونَ فِيهَا وَلَدَينَا مَزِيدٌ} [ق: 31].
***
وأما ما سأل عنه من قول الله: {فِيهَا تَحْيَونَ وَفِيهَا تَمُوتُونَ وَمِنْهَا تُخْرَجُونَ} [الأعراف: 25]، ومن قوله: {مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى} [طه: 55]، وما توهم من ذلك أن هذه الأرض التي خلق منها آدم هي أرض الجنة وعرصتها،وأن كل العباد راجع إليها، فليس ذلك كما توهم ولا كما قال، وإنما عنى الله بكل ما ذكر من هذه الأقوال؛ هذه الأرض التي منها خلقوا وفيها يدفنون، ومن أجداثها يبعثون. قال الله تعالى: {أَلَمْ نَجْعَلِ الأَرْضَ كِفَاتاً أَحْيَاءً وَأَمْوَاتاً} [المرسلات: 25]، وقال سبحانه: {يَوْمَ تَشَقَّقُ الأَرْضُ عَنْهُمْ سِرَاعاً ذَلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنَا يَسِيرٌ} [ق: 24].
***

(1/296)


وأما ما سأل عنه فقال: ما كانت إرادة الله في آدم وزوجته؟ أيخلدان في الجنة؟ أم أراد أن يخرجا منها، وأن يهبطا عنها؟
فإنا نقول: إن إرادة الله في وقت خلق آدم وزوجته سكناهما في الجنة ومقامهما، وإن ارادته وحكمه عندما كان من غفلتهما، واستزلال الشيطان لهما حتى كان منهما ما كان من معصيتهما، لسبب الغفلة والنسيان لما عهد إليهما ربهما، من اجتناب الشجرة التي عنها نهاهما؛ فطلبا البقاء والحياة والاستزادة من العمل الصالح، ورجوا أن يخلدا ثُمَّ يزدادا طاعة لربهما، وتكثر عبادتهما لخالقهما، فغوى(1) صلى الله عليه في الشجرة ناسياً، ولم يكن ذلك عن مباينة لله بالعصيان، ولا عن قلة معرفة بما يجب للرحمن، قال الله تبارك وتعالى: {فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً} [طه: 115]. فلما أن كان ذلك منهما، أراد الله أن يهبطهما من الجنة التي كان قد كفاهما فيها لباسهما وقوتهما، فأخرجهما منها إلى غيرها من الأرض، وأبدلهما بالراحة تعباً، وبالكفاية للمؤونة طلباً، وحرثاً وزرعاً.
__________
(1) في (أ)، و(ب): فهوى.

(1/297)


فكانت إرادته في وقت إيجادهما: الكفاية لهما، وفي وقت نسيانهما: ما حكم به من إخراجهما، وإهباطهما منها إلى غيرها. والهبوط فهو القدوم من بلد إلى بلد، تقول العرب: هبطنا من بلد كذا وكذا إلى بلد كذا وكذا، وهبطنا عليك أرضك. وقال الله المتقدس الأعلى، فيمن كان مع عبده ونبيه موسى؛ ممن كان ينزل عليه المن والسلوى، ويظلل بالغمام ويسقى زلال الماء، فطلبوا وسألوا التبدل بذلك ما هو أقل وأدنى؛ فقالوا: {يَا مُوسَى لَنْ نَصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنْبِتُ الأَرْضُ مِنْ بَقْلِهَا وَقِثَّائِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا قَالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيرٌ اهْبِطُوا مِصْراً فَإِنَّ لَكُمْ مَا سَأَلْتُمْ} [البقرة: 61]، فقال: اهبطوا مصراً، أي أقدموا وانزلوا مصراً تجدوا فيه ما سألتم من هذا الأدنى.
فأراد سبحانه أن يسكنها آدم أولاً، ويخرجه منها آخراً، كما شاء أن يسكن ذريته(1) الدنيا ثُمَّ يخرجهم منها إذا شاء إلى الآخرة.
وكما شاء وأراد أن يصلي له نبيه صلى الله عليه وآله إلى بيت المقدس، ثُمَّ شاء أن ينقله عنه إلى ماهو أعظم، فينقله إلى بيته الحرام المكرم.
__________
(1) في (أ): ولده وذريته.

(1/298)


وكما شاء سبحانه أن يفترض على أمة موسى من الفرائض المشددة، والأمور المؤكدة، فافترض ذلك عليهم، ولم يرض منهم بسواه. من ذلك ما حرم عليهم من المأكل من الشحوم اللذيذة وغيرها، وما حظر عليهم من صيد البحر في يوم سبتهم، حتى كانت الحيتان يوم السبت تأتيهم وتظهر لهم، وتكثر عندهم وتشرع قريباً منهم؛ امتحاناً من الله لهم، فكانوا لله في تركها مطيعين، وكانوا عنده على ذلك مكرمين، ثُمَّ عتوا من بعد ذلك وفسقوا، وخالفوا فتصيدوا، فأخذهم الله بذنوبهم، فجعل منم القردة والخنازير، فقال سبحانه في ذلك: {وَاسْأَلْهُمْ عَنِ القَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ البَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعاً وَيَوْمَ لاَ يَسْبِتُونَ لاَ تَأْتِيهِمْ كَذَلِكَ نَبْلُوهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ} [الأعراف: 163].
ثُمَّ أراد الله التخفيف عن عباده؛ فبعث فيهم عيسى صلى الله عليه، فأحل لهم بعض ما قد كان حرم عليهم. قال الله تعالى يخبر عما جاء به عيسى وقاله، مما أمره الله به جل جلاله، حين يقول: {وَلأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيكُمْ وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ} [آل عمران: 50].
ثُمَّ أراد التخفيف عنهم، والنقل لهم إلى أفضل الأديان، إلى دين أبيهم إبراهيم، الأواه الحليم، فبعث محمداً صلى الله عليه وعلى أله بذلك، فصدع بأمر ربه، وأنفذ ما أرسل به.
فكان(1) ذلك إرادة من بعد إرادة، ومتعبداً من بعد متعبد، فصرف (2) الله فيه العباد، فتبارك الله ذو العزة والأياد(3).
__________
(1) في (أ): فكل.
(2) كذا، ولعلها: يصرف.
(3) في (أ): ذو الملك والعز والأياد.

(1/299)


وكذلك حكم على من عصاه بالمعصية، فإن تاب حكم له بالطاعة، وإن عاد فعصى؛ حكم عليه بما حكم على أهل الردى، فإن تاب وأناب، وعاد إلى الله وأجاب؛ حكم له بالهدى والثواب.
فهذه أحكام من الله وإرادات، أراد الله سبحانه أن يتصرف في المخلوقين، على قدر ما يكون منهم من العملين، فقال جل وعز: {مَنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيهَا ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ} [فصلت: 46].
***
وأما ما ذكر من العلم، وأن العلم لا يخلو من أن يكون الله العالم بنفسه، ويكون العلم من صفاته في ذاته لا صفته(1) لغيره، أو يكون العلم غيره.
فمن قال: إن العلم غيره؛ فقد جعل مع الله سواه، ولو كان مع الله سواه؛ لكان أحدهما قديماً والآخر محدثاً، فيجب على من قال بذلك أن يبين أيهما المحدث لصاحبه، فإن قال: إن العلم أحدث الخالق كفر، وإن قال إن الله أحدث العلم؛ فقد زعم أن الله كان غير عالم حتى أحدث العلم، ومتى لم يكن العلم؛ فضده لا شك ثابت وهو الجهل، تعالىالله عن ذلك علواً كبيراً.
وإن رجع هذا القائل الضال، إلى الحق من المقال؛ فقال في الله بالصدق، تبارك وتعالى ذو الجلال، فقال: إنَّه العالم بنفسه، الذي لم يزل ولا يزال(2)، وأنه الواحد ذو الإفضال(3)، وأنه لا علم ولا عالم سواه، وأنه الله الواحد العالم؛ وجب عليه من بعد ذلك، أن يعلم ان كل ما نسبه إلى العلم فقد نسبه إلى الله، وسواء قال: أدخله العلم في شيء؛ أو قال أدخله الله فيه، وحمله(4) سبحانه عليه.
والله عز وجل فبريء من ظلم العباد، متقدس عن أفعالهم، فأفعالهم بائنة من فعله، وأفعاله بائنة من أفعالهم، لم يحل بين أحد وبين طاعته، ولم يدخل أحداً في معصيته.
__________
(1) في (أ): لا صفة.
(2) في (ب، ط): ولايزول.
(3) تصحف في (ب)، و(ط) إلى: الأفعال.
(4) في (أ): وجبله.

(1/300)


فَعِلْمُ الله بما يكون من أفعال عباده فَغَيرُ أعمالهم، ولم يضطرهم(1) إلى عمل في حال من حالاتهم(2)، فالعلم بهم محيط، وهم يتصرفون فيه(3)، وينتقلون(4) من معلوم إلى معلوم؛ بما ركب فيهم من الاستطاعة والقدرة، قد علم ممن عصاه أنَّه سيعصى، وأن من تاب فقد علم أنَّه سيتوب، وإن عاد فقد علم أنَّه سيعود، وليس علمه بأنه سيختار المعصية أدخله في العصيان، لأن ضده قد يكون من العبد وهو التوبة والإحسان. فكيف يجوز على الواحد الرحمن(5) أن ينقل من عباده أحداً من رضاه إلى سخطه؟ إذاً لقد جبره على معصيته، ولو جبره عليها، إذاً لما كان بُدٌّ للعبد من الدخول فيها، ولو دخل العبد فيما أدخله ربه فيه؛ لوجب له الثواب عليه، ولكان لله من المطيعين، إذ هو جار على مشيئة رب العالمين، ولما كان في الخلق عاص، ولكان الله عن كلهم راضياً، ولكان ـ في القياس ـ إبليس عندالله مرضياً، إذ هو يحب أبداً ويدعو، إلى ما شاء الله لعباده ورضي، ولما ذمه الله في التكبر والعصيان، إذ الحامل له والمدخل له فيه الرحمن، ولما قال: يَا إِبْلِيسُ {مَا مَنَعَكَ أَنْ لاَتَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ} [الأعراف: 12] وهو يعلم أنَّه المانع له من السجود. فتبارك الله عن ذلك الواحد المعبود.
__________
(1) الضمير للعلم، والمعنى: أن علم اللّه بفعلهم لايدخلهم فيه جبراً.
(2) في (أ): حالهم.
(3) في (ط): فهم متصرفون.
(4) في (أ): ويتقلبون.
(5) في (أ): الصمد.

(1/301)


ألا ترى كيف يبرأ من أفعالهم، ويأمر بالمجاهدة لهم على اليسير من أعمالهم؟ ولو كان المتولي لذلك فيهم؛ لما عابه سبحانه منهم، ولما حض عباده على تغيير ما أحدث فيهم. ألا تسمع كيف يقول: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَينَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} [الحجرات: 9]؟ فقال: {اقْتَتَلُوا} فألزمهم الفعل، وقال: {فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ}، فأوجب على غيرهم من المؤمنين نصر المظلومين على الظالمين، فلو كان على قول الجاهلين لكان قد ألزم المؤمنين قتال من لا يجب قتاله، ومن تجب ولا يته، إذ أجاب الله في دعوته، وجرى له في طاعته، وبغى على من أمره بالبغي عليه، ولو كان الله المحدث البغي في الفاعل له، لكان قد أمر عباده بقتاله خصوصية(1) دون غيره، حتى يفيء هو ويرجع عن إرادته ومشيئته، ولكان أيضاً قتال عباده قتاله دونهم، فكان مقاتلاً لنفسه على فعله، إذ كان فعل المقاتل والمقاتل له فعلاً واحداً. فتبارك الله المتقدس عن ظلم العباد، المتعالي عن اتخاذ الصواحب والأولاد، كما قال سبحانه: {وَمَا رَبُّكَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ}.
والحمدلله الحميد، على ما خصنا به من التوحيد، ودلنا به من الدلالات؛ فيما أبان من خلق الأرضين والسموات، وغيرهما من الآيات. تم الجواب..
المسألة الرابعة:
عن النار وأهلها، هل الخير أراد بهم أم الشر؟
__________
(1) في (ط): حصراً فيه، ولعلها تصحيف: خصوصية.

(1/302)


ثُمَّ أتبع ذلك المسألة(1) عن أهل النار وعن النار، فقال: خبرونا عن أهل النار: ألخير أراد الله بهم فوضعها فيهم؟ أم الشر(2) أراد بهم؟ فإن قالوا: الخير أراد بهم؛ فيقال لهم: وكيف ذلك، وقد جعلها وقد علم أنهم لا ينتفعون بها، وأنها لا تكون إلاَّ في مضرتهم. وإن زعموا أنَّه جعلها فيهم ليضرهم، انتقض عليهم قولهم. تمت مسئلته.
جوابها(3)
وأما ما سأل عنه من أمر النار، وقال: لم خلقها الله الرحمن؟ الشر أراد بخلقه لها(4) أم لإحسان؟
فنقول: إن الله تبارك وتعالى، جعل النار في دار الدنيا؛ مزجرة لمن اهتدى؛ لما فيها من التذكرة بالنار التي وعدها الله للكافرين في دار الآخرة.
__________
(1) في (ب): مسئلته.
(2) في (أ): أو لشر.
(3) في (أ): الجواب.
(4) ليس في (أ، ب).

(1/303)


ولا شيء ـ والحمدلله ـ أبين نوراً، ولا أظهر خبراً، من أن يكون خلق خلقاً أراد منهم أمراً وكره منهم ضده؛ فأمرهم بما أراده، ونهاهم عما سخطه، ثُمَّ خلق لهم ثواباً، وأعد لهم عنده عقاباً، ثُمَّ استدعاهم إلى الطاعة بالثواب، ونهاهم عن المعصية بالعقاب، فعبد خوفاً من عقابه، وأطيع طمعاً فيما جعل من ثوابه، كما قال تعالى: {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوفاً وَطَمَعاً وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} [السجدة:16]، فجافوا ـ لمخافته وطلب مرضاته ـ منهم الجنوب، وطهروا أنفسهم من الذنوب، وطيبوا منهم السرائر والقلوب، فأمنوا بالطاعة أنفسهم من نحل(1) العاصين، واستوجبوا بذلك اسم المؤمنين، فكانوا كما قال فيهم ووصفهم رب العالمين، حين يقول: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيْمَاناً وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقّاً لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} [الأنفال: 2]، فخافوا ربهم فاهتدوا، ومن عذابه نجوا.
فلما أعلم الله العباد أجمعين، أن الجنة مصير المؤمنين، وأن النار مقر الفاسقين؛ حَذِر (2) أولوا الألباب النيران، فأعملوا أنفسهم في الفرار إلى الرحمن، راغبين فيما رغبهم فيه من الجنان.
__________
(1) في (أ)، و(ب): من محل.
(2) في (ط): ليحذر.

(1/304)


فسبحان من لطف بعباده، بما جعل لهم من النار في بلاده، تخويفاً وترهيباً، ومنافع وتقوية وترغيباً، {لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ} [الأنفال: 42]، ثُمَّ قال: {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلاَ يُجْزَى إِلاَّ مِثْلُهَا وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ} [الأنعام: 160]، وقال: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيراً يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ} [الزلزلة: 7]، فجعلها لهم في الدنيا مزجرة، وتخويفاً وتحذيراً من نار الآخرة، مع مالهم فيها في دار الدنيا، من المنافع التي لا تحصى، والمرافق الجمة التي لا تستقصى، بها يطبخون ويخبزون، وبها من القر(1)يحترسون، وبها في ظلمات الليل(2) يبصرون، وبها ينالون من الحديد ما ينالون؛ من تصريفه في أسبابهم، وتقويمه لمعاشهم، من أدوات حرثهم وحفرهم، وغير ذلك من منافعهم، وبها مايعدون لأعداء الله من السلاح (3)، من السيوف والدروع [وغير ذلك من السلاح] (4) التي تقيهم بأسهم، كما قال سبحانه: {وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ} [الأنبياء: 80].
ألا ترى وتسمع كيف قال رب العالمين، حين يذكر ويذكر بآلائه (5) عباده المتقين، فقال: {أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ أَأَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَهَا أَمْ نَحْنُ الْمُنْشِئُونَ نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً وَمَتَاعاً لِلْمُقْوِينَ} [الواقعة: 71]، فجعلها الله الواحد الأعلى، منفعة في الدنيا للخلق طرا، ونكالاً في الآخرة لمن استأهلها لا يفنى(6).
__________
(1) القر بالضم: البرد.
(2) في (أ): الأرض والليل.
(3) في (أ، ب): يعدون لأعداء اللّه ما يعدون.
(4) ليس في (ط).
(5) تصحفت في (ط) إلى: بالآية.
(6) في (ط): لاتفتأ.

(1/305)


ففي هذا والحمدلله من الجواب، ما أزاح من قلب ذي الشك التحير والإرتياب، وثبَّتَ ـ في إيجاد النار ـ الحكمة لرب الأرباب.
تم جواب مسألته.
المسألة الخامسة:
هل يستطيع الإنسان أن يجهل مايعلم أم لايستطيع؟
ثُمَّ أتبع ذلك المسألة عن المعرفة، فقال: هل يستطيعون أن يجهلوا ما جعلهم الله به عارفين؟ أم لا يستطيعون؟ فإن قالوا: لا، فقد انتقض قولهم عليهم. وإن قالوا: نعم، فقل: هل يستطيعون أن يجهلوا معرفة الله؛ فلا يعرفون أنَّه خالق كل شيء ومصور كل شيء؟ فإن قالوا: هذه الفطرة، وليس يثاب أحد عليها، فالخلق كلهم يعرفون أنَّه الله، فقل: هل يستطيعون أن يجهلوا الليل والنهار والسماء والأرض والدنيا والآخرة والناس والخلق كلهم أن الله خلقهم كما شاء وكيف شاء؟، فإن قالوا: نعم، فقد كذبوا، والناس كلهم شهود على كذبهم، وإن قالوا: لا، فقد تابعوك.
تمت مسألته.
جوابها
وأما ما سأل عنه، فقال: هل يستطيعون أن يجهلوا ما يعرفون؟ أو يعرفوا ما يجهلون؟ فإن مسألته تخرج على ثلاثة معان، ونحن لها مفسرون، ولكلها إن شاء الله مميزون.

(1/306)


أولها: معرفة الخالق، وهي لا تدرك إلاَّ بالعقل الصَّحيح والقلب النضيج. قال الله سبحانه: {فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الأَبْصَارِ} [الحشر: 2]، وقال سبحانه: {لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُوا الأَلْبَابِ} [ص: 29]، وقال: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ} [ق: 37]، فإذا صح مُرَكَّبُ اللب، وثبت فهم القلب، ثُمَّ تدبر أمره جميع الخلق، وقصدوا في ذلك قصد الحق؛ تفرع لهم من الألباب وجودة فكرهم وإنصافهم لعقولهم ما يدلهم على معرفة خالقهم، وقدرة سيدهم ومالكهم، ودلهم ذلك على أن لما يرون من خلق أنفسهم واختلاف الليل والنهار وتصريف الرياح وغير ذلك من الأشياء خالقاً، ليس كمثله شيء، ولا يشبهه من (1) ذلك كله شيء، ألا تسمع كيف يدل على نفسه، بما أبان من قدرته في خلق سمواته وأرضه، وما بث فيهما كل أوان من صنعه، وينزل من السماء بقدر من رزقه؟ فقال سبحانه: {إِنَّ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ لآَيَاتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ وَفِي خَلْقِكُمْ وَمَا يَبُثُّ مِنْ دَآبَّةٍ آيَاتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ وَاخْتِلاَفِ اللَّيلِ وَالنَّهَارِ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ رِزْقٍ فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ آيَاتٌ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} [الجاثية: 3ـ5]، فإذا صح للمخلوق لبه، وطاب له بالطاعة(2) قلبه، ثُمَّ فكر، وفي أمره كله تدبر؛ بان له أمر خالقه، وثبت في صدره اقتدار مصوره.
__________
(1) في (ط): ولايشبه في ذلك.
(2) في (أ): لله بطاعته.

(1/307)


وأما المعنى الثاني: فما أمر الله العباد بعلمه، وحرم عليهم ما هم فيه من جهله؛ من الحلال والحرام، والصلاة والزكاة والصيام، والحج إلى بيته والوقوف بمشاعره العظام، وكل ما جاء به محمد عليه السلام، مما تعبد الله به العباد، وألزمهم فيه الاجتهاد، وهذا فلا يعلم ولا يسمع، إلاَّ بمخبر عن الله مستمع، متكلم بالحق مناد، ولمن خالفه في ذلك معاد(1)، وكذلك وبذلك بعث الله الأنبياء إلى عباده، ليؤدوا إليهم فرائضه وأمره، وينادوهم بذلك فيسمعوا، ويعلموهم إياه فينتصحوا [فينجوا](2)، ولو لم يكلموهم به، ويسمعوهم إياه؛ لم يقفوا على علم ذلك أبداً، ولم يعرفوا حدوده أصلاً، فلم يكن في الفرائض لهم بُدٌّ من مبلغين، ومرسلين مبشرين ومنذرين، ففعل الله بهم كذلك، وبعث إليهم الرسل بذلك؛ رحمة منه سبحانه لهم، وعائدة منه بفضله عليهم.
وأما المعنى الثالث: فهو ما أدرك وعلم بالتجربة؛ مما لم يكن ليدرك أبداً إلاَّ بها، ولا يصح لطالب إلاَّ منها. من ذلك ما أدركه المتطببون(3) من علم مايضر وما ينفع، وما يهيج وما يقمع، وما يقتل من السموم، وما يردع السم عن السموم، وما يفسد العصب وما يجتلب بأكله العطب، وغير ذلك مما يطول ذكره، ويعظم ـ لو شرحناه ـ أمره، مما لا يدرك أبداً، إلاَّ بالتجربة أولاً.
فمن هذه الثلاثة المعاني تصح المعارف كلها للعارفين، ويثبت الفهم للمتفهمين.
وقد يجهل ذلك كله من شاء أن يجهله، كما يعرفه من شاء أن يعرفه، بأهون الأمر، وألطف الخبر.
فأما التجربة فيجهلها من لم يجرب الأشياء.
__________
(1) في (ب): منآدّ، من الندود، وهو النفور.
(2) ليس في (أ)، و(ب).
(3) في (ط): المطبون.

(1/308)


وأما الفهم والتمييز بالعقل؛ فقد يبطله شارب الخمر بشربه لخمره، فيزيل بذلك ما ركب فيه من لبه. ومن ذلك رقاد الراقد إذا رقد؛ لم يعلم ممن يدخل إليه أو يخرج عنه بأحد، والتبس عليه الليل والنهار، وعميت عنه ـ بكليتها ـ الأخبار، حتى ربما استرقد ليلاً فلا يعلم حتى يهجم عليه النهار، وربما رقد نهاراً فلا يعلم حتى يهجم عليه الظلام ويزول الإبصار.
فكيف يقول إن أحداً لا يقدر على جهل ما علم و علم ما جهل بسبب يعلم، ولا بحيلة تفهم؟ ألا ترى أن السكران يعلم في حال سلامة عقله؛ بما يشينه وينقصه ويفضحه من عمله؟ حتى لو أعطي من يدعي المروءة منهم ورشي جزاء من الرشاء(1) عظيماً ـ حين سلامة لبه ـ على أن يكشف له ثوباً، أو يبدي من نفسه عيوباً؛ لم يكن ليفعل، وإذا شرب وسكر لم يعلم له بسوآيه(2)، وجاءت وظهرت منه في نفسه ولها الفضيحة والنكاية، فهل ذلك إلاَّ من جهله [بما كان يعلم](3)، وقلة معرفته في تلك الحال بما كان يعمل؟ أو ما رأى مَنْ عَلِم عِلماً، ورَوَى رواية وحكماً، مِنْ عِلْمِ علماء، وحِكَمِ حكماء؟ بل مَنْ أحكم القرآن، وتلا عن ظهر قلبه الفرقان؛ ثُمَّ ترك قراءته دهرا؛ فجهل ونسي ما علم منه طرا؟ أو ما رأى من كان دهره جاهلاً، وعن كل خير وعلم غافلاً، ثُمَّ انتبه لنفسه، وأنف من جهله؛ فتعلم فعلم، ونظر ففهم؟!
__________
(1) في (أ)، و(ب): من الدنيا.
(2) تصحيف في ط إلى: لشرابه. والسواية: العورة وما يستحى منه.
(3) سقط من (أ).

(1/309)


وكل ما ذكرنا ـ والحمدلله ـ فنقض لكل ما عنه سال، وظن بذلك أنَّه قد أحال في الكلام كل محال، ولم يعلم أنَّه في قوله قد أحال، وأخطأ في كل ما عنه سال، وتعسف في مدلهمات ظلم المقال، فكشفنا عنه وعن غيره من الخلق؛ ممن يريد ويقصد الحق؛ طخياء(1) ديجور جهله، وبينا له ماالتبس عليه من أمره؛ حين أقدم بالقول فقال: هل يقدر إنسان، أو قدر قط ذو بيان؛ على أن يجهل ماعلم، أو يعلم ما جهل، في حالة من الحالات، أو وقت من الأوقات؟ وزعم أن أحداً لا يدخله في ذلك أبداً ارتياب، ولا يجهله بسبب من الأسباب، وقد وجدنا ذلك بخلاف قوله، وعلمنا أن فعل ربه بخلاف فعله، لا ما نسب هو إلى ربه، وقلده سبحانه ما ليس من صنعه [فعلها](2)، فعلمنا أن الإبصار؛ إلى ظلام الليل وإشراق النهار؛ من فعل الإنسان، لا من فعل الرحمن.
ثُمَّ إن(3) المعرفة من العارف تفرعت من لبه، عند استعماله لفكره، واستخراجه ما أمر باستخراجه من التمييز بعقله، وقد نجد المبصر بعينه يبصر إلى ما يحل له ويحرم عليه، ولو كان البصر من الله لكان الله المدخل له فيه، الناظر الباصر دون الإنسان إليه، تعالى عن ذلك رب العالمين، وتقدس عن مقال الجاهلين.
تم جواب مسألته.
المسألة السادسة:
من خلق الكلام والنطق آلله أم الإنسان؟
__________
(1) في (ط): طمياء، وفي هامشه: أصلها من الطامة وهي المصيبة الشديدة.
(2) ليست في (ب). ولعل الصواب حذفها.
(3) في (ب): وأن.

(1/310)


ثُمَّ أتبع ذلك الحسن بن محمد المسألة؛ فقال: أخبرونا عن الناس، من أنطقهم؟ والكلام من خلقه؟ فإن قالوا: الله؛ فقد انتقض قولهم، وذلك لأن الكلام يكون فيه الصدق والكذب، والتوحيد والإشراك، وأعظم الكذب الشرك بالله، والتكذيب والإفتراء عليه، وإن أنكروا أن يكون الله خلق المنطق والكلام؛ فذلك الكفر والشرك بالله، والتكذيب بما جاء من عنده؛ فقل: خبرونا عن قول الله إذ قال في كتابه: {وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَينَا قَالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقُكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيهِ تُرْجَعُونَ} [فصلت: 21].
تمت مسألته.
جوابها
وأما ما سأل عنه مما ضل فيه، ونسبه إلى الله وقال به من المنكر عليه؛ فقال: خبرونا عن الناس من أنطقهم؟ وعن الكلام من خلقه؟ فنقول: إن الله أنطقهم كما هداهم، وهداهم كما بصرهم، وبصرهم كما أسمعهم، وأسمعهم كما أمشاهم، وأمشاهم كما أبطشهم، وأبطشهم كما أقامهم، وأقامهم كما أقعدهم، وأقعدهم كما أشمهم، وأشمهم كما أنكحهم؛ فلم يكن منه في ذلك كله فعل غير خلق الأداة(1)، خلق الرجل للمشي فمشى، وخلق الأذن للسمع فسمع، وخلق الأنف للشم فشم، وخلق العين للنظر فنظر، وخلق الفرج للنكاح فنكح. فما ناله الإنسان من تلك الأداه(2) فهو من فعله، وليس من فعل الله فعل عبده. الله خلق الفرج امتناناً عليه به لينال به من الشهوة ما نال، وفعل العبد فهو النكاح.
فهل ترى الحسن بن محمد الوسن الجاهل يقول غير ذلك، أو يقدر على نقض حرف مما شرحنا(3)، أو به قلنا أو احتججنا؟، والحمدلله الواحد الأعلى.
__________
(1) في (ب): الأدوات.
(2) في (ب): بتلك الأدوات.
(3) في (ب): ذكرنا وشرحنا.

(1/311)


وكذلك كان فعله سبحانه في إنطاقهم؛ خلق لهم الألسنة واللهوات، وما يكون به الكلام من الآلات؛ ثُمَّ أمرهم أن يذكروه ويسبحوه، فقال سبحانه، وتعالى عن كل شأن شأنه: {فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّآلِّينَ} [البقرة: 198].وقال: {فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلاَ تَكْفُرُونَ}[البقرة: 152]. ونهاهم أن يقولوا عليه غير الحق فقال: {وَلاَ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلاَّ الْحَقَّ} [النساء: 171]، فجعل(1) لهم سبب القول فيه، ونسبه إليهم ولم ينسبه إليه، وجعله ـ جل جلاله عن أن يحويه قول أو يناله ـ عن افترائهم عليه(2).ولو كان الكلام من فعله، وكان الناطق به على ألسنتهم، لكان هو القائل في نفسه ما أنكره عليهم، من ذلك قول فرعون: {أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى} [النازعات: 24]، وقول الكافرين لكتاب رب العالمين: {أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ} [المؤمنون: 83]، و {هَذَا إِفْكٌ قَدِيمٌ} [الأحقاف: 11]، ومن ذلك ما قالوا للأنبياء المطهرين، صلوات الله وبركاته عليهم أجمعين، وما رموهم به من السحر والجنون، قال الله تعالى: {كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ أَتَوَاصَوا بِهِ بَلْ هُمْ قَومٌ طَاغُونَ} [الذاريات: 52]. أفترى الجاهل المفتري، الظالم لنفسه الغوي، يقول: إن الله سبحانه كذب أنبياءه ورماهم؛ بما قال الكافرون من السحر والجنون فيهم، وحمل(3) الكافرين على أن يسيئوا بهم الظنون، وينسبوا إليهم الكذب والسحر والجنون؟ بل كيف ينطقهم بالتكذيب لهم والافتراء عليهم، وهو يأمرهم بالطاعة لهم، ويعطيهم الجنان على الإيمان بهم؟ فقال سبحانه: {سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ
__________
(1) في (أ)، و(ب): فجعله.
(2) كذا، ولعل المقصود وجعله صادراً عن افترائهم عليه.
(3) في (أ): وجبل.

(1/312)


رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الفَضْلِ العَظِيمِ} [الحديد: 21]. وقال: {وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَدَاءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ} [الحديد: 19]، كذب القائلون على الله بذلك، ووقعوا عنده في المهالك، فسبحان الرؤوف الرحيم، العدل الجواد الكريم.
***

(1/313)


وأما ما سأل عنه مما التبس عليه، وتحير فيه لقلة العلم بالله فيه، من قول الله سبحانه: {وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [فصلت: 21]، [هو جعل فينا](1)، فتوهم أن معنى أنطقنا هو: تكلم علينا، وقال ما قلنا ربنا، وليس ذلك كذلك، بل هو على ما شرحناه أولاً. ومعنى (( أنطقنا الله ))؛ أي جعل فينا استطاعة ننطق بها، وأذن لنا بالنطق فنطقنا، وشهدنا حينئذ بما علمنا. ولو كان الله الذي فعل الكلام بعينه، وولي قوله بنفسه دون غيره؛ لقالت جلودهم: نطق الله علينا فيكم، وشهد هو لا نحن عليكم، وتكلم علينا بما علم منكم. تعالى الله عما يقول المبطلون، ويضيف إليه الملحدون. وليس انطاقه إياها في الآخرة، إلاَّ كانطاقه للألسنة في الدنيا والآخرة، وليس انطاقه للألسنة إلاَّ كاسماعه السمع، فلما جعل في السمع استطاعة على أن يسمع سمع، وكذلك العين واليد والرجل. فالعين الله خلقها، والنظر إلى الأشياء فعل العبد واليد الله خلقها، والإنسان يبطش بها. والرجل الله خلقها، والإنسان بها مشى. فمن الله سبحانه خلق الأدوات وإيجاد الآلات في الأبدان، وما تفرع منها فمن أفعال الإنسان، وذلك ـ ولله الحمد ذو (2) المن ـ بين الشأن؛ لمن عرف الله على حقيقة العرفان. تم جواب مسألته.
المسألة السابعة: من خلق الحركات؟
ثُمَّ أتبع ذلك المسألة عن الحركات، فقال: من خلقها؟
__________
(1) ليس في (ب) ويظهر أنَّه لا معنى له هنا.
(2) كذا في النسخ.

(1/314)


فإن قالوا: الله خلقها، كان ذلك نقضاً لقولهم، وذلك أن كل عمل، من خير أو شر، طاعة أو معصية، إنَّما يكون بالحركات. فإن(1) قالوا: إن الله لم يخلقها، فقد أشركوا بالله، وذلك ابتلاء عمل(2)، لأنَّه لا يتم خلق الإنسان إلاَّ بالحركة.
تمت مسألته.
جوابها
وأما ما سأل عنه فقال: من خلق الحركات، اللواتي تكون من الخلق في الحالات؟ فنقول: سبحان الله الرحيم العدل الجواد، البريء من أفعال العباد، المقدس عن القضاء بالفساد، كما قال في نفسه ذو الأياد: {إِنَّ اللَّهَ لاَ يَأْمُرُ بِالَفْحَشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَالاَ تَعْلَمُونَ} [الأعراف: 28].
__________
(1) كذا، ولعل الصواب وإن.
(2) كذا في النسخ، ولعل المقصود: أن تكليفهم بالأمر والنهي ـ مع خلق اللّه لأعمالهم ـ ابتلاء واختبار، وانت تعلم أن الاختبار لايكون إلا مع الاختيار.

(1/315)


ثُمَّ نقول: إن بين أفعال الله وأفعال خلقه فرقاً بيَّناً (1)؛ وإنه واضح في الخلق، عند من أراد معاني الحق، فأفعال الله متتابعات متلاحقات في كل شأن، وأفعال المخلوقين، ذوي العجز المربوبين؛ فغير متلاحقات، بل هن عن التلاحق عاجزات، وآخر أفعال الله بأولهن لاحق، وأولهن لآخرهن غير سابق؛ فأفعال الخالق موجودات معلومات، ثابتات متجسمات، وأفعال الخلق فزائلات غير موجودات، بل هن في كل الحالات معدومات (2)، وفي ذلك والحمدلله من البيان؛ ما فرَّق عند ذوي العلم والإتقان، بين أفعال الخالق ذي البقاء والجلال، وبين أفعال الخلق ذوي الفناء والزوال.
ألا ترى وتسمع كيف أكذب الله من نسب أفعال العباد إلى ربه؟ فأكذبه سبحانه ونفاها عن نفسه، حين يقول: {وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَأْمُرُ بِالفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ}؟ [الأعراف: 28]، وقال: {وَيَومُ القِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْمُتَكَبِّرِينَ} [الزمر: 60].
__________
(1) في (أ، ب): فرق بين.
(2) يعني أن أفعال الخالق هي الأجسام وهي المفعولات، وأفعال العباد هي الحركات وهي أعراض لاثبوت لها في الخارج، فمثلاً في قوله تعالى: {والله خلقكم وما تعملون} اللّه خلق المفعولات وهي الحجارة التي تنحت منها الأصنام وحركات النحت هي فعلهم وهي أعراض، كما يتضح في قوله تعالى: {ما جعل اللّه من بحيرة..} الخ، ولله در الإمام ما ألطف استخراجه وأدق احتجاجه.

(1/316)


أفظن من جهل وعمي أن الله فعل كذبهم عليه؛ ثُمَّ رماهم به، وقال إنهم قالوه فيه؟ فمن يا ويحه إذاً الكذوب المبطل، الظالم المتعدي الغشوم المدغل (1)؟ من قال وفعل؛ أم من لم يقل ولم يفعل؟ أما سمع الحسن بن محمد قول الجليل، وما حكى في أوضح التنزيل، عمن ظلم وجار وأساء، وفعل فعلاً ثُمَّ رمى به إلهه واعتدى، ممن سلك مسلكه وتبعه، وشرع في ذلك مشرعه، فسن لقريش سنة اتبعتها، واقتدى جميع العرب بها، فبحر لهم البحائر(2)، وسيب لهم السوائب(3)، ووصل لهم الوصائل(4)، وحمى لهم الحام(5)، فكانوا على ذلك حتى ظهر الإسلام، وأكرمهم الله بمحمد عليه السلام، فقال اللّه سبحانه في ذلك، ونفى عن نفسه ما رموه به من ذلك، وألزمهم فعله، وبرأ منه تبارك وتعالى نفسه، فقال: {مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلاَ سَائِبَةٍ وَلاَ وَصِيلَةٍ وَلاَ حَامٍ وَلَكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ} [المائدة: 103]. أفترى الحسن بن محمد ومن استجهله فقال بقوله وذهب مذهبه يقولون لله ـ إذ نفى ذلك من فعلهم عن نفسه ـ بل أنت فعلته فيهم، وخلقته وركبته لديهم، وأدخلتهم فيه وقضيته عليهم؟ لقد كذبوا إذاً الرحمن العلي الأعلى، وصدقوا قريشاً الجاهلية الجهلاء، وكفروا بالله كفراً يقيناً، واحتملوا بهتاناً وإثماً مبيناً.
ففي هذا والحمدلله من الحجة كفاية، لمن كانت له بالحق من الحلق عناية.
__________
(1) الْمُدْغِل: ذو الدغل، وهو الذي في كلامه فساد وريبة.
(2) جمع بحيرة، وهي: التي تشق أذنها.
(3) جميع سائبة، وهي: التي تسيب للألهة ولا تذبح.
(4) جمع وصيلة، وهي: التي تلد ذكراً وأنثى فتصبح وصيلة.
(5) الحام: الفحل من الإبل، إذا ولدت أنثاه عشرة بطون فيترك ولا يذبح ويحمي ظهره فلا يحمل عليه.

(1/317)


ومما يحتج به على الحسن بن محمد من المقال، ويدحض به قوله المحال، أن يقال له: إذا كنت تزعم أن الله خلق هذه الحركات التي هي من أفعال العباد؛ من أخذ وإعطاء، وحذو واحتذاء، ولبس وارتداء، وقول ومقال، وزور ومحال، فلا نشك نحن ولا أنت ولا أحد علم شيئاً أو فهم، أن قريشاً بنت بـ(نخلة) (1) العزى، وثقيفاً بالطائف اللات، فزينوهما بالجواهر والعقيان، ثُمَّ عبدوهما وجعلوهما قَسَماً من دون الله (( الرحمن ))(2)، ومن ذلك ما جعلت ونحتت، وأقامت ونصبت؛ على الكعبة وفيها قريش من الأصنام، وما كانوا يجلون ويعظمون ويذبحون لهبل وأشباهه عند بيت الله الحرام، فيقول الحسن بن محمد: إن الله تعالى بنى لهم اللات والعزى، وأمرهم بعبادتهما والقسم دونه بهما، وإنه أقام لهم تلك الأصنام، وأضل بها كل من ضل بها من الأنام، وعظمهن وذبح ـ جل عن ذلك ـ لهن، وقرب تلك القرابين إليهن؟ لعمرو الحسن بن محمد وأتباعه، وأهل البدعة من أشياعه، لو كان الله خلق وفعل أفعال الفاعلين؛ لكان العابد ـ دون من عبدهن ـ لهن، فلذلك يلزم من قال ذلك ـ بلا شك ـ بهذا القول الكفر؛ إذ يقولون: إن الله فاعل أفعال قريش دونها، وفاعل كل ما فعله من الفواحش غيرها، فلم يا ويحه إذاً بعث محمداً إليهم؛ يعيب ذلك عليهم؟! لقد بعثه إذاً يعيب عليه فعله(3) دونهم، ويبطل ما صنع، ويخفض ما رفع، (وقريش)(4) إذاً كانت لله مطيعة، وفي مرضاة خالقها ماضية سريعة فيما فعل، معظمة مجلة لما أجل، ومحمد لله في فعله مضاد، وفي كل قضائه محآد. فلقد ـ إذاً ـ هدم محمد صلى الله عليه وآله ما بنى الرحمن، وعانده وخالف عليه في كل ما شاد(5)
__________
(1) اسم موضع.
(2) ليست في (أ)،و(ب)، وجعلها في (ط) بين قوسين هكذا (الرحمن).
(3) في (أ): فعلهم. ولعله سهو.
(4) ليست في (أ)، و(ب): والمعنى على سقوطها: لم بعث محمداً يعيب عليهم فعلهم إذا كانوا مطيعين.
(5) في (أ)، و(ب): كل ما شأن. أي في كل شان و((ما)) زائدة.

(1/318)


. فهذا أكفر الكفر، وأعظم الفرية على الله والإمر. فسبحان من هو بريء من عصيان كل عاص، وطغيان كل مفتر طاغ.
تم جواب مسألته.
المسألة الثامنة: هل أفعال العباد شيء؟ ومن خلقها؟
ثُمَّ أتبع ذلك الحسن بن محمد المسألة عن الأعمال، فقال: خبرونا عن الأعمال التي عمل بها بنو آدم، أشيء هي؟ أم ليست شيئاً؟.. فإن قالوا: بل هي شيء؛ فقل: من خلق ذلك الشيء؟ فإن قالوا: الله خلقه؛ انتقض عليهم قولهم،! وإن قالوا: ليس ذلك مخلوقاً؛ كان ذلك شركاً بالله وتكذيباً لكتابه، لأن الله سبحانه خالق كل شيء؛ فقل لهم: ألم تعلموا أن أفعال بني آدم شيء؛ فإن قالوا: نعم، فقل: والله خلقها؛ فإن قالوا: ليست بشيء! فقل لهم: فقد زعمتم أن الله يثيب على غير شيء، ويعذب علىغير شيء، ويغضب من غير شيء، ويرضى من غير شيء، ويدخل الجنة بغير شيء، ويدخل النار بغير شيء.
تمت مسألته.
جوابها
وأما ما سأل عنه من أفعال العباد، فقال: أشيء هي أم غير شيء؟ وقال: إن كانت شيئاً فمن خلقها؟ وإن لم تكن شيئاً فهل يعذب أو يثيب الله على غير شيء؟ .
فإنا نقول، وإلى الله سبحانه نؤول: إنَّها شيء وأشياء، وطاعة وعصيان، وإساءة وإحسان، ألم تسمع الله سبحانه يقول: {لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدّاً تَكَادُ السَّمَوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدّاً أَنْ دَعَوا لِلرَّحْمَنِ وَلَداً وَمَا يَنْبَغِى لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً} [مريم: 89ـ 92]، فسمى تحرك ألسنتهم بما قالوا من الكذب والافتراء شيئاً، ثُمَّ أخبر بأن السموات لو كان فيهن من العقول والتمييز ما فيكم؛ لانفطرن لإعظام ما جاء من قولكم. وكذلك لو أن الجبال كان فيها بعض ما ركب من الفهم فيكم؛ لخرت لإعظام اجترائكم على الخالق بما به اجترأتم.

(1/319)


وقال سبحانه: {وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ} [القمر: 52]، فسمى أفعالهم شيئاً، فقد أوقع في الزبر، والزبر هي: الكتب. وقد قال ابن عباس: إن الزبر التي ذكر الله أن أفعالهم فيها هي هذه الكتب التي أنزلها الله على أنبيائه؛ من التوراة والإنجيل، والفرقان الكريم الجليل. ونحن فنقول: إن الزبر هي: الكتب التي ذكر الله في قوله: و{وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ القِيَامَةِ كِتَاباً يَلْقَاهُ مَنْشُوراً اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ اليَوْمَ عَلَيكَ حَسِيباً} [الإسراء: 13ـ 14]، وفي قوله: {هَذَا كِتَابُنَا يَنْطِقُ عَلَيكُمْ بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [الجاثية: 29]. فهذه التي ذكر الله من الكتب عنده، وأنه يظهرها يوم دينه وحشره؛ هي: الزبر التي ذكر الله أن أفعالهم فيها، لا ما قال ابن عباس من أنها هي المنزلة على أنبيائه، من توراته وإنجيله، وما نزل على محمد من فرقانه، ألا تسمع كيف يقول: {وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ} [القمر: 52ـ 53]، وهذه الكتب المطهرة، من التوارة والإنجيل والفرقان المكرمة؛ ففيها بعض ما فعل العباد، وكثير منها لم يقص خبره، ولم يذكر جل جلاله أمره، كما قال ذو العزة والأياد، ورافع السماء وداحي الأرض ذات المهاد: {مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ} [غافر: 78]، وقال: {نَتْلُوا عَلَيكَ مِنْ نَبَأِ مُوسَى وَفِرْعَونَ} [القصص: 3]، يريد: نقص عليك بعض خبرهما، وما كان من محاورتهما وأمرهما. وقال سبحانه في اهل الكهف، وما كان من سؤال قريش للنبي عنهم، فقال الله في ذلك: {إِذْ يَتَنَازَعُونَ بَينَهُمْ أَمْرَهُمْ فَقَالُوا ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْيَاناً رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِداً سَيَقُولُونَ

(1/320)


ثَلاَثَةٌ رَابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْماً بِالغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ مَا يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ قَلِيلٌ فَلاَ تُمَارِ فِيهِمْ إِلاَّ مِرَاءً ظَاهِراً وَلاَ تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَداً } [الكهف: 21ـ 22]. (وقال سبحانه: {مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيكَ} [الطور: 1ـ3]، وقال: {مِنْ نَبَأِ مُوْسَى وَفِرْعَونَ} [النحل: 89]) (1)، فأخبر نبيه صلى الله عليه وآله بما كان من قول أهل بلدهم فيهم، وقص عليه قبل ذلك ما كان من فعلهم في أنفسهم رحمة الله عليهم، واعتزالهم إلى الكهف، واخلاصهم لله دينهم(2)، ثُمَّ أمره بأن لا يماري فيهم إلاَّ مراء ظاهراً وكتمه عدتهم، ثُمَّ قال: {قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ مَا يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ قَلِيلٌ}، ففي كل ذلك يخبر(3) أنَّه لم يعلمه صلى الله عليه وآله، ولم يخبره في كتابه من أخبار من مضى، وفات في قديم الدهر وانقضى؛ إلاَّ باليسير من القصص دون الكثير، ويدل على أن ما لم يقص عليه من أخبار الأمم الماضية، والحقب الخالية(4)؛ أكثر مما قص وأعظم، وأطول وأطم، وكل ذلك فدليل؛ من الله في واضح التنزيل؛ على أن ما ذكر الله من الزبر، التي فيها كل ما فعله العباد مستطر؛ غير هذه الكتب التي ذكر فيها جزءاً، وترك ولم يذكر بعضاً، لأن ما جمع فيه كل شيء؛ بخلاف ما جمع فيه بعض شيء؛ إذ نصف الشيء أو بعضه، خلاف الشيء كله.
__________
(1) مابين القوسين ثابت في النسخ، وقد تقدم، وليس هذا موضعه.
(2) في (أ): دينه.
(3) في (أ): يخبر بعلمه.
(4) في (أ): الفانية.

(1/321)


فأما الكتب التي ذكرها الله في كتابه، ونزل فيها ما نزل من وحيه وقرآنه، فهي ما أقسم به سبحانه حين يقسم فيقول: {وَالطُّورِ* وَكِتَابٍ مَسْطُورٍ* فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ} [الطور: 1ـ3]، وقوله: {وَأَنْزَلْنَا عَلَيكَ الكِتَابَ تِبْيَاناً لِكُلِّ شَيْءٍ} [النحل: 89]، وقوله: {إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ* فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ* لاَ يَمَسُّهُ إِلاَّ الْمُطَهَرُّونَ} [الواقعة: 77ـ 79]، وقال سبحانه فيما حكى عن مؤمني الجن إذ صرفهم إلى نبيه يستمعون منه القرآن، فقال: {وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ القُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ* قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَاباً أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقاً لِمَا بَينَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ} [الأحقاف: 29ـ30]. فهذا وما كان مثله في القرآن، من ذكر الكتاب والكتب هو ما أوحى الله ونزل سبحانه، مما قص فيه من أخبار خلقه وما أراد، وترك ما لم يرد من أخبار العباد.
ثُمَّ نقول ـ من بعد شرحنا ما اراد الله في قوله: {وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ} ـ : إن هذه الزبر، وإن الاستنساخ، وإن الكتاب الذي يخرج لهم فيه أخبارهم، وما كان من أعمالهم؛ فهو كاللوح المحفوظ، واللوح والكتاب والزبر عند رب الأرباب؛ فهو: العلم المعلوم، المحيط بالملك المفهوم، الذي لايزل شيء من الأشياء عنه، ولا يخرج ـ ولله الحمد ـ منه، وهو علم الله، العالم بنفسه، المتقدس عن شبه خلقه. وإنما يحتاج إلى كتاب المعلومات مَنْ يَكِلُّ علمه(1) في بعض الحالات، فأما رب الأرباب؛ فهو محيط بكل الأسباب.
__________
(1) في (أ): عمله. وهو سهو.

(1/322)


فكل ما عمل الخلق فهو في العلم مستطر، والمستطر فمعناه(1): معلوم مختبر، يوقفهم في يوم حسابهم عليه، فيعرفونه طراً لديه، فلا يضل عن أفهامهم؛ بقدرة الله شيء من أعمالهم، {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيراً يَرَهُ* وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ} [الزلزلة: 7ـ8]،وقال: {وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِراً وَلاَ يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً} [الكهف: 43]، وقال لقمان لابنه، وهو يعظه: {يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَوَاتِ أَوْ فِي الأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ} [لقمان: 16].
وقال في ذلك رب العالمين: {وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَينَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ} [الأنبياء: 47]، فأخبر أنهم يلاقون؛ كل ما كانوا يفعلون، وأن ذلك كله، صغيره وكبيره؛ مثبت في الزبر عنده، وكل هذه الأسباب؛ تدل على أن الزبر خلاف ما نزل من الكتاب.
***
ثُمَّ قال: إن أثبتوا أن أفعال العباد شيء، فسلهم: من خلق ذلك الشيء؟
فنحن ـ بحمدالله ـ نقول، وعليه منا المعمول: إن خالق كل شيء عامله، وعامله ففاعله، قال سبحانه: {فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ} [المؤمنون: 14]، فسمى العاملين خالقين، وقال شاعر من فصحاء(2) العرب (3):
ولأنت تفري ما خلقت وبعـ… ـض القوم يخلق ثُمَّ لا يفري
يريد: أنك (4) تتم ما دخلت فيه وصنعته، وتكمل كل ما قمت به وعملته، وغيرك لا يصدر إذا أورد، وأنت تصدر حين تورد.
__________
(1) في (ب)، و(ط) هكذا: العلم المستطر أي فمعناه.
(2) في (ب): من شعراء.
(3) البيت لزهير بن أبي سلمى المزني، الشاعر الجاهلي المعروف، وحكيم الشعراء في الجاهلية، أحد شعراء المعلقات السبع والحوليات، توفي قبل الهجرة بثلاث عشرة سنة.
(4) .في(ب): أنت.

(1/323)


وقد ترى من يفسد ويسرق، ويكذب ويفسق، فهل يقول الحسن بن محمد، في ذي الجلال خالقه، أنَّه المتولى لذلك الفعل دون فاعله،؟ فيكون قد قال بخلاف قول الله(1)، ورد في ذلك كله على الله؛ حين يقول: {أَفَرَأَيْتُمْ مَاتَحْرُثُونَ* أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ}[الواقعة: 63]، فميز بين الحرث والزرع، فجعل شق الأرض وحرثها وتسويتها وبذرها لهم فعلاً، وجعل إخراجه وفلق حبه وزرعه وتقويته له فعلاً؛ فقال سبحانه: {إِنَّ اللَّهَ فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى} [الأنعام: 95]، وكذلك تقول العرب للغلام ـ إذا أرادت له الخير والإكرام ـ: زرعك الله زرعاً حسناً، تريد: بلغك وأنبتك نباتاً حسناً، قال الله سبحانه: {فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَهَا نَبَاتاً حَسَناً}[آل عمران: 37]، يريد أنشأها وكبرها وغذاها، فأحسن بأرزاقه غذاءها.
وقد يكون من هذه الأشياء التي هي أفعال: الزنى وشرب الخمر وارتكاب الرذائل(2)، فماذا يقول الجاهلون في هذه الأشياء، من فعلها عندهم؟ الخالق؟ أم المخلوق؟ ومن أظهرها وأوجدها؟ الرب؟ أم المربوب؟ فتقدس وتعالى ذو الجلال عما يقول المبطلون.
بل، ما يقول ـ ويحه وويله من الله سبحانه وهَوْله(3)ـ في هؤلاء المجوس الذين أقاموا لأنفسهم ناراً، وبنوا لها ـ تعظيماً وإجلالاً ـ داراً، ليلهم ونهارهم يؤججونها ويوقدونها، وهم في ذلك من دون الله يعبدونها، أهم أجترأواعلى الله فيما فعلوا؟ أم الله أدخلهم في عبادة ما عبدوا؟.
__________
(1) في (أ): ما قال الله.
(2) في (أ)، و(ب): الردى.
(3) في (أ)، و(ب): وغوله.

(1/324)


فإن قال: بل فعله المجوس الأنجاس، وتعدى به على الله العصاة الأرجاس، فقد أصاب الجواب، وأجاب في ذلك بالصواب، وإن قال: إن الله فعله وأدخلهم فيه، وقسرهم على ذلك وأجبرهم(1) عليه؛ فقد زعم أنهم يصبحون ويمسون لله مطيعين، وفي مرضاته سبحانه ساعين، إذ هم في قضائه وإرادته متصرفون، (وفيما أدخلهم فيه داخلون، وعما صرفهم عنه من طاعته منصرفون)(2).
بل، فليخبرنا أهل هذه المقالة، من أهل المحاربة لله والضلالة، ما الذي يجب عليهم، ويرضونه في أحبابهم وفيهم، إذا رأوا مجوسياً يشتم الرحمن؟ التغيير عليه أم الإقساط إليه والإحسان؟
فإن قالوا: بل يجب علينا(3) التغيير والنكير؛ إن نحن سمعنا شاتماً يشتم الرحمن اللطيف الخبير.
قيل لهم: لم ذاك، وأنتم تزعمون في أصل قولكم؛ أنَّ الله الذي فعل أفعالكم وأفعالهم دونكم؟ فيجب ـ في قولكم ـ أن الشاتم بريء من شتمه، وأن الله سبحانه الشاتم دون المجوسي لنفسه؛ إذ زعمتم أن ذلك فعل الله دون مخلوقه وعبده، فلئن كان عليه اللّه بذلك قضى؛ فما قضى إلاَّ بما أراد سبحانه وارتضى، أفتنكرون على المجوس المؤتمرين؛ بما(4) أراده منهم رب العالمين؟ لقد ـ إذاً ـ سخطتم من الله ما ارتضى، ورضيتم له من ذلك ما لم يرد ولم يشأ، بل الواجب في ذلك على كلكم، إن كان القول في الله كقولكم؛ تكرمة المجوس والإحسان إليهم؛ إذ قد قاموا لله بما قضى به عليهم، فهم لله ـ في قولكم ومذهبكم ـ مطيعون، وأنتم ومن قال بقولكم لله سبحانه عاصون؛ إذ أنتم لما أراد منهم ولم ينكره عليهم منكرون، وأنتم لهم ظالمون، وعليهم بالمنكر متحاملون.
__________
(1) في (أ): وجبرهم.
(2) ما بين القوسين سقط من (ب).
(3) في (ب)، و(ط): عليه.
(4) في (أ): العمل بما.

(1/325)


ففي قليل مما احتججنا به من عدل الله ما كفى، عن إعادة ما ذكرنا أولاً، وشفى والحمدلله عن التطويل وأغنى، غير أنا لا نجد بداً إذا كرر وسال، من أن نشرح ونفسر كل ما يقوله من المقال، وإذا احتج بالمحال أبطلناه، وإذا عارض الحق بالباطل دمغناه،(1) كما قال مولانا لا مولاه: {بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى البَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الوَيلُ مِمَّا تَصِفُونَ} [الأنبياء: 18]، وقال في تولي المحقين وخذلان المبطلين الضالين: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَولَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الكَافِرِينَ لاَ مَوْلَى لَهُمْ} [محمد: 11]، يقول سبحانه: لا ولي ولا متولي، ولا مرشد لهم ولا كافي.
تم جواب مسألته.
المسألة التاسعة: عن الآجال
ثُمَّ أتبع ذلك المسألة عن الآجال فقال: خبرونا عن الآجال، من وقتها؟ أموقته هي؟ أم غير موقته؟ فإن قالوا: الله وقتها؛ فقد أجابوك، فقل: هل يستطيع أحد أن يزيد فيها أو ينقص منها؛ إن شاء عجلها عن وقتها، وإن شاء أخرها؟ فإن قالوا: لا، فقد انتقض عليهم قولهم، وإن قالوا: نعم، فقل لهم: فقد زعمتم أن الناس يستطيعون أن يقدموا ما أخر الله، ويؤخروا ما قدم الله، وهذا هو التكذيب لما جاء من عندالله، وذلك قوله: {وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْساً إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} [المنافقون: 11]. تمت مسألته.
جوابها
أما ما سأل(2) عن الآجال فقال: هل يستطيع أحد أن ينقص منها، أو يتعدى فيقطع ويتلف بعضها؟ وزعم أن ذلك لا يكون أبداً، ولا يقدر عليه أحد أصلاً، ولا ينال أحد على أحد تعدياً.
__________
(1) في (ط): دفعناه.
(2) في (ب): وسأل.

(1/326)


فقول أهل الحق أجمعين، والله سبحانه على ذلك المعين، أن الله وقت لعباده آجالاً، وضرب(1) لهم في أمورهم أمثالاً، وجعل فيهم قدرة على أن يقتل بعضهم بعضاً، فمن شاء خاف ربه في كل حال واتقى، ومن شاء كفر وظلم وأساء، وجار في فعله وخالف واعتدى. ألا تسمع كيف يقول رب العالمين؛ لجميع من أمره من المأمورين: {وَلاَ تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ} [الأنعام: 151]؟ فنهاهم عن قتل النفس إذ علم أنهم عليه مقتدرون، وفي ذلك ـ ولله الحمد ـ مطلقون وله مطيقون، ولو لم يعلم أنهم كذلك، ولا أنهم يقدرون على شيء من ذلك؛ لما نهاهم عنه، ولا حذرهم منه؛ لأن نهي الإنسان عن الطيران؛ مستحيل في اللغة واللسان، وعند كل من عرف البيان.
__________
(1) في (ط): وصرف.

(1/327)


ولقد فرق الله بين فعل عباده في ذلك وبين فعله، وبين سبحانه لهم كل أمرهم من أمره، فقال سبحانه: {وَجَآءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ} [ق: 19]، فأخبر أن سكرة الموت، وورود ما ينتظر من الفوت؛ من الله لا من الخلق، فصدق الله إن الموت يأتي بالحق، وينزل بما وعد من الصدق، فسمى ما كان منه حقاً وحكماً، وما كان من عباده الظلمة عدواناً وظلماً، ولو كانا من الله شرعاً سواء؛ لذكر الله أنهما منه جميعاً حقاً. وقال جل جلاله: {وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} [آل عمران: 157]، ففرق بين القتل والموت، فكان القتل من عباده فعلاً، والموت منه عز وجل حتماً. وقال: {وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَاناً فَلاَ يُسْرِفْ فِي القَتْلِ إِنَّه كَانَ مَنْصُوراً} [الإسراء: 33]، فقال: {قُتِلَ مَظْلُوماً} فأخبر بقوله: (( مظلوماً )) أن له قاتلاً ظلوماً عنيداً، {وَمَا رَبُّكَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ} [فصلت: 46]؛ فإن كان قتل بأجله؛ فأين الظلم ممن قد استوفى كل أمله، وفنيت حياته، وجاءت وفاته، وفنيت أرزاقه، وانقضت أرفاقه(1). فما يرى إذاً ذو عقل للقاتل في مقتول(2) فعلاً، ولا عليه تعدياً ولا قتلاً، ولا جناية ولا ظلماً، ولا يرى له حاكم عليه حكماً، أكثر من جرح إن كان جرحه، أو وكز إن كان وكزه؛ لأن قاتله ومفني أرزاقه، ومبيد ايام حياته؛ هورب العالمين، في قول الجاهلين. ولو كان ذلك كذلك؛ لنجا القاتل من المهالك، ولم يكن على من جرح إنساناً متعمداً(3) جرحاً فقتله؛ أكثر من أن يجرح جرحاً مثله ويخلى، فإن مات منه مضى، وإن برئ منه فقد سلم ونجا، وكذلك قال الله: {وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ} [المائدة: 45]، فما معنى قوله: {النَّفْسَ
__________
(1) في (ط): أرماقه.
(2) في (أ): المقتول.
(3) في (ب): متعدياً.

(1/328)


بِالنَّفْسِ} عندهم؟ وماذا يقع عليه حقاً ظنهم؟ أشيء سوى إخراج نفسه من جسده، كما أتلف وأخرج نفس صاحبه بجرحه؟ ولو كان كما يقولون؛ لكان واجباً على الحكام إذ يحكمون؛ أن يقتصوا منه لأولياء المقتول جرحاً، ويخلوا عنه بعد ذلك ولا يطلبون لنفسه تلفاً ولا قتلاً، فإن انقطع أمله وحان أجله مات، وإن لم يحن أجله ونجا(1) من القتل والفوات؛ فيكون(2) قد اتوا على ما قال الله في قوله: {وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ}، لا، بل أراد سبحانه من ولي الأمر إخراج نفسه، وإتلاف روحه وقطع عمره ليجد غب(3) ما اكتسب من فعله.
وقال سبحانه: {وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَاناً}، فما هذا السلطان الذي جعله الله لولي المقتول، عند من قال بهذا البهتان والزور من القول المخبول(4)؟!. فلا يجدون بداً ـ ولله الحمد ـ من أن يقولوا: إنه ما جعل الله له من القتل عليه، وأطلقه له فيه بجناية يديه؛ فله أن يقتله إن شاء، وإن شاء أخذ الدية أو عفا.
ثُمَّ يقال لهم: هل جعل الله له سلطاناً على ما يقدر إذا شاء عليه؛ ام على ما لا يصير أبداً إليه؟ فإن قالوا: على ما يقدر عليه؛ فقد رجعوا عن مقالتهم، وتابوا إلى الله من جهالتهم. وإن قالوا: على ما لا ينال؛ أبطلوا كتاب الله ذي الجلال، ونسبوه سبحانه إلى الإستهزاء، وقول الزور في ذلك والردى.
__________
(1) في (أ): نجا، على أنها جواب الشرط، وبالواو على أن الجواب: فيكون.
(2) في (أ): فيكونون.
(3) غب كل شيء: عاقبته.
(4) المخبول: الفاسد.

(1/329)


ثُمَّ يقال لهم: هل يقدر أحد من المخلوقين؛ على قتل أحد من المربوبين؛ وإن كان لم ينقطع أجله، ولم يفن في ذلك أمله، ولم يبلغ المدى الذي جعله الله مداه، وصيره له أجلاً وجعله منتهاه؟ فإن قالوا: يقدر على ذلك منه؛ بما جعل الله من الاستطاعة فيه؛ فقد تركوا قولهم وقالوا بالحق، ورجعوا وقالوا على خالقهم سبحانه بالصدق، وإن هم قالوا بخلاف ذلك؛ فقد أبطلوا ما جعل الله لولي المقتول من السلطان، وأكذبوا الله فيما أنزل من البرهان.

(1/330)


وإن قالوا: نحن نقول إن السلطان هو قتله بما قتل، ولم يمكن الولي تركه أبداً، لأنَّه إذا وجب السلطان فقد انقطعت حياته، وحلت وفاته؛ فلم يقدر(1) على تخلية سبيله، ولا بد للولي من أن يقتله بقتيله. قيل لهم: فأين قول الله جل جلاله، وتقدس عن أن يحويه قول أو يناله: {فَمَنْ عُفِىَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ} [البقرة: 178]، فما معنى عفي؟ وإن جحدوا القرآن وأبطلوه كفروا، وإن سلموا للحق فقالوا: يمكنه العفو والصفح، وأن يتصدق بذلك ويهبه، ويأخذ الدية ويتركه، قيل لهم: يا سبحان الله العظيم! ما أشد تناقض قولكم، وأفحش ما تجيئون(2) به من مذهبكم ورأيكم!! ألستم تقولون في أصل مقالتكم أنَّه لا يوقف ولا يقدر عليه، ولا ينال منه [ولا فيه القود](3) حتى ينقطع أجله، فحينئذ يقتله من أطلق له قتله؟ وأنه إذا سلم إلى صاحبه فقد انقطع أجله، وذهبت أيامه، فكيف إذاً يقدر ولي القتيل على تركه والعفو عنه؟ وعلى تخلية سبيله يعيش ويأكل، ويظل يمشي ويقعد، ويورد ويصدر، ويقبل ويدبر؛ وهو قد انقطع أجله، وذهبت أيامه، وفنيت أرزاقه؟ أيقدر هذا على أن يعفو؛ والعفو يكون به للقاتل الحياة، وتزول عنه الوفاة؟ فكيف يقدر على ذلك وقد انقطع عنه ـ بزعمكم ـ أجله، وذهب عمله، وفني رزقه، وكتب الله عليه موته؟ كذب العادلون بالله وقالوا ظلماً، واستحقوا بذلك عند الله إثماً، وجعلوا أمور الله كلها عبثاً وهزؤاً.
__________
(1) في (أ): يقدر أحد.
(2) في (أ)، و(ب): ما تجيؤن.
(3) سقط من (ب)، و(ط).

(1/331)


ويقال لهم: ما تقولون في قول الله سبحانه: {وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيرِ الْحَقِّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ} [البقرة: 61]، فسمى الله الجليل قتلهم لكل من قتلوا من قتيل عصياناً، وذكره منهم جوراً وعدواناً، فما قولكم في ذلك؟ وما تدينون به وتعتقدون؟ أتقولون إن قتل الفاسقين لمن قتلوا من المؤمنين(1) كان بأمر من رب العالمين، وقضاء منه على الكافرين؟ ولو كان ذلك كذلك لوجب لمن أنفذ قضاء ربه؛ أجزل الثواب على فعله وأمره، وقد وعدهم الله على ذلك النيران، وألزمهم في ذلك اسم العدوان، وهذا أعظم الكفر بالرحمن، وما لم يقل به عليه الشيطان.
وإن قلتم: بل كان ذلك لمن فعله فعلاً، ومنهم على المؤمنين اعتداء؛ انتقض قولكم، ورجعتم إلى الحق في الله والصدق.
ويقال لهم: إذا(2) زعمتم أن الأجل انقطع بأمر الله، وأن الله جاء به، وأن انقطاعه من عنده؛ فمن جاء بالقاتل حتى قتل المقتول؟ ألله جاء به وقضاه عليه وأدخله فيه؟ أم إبليس أغواه وزين قتله لديه؟.. فإن زعمتم أن الله جاء بأجله وبقاتله لينفذ ذلك من علم الله فيه؛ فقد زعمتم أن الله جاء بالظلم والعدوان، وأدخل العبد في العصيان، فإن كان ذلك عندكم كذلك فعلام يعذب الله الإنسان؟ إذ كان ـ في قولكم ـ الله جمعهما على العصيان، والظلم والبهتان.
__________
(1) في (أ): النبيئين.
(2) في (أ)، و(ب): إذ.

(1/332)


ويسألون فيقال لهم: ألستم تزعمون أنَّه لن تخرج نفس أحد، من حر ولا عبد؛ حتى يأتي أجله، ويستوفي أمله وكل عمله؛ وذلك من الله زعمتم، فما تقولون في رجل ضرب بسكين، ضربة واحدة في نحر عبد مسكين؛ فمات وأنتم تنظرون، فما الذي أوجب الله عليكم من الشهادة؟ أتشهدون أنَّه قتله؟ أم تقولون: بل نشهد أنه(1) وجأه(2) وجرحه، ولا ندري من قتله؟ أم تقولون: إن ربه الذي أتلفه؛ لأنَّه جاء بأجله، ولو لم يأت بأجله لدامت حياته وطال عمره، ولم يكن الجرح ليرزأه(3)؟ فهكذا تقولون؟ أم عليه ـ بتاً(4)ـ بالقتل تشهدون؟ فإن شهدتم بالقتل أصبتم، وإن قلتم غير ذلك أحلتم. وماذا تحكمون على هذا الذي رأيتموه؛ وجأ نحر المقتول وفهمتموه؛ وقامت عليه بذلك شهود، وكلهم عند الإمام عدل محمود؟ أترون وتحكمون بقتله (كما قتل)(5)؟ كما قال الله سبحانه: {النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} [المائدة: 45]؟، أم تجرحونه جرحاً مثله؛ فإن مات فذاك، وإن سلم تركتموه، لعلمكم أن الذي قتل الأول هو مجيء أجله، وفناء أيامه وانقضاء أمله، وتخلون عن هذا لما له من تأخير الأجل، وطول الرزق والأمل؟ لقد أبطلتم إذاً حكم ربكم، وفضحتم أنفسكم لأهل(6) ملتكم.
ويسألون أيضاً عمن قتل نفسه بيده، أقتلها وهي حية في بقية من أجلها، أم ميتة قد انقضى أجلها؟ فإن قالوا: قتلها وهي حية في أجلها؛ فقد أقروا أنَّه كانت له بقية فقطعها بيده، قلت البقية أم كثرت. وإن قالوا: قتلها بعد أن فني أجلها؛ فكل ما فني أجله فهو ميت لا شك عند فناء أجله، وقتل ميت ميتاً محال.
فلله الحمد على ما هدى إليه من الحجة والمقال، وبه الحول في ذلك والقوة، وله الجبروت والقدرة.
__________
(1) في (أ)،و(ب): أم تشهدون أنه.
(2) وجأه بالسكين: ضربه.
(3) الرزء: المصيبة.
(4) البت: القطع، والمعنى تشهدون يقيناً أنَّه قتله.
(5) ليس في (أ).
(6) في (أ): عند أهل.

(1/333)


ويقال لهم: ويحكم! قال الله سبحانه: {وَلاَ تَقْتُلُوا أَوْلاَدَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاَقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ} [الإسراء: 31]، وذلك أن المشركين كانوا يقتلون أولادهم خشية الفاقة والعالة والفقر؛ فنهاهم الله عن ذلك، وأخبرهم أنَّه يرزقهم وإياهم كما خلقهم، فكيف نهاهم عن قتل من قد جاء أجله وحان موته؟ وكيف يرزقهم وقد أفنى ـ بزعمكم ـ أرزاقهم؛ بما جعل في قتل آبائهم لهم من انقطاع آجالهم؟ وكيف نهاهم عن قتل من ليست له حياة، ولا بد أن تحل به الوفاة؟ فلقد أمرهم إذاً أن يحيوا من قد أمات، وأفنى أجله ففات. فأي قول أشنع من هذا القول في الله الكريم؟! فسبحان الممهل الحكيم(1)!.
__________
(1) في (أ)، و(ب): الحليم.

(1/334)


وقال سبحانه لرسوله صلى الله عليه وآله: {وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاَةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً وَاحِدَةً} [النساء: 102]، أفتقولون إن الله سبحانه أمر نبيه أن يعبئ أصحابه فرقتين: فرقة تؤدي معه صلاة الفريضة، وفرقة تحرس النبي وأصحابه وتلقى الكريهة؛ وليس في ذلك منفعة ولا خير، ولا دفع ما يخاف من التلف والضير؛ من ميل العدو على المؤمنين ميلة واحدة، فيكون في ذلك ما يخاف من الواقعة(1)؟ وأن ما أمر الله به من الاحتذار والحذر غير نافع له ولا لأصحابه، وأن آجالهم إن كانت قد جاءت قتلهم أعداؤهم، احترسوا أم لا، وإن لم تكن جاءت لم يقدروا عليهم، ولو ألقوا بأيديهم إليهم. فهذا من قولكم أعظم التخطئة لربكم، وأجهل الجهل لنبيكم، لقد أبطلتم إذاً كتاب الرحمن، وقلتم شططاً وبهتاناً.
__________
(1) في (أ): الوقيعة.

(1/335)


ويقال للجهلة الضالين من المشبهين المجبرين(1): ما قولكم في قول ربكم، وما مخرج ذلك عندكم، حين يقول سبحانه: {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ} [الأنفال: 67ـ 69]، ما أراد الله بهذا من قوله؟ أليس هذا عتاب منه لرسوله؟ يخبره أنَّه لم يكن ينبغي له أن يأسرهم، ولا يطمع أصحابه في التشاغل بأخذهم، دون الإثخان لهم بقتلهم، ثُمَّ قال سبحانه وجل جلاله وعز سلطانه: {تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا} [الأنفال: 67ـ 69]، يريد بذلك ما أخذوه منهم وفيهم من الفداء. ثُمَّ قال: {وَاللَّهُ يُرِيدُ الآخِرَةَ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [الأنفال: 67ـ 69]، يقول: والله يريد منكم الاجتهاد في أمر الآخرة وما يقربكم إليه، ويزيد في كرامتكم لديه. ثُمَّ قال: {لَولاَ كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [الأنفال: 67ـ 69]، يقول: لولا حكم من الله سبق بالعفو عنكم؛ في وقت أسركم وترككم الاستقصاء في قتل عدوكم؛ لمسكم فيما أخذتم من غنائمهم وفدائهم عذاب عظيم، فتبارك الله الحليم الكريم. فأخبر الله تبارك وتعالى نبيه صلى الله عليه وآله أنَّه قد فعل ما كان غيره أحب إلى الله وأرضى، ولم يتعمد صلى الله عليه وآله لله في ذلك إسخاطاً، بل لعله توهم أن الأسر في ذلك الوقت أنكأ، وللكافرين أذل وأشقى، حتى أعلمه الله أن القتل في وقت قيام الحرب كان أنفع، وعلى الإسلام وأهله بالخير أرجع.
__________
(1) في (أ): المتحيرين.

(1/336)


أفيقول الحسن بن محمد وأشياعه، ومن كان على الجهل من أتباعه؛ إن آجالهم كانت قد جاءت فدفعها رسول الله صلى الله عليه وآله عنهم، فعاب الله عليه ما فعل من دفع وفاتهم، وتأخير ما كان الله قد جاء به من حضور أجالهم؟ أم يقولون إن آجالهم لم تأت ولم تحضر، وقد بقي لهم من الحياة زمان وأعصر، وإنه قد كانت لهم مدة باقية، وأرزاق دارَّة غير فانية؛ فلم يستطع رسول الله صلى الله عليه وآله أن يقطع مالم يقدر على قطعه من آجالهم، وأن يبيد ما قد بقي من أعمارهم، فلامه الله إذ لم يفعل مالم يستطع، ويبيد ويقطع من ذلك ما لم ينقطع، فلا بد أن يقولوا بأحد هذين المعنيين، وأن يتقلدوا وينتحلوا أحد هذين القولين؛ فيكونوا بانتحال أحدهما كافرين، وفي دين الله سبحانه فاجرين، أو يقولوا على الله ورسوله بالحق، فيقروا أن رسول الله صلى الله عليه وآله ومن كان معه من الخلق كانوا يقدرون على قتلهم، والإثخان لهم وترك أسرهم، فلامهم الله في ذلك إذ هفوا، وولهوا(1) فلم يفعلوا. تم جواب مسألته.
المسألة العاشرة: الأرزاق هل هي مقدرة، ومن قدرها؟
ثُمَّ أتبع ذلك المسألة عن الأرزاق، فقال: أخبرونا عن الأرزاق، من قدرها؟ ومقدرة(2) هي؟ أم غير مقدرة؟ ومقسومة هي؟ أم غير مقسومة؟.
__________
(1) في (أ): ولهوا فلم.
(2) في (أ): أمقدرة.

(1/337)


فإن قالوا: نعم، هي مقدرة ومقسومة؛ فقد انتقض قولهم، فقل لهم: فهل يستطيع أحد أن يأخذ إلاَّ رزقه؟ أو يأخذ إلاَّ ما قسم الله له. (فإن قالوا: لا، فقد انتقض قولهم، وإن قالوا: نعم، فقل: فكيف ذلك؟)(1) فإن قالوا: إن الله خلق الأموال والأطعمة والأشربة فذلك رزقه، وبين لهم حلالها ومأخذها، فإن أخذوها من باب الحلال كانت حلالاً، وإن أخذوها من باب الحرام كانت حراماً، فقل لهم: أفهم يأخذون لأنفسهم ما شاءوا؟ فأيهم شاء أن يكون غنياً مكثراً كان؟ وأيهم شاء ان يكون فقيراً معدماً كان؟ فإن قالوا: نعم، كذبوا، لأن الناس كلهم حريص أن يكون غنياً، وكاره أن يكون فقيراً، وقد قال الله سبحانه خلافاً لقولهم: {نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً سُخْرِيّاً وَرَحْمَةُ رَبِّكَ خَيرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} [الزخرف: 32]، وقال: {وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُوا بِرَادِّي رِزْقِهِمْ عَلَى مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَهُمْ فِيهِ سَوَاءٌ أَفَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ} [النحل: 71]، في آي كثيرة من كتاب الله سبحانه.
تمت مسألته.
[جوابها]
__________
(1) سقط من (ط).

(1/338)


وأما ما سأل عنه الجاهلون، وتوهم في الله المبطلون، أن الله الواحد الخلاق حرم على عباده أرزاقاً رزقهم إياها، وتفضل عليهم بها، فرزقهم رزقاً وآتاهم، ثُمَّ عاقبهم على ما أعطاهم، وأنه لا يأكل أحد ولا يلبس ولا ينتفع إلاَّ بما رزقه الله وآتاه، وصير إليه بما قدره له وأعطاه، فقالوا في ذلك بتجوير الرحمن، ونسبوه إلى الظلم والعدوان؛ فقالوا: إنَّه يطعم ويرزق عباده طعاماً، ثُمَّ يكتبه عليهم حراماً، فيوجب عليهم ـ على قبول ما أعطاهم ـ العقاب، ويحرمهم ـ بأخذ ما صير إليهم ـ الثواب. وقد وجدناه سبحانه يكذبهم في قولهم، ويبين ذلك لنا ولهم؛ بما قسم بين عباده من الأرزاق، ورفق عليهم من الأرفاق. من ذلك ما حكم به من الغنائم والصدقات، وما جعل من ذلك لذوي المسكنة والفاقات، فقال سبحانه: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ} [التوبة: 60]الآية، فحكم بذلك، لمن سمى من أولئك، فحرمهم ذلك الفاسقون، وأكله ـ دونهم ـ الظالمون، فشربوا به الخمور،وركبوا به الذكور، وأظهروا به الفجور، وأصروا على معاصي الله إصراراً، وجاهروا الله بالمعصية في ذلك جهاراً، فأعد الله لهم على ذلك النيران، وحرمهم ثواب الجنان.

(1/339)


وكيف يقول الحسن بن محمد ذو الغفلات، ومن تبعه من ذوي الجهالات: إن الله سبحانه رزق هؤلاء الظالمين هذا،وقد حكم به في كتابه للفقراء والمساكين؟ وقال الله سبحانه: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذَوِي القُرْبَى وَاليَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ} [الأنفال: 41]، فحكم بذلك لنفسه ولرسوله وقرابة نبيه، ومن سمى من اليتامى والمساكين وابن السبيل في تنزيله، فاستأثر به الفاسقون عليهم، ولم ينفذوا ما جعل الله من ذلك لهم، بل دحروهم دحراً، ونصبوا لهم دونه العداوة سراً وجهراً، وقد جعله الله لأوليائه رزقاً، وحكم لهم به حكماً حقاً، فغلب عليه الفاجرون وظلموهم فيه ظلماً. قال سبحانه: {مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ القُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي القُرْبَى وَاليَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْلاَ يَكُونَ دُولَةً بَينَ الأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ العِقَابِ} [الحشر: 7].
فكان الذي أتى به صلى الله عليه وآله؛ ما أنزل الله في وحيه من فرائضه، وقسمه فيه في أوليائه من خلقه(1)، فخالف على ذلك الفاجرون، ورفضوا ما جاء به خاتم النبيين؛ من الله رب السموات والأرض(2)، فجعلوه دولة بين أغنيائهم، وحرموه من جعله الله له من فقرائهم، عماية وصمماً، ومجاهرة لله وظلماً، فأخذوا ما جعل الله لغيرهم، وتعدوا ما حكم الله به فيهم. ولا يشك من كان لبه سالماً، وكان بأمر الله عالماً، أنهم على ذلك معذبون، وأنهم على مخالفته(3) فيه مسؤولون.
__________
(1) في (أ): فيه بين خلقه.
(2) في (أ): من رب العالمين.
(3) في (أ): مخالفتهم.

(1/340)


فكيف يقول الحسن بن محمد: إن الله رزق هؤلاء الظالمين، المعتدين الفاسقين رزقاً؛ ثُمَّ صيره لهم، وسلمه في أيديهم؛ ثُمَّ يعذبهم عليه، ويحاسبهم فيه؟! أم كيف يجترئ ويقول: إن الله رب العالمين، والسموات والأرضين(1)؛ جعله لمن حكم له به من ضعفة المسلمين، ثُمَّ انتزعه منهم؛ فجعله رزقاً لِلَّعَنَاء(2) الفاسقين دونهم؟ فكيف يكون ذلك والله سبحانه يقول: {كَيلاَ يَكُونَ دُولَةً بَينَ الأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ}؟ أولم يسمع من ضل وغوي، فقال على خالقه بالقول الردي؛ الله سبحانه كيف يقول في الوحي المذكور، في كتابه المنير المسطور: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ اليَتَامَى ظُلْماً إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَاراً وَسَيَصْلَونَ سَعِيراً} [النساء: 61]، فعلم أن في خلقه من سيأكل أموال اليتامى عدواناً وظلماً، فنهاهم عن ذلك وحرمه عليهم، وحكم بعذاب السعير لمن استجاز ذلك فيهم. أفيقول المبطلون إن الله سبحانه جعل أموال اليتامى؛ لمن نهاه عن أكلها رزقاً، ثُمَّ نهاهم عن أكل ما رزقهم وآتاهم؟! لقد قالوا على الله كذباً، وضلوا ضلالاً بعيداً.
__________
(1) في (ط): والأرض.
(2) في (ب)، و(ط): للأغنياء.

(1/341)


ثُمَّ قال جل جلاله، وصدق في كل قوله مقاله: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلاَدِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنْثَيَيْنِ}، فحكم للأنثى بجزء وحكم للذكر بجزئين، ثُمَّ قال: {فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوقَ اثْنَتَينِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ وَلأَبَوَيهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلأُمِّهِ الثُّلُثُ} [النساء: 11]، فما يقول من ضل وعمِي، وجار وشقي؛ إن وَصِيٌّ تعدى، وفي المخالفة تردى، فحرم بتعديه الوالد، ومنع من ميراث أبيه الولد، وأخذ ذلك فأكل به واكتسى، وشرب وتزوج ولها، هل يكون ذلك عندهم له من الله رزقاً رزقه إياه؛ وقد يسمعون حكم الله به للورثة دون من أخذه واصطفاه؟ فقد أبطلوا بذلك حكم الرحمن، ونقضوا ما نزل سبحانه في الفرقان(1). وإن قالوا: بل أخذ ما ليس له حقاً، وأكل من ذلك ما لم يجعله الله له رزقاً؛ كانوا في ذلك بالحق قائلين، وعن قول الباطل والمنكر راجعين.
__________
(1) في (أ): القرآن.

(1/342)


ثُمَّ يقال لهم: ما تقولون فيمن غصب مالاً فأخذه، وتعدى فيه وسرقه، فأكله حراماً وشربه، أتوجبون عليه الزكاة فيه؟ أم توجبون رده إلى صاحبه عليه؟ فقد يجب عليكم في قياسكم وقولكم أن تقولوا: إنَّه رزق له رزقه الله إياه، وقدره له وآتاه، ولولا ذلك لم يأخذه، ولم يقدر على أكله وشربه، ولا على الانتفاع به، فإن كان كما تقولون وإليه تذهبون؛ أن كل ما غصبه غاصب، أو أخذه من المال آخذ(1) غصباً، فهو من الله له بتقدير وعطاء ورزق(2)، فلن يجب عليه أبداً رده، ولا أن ينازعه فيه ضده، بل هو أحق به من كل مستحق، وهو له ملك(3) بتمليك الله له إياه وحق، فأمروه فليؤد ما أوجب الله؛ على أهل الأموال في الأموال من الزكاة، والحج والإنفاق في سبيل الله، والافاضة على كل من سأله ورجاه.
ألا تسمعون كيف يقول الله ذو الجلال، وذو القوة والقدرة والمحال، حين يقول: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ البَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ العَالَمِينَ} [آل عمران: 97]، والسبيل فهو: الجدة(4) مع صحة الأبدان؛ من مانعات حوادث الأزمان، فعند المقدرة والسلامة والأمان؛ يجب فرض الحج على كل إنسان. وهذا ـ في أصل قولكم، وما تذكرونه من رأيكم ـ؛ بما قد حوى وأخذ من المال الحرام، مستطيع لحج بيت الله الحرام؛ قادر على ذلك بما أخذ من أخيه، وأخرجه بالغصب والغلبة من يديه، إذ تزعمون أن كل ما أخذ وأكل وشرب ولبس فهو رزق مقسوم، ومن الله جل جلاله عطاء لعباده معلوم.
__________
(1) في (ط): أَخْذاً.
(2) في (أ): تقديراً وعطاء ورزقاً.
(3) في (أ): مالك.
(4) وجد المال وجدا بالحركات الثلاث، وجدة: استغنى.

(1/343)


وقال الله سبحانه: {وَأَقِيمُوا الصَّلاَةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} [البقرة: 43ـ83، 110. والنساء: 77. والنور: 56. والمزمل: 20]، فلا شك أن الزكاة تجب فيما رزق الله العبيد من رزق إذا بلغ ما تجب فيه الزكاة وتقع، فليتصدق، وليقرض الله قرضاً حسناً مما في يديه، فإن الله يقول: {إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقَاتِ وَأَقْرَضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً يُضَاعَفُ لَهُمْ وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ} [الحديد: 18]، ولن يقبل الله إلاَّ الحلال،ولن يضاعف إلاَّ لمن أنفق مما ملك من الأموال. فإن كان هذا له من الله عطاء فأمروه فلينفذ ما أمره الله به، وليؤد ما عليه فيه، وازجروا(1) عنه المطالب له به؛ الذي أخذه غصباً من يديه، واستأثر به عليه(2).
وإن قلتم: لا يجب عليه فيما في يديه من هذا المال المغصوب حق، ولا يلزمه فرض، وأوجبتم على أنفسكم أخذه من يده، ورده على صاحبه، وقلتم: لا يكون إلاَّ ذلك، والحق فكذلك؛ فقد أزلتم عنه ملك ما غصب، وحرمتم(3) عليه منه ما أكل، وأقررتم أن ما أخذ من ذلك فأكله وشربه ليس له من الله رزقاً، ولا نائلاً ولا عطاء، وأن عليكم أن تأخذوا ما في يديه من المال؛ فتردوه إلى من كان له من الرجال، وتضمنوه ما أتلف منه، وتوجبوا عليه إن كان أخذه من دار، أو بيت او حرز أو قرار؛ ما أوجب عليه الواحد الجبار؛ من القطع، فإنه يقول سبحانه: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} [المائدة: 38].
فيا سبحان الله! ما أبين الحق وأنور الصدق، فلو كان الله رزقه ما أكل مما سرق وغصب لما أوجب عليه أن يقطع الحاكم يده في أن أخذ ما أعطاه ربه وآتاه، وأكل ما به غذاه، فسبحان البعيد من ذلك، الصادق في قوله، العدل في جميع أموره وفعله.
__________
(1) في (ط): وانهروا.
(2) في (أ): بعد هذا ما لفظه: من كل مستحق، وهو له مالك بتمليك الله له إياه وحق.
(3) في (أ): وحزتم.

(1/344)


فإن هم من بعد ذلك سألونا فقالوا: هل يقدر أحد أن يأكل غير ما رزقه الله؟
قيل لهم: إن مسألتكم هذه تخرج على معنيين، وتنصرف في وجهين:
فإن أردتم أن كل شيء مما بث الله وأخرج رزق للعباد، فكذلك لعمري هو؛ لأن الله قد سماه ـ في الجملة ـ بذلك، فقال: {وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكاً فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَهَا طَلْعٌ نَضِيدٌ رِزْقاً لِلْعِبَادِ وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً كَذَلِكَ الْخُرُوجُ} [ق: 9ـ 11]، يقول سبحانه: أخرجنا به مالاً يخرج من الحب والأكل إلاَّ بالماء. وقال: {أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ} [الواقعة: 63]. وقال: {أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبّاً ثُمَّ شَقَقْنَا الأَرْضَ شَقّاً فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبّاً وَعِنَباً وَقَضْباً وَزَيتُوناً وَنَخْلاً وَحَدَائِقَ غُلْباً وَفَاكِهَةً وَأَبّاً مَتَاعاً لَكُمْ وَلأَنْعَامِكُمْ} [عبس: 25ـ 32]، فقال: شققنا الأرض شقا، يريد شققناها عن النبات الذي يخرج منها؛ من الحب والفواكه وغيره وفلقناها فلقاً. والأبّ: هو الحشيش والعشب؛ الذي تأكله الأنعام، وينبت في الأودية والجبال والآكام، {مَتَاعاً لَكُمْ وَلأَنْعَامِكُمْ}، يقول: بلاغاً لكم ولأنعامكم، إلى وقت انقضاء آجالها وآجالكم، فرزقناكم فواكه وحَباً، ورزقنا أنعامكم عضاهاً(1) وأباً، فكل ما أخرج الله فقد سماه لأهله ومن يملكه رزقاً، فهو رزق لمن أجاز الله له أكله، وأحل له أخذه، وأمره عليه بشكره، فقال: {كُلُوا وَاشْرَبُوا مِنْ رِزْقِ اللَّهِ وَلاَ تَعْثَوا فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ} [البقرة: 6]، وقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} [البقرة: 172]، وقال:
__________
(1) العضاه: كل شجر يعظم وله شوك.

(1/345)


{فَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلاَلاً طَيِّباً وَاشْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} [النحل: 114]. فرزق ذو المن والسلطان والجبروت والبرهان كل عبد ما أحل له، وأمره بأخذه، فأما ما نهاه عن أكله، وعذبه في قبضه؛ فليس ذلك ـ لعمرهم ـ من رزقه، وكيف يجوز على ذي الجلال والجبروت أن يجعل لعباده رزقاً وقوتاً به يعيشون، وفيه يتقلبون؛ ثُمَّ ينهاهم عن أخذ ما أعطاهم، وإليه ساقهم وهداهم؟
فهذا والحمد لله لا يغبى، على من وهبه الله علماً، وآتاه تمييزاً ولباً.
والحمدلله رب العالمين، وصلى الله على محمد خاتم النبيين، وعلى أهل بيته الطيبين. تم جواب مسألته.
المسألة الحادية عشرة:
العقول، هل هي مقسومة؟ وهل المعرفة فعل الله أو فعل الإنسان؟
ثُمَّ أتبع ذلك المسألة عن العقول، فقال: خبرونا عن العقول، أمخلوقة هي أم غير مخلوقة؟ فإن قالوا: مخلوقة، فقل: أمقسومة هي بين العباد أم غير مقسومة؟ فإن قالوا: بل هي مقسومة، فقل: فأخبرونا من أين عرف بعض الناس الهدى فأخذ به، وجهله بعضهم فتركه، وكلهم حريص علىالهدى كاره للضلالة، راغب في العلم مبغض للجهالة، وقد زعمتم أن الله قد جعل سبيلهم واحدا، وعقولهم واستطاعتهم واحدة، وهي حجة الله عليهم؟
فإن قالوا: بتوفيق من الله، فقد أجابوا: وإن قالوا: أخذ هداه منهم من أحب، وتركه منهم من اتبع هواه، وأطاع إبليس إلى دعائه، قيل لهم: فما صير بعضهم تابعاً لهواه؟ والعقول فيهم كاملة مستوية؟ فإن قالوا: بتوفيق من الله وفق من شاء منهم، فقد أجابوا، وإن قالوا: فضل الله بعضهم على بعض فقد صدقوا، وإن قالوا غير ذلك، فقد كذبوا، لأنَّه(1) لو كان الناس في العقول سواء؛ ما كان من الناس جاهل وعاقل، وأحمق وحليم، ولسمي الجاهل عاقلاً، والعاقل جاهلاً، ولكن(2) الأمر في هذا أبين من ذلك، ولكنهم قوم يجهلون.
__________
(1) في (ط): إلا أنه.
(2) في (أ): ولكان.

(1/346)


وإن قالوا ذلك من قبل الأدب والتعليم؛ فقل: لو كانت عقولهم مستوية؛ ما احتاج بعضهم إلى بعض في أدب ولا تعليم. تمت مسألته.
جوابها
وأما ما عنه سأل وقال، مما ألحد فيه من المقال، فقال: أخبرونا عن العقول أمخلوقة هي مقسومة؟ أم غير مخلوقة ولا مقسومة؟ فنحن، والحمدلله، نقول: إن الله خلق العقول وأوجدها فيهم، وجعلها حجة له عليهم، وسببها لهم سبحانه وتعالى تسبيباً، وركبها فيهم ـ احتجاجاً عليهم ـ تركيباً، فهي حجة الله العظيمة، ونعمته على خلقه الكريمة، تدعو أبداً إلى الخير والهدى، وتنفي عن الخلق الضلالة والردى، تدل على الخالق ذي الجلال، وتنفي عمن أراد الحق التكمه والضلال، فهي أبداً لمن استعملها داعية إلى الإسلام، مخرجة له من حنادس(1) دياجير الظلام، ثُمَّ قسمها سبحانه بين خلقه، ليدلهم على ما أوجب عليهم من حقه، فأعطى كل من أوجب عليه أداء فريضة منها أكثر مما يحتاج إليه في أداء ما افترض عليه، فليس منهي يجب عليه عقاب، ولا مأمور يجب له ثواب؛ إلاَّ وقد ركب الله فيه من العقل وقسم له وعليه أكثر من الحاجة في أداء مفترضه، وما يخرجه بحمد الله إن استعمله من جهالته. ثُمَّ أمرهم باستعمال ما أعطاهم؛ من الحجة المركبة فيهم، واخبرهم أنهم إن لم يستعملوها؛ لم يصلوا إلى علم ما لعلمه أعطوها، فأمرهم أن يستعملوها فيفكروا، وينظروا ويميزوا ويتدبروا، فإذا فكروا وميزوا بتلك الحجة التي لن يضل معها طول الأبد، إن أنصفها بحمدالله من أحد، ولذلك ما قاله، جل جلاله عن أن يحويه قول أو يناله: {فَاعْتَبِرُوا يَا أُوْلِي الأَبْصَارِ} [الحشر: 9]، يقول: انظروا بأبصاركم، ثُمَّ دبروا فاعتبروا بعقولكم، فيما ترون وتبصرون، هل له من خالق غير الله فيما تعلمون؟! كما قال سبحانه: {أَمْ لَهُمْ إِلَهٌ غَيرُ اللَّهِ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ} [الطور: 43]، وقال: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ
__________
(1) الحندس: الليل الشديد الظلمة.

(1/347)


السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ العَزِيزُ العَلِيمُ} [الزخرف: 29]، وقال: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَداً إِلَى يَوْمِ القِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِيَاءٍ أَفَلاَ تَسْمَعُونَ* قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيكُمُ النَّهَارَ سَرْمَداً إِلَى يَوْمِ القِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلاَ تُبْصِرُونَ* وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [القصص: 71ـ 73]، ثُمَّ قال تنبيهاً لهم وحثاً على استعمال العقول، ليصح لهم الحق من القول إذا نظروا؛ وفيما ذكر الله مما أراهم وفطر لهم تفكروا، فقال الله سبحانه: {حم* تَنْزِيلُ الكِتَابِ مِنَ اللَّهِ العَزِيزِ الْحَكِيمِ إِنَّ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ لآَيَاتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ وَفِي خَلْقِكُمْ وَمَا يَبُثُّ مِنْ دَابَّةٍ آيَاتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ رِزْقٍ فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ آيَاتٌ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} [الجاثية: 1ـ5]، فقال في أول السورة: لآيات لقوم يؤمنون(1) يقول: يصدقون بما يرون، وينصفون العقل فيقبلون منه ما عليه يدلهم حين يبصرون ويستبصرون، في الحق، ويستدلون على الله بما ذرأ من الخلق، فيكونون بذلك مؤمنين، ولله بالخلق(2) والقدرة مقرين. ثُمَّ قال: {لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ}، فأخبر أنَّه قد ذرأ وجعل لهم؛ من الدلالة عليه في خلق أنفسهم؛ ما بأقل قليله على خالقهم يستدلون، وبأنه الله الذي لا إله إلاَّ هو يوقنون. ثُمَّ كرر الدلالة لهم والاحتجاج عليهم بذكر ما أنزل
__________
(1) في (ط): للمؤمنين.
(2) في (أ) و(ب): بالحق.

(1/348)


من السماء من رزق، فأحيا لهم به الزروع، وفرع به في الأصول الفروع، ثُمَّ كرر الاحتجاج والتوقيف لهم والتعريف؛ فذكر تصريف الرياح، وما يكون فيها وبها من الألقاح، فقال: {وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ آيَاتٌ لِقَومٍ يَعْقِلُونَ}، فتتابعت الآيات متناسقات، بما فيهن من العبر والدلالات، حتى وصل(1) إلى قوم يعقلون، فأخبر بذلك أن كل ما ذكر لا يعلم، ولا يخبر ولا يفهم؛ إلاَّ بما ركب وجعل لهم فيه من حجة العقل، فقال سبحانه احتجاجاً عليهم، وتنبيهاً في ذلك كله لهم؛ بما خلق، من الأبصار التي لا ينتفع بها في التذكرة إلاَّ بالألباب، وحثا على استعمال الألباب في كل الأسباب: {أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ وَالأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ} [ق: 6ـ8]. يقول: توفيقاً لهم وتعريفاً واحتجاجاً على ذوي العقول.
وقال: {فَاعْتَبِرُوا يَا أُوْلِي الأَبْصَارِ} [الحشر: 2]، فخص بالأمر بالاعتبار ذوي الأبصار.
__________
(1) في (أ) و(ب): وصلن.

(1/349)


وقال سبحانه: {أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ القُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} [محمد: 24]، فنظر قوم وفكروا، وعقولهم في ذلك انصفوا، فأبصروا واهتدوا، وعرفوا الحق فرشدوا. وأنكر قوم وخالفوا؛ ما تفرع لهم من المعقول فجحدوا، فعاقبهم الله على ذلك من فعلهم، وأضلوا أنفسهم بمكابرة عقولهم، وأبطلوا النظر، واتبعوا الخبر(1)، فاتبعوا الهوى، وتركوا الهدى، وتعلقوا بالأخبار المنقولة الكاذبة، ورفضوا ما فيهم من حجة الله الصادقة، فبذلك عندوا، وأنفسهم بالتخير منهم أهلكوا. فليس للعباد على الخالق من حجة يحتجون بها، ولا متعلق ولا طلبة في ذلك يطلبونها، بصرهم وهداهم، وركب فيهم ما كفاهم، وبعث إليهم المرسلين، مبشرين لهم ومنذرين، فأمروهم ونهوهم؛ وعذابه حذروهم، وإلى ثوابه دعوهم، وأروهم عجائب الآيات، واحتجوا عليهم بالدلالات، {لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللَّهَ لَسَمِيْعٌ عَلِيمٌ} [الأنفال: 42].
فهذا قولنا في ربنا، وشرحنا لما احتج به سبحانه علينا.
فإن قالوا وبما ندفعه ـ إن شاء الله بحقنا ـ تعلقوا: ألستم تزعمون، وبغير شك تقولون: إن الله قسم العقول بين خلقه، وجعلها له حجة فيهم، نعمة أنعم بها عليهم، وأيادي أكملها لديهم، ثُمَّ تقولون أنَّه افترض عليهم فروضاً؛ فجعلها عليهم كلهم شرعاً سواء، إن أدوها أثيبوا، وإن تركوها عوقبوا، ثُمَّ تقولون ونقول: إن ذلك لا ينال إلاَّ بالعقول، وقد نرى اختلاف العقول في الناس أجمعين، فنعلم أنهم فيها متفاضلون، وأن ليس هم فيها على القسمة متساوين؟ فأين ما تحوطون من عدل رب العالمين، وقد ساوى بين عباده فيما افترض عليهم، وجعل ذلك سبحانه سواء فيهم، ثُمَّ فضل بعضهم على بعض فيما لا ينال أداء ما فرض من الطاعات، ولا يوصل إلى تمييز شيء من شيء إلاَّ به من الآلات؛ من العقل الرصين، والفهم المبين؟.
__________
(1) في (ط): الجبر.

(1/350)


قلنا لهم: قد سألتم، فاسمعوا ما به أجبتم، فكذلك بالعدل على الله نقول، وفي كل أمر نا فبه سبحانه نحول، وسنبين لكم إن شاء الله الجواب، ونشرح لكم ما تتكمهون(1) فيه من الارتياب، ونختصر ذلك لكم بما يقر في أفهامكم، ويثبت ـ إن كنتم للحق طالبين مريدين ـ في ألبابكم، فنقول: إن الله تبارك وتعالى افترض على خلقه فروضاً، وأوجب عليهم سبحانه أموراً، ثُمَّ أعطاهم ما بأقل قليله ينال أداء ذلك من الآلات، ويقتدر على أدائه متى قصد من الساعات، فجعل في أقلهم عقلاً من العقل ما ينال بأقل قليله تمييز ما أوجب الله عليه تمييزه، والاحاطة بما أوجب عليه الإحاطة به من معرفته، والاقرار بوحدانيته، والأداء لكل فرائضه، فساوى بين عباده فيما إليه يحتاجون، وله ـ في فرائضه ـ يستعملون، ثُمَّ زاد بعد أن ساوى بينهم في الحجة؛ من شاء فضاعف له العطاء والكرامة، وزاده في العقل والسلامة، كما زاد بعضهم بسطة في العلم والجسم، فليس لأحد على الله في ذلك حجة، إذ قد أنالهم من ذلك أكثر من البغية، إلا أن يكون(2) للمخلوقين عليه حجة؛ وفيما فضل به بعضهم على بعض من الجلد والطول والجمال والهيئة، والكمال والبياض والفصاحة، فكل ما أدخلتم علينا(3) فيما فضل الله به بعض الخلق على بعض من العقول، فواجب عليكم لنا أن تجيبونا به فيما بين البياض والسواد والقصر والطول، حذو المثال بالمثال، ليس لكم والحمدلله عنه تحرف ولا انتقال، إلا بأن ترجعوا إلى الصدق، فقد بان لكم والحمدلله الحق، فاتقوا إملاء الشيطان وتسويله، واغواءه وتخييله، ولا تكونوا من الذين قال الله فيهم: {إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلَى لَهُمْ} [محمد: 25].
__________
(1) التكمة: التخبط في غير وجهة محددة.
(2) في (أ)، و(ط):لئلا يكون والصواب ما أثبته.
(3) في (ط): عليه.

(1/351)


وسنضرب لكم ـ بقوة الله وحوله ـ في ذلك مثلاً يبين لكم أموركم، ويخامر نور حقه ضميركم وصدوركم: أرأيتم لو أن رجلاً له بيتان من حشيش، وله غلامان(1)، فدفع إلى أحد غلاميه شمعة واحدة متوقدة، ودفع إلى الآخر ثلاث شمعات، ثُمَّ قال لهما: ليحرق كل واحد منكما بما معه ما في أحد هذين البيتين من الحشيش، فهل ترون لصاحب الشمعة الواحدة، المتوقدة المتلهبة على مولاه حجة؛ في أن أعطى صاحبه ثلاثاً وأعطاه واحدة؛ فيقول لا والله؛ ما أقدر على أن أحرق بيتاً من حشيش بهذه الشمعة الواحدة، فأعطني ثلاثاً مثل صاحبي وإلا فلا حيلة لي في إحراقه.
وقد يعلم كل ذي عقل سوي، من رشيد أو غوي؛ أن الذي يكفي هذا الحشيش من هذه الشمعة لفحة واحدة، وأنه ومن(2) معه ثلاث شمعات، وعشر، وواحدة(3) في القدرة على إحراق ما أمر باحراقه، وانفاذ أمر سيده فيه (سواء)(4)، فهل تقولون لسيده: كلفته وصاحبه إحراق بيتين؛ من حشيش متساويين، ثُمَّ كلفته إحراقه بشمعة واحدة، وكلفت صاحبه إحراق بيته بثلاث؛ فأعطه ثلاثاً وإلا فقد كلفته ما لا يناله بهذه الواحدة ولا يطيقه؟ فأنت له في ذلك ظالم، وعليه بفعلك هذا متحامل.
أم تقولون للعبد: أنت مخطيء في فعلك، جاهل في قولك، فأنت تنال بهذه من حشيشك مثل ما ينال صاحبك بشمعاته في حشيشه، والأمر في قليل النار وكثيرها، عند تأججها والتهابها سواء، لا حجة لك على مولاك؛ فيما كلفك وأعطاك؟
__________
(1) في (ب): عاملان.
(2) في (ط): وأن من.
(3) في (ب): و(ط): واحد.
(4) ليس في (ب) و(ط).

(1/352)


فكذلك ـ ولله الحمد ـ الأمر فيما أعطى الله العباد من حجته؛ فيما فضل به من شاء من بعد ذلك من خليقته، فأما من سلب عقله من المجانين والأطفال، فلم يوجب الله عليهم الأعمال، بل أزاح ذلك عنهم، ولم يوجبه عليهم. وحالهم في وقتهم ذلك عند الله فَحَالٌ لا يسألهم فيها عما افترض من الأعمال حتى يفيقوا، ومما هم فيه يخرجوا، ويبلغ الأطفال من الفهم ما يصح لهم به التمييز، ويخرجوا من حال الطفولية والصغر، إلى حال القوة والكبر. وفي ذلك ما قال الرسول صلى الله عليه وآله: (( رفع القلم عن ثلاثة، عن النائم حتى يستيقظ، وعن المجنون حتى يفيق، وعن الصبي حتى يعقل )).
والحمدلله العدل في فعله، الرحيم بخلقه، الذي كلف يسيراً، وأعطى عليه كثيراً. تم جواب مسألته.
المسألة الثانية عشرة:
الإرادة، هل إذا أراد الله شيئاً كان أم لا؟
ثُمَّ اتبع ذلك المسألة عن الإرادة، فقال: أخبرونا عن الارادة، إذا أراد الله شيئاً، يكون؟ أولا يكون؟ فإنه قد قال: {فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ} [هود: 107. والبروج: 16].
فإن قالوا: نعم، قيل لهم: وهل(1) أراد الله أن يدخل خلقه كلهم في الهدى؟ فإن قالوا: نعم، قد أراد أن يدخلوا كلهم في الهدى على غير جبر منه ولا إكراه، فيقال لهم: فهل دخلوا في الهدى كما أراد، على غير وجه الجبر منه لهم والاكراه؟ تمت مسألته.
جوابها
وأما ما سأل عنه من إرادة الله سبحانه، فقال: إذا أراد الله شيئاً يكون؟ أو لا؟ فإنه قد قال الله: {فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ} [هود: 107، والبروج: 16]، فكذلك قولنا في خالقنا، ومصورنا وبارئنا، ومميتنا ومحيينا، سبحانه وجل وتقدست أسماؤه، كما قال في نفسه: {فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ} فكل ما شاء أن يفعله سبحانه فعله.
ثُمَّ نقول، من بعد اثبات القدرة للرحمن، ونفي التشبيه والتجوير عنه في كل ما شأن: إن الإرادة من الله على معنيين، نيرين ـ عند من علمه الله وفهمه ـ بينين.
__________
(1) في (أ): فقل: فهل.

(1/353)


فأحدهما(1): إرادة حتم وجبر، والآخر(2): إرادة أمر، معها تمكين وتفويض.
فأما إرادة الحتم فهي: ما أراد من خلق السموات والأرض والجبال وما أنبت من الأشجار {وَالْخَيْلَ وَالبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَالاَ تَعْلَمُونَ} [النحل: 8]، وما أراد سبحانه من قضاء الموت على خلقه، من جميع أهل سماواته وأرضه والذهاب والفوت، فقال سبحانه: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّونَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ القِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الغُرُورِ} [آل عمران: 185]، وقال: {كُلُّ مَنْ عَلَيهَا فَانٍ وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذِي الْجَلاَلِ وَالإِكْرَامِ} [الرحمن: 26]، فأخبر بما حكم به على خلقه، وبما ألزمهم في ذلك وأوجبه عليهم من حتمه؛ فقال: {قُلِ اللَّهُ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ إِلَى يَوْمِ القِيَامَةِ لاَ رَيْبَ فِيهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ} [الجاثية: 26]، وقال لنبيه صلى الله عليه، إخباراً منه بما حتم عليه: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ} [الزمر: 30].
ومن ارادة الحتم التي أراد الله فعلها ففعلها؛ قوله: {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ فَقَضَاهُنُّ سَبْعَ سَمَوَاتٍ فِي يَوْمَينِ وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا} [فصلت: 11ـ12]، فكان قضاؤه فيهن؛ خلقه سبحانه لهن، حين أراد إيجادهن فأوجدهن وصورهن، وأوحى ما شاء فيهن من أمرهن.
__________
(1) في (ب، ط): فإحداهما.
(2) في (ب، ط): والأخرى.

(1/354)


ومن ذلك ما يقول الواحد الجبار، ذو الملكوت الغفار: {اللَّهُ يَتَوَفَّى الأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوتَ وَيُرْسِلُ الأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى} [الزمر: 42]، فذكر أن الموت منه، وأنه يقضي به ويبديه، فكان هذا منه في خلقه إرادة حتم، ليس لأحد فيها منهم فعل.
ومن ذلك ما قال الله سبحانه: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الوَرِيدِ} [ق: 16]، فأراد خلقه فخلقه. وقال: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} [الحجرات: 13]، فأخبر عن نفسه؛ بما أرد أن يجعله منهم فجعله، وصوره وأوجده، كما قال: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [يس: 82].

(1/355)


وأما المعنى الآخر: فهو الإرادة التي معها تمكين، وهو قوله سبحانه: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَينِ إِحْسَاناً} [الإسراء: 23]، فكان قضاؤه في ذلك سبحانه، ما أمر به من أن لا نعبد معه غيره، وما أمر به من البر والإحسان إلى الوالدين، فأراد الله سبحانه من العباد ان يطيعوه، ويعملوا له بما ركب فيهم وأحسن به إليهم من الإستطاعات، وما أعطاهم من الآلات(1)، بالاختيار منهم لطاعته، والإيثار منهم لمرضاته، ليثيبهم على فعلهم، ويعاقبهم على تركهم. ولو أراد منهم الطاعة جبراً، وصرفهم عن المعصية قسراً؛ لكان كلهم جارياً في طاعته، تابعاً لمرضاته، ولم يكن المذنب الشاسع، أولى بالعقوبة من المهتدي الطائع، ولم يكن العامل بالطاعة، أحق بالثواب من عامل المعصية؛ إذ كانا كلاهما أدخلا في عملهما إدخالاً، واستعملا في إرادة الله استعمالاً.
__________
(1) في (ب): الآيات.

(1/356)


فتبارك الله عن ظلم العباد، وتقدس عن القضاء بالفساد، الذي لم يطع كرهاً(1)، ولم يعص مغلوباً، بل أمر ونهى، وحذر وهدى، وعرف النجدين، وبين العملين، ثُمَّ أعطى كل شيء خلقه، وأعد للمطيعين الثواب، وللعاصين العقاب. ثُمَّ قال سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِيْنَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ}[آل عمران: 102]، وقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالكِتَابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلاَئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَاليَوْمِ الآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلاَلاً بَعِيداً} [النساء: 136]، فأمرهم سبحانه بالإيمان، وحضهم علىالتقى والإحسان، ونهاهم عن الكفر والطغيان، وعن جميع مالم يرد من العصيان، فقال سبحانه: {وَلاَ تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلاً} [الإسراء: 32]، وقال: {وَلاَ تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ} [الأنعام: 151]، وقال: {لاَ تَأْكُلُوا الرِّبَا} [آل عمران: 130]، وقال: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ اليَتَامَى ظُلْماً..} الآية[النساء: 10]، ومثل هذا في القرآن كثير. ولله الحمد بأبين البيان .
__________
(1) في (أ): مكرِها.

(1/357)


فأمرهم بما أراد من طاعته، ونهاهم سبحانه عن معصيته، ثُمَّ قال سبحانه، من بعد أن أعطاهم من الاستطاعة ما أعطاهم، ثُمَّ أمرهم ونهاهم؛ فقال: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ} [الزلزلة: 7 ـ 8]، وقال: {مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ وَلاَ يَجِدُ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيّاً وَلاَ نَصِيراً} [النساء: 123]، ثُمَّ قال سبحانه: {فَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ* فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّةُ نَعِيمٍ* وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنْ أَصْحَابِ اليَمِينِ* فَسَلاَمٌ لَكَ مِنْ أَصْحَابِ اليَمِينِ* وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ* فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ* وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ* إِنَّ هَذَا لَهُوَ حَقُّ اليَقِينِ} [الواقعة: 88 ـ 95].
ثُمَّ قال؛ من بعد إكمال الحجة عليهم واثباتها فيهم: {فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَاراً أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقاً} [الكهف: 29].

(1/358)


أفلا ترى كيف فرق بين ما كان منه فعلاً، وبين ما أمر به العباد أمراً؟ فلم يقل فيما حتم به عليهم حتماً، وما كان منه عليهم قضاء وحكماً؛ من الموت ولا من الخلق: موتوا، ولا: لا تموتوا، ولا: اخلقوا، ولا: لا تخلقوا. ولم يقل فيما أراده منهم فعلاً بتخيير واختيار؛ لعظيم المنة والإختبار: كل من قضينا عليه المعاصي عاص، كما قال: {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ} ولم يقل أمرنا وقضينا عليه بالعصيان، كما قال: {إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَإِلَينَا الْمَصِيرُ} [ق: 43]، بل أخبر أنَّه من ذلك بريء، فقال: {إِنَّ اللَّهَ لاَ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ} [الأعراف: 28]، فتبارك الله الواحد الأعلى، الذي إذا أراد أن يفعل شيئاً كان بلا كلفة ولا إضمار، ولا تفكر ولا إظهار، ولا اضطراب، إذا أراده أوجده، وإذا أوجده فقد أراده، فقضاؤه كاثن، وفعله من أفعال العباد بائن، ليس له مثل ينال، ولا شبه تضرب له فيه الأمثال، وهو الواحد المتعال الصمد، الواحد الأحد الذي {لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُؤاً أَحَدٌ} [الإخلاص: 3 ـ4]. تم جواب مسألته.
المسألة الثالثة عشرة: الطبع والختم

(1/359)


ثُمَّ اتبع ذلك الحسن بن محمد المسألة عن الطبع والختم؛ فقال: أرأيتم من طبع الله على قلبه، وختم على سمعه وبصره، أهو ممن دعي إلى الإيمان، فيثاب على أخذه، ويعاقب على تركه؟ فإن قالوا: نعم، فقل: وكيف يقبلون الإيمان وقد ختم على قلوبهم، والله يقول: {سَوَاءٌ عَلَيهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ}[يس: 10]، فهل ضرهم الطبع و الختم؟ أم نفعهم؟ أم لم يضرهم ولم ينفعهم؟ فإن قالوا: إنَّما ختم على قلوبهم بكفرهم، فقل: هل ضرهم الطبع حين فعل بهم، وحال بينهم وبين التوبة والدخول في الإيمان؟ فإن قالوا: لم يضرهم، ولو شاءوا آمنوا، فالله قد كذبهم، واجترأوا على الرد على الله قوله، فقل: فتراهم حين طبع على قلوبهم لم يقبلوا الإيمان؟، فإن قالوا: فإنهم لا يقدرون على الإيمان حتى يفتح الله قلوبهم؛ فقد أقروا لله بقدرته، وانتقض عليهم قولهم، إذ زعموا أن الختم قد ضرهم، وأنهم يعذبون على ما كان من تركهم الإيمان، وأخذهم بالكفر بعد الختم، وعملهم بما لا يستطيعون تركه. تمت مسألته.
جوابها:
وأما ما سأل عنه من الطبع والختم من الله؛ فقال: أرأيتم من طبع الله على قلبه، وختم على سمعه وبصره، أهو ممن دعي إلى الإيمان؛ فيثاب على أخذه ويعاقب على تركه؟ فقولنا في ذلك على الله بالحق، إن الله لم يرد بذلك إذ قاله أنَّه طبع على قلوبهم بطبع لا يقدرون على الفهم معه، ولا أنَّه ختم على سمعهم ختماً لا يقدرون معه على السمع والاستماع، وعلى البصر فلا يقدرون على الإبصار والانطباع، وذلك فأبين الأمر وما لا ينكره من عقل.

(1/360)


ألم تر وتسمع أن أهل الجاهلية كانوا أرصن عقولاً وأعظم أحلاماً وأكثر أفهاماً من أهل هذا الدهر؟ ولذلك قالت قريش للرسول فيما كان يعيب من آلهتهم، ويبين لهم في ذلك من جهالتهم، فكانوا يقولون لعمه أبي طالب ومن قام معه دون رسول الله صلى الله عليه من أهل بيته وقرابته: عاب آلهتنا، وسخف عقولنا، وأطاش أحلامنا. فكانوا ذوي أحلام، وعقول جمة وأفهام، فكيف يكون من طبع على قلبه، على ما قد يسمعون عنه من فهمه؟ وكذلك كانوا يستمعون إلى الرسول إذا قرأ القرآن، ويقولون في قراءته كل قول، ويدبرون فيه التدبير(1)، ويسطرون فيما جاء به الأساطير.
من ذلك ما كان يقول ويتبعونه عليه من القول منهم الوليد بن المغيرة، اللعين، وكانوا له على كفره تابعين، حين تلا عليهم قول رب العالمين، فقال ما حكى الله عنه في سورة (( نون )) حين يقول: {فَلاَ تُطِعْ كُلَّ حَلاَّفٍ مَهِينٍ* هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ* مَنَّاعٍ لِلْخَيرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ* عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ* أَنْ كَانَ ذَا مَالٍ وَبَنِينَ*إِذَا تُتْلَى عَلَيهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ} [القلم: 10 ـ15].
__________
(1) في (أ): التدبر.

(1/361)


وكذلك كان يقول الوليد الملعون: {إِنْ هَذَا إِلاَّ قَولُ البَشَرِ}[المدثر: 35]، ويقولون: {مُعَلَّمٌ مَجْنُونٌ} [المدثر: 35]،كما حكى الله في الكتاب المكنون، وقال فيهم ربهم، وذكر عنهم ومنهم، فقال سبحانه: {أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرَى وَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مُبِينٌ* ثُمَّ تَوَلَّوا عَنْهُ وَقَالُوا مُعَلَّمٌ مَجْنُونٌ}[الدخان: 13]، ويسمعهم ما كان رسول الله صلى الله عليه وآله يحاجهم به، ويقرأ القرآن عليهم، ويأمره الله سبحانه بذلك فيهم؛ فيقول: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ* وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ}[الشعراء: 214]، وقال جل جلاله، وصدق في كل قول مقاله: {وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْراً جَمِيلاً}[المزمل: 10]، وقال: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ} [الكهف: 28]. وقال: {فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا} [طه: 130].
فهل يقول أحد من ذوي العقول أن من كانت هذه حاله كان مختوماً على سمعه، ورسول الله صلى الله عليه وآله يناجيه ويناديه؟ وهل يجوز على الرسول أن ينادي ويناجي من سمعه مختوم؟ وكذلك كان نظرهم وإبصارهم فيما يأمرهم الله أن يبصروه من السموات والأرض، إذ يقول: {أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَالَهَا مِنْ فُرُوجٍ} [ق: 6]، فهل يجوز على الله أن يأمر بالإبصار من هو بالختم أعمى؟ فهذا مالا يجوز على ديان الآخرة والدنيا، ولن يقدر أحد أن يقول إنهم كانوا عمياناً لا يبصرون، وإنهم كانوا صماً لا يسمعون.

(1/362)


ومن ذلك ما قد بان منهم مما كانوا عليه من الكمال، والمعرفة والعقول والتمييز في كل حال، فإن قالوا: إن الله طبع على قلوبهم وختم على سمعهم وأبصارهم عما جاء به الرسول من الحكمة والقول فقط، وخلوا وما سوى ذلك؛ فقد وقعوا في أعظم مما كرهوا من المهالك؛ إذ زعموا أن الله سبحانه ختم ـ عن شيء بعينه ـ على سمعهم وأبصارهم فلا يبصرونه ولا يسمعونه، وطبع على قلوبهم فلا يفقهونه ولا يميزونه، ثُمَّ أرسل نبيه صلى الله عليه وآله يدعوهم إلى مغالبته ونفي ما فعل بهم، وركب فيهم وتغييره ـ تعالى الله عن ذلك ـ وازاحته عن أنفسهم، إذ كان قد أرسله إليهم يدعوهم إلى الإيمان، والاهتداء والخير والبر والإحسان، والطاعة له ولنبيه والاستماع لأمرهما، والعمل بالقول وباللسان والضمير بطاعتهما؛ وقد علم أنهم لا يقدرون على ذلك، فنسب من قال بهذا؛ إلى الله العبث والاستهزاء بنبيه صلى الله عليه وآله، وزعم أن رسول الله صلى الله عليه وآله أتاهم يدعوهم إلى المحال، ويأمرهم بالمغالبة والدفع لما فعل فيهم ذو الجلال.

(1/363)


ألا تسمع كيف قد أثبت لهم الفهم بما يقال لهم، والمعرفة بما يتلى عليهم؛ في قوله سبحانه: {إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطَانُ سَوَّل لَهُمْ وَأَمْلَى لَهُمْ} [محمد: 25]، فأخبر الله الواحد الجليل، فيما أوحى ونزل من التنزيل؛ أن الهدى قد تبين لهم، وصح لديهم وثبت في قلوبهم، ولولا سلامة القلوب من الختم الذي يذهب إليه الجاهلون، ويقول به على الله سبحانه الظالمون، لم يثبت أبداً في قلوبهم الهدى، ولو لم يثبت لم يبن، ثُمَّ أخبر الله ما سبب ارتدادهم في الطغيان، ومعصيتهم من بعد أن بين لهم ذلك الرحمن؛ فقال: {الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلَى لَهُمْ}، ولم يقل: الرحمن ردهم وأضلهم، ثُمَّ أخبر بالسبب الذي كان عنهم؛ فتمكن ـ إذ قالوه ـ الشيطان منهم، فقال سبحانه: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا مَا نَزَّلَ اللَّهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الأَمْرِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرَارَهُمْ} [محمد: 26].
ثُمَّ أخبر بما يصيرون عليه عند موتهم؛ من ضرب الملائكة لوجوههم وأدبارهم؛ فقال: {فَكَيْفَ إِذَا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلاَئِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ} [محمد: 27]. ثُمَّ أخبر لم فعل ذلك بهم، وحتم عليهم بضرب الملائكة لوجوههم وأدبارهم؛ فقال: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهُ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ} [محمد: 28]. ثُمَّ قال: {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيهِمْ وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا} [محمد: 10].

(1/364)


أفيظن أحد ممن وهب لباً، وتمييزاً وعلما؛ أن الله سبحانه أوجب ما أوجب عليهم، وذكر ما ذكره عنهم، وأمرهم بالمسير في الأرضين، والنظر في آثار الأولين؛ ممن هلك بما هم عليه من الكفران؛ وبما يختارونه من الفجور والعصيان، ولم يجعل لهم إلى ذلك سبيلاً، ويركب إليهم فيه دليلاً، وهم لا يقدرون على ذلك لما قد فعله بهم من الختم على أسماعهم وأبصارهم، والطبع على قلوبهم التي بها يعقلون، وبسلامته، يميزون ويفهمون؟ كذب العادلون بالله، والقائلون بالزور على الله، بل سلم ذلك لهم، ووفره(1) لإكمال الحجة عليهم، ثُمَّ أمرهم بالتسديد، وما ربك بظلام للعبيد.
ثُمَّ نذكر من بعد دفع هذه المهالك، ونشرح الصدق بما علمنا الله من ذلك؛ فنقول: إن معنى الختم والطبع من الله تبارك وتعالى هو على معنى التمثيل لهم، والتقريع واثبات الحجة عليهم، وتبيين ضلالتهم لهم، فيقول سبحانه: إن امتناعكم من قول الرشد وقلة قبولكم له كمن طبع على قلبه، بما منعه من لبه، وحرمه من تمييزه ونظره وجودة فهمه، وبما عدم من النظر، والغوصان في بحور الفكر؛ من البهائم التي قد منعها الله من ذلك كله، إذ لم يجعل لها عقولاً تميز بها، فلما أن لم يجعل لها سبيلاً إلى ما يناله البشر؛ من العقل والفهم والتمييز والنظر؛ كان ذلك منه فيها فعلاً، وكان منه طبعاً على قلوبها؛ عما فهمه من التمييز أربابها.
فمثلهم في قلة تفهمهم وإنصافهم لمعقولهم، وتركهم لرشدهم واتباعهم لغيهم؛ بمن طبع على قلبه، وختم ـ عن التمييز ـ على سمعه وبصره، عن أن تعلم ما يعلمون، أو تفهم ما يفهمون؛ من البهائم التي جعلت قلوبها على غير ما جعلت قلوبهم من ذلك، وختم عليها فكانت بهائم سوائم كذلك.
__________
(1) في (أ): وقرره.

(1/365)


ألم تر كيف يقول ذو العزة والإنعام: {أُولَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الغَافِلُونَ} [الأعراف: 179]؟ وقال: {إِنْ هُمْ إِلاَّ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً} [الفرقان: 44]، يقول: إذ أعطوا من الفهم والتمييز والنظر(1)، وجودة التحرف(2) في غامض الفكر؛ مالم تعطه البهائم، وما قد حجبها عنه العزيز العالم، وخلقها على غيره من الخلق، وصورها على ما قد يراه جميع الخلق، فأبوا استعمال ما ركب فيهم، وأمتن الله به سبحانه عليهم، وتركوا النصفة وأخذوا في المكابرة والمعاندة لربهم، والكفر لنعمة خالقهم، فكانوا لذلك وفيه أضل من الأنعام، إذ تركوا ما لو علمته الأنعام وعرفته، وميزته وفهمته، لقبلته ولسارعت إليه، ولدخلت بأجمعها فيه ثُمَّ لثابرت إلى الممات عليه.
فهذا والحمد لله قول لا ينكسر على من قال به بل يضح، وينير لذوي العقول ويستبين ويصح.
__________
(1) في (ط): والنطق.
(2) كذا في (أ، ب)، ولعلها تصحفت عن: التصرف.

(1/366)


وقد يخرج ذلك على معنى آخر، فيكون على قدر علمه منهم بما سيكون من اختيارهم للضلال، وإيثارهم للسفال(1)، وتركهم للهدى، وقلة رغبتهم في التقى، وأنهم للعنتهم(2) وحميتهم، وشدة حسدهم لنبيهم؛ لايختارون ما جاء به من الله (براً بهم) (3) وأنهم لا يطيعونه فيما دعاهم ـ من حظهم ـ إليه، وأنهم سيجاهرون بالجرأة عليه، فلما أن علم الله منهم أنهم يختارون ـ بما ركب فيهم من القدرة والاستطاعة، وسلم لهم من الجوارح والآلة ـ معصيته على طاعته، ومخالفته على مرضاته، وأنهم يلقونه يوم الحشر كفاراً كذلك، فختم لهم ـ إذ قد علم (صيورة أمرهم ـ بذلك، فكان الختم منه علينا، إخباراً منه بما علم)(4) من غاية أمرهم(5)، فختم عليها ولها؛ بما علم أنَّه يكون آخر اختيارها وعملها. وكذلك قيل في محمد سيد المرسلين، إنَّه صلى الله عليه وآله خاتم النبيين، فسمي خاتمهم إذ كان آخرهم، فلما أن علم الله آخر أعمالهم، وما عليه يكون فناء آجالهم؛ ختم بذلك عليهم، ودعاهم به وذكره عنهم وفيهم، فكان ذلك العمل منهم اختياراً، وكان ما قال الله فيهم منه إخباراً.
__________
(1) في (أ): للمقال.
(2) في (أ): لتعاميهم.
(3) ليست في (أ)، وفي (ب): برأيهم.
(4) ما بين القوسين سقط من (ط).
(5) في (أ): أمرها.

(1/367)


وأما ما ذكر الله من الطبع على قلب من على قلبه طبع، فسنقول فيه بوجهٍ من قال به إن شاء الله أصاب، ووجده بيناً نيراً في اللسان والإعراب، وهو ما تقول به العرب لمن ذكر في ملأ من الناس عن إنسان شيئاً مما يفعله ويكتسبه ويصنعه من الردى والخنا: يا فلان، طبعت ويحك فلاناً وأفسدته، وطرحته بما طبعته به من أعينهم. فعلى ذلك يخرج الطبع من الله لقلوب الفاسقين، عند ملائكته المقربين وأنبيائه المرسلين وعباده المؤمنين، فيكون طبعه لها عندهم؛ هو: ما ذكر وأخبر به عنها من باطن أسرارها، وفاحش إضمارها(1) وفسادها، وقلة قبولها للحق واهتدائها، وكفرها بربها وحسدها لنبيها، وبما فيها من الدغل والعداوة لخاتم النبيين، والمشاقة لرب العالمين، والمنافقة للمؤمنين، والصد عن سبيل أحكم الحاكمين، كما قال أصدق الصادقين: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَشَاقُّوا الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئاً وَسَيُحْبِطُ أَعْمَالَهُمْ} [محمد: 20]، فيكون ما قص عنهم من قصصهم، وأخبر به من الضلالة عنهم، ومن الحيرة(2) والتكمه، والجهالة، والكفر والشقاق(3) والسفالة، وما سماهم به من ذلك ودعاهم؛ طبعاً(4) طبعهم به.
فهذا والحمد لله حجة فيما سأل عنه من الختم والطبع شافية، مجزية لمن أراد الحق من جميع الناس كافية. والحمد لله على توفيقه، ونشكره على تسديده.
__________
(1) في (أ): ضميرها.
(2) في (أ): الجراءة.
(3) في (ط): والنفاق.
(4) خبر يكون.

(1/368)


وكذلك يقول المحقون، لا ما قال في الله المبطلون: إنَّه سبحانه ختم على الأسماع فلا تسمع، وعلى الأبصار فلا تنفع، وأنه على قلوب الكافرين طبع، ثُمَّ أمرهم بخلاف ما فعل بهم، وكلفهم فعل ما منه منعهم، وعنه سبحانه حجزهم، ثُمَّ عذبهم على ترك مالا يقدرون على فعله؛ لما قد حجزهم عنه به من طبعه وختمه، فتعالى الله عن ذلك علواً كبيراً، وخسر المبطلون خسراناً مبيناً. تم جواب مسألته.
المسألة الرابعة عشرة:
الزيادة في المرض في قلوب المنافقين
ثُمَّ اتبع ذلك المسألة عن الزيادة، فقال: خبرونا عن الزيادة، فإن الله يقول: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الآَخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ * يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ * فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضاً وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ} [البقرة: 8 ـ 10]، وقوله لقوم: {وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ* فَمَا آتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوا وَهُمْ مُعْرِضُونَ* فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقاً فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَونَهُ} [التوبة: 76]، (ألستم تعلمون أن الله زاد هؤلاء(1) مرضاً، ومد آخرين في طغيانهم يعمهون، وأعقب قوماً نفاقاً في قلوبهم إلى يوم يلقونه)(2)؟ فإن قالوا: نعم، ولكنه صنع ذلك بهم عقوبة بذنوبهم، فيقال لهم: فنعم، أفليسوا معذورين بما عملوا من معصيته حين فعل بهم ذلك؟ فإن قالوا: لا، فقل: فقد دخلتم فيما عبتم؛ إذ زعمتم أن الله يعذب قوماً على ما لم يستطيعوا تركه، لأنَّه فعل ذلك بهم. تمت مسألته.
جوابها
__________
(1) في (ط): زادها.
(2) سقط من (ب) سهواً.

(1/369)


وأما ما سأل عنه من قول الله سبحانه، وتوهم فيه من التجوير له في فعله، فقال: خبرونا عن الزيادة التي ذكرها الله سبحانه، وعظم عن كل شأن شأنه، حين يقول سبحانه: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ* يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ* فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضاً وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ}، وعن قول الله سبحانه: {وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ* فَمَا آتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ* فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقاً فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَومِ يَلْقَونَهُ}.
فسنجيب إن شاء الله في ذلك من الجواب؛ بما يقبله ذووا الإنصاف والألباب، فنقول في ذلك على الله سبحانه بالصواب.

(1/370)


فأما قوله سبحانه: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ} فهم المنافقون الذين كانوا يحتجرون من الرسول ومن المؤمنين بانتحال الإيمان، وتلاوة ما أنزل الله من القرآن، وقلوبهم لذلك منكرة، وفي دين الله فاجرة، وبه سبحانه كافرة، فهم يراءون بألسنتهم الرسول مخافة القتل والتنكيل، وهم عن الله بضمائرهم حائدون، وللحق بينهم وفي سرائرهم معاندون. ألا تسمع كيف يقول سبحانه فيهم، ويدل بصفاتهم عليهم، حين يقول: {وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ} [البقرة: 14]؟، وقال سبحانه يخبر عنهم بما هم فيه، وما يجتمعون في خلواتهم من المشاقة عليه: {وَإِذَا خَلاَ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ قَالُوا أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيكُمْ لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ} [البقرة: 76].

(1/371)


ومن ذلك ما قال سبحانه في الأعراب: {قَالَتِ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الإِيْمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لاَ يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئاً إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [الحجرات: 14]، ومن قولهم بألسنتهم ما ليس في قلوبهم ما يقول الله سبحانه: {سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الأَعْرَابِ شَغَلَتْنَا أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا فَاسْتَغْفِرْ لَنَا يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ} [الفتح: 11]، فأخبر الله عنهم بما كان من كذبهم فيما ذكروا أنَّه شغلهم، وأخبر بنفاقهم وتوهيمهم ما أوهموا نبيه صلى الله عليه وآله من إحقاقهم؛ فيما طلبوا منه من الاستغفار لهم، والصفح في ذلك عنهم، فأمره الله سبحانه أن يخبرهم؛ أن استغفاره لهم غير دافع عقوبة الله عنهم؛ إذا أراد الله الانتقام في ذلك منهم؛ فقال سبحانه: {قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً إِنْ أَرَادَ بِكُمْ ضَرّاً أَوْ أَرَادَ بِكُمْ نَفْعاً بَلْ كَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً} [الفتح: 11]، ثُمَّ أخبر نبيه صلى الله عليه وآله عن أمورهم؛ بما كانوا يتوهمون أنَّه قد غبي(1) عليه علمه مما كانوا ظنوه وأجنوه في صدورهم؛ فقال ذو المعارج والجلال: {بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلَى أَهْلِيهِمْ أَبَداً وَزُيِّنَ ذَلِكَ فِي قُلُوبِكُمْ وَظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ وَكُنْتُمْ قَوماً بُوراً} [الفتح: 12]، فأخبرهم سبحانه بما ظنوا من الظن القبيح في الرسول والمؤمنين وتوهموا، وما زين في قلوبهم الشيطان من ذلك وأملى، وأنهم كانوا في ذلك قوماً بوراً.
__________
(1) في (ط): خفي.

(1/372)


وأما قوله جل جلاله، وتقدس عن (( أن )) يحويه قول ويشبهه شيء أو يناله: {فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضاً وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ} فقد يخرج على معنيين، وكلاهما إن شاء الله للحق مضاف(1).
فأما أحدهما فأن يكون المرض الذي في قلوبهم؛ هو الشك الذي هم فيه يلعبون، من جحدانهم لما يرون من آيات ربهم، فقلوبهم لذلك مريضة، فلا يؤدون لله سبحانه من فرائضه فريضة، فهم في شكهم ولعبهم يترددون، وفي خطيئاتهم وطخياء(2) حيرتهم يعمهون، كما قال سبحانه: {بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ يَلْعَبُونَ}[الدخان 9].
فقد تكون زيادة الله لهم من المرض الذي ذكر أنَّه في قلوبهم لشكهم وضلالهم؛ هو بما يزيد نبيه صلى الله عليه وآله من الوحي والبرهان، وتنزيل ما نزل من القرآن؛ الذي به مرضت قلوبهم، ومنه دويت(3) صدورهم، فكلما زاد الله منه نبيه تبياناً وعلماً، وخيراً وفضلاً وحكماً؛ ازداد لذلك مرض قلوبهم تراكماً، وزادهم الله بتنزيل الحق غيظاً وغماً.
__________
(1) في (ب): مصيبان.
(2) في(ط): وطمياء. من الطامة، وقد تقدم شرحها.
(3) دويت: أصابها الداء.

(1/373)


وقد يكون ذلك المرض حل في قلوبهم لشدة الحسد منهم لنبيهم صلى الله عليه، على ما جعل الله من البركات واليمن في كل الحالات لديه، ولما خصه الله به دونهم، وآثره(1) به سبحانه عليهم، من هبوط الملائكة نحوه، وما عظم به الله له خطره وقدره، فجعله الله صفياً يوحي إليه، وينزل إليه وحيه بفرائضه عليه، وما خصه به من أن جعل طاعته له طاعة، ومعصيته له معصية؛ فقال: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ}[النساء: 8]، وقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ} [النساء: 59، ومحمد: 33]، وقال سبحانه: {مَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر: 7]، وقال: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ} [الفتح: 17].
__________
(1) في (أ): وأكرمه.

(1/374)


فلما أن رأت(1) قريش هذه الكرامات البينات النيرات التي لا يقدرون على دفعها، ولا يأتون أبداً بمثلها؛ اشتد لذلك حسدها لرسول رب العالمين،وعهدوا(2) عليه وعلى من معه من المؤمنين، فمنعه الله منهم، ورد حسدهم وبغيهم في نحورهم، فنصبوا له المحاربة، وطالبوه(3) أشد المطالبة، فردهم الله بغيظهم، كما قال سبحانه: {وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْراً وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ القِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيّاً عَزِيزاً} [الأحزاب: 25]، وذلك(4) حين تحزبت قريش والعرب، وطلبوا رسول الله صلى الله عليه وآله غاية الطلب، فكفاه الله في ذلك اليوم والمسلمين، القتال بأخيه ووصيه علي بن أبي طالب أفضل المستشهدين، فقتل عمرو بن عبد ود اللعين، وكان عماد المشركين وفارس المتحزبين، فانهزم بقتله جميع الكافرين، وفل الله حد المبطلين، وأظهر دعوة المحقين، ونصر رسوله خاتم النبيين، وكبت أعداءه المحادين. قال سبحانه: {إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ كُبِتُوا كَمَا كُبِتَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَقَدْ أَنْزَلْنَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ} [المجادلة: 5]، فلما أن أذلهم وهزمهم، وكبتهم كما كبت الذين من قبلهم، تدارك الكبت في قلوبهم، وترادفت الحسرات في صدورهم، ومرضت(5) لذلك وبه منهم القلوب، وأحاطت بهم(6)منهم الذنوب، فهم في كل يوم يرون من نصر الله لنبيه ويسمعون عنه ما يزيدهم حسداً، ويحدث لهم به في قلوبهم مرضاً، حتى صدق الله رسوله الرؤيا بالحق التي كانت في غزوة الحديبية، أراه وأكمل له من دخول مكة آمناً لا يخاف إرصاداً، فنزل بالمشركين من ذلك ما كانوا يخافون، وحقق الله لرسوله ما كانوا يحذرون، {وَمَنْ بُغِيَ عَلَيْهِ
__________
(1) في (أ): فكلما رأت.
(2) في (أ): وجحدوا.
(3) في (أ): وطلبوه.
(4) في (أ): وكذلك.
(5) في (أ): فتضرمت.
(6) في (أ): به.

(1/375)


لَيَنْصُرَنَّهُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ}.
وأما ما سأل عنه من قول الله سبحانه: {وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ* فَمَا آتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ* فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقاً فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَومِ يَلْقَونَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ}، فقد يمكن أن يكون الله سبحانه لما أن كذبوه وأخلفوه خذلهم، ومن الإرشاد والتوفيق تركهم، فتكمهوا في ضلالهم، وارتكبوا القبيح من أعمالهم، فأعقبهم كثرة ضلالهم، وعظيم اجترائهم على قول الزور والبهتان، وارتكاب الضلال والعصيان؛ تمادياً في ذلك حتى مردوا على الكذب والفساد، والنفاق وقول المحال والإلحاد، فيجوز أن يقال: أعقبهم الله نفاقاً إذ تركهم من التوفيق؛ والتسديد والتحقيق؛ حتى غلب عليهم الهوى، ورفضوا الخير والهدى، واستعملوا بينهم النفاق في كل أمرهم، فعادوا منافقين، وللرشد تاركين، ينافق بعضهم بعضاً، ويقرضه في الغيب له قرضاً.

(1/376)


وقد يكون الذي أعقبهم في قلوبهم النفاق هو فعلهم وكذبهم، وغدرهم في موعدهم الذي أوجبوه لخالقهم، وذلك أن الكذب والردى؛ يجر بعضه بعضاً، فلما أن كذبوا فيما قالوا، ووعدوا خالقهم من أنفسهم فأخلفوا؛ كانوا لغيره فيما يعدون أخلف، ولسواه سبحانه أكذب فكاذبوا بيناتهم، وأبطلوا بالزور قالاتهم، فدعت حالة حالةً، حتى تكمهوا في الغي والضلالة، ودعا ما كان منهم أولاً من الكذب والإخلاف؛ إلى قلة الصدق والإنصاف. فحل(1) بينهم التضاغن وذهب عنهم الإئتلاف، فعاد كل منافق في قوله غير صادق، فكان الذي أعقبهم النفاق آخرا؛ هو فعلهم للكذب والإخلاف أولاً، فجر فعل الصغائر(2) إلى ارتكاب موبقات الكبائر، حتى صار ذلك لهم عادات، وكان لهم وعليهم علامات؛ يعرفون بها دون غيرهم ودلالات. فهذا أيضاً معنى يصح في اللسان، ويعرفه من كان ذا بيان. والحمدلله ذي الجلال والبرهان، والجبروت والقدرة والسلطان.
__________
(1) في (أ): فجرى.
(2) في (ط): الضغائن.

(1/377)


وأما ما سأل عنه من معنى قول الله سبحانه: {إِلَى يَوْمِ يَلْقَونَهُ}، قد يمكن أن يكون المعني باللقاء، هو الله الرحمن الأعلى، يريد بقوله، (( يلقونه ))، أي يلقون حكمه ويعاينونه، وقد يكون الذي يُلْقَى(1)، ما تقدم من علمهم ومضى، فيعاينونه في الآخرة يوم الحساب، ويجدونه عند الله مثبتاً في الكتاب، كما قال سبحانه: {إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ} [يس: 12]، وقال: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيراً يَرَهُ* وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ} [الزلزلة: 7 ـ 8]، يقول سبحانه: يرى جزاءه، ويعاين ما حكم عليه به، من الخير والثواب، العذاب والعقاب، فيكون لقاؤهم لأعمالهم، هو توقيف الله لهم على القليل والكثير من أفعالهم، وما يكون منه سبحانه على ذلك من جزائهم، فيلقى المحسنون ما وعدهم الله في إحسانهم من الثواب، ويلقى المجرمون ما وعدهم من العقاب. تم جواب مسألته.
المسألة الخامسة عشرة:
ما فعل بعباده، هل يعذبهم عليه أم لا؟
__________
(1) في (ط): يلقونه.

(1/378)


ثُمَّ اتبع ذلك الحسن بن محمد المسألة عن ما صنع الله بعباده، فقال: خبرونا عما صنع الله بالعباد، هل يعذبهم عليه؟ فإن قالوا: لا، فقل: خبرونا عمن زاده الله كفراً، ومده في طغيانه، وأعقبه النفاق في قلبه هل يعذبه عليه؟ فإن قالوا: نعم، فقد دخلوا فيما يعيبون، وإن قالوا: لا. فقل: فقد زعمتم أن الله لا يعذب من كان على الكفر، ولا يضر من كان عليه، وأنتم تزعمون أن الله إنَّما صنع ذلك عقوبة لهم. وسلهم: هل استطاع هؤلاء الترك لما صنع الله بهم، والخروج منه؟ فإن قالوا: لا، فقد أجابوا، وإن قالوا: نعم، فقد كذبوا بكتاب الله، وخالفوا قول الله، إذ يقول: {فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقاً فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَونَهُ} [التوبة: 77]، (فإن قالوا: يقدرون على أن يصرفوا من النفاق قلوبهم قبل أن يلقوه) (1)، فقول الله بزعمهم باطل، في قوله: {خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [البقرة: 57]، تمت مسألته.
جوابها
وأما ما سأل عنه مماالتبس عليه، فتعسف بقول الزور فيه، فقال: أخبرونا، وبما عندكم نبئونا؛ عن قول الله سبحانه: {وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} [الأنعام: 110]، وفيما صنع الله بالعباد تقولون؛ هل يعذبهم على ما فيه أدخلهم وعليه جبرهم؟
__________
(1) سقط من (ط).

(1/379)


فلعمري، لقد تقدم في ذلك الجواب، وقلنا فيه إن شاء الله بالصواب، ولا بد أن نقول فيما سأل عنه في هذا الجواب، نأتي على شرحه إن (شاء الله بشرح شاف، فنقول)(1): إن معنى قوله سبحانه: {وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ}، هو تركه لهم من توفيقه وتسديده، وعونه ولطفه وتأييده، لما خرجوا منه من طاعته، وارتكبوا بطغيانهم من معصيته، فولى بعضهم بعضاً، ولم يقم لهم سبحانه أمراً، كما قال سبحانه:{وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضاً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [الأنعام: 129]، فلم يبرأ منهم سبحانه، ويكلهم إلى أنفسهم جل وعظم شأنه؛ إلاَّ من بعد أن تولوا، وكفروا وتعدوا، فاستوجبوا منه الخذلان، بما تمادوا فيه من الطغيان، كما يستوجب الرشد والتوفيق بالطاعة منه المؤمنون، واستأهل بالاهتداء منه والزيادة في الهدى المهتدون، كما قال أحكم الحاكمين وأصدق القائلين:{وَالَّذِينَ اهْتَدَوا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ} [محمد: 17]، فأخبر سبحانه أنَّه ولي للمتقين، مجانب خاذل للفاسقين، وكذلك قال سبحانه رب العالمين: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَولَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الكَافِرِينَ لاَ مَولَى لَهُمْ} [محمد: 11]، يريد سبحانه أنَّه ولي الذين آمنوا والمتولي في كل الأسباب لهم، وأنه الخاذل للكافرين والتارك لتأييدهم، الرافض لتوفيقهم وتسديدهم، ألا ترى كيف يقول ويخبر بتأبيده وصنعه وتسديده ولطفه للمؤمنين، وتخليته بين الكافرين وبين من أطغاهم(2) من الطاغوت، والطواغيت فهم الذين أجابوهم إلى دعائهم، واتبعوهم في أهوائهم؛ من مستجني الشياطين(3)، وأبالسة الإنس الملاعين؛ الذين أطغوهم واستهووهم في الردى والطغيان، ومنوهم مع الإقامة على ذلك من الله الغفران، قال الله سبحانه: {اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ
__________
(1) سقط من (ط).
(2) في (ب،ط): بين المؤمنين والكافرين وممن أطغاهم.
(3) في (ط): من مستجيبي الشيطان.

(1/380)


آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَولِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ} [البقرة: 257].
وأما ما قال وعنه سأل فقال: هل يعذب الله أحداً على فعل فعله به؟ أم هل يقدر الخلق على الخروج مما أدخلهم جل جلاله فيه؟
فقولنا في ذلك على الله بما تقدم من شرحنا له، من أن الله جل جلاله أعز وأكرم وأرأف وأرحم وأجل وأحلم من أن يدخل عباده في سبب من الأسباب أراده ثُمَّ يعذبهم عليه أو يعاقبهم فيه، إن هذا إذاً لأجور الجور من الفعل، وإنه من فاعله لأجهل الجهل، فلو كانت أفعاله لا تتم إلاَّ بأفعالهم؛ لكانت حاله في العجز كحالهم، ولكان مضطراً إلى خلقهم وإيجادهم، إذ لا يتم له فعل إلاَّ بأعمالهم، فخلقه إياهم(1) إذاً نظراً منه لنفسه لا لهم؛ وضرورة الخالق إلى الخلق في فعله، كضرورة الخلق إلى الخالق في أمره، فكل إلى غيره محتاج، وذلك فبين على قياسهم(2) في المنهاج، ولو اشتبهت الحالات؛ لاشتبهت بلا شك الذات(3)، فسبحان من بان عن خلقه فليس له حد ينال، ولا مثل يضرب له به الأمثال، الذي بان من كل فعل فعله، وجل عن كل قول قوله.
وأما ما قال من قوله: هل يقدر الخلق على أن يخرجوا مما أدخلهم الله فيه وصنعه بهم؟ فإن ادخال الله وصنعه بالعباد يكون على معنيين كليهما متضادين:
أحدهما: إدخال حكم وأمر وافتراض منه معه تمكين واختيار، لم يرد الله أن يدخلهم فيه جبراً، بل أراد أن يدخلوا اختياراً، بما ركب فيهم وأعطاهم من الآلات والاستطاعات، ليكمل لهم الثواب على الطاعات، ولو أدخل قوماً في الطاعة وأدخل آخرين في المعصية ثُمَّ أثاب وعاقب لكان على غير فعلهم عاقب وأثاب، جل الله عن ذلك رب الأرباب، فهم قادرون على الخروج من هذا الفعل على ما ذكرنا من تمكين الله الواحد الأعلى.
__________
(1) في (ب،ط): فلقد أتاهم إذاً.
(2) في (أ): قياس مسألتهم.
(3) في (ب): اللذات.

(1/381)


وأما المعنى الثاني الذي أدخلهم فيه وصنعه بهم، فهو ما خلقهم عليه وصورهم فيه من الخلقة، وقومهم عليه من الفطرة؛ من الأجسام، والعروق والعصب والعظام، والأسماع والأبصار، وما عليه الجن من السرعة والذهاب في الهواء، وما خلق عليه الآدميين من الثقل والجفاء(1)، فلا يقدر جني يزيح ما فيه من الخفة فيثقل، ولا آدمي عن الثقل إلى الخفة أن يدخل(2)، وكذلك لا يقدرون على الخروج من سواد إلى بياض، ولا من بياض إلى سواد، ولا من قصر إلى طول، ولا من طول إلى قصر، فهذا ما لا يقدر عليه الخلق ولا ينالونه، وذلك أن الله خلقهم وجبلهم عليه، فلم يزدادوا من محبوبه، ولم ينتقصوا من مكروهه. تم جواب مسألته.
المسألة السادسة عشرة:
عن المقاتلين، هل يستطيعون ترك الاقتتال أم لا؟
__________
(1) في (ط): والخفة.
(2) في (ب،ط): إلى الخفة يرحل.

(1/382)


ثُمَّ اتبع ذلك الحسن بن محمد المسألة عن قول الله سبحانه: {وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَينِ أَنَّهَا لَكُمْ} [الأنفال: 7]، أليس إنَّما يريد العير والغنيمة أو المشركين وغلبتهم والنصر؟ فإن قالوا: نعم، فقل: هل كانوا يقدرون على أن لا يقاتلوا ولا يخرجوا إلى القتال؟، فإن قالوا: نعم، فقد زعموا أنهم كانوا يقدرون على أن يخلف الله وعده الذي وعده رسوله، وهذا قول عظيم يدخلهم في أعظم مما كرهوا، (وإن زعموا أنهم لم يكونوا يقدرون على أن يخرجوا للقتال، لا المؤمنون ولا الكافرون، فقد أقروا بما كرهوا)(1)، فإن الله قد أراد أن يقاتل المؤمنون الكافرين، وأن يقاتل الكافرون المؤمنين، وأن الفريقين لم يكونوا يستطيعون التخلف ولا الترك للقتال حتى ينجز الله وعده، ويعز المؤمنين، ويذل الكافرين ويوهن كيدهم، وكذلك أراد الله بالفريقين (يوم بدر)(2) جميعاً، وقد كان فيما صنع الله بالفريقين يوم بدر بينة لنبيه وبرهان، وذلك أن الله سبحانه لم يكل المؤمنين إلى ما زعم الجهال المكذبون أن الله جعل في العباد استطاعة ثُمَّ وكلهم إليها، فلم يرض حتى أيدهم بنصره، وأمدهم بملائكته، ثُمَّ آجرهم على صبرهم على البأس، وهو صبرهم، وأجرهم على الثبات، وهو ثبتهم، وآجرهم على ائتلافهم(3) وهو ألف بينهم، وآجرهم على صرامتهم وهو ربط على قلوبهم وآجرهم على ظفرهم وهو ألقى الرعب في قلوب عدوهم(4)، وهذا كله خلاف لقولهم ورد عليهم. فجعل غلبة المؤمنين الكافرين نصراً وعزاً وتأييداً، وجعل غلبة الكافرين دولة بلاء(5) وإملاء، فأنزل في قتال المؤمنين الكافرين بأحد: (حينئذ(6) ـ إلى المشركين من المؤمنين ـ)(7)، {فَأَثَابَكُمْ غَمّاً بِغَمٍّ} [آل عمران: 153]، أما الغم الأول فالهزيمة والقتل، وأما الغم
__________
(1) سقط من (ب).
(2) سقط من (ط) و(ب).
(3) في (أ): الإئتلاف.
(4) في (أ): أعدائهم.
(5) في (أ):ذلة وبلاء.
(6) ليس في(ب).
(7) سقط من (ط).

(1/383)


الآخر(1)، (فإشراف خيول الكفار على الجبل حتى أشرفوا عليهم فظنوا أنها الهلكة)(2) قال الله تعالى: {لِكَيلاَ تَحْزَنُوا عَلَى مَا فَاتَكُمْ} [آل عمران: 153]، من الغنيمة، {وَلاَ مَا أَصَابَكُمْ} [آل عمران: 153]، يعني من قتل من قتل من إخوانكم، قال: {وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} [آل عمران: 153].
فإن قالوا: إن الله إنَّما فعل ذلك بذنوبهم ومعصيتهم، قيل: فإنه إنَّما عصى منهم نفر يسير وهم الرماة، نحو من خمسين رجلاً، فقد عم ذلك البلاء جميع المسلمين(3)، حتى وصل إلى نبي الله صلى الله عليه وآله وسلم، فشج في وجهه وكسرت رباعيته، وقد كان المسلمون يوم أحد سبعمائة أو يزيدون، فأخبر الله أنَّه صنع ذلك بهم فأثابهم غماً بغم، أفليس الله قد أراد أن يصيبهم ذلك بأيدي الكافرين، ولأن ينهزموا، وأن يقتل من قتل منهم؟ ثُمَّ أخبر أيضاً بما صنع بهم بعد الذي كان منه إليهم من الغم، فقال: {ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيكُمْ مِنْ بَعْدِ الغَمِّ أَمَنَةً نُعَاساً يَغْشَى طَائِفَةً مِنْكُمْ وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَلْ لَنَا مِنَ الأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ} [آل عمران: 154]، قال الله لنبيه: {قُلْ إِنَّ الأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ} [آل عمران: 154]، ثُمَّ قال: {يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ مَالاَ يُبْدُونَ لَكَ} [آل عمران: 154]، فأخبر عما أخفوا في أنفسهم، فقال: {يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا} [آل عمران: 156]، يقولون: لو كنا في بيوتنا ما أصابنا القتل، قال الله تكذيباً لهم: {قُلْ لَو كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيهِمُ القَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ} [آل عمران: 154]، فأخبر أنَّه قد كتب القتل على قوم قبل أن يقتلوا،
__________
(1) في (أ): الثاني.
(2) سقط من (ط).
(3) في (ط): المؤمنين.

(1/384)


وجعل لهم مضاجع إليها يصيرون، ثُمَّ نهى المؤمنين أن يكونوا مثلهم، وأن يظنوا بالله كظنهم، فقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقَالُوا لإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُوا فِي الأَرْضِ أَوْ كَانُوا غُزّاً لَو كَانُوا عِنْدَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [آل عمران: 156].
وقال في غلبة الكافرين المؤمنين وهزيمة المؤمنين، فقال: {وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَينَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ} [آل عمران: 140]، وقال: {وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا} [آل عمران: 166]، في آيٍ كثيرة، يخبر أن الأمر كله منه، وهو يدبر أمر خلقه، ويصرفهم كيف يشاء. وأخبر أن الذي أصاب المؤمنين يوم أحد إنَّما كان بإذن الله؛ من قتل الكافرين إياهم وهزيمتهم لهم، حتى قتل منهم سبعون رجلاً، وأنتم تزعمون أنَّه لم يأذن في المعاصي وأنها لا تكون بإذنه، ولكن الإذن قد يكون على معنيين: أما أحدهما فيكون أمراً منه يأمر به، والآخر يكون إذناً على وجه الإرادة، أنَّه أراد أن يكون، لأنَّه فعال لما يريد، ثُمَّ قد عيَّر الذين قالوا لإخوانهم: {إِذَا ضَرَبُوا فِي الأَرْضِ أَو كَانُوا غُزّاً لَوْ كَانُوا عِنْدَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا} وكذبهم، وأخبر بما قد سبق منه لهم وما قد كتبه عليهم، وعبر الذين قالوا: {لَو كَانَ لَنَا مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا} (فكذبهم الله بما قالوا من ذلك) (1).
__________
(1) سقط من ب.

(1/385)


فلو تدبرتم كتاب الله وآمنتم بما فيه ما عارضتم أمور الله تعالى (ولاعبتم) (1) ولفهمتم قضاءه، تردون عليه(2) برأيكم أمره، وتعقبون حكمه وتظلمون عدله، تقولون إن فعل(3) بخلقه شيئاً ثُمَّ عذبهم بما صنع بهم فقد ظلمهم، فسبحان الله ما أعظم قولكم وأضعف رأيكم.
تمت مسألته.
جوابها
وأما ما سأل عنه من القتال، فقال: هل أراد الله من المؤمنين أن يقاتلوا الكافرين؟ ومن الكافرين أن يقاتلوا المؤمنين؟ أم أراده من المؤمنين دون الكافرين؛ فبذلك ولله الشكر نقول، وإليه أمورنا تؤول، فنقول: إن الله شرع حقاً، وأوجب صدقاً؛ فدعا إليه الناس، وكشف عنهم به الالتباس، ثُمَّ أوجب على الخلق كلهم الدخول فيه والمقاتلة عليه، فكل من كان على ما شرعه الله تعالى من الحق؛ فقد أراد الله منه مقاتلة من خالف عنه من الخلق، وإنما أراد سبحانه من عباده؛ أن يقاتلوا على ما رضيه من دينه، فأما ما لم يرده من أفعال الكافرين، ولم يشرعه ولم يرضه من عبادة أصنام المشركين؛ فكيف يريد من أصحابه القتال عليه، وقد كرهه منهم، وذمهم على المقام فيه، ودعاهم إلى الخروج منه؟ وقد علم كل من كان له علم، وآتاه الله شيئا من فهم الحكم(4)؛ أن المشركين عن آلهتهم كانوا يدافعون، وعن دينهم يقاتلون، وعلى ما كان آباؤهم من القتال يثابرون، فإن كان الله أراد منهم ذلك، وجعلهم فيه كذلك؛ فقد ارتضاه، وعلى الأديان كلها اصطفاه، كما ارتضى الذي بعث به خاتم النبيين، وأراده وأمر بالقتال عليه المؤمنين.
فإن قالوا: ارتضاه وأراده، وأمر بالقتال عليه عباده؛ كفروا بالرحمن، وتابعوا قول الشيطان.
__________
(1) ليس في (أ،ب).
(2) في (ب،ط): عليهم.
(3) في (ط): تقولون: إنه فعل.
(4) في (ب،ط): الحكمه.

(1/386)


وإن قالوا: بل سخطه وشنئه(1) وأمرهم ـ لإشقائهم ـ بالمقاتلة عليه؛ فقد ساووا عنده بين ما ارتضاه؛ وبين ما سخطه وأباه، وهل يأمر بحياطة مالا يريد، إلاَّ الجاهل غير الرشيد؟ فإن كان حتم عليه بعمل الردى؛ لما أراد بهم ـ بزعمهم ـ من الشقاء؛ فعلى ماذا يعذبهم ويشقيهم، وفي الحميم يصليهم؛ وهم له طائعون، وفي إرادته منهم متصرفون؟! أهذا عندهم من صواب الحكيم، العدل في فعله(2) الرحيم؟! بل هذا من فعال الجائرين(3)، وأعظم ما عاب سبحانه من اعتداء الظالمين. فلا يجدون بدّاً من أن ينسبوا إلى الله التجهيل، والظلم والتعدي والجور الجليل، أو يدخلوا في الحق، ويرجعوا إلى الصدق؛ فيقولوا: إن الله أمر وأراد حياطة ما ارتضى، وكره ونهى عن حياطة ما لم يشأ.
__________
(1) في (ط): وسبه.
(2) في (ا): أفعاله.
(3) في (أ): من فعل الجبارين.

(1/387)


وأما ما ذكر من قول الله عز وجل: {وَإِذْ يُرِيكَهُمُ اللَّهُ فِي مَنَامِكَ قَلِيلاً وَلَوْ أَرَاكَهُمْ كَثِيراً لَفَشِلْتُمْ وَلَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ وَلَكِنَّ اللَّهَ سَلَّمَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلاً وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْراً كَانَ مَفْعُولاً} [الأنفال:43]، فقال وتوهم أن هذا الأمر المفعول الذي يقضيه الله، هو قضاؤه على الفريقين بالقتال، والمزاحفة والاقتتال؛ وليس ذلك ولله الحمد على ما قال، ولا على ما توهم من المحال؛ أن الله يقضي على الكافرين بقتال المؤمنين، ولا أنَّه يقلل المؤمنين في أعين الكافرين؛ تشجيعاً منه لهم على قتال المؤمنين، وتأييداً بذلك لهم على المهتدين، ولكن قللهم في أعينهم لكيلا يروهم بحالة الكثرة؛ مع ما في قلوبهم من هيبة الروعة؛(1) فينهزموا ويذهبوا، ويرجعوا ولا يقاتلوا، فكان ذلك خذلاناً لهم وخزياً عليهم. وقللهم في أعين المؤمنين لكيلا يروهم على الكثرة التي كانوا عليها فيهابوا ويخافوا، فقللهم في أعينهم تأييداً منه لهم، ومعونة وإحساناً إليهم. فأما قوله: {لِيَقْضِيَ اللهُ أَمْراً كَانَ مَفْعُولاً}، فمعناه: ليقضي الله وعداً كان منجزاً، وهو ما وعد رسوله والمؤمنين من النصر إذا نصروه، والتسديد لهم إذا قصدوه.ألا تسمع كيف يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} [محمد: 7]، ويقول: {وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ} [الحج: 40]، فقضى تبارك وتعالى لرسوله وللمؤمنين عند الالتقاء بما وعدهم من النصر، وفعل لهم، ضمن فعاله من الأمر، وتغنيمهم ما وعدهم من إحدى الطائفتين: طائفة الجيش، وطائفة العير، فغنمهم الله طائفة الجيش كما وعدهم من الأمر. وإنْجَازُ ما وعد
__________
(1) في (أ): قلوبهم من الرعب من هيبة الدعوة.

(1/388)


المؤمنين من النصر على الكافرين؛ فهو الأمر الذي ذكر الله أنَّه كان مفعولاً، لا ما يتوهم أهل هذا القول الفاسد المخبول(1).
وأما قوله: {هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ وَأَلَّفَ بَينَ قُلُوبِهِمْ لَو أَنْفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً مَا أَلَّفْتَ بَينَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [الأنفال: 62]، فنصر الله رسوله، كما قال سبحانه: {إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا وَكَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً} [الفتح: 26]، فألف الله على ذلك بين المؤمنين، لا كما ظن الحسن بن محمد وأصحابه أهل العمى، والقول بالردى؛ أن التأليف من الله كان بين الكافرين والمؤمنين في القتال، وأنه ساق بعضهم إلى بعض جبراً حتى ألف بينهم للقتال، وهذا فأحول المحال، تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً. ألا ترون كيف قال: {أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ وَأَلَّفَ بَينَ قُلُوبِهِمْ}، فرد اسم المضمر في الهاء والميم من: {قُلُوبِهِمْ} على الاسم الظاهر من: {الْمُؤْمِنِينَ}، فسبحان أرحم الراحمين وأكرم الأكرمين.
__________
(1) في (ب،ط): المخذول.

(1/389)


وأما ما سأل عنه من قول الله تبارك وتعالى: {وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ} [الأنفال: 7]، وقال: لو لم يخرج المشركون؛ أليس كان يبطل وعد الله لنبيه وللمؤمنين؟ فقولنا في ذلك: أن الله سبحانه وعد نبيه كما قال إحدى الطائفتين: طائفة العير، وطائفة الجيش المستعير، وأن الله لم يجبر الفاسقين على الخروج إلى قتال المؤمنين، بل عن ذلك نهاهم، وإلى طاعته وطاعة رسوله دعاهم، فقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ} [الأنفال: 20]، ونقول: لو أطاعوا الله فيما أمرهم لم يخرجوا لمحاربة الحق ولم ينصبوا.

(1/390)


فأما ما قال من أن ذلك لو كان؛ يبطل(1) وعد الله أهل الإيمان؛ الذي وعدهم من الغنيمة والإحسان؛ فليس ذلك كما قال أهل الجهالة والعمى والضلال، ولكن الله سبحانه علم انهم سيخرجون، وعلى الحق والمحقين سيبغون، فلما أن علم ما يكون من اختيارهم؛ حكم بما علم منهم عليهم (مبشراً لنبيه وللمؤمنين، فقولنا في ذلك إن الله سبحانه وعد رسوله صلى الله عليه وآله، بما سيسوق)(2) من الغنيمة والنصر إليه، ولو علم منهم اختيار المقام لما وعد غنائمهم نبيه صلى الله عليه وآله وسلم(3)، فلما أن خرجوا، وعلى الله ورسوله أجلبوا، خذلهم سبحانه وأخزاهم، وأذلهم وأرداهم، وألقى الرعب في قلوبهم، كما قال سبحانه: {سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً} [آل عمران: 151]، فأرداهم ونصر المؤمنين، وأعز بتأييده الدين وكبت الكافرين، فأبادهم بالسيف قتلاً، وشتت أمرهم وجمعهم هزيمة وأسراً، وأنزل الملائكة المقربين مدداً للمؤمنين، وإعزازاً للحق والمحقين، فزادهم قوة إلى قوتهم، المركبة الثابتة فيهم.
__________
(1) في (ط): البطل.
(2) في (ب) و(ط): وبشر رسوله صلى الله عليه وآله وسلم بما سيسوق.
(3) يعني: أنَّه لو علم منهم اختيار البقاء لما وعد النبي والمومنين غنائمهم، لأنه يكون حينئذ وعداً لا يتحقق.

(1/391)


وأما ما سأل عنه وقال، وتوهم من المحال؛ في قول الله تبارك وتعالى: {فَأَثَابَكُمْ غَمّاً بِغَمٍّ}، وأن ذلك الغم: هو غمهم (يوم حنين) (1) حين أدال الله المشركين على النبي والمؤمنين، فغلط وأخطأ في ذلك، ولم يكن ولله الحمد كذلك، ولم يدل الله الكافرين على المؤمنين، لأن الإدالة هي معونة وتأييد، ونصر وتسديد، ولن يقول(2) مؤمن بالله: إن الله نصر في ذلك اليوم أعداءه على أوليائه، ولا نصر جيش أبي سفيان(3)، على جيش رسول الرحمن، صلى الله عليه وآله وسلم، ولكن الله أراد بالمؤمنين المحنة والبلاء، حتى يعلم الله أهل الصبر والإحتساب والتقى، ألا تسمع كيف قال الله: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُو أَخْبَارَكُمْ} [محمد: 31]، فنصرهم في أول الأمر وأراهم ما يحبون؛ فخالفوا نبيه وعصوه؛ في تنحيهم عن باب الشعب الذي أوقفهم عليه، وأمرهم أن يرموا من صار من المشركين إليه، فلما رأوا الهزيمة على المشركين قد أقبلت، وتيقنوا أنها بهم قد حلت؛ طمعوا فيما يطمع فيه مثلهم من الغنائم، ورجوا أن يكون شدهم على الكفار مع أصحابهم أصلح، وفي الأمر الذين يراودون(4) أنجح، فزلوا وعصوا الرسول فيما أمرهم به من الثبوت على باب الشعب، وكان ثباتهم عليه على المشركين أصعب، فلما أن تنحوا أمكن للكافرين ما أرادوا، فظفروا من المسلمين ببعض ما أحبوا، ثُمَّ لاقوا من بعد ذلك من نصر الله للحق ما كرهوا، فثبت الله من بعد ذلك المؤمنين، وغفر لأهل الخطيئة المذنبين، وأنزل عليهم السكينة، وغشاهم النعاس أمنة منه، كما قال الله سبحانه: {ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيكُمْ مِنْ بَعْدِ الغَمِّ أَمَنَةً نُعَاساً يَغْشَى طَائِفَةً مِنْكُمْ وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ
__________
(1) سقط من (ب)، وفي هامش (أ): يوم أحد وهو الصواب كما تقدم.
(2) في (ط): ولم يقل.
(3) في (ط): اللعين.
(4) في (أ): يرون.

(1/392)


بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَلْ لَنَا مِنَ الأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ}، قال الله سبحانه لنبيه صلى الله عليه وآله: {قُلْ إِنَّ الأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ}، ثُمَّ قال سبحانه لنبيه: {يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ مَا لاَ يُبْدُونَ لَكَ}، ثُمَّ أخبر عما أخفوا، وما من المنكر أَجَنُّوا(1) فقال: {يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الأَمْرِ شَيءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا}. وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وآله حين أتته قريش ونزلوا بأحد، شاور أصحابه فأشاروا عليه بأن يثبت في المدينة، فإن أقاموا أضربهم المقام حتى ينصرفوا، وإن صاروا إلى المدينة فدخلوا ، قاتلهم بها الصغير والكبير والنساء من فوق البيوت، فأراد ذلك رسول الله صلى الله عليه وآله، ثُمَّ أشاروا عليه من بعد بالخروج إليهم، فنهض فلبس لأمته(2) ثُمَّ خرج عليهم، فقالوا: يا رسول الله قد رأينا رأياً، إنا لم نقاتل ببلدنا وبين دورنا أحداً إلاَّ أظهرنا الله عليه، وبلغنا فيه ما نريد، فأقم بنا مكاننا على رأينا الأول، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله، (( كان هذا أولاً، إنَّه ليس لنبي إذا لبس لأمته أن ينزعها حتى يقاتل عدوه ))، فخرج وخرج معه ألف من الناس، فلما فصل من المدينة رجع عنه عبدالله بن أبي سلول ـ رأس المنافقين ـ في ثلثمائة من الفاسقين، ومضى رسول الله صلى الله عليه وآله حتى لقي القوم، فكان من أمرهم ما ذكرنا، ومن حالهم ما شرحنا، فذلك قولهم: {يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الأَمْرِ شَيءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا} يقولون: لو أطاعنا، أو كان الرأي إلينا؛ لكنا قد ثبتنا في بلدنا حتى يدخلوا علينا فنقاتلهم، أو يرجعوا عنا فنتبعهم، فقال سبحانه: {قُلْ إِنَّ الأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ}، أي الأمر أمر نبيه الذي افترض عليكم طاعته، فليس لأحد منكم سبيل إلى مخالفته؛ إلاَّ بالكفر
__________
(1) في (ط): أحيوا.
(2) الَّلأْمة: الدرع والجمع لأْم.

(1/393)


والعصيان؛ للواحد العزيز الرحمن. ثُمَّ أعلاهم من بعد تلك السقطه(1)، وأنزل عليهم الأمنه، ورد إليهم النصر وشد لهم ما ضعفوه من الأمر، وصرف عنهم أعداءهم لم يدركوا(2) كل ما طلبوا وطمعوا به فيهم؛ من القوة والظهور عليهم.
وأما ما ضل فيه من قوله: {قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ القَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ}، فقال: إن الله كتب على الكافرين قتل المؤمنين، وكتب على المؤمنين ظهور الكافرين وقتلهم إياهم، فتوهم أن الكتاب من الله هو حتم وفعل فيهم، وقضاء كائن قضى به عليهم، ولو كان ذلك كما ظن الحسن بن محمد لكان المشركون لله مطيعين، ولأمره وقضائه منفذين، ولم يكن عليهم في ذلك إثم، ولا عند الله جرم، بل كانوا في ذلك مثابين، وعليه غير معاقبين، ولم يكن المؤمنون بمثابين؛ إذ الله فعل بهم ذلك من القتل وقضاه عليهم، فكل في الطاعة له سواء، تبارك عن ذلك العلي الأعلى.
فأما وجه الحق في ذلك، ومعنى قول الله سبحانه: {كُتِبَ عَلَيهِمْ}، فهو علم منهم، لا أنَّه أكرههم ولا قضى عليهم، ولكن علم من يختار الخروج ولقاء الأعداء، ومن يقتل عند التنازل(3) واللقاء. فعلمه وقع على اختيارهم وخروجهم فخروجهم فعلهم لا فعله، وقتلهم فعل الكفار لا قضاؤه، فهم على خروجهم، وقتالهم واجتهادهم مأجورون، وعند الله مستشهدون. والفسقة المشركون على قتلهم معاقبون، وعند الله في الآخرة معذبون، فكل نال بفعله من الله ما أوجبه عليه من الثواب والعقاب. والحمد لله رب الأرباب، والمجازي للخلق يوم الحساب.
__________
(1) تصحفت في (ط) إلى: اليقضه.
(2) في (ب،ط): لأن يدركوا.
(3) التنازل: التصارع والاقتتال.

(1/394)


وأما ماسأل عنه من قول الله سبحانه: {وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَينَ النَّاسِ}، فقال بزعمه، وتوهم بجهله؛ أن الله يديل أهل الكفر والعصيان؛ على أهل الطاعة والإيمان، وأنه أدال يوم أحد المشركين، على النبي ومن كان معه من المؤمنين؛ فليس ذلك كما ذهب إليه، وسنشرح ذلك إن شاء الله تعالى ونرد بالحق قوله عليه.
فنقول: إن الله جل جلاله يديل المؤمنين على الكافرين، ولا يديل الكافرين على المهتدين، وكذلك قال في يوم حنين: {ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الكَرَّةَ عَلَيهِمْ} [الإسراء: 6]، فكان برده الكرة للموحدين؛ هو المديل لهم على الكافرين، ولم يقل في شيء من كتابه وما نزله من آياته؛ إنَّه أدال أهل الشرك والنفاق؛ على أهل الدين والإحقاق.
فأما ما ذكر الله من المداولة بالأيام، بين جميع الأنام، فإن مداولته للأيام هو إتيانه بالليل تارة وتارة بالنهار.
وما(1) يأتي به ويداول بين عباده وأرضه فيهما(2) من الأمطار؛ التي يحيى بها الأرضين، ويعيش بها جميع العالمين، قال سبحانه: {وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكاً فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ*وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَهَا طَلْعٌ نَضِيدٌ* رِزْقاً لِلْعِبَادِ وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً كَذَلِكَ الْخُرُوجُ} [ق: 9ـ 11]، فسقى اليوم قوماً هم إلى السقي محتاجون، وسقى غدا آخرين.
وما يحدث في الأيام من الأرزاق للعباد، وإحياء ما شاء من البلاد.
__________
(1) في (ب،ط): وأما ما يأتي.
(2) في (أ): فيها.

(1/395)


ومن المداولة الأيام(1) بين الأنام ما ينزل بهم من المصائب الهائلات، وما يمن به عليهم من الآلاء والنعم السابغات(2). من ذلك ما يأخذ من الأقارب والآباء، والأخوة والأبناء، وجماعة القربى، وما يهب عز وجل لمن يشاء من الأولاد الذكور، وما يصرف ويدفع من الشرور. فهذه الأشياء كلها التي تكون في لياليه سبحانه وأيامه؛ مداولة منه لا شك بين عباده.
فأما ما يظن الجهال، وأهل التكمه في الضلال؛ من أن معنى هذه الآية هو إدالة الفاسقين؛ على الحق والمحقين، وأنه يمكن في الأرض للفاجرين، ويمهد للفسقة العاصين، بما قد حرم عليهم، ولم يجعله بحمد الله لهم، بل شدده عليهم غاية التشديد، في ترك مشاقة أهل الحق والتسديد، وأمر في ذلك بالاتباع لهم، وترك الخلاف في جميع الأسباب عليهم، (فهذا كذب منهم على رب العالمين، وكيف يجوز أن يديل ويمهد للعاصين)(3)، بل كيف يتوهم علىالرحمن الكريم، الواحد ذي الجلال العظيم؛ أن يكون أدالهم، وأعطاهم ما عنه زجرهم ونهاهم؟ فتبارك ذو السلطان المبين(4)؛ عن مقالة أهل الضلال الجاهلين. والحمد لله رب العالمين وصلى الله على محمد وآله وسلم. تم جواب مسألته.
المسألة السابعة عشرة:
عن الإذن بالمعصية، هل يكون من الله أم لا يكون؟
ثم أتبع ذلك الحسن بن محمد المسألة عن قول اللّه عز وجل: {وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ} [آل عمران: 166]؛ فقال: خبرونا عن الإذن وإنكاركم أن يكون الله أذن في المعاصي.
__________
(1) في (ط،ب): وبالمداولة بالأيام.
(2) أسبغ الله عليه النعمة: أوسعها وأتمها.
(3) ما بين القوسين سقط من (ب)، وفي (أ): وقع بعد قوله: للفسقة العاصين، وبعده: بل كيف.
(4) في (أ): المتين.

(1/396)


فقل: الإذن من اللّه على وجهين: فإذنٌ إذنٌ فيه أمر يأمر به، وإذن إذنٌ فيه إرادة منه أن يكون لما يشاء من أمره، وما كان من معصية فلا تكون إلا بإذنه، (وكذلك أظنه)(1)، وذلك(2) إرادة منه، فإن قالوا: نعم؛ فقد أقروا بنفاذ أمره وإرادته، وإن جحدوا وأنكروا، فإن الله قد كذبهم في كتابه؛ فقال للمؤمنين: {وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ}، يعني بذلك ما أصابهم من القتل والهزيمة، وإنما كان ذلك تأييداً للكافرين، فقد أذن الله للكافرين أن ينالوهم بما أصابوهم من القتل والجراح والهزيمة، فإن زعموا أن إذن الله أمره؛ فقد زعموا أن الله أمر بالمعاصي، وأمر المشركين أن يقتلوا المؤمنين، وكل مأمور إذا فعل ما أمر به فهو مطيع وله عليه أجر، والكتاب يكذبهم. وإن زعموا أن إذنه(3) على وجهين: على وجه الأمر، والآخر على وجه الإرادة، فقد أقروا بالحق، وفي ذلك نقض لقولهم ورد عليهم، فقد زعموا أن الله يريد أن يكون ما لا يأمر به ولا يرضاه. تمت مسألته.
جوابها
__________
(1) ليس في (ا)، ويظهر أنَّه لا معنى له.
(2) في (أ): وكذلك.
(3) في (ط): إرادته.

(1/397)


وأما ما قال، وعنه بجهالته سأل، من قول اللّه تبارك وتعالى: {وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ}، فقال: إن ذلك عنده من اللّه إذن للكافرين؛ فيما نالوه من الرسول والمؤمنين؛ في يوم أحد من القتل، وما نالوا به حمزة رحمه اللّه من المثل، وما نالوا به الرسول صلى الله عليه وآله من الجراح، وما اجترأوا علىالله فيه وعليه؛ من هشم وجنته، وكسر رباعيته. فكيف يتوهم من كان له عقل، أو فهم يبين به عن الجهل؛ أن الله أذن لأعدائه(1)، في فعل ذلك بأوليائه؟ كذب من ظن ذلك وقال على الله بهتاناً وزوراً، وكانوا عنده سبحانه قوماً بورا. وكيف يأذن للفاسقين في القتل والسواية المؤمنين؛ وهم الخيرة عنده من عباده أجمعين؟ بل الإذن منه للمؤمنين في قتل المشركين وقتالهم؛ حتى يسلموا أو يفيئوا عن جهلهم وضلالهم، ألا تسمع كيف يقول سبحانه للمؤمنين: {فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الوَثَاقَ فَإِمَّا مَنّاً بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا} [محمد: 4]، ويقول: {قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الكُفَّارِ وَلِيَجِدُوا فِيْكُمْ غِلْظَةً} [التوبة: 123]، ويقول سبحانه: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} [التوبة: 5]؛ ففي كل ذلك يأمر المهتدين؛ بقتال الضالين المضلين، وبقتل المحادين المشركين.
__________
(1) في (أ): للكافرين.

(1/398)


فهل سمع الحسن بن محمد بشيء من كتاب الله سبحانه وأمره، وإذنه للمؤمنين وزجره؛ أمراً منه للكافرين بقتال المؤمنين، أو حضاً لهم على المسلمين؟ بل في كل كتابه يأمر بقتال الكافرين، ويحض على محاربة الفاسقين. من ذلك قوله: {قَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَآفَّةً} [التوبة: 36]، وقال ترغيباً في قتال الناكثين، وتفضيلاً للمؤمنين المجاهدين على جميع العالمين: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقّاً فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ وَالقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الفَوْزُ العَظِيمُ} [التوبة: 11]. فدل بما جعل لهم من الجزاء، وأعد لهم على ذلك من كريم العطاء، أن ذلك من فعلهم له رضى.
ثُمَّ قال فيمن تعدى على المؤمنين، وخالف فيهم حكم رب العالمين: {إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ} [البروج: 10]، فأخبر أنَّهم على ذلك عنده معذبون، فدل ذلك من فعل العدل الرحيم؛ على أنهم كانوا له مخالفين، وفي تعديهم وفتنهم(1) له عاصين، وعلى فعلهم ـ لا فعله ـ أوجب عليهم العذاب، ولو كان أذن لهم في ذلك لأجزل لهم عليه الثواب. فسبحان الرؤوف الجواد، البريء من أفعال العباد، المتعالي عن اتخاذ الصواحب والأولاد، المتقدس عن الإذن بالفساد.
فليعلم من سمع قولنا من العالم أن الإذن من الله على معنيين:
__________
(1) في (ط): وقتلهم.

(1/399)


فأما أحدهما: فإذن أمر وإرادة، وحكم ومشيئة. وذلك قوله سبحانه: {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ} [إبراهيم: 7]، فهذا معناه معنى حكم بالزيادة للشاكرين، وبالعذاب للكافرين. وكذلك قوله: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ} [الحج: 39].
وأما المعنى الآخر: فإذن تخلية وإمهال(1) للعصاة فيما يكون منهم من العصيان؛ فعلى ذلك يخرج معنى قول الله سبحانه: {وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ}، يعنى تعالى بتخلية الله لهم.
وكذلك قال سبحانه في هاروت وماروت ومن يتعلم منهما: {وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ} [البقرة: 102]، يريد سبحانه بتخلية الله لهم؛ لإثبات الحجة عليهم، إذ قد مكنهم من العمل والفعل، ثُمَّ أمرهم بتقواهم، وبصرهم غيهم وهداهم، وعن تعليم السحر وتعلمه نهاهم، فإن ائتمروا، وتعليمَ السحر وتعلمَه تركوا؛ أنيلوا الثواب، وإن أبوا، وما نهوا عنه تخيروا؛ وجب عليهم بفعلهم العقاب، وحرموا بذلك من الله الثواب. تم جواب مسألته.
المسألة الثامنة عشرة: عن التزيين بالإرادة لا بالأمر
__________
(1) في (ب): وإهمال، ومعناه: تركهم.

(1/400)


ثُمَّ أتبع ذلك المسألة عن التزيين؛ فقال: خبرونا عن التزيين بالإرادة دون الأمر، فإن أنكروا أن الله يزين لعباده دون أن يكون أمراً منه؛ فقد رد الله عليهم قولهم؛ فقال في الأنعام: {وَلاَ تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ} [الأنعام: 108]، وقال في حم السجده: {وَقَيَّضْنَا لَهُمْ قُرَنَاءَ فَزَيَّنُوا لَهُمْ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ} [فصلت: 25]. وقال في النمل: {إِنَّ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآَخِرَةِ زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمَالَهُمْ فَهُمْ يَعْمَهُونَ} [النمل: 4]. هذا كله تزيين إرادة؟ أو ليس إرادة؟. تمت مسألته.
جوابها
وأما ما سأل عنه وقال، وتوهم من زور المقال(1)؛ من أن الله تباركت أسماؤه، وعز بكريم ولايته أولياؤه؛ زين للكافرين أعمالهم تزييناً، وحسنها في قلوبهم تحسينا، وأنه أراد بذلك منهم إقامتهم فيها، ومثابرتهم عليها، جل الله عن ذلك، وتقدس عن أن يكون كذلك. واحتج في مقاله، وفيما ارتكب من ضلاله، بقول الله سبحانه:{وَلاَ تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُوْنَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ}، فصدق الله تبارك وتعالى فيما قال، وتقدس ذو الجبروت والجلال.
__________
(1) في (ب): المحال.

(1/401)


فأما قوله تبارك وتعالى: {وَلاَ تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ}؛ فإن هذه الآية نزلت في أبي جهل بن هشام المخزومي لعنه الله، وذلك أنَّه لقي أبا طالب عم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؛ فقال: يا أبا طالب، إن ابن أخيك يشتم(1) آلهتنا، ويقع في أدياننا، واللات والعزى لئن لم يكف عن شتمه آلهتنا لنشتمن إلهه، فأنزل الله في ذلك ما ذكر في أول هذه الآية، تأديباً للمؤمنين، فأمرهم بالكف عن شتم أصنام المشركين، لكيلا يجترئوا بغير علم على شتم رب العالمين.
__________
(1) في (ب):يسب.

(1/402)


وأما ما احتج به الحسن بن محمد في الآيات المنزلات: آية النمل، وآية الأنعام، وآية حم السجدة، وما ذكر فيهن ذو الجلال والإكرام، من قوله: {زَيَّنَّا}، و{قَيَّضْنَا}، فإن ذلك من الله هو الإمهال، وترك المغافصة لهم بقطع الآجال، وما كان في ذلك منه لأهل الجهل من التبري منهم، والخذل منه سبحانه لمن عشا عن ذكر ربه منهم، فلما أن أمهلوا، وعلى ماهم عليه من الشرك والكفر تركوا، وبالعقوبات لم يعاجلوا، وأملي لهم ليرجعوا فتمادوا ولم ينيبوا، ورأوا من إمهال الله وتأخيره لهم، وصرف ما عاجل به غيرهم؛ من القرون الماضية، والأمم الخالية، من ثمود وعاد، وفرعون ذي الأوتاد، وقوم نوح وقوم لوط، وأصحاب الرس والأيكة، وقوم تبع والمؤتفكة، وغير ذلك من القرون المهلكة، فزادهم تأخير ذلك عنهم اجتراء وتكذيباً، ومجانة وافتراء وتزييناً(1)، بصرف ذلك عنهم [مع] (2) ما هم عليه من أعمالهم، وفاحش قولهم وأفعالهم. فكان إملاء الله لهم وتركهم ليرجعوا أو لتثبت الحجة عليهم، وتنقطع المعذرة إليهم؛ هو الذين أطمعهم، وزين عملهم لهم، فجاز أن يقول: (زينا لهم)؛ إذ قد تفضلنا وأمهلنا، وأحسنا في التأني بكم ورحمنا. وكذلك تقول العرب لعبيدها، يقول الرجل لمملوكه، إذا تركه من العقوبة على ذنب من بعد ذنب وتأني به، وعفى عنه وصفح؛ ليرجع ويصلح؛ فتمادى في العصيان، ولم يشكر من سيده الإحسان؛ فيقول له سيده: أنا زينت لك، وأطمعتك فيما أنت فيه إذ تركتك وتأنيت بك، ولم أؤاخذك ولم أعاجلك.
فهذا على مجاز الكلام، المعروف عند أهل الفصاحة والتمام.
__________
(1) في (ط): وترتيباً.
(2) زيادة ليستقيم المعنى.

(1/403)


وأما الآية التي في حم السجدة فكذلك، ألله أوجد القرناء وخلقهم، ولم يجمع بينهم وبين من أطاعهم، ولم يأمرهم بطاعتهم ولا اتباعهم، بل حضهم على مخالفتهم، وأخبر بعداوتهم، ونهاهم عن اتباع الهوى؛ فقال: ({وَلاَ تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ} [الكهف: 28] وقال)(1): {وَلاَ تُطِعْ كُلَّ حَلاَّفٍ مَهِينٍ هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ} [القلم: 10]. وقال فيمن يأمر ويوسوس بالسوء من الشياطين: {إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوّاً} [فاطر: 6]، فبين كل ما افترض وأمر به، فلم يترك لذي علة قبله متعلقاً، فكان تقييضه(2) لهم ما ذكر من القرناء؛ هو تخليته لهم وتبريه منهم، وترك الدفع لنوازل الأسواء عنهم، وذلك فيما تقدم منهم من الكفر بربهم والشرك بخالقهم. تم جواب مسألته.
وبتمامها تم الجزء الأول. والحمد لله كثيراً وصلواته على خير خلقه محمد النبي وآله الطيبين وسلامه، وحسبنا الله وحده وكفى. ويتلوه الجزء الثاني من مسائل الحسن بن محمد بن الحنفية في تثبيت الجبر والتشبيه، ورد الهادي إلى الحق يحيى بن الحسين بن القاسم بن إبراهيم، عليه السلام، في نفي ذلك عن الله سبحانه، وإثبات العدل والتوحيد وتصديق الوعد والوعيد.
الجزء الثاني
من مسائل محمد بن الحسن بن الحنفية
المسألة التاسعة عشرة: عن الجعل بالإرادة لا بالأمر
__________
(1) سقط من (ب).
(2) في (ط): نقيضه وهو تصحيف.

(1/404)


ثُمَّ أتبع ذلك المسألة عن قول الله سبحانه: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ} [الكهف: 57]، إلى آخر الآية، فقال: أخبرونا عن الجعل بالإرادة دون الأمر، فإن أنكروا، فأخبرهم أن الله يقول: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ إِنَّا جَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْراً وَإِنْ تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدَى فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذاً أَبَداً} [الكهف: 57]، وقال سبحانه: {عَسَى اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عَادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً وَاللَّهُ قَدِيرٌ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [الممتحنة: 7]. في آيات كثيرة من الكتاب؛ فيقال لهم: ما ذلك الذي جعل الله وهو كائن كما جعل؟ فإن قالوا: إنَّما ذلك الدعاء، فقل: إن الدعاء قبل ذلك، فقد دعا العابد جميعاً، وهذا شيء قد خص به من يشاء من خلقه ولم يعمهم، لأنَّه إنَّما يهتدي من جعل الله في قلبه الهدى، ولم يعمهم بالهدى. فإن قالوا: قد نعلم أن الله قد جعل الناس كلهم مهتدين، ولا نقول إن الله قد جعلهم كفاراً، فقل: إن الله يرد عليكم قولكم في كتابه، فإنه قد قال: {قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ القِرَدَةَ وَالخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوت أُوْلَئِكَ شَرٌّ مَكَاناً وَأَضَلُّ عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ} [المائدة: 60]. ألا ترى أن الله قد جعل منهم القردة والخنازير [وعبد الطاغوت](1)؟ فإن زعموا أن الله إنَّما سماهم بذلك ونسبهم إليه، فقل: فلذلك لم يجعلهم قردة وخنازير وإنما سماهم ونسبهم إليه. (2)
__________
(1) زيادة ليستقيم المعنى.
(2) كذا في (أ)، والصواب فكذلك. والمعنى: إن زعموا أن جَعْلَهم عبد الطاغوت إنما هو جعل الحكم والتسمية، فكذلك جعلهم قردة وخنازير، وهم لا يقولون بذلك فيه، فكذلك فيما عطف عليه، هذا ما أراده، والله أعلم.

(1/405)


وإن أقروا أن الله جعلهم عبدة الطاغوت فذلك نقض لقولهم، وإن قالوا: إن الله لم يجعلهم عبدة الطاغوت، كان ذلك تكذيباً منهم، فقل: فإن الله قد قال أيضاً: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا لِيَمْكُرُوا فِيهَا وَمَا يَمْكُرُونَ إِلاَّ بِأَنْفُسِهِمْ وَمَا يَشْعُرُونَ}[الأنعام: 123]، ألا يرون أن الله يخبر أنَّه قد جعل في كل قرية أكابر مجرميها ليمكروا فيها؟ فإن قالوا: إنَّه لم يجعلهم فيها ليمكروا فيها؛ كان ذلك تكذيباً منهم، وإن أقروا كان ذلك نقضاً لقولهم.
وقد قال الله لقوم فرعون: {وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَيَوْمَ القِيَامَةِ لاَ يُنْصَرُونَ} [القصص: 41]، فإن قالوا: نعم؛ كان ذلك نقضاً لقولهم، وإن قالوا: لا، فقد كذبوا والله يقول: {وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَناً وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الأَنْعَامِ بُيُوتاً تَسْتَخِفُّونَهَا يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقَامَتِكُمْ وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا أَثَاثاً وَمَتَاعاً إِلَى حِينٍ * وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِمَّا خَلَقَ ظِلاَلاً وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبَالِ أَكْنَاناً وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرَابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ} [النحل: 80 ـ 81]، ألا ترى أن الناس هم غزلوا ونسجوا، وعملوا الدروع، واتخذوا المساكن والبيوت، ثُمَّ نسب ذلك منه وإليه، وأخبر أنَّه خلقه؛ فمن به عليهم، وذلك أنَّه أراده فكان ما أراد، ولم يأمر به. تمت مسألته.
جوابها
وأما ما سأل عنه من قول الله عز وجل: {إِنَّا جَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آَذَانِهِمْ وَقْراً وَإِنْ تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدَى فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذاً أَبَداً} [الكهف: 57].

(1/406)


فتوهم وظن فقال: إن الله جعل على قلوبهم أكنة حتى لا يفقهوه(1) وفي آذانهم وقراً، وأن ذلك من الله فعل بهم ليشقيهم، وليس ذلك لعمره كذلك، ولو كان الله عز وجل الذي حجب قلوبهم وآذانهم عن ذلك؛ لم يبعث الرسل إليهم، ولم يحتج ببرهانه(2) عليهم، وكانوا عنده في تركهم لذلك معذورين، وكانوا على ذلك مثابين؛ إذ هم لما أرسل إليهم به غير مستطيعين، وقد قال الله سبحانه: {لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا} [البقرة: 223ـ286]، وقال: {لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ مَا آتَاهَا} [الطلاق: 7]. فكيف يكلفهم الإئتمار(3)؛ وقد حجب قلوبهم عن الاعتبار؟!، فتبارك الله العزيز الجبار.
بل معنى قوله ـ جل جلاله ـ ذلك؛ هو انكار عليهم لقولهم الذي قالوا، حين دعاهم الرسول إلى الحق، وبين ما هم عليه من الباطل والفسق؛ فقالوا له استهزاء وعبثاً(4): {قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ فَاعْمَلْ إِنَّنَا عَامِلُونَ} [فصلت: 5]، فقال الله سبحانه لنبيه صلى الله عليه وآله يحكي قولهم، ويرد كذبهم عليهم؛ فقال: {إِنَّا جَعَلْنَا}، يريد سبحانه: إنا جعلنا على قلوبهم أكنة كما قالوا، وفي آذانهم وقراً كما ذكروا، بل الزور في ذلك قالوا، وبالباطل تكلموا، فأراد بذلك معنى الإنكار عليهم، والتكذيب لهم والتقريع بكذبهم، وتوقيف نبيه صلى الله عليه وآله على باطل قولهم، وجليل ما أتوا به من محالهم؛ فقال: (( إنا ))، وهو يرد (( أئنا(5) )))، فطرح الألف استخفافاً لها، والقرآن فعربي، إلى النور والحق يهدي.
__________
(1) في (أ): لا يفهموا، وفي (ب):لا يفقهوا.
(2) في (أ): ببراهينه.
(3) في (ط): الإيمان.
(4) في (أ): وعتيا، وفي (ب): وعيباً.
(5) تصحفت في (ط): إننا.

(1/407)


والعرب تطرح الألف من كلامها(1) وهي تريدها، فيخرج لفظ الكلام لفظ إخبار ونفي، وهو تقريع وإيجاب واستفهام. وتثبتها وهي لا تريدها؛ فيخرج لفظ شك، ومعناه معنى خبر وإيجاب، في كل ما جاءت به من الأسباب. من ذلك قول الله (سبحانه: {لاَ أُقْسِمُ بِيَوْمِ القِيَامَةِ} [القيامة:1]، وقوله)(2):{لاَ أُقْسِمُ بِهَذَا البَلَدِ * وَأَنْتَ حِلٌّ بِهَذَا البَلَدِ} [البلد: 1ـ2]، فقال: لا أقسم؛ وإنما أراد: ألا أقسم؛ فطرح الألف منها؛ فخرج لفظها لفظ نفي، وهي قسم وإيجاب. وقال في عبده ونبيه يونس صلى الله عليه: {وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ} [الصافات: 147]، فقال: أو يزيدون، فأثبت الألف وهو لا يريدها؛ فخرج لفظ الكلام لفظ شك، ومعناه معنى إيجاب وخبر، أراد سبحانه: وأرسلناه إلى مائة ألف ويزيدون على مائة ألف.
__________
(1) في (ط): كلاهما، وهو تصحيف.
(2) سقط من (ب) و(ط).

(1/408)


فأراد بقوله: {إِنَّا جَعَلْنَا}؛ التقريع لهم، والتوقيف لنبيه على كذبهم، لا ما يقول الجاهلون إنَّه أخبر عن فعله بهم. ألا ترى كيف يدل آخر الآية على أولها؛ من قوله: {وَإِنْ تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدَى فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذاً أَبَداً}، يقول: فإن كان الأمر على ما يقولون، وكنا قد فعلنا بهم ما قد يذكرون؛ فلم أرسلناك تدعوهم إلى الهدى، وتزحزحهم عن الردى، (فلن يهتدوا إذاً أبداً، فقال: (( إذاً أبداً ))، إن كان الأمر على ما يقولون، وكنا قد فعلنا بهم ما يذكرون؛ فلم أرسلناك تدعوهم إلى الهدى، وتزجرهم عن الردى) (1)وهم لو كانوا كذلك، وكنا فعلنا بهم شيئاً من ذلك؛ ثُمَّ دعوتهم إلى الهدى (2)، لم يطيقوا أن يهتدوا إذاً أبداً. ألا تسمع قوله: {وَإِنْ تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدَى فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذاً أَبَداً}، (فقال: إذاً) (3) يريد إن كان ما يقولون علينا ـ مما ذكروا أنَّه على أبصارهم وأسماعهم وقلوبهم ـ فعلاً منا بهم؛ فلن يهتدوا إذاً أبداً؛ إذ كنا منعناهم بذلك عن الاهتداء، فكيف نرسلك إلى من لا يستطيع أن يهتدي، ولا يفلح ولا يقتدي؟ فهذا ما لا نفعله بك ولا بهم، ولا نجيزه فيك ولا فيهم، ولا نراه حسنا من فاعل لو فعله من البشر.
وقد يمكن أن يكون الجعل من الله عز وجل للأكنة والوقر الذي ذكر؛ هو الخذلان لهم وتركهم من التوفيق والتسديد، فلما تركوا من عون الله وتسديده تكمهوا، وغووا وهلكوا، ومالت قلوبهم في أكنة الهوى؛ فأعقبهم ذلك شقاء ووقراً. والوقر هاهنا هو ترك الاستماع للحق، وما يركبون من الفسق.
__________
(1) زيادة من (أ)، ويظهر أنه تكرير.
(2) في (ط): الهداية.
(3) سقط من (أ) و(ب).

(1/409)


وأما ما قال، وعنه سأل؛ من قول الله عز وجل: {عَسَى اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَينَ الَّذِينَ عَادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً وَاللَّهُ قَدِيرٌ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [الممتحنة: 7]، فتوهم أن الله جعل فيهم مودة قسرهم عليها، وأدخلهم جبراً فيها، وليس ذلك بحمدالله كذلك.
وتفسير هذه الآية فهو يخرج على معنيين، وكلاهما شاف، ومن التطويل كاف:
فأولهما: ما جعل الله للمؤمنين من الإذن، وأطلق لهم من البر والإقساط والإحسان؛ إلى من كان على غير الإيمان؛ من المشركين الذين لم يقاتلوهم(1)، ولم يخرجوهم من ديارهم، ولم يظاهروا على إخراجهم؛ فقال: {عَسَى اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَينَ الَّذِينَ عَادَيتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً}. ثُمَّ قال: {لاَ يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} [الممتحنة: 8].
فكان ما أطلق لهم من البر والإقساط؛ أول الرحمة منه لهم، وجعل المودة بينهم؛ إذ قد أطلق لهم من الفعل ما يجتلب المودَّة، ويزرع المحبة؛ من اللطف والبر؛ في العلانية والسر. فلما أن تبَارُّوا(2) وتنافعوا؛ جرت المحبة والمودة للمؤمنين في قلوب الكافرين؛ لما ينفعونهم به، ويحسنون إليهم فيه(3). فكان الإذن من الله عز وجل للمؤمنين، بما يجتلب المودة في الإقساط إلى الكافرين؛ أفضل المنة منه على المحسنين.
__________
(1) في (ط): يقاتلوا.
(2) يعني تبادلوا فعل البر فيما بينهم، ونفع بعضهم بعضاً.
(3) في (أ): لما يرفقوا بهم، ويحسنوا إليهم فيه.

(1/410)


وقد تكون تلك المودة(1) هي ما في الإيمان من البركة واليمن، وما جعل الله بين المؤمنين من المحبة، وافترض عليهم من التواد على الدين، وحكم به من الأخوة بين المؤمنين؛ حين يقول: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [الحجرات: 10]. فكان كل من دخل فيما أمر بالدخول فيه من الإيمان إذا دخل، وإلى الله سبحانه أقبل؛ سدده الله سبحانه ووفقه، وحببه إليه من بعد إقباله إليه، وبغض إليه الكفران، كما قال الله الرحمن: {وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيْكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيكُمُ الإِيْمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيكُمُ الكُفْرَ وَالفُسُوقَ وَالعِصْيَانَ أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ} [الحجرات: 7]، فكان كل من دخل في الإسلام، من جميع الأنام؛ أخرجته بركة الإيمان من الحقد، والدغل والحسد؛ حتى يعود إلى المؤاخاة على الحق، والقول في ذلك على الله بالصدق. فهذا ما لا ينكره ذو عقل وتمييز. ألا تسمع كيف حكى الله عز وجل ذلك عنهم، وذكر لك قولهم؛ حين كانوا يدخلون في الدين، ويتابعون المسلمين على اليقين، حين يقول: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيْمَانِ وَلاَ تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاًّ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ} [الحشر: 10]. فلما أن دخلوا في الإيمان؛ صاروا عليه وفيه نعم الأخوان متحابين، متواصلين متواخين، يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، فكانوا كما قال الله جل جلاله: {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاَةَ وَآَتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ
__________
(1) هذا هو المعنى الثاني.

(1/411)


عَاقِبَةُ الأُمُورِ} [الحج: 41].
وأما ما نسب الحسن بن محمد إلى الله جل ثناؤه من فاحش المقال، فزعم أن الله جعل عبدة الطاغوت للطاغوت عابدين، وفيما أسخطه من ذلك أدخلهم مجبورين، واحتج بما لم يعلم معناه؛ من تفسير القرآن ومنزل الفرقان، الذي لا يعلم تأويله إلاَّ الله والراسخون في العلم؛ فقال: قال الله في ذلك: {قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ القِرَدَةَ وَالخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ أُوْلَئِكَ شَرٌّ مَكَاناً وَأَضَلُّ عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ} [المائدة: 60]. فقال الحسن بن محمد: ألا ترى أنَّه قد جعل منهم القرة والخنازير وعبد الطاغوت؟، وقال: إن أنكروا أن الله جعل منهم القردة والخنازير وعبدة الطاغوت؛ فقد كذبوا الله، وإن أقروا فقد رجعوا عن قولهم.
ولم يا ويحه وويله! ـ إن لم يتب ـ من الله وغوله(1)؟!!، ألا تسمع كيف فرق الله عز وجل بين فعله وفعل عبيده؟ ألا ترى أن مسخه لمن مسخ لم يكن لهم فيه فعل، بل نزل بهم وهم له كارهون، وحل بهم وهم عليه مكرهون، وأن عبادة الطاغوت كانت فيهم، وأنها بلا شك مقالتهم؟، فبَيْنَ ما دخلوا فيه طائعين وله متخيرين، وبين ما فعل بهم مجبورين وبه معاقبين؛ فرق عند ذي العلم؛ من أهل المعرفة والحكم.
فنقول في ذلك: إن الله لم يأخذهم ولم يجعل منهم ما جعل من القردة والخنازير، ومسخ منهم من مسخ من المذنبين؛ إلاَّ بعد الإعذار والإنذار، مراراً بعد مرار، فلما أبوا، وعموا عن أمره سبحانه وخالفوا؛ أخذوا بذنوبهم، فلم يجدوا من دون الله ولياً ولا نصيراً.
__________
(1) الغول والاغتيال الأخذ على غرة.

(1/412)


وأما قوله: {وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ}، فإن ذلك مردود على أول الآية، وهو مقدم في المعنى، وكثير مثل ذلك على ما يكون على التقديم والتأخير، يعلمه من عباده العالم الخبير، فمعناه: أُنبئكم بشر من ذلك مثوبة عند الله من لعنه الله وغضب عليه وعبد الطاغوت، وجعل منهم القردة والخنازير، أراد أن من عبدالطاغوت فهو شر من ذلك، فهذا موضع ما ظن من {عَبَدَ الطَّاغُوتَ}. ألا ترى كيف أهلك من كان كذلك؟ ومن اجترأ من الخلق كاجتراء أولئك؟.
وكذلك قولنا فيما توهم وذهب إليه، فأهلك وهلك ولله الحمد فيه، فقال: إن الله جعل في المجرمين ذلك، وابتلاهم به وحملهم عليه، ثُمَّ احتج في ذلك من قول الله عز وجل بما عليه لا له، فقال: قد قال الله فيما قلنا وبه تكلمنا: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا لِيَمْكُرُوا فِيهَا وَمَا يَمْكُرُونَ إِلاَّ بأَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ}، فقال: ألا ترون أن الله قد جعل في كل قرية أكابر مجرميها ليمكروا فيها، فقد جعلهم مكارين(1)، وقضى به عليهم، وركبه فيهم.
__________
(1) في (أ):ماكرين.

(1/413)


فقولنا في ذلك، أن جعل الله لهم؛ هو خلقه لهم، وتصويرهم في كل قرية كما صور غيرهم. وأما قوله: (( ليمكروا ))، فإنما أراد الله سبحانه لأن لا يمكروا، فطرح (لا) وهو يريدها استخفافاً لها، والقرآن عربي بلسان العرب نزل، وهذا تفعله العرب(1)، تطرح لا وهي تريدها، وتأتي بها وهي لا تريدها، فيخرج اللفظ بخلاف المعنى، يخرج اللفظ لفظ نفي وهو إيجاب، ويخرج لفظ إيجاب وهو معنى نفي، قال الله عز وجل: {لِئَلاَّ يَعْلَمَ أَهْلُ الكِتَابِ أَنْ لاَ يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَأَنَّ الفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الفَضْلِ العَظِيمِ} [الحديد: 29]، فقال: {لِئَلاَّ} فخرج لفظها لفظ نفي، ومعناها معنى إيجاب، فأتى بـ(لا) وهو لا يريدها، وإنما معناها: ليعلم أهل الكتاب. وقال: {إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْماً وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ} [آل عمران: 178]، فخرج اللفظ لفظ إيجاب ومعناها نفي، يريد سبحانه: لئلا يزدادوا إثماً.
وقال الشاعر:
ما زال ذو الخيرات لا يقول ويصدق القول ولا يحول(2)
فقال: لا يقول، وإنما يريد:يقول، فأدخلها وهو لا يريدها، ووصل بها كلامه ليتم له بيته استخفافاً لها، وقال آخر:
بيوم جدود لا فضحتم أباكم… وحاربتم(3) والخيل تدمى شكيمها
فقال: لا فضحتم أباكم، وإنما يريد: فضحتم، فأدخلها وهو لا يريدها.
وقال آخر:
نزلتم منزل الأضياف منا… فعجلنا القرى أن تشتمونا(4)
فقال: أن تشتمونا، فخرج لفظها لفظ إيجاب في قوله: أن تشتمونا، ومعناها معنى نفي، أراد: لأن لا تشتمونا.
__________
(1) في (أ): وهذا فهو لغة العرب.
(2) لم أقف على قائل هذا البيت.
(3) في (أ): وسالمتم.
(4) البيت لعمرو بن كلثوم من معلقته الشهيره.

(1/414)


وأما ما قال وذكر، واحتج به مما لا يعرفه وسطر، فقال: قال الله في قوم فرعون: {وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَيَوْمَ القِيَامَةِ لاَ يُنْصَرُونَ} وادعى على الله سبحانه أنَّه جعل من كان كذلك منهم كافراً، ومن كان منهم كافراً فاجراً، وأنه طبعهم على ذلك، وفيه ركبهم وخلقهم. وليس ذلك، والحمدلله على ما ذكر، ولا على ما قال وخبر. وهذا يخرج من الله على معنيين عدلين محققين:
أحدهما: أن يكون جعله لهم؛ هو ما أوجده منهم، وخلقه من أجسامهم، لا ما ذهب إليه من فعل أفعالهم.
والمعنى الآخر: أن يكون ذو الجلال والإكرام حكم عليهم بما يكون منهم من أعمالهم، ودعائهم إلى خلاف طاعته؛ من الكفر به والصد عن سبيله، وما كانوا يفعلون ويجترئون به على الله، فكانت حال من يطيعهم على كفرهم، ويشركهم في فعلهم، ويدعوهم إلى غيهم، عند الله كحالهم، فلما أن دعوا إلى ما يقرب إلى النار؛ مما كان يفعله الفجار؛ كانوا أئمة يدعون إلى الجحيم، فحكم عليهم بفعلهم العليم، ودعاهم وسماهم به الرحمن الرحيم، فكان دعاوه إياهم بذلك من فعلهم، وتسميته لهم بما دعوا إليه إخوانهم من النار؛ جعلا في مجاز كلام العرب، كما يجوز أن يقال لمن قال لصاحبه: يا حمار: جعلته ويحك حماراً، وإنما يريد بذلك سميته لا خلقته. وكذلك إذا دعاه بالضلال؛ قيل: جعلته ضالاً، إذ قد سميته به.

(1/415)


فأما ما قال وتوهم أنَّه إذا خرج في اللفظ شيء كان كذلك في المعنى، فقال: وقد قال الله سبحانه: {وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَناً وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الأَنْعَامِ بُيُوتاً تَسْتَخِفُّونَهَا يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقَامَتِكُمْ وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا أَثَاثاً وَمَتَاعاً إِلَى حِينٍ*وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِمَّا خَلَقَ ظِلاَلاً وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبَالِ أَكْنَاناً وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرَابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ}، فتوهم الحسن بن محمد على الله تبارك وتعالى أنَّه الفاعل لكل ذلك، وليس ذلك والحمدلله كذلك. وسنفسره إن شاء الله ونبينه، وبالحق نميزه. فنقول: إن معنى قوله جل جلاله: {جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَناً}، هو كما قال سبحانه، هو الذي خلق الخشب والحجر، والماء والمدر، هو دلهم على ذلك، وهم بنوا(1) وعملوا المساكن، وكل ما صنعوه من الأماكن، وهو جعل وخلق الأنعام وجلودها، وهم عملوها بيوتاً، ولو لم يخلق الجلود لم يقدروا على عمل ما ذكر من البيوت، وكذلك لو لم يخلق الحجر، والخشب والمدر؛ لم يبنوا بيوتاً يسكنونها، ولا دوراً يأوونها. وكذلك السرابيل التي تقي الحر وقت الحر، وتقي القر وقت القر. وكذلك سرابيل البأس(2)، التي تقي وتحرز من الناس(3)؛ فالله عز وجل أوجد حديدها، ودلهم على عملها، وهم تولوا(4) فعلها وسردها(5) وتأليفها ونسجها.
__________
(1) في (ط) تصحفت إلى: لبوا.
(2) في (ب) و(ب): اللباس، وهو خطأ.
(3) في (ب) (ج): البأس.
(4) في (ط): يتولون.
(5) في (أ،ب): وسمرها. وسرد الدرع ونسجها: تداخل الحلق بعضها في بعض.

(1/416)


وأما ما ذكر من قول الله جل ثناؤه: {وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِمَّا خَلَقَ ظِلاَلاً وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبَالِ أَكْنَاناً}؛ فكذلك فعل عز وجل، فهو المتولي لذلك لم يفعله غيره، وهو جاعله، فجعل من الأكنان؛ وقاء أوقى من البنيان، وجعل من الظلال؛ لما خلق من الأشجار وغيرها من الجبال؛ ما تبين فيه القدرة والمنة لذي الجلال. فما كان من فعل العباد؛ فخلاف أفعال(1) ذي المنة والأياد، وما كان من فعل الرحمن، فخلاف فعل الإنسان، لا كما قال المتكمهون الجهال: الله سبحانه والعبد سواء في الأفعال، كذب المبطلون. تم جواب مسألته.
المسألة العشرون: الإغراء بالإرادة لا بالأمر
ثُمَّ أتبع ذلك الحسن بن محمد المسألة؛ فقال: خبرونا عن الإغراء بالارادة دون الأمر، فإن الله يقول: {وَمِنَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُوا حَظّاً مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ العَدَاوَةَ وَالبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ القِيَامَةِ} [المائدة: 14]، فسلهم: هل كان هؤلاء يستطيعون(2) أن يخرجوا مما صنع الله بهم، وأن يتركوا العداوة بينهم؟ فإن قالوا: نعم؛ كذبوا كتاب الله، وإن قالوا: لا، كان ذلك نقضاً لقولهم.تمت مسألته.
جوابها
__________
(1) في (أ): فعل.
(2) في (أ): هل كانوا لا يستطيعون، وفي (ب): هؤلاء لا يستطيعون.

(1/417)


وأما ما سأل عنه من الإغراء بالارادة دون الأمر؛ فزعم أن الله جل ثناوه يأمر بما لا يريد، ويريد من الأشياء ما لا يشاء كينونته، فأخطأ في قوله وأمره، ونسب الجهالة في ذلك إلى ربه، ورضي فيه بما لا يرضاه في نفسه، ولا يراه حسناً من أمته وعبده. تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً. ألا ترى أن الأمر بما لا يشاء من أجهل الجاهلين؟ وعن الحكمة من أبعد المبعدين؟ فكيف اجترأ الحسن بن محمد على رب العالمين؛ فنسب إليه أشد ما يعاب به المربوبون؟‍‍‍‍‍‍‍ثُمَّ احتج في قوله، وسطر أفحش القول في ربه؛ فقال: قال الله: {وَمِنَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُوا حَظّاً مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ العَدَاوَةَ وَالبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ القِيَامَةِ}[المائدة: 14]، فقال: إن الله تبارك وتعالى أغرى بينهم ولم يرد الإغراء، (ولم يأمر بالإغراء)(1)، وأدخلهم من ذلك فيما لم يشأ. وليس ذلك كما توهم ولا كما قال، وأول الآية يدل على عدل الله في ذلك حين أخبر؛ بما كان منهم وذكر؛ من الترك والرفض لما أمروا بأخذه، والأخذ لما أمروا بتركه، فلما أن فعلوا من ذلك ما عنه نهوا؛ استأهلوا من الله سبحانه الترك والخذلان؛ بما كان منهم لله من العصيان، فتركهم من الرشد والتوفيق فضلوا، وعن الخير والصلاح في كل أمرهم عموا، والبرَّ والتواصلَ تركوا، فغريت بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة، ونشأ على ذلك خلف من بعد خلف، فكان ذلك؛ بسبب خذلان الله لهم وسخطه عليهم لذلك(2)، فلما كان ذلك كذلك جاز أن يقال: إن الله أغرى بينهم العداوة بكل(3) ضلال قالوا، فنسب المسيح منهم قوم إلى أنَّه رب، ونسبه قوم آخرون إلى أنَّه ابن للرب، وقال آخرون بما قال في نفسه أنَّه عبد الله، حين أخبر عنه بقوله، حين أشارت
__________
(1) سقط من (أ).
(2) كذا في النسخ ولعل الصواب: كذلك.
(3) في (أ،ط): وبكل ولعل الصواب حذف الواو كما أثبت من ب.

(1/418)


إليه أمه، قال الله جل ثناؤه: {فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيّاً* قَالَ إِنِّي عَبْدُاللَّهِ آتَانِيَ الكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيّاً* وَجَعَلَنِي مُبَارَكاً أَيْنَمَا كُنْتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلاَةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيّاً} [مريم: 29ـ31]، فلما أن اختلفوا، وعلى الحق لم يأتلفوا، كفر بعضهم بعضاً، وبرئ فاسق من منافق، ومنافق من فاسق، وخذلهم(1) الله فيه، ولعنهم سبحانه عليه، غريت بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة. فلما كان عز وجل الذي خذلهم فضلوا، وتركهم فهلكوا، قال: {فَأَغْرَينَا بَيْنَهُمُ العَدَاوَةَ وَالبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ القِيَامَةِ}، وهذا ولله الحمد مشهور، في اللسان معروف. تم جواب مسألته.
المسألة الحادية والعشرون: عن قول الله تعالى: {وهو الذي كف أيديهم عنكم..}
ثُمَّ أتبع ذلك المسألة؛ فقال: خبرونا عن قول الله: {وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ} [الفتح: 24]، وذلك يوم الحديبية، فسلهم: هل كان واحد من الفريقين يستطيع أن يبسط يده إلى أخيه، والله عز وجل يخبر أنَّه قد كف بعضهم عن بعض بإرادة لا بأمر؟ فإن قالوا: نعم، قد كانوا يستطيعون أن يقاتل بعضهم بعضاً؛ كذبوا كتاب الله عز وجل، وإن قالوا: لا؛ فهذا نقض لقولهم. تمت مسألته.
جوابها
__________
(1) في (أ): خذلهم.

(1/419)


وأما ما سأل عنه من قول الله سبحانه: {وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ} [الفتح: 24]، فقال: هل كان يستطيع أحد أن يمد يده إلى عدوه، وقد كف الله سبحانه أيدي حزبه؛ من رسوله والمؤمنين، عن حزب الشيطان الفاسقين، وأذن لرسوله وأطلق له مهادنة قريش ومن معهم من المشركين؛ نظراً منه سبحانه للمؤمنين، ففعل ذلك رسول الله صلى الله عليه وآله لما أن طلبته قريش منه، ولو لم يأذن الله له عز وجل في ذلك لم يفعله، ولم يك ليرجع يوم الحديبية حتى يقاتلهم، وعلى الحق وبالحق ينازلهم، ولقد أراد ذلك صلى الله عليه وآله، وبايع أصحابه على الموت فيه بيعة ثانية، وهي البيعة التي ذكر الله عن المؤمنين ورضي بها عنهم، وأنزل السكينة عليهم، وصرف القتال، وكف أيدي الكل من الرجال؛ بما أطلق لرسوله صلى الله عليه وآله من اجابته لهم إلى ما طلبوا من المهادنة في ذلك العام، والرجوع عنهم والدخول في السنة المقبلة إلى البيت الحرام، فأطلق له الرجوع عنهم والترك لمقاتلتهم لما ذكر سبحانه، (فمن كان بمكة)(1) ممن كان بمكة من المؤمنين والمؤمنات، لأن لا يطأوهم فيقتلوهم بغير علم، فتصيبهم منهم معرة عند الله بالحكم. والمعرة ها هنا فهي الدية، لا ما قال غيرنا به فيها من الإثم، وكيف يأثم من بر وكرم وقاتل على الحق ـ كما ذكر الله عز وجل ـ من خالفه من الخلق؛ فقتل مؤمناً بغير علم ولا تعمد وهو إنَّما قتله وهو يحسبه كافراً، ويظنه في دين الله فاجراً، فهو والحمدلله في ذلك غير آثم، ولا متعد في فعله ولا ظالم، ولكنه مخطئ فعليه ما على مثله، وهو ما ذكر الله في قوله حين يقول: {وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ} [النساء: 92]. وإنما جعل عليه العتق والدية تعظيماً لقتل المؤمن، وتشديداً على
__________
(1) ليس في (أ).

(1/420)


المؤمنين في التثبت والتبيين(1) عند قتال الكافرين، كما قال سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ} [الحجرات: 6].
وأما معنى قوله سبحانه: {مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيهِمْ}، فهو الحكم لهم من الله عز وجل بالنصر إذ نصروه. ومن ذلك ما قال ذو العزة والجلال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} [محمد: 7]، ولا نصر يكون أكبر من نصره لرسول الله صلى الله عليه وآله ومن معه من المؤمنين، فحكم الله سبحانه لهم على أعدائه بالنصر إذا التقوا، وبالغلبة إن احتربوا، ألا تسمع كيف يقول: {وَلَو قَاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوَلَّوُا الأَدْبَارَ ثُمَّ لاَ يَجِدُونَ وَلِيّاً وَلاَ نَصِيراً سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً} [الفتح: 23]، يقول: حكم الله للمؤمنين بالنصر على الفاسقين، ولن تجد لما حكم به رب العالمين للمؤمنين تبديلاً. فهذا معنى الآية وتفسيرها، لا كما قال، من نسب إلى الله جل ثناؤه فاحش المقال؛ من جبر العباد على الخير، وإدخالهم في كل شر وضير. تم جواب مسألته.
المسألة الثانية والعشرون:
عن غنائم الكافرين، وهل كانوا يستطيعون الإيمان حتى لا تؤخذ غنائمهم؟
ثُمَّ أتبع ذلك الحسن بن محمد المسألة عما وعد الله جل ثناؤه رسوله والمؤمنين من الغنائم الكثيرة التي قال: {تَأْخُذُونَهَا}، هل كانت تلك الغنائم التي وعدهم إياها تكون إلاَّ من الكافرين؟ فإن قالوا: لا، فقل: فهل كان أولئك الكافرون يستطيعون أن يؤمنوا حتى لا تحل غنائمهم ولا دماؤهم ولا أموالهم؟ فإن قالوا: نعم، فقد كذبوا قول الله عز وجل، وإن قالوا: لا، فذلك نقض لقولهم. تمت مسألته.
__________
(1) في (ب): والتبين.

(1/421)


جوابها
وأما ما سأل عنه، وفيه تكلم وقال في الغنائم التي وعدها الله المؤمنين، وأخبرهم أنهم يأخذونها من الكافرين، فقال الحسن بن محمد في ذلك: هل كان الكافرون يستطيعون الإيمان؛ وهم لو آمنوا لم تحل غنائمهم؟، وهم لو لم تؤخذ غنائمهم لم يتم وعد(1) الله لنبيه، فلا بد أن يثبتوا على كفرهم جبراً؛ حتى تؤخذ منهم الغنائم قسراً.
فقولنا في ذلك، الحق لا قول المبطل الهالك: إن الله سبحانه علم من أهل الغنائم ـ قبل أن يعد نبيه غنائمهم ـ أنهم لا يؤمنون، وأنهم سيثبتون على الكفر ويقاتلون، وأنهم لا يسمعون لله ورسوله ولا يطيعون، فوعده غنائمهم والنصر عليهم؛ إذ علم أنهم لا يختارون الإيمان، ولا يطيعون الرحمن، وأنهم يختارون الإقامة على الضلال والكفران، والمحادة لله ورسوله والعصيان، فلذلك وعد المؤمنين غنائمهم، وأجاز لهم سبيهم، وأحل مقاتلتهم واسترقاق ذراريهم، وذلك بما جنت أنفسهم عليهم. تم جواب مسألته.
المسألة الثالثة والعشرون:
عن قول الله: {فكف أيديهم عنكم..}
ثُمَّ أتبع ذلك المسألة، عن قول الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَومٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ} [المائدة: 11]، وذلك أن ناساً من اليهود كانوا أرادوا قتل رسول الله صلى الله عليه وآله ونفر من أصحابه؛ فأخبر الله عز وجل رسوله وكف أيديهم عنه وعن أصحابه، فسلهم: هل كانوا يستطيعون أن يبسطوا أيديهم عليهم؛ وقد كفها الله عنهم؟ أم لا؟ فإن قالوا: نعم؛ فقد كذبوا قول الله جل ثناؤه، وإن قالوا: لا؛ فذلك نقض لقولهم. تمت مسألته.
جوابها
__________
(1) في (ب): بطل وعد الله.

(1/422)


وأما ما سأل عنه مما تحير فيه من قول الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَومٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ} [المائدة: 11]، فتوهم الحسن بن محمد أن الله عز وجل كف أيديهم عن رسول الله صلى الله عليه وآله (ومن كان معه) (1) وعن أصحابه المؤمنين غصباً حتى لم يكن لهم في ذلك حيلة، ولم يبسط أيديهم (( بالسواية )) (2) إليه، وأنه قبضها عنهم قبضاً ومنعهم منعاً.
__________
(1) ليس في (ب).
(2) السواية: المكروه.

(1/423)


وليس ذلك كما توهم، ولا هو على ما به تكلم، وسنشرح ذلك إن شاء الله، ونقول فيه بالحق على الله، فنقول: إن رسول الله صلى الله عليه وآله، كان خرج إلى يهود بني النضير في نفر من أصحابه ـ وكان بنو النضير ينزلون قريباً من المدينة ـ ليستعينهم في ديتين وقعتا خطأ على بعض المسلمين؛ فلما أن أتاهم رحبوا به وأدنوه(1)، وكل ما طلب منهم وعدوه، ثُمَّ تآمروا به وبأصحابه، وعزموا على الغدر به وبمن معه من أعوانه(2)، فأهبط الله عز وجل بذلك جبريل صلى الله عليه على رسوله(3) فاخبره به وأوقفه عليه، فنهض صلى الله عليه وآله مسرعاً هو ومن معه حتى رجعوا، ثُمَّ هيئوا(4) وخرجوا إليهم فقاتلوهم، وأقاموا عشرين ليلة يحصرونهم في حصونهم، ثُمَّ نزلوا من بعد ذلك على حكم سعد بن معاذ، وكان من كبار الأنصار، وذوي القدر منهم والأخطار، وكانوا يتكلمون إليه، ويظنون ـ لما كان بينه وبينهم في الجاهلية من المداناة والإحسان ـ أنَّه سيحابيهم ويحكم بما ينجيهم كلهم، فحكم بأن يقتل رجالهم، وتسبى ذراريهم وحرمهم، وفي ذلك ما قال رسول الله صلى الله عليه وآله: (( لقد حكمت فيهم بحكم الله من فوق سبع سموات ))، ففعل ذلك بهم، وأخزاهم الله(5) وأهلكهم، وأبادهم وقتلهم، فكان إعلام الله عز وجل لنبيه صلى الله عليه وآله بما اجتمعوا عليه، وعزموا وصاروا فيه وإليه؛ كفاً لأيديهم، ونقضاً لعزيمتهم، وإبطالاً لتدبيرهم. فهذا معنى ما تحير فيه الحسن بن محمد من تفسير الآية، لا ما قال به على الله عز وجل من البهتان، وما حمل من محكم القرآن على متشابه القرآن. تم جواب مسألته.
المسألة الرابعة والعشرون:
عن قول الله لعيسى {وإذ كففت بني إسرائيل عنك..}
__________
(1) تصحفت في (ط) إلى: وأدَّبوه.
(2) في (أ): أصحابه.
(3) في (ب،ط): وعلىرسوله.
(4) في (ب): تعبوا، وفي (أ): بعثوا، وهو تصحيف.
(5) في (ط): وأخرجهم أو أهلكهم.

(1/424)


ثُمَّ أتبع ذلك المسألة عن قول الله عز وجل لعيسى بن مريم وهو يذكر نعمة الله عليه؛ فقال: {وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَنْكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بِالبَيِّنَاتِ فَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ إِنَّ هَذَا إِلاَّ سِحْرٌ مُبِينٌ} [المائدة: 110]، فهل كان لبني إسرائيل أن يبسطوا أيديهم على عيسى عليه السلام؟ فإن قالوا: نعم؛ فقد كذبوا قول الله، وإن قالوا: لا؛ فذلك نقض لقولهم. تمت مسألته.
جوابها
وأما ما سأل عنه من قول الله لعيسى بن مريم المسيح العبد الكريم: {وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَنْكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بِالبَيِّنَاتِ فَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ إِنَّ هَذَا إِلاَّ سِحْرٌ مُبِينٌ}[المائدة: 110]، فقال: هل كانت بنو إسرائيل تقدر على أن تبسط أيديها إليه، وقد كفها الله عنه وأنعم بذلك عليه؟ فقولنا في ذلك: أن الله لم يكف أيديهم عنه جبراً، ولكنه ألقى في قلوبهم الهيبة له ولمن معه من الحواريين، وأعلم نبيه صلى الله عليه بما يريدون منه وما يريدون فيه فحذرهم، واستعد بمن معه لهم فخافوهم وحذروهم، فَلاشَى عزيمتهم، وأبطل في ذلك إرادتهم، ومن على نبيه صلى الله عليه، بما ألقى له وللحق في قلوبهم من الهيبة والمخافة، فرجعوا خائبين، ومما أرادوا مؤيسين، وأعز الله سبحانه المؤمنين، وكبت الفاسقين.

(1/425)


فهذا إن شاء الله معنى ما ذكر الله من كف أيديهم عن عيسى بن مريم صلى الله عليه نبيهم(1)، والمظهر للحق فيهم، والمطلق(2) لهم بعض الذي حرم عليهم، المبرئ لأكمههم(3) وأبرصهم، الشافي لسقيمهم، والمحيي لميتهم، والمنبي لهم عما يأكلون ويدخرون في بيوتهم، وتلك أعظم آيات ربهم وبراهين خالقهم، فلما عتوا عن أمر خالقهم، قال حين ذلك نبيهم صلى الله عليه وسلم: {مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ} وأعوانك وأنصارك وخدامك، فآمن معه من بني إسرائيل الحواريون وكفر سائر الإسرائليين، فأيد الله المؤمنين، فأصبحوا كما قال الله: {ظَاهِرِينَ}، حين يقول عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنْصَارَ اللَّهِ كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّيْنَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ فَآمَنَتْ طَائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيْلَ وَكَفَرَتْ طَائِفَةٌ فَأَيَّدْنَا الَّذِيْنَ آمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِيْنَ} [الصف: 14]. فهذا قولنا في رب العالمين، لا كقول الجاهلين؛ الذين نسبوا إلى الله عز وجل أفعال العباد، وقلدوه ما يكون في ذلك من الفساد. فتعالى الله الواحد الرحمن؛ عن زخرف أقاويل الشيطان، المضاهين لمذاهب عبدة الأوثان، وما حكى فيهم الرحمن من قولهم: {لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ...الاية} [النحل: 35]. تم جواب مسألته.
المسألة الخامسة والعشرون:
عن الرعب، هل كان الكافرون يستطيعون الامتناع عنه؟
__________
(1) تصحفت في (ط) إلى: بينهم.
(2) المطلق: المحل.
(3) الأكمه: الذي يولد أعمى.

(1/426)


ثُمَّ أتبع ذلك المسألة عن قول الله سبحانه: {سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً} [آل عمران: 151]، وقال في سورة الحشر: {وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ} [الحشر: 2]، وقال: {وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الكِتَابِ مِنْ صَيَاصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقاً تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقاً} [الأحزاب:26]، فأخبرونا عن الرعب الذي قذف الله في قلوب الكافرين، هل كانوا يستطيعون أن يمتنعوا منه، وأن يصرفوه عن قلوبهم؟، فإن قالوا: لا؛ كان ذلك نقضا لقولهم، وإن قالوا: نعم؛ فقد كذبوا كتاب الله، وزعموا أن العباد يمتنعون من الله. وإن قالوا: إنَّما صنع الله ذلك بهم بكفرهم، فقل: ألستم تعلمون أن الرعب شيء لطيف لا يراه الناس ولا يردونه ولا يمتنعون منه حين يدخل في قلوبهم، فيوهن الله بذلك كيدهم، وينقض قولهم؟ فإن قالوا: نعم، فقل: وكذلك أيضاً التوفيق، شيء لطيف لا يراه العباد، يلقيه الله في قلوب المؤمنين، وأمور الله كلها كذلك، من أراد به خيراً وفقه، وسدده وأرشده، وكان ذلك عوناً من الله لهم، ومن أراد به سوءاً ثبطه وعوقه، وخذله وتركه وهواه، ووكله إلى نفسه، فوكله إلى الضغف والهوان، والله غالب على أمره. تمت مسألته.
جوابها

(1/427)


وأما ما سأل عنه من قول الله سبحانه: {سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً}، فإنا نقول: إن الرعب إنَّما ألقاه الله جل ثناؤه في قلوبهم؛ نكالاً وانتقاماً منهم على كفرهم واشراكهم، ألا تسمع كيف فسر آخر الآية أولها؛ فقال: {بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ}، فكذلك الله سبحانه انتقم منهم بما أشركوا وكفروا، وخذلهم وتركهم من التسديد والتوفيق فهلكوا وتلاشوا، وعندوا فضلوا، وهانوا فتفرقوا؛ إذ وكلهم إلى الضعف من أنفسهم، وإلى حولهم وقوتهم؛ فهانوا ورعبوا من القتال، ولقاء المؤمنين في تلك الحال. فكان تركه(1) لهم بما قدموا من شركهم؛ رعباً داخلاً في قلوبهم، مخامراً لصدورهم.
__________
(1) في (ط): تركهم.

(1/428)


وأما ما ذكر من قول الله سبحانه في بني النضير من اليهود: {وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَآ أُوْلِي الأَبْصَارِ}؛ فكذلك فعل الله بهم. وذلك أنهم كانوا قد هادنوا الرسول عليه السلام، وخضعوا لأهل دعوة الإيمان والإسلام، حتى كان يوم الأحزاب، فجاءت قريش ومن تحزب معها من العرب؛ من اليمن ومُضَر، وأمدهم في ذلك يهود خيبر؛ يقاتلون الرسول والمؤمنين، مع أعداء الله الفاسقين، فلما أتى يهود خيبر أرسلوا إلى يهود بني النضير فوعدوهم أن يقاتلوا الرسول من ورائه إذا حميت الحرب بينه وبينهم، فنزلت بنو عامر أحد(1) من فوق المؤمنين، ونزلت قريش بطن الوادي من أسفل منهم، وكانت اليهود ـ يهود خيبر ـ قبل المسلمين(2) مما يلي الحرة، وبنو النضير من وراء الرسول صلى الله عليه وآله، وفي ذلك ما يقول الله عز وجل: {إِذَ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ القُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا * هُنَالِكَ ابْتُلِىَ الْمُؤْمِنُوْنَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالاً شَدِيداً} [الأحزاب: 10ـ11]، فكان فيمن نزل أحد(3) من العرب رجل أشجعي(4) يحب الإيمان، ويبغض أهل العدوان؛ فأفسد بين المشركين طراً، وذلك أنَّه أتى قريشاً فقال لها: إن العرب قد ظافرت محمداً عليكم، ووعدته المحاربة معه لكم، وآية ذلك أنهم لن يبدأوه بالمحاربة، فخذوا حذركم، ولا تبدأوه حتى يقاتلوه قبلكم، ثُمَّ أتى أصحابه وبني عمه وجماعة العرب؛ فقال: إن قريشاً قد عاقدت محمداً عليكم،
__________
(1) في (أ): أحداً.
(2) في (أ،ب): المؤمنين.
(3) في (أ): أحداً.
(4) في (ب): من أشجع. وهو نعيم بن مسعود والقصة مشهورة في السير.

(1/429)


وعلامة ذلك أنهم لن يبدأوه بالمحاربة قبلكم، فاعملوا لأنفسكم، ودبروا أموركم، ولا تقاتلوا حتى ترسلوا إليهم فيقاتلوا قبلكم، فإن فعلوا وإلا فاحذروا مكرهم، والحقوا وشيكاً ببلدكم، ثُمَّ أتى يهود خيبر فقال: إن قريشاً قد عاقدت محمداً عليكم، وآية ذلك انها لا تبدأه بالمحاربة قبلكم، وأتى قريشاً فقال لها: إن اليهود قد ظافرت محمداً عليكم، وآية ذلك أنهم لا يبدأونه بالمنابذة قبلكم، فطرح في قلوب كل لكل بلاء وحقداً، ومخافة وشحناء، فأقام كل ينتظر أن يبدأ بالمحاربة غيره، فلما طال ذلك عليهم تراسلوا بينهم، يسأل كل كلاً؛ أن ينصب لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حرباً، وكلهم(1) يأمر صاحبه أن يبدأ، فصح لذلك عندهم قول الأشجعي فتفرقوا، وفسدت قلوب بعضهم على بعض، فرحلت العرب طراً راجعة إلى بلدها، وأرسل الله سبحانه الريح على قريش واليهود، وأمد المؤمنين بالنصر منه والجنود، فلم يقم(2) لقريش خباء ولا ظل، ولا تستوقد لهم نار إلاَّ أطفأتها الريح وفرقتها وحرقتهم بها، فأقاموا ثلاثاً لا يختبزون ولا يصطلون(3)، فاشتد عليهم القر والجوع، ورماهم الله بالذل فأزمعوا(4) على الرجوع، ورحلوا راجعين خاسرين، خائبين نادمين، وفي ذلك ما يقول رب العالمين: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيْحاً وَجُنُوداً لَمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيراً} [الأحزاب: 9]، فرجع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقاتل بني النضير؛ إذ نقضوا عهده، وخالفوا أمره، فحاصرهم حتى جهدوا، فقالوا: يا محمد، خلنا نخرج من البلد بما حملت إبلنا؛ التي في الحصن(5) معنا من متاعنا، ونخلي لك الباقي ومالنا من الضياع، ونشرط ألا نخرج
__________
(1) في (أ): وكل.
(2) في (أ،ب): فلم يكن يقوم.
(3) يعني لا يستدفئون.
(4) أزمع على كذا: عزم عليه.
(5) في (ب،ط): الحضرة.

(1/430)


بسلاح، ونترك الديار والنخل والقرى، فرضي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بذلك، فخرجوا بإبلهم، عليها جيد(1) متاعهم، وتحف أبوابهم، فلما قلعوا التحف تهدمت وجوه البيوت، وذلك تدبير منهم، ليخربوها عليهم، فكان أحدهم إذا هدم لحاف بيته بطل البيت، ثُمَّ خرجوا على الإبل بالتحف، فذلك قول الله سبحانه: {هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِيْنَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الكِتَابِ مِنْ دِيَارِهِمْ لأَوَّلِ الْحَشْرِ مَا ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُوْلِي الأَبْصَارِ}، فخرجوا جالين(2)، ولنعمهم تاركين، وذلك قول أصدق الصادقين: {وَلَوْلاَ أَنْ كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجَلاَءَ لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابُ النَّارِ} [الحشر: 3]، والتعذيب فهو القتل، فكان الرعب الذي قذفه الله في قلوبهم؛ هو ماكان من خذلانه لهم حتى عمي عليهم رشدهم، وفاسدوا إخوانهم، ودخل الفزع عند ذلك من النبي والمؤمنين في قلوبهم، وأيقنوا أنَّه إذا علم بما كان من مظافرتهم عليه، وصاروا من الغدر به إليه؛ أنَّه لا يتركهم، وأنه يقاتلهم على فعلهم، حتى يظهر الله عز وجل الحق، ويزهق الباطل من الخلق. وهذا معنى القاء الله الرعب في قلوب الفاسقين؛ لما أرادوا من هلاك المؤمنين. وكذلك كان فعله بأهل خيبر حتى أخذوا وأسروا، وقتلوا وسبوا.
فهذا قولنا في إلقاء الله الرعب في قلوب الفاسقين، لا ما ذهب إليه من خالف المحقين، وعند من قول الصدق في رب العالمين. تم جواب مسألته.
المسألة السادسة والعشرون:
عن قول الله: {ولقد ذرأنا لجهم ..}
__________
(1) في (أ،ب): خير.
(2) جلى عن وطنه وأجلى: خرج منه.

(1/431)


ثُمَّ أتبع ذلك المسألة عن الذرو بالإرادة فقال: خبرونا عن الذروبالإرادة، فإن الله يقول: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لاَ يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَ يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لاَ يَسْمَعُونَ بِهَا أُوْلَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَئِكَ هُمُ الغَافِلُونَ} [الأعراف: 179]، فسلهم: هل يستطيع هؤلاء أن ينقلبوا عما ذرأهم الله له؟ فإن قالوا: نعم؛ فقد كذبوا وزعموا أنهم يستطيعون أن يبدلوا خلقهم وإرادة الله فيهم، وإن قالوا: لا؛ كان ذلك نقضاً لقولهم. تمت مسألته.
جوابها
وأما ما سأل عنه من قول الله عز وجل: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لاَ يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَ يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لاَ يَسْمَعُونَ بِهَا أُوْلَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَئِكَ هُمُ الغَافِلُونَ}، فقال: هل يستطيع أحد أن يخرج أو ينتقل مما ذرئ له؟ وتوهم بل قال: إن الله ذا الجلال والإكرام خلق لجهنم قوماً كافرين، ذرأهم وأوجدهم ابتداء فاسقين، وخلقهم ضالين مضلين؛ لا ينفع فيهم دعاء، ولا يقدرون طول الزمان على الاهتداء(1)؛ لما قد خلقوا له من الشقاء، فهم أبداً بفعل الفواحش مولعون، ولعمل الهدى غير مطيقين، وأنهم على ذلك مجبولون، تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً.
__________
(1) في (ب): اهتداء.

(1/432)


فنقول في ذلك على الله بالحق، والله الموفق لكل خير وصدق؛ فنقول: إن معنى الآية خلاف ما ذهب إليه الحسن بن محمد، وإن القول خلاف ما قال به فيه، بل معناها على الصدق والمعاد، لعلم الله بما يكون من العباد، فقال: {ذَرَأْنَا}، فأخبر عما سيكون في آخر الأمر، ويوم القيامة والحشر؛ من الذرو الثاني، لا الذرو الأول الماضي. فكذلك الله رب العالمين، يذرأ لجهنم في يوم الدين؛ جميع من مات على كفره من الكافرين، فيعذبهم على فعلهم، ويعاقبهم على ما تقدم من كفرهم، كما قال الرحمن الرحيم، الرؤوف الكريم: {كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ* إِلاَّ أَصْحَابَ الْيَمِينِ* فِي جَنَّاتٍ يَتَسَاءَلُونَ* عَنِ الْمُجْرِمِينَ* مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ* قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ* وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ* وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ* وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ* حَتَّى أَتَانَا اليَقِينُ* فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ} [المدثر: 38ـ48].
فهذا معنى ما ذكر الله من الذرو في الكتاب، لا ما ذهب إليه الحسن بن محمد ذو الشك والارتياب؛ من أن الله سبحانه خلق للنار خلقاً تعمل بالمعاصي أبداً، لا يقدرون على هدى ولا طاعة، في سنة ولا شهر ولا يوم ولا ساعة، وأن الله سبحانه خلق للجنة أصحاباً مجبولين لله على الطاعة في كل الأسباب.

(1/433)


فيا عجباً من قولهم المحال! وكذبهم على الله في المقال! فأين ويحهم المعاصي والطغيان(1)، ممن عمل بما ألزمه الله في كل شأن؟ بل كلٌّ مطيع، وفي مراد الله(2) سريع؟ فإن كان ذلك من الله كذلك؛ فلم بعث الأنبياء إليهم يدعونهم؟ وأوجب عليهم طاعتهم؟! وطاعة الأنبياء فهي العمل بطاعة الله، ومعصيتهم هي المعصية(3) لله، قال الله سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ} [النساء: 59ـ، محمد: 33]، وقال: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ نُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ} [النساء: 13، الفتح: 17]، وقال: {وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ} [الجن: 23]، وقال: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ} [النساء: 1، لقمان: 33]، وقال: {فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ} [الذاريات: 50]، فأين الطاعة؛ ممن جبل على المعصية؟ وأين الفرار؛ ممن منعه منه الجبار؟ وكيف لا يعصي الرسول والرحمن(4)؛ من قد حيل بينه وبين الإحسان؟!.
__________
(1) في (أ): والعصيان.
(2) في (أ): وفي كل أمر الله.
(3) في (أ،ب): العصيان.
(4) في (ب،ط): والرحمن الرحيم.

(1/434)


ومن ذلك قول إبراهيم صلى الله عليه لأبيه: {يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ العِلْمِ مَالَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطاً سَوِيّاً * يَا أَبَتِ لاَ تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيّاً} [مريم: 42ـ43]، فماذا يقول الكاذبون(1)، وينسب إلى الله وإلى نبيه الضالون؛ في هذا العلم الذي جاء إبراهيم؟ أتراه أتاه من العلم ـ إن كان الله قد خلق أباه للنار ـ أن أباه يقدر أن يخرج إلى غير ما خلقه الله له من النار حتى يصير إلى الجنان؟ أم يقولون إن العلم الذي جاء إبراهيم هو أن أباه ـ إن كان الله جل ثناؤه خلقه للشقاء، وحال بينه وبين الهدى ـ يقدر على مغالبة الرحيم، والخروج مما أعد له من الجحيم، والمصير إلى دار النعيم؟ والله سبحانه لم يخلقه(2) لذلك، بل جبله على غيره، ومنعه من رشده؟ أم تقولون في إبراهيم، الأواه الحليم، الصديق الكريم؛ أنَّه دعا أباه إلى اتباعه، وضمن له ما ضمن من ارشاده، ونهاه عن عبادة الشيطان الرجيم، وأمره بطاعة الرحمن الرحيم؛ وهو يعلم أن الله جل جلاله قد منعه من الخير، وأدخله إدخالاً في الشر والضير؟! فلقد إذاً أمره بمغالبة ربه، وهجره واعتزله على غير ذنبه(3).
__________
(1) في (ط): الكافرون.
(2) في (ط): المخلف لذلك.
(3) في (ط): دينه.

(1/435)


ثُمَّ يقال لهم: خبرونا؛ وعما نسألكم عنه أجيبونا: هل بعث الله جل ثناؤه نبيه إلى الخلق طراً ـ فإنه يقول: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً} [سبأ: 28]،ـ يدعوهم إلى طاعته، وينهاهم عن معصيته؟ أم بعثه إلى بعض ولم يبعثه إلى بعض؟ فإن قالوا: بعثه إلى الخلق(1) طراً، فقل: فماذا دعاهم إليه؟ فإن قالوا: إلى الثبات على ما هم عليه من الكفر كفروا، وإن قالوا: دعاهم إلى الإيمان، قيل لهم: فهل يقدرون على ذلك من الشأن؛ وقد جبلوا ـ على قولكم ـ على الكفران؟! فإن قالوا: نعم؛ تركوا قولهم، وإن قالوا: لا؛ جهلوا ربهم ونبيهم؛ إذ زعموا أن الله سبحانه بعث نبيه يدعو إلى الخير والهدى؛ من لا يقدر على الاهتداء، ومن قد حال الله عز وجل بينه وبين التقى، وهذا فأفحش أفعال الظلمة الجهال، وما لا يجوز في الله ذي الجلال؛ أن يحول بين عبده وبين طاعته؛ ثُمَّ يرسل إليه ويأمره بمرضاته؛ وقد أخرجه منها وأدخله في ضدها، تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً، وسبحان الله بكرة وأصيلاً. تم جواب مسألته.
المسألة السابعة والعشرون:
عن قول الله: {ولا يزالون مختلفين..}
__________
(1) في (أ،ب): الناس.

(1/436)


ثُمَّ أتبع ذلك المسألة عن قول الله عز وجل: {وَلَو شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلاَّ مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ} [هود: 118]، فيقال لهم: خبرونا عن هؤلاء الذين قال الله: {وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلاَّ مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ}، هل يستطيعون أن يكونوا على غير ما وصفهم الله به؟ وأن يتركوا ما خلقهم له؟ فإن قالوا: لا يستطيعون؛ فقد أجابوا وصدقوا، وإن قالوا: نعم، هم يستطيعون أن يكونوا على غير ما خلقهم؛ فقد كذبوا وخالفوا، وإن زعموا أن الله جل ثناؤه إنَّما خلق أهل الإيمان للرحمة، فنحن نقبل منكم ونصدقكم إن زعمتم أن الله جل ثناؤه خلق خلقاً من خلقه خصهم بالرحمة، فلا يستطيعون أن يكونوا على غير ما خلقهم، لأنَّه قد استثنى لهم. تمت مسألته.
جوابها

(1/437)


وأما ما سأل عنه من قول الله سبحانه: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلاَّ مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ}، فإنا نقول: إن معنى قوله: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً}؛ هو إخبار عن قدرته، ونفاذ ما شاء من إرادته، فأخبر سبحانه أنَّه لو شاء أن يجعلهم أمة واحدة لجعلهم قسراً، ولأدخلهم في طاعته جبراً، ولكنه لم يرد قسرهم على ذلك، ولم يرد أن يدخلهم في الطاعة كذلك؛ للحكمة النيرة، والحجة الباهرة؛ ليثيب على عملهم المثابين، ويعاقب على اجترامهم المعاقبين، لا ما يقول به المبطلون، ويذهب إليه الجاهلون؛ من أنَّه لم يرد من العاصين الطاعة، ولم يكره من الفجرة المعصية، وأنه لو أراد ذلك منهم لفعلوه، ولو شاء أن يعبدوه لعبدوه، وقالوا على الله عز وجل الأقاويل الردية، وضاهوا في ذلك قول الجاهلية؛ حين قالوا: {لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ} [الزخرف: 20]، فقال سبحانه يكذبهم فيما وهموا من أنَّه يريد عبادة أحد دونه وأنه لا يشاء أن يعبدوه: {مَالَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ* أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَاباً مِنْ قَبْلِهِ فَهُمْ بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ} [الزخرف: 21]، ثُمَّ أخبرنا بما به عبدوا من يعبدون، ومن به في ذلك يقتدون؛ فقال: {بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ} [الزخرف: 22]، ثُمَّ أخبر نبيه صلى الله عليه وآله بقول من كان قبلهم؛ ممن أهلك بمثل قولهم؛ فقال: {كَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلاَّ قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ} [الزخرف: 23]. فكيف يقول الجهال، وأهل الغي والضلال: إن الله سبحانه يشاء من عباده أولهم الكفر؟ وقد يسمعون في ذلك قوله،

(1/438)


ويرون ما نزل بإخوانهم على قولهم من نكير قولهم(1)، أو لم يسمعوا الله سبحانه وتعالى عن كل شأن شأنه يقول: {إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلاَ يَرْضَى لِعِبَادِهِ الكُفْرَ} [الزمر: 7]؟ فقال: {إِنْ تَكْفُرُوا}، فأخبر بذلك أن الكفر فعل منهم ولهم، إذ نسبه سبحانه إليهم، وذكره عنهم، ثُمَّ قال: {وَلاَ يَرْضَى لِعِبَادِهِ الكُفْرَ}، فأخبر أنَّه لا يرضى ما كان من كفرهم، فكيف يقول الجاهلون في ربهم؛ إنَّه قضى بما لم يرض لهم عليهم؟! فأكذبوا في ذلك رب الأرباب، وعاندوه في كل الأسباب، فقالوا: إنَّه رضي بما قال سبحانه إنَّه لم يرضه، وقالوا: إنَّه سخط ما قال إنَّه رضيه، فعاندوه في ذلك عناداً، وجاهروه بالمكابرة جهاراً. ففي هذا والحمدلله من البيان، ما يكفي عن ذكر غيره من الحجج والبرهان.
__________
(1) في (أ): من تكفير ربهم.

(1/439)


وأما قوله جل جلاله عن أن يحويه قول أو يناله: {وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلاَّ مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ}، فإنا نقول في ذلك بالحق المبين، على رب السموات والأرضين؛ فنقول: إن معنى قوله: {وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ}، أي لا يزال أهل الحق لأهل الباطل مخالفين، وعليهم في باطلهم وفسقهم منكرين، {وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ} رب العالمين، وبه أمرهم سبحانه أكرم الأكرمين، فخلق جميع خلقه ليعبدوه لا ليعصوه، وأمرهم أن يطيعوه ولا يخالفوه، وأن يجاهدو الكافرين كافة أجمعين؛ حتى يفيئوا إلى طاعة رب العالمين. فخلقهم سبحانه لما شاء من ذلك، وشاء ما أمرهم به، وأمرهم بما خلقهم له من طاعته، ومجاهدة أعدائه والنصر لأوليائه، فقال سبحانه في ذلك: {وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً} [التوبة: 36]. وقال: {قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيْكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ} [التوبة: 123]، وقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ} [الممتحنة: 1]، وقال: {لاَ تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَو كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الإِيْمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيْهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُوْلَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلاَ إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [المجادلة: 22]، ففي كل ذلك يأمر المحقين بمخالفة المبطلين(1)، وبالبراءة والعداوة للفاسقين(2)
__________
(1) في (أ): بالمخالفة للمبطلين.
(2) في (ب): القاسطين.

(1/440)


الناكثين، وبالتحاب والتواصل والتبار والتواخي على الدين. ومن ذلك ما يقول جل جلاله أكرم الأكرمين: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [الحجرات: 10].
وقد قيل في قوله: {وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ}: إنَّه مردود على ما ذكر من الرحمة، وكل ذلك والحمدلله فجائز أن يقال به على ذي الجلال والقدرة، لا ما يقول الضالون: إن الله عز وجل خلقهم للضلال والاختلاف، وركب فيهم العداوة وقلة الائتلاف. وكيف يكون ذلك والله يأمر بقتال من بغى، وظلم وتجاهل وأساء، حتى يفيء إلى البر والتقوى؟ وذلك قوله تبارك وتعالى: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} [الحجرات: 9]. ففي هذا والحمدلله من الدلالة على ما قلنا، ما أجزى وكفى. تم جواب مسألته.
المسألة الثامنة والعشرون:
عن قول الله: {إن الإنسان خلق هلوعاً..}

(1/441)


ثُمَّ أتبع ذلك الحسن بن محمد المسألة عن قول الله سبحانه: {إِنَّ الإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعاً}؛ فقال: خبرونا عن قول الله: {إِنَّ الإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعاً* إِذَا مَسَّهُ الشَرُّ جَزُوعاً* وَإِذَا مسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً}. ثُمَّ استثنى أيضاً؟ فقال: {إِلاَّ الْمُصَلِّينَ* الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاَتِهِمْ دَائِمُونَ} [المعارج: 19ـ21]، فيقال لهم: ألا ترون أن الله عز وجل قد صنفهم صنفين: فمنهم من خلقه هلوعاً جزوعاً، ومنهم من لم يخلقه كذلك، فأخبرونا: هل يستطيع هذا الذي خلقه هلوعاً جزوعاً منوعاً أن يكون على غير ما خلقه الله عليه؟ فإن قالوا: نعم؛ فقد زعموا أن الناس يقدرون على أن يبدلوا خلق الله الذي خلقهم عليه، وإن قالوا: لا؛ كان ذلك نقضاً لقولهم. تمت مسألته.
جوابها
وأما ما سأل عنه، وتوهم أنَّه قد تعلق في شيء منه بحجة له؛ من قول الله: {إِنَّ الإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعاً* إِذَا مَسَّهُ الشَرُّ جَزُوعاً* وَإِذَا مسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً إِلاَّ الْمُصَلِّينَ* الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاَتِهِمْ دَائِمُونَ}؛ فقال: إن الله عز وجل قد صنفهم صنفين، وخلقهم خلقين، فجعل منهم هلعين جزعين، وآخرين صابرين. ثُمَّ قال: هل يقدر من خلقه الله هلوعاً جزوعاً منوعاً؛ أن يكون محسناً قوياً صبوراً؟

(1/442)


فقولنا في ذلك إن شاء الله بما هو الحق، لا قول غيرنا؛ فنقول: إن الله جل ثناؤه لم يجبرهم على جزعهم(1)، ولا أنَّه خلق هلعهم، ولا جعل في ذوي الصبر والإحسان صبرهم، وإنما أخبر سبحانه عن ضعف بنية الإنسان، وأنه لا يحتمل ما اشتد وصعب من الشأن، فدل بذلك من ضعف بنية الآدميين، ومن قوة غيرهم من المخلوقين، واختلاف طبائع المربوبين، من الجان والملائكة المقربين؛ على قدرة رب العالمين، وخالق السموات والأرضين. فاخبر سبحانه أنَّه خلق خلقه أطواراً مختلفة، وجعل البنية فيهم غير مؤتلفة، فكلف كل صنف منهم دون ما يطيقه أضعفهم، فكلف الملائكة المقربين؛ ما لم يكلف الجان أجمعين، وكلف الإنسان؛ دون ما يطيق من الشأن، فكانت بنية الملائكة وطاقتهم؛ خلاف بنية الجان وحالتهم، وكانت بنية الجان واقتدارهم؛ خلاف بنية الإنس واستطاعتهم، وكذلك افتراق كل ما خلق رب العالمين، فكل ما خلقه فهو على تركيب رب العالمين ليس فيه تفاوت، كما قال تبارك وتعالى: {مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ البَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ * ثُمَّ ارْجِعِ البَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ البَصَرُ خَاسِئاً وَهُوَ حَسِيرٌ} [الملك: 3ـ4]، وكذلك كل شيء خلقه الله سبحانه من الأشياء، وذلك كله فدليل على قدرة الرب الأعلى، وخالق الأرضين والسموات العلى. فأخبر الله سبحانه عن بنية الإنسان بالضعف والسخافة(2)، ولم يكلفه في ذلك إلاَّ دون الطاقة؛ فلذلك ما قال سبحانه: {إِنَّ الإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعاً* إِذَا مَسَّهُ الشَرُّ جَزُوعاً* وَإِذَا مسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً}، يقول: جعل على بنية لا تطيق الأمر الشديد، فهو يهلع، ومن كل فادح يجزع. ثُمَّ قال: {إِلاَّ الْمُصَلِّينَ}، فأخبر أن من كان لله مطيعاً من المؤمنين؛ أصبر عند المحنة من الفاسقين، وأن المحنة لا يطيقها، ولا يقوم من الناس
__________
(1) في (ب،ط): لم يخبر عن فعله.
(2) في (ط): السحاقة.

(1/443)


لها؛ إلا ذووا الإصطبار من عباده الصالحين. ثُمَّ أمر سبحانه نبيه والمؤمنين بالصبر؛ فقال: {وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ} [لقمان: 17]. وقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [آل عمران: 200]، فأمرهم بالصبر، وحضهم عليه في كل أمر، ونهى من يطيق ويحتمل عن الوهن والعجز. فقال: {وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا} [آل عمران: 139]، وقال: {فَلاَ تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السِّلْمِ وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ} [محمد: 35].
ولو كان خلق الوهن وما كان من أفعالهم؛ لما كان جزع ولا هلع ولا صبر ولا عدد(1) من أعمالهم، بل كان عمله سبحانه لا عملهم، وفعله كل ذلك لا فعلهم، ولو كان ذلك فعل الرحمن؛ لما أثاب على صبره الإنسان.
__________
(1) في (أ،ب): ولا عذر.

(1/444)


ألا تسمع كيف يقول ذو الجلال والقدرة والطول: {بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلاَفٍ مِنَ الْمَلاَئِكَةِ مُسَوِّمِينَ} [آل عمران: 125]؟ وقال سبحانه: {وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيراً وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً} [الأحزاب: 35]، فضمن للصابرين على الجهاد النصر، وللعاملين المؤدين للفريضة المغفرة والأجر. وقال سبحانه يحكي عن رسوله صلى الله عليه وآله ما قال لأبي بكر؛ إذ هما في الغار من المشركين مختفيان؛ إذ هلع أبو بكر وحزن وجزع؛ فقال صلى الله عليه وآله: {لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} [التوبة: 40]، فنهاه عن الحزن، ولو كان الهلع والحزن والجزع تركيباً في الإنسان؛ من الله الواحد ذي السلطان؛ لما أمره الرسول صلى الله عليه وآله بتركه، ولما قدر على رفض ما كان فيه من ربه؛ ولكان من هلع وجزع، عند الله كمن أطاع وصبر وسمع، إذ هما من الله فعل في العالمين، وهم ـ إن كان ذلك ـ لله طراً مطيعون؛ إذ هم في كل ما صرفوا متصرفون، ولو كان ذلك فعلاً من الله فيهم، وكان على ذلك خلقهم؛ لم يلمهم، ولم يعاقبهم على الجزع والجبن والإنهزام وتولية الأدبار؛ عند لقاء الفسقة الأشرار، وذلك قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفاً فَلاَ تُوَلُّوهُمُ الأَدْبَارَ* وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلاَّ مُتَحَرِّفاً لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} [الأنفال: 16]، فكيف يوجب الغضب عليهم، ويجعل النار

(1/445)


مأواهم؛ على فعل ما(1) عليه خلقهم وسواهم!؟ تعالى الله عن ذلك، وتقدس أن يكون كذلك، بل ذلك فعل منهم، ولذلك رجع وباله عليهم، فمن كان لله مريداً صبر عند المحنة، ومن كان عنه بعيداً هلع، وعند النوازل جزع، وإنما يكون ذلك على قدر اليقين، والتسليم لله من المؤمنين.
ومن ذلك يوم حنين، حين انهزم المسلمون وجزعوا، وثبت مع رسول الله صلى الله عليه وآله الذين ثبتوا(2)، ثُمَّ ناداهم الرسول فرجعوا. أفيقول الحسن بن محمد: إن الله سبحانه خلقهم جُزَّعاً، فانهزموا لما خلقهم عليه من الجزع، ثُمَّ ناداهم الرسول فاستحيوا منه فكروا، وعن خلق الله الذي خلقهم عليه غيروا، فتركوا ما ركب الله فيهم من الجزع والجبن!؟ أم يقول: إن الله عز وجل خلقهم في أول الأمر جزعاً هلعاً، ثُمَّ نقل خلقهم آخراً فجعلهم صبراً!؟ لقد ضل إذاً ضلالاً بعيداً، وخسر خسراناً مبيناً، بل ذلك منهم كله أوله وآخره، ولذلك أثيبوا على الرجوع، ولو لم يرجعوا لعوقبوا على الذهاب والشسوع، فليفرق من عقل بين ما أخبر الله سبحانه عنه، وبين ما فعله وجعله، فبينهما ولله الحمد فرق عند ذوي العقول عظيم، وأمر واضح في اللسان بين جسيم. تم جواب مسألته.
المسألة التاسعة والعشرون:
عن الصم البكم، هل يستطيعون أن يقبلوا الهدى؟
ثُمَّ أتبع ذلك المسألة عن قول الله سبحانه حين يقول للمؤمنين: {وَلاَ تَكُونُوا كَالَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا وَهُمْ لاَ يَسْمَعُونَ* إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ البُكْمُ الَّذِينَ لاَ يَعْقِلُونَ} [الأنفال: 21]، هل كان هؤلاء الذين ذكر يستطيعون أن يقبلوا الهدى وأن يسمعوا المنفعة في دينهم؟ فإن قالوا: نعم؛ فقد كذبوا وجحدوا، وإن قالوا: لا؛ كان ذلك نقضاً لقولهم. تمت مسألته.
جوابها
__________
(1) في (أ): على ما فعل فيهم وما عليه.
(2) في (أ): اتبعوا.

(1/446)


وأما ما سأل عنه من قول الله: {وَلاَ تَكُونُوا كَالَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا وَهُمْ لاَ يَسْمَعُونَ}، فتوهم أنهم كانوا لا يسمعون لصمم جعله الله سبحانه في آذانهم، أو لسبب جعله حاجزاً بين الهدى وبينهم، وليس ذلك والحمدلله كذلك، ولو كان الله فعل ذلك بهم لما عاب صممهم، ولكان(1) أعذر لهم من أنفسهم، ولما بعث إليهم المرسلين، ولا أمرهم باتباع المهتدين، وإنما أراد الله سبحانه بذلك حض المؤمنين؛ على الطاعة لرب العالمين، والاستماع لسيد المرسلين، فقال للمؤمنين: {وَلاَ تَكُونُوا كَالَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا وَهُمْ لاَ يَسْمَعُونَ}، يقول: لا تكونوا كالذين قالوا أطعنا بألسنتهم؛ وهم كاذبون في قلوبهم، بل قلوبهم منكرة لذلك جاحدة له، يدارون(2) بالقول، خوفاً من المؤمنين والرسول، ويكفرون من ورائه بكل الدين والتنزيل، وهم الذين قال فيهم الرحمن الجليل: {وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ} [البقرة: 14]، وقال: {يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ} [الفتح: 11]، وهم الذين قال الله فيهم؛ من منافقي قريش والأعراب وغيرهم: {إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ} [المنافقون: 1]، فنهى المؤمنين عن مشابهة المنافقين، ولم يكن قوله ما قال إخباراً منه بتركيب ماذمه منهم فيهم، ولو كان الله سبحانه فعله فيهم؛ لما نهى المؤمنين عن ذلك إذ هو فعله لا فعلهم، فكيف ينهاهم عن أن يفعلوا فعله؟ ولو جاز أن ينهاهم عن فعل ما فعله فيهم؛ لكانوا مقتدرين على أن يفعلوا كفعله (ولو كانوا مقتدرين على أن يفعلوا كفعله)(3)
__________
(1) في (ط): ولكن.
(2) في (ب): يدرأون. ولعلها: يداورون.
(3) سقط من (ط) سهواً.

(1/447)


، إذاً لخلقوا كخلقه، ولو خلقوا كخلقه؛ لامتنعوا بلا شك مما يكرهون من أفعاله، من موتهم وابتلائه إياهم بما يبتليهم به، ولتزيدوا(1) فيما آتاهم مما يحبونه، فتعالى من هو على خلاف ذلك، والمتقدس عن أن يكون كذلك.
وأما ما سأل عنه من قول الله سبحانه: {إِنَّ شَرَّ الدَّوَآبِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ البُكْمُ الَّذِينَ لاَ يَعْقِلُونَ}، فقال: هل كان هؤلاء يقدرون على أن يقبلوا الهدى؟ أو أن يسمعوا ما يدلون عليه من التقوى؟ فصدق الله سبحانه: {إِنَّ شَرَّ الدَّوَآبِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ البُكْمُ الَّذِينَ لاَ يَعْقِلُونَ}(2)[الأنفال: 22].يقول: الذين لا يهتدون إن هدوا، ولا يقبلون الحق إن دعوا، ولا ينتهون إذا نهوا، فضرب الله لهم ذلك مثلاً إذ كانوا في الضلال على هذه الحال، وهم في ذلك لقبول الحق مطيقون(3)،وعلى اتباع الصدق مقتدرون، فلما أن تركوا ذلك شبههم الله بالصم البكم الذين لا يعقلون؛ إذ تركوا فعل ما كانوا يطيقون. تم جواب مسألته.
المسألة الثلاثون:
عن قول الله في المنافقين {ذهب الله بنورهم..}
ثُمَّ أتبع ذلك المسالة عما ضرب الله عز وجل للمنافقين عن المثل في قوله: {مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَاراً فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لاَ يُبْصِرُونَ * صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ} [البقرة: 18]، فيقول: الا يرون أن الله هو الذي ذهب بنورهم وتركهم في ظلمات لا يبصرون؟ فأخبرونا هل كان هؤلاء يستطيعون سماع الهدى، وقد وصفهم الله سبحانه بالصمم؟ وهل كان لهم أن يقبلوا الهدى؛ وقد وصفهم بالعمى؟ وهل كانوا ينتفعون بنور الهدى وقد ذهب الله به؟ فإن قالوا: نعم؛ فقد كذبوا بكتاب الله وجحدوا بآياته، وإن قالوا: لا؛ كان ذلك نقضاً لقولهم. تمت مسألته.
جوابها
__________
(1) في (أ): ولازدادوا.
(2) سقط من (ب).
(3) في (ط): مطيعون.

(1/448)


وأما ما سأل عنه من قول الله في المنافقين، وما ضرب لهم من المثل في قوله: {مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَاراً فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لاَ يُبْصِرُونَ * صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ}، فقال: ضرب مثلهم؛ ثُمَّ جهل فقال: خلقهم وكفرهم، فرجع عن الحق الذي نطق به في أول كلامه حين يقول: ضرب مثلاً، ثُمَّ قال: هل يستطيعون سماع الهدى، وقد وصفهم الله جل ثناؤه بالصمم والعمى؟

(1/449)


فقولنا في ذلك: إن الله جل وعلا لم يخلقهم كذلك، ولم يجعلهم عمياً، ولا عن سماع الخير والتقى صماً، وأن الله تبارك وتعالى ضرب لهم هذا مثلاً؛ فقال سبحانه: إن هؤلاء الذين أتاهم الهدى، وكشف لهم عن الحق الغطاء؛ فأنار لديهم، وثبت في صدورهم، وأيقنوا أنَّه من عند خالقهم، فكفروا بربهم، وخالفوا أمر نبيهم، وآثروا ظلمتهم(1) على ما أضاء من الحق لهم، فتركهم الله وخذلهم، ومثَّلَهم؛ إذ تركواا تركوا حظهم، وما أنار من الحق عندهم؛ بمن استوقد ناراً فلما أضاءت ما حوله ذهب الله بنورهم، فكان الذي شبهه بضوء النار هو الهدى الذي أخرجه الله لهم، وامتن به عليهم؛ فتركوه ولم يتبعوه، ولم يستضيئوا بنوره وناصبوه وعاندوه، لا ما يقول الحسن بن محمد أن الله سبحانه فعل ذلك بهم، وجعلهم(2) عن استماع الحق صماً وعمياً، وعن قبول الصدق حاجزاً، فجهل الفرق بين المثل والفعل، وكيف يجعلهم الله كذلك، ويخلقهم على ذلك، ثُمَّ يرسل إليهم نبيه يدعوهم إلى الهدى، ويخرجهم من الحيرة والعمى؛ وهم عن الخروج ممنوعون، وعن الدخول في الحق مصروفون؟ فالله سبحانه إذاً أرسله يدعوهم إلى الخروج عما فيه أدخلهم، وعليه ـ جل وعز عن ذلك ـ حملهم(3)، فنسبوا في ذلك إلى الله الاستهزاء، واللعب والإعماء(4)، والجهالة والخطأ، والظلم لعباده، والفساد(5) في بلاده.
كذب القائلون على الله بذلك، وضلوا ضلالاً بعيداً. تم جواب مسألته.
المسألة الحادية والثلاثون:
عن قوله تعالى: {إنما نملي لهم ليزدادوا إثماً}
__________
(1) في (أ): باطلهم.
(2) في (أ): وخلقهم.
(3) في (ط): جبلهم.
(4) في (أ): والعبث والإغواء.
(5) في (أ): والإفساد.

(1/450)


ثُمَّ أتبع ذلك المسألة عن قول الله في الإملاء: {وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْماً} [آل عمران: 178]، فقال: خبرونا عن قول الله: {وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْماً وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ}، فقال: أخبرونا عن هؤلاء، ألله أراد بهم في إملائه لهم ليزدادوا إثماً، كما قال؟ فإن قالوا: نعم؛ نقض ذلك(1) قولهم، وإن قالوا: لا؛ كذبوا. تمت مسألته.
جوابها
وأما ما سأل عنه من قول الله جل جلاله، عن أن يحويه قول أو يناله: {وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْماً وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ}، فقال: إن الله أملى لهم ليزدادوا في الكفر والاجتراء عليه، وليس ذلك كما قال، بل قوله أحول المحال، وسنشرح ذلك والقوة بالله ونفسره، ونذكر ما أراد الله إن شاء الله به، فنقول: إن معنى إملائه لهم هو؛ لأن لا يزدادوا إثماً وليتوبوا ويرجعوا، ومن وسن ضلالتهم ينتبهوا(2)، لا ما يقول أهل الجهالة؛ ممن تحير وتكمه في الضلالة: إن الله املى لهم كي يزدادوا إثماً، وضلالة واجتراء، وكيف يملي لهم كذلك؛ وقد نهاهم عن يسير ذلك؛ فقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ} [الحجرات: 12]، فنهاهم عن يسير الإثم وقليله، فكيف يملي لهم ليزدادوا من عظيمه وكثيره؟
__________
(1) في (أ): نقضوا.
(2) في (ب،ط): ينتهوا.

(1/451)


فأما قوله: {لِيَزْدَادُوا إِثْماً}؛ فإنما أراد سبحانه لأن لا يزدادوا إثماً؛ فطرح (( لا )) وهو يريدها؛ فخرج لفظ الكلام لفظ إخبار ومعناه معنى نفي، والعرب تطرحها وهي تريدها، وتثبتها وهي لا تريدها، قال الله سبحانه: {لِئَلاَّ يَعْلَمَ أَهْلُ الكِتَابِ أَلاَّ يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الفَضْلِ العَظِيمِ} [الحديد: 19]، فقال: (( لئلا ))؛ فأثبت (( لا )) وهو لا يريدها، فخرج لفظ الكلام لفظ إيجاب، ومعناه معنى نفي، أراد الله سبحانه ليعلم أهل الكتاب أن لا يقدرون على شيء من فضل الله، وهذا فموجود في أشعارهم، مثبت في أخبارهم.
قال الشاعر:
نزلتم منزل الأضياف منا…فعجلنا القرى أن تشتمونا
فقال: فعجلنا القرى أن تشتمونا، وإنما معناه: فعجلنا القرى لأن لا تشتمونا، فطرح (( لا )) وهو يريدها، فخرج لفظ الكلام بخلاف معناه.
وقال أخر:
ما زال ذو الخيرات(1) لا يقول… ويصدق القول ولا يحول
فقال: لا يقول، فأتى بـ(( لا )) وهو لا يريدها، وإنما معناها: ما زال ذو الخيرات يقول، فخرج اللفظ خلاف المعنى. تم جواب مسألته.
المسألة الثانية والثلاثون:
عن من أغفل الله قلبه، هل أراد الله أن يطيعه؟
ثُمَّ أتبع ذلك المسألة عن قول الله عز وجل في الإغفال: {وَلاَ تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً} [الكهف: 28]، فقال: أخبرونا عن هذا الذي أغفل الله قلبه عن ذكره، هل أراد الله أن يطيعه؟ فإن قالوا: نعم، فقد كذبوا وجحدوا، وإن قالوا: لا، فقد نقض ذلك(2) قولهم. تمت مسألته.
جوابها
__________
(1) في (أ): ذو الجبروت.
(2) في (أ): فذلك نقض لقولهم.

(1/452)


وأما ما سأل عنه من قول الله سبحانه: {وَلاَ تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا}، فقال: خبرونا عن هذا الذي أغفل الله قلبه عن ذكره، هل أراد الله أن يطيعه؟ فتوهم ويحه وغوله؛ إن لم يتب من الله وويله ‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍ ، أن الله تبارك وتعالى أدخله في الغفلة، وحال بينه بذلك وبين الطاعة، فليس كما توهم، ألا يسمع إلى قول الله عز وجل: {وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً}؟ فأخبر سبحانه أنَّه متبع في ذلك لهواه، ضال عن رشده تارك لهداه، ولو كان ذلك من الله لم يكن العبد متبعاً لنفسه هواء، بل كان داخلاً لله فيما شاء وارتضى.
وسنفسر معنى الآية إن شاء الله، والقوة بالله وله، فنقول: إن الله تبارك وتعالى نهى نبيه عن طاعة من أغفل قلبه ممن آثر هواه على هداه.
وأما معنى ما ذكر الله سبحانه من الإغفال؛ فقد يخرج على معنيين والحمد لله شافيين كافيين:
أحدهما: الخذلان من الله، والترك لمن اتبع هواه، وآثره على طاعة مولاه، فلما أن عصى، وضل وغوى، وترك ما دُلَّ عليه من الهدى؛ استوجب من الله الخذلان، لما كان منه من الضلال والكفران، فغفل وضل وجهل؛ إذ لم يكن معه من الله توفيق ولا ارشاد، فتسربل سربال(1) الغي والفساد.
وأما المعنى الآخر: فبين في لسان العرب موجود، معروف عند كلها محدود، وهو أن يكون معنى قوله: {أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا} أي تركناه من ذكرنا، والذكر فهو التذكرة من الله والتنبيه والتسديد، والتعريف والهداية إلى الخير والتوفيق، فيقول سبحانه: تركنا قلبه من تذكيرنا وعوننا وهدايتنا، بما أصر(2) عليه من الإشراك بنا والاجتراء علينا، تقول العرب: يا فلان أغفلت فلاناً، ويقول القائل: لا تغفلني، أي تتركني، وتقول العرب: قم مني، أي قم عني، فتخلف بعض حروف الصفات ببعض، وتقيم بعضها مقام بعض.
__________
(1) في (أ): سرابيل.
(2) في (أ): اجترأ.

(1/453)


قال الشاعر(1):
شربن بماء البحر ثُمَّ ترفعت…لدى لجج خضر لهن نئيج
فقال: لدى لجج، وإنما يريد: على لجج، فذكر السحاب ونشطها(2) وشربها من البحار، واستقلالها بما فيها من الأمطار. وقال آخر:
أغفلت تغلب من معروفك الكاسي(3)… فخلت قلبك منهم مغضباً قاسي
(فقال: أغفلت تغلب من معروفك، أي تركتها من عطائك ونوالك، ومنتك وإفضالك، ثُمَّ قال: فخلت قلبك منهم مغضباً قاسي) (4)، فقال: منهم، وإنما يريد: عليهم مغضباً، فأقام حرف الصفة وهو(( من ))؛ مقام أختها وهي (( على ))، فأقام (( منهم )) مقام (( عليهم ))، فهذا معنى الآية إن شاء الله ومخرجها، لا ما توهم الجهال، على ذي المعالي والجلال؛ من الجبر لعباده والإضلال، والظلم والتجبر(5) بالأغفال. تم جواب مسألته.
المسألة الثالثة والثلاثون:
عن قول الله: {ألم تر أنا أرسلنا الشياطين على الكافرين تؤزهم أزاً}
ثُمَّ أتبع ذلك المسألة عن قول الله في الأَزِّ(6)، فقال: خبرونا عن قول الله سبحانه: {أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزّاً} [مريم: 83]، فيقال لهم: هل أراد الله سبحانه أن يؤمن هؤلاء الذين أرسل عليهم الشياطين؟ فإن قالوا: نعم؛ فقد كفروا(7) وجحدوا، وإن قالوا: لا؛ فقد نقض ذلك قولهم. تمت مسألته.
جوابها
__________
(1) هو أبو ذؤيب الهذلي، والبيت من الشواهد المعروفة.
(2) يعني انتزاعها للماء من البحر، وفسر بعضهم قوله تعالى: {والناشطات نشطاً} بالسحاب.
(3) في (أ): الفاشي.
(4) سقط من (أ).
(5) في (أ): والتحيير والإغفال.
(6) في (أ): سبحانه في الإرسال في الأز.
(7) في (أ): كذبوا.

(1/454)


وأما ما سأل عنه من قول الله سبحانه وتعالى عن كل شأن شأنه: {أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزّاً}، فقال: هل أراد الله من هؤلاء الذين أرسل عليهم الشياطين تؤزهم أن يكونوا به من المؤمنين؟ وبما أنزل عز وجل من المصدقين؟ وقد أرسل عليهم مردة الشياطين؟ فتوهم ـ بجهله ـ أن الله أرسل الشياطين على الآدميين إرسالاً، وجبرهم على تحييرهم وتضليلهم جبراً، وأدخل الشياطين في إغوائهم قسرا، ليضلوهم عن الهدى، ويوقعوهم في الردى، وأن ذلك كان من الله للشياطين أمرا وقضاء؛ قضى به عليهم(1) قسرا، وليس ذلك بحمدالله كما قال، ولا على ما ذهب إليه من فاحش المقال، وكيف يرسل الشياطين على عباده إرسالاً، ويدخلها في الإغواء لهم إدخالاً، ثُمَّ يعذبها عليه، ويعاقبها فيه؟! ألا تسمع كيف يقول سبحانه: {لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ} [ص: 85]، فلم ـ إن كان أرسله(2) عليهم ـ إذاً يعاقبه(3) على ما صنع فيهم؟ بل هو على غير ما يقول في الرحمن؛ أهل الضلالة والطغيان.
__________
(1) في (ب): عليها.
(2) في (أ): أرسلها.
(3) في (أ): عاقبهم.

(1/455)


ثُمَّ نقول من بعد ذلك: إن معنى قوله سبحانه: {أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ}، هو: خلينا، ولم نحل بين أحد من بعد أن أمرنا ونهينا. وليس إرساله للشياطين؛ إلا كإرساله للآدميين، فكل قد أمره بطاعته، ونهاه عن معصيته، وجعل فيه ما يعبده به من استطاعته، ثُمَّ بصرهم وهداهم، ولم يحل بين أحد وبين العمل، فمن عمل بالطاعة أثابه، ومن عمل بالمعصية عاقبه، ولم يخرج أحداً من معصيته جبراً، ولم يدخله في طاعته قسراً، فكان ما أعطى من أعطى من الجن والإنس(1) من الاستطاعات، وترك قسرهم على الطاعات؛ إرسالاً وتخلية منه لهم في الحالات، لا ما يقول به أهل الجهالات: {لَيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ} [الأنفال: 42]، فلما خذل الكافرين بكفرهم، ولعنهم بجرأتهم(2)، وتبرأ منهم بعصيانهم؛ غريت(3) بهم الشياطين، وسولت لهم وأملت، فاتبعوها ولم يعصوها ويبعدوها(4)، ولم يتذكروا عندما يطيف بهم طائف الشيطان بل تكمهوا، وغووا وعموا، ولم يكونوا في ذلك عنده كالذين اتقوا؛ فيفعلوا عند إلمام الشيطان بهم كما فعلوا. قال الله سبحانه: {إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ} [الأعراف: 201]، يقول سبحانه: ذكروا ما نهاهم الله عنه من طاعته، وأمرهم به من مخالفته واتخاذه عدواً؛ حين يقول: {إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوّاً إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ} [فاطر: 6]، فلما أن طاف بالمؤمنين، ودعاهم إلى ما أجابه إليه ـ من الكفر بالله ـ الفاسقون؛ ذكروا الله،
__________
(1) في (ب) و(ط): فكان من أعطى من الجن والإنس. ولعل الصواب: فكان ما أعطى الجن والإنس.
(2) في (ط): بجرائمهم.
(3) في (ط): غويت.
(4) في (أ): وتعبَّدوها.

(1/456)


وتذكروا أمره ونهيه، وما أمرهم به من طاعته، وحذرهم من معصيته، فأبصروا الحق واجتنبوا اللعين(1) وعصوه، وفيما دعاهم إليه من العصيان خالفوه. ألا تسمع كيف أثنى عليهم بذلك ربهم، وذكر عنهم سيدهم وخالقهم؛ حين يقول: {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ} [الحجر: 42]، يقول سبحانه: إن عبادي المؤمنين، وأوليائي المتقين؛ لا يجعلون لك عليهم سلطاناً، ولا يطيعونك فيما تأمرهم به من العصيان، بل يحترسون منك بطاعة الرحمن، وتلاوة القرآن، ويخالفونك(2) صاغراً في كل شأن، فلا يجري (ولا يجوز) (3) لك عليهم سلطان، وليس تخليته للشياطين؛ إلاَّ كإذنه للساحرين؛ حين يقول: {وَمَا هُمْ بِضَآرِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ}، فإذنه في ذلك تخليته، وترك الصرف لهم جبراً عن معصيته، والإدخال لهم جبراً في طاعته. تم جواب مسألته.
المسألة الرابعة والثلاثون:
عن فرعون، هل كان يستطيع أن يقتل موسى حتى لا يرده الله إلى أمه؟
ثُمَّ أتبع ذلك المسألة عن قول الله سبحانه في موسى، وما وعد أمه أن يرده إليها ويجعله من المرسلين؛ فقال خبرونا عن قول الله سبحانه: {وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلاَ تَخَافِي وَلاَ تَحْزَنِي إِنَّا رَآدُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِيْنَ} [طه: 39]، هل كان فرعون يستطيع أن يقتل موسى(4) حتى لا يرده الله إلى أمه، ولا يجعله من المرسلين؟ فإن قالوا: نعم، كذبوا وجحدوا، وإن قالوا: لا، فقد نقض ذلك قولهم. تمت مسألته.
جوابها
__________
(1) في (أ): الغي.
(2) في (ط): ويخلِّفونك.
(3) ليس في (أ).
(4) في (أ): هل استطاع فرعون قتل موسى.

(1/457)


وأما ما سأل عنه من قول الله عز وجل في موسى: {وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلاَ تَخَافِي وَلاَ تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِيْنَ}، فقال: هل كان يستطيع فرعون أن يقتل موسى حتى لا يرده الله إلى أمه ولا يجعله من المرسلين؟ فقال: إن الله أخرج فرعون من أكبر المعاصي بعد الشرك به من قتله نبيه إخراجاً، ومنعه من معصيته منعاً، وقسره على الخروج قسراً، ولو جاز أن يخرج عدوه من معاصيه قسراً؛ لكان قد أدخله في ضدها من الطاعة جبراً، ولو كان يخرج العاصين؛ من المعاصي رب العالمين؛ لكان عباده المؤمنون أولى بذلك، ولو أخرج عباده ومنعهم من معاصيه قسراً؛ لأدخلهم في طاعته جبراً، ولو فعل ذلك بهم؛ لسقط معنى الأمر والنهي، ولكان(1) العامل دونهم، الفاعل لأفعالهم، تعالى الله عن ذلك، لم يُطَع سبحانه مكْرِهاً، ولم يُعصَ جل جلاله مغلوباً.
__________
(1) في (ط): ولكن. وهو غلط.

(1/458)


بل نقول في ذلك بالحق إن شاء الله؛ فنقول : إن الله لما أن علم أنَّه إذا ألقى على موسى صلى الله عليه من المحبة التي ذكر أنَّه ألقاها عليه في قوله: {وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي} [القصص: 7]، فلما القى عليه المحبة أحبته لذلك امرأة فرعون، فسألت فرعون تركه؛ عندما هم به من قتله، حين تبين له ما كان من فعله في صغره، فتركه لها، وصفح عنه لحب محبتها. واتباع سارِّها؛ فكان ذلك نجاة لموسى مما هم به فيه فرعون، الكافر الملعون، فلما أن علم الله سبحانه أن ذلك سيكون من اختيار فرعون، وأنه سيختار إجابة امرأته إلى ما طلبت من ترك قتل نجيِّ الله، حكم عليه بما علم من صيور أمره، فكان ما ألقى عليه من المحبة منه سبحانه سبباً لنجاته، فنجاه الله من فرعون، ورده(1) إلى أمه كي تقر عينها ولا تحزن. فأخبر الله في ذلك ووعدها ما وعدها؛ لعلمه بما سيكون؛ من امرأة فرعون؛ وطلبها في موسى، وإجابة فرعون لها، كما أخبر عما يكون يوم الدين. فهذا معنى ما ذكر الله من ذلك إن شاء الله، لا ما قال الفاسقون، وذهب إليه الضالون. تم جواب مسألته.
المسألة الخامسة والثلاثون:
عن قول الله: {وكذلك حقت كلمة ربك..}، وهل كان بنو آدم يستطيعون أن يطيعوا الله جميعاً؟
__________
(1) في (أ،ب): ورجعه.

(1/459)


ثُمَّ أتبع ذلك المسألة عن قول الله سبحانه: {وَكَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ أَصْحَابُ النَّارِ} [غافر: 6]، وقوله: {وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ} [هود:119]، وقوله: {وَلَوْ شِئْنَا لآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا} [السجدة: 13]، فقال أخبرونا عن بني آدم كلهم؛ هل كانوا يستطيعون أن يطيعوا الله جميعاً فلا يعصوه؟، ويعبدوه كلهم حتى لا يعبدوا غيره؟ فيوجب لهم الجنة ويحرم عليهم النار فلا يدخلها أحد منهم؟ فإن قالوا: نعم؛ فقد كذبوا بكتاب الله، وزعموا أنهم يقدرون على أن يبطلوا قول الله، تبارك وتعالى عن ذلك، وإن قالوا: لا، لم يكونوا يستطيعون أن يطيعوا ولا يعبدوا، كان ذلك نقضاً لقولهم، وإبطالاً لحجتهم. تمت مسألته.
جوابها
وأما ما سأل عنه من قول الله سبحانه: {وَكَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ أَصْحَابُ النَّارِ}، فقال: خبرونا (عن قول الله: {وَكَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ أَصْحَابُ النَّارِ}، فقال) (1)، هل يستطيع هؤلاء أن يطيعوا، وقد حق عليهم من الله القول والأمر، ووقع الحكم والخبر؟ فتوهم الحسن بن محمد لقلة علمه(2) وكثرة جهله أن الله تبارك وتعالى حكم عليهم بما أدخلهم فيه وجبلهم عليه، فظلم نفسه وكفر بربه(3).
وليس ذلك على ما قال، ولا على ما ذهب إليه من المحال، وسنفسر ذلك من قول الله تبارك وتعالى فنقول: إن الكلمة التي حقت هي: حكمه على من كفر من الخلق بالنيران، من الجنة والإنسان، فإن الله تبارك وتعالى علم بما سيكون منهم من العصيان والإحسان، فأوجب للمحسنين الثواب، وعلى المذنبين(4) العقاب.
__________
(1) ليس في (أ).
(2) في (ط): عمله.
(3) في (ب،ط): فظلم ربه وكفَّر نفسه.
(4) في (أ): المجرمين.

(1/460)


فأما ما سأل عنه من قوله: هل كانوا يستطيعون أن يطيعوا الله جميعاً فلا يعصوه؟ فكذلك نقول: إنهم كانوا يستطيعون طاعته، كما يطيقون(1) معصيته، ولكنهم افترقت بهم الأهواء، فمنهم من اختار الإيمان والتقوى، ومنهم من اختار الضلالة والعمى، والله تبارك وتعالى إنَّما حكم بالنيران؛ على من اختار من الثقلين العصيان، وكره ما أنزل الرحمن. فعلم الله وقع على اختيارهم، وما يكون من أفعالهم، ولم يدخلهم في صغيرة، ولم يخرجهم من كبيرة، ولو علم أنَّه إذا دعاهم، وبصرهم وهداهم؛ أجابوه بأسرهم، وأطاعوه في كل أمرهم؛ إذاً لأخبر بذلك عنهم، كما أخبر به عن بعضهم، وكذلك لو علم أنهم يختارون بأجمعهم المعصية؛ لحكم بالنار عليهم كلهم، كما حكم على الذين كفروا منهم.
وأما قوله سبحانه: {وَلَوْ شِئْنَا لآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا وَلَكِنْ حَقَّ القَوْلُ مِنِّي لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ} فكذلك الله سبحانه، لو شاء أن يجبر العباد على طاعته جبراً، ويخرجهم من معصيته قسراً؛ لفعل ذلك بهم، (ولو فعل ذلك بهم) (2)، وحكم به عليهم؛ لم يكن ليوجد عقاباً، ولا ليخلق ثواباً، ولكان الناس كلهم مصروفين لا متصرفين، ومفعولاً بهم لا فاعلين، ولكنه سبحانه أراد أن لا يثيب ولا يعاقب إلاَّ عاملاً(3)، متخيراً مميزاً، فأمر العباد ونهاهم، وبصرهم وهداهم، وجعل فيهم استطاعات؛ ينالون بها المعاصي والطاعات، ليطيع المطيع فيستأهل بعمله وتخيره(4) الثواب، ويعصى العاصي فيستوجب باكتسابه العقاب.
__________
(1) في (أ): يستطيعون.
(2) سقط من (ب).
(3) في (ب،ط): عاقلاً.
(4) في (أ): ويجزيه.

(1/461)


فأما قوله: {وَلَكِنْ حَقَّ القَوْلُ مِنِّي لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ}، فهو: وجب وحق الحكم مني بما حكمت به، ومضى ووقع على(1) ما جعلته؛ من عقاب المذنبين، وثواب المحسنين؛ من الجنة والناس أجمعين. فهذا معنى قوله سبحانه لا ما قال المبطلون، ونسب إليه سبحانه الجاهلون؛ من ظلم العباد، والإدخال لهم في الفساد. تم جواب مسألته.
المسألة السادسة والثلاثون:
عن الطاعة والإيمان، هل هما مما خص الله به بعض خلقه دون بعض؟
ثُمَّ أتبع ذلك المسألة عن قول الله سبحانه: {انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلآَخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلاً} [الإسراء: 21]، فيقال لهم: ألستم تقرون أنَّه قد فضل بعض خلقه على بعض في الدنيا والآخرة، وخص بذلك بعض خلقه دون بعض؟ فإن قالوا: نعم؛ انتقض قولهم، و[ثبت] أن الطاعة والإيمان مما فضل الله به [بعض] عباده، وخصهم به من رحمته، وإن قالوا: لا؛ فقد جحدوا بآيات الله وكذبوا كتابه. تمت مسألته.
جوابها
__________
(1) في (ط): عليه.

(1/462)


وأما ما سأل عنه من قول الله جل جلاله: {انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلآَخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلاً} [الإسراء: 21]، فقال: إن الله سبحانه فضل قوماً بأن أدخلهم في الإيمان؛ على قوم أدخلهم في الكفر والعصيان، فضل بذلك وغوي، وهلك عند الله وشقي، ونسب إلىالله سبحانه من ذلك الجور والردى، فتعالى وتقدس عن ذلك ربنا. وليس كما قال الجهال؛ من أهل السفاهة والضلال، بل هو كما قال ذو الجلال؛ حين يقول: {يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثاً وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورُ} [الشورى: 49]، وكما قال سبحانه لنبيه عليه السلام: {وَلاَ تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [طه: 131]، ففضل بعضهم على بعض بما وهب من الذكور، وبما يجعل ويوسع به من الأرزاق، ويمن به ويتفضل على من يشاء من الأرفاق، وما يرزق من يشاء من الحسن والجمال، والمنطق والتمام والكمال، فكم قد رأينا، وفهمنا وعاينا؛ من مولود يولد أعمى، وآخر يكون ذا زيادة ونقصان، وآخر سوي غير زائد ولا ناقص، قد تمت عليه من الله النعماء، وصرفت عنه وعن والديه فيه البلوى. فهذا وما كان مثله مما فضل الله به بعضاً على بعض؛ مما ليس فيه على الله حجة، يفعل من ذلك ما يشاء سبحانه ذو الجلال والحكمة، لا يسأل عما يفعل وهم يسألون.

(1/463)


وأما قوله: {وَلَلآَخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلاً}، يقول: إن عطاءنا وامتناننا، ومجازاتنا لأهل طاعتنا؛ في معادهم وآخرتهم على أعمالهم؛ أكبر درجات وأكبر تفضيلا، على اجتهادهم في مرضاتنا، فمن كثر عمله بالخير كان عند الله في الآخرة أكبر درجات ممن نقص عمله، وذلك قوله سبحانه: {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلاَ يُجْزَى إِلاَّ مِثْلَهَا وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ} [الأنعام: 160]. تم جواب مسألته.
المسألة السابعة والثلاثون:
عن الطاعة والإيمان، هل هما مما خص الله به بعض خلقه دون بعض؟
ثُمَّ أتبع ذلك المسألة عن قول الله تبارك وتعالى لإبليس: {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلاَّ مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الغَاوِيْنَ} [الحجر: 42]، وقال: {فَإِذَا قَرَأْتَ القُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ* إِنَّه لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ* إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ} [النحل: 99]، وقال إبليس: {لأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ* إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ} [الحجر:39]، فقال(1): أخبرونا عن هذا السلطان، ما هو؟ فإن قالوا: هو التخييل، فقل: فما أكثر ما لقي منه المؤمنون(2) وأطفالهم، وإن قالوا: هو الدعاء. فقل: فهذا ما لا يدعو (3) به المؤمن والكافر والخلق كلهم، حتى عرض للأنبياء فدعاهم والتمس فتنتهم، فدعاهم كلهم إلى المعصية، وإن قالوا: هو التضليل، ولن يصل بذلك إلى عباد الله المؤمنين، لأن الله عصمهم، وهو الوكيل عليهم؛ فقد أجابوا، ونقض ذلك قولهم. تمت مسألته.
جوابها
__________
(1) في (أ،ب): فقل.
(2) في (أ): من المؤمنين.
(3) في (أ): ما يدعو.

(1/464)


وأما ما سأل عنه من قول الله عز وجل لإبليس: {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلاَّ مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الغَاوِيْنَ}، ومن قوله: {إِنَّه لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ* إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ}. وعن قول إبليس حين قال: {فَبِعِزَّتِكَ لأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ* إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ}، فقال: ما هذا السلطان الذي ليس للشيطان على المؤمنين؟ فتوهم لجهله، وسوء نظره وعلمه، أن الله تبارك وتعالى حال بين إبليس وبين بعض العباد حولاً، ومنعه من الوسوسة لهم منعاً، وقسرهم عنه قسراً، وليس ذلك كما قال، ألا تسمع ما ذكر الله عن آدم وزوجه، وكيف كانت وسوسته لهما حتى أوقعهما فيه. وكذلك (اعترض لعيسى بن مريم حتى دحره، ولم يطمعه في شيء مما ذكره، ولغيرهما من الأنبياء) (1) والمؤمنين، فلو منعه الله من أحد من المؤمنين منعاً، وقسره عن الوسوسة له قسراً، لكان ذلك لأبيهم آدم صلى الله عليه، ولكنه سبحانه منعه من ذلك بالنهي له، والزجر عما هو عليه من إغوائه، وعاقبه عليه، وأعد له النار والعذاب فيه، فقال: {لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ} [هود:119].
__________
(1) سقط من (ب).

(1/465)


فأما السلطان الذي ذكر الله عز وجل أنَّه ليس له على المؤمنين؛ في قوله: {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلاَّ مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الغَاوِيْنَ}؛ فهو ما علم من المؤمنين من طرده ودحره، وترك طاعته في وسوسته وأمره، وأنهم لا يجعلون له عليهم سلطاناً بشيء من الطاعة له من العصيان(1) لربهم، وأنهم لا يزالون مؤثرين(2) لطاعة الرحمن، محترسين من الشيطان بتلاوة القرآن، والاعتصام بذي الجلال المنان، فهم أبداً لله مراقبون، وفي طاعته ساعون، وللشيطان اللعين معادون، كما أمرهم ربهم حين يقول: {إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوّاً}[فاطر:6]، وفي كل ما أمرهم به مخالفون، فأولئك هم المهتدون؛ الذين على ربهم يتوكلون، فليس له على هؤلاء سلطان، وإنما سلطانه على الذين يتولونه والذين هم به مشركون، وكذلك سلطانه على أوليائه، وهو دعاؤه لهم، وإغواؤه إياهم، وقبولهم منه، ومثابرتهم عليه، فلما أن قبلوا منه ولم يعصوه؛ كانت طاعتهم له السلطان له(3) عليهم إذ(4) أطاعوه، وفي دعائه اتبعوه. تم جواب مسألته.
المسألة الثامنة والثلاثون:
هل يخص الله برحمته من يشاء من خلقه، أم هي عامة؟
__________
(1) كذا في النسخ، ولعلها: ومن العصيان.
(2) في (أ): مؤتمرين.
(3) في (أ): سلطان له.
(4) في (ب): إذا.

(1/466)


ثُمَّ أتبع ذلك المسألة فقال: أخبرونا، هل يخص الله برحمته من يشاء من خلقه؟ أم ليست له خاصة؟ وإنما هو أمر عام، فمن شاء ترك ومن شاء أخذ؟ فإن قالوا ذلك فقد كذبوا، والله سبحانه يخبر بخلاف قولهم؛ إذ يقول لنبيه عليه السلام: {أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ* وَوَضَعْنَا عَنْكَ وِزْرَكَ} [الإنشراح: 1ـ2]، وقال أيضاً؛ لمن أراد أن يخصه بالهدى من خلقه: {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ}[الأنعام: 125]، وقال أيضاً: {أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ فَهُوَ عَلَى نُوْرٍ مِنْ رَبِّهِ فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ فِي ضَلاَلٍ مُبِيْنٍ} [الزمر: 22]، فقال: أخبرونا عن الشرح، ما هو؟ أهو الهدى؟ أم هو الدعاء؟؛ فإن قالوا: إنَّه الدعاء، زعموا أن كل كافر مشروح الصدر بالإسلام، وأن الخلق كلهم جميعاً قد شرحت صدورهم، لأنهم قد دعوا كلهم، وإن قالوا: هو الهدى، الذي يمن به على من يشاء؛ فقد أجابوا. تمت مسألته.
جوابها
وأما ما سأل عنه فقال: أخبرونا هل يختص الله برحمته من يشاء من خلقه؟ أم ليست له خاصة؟
فإنا نقول كما قال الله سبحانه: {وَأَنَّ الفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ* يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الفَضْلِ العَظِيمِ} [الحديد: 29]، ثُمَّ نقول: إن اختصاص الله برحمته من يشاء من عباده يخرج على معنيين:

(1/467)


فأما أحدهما: فهو مشيئته أن يزيد المهتدين هدى، ويزيد المؤمنين تقوى. وذلك قوله سبحانه: {وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ} [التغابن:11]. وقوله سبحانه: {يَآ أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [الحديد:28]، فشاء سبحانه أن يزيد ويختص برحمته؛ من ثابر على طاعته، وسارع إلى مرضاته، كما شاء أن يخذل من آثر هواه، وأسخط بفعله مولاه.
وأما المعنى الآخر: فهو ما يختص به من يشاء؛ من السلامة والإغناء، وصرف المكاره والبلوى، فتبارك الله الواحد الأعلى.
فهذا ومثله معنى اختصاص الله بالرحمة لمن يشاء، لا ما يقول الفاسقون، ويذهب إليه الضالون؛ من أن الله تبارك وتعالى؛ يخرج من المعصية عباده قسراً، ويدخلهم في طاعته جبراً.

(1/468)


وأما ما سأل عنه من قول الله سبحانه لنبيه صلى الله عليه وآله: {أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ* وَوَضَعْنَا عَنْكَ وِزْرَكَ الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ}؛ فإنا نقول: إن الشرح من الله لصدره؛ هو توفيقه وتسديده، وترغيبه بالهدى وتأييده، وتعليمه ما كان يجهله وتفهيمه، فشرح الله بالإيمان صدره، ورفع بالوحي المنزل قدره. وأما الوزر الذي وضعه الله عن ظهره؛ فهو ما يغفر له من ذنوبه. ومن الوزر ما كان منه من الضلال عن الوحي والهدى، فوضعه الله سبحانه عنه بهداه له. ومما خصه الله به(ما آتاه)(1)؛ من التبصرة(2) والزيادة في تقواه؛ فجعله من بعد أن كان جاهلاً عالماً، ومن بعد أن كان متبعاً متبعاً. ومن ذلك ما وضع عنه من وزر الفقر وضراه، وما متن به عليه من بعد العيلة(3) وأغناه، كما قال تباركت أسماؤه، وعزت بكريم ولايته أولياؤه: {وَوَجَدَكَ عَائِلاً فَأَغْنَى} [الضحى: 8]. وأما قوله سبحانه: {الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ}؛ فهو أوقره وفدحه، وغمه وكربه؛ من الضلال؛ عن العمل برضى رب الجلال، فوضع الله عنه ثقل ذلك بما بصره وأوحى إليه، وفضله وامتن به عليه. وليس ذلك الوزر حملاً من الأحمال على ظهره، ولا وقراً أوقر بحمله، وإنما ذلك على المثل، قال الشاعر(4):
حملت أمراً عظيماً فاضطلعت به…جزاك عنا إله الخلق رضوانا
__________
(1) سقط من (ب،ط).
(2) في (ب،ط): من النصرة.
(3) العيلة: الفقر.
(4) لم أعرف قائله.

(1/469)


وأما ما سأل عنه من قول الله سبحانه: {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ} [الأنعام: 125]، فجوابنا في ذلك أن الشرح من الله هو التوفيق والتسديد، والتبصير والتنبيه، وأن معنى قوله جل جلاله: {يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ}، هو بما يَدَّارك عليه من الأمر والدعاء، وما أمر به عبده ورسوله ونزل عليه، فكلما زاد الله في إقامة الحجة عليهم، والدعاء لهم وإظهار الحق لديهم؛ ازدادوا طغياناً وإثماً، وتمادياً وعمى، فخذلهم الله لذلك وأرداهم، وأذلهم وأشقاهم، فعادت صدورهم؛ لما فيها من الشك والبلاء، وما يخافون من ظهور الحق عليهم والهدى؛ ضيقة حرجة كأنما تصعد في السماء. وإنما مثل الله ضيقها(1) بالتصعيد في السماء، لأن التصعيد أشد الشدة وأعظم البلاء، ولذلك ما قال الله جل ثناؤه في الوليد بن المغيرة المخزومي: {ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً* وَجَعَلْتُ لَهُ مَالاً مَمْدُوداً* وَبَنِينَ شُهُوداً* وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيْداً * ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ* كَلاَّ إِنَّهُ كَانَ لآيَاتِنَا عَنِيداً* سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً} [المدثر: 11ـ17]، فلما أنعم الله عليه بما ذكر، فأبى وأعرض واستكبر، وخالف وكفر؛ وعده الله إرهاق الصعود، وهو الأمر الصعب الشديد؛ من العذاب في دار الآخرة بالنار وأغلال(2) الحديد، فلما أن كان الصعد الذي لا تعرض فيه، ولا سهولة في حيله(3)، وأنه مصعد فيه أبداً، وكان أشد ما يلقى من سلك سبيلا؛ ماشياً أو راكباً؛ مثل الله به لهم ما أعد من العذاب والبلاء. تم جواب مسألته.
المسائل 39 ـ 43
__________
(1) في (ط): صفتها.
(2) في (ط): والأغلال.
(3) كذا في النسخ.

(1/470)


ثُمَّ أتبع ذلك (الحسن بن محمد)(1) المسألة عن قول الله سبحانه في التأييد، وذلك قوله لعيسى بن مريم: {وَآتَيْنَا عِيسَى بْنَ مَرْيَمَ البَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ القُدُسِ} [البقرة: 87]، وقوله للمؤمنين: {فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِيْنَ} [الصف: 14]، في آيٍ كثيرة، فخص الله من يشاء من خلقه من الأنبياء والمؤمنين، ألا ترى أن الله عز وجل لم يكلهم(2) إلى ما زعمتم أنَّه جعله فيهم من الاستطاعة؟ وهي الحجة زعمتم على جميع خلقه، حتى جاءهم سوى ذلك من أمره، فأيدهم به، فظهروا بتأييده، ورعب عدوهم فغلبوا برعبه، ونصرهم فقهروا بنصره.
ثُمَّ قال فيما من به على المؤمنين، ويعلمهم ما صنع بهم مما لم يصنعه بغيرهم، فقال: {هُوَ الَّذِيْ أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيْمَاناً مَعَ إِيْمَانِهِمْ} [الفتح: 4]، وقال أيضاً: {فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا} [الفتح: 26]،فلم يرض لهم ما زعمتم بما جعل من الاستطاعة حتى جاءهم من أمره وعونه سوى ذلك.
__________
(1) ليس في (أ).
(2) في (أ): لم يكلفهم إلا.

(1/471)


وقوله لرسوله: {وَلَوْلاَ أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً * إِذاً لأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لاَ تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيراً} [الإسراء: 74ـ75]، وقوله لأصحاب الكهف: {إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آَمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى* وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَهاً لَقُدْ قُلْنَا إِذاً شَطَطاً} [الكهف: 14]، فلم يرض لهؤلاء ما جعل فيهم من الإستطاعة التي زعمتم أنها حجة على خلقه، وأنه يحتج عليهم بما أخذوا أمره وركبوا معصيته؛ حتى أتاهم من أمره ما بلغوا به ما يشاء من رحمته وهداه، وكذلك هو يفعل ما يشاء سبحانه وبحمده، يضل من يشاء ولا يسأل عما يفعل والخلق يسألون.
وإن قالوا: أخبرونا عن الأعمال، أمخلوقة هي أم غير مخلوقة؟ فأنتم تزعمون أن الله خلقها؟ فإن قالوا: فكيف نسبها الله إلى خلقه، وجعلهم الذين عملوا وتكلموا؟ فقولوا: ألا ترون أن الله عز وجل قد قال: {وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَناً وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الأَنْعَامِ بُيُوتاً} [النحل: 80]، وقال: {وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيْلَ تَقِيْكُمُ الْحَرَّ وَسَرَابِيْلَ تَقِيْكُمْ بَأْسَكُمْ} [النحل: 81]،وأنتم تعلمون أن الناس هم الذين غزلوا ونسجوا السرابيل، وعملوا الدروع، وبنوا البيوت، واتخذوا المظال(1)، وقد من علينا به، وأخبرنا أنَّه جعله، وذلك أنَّه ألهمنا بمنته(2) أن غزلنا، وهو علمنا(3) ذلك، ونسجنا وعلمنا ما عملنا(4)، وأخبرنا أنَّه قد جعله. فكذلك خلق ما عملنا من طاعة أو معصية ونحن عملناهما جميعاً.
__________
(1) في (أ): الظلال.
(2) في (أ): وكذلك ألهمنا بمنه.
(3) في (ب،ط): عملنا.
(4) في (أ): ما علمنا.

(1/472)


وكذلك قال أيضاً: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ * تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِيْنٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} [إبراهيم: 24]. ألا ترون أن الله سبحانه خلق الثمرة في الشجرة وأخرجها منها، ثُمَّ نسب الخروج منها إليها؟ وقال: {تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِيْنٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا} وكذلك أعمال العباد خلقها(1)؛ ثُمَّ نسبها إليهم، وأخبر أنهم عملوها.
فإن قالوا: أخبرونا عن العباد، أمجبورون على الأعمال؛ من الإيمان والكفر، والطاعة والمعصية؟ أم لا؟ فقل: منهم من هو مجبور على ذلك، ومنهم من هو غير مجبور، فأما الذين جبروا على الطاعة فمنهم أهل مكة، افتتحها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قسراً، فأسلموا كرهاً، ولو لم يسلموا قتلهم، واستحل دماءهم وأموالهم، فهذا وجه القسر والجبر. وأما الوجه الآخر فإن الله تبارك وتعالى، قد قذف في قلوبهم الهدى، وكره إليهم الكفر والفسوق والعصيان، ثُمَّ قال: {أُوْلَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ} [الحجرات: 7]، وقد قال في كتابه: {وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً} [آل عمران: 83].
__________
(1) في (أ): عملها.

(1/473)


فإن قالوا: أخبرونا عن المشركين الذين لم يسلموا، أجبروا على الشرك؟ فيقال لهم: إن المشركين لم يريدوا الإسلام فيجبروا على الشرك، ذلك لو أنهم أاردوا الإيمان فأكرهوا على الشرك(1)، كما أراد المشركون الشرك ورضوا به؛ وأراد الله أن يهديهم؛ فجبرهم على الهدى وهم كارهون. فإن قالوا: فإن لم يكونوا مجبورين ولا مكرهين؛ فهل يستطيعون ترك الشرك وقبول الهدى؟ فقل: لا، إلاَّ أن يشاء الله، فإن قالوا: فكيف لا يكونون مجبورين؛ و[هم] لا يستطيعون أن يتركوا شركهم؟ فقل: كذلك الله يفعل ما يشاء، يهدي من يشاء، ويضل من يشاء، فلا مضل لمن هدى، ولا هادي لمن يضل. تمت مسائل الحسن بن محمد كلها.
أجوبتها
وأما ما سأل عنه من قول الله عز وجل: {وَآتَيْنَا عِيسَى بْنَ مَرْيَمَ البَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ القُدُسِ}، وقوله للمؤمنين: {فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِيْنَ}، وقوله: : {هُوَ الَّذِيْ أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيْمَاناً مَعَ إِيْمَانِهِمْ}، وقوله: {فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا}، فكذلك الله أحكم الحاكمين، أتى نبيه صلى الله عليه وآله وسلم ببينات كل امر، وأيده بروح القدس والنصر.
__________
(1) يريد أن الجبر هو ما يكون على خلاف الارادة ولذلك فالمشركون حين لم يريدوا الاسلام ليسوا مجبورين على الشرك كما جبر المشركون المريدون للشرك على الهدى.

(1/474)


وكذلك أيد عباده المؤمنين؛ على أعدائه الفاسقين، وذلك من الله فواجب للمطيعين. ألا تسمع كيف يقول: {وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ} [الحج: 40]، وقوله: {إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} [محمد: 7]، وقوله: {وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدىً وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ} [محمد: 17]؟ فكل من آمن بالله واتقى؛ فقد استوجب من الله الزيادة بالنصر والهدى، وذلك من الله للمؤمنين فعطاء(1) وجزاء. فكل من آمن بالله وأطاعه في أمره وجاهد أعداءه؛ فقد ذكر الله سبحانه أن يجازيه على ذلك بما ذكر فيما سأل عنه في هذه الآيات؛ من التفضل بالمعونات.
* * *
__________
(1) في (أ):ففضل.

(1/475)


وأما ما سأل عنه من قول الله سبحانه: {وَلَوْلاَ أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً * إِذاً لأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لاَ تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيراً}، فإن الجواب في ذلك: أن رسول الله صلى الله عليه وآله لم يركن إليهم بترخيص لهم في دينهم، ولا إسعاف لهم في شيء من أمرهم، ولا بتولي أحد منهم، ولكنه صلى الله عليه وآله كان رحيماً، رفيقاً حليماً، وصولاً للأرحام كريماً، فكان صلى الله عليه وآله ربما رق(1) لهم، ومن العذاب الذي أعد لهم رحمهم، فأنزل الله سبحانه عليه تحريم الرحمة لهم، فأمره والمؤمنين، بترك الرحمة لأهل المعاصي الفاسقين، فقال: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِيْنَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيْرُ} [التوبة: 73]، وقال: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلاَ تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِيْنِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآَخِرِ} [النور: 2]، فثبته الله بما أنزل عليه من ذلك. فلما أن علم أن رحمتهم لله تسخط غلظ عليهم، واشتد قلبه عن الرحمة بهم، لما أمره الله سبحانه فيهم، فكان ذلك تثبيتاً منه له عن أن يركن إلى ما يدعوه إليه الكرم والصلة للرحم من الرحمة، لا ما يقول الضالون على الله وعلى رسوله من أنَّه كاد أن يركن إليهم، ويميل بالمحاباة في صفهم. ثُمَّ قال سبحانه: {إِذاً لأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ}، يقول: لو رحمتهم، ورفقت ـ من بعد نهينا لك عن ذلك ـ بهم؛ لكنت لنا من العاصين، وكنت عندنا على ذلك من المعذبين.
***
__________
(1) في (أ): رفق بهم.

(1/476)


وأما ما سأل عنه من قول الله سبحانه: {إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آَمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى* وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَهاً لَقُدْ قُلْنَا إِذاً شَطَطاً}، فآخر هذه الآية دليل على تفسير ما سأل عنه في أولها، ألا تسمع منه كيف ذكر عنهم ما ذكر من الإيمان، والإخلاص لله الواحد الرحمن؟ فلما أن آمنوا زادهم إيماناً، وكذلك يفعل الله بعباده المؤمنين، ألا ترى كيف قال: {إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آَمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى* وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ}؟ فكذلك يفعل الله بمن آمن واتقى، كما يخذل من عند عن أمره وعصى، ولولا ما ركب فيهم من الاستطاعة أولا؛ ما نالوا زيادة الله لهم في الهدى آخراً، ولكن بما جعل فيهم من الاستطاعة ما(1) يقدرون على الطاعة والعصيان، فآثروا الطاعة ورفضوا المعصية؛ فصاروا بذلك مؤمنين، فاستأهلوا من الله الزيادة في كل خير، والدفع منه عنهم لكل ضير. ألا ترى كيف يقول: {إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آَمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى}؟ يقول: لما أن عملوا الطاعة؛ بما فيهم من القدرة والاستطاعة؛ زدناهم من الخير والكرامة.
ثُمَّ قال الحسن بن محمد: وكذلك الله يفعل ما يشاء، يضل من يشاء، ولا يسأل عما يفعل والخلق يسألون، فتوهم ويحه! أن الله سبحانه يضل عن سبيل الرشاد؛ قوماً منعهم بالإضلال عن الرشاد. وكيف يكون ذلك وقد أمرهم بالاهتداء، وبعث إليهم الأنبياء؛ يدعونهم إلى البر والتقوى، وهم لذلك غير مستطيعين، ولا عليه مقتدرين، لقد ـ إذاً ـ ظلمهم فيما إليه دعاهم؛ إذ عنه قد حجرهم وأغواهم. فتبارك الله عن مقالة الجهال؛ من أهل الجبر والضلال.
* * *
__________
(1) كذا ولعل ( ما ) زائدة.

(1/477)


وأما ما تكلم وموه به فقال: إن سالونا عن أفعال العباد: مخلوقة هي؟ أم غير مخلوقة؟ ثُمَّ قال: هي مخلوقة؛ إذ نسبها الله إليه، كما نسب غيرها من أفعالنا إليه، من ذلك قوله: {وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَناً وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الأَنْعَامِ بُيُوتاً}، وقال: {وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيْلَ تَقِيْكُمُ الْحَرَّ وَسَرَابِيْلَ تَقِيْكُمْ بَأْسَكُمْ}، والسرابيل والبيوت العباد يعملونها، وقد نسبها الله جل جلاله إليه، فكذلك أعمالنا، هي منا وهي فعله فينا(1).
فجوابنا في ذلك: أنَّه بخلاف ما قال، وأنه قد أخطأ في القياس؛ إذ قاس أفعال العباد التي هم فعلوها(2)، ومن بعد العدم أوجدوها؛ إلى ما فعلوا فيه؛ من خرز الجلود، وعمل الحديد، ونسج الثياب التي الله تبارك وتعالى خلق أصلها، وأوجد أولها وصورها، فلما أن كان الله سبحانه الذي أوجد ذلك كله؛ كان هو الجاعل له في أصله، والممتن به على جميع خلقه، وأفعال العباد في ذلك فلم يخلقها الله سبحانه، ولكن الله أوجد ما ذكر من أصولها، والعباد صنعوا ما صنعوا فيها، وعملوا ما عملوا منها، فنسب الله إليه صنع ما أوجد من هذه الأصول التي فرعت، وجعلت ونقلت. فبين هذا وبين أفعال العباد فرق عند من كان له عقل.
هل(3) رأى أو سمع خَلْقٌ في شيء من الكتاب المنزل، أن الله سبحانه ذكر أنَّه فعل شيئاً مما فعلوه؛ من الفجور والردى، وشرب الخمور وارتكاب الهوى؟ بل نسب ذلك كله إلى فاعله، ونفاه سبحانه عن نفسه.
__________
(1) كتب هنا في (أ): الجزء الخامس من مسائل الحسن بن محمد بن الحنفية.
(2) في (ط): فاعلوها.
(3) في (أ): هل يرى أو يسمع في شيء.

(1/478)


فإن قالوا: إن الله سبحانه خلق الأدوات؛ التي تكون بها الأفعال في كل الحالات؛ من الفروج والأيدي والألسن واللهوات، كما خلق الجلود والقطن، والحديد والصوف، فنحن نقول ـ إذ قد أوجد أصل أفعال العباد ـ: إن منه أفعالهم، كما نقول: إن السرابيل منه إذ أوجد أصولها.
قلنا لهم في ذلك: ليس هذا كذلك؛ لأن الله سبحانه أوجد الأصل الذي نقل وصنع وعمل من هذه التي نسبها إليه من الجلود، والكرسف(1) والصوف والحديد، والعباد فعلوا الحدث الذي صرَّفوها به وأحدثوه فيها، من عملها ونسجها، وصناعتها وغزلها؛ بالأكف والأدوات التي جعلت لهم، والاستطاعة التي ركبت فيهم، فالتأم في ذلك جلود وأيد وحركات، فكان الله عز وجل الخالق للأيدي والجلود، وكان العباد الفاعلين للحركات، الصانعين لتلك المصنوعات. كذلك الله سبحانه خلق الحجارة والطين؛ والعباد بنوا الدور، وشيدوا ما بنوا من القصور، فاجتمعت في ذلك الحجارة والأكف العمالة(2) والحركات؛ التي دبرت لها الحجارات، فكان الله جل ثناؤه خالق الأيدي والصخور، والعباد أحدثوا الحركات وبنوا الدور. وأفعال الله سبحانه فكائنة عندما يريدها بلا تحيل ولا حركات، ولا تأليف شيء إلى شيء بالأكف العاملات(3).
ففي هذا أبين الفرق بين أفعال المخلوقين، وبين أفعال رب العالمين، فما كان من فعل الله فليس من أفعال العباد، وما كان من أفعال العباد فليس من أفعال ذي العزة والأياد.
كذلك لو أن رجلاً سرق صوفاً؛ فنسجه سربالاً وثوباً؛ لم يعذبه الله سبحانه على حزم الصوف، ولا على ما قبضه به من اليد والكف، وإنما يعذبه على أخذه، وحوزه عن ربه، واستئثاره عليه به، وما كان من انتفاعه به ولبسه، فعذبه سبحانه على ما كان من حركاته وفعله، ولم يعذبه على ما خلق وصور من نفس المسروق وصورته.
__________
(1) في هامش (ط): هو القطن.
(2) في (أ): العاملة.
(3) في (ط): العمالات.

(1/479)


وكذلك يعذب الزاني على زناه، والزنى فهو الإيلاج، والحركة والإخراج، ولم يكن الزنا إلاَّ بالفرجين والحركة، فالفرجان فعل الله، والحركة والزنا، فعل العبد ذي الفسالة والردى. فالله عز وجل يعذبه على زناه وإدخاله وإخراجه وحركاته لا على ما خلقه له من الفرج.
فخلق الله الآلات، وما أنعم به على العباد من الأدوات؛ لينالوا بها المنافع واللذات؛ من طريق ما أحل لهم، لا من وجه ما حرم عليهم، ثُمَّ أمرهم في ذلك باجتناب المعصية، وحضهم على فعل الطاعة.
وأما ما عنه سأل، وفيه قال بالمحال، وقاس على مقاييس الضلال فقال، قال الله تبارك وتعالى: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ * تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِيْنٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ}، فقال: ألا ترون أن الله خلق الثمرة في الشجرة فأخرجها منها؟ ثُمَّ نسب الثمرة إليها؛ فقال: {تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِيْنٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا}؟ فكذلك نقول: إن أعمال العباد الله سبحانه خلقها، والعباد عملوها، ثُمَّ نسبها إليهم وأخبر أنهم عملوها.

(1/480)


فقولنا في ذلك: إنَّه غالط في القياس، أو أراد معنى فأخطأ في مقاله، لأنَّه مثل ما ليس بمأمور ولا منهي، فقاس فعل العباد فيما أوجدوه؛ بفعل الله الذي لم يفعلوه، وإنما قياس الشجرة، وما أوجد الله سبحانه فيها من الثمرة؛ قياس النافة والامرأة، الله سبحانه خلق الأولاد فيهما، وهما ولدتا. قال الله سبحانه في امرأة عمران، وفيما نذرت مما في بطنها للرحمن؛ حين يقول: {فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالأُنْثَى} [آل عمران: 36]، فقال: {وَضَعَتْهَا}، فنسب الولد وما كان من تخليصها وتسليمها في وضعها لها إليها، والله سبحانه الذي جعلها في بطنها، وأخرجها بقدرته منها، ولولا إخراجه لها وتخليصه إياها؛ إذاً لم تخلصها أبداً أمها. قال الله عز وجل في ذلك: {يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَيُحْيِى الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَكَذَلِكَ تُخْرَجُوْنَ} [الروم: 19]، فلا شك أنَّه المخرج والمخلص للولد من الظلمات الثلاث؛ من المشيمة(1)، والرحم، والبطن، قال الله سبحانه: {يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقاً مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُمَاتٍ ثَلاَثٍ ذَلِكَ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ} [الزمر: 6]، وقال جل جلاله، عن أن يحويه قول أو يناله: {وَوَصَّيْنَا الإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْناً} [العنكبوت: 8]، فنسب إليهما ولادتهما إياه، إذ كان الخارج منهما والمصور فيهما، والله سبحانه المصور له، والمقدر تصويره وخلقه. فكذلك نسب إلى الشجرة إيتاء أكلها، وهو الخالق لها ولثمرها.
__________
(1) المشيمة: وعاء الولد في بطن أمه.

(1/481)


فأما قياس أفعال العباد التي نهوا عنها وأمروا بها، وعوقبوا عليها وأثيبوا بها؛ فليس هذا قياسها، وسنأتي به ونذكر إن شاء الله ما هو مثلها، فنقول لمن قال: إن الله سبحانه خلق أفعال العباد وركبها فيهم، وأنطقهم بها وقضى بها عليهم ثُمَّ نسبها إليهم: ما تقول ـ إذا قلت ذلك، وكان الأمر عندك كذلك ـ في مشرك أشرك بالله وجحده؟ وفي قتل من قتل الأنبياء بغير حق؛ الذين قال الله فيهم: {وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّيْنَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِيْنَ يَأْمُرُونَ بِالقِسْطِ مِنَ النَّاسِ} [آل عمران: 21]؟ الله فعل ذلك فيهم؛ كما فعل غيره من أفعالهم؟ فإن قالوا: نعم، الله فعله وخلقه، وقضاه وركبه؛ فقد زعموا أن الله عز وجل كفر بنفسه، وأمر بالشرك به وقتل أنبيائه، وهذا فأكفر الكفر وأجهل الجهل بالرحمن، عند كل من عرف الحق وكان ذا إيمان. وإن قال: لا، رجع عن قوله، (وتاب إلى ربه، وإن قال: خلق(1) الطاعة وخلق بعض المعصية، ولم يفعل عظائم العصيان) (2) ولا فوادح ما نأتي به من الكفران، قيل له: فلا نراك إلاَّ وقد أثبت للعبد فعلاً لا محالة دون الرحمن، فإن جاز أن يكون من العبد فعل لم يخلقه الله ولم يفعله جاز أن تكون له أفعال كثيرة، وأمور جمة غير يسيرة، والأمر في ذلك، فعلى قولنا لا قولك، وشرحنا بحمد الله لا شرحك؛ لأنك قد أجمعت معنا على قولنا؛ إذ قد أقررت لنا ببعض فعلنا، ونفيته عن خالقنا وربنا، ونحن لا نطمعك(3) في قليل من ذلك ولا كثير، ولا ننسب إلى الله من أفعال عباده عظيماً ولا حقيراً. فهذا قياس ما إليه ذهب، لا ما ارتكب فيه من المحال والعطب.
***
__________
(1) في (ط): فعل.
(2) سقط من (ب).
(3) في (ط): لا نطيعك.

(1/482)


ثُمَّ قال إن قال قائل: خبرونا عن العباد، أمجبورون على الأعمال(1)؛ من الإيمان والكفر، والطاعة والمعصية والغدر؟ أم لا؟ فقل: منهم من هو مجبور على ذلك، ومنهم من هو غير مجبور، فأما الذين أجبروا على الطاعة فمنهم أهل مكة، افتتحها رسول الله صلى الله عليه وآله قسراً، فأسلموا لذلك كرها، ولو لم يسلموا قتلهم، واستحل دماءهم وأموالهم، فهذا وجه القسر والجبر، وأما الوجه الآخر، فإن الله قذف في قلوبهم الهدى، وحبب إليهم الإيمان، وكره إليهم الكفر والفسوق والعصيان، ثُمَّ قال: {أُوْلَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ}، ثُمَّ قال: {وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ}[آل عمران: 83].
__________
(1) في (أ): أعمالهم.

(1/483)


فردنا عليه فيما يقول أنا نقول: الحمد لله على ما رزقنا من العقول، والفهم بما نقول، فيا ويح الحسن بن محمد! الجاهل، المتحير في أمره الغافل(1)، بينا هو يقول(2): إن الله يجبر العباد؛ على الطاعة له والانقياد؛ إذ رجع فصرف ذلك إلى الرسول، فيا ويح ذي الجهل! من نازعه في ذلك؟ أو من ذا الذي لم يكن من أضداده قوله كذلك(3). أو لم يسمع قول الله سبحانه، وتعالى عن كل شأن شأنه، فيمن أكرهته قريش على الكفر والعصيان، ودعته إلى الخروج من الحق والإيمان، وصالت(4) عليه بصولتها، وأذاقته ما قدرت عليه من أليم عقوبتها، حتى أعطاهم ما أرادوا بلسانه وقوله، وقلبه مخالف لما لفظ به من مقاله، مطمئن بالإيمان، مخالف لدين أهل العصيان، فقال في ذلك الرحمن: {إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌ بِالإِيْمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَمْ عَذَابٌ عَظِيْمٌ} [النحل: 106]، وكان الذي أكره وقلبه مطمئن بالإيمان؛ عمار بن ياسر رحمة الله عليه، ذو المعرفة بالله والإيقان، فلا يشك مميز عاقل، ولا ينكر ما قلنا به جاهل، من أن الخلق يكره بعضهم بعضاً، على القول والفعل لما لا يحب(5) ويرضى، وإن كان ضمير القلوب مخالفاً للكلام، وهذا موجود في (لغة) (6) جميع الأنام، فأما علم الضمير؛ فلا يطلع عليه إلاَّ الواحد القدير.
***
__________
(1) في (ب): الجاهل الوسن بينا هو..
(2) في (أ): هو يزعم.
(3) في (أ،ب): كذلك. والمعنى: أنه خرج عن محل النزاع الذي هو الجبر من الله جل شأنه إلى ما لا نزاع فيه من إكراه الخلق بعضهم لبعض، والله أعلم.
(4) في (أ): وطالت.
(5) في (أ): لما يحب.
(6) سقط من (أ).

(1/484)


ثُمَّ قال: إن معنى قوله سبحانه، وجل عن كل شأن شأنه: {وَلَهُ أَسَلَمَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ}، هو جبر منه لهم على إسلامهم، وإخراج لهم من ضلالهم وكفرانهم؛ بالجبر والتحويل والقسر، واحتج في ذلك بقول الله سبحانه: {وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ}، فلا تأويل معنى(1) الإسلام من الخلق أصاب، ولا في معنى ما ذكر الله عز وجل من التحبيب والتكريه أجاب.
وإنما معنى قول الله سبحانه: {وَلَهُ أَسَلَمَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً}، هو المعرفة به، والإقرار بربوبيته، وأنه الخالق غير مخلوق، والرازق غير مرزوق، كما قال سبحانه: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ} [العنكبوت: 61]. فهذا معنى ما أراد الله ـ والله أعلم ـ بقوله: {وَلَهُ أَسَلَمَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً}؛ لأن الإسلام يخرج في اللغة على معنيين:
فأحدهما: الإقرار بفعل الفاعل والتسليم له، وترك المكابرة له في فعله، والمعاندة له بالانكار لما يحدث من صنعه.
والمعنى الثاني: فهو الاستسلام لأمر الآمر، والإنفاذ لما حكم به، والانقياد لجميع ما قيد إليه وصرف من الأفعال فيه.
__________
(1) في (أ): فلا معنى تأويل الإسلام.

(1/485)


فعلى المعنى الأول ما يخرج(1) تفسير الآية، لا على المعنى الثاني الذي توهم الحسن بن محمد أن عليه يخرج معناها، ولو كان ذلك كذلك، أو قارب شيئاً من ذلك؛ لكان جميع الخلق لله مطيعين، وفي أمره سبحانه متصرفين، طائعين كانوا أو كارهين، ولو كان كما يقول هو ومن معه من الجاهلين؛ إذاً لما وجد أنبياء الله لله في الأرض عاصين، ولكان الله تبارك وتعالى بإكراهه لهم على طاعته، وإدخالهم قسراً في مرضاته؛ مجتزياً مكتفياً عن نهيهم عن معصيته، ولما احتاج الخلق إلى المرسلين، ولما حذرهم الله مَنْ حذَّر(2) من مردة الجن والعالمين.
__________
(1) ما)) هنا زائدة.
(2) في (ط): ما حذر، ومن حذّر في محل النصب على المفعولية.

(1/486)


وأما قوله: {طَوْعاً وَكَرْهاً}، فالمطيع منهم في ذلك هو من أطاع الحجة المركبة فيه، والشاهدة بالحق له وعليه؛ من اللب الذي ينال به التمييز بين كل شيئين، ويثبت له به الرضى والسخط في الحالين، فمن أنصف لبه، وقبل ما أدى إليه معقوله(1) من معرفة ربه؛ كان منصفاً طائعاً، متحرياً للحق خاضعاً. والمكره فهو من كفر وتعدى، وكابر لبه وأبى، وعند عن الحق وأساء، حتى [إذا](2) أدركه البلاء، واشتد عليه الشقاء، ونزلت به النوازل، واغتالته(3) في ذلك الغوائل؛ رجع صاغراً إلى إنصاف لبه، ولجأ فيما ناله إلى ربه، واستسلم وأسلم له. كمن ذكر ذو الجلال؛ ممن تعدى في الغي والمقال؛ حين يقول ويخبر عنهم، ويقص ما كان من أخبارهم، حين يقول ويخبر عن فرعون فقال: {حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الغَرَقُ قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرَائِيْلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِيْنَ} [يونس: 90]. ومثل قوله: {فَإِذَا رَكِبُوا فِي الفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِيْنَ لَهُ الدِّيْنَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ} [العنكبوت: 65]. ومثل قوله: {وَإِذَا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوا رَبَّهُمْ مُنِيْبِيْنَ إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا أَذَاقَهُمْ مِنْهُ رَحْمَةً إِذَا فَرِيْقٌ مِنْهُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُوْنَ} [الروم: 33].
__________
(1) من معاني المعقول: العقل.
(2) زيادة لاستقامة الكلام.
(3) في (ب،ط): واغتال لبه.

(1/487)


وأما معنى تحبيب الله عز وجل إلى العباد الإيمان، وتكريهه للكفر والفسوق والعصيان، فهو بما جعل وحكم لمن آمن واتقى من الجنان، والنعيم والجزاء والإحسان، وبما كان يريهم ويشرعه لديهم؛ من نصر المؤمنين والإظهار لحجتهم والاعزاز لدينهم(1). والتكريه منه لما ذكر؛ فهو بما أوجب على فاعل ذلك من العقوبات في الآخرة بالنيران، وفي الدنيا بالقتل والسبي والذل والخذلان، فلما جعل ما جعل من الخير والثواب للمؤمنين، وأعد(2) وحكم بما حكم به من العقاب على الكافرين؛ رغب الراغبون في الثواب وأحبوا(3) له الإيمان وآمنوا، وهاب واتقى وخاف العقاب الخائفون فاتقوا، وكرهوا الكفر والفسوق والعصيان لخوف العقاب فاهتدوا، وزهد(4) أهل الكفر في كفرهم؛ لما يرون من ذلهم وصغارهم، وظهور الحق والمحقين واعتلائهم؛ فتركوا الفسق(5)، ودخلوا في الحق.
فهذا إن شاء الله معنى ما ذكر من ذلك العلي الأعلى، لا ما قال وذهب إليه أهل الإفك على الله وقالوا فيه من الجبر للمخلوقين على ما يكون من أفعالهم، والادخال لهم بالقسر في فاحش أعمالهم؛ من الغي والفجور، والمنكرات والشرور، والحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، وسلام على المرسلين.
***
ثُمَّ قال: إن قال قائل: خبرونا عن المشركين الذين لم يسلموا، هل جبروا على الشرك؟ قيل له: إن المشركين لم يريدوا الإسلام فيجبروا على الشرك، ذلك لو أنهم أرادوا الإيمان فأكرهوا على الشرك، كما أراد المشركون الشرك ورضوا به؛ وأراد الله جل ثناؤه أن يهديهم فجبرهم على الهدى وهم كارهون. ثُمَّ قال: فإن قال قائل: فإن لم يكونوا مجبورين ولا مكرهين، فهل يستطيعون ترك الشرك وقبول الهدى، فقل: لا، إن شاء الله.
__________
(1) في (أ): وإظهاره لحجتهم وإعزاز دينهم.
(2) في (ب،ط): وما أعد.
(3) في (ط،ب): وأوجبوا.
(4) في (ط: وزهدوا.
(5) في (ب،ط): الفسوق.

(1/488)


فزعم في آخر قوله أنهم لا يستطيعون ترك الشرك وقبول الهدى؛ فأبطل حجته وقوله أولاً، حين يقول: إنهم إنَّما يكونون مجبورين على الشرك لو أرادوا الهدى؛ فمنعوا منه وأدخلوا في الردى، فأثبت بهذا القول لهم الفعل، وأقر أنهم يقدرون على فعل مالا يريد الرحمن؛ حتى يجبرهم على غيره من الشأن؛ لأن الإرادة والنية فعل لصاحبهما، ولذلك ما روي عن النبي صلى الله عليه وآله أن صاحب النية يعطى بها ويثاب فيها وعليها. وإذا صح أن العباد يفعلون ويريدون ما لا يشاء ربهم، حتى يجبرهم على غير ذلك من فعلهم؛ فقد بطل ما يخرصه الحسن بن محمد من زخرف قوله، وثبت وصح ما يقول به أهل المعرفة بالله من العدل بإقراره.
ثُمَّ زعم أن من لم يقدر على ترك الشرك والكفر بربه؛ غير مكره ولا مجبور على ما هو فيه من فعله، وهذا فعين المحال، وأفحش ما يقال به من المقال، وإبطال المعقول، والمكابرة لصحيح العقول. لأن من حيل بينه وبين القيام لسبب من الأسباب؛ فقد جبر على القعود بلا شك ولا ارتياب. وكذلك من أوقدت له نار ثُمَّ ألقي فيها، ومنع من التحرف عنها، وحيل بينه وبين الخروج منها؛ فقد جبر وجبل على الإحتراق فيها. وكذلك الطائر إذا قص جناحاه الخافقان؛ فقد حيل بينه وبين ما يريد من الطيران. وكذلك من لم يجعل فيه من الخلق استطاعة فعل؛ فقد حيل بينه وبينه، لا يشك في ذلك عاقلان، ولا يختلف فيه جاهلان.
***
وأما ما سأل عنه من قوله، وكذبه على ملائكة ربه؛ فقال: خبرونا عن الاستطاعة التي تزعمون أن الله جل ثناؤه جعلها في عباده حجة عليهم، وأنها مركبة فيهم ليعملوا أو يتركوا، هل جعلها في الملائكة المقربين أم لا؟ ثُمَّ قال: فإن قالوا: نعم، قد جعلها فيهم، وامتن بها عليهم؛ فقولوا لهم: فأنتم إذاً لا تدرون عن الملائكة هل بلغت؟! أم لا؟ أم هل أدت ما أمرت بإدائه؟ أم هل قصرت في شيء مما أمرت به؟ إذ تزعمون أنها قادرة على ما تهوى، تاركة لما تشاء.

(1/489)


فقولنا في ذلك: إن الله سبحانه ركب الاستطاعة في عباده، وجعلها في جميع خلقه المأمورين المميزين، ومنهم الملائكة المقربون صلوات الله عليهم، ثُمَّ أمرهم ونهاهم؛ من بعد أن أوجد فيهم ما أوجده سبحانه في غيرهم؛ من الاستطاعة الكاملة، والنعمة الشاملة، وأمرهم ونهاهم، ولولا ما ركب فيهم من الاستطاعة لما جرى أمره عليهم. من ذلك قوله: {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلاَئِكَةِ اسْجُدُوا لآَدَمَ} [البقرة: 34، الإسراء: 61، الكهف: 50، طه: 116]، فأمرهم بالسجود من أجله، ولما رأوا مما ابتدع من جليل صنعه، ولعظيم ما فيه من قدرته، إذ خلقه من طين؛ من صلصال من حمأ مسنون، والمسنون فهو ما داخله الأجون(1)، فأسن لذلك وأجن وتغير؛ فصار لما فيه من الأجون حمأ (2) كما ذكر الله مسنوناً، ثُمَّ صوره رجلاً، ثُمَّ نفخ فيه الروح فصار جسماً متكلماً، لحماً وعروقاً وعظاماً ودماً، يقبل ويدبر، ويورد ويصدر، بعد أن كان طيناً لازباً، فسجد الملائكة عليهم السلام، لله المهيمن ذي الإنعام، من أجل ما أحدث في آدم صلى الله عليه من الخلق، وجعله أباً لكل الخلق، فكانوا بإئتمارهم في ذلك لله مطيعين، وعليه مثابين، ولأمر الله مؤدين، ولو لم يكن فيهم استطاعة، ولا ما يقدرون به على السجود من الآلة؛ لم يأمرهم سبحانه بما لا يستطيعون، ولم يكلفهم العدل الجواد مالا يطيقون، لأنَّه أرحم الراحمين، وأكرم الأكرمين، وأعدل العادلين. وليس ما ذكر المبطلون، وقال به في الله الضالون؛ من صفات الرحيم، ولا من فعال العزيز العليم، لأن من أمر مأموراً بأن يفعل مفعولاً لا يقدر على فعله؛ كان بلا شك ظالماً له في أمره، وكان قد كلفه في ذلك محالاً، وكان له بذلك غاشماً ظالماً، وليس الله بظلام للعبيد،كما قال في ذلك ذو الجلال الحميد(3):{وَمَا رَبُّكَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيْدِ} [فصلت: 46]،
__________
(1) في هامش (ط): هو الماء إذا تغير طعمه ولونه وريحه.
(2) سقط من (أ،ب).
(3) في (أ): المجيد.

(1/490)


وقال سبحانه:{وَلاَ يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً} [الكهف: 49].
فيا سبحان الله !! ما أجهل من نسب ورضي لربه؛ مالا يرضاه وما لا ينسبه إلى نفسه؛ من تكليف العباد ما لا يطاق، ثُمَّ رضي ذلك؛ ونسبه إلى الواحد الخلاق، فكان كما قال الله جل جلاله وتقدست أسماؤه: {وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِمَا ضَرَبَ لِلرَّحْمَنِ مَثَلاً ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدّاً وَهُوَ كَظِيْمٌ} [الزخرف: 17]، فأخبر سبحانه أنهم كانوا ينسبون إلى الله اتخاذ البنات، ولا يرضون بهن لأنفسهم ولا يحبون الإناث، بل إذا رزق أحدهم بما رضيه لربه؛ بانت الكراهية منه له في وجهه. فشابهوهم في فعلهم، واحتذوا في ذلك بقولهم؛ فقالوا: إن الله يكلف عباده ما لا يطيقون فعله، ويعاقبهم على ترك ما لم يقدرهم على صنعه، وهم ينفونه عن أنفسهم، ويبرئون منه أخس(1) عبيدهم، فسبحان من أمهلهم، وتفضل بالإنظار لهم.
ثُمَّ قال: ما يدريكم إن كان الملائكة مستطيعين، ولما يشاءون من الأعمال متخيرين، وعلى العمل والترك قادرين(2)؟ لعلهم قد تركوا بعض ما به أمروا، وقصروا في أداء بعض الوحي، وفرطوا في نصر النبي والمؤمنين، وفي غير ذلك مما أمرهم به رب العالمين.
__________
(1) في (أ): أخيْرَ عبيدهم.
(2) في (ط): مستطيعون، متخيرون، قادرون، بالرفع، وهو خطأ.

(1/491)


فقولنا في ذلك له: إنا علمنا براءتهم صلوات الله عليهم، وإنفاذهم لكل ما أمرهم به ربهم ـ على ما أمرهم به، غير مفرطين في شيء منه ـ بقوله سبحانه فيهم، وثنائه بما أثنى به عليهم؛ من ترك التفريط في أمره، والاستقصاء في كل إرادته، والتقديس له والتسبيح في الليل والنهار، وذلك قول الواحد الجبار: {وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَنْ عِنْدَهُ لاَ يَسْتَكْبِرُوْنَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلاَ يَسْتَحْسِرُونَ* يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لاَ يَفْتُرُونَ} [الأنبياء: 19ـ20]. وفي ترك التفريط فيما أمرهم به رب العالمين؛ ما يقول سبحانه في القرآن المبين: {حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لاَ يُفَرِّطُوْنَ} [الأنعام: 61]، ويقول تبارك وتعالى فيهم، ويثني بما يعلم من أفعالهم عليهم؛ حين يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِيْنَ آمَنُوْا قُوْا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلاَئِكَةٌ غِلاَظٌ شِدَادٌ لاَ يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [التحريم: 6]، وفي ذلك ما يقول سبحانه ويحكي عن المبطلين؛ بما قالوا في الله رب العالمين، حين يقول: {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَداً سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ* لاَ يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ} [الأنبياء: 26ـ27]، فوجدناه تبارك وتعالى يذكر الاجتهاد منهم له عنهم، فقلنا فيهم بما قاله ربنا وربهم. فتعالى أصدق الصادقين؛ عن مقالة الفسقة الجاهلين.

(1/492)


ومن الدليل على معرفة إحقاقهم(1)، والوقوف على محض فعلهم واجتهادهم؛ تولي الله لهم، ومعاداته لمن عاداهم. ألا تسمع كيف يقول، الواحد ذو الجلال والطول: {مَنْ كَانَ عَدُوّاً لِلَّهِ وَمَلاَئِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيْلَ وَمِيْكَالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِيْنَ} [البقرة: 98]؟ فذكر سبحانه، وجل عن كل شأن شأنه؛ أنَّه عدو لمن عاداهم، وإذا صحت العداوة والمناصاة منه لمن ناصاهم(2)؛ فقد ثبتت منه الولاية بلا شك لمن والاهم. ألا تسمع كيف جعل من عاداهم فاجراً؟ وسماه في واضح التنزيل كافراً؟ حين يقول في آخر الآية جل جلاله، عن أن يحويه قول أو يناله: {فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِيْنَ}، ولن يوالي أبداً من كان في أمره مقصراً، ولن يشهد بالوفاء لمن كان عنده سبحانه غادراً. فبهذا ومثله من تنزيله؛ مما قد ذكره وبينه في وحيه وقيله؛ شهدنا للملائكة المقربين؛ بالاجتهاد في الطاعة لرب العالمين.
ثُمَّ قال تغليظاً لمن كان معه على رأيه من أهل الجهالة، وذوي الحيرة والتكمه والضلالة: يسأل من أثبت في الخلق(3) الاستطاعة، فيقال لهم: هل يثيب الله خلقه على ما عملوا من الطاعة، مما لم يجعل لهم السبيل إلى تركه؟ (ثم قال) (4): وهل يعاقبهم على ما عملوا به من معصيته؟.
__________
(1) في (ط): حقائقهم.
(2) في (ط): والمقاضاة منه لمن ناضاهم. ولعله تصحيف ما أثبت. والمناصاة: المفارقة، ناص عنه: تنحَّى وفارقه.
(3) في (ط): الحق، وهو سهو.
(4) ليس في (أ،ب).

(1/493)


فبين بهذه الكلمات الآخرات في المعصية؛ على ما تكلم به في كلمات الطاعة؛ من فظيع ما جاء به من الكفر في قوله، والتظليم لله ربه، وبين جهله لتُبَّاعه دون غيرهم؛ ممن هو على خلاف رأيه ورأيهم؛ حين يقول: هل يثيب الله خلقه على ما عملوا به من الطاعة مما لم يجعل لهم السبيل إلى تركه؟، ثُمَّ قال: وهل يعاقبهم على ما عملوا به من المعصية؟ فبين(1) مسألته الثانية في المعصية، ولم يتمها كما أتم المسألة في الطاعة، خوفاً من أن يشهد وينطق على نفسه بالكفر والفضيحة، وذلك أنَّه كان يجب عليه أن يتم الثانية كما أتم الأولى؛ فيقول: وهل يعاقبهم على ما عملوا به من معصيته؛ مما لم يجعل لهم السبيل إلى تركه. ولو كان ذلك في الله سبحانه كذلك؛ لكان الله عز وجل المدخل للعاصين في المعصية، المكره لهم عليها، ولو كان ذلك كذلك، تعالى الله عن ذلك؛ لم يكن في الخلق لله عاص، بل كان كلهم في أمر الله نافذاً ماضياً، ولم يكن إبليس عند الله بمذموم، ولا محمد صلى الله عليه وآله بمحمود، ولم تكن الملائكة المقربون؛ بأحمد عند الله من مردة الشياطين، إذ كلٌّ لا سبيل له إلى غير ما يفعل، ولا حيلة له من العمل في غير ما يعمل، لحتم الله وقضائه بذلك عليهم، وإدخالهم بقضائه فيه، وحملهم وجبرهم وقسرهم عليه، فتعالى الله عما يشركون، وتقدس عما يقول فيه المبطلون.
وفي (ب) و(ط): تمت(2) مسائل الحسن بن محمد بن الحنفية في تثبيت الجبر والتشبيه والإلحاد، ورد الهادي إلى الحق أمير المؤمنين يحيى بن الحسين بن القاسم بن إبراهيم بن إسماعيل بن إبراهيم بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب عليهم السلام، ونفى ذلك عن الله سبحانه، وإثبات العدل له والتوحيد، وتصديق الوعد والوعيد، والحمدلله رب العالمين، وصلى الله على محمد خاتم النبيين وعلى آله الطيبين وسلم.
__________
(1) كذا في النسخ، ولعلها: فبتر.
(2) في نسخة(ب،ط) إلى .....

(1/494)


قال في (ط): فرغ من تحريره في شهر جمادي الأولى من سنة إحدى وأربعين وألف (1).
الرد على المجبرة القدرية ـ الأول(2)
مما أجاب به صلوات الله عليه ابنه المرتضى لدين الله محمد بن يحيى بن الحسين بن القاسم بن إبراهيم بن إسماعيل بن إبراهيم بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب صلوات الله عليهم جميعاً
بسم اللّه الرحمن الرحيم
الحمد لله أحق ما افتتح به رد الجواب، وخوطب به ذووا الألباب، حمداً يوصل إلى جنته، ويوجب المزيد من فضله، وإليه أرغب في الصلاة على محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
سألتَ يا بني أرشدك اللّه ووفقك، وسددك للفهم وعلمك، عما اختلف فيه الناس، وكثر فيه عند أهل الجهالة الالتباس، حتى نسبوا اللّه فيه إلى أقبح الصفات، وبرأوا أنفسهم من ذلك، وصانوها بزعمهم عنه واستقبحوه، وبلغوا أشد ما يكون من الغضب على من نسبهم إلى شيء منه، ورضوا به في العزيز ودعوه به.
فزعموا أن اللّه شاء شيئاً ونهى عنه، وأراد شيئاً ومنع منه، وأنه أرسل رسله إلى جميع خلقه يدعونهم(3) إلى أمر قد منعهم منه، وذكروا من هذا شيئاً وضروباً يكثر شرحها، وأنا مبين لك جميع ذلك، وشارحه في مواضعه، ومحتج لله سبحانه بالبراءة مما نسبوه إليه وسموه به ـ يا بني ـ حتى يصح لك فساد أمرهم، وقبيح لفظهم، بما فيه المنفعة والشفاء، والبرهان والإكتفاء، من كتاب اللّه الفصيح، وبما يصح عند كل ذي لب صحيح.
[شُبه المجبرة]
__________
(1) في (أ): والحمد لله رب العالمين، وصلواته على خير خلقه أجمعين، محمد وآله الطاهرين، الأخيار الصادقين، الأبرار المنتجبين، الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً وسلامه. تمَّ وكمل بحمد الله تعالى وعونه وتوفيقه ومنه. قال في الأصل: فرغ من كتابته أول شهر محرم مدخل سنة ست وسبعين وأربعمائه.
(2) هذه الرسالة مما اختصت به (ب)، وقد اعتمدنا فيها على رسائل العدل والتوحيد بتحقيق د/محمد عمارة ورمزنا لها بالحرف: (ط).
(3) في (ط): يدعوهم.

(1/495)


* زعم أهل الجهل أن اللّه سبحانه يضل من يشاء، ويهدي من يشاء، فكذلك اللّه عزَّ وجل، وتأولوا ذلك بجهلهم على أقبح التأويل، وأسمج المعاني، ولم يعلموا ما أراد اللّه سبحانه من ذلك، ولو ميزوا ما قبل هذه الآيات وما بعدها لتبين لهم الحق ووضح.
فأما ما قال اللّه سبحانه مخبراً عن قدرته: {يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِيْ مَنْ يَشَاءُ} [النحل: 93]، ولم يقل: أضللتُ، ولا هديتُ، في هذا الموضع؛ لأنَّه ذكر الضلال والتثبيت منه في موضع آخر، فانظر كيف ذكر ذلك، وكيف قاله مِنْ فعله، فقال سبحانه: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِيْنَ آمَنُوْا بِالقَوْلِ الثَّابِتِ فِيْ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِيْ الآَخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِيْنَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ} [إبرهيم: 27] كل هذا التثبيت والضلال لم يكن إلا مادة وزيادة للمؤمنين، وحرباً ونقمة للظالمين. ألا ترى كيف يقول: {الَّذِيْنَ آمَنُوْا}، ولم يقل: الذين ظلموا؟ غير أنَّه لم يُثَبِّت إلاَّ المؤمنين والمستحقين اسم الإيمان بعملهم، ولم يضل إلاَّ الظالمين(1) المستوجبين اسم الضلالة(2) بفعلهم.
ويخبر سبحانه عن قدرته في خلقه، وأنه إذا أراد هدى المؤمنين وثبتهم، وأنه لا يغلبه شيء من (جميع)(3) الأشياء، إذا أراده من جهة الجبر والقسر لأهله، لكن اللّه سبحانه أخبر عن قدرته في خلقه، وأنه لو أراد أن يضلهم أو يهديهم جميعاً لكان ذلك غير غالب له، غير أنَّه لم يرد ذلك، إلاَّ من جهة التخيير منهم والاختيار لعبادته، والرغبة فيما رغبهم فيه، والوقوف(4) عما حذرهم منه، وليخبر الجهال أن ما كان من العباد من الضلال والعمى لو أراد أن لا يكون لأمكنه ذلك، وأن قدرته تبلغ كل شيء.
__________
(1) في ب: الضالين.
(2) في ب: الضلال.
(3) ليس في ب.
(4) أي التوقف والامتناع.

(1/496)


وإنما قوله: {يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِيْ مَنْ يَشَاءُ} خبراً عن نفسه، وإثباتاً(1) له القدرة على كل شيء، لكي لا يظن جاهل أن اللّه عاجز عن أن يمنع الضُّلاَّل من الضلالة؛ لأن في الناس متجاهلين كثيراً، ألا ترى إلى قوله سبحانه يحكي عن الجهال، إذ قالوا: {إِنَّ اللَّهَ فَقِيْرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ} [آل عمران: 181]؟ فأراد سبحانه أن يثبت الحجة لنفسه على الجهال الذين يقولون مثل هذه المقالة فيه.
* واحتجوا أيضاً بقوله عزَّ وجل ذكره: {وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ} [يونس: 100] فصدق اللّه عزَّ وجل، لو لا أنه أذن لهم بالإيمان، وخلى بينهم وبينه؛ ما عرفوه، ولا دلّهم عليه، ولا أمرهم به، ولا أرسل إليهم المرسلين، حتى بيّنوا لهم فضله وشريف منزلته. فأي إذن أكبر أو فعل (2) أخطر مما فعل اللّه بهم؟ ألا ترى إلى قوله: {وَآمِنُوا بِرَبِّكُمْ} {وَأَسْلِمُوْا لَهُ}(3)؟.
__________
(1) كذا في (ب) بالنصب، والصواب: خبر.. وإثبات.
(2) في (ط): وأفعل واخطر.
(3) يعني أن أمره لهم بالإيمان والإسلام أعظم الإذن.

(1/497)


* واحتجوا أيضاً بقوله عزَّ وجل ذكره: {كَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِيْنَ فَسَقُوْا أنَّهُمْ لاَ يُؤْمِنُوْنَ} [يونس: 33]، فصدق اللّه العظيم، لقد علم منهم أنهم لا يؤمنون، اختياراً منهم ومحبة للفسق، ولو أنهم كانوا عنده مطيعين ـ لا مستحقين(1) للفسق ـ ما سماهم به، وإنما حقت كلمته عليهم بعد فسقهم وصدهم عن أمره ونهيه، وبعد الكفر منهم؛ لا الابتداء(2) منه لهم. ألا ترى إلى قوله: {حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِيْنَ فَسَقُوْا}، ولم يقل سبحانه: على الذين آمنوا(3) ولا على المسلمين؟ وإنما معنى {حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِيْنَ فَسَقُوْا} أي وجب عليهم حكمه ووعيده، وقوله: {أَنَّهُمْ لاَ يُؤْمِنُوْنَ} اختياراً منهم للكفر، ومحبة له، وأنه قد حكم
عليهم بالفسق لمَّا فسقوا وخالفوا عن أمره ونهيه.
وأما قوله: {ادْخُلُوْا فِي السِّلْمِ كَافَّةً} [البقرة: 208]، يعني بكَافَّةٍ جميعاً، فإذا كان أمره للجميع؛ فكيف يدخل قوم في السلم قد أدخلهم فيه؟! وكيف يأمر قوماً بالدخول فيه وقد منعهم؟! هذا فعل (متعنت عتلّ)(4) لا ينفذ له أمر في شيء مما يأمر به، ولا مما يريده، فتعالى اللّه عن ذلك أحكم الحاكمين.
__________
(1) في (ب): بل مستحقين. والمعنى: لو علم ذلك منهم قبل فعلهم له ما سماهم به لمجرد ما سبق في علمه ولا حقت بذلك عليهم كلماته.
(2) في ب: لا لابتداء.
(3) في ب: على المؤمنين.
(4) في ب: متلعب عبَّاث.

(1/498)


* ثم احتجوا بقوله سبحانه: {وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةٌ فَمَنْ يَهْدِيْهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلاَ تَذَكَّرُوْنَ}، وجهلوا ما قبل ذلك من قوله: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ} [الجاثية: 22] فصدق اللّه عزَّ وجل لم يضله حتى اتخذ إلهه هواه، وعبده(1) من دون الله، وعَلِم ذلك منه ومن فعله، فأضله اللّه بعد ما فعل، وبعد ما كان منه، ولعلمه أنه لا يؤمن ولا يدع ما هو عليه من الكفر. فهذا معنى علم اللّه به، لم يدخله العلم في شيء، ولم يَحُل بينه وبين شيء، وإنما هذا خبر بإضلاله له.
والإضلال من الله، إنما هو في إهماله وترك تسديده وتوفيقه للخير، ألا ترى كيف يقول سبحانه في موضع آخر: {سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لاَ يُؤْمِنُوْنَ} [البقرة: 6] ؟ وذلك(2) لعلمه سبحانه أنَّه قد استحوذ عليهم إبليس، وأحبوا ما هم فيه من الكفر والضلال؛ حتى لم يتلفتوا(3) إلى شيء مما يوعظون به، ولا تعمل فيهم الموعظة، ولا يتدبرون ما هم عليه من الكفر الذي قد دخل في قلوبهم، فسواء(4) أنذرتهم أم لم تنذرهم؛ أو وعظتهم أم لم تعظهم (لا يؤمنون)، أي لا يصدقون بشيء مما تدعوهم إليه، ولا يخافون مما تخوفهم منه، قد أعمت(5) حلاوة الكفر أبصارهم، وأصَمَّت أسماعهم، وختمت على قلوبهم حتى منعت حلاوة الموعظة أن تصل إليهم، أو تدخل في قلوبهم، أو يلتفتون إلى شيء مما يعظهم به محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
__________
(1) في ب: وَعَنَدَ.
(2) في ب: ولذلك وهو غلط.
(3) في ب: لم يلتفتوا.
(4) تصحفت في ب إلى: قسرا
(5) في ب: أغشت.

(1/499)


* واحتجوا أيضاً بقوله: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيْبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلاَ فِيْ أَنْفُسِكُمْ إِلاَّ فِيْ كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا} [الحديد: 22]، وتأولوا في ذلك بأقبح التأويل، ولم يتدبروا الآية فيصح لهم فساد تأويلهم، وزعموا أن المصيبة هي: الكفر وغيره من أعمال الإثم، وليس ذلك كذلك؛ لأن آخر الآية يدل على غير ما تأولوا وقالوا، وإنما أراد بقوله سبحانه؛ ما أصاب الناس في الأرض من مصيبة ولا أصابتكم في أنفسكم إلا وقد علم اللّه ذلك من قبل أن يبرأ النفس وهو خلقها برؤها (1)، فعنى(2): ما في الدنيا من الآفات التي تقع في الأموال والثمار، وغيرها من المصيبات التي يكثر شرحها، ولم يرد بذلك سبحانه الإيمان، والكفر والعصيان، ولو أراد سبحانه ما تأوله الجاهلون من الجبر على الإيمان والكفر، ما قال: {وَبَشِّرِ الصَّابِرِيْنَ}، وكيف يكون كافراً وفاسقاً من كان محسناً صابراً، ومبشراً بالخير؟ ألا ترى إلى تصديق ما قلنا في تمام الآية، حين يقول: {لِكَيْ لاَ تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلاَ تَفْرَحُوْا بِمَا آتَاكُمْ} [الحديد: 23]؟، فصح عند كل فَهِمٍ أنَّه إنما أراد بهذا القول؛ محن الدنيا وبلواها، وفرحها وحزنها، وكثرة المال ونقصانه، وزكا ثماره(3) ولو كان مراده عزَّ وجل بهذا القول الكفر والإيمان؛ لم يقل: لا تأسوا على الإيمان إن فاتكم ولا تسروا به إن نلتموه، ولا تفرحوا بفوات الكفر لكم، فأي سرور يسر العبد إذا لم يسره الإيمان؟ وأي فرح أعظم منه على العبد، وأحلى (4) من فوات الكفر له، وتخلصه منه؟ والحجة في هذا تُفْسدُ قول من قال بما ذكرناه[ومما ييبن ما ذكرنا ويشهد له قوله سبحانه: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوْعِ وَنَقْصٍ مِنَ الأَمْوَالِ وَالأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ
__________
(1) كذا في النسخ ولعل الصواب: وبرؤها هو: خلقها.
(2) في ط: فمعنى.
(3) أي نموها وزيادتها.
(4) في ب: وأجل.

(1/500)


وَبَشِّرِ الصَّابِرِيْنَ * الَّذِيْنَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيْبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُوْنَ * أُوْلَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأَوْلَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُوْنَ}[البقرة: 155 ـ 157] فقال سبحانه: {أصابتهم مصيبة} وإنما عنى بها ما ذكرناه] (1) ولم يقل(2): الذين إذا أصابهم الإيمان والكفر فقالوا: إنا لله وإنا إليه راجعون، أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة وأولئك هم المهتدون، فبهذا علمنا أن المعنى هو ما ذكرنا من محن الدنيا وآفاتها، ولو كان على ما تأوله الجاهلون ما سُمِّي مصيبة، ولا أمرهم بالصبر عليه للعلة التي شرحت لك. كيف يجوز أن يأمرهم بالصبر على الكفر ويبشرهم بالثواب؟! هذا أحول المحال.
* واحتجوا أيضاً بقوله: {إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [الإنسان: 30، التكوير: 29]، فصدق اللّه، لولا أنَّه يشاء لهم التعريف بالإيمان والكفر، ودلهم على ما عرفوه؛ فعرفهم به، وأرسل إليهم المرسلين وحضهم على اتباعهم؛ ما عرفوا الإيمان من الكفر، والرضى من السخط. ثم قال في ذلك: {يُرِيْدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِيْنَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوْبَ عَلَيْكُمْ} [النساء: 26]، فهذه إرادة اللّه ومشيئته في خلقه، لا ما قال به الجاهلون.
__________
(1) ما بين المعقوفين زيادة لاستقامة الكلام.
(2) كذا.

(2/1)


* ومما احتجوا به أيضاً: {فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيْدٌ}[هود: 105]، فتأولوا ذلك على أحكم الحاكمين بأقبح التأويل، ولعمري لو نظروا ما في الآية من قبل هذا الكلام لأسفر لهم الأمر ولعرفوه، ألا ترى كيف يقول سبحانه: {يَوْمَ يَأْتِي لاَ تُكَلَّمُ نَفْسٌ إِلاَّ بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيْدٌ} [هود: 105]؟ يخبر عزَّ وجل ذكره أن ذلك الشقاء والسعادة إنما تكون في ذلك اليوم ـ يعني يوم القيامة ـ لا أيام الدنيا، ولعمري إن يوم القيامة؛ ليوم التغابن والحسرة والندامة، فمنهم ذلك اليوم شقي وسعيد، شقي قد شقي بعمله، وبما وقع عليه من حكم اللّه له بالعذاب، وسعيد قد سعد في ذلك اليوم بعمله، وبماحكم اللّه له به من الثواب. والشقي أشقى الأشقياء من شقي في ذلك اليوم، والسعيد أسعد السعداء من سعد في ذلك اليوم. وإنما أخبر اللّه سبحانه عن شقائهم وسعادتهم في ذلك اليوم لا في الدنيا، ألا ترى كيف يقول: {ذَلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوْعٌ لَهُ النَّاسُ وَذَلِكَ يَوْمٌ مَشْهُوْدٌ} [هود: 103]؟ يعني يوم القيامة، ولو كان الأمر على ما ظنوا، لكانت المخاطبة عند أهل اللسان والمعرفة على غير هذا اللفظ، وكان اسم الشقاء والسعادة قد انتظمهم قبل ذلك اليوم، وكانوا مستغنين عن إرسال الرسل إليهم، وإنزال الكتب عليهم، ولم يكن لله سبحانه عليهم حجة؛ إذ كان المشقي لبعض، والمسعد لبعض، والمدخل لأهل الشقاء في المعصية، ولأهل السعادة في الطاعة. وهذا أقبح ما نسب إلى الله، وقيل به فيه. فنعوذ بالله من الضلالة والعمى، ونسأله الرشد والهدى.

(2/2)


* ومما يحتجون به أيضاً قول اللّه سبحانه: {وَلَوْ شِئْنَا لآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا وَلَكِنْ حَقَّ القَوْلُ مِنِّي لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أجْمَعِيْنَ} [السجدة: 13]، يقول: بفعلهم وعملهم حق عليهم قولي، وثبتت عليهم حجتي، ووقع بهم العذاب؛ لأن قولي وحكمي بالعذاب قد سبق على من عصاني. ثم قال: {فَذُوْقُوْا بِمَا نَسِيْتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا إِنَّا نَسِيْنَاكُمْ وَذُوْقُوْا عَذَابَ الْخُلْدِ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُوْنَ} [السجدة: 14]، فصدق اللّه عزَّ وجل، لو شاء أن يهديهم جميعاً من جهة الجبر لهم لفعله ولم يغلبه ذلك، ولكن لم يشأه سبحانه إلاَّ بالتخيير منهم والاختيار؛ لأنَّه لو جبرهم على ذلك، وأدخلهم فيه غصباً؛ كان المستوجب للثواب دونهم، ألا ترى إلى قوله في آخر الآية، متبرئاً من فعلهم: {وَذُوْقُوْا عَذَابَ الْخُلْدِ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُوْنَ}؟ ولم يقل: بمشيئتي لكم. ولا: بقضائي عليكم. ولا: بإرادتي فيكم. ولا: بإدخالي لكم في القبيح من الفعل.
فافهم، وفقك اللّه ما شرحت لك.
والنسيان من اللّه؛ فهو: الترك لهم والإمهال، تقول العرب: نسيت الشيء ونسأته، أي تركته ولم أفعله.
* ومما يحتجون(1) به أيضاً قول اللّه سبحانه: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لآَمَنَ مَنْ فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيْعاً أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُوْنُوْا مُؤْمِنِيْنَ} [يونس: 99]، فصدق اللّه، لو شاء ذلك لأمكنه أن يكرههم على الإيمان، إن شاؤا أو أبوا، ولم يكن ذلك بغالب له ولا ما هو أعظم منه؛ إذ كان ذلك معجزاً وغالباً لمحمد صلى الله عليه وآله وسلم لا يقدر على ذلك منهم، ولا يمكنه فيهم. فأخبر اللّه سبحانه أن ما لا يقدر عليه لو أراده هو من جهة الجبر والإكراه لأمكنه، ولكنه لم يرد إلاَّ من جهة التخيير منهم والاختيار والرغبة لما استوجبوا بذلك الفعل بثوابه وعقابه؟
__________
(1) في ب: ومما احتجوا به.

(2/3)


فافهم ذلك وميّزه إن شاء الله.
* ومما يحتجون به قول اللّه سبحانه: {قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} [النساء: 78]، فصدق اللّه عزَّ وجل في قوله، غير أنهم لم يفهموا التأويل؛ لأنَّه يقول سبحانه: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيْلَهُ إِلاَّ اللَّهُ وَالرَّاسِخُوْنَ فِي العِلْمِ} [آل عمران: 7]، وليسوا من أولئك. وإنما أراد اللّه عزَّ وجل أن ينقض على الكفار قولهم؛ لأنَّه إنما كان الكفار إذا أصابهم مما يحبون (1) من جميع الخير، مثل الخصب، وزكاء الزرع، وكثرة النسل، ابتداءً لهم من اللّه بالإحسان والمن، وتوكيداً للحجة عليهم والإنعام؛ قالوا: هذا من عند اللّه وإذا أخذهم اللّه بشيء من فعلهم وخبث نياتهم وعظيم جرمهم وإكذابهم لمحمد صلى الله عليه وآله، ولما جاءهم به، وابتلاهم (الله)(2) بنقص الخصب، وقلة المطر، والزرع، والنسل، قالوا: شؤم محمد ومن معه، فأخبر اللّه سبحانه أن هذه الزيادة والنقصان في جميع ما ذكرناه من الله، فقال: {كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ}، ثم شرح ذلك فقال مبيناً للخير: {فَمَا لِهَؤُلاَءِ القَوْمِ لاَ يَكَادُوْنَ يَفْقَهُوْنَ حَدِيْثاً مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ} [النساء: 78 ـ 79]، يقول: ثواب من الله سبحانه لكم على ما كان من الطاعة، وخزي وعقاب منه سبحانه لكم على ما كان من أنفسكم من المعصية، والعمل القبيح، وترك الإئتمار لأمره، فيقول: ما أصابكم من الزيادة فيه والصلاح، فمن نعم اللّه عليكم، وبفضله وإحسانه إليكم، وما أصابكم من نقصان ذلك وفساده فمن قبيح أعمالكم، وسوء نياتكم، وإصراركم على المعاصي، وإنما دخل عليكم من أنفسكم لَمَّا فعلتم ما فعلتم؛ حتى وجبت الشنآة عليكم بذلك الفعل من اللّه سبحانه. وهذا تفسير ما جهلوا من ذلك.
__________
(1) في ب: ما يحبون.
(2) ليس في ب.

(2/4)


* ومما يحتجون به أيضاً، قول نوح عليه السلام لقومه عندما جادلهم في اللّه فأكثر، فقالوا: {يَا نُوْحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِيْنَ} [هود: 32] فقال نوح عليه السلام: {إِنَّمَا يَأْتِيْكُمْ بِهِ اللَّهُ إِنْ شَاءَ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِيْنَ وَلاَ يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيْدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ هُوَ رَبُّكُمْ وِإِلَيْهِ تُرْجَعُوْنَ} [هود: 33 ـ 34]، يقول لهم صلى الله عليه: إن جدالي ونصحي لا ينفعكم؛ إذا جاءكم عذاب ربكم ونزل بكم؛ لأنَّه لا يرد عذاب اللّه سبحانه إذا نزل بقوم، وهي سنته في الذين خلوا، لا يقبل توبتهم إذا نزل العذاب بهم، وكذلك إذا أراد اللّه أن يغويكم، فالإغواء من اللّه العذاب، فيقول: لا ينفعكم نصحي إذا نزل بكم إغواء اللّه وهو عذابه، كما قال عزَّ وجل في موضع آخر: {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوْا الصَّلاَةَ وَاتَّبَعُوْا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيّاً} [مريم: 59]، ولم يرد نوح عليه السلام بالإغواء ما تأوله الجاهلون من الضلال (1) لهم، وإمدادهم بالغي، والتمادي والكفر(2)، وإنما أراد بالإغواء العذاب النازل. ثم كذلك الإغواء في جميع ألسن العرب: لقيت غياً، أي عذاباً وتعَباً (3)، ولقي فلان غياً، كل هذا تحذير لهم لنزول العذاب بهم، وأنه لا تنفعهم نصيحة(4) إذا نزل العذاب بهم، لم (5) يصرف عنهم. كذلك قال اللّه سبحانه: {فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيْمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِيْ عِبَادِهِ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الكَافِرُوْنَ}[غافر: 85].
__________
(1) كذا في النسخ، ولعلها: الإضلال.
(2) كذا ولعلها: في الكفر.
(3) في ط: وبغياً.
(4) في ب: لا ينفعهم نصحه.
(5) كذا في النسخ.

(2/5)


وكثير مثل ما ذكرنا في القرآن مما احتجوا به، وتأولوه على غير ما أنزل اللّه، وفي فساد ما أفسدنا عليهم من تأويلهم فيما ذكرنا، واحتججنا عليهم به ما يغني عن كثير من حججهم، وقبيح تأويلهم، وباطل قولهم.
[القرآن يشهد لأهل العدل]
وقد قال اللّه سبحانه محتجاً على من نسب مثل ما نسبوا إليه في كثير من القرآن، وفي مواضع هي أكثر مما احتجوا به وتأولوه، فقال سبحانه: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيْتَاءِ ذِيْ القُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُوْنَ} [النحل: 90]. وقال عزَّ ذكره، مكذباً للمشركين ولمن قال بقولهم، ومحتجاً عليهم، ومخبراً بإفكهم وعوارهم: {وَإِذَا فَعَلُوْا فَاحِشَةً قَالُوْا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَأْمُرُ بِالفَحْشَاءِ أَتَقُوْلُوْنَ عَلَى اللَّهِ مَالاَ تَعْلَمُوْنَ} [الأعراف: 28].
ثم قال عزَّ ذكره: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُوْنَ} [التوبة: 115]؛ ينفي عن نفسه عزَّ وجل ما أسندوا إليه من خلقهم شقياً وسعيداً، ومن أن يضلهم بعد أن كان منه من الابتداء لهم بالإحسان والدعاء، والدلالة على الهدى، وعلى ما يحب، وعلى ما يكره، وما يحذرون، وما يتقون، فإذا تبين لهم ذلك فصدوا عنه؛ حقت عليهم كلمة الضلالة، وحاق بهم الإضلال من اللّه بذنوبهم، ودنيء فعلهم.

(2/6)


ثم نسب من نسب إليه هذا القول، وقال به عليه إلى قول الذين أشركوا: {سَيَقُوْلُ الَّذِيْنَ أَشْرَكُوْا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلاَ آبَاؤُنَا وَلاَ حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِيْنَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُوْا بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوْهُ لَنَا إِنْ تَتَّبِعُوْنَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ تَخْرُصُوْنَ قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ البَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِيْنَ} [الأنعام: 148 ـ 149]، يقول: مثل هذا القول قاله الذين من قبل هؤلاء، حتى نزل بهم بأسنا وذاقوه، وذلك أنهم كانوا يعملون الخبائث والمعاصي؛ فإذا نُهوا عنها وقال لهم أنبياؤهم ومن يتبع الأنبياء: لا تفعلوا، ولا تعصوا ربكم، قالوا: لو شاء اللّه ما أشركنا، ولكنه أدخلنا في المعصية وقضاها علينا، فأخبر اللّه عزَّ وجل أن ذلك ليس كذلك، وأنهم كانوا في ضلال وتكذيب لمن يقول لهم: إن اللّه لم يأمرهم، ولم يقض عليهم بالمعصية حتى ذاقوا بأسه وهو عذابه، وتبرأ من ذلك، وعلم أنَّه لو كان شاء لهم الإشراك ما نزل بهم بأسه. ثم قال محتجاً عليهم: {هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوْهُ لَنَا} يقول: من علم عن اللّه فتبينوه لنا أن هذا الفعل والقول والمشيئة من عند الله. ثم قال مكذباً لهم أيضاً: {إِنْ تَتَّبِعُوْنَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ تَخْرُصُوْنَ}، يقول: إن يتبعون إلاَّ أهواءهم بما يظنون، وإن هم إلاَّ يخرصون أي يكذبون في قولهم(1) على أنَّه شاء لهم ومنهم الكفر، وأنه لو شاء ما أشركنا، ولكنه أدخلنا فيه، ومنعنا من الدخول في الطاعة، ثم قال: {فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ البَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِيْنَ} [الأنعام: 149]، يقول: فلله الحجة بما قدمه إليهم، ودعاهم إليه، وأنذرهم به على ألسن رسله صلوات اللّه عليهم، ثم
__________
(1) في ب: قلوبهم، وهو تصحيف.

(2/7)


قال: {فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِيْنَ} يعني يجبركم جميعاً على الهدى، ولكنه لم يشأ ذلك إلا بالتخيير منكم والاختيار له، وكذلك(1) أرسل إليكم الرسل، وأمركم بطاعتهم، وحذركم معصيتهم، ولو شاء لكم الإيمان بالجبر منه والإكراه والمنع لكم ما احتاج إلى أن يرسل إليكم رسله، ولا يدعوكم إلى طاعته؛ لأنَّه إذا أجبركم على ما يريد، ولم يمكنكم، ولم يفوضكم، ولم يجعل لكم إرادة، ولا قوة ولا استطاعة فهو الذي يجبركم على ما يريد، ولا خيار لكم، ولا حاجة له ولا لكم إلى الرسل، ولا إلى الدعاة(2)؛ لأنه قد أشرككم فيما يريد من خير وشر، ومن كانت هذه حاله فإنه لا يملك(3) لنفسه ضراً ولا نفعاً؛ غير ملوم في عمل الشر، ولا محمود في عمل البر، ولا حجة عليه، فإن عُذِبَ على قبيح فقد ظُلِم، وإن أثيب فلم يستأهل ثواباً على جليل الطاعة، وليست هذه الصفة من صفة الحكماء، ألا ترى إلى قوله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنْسَ إِلاَّ لَيَعْبُدُوْنِ مَا أُرِيْدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيْدُ أَنْ يُطْعِمُوْنِ} [الذارايات: 56 ـ 57]، فأخبر سبحانه أنَّه لم يخلقهم إلاَّ لعبادته، ولم يخلقهم لمعصيته، ولم يُشق ولم يسعد، ولم يجبر ولم يَطبَع أحداً على شيء من هذا، ولم يُسَمِّ مؤمناً ولا كافراً إلاَّ بإيمانه وكفره، وفعله، لا بخلقه عزَّ وجل؛ لأنَّه ليس بظلام للعبيد، ولو طبعهم على شيء من هذا كان المُحْسِنُ غيرَ مُحْسِنٍ، والمسيء غير مسيء؛ لأن كل من فُعِلَ به شيء وأدخل فيه غصباً؛ كان غير محمود عليه ولا مذموم فيه، وكان المحسن ليس بأحق باسم الإحسان من المسيء، ولا المسيء بأحق باسم السواية(4) من المحسن، والتبس الأمر فيما بينهما، وأمكن لكل أن يدعي ما أحب، لو قال المسيء: أنا محسن؛ لأمكنه ذلك، ولما عُرف المسيء من المحسن على
__________
(1) كذا في النسخ ولعلها: ولذلك.
(2) في ب: إلى الدعاء.
(3) في ب: فإنما هو لا يملك
(4) في ط: السوء به.

(2/8)


قولهم وقياسهم.
ثم قال سبحانه: {لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلاَ أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوْءاً يُجْزَ بِهِ} [النساء: 123]، يقول: يعمل، ولم يقل: عملت به، وقضيت عليه، وإنما كان أهل الكتاب ـ يعني اليهود وغيرهم من أهل الكتاب ـ يقولون: ليس يعذبنا اللّه، نعمل ما شئنا، نحن أبناء اللّه وأحباؤه، فأكذبهم الله، وأعلمهم وغيرهم أنَّه لا يظلم أحداً، وأنه من عمل شيئاً جزي به.
* ثم قال سبحانه: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِيْنَ بَدَّلُوْا نِعْمَةَ اللَّهِ كُفْراً وَأَحَلُّوْا قَوْمَهُمْ دَارَ البَوَارِ جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا وَبِئْسَ القَرَارُ} [إبراهيم: 28 ـ 29]، يقول: بدلوا ما أنعم اللّه به عليهم(1) من إرسال الرسل، والدعاء والدلالة على الخير كفراً بذلك، أي جحدوا به، ودعوا الناس إلى المعصية والكفر به وأحلوهم(2).
ثم قال مخبراً لهم محتجاً عليهم: {وَلاَ تَقْرَبُوْا الفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ} [الأنعام: 151]، والله أعدل وأحكم من أن ينهى عن شيء وهو منه، أو ينهى عبداً عن شيء قد أراده، أو عن شيء لا يقدر على عمله، أو على(3) الخروج منه، أو يأمرهم بشيء لا يمكنهم الدخول فيه، ولم يكلف اللّه عباده إلاَّ ما يقدرون عليه ويطيقونه، برحتمه ورأفته وفضله، وكل ما نهى اللّه عنه فليس منه ولم يشأه، ألا ترى إلى قوله عزَّ وجل: {وَلاَ يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوْا يَرْضَهُ لَكُمْ} [الزمر: 7]؟ معنى الكفر هاهنا: الجحود له ولنعمه، وفضله عليهم الذي ابتدأهم به، وإن يشكروا، أي يطيعوا فيعملوا بطاعته؛ يرضى(4) ذلك الفعل منهم ويثيبهم عليه.
__________
(1) في ب: نعمة الله من إرسال.
(2) كذا في النسخ.
(3) في ب: ولا على
(4) كذا، والصواب: يرض، بحذف حرف العلة؛ لأنه مجزوم.

(2/9)


ثم قال أيضاً: {فَأَمَّا ثَمُوْدُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوْا العَمَى عَلَى الْهُدَى} [فصلت: 17]، يخبر عزَّ ذكره ويبين أن الذنوب من العباد بالاختيار والاستحباب منهم، وأنه قد هداهم فاستحبوا الكفر وآثروه على ما فعل بهم من الهدى، ثم قال: {وَالَّذِيْ قَدَّرَ فَهَدَى} [الأعلى: 3] أي ابتدأ الخلق بما ذكرنا من الدلالة لهم على الخير والهدى.
ثم قال عزَّ وجل لنبيه عليه السلام متبرئاً من الضلالة، مسنداً لها إليهم: {قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّمَا أَضِلُّ عَلَى نَفْسِي وَإِنِ اهْتَدَيتُ فَبِمَا يُوْحِي إِلَيَّ رَبِّي إنَّهُ سَمِيْعٌ قَرِيْبٌ} [سبأ: 50] معنى ذلك: إن ضللت فإنما أضل من نفسي، (على) تقوم مقام (من)؛ لأن حروف الصفات يخلف بعضها بعضاً، وهذا كثير في أشعار العرب، قال الشاعر:
شربن بماء البحر ثم ترفعت…لدى لجج خضر لهن نئيج(1)
يريد: من لجج، فجعل مكانها (لدى)، وكذلك حروف الصفات يخلف بعضها بعضاً. أفترى محمداً يضل من نفسه ويهتدي من الله، وهذا الخلق يضلون من عند الله؟ معاذ الله، كيف ننسب هذا الفعل القبيح والاسم إلى اللّه والظلم، ونبرئ منه أنفسنا، والله عزَّ وجل يقول: {وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَونَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الأعراف: 108]؟!
__________
(1) البيت لأبي ذؤيب الهذلي وفي بعض النسخ بدل (لدى): (متى)، وهو في وصف السحاب، والنئيج: الصوت العالي.

(2/10)


ثم قال عزَّ وجل: {قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ} [الأعراف: 28]. وقال: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إلاَّ إِيَّاهُ} [الإسراء: 23] ولم يقل: وقضى ربك أن تكفروا به وتعبدوا سواه؛ من الحجارة والنار وغيرهما من المعبودات، فكان أمره وقضاؤه ومشيئته أن لا يعبدوا غيره بالتخيير من العباد، لا من جهة الجبر لهم على تركها، فقال(1): {وَلاَ تَقْتُلُوْا أَوْلاَدَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاَقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئاً كَبِيْراً}[الإسراء: 31]، ثم قال أيضاً: {وَلاَ تَقْرَبُوْا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيْلاً} [الإسراء: 32]، ثم قال: عزَّ وجل: {وَلاَ تَقْتُلُوْا النَّفْسَ الَّتِيْ حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ} [الأنعام: 151، الإسراء: 33]، {وَلاَ تَقْرَبُوْا مَالَ اليَتِيْمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [الأنعام: 152 ـ الإسراء: 34]، ثم قال: {وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالفُؤْادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولاً} [الإسراء: 36]، ثم قال: {وَلاَ تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ فَتُلْقَى فِي جَهَنَّمَ مَلُوْماً مَدْحُوْراً} [الإسراء: 39]، أفترى اللّه سبحانه قضى أن يجعل معه إلهاً آخر، ورضي ذلك أو أراده، أو شيئاً مما ذكرنا من قتل المشركين أولادهم، ثم عظم ذلك، وذم عليه فاعله أشد الذَّم؟ ورضي بالزنا، ثم قال: {إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيْلاً}؟ وبقتل النفس بغير حق، أو بأكل مال اليتيم، أو الكذب، ثم قال: {كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولاً}؟، فإن كان قضاه سبحانه، فكيف يسألهم عن شيء هو فعله بهم؟! وإن كان منهم فالسؤال لا زم لهم، والحجة عليهم، وإن كان منه، فكيف يسألهم عن فعله؟!. هو سبحانه أعلم بما يفعل بهم منهم بأنفسهم.
__________
(1) كذا في النسخ والصواب: وقال.

(2/11)


انظر إلى تبيان ذلك كيف يقول: {وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً مَا لَهُم بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلاَ لآِبَائِهِمْ كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلاَّ كَذِباً فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيْثِ أَسَفاً} [الكهف: 4 ـ 6]، أفَتَرَى اللّه سبحانه وتقدست أسماؤه، قضى وأمر وشاء وأراد أن يقول الجاهلون: إنَّه اتخذ ولداً، ثم قال: {كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ}؟ فكيف تكون كبيرة وهي قضاؤه وأمره؟! ثم قال: {إِنْ يَقُوْلُوْنَ إِلاَّ كَذِباً} فكيف يقضي عليهم سبحانه بالكذب أو يكذب نفسه، تعالى عن إكذاب نفسه، وظلم عباده، فهو يتبرأ منه وينسبه إلى عباده. ثم قال لنبيه عليه السلام عندما عظم إشراكهم عنده: {لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ} إن لم يؤمنوا، فلا تفعل بنفسك ذلك، فإنا قادرون على جبرهم وقسرهم على الإيمان.

(2/12)


ثم قال: {وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَن شَاءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاءَ فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَاراً أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا} [الكهف: 29]، فقال مفوضاً إليهم: {فَمَن شَاءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاءَ فَلْيَكْفُرْ} أفتراه قال هذا القول وقد منع الكافرين (1) من الدخول في الإيمان، وحال بين الفريقين وبين المشيئة والاختيار لأنفسهم، ثم قال ساخراً منهم مستهزئاً بهم: {فَمَن شَاءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاءَ فَلْيَكْفُرْ}؟ معاذ الله، ما كان ربي بظلام للعبيد، لكن مكنهم وأعطاهم من القوة والاستطاعة ما مكنهم به من الإيمان والكفر، ورغبهم وحذرهم، ومكنهم وفوضهم، ثم قال حينئذ: من شاء الكفر فقد جعلت السبيل إليه، ومن شاء الإيمان فقد جعلت له الطريق إليه، ثم أعلمهم أن الكفر ظلم لأنفسهم، وأنه قد أعد للظالمين ناراً أحاط بهم سرادقها؛ زيادة لهم في الوعيد على معاصيه.
ثم قال: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لاَ نُضِيْعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً} [الكهف: 30] فأخبر أنَّه لا يضيع أجرهم إذا عملوا حسناً، ترغيباً منه لهم بالوعد على طاعته وترك معصيته، ولو كان قضاه عليهم ما قال عملوا؛ لأنهم مجبرون على ذلك الحسن، ومن جبر على شيء فغير محمود فيه، ولو كان ذلك كذلك لم يقل: {إِنَّا لاَ نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً} كيف يكونون أحسنوا عملاً وهو المحسن بهم(2) والحاتم عليهم، ثم ما أقبح ما أسند أهل هذا القول إلى اللّه سبحانه.
__________
(1) في (ط): الكافرون. وما أثبته من هامش ط عن الأصل. وفي (ب): الكافر من.
(2) في ط: لهم.

(2/13)


ثم قال: {يَا أَيُّهَا الَّذِيْنَ آمَنُوا لاَ تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيطَانِ وَمَن يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ} [النور: 21]، فأخبر سبحانه أن الفحشاء والمنكر من الشيطان، وتبرأ منهما ونسبهما إلى غيره، ووعد من اتبعه العذاب. فالله يبرئ نفسه من كل ظلم وفحشاء ومنكر وباطل وإضلال، والجاهلون يلزمونه ذلك.
وقال: {أَفَرَأَيتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنتَ تَكُونُ عَلَيهِ وَكِيلاً}[الفرقان:43 ]، كل هذا يخبر عنهم بالقدرة على المعصية والفعل لها، وأن ذلك ليس منه ولا أراده، لأنَّه أكرم من أن ينهى عن شيء وهو يريده، أو يأمر بشيء وهو يريد غيره، أو يحمل العباد عليه، وكل ما نهى اللّه عنه فليس منه، وكيف يكون منه ما نهى عنه؟! هذا صفة اللعابين، تعالى اللّه عنها علواً كبيراً.
وقال مخبراً ومخيراً: {مَن جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيرٌ مِنْهَا وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُوْنَ وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ هَلْ تُجْزَونَ إِلاَّ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [النمل: 89 ـ 90] فأخبر سبحانه أنَّه يجزيهم بفعلهم في الحسنة والسيئة لا بفعله بهم وقضائه عليهم، وأن ذلك منهم وفيهم، ألا ترى كيف يقول: {هَلْ تُجْزَونَ إِلاَّ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ}؟ أي لم يظلمكم، ولم يجزكم إلاَّ بعملكم لا بغيره توفيقاً منه لهم، وتبرياً من الظلم إليهم، فلو كان قضى ذلك عليهم لما كانت عليهم حجة، ولا تبرأ سبحانه من فعله ونسبه إليهم؛ إذ كان ذلك أكبر الظلم لهم، تبرأ اللّه عن ذلك ولم ينزهوه عنه، فقد ظلموا أنفسهم.
ثم قال أيضاً: {مَن جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيرٌ مِنْهَا وَمَن جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلاَ يُجْزَى الَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ إِلاَّ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [القصص: 84]، وهذا أيضاً القول فيه كالقول في الذي قبله.

(2/14)


ثم قال: {أَمْ حَسِبَ الَّذِيْنُ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ يَسْبِقُونَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ} [العنكبوت: 4]، يقول: أم حسب الذين يعملون المعاصي أنهم يغلبون ويسبقون إلى العمل بها، ولو شئنا ما سبقونا إليها، ولا فاتونا (1) بها، فكل هذا يُعْلَم أنَّه بريء من أفعال العباد، وأنها منهم بغير أمر له، إلاَّ بما فوض إليهم، ومكنهم وخَيَّرهم.
ثم قال لا شريك له: {وَمَنْ جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ العَالَمِينَ} [العنكبوت: 6]، وقال: {مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَمَنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ} [الروم: 44]، فانظر كيف تبرأ في جميع الحالات من أعمال العباد، يخبر أنها منهم لا منه، وأنه يجزيهم بفعلهم وعملهم، لا بقضائه ولا بفعله، ولا شيء كان منه مُدْخِلاً لهم في شيء من هذه الأعمال.
وقال في قصة لقمان صلى الله عليه: {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان: 13]، أفترى اللّه سبحانه استعظم الشرك وهو منه، وقد قضاه وقدره وحتم به على فاعليه(2)، واستعظمه منهم وهو قضاه عليهم، وحتمه في رقابهم وأدخلهم فيه؟ يا سبحان الله!! ما أقبح هذا من القول والصفة في بني آدم، فكيف في الحكم العدل؟!
__________
(1) في هامش ط: غير واضحة الدلالة في الأصل، وأثبت: غلبونا.
(2) في ب: فاعله.

(2/15)


وقال: {لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ} [المدثر: 37]، أفتراه لم يجعل فيهم مقدرة على التقدم ولا على التأخر وهو يقول: {لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ}؟ ثم قال: {وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ}[محمد: 31]، وقال: {لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ}[يونس: 14]، فلو كان الأمر على ما يقول الجاهلون ما كان إليهم تقدم ولا تأخر، ولا احتاجوا إلى بلوى، ولا لينظر عملهم، فكان بكل ما يدخلهم فيه عالماً أنَّهم لا يقدرون على غيره، وأي مشيئة لهم حين يقول: {لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ}. وكيف لهم بالتقدم والتأخر وقد منعهم من ذلك، وحال ـ بقضائه وحكمه عليهم ـ بينهم وبين ما أمرهم به من التقدم والتأخر؟ ومعنى: (ننظر)، أي نحكم عليكم بما يكون من خبركم(1)، وكتاب اللّه كله على ما ذكرت من ثواب اللّه لعباده وعقابه لهم، كل بما كانوا يعملون، وبما كانوا يكسبون، وبما كانوا يجحدون، وبما كانوا يصنعون، لم يقل عزَّ وجل في شيء منه: بقضاي عليكم، ولا بمشيئتي، ولا بإرادتي، ولا بقدرتي فيكم، ولا بإدخالي لكم في الطاعة، ولا بإخراجي لكم من المعصية. كل هذا بيَّن أن ثوابه وعقابه على عملهم. والكتاب كما قلنا يُصّدِّق بعضه بعضاً، ليس من كتاب اللّه شيء ينقض شيئاً؛ لأنَّه من حكيم عليم، ولو لا ذلك لكان فيه الاختلاف، كما قال سبحانه: {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلاَفاً كَثِيراً}[النساء: 82].
__________
(1) في ب: ثم نخبركم.

(2/16)


ثم قال: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا}[الشمس: 10 ـ 11]، فكيف يقضي بالفواحش، ثم يقول: {قَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا}؟! أفتراه خَيَّب نفسه؟! تعالى عن ذلك علواً كبيراً. ثم قالوا: {رَبَّنَا مَنْ قَدَّمَ لَنَا هَذَا فَزِدْهُ عَذَاباً ضِعْفاً فِيْ النَّارِ} [ص: 61]، تعالى عن أن يقول مثل هذا لنفسه، ولكن قَدَّمه شياطين الإنس والجن، ألا ترى إلى قوله: {رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلاَ} [الأحزاب: 67]، اعترافاً منهم بذنوبهم، وأن عملهم وما نزل بهم من العقوبة كان بطاعتهم لسادتهم وكبرائهم، ولم يقولوا ـ وقد احتاجوا إلى الحجة لعظم(1) ما نزل بهم ـ: ربنا أطعناك، واتبعنا قضائك وأمرك وما قدرت لنا، ولو كان ذلك ما تركوا قوله، لما لهم فيه من الحجة على اللّه سبحانه. والسبيل فهو سبيل القصد والخير، ألا ترى كيف يقول: {إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيْلُ إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً} [الإنسان: 3] ؟ يقول: دلَلْناه على سبيل الخير، فإن شكر فذلك واجب عليه، ولنفسه يعمل ويمهد، وإن كفر بما قلنا به فذلك راجع ضرره عليه، وإن اللّه غني حميد عن شكره، وإنما ثواب شكره راجع عليه ونافع له.
وقال سبحانه: {رَبَّنَا أَرِنَا اللَّذَيْنِ أَضَلاَّنَا مِنَ الْجِنِّ وَالإِنْسِ نَجْعَلْهُمَا تَحْتَ أَقْدَامِنَا لِيَكُونَا مِنَ الأَسْفَلِينَ}[فصلت: 29]، أفترى اللّه سبحانه أراد بهذا القول نفسه، إن(2) كان في قولهم هو المضل لعباده؟ سبحانه وتعالى عما يقول الجاهلون علواً كبيراً. ما أفحش ما يسندون إلى الله!!.
__________
(1) في ب: لعظيم.
(2) كذا في النسخ والصواب: إذ.

(2/17)


ألا ترى إلى ما يقول آدم عليه السلام عند ما كان منه: {رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِيْنَ} [الأعراف: 23]، أفترى آدم عليه السلام استغفر ربه من قضائه عليه، وقدره وحتمه لمعصيته عليه؟ أم من ذنب عمله هو من نفسه والله بريء منه؟ أو ترى اللّه نهاه عن أكل الشجرة، وقد قضى عليه أكلها وحتمه في رقبته، ولو كان ذلك كذلك ما أقر عليه السلام على نفسه بالخطيئة، ولقال: هذا قضاؤك عليّ ومشيئتك، وإنما أخطأت وأكلت من الشجرة، ولو لا قضاؤك ومشيئتك ما قَدَرْتُ على أكلها، فلعلمه بالله أقر صلى الله عليه أن الخطيئة كانت منه، وبرًّأ ربه منها، تعالى اللّه عما يقول الجاهلون علواً كبيراً.
وكذلك(1) قال موسى عليه السلام لما وكز الرجل فقضى عليه، فقال موسى عند ذلك: {هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ إِنَّه عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِيْنٌ}[القصص: 15]، ولم يقل: هذا من قضاء اللّه عليّ، ولا من تقديره فيّ، ولا من إضلاله لي، فبرأه(2) سبحانه من ذلك ونسبه إلى الشيطان وإلى نفسه، فقال: {رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي}[القصص: 16].
فهذا قول أنبياء الله، يلزمون الخطايا أنفسهم، ويبرؤن من ذلك خالقهم، والجهال يبرؤن أنفسهم من ذلك، ويلزمون الذنوب خالقهم.
وانظر إلى قول اللّه سبحانه: {حَتَّى إِذَا جَاءَنَا قَالَ يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَينِ فَبِئْسَ القَرِيْنُ}[الزخرف: 38] أفترى اللّه سبحانه يعني نفسه بذلك، أم يعني مجترم الذنب؟ تعالى اللّه من أن يضل أحداً، أو يكون له أحد قريناً.
__________
(1) في ب: كذلك.
(2) الضمير لموسى عليه السلام، يعني برأ ربه سبحانه.

(2/18)


ثم أخبر عن كفرهم وقولهم الكذب على الله، وأنه غير راض بذلك، فقال: {أَلاَ إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُوْلُوْنَ وَلَدَ اللَّهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ}[الصافات: 152 ـ 153]، أفترى اللّه أمرهم بالكذب عليه وقضاه عليهم، ثم تبرأ من شيء هو فعله ورمى به غيره سبحانه. ألا ترى كيف يقول عزَّ وجل: {ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئاً فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتَاناً وَإِثْماً مُبِيناً}[النساء: 112]، أَفَتَرَى اللّه عزَّ وجل بهتهم بما لم يفعلوا، وظلمهم بما لم يعملوا، ووصف نفسه باحتمال البهتان والإثم المبين؟ كذب من قال على اللّه بهذا القول.
وقال تقدست أسماؤه: {إِنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الكِتَابَ لِلنَّاسِ بِالْحَقِّ فَمَنْ اهْتَدَى فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيهَا وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ} [الزمر: 41]، فبين لهم أنَّه بريء(1) من فعلهم، وأنه إنما يجزيهم بما يكون فيهم، بعد التبيين لهم والترغيب والتحذير، {لَيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَا مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ}[الأنفال: 42] أي من أهلك نفسه بالمعصية بعد ما عرفها فهو الهالك المُهْلِك لها؛ لأنَّه مدخل لنفسه فيها، ومن أحياها بالطاعة فقد عرف طريق الطاعة بما قلناه من تعريف اللّه لهم الطريقين، وهدايته لهم النجدين، لكيلا يكون لأحد على اللّه حجة(2).
__________
(1) في ب: أنَّه ناءٍ، يعني: بعيد.
(2) في ب: بعد الرسل.

(2/19)


ثم قال عزَّ وجل: {لاَ تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِباً فيُسْحِتَكُمْ بِعَذَابٍ وَقَدْ خَابَ مَنِ افْتَرَى}[طه: 61]، أفتراه يعني نفسه بهذا السحت؟! (1) ثم قال: {وَلاَ تَقُولُوا ثَلاَثَةٌ}[النساء: 171]، أفترى اللّه نهاهم عن قبيح اللفظ به وهو أمرهم به؟ وكره منهم أن يقولوا: {ثَالِثُ ثَلاَثَةٍ}[المائدة: 73] وهو قضاه عليهم، وشاءه منهم، وأراده لهم؟! جلَّ اللّه عن هذه الصفة المشبهة لصفات اللعابين والمتلعبين.
وقال أيضاً لنبيه عليه السلام: {لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ}[التحريم: 1] ؟ أفترى النبي صلى الله عليه وآله وسلم حرم ما أمر الله بتحريمه، وقدره عليه وقضاه له؛ ثم يستخبره(2) عن ذلك التحريم فينهاه عنه، ويعاتبه فيه ويعيبه عليه؛ وهو الذي أدخله فيه وقضاه عليه؟! معاذ اللّه أن يكون هذا أبداً، لكن هذا التحريم كان من فعل محمد لا من فعل الله. ألا ترى إلى أمر اللّه سبحانه له بترك ما لم يرضه من فعله في ذلك، وَأَمَره أن يرجع إلى ما أحلَّ له ويكفر يمينه؛ فقال: {قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ}[التحريم: 2] .
__________
(1) من معانيه: العذاب والهلاك والاستئصال.
(2) في ط: في الأصل: نستخبره.

(2/20)


ثم قال سبحانه: {وَقَالَ قَرِيْنُه هَذَا مَا لَدَيَّ عَتِيدٌ أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ مَنَّاعٍ لِلْخَيرِ مُعْتَدٍ مُرِيْبٍ الَّذِي جَعَلَ مَعَ اللَّهِ إِلَهَاً آخَرَ فَأَلْقِيَاهُ فِي العَذَابِ الشَّدِيدِ} [ق: 23 ـ 26]. ثم قال سبحانه: {قَالَ قَرِينُهُ رَبَّنَا مَا أَطْغَيتُهُ وَلَكِنْ كَانَ فِي ضَلاَلٍ بَعِيدٍ قَالَ لاَ تَخْتَصِمُوا لَدَيّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيكُمْ بِالْوَعِيدِ مَا يُبَدَّلُ القَوْلُ لَدَيَّ وَمَا أَنَا بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيْدِ}[ق: 27 ـ 29]، وقال: {الَّذِيْ جَعَلَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ}، أفترى اللّه سبحانه الذي أضله، وأمره أن يجعل معه إلهاً آخر، ثم يقول ألقياه يعني: الضال والمضل، أفتراه أراد بهذا نفسه؛ إذ كان في قولهم أنَّه المضل لهم، والمدخل لهم فيما دخلوا فيه من خير وشر، فكيف وقد تبرأ في آخر الآية فقال: {لاَ تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيكُمْ بِالْوَعِيدِ}؟ ولم يقل سبحانه: لا تخاصموني ولا تحتجوا عليّ؛ لأنهم لم ينسبوا إليه شيئاً من الظلم، ولا من الإضلال(1) لهم، ولا من إدخالهم في شيء مما نهاهم عنه، وإنما نسب ذلك بعضهم إلى بعض، ولو نسبوا(2) إليه كانت الخصومة معه لا مع غيره، وكانت الحجة لهم والقول عليه، ألا ترى إلى قول المذنب الذي جعل مع اللّه إلهاً آخر كيف يلزم الذنب غير ربه؟ وكيف لم يقل: أمرني ربي أن أجعل معه إلهاً غيره؟ ثم قال: {كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ مَنَّاعٍ لِلْخَيرِ} أفترى أن هذه الصفات(3) كلها القبيحة وصف اللّه بها نفسه؟! تعالى اللّه عن ذلك علواً كبيراً.
__________
(1) في ط: الضلال.
(2) كذا في النسخ ولعلها: ولو نسبوه.
(3) في ب: الصفة.

(2/21)


ثم قال سبحانه: {وَكَذَلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَولاَدِهِمْ شُرَكَاؤُهُمْ} [الأنعام: 137]، أفترى اللّه سبحانه أراد بذكر الشركاء غيره من المغوين، أم أراد نفسه بهذا التزيين؟ فإن كان شركاؤهم هم غيره، فقد برأ نفسه سبحانه أن يضل ويزين شيئاً من المعاصي لأهلها، وإن كان هو الشركاء فقد عنى إذاً نفسه بهذا القول، وهذا غير معروف في اللغة؛ يذكر غيره ويخاطبه وهو يريد بالذكر نفسه، هذا محال في القول لا يقبله العقل.
وانظر إلى قوله فيما يحكيه عن الهدهد، فقال: {وَجَدْتُهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُوْنَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُوْنِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ}[النمل: 24] ولم يقل زين اللّه لهم السجود للشمس، ولا أنَّه صدهم عن السبيل.

(2/22)


وكل(1) نبي أو غيره ممن عقل أو أنصف يبرئ اللّه سبحانه من الذنوب ويستغفره منها، ويسند الخطأ بها إلى نفسه. ألا ترى إلى قوله سبحانه لموسى صلى اللّه عليه: {اذْهَبْ إِلَى فِرْعَونَ إِنّه طَغَى فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ تَزَكَّى وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ فَتَخْشَى فَأَرَاهُ الآيَةَ الكُبْرَى فَكَذَّبَ وَعَصَى ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعَى فَحَشَرَ فَنَادَى فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الآخِرَةِ وَالأُولَى}[النازعات: 17 ـ 26] أفترى اللّه تبارك وتعالى الذي أضل فرعون، وأدبره عن الطاعة، ومنعه أن يتزكى، وأمره بالتكذيب والعصيان، وأن يدعي أنَّه اللّه الأعلى، وقد فطره اللّه على ذلك، وحمله عليه، ثم أرسل إليه موسى صلوات اللّه عليه يدعوه إلى أن يهتدي ويتزكى؛ وقد منعه منهما، وفطره على غيرهما، وحال بينه وبين العمل بهما، ثم يرسل إليه من أرسل، وأنزل به العذاب عندما كان من سعيه في طاعة اللّه وأمره؟ هذا أكبر الظلم، وأقبح الصفة في المخلوقين، تعالى اللّه عما أسند إليه الجاهلون من هذه المقالة الفاسدة الضالة. ألا ترى إلى قول اللّه سبحانه: {وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَمَا هَدَى}[طه: 79] ينسب الضلالة إلى فرعون والإضلال، ويبرئ منها نفسه.
وانظر أيضاً إلى قوله عزَّ وجل: {اشْتَرَوُا الضَّلاَلَةَ بِالْهُدَى وَالعَذَابَ بِالْمَغْفِرَةِ}[البقرة: 175] يقول سبحانه: استحبوا(2) الضلالة على الهدى، والعذاب على المغفرة، مُمَثِّلاً في ذلك بالبيع والشراء؛ لأنَّه في كلام العرب هذا المثل.
__________
(1) في ب: فكل.
(2) في ب: استوجبوا ولعله تصحيف.

(2/23)


وانظر أيضاً إلى قوله في ابن آدم: {فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيْهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ}[المائدة: 30] ولم يقل سبحانه: قَدَّرته، ولا قضيته عليه، ولا أمرته، ولا رضيته منه، بل برأ نفسه من فعله، وألزم المعصية أهلها وفاعلها، ألا ترى إلى قوله: {فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيْهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ} أخبر أن ذلك الفعل من نفسه لا من غيرها.
وانظر إلى قوله تبارك وتعالى يحكي عن نوح صلى الله عليه: {رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِيْنَ}[هود: 45] أفتراه قضى هذا القول على نوح ثم عابه عليه، وعنفه فيه، فقال: {إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ}[هود: 46]؟ وانظر إلى تبرئة نوح عليه السلام لخالقه من ذلك، وإلزامه الذنب نفسه، فقال عليه السلام: {رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ}[هود: 47]، فأخبر أن هذه المسألة منه فاستغفر منها، ولم يقل: إنَّه قضاؤك وقدرك عليّ، ولو كان قضاء اللّه عليه ما استغفر منها، كيف يستغفر اللّه من فعله؟! إنما يتوب العباد إلى اللّه ويستغفرونه من أفعالهم لا من فعله، كذلك كل فاعل قبيح يتوب منه، ويستغفر ربه من فعله، ولا(1) يستغفر ربه من فعل غيره، ولا يُلْزِم اللّه من فعل غيره شيئاً.
__________
(1) في ب: لا يستغفر.

(2/24)


وانظر إلى قوله عزَّ وجل لنبيه عليه السلام: {وَلاَ تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيماً}[النساء: 105]. أفترى(1) اللّه سبحانه نهى نبيه عليه السلام عن شيء هو يريده، وقد قضى عليه فعله، وأمر نبيه بترك شيء لا يقدر على تركه؟ لو كان ذلك كذلك ما نهاه عنه، لعلمه أنه لا يقدر على تركه. وكثير في كتاب اللّه عزَّ وجل مما نهى عنه أنبياءه وعابه عليهم، وعاتبهم عليه، أفترى اللّه سبحانه عاب ذلك عليهم، وكرهه من أفعالهم وهم لا يجدون إلى الخروج منه سبيلاً؟ أو عاتبهم عليه وهو يعلم(2) أنهم يطيقون رفضه والخروج منه، فكذلك(3) عاتبهم عليه، وذمه من أفعالهم.
وانظر إلى ما يقول لمحمد صلى الله عليه وآله وسلم: {وَلاَ تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ}[الشعراء: 213]، أفتراه نهاه عن شيء يقدر عليه، أو عَمَّا لا يقدر عليه؟ فإن كان نهاه عن شيء يقدر على تركه، فالحجة لله سبحانه قائمة على خلقه، وإن كان نهاه عن شيء لا يقدر عليه، فليس لله على خلقه حجة؛ إذ كانت حاله كحالة من يُدْعَى إلى ما لا يطيق، وكُلِّف ما لا يقدر عليه(4) وعُذِّب بذلك مظلوماً، وكيف يكون ذلك كذلك، والله سبحانه يقول: {وَلاَ تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيماً}[النساء: 29]؟ فأين الرحمة ممن كلفهم ما لا يطيقون، وافترض عليهم ما لا يقدرون على تأديته، لمنعه لهم منه، وحجزه إياهم عنه؟ كذب من قال على اللّه بهذا القول، وخاب(5) في الدنيا والآخرة.
__________
(1) في ب: فترى.
(2) في الأصل فوقها كلمة: عالم، وهي في ب.
(3) كذا.
(4) في ب: ما لا يطيق عليه.
(5) في ب: وخاف، ولعله تصحيف.

(2/25)


ألا ترى كيف يخبر عن تمكينه لعباده وتخييره لهم، وعن تَخَيُّره لهم، وعن الاستطاعة والقدرة التي مكنهم بها من العمل للطاعة والمعصية؟ فقال: {وَلَو أَنَّ أَهْلَ الكِتَابِ آمَنُوا وَاتَّقَوا لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلأَدْخَلْنَاهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيْمِ}[المائدة: 65]. ثم قال: {وَلَو أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّورَاةَ وَالإِنْجِيْلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لأَكَلُوا مِنْ فَوقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ مِنْهُمْ أُمَّةً مُقْتَصِدَةً}[المائدة: 66]. ثم قال: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ القُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوا لَفَتَحْنَا عَلَيهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ، وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ}[الأعراف: 69].
فانظر إلى قوله: {وَلَو أَنَّ أَهْلَ الكِتَابِ}، {وَلَو أَنَّ أَهْلَ القُرَى}، {وَلَو أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالإِنْجِيْلَ}، {وَلَو أَنَّهُمْ فَعَلُوا}. وهذا في القرآن كثير يدل عند أهل اللغة والمعرفة والنصفة(1) على أنهم مُمكَّنون مفوضون قادرون على ما أمروا به من العمل به، والترك لما نهوا عنه، وكثير مما في كتاب اللّه عزَّ وجل يشهد لنا بما قلنا، كرهنا بذكره التطويل عليك.
فميز يا بني علمك اللّه ما قد شرحت لك من هذا القول، وتدبر ما حكيت لك من قول الكذابين على اللّه يَبِنْ لك الصدق، وتعلم الحق؛ لأنَّه واضح مبين، لا يخفى على أهل المعرفة والعقل؛ لأن العقل أكبر حجج اللّه سبحانه على عباده، ولذلك لم يخاطب إلاَّ ذوي الألباب والعقول، وإياهم قصد بالأمر والفرض والنهي، وأسقط جميع ذلك عن المجانين والصبيان الذين لا عقول لهم. فسبحان البر الرحيم بعباده المتفضل عليهم بالإحسان، الدال لهم على الإيمان، المبتدي لهم بالنعمة قبل استحقاقها، المعافي لهم من النِّقَم بعد وجوبها.
__________
(1) أي العدل والإنصاف.

(2/26)


واعلم يا بني أن جميع من قص اللّه عليك(1) نبأه في كتابه من المخاطبين الأنبياء عليهم السلام فمن دونهم مقرون بالذنوب، معترفون بها، مستغفرون اللّه سبحانه من جميع ذلك، وفي أقل مما ذكرت أكثر الحجج، وأبلغ الكلام، وأجمل الموعظة، وأحسن الهداية عند من عقل وأنصف.
[العقل يشهد لأهل العدل]
ومن أكبر الحجج عليه ما يصح ويثبت عند أهل النُّهَى أنهم زعموا أن جميع ما في الأرض من خير أو شر، اللّه قضاه وأراده، وشاءه وقدره، وفي الأرض من يقول: إن اللّه ثالث ثلاثة، وإن له سبحانه ولداً وصاحبة، ومنهم من يقول: إنَّه لا رب ولا خالق، وإن الأشياء لم تزل كذا ليل ونهار، وشمس وقمر، وسماء وأرض، ومطر وصحو، وموت وحياة، ومن ينكح أمَّه، وابنته، وأخته، وعمته وكل ذي رحم مُحَرَّم عليه، ويأتي كل قبيح من الفعل رديء، ويغشى الفواحش ما ظهر منها وما بطن، ويقول: أن ذلك من ا لله، ومن قضائه وإرادته ومشيئته، وأن كل عامل عمل منه شيئاً فبأمر اللّه ورضاه وإرادته.
__________
(1) في ب: قضى اللّه عليه. ولعله تصحيف.

(2/27)


فيا سبحان الله!! ما أعجب هذا من قول وأشنعه، وأحمق من زعم أن أحداً مَّا يعمل شيئاً مما ذكرنا للّه عاص، وما أجهل من ذكر المعصية، كيف تكون المعصية(1) عندهم، ومن صلى ومن زنا كلاهما مطيع لله؟! قضى لهذا بالصلاة، وقضى على هذا بالزنا، فكل من عمل شيئاً من الأشياء حسناً كان أو قبيحاً، وإيمانا أو كفراً، أو غيرهما من الأشياء كلها، ففاعل ذلك الشيء مؤد لأمر الله وقضائه، مستعمل نفسه في أداء مشيئته وإرادته، فليس على وجه الأرض عاص، ولا تعرف المعصية من الطاعة، ولا يعرف من يقع عليه اسم الطاعة، ولا اسم المعصية، ولا من يستحقه، وكيف يكون من سعى في إرادة اللّه عاصياً؟! لا يعرف هذا الكلام في شيء من لغة العرب، ولا العجم، وقد حد اللّه اسم (2) المعصية التي ذكرها اللّه في كتابه، وسمى قوماً عصاة، وسمى من عمل به عاصياً، وبطل(3) كل ما جاء في الكتاب من ذكر ذلك، على قولهم وقياسهم. وكل ما جاء لغير معنى، إلاَّ أن تكون المعصية غير هذه الأشياء كلها التي نعرفها ونعقلها مكنونة عند اللّه، لم يبينها لنا ولم يشرحها، ولم يدلنا عليها، غير أنه قد حذرنا العصيان ولم يعرِّفناه، وعرفناه(4) وعرَّفنا الإحسان والطاعة وحدها(5)، فنحن للعصيان منكرون(6)؛ إذ كان أكبر الفواحش التي عددنا، وهي عند أهل القبلة أشد الكفر، وقد سموها جميعاً كبائر من العصيان والذنوب، وزعم هؤلاء أن اللّه شاءها، وأمر بها وأرادها، فما كان سواها وسوى ما سموا كبائر فأمره أقرب وهو
__________
(1) في ب: يكون المعنى.
(2) في ب: ولا اسم المعصية، وهو عطف على: لايعرف.
(3) كذا في النسخ.
(4) كذا في النسخ، ولعلهما نسختان: ولم يعرفناه، وعرفَنَاه، وكلاهما مستقيم أما: ولم يعرفناه فعلى جهة الإلزام يعني أنه يحذرنا شيئاً لم يعرفناه وهذا لايليق به. وأما: وعرفناه فواضح، وهو تعقيب على دعوى أن المعاصي مكنونة لم نعرفها. والله أعلم.
(5) في ب: وحدهما.
(6) منكرون يعني غير عارفين به.

(2/28)


أهون، ولا يرى معصية ولا عاصياً؛ إذ كان ما كان مضاداً لما ذكرنا من الصلاة، والصيام، والحج، والإيمان، وجميع أعمال البر، اللّه شاءها، وقضاها وأمر بها(1)، فلا ترى بين المنزلتين(2) فرقاً، ولا عنهما تأخراً، كلاهما فرض، وكل من عمل شيئاً من الفعلين فهو لله مطيع، والله بفعله راض، وليس على وجه الأرض لله عاص، كلا الفريقين مجتهد في أداء ما فرض(3) اللّه عليه.
فلا بد لمن قال بهذه المقالة أن يبين المعصية أين هي؟ وإلا فهو مبطل، مفترٍ على اللّه أقبح الكذب. فنبرأ إلى اللّه من هذه المقالة، وممن قال على الله بها. فبالله(4) إن الأمر لواضح، وإن الشبهة في هذه المعرفة لبينة. وفقنا اللّه وإياك لأجمل الأقاويل وأحسنها، وأليقها بالله؛ لأن اللّه سبحانه يقول: {وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا}[الأعراف: 180]، فالله أحق بكل اسم حسن، وأبعد من كل اسم قبيح؛ من هؤلاء (5) الخلق الذين(6) يقولون عليه بهذا القول، الذي يُبَرئون أنفسهم منه، ويزعمون أنَّه لو كان منهم كان أكبر الظلم.
__________
(1) يعني إذا كانت كبائر العصيان التي هي أضداد للطاعات مقضية مرادة لله كالطاعات لم يكن فرق بينهما ولم يكن احدهما بأولى باسم الطاعة من الآخر إذ هما سيان في الإرادة والقضاء.
(2) في ب: المؤمنين. وهي غلط.
(3) في ب: ما افترض.
(4) في ب: فيا لِله.
(5) في ط: في الأصل: هذا، وكذلك في (ب).
(6) في ط: في الأصل: الذي، وكذلك في (ب).

(2/29)


وزعم هؤلاء القوم أن محمداً صلى الله عليه وآله وسلم بعثه اللّه ومن قبله من الأنبياء عليهم السلام يدعون عباد اللّه إلى عبادة الله، ولعمري إن ذلك كذلك، قال اللّه سبحانه لنبيه صلى الله عليه وآله: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً}[الأعراف: 158]، وقال موسى وهارون عليهما السلام لفرعون لعنه الله: {إِنَّا رَسُولاَ رَبِّكَ}[طه: 47]، وقال: {وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ}[الصافات: 147]، معناها: ويزيدون؛ لأن اللّه سبحانه لا تخفى عليه خافية، ولا تعروه سنة، ولا يدخل شك(1). وهذا في أشعار العرب كثير، قال الشاعر:
فلو كان البكاء يرد مَيْتاً…بكيت على عمير أو عقاق
ثم قال مبيناً أنَّه يبكي عليهما جميعاً في البيت الثاني:
على المَرئَيْن إذ هلكا جميعاً… لشأنهما بحزن واحتراق
فأقام (أو) مقام (الواو). وكذلك قال عزَّ وجل: {إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَيهِمُ اثْنَينِ فَكَذَّبُوهُمَا فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ}[يس: 14]، فإذا كان الأمر على ما قال هؤلاء الظالمون: أن اللّه تبارك وتعالى قضى على قوم بالمعصية، لا يقدرون يعملون غيرها، ولا يخرجون منها إلى شيء من الطاعة، ولا من أعمال البر، وقضى على آخرين بالطاعة له، وبالعمل بما يرضيه، لا يقدرون يخرجون من الطاعة إلى العمل بشيء من المعصية، ممنوعاً من ذلك الفريقان، وكان [كل](2) مستعملاً فيما حتم في رقبته، وقضى عليه، لا يطيق الخروج منه إلى غيره، فإلى من أرسل اللّه الأنبياء والمرسلين؟ وإلى من دعوا؟ ومن خاطبوا؟ وعلى من احتجوا؟ أم من تبعهم (3) وأطاعهم؟ أم ما كانت حاجة العباد إليهم؟ أم ماكان المعنى عند اللّه سبحانه في إرسالهم؟ أتراه أرسلهم عبثاً أم سخرياً؟ أم بيانا وتوكيداً للحجة على العباد وتوقيفاً؟
__________
(1) كذا في النسخ ولعلها: يدخله.
(2) زيادة لاستقامة الكلام.
(3) في ط: تعثهم، وهو تصحيف.

(2/30)


فإن كان سبحانه أرسلهم إلى قوم قد منعهم من طاعته، يدعونهم إلى الدخول فيها؛ وقد حال بينهم وبين ذلك، ومنعهم؛ طالباً للحجة عليهم بلا حجة لا زمة بَيِّنة، فهذا أكبر الظلم، وأحول المحال، ليس أحكم الحاكمين يعبث ولا يلغو، ولا يسخر، ولا يستهزيء، ولا خلق الجنة والنار باطلاً، ولا أرسل المرسلين عبثاً، لو كان اللّه سبحانه على ما يقولون، ما أرسل إلى خلقه رسولاً، ولا دعاهم إلى طاعة، ولا دلهم على ما يرضيه مما يسخطه، ولا احتج عليم بالآيات المعجزات، ولا بالبراهين الواضحات، التي عجز عنها جميع الكهنة، والسحرة والفراعنة، وشياطين الإنس والجن، فلم يقدروا أن يأتوا منها بشيء، مثل: التسع آيات(1) التي كانت مع موسى عليه السلام، والمعجزات التي جاء بها غيره من الأنبياء، كل هذا احتجاج من اللّه سبحانه على خلقه، ليطيعوا أنبياءه ورسله، ويجيبوهم إلى خلع الأنداد، والأصنام، والأوثان، والآلهة المعبودة من دونه، ولكن اللّه سبحانه مكنهم وفوضهم، وأرسل إليهم الرسل يدعونهم إلى ما هم قادرون عليه، ويندبونهم إليه، ليخرجوهم بذلك من ظلمة الشرك إلى نور الإسلام. ألا ترى إلى قوله عزَّ وجل: {اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِيْنَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ}[البقرة: 257]؟ فلولا أن اللّه تبارك وتعالى قد علم أن عباده يقدرون على طاعة رسله ما أرسلهم إليهم، ولا أمرهم بطاعتهم(2)، ولا حثهم على أداء ما جاءوا به من فرائضه، وما دعوا به من اتباع مرضاته، وذلك لما مكنهم اللّه منه، وجعل فيهم من القوة والاستطاعة ليركبوا بها طبقاً عن طبق، تفضلاً منه عليهم، وإحساناً منه إليهم، وإكمالاً للحجة فيهم، وعليهم(3) لئلا يكون
__________
(1) في ب: التسع الآيات.
(2) في ب: بطاعته.
(3) ليس في ب.

(2/31)


لأحد على اللّه حجة بعد رسله، وما شرع من فرائضه، وما دعا إليه من طاعته وحذر من معصيته، وذلك قوله: {لِئَلاَّ يَكُوْنَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ}[النساء: 165].
ومن أكبر عجائبهم أنهم يزعمون أن اللّه تبارك وتعالى قضى على العباد بالمعاصي قضاء حتماً لا يمكنهم الخروج من ذلك القضاء، وقدره عليهم، وشاءه لهم، ثم زعموا مع هذا القول، أن محمداً صلى الله عليه وآله أُرْسِل إلى الناس كافة، وأن كل ما أمر به أو نهى عنه، من تحليل شيء أو تحريم آخر لله رضى وطاعة، ومراداً ومشيئة؛ إذ رجعوا فأكذبوا أنفسهم، وطعنوا على نبيهم، فزعموا أن جميع ما نهى اللّه عنه قضاء ومراد ومشيئة.
فانظر يا بني ما بين هذين القولين من التناقض والعمى والحيرة، بَيْنا محمد صلى الله عليه وآله يحث على طاعة اللّه والقيام بأمره، والأداء لفرضه إذ صار ينهى عن جميع ذلك.
وانظر إلى ما هو أعجب من هذا، قولهم في إبليس لعنه اللّه يزعمون مرة أنَّه لله عاص، وعليه مفتر، بل(1) قد افترض عليه ذلك في كتابه، وعلى لسان نبيه صلى الله عليه وآله وسلم، ومرة يزعمون أن إبليس لله ولي، يدعو إلى قضائه، في معنى قولهم، وما تلزمهم إياه الحجة، وإن كانوا غير مصرحين بولايته لله غير أنهم زعموا أن جميع الفواحش التي يدعوا إليها إبليس شاءها اللّه وأرادها، ومن كان إلى طاعة اللّه ومشيئته ومراده [داعياً] (2) فهو لله ولي مطيع (فَمَرَّة عندهم إبليس مطيع) (3) ومرة عدو مفتر..
__________
(1) في ط: هنا في الأصل: عبارة زائدة هي: قد افترى. وكذلك في ب.
(2) زيادة يقتضيها الكلام.
(3) سقط من ب سهواً.

(2/32)


وانظر أيضاً إلى هذا التمييز، وهذه العقول، التي جعلوا بها سبيل محمد وسبيل إبليس سواء، حتى جعلوا الصفة فيهما واحدة متشابهة، كلاهما(1) وهو عندهم يدعو إلى قضاء اللّه وأمره ومراده، ويصدقون محمدا عليه السلام مرة فيما جاء به من القرآن والدعاء إلى الله، وإلى أمره ومراده، ومرة أخرى يكذبون ذلك، ويقولون: إن المعاصي من اللّه، وإن اللّه شاءها وأرادها من العباد، وإنه عليه السلام ينهى عن مشيئة اللّه وإرادته، فإن كان محمد صلى الله عليه وآله وسلم ينهى عما ذكروا أن إبليس يدعو إلى ذلك الذي أراده اللّه من العباد(2)، فلا تراه في قياسهم لله عاصياً، ولا عليه مفترياً؛ إذ كان في الدعاء إلى قضاء اللّه مجتهداً، ومن كانت هذه سبيله فهي غير سبيل العاصين، ولا أعرف كما قلنا وعلى قولهم بينه وبين محمد عليه السلام فرقاً في الدعاء إلى قضاء اللّه خاصة؛ إذ كان محمد يدعو إلى بعض قضاء الله، ثم أمر ونهى بزعمهم عن بعض قضاء اللّه وأمره، وكذلك إبليس لعنه اللّه يدعو ـ على قولهم ـ إلى بعض قضاء اللّه وأمره، وينهى عن بعض قضاء اللّه وأمره، ومحمد صلى الله عليه وآله وسلم نهى عما يدعو إليه إبليس من هذا القضاء، وإبليس لعنه اللّه يدعو إلى ما ينهى عنه محمد وكلاهما عدو الآخر.
فيا سبحان الله!! ماذا بينهما من التباعد! وما أشد اختلافهما، وأبين تناقض أمرهما عند أهل المعرفة والعقل، وأخبث قولهم هذا الذي قالوا به.
__________
(1) كذا.
(2) كذا في النسخ.

(2/33)


ومن الحجة عليهم أيضاً التي لا يجدون لها نقضاً، ولا بد لهم عندها من أن يكذبوا أنفسهم وقولهم، أو يلزموا محمداً صلى الله عليه وآله وسلم المعصية والتعدي فيما أمره اللّه به، يقال لهم: أخبرونا عن محمد عليه السلام، حين أمره اللّه بدعاء الناس كافة إلى عبادته، والعمل بفرائضه، فوجدهم صلى الله عليه وآله وسلم على ما كانوا عليه وبه عاملين من عبادة النار والحجارة والأصنام والأنداد، وأكل الربا، وشهادة الزور، وعقوق الوالدين، وقتل الأطفال، وسفك الدم الحرام، والقول أن اللّه ثالث ثلاثة، وأن له ولداً وصاحبة، وأنه بخيل، وأن يده مغلولة، وما أشبه هذا (1) من الفواحش، أَمَرَهُم محمد صلى الله عليه وآله وسلم بلزوم ذلك، وحثهم على العمل به، والاجتهاد فيه، وأمر أيضاً من وجده يعبد اللّه وحده، ويقول: إنَّه ليس معه شريك، ولا له شبيه، ويسجد له من دون المعبودات كلها، ويحرم الزنى والربا، وأكل مال اليتيم، وقتل الطفل، ويأمر بخلع المعبودات كلها من دون الله، أمرهم بلزوم ما هم عليه، وحثهم على أدائه، لم يغير على أحد من العالمين شيئاً، ولم ينههم عن شيء، ولم يأمرهم بشيء غير الاجتهاد فيما (2) هم فيه؟ فقد صدق (3) من زعم أن جميع الأشياء من الله، وله رضا وقضاء، وأمر ومشيئة، وإن كان صلى الله عليه وآله وسلم نهى عن شيء مما ذكرنا من العملين، وميز بين المنزلتين، وسمى أحدهما طاعة، ووعد من عمل بها الجنة، وسمي المنزلة الأخرى معصية، وتوعد(4) من عمل بها النار، فقد كذب من زعم أن كل شيء مراد لله وقضاء (5) فإن أحبوا فيكذبوا أنفسهم، للزوم الحجة لهم، وأن أحبوا أن يقولوا: إن محمداً صلى الله عليه وآله وسلم عاصٍ، متعدٍ عليه، ناهٍ عن قضائه
__________
(1) في ب: هذا القول.
(2) في ط: في الأصل: فيها هم كذا. وفي (ب): فنهاهم، وما أثبت على الظن.
(3) في ط: في الأصل: فصدق.
(4) في ب: وتواعد.
(5) في ط: مراد اللّه وقضاؤه، وفي هامشه: في الأصل: قضا.

(2/34)


وأمره، وأن اللّه تبارك وتعالى لم يأمرهم بتحريم شيء مما حرم، وأن جميع ما حرم أحل(1) منه بالتكليف(2) منه لا من الله، نقض من قال هذا كتاب اللّه عزَّ وجل؛ إذ يقول له صلى الله عليه وآله وسلم: {وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ}[ص: 86] {إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَيَّ}[الأنعام: 50، يونس: 15، الأحقاف: 9] وهذه الصفة والقول لا يجوزان في محمد صلى الله عليه وآله وسلم ولا له.
__________
(1) كذا في النسخ ولعلها: أو أحل.
(2) كذا في النسخ ولعلها: بالتكلف.

(2/35)


ومن الحجة عليهم أن يقال لهم: أخبرونا عن محمد صلى الله عليه وآله وسلم، أكان عندكم رؤوفاً رحيماً، حريصاً على العباد شفيقاً، مريداً لهم أن يطيعوا اللّه ولا يعصوه؟ وعن قول اللّه سبحانه فيه: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيْزٌ عَلَيهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ}[التوبة: 128] أكان كذلك؟ أم كان عندكم على غير هذه الصفة، من قلة الرأفة والرحمة والحرص؟. فلن يجدوا بداً من أن يقولوا: كان صلى الله عليه وآله وسلم رؤوفاً رحيماً، كما وصفه الله، فحينئذ يقال لهم: فأين الرأفة والرحمة ممن يأمر العباد بترك طاعة الله، والخروج عن مشيئته ومراده، والرد لقضائه وأمره؟ وكيف يكون عندكم حال من نهى عما ذكرنا، وحال من أطاعه في ترك ما ذكرنا. مما هو لله مشيئة ومراد؟! وأين الرأفة والرحمة ممن يأمر العباد بما لهم فيه الهلاك والغضب عند الله؟ هذا قول ينقض القرآن ويفسده، وهو حجة اللّه العظمى على عباده، وفيه تحريم ما حرم وتحليل ما أحل، فإذا كان المؤدي له ـ في قولكم وعلى مذهبكم ـ ينهى عن طاعة اللّه ومشيئته ، فكيف السبيل عندكم أن يوثق به فيما أدى إلينا من تحليل وتحريم؛ إذ كان ينهى عن قضائه ومراده؟ فقد احتمل ـ إن كان يفعل ذلك بلسانه ـ أن يفعله ومثله في الكتاب الذي أداه، فيحلل الحرام، ويحرم الحلال. تعالى اللّه عما أسند إليه أهل هذه المقالة الحمقاء، من التقلب(1) بعباده، والعبث بخلقه، وجل شأن محمد عليه السلام أن يكون فيه شيء من هذه الصفة، أو يكون على شيء مما يكره اللّه سبحانه. بل لم يزل صلوات اللّه عليه ناهياً عن نهي الله، داعياً إلى أمر الله، مستقلاً في ذلك كله بعداوة الآدميين والناس أجمعين، باذلاً لنفسه، داعياً إلى سبيل ربه بالحكمة والموعظة الحسنة، حتى قبضه اللّه إليه، وقد غفر ذنبه، وشكر فعله، صلوات اللّه عليه وعلى آله.
__________
(1) في ب: التلعب.

(2/36)


فميز يا بني القولين، وفكر فيما بين المنزلتين، تصح لك الحجة، وَيَبِنْ لك الحق؛ لأن الحق غير خفي، على ذي مِرَّة سوي(1).
نسأل اللّه التوفيق والتسديد، ونعوذ به مما أسند إليه المبطلون، وقال به فيه الجاهلون، فكل من قال على اللّه سبحانه شيئاً مما ذكرنا، أو أسند إليه سبحانه ما حكينا؛ من قول أهل الضلالة والردى، والحيرة والعمى، فما عرف الله العلي الأعلى، في شيء من أيام الدنيا، وهو عند اللّه من أجهل الجاهلين، وأكفر الكافرين، وأضل الضالين؛ لأنَّه قد نسبه سبحانه إلى أقبح صفات المخلوقين المستهزئين، العيابين المنهكين لعباد الله(2)، الحاكمين فيهم بغير حكم الله، فتعالى اللّه عن ذلك علواً كبيراً.
تم الكتاب والحمد لله رب الأرباب، وصلى اللّه على محمد النبي وعلى آله الطيبين، وسلم وحسبنا اللّه ونعم الوكيل.
كتاب
الرد على المجبرة القدرية الثاني(3)
بسم الله الرحمن الرحيم
قال يحيى بن الحسين صلوات الله عليه:
الحمد لله الذي لا تراه عيون الناظرين، ولا تحيط به ظنون المتظننين، الذي ليس كمثله شيء وهو السميع البصير، الداني في علوه، العالي في دنوه، الذي أمر تخييراً، ونهى تحذيراً، وكلف يسيراً، وأعطى على قليل كثيراً، البريء من(4) أفعال العباد، المتعالي عن اتخاذ الصواحب والأولاد، المتقدس عن القضاء بالفساد، الممكن لعباده من العملين، الدال لهم على النجدين، المبين لهم ما أحل لهم، الموضح لهم ما حرم عليهم، المرسل إليهم الأنبياء الداعي لهم إلى الخير والهدى، المخوف لهم بالنيران، المرغب لهم بالجِنَان، الذي لا تحويه الأقطار، ولا تُجِنُّه البحار، ولا تواريه الأستار،…وهو الواحد العلي الغفار.
__________
(1) في ط: استوى.
(2) في ب: المتفكهين بعباد الله.
(3) ليس في (أ،ج): الثاني.
(4) في (أ): عن.

(2/37)


وأشهد أن لا إله إلاَّ هو سبحانه شهادةً حقاً، أقولها له جل جلاله تَعبُداً ورقّاً. الذي رفع السماء فبناها، وسطح الأرض فطحاها، {وَلاَ يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ العَلِيُّ العَظِيمُ} [البقرة: 255].
وأشهد أن محمداً عبده ورسوله أرسله بالبينات، ونزل معه الآيات، وأنقذ به من الهلكات، وأكمل به النعم والخيرات، فبلغ رسالة ربه، ونصح لأمته، وعبد ربه حتَّى أتاه اليقين، ثُمَّ تولى فقيداً محموداً، فصلوات الله عليه وعلى أهل بيته الطاهرين، الطيبين الأخيار، الصادقين الأبرار، الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا، وجعلهم أمناء على وحيه، ودعاةً لخلقه، أمر العباد بطاعتهم، وافترض عليهم ما افترض من اتباعهم، (اختصهم دون غيرهم بذلك، وجعلهم عنده كذلك، تكريماً منه لهم)(1)، وتعظيماً لما به خصهم؛ من ولادة المصطفى؛ محمد خير الأنبياء، {لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللَّهَ لَسَمِيْعٌ عَلِيْمٌ} [الأنفال:42].
ثُمَّ نقول من بعد الحمدلله والثناء عليه، والصلاة على محمد صلى الله عليه وعلى آله:
أما بعد فإن القدرية المجبرة الغاوية، الضآلة المضلة؛ زعمت أنها إنَّما أُتِيَتْ(2) في ارتكاب سيئاتها، وفعل كبائر عصيانها(3) من ربها، لا من أنفسها، تبارك ربنا عن ذلك وتعالى علواً كبيراً.
ثُمَّ قالوا: إنَّه سبحانه أدخلها بقضائه عليها في كبائر ذنوبها، جَبَرها على ذلك جبراً، وأدخلها فيه قسراً؛ ليُعذبها على قضائه، إشقاء منه لها بذلك، تعالى ربنا أن يكون كذلك، (ولعنة الله على أولئك) (4).
فرأينا عندما قالت وذكرت، وبه على الله من عظيم القول اجترأت، أن نضع كتاباً نذكر فيه بعض ما ذكر الله في منزل الفرقان(5)، مما نزله على محمد خاتم النبيين، في الكتاب من إكذاب القدرية المجبرين.
__________
(1) سقط من (أ).
(2) في (ج): أوتيت.
(3) في (أ): كبائرها.
(4) ليس في (أ).
(5) في (أ): القرآن.

(2/38)


***
فكان أول ما نقول لهم من ذلك ونسألهم عنه؛ أن نقول لهم: خبرونا عن قول الله تبارك وتعالى فيما حكى عن الفاسقين الظلمة، المنافقين الفجرة، المتخلفين عن الجهاد مع رسول رب العالمين صلى الله عليه وآله وسلم: {يَحْلِفُوْنَ بِاللَّهِ لَوِ اسْتَطَعْنَا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} [التوبة: 42].
فقلنا للقدرية: أتزعمون أنهم حين تخلفوا عن رسول الله صلى الله عليه كانوا مستطيعين للخروج معه، أو غير مستطيعين له؟.
فإن قالوا: نعم، كانوا مستطيعين له، وأنهم تركوه عنوةً واجتراءً على ذي الجلال والطول، واطرحاً لقول الله وقول رسوله صلى الله عليه وآله؛ تركوا قولهم الذي كانوا يقولون به: من أنَّه لا يستطيع أحد فعل شيء حتَّى يقضي (الله) (1) عليه به، ويدخله الله سبحانه فيه.
وإن قالوا(2): إن المتخلفين عن الخروج مع الرسول لم يكونوا مستطيعين(3) للخروج معه، وإنهم كانوا غير مستطيعين للجهاد؛ فقد قالوا كما قال المتخلفون، وصدّقوا قول المنافقين، وأكذبوا قول رب العالمين، لأن الله سبحانه قد أكذبهم، وشهد بخلاف ما قالوا من قولهم؛ حين يقول: {وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ}. قالت المجبرة: هم صادقون(4) لا يستطيعون، ولو استطاعوا لخرجوا، وقال الله سبحانه هم كاذبون فيما تقولون، ويشهد أنهم للخروج مستطيعون، وأنهم لو أرادوا الخروج لخرجوا، ولذلك أكذبهم الله في قولهم، لأن الله تبارك وتعالى لا يكذب صادقاً، ولا يصدق كاذباً.
***
ثُمَّ قلنا لهم: أخبرونا عن قول الله تبارك وتعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن: 16]، أليس إنَّما أمر العباد أن يتقوا الله ما استطاعوا؟
__________
(1) ليس في (أ).
(2) في (أ): فإن قالوا.
(3) في (ج): بمستطيعين.
(4) في (ب): الصادقون.

(2/39)


فإذا قالوا: نعم، قيل لهم: فإن رجلاً لم يُصل ولم يصم من شهر رمضان إلاَّ يوماً واحداً، أو ركعة واحدة في كل يوم وليله، هل كان يستطيع غير ذلك؟
فإن قالوا: نعم، تركوا قولهم. وإن قالوا: لا يستطيع. قيل لهم: أفتأمرونه بالصلاة والصيام وهو لا يستطيع ذلك؟ فإن قالوا: لا نأمره بشيء من ذلك؛ فقد أجازوا له ترك الصلاة والصيام. وإن قالوا: بل نأمره وإن كان غير مستطيع، خالفوا القول، وردوا كتاب الله؛ لأن الله يقول: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [البقره: 286]، ويقول:{لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا} [البقره: 286]، ويقول: {لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ مَا آتَاهَا} [الطلاق: 7]، فقد كلفتموه ما لم يؤته ربه.
ثُمَّ يقال لهم: أرأيتم إنساناً قوياً جلداً صحيحاً، قال: لست أقدر على أن أصوم من شهر رمضان غير عشرة أيام(1)؟ ماذا كنتم تقولون له؟ وكذلك إن قال: لست أقدر على الصلاة.
فإن قالوا: نأمره بالصلاه والصوم، ونقول له أنت مطيق لذلك؛ تركوا قولهم؛ لأنَّه يقول لهم: إنَّما أمرني الله أن أعبده ما استطعت، فلست(2) أستطيع غير هذا، وأنتم تأمرونني أن أتعبد لربي(3) بما لا أستطيع، وأعبده بما لا أطيق، فأيكم أولى أن أقبل قوله أنتم أو ربي؟ لأن ربي لم يكلفني إلاَّ ما أستطيع، وأنتم تكلفوني(4) ما لا أستطيع. وإن قالوا له: لا تصم ولا تصل، لأنك لا تستطيع كما قلت، ولو نزل عليك من الله الإستطاعه لفعلت؛ كانوا قد أباحوا للعباد ترك الصلاة والصيام، وهذا كفر بالله وشرك.
***
ثم يقال لهم(5): خبرونا عن قول الله تبارك وتعالى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ البَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً} [آل عمران: 97]، ما هو السبيل عندكم؟
__________
(1) في (أ،ج): أكثر من عشرة.
(2) في (أ): ولست.
(3) في (ب): تأمروني أن أعبد لربي.
(4) في (أ): تكلفونني.
(5) في (أ،ج): ويقال لهم.

(2/40)


فإن قالوا: هو أمان الطريق، وإمكان الزاد والراحلة، وصحة البدن؛ (قيل لهم) (1): أفرأيتم رجلاً كثير المال كثير الأبل، صحيح البدن، آمن الطريق؛ جلس ولم يحج، وقال: لم يُقْضَ ليْ بالحج، ماذا تقولون له؟ أتقولون إن فرض الله(2) قد لزمه، أو لم يلزمه؟ فإن قالوا: قد لزمه، وعليه أن يحج؛ تركوا قولهم. وإن قالوا: لا يمكنه الحج حتَّى يُقْضى عليه به؛ ردوا كتاب الله، ونقضوا قوله، وخالفوا كل الأمة.
***
ثُمَّ يسألون فيقال لهم: خبرونا عن قول الله سبحانه: {وَالَّذِيْنَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيْرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَآسَّا ذَلِكُمْ تُوْعَظُونَ بِهِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَآسَّا فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّيْنَ مِسْكِيناً} [المجادلة:3 ـ4] أرأيتم من حنث في ظهاره، وكان موسراً، كثير الرقيق، صحيح البدن، قوياً على الصيام؟ فقال: لا أعتق رقبة ولا أصوم، ولكني أُطْعِم. فقيل له: هذا لا يجوز لك؛ لأن الإطعام لمن لا يجد عتقاً، ولا يقوى على صيام. فقال: أنا غير مستطيع لذلك؛ لأن الله لم يقض لي به، فلست أفعل إلاَّ ما قضى الله لي به من الإطعام، ما تقولون له؟ فإن قالوا: نقول له: أطعم، ولا تعتق ولا تصم؛ لأن الله لم يُقدِّره عليك ولم يقض لك به؛ ردوا كتاب الله، وخالفوا رسوله. وإن قالوا: (بل نقول له) (3): هذا لا يجوز لك، وقد أوجب الله عليك العتق فاعتق؛ تركوا قولهم، ورجعوا إلى الحق.
***
__________
(1) سقط من (أ).
(2) في (أ): فرض الحج.
(3) في (ج): يقولون له.

(2/41)


ومما يسألون عنه يقال لهم: أخبرونا عن قول موسى عليه السلام للخضر: {لَوْ شِئْتَ لاَتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً} [الكهف: 77]، أتقولون: إنَّه قال: لو شئت وهو لا مشيئة له؛ فتخطئون موسى عليه السلام؟ أم تقولون: إنَّه لم يقل إلاَّ الحق، وأن الخضر قد كان يقدر أن يفعل؟ فإن قالوا: لا مشيئة له ولا استطاعة؛ خطَّؤا نبيَّ الله وجَهَّلوه. وإن قالوا: قد كانت له مشيئة واستطاعة؛ تركوا قولهم، ورجعوا إلى الحق.
***
ومما يسألون عنه أن يقال لهم: أخبرونا عن قول الله عز وجل: {يُرِيْدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيْدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلاَلاً بَعِيْداً} [النساء: 60]، أفتزعمون أنهم أرادوا أن يتحاكموا إلى الطاغوت، أم الله أراد ذلك وقضى به عليهم؟ فإن قالوا: إن الله أراد ذلك وقضى به عليهم؛ ردوا كتاب الله وخالفوه؛ لأن الله سبحانه قد نسب ذلك إليهم، وذكر أنهم (الذين) (1) أرادوا ذلك، والمجبرة القدرية يزعمون أن الله أراد منهم أن يتحاكموا إلى الطاغوت دونه ودون رسوله(2) صلى الله عليه وعلى آله. وإن قالوا: بل هم أرادوا ذلك، والله لم يرده؛ خرجوا من الباطل ورجعوا إلى الحق، وقالوا على الله بالصدق. فيقال لهم: قد نسمع الله سبحانه يقول ويذكر أن الشيطان هو الذي أراد أن يضلهم ضلالاً بعيداً. والمجبرة تزعم(3) أن الله أضلهم، والله أولى بالصدق منهم، والله سبحانه أصدق الصادقين، وأبعد الأبعدين من إضلال الضآلين، والمجبرة والقدرية فأكذب الكاذبين(4). على الله رب العالمين.
***
__________
(1) ليس في (أ).
(2) في (أ): رسول الله.
(3) في (أ): يزعمون.
(4) في (أ): الأكذبين.

(2/42)


ويسألون عن قول الله سبحانه؛ فيقال لهم: أخبرونا عن قول الله سبحانه: {إِنَّمَا يُرِيْدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ العَدَاوَةَ وَالبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاَةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ} [المائدة:91]، أتقولون إن ذلك من الشيطان كما قال الله؟ أم تقولون إنَّه من الرحمن؟ فإن قالوا: هو من الشيطان كما قال (الله)(1)، وهو قضاء منه وتزيين لا من الله؛ تركوا قولهم، ورجعوا إلى الحق، وإلى قول أهل العدل. وإن قالوا: هو من الله لا من الشيطان؛ خالفوا في ذلك وردوا قول الله؛ لأن الله يقول: {إِنَّمَا يُرِيْدُ الشَّيْطَانُ}، وهم يقولون: إنَّما يريد الرحمن، وكفى بهذا لمن قاله كفرا(2).
***
ومما يسئلون عنه أن يقال لهم: خبرونا عن قول الله عز وجل: {وَمَا اللَّهُ يُرِيْدُ ظُلْماً لِلْعَالَمِينَ} [فصلت: 46]، وعن قوله: {وَمَا رَبُّكَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ} [فصلت: 46]، فهل تقولون: إن الله يريد ظلماً لأحدٍ من عباده؟ فإن قالوا: لا؛ تركوا قولهم الذي يقولون به: إن الله أدخلهم في المعاصي؛ ثُمَّ يعذبهم عليها ويُشقيهم بها. وإن قالوا: إن الله يريد ظلمهم؛ ردوا كتابه وكفروا به.
***
__________
(1) ليس في (أ).
(2) في (ب): وكفى بهذا القول لمن قال به كفراً.

(2/43)


ومما يسألون عنه في محكم كتاب الله أن يقال لهم: أخبرونا(1) عن قول الله سبحانه: {يُرِيْدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللَّهُ عَلِيْمٌ حَكِيْمٌ وَاللَّهُ يُرِيْدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيْدُ الَّذِيْنَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيْلُوا مَيْلاً عَظِيْماً} [النساء: 26ـ 27]، أفليس إنَّما أراد الله البيان والتوبة والهدى، وأراد الكافرون الزيغ والردى؟ فإن قالوا: نعم؛ رجعوا إلى الحق وتركوا قول الباطل. وقالوا بقول أهل العدل. وإن قالوا: بل الله الذي أراد الميل وقضى به عليهم؛ خالفوا الله في قوله، واستوجبوا منه العذاب.
***
ومما يسألون عنه أن يقال لهم: أخبرونا عن قول الله عز وجل: {تُرِيْدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيْدُ الآخِرَةَ} [الأنفال:67]، أليس قد أخبر الله تبارك وتعالى أنهم يريدون غير ما أراد، وأنهم يفعلون غير ما يشاء؟ فإن قالوا: نعم؛ تركوا قولهم ورجعوا إلى العدل.
وإن قالوا: إنهم لا يشاؤن إلاَّ ما شاء(2) الله، ولا يريدون إلاَّ ما أراد الله خالفوا الله في قوله؛ لأن الله قد أخبر أنهم يريدون الدنيا وأنه يريد الآخرة، والدنيا غير الآخرة؛ فكذلك إرادة الدنيا غير إرادة الآخرة. ومن زعم أنهم أرادوا ما أراد الله؛ فقد زعم أنهم أرادوا الاخرة، وفي ذلك رد كتاب الله؛ لأن الله يقول: {تُرِيْدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيْدُ الآخِرَةَ} [الأنفال: 67].
***
__________
(1) في (أ): خبرونا.
(2) في (أ): ما يشاء.

(2/44)


ومما يسألون عنه أن يقال لهم: أخبرونا(1) عن قول الله تعالى: {يُرِيْدُ اللَّهُ بِكُمُ اليُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ العُسْرَ}[البقرة: 185]، أتزعمون أن الله أراد ما يريد(2) كثير من الناس من العسر أم لم يرده؟ فإن قالوا: بل الله يريده ويقضي به على من (فعله من الناس) (3)؛ ردوا كتاب الله صراحاً. وإن قالوا: إن الله لا يريده، تركوا قولهم ورجعوا إلى الحق.
***
ومما يسئلون عنه أن يقال لهم: خبرونا عن قول الله سبحانه: {وَكَذَلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيْرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلاَدِهِمْ شُرَكَاؤُهُمْ لِيُرْدُوهُمْ وَلِيَلْبِسُوا عَلَيْهِمْ دِيْنَهُمْ} [الأنعام: 137]، أتقولون: إن شركاءهم هم الذين زينوا لهم قتل أولادهم؛ ليردوهم بقتل أولادهم؟
فإن قالوا: نعم، هم المزينون لهم دون الله؛ رجعوا عن قولهم، وقالوا بالحق في ربهم. وإن قالوا: بل الله قضى بذلك عليهم، وزينه لهم؛ فقد ردوا كتاب الله بذلك.
ثُمَّ يقال لهم: كيف يزين الله لهم ذلك ثُمَّ(4) يرمي به شركاؤهم، وهو الفاعل له دونهم؟!! أما تسمعونه سبحانه يقول: {وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيْئَةً أَوْ إِثْماً ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيْئاً فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتَاناً وَإِثْماً مُبِيناً} [النساء: 112]؟ فكيف يعيب سبحانه شيئاً، ثُمَّ يفعل مثله؟! تبارك وتعالى عن ذلك علواً كبيراً.
***
__________
(1) في (أ،ج): خبرونا.
(2) في (أ): ما أراد.
(3) بياض في النسخ، وما أثبته نخ، وفي هامش ج: وفي نخ: من شاء، وظنن بـ أراده.
(4) في (ج): ثُمَّ يرم.

(2/45)


ومما يسألون عنه أن يقال لهم: أخبرونا عن قول الله سبحانه: {وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ لاَ غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسٍ وَإِنِّي جَارٌ لَكُمْ} [الأنفال:48]، أتقولون: إن الشيطان زين لهم أعمالهم، وقال لهم ما قال مما ذكر الله عنه؟ أم تزعمون أن الله الذي قال(1) وزينه لهم؟ فإن قالوا: بل الشيطان زينه لهم وقاله؛ تركوا قولهم، وخرجوا من الباطل، وإن قالوا: إن الله الذي زينه لهم؛ لزمهم أن يقولوا: إن الله (الذي) (2) زين لهم الخروج إلى قتال النبي صلى الله عليه واله وسلم، وأنه هو الذي قال للمشركين: {لاَ غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ اللَّهِ وَإِنِّي جَارٌ لَكُمْ}، وهذا إكذاب الله والكفر به.
ومما يحتج به عليهم ويسئلون عنه؛ أن يقال لهم: أخبرونا(3) عن قول الله سبحانه: {وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ} [الزخرف: 45]، فيقال لهم: هل الله الذي جعل آلهة تعبد من دونه وقضى بذلك فيها؟ فإن قالوا: إن الله جعل ذلك وقضى به؛ ردوا كتاب الله وكفروا به. وإن قالوا: لم يجعله ولم يقض به؛ تركوا قولهم، وخرجوا من الباطل(4) إلى الحق.
***
ويقال لهم: أليس الله {(هُوَ) (5) أَهْلُ التَّقْوَى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةُ} [المدثر: 56]، كما قال وذكر إنَّه أهلهما؟ فإن قالوا: نعم؛ قيل لهم: فهل يجوز أن يكون الظلم والمعصية من الله؛ كما كانت التقوى والمغفرة منه؟
فإن قالوا: نعم. كفروا وخالفوا الكتاب، ونسبوا إلى الله غير الصواب. وإن قالوا: لا يكون الظلم والمعصية من الله؛ تركوا قول المبطلين، ورجعوا إلى قول المحقين.
***
__________
(1) في (أ،ج): قال لهم وزين.
(2) سقط من (ج).
(3) في (ج): خبرونا.
(4) في (أ،ج): من الظلم.
(5) سقط من (أ،ج).

(2/46)


ومما يسئلون عنه: أن يقال لهم: أخبرونا(1) عن قول الله سبحانه: {إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلاً} [الإنسان: 29]، وعن قوله: {فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِيْنَ نَاراً أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا} [الكهف: 29]، أمن شاء أن يفعل خيراً فعله، أم ليس(2) هو عندكم كما قال الله؟ فإن قالوا: ليس هو كما قال الله؛ كفروا، وإن قالوا: هو كما قال الله؛ رجعوا إلى الحق، وقالوا على الله سبحانه بالصدق، وأقروا أن العباد ممكنون من العمل، وأنهم يفعلون ما شاؤا بما جعل الله فيهم، من الاستطاعة الَّتِي ركبها فيهم. فإن قالوا: ليس هذا كذلك؛ ردوا كتاب الله وكذبوه، ومن فعل ذلك فقد كفر.
***
ومما يسئلون عنه من محكم كتاب الله أن يقال لهم: خبرونا عن قول الله سبحانه: {سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلاَ آبَاؤُنَا وَلاَ حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِيْنَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ تَخْرُصُونَ} [الأنعام: 148]، أفتقولون: إنهم صدقوا في قولهم: إن الله لم يشأ إيمانهم. فإن قالوا: صدقوا، كذبوا الله في قوله(3)، وكفروا بالله. وإن قالوا: لا بل كذبوا على الله في قوله(4)، وقد شاء منهم الإيمان ودعاهم إليه، ولم يشاء منهم الشرك؛ رجعوا عن قولهم، وصاروا إلى القول بالحق.
***
__________
(1) في (أ): خبرونا.
(2) في (ب): وليس.
(3) في (ب): في قولهم له.
(4) في (أ): قولهم.

(2/47)


ومما يسألون عنه قول الله سبحانه: {وَقَالُوا لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ} [الزخرف: 20]. يقال لهم(1): أليس قد أخبر الله أن قوماً قالوا: لو شاء الرحمن ما عبدنا غيره؟ فإذا قالوا: نعم؛ يقال لهم: أليس قد قال الله: {مَالَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ} [الزخرف: 20]، والخرص فهو: الكذب؟ فما(2) تقولون في ذلك؟ فإن قالوا: صدق الله، إنهم لكاذبون فيما ادعوا(3) عليه؛ تركوا قولهم، ورجعوا إلى الحق، وقالوا بالعدل. وإن قالوا: هم كما قالوا: لو شاء الله ما عبدوا غيره؛ فقد صدَّقوا قول الفاسقين، وردوا قول رب العالمين، ومن قال بذلك كان بالله من الكافرين، ولعذابه من المستوجبين.
***
ومما يسألون عنه أن يقال لهم: خبرونا عن قول الله سبحانه: {يُرِيْدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ} [الصف: 8]، أفتقولون: إن الكافرين هم الذين أرادوا أن يطفئوا نور الله من دونه؟ أم هو الذي أراد أن يحملهم على إطفاء نوره(4)؟ فإن قالوا: أراد إتمام نوره؛ تركوا قولهم، ورجعوا إلى الحق، وقالوا بقول الله في ذلك.
وإن قالوا: بل الله الذي أراد إطفاء نور نفسه؛ ردوا قول الله وكفروا به؛ لأن الله يقول في كتابه: {يُرِيْدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلاَّ أَنْ يُتِمَّ نُوْرَهُ} [التوبة: 32]، (والله يقول: إنهم يريدون إطفاء نور الله) (5)، والمجبرة القدرية(6) تقول: بل الله يريد إطفاء نور نفسه؛ إذ زعمت أنَّه يقضي على الفسقة بذلك.
***
__________
(1) في (أ،ج): فيقال.
(2) في (أ): فيما ، ولعلها: فبما.
(3) في (أ): ادعوه.
(4) في (ب،ج): نور الله.
(5) سقط سهواً من (ج).
(6) في (أ) و(ج): والمجبرة والقدرية.

(2/48)


ومما يسألون عنه أن يقال لهم: خبرونا عن قول الله تعالى: {وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ} [آل عمران: 28]، أتقولون: أن فاعل ذلك فعله بغير قضاء من الله؟ فإن قالوا: نعم، فعله بغير قضاء من الله، وأن فعله ليس من الله في شيء؛ دخلوا في قول المعدِّلين، وقالوا بالحق في رب العالمين. وإن قالوا: فِعْلُ ذلك من الله، وإنه ليس بمعدول عنه، وإنه بقضاء منه؛ فقد ردوا على الله قوله، وخسروا خسراناً مبينا؛ إذ قالوا: هومن الله، والله يقول: ليس هو منه.
ومما يسألون عنه أن يقال لهم: خبرونا عن قول الله سبحانه: {هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} [الفتح: 25]، أتقولون: أنهم صدوهم عن المسجد الحرام كما قال الله؟ أم الله صدهم وقضى بذلك عليهم؟
فإن قالوا: الله الذي صدهم؛ ردوا قول الله، وخالفوا تنزيله. وإن قالوا: بل المشركون صدوهم عن المسجد الحرام، والله تبارك وتعالى برئ من فعلهم، ولم يقض به عليهم؛ خرجوا من قولهم، ودخلوا في قول المحقين.
***
ومما يسألون عنه أن يقال لهم خبرونا عن قول الله تعالى: {أَتُجَادِلُونَنِي فِي أَسْمَاءٍ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ} [النجم:23]، أتزعمون أنهم سموها وآباءهم كما قال الله سبحانه؟ أم تزعمون أن الله سماها دونهم؟ فإن قالوا: إنهم سموها دون الله؛ فقد أصابوا وصدَّقوا قول الله، وخرجوا من الباطل إلى الحق. وإن قالوا: إن الله الذي سماها دونهم؛ خالفوا قول الله، وردوا عليه قوله؛ لأنَّه يقول سبحانه: {سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ}، وهم يقولون: سماها دونهم، وهذا فأكفر الكفر، وأجل الشرك.
***

(2/49)


ومما يسألون عنه أن يقال لهم: خبرونا عن قول الله سبحانه: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا} [الشمس: 9ـ10]، نبئوُنا عن المزكي والمدسي من هو؟ واحد هو أو اثنان؟ فإن قالوا: الله زكاها ودساها؛ قيل لهم: إن الله قد ذم من دساها، أتقولون: إنَّه ذم نفسه، أم ذم غيره؟ فإن قالوا: ذم غيره؛ خرجوا بذلك من قولهم: إن الله جبر العباد على أفعالهم، وقضى بها عليهم؛ إذ أثبتوا أن العبد مذموم على فعله، لا على قضاء ربه. وإن قالوا: بل ذم نفسه؛ إذ هو القاضي على المدسي بالتدسية، فهو الفاعل بالعبد الحامل له على التدسية، لا أن العبد حمل نفسه؛ كفروا بقولهم، ونسبوا إلى الله الذم لنفسه؛ على فعله لعباده.
***
ومما يسألون عنه أن يقال لهم: أخبرونا عن قول الله سبحانه: {مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ} [النساء: 79]، فيقال لهم: قد نجد الله سبحانه قد أخبر أن السيئات أفعال العباد لا من فعله، أفتقولون: إنَّه كما قال الله سبحانه أم لا؟ فإن قالوا: بل هو كما قال الله؛ خرجوا من الجبر، وتركوا قولهم بالباطل. وإن قالوا: هو على غير (قول) (1) الله كفروا بالله.
***
__________
(1) بياض في (أ).

(2/50)


ومما يسألون عنه أن يقال لهم: أخبرونا عن قوله جل جلاله، عن أن يحويه قول أو يناله: {مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلاَ سَآئِبَةٍ وَلاَ وَصِيلَةٍ وَلاَ حَامٍ وَلَكِنَّ الَّذِيْنَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ} [المائده: 103]، أفتقولون فيما فعلوه: إن الله فعل(1) ذلك، وقضى به وبفعله على من فعله من مشركي قريش؟ فقد صح لنا أن أول من فعل ذلك (( قُصي بن كلاب )). فإن قالوا: إن الله جعله(2)، وقضى به، وأدخله فيه؛ فقد صدَّقوا قول قريش: إن الله قضى بذلك وفعله بهم، وأكذبوا قول الله؛ لأن الله قد نفى ذلك عن نفسه، وأخبر أنَّه لم يقض به، وأكذبهم فيما قالوا به عليه من ذلك وفيه؛ حين يقول: {مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلاَ سَآئِبَةٍ}، والقدرية تقول: هو فعل(3) الله وقضاؤه، ولولا أن الله قضى به ما فعلته قريش ولا أطاقته، أَقَوْلُ اللهِ أصَدَقُ عند من عَرَفَ الله أم قولُ قريش القدرية؟ بل قول الله أصدق، وقولَ(4) قريش باطل.
__________
(1) في (أ،ج): جعل.
(2) في (ج): فعله.
(3) في (أ،ج): جُعْل اُلله.
(4) في (أ،ج): وقول من سواه.

(2/51)


ومما يسألون عنه مما لا يستطيعون رده من كتاب الله قول الله سبحانه: {إِنَّ الَّذِيْنَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ} [آل عمران: 155]، فيقال لمن زعم أنَّه لا يقدر عبدٌ على فعلٍ إلاَّ بعد قضاء الله به عليه، وإدخاله إياه فيه، بالقضاء اللازم: أما تجد الله سبحانه يخبر أن توليهم عن النبي صلى الله عليه وآله كان من استزلال الشيطان؟ وأنه منهم ومنه، وأنتم تزعمون أنَّه من الله، وأنه قضى به عليهم وبالتولي، (ما تقولون: أقول الله أصدق (1)، أم قولكم؟ فإن زعموا أن قول الله أصدق؛ رجعوا عن قولهم وصاروا إلى العدل. وإن قالوا: إن قولهم أصدق) (2)؛ فقد كفروا بالله، وكذبوا على الله؛ لأن ربنا قد ذكر أن ذلك من عدو الله الشيطان، والقدرية تزعم أنَّه من الرحمن، وأن الشيطان منه بريء.
***
ومما يسألون عنه أن يقال لهم: خبرونا عن قول الله سبحانه: {وَدَّ كَثِيْرٌ مِنْ أَهْلِ الكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدَ إِيْمَانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ} [البقره: 101]. أفتقولون: إن هذا الحسد من عندالله، قضى به على الكفار أن يحسدوا المؤمنين على الإسلام؟ أم حسداً من عند أنفسهم يعاقبون عليه؟ فإن قالوا: هو من عندالله قضى به عليهم؛ برأوا الكفار من الذنب المذموم، وجعلوه لله دونهم، وقد قال الله تعالى خلاف ذلك، فقد كذبوا الله في قوله وكفروا به. وإن قالوا: هو من عند أنفسهم ومنهم لا من الله كما قال الله؛ خرجوا من الباطل (إلى الحق) (3)، ورجعوا إلى العدل.
***
__________
(1) في (ب): أصدق القائلين.
(2) سقط من (أ).
(3) ليس في (أ).

(2/52)


ومما يسألون عنه أن يقال لهم: أخبرونا عن قول الله تعالى: {إِنَّ الَّذِيْنَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلَى لَهُمْ} [محمد: 25]، أفتقولون: إن الشيطان بريء من ذلك، وإنه لم يسول لهم منه شيئاً؟ فإن قالوا: نعم؛ فقد كذبوا الله، وخرجوا بذلك من الدين. وإن قالوا: بل هو كما قال الله سبحانه (من الشيطان) (1) لا من الرحمن؛ فقد صدقوا، ورجعوا إلى الحق، وقالوا بالعدل، وأقروا بأن الإرتداد من المرتدين بتسويل من الشيطان لهم، لا بقضاء الله بذلك عليهم؛ لأن الله لا يقضي بالإرتداد، ولا غير ما أمر به من اتباع دينه، والإئتمار بأمره والانتهاء عن نهيه.
***
ومما يسألون عنه أن يقال لهم: خبرونا عن قول الله سبحانه: {أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيْبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ} [آل عمران: 165]، أتزعمون أنَّه من عند أنفسهم كما قال الله؟ أم هو قضاء من عند الله قضاه(2) عليهم؟ فإن قالوا: إن ذلك من أنفسهم؛ قالوا بالحق، وتعلقوا بالصدق. وإن قالوا: هو من عند الله، وهو قضاؤه. قيل لهم: أفقولكم(3) أصدق، أم قول الله سبحانه؟ فإن قالوا: قول الله سبحانه؛ صدقوا وأسلموا. وإن قالوا: قولنا كفروا؛ لأن المصيبة لم تكن إلا بمخالفتهم لقول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حين أمرهم أن(4) لا يبرحوا من باب الشعب فخالفوا ورجعوا، فوجد الكافرون السبيل إلى دخول الشعب فدخلوا؛ فأصابوا ما أصابوا، ووقعت المصيبة، فكانت منهم بمخالفتهم لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وزوالهم من مواقفهم الَّتِي أوقفهم لانتظار أمره.
***
__________
(1) سقط من (أ).
(2) في (أ): قضي.
(3) في (أ): فقولكم.
(4) في (أ): بأن.

(2/53)


ومما يسألون عنه أن يقال لهم: خبرونا عن قول الله سبحانه فيما حكى(1) عن نبيه يوسف صلى الله عليه من قوله: {مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي} [يوسف: 100]. أفتقولون: إن الشيطان نزغ بينهم كما قال الله سبحانه؟ أم تقولون: إن الله الذي نزغ بينهم، وأدخلهم فيما فعلوا بنبيه صلى الله عليه، وقضى به عليهم فلم يجدوا منه بداً؟ فإن قالوا: إن الشيطان الذي نزغ كما قال الله وذكر يوسف؛ صدقوا، ورجعوا إلى الحق من بعد الباطل، وخرجوا من الجبر إلى العدل. وإن قالوا: بل الله الذي نزغ بينهم؛ بقضائه بذلك عليهم؛ أكذبوا قول يوسف في الشيطان، وردوا الذنب على الرحمن، وقالوا على الله بخلاف قوله في نفسه وقول نبيه فيه. فهل يقول بإكذاب الله سبحانه وإكذاب نبيه يوسف وتصديق المجبرة من دون الله مؤمن يؤمن بالله سبحانه أو يعرفه؟
***
__________
(1) في (ج): يحكي.

(2/54)


ومما يسألون عنه من كتاب الله سبحانه أن يقال لهم: خبرونا عن قول الله جل جلاله، عن أن يحويه قول أو يناله: {إِنَّمَا النَّجْوَى مِنَ الشَّيْطَانِ لِيَحْزُنَ الَّذِيْنَ آمَنُوا وَلَيْسَ بِضَآرِّهِمْ شَيْئاً إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ} [المجادله: 10]، يريد أي بتخلية الله، والتخلية (هاهنا)(1) فهي: ما جعل الله في الشيطان من الإستطاعة الَّتِي أمره أن يطيعه بها ويرضيه، فنهاه عن الوسوسة للعباد والمقاربة لهم. أفتقولون: إن النجوى من الشيطان؛ كما قال الرحمن؟ أم تقولون: إنها من الرحمن، وتبرون(2) منهاعدو الله الشيطان؟ فإن قالوا: بل نقول: إنها من الشيطان، كما قال الله وقوله الحق لا من الله؛ صدقوا، وخرجوا بذلك من الجبر والظلم(3) لله، والكفر به والعدوان. وإن قالوا: بل نقول: إن كل ما جاء من نجوى الكافرين، وتناجيهم بالإثم والعدوان، والتراضي(4) بالعدوان، والمحاربة للنبي صلى الله عليه وآله وسلم قضاء من الله، قضى به عليهم في نبيه وأدخلهم فيه، وأنه من الله لا من الشيطان؛ كفروا بالله وأكذبوا قوله، وخرجوا بذلك من دين محمد صلى الله عليه وآله وسلم، ورجعوا وتعلقوا بدين الجاهلية الأولى، وقولهم الذي أنكره الله تعالى عليهم وأكذبهم فيه.
***
__________
(1) ليس في (أ).
(2) في (أ): وتنزهون.
(3) في هامش (ج): والتظليم. نخ.
(4) في (أ): والتقاضي. وفي (ب): والتواصي.

(2/55)


ومما يسألون عنه أن يقال لهم: خبرونا عن قول الله سبحانه: {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيْهِ اخْتِلاَفاً كَثِيْراً} [النساء: 82]، أفتقولون: إن ما كان من قول الجاهلية ـ من قولهم: إن القرآن الذي جاء به محمد عليه السلام ليس هو من الله، بل هو من عند نفسه، وأنه يكتبه(1) ويكذبه على الله ـ هو كما قالوا، وأن الله قضى بذلك القول عليهم في نبيه، وأنطقهم به عليه، وأنهم لم يقولوا ذلك إلاَّ بقضاء الله عليهم به؟ فإن قالوا: نعم نقول بذلك ونزعمه؛ ردوا الكذب على الله بإكذاب نبيه، وزعموا أن الله أكذب نبيه لا قريش، وفي ذلك الكفر بالله والشرك به.
وإن قالوا: بل هو من عندهم لا من عند الله؛ رجعوا إلى الحق، وقالوا له ولرسوله بالصدق، وصاروا من أهل القرآن.
***
__________
(1) في (أ): تكهنه وتكذبه.

(2/56)


ومما يسألون عنه أن يقال لهم: خبرونا عن قول الله الرحمن، فيما نزل من النور والفرقان: {وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيْقاً يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتَابِ لِتَحْسِبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ ويَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِنْدِاللَّهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [آل عمران: 78]، أتقولون أن لَيَّهم بالكتاب، وتمويههم على المؤمنين بذلك وفيه من أنفسهم؟ فإن قالوا: من الله قضاء قضى به عليهم. قيل لهم: فإنا نجد الله يقول بخلاف قولكم، ويبطل ما لفظتم به؛ لأنَّه يقول: {وَمَا هُوَ مِنَ الكِتَابِ}، {وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} فذكر انهم يكذبون عليه فيما قالوا: إنَّه منزل هذا الباطل وجاعله، فشهد عليهم سبحانه بالكذب عليه في ذلك، وأنتم(1) تشهدون لهم بالصدق في قولهم(2)؛ لأنكم(3) تزعمون أن كل فعل منهم فمن الله لا منهم، وبقضائه لا بفعلهم، وفي ذلك والقول به ما به الكفر بالله والشرك.
وإن قالوا: هو كما قال الله من عندهم، وهو كذب منهم والله منه بريء؛ رجعوا إلى الحق، وقالوا في الله سبحانه بالعدل.
***
__________
(1) في (أ): وأنهم.
(2) في (أ،ج): قولكم.
(3) في (أ): إنكم.

(2/57)


ومما يسألون عنه أن يقال لهم: خبرونا عن قول الله سبحانه: { لاَتَكُوْنُوا كَالَّذِيْنَ آذَوا مُوْسَى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا وَكَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيْهاً} [الأحزاب: 69]. أفتقولون: إن موسى عليه السلام كان بريئاً مما قالوا به فيه وكذبوا عليه سبحانه بأنه شهد لموسى(1) بالبرآة ـ وقالوا هم: ليس ببريء، ومن شهد بالبرآءة ـ لغير بريء؛ فهو فاسق غوي، والله عن شهادة الزور فمتعال علي. وإن قالوا: إن موسى عليه السلام بريء من ذلك، وإن الله صادق فيما شهد له به؛ (آمنوا) (2) ورجعوا إلى الحق، وقالوا في الله بالصدق والعدل. وإن قالوا: بل الله (الذي) (3) قضى عليهم بأذية موسى عليه السلام؛ فقد زعموا أن الله المتولي أذية نبيه موسى صلى الله عليه وسلم، وقضى عليهم(4) بالقذف له، وفي هذا إبطال ما قال الله وشهد به عليهم، وبرأ نفسه ونبيه من هذا الفعل العظيم.
***
ومما يسألون عنه أن يقال لهم: أخبرونا عن قول الله عز وجل فيما يحكي عن نبيه نوح صلى الله عليه وسلم، إذ يقول: {أَنْتُمْ بَرِيْئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيْءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ} [يونس: 41]، أفتقولون: إن نبي الله صدق في قوله: {أَعْمَلُ} و{تَعْمَلُونَ} فتوجبون له العمل؟ أم تقولون: إنَّه ليس له في ذلك اختيار ولا عمل ولا لهم، وإن ذلك كله من الله دونهم؟ فإن قالوا: بل نقول: عمله و عملهم، وأنه صادق في ذلك فقد برؤوا الله من أفعال العباد، ورجعوا إلى الحق.
وإن قالوا: بل هو فعل الله، لا فعله ولا فعلهم؛ فقد كفروا، وكذبوا قول رسول الله صلى الله عليه.
***
__________
(1) كذا في النسخ، وهو غير مستقيم، ولعل العبارة: فإنه سبحانه شهد لموسى بالبراءة، وقالوا..
(2) سقط من (أ).
(3) سقط من (أ).
(4) كذا في النسخ.

(2/58)


ومما يسألون عنه عن قول الله سبحانه: {وَأَذَانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الأَكْبَرِ أَنَّ اللَّهَ بَرِيْءٌ مِنَ الْمُشْرِكِيْنَ وَرَسُولُهُ} [التوبة: 3]. فما قولكم فيما برئ(1) الله منه من المشركين؟ هل هو خَلْقُ أبدانهم وما فطر من صورهم؟ أم هو أفعالهم وما يأتون به من كفرهم وعصيانهم؟ فإن قالوا: إنَّه تبرأ من أن يكون خلقهم وجعلهم، وأوجدهم وفطرهم؛ كفروا بالله، وأشركوا في الخلق معه (غيره) (2)؛ تعالى الله الكريم. وإن قالوا: تبرأ من أفعالهم وعصيانهم؛ فقد أقروا أنَّه بريء من أفعال العاصين، متعال عن القضاء بفساد المفسدين، وتركوا قولهم بالإجبار، وصاروا من القائلين على الله بالعدل والإحسان.
***
ومما يسألون عنه أن يقال لهم: أخبرونا عن قول الله سبحانه لنبيه صلى الله عليه وعلى آله وسلم: {فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي بَرِيْءٌ مِمَا تَعْمَلُونَ} [الشعراء: 216]، أتقولون: إن الله عز وجل أمر نبيه أن يتبرأ (مما تبرأ(3) الله منه؟ أم تقولون : إن الله أمره أن يتبرأ مما لم يتبرأ) (4) منه؟ فإن قالوا: بل أمره أن يتبرأ مما تبرأ منه؛ فقد صدقوا، وإلى الحق رجعوا، وقالوا: إن الله لم يقض بما برئ منه، ولم يدخل فيما نهى عنه. وإن قالوا: إن الله أمره أن يتبرأ مما لم يتبرأ هو منه؛ فقد زعموا أن الله أمر نبيه بمخالفته، وبأن يتبرأ(5) مما لم يتبرأ منه مما تولى هو جل جلاله، وهذا فاكفر الكفر (بالله) (6) وأبين الشرك به، تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً.
***
__________
(1) في (ج): مما تبرأ.
(2) سقط من (أ).
(3) في (ج): يتبرأ.
(4) سقط من (أ).
(5) في (أ،ج): وبأن يتبرأ هو منه، ويتبرأ مما تولى.
(6) سقط من (ج).

(2/59)


ومما يسألون عنه قول الله سبحانه فيما يحكي عن أهل النار: {رَبَّنَا هَؤُلاَءِ أَضَلُّونَا فَآتِهِمْ عَذَاباً ضِعْفاً مِنَ النَّارِ} [الأعراف: 38] أتقولون: إن الله سبحانه الذي أضلهم؟ وأن أهل النار ظلموا هؤلاء الذين ادعوا عليهم، وإن الله حكى باطلاً من قولهم، وإنه مضل لهؤلاء المعذبين دون من ذكروا؟ أم تقولون كما قال الله سبحانه وحكى؛ إن الكافرين بعضهم أضل بعضاً؟ فإن قالوا: بل الله أضلهم لا هؤلاء؛ كفروا وردوا ما حكى الله من الحق.
وإن قالوا: بل هؤلاء أضلوهم دون الله، لإإن الله لم يضل عباده عن طاعته؛ صدقوا وآمنوا، ورجعوا إلى الحق.
***
ومما يسألون عنه قول الله سبحانه: {فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ اَخِيْهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِيْنَ} [المائدة: 30]، فيقال لهم: خبرونا ألله سبحانه طوع له ذلك(1) وقضى عليه؛ أم نفسه كما قال الله؟ فإن قالوا: بل نفسه طوعت له ذلك، ولم يقضه الله عليه، ولم يدخله فيه؛ فقد أصابوا وتركوا قولهم، وما كانوا عليه من كفرهم. وإن قالوا: بل الله طوع له ذلك بقضائه عليه، وإشقائه له به؛ فقد خالفوا الله وكذبوه في قوله. فالمجبرة تقول: إن الله طوع له ذلك، وقضى به عليه، وأدخله فيه، ولولا أنَّه قضى بذلك عليه لم يفعله، والله يتبرأ عن ذلك، ويخبر أن نفسه طوعت ذلك له، وأنه برئ من ذلك سبحانه.
***
__________
(1) في (أ): ولم يقضه الله عليه. وهو خطأ.

(2/60)


ومما يسئلون عنه قول الله سبحانه فيما يحكى عن الكافرين في يوم الدين؛ من القول حين يقولون(1): {رَبَّنَا مَنْ قَدَّمَ لَنَا هَذَا فَزِدْهُ عَذَاباً ضِعْفاً فِي النَّارِ} [ص: 61]، فقال سبحانه: {لِكُلٍّ ضِعْفٌ} يريد سبحانه: لكم ولمن قدم ذلك لكم، وبه أمركم وزينه في قلوبكم، وأدخله في صدوركم، فيقال للمجبره: أخبرونا عن الذي قدم ذلك لهم، وأدخلهم فيه، وقضى عليهم به، فإنا نجد الله سبحانه يخبر أن له ولهم ضعفاً من العذاب. فإن قالوا: إن الله قضى به، وأدخلهم (فيه) (2) بقضائه؛ فقد زعموا أن الله سبحانه قد أوعد نفسه العذاب وأوجبه عليه؛ إذ قضى بالكفر عليهم وأدخلهم بقضائه فيه، وهذا الكفر بالله تعالى عن ذلك علواً كبيراً. وإن قالوا: إن الله سبحانه لم يقض بذلك عليهم، ولم يدخلهم فيه؛ وإن إخوانهم من شياطين الجن والإنس أدخلوهم فيه، وزينوه لهم وحملوهم عليه، وإنهم هم أهل الوعيد الذي ذكر الله سبحانه؛ فقد أصابوا، وخرجوا من قول المجبرة، ورجعوا إلى قول أهل العدل.
***
ومما يسئلون عنه قول الله سبحانه فيما يحكي عن الفاسقين، الكفرة الضآلين، حين يقولون: {رَبَّنَا أَرِنَا الَّذَيْنِ أَضَلاَّنَا مِنَ الْجِنِّ وَالإِنْسِ نَجْعَلْهُمَا تَحْتَ أَقْدَامِنَا لِيَكُونَا مِنَ الأَسْفَلِيْنَ} [فصلت: 29]،فيقال للمجبرة: قد نجد أهل العذاب من الكفار يقولون يوم القيامة ما تسمعون، وينسبون ما كان من سبب إغوائهم وإضلالهم إلى الجن والإنس، ويبرؤون الله سبحانه في ذلك اليوم من فعلهم، وأنتم تزعمون أن الله هو الذي أدخلهم في الضلال، دون من زعم أهل الضلال. أفتقولون كما يقولون؟ أم تقولون لهم كذبتم لم يضلوكم(3)؟ فإن قالوا كما قال الله؛ أصابوا وخرجوا من الكفر. وإن قالوا: بل الله أضلهم دون من ذكروا من الجن والإنس؛ كفروا وخالفوا قول الله.
***
__________
(1) في (ب): يقول.
(2) ليس في (أ).
(3) في (أ،ج): لم يضلكم. وما أثبته من (ب) أولى.

(2/61)


ومما يسئلون عنه قول الله سبحانه: {يَا أَهْلَ الكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالبَاطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [آل عمران: 71]، فيقال لهم: خبرونا من لبس الحق بالباطل، وخلط عليهم أمرهم، وأخرجهم من هداهم ورشدهم؛ أنفسهم أم الله؟ فقد نجد الله جل جلاله يقول ويذكر أن ذلك منهم، فما قولكم أنتم؟ فإن قالوا: هو من الكفار وليس هو من الله؛ فقد أصابوا ورجعوا إلى الحق. وإن قالوا: هو من الله بقضاء وقدر، ولولا قضاء الله وقدره(1) لم يدخلوا في ذلك، ولم يلبسوا الحق بالباطل؛ فقد كذبوا قول الله وصدقوا قول الجاهلين(2)، وهذا هو الشرك بالله. بل قول الله هو الحق المصَدَّق، وقولهم الكذب المكذب.
***
ومما يسئلون عنه أن يقال لهم: خبرونا عن قول آدم صلى الله عليه: {رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا} [الأعراف: 23]. أفتقولون: إن آدم الذي ظلم نفسه بالخطيئة، وأساء إليها بإدخالها في المعصية، كما قال صلى الله عليه وسلم؟ أم تقولون: أن الله أدخله في المعصية، وأخرجه بالقضاء من الطاعة، وظلمه بذلك، وأن آدم وحواء؛ لم يظلما أنفسهما؟ فإن قالوا: بل الله الذي أدخلهما في المعصية بقضائه بها عليهما؛ فقد كذبوا قول آدم وما حكى الله عنه، وفي ذلك الأمر العظيم، والجرأة على الله عز وجل وعلى آدم صلى الله عليه. وإن قالوا: بل صدق آدم؛ فقد رجعوا إلى العدل، وتركوا القول بالجبر وأسلموا.
***
__________
(1) في (أ،ج): ولولا القضاء والقدر.
(2) في (ب): الجاهلية.

(2/62)


ومما يسئلون عنه قول الله سبحانه: {وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا العَمَى عَلَى الْهُدَى} [فصلت: 17]، يريد آثروا الضلال والغي والهوى؛ على ما إليه دعوا وبه أمروا من الهدى. أفتقولون: إنَّه كما قال الله، وإنهم آثروا العمى؛ على ما إليه دعوا من الهدى؟ أم تقولون: إنهم لم يستحبوا ولم يؤثروا العمى على الهدى، وإنهم أدخلوا في الهوى، وأخرجوا من الهدى؛ بالقضاء من الله الغالب لكل أحد، الذي لا غالب له؟ فإن قالوا: بل هم الذين استحبوا(1) ودخلوا في الهوى من أنفسهم، وخرجوا من الهدى؛ فقد آمنوا وقالوا بقول الله تعالى في ثمود. وإن قالوا: بل الله أخرجهم من الهدى، وأدخلهم في الهوى؛ فقد كذبوا قول الله، وكفروا به، وضلوا ضلالاً بعيداً.
***
ومما يسئلون عنه قوله سبحانه: {وَلَقَدْ جَآءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى} [النجم: 23]، فأخبر سبحانه أن الهدى من الله. وزعمت القدرية أن الضلال بأمر الله(2). وإذا ثبت ذلك فالهدى من رأيهم لا من رب العالمين، لأن الهدى والضلال ضدان، مختلفان متباينان، لا يجتمعان (3) لجامعهما في حالة، ولا يفعلهما فاعل. والقدرية تقول(4): إن الهدى لم يأت العاصين الضآلين من رب العالمين. والله يقول: قد أتاهم الهدى من قبله، وحل لديهم من عنده؛ فتركوه ولم يفعلوه، وخالفوه ورفضوه. فأي القولين أصدق وأحق بأن يقبل؟ أقَوْل الله، أم قولهم؟ بل قول الرحمن الصدق والحق، وقولهم الباطل والمحال والفسق.
***
__________
(1) في (ج): إنهم الذين استحبوه.
(2) في (أ): أن الضلال من الله.
(3) في (ب): لا يجبان.
(4) في (ب): يقولون.

(2/63)


ومما يسئلون عنه أن يقال لهم خبرونا(1) عن قول الله سبحانه؛ فيما حكى عن أهل جهنم من القول حين يقول: {أَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ قَالُوا رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْماً ضَآلِّيْنَ} [المؤمنون: 105ـ106]. فذكر إقرارهم على أنفسهم؛ بأن الفسق والمعاصي كانت منهم، ونفاها عن نفسه أن يكون قضى بها عليهم، بل قال واحتج في ذلك عليهم بقوله: {أَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ}؟ فأخبر أن الأمر بالطاعة لهم ونهيه إياهم عن المعصية كان في حياتهم منه إليهم، فأبوا واتبعوا الهوى، وتركوا ما به أمرهم ربهم من اتباع الهدى. ولو كان ذلك من الله نزل بهم؛ لقالوا: ربنا غلب علينا قضاؤك، ولم يقولوا: غلبت علينا شقوتنا. فإن قالت المجبرة: إن قضاء الله الذي منعهم من الطاعه، وغلبهم على المعصيه؛ فقد كذبوا قول الله. وإن قالوا: بل هو كما قال المعذبون، وحكاه الله عنهم؛ فقد تابوا وآمنوا، ورجعوا إلى الحق والعدل. والمعذَّبون مقرون بالحق على أنفسهم، والمجبرة ترمي به الله، وتلزمه إياه، فتعالى عن ذلك علواً كبيراً.
***
ومما يسئلون عنه قول الله سبحانه: {إِنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَى} [الليل: 12]، ولم يقل: إن منا الضلالة والردى. فيقال لهم: أفتقولون: إنَّه كما قال: إن منه الهدى الذي ذكره الله ولم يذكر ضده؟ أفتقولون: إنّ ما ذكره عن نفسه فهو منه، وما لم يذكره فليس منه؟ أم تقولون: إنَّما ذكره ونفاه عن نفسه فهو كله منه؟ فإن قالوا: بل ما ذكر أنَّه منه فهو منه، وما لم يذكر أنَّه منه فليس منه؛ فقد رجعوا إلى الحق وآمنوا. وإن قالوا: بل ما قال إنَّه منه فهو منه، وما قال أيضاً ليس منه فهو منه؛ فقد كفروا، وكذبوا على الله.
***
__________
(1) في (أ): أخبرونا.

(2/64)


ومما يسئلون عنه أن يقال لهم: خبرونا عن قول الله سبحانه فيما يحكي عن موسى عليه السلام في قتله الكافر الذي قتله عن غير دعوة منه له إلى الله، ولا معرفة أن موسى رسول الله: {قَالَ هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِيْنٌ} [القصص: 15]، ولم يقل: هذا من قضاء الله ولا عمله(1). أفتقولون: إن ذلك كما قال رسول الله عليه السلام، وأنه من قبل الشيطان؟ أم تقولون: إن موسى عليه السلام أتي من قبل الرحمن، فإن قالوا: أتى من قبل الشيطان كما قال الله وكما قال موسى عليه السلام وهو أعرف بالله وبكل أمر كان من الله، ولو كان من الله لقال صلى الله عليه هذا من قضاء الله؛ فقد صدقوا، ورجعوا إلى الحق وتابوا، وخرجوا من الباطل وصاروا عادلين، ولنبي الله عليه السلام مصدقين. وإن قالوا: بل لم يؤت موسى في ذلك إلاَّ من الله، والله أدخله في قتله ومعصية ربه؛ بقضائه(2) على موسى بقتل الرجل، ولولا قضاء الله لم يقتله موسى؛ كانوا في ذلك لموسى عليه السلام مكذبين، وقد زعموا أنهم أعلم بالله من موسى عليه السلام. وهذا غاية الطعن على الله عز وجل، وعلى نبيه صلى الله عليه، وفي ذلك الكفر بالله صريحاً(3).
***
__________
(1) في (أ): وعلمه.
(2) في (أ): لقضائه.
(3) في (أ،ج): صراحاً.

(2/65)


ومما يسئلون عنه قول الله سبحانه لمحمد صلى الله عليه: {وَإِنَّكَ لَتَهْدِى إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الشورى: 52]، فيقال لهم: خبرونا عن قول الله سبحانه: {لَتَهْدِى إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ}، أفتقولون: إنَّه كما قال الله عنه، وإنه هداهم إلى صراط مستقيم؟ أم تقولون: لم يهدهم؟ فإن قالوا: بل هداهم بأمر الله، وذلك فعل لمحمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم حمده الله وأثنى به فيه عليه؛ فقد صدقوا وآمنوا، وقالوا بالحق في الله وفي نبيئه صلى الله عليه وآله وسلم. وإن قالوا: لم يهد محمد أحداً، وإنَّما فعل محمد هو فعل الله، والله أدخله في ذلك كرهاً، وجبره عليه جبراً، ولم يكن لمحمد فيه فعل؛ فقد زعموا أن الله مدح محمداً صلى الله عليه وآله وسلم بفعله، لا بفعل محمد نفسه، وأنه أثنى عليه بغير ما اكتسب وفعل، وهذا غاية الفسق.
***
ومما يسئلون عنه قول الله سبحانه: {إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيْلَ إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً} [الإنسان: 3]، فأخبر جل جلاله أنَّه هدى الخلق، ولم يهد من عصاه، وخالف أمره وأباه، وأنه قد اهتدى بهداه الموقنون(1)؛ فكانوا هم الشاكرين، وكان المخالفون هم الكافرين. فإن قالوا بهذا؛ آمنوا، واهتدوا وصدقوا. وإن قالوا: بل نقول: إن شكر من شكر وكفر من كفر من الله، وبقضاء منه، وإدخال لهم فيه؛ كان ما كان من ذلك؛ أبطلوا قول الله وكذبوا(2)، وخرجوا من الإسلام بذلك.
***
__________
(1) في (أ): المؤمنون.
(2) في (أ،ج): وكذبوه.

(2/66)


ومما يسئلون عنه، ويكذبون به في قولهم؛ قول الله عز وجل فيما يحكي عن الفاسقين، من القول والإقرار على أنفسهم في يوم الدين، من قوله سبحانه: {وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ القَوْلَ يَقُولُ الَّذِيْنَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِيْنَ اسْتَكْبَرُوا لَوْلاَ أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِيْنَ} [سبأ: 31]، ولو كانوا أتوا من قبل الله؛ لقالوا: لولا الله لكنا مؤمنين، ولكن ذلك اليوم يوم لا يقال فيه إلاَّ بالحق، ولا ينفع فيه إلاَّ الصدق. فماذا تقول القدرية والمجبرة أَهُوَ كما ذكر الله عمن يقول ذلك أم لا؟ فإن قالوا: بل هم كاذبون، وإنَّما أتوا من قبل الله لا من قبل المشركين،من إخوانهم المجرمين؛ فقد قالوا باطلاً وزوراً، وقد أكذبهم المستكبرون في قولهم؛ لأنهم يزعمون أن المستضعفين من قبل الله أتوا وصدوا، وقد قال المستكبرون للمستضعفين في ذلك اليوم وفي ذلك الموقف مجيبين. وكلتا الفرقتين(1) المستضعفين والمستكبرين لم يقولوا كما(2) قالت القدرية، بل كلتاهما برأت الله من ذلك سبحانه وجل جلاله؛ ولم تقولا فيه بقول القدرية.
***
ومما يسئلون عنه قول الله سبحانه: {فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ} [الصف: 5]، والإزاغة منه هاهنا فهي: الخذلان لهم، والتبري منهم، فلما تبرأ منهم، وعدموا(3) التوفيق، وفقدوا الترشيد؛ زاغوا، وتزايدوا في الردى، والزيغ عن الهدى.
__________
(1) في (ب): الفريقين.
(2) في (أ) و(أ): بما.
(3) في (أ): أعدموا.

(2/67)


أفتقولون: إن الله عز وجل ابتداهم بالزيغ كما تذكرون، أم بقول الله وما ذكر عن نفسه تقولون؟ فإن قالوا: بل هو ابتداهم بالإزاغة قبل زيغهم، وقضاه عليهم(1)، وأدخلهم فيه؛ كفروا بإكذابهم قول ربهم، لأنَّه يقول: {فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ} [الصف: 5]، والقدرية تقول بل الله سبحانه بالزيغ ابتداهم. وإن قالوا: إن الإزاغة من الله عقوبة لهم، على زيغهم عن الهدى، وتركهم ما أمروا به من التقوى؛ قالوا بالحق، وتعلقوا بالصدق، وشهدوا لله بما شهد لنفسه. وفي ذلك ما يقول الرحمن الرحيم: {إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} [الرعد: 11]، ويقول سبحانه: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} [الأنفال: 53].
***
__________
(1) في (أ،ج): وقضى به.

(2/68)


ومما يسئلون عنه من قول الله سبحانه؛ مما يبطل ما في أيديهم قوله سبحانه: {فَوَيْلٌ لِلَّذِيْنَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيْهِمْ ثُمَّ يَقُولُوْنَ هَذَا مِنْ عِنْدِاللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَناً قَلِيْلاً فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيْهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ} [البقره: 79]. فأخبر سبحانه أنهم مختارون(1) لكتاب ما كتبه(2) المشترون المكتسبون لفعل ما فعلوا(3) (وأوعدهم على ذلك، وأخبرهم أنهم من أهل النار، والويل لهم إذا فعلوا)(4)، مالم يرد، وما لم يشاء. وقالت القدرية: إن الله أدخلهم فيما عنه نهاهم، وإن ذلك الكتاب منه، ولولا أنَّه قضى به عليهم وجعله فيهم؛ لم يفعلوه، ولم يكتبوه. فأكذبوا قول الرحمن، وصدقوا قول الشيطان، وزعموا أنهم أعلم بقول(5) الكاذبين المجرمين؛ من رب العالمين، وادعوا أن قولهم الصدق، وزعموا بذلك أن قول ربهم باطل، وأنه ادعى عليهم ما لم يفعلوه(6)، ورماهم بما لم يكتسبوا(7)، وأنه فعل ذلك بهم، وذكره عنهم، ورده عليهم. كان لم يسمعوا قول الله عز وجل وذمه لمن كان كذلك، أو قارب شيئاً من ذلك، حين يقول: {وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيْئَةً أَوْ إِثْماً ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيْئاً فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتَاناً وَإِثْماً مُبِيْناً} [النساء: 112]!!.
***
__________
(1) في (ب): يختارون.
(2) في (أ): ما كتبوه المشترون، وهو على لغة: أكلوني البراغيث.
(3) في (أ): ما فعلوه.
(4) سقط من (ب).
(5) في (أ،ج): بأمر.
(6) في (أ): يفعلوا.
(7) في (ب): يلبسوا.

(2/69)


ومما يسئلون عنه قول الرحمن الرحيم، الواحد الكريم: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ مَا أُرِيْدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيْدُ أَنْ يُطْعِمُونِ} [الذاريات: 56ـ 57]. فأخبر سبحانه أنَّه خلقهم لعبادته وطاعته، ومن أطاعه أدخله الجنة. وزعمت القدرية أنَّه خلق الخلق من الجن والإنس ليعبدوا غيره وليطيعوه، وأنه خلق الكافر كافراً في بطن أمه. والله يقول غير ذلك، ويكذبهم في قولهم، ويرد عليهم في كذبهم، بقوله: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ}.
ومما يسئلون عنه قول الله سبحانه: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ} [التوبة:155].
(تم كتاب الرد إلى هاهنا ولم ينقص منه شيء بحمد الله وعونه)(1).
الرد على سليمان بن جرير
بسم الله الرحمن الرحيم
ذكر الهادي عليه السلام ومن وافقه من العلماء ـ ما خالفه في ذلك إلاَّ سليمان بن جرير، وهو ممن يدعي العلم وهو من المجبرة ـ أن الرضى، والسخط، والولاية، والمحبة، من صفات الفعل، وأنها محدثه، وأنه تعالى لا يسخط ولا يرضى، ولا يوالي ولا يعادي؛ إلاَّ عند وجود الأفعال من العبد الَّتِي يستحق بها ذلك، وذكر عن سليمان بن جرير أنَّه قال: إن الله تعالى لم يزل ساخطاً على من علم أنَّه يعصيه، وراضياً على من علم أنه سيطيعه(2)، موالياً من لم يوجد من أوليائه، معادياً لمن هو معدوم من أعدائه؛وأن العبد قد يكون مؤمناً والله معاد له، ساخط عليه؛ إذا كان ممن يكفر في آخر عمره، ويكون راضياً عن الكافر، موالياً له، محباً له؛ إذا كان يؤمن في آخر أمره(3).
__________
(1) سقط ما بين القوسين من (أ،ج).
(2) في (ج): يطيعه.
(3) في (ج): عمره.

(2/70)


قال الهادي إلى الحق عليه السلام: واعلم أن السخط، والرضى، والولاية، والمحبة، كما ذكرنا من صفات الأفعال، والسخط: اسم لكراهية الفعل إذا وقع، لوجود المكروه، وكذلك الرضى هو: اسم لإرادة الفعل؛ إذا وقع من العبد من الوجوه(1) المرادة، وكذلك يوصف من أراد فعل غيره، ووقع على مراده وعلى ما أراد، لأنه(2) راض عنه، ويوصف من كره فعل غيره، ووقع على ما كرهه؛ بأنه ساخط له، وكذلك يوصف العبد بما دخل تحته من الأفعال، وقد يقال في الفعل الواحد: إن زيداً راض به، وعمراً ساخط له؛ إذا أراده زيد وكرهه عمرو. وإذا لم يكن حقيقة السخط والرضى ما ذكرنا؛ لم يمتنع أن تكون هذه الصفات(3) من صفات الذات، وإذا كانت(4) كذلك فكان من علم أنه يطيعه مرضياً عنه وهو في حال كفره، وإذا كان العلم هو الموجب للطاعة والمعصية؛ فلا يخرج(5) العبد إذاً من ذلك.
قال الهادي عليه السلام: وقد يكون العبد في المعاصي الجليلة؛ فيكون الله ساخطاً عليه، معادياً له؛ ثُمَّ ينتقل إلى الطاعة، فينتقل عليه ضد ذلك، من الرضى والولايه، والمحبة والمعونة له، وقد يكون في طاعة الله عز وجل فيكون الله راضياً عليه؛ ثُمَّ ينتقل إلى المعاصي؛ فينتقل عليه ضد ذلك الرضى، وهو السخط.
__________
(1) في (ج): على الوجوه.
(2) في (ج): بأنه.
(3) في(أ) و (ج): الصفة.
(4) في (ب): وكذلك.
(5) في (أ): فلا مخرج للعبد إذاً.

(2/71)


واعلم أن الرضى بالفعل، هو غير الرضى عن الفاعل، وإنَّما يرضى عن الفاعل إذا أتى كمال مراده منه، ولأن العبد قد يرضي الله في جميع أفعاله، ويسخطه في وجهٍ، يبين ذلك أن الصغيرة الواقعة من الأنبياء عليهم السلام مسخطة لله، وإن كان سائر أفعالهم مرضية له. ويبين(1) ذلك أيضاً أن الواحد منا قد يكون مرضياً لغيره في وجه، ومسخطاً له في آخر. وكذلك في طاعة الكافر وكفره، فإذا صح ذلك لم يجز متى رضي تعالى ببعض أفعال المكلف، أن يكون راضياً عنه، لأن الرضى هاهنا معلق بالفعل، وإنَّما يتعلق الرضى بالفاعل إذا أرضى الله عز وجل في أفعاله، على قولنا في استحقاق المدح والثواب، فإذا كان العبد مسخطاً لله في وجه، ومرضياً له في وجه؛ قيل: إن الله راض ببعض فعله، ساخط لبعضه، ولم يتعلق السخط والرضى هاهنا بالفاعل، فإذا عُلق بالفاعل كان محالاً أن يوصف الله بأنه راض على من هو ساخط عليه.
فأما الولاية من الله تعالى للمؤمنين؛ فإنما يتولى تعظيمهم ومدحهم، ويأمر بذلك بعد استحقاقهم لذلك بأفعالهم.
وأما العداوة فحقيقتها إنزال المضار بالعاصي، واستعمال العداوة لله من الكافر مجاز؛ لأن الكافر لا يقدر على إنزال المضار به تعالى، وإنَّما يوصف بذلك من حيث كان عدواً لأوليائه، والمحبة من الله للمؤمنين فإنما المراد بها منه إيصال المنافع إليهم تفضُلاً واستحقاقاً.
__________
(1) في (أ): ويبين مهملة.

(2/72)


واعلم أن هذه الصفات إرادة من حيث كان عدوّاً لأوليائه(1)، والمحبة من الله للمؤمنين، فإنما يجوز أن يريد الأفعال ويكرهها. والإرادة فقد صح أنها من صفات الفعل، وإنَّما يجب أن لا يجيز هذه الأوصاف على الله عز وجل من لا يثبته مريداً على الحقيقة ولا كارهاً، فإذا صح أنها من صفات الفعل؛ وجب القضاء بأنه إنَّما سخط ورضي بعد وجوب ما يوجب ذلك، وذلك لا يجوز إلاَّ بعد التكليف، وبعد تصرف المكلفين بالطاعة والمعصية؛ لأن جميع ذلك منه تعالى جزاء على الأفعال، ولا يحسن مجازاة الفاعل قبل إقدامه على الفعل، وذلك بين لا يحتاج(2) فيه إلى إطناب.
فأما ما ذكر عن سليمان بن جرير فإنما أُتي فيه من قبل قوله بأنه يقول: إن الله تعالى لم يزل مريداً، ويثبت ذلك من صفات الذات؛ فقال ما قاله، وقد دللنا على بطلان(3) ذلك؛ ببطلان أصله الذي يتعلق به في أن الإرادة من صفات الذات.
ومما يبين فساد ذلك أن الساخط إنَّما يحسن منه أن يسخط على من فعل قبيحاً من [حيث] علمه فاعلاً لذلك القبيح، لا لعلمه بأن الفعل المسخط له سيقع. ألا ترى أن ذلك يقبح قبل وقوع القبيح، كما يقبح منا أن نعاقب بالضرب والإيلام من لم يأت ما يستحق ذلك منه. فإذا ثبت ذلك؛ لم يجز منه تعالى أن يسخط على المؤمن من حيث علم أنَّه سيكفر في آخر أمره، ولو حُسن ذلك منه؛ لحسن أن يسخط عليه ويعاقبه، ويحرمه(4) في حال إيمانه؛ لعلمه بما سيقع منه، لأنَّه بعلمه عاقبه لا بفعله، لأنَّه لم يقع منه فعل يوجب عقابه، لكن بعلمه عاقبه ولو حسن ذلك منه لحسن أن يعاقبه، وأن يقدره على الطاعة، ويحسن(5) أيضاً أن يعاقبه مع أنَّه المانع له من الطاعة، وفساد ذلك ظاهر، وهذه طريقةٌ ما سلكها أحد من الأئمة،ولا من العلماء من غيرهم، سوى هذه المجبرة فاعلم ذلك.
تم والحمدلله وصلى الله على سيدنا محمد وآله.
****
__________
(1) كذا في النسخ.
(2) في (ب): أبين مما.
(3) في (ج): إبطال.
(4) في (أ) ويخترمه.
(5) في (أ): ولحسن.

(2/73)


رسائل وكتب
في
النبوة
إثبات النبوة
m
سألت أكرمك الله(1) فقلت: إن سألني ذمي عن اثبات نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم من أين تثبت؟ فقلتَ: ما أقول له؟
الجواب في ذلك أن يقال له: ثبتت نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم وصحت؛ من حيث ثبتت نبوة موسى وعيسى صلوات الله عليهما، والذي ثبتت به نبوتهما في بني إسرائيل، ووجبت طاعتهما؛ فَبِه ثبتت نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم سواءً سواء.
فإن قال: وما ذلك الذي ثبتت به نبوتهم؟
قيل له: هي: المعجزات التي أتوا بها، والآيات التي أظهروها، التي لا ينالها مخلوق، ولا تكون إلاَّ من الخالق، ومعجزات كل واحد منهم معروفة عند أهل العلم، وقد شرحنا ذلك في مسائل ابني أبي القاسم(2)، التي في إثبات النبوة والوصية والإمامة.
والجواب في مسألتك هذه للمسلم والذمِّي سواء.
ويقال: إن كانت معجزات موسى وعيسى أثبتت نبوتهما (على أممهما، فقد أثبتت نبوةَ محمد معجزاته على جميع الخلق، وإن لم تكن معجزاتهما أثبتت نبوتهما) (3) عندك؛ فأخبرنا: بم تثبت نبوتهما مما هو غير ذلك؟ حتى نأتيك في محمد صلى الله عليه وسلم بحجج تقطعك وتقمعك.
فلا تجد بداً إن شاء الله أن تقول: إن المعجزات من الآيات هن اللواتي يثبتن ويصححن النبوة، ويقمن لله ولرسوله الحجة على الأمة.
__________
(1) لا نعرف من هو السائل ولعله من الطبريين أو من أهل اليمن والله أعلم.
(2) هو الإمام محمد بن يحيى المرتضى عليه السلام.
(3) سقط من (ب).

(2/74)


فإذا أقر بنبوة محمد لثبات الحجة عليه، ووضوحها لديه، ولزومها له ـ إذ إقراره بها يثبت نبوة نبيه، ومكابرتُه فيها وقولُه بالدفع لها؛ يُبطِل قوله في نبيه ـ قيل له: اتق الله، وأجب محمداً داعياً إلى الله ورسُوله إليك وإلينا. فإن قال: قد أثبتم علي الحجة بما لم أقدر أن أدفعه في إثبات نبوته؛ إلاَّ أن أدفع نبوة نبيي؛ فقد أقررت لكم بنبوته حين اضطررت إلى ذلك؛ فهو نبيكم ورسولكم، وليس إلينا برسول.
قيل له: بل هو رسول إليك وإلى آبائك من قبلك(1)، بإقرارك لا بإنكارك، فقد أقررت بذلك ولزمك؛ من حيث ثبتت عليك الحجة في الإقرار بنبوته، وإن كنت لم تعقل ذلك ولم تفهمه، ولم يحط به عقلك فيعلمه.
فإن قال: ومن أين حكمت عليّ بذلك، وجعلتني في الحكم كذلك؟ أَبِنْ لي بذلك قولاً صواباً، وأزح لي به شكاً في قلبي وارتياباً.
قيل له: ألست قد أقررت بأنه رسول الله ونبيه؟ فلا يجد بداً من أن يقول: نعم. فيقال له: هل يجوز على الأنبياء صلوات الله عليهم أن تأتي بشيء من أنفسها؛ ثم تزعم أنَّه من الله دونها، وفي ذلك مالا يخفى عليك من الكذب على الله، وحاشا لرسل الله صلوات الله عليهم من ذلك. فلا يجد بداً من أن يقول: لا يجوز ذلك في الأنبياء صلوات الله عليهم والرسل.
فإذا قال ذلك، قيل له: أفليس القرآن الذي جاء به محمد من الله، وذكر أنَّه من الله؛ هو من الله، فلا يجد بداً أن يقول: نعم، هو قرآن بعث به إليكم دوننا. فإذا قال ذلك، قيل له: قد أقررت بنبوءته صلى الله عليه، وأقررت بالكتاب الذي جاء به أنَّه حق من الله؛ فقد وجدنا في هذا الكتاب تصديق إرسال محمد إليكم.
فإن قال: وأين ذلك؟
__________
(1) في (أ، ج): من قبل.

(2/75)


قيل له: هو قول الله سبحانه: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً} [الفتح: 8 ـ 9]. وقوله: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيكُمْ جَمِيعاً الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} [الأعراف: 158]، ويقول: {آمِنُوا بِمَا أَنْزَلْتُ مُصَدِّقاً لِمَا مَعَكُمْ وَلاَ تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ وَلاَ تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَناً قَلِيلاً وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ} [البقرة: 41]. فكل هذا القول ـ الذي في الكتاب ـ الذي لم تجد بداً أن تقر به أنَّه من عند الله؛ فإن بطل منه حرف بطل كله، وإن ثبت أنَّه من الله؛ ثبت ووجب عليك ما أمرك الله به فيه، ولزمك الإيمان به والتصديق؛ إذ قد أقررت بنبوءة محمد صلى الله عليه وآله وسلم، فلا يجد حينئذ الذميُّ بداً أن ينصف فيقر بالحق، أو يكابر بعد ثبات الحق وبيان،، فيستدل بمكابرته على جهله وحمقه، ويستغنى بظهور جهله عن مناظرته؛ لأن الجاهل المكابر محيل، وصاحب المحال لا حجة معه.
تم ذلك
تثبيت نبوة محمد
صلى الله عليه وآله وسلم
m
(قال يحيى بن الحسين بن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم): إن سأل سائل فقال: ما الدليل على نبوة محمد صلى اللّه عليه وآله؟
قيل له: الدلائل كثيرة على ذلك، ولكن ليس لمنكر أن يسألنا عن هذه المسألة إلا أن يكون من أهل الكتب الذين أجمعوا معنا على التوحيد والنبوات. وأما الملحدون فليس لهم أن يسألونا عن تصحيح النبوة، وهم لم يؤمنوا برب الأنبياء عليهم السلام.

(2/76)


فمن سألنا من اليهود والنصارى، وأهل الكتاب المقرين بالتوحيد، قلنا لهم: الدلائل كثيرة على تصحيح نبوته عليه السلام، وذلك أنَّه أتى بما يعجز الخلائق عن مثله، فلما أن أتى بما يعجز الخلائق عن مثله؛ علمنا أنَّه ليس في قدرة المخلوقين فعله، وأنه لم يفعله إلاّ الخالق، ولم يضعه إلاَّ على يدي أمين صادق.
فإن قال: فما الأعلام التي جاء بها تعجز الخلائق عن مثلها؟ قلنا له: ذلك أكثر من أن يحصى.
منه الماء القليل الذي سقى منه العالم الكثير.
ومنه الخبز القليل الذي أطعم منه البشر الكثير.
ومنه أن ذئباً تكلم على نبوءته.
ومنه أنَّه أمر شجرة فأقبلت تحد الأرض، ثم أمرها فرجعت.
ومنه كلام الذراع المسمومة له. وواحدة من هذه الأعلام تجزي، بعد أن تكون معجزة للخلق.
فلما أن أتى صلى الله عليه بهذه المعجزات(1) التي ذكرنا، علمنا أنَّه نبي صلى الله عليه وآله.
فإن قال: فما الدليل على أنَّه جاء بهذه الأعلام التي تذكرها، ومن خالفك لا يقر لك بذلك؟
قيل له: الدلائل على ذلك: الأخبار المتواترة، التي لا يجوز على مثلها الشك، عن قوم متفرقي(2) الديار، بعيدي الهمم، مختلفي التجارات والصناعات، والألسن والألوان، يعلم أن مثلهم لا يجوز عليهم الإجتماع والتواطؤ، فلما أجمعوا ينقلون هذا الخبر؛ علمنا عند خبرهم ـ إذ جاء هذا المجيء ـ أنَّه حق وصدق؛ لأنه لو جاز على مثل ما ذكرنا التواطؤ (على الكذب)(3) لكنا لا ندري لعلنا إذا دخلنا مثل البصرة والكوفة، أو بعض هذه الأمصار التي لم ندخلها؛ فقيل لنا: هذه مكة، هذه الكوفة، وهي المدينة، أنهم قد كذبوا، وأن أهل البلد قد تواطؤا على أن يخبرونا بخلاف ذلك.
فإن قلت: لا يجوز لأهل بلد واحد أن يتواطؤا، ويجتمعوا على شيء واحد.
__________
(1) في (أ): الأعلام نخ، وفي (ج): بهذه المعجزات الأعلام.
(2) في (أ، ج): مفترفي.
(3) زيادة من (ج).

(2/77)


قلنا: وكذلك لا يجوز أن يكون من خبرنا عن نبينا محمد عليه السلام أنَّه فعل كذا، أو جاء بكذا، وأخبر عن كذا؛ أن يكونوا كذبوا؛ لاختلاف أجناسهم، وبعد هممهم.
فإن كان السائل يهودياً فارجع عليه؛ فقل: بما صح عندك نبوة موسى؟ فإنه يقول: بالإعلام التي جاء بها، التي تعجز الخلائق عن مثلها.
قيل له: وبما علمت أنَّه جاء بالأعلام؟ فإن قال: بأخبار من خالفنا، فلما أن اجمعتم معنا والنصارى معكم مع خلافكم لنا؛ علمنا أن مقالنا كما قلنا، وأن خبرنا حق.
قلنا له: فأخبرنا عن أسلافكم الذين كانوا قبل أن تكونوا، إذ كانت النصارى لم تصح لكم نبوة موسى.
فإن قال: بلى.
قيل: ولم وبما، وليس هناك مسلمون ولا نصارى يجمعون معك، وزعمت أنَّه لا يصح الخبر إلاَّ بإجماع من خالفك بعدُ؛ فلو آمن الناس كلهم بموسى وصاروا على دينك بطلت نبوة موسى، إذ زعمت أن الأخبار لا تصح إلاَّ بالمخالفين. فبهذه وللنصارى مثلها على اليهود فافهمها.
ومن دلالته صلى الله عليه وعلى أهل بيته وعلامته هذا القرآن، لا يقدر أحد أن يدعيه، ولا أنَّه جاء به أحدٌ غيره صلى الله عليه وعلى آله وسلم، قد أعجز أهل دهره من الفصحاء والبلغاء، فلم يقدر إلى يومنا هذا كلُّ الخلق أن يأتوا بمثله، أو بسورة منه، ليس يشبه(1) الشعر، ولا الرجز، ولا الخطب، بآئن من كلام المخلوقين، وفيه أخبار الأولين والآخرين، وبعثه صلى الله عليه والعرب متوافرة، ليس فخرهم إلاَّ الشعر والبلاغة والخطب، فتحداهم بأجمعهم من أن يأتوا بسورة من مثله، عجزوا(2) وأقروا بالعجز، فعلمنا ـ إذ عجزوا أن يأتوا بمثله وهو بلغتهم ـ أن غيرهم أعجز، وعلم أهل النهى ـ إذ عجز الخلائق عن مثله ـ أنه من عند أحكم الحاكمين، وأنزله على رسوله صلى الله عليه نوراً وهدىً للعالمين.
__________
(1) في (ب): يشبهه.
(2) كذا في النسخ.

(2/78)


ومن معجزاته أن قوماً من آل ذَرِيح وهم حي من أحياء العرب، وهم بمكة؛ أرادوا أن يذبحوا عجلاً لهم، وذلك في أول مبعث النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فلما أضجعوه ليذبحوه أنطق الله العجل فقال: يا آل ذريح، أمر نجيح، صائح يصيح، بلسان فصيح، يؤذن بمكة لا إله إلاَّ الله وأن محمداً رسول الله؛ فتركوا العجل، وأتوا المسجد فإذا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قائم في المسجد وهو يقول: أشهد أن لا إله إلاَّ الله وأني محمد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
ذكر خطايا الأنبياء
صلوات الله عليهم
مما سأله إبراهيم بن المحسن العلوي رحمة الله عليه (1)
m
[قصة آدم عليه السلام وإبليس وخطيئة آدم]
سُئل الهادي إلى الحق يحيى بن الحسين صلوات الله عليه عن قول الله تبارك وتعالى: {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلاَئِكَةِ اسْجُدُوا لآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ}[البقرة: 34، الإسراء: 61، الكهف: 50، طه: 116] كيف كان السجود من الملائكة صلوات الله عليهم؟
فقال: معنى {اسْجُدُوا لآدَمَ}؛ إنما أراد بذلك: أسجدوا من أجل (2) آدم؛ تعظيماً لخالقه؛ إذ خلقه من أضعف الأشياء وأقلها عنده، وهو الطين. فجاز أن يقال: {اسْجُدُوا لآدَمَ}؛ لما أن كان السجود من أجل خلقه.
__________
(1) هو إبراهيم بن المحسن بن عبيدالله ـ أخي محمد بن عبيدالله والد مصنف سيرة الإمام ـ بن عبد اللّه بن عبيدالله بن الحسن بن عبيدالله بن أبي الفضل قمر أهل البيت العباس بن علي بن أبي طالب الشهيد بكربلاء العلوي العباسي، من أصحاب الإمام المجاهدين معه، يؤخذ من سيرة الإمام أنه كان حياً في شهر رمضان من سنة (294 هـ)، وأنه كان مع عمه محمد بن عبيدالله في حربه للقرامطة بنجران حين طلب بعضهم كما في سيرة الإمام الهادي عليه السلام حيث له ذكر في موضع منها فقط، لم أقف على تاريخ وفاته. السيرة 344 ـ 345.
(2) في (أ): من قِبَل.

(2/79)


وقوله: {فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ}، وإنما جاز أن يجعل إبليس معهم في الأمر وإن لم يكن من جنسهم؛ إذ كان حاضراً لأمر الله لهم، فأمره بالسجود معهم، وإن لم يكن جنسه جنسهم؛ لأن الملائكة صلوات الله عليهم إنما خلقوا من الريح والهواء، وخلقت الجن كلها من مارج النار، ومارج النار فهو الذي يتقطع منها عند توقدها وتأججها.
قلتُ: فما الدليل على أن إبليس من الجن؟
قال: قول الله جل ذكره: {إِلاَّ إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ}[الكهف:50].
قلت: فهل أمرت الجن كلها بالسجود، أم خص الله إبليس بذلك دونهم؟
قال: لم يأمر الله سبحانه أحداً منهم إلاَّ إبليس فقد أمره الله بالسجود دونهم.
قلت: أفمخصوصاً كان بذلك دونهم؟ قال: نعم، كان مخصوصاً بالأمر.
قلت: فعصيان آدم صلوات الله عليه في أكل الشجرة كيف كان ذلك منه، تعمداً أم نسياناً؟
فقال: قد أعلمك الله في كتابه، من قوله: {وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً}[طه: 115]، يقول: لم نجد له عزماً على أكلها، واعتمادها بعينها.
ولكن سلني فقل لي: فإذا كان آدم في أكل الشجرة ناسياً فكيف وجبت عليه العقوبة، وقد أجمعت الأمة على أنَّه إذا نسي الرجل فشرب في رمضان وهو ناسٍ، أو أكل وهو ناس، أو ترك صلاة حتى خرج وقتها وهو ناس، أو جامع امرأته في طمثها وهو ناس، لم يجب عليه في ذلك عقوبة عند الله؟ فكيف يجب على آدم عليه السلام العقوبة في أكل الشجرة ناسياً؟

(2/80)


فإن سألتني عن ذلك، قلت لك: إنما عوقب آدم صلوات الله عليه في استعجاله في أكل الشجرة، وذلك أن الله سبحانه لما نهاه عن أكل الشجرة ـ وهي البر ـ وأمره بالشعير ولم يحظرها عليه، فكان يأكل من شجرة الشعير وهي ورق، ولم تحمل ثمراً، فلما صار فيها الحب والثمر أشكل عليه أمرها، فلم يدر أيهما نهي عنه،فأتاه اللعين بِخِدَعِهِ وغروره، فقاسمه على ما ذكره الله في كتابه؛ فقال: {مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلاَّ أَنْ تَكُونَا مَلَكَينِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ}[الأعراف: 20]، فاستعجل آدم فأكل من الشجرة، ولم ينتظر الوحي في ذلك من عند الله، فعوقب في استعجاله في أكلها، وقلة صبره لانتظار أمر ربه.
قلتُ: فكيف كان كلام إبليس وخدعه إياه؟ هل كان تصور له جسماً، ورآه عياناً؟
فقال: إنما سمع آدم كلامه، ولم يره جسماً. وقد رويت في ذلك روايات كذب فيها من رواها، وكيف يقدر مخلوق أن يخلق نفسه على غير مركب خلقه، وفطرة جاعله؟ هذا ما لا يثبت ولا يصح عند من عقل وعرف الحق.
قلتُ: فقد كان محمد النبي صلى الله عليه يخاطب جبريل، ويعاينه على عظيم خلقه، وجسيم مركبه!

(2/81)


فقال: إنما كان جبريل عليه السلام ينزل على محمد صلى الله عليه وآله وسلم على صورة(1) لطيفة يقدر على رؤيتها وعيانها. وصح عندنا أن النبي محمداً عليه السلام رأى جبريل في صورة (( دِحْيَة الكلبي (2) ))، وإنما ذلك خلق احدثه الله فيه، وركبه عليه؛ لما علم من ضعف البشر، وأنهم لا يقدرون على النظر إلى خلق الملائكة؛ لعظيم خلقهم، وجسيم مركَّبهم. فلما علم الله تبارك وتعالى من محمد صلى الله عليه وآله وسلم ذلك ـ ولم يكن جبريل عليه السلام يقدر على تحويل صورته ومركَّبه من حال إلى حال؛ لضعف المخلوقين وعجزهم عن ذلك ـ نقله الله سبحانه على الحالة التي رآه محمد عليه السلام فيها، نظراً منه سبحانه لنبيه صلى الله عليه وآله وسلم، وما فعله الله فليس من فعل خلقه. فلك في هذا كفاية إن شاء الله.
قلت: فهل كان آدم صلى الله عليه طمع في الخلود؛ لما قاسمه (عليه)(3) إبليس على النصح؟ قال: إنما كان ذلك منه صلوات الله عليه طمعاً أن يبقى لطاعة الله ولعبادته، فأراد أن يزداد بذلك قربة من ربه.
قلت: فما معنى قوله: {فَأَكَلاَ مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا}[طه: 121]؟
قال معنى قوله: {بَدَتْ لَهُمَا سَوآتُهُمَا}؛ فهو سوء فعلهما، لا كما يقول من جهل العلم، وقال بالمحال: إن اللّه كشف عورة نبيه وهتكه. وكيف يجوز ذلك على الله في أنبيائه؛ والله لا يحب أن يكشف عورة كافر به؟ فكيف يكشف عورة نبيه؟
__________
(1) في (أ): في خلقةِ صورةٍ.
(2) هو: دحية بن خليفة بن فروة بن فضالة الكلبي، صحابي جليل، نزل المِزَّة، ومات في عهد معاوية.
(3) ليس في (ج).

(2/82)


قلتُ: فقوله (1): {يَنْزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا}[الأعراف: 27] فقال: قد اختلف في ذلك، ورويت فيه روايات. وأصح ما في ذلك عندنا، والذي بلغنا عن نبينا صلى الله عليه وآله وسلم أن لباسهما هو لباس التقوى والإيمان، لا ما يقول به الجاهلون من أنَّه لباس ثياب، أو ورق من ورق الشجر. فهذا معنى قول الله: {يَنْزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا}، وإنما أراد بذلك من قوله: {لِبَاسَهُمَا} أي لباس التقوى، بما سوَّل ووسوس لهما من الكذب والمقاسمة التي سمعها منه.
قلت: فقوله: {وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ}[الأعراف: 22] قال: إنما كانا في الجنة في ظلها وتحت أشجارها، فلما أخرجا منها(2) وأصابتهما الشمس بحرها ورمضاء(3) الأرض، فأرادا أن يجعلا لهما موضعاً يكون لهما فيه ظلال، كما يفعله من خرج من منزله في سفر ونيته إلى غيره من البوادي وغيرها، فلا يجد ظلالاً(4) ولا مسكناً، فلا يجد بداُ من أن يعرش عريشاً يُكنّه، ويستره من الحر، ويقيه من شدة البرد. فهذا معنى قوله: {يَخْصِفَانِ عَلَيهِمَا}.
قلتُ: فالجنة التي كانا فيها، أفي السماء كانت، أم في الأرض؟
قال:هي جنة من جنان الدنيا، والعرب تسمي ما كان ذا ثمار وأنهار جنة.
قلت: فقوله: {اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعاً}!
قال: ذلك جائز في لغة العرب ، ألا ترى أنك تقول: هبطنا نجران، وهبطنا اليمن، ونريد أن نهبط الحجاز. فلما كان ذلك معروفاً في اللغة؛ جاز أن يقول: {اهْبِطُوا مِنْهَا}.
وسألته عن قول الله تبارك وتعالى: {فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيهِ}[البقرة: 37]، ما الكلمات التي تلقاها آدم من ربه؟
__________
(1) في (أ): فكيف ينزع.
(2) في (أ، ج) خرجا.
(3) في (أ، ج): ورمضِ.
(4) في (أ، ج): ظلاً.

(2/83)


قال: قد اختلف فيها، والصحيح عندنا أن الكلمات: هو ما كان الله تبارك وتعالى قد أعلمه؛ بخلق من سيخلقه من ذرية آدم ونسله، وأنه سيكون منهم مطيع ومنهم عاص باختيارهم، وأنه سبحانه يقبل التوبة من تائبهم، إذا تاب وأصلح، وأخلص التوبة وراجع. فلما كان منه ما كان من أكل الشجرة؛ ذكر ما كان الله قد أعلمه من القبول للتوبة؛ فقالا {رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ}.[الأعراف: 23] فهذه الكلمات التي تلقاها آدم من ربه صلوات الله عليه.
[قصة سليمان وخطيئته عليه السلام]
وسألته عن قول الله سبحانه: {وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَداً ثُمَّ أَنَابَ}[ص: 34].

(2/84)


فقال: معنى قوله: {فَتَنَّا سُلَيمَانَ}، يقول: امتحناه، وإنما كان ذلك من أجل ما سألته مَلِكَةُ سبأ؛ من طلبها حين طلبت منه قرباناً تقرب به على ماكانت تفعل في قديم أفعالها، فسألته صلى الله عليه أن يأذن لها في بقرة فلم يجبها، ثم سألته شاة فكره ذلك عليها، ثم طيراً فأعلمها أن ذلك لا يحل لها، فوقعت في صدرها جرادة؛ فقالت: فهذه الجرادة إئذن لي فيها، فتوهم وظن أنها مما لا إثم عليها فيها؛ إذ كانت مما لا يقع عليه ذَكَاة، فسكت ولم يمنعها عن ذلك؛ فقطعت رأس الجرادة وأضمرت أنها قربان. فلما خرج صلى الله عليه يريد أن يتطهر على جانب البحر؛ نزع خاتمه من يده، وكان لا يتطهر حتى ينزع الخاتم من يده، وهذا الواجب على كل متطهر، إذا أراد أن يتطهر من جنابة أو غيرها للصلاة، أن ينزع خاتمه، أو يديره في إصبعه حتى يصل الماء إلى البشر(1) الذي يكون تحته، وينقى من الدرن ما حوله. فلما نزع الخاتم ومضى لطهوره، خرج حوت من البحر فابتلع الخاتم وذهب في البحر، فلما فرغ سليمان من طهوره؛ نظر إلى الموضع الذي كان وضع فيه خاتمه فلم يجده، فعلم أن ذلك لسبب قد أحدثه، وأن الله سبحانه أراد بذلك فتنته، فدعا الريح فلم تجبه، ثم دعا الطير فلم تجبه، ثم دعا الجن فلم تجبه، لما ذهب عنه الخاتم، وإنما كان الخاتم سبباً من الله لملكه قد جعله الله فيه، وبه كان يطاع؛ فعلم سليمان أن العقوبة قد وقعت، ووثب العفريت الملعون على سريره عند ذلك وهو مُلْكُه، فكان يتكلم على شبه كلام سليمان عليه السلام، وهو من وراء حجاب، لا يظهر ولا يرى له شخص، ودعا فلم يجبه إلاَّ الإنس، ومضى سليمان باكياً نادماً على فعله، وجعل يتبع الصيادين على سواحل البحر يخدمهم ويعينهم، وهم لا يعرفونه، ولا يعلمون أنَّه سليمان، فأقام على ذلك وقتاً اختلفت(2) فيه الرواة، فقال بعضهم: أقام أربعين يوماً. وقال آخرون: بل مكث
__________
(1) في (ج): إلى الشعر، وما هنا نخ.
(2) في (ب): وقد اختلفت.

(2/85)


خمسين يوما. وقال قوم: سبعين يوماً، وهذا أكثر ما قيل فيه؛ فجعل يتبعهم ويعمل معهم، ويعطونه في كل يوم حوتين، فيبيع أحدهما فيشتري به خبزاً، ويشوي الآخر فيأكله. فلما علم الله منه التوبة والرجوع، والإنابة والخضوع؛ أراد أن يرد عليه نعمته؛ فانصرف ذلك اليوم ومعه الحوتان (1) اللذان عمل بهما يومه ذلك؛ فشق بطن أحدهما على ما كان يفعل، فإذا بالخاتم قد خرج من بطن الحوت؛ فعرفه عند ذلك؛ فأخذه وشكر الله، وحمده على ما أولاه. ثم دعا الريح فأجابته، وكان قد أَبعد من بلده، فأمر الريح فاحتملته من ساعته إلى موضعه، وهرب اللعين العفريت لما رآه، وقال(2) بعض الرواة: إنَّه كان حبسه، ورد الله على نبيه ملكه، ورجع إليه ما كان الله قد أعطاه، فدعا الطير والريح والجن فأجابته، ودامت نعمته.
قلت: فما الجسد (3) الذي ألقي على كرسيه، هل كان جسماً يظهر ويرى؟
قال: لا، إنما كان الذي يظهر إليهم منه ما يسمعون من كلامه، وكان مستتراً عنهم، فكانوا يظنون أنَّه سليمان. وإنما احتجب عنهم بسبب(4) أمره الله به، أو فعل فعله من نفسه، فلو ظهر لهم لبان أمره عندهم، ولكن تمكن منهم بالتمويه عليهم والمكر لهم.
قلت: فهل نال من الخدم منالاً، أو وصل إليهم بسبب من الأسباب؟
قال: معاذ الله أن يكون نال شيئاً من ذلك أو فعله، غير الذي شرحته لك من كلامه فقط.
[قصة يونس عليه السلام وخطيئته]
وسألته عن قول الله سبحانه: {وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِباً فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيهِ}[الأنبياء: 87].
__________
(1) في (ب، ج): الحوتيان.
(2) في (ج): قال.
(3) في (أ): فالجسد.
(4) في (ج): لسبب.

(2/86)


فقال: أما ذو النون فهو يونس، والنون فهو الحوت. وأما قوله: {إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِباً}؛ فإنما كان ذهابه غضباً على قومه، واستعجالاً منه دون أمر ربه، لا كما يقول الجهلة الكاذبون على أنبيائه ورسله صلوات الله عليهم؛ من قولهم: إن يونس خرج مغاضباً لربه، وليس يجوز ذلك على أنبياء اللّه صلوات اللّه عليه، وإنما كان ذلك كما ذكرت لك، من غضبه على قومه، ومفارقته لهم واستعجاله دون أمر ربه، وهو قوله لمحمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم: {وَلاَ تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نَادَى وَهُوَ مَكْظُومٌ}[ن: 48] وهو يونس، يقول: لا تعجل كعجلته، واصبر لأمري وطاعتي، ولا تستعجل كاستعجاله. فهذا معنى قوله: {إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِباً}. وقوله: {فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيهِ}، أراد بذلك من قوله: {فَظَنَّ} أي أفَظَنَّ أن لن نقدر عليه؟ وهذا على معنى الإستفهام. ولم يكن ظن ذلك صلى الله عليه.
وهذا مما احتججنا به في الألف التي تطرحها العرب وهي تحتاج إلى إثباتها، وتثبتها في موضع وإن لم تحتج إليها، مثل قوله: {لاَ أُقْسِمُ}، وإنما معناها ألا أقسم، وقوله: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ}[البقرة: 184]، فطرح الألف (1) وهو يريدها. ومن ذلك قول الشاعر:
نزلتم منزل الأضياف منا…فعجَّلنا القِرَى أن تشتمونا
وإنما أراد أن لا تشتمونا، فطرح الألف واللام. ومثل هذا كثير في الكتاب، وهو حروف الصفات.
__________
(1) في هامش (ج): فطرح لا، نخ.

(2/87)


فلما صار يونس في السفينة، وركب أهلها واستقلت بهم، وطابت الريح لهم، أرسل الله حوتاً فحبس السفينة، فعلم القوم عند احتباسها أنها لم تحبس بهم إلاَّ بأمر من الله قد نزل بهم، فتشاور القوم بينهم، وتراجعوا القول في أمرهم وما قد نزل بهم وأشفقوا، فقال لهم يونس: يا قوم أنا صاحب المعصية، وبسببي حبست بكم السفينة، فإن أمكنكم أن تخرجوني إلى الساحل فافعلوا، وإن لم يمكنكم ذلك فالقوني في البحر وامضوا؛ فقال بعضهم: هذا صاحبنا،وقد لزمنا من صحبته ما يلزم الصاحب لصاحبه، وليس يشبهنا(1) أن نلقيه في البحر فيتلف فيه على أيدينا ونسلم نحن، ولكن هلموا نَسْتَهِم، فمن وقع عليه السهم ألقيناه في البحر، فتساهم القوم فوقع السهم على يونس، ثم أعادوا ثانية فوقع عليه، ثم أعادوا ثالثة فوقع السهم على يونس فرمى بنفسه، فالتقمه الحوت ومضى في البحر، وكان يونس صلى الله عليه ينظر إلى عجائب البحر من بطن الحوت، وجرت سفينة القوم بهم.
__________
(1) أي يحسن منا.

(2/88)


قال: ولبث يونس صلى الله عليه في بطن الحوت ما شاء الله من ذلك، فاستمط شعره وجلده (1)، حتى بقي لحمة، ومنع الله منه الموت. فلما علم الله توبته، وقد نادى بالتوبة: {أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ}[الأنبياء: 87] فاستجاب له، وتقبل توبته، ورحم فاقته، فأرسل ملكاً من الملائكة فساق ذلك الحوت إلى جزيرة من جزائر البحر، فألقى يونس من بطنه، وقد ذهب شعره وجلده، وذهبت قوته، فرد الله جسمه على ما كان عليه أولاً، من تمام صورته، وحسن تقويمه، وأنبت الله له شجرة اليقطين ـ وهي الدُّبَّا ـ فكان يأكلها، فلما اشتدت قوته، واطمأن من خوفه وإشفاقه، أرسله الله إلى قومه، وكانوا في ثلاث قرى، فمضى إلى أول قرية فدعاهم إلى اللّه وإلى دينه، فأجابه نصفهم أو أكثر من النصف، وعصاه الباقون، فسار بمن أطاعه إلى العصاة لأمره، فحملهم عليهم وقاتلهم، فقتلهم وأبادهم، وسار إلى القرية الثانية فدعا أهلها، واعذر إليهم وأنذرهم، فأجابه منهم طائفة، فحمل المطيع على العاصي فقتلهم وأبادهم. ثم سار إلى القرية الثالثة وكانت أعظمها وأشدها بأساً ومنعةً، فدعاهم إلى الله، وأعذر إليهم، وأنذر وحذر ما حل بإخوانهم، فلم يجبه منهم أحد، واستعصموا على كفرهم؛ فسار إليهم وخرجوا إليه، فحاربهم فلم يقدر عليهم، فلما كان بعد وقتٍ، وعلم الله منه الصبر على ما أمره به من طاعته، والإعذار إلى خلقه؛ أمر الله جبريل صلى الله عليه فطرح بينهم ناراً، ثم أرسل الرياح فأذرت النار عليهم، وعلى منازلهم ورجالهم، فأحرقتهم جميعاً ودمرتهم.
فهذا ما سألت عنه من خبر يونس عليه السلام.
[قصة أيوب عليه السلام]
وسألته عن قول أيوب صلى الله عليه: {إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ}[ص: 41].
فقال: معنى قوله: {مَسَّنِى}؛ فهو ما كان من كلامه ووسوسته له.
__________
(1) أي ذهبا وتفسّخا.

(2/89)


وذلك أن أيوب صلى الله عليه قد كان جعل ضيافة أضيافه إلى امرأته، فأتاه إبليس اللعين فقال: يا أيوب إن امرأتك قد فضحتك اليوم في أضيافك، فأتاها فقال: ما الذي حملك على أن تفضحيني في أضيافي؟ أقسم لأضربنك مائة ضربة بالعصا. فلما همَّ بالذي أقسم به من ضربها؛ أتاه الملعون إبليس فقال: يا أيوب سبحان الله، أيحل لك أن تضرب امرأة ضعيفة، لم تجرم جرماً، ولم تأت قبيحاً، ولم تفعل أمراً تستحق به منك ضرباً، وليس لها قوة على ضربة واحدة، فكيف مائة ضربة، فلا تهلكها، وتأثم بربك في أمرها؟! فلما تركها وكف عنها(1) أتاه من موضع آخر؛ فقال: يا أيوب سبحان الله كيف يحل لك أن تقعد عنها، وقد حلفت لتضربنها، ولا ترجع عن يمينك، ولا تأثم بالله ربك؟! فلما رجع إليها ليضربها(2)؛ أتاه بالوسوسة على مثل ما أتاه(3) أولاً، فلم يزل يفعل كذلك حتى دخله الغم، وعظم عليه الأمر؛ فانقلب على ظهره وجعل يفكر وينظر، وخالطه من الوسوسة ما غلبه على أمره، فلم يزل كذلك حتى تَقَرَّح ظهره، ولزمه المرض العظيم، واشتد به (4) الأمر، وتمادت به العلة، وذهبت ما شيته، وافترق ماله، ومات أولاده، ومرضت المرأة من الغم والحزن. فلما رأى ذلك من كان معه في المنزل؛ أخرجوه صلى الله عليه إلى ناحية منه على خط الطريق، وليس يقدر أن يرفع يداً ولا رجلاً، واشتد(5) به البلاء، وهو مع ذلك صابرٌ محتسب. فلما كان يوماً (6) من الأيام مضى به نفر، فلما رأوه ونظروا إلى ما هو فيه من عظم البلاء وشدة النتن؛ قالوا: والله لو كان هذا ولياً لله لأجابه، ولكشف ضره، ولما أصابه شيء من هذا؛ فلما سمع ذلك من قولهم: {نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ}؛ فجاز أن يقول: مسني الشيطان، لما أن كان ذلك من
__________
(1) في (ب): وعفى عنها.
(2) في (ج): ليضربنها.
(3) في (ج): الذي أتاه.
(4) في (أ، ج): وشد به.
(5) في (أ، ج): وشد.
(6) كذا في النسخ، ولعلها على حذف الجار.

(2/90)


وسوسته، وكيده وسببه؛ فاستجاب الله له فقال: {ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ}[ص: 42]، ولم يقدر أن يرفع يداً ولا رجلاً؛ فضرب بعقبه فانبثقت عليه عين؛ ففارت(1) وارتفعت حتى كانت أكبر من جلسته، فجعلت تنسكب عليه وهو يغتسل بمائها وهي تقلع عنه كل ميت، وتنقي عنه ما كان به من الأقذار، وتميط عنه الأذى، وجعل يشرب منها ويخرج ما في جوفه من العلة، حتى نَقِيَ بدنه ورجع إلى أفضل ما كان عليه أوَّلاً، وردالله عليه أهله وماله، وأمره أن يأخذ ضغثاً فيضرب المرأة كفارة اليمين التي حلف، فقال بعض الرواة: إنَّه أخذ من هذا الذي يكون فيه التمر فجمع منه مائة غصن(2) فضربها به ضربة. وقال بعضهم: إنَّه ضربها به ضربتين. واختلف في ذلك، غير أن الصحيح من ذلك أنَّه قد جمع ضغثاً فضربها به.
قلت: فإبليس كيف كان إتيانه إلى أيوب صلى الله عليه؟
قال: لم يره عياناً، وإنما سمع كلامه ولم ير شخصه. وقد قال بعض الجهلة: إنَّه تصوّر له في صورة غير صورته، وليس ذلك كما قالوا، وكيف يقدر مخلوق أن يغير خلقته، ويحول نفسه صوراً مختلفة؟! وليس يقدر على ذلك إلاَّ الله رب العالمين، الذي خلق الصور والأجسام، ونقلها من حال إلى حال، فسبحان الله رب العرش(3) عما يصفون، ولا إله إلاَّ هو الرحمن الرحيم.
[قصة يوسف عليه السلام مع امرأة العزيز]
وسألته عن قول الله سبحانه في يوسف صلى الله عليه، من قوله: {وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَولاَ أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ}[يوسف: 24]؛ كيف كان همها به؟ وكيف هم بها؟
فقال: كان همها هي هم شهوة ومراودة، وكان همه بها هم طباع النفس والتركيب.
ألا ترى أنك إذا رأيت شيئاً حسناً أعجبك، وحسن في عينك، وإن لم تهم به لتظلمه، وتأخذه غصباً من أهله؟
__________
(1) في (ب): فثارت.
(2) في (ب): عصل.
(3) في (ب): رب العالمين.

(2/91)


وكذلك إذا رأيت طعاماً طيباً أولباساً حسناً أعجبك، وتمنيت أن يكون لك مثله، وأنت لا تريد بإعجابك به أخذه، ولا أكله إلاَّ على أحل ما يكون وأطيبه، ولم ترد بقولك إنك تأكله أو تلبسه أو تنكحه إلاَّ حلالاً؟
قلت: بلى. قال: فكذلك كان هم يوسف صلى الله عليه في زوجة الملك.
قلتُ: قد سمعنا بعض الرواة يذكر أنَّه منع يوسف عليه السلام من إتيانها انه رأى يعقوب صلى الله عليه كأنه يزجره عنها ويخوفه.
قال: قد قيل فيه شبيه من ذلك، وليس القول فيه كذلك، وحاش لله أن ينسب ذلك إلى نبي (من أنبياء)(1) الله. قلت: فقد كان يروى لنا ذلك بين الملأ، ويتحدث به في المساجد. قال: قد ذكر ذلك، جلَّ اللهُ عن كل ما يقول فيه الملحدون، وينسب إليه الضالون. وليس قولهم هذا في أنبياء الله، وروايتهم الكاذبة عليهم؛ بأعظم من كذبهم وجرأتهم على الله، سبحانه وتعالى عما يقول الظالمون علواً كبيراً. ألا ترى كيف شبهوه بالأشياء من خلقه، وجعلوه جسماً ذا أعضاء وأجزاء مختلفة؟ فتعالى عن ذلك من ليس كمثله شيء.
ولقد ناظرت رجلاً ممن ينتحل التشبيه؛ فألزمته أن يقول: إن الله مخلوق، أو ينفي عنه التشبيه؛ فاختار أن يجعله مخلوقاً وكره أن ينفي عنه التشبيه. فهذا أعظم الأمور، وأقبح الأقاويل كلها.
__________
(1) ليس في (أ، ج).

(2/92)


قلت: فالبرهان الذي رآه يوسف صلى الله عليه ما هو؟ قال: هو ما جعل الله فيه من علمه، وخصه به من المعرفة به، والخوف في علانيته وسره. وإنما كان ذلك ابتداءً منها، ومراودة له على نفسه. كان من قولها له: أن يا يوسف إن لم تأتني أتيت أنا إليك، فقال: معاذ الله من ذلك، فقامت فأرخت ستراً كان على باب البيت، وكان في البيت صنم لها تعبده من الذهب له عينان من ياقوتتين حمراوين، فكانت تستحييه (1) وتعبده، فقال لها يوسف صلى الله عليه: لم أرخيت هذا الستر؟ فقالت: إني خفت أن يراني(2) هذا الذي في البيت، فأرخيت الستر حياءً منه، وإجلالاً له. فقال لها: فإذا كنت أنت تستحيين من صنم لا يبصر ولا يسمع، ولا يضر ولا ينفع؛ فكيف لا أستحيي أنا من الذي خلقني وخلقك، وخلق هذا الذي تخافين، ومنه تستحيين؟ بل أخاف وأستحيي الذي خلقني وخلقكم(3) وهو خالق السموات والأرضين. ثم نهض منها هارباً بنفسه، فلحقته إلى باب الدار فقدت قميصه، {وَأَلْفَيَا سَيَّدَهَا لَدَى البَابِ}، وهو زوجها الملك، وذلك أنهم كانوا يسمونه السيد لموضعه عندهم، ورفعته فيهم، فقالت له: {مَا جَزَاءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءاً إِلاَّ أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ قَالَ} ـ يوسف :ـ {هِيَ رَاوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي}[يوسف: 25 ـ 26]، فتحير الملك واشتبه عليه الأمر، وكثر فيه القول. فذكر بعض الرواة أن الذي حكم في ذلك صبي صغير كان في المهد، واختلف فيه، والذي صح عندنا في ذلك أنَّه كان صبياً قد عقل، وهو من أبناء خمس سنين أو شبيه بها، فأتي به إلى الملك فقال: {إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ} هي فيما ذكرت، من مراودته لها عن نفسها، {وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ} هي فيما ادعت، {وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ} في قوله، ومراودتها له عن نفسه، فأتي بالقميص إلى الملك؛
__________
(1) في (ب، ج): تستحسنه.
(2) في (ب): يرانا.
(3) في (ج): وخلقك.

(2/93)


فنظر إليه فإذا هو مقدود من دبره؛ فقال: {إِنَّهُ مِنْ كَيدِكُنَّ إِنَّ كَيدَكُنَّ عَظِيمٌ}[يوسف: 26ـ 28]. ثم بدالهم من بعد ذلك فألقي في السجن، وكان في السجن رجلان من خدم الملك؛ فلما كان من إعلامه لهما بتأويل رؤاياهما على الحقيقة بعينها، فلما رأى الملك رؤياه؛ أتى أحد الرجلين إلى يوسف فقص عليه ذلك؛ فأخبره بتأويله، فلما انتهى ذلك إلى الملك؛ بعث(1) إلى النسوة يسألهن عن خبره؛ فـ{َقَالَتِ امْرَأَةُ العَزِيزِ الآنَ حَصْحَصَ الْحَقَّ أَنَا رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ} فيما تبرأ منه وأنكره؛ {ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالغَيْبِ وَأَنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلاَّ مَا رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ}[يوسف: 51 ـ 53]. فهذا ما كان من خبره عليه السلام.
[قصة داود عليه السلام ومحنته]
وسألتُه عن قول الله سبحانه: {وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ} إلى قوله: {فَخَرَّ رَاكِعاً وَأَنَابَ}[ص: 21 ـ 24].
__________
(1) في (ب): وبعث.

(2/94)


فقال: هذا خبر من الله سبحانه عما نبه به نبيئه داود صلى اللّه عليه في أمنيته من نكاح امرأة (( أوريا ))، وذلك أنه لما سمع الطير أشرف به الطير على رأس جدار، فأشرف داود ينظر أين توجه الطير، فوقعت عينه على امرأة(1) (( أوريا )) وهي حاسر؛ فرأى من جمالها ما رغبه فيها؛ فقال: لوددت أن هذه في نسائي، ولم يكن منه غير هذا التمني. وكل ما يروى عليه صلى اللّه عليه من سِوى ذلك فهو باطل كذب، فلما أن تمناها نبهه اللّه عز وجل وعاتبه في السر، وقد أعطاه أكثر من حاجته، فبعث إليه ملكين، فتمثلا له في صورة آدميين؛ فتسورا عليه من المحراب وهو يصلي، فدخلا عليه ففزع منهما، وظن أنها داهية قد دهته، وعدو قد هجم عليه في محرابه في وقت خلوته؛ فقالا له: {لاَ تَخَفْ خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ فَاحْكُمْ بَينَنَا بِالْحَقِّ وَلاَ تُشْطِطْ وَاهْدِنَا إِلَى سَوَاءِ الصِّرَاطِ}[ص: 22]؛ يريدان (2) {لاَ تُشْطِطْ}، أي لا تَمِلْ إلى أحدنا فتشطط على الآخر. ومعنى {تُشْطِطْ}؛ فهو: تشدد على أحدنا في غير حق، {سَوَاءِ الصِّرَاطِ} وسواء الصراط فهو: معتدله ومستقيمه، ووسطه وقَيِّمه. والصراط فهو: طريق الحق ها هنا وأَوْضَحه. وكان لداود صلى الله عليه تسع وتسعون منكحاً من الحرائر والإماء، وكان لأُوريا هذه المرأة وحدها، فمثلا أنفسهما لداود بداود وأوريا، فقال أحدهما: {إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا} ومعنى: {أَكْفِلْنِيهَا} فهو: أتبعنيها وردنيها إلى نعاجي، {وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ}[ص: 23] يقول شطني في الطلب، وألح في تمنيها وطلبها؛ وذلك أنها لم تكن تسقط من نفس داود من يوم رآها، يتذكرها ويتمناها؛ فقال داود صلى الله عليه: {لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ الْخُلَطَاءِ
__________
(1) في (ج): مرأة.
(2) في (ب): يريد.

(2/95)


لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَا هُمْ}[ص: 24]؛ فلما قال هذا لهما تَغَيّبا من بين عينيه، فإذا به لا يبصرهما ولا يراهما، فعلم عند ذلك الأَمرَ كيف هو، وأنهما ملكان، وأن الله بعثهما إليه لينبهاه من غفلته، ويقطعا عنه بذلك ما في قلبه؛ من كثرة تذكره مرأة (أوريا)(1) صاحبه، فأيقن أنها فتنة من الله، والفتنة هاهنا فهي المحنة. ومعنى: {ظَنَّ دَاوُدُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ}؛ فهو أيقن داود بذلك من الله، {فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعاً وَأَنَابَ} إليه من ذلك التمني والذكر لهذه المرأة، فلم يذكرها بعد ذلك اليوم حتى زوجه الله إياها حين أراد تبارك وتعالى، بعد أن اختار لأوريا الشهادة فاستشهد وصارت إليه، فمن بعد ذلك زوج اللّه داود مرأة أوريا، وبلغه أمله، وأعطاه في ذلك أمنيته، فجاءه ذلك وليس في قلبه لها ذكر، ولا إرادة ولا تَمَنٍّ.
ولم يكن لداود صلى الله عليه في أوريا ولا قتله شيء مما يقول المبطلون؛ من تقديمه في أول الحرب، ولا ما يذكرون من طلبه وتحيّله في تلفه بوجه من الوجوه، ولا معنى من المعاني، كذب العادلون بالله، وضل القائلون بالباطل في رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فهذا تفسير الآية ومخرج معانيها.
[إبراهيم عليه السلام وآية إحياء الموتى]
وسألته عن قول إبراهيم صلوات الله عليه: {رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قَالَ أَوَ لَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي}[البقرة: 260].
__________
(1) ليس في (أ، ج).

(2/96)


قال: إنما أراد بذلك صلى الله عليه أرني آية، أَزْداد بها علماً وبصيرة، وأعرف سرعة الإجابة لي منك، حتى يثبت ذلك عندي، ويقر في قلبي معرفة من ذلك، فأمره الله سبحانه أن يأخذ أربعة من الطير، وأن يجعل على كل جبل منهن جزءً، ثم أمره أن يدعوهنّ(1)، ليريه من عجيب قدرته، وشواهد حكمته؛ ما يزداد به معرفة في دينه، ويثبت عنده علم ما سأل عنه من آيات ربه، فأراه اللّه ذلك فازداد بصيرة وإيقاناً، ومعرفة وبياناً.
[موسى عليه السلام وطلب النظر إلى ربه]
وسألتُه عن قول موسى صلى الله عليه: {رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيكَ}[الأعراف: 143].
__________
(1) في (ج): يدعيهن.

(2/97)


قال: معنى قوله: {أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيكَ}؛ فهو: أرني آية من عظيم آياتك، أنظر بها إلى قدرتك، وأزداد بها بصيرة في عظمتك وقدرتك، فقال: {لَنْ تَرَانِي}، يقول: لن تقدر على نظر شيء من عظيم الآيات؛ التي لو رأيتها لضعف جمسك، ولطف مركبك ولأهلكتك، ولما قدرت على النظر إليها لعجزك وضعف مركبك، {وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى} هذا {الْجَبَل}؛ الذي هو أعظم منك خلقاً، وأكبر منك جسماً؛ {فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ} إذا أريته بعض ما سألتني أن أريكه؛ {فَسَوفَ تَرَانِي}، يقول: فسوف ترى ما سألت من عظيم الآية، ولن تقدر على ذلك أبداً، ولا تقوم له أصلاً، {فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكّاً}، معنى {تَجَلَّى رَبُّهُ}؛ أي أظهر آيته، وأبان قدرته؛ جعله دكاً، {وَخَرَّ مُوسَى صَعِقاً}؛ يقول: مغشياً ميتاً؛ لما رأى من الهول العظيم الذي لا يقدر على رؤيته لعجزه وضعفه؛ وإن كان الذي أظهره الله وأبانه (1) من لطيف آياته، فجاز أن يقول: {تَجَلَّى رَبُّهُ}؛ لما كان ذلك من فعله وتدبيره، وأمره وإرادته. وهو كقوله: {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الغَمَامِ}[البقرة: 210]؛ يقول: تأتيهم الآيات، ومايريد أن يُحِلَّ بهم من العذاب والنقم والآفات. وقوله: {وُجُوهٌ يَومَئِذٍ نَاضِرَةٌ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ}[القيامة: 22 ـ 23] فمعنى قوله: {نَاضِرَةٌ}؛ يقول: نضرة مشرقة حسنة، وهذا معروف في اللغة والبيان، تقول العرب للرجل إذا أرادت له خيراً: نضر اللّه وجهك، وقوله: {إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ}، أي ناظرة لثوابه، وما يأتيهم من خيره وفوائده، ومن ذلك ما تقول العرب: قد نظر اللّه إلينا، وقد نظر الله إلى بني فلان إذا أصابهم الخصب بعد الجدب، والرخاء بعد الشدة. وإنما أراد بذلك أن الله قد رحمهم وأتاهم بالنعمة، {فَلَمَّا أَفَاقَ} موسى صلى الله عليه، {قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ
__________
(1) في (ج): وأتى به.

(2/98)


إِلَيكَ وَأَنَا اَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ}[الأعراف :143]، يقول: لو ابتليتني وأريتني وأظهرت لي من بعض ما سألتك، مما أهلكت به الجبال الراسية لما قام لها جسمي، ولأهلكتني بقليلها، ولما احتمل ذلك لطيف خلقي، وضعف مركبي، أنظر إلى عظيم ما ذهبت به الجبال الراسية، فلك الحمد على ما صرفت عني من ذلك، رحمة منك بي، وتفضلاً علي، وزيادة وإحساناً إلي.
فهذا معنى قوله: {أَنْظُرُ إِلَيكَ}، لا ما ذهب إليه من جهل وزعم أن الله يرى، سبحانه وتعالى عن ذلك علواً كبيرا. كيف وهو يقول في كتابه: {لاَ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ}[الأنعام: 103]؟!
[آيات موسى التسع]
وسألته عن قول الله سبحانه: {وَلَقَدْ آتَينَا مُوسَى تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ}[الإسراء: 101] ما الآيات التي آتاه الله؟
فقال: العصى التي تلقف ما يأفكون.
ومنها: اليد البيضاء، وهو قوله: {اَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيرِ سُوءٍ}[النمل: 12].
ومنها: الكلام الذي سمعه من الشجرة.
ومنها: الكلام الذي سمعه من النار.
قلت: وما سمع منها؟
قال: قول الله في كتابه: {فَلَمَّا جَاءَهَا نُودِيَ أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَولَهَا وَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ العَالَمِينَ}[النمل: 8].
قلت: فما معنى قوله: {أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَولَهَا}؟
قال: أما قوله: {مَنْ فِي النَّارِ}؛ فإنما أراد بذلك ما سمع من الكلام في النار، وأما قوله: {وَمَنْ حَولَهَا}؛ فهو من حضر من الملائكة حول النار.
ومنها: الحجر التي كان يحملها على حماره من مكان إلى مكان، وكانت حجراً مُلَمْلَمةً لا صدع فيها، فكان إذا احتاج إلى الماء ضربها بالعصى، فانبجست بالعيون، ثم يدفنها فيخرج الماء من كل جانب منها، فإذا استغنى هو وأصحابه أخرجها؛ فرجعت على حالتها أولاً ثم حملها معه.

(2/99)


ومنها: البحر الذي ضربه بالعصى فانفلق، حتى سار في وسطه هو وأصحابه بأمر الله سبحانه، حتى خرج آخر أصحابه، ودخل آخر أصحاب فرعون تبعاً لموسى وقومه، فأغرق الله فرعون وقومه، ونجى نبيه عليه السلام والمؤمنين.
ومنها: طور سيناء.
وقد قيل والله أعلم: إن من الآيات التي آتاه الله: الجراد، والقمل، والضفادع، والدم، ولا ندري ما صحة ذلك، غير أن الصحيح ما ذكرت لك أولاً، وهو بَيِّنٌ نيّر.
[معنى قوله: {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ}]
وسألته عن قول الله سبحانه: {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} [الصافات: 96]. قال: الذي عنى بذلك سبحانه فهي: الحجارة التي ينحتونها أصناماً، ويعملونها لهم آلهة، وما أشبه ذلك من الأنصاب التي يعبدونها. فهذا معنى: {وَمَا تَعْمَلُونَ}، فالله خلقهم ومفعولهم، ولم يخلق سبحانه فعلهم، والمفعول(1) فهو: الصنم الذي ينحتونه من الحجارة، وفعلهم فهو: الحركة التي كانت منهم، من الرفع والوضع والنحت، فالله(2) خلق الحجر الذي عملوه صنماً، ولم يخلق الفعل الذي كان منهم في نحت الحجر.
[محمد صلى اللّه عليه وآله هل كان متعبداً قبل النبوة؟]
__________
(1) في (ب): والمعقول. وهو تصحيف.
(2) في (أ، ب): والله.

(2/100)


وسألته صلوات الله عليه عن محمد صلى الله عليه، ما كان عمله قبل أن يتنبأ؟ وهل كان على شريعة عيسى صلى الله عليه أم لا؟ فقال: سألت عن أمر محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وإنما كان على ما كان عليه الأنبياء من قبله، منذ خلق الله آدم إلى أن بعث الله محمدا صلى الله عليه؛ من الإقرار بالله، والتوحيد له، والتعظيم، والإجلال، والمعرفة به، وبعدله ، وأنه ليس كمثله شيء، وأنه خالق كل شيء سبحانه وتعالى، وكان مقراً بالأنبياء كلهم، غير جاحد لنبوتهم. وكان صلى الله عليه ينظر ما يأتي به أهل الكتاب من عظيم محالهم، وقبيح فعالهم؛ الذي ذكره الله سبحانه عنهم، وذمهم عليه، فكان ينكر فعلهم، ويذم جرأتهم على ربهم، ولم يكن صلى الله عليه يقرأ التوراة ولا الإنجيل، ولا يحسن ترجمتهما، وكان يعيب أفعال الذين يقرأونهما؛ لما يأتون به من الأمر الذي لايرضاه الله، ويستنكره عقله صلى الله عليه وآله وسلم، ولم يكن معهم على شريعتهم،وكان في أصل المعرفة بالله كمعرفة عيسى صلى الله عليهما، مقراً عالماً بأن كل ما جاء به موسى وعيسى حق صلى الله عليهم جميعاً.
[تفسير: لاحول ولاقوة إلا بالله]
وسألته عن تفسير: {لاَ حَوْلَ وَلاَ قُوَّةَ إِلاَّ بِاللَّهِ}.
[وتفسيرها] فهو: لا حول ولا محال، ولا إدبار ولا إقبال، إلاَّ بالله. ومعنى إلاَّ بالله؛ فهو: إلاَّ بتمكين عباده، وذلك الحول بما جعل فيهم من الاستطاعة(1)، ولا مقدرة على شيء من الأشياء؛ إلاَّ بما جعل الله من ذلك في تلك الأعضاء، وأعطى خلقه في كل ذلك من الأدوات والأشياء؛ التي تكون فيهم بها القوة والحول، وينالون بوجودها ما يحبون من فعل وطول.
[تفسير العرش والكرسي]
وسألته عن تفسير العرش والكرسي.
__________
(1) في (ب): بما جعل من استطاعة.

(2/101)


فقال: معناهما واحد، وهو الملك الذي علا كل شيء ملكه واقتهاره، ألاتسمع كيف يقول سبحانه، إن كل شيء من الأشياء، من الأرض والسماء؛ في عرشه وكرسيه؛ فقال: {وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَلاَ يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ العَلِيُّ العَظِيمُ} [البقرة: 255]؟ فأخبر أن الكرسي الذي هو العرش واسع على السموات والأرض، وإذ قد وسعهما بشهادة الله سبحانه فقد دخلتا فيه، وحازهما وأحاط بهما، فإذا كان ذلك بقول الله سبحانه؛ فهما فيه لا هو فيهما، وهو المحيط بهما لا هما المحيطان به.
وإذ قد كان ذلك كذلك فقد بطل ما يقول الملحدون، وزال ما يصف المشبهون، وثبت ما يقول الموحدون؛ من أن العرش هو الملك، والإحاطة من الله سبحانه، فنفاذ (1) الإرادة، ومضي المشيّة؛ في السموات والأرض وما فيهن، وأن ملكه المحيط بهن وعليهن، والمحيط بهن فهو كرسيه وعرشه.
[الرجل يدعي معرفة ما يكفيه من العلم]
وسألته عن الرجل يقول: قد فهمت وعرفت ما افترض الله علي، فأنا أكتفي باليسير، ولا أتعب نفسي بتعليم الكثير، وأنا أقوم بحلال الله وحرامه، فهذا يجزيني عن طلب غيره من العلم.
الجواب في ذلك: أن الله عزَّ وجل لم يغفر لأحد بالجهل، فالواجب عليه أن يكون عمره كله في طلب الخروج من الجهل إلى العلم، وفي ذلك ما يقول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (( اغد عالماً، أو متعلماً، ولاتكن الثالث(2) فتهلك ))؛ يعني الممسك عن طلب العلم.
[تسليم الجباية للظالم قسراً مع عدم التمكن من الهجرة عن بلده]
وسألته عن رجل ساكن في بلدة وقد تولى أمر البلد سلطان ظالم، والسلطان يقتضي (3) منه جباية بغير طيبة من نفسه، وهو يخاف إن خرج من البلد على نفسه التلف.
__________
(1) في (ب، ج): ونفاذ.
(2) في (أ، ج): الآخر.
(3) في (أ): يقبض.

(2/102)


الجواب في ذلك: إن كانت مخافته على نفسه مخافة أن يجوع في الأرض، أويعرى، أو يتلف إذا خرج من تلك البلدة؛ فليس هذا له بعذر؛ لأن الله عزَّ وجل يرزقه في بلده وغيرها.
وإن كان يخاف أن يظفر به سلطان بلده فيقتله إن خرج، ولم تكن له حيلة في الإنسلال عنه، وكان لا محالة واقعاً في يده إن خرج؛ فله في ذلك العذر، إلى(1) أن يأتيه الله عزَّ وجل بفرج، وإن قدر وأمكنه أن لا يَعْمَل عملاً يأخذ منه فيه السلطان فليفعل.
[معنى قوله تعالى: تؤتي الملك من تشاء.. الآية]
وسألته عن قول الله سبحانه: {تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ} [آل عمران: 26].
والملك ها هنا الذي يؤتيه من يشاء؛ فهو جبايات الدنيا وأموالها، والذين يشاء أن يؤتيه إياهم؛ فهم: الأنبياء، ثم الأئمة من بعدهم، والذين يشاء أن ينزعه منهم؛ فهم: أعداؤه؛ من جبابرة أرضه. ومعنى: {تُؤْتِي الْمُلْكَ}؛ فهو: الحكم بالملك لهم صلوات الله عليهم، فمن حكم الله له بالنبوة أو بالإمامة حكماً، وأوجب له الطاعة على الأمة باستحقاقه لذلك الموضع إيجاباً؛ فقد أتاه الملك؛ لأن الملك هو: الأمر والنهي، والجبايات والأموال التي تقبض، التي بها قوام العساكر، واتخاذ الخيل، والرجال، والسلاح، من جميع أداة الملك، فمن أجاز الله له قبض جبايات الأرض، وإقامة أحكامها وحدودها، وأوجب له الطاعة على أهلها؛ فقد آتاه الله الملك حقاً، أولئك هم السابقون بالخيرات صلوات الله عليهم، ومن لم يحكم له بشيء من ذلك، ولم يجزه له، ولم يطلق يده، ولم يوجب له الطاعة على أحد من خلقه، فقد نزع الله ملك أرضه منه، وأبعده عنه، أولئك أعداؤه، وجبابرة أرضه، الحاكمون بغير حكمه، المغتصبون لما جعل الله سبحانه لأوليائه المنفذين لما حكم به في خلقه وبلاده، أولئك يأكلون في بطونهم ناراً وسيصلون سعيراً.
__________
(1) في (ب): إلا.

(2/103)


فسبحان من لم يقض بشيء من ذلك لأعدائه، ولم يؤثر غير أوليائه.
وفي نفي الحكم منه بشيء من ذلك لأعدائه، ما يقول لنبيه إبراهيم صلى الله عليه: {لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ}[البقرة: 124]، والعهد فهو: العقد بالإمامة، والحكم لهم بالطاعة. ومعنى: {لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ}؛ فهو: لا يبلغهم، ولا يجيزهم (1).
روي عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنَّه قال: (( اللوح علم الله، وكرسيه علمه، اللوح علم الله الذي وسع كل شيء؛ مما كان(2) أو سيكون )).
تم ذلك والحمد لله وحده وصلواته على رسوله سيدنا محمد النبي وعلى آله وسلم تسليماً.
****
__________
(1) في (أ): تم ذلك وصلى اللّه على محمد وآله وسلم.
(2) في (ج): ما كان.
(3) في (أ): بسم اللّه الرحمن الرحيم الحمدلله رب العالمين، وصلى اللّه على محمد النبي وآله وسلم.

(2/104)


جواب مسألة النبوة والإمامة
m (3)
قال أبو القاسم محمد بن الهادي إلى الحق رضي الله عنه:
سألت أبي صلوات الله عليه عن الحجة والدليل على نبوءة الأنبياء، وإرسال الله لهم تبارك وتعالى، وعن الدليل على إقامة الأوصياء أوصيا الأنبياء، وثبات حجتهم على الأمة، وعن ثبات الإمامة لمن ثبتت له من الأئمة، وبأي سبب ثبتت بها طاعته، وعلى البرية وجبت؟
فقال: سألت يا بني حاطك الله وهداك رشدك ووفقك؛ عن مسألة هلك فيها خلق من المتكلفين، وحار عن فهمها كثير من المتكلمين؛ فقال من ضل عن الحق، وتكمه في ذلك عن طريق الصدق: إن إمامة الإمام تثبت بإجماع الناس عليه، وحسن رأيهم فيه. وليس ذلك كذلك، بل تثبت الإمامة لمن حكم الله له بها، وقلده بحكمه إياها.
وكذلك القول في الأنبياء، فالنبي من تنباه الرحمن، وبعثه بالهدى والإحسان؛ إلى جميع الإنسان، فأقام معه الشرائع والبرهان.
وكذلك الأوصياء، لا تثبت وصاة نبي إلى وصي حتى تثبت له في ذلك حقائق الصدق، ودلائل براهين الحق.
قلتُ: وما هذه البراهين والدلالات؛ التي حار فيها كثير من أهل المقالات، وتكلم فيها بالأمور العظيمات المعجبات؟
قال: قد سألت فاستقصيت، فافهم ما نقول، وما إليه قولنا يؤول.
ثم اعلم أنَّه لا تثبت نبوءة نبي في قلوب العالمين، ولا يستدلّ عليها أحد من التابعين، ولا تثبت وصية الوصي، ولا حجة بحق(1) مضي، ولا تثبت إمامة إمام، ولا تجب طاعته على أهل الإسلام؛ إلاَّ باستحقاق وعلامات، وشرائع ودلالات، وعَلَم قائم، ودليل يدل على أنَّه هو صاحب ذلك المعنى، والمتولي لجميع هذه الأشياء.
فأما استحقاق الأنبياء صلوات الله عليهم للنبوَّة؛ فهو بالطاعة منهم لله، والاجتهاد منهم في مرضاة الله، والنصح لعباد الله(2)، فإذا علم الله من ضميرهم أنهم إن بعثوا كانوا كذلك، وإن أمروا قاموا لله بذلك؛ أمرهم سبحانه حينئذٍ ونهاهم، وبعثهم واجتباهم، ثم أبان معهم العَلَم والدليل، الذي يدل على أنهم رسل مبعوثون برسالته إلىخلقه، مبشرين، ومنذرين، مخوفين لعذابه، مبشرين بثوابه، هادين إلى طريق سبله(3)، {لَيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ} [الأنفال: 42].
وعَلَم الأنبياء ودليلها فهو ما جاؤا به من المعجزات، وأظهروه للخلق من العلامات؛ الشاهدات على أنهنَّ من عند الرحمن؛ اللواتي لا ينالهن ولا يطيق إيجادهنَّ أحد من الإنسان.
__________
(1) في (أ، ج): لحق.
(2) لعل من ظاهر هذا الكلام أخذت (المطرفية) ما ينسب إليها من القول بأن النبوة تأتي جزاء على العمل، وليس لهم فيه مأخذ؛ إذ هو في سياق بيان أن النبوة والإمامة لاتكون بالإختيار من الناس، وإنما تكون بالاختيار من اللّه لمن سبق في علمه أنه يطيعه إذا بعثه، وذلك واضح.
(3) في (أ): سبيله.

(2/105)


مثل ما جاء به موسى عليه السلام؛ من ادخاله يده في جيبه (فخرجت بيضاء من غير سوء. ومثل ما جاء به من انقلاب العصا إلى خلق حيّة)(1)، وغير ذلك من باقي التسع الآيات، وغير ذلك مما كان يأتي به من الدلائل المعجزات والعلامات.
ومثل ما جاء به عيسى صلى الله عليه؛ من التكلم في المهد، ومن إحياء الموتى وإبراء الأكمه والأبرص بإذن الله، وغير ذلك من علاماته، مما نكره التطويل بذكرها، وقد يجزي ذكر قليلها عن كثيرها.
ومثل ما جاء به محمد صلى الله عليه وآله وسلم من معجزاته الهائلات، وأموره الناطقات، وأسبابه الشاهدات؛ بالنبوة والرسالات. مثل: مجيء الشجرة إليه ورجوعها إلى موضعها، وإنباء الناس بما في صدورهم، وإعلامهم بما في ضميرهم، وذلك من إنباء الله له بذلك، وإعلامه إياه به. ومثل ما كان من فعله في شاة أم معبد ،وما كان منه من الفعل في التمرات من غداء جابر بن عبد الله، وذلك أنَّه أخذ كفاً من تمر، فوضعه في وسط ثوب كبير، ثم حرّكه ودعا فيه؛ فزاد ورَبَا، حتى امتلأ الثوب تمراً. وما كان منه في عشاء جابر بن عبد الله، صاع من شعير وعناق صغيرة أكل منها ألف رجل. وما كان منه في الوشل الذي ورده هو والمسلمون في غزوة تبوك )) فوضع يده تحت الوشل، فوشل فيها من الماء ملؤها، ثم ضربه ودعا فيه، فانفجر بمثل عنق البعير ماءً، فشرب العسكر كله معاً، وتزودوا ما شاؤا من الماء. وغير ذلك مما نكره التطويل من معجزاته(2)؛ لأنَّه مفهوم معروف عند أهل العلم.
فكانت هذه المعجزات مع ما ذكرنا من أسباب الإستحقاق من عَلَم النبوة، والدليل على نبوة الأنبياء، وبَعْث الله لهم في البريَّة تبارك وتعالى.
__________
(1) سقط من (أ).
(2) في (ج): من معجزاته.

(2/106)


وكذلك الأوصياء فلا تثبت للخلائق وصية الأنبياء إليهم إلاَّ باستحقاق لذلك، والعَلَمِ والدليلِ. فأما الإستحقاق منهم لذلك المقام الذي استوجبوا به من الله العَلَم والدليل؛ فهو فضلهم على أهل دهرهم، وبيانهم(1) عن جميع أهل ملتهم؛ بالعلم البارع، والدين، والورع، والإجتهاد في أمر الله. وَعَلَمهُم ودليلهم؛ فهو العلم بغامض علم الأنبياء، والإطلاع على خفي أسرار الرسل، وإحاطتهم بما خصَّ الله به أنبيائه، حتى يوجد عندهم من ذلك ما لا يوجد عند غيرهم من أهل دهرهم، فيستدل بذلك على ما خصهم به أنبياؤهم، وألقته إليهم من مكنون علمها، وعجائب فوائد(2) ما أوحى الله به إليها؛ مما لا يوجد أبداً عند غير الأوصياء.
من ذلك ما كان يوجد عند وصي موسى، وعند وصي عيسى عليهم السلام ما لا يوجد عند غيرهم، من أهل دهرهم.
ومن ذلك ما وجد عند وصي محمد صلى الله عليه وآله وسلم علي بن أبي طالب رحمة الله عليه، من ذلك ما أجاب به في مسائل الجاثليق، ومن ذلك ما كان عنده من علم كتاب الجفر، وما كان عنده من علم ما يكون إلى يوم القيامة، مما أطلع الله عليه نبيه، وأطلع نبيه وصيه، لم يعلمه من رسول الله صلى الله عليه أحد غيره، ولم يقع عليه سواه.
فهذا الذي لم يوجد عند غير الأوصياء من أهل مللهم؛ فهو عَلَم الأوصياء المبين لها، والدليل الدال بالوصية عليها.
وكذلك الأئمة الهادون، الداعون إلى الله المرشدون؛ بانَتْ إمامتهم، وثبت عقدها من الله لهم، بخصال الإستحقاق، وبالعَلَم والدليل الذي بانوا به من غيرهم، وامتازوا به عن مشاكلة أهل دهرهم.
__________
(1) يعني تميزهم.
(2) في (ج): فوائدها.

(2/107)


فأما الإستحقاق فهو: ولادة الرسول، والعلم، والورع، والزهد، والدعاء إلى الله، وتجريد السيوف، وخوض الحتوف، وفَضِّ الصفوف، ومجاهدة الألوف، ورفع الرايات، ومنابذة(1) الظالمين، وإقامة الحدود على من استوجبها، وأخذ أموال الله من مواضعها، وردها في سبلها التي جعلها الله لها وفيها، مع الرأفة والرحمة(2) بالمؤمنين، والشدة والغلظة على الفاسقين، والشجاعة عند البأس(3)، والمجاهدة للكافرين والمنافقين.
فهذا باب الإستحقاق للإمامة.
والعَلَم والدليل فهو: توفيق الله، وتسديده لوليّه وتأييده، وإيتاؤه الحكمة، {وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً} [البقرة: 269]، {ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الفَضْلِ العَظِيمِ} [الحديد: 21].
ودليل ذلك وعَلَمه الذي يدل على أنَّه قد آَتَى وليّه الحكمة؟ ما يظهر من الإمام من الأمور المعجزات لأهل دهره، من حسن علمه، ودقائق فهمه، وحسن تعبيره وتمييزه، والمعرفة بالتأني لتعليم رعيته، وتفهيمها بما تحتاج إلى فهمه، حتى يكون معه من الشرح لما يسأل عنه، والتبيين لما يأتي به، والإحتجاج فيه وعليه بالحجج البالغة، والبراهين النيّرة التي لا توجد عند غيره، ولا يَنَال شرحَها، والإحتجاج بها سواه، مع التأتي لقبول عقول العالمين(4)، لما به يأتي من الحق المبين، والأمر المستبين(5)، مع استنباطه لعلم دقائق الكتاب، ودقائق الحلال والحرام في كل الأسباب؛ التي لا يقع عليها إلا من تولى الله اللطف به، وتوحد بالهداية لقلبه، ممن قلده أمر رعيته، وحكم له بالإمامة على بريته.
__________
(1) في (ج): ومباينة.
(2) في (أ): مع الرحمة والزلفة.
(3) في (أ، ج): عند حين البأس.
(4) في هامش (ج): المعلمين.
(5) في (أ، ج): المنير.

(2/108)


وهذه الأشياء التي ذكرنا ـ من حسن البيان والشرح، وإيضاح ما يُحتاج إليه من دقائق حسن التعبير، وجيد التمييز؛ الذي لا يوجد في سواه؛ فهي العَلَم والدليل (على إمامته، وعقد الله سبحانه ما عقد له منها. وذلك يا بُنَيّ العَلَم الأكبر، والدليل) (1) الأوفر، على عقد الله الإمامة لمن كان ذلك فيه، وعنده ولديه.
والحجة فيما قلنا به من أن هذا أكبر الأعلام والدلائل: أن الله تبارك وتعالى تعبد الخلق بمسموع، ومعقول، فالمعقول: ما أدرك بالنظر والتمييز بالعقول(2). والمسموع فهو: ما يسمع بالأذان من الْمُسمِع المؤدي من نبي، أو وصيّ، أو إمام مهتدي، وإذا كان فرض الله ومتعبده لخلقه بالمسموع؛ كانت حاجة السامع إلى تأدية المسمَع لازمة؛ إذ كانت حجة الإستماع على المستمع واجبة، وإذا كان ذلك كذلك؛ احتاج الإمام المسمع للرعية إلى أن يكون ـ في الكفاية والفهم، والمعرفة بالشرح والتبيين، ودقائق حسن التعبير وجيد التفصيل، ومبين التفهيم، والمعرفة بالتأتي لتعليم الرعية، وتفهيم البرية لما يحتاجون إليه ـ على غاية ما يكون؛ لأن ذلك كله تأدية عن الله لما افترض على الخلق من المسموع، فإذا كمل في هذه الأشياء؛ فقد أكمل(3) في التأدية عن الله لفرائضه المسموعة في كل معنى. فلذلك قلنا: إن حسن التأدية بلطائف التعبير، وحسن الإسماع للسامعين في التأدية والتفسير؛ أكبر أعلام الإمامة، وأدل الدلائل على الحكمة التي يؤتيها الله أولياءه؛ لأن من أتاه الله الحكمة؛ فهو عند الله من أهل الولاية والمحبة، ومن تولاه الله وأحبه؛ فهو آهَلُ الناس من الله بالإمامة، وأولاهم منه سبحانه بالكرامة.
__________
(1) سقط من (أ).
(2) في (ب): بالمعقول.
(3) في (ب): كمل.

(2/109)


فمن كان كذلك من ولد رسول(1) الله صلى الله عليه وآله وسلم؛ فهو الإمام المفترض الطاعة، الذي لا يجوز(2) لأحد خذلانه، ولا يسع رفضه، ولا يؤمن بالله خاذله، ولا يوقن بالوعد والوعيد تاركه.
فافهم يا بني هداك الله ما شرحنا لك من أعلام النبوة ودلائلها، وأعلام الأوصياء ودلائلها، وأعلام الأئمة ودلائلها؛ التي تدل على عقد الله الإمامة لمن عقدها لهم، والحكم منه سبحانه بها فيهم، فقد شرحت ذلك لك شرحاً مجملاً، وفسرت لك بعض ما تحتاج إليه تفسيراً كاملاً.
فلا تلتفت إلى غير ما قلنا من أقاويل الهزّاجين(3)، وتعبُّث العباثين، وزخاريف كلام المتكلمين، وافتراق أقاويل الجاهلين؛ ممن يقول: إنّ الإمامة بإجماع الرعية، وقول من يقول: بل هي لما يوجد من الآثار المروية في الملاحم المذكورة، وقول من يقول: بل هي بالوراثة لولد بعد والد، ولا يلتفتون ويلهم لما تستحق به الإمامة من البينات، والشواهد النيرات، همج رعاع، وللجهال أتباع، لم يقتدوا بالحكمة؛ فيعلموا ما به تحق الإمامة لصاحبها على الأمة، قد جعلوا الحكم بها وفيها لغير من حكم الله، وجعلوا الحكم بها إلى غير الله، فركبوا من ذلك مركبا وعراً، واكتسبوا به في الآخرة ناراً وعاراً، اعتمدوا في أكبر أمور الله وفرضه من الإمامة على التقليد، فقلدوا الحكم بها كبراءهم في كل الحالات، وطلبوا إثباتها من أبواب الرِّوايَات(4)، جهلاً بما عظم الله من قدرها، وتصغيراً لما كبَّر الله من أمرها، فتكمهوا بذلك في ظلم العمايات، وغرقوا في بحور الجهالات، {وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ} [الشعراء: 227]، فلا يبعد الله إلاَّ من ظلم، وأساء وغشم، وحسبنا الله ونعم المولى ونعم النصير، ولا حول ولا قوة إلاَّ بالله العلي القدير.
__________
(1) في (ج) : الرسول.
(2) في (ب): لا يحسن.
(3) في (أ): الهرَّاجين.
(4) في هامش (ج): الرَّويَّات.

(2/110)


فأما ما تقول به الإمامية، الضالة الهالكة العمية، وتجتري به على الله الواحد الجليل، فيما تذكر وتصف من العَلَم والدليل؛ فقول لا يَلْتَفت إليه عاقل، ولا يشك في بطلانه إلاَّ عم أحمق جاهل، وذلك أنها زعمت وقالت؛ فيما به تكلمت وذكرت: أن الدليل والعَلَم في إمامها خلاف ما كان في نبي من أنبياء الأمم، وأنه يأتي بما لم يأت به الأنبياء؛ من بدع محالات في كل الأشياء، ومن قال بمحال؛ فليس يثبت له قول في حال من الحال، فزعمت أنَّه يختم بخاتمه في الصفا ويؤثر، فيقرأ نقش خاتمه فيها كما يقرأ في الشمع والطين، وينادي فيما زعمت الإماميَّة في السماء مناد: إن فلان بن فلان (بن فلان)(1) إمامكم الهادي المهدي، بُوراً في قولها، وتعدياً في أمرها، وإحالة في حجتها، وغلواً في دينها. ولو كان ذلك يكون لأحد من العالمين؛ لكان لمحمد خاتم النبيين، ولو نادى من السماء مناد بنبوة النبي؛ لما اختلف فيه من فراعنة قريش منصف ولا غوي.
وقولُهَا ـ قُبِّحت أقوالُها ـ قولٌ شاهد بالزور عليها في كل أحوالها، لا يلتفت إليه أحد، ولا يُوجد لمُتعلق به ملتحد، فضيحة على من دخل فيه، ومهتكة هاتكة لمن نسب إليه. ولا دليل ولا علم ولله الحمد أدل مما به قلنا، من دلائل الإمامة، وشرحنا؛ من معجزاتها التي فسرنا.
فاعلم ذلك علماً يقيناً، وليثبت في قلبك ثباتاً مبيناً، يبن لك به الصواب، وينجل عنك الإرتياب إنشاء الله، والقوة بالله وله.
تم والحمد لله وصلواته علىخير خلقه محمد وآله وسلم.
*****
__________
(1) سقط من (ج).

(2/111)


رسائل وكتب
في
الإمامة
تثبيت إمامة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب
صلوات الله عليه
m
قال يحيى بن الحسين صلوات الله عليه:
تثبت إمامة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رحمة الله عليه من كتاب الله عزَّ وجل، ومن قول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
إن سأل سائل، أو تعنت متعنت جاهل، عن تثبيت إمامة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضوان الله عليه.
قيل له: أيها السائل المتكلم، المسترشد المتعلم؛ تثبت له بقول الله سبحانه، وقول رسوله المصطفى محمد عليه السلام.
فإذا قال: أوجدونا في الكتاب ما قال الله، وبينوا لنا كيف قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
قيل له: قال رسول الله صلى الله عليه: (( علي مني بمنزلة هارون من موسى؛ إلاَّ أنَّه لا نبي بعدي ))، ثم قال: (( (أيها الناس)(1) إنَّه سيكذبُ علي من بعدي، كما كذب على الأنبياء من قبلي، فما جاءكم عني (من حديث)(2) فأعرضوه على كتاب الله، فما شاكل كتاب الله فهو مني وأنا قلته، وما لم يشاكل كتاب الله فليس مني ولم أقله )). فلما قال صلى الله عليه وآله وسلم: (( علي مني بمنزلة هارون من موسى )) علمنا أنَّه لم يقل ذلك محاباة، ولا اختياراً منه ولا مصافاة، إلاَّ بأمر من الله واجب، وحق مبين ثاقب، فلما قال صلى الله عليه: (( علي مني بمنزلة هارون من موسى ))؛ وجدنا تصديق قوله صلى الله عليه مُثْبتاً في الكتاب، وهو قول الله عزَّ وجل: {أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِنْهُ وَمِنْ قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إِمَاماً وَرَحْمَةً} [هود: 17] ، فلما قال الله: {وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِنْهُ}؛ صدق قول اللّه سبحانه قول رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم: (( علي مني بمنزلة هارون من موسى ))، لقول الله: {شَاهِدٌ مِنْهُ}، فلما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (( علي مني (بمنزلة هارن من موسى)(3) ))، وقال الله: {شَاهِدٌ مِنْهُ} كان رسول الله من علي وعلي منه، بقول الله وبقول رسوله عليه السلام؛ كرهنا أو احببنا، شِئْنا ذلك أو أبينا، لا ننظرفي ذلك إلى قول محب مريد، ولا نلتفت إلى قول مبغض مكابر عنيد، ولا نأخذ في ذلك بتصديق محب، ولا ننظر أيضاً في تكذيب مبغض؛ لأن الله سبحانه قد حكم في ذلك بما حكم، واختار سبحانه ما اختار، فقال تبارك
__________
(1) ليس في (أ).
(2) ليس في (أ).
(3) سقط من (أ، ج).

(2/112)


وتعالى في كتابه المنزل على نبيه المرسل: {وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ}، ثم قال: {سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [القصص: 68]، (فحكم الله على من اختار سوى خيرته بالشرك، لقوله عزوجل: {سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ})(1). فنسمع الله قد اختار علياً بعد محمد؛ لقول الله: {شَاهِدٌ مِنْهُ}، ولقول الرسول: (( علي مني ))، وذلك لعلم الله تبارك وتعالى في علي؛ لأن علياً سبق الخلق إلى الله وإلى رسوله، لا يشك في ذلك عاقل، ولا ينازع فيه جاهل؛ لأن الله سبحانه يقول: {وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُوْنَ أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ فِيْ جَنَّاتِ النَّعِيْمِ} [الواقعة: 10 ـ 12]. فلما أن شهد الله تبارك وتعالى للسابق بالجنة، أجمع الخلق أن علي بن أبي طالب رحمة الله عليه أسبق الخلق إلى الله وإلى رسوله، فشهدنا لعلي بن أبي طالب بما شهد الله له به ورسوله، لا باختيارنا، بل من أصل أذاننا(2)، {فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَاراً أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقاً} [الكهف: 29]. صدق الله سبحانه وبلغت رسله، وأنا على ذلك من الشاهدين، والحمد لله (رب العالمين) أولاً آخراً، وصلى الله على سيدنا محمد المصطفى، وآله النجباء وسلم تسليماً كثيرا.
__________
(1) سقط من (أ، ب).
(2) كذا في النسخ.

(2/113)


كتاب دعوة وجه بها إلى أحمد بن يحيى بن زيدومن قِبَلِه (1)
m
الحمد لله الأول القديم، الآخر الواحد الكريم، الذي لا تراه العُيون عيون الناظرين، ولا تحيط به ظنون المتظننين، ولا تقع عليه أوهام المتوهمين، ولا يصفه أحد من الواصفين، إلاَّ بما وصف به نفسه، من أنَّه هو، وأنه بائن عن الأشياء، وبائنة عنه الأشياء، فلم يَبِنْ منها سبحانه غائباً عنها، ولم يَخْفَ منها في بينونتها خاف عليه منها، بل إحاطته بأَسَر سِرِّهَا كإحاطته بأَعْلَن علانيتها، العادل في قضايه، المعز لأوليائه، المذل لأعدائه، الناصر لمن نصره، الخاذل لمن خذله، البريء من أفعال العباد، المتعالي عن اتخاذ الصواحب والأولاد، داحي الأرض ذات المهاد، رافع السماء بغير عماد، الموفق المسدد لكل رشاد، الزاجر الناهي عن الفاحشات، الحآضِّ الآمر بالحسنات.
وأشهد أن لا إله إلاَّ اللّه وحده لا شريك له، الذي لا تواري عنه ساترات متكاثفات الستور، ولا يستجن عنه بمتراكم أمواجها قعور البحور.
__________
(1) لم أقف له على ترجمة والذي يظهر أنه كان من أشراف الحجاز ذا سعة في المال والجاه، ومن أهل الرأي والمكانة الاجتماعية كما يتبين من خلال خطاب الإمام له في هذه الدعوة المباركة والذي يدل على ذلك اختصاص الإمام له بتوجيه الدعوة. والله أعلم. وهذه الدعوة ليست في (أ)، وأثبتناها من ب، ج.

(2/114)


وأشهد أن محمداً عبده ورسُوله، أرسله برسالته، وانتجبه لأمانته، فبعثه في طامية طخياء، ودياجيج(1) ظلمة عمياء، وأوائل فتنة دهماء(2)، ودروس من الصالحات، وظهور من المنكرات، فدعا إلى ربه، وأظهر ما أمر ربه، وفتح فينق(3) الفسق، وأظهر دعوة الصدق، وأعلن كلمة الحق، وأرغم أنف الشيطان، وأدحض عبادة الأوثان، وأخلص التعبد للرحمن، ونهى عن الظلم والعصيان، وأمر بالتواصل والإحسان، وأماط أفعال الجاهلية، ونفا عنهم ظلمة الحمية والعصبية، وبسط لأمته كنفي الرحمة الواسعة، وأكمل اللّه به على البرية النعمة السابغة، فمضى عليه السلام في أمر اللّه قُدُماً، وجرد في أمر اللّه سبحانه مصمماً، حتى أثبت له على عباده الحجة، بالتبيين لهم جميع ما افترض عليهم، والإعذار في ذلك والإنذار، والتوقيف لهم على معالم دينهم، وجهاد من عند عن سيرته منهم، حتى إذا اعتدل عمود الدين، وتعلق به جميع المسلمين، وسطع نوره، ووضحت وشرعت أموره، ، وتقشع عن الحق الثبج، وكملت به وبرسوله الحجج؛ اختار الله لنبيه صلى الله عليه دار النعيم والسرور، ونقله من دار التعب والنصب والغرور، فقبضه الله سبحانه سعيداً، قد بين للأمة ماله خلقوا، وأوضح لهم ما إليه دعوا، وأوقفهم على ما به أمروا.
__________
(1) كذا، ولعلها: دياجير.
(2) في (ج): دهياء.
(3) كذا في ب، وفي ج: ومسح، وفي هامشه: وقمع.

(2/115)


فكان أفضل ما افترض الله عليهم، وجعله حجة مؤكدة فيهم؛ الجهاد في سبيله، والأمر بالمعروف الأكبر، والنهي عن التظالم والمنكر، ولذلك مدح الله به الأنبياء المرسلين، وذلك قوله: {الَّذِيْنَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِيْ التَّورَاةِ وَالإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلاَلَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الأعراف: 157]، ويقول: {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاَةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ} [الحج: 41]، ويقول سبحانه: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} [آل عمران: 110]، ويقول تعالى أمراً منه لجميع المسلمين: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَونَ عَنِ الْمُنْكَرِ}[آل عمران: 104]. وبالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ألف الله بين المؤمنين، وجعلهم إخوة عليه متوالين، وذلك قوله: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ، وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ}[التوبة: 71]. وبترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ذم الله المنافقين والمنافقات حين يقول:

(2/116)


{وَالْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَونَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الفَاسِقُونَ}[التوبة: 67].
والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فلا ينال إلا بالإقدام والتصميم، والنية والاعتزام الكريم، على الجهاد في سبيل الله، وتوطين الأنفس على مُلاقات أهل الظلم والطغيان، فحينئذ ينال ذلك، ويؤدي فرض اللّه من كان كذلك، وهو الجهاد في سبيله، وفي ذلك ما يقول في واضح التنزيل: {لاَ يَسْتَوِي القَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُوْلِي الضَّرَرِ وَالمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى القَاعِدِيْنَ دَرَجَةً وَكُلاًّ وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى القَاعِدِينَ أَجْراً عَظِيماً دَرَجَاتٍ مِنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً}[النساء: 95 ـ 96] وقال تبارك وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الفَوْزُ العَظِيمُ وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ}[الصف: 10 ـ 13] ويقول: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ}[العنكبوت: 69] ولفضل الجهاد ما أمر الله نبيه عليه السلام

(2/117)


بالتحريض عليه للعباد، حيث يقول: {يَا أَيُّهَا النَّبِي حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى القِتَالِ}[الأنفال: 65]، ويقول تبارك وتعالى: {وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ خَوْفٌ عَلَيهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ}[آل عمران: 69 ـ 70] وما ذكر الله من تفضيل الجهاد؛ فأكثر من أن يُحيط به كتاب، وهو معروف عند من رزق فهمه من ذوي الألباب، وكيف لا يكون للجهاد في سبيل الله فضل على جميع أعمال المؤمنين وبه يحي الكتاب المنير(1)؟ ويُطاع اللطيف الخبير، وتقوم الأحكام، ويعز الإسلام، ويأمن الأنام، وينصر المظلوم، ويتنفس المهموم، وتتجلى(2) الفاحشات، ويعلو الحق والمحقون، ويخمل الباطل والمبطلون، ويعز أهل التقوى، ويذل أهل الردى، وتشبع البطون الجائعة، وتكسى الظهور العارية، وتقضى غرامات الغارمين، وينهج سبيل المتقين، وينكح العزاب(3)، ويُقتدى بالكتاب، وترد الأموال إلى أهلها، وتفرق فيما جعل الله من وجوهها، ويأمن الناس في الآفاق، وتفرق عليهم الأرزاق.
__________
(1) في ب: وبه نبه الكتاب المبين.
(2) في (ج): وتنفى.
(3) في ب: الأعزاب.

(2/118)


ثم إن الله جل جلاله، عن أن يحويه قول أو يناله حظر الجهاد، مع جميع من خلق من العباد؛ إلاَّ من اصطفى وأتمن(1) على وحيه من عترة رسوله صلى الله عليه وعليهم، الذين هدى بهم الأمة من الضلالة والهلكة، لما في الجهاد من القتل والقتال، وسفك الدماء، وأخذ الأموال، وهتك الحريم، وغير ذلك من الأحكام، وذلك فلا يكون إلاَّ بإمام (عادل) (2)مفترض الطاعة، وذلك لا يكون إلاَّ من آل محمد صلى الله عليه وعليهم، الذين اسنقذ الله بهم الأمة من شقاء الحفرة، وجمع بهم كلمتها، وألف بين قلوبها(3)، من بعد الافتراق والاختلاف، والتشاجر وقلة الائتلاف، فأصبحوا بنعمة الله على المحق مؤتلفين، ولما كانوا عليه من الكفر مجانبين، يعبدون الرحمن من بعد عبادة الأوثان، ويقرون بمحمد عليه السلام، داخلين في النور والإسلام، ناجين من عبادة الشيطان، تالين لآيات القرآن، يتلونه آناء الليل وأطراف النهار، ويقرون بالربوبية للواحد الجبار.
قد اختار الله لهم منهم أئمة هادين، وجعلهم من ولد نبيه خاتم النبيين. وفي ذلك ما يقول: {وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ} [القصص: 68] من أهل النبوة، وموضع الرسالة، ومعدن الحكمة، وبيت النجاة والعصمة، الذين أمرَ الخلق باتباعهم، والكينونة معهم دون غيرهم، وذلك قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ}[التوبة: 119] وفيهم وفي آبائهم ما يقول سبحانه: {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ}[المائدة: 55] فجعل الولاية لهم خاصة، وثبت الإمامة فيهم، وأنزل الوحي عليهم بذلك.
__________
(1) في ب: وأفن.
(2) سقط من (ج).
(3) في (ج): قلوبهم.

(2/119)


وفيهم يقول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (( إني تارك فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا من بعدي أبداً، كتاب الله وعترتي أهل بيتي، إن اللطيف الخبير نبأني أنهما لن يفترقا حتى يردا عليَّ الحوض )). فبين بذلك أنَّه من تمسك بهم نجا، ومن تخلف عنهم هوى.
وفيهم يقول رسول الله صلى الله عليه وآله: (( ما أحبنا أهل البيت أحد، فزلت به قدم إلاَّ ثبتته قدم، حتى ينجيه الله يوم القيامة )).
وفيهم يقول: (( إن مثل أهل بيتي فيكم كمثل سفينة نوح، من ركبها نجا، ومن تخلف عنها غرق وهوى )).
وفيهم يقول تبارك وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ}[النساء: 59] فجعل طاعتهم موصولة بطاعة رسوله، وطاعة رسوله موصولة بطاعته، ومعصيتهم مقرونة بمعصية نبيه، ومعصية نبيه مقرونة بمعصيته. فمن عصاهم فقد عصا الله ورسوله، ومن أطاعهم فقد أطاع الله.

(2/120)


والذي افترض طاعته(1) ذو الجلال والإكرام، من أهل بيت محمد صلى الله عليه وآله سلم على جميع من خلق وذرأ من الأنام، وبنى على طاعته وموالاته دعائم الإسلام: الورعُ الفاضل، التقي الكامل، الباذل(2) لنفسه العالم، الذي لا تأخذه في الله لومة لائم، الفَهِم بمعاني الكتاب، المتفرع فيما يحتاج إليه من الأسباب، المجرد في أمره، الداعي إلى سبيل ربه، المباين للظالمين، الناهض بحجة رب العالمين، الكاشف لرأسه، المجرد لسيفه، الرافع لرايات الحق، المظهر لعلامات الصدق، الزاهد في حُطام الدنيا، الراغب في الآخرة التي لا تفنى، والحافظ للرعية المواسي لهم، المتحنن عليهم، المقرب غير المُبَعِّد، المُهَوِّن غير المُجْهِد، القارن لهم بنفسه في جميع أمره، الشفيق عليهم، الآخذ لمظلومهم من ظالمهم، المستوفي لحق الله من أيديهم، والرَّاد له في مصالحهم، والمفرق لفَيِّهم فيهم، المُسلِّم له إليهم، العادل في قسمه، المساوي بين رعيته في حكمه، الطارح الجبريَّة والتكبر، البعيد عن الخيلاء والتجبر(3) والباسط لكفه(4)، المنصف لأهل طاعته، المتفَقِّد لجميع معائشهم، الحامل لهم على ما أمروا به من أديانهم، الممضي لأحكام الله فيهم، القائم بقسط الله عليهم، الرؤف الرحيم بهم، العزيز عليه عنوتهم، المُتَعَنِّي بالجليل والدقيق من أمرهم(5)، المشبه في ذلك لجدّه، ولما ذكر الله من أمره، حيث يقول سبحانه: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ}[التوبة: 128] الشجاع السخي، الفارس الكَمِي.
__________
(1) في (ج): طاعتهم.
(2) في ب: الدال.
(3) كذا، ولعلها: التبختر.
(4) في (ج):لكنفه.
(5) في (ج) من أمورهم.

(2/121)


فإذا كان كذلك ثم دعاهم إلى نفسه، والقيام لله بحقه، وجبت على الأمة طاعته، وحرمت عليهم معصيته، ووجبت عليهم الهجرة إليه، والمجاهدة بأموالهم وأنفسهم معه وبين يديه(1)، وكانت طاعته والهجرة إليه، والمجاهدة بأموالهم معه، والتجريد في أمره، وبذل الأموال والأنفس، والمبادرة إلى صحابته، والكينونة تحت كنفه؛ فرضاً من الله على الخلق، لا يسعهم التخلف عنه ساعة، ولا التفريط في أمره فينة، إلاَّ بعذر نافع(2) مبين عند الله سبحانه، من مرض أو عرج، أو عمى، أو فقر مدقع، عن اللحوق به مانع، وفي ذلك ما يقول اللّه سبحانه: {انْفِرُوا خِفَافاً وَثِقَالاً وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ}[التوبة: 41] فمن كان على واحدة من هذه الأربع الخصال، جاز له التخلف عند الواحد ذي الجلال، ومن لم يكن كذلك وجب عليه فرض المهاجرة والمقاتلة، وفي ذلك ما يقول الله سبحانه: {لَيْسَ عَلَى الأَعْمَى حَرَجٌ وَلاَ عَلَى الأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلاَ عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ نُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ وَمَنْ يَتَوَلَّ نُعَذِّبْهُ عَذَاباً أَلِيْماً}[الفتح: 17] ويقول سبحانه: {وَلاَ عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لاَ أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيهِ تَوَلَّوا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَناً أَلاَّ يَجِدُوا مَا يُنْفِقُونَ}[التوبة: 92] فجعل الله لمن كان على مثل هذه الحال من الفقر؛ في تخلفه عن الجهاد مع المحق من آل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم العذر، فأما من سلم من ذلك، ولم يكن في شيء من أحواله كذلك، ثم تخلف عنه، من بعد أن تبلغه دعوته، وتنتهي إليه رسالته، أو يقع إليه خبره؛ فهو غادر، في دين الله فاجر، ولرسوله معاند، وعن الحق والصراط المستقيم
__________
(1) في (ب): والمجاهدة معه بأموالهم وبين يديه.
(2) في (ج): قاطع.

(2/122)


عاند، مشاق لله محارب، إلى النار عادل وعن الجنة مجانب، قد بآء من الله باللعنة، وجاهره بالمعصية، ووجب على الإمام إن حاربه حربه، وقتله وإهلاكه، وإن لم يحاربه، وتخلف عن نصرته، وجب عليه إبعاده وإقصاؤه، وإبطال شهادته، وإزاحة عدالته، وطرح اسمه من مقسم الفي، ووجب على المسلمين منابذته في العداوة والاستخفاف به، والاستهانة بكل أمره، لا يسعهم غيره، ولا يجوز لهم فيه سواه. ألا تسمع كيف يقول العزيز الكريم، فيما نزل على نبيه من القرآن العظيم؛ إذ يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِيْنَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيْلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الأَرْضِ أَرَضِيْتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الآَخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلاَّ قَلِيْلٌ إِلاَّ تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَاباً أَلِيماً وَيَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ وَلاَ تَضُرُّوهُ شَيْئاً وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيْرٌ}[التوبة: 38 ـ 39].

(2/123)


ومن الدليل على ما قلنا به من هلاك من تخلف من دعوة الحق، أو تثاقل عن إجابة محق، قول الله سبحانه لرسوله: {فَإِنْ رَجَعَكَ اللَّهُ إِلَى طَائِفَةٍ مِنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَداً وَلَنْ تُقَاتِلُوا مَعِيَ عَدُوّاً إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ بِالقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَاقْعُدُوا مَعَ الْخَالِفِينَ وَلاَ تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَداً وَلاَ تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُوا وَهُمْ فَاسِقُونَ}[التوبة: 83 ـ 84] فأمر الرسول بالرفض لهم، ولم يأذن في الخروج لهم ثانية أخرى(1)، عقاباً عن التخلف عنه، والتربص به، وحرمهم الخروج وسهام الغنائم، والسهام(2) لا تقع إلاَّ لمن حاما عليها، ولا تقسم إلا لمن كان حاضراً لها، وحرمهم ولاية الرسول وتوليته، وأوجب عليه(3) العداوة لهم. وبأقل من ذلك ما يقول الله سبحانه: {سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انْطَلَقْتُمْ إِلَى مَغَانِمَ لِتَأْخُذُوهَا ذَرُونَا نَتَّبِعْكُمْ يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلاَمَ اللَّهِ قُلْ لَنْ تَتَّبِعُونَا كَذَلِكُمْ قَالَ اللَّهُ مِنْ قَبْلُ}[الفتح: 15] يريد بقوله: {قَالَ اللَّهُ}؛ أي حكم الله عليكم، وأمرنا به فيكم.
__________
(1) كذا في النسخ.
(2) في (ج): إذ السهام.
(3) في (ج): عليهم، وهو سهو.

(2/124)


وفيما ذكرنا من هلاك المتخلفين(1)؛ عن دعوة الحق والمحقين، ما يقول أصدق الصادقين، فيمن قال لإخوانه وتأَخَّر: {لاَ تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ}، فقال جل جلاله، عن أن يحويه قول أو يناله: {وَقَالُوا لاَ تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرّاً لَوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ}[التوبة: 81]. وفي إهلاك الله وإخزائه للمتخلفين عن الحق والمحقين؛ ما يقول لنبيه محمد صلى الله عليه وآله وسلم: {وَلاَ تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَداً وَلاَ تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُوا وَهُمْ فَاسِقُونَ}. فنهى رسوله عن الصلاة عليهم، والوقوف على قبورهم، وحرم عليه الاستغفار لهم، ولم ينه عن ذلك إلاَّ في غوي، هالك عنده معذب شقي. ثم أخبر أن المرتابين الذين هم في ريبهم يترددون، والتردد فهو: الشك، والشك فلا يكون في حَقٍّ؛ إلا من أهل الفجور والفسوق.
__________
(1) في (ج): المخلفين.

(2/125)


ومَن أضلُّ عند الله وأَهْلَكُ، أو أشد عذاباً عند الله أو آفَكُ، ممن تخلف عن الحق وهو يعرفه، وسوَّفَ بإلاقبال عليه. فكذلك لعمر أبي الجفاة الرافضين(1) للحق والمحقين، المتأولين في ذلك على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ما لم يجعل الله إلى التعلق به سبيلاً. أشد عذاباً عند الله وآلم تنكيلا، ممن لم يعرف ما افترض الله عليه في الجهاد، فهو يتكمه في البلاء(2) متحيراً عما اهتدى إليه غيره من العباد، فنعوذ بالله من التخلف عن أمره، والصد عن سبيله، فلا صدَّ يرحمك الله أَصَدُّ، ولا جرم عند الله أشد؛ من جرم من تخلف عن الحق؛ ممن نُظِر(3) إليه من السواد الأعظم من الكبراء وبه يقتدي العوام من العلماء والجهلاء، بل تخلف من كان كذلك ثم تخلف(4)؛ فقد عطل ورفض الحق، وأضعف دعوة الصدق؛ لأن كثيراً من ضعفة المؤمنين يقتدون بأفاعيله، لثقتهم به، واتكالهم على دينه(5)، ونظرهم إلى عزيمته، إذ قصرت عزائمهم، وصغرت عن كثير من ذلك بصائرهم، فهُم له أتباع في كل أمره، لا يعدلون عن قوله ورأيه، ولا يفعلون إلاَّ بفعله، وإن نهض نهضوا، وإن أقام أقاموا، وإن نصر نصروا، وإن خذل خذلوا، فكلهم مأخوذ بنفسه؛ إذ هو مقصر عن مدى غيره، والمنظور إليه منه فمأخوذ بهم؛ إذ علم أنهم إليه ينظرون، وإياه ينصرون.
__________
(1) في (ب): الرافضية.
(2) في (ج): في البلاد. نخ
(3) في (ج): ممن ينظر.
(4) كذا في النسخ، ولعلها: بل من كان.
(5) في (ج): على رأيه.

(2/126)


فيا ويل من تخلف عن الله وخالف الهدى، وركن إلى الأولاد والدنيا، أما سمع قول الله تعالى فيما نزل من القرآن الكريم حين يقول لرسوله صلى الله عليه وآله وسلم: {قُلْ لِلْمُخَلَّفِيْنَ مِنَ الأَعْرَابِ سَتُدْعَونَ إِلَى قَومٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ} [الفتح: 16] فأوجب لمن اتبع الجزاء الحسن والثواب، ولمن تخلف عن ذلك أليم العقاب. فنعوذ بالله من البلاء، والحيرة والشقى، والركون إلى ما يزول ويغنى، والأشره له على ما يدوم ويبقى، فهذه سبيل من تخلف عن فروض الواحد الجليل.

(2/127)


فأما من اتبع ما وصفنا من آل الرسول، فإنه عند الله تبارك وتعالى حق(1) مقبول، وهو عند اللّه تبارك وتعالى من المسلمين المؤمنين، العابدين الخاشعين، المؤدين لعظيم ما افترض الله عليهم، المفضلين على جميع المؤمنين، في التوراة والإنجيل والقرآن المبين، المهاجرين إلى الله، قد وقع أجرهم على الله، فكرم مآبهم لديه، وأدوا إليه الأمانة، فنجوا وسلموا من الخيانة، كما قال سبحانه: {وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ مَاتُوا لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللَّهُ رِزْقاً حَسَناً وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُدْخَلاً يَرْضَونَهُ}[الحج: 58 ـ 59]. ومن صح منه هذا الفعل؛ فقد صحت له الولاية من رب العالمين، ومن الرسول والأئمة وجميع المؤمنين، وكان من الذين قال الله فيهم: {إِخْوَاناً عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ} [الحجر: 47] وكان من الآمنين للفزع الأكبر {وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلاَئِكَةُ} كما قال أرحم الراحمين: {هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ}[الأنبياء: 103] وكانوا من البائعين أنفسهم من ربهم، بما بذل لهم من الثمن الربيح، حين يقول سبحانه: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقّاً فِي التَّورَاةِ وَالإِنْجِيْلِ وَالقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الفَوْزُ العَظِيمُ}[التوبة : 111] فيا لها تجارة ما أربحها، ويا لها دعوة ما أرفعها، دنيا يسيرة فانية، بآخرة (2) كثيرة باقية، وحياة أيام تزول؛ بحياة أيامٍ أبداً لا تحول، والنكد والنصب، والشدة والتعب؛ بالراحة والسرور، والغبطة له في كل
__________
(1) كذا في النسخ، ولعلها: محق.
(2) في (ب) وآخرة.

(2/128)


الأمور، فاز والله من بادر فاشترى الجنة بأيام من حياته، وخاب من تخلف عن مبايعة الله وسوَّف ويله وتمنى، وعلل نفسه وسهى(1) حتى نزلت به الداهية الدهياء، ونزل به الموت والفناء، وحصل في دار القيامة والجزاء، {وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِراً وَلاَ يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً}[الكهف: 49].
فهذه صفات من تجب طاعته، وتحرم معصيته.
ومن خالف ما ذكرنا، وكان على غير ما شرحنا؛ من آل الرسول(2) صلى الله عليه وعلى آله، فنكث عليهم، وأساء في فعله إليهم، ومنعهم من حقهم الذي جعله الله لهم، واستأثر بفيهم، وأظهر الفساد والمنكر في ناديهم، وصيّر ما لهم دولة بين عدوهم يتقَّوى به عليهم، ولم(3) يَقْبِضْهُ منهم، ويقسمه على صغيرهم وكبيرهم، وكانت همته كنز الأموال، والاصطناع لفسقة الرجال، ولم يزوج أعزابهم، ولم يقض غراماتهم، ولم يكس الظهور العارية، ولم يشبع منهم البطون الجائعة، ولم ينف عنهم فقراً، ولم يصلح لهم من شأنهم أمراً؛ فليس يجب على الأمة طاعته، ولا تجب عليهم موالاته، ولا تحل لهم معاونته، ولا تجوز لهم نصرته، بل يحرم عليهم القيام معه ومكاتفته، ولا يسعهم الإقرار بحُكمه، بل يكونون شركاه إن رضوا بذلك من أفعاله، ويكونون عند الله مذمومين، ولعذابه مستوجبين،. فنعوذ بالله من الرضى بقضاء الظالمين، ونعوذ به من الإعراض عن جهاد الفاسقين، الذي لا يأمرون بالمعروف ولا ينهون عن المنكر، فإن من أعرض عن جهادهم فقد برئ من الله، وبرئ اللّه منه، وبَعُدَ من حزب الرحمن، وصار من حزب الشيطان، {أَلاَ إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الخَاسِرُونَ}[المجادلة: 19].
__________
(1) في ب: وسهل.
(2) في (ج): رسول الله.
(3) في (ج): ولا يقبضه.

(2/129)


وبعد رحمك الله ووفقك، وأعانك وسددك؛ فإني أدعوك إلى كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه، وإلى ما أمرني الله أن أدعوك إليه، وأخذ به عليَّ العهد والميثاق، من الأمر بالمعروف الأكبر، والنهي عن التظالم والمنكر، وإلى أن نُحِلَّ نحن وأنت ما أحل لنا الكتاب، ونحرم نحن وأنت ما حرمه علينا، وإلى الاقتداء بالكتاب والسنة، فما جاءا به اتبعناه، وما نهيا عنه رفضناه، وإلى أن نأمر نحن وأنت بالمعروف في كل أمرنا ونفعله، وننهى عن المنكر جاهدين ونتركه، وإلى مجاهدة الظالمين من بعد الدعاء إلى الحق لهم، والإيضاح بالكتاب والسنة بالحجج عليهم، فإن أجابوا فلهم ما للمسلمين، وعليهم ما على المسلمين(1)، وإن خالفوا الحق، وتعلقوا بالفسق، حاكمناهم إلى الله سبحانه، وحكمنا فيهم بحُكمه، فإنه يقول سبحانه: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوا فَلاَ عُدْوَانَ إِلاَّ عَلَى الظَّالِمِينَ}[الأنفال: 39] والعُدوان هاهنا فهو: الجهاد، والعَدْوُ على من ظهر منه الإجتراء على الله والاعتداء.
ألا والدعوة مني يرحمك الله إلى ما تقدم ذكره من الكتاب والسنة. واشرط لك ولمن معك على نفسي أربعاً:
الحكم بكتاب الله وسنة رسوله جاهداً ما استطعت.
والأثره لكم على نفسي فيما جعله الله بيني وبينكم.
وأن أوثركم ـ ولا أفضل عليكم بالتقدمة عند العطاء؛ الذي جعله الله حظاً في أمواله لكم ولنا ـ قبل نفسي وخاصتي.
والرابعة أن أكون قدامكم عند لقاء عدوكم وعدوي.
وأشرط لنفسي عليكم اثنين؛ أنتم شركائي فيهما:
النصيحة لله في السر والعلانية.
والطاعة في كل أحوالكم لأمري ما أطعت الله، فإن خالفت طاعة الله فلا حجة لي عليكم.
__________
(1) في (ج): المؤمنين.

(2/130)


{هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ}[يوسف: 108] فإن يطعني من بلغته دعوَتي يرشدوا، وحظهم يأخذوا، والفوز العظيم يرتجوا، وإن يتخلفوا عني، ويعصوا أمري، ويُسَوِّفوا طاعتي، ويتثاقلوا عن إجابتي، ويركنوا إلى الدنيا الغارة لهم، كما غرت من قبلهم ممن مضى؛ أكن قد قدمت لله بما يجب(1) عليَّ، وأكن عند الله إن شاء الله من الناجين، وأكن قد ثبتُّ له عليهم الحجة إلى يوم الدين، وما كان علي إلاَّ ما كان على جدي من قبلي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الرسول الأمين، من التبليغ والاجتهاد في الدين، {وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ البَلاَغُ الْمُبِينُ}[النور: 45].
__________
(1) في أ: ما يجب.

(2/131)


فرحم الله من نظر في أمره، وقاس شبْرَه بِفِتْرِه، فقد أسفر الحق عن وجهه قناعه، ونادى بأعلى صوته أتباعه، وقامت الحجة للرحمن، على كل من خلق من الإنسان، {فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلاَّ الضَّلاَلُ}[يونس: 32] ولا دون المعتدل إلاَّ المائل، ولا بعد الجدة والشدة والقوة والشباب؛ إلاَّ الضعف والإنبتات والزوال والذهاب، ولا بعد دار الدنيا الفانية؛ إلاَّ الآخرة الدائمة الباقية، وما بعد العمر إلاَّ انقطاع الأجل، وما بعد الموت إلاَّ البلاء والإمحاق، ولا بعد الإمحاق إلاَّ يوم التلاق، {يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَؤُوفٌ بِالعِبَادِ}[آل عمران: 30] ذلك يوم وقوع الجزاء؛ على ما تقدم من العمل في الدنيا، فيفوز المحقون بأعمالهم، ويخسر المبطلون ويهلك المسرفون بأفعالهم، {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُوراً}[الفرقان: 23]، {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلاَ يُجْزَى إِلاَّ مِثْلَهَا وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ}[الأنعام: 160]، ذلك يوم الحسرة والندامة، وطلب الإقالة حين لا إقالة: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيراً يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ} [الزلزلة: 6 ـ 7]، ذلك يوم تشخص فيه الأبصار، وتظهر فيه الأسرار، ويحكم فيه بالحق الجبار، {يَوْمَ لاَ يَنْفَعُ مَالٌ وَلاَ بَنُونَ إِلاَّ مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلمُتَّقِينَ وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغَاوِينَ} [الشعراء: 88 ـ 91]، وهم فيها يصطرخون نادمين، يقولون: {رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ}[المؤمنون: 107]، فيقول لهم

(2/132)


الجبار: {اخْسَئُوا فِيهَا وَلاَ تُكَلِّمُونِ}[المؤمنين: 108]، فيطلبون حينئذ الرجوع إلى ما كانوا فيه من الفناء(1)، ويتمنون الموت والبلاء، ويقولون: {يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَينَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ}[الزخرف: 77] فحينئذ تقطع قلوبهم حسرات، وتتراكم عليهم الغُموم والندامات، على ما فرطوا فيه من العمل بما أمرهم الله به ، والقيام بأكبر فرائضه، من الجهاد في سبيله، والمعادات لأعدائه، والموالاه لأوليائه.
فليعلم كل عالم أو جاهل، أو من دعي إلى الحق والجهاد فتوانى، وتشاغل، وكره السيف والتعب، وتأول على الله التأويلات، وبسط لنفسه الأمل، وكره السيف والقتال، والملاقاة للحتوف والرجال، وأثر هواه على طاعة مولاه، فهو عند اللطيف الخبير، العالم بسرائر الضمير؛ من أشر الأشرار، وأخسر الخاسرين، إن صلاته وصيامه، وحجه وقيامه بُور، لا يقبل الله منه قليلاً ولا كثيراً، ولا صغيراً ولا كبيراً. وأنه ممن قال الله سبحانه فيه حين يقول: {وُجُوهٌ يَومَئِذٍ خَاشِعَةٌ عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ تَصْلَى نَاراً حَامِيَةً}[الغاشية: 2ـ 4]. وكيف يجوز له الإقبال على صغائر الأمور من الصالحات، وهو رافض لأعظم الفرائض الواجبات(2)؟! وكيف لا يكون الجهاد أعظم فرائض الرحمن؛ وهو عام غير خاص لجميع المسلمين؟!
وعَمَلُ من عمل به شاملٌ لنفسه ولغيره من المؤمنين؛ لأن الجهاد عزٌ لأولياء الله، مخيف لأعداء الله، مشبع للجياع(3)، كاس للعراة النّياع(4)، ناف للفقر عن الأمة، مصلح لجميع الرعية، به يقوم الحق، ويموت الفسق، ويرضى الرحمن، ويسخط الشيطان، وتظهر الخيرات، وتموت الفاحشات.
والمصلي فإنما صلاته وصيامه لنفسه، وليس من أفعاله شيء لغيره. وكذلك كل فاعل خير فعله لنفسه لا لسواه.
__________
(1) في ب: الفداء.
(2) في (ج): الزاكيات.
(3) في ب: للجائع.
(4) النايع: المائل.

(2/133)


فأين الجهلة العمين، أو العلماء المتعامين؟ كيف يقيسون شيئاً من أعمال العباد؛ إلى ما ذكر الله سبحانه من الجهاد؟! هيهات هيهات بعد القياس، ووقع على الجهلة الإلتباس، وحبطت بلا شك أعمال المختلفين، وخسر الراكنون إلى الدنيا، المؤثرون لما يزول ويفنى، المتشبثون بالأموال والأولاد والأهلين، وهم ـ أَحَدَ اليومين ـ لذلك مفارقون، ولما تشبثوا به تاركون، وعما أثروه على ربهم والجهاد في سبيله رائحون. وفي أولئك، ومن كان من الخلق كذلك؛ ما يقول الرحمن الرحيم، فيما نزل من الفرقان العظيم: {قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَونَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَونَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي القَوْمَ الفَاسِقِينَ}[التوبة: 24].

(2/134)


فمهلاً أولئك مهلاً، عن التخلف عن الله والإجتراء، هلموا إلى الأمر بالمعروف الأكبر، والنهي عن التظالم والمنكر، هُلَمَّ إلى قسم فيّكم عليكم، وإحياء كتاب الله وسنن رسوله فيكم، هلموا إلى غناء فقرائكم، والأخذ بالحق في أغنيائكم، هلموا إلى أخلاق المسلمين، والإقتداء بمن مضى من الأئمة المجاهدين، هلموا إلى الطلب بكتاب الله، والإنتصار من أعدائكم، هلموا إلى نصر الله، ونصر الحق والمحقين، هلموا إلى جهاد الفسقة الظالمين من أهل قبلتكم من جبابرتهم، من الأشراف وغيرهم. ألستم ترون ـ عبادَ اللّه المخلصين، والقايلين في الله بالتوحيد، المقرين بما ذكر الله في الوعد والوعيد إلى دينكم مقتولاً، وإلى الحقِ الذي أنزله على نبيكم مخذولاً؟ وحُكِم الكتاب معطلاً بينكم، وأن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر معدوم فيكم، يرتع أعداء الله في جنى أموال المسلمين، قد أمنوا من تغييركم عليهم، ويئسوا من نكايتكم فيهم، وبسطوا أيديهم عليهم، وحكموا بحكم الشيطان فيهم، يذبحون أبناءهم، ويستحيون نساهم، وفي ذلكم بلاء من ربكم عظيم. حرموهم فيَّهم، واصطفوا مع ذلك أموالهم، وأجاعوا بطونهم، وأعروا ظهورهم، وأضاعوا سبيلهم، وأخافوهم على أنفسهم، يحتفون أموالهم، ويقتلون رجالهم، يمنعونهم النصف، ويسومونهم الخسف، هتكاً للحريم، وتمرداً على الله العظيم.

(2/135)


إن شهدوا لم يصدقوا، وإن سالموا لم يتركوا، أعزاؤهم عندهم أذلة(1)، وعلماؤهم جهلاء، وحلماؤهم عندهم سُخَفَاء، وَعُبَّادهم لديهم سُفَهَاء، قد جعلوا فيَّهم بينهم دَوَلاً، وأولادهم لهم خدماً وخَوَلاً، يشبعون ويجوعون، ويسعون(2) في رضاهم ومصالحهم، و[هم] يسعون في هلاكهم وسخطهم، فهم لهم خدم لا يُشْكَرون، وأعوان لا يُؤْجَرون، هممُهم هِمَم حميرهم، همَمُهم ما واروه في بطونهم، وباشروه بفروجهم، واستغشوه على ظهورهم، نهارهم دايبون في إخمال الهدى والحق، وليلهم في التلذذ والطرب(3) والفسق، فراعنة جبارون، وأهل خيلاء فاسقون، إن استُرْحِموا لم يَرْحموا، وإن استُنْصِفوا لم يُنصِفوا، وإن خُوِّفوا لم يخافوا، وإن قَدَروا لم يُبقوا، وإن حكموا لم يعدلوا، وإن قالوا لم يَصْدُقوا، لا يذكرون المعاد، ولا يزكون العباد، ولا يُصلحون البلاد، رافضون معطلون للنكاح، مظهرون مُعتكفون على السفاح، المنكر(4) بينهم ظاهر، وافعال قوم لوط أفعالهم، وأعمالهم في ذلك أعمالهم، يتخذون الرجال ويأتونهم من دون النساء، ويظهرون الفجور علانية والردى، ويأتون في ناديهم المنكر، ويجاهرون بذلك العلي الأكبر، سفهاؤهم أمراؤهم، وأشرارهم حكامهم، وعظماؤهم أردياؤهم، الغدر شيمتهم، والفسق همتهم، إن عاهدوا نقضوا، وإن أمَّنوا(5) غدروا، وإن قالوا كذبوا، وإن أقسموا حنثوا، قد قتلوا الأرامل والولدان، وحرموهم ما جعل الله لهم من السُّهمان، قد قتلوا الكتاب والسنة، وأظهروا المنكر والبدعة، وخالفوا ما بعث الله به النبي(6)، وحكموا بغير حكم(7) الكتاب المنزل، اضداد الحق والمحقين، أولياء الباطل والمبطلين، وحزب الشيطان، وخصماء القرآن، وأعداء الرحمن، في الفسق منغمسون، وعن الحق مُجْنبون، لم ينالوا ما نالوا من
__________
(1) كذا ولعلها: أذلاء.
(2) في ب: ويشفعون.
(3) في (ج): والطرف.
(4) في ب: المسكر.
(5) في ب: ائتمنوا.
(6) في ب: به الرسل.
(7) في (ب): بغير ما حكم.

(2/136)


أولياء الله إلاَّ بالغدر، ولم يقدروا عليهم إلاَّ بالختر(1)، وعقد مواثيق الله له في أعناقهم، وبسط أمان الله وأمان رسُوله له منهم(2)، فإذا ركن إلى عظيم ما يعطونه، ووثق بجليل أيمانهم؛ قتلوه من بعد ذلك غادرين، ومثلوا به ناكثين، لا فيما أعطوه من عقود الله ومواثيقه له ينظرون، ولا في الأيمان المؤكدة التي له يفكرون، اجتراء على الله العظيم، وعُدولاً منهم عن الصراط المستقيم، عنوداً عن الحق المبين، ومُضادة لأحكام أرحم الراحمين، ومخالفة لسُنن الرسول الأمين، ومباينة ومجانبة لشرائع الإسلام، وتشبها بفعل أهل الشرك والكفر والطغيان، بل الكفار الطغاة أوفى بالعهود منهم، وأحفظ لعهودهم منهم لعهدهم، وأقل اجتراء منهم في كثير من الأمور على خلافهم، وهم في ذلك يدعون أنهم أئمة المسلمين، وقادة المؤمنين، وخلفاء الواحد الكريم، وولاة الواحد العظيم(3). كلا والذي نفس يحيى بيده، ما ولى الله أولئك في خلقه، ولا قلَّدهم شيئاً من أمره، ولا أجاز لهم أمراً ولا نهياً في شيء من أرضه، وكيف يكون ذلك والله سبحانه يقول لنبيه صلى الله عليه إبراهيم خليله، حين سأله ان يجعل ذريته أئمة كما جعله هو صلى الله عليه إماماً؛ فأخبره الله سبحانه أنَّه لا يجعل الولاية إلا للمتقين، ولا يعقد الإمامة لأحد من الفاسقين، ولا يعقد عقدها للظالمين، وذلك قوله سبحانه: {وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ}[البقرة: 124]؟! فمنع من عقده وعهده، ومؤكد إمامته؛ كلَّ ظالم من خلقه. فأي ظلم يرحمك اللّه أو غشم، أو فسق أو إثم؛ أعظم مما فيه من هو يدعي أنَّه إمام المسلمين، وأمير المؤمنين؛ من الذين أماتوا الكتاب
__________
(1) الختر كالغدر وزناً ومعنى أو أقبح الغدر.
(2) في ب: أمان اللّه ورسوله منهم.
(3) في أ: وولاة للعظيم الرحيم.

(2/137)


والسنن، وأحيوا البدع والفتن، وضلوا(1) الحق، وأحيوا الفسق، وجلسوا في غير مجلسهم، وتعاطوا ما ليس لهم، {أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلاَلَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ}[البقرة: 16] فأين لكم يا أهل(2) الإسلام؟؟ وكيف يرضى من آمن بالرحمن؛ بالظلم والغشم من حزب الشيطان، الذين جاهروا ربهم بالكفر والعصيان، وحادوه في كل شأن؟! {إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ فِي الأَذَلِّينَ كَتَبَ اللَّهُ لأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌ عَزِيزٌ}[المجادلة: 19 ـ 20]، صدق الله في قوله، لقد حكم الله للحق والمحقين؛ بالغلبة للباطل والمبطلين، ولكن أين أين الناهضون لأمره، المتنجزون لوعده، المتعرضون(3) لنصره؟ فإنه يقول سبحانه: {وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌ عَزِيزٌ}[الحج: 40] وبلى وعسى، {فَإِنَّ مَعَ العُسْرِ يُسْراً إِنَّ مَعَ العُسْرِ يُسْراً}[الإنشراح: 5 ـ 6]، عسى الله أن يجعل فيكم يا أهل التوحيد خَلَفاً من الأولين المجاهدين، الذين بذلوا أنفسهم وأموالهم لله رب العالمين.
__________
(1) في (ج): وقتلوا.
(2) في (ب): بأهل.
(3) في (ب): المعترضون.

(2/138)


فشمروا يرحمكم الله واجتهدوا، واطلبوا النجاة من الله تعالى بجهادهم تنجوا، فإنه يقول سبحانه: {الَّذِينَ هَاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا لأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ ثَوَاباً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ}[آل عمران: 195]. فجاهدوا كما جاهد أولئك من سلفكم المؤمنين، من الأولين والآخرين، فلقد جاهدوا أعداء الله واحتسبوا، فلقوهم، وجالدوهم وصابروهم، والفسقة حينئذ أقوياء أعزاء، جيوشهم جامعة، وأموالهم كاملة، وكلمتهم مؤتلفة، وجماعتهم غير مختلفة، فصَفُّوا لهم الصفوف، وضربوا(1) وجوههم بالسيوف، ووفوالله بعهده، وقاموا له(2) فيه بأمره، صابرين محتسبين، ولذلك من فعلهم متخيّرين، حتى لحقوا بالله مستشهدين، كراماً طيبين مطيبين، فائزين بالثواب، ناجين من العقاب، قد فازوا بالرضى والرضوان، يتقلبون في عرصات الجنان، {تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلاَمٌ وَاَعَدَّ لَهُمْ أَجْراً كَرِيماً}[الأحزاب: 44]، {وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ قَالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَينَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ إنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ البَرُّ الرَّحِيمُ}[الطور: 25 ـ 28].
__________
(1) في (ج): وأضربوا. أي ضربوها.
(2) في (ب): لهم.

(2/139)


فاجتهدوا رحمكم الله واستغفروا، وقوموا لله بما أمركم الله به ولا تقصروا، ولا تركنوا إلى الخفض(1) في الدنيا فتهلكوا، وجدُّوا في جهاد أئمة الظلم تسعدوا، {إِلاَّ تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ}[الأنفال: 73]، فإنهم إخوان من مضى من إخوانهم في ارتكاب الردى، والجري في ميادين الهوى، والصد عن أبواب الهدى، أهل الفسق والبغي، حزب الشيطان، أهل الجرأة على الله بالمخالفة والعصيان.
واعلموا رحمكم الله أن حُكم الله فيهم وفيمن كان قبلهم واحد، وسنته في الفسقة الأولين؛ كسنته في الظلمة الآخرين، وفي ذلك ما يقول رب العالمين: {سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً}[الفتح: 23]، وقال سبحانه: {سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوا مِنْ قَبْلُ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَراً مَقْدُوراً}[الأحزاب: 38].
ألستم ترون رحمكم الله إلى أبواب النصر قد فتحت، وعلامات ما تأملون من دولة آل رسول اللّه قد أقبلت، ودلالات ملكهم قد شرعت، وأسباب ما وعد اللّه نبيه صلى الله عليه وعلى آله قد ثبتت، وعلامات هلاك عدوهم قد وضحت وبوادر الرحمة قد أقبلت، وإياكم قد أجنَّت وأظلت، ولكم بالنصر والتوفيق قد قصدت؟ فأقبلوا إليها ولا تدبروا، وتلقوها بقبولها قبل أن تندموا.
__________
(1) الخفض: الدعة، يقال: هم في خفض من العيش، أي هدوء وسكون وسعة.

(2/140)


ألستم ترون ما قد صار إليه أعداء الله وأعداؤكم من النقص والخذلان، والضلال والنقصان؟ فهم كل يوم يرذلون، وكل شهر يُنقصون، وكل عام يفتنون، قد تلعَّبت بهم عبيدهم، واجترأت عليهم ساستهم، فصاروا يسومونهم سوء العذاب، يقتلون من شاؤا منهم، ويقيمون من أرادوا منهم، يجبون الأموال لأنفسهم، قد تسلط عليهم شرارهم، وأعوانهم وعُبدانهم، فلا مال عندهم، ولا رجال في جوارهم، ولا أمر ولا نهي لهم، ليس في أيديهم ولا لهم بلد ينحون(1) فيه أمرهم، غير بعض القرى قد أحل فيهم الأعراب، واستباحت ما قدرت عليه من رعيتهم، ينهبون حواشيهم، ويخيفون سبيلهم، ويقطعون طريقهم، لا يقدرون على نفيهم وإبعادهم، ولا ينالون ما يشتهون من إذلالهم، بل هم الأذلاء الأقلاء، الفساق الضعفة(2)، أشد على الرعية والمساكين، إذلالاً من الأقوياء والمحاربين، يخيفون ويأكلون من تحت أيديهم، ويدارون(3) من نابذهم وتسلط عليهم،قد انهدم عزهم، وانخرقت مهابتهم، وفتكت بهم كلابهم، وقهرهم أشرارهم، وحكم عليهم عُبْدانهم، وقلت وانتفت من أيديهم الأموال، وتفرقت عساكرهم والرجال، زهداً من الرجال فيهم، ورغبة في خير من يجزل عليهم، قد مال عمود ملكهم، وانهدم باب عزهم، وتغير أساس أمرهم، وأعطت خلافتهم صاغرةً قيادها، وَرَمت إلى من قادها بزمامها، وألقت إليه(4) بسمعها وطاعتها، وذل لطالبها صعبها، ولان لراكبها مركبها، وذل له بعد الصعوبة ظهرها، وبرزت له من بعد شدة حجابها، واستقامت له وأشرعت(5) لدنوّ نتاجتها، ودرت لحالبها بدرة تسر الحالبين، وتنهل الشاربين، ويَعُلُّ(6) فيها العَالُّون، وينتعش ويشبع في أفوقتها(7)
__________
(1) في (ج): يمجُّون (كذا). وظنن بـ: (يمضون).
(2) كذا ولعلها: الضعفاء.
(3) في (ب): ويداريون. ولعلها: ويواربون.
(4) في (ج): إليها. وظنن بما أثبت من ب.
(5) في (ج): وأَضْرَعَتْ.
(6) العلل بعد النهل: الشربة الثانية بعد الأولى.
(7) في ب: أفرقتها، والفُواق: مقدار مابين الحلبتين.

(2/141)


الجائعون، فهي حافل(1) تشخب رجليها مما تدر، ولكن لا حالب لدرتها، ولا منتهز لفرصتها، لقلة المحقين، وذهاب المؤمنين، وذلة المسلمين، وركون هذا الخلق إلى الفسق، وتركهم لاتباع دعوة الحق، وتعلقهم بالفاني من أمر الدنيا، وزهدهم فيما يدوم من الآخرة ويبقى.
كان لم يسمعوا الله سبحانه يقول: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوتِ ثُمَّ إِلَينَا تُرْجَعُونَ}[العنكبوت: 57]، وكأن لم يسمعوا ما أخبرهم به عنهم من عاقبة أمرهم، وقوله لهم في يوم حشرهم؛ حين يقول: {وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ لَقَدْ تَقَطَّعَ بَينَكُمْ وَضَلَّ عَنْكُمْ مَا كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ}[الأنعام: 94].
__________
(1) ضرع حافل: ممتلئ لبناً.

(2/142)


فاجتهدوا رحمكم الله، واستبقوا إلى الله، وبادِروا قبل أن تبادَروا(1)، فإنه يقول: {وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ}[الواقعة: 10 ـ 12]. واعلموا أن المسبوق لن يلحق بالسابق، والكاذب لا يكون عندالله كالصادق. أما سمعتم الله يقول: {لاَ يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلاًّ وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى}[الحديد: 10]؟ وقال: {وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ}، وقال: {وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أبَداً ذَلِكَ الفَوْزُ العَظِيمُ}[التوبة: 100].
فابتدروا إلى الله تسعدوا، ولا تتخلفوا عنه فتهلكوا، ويرميكم بالذل والصغار، ويحشركم يوم القيامة إلى النار، قد بذلت لكم النصيحة إن كنتم تحبون الناصحين، والحمد لله رب العالمين، وسلام على المرسلين، والعاقبة للمتقين، (وصلى الله على سيدنا محمد النبي وآله وسلم)(2).
تمت الدعوة
__________
(1) في (ج): لا تبادروا.
(2) في (ج): وصلى اللّه على محمد خاتم النبيين وعلى أهل بيته الطيبين وسلم تسليماً.

(2/143)


رسائل وكتب
في
أصول التشريع
الرد على من زعم أن القرآن قد ذهب بعضه
m
قال يحيى بن الحسين صلوات الله عليه:
يسئل من قال: إن بعض القرآن قد ذهب، وأنكر أن يكون هذا القرآن الذي في أيدي الناس هو القرآن المنزل على محمد صلى الله عليه وآله وسلم بعينه، لم يزد فيه ولم ينقص منه؛ فيقال له: خبرنا عن حجج الله سبحانه على عباده ما هن؟ وكم هن؟ (1)
فلا يجد بداً أن يقول: هي الكتاب والمرسلون، والعقول والأئمه الهادون. فإذا أقر بذلك، وكان الأمر عنده كذلك؛
قيل له: أو ليس في كل حجة لله فروض مؤكدة، لا بد من العمل بها واستعمالها لها.
فإن قال: لا، كفر، وإن قال: نعم، قيل له: ما فرض كل واحدة منهن الذي لا بد من استعمالها به؟ وما معنى جعل الله لها؟
فإن كان جاهلاً جهل ذلك، وإن كان عالماً أجاب في ذلك بالحجة والصواب؛ فقال: حجة العقول ركبت وجعلت لتدل على خالقها؛ بما تستدركه من مجعولات جاعلها، وتميزه من فعل فاعلها، جعلت للإقرار بالله والتمييز بين الأمور، ومعرفة الخيرات والشرور.
والأنبياء فأُرسلت تدعو إلى الله تعالى، تنذر يوم التلاق، وتحتج على العباد للواحد الخلاق، وتبين لهم ما فيه يختلفون، وما إليه من العمل يدعون.
والأئمة من بعد الرسل؛ فجعلت لتدل على شرائع الأنبياء وتحكم بالحق بين العباد، وتنفي عن الأرض الغي والفساد.
وأما الكتب ففيها فرائض الرحمن وحججه، وحلاله وحرامه، وتبيين ما أحل الله لعباده، وما حرم عليهم، وما أمرهم به، وما نهاهم عن فعله، وما وكد من أحكامه فيهم، وما أوجب في كل الأسباب عليهم، {لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللهَ لَسَمِيْعٌ عَلِيْمٌ} [الأنفال:42].
ــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) في (أ،ج): ما هي وكم هي.

(2/144)


فإذا قال بذلك، قيل له: ويحك ما أغفلك؟! وأبين حيرتك، وأظهر جهلك وأقل علمك؛ بما تذكر من قولك، وتقول إن الكتب عندك على ما ذكرت وفسرت؛ وقد تعلم أن أعظم الكتب كتاب محمد عليه السلام؛ الذي جعله الله نوراً وهدى، وتبياناً ورحمة وشفاء، فرض فيه الفروض، وأصل فيه الأصول، وبين به حلاله وحرامه، وفي ذلك ما يقول جل جلاله، عن أن يحويه قول أو يناله، {مَا فَرَّطْنَا فِيْ الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ}، ويقول سبحانه: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً} [النحل: 89]، ثُمَّ أمر رسوله باتباعه، والانقياد لما فيه؛ فقال: {اتَّبِعْ مَآ أُوْحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ} [الأنعام: 106]، ثُمَّ تقول بعد: إنَّه قد ذهب بعضه، ولم يبق منه إلاَّ أقله، وهو دعائم الرحمن، وفيه ما يحتاج إليه من أمور الله في كل شأن؟!
فإن كان ذلك عندك كذلك؛ فقد ذهبت أكثر فرائض الله سبحانه، وعدمت حجته فتركت، وعطلت ورفضت، واستبْدَلْتَ بنور الحق وبهجته؛ حيرة الباطل وظلمته، فلا ذنب للعباد فيما جهلوا من الحق، وارتكبوا من الفساد، وتركوا من فرائض الله الَّتِي قد ذهبت مع ذهاب عامة كتابه، إذ هم عنها غافلون، ولها جاهلون، إذ لم يجدوها، ولم يطلعوا عليها ولم يعلموها.

(2/145)


ومن قال بذهاب بعض القرآن؛ دخل عليه بقوله الفساد في أمره ودينه، حتَّى لا يقوم له حجه، ولا تثبت له بينه، وذلك(1) أنَّه لو قال له قائل: أنت أيها المناظر تزعم أن القرآن قد ذهب منه بعضه، لا بل تقول ذهب أكثره؛ وأنت تعلم أن القرآن ناسخ، ومنسوخ، وأمر ونهي وخبر، وهذه الفرائض الَّتِي في هذه البقيه؛ الَّتِي بزعمك بقيت في أيدي الناس؛ فهي منسوخة كلها، وليست بمبينة للحكم، والمبينة للحكم فهي ما قد نسخها، مما قد ضل وذهب؛ لقطعه وأفسد ما في يده؛ من قوله: إن القرآن قد ذهب بعضه، واضطره إلى أن يبطل(2) ما في القرآن من هذه الأحكام، المعروفة عند جميع أهل الإسلام؛ أو يرجع إلى الحق، ويقول في القرآن بالصدق، فيقر(3) أنَّه هو بعينه، لم يذهب منه شيء، وأنه محفوظ ممنوع من كل غي. وإنَّما ألزمناه ذلك لأنَّه يزعم أن بعض القرآن قد ذهب، ومن قال بذلك لم يدر أهذه الفرائض الَّتِي في الكتاب الذي في أيدي المسلمين منسوخة أم ناسخة؟ وأن من(4) لم يعلم ذلك علماً يقيناً لم يجب عليه الإقرار بما لا يوقنه، فضلاً عن العمل به.
__________
(1) في (ب): وكذلك.
(2) في (ب): إلى ما يبطل.
(3) في (أ): ويقر.
(4) في (ب): فإن لم يعلم.

(2/146)


بل لو كابره مكابر مخالف؛ فقال(1) له: عندي ما ذهب من القرآن، وأنا أقيم عليه وأقيمه، وهو ناسخ لما(2) في هذه البقية، فأنا لا أقيم هذه الأحكام الَّتِي قد نسخت، وأقيم الأحكام الَّتِي نَسَخْتَها، وأعبد الله سبحانه بالفرائض الَّتِي ذهبت من هذا القرآن؛ الناسخة لهذه البقية في أيدي الناس، وأنا بذلك عالم، لأنَّه عندي وفي يدي؛ ثُمَّ ذكر وادعى أن الفرض(3) في الصيام هو صيام رجب، وأن صوم رمضان منسوخ، كما نسخ غيره من الصلاة إلى بيت المقدس، وغير ذلك من الأحكام، وقال: أنا أصلي الصلاة في أوقاتها الَّتِي سميت في هذه(4) البقية، لأن هذه الَّتِي معك منسوخة، نسختها الأحكام الَّتِي ضلت وذهبت، وقال: إنَّه لا يجلد الزاني، ولكن تقطع يده، ولا يقطع السارق؛ ولكن يجلد مائة جلدة، وادعى أن هذا الحكم مثبت فيما ذهب من القرآن، وأنه قد فهم ذلك منه وعلمه، وقال: إن حكم السارق والزاني في هذه البقية الَّتِي تزعم أنها بقيت في أيدي الناس منسوخ، نسخه ما جهل من القرآن وذهب، فأنا أعمل بالناسخ واترك المنسوخ. وكذلك يعارضه في كل فرائض القرآن، فإذا عارضه معارض بهذا القول؛ لم يكن له(5) أن يدفعه بها صغرت ولا كبرت(6)، لأنَّه قد أجابه وأجمع معه على أن القرآن قد ذهب بعضه، بل عامته في زعمه. ولو كان القرآن كذلك؛ لكان الناس كلهم قادرين على ادعاء ما أحبوا أن يدعوا من ذلك، ولبطلت فرائض الله وحدوده، ولم يقم لله حد على عباده، لأن ما قال من ذلك لو كان يدرأ الحد(7)؛ لقول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (( ادرأوا الحدود بالشبهات )).
__________
(1) في (ب): وقال.
(2) في (أ): لكل ما في.
(3) في (ب): الفرائض.
(4) يعني الَّتِي معه الَّتِي قد زعم أنَّها ذهبت.
(5) في (أ، ج): لم يكن له بُدٌّ.
(6) في هامش (ج): أو كبرت
(7) في هامش (ج): لدرأ.

(2/147)


وهذا القول الفاسد المحال، الكاذب المضل الضآل؛ فلو أجاب إليه المسلمون قائله، أو جاز أن يقول به المؤمنون؛ لوجب عليهم وعلى إمامهم أن يأتوا بناسخه، ومنسوخه، وجميع ما ذهب منه، وإلا فلم يجب لهم على كل ذي حَدٍّ يَدٌ؛ لأن كل ذي حد وجب عليه في شيء أحدثه يزعم ويدعي أن حكم الله بالأدب في ذلك منسوخ، ويقول: إنَّه لا يحد بهذا الحد في هذا الجرم، وإن حده غير هذا الحد الذي في هذه البقية بزعم من يزعم أن القرآن ناقص، ويقول: هلموا ما ذهب منه فاتلُوْه؛ فإن لم تجدوا فيه ما ينسخ هذا فحدُّوني، وإن وجدتم فيه ما أدعي فخلوني. فتعالى الله عما يقول فيه المبطلون علواً كبيراً، والحمد لله رب العالمين كثيراً، الحافظ لكتابه المانع له من كل خطأ وزلل، أو ذهاب، أو نقصان. وكيف يذهب من القرآن قليل أو كثير؛ وهو حجج الواحد اللطيف الخبير، وفيه فرائضه على الخلق سبحانه؟ فقد حُفِظ ومُنِع ........... (1) من كل شأن من الشأن.
فتأويل قال بنقصان الفرقان، أما سمع قول الواحد الرحمن: {بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيْدٌ فِيْ لَوْحٍ مَحْفُوظٍ} [البروج: 21ـ22]، فأخبر أن القرآن عنده، محفوظ له جل جلاله. وفيه ما يقول: {وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيْزٌ لا يَأْتِيْهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيْلٌ مِنْ حَكِيْمٍ حَمِيْدٍ} [فصلت: 41ـ42]، ويقول سبحانه: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ}[الحجر:9]، فأخبر أنَّه لما نزل من الذكر حافظ، ولم يلفظ بغير الحفظ فيه لافظ، إلاَّ عم جاهل، وعن الرشد والحق زائل، ولقول الله مبطل معاند، ولما ذكر الله من حفظه له جاحد.
__________
(1) بياض في (ب ، ج) فقط.

(2/148)


وفي ذلك ما حدثني أبي عن أبيه، أنَّه قال: قرأت مصحف أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه، عند عجوز مسنة، من ولد الحسن بن زيد بن الحسن بن علي بن أبي طالب؛ فوجدته مكتوباً أجزاء، بخطوط مختلفة، في أسفل جزء منها مكتوب: وكتب علي بن أبي طالب، وفي أسفل آخر: وكتب عمار بن ياسر، وفي آخر وكتب المقداد، وفي آخر: وكتب سلمان الفارسي، وفي آخر: وكتب أبو ذرالغفاري، كأنهم تعاونوا على كتابته، قال جدي القاسم بن إبراهيم صلوات الله عليه: فقرأته فإذا هو هذا القرآن الذي في أيدي الناس حرفاً حرفاً، لا يزيد حرفاً ولا ينقص حرفاً؛ غير أن مكان: {قَاتِلُوا الَّذِيْنَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ} [التوبه: 123]؛ اقتلوا الذين يلونكم من الكفار، وقرأت فيه المعوذتين.
قال يحيى بن الحسين صلوات الله عليه: ومن الحجة في حفظ القرآن، وإبطال ما يقال به من ذهابه وافتراقه، وزواله ونقصانه؛ قول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (( إني تارك فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا من بعدي أبداً، كتاب الله، وعترتي أهل بيتي، إن اللطيف الخبير نبأني أنهما لن يفترقا حتَّى يردا علي الحوض ))، فأخبر صلى الله عليه أن الله جل ثناؤه أخبره بنبأئهما، وبأنهما حجة منه على خلقه، باقية في أرضه إلى يوم حشر العالمين.
والحمدلله رب العالمين، أولاً وآخراً وصلى الله على سيدنا محمد وآله وسلم.
*****

(2/149)


كتاب تفسير معاني السنة
تفسير معاني السنة والرد على من زعم أنها من رسول الله من كلامه صلى الله عليه وآله وسلم
m
الحمدلله علام الغيوب، البريء من كل نصب ولغوب، الواحد العلي، القدوس الأزلي، الذي رفع السماء فبناها، وسطح الأرض فطحاها، خالق المخلوقين، ورب المربوبين، وباعث الموتى، ومبتدئ الأحياء، العالم بخفيات سرائر الغيوب، المطلع على غوامض سرائر القلوب، المتعالي عن القضاء بالفساد، المتقدس عن اتخاذ الصواحب والأولاد، الآمر لعباده بالرشاد، الذي ليس كمثله شيء وهو السميع البصير، الواحد الأحد العليم الخبير.
أحمده على ما من به فينا، وتفضل به سبحانه علينا، من ولادة النبيين، ووراثة علم المرسلين، ونشكره على ما خصنا به، وجعلنا بفضله من أهل القيام (1) بحجته، والدعاة (2) لخلقه إلى ما افترضه عليهم، وأوجبه إيجاباً مؤكداً فيهم، من الأمر بأمره، والنهي عن نهيه، والحكم بكتابه، والاتباع لدينه، والمجاهدة لمن جاهده (3)، والمعاضدة لمن نصره، والمعاداة لأعدائه، والموالاة لأوليائه، والقيام بأكبر فروضه قدرا، وأعظمها لديه خطرا، وهو الجهاد في سبيله، والمباينة لمن عَنَدَ عن دينه، وفي ذلك ما يقول جل جلاله، عن أن يحويه قول أو يناله: {إِنَّ اللّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِيْنَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بَأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِيْ سَبِيْلِ اللّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقاً فِيْ التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيْلِ وَالْقُرَآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيْمِ} [التوبة:111]، ثم قال تبارك وتعالى فيما يذكر من تعظيم ما ذكرنا من الجهاد الكريم: {لا يَسْتَوِي الْقاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِيْنَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرَ وَالْمُجَاهِدُونَ فِيْ سَبِيْلِ اللّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ
__________
(1) في (أ، ج): من أهله من القيام.
(2) في (أ، ج): والدعاء.
(3) كذا في النسخ، وظننا في هامش (ج) بقوله: عانده.

(2/150)


فَضَّلَ اللّهُ الْمُجَاهِدِيْنَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِيْنَ دَرَجَةً وَكُلاً وَعَدَ اللّهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِيْنَ عَلَى الْقَاعِدِيْنَ أَجْراً عَظِيْماً دَرَجَاتٍ مِنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيْماً} [النساء:195 ـ 196]، ثم قال سبحانه فيما أمر به عباده من النفير في سبيل الله، والإحياء لشرائع دينه: {انْفِرُوا خِفَافاً وَثِقَالاً وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِيْ سَبِيْلِ اللَّهِ ذَلِكَمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [التوبة:41]، ثم قال تخويفاً للقاعدين، وإعذاراً وإنذاراً للمتربصين، واحتجاجاً على المتخلفين؛ عن واجب ما أوجب أحكم الحاكمين، وتبييناً لفضل المنابذين؛ لمن نابذ شرائع الدين، وجهد في إبطال الحق واليقين، وكان ضداً مدافعاً للحق، وكهفاً وسنداً للفسق: {إِلاَّ تَنْفِرُوا يُعْذِّبْكُمْ عَذَاباً أَلِيْماً وَيَسْتَبْدِلْ قَوماً غَيْرَكُمْ وَلا تَضُرُّوهُ شَيْئاً وَاللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيْرٌ} [التوبة:39]، ثم ذكر سبحانه فذم ذا التَّعِلاَّتِ(1)، وأهل التأويلات الباطلات، فأخبر أنه لاعذر لهم فيما به يعتذرون، ولاحجة لهم فيما فيه يتأولون، من التعلق بالشبهات، والتسبب لمنال (2) الفكاهات، والتلذذ بمقاربة الأولاد والزوجات، وجميع الأموال من التجارات، فقال سبحانه تحذيراً لهم، وتنبيهاً عن وسنتهم، وتيقيظاً (3) لهم من رقدتهم: {قُلْ إِنْ كَانَ آبآاؤُكُمْ وَأَبْنَآؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيْرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَونَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلِيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٌ فِيْ سَبِيْلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى
__________
(1) يعني أصحاب الأعذار الكاذبة.
(2) في (ب): والتسبب لمثال.
(3) في (ب): وتيقظاً.

(2/151)


يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقْيْنَ} [التوبة:24]،سمى من كان كذلك، أو ضرب لنفسه (1) تأويلاً (2) في ذلك فاسقين، وأوجب لهم ما أوجب على الفاجرين، من عذاب الجحيم، والخلود في العذاب الأليم. ثم قال سبحانه ترغيباً لعباده المؤمنين، وإخباراً لهم بما أعد لهم على الجهاد من الثواب المبين: {يَا أَيُّهَا الَّذِيْنَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيْمٍ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِيْ سَبِيْلِ اللّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِيْ مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِيْ جَنَاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيْمِ وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِنَ اللهِ وَفَتْحٍ قَرِيْبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِيْنَ} [الصف:10 ـ 13]، صدق الله سبحانه إن ذلك للتجارة الكبرى، والكرامة الجليلة العظمى، والحظ العظيم، والأمر الجسيم؛ الذي جل ذكره وعظم قدره، وحسن عند الله مآب فاعله، وجل لديه سبحانه خطر القائم به، جعله له سبحانه مؤتمناً على خلقه، ومرشداً إلى أمره، خصه بخواص الكرامة الكاملة، وأعطاه العطية الفاضلة، وجعله حجةً شاملة، ونعمةً على الخلائق دائمة. نسأل الله إيزاع شكره، وبلوغ ما نؤمل من طاعته، فإن ذلك أفضل ما أعطى الخلق من العطاء، وأعظم ما بلغه بالغ من الرجاء، ونسأل الله أن يصلي على محمد عبده ورسوله المصطفى، وأمينه المرتضى، وخيرته من خلقه، وأمينه على وحيه، وصفوته من بريته، صلى الله عليه وأهل بيته الطيبين الأخيار، الصادقين الأبرار، الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً.
__________
(1) في (أ) و(ج): ثم سمى.
(2) في (ب): تأولاً.

(2/152)


ثم نقول من بعد الحمد لله والثناء عليه، والصلاة على محمد صلى الله عليه وآله وسلم: أما بعد، فإنا نظرنا في أمور هذه الأمة وأسبابها، وقلبنا ما قلبنا من حالها وأخبارها، وافتراق أقاويلها، وفساد تأويلها، وقلة ائتلافها؛ فوجدنا أمورها تدل على أنها ضيعت ما به أمرت، حتى صعب قيادها، وكثر حيادها؛ فقلَّ(1) فهمها، (وقل احتياطها)(2)، وكثر تخليطها، وصار لكلها قول مقول، وعمل فادح معمول، ينفر منه القلب الجهول، فضلاً عن أهل المعرفة والعقول.
__________
(1) في (أ،ج): وقل.
(2) زيادة من (أ).

(2/153)


كان من أنكر قولها، وأعظم جهلها؛ ما قالت به في الله سبحانه، ورمت به بجهلها رسوله، فزعمت لعظيم غفلتها وغامر(1) رقدتها؛ أن دينها الذي به تعبدها ربها كتاب ناطق مضيء، وسنة جاء به من نفسه النبي، شرعها من ذاته، وتخيّرها للعباد بنظره، لم يأمر بها الرحمن، ولم تنزل عليه في آي القرآن، فزعمت بذلك من قولها، ولزمها في أصل مذهبها، وحاق بها في جميع قولها؛ أنها(2) زعمت فيما ذكرت وقالت: أن الله سبحانه وكل نبيه صلى الله عليه وآله وسلم في الدين إلى نفسه، ولم يشرع له كلما يحتاج إليه من فرضه، كأن لم تسمع الله سبحانه يقول، فيما نزل على نبيه من القول: {مَا فَرَّطْنَا فِيْ الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} [الأنعام:38]، ويقول سبحانه: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِيْنَ} [النحل:89]، وكأن لم يسمعوا قوله: {أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِيْ ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [العنكبوت: 51]، فأخبر سبحانه بقوله: {أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ} أن فيما نزل من تبيانه، ونوره وبرهانه؛ كفاية لهم في كل ما افترض عليهم، ولو كان ترك شيئاً مما يحتاجون إليه لم ينزله على نبيه صلى الله عليه وآله وسلم في القرآن وعلى لسان جبريل؛ لم يقل: أولم يكفهم، فدل بما شهد به من الكفاية لهم على أنه لم يكل نبيهم صلى الله عليه وآله وسلم؛ إلى استخراج شيء مما افترض عليهم وعليه، وإنه لم يترك شيئاً من فرائضه، ولا شرائع دينه؛ إلا وقد أوحى به إلى رسوله وحياً، ونزل عليه به نوراً وهدىً، فلم يكف هذه الأمة؛ ما نزل الله فيما ذكرنا من الحجة؛ حتى قالت: إن كل فرع مفرع مما فرعه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم هو منه اختياراً وتمييزاً من نفسه، وأن ذلك ليس هو من ربه.
__________
(1) في (ب): لعظيم غفلتها وغامرة.
(2) في (ب): أنما.

(2/154)


من ذلك ما قال الله سبحانه في الصلاة الموجبة والزكاة المفترضة؛ حين يقول: {أَقِيْمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} [البقرة:43، وغيرها]. فزعمت هذه الأمة فيما ذكرت، وبه على الله سبحانه اجترأت، أو من قال بذلك منها؛ أنه لم يكن من الله جل جلاله وعظم عن كل شأن شأنه في الصلاة غير ما أمر به من إقامتها، وأنه لم يحد لنبيه صلى الله عليه وآله وسلم شيئاً من حدودها، ولم يوقفه على ما به كمالها؛ من ركوعها وسجودها وعدد ركعاتها، وأن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم اخترع ذلك من نفسه، وسنه لأمته، وجعله ديناً لها من ذاته. وأن شرائع الزكوات وما به تجب الزكاة في الأوقات المفروضات المؤقتات، وما يؤخذ من الأموال الصامتة والأنعام السائمة والأطعمات، وما يجب في التجارات من الأعشار وأنصافها، وما حدد في ذلك كله من الحدود المعروفة، وأوقف عليه في كل ذلك من الأفعال المفهومة؛ من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لا من الله؛ وأن ذلك شيء فعله برأيه، واختاره بتمييزه(1)، وفعله باجتهاده، وفرضه على أمته، دون خالق المخلوقين، وإله العالمين.
وكذلك قالوا في جميع الفرائض(2) المفروضة، والفروع المفرعة(3).
فزعمت هذه الأمة، أو من قال بذلك منها: أن ما كان في الكتاب ناطقاً موصولاً؛ فهو من الله فرض مفترض، وما كان من تفريع الأصول، وتمييز ما ميز صلى الله عليه وآله وسلم من الفصول؛ فإنه منه لا من الله، وأنه فعله لا فعل الله، ثم سموا ذلك الفرع سنة، وأخرجوا معنى السنة من الفريضة، وتوهموا أن ذلك كما قالوا، ولم يعلموا ما عليهم في ذلك، حتى حكموا به وسموه كذلك.
__________
(1) في (ب): لتمييزه.
(2) في (أ): قالوا جميعاً في الفرائض.
(3) في (أ،ج): المتفرعة.

(2/155)


فلما عظم الأمر، وجل الخطر، ورأينا الهلكة واقعة بهم، والضلالة شاملة لهم؛ رأينا أن نفسر قول القائل: (سنة)، ونشرح ما السنة؟ وكيف كان تفريع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ما فرع من الأصول المنزلة، التي جاءت في كتاب الله سبحانه مجملةً.
فقلنا: إن رسول الله عليه السلام لم يكن ليخترع أمراً دون الله سبحانه، وأنه كما قال صلى الله عليه وآله وسلم حين يقول: {إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِليَّ} [الأحقاف:9]، وكما قال عليه السلام: {وَمَا أَنَاْ مِنَ الْمُتَكَلِّفِيْنَ} [ص:86].

(2/156)


ونقول: إن الله سبحانه لم يكل شيئاً من ذلك إلى نبيه يبتدعه ولا يشرعه، ولا يفرضه ولا يثبته، إذاً لقد كلفه شططاً من أمره، وألزمه معوزاً من فعله، بل القول في ذلك المبين، والحق النير اليقين؛ أن الله سبحانه، وجل عن كل شأن شأنه؛ أصَّل(1) أصول فرائضه في الكتاب المبين، ونزله على خاتم النبيين، فجعل في كتابه أصل(2) كل ما افترضه من الدين، وبينه لجميع العالمين، فكانت أصول الدين في الكتاب كلها، وجاءت الفصول مفصولة، والفروع المفرعة؛ إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم من الله ذي الجلال والإكرام؛ على لسان الملك الكريم؛ جبريل الروح الأمين، فنزل شرائع(3) الدين، وتفريع أصول القرآن المبين، على محمد صلى الله عليه وآله وسلم كما نزل عليه السلام بالأصول إليه، وكان نزوله بالفروع مفرعةً؛ كنزوله بالأصول المجملة المجتمعة، وأدى جبريل الروح الأمين، إلى محمدٍ خاتم النبيين؛ فروع شرائع الدين، عن الله رب العالمين؛ كما أدى مجملات أصول القرآن المبين. والسبب في تفريق ذلك من الله، فنظر من الله لبريته، وعائدة على خلقه، ولطف في فعله وصنعه، وتقوية لمن أراد حفظ كتابه، وجعل(4) ما نزل من وحيه وبيانه. فخفف عنهم في الكتاب، وأعانهم بذلك في كل الأسباب، ففرق بين الأصول الموصلة، والفروع المفرعة، فجعل الأصول في الكتاب مجملة جاء بها جبريل، وجعل الفروع في غير الكتاب جاء بها أيضاً جبريل، وكل من الله(5) وحي مبين وتفصيل، وفرضاً منه سبحانه وتنزيل، بعث بهما كليهما رسولاً واحداً، ملكاً عند الله مقرباً، أميناً مؤتمناً، فأدى إلى الرسول ما به أرسل، وتلا عليه من ذلك ما أمر بتلاوته عليه، فكان ذلك من الله فرضاً مميزاً، وديناً من الله مفترضاً، لم يكن من رسوله فيه اختيار، ولم يشرع لأمته من دين الله إلا ما
__________
(1) في (ب): أنزل.
(2) في (أ،ج): أصول.
(3) في (ج): بشرائع.
(4) كذا في النسخ وظنن في هامش (ج) بـ وحمل.
(5) في (ب): فكان من الله.

(2/157)


شرع الله، ولم يأمرها إلا بما أمرها الله، ولم ينهها إلا عما نهاها الله.
من ذلك ما قلنا به من قول الله: {أَقِيْمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} [البقرة:43، وغيرها]، فنزلت هاتان اللفظتان في القرآن موصلتين، وجاءتا فيه مجملتين، فاحتملت الصلاة أن يصلى كثيراً أو قليلاً، إذ جاء ذلك مجملاً، ثم فسر الله ذلك على لسان جبريل، كما نزل على لسانه القرآن الجليل، فجعل الله الظهر أربعاً، والعصر أربعاً، والمغرب ثلاثاً، والعتمة أربعاً، والصبح اثنتين، فبين لنبيه صلى الله عليه وآله وسلم تفسير ما جاء في كتابه مجملاً؛ من أمره بالصلاة جزماً، ولم يكله إلى أن يتكمه في ذلك تكمهاً، ولا أن يتخبط فيه صلى الله عليه وآله وسلم تخبطاً. وكذلك لمَّا أن قال سبحانه(1): {وَآتُوا الزَّكَاةَ}، احتمل أن تؤخذ من كل دينار ودرهم، وشاة وجمل، ومدّ ومكوك(2)، ومن الغني والفقير، ومالك ألف شاة، ومستغل ألف مد، ومستغل مد، وصاحب ألف دينارٍ وصاحب دينار؛ لأنه سبحانه يقول: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيْهِمْ بِهَا} [التوبة: 103]، ولم يفسر فيما أنزل من القرآن، كم يأخذ من كل إنسان، مالك الحقير والقليل، ومالك الكثير والجليل. ثم فسر سبحانه على لسان الملك الذي نزل بالقرآن، من عند الواحد الرحمن؛ ما يجب في الأموال، وما يؤخذ من أهلها في كل حال، وما يجب على المالك المؤسر، وفي كم تسقط عن المالك المعسر، وكم هي؟ وكيف هي؟ حتى سنن أسنان مواشيها، فجعلها سناً سناً، في عدد معروف معلوم، وكذلك فيما يكال ويوزن من الوزن والكيل المفهوم.
__________
(1) في (ب): قال سبحانه.
(2) المُدّ: مكيال، وهو رطل وثلث عند أهل الحجاز، ورطلان عند أهل العراق، والمكوك كذلك، وهو ثلاث كيلجات، والكيلجة مناً وسبعة أثمان مناً، والمنا رطلان.

(2/158)


وكذلك قال تبارك وتعالى في الديات، فقال: {الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالأُنْثَى بِالأُنْثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيْهِ شَيْءٌ فِاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَلِكَ تَخْفِيْفٌ مِنْ رَبّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمْنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيْمٌ} [البقرة:178]، (فقال سبحانه: {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيْهِ شَيْءٌ فِاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ})(1)، فقال: {عَفَي} يريد من القتل(2) إلى الدية، فأمر(3) بأداء الدية إلى من عفى، إذا قبل الدية وأرادها. ثم قال سبحانه في موقع آخر: {فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ} [النساء:92]، في قتل الخطأ فأوجب الدية. وقال في موضع آخر: {وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ} [المائدة:45]، فجعل في جروح العمد القصاص، وجعل القود(4) في قتل العمد، وجعل الديات في جروح الخطأ، فأنزل ذكر ذلك في الكتاب مجملاً، ولم يجعله مشروحاً مفسراً، ثم بينه على لسان نبيه وفسره، وجعل الدية ألف مثقال في أهل الذهب، وعشرة آلاف درهم قفلة في أهل الدراهم، وجعلها ألفي شاة في أهل الغنم، وجعلها مائتي بقرة في أهل البقر، ومائة من الإبل في أهل الإبل، ثم سنَّنَهَا وبيَّنها على لسان نبيه عليه السلام، ثم لم يكن من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في ذلك شيء إلا البيان، والأداء عن الله بإحسان.
__________
(1) ليس في (أ).
(2) في (ب): فقال عفا، يريد عفا من القتل.
(3) في (أ): ثم أمر.
(4) في (أ): كما جعل القود. والقود هنا: القصاص.

(2/159)


وكذلك جميع الفرائض والمواريث، ففسر منها في كتابه ما فسر(1)، وفسر على لسان نبيه(2) باقي ذلك. وكذلك في جميع أحكام الحلال والحرام، فكل ما قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إنه حلال؛ لا يجوز تحريمه، وما قال إنه حرام؛ لا يجوز تحليله، وكل ما أوقف الأمة عليه، وجعله فرضاً عليها مفروضاً؛ لم يجز لها تعديه، ولم يطلق لها النقصان ولا الزيادة فيه؛ فهو من الله سبحانه لا منه صلى الله عليه وآله وسلم، لم يزد رسول الله عليه السلام فيما أمر به، ولم ينقص منه، بل أدى الأمانة والنصيحة فيه صلوات الله وبركاته عليه.
فمن قال: إن شيئاً من هذه المحصورات(3)؛ من المحرمات والمحللات؛ كان من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم سنة ابتدعها لم تبين ولم تشرح ولم تشرع؛ فقد جهَّل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وجهَّل في قوله بذلك الله عز وجل، سبحانه عن ذلك، وتعالى علواً كبيراً أن يكون كذلك، أو أن يكل نبيه عليه السلام إلى نفسه، أو أن يجعل إليه شيئاً من فرض دينه، حتى يفرضه دونه.
ومعنى قول القائل: سنه، فإنما هو بينه وأظهره، وذكره عن الله وشرعه، وبينه عنه سبحانه وأعلنه، لا أنه اقترحه ولا اخترعه.
__________
(1) في (ب): المفسر.
(2) في (ب): لسانه.
(3) في (ب، ج): المحظورات.

(2/160)


ومن الحجة في ذلك أن يقال لمن قال أو ظن هذا القبيح من الظن: أخبرنا عن دين الإسلام وأحكامه، وما جعل الله تبارك وتعالى فيه من نوره وبرهانه، وما اختار(1) فيه سبحانه لنبيه صلى الله عليه وآله وسلم؛ هل كان عند الله معلوماً، ومن قبل خلق الدنيا في علمه تبارك وتعالى مفهوماً، لا يزل عنه منه صغير، ولا يغيب عنه طول الدهر منه كبير؟ فلا يجد بداً من أن يقول: نعم، قد كان دين الإسلام وشرائعه، وما جعل الله تبارك وتعالى فيه من فروضه وحدوده؛ عند الله سبحانه معلوماً، لم تزد بعثة محمد ولا إيجاده في حدود الإسلام وما علمه الله من فرائض دين محمد عليه السلام شيئاً، بل جاءت وكانت، وافترضت وبانت؛ بعد بعثة محمدٍ على الأصل الذي كان عند الله معلوماً، الذي(2) اختاره على الأديان كلها لنبيه صلى الله عليه وآله وسلم ولأمته.
فيقال له عند إتيانه بما ذكرنا، وتثبيته(3) لما قلنا وشرحنا: أيها المناظر، إذا كان عندك هذا القول على ما قلت، فمن أين علم محمد صلى اللّه عليه جميع ذلك؟ حتى استخرج مكنون علم اللّه القديم، وشرائع دين اللّه الكريم، حتى أتى بها على ما كانت، وبينها على ما فرضت، وأقامها على ما حددت، من قبل إيجاده وخلقه، وكينونته (وبعثته) (4).
فإن قال: استخرجها رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم بعقله، واستدل عليها بلبه.
قيل له: سبحان اللّه ما أجهل هذا المقال، وأفحش هذا الفعال؟! وكيف يستدل بعقل على علم غيب عند اللّه مكتوم؟! هذا ما لا يكون أبداً؛ إذ المخلوقون(5) لا يعلمون غيباً، ولا يفهمون(6) مما استسر به سراً.
فإن قال: عَلِمَه بتوفيق الله.
__________
(1) في (ب): ومما اختاره.
(2) في (ج): وما الذي.
(3) في (أ): وتبيينه.
(4) ليس في (أ).
(5) في (ب): والمخلوقون.
(6) في (ب): ولا يفقهون.

(2/161)


قيل له: ليس هذا مما يلزمه التوفيق، ولا يجوز عليه فيه طرف من التحقيق، لما فيه من عظيم فروض الله، وجليل صنع الله، وأمره ونهيه، وزجره وفعله، وما أوجب به وفيه وعليه من الثواب للمطيعين، والعقاب على العاصين. وإنما يكون من اللّه التوفيق في غير المفروضات من الأمور، فأما شرائع الدين؛ وما تعبد به المسلمين؛ فلا يكون إلاَّ بتبليغ الرسل، والاحتجاج بذلك على جميع الملل. فلا يَجد بدًّا من الإقرار بالحق، والتعلق بعلائق الصدق(1)، والرجوع إلى قول المؤمنين، أو أن يثبت على باطله، من بعد إثبات الحجة (عليه في مذهبه) (2)، فيكون عند نفسه وعند غيره مكابراً، وللحجج البالغة مناصباً، ولا يجوز له في دينه احتجاج ولا بيان، ولا يجد على الباطل بحمد اللّه عوناً ولابرهاناً، فإذا بان له خطأ هذين المعنيين، وفساد هذين الوجهين؛ لم يجد بداً من أن يقول بقولنا؛ فيزعم أن جميع ذلك من اللّه سبحانه وحي أوحاه إلى نبيه على لسان مَلَكِه، كما أوحى القرآن على لسانه.
ولعمري ما سبيل أصول الأحكام، وما تعبد اللّه به أمة محمد عليه السلام؛ إلاَّ كفرعها، ولا فروعها إلاَّ كأصولها، وما أصولها وإن جاءت في الكتاب مجملة؛ بأوكد فرضاً من فروعها المتفرعة، وما كان محمد عليه السلام إلى علم مجملها؛ بأحوج منه إلى علم فروعها؛ لأن الفروع هي العمل، والعمل فهو الإيمان؛ لان الإيمان كما قال أمير المؤمنين: (( قول مقول، وعمل معمول، وعرفان بالعقول )). والفروع فهي أصول الأعمال وأصول الإيمان، وإذا كان ذلك كذلك؛ فلا بد أن سبيلها عند اللّه كسبيل ما أجمل في القرآن، لا يختلف معنى الفروع والأصول، إلاَّ عند من سُلِبَ العقول.
__________
(1) سقط من (أ).
(2) في (ب): والتعليق بالصدق.

(2/162)


ومن الحجة على ما به قلنا؛ من أن اللّه سبحانه نزل الفروع على نبينا(1)، كما نزل الأصول في كتابنا؛ قول اللّه سبحانه: {مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الكِتَابُ وَلاَ الإِيْمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ}[الشورى: 25] فأخبره أنَّه لم يكن يدري ما هذا الكتاب المجمل، ولا هذه الفروع التي هي الإيمان المنزل.
وفي ذلك ما يقول: {وَوَجَدَكَ ضَالاًّ فَهَدَى}[الضحى: 7]، يريد تبارك وتعالى ضالاً عن شرائع الدين، وفروع ما أجمل في القرآن المبين، فلم يكن صلى اللّه عليه يدري كم يصلي الظهر، ولا كم عدد العصر، ولا كم يأخذ من أموال الناس المسلمين من الزكاة، ولا كم فرض اللّه عزَّ وجل فيها، ولا متى تجب، ولا في كم تجب، بل كان ضالاً عن ذلك كله، وضلاله عنه فهو: جهله به، وقلة معرفته بما يريد اللّه أن يفترض عليه. فلم يكن عليه السلام يعلم من ذلك إلاَّ ما عُلِّم، ولم يفرض على الأمة إلاَّ ما به أُمِر، ولم يكن من المتكلفين، ولا من غير ما أمر به من المتكلفين(2).
__________
(1) في (ب): على ما بينا.
(2) كذا في النسخ، ولعلها: ولا بغير ما أمر به من المتكلمين. كما ظن بذلك في (ط).

(2/163)


ومن الحجة في ذلك أنَّه لو كان كما يقول الجاهلون، ويتكلم به الضالون، من أن رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم فرع هذه الفروع، من نفسه، وأوجدها(1) وبينها من دون ربه؛ لكان محمد عليه السلام؛ المفترض لجميع هذه الفرائض والأحكام على جميع الأنام، دون اللّه الواحد ذي الجلال والإكرام، ولو كان صلوات اللّه عليه المفترض لذلك، المحدد له الجاعل على أمته، لكان هو المتعبد لها بفرضه، المدخل لها في حكمه، المصرف لها في عبادته، دون اللّه تبارك وتعالى عن ذلك، وحاشا لرسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم أن يكون كذلك؛ لأن الأمة إنما عبدت اللّه بهذه الشرائع وهذه الفروع، وبإقامة هذه الأحكام، وتحليل الحلال منها وتحريم الحرام.
فلو كان رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم ـ كما يقول الجاهل(2) من أهل هذا المقال ـ هو المفرع لهذه الفروع والناشر لها والمتخير فيها، المحلل لحلالها المحرم لحرامها، اختياراً منه بفعله، وتمييزاً منه بلبِّه، وحتماً منه على أمته، اختراعاً له دون ربه؛ لكان محمد متعبداً(3) للأمة بفرضه، وكانت الأمة عابدة محمداً دون ربه؛ إذ هي قائمة بفرائض محمد ساعية فيها، مقيمة لها مستقيمة عليها. وفي هذا ومثله وفي القول بيسيره أكفر الكفر بالله سبحانه وأجهل الجهل به، وأكبر الطعن على رسوله، تعالى اللّه عن ذلك علواً كبيراً.
بل القول في ذلك أن رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم لم يفترض فريضة دون الله، ولم يحكم في دَمٍ ولا فَرْج إلاَّ بالله، وأن اللّه سبحانه هو مؤصل الأصول، ومجمل المجمل(4)، ومفصل المفصل، ومفرع المفرعات، ومبين الملتبسات، المتولي لتعبد خلقه؛ بما شاء سبحانه من فرضه. وأن نبيه صلوات اللّه عليه لم يزد ولم ينقص في شيء مما أمر بتبيينه للعباد، وأنه قد بلغ وأرشد غاية الإرشاد.
__________
(1) في (ج): وأوجبها.
(2) في (أ): الجاهل.
(3) في (ج): مستعبداً
(4) في (ب): الجمل.

(2/164)


ثم نقول: إن كل ما قال رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم: أنَّه حرام لا يجوز تحليله، أو إنَّه حلال لا يجوز تحريمه، ومحظور لا يجوز إطلاقه، ومطلق لا يجوز حظره؛ فإنه من اللّه لا منه، وأنه لم يفعل ذلك إلاَّ بأمر الله، ولم يتعد فيه فرض الله، وأن ذلك لا زم للأمة، وأنَّ لمن خالفه أو نقض بعضه العقاب والعذاب، وأن لمن أدَّاه على وجهه وعبد اللّه بما تعبده به الثواب.
فكل ما ذكرنا من ذلك من الحلال والحرام، وشرائع الدين والأحكام، فهي من اللّه حقاً حقاً. وليس حالها كحال غيرها مما جعله رسول اللّه عليه السلام من نفسه واختياره ورآه، مما لم يجعل اللّه ولا رسوله على تاركه عقاباً. مثل ما سنَّ من الوتر، وتقليم الأظفار، وحلق الشعر، والسواك، وتعفية اللحية، وأخذ الشارب، وغير ذلك مما سن وفعل، واختار لنفسه من زيادات العبادة والصلاة، مثل ما كان يصلي ويلزم ويحب، من ركعات كان يصليهن فيما سوى الفريضة. ومثل ما كان يرى من التعزيرات، ويفعله عند النازلات، وما كان يكون منه من التأديب لأمته على ما يكون من خطأ أفعالها؛
لأن الخطأ من أفعال الأمة على أربعة أوجه(1):
فوجه يجب لله فيه حد، وهو ما جعل فيه سبحانه حداً في كتابه وسماه، مثل: ضرب الزانيين(2)، وقطع السارقين، وحد القاذفين، وما أشبه ذلك مما جاء في الكتاب حده مبيناً.
والوجه الثاني: فما نزل به جبريل على النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وحَّده له وأمره به؛ من أدب من ارتكب شيئاً محرماً، مثل: حد الخمر المحرمة في الكتاب، نزل بالحد فيها ـ وفسره كما فسر غيره من الفروع ـ جبريلُ لمحمد صلى الله عليه وآله وسلم.
__________
(1) في (أ) و(ج): وجوه.
(2) في (ب): الزانِيْنَ.

(2/165)


والوجه الثالث: فخطأ من أفعال العباد، يجب للنبي عليه السلام فيه الأدب على فاعله، وهو مثل رجل لو ضم امرأة إليه، أو قَبَّلها، أو نظر إلى شعرها أو بشرها، فلرسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم الاختيار في أدبه وتعزيره، على قدر ما كان من فعله وجرمه، يقل الأدب أو يكثر، على قدر ما يرى من بلوغ الأدب، وجزع(1) المؤدب.
وكذلك الأئمة لها في ذلك الاختيار، تعزر بما رأت، يقل الأدب أو يكثر، على قدر ما ترى من عظم الجرم وصغره، وبلوغ الأدب في المؤدَّب، واحتماله للأدب، عليها فرض أن تُعْمِل النظر في ذلك، وتتحرى التنكيل للمؤدَّبين، قل الضرب في ذلك أو كثر، تطلب بلوغ جزع المؤدَّب والإبلاغ منه؛ بما ترى فيه من الصلاح له.
والوجه الرابع فهو: الَّلمَم الذي ذكر الله، وهو فعل لا يجب فيه الحد لله، ولا لرسوله ولا للأئمة أدب. واللمم فهو: ما ألم به صاحبه من غير تعمد ولا اعتقاد، ولا هم ولا عزم، مثل: النظر عن غير تعمد، والمزاحمة للمرأة عن غير قصد، وما أشبه ذلك مما لم يتقدم له ذكر في ذلك على فاعله، ولم يقصد به اجتراء على خالقه، ولا تعمداً لإتيان معصية(2)، ولا استحلال مُحَرَّم فهذا معنى اللمم الذي ذكره اللّه سبحانه.
ومن الحجة على من زعم أن رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم فرع من ذاته شيئاً من الفرائض المحكمات، أو شرع من ذاته شيئاً من الأحكام المشروعات؛ أن يقال له: خبرنا عن فعل الله، هل هو فعل نبيه؟ وعن فعل نبيه هل هو فعله؟
فمن أصل قوله إذا كان موحداً، وبالله عارفاً، أن يقول: لا، ثم يقول: فعل اللّه خلاف فعل محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وفعل محمد خلاف فعل اللّه عزَّ وجل. فيقال له حينئذٍ: ألا ترى أن هذا الذي ذكرت أن محمداً فرعه وشرعه وفصَّله، وأمر العباد بفعله؛ هو فعلٌ لمحمد؟ فإذا قال: نعم، قيل له: أفليس فعل محمد خلاف فعل الله؟
__________
(1) في (ب): وجزوع.
(2) في (ب) معصيته، محرمة

(2/166)


فإذا قال: نعم. قيل له: فمحمد إذن هو المفترض للفرائض على الأمة دون الله؛ إذ كان فعل محمد خلاف فعل اللّه، ومحمد إذاً ـ لو كان ذلك كذلك ـ كان المعبود بأداء فرائضه دون اللّه؛ إذ الفرض من محمد لا من الله. فلا يجد بداً إن كان بالله عارفاً، وله موحداً؛ من أن يرد جميع ما تعبد به الأمة إلى اللّه عزَّ وجل، ويزعم ويقول ويعتقد أنَّه من الله، حتى يصح له القول بأن المسلمين عبدوا اللّه لاغيره، ويثبت الفعل في فرض المفروضات لله لا لغير الله؛ لأن العبادة من العابدين لم تصح إلاَّ بأداء الفرائض لمن افترضها، فمن ثبتت له الشرائع والتفريع والتبيين؛ ثبتت له الفرائض، ومن ثبت له الافتراض للمفروضات؛ ثبتت له العبادة في كل الحالات من العابدين، وهم المؤدون للفرائض المحكمة، والشرائع المثبتة، التي لا تصح لهم عبادة إلاَّ بأدائها، ولا ديانة إلاَّ بإقامتها.
فهذه حجة على من عرف الله بالغة كاملة، بينة نيرة، تبين لمن أفكر فيها، وتصح لمن تدبَّر معانيها. والحمد لله رب العالمين، وسلام على المرسلين.
ومن الحجة على من قال: إن رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم كما يقول المبطلون؛ أنَّه لو فرع الفروع من نفسه، وأوجبها على الأمة دون ربه، لكان المتعبد لنفسه بالفرض(1) الذي أوجبه عليها وفرعه لها؛ لأنَّه صلى اللّه عليه وآله وسلم أول العابدين، وأخلص المخلصين، وأقوم القائمين بهذه الفروض المفروضات، والفروع المفَّرعات، فهو قائم بها، عابد لمن فرضها بإقامته لحدودها. فالفارض(2) لها هو المعبود دون غيره، فتبارك الله رب العالمين، الذي فرض فرائضه على جميع المربوبين، الملائكة المقربين، والأنبياء والمرسلين، وجميع الثقلين.
__________
(1) في (ب): بالفرع.
(2) في (أ) و (ب): والفارض.

(2/167)


وفي تبري رسول الله صلى اللّه عليه وآله وسلم من التكلف لشيء(1) من فروع أحكام اللّه عزَّ وجل وفرضه، وما جعل من برهانه ودينه، ما يقول اللّه تبارك وتعالى: {وَإِذَا لَمْ تَأْتِهِمْ بِآيَةٍ قَالُوا لَوْلاَ اجْتَبَيْتَهَا قُلْ إِنَّمَا أَتَّبِعُ مَا يُوحَى إِلَيَّ مِنْ رَبِّي}[الأعراف: 203].
فإن قال قائل: ما معنى قول من يقول: سنة؟ وما معنى دُعَاء من دعا إلى الكتاب والسنة؟
قيل له: معنى الدعاء إلى ذلك هو: الدعاء إلى الأصول الموصلة، والجمل المجملة، والآيات المنزلة. وإلى الفروع المفرعة، والأحكام المحكمة، والشرائع المبينة، والطاعات المفترضة.
والكتاب فهو جزء من وحي اللّه وأحكامه، وسنته جزء آخر من وحي اللّه وتبيانه. فسمى الوحي الذي فيه أصول المحكمات من الأمهات المنزلات قرآناً؛ لأنَّه جعل الأصول إماماً وقواماً، وللفروع المفرعات أصولاً وتبياناً. وسمى الجزء الثاني من وحي الله عزَّ وجل وفرائضه سنة وبرهاناً. فكان ما يتلى في آناء الليل والنهار أحق بأن يسمى قرآناً؛ لما فيه من واجب التلاوات، وما يتعبد به المتعبدون من الدراسات، وكان ما فسر به المجملات، مما بين به المتشابهات من الفروع المبينات، أولى بأسماء السنة في الباين من اللغات؛ لأن معنى السنة، هو: التبيين للموجبات للحجة. لقول العرب: سَنَّ فلانٌ سُنَّة، تريد بين أمراً، وشرع خيراً، وجعل شيئاً يستنَّ به فيه. ومعنى: يستن به، أي يقتدى به فيه ويحتذا.
وكذلك وعلى ذلك يخرج معنى قول القائل: سَنَّ رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم كذا وكذا، يريد أظهر وبين ما جاء به من عند اللّه. والسنة فهي الأحكام المبينة، والفرائض المفصلة، فهي لله سبحانه ومنه، لا من رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم ولا عنه، وليس له فيها فعل غير التبليغ والأداء، والنصيحة(2) والإبلاء.
__________
(1) في (ب): من التكليف بشيء.
(2) في (ب): وأداء النصيحة.

(2/168)


والسنة فهي سنة اللّه عزَّ وجل، وإنما نسبت إلى رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم على مجاز الكلام؛ إذ هو المبلغ لها، والآتي عن اللّه سبحانه بها، كما يقال للقرآن: كتاب محمد، وكما يقال للإنجيل: كتاب عيسى، وكما يقال للتوراة: كتاب موسى، قال اللّه سبحانه في ذلك، وما كان من الأمر كذلك: {وَمِنْ قَبْلِهِ كِتَابُ مُوْسَى إِمَاماً وَرَحْمَةً وَهَذَا كِتَابٌ مُصَدِّقٌ لِسَاناً عَرَبِيّاً}[هود: 17]، فسماه كتاب موسى ونسبه إليه، وإنما هو كتاب اللّه عزَّ وجل الذي نزل على موسى. وكذلك مجرى السنة في قول القائل: سنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، يريد سنة الله، ومعنى سنة الله، فهو فرض اللّه وحكمه، وتبيانه لدينه وعزمه، قال اللّه جل جلاله: {سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الكَافِرُونَ}[غافر: 85] يريد سبحانه بقوله: سنة الله، أي ذكر اللّه وفعله، وصنعه في خلقه وأمره.
ومن قال: سنة رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم يريد بها غير ما ذكرنا من المعنى، أو توهم في ذلك أنَّه شيء من رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم لا من الله؛ فقد جهل أمر الله، وحرف معاني وتأويل قول الله، ونسب البهتان إلى رسول اللّه صلى الله عليه، وقال بأفحش القول في اللّه سبحانه وفيه.
والسنة فلم تعارض الكتاب أبداً؛ بإبطال لحكم من أحكامه، ولا أمر من أمره، ولا نهي عن نهيه، ولا إزاحة شيء من خبره، ولا رد شيء من منسوخه، ولانسخ شيء من مثبته، ولا إحكام شيء من متشابهه، ولا تغيير شيء من محكمه، بل السنة محكمة لكل أمر من الأحكام المؤصلة، المبينة للمعاني المفصلة، مفرعة للمجملات المنبئة(1) عن التأويلات، يشهد لها محكم الكتاب، وتنبي عنها جميع الأسباب؛ أنها من اللّه رب الأرباب.
__________
(1) في (ب): المبينة، وفي (ج): المتبينة.

(2/169)


ومَا رُويَ عن رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم ـ من الفروع التي جاءته(1) عن اللّه عزَّ وجل وتبارك وتعالى، حتى يقال إنها من السنة ـ فَلَمْ يشهد له الكتاب، ولم يوجد فيه ذكرها مفصلاً، أو مجملاً مؤصلاً ثابتاً، فَلَيْسَ هو من الله، وما لم يَكن من اللّه فلم يقله رسول الله، وما لم يقله رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم ويحكه عن اللّه؛ فهو ضد السنة لا منها، وما لم يكن منها لم يجز في دين اللّه أن ينسب إليها.
فآيات الكتاب هي الأمهات؛ لشرائع سنته(2) المفرَّعات، والأمهات فهن المحكمات، وإليهن ترد المفصلات.
ومن الشواهد لما جاء من الروايات؛ مما حكي من السنن المبينات، وفي ذلك ما يقول رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم: (( سيكذب عليَّ كما كذب على الأنبياء من قبلي، فما أتاكم(3) عني فأعرضوه على كتاب الله، فما وافق كتاب اللّه فهو مني وأنا قلته، وما خالف كتاب اللّه فليس مني ولم أقله )) يريد صلى الله عليه وآله وسلم: أن ما وافق الكتاب مما روي عنه من الأحكام، ومن شرائع الإسلام؛ فإنه منه أخذ، وإنه جاء به عن الله، وما خالف الكتاب فليس من السنة التي جاء بها عن الله؛ لأن جميع الوحي الذي جاء عن اللّه سبحانه من السنة والقرآن، فهما شيئان(4) متشابهان متفقان، لا يتضادان أبدا ولا يفترقان.
وليس ما كان من رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم من فعل أو اختيار جاء به عن نفسه منسوباً إلى اللّه ولا عنه، ولا مشابهاً لشيء من أحكام السنن. بل قد كان رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم إذا رأى رأياً، وفعل فعلاً مما ليس هو فيه بمخالف لسنة ولا لكتاب، بين ذلك عن نفسه، وأخبر أنَّه ليس من ربه.
__________
(1) في (ب): جاء بها.
(2) في (ب): أمهات لشرائع سنته.
(3) في (ب): جاءكم.
(4) في ب: سِيَّان.

(2/170)


مثل ما كان منه صلى الله عليه في الجَدِّ الذي لقيه بالجحفة راجعا من حجة الوداع، فقال: يا رسول الله، إن ابن ابني مات، فمالي (ميراث)(1) من ماله؟ فقال عليه السلام: لك السدس، فلما أن أَبْعَد الشيخ رَقَّ عليه رسول اللّه صلى الله عليه ورحمه، لما بان له من ضعفه وقلة حيلته وكبر سنه، فرده رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم، فقال: لك السدس الآخر، فلما أن مضى الشيخ وأبعد رده رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم ثانية؛ فقال له: إن السدس الثاني مني طُعْمَة لك، فبين صلى اللّه عليه وآله ما كان منه، وبين ما كان من الله، فلما أن قال: السدس الثاني طعمة مني؛ علمنا أن السدس الأول حكم من الله. فبين صلى اللّه عليه وآله فعله من فعل اللّه عزَّ وجل؛ لأن لا يقع على الأمة تخليط في دين الله؛ ولأن يبين(2) لها أحكام ربها، وفَعلَه لكيلا يكون لها عليه في شيء من الدين حجة.
وكذلك كان عليه السلام يفعل في كل ما كان منه من تأديب أمته، وأفعاله فيها، وسياسته لها، يبين فعله من فعل الله، ويخبر بما جاء به عن الله.
وكذلك ما كان من فعله وكراهيته من حمل الحمير على الخيل، وذلك قوله لعلي رحمة اللّه وصلواته عليهما حين قال: مما تكون هذه البغال؟ فقال: يحمل الحمار على الفرس فيخرج من بينهما بغل، فقال صلى اللّه عليه: (( إنما يفعل ذلك الذين لا يعلمون )) أو قال: الذين لا يعقلون.
فكره صلى اللّه عليه وآله وسلم أن تحمل الأشكال إلاَّ على أشكالها، وأن تخلى الفحول إلاَّ على أمثالها. فكان هذا منه كراهية واختياراً،، ولم يكن هذا شيئاً مما أتى به(3) من الواحد الجبار.
__________
(1) سقط من (أ)، و(ج).
(2) في (ب): ولا يتبين.
(3) في (أ ، ج): أتاه.

(2/171)


ومِثْلُ هذَا مما كان من رأيه وفعله، ولم يأته في كتاب اللّه ولا سنته؛ مما كان يستحبه ويفعله من نوافل صلواته، وتعبده من بعد الفرائض المفروضات لما كان يتعبد من النوافل المعروفات، اللواتي كن منه اختياراً وعبادة، يطلب بذلك من اللّه الفضيلة والزيادة؛ كان ذلك منه صلى اللّه عليه استحساناً لنفسه، ولم يكن فرضاً من اللّه لا يسع تركه، ولا يجب على من تركه الكفر بربه؛ لان بين الفرض وغيره من النوافل فرقاً بيناً، وفصلاً نيراً؛ فَكَثِيرٌ يعلمه العلماء، ويفهمه الفهماء، ليس بفرض لازم واجب(1) على المتعبدين؛ إذ لم يكن فريضة من اللّه رب العالمين، إن أخذ به أحد فقد أخذ بركة ويُمْناً، واتبع فضلاً ورشداً، وإن تركه تارك ـ من غير زهد فيه، ولا قلة معرفة بفضله، ولا استخفاف بحق فاعله، ولا اطراحاً لرأي صانعه، ولا مضادة له في فعله ـ لم يكن بتركه له في دين اللّه فاجراً، ولا بعهد رسول اللّه صلى اللّه عليه غادراً.
فافهم هديت ما به في السنة قلنا، وأحسن الفكر والتمييز فيما منهما (2) شرحنا؛ تبن بذلك إن شاء اللّه من الجهال، وتبعد بمعرفته من اسم الضلال، وتسلم بحول اللّه من قول المحال.
والحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، وصلى اللّه على محمد خاتم النبيين، وعلى أهل بيته الطيبين وسلم تسليماً كثيراً.
(تم كتاب السنة ولله المنة) (3).
****
__________
(1) في (ب): بفرض واجب.
(2) كذا في النسخ، ولعلها: منها.
(3) من (ب).

(2/172)


كتاب القياس
m
الحمدلله الذي فطر الأشياء على إرادته، وجعلها كيف شاء بعزته، وعمَّ المخلوقين برحمته(1)، ولم يوجد شيئاً لغير حكمة، ولم تعدم منه في الموجودات آثار قدره، فكلُّ شيء عليه سبحانه دليل، فتبارك الله الواحد الأحد الجليل، الذي لا تُعِزه(2) كثرة المخلوقين، ولا تنقصه قلة المربوبين، الذي لا تتم بغيره(3) الصالحات، ولا تبلغ شكر الآئه القالات، ولا تحيط بذكر إفضاله الصفات(4)، ولا تعروه السنات، العالم بخفيات الغيوب، المطلع على سرائر القلوب، الذي لم يحل بين عباده وبين طاعته، ولم يدخل أحداً من خلقه في معصيته، الهادي للسبيلين، والمبين للنجدين، والفاصل بين العملين، المحتج بالرسل على العالمين، المتفضل على الخلق بالمرسلين، الذي لم يزده إيجاد الخلق(5) به خبرة، ولم يترك لهم عليه سبحانه حجة، الذي لم يزل ولا يزال، الواحد الأحد الصمد ذو الجلال، أول الأولين، وآخر الآخرين، وفاطر السموات والأرضين، الذي ليس كمثله شيء وهو السميع البصير، لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار وهو اللطيف الخبير، الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد، الذي لم يتخذ ولداً(6) ولم يكن له شريك في الملك ولم يكن له ولي من الذل وكبره تكبيراً.
وصلى الله على سيدنا محمد عبده ورسوله، (خير مبعوث من البشر إلى خلقه)(7)، أمينه على وحيه، وخيرته من بريته، صلى الله عليه وعلى أهل بيته وسلم تسليماً.
ثُمَّ نقول من بعد الحمدلله والثناء عليه،والصلاة على محمد صلى الله عليه:
__________
(1) في (ب): بنعمته.
(2) كذا في النسخ، ولعلها: لا تَفِرُه. من الوفرة وهي الزيادة.
(3) في (ب، ج): لغيره.
(4) في (أ): السموات.
(5) في (ب): المخلوقين.
(6) سقط من (ب): الذي لم يتخذ ولداً.
(7) زيادة من (ب).

(2/173)


إن سأل سائل فقال: من أين وقع في هذه الأمة هذا الإختلاف(1) في الحلال والحرام؟ حتى صار كلٌّ يفتي برأيه، ويتبع في قوله أئمَّةً له مختلفين، فيقول في ذلك بأقاويل قوم مفترقين، فإذا أوردت مسألة على وجه واحد أحُلَّها محلِّلٌ، وحرَّمها محرِّم، فكيف يجوز أن يكون معنى واحد مؤتلف، يأتي فيه قول متشتت مختلف؟! فيحل على لسان مفت لمستفتيه، ويحرم على لسان آخر على من ينظر فيه.
قيل له: وقع هذا الإختلاف وكان ما سألت عنه من قلة الإئتلاف؛ لفساد هذه الأمة وافتراقها،وقلة نظرها لأنفسها في أمورها، وتركها لمن أمرها الله باتباعه،والإقتباس من علمه، ورفضها لأئمتها وقادتها الذين أمرت بالتعلم منهم، والسؤال لهم، وجعلوا شفاء لداء الأمة، ودليلاً على كل مكرمة، ونهاية لكل فضيلة(2)، وأصلاً لكل خير، وفرعاً لكل بر، وفصلاً لكل خطاب، ودليلاً على كل الأسباب؛ من حلال أو حرام، أو شريعة من شرائع الإسلام.
فلما أن تبرأت الأمة منهم، واختارت غير ما اختار الله، وقصدت غير ما قصد الله، فرفضت علماءها، وقتلت(3) فقهاءها، وأبادت أدلتها إلى النجاة والصواب، وحارت لذلك عن رشد كل جواب، ولم تهتد إلى نهج(4) قول من الأقوال، في حرام ولا حلال، فضلت عند ذلك وأضلت، وهلكت وأهلكت، وتقحمت في الشبهات، وقالت بالأقاويل المعضلات، تخبطاً(5) في الدين، وتجنباً عن اليقين، ضلالاً عن الحق، ودخولاً في طرق الفسق، ظلماً وطغياناً، وضلالة وعصياناً، تركت ما به أمرت، وقصدت ماعنه نُهيت، فقال كل واحد منها فيما يرد عليه من الدين بهوى نفسه، وإرادة قلبه، وتمييز صدره، لم يهتد في ذلك بهدى، ولم يلق مصابيح الدجى، ولم يسأل عنه أهل البر والتقوى، ولم يهتد فيه بالأدلاَّء.
__________
(1) في (ب): الخلاف.
(2) في (ب): ونهاية على كل فاضلة. وفي (ج): لكل.
(3) في (ب): وقلدت.
(4) في (ب،ج): إلى وجه.
(5) في (ب): خبطاً.

(2/174)


فكان مثلهم فيما فعلوا من ذلك: كمثل قوم ركبوا مفازة مضلة، وأخذوا معهم فيها أدلاَّء بُصَرآء، حتى إذا توسطوها قتلوا الأدلاء، فبقوا في حيرة عَمىً(1)، لا يهتدون سبيلا، ولا يعرفون ماء ولا طريقاً، فلم يزالوا فيها متحيرين، ذاهبين وجائين، مقبلين ومدبرين، حتى هلكوا أجمعين، فكانوا سبب هلاك أنفسهم، وسبيلاً إلى تلفهم، فذهبوا غير مقبولين ولا محمودين، بل مذمومين عند الله معذبين.
كذلك مثل هذه الأمة ومعناها، فيما نالته من فقهائها وأدلائها؛ الذين جُعِلوا لمن تبعهم نوراً وهُدىً، ودليلاً إلى الله العلي الأعلى. وهم آل محمد صلى الله عليه وعليهم، فضلَّت الأمة بعدهم، وهلكت عند مفارقتهم، ولعمري أن لو قصدت لرشدها، وتعلقت بالحبل الذي جعل لها متعلقاً، وكهفاً في كل أمر وملجأ؛ لما ضلت عن رشدها أبداً، ولا وقع اختلاف بين اثنين في فتيا، ولا اشتبه مشتبه في حلال ولا حرام؛ إلاَّ وجد بيانه عند آل محمد عليهم السلام؛ لأنهم أهل ذلك وموضعه، ومكانه ومركبه الذي ركبه الله عليه، وجعله معدناً له وفيه، اختاره لعلمه، وفضله على جميع خلقه، نوراً(2) على نور، وهدى على هدى، وحاجزاً من كل ضلالة وردى، أئمة هادين، ونخبة مصطفين، لا يخاف من اتبعهم غيا، ولا يخشى عمى ولا ضلالاً، محجة الإيمان(3)، وخلفاء الرحمن، والسبيل إلى الجنان، والحاجز عن النيران(4)، تقاة(5) أبرار،وسادة أخيار، أولاد النبيين، وعترة المصطفين، وسلالة النبي، ونسل الوصي، وخيرة الواحد العلي، مشرب لايظمأ من ورده، ودواء لايسقم من تداوى به، شفاء للأدواء، ووقاية من البلاء، كهف حصين، ودين رصين، وعمود الدين، وأئمة المسلمين، قولهم صواب بلا خطأ، وقربهم شفاء بلا ردى، أعني بذلك الطاهرين المطهرين، والأئمة الهادين، من أهل بيت محمد المصطفى، وموضع الطهر والرضى،
__________
(1) في (ب، ج): حيرة عمياء.
(2) في (ب): نور.
(3) في (ب): الأمان.
(4) في (أ): القرآن.
(5) في (أ، ج): ثقات.

(2/175)


الموفين(1) إذا وعدوا، والصادقين إن نطقوا، والعادلين إن حكموا.
فإن قال السائل عن الخِلْفة، المتكلم في الفرقة. أفتقولون: إنهم لو قصدوا هذا المعدن(2) في علمهم، واقتبسوا منه في حلالهم وحرامهم لم يضلوا، ولم يفترقوا، ولم يقع اختلاف بينهم فيما به تكلموا؟!
قيل له: نعم كذلك نقول، وإليه معنانا يؤول.
فإن قال: فكيف لا تقع الفرقة، ولا يكون بين أولئك صلوات الله عليهم خِلْفة؟‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍
قيل له: لأنهم أخذوا علمهم من الكتاب والسنة، فلم يحتاجوا إلى إحداث رأي ولا بدعة، تكلموا بالكتاب الناطق، واعتمدوا على الوحي الصادق، فكان الكتاب والسنة لهم إماماً يحتذون حذوه، ويقتدون في الأمور قدوه، فثبت لهم به الإلفة، وزالت عنهم الفرقة.
فإن قال السائل: فخبرونا عما عنه نسألكم، وأنبئونا عما(3)نسمع من قولكم، أتقولون: إنَّ جميعَ ما يدور بين الناس من الحلال والحرام، وما يرد من أحكام هذه الأمة على الحكام، وما يجري بينها من القضايا والأحكام، في قليل القضاء وكثيره، وقديمه وحديثه، وصغيره وكبيره؛ هُوَ كُلُّه في الكتاب موجود، وفي قلوب الحكام من آل رسول الله ثابت غير مفقود؛ فكلما ورد عليهم سبب من الأسباب؛ وجدوه عند وروده مُبّيَّناً في الكتاب، وكان في صدورهم محفوظاً، موجوداً معلوماً مصححاً؟
__________
(1) في (أ)، و(ج): الوافين إن.
(2) في (ب): أهل المعدن.
(3) في (أ): نسئل.

(2/176)


قيل للسائل عن ذلك: إن الأصولَ كلها، والفروعَ المحتاج إليها؛ في الكتاب والسنة، فإذا علم العالم ذلك وأتى على معرفته، وعرف مجمله ومحكمه، وفروعه ومتشابهه، ونظر في ذلك كله بقلبٍ فَهِمٍ، سالم من الجهل، بريء من الخطل، بعيد من الزلل؛ ثُمَّ وردت عليه مسألة استدرك علمها ساعة ترد عليه؛ إما بآية ناطقة، أو شريعة باسقة(1)؛ تنطق له بالحكم فيما ورد عليه، وتبين له ما يحتاج من ذلك إليه، أو بقياس يصح من السنة، ويثبت في الايات المحكمة، وتشهد له الشرائع المشروعة؛ يكون هذا القياس فرعاً من فروع الحق، ثابتاً ونوراً شاهداً على ما فيه من الصدق. فيكون القياس ممن علم ما قلنا، وتفرع فيما ذكرنا وفهم ما شرحنا؛ قياساً واحداً، إذ كان ذلك له أصلاً مؤصَّلا، تخْرجُ هذا القياس وتبينه، وتشرعه وتوضِّحه، وتَدلُّ عليه وتُفرعه؛ حُجَجُ الله التي في الصدور، المركبة للتمييز بين الأمور؛ من هذه العقول المجعولة لما ذكرنا، المركبة لما شرحنا؛ من التمييز بين الباطل والحق، والفرق بين البِرِّ والفسق.
__________
(1) في (ج): ناسقة.

(2/177)


فإذا علم الحاكم ما يحتاج إليه من الأصول والفروع؛ لَمْ يَخْرُج كلما يرد عليه من أن يكون حكمه وقياسه في أصول الكتاب وفروع السنة؛ إما شيئاً ناطقاً قائماً قد حكم به المجُمْل المؤصَّل، وبَيَّنَهُ الفرع المفصّل، فيحكم فيه بحكمهما، ويحتذي العالم فيه بوجههما(1)، فإن عدم لفظ ما يأتي من الحكم(2) والفتيا، من أن يكون في المجمل أو المفصل منصوصاً مفسراً؛ لم يعدم قِيَاسَه والدليل عليه، حتى يَقِف بالمثل على مثله، ويَعرفَ الشكل في ذلك بشكله، ويقيس ما أتى من ذلك على أصله؛ لأن أصلَ كلِّ حق وهدى، وقياس كل حكم أبداً؛ فَفِيْ الكتاب والسنة موجودٌ، يستخرجه العالم بعقله(3)، ويستدل على قياسه بمركب لبه، حتى يتبين له نوره، وتشرع له طريقه، ويصح له قياسه على الحق الذي في الكتاب، تشهد له بذلك شواهد(4) القرآن، وتنطق له بالتصديق السنة في كل شأن. فَيَكُونُ العالمُ في علمِهِ، واستخراجه لما يحتاج إليه من حكمه، من كتاب الله وسنته؛ على قَدْرِ ما يكُونُ من صفاءِ ذهنه، وجودةِ تمييزه، واستحكام عقله، وإنصافه لِلُبِّه، وجودةِ تمكن علم الأصول في قلبه، وثبات علم الكتاب والسنة في صدره، الذين عليهما يقيس القايسون، (وبهما يحتذي المحتذون، وإليهما يرجع الحاكمون، ومنهما يقتبس المقتبسون)(5)، وإليهما عند فَوَادِحِ النَّوازِلِ يلجأ العالمون.
__________
(1) في (ج): بموجبهما.
(2) في (ب): المحكم.
(3) في (أ): بحكمه.
(4) في (أ): سور.
(5) سقط من (أ).

(2/178)


فإذا كَمُلَت معرفةٌ العالم بأصول العلم المعلوم، وصحت معرفته بفهمِ غامضِ الشرائع المفهوم، فكان لعلمه به، واستدراكه لغامضه وجودة دراسته(1)، وإحاطته بباطنه وظاهره قَاهِراً بحول الله وقدرته لما يرد عليه من متشابهه، عارفاً بما يحتاج إليه من قياسه، مضطلعاً بتمييز فروعه، بصيراً بتفريع أموره. فَكُلَّما وَرَدَ عليه من ذلك وَارِدٌ أصْدَره باستدراكه له مَصْدَرَه. فصعْبُ العلمِ على من كان كذلك سَهْلٌ يسير، وغامضه عنده والحمدلله بَيِّنٌ مُنِير، لا يشتبه عليه فيه شبهان، ولا يستوي في الحكم عنده منه ضِدَّان، يميز مميزاته بعقله، ويفرق مفترقاته بِلُبِّه، ويجمع مجتمعاته بفهمه، قد أحْكَمَتْهُ في ذلك التجربة(2)، وأعَانَتْهُ على ذلك الخبرة(3)، فكلما ورد عليه فرع من الفروع ردَّه إلى أصله، وكلما ورد عليه شيء من متشابهه(4) بينه بالرد له إلى محكمه، لا يَغيِبُ عمَّن وهَبَهُ الله عِلْمَ كتابه، وفهَّمه(5) معاني سنته؛ مَوْضِعُ حاجته، ولا مكان فاقته؛ من حلاله وحرامه، وما يرد عليه من مفترق القضاء عند ورود مزدحمات المسائل على قلبه، ومتراكمات النوازل على فهمه. فكُلمَّا وَرَدَ عليه من ذلك وَارِدٌ فادح، أو قدح في قلبه منه عظيم قادح؛ اعتمد في (فصله، و)(6)قطع مشتبهات أمره؛ على الأصول المحكمات في قلبه، والفروع المتفرعات في صدره؛ من الكتاب والسنة، فأَنَارَ(7) له بعون الله وفضلِهِ نورُ الحقَّ وصدقُه، وصَحّ(8) له برهانُ الحكم وحقُّه، فقال في ذلك بقولٍ أصيلٍ، واستدل منه على الحق بأفضل دليل.
__________
(1) في (أ): رساخته.
(2) في (ب): تجربته.
(3) في (ب): خبرته.
(4) في (أ، ج): المتشابه.
(5) في (ب): في فهم معاني. والمعنى: مع فهم.
(6) سقط من أ .
(7) في (أ): فأبان. ولعلها بمعنى: بان.
(8) في (ج): ووضح.

(2/179)


فَمَثَلُه ـ فيما يرد عليه من الفروع والفصول، مما يحتاج إلى قياسه على الأصول، ـ كَمَثَلِ رجل اتخذ أرضاً فجعل في كل جانب منها نوعاً من أنواع الأشجار، (ثُمَّ)(1) غَذَّاها وسقاها، وقام عليها وذراها(2)، حتى ثَبَتَتْ أصولها، وتَفرَّعت فروعها، وخرجت ثمارها، فهو بمكان(3) كل نوع منها عارف، وفَهِمٌ (عالم)(4) غير جاهل، فكُلَّما سُئِل عن شجرة، أو طُلِبَ منه من ثمارها ثمرة؛ قَصَدَ لموضِعِ تلك الشجرة، فأَخذ ما يحتاج إليه من ثمرها، فَأَسْرَع به إلى طالبها، ولم يحتج ـ لمعرفته بموضع حاجته ـ إلى الدَوَرَان في جوانب أرضه، والتفتيش عن حاجة سائله، كما يعمل الجاهل بمواضع تلك الأشجار، وأماكن تلك الثمار.
فالعَالِمُ في علمه، وعند قياسه وحكمه، والمَعْرِفةِ بما يرد عليه من شرائع دينه؛ كصاحب هذه الأرض المهتدي إلى ما يطلب منها، العالم بمواضع ثمارها، الخَابِر بنواحي أشجارها. فحال العالم في عِلْمِ ما دَارَسَ من(5) حكمه، وحَفِظَ وأَحاط به مِنْ علمه؛ كَحَالِ معرفة صاحب هذه الأرض بأرضه. فاسْتِدْلاَلُ العالم واهتداؤه إلى قياس العلم والأحكام؛ فيما يرد عليه من الحلال والحرام؛ كاستدلال صاحب الأرض إلى أشجاره، ومعرفته بما يبتغيه من ثماره(6)، لا فرق بينهما، ولا اختلاف عند ذي عقل فيهما. بَل اهْتِدآءُ من هداه الله إلى علمه، واسْتِدْلاَلُ من دلَّه اللهُ على غوامِض حُكمِه؛ أَبْيَنُ تبياناً، وأَنْوَرُ في العقل برهاناً؛ من اهْتِدآء صاحب الأرض في أرضه، ومعرفته بما غرس من شجره. والحمدلله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، وسلام على المرسلين.
__________
(1) ليست في (أ).
(2) في (أ): ودارها. يعني أدارها.
(3) في (أ، ج): بأماكن.
(4) سقط من أ.
(5) في (ب): فحال العالم في علمه ما داوس في.
(6) في (ب): إلى أشجارها، ومعرفته إلى ما يبتغيه من ثماره.

(2/180)


ثُمَّ اعلم(1) أيها السائل أن كلَّ قياس جاء مخالفاً للكتاب، أو جاء الكتاب له مخالفاً؛ حتى يكون كل واحد منهما ضداً للآخَرِ؛ فَلاَ يصحُّ هذا القياس أبداً، ولا يثبت معه تأويل ولا هدى، (لأنه جاء مخالفاً للأصول)(2)، ولم يكن والحمدلله ثابتاً في الفصول(3). وفي ذلك ومثله، وما كان من شكله؛ ما يقول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (( إنه سيكذب عليَّ كما كذب على الأنبياء من قبلي، فما أتاكم عني فأعرضوه على كتاب الله، فما وافق كتاب الله فهو مني وأنا قلته، وما خالف كتاب الله فليس مني ولم أقله ))، فجَعَلَ صلى الله عليه الكتابَ إماماً لكل ما روي عنه، أو قيل إنَّه منه يعرض عليه، فَإنْ جَاء مثله؛ عُلِمَ أنَّه من قوله، وإن جاء (مخالفاً)(4) مضاداَ لِشَيءٍ منه؛ عُلِمَ أنَّه ليس عنه. فهذا في الآثار المذكورة عن الرسول، فكيف بما سواها من القياس، الذي يتعاطاه ويطلبه بعض الناس؟ فلعمري لا يصح من قياسهم، ولا يجوز من مقالهم؛ إلاَّ ما شهد له الكتاب والسنة، وكانت الموافقة لهما منه نيِّرةً بيِّنة، فعند موافقة القياس للكتاب؛ يصح القياس في الألباب، وعند مخالفة القياس للكتاب؛ يبطل ويفسد في جميع الأسباب.
فليفهم من كان ذا فهم ما به في القياس(5) قلنا، وما منه أجزنا، وما منه دفعنا وأبطلنا.
__________
(1) في (أ): واعلم.
(2) سقط من أ. وفي (ج): لأنه مخالف.
(3) في (ب): الأصول.
(4) سقط من (ب،ج).
(5) في (أ): الكتاب.

(2/181)


والقياس فلا يجوز أبداً، ولا يكون أصلاً بحيلة من الحيل، ولا يمكن أن يتناوله متناول، ولا يطول إليه متطاول، ولا يطمع به طامع؛ إلاَّ مِنْ بَعد إحكام أصول العلم بالكتاب، والوقوف على ما فيه من جميع الأسباب، من الحلال والحرام، وما جعل الله فيه من الأحكام، وبَيَّن تبارك وتعالى من شرائع الإسلام، التي جعلها الله سبحانه للدين قواماً، وللمسلمين إماماً، وَ من بَعْدِ علم أصول السنة، وفهم فروعها المتفرعة، فإذا تَمَكَّن المتمكن في علمه وأحاط بجوامع(1) ما تحتاج إليه الأمة في دينها، ثُمَّ تفرع فيما لا غنى للأمة عن معرفته في جميع أسبابها، من حلالها وحرامها، وما جعله الله ديناً لها، وافترضه سبحانه(2) عليها، فَإِذا تَفَرَّغ في علوم الدين، وأَحَاطَ بمعرفة ما افترض على المسلمين، فكان بذلك كلِّه عارفاً، ومن الجهل بشيء منه سالماً؛ ثمَّ كان مع ذلك ذا لُبٍّ رَصِين، ودين ثابت متين؛ جَازَ لَهُ الْقِياس في الدين، وأمكنه الحكم في ذلك وبه بين المؤمنين، وكان حقيقاً بالصواب،حريّاً بإتقان الجواب، فأَمَّا إن كان في شيء مما ذكرنا ناقصاً، أو عن بلوغه مقصراً، فَلَنْ يَصحَّ له أبداً قياسه، ولن يجوز له في دين الله التماسه؛ لأنَّه لِلأُصولِ غير مُحْكِم، وبالفروع غير فَهِم، ولن(3) يقيس المثال على مثاله، أو يحذو الشكل على شكله؛ إلاَّ العارِفُ بمحكمات أصله، فَإذا أَحْكَمَ أصله؛ قاس بذلك فرعه(4).
__________
(1) في (أ): بجميع.
(2) في (أ): صاحبه.
(3) في (ب): وليس.
(4) في (ب): فروعه.

(2/182)


ومَثَلُ ما به قلنا من تصرف الحالات، في أهل القياس والمقالات، كَمَثَلِ أهل الصناعات (من الأبنية والصباغات)(1)، فإذا كان منهم صانع محكم لعمله، محيط بأصل صناعته، عارف بابتدائها وانتهائها(2)، عالم بتأليفها وإحكامها، ثُمَّ ورد عليه مثال يمثله، أو شيء يحتذيه(3) ويصنعه احْتذى فيما تصور من مثاله، بِمَا عِنْدَه من محكم أعماله، وأتى به على قياسه، لمعرفته بأصل قياسه، وإحكامه لما قد أحكم من أعماله، فعلى قدر تفرغه في البصر بأصول الصناعات، وتمكنه في المعرفة بها في كل الحالات؛ يَكُونُ إِحْكَامه لتمثيل المثال على مثله، وتشبيه الشكل المطلوب منه بشكله، حتى يكون ما يأتي به مشابهاً لما يحتذي به، لا يخالفه في شبهه، ولا يفارقه في قياسه. ولن ينالَ ذلك غَيرُه، مِمَّن لم يحكم أصول عمله(4)، ولم يفهم متفرعات أنواع صناعته. فكذلك المتناول للقياس في الأحكام، المتعاطي لذلك من شرائع الإسلام، لا يجوز له قياسه، ولا يصح له مثاله، حتى يكون لأصول الدين مُحْكِماً، ولشرائع العلم فَهِماً(5)، وبمعرفة الكتاب والسنة قائماً، فعند ذلك يكون في قياسه كاملاً،(6) ولعلمه مُحْكِماً، وعلى ما يَطْلُب من ذلك كله قادراً.
__________
(1) سقط من (ب).
(2) في (أ،ج): وآلاتها.
(3) في (ب): بمثلها إن شيء يحويه. كذا. وهو تصحيف.
(4) في (ب): علمه.
(5) في (ب): فهيماً.
(6) في (ب): قائماً كاملاً.

(2/183)


ثُمَّ اعلم أيها السائل علماً يقيناً، وافهم فهماً ثابتاً مبيناً، أن العلماء تتفاضل في علمها، وتتفاوت(1) في قياسها وفهمها، وفي ما قلنا به من ذلك ما يقول الله سبحانه: {نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَآءُ وَفَوْقَ كُلِّ ذِيْ عِلْمٍ عَلِيْمٍ} [يوسف:76]، وأنه ليس أحدٌ من المخلوقين؛ أَوْلَى بفهم أحكام رب العالمين؛ مِمَّن اختاره الله واصطفاه، وانتجبه وارتضاه، فجعله مؤدياً لدينه، قائماً بحكمه، داعياً لبريته، حايطاً لخليقته، منفذاً لإرادته، داعياً(2) إلى حجته، مبيناً لشريعته، آمراً بأمره، ناهياً عن نهيه، مقدماً لطاعته، راضياً لرضاه، ساخطاً لسخطه، إماماً لخليقته(3)، هادياً لها إلى سبيله، داعياً لها إلى نجاتها، مُخْرِجاً لها من عمايتها، مثبتاً لها على رشدها، مقيماً لها على جوآدِّ سبلها، ناصحاً لله فيها، قائماً بحقه سبحانه عليها. وَذلِكَ وَأُولَئكَ فهُم صفوةُ الله من خلقه، وخيرته من بريته، وخلفاؤه في أرضه، الأئمة الهادون، والقادة المرشدون، من أهل بيت محمد المصطفى، وعترة المرتضى، ونخبة العلي الأعلى، المجاهدون للظالمين، والمنابذون للفاسقين، والمقرِّبُون للمؤمنين، والمباعدون للعاصين، ثِمَالُ كل ثِمَالٍ، وتمام كل حال، الوسيلة إلى الجنان، والسبب إلى الرضى من الله والرضوان، بذلوا أنفسهم للرحمن، وأحيوا شرائع الدين والإيمان، لم يهِنُوا ولم يَفْترُوا، ولم يُقَصِّروا في طلب ثأر الإسلام ولم يغفلوا، نصحوا المسلمين(4)، وأحبوا المؤمنين، وقتلوا الفاسقين، ونابذوا العاصين، وَبيَّنوا حجج رب العالمين على جميع المربوبين، {لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللهَ لَسَمِيْعٌ عَلِيْمٌ} [الأنفال: 42]، عملوا فَجُوْزُوا، ونصحُوا فَقبلوا، وتقربوا من الله فقُرِّبوا، وأخلصوا
__________
(1) في (أ): وتتقارب.
(2) في (ب): داعية.
(3) في (أ): لخلقه.
(4) في (ب): ناصحوا المسلمين.

(2/184)


لله سبحانه الديانة فأخلص لهم المحبة، طلبوا منه التوفيق فوفقَّهم، وسألوه التسديد فسدَّدهم ، وقاموا له بأمره فأرشدهم، واهتدوا إلى قبول أمره فزادهم هدى، وضاعف لهم كلَّ خير وتقوى، كما قال جل جلاله، عن أن يحويه قول أو يناله: {وَالَّذِيْنَ اهْتَدُوا زَادَهُمْ هُدىً وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ} [محمد: 17]، قصدوا الحق فأرشدوا له، وأْتَمُّوا بالصدق فعملوا به، فوجبت لهم حقائق التوفيق، ونالتهم بحمدالله موقظات التحقيق(1)، وقصدتهم منه سبحانه قواصد النعمة، وشملتهم بفضله سبحانه شوامل الحكمة، فنطقوا بالبيان في قولهم، وحكموا بالحق في حكمهم، واهتدوا بالله سبحانه في أمرهم، وثَبَتوا بزيادة (هدى)(2) الله على الحق الفاصل، وتناولوا شكايم العلم الفاضل، فنالوا بعطاء الله الأكبر مالم ينل غيرهم، وقدروا على ما عجز عنه سواهم، فحكموا باختيار الله لهم وتوفيقه، وإرشاده لهم وتسديده؛ في كل نازلة بالصواب، وبعد عنهم فيها كل شك وارتياب، فَكَانَ عِلْمُهُم ـ لما ذكرنا من اختيار الله لهم، واصطفائه إياهم، ورضاه باستخلافهم في أرضه، واسترعائه لما استرعاهم من بريته ـ عِلْماً جليلاً، وَكان قياسهم قياساً ثابتاً أصيلاً، إذ هم وأبوهم صلوات الله عليهم أصل كل دين، وعماد كل يقين، ومنه صلوات الله عليه وآله وسلامه تفرعت العلوم المعلومة، وثبتت أصول الأحكام المفهومة، ومنه ومن ذريته نيلت العلوم الفاصلة، وبلغت الأصول الفاضلة، فمن علمهم صلوات الله عليهم تفرعت الأحكام، ومن بحر فهمهم اسْتَقَى جميع الأنام، فهم أصل الدين، وشرائع الحق المستبين، فكُلُّ علم نِيْلَ أو كُسِب؛ فمن فضل علمهم اكتُسِب، وكلُّ حكم حقٍّ به حُكِم؛ فمن حكم حقهم علم، فهم أمناء الله على حقه، والوسيلة بينه وبين خلقه، المبلغون للرسالات، الآتون من الله سبحانه بالدلالات، المثبتون على الأمة حججه البالغة، المسبغون
__________
(1) في (ب): ونالهم من اللّه مرضات التحقيق.
(2) سقط من أ.

(2/185)


بذلك على الأمة النعم السابغة، لا يجهل فضلهم إلاَّ جهول معاند، ولا ينكر حقهم إلاَّ معطل جاحد، ولا ينازعهم معرفة ما به أَتَواْ عن الله إلاَّ ظلوم، ولا يكابرهم فيما أدوه إلى الأمة عن الله إلاَّ غَشوم(1)، لأنهم أهل الرسالة المبلَّغة، والآتون من الله بالحجة البالغة، الذين افترض الله على الأمة تصديقهم، وأمروا باتباعهم ونُهُوا عن مخالفتهم، وحُضُّوا على الإقتباس من علمهم، ألا تسمع كيف يقول الرحمن، فيما نزل من النور والبرهان، حين يقول: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [الأنبياء: 83]؟ فأُمِرَت الأمةُ بسؤالهم عند جهلها، والإقتباس منهم لمفروض(2) علمها. ثُمَّ قال الله سبحانه: {وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُوْلِ وَإِلَى أُولي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِيْنَ يَسْتَنْبِطُوْنَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إَلاَّ قَلِيْلاً} [النساء: 83]، فأخبر سبحانه أنهم لو ردوا ما يجهلون علمه، ولا ينالون فهمه إلى الله؛ بالتسليم له في حكمه،وإلى الرسول في معلوم علمه، وإلى الأئمة من عترته فيماالتبس من ملتبسه،واشتبه على الأمة من متشابهه؛ لوجدوه عندالله في كتابه مُثْبتاً، وفي سنة رسوله التي جاء بها عن الله مبيناً، وعند الأئمة من عترته صلى الله عليه نيراً بيناً. ثُمَّ اخبر سبحانه أنَّه لولا فضل الله على الخلق بإظهار من أظهر لهم من خيرته، وتولية(3) من ولَّى عليهم من صَفوته، إذن لاتبعوا الشيطان في إغوائه، ولشاركوه في غيه وضلاله، فامتن عليهم سبحانه بأئمة هادين (مهتدين)(4)، غير ضالين ولا مضلين، صِفْوة الله من العالمين، وخيرته من المخلوقين، نور الأمة، وسراج الظلم المدلهمة، ورعاء البرية، وضياء الحكمة، ومعدن العصمة، وموضع الحكمة، وثبات
__________
(1) في (أ): عن الأمة إلا غشوم.
(2) في (أ): لفروض.
(3) في (ب): وتوليته.
(4) ليس في (أ).

(2/186)


الحجة، ومختلف الملائكة، اختارهم الله على علمه، وقدمهم على جميع خلقه، علماً منه سبحانه بفضلهم، وتقديساً لهم على غيرهم، وفي ذلك ما يقول الله سبحانه: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِيْنَ اصْطَفِيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيْرُ} [فاطر: 32]، فأخبر بما ذكرنا من اصطفائهم على الخلق، ثم ميزهم فذكر منهم الظالم لنفسه، باتباعه لهوى قلبه، وميله إلى لذته. وذكر منهم المقتصد في علمه، المؤدي إلى الله فرضه(1)، المقيم لشرائع دينه، المتبع(2) لرضى ربه، المؤثر لطاعته. ثُمَّ ذكر السابق منهم بالخيرات، المقيمين لدعائم البركات، وهم: الأئمة المطهرون(3)، المجاهدون السابقون، القائمون بحق الله، المنابذون لأعداء الله، المنفذون لأحكام الله، الراضون لرضاه، الساخطون لسخطه، والحجة بينه وبين خلقه، المستأهلون لتأييده، والمستوجبون لتوفيقه، المخصوصون بتسديده، في كل حكم به حكموا، أو قياس في شيء من الأحكام به قاسوا، حجة الله الكبرى، ونعمته العظمى، الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً، وفي ذلك ما يقول الله سبحانه: {إِنَّمَا يُرُيِدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيْراً} [الأحزاب: 33]. وفي طاعتهم، وما أمر الله من رد الفتيا بين المفتين وما فيه يتنازع المتنازعون إليهم ما يقول الله تبارك وتعالى: {يَا أّيُّهَا الَّذِيْنَ آمَنُوا أَطِيْعُوا اللهُ وَأَطِيْعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِيْ الأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِيْ شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيْلاً}
__________
(1) في (ب): الفرض.
(2) في (ب): المبتغي.
(3) في (أ): الطاهرون. وفي (ج): الظاهرون.

(2/187)


[النساء: 59]. وما جاء من الله تبارك وتعالى لآل رسوله من الذكر الجميل، والحض للعباد على طاعتهم، والإقتباس من علمهم؛ فَكَثِيرٌ غير قليل، يجزي قَلِيلَه عن كثيره، ويَسيرَه عن جليله، من كان ذا علم واهتداء، ومعرفة بحكم الله العلي الأعلى. وكل ذلك أمر من الله سبحانه للأمة برشدها، ودلالة منه على أفضل أبواب نجاتها، فإن اتبعت أمره رشدت، وإن قبلت دلالته اهتدت، وإن خالفت ذلك غوت(1)، ثُمَّ ضلت وأضلت، وهلكت وأهلكت، {لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللهَ لَسَمِيْعٌ عَلِيْمٌ} [الأنفال: 42].
وفي أمر الأمة باتباع ذرية المصطفى، ما يقول النبي المرتضى: (( إني تارك فيكم ما إن تمسكتم به لن(2) تضلوا من بعدي الثقلين(3): كتاب الله، وعترتي أهل بيتي، إن اللطيف الخبير نبأني أنهما لن يفترقا حتى يردا علي الحوض ))، ويقول صلى الله عليه وآله في تفضيلهم، والدلالة على اتباعهم، وما فضلهم الله به على غيرهم: (( النجوم أمان لأهل السماء، وأهل بيتي أمان لأهل الأرض، فإذا ذهبت النجوم من السماء أتى أهل السماء ما يوعدون، وإذا ذهب أهل بيتي من الأرض أتى أهل الأرض ما يوعدون )). وفيما ذكرنا من أمرهم ما يقول صلى الله عليه وآله وسلم: (( مثل أهل بيتي فيكم كسفينة نوح من ركبها نجا، ومن تخلف عنها غرق وهوى )).
وهذا ومِثْلُه فَكَثيِرٌ عنه صلى الله عليه وآله وسلم فيهم، يفهمه من روى عنه عليه السلام، ونحن نستغني بقليل ذكره عن كثيره.
ثُمَّ اعلم أيها السائل أن الحق لا يؤخذ إلاَّ من أحد ثلاثة وجوه: كتاب ناطق، أو إجماع من الأمة في ما نقلته عن النبي عليه السلام من السنة التي جاء بها عن الله، وَأَمْرٍ بيَّنَتْه وصحّ‍حَتْه العقولُ، وميَّزَتْ وأخرجت حقه، وشَرَعت صدقَه.
__________
(1) في (ب): غويت
(2) في (أ): لم.
(3) في (ب): من بعدي أبداً كتاب الله.

(2/188)


ثُمَّ اعلم أيها السائل أن القياس يخرج على معنيين: أحدهما ثابت صحيح، والآخر باطل قبيح.
فأما المعنى الباطل منهما فهو قول القائل: قَاسَ فُلاَنٌ ويَقِيسُ فُلاَنٌ، يريد بذلك قياساً على غير الكتاب، يضرب بعض القول ببعض، ويقيس براي نفسه على رأي غيره، ويشبه مذهبه في القياس بمذهب غيره، فيخرج قياسه قياساً فاسداً، لا يجوز هذا القياس في الدين، ولا يثبت في أحكام المسلمين، بل من تعاطى قياساً على ما ذكرنا، أو قولاً مما(1) شرحنا؛ كان مُحِيلاً مبطلاً، فاسد(2) المذهب جاهلاً.
والمعنى الذي يثبت في كل معنى، ويكون دليلاً على النور والهدى، فهو: أن يكون العالم المتبحر في علمه، المتمكن في فهمه، إذا ورد عليه أمر قاسه على كتاب الله، وعلى سنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ومعنى قولنا: قاسه، فهو دبَّره ونظره، وفكر فيه وميزه، واستعمل في استخراجه ـ من كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وآله وسلم ـ عقله، فغاص عند نزول النازلة، في بحور الكتاب والسنة، حتى استخرج باستدلاله علم حاجته من كتاب ربه، وسنته التي أنزلها على نبيه. فهذا المعنى هو القياس الصحيح.
ومعنى اسم القياس هاهنا من قول القائل: قاس؛ فإنما هو استدل، وأصاب وميز، فاستخرج بقياسه وتمييزه؛ الصوابَ من كتاب ربه، ووقف بجودة تمييز قياسه(3)، وغَوَصَان لُبِّه على طلبته، وَجَال(4) بما ركب الله في صدره من ثابت لُبِّه، إذ أجاد استعْمَالَهُ في حاجته؛ ما طَلَب من علم نوازل الأحكام، ووقف بذلك على معرفة أصول دين الإسلام، فكان بقياسه وتمييزه؛ راداً لفروع دينه إلى أصوله، فالتأم له ـ بالتمييز والنظر، وجودة إنصاف العقل والفكر ـ ما افترق، وارتتق له بذلك في الأحكام ما انخرق.
__________
(1) في (ب، ج): فيما.
(2) في (أ): باطل.
(3) في (أ): ووقف بجودة قياسه.
(4) كذا في النسخ، ولعلها: وحاز.

(2/189)


فافهم هديت معنى قول القائل: قاس ويقيس، واستعمل لبك في معرفة الفرق بين المعنيين الذين ذكرنا، حتى تقف(1) فيهما على الهدى، وتكون من ذلك في قولك كله على الإستواء، والحمدلله العلي الأعلى، وصلى الله على محمد المصطفى، وعلى أهل بيته الطيبين الأخيار، الصادقين الأبرار.
ثم اعلم من بعد كل علم ومن قبله، وعند استعمالك لعقلك في فهمه(2)، أن الذين أَمَرنا باتباعهم من آل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وَحَضَضنَا على التعلم منهم، وذكرنا ما ذكرنا من أَمْرِ الله برد الأمور إليهم؛ هُم الذين احتذوا بكتاب الله من آل رسول الله، واقتدوا بسنة رسول الله الذين اقتبسوا علمهم من علم آبائهم وأجدادهم، جداً عن جد وأباً عن اب، حتى انتهوا إلى مدينة العلم، وحصن الحلم، الصادق المصدَّق، الأمين الموفق، الطاهر المطهر، المطاع عندالله المُقّدَّر، محمد صلى الله عليه وآله وسلم، فَمَنْ كَانَ علمه من آل رسول الله صلى الله عليه وآله على ما ذكرنا، منقولاً إلى آبائه، مقتَبساً من أجداده، لم يزغ عنهم، ولم يقصد (في ذلك)(3) إلى غيرهم، ولم يتعلم من سواهم؛ فَعِلْمُهُ ثابت صحيح، لا يدخله فساد ولا زيغ، ولا يحول أبداً عن الهدى والرشاد، ولا يدخله اختلاف، ولا يفارق الصحة(4) والائتلاف.
فإن قلت أيها السائل: قد نجد علماء كثيراً منهم، ممن ينسب إليه علمهم؛ مختلفين في بعض أقاويلهم، مفترقين في بعض مذاهبهم، فكيف العمل في افتراقهم، وإلى من نلجأ منهم، وكيف نعمل في اختلافهم، وقد حَضَضْتَناَ عليهم، وأعلمتنا أن كل خير لديهم، وأن الفرقة التي وقعت بين الأمة هي من أجل(5) مفارقة الأئمة من آل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؟
__________
(1) في (ج): تستدل.
(2) في (ب): فهمك.
(3) سقط من (أ).
(4) في (ب): ولا تفارقه الصحة.
(5) في (ب): بين الأمة فمن أجل.

(2/190)


قلنا لك: قد تقدم بعض ما ذكرنا لك في أول هذا الكلام، ونحن نشرح لك ذلك بأتم التمام، إن اختلاف آل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ـ أيها السائل عن أخبارهم ـ لم يقع، ولا يقع أبداً (الاختلاف)(1) إلاَّ من وجهين:
فأما أحدهما فمن طريق النسيان للشيء بعد الشيء، والغلط في الرواية والنقل، وهذا أمر يسير، حقير قليل، يرجع الناسيَ منهم عن نسيانه إلى القول(2) الثابت الْمُذَكِّرُ(3) له عند الملاقاة والمناظرة.
والمعنى الثاني فهو أكبر الأمرين وأعظمهما، وأجلهما خطراً وأصعبهما، وهو: أن يكون بعض من يؤثر عنه العلم تعلم من غير علم آبائه، واقتبس علمه من غير أجداده، ولم يستنر بنور الحكمة من علمهم، ولم يستض(4) عند إظلام الأقاويل بنورهم، ولم يعتمد عند تشابه الأمور على فقههم، بل جَنَب عنهم إلى غيرهم، واقتبس ماهو في يده من علمه عن أضدادهم، فصار علمه لعلم غيرهم مشابهاً، وصار قوله لقولهم صلوات الله عليهم مجانباً، إذْ عِلْمُه من غيرهم اقتبسه، وفَهْمُه من غير زنادهم ازْدَنَده(5)، فاشتبه أمره وأمر غيرهم، وكان علمه كعلم الذين تعلم من علمهم، وقوله كقول من نظر في قوله، وضوء نوره كضوء العلم الذي في يده، وكان هو ومن اقتبس منه سواء، في المخالفة لأهل بيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والإقتداء(6)، وإن كان منهم في نسبه، فليس علمهم كعلمه، ولا رأيهم فيما اختلف فيه الحكم(7) كرأيه. والحجة على من خالف الأصل من آل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كالحجة على غيرهم من سائر عباد الله ممن خالف الأصول المؤصلة وجَنَبَ عنها.
__________
(1) سقط من (أ، ج).
(2) في (ب): إلى القول، وفي (أ): إلى قوله.
(3) في (ب): المذكور.
(4) في (ب): ولا يستضيء.
(5) في (أ): زيادتهم ازداده.
(6) كذا في النسخ ولعله سقط: بغيرهم. أو لعلها: وعدم الاقتداء.
(7) في (ب): من الحكمة.

(2/191)


والأَصْلُ الذي يَثْبُت عِلْمُ من اتبعه، ويَبين قولُ من قال به، ويصح قياسُ من قاس عليه، ويجوز الإقتداءُ بمن اقتدى به(1)؛ فَهْوَ كِتَابُ الله تبارك وتعالى المحكم، وسنة رسوله صلى الله عليه وآله وسلم؛ اللذان جُعِلا لكل قول ميزاناً، ولكل نورٍ وحقٍّ برهاناً، لا يضل من اتبعهما، ولا يغوى من قصدهما، حجة الله القائمة، ونعمته الدائمة، فَمَنِ اتَّبعهما في حكمهما، واقتدى في كل أمر بِقَدْوهما، وكان قولُه بقولهما،وحكمُه في كل نازلةٍ بهما دون غيرهما؛ فَهْوَ المُصِيبُ في قوله، المعتمدُ عليه في علمه، القاهرُ لغيره في قوله، الواجبُ على جميع المسلمين من آل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ومن غيرهم أن يرجعوا إلى قوله، ويتبعوا من كان كذلك في علمه؛ لأنه على الصراط المستقيم؛ الذي لا اعوجاج فيه ولا دَخَل(2) والحمدلله عليه. فمن كان على ما ذكرنا، وكان فيه ما شرحنا؛ من الاعتماد على الكتاب والسنة، والإقتباس منهما،والإحتجاج بهما، وكانا شاهدَيْنِ له على قوله، ناطِقَين له بصوابه، حجةً له في مذهبه؛ فَوَاجبٌ على كل أحد أن يقتدي به، ويرجع إلى حكمه.
فإذا جاء شَيءٌ مما يختلف فيه آل رسول الله(3) صلى الله عليه وآله وسلم؛ مَيَّزَ الناظرُ المميِّزُ السامعُ لذلك بين أقاويلهم، فَمَنْ وجدَ قولَهُ متبعاً للكتاب والسنة، وكان الكتابُ والسنة شاهدين له بالتصديق؛ فَهوَ على الحق دون غيره، وهو المتَّبَعُ لا سواه، الناطقُ بالصواب، المتبعُ لعلم آبائه في كل الأسباب.
__________
(1) في (ب): ويجوز الإقتداء به.
(2) الدَّخْل بسكون الخاء وفتحها: العيب والريبة.
(3) في (ب): آل الرسول.

(2/192)


وإن ادعى أحدٌ من آل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنَّه على علمِ رسول الله، وأنه مقتد بأمير المؤمنين والحسن والحسين صلوات الله عليهم؛ فَاعْلَم هُدِيتَ أنَّ علمَ آل رسول الله لا يخالف علم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وأن علمَ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لا يخالف أمر الله ووحيه، فاعرض قول من ادعى ذلك على الكتاب والسنة، فإن وافقهما ووافقاه فهو من رسول الله صلى اللّه عليه وآله وسلم، وإن خالفهما وخالفاه فليس منه صلى الله عليه وآله وسلم، كما قال فيما روينا عنه حين يقول صلى الله عليه وآله وسلم: (( إنه سيكذب عليَّ كما كذب على الأنبياء من قبلي، فما جاءكم عني فأعرضوه على كتاب الله، فما وافق كتاب الله فهو مني وأنا قلته، وما خالف كتاب الله فليس مني ولم أقله )).
وهذا أصل في اختلاف آل رسول الله صلى اللّه عليه وآله وسلم ثابت، ودليل على الحق صحيح، فَاعْتَمِدْ فيما اختلفوا فيه عليه، واستعمله في ذلك؛ يَبِن لك الحق حيث هو، ويصح لك المقتَبِس من علم آبائه صلوات الله عليهم، والمقتَبِس من غيرهم، وتصح لك الحجة في جميع أقوالهم، وتَهْتَدِ إلى موضع نجاتك، وتستدل به على مكان حياتك، وتَقِف به على الذين أمرناك باتباعهم بأعيانهم، فقد شرحناهم لك شرحاً واضحاً، وبيناهم لك تبياناً صحيحاً، حتى عرفتَهم ـ إن استعملتَ لُبَّك ـ بما بينا لك من صفاتهم، كما تعرفهم بالرؤية بأعيانهم، وتقف عليهم بأسمائهم(1) وأنسابهم. والحمدلله على توفيقه وإرشاده، حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه(2).
تم الكتاب وصلى الله على سيدنا محمد وآله وسلم.
***
__________
(1) في (ب، ج): بأساميهم.
(2) في (أ) و(ج): كمل الكتاب والحمدلله وحده وصلواته على سيدنا محمد النبي وآله وسلامه.

(2/193)


رسائل وكتب
في
الأخلاق والآداب
كتاب الخشية
m
قال يحيى بن الحسين صلوات الله عليه:
أصل الخشية لله العلم، وفرع الخشية لله الورع، وفرع الورع الدين، ونظام الدين محاسبة المرء لنفسه، وآفة الورع تجويز المرء لنفسه الصغيرة من فعله.
وأصل التدبير فهو التمييز، وأصل التمييز فهو الفكر، ومن لم يَجُد فكره لم يَجُد تمييزه، ومن لم يجد تمييزه لم يستحكم تدبيره. والعقل كمال الإنسان، والتجربة لقاح العقل، ومن لم ينتفع بتجربته؛ لم ينتفع بما ركب فيه من عقله، وشكر المنة زيادة في النعمة، والنعمة لا تتم لمن رُزقها إلاَّ بشكر مُوِليها، ومن أغفل شكر الإحسان؛ فقد استدعى لنفسه الحرمان، ومن أراد أن لا تفارقه نعم(1) الله؛ فلا يفارق شكر الله. وحصن الرأي التأنِّي، وآفته العجلة، إلاَّ عند بيان الفرصة، ومن علم ما لله عنده لم يكد يهلك ، ومن أراد أن يعلم ماله عند الله؛ فلينظر ما لله عنده، ثم ليعلم أن له عند الله مثل ما لله عنده، قال الله تعالى: {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا} الآية [الأنعام: 160].
وجودة اللسان زَيْن الإنسان، وحياة القلب أصل البيان، ومن فكر في عواقب فعله؛ نجا من موبقات عمله، وصاحب الدين مرهوب، وصاحب السخاء محبوب، وصاحب العلم مرغوب إليه، وذو النصفة مُثْنى عليه، ومن كفى الناس مؤنة نفسه؛ كفاه الله مؤنة غيره، ومن خضع وتذلل لله فقد لبس ثوب الإيمان، ومن لبس ثوب الإيمان؛ فقد تتوج بتاج العزة من الرحمن، قال الله سبحانه: {وَلِلَّهِ العِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ} [المنافقون: 8]. ومن رزق نزاهة النفس فقد أعطي عوضاً عن العبادة، ومن وفق للصبر عند البلاء؛ فقد خففت عنه المحنة(2) العظمى، ومن أراد من الله التسديد والتوفيق؛ فليعمل لله بالإخلاص والتحقيق.
__________
(1) في (ب): نعمة الله.
(2) في (ب): خفقت عليه المحبَّة.

(2/194)


والعلم والحكمة؛ لا ينموان مع المعصية، والجهل والحيرة؛ لا يقيمان مع الطاعة، ومن وُفِّقَ أمن من الزلل، ومن خُذِل لم يتم له عمل، ولم يبلغ ساعة من الأمل، ومن قوي ناظر(1) قلبه؛ لم يضره ضعف بصره، قال الله تعالى: {فَإِنَّهَا لاَ تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى القُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} [الحج: 46] .
ومن نظر إلى نفسه بغير ما هو فيه؛ أمكن الناسَ من الطعن عليه، ودواء العي قلة الكلام، ودواء الجهل التعلم، ودواء الخوف من عذاب الله؛ العمل بطاعة الله، والترك لمعاصيه، وحسن الأوبة إليه عزَّ وجل. ومن رغب في الله اتصل به، وانقطع على الحقيقة إليه، ومن لم يهتد إلى أفضل العبادة وأسناها؛ فليقصد إلى مخالفة النفس في هواها.
والعلم مصباح في صدور العلماء، زينته الورع، وذباله(2) الزهد في الدنيا، ولا يصلح الورع إلاَّ لمن صلح له الزهد في الدنيا، والورع والمكالبة على الدنيا لا يجتمعان أبداً، كما لا يجتمع في إناء واحد النار والماء، ومن اشتدت رغبته في الدنيا طلب لنفسه التأويلات الكاذبات، ومن طلب لنفسه التأويلات الكاذبات تقحم بلا شك في المهلكات، و(من تقحم في المهلكات)(3) كان عندالله من أهل الخطيئات.
وصاحب الدنيا الراغب فيها كالحسود؛ لا يستريح قلبه من الغم أيداً، ولا يخلو فكره من الهم أصلاً، ولو أعطي منها كل العطاء. والحلم مع الصبر، ولا حلم لمن لا صبر له.
وعروق الحمكة التي تصرب في الصدور هي طاعة الله، ولا تثبت الحكمة إلاَّ في صدر مُطيعٍ لله عزَّ وجل، ومن عدم الطاعة لله عدم الحكمة، ومن عدم الحكمة عدم النعمة، والحكمة كالشجرة؛ عروقها الطاعة، وثمرها(4) البلاغة. وأصل البر اللطف، وفرعه النصفة، وأصل العقوق قلة النصفة، وفرعه الجفا، وأصل الحمق قلة العقل، وفرعه العجب بالنفس(5).
__________
(1) في (ب): باطن. وهو تصحيف.
(2) في (ب): وذبالته.
(3) زيادة من هامش (ب).
(4) في (أ، ب): وثمرتها.
(5) في (ب): تم والحمدلله وحده، وصلى اللّه على سيدنا محمد وآله وسلم.

(2/195)


المنتزع من سياسة النفس
m
وله أيضاً صلوات الله عليه (( منتزع من سياسة النفس ))(3) وهو الذي أوله: أصل خشية الله العلم، ثُمَّ قال في فصل منه رضي الله عنه.
بسم الله الرحمن الرحيم
قال الإمام الهادي إلى الحق يحيى بن الحسين بن رسول الله صلى الله عليه:
اعلم أن أربعاً هي موجودة في كتاب الله عز وجل، وهي فرض من الله على عباده، بها يصلح الإيمان، وبها يبلغ شرف الدنيا والآخرة، وهي أصول الطاعات وفروعها، مأمور بها المؤمنون والمؤمنات جميعاً، ولا ينفع عباده إلاَّ بمعرفتها والعمل بها، فإذا ألزمها العبد نفسه أدته إلى درجة الصديقين، وسبيل المحسنين إن شاء الله.
أولها: معرفة الله جل ثناؤه. والثانية: معرفة عدو الله. والثالثة: معرفتك بنفسك. والرابعة: معرفتك العمل.
__________
(3) هذه الرسالة اختصت بها النسخة (أ)، ولذلك لم يمكن تصحيحها وفيها عبارات مطموسة وغير متسقة المعنى وعبارات غير متضحة.

(2/196)


فمعرفتك الله عز وجل؛ فهو: أن تُعلِّم نفسك علم قربه منك، وقدرته لديك وقيامه عليك، ومشاهدته لك وعلمه بك، وأنه قريب حفيظ محيط، واحد أحد ليس كمثله شيء، لا شريك له في ملكه، وأن ما وعد به حق صدق، وأنه فيما ضمن به ودعا إليه وندب إليه وفيٌّ، وله وعد هو منجزه، ووعيد هو منفذه، ومقام للعبد منه يصير إليه، ومصدر يصدر عنه، وعذاب ليس له مثل، وثواب ليس له خلف، وأنه بر رحيم، ودود مجيب، قضَّاءٌ للحوايج، كل يوم هو في شأن، يعلم الخفاء وفوق الخفاء ودون الخفاء، والضمير والخطرة، والوسوسة والهمة والإرادة، والحركة والطرفة، وما فوق ذلك وما دون ذلك، ولا يوصف ربنا تعالى بصفة، وأنه رازق وهاب تواب، فإذا ألزمت ذلك قلبك باليقين الراسخ والعلم النافذ، وقَدَّرته في كل عضو منك ومفصل، وعرق وعصب، وشعر وبشر ونفس، أن الله جل ثناؤه قائم على ذلك، أحاط به علماً قبل خلقك وبعد ما خلقك، فإذا ثبت ذلك في قلبك، وصح به عزمك وكلفه عقلك، وأنه علم اختيار لا علم اضطرار؛ ثبت منك حينئذ المحاسبة لنفسك، ووصلت إليك المعرفة، وفرغت إلى الله قلبك، وانخشعت له جوارحك، حذراً من سطواته وقدرته، وحياء منه لقربه ومشهده، فلم تسقط منك إرادة، ولم تنزل بك همة، ولا تباعدت منك نية، فصرت القائم للقائم بحقه وتوفيقه لك، وتركك لما كره منك؛ إذعاناً(1) لجلاله، ومشاهدة لعلمه، ولا تكون منك همة ولا خطرة، ولا إرادة ولا وسوسة، ولا حركة ولا سكون ظاهرة ولا باطنة، ولا لحظة ولا لفظة، ولا شيء ظاهر ولا باطن إلاَّ وربك جل ثناؤه عند ذلك وعلى ذلك شاهد خبير، وأنه قائم عالم بذلك منك قبل كونه، وعند بدء إرادتك له وفعلك بجوارحك، فأنت (2) بتوفيقه العالم الورع التقي له.
__________
(1) في الأصل مطموسة، وقد أثبتها على الظن.
(2) مطموسة وقد أثبتها على الظن.

(2/197)


ثُمَّ بعد ذلك معرفة عدو الله وعدوك إبليس، [الذي] أمرك الله بمحاربته وعداوته، ومجاهدته في السر والعلانية، لعلمك أنَّه قد عادى الله في عبده آدم صلى الله عليه، وضاره في ذريته، تنام ولا ينام، وتغفل ولا يغفل، دائباً في عطبك وهلاكك، في يقظتك ونومك، لا يألو بكل حيله وخدعه ومكائده في طاعتك ومعصيتك، ومالا يجهله كثير من الناس العابدين ليساوي بين العابد والفاجر.
واعلم أن ليس له همة(1) ولا مراده فيك قليل، إنَّما يريد أن يزيلك عن عظيم ثواب الله مع علمه بذلك، ويوردك معه حيث يرد حسداً ليشمت بك.
فإذا عرفته بهذه الصفة والمنزلة، لزم قلبك معرفته بلا غفلة ولا سهو، وحاربته حينئذ بعون الله وتوفيقه بأشد المحاربة، فلا تترك المجاهدة سراً وعلانية، ولا تفرط في ذلك ولا تغفل حتى تبذل مجهودك، فإذا لم تبق غاية منك إلاَّ بذلتها؛ قصدت إلى ربك عز وجل بعذرك، بالبكاء والتضرع والإستكانة، جاهداً في ليلك ونهارك حتى يعينك عليه؛ وأنت بمنظر يراك وأنت تجاهد فيه من أمرك بجهاده، وتصل(2) مكايدته عندك بمعرفته، ألم يعرفك ذلك مولاك أنَّه عدو لك ولأوليائه وأصفيائه؟ فبلغ من غضبه عليك وأنت تكيده لغيرك، وتدل على محاربته ومكائده، وتحذر منه وتدل على عوراته؛ من ضعف علمه وتكيده وغروره؛ لتجاهد وتعلم ما يدلس على العمال والمريدين؛ إذا أنس منهم بالمعرفة فيه بعداوة الله وعداوة المؤمنين. فإذا كنت كذلك فقد وهب الله لك سلوك طريقين عظيمين سديدين، ومن سلك هذه المنزلة فليحذر، وليجتهد عن ذلك أشد الحذر.
وعليك بالحفظ لما أعطيت والتيقظ، وترك الغفلة، لا تزل زلة، ولا تغفل غفلة، فيظفر بك وهو شديد الغضب عليك، لما علم من علمك بمكانه، وطلبتك لمعصيته وغضبه عليك وتنقصك منه؛ فيرميك رمية لا تقوم من صرعتك، ولا تفيق من سكرتك، واحذره أشد ما ترجو أو تأمل إن شاء الله.
__________
(1) كذا في الأصل.
(2) كذا ولعلها: وتبطل.

(2/198)


واعلم أنَّه ليس لك فرج منه ولا من مجاهدته إلاَّ مفارقة روحك من جسدك فاحذره، فإنه ليس إلاَّ أن تغتر فتهلك، أو تستقيم فتنجو.
وأما معرفتك بنفسك فتضعها حيث وضعها الله، وتقوم عليها بأحسن الرعاية والأدب كما أمرك الله؛ فحينئذ تعرف أي شيء هي؟ وما صفتها؟ وكيف حالها؟ وما طباعها؟ وإلام تأمر؟ وإلامَ تدعو؟ وكيف خلقها؟ وأنها ضعيفة في بنيتها، طمعة شرهة آمنة، مدعية للخوف والرجاء، أماني منها وغرور، صدقها كذب، ودعواها باطل، وكل شيء منها غرور، وليس لها تحقيق، وعلمها ظن، إن حللت عنانها شردت، وإن اطلقت وثاقها جمحت، وإن أعطيتها ما تريد هلكت، وإن غفلت عن محاسبتها والقيام عليها أدبرت، وإن تركتها تولت، ليس لها حقائق ولا مرجوع(1)، هي رأس القبائح، ومعدن الفضائح، وخزانة إبليس وكره(2)، إليها يأوي ويطمئن ويهلك ويوسوس، وهي بالصفة التي وصفها الله لرسوله صلى الله عليه وأهل خيرته وحجته على خلقه في قصة يوسف صلى الله عليه: {وَمَا أُبرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلاَّ مَا رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِي غَفُورٌ رَحِيْمٌ} [يوسف: 53] وكذلك أنت في ضعفك ووهى علمك.
واعلم أن كل شيء تظهر من الخوف فهو أمن، وكل ما ادعت من الصدق فهو كذب، وكل ما ادعت من الإخلاص فهو رياء لا حقيقة له، وعند الإمتحان ترجع عن دعواها، فأي بلاء أعظم من بلائها وما يحل بها وفيها؟ فإذا عرفت صفتها بحقيقتها ومعك في ذلك صدق دوام الإلتجاء إلى الله والفزع إليه منها؛ لم تضعف عنها، وهان عليك أمرها بعون الله وتوفيقه، وقواك الله عليها ما دمت ناظراً إليه وفزعاً منه إليه، فإذا اجتمعت فيك هذه الخصال فأنت بإذن الله عارف عالم.
__________
(1) كذا في الأصل.
(2) كذا في الأصل. ولعلها: ووكره.

(2/199)


وبقيت الخصلة التي يتم بها خلقك، وتعلو بها حكمتك: أن تعرف العمل، ومعرفة العمل أن الله تبارك وتعالى أمرك بأمر ونهاك عن نهي، فالأمر الذي أمرك به هو الطاعة، والنهي الذي نهاك عنه هو المعصية، وأنه تبارك وتعالى نهاك عما شاهدته، وأمرك بطلب ما غاب عنك(1)، وضمن لك من رزقك في دنياك بما يفنى، وأمرك بطلب ما يبقى مما غاب عنك، فعظم عند ذلك الإمتحان، فقبلت عقول العاملين لله هذه المحنة، فعظم عند ذلك الهم والخطر، ودوام الفكرة والحذر.
فانظر أن لا تكون ممن ترك المعاصي الظاهرة ولزم المعاصي الباطنة، وإياك والخدع فلا تحمدن نفسك فيما تظهر من الطاعة والنية والإرادة بشيء ليس ذلك معك؛ فتكون طاعتك معاصي، فيحل بك العقاب مع تعب البدن وكثرة المرزية، ولا تزين طاعتك بالذكر لطاعتك، وشد نيتك بالورع، واحفظ إرادتك بالمجاهدة، وليكن همك طيب النية، كما يهمك العمل في كل أحوالك، حتى تثبت معرفة ذلك عندك إن كنت تريد تعنى لها(2) وتريد نجاتها.
__________
(1) يريد والله أعلم أنَّه نهاك عن الدنيا وأمرك بطلب الآخرة وما فيها.
(2) كذا في الأصل.

(2/200)


فإذا فتشت نفسك وجدتها تتكلم بكلام الخائفين مالم تقع في الخوف وتضطر إليه، وتقول قول الأبرار مالم تمتحن بالفتن، وتصف وصف الصادقين مالم تحتج(1) إلى الغاية، وتدعي دعوى الموقنين مالم تمتحن بالإخلاص، وتقول إنها من المتواضعين مالم يحل بها خلاف الهوى عند تهيج الغضب. فأنت تتوهم عند وصفها الصدق وإثبات الحق وحلاوة المنطق بالإخلاص والدعوى أنها كذلك؛ فإذا امتحنت في المواطن عند حقائق الأمور مع محاسن الوصف منك وجدتك مرائياً؛ فإذا أنت قد بلوت كل خلق وَصَفَتْه وادَّعَتْه، فإذا محضتها الحقيقة ظهر لله منها في تلك المواطن خلاف دعواها. فإن لم تكن في موضع الحق والإمتحان والإخلاص فعليك أن تنظر ما الآفة إذا كانت تحسن وصف الحق والصدق هل يوجد لذلك عند الإمتحان حقيقة؟ فإذا ابتليت بذلك، وفتشت عنه نفسك، رجعت ملتمساً لفساد عملك، فصح عندك بالعلم والبيان أنَّه من سقم قلبك، فصحح من قلبك الإرادة والنية في الصدق، ليوافق الوصف بلسانك حقيقتك، لا لتزين به بين المخلوقين فتعظم لذلك المعصية منك، فتغلط(2) الرجوع في توبتك، والويل العظيم من الله إن هجم عليك أجلك وهذه حالك، فعند ذلك فأطل الفكر، وصحح النظر، واستعن بالعلم، واسترشد العقل، وعليك بالإستعانة بالله، وصحح الضمير بالصدق لتقع على العلة التي فرقت بين محاسن الوصف منك وقبيح الْخُبْر عند الإمتحان، ثُمَّ تدبر ما قد أظهره لسانك وكان قلبك(3) إذا وجدته يصف الحق والصدق فقضيت له وهو على خلاف ذلك عند حقائق الأمور.
__________
(1) في الأصل مهملة ولم يتضح لي معناها.
(2) كذا في الأصل.
(3) كذا في الأصل.

(2/201)


فإذا استرشدت العقل والعلم دلاك على أن النفس هو المختارة لهواها(1)، إذ كان ذلك يقيم لها خلقها عند المخلوقين المحققين ليعرفوا ضبطها ووزنها للكلام وحفظها للسان، فإذا حضر الإمتحان قَدَّمَتْ الهوى وأخَّرَت العلم والبيان، فقطعت بالهوى، وعملت في جميع الأمور بهواها، فقد دَلَّك العقل والعلم عند ذلك على الرياء والتصنع، وأكثر ذلك يخفى على المدعين لمعرفة أنفسهم، فما ظنك بأهل الجهل وقلة العلم.
وإنما يصح على ما وصفت عند العالم بنفسه عند حقائق الإمتحان(2)، فلا تغتر بمحاسن الوصف منها وحلاوة المنطق وإصابة الحق، وهي عند الإمتحان تجعل ذلك حجة عليك، وتصيره إلى الهوى، فلا تغتر بإظهار الخوف والرضى والصدق والتوكل بالوصف؛ وهي إن عارضها خوف الفقر قبل حلوله أيست وقنطت، وتدعي الصبر فإذا نزل بها بلاء سخطت، ولا تغتر بما تظهر من التواضع والحلم فإذا افتاقت إلى ذلك تسافهت(3) وإن هي مدحت بباطل يوافق هواها فرحت، فلا تعبأ بظاهر الأعمال فإنها غرور، ولا تغتر في مبادرتها في البر واصطناع المعروف فإن لم تشكر ذلك لها وتثن به عليها غضبت، فإن لم تظهر الغضب أضمرته، فاحذرها فإنها تقطع(4) بك في مواطن الحاجة في كل وجه، وأن تجنح(5) إلى إخلاصها وصدقها وخوفها فقد تظهر لك خلاف ما ادعته، وإنما رضيت بعد الشكر لما وافق هواها، ودب في تعظيمها، فلا تغتر بما ظهر منها في جميع الأمور، وتدبر منها سوء الضمير.
واعلم أنَّه إنَّما يستخرج ما حسن(6) في القلب من الصدق والكذب عند الإمتحان، وعند فضائح ضمائر الأنفس، فزن ذلك بالعلم والتيقظ في مواطن الإمتحان، وعليك بدوام الإستعانة بالله، وإياه فاسأل العفو عن الذنوب، وبه فتعوذ من الخذلان.
قال في الام المنقول عنها ما لفظه:
تم ما وجد من ذلك والحمدلله أولاً وآخراً وباطناً وظاهراً وصلى الله على محمد وآله وسلم تسليماً وكان الفراغ من ذلك بعد صلاة العصر يوم الأحد السابع والعشرين من شهر جمادى الأخرى من شهور سنة ثمان وأربعين وستمائه سنة هجريه، وصاحبه وكاتبه يسألان الله المغفرة والرضوان لهما ولمن قرأ فيه وتدبر معانيه وصلى الله على سيدنا محمد وآله وسلامه.
__________
(1) كذا في الأصل ولعلها: هي.
(2) كذا في الأصل.
(3) كذا في الأصل ولم أهتد إلى معناها.
(4) كذا في الأصل، ولعلها: تنقطع.
(5) كذا في الأصل ولعلها عطف على فاحذر، أي واحذر أن تجنح..
(6) كذا، ولعلها ما اجتن في القلب.

(2/202)


رسائل وكتب
في
مواضيع متفرقة
جواب مسائل أبي القاسم الرازي (2)
m
قال الهادي إلى الحق يحيى بن الحسين بن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم:
[الفرق بين عقل النبي (ص) وعقل أبي جهل]
سألت يا أبا القاسم أكرمك الله بكرامته، وأتم مابك من نعمته، وجعلك ممن اهتدى؛ فزاده نوراً وهدى، فجمع لك بذلك خير الآخرة والدنيا، فقلت: أخبرني عن عقل رسول الله صلى الله عليه وعلى آله، هل كان مثل عقل أبي جهل؟
الجواب في ذلك: إن كنت تريد بقولك: هل هو مثله، أي هل يعمل عقله إذا استعمله، كعمل غيره فيما جعل له، وركب عليه؟ أو هل يستدرك به، أداء فرض الله الذي افترضه عليه، وينال به بلوغ ما أوجب الله عليه؛ من تمييز الأمور، وفهم واجب الفرائض؟ وهل يستدرك به معرفة الخالق بما يرى من أثر صنعه، وينال به التمييز بين طاعته ومعصيته، فيكون بذلك بالغاً ـ من آداء حجج الله، واستدراك الدليل على الله ـ كما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يستدرك بأصل حجة عقله، من أداء فرضه؟
__________
(2) لم أقف له على ترجمة ولاذكره في سيرة الإمام الهادي عليه السلام.

(2/203)


فكذلك نقول: إن أبا جهل قد كان يستدرك وينال بأقل قليل عقله؛ أكثر مما افترض عليه من دينه، وفوق ما يحتاج إليه من الدلائل(1) على معرفة ربه، فقد كان فيما أعطاه الله من أصل الحجة، وثبَّت فيه من العقل لأداء الفريضة، وفي الاستدلال ـ إن استعمل عقله ـ بالغاً بعقله ما كان يبلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ بما أعطي من مبتدأ حجة العقل؛ من المعرفة بأداء فرض الله، والوقوف على دين الله، الذي لم يرض من العباد إلاَّ بأدائه.
ولولا أنَّه قد ساوى بينهم فيما ينالون به معرفة ما افترضه عليهم، وأداء حججه التي احتج بها عليهم؛ ما كانت تجب له عليهم حجة، ولكن اللّه عز وجل أعطى كلاً ما ينالون به أداء حججه، فساوى بينهم في إقامة الحجة عليهم، وإثبات البراهين في صدورهم، بما يبلغون به فرضه، وينالون به معرفته.
فإن كنت أردت هذا المعنى؛ فقد ساوى الله بين الخلق كلهم فيما يكون به بلوغ حجته، وتمام منته، ونهاية أداء فرضه؛ من العقول المركبة في صدورهم، الثابتة في قلوبهم، وأثبت بذلك عليهم كلهم حجته؛ لأن العقول المركبة فيهم ـ من هذه الحجج اللازمة لهم ـ من فعل الله لا من فعلهم، ومن صنع الله عزَّ وجل لا من صنعهم، وتدبيره جل جلاله لا من تدبيرهم.
فمبتدأ ما أعطاهم الله من حججه منه لا منهم.
فلما أن صح أن هذه العقول المركبة في الخلق فعل الله؛ كان فعل الله في ذلك مشتبهاً، وكان تدبيره في إثبات الحجج عليهم متساوياً، فاشتبهت وتساوت حجج الله على خلقه، التي ركبها في صدور عباده؛ بعدله فيهم، وإحسانه إليهم في مبتدأ أمرهم، كما استوت عليهم فروضه، ووجبت عليهم شرائعه، ولزمتهم بها عبادته.
__________
(1) في (ب): الدلالة.

(2/204)


فكان أصول ما أعطاهم من حججه فيهم سواء، كماكانت فروضه عليهم كلهم سواء، فتساوى المعنيان من الله في ذلك: معنى الفرض، والمعنى الذي يُنَال به الفرض، فكانت فرائض الله على عباده كلهم سواء، وجاء ما تعبدهم به منها سواء على المساواة والإستواء. وكذلك جاءت أصول ما أعطاهم الله من حجة العقل التي ينالون بها أداء هذه الفرائض(1) على قياس ذلك سواء، فاستوت المفروضات عليهم، والحجة التي ينالون أداءها بها فيهم.
فساوى الله سبحانه بينهم؛ في إثبات الحجة عليهم، وإكمال البراهين فيهم، وإيجاد السبيل لكلهم إلى أداء فرضه، وبلوغ طاعته، فكان ما أعطوا من أصل حجة العقل في ذلك بينهم سواء، كما كان الفرض عليهم كلهم سواء.
ثم فضل الله تبارك وتعالى من شاء بعد المساواة بينهم والاكتفاء بما يشاء بعد ذلك من الأشياء، فلم يكن لعباد الله حجة على الله، كما لم يكن لهم حجة فيا خلق وجعل، وفطر من الأشياء وفعل من جَعْلِهِ لبعضهم أهل جمال وهيئة، وجلد وهيبة، وجعل بعضهم أهل لطافة وذمامة، وأهل قلة وسماجة.
فمن تكلم فيما فضل الله به بعض الخلق على بعض في زيادات العقل، وجب عليه أن يجيب فيما فضل الله به بعضهم على بعض فيما ذكرنا من زيادة الخلق، في حسن الألوان، وعظم الأبدان، والكمال والبيان، لا يجد من ذلك بداً؛ لأن المعنى فيهما واحد مؤتلف، متساو غير مختلف. وليس في ذلك للخلق على الله حجة، ولا يلحق به سبحانه لمتعنت تجوير ولا ظلم، ولايثبت به عليه حيف ولا غشم؛ لأنَّه حكيم يُمضي ما كان فيه الحكمة على كره من كرهه(2)، وإرادة من أراده؛ لأن الحكمة هي رأس الحق وأصله، والحق فلا يتبع أهواء العباد، ولو اتبعه لفسدت البلاد والعباد، كما قال ذو العزة والأياد، حين يقول: {وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ}[المؤمنون: 71].
__________
(1) في (ب): الفروض.
(2) في (ج): من كره وإرادة من أراد.

(2/205)


فإن قال قائل: وما في التفاوت بين خلقه في الخلق والأجسام والألوان من الحكمة؟
قيل له: في ذلك أحكم الحكمة؛ لما فيه من الدليل على صانعه، والشهادة على جاعله، والنطق بوحدانية فاعله، وحكمة مدبره؛ لأنَّه لما أن تصرفت خلقهم، واختلفت ألوانهم، وتباينت صورهم، دل ذلك من حالهم على جاعلهم، وشهدت بذلك حالهم على وحدانية فاعلهم، وبعده من شبههم، واقتداره على فطرهم، ونفاذ إرادته في تأليفهم. فصح له بذلك عند خلقه القدرة، وثبتت له الوحدانية، وصحت له دون غيره الربوبية.
فهذا باب الحكمة وتفسيرها، وشرح أمرها وتثبيتها؛ في ظهور ما أظهر الحكيم من خلقه، وتفضيل ما فضل في الألوان والأجسام، وما له كانت الأمور من الله سبحانه كذلك، وأتى تدبيره جل جلاله على ذلك. وفي ذلك من قولنا، وما يشهد لنا عليه كتاب ربنا؛ ما يقول الرحمن؛ فيما نزل من النور والبرهان: {وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِلْعَالَمِينَ}[الروم: 22]. فافهم ما به قلنا: من تسوية الله سبحانه بين عباده، فيما أعطاهم من أصول حججه المركبة في صدورهم، كما ساوى بينهم فيما ألزمهم من أداء فرضه، وما به قلنا في الزيادة من الله سبحانه في ذلك لمن شاء من خلقه.
وإن كنت تريد بقولك: هل كان عقل رسول الله صلى الله عليه وسلم مثل عقل أبي جهل: أنَّه مثله في المساواة والموازنة والكمال والإستواء، وموآد زيادات الله له في الهدى والعطا والتفضيل في كل الأشياء، والزيادة في الفهم، وجودة التمييز؛ فلا ولا كرامة لأبي جهل، لا يكون عقله في ذلك كعقل الرسول صلى الله عليه وآله وسلم؛ لأن مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من الزيادات والتفضيلات، والخصائص والكرامات، والتوفيق والتسديد، ما لا يكون مع أحد؛ وذلك لكرامة الله لنبيه، واستحقاق نبيه لذلك من الله بفعله، صلى الله عليه وآله.

(2/206)


فلما أن فعل ما ارتضاه الله منه؛ من إخلاص النية، وجودة البصيرة، استحق من الله الزيادة.
فكانت زيادات اللّه وعطاؤه لنبيه على صنفين: فصنف(1) ابتدأه بما ابتدأ؛ لما قد علم من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من الإستواء، وأحاط به علمه قبل خلقه للدنيا؛ من إيثار محمد صلى الله عليه وآله له على غيره، وإخلاصه له في جميع أموره، وأنه يكون على الإستواء، وعلى الغاية(2) في الانتهاء اختياراً منه لذلك، وأثرة منه لربه، من غير جبر من الله له، ولا إدخال له قسراً في طاعته، بل يكون ذلك منه اختياراً، وأثرة لله لا اضطراراً.
فلما علم الله منه ذلك، وأنه يكون في جميع الأمور كذلك؛ ابتدأه بالكرامة على ما قد علم من غاية(3) فعله، وصيرورة أمره، فابتدأه بما هو أهل، من غير عمل كان منه لربه، ولا جبر من ربه على شيء تقدم من فعله، بل على ما قد علم من صيرورة أمره، وما علمه مما سيكون من اجتهاده في طاعة ربه، وتقديمه لإرادته على إرادة نفسه.
والصنف الثاني: فزيادات من الله لنبيه على جزاء فعله، وما ظهر من نصيحته، وبان من اجتهاده في التثبيت لباب اهتدائه، فزاده الله من بعد فعله لذلك تثبيتاً وهدى، وزيادة التقوى، كما قال تعالى: {وَالَّذِينَ اهْتَدَوا زَادَهُمْ هُدَى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ}[محمد: 17]. فكان اهتداء رسول الله صلى الله عليه وسلم أعظم الإهتداء، وتقواه أكبر التقوى؛ فكانت زيادة الله له أعظم من كل زيادة، وهدايته له أكبر من كل هداية. فكانت هذه زيادة من الله على طريق المجازاة للنبي علىفعله، وكانت الزيادة الأولة منه لما قد علم من صيرورة أمره.
فاجتمعت لرسول الله صلى الله عليه ثلاث خصال:
__________
(1) في (ج): صنف.
(2) في (ب): إلقائه. وهو تصحيف.
(3) في (ب): عناية.

(2/207)


ابتداء الله لاعطائه ما أعطاه من حجة العقل؛ التي ساوى بين العباد فيها في الإبتداء؛ لتقوم له بذلك عليهم الحجة في بلوغ أداء فرائضه، واستدراك معرفته، والإقرار بوحدانيته. وكرامة الله له، وزيادته في ابتدائه بما ابتدأه به؛ على قدر علمه بصيرورة أمره. واجتهاده في طاعة ربه، واقتدائه فيما أمر بالإقتداء به. وفي ذلك ما يقول الله سبحانه: {وَالَّذِينَ اهْتَدَوا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ}. فكملت له صلى الله عليه وآله وسلم هذه الثلاث الخصال واجتمعت، والتأمت وتمت؛ مع غيرها من توفيق الله لنبيه صلى الله عليه وتسديده، وتأييده ومعونته. فعاد ذلك كله زيادات في عقله، وصار له حبيباً في كل أمره.
فكيف يلحق به أبو جهل اللعين، أو يشابهه أو يساويه في شيء من عطاء رب العالمين، وأبو جهل فلم يستحق من الله زيادة في شيء من أمره؛ لا بنية صالحة نواها، ولا بطاعة لله من ذلك أتاها، فيستحق على نيته ابتداء، وعلى ما ظهر من عمله(1) بالصالحات جزاء؟! ولم(2) يكن معه عليه لعنة الله غير ماكان من ابتداء حجة اللّه (3) المركبة في صدره، المجعولة في قلبه، لتكمل بها عليه الحجة، فترك استعمالها، ورفض النصفة لها، فصار بذلك ظالماً لما في صدره من حجج الله فاستوجب بمكابرته لحجج الله عذاب الله وسخطه، وخذلانه ولعنته، فكابر أبو جهل ما زرع في قلبه، ورفض ما أمر به من أمر ربه؛ فاستأهل من الله جزاء سيِّء فعله، وحاق به كسب عمله، وصار في الضلالة متحيراً، وفي اللعنة من الله متصيراً؛ بما كان (4) له من حجج الله في صدره مكابراً.
__________
(1) في (ب): من علمه، ولعلها تصحيف.
(2) في (أ، ج): فلم.
(3) في (أ): من حجته المركبة.
(4) كذا في النسخ، والصواب: ولما كان.

(2/208)


فلن يستوي حال من كان عندالله مرضياً مهتدياً، وكان له ولياً موالياً؛ وحال من كان مسخوطاً عند الله مجنباً، وله سبحانه عدواً معادياً؛ في كل حال من الحال، وفي كل قول وفعال. لا يستوي ولي الله وعدو الله عند الله في حالة، ولا تتقارب منهما عنده منزلة، لا في ثواب ولا في عطاء، ولا في زيادة ولا في هدى. حال أولياء الله عند الله حال الكرامة والثواب، وحال أعداء الله عند الله حال الخذلان والعقاب. فالحمد لله الذي ميز بين خلقه، وصدقهم في ذلك ما أوجب لهم من وعيده ووعده.
فإن قال قائل: كيف يكون الابتداء من الله على غير عمل ولا جزاء؟‍
قيل له كذلك الله يفعل ما يشاء، ويعطي من يشاء، على ما يعلم منهم من الإهتداء.
فإن قال: أليس بكمال العقل وتمامه تنال فرائض الله، وتبلغ إرادة الله في قولكم ؟ إذ (1) كان قد فضل بعضاً على بعض في الزيادات في العقل؛ الذي ينال به كل فعل؛ ثم كلفهم كلهم ـ بعد أن فضل منهم بالزيادة في العقل من فضل ـ فرضاً واحداً، وألزمهم شرائع سواء، لم يرض من أحد منهم بترك خصلة واحدة من ذلك، ولم يوجب على المفضل بالعقل في الفرض زيادة ركعة واحدة من ذلك، ولا صيام يوم واحد، ولم ينقص عن المنقوص في عقله من ذلك الفرض قليلاً ولا كثيراً؛ فأين النصفة والعدل، مع ما ترون من الفعل؟
__________
(1) كذا في النسخ، ولعل الصواب: وإذا كان، والجواب حينئذ قوله: فأين النصفة.

(2/209)


قيل له: إنك جهلت المعنى؛ فأتى قولك على غير الإستواء. إن الله تبارك وتعالى قد عدل بين خلقه، وساوى بين عباده، فأعطى(1) كلهم من حجج العقل ما بأقل قليله ينالون أداء فرضهم، وتمييز أمورهم، والاستدلال على خالقهم. فساوى بينهم فيما يستدركون به معرفةأمره، ويستدلون به على التمييز بين أموره، ويقفون به على معرفته؛ فلم يوجب على أحد أمراً ولا نهياً، ولم يجعله عنده على شيء معاقباً، إلاَّ وقد أعطاه من حجة العقل ما ينال به ما ينال غيره ممن زاده اللّه بسطة، وآتاه كرامة. فلما أن ساوى بين خلقه في مستدركات حججه، وبالغات معرفة أداء فرضه؛ زاد من شاء من فضله، وأعطاه ما شاء من كرامته؛ من بعد أن قطع عنه حجة غيره؛ بما ركب في صدره، من مؤكَّدات حججه، التي بأقل قليلهن وأصغر صغيرهن يستدرك أكثر مما افترض عليه، وينال فوق ما ألزم، وجعل فيه فرضاً لازماً مؤكداً، وأمراً واجباً مشدداً، فزالت عن الله لهم الحجة، وسقطت عنه سبحانه معاني المظلمة، وثبتت له بذلك معاني الحكمة، وصحت له النصفة، وبان عدله في خلقه؛ بما ساوى بينهم فيه من حجته.
فإن قال قائل: بين لي قولك، واشرح لي لفظك، بحجة يقف عليها عقلي، وتكون ظاهرة في صدري.
قيل له: مَثَلُ زيادة الله لمن شاء من فضله، وتفضيله لمن شاء من عباده؛ على من قد أعطاه أكثر من حاجته، وثبَّت في صدره من وافر حجته؛ ما بأقل قليله يؤدي إليه ما ألزمه من فرضه؛ مَثَلُ رجل له غلامان؛ فدفع إلى أحدهما شمعة كبيرة متوقدة، ودفع إلى الآخر شمعتين؛ ثم قال لهما: يحرق كل واحد منكما بيتاً من حشيش بما معه من النار.
فإن قال صاحب الشمعة: اعطيتني شمعة واحدة، وأعطيت صاحبي شمعتين، ثم ساويت بيننا في إحراق الحشيش؛ فقد ظلمتني في ذلك وَجُرتَ علي؛ إذ كلفتني مثل ما كلفت صاحبي، وقد زدته شمعة على شمعتي.
__________
(1) في (ب): فأعطاهم.

(2/210)


هل ترى أيها السائل هذا القائل صاحب الشمعة الواحدة صادقاً في قوله، أو مصيباً في لفظه؟ أو ترى له حجة على سيده، وقد أعطاه من النار ما بأقل قليله يحرق بيوتاً كثيرة؟
فإن قال: قد كان العبد في ذلك مصيباً، وبالحق محتجاً، والسيد له ظالم، وفي تكليفه له غاشم؛ حين كلفه من الإحراق مثل ما كلف صاحبه، وقد أعطى صاحبه شمعتين، وأعطاه شمعة واحدة، كان في قوله ذلك محيلاً، وعن الصواب عادلاً، ولم يقل من ذلك حقاً؛ لأن قليل النار يأتي من إحراق الحشيش على ما يأتي عليه كثيرها، ويتفرع منها من الإلتهاب عند إحتراق الحشيش ما لا يكون لصاحب ثنتين ولا ثلاث ولا أربع فضل في عمله على صاحب الشمعة الواحدة وفعله، وكل ينال بما أعطي، أكثر مما كلف وأعطي.
وإن قال: لا أرى لصاحب الشمعة الواحدة على سيده حجة؛ في دفعه إلى صاحبه شمعتين؛ لأن المكلَّف(1) الذي كلفهما إياه ينال بأقل من واحدة، فلذلك قلنا: إنَّه لا حجة لصاحب الواحدة على سيده، وصاحب الواحدة ظالم لسيده، غير محتج بحق على مالكه؛ لأنَّه قد ساوى بينه وبين صاحب الثنتين فيما دفع إليه من النار، التي بأقل قليلها ينال من إحراق بيوت كثيرة ما ينال صاحب الثنتين والثلاث والأربع لو كان.
فإذا قال بالحق، ورجع إلى الصدق؛ قيل له عند إقراره بذلك، ومعرفته بالأمر إذ كان كذلك: قد أصبت المعنى، وقلت بالحق وثبت على الإستواء، وثبت لك بذلك، ما أحببت معرفته من عدل الله سبحانه في ذلك وحكمته، ولطيف صنعه وقدرته.
__________
(1) في (ج): أي المكلف به.

(2/211)


فعلى هذا المثال، يخرج معنى ما تقدم منا(1) من المقال، فيما أعطى الله العباد من حجة عقولهم، وساوى بينهم فيما ركب من ذلك في صدورهم، فجعل كل من(2) لزمه عقاب على فعله، أو ثواب على عمله، في حجة العقل سواء، فكل قد ركب فيه ما بأقل قليله يَنَال به أكثر مما افترض الله عليه، ويستدل به على حاجته منه وفيه، ويميز فيه بين أعماله، ويهتدي به إلى فواضل أفعاله، ويصل به إلى الاختيار في الحالين، والتمييز يبن العملين، وسلوك ما يشاء(3) من النجدين، {لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَا مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اَللَّهَ لَسِمِيْعٌ عَلِيْمٌ}[الأنفال42].
فلم يكن لمن أُعْطِي من حجة العقل ما ذكرنا على الله سبحانه حجة في شيء من أموره، ولا سبب من أسبابه، بما فضل به عليه غيره من بعد المساوة فما يحتاج إليه، كما لم يكن لصاحب الشمعة الواحدة على سيده في إحراق ما أمره بإحراقه حجة باعطائه لصاحبه شمعتين؛ إذ المعنى في ذلك واحد في الواحدة والثنتين، والدرك بالجزء الواحد لما أمر به من النار في إحراق الحشيش كالدرك بالجزأين.
فهذا معنى ما عنه سألت، فافهم الجواب في ذلك إن شاء الله، والحمد لله وصلواته على محمد وآله وسلم.
[كيف يأخذ جبريل الوحي عن الله]
وسألت أكرمك الله وحفظك، وأعانك على طاعته ووفقك، فقلت: كيف يأخذ جبريل عليه السلام الوحي عن الله، وكيف يعلمه؟ وكيف السبيل فيه من الله حتى يفهمه؟
واعلم هداك الله أن القول فيه عندنا: كما قد روي عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، أنَّه سأل جبريل عن ذلك، فقال: (( أخذه من ملك فوقي، ويأخذه من ملك فوقه، فقال: كيف يأخذه ذلك الملك ويعلمه؟ فقال جبريل: يلقى في قلبه إلقاء، ويلهمه الله إياه إلهاماً.
__________
(1) في (أ): يخرج معنى ما يخرج منا.
(2) في (ب): كلما.
(3) في (ج): ما شاء.

(2/212)


وكذلك هو عندنا أنَّه يلهمه الملك الأعلى إلهاماً، فيكون ذلك الالهام من الله إليه وحياً، كما ألهم تبارك وتعالى النحل ما تحتاج إليه، وعرَّفها سبلها حين كان منها في ذلك من بناء شهودها(1)، وتسوية ما تسوي لأولادها، وما تجتنيه(2) من الأشجار مما تعلم أن فيه الشراب الذي ذكر الله أنَّه شفاء، سماه الله سبحانه شفاء للناس، من العسل الذي يخرج من أجوافها، فقال تبارك وتعالى: {وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتاً وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ * ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلاً يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِهَا شَرَابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيْهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ}[النحل: 68 ـ 69].
فكما جاز أن يُلهم النحلَ ما تحتاج إليه فتفهمه، حين فهمت الأشجار؛ وميزت الثمار فعرفت ما يخرج منه العسل فقصدته، وعرفت ما لا عسل فيه فتركته، مع عجائب كثيرة من أمرها، ودلائل على أثر الصنع في فعلها، يستدل به من جعل له لبٌ، ويعرف أثر صنع الله فيه من كان له قلبٌ.
فكذلك فعل الله في المَلَكِ يُلهمه ما أراد الهاماً، ويلقيه في فهمه إلقاءً، فيكون فعل الله في ذلك منيراً ساطعاً، عند كل من كان ذا عقل نافع، لا يمتنع من قبوله عقل عاقل، ولا يكون عندكل ذي تمييز بحائل.
فإذا ألهمه الله ما أراد سبحانه، ثبت في قلبه بغاية الثبات، كلما(3) وقع من ربه في الحالات، أثبت وأوضح في قلبه من كلام لوسمعه من غيره؛ لأن هذا الإلهام من الله فعل مفعول في الملهَم، وما كان من فعل الله وإلقائه إلى عبده، فهو أثبت وأوضح من إلقاء مخلوق إلى مخلوق مثله.
__________
(1) كذا في (ج). وفي هامشه: بيوتها.
(2) في (ب) و (ج): وما تحتاج .
(3) كذا في النسخ، والمعنى أن الكلام الملهم أثبت وأوضح من الكلام المسموع.

(2/213)


فهذا معنى ما ماعنه سألت من وصول حكم الله ووحيه، إلى المؤدِّي عنه من ملائكته، ما أراد وشاء من فرضه.
فاعمل فكرك في تدبيره، يوصلك ذلك إن شاء الله إلى فهمه، ويوردك إلى ما أردت من علمه.
[كيف يحاسب الله عباده وما معنى الحساب]
وسألت: كيف يحاسب الله العباد يوم القيامة؟ وما معنى الحساب في يوم المعاد؟
والقول في ذلك: أن الله ذا الجلال والإحسان، قد جعل مع كل إنسان؛ ملكين في كل حال، عن اليمين وعن الشمال، يحفظان عليه فعله، ويحصيان عمله، و يكونان شاهدين عليه بكسبه، محصيين مايكون من صنعه، فإذا كان يوم القيامة، ويوم الحسرة(1) والندامة؛ أتى به ملكاه إلى من أمره الله من الملائكة بمحاسبة العباد ـ ومحاسبتهم فتوقيفهم على أفعالهم، وتعريفهم ما كان من أعمالهم ـ ثم شهد(2) حافظاه عليه، ووقَفَّاه على ما كان من أمره، وبكَّتاه بمعاصيه لربه، ووقفَّاه على جرأته على خالقه، فلم يَذَرَا مما تقدم منه شيئاً؛ إلاَّ أو قفاه عليه حرفاً حرفاً.
فهذا معنى محاسبة الرب لعباده.
قال قلت: فما معنى ذلك؛ إذ كان العقاب لا زماً على المعاقبين، والثواب واجباً للمثابين؟‍!
قيل لك: لأن في تعريف المعاقب ما تقدم من عمله(3) وتوقيفه على ما أتى به من عمله؛ حسرة عليه في يوم الدين أيما حسرة، وفي تحسره جزء عظيم من عذابه. فكان توقيفه سبباً لتحسره وغمه، وكان تحسره وغمه زيادة في عذابه وخزيه.
وكذلك معنى توقيف الله للصالحين على فعلهم، وإعلام حفظتهم لهم بما حفظوا عليهم من عملهم. فكان ذلك سروراً للمؤمنين، وإيقاناً من المتقين بنجاح فعلهم، وحسن موقعه عند ربهم، وبشارة سابقة إليهم من الرحمن، بما أعد لهم من الجزاء والخير والإحسان، وكان ذلك زيادة من الله في ثوابهم، وبشارة سيقت إليهم في يوم معادهم.
فهذا معنى ما عنه سألت من الحساب ومعناه، وما أراد الله بذلك وشاءه.
__________
(1) في (ب): ويوم الحشر.
(2) في (ج): ويشهد.
(3) في (ب): من ذنبه.

(2/214)


[ما هو يوم القيامة وما معنى القيامة]
وسألت فقلت: ما يوم القيامة؟ وأي شيء معنى القيامة؟
القول في ذلك: أن يوم القيامة يوم جعله الله تبارك وتعلى وقتاً لحشره، وحينا لبعثه ونشره، أبان فيه وعيده ووعده، وأبان فيه ما حتم به من حكمه، أنصف فيه المظلوم، وأظهر فيه الحق المعلوم، فأوصل وعده إلى أوليائه، ووعيده إلى أعدائه، وأقر كلاً في داره، ليعلم كل (1) صدق قوله، ويرى إنفاذ إرادته {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ * وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ هَلْ تُجْزَونَ إِلاَّ مَاكُنْتُمْ تَعْمَلُونَ}[النمل: 89 ـ 90].
فأما معنى تسمية ذلك اليوم (بالقيامة)، فمعنى القيامة هي: قيامة هذه الأشياء التي ذكرنا، وقيامها فهو: ظهورها، وظهورها فهو: كينونتها. من ذلك ما يقول القائل: قد قامت الحرب بينهم، يقول: لقحت وبانت، وظهرت واستقامت(2). ومن ذلك ما تقول العرب(3): قام السوق، تريد استوى وقام أمره، وحظر ما يطلب به فيه ويُبتغى؛ من البيع والشراء.
فهذا معنى ما أحببت علمه من ذكر الحساب والقيامة. وقلت: هل ما ذكر الله من ذلك، وما شرح(4) في يوم المعاد؛ فعل يكون ظاهراً؟ أو هو مثل ضربه الله للعباد؟ (5)؟
ولن يكون ذلك أبداً مثلاً؛ وفيه وعيد الله ووعده، وثوابه لأوليائه، وعقابه لأعدائه، بل أمر لاحقٌ، وبجميع الناس واقع، وسيعلم الذين ظلموا أيَّ منقلب ينقلبون.
[على من يجب النفير في سبيل الله]
وسألت فقلت: مَن يجب عليه النفير في سبيل الله؟
__________
(1) في (أ) و(ب): كلا.
(2) في (ب): واستفاضت.
(3) في (أ): ما يقول القائل.
(4) في (أ): من يوم.
(5) في (ب): للعبد.

(2/215)


واعلم هداك الله أن النفير والهجرة في سبيل الله واجب على كل من عرفه ممن عدم أربعة أشياء، وكان سالماً منها، وهي: العرج والعمى، والمرض والفقر، فمن لم يكن من أهل هذه الأربعة الأشياء فالهجرة عليه والنفير واجبان، والجهاد والقيام لا زمان، لا يفكه عن فرضهما، ولا يزيحه عن واجب أمرهما؛ إلاَّ القيام بهما والأثرة لهما، أو الكفر بمن افترضهما، كما قال الرحمن الرحيم، فيما نزل من الفرقان(1) الكريم؛ حين يقول تبارك وتعالى: {انْفِرُوا خِفَافاً وَثِقَالاً وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [التوبة: 41] ثم قال سبحانه ـ قطعاً منه لحجج المتعللين، واعذاراً وإنذاراً إلى العالمين، وتبييناً لفرضه الأكبر، وإقامة لدينه الأوفر، وحضاً على ما به قوام الإسلام، وصلاح دين محمد عليه السلام ـ : {قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ} إلى قوله: {فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ واللَّهُ لاَ يَهْدِي القَوْمَ الفَاسِقِينَ}[التوبة: 24] ، فجعل المتخلفين عن جهاد الظالمين، في الحكم عنده سبحانه من الفاسقين.
وما ذكر به من ذلك أولئك، ومن كان من الخلق كذلك؛ فكثير في القرآن، معلوم عند أهل المعرفة والبيان، يطول شرحه لو شرحناه، ويجزي ما ذكرناه عما تركناه.
__________
(1) في (أ) و (ج): القرآن.

(2/216)


وكيف لا يكون من منع الجهاد، وتعلل بالأموال والأولاد(1)، من أشر العباد عند ذي العزة والأياد؛ وقد هتك الدين، وباين رب العالمين، وشرك في دماء المسلمين، وقوى بذلك جميع الفاسقين؟! فكان بخذلانه للدين، وقعوده عن المحقين؛ شريكاً للكافرين، ومعاضداً للفاجرين، إذ كانت ـ بخذلانه ـ نيته وسطوته على المحقين، بتخلف المتخلفين مُظَاهِرَة. فكان محلُّ الخاذل ـ بخذلانه وقعوده عند الله ـ محلَّ المحارب بمحاربته، لا ينفك الخاذل للمؤمنين، من المشاركة للفاسقين، فيما نالوه من المتقين، في حكم أحكم الحاكمين.
فليتق الله ربّه، وليقس بفتره شبره(2)، وليَتْرُك عنه التعلات، وليحذر من الله النقمات، فقد وضح الحق لطالبه، واستنار الرشد لصاحبه. فلا عذر في تخلف المتخلفين، ولا حجة في تأويل المتأولين، ولا بد من النصرة لرب العالمين، أو الكفر بما أنزل على خاتم النبين صلى الله عليه وعلى آله الطيبين وسلم.
[تكليم الله لموسى]
وسألت عن قول الله سبحانه: {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيماً}[النساء: 164] فقلت: كيف كان الكلام من الله عزَّ وجل لموسى عليه السلام؟ وما معنى قوله: {تَكْلِيماً}؟
واعلم هداك الله أن الله تبارك وتعالى لم يوح إلى أحد من الأنبياء إلاَّ على لسان الملك الكريم جبريل عليه السلام، وكذلك إلى موسى صلى الله عليه، فقد كان منه الإيحاء إليه على لسان جبريل حتى كان في هذا الوقت الذي ذكره الله جل جلاله، عن أن يحويه قول أو يناله، فكان من الله إليه(3) ما ذكره الله سبحانه من الكلام له عليه السلام.
__________
(1) يعني جعلهم له علة وعذراً.
(2) الفِتر: ما بين طرف السبابة والإبهام إذا فتحهما.
(3) في (أ): بما ذكره الله، والمعنى، فكان الإيحاء بما ذكره الله.

(2/217)


وكان معنى ذلك أن الله سبحانه خلق له كلاماً في الشجرة سمعه موسى بإذنه، كما كان يسمع ما يأتي به الملك إليه من وحي ربه، فكان فهم موسى ـ وسماعه لذلك الكلام الذي شاء الله إسماعه إياه؛ لما أراد من كرامته واجتبائه ـ كفهمه لما به كان يأتيه جبريل عن الله من وحيه سواء سواءً. فلما أن لم يكن بين الله سبحانه وبين موسى صلى الله عليه ـ لهذا الكلام المخلوق في الشجرة ـ مُؤد يؤديه إليه؛ كما كان يكون فعله في غيره مما ينزله عليه؛ جاز أن يقول: {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيماً}، يريد: أسمع موسى وأبلغه ما كان يريد من الكلام والوحي إسماعاً؛ بلا مؤد لذلك إليه. فَلَمَّا أَنْ لم يكن بين الله وبين موسى مؤد للكلام إلى موسى ـ وكان المتولي لجعل الكلام وفعله، وخلقه على ما سمعه موسى من البيان، والكفاية والتبيان ـ قال الله سبحانه: {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيماً} معنى {تَكْلِيماً}، هو: تأكيد للإخبار منه عزَّ وجل بما كان من عجيب فعله، وعظيم قدرته، وظاهر برهانه، وما ازداد موسى به بصيرة إلى بصيرته؛ من خلقه لكلام ينطق من غير لسان؛ كما ينطق به ذووا اللهوات والأدوات، واللسان والآلات.
فهذا معنى قوله: {تَكْلِيماً}، لا كما يقول به الجاهلون، وينسب إلى الله الضآلون، من تشبيهه لخلقه، ونَسْبِ الكلام إليه على طريق التكلم به؛ كما يعقلون من كلام الآدميين، ويعرفون من كلام المخلوقين، تعالى عن ذلك أرحم الراحمين، وجل أن يكون كذلك ربُ العالمين.
[ما هو معنى الصور وكيف هو]
وسألت عن الصور، فقلت: ما هو؟ وكيف هو؟ وعلى أي صفة هو؟
واعلم رحمك الله أنَّه ليس ثم صور ينفخ فيه كما يقول الجاهلون، ويلفظ به العَمُوْن، وإنما الصور الذي ذكر الرحمن، فيما نزل من واضح النور والبرهان، هو: جَمْيعُ الصوَر، والصور: جمع الصور والعرب(1) تقول: صورة وصورتان وصور، ثم تجمع الصوَر، فيكون جمعها صُوْراً.
فهذا معنى الصور.
__________
(1) في (ج): فالعرب.

(2/218)


ونفخ الله فيها في النفخة الأولى فهو: إفناؤها، وهو نفخه فيها، وهي الأبدان والصور ـ صور المخلوقين(1) وأبدان العالمين ـ لما أراد من هلاكها، وفنائها ودمارها، فواقعها وحل بها من الله سبحانه ما أزالها، وحق(2) بها منه ما أبادها، وواقعها منه ما أتلفها(3)، فصارت بنفخ الله فيها، وما وعدها من الموت والفناء؛ إلى الزوال والإنقضاء.
فهذا معنى ما ذكر الله من النفخة الأولى في الصور المصورة، والأجسام المفتطرة.
ومعنى النفخة الأخرى، فهي: نفخة الله الثانية، في الصور والأبدان المتمزقة البالية؛ لما أراد الله من حيوتها ونشرها، وتجديدها وبعثها من بعد موتها، فكان نَفْخُه بالحياة فيها، نفخة ثانية أخرى بعد النفخة المهلكة الأولى. فكانت النفخة الأولى للهلكة(4) والوفاة، وكانت النفخة الأخرى للنشور والحياة، قال الله تبارك وتعالى: {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ إِلاَّ مَنْ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ}[الزمر: 68]، فأخبر سبحانه أن النفخ على المعنيين، وأن له حالين مختلًفين؛ إذ كان حال الأولى؛ ما أوجبه الله من حال الهلاك والانقضاء، وحال النفخة الأخرى، ما جعل الله فيها وبها من حال الحياة بعد الفناء.
فافهم ما قلنا، واعرف من ذلك ما شرحنا؛ من شرح النفخ ومعناه، وأنه ما واقع الصور أولاً(5) وآخراً من مراد الله وفعله، وما حكم به سبحانه في خلقه.
[ماهي الأرواح ولماذا لا تموت مع الأبدان]
وسألت عن الأرواح فقلت: ما هي، وكيف هي؟ وقلت: كيف يميت الله الجسم ولا يميت الروح والله عدل لا يجور؟!
فكذلك الله سبحانه عدل في فعله، حكيم في صنعه، لا يجور على أحد من خلقه.
__________
(1) في (ج): صور الخلق.
(2) في (أ) و (ج): وحقّها. وأثبت في (ج) ما هنا نخ.
(3) في (ج): ما أتاها.
(4) في (ب):الْمُهْلِكة.
(5) في (ج): الأولى والأخرى من مراد الله.

(2/219)


فأما ما قلت وسألت عنه؛ من صفة الروح وتفسيره؛ فالروح: شيء خلقه الله قواماً للأبدان، وحياة للإنسان، به تعمل الجوارح المجعولات، وتتصرف الاستطاعة المخلوقة، تَعْدَمُ الجوارحُ الاستتِطاعَةَ بعدمه، وتثبت فيها استطاعتها بوجوده، شيء(1) خلقه الله وصوره، وجعله بحكمته وافتطره؛ لحياة(2) الأبدان والأعضاء، ويعيش به ما جعل الله في الأبدان من الأشياء، به تبصر الأعين المبصرة، وبه تسمع الأذان السامعة، وبه تنطق الألسن، ويشم الأنف، وتبطش اليدان، ويُميّز القلب وتمشي الرجلان؛ فجعله قواماً لما حوت الأبدان، ودليلاً على قدرة الرحمن، ضعيف محدود، تضمه الأبدان المؤلفة، وتجمعه الأعضاء المتفرقة، ويحويه الجسم ويَحُدُّه، مخلوق مجعول، وكائن بتدبير الله مفعول.
فهذه صفة الروح، وبيان ما عنه سألت منه وشرحه.
فإن قلت: انعته لي بصفة غير هذه الصفة أقف عليه بها؛ من لون وطول وعرض، وغير ذلك من الصفات.
__________
(1) في (ب): شَيئاً ولا وجه له.
(2) في (ج): بحياة.

(2/220)


قلنا لك وأجبناك: بأن الذي ذكرت محجوبٌ عنا استأثر الله بعلمه، وأَبى أن يُطْلِعَ أحداً على قدرته، فقال لمن سأل نبيه عما سألت من الروح وتقديره، وصفته بغير ما وصفناه : {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي} [الإسراء: 85] فلم يُنَبَّه عليه السلام ولا إياهم(1) من علم الروح وصفته؛ على غير ما ذكرناه من نعته، وقال: {قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي} يقول: من فعل ربي وخلقه، وتدبيره وصنعه(2)، والشاهد له بالحكمة. ولم يصف الروح بغير ما وصفنا، ولم يستدل عليه بغير ما دللنا، ولس في نعت ذلك لأحد حجة، ولا لأحدٍ إلى علم كيفيته حاجة، وليس عزوب علم ذلك على الآدميين؛ إلاَّ كعزوب علم غيره من الأشياء، مثل: معرفة صورة ملك الموت، وصورة مالك خازن النار، وصورة إبليس وجنده، فهم خلق من خلق الله، قد أَطْلَعَ(3) على تكوينهم وتقديرهم، شَكْلَهم ومِثْلَهم؛ من الملائكة والشياطين(4)، وحَجَب علم ما علمته(5) أشكالهم ـ من تصويرهم وتقديرهم ـ عن(6) الآدميين، فليس من الآدمييين خلَقٌ يصف ما ذكرنا بطول ولا عرض، ولا جسم ولا لون. فهؤلاء مخلوقون يَصِفُهُمْ بما ذكرنا شَكْلُهُم، ويَعرف ذلك مِثْلُهُم، قد عجز عن وصفهم الآدميون، وانحسروا عن تحديدهم، وعجزوا عن شرح ألوانهم وهم خلق من خلق الله قد أَظهَرَه، وفعلٌ من فعله قد بيّنه، لم يُحْجَبْ أَمْثَالَهم منه شيئاً، ولم يستر عن أشكالهم منه جزءً، عَجَزَ عقْلُكَ وعقول أشكالك أيها السائل عن صفتهم، وانحسرت ونظراءك عن تحديدهم، وانْقَطَعْتَ وَهُم عن تقديرهم.
__________
(1) في (أ): فلم يعط نبيه عليه السلام.
(2) في (ب): وصنعته.
(3) في (ج): قد اطلع على تكوينهم.
(4) يعني أنه لا يعرف شكل الملائكة والشياطين إلا من كان من جنسهم وشكلهم.
(5) كذا في (ج)، ولعلها: علم ما عليه.
(6) في (ج): عن.

(2/221)


فكيف تريد أن تحيط بصفة ما ستر الله علمه، وتَقف على تحديد ما منع الله الخلق فهمه؟! ولم يبين(1) من علم كيفيته في نفسه قليلاً ولا كثيراً للملائكة المقربين، ولا للأنبياء والمرسلين، ولا لأحد من المخلوقين. فهذا طلب منك للمحال، وجري في ميادين الضلال، وتشبث بفاسد من المقال.
وقد وصفنا لك الروح، وبيناه بالدلائل التي بينه الله لنا بها، وهدانا سبحانه إليها، حتى عرفته(2) بغاية المعرفة المفهومة، واستدللت عليه بأدل الدلائل المعلومة، التي دلتك على تحديده، وأوقفتك على تقديره، وشهدت لك على أثر صنع الله في تدبيره، وأوضحت لك أنَّه فعل من الله مجعول، وأنه مبعض مفعول، تَضُمُّه الأعضاء، وتحوزه الأجزاء، وتحويه الأبدان، بأبين البيان وأنور البرهان.
فميزّ قولنا، وتدبر شرحنا؛ يَبْنِ لكَ أمرك، ويصح لك من ذلك محبوبك.
وقلت: كيف يميت الله البدن ولا يميت الروح؟! وكل سيموت. فأما معنى تأخير الله لإماتة الروح(3)، فإن ذلك بحكمة الله وفضله(4)، وما اراد من الزيادة في كرامة المؤمنين، واراد من الزيادة في عذاب الفاسقين. فجعل الأرواح حية باقية إلى يوم الدين، ليكون روح المؤمن من بعد فنآء بَدنه في البشارات والسرور، والنعيم والحبور، بما يسمع من تبشير الملائكة بالرضى والرضوان، من الواحد ذي الجلال والسلطان، وما أعد له من الخير العظيم، والثواب الجسيم، كل ذلك يتناهى إليه علمه، ويصل به من ربه فهمه، فيكون ذلك زيادة في ثوابه، ومبتدأ ما يريد الله من إكرامه، حتى يكُونُ يومُ القيامة المذكور، ثم ينفخ في الصور النفخة الأولى فيقع بهذا الروح من الموت ما يقع بغيره في ذلك اليوم، فيموت ويفنى، كما فني البدن أَوَّلاً.
__________
(1) في (أ): يتبيِن.
(2) في (ب): عرفناه.
(3) في (ب): معنى خبر الله من إحياء الروح.
(4) في (أ): بحكم الله.

(2/222)


وكذلك تدبير الله في إبقاء روح الكافر بعد هلاك بدنه؛ لما في بقاء روحه عليه من الحسرة والبلاء؛ بما يعاين ويوقن ويبلغه من إخبار الملائكة وذكرها لما أعدَّ الله له من الجحيم، والأغلال، والسعير وشرب الحميم، وما يصير إليه غداً من العذاب الأليم، فروحه في خزي وبلاء، وحسرات تدوم ولا تفنى، وحلول العويل به والشقا، فيكون ذلك زيادة في عذابه وبلائه، ومُقَدَمة لما أراد الله من إخزائه، حتى ينفخ في الصور، فيحق بهذا الروح ما حق بغيره من الفوت، ويواقعه ما واقع جسمه من الموت. ثم ينفخ النفخة الثانية من بعد موت كل شيء، وهلاك كل حي، ما خلا الواحد الأحد، الفرد الصمد، المميت(1) الذي لا يموت، المحيي الذي لا يخشى من شيء فوتاً. ولو كانت الأرواح تموت مع موت الأبدان؛ لكان في ذلك فرج(2) وراحة للكفار(3)، وغفلة وفرحة للأشرار، ولكان ذلك غماً وكآبةً على المؤمنين، ونقصاناً وتضعضعاً لسرور الصالحين.
فافهم باب حكمة الله وتقديره، وصنعه في ذلك وتدبيره، وما جعل في تأخير موت الأرواح من الكرامة للمؤمنين، والهوان للفاسقين، فإن أنت أَفْكَرت(4) في ذلك بخالص لبك، واستعملت فيه ما جعل الله من مركب(5) فكرك، صحت لك آثار الحكمة في ذلك، وبان لك الأمر من الله سبحانه كذلك
[التفاضل بين الأنبياء والملائكة]
وسألت أكرمك الله عن الملائكة والأنبياء صلوات الله عليهم فقلت: أيهم افضل؟
والجواب في ذلك أن الملائكة أفضل من الأنبياء. والحجة في ذلك أن الفضيلة لا تكون إلاَّ بفضل الأعمال، فلما وجدنا الملائكة أفضل أعمالاً(6) وأكثر عبادة، حكمنا لها بالفضل على من دونها عملاً.
__________
(1) في هامش (ج): الحي.
(2) في (ج): فرح.
(3) في (ج): للكافر.
(4) في (ج): فكرت.
(5) في (ب): من تركيب.
(6) في (ب): الأعمال.

(2/223)


ألا تسمع كيف يشهد الله لها بكثرة العبادة، ودوام الطاعة؟ حين يقول عزَّ وجل: {وَلَهُ مَنْ فِيْ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَنْ عِنْدَهُ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلا يَسْتَحْسِرُونَ * يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لاَ يَفْتَرُونَ}[الأنبياء: 19 ـ 20]، فذكر سبحانه عنهم ما ذكر من عبادتهم، ودوام طاعتهم، في التسبيح له والتقديس في الليل والنهار لا يفترون، ومن كان عابداً لله الليل والنهار لا يفتر؛ خلاف من هو يفتر في الليل والنهار، ويشتغل بلذات نفسه، وشهوات قلبه من الجماع، والمآكل والمشارب(1) والنوم والجلوس والحديث.
فلما أن صح عندنا أن الملائكة مأمورة ومنهية كالأنبياء مختارة للطاعة كاختيار الأنبياء، قادرة على ضد الطاعة لو أرادته، بما جعل الله فيها من الاستطاعة والتمكين. ثم وجدناها قد استعملت ذلك كله أَثَرةً لله، وإقبالاً على طاعته، ففرغت أنفسها الليل والنهار في عبادته لا تفتر، حتى شهد الله لها بذلك؛ كانت عندنا أفضل من الأنبياء، لما ذكرنا(2) من فضل عملها، ودوام طاعتها.
ومن الدليل على فضل الملائكة على الأنبياء قول الله عزَّ وجل: {لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ اَنْ يَكُونَ عَبْداً لِلَّهِ وَلاَ الْمَلاَئِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ}[النساء: 172] فقال سبحانه: {لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ} ثم قال: {وَلاَ الْمَلاَئِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ} فذكر الملائكة بعد الميسح، فعلمنا أنَّها أكبر منه وأعظم وأفضل. وأقل مما ذكرنا ما كفى؛ من كان ذا فهم واجتزاء.
[معنى السموات مطويات بيمينه]
وسألت عن قول الله سبحانه: {وَالسَّمَوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ}[الزمر: 67].
__________
(1) في (ج): والمشروبات.
(2) في (ج): بما ذكرنا.

(2/224)


وهذا رحمك الله مثل ضربه الله لهم، مما تعرفه العرب وتمثل به. وذلك أن العرب تقول لمالك الشيء: هو في يده، وهو في يمينه، وهي تريد بذلك تأكيد الملك له؛ لأن كل ما كان في يد المالك فهو أقدر ما يكون عليه. (واليد في كلام العرب هي الملك)(1) .
ألا تسمع كيف يقول العرب: بلاد كذا وكذا في يد فلان، قرية كذا وكذا في يد فلان.
وتقول العرب: بنو فلان في يد فلان، يريدون في طاعته وملكه؛ لا بين أصابعه ولا في كفَّه، فأرادوا بذلك الملك، ونفاذ الأمر فيهم، لا القبض بالأصابع والضم لها عليهم(2).
فأخبر الله تبارك وتعالى أن مقدرته على ما ذكر من السماوات المطويات، فوق مقدرتهم على ما هو في ملكهم.
(فأما قوله: {مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ}[الزمر: 67] فإخبار منه لهم أن السماوات مطويات في ملكه) (3)، متصرفات في أمره، مجموعات في حكمه، كما يجمع الشيء المطوي جامعه، ويحوزه ويضم عليه طاويه.
فمثل لهم أمر نفاذ حكمه في السموات وقدرته عليهم؛ بما يعرفون من مقدرتهم على ما يطوونه وينشرونه؛ من كتب أو صحف، أو غير ذلك من المطويات المملوكات.
فهذا ما عنه سألت من قول الله سبحانه في السموات إنهن مطويات.
[الفرق بين الاسم والمسمى]
وسألت عن الفرق بين الاسم والمسمى.
والفرق بينهما، بقاء الاسم، وفناء المسمى، وتناسخ الاسم(4)، واشتراك المسمين(5) فيه. فلما أن رأينا الاسم الواحد ينتقل في المسمين؛ علمنا أن الاسم غير المسمى، وأنه دلالة على المسمى وعلامة له، ليست به ولا هو بها.
ومن الدليل على ذلك أنك تسمي بالاسم مسمى؛ ثم يموت المسمى فَيَبلَى؛ والاسم باق لم يفن. ولو كان الاسم هو المسمى؛ لعَدِم بعدم الجسم ولزال ولتغير بتغيره، ولما أمكن بأن يكون لغيره.
__________
(1) سقط من (أ).
(2) في(ب): عليه.
(3) سقط من (أ).
(4) أي تعاقبه على أكثر من مسمى.
(5) في (ب) و (ج): المسمى.

(2/225)


وهذا الأمر فأبين ما يكون، ولن يخلط في الفرق بين الاسم والمسمى، حتى يقول: إن الاسم هو المسمى إلاَّ جاهل عمي، وضال غوي، لا يفرق بين علامة ولا معتلم(1)، ولا دلالة ولا مستدل عليه، ولا عرض ولا جسم. فافهم ما قلنا به في ذلك و شرحناه؛ بين لك إن شاء الله صدق ما قلناه.
[معنى: كل نفس بما كسبت رهينة]
وسألت عن قول الله سبحانه: {كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ}[المدثر: 38].
فمعنى قول الله سبحانه: {رَهِينَةٌ} أي مرتهنة، ومعنى مرتهنة: مأخوذة، ومعنى مأخوذة هو: مجازاةٌ بعملها، مكافأة على فعلها. فأخبر سبحانه أن كل نفس بِكَسْبِها مأخوذة، وكسبُها فهو عملها، وأخذه لها سبحانه بعملها، فهو إنفاذ وعده ووعيده لها، {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَومَئِذٍ آمِنُونَ * وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ هَلْ تُجْزَونَ إِلاَّ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ}[النمل: 89 ـ90]، {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلاَ يُجْزَى إِلاَّ مِثْلَهَا وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ}[الأنعام: 160].
[وسوسة إبليس]
وسألت عن وسوسة إبليس كيف تكون منه إلى الآدمي؟
والوسوسة منه فإنماهي المقاربة والمداناة، والموالفة والمساواة.
__________
(1) في (ب): متعلم.

(2/226)


وذلك أن إبليس اللعين بني على الفطنة والذكاء، والسرعة والمعرفة بمعاني الأشياء، التي ربما عرفها الآدميون، واستدركها منهم الفطنون، فيعرف إبليس اللعين في حركات الإنسان ووجهه؛ دلائل يستدل بها على ما أضمر في قلبه، من المعاصي لربه، فإذا رأى تلك الدلائل والعلامات في وجهه؛ استدل بهن على بعض ضميره، فإذا رأى في وجهه علامات إضمار المعصية، وتبين له أنَّه قد هم بغير الطاعة، واستبان ذلك من شواهد(1) حركات الآدمي، كما استدرك(2) كثيراً من ذلك الآدميون بعضهم من بعض، بما يرون(3) من شواهد ذلك ودلالاته وعلاماته، حتى ربما فطن الإنسان لصاحبه ما يريد منه، وما يريد في كثير من أمره، وكذلك يستبين منه الغضب والرضى، والسرور والغم، يتبين كل واحد من هذه الأشياء في وجه صاحبه، حتى يعرفه أهل الفطنة والفهم بما يظهر من شواهده في وجه مضمره، وكل يتبين الفَزَع والرُّعب في وجه المرعوب والفِزَع لمن كان ذا فطنة.
فكذلك وعلى ذلك، وبالشواهد في وجوه أولئك، يعرف إبليس اللعين ما أضمره صاحب المعصية والخطيئة، فإذا أيقن إبليس بذلك من الآدمي دانى قلبه وقاربه ولاصقه. وإبليس فَهَمَّهُ وإرادته ومعناه: المعصية واللعنة، فإذا قارب هذا الشكل من إبليس اللعين زيادة شكل المعصية التي هي في قلب الآدمي؛ قويت نيَّة الآدمي بالمعصية بمقاربة ما في قلبه من المعصية لشكله وهو إبليس؛ فيقوى الشكل بمقاربة شكله، والجنس بمقارنة جنسه، كما يقوى كل شيء بمداناة مثله، ومقاربة شكله.
فهذا معنى وسوسة إبليس، هو بالمقاربة والمداناة، لا بالمكالمة والمناجاة.
__________
(1) في (ج): منه بشواهد.
(2) في (ج): يستدرك.
(3) في (ب): بما يأتمرون.

(2/227)


ومثل قوة المعصية في قلب الآدمي؛ بمداناة شكلها من هذا اللعين الجِنِّي؛ مثل الجمر جَعَلْتَ منها في بيت جماعة(1) خمسين رطلاً جَمْراً متوقداً يَقِدُِ بَعْضُهُ في بعض؛ ثم أتيت بمائة رطل أخرى جمراً متوقداً، و القيته إلى جنب ذلك الجمر الأول، فقوي عمل الأول بعمل الآخر، وقوي عمل الآخر بعمل الأول، واشتد عملهما، وصَعُبَ أمرهما، حتى لا يُطيق من في البيت أن يجلس فيه ولا يقوم مع شدة ما فيه من حرِّ النار وتلهبها، وقوة بعضها ببعض، فقوي عمل الجزئين بمقاربة أحدهما لصاحبه؛ إذ هما شكل واحد ومعنى واحد، ولو أفرد كل واحد منهما وفرق بينهما؛ لم يكن عملهما متباعدين كعملهما متقاربين.
فعلى هذا ومثله، من قوة الشكل بشكله، تكون وسوسة إبليس لصاحبه الآدمي، المضمر لما أضمر إبليس، المشاكل له بالإضمار في عمله، والمقارب بإضماره له في فعله.
فافهم ما ذكرنا من معاني الوسوسة، وفطنة إبليس لما يفطن به(2) في الآدمي من المعصية.
وقد قال غيرنا في ذلك بأقاويل، فزعموا أنَّه يجري في الآدمي مجرى الدم، (في الأبشار)(3)فاستحال ذلك عند من فهم؛ لأنَّه لا يجوز أن يدخل جسم في جوف جسم، فيجري في عروقه، ويجتمع في بدن واحد روحان، روح ساكن، وروح متحرك، هذا محال أن يستجن(4) في جسم واحد روحان، ولا يدخل في جسمٍ جسمٌ؛ لأن هذا لا يعرف في الأجسام، ولا يتهيأ ولا يثبت في العقول، فلما لم تقبله العقول(5) استحال أن يكون شيئاً معقولاً.
وقال قوم: يَلْقَى إبليس روح الآدمي (عند جولانه في وقت منامه، فيأمره وينهاه، ويزين له ما يريده ويشاه. وقالوا: لا تكون الوسوسة من إبليس إلاَّ من بعد النوم، ويلقى روح الآدمي) (6) عند خروجه من بدنه، وجولانه بعد نومه، فيكون منه إليه ما ذكرنا، ويُلقي إليه ما قلنا.
__________
(1) في (أ): في بيت فيه جماعة.
(2) في (ج): يفطن له.
(3) سقط من (أ) و (ج).
(4) في (ج): أن يسكن.
(5) في (ج): فلما نفته العقول.
(6) سقط من (أ).

(2/228)


واستحال(1) هذا من قولهم أيضاً، كما استحال القول الأول؛ لأنا نظرنا في هذا المعنى فوجدناه باطلاً، وبطلانه أنا وجدنا الادميين ربما أتوا من أنواع المعاصي وألوانها في مجلس واحد بألوان وهم أيقاظ(2) غير نيام. فلما أن وجدناهم يعملون في مجلس واحد ألواناً كثيرة من المعاصي التي تخطر على قلوبهم بعضاً بعد بعض(3)، وتحدث في صدروهم حادثاً بعد حادث، وخاطراً بعد خاطر لم يتعملوا(4) قبل ذلك المجلس في شيء منها، ولم يضمروا جنساً من جنوسها، علمنا أن ذلك لوسواس(5) الشيطان ومقاربته، ورأينا من كان كذلك يقظاناً غير نائم، والمعاصي تأتي منه أولاً فأولا في مجلسه ذلك؛ من قذف المحصنات، وشرب خمرٍ، وقتل مسلم، وأخذ مال يتيم ومسكين، وضرب مؤمن، وسفك دمٍ حرامٍ، وشهادة زورٍ، وكذبِ وبهتان، وتشبيه الله سبحانه، وتجويره في فعله، وإكذاب لوعده ووعيده، وغير ذلك من ألوان الفسق، مما يأتي به كَفَرَةُ الخلق؛ فلما رأينا هذه الأشياء تكون من فاعلها في أوقات وساعات لم يدخل بينها منه نوم ولا غفلة، استحال عندنا أن تكون وسوسة إبليس من بعد النوم وخروج الروح؛ لان هذه المعاصي كلها في افتراقها وتشَتّت أصنافها كانت منه في يقظة لا نوم فيها. واستحال عندنا قول من قال بهذا الثاني، كما استحال قول من قال بالقول الأول.
ولم نجد باباً أصح ولا أثبت، ولا أقوى ولا أجدر أن لا يكسره أحد أبداً(6)، مما قلنا؛ من مداناة الشكل لشكله، وقوة الشبيه بشبيهه(7)، ووجدناه ثابتاً عند أهل العقل، لا ينكره ولا يجحده من وهبَ لباً، وفطنةً وفهماً.
[مم خلقت الملائكة والشياطين]
وسألت فقلت: من أي شيء خلقت الملائكة؟ ومن أي شيء خلقت الشياطين؟
__________
(1) في (أ): فاستحال.
(2) في (أ) و (ب): يقاظاً. والصواب: ما أثبته من (ج).
(3) في (أ): بعضها على قلوبهم بعد بعض.
(4) في (ب): لم يتعلموا.
(5) في (أ): بوساوس.
(6) يعني لا ينقضه ويبطله.
(7) في (أ): الشبه لشبهه.

(2/229)


الجواب في ذلك أن الملائكة فيما سمعنا وبلغنا والله أعلم وأحكم خلقت من الريح والهوى، وأما الشياطين فخلقت مما قال الله وَحَكَى؛ {مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ}[الرحمن: 15]. والمارج فهو خالص لهب النار، والذي هو يمرج من لهبها، ويتقطّع في الهواء منها، عند ارتفاع اللهب وعلوه، فيذهب في الهواء قطعاً قطعاً، ويتفصل من اللهب(1) تفصلاً، يستبان ذلك ويعرف عند تأجج النار وتوقدها، وعظمها وارتفاع لهبها، فعند ارتفاع اللهب وعلوه يخلص خالصه، ويمرج مارجه، ويتقطع المارج من اللهب، ويتفصل مارج النار من لهبها، ويذهب في الهواء متقطعاً، وذلك فهو مارج النار الذي ذكر الرحمن أنَّه خلق منه الجان.
والجان فهو الجن، والجن فهي الشياطين، وإنما سميت جناً وجاناً لا ستجنانها عن أبصار الآدميين، واستجنانها فهو غيبتها، فلما كانت بغيبتها مستجنة سميت باستجنانها جاناً. ألا تسمع كيف قال إبليس في آدم عليه السلام حين يقول: {أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِيْنٍ}[الأعراف: 12 ، ص: 76]. فهذا دليل على ما به قلنا. وأدل منه قول اللّه تبارك وتعالى: {وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ}[الرحمن: 15] وهذا مما لا شك(2) فيه ولا امتراء، والحمد لله العلي الأعلى.
[معنى: يوم تبدل الأرض غير الأرض والسما وات]
وسألت عن قول الله سبحانه: {يَوْمَ تُبَدَّلُ الأَرْضُ غَيْرَ الأَرْضِ وَالسَّمَوَاتُِ}[إبراهيم: 48].
__________
(1) في (أ): وينفصل من اللهب.
(2) في (أ): فما لا شك.

(2/230)


تأويل تبدل هو تَغَيَّر، وتغييرها هو: نسف ما على وجهها من الجبال، وبعثرة ما فيها من القبور، وبعثرة القبور فهو: إخراج ما فيها من الموتى، وردهم بعد الفناء أجساماً وأحياءً، وتسوية تفاوتها ودكها دكاً، كما قال الله العلي الأعلى: {يَوْمَ تُبَدَّلُ الأَرْضُ غَيْرَ الأَرْضِ}[إبراهيم: 48] إلى آخر الآية، وتبديل حالها تسوية خلقها، وعدل متفاوتها، وقشع أوساخها، وتجديد بهجتها، واستواء أقطارها، حتىتكون الأرض مستوية فيحآء(1)، معتدلة الأرجاء، لا تفاوت فيها ولا اختلاف، بل تكون في ذلك اليوم كلها على غاية الإستواء والإئتلاف، لا يرى شيء من آلة الدنيا فيها ولا أثر فعل(2) من أفاعيل الدهر عليها، فهذا تبديلها وتغييرها. وكذلك تبديل السموات فهو رد الله لها إلى ما كانت عليه(3) في الإبتدا، ثم يردها على ما هي عليه اليوم من الإسٍتواء من بعد أن تصير كالمهل، والمهل فهو شيء يكون كالدهن يخرج من صفو القطران، فذكر الرحمن أنها تكون في يوم الدين كالمهل السائل، بعد التجسُّم الهائل، وهو قوله: {يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ}[الدخان: 10] يريد أنها تعود إلى ما كانت عليه من الدخان، ثم ترد السموات(4) مطبقات(5)، كما خلقت من الدخان أولاً سموات مقدرات مجعولات، تبييناً منه سبحانه لقدرته، وإظهاراً لنفاذ أمره فيما افتطره من فطرته.
فهذا معنى ما ذكره الله من تبديل الأرض والسماء لا أنَّه يذهب بهما ويخلق سواهما(6) من غيرهما.
وإنما تبديله لهما وتغيييره: نقلهما من حال إلى حال، والأصل واحد مستقيم، غير فان ولا معدوم.
__________
(1) الفيحاء: الواسعة.
(2) في (أ): لا ترى شيئاً.. ولا فعلاً
(3) في (ب): عليها.
(4) في (أ): سموات.
(5) يعني: طباقاً.
(6) في (ب): بها ويخلق سواها.

(2/231)


مثل ذلك: مثل خلخال من ذهب أو فضة كُسِر؛ فصير خلخالاً أوسع منه قدراً؛ فكان قد بدلت خلقته، وغيّرت صيغته، ونقلت حالته من حال إلى حال، ومن مثال إلى مثال؛ فبدل تصويره وأصل فضته ثابت لم يبدل ولم يغير، وإنما غير منها خلقها وتقديرها، وصورتها وتمثيلها، والأصل ثابت قائم، موجود من العدم سالم.
وكذلك تبديل ما يبدل من الحديد؛ فيكون أولاً سيفاً، ثم يرد خنجراً، ثم يجعل الخنجر سكيناً، ثم تنقل السكين فتجعل أو تاداً وسككاً، وهو ينقل من حال إلى حال وهو الحديد الأول لم يتغير ولم يبدل، وإنما التغيير منه تصاويره وتقاديره، ونقل أحواله ومقاديره، فهو الحديد الثابت يجعل مرة سيفاً كما ذكرنا، (ويقلب ثانية صنفاً من الصنوف التي ذكرنا، فهو) (1) وإن تغيرت أحواله واختلفت مجعولاته فهي الحديدة المعروفة، الأولة الأصلية المفهومة.
وكذلك ما ذكر رب العالمين؛ في تبديل السموات والأرضين؛ فهو نقله لهما من حالة في التصوير إلى حالة، ومن صفة في التقدير إلى صفة، وهن في أصلهن اللواتي كن، لم يبدل أصلهن ولم يحل، ولم ينقل عما كان ولم يزل، فافهم ما أجبناك به فيما عنه سألت، وفسرناه لك فيما شرحت وقلت.
[تكفير أهل القبلة]
وسألت (وفقك الله)(2) فقلت من أين يلزم أهل القبلة الكفر وقد سماهم الله مسلمين ومؤمنين؟
الجواب في ذلك يطول ويكثر، وسنجيبك عليه إنشاء الله بجواب مختصر، نجمل لك فيه المعنى، ونوقفك على الإستواء، حتى تفهم في ذلك مرادك، ويبين لك إن شاء الله جوابك، بأصل جامع لهذه الأشياء، لا يدفعه إن شاء الله أحد من العلماء.
__________
(1) سقط من (أ).
(2) سقط من (أ) و (ج).

(2/232)


من ذلك أنا وجدنا الله تبارك وتعالى ألزم من ألزمه من أهل الكبائر القتل على ما يجترم من كبائر عصيانه، وكذلك فعله في من قتل مؤمناً ظلماً متعمداً، وكذلك حكمه فيمن قطع الطريق وسفك الدماء، وكذلك حكمه فيمن عاند أئمة الحق من الباغين، فأوجب عليهم الحرب والقتال، والقتل والنكال؛ حيت يفيؤا إلى أمر الله، ويرجعوا إلى حكم الله، فلما وجدنا حكمه سبحانه فيمن بغى من أهل القبلة وتعدى القتل والقتال، حتى يرجعوا إلى الحق في كل قول وفعال؛ علمنا أنهم في ذلك الوقت ـ وقت وقوع القتل بحكم الله عليهم، ووجوب الهلكة فيهم ـ لله أعداءٌ مباينون، وحرب لله محاربون؛ لأنَّه سبحانه لا يوجب الحرب والقتل على ولي من أوليائه، ولا يحكم به سبحانه إلاَّ على عدو من أعدائه. ولم نجد الله سبحانه عادى إلا كافراً، ولا والى إلاَّ مؤمناً؛ فلما أن قتلهم بحكمه، ومثل بهم سبحانه بأمره، علمنا أنهم من الموالاة أبرياء، وأنهم له بأحق الحقائق أعداء، وأنه لا يعادي سبحانه مؤمناً تقياً، ولن يباين بالمحاربة له عبداً زكياً. فصح عندنا بإباحة الله لدمائهم، وافتراضه ما افترض على المؤمنين من جهادهم؛ أنهم على غير ما ارتضى، وأن فعلهم على خلاف ما أحب(1) وشاء. ومن كان فعله على خلاف إرادة الله فليس من المؤمنين، وَمَنْ كان اختياره غير ما اختار الله فليس من المتقين، ومن ترك فرائض الله، وسعى في ضِدِّها من حرام الله؛ فليس من المهتدين، ومن كان كذلك فهو لله من العاصين، ومن عصى الله وفسق في دينه، وخالف أمره في نفسه أو غيره؛ فلم يحكم في فعله بحكم الله، ومن لم يحكم بما أنزل الله فهو من الكافرين، وفي ذلك ما يقول أحكم الحاكمين، فيما نزل من الكتاب المبين: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الكَافِرُونَ}[المائدة: 44] فأخبر سبحانه بالدلالة على الكفرين، ووصفهم بالعدول عن شرائع الدين، ومن عدل عن شرائع الدين ولم يحكم
__________
(1) في (ب): ما أوجب.

(2/233)


في فعله بحكم رب العالمين؛ فهو في حكم الله عنده من الكافرين، لا يسميه ذو عقل وبيان، فيما أتى به من المعاندة لحكم(1) الله من العصيان، إلاَّ بما سماه الله سبحانه من الكفران.
ومن الحجة في ذلك أنا لم نجد أصل الكفر والشرك ـ من عبادة الأوثان، وعبادة الشيطان، وعبادة النجوم والأنصاب والنيران، والدعاء مع الله إلهاً آخر ـ غير المعصية، بل وجدنا هذه الأنواع كلها هي من المعصية لله سبحانه، فيما صح عندنا أن من عبد من دون الله غيره أن لم يعبده إلا بمعصية الله سبحانه؛ لأن الله جل ذكره نهاه أن يعبد معه غيره، فتعدى أمره، فكان له عاصياً، وكان بعصيانه له كافراً؛ إذ نهاه أن يعبد معه غيره فعبد معه سواه(2).
وكذلك اليهود والنصارى لم نجد أصل كفرهم وشركهم إلاَّ معصية الله في محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم، ولو أطاعوا الله في محمد والتصديق بما جاء به من عند الله لكانوا مؤمنين، فثبت عليهم الشرك بمعصية الله، وترك طاعتهم لمحمد وهم بالله مقرون، وله فيما أمر به عاصون. فلما أن عصوه في أمره كانوا عنده كافرين، وفي حكمه فاسقين.
__________
(1) في (أ): لحكم.
(2) في (أ): معه سواه، فعبد معه غيره.

(2/234)


وكذلك من ينتحل اسم الإسلام والإيمان، وهو مقيم لله سبحانه على كبائر العصيان، فحاله عندنا حال من ذكرنا من العاصين، وإن كان(1) بمحمد من المقرين، فهو مقرٌ بلسانه جاحد بفعله، عن الله معرض بقلبه، وقد أبى الله عزَّ وجل أن يكون من كان كذلك أو على شيء من ذلك مؤمناً، حتى يقيم شرائع الإيمان بفعله، ويصحح القول بعمله، وفي ذلك ما يقول الله تبارك وتعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ}[الحجرات: 15] فدل بقوله إنما المؤمنون الذين آمنوا وفعلوا على ان من لم يفعل ذلك فليس من المؤمنين، ومن لم يكن من المؤمنين فليس من المتقين، ومن لم يكن من المؤمنين المتقين فهو من الكافرين الفاسقين.
وفي ذلك ما يروى عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب صلى الله عليه، أنَّه قال: (( الإيمان قول مقولٌ، وعمل معمولٌ، وعرفان بالعقول )) فبيّن أن العمل أصل الإيمان، وأن من لم يكن له عملٌ زكي فليس بمؤمن تقي، ومن لم يكن مؤمناً مرضياً فهو كافر شقي.
والاحتجاج في هذا فكثير، وقليلة يجزي عن كثيره، لبيانه لمن علم، ووضوحه لمن فهم. وفي أقل مما به احتججنا من القول، كفاية لأهل المعرفة والعقول.
__________
(1) في (أ): كانوا.

(2/235)


ومما يقال لمن زعم أن من قال بلسانه، وترك العمل بجوارحه مؤمن، أن يقال له: خبِّرنا عمن قتل النفس التي حرم الله وزنى، وشهد شهادات الزور وأكل الربا، وقبل الرُّشا، وظلم المسلمين، وعطّل أحكام ربّ العالمين، وشرب الخمر، وترك الصلاة، وأفطر شهر رمضان، ولم يؤد زكاة، وركب الذكور من الغلمان ولم يحل حلالاً فيفعله، ولم يحرّم حراماً فيتركه، هل يكون من كانت فيه هذه الصفات مؤمناً حقاً عندك؟ فإن قال: نعم، قيل له: فالواجب في القياس والحق أَنْ يَكُوْنَ من أقام الصلاة، وآتى الزكاة، وحج البيت، وأتم الصيام، وحافظ على الصلاة، واجتنب الزنى، ولم يركب الذكران، ولم يشهد شهادات الزور، ولم يأكل الرِّبا، ولم يقبل الرشا، ولم يسفك الدماء على غير حلها، ولم يأكل أموال المسلمين ولا أموال اليتامى، ولم يحرم لله حلالاً فيتركه، ولم يحلل له حراماً فيفعله، وكان بالله عارفاً، وعن محارمه واقفاً، كَافِراً في قولكم حقاً؛ لأن هذين المعنيين المتضادين لا بدّ أن يفترق معناهما، ويختلف سبيلهما، فيكونا باختلافهما متباينين، ويكون أهلهما والفاعلون لهما أيضاً مختلفين، فيجب ما وقع لفاعل أحدهما(1) من اسم(2) وقع ضد ذلك الاسم لفاعل الصنف الآخر، والاسمان المتضادان فهو الإيمان والكفر، فحيث شئت من هذين الصنفين فأوقع اسم الإيمان على فاعلهما؛ فحيث أوقعت اسم الإيمان من هاتين الصفتين، وهذين المعنيين المختلفين وقع اسم الكفر على فاعل ضده، وحيث وقع اسم الكفر، فليس يقع معه اسم الإيمان، وحيث وقع اسم الإيمان فلن يقع معه اسم الكفر؛ لأن الاسمين مخَتلِفَان متضادان، ولا يجتمعان في اسم(3) واحد، كما لا يجتمع ليل ولا نهار في حالة واحدة، ولا حياة ووفاة على جسم واحد في حالة واحدة.
__________
(1) في (ب): ما وقع بفاعل اختصهما.
(2) في (أ): لفاعل أحدهما من اسم.
(3) في (أ): في معنى.

(2/236)


فلابد لمن سئل عن مثل هذا القول ان يقول الحق، فيعلم أن الإيمان مع الطاعة، وأن الكفر مع المعصية، فيكون من أهل الحق، ويرجع إليه ويعتمد عليه، أو ينبذ الحق بعد وضوحه، ويعاند الصواب بعد شروعه فيزعم أن من كانت فيه هذه الشروط المنكرة الفاحشة ـ من معاصي الله والمحاربة له ـ مؤمن بالله؛ فيزعم أن الله حضّ على معاصيه، ورضي بمعصيته(1) لعباده، وجعل العاصين المنكرين على رب العالمين، أخوة الملائكة(2) المقربين، وأنهم عند الله خيرة مصطفون، لأن الله عزَّ وجل يقول في كتابه: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ}[الحجرات: 10]، والأنبياء والملائكة إخوة للمؤمنين من الآدميين، ومن زعم أن أهل المعاصي إخوة للملائكة المقربين؛ فقد زعم أنهم صفوة الله وخيرته، وأحباؤه وأهل ثوابه وسكان جنته، ومن زعم أنّ الله أسكن جنته المحاربين له العاصين، وأنه آخى بينهم وبين الملائكة المقربين، فقد لزمه ووجب عليه في القياس والحق اللازم أن يقول: إن الله باعد بين المطيعين العابدين من عباده، القائمين القانتين الحاكمين بكتابه، المحتذين بحذو أنبيائه، وبين رسله وبين الملائكة(3)؛ فلم يجعلهم لهم إخوة بطاعتهم له، وأنه يسكن أولياءه وأهل طاعته ناره، ويصليهم جحيمه، ومن قال بهذا ولزمه فقد خرج من حد الإسلام، وصار عند الله من الجهلة الطغام، وكان عند الله أولى بالعذاب؛ ممن جعله الله من المؤمنين أهلاً للثواب.
فمِيِّز رحمك الله ما قلنا، واستعمل فكرك فيما ذكرنا، يتجلَّ لك بذلك الصواب، وينكشف عن قلبك سدف(4) الارتياب.
[الحدود وعلى من تقام]
وسالت فقلت: كيف تقيم الحد على من لم تشمله جِرَايتك من العطاء والكسوة؟ ولم يسمع ما فيه حياته من العلم.
__________
(1) في (أ): بالمعصية.
(2) في (أ): للملائكة.
(3) في (أ): وبين ملائكته.
(4) في (أ): سجِف، والسجف: الستر، والسدف: الظلمة.

(2/237)


وهذا قول مختلف؛ لأن معنى من لم(1) ينله الإحسان من العطاء والكسوة في مضي الحكم عليه خلاف من لم يستمع ما فيه حياته من العلم والهدى.
وسنبين لك إن شاء الله القول في المعنيين، ونوضح لك القول في المسألتين، ونوضح لك فعل الإمام في الحالين.
فأما من لم تبلغه الدعوة، وتقم عليه بذلك الحجة، ويعلم ما يحل وما يحرم، وما يجب به عليه الحد عند الإمام، فلا نذيقه بأسنا، ولا نجري عليه حدودنا، حتى نُعَلِّمه ما به تقوم عليه الحدود، وتلزمه العقوبات اللازمة.
فإذا علم ذلك وأتى عليه، وعرف ماله وما عليه فيه، وأتى قَوْلُنَا على سمعه، وثبت إعذارنا وإنذارنا في قلبه؛ ثم أتى بعد ذلك ما عنه نهاه الواحد الرحمن، واجترأ على ما يجب فيه الحد في القرآن، أقمنا عليه بما أوجب الله من الأدب، من بعد أن فهم وأبصر، وأيقن وخبر.
فأما أن نقيم الحدود على من لم يعلم حلالاً من حرام، ولم يقف على ما فيه الحدود(2) من الآثام؛ فليس ذلك قولنا، ولا ـ ولله الحمد ـ طريقتنا، وكذلك فعل الله في خلقه، وحكمه على بريته، وحجته على خليقته؛ فلا تقع ولا تجب إلا بعد تعريف الله عباده إياها وإيقافه لهم عليها.
__________
(1) في (أ): ما لم.
(2) في (أ): الحد.

(2/238)


فأما ما قلت من إقامة الحد(1) على من لم تنله منا الكسوة والعطاء، فليس الكسوة والعطاء يوجبان حجة، والحدود ما ضية على من لم ينل ذلك منا، من بعد ما ذكرنا من التفهيم له والهداية إلى الحلال والحرام والتوقيف، ولسنا ندفع عنه بعد تعريفه ما يجب عليه فيه الآداب، حدودَ اللهِ ببطئ ما يأمل منا من الرفد في كل الأسباب؛ لأن الرفد وإن أبطا مصيره إليه؛ لا يدفع عنه حداً إن وجب في حكم الله عليه، وكيف يندفع عنه حكم الله الجاري عليه على يدي الإمام، في أمر يلزمه(2) الحكم عليه في الآخرة عند ذي الجلال والإكرام؛ والمعنيان كلاهما من اللّه حكم لازم على الفاعل؟! فكيف يلزم الله عبداً من عباده على فعل من أفعاله حكماً حكم به عليه فيه ـ وجعله واجباً بفعله عليه ـ في دار الآخرة الباقية، ويزيله عنه في دار الدنيا الفانية؟ فهذا ما لا يكون ولا يصح في العقول، بل كل ما كان عليه العبد من الفعل معاقباً في الآخرة؛ فعقوبة الله له عليه في الدنيا لازمة، وما سقطت عقوبة الله عنه فيه في الآخرة كانت عقوبته ساقطة عن صاحبه(3) في الدنيا.
ألا ترى كيف أزحنا عن الجاهل بالحرام والحلال، ومن لم يعرف ما تجري عليه فيه الحدود من الفعال؛ العقوبة في الدنيا بتركنا له، وطرحنا عنه ما ألزمناه غيره ممن فهم أمرنا، ووقف على ما يلزم فيه أدبنا، وتجب به عليه حدود ربنا، وإنما طرحنا ذلك عنه؛ ولم نحكم به فيه؛ لان الله سبحانه أسقط عمن كان كذلك عقوبة الآخرة فلما سقطت عقوبة الله عنه في الآخرة؛ زالت عنه في الدنيا عقوبة الأئمة.
فافهم الفرق بين المعنيين، وقف بصافي فكرك ولبَّك على الحالين.
__________
(1) في (ب) الحدود.
(2) في (ب): في أمرِ ما يلزمه.
(3) في (أ): فاعله.

(2/239)


فأما ما يُذْكَر عن جدي صلوات الله عليه (محمد بن إبراهيم) القائم بالكوفة الذي صحبه (أبو السرايا) من تخليته للسارق الذي خلاه، وتركه لم يقطع يده، وقوله في ذلك: (( لم يذق عدلنا، فنجري عليه حكمنا )) فإنما أراد بقوله: عدلنا، أي تعليمنا وتفهيمنا، وتوقيفنا له على حلال الله وحرامه، حتى يعلم ما يجب به عليه القطع من غيره، وما تجب به عليه الحدود كلها.
وكذلك فعلنا نحن أيضاً، في بعض ما دخلنا من القرى، فأتينا بسكران من جانب المسجد، وكان ذلك في وقت ما دخلنا، فسألناه عن فعله، فذكر أنَّه لم يعلم أنا نحرم الخمر، ولا أنا نحد عليها، ولا أنَّه يكون منا أدب فيها، فأزحنا عنه الحد بما أدلى به من جهله، وعرفنا له الحق علينا من أمره.
وذلك أن سيرتنا، والواجب علينا إذا دخلنا بلداً أن نكتب كتاباً نبين فيه للأمة ما نقيم به الحدود عليها، ثم نقرؤه عليها في أسواقها ومساجدها، ومواضعها ومجتمعاتها، فإذا أتينا ذلك لها، وأعذرنا وأنذرنا بالحق إليها؛ جرت بعد ذلك أحكام الله سبحانه عليها، ومضت حدوده سبحانه فيها.
وإنما فعلنا ذلك لعلمنا بكثرة الجهال، وغلبة الضُّلاَّل، وقلة الهدى، وتراكم الغفلة والهوى. وذلك لفقدان الرعا(1)، وعدم أهل التقوى، وبعد الأئمة الهادين، وقرب الأئمة الفاسقين، الذين لا يلزمون أنفسهم تعريف الأمة رشداً، ولا اكتسابها براً ولا هدى.
__________
(1) في (ب): الدعاء.

(2/240)


فلما كانت أئمتهم كذلك، وكانوا هم أشر من ذلك؛ فعموا عن الدين، وجهلوا فروض رب العالمين، ولم يعلموا حراماً من حلال، من قول ولا فعال؛ شابهوا أئمتهم في فعلهم، واقتدوا بفعلهم(1) في أديانهم، فهم بأديان أئمتهم يقتدون، وفي عمى كبرائهم يعمهون، لم يروا محدوداً على حد فيخافوا ما ناله، ولم يروا مهتدياً فيتبعوا حاله، ضُلاَّلٌ أشقياء متحيّرون أَرْدِياء، قد غرقوا في الضلال المبين، وجنبوا عن طريق الحق واليقين، اتباع كل ناعق، سيقة كل سائق، لا يعرفون سبيل رشد فيتبعوه، ولا طريق هُلك(2) فَيَتَجَنَّبُوه، قد اتخذهم كبراؤهم سنداً، وجعلوهم لهم يداً، يطفئون بها نور الهدى، ويقتلون بها أهل التقوى، ويظهرون بها (أهل)(3) الفحش والردى، ويخملون بها نور الإسلام، ويظهرون بها أفعال الطغام، ويحاربون بها من دعا إلى دين محمد عليه السلام. يتبلغ(4) الجبارون المتكبرون بأتباعهم المتحيرين، وينالون بهم معصية رب العالمين.
فلما أن علمنا أن هذه حالهم، ووقفنا على أنها سبيلهم، لم نستجز ـ بعد ملكهم والقهر لهم، والعلو بعون الله على جبابرتهم ـ أن نقيم الحدود فيهم، مع ما قد علمنا من جهلهم، حتى نبين لهم ما ندعوهم إليه، وما نوقفهم عليه، ثم نمضي الحدود بعد الإنذار والإعذار؛ {لَيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللَّهَ لَسِمِيعٌ عَلِيمٌ}[الأنفال: 42].
[تسبيح الجمادات وسجودها]
وسالت أكرمك الله عن قول الله سبحانه: {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لاَتَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ} [الإسراء: 44].
__________
(1) في (أ): بهم.
(2) في (أ): هلاك.
(3) ليس في (أ).
(4) في (ب): فبلغ.

(2/241)


واعلم أن معنى هذا وأحسن ما يؤول في فهمنا أن الله تبارك وتعالى أراد بذلك أنَّه ليس من شيء إلاَّ وفيه من أثر صنعه وتدبيره وتقديره؛ ما يدل على جاعله ومصوره، ويوجب له سبحانه على من عرف أثر صنعته(1) فيه التسبيح والتهليل، والإقرار بالواحدانية والتبجيل، عند تفكر المتفكر واعتبار المعتبر؛ بما يرى من عجائب فعله جل جلاله، فيما خلق من عروق الأشجار الضاربة في الثراء، وفروعها الباسقة في الهواء، وما يكون منها من ثمار مختلفة شتَّى، فإذا نظر إلى اثر تدبير الجبار فيها أيقن بالصنع، وإذا أيقن بالصنع أيقن بالصانع، وإذا استدل على الصانع ثبتت معرفته في قلبه، ورسخت وحدانيته في صدره، فإذا ثبتت المعرفة في قلب المعتبر، وصحت في جوراح الناظر؛ نطق لسانه بالتسبيح لجاعل الأشياء، وظهرت منه العبادة لصانعها.
__________
(1) في (أ): صنعه.

(2/242)


فهذا معنى: {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ}، لمَّا كان في الأشياء كلها الدليل على جاعلها، وفي الدليل على جاعلها ما يوجب الإقرار به، وفي الإقرار به ما يوجب ذكره بما هو أهله من التقديس والتبجيل ، والتسبيح والمعرفة والإقرار لقدرته(1)، جاز أن يقال: {يُسَبِّحُ}؛ إذ كان بسببه التسبيح من المسبح، المستدل على ربه بما بين له في كل شيء من أثر صنعته(2) فقال: {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ} وهو يعني بالتسبيح تسبيح المسبحين؛ لسبب أثر الصنع من المعتبرين بذلك، فجاز ذلك إذ كان بسبب أثر الصنع في هذه الأشياء، وكان التسبيح فيها من المسبحين، المقرين بالله المعترفين، وما التسبيح إلا كقول الله: {زينا لهم أعمالهم}[النمل: 4] فليس(3) الله يزين لأحد قبيحاً، ولكن لما كان سبب زينة الدنيا وما فيها من الله خلقاً وجعلاً، وكان منه الإملاء للفاسقين، والتأخير الذي به تزينت أعمالهم، جاز أن يقال: {زَيَّنَا} ولم يزين لهم سبحانه قبيحاً من فعلهم.
وكذلك قوله سبحانه: {وَلاَ تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا}[الكهف: 28]، فليس الله سبحانه يغفل قلب أحد عن ذكره، ولا يصرفه عن معرفته، ولكن لما أن كان منه سبحانه ترك المعاجلة للمسيء على فعله، والتأخير له في اجله، جاز أن يقول: {أَغْفَلْنَا}؛ إذ كانت الغفلة هي الإعراض، والترك للحق والتوبة والإنابة. فجاز من قبل إملاء الله وتأخيره للمسيء المذنب أن يقول: أغفلنا؛ على مجاز الكلام.
ومثل هذا كثير في القرآن يعرفه ذو الفهم والبيان.
__________
(1) في (أ): بقدرته.
(2) في (أ): صنعه.
(3) في (أ): وليس.

(2/243)


ومما حكى الله تعالى عن ولد يعقوب عليه السلام {وَاسْأَلِ القَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيْهَا وَالعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنَا فِيهَا}[يوسف: 82] فقال: القرية، والقرية فإنما هي البيوت والدور، وليس البيوت والدور تَسأل، وإنما أراد أهل القرية؛ لأنها من سبب الأهل، والأهل من سببها، فجاز ذلك في اللغة العربية.
وكذلك قولهم: سل العير التي أقبلنا فيها، والعير فإنما هي الجمال المحملة، وليس الجمال تسأل، ولا تجيب ولا تستشهد، وإنما أرادوا أهل الجمال وأرباب الحمولة، فقالوا: سل العير، وإنما أرادوا أهلها.
فكذلك قوله سبحانه: {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ} يريد وإن من شيء إلاَّ وهو يوجب التسبيح على من اعتبر ونظر، وفكر في أثر صنع الله بما فيه، فجاز أن يقال: {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ}، لما أن كان أثر الصنع فيه موجباً للتسبيح لصانعه، على المعتبرين من عباده.
فأما قوله: {وَلَكِنْ لاَ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ} (فهو ذم لمن لم يعتبر ويستدل بأثر الصنع في الأشياء، فقال: {وَلَكِنْ لاَ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ})(1) يريد: لا يفقهون ما به من أثر الصنع فيها، الذي يوجب التسبيح للصانع والإجلال والتوقير. فكان ذلك ذماً لمن لا يعتبر ولا يتفكر، ولا يحسن التمييز في أثر صنع الله فيعلم بأثر صنعه؛ ما يستدل به على قدرته، ويصح لربه ما يجب لمعرفته (2)؛ من توحيده والإقرار بربوبيته.
وأما قوله: {وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ}[الرحمن: 6] فقد قال بعض العلماء: إن معنى السجود سجود ظلال الأشياء، ووقوعها على الأرض.وقال بعضهم: إن هذا على المثل، يقول: إنَّه لو كان في شيء من الأشياء؛ من الفهم والتمييز مثل ما جعل الله في الآدميين والشياطين، والملائكة المقربين؛ إذن لعبد الله كل شيء وسبحه بأكثر من عبادة الآدميين وتسبيحهم.
__________
(1) سقط من (أ).
(2) في (أ): بمعرفته.

(2/244)


فجعل هذا مثلاً؛ كما قال سبحانه: {إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ}[الأحزاب: 72] الآية، أراد تبارك وتعالى أنَّه لو كان في السموات والأرض والجبال من الفهم والتمييز ما في الآدميين، ثم عرض عليها ما عرض على الآدميين من حمل الأمانات التي قبلها الآدميون؛ لأشفقت السموات والأرض والجبال من حملها، ولما قامت بما يقوم به الآدمي من نقضها(1)، مع ما في الأمانة من الخطر وعظيم الأمر على من لم يؤدها(2) على حقها، ويقم بها على صدقها.
والأمانة على صنوف شتى، فمنها قول الحق وفعله، ومنها أداء الشهادة على وجهها، ومنها أداء الحقوق إلى أهلها، من الأنبياء المرسلين، والأئمة الهادين، ومنها الودائع من الأموال وغيرها.
ومنها العقود التي قال الله تبارك وتعالى فيها، وفيما عظم من خطرها، وأجل من أمرها: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالعُقُودِ}[المائدة: 1].
فكل ما ذكرنا فهو أمانة عند العالمين، واجب عليهم تأديتها عند رب العالمين.
__________
(1) في (ب): من بعضها.
(2) في (ب): يردها.

(2/245)


وأحسن ما أرى والله أعلم وأحكم في تأويل قوله سبحانه: {وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ}[الرحمن: 6]، أنَّه أراد بقوله: يسجدان ومعنى يسجدان؛ فهو لما فيهما من التدبير، وأثرالصنع والتقدير؛ لله الواحد القدير. فإذا رأى المعتبرون المؤمنون ما فيهما من جليل صنع الله، وعظيم(1) جعله لهما، وما سخرهما له وجعلهما عليه، من جولان النجم في الأفلاك، تارة مصعداً وتارة منحدراً، وتارة طالعاً وتارة آفلاً، تقديراً من العزيز العليم لما أراد من الدلالة على الدهور والأزمان، والدلالة على عدد الشهور والسنين والأيام للإنسان، فإذا رأى ذلك كله مسلم تقي، أو معتبر مهتد؛ سجد له بالمعرفة والإيقان، واستدل عليه سبحانه بذلك الصنع في كل شأن؛ فَعَبَدَه عِبَادَةَ عارف مقرٌ، عالم غير منكر، فسجد له متذللاً عارفاً، مستدلاً عليه سبحانه بما أبصر من الدلائل في النجوم عليه.
وكذلك حال الشجر وما فيه من عجائب الصنع والتدبير، وما ركبه الله سبحانه عليه من التقدير، في ألوان ثمارها وطعومها، واختلاف ألوانها، وهي تسقى بماء واحد وتكون في أرض واحدة، كما قال الله سبحانه: {وَفِي الأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيرُ صِنْوانٍ تُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الأُكُلِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَومٍ يَعْقِلُونَ}[الرعد: 4] فكل ذلك من اختلافها، دليل على قدرة جاعلها، ووحدانية فاطرها.
فهذا أحسن المعاني عندي والله أعلم وأحكم في (يسجدان)، أنَّه يسجد من أثر الصنع فيهما، وأثر القدرة في تقديرهما؛ كُلُّ مؤمن عارف بالله، مقرٌ بصنع الله وحكمته، ويستدل(2) عليه بأثر قدرته.
فافهم مابه قلنا في قوله يسجدان، وتفكر فيما شرحنا وميز قولنا؛ يبن لك فيه الصواب، ويزح عنك فيه الشك والإرتياب.
[متى يعلم العبد أنه صادق عند ربه]
__________
(1) في (ب): وعظم.
(2) في (أ): يستدل.

(2/246)


وسالت فقلت: متى يعلم العبد أنَّه صادق عند ربه.
والجواب(1) في ذلك أنَّه إذا علم من نفسه أنَّه مطيع له غير عاص، صادق غير كاذب، وقائم بحجته غير مقصر، ومُؤَمن لنفسه من عقوبة ربه؛ بما يكون منه من طاعة خالقه، وترك جميع ما يسخط سيده، فهو ـ إذا أيقن من نفسه بذلك ـ صادق عند ربه، مقبولٌ ما يكون من عمله، محمود في كل فعله.
[لقاح العقل]
وسالت(2) عن لقاح العقل.
ولقاح العقل فهو التجربة؛ لأن كل شيء يحتاج إلى العقل، والعقل محتاج إلى التجربة ومضطر إليها، غير مستغن عنها.
[رياضة النفس]
وسالت عن رياضة النفس ما هي؟ وكيف هي تكون؟
واعلم رحمك الله ووفقك، وهداك للرشد وسددك، أن رياضة النفس على صنوف، يجمع الصنوف المختلفة أصلٌ واحدٌ تكون فيه مؤتلفة، وهو: ترغيبها فيما أعد الله للمتقين، وجعل سبحانه في الآخرة من الثواب للمؤمنين، وحكم به من الفوز لأوليائه الصالحين، والترهيب لها بما أعد الله للعاصين؛ من العذاب المهين، وشراب الحميم، وطعام الزقوم،، وما أشبه ذلك من ألوان العذاب المقيم.
فهذا أصل رياضة النفس.
ومن فروع ذلك ما روي عن بعض الصالحين أنَّه كان يرهب نفسه بما يشبهه(3) بعذاب رب العالمين؛ من أنَّه كان ربما لذع نفسه بالنار إذا طمعت، أو همت بالمعصية أو طغت، فإذا وجدت حرقة النار، قال: هذا جزعك من النار الصغيرة، فكيف تدعينني إلى ما يدخلني وإياك النار الكبيرة.
ومن رياضة النفس ما ذكر عن بعض الصالحين من أنَّه كان يخلو،ثم يخاصم نفسه بأرفع ما يكون من الصوت، كما يخاصم الخصم خصمه، ويحاور الضد ضده؛ فيقول: فعلت بي كذا وكذا، وفعلت بي كذا وكذا، وهذا هلكتي وهلكتك، وتلفي وتلفك، فلا يزال كذلك حتى تنكسر له نفسه، وتراجع له.
__________
(1) في (أ): الجواب.
(2) في (أ): وسألت فقلت: ما لقاح العقل.
(3) في (ب): مما يشتهيه.

(2/247)


ومن رياضة النفس ـ مما هو(1) فرع للأصلين الذين أثبتناهما وذكرناهما لك وفسرناهما ـ ذكرها(2) للموت والفناء، وخروجها مما تميل إليه من لذات الدنيا، وانتقالها من دار سرورها ورخائها، إلى دار فنائها وبلائها، وما يكون من تمزق بدنها في الثرى، ثم ما يكون من بعده من الحسرة في يوم الدين، والمحاسبة لها من رب العالمين.
ومن رياضتها تذكرها لأهوال(3) الوقوف في يوم الحشر، وما في كتاب الله من وصف حال يوم النشر(4).
فهذا وما كان متفرعاً من الأصلين فهو رياضة النفس وتوقيفها، وردها إلى الحق وتعريفها.
وأصل ذلك كله وفرعه، والذي هو عون لصاحبه على نفسه؛ فهو إخلاص النية إلى ربه، والإستعانة به على نفسه، فإن من خلصت له نيته، وصلحت له علانيته؛ أصلح الله له سريرته، وقواه على إرادته، بالتوفيق والتسديد، والمعونة والتأييد؛ لأنَّه إذا كان منه ما ذكرنا من إخلاص النية والإرادة، والإقبال إلى الله والتوبة؛ فقد اهتدى، وإذا اهتدى فقد قبله الله سبحانه فزاده هدىً، ومن زاده هدى، فقد وجب له الحياطة، في كل معنى، ومن حاطه الله وهداه فقد أعانه على طاعته وتقواه.
[متى يعلم العبد اجتهاده في رضاء الله]
وسالت فقلتَ: متى يعلم العبد أنَّه مجتهد في رضاء ربه؟
فالجواب أنَّه لا يعلم بحقيقة العلم أنَّه مجتهدٌ لله فيما يرضيه، حتى يعلم أنَّه أبداً لا يعصيه، فإذا وثق من نفسه، أنه لا يأتي لله معصية، ولا يترك له فريضة؛ فعند علمه بذلك من نفسه؛ يعلم أنَّه مجتهد في رضى ربه، فعلمه باجتهاده ورضى ربه(5)، تابع لعلمه بالإئتمار بأمره، والإنتهاء عن نهيه، وعلى قدر ما يكون الإئتمار من العبد بأمره، والإنتهاء عن نهيه، يكون الإجتهاد منه في رضى خالقه.
[متى يعلم العبد استحقاقه للجنة]
__________
(1) في (ب): ماهو.
(2) في (أ): تذكرها.
(3) في (أ): تذكيرها هول.
(4) في (ب): النشور.
(5) في (أ): في رضى ربه.

(2/248)


وسالت فقلت: متى يعلم العبد أنَّه قد استوجب الجنة من الله سبحانه؟
والجواب(1) في ذلك إذا علم بحقيقة العلم أنَّه قد أخلص التوبة النصوح إلى الله، وأنه لا يدخل في معصية من معاصي الله، وأنه لا يدع شيئاً من فرض الله؛ ثم علم أن ذلك منه بإخلاص واستواء، وثبات ونية وتقوى؛ فليعلم عند ذلك أنَّه من المؤمنين، وقد أخبر الله بمحل المؤمنين، فقال سبحانه: {أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كَانَ فَاسِقاً لاَ يَسْتَوُونَ * أَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَأْوَى نُزُلاً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}[السجدة: 18 ـ 19]؛ فإذا أيقن بذلك من نفسه وعلمه، فليعلم أنَّه قد صار من أهل الجنة، كما ذكر الله في كتابه في هذه الآية التي ذكرنا (والله أعلم)(2).
[المساواة في الحقوق]
وسالت فقلت: أكان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يساوي بين الأغنياء والفقراء في الحق؟
وكذلك لعمري كان صلى الله عليه وآله وسلم.
فإن كنت تريد بقولك: (يساوي بينهم في الحق، أي) (3) يساوي بينهم في الحكم، وينصف كلاً من صاحبه؛ فكذلك لعمري كان صلى الله عليه وآله وسلم. وإن كنت تريد بقولك: يساوي(4) في الجوائز والعطاء والرزق؛ فنعم قد كانوا عنده في ذلك سواء فيما يجب لهم ويجري عليهم، مما يجب(5) التسوية بينهم فيه؛ مثل قسم الفيء، وقسم الغنائم. فأما في أرزاق المرتزقين(6)، وسهام الأجناد المتجندين؛ فلا يستوون في ذلك، ولا يكونون في الجوائز(7) سواء كذلك، بل الأرزاق للمرتزقين؛ على قدر ما يرى(8) إمامُ المسلمين من جرايتهم وعنايتهم، وحاجتهم إلى ما كفهم وأغناهم، وقام بأسبابهم؛ فعليه في ذلك حسن النظر لهم؛ والتمييز في كل ذلك بينهم.
__________
(1) في (أ): الجواب.
(2) ليس في (أ).
(3) سقط من (أ).
(4) في (ب): سواء.
(5) في (ب): مما يوجب.
(6) في (ب): وأما ما في أرزاق المرزوقين.
(7) في (ج): في الحق.
(8) في (أ): على ما قد يرى.

(2/249)


[أخذ الجزية من الدراهم]
وسالت فقلت: كان(1) رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم يأخذ من أهل الذمة ثوباً عسكرياً(2) وغيره من العروض من الإنسان منهم، ومن اين جاز أن يؤخذ اليوم منهم ثمانية وأربعون درهماً، وأربعة وعشرون، واثنا عشر؟
القول في ذلك: أنَّه كان صلى الله عليه وآله وسلم، لما أمره الله بأخذ الجزية من جميع أهل الذمة، أخذ منهم ما أمر به، فكان ما أمربه(3): أن يأخذ من ملوكهم ثمانية وأربعين درهماً ومن أوساطهم أربعة وعشرين درهماً، ومن فقرائهم اثني عشر، ولم يكن في دهره ولا في أرضه ولا في دار هجرته في ذلك الوقت من ملوكهم أحد، وكان كل من كان معه في دارهجرته فقراء وأوساطاً أصحاب اثني عشر وأربعة وعشرين، وكانت الدراهم تعسر بهم، ولا تتهيأ في ذلك الوقت معهم، فكان يأخذ منهم عروضاً من ثياب وغيرها؛ بالقيمة التي يقومها من يفهما(4) ويبصرها، وكذلك فعل من كان بعده، أخذوا من أهل الجزية حين وصلوا إلى اليسارة منهم؛ أخذوا الثمانية وأربعين درهماً التي(5) ذكرها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن الله، وأمر بها فيهم بأمر الله. وكذلك أيضاً لو عسرت عليهم اليوم الدراهم، لأخذنا من كل إنسان من تجارته وبضاعته عرضاً بقيمة الدراهم، إذا صح عسرها عليهم، وثبت امتناعها منهم.
[كلام أهل الجنة لأهل النار هل هو حقيقة أم مثل]
وسالت عن كلام أهل الجنة لأهل النار في قولهم: {فَهَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقّاً قَالُوا نَعَمْ}[الأعراف: 44] فقلت: أمَثَل هو مضروبٌ؟ أم قول مقول؟ وقلت(6): هل يقرب بينهما حتى يكلم بعضهم بعضاً؟
واعلم هديت ووفقت أنَّه قول مقول منهم، وعمل معمول من فعلهم.
__________
(1) في (أ): أكان.
(2) في (أ): ثوب عسكري.
(3) في (أ): ما أمر به.
(4) في (ب): من يقيمها وينصرها.
(5) في (أ): الذين.
(6) في (ب): فقلت: هو.

(2/250)


فأما ما سألت من التقرب (1) بينهم حتى يسمع بعضهم قول بعض؛ فليس ذلك كذلك فيهم، ولا ذلك فعل الله تبارك وتعالى بهم، وكيف يسمع أهل الجنة كلام أهل النار، وهم لا يسمعون حسيس النار؟ فحسيس النار أشد حِساً، وأبعد صوتاً(2) من كلام أهلها الذين ذكر الله عنهم، وشرح سبحانه أنَّه يكون منهم.
ألا تسمع كيف يقول الله سبحانه: {لاَ يَسْمَعُونَ حسيسها وَهُمْ فِيمَا اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ خَالِدُونَ}[الأنبياء: 102]؟ فأخبر أن المؤمنين لا يسمعون للنار حسيساً، وأنهم عنها مبعدون.
وإنما كلامهم لأهل النار، وكلام أهل النار لهم، عند قولهم: {أَفِيضُوا عَلَينَا مِنَ الْمَاءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ}[الأعراف: 50] فهو بالرسائل التي تبلغها الملائكة عنهم، وتمشي بها بينهم، وذلك منها صلوات الله عليها فبإذن من الله لها فيه، وتقدير منه سبحانه لها عليه.
وإنما جعلهم الله كذلك، وأذن لهم في ذلك؛ ليكون ذلك سروراً للمؤمنين، ومعرفة منهم بما نزل بالمكذبين الضالين، فيتجدد لهم بذلك البهج والسرور، وتكمل لهم به الغبطة والحبور، ويكون ـ من علم أخبار المؤمنين، وبما هم(3) عليه من عطايا رب العالمين ـ حسرة في قلوب الكافرين، وعذاباً لهم مع عذاب النار، وأسفاً لما فاتهم من كريم القرار، ونعيم الدار؛ التي جعلها لله ثواباً للأبرار.
فافهم ما عنه سألت، وقف من الجواب على ما طلبت.
[هل ترد أزواج المؤمنين في الآخرة]
وسالت فقلت: هل ترد على المؤمنين أزواجهم اللواتي كن معهم في الدنيا؟
واعلم رحمك الله أنهن إن كن مؤمنات مثلهم، متقيات لله كَهُمْ؛ جمع الله بينهم في الآخرة الباقية، كما جمع بينهم في دار الدنيا الفانية.
__________
(1) في (ج): من القرب.
(2) في (ب): ضرراً.
(3) في (أ): وما هم.

(2/251)


وقد ذكر أن الرسول(1) صلى الله عليه وعلى آله وسلم سئل عن ذلك فقال: (( نعم يجمع الله بين جميع أهل البيت، إذا كانوا مؤمنين في دار ثواب المتقين )).
[معنى وإن يوماً عند ربك كألف سنة]
وسالت عن قول الله سبحانه: {وَإِنَّ يَوماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ}[الحج: 47].
المعنى في ذلك فهو إخبار من الله سبحانه عن نفاذ قدرته، وإمضاء مشيئته، وسرعة فعله، يخبرسبحانه أنَّه يُنفِّذ في يوم واحد ما ينفذه جميع الخلق إذا اعتونوا(2) عليه في ألف سنة؛ من محاسبة المحاسبين، وتوقيف الموقفين على ما تقدم من أعمالهم في دنياهم وحياتهم.
فهذا معنى ما عنه سألت من قول الله سبحانه: {وَإِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ}[الحج: 47].
[من ظلم دراهم أو دنانير كيف يستوفيها في الآخرة]
وسالت عمن ظُلِمَ في الدنيا دنانير أو دراهم، كيف يكون اللحوق لحقه(3) من ذلك في الآخرة، وليس في الآخرة دراهم ولا دنانير؟
القول في ذلك: أن الله سبحانه يعطي المظلوم إذا كان مؤمناً من الثواب على ما امتحنَ به من ذهاب ماله في الدنيا، فصبر لله على ذلك صبراً حسناً؛ فآتاه من الثواب والجزاء؛ أكثر مما لو رد إليه أموال الدنيا، ويعرفه سبحانه أن ذلك جزاء على ما كان من صبره واحتسابه؛ بما ذهب في الدنيا من ماله، ويستوفي له من ظالمه الفاسق الردِّي؛ بالزيادة في العذاب الأليم، حتى يعلم الخائن أن ذلك نزل به خصوصية على مظلمة المؤمن، ويطلع الله المؤمن على ما نزل بظالمه، ويعلمه أن ذلك الذي حل به من الزيادة في العذاب هو من أجل ما غصبه من ماله، وظلمه به في حقه.
فهذا حال المؤمن المظلوم، وحال الفاسق الظالم عند الجزاء؛ في الآخرة التي تبقى.
__________
(1) في (أ): أن رسول الله.
(2) في (ج): اعتنوا.
(3) في (ب): يكون اللحوق يصلح ما لحقه.

(2/252)


فإن كان الظالم والمظلوم فاسقين عذبهما على كفرهما وفسقهما، وزيد في عذاب الظالم من الفاسقين لصاحبه، حتى يعلم كلاهما أن تلك الزيادة نزلت بالظالم لتَعِديه في حكم ربه، وتناوله ما حرم الله عليه من ظلمه، ومَنَع منه من غشمه.
فافهم هديت ما به قلنا ـ فيما عنه سألت ـ وشرحنا.
[تعدد الأئمة الأكفاء]
وسالت عن الأئمة يخرج واحد واثنان وثلاثة وأربعة في عصر واحد، يكونون أكفاءً (1) زعمت في العلم والجسم والورع، فقلت: من المستحق منهم؟
واعلم رحمك الله أن الأمر لأفضلهم فضلاً، وأبرعهم معرفة وعلماً.
فإن قلت: قد استووا (في ذلك، فلن يستووا، ولن يشتبهوا عند من جعل الله له لباً، وتمييزاً وفهماً؛ وذلك أنهم إن استووا) (2) في الورع، فلن يستووا في العلم، وإن استووا في العلم فلن يستووا في سائر الخصال، وإن التبس أمرهم في ذلك عند الجهال؛ لم يلتبس أمرهم في التعبير والكلام، والتبيين والشرح لشرائع الإسلام؛ فيكون (أولهم)(3) أولاهم بالإمامة، وإن اشتبهوا في الورع والعلم والمعرفة فأجودهم شرحاً وتبييناً، وأهداهم (إلى تفهيم الرعية ما تحتاج إليه، وما لا غنى بها عنه، ولا عذر لها فيه. فمن كان له الفضل) (4) في شيء مما ذكرنا، كان أحق الجماعة بالإمامة من ربنا.
فافهم ما قلنا، وتبيّن في مسألتك ما شرحنا.
[معنى: وعلى الأعراف رجال]
وسالت عن قول الله سبحانه: {وَعَلَى الأَعْرَافِ رِجَالٌ يَعْرِفُونَ كُلاًّ بِسِيمَاهُمْ}[الأعراف: 46].
الجواب في ذلك أن {الأعراف} هو: ما ارتفع من الأرض وعلا، وشمخ منها في الهوى.
فتلك أعراف الأرض ومعارفها.
والرجال التي عليها في يوم الدين، فقد قيل: إنها رجال من المؤمنين.
__________
(1) في (أ): أكفياء.
(2) سقط من (أ).
(3) سقط من (ج).
(4) سقط من (ب).

(2/253)


وقيل: إنها الحفظة التي كانت من الملائكة المقربين، حفظة في الدنيا على العالمين، التي قال الله في كتابه وذكرهم، وما أخبر(1) من حفظهم لمن كان من الخلق معهم، حين يقول: {عَنِ اليَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٍ * مَا يَلْفِظُ مِنْ قَولٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ}[ق: 17 ـ 18]، وهذا فأشبه المعنيين عندي والله أعلم وأحكم.
ومعنى {يَعْرِفُونَ كُلاًّ بِسِيمَاهُمْ} فهو: معرفة أولئك الحفظة لمن كانوا يحفظون. ومعنى {يَعْرِفُونَ} فهو: يتعرفون ويتفهمون، حتى يوقنوا بهم، ويعرفوهم ويقفوا عليهم ويثبتوهم معرفةً. ومعنى {بِسِيمَاهُمْ} فهو: بِحِليتهم التي كانوا يعرفونها في الدنيا، ومعناهم في صفاتهم وخلقهم، وبنيتهم المعْرُوفة من صُوَرِهِم.
[رفع اليدين في التكبير]
وسالت عن رفع اليدين في التكبير.
وهذا أمر لا يجيزه في الصلاة علماء آل رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم؛ لأن الصلاة إنما هي خشوع وتذلل لذي الجلال والطول، وإرسال اليدين والكف عن رفعهما؛ أكبر في الدين لصاحبهما.
وقد قيل: إن رفع اليدين فعال جاهلي كانت قريش تفعله لآلهتها وأصنامها، عند الوقوف تجاهها، والسلام منهم عليها. فإن يكن ذلك كذلك والله أعلم، فلا ينبغي ولا يجوز لمسلم أن يَفْعَل ما يُفْعَلُ للأصنام، مع ما في ذلك من قلة الخشوع لله؛ لأن الصلاة التي فرضها الله فرض معها الخشوع والتذلل؛ فلما كان ترك رفع اليدين في الصلاة إلى الخشوع أقرب؛ كان فعله دون غيره على المصلي أوجب.
[قيام الليل]
وسالت عن قول الله سبحانه: {إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ} إلى قوله: {فَاقْرَأُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ}[المزمل: 20] فقلت: إن بعض الناس زعم أن هذا فرض من الله. وقال بعضهم: نافلة.
__________
(1) في (ج): وما بين.

(2/254)


واعلم رحمك الله أن الله عزَّ وجل لم يَعنِ بما ذكر من الصلاة في أول هذه السورة وآخرها، إلاَّ صلاة العَتَمة المفروضة. فجعل هذه الأوقات لمن كان كذلك وقتاً، ألا تسمع كيف قال(1) سبحانه: {عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضَى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَاقْرَأُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاَةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً} [المزمل: 20] فأوجب على كل مريض، وعلى كل مسافر، وعلى كل مجاهد فعل ذلك، وإقامة الصلاة في هذه الأحوال كلها، ولا يجب ما أوجب الله من ذلك، على من كان من الخلق كذلك؛ إلاَّ وهو فرض مؤكد، وأمر مشدد. ولا يُعْرَفُ لله في الليل فرضُ صلاة مفروضة؛ إلاَّ ما ذكرنا من العتمة والعشاء، وقد شرحنا ذلك وفسرناه، واستقصيناه فيما شرحنا من تفسيره في سورة المزمل.
[صلاة التراويح]
وسالت عما روي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (( أنه صلى التراويح في شهر رمضان ليلة واحدة، ثم أمر الناس بالأنصراف إلى بيوتهم ))، وقد روى ذلك بعض الناس وذكره، ولسنا نصحح شيئاً من ذلك لا ليلة ولا ليلتين، ولا نعرفه عنه ولا نرويه. ولم يبلغنا أنَّه صلى بالناس صلى الله عليه وآله وسلم تراويح ليلة ولا ليلتين، ولا ساعة ولا ساعتين، ولا ركعة ولا ركعتين، ولم يروه أحدٌ من علمائنا ولم يأثره(2) عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أحد من أبائنا، ولو كان ذلك شيئاً كان منه؛ لروته آباؤنا عن آبائها وجدودها، ولما سقط عنهم شيء منه، ولأتوا به مصححاً عنه.
[اختلاف الزوجين في الدين]
__________
(1) في (أ): يقول.
(2) في (بأ): يوثره.

(2/255)


وسالت عن الرجل يتزوج امرأة(1) لا تعرف الدين، ومذهبها على خلاف مذهبه، وهي في فنٍّ سوى فنّه، فعلمها ما يجب عليها من دينها، وما هو الحق اليقين عند ربها، فلا تتعلم، ولا تقبل ولا تفهم، فقلت: هل يجوز له أن يمسكها على ذلك؟
فالواجب عليه أن لا يبقي غاية في نصيحتها(2)، والتأني بها، وتعريفها وتفهيمها؛ فإن عرفت وفهمت، وتابت ورجعت؛ فذلك الواجب عليها، وإن أبت الدين، ولجَّت في مخالفة اليقين؛ فلا يجوز له إمساكها، ولا يسعه الإفضاء إليها، حتى ترجع إلى الحق الذي افترضه الله عليها الواحد الخلاق، أو يوقع عليها إن غَلَبته بينه وبينها ـ الواجب على مثلها من الفراق.
[معنى: ويحمل عرش ربك]
وسالت عن قول الله سبحانه: {وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَومَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ}[الحاقة: 17].
ومعنى {العَرْشِ} فهو: المُلك، والملك فهو ما خلق الله وذرأ، من الآخرة كلها والأولى، وما فيهما من جميع الأشياء.
ومعنى {ثَمَانِيَة} فهو لا يخلو من أن يكون ثمانية أصناف من الملائكة، أو ثمانية آلاف، (أو ثمانية أملاك)(3). وحملها للعرش الذي هو الملك فهو: قيامها فيه ونهوضها، وقيامها به فهو: أمرها ونهيها، وإنفاذ أمر ربها، وإيصال الثواب إلى المثابين، والعقاب إلى المعاقبين، وما يكون من فعل الله في ذلك اليوم في المخلوقين.
فأخبر الله سبحانه أنَّه يقوم بحساب الخلق في ذلك اليوم، وإيصال ثوابه وعقابه إليهم، وإنفاذ جميع أمره فيهم؛ هذه الثمانية التي ذكرنا أوَّلاً، كانت من الملائكة آلافاً أو أصنافاً (أو أملاكاً) (4).
__________
(1) في (أ): مرأة.
(2) في (أ): في نصحها.
(3) سقط من (أ) و (ب).
(4) سقط من (أ) و (ب).

(2/256)


ومعنى قوله: {فَوقَهُمْ} فهو: منهم، غير أن (فوق) قامت مقام (من)؛ لأنها من حروف الصفات، فهما يعتقبان. أراد سبحانه: {وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ} منهم ثمانية، ومعنى {مِنْهُمْ} فهو: من الملائكة. فأخبر أن الثمانية هم القائمون بأمر الله في ذلك اليوم ونهيه، وجميع ما يكون من فعله في خلقه، دون غيرهم من الملائكة المقربين.
وقد شرحنا تفسير هذه الآية في كتاب على حدة شرحاً مبيناً مفسراً، مستغنياً(1) بما مضى في الكتاب عن تكراره، في هذا الموضع(2)، من شرح ذلك كفاية لمن فَهِمَ، واهتدى لمعرفة ربه فعلم.
[الصلح مع نصارى تغلب]
وسالت عما ذكر أن النبي(3) صلى الله عليه وآله وسلم صالح أهل الكتاب على أن يكون أولادهم مسلمين، لا يعلمونهم اليهودية ولا النصرانية، وقلت: قد نقضوا العهد، فهل للإمام أن يبدأهم؟ وقلت: إنَّه يقال: إنهم الذين عناهم الله بقوله: {قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الكُفَّارِ}[التوبة: 123] دون غيرهم.
واعلم هداك الله أن اليهود ليسوا في شيء من هذا، وإنما أولئك الذين صالحهم رسول الله صلى الله عليه على أن لا يصبغوا(4) أولادهم، ولا يدخلوهم في شيء من أديانهم؛ هم نصارى (بني تغلب) دون غيرهم من النصارى.
__________
(1) في (أ): مستغنىً.
(2) كذا في النسخ، ولعل الصواب: وفي هذا الموضع.
(3) في (أ): أن رسول الله.
(4) الصبغة: الملة والدين، وماء أصفر يصبغ به النصارى الطفل ويسمى التعميد.

(2/257)


وذلك أن بني تغلب عرب، وليسوا من بني إسرائيل، فأنفوا حين أخذ رسول الله صلى الله عليه الجزية من جميع أهل الذمة؛ فطلبوا من رسول الله صلى الله عليه أن يأخذ منهم ـ كما يأخذ من العرب ـ العشر، فأخبرهم صلى الله عليه وآله وسلم أن العشر لا يكون إلاَّ صدقة، وأن الصدقة لا تؤخذ إلاَّ من أهل الصلاة؛ لأنها تطهرة لهم وتزكية، فسألوه أن يأخذ منهم ضعفي ما يؤخذ من المسلمين على طريق الصلح؛ لسلامة أنفسهم، ونجاة رقابهم، لا على طريق الزكاة والتطهرة، فصالحهم صلى الله عليه وآله وسلم على ذلك، وعلى أن لا يصبغوا أولادهم، وأن يكون أولادهم من بعدهم مسلمين، فأخذ منهم من أموالهم في كل أربعين شاة شاتين، وفي كل ثلاثين بقرة تبيعين أو تبيعتين، وفي الإبل في كل خمس(1) شاتين، وفيما يكال (ويوزن)(2) الخمس مما يسقى سيحاً أو بماء السماء، أو العشر فيما سقي من السواني والدوالي والخطَّارات، وفي النقد من الذهب في كل عشرين مثقالاً مثقال، وفي (الدراهم في)(3) مأتي درهم من الفضة عشرة دراهم، نصف العشر من الذهب والفضة، وأضعف(4) عليهم ما يجب على المسلمين من الزكاة المفروضة، وشرط عليهم أن لا يدخلوا أولادهم في شيء من اليهودية والنصرانية، وعلى ذلك أعطوا العهد.
__________
(1) في (ج): في خمس.
(2) ليس في (أ) و (ج).
(3) سقط من (أ).
(4) في (أ): أضعف، والمعنى أخذ منهم ضعف ما يأخذ من المسلمين.

(2/258)


فواجب علىأهل الحق إذا أعلى الله كلمتهم، أن تُسبى نساؤهم، وتقتل رجالهم وتؤخذ أموالهم، إلاَّ أن يدخلوا في الإسلام كلهم فيرى رأيه(1)؛ لان القوم(2) الذين كانوا على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لم يفوا له بعهده، فانتقضت عهودهم، ووجب ما ذكرنامن الحكم عليهم. غير أن الباطل قد شمل وظهر، والمنكر قد علا وقهر، وعطلت الأحكام، ودَرَس الإسلام، وظهر الفسق، ومات الحق، فإلى الله في ذلك المفزع والمشتكى، عليه توكلنا وهو العلي الأعلى.
فأما ما ذكرت من أنهم الذين قال الله سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الكُفَّارِ}[التوبة: 123] فغيرهم أولى بهذه الآية منهم، من هو أقرب إلى الإسلام، وأَضّرَّ على دين محمد عليه السلام، من أولئك الكفرة الطغام.
__________
(1) أي الإمام.
(2) في (أ): لأن العرب.

(2/259)


و{الَّذِينَ يَلُونَكُمْ} فهم: الذين بينكم ومعكم ممن يدعي الإسلام، وهو كافر بالله ذي الجلال والإكرم، كاذب فيما يدعيه، ثابت من الكفر فيما هو عليه،(1) من جبابرة الظالمين، وفراعنة العاصين، الذين قتلوا الدين، وخالفوا رب العالمين وأحلوا حرام الله، وحرموا حلاله، وانتهكوا محارمه، ولم يأتمروا بأمره، ولم ينتهوا(2)عن نهيه، وحاربوه في آناء الليل وأطراف النهار، فراعِنَة ملاعين، جوَرَةٌ متكبرون(3) لا يحكمون بكتاب الله، ولا يقيمون شيئاً من شرائع دين الله، قد قتلوا الإسلام والمسلمين، وأضاعوا الأيتام والمساكين، واستأثروا عليهم بأموالهم، فمات الخلق(4) هَزَلاً في دولتهم، لا في أمور المسلمين ينظرون، ولا إلى الله يرغبون(5)، ولا عذابه يخافون، ولا ثوابه يرجون، معتكفين على اللهو والمزامير، والضرب بالمعازف والطنابير(6)، هممهم(7) هِمَمُ بهائمهم ما واروه في بطونهم، أو باشروه بفروجهم، أو لبسوه(8) على ظهورهم؛ بغيتهم إذلال الحق والمحقين، وشأنهم إظهار الفسق والفاسقين، ومعتمد أمرهم مكايدة(9) رب العالمين، فهؤلاء يرحمك الله ومثلهم، وأعوانهم وخدمهم، وأصحابهم وشكلهم؛ أولى بالمجاهدة والقتال؛ من نصارى بني تغلب الأنذال؛ لأن هؤلاء أضر بالإسلام وأهله وأنكى، ومن كان كذلك من العباد؛ فهو أولى بالجهاد لضرره على المسلمين والعباد.
فافهم ما ذكرنا من تفسير خبرهم، واجتزينا بالقليل من ذكرهم، فإن لك في ذلك كفاية وشفاء، ودليلاً على ما سألت عنه وجزاء.
[المعراج في اليقظة أو المنام]
وسالت عما روي من صعود رسول الله صلى الله عليه إلى السماء.
فقلت: أكان نائماً، أو يقظاناً؟
__________
(1) في (ب): في الكفر مما هو عليه.
(2) في (أ): ولم يأمروا.. ولم ينهوا.
(3) في (ب): متكبرين.
(4) في (أ): فمات الحق.
(5) في (أ): يرتجون.
(6) الطنبور: من آلات اللهو، معرب.
(7) في (ج): همتهم.
(8) في (أ): ولبسوه.
(9) في (أ): مكابرة.

(2/260)


وإذا صح ذلك وثبت فلا يكون نائماً أبداً، ولا يكون إلاَّ يقظاناً فهماً؛ لأنَّه إن كان كذلك فإنما أراد الله بإرقائه إلى السماء التعبير له والكرامة، وليُريه من عجائب خلقه، وعظيم فعله، ما حجبه عن غيره، ولم يكرم به سواه.
فإذا كان نائماً في ذلك كله؛ فلم ينتفع بشيء مما صعد إلى السماء له، ولم ير شيئاً مما ينتفع به؛ فلذلك استحال أن يكون نائماً كما قال من جهل.
[معنى: فكان قاب قوسين]
وسالت عن قول الله سبحانه: {فَكَانَ قَابَ قَوْسَينِ أَوْ أَدْنَى} [النجم: 9].
الجواب: أن الذي صار قاب قوسين أو أدنى هو جبريل صلى الله عليه، فكان في هذا الموقف قد دنى من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في صورته التي هو عليها مع الملائكة المقربين، حتى كان من الرسول قاب قوسين أو أدنى.
ومعنى {قَابَ قَوْسَينِ} فهو: مقياس رميتين بالقوس في الهواء، فدنى منه صلى الله عليهما حتى كان في الموضع الذي ذكره الله تبارك وتعالى فيه؛ {فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى}[النجم: 10] مما أرسله الله به من الأشياء.
فهذا تفسير ما عنه سألت من قوله: {قَابَ قَوسَينِ أَوْ أَدْنَى}.
[ما يجزي الأعجمي من المعرفة]
وسالت عن عجمي لا يحسن إلاَّ سورة أو سورتين من القرآن (فقلت)(1): هل يجزيه(2) إذا عرف أصل التوحيد؟
فلعمري إن ذلك مجزِ كاف؛ إذا أقام بالسورتين أو الثلاث ما أمره الله به من الصلاة بحدودها، وأدَّى ما أوجب الله من ركوعها وسجودها، وكان في ذلك موحداً لربه، عارفاً مع ذلك لعدله، مصدقاً لوعده ووعيده، عارفاً بالحق وأهله، تاركاً لمعاصي ربه، مؤدياً لفرائض إلهه؛ فإذا كان(3) كذلك فهو من المسلمين، وعند الله إن شاء الله من الناجين، ولم يضره عجمة لسانه، إذا أقام له قلبُه دعائم أديانه.
[ما يجزي المرأة من المعرفة]
__________
(1) في (أ): من عجمي.
(2) في (أ): هل يجوز.
(3) في (ب): كان ذلك كذلك.

(2/261)


وسالت عن النساء إذا عرفن الله وأدين الفرض؛ فقلت: هل يجزيهن ذلك عن تعليم(1) القرآن، وفرائض الله الرحمن؟
الجواب في ذلك أنَّه لا بد للنساء والرجال؛ من معرفة ما أوجب الله فرضه من الأعمال، وأوجب على الخلق القيام به من الأفعال، إلاَّ ما طرحه الله عن النساء من الجهاد، والسعي إلى الجمعة، وما أشبه ذلك من الأشياء، وأنه لا يجوز لهن التقصير عن معرفة ما أوجب الله عليهن معرفته، والعمل بما أوجب الله عليهن العمل به.
وعليهن أن يتعلمن ويتفهمن، ولا يجوز لهن أن يتعلقن بالجهل المنهي عنه، ولا يتمادين في شيء منه. تمت المسائل وجوابها، والحمد لله حمداً كثيراً، وصلواته على سيدنا محمد النبي وعلى آله الذين طهرهم من الرجس تطهيراً.
****
__________
(1) في (ج): تعلم.

(2/262)


جواب مسائل الحسين بن عبدالله الطبري(1)
m
قال يحيى بن الحسين بن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ذكرت حاطك الله وحفظك، ووفقك وسددك، أنَّه بلغكم وتناهى إلى بلدكم اسباب من فعلنا، وأمور من سيرتنا، التبس فيها على كثير من الناس الصواب، ولم يحضرك في كثير منها الجواب، فشنع من لا يفهمها، وأنكر علينا فيها من لا يعرفها، واستعجل بالظن السيء من لا يفقهها، حتى نسب صوابها إلى الخطأ، ونَيِّر حقها إلى العدا، فحشاً من قوله، وظلماً في حكمه، وبغياً في أمره، واستعجالاً بالسيئة قبل الحسنة، وبقول الخطأ قبل المعرفة، كأن لم يسمع الله سبحانه فيما يعيب على من فعل مثل هذا الفعال، وقال بالظن كما قال صاحب هذا المقال: {لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ}[النمل: 46]، فنعوذ بالله لنا ولك ولكل مؤمن من ذلك، ونستجير به من أن نكون كذلك.
وسنفسر لك إن شاء الله ما جهل فيه من جهل فعلنا، ونشرح لك من ذلك ما لم يقف عليه الطاعن في سيرتنا، حتى يصح لك ولهم في ذلك الصدق، ويتبين لك ولهم أن فعلنا هو الحق.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) في (ب): الحسن بن عبدالله، ولم أقف له على ترجمة ولاذكر في سيرة الإمام، والطبريون جماعة من طبرستان هاجروا إلى الإمام ووقفوا معه مواقف الأبطال، وثبتوا ثبوت الجبال، وكانوا يده الطيعة التي يصول بها على أعدائه، وساعده في حروبه على المتمردين عليه، مع بصيرة نافذة وإدراك ثاقب.

(2/263)


فما مثلنا ومثلهم، وخبرنا وخبرهم؛ فيما علمناه وجهلوه، وعرفنا مفاصل صوابه وعميوه، إلاَّ كمثل موسى وصاحبه صلى الله عليهما؛ العالم الذي اتبعه موسى على أن يعلمه مما علمه الله رشداً، فأعلمه أنَّه لا يستطيع معه صبراً؛ إذ ليس يعلم كعلمه، ولا يقف على ما يرى من فعله. فأخبره أنَّه لا يصبر إذا رأى منه شيئاً مما لا يعرفه؛ حتى يسأله ويبحثه، ويدخله الشك في فعله؛ فقال له موسى: {سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِراً وَلاَ أَعْصِي لَكَ أَمْراً}[الكهف: 69]، ثم لم يصبر لما رأى ما ينكره قلبه، حتى عاتبه فيه وسأله عنه. فكان أول ما أنكر عليه موسى عليه السلام خرق السفينة، فعظم ذلك في صدر موسى فقال له ما قال، فقال له العالم: {أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً}، فقال له موسى: {لاَ تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ وَلاَ تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْراً} فغفرها له، و{انْطَلَقَا حَتَّى إِذَا لَقِيَا غُلاَماً فَقَتَلَهُ}؛ قال له موسى: {أَقَتَلْتَ نَفْساً زَاكِيَةً بِغَيرِ نَفْسٍ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً نُكْراً قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيَعَ مَعِي صَبْراً قَالَ إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلاَ تُصَاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْراً فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا أتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُمَا فَوَجَدَا فِيهَا جِدَاراً يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ فَأَقَامَهُ قَالَ لَوْ شِئْتَ لاتَّخَذْتَ عَلَيهِ أَجْراً} يريد بهذا منه(1) ـ إذ هو خائف لا يؤمن سُقوطه ـ: تَأَجَّرت (2) في ذلك، فقال العالم لموسى: {هَذَا فِرَاقُ بَينِي وَبَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيهِ صَبْراً}[الكهف: 72 ـ 78] ثم أخبره بمعاني أفعاله، وصوابه في أعماله، التي كانت عند موسى منكرة
__________
(1) في هامش (ج): انهدامه.
(2) في (أ): فأجرت.

(2/264)


عظيمة، فاحشة كبيرة، وهي عند الله وعند العالم صواب، وعند موسى صلى الله عليه خطأ وارتياب، إذ لم يعلم وجه أمرها، ولم يقف على كنه خبرها، فيتضح له نيِّر صوابها، كما وضح لفاعلها؛ فقال فاعلها لموسى: {أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي البَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْباً} إلى قوله: {مَا لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً}[الكهف: 79 ـ 82].
وكذلك حال الإمام فيما شرحت وحال ما ذكرت ممن أنكر فعل الإمام؛ إذ لم يكن علمه كعلمه(1)، ولا حاله في المعرفة بالنازلات كحاله. وكيف يستوي المتفاوتان، أو يأتزن الرطل والرطلان، لا كيف؟! وفي ذلك ما يقول الله سبحانه: {هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الأَلْبَابِ}[الزمر: 9]، ويقول سبحانه: {وَفَوقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ}[يوسف: 76]، ويقول: {وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلاَّ العَالِمُونَ} [العنكبوت: 43]، ويقول سبحانه: {أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُوا الأَلْبَابِ}[الرعد: 19] ويقول سبحانه: {وَلَو رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلاَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاَتَّبَعْتُمُ الشَّيطَانَ إِلاَّ قَلِيلاً}[النساء: 83].
__________
(1) في (ب): عمله كعمله.

(2/265)


ومن لم يعرف ـ يرحمك الله ـ أمراً أنكره، ومن لم يقف على معنى شيء دفعه، ولوحسن يقين من أنكر فعل الإمام لم يعجل بالعيب في ذلك عليه، غير أن وسواس الشيطان، يتمكن في قلوب أهل الشك والريب من الإنسان. والشك والريب فلا يثبت معهما محض إيمان، ألا تسمع كيف يقول في ذلك الواحد الرحمن: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ}[الحجرات: 15]؟ فلم يحكم بحقائق الإيمان؛ إلاَّ لمن بعد منه الارتياب في وجوه الدين والإحسان. فنسأل الله الثبات على دينه، والتوفيق لما يرضيه برحمته.
[الزيادة على الحد للتأديب]
ذكرت ضَرْبَنَا من نضربه من بعد الحد الذي ألزمه الله تعالى إياه؛ فقلت: ما سبب هذه الزيادة من بعد تمام الحد؟
واعلم أكرمك الله أن الله سبحانه حكم على الأئمة وافترض عليهم حسن النظر للبرية، وأن تفعل في كل معنى مما ترجوا به الصلاح للرعية.
وهؤلاء القوم الذين ترانا نضربهم بعد الحد في أرجلهم ثلاثين وأربعين وعشرين؛ فهم قوم قد با يعوا على الحق، وأعطونا عقودهم(1) على الصدق، وعلى الأمر بالمعروف الأكبر، والنهي عن التظالم والمنكر، ثم نكثوا بعهودهم، وحنثوا في أيمانهم، فعملوا المنكر في أنفسهم، ورفضوا المعروف الذي يأمرون به غيرهم، وردوا الفسق بعد موته، وأحيوا المنكر في دار الحق بعد خموله.
فكان أقل(2) ما يجب على من نكث عهده، وحنث في يمينه التي أقسم فيها باسم ربه؛ أن يكون عليه في نقضه لعهده، وحنثه بقسمه؛ أَدَبٌ لما اجترأ به على ربه، وتمرد به في ذلك على خالقه، فأدبناه كما ترى غضباً لله، وانتقاماً لدين الله، وتنكيلاً له عن نقض العهود المعقدة، ورد الفاحشة بعد خمولها في دار الحق، وإظهار الكبائر والفسق.
__________
(1) في أ: عهودهم.
(2) في ب، ج: أول.

(2/266)


فهذا سبب أدبنا لمن نؤدبه بعد حد الله، وذلك الواجب على كل إمام في دين الله؛ أن يفعله بمن نقض عهده، ونكث بعد قسمه بالله. ألا تسمع كيف يقول الله سبحانه: {وَلاَ تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لأَيْمَانِكُمْ}[البقرة: 224]؟ أن يحلف المرء بالله كاذباً، أو ينقض لله عقداً. وما نهى الله عنه، ومنع عباده منه؛ فلا بد لكل من اجترأ عليه وفعله من الأدب، وإلا فلم يكن لنهي الله عنه معنى، ولا سبب.
فهذا حجتنا فيما عنه سألت من ذلك، فتدبر القول فيه يصح لك جوابه(1)، ويزول عنك شكه وارتيابه.
وكذلك ما ذكرت، وعنه سألت؛ من خرص النخل وحزرها(2)، وهذا أمر(3) لا ينكره مسلم، ولا يدفعه من كان لأحكام رسول الله صلى الله عليه وآله مسلماً؛ لأن الأمة كلها بأسرها ـ إلاَّ أن يكون الشاذ الضعيف العلم منها ـ مجمعة على أن رسول الله صلى الله عليه خرص وحزر ثمار المدينة وثمار خيبر، وكان يرسل في كل سنة عبدالله بن رواحة الأنصاري (4) فيخرص الثمار كلها، ثم يأخذهم بخرصها، ويحكم عليهم بما حزر فيها.
__________
(1) في أ، ج: صوابه.
(2) الخرص والحزر: التقدير.
(3) في (أ): وهذا الأمر.
(4) هو عبد اللّه بن رواحة بن ثعلبة بن امرئ القيس الخزرجي الأنصاري الشاعر، أحد السابقين، شهد بدراً، وكان ثالث الأمراء في غزوة مؤتة، وبها استشهد في جمادى الأولى سنة ثمان.

(2/267)


ونحن فكذلك فعلنا، وبه صلى الله عليه في ذلك اقتدينا، ثم احتطنا من بعد ذلك باستحلاف من أمرناه بخرص الثمار، فإذا أردنا أن نوجه قوماً يخرصونها من ثقات من نعلم، وأبصر من يفهم ويخرص الثمار، ممن قد جرب فهمه، وامتحن في ذلك نفسه، ثم امتحنه فيه غيره، حتى صح أنَّه أقرب أهل بلده إلى المعرفة بما وجهناه له من حرز التمر فيخرصه، ثم نستحلفه بأوكد ما يحلف به لتنصحنَّ، ولتجتهدنَّ، ولتحرصنَّ، ولتقصدنَّ الحق بجهدك، ولتحرَّيَنَّه بطاقتك، ولا تعمَّدنَّ لمسلم غشاً، ولا لمال الله وَكْسا (1)، ولئن شككت (2) في شيء من ذلك، أو التبس عليك، لتجعلن الحمل على أموال الله دون أموال عباده، ثم ننفذه فيما به أمرناه، فيجتهد ويحرص، ويكتب ما يحزر، ويخرص (3)، فإن شكا أحدٌ من الناس بعد ذلك غبناً فيما خرص عليه وحزر؛ استحلفناه على ما أتى من ثمره وصدقناه، وأخذنامنه على ما حلف عليه وتركناه.
وكذلك قد نخير من خرصنا عليه نخله؛ فنقول: إن شئت فخذ بما قد خرصنا، وإن شئت أخذنا وأوفيناك حقك على ما خرصنا وقسمنا. فهل على من فعل ذلك حيف وجور، أو تحامل في شيء من الأمور؟ أم على من اقتدى برسول الله صلى الله عليه مطعن في مقال من المقال، أو تعنيف (4) في فعل من احتذى به فيه كائناً ما كان من الأفعال؟ كلا وفالق الإصباح، ومجري الرياح؛ أن من كان كذلك لبعيد من الخطأ في كل ذلك. وليس يلزم أهل العلم فيما يفعلون من الفعال(5)؛ إنكار من لا علم له من أهل الجهل، وإنما قول العلماء؛ هو الحاكم على أقاويل الجهلاء، وليس أقاويل الجهلاء بأهل أن يحكم بها على العلماء. والحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، وسلام على المرسلين.
[أخذ المال غير الواجب للاستعانة في الجهاد]
__________
(1) الوكس: النقص.
(2) في ب: ولاسلكت.
(3) في ب: من يحزر ويخرص ثمره.
(4) في أ: أو تعسف.
(5) في ب: من الأفعال.

(2/268)


ومما سألت عنه وأحببت الجواب فيه؛ ما كان من مجيء كبراء أهل صنعاء إلينا ومشائخهم، وما سألونا من التقدم إليهم والمصير إلى بلدهم، فاخبرناهم بقلة ذات اليد، وأنا لا نطيق الإنفاق على العسكر(1)، ولا نجد إلى ذلك سبيلاً، فذكروا أنهم يعينون ويجتهدون، وأن أهل البلد على ذلك مجمعون.
فلما صرنا إليهم كتب على الناس على قدر طاقتهم، بل دون طاقتهم ودونها ، فكتب على صاحب العشرة آلاف مائة، وعلى صاحب العشرين ألفامائتان، وعلى صاحب الخمسين ديناران، وعلى صاحب الثلاثين دينار. وشبيهاً بذلك. فكلهم إلى ذلك مُسارع، وكلهم رأى فيه المنفعة لنفسه في ماله وحرمته.
وقد علمت كيف كان فعل أمير المؤمنين علي بن أبي طالب صلوات الله عليه حين دخل البصرة بعد حرب طلحة والزبير، فوجد في بيوت الأموال من أهل البصرة مالاً كثيراً؛ من الفيّ الذي هو للصغير والكبير، والمرأة والرجل، والطفلة والطفل، فدعا كبراء البلد ووجوه أهله؛ ثم قال لهم: إن في بيت مالكم مالاً، وبأصحابي حاجة شديدة، فأَطْلِقُوا لي حتى أقسمه على أصحابي دونكم، ففعلوا وأطلقوا له قسمه على أصحابه دونهم، فقسمه على أصحابه؛ فوقع لكل إنسان منهم خمسمائة درهم قفله. ولم يدع أوساط الناس، ولا النساء ولا الصبيان، ولا كل من يملكه، واجتزى برأي كبرائهم، إذ كان في ذلك صلاح لهم، ومنفعة لبلدهم، وعايدة في العاقبة عليهم، فافهم هذا المعنى.
وسنشرح لك في ذلك حجة أخرى قوية، نيَّرة بينة عند أهل العلم والفهم واضحة.
__________
(1) في ب: العساكر.

(2/269)


نحن نقول وكل ذي فهم وبصيرة من العلماء: إن الإمام المحق، العادل المستحق، له أن يأخذ من المسلمين العفو من أموالهم، اليسير الذي لا يضرهم، فيرده على صلاحهم وصلاح بلدهم، ويدفع العدو الفاجر عن أموالهم وحرمهم ودمائهم، أحبوا أم كرهوا، أطاعوا أم أبوا، ثم نقول: إن ذلك من حسن النظر لهم، الذي لا يجوز له عند الله غيره، إذ لا يجد منه بداً، ولا عن أخذه مندفعاً، وإلا لم يكن إلاَّ انفضاض عسكره، وهلاك المجاهدين الذين معه، أو أخذ ما يأخذ من رعيته؛ لأنَّه إن قصر في ذلك انفض العسكر، وافترقت الجماعة، فذل الإمام والمؤمنون، وهلكت الرعية المستضعفون، وقوي عليهم الأعداء الفاجرون، وملكتهم الجبابرة الطاغون، فأخذوا الأموال، وقتلوا الرجال، وأهلكوا الأطفال، (واصطلموا الأموال) (1)، ومات الحق، وظهر الباطل والفسق. هذا ما لا يحل(2) لإمام الحق أن يفعله، ولا يجوز هذا إلاَّ لإمام حق، مستحق بموضع الإمامة، نافذ حكمه في الأمة، حاكم بالكتاب والسنة؛ لأن في فعله ذلك نجاة للمسلمين، وفي تركه له هلاك جميع المؤمنين.
وإذا كان ذلك كذلك، فأَخْذُ جزء من أموال المسلمين فرض عليه في ذلك، فإن قصر فيه فقد شرك مهلكهم في هلكتهم، ولم يحسن النظر لهم، وكان قد تحرى في تركهم صلاحاً ورشداً، فوقع من ذلك في هلكة وارتكب إدّاً (3).
وسنضرب لك في ذلك أمثالاً(4)، ونقول فيه بالصواب إن شاء الله مقالاً؛ يصح رشده لكل ذي لُبِّ وعلم، ويتبين صدقه لكل ذي تمييز وفهم.
__________
(1) سقط من (أ، ج).
(2) في (أ): ما يحل. وكلاهما صحيح مع توجيه اسم الإشارة.
(3) الإدُّ: الداهية، والأمر الفظيع.
(4) في أ: مثالاً. وفي ج: الأمثال.

(2/270)


ما يقول من أنكر علينا ذلك في نفسه؛ لو كان في قرية من قرى المسلمين، وكان أمره فيها نافذاً وحكمه جارياً، وقوله(1) فيهم جائزاً ماضياً، ثم دلف (2) إليه طاغية من طواغي المشركين، أو طاغوت من طواغيت الباغين، ليقتل رجالها، ويسبي نساءها، ويأخذ أموالها، ويخرب ديارها، فوجد هذا الإنسان الرئيس عليها، النافذُ أمره فيها؛ أعواناً يدفع بهم عن القرية ما قد غشاها، ويزيح عنها من الهلكة ما قد أتاها(3)؛ أكان الواجب (4) عليه في حكم الله، وفيما يحب للمسلم على المسلم أن يأخذ من أموالهم طرفاً يقوت (5) به هؤلاء الذين يدفعون عنهم، حتى يسلموا من الهلكة؟ أو يخليهم حتى يهلكوا، ويُستباحوا ويقتلوا؟
فإن قال قائل: بل يخليهم فيقتلوا قبل أن يأخذ منهم يسيراً يحميهم(6) به؛ فقد أساء في القول، وجار في الحكم، وخالف الحق؛ لأن الله سبحانه يقول في كتابه: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى البِرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالعُدْوَانِ}، ومن فعل ذلك فقد أعان على الإثم والعدوان، وترك المعونة على البر والتقوى.
وإن قال: بل الواجب علي أن آخذ منهم ما أدفع به عنهم، أحبوا أم كرهوا، وأقيم فرض الله علي فيما يلزم للمسلم على المسلم، ولا أنظر إلى قولهم، إذا أبو النظر لأنفسهم، واستدعوا الهلكة إليها؛ إذكنت مقلداً لأمرهم، بنفاذ أمري وحكمي عليهم؛ فقد أصاب في قوله واحتذا، وسلك الطريقة المثلى، فهذه حُجَّة أخرى.
ومن الحجة في ذلك على من أنكره، وقال بغيره ورفضه، أن يقال له:
__________
(1) في أ، ج: وحكمه وقوله.
(2) دلف الشيخ: مشى وقارب الخطو، ودلفت الكتيبة: تقدمت.
(3) في (أ) ما أتاها.
(4) في أ: فإن الواجب، والصواب ما أثبت.
(5) في أ: يقرب.
(6) في أ، ج: يحييهم.

(2/271)


خبرنا عنك؛ لو سرت في قافلة من قوافل المسلمين، وأمرك فيهم نافذ، فوجدت في بعض الطريق قوماً قد قطع بهم، وأخذ ما معهم، وتركوا مطرَّحين(1) جياعاً عطاشاً عراة، لا يطيقون مشياً، إن تركتهم ماتوا، وإن حملتهم نجوا، وإن أطعمتهم وسقيتهم حيوا؛ أليس كان الواجب عليك في حكم الله أن تأخذ لهم من أهل الرفقة قوتاً يحييهم، وتلزمهم لهم المعاقبة على رواحلهم (2)، حتى يلحقوا بالقرى والمناهل، أولا تأخذ لهم منهم قوتاً ولا ماء ولا مركباً، فيموتوا كلهم، ويهلكوا بأجمعهم؟
فإن قال قائل: بل أتركهم يموتون؛ فقد شرك في قتلهم، وقال بالمنكر من القول فيهم، الذي ينكره عليه الجهال، فضلاً عن العلماء من الرجال. وإن قال: بل أحمل أهل القافلة على أن يواسوهم بما لا يضرهم في الطعام والشراب، والمعاقبة على الركاب؛ فقد قال بحق من المقال، وانتحل(3) صواباً من الفعال، وأدى حقوق الله وحقوق المسلمين، ونجا من قتل إخوانه أجمعين.
ألا تسمع كيف يقول الله سبحانه: {مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً} [المائدة: 32] فحكم الله علىكل مسلم بإزاحة الهلكة عن المسلمين بجهده وطاقته.
فكذلك يجب على الإمام أن يواسي بين المهاجرين والأنصار، وبين الرعية من أهل الدار، ولا يترك المهاجرين، المدافعين عن المستضعفين، الدائمين المقيمين لدعائم الدين؛ يهلكوا (4) جوعاً بين أهل الأموال والجِدة (5) من المسلمين.
ومن فعل ذلك كان على أحد وجهين:
إما افترق عنه المجاهدون إذا اشتد عليهم البلاء، ولم يجدوا قوتاً لأنفسهم ممسكاً.
__________
(1) في (ب): مطروحين.
(2) يعني أن يركب كل منهم عقيب الآخر.
(3) في (ب): وانحل.
(4) في (أ): يهلكون.
(5) الجِدَة: السعة والغنى.

(2/272)


أو صبروا فهلكوا وماتوا جمعياً معاً، ضراً وحرناً وجوعاً،، فهلك بهلكتهم الإسلام، واجتيح(1) بعدهم الأنام، وكان في ذلك كله آثماً، وللمجاهدين في الله وعلى دينه ظالماً.
فافهم هداك الله ما به قلنا، وفي ذلك احتججنا؛ فإن الحجج في ذلك تكثر لو بها نطقنا(2)، ويسير ذلك يغني عند أهل العقل عن كثيره، ويُجتزى عن الكثير فيه بيسيره.
[العشر: هل يجوز لآل رسول الله؟]
وسالت عن العشر (فقلت)(3): هل يجوز لآل رسول الله صلى الله عليه وعلىآله؟
والقول في ذلك: أنَّه لا يجوز لهم أكله، ولا استحلاله، ولا الإنتفاع بشيء منه، إلاَّ أن يشترى بأغلى الثمن وأوفاه، فيكون حاله كحال غيره من أموال المسلمين التي يحرم على المسلمين استحلالها وأكلها، وتحل لهم إذا اشتروها بالأثمان.
وكذلك يجوز للأئمة أن يشتروا الأعشار من جُبَاتِها وعُمالها بأغلى ما تباع في أسواقهم، وتحتاط في ذلك على أنفسها لهم. وكذلك في الأعلافِ من التبنان والقصبان(4)، لا تأخذ منه شيئاً إلاَّ بثمن فوق ما يباع في السوق، يحاسِبون على ذلك العمال، ويوفونهم الأثمان في كلّ حال.
فعلى هذا تجوز الأعشار للأئمة ولجميع آل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا اشتروها شراءً قاطعاً، كما يجوز لهم أكل مال اليتيم إذا اشتروه بشراءٍ منقطع.
فأما أن يأكله أحد من أهل بيت رسول الله لا يؤدي له ثمناً، ويعتقده حلالاً؛ فمن فعل ذلك فهو على غير دين الإسلام، وعلى غير شرائع دين محمد عليه السلام.
__________
(1) في (أ، ج): وأجيح.
(2) في (ب): يكثر كونها ويسير ذلك.
(3) سقط من (أ).
(4) يعني التبن والقصب.

(2/273)


بل قولنا إنَّا نتبرأ(1) إلى الله ممن استحل العشر من آل رسول الله، وقال: إنَّه حلال له من غير آل رسول الله. بل لو أن رجلاً من آل رسول الله ألجئ إلى أكل العشور استحلالاً أو إلى أكل الميتة إذا كان مضطراً؛ لرأينا له أن يأكل الميتة قبل أن يستحل ويستبيح شيئاً من العشور(2).
ثم أقول: والذي نفس يحيى بن الحسين بيده لو اضطررت إلى أن آكل جفنة مملؤة خبزاً ولحماً من العشر وأنا له مستحل مستبيح، لم أشتره بثمني، أو أدفع فيه نقدي؛ أو أن آكل من الميتة ما يمسك نفسي، ويدفع عن هلكتي؛ لأكلت من الميتة قبل أن آكل من لحم العُشُر وخبزه؛ لأن الله سبحانه قد أطلق لي أكل الميتة عند الضرورة وخوف الهلكة، ولم يطلق لي استباحة العشر ولا استحلاله في حالةٍ مَّا. فأما إذا اشتريت العُشُر شراءً صحيحاً ثابتاً، ودفعت فيه مالي ونقدي، حل لي، وطاب أكله بشرائي له، كما يحل لي مال اليتيم إذا اشتريته، ومال المسلم إذا ابتعته.
فافهم هذه الخلة التي يجوز فيها الأعشار لآل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، والحالة التي لا يجوز لهم أكلها، ولا الانتفاع بشيء منها.
وقد يجوز له بحالة أخرى، وهو أن يأخذ منها بعضُ أهلها المستحقين لها من سائر المسلمين شيئاً فيهدون بعضه إلى آل رسول الله صلى الله عليه وآله، ويدعونهم إلى طعام من أعشار الصدقة فيجيبونهم، فيجوز لهم أكله، إذا أجازه لهم أهله، فيكون أخذ المسلمين له باستحقاق ووجوب، ويكون قبول آل رسول الله صلى الله عليه له منهم ـ أن أهدوه(3) إليهم ـ قبولاً لهدية إخوانهم المسلمين، مما أطعمهم إياه وأجازه لهم رب العالمين.
فقد حل لهم بهذا المعنى وفي هذا الوجه، حين خرج من معنى الصدقة، وصار من أخيهم المسلم ـ الذي قد ملكه ـ إليهم هدية.
__________
(1) في (ب): تبرأنا.
(2) في (أ، ج): من العشر.
(3) في (ب): أن أخذوه.

(2/274)


وفي ذلك ما يروى عن النبي صلى الله عليه وعلى آله: أنه دخل على عائشة، فوجد عندها تمراً، فقال: (( من أين لكم هذا؟ قالت يا رسول الله صدقة تُصُدق بها على برّيرة(1)، فقال: هو عليها صدقة، ولنا منها هدية، فقدمته بريرة إليه فأكل منه )) .
فعلى هذا الباب قولنا به في هدايا المسلمين، إلى آل رسول رب العالمين، مما جعله الله للمسلمين حلالا من صدقات إخوانهم المؤمنين.
فافهم هديت ما عنه سألت، وقف على هذه الوجوه فقد أكملت لك فيها كل ما طلبت، مما يجوز لآل رسول الله صلى الله عليه من صدقات المسلمين، وأوساخ أيدي المتصدقين، وأعلمتك بأي سبب يحل لهم، وفسرت لك متى يجوز لهم به أكلها، والمعنى الذي يدخل في ذلك حتى يحل لهم من بعده.
[تصرف الأئمة في قسمة الأعشار وغيرها إعطاء ومنعاً]
وسالت عن المعنى الذي يجوز لهم(2) به قسم الزكاة على أصنافها، وتسليم ربعها إلى الفقراء والمساكين، وقلت: كيف كنت في أول الأمر تقسم ذلك على أهله، وأنت اليوم ربما قسمت، وربما لم تقسم، وربما أعطيت، وربما لم تعط ؟ فقد تكلم بعض من تكلم، ورأيتهم ينكرون عليك في بعض الأوقات إذا لم تقسم.
وقد سألتَ فافهم (3)، وإذا فهمت فاعلم، أن من لم يعرف شيئاً أنكره، ومن لم يعرف حقيقة أمر عَظَّمه.
أما علمت إن جهلوا، وفهمت إن غفلوا: أن رسول الله صلى الله عليه وآله لما أن أتاه مال من البحرين، يقال: إنَّه ثمانون ألف أوقيّة من أعشار البحرين ومن جزية ذمتها، ومن صواف كثيرة كانت بها؛ فقسم الثمانين ألفاً(4) في مجلسه على جلسائه، يعطيهم غرفاً غرفاً، وكفاً كفاً، حتى لم يبق من ذلك شيء؟ وذلك أنَّه صلى الله عليه وعلى آله وسلم علم أن ذلك أصلح للإسلام في ذلك الوقت، من القسم على السهام الثمانية.
__________
(1) في (أ): برّيرة: مولاة عائشة، صحابية مشهورة، عاشت إلى زمن يزيد.
(2) في (ب): لايجوز به قسم.
(3) في (أ): وسألت عن ذلك فافهم.
(4) في (أ): الثمانين الف.

(2/275)


وكذلك فعل في غنائم حنين(1)، وهب للمؤلفة قلوبهم من خمسين بعيراً إلى مائة بعير إلى مائتين إلى ثلثمائة، وحرم المهاجرين والأنصار في ذلك الوقت؛ حتى تكلم من تكلم من الأنصار، فكان منه من الفعل ما قد بلغك، وذلك فلم يفعله صلى الله عليه إلاَّ للصلاح الذي رآه، فأمضى رأيه في الغنائم، ولم يقسمها على أهلها، نظراً منه عليه السلام؛ للمسلمين والإسلام.
وكذلك كان فعلنا في العشر، نقسمه مرة، ونتركه مرة، نتحرى في ذلك الإصلاح للإسلام إذا رأيناه، وبان لنا وعرفناه، وإذا استغنى الإسلام والمسلمون، وقلت حاجتنا إلى هذه الأعشار، قسمناها على أصنافها، أو من وجدنا منهم. وإذا احتاج المسلمون والإسلام إليها؛ آثرناهم بها على أهلها، نظراً منا لهم، ومعرفة بأن ذلك أرجع في كل الأمور عليهم.
__________
(1) في (أ): خيبر. وما هنا أثبته من نخ.

(2/276)


وذلك أن الدار لا تصلح إلاَّ بالجيوش والأنصار، والخيل والرجال، ولا تقوم ولا تجتمع إلاَّ بالأموال. فنظرنا فإذا بالبلد الذي نحن فيه ليس فيه شيء غير هذه الأعشار، وإن نحن ـ عند حاجة المهاجرين والأنصار إلى القوت، وما به تدفع الهلكة والموت، من دفع هذه الأعشار التافهة إليهم، وردها دون الأصناف عليهم ـ دفعناها إلى المساكين، وغيرهم من الأصناف المذكورين؛ هلكت الجنود المجندة، وتبددت الجماعة المجتمعة، وافترق المهاجرون، وذل المسلمون، ووقعت البليَّة، وعظمت المصيبة، وشملت الفتنة، ولم تضبط البلاد، ولم يصلح أحد من العباد، وعلا الظالمون، وخمل المؤمنون، وبطل الجهاد، وخربت البلاد، وشمل البلاء، وذل الأمر والرجاء، فهلك في ذلك الضعفاء، وشحَّ الأغنياء، ومات الفقراء، ووقع الضياع، وكثر الجياع. وعلمنا أنا إن آثرنا بها من به قوام الدار، من أهل الإسلام من المهاجرين والأنصار، استوسقت السبل(1) وأمنت البلاد، وعاش العباد، وتجر التجار، وعمرت الديار(2)، وزرع الزارعون، وتقلب المتقلبون، واستغنت الرعيّة، وحسن حال البرية، فعاش بينها(3) أهل الصدقة من هؤلاء الأصناف المذكورين، وسخا الأغنياء بالعطية للطالبين، وتقلب الفقراء والمساكين؛ في دار الأغنياء الواجدين، وتكسبوا معهم، وأصابوا من فضلهم، وحسنت بصلاح دارهم حالهم(4)، واستقامت لِعِزّ الإمام أمورهم.
__________
(1) في (ب): السبيل.
(2) في (أ): البلاد.
(3) في (ب): منها.
(4) في (أ): لصلاح حالهم، كذا. وما أثبت أولى.

(2/277)


فلهذا المعنى قسمنا الصدقة عند ما يستغني عنها الإسلام والمسلمون، وحبسناها عند ما يحتاج إليها ويضطر الأنصار والمجاهدون؛ نظراً منا للرعية، واحتياطاً في الحياطة للبرية، وأداء إلى الله سبحانه النصيحة لعباده، وإحساناً وأداء إليه ما استأمننا عليه من الأموال(1) في بلاده، فصرفناها في إصلاح الدين والمسلمين، ورددناها على الأصناف من المسلمين حيناً (2)؛ اجتهاداً لله في النصيحة، وتأدية منا إليه ما حملنا من الأمانة؛ إذ كُنَّا عن ذلك مسؤلين، وبإحسان النظر للإسلام والمسلمين مأمورين، وعن التفريط فيما يصلح البلاد مَنْهِيِّين.
وسأضرب لك ـ إن شاء الله ولمن عقل صواب رشدنا ـ قولاً ومثلاً، يبين لك حقائق علمنا، فليس كل متكلم مصيباً في قوله، ولا كل منتحل للعلم عالماً(3) بكل ما يحتاج إليه، {وَفَوقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ}[يوسف: 76]، ومن طعن بغير علم على أولياء الله كان آثَمُ أثِيمٍ:
__________
(1) في (أ، ج): من أموال بلاده.
(2) في (ب): حيثما كانوا.
(3) في (أ): عالم لكل. كذا

(2/278)


ما يقول وما يذهب إليه الطاعن علينا بما لا يعلم متأول(1): في رجل متول لأمورِ أَيتامٍ تحت يده، مسكنة صغار؛ من ضَعَفَةٍ لهم أرض بعضها أعنابٌ، وبعضها حرث، فاستغل لهم من ذلك العنب زبيباً؛ ثم حدث في العنب والحرث حدث من سيل؛ فأخرب الحرث، أو نارٍ أحرقت العنب وخشبه، أكان الواجب عندك في دين اللّه وفرضه، وما حكم على ولي اليتامى من حكمه؛ أن يصلح حرثهم وعنبهم بما قد أخذ من الثمر قبل خراب الحرث والعنب، وينفقه ويرده عليه؛ ولو مدوا أيديهم لطلب الصدقة، وبَدَتْ منهم في تلك السنة الخصاصة والحاجة، حتى يصلح عنبهم إذا رد فيه ما احترق من خشبه، وتصلح أرضهم إذا عمرت؛ فتغل(2) أرضهم وعنبهم في كل سنة من بعد صلاحه ما يعيشون به، ويرجع نعيمهم إذا رجعت غلتهم، ويكمل حُسن حالهم بصلاح أموالهم؟ أم يترك أرضهم وعنبهم خراباً، ويخليها فاسدة يباباً(3)، وينفق الغلة التي أنفقها في صلاح ما لهم عليهم؛ فيأكلونها سَنَتَهم، ويهلكون في طول عمرهم؛ إذ قد خربت أموالهم؟
فإن قلت: ينفق عليهم هذه الغلة وتخرب أموالهم، فقد قلت قولاً شططاً، وحكمت في ذلك بغير الحق حكماً؛ إذ لم تحسن لهؤلاء الأيتام نظراً، ومن لم يحسن النظر لأيتامه؛ فقد باء عند الله بعبء آثامه(4)، وشهد عليه جميع الرجال؛ بالقول الفاحش والمحال.
وإن قلت: بل يعمر ضياعهم، ويُحْيي أموالهم؛ بهذه الغلة اليسيرة؛ ليلحقوا بذلك في أموالهم المعيشة الكثيرة، الدائمة الكافية الغزيرة؛ فقد أصبت في قولك، وقلت حقاً في حكمك، وفعلت ما يُصَوبك فيه الجهلاء، فضلاً عن أهل العقول من العلماء.
فإذا قلت بذلك من الحق، وتكلمت فيه بقول الصدق؛ فكذلك فقل في فعلنا في بلاد رعيتنا، ومواضع ضعفتنا.
__________
(1) كذا في النسخ.
(2) في (أ، ج): فيعمل. وظنن في ج بما أثبت من (ب).
(3) الأرض اليباب الأرض الخراب.
(4) في (أ): من الله بعبء آثامه.

(2/279)


ألا ترى أنا لو قسمنا هذه الزكاة على أهلها، في وقت الحاجة حاجة الإسلام والمجاهدين إليها، ونزول الخصاصة بالمدافعين عن أهلها، فافترقوا عنا، وانتزحوا من قربنا؛ فوقع الضعف على الإسلام والمسلمين؛ لِمَا وقع من الخصاصة بالمجاهدين، وقوي بذلك أهل الضلال من المضلين؛ ففسد أمر الرعية، واختلفت أحوال البرية، ووقع الضياع عليهم، وكثر الجياع، واختلفت أمورهم، وساءت أحوالهم، وشح بالمعروف أغنياؤهم؛ فهلك لذلك فقراؤهم،، وخافت سُبُلهم، وخربت أموالهم، وظهر عليهم أعداؤهم؟
وإن نحن رددنا زكاة الأمصار؛ على المجاهدين والأنصار؛ دون أهلها من هذه الأصناف المذكورة، ووقت(1) ما تنزل بالمجاهدين الحاجة والضرورة؛ قوي الحق، وضعف الفسق، وعاش في الدار المستضعفون، وجاد بالمعروف الأغنياء، واستغنى في دار معروفهم الفقراء، وأمنت سُبلهم، وحسنت حالهم، وزال ضرهم.
فهذا والمثل الذي ضربناه أولاً سِيَّان، في القول والمعنى اثنان، والحمد لله على الحق والإستواء. فأفكر فيما ذكرت لك بِلُبِّك، وانظر فيه إذا نظرت بخالص مركب عقلك، يبن لك في ذلك الصواب، ويَزُلْ(2) عنك فيه الشك والارتياب.
[طريق الإمامة وصفات الأئمة]
وسالت عن إثبات الإمامة في الإمام من آل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؛ فقلت: بم تثبت له؟ أبعقد الناس وإجماعهم عليه؟ أم برواية رويت عن الرسول فيه؟ أم بغير ذلك؟
واعلم هداك اللّه بأن الإمامة لا تثبت بإجماع الأمة، ولا بعقد بريَّة، ولا برواية مروية. ولكن تثبت لصاحبها بتثبيت الله لها فيه، وبعقدها في رقاب من أوجبها عليه، من جميع خلقه، وأهل دينه وحقه.
__________
(1) كذا ولعلها وقت.
(2) في (ب، ج): ويزول، وما هنا في هامش ج نخ.

(2/280)


وذلك قول الله سبحانه: {أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ}[النساء: 59] وأولوا(1) الأمر الذين أمروا بالكينونة معهم؛ فهم: الصادقون بادعاء الإمامة، وهم المستوجبون لها، والمستحقون لفرضها.
وهم من كانت فيه الصفات التي تجب له بها الإمامة؛ من ولادة الرسول، والعلم، والدين، والزهد، والورع، والمجاهدة لأعداء الله، مَنْ كَشَف رأسه، وسَلَّ سيفه، ونشر رايته، ودعى إلى الحق وعمل به، وزاحف الصفوف بالصفوف، وأزلف الألوف إلى الألوف، وخاض في طاعة الله الحتوف، وضرب بالسيوف الأنوف، وأقام حدود الله على من استوجبها، وأخذ أموال الله من مواضعها، وصرفها في وجوهها، وكان رحيماً بالمؤمنين، مجاهداً غليظاً على الكافرين والمنافقين، مَعَهُ عَلَمُه ودليله، والعلم والدليل: الكلام بالحكمة، وحسن التعبير والجواب عند المسألة، والفهم لدقائق غامض(2) الكتاب، ولدقائق غيره من كل الأسباب، التي يعجز عن استنباطها غيره، ويضعف عن تثبيتها سواه.
__________
(1) في (ب): وأولي، وهي على الحكاية.
(2) في (أ) لغامض دقائق.

(2/281)


فمن كان في الصفة كما ذكرنا، وفي الأمر كما قلنا؛ فهو الإمام الذي عقد الله له الإمامة، وحكم له على الخلق(1) بالطاعة، فمن اتبعه رشد واهتدى، وأطاع الله فيما أمر به واتَّقَى، ومن خالفه فقد هلك وهوى، وأفحش النظر لنفسه وأساء، واستوجب(2) على فعله من الله العذاب الأليم، والخلود في الهوان المقيم، {أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كَانَ فَاسِقاً لاَ يَسْتَوُونَ أَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَأْوَى نُزُلاً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْوَاهُمُ النَّارُ كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا أُعِيدُوا فِيْهَا وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ}[السجدة: 18 ـ 20].
[المعنى الذي تجب به الإمامة والطاعة ويجوز جهاد المخالف]
وسالت(3) يا أبا عبد الله حفظك الله، ووفر في الخيرات حَظَّك؛ عن المعنى الذي وجبت به لنا على الخلق الطاعة، ووجب به علينا جهاد من أَبْدى لنا المعصية، وثبتت به لله سبحانه في ذلك علينا الحجة، حتى حكمنا بالهلكة على المتجانفين(4) عن دعوتنا، وبالنجاة للمسلِّمين لأمرنا، الساعين في طاعتنا، حتى سمينا من قتله الظالمون منَّا شهيدا، وحكمنا له بالوعد الذي وعد الله الشهداء، وسمينا من قتلْنا نحن من الظلمة كافراً متعدياً، وحكمنا عليه باستحقاق الوعيد من الله العلي الأعلى.
__________
(1) في (ب): على الحق.
(2) في (ب): واستحق.
(3) في (أ، ج): مسألة أجاب عنها أيضاً عليه السلام في الإمامة، وهي آخر مسائل الحسين بن عبد اللّه الطبري: بسم اللّه الرحمن الرحيم سألت..الخ.
(4) في (ب): المجانفين. وفي (ج): المخالفين.

(2/282)


وهذا أكرمك الله فقد وجب لنا على أنفسنا السؤال عنه، والبحث لها فيه، عند ما دعتنا إليه؛ من دعاء الخلق إلى طاعتنا، والمناداة إلى إجابتنا(1)، وضرب أعناق المحاربين لنا، وأخذ أموالهم، واستباحة ديارهم.
فسألناها فقلنا: ما الذي وجب لكِ به ذلك؟
فكان من جوابها لنا، عندما احتجنا إليه من علم ذلك منها، أَنْ قالت: وجب لي ذلك بما وجب للأئمة من قبلي، من لدن القاسم بن إبراهيم عليه السلام، ومن تقدمه من الأئمة القائمين؛ الذين كانوا حججاً لله على العالمين، سواء سواء.
فقلنا لها: فَبِمَ أوجبتِ(2) لأولئك صلوات الله عليهم الطاعة على الخلق؟
فقالت: بوجوب الإمامة التي عقدها الله لهم بأحق الحق، وأصح القول والصدق.
فقلنا لها: وَبِمَ عقد الله سبحانه الإمامة لأولئك؟ وبأي معنى كانوا صلوات الله عليهم عند الله عزَّ وجل كذلك؟
فقالت: بولادة الرسول صلى الله عليه وآله(3)، وبمعرفتهم بذي الجلال والإكرام، وبالورع الذي جعله قواماً للإسلام، وبالمعرفة بالحلال عند الله والحرام، وبما يحتاج إليه في الدين جميع الأنام، وبأخذ الحق وإعطائه، وبِقِلَّة الرغبة في الدنيا، والزهد في دار الفنى، والرغبة والمحبة لدار البقاء(4)، وبكشف الرؤوس، وتجريد السُيوف، ورفع الرايات لله وفي الله عزَّ وجل، والمنابذة لأعداء الله، وبإظهار الدعاء إلى الله، والغضب لله والرضى، وإقامة الدار، والدعاء إلى الله الواحد القهار، وإحياء الكتاب والسنة، وإقامة الحق والعدل في الرعيّة، والإطلاع على غامض كتاب الله ووحيه، الذي لا يطلع عليه إلاَّ من قلده الله السياسة، وحكم له بالإمامة دون غيره، فآتاه الحكمة، وخصه بالفضيلة، وأكمل له النعمة، وجعله له على الخلق حجة، وبالشجاعة عند اللقاء، والصبر في البأسآء والضرآء، والجود والسخاء، مع النصفة للأولياء.
__________
(1) في (ب): والمبادر.
(2) في (ب): وجبت.
(3) يعني بكونهم من أولاد الرسول.
(4) في (ب): والرغبة في دار.

(2/283)


فصدقناها فيما احتجب به من الأمر الذي تجب به من الله سبحانه الإمامة لأهلها، ويتأكد لهم به من الله عزَّ وجل فرض الطاعة على خلقه.
فلما أن أجمعنا نحن وهي على أن من كانت فيه هذه الخصال، وثبت له ما ذكرنا في كل حال، فقد وجبت له بحُكم الله الإمامة، وتأكدت له بفرض الله على الخلق الطاعة، أوجبنا على أنفسنا المحنة؛ فامتحناها فيما أجمعنا نحن وهي وغيرنا عليه من الشروط التي تجب بها الإمامة، وتثبت بها لأهلها على الخلق الطاعة. فلم نَجِدها ولله الحمد عن ذلك منصرفة، ولا منه مُعوِزَة، بل وجدناها به قائمة، وبالتسمية(1) به مستحقة؛ فأجبناها إلى ما دعتنا إليه، وأعنَّاها بكليتنا عليه، فصدقناها ولله المنُّ بعد المحنة به.
ولك يا أبا عبد الله أكرمك الله علينا من الحجة، والسؤال والمحنة؛ مثل الذي كان لنا على أنفسنا، فانظر في ذلك معنا، بمثل ما نظرنا نحن مع أنفسنا، فإن وجدت ما وجدنا، وشهد عقلك لك في أمرنا بمثل ما شهدت به عقولنا لأنفسنا؛ فقد حق لك ما طلبت، وصح لك ما عنه سألت، وجاءتك من نفسك البينات، وأنارت لك في ذلك النيّرات.
وإن لم تجد الشروط التي نشهد نحن وأنت وكل المسلمين بأنها شروط الأئمة الهادين، المفترضة طاعتهم، والمحرّمة معصيتهم، كنت على بينة من أمرك، ورخصة من فرضك(2)، وراحة من تعبك.
واعلم هداك اللّه أن الإمتحان والنظر لا يكون إلاَّ بالنصفة من المتناظِرَيْن، وطلب الحق في ذلك من المتسائلَين،وقبول الحق عند ظهوره، وأخذه بأفضل قبوله. ونحن أكرمك الله لكل ذلك باذلون، وإليه لك مسرعون، وله منك مُحِبُّون.
فهذا الباب الذي وجبت به إمامة كل إمام(3)، على جميع من تقدم من أهل الإسلام، وبه تجب إمامة من بقي من أئمة الهدى، إلى آخر أيام الدنيا، ولن تجب إمامة إمام أبداً بغير ما ذكرنا، ولن يوجد سَببٌ يثبت لأحد سوى ما شرحنا.
والحمد لله(4) كثيراً، وسبحان الله بكرة وأصيلاً، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وسلم تسليماً.
****
__________
(1) في (أ، ج): وللشهرة.
(2) في (ب): من فضلك.
(3) في (ب): الإمامة لكل إمام.
(4) في (أ): تم والحمدلله كثيراً، وصلى اللّه على محمد وآله وسلم.

(2/284)


جواب مسائل لابنه المرتضى (ع)
m
[معنى حديث: ما كان على أهل هذا الجدي.. إلخ]
قال الإمام المرتضى لدين اللّه محمد بن الهادي إلى الحق يحيى بن الحسين صلوات الله عليهما:
سألت أبي الهادي إلى الحق صلوات الله عليه عما روي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم من أنَّه مرَّ بجدي ميّت مطروح على كِبَا (2)، فقال عليه السلام: (( ما كان على أهل هذا الجدي لو انتفعوا بجلده )).
قال الهادي إلى الحق أعزه الله: لم يرد النبي عليه السلام الانتفاع بجلده بعد موته، ولكنه صلى الله عليه أراد: ما كان عليهم ـ إذ لم يكن فيه لحم يذبح ويذكى له ومن أجله، لما كان فيه من الهزال(3) والهلاك ـ لو ذبحوه، فحل(4) لهم بذبحه الانتفاع بجلده؛ (فانتفعوا بجلده)(5) إذ لم يكن في لحمه منفعة.
فهذا يا بني معنى قوله صلى الله عليه، لا ما ذهب إليه الجهال، ونسب إليه العماة الضُلاَّل.
واعلم يا بني أن كلام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم له معان وأبواب؛ تحتاج إلى تفسير عالم فهم(6) باللغة، كما يحتاج القرآن إلى التفسير.
[معنى حديث: إن اللّه يبغض الحبر السمين]
__________
(2) في (ب): كناسة، وهي معنى الكبا.
(3) في (ب): الهوان.
(4) في (ب): يحل.
(5) سقط من (ب).
(6) في (ج): فهيم. وماهنا أثبته في الهامش.

(2/285)


من ذلك قوله: (( إن الله يبغض الحبرَ السمين )) فتوهم من لا فهم له أن معناه: البَدِن الشَّحِم؛ فذموا بذلك كل عالم سمين، وكان صلى الله عليه وآله قد بلغ من الشحم والسِّمَن غاية، حتى كان قد جعل في محرابه بالمدينة عوداً هو اليوم في المحراب، وكان إذا نهض بعد السجود أخذ به؛ حتى ينهض من ثقل بدنه(1)، وكان صلى الله عليه يتنفل بعض نوافله قاعداً لثقل بدنه، وهو صلى الله عليه حبر الأحبار(2) وأفضلها.
وإنما أراد بقوله: (( إن الله يبغض الحبر السمين ))؛ يعني الذي قد سمن من أكل الرُّشا والحرام.
[معنى حديث: إن اللّه يبغض البيت اللحم]
وكذلك رُوي عنه عليه السلام أنَّه قال: (( إن الله يبغض البيت اللَّحِم ))؛ فتأوّل ذلك من لا فهم له أنَّه: البيت الذي يؤكل فيه اللحم كل يوم دائماً. وهذا باطل من التأويل، كيف يقول ذلك في اللحم؛ وهو يفضله ويقول: (( خير(3) إدامكم اللحم ))، وكان يشتهيه ويأكله إذا وجده؟!
__________
(1) في (ب): بعد السجود يعتمد به حتى ينهض.
(2) في (أ، ج): أحبر الأحبار.
(3) في (أ، ج): أفضل.

(2/286)


وإنما أراد بقوله ذلك: البيت الذي يُؤْكَلُ المسلمون فيه، معنى يؤكل فيه: يُوقَع فيهم، ويُطعن عليهم، ويُؤذون فيه. ألاَ تسمع كيف يقول الله سبحانه: {أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ}[الحجرات: 12]؟ وقد رُوى عنه صلى الله عليه أنَّه لما رجم ماعز بن مالك الأسلمي حين أقر بالزنا؛ فسمع عند منصرفه الزبير(1) يقول لطلحة(2): انظر إلى هذا الذي ستر الله عليه فلم يستر على نفسه حتى رجم مرجَم الكلب. فسكت عنهما رسول الله صلى الله عليه وآله حتى مر بجيفة حمار شاغرٍ بِرجْليه؛ فقال لهما: (( انزلا فأصيبا من هذا الحمار ))، فقالا: نعيذك يا رسول الله، أنأكل الميتة؟ فقال لهما: لما أصبتما من أخيكما آنفاً أكبر مما تصيبان من هذا الحمار، إنَّه الآن ليتقمص(3) في أنهار الجنة.
وغير ما ذكرناه عنه في هذا المعنى فكثير غير قليل، ومعروف غير مجهول، ولله الحمد، نجتز(4) بقليله عن التطويل بذكر كثيره والسلام.
[معنى قوله تعالى: {وآخرون اعترفوا..} الآية]
__________
(1) هو الزبير بن العوام بن خويلد بن أسد بن عبدالعزى بن قصي بن كلاب، أبو عبد اللّه القرشي الأسدي، أحد العشرة المشهورين، من شجعان الصحابة وأبطالهم، أبلي مع رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم بلاء حسناً، نكث مع طلحة على الإمام علي عليه السلام بعد البيعة على الأصح، فكانت وقعة الجمل الشهيرة، قتل بعد منصرفه منها سنة (36 هـ).
(2) هو طلحة بن عبيدالله بن عثمان بن عمرو بن كعب بن سعد بن تميم بن مرة التيمي، أبو محمد المدني، أحد العشرة، شجاع باسل، أبلى بلاء حسناً مع السرول صلى اللّه عليه وآله، لكنه نكث بيعة الإمام علي، قتل يوم الجمل سنة (36 هـ)، وله (63 سنة).
(3) كذا في النسخ، ولعلها: ليتغمص.
(4) في (أ،ج): يُجْتَزَى.

(2/287)


وسالته عن قول الله سبحانه: {وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلاً صَالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ}[التوبة: 102]، فقال: هؤلاء أهل التوبة إلى الله من بعد المعصية، فذكر الله عنهم أنهم عملوا عملاً سيئاً، ثم خلطوا أعمالهم بالصالحات؛ فعملوا بها من بعد التوبة وبعد العمل الردي. ومعنى {عَسَى اللَّهُ}؛ هو: إيجاب القبول(1) للتوبة من التائبين من بعد الإخلاص لله بالتوبة، وليس كما يقول الجهال: إنهم يعملون قبيحاً وحسناً في حالة واحدة، ويتقبل منهم الحسن، هذا ما لا يكون؛ لان الله يقول:{إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ}[المائدة: 27]، ومن كان في معصية الله فليس بمتق، ومن لم يكن بمتق فليس يقبل عمله منه.
[معنى قول الله: {فلا وربك..} الآية]
وسالته عن قول الله سبحانه: {فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً}[النساء: 56]. يقول سبحانه لنبيه صلى الله عليه وآله، مخبراً له عن أصحابه، مقسماً بنفسه؛ أن أصحابه لا يؤمنون على حقيقة الإيمان؛ حتى يردوا إليه عليه السلام ما تشاجروا فيه ـ وهو مااختلفوا فيه ـ ثم يرضوا بحكمه في ذلك، ولا يجدوا في صدورهم شيئاً فيه، ولا غضباً منه، {وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً}، أي ينفذوا حكمه ويسلموا له، ويرضوا به ولا يردوه
****
__________
(1) في (أ،ج): إيجاب لقبول التوبة عن.

(2/288)


ومن مسائل علي بن محمد العلوي (1)
مما سأل عنها الهادي إلى الحق صلوات الله عليه.
m
[أطفال المشركين هل يحل سبيهم؟]
وسالته عن أطفال المشركين هل يحل سبيهم؟
فقال: نعم. قلت: ومن أين، وقد قال رسول الله صلى الله عليه: (( كل مولود(2) يولد فإنما يولد على فطرة الإسلام، حتى يكون أبواه اللذان يهودانه أو ينصّرِانه ))؟
فقال: إنما هذا في الأطفال الذين يولدون في دار الإسلام، فأما من يولد في دار الكفر فقد حكم الله عليه بالسبي، وحكم على ما فيها من مال أو نفس وأبانها، وأحل ما فيها، وصيَّرها ملكاً وغنيمة للمؤمنين، فما جاز من سبي الكبير جاز في سبي الصغير؛ لأن الدار دار كفر، فافهم الفرق بين دار الكفر ودار الإسلام.
[الجزية على النساء ودعوتهن]
وسالته عن نساء اليهود والنصارى، هل تجب عليهن الجزية؟
فقال: لا. قلت: ومن(3) أين لم تجب عليهنَّ الجزية؟ فقال: لأن الله تبارك وتعالى حكم على الرجال بالقتل، وأوجب عليهم الجزية فداءً من القتل، فمن وجب عليه القتل من الرجال وجبت عليه الجزية. قلت: فهل تجب دعوة النساء؟ قال: نعم. قلت: فإن لم يفعلن؟ قال: يستخدمن ويُهَنَّ. قلت: وهل تحل خدمتهنَّ؟ قال: نعم، كما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم بصفيّة ابنة حيي بن أخطب حتى أسلمت، فتزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقد قال بعض علماء أهل البيت: إنهن يدعين؛ فإن لم يُسلمن قتلن.
قلت: فما قولك أنت يا أمير المؤمنين؟
فقال: حتى تبلغ ذلك إن شاء الله، وأعلمتك برأيي فيهن(4).
__________
(1) هو مصنف سيرة الإمام الهادي، له مواقف شجاعة مع الإمام عليه السلام.
(2) في (أ، ج): طفل.
(3) في (أ، ج): فقلت من.
(4) في (أ): ثم أعلمتك. ولعلها: أعلمك.

(2/289)


ومن مسائل محمد بن عبيد الله (1)
[موالاة الظالمين ومداراتهم]
قال محمد بن عبيدالله(1) رحمه الله: سألت الهادي إلى الحق صلوات الله عليه عن موالاة الظالمين. فقال: لا تجوز موالاة الظالمين لأحد من المؤمنين، وموالاتهم فهي: مودتهم ومحبتهم؛ لأن الله سبحانه يقول: {لاَ تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَاليَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ}[المجادلة: 22]. فحرّم الله تعالى موالاتهم ومحبتهم، ولم يطلق للمؤمنين الإنطواء على شيء من إضمار المودة لهم. وفي ذلك مايقول اللّه عزَّ وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ اَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيهِمْ بِالْمَوَدَّةِ..} الآية[الممتحنة: 1]. فمن انطوى وأضمر محبّة ظالم فقد خرج من دين الله، وليس من المؤمنين بالله، ولا تجتمع معرفة الله ومحبته وموالاته مع مودة أعداء الله ومحبتهم؛ لأن الله عدو للظالمين، والظالمون أعداءٌ لرب العالمين، ولن يجتمع ضدان معاً في قلب مسلم.
فأما المداراة للظالمين باللسان، والهبة والعطية، ورفع المجلس، والإقبال بالوجه عليهم؛ فلا بأس بذلك؛ لأن الله قد فعل في أمرهم ـ وهم أعداؤه ـ ما فعل؛ من جعله لهم جُزءاً في الصدقات؛ يتألفهم به على الحق، ويكسر به بعض بلائهم وظلمهم عن الإسلام، وذلك قوله عزَّ وجل: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ} الآية [التوبة: 60] فجعل للمؤلفة جزءاً، وهم أعداء الله وأعداء الإسلام؛ يكسر حدَّهم عن المؤمنين، ويصليهم به نار جهنم وبئس المصير، ويجعله عليهم وبالاً في الآخرة ولهم عذاب أليم.
__________
(1) في (ب): عبدالله. وهو: محمد بن عبيدالله العلوي العباسي والد مؤلف السيرة، أحد أبرز أصحاب الإمام، وفد عليه للجهاد بين يديه، تولى للإمام وسحة، ثم صعدة، ثم نجران في سنة (287 هـ)، خالف عليه بنو الحارث بنجران وقتلوه ظلماً وعدواناً في وقعة رهيبة تشبه وقعة الإمام الحسين عليه السلام في شهر ذي الحجة سنة (295 هـ).

(2/290)


وكذلك كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يفعل بالمنافقين الظالمين؛ يؤثرهم على من معه من إخوانه المؤمنين، ويكل إخوانه على إيمانهم.
من ذلك ما فعل في غنائم حنين، فرقها كلها على المؤلفة قلوبهم، ولم يعط المؤمنين منها درهماً واحدا، ولا شاة واحدة، ولا بعيراً واحداً يتألفهم بذلك، ويكسر عن المؤمنين شر حدهم.
وكذلك كان يفعل بكبراء المشركين إذا كاتبوه وأتوه؛ يكاتبهم بأحسن المكاتبة، ويفرش لهم ثوبه إذا أتوه يُجلسهم عليه، نظراً منه للإسلام، ومداراة لهؤلاء الطغام، عن غير موالاة ولا محبة.
[الاستعانة بالظالمين]
قال محمد بن عبيد الله(1): وسألت الهادي إلى الحق صلوات الله عليه هل تجوز الإستعانة بالظالمين؟ وقلتُ: ما معنى قول الله سبحانه: {وَمَا كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُداً} [الكهف: 51]. فقال: أما ما سألت عنه من قول الله سبحانه؛ فإنما أراد بالعَضُد: الوُدِّ والْمُشَاوَرَة(2) في المبثوث من جميع الأسرار الظاهرة والباطنة، والمحبوب في السر والعلانية، المعتَقَدة ولا يته، الجائزة عند الله مناكحته، وأكل ذبيحته، وقبول شهادته، والإعتماد على قوله، والركون إلى مصافاته، فهذا العَضُد. فمن لم يكن عند صاحبه على هذه الحال، على حقيقة الفعل والمقال؛ فليس له بعضد ولا كرامة له، ولا ينتظمه هذا الاسم أبداً، ولا يجوز له أصلاً.
__________
(1) في (ب): عبد الله.
(2) في (ج): الوِدَّ الْمُشَاوِر، والود: المحب.

(2/291)


فأما ما اسعنت به في مهمّاتك، وتقويت(1) به واستعنت به في ساعات حاجاتك، في إصلاح الإسلام والمسلمين، وهايبت به من كان مثله من الظالمين، واستعنت به على من هو أفجر منه، وأنت له شانئ، ومنه متبرئ، وبه غير واثق، تكتمه أسرارك، وتجمل لديه أخبارك، لا تستحل له مناكحة، ولا تأكل له ذبيحة، ولا تقبل له شهادة، ولا تأتم به في صلاة، فكيف تكون له متخذاً عضداً، وتكون له ولياً مرشداً؟ هذا ما لا يغلط فيه إلاَّ الجهال، وإلا من أعمى الله قلبه من الرجال، فهو يتكمه في عمايات الضلال، يدعو الليل نهاراً والنهار ليلاً، والعدو ولياً والولي عدواً، ينحل كل واحد منهما نحلة ضده، ويدعو كلاَّ بغير اسمه.
وأما ما سألت عنه من استعانة المحقين بالظالمين، في طاعة رب العالمين لمحاربة المحاربين؛ فإنا لانستحل غيره في مذهبنا؛ لأن الاستعانة بالظالمين على من حارب الحق والمحقين؛ واجب على المسلمين، لا يسع أحداً تركه، ولا يجوز رفضه، إذا صار الإسلام إلى ذلك محتاجا، وكان الحق إليه مُضطراً، إذا جرت عليهم(2) أحكام الإمام ومن في عصره من خدم الظالمين وأعوانهم، الذين استعان بهم في وقت حاجته لهم.
ونقول: إن فرض ذلك يجب من وجهين:
فأما أحدهما: فإنه لا يحل للإمام أن يقتل الإسلام ويضيّعه، ويمكن عدوه منه، وهو يجد إلى غيره سبيلاً، وعلى إجابته معيناً، تجري أحكامه عليه؛ لأنَّه إن امتنع من الاستعانة بهم في وقت ضرورته، ظهر من هو شر ممن كره الاستعانة به على الإسلام فأهلكه.
__________
(1) في (ب): وتقربت.
(2) في (ب): عليه.

(2/292)


والمعنى الآخر فبيّنٌ بحمد الله عند من عقل، وهو أن يقال لمن أنكر الاستعانة بالظالمين: أيها الجاهل هل عذر الله أحداً أوأطلق له ترك فرض من فرائضه، أو أطلق له ترك إقامة طاعة من طاعاته، فاسقاً كان المتعبَّد أو مؤمناً، أو ظالماً أو محسناً؟ فإن قال: نعم قد عذرهم الله في ترك فروضه، وأطلق لهم في وقت فسقهم وظلمهم رفض شيء من حدوده؛ فقد كفر القائل بذلك، واجْتُزِيَ بكفره عن مناظرته في شيء من دينه؛ لأنَّه يزعم أن الله سوغ للظالمين شيئاً من معاصيه، وأجاز لهم ترك فرائضه التي فرض، وهذا فتحريم ما أحل الله، وتحليل ما حرم الله. وإن قال: لا، لم يجز الله لظالم في وقت ظلمه، ولا لفاسق في وقت فسقه، ترك شيء من أداء فرائضه، والفرض لا زم لهم، واجب عليهم. قيل له: فأيّ فرض أكبر من الجهاد في سبيل الله، والقيام بمحاربة من عند عن أمر الله، والمعاونة لأولياء الله؟
فإذا قال: لا فرض أكبر من ذلك.
قيل له: فمن أين أجزت لهم القعود عن نصره؟ ومن أين أجزت للإمام أن يَدَعَهم من أداء هذا الفرض، ولم تجز له أن يكرههم عليه في حال فسقهم، فضلاً عن أن يأتوه طائعين، ولحكمه مسلمين؟ فإن أجزت للإمام أن يَدَعَ إلزامهم فرض الجهاد الأكبر، وقد أتوه طائعين، ولفرض الله في الجهاد معه مسلمين، وأجزت له أن يترك الاستعانة بهم من طريق القهر لهم إن قدر على ذلك، أو قلت: لا يجوز أن يقهرهم على ذلك إن أطاق قهرهم، فضلاً عن أن يسلموا أو يطيعوا؟ فيجب عليك أن تقول: إنَّه لا يجب على الإمام أن يقهرهم على طاعة الله كلها وفرائضه، من الصلاة، والصيام، وغير ذلك مما هو دون الجهاد.

(2/293)


وقد أغنى الله من عقل بما كان من فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك؛ من الاستعانة بغير أهل الملة، من اليهود وغيرهم من مشركي الحبش، وكان صلى الله عليه يستعين باليهود في حربه، وبالمنافقين الكافرين به، المستهزئين بحقه. وكتاب الله يبين ذلك له من أمرهم، وينزل عليهم(1) بكرة وعشياً.
وأمر صلى الله عليه وعلى آله أصحابه الذين آمنوا به ـ وهم اثنان وسبعون رجلاً ـ أن يمضوا ويهاجروا إلى بلاد الحبش، وأمرهم أن يستعينوا به، وبطعامه وبشرابه على من يريدهم بسوء، فجهزت قريش لمَّا جاؤا إليه البُرُدَ(2) في أمرهم، وبذلوا الأموال في تسليمه إياهم إليهم، فأرسل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يسأله(3) المعونة على قريش لأصحابه وله، ويسأله أن لا يسلمهم ويعينهم على أمرهم، ففعل ذلك، وأهدى إليه حراباً وبغلتين وشيئاً من الذهب، فقبل ذلك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وكانت الحراب تحمل قدامه، وتركز بين يديه إذا صلَّى. وكذلك أهدى إليه ملك قبط مصر جاريتين وبغلتين(4)، وحللاً من حُلل مصر، فقبل ذلك كله صلى الله عليه وآله وسلم من القبطي، والقبطي مشرك بالله، جاحد لرسول الله، فاتخذ إحدى الجاريتين، ويقال: إنهما كانتا أختين، فدعاهما إلى الإسلام، فأسلمت واحدة فوطئها، فولدت له إبراهيم صلى الله عليه، ووهب الأخرى لحسان بن ثابت الأنصاري. فأي استعانة أكثر من هذا، أو حجة أبين مما ذكرنا؟ والحمد لله وهذا يجزي لمن عقل عن التطويل إن شاء الله، والقوة بالله.
وكذلك استعان صلى الله عليه في فتح مكة من أعراب فزارة، وغير ذلك من أعراب البوادي وجفاتهم، ممن هو مُسَلّم لحكمه، غير عارف بحدود ربه.
تم ذلك والحمدلله كثيراً، وصلى اللّه على سيدنا محمد وآله وسلم.
__________
(1) في (ب): عليه.
(2) البُرُد: جمع بريد.
(3) في (أ): يسألهم.
(4) في (أ، ج): وبغلة.

(2/294)


مسألة في الذبائح
m
قال الهادي إلى الحق يحيى بن الحسين بن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: سألت عن الذبائح، ما يحل منها وما يحرم؟
والجواب أنَّه يحرم من الذبائح ست ذبائح:
ذبيحة اليهودي؛ لأن اللّه عزَّ وجل قال: {وَقَالَتِ اليَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ}[التوبة: 30].
وذبيحة النصراني، لقول الله عزَّ وجل {وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ}[التوبة30].
وذبيحة المجوس(1)؛ لأنَّه يقول: إن الله قضى عليه بركوب أمه، وابنته، وأخته.
وذبيحة المجبر؛ لأنَّه يقول: إن الله جبر(2) خلقه على المعاصي.
وذبيحة المشبه؛ لأنَّه يقول: إنَّه يعبد الذي يقع عليه بصره يوم القيامة.
وذبيحة المرجئ؛ لأنَّه يقول: الإيمان قول بلا عمل.
قال الله تبارك وتعالى لجميع عباده: {فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ}[الأنعام: 118]، {وَلاَ تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ}[الأنعام: 121]؛ فجيمع هؤلاء الستة الأصناف ما ذكروا اسم الله تبارك وتعالى على شيء من ذبائحهم، إذ لم يعرفوه تبارك وتعالى حق معرفته، فلم(3) يقروا له بتوحيده وعدله، ولم يصدقوه في وعده ووعيده، وكذبوا قوله في وليه وعدوه.
تمت المسألة وجوابها والحمد لله وحده وصلواته على رسوله سيدنا محمد وعلى آله وسلم
__________
(1) في (أ): المجوسي.
(2) في (أ): يجبر.
(3) في (أ): ولم.

(2/295)


جواب مسألة لرجل من أهل قم
m
قال يحيى بن الحسين صلوات الله عليه:
سألت عصمنا الله وإياك بعصمته، ووفقنا وإياك لمرضاته، وجعلنا وإياك من أهل طاعته، وختم لنا ولك بمغفرته، ونجانا وإياك من حيرة هذا الدهر برحمته:
[معرفة اللّه هل هي فعل اللّه أو فعل العبد؟]
عن معرفة الله تبارك وتعالى؛ ما تصرفها في الخلق؟ وكيف تكوينها في العباد؟ وما محلها في الأجساد؟ وهل هي من أفعال المخلوقين؟ أم هي خلق أحسن الخالقين؟ غريزة ركبها في عباده، فجعلها سبحانه كما خلق وركب وجعل فيهما من العقول.
واعلم هداك الله أن المعرفة هي: كمال العقل والعمل به، فإذا كمل العقل، وصح واستعمل؛ تفرعت منه المعارف والأفهام، لذوي الفكر والأحلام، ومتى عدمت من الأدميين الألباب؛ لم تصح فيهم المعارف بسبب من الأسباب، بل تكون بنأيه أنأَى من كل ناءٍ، وبدنوه أدنى من كل دان، تحضر بحضوره، وتعزب بعزوبه، محتاجة إليه، وهو فغير مضطر ولا محتاج إليها، متفرعة من فروعه، كامنة في أصوله، كائنة بكينونته، وهو فغير متفرع منها، ولا محتاج مضطر إلى كينونتها، بل هو مقيد العماد، راسخ الأوتاد، فكل معرفة كانت من العباد، بالأزلي الخالق الجواد؛ فبالعقول استدركها المستدركون من ذوي الألباب، واستخرجها المستخرجون، ووقف على حدود شرائعها العالمون.
وعلى ذوي العقول افتُرِضَت معرفة الله وعبادته، وهم الذين ينالون باداء فرائض الله ثوابَه، ويستحقون برفضها ـ دون غيرهم ممن سلب لبه ـ عقابَه. فالعالمون من ذوي الألباب هم المجازون بالحسنة الحسنات، وبالسيئات من الأفعال(1) السيئات. والعقلاء فهم الموقوفون للحساب، الخائفون لأليم العقاب، والكائن منهم ما ذكر الله سبحانه حين يقول: {يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ} [آل عمران: 106]، وهو يوم تخشع الأصوات للرحمن فلا تسمع إلاَّ همساً، فتبيآضُّ (2) فيه وجوه من جاء بصالح الأعمال، وتسوآدُّ وجوه من جاء بسيء الأفعال، يكون حال من سلب لبه فيه كحال الأطفال، آمناً إذ ذاك من هائل الأهوال، لا يسألهم الواحد العدل المنان، عما منهم في دنياهم كان، فتبارك الله العادل في خلقه الرحمن.
__________
(1) في (ج): من أفعالهم.
(2) في (ب) فتبيض.

(2/296)


وفيما نقله الثِّقات من ذوي العقول، ثقة عن ثقة عن الرسول عليه السلام، أنَّه قال: (( لما أن خلق الله العقل قال له: أقبل، فأقبل، ثم قال له: أدبر، فأدبر، فقال: وعزتي وجلالي ما خلقت خلقاً هو أحب إليَّ منك، بك أعطي، وبك آخذ )). فقوله: بك أعطي وبك آخذ؛ دليل على أنَّه لا يثاب على فعل فعله، ولا يعاقب على جُرم اجترمه؛ إلاَّ من ركب فيه لُبٌ حاضر، ورأي صادرٌ.
وفي قول الله تعالى: {إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُوا الأَلْبَابِ} [الرعد: 19، الزمر: 9]؛ أكبر الدليل علىأنه لا يكون تذكرة ولا تَفْكرة، تعود إلى معرفة وبيان، وحسن نظر وإتقان؛ إلاَّ بلب تتفرع منه التذكرة والمعرفة في الإنسان. فتبارك مَنْ علمُ خَفيات ضمائر القلوب عنده كالإعلان.
فإن قيل لك: أَبِن لنا ما معنى تفرعها من العقل؟ وكيف تتفرع؟ وما معنى قولك: يستعمل العقل؟ وكيف يستعمل؟ وَمَثِّل لنا ذلك بمثل تقبله عقولنا، وتفهمه أنفسنا.
فقل: مثل العقل في الآدمي؛ كمثل الإستطاعة فيه، والإستطاعة(1) هي سلامة أدواته، فإذا استعملت الأدوات فيما تصلح له؛ تفرعت أفعاله منها، كمثل ما يتفرع من الكف من الحركة، مما يؤدي إلى رفع أو وضع، أو ما يتفرع من حركات الرجل؛ من مشي أو عدوٍ، أو ركوب أو نزول، أو غير ذلك. وكل أداة ففعلها متفرع منها، وتفرعه فهو خروجه. وكل فعلِ أداةٍ(2) فغير كائن بغيرها من الأدوات، ولن يوجد إلاَّ بوجودها، ويتغير بتغيرها، ويزيد بزيادتها، ويكمل بكمالها، ويعدم بعدمها، ويدخل عليه من الضرر ما يدخل عليها.
فكذلك تفرع المعرفة من العقل وكسبها به؛ كتفرع الحركات من الأدوات، توجد بوجوده، وتعدم بعدمه.
__________
(1) في (أ، ج): فالاستطاعة.
(2) في (ج): أدوات.

(2/297)


والعقل فهو خلق الله وتركيبه في عباده، والمعرفة فهي أفعال المخلوقين متفرعة من العقول،فكل من أَعْمَل عقله في شيء من آيات الله؛ قاده إِعماله لعقله من معرفة الله تبارك وتعالى إلى أبين بيان، وتبين له بما يتفرع من المعرفة بالله أنور البرهان. فيثيب الله مَنْ قَبِلَ ما دل عليه ـ مما تفرع من مركب لُبِهِ الذي جعله الله فيه ـ من المعرفة بالله عزَّ وجل، فإذا ميَّز وأعمل النظر في صغير آيات الله دون كبيرها، فعلم أن لها خالقاً كريماً، ومدبراً عليماً؛ فقبل ذلك بأحسن القبول؛ فاستوجب من الله الزيادة والتوفيق.
ويُعَاقِب من كابر لبه، وأنكر آيات ربه، فاستوجب بذلك منه الخذلان، وتمكنت منه وساوس الشيطان. كما يثيب من عمل بكفه خيراً، ويعاقب من اكتسب بها شراً.
وأما استعمال العقل فهو الفكر به والنظر، والتمييز بين الأشياء، والنظر فيها وفي تركيبها، وتدبيرها وحسن تقديرها، حتى يقوده ويدله ما يتفرع من لبه، عند استعماله له؛ على معرفة علام الغيوب، ومقلب ما يشاء من القلوب، فإذا ثبت عنده أن له خالقاً ومصوراً، ولجميع الأشياء فاطراً ومدبراً؛ وجب عليه أن ينظر في كتاب الله تبارك وتعالى، ويسأل العلماء عما ذكر الله من كرسيه وعرشه، ويده ووجهه حتى ينبيه كل عالم بما يحضره من الجواب. والسوال فواجب عليه؛ لقول الله تبارك وتعالى: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ}[النحل: 43، الأنبياء: 7] وهم آل محمد صلى الله عليه وعليهم، فإذا أنبئ عما سأل؛ وجب عليه أن يتفكر بعقله، فيضيف إلى الله سبحانه من الأشياء ما هو أولى به، وينفي عنه الشبهات التي تكون في خلقه، ويعلم أن ليس كمثله شيء، كما قال: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيْرُ}[الشورى: 11].

(2/298)


فإذا علم أن الله واحد أحدٌ، وأنه مباين للأشياء كلها مخالف لها، غير مشاكل لما خلق، لا يحويه مكان، ولا يشغله شأن عن شان، وهو بالمرصاد كما قال سبحانه؛ وجب عليه أن يعلم أنه عدل لايجور، فإذا علم ذلك فقد أكمل معرفة ربه سبحانه.
فإن قال: فإنا نجد المعرفة بائنة من العقل، لا تدل على صفات الله، ولا يقف صاحبها عليها من غير تعريف ولا سؤال؟ فقال(1): إن المعرفة إنما هي تعليم من بعض لبعض، مستغنية بنفسها (كما هي)(2) غير محتاجة إلى العقل.
قيل له: فأخبرنا عمن عمل شيئاً يجب على من أضافه إلى الله أن يكون ناسباً إلى الله الجور والظلم، وما يجب على من اعتقد ان يكون الله مشبّهاً بخلقه؛ فقال بذلك واعتقده، هل يكون بالله عارفاً، ولله موحداً؟! فإن قال: نعم، كفر. وإن قال: لا، قيل له: أفرأيت إن اختلفت عليه الأقاويل؟ وأمره قوم باعتقاد ما يلزمه به التشبيه والتجوير لربه، وأمره آخرون باعتقاد التوحيد والقول بالعدل، والتبس عليه أمره، وعمي عليه رشده؛ ما الذي يجب عليه في ذلك؟
__________
(1) كذا في النسخ، ولعلها: وقال.
(2) ليس في (ج).

(2/299)


فإن قال: إنَّه يجب عليه أن يقلد أحد الفريقين قوله ويقول به، وزعم أنَّه إذا قلد قوماً قولاً؛ ثم عمل به واعتقده نجا من إثمه، وكان عليهم وزره؛ وجب عليه أن يقول: إن كل من أمر بدين من الأديان؛ من اليهودية والنصرانية، أو أي دين كان من أديان الكفر، وأشار به، فقبله منه قابل، وقلده إثمه ودخل فيه، فأحل ما حرم الله، وحرم ما أحل الله؛ كان بذلك بريئاً من الوزر، وكان جميع ذلك الأمر على من أمر به، دون من قبله، ولو كان ذلك كذلك لم يعذب الله إلاَّ المؤسسين(1) لأنواع الشرك من القرون الأولة، ولكان كل من عمل بعملهم ناجياً من سخطه وعقابه، ولكان كل من قال على الله بالحق، ودان بدين محمد صلى الله عليه وعلى أهل بيته الطيبين غير مثاب عليه، ولكان الثواب واجباً في القياس للرسول، ولم يكن لمن عمل به ثواب ولا محمدة، ولم يكن المذنب بإجرامه بأهل للعقوبة من المحسن في أعماله، ولكان المطيع والعاصي في الثواب والمجازاة بالعقاب سِيَّان؛ إذ كانا من جميع أفعالهما بريئين.
__________
(1) في (ب): الموسوسين.

(2/300)


ثم يسأل فيقال له: أخبرنا عن إبليس إذا أمر العباد، ووسوس وزين لهم المعاصي، حتى يكونوا لها عاملين، ولعظائمها(1) مرتكبين، على من إثمها؟ فإن قال: على إبليس دونهم. قيل له: فإنا نجد الله قد أخبرنا في كتابه، أنَّه من أطاع إبليس فإنه من العاصين، المعاقبين على ارتكاب ما يأمره بركوبه، ويزينه ويوسوس له به، فقال سبحانه في ذلك: {فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ}[ص: 84 ـ 85]، فهل وجب عندك على من أطاع إبليس، وعمل بما أمره به من المعاصي عقوبة النيران؟ فإن قال: لا؛ كفر. وإن قال: نعم؛ ترك قوله، وخرج من حد التقليد، فلا يجد بداً من أن يقول: إن الواجب عليه عند التباس الأقوال، واختلاف الأفنان أن يرجع إلى عقله في ذلك فيتفكر به، ويميز فينظر بعقله ويتخير لنفسه، فيتفرع له من عقله من المعرفة ما يقول على الله به الحق، ويذكره بما يشبهه من الذكر الذي لا يكون إلاَّ له سبحانه. فليعلم أن المعرفة كلها خارجة متفرعة من العقل، وأنه لا تكون معرفة إلاَّ من العقل وبالعقل.
__________
(1) في (ب): ولعصيانها.

(2/301)


ومن الدليل على أن المعرفة هي ثبات العقل وكماله، بان علمنا أن شُرَّابَ الخمور، وأهل الدعارة والشرور، إذا شربوها زالت عنهم الألباب، وأنها مضطرة إليه محتاجة، تعزب بعزوبه، وتحضر بحضوره، وتتفرع في ثباته، وتعدم عند عدمه، فعدمت بزواله منهم المعارف، حتى يطيح عنهم واضح البيان(1) ويزيح بما قد كان مؤدياً إليهم من بيّن اللغة واللسان، وحتى تلتبس عليه حلائله من أخواته، وأمهاته من خالاته، ويأتي على لسانه من القذف والفحش، والمنكر والدناءة، في النادي والجماعات؛ ما يفضحه ويشينه، وما لعله لو عرض مفروجاً(2) عليه عند ثبات لبه، وتفرع معرفته سوء(3) ما كان منه إذ كان لا معرفة له بما سلف منه في حال كينونته، ويأتي ـ متيقظاً ـ واحداً(4) من أفعاله في عزوب لبه؛ ما فعل ذلك أبداً، بل لعله يود أنه كان ميتاً فانياً، مفقوداً نائياً، ولا تبين منه الأشياء الفواضح، والأفعال الطوالح.
ففي أقل ما ذكرنا دليل على أنَّ المعرفة لا تثبت ولا تكون إلاَّ بالعقل ومن العقل.
فإن احتج فقال: قد نرى البهائم ـ التي نعلم نحن وأنت أنها عدمت العقول ـ تعرف أولادها وأمهاتها، وتعرف طعامها وشرابها من غيره، وتعرف ما يضرها مما ينفعها ، فتعتزل المضار، وتتبع المنافع.
__________
(1) في (ب): الثبات.
(2) كذا في (ب)، وفي (أ): مفروحاً. مهملة، وفي (ج): مفروضا، ولم أهتد إلى معناها.
(3) في (ب): سوى.
(4) متيقظاً: منصوب على الحالية، و (واحداً) مفعول يأتي. والمعنى أنه لو عرض عليه ما عرض ويأتي حال صحوه ما أتى حال سكره من الأفعال ما فعل ذلك أبداً، وهذا دليل على أنه قد فقد المعرفة عندما فقد لبه، وهو المطلوب. والله أعلم.

(2/302)


قيل له: إنما كلامنا في المثابين والمعاقبين، من الجنة والآدميين؛ من المأمورين والمنهيين، الذين ينالون الطاعة والمعصية؛ بما ركب فيهم من الإستطاعة، فيكونون متخيرين لأحدهما، يثابون على طاعة إن كانت منهم، ويعاقبون على معصية إن جاؤا بها،، ولا يكون تخير الواحد من الأمرين إلاَّ من ذي لب واضح، وعقل راجح. فأما البهائم فإنها غير مأمورة ولا منهيّة، ولا مثابة ولا معاقبة، وإنما عدمت الثواب والعقاب، لما سلبته من الألباب. وأما ما يكون منها من شيء فعلى غير معرفة ثابتة ولا تمييز، وإنما يكون ما يكون منها؛ من معرفة الذكر للأنثى ومعرفتها لأربابها، ومعرفة الذكر لما يكون لاقحاً من الإناث، فهو أعرف وأكبر من معرفة الطعام والشراب، والأمهات والأولاد، فإنها(1) منها على الإلهام، وإنهن لملهمات لذلك إلهاماً، كما يلهم الطفل في صغره معرفة الثدي وطلبه له، وبكاءه وسكوته، وحزنه وسروره. وكل ما كان من الطفل بغير تمييز ولا عرفان؛ فإنما هو طبع وإلهام، حتى إذا كمل من عقله ما يحوز به التمييز من الأشياء، ميز حينئذ فاختار، فأخذ وترك، وعرف ما ينفعه مما يضره، فاجتنب ما يضره، وطلب ما ينفعه. وهو في صغره لو وضع قدامه تمر أو جمر، أو ملح، أو سكر؛ لكان حَرِيّاً بالأخذ للضار له منهما؛ لعدم عقله، وذهاب معرفته وفهمه.
ففي أقل مما ذكرنا إن شاء الله ما بين وكفى؛ عن التطويل وشفى؛ من كان مسترشداً تابعاً للهدى والحمد لله أولاً وآخراً، وصلى الله وملائكته وجميع الأنبياء والمرسلين من خلقه على محمد عبده ورسُوله النبي الأمي، الهادي المهدي، وعلى أهل بيته الطيبين الأخيار، الصادقين الأبرار، الذي أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً.
وقلت: ما الدليل على أن الله خلق الأشياء لا من شيء؟
__________
(1) في (ج): فإنه. والضمير المؤنث للمعرفة، والمذكر لـ(ما يكون).

(2/303)


والدليل في ذلك أنَّه لا يخلو أن يكون خلق أصل الأشياء ومبتدأها من شيء، أو من غير شيء، فإن خلقها من شيء أزلي، فقد كان معه في الأزلية والقدم غيره من الأشياء، ولو كان كذلك تعالى الله عن ذلك؛ لم تصح له الأزلية، وإذا لم تصح له الأزلية؛ لم تصح له الوحدانية، وإذا لم تصح له الوحدانية؛ لم تصح له الربوبية؛ لأن من كان معه شيء لا من خلقه؛ فليس برب للأشياء كلها؛ إذ لم يكن لكلها خالقاً، فمن ها هنا صح أنَّه خلق الأشياء لا من شيء، وابتدع تكوين ابتدائها من غير شيء.
وقلت: لأي علة بعث الله الرسل؟ وَبعْثُهم ليكونوا حجَّة على خلقه، وليبلغوا من عنده ما تعبَدهم به من فرضه؛ إذ مفروضاته سبحانه معقول ومسموع: فما كان من المسموع فلا بد فيه من مسمع يؤديه، وناطق به عن الله بما فيه، وهم الرسل عليهم السلام، المؤدون إلى خلق الله رسائله، والمبلغون إليهم عنه مراده (منهم)(1) فلهذا المعنى ـ من تأديتهم عنه ـ بعثهم.
تم ذلك والحمد لله كثيراً وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وسلم.
وسئل صلى الله عليه، عن الرجل(2) إذا اشترى شيئاً، فوجد به عيباً؛ ثم استعمله بعد ما وجد فيه العيب.
فقال: ليس له أن يرده، وليس له إلاَّ أرشه، وهو نقصان من الثمن بالعيب.
وقال: إذا جاء المشتري يرد بعيب، وكان العيب مما يحدث مثله في تلك الأيام، ثم أقام عند المشتري، فعلى المشتري البينة أنَّه اشتراه وبه ذلك العيب.
فإن لم يكن له بينة؛ فعلى البائع اليمين ما باعه هذه السلعة وفيها هذا العيب.
وقال صلى الله عليه: إذا اشترى رجل جارية؛ فوجدها ولد زنا من أمة الرجل الذي باعها، فليس هذا عيب ترد به.
وقال: إن البول عيب في الكبير، وليس بعيب في الصغير.
تمت المسألة.
*****
__________
(1) ليس في (ج).
(2) في (ج): عن رجل.

(2/304)


جواب مسألة من مسائل النباعي(1)
m
قال الإمام الهادي إلى الحق يحيى بن الحسين بن القاسم بن إبراهيم بن إسماعيل صلوات الله عليهم أجمعين وعلى آبائهم الطاهرين: سألت عن قول الله عز ذكره، وجلت أسماؤه {أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِيْ حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا}[الأحقاف:20]، فقلت: ما الطيبات في هذه الدنيا؟ أهو ما يتنعم به الناس ويلبسونه من صالحيهم وطالحيهم؟
وإن(2) من لبس الثياب السريّة، وأكل الطعام الفائق، وركب الخيول حلالاً كان أو حراماً، فقد أذهب طيبات الآخرة، بما أطلق لنفسه من استعمال طيبات الدنيا.
فأما الكافر وأسبابه؛ فقد استغنينا عن الفتش في أمره بما قد وجدنا(3) من حاله، كثرت دنياه أو قلت، فمصيره إلى النار.
__________
(1) لم أعرفه له ترجمة وعلى ذهني أنه ذكر في سيرة الإمام الهادي اسم محمد بن زكريا التباعي، فعله هو والله أعلم.
(2) في (ب): فإن.
(3) في (أ، ج): قد قرَّ عندنا.

(2/305)


وأما المؤمن به، والعامل بطاعة خالقه، المتحري(1) في أمره لما أمره به خالقه، فكيف تكون تلك حاله(2)، وإنما جعل الله الطيّبات للمؤمنين خاصة دون الفاسقين، فقال في كتابه عز وجل لأنبيائه عليهم السلام: {يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنْ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحاً} [المؤمنون:51]، وقال في كتابه: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِيْنَةَ اللهِ الَّتِي أَخَرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِيْنَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَومَ القِيَامَةِ}[الأعراف: 32]، ومعناها: ويوم القيامة، وقال في كتابه: {لَيْسَ عَلَى الَّذِيْنَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيْمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقُوا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ثُمَّ اتَّقُوا وَآمَنُوا ثُمَّ اتَّقُوا وَاَحْسَنُوا وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِيْنَ} [المائدة:93]، فلم يجعل الله سبحانه على المؤمنين حرجاً في شيء مما رزقهم، إذ أخذوه على ما جعل لهم وأمرهم به، فساروا فيه بطاعة الله، ولم يتعدوا إلى شيء مما يسخط الله؛ لأن الله عز وجل ـ أيها السائل ـ لم يجعل ما في هذه الدنيا من خيرها ومراكبها التي خلقها لشرار أهلها ولا لمن عند عن طاعة خالقها، وإنما جعلها الله للصالحين، ولعباده المتقين، يأمرون فيها بأمره، وينهون فيها عن نهيه، ويقيمون أحكامه فيها، منفذون لأمره عليها، فللطاعة والمطيعين خلقها رب العالمين، ثم أمرهم ونهاهم، وبصّرهم غيّهم وهداهم، وجعل لهم الاستطاعة إلى طاعة مولاهم، {لِيَهِلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَا مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللهَ لَسَمِيْعٌ عَلِيْمٌ}[الأنفال:42].
__________
(1) في (ب): المجتري، وهو خطأ.
(2) في (ب): تلك الحالة.

(2/306)


وإنما معنى الآية وقول الله: {أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِيْ حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا}، فتبكيت منه سبحانه لأهل النار، وتوقيف على تفريطهم في طاعة ربهم. ومعنى {أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ}، أي تركتم ومحقتم وعطلتم ما جعل الله لكم بالطاعة من النعيم المقيم، والخلد مع المتقين في الثواب الكريم بارتكابكم للمعاصي، وترككم للطاعة، حتى خرجتم مما جعل الله للمطيعين وصرتم إلى حكم الفسقة الكافرين؛ في عذاب مهين. فهذا معنى: {أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ}.
تَمّ والحمد لله كثيراً، وصلى الله على سيدنا محمد وآله الذين طهرهم من الرجس تطهيراً.
*****
رسائل وكتب
في
النبوة
إثبات النبوة
m
سألت أكرمك الله(1) فقلت: إن سألني ذمي عن اثبات نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم من أين تثبت؟ فقلتَ: ما أقول له؟
الجواب في ذلك أن يقال له: ثبتت نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم وصحت؛ من حيث ثبتت نبوة موسى وعيسى صلوات الله عليهما، والذي ثبتت به نبوتهما في بني إسرائيل، ووجبت طاعتهما؛ فَبِه ثبتت نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم سواءً سواء.
فإن قال: وما ذلك الذي ثبتت به نبوتهم؟
قيل له: هي: المعجزات التي أتوا بها، والآيات التي أظهروها، التي لا ينالها مخلوق، ولا تكون إلاَّ من الخالق، ومعجزات كل واحد منهم معروفة عند أهل العلم، وقد شرحنا ذلك في مسائل ابني أبي القاسم(2)، التي في إثبات النبوة والوصية والإمامة.
والجواب في مسألتك هذه للمسلم والذمِّي سواء.
__________
(1) لا نعرف من هو السائل ولعله من الطبريين أو من أهل اليمن والله أعلم.
(2) هو الإمام محمد بن يحيى المرتضى عليه السلام.

(2/307)


ويقال: إن كانت معجزات موسى وعيسى أثبتت نبوتهما (على أممهما، فقد أثبتت نبوةَ محمد معجزاته على جميع الخلق، وإن لم تكن معجزاتهما أثبتت نبوتهما) (1) عندك؛ فأخبرنا: بم تثبت نبوتهما مما هو غير ذلك؟ حتى نأتيك في محمد صلى الله عليه وسلم بحجج تقطعك وتقمعك.
فلا تجد بداً إن شاء الله أن تقول: إن المعجزات من الآيات هن اللواتي يثبتن ويصححن النبوة، ويقمن لله ولرسوله الحجة على الأمة.
فإذا أقر بنبوة محمد لثبات الحجة عليه، ووضوحها لديه، ولزومها له ـ إذ إقراره بها يثبت نبوة نبيه، ومكابرتُه فيها وقولُه بالدفع لها؛ يُبطِل قوله في نبيه ـ قيل له: اتق الله، وأجب محمداً داعياً إلى الله ورسُوله إليك وإلينا. فإن قال: قد أثبتم علي الحجة بما لم أقدر أن أدفعه في إثبات نبوته؛ إلاَّ أن أدفع نبوة نبيي؛ فقد أقررت لكم بنبوته حين اضطررت إلى ذلك؛ فهو نبيكم ورسولكم، وليس إلينا برسول.
قيل له: بل هو رسول إليك وإلى آبائك من قبلك(2)، بإقرارك لا بإنكارك، فقد أقررت بذلك ولزمك؛ من حيث ثبتت عليك الحجة في الإقرار بنبوته، وإن كنت لم تعقل ذلك ولم تفهمه، ولم يحط به عقلك فيعلمه.
فإن قال: ومن أين حكمت عليّ بذلك، وجعلتني في الحكم كذلك؟ أَبِنْ لي بذلك قولاً صواباً، وأزح لي به شكاً في قلبي وارتياباً.
قيل له: ألست قد أقررت بأنه رسول الله ونبيه؟ فلا يجد بداً من أن يقول: نعم. فيقال له: هل يجوز على الأنبياء صلوات الله عليهم أن تأتي بشيء من أنفسها؛ ثم تزعم أنَّه من الله دونها، وفي ذلك مالا يخفى عليك من الكذب على الله، وحاشا لرسل الله صلوات الله عليهم من ذلك. فلا يجد بداً من أن يقول: لا يجوز ذلك في الأنبياء صلوات الله عليهم والرسل.
__________
(1) سقط من (ب).
(2) في (أ، ج): من قبل.

(2/308)


فإذا قال ذلك، قيل له: أفليس القرآن الذي جاء به محمد من الله، وذكر أنَّه من الله؛ هو من الله، فلا يجد بداً أن يقول: نعم، هو قرآن بعث به إليكم دوننا. فإذا قال ذلك، قيل له: قد أقررت بنبوءته صلى الله عليه، وأقررت بالكتاب الذي جاء به أنَّه حق من الله؛ فقد وجدنا في هذا الكتاب تصديق إرسال محمد إليكم.
فإن قال: وأين ذلك؟
قيل له: هو قول الله سبحانه: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً} [الفتح: 8 ـ 9]. وقوله: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيكُمْ جَمِيعاً الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} [الأعراف: 158]، ويقول: {آمِنُوا بِمَا أَنْزَلْتُ مُصَدِّقاً لِمَا مَعَكُمْ وَلاَ تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ وَلاَ تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَناً قَلِيلاً وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ} [البقرة: 41]. فكل هذا القول ـ الذي في الكتاب ـ الذي لم تجد بداً أن تقر به أنَّه من عند الله؛ فإن بطل منه حرف بطل كله، وإن ثبت أنَّه من الله؛ ثبت ووجب عليك ما أمرك الله به فيه، ولزمك الإيمان به والتصديق؛ إذ قد أقررت بنبوءة محمد صلى الله عليه وآله وسلم، فلا يجد حينئذ الذميُّ بداً أن ينصف فيقر بالحق، أو يكابر بعد ثبات الحق وبيان،، فيستدل بمكابرته على جهله وحمقه، ويستغنى بظهور جهله عن مناظرته؛ لأن الجاهل المكابر محيل، وصاحب المحال لا حجة معه.
تم ذلك
تثبيت نبوة محمد
صلى الله عليه وآله وسلم
m

(2/309)


(قال يحيى بن الحسين بن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم): إن سأل سائل فقال: ما الدليل على نبوة محمد صلى اللّه عليه وآله؟
قيل له: الدلائل كثيرة على ذلك، ولكن ليس لمنكر أن يسألنا عن هذه المسألة إلا أن يكون من أهل الكتب الذين أجمعوا معنا على التوحيد والنبوات. وأما الملحدون فليس لهم أن يسألونا عن تصحيح النبوة، وهم لم يؤمنوا برب الأنبياء عليهم السلام.
فمن سألنا من اليهود والنصارى، وأهل الكتاب المقرين بالتوحيد، قلنا لهم: الدلائل كثيرة على تصحيح نبوته عليه السلام، وذلك أنَّه أتى بما يعجز الخلائق عن مثله، فلما أن أتى بما يعجز الخلائق عن مثله؛ علمنا أنَّه ليس في قدرة المخلوقين فعله، وأنه لم يفعله إلاّ الخالق، ولم يضعه إلاَّ على يدي أمين صادق.
فإن قال: فما الأعلام التي جاء بها تعجز الخلائق عن مثلها؟ قلنا له: ذلك أكثر من أن يحصى.
منه الماء القليل الذي سقى منه العالم الكثير.
ومنه الخبز القليل الذي أطعم منه البشر الكثير.
ومنه أن ذئباً تكلم على نبوءته.
ومنه أنَّه أمر شجرة فأقبلت تحد الأرض، ثم أمرها فرجعت.
ومنه كلام الذراع المسمومة له. وواحدة من هذه الأعلام تجزي، بعد أن تكون معجزة للخلق.
فلما أن أتى صلى الله عليه بهذه المعجزات(1) التي ذكرنا، علمنا أنَّه نبي صلى الله عليه وآله.
فإن قال: فما الدليل على أنَّه جاء بهذه الأعلام التي تذكرها، ومن خالفك لا يقر لك بذلك؟
__________
(1) في (أ): الأعلام نخ، وفي (ج): بهذه المعجزات الأعلام.

(2/310)


قيل له: الدلائل على ذلك: الأخبار المتواترة، التي لا يجوز على مثلها الشك، عن قوم متفرقي(1) الديار، بعيدي الهمم، مختلفي التجارات والصناعات، والألسن والألوان، يعلم أن مثلهم لا يجوز عليهم الإجتماع والتواطؤ، فلما أجمعوا ينقلون هذا الخبر؛ علمنا عند خبرهم ـ إذ جاء هذا المجيء ـ أنَّه حق وصدق؛ لأنه لو جاز على مثل ما ذكرنا التواطؤ (على الكذب)(2) لكنا لا ندري لعلنا إذا دخلنا مثل البصرة والكوفة، أو بعض هذه الأمصار التي لم ندخلها؛ فقيل لنا: هذه مكة، هذه الكوفة، وهي المدينة، أنهم قد كذبوا، وأن أهل البلد قد تواطؤا على أن يخبرونا بخلاف ذلك.
فإن قلت: لا يجوز لأهل بلد واحد أن يتواطؤا، ويجتمعوا على شيء واحد.
قلنا: وكذلك لا يجوز أن يكون من خبرنا عن نبينا محمد عليه السلام أنَّه فعل كذا، أو جاء بكذا، وأخبر عن كذا؛ أن يكونوا كذبوا؛ لاختلاف أجناسهم، وبعد هممهم.
فإن كان السائل يهودياً فارجع عليه؛ فقل: بما صح عندك نبوة موسى؟ فإنه يقول: بالإعلام التي جاء بها، التي تعجز الخلائق عن مثلها.
قيل له: وبما علمت أنَّه جاء بالأعلام؟ فإن قال: بأخبار من خالفنا، فلما أن اجمعتم معنا والنصارى معكم مع خلافكم لنا؛ علمنا أن مقالنا كما قلنا، وأن خبرنا حق.
قلنا له: فأخبرنا عن أسلافكم الذين كانوا قبل أن تكونوا، إذ كانت النصارى لم تصح لكم نبوة موسى.
فإن قال: بلى.
قيل: ولم وبما، وليس هناك مسلمون ولا نصارى يجمعون معك، وزعمت أنَّه لا يصح الخبر إلاَّ بإجماع من خالفك بعدُ؛ فلو آمن الناس كلهم بموسى وصاروا على دينك بطلت نبوة موسى، إذ زعمت أن الأخبار لا تصح إلاَّ بالمخالفين. فبهذه وللنصارى مثلها على اليهود فافهمها.
__________
(1) في (أ، ج): مفترفي.
(2) زيادة من (ج).

(2/311)


ومن دلالته صلى الله عليه وعلى أهل بيته وعلامته هذا القرآن، لا يقدر أحد أن يدعيه، ولا أنَّه جاء به أحدٌ غيره صلى الله عليه وعلى آله وسلم، قد أعجز أهل دهره من الفصحاء والبلغاء، فلم يقدر إلى يومنا هذا كلُّ الخلق أن يأتوا بمثله، أو بسورة منه، ليس يشبه(1) الشعر، ولا الرجز، ولا الخطب، بآئن من كلام المخلوقين، وفيه أخبار الأولين والآخرين، وبعثه صلى الله عليه والعرب متوافرة، ليس فخرهم إلاَّ الشعر والبلاغة والخطب، فتحداهم بأجمعهم من أن يأتوا بسورة من مثله، عجزوا(2) وأقروا بالعجز، فعلمنا ـ إذ عجزوا أن يأتوا بمثله وهو بلغتهم ـ أن غيرهم أعجز، وعلم أهل النهى ـ إذ عجز الخلائق عن مثله ـ أنه من عند أحكم الحاكمين، وأنزله على رسوله صلى الله عليه نوراً وهدىً للعالمين.
ومن معجزاته أن قوماً من آل ذَرِيح وهم حي من أحياء العرب، وهم بمكة؛ أرادوا أن يذبحوا عجلاً لهم، وذلك في أول مبعث النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فلما أضجعوه ليذبحوه أنطق الله العجل فقال: يا آل ذريح، أمر نجيح، صائح يصيح، بلسان فصيح، يؤذن بمكة لا إله إلاَّ الله وأن محمداً رسول الله؛ فتركوا العجل، وأتوا المسجد فإذا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قائم في المسجد وهو يقول: أشهد أن لا إله إلاَّ الله وأني محمد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
ذكر خطايا الأنبياء
صلوات الله عليهم
__________
(1) في (ب): يشبهه.
(2) كذا في النسخ.

(2/312)


مما سأله إبراهيم بن المحسن العلوي رحمة الله عليه (1)
m
[قصة آدم عليه السلام وإبليس وخطيئة آدم]
سُئل الهادي إلى الحق يحيى بن الحسين صلوات الله عليه عن قول الله تبارك وتعالى: {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلاَئِكَةِ اسْجُدُوا لآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ}[البقرة: 34، الإسراء: 61، الكهف: 50، طه: 116] كيف كان السجود من الملائكة صلوات الله عليهم؟
فقال: معنى {اسْجُدُوا لآدَمَ}؛ إنما أراد بذلك: أسجدوا من أجل (2) آدم؛ تعظيماً لخالقه؛ إذ خلقه من أضعف الأشياء وأقلها عنده، وهو الطين. فجاز أن يقال: {اسْجُدُوا لآدَمَ}؛ لما أن كان السجود من أجل خلقه.
وقوله: {فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ}، وإنما جاز أن يجعل إبليس معهم في الأمر وإن لم يكن من جنسهم؛ إذ كان حاضراً لأمر الله لهم، فأمره بالسجود معهم، وإن لم يكن جنسه جنسهم؛ لأن الملائكة صلوات الله عليهم إنما خلقوا من الريح والهواء، وخلقت الجن كلها من مارج النار، ومارج النار فهو الذي يتقطع منها عند توقدها وتأججها.
قلتُ: فما الدليل على أن إبليس من الجن؟
قال: قول الله جل ذكره: {إِلاَّ إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ}[الكهف:50].
قلت: فهل أمرت الجن كلها بالسجود، أم خص الله إبليس بذلك دونهم؟
__________
(1) هو إبراهيم بن المحسن بن عبيدالله ـ أخي محمد بن عبيدالله والد مصنف سيرة الإمام ـ بن عبد اللّه بن عبيدالله بن الحسن بن عبيدالله بن أبي الفضل قمر أهل البيت العباس بن علي بن أبي طالب الشهيد بكربلاء العلوي العباسي، من أصحاب الإمام المجاهدين معه، يؤخذ من سيرة الإمام أنه كان حياً في شهر رمضان من سنة (294 هـ)، وأنه كان مع عمه محمد بن عبيدالله في حربه للقرامطة بنجران حين طلب بعضهم كما في سيرة الإمام الهادي عليه السلام حيث له ذكر في موضع منها فقط، لم أقف على تاريخ وفاته. السيرة 344 ـ 345.
(2) في (أ): من قِبَل.

(2/313)


قال: لم يأمر الله سبحانه أحداً منهم إلاَّ إبليس فقد أمره الله بالسجود دونهم.
قلت: أفمخصوصاً كان بذلك دونهم؟ قال: نعم، كان مخصوصاً بالأمر.
قلت: فعصيان آدم صلوات الله عليه في أكل الشجرة كيف كان ذلك منه، تعمداً أم نسياناً؟
فقال: قد أعلمك الله في كتابه، من قوله: {وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً}[طه: 115]، يقول: لم نجد له عزماً على أكلها، واعتمادها بعينها.
ولكن سلني فقل لي: فإذا كان آدم في أكل الشجرة ناسياً فكيف وجبت عليه العقوبة، وقد أجمعت الأمة على أنَّه إذا نسي الرجل فشرب في رمضان وهو ناسٍ، أو أكل وهو ناس، أو ترك صلاة حتى خرج وقتها وهو ناس، أو جامع امرأته في طمثها وهو ناس، لم يجب عليه في ذلك عقوبة عند الله؟ فكيف يجب على آدم عليه السلام العقوبة في أكل الشجرة ناسياً؟
فإن سألتني عن ذلك، قلت لك: إنما عوقب آدم صلوات الله عليه في استعجاله في أكل الشجرة، وذلك أن الله سبحانه لما نهاه عن أكل الشجرة ـ وهي البر ـ وأمره بالشعير ولم يحظرها عليه، فكان يأكل من شجرة الشعير وهي ورق، ولم تحمل ثمراً، فلما صار فيها الحب والثمر أشكل عليه أمرها، فلم يدر أيهما نهي عنه،فأتاه اللعين بِخِدَعِهِ وغروره، فقاسمه على ما ذكره الله في كتابه؛ فقال: {مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلاَّ أَنْ تَكُونَا مَلَكَينِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ}[الأعراف: 20]، فاستعجل آدم فأكل من الشجرة، ولم ينتظر الوحي في ذلك من عند الله، فعوقب في استعجاله في أكلها، وقلة صبره لانتظار أمر ربه.
قلتُ: فكيف كان كلام إبليس وخدعه إياه؟ هل كان تصور له جسماً، ورآه عياناً؟
فقال: إنما سمع آدم كلامه، ولم يره جسماً. وقد رويت في ذلك روايات كذب فيها من رواها، وكيف يقدر مخلوق أن يخلق نفسه على غير مركب خلقه، وفطرة جاعله؟ هذا ما لا يثبت ولا يصح عند من عقل وعرف الحق.

(2/314)


قلتُ: فقد كان محمد النبي صلى الله عليه يخاطب جبريل، ويعاينه على عظيم خلقه، وجسيم مركبه!
فقال: إنما كان جبريل عليه السلام ينزل على محمد صلى الله عليه وآله وسلم على صورة(1) لطيفة يقدر على رؤيتها وعيانها. وصح عندنا أن النبي محمداً عليه السلام رأى جبريل في صورة (( دِحْيَة الكلبي (2) ))، وإنما ذلك خلق احدثه الله فيه، وركبه عليه؛ لما علم من ضعف البشر، وأنهم لا يقدرون على النظر إلى خلق الملائكة؛ لعظيم خلقهم، وجسيم مركَّبهم. فلما علم الله تبارك وتعالى من محمد صلى الله عليه وآله وسلم ذلك ـ ولم يكن جبريل عليه السلام يقدر على تحويل صورته ومركَّبه من حال إلى حال؛ لضعف المخلوقين وعجزهم عن ذلك ـ نقله الله سبحانه على الحالة التي رآه محمد عليه السلام فيها، نظراً منه سبحانه لنبيه صلى الله عليه وآله وسلم، وما فعله الله فليس من فعل خلقه. فلك في هذا كفاية إن شاء الله.
قلت: فهل كان آدم صلى الله عليه طمع في الخلود؛ لما قاسمه (عليه)(3) إبليس على النصح؟ قال: إنما كان ذلك منه صلوات الله عليه طمعاً أن يبقى لطاعة الله ولعبادته، فأراد أن يزداد بذلك قربة من ربه.
قلت: فما معنى قوله: {فَأَكَلاَ مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا}[طه: 121]؟
قال معنى قوله: {بَدَتْ لَهُمَا سَوآتُهُمَا}؛ فهو سوء فعلهما، لا كما يقول من جهل العلم، وقال بالمحال: إن اللّه كشف عورة نبيه وهتكه. وكيف يجوز ذلك على الله في أنبيائه؛ والله لا يحب أن يكشف عورة كافر به؟ فكيف يكشف عورة نبيه؟
__________
(1) في (أ): في خلقةِ صورةٍ.
(2) هو: دحية بن خليفة بن فروة بن فضالة الكلبي، صحابي جليل، نزل المِزَّة، ومات في عهد معاوية.
(3) ليس في (ج).

(2/315)


قلتُ: فقوله (1): {يَنْزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا}[الأعراف: 27] فقال: قد اختلف في ذلك، ورويت فيه روايات. وأصح ما في ذلك عندنا، والذي بلغنا عن نبينا صلى الله عليه وآله وسلم أن لباسهما هو لباس التقوى والإيمان، لا ما يقول به الجاهلون من أنَّه لباس ثياب، أو ورق من ورق الشجر. فهذا معنى قول الله: {يَنْزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا}، وإنما أراد بذلك من قوله: {لِبَاسَهُمَا} أي لباس التقوى، بما سوَّل ووسوس لهما من الكذب والمقاسمة التي سمعها منه.
قلت: فقوله: {وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ}[الأعراف: 22] قال: إنما كانا في الجنة في ظلها وتحت أشجارها، فلما أخرجا منها(2) وأصابتهما الشمس بحرها ورمضاء(3) الأرض، فأرادا أن يجعلا لهما موضعاً يكون لهما فيه ظلال، كما يفعله من خرج من منزله في سفر ونيته إلى غيره من البوادي وغيرها، فلا يجد ظلالاً(4) ولا مسكناً، فلا يجد بداُ من أن يعرش عريشاً يُكنّه، ويستره من الحر، ويقيه من شدة البرد. فهذا معنى قوله: {يَخْصِفَانِ عَلَيهِمَا}.
قلتُ: فالجنة التي كانا فيها، أفي السماء كانت، أم في الأرض؟
قال:هي جنة من جنان الدنيا، والعرب تسمي ما كان ذا ثمار وأنهار جنة.
قلت: فقوله: {اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعاً}!
قال: ذلك جائز في لغة العرب ، ألا ترى أنك تقول: هبطنا نجران، وهبطنا اليمن، ونريد أن نهبط الحجاز. فلما كان ذلك معروفاً في اللغة؛ جاز أن يقول: {اهْبِطُوا مِنْهَا}.
وسألته عن قول الله تبارك وتعالى: {فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيهِ}[البقرة: 37]، ما الكلمات التي تلقاها آدم من ربه؟
__________
(1) في (أ): فكيف ينزع.
(2) في (أ، ج) خرجا.
(3) في (أ، ج): ورمضِ.
(4) في (أ، ج): ظلاً.

(2/316)


قال: قد اختلف فيها، والصحيح عندنا أن الكلمات: هو ما كان الله تبارك وتعالى قد أعلمه؛ بخلق من سيخلقه من ذرية آدم ونسله، وأنه سيكون منهم مطيع ومنهم عاص باختيارهم، وأنه سبحانه يقبل التوبة من تائبهم، إذا تاب وأصلح، وأخلص التوبة وراجع. فلما كان منه ما كان من أكل الشجرة؛ ذكر ما كان الله قد أعلمه من القبول للتوبة؛ فقالا {رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ}.[الأعراف: 23] فهذه الكلمات التي تلقاها آدم من ربه صلوات الله عليه.
[قصة سليمان وخطيئته عليه السلام]
وسألته عن قول الله سبحانه: {وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَداً ثُمَّ أَنَابَ}[ص: 34].

(2/317)


فقال: معنى قوله: {فَتَنَّا سُلَيمَانَ}، يقول: امتحناه، وإنما كان ذلك من أجل ما سألته مَلِكَةُ سبأ؛ من طلبها حين طلبت منه قرباناً تقرب به على ماكانت تفعل في قديم أفعالها، فسألته صلى الله عليه أن يأذن لها في بقرة فلم يجبها، ثم سألته شاة فكره ذلك عليها، ثم طيراً فأعلمها أن ذلك لا يحل لها، فوقعت في صدرها جرادة؛ فقالت: فهذه الجرادة إئذن لي فيها، فتوهم وظن أنها مما لا إثم عليها فيها؛ إذ كانت مما لا يقع عليه ذَكَاة، فسكت ولم يمنعها عن ذلك؛ فقطعت رأس الجرادة وأضمرت أنها قربان. فلما خرج صلى الله عليه يريد أن يتطهر على جانب البحر؛ نزع خاتمه من يده، وكان لا يتطهر حتى ينزع الخاتم من يده، وهذا الواجب على كل متطهر، إذا أراد أن يتطهر من جنابة أو غيرها للصلاة، أن ينزع خاتمه، أو يديره في إصبعه حتى يصل الماء إلى البشر(1) الذي يكون تحته، وينقى من الدرن ما حوله. فلما نزع الخاتم ومضى لطهوره، خرج حوت من البحر فابتلع الخاتم وذهب في البحر، فلما فرغ سليمان من طهوره؛ نظر إلى الموضع الذي كان وضع فيه خاتمه فلم يجده، فعلم أن ذلك لسبب قد أحدثه، وأن الله سبحانه أراد بذلك فتنته، فدعا الريح فلم تجبه، ثم دعا الطير فلم تجبه، ثم دعا الجن فلم تجبه، لما ذهب عنه الخاتم، وإنما كان الخاتم سبباً من الله لملكه قد جعله الله فيه، وبه كان يطاع؛ فعلم سليمان أن العقوبة قد وقعت، ووثب العفريت الملعون على سريره عند ذلك وهو مُلْكُه، فكان يتكلم على شبه كلام سليمان عليه السلام، وهو من وراء حجاب، لا يظهر ولا يرى له شخص، ودعا فلم يجبه إلاَّ الإنس، ومضى سليمان باكياً نادماً على فعله، وجعل يتبع الصيادين على سواحل البحر يخدمهم ويعينهم، وهم لا يعرفونه، ولا يعلمون أنَّه سليمان، فأقام على ذلك وقتاً اختلفت(2) فيه الرواة، فقال بعضهم: أقام أربعين يوماً. وقال آخرون: بل مكث
__________
(1) في (ج): إلى الشعر، وما هنا نخ.
(2) في (ب): وقد اختلفت.

(2/318)


خمسين يوما. وقال قوم: سبعين يوماً، وهذا أكثر ما قيل فيه؛ فجعل يتبعهم ويعمل معهم، ويعطونه في كل يوم حوتين، فيبيع أحدهما فيشتري به خبزاً، ويشوي الآخر فيأكله. فلما علم الله منه التوبة والرجوع، والإنابة والخضوع؛ أراد أن يرد عليه نعمته؛ فانصرف ذلك اليوم ومعه الحوتان (1) اللذان عمل بهما يومه ذلك؛ فشق بطن أحدهما على ما كان يفعل، فإذا بالخاتم قد خرج من بطن الحوت؛ فعرفه عند ذلك؛ فأخذه وشكر الله، وحمده على ما أولاه. ثم دعا الريح فأجابته، وكان قد أَبعد من بلده، فأمر الريح فاحتملته من ساعته إلى موضعه، وهرب اللعين العفريت لما رآه، وقال(2) بعض الرواة: إنَّه كان حبسه، ورد الله على نبيه ملكه، ورجع إليه ما كان الله قد أعطاه، فدعا الطير والريح والجن فأجابته، ودامت نعمته.
قلت: فما الجسد (3) الذي ألقي على كرسيه، هل كان جسماً يظهر ويرى؟
قال: لا، إنما كان الذي يظهر إليهم منه ما يسمعون من كلامه، وكان مستتراً عنهم، فكانوا يظنون أنَّه سليمان. وإنما احتجب عنهم بسبب(4) أمره الله به، أو فعل فعله من نفسه، فلو ظهر لهم لبان أمره عندهم، ولكن تمكن منهم بالتمويه عليهم والمكر لهم.
قلت: فهل نال من الخدم منالاً، أو وصل إليهم بسبب من الأسباب؟
قال: معاذ الله أن يكون نال شيئاً من ذلك أو فعله، غير الذي شرحته لك من كلامه فقط.
[قصة يونس عليه السلام وخطيئته]
وسألته عن قول الله سبحانه: {وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِباً فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيهِ}[الأنبياء: 87].
__________
(1) في (ب، ج): الحوتيان.
(2) في (ج): قال.
(3) في (أ): فالجسد.
(4) في (ج): لسبب.

(2/319)


فقال: أما ذو النون فهو يونس، والنون فهو الحوت. وأما قوله: {إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِباً}؛ فإنما كان ذهابه غضباً على قومه، واستعجالاً منه دون أمر ربه، لا كما يقول الجهلة الكاذبون على أنبيائه ورسله صلوات الله عليهم؛ من قولهم: إن يونس خرج مغاضباً لربه، وليس يجوز ذلك على أنبياء اللّه صلوات اللّه عليه، وإنما كان ذلك كما ذكرت لك، من غضبه على قومه، ومفارقته لهم واستعجاله دون أمر ربه، وهو قوله لمحمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم: {وَلاَ تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نَادَى وَهُوَ مَكْظُومٌ}[ن: 48] وهو يونس، يقول: لا تعجل كعجلته، واصبر لأمري وطاعتي، ولا تستعجل كاستعجاله. فهذا معنى قوله: {إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِباً}. وقوله: {فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيهِ}، أراد بذلك من قوله: {فَظَنَّ} أي أفَظَنَّ أن لن نقدر عليه؟ وهذا على معنى الإستفهام. ولم يكن ظن ذلك صلى الله عليه.
وهذا مما احتججنا به في الألف التي تطرحها العرب وهي تحتاج إلى إثباتها، وتثبتها في موضع وإن لم تحتج إليها، مثل قوله: {لاَ أُقْسِمُ}، وإنما معناها ألا أقسم، وقوله: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ}[البقرة: 184]، فطرح الألف (1) وهو يريدها. ومن ذلك قول الشاعر:
نزلتم منزل الأضياف منا…فعجَّلنا القِرَى أن تشتمونا
وإنما أراد أن لا تشتمونا، فطرح الألف واللام. ومثل هذا كثير في الكتاب، وهو حروف الصفات.
__________
(1) في هامش (ج): فطرح لا، نخ.

(2/320)


فلما صار يونس في السفينة، وركب أهلها واستقلت بهم، وطابت الريح لهم، أرسل الله حوتاً فحبس السفينة، فعلم القوم عند احتباسها أنها لم تحبس بهم إلاَّ بأمر من الله قد نزل بهم، فتشاور القوم بينهم، وتراجعوا القول في أمرهم وما قد نزل بهم وأشفقوا، فقال لهم يونس: يا قوم أنا صاحب المعصية، وبسببي حبست بكم السفينة، فإن أمكنكم أن تخرجوني إلى الساحل فافعلوا، وإن لم يمكنكم ذلك فالقوني في البحر وامضوا؛ فقال بعضهم: هذا صاحبنا،وقد لزمنا من صحبته ما يلزم الصاحب لصاحبه، وليس يشبهنا(1) أن نلقيه في البحر فيتلف فيه على أيدينا ونسلم نحن، ولكن هلموا نَسْتَهِم، فمن وقع عليه السهم ألقيناه في البحر، فتساهم القوم فوقع السهم على يونس، ثم أعادوا ثانية فوقع عليه، ثم أعادوا ثالثة فوقع السهم على يونس فرمى بنفسه، فالتقمه الحوت ومضى في البحر، وكان يونس صلى الله عليه ينظر إلى عجائب البحر من بطن الحوت، وجرت سفينة القوم بهم.
__________
(1) أي يحسن منا.

(2/321)


قال: ولبث يونس صلى الله عليه في بطن الحوت ما شاء الله من ذلك، فاستمط شعره وجلده (1)، حتى بقي لحمة، ومنع الله منه الموت. فلما علم الله توبته، وقد نادى بالتوبة: {أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ}[الأنبياء: 87] فاستجاب له، وتقبل توبته، ورحم فاقته، فأرسل ملكاً من الملائكة فساق ذلك الحوت إلى جزيرة من جزائر البحر، فألقى يونس من بطنه، وقد ذهب شعره وجلده، وذهبت قوته، فرد الله جسمه على ما كان عليه أولاً، من تمام صورته، وحسن تقويمه، وأنبت الله له شجرة اليقطين ـ وهي الدُّبَّا ـ فكان يأكلها، فلما اشتدت قوته، واطمأن من خوفه وإشفاقه، أرسله الله إلى قومه، وكانوا في ثلاث قرى، فمضى إلى أول قرية فدعاهم إلى اللّه وإلى دينه، فأجابه نصفهم أو أكثر من النصف، وعصاه الباقون، فسار بمن أطاعه إلى العصاة لأمره، فحملهم عليهم وقاتلهم، فقتلهم وأبادهم، وسار إلى القرية الثانية فدعا أهلها، واعذر إليهم وأنذرهم، فأجابه منهم طائفة، فحمل المطيع على العاصي فقتلهم وأبادهم. ثم سار إلى القرية الثالثة وكانت أعظمها وأشدها بأساً ومنعةً، فدعاهم إلى الله، وأعذر إليهم، وأنذر وحذر ما حل بإخوانهم، فلم يجبه منهم أحد، واستعصموا على كفرهم؛ فسار إليهم وخرجوا إليه، فحاربهم فلم يقدر عليهم، فلما كان بعد وقتٍ، وعلم الله منه الصبر على ما أمره به من طاعته، والإعذار إلى خلقه؛ أمر الله جبريل صلى الله عليه فطرح بينهم ناراً، ثم أرسل الرياح فأذرت النار عليهم، وعلى منازلهم ورجالهم، فأحرقتهم جميعاً ودمرتهم.
فهذا ما سألت عنه من خبر يونس عليه السلام.
[قصة أيوب عليه السلام]
وسألته عن قول أيوب صلى الله عليه: {إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ}[ص: 41].
فقال: معنى قوله: {مَسَّنِى}؛ فهو ما كان من كلامه ووسوسته له.
__________
(1) أي ذهبا وتفسّخا.

(2/322)


وذلك أن أيوب صلى الله عليه قد كان جعل ضيافة أضيافه إلى امرأته، فأتاه إبليس اللعين فقال: يا أيوب إن امرأتك قد فضحتك اليوم في أضيافك، فأتاها فقال: ما الذي حملك على أن تفضحيني في أضيافي؟ أقسم لأضربنك مائة ضربة بالعصا. فلما همَّ بالذي أقسم به من ضربها؛ أتاه الملعون إبليس فقال: يا أيوب سبحان الله، أيحل لك أن تضرب امرأة ضعيفة، لم تجرم جرماً، ولم تأت قبيحاً، ولم تفعل أمراً تستحق به منك ضرباً، وليس لها قوة على ضربة واحدة، فكيف مائة ضربة، فلا تهلكها، وتأثم بربك في أمرها؟! فلما تركها وكف عنها(1) أتاه من موضع آخر؛ فقال: يا أيوب سبحان الله كيف يحل لك أن تقعد عنها، وقد حلفت لتضربنها، ولا ترجع عن يمينك، ولا تأثم بالله ربك؟! فلما رجع إليها ليضربها(2)؛ أتاه بالوسوسة على مثل ما أتاه(3) أولاً، فلم يزل يفعل كذلك حتى دخله الغم، وعظم عليه الأمر؛ فانقلب على ظهره وجعل يفكر وينظر، وخالطه من الوسوسة ما غلبه على أمره، فلم يزل كذلك حتى تَقَرَّح ظهره، ولزمه المرض العظيم، واشتد به (4) الأمر، وتمادت به العلة، وذهبت ما شيته، وافترق ماله، ومات أولاده، ومرضت المرأة من الغم والحزن. فلما رأى ذلك من كان معه في المنزل؛ أخرجوه صلى الله عليه إلى ناحية منه على خط الطريق، وليس يقدر أن يرفع يداً ولا رجلاً، واشتد(5) به البلاء، وهو مع ذلك صابرٌ محتسب. فلما كان يوماً (6) من الأيام مضى به نفر، فلما رأوه ونظروا إلى ما هو فيه من عظم البلاء وشدة النتن؛ قالوا: والله لو كان هذا ولياً لله لأجابه، ولكشف ضره، ولما أصابه شيء من هذا؛ فلما سمع ذلك من قولهم: {نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ}؛ فجاز أن يقول: مسني الشيطان، لما أن كان ذلك من
__________
(1) في (ب): وعفى عنها.
(2) في (ج): ليضربنها.
(3) في (ج): الذي أتاه.
(4) في (أ، ج): وشد به.
(5) في (أ، ج): وشد.
(6) كذا في النسخ، ولعلها على حذف الجار.

(2/323)


وسوسته، وكيده وسببه؛ فاستجاب الله له فقال: {ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ}[ص: 42]، ولم يقدر أن يرفع يداً ولا رجلاً؛ فضرب بعقبه فانبثقت عليه عين؛ ففارت(1) وارتفعت حتى كانت أكبر من جلسته، فجعلت تنسكب عليه وهو يغتسل بمائها وهي تقلع عنه كل ميت، وتنقي عنه ما كان به من الأقذار، وتميط عنه الأذى، وجعل يشرب منها ويخرج ما في جوفه من العلة، حتى نَقِيَ بدنه ورجع إلى أفضل ما كان عليه أوَّلاً، وردالله عليه أهله وماله، وأمره أن يأخذ ضغثاً فيضرب المرأة كفارة اليمين التي حلف، فقال بعض الرواة: إنَّه أخذ من هذا الذي يكون فيه التمر فجمع منه مائة غصن(2) فضربها به ضربة. وقال بعضهم: إنَّه ضربها به ضربتين. واختلف في ذلك، غير أن الصحيح من ذلك أنَّه قد جمع ضغثاً فضربها به.
قلت: فإبليس كيف كان إتيانه إلى أيوب صلى الله عليه؟
قال: لم يره عياناً، وإنما سمع كلامه ولم ير شخصه. وقد قال بعض الجهلة: إنَّه تصوّر له في صورة غير صورته، وليس ذلك كما قالوا، وكيف يقدر مخلوق أن يغير خلقته، ويحول نفسه صوراً مختلفة؟! وليس يقدر على ذلك إلاَّ الله رب العالمين، الذي خلق الصور والأجسام، ونقلها من حال إلى حال، فسبحان الله رب العرش(3) عما يصفون، ولا إله إلاَّ هو الرحمن الرحيم.
[قصة يوسف عليه السلام مع امرأة العزيز]
وسألته عن قول الله سبحانه في يوسف صلى الله عليه، من قوله: {وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَولاَ أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ}[يوسف: 24]؛ كيف كان همها به؟ وكيف هم بها؟
فقال: كان همها هي هم شهوة ومراودة، وكان همه بها هم طباع النفس والتركيب.
ألا ترى أنك إذا رأيت شيئاً حسناً أعجبك، وحسن في عينك، وإن لم تهم به لتظلمه، وتأخذه غصباً من أهله؟
__________
(1) في (ب): فثارت.
(2) في (ب): عصل.
(3) في (ب): رب العالمين.

(2/324)


وكذلك إذا رأيت طعاماً طيباً أولباساً حسناً أعجبك، وتمنيت أن يكون لك مثله، وأنت لا تريد بإعجابك به أخذه، ولا أكله إلاَّ على أحل ما يكون وأطيبه، ولم ترد بقولك إنك تأكله أو تلبسه أو تنكحه إلاَّ حلالاً؟
قلت: بلى. قال: فكذلك كان هم يوسف صلى الله عليه في زوجة الملك.
قلتُ: قد سمعنا بعض الرواة يذكر أنَّه منع يوسف عليه السلام من إتيانها انه رأى يعقوب صلى الله عليه كأنه يزجره عنها ويخوفه.
قال: قد قيل فيه شبيه من ذلك، وليس القول فيه كذلك، وحاش لله أن ينسب ذلك إلى نبي (من أنبياء)(1) الله. قلت: فقد كان يروى لنا ذلك بين الملأ، ويتحدث به في المساجد. قال: قد ذكر ذلك، جلَّ اللهُ عن كل ما يقول فيه الملحدون، وينسب إليه الضالون. وليس قولهم هذا في أنبياء الله، وروايتهم الكاذبة عليهم؛ بأعظم من كذبهم وجرأتهم على الله، سبحانه وتعالى عما يقول الظالمون علواً كبيراً. ألا ترى كيف شبهوه بالأشياء من خلقه، وجعلوه جسماً ذا أعضاء وأجزاء مختلفة؟ فتعالى عن ذلك من ليس كمثله شيء.
ولقد ناظرت رجلاً ممن ينتحل التشبيه؛ فألزمته أن يقول: إن الله مخلوق، أو ينفي عنه التشبيه؛ فاختار أن يجعله مخلوقاً وكره أن ينفي عنه التشبيه. فهذا أعظم الأمور، وأقبح الأقاويل كلها.
__________
(1) ليس في (أ، ج).

(2/325)


قلت: فالبرهان الذي رآه يوسف صلى الله عليه ما هو؟ قال: هو ما جعل الله فيه من علمه، وخصه به من المعرفة به، والخوف في علانيته وسره. وإنما كان ذلك ابتداءً منها، ومراودة له على نفسه. كان من قولها له: أن يا يوسف إن لم تأتني أتيت أنا إليك، فقال: معاذ الله من ذلك، فقامت فأرخت ستراً كان على باب البيت، وكان في البيت صنم لها تعبده من الذهب له عينان من ياقوتتين حمراوين، فكانت تستحييه (1) وتعبده، فقال لها يوسف صلى الله عليه: لم أرخيت هذا الستر؟ فقالت: إني خفت أن يراني(2) هذا الذي في البيت، فأرخيت الستر حياءً منه، وإجلالاً له. فقال لها: فإذا كنت أنت تستحيين من صنم لا يبصر ولا يسمع، ولا يضر ولا ينفع؛ فكيف لا أستحيي أنا من الذي خلقني وخلقك، وخلق هذا الذي تخافين، ومنه تستحيين؟ بل أخاف وأستحيي الذي خلقني وخلقكم(3) وهو خالق السموات والأرضين. ثم نهض منها هارباً بنفسه، فلحقته إلى باب الدار فقدت قميصه، {وَأَلْفَيَا سَيَّدَهَا لَدَى البَابِ}، وهو زوجها الملك، وذلك أنهم كانوا يسمونه السيد لموضعه عندهم، ورفعته فيهم، فقالت له: {مَا جَزَاءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءاً إِلاَّ أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ قَالَ} ـ يوسف :ـ {هِيَ رَاوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي}[يوسف: 25 ـ 26]، فتحير الملك واشتبه عليه الأمر، وكثر فيه القول. فذكر بعض الرواة أن الذي حكم في ذلك صبي صغير كان في المهد، واختلف فيه، والذي صح عندنا في ذلك أنَّه كان صبياً قد عقل، وهو من أبناء خمس سنين أو شبيه بها، فأتي به إلى الملك فقال: {إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ} هي فيما ذكرت، من مراودته لها عن نفسها، {وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ} هي فيما ادعت، {وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ} في قوله، ومراودتها له عن نفسه، فأتي بالقميص إلى الملك؛
__________
(1) في (ب، ج): تستحسنه.
(2) في (ب): يرانا.
(3) في (ج): وخلقك.

(2/326)


فنظر إليه فإذا هو مقدود من دبره؛ فقال: {إِنَّهُ مِنْ كَيدِكُنَّ إِنَّ كَيدَكُنَّ عَظِيمٌ}[يوسف: 26ـ 28]. ثم بدالهم من بعد ذلك فألقي في السجن، وكان في السجن رجلان من خدم الملك؛ فلما كان من إعلامه لهما بتأويل رؤاياهما على الحقيقة بعينها، فلما رأى الملك رؤياه؛ أتى أحد الرجلين إلى يوسف فقص عليه ذلك؛ فأخبره بتأويله، فلما انتهى ذلك إلى الملك؛ بعث(1) إلى النسوة يسألهن عن خبره؛ فـ{َقَالَتِ امْرَأَةُ العَزِيزِ الآنَ حَصْحَصَ الْحَقَّ أَنَا رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ} فيما تبرأ منه وأنكره؛ {ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالغَيْبِ وَأَنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلاَّ مَا رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ}[يوسف: 51 ـ 53]. فهذا ما كان من خبره عليه السلام.
[قصة داود عليه السلام ومحنته]
وسألتُه عن قول الله سبحانه: {وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ} إلى قوله: {فَخَرَّ رَاكِعاً وَأَنَابَ}[ص: 21 ـ 24].
__________
(1) في (ب): وبعث.

(2/327)


فقال: هذا خبر من الله سبحانه عما نبه به نبيئه داود صلى اللّه عليه في أمنيته من نكاح امرأة (( أوريا ))، وذلك أنه لما سمع الطير أشرف به الطير على رأس جدار، فأشرف داود ينظر أين توجه الطير، فوقعت عينه على امرأة(1) (( أوريا )) وهي حاسر؛ فرأى من جمالها ما رغبه فيها؛ فقال: لوددت أن هذه في نسائي، ولم يكن منه غير هذا التمني. وكل ما يروى عليه صلى اللّه عليه من سِوى ذلك فهو باطل كذب، فلما أن تمناها نبهه اللّه عز وجل وعاتبه في السر، وقد أعطاه أكثر من حاجته، فبعث إليه ملكين، فتمثلا له في صورة آدميين؛ فتسورا عليه من المحراب وهو يصلي، فدخلا عليه ففزع منهما، وظن أنها داهية قد دهته، وعدو قد هجم عليه في محرابه في وقت خلوته؛ فقالا له: {لاَ تَخَفْ خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ فَاحْكُمْ بَينَنَا بِالْحَقِّ وَلاَ تُشْطِطْ وَاهْدِنَا إِلَى سَوَاءِ الصِّرَاطِ}[ص: 22]؛ يريدان (2) {لاَ تُشْطِطْ}، أي لا تَمِلْ إلى أحدنا فتشطط على الآخر. ومعنى {تُشْطِطْ}؛ فهو: تشدد على أحدنا في غير حق، {سَوَاءِ الصِّرَاطِ} وسواء الصراط فهو: معتدله ومستقيمه، ووسطه وقَيِّمه. والصراط فهو: طريق الحق ها هنا وأَوْضَحه. وكان لداود صلى الله عليه تسع وتسعون منكحاً من الحرائر والإماء، وكان لأُوريا هذه المرأة وحدها، فمثلا أنفسهما لداود بداود وأوريا، فقال أحدهما: {إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا} ومعنى: {أَكْفِلْنِيهَا} فهو: أتبعنيها وردنيها إلى نعاجي، {وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ}[ص: 23] يقول شطني في الطلب، وألح في تمنيها وطلبها؛ وذلك أنها لم تكن تسقط من نفس داود من يوم رآها، يتذكرها ويتمناها؛ فقال داود صلى الله عليه: {لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ الْخُلَطَاءِ
__________
(1) في (ج): مرأة.
(2) في (ب): يريد.

(2/328)


لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَا هُمْ}[ص: 24]؛ فلما قال هذا لهما تَغَيّبا من بين عينيه، فإذا به لا يبصرهما ولا يراهما، فعلم عند ذلك الأَمرَ كيف هو، وأنهما ملكان، وأن الله بعثهما إليه لينبهاه من غفلته، ويقطعا عنه بذلك ما في قلبه؛ من كثرة تذكره مرأة (أوريا)(1) صاحبه، فأيقن أنها فتنة من الله، والفتنة هاهنا فهي المحنة. ومعنى: {ظَنَّ دَاوُدُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ}؛ فهو أيقن داود بذلك من الله، {فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعاً وَأَنَابَ} إليه من ذلك التمني والذكر لهذه المرأة، فلم يذكرها بعد ذلك اليوم حتى زوجه الله إياها حين أراد تبارك وتعالى، بعد أن اختار لأوريا الشهادة فاستشهد وصارت إليه، فمن بعد ذلك زوج اللّه داود مرأة أوريا، وبلغه أمله، وأعطاه في ذلك أمنيته، فجاءه ذلك وليس في قلبه لها ذكر، ولا إرادة ولا تَمَنٍّ.
ولم يكن لداود صلى الله عليه في أوريا ولا قتله شيء مما يقول المبطلون؛ من تقديمه في أول الحرب، ولا ما يذكرون من طلبه وتحيّله في تلفه بوجه من الوجوه، ولا معنى من المعاني، كذب العادلون بالله، وضل القائلون بالباطل في رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فهذا تفسير الآية ومخرج معانيها.
[إبراهيم عليه السلام وآية إحياء الموتى]
وسألته عن قول إبراهيم صلوات الله عليه: {رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قَالَ أَوَ لَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي}[البقرة: 260].
__________
(1) ليس في (أ، ج).

(2/329)


قال: إنما أراد بذلك صلى الله عليه أرني آية، أَزْداد بها علماً وبصيرة، وأعرف سرعة الإجابة لي منك، حتى يثبت ذلك عندي، ويقر في قلبي معرفة من ذلك، فأمره الله سبحانه أن يأخذ أربعة من الطير، وأن يجعل على كل جبل منهن جزءً، ثم أمره أن يدعوهنّ(1)، ليريه من عجيب قدرته، وشواهد حكمته؛ ما يزداد به معرفة في دينه، ويثبت عنده علم ما سأل عنه من آيات ربه، فأراه اللّه ذلك فازداد بصيرة وإيقاناً، ومعرفة وبياناً.
[موسى عليه السلام وطلب النظر إلى ربه]
وسألتُه عن قول موسى صلى الله عليه: {رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيكَ}[الأعراف: 143].
__________
(1) في (ج): يدعيهن.

(2/330)


قال: معنى قوله: {أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيكَ}؛ فهو: أرني آية من عظيم آياتك، أنظر بها إلى قدرتك، وأزداد بها بصيرة في عظمتك وقدرتك، فقال: {لَنْ تَرَانِي}، يقول: لن تقدر على نظر شيء من عظيم الآيات؛ التي لو رأيتها لضعف جمسك، ولطف مركبك ولأهلكتك، ولما قدرت على النظر إليها لعجزك وضعف مركبك، {وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى} هذا {الْجَبَل}؛ الذي هو أعظم منك خلقاً، وأكبر منك جسماً؛ {فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ} إذا أريته بعض ما سألتني أن أريكه؛ {فَسَوفَ تَرَانِي}، يقول: فسوف ترى ما سألت من عظيم الآية، ولن تقدر على ذلك أبداً، ولا تقوم له أصلاً، {فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكّاً}، معنى {تَجَلَّى رَبُّهُ}؛ أي أظهر آيته، وأبان قدرته؛ جعله دكاً، {وَخَرَّ مُوسَى صَعِقاً}؛ يقول: مغشياً ميتاً؛ لما رأى من الهول العظيم الذي لا يقدر على رؤيته لعجزه وضعفه؛ وإن كان الذي أظهره الله وأبانه (1) من لطيف آياته، فجاز أن يقول: {تَجَلَّى رَبُّهُ}؛ لما كان ذلك من فعله وتدبيره، وأمره وإرادته. وهو كقوله: {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الغَمَامِ}[البقرة: 210]؛ يقول: تأتيهم الآيات، ومايريد أن يُحِلَّ بهم من العذاب والنقم والآفات. وقوله: {وُجُوهٌ يَومَئِذٍ نَاضِرَةٌ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ}[القيامة: 22 ـ 23] فمعنى قوله: {نَاضِرَةٌ}؛ يقول: نضرة مشرقة حسنة، وهذا معروف في اللغة والبيان، تقول العرب للرجل إذا أرادت له خيراً: نضر اللّه وجهك، وقوله: {إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ}، أي ناظرة لثوابه، وما يأتيهم من خيره وفوائده، ومن ذلك ما تقول العرب: قد نظر اللّه إلينا، وقد نظر الله إلى بني فلان إذا أصابهم الخصب بعد الجدب، والرخاء بعد الشدة. وإنما أراد بذلك أن الله قد رحمهم وأتاهم بالنعمة، {فَلَمَّا أَفَاقَ} موسى صلى الله عليه، {قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ
__________
(1) في (ج): وأتى به.

(2/331)


إِلَيكَ وَأَنَا اَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ}[الأعراف :143]، يقول: لو ابتليتني وأريتني وأظهرت لي من بعض ما سألتك، مما أهلكت به الجبال الراسية لما قام لها جسمي، ولأهلكتني بقليلها، ولما احتمل ذلك لطيف خلقي، وضعف مركبي، أنظر إلى عظيم ما ذهبت به الجبال الراسية، فلك الحمد على ما صرفت عني من ذلك، رحمة منك بي، وتفضلاً علي، وزيادة وإحساناً إلي.
فهذا معنى قوله: {أَنْظُرُ إِلَيكَ}، لا ما ذهب إليه من جهل وزعم أن الله يرى، سبحانه وتعالى عن ذلك علواً كبيرا. كيف وهو يقول في كتابه: {لاَ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ}[الأنعام: 103]؟!
[آيات موسى التسع]
وسألته عن قول الله سبحانه: {وَلَقَدْ آتَينَا مُوسَى تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ}[الإسراء: 101] ما الآيات التي آتاه الله؟
فقال: العصى التي تلقف ما يأفكون.
ومنها: اليد البيضاء، وهو قوله: {اَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيرِ سُوءٍ}[النمل: 12].
ومنها: الكلام الذي سمعه من الشجرة.
ومنها: الكلام الذي سمعه من النار.
قلت: وما سمع منها؟
قال: قول الله في كتابه: {فَلَمَّا جَاءَهَا نُودِيَ أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَولَهَا وَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ العَالَمِينَ}[النمل: 8].
قلت: فما معنى قوله: {أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَولَهَا}؟
قال: أما قوله: {مَنْ فِي النَّارِ}؛ فإنما أراد بذلك ما سمع من الكلام في النار، وأما قوله: {وَمَنْ حَولَهَا}؛ فهو من حضر من الملائكة حول النار.
ومنها: الحجر التي كان يحملها على حماره من مكان إلى مكان، وكانت حجراً مُلَمْلَمةً لا صدع فيها، فكان إذا احتاج إلى الماء ضربها بالعصى، فانبجست بالعيون، ثم يدفنها فيخرج الماء من كل جانب منها، فإذا استغنى هو وأصحابه أخرجها؛ فرجعت على حالتها أولاً ثم حملها معه.

(2/332)


ومنها: البحر الذي ضربه بالعصى فانفلق، حتى سار في وسطه هو وأصحابه بأمر الله سبحانه، حتى خرج آخر أصحابه، ودخل آخر أصحاب فرعون تبعاً لموسى وقومه، فأغرق الله فرعون وقومه، ونجى نبيه عليه السلام والمؤمنين.
ومنها: طور سيناء.
وقد قيل والله أعلم: إن من الآيات التي آتاه الله: الجراد، والقمل، والضفادع، والدم، ولا ندري ما صحة ذلك، غير أن الصحيح ما ذكرت لك أولاً، وهو بَيِّنٌ نيّر.
[معنى قوله: {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ}]
وسألته عن قول الله سبحانه: {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} [الصافات: 96]. قال: الذي عنى بذلك سبحانه فهي: الحجارة التي ينحتونها أصناماً، ويعملونها لهم آلهة، وما أشبه ذلك من الأنصاب التي يعبدونها. فهذا معنى: {وَمَا تَعْمَلُونَ}، فالله خلقهم ومفعولهم، ولم يخلق سبحانه فعلهم، والمفعول(1) فهو: الصنم الذي ينحتونه من الحجارة، وفعلهم فهو: الحركة التي كانت منهم، من الرفع والوضع والنحت، فالله(2) خلق الحجر الذي عملوه صنماً، ولم يخلق الفعل الذي كان منهم في نحت الحجر.
[محمد صلى اللّه عليه وآله هل كان متعبداً قبل النبوة؟]
__________
(1) في (ب): والمعقول. وهو تصحيف.
(2) في (أ، ب): والله.

(2/333)


وسألته صلوات الله عليه عن محمد صلى الله عليه، ما كان عمله قبل أن يتنبأ؟ وهل كان على شريعة عيسى صلى الله عليه أم لا؟ فقال: سألت عن أمر محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وإنما كان على ما كان عليه الأنبياء من قبله، منذ خلق الله آدم إلى أن بعث الله محمدا صلى الله عليه؛ من الإقرار بالله، والتوحيد له، والتعظيم، والإجلال، والمعرفة به، وبعدله ، وأنه ليس كمثله شيء، وأنه خالق كل شيء سبحانه وتعالى، وكان مقراً بالأنبياء كلهم، غير جاحد لنبوتهم. وكان صلى الله عليه ينظر ما يأتي به أهل الكتاب من عظيم محالهم، وقبيح فعالهم؛ الذي ذكره الله سبحانه عنهم، وذمهم عليه، فكان ينكر فعلهم، ويذم جرأتهم على ربهم، ولم يكن صلى الله عليه يقرأ التوراة ولا الإنجيل، ولا يحسن ترجمتهما، وكان يعيب أفعال الذين يقرأونهما؛ لما يأتون به من الأمر الذي لايرضاه الله، ويستنكره عقله صلى الله عليه وآله وسلم، ولم يكن معهم على شريعتهم،وكان في أصل المعرفة بالله كمعرفة عيسى صلى الله عليهما، مقراً عالماً بأن كل ما جاء به موسى وعيسى حق صلى الله عليهم جميعاً.
[تفسير: لاحول ولاقوة إلا بالله]
وسألته عن تفسير: {لاَ حَوْلَ وَلاَ قُوَّةَ إِلاَّ بِاللَّهِ}.
[وتفسيرها] فهو: لا حول ولا محال، ولا إدبار ولا إقبال، إلاَّ بالله. ومعنى إلاَّ بالله؛ فهو: إلاَّ بتمكين عباده، وذلك الحول بما جعل فيهم من الاستطاعة(1)، ولا مقدرة على شيء من الأشياء؛ إلاَّ بما جعل الله من ذلك في تلك الأعضاء، وأعطى خلقه في كل ذلك من الأدوات والأشياء؛ التي تكون فيهم بها القوة والحول، وينالون بوجودها ما يحبون من فعل وطول.
[تفسير العرش والكرسي]
وسألته عن تفسير العرش والكرسي.
__________
(1) في (ب): بما جعل من استطاعة.

(2/334)


فقال: معناهما واحد، وهو الملك الذي علا كل شيء ملكه واقتهاره، ألاتسمع كيف يقول سبحانه، إن كل شيء من الأشياء، من الأرض والسماء؛ في عرشه وكرسيه؛ فقال: {وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَلاَ يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ العَلِيُّ العَظِيمُ} [البقرة: 255]؟ فأخبر أن الكرسي الذي هو العرش واسع على السموات والأرض، وإذ قد وسعهما بشهادة الله سبحانه فقد دخلتا فيه، وحازهما وأحاط بهما، فإذا كان ذلك بقول الله سبحانه؛ فهما فيه لا هو فيهما، وهو المحيط بهما لا هما المحيطان به.
وإذ قد كان ذلك كذلك فقد بطل ما يقول الملحدون، وزال ما يصف المشبهون، وثبت ما يقول الموحدون؛ من أن العرش هو الملك، والإحاطة من الله سبحانه، فنفاذ (1) الإرادة، ومضي المشيّة؛ في السموات والأرض وما فيهن، وأن ملكه المحيط بهن وعليهن، والمحيط بهن فهو كرسيه وعرشه.
[الرجل يدعي معرفة ما يكفيه من العلم]
وسألته عن الرجل يقول: قد فهمت وعرفت ما افترض الله علي، فأنا أكتفي باليسير، ولا أتعب نفسي بتعليم الكثير، وأنا أقوم بحلال الله وحرامه، فهذا يجزيني عن طلب غيره من العلم.
الجواب في ذلك: أن الله عزَّ وجل لم يغفر لأحد بالجهل، فالواجب عليه أن يكون عمره كله في طلب الخروج من الجهل إلى العلم، وفي ذلك ما يقول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (( اغد عالماً، أو متعلماً، ولاتكن الثالث(2) فتهلك ))؛ يعني الممسك عن طلب العلم.
[تسليم الجباية للظالم قسراً مع عدم التمكن من الهجرة عن بلده]
وسألته عن رجل ساكن في بلدة وقد تولى أمر البلد سلطان ظالم، والسلطان يقتضي (3) منه جباية بغير طيبة من نفسه، وهو يخاف إن خرج من البلد على نفسه التلف.
__________
(1) في (ب، ج): ونفاذ.
(2) في (أ، ج): الآخر.
(3) في (أ): يقبض.

(2/335)


الجواب في ذلك: إن كانت مخافته على نفسه مخافة أن يجوع في الأرض، أويعرى، أو يتلف إذا خرج من تلك البلدة؛ فليس هذا له بعذر؛ لأن الله عزَّ وجل يرزقه في بلده وغيرها.
وإن كان يخاف أن يظفر به سلطان بلده فيقتله إن خرج، ولم تكن له حيلة في الإنسلال عنه، وكان لا محالة واقعاً في يده إن خرج؛ فله في ذلك العذر، إلى(1) أن يأتيه الله عزَّ وجل بفرج، وإن قدر وأمكنه أن لا يَعْمَل عملاً يأخذ منه فيه السلطان فليفعل.
[معنى قوله تعالى: تؤتي الملك من تشاء.. الآية]
وسألته عن قول الله سبحانه: {تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ} [آل عمران: 26].
والملك ها هنا الذي يؤتيه من يشاء؛ فهو جبايات الدنيا وأموالها، والذين يشاء أن يؤتيه إياهم؛ فهم: الأنبياء، ثم الأئمة من بعدهم، والذين يشاء أن ينزعه منهم؛ فهم: أعداؤه؛ من جبابرة أرضه. ومعنى: {تُؤْتِي الْمُلْكَ}؛ فهو: الحكم بالملك لهم صلوات الله عليهم، فمن حكم الله له بالنبوة أو بالإمامة حكماً، وأوجب له الطاعة على الأمة باستحقاقه لذلك الموضع إيجاباً؛ فقد أتاه الملك؛ لأن الملك هو: الأمر والنهي، والجبايات والأموال التي تقبض، التي بها قوام العساكر، واتخاذ الخيل، والرجال، والسلاح، من جميع أداة الملك، فمن أجاز الله له قبض جبايات الأرض، وإقامة أحكامها وحدودها، وأوجب له الطاعة على أهلها؛ فقد آتاه الله الملك حقاً، أولئك هم السابقون بالخيرات صلوات الله عليهم، ومن لم يحكم له بشيء من ذلك، ولم يجزه له، ولم يطلق يده، ولم يوجب له الطاعة على أحد من خلقه، فقد نزع الله ملك أرضه منه، وأبعده عنه، أولئك أعداؤه، وجبابرة أرضه، الحاكمون بغير حكمه، المغتصبون لما جعل الله سبحانه لأوليائه المنفذين لما حكم به في خلقه وبلاده، أولئك يأكلون في بطونهم ناراً وسيصلون سعيراً.
__________
(1) في (ب): إلا.

(2/336)


فسبحان من لم يقض بشيء من ذلك لأعدائه، ولم يؤثر غير أوليائه.
وفي نفي الحكم منه بشيء من ذلك لأعدائه، ما يقول لنبيه إبراهيم صلى الله عليه: {لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ}[البقرة: 124]، والعهد فهو: العقد بالإمامة، والحكم لهم بالطاعة. ومعنى: {لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ}؛ فهو: لا يبلغهم، ولا يجيزهم (1).
روي عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنَّه قال: (( اللوح علم الله، وكرسيه علمه، اللوح علم الله الذي وسع كل شيء؛ مما كان(2) أو سيكون )).
تم ذلك والحمد لله وحده وصلواته على رسوله سيدنا محمد النبي وعلى آله وسلم تسليماً.
****
جواب مسألة النبوة والإمامة
m (3)
قال أبو القاسم محمد بن الهادي إلى الحق رضي الله عنه:
سألت أبي صلوات الله عليه عن الحجة والدليل على نبوءة الأنبياء، وإرسال الله لهم تبارك وتعالى، وعن الدليل على إقامة الأوصياء أوصيا الأنبياء، وثبات حجتهم على الأمة، وعن ثبات الإمامة لمن ثبتت له من الأئمة، وبأي سبب ثبتت بها طاعته، وعلى البرية وجبت؟
فقال: سألت يا بني حاطك الله وهداك رشدك ووفقك؛ عن مسألة هلك فيها خلق من المتكلفين، وحار عن فهمها كثير من المتكلمين؛ فقال من ضل عن الحق، وتكمه في ذلك عن طريق الصدق: إن إمامة الإمام تثبت بإجماع الناس عليه، وحسن رأيهم فيه. وليس ذلك كذلك، بل تثبت الإمامة لمن حكم الله له بها، وقلده بحكمه إياها.
وكذلك القول في الأنبياء، فالنبي من تنباه الرحمن، وبعثه بالهدى والإحسان؛ إلى جميع الإنسان، فأقام معه الشرائع والبرهان.
وكذلك الأوصياء، لا تثبت وصاة نبي إلى وصي حتى تثبت له في ذلك حقائق الصدق، ودلائل براهين الحق.
__________
(1) في (أ): تم ذلك وصلى اللّه على محمد وآله وسلم.
(2) في (ج): ما كان.
(3) في (أ): بسم اللّه الرحمن الرحيم الحمدلله رب العالمين، وصلى اللّه على محمد النبي وآله وسلم.

(2/337)


قلتُ: وما هذه البراهين والدلالات؛ التي حار فيها كثير من أهل المقالات، وتكلم فيها بالأمور العظيمات المعجبات؟
قال: قد سألت فاستقصيت، فافهم ما نقول، وما إليه قولنا يؤول.
ثم اعلم أنَّه لا تثبت نبوءة نبي في قلوب العالمين، ولا يستدلّ عليها أحد من التابعين، ولا تثبت وصية الوصي، ولا حجة بحق(1) مضي، ولا تثبت إمامة إمام، ولا تجب طاعته على أهل الإسلام؛ إلاَّ باستحقاق وعلامات، وشرائع ودلالات، وعَلَم قائم، ودليل يدل على أنَّه هو صاحب ذلك المعنى، والمتولي لجميع هذه الأشياء.
فأما استحقاق الأنبياء صلوات الله عليهم للنبوَّة؛ فهو بالطاعة منهم لله، والاجتهاد منهم في مرضاة الله، والنصح لعباد الله(2)، فإذا علم الله من ضميرهم أنهم إن بعثوا كانوا كذلك، وإن أمروا قاموا لله بذلك؛ أمرهم سبحانه حينئذٍ ونهاهم، وبعثهم واجتباهم، ثم أبان معهم العَلَم والدليل، الذي يدل على أنهم رسل مبعوثون برسالته إلىخلقه، مبشرين، ومنذرين، مخوفين لعذابه، مبشرين بثوابه، هادين إلى طريق سبله(3)، {لَيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ} [الأنفال: 42].
وعَلَم الأنبياء ودليلها فهو ما جاؤا به من المعجزات، وأظهروه للخلق من العلامات؛ الشاهدات على أنهنَّ من عند الرحمن؛ اللواتي لا ينالهن ولا يطيق إيجادهنَّ أحد من الإنسان.
__________
(1) في (أ، ج): لحق.
(2) لعل من ظاهر هذا الكلام أخذت (المطرفية) ما ينسب إليها من القول بأن النبوة تأتي جزاء على العمل، وليس لهم فيه مأخذ؛ إذ هو في سياق بيان أن النبوة والإمامة لاتكون بالإختيار من الناس، وإنما تكون بالاختيار من اللّه لمن سبق في علمه أنه يطيعه إذا بعثه، وذلك واضح.
(3) في (أ): سبيله.

(2/338)


مثل ما جاء به موسى عليه السلام؛ من ادخاله يده في جيبه (فخرجت بيضاء من غير سوء. ومثل ما جاء به من انقلاب العصا إلى خلق حيّة)(1)، وغير ذلك من باقي التسع الآيات، وغير ذلك مما كان يأتي به من الدلائل المعجزات والعلامات.
ومثل ما جاء به عيسى صلى الله عليه؛ من التكلم في المهد، ومن إحياء الموتى وإبراء الأكمه والأبرص بإذن الله، وغير ذلك من علاماته، مما نكره التطويل بذكرها، وقد يجزي ذكر قليلها عن كثيرها.
ومثل ما جاء به محمد صلى الله عليه وآله وسلم من معجزاته الهائلات، وأموره الناطقات، وأسبابه الشاهدات؛ بالنبوة والرسالات. مثل: مجيء الشجرة إليه ورجوعها إلى موضعها، وإنباء الناس بما في صدورهم، وإعلامهم بما في ضميرهم، وذلك من إنباء الله له بذلك، وإعلامه إياه به. ومثل ما كان من فعله في شاة أم معبد ،وما كان منه من الفعل في التمرات من غداء جابر بن عبد الله، وذلك أنَّه أخذ كفاً من تمر، فوضعه في وسط ثوب كبير، ثم حرّكه ودعا فيه؛ فزاد ورَبَا، حتى امتلأ الثوب تمراً. وما كان منه في عشاء جابر بن عبد الله، صاع من شعير وعناق صغيرة أكل منها ألف رجل. وما كان منه في الوشل الذي ورده هو والمسلمون في غزوة تبوك )) فوضع يده تحت الوشل، فوشل فيها من الماء ملؤها، ثم ضربه ودعا فيه، فانفجر بمثل عنق البعير ماءً، فشرب العسكر كله معاً، وتزودوا ما شاؤا من الماء. وغير ذلك مما نكره التطويل من معجزاته(2)؛ لأنَّه مفهوم معروف عند أهل العلم.
فكانت هذه المعجزات مع ما ذكرنا من أسباب الإستحقاق من عَلَم النبوة، والدليل على نبوة الأنبياء، وبَعْث الله لهم في البريَّة تبارك وتعالى.
__________
(1) سقط من (أ).
(2) في (ج): من معجزاته.

(2/339)


وكذلك الأوصياء فلا تثبت للخلائق وصية الأنبياء إليهم إلاَّ باستحقاق لذلك، والعَلَمِ والدليلِ. فأما الإستحقاق منهم لذلك المقام الذي استوجبوا به من الله العَلَم والدليل؛ فهو فضلهم على أهل دهرهم، وبيانهم(1) عن جميع أهل ملتهم؛ بالعلم البارع، والدين، والورع، والإجتهاد في أمر الله. وَعَلَمهُم ودليلهم؛ فهو العلم بغامض علم الأنبياء، والإطلاع على خفي أسرار الرسل، وإحاطتهم بما خصَّ الله به أنبيائه، حتى يوجد عندهم من ذلك ما لا يوجد عند غيرهم من أهل دهرهم، فيستدل بذلك على ما خصهم به أنبياؤهم، وألقته إليهم من مكنون علمها، وعجائب فوائد(2) ما أوحى الله به إليها؛ مما لا يوجد أبداً عند غير الأوصياء.
من ذلك ما كان يوجد عند وصي موسى، وعند وصي عيسى عليهم السلام ما لا يوجد عند غيرهم، من أهل دهرهم.
ومن ذلك ما وجد عند وصي محمد صلى الله عليه وآله وسلم علي بن أبي طالب رحمة الله عليه، من ذلك ما أجاب به في مسائل الجاثليق، ومن ذلك ما كان عنده من علم كتاب الجفر، وما كان عنده من علم ما يكون إلى يوم القيامة، مما أطلع الله عليه نبيه، وأطلع نبيه وصيه، لم يعلمه من رسول الله صلى الله عليه أحد غيره، ولم يقع عليه سواه.
فهذا الذي لم يوجد عند غير الأوصياء من أهل مللهم؛ فهو عَلَم الأوصياء المبين لها، والدليل الدال بالوصية عليها.
وكذلك الأئمة الهادون، الداعون إلى الله المرشدون؛ بانَتْ إمامتهم، وثبت عقدها من الله لهم، بخصال الإستحقاق، وبالعَلَم والدليل الذي بانوا به من غيرهم، وامتازوا به عن مشاكلة أهل دهرهم.
__________
(1) يعني تميزهم.
(2) في (ج): فوائدها.

(2/340)


فأما الإستحقاق فهو: ولادة الرسول، والعلم، والورع، والزهد، والدعاء إلى الله، وتجريد السيوف، وخوض الحتوف، وفَضِّ الصفوف، ومجاهدة الألوف، ورفع الرايات، ومنابذة(1) الظالمين، وإقامة الحدود على من استوجبها، وأخذ أموال الله من مواضعها، وردها في سبلها التي جعلها الله لها وفيها، مع الرأفة والرحمة(2) بالمؤمنين، والشدة والغلظة على الفاسقين، والشجاعة عند البأس(3)، والمجاهدة للكافرين والمنافقين.
فهذا باب الإستحقاق للإمامة.
والعَلَم والدليل فهو: توفيق الله، وتسديده لوليّه وتأييده، وإيتاؤه الحكمة، {وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً} [البقرة: 269]، {ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الفَضْلِ العَظِيمِ} [الحديد: 21].
ودليل ذلك وعَلَمه الذي يدل على أنَّه قد آَتَى وليّه الحكمة؟ ما يظهر من الإمام من الأمور المعجزات لأهل دهره، من حسن علمه، ودقائق فهمه، وحسن تعبيره وتمييزه، والمعرفة بالتأني لتعليم رعيته، وتفهيمها بما تحتاج إلى فهمه، حتى يكون معه من الشرح لما يسأل عنه، والتبيين لما يأتي به، والإحتجاج فيه وعليه بالحجج البالغة، والبراهين النيّرة التي لا توجد عند غيره، ولا يَنَال شرحَها، والإحتجاج بها سواه، مع التأتي لقبول عقول العالمين(4)، لما به يأتي من الحق المبين، والأمر المستبين(5)، مع استنباطه لعلم دقائق الكتاب، ودقائق الحلال والحرام في كل الأسباب؛ التي لا يقع عليها إلا من تولى الله اللطف به، وتوحد بالهداية لقلبه، ممن قلده أمر رعيته، وحكم له بالإمامة على بريته.
__________
(1) في (ج): ومباينة.
(2) في (أ): مع الرحمة والزلفة.
(3) في (أ، ج): عند حين البأس.
(4) في هامش (ج): المعلمين.
(5) في (أ، ج): المنير.

(2/341)


وهذه الأشياء التي ذكرنا ـ من حسن البيان والشرح، وإيضاح ما يُحتاج إليه من دقائق حسن التعبير، وجيد التمييز؛ الذي لا يوجد في سواه؛ فهي العَلَم والدليل (على إمامته، وعقد الله سبحانه ما عقد له منها. وذلك يا بُنَيّ العَلَم الأكبر، والدليل) (1) الأوفر، على عقد الله الإمامة لمن كان ذلك فيه، وعنده ولديه.
والحجة فيما قلنا به من أن هذا أكبر الأعلام والدلائل: أن الله تبارك وتعالى تعبد الخلق بمسموع، ومعقول، فالمعقول: ما أدرك بالنظر والتمييز بالعقول(2). والمسموع فهو: ما يسمع بالأذان من الْمُسمِع المؤدي من نبي، أو وصيّ، أو إمام مهتدي، وإذا كان فرض الله ومتعبده لخلقه بالمسموع؛ كانت حاجة السامع إلى تأدية المسمَع لازمة؛ إذ كانت حجة الإستماع على المستمع واجبة، وإذا كان ذلك كذلك؛ احتاج الإمام المسمع للرعية إلى أن يكون ـ في الكفاية والفهم، والمعرفة بالشرح والتبيين، ودقائق حسن التعبير وجيد التفصيل، ومبين التفهيم، والمعرفة بالتأتي لتعليم الرعية، وتفهيم البرية لما يحتاجون إليه ـ على غاية ما يكون؛ لأن ذلك كله تأدية عن الله لما افترض على الخلق من المسموع، فإذا كمل في هذه الأشياء؛ فقد أكمل(3) في التأدية عن الله لفرائضه المسموعة في كل معنى. فلذلك قلنا: إن حسن التأدية بلطائف التعبير، وحسن الإسماع للسامعين في التأدية والتفسير؛ أكبر أعلام الإمامة، وأدل الدلائل على الحكمة التي يؤتيها الله أولياءه؛ لأن من أتاه الله الحكمة؛ فهو عند الله من أهل الولاية والمحبة، ومن تولاه الله وأحبه؛ فهو آهَلُ الناس من الله بالإمامة، وأولاهم منه سبحانه بالكرامة.
__________
(1) سقط من (أ).
(2) في (ب): بالمعقول.
(3) في (ب): كمل.

(2/342)


فمن كان كذلك من ولد رسول(1) الله صلى الله عليه وآله وسلم؛ فهو الإمام المفترض الطاعة، الذي لا يجوز(2) لأحد خذلانه، ولا يسع رفضه، ولا يؤمن بالله خاذله، ولا يوقن بالوعد والوعيد تاركه.
فافهم يا بني هداك الله ما شرحنا لك من أعلام النبوة ودلائلها، وأعلام الأوصياء ودلائلها، وأعلام الأئمة ودلائلها؛ التي تدل على عقد الله الإمامة لمن عقدها لهم، والحكم منه سبحانه بها فيهم، فقد شرحت ذلك لك شرحاً مجملاً، وفسرت لك بعض ما تحتاج إليه تفسيراً كاملاً.
فلا تلتفت إلى غير ما قلنا من أقاويل الهزّاجين(3)، وتعبُّث العباثين، وزخاريف كلام المتكلمين، وافتراق أقاويل الجاهلين؛ ممن يقول: إنّ الإمامة بإجماع الرعية، وقول من يقول: بل هي لما يوجد من الآثار المروية في الملاحم المذكورة، وقول من يقول: بل هي بالوراثة لولد بعد والد، ولا يلتفتون ويلهم لما تستحق به الإمامة من البينات، والشواهد النيرات، همج رعاع، وللجهال أتباع، لم يقتدوا بالحكمة؛ فيعلموا ما به تحق الإمامة لصاحبها على الأمة، قد جعلوا الحكم بها وفيها لغير من حكم الله، وجعلوا الحكم بها إلى غير الله، فركبوا من ذلك مركبا وعراً، واكتسبوا به في الآخرة ناراً وعاراً، اعتمدوا في أكبر أمور الله وفرضه من الإمامة على التقليد، فقلدوا الحكم بها كبراءهم في كل الحالات، وطلبوا إثباتها من أبواب الرِّوايَات(4)، جهلاً بما عظم الله من قدرها، وتصغيراً لما كبَّر الله من أمرها، فتكمهوا بذلك في ظلم العمايات، وغرقوا في بحور الجهالات، {وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ} [الشعراء: 227]، فلا يبعد الله إلاَّ من ظلم، وأساء وغشم، وحسبنا الله ونعم المولى ونعم النصير، ولا حول ولا قوة إلاَّ بالله العلي القدير.
__________
(1) في (ج) : الرسول.
(2) في (ب): لا يحسن.
(3) في (أ): الهرَّاجين.
(4) في هامش (ج): الرَّويَّات.

(2/343)


فأما ما تقول به الإمامية، الضالة الهالكة العمية، وتجتري به على الله الواحد الجليل، فيما تذكر وتصف من العَلَم والدليل؛ فقول لا يَلْتَفت إليه عاقل، ولا يشك في بطلانه إلاَّ عم أحمق جاهل، وذلك أنها زعمت وقالت؛ فيما به تكلمت وذكرت: أن الدليل والعَلَم في إمامها خلاف ما كان في نبي من أنبياء الأمم، وأنه يأتي بما لم يأت به الأنبياء؛ من بدع محالات في كل الأشياء، ومن قال بمحال؛ فليس يثبت له قول في حال من الحال، فزعمت أنَّه يختم بخاتمه في الصفا ويؤثر، فيقرأ نقش خاتمه فيها كما يقرأ في الشمع والطين، وينادي فيما زعمت الإماميَّة في السماء مناد: إن فلان بن فلان (بن فلان)(1) إمامكم الهادي المهدي، بُوراً في قولها، وتعدياً في أمرها، وإحالة في حجتها، وغلواً في دينها. ولو كان ذلك يكون لأحد من العالمين؛ لكان لمحمد خاتم النبيين، ولو نادى من السماء مناد بنبوة النبي؛ لما اختلف فيه من فراعنة قريش منصف ولا غوي.
وقولُهَا ـ قُبِّحت أقوالُها ـ قولٌ شاهد بالزور عليها في كل أحوالها، لا يلتفت إليه أحد، ولا يُوجد لمُتعلق به ملتحد، فضيحة على من دخل فيه، ومهتكة هاتكة لمن نسب إليه. ولا دليل ولا علم ولله الحمد أدل مما به قلنا، من دلائل الإمامة، وشرحنا؛ من معجزاتها التي فسرنا.
فاعلم ذلك علماً يقيناً، وليثبت في قلبك ثباتاً مبيناً، يبن لك به الصواب، وينجل عنك الإرتياب إنشاء الله، والقوة بالله وله.
تم والحمد لله وصلواته علىخير خلقه محمد وآله وسلم.
*****
رسائل وكتب
في
الإمامة
تثبيت إمامة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب
صلوات الله عليه
m
قال يحيى بن الحسين صلوات الله عليه:
تثبت إمامة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رحمة الله عليه من كتاب الله عزَّ وجل، ومن قول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
إن سأل سائل، أو تعنت متعنت جاهل، عن تثبيت إمامة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضوان الله عليه.
__________
(1) سقط من (ج).

(2/344)


قيل له: أيها السائل المتكلم، المسترشد المتعلم؛ تثبت له بقول الله سبحانه، وقول رسوله المصطفى محمد عليه السلام.
فإذا قال: أوجدونا في الكتاب ما قال الله، وبينوا لنا كيف قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
قيل له: قال رسول الله صلى الله عليه: (( علي مني بمنزلة هارون من موسى؛ إلاَّ أنَّه لا نبي بعدي ))، ثم قال: (( (أيها الناس)(1) إنَّه سيكذبُ علي من بعدي، كما كذب على الأنبياء من قبلي، فما جاءكم عني (من حديث)(2) فأعرضوه على كتاب الله، فما شاكل كتاب الله فهو مني وأنا قلته، وما لم يشاكل كتاب الله فليس مني ولم أقله )). فلما قال صلى الله عليه وآله وسلم: (( علي مني بمنزلة هارون من موسى )) علمنا أنَّه لم يقل ذلك محاباة، ولا اختياراً منه ولا مصافاة، إلاَّ بأمر من الله واجب، وحق مبين ثاقب، فلما قال صلى الله عليه: (( علي مني بمنزلة هارون من موسى ))؛ وجدنا تصديق قوله صلى الله عليه مُثْبتاً في الكتاب، وهو قول الله عزَّ وجل: {أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِنْهُ وَمِنْ قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إِمَاماً وَرَحْمَةً} [هود: 17] ، فلما قال الله: {وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِنْهُ}؛ صدق قول اللّه سبحانه قول رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم: (( علي مني بمنزلة هارون من موسى ))، لقول الله: {شَاهِدٌ مِنْهُ}، فلما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (( علي مني (بمنزلة هارن من موسى)(3) ))، وقال الله: {شَاهِدٌ مِنْهُ} كان رسول الله من علي وعلي منه، بقول الله وبقول رسوله عليه السلام؛ كرهنا أو احببنا، شِئْنا ذلك أو أبينا، لا ننظرفي ذلك إلى قول محب مريد، ولا نلتفت إلى قول مبغض مكابر عنيد، ولا نأخذ في ذلك بتصديق محب، ولا ننظر أيضاً في تكذيب مبغض؛ لأن الله سبحانه قد حكم في ذلك بما حكم، واختار سبحانه ما اختار، فقال تبارك
__________
(1) ليس في (أ).
(2) ليس في (أ).
(3) سقط من (أ، ج).

(2/345)


وتعالى في كتابه المنزل على نبيه المرسل: {وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ}، ثم قال: {سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [القصص: 68]، (فحكم الله على من اختار سوى خيرته بالشرك، لقوله عزوجل: {سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ})(1). فنسمع الله قد اختار علياً بعد محمد؛ لقول الله: {شَاهِدٌ مِنْهُ}، ولقول الرسول: (( علي مني ))، وذلك لعلم الله تبارك وتعالى في علي؛ لأن علياً سبق الخلق إلى الله وإلى رسوله، لا يشك في ذلك عاقل، ولا ينازع فيه جاهل؛ لأن الله سبحانه يقول: {وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُوْنَ أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ فِيْ جَنَّاتِ النَّعِيْمِ} [الواقعة: 10 ـ 12]. فلما أن شهد الله تبارك وتعالى للسابق بالجنة، أجمع الخلق أن علي بن أبي طالب رحمة الله عليه أسبق الخلق إلى الله وإلى رسوله، فشهدنا لعلي بن أبي طالب بما شهد الله له به ورسوله، لا باختيارنا، بل من أصل أذاننا(2)، {فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَاراً أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقاً} [الكهف: 29]. صدق الله سبحانه وبلغت رسله، وأنا على ذلك من الشاهدين، والحمد لله (رب العالمين) أولاً آخراً، وصلى الله على سيدنا محمد المصطفى، وآله النجباء وسلم تسليماً كثيرا.
كتاب دعوة
__________
(1) سقط من (أ، ب).
(2) كذا في النسخ.

(2/346)


وجه بها إلى أحمد بن يحيى بن زيدومن قِبَلِه (1)
m
الحمد لله الأول القديم، الآخر الواحد الكريم، الذي لا تراه العُيون عيون الناظرين، ولا تحيط به ظنون المتظننين، ولا تقع عليه أوهام المتوهمين، ولا يصفه أحد من الواصفين، إلاَّ بما وصف به نفسه، من أنَّه هو، وأنه بائن عن الأشياء، وبائنة عنه الأشياء، فلم يَبِنْ منها سبحانه غائباً عنها، ولم يَخْفَ منها في بينونتها خاف عليه منها، بل إحاطته بأَسَر سِرِّهَا كإحاطته بأَعْلَن علانيتها، العادل في قضايه، المعز لأوليائه، المذل لأعدائه، الناصر لمن نصره، الخاذل لمن خذله، البريء من أفعال العباد، المتعالي عن اتخاذ الصواحب والأولاد، داحي الأرض ذات المهاد، رافع السماء بغير عماد، الموفق المسدد لكل رشاد، الزاجر الناهي عن الفاحشات، الحآضِّ الآمر بالحسنات.
وأشهد أن لا إله إلاَّ اللّه وحده لا شريك له، الذي لا تواري عنه ساترات متكاثفات الستور، ولا يستجن عنه بمتراكم أمواجها قعور البحور.
__________
(1) لم أقف له على ترجمة والذي يظهر أنه كان من أشراف الحجاز ذا سعة في المال والجاه، ومن أهل الرأي والمكانة الاجتماعية كما يتبين من خلال خطاب الإمام له في هذه الدعوة المباركة والذي يدل على ذلك اختصاص الإمام له بتوجيه الدعوة. والله أعلم. وهذه الدعوة ليست في (أ)، وأثبتناها من ب، ج.

(2/347)


وأشهد أن محمداً عبده ورسُوله، أرسله برسالته، وانتجبه لأمانته، فبعثه في طامية طخياء، ودياجيج(1) ظلمة عمياء، وأوائل فتنة دهماء(2)، ودروس من الصالحات، وظهور من المنكرات، فدعا إلى ربه، وأظهر ما أمر ربه، وفتح فينق(3) الفسق، وأظهر دعوة الصدق، وأعلن كلمة الحق، وأرغم أنف الشيطان، وأدحض عبادة الأوثان، وأخلص التعبد للرحمن، ونهى عن الظلم والعصيان، وأمر بالتواصل والإحسان، وأماط أفعال الجاهلية، ونفا عنهم ظلمة الحمية والعصبية، وبسط لأمته كنفي الرحمة الواسعة، وأكمل اللّه به على البرية النعمة السابغة، فمضى عليه السلام في أمر اللّه قُدُماً، وجرد في أمر اللّه سبحانه مصمماً، حتى أثبت له على عباده الحجة، بالتبيين لهم جميع ما افترض عليهم، والإعذار في ذلك والإنذار، والتوقيف لهم على معالم دينهم، وجهاد من عند عن سيرته منهم، حتى إذا اعتدل عمود الدين، وتعلق به جميع المسلمين، وسطع نوره، ووضحت وشرعت أموره، ، وتقشع عن الحق الثبج، وكملت به وبرسوله الحجج؛ اختار الله لنبيه صلى الله عليه دار النعيم والسرور، ونقله من دار التعب والنصب والغرور، فقبضه الله سبحانه سعيداً، قد بين للأمة ماله خلقوا، وأوضح لهم ما إليه دعوا، وأوقفهم على ما به أمروا.
__________
(1) كذا، ولعلها: دياجير.
(2) في (ج): دهياء.
(3) كذا في ب، وفي ج: ومسح، وفي هامشه: وقمع.

(2/348)


فكان أفضل ما افترض الله عليهم، وجعله حجة مؤكدة فيهم؛ الجهاد في سبيله، والأمر بالمعروف الأكبر، والنهي عن التظالم والمنكر، ولذلك مدح الله به الأنبياء المرسلين، وذلك قوله: {الَّذِيْنَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِيْ التَّورَاةِ وَالإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلاَلَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الأعراف: 157]، ويقول: {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاَةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ} [الحج: 41]، ويقول سبحانه: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} [آل عمران: 110]، ويقول تعالى أمراً منه لجميع المسلمين: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَونَ عَنِ الْمُنْكَرِ}[آل عمران: 104]. وبالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ألف الله بين المؤمنين، وجعلهم إخوة عليه متوالين، وذلك قوله: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ، وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ}[التوبة: 71]. وبترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ذم الله المنافقين والمنافقات حين يقول:

(2/349)


{وَالْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَونَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الفَاسِقُونَ}[التوبة: 67].
والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فلا ينال إلا بالإقدام والتصميم، والنية والاعتزام الكريم، على الجهاد في سبيل الله، وتوطين الأنفس على مُلاقات أهل الظلم والطغيان، فحينئذ ينال ذلك، ويؤدي فرض اللّه من كان كذلك، وهو الجهاد في سبيله، وفي ذلك ما يقول في واضح التنزيل: {لاَ يَسْتَوِي القَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُوْلِي الضَّرَرِ وَالمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى القَاعِدِيْنَ دَرَجَةً وَكُلاًّ وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى القَاعِدِينَ أَجْراً عَظِيماً دَرَجَاتٍ مِنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً}[النساء: 95 ـ 96] وقال تبارك وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الفَوْزُ العَظِيمُ وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ}[الصف: 10 ـ 13] ويقول: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ}[العنكبوت: 69] ولفضل الجهاد ما أمر الله نبيه عليه السلام

(2/350)


بالتحريض عليه للعباد، حيث يقول: {يَا أَيُّهَا النَّبِي حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى القِتَالِ}[الأنفال: 65]، ويقول تبارك وتعالى: {وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ خَوْفٌ عَلَيهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ}[آل عمران: 69 ـ 70] وما ذكر الله من تفضيل الجهاد؛ فأكثر من أن يُحيط به كتاب، وهو معروف عند من رزق فهمه من ذوي الألباب، وكيف لا يكون للجهاد في سبيل الله فضل على جميع أعمال المؤمنين وبه يحي الكتاب المنير(1)؟ ويُطاع اللطيف الخبير، وتقوم الأحكام، ويعز الإسلام، ويأمن الأنام، وينصر المظلوم، ويتنفس المهموم، وتتجلى(2) الفاحشات، ويعلو الحق والمحقون، ويخمل الباطل والمبطلون، ويعز أهل التقوى، ويذل أهل الردى، وتشبع البطون الجائعة، وتكسى الظهور العارية، وتقضى غرامات الغارمين، وينهج سبيل المتقين، وينكح العزاب(3)، ويُقتدى بالكتاب، وترد الأموال إلى أهلها، وتفرق فيما جعل الله من وجوهها، ويأمن الناس في الآفاق، وتفرق عليهم الأرزاق.
__________
(1) في ب: وبه نبه الكتاب المبين.
(2) في (ج): وتنفى.
(3) في ب: الأعزاب.

(2/351)


ثم إن الله جل جلاله، عن أن يحويه قول أو يناله حظر الجهاد، مع جميع من خلق من العباد؛ إلاَّ من اصطفى وأتمن(1) على وحيه من عترة رسوله صلى الله عليه وعليهم، الذين هدى بهم الأمة من الضلالة والهلكة، لما في الجهاد من القتل والقتال، وسفك الدماء، وأخذ الأموال، وهتك الحريم، وغير ذلك من الأحكام، وذلك فلا يكون إلاَّ بإمام (عادل) (2)مفترض الطاعة، وذلك لا يكون إلاَّ من آل محمد صلى الله عليه وعليهم، الذين اسنقذ الله بهم الأمة من شقاء الحفرة، وجمع بهم كلمتها، وألف بين قلوبها(3)، من بعد الافتراق والاختلاف، والتشاجر وقلة الائتلاف، فأصبحوا بنعمة الله على المحق مؤتلفين، ولما كانوا عليه من الكفر مجانبين، يعبدون الرحمن من بعد عبادة الأوثان، ويقرون بمحمد عليه السلام، داخلين في النور والإسلام، ناجين من عبادة الشيطان، تالين لآيات القرآن، يتلونه آناء الليل وأطراف النهار، ويقرون بالربوبية للواحد الجبار.
قد اختار الله لهم منهم أئمة هادين، وجعلهم من ولد نبيه خاتم النبيين. وفي ذلك ما يقول: {وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ} [القصص: 68] من أهل النبوة، وموضع الرسالة، ومعدن الحكمة، وبيت النجاة والعصمة، الذين أمرَ الخلق باتباعهم، والكينونة معهم دون غيرهم، وذلك قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ}[التوبة: 119] وفيهم وفي آبائهم ما يقول سبحانه: {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ}[المائدة: 55] فجعل الولاية لهم خاصة، وثبت الإمامة فيهم، وأنزل الوحي عليهم بذلك.
__________
(1) في ب: وأفن.
(2) سقط من (ج).
(3) في (ج): قلوبهم.

(2/352)


وفيهم يقول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (( إني تارك فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا من بعدي أبداً، كتاب الله وعترتي أهل بيتي، إن اللطيف الخبير نبأني أنهما لن يفترقا حتى يردا عليَّ الحوض )). فبين بذلك أنَّه من تمسك بهم نجا، ومن تخلف عنهم هوى.
وفيهم يقول رسول الله صلى الله عليه وآله: (( ما أحبنا أهل البيت أحد، فزلت به قدم إلاَّ ثبتته قدم، حتى ينجيه الله يوم القيامة )).
وفيهم يقول: (( إن مثل أهل بيتي فيكم كمثل سفينة نوح، من ركبها نجا، ومن تخلف عنها غرق وهوى )).
وفيهم يقول تبارك وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ}[النساء: 59] فجعل طاعتهم موصولة بطاعة رسوله، وطاعة رسوله موصولة بطاعته، ومعصيتهم مقرونة بمعصية نبيه، ومعصية نبيه مقرونة بمعصيته. فمن عصاهم فقد عصا الله ورسوله، ومن أطاعهم فقد أطاع الله.

(2/353)


والذي افترض طاعته(1) ذو الجلال والإكرام، من أهل بيت محمد صلى الله عليه وآله سلم على جميع من خلق وذرأ من الأنام، وبنى على طاعته وموالاته دعائم الإسلام: الورعُ الفاضل، التقي الكامل، الباذل(2) لنفسه العالم، الذي لا تأخذه في الله لومة لائم، الفَهِم بمعاني الكتاب، المتفرع فيما يحتاج إليه من الأسباب، المجرد في أمره، الداعي إلى سبيل ربه، المباين للظالمين، الناهض بحجة رب العالمين، الكاشف لرأسه، المجرد لسيفه، الرافع لرايات الحق، المظهر لعلامات الصدق، الزاهد في حُطام الدنيا، الراغب في الآخرة التي لا تفنى، والحافظ للرعية المواسي لهم، المتحنن عليهم، المقرب غير المُبَعِّد، المُهَوِّن غير المُجْهِد، القارن لهم بنفسه في جميع أمره، الشفيق عليهم، الآخذ لمظلومهم من ظالمهم، المستوفي لحق الله من أيديهم، والرَّاد له في مصالحهم، والمفرق لفَيِّهم فيهم، المُسلِّم له إليهم، العادل في قسمه، المساوي بين رعيته في حكمه، الطارح الجبريَّة والتكبر، البعيد عن الخيلاء والتجبر(3) والباسط لكفه(4)، المنصف لأهل طاعته، المتفَقِّد لجميع معائشهم، الحامل لهم على ما أمروا به من أديانهم، الممضي لأحكام الله فيهم، القائم بقسط الله عليهم، الرؤف الرحيم بهم، العزيز عليه عنوتهم، المُتَعَنِّي بالجليل والدقيق من أمرهم(5)، المشبه في ذلك لجدّه، ولما ذكر الله من أمره، حيث يقول سبحانه: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ}[التوبة: 128] الشجاع السخي، الفارس الكَمِي.
__________
(1) في (ج): طاعتهم.
(2) في ب: الدال.
(3) كذا، ولعلها: التبختر.
(4) في (ج):لكنفه.
(5) في (ج) من أمورهم.

(2/354)


فإذا كان كذلك ثم دعاهم إلى نفسه، والقيام لله بحقه، وجبت على الأمة طاعته، وحرمت عليهم معصيته، ووجبت عليهم الهجرة إليه، والمجاهدة بأموالهم وأنفسهم معه وبين يديه(1)، وكانت طاعته والهجرة إليه، والمجاهدة بأموالهم معه، والتجريد في أمره، وبذل الأموال والأنفس، والمبادرة إلى صحابته، والكينونة تحت كنفه؛ فرضاً من الله على الخلق، لا يسعهم التخلف عنه ساعة، ولا التفريط في أمره فينة، إلاَّ بعذر نافع(2) مبين عند الله سبحانه، من مرض أو عرج، أو عمى، أو فقر مدقع، عن اللحوق به مانع، وفي ذلك ما يقول اللّه سبحانه: {انْفِرُوا خِفَافاً وَثِقَالاً وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ}[التوبة: 41] فمن كان على واحدة من هذه الأربع الخصال، جاز له التخلف عند الواحد ذي الجلال، ومن لم يكن كذلك وجب عليه فرض المهاجرة والمقاتلة، وفي ذلك ما يقول الله سبحانه: {لَيْسَ عَلَى الأَعْمَى حَرَجٌ وَلاَ عَلَى الأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلاَ عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ نُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ وَمَنْ يَتَوَلَّ نُعَذِّبْهُ عَذَاباً أَلِيْماً}[الفتح: 17] ويقول سبحانه: {وَلاَ عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لاَ أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيهِ تَوَلَّوا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَناً أَلاَّ يَجِدُوا مَا يُنْفِقُونَ}[التوبة: 92] فجعل الله لمن كان على مثل هذه الحال من الفقر؛ في تخلفه عن الجهاد مع المحق من آل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم العذر، فأما من سلم من ذلك، ولم يكن في شيء من أحواله كذلك، ثم تخلف عنه، من بعد أن تبلغه دعوته، وتنتهي إليه رسالته، أو يقع إليه خبره؛ فهو غادر، في دين الله فاجر، ولرسوله معاند، وعن الحق والصراط المستقيم
__________
(1) في (ب): والمجاهدة معه بأموالهم وبين يديه.
(2) في (ج): قاطع.

(2/355)


عاند، مشاق لله محارب، إلى النار عادل وعن الجنة مجانب، قد بآء من الله باللعنة، وجاهره بالمعصية، ووجب على الإمام إن حاربه حربه، وقتله وإهلاكه، وإن لم يحاربه، وتخلف عن نصرته، وجب عليه إبعاده وإقصاؤه، وإبطال شهادته، وإزاحة عدالته، وطرح اسمه من مقسم الفي، ووجب على المسلمين منابذته في العداوة والاستخفاف به، والاستهانة بكل أمره، لا يسعهم غيره، ولا يجوز لهم فيه سواه. ألا تسمع كيف يقول العزيز الكريم، فيما نزل على نبيه من القرآن العظيم؛ إذ يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِيْنَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيْلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الأَرْضِ أَرَضِيْتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الآَخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلاَّ قَلِيْلٌ إِلاَّ تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَاباً أَلِيماً وَيَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ وَلاَ تَضُرُّوهُ شَيْئاً وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيْرٌ}[التوبة: 38 ـ 39].

(2/356)


ومن الدليل على ما قلنا به من هلاك من تخلف من دعوة الحق، أو تثاقل عن إجابة محق، قول الله سبحانه لرسوله: {فَإِنْ رَجَعَكَ اللَّهُ إِلَى طَائِفَةٍ مِنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَداً وَلَنْ تُقَاتِلُوا مَعِيَ عَدُوّاً إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ بِالقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَاقْعُدُوا مَعَ الْخَالِفِينَ وَلاَ تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَداً وَلاَ تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُوا وَهُمْ فَاسِقُونَ}[التوبة: 83 ـ 84] فأمر الرسول بالرفض لهم، ولم يأذن في الخروج لهم ثانية أخرى(1)، عقاباً عن التخلف عنه، والتربص به، وحرمهم الخروج وسهام الغنائم، والسهام(2) لا تقع إلاَّ لمن حاما عليها، ولا تقسم إلا لمن كان حاضراً لها، وحرمهم ولاية الرسول وتوليته، وأوجب عليه(3) العداوة لهم. وبأقل من ذلك ما يقول الله سبحانه: {سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انْطَلَقْتُمْ إِلَى مَغَانِمَ لِتَأْخُذُوهَا ذَرُونَا نَتَّبِعْكُمْ يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلاَمَ اللَّهِ قُلْ لَنْ تَتَّبِعُونَا كَذَلِكُمْ قَالَ اللَّهُ مِنْ قَبْلُ}[الفتح: 15] يريد بقوله: {قَالَ اللَّهُ}؛ أي حكم الله عليكم، وأمرنا به فيكم.
__________
(1) كذا في النسخ.
(2) في (ج): إذ السهام.
(3) في (ج): عليهم، وهو سهو.

(2/357)


وفيما ذكرنا من هلاك المتخلفين(1)؛ عن دعوة الحق والمحقين، ما يقول أصدق الصادقين، فيمن قال لإخوانه وتأَخَّر: {لاَ تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ}، فقال جل جلاله، عن أن يحويه قول أو يناله: {وَقَالُوا لاَ تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرّاً لَوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ}[التوبة: 81]. وفي إهلاك الله وإخزائه للمتخلفين عن الحق والمحقين؛ ما يقول لنبيه محمد صلى الله عليه وآله وسلم: {وَلاَ تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَداً وَلاَ تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُوا وَهُمْ فَاسِقُونَ}. فنهى رسوله عن الصلاة عليهم، والوقوف على قبورهم، وحرم عليه الاستغفار لهم، ولم ينه عن ذلك إلاَّ في غوي، هالك عنده معذب شقي. ثم أخبر أن المرتابين الذين هم في ريبهم يترددون، والتردد فهو: الشك، والشك فلا يكون في حَقٍّ؛ إلا من أهل الفجور والفسوق.
__________
(1) في (ج): المخلفين.

(2/358)


ومَن أضلُّ عند الله وأَهْلَكُ، أو أشد عذاباً عند الله أو آفَكُ، ممن تخلف عن الحق وهو يعرفه، وسوَّفَ بإلاقبال عليه. فكذلك لعمر أبي الجفاة الرافضين(1) للحق والمحقين، المتأولين في ذلك على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ما لم يجعل الله إلى التعلق به سبيلاً. أشد عذاباً عند الله وآلم تنكيلا، ممن لم يعرف ما افترض الله عليه في الجهاد، فهو يتكمه في البلاء(2) متحيراً عما اهتدى إليه غيره من العباد، فنعوذ بالله من التخلف عن أمره، والصد عن سبيله، فلا صدَّ يرحمك الله أَصَدُّ، ولا جرم عند الله أشد؛ من جرم من تخلف عن الحق؛ ممن نُظِر(3) إليه من السواد الأعظم من الكبراء وبه يقتدي العوام من العلماء والجهلاء، بل تخلف من كان كذلك ثم تخلف(4)؛ فقد عطل ورفض الحق، وأضعف دعوة الصدق؛ لأن كثيراً من ضعفة المؤمنين يقتدون بأفاعيله، لثقتهم به، واتكالهم على دينه(5)، ونظرهم إلى عزيمته، إذ قصرت عزائمهم، وصغرت عن كثير من ذلك بصائرهم، فهُم له أتباع في كل أمره، لا يعدلون عن قوله ورأيه، ولا يفعلون إلاَّ بفعله، وإن نهض نهضوا، وإن أقام أقاموا، وإن نصر نصروا، وإن خذل خذلوا، فكلهم مأخوذ بنفسه؛ إذ هو مقصر عن مدى غيره، والمنظور إليه منه فمأخوذ بهم؛ إذ علم أنهم إليه ينظرون، وإياه ينصرون.
__________
(1) في (ب): الرافضية.
(2) في (ج): في البلاد. نخ
(3) في (ج): ممن ينظر.
(4) كذا في النسخ، ولعلها: بل من كان.
(5) في (ج): على رأيه.

(2/359)


فيا ويل من تخلف عن الله وخالف الهدى، وركن إلى الأولاد والدنيا، أما سمع قول الله تعالى فيما نزل من القرآن الكريم حين يقول لرسوله صلى الله عليه وآله وسلم: {قُلْ لِلْمُخَلَّفِيْنَ مِنَ الأَعْرَابِ سَتُدْعَونَ إِلَى قَومٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ} [الفتح: 16] فأوجب لمن اتبع الجزاء الحسن والثواب، ولمن تخلف عن ذلك أليم العقاب. فنعوذ بالله من البلاء، والحيرة والشقى، والركون إلى ما يزول ويغنى، والأشره له على ما يدوم ويبقى، فهذه سبيل من تخلف عن فروض الواحد الجليل.

(2/360)


فأما من اتبع ما وصفنا من آل الرسول، فإنه عند الله تبارك وتعالى حق(1) مقبول، وهو عند اللّه تبارك وتعالى من المسلمين المؤمنين، العابدين الخاشعين، المؤدين لعظيم ما افترض الله عليهم، المفضلين على جميع المؤمنين، في التوراة والإنجيل والقرآن المبين، المهاجرين إلى الله، قد وقع أجرهم على الله، فكرم مآبهم لديه، وأدوا إليه الأمانة، فنجوا وسلموا من الخيانة، كما قال سبحانه: {وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ مَاتُوا لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللَّهُ رِزْقاً حَسَناً وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُدْخَلاً يَرْضَونَهُ}[الحج: 58 ـ 59]. ومن صح منه هذا الفعل؛ فقد صحت له الولاية من رب العالمين، ومن الرسول والأئمة وجميع المؤمنين، وكان من الذين قال الله فيهم: {إِخْوَاناً عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ} [الحجر: 47] وكان من الآمنين للفزع الأكبر {وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلاَئِكَةُ} كما قال أرحم الراحمين: {هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ}[الأنبياء: 103] وكانوا من البائعين أنفسهم من ربهم، بما بذل لهم من الثمن الربيح، حين يقول سبحانه: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقّاً فِي التَّورَاةِ وَالإِنْجِيْلِ وَالقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الفَوْزُ العَظِيمُ}[التوبة : 111] فيا لها تجارة ما أربحها، ويا لها دعوة ما أرفعها، دنيا يسيرة فانية، بآخرة (2) كثيرة باقية، وحياة أيام تزول؛ بحياة أيامٍ أبداً لا تحول، والنكد والنصب، والشدة والتعب؛ بالراحة والسرور، والغبطة له في كل
__________
(1) كذا في النسخ، ولعلها: محق.
(2) في (ب) وآخرة.

(2/361)


الأمور، فاز والله من بادر فاشترى الجنة بأيام من حياته، وخاب من تخلف عن مبايعة الله وسوَّف ويله وتمنى، وعلل نفسه وسهى(1) حتى نزلت به الداهية الدهياء، ونزل به الموت والفناء، وحصل في دار القيامة والجزاء، {وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِراً وَلاَ يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً}[الكهف: 49].
فهذه صفات من تجب طاعته، وتحرم معصيته.
ومن خالف ما ذكرنا، وكان على غير ما شرحنا؛ من آل الرسول(2) صلى الله عليه وعلى آله، فنكث عليهم، وأساء في فعله إليهم، ومنعهم من حقهم الذي جعله الله لهم، واستأثر بفيهم، وأظهر الفساد والمنكر في ناديهم، وصيّر ما لهم دولة بين عدوهم يتقَّوى به عليهم، ولم(3) يَقْبِضْهُ منهم، ويقسمه على صغيرهم وكبيرهم، وكانت همته كنز الأموال، والاصطناع لفسقة الرجال، ولم يزوج أعزابهم، ولم يقض غراماتهم، ولم يكس الظهور العارية، ولم يشبع منهم البطون الجائعة، ولم ينف عنهم فقراً، ولم يصلح لهم من شأنهم أمراً؛ فليس يجب على الأمة طاعته، ولا تجب عليهم موالاته، ولا تحل لهم معاونته، ولا تجوز لهم نصرته، بل يحرم عليهم القيام معه ومكاتفته، ولا يسعهم الإقرار بحُكمه، بل يكونون شركاه إن رضوا بذلك من أفعاله، ويكونون عند الله مذمومين، ولعذابه مستوجبين،. فنعوذ بالله من الرضى بقضاء الظالمين، ونعوذ به من الإعراض عن جهاد الفاسقين، الذي لا يأمرون بالمعروف ولا ينهون عن المنكر، فإن من أعرض عن جهادهم فقد برئ من الله، وبرئ اللّه منه، وبَعُدَ من حزب الرحمن، وصار من حزب الشيطان، {أَلاَ إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الخَاسِرُونَ}[المجادلة: 19].
__________
(1) في ب: وسهل.
(2) في (ج): رسول الله.
(3) في (ج): ولا يقبضه.

(2/362)


وبعد رحمك الله ووفقك، وأعانك وسددك؛ فإني أدعوك إلى كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه، وإلى ما أمرني الله أن أدعوك إليه، وأخذ به عليَّ العهد والميثاق، من الأمر بالمعروف الأكبر، والنهي عن التظالم والمنكر، وإلى أن نُحِلَّ نحن وأنت ما أحل لنا الكتاب، ونحرم نحن وأنت ما حرمه علينا، وإلى الاقتداء بالكتاب والسنة، فما جاءا به اتبعناه، وما نهيا عنه رفضناه، وإلى أن نأمر نحن وأنت بالمعروف في كل أمرنا ونفعله، وننهى عن المنكر جاهدين ونتركه، وإلى مجاهدة الظالمين من بعد الدعاء إلى الحق لهم، والإيضاح بالكتاب والسنة بالحجج عليهم، فإن أجابوا فلهم ما للمسلمين، وعليهم ما على المسلمين(1)، وإن خالفوا الحق، وتعلقوا بالفسق، حاكمناهم إلى الله سبحانه، وحكمنا فيهم بحُكمه، فإنه يقول سبحانه: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوا فَلاَ عُدْوَانَ إِلاَّ عَلَى الظَّالِمِينَ}[الأنفال: 39] والعُدوان هاهنا فهو: الجهاد، والعَدْوُ على من ظهر منه الإجتراء على الله والاعتداء.
ألا والدعوة مني يرحمك الله إلى ما تقدم ذكره من الكتاب والسنة. واشرط لك ولمن معك على نفسي أربعاً:
الحكم بكتاب الله وسنة رسوله جاهداً ما استطعت.
والأثره لكم على نفسي فيما جعله الله بيني وبينكم.
وأن أوثركم ـ ولا أفضل عليكم بالتقدمة عند العطاء؛ الذي جعله الله حظاً في أمواله لكم ولنا ـ قبل نفسي وخاصتي.
والرابعة أن أكون قدامكم عند لقاء عدوكم وعدوي.
وأشرط لنفسي عليكم اثنين؛ أنتم شركائي فيهما:
النصيحة لله في السر والعلانية.
والطاعة في كل أحوالكم لأمري ما أطعت الله، فإن خالفت طاعة الله فلا حجة لي عليكم.
__________
(1) في (ج): المؤمنين.

(2/363)


{هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ}[يوسف: 108] فإن يطعني من بلغته دعوَتي يرشدوا، وحظهم يأخذوا، والفوز العظيم يرتجوا، وإن يتخلفوا عني، ويعصوا أمري، ويُسَوِّفوا طاعتي، ويتثاقلوا عن إجابتي، ويركنوا إلى الدنيا الغارة لهم، كما غرت من قبلهم ممن مضى؛ أكن قد قدمت لله بما يجب(1) عليَّ، وأكن عند الله إن شاء الله من الناجين، وأكن قد ثبتُّ له عليهم الحجة إلى يوم الدين، وما كان علي إلاَّ ما كان على جدي من قبلي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الرسول الأمين، من التبليغ والاجتهاد في الدين، {وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ البَلاَغُ الْمُبِينُ}[النور: 45].
__________
(1) في أ: ما يجب.

(2/364)


فرحم الله من نظر في أمره، وقاس شبْرَه بِفِتْرِه، فقد أسفر الحق عن وجهه قناعه، ونادى بأعلى صوته أتباعه، وقامت الحجة للرحمن، على كل من خلق من الإنسان، {فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلاَّ الضَّلاَلُ}[يونس: 32] ولا دون المعتدل إلاَّ المائل، ولا بعد الجدة والشدة والقوة والشباب؛ إلاَّ الضعف والإنبتات والزوال والذهاب، ولا بعد دار الدنيا الفانية؛ إلاَّ الآخرة الدائمة الباقية، وما بعد العمر إلاَّ انقطاع الأجل، وما بعد الموت إلاَّ البلاء والإمحاق، ولا بعد الإمحاق إلاَّ يوم التلاق، {يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَؤُوفٌ بِالعِبَادِ}[آل عمران: 30] ذلك يوم وقوع الجزاء؛ على ما تقدم من العمل في الدنيا، فيفوز المحقون بأعمالهم، ويخسر المبطلون ويهلك المسرفون بأفعالهم، {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُوراً}[الفرقان: 23]، {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلاَ يُجْزَى إِلاَّ مِثْلَهَا وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ}[الأنعام: 160]، ذلك يوم الحسرة والندامة، وطلب الإقالة حين لا إقالة: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيراً يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ} [الزلزلة: 6 ـ 7]، ذلك يوم تشخص فيه الأبصار، وتظهر فيه الأسرار، ويحكم فيه بالحق الجبار، {يَوْمَ لاَ يَنْفَعُ مَالٌ وَلاَ بَنُونَ إِلاَّ مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلمُتَّقِينَ وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغَاوِينَ} [الشعراء: 88 ـ 91]، وهم فيها يصطرخون نادمين، يقولون: {رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ}[المؤمنون: 107]، فيقول لهم

(2/365)


الجبار: {اخْسَئُوا فِيهَا وَلاَ تُكَلِّمُونِ}[المؤمنين: 108]، فيطلبون حينئذ الرجوع إلى ما كانوا فيه من الفناء(1)، ويتمنون الموت والبلاء، ويقولون: {يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَينَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ}[الزخرف: 77] فحينئذ تقطع قلوبهم حسرات، وتتراكم عليهم الغُموم والندامات، على ما فرطوا فيه من العمل بما أمرهم الله به ، والقيام بأكبر فرائضه، من الجهاد في سبيله، والمعادات لأعدائه، والموالاه لأوليائه.
فليعلم كل عالم أو جاهل، أو من دعي إلى الحق والجهاد فتوانى، وتشاغل، وكره السيف والتعب، وتأول على الله التأويلات، وبسط لنفسه الأمل، وكره السيف والقتال، والملاقاة للحتوف والرجال، وأثر هواه على طاعة مولاه، فهو عند اللطيف الخبير، العالم بسرائر الضمير؛ من أشر الأشرار، وأخسر الخاسرين، إن صلاته وصيامه، وحجه وقيامه بُور، لا يقبل الله منه قليلاً ولا كثيراً، ولا صغيراً ولا كبيراً. وأنه ممن قال الله سبحانه فيه حين يقول: {وُجُوهٌ يَومَئِذٍ خَاشِعَةٌ عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ تَصْلَى نَاراً حَامِيَةً}[الغاشية: 2ـ 4]. وكيف يجوز له الإقبال على صغائر الأمور من الصالحات، وهو رافض لأعظم الفرائض الواجبات(2)؟! وكيف لا يكون الجهاد أعظم فرائض الرحمن؛ وهو عام غير خاص لجميع المسلمين؟!
وعَمَلُ من عمل به شاملٌ لنفسه ولغيره من المؤمنين؛ لأن الجهاد عزٌ لأولياء الله، مخيف لأعداء الله، مشبع للجياع(3)، كاس للعراة النّياع(4)، ناف للفقر عن الأمة، مصلح لجميع الرعية، به يقوم الحق، ويموت الفسق، ويرضى الرحمن، ويسخط الشيطان، وتظهر الخيرات، وتموت الفاحشات.
والمصلي فإنما صلاته وصيامه لنفسه، وليس من أفعاله شيء لغيره. وكذلك كل فاعل خير فعله لنفسه لا لسواه.
__________
(1) في ب: الفداء.
(2) في (ج): الزاكيات.
(3) في ب: للجائع.
(4) النايع: المائل.

(2/366)


فأين الجهلة العمين، أو العلماء المتعامين؟ كيف يقيسون شيئاً من أعمال العباد؛ إلى ما ذكر الله سبحانه من الجهاد؟! هيهات هيهات بعد القياس، ووقع على الجهلة الإلتباس، وحبطت بلا شك أعمال المختلفين، وخسر الراكنون إلى الدنيا، المؤثرون لما يزول ويفنى، المتشبثون بالأموال والأولاد والأهلين، وهم ـ أَحَدَ اليومين ـ لذلك مفارقون، ولما تشبثوا به تاركون، وعما أثروه على ربهم والجهاد في سبيله رائحون. وفي أولئك، ومن كان من الخلق كذلك؛ ما يقول الرحمن الرحيم، فيما نزل من الفرقان العظيم: {قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَونَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَونَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي القَوْمَ الفَاسِقِينَ}[التوبة: 24].

(2/367)


فمهلاً أولئك مهلاً، عن التخلف عن الله والإجتراء، هلموا إلى الأمر بالمعروف الأكبر، والنهي عن التظالم والمنكر، هُلَمَّ إلى قسم فيّكم عليكم، وإحياء كتاب الله وسنن رسوله فيكم، هلموا إلى غناء فقرائكم، والأخذ بالحق في أغنيائكم، هلموا إلى أخلاق المسلمين، والإقتداء بمن مضى من الأئمة المجاهدين، هلموا إلى الطلب بكتاب الله، والإنتصار من أعدائكم، هلموا إلى نصر الله، ونصر الحق والمحقين، هلموا إلى جهاد الفسقة الظالمين من أهل قبلتكم من جبابرتهم، من الأشراف وغيرهم. ألستم ترون ـ عبادَ اللّه المخلصين، والقايلين في الله بالتوحيد، المقرين بما ذكر الله في الوعد والوعيد إلى دينكم مقتولاً، وإلى الحقِ الذي أنزله على نبيكم مخذولاً؟ وحُكِم الكتاب معطلاً بينكم، وأن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر معدوم فيكم، يرتع أعداء الله في جنى أموال المسلمين، قد أمنوا من تغييركم عليهم، ويئسوا من نكايتكم فيهم، وبسطوا أيديهم عليهم، وحكموا بحكم الشيطان فيهم، يذبحون أبناءهم، ويستحيون نساهم، وفي ذلكم بلاء من ربكم عظيم. حرموهم فيَّهم، واصطفوا مع ذلك أموالهم، وأجاعوا بطونهم، وأعروا ظهورهم، وأضاعوا سبيلهم، وأخافوهم على أنفسهم، يحتفون أموالهم، ويقتلون رجالهم، يمنعونهم النصف، ويسومونهم الخسف، هتكاً للحريم، وتمرداً على الله العظيم.

(2/368)


إن شهدوا لم يصدقوا، وإن سالموا لم يتركوا، أعزاؤهم عندهم أذلة(1)، وعلماؤهم جهلاء، وحلماؤهم عندهم سُخَفَاء، وَعُبَّادهم لديهم سُفَهَاء، قد جعلوا فيَّهم بينهم دَوَلاً، وأولادهم لهم خدماً وخَوَلاً، يشبعون ويجوعون، ويسعون(2) في رضاهم ومصالحهم، و[هم] يسعون في هلاكهم وسخطهم، فهم لهم خدم لا يُشْكَرون، وأعوان لا يُؤْجَرون، هممُهم هِمَم حميرهم، همَمُهم ما واروه في بطونهم، وباشروه بفروجهم، واستغشوه على ظهورهم، نهارهم دايبون في إخمال الهدى والحق، وليلهم في التلذذ والطرب(3) والفسق، فراعنة جبارون، وأهل خيلاء فاسقون، إن استُرْحِموا لم يَرْحموا، وإن استُنْصِفوا لم يُنصِفوا، وإن خُوِّفوا لم يخافوا، وإن قَدَروا لم يُبقوا، وإن حكموا لم يعدلوا، وإن قالوا لم يَصْدُقوا، لا يذكرون المعاد، ولا يزكون العباد، ولا يُصلحون البلاد، رافضون معطلون للنكاح، مظهرون مُعتكفون على السفاح، المنكر(4) بينهم ظاهر، وافعال قوم لوط أفعالهم، وأعمالهم في ذلك أعمالهم، يتخذون الرجال ويأتونهم من دون النساء، ويظهرون الفجور علانية والردى، ويأتون في ناديهم المنكر، ويجاهرون بذلك العلي الأكبر، سفهاؤهم أمراؤهم، وأشرارهم حكامهم، وعظماؤهم أردياؤهم، الغدر شيمتهم، والفسق همتهم، إن عاهدوا نقضوا، وإن أمَّنوا(5) غدروا، وإن قالوا كذبوا، وإن أقسموا حنثوا، قد قتلوا الأرامل والولدان، وحرموهم ما جعل الله لهم من السُّهمان، قد قتلوا الكتاب والسنة، وأظهروا المنكر والبدعة، وخالفوا ما بعث الله به النبي(6)، وحكموا بغير حكم(7) الكتاب المنزل، اضداد الحق والمحقين، أولياء الباطل والمبطلين، وحزب الشيطان، وخصماء القرآن، وأعداء الرحمن، في الفسق منغمسون، وعن الحق مُجْنبون، لم ينالوا ما نالوا من
__________
(1) كذا ولعلها: أذلاء.
(2) في ب: ويشفعون.
(3) في (ج): والطرف.
(4) في ب: المسكر.
(5) في ب: ائتمنوا.
(6) في ب: به الرسل.
(7) في (ب): بغير ما حكم.

(2/369)


أولياء الله إلاَّ بالغدر، ولم يقدروا عليهم إلاَّ بالختر(1)، وعقد مواثيق الله له في أعناقهم، وبسط أمان الله وأمان رسُوله له منهم(2)، فإذا ركن إلى عظيم ما يعطونه، ووثق بجليل أيمانهم؛ قتلوه من بعد ذلك غادرين، ومثلوا به ناكثين، لا فيما أعطوه من عقود الله ومواثيقه له ينظرون، ولا في الأيمان المؤكدة التي له يفكرون، اجتراء على الله العظيم، وعُدولاً منهم عن الصراط المستقيم، عنوداً عن الحق المبين، ومُضادة لأحكام أرحم الراحمين، ومخالفة لسُنن الرسول الأمين، ومباينة ومجانبة لشرائع الإسلام، وتشبها بفعل أهل الشرك والكفر والطغيان، بل الكفار الطغاة أوفى بالعهود منهم، وأحفظ لعهودهم منهم لعهدهم، وأقل اجتراء منهم في كثير من الأمور على خلافهم، وهم في ذلك يدعون أنهم أئمة المسلمين، وقادة المؤمنين، وخلفاء الواحد الكريم، وولاة الواحد العظيم(3). كلا والذي نفس يحيى بيده، ما ولى الله أولئك في خلقه، ولا قلَّدهم شيئاً من أمره، ولا أجاز لهم أمراً ولا نهياً في شيء من أرضه، وكيف يكون ذلك والله سبحانه يقول لنبيه صلى الله عليه إبراهيم خليله، حين سأله ان يجعل ذريته أئمة كما جعله هو صلى الله عليه إماماً؛ فأخبره الله سبحانه أنَّه لا يجعل الولاية إلا للمتقين، ولا يعقد الإمامة لأحد من الفاسقين، ولا يعقد عقدها للظالمين، وذلك قوله سبحانه: {وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ}[البقرة: 124]؟! فمنع من عقده وعهده، ومؤكد إمامته؛ كلَّ ظالم من خلقه. فأي ظلم يرحمك اللّه أو غشم، أو فسق أو إثم؛ أعظم مما فيه من هو يدعي أنَّه إمام المسلمين، وأمير المؤمنين؛ من الذين أماتوا الكتاب
__________
(1) الختر كالغدر وزناً ومعنى أو أقبح الغدر.
(2) في ب: أمان اللّه ورسوله منهم.
(3) في أ: وولاة للعظيم الرحيم.

(2/370)


والسنن، وأحيوا البدع والفتن، وضلوا(1) الحق، وأحيوا الفسق، وجلسوا في غير مجلسهم، وتعاطوا ما ليس لهم، {أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلاَلَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ}[البقرة: 16] فأين لكم يا أهل(2) الإسلام؟؟ وكيف يرضى من آمن بالرحمن؛ بالظلم والغشم من حزب الشيطان، الذين جاهروا ربهم بالكفر والعصيان، وحادوه في كل شأن؟! {إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ فِي الأَذَلِّينَ كَتَبَ اللَّهُ لأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌ عَزِيزٌ}[المجادلة: 19 ـ 20]، صدق الله في قوله، لقد حكم الله للحق والمحقين؛ بالغلبة للباطل والمبطلين، ولكن أين أين الناهضون لأمره، المتنجزون لوعده، المتعرضون(3) لنصره؟ فإنه يقول سبحانه: {وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌ عَزِيزٌ}[الحج: 40] وبلى وعسى، {فَإِنَّ مَعَ العُسْرِ يُسْراً إِنَّ مَعَ العُسْرِ يُسْراً}[الإنشراح: 5 ـ 6]، عسى الله أن يجعل فيكم يا أهل التوحيد خَلَفاً من الأولين المجاهدين، الذين بذلوا أنفسهم وأموالهم لله رب العالمين.
__________
(1) في (ج): وقتلوا.
(2) في (ب): بأهل.
(3) في (ب): المعترضون.

(2/371)


فشمروا يرحمكم الله واجتهدوا، واطلبوا النجاة من الله تعالى بجهادهم تنجوا، فإنه يقول سبحانه: {الَّذِينَ هَاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا لأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ ثَوَاباً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ}[آل عمران: 195]. فجاهدوا كما جاهد أولئك من سلفكم المؤمنين، من الأولين والآخرين، فلقد جاهدوا أعداء الله واحتسبوا، فلقوهم، وجالدوهم وصابروهم، والفسقة حينئذ أقوياء أعزاء، جيوشهم جامعة، وأموالهم كاملة، وكلمتهم مؤتلفة، وجماعتهم غير مختلفة، فصَفُّوا لهم الصفوف، وضربوا(1) وجوههم بالسيوف، ووفوالله بعهده، وقاموا له(2) فيه بأمره، صابرين محتسبين، ولذلك من فعلهم متخيّرين، حتى لحقوا بالله مستشهدين، كراماً طيبين مطيبين، فائزين بالثواب، ناجين من العقاب، قد فازوا بالرضى والرضوان، يتقلبون في عرصات الجنان، {تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلاَمٌ وَاَعَدَّ لَهُمْ أَجْراً كَرِيماً}[الأحزاب: 44]، {وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ قَالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَينَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ إنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ البَرُّ الرَّحِيمُ}[الطور: 25 ـ 28].
__________
(1) في (ج): وأضربوا. أي ضربوها.
(2) في (ب): لهم.

(2/372)


فاجتهدوا رحمكم الله واستغفروا، وقوموا لله بما أمركم الله به ولا تقصروا، ولا تركنوا إلى الخفض(1) في الدنيا فتهلكوا، وجدُّوا في جهاد أئمة الظلم تسعدوا، {إِلاَّ تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ}[الأنفال: 73]، فإنهم إخوان من مضى من إخوانهم في ارتكاب الردى، والجري في ميادين الهوى، والصد عن أبواب الهدى، أهل الفسق والبغي، حزب الشيطان، أهل الجرأة على الله بالمخالفة والعصيان.
واعلموا رحمكم الله أن حُكم الله فيهم وفيمن كان قبلهم واحد، وسنته في الفسقة الأولين؛ كسنته في الظلمة الآخرين، وفي ذلك ما يقول رب العالمين: {سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً}[الفتح: 23]، وقال سبحانه: {سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوا مِنْ قَبْلُ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَراً مَقْدُوراً}[الأحزاب: 38].
ألستم ترون رحمكم الله إلى أبواب النصر قد فتحت، وعلامات ما تأملون من دولة آل رسول اللّه قد أقبلت، ودلالات ملكهم قد شرعت، وأسباب ما وعد اللّه نبيه صلى الله عليه وعلى آله قد ثبتت، وعلامات هلاك عدوهم قد وضحت وبوادر الرحمة قد أقبلت، وإياكم قد أجنَّت وأظلت، ولكم بالنصر والتوفيق قد قصدت؟ فأقبلوا إليها ولا تدبروا، وتلقوها بقبولها قبل أن تندموا.
__________
(1) الخفض: الدعة، يقال: هم في خفض من العيش، أي هدوء وسكون وسعة.

(2/373)


ألستم ترون ما قد صار إليه أعداء الله وأعداؤكم من النقص والخذلان، والضلال والنقصان؟ فهم كل يوم يرذلون، وكل شهر يُنقصون، وكل عام يفتنون، قد تلعَّبت بهم عبيدهم، واجترأت عليهم ساستهم، فصاروا يسومونهم سوء العذاب، يقتلون من شاؤا منهم، ويقيمون من أرادوا منهم، يجبون الأموال لأنفسهم، قد تسلط عليهم شرارهم، وأعوانهم وعُبدانهم، فلا مال عندهم، ولا رجال في جوارهم، ولا أمر ولا نهي لهم، ليس في أيديهم ولا لهم بلد ينحون(1) فيه أمرهم، غير بعض القرى قد أحل فيهم الأعراب، واستباحت ما قدرت عليه من رعيتهم، ينهبون حواشيهم، ويخيفون سبيلهم، ويقطعون طريقهم، لا يقدرون على نفيهم وإبعادهم، ولا ينالون ما يشتهون من إذلالهم، بل هم الأذلاء الأقلاء، الفساق الضعفة(2)، أشد على الرعية والمساكين، إذلالاً من الأقوياء والمحاربين، يخيفون ويأكلون من تحت أيديهم، ويدارون(3) من نابذهم وتسلط عليهم،قد انهدم عزهم، وانخرقت مهابتهم، وفتكت بهم كلابهم، وقهرهم أشرارهم، وحكم عليهم عُبْدانهم، وقلت وانتفت من أيديهم الأموال، وتفرقت عساكرهم والرجال، زهداً من الرجال فيهم، ورغبة في خير من يجزل عليهم، قد مال عمود ملكهم، وانهدم باب عزهم، وتغير أساس أمرهم، وأعطت خلافتهم صاغرةً قيادها، وَرَمت إلى من قادها بزمامها، وألقت إليه(4) بسمعها وطاعتها، وذل لطالبها صعبها، ولان لراكبها مركبها، وذل له بعد الصعوبة ظهرها، وبرزت له من بعد شدة حجابها، واستقامت له وأشرعت(5) لدنوّ نتاجتها، ودرت لحالبها بدرة تسر الحالبين، وتنهل الشاربين، ويَعُلُّ(6) فيها العَالُّون، وينتعش ويشبع في أفوقتها(7)
__________
(1) في (ج): يمجُّون (كذا). وظنن بـ: (يمضون).
(2) كذا ولعلها: الضعفاء.
(3) في (ب): ويداريون. ولعلها: ويواربون.
(4) في (ج): إليها. وظنن بما أثبت من ب.
(5) في (ج): وأَضْرَعَتْ.
(6) العلل بعد النهل: الشربة الثانية بعد الأولى.
(7) في ب: أفرقتها، والفُواق: مقدار مابين الحلبتين.

(2/374)


الجائعون، فهي حافل(1) تشخب رجليها مما تدر، ولكن لا حالب لدرتها، ولا منتهز لفرصتها، لقلة المحقين، وذهاب المؤمنين، وذلة المسلمين، وركون هذا الخلق إلى الفسق، وتركهم لاتباع دعوة الحق، وتعلقهم بالفاني من أمر الدنيا، وزهدهم فيما يدوم من الآخرة ويبقى.
كان لم يسمعوا الله سبحانه يقول: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوتِ ثُمَّ إِلَينَا تُرْجَعُونَ}[العنكبوت: 57]، وكأن لم يسمعوا ما أخبرهم به عنهم من عاقبة أمرهم، وقوله لهم في يوم حشرهم؛ حين يقول: {وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ لَقَدْ تَقَطَّعَ بَينَكُمْ وَضَلَّ عَنْكُمْ مَا كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ}[الأنعام: 94].
__________
(1) ضرع حافل: ممتلئ لبناً.

(2/375)


فاجتهدوا رحمكم الله، واستبقوا إلى الله، وبادِروا قبل أن تبادَروا(1)، فإنه يقول: {وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ}[الواقعة: 10 ـ 12]. واعلموا أن المسبوق لن يلحق بالسابق، والكاذب لا يكون عندالله كالصادق. أما سمعتم الله يقول: {لاَ يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلاًّ وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى}[الحديد: 10]؟ وقال: {وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ}، وقال: {وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أبَداً ذَلِكَ الفَوْزُ العَظِيمُ}[التوبة: 100].
فابتدروا إلى الله تسعدوا، ولا تتخلفوا عنه فتهلكوا، ويرميكم بالذل والصغار، ويحشركم يوم القيامة إلى النار، قد بذلت لكم النصيحة إن كنتم تحبون الناصحين، والحمد لله رب العالمين، وسلام على المرسلين، والعاقبة للمتقين، (وصلى الله على سيدنا محمد النبي وآله وسلم)(2).
تمت الدعوة
رسائل وكتب
في
أصول التشريع
الرد على من زعم
أن القرآن قد ذهب بعضه
m
قال يحيى بن الحسين صلوات الله عليه:
يسئل من قال: إن بعض القرآن قد ذهب، وأنكر أن يكون هذا القرآن الذي في أيدي الناس هو القرآن المنزل على محمد صلى الله عليه وآله وسلم بعينه، لم يزد فيه ولم ينقص منه؛ فيقال له: خبرنا عن حجج الله سبحانه على عباده ما هن؟ وكم هن؟ (3)
__________
(1) في (ج): لا تبادروا.
(2) في (ج): وصلى اللّه على محمد خاتم النبيين وعلى أهل بيته الطيبين وسلم تسليماً.
(3) في (أ،ج): ما هي وكم هي.

(2/376)


فلا يجد بداً أن يقول: هي الكتاب والمرسلون، والعقول والأئمه الهادون. فإذا أقر بذلك، وكان الأمر عنده كذلك؛
قيل له: أو ليس في كل حجة لله فروض مؤكدة، لا بد من العمل بها واستعمالها لها.
فإن قال: لا، كفر، وإن قال: نعم، قيل له: ما فرض كل واحدة منهن الذي لا بد من استعمالها به؟ وما معنى جعل الله لها؟
فإن كان جاهلاً جهل ذلك، وإن كان عالماً أجاب في ذلك بالحجة والصواب؛ فقال: حجة العقول ركبت وجعلت لتدل على خالقها؛ بما تستدركه من مجعولات جاعلها، وتميزه من فعل فاعلها، جعلت للإقرار بالله والتمييز بين الأمور، ومعرفة الخيرات والشرور.
والأنبياء فأُرسلت تدعو إلى الله تعالى، تنذر يوم التلاق، وتحتج على العباد للواحد الخلاق، وتبين لهم ما فيه يختلفون، وما إليه من العمل يدعون.
والأئمة من بعد الرسل؛ فجعلت لتدل على شرائع الأنبياء وتحكم بالحق بين العباد، وتنفي عن الأرض الغي والفساد.
وأما الكتب ففيها فرائض الرحمن وحججه، وحلاله وحرامه، وتبيين ما أحل الله لعباده، وما حرم عليهم، وما أمرهم به، وما نهاهم عن فعله، وما وكد من أحكامه فيهم، وما أوجب في كل الأسباب عليهم، {لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللهَ لَسَمِيْعٌ عَلِيْمٌ} [الأنفال:42].

(2/377)


فإذا قال بذلك، قيل له: ويحك ما أغفلك؟! وأبين حيرتك، وأظهر جهلك وأقل علمك؛ بما تذكر من قولك، وتقول إن الكتب عندك على ما ذكرت وفسرت؛ وقد تعلم أن أعظم الكتب كتاب محمد عليه السلام؛ الذي جعله الله نوراً وهدى، وتبياناً ورحمة وشفاء، فرض فيه الفروض، وأصل فيه الأصول، وبين به حلاله وحرامه، وفي ذلك ما يقول جل جلاله، عن أن يحويه قول أو يناله، {مَا فَرَّطْنَا فِيْ الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ}، ويقول سبحانه: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً} [النحل: 89]، ثُمَّ أمر رسوله باتباعه، والانقياد لما فيه؛ فقال: {اتَّبِعْ مَآ أُوْحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ} [الأنعام: 106]، ثُمَّ تقول بعد: إنَّه قد ذهب بعضه، ولم يبق منه إلاَّ أقله، وهو دعائم الرحمن، وفيه ما يحتاج إليه من أمور الله في كل شأن؟!
فإن كان ذلك عندك كذلك؛ فقد ذهبت أكثر فرائض الله سبحانه، وعدمت حجته فتركت، وعطلت ورفضت، واستبْدَلْتَ بنور الحق وبهجته؛ حيرة الباطل وظلمته، فلا ذنب للعباد فيما جهلوا من الحق، وارتكبوا من الفساد، وتركوا من فرائض الله الَّتِي قد ذهبت مع ذهاب عامة كتابه، إذ هم عنها غافلون، ولها جاهلون، إذ لم يجدوها، ولم يطلعوا عليها ولم يعلموها.

(2/378)


ومن قال بذهاب بعض القرآن؛ دخل عليه بقوله الفساد في أمره ودينه، حتَّى لا يقوم له حجه، ولا تثبت له بينه، وذلك(1) أنَّه لو قال له قائل: أنت أيها المناظر تزعم أن القرآن قد ذهب منه بعضه، لا بل تقول ذهب أكثره؛ وأنت تعلم أن القرآن ناسخ، ومنسوخ، وأمر ونهي وخبر، وهذه الفرائض الَّتِي في هذه البقيه؛ الَّتِي بزعمك بقيت في أيدي الناس؛ فهي منسوخة كلها، وليست بمبينة للحكم، والمبينة للحكم فهي ما قد نسخها، مما قد ضل وذهب؛ لقطعه وأفسد ما في يده؛ من قوله: إن القرآن قد ذهب بعضه، واضطره إلى أن يبطل(2) ما في القرآن من هذه الأحكام، المعروفة عند جميع أهل الإسلام؛ أو يرجع إلى الحق، ويقول في القرآن بالصدق، فيقر(3) أنَّه هو بعينه، لم يذهب منه شيء، وأنه محفوظ ممنوع من كل غي. وإنَّما ألزمناه ذلك لأنَّه يزعم أن بعض القرآن قد ذهب، ومن قال بذلك لم يدر أهذه الفرائض الَّتِي في الكتاب الذي في أيدي المسلمين منسوخة أم ناسخة؟ وأن من(4) لم يعلم ذلك علماً يقيناً لم يجب عليه الإقرار بما لا يوقنه، فضلاً عن العمل به.
__________
(1) في (ب): وكذلك.
(2) في (ب): إلى ما يبطل.
(3) في (أ): ويقر.
(4) في (ب): فإن لم يعلم.

(2/379)


بل لو كابره مكابر مخالف؛ فقال(1) له: عندي ما ذهب من القرآن، وأنا أقيم عليه وأقيمه، وهو ناسخ لما(2) في هذه البقية، فأنا لا أقيم هذه الأحكام الَّتِي قد نسخت، وأقيم الأحكام الَّتِي نَسَخْتَها، وأعبد الله سبحانه بالفرائض الَّتِي ذهبت من هذا القرآن؛ الناسخة لهذه البقية في أيدي الناس، وأنا بذلك عالم، لأنَّه عندي وفي يدي؛ ثُمَّ ذكر وادعى أن الفرض(3) في الصيام هو صيام رجب، وأن صوم رمضان منسوخ، كما نسخ غيره من الصلاة إلى بيت المقدس، وغير ذلك من الأحكام، وقال: أنا أصلي الصلاة في أوقاتها الَّتِي سميت في هذه(4) البقية، لأن هذه الَّتِي معك منسوخة، نسختها الأحكام الَّتِي ضلت وذهبت، وقال: إنَّه لا يجلد الزاني، ولكن تقطع يده، ولا يقطع السارق؛ ولكن يجلد مائة جلدة، وادعى أن هذا الحكم مثبت فيما ذهب من القرآن، وأنه قد فهم ذلك منه وعلمه، وقال: إن حكم السارق والزاني في هذه البقية الَّتِي تزعم أنها بقيت في أيدي الناس منسوخ، نسخه ما جهل من القرآن وذهب، فأنا أعمل بالناسخ واترك المنسوخ. وكذلك يعارضه في كل فرائض القرآن، فإذا عارضه معارض بهذا القول؛ لم يكن له(5) أن يدفعه بها صغرت ولا كبرت(6)، لأنَّه قد أجابه وأجمع معه على أن القرآن قد ذهب بعضه، بل عامته في زعمه. ولو كان القرآن كذلك؛ لكان الناس كلهم قادرين على ادعاء ما أحبوا أن يدعوا من ذلك، ولبطلت فرائض الله وحدوده، ولم يقم لله حد على عباده، لأن ما قال من ذلك لو كان يدرأ الحد(7)؛ لقول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (( ادرأوا الحدود بالشبهات )).
__________
(1) في (ب): وقال.
(2) في (أ): لكل ما في.
(3) في (ب): الفرائض.
(4) يعني الَّتِي معه الَّتِي قد زعم أنَّها ذهبت.
(5) في (أ، ج): لم يكن له بُدٌّ.
(6) في هامش (ج): أو كبرت
(7) في هامش (ج): لدرأ.

(2/380)


وهذا القول الفاسد المحال، الكاذب المضل الضآل؛ فلو أجاب إليه المسلمون قائله، أو جاز أن يقول به المؤمنون؛ لوجب عليهم وعلى إمامهم أن يأتوا بناسخه، ومنسوخه، وجميع ما ذهب منه، وإلا فلم يجب لهم على كل ذي حَدٍّ يَدٌ؛ لأن كل ذي حد وجب عليه في شيء أحدثه يزعم ويدعي أن حكم الله بالأدب في ذلك منسوخ، ويقول: إنَّه لا يحد بهذا الحد في هذا الجرم، وإن حده غير هذا الحد الذي في هذه البقية بزعم من يزعم أن القرآن ناقص، ويقول: هلموا ما ذهب منه فاتلُوْه؛ فإن لم تجدوا فيه ما ينسخ هذا فحدُّوني، وإن وجدتم فيه ما أدعي فخلوني. فتعالى الله عما يقول فيه المبطلون علواً كبيراً، والحمد لله رب العالمين كثيراً، الحافظ لكتابه المانع له من كل خطأ وزلل، أو ذهاب، أو نقصان. وكيف يذهب من القرآن قليل أو كثير؛ وهو حجج الواحد اللطيف الخبير، وفيه فرائضه على الخلق سبحانه؟ فقد حُفِظ ومُنِع ........... (1) من كل شأن من الشأن.
فتأويل قال بنقصان الفرقان، أما سمع قول الواحد الرحمن: {بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيْدٌ فِيْ لَوْحٍ مَحْفُوظٍ} [البروج: 21ـ22]، فأخبر أن القرآن عنده، محفوظ له جل جلاله. وفيه ما يقول: {وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيْزٌ لا يَأْتِيْهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيْلٌ مِنْ حَكِيْمٍ حَمِيْدٍ} [فصلت: 41ـ42]، ويقول سبحانه: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ}[الحجر:9]، فأخبر أنَّه لما نزل من الذكر حافظ، ولم يلفظ بغير الحفظ فيه لافظ، إلاَّ عم جاهل، وعن الرشد والحق زائل، ولقول الله مبطل معاند، ولما ذكر الله من حفظه له جاحد.
__________
(1) بياض في (ب ، ج) فقط.

(2/381)


وفي ذلك ما حدثني أبي عن أبيه، أنَّه قال: قرأت مصحف أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه، عند عجوز مسنة، من ولد الحسن بن زيد بن الحسن بن علي بن أبي طالب؛ فوجدته مكتوباً أجزاء، بخطوط مختلفة، في أسفل جزء منها مكتوب: وكتب علي بن أبي طالب، وفي أسفل آخر: وكتب عمار بن ياسر، وفي آخر وكتب المقداد، وفي آخر: وكتب سلمان الفارسي، وفي آخر: وكتب أبو ذرالغفاري، كأنهم تعاونوا على كتابته، قال جدي القاسم بن إبراهيم صلوات الله عليه: فقرأته فإذا هو هذا القرآن الذي في أيدي الناس حرفاً حرفاً، لا يزيد حرفاً ولا ينقص حرفاً؛ غير أن مكان: {قَاتِلُوا الَّذِيْنَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ} [التوبه: 123]؛ اقتلوا الذين يلونكم من الكفار، وقرأت فيه المعوذتين.
قال يحيى بن الحسين صلوات الله عليه: ومن الحجة في حفظ القرآن، وإبطال ما يقال به من ذهابه وافتراقه، وزواله ونقصانه؛ قول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (( إني تارك فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا من بعدي أبداً، كتاب الله، وعترتي أهل بيتي، إن اللطيف الخبير نبأني أنهما لن يفترقا حتَّى يردا علي الحوض ))، فأخبر صلى الله عليه أن الله جل ثناؤه أخبره بنبأئهما، وبأنهما حجة منه على خلقه، باقية في أرضه إلى يوم حشر العالمين.
والحمدلله رب العالمين، أولاً وآخراً وصلى الله على سيدنا محمد وآله وسلم.
*****
كتاب
تفسير معاني السنة
تفسير معاني السنة والرد على من زعم أنها من رسول الله من كلامه صلى الله عليه وآله وسلم
m

(2/382)


الحمدلله علام الغيوب، البريء من كل نصب ولغوب، الواحد العلي، القدوس الأزلي، الذي رفع السماء فبناها، وسطح الأرض فطحاها، خالق المخلوقين، ورب المربوبين، وباعث الموتى، ومبتدئ الأحياء، العالم بخفيات سرائر الغيوب، المطلع على غوامض سرائر القلوب، المتعالي عن القضاء بالفساد، المتقدس عن اتخاذ الصواحب والأولاد، الآمر لعباده بالرشاد، الذي ليس كمثله شيء وهو السميع البصير، الواحد الأحد العليم الخبير.
أحمده على ما من به فينا، وتفضل به سبحانه علينا، من ولادة النبيين، ووراثة علم المرسلين، ونشكره على ما خصنا به، وجعلنا بفضله من أهل القيام (1) بحجته، والدعاة (2) لخلقه إلى ما افترضه عليهم، وأوجبه إيجاباً مؤكداً فيهم، من الأمر بأمره، والنهي عن نهيه، والحكم بكتابه، والاتباع لدينه، والمجاهدة لمن جاهده (3)، والمعاضدة لمن نصره، والمعاداة لأعدائه، والموالاة لأوليائه، والقيام بأكبر فروضه قدرا، وأعظمها لديه خطرا، وهو الجهاد في سبيله، والمباينة لمن عَنَدَ عن دينه، وفي ذلك ما يقول جل جلاله، عن أن يحويه قول أو يناله: {إِنَّ اللّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِيْنَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بَأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِيْ سَبِيْلِ اللّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقاً فِيْ التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيْلِ وَالْقُرَآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيْمِ} [التوبة:111]، ثم قال تبارك وتعالى فيما يذكر من تعظيم ما ذكرنا من الجهاد الكريم: {لا يَسْتَوِي الْقاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِيْنَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرَ وَالْمُجَاهِدُونَ فِيْ سَبِيْلِ اللّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ
__________
(1) في (أ، ج): من أهله من القيام.
(2) في (أ، ج): والدعاء.
(3) كذا في النسخ، وظننا في هامش (ج) بقوله: عانده.

(2/383)


فَضَّلَ اللّهُ الْمُجَاهِدِيْنَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِيْنَ دَرَجَةً وَكُلاً وَعَدَ اللّهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِيْنَ عَلَى الْقَاعِدِيْنَ أَجْراً عَظِيْماً دَرَجَاتٍ مِنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيْماً} [النساء:195 ـ 196]، ثم قال سبحانه فيما أمر به عباده من النفير في سبيل الله، والإحياء لشرائع دينه: {انْفِرُوا خِفَافاً وَثِقَالاً وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِيْ سَبِيْلِ اللَّهِ ذَلِكَمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [التوبة:41]، ثم قال تخويفاً للقاعدين، وإعذاراً وإنذاراً للمتربصين، واحتجاجاً على المتخلفين؛ عن واجب ما أوجب أحكم الحاكمين، وتبييناً لفضل المنابذين؛ لمن نابذ شرائع الدين، وجهد في إبطال الحق واليقين، وكان ضداً مدافعاً للحق، وكهفاً وسنداً للفسق: {إِلاَّ تَنْفِرُوا يُعْذِّبْكُمْ عَذَاباً أَلِيْماً وَيَسْتَبْدِلْ قَوماً غَيْرَكُمْ وَلا تَضُرُّوهُ شَيْئاً وَاللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيْرٌ} [التوبة:39]، ثم ذكر سبحانه فذم ذا التَّعِلاَّتِ(1)، وأهل التأويلات الباطلات، فأخبر أنه لاعذر لهم فيما به يعتذرون، ولاحجة لهم فيما فيه يتأولون، من التعلق بالشبهات، والتسبب لمنال (2) الفكاهات، والتلذذ بمقاربة الأولاد والزوجات، وجميع الأموال من التجارات، فقال سبحانه تحذيراً لهم، وتنبيهاً عن وسنتهم، وتيقيظاً (3) لهم من رقدتهم: {قُلْ إِنْ كَانَ آبآاؤُكُمْ وَأَبْنَآؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيْرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَونَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلِيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٌ فِيْ سَبِيْلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى
__________
(1) يعني أصحاب الأعذار الكاذبة.
(2) في (ب): والتسبب لمثال.
(3) في (ب): وتيقظاً.

(2/384)


يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقْيْنَ} [التوبة:24]،سمى من كان كذلك، أو ضرب لنفسه (1) تأويلاً (2) في ذلك فاسقين، وأوجب لهم ما أوجب على الفاجرين، من عذاب الجحيم، والخلود في العذاب الأليم. ثم قال سبحانه ترغيباً لعباده المؤمنين، وإخباراً لهم بما أعد لهم على الجهاد من الثواب المبين: {يَا أَيُّهَا الَّذِيْنَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيْمٍ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِيْ سَبِيْلِ اللّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِيْ مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِيْ جَنَاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيْمِ وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِنَ اللهِ وَفَتْحٍ قَرِيْبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِيْنَ} [الصف:10 ـ 13]، صدق الله سبحانه إن ذلك للتجارة الكبرى، والكرامة الجليلة العظمى، والحظ العظيم، والأمر الجسيم؛ الذي جل ذكره وعظم قدره، وحسن عند الله مآب فاعله، وجل لديه سبحانه خطر القائم به، جعله له سبحانه مؤتمناً على خلقه، ومرشداً إلى أمره، خصه بخواص الكرامة الكاملة، وأعطاه العطية الفاضلة، وجعله حجةً شاملة، ونعمةً على الخلائق دائمة. نسأل الله إيزاع شكره، وبلوغ ما نؤمل من طاعته، فإن ذلك أفضل ما أعطى الخلق من العطاء، وأعظم ما بلغه بالغ من الرجاء، ونسأل الله أن يصلي على محمد عبده ورسوله المصطفى، وأمينه المرتضى، وخيرته من خلقه، وأمينه على وحيه، وصفوته من بريته، صلى الله عليه وأهل بيته الطيبين الأخيار، الصادقين الأبرار، الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً.
__________
(1) في (أ) و(ج): ثم سمى.
(2) في (ب): تأولاً.

(2/385)


ثم نقول من بعد الحمد لله والثناء عليه، والصلاة على محمد صلى الله عليه وآله وسلم: أما بعد، فإنا نظرنا في أمور هذه الأمة وأسبابها، وقلبنا ما قلبنا من حالها وأخبارها، وافتراق أقاويلها، وفساد تأويلها، وقلة ائتلافها؛ فوجدنا أمورها تدل على أنها ضيعت ما به أمرت، حتى صعب قيادها، وكثر حيادها؛ فقلَّ(1) فهمها، (وقل احتياطها)(2)، وكثر تخليطها، وصار لكلها قول مقول، وعمل فادح معمول، ينفر منه القلب الجهول، فضلاً عن أهل المعرفة والعقول.
__________
(1) في (أ،ج): وقل.
(2) زيادة من (أ).

(2/386)


كان من أنكر قولها، وأعظم جهلها؛ ما قالت به في الله سبحانه، ورمت به بجهلها رسوله، فزعمت لعظيم غفلتها وغامر(1) رقدتها؛ أن دينها الذي به تعبدها ربها كتاب ناطق مضيء، وسنة جاء به من نفسه النبي، شرعها من ذاته، وتخيّرها للعباد بنظره، لم يأمر بها الرحمن، ولم تنزل عليه في آي القرآن، فزعمت بذلك من قولها، ولزمها في أصل مذهبها، وحاق بها في جميع قولها؛ أنها(2) زعمت فيما ذكرت وقالت: أن الله سبحانه وكل نبيه صلى الله عليه وآله وسلم في الدين إلى نفسه، ولم يشرع له كلما يحتاج إليه من فرضه، كأن لم تسمع الله سبحانه يقول، فيما نزل على نبيه من القول: {مَا فَرَّطْنَا فِيْ الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} [الأنعام:38]، ويقول سبحانه: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِيْنَ} [النحل:89]، وكأن لم يسمعوا قوله: {أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِيْ ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [العنكبوت: 51]، فأخبر سبحانه بقوله: {أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ} أن فيما نزل من تبيانه، ونوره وبرهانه؛ كفاية لهم في كل ما افترض عليهم، ولو كان ترك شيئاً مما يحتاجون إليه لم ينزله على نبيه صلى الله عليه وآله وسلم في القرآن وعلى لسان جبريل؛ لم يقل: أولم يكفهم، فدل بما شهد به من الكفاية لهم على أنه لم يكل نبيهم صلى الله عليه وآله وسلم؛ إلى استخراج شيء مما افترض عليهم وعليه، وإنه لم يترك شيئاً من فرائضه، ولا شرائع دينه؛ إلا وقد أوحى به إلى رسوله وحياً، ونزل عليه به نوراً وهدىً، فلم يكف هذه الأمة؛ ما نزل الله فيما ذكرنا من الحجة؛ حتى قالت: إن كل فرع مفرع مما فرعه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم هو منه اختياراً وتمييزاً من نفسه، وأن ذلك ليس هو من ربه.
__________
(1) في (ب): لعظيم غفلتها وغامرة.
(2) في (ب): أنما.

(2/387)


من ذلك ما قال الله سبحانه في الصلاة الموجبة والزكاة المفترضة؛ حين يقول: {أَقِيْمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} [البقرة:43، وغيرها]. فزعمت هذه الأمة فيما ذكرت، وبه على الله سبحانه اجترأت، أو من قال بذلك منها؛ أنه لم يكن من الله جل جلاله وعظم عن كل شأن شأنه في الصلاة غير ما أمر به من إقامتها، وأنه لم يحد لنبيه صلى الله عليه وآله وسلم شيئاً من حدودها، ولم يوقفه على ما به كمالها؛ من ركوعها وسجودها وعدد ركعاتها، وأن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم اخترع ذلك من نفسه، وسنه لأمته، وجعله ديناً لها من ذاته. وأن شرائع الزكوات وما به تجب الزكاة في الأوقات المفروضات المؤقتات، وما يؤخذ من الأموال الصامتة والأنعام السائمة والأطعمات، وما يجب في التجارات من الأعشار وأنصافها، وما حدد في ذلك كله من الحدود المعروفة، وأوقف عليه في كل ذلك من الأفعال المفهومة؛ من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لا من الله؛ وأن ذلك شيء فعله برأيه، واختاره بتمييزه(1)، وفعله باجتهاده، وفرضه على أمته، دون خالق المخلوقين، وإله العالمين.
وكذلك قالوا في جميع الفرائض(2) المفروضة، والفروع المفرعة(3).
فزعمت هذه الأمة، أو من قال بذلك منها: أن ما كان في الكتاب ناطقاً موصولاً؛ فهو من الله فرض مفترض، وما كان من تفريع الأصول، وتمييز ما ميز صلى الله عليه وآله وسلم من الفصول؛ فإنه منه لا من الله، وأنه فعله لا فعل الله، ثم سموا ذلك الفرع سنة، وأخرجوا معنى السنة من الفريضة، وتوهموا أن ذلك كما قالوا، ولم يعلموا ما عليهم في ذلك، حتى حكموا به وسموه كذلك.
__________
(1) في (ب): لتمييزه.
(2) في (أ): قالوا جميعاً في الفرائض.
(3) في (أ،ج): المتفرعة.

(2/388)


فلما عظم الأمر، وجل الخطر، ورأينا الهلكة واقعة بهم، والضلالة شاملة لهم؛ رأينا أن نفسر قول القائل: (سنة)، ونشرح ما السنة؟ وكيف كان تفريع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ما فرع من الأصول المنزلة، التي جاءت في كتاب الله سبحانه مجملةً.
فقلنا: إن رسول الله عليه السلام لم يكن ليخترع أمراً دون الله سبحانه، وأنه كما قال صلى الله عليه وآله وسلم حين يقول: {إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِليَّ} [الأحقاف:9]، وكما قال عليه السلام: {وَمَا أَنَاْ مِنَ الْمُتَكَلِّفِيْنَ} [ص:86].

(2/389)


ونقول: إن الله سبحانه لم يكل شيئاً من ذلك إلى نبيه يبتدعه ولا يشرعه، ولا يفرضه ولا يثبته، إذاً لقد كلفه شططاً من أمره، وألزمه معوزاً من فعله، بل القول في ذلك المبين، والحق النير اليقين؛ أن الله سبحانه، وجل عن كل شأن شأنه؛ أصَّل(1) أصول فرائضه في الكتاب المبين، ونزله على خاتم النبيين، فجعل في كتابه أصل(2) كل ما افترضه من الدين، وبينه لجميع العالمين، فكانت أصول الدين في الكتاب كلها، وجاءت الفصول مفصولة، والفروع المفرعة؛ إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم من الله ذي الجلال والإكرام؛ على لسان الملك الكريم؛ جبريل الروح الأمين، فنزل شرائع(3) الدين، وتفريع أصول القرآن المبين، على محمد صلى الله عليه وآله وسلم كما نزل عليه السلام بالأصول إليه، وكان نزوله بالفروع مفرعةً؛ كنزوله بالأصول المجملة المجتمعة، وأدى جبريل الروح الأمين، إلى محمدٍ خاتم النبيين؛ فروع شرائع الدين، عن الله رب العالمين؛ كما أدى مجملات أصول القرآن المبين. والسبب في تفريق ذلك من الله، فنظر من الله لبريته، وعائدة على خلقه، ولطف في فعله وصنعه، وتقوية لمن أراد حفظ كتابه، وجعل(4) ما نزل من وحيه وبيانه. فخفف عنهم في الكتاب، وأعانهم بذلك في كل الأسباب، ففرق بين الأصول الموصلة، والفروع المفرعة، فجعل الأصول في الكتاب مجملة جاء بها جبريل، وجعل الفروع في غير الكتاب جاء بها أيضاً جبريل، وكل من الله(5) وحي مبين وتفصيل، وفرضاً منه سبحانه وتنزيل، بعث بهما كليهما رسولاً واحداً، ملكاً عند الله مقرباً، أميناً مؤتمناً، فأدى إلى الرسول ما به أرسل، وتلا عليه من ذلك ما أمر بتلاوته عليه، فكان ذلك من الله فرضاً مميزاً، وديناً من الله مفترضاً، لم يكن من رسوله فيه اختيار، ولم يشرع لأمته من دين الله إلا ما
__________
(1) في (ب): أنزل.
(2) في (أ،ج): أصول.
(3) في (ج): بشرائع.
(4) كذا في النسخ وظنن في هامش (ج) بـ وحمل.
(5) في (ب): فكان من الله.

(2/390)


شرع الله، ولم يأمرها إلا بما أمرها الله، ولم ينهها إلا عما نهاها الله.
من ذلك ما قلنا به من قول الله: {أَقِيْمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} [البقرة:43، وغيرها]، فنزلت هاتان اللفظتان في القرآن موصلتين، وجاءتا فيه مجملتين، فاحتملت الصلاة أن يصلى كثيراً أو قليلاً، إذ جاء ذلك مجملاً، ثم فسر الله ذلك على لسان جبريل، كما نزل على لسانه القرآن الجليل، فجعل الله الظهر أربعاً، والعصر أربعاً، والمغرب ثلاثاً، والعتمة أربعاً، والصبح اثنتين، فبين لنبيه صلى الله عليه وآله وسلم تفسير ما جاء في كتابه مجملاً؛ من أمره بالصلاة جزماً، ولم يكله إلى أن يتكمه في ذلك تكمهاً، ولا أن يتخبط فيه صلى الله عليه وآله وسلم تخبطاً. وكذلك لمَّا أن قال سبحانه(1): {وَآتُوا الزَّكَاةَ}، احتمل أن تؤخذ من كل دينار ودرهم، وشاة وجمل، ومدّ ومكوك(2)، ومن الغني والفقير، ومالك ألف شاة، ومستغل ألف مد، ومستغل مد، وصاحب ألف دينارٍ وصاحب دينار؛ لأنه سبحانه يقول: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيْهِمْ بِهَا} [التوبة: 103]، ولم يفسر فيما أنزل من القرآن، كم يأخذ من كل إنسان، مالك الحقير والقليل، ومالك الكثير والجليل. ثم فسر سبحانه على لسان الملك الذي نزل بالقرآن، من عند الواحد الرحمن؛ ما يجب في الأموال، وما يؤخذ من أهلها في كل حال، وما يجب على المالك المؤسر، وفي كم تسقط عن المالك المعسر، وكم هي؟ وكيف هي؟ حتى سنن أسنان مواشيها، فجعلها سناً سناً، في عدد معروف معلوم، وكذلك فيما يكال ويوزن من الوزن والكيل المفهوم.
__________
(1) في (ب): قال سبحانه.
(2) المُدّ: مكيال، وهو رطل وثلث عند أهل الحجاز، ورطلان عند أهل العراق، والمكوك كذلك، وهو ثلاث كيلجات، والكيلجة مناً وسبعة أثمان مناً، والمنا رطلان.

(2/391)


وكذلك قال تبارك وتعالى في الديات، فقال: {الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالأُنْثَى بِالأُنْثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيْهِ شَيْءٌ فِاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَلِكَ تَخْفِيْفٌ مِنْ رَبّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمْنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيْمٌ} [البقرة:178]، (فقال سبحانه: {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيْهِ شَيْءٌ فِاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ})(1)، فقال: {عَفَي} يريد من القتل(2) إلى الدية، فأمر(3) بأداء الدية إلى من عفى، إذا قبل الدية وأرادها. ثم قال سبحانه في موقع آخر: {فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ} [النساء:92]، في قتل الخطأ فأوجب الدية. وقال في موضع آخر: {وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ} [المائدة:45]، فجعل في جروح العمد القصاص، وجعل القود(4) في قتل العمد، وجعل الديات في جروح الخطأ، فأنزل ذكر ذلك في الكتاب مجملاً، ولم يجعله مشروحاً مفسراً، ثم بينه على لسان نبيه وفسره، وجعل الدية ألف مثقال في أهل الذهب، وعشرة آلاف درهم قفلة في أهل الدراهم، وجعلها ألفي شاة في أهل الغنم، وجعلها مائتي بقرة في أهل البقر، ومائة من الإبل في أهل الإبل، ثم سنَّنَهَا وبيَّنها على لسان نبيه عليه السلام، ثم لم يكن من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في ذلك شيء إلا البيان، والأداء عن الله بإحسان.
__________
(1) ليس في (أ).
(2) في (ب): فقال عفا، يريد عفا من القتل.
(3) في (أ): ثم أمر.
(4) في (أ): كما جعل القود. والقود هنا: القصاص.

(2/392)


وكذلك جميع الفرائض والمواريث، ففسر منها في كتابه ما فسر(1)، وفسر على لسان نبيه(2) باقي ذلك. وكذلك في جميع أحكام الحلال والحرام، فكل ما قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إنه حلال؛ لا يجوز تحريمه، وما قال إنه حرام؛ لا يجوز تحليله، وكل ما أوقف الأمة عليه، وجعله فرضاً عليها مفروضاً؛ لم يجز لها تعديه، ولم يطلق لها النقصان ولا الزيادة فيه؛ فهو من الله سبحانه لا منه صلى الله عليه وآله وسلم، لم يزد رسول الله عليه السلام فيما أمر به، ولم ينقص منه، بل أدى الأمانة والنصيحة فيه صلوات الله وبركاته عليه.
فمن قال: إن شيئاً من هذه المحصورات(3)؛ من المحرمات والمحللات؛ كان من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم سنة ابتدعها لم تبين ولم تشرح ولم تشرع؛ فقد جهَّل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وجهَّل في قوله بذلك الله عز وجل، سبحانه عن ذلك، وتعالى علواً كبيراً أن يكون كذلك، أو أن يكل نبيه عليه السلام إلى نفسه، أو أن يجعل إليه شيئاً من فرض دينه، حتى يفرضه دونه.
ومعنى قول القائل: سنه، فإنما هو بينه وأظهره، وذكره عن الله وشرعه، وبينه عنه سبحانه وأعلنه، لا أنه اقترحه ولا اخترعه.
__________
(1) في (ب): المفسر.
(2) في (ب): لسانه.
(3) في (ب، ج): المحظورات.

(2/393)


ومن الحجة في ذلك أن يقال لمن قال أو ظن هذا القبيح من الظن: أخبرنا عن دين الإسلام وأحكامه، وما جعل الله تبارك وتعالى فيه من نوره وبرهانه، وما اختار(1) فيه سبحانه لنبيه صلى الله عليه وآله وسلم؛ هل كان عند الله معلوماً، ومن قبل خلق الدنيا في علمه تبارك وتعالى مفهوماً، لا يزل عنه منه صغير، ولا يغيب عنه طول الدهر منه كبير؟ فلا يجد بداً من أن يقول: نعم، قد كان دين الإسلام وشرائعه، وما جعل الله تبارك وتعالى فيه من فروضه وحدوده؛ عند الله سبحانه معلوماً، لم تزد بعثة محمد ولا إيجاده في حدود الإسلام وما علمه الله من فرائض دين محمد عليه السلام شيئاً، بل جاءت وكانت، وافترضت وبانت؛ بعد بعثة محمدٍ على الأصل الذي كان عند الله معلوماً، الذي(2) اختاره على الأديان كلها لنبيه صلى الله عليه وآله وسلم ولأمته.
فيقال له عند إتيانه بما ذكرنا، وتثبيته(3) لما قلنا وشرحنا: أيها المناظر، إذا كان عندك هذا القول على ما قلت، فمن أين علم محمد صلى اللّه عليه جميع ذلك؟ حتى استخرج مكنون علم اللّه القديم، وشرائع دين اللّه الكريم، حتى أتى بها على ما كانت، وبينها على ما فرضت، وأقامها على ما حددت، من قبل إيجاده وخلقه، وكينونته (وبعثته) (4).
فإن قال: استخرجها رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم بعقله، واستدل عليها بلبه.
قيل له: سبحان اللّه ما أجهل هذا المقال، وأفحش هذا الفعال؟! وكيف يستدل بعقل على علم غيب عند اللّه مكتوم؟! هذا ما لا يكون أبداً؛ إذ المخلوقون(5) لا يعلمون غيباً، ولا يفهمون(6) مما استسر به سراً.
فإن قال: عَلِمَه بتوفيق الله.
__________
(1) في (ب): ومما اختاره.
(2) في (ج): وما الذي.
(3) في (أ): وتبيينه.
(4) ليس في (أ).
(5) في (ب): والمخلوقون.
(6) في (ب): ولا يفقهون.

(2/394)


قيل له: ليس هذا مما يلزمه التوفيق، ولا يجوز عليه فيه طرف من التحقيق، لما فيه من عظيم فروض الله، وجليل صنع الله، وأمره ونهيه، وزجره وفعله، وما أوجب به وفيه وعليه من الثواب للمطيعين، والعقاب على العاصين. وإنما يكون من اللّه التوفيق في غير المفروضات من الأمور، فأما شرائع الدين؛ وما تعبد به المسلمين؛ فلا يكون إلاَّ بتبليغ الرسل، والاحتجاج بذلك على جميع الملل. فلا يَجد بدًّا من الإقرار بالحق، والتعلق بعلائق الصدق(1)، والرجوع إلى قول المؤمنين، أو أن يثبت على باطله، من بعد إثبات الحجة (عليه في مذهبه) (2)، فيكون عند نفسه وعند غيره مكابراً، وللحجج البالغة مناصباً، ولا يجوز له في دينه احتجاج ولا بيان، ولا يجد على الباطل بحمد اللّه عوناً ولابرهاناً، فإذا بان له خطأ هذين المعنيين، وفساد هذين الوجهين؛ لم يجد بداً من أن يقول بقولنا؛ فيزعم أن جميع ذلك من اللّه سبحانه وحي أوحاه إلى نبيه على لسان مَلَكِه، كما أوحى القرآن على لسانه.
ولعمري ما سبيل أصول الأحكام، وما تعبد اللّه به أمة محمد عليه السلام؛ إلاَّ كفرعها، ولا فروعها إلاَّ كأصولها، وما أصولها وإن جاءت في الكتاب مجملة؛ بأوكد فرضاً من فروعها المتفرعة، وما كان محمد عليه السلام إلى علم مجملها؛ بأحوج منه إلى علم فروعها؛ لأن الفروع هي العمل، والعمل فهو الإيمان؛ لان الإيمان كما قال أمير المؤمنين: (( قول مقول، وعمل معمول، وعرفان بالعقول )). والفروع فهي أصول الأعمال وأصول الإيمان، وإذا كان ذلك كذلك؛ فلا بد أن سبيلها عند اللّه كسبيل ما أجمل في القرآن، لا يختلف معنى الفروع والأصول، إلاَّ عند من سُلِبَ العقول.
__________
(1) سقط من (أ).
(2) في (ب): والتعليق بالصدق.

(2/395)


ومن الحجة على ما به قلنا؛ من أن اللّه سبحانه نزل الفروع على نبينا(1)، كما نزل الأصول في كتابنا؛ قول اللّه سبحانه: {مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الكِتَابُ وَلاَ الإِيْمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ}[الشورى: 25] فأخبره أنَّه لم يكن يدري ما هذا الكتاب المجمل، ولا هذه الفروع التي هي الإيمان المنزل.
وفي ذلك ما يقول: {وَوَجَدَكَ ضَالاًّ فَهَدَى}[الضحى: 7]، يريد تبارك وتعالى ضالاً عن شرائع الدين، وفروع ما أجمل في القرآن المبين، فلم يكن صلى اللّه عليه يدري كم يصلي الظهر، ولا كم عدد العصر، ولا كم يأخذ من أموال الناس المسلمين من الزكاة، ولا كم فرض اللّه عزَّ وجل فيها، ولا متى تجب، ولا في كم تجب، بل كان ضالاً عن ذلك كله، وضلاله عنه فهو: جهله به، وقلة معرفته بما يريد اللّه أن يفترض عليه. فلم يكن عليه السلام يعلم من ذلك إلاَّ ما عُلِّم، ولم يفرض على الأمة إلاَّ ما به أُمِر، ولم يكن من المتكلفين، ولا من غير ما أمر به من المتكلفين(2).
__________
(1) في (ب): على ما بينا.
(2) كذا في النسخ، ولعلها: ولا بغير ما أمر به من المتكلمين. كما ظن بذلك في (ط).

(2/396)


ومن الحجة في ذلك أنَّه لو كان كما يقول الجاهلون، ويتكلم به الضالون، من أن رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم فرع هذه الفروع، من نفسه، وأوجدها(1) وبينها من دون ربه؛ لكان محمد عليه السلام؛ المفترض لجميع هذه الفرائض والأحكام على جميع الأنام، دون اللّه الواحد ذي الجلال والإكرام، ولو كان صلوات اللّه عليه المفترض لذلك، المحدد له الجاعل على أمته، لكان هو المتعبد لها بفرضه، المدخل لها في حكمه، المصرف لها في عبادته، دون اللّه تبارك وتعالى عن ذلك، وحاشا لرسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم أن يكون كذلك؛ لأن الأمة إنما عبدت اللّه بهذه الشرائع وهذه الفروع، وبإقامة هذه الأحكام، وتحليل الحلال منها وتحريم الحرام.
فلو كان رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم ـ كما يقول الجاهل(2) من أهل هذا المقال ـ هو المفرع لهذه الفروع والناشر لها والمتخير فيها، المحلل لحلالها المحرم لحرامها، اختياراً منه بفعله، وتمييزاً منه بلبِّه، وحتماً منه على أمته، اختراعاً له دون ربه؛ لكان محمد متعبداً(3) للأمة بفرضه، وكانت الأمة عابدة محمداً دون ربه؛ إذ هي قائمة بفرائض محمد ساعية فيها، مقيمة لها مستقيمة عليها. وفي هذا ومثله وفي القول بيسيره أكفر الكفر بالله سبحانه وأجهل الجهل به، وأكبر الطعن على رسوله، تعالى اللّه عن ذلك علواً كبيراً.
بل القول في ذلك أن رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم لم يفترض فريضة دون الله، ولم يحكم في دَمٍ ولا فَرْج إلاَّ بالله، وأن اللّه سبحانه هو مؤصل الأصول، ومجمل المجمل(4)، ومفصل المفصل، ومفرع المفرعات، ومبين الملتبسات، المتولي لتعبد خلقه؛ بما شاء سبحانه من فرضه. وأن نبيه صلوات اللّه عليه لم يزد ولم ينقص في شيء مما أمر بتبيينه للعباد، وأنه قد بلغ وأرشد غاية الإرشاد.
__________
(1) في (ج): وأوجبها.
(2) في (أ): الجاهل.
(3) في (ج): مستعبداً
(4) في (ب): الجمل.

(2/397)


ثم نقول: إن كل ما قال رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم: أنَّه حرام لا يجوز تحليله، أو إنَّه حلال لا يجوز تحريمه، ومحظور لا يجوز إطلاقه، ومطلق لا يجوز حظره؛ فإنه من اللّه لا منه، وأنه لم يفعل ذلك إلاَّ بأمر الله، ولم يتعد فيه فرض الله، وأن ذلك لا زم للأمة، وأنَّ لمن خالفه أو نقض بعضه العقاب والعذاب، وأن لمن أدَّاه على وجهه وعبد اللّه بما تعبده به الثواب.
فكل ما ذكرنا من ذلك من الحلال والحرام، وشرائع الدين والأحكام، فهي من اللّه حقاً حقاً. وليس حالها كحال غيرها مما جعله رسول اللّه عليه السلام من نفسه واختياره ورآه، مما لم يجعل اللّه ولا رسوله على تاركه عقاباً. مثل ما سنَّ من الوتر، وتقليم الأظفار، وحلق الشعر، والسواك، وتعفية اللحية، وأخذ الشارب، وغير ذلك مما سن وفعل، واختار لنفسه من زيادات العبادة والصلاة، مثل ما كان يصلي ويلزم ويحب، من ركعات كان يصليهن فيما سوى الفريضة. ومثل ما كان يرى من التعزيرات، ويفعله عند النازلات، وما كان يكون منه من التأديب لأمته على ما يكون من خطأ أفعالها؛
لأن الخطأ من أفعال الأمة على أربعة أوجه(1):
فوجه يجب لله فيه حد، وهو ما جعل فيه سبحانه حداً في كتابه وسماه، مثل: ضرب الزانيين(2)، وقطع السارقين، وحد القاذفين، وما أشبه ذلك مما جاء في الكتاب حده مبيناً.
والوجه الثاني: فما نزل به جبريل على النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وحَّده له وأمره به؛ من أدب من ارتكب شيئاً محرماً، مثل: حد الخمر المحرمة في الكتاب، نزل بالحد فيها ـ وفسره كما فسر غيره من الفروع ـ جبريلُ لمحمد صلى الله عليه وآله وسلم.
__________
(1) في (أ) و(ج): وجوه.
(2) في (ب): الزانِيْنَ.

(2/398)


والوجه الثالث: فخطأ من أفعال العباد، يجب للنبي عليه السلام فيه الأدب على فاعله، وهو مثل رجل لو ضم امرأة إليه، أو قَبَّلها، أو نظر إلى شعرها أو بشرها، فلرسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم الاختيار في أدبه وتعزيره، على قدر ما كان من فعله وجرمه، يقل الأدب أو يكثر، على قدر ما يرى من بلوغ الأدب، وجزع(1) المؤدب.
وكذلك الأئمة لها في ذلك الاختيار، تعزر بما رأت، يقل الأدب أو يكثر، على قدر ما ترى من عظم الجرم وصغره، وبلوغ الأدب في المؤدَّب، واحتماله للأدب، عليها فرض أن تُعْمِل النظر في ذلك، وتتحرى التنكيل للمؤدَّبين، قل الضرب في ذلك أو كثر، تطلب بلوغ جزع المؤدَّب والإبلاغ منه؛ بما ترى فيه من الصلاح له.
والوجه الرابع فهو: الَّلمَم الذي ذكر الله، وهو فعل لا يجب فيه الحد لله، ولا لرسوله ولا للأئمة أدب. واللمم فهو: ما ألم به صاحبه من غير تعمد ولا اعتقاد، ولا هم ولا عزم، مثل: النظر عن غير تعمد، والمزاحمة للمرأة عن غير قصد، وما أشبه ذلك مما لم يتقدم له ذكر في ذلك على فاعله، ولم يقصد به اجتراء على خالقه، ولا تعمداً لإتيان معصية(2)، ولا استحلال مُحَرَّم فهذا معنى اللمم الذي ذكره اللّه سبحانه.
ومن الحجة على من زعم أن رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم فرع من ذاته شيئاً من الفرائض المحكمات، أو شرع من ذاته شيئاً من الأحكام المشروعات؛ أن يقال له: خبرنا عن فعل الله، هل هو فعل نبيه؟ وعن فعل نبيه هل هو فعله؟
فمن أصل قوله إذا كان موحداً، وبالله عارفاً، أن يقول: لا، ثم يقول: فعل اللّه خلاف فعل محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وفعل محمد خلاف فعل اللّه عزَّ وجل. فيقال له حينئذٍ: ألا ترى أن هذا الذي ذكرت أن محمداً فرعه وشرعه وفصَّله، وأمر العباد بفعله؛ هو فعلٌ لمحمد؟ فإذا قال: نعم، قيل له: أفليس فعل محمد خلاف فعل الله؟
__________
(1) في (ب): وجزوع.
(2) في (ب) معصيته، محرمة

(2/399)


فإذا قال: نعم. قيل له: فمحمد إذن هو المفترض للفرائض على الأمة دون الله؛ إذ كان فعل محمد خلاف فعل اللّه، ومحمد إذاً ـ لو كان ذلك كذلك ـ كان المعبود بأداء فرائضه دون اللّه؛ إذ الفرض من محمد لا من الله. فلا يجد بداً إن كان بالله عارفاً، وله موحداً؛ من أن يرد جميع ما تعبد به الأمة إلى اللّه عزَّ وجل، ويزعم ويقول ويعتقد أنَّه من الله، حتى يصح له القول بأن المسلمين عبدوا اللّه لاغيره، ويثبت الفعل في فرض المفروضات لله لا لغير الله؛ لأن العبادة من العابدين لم تصح إلاَّ بأداء الفرائض لمن افترضها، فمن ثبتت له الشرائع والتفريع والتبيين؛ ثبتت له الفرائض، ومن ثبت له الافتراض للمفروضات؛ ثبتت له العبادة في كل الحالات من العابدين، وهم المؤدون للفرائض المحكمة، والشرائع المثبتة، التي لا تصح لهم عبادة إلاَّ بأدائها، ولا ديانة إلاَّ بإقامتها.
فهذه حجة على من عرف الله بالغة كاملة، بينة نيرة، تبين لمن أفكر فيها، وتصح لمن تدبَّر معانيها. والحمد لله رب العالمين، وسلام على المرسلين.
ومن الحجة على من قال: إن رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم كما يقول المبطلون؛ أنَّه لو فرع الفروع من نفسه، وأوجبها على الأمة دون ربه، لكان المتعبد لنفسه بالفرض(1) الذي أوجبه عليها وفرعه لها؛ لأنَّه صلى اللّه عليه وآله وسلم أول العابدين، وأخلص المخلصين، وأقوم القائمين بهذه الفروض المفروضات، والفروع المفَّرعات، فهو قائم بها، عابد لمن فرضها بإقامته لحدودها. فالفارض(2) لها هو المعبود دون غيره، فتبارك الله رب العالمين، الذي فرض فرائضه على جميع المربوبين، الملائكة المقربين، والأنبياء والمرسلين، وجميع الثقلين.
__________
(1) في (ب): بالفرع.
(2) في (أ) و (ب): والفارض.

(2/400)


وفي تبري رسول الله صلى اللّه عليه وآله وسلم من التكلف لشيء(1) من فروع أحكام اللّه عزَّ وجل وفرضه، وما جعل من برهانه ودينه، ما يقول اللّه تبارك وتعالى: {وَإِذَا لَمْ تَأْتِهِمْ بِآيَةٍ قَالُوا لَوْلاَ اجْتَبَيْتَهَا قُلْ إِنَّمَا أَتَّبِعُ مَا يُوحَى إِلَيَّ مِنْ رَبِّي}[الأعراف: 203].
فإن قال قائل: ما معنى قول من يقول: سنة؟ وما معنى دُعَاء من دعا إلى الكتاب والسنة؟
قيل له: معنى الدعاء إلى ذلك هو: الدعاء إلى الأصول الموصلة، والجمل المجملة، والآيات المنزلة. وإلى الفروع المفرعة، والأحكام المحكمة، والشرائع المبينة، والطاعات المفترضة.
والكتاب فهو جزء من وحي اللّه وأحكامه، وسنته جزء آخر من وحي اللّه وتبيانه. فسمى الوحي الذي فيه أصول المحكمات من الأمهات المنزلات قرآناً؛ لأنَّه جعل الأصول إماماً وقواماً، وللفروع المفرعات أصولاً وتبياناً. وسمى الجزء الثاني من وحي الله عزَّ وجل وفرائضه سنة وبرهاناً. فكان ما يتلى في آناء الليل والنهار أحق بأن يسمى قرآناً؛ لما فيه من واجب التلاوات، وما يتعبد به المتعبدون من الدراسات، وكان ما فسر به المجملات، مما بين به المتشابهات من الفروع المبينات، أولى بأسماء السنة في الباين من اللغات؛ لأن معنى السنة، هو: التبيين للموجبات للحجة. لقول العرب: سَنَّ فلانٌ سُنَّة، تريد بين أمراً، وشرع خيراً، وجعل شيئاً يستنَّ به فيه. ومعنى: يستن به، أي يقتدى به فيه ويحتذا.
وكذلك وعلى ذلك يخرج معنى قول القائل: سَنَّ رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم كذا وكذا، يريد أظهر وبين ما جاء به من عند اللّه. والسنة فهي الأحكام المبينة، والفرائض المفصلة، فهي لله سبحانه ومنه، لا من رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم ولا عنه، وليس له فيها فعل غير التبليغ والأداء، والنصيحة(2) والإبلاء.
__________
(1) في (ب): من التكليف بشيء.
(2) في (ب): وأداء النصيحة.

(2/401)


والسنة فهي سنة اللّه عزَّ وجل، وإنما نسبت إلى رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم على مجاز الكلام؛ إذ هو المبلغ لها، والآتي عن اللّه سبحانه بها، كما يقال للقرآن: كتاب محمد، وكما يقال للإنجيل: كتاب عيسى، وكما يقال للتوراة: كتاب موسى، قال اللّه سبحانه في ذلك، وما كان من الأمر كذلك: {وَمِنْ قَبْلِهِ كِتَابُ مُوْسَى إِمَاماً وَرَحْمَةً وَهَذَا كِتَابٌ مُصَدِّقٌ لِسَاناً عَرَبِيّاً}[هود: 17]، فسماه كتاب موسى ونسبه إليه، وإنما هو كتاب اللّه عزَّ وجل الذي نزل على موسى. وكذلك مجرى السنة في قول القائل: سنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، يريد سنة الله، ومعنى سنة الله، فهو فرض اللّه وحكمه، وتبيانه لدينه وعزمه، قال اللّه جل جلاله: {سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الكَافِرُونَ}[غافر: 85] يريد سبحانه بقوله: سنة الله، أي ذكر اللّه وفعله، وصنعه في خلقه وأمره.
ومن قال: سنة رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم يريد بها غير ما ذكرنا من المعنى، أو توهم في ذلك أنَّه شيء من رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم لا من الله؛ فقد جهل أمر الله، وحرف معاني وتأويل قول الله، ونسب البهتان إلى رسول اللّه صلى الله عليه، وقال بأفحش القول في اللّه سبحانه وفيه.
والسنة فلم تعارض الكتاب أبداً؛ بإبطال لحكم من أحكامه، ولا أمر من أمره، ولا نهي عن نهيه، ولا إزاحة شيء من خبره، ولا رد شيء من منسوخه، ولانسخ شيء من مثبته، ولا إحكام شيء من متشابهه، ولا تغيير شيء من محكمه، بل السنة محكمة لكل أمر من الأحكام المؤصلة، المبينة للمعاني المفصلة، مفرعة للمجملات المنبئة(1) عن التأويلات، يشهد لها محكم الكتاب، وتنبي عنها جميع الأسباب؛ أنها من اللّه رب الأرباب.
__________
(1) في (ب): المبينة، وفي (ج): المتبينة.

(2/402)


ومَا رُويَ عن رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم ـ من الفروع التي جاءته(1) عن اللّه عزَّ وجل وتبارك وتعالى، حتى يقال إنها من السنة ـ فَلَمْ يشهد له الكتاب، ولم يوجد فيه ذكرها مفصلاً، أو مجملاً مؤصلاً ثابتاً، فَلَيْسَ هو من الله، وما لم يَكن من اللّه فلم يقله رسول الله، وما لم يقله رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم ويحكه عن اللّه؛ فهو ضد السنة لا منها، وما لم يكن منها لم يجز في دين اللّه أن ينسب إليها.
فآيات الكتاب هي الأمهات؛ لشرائع سنته(2) المفرَّعات، والأمهات فهن المحكمات، وإليهن ترد المفصلات.
ومن الشواهد لما جاء من الروايات؛ مما حكي من السنن المبينات، وفي ذلك ما يقول رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم: (( سيكذب عليَّ كما كذب على الأنبياء من قبلي، فما أتاكم(3) عني فأعرضوه على كتاب الله، فما وافق كتاب اللّه فهو مني وأنا قلته، وما خالف كتاب اللّه فليس مني ولم أقله )) يريد صلى الله عليه وآله وسلم: أن ما وافق الكتاب مما روي عنه من الأحكام، ومن شرائع الإسلام؛ فإنه منه أخذ، وإنه جاء به عن الله، وما خالف الكتاب فليس من السنة التي جاء بها عن الله؛ لأن جميع الوحي الذي جاء عن اللّه سبحانه من السنة والقرآن، فهما شيئان(4) متشابهان متفقان، لا يتضادان أبدا ولا يفترقان.
وليس ما كان من رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم من فعل أو اختيار جاء به عن نفسه منسوباً إلى اللّه ولا عنه، ولا مشابهاً لشيء من أحكام السنن. بل قد كان رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم إذا رأى رأياً، وفعل فعلاً مما ليس هو فيه بمخالف لسنة ولا لكتاب، بين ذلك عن نفسه، وأخبر أنَّه ليس من ربه.
__________
(1) في (ب): جاء بها.
(2) في (ب): أمهات لشرائع سنته.
(3) في (ب): جاءكم.
(4) في ب: سِيَّان.

(2/403)


مثل ما كان منه صلى الله عليه في الجَدِّ الذي لقيه بالجحفة راجعا من حجة الوداع، فقال: يا رسول الله، إن ابن ابني مات، فمالي (ميراث)(1) من ماله؟ فقال عليه السلام: لك السدس، فلما أن أَبْعَد الشيخ رَقَّ عليه رسول اللّه صلى الله عليه ورحمه، لما بان له من ضعفه وقلة حيلته وكبر سنه، فرده رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم، فقال: لك السدس الآخر، فلما أن مضى الشيخ وأبعد رده رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم ثانية؛ فقال له: إن السدس الثاني مني طُعْمَة لك، فبين صلى اللّه عليه وآله ما كان منه، وبين ما كان من الله، فلما أن قال: السدس الثاني طعمة مني؛ علمنا أن السدس الأول حكم من الله. فبين صلى اللّه عليه وآله فعله من فعل اللّه عزَّ وجل؛ لأن لا يقع على الأمة تخليط في دين الله؛ ولأن يبين(2) لها أحكام ربها، وفَعلَه لكيلا يكون لها عليه في شيء من الدين حجة.
وكذلك كان عليه السلام يفعل في كل ما كان منه من تأديب أمته، وأفعاله فيها، وسياسته لها، يبين فعله من فعل الله، ويخبر بما جاء به عن الله.
وكذلك ما كان من فعله وكراهيته من حمل الحمير على الخيل، وذلك قوله لعلي رحمة اللّه وصلواته عليهما حين قال: مما تكون هذه البغال؟ فقال: يحمل الحمار على الفرس فيخرج من بينهما بغل، فقال صلى اللّه عليه: (( إنما يفعل ذلك الذين لا يعلمون )) أو قال: الذين لا يعقلون.
فكره صلى اللّه عليه وآله وسلم أن تحمل الأشكال إلاَّ على أشكالها، وأن تخلى الفحول إلاَّ على أمثالها. فكان هذا منه كراهية واختياراً،، ولم يكن هذا شيئاً مما أتى به(3) من الواحد الجبار.
__________
(1) سقط من (أ)، و(ج).
(2) في (ب): ولا يتبين.
(3) في (أ ، ج): أتاه.

(2/404)


ومِثْلُ هذَا مما كان من رأيه وفعله، ولم يأته في كتاب اللّه ولا سنته؛ مما كان يستحبه ويفعله من نوافل صلواته، وتعبده من بعد الفرائض المفروضات لما كان يتعبد من النوافل المعروفات، اللواتي كن منه اختياراً وعبادة، يطلب بذلك من اللّه الفضيلة والزيادة؛ كان ذلك منه صلى اللّه عليه استحساناً لنفسه، ولم يكن فرضاً من اللّه لا يسع تركه، ولا يجب على من تركه الكفر بربه؛ لان بين الفرض وغيره من النوافل فرقاً بيناً، وفصلاً نيراً؛ فَكَثِيرٌ يعلمه العلماء، ويفهمه الفهماء، ليس بفرض لازم واجب(1) على المتعبدين؛ إذ لم يكن فريضة من اللّه رب العالمين، إن أخذ به أحد فقد أخذ بركة ويُمْناً، واتبع فضلاً ورشداً، وإن تركه تارك ـ من غير زهد فيه، ولا قلة معرفة بفضله، ولا استخفاف بحق فاعله، ولا اطراحاً لرأي صانعه، ولا مضادة له في فعله ـ لم يكن بتركه له في دين اللّه فاجراً، ولا بعهد رسول اللّه صلى اللّه عليه غادراً.
فافهم هديت ما به في السنة قلنا، وأحسن الفكر والتمييز فيما منهما (2) شرحنا؛ تبن بذلك إن شاء اللّه من الجهال، وتبعد بمعرفته من اسم الضلال، وتسلم بحول اللّه من قول المحال.
والحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، وصلى اللّه على محمد خاتم النبيين، وعلى أهل بيته الطيبين وسلم تسليماً كثيراً.
(تم كتاب السنة ولله المنة) (3).
****
كتاب القياس
m
__________
(1) في (ب): بفرض واجب.
(2) كذا في النسخ، ولعلها: منها.
(3) من (ب).

(2/405)


الحمدلله الذي فطر الأشياء على إرادته، وجعلها كيف شاء بعزته، وعمَّ المخلوقين برحمته(1)، ولم يوجد شيئاً لغير حكمة، ولم تعدم منه في الموجودات آثار قدره، فكلُّ شيء عليه سبحانه دليل، فتبارك الله الواحد الأحد الجليل، الذي لا تُعِزه(2) كثرة المخلوقين، ولا تنقصه قلة المربوبين، الذي لا تتم بغيره(3) الصالحات، ولا تبلغ شكر الآئه القالات، ولا تحيط بذكر إفضاله الصفات(4)، ولا تعروه السنات، العالم بخفيات الغيوب، المطلع على سرائر القلوب، الذي لم يحل بين عباده وبين طاعته، ولم يدخل أحداً من خلقه في معصيته، الهادي للسبيلين، والمبين للنجدين، والفاصل بين العملين، المحتج بالرسل على العالمين، المتفضل على الخلق بالمرسلين، الذي لم يزده إيجاد الخلق(5) به خبرة، ولم يترك لهم عليه سبحانه حجة، الذي لم يزل ولا يزال، الواحد الأحد الصمد ذو الجلال، أول الأولين، وآخر الآخرين، وفاطر السموات والأرضين، الذي ليس كمثله شيء وهو السميع البصير، لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار وهو اللطيف الخبير، الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد، الذي لم يتخذ ولداً(6) ولم يكن له شريك في الملك ولم يكن له ولي من الذل وكبره تكبيراً.
وصلى الله على سيدنا محمد عبده ورسوله، (خير مبعوث من البشر إلى خلقه)(7)، أمينه على وحيه، وخيرته من بريته، صلى الله عليه وعلى أهل بيته وسلم تسليماً.
ثُمَّ نقول من بعد الحمدلله والثناء عليه،والصلاة على محمد صلى الله عليه:
__________
(1) في (ب): بنعمته.
(2) كذا في النسخ، ولعلها: لا تَفِرُه. من الوفرة وهي الزيادة.
(3) في (ب، ج): لغيره.
(4) في (أ): السموات.
(5) في (ب): المخلوقين.
(6) سقط من (ب): الذي لم يتخذ ولداً.
(7) زيادة من (ب).

(2/406)


إن سأل سائل فقال: من أين وقع في هذه الأمة هذا الإختلاف(1) في الحلال والحرام؟ حتى صار كلٌّ يفتي برأيه، ويتبع في قوله أئمَّةً له مختلفين، فيقول في ذلك بأقاويل قوم مفترقين، فإذا أوردت مسألة على وجه واحد أحُلَّها محلِّلٌ، وحرَّمها محرِّم، فكيف يجوز أن يكون معنى واحد مؤتلف، يأتي فيه قول متشتت مختلف؟! فيحل على لسان مفت لمستفتيه، ويحرم على لسان آخر على من ينظر فيه.
قيل له: وقع هذا الإختلاف وكان ما سألت عنه من قلة الإئتلاف؛ لفساد هذه الأمة وافتراقها،وقلة نظرها لأنفسها في أمورها، وتركها لمن أمرها الله باتباعه،والإقتباس من علمه، ورفضها لأئمتها وقادتها الذين أمرت بالتعلم منهم، والسؤال لهم، وجعلوا شفاء لداء الأمة، ودليلاً على كل مكرمة، ونهاية لكل فضيلة(2)، وأصلاً لكل خير، وفرعاً لكل بر، وفصلاً لكل خطاب، ودليلاً على كل الأسباب؛ من حلال أو حرام، أو شريعة من شرائع الإسلام.
فلما أن تبرأت الأمة منهم، واختارت غير ما اختار الله، وقصدت غير ما قصد الله، فرفضت علماءها، وقتلت(3) فقهاءها، وأبادت أدلتها إلى النجاة والصواب، وحارت لذلك عن رشد كل جواب، ولم تهتد إلى نهج(4) قول من الأقوال، في حرام ولا حلال، فضلت عند ذلك وأضلت، وهلكت وأهلكت، وتقحمت في الشبهات، وقالت بالأقاويل المعضلات، تخبطاً(5) في الدين، وتجنباً عن اليقين، ضلالاً عن الحق، ودخولاً في طرق الفسق، ظلماً وطغياناً، وضلالة وعصياناً، تركت ما به أمرت، وقصدت ماعنه نُهيت، فقال كل واحد منها فيما يرد عليه من الدين بهوى نفسه، وإرادة قلبه، وتمييز صدره، لم يهتد في ذلك بهدى، ولم يلق مصابيح الدجى، ولم يسأل عنه أهل البر والتقوى، ولم يهتد فيه بالأدلاَّء.
__________
(1) في (ب): الخلاف.
(2) في (ب): ونهاية على كل فاضلة. وفي (ج): لكل.
(3) في (ب): وقلدت.
(4) في (ب،ج): إلى وجه.
(5) في (ب): خبطاً.

(2/407)


فكان مثلهم فيما فعلوا من ذلك: كمثل قوم ركبوا مفازة مضلة، وأخذوا معهم فيها أدلاَّء بُصَرآء، حتى إذا توسطوها قتلوا الأدلاء، فبقوا في حيرة عَمىً(1)، لا يهتدون سبيلا، ولا يعرفون ماء ولا طريقاً، فلم يزالوا فيها متحيرين، ذاهبين وجائين، مقبلين ومدبرين، حتى هلكوا أجمعين، فكانوا سبب هلاك أنفسهم، وسبيلاً إلى تلفهم، فذهبوا غير مقبولين ولا محمودين، بل مذمومين عند الله معذبين.
كذلك مثل هذه الأمة ومعناها، فيما نالته من فقهائها وأدلائها؛ الذين جُعِلوا لمن تبعهم نوراً وهُدىً، ودليلاً إلى الله العلي الأعلى. وهم آل محمد صلى الله عليه وعليهم، فضلَّت الأمة بعدهم، وهلكت عند مفارقتهم، ولعمري أن لو قصدت لرشدها، وتعلقت بالحبل الذي جعل لها متعلقاً، وكهفاً في كل أمر وملجأ؛ لما ضلت عن رشدها أبداً، ولا وقع اختلاف بين اثنين في فتيا، ولا اشتبه مشتبه في حلال ولا حرام؛ إلاَّ وجد بيانه عند آل محمد عليهم السلام؛ لأنهم أهل ذلك وموضعه، ومكانه ومركبه الذي ركبه الله عليه، وجعله معدناً له وفيه، اختاره لعلمه، وفضله على جميع خلقه، نوراً(2) على نور، وهدى على هدى، وحاجزاً من كل ضلالة وردى، أئمة هادين، ونخبة مصطفين، لا يخاف من اتبعهم غيا، ولا يخشى عمى ولا ضلالاً، محجة الإيمان(3)، وخلفاء الرحمن، والسبيل إلى الجنان، والحاجز عن النيران(4)، تقاة(5) أبرار،وسادة أخيار، أولاد النبيين، وعترة المصطفين، وسلالة النبي، ونسل الوصي، وخيرة الواحد العلي، مشرب لايظمأ من ورده، ودواء لايسقم من تداوى به، شفاء للأدواء، ووقاية من البلاء، كهف حصين، ودين رصين، وعمود الدين، وأئمة المسلمين، قولهم صواب بلا خطأ، وقربهم شفاء بلا ردى، أعني بذلك الطاهرين المطهرين، والأئمة الهادين، من أهل بيت محمد المصطفى، وموضع الطهر والرضى،
__________
(1) في (ب، ج): حيرة عمياء.
(2) في (ب): نور.
(3) في (ب): الأمان.
(4) في (أ): القرآن.
(5) في (أ، ج): ثقات.

(2/408)


الموفين(1) إذا وعدوا، والصادقين إن نطقوا، والعادلين إن حكموا.
فإن قال السائل عن الخِلْفة، المتكلم في الفرقة. أفتقولون: إنهم لو قصدوا هذا المعدن(2) في علمهم، واقتبسوا منه في حلالهم وحرامهم لم يضلوا، ولم يفترقوا، ولم يقع اختلاف بينهم فيما به تكلموا؟!
قيل له: نعم كذلك نقول، وإليه معنانا يؤول.
فإن قال: فكيف لا تقع الفرقة، ولا يكون بين أولئك صلوات الله عليهم خِلْفة؟‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍
قيل له: لأنهم أخذوا علمهم من الكتاب والسنة، فلم يحتاجوا إلى إحداث رأي ولا بدعة، تكلموا بالكتاب الناطق، واعتمدوا على الوحي الصادق، فكان الكتاب والسنة لهم إماماً يحتذون حذوه، ويقتدون في الأمور قدوه، فثبت لهم به الإلفة، وزالت عنهم الفرقة.
فإن قال السائل: فخبرونا عما عنه نسألكم، وأنبئونا عما(3)نسمع من قولكم، أتقولون: إنَّ جميعَ ما يدور بين الناس من الحلال والحرام، وما يرد من أحكام هذه الأمة على الحكام، وما يجري بينها من القضايا والأحكام، في قليل القضاء وكثيره، وقديمه وحديثه، وصغيره وكبيره؛ هُوَ كُلُّه في الكتاب موجود، وفي قلوب الحكام من آل رسول الله ثابت غير مفقود؛ فكلما ورد عليهم سبب من الأسباب؛ وجدوه عند وروده مُبّيَّناً في الكتاب، وكان في صدورهم محفوظاً، موجوداً معلوماً مصححاً؟
__________
(1) في (أ)، و(ج): الوافين إن.
(2) في (ب): أهل المعدن.
(3) في (أ): نسئل.

(2/409)


قيل للسائل عن ذلك: إن الأصولَ كلها، والفروعَ المحتاج إليها؛ في الكتاب والسنة، فإذا علم العالم ذلك وأتى على معرفته، وعرف مجمله ومحكمه، وفروعه ومتشابهه، ونظر في ذلك كله بقلبٍ فَهِمٍ، سالم من الجهل، بريء من الخطل، بعيد من الزلل؛ ثُمَّ وردت عليه مسألة استدرك علمها ساعة ترد عليه؛ إما بآية ناطقة، أو شريعة باسقة(1)؛ تنطق له بالحكم فيما ورد عليه، وتبين له ما يحتاج من ذلك إليه، أو بقياس يصح من السنة، ويثبت في الايات المحكمة، وتشهد له الشرائع المشروعة؛ يكون هذا القياس فرعاً من فروع الحق، ثابتاً ونوراً شاهداً على ما فيه من الصدق. فيكون القياس ممن علم ما قلنا، وتفرع فيما ذكرنا وفهم ما شرحنا؛ قياساً واحداً، إذ كان ذلك له أصلاً مؤصَّلا، تخْرجُ هذا القياس وتبينه، وتشرعه وتوضِّحه، وتَدلُّ عليه وتُفرعه؛ حُجَجُ الله التي في الصدور، المركبة للتمييز بين الأمور؛ من هذه العقول المجعولة لما ذكرنا، المركبة لما شرحنا؛ من التمييز بين الباطل والحق، والفرق بين البِرِّ والفسق.
__________
(1) في (ج): ناسقة.

(2/410)


فإذا علم الحاكم ما يحتاج إليه من الأصول والفروع؛ لَمْ يَخْرُج كلما يرد عليه من أن يكون حكمه وقياسه في أصول الكتاب وفروع السنة؛ إما شيئاً ناطقاً قائماً قد حكم به المجُمْل المؤصَّل، وبَيَّنَهُ الفرع المفصّل، فيحكم فيه بحكمهما، ويحتذي العالم فيه بوجههما(1)، فإن عدم لفظ ما يأتي من الحكم(2) والفتيا، من أن يكون في المجمل أو المفصل منصوصاً مفسراً؛ لم يعدم قِيَاسَه والدليل عليه، حتى يَقِف بالمثل على مثله، ويَعرفَ الشكل في ذلك بشكله، ويقيس ما أتى من ذلك على أصله؛ لأن أصلَ كلِّ حق وهدى، وقياس كل حكم أبداً؛ فَفِيْ الكتاب والسنة موجودٌ، يستخرجه العالم بعقله(3)، ويستدل على قياسه بمركب لبه، حتى يتبين له نوره، وتشرع له طريقه، ويصح له قياسه على الحق الذي في الكتاب، تشهد له بذلك شواهد(4) القرآن، وتنطق له بالتصديق السنة في كل شأن. فَيَكُونُ العالمُ في علمِهِ، واستخراجه لما يحتاج إليه من حكمه، من كتاب الله وسنته؛ على قَدْرِ ما يكُونُ من صفاءِ ذهنه، وجودةِ تمييزه، واستحكام عقله، وإنصافه لِلُبِّه، وجودةِ تمكن علم الأصول في قلبه، وثبات علم الكتاب والسنة في صدره، الذين عليهما يقيس القايسون، (وبهما يحتذي المحتذون، وإليهما يرجع الحاكمون، ومنهما يقتبس المقتبسون)(5)، وإليهما عند فَوَادِحِ النَّوازِلِ يلجأ العالمون.
__________
(1) في (ج): بموجبهما.
(2) في (ب): المحكم.
(3) في (أ): بحكمه.
(4) في (أ): سور.
(5) سقط من (أ).

(2/411)


فإذا كَمُلَت معرفةٌ العالم بأصول العلم المعلوم، وصحت معرفته بفهمِ غامضِ الشرائع المفهوم، فكان لعلمه به، واستدراكه لغامضه وجودة دراسته(1)، وإحاطته بباطنه وظاهره قَاهِراً بحول الله وقدرته لما يرد عليه من متشابهه، عارفاً بما يحتاج إليه من قياسه، مضطلعاً بتمييز فروعه، بصيراً بتفريع أموره. فَكُلَّما وَرَدَ عليه من ذلك وَارِدٌ أصْدَره باستدراكه له مَصْدَرَه. فصعْبُ العلمِ على من كان كذلك سَهْلٌ يسير، وغامضه عنده والحمدلله بَيِّنٌ مُنِير، لا يشتبه عليه فيه شبهان، ولا يستوي في الحكم عنده منه ضِدَّان، يميز مميزاته بعقله، ويفرق مفترقاته بِلُبِّه، ويجمع مجتمعاته بفهمه، قد أحْكَمَتْهُ في ذلك التجربة(2)، وأعَانَتْهُ على ذلك الخبرة(3)، فكلما ورد عليه فرع من الفروع ردَّه إلى أصله، وكلما ورد عليه شيء من متشابهه(4) بينه بالرد له إلى محكمه، لا يَغيِبُ عمَّن وهَبَهُ الله عِلْمَ كتابه، وفهَّمه(5) معاني سنته؛ مَوْضِعُ حاجته، ولا مكان فاقته؛ من حلاله وحرامه، وما يرد عليه من مفترق القضاء عند ورود مزدحمات المسائل على قلبه، ومتراكمات النوازل على فهمه. فكُلمَّا وَرَدَ عليه من ذلك وَارِدٌ فادح، أو قدح في قلبه منه عظيم قادح؛ اعتمد في (فصله، و)(6)قطع مشتبهات أمره؛ على الأصول المحكمات في قلبه، والفروع المتفرعات في صدره؛ من الكتاب والسنة، فأَنَارَ(7) له بعون الله وفضلِهِ نورُ الحقَّ وصدقُه، وصَحّ(8) له برهانُ الحكم وحقُّه، فقال في ذلك بقولٍ أصيلٍ، واستدل منه على الحق بأفضل دليل.
__________
(1) في (أ): رساخته.
(2) في (ب): تجربته.
(3) في (ب): خبرته.
(4) في (أ، ج): المتشابه.
(5) في (ب): في فهم معاني. والمعنى: مع فهم.
(6) سقط من أ .
(7) في (أ): فأبان. ولعلها بمعنى: بان.
(8) في (ج): ووضح.

(2/412)


فَمَثَلُه ـ فيما يرد عليه من الفروع والفصول، مما يحتاج إلى قياسه على الأصول، ـ كَمَثَلِ رجل اتخذ أرضاً فجعل في كل جانب منها نوعاً من أنواع الأشجار، (ثُمَّ)(1) غَذَّاها وسقاها، وقام عليها وذراها(2)، حتى ثَبَتَتْ أصولها، وتَفرَّعت فروعها، وخرجت ثمارها، فهو بمكان(3) كل نوع منها عارف، وفَهِمٌ (عالم)(4) غير جاهل، فكُلَّما سُئِل عن شجرة، أو طُلِبَ منه من ثمارها ثمرة؛ قَصَدَ لموضِعِ تلك الشجرة، فأَخذ ما يحتاج إليه من ثمرها، فَأَسْرَع به إلى طالبها، ولم يحتج ـ لمعرفته بموضع حاجته ـ إلى الدَوَرَان في جوانب أرضه، والتفتيش عن حاجة سائله، كما يعمل الجاهل بمواضع تلك الأشجار، وأماكن تلك الثمار.
فالعَالِمُ في علمه، وعند قياسه وحكمه، والمَعْرِفةِ بما يرد عليه من شرائع دينه؛ كصاحب هذه الأرض المهتدي إلى ما يطلب منها، العالم بمواضع ثمارها، الخَابِر بنواحي أشجارها. فحال العالم في عِلْمِ ما دَارَسَ من(5) حكمه، وحَفِظَ وأَحاط به مِنْ علمه؛ كَحَالِ معرفة صاحب هذه الأرض بأرضه. فاسْتِدْلاَلُ العالم واهتداؤه إلى قياس العلم والأحكام؛ فيما يرد عليه من الحلال والحرام؛ كاستدلال صاحب الأرض إلى أشجاره، ومعرفته بما يبتغيه من ثماره(6)، لا فرق بينهما، ولا اختلاف عند ذي عقل فيهما. بَل اهْتِدآءُ من هداه الله إلى علمه، واسْتِدْلاَلُ من دلَّه اللهُ على غوامِض حُكمِه؛ أَبْيَنُ تبياناً، وأَنْوَرُ في العقل برهاناً؛ من اهْتِدآء صاحب الأرض في أرضه، ومعرفته بما غرس من شجره. والحمدلله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، وسلام على المرسلين.
__________
(1) ليست في (أ).
(2) في (أ): ودارها. يعني أدارها.
(3) في (أ، ج): بأماكن.
(4) سقط من أ.
(5) في (ب): فحال العالم في علمه ما داوس في.
(6) في (ب): إلى أشجارها، ومعرفته إلى ما يبتغيه من ثماره.

(2/413)


ثُمَّ اعلم(1) أيها السائل أن كلَّ قياس جاء مخالفاً للكتاب، أو جاء الكتاب له مخالفاً؛ حتى يكون كل واحد منهما ضداً للآخَرِ؛ فَلاَ يصحُّ هذا القياس أبداً، ولا يثبت معه تأويل ولا هدى، (لأنه جاء مخالفاً للأصول)(2)، ولم يكن والحمدلله ثابتاً في الفصول(3). وفي ذلك ومثله، وما كان من شكله؛ ما يقول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (( إنه سيكذب عليَّ كما كذب على الأنبياء من قبلي، فما أتاكم عني فأعرضوه على كتاب الله، فما وافق كتاب الله فهو مني وأنا قلته، وما خالف كتاب الله فليس مني ولم أقله ))، فجَعَلَ صلى الله عليه الكتابَ إماماً لكل ما روي عنه، أو قيل إنَّه منه يعرض عليه، فَإنْ جَاء مثله؛ عُلِمَ أنَّه من قوله، وإن جاء (مخالفاً)(4) مضاداَ لِشَيءٍ منه؛ عُلِمَ أنَّه ليس عنه. فهذا في الآثار المذكورة عن الرسول، فكيف بما سواها من القياس، الذي يتعاطاه ويطلبه بعض الناس؟ فلعمري لا يصح من قياسهم، ولا يجوز من مقالهم؛ إلاَّ ما شهد له الكتاب والسنة، وكانت الموافقة لهما منه نيِّرةً بيِّنة، فعند موافقة القياس للكتاب؛ يصح القياس في الألباب، وعند مخالفة القياس للكتاب؛ يبطل ويفسد في جميع الأسباب.
فليفهم من كان ذا فهم ما به في القياس(5) قلنا، وما منه أجزنا، وما منه دفعنا وأبطلنا.
__________
(1) في (أ): واعلم.
(2) سقط من أ. وفي (ج): لأنه مخالف.
(3) في (ب): الأصول.
(4) سقط من (ب،ج).
(5) في (أ): الكتاب.

(2/414)


والقياس فلا يجوز أبداً، ولا يكون أصلاً بحيلة من الحيل، ولا يمكن أن يتناوله متناول، ولا يطول إليه متطاول، ولا يطمع به طامع؛ إلاَّ مِنْ بَعد إحكام أصول العلم بالكتاب، والوقوف على ما فيه من جميع الأسباب، من الحلال والحرام، وما جعل الله فيه من الأحكام، وبَيَّن تبارك وتعالى من شرائع الإسلام، التي جعلها الله سبحانه للدين قواماً، وللمسلمين إماماً، وَ من بَعْدِ علم أصول السنة، وفهم فروعها المتفرعة، فإذا تَمَكَّن المتمكن في علمه وأحاط بجوامع(1) ما تحتاج إليه الأمة في دينها، ثُمَّ تفرع فيما لا غنى للأمة عن معرفته في جميع أسبابها، من حلالها وحرامها، وما جعله الله ديناً لها، وافترضه سبحانه(2) عليها، فَإِذا تَفَرَّغ في علوم الدين، وأَحَاطَ بمعرفة ما افترض على المسلمين، فكان بذلك كلِّه عارفاً، ومن الجهل بشيء منه سالماً؛ ثمَّ كان مع ذلك ذا لُبٍّ رَصِين، ودين ثابت متين؛ جَازَ لَهُ الْقِياس في الدين، وأمكنه الحكم في ذلك وبه بين المؤمنين، وكان حقيقاً بالصواب،حريّاً بإتقان الجواب، فأَمَّا إن كان في شيء مما ذكرنا ناقصاً، أو عن بلوغه مقصراً، فَلَنْ يَصحَّ له أبداً قياسه، ولن يجوز له في دين الله التماسه؛ لأنَّه لِلأُصولِ غير مُحْكِم، وبالفروع غير فَهِم، ولن(3) يقيس المثال على مثاله، أو يحذو الشكل على شكله؛ إلاَّ العارِفُ بمحكمات أصله، فَإذا أَحْكَمَ أصله؛ قاس بذلك فرعه(4).
__________
(1) في (أ): بجميع.
(2) في (أ): صاحبه.
(3) في (ب): وليس.
(4) في (ب): فروعه.

(2/415)


ومَثَلُ ما به قلنا من تصرف الحالات، في أهل القياس والمقالات، كَمَثَلِ أهل الصناعات (من الأبنية والصباغات)(1)، فإذا كان منهم صانع محكم لعمله، محيط بأصل صناعته، عارف بابتدائها وانتهائها(2)، عالم بتأليفها وإحكامها، ثُمَّ ورد عليه مثال يمثله، أو شيء يحتذيه(3) ويصنعه احْتذى فيما تصور من مثاله، بِمَا عِنْدَه من محكم أعماله، وأتى به على قياسه، لمعرفته بأصل قياسه، وإحكامه لما قد أحكم من أعماله، فعلى قدر تفرغه في البصر بأصول الصناعات، وتمكنه في المعرفة بها في كل الحالات؛ يَكُونُ إِحْكَامه لتمثيل المثال على مثله، وتشبيه الشكل المطلوب منه بشكله، حتى يكون ما يأتي به مشابهاً لما يحتذي به، لا يخالفه في شبهه، ولا يفارقه في قياسه. ولن ينالَ ذلك غَيرُه، مِمَّن لم يحكم أصول عمله(4)، ولم يفهم متفرعات أنواع صناعته. فكذلك المتناول للقياس في الأحكام، المتعاطي لذلك من شرائع الإسلام، لا يجوز له قياسه، ولا يصح له مثاله، حتى يكون لأصول الدين مُحْكِماً، ولشرائع العلم فَهِماً(5)، وبمعرفة الكتاب والسنة قائماً، فعند ذلك يكون في قياسه كاملاً،(6) ولعلمه مُحْكِماً، وعلى ما يَطْلُب من ذلك كله قادراً.
__________
(1) سقط من (ب).
(2) في (أ،ج): وآلاتها.
(3) في (ب): بمثلها إن شيء يحويه. كذا. وهو تصحيف.
(4) في (ب): علمه.
(5) في (ب): فهيماً.
(6) في (ب): قائماً كاملاً.

(2/416)


ثُمَّ اعلم أيها السائل علماً يقيناً، وافهم فهماً ثابتاً مبيناً، أن العلماء تتفاضل في علمها، وتتفاوت(1) في قياسها وفهمها، وفي ما قلنا به من ذلك ما يقول الله سبحانه: {نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَآءُ وَفَوْقَ كُلِّ ذِيْ عِلْمٍ عَلِيْمٍ} [يوسف:76]، وأنه ليس أحدٌ من المخلوقين؛ أَوْلَى بفهم أحكام رب العالمين؛ مِمَّن اختاره الله واصطفاه، وانتجبه وارتضاه، فجعله مؤدياً لدينه، قائماً بحكمه، داعياً لبريته، حايطاً لخليقته، منفذاً لإرادته، داعياً(2) إلى حجته، مبيناً لشريعته، آمراً بأمره، ناهياً عن نهيه، مقدماً لطاعته، راضياً لرضاه، ساخطاً لسخطه، إماماً لخليقته(3)، هادياً لها إلى سبيله، داعياً لها إلى نجاتها، مُخْرِجاً لها من عمايتها، مثبتاً لها على رشدها، مقيماً لها على جوآدِّ سبلها، ناصحاً لله فيها، قائماً بحقه سبحانه عليها. وَذلِكَ وَأُولَئكَ فهُم صفوةُ الله من خلقه، وخيرته من بريته، وخلفاؤه في أرضه، الأئمة الهادون، والقادة المرشدون، من أهل بيت محمد المصطفى، وعترة المرتضى، ونخبة العلي الأعلى، المجاهدون للظالمين، والمنابذون للفاسقين، والمقرِّبُون للمؤمنين، والمباعدون للعاصين، ثِمَالُ كل ثِمَالٍ، وتمام كل حال، الوسيلة إلى الجنان، والسبب إلى الرضى من الله والرضوان، بذلوا أنفسهم للرحمن، وأحيوا شرائع الدين والإيمان، لم يهِنُوا ولم يَفْترُوا، ولم يُقَصِّروا في طلب ثأر الإسلام ولم يغفلوا، نصحوا المسلمين(4)، وأحبوا المؤمنين، وقتلوا الفاسقين، ونابذوا العاصين، وَبيَّنوا حجج رب العالمين على جميع المربوبين، {لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللهَ لَسَمِيْعٌ عَلِيْمٌ} [الأنفال: 42]، عملوا فَجُوْزُوا، ونصحُوا فَقبلوا، وتقربوا من الله فقُرِّبوا، وأخلصوا
__________
(1) في (أ): وتتقارب.
(2) في (ب): داعية.
(3) في (أ): لخلقه.
(4) في (ب): ناصحوا المسلمين.

(2/417)


لله سبحانه الديانة فأخلص لهم المحبة، طلبوا منه التوفيق فوفقَّهم، وسألوه التسديد فسدَّدهم ، وقاموا له بأمره فأرشدهم، واهتدوا إلى قبول أمره فزادهم هدى، وضاعف لهم كلَّ خير وتقوى، كما قال جل جلاله، عن أن يحويه قول أو يناله: {وَالَّذِيْنَ اهْتَدُوا زَادَهُمْ هُدىً وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ} [محمد: 17]، قصدوا الحق فأرشدوا له، وأْتَمُّوا بالصدق فعملوا به، فوجبت لهم حقائق التوفيق، ونالتهم بحمدالله موقظات التحقيق(1)، وقصدتهم منه سبحانه قواصد النعمة، وشملتهم بفضله سبحانه شوامل الحكمة، فنطقوا بالبيان في قولهم، وحكموا بالحق في حكمهم، واهتدوا بالله سبحانه في أمرهم، وثَبَتوا بزيادة (هدى)(2) الله على الحق الفاصل، وتناولوا شكايم العلم الفاضل، فنالوا بعطاء الله الأكبر مالم ينل غيرهم، وقدروا على ما عجز عنه سواهم، فحكموا باختيار الله لهم وتوفيقه، وإرشاده لهم وتسديده؛ في كل نازلة بالصواب، وبعد عنهم فيها كل شك وارتياب، فَكَانَ عِلْمُهُم ـ لما ذكرنا من اختيار الله لهم، واصطفائه إياهم، ورضاه باستخلافهم في أرضه، واسترعائه لما استرعاهم من بريته ـ عِلْماً جليلاً، وَكان قياسهم قياساً ثابتاً أصيلاً، إذ هم وأبوهم صلوات الله عليهم أصل كل دين، وعماد كل يقين، ومنه صلوات الله عليه وآله وسلامه تفرعت العلوم المعلومة، وثبتت أصول الأحكام المفهومة، ومنه ومن ذريته نيلت العلوم الفاصلة، وبلغت الأصول الفاضلة، فمن علمهم صلوات الله عليهم تفرعت الأحكام، ومن بحر فهمهم اسْتَقَى جميع الأنام، فهم أصل الدين، وشرائع الحق المستبين، فكُلُّ علم نِيْلَ أو كُسِب؛ فمن فضل علمهم اكتُسِب، وكلُّ حكم حقٍّ به حُكِم؛ فمن حكم حقهم علم، فهم أمناء الله على حقه، والوسيلة بينه وبين خلقه، المبلغون للرسالات، الآتون من الله سبحانه بالدلالات، المثبتون على الأمة حججه البالغة، المسبغون
__________
(1) في (ب): ونالهم من اللّه مرضات التحقيق.
(2) سقط من أ.

(2/418)


بذلك على الأمة النعم السابغة، لا يجهل فضلهم إلاَّ جهول معاند، ولا ينكر حقهم إلاَّ معطل جاحد، ولا ينازعهم معرفة ما به أَتَواْ عن الله إلاَّ ظلوم، ولا يكابرهم فيما أدوه إلى الأمة عن الله إلاَّ غَشوم(1)، لأنهم أهل الرسالة المبلَّغة، والآتون من الله بالحجة البالغة، الذين افترض الله على الأمة تصديقهم، وأمروا باتباعهم ونُهُوا عن مخالفتهم، وحُضُّوا على الإقتباس من علمهم، ألا تسمع كيف يقول الرحمن، فيما نزل من النور والبرهان، حين يقول: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [الأنبياء: 83]؟ فأُمِرَت الأمةُ بسؤالهم عند جهلها، والإقتباس منهم لمفروض(2) علمها. ثُمَّ قال الله سبحانه: {وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُوْلِ وَإِلَى أُولي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِيْنَ يَسْتَنْبِطُوْنَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إَلاَّ قَلِيْلاً} [النساء: 83]، فأخبر سبحانه أنهم لو ردوا ما يجهلون علمه، ولا ينالون فهمه إلى الله؛ بالتسليم له في حكمه،وإلى الرسول في معلوم علمه، وإلى الأئمة من عترته فيماالتبس من ملتبسه،واشتبه على الأمة من متشابهه؛ لوجدوه عندالله في كتابه مُثْبتاً، وفي سنة رسوله التي جاء بها عن الله مبيناً، وعند الأئمة من عترته صلى الله عليه نيراً بيناً. ثُمَّ اخبر سبحانه أنَّه لولا فضل الله على الخلق بإظهار من أظهر لهم من خيرته، وتولية(3) من ولَّى عليهم من صَفوته، إذن لاتبعوا الشيطان في إغوائه، ولشاركوه في غيه وضلاله، فامتن عليهم سبحانه بأئمة هادين (مهتدين)(4)، غير ضالين ولا مضلين، صِفْوة الله من العالمين، وخيرته من المخلوقين، نور الأمة، وسراج الظلم المدلهمة، ورعاء البرية، وضياء الحكمة، ومعدن العصمة، وموضع الحكمة، وثبات
__________
(1) في (أ): عن الأمة إلا غشوم.
(2) في (أ): لفروض.
(3) في (ب): وتوليته.
(4) ليس في (أ).

(2/419)


الحجة، ومختلف الملائكة، اختارهم الله على علمه، وقدمهم على جميع خلقه، علماً منه سبحانه بفضلهم، وتقديساً لهم على غيرهم، وفي ذلك ما يقول الله سبحانه: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِيْنَ اصْطَفِيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيْرُ} [فاطر: 32]، فأخبر بما ذكرنا من اصطفائهم على الخلق، ثم ميزهم فذكر منهم الظالم لنفسه، باتباعه لهوى قلبه، وميله إلى لذته. وذكر منهم المقتصد في علمه، المؤدي إلى الله فرضه(1)، المقيم لشرائع دينه، المتبع(2) لرضى ربه، المؤثر لطاعته. ثُمَّ ذكر السابق منهم بالخيرات، المقيمين لدعائم البركات، وهم: الأئمة المطهرون(3)، المجاهدون السابقون، القائمون بحق الله، المنابذون لأعداء الله، المنفذون لأحكام الله، الراضون لرضاه، الساخطون لسخطه، والحجة بينه وبين خلقه، المستأهلون لتأييده، والمستوجبون لتوفيقه، المخصوصون بتسديده، في كل حكم به حكموا، أو قياس في شيء من الأحكام به قاسوا، حجة الله الكبرى، ونعمته العظمى، الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً، وفي ذلك ما يقول الله سبحانه: {إِنَّمَا يُرُيِدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيْراً} [الأحزاب: 33]. وفي طاعتهم، وما أمر الله من رد الفتيا بين المفتين وما فيه يتنازع المتنازعون إليهم ما يقول الله تبارك وتعالى: {يَا أّيُّهَا الَّذِيْنَ آمَنُوا أَطِيْعُوا اللهُ وَأَطِيْعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِيْ الأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِيْ شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيْلاً}
__________
(1) في (ب): الفرض.
(2) في (ب): المبتغي.
(3) في (أ): الطاهرون. وفي (ج): الظاهرون.

(2/420)


[النساء: 59]. وما جاء من الله تبارك وتعالى لآل رسوله من الذكر الجميل، والحض للعباد على طاعتهم، والإقتباس من علمهم؛ فَكَثِيرٌ غير قليل، يجزي قَلِيلَه عن كثيره، ويَسيرَه عن جليله، من كان ذا علم واهتداء، ومعرفة بحكم الله العلي الأعلى. وكل ذلك أمر من الله سبحانه للأمة برشدها، ودلالة منه على أفضل أبواب نجاتها، فإن اتبعت أمره رشدت، وإن قبلت دلالته اهتدت، وإن خالفت ذلك غوت(1)، ثُمَّ ضلت وأضلت، وهلكت وأهلكت، {لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللهَ لَسَمِيْعٌ عَلِيْمٌ} [الأنفال: 42].
وفي أمر الأمة باتباع ذرية المصطفى، ما يقول النبي المرتضى: (( إني تارك فيكم ما إن تمسكتم به لن(2) تضلوا من بعدي الثقلين(3): كتاب الله، وعترتي أهل بيتي، إن اللطيف الخبير نبأني أنهما لن يفترقا حتى يردا علي الحوض ))، ويقول صلى الله عليه وآله في تفضيلهم، والدلالة على اتباعهم، وما فضلهم الله به على غيرهم: (( النجوم أمان لأهل السماء، وأهل بيتي أمان لأهل الأرض، فإذا ذهبت النجوم من السماء أتى أهل السماء ما يوعدون، وإذا ذهب أهل بيتي من الأرض أتى أهل الأرض ما يوعدون )). وفيما ذكرنا من أمرهم ما يقول صلى الله عليه وآله وسلم: (( مثل أهل بيتي فيكم كسفينة نوح من ركبها نجا، ومن تخلف عنها غرق وهوى )).
وهذا ومِثْلُه فَكَثيِرٌ عنه صلى الله عليه وآله وسلم فيهم، يفهمه من روى عنه عليه السلام، ونحن نستغني بقليل ذكره عن كثيره.
ثُمَّ اعلم أيها السائل أن الحق لا يؤخذ إلاَّ من أحد ثلاثة وجوه: كتاب ناطق، أو إجماع من الأمة في ما نقلته عن النبي عليه السلام من السنة التي جاء بها عن الله، وَأَمْرٍ بيَّنَتْه وصحّ‍حَتْه العقولُ، وميَّزَتْ وأخرجت حقه، وشَرَعت صدقَه.
__________
(1) في (ب): غويت
(2) في (أ): لم.
(3) في (ب): من بعدي أبداً كتاب الله.

(2/421)


ثُمَّ اعلم أيها السائل أن القياس يخرج على معنيين: أحدهما ثابت صحيح، والآخر باطل قبيح.
فأما المعنى الباطل منهما فهو قول القائل: قَاسَ فُلاَنٌ ويَقِيسُ فُلاَنٌ، يريد بذلك قياساً على غير الكتاب، يضرب بعض القول ببعض، ويقيس براي نفسه على رأي غيره، ويشبه مذهبه في القياس بمذهب غيره، فيخرج قياسه قياساً فاسداً، لا يجوز هذا القياس في الدين، ولا يثبت في أحكام المسلمين، بل من تعاطى قياساً على ما ذكرنا، أو قولاً مما(1) شرحنا؛ كان مُحِيلاً مبطلاً، فاسد(2) المذهب جاهلاً.
والمعنى الذي يثبت في كل معنى، ويكون دليلاً على النور والهدى، فهو: أن يكون العالم المتبحر في علمه، المتمكن في فهمه، إذا ورد عليه أمر قاسه على كتاب الله، وعلى سنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ومعنى قولنا: قاسه، فهو دبَّره ونظره، وفكر فيه وميزه، واستعمل في استخراجه ـ من كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وآله وسلم ـ عقله، فغاص عند نزول النازلة، في بحور الكتاب والسنة، حتى استخرج باستدلاله علم حاجته من كتاب ربه، وسنته التي أنزلها على نبيه. فهذا المعنى هو القياس الصحيح.
ومعنى اسم القياس هاهنا من قول القائل: قاس؛ فإنما هو استدل، وأصاب وميز، فاستخرج بقياسه وتمييزه؛ الصوابَ من كتاب ربه، ووقف بجودة تمييز قياسه(3)، وغَوَصَان لُبِّه على طلبته، وَجَال(4) بما ركب الله في صدره من ثابت لُبِّه، إذ أجاد استعْمَالَهُ في حاجته؛ ما طَلَب من علم نوازل الأحكام، ووقف بذلك على معرفة أصول دين الإسلام، فكان بقياسه وتمييزه؛ راداً لفروع دينه إلى أصوله، فالتأم له ـ بالتمييز والنظر، وجودة إنصاف العقل والفكر ـ ما افترق، وارتتق له بذلك في الأحكام ما انخرق.
__________
(1) في (ب، ج): فيما.
(2) في (أ): باطل.
(3) في (أ): ووقف بجودة قياسه.
(4) كذا في النسخ، ولعلها: وحاز.

(2/422)


فافهم هديت معنى قول القائل: قاس ويقيس، واستعمل لبك في معرفة الفرق بين المعنيين الذين ذكرنا، حتى تقف(1) فيهما على الهدى، وتكون من ذلك في قولك كله على الإستواء، والحمدلله العلي الأعلى، وصلى الله على محمد المصطفى، وعلى أهل بيته الطيبين الأخيار، الصادقين الأبرار.
ثم اعلم من بعد كل علم ومن قبله، وعند استعمالك لعقلك في فهمه(2)، أن الذين أَمَرنا باتباعهم من آل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وَحَضَضنَا على التعلم منهم، وذكرنا ما ذكرنا من أَمْرِ الله برد الأمور إليهم؛ هُم الذين احتذوا بكتاب الله من آل رسول الله، واقتدوا بسنة رسول الله الذين اقتبسوا علمهم من علم آبائهم وأجدادهم، جداً عن جد وأباً عن اب، حتى انتهوا إلى مدينة العلم، وحصن الحلم، الصادق المصدَّق، الأمين الموفق، الطاهر المطهر، المطاع عندالله المُقّدَّر، محمد صلى الله عليه وآله وسلم، فَمَنْ كَانَ علمه من آل رسول الله صلى الله عليه وآله على ما ذكرنا، منقولاً إلى آبائه، مقتَبساً من أجداده، لم يزغ عنهم، ولم يقصد (في ذلك)(3) إلى غيرهم، ولم يتعلم من سواهم؛ فَعِلْمُهُ ثابت صحيح، لا يدخله فساد ولا زيغ، ولا يحول أبداً عن الهدى والرشاد، ولا يدخله اختلاف، ولا يفارق الصحة(4) والائتلاف.
فإن قلت أيها السائل: قد نجد علماء كثيراً منهم، ممن ينسب إليه علمهم؛ مختلفين في بعض أقاويلهم، مفترقين في بعض مذاهبهم، فكيف العمل في افتراقهم، وإلى من نلجأ منهم، وكيف نعمل في اختلافهم، وقد حَضَضْتَناَ عليهم، وأعلمتنا أن كل خير لديهم، وأن الفرقة التي وقعت بين الأمة هي من أجل(5) مفارقة الأئمة من آل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؟
__________
(1) في (ج): تستدل.
(2) في (ب): فهمك.
(3) سقط من (أ).
(4) في (ب): ولا تفارقه الصحة.
(5) في (ب): بين الأمة فمن أجل.

(2/423)


قلنا لك: قد تقدم بعض ما ذكرنا لك في أول هذا الكلام، ونحن نشرح لك ذلك بأتم التمام، إن اختلاف آل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ـ أيها السائل عن أخبارهم ـ لم يقع، ولا يقع أبداً (الاختلاف)(1) إلاَّ من وجهين:
فأما أحدهما فمن طريق النسيان للشيء بعد الشيء، والغلط في الرواية والنقل، وهذا أمر يسير، حقير قليل، يرجع الناسيَ منهم عن نسيانه إلى القول(2) الثابت الْمُذَكِّرُ(3) له عند الملاقاة والمناظرة.
والمعنى الثاني فهو أكبر الأمرين وأعظمهما، وأجلهما خطراً وأصعبهما، وهو: أن يكون بعض من يؤثر عنه العلم تعلم من غير علم آبائه، واقتبس علمه من غير أجداده، ولم يستنر بنور الحكمة من علمهم، ولم يستض(4) عند إظلام الأقاويل بنورهم، ولم يعتمد عند تشابه الأمور على فقههم، بل جَنَب عنهم إلى غيرهم، واقتبس ماهو في يده من علمه عن أضدادهم، فصار علمه لعلم غيرهم مشابهاً، وصار قوله لقولهم صلوات الله عليهم مجانباً، إذْ عِلْمُه من غيرهم اقتبسه، وفَهْمُه من غير زنادهم ازْدَنَده(5)، فاشتبه أمره وأمر غيرهم، وكان علمه كعلم الذين تعلم من علمهم، وقوله كقول من نظر في قوله، وضوء نوره كضوء العلم الذي في يده، وكان هو ومن اقتبس منه سواء، في المخالفة لأهل بيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والإقتداء(6)، وإن كان منهم في نسبه، فليس علمهم كعلمه، ولا رأيهم فيما اختلف فيه الحكم(7) كرأيه. والحجة على من خالف الأصل من آل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كالحجة على غيرهم من سائر عباد الله ممن خالف الأصول المؤصلة وجَنَبَ عنها.
__________
(1) سقط من (أ، ج).
(2) في (ب): إلى القول، وفي (أ): إلى قوله.
(3) في (ب): المذكور.
(4) في (ب): ولا يستضيء.
(5) في (أ): زيادتهم ازداده.
(6) كذا في النسخ ولعله سقط: بغيرهم. أو لعلها: وعدم الاقتداء.
(7) في (ب): من الحكمة.

(2/424)


والأَصْلُ الذي يَثْبُت عِلْمُ من اتبعه، ويَبين قولُ من قال به، ويصح قياسُ من قاس عليه، ويجوز الإقتداءُ بمن اقتدى به(1)؛ فَهْوَ كِتَابُ الله تبارك وتعالى المحكم، وسنة رسوله صلى الله عليه وآله وسلم؛ اللذان جُعِلا لكل قول ميزاناً، ولكل نورٍ وحقٍّ برهاناً، لا يضل من اتبعهما، ولا يغوى من قصدهما، حجة الله القائمة، ونعمته الدائمة، فَمَنِ اتَّبعهما في حكمهما، واقتدى في كل أمر بِقَدْوهما، وكان قولُه بقولهما،وحكمُه في كل نازلةٍ بهما دون غيرهما؛ فَهْوَ المُصِيبُ في قوله، المعتمدُ عليه في علمه، القاهرُ لغيره في قوله، الواجبُ على جميع المسلمين من آل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ومن غيرهم أن يرجعوا إلى قوله، ويتبعوا من كان كذلك في علمه؛ لأنه على الصراط المستقيم؛ الذي لا اعوجاج فيه ولا دَخَل(2) والحمدلله عليه. فمن كان على ما ذكرنا، وكان فيه ما شرحنا؛ من الاعتماد على الكتاب والسنة، والإقتباس منهما،والإحتجاج بهما، وكانا شاهدَيْنِ له على قوله، ناطِقَين له بصوابه، حجةً له في مذهبه؛ فَوَاجبٌ على كل أحد أن يقتدي به، ويرجع إلى حكمه.
فإذا جاء شَيءٌ مما يختلف فيه آل رسول الله(3) صلى الله عليه وآله وسلم؛ مَيَّزَ الناظرُ المميِّزُ السامعُ لذلك بين أقاويلهم، فَمَنْ وجدَ قولَهُ متبعاً للكتاب والسنة، وكان الكتابُ والسنة شاهدين له بالتصديق؛ فَهوَ على الحق دون غيره، وهو المتَّبَعُ لا سواه، الناطقُ بالصواب، المتبعُ لعلم آبائه في كل الأسباب.
__________
(1) في (ب): ويجوز الإقتداء به.
(2) الدَّخْل بسكون الخاء وفتحها: العيب والريبة.
(3) في (ب): آل الرسول.

(2/425)


وإن ادعى أحدٌ من آل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنَّه على علمِ رسول الله، وأنه مقتد بأمير المؤمنين والحسن والحسين صلوات الله عليهم؛ فَاعْلَم هُدِيتَ أنَّ علمَ آل رسول الله لا يخالف علم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وأن علمَ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لا يخالف أمر الله ووحيه، فاعرض قول من ادعى ذلك على الكتاب والسنة، فإن وافقهما ووافقاه فهو من رسول الله صلى اللّه عليه وآله وسلم، وإن خالفهما وخالفاه فليس منه صلى الله عليه وآله وسلم، كما قال فيما روينا عنه حين يقول صلى الله عليه وآله وسلم: (( إنه سيكذب عليَّ كما كذب على الأنبياء من قبلي، فما جاءكم عني فأعرضوه على كتاب الله، فما وافق كتاب الله فهو مني وأنا قلته، وما خالف كتاب الله فليس مني ولم أقله )).
وهذا أصل في اختلاف آل رسول الله صلى اللّه عليه وآله وسلم ثابت، ودليل على الحق صحيح، فَاعْتَمِدْ فيما اختلفوا فيه عليه، واستعمله في ذلك؛ يَبِن لك الحق حيث هو، ويصح لك المقتَبِس من علم آبائه صلوات الله عليهم، والمقتَبِس من غيرهم، وتصح لك الحجة في جميع أقوالهم، وتَهْتَدِ إلى موضع نجاتك، وتستدل به على مكان حياتك، وتَقِف به على الذين أمرناك باتباعهم بأعيانهم، فقد شرحناهم لك شرحاً واضحاً، وبيناهم لك تبياناً صحيحاً، حتى عرفتَهم ـ إن استعملتَ لُبَّك ـ بما بينا لك من صفاتهم، كما تعرفهم بالرؤية بأعيانهم، وتقف عليهم بأسمائهم(1) وأنسابهم. والحمدلله على توفيقه وإرشاده، حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه(2).
تم الكتاب وصلى الله على سيدنا محمد وآله وسلم.
***
رسائل وكتب
في
الأخلاق والآداب
كتاب الخشية
m
قال يحيى بن الحسين صلوات الله عليه:
__________
(1) في (ب، ج): بأساميهم.
(2) في (أ) و(ج): كمل الكتاب والحمدلله وحده وصلواته على سيدنا محمد النبي وآله وسلامه.

(2/426)


أصل الخشية لله العلم، وفرع الخشية لله الورع، وفرع الورع الدين، ونظام الدين محاسبة المرء لنفسه، وآفة الورع تجويز المرء لنفسه الصغيرة من فعله.
وأصل التدبير فهو التمييز، وأصل التمييز فهو الفكر، ومن لم يَجُد فكره لم يَجُد تمييزه، ومن لم يجد تمييزه لم يستحكم تدبيره. والعقل كمال الإنسان، والتجربة لقاح العقل، ومن لم ينتفع بتجربته؛ لم ينتفع بما ركب فيه من عقله، وشكر المنة زيادة في النعمة، والنعمة لا تتم لمن رُزقها إلاَّ بشكر مُوِليها، ومن أغفل شكر الإحسان؛ فقد استدعى لنفسه الحرمان، ومن أراد أن لا تفارقه نعم(1) الله؛ فلا يفارق شكر الله. وحصن الرأي التأنِّي، وآفته العجلة، إلاَّ عند بيان الفرصة، ومن علم ما لله عنده لم يكد يهلك ، ومن أراد أن يعلم ماله عند الله؛ فلينظر ما لله عنده، ثم ليعلم أن له عند الله مثل ما لله عنده، قال الله تعالى: {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا} الآية [الأنعام: 160].
وجودة اللسان زَيْن الإنسان، وحياة القلب أصل البيان، ومن فكر في عواقب فعله؛ نجا من موبقات عمله، وصاحب الدين مرهوب، وصاحب السخاء محبوب، وصاحب العلم مرغوب إليه، وذو النصفة مُثْنى عليه، ومن كفى الناس مؤنة نفسه؛ كفاه الله مؤنة غيره، ومن خضع وتذلل لله فقد لبس ثوب الإيمان، ومن لبس ثوب الإيمان؛ فقد تتوج بتاج العزة من الرحمن، قال الله سبحانه: {وَلِلَّهِ العِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ} [المنافقون: 8]. ومن رزق نزاهة النفس فقد أعطي عوضاً عن العبادة، ومن وفق للصبر عند البلاء؛ فقد خففت عنه المحنة(2) العظمى، ومن أراد من الله التسديد والتوفيق؛ فليعمل لله بالإخلاص والتحقيق.
__________
(1) في (ب): نعمة الله.
(2) في (ب): خفقت عليه المحبَّة.

(2/427)


والعلم والحكمة؛ لا ينموان مع المعصية، والجهل والحيرة؛ لا يقيمان مع الطاعة، ومن وُفِّقَ أمن من الزلل، ومن خُذِل لم يتم له عمل، ولم يبلغ ساعة من الأمل، ومن قوي ناظر(1) قلبه؛ لم يضره ضعف بصره، قال الله تعالى: {فَإِنَّهَا لاَ تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى القُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} [الحج: 46] .
ومن نظر إلى نفسه بغير ما هو فيه؛ أمكن الناسَ من الطعن عليه، ودواء العي قلة الكلام، ودواء الجهل التعلم، ودواء الخوف من عذاب الله؛ العمل بطاعة الله، والترك لمعاصيه، وحسن الأوبة إليه عزَّ وجل. ومن رغب في الله اتصل به، وانقطع على الحقيقة إليه، ومن لم يهتد إلى أفضل العبادة وأسناها؛ فليقصد إلى مخالفة النفس في هواها.
والعلم مصباح في صدور العلماء، زينته الورع، وذباله(2) الزهد في الدنيا، ولا يصلح الورع إلاَّ لمن صلح له الزهد في الدنيا، والورع والمكالبة على الدنيا لا يجتمعان أبداً، كما لا يجتمع في إناء واحد النار والماء، ومن اشتدت رغبته في الدنيا طلب لنفسه التأويلات الكاذبات، ومن طلب لنفسه التأويلات الكاذبات تقحم بلا شك في المهلكات، و(من تقحم في المهلكات)(3) كان عندالله من أهل الخطيئات.
وصاحب الدنيا الراغب فيها كالحسود؛ لا يستريح قلبه من الغم أيداً، ولا يخلو فكره من الهم أصلاً، ولو أعطي منها كل العطاء. والحلم مع الصبر، ولا حلم لمن لا صبر له.
__________
(1) في (ب): باطن. وهو تصحيف.
(2) في (ب): وذبالته.
(3) زيادة من هامش (ب).

(2/428)


وعروق الحمكة التي تصرب في الصدور هي طاعة الله، ولا تثبت الحكمة إلاَّ في صدر مُطيعٍ لله عزَّ وجل، ومن عدم الطاعة لله عدم الحكمة، ومن عدم الحكمة عدم النعمة، والحكمة كالشجرة؛ عروقها الطاعة، وثمرها(1) البلاغة. وأصل البر اللطف، وفرعه النصفة، وأصل العقوق قلة النصفة، وفرعه الجفا، وأصل الحمق قلة العقل، وفرعه العجب بالنفس(2).
المنتزع من سياسة النفس
m
وله أيضاً صلوات الله عليه (( منتزع من سياسة النفس ))(3) وهو الذي أوله: أصل خشية الله العلم، ثُمَّ قال في فصل منه رضي الله عنه.
بسم الله الرحمن الرحيم
قال الإمام الهادي إلى الحق يحيى بن الحسين بن رسول الله صلى الله عليه:
اعلم أن أربعاً هي موجودة في كتاب الله عز وجل، وهي فرض من الله على عباده، بها يصلح الإيمان، وبها يبلغ شرف الدنيا والآخرة، وهي أصول الطاعات وفروعها، مأمور بها المؤمنون والمؤمنات جميعاً، ولا ينفع عباده إلاَّ بمعرفتها والعمل بها، فإذا ألزمها العبد نفسه أدته إلى درجة الصديقين، وسبيل المحسنين إن شاء الله.
أولها: معرفة الله جل ثناؤه. والثانية: معرفة عدو الله. والثالثة: معرفتك بنفسك. والرابعة: معرفتك العمل.
__________
(1) في (أ، ب): وثمرتها.
(2) في (ب): تم والحمدلله وحده، وصلى اللّه على سيدنا محمد وآله وسلم.
(3) هذه الرسالة اختصت بها النسخة (أ)، ولذلك لم يمكن تصحيحها وفيها عبارات مطموسة وغير متسقة المعنى وعبارات غير متضحة.

(2/429)


فمعرفتك الله عز وجل؛ فهو: أن تُعلِّم نفسك علم قربه منك، وقدرته لديك وقيامه عليك، ومشاهدته لك وعلمه بك، وأنه قريب حفيظ محيط، واحد أحد ليس كمثله شيء، لا شريك له في ملكه، وأن ما وعد به حق صدق، وأنه فيما ضمن به ودعا إليه وندب إليه وفيٌّ، وله وعد هو منجزه، ووعيد هو منفذه، ومقام للعبد منه يصير إليه، ومصدر يصدر عنه، وعذاب ليس له مثل، وثواب ليس له خلف، وأنه بر رحيم، ودود مجيب، قضَّاءٌ للحوايج، كل يوم هو في شأن، يعلم الخفاء وفوق الخفاء ودون الخفاء، والضمير والخطرة، والوسوسة والهمة والإرادة، والحركة والطرفة، وما فوق ذلك وما دون ذلك، ولا يوصف ربنا تعالى بصفة، وأنه رازق وهاب تواب، فإذا ألزمت ذلك قلبك باليقين الراسخ والعلم النافذ، وقَدَّرته في كل عضو منك ومفصل، وعرق وعصب، وشعر وبشر ونفس، أن الله جل ثناؤه قائم على ذلك، أحاط به علماً قبل خلقك وبعد ما خلقك، فإذا ثبت ذلك في قلبك، وصح به عزمك وكلفه عقلك، وأنه علم اختيار لا علم اضطرار؛ ثبت منك حينئذ المحاسبة لنفسك، ووصلت إليك المعرفة، وفرغت إلى الله قلبك، وانخشعت له جوارحك، حذراً من سطواته وقدرته، وحياء منه لقربه ومشهده، فلم تسقط منك إرادة، ولم تنزل بك همة، ولا تباعدت منك نية، فصرت القائم للقائم بحقه وتوفيقه لك، وتركك لما كره منك؛ إذعاناً(1) لجلاله، ومشاهدة لعلمه، ولا تكون منك همة ولا خطرة، ولا إرادة ولا وسوسة، ولا حركة ولا سكون ظاهرة ولا باطنة، ولا لحظة ولا لفظة، ولا شيء ظاهر ولا باطن إلاَّ وربك جل ثناؤه عند ذلك وعلى ذلك شاهد خبير، وأنه قائم عالم بذلك منك قبل كونه، وعند بدء إرادتك له وفعلك بجوارحك، فأنت (2) بتوفيقه العالم الورع التقي له.
__________
(1) في الأصل مطموسة، وقد أثبتها على الظن.
(2) مطموسة وقد أثبتها على الظن.

(2/430)


ثُمَّ بعد ذلك معرفة عدو الله وعدوك إبليس، [الذي] أمرك الله بمحاربته وعداوته، ومجاهدته في السر والعلانية، لعلمك أنَّه قد عادى الله في عبده آدم صلى الله عليه، وضاره في ذريته، تنام ولا ينام، وتغفل ولا يغفل، دائباً في عطبك وهلاكك، في يقظتك ونومك، لا يألو بكل حيله وخدعه ومكائده في طاعتك ومعصيتك، ومالا يجهله كثير من الناس العابدين ليساوي بين العابد والفاجر.
واعلم أن ليس له همة(1) ولا مراده فيك قليل، إنَّما يريد أن يزيلك عن عظيم ثواب الله مع علمه بذلك، ويوردك معه حيث يرد حسداً ليشمت بك.
فإذا عرفته بهذه الصفة والمنزلة، لزم قلبك معرفته بلا غفلة ولا سهو، وحاربته حينئذ بعون الله وتوفيقه بأشد المحاربة، فلا تترك المجاهدة سراً وعلانية، ولا تفرط في ذلك ولا تغفل حتى تبذل مجهودك، فإذا لم تبق غاية منك إلاَّ بذلتها؛ قصدت إلى ربك عز وجل بعذرك، بالبكاء والتضرع والإستكانة، جاهداً في ليلك ونهارك حتى يعينك عليه؛ وأنت بمنظر يراك وأنت تجاهد فيه من أمرك بجهاده، وتصل(2) مكايدته عندك بمعرفته، ألم يعرفك ذلك مولاك أنَّه عدو لك ولأوليائه وأصفيائه؟ فبلغ من غضبه عليك وأنت تكيده لغيرك، وتدل على محاربته ومكائده، وتحذر منه وتدل على عوراته؛ من ضعف علمه وتكيده وغروره؛ لتجاهد وتعلم ما يدلس على العمال والمريدين؛ إذا أنس منهم بالمعرفة فيه بعداوة الله وعداوة المؤمنين. فإذا كنت كذلك فقد وهب الله لك سلوك طريقين عظيمين سديدين، ومن سلك هذه المنزلة فليحذر، وليجتهد عن ذلك أشد الحذر.
وعليك بالحفظ لما أعطيت والتيقظ، وترك الغفلة، لا تزل زلة، ولا تغفل غفلة، فيظفر بك وهو شديد الغضب عليك، لما علم من علمك بمكانه، وطلبتك لمعصيته وغضبه عليك وتنقصك منه؛ فيرميك رمية لا تقوم من صرعتك، ولا تفيق من سكرتك، واحذره أشد ما ترجو أو تأمل إن شاء الله.
__________
(1) كذا في الأصل.
(2) كذا ولعلها: وتبطل.

(2/431)


واعلم أنَّه ليس لك فرج منه ولا من مجاهدته إلاَّ مفارقة روحك من جسدك فاحذره، فإنه ليس إلاَّ أن تغتر فتهلك، أو تستقيم فتنجو.
وأما معرفتك بنفسك فتضعها حيث وضعها الله، وتقوم عليها بأحسن الرعاية والأدب كما أمرك الله؛ فحينئذ تعرف أي شيء هي؟ وما صفتها؟ وكيف حالها؟ وما طباعها؟ وإلام تأمر؟ وإلامَ تدعو؟ وكيف خلقها؟ وأنها ضعيفة في بنيتها، طمعة شرهة آمنة، مدعية للخوف والرجاء، أماني منها وغرور، صدقها كذب، ودعواها باطل، وكل شيء منها غرور، وليس لها تحقيق، وعلمها ظن، إن حللت عنانها شردت، وإن اطلقت وثاقها جمحت، وإن أعطيتها ما تريد هلكت، وإن غفلت عن محاسبتها والقيام عليها أدبرت، وإن تركتها تولت، ليس لها حقائق ولا مرجوع(1)، هي رأس القبائح، ومعدن الفضائح، وخزانة إبليس وكره(2)، إليها يأوي ويطمئن ويهلك ويوسوس، وهي بالصفة التي وصفها الله لرسوله صلى الله عليه وأهل خيرته وحجته على خلقه في قصة يوسف صلى الله عليه: {وَمَا أُبرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلاَّ مَا رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِي غَفُورٌ رَحِيْمٌ} [يوسف: 53] وكذلك أنت في ضعفك ووهى علمك.
واعلم أن كل شيء تظهر من الخوف فهو أمن، وكل ما ادعت من الصدق فهو كذب، وكل ما ادعت من الإخلاص فهو رياء لا حقيقة له، وعند الإمتحان ترجع عن دعواها، فأي بلاء أعظم من بلائها وما يحل بها وفيها؟ فإذا عرفت صفتها بحقيقتها ومعك في ذلك صدق دوام الإلتجاء إلى الله والفزع إليه منها؛ لم تضعف عنها، وهان عليك أمرها بعون الله وتوفيقه، وقواك الله عليها ما دمت ناظراً إليه وفزعاً منه إليه، فإذا اجتمعت فيك هذه الخصال فأنت بإذن الله عارف عالم.
__________
(1) كذا في الأصل.
(2) كذا في الأصل. ولعلها: ووكره.

(2/432)


وبقيت الخصلة التي يتم بها خلقك، وتعلو بها حكمتك: أن تعرف العمل، ومعرفة العمل أن الله تبارك وتعالى أمرك بأمر ونهاك عن نهي، فالأمر الذي أمرك به هو الطاعة، والنهي الذي نهاك عنه هو المعصية، وأنه تبارك وتعالى نهاك عما شاهدته، وأمرك بطلب ما غاب عنك(1)، وضمن لك من رزقك في دنياك بما يفنى، وأمرك بطلب ما يبقى مما غاب عنك، فعظم عند ذلك الإمتحان، فقبلت عقول العاملين لله هذه المحنة، فعظم عند ذلك الهم والخطر، ودوام الفكرة والحذر.
فانظر أن لا تكون ممن ترك المعاصي الظاهرة ولزم المعاصي الباطنة، وإياك والخدع فلا تحمدن نفسك فيما تظهر من الطاعة والنية والإرادة بشيء ليس ذلك معك؛ فتكون طاعتك معاصي، فيحل بك العقاب مع تعب البدن وكثرة المرزية، ولا تزين طاعتك بالذكر لطاعتك، وشد نيتك بالورع، واحفظ إرادتك بالمجاهدة، وليكن همك طيب النية، كما يهمك العمل في كل أحوالك، حتى تثبت معرفة ذلك عندك إن كنت تريد تعنى لها(2) وتريد نجاتها.
__________
(1) يريد والله أعلم أنَّه نهاك عن الدنيا وأمرك بطلب الآخرة وما فيها.
(2) كذا في الأصل.

(2/433)


فإذا فتشت نفسك وجدتها تتكلم بكلام الخائفين مالم تقع في الخوف وتضطر إليه، وتقول قول الأبرار مالم تمتحن بالفتن، وتصف وصف الصادقين مالم تحتج(1) إلى الغاية، وتدعي دعوى الموقنين مالم تمتحن بالإخلاص، وتقول إنها من المتواضعين مالم يحل بها خلاف الهوى عند تهيج الغضب. فأنت تتوهم عند وصفها الصدق وإثبات الحق وحلاوة المنطق بالإخلاص والدعوى أنها كذلك؛ فإذا امتحنت في المواطن عند حقائق الأمور مع محاسن الوصف منك وجدتك مرائياً؛ فإذا أنت قد بلوت كل خلق وَصَفَتْه وادَّعَتْه، فإذا محضتها الحقيقة ظهر لله منها في تلك المواطن خلاف دعواها. فإن لم تكن في موضع الحق والإمتحان والإخلاص فعليك أن تنظر ما الآفة إذا كانت تحسن وصف الحق والصدق هل يوجد لذلك عند الإمتحان حقيقة؟ فإذا ابتليت بذلك، وفتشت عنه نفسك، رجعت ملتمساً لفساد عملك، فصح عندك بالعلم والبيان أنَّه من سقم قلبك، فصحح من قلبك الإرادة والنية في الصدق، ليوافق الوصف بلسانك حقيقتك، لا لتزين به بين المخلوقين فتعظم لذلك المعصية منك، فتغلط(2) الرجوع في توبتك، والويل العظيم من الله إن هجم عليك أجلك وهذه حالك، فعند ذلك فأطل الفكر، وصحح النظر، واستعن بالعلم، واسترشد العقل، وعليك بالإستعانة بالله، وصحح الضمير بالصدق لتقع على العلة التي فرقت بين محاسن الوصف منك وقبيح الْخُبْر عند الإمتحان، ثُمَّ تدبر ما قد أظهره لسانك وكان قلبك(3) إذا وجدته يصف الحق والصدق فقضيت له وهو على خلاف ذلك عند حقائق الأمور.
__________
(1) في الأصل مهملة ولم يتضح لي معناها.
(2) كذا في الأصل.
(3) كذا في الأصل.

(2/434)


فإذا استرشدت العقل والعلم دلاك على أن النفس هو المختارة لهواها(1)، إذ كان ذلك يقيم لها خلقها عند المخلوقين المحققين ليعرفوا ضبطها ووزنها للكلام وحفظها للسان، فإذا حضر الإمتحان قَدَّمَتْ الهوى وأخَّرَت العلم والبيان، فقطعت بالهوى، وعملت في جميع الأمور بهواها، فقد دَلَّك العقل والعلم عند ذلك على الرياء والتصنع، وأكثر ذلك يخفى على المدعين لمعرفة أنفسهم، فما ظنك بأهل الجهل وقلة العلم.
وإنما يصح على ما وصفت عند العالم بنفسه عند حقائق الإمتحان(2)، فلا تغتر بمحاسن الوصف منها وحلاوة المنطق وإصابة الحق، وهي عند الإمتحان تجعل ذلك حجة عليك، وتصيره إلى الهوى، فلا تغتر بإظهار الخوف والرضى والصدق والتوكل بالوصف؛ وهي إن عارضها خوف الفقر قبل حلوله أيست وقنطت، وتدعي الصبر فإذا نزل بها بلاء سخطت، ولا تغتر بما تظهر من التواضع والحلم فإذا افتاقت إلى ذلك تسافهت(3) وإن هي مدحت بباطل يوافق هواها فرحت، فلا تعبأ بظاهر الأعمال فإنها غرور، ولا تغتر في مبادرتها في البر واصطناع المعروف فإن لم تشكر ذلك لها وتثن به عليها غضبت، فإن لم تظهر الغضب أضمرته، فاحذرها فإنها تقطع(4) بك في مواطن الحاجة في كل وجه، وأن تجنح(5) إلى إخلاصها وصدقها وخوفها فقد تظهر لك خلاف ما ادعته، وإنما رضيت بعد الشكر لما وافق هواها، ودب في تعظيمها، فلا تغتر بما ظهر منها في جميع الأمور، وتدبر منها سوء الضمير.
__________
(1) كذا في الأصل ولعلها: هي.
(2) كذا في الأصل.
(3) كذا في الأصل ولم أهتد إلى معناها.
(4) كذا في الأصل، ولعلها: تنقطع.
(5) كذا في الأصل ولعلها عطف على فاحذر، أي واحذر أن تجنح..

(2/435)


واعلم أنَّه إنَّما يستخرج ما حسن(1) في القلب من الصدق والكذب عند الإمتحان، وعند فضائح ضمائر الأنفس، فزن ذلك بالعلم والتيقظ في مواطن الإمتحان، وعليك بدوام الإستعانة بالله، وإياه فاسأل العفو عن الذنوب، وبه فتعوذ من الخذلان.
قال في الام المنقول عنها ما لفظه:
تم ما وجد من ذلك والحمدلله أولاً وآخراً وباطناً وظاهراً وصلى الله على محمد وآله وسلم تسليماً وكان الفراغ من ذلك بعد صلاة العصر يوم الأحد السابع والعشرين من شهر جمادى الأخرى من شهور سنة ثمان وأربعين وستمائه سنة هجريه، وصاحبه وكاتبه يسألان الله المغفرة والرضوان لهما ولمن قرأ فيه وتدبر معانيه وصلى الله على سيدنا محمد وآله وسلامه.
رسائل وكتب
في
مواضيع متفرقة
جواب مسائل أبي القاسم الرازي (2)
m
قال الهادي إلى الحق يحيى بن الحسين بن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم:
[الفرق بين عقل النبي (ص) وعقل أبي جهل]
سألت يا أبا القاسم أكرمك الله بكرامته، وأتم مابك من نعمته، وجعلك ممن اهتدى؛ فزاده نوراً وهدى، فجمع لك بذلك خير الآخرة والدنيا، فقلت: أخبرني عن عقل رسول الله صلى الله عليه وعلى آله، هل كان مثل عقل أبي جهل؟
الجواب في ذلك: إن كنت تريد بقولك: هل هو مثله، أي هل يعمل عقله إذا استعمله، كعمل غيره فيما جعل له، وركب عليه؟ أو هل يستدرك به، أداء فرض الله الذي افترضه عليه، وينال به بلوغ ما أوجب الله عليه؛ من تمييز الأمور، وفهم واجب الفرائض؟ وهل يستدرك به معرفة الخالق بما يرى من أثر صنعه، وينال به التمييز بين طاعته ومعصيته، فيكون بذلك بالغاً ـ من آداء حجج الله، واستدراك الدليل على الله ـ كما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يستدرك بأصل حجة عقله، من أداء فرضه؟
__________
(1) كذا، ولعلها ما اجتن في القلب.
(2) لم أقف له على ترجمة ولاذكره في سيرة الإمام الهادي عليه السلام.

(2/436)


فكذلك نقول: إن أبا جهل قد كان يستدرك وينال بأقل قليل عقله؛ أكثر مما افترض عليه من دينه، وفوق ما يحتاج إليه من الدلائل(1) على معرفة ربه، فقد كان فيما أعطاه الله من أصل الحجة، وثبَّت فيه من العقل لأداء الفريضة، وفي الاستدلال ـ إن استعمل عقله ـ بالغاً بعقله ما كان يبلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ بما أعطي من مبتدأ حجة العقل؛ من المعرفة بأداء فرض الله، والوقوف على دين الله، الذي لم يرض من العباد إلاَّ بأدائه.
ولولا أنَّه قد ساوى بينهم فيما ينالون به معرفة ما افترضه عليهم، وأداء حججه التي احتج بها عليهم؛ ما كانت تجب له عليهم حجة، ولكن اللّه عز وجل أعطى كلاً ما ينالون به أداء حججه، فساوى بينهم في إقامة الحجة عليهم، وإثبات البراهين في صدورهم، بما يبلغون به فرضه، وينالون به معرفته.
فإن كنت أردت هذا المعنى؛ فقد ساوى الله بين الخلق كلهم فيما يكون به بلوغ حجته، وتمام منته، ونهاية أداء فرضه؛ من العقول المركبة في صدورهم، الثابتة في قلوبهم، وأثبت بذلك عليهم كلهم حجته؛ لأن العقول المركبة فيهم ـ من هذه الحجج اللازمة لهم ـ من فعل الله لا من فعلهم، ومن صنع الله عزَّ وجل لا من صنعهم، وتدبيره جل جلاله لا من تدبيرهم.
فمبتدأ ما أعطاهم الله من حججه منه لا منهم.
فلما أن صح أن هذه العقول المركبة في الخلق فعل الله؛ كان فعل الله في ذلك مشتبهاً، وكان تدبيره في إثبات الحجج عليهم متساوياً، فاشتبهت وتساوت حجج الله على خلقه، التي ركبها في صدور عباده؛ بعدله فيهم، وإحسانه إليهم في مبتدأ أمرهم، كما استوت عليهم فروضه، ووجبت عليهم شرائعه، ولزمتهم بها عبادته.
__________
(1) في (ب): الدلالة.

(2/437)


فكان أصول ما أعطاهم من حججه فيهم سواء، كماكانت فروضه عليهم كلهم سواء، فتساوى المعنيان من الله في ذلك: معنى الفرض، والمعنى الذي يُنَال به الفرض، فكانت فرائض الله على عباده كلهم سواء، وجاء ما تعبدهم به منها سواء على المساواة والإستواء. وكذلك جاءت أصول ما أعطاهم الله من حجة العقل التي ينالون بها أداء هذه الفرائض(1) على قياس ذلك سواء، فاستوت المفروضات عليهم، والحجة التي ينالون أداءها بها فيهم.
فساوى الله سبحانه بينهم؛ في إثبات الحجة عليهم، وإكمال البراهين فيهم، وإيجاد السبيل لكلهم إلى أداء فرضه، وبلوغ طاعته، فكان ما أعطوا من أصل حجة العقل في ذلك بينهم سواء، كما كان الفرض عليهم كلهم سواء.
ثم فضل الله تبارك وتعالى من شاء بعد المساواة بينهم والاكتفاء بما يشاء بعد ذلك من الأشياء، فلم يكن لعباد الله حجة على الله، كما لم يكن لهم حجة فيا خلق وجعل، وفطر من الأشياء وفعل من جَعْلِهِ لبعضهم أهل جمال وهيئة، وجلد وهيبة، وجعل بعضهم أهل لطافة وذمامة، وأهل قلة وسماجة.
فمن تكلم فيما فضل الله به بعض الخلق على بعض في زيادات العقل، وجب عليه أن يجيب فيما فضل الله به بعضهم على بعض فيما ذكرنا من زيادة الخلق، في حسن الألوان، وعظم الأبدان، والكمال والبيان، لا يجد من ذلك بداً؛ لأن المعنى فيهما واحد مؤتلف، متساو غير مختلف. وليس في ذلك للخلق على الله حجة، ولا يلحق به سبحانه لمتعنت تجوير ولا ظلم، ولايثبت به عليه حيف ولا غشم؛ لأنَّه حكيم يُمضي ما كان فيه الحكمة على كره من كرهه(2)، وإرادة من أراده؛ لأن الحكمة هي رأس الحق وأصله، والحق فلا يتبع أهواء العباد، ولو اتبعه لفسدت البلاد والعباد، كما قال ذو العزة والأياد، حين يقول: {وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ}[المؤمنون: 71].
__________
(1) في (ب): الفروض.
(2) في (ج): من كره وإرادة من أراد.

(2/438)


فإن قال قائل: وما في التفاوت بين خلقه في الخلق والأجسام والألوان من الحكمة؟
قيل له: في ذلك أحكم الحكمة؛ لما فيه من الدليل على صانعه، والشهادة على جاعله، والنطق بوحدانية فاعله، وحكمة مدبره؛ لأنَّه لما أن تصرفت خلقهم، واختلفت ألوانهم، وتباينت صورهم، دل ذلك من حالهم على جاعلهم، وشهدت بذلك حالهم على وحدانية فاعلهم، وبعده من شبههم، واقتداره على فطرهم، ونفاذ إرادته في تأليفهم. فصح له بذلك عند خلقه القدرة، وثبتت له الوحدانية، وصحت له دون غيره الربوبية.
فهذا باب الحكمة وتفسيرها، وشرح أمرها وتثبيتها؛ في ظهور ما أظهر الحكيم من خلقه، وتفضيل ما فضل في الألوان والأجسام، وما له كانت الأمور من الله سبحانه كذلك، وأتى تدبيره جل جلاله على ذلك. وفي ذلك من قولنا، وما يشهد لنا عليه كتاب ربنا؛ ما يقول الرحمن؛ فيما نزل من النور والبرهان: {وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِلْعَالَمِينَ}[الروم: 22]. فافهم ما به قلنا: من تسوية الله سبحانه بين عباده، فيما أعطاهم من أصول حججه المركبة في صدورهم، كما ساوى بينهم فيما ألزمهم من أداء فرضه، وما به قلنا في الزيادة من الله سبحانه في ذلك لمن شاء من خلقه.
وإن كنت تريد بقولك: هل كان عقل رسول الله صلى الله عليه وسلم مثل عقل أبي جهل: أنَّه مثله في المساواة والموازنة والكمال والإستواء، وموآد زيادات الله له في الهدى والعطا والتفضيل في كل الأشياء، والزيادة في الفهم، وجودة التمييز؛ فلا ولا كرامة لأبي جهل، لا يكون عقله في ذلك كعقل الرسول صلى الله عليه وآله وسلم؛ لأن مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من الزيادات والتفضيلات، والخصائص والكرامات، والتوفيق والتسديد، ما لا يكون مع أحد؛ وذلك لكرامة الله لنبيه، واستحقاق نبيه لذلك من الله بفعله، صلى الله عليه وآله.

(2/439)


فلما أن فعل ما ارتضاه الله منه؛ من إخلاص النية، وجودة البصيرة، استحق من الله الزيادة.
فكانت زيادات اللّه وعطاؤه لنبيه على صنفين: فصنف(1) ابتدأه بما ابتدأ؛ لما قد علم من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من الإستواء، وأحاط به علمه قبل خلقه للدنيا؛ من إيثار محمد صلى الله عليه وآله له على غيره، وإخلاصه له في جميع أموره، وأنه يكون على الإستواء، وعلى الغاية(2) في الانتهاء اختياراً منه لذلك، وأثرة منه لربه، من غير جبر من الله له، ولا إدخال له قسراً في طاعته، بل يكون ذلك منه اختياراً، وأثرة لله لا اضطراراً.
فلما علم الله منه ذلك، وأنه يكون في جميع الأمور كذلك؛ ابتدأه بالكرامة على ما قد علم من غاية(3) فعله، وصيرورة أمره، فابتدأه بما هو أهل، من غير عمل كان منه لربه، ولا جبر من ربه على شيء تقدم من فعله، بل على ما قد علم من صيرورة أمره، وما علمه مما سيكون من اجتهاده في طاعة ربه، وتقديمه لإرادته على إرادة نفسه.
والصنف الثاني: فزيادات من الله لنبيه على جزاء فعله، وما ظهر من نصيحته، وبان من اجتهاده في التثبيت لباب اهتدائه، فزاده الله من بعد فعله لذلك تثبيتاً وهدى، وزيادة التقوى، كما قال تعالى: {وَالَّذِينَ اهْتَدَوا زَادَهُمْ هُدَى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ}[محمد: 17]. فكان اهتداء رسول الله صلى الله عليه وسلم أعظم الإهتداء، وتقواه أكبر التقوى؛ فكانت زيادة الله له أعظم من كل زيادة، وهدايته له أكبر من كل هداية. فكانت هذه زيادة من الله على طريق المجازاة للنبي علىفعله، وكانت الزيادة الأولة منه لما قد علم من صيرورة أمره.
فاجتمعت لرسول الله صلى الله عليه ثلاث خصال:
__________
(1) في (ج): صنف.
(2) في (ب): إلقائه. وهو تصحيف.
(3) في (ب): عناية.

(2/440)


ابتداء الله لاعطائه ما أعطاه من حجة العقل؛ التي ساوى بين العباد فيها في الإبتداء؛ لتقوم له بذلك عليهم الحجة في بلوغ أداء فرائضه، واستدراك معرفته، والإقرار بوحدانيته. وكرامة الله له، وزيادته في ابتدائه بما ابتدأه به؛ على قدر علمه بصيرورة أمره. واجتهاده في طاعة ربه، واقتدائه فيما أمر بالإقتداء به. وفي ذلك ما يقول الله سبحانه: {وَالَّذِينَ اهْتَدَوا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ}. فكملت له صلى الله عليه وآله وسلم هذه الثلاث الخصال واجتمعت، والتأمت وتمت؛ مع غيرها من توفيق الله لنبيه صلى الله عليه وتسديده، وتأييده ومعونته. فعاد ذلك كله زيادات في عقله، وصار له حبيباً في كل أمره.
فكيف يلحق به أبو جهل اللعين، أو يشابهه أو يساويه في شيء من عطاء رب العالمين، وأبو جهل فلم يستحق من الله زيادة في شيء من أمره؛ لا بنية صالحة نواها، ولا بطاعة لله من ذلك أتاها، فيستحق على نيته ابتداء، وعلى ما ظهر من عمله(1) بالصالحات جزاء؟! ولم(2) يكن معه عليه لعنة الله غير ماكان من ابتداء حجة اللّه (3) المركبة في صدره، المجعولة في قلبه، لتكمل بها عليه الحجة، فترك استعمالها، ورفض النصفة لها، فصار بذلك ظالماً لما في صدره من حجج الله فاستوجب بمكابرته لحجج الله عذاب الله وسخطه، وخذلانه ولعنته، فكابر أبو جهل ما زرع في قلبه، ورفض ما أمر به من أمر ربه؛ فاستأهل من الله جزاء سيِّء فعله، وحاق به كسب عمله، وصار في الضلالة متحيراً، وفي اللعنة من الله متصيراً؛ بما كان (4) له من حجج الله في صدره مكابراً.
__________
(1) في (ب): من علمه، ولعلها تصحيف.
(2) في (أ، ج): فلم.
(3) في (أ): من حجته المركبة.
(4) كذا في النسخ، والصواب: ولما كان.

(2/441)


فلن يستوي حال من كان عندالله مرضياً مهتدياً، وكان له ولياً موالياً؛ وحال من كان مسخوطاً عند الله مجنباً، وله سبحانه عدواً معادياً؛ في كل حال من الحال، وفي كل قول وفعال. لا يستوي ولي الله وعدو الله عند الله في حالة، ولا تتقارب منهما عنده منزلة، لا في ثواب ولا في عطاء، ولا في زيادة ولا في هدى. حال أولياء الله عند الله حال الكرامة والثواب، وحال أعداء الله عند الله حال الخذلان والعقاب. فالحمد لله الذي ميز بين خلقه، وصدقهم في ذلك ما أوجب لهم من وعيده ووعده.
فإن قال قائل: كيف يكون الابتداء من الله على غير عمل ولا جزاء؟‍
قيل له كذلك الله يفعل ما يشاء، ويعطي من يشاء، على ما يعلم منهم من الإهتداء.
فإن قال: أليس بكمال العقل وتمامه تنال فرائض الله، وتبلغ إرادة الله في قولكم ؟ إذ (1) كان قد فضل بعضاً على بعض في الزيادات في العقل؛ الذي ينال به كل فعل؛ ثم كلفهم كلهم ـ بعد أن فضل منهم بالزيادة في العقل من فضل ـ فرضاً واحداً، وألزمهم شرائع سواء، لم يرض من أحد منهم بترك خصلة واحدة من ذلك، ولم يوجب على المفضل بالعقل في الفرض زيادة ركعة واحدة من ذلك، ولا صيام يوم واحد، ولم ينقص عن المنقوص في عقله من ذلك الفرض قليلاً ولا كثيراً؛ فأين النصفة والعدل، مع ما ترون من الفعل؟
__________
(1) كذا في النسخ، ولعل الصواب: وإذا كان، والجواب حينئذ قوله: فأين النصفة.

(2/442)


قيل له: إنك جهلت المعنى؛ فأتى قولك على غير الإستواء. إن الله تبارك وتعالى قد عدل بين خلقه، وساوى بين عباده، فأعطى(1) كلهم من حجج العقل ما بأقل قليله ينالون أداء فرضهم، وتمييز أمورهم، والاستدلال على خالقهم. فساوى بينهم فيما يستدركون به معرفةأمره، ويستدلون به على التمييز بين أموره، ويقفون به على معرفته؛ فلم يوجب على أحد أمراً ولا نهياً، ولم يجعله عنده على شيء معاقباً، إلاَّ وقد أعطاه من حجة العقل ما ينال به ما ينال غيره ممن زاده اللّه بسطة، وآتاه كرامة. فلما أن ساوى بين خلقه في مستدركات حججه، وبالغات معرفة أداء فرضه؛ زاد من شاء من فضله، وأعطاه ما شاء من كرامته؛ من بعد أن قطع عنه حجة غيره؛ بما ركب في صدره، من مؤكَّدات حججه، التي بأقل قليلهن وأصغر صغيرهن يستدرك أكثر مما افترض عليه، وينال فوق ما ألزم، وجعل فيه فرضاً لازماً مؤكداً، وأمراً واجباً مشدداً، فزالت عن الله لهم الحجة، وسقطت عنه سبحانه معاني المظلمة، وثبتت له بذلك معاني الحكمة، وصحت له النصفة، وبان عدله في خلقه؛ بما ساوى بينهم فيه من حجته.
فإن قال قائل: بين لي قولك، واشرح لي لفظك، بحجة يقف عليها عقلي، وتكون ظاهرة في صدري.
قيل له: مَثَلُ زيادة الله لمن شاء من فضله، وتفضيله لمن شاء من عباده؛ على من قد أعطاه أكثر من حاجته، وثبَّت في صدره من وافر حجته؛ ما بأقل قليله يؤدي إليه ما ألزمه من فرضه؛ مَثَلُ رجل له غلامان؛ فدفع إلى أحدهما شمعة كبيرة متوقدة، ودفع إلى الآخر شمعتين؛ ثم قال لهما: يحرق كل واحد منكما بيتاً من حشيش بما معه من النار.
فإن قال صاحب الشمعة: اعطيتني شمعة واحدة، وأعطيت صاحبي شمعتين، ثم ساويت بيننا في إحراق الحشيش؛ فقد ظلمتني في ذلك وَجُرتَ علي؛ إذ كلفتني مثل ما كلفت صاحبي، وقد زدته شمعة على شمعتي.
__________
(1) في (ب): فأعطاهم.

(2/443)


هل ترى أيها السائل هذا القائل صاحب الشمعة الواحدة صادقاً في قوله، أو مصيباً في لفظه؟ أو ترى له حجة على سيده، وقد أعطاه من النار ما بأقل قليله يحرق بيوتاً كثيرة؟
فإن قال: قد كان العبد في ذلك مصيباً، وبالحق محتجاً، والسيد له ظالم، وفي تكليفه له غاشم؛ حين كلفه من الإحراق مثل ما كلف صاحبه، وقد أعطى صاحبه شمعتين، وأعطاه شمعة واحدة، كان في قوله ذلك محيلاً، وعن الصواب عادلاً، ولم يقل من ذلك حقاً؛ لأن قليل النار يأتي من إحراق الحشيش على ما يأتي عليه كثيرها، ويتفرع منها من الإلتهاب عند إحتراق الحشيش ما لا يكون لصاحب ثنتين ولا ثلاث ولا أربع فضل في عمله على صاحب الشمعة الواحدة وفعله، وكل ينال بما أعطي، أكثر مما كلف وأعطي.
وإن قال: لا أرى لصاحب الشمعة الواحدة على سيده حجة؛ في دفعه إلى صاحبه شمعتين؛ لأن المكلَّف(1) الذي كلفهما إياه ينال بأقل من واحدة، فلذلك قلنا: إنَّه لا حجة لصاحب الواحدة على سيده، وصاحب الواحدة ظالم لسيده، غير محتج بحق على مالكه؛ لأنَّه قد ساوى بينه وبين صاحب الثنتين فيما دفع إليه من النار، التي بأقل قليلها ينال من إحراق بيوت كثيرة ما ينال صاحب الثنتين والثلاث والأربع لو كان.
فإذا قال بالحق، ورجع إلى الصدق؛ قيل له عند إقراره بذلك، ومعرفته بالأمر إذ كان كذلك: قد أصبت المعنى، وقلت بالحق وثبت على الإستواء، وثبت لك بذلك، ما أحببت معرفته من عدل الله سبحانه في ذلك وحكمته، ولطيف صنعه وقدرته.
__________
(1) في (ج): أي المكلف به.

(2/444)


فعلى هذا المثال، يخرج معنى ما تقدم منا(1) من المقال، فيما أعطى الله العباد من حجة عقولهم، وساوى بينهم فيما ركب من ذلك في صدورهم، فجعل كل من(2) لزمه عقاب على فعله، أو ثواب على عمله، في حجة العقل سواء، فكل قد ركب فيه ما بأقل قليله يَنَال به أكثر مما افترض الله عليه، ويستدل به على حاجته منه وفيه، ويميز فيه بين أعماله، ويهتدي به إلى فواضل أفعاله، ويصل به إلى الاختيار في الحالين، والتمييز يبن العملين، وسلوك ما يشاء(3) من النجدين، {لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَا مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اَللَّهَ لَسِمِيْعٌ عَلِيْمٌ}[الأنفال42].
فلم يكن لمن أُعْطِي من حجة العقل ما ذكرنا على الله سبحانه حجة في شيء من أموره، ولا سبب من أسبابه، بما فضل به عليه غيره من بعد المساوة فما يحتاج إليه، كما لم يكن لصاحب الشمعة الواحدة على سيده في إحراق ما أمره بإحراقه حجة باعطائه لصاحبه شمعتين؛ إذ المعنى في ذلك واحد في الواحدة والثنتين، والدرك بالجزء الواحد لما أمر به من النار في إحراق الحشيش كالدرك بالجزأين.
فهذا معنى ما عنه سألت، فافهم الجواب في ذلك إن شاء الله، والحمد لله وصلواته على محمد وآله وسلم.
[كيف يأخذ جبريل الوحي عن الله]
وسألت أكرمك الله وحفظك، وأعانك على طاعته ووفقك، فقلت: كيف يأخذ جبريل عليه السلام الوحي عن الله، وكيف يعلمه؟ وكيف السبيل فيه من الله حتى يفهمه؟
واعلم هداك الله أن القول فيه عندنا: كما قد روي عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، أنَّه سأل جبريل عن ذلك، فقال: (( أخذه من ملك فوقي، ويأخذه من ملك فوقه، فقال: كيف يأخذه ذلك الملك ويعلمه؟ فقال جبريل: يلقى في قلبه إلقاء، ويلهمه الله إياه إلهاماً.
__________
(1) في (أ): يخرج معنى ما يخرج منا.
(2) في (ب): كلما.
(3) في (ج): ما شاء.

(2/445)


وكذلك هو عندنا أنَّه يلهمه الملك الأعلى إلهاماً، فيكون ذلك الالهام من الله إليه وحياً، كما ألهم تبارك وتعالى النحل ما تحتاج إليه، وعرَّفها سبلها حين كان منها في ذلك من بناء شهودها(1)، وتسوية ما تسوي لأولادها، وما تجتنيه(2) من الأشجار مما تعلم أن فيه الشراب الذي ذكر الله أنَّه شفاء، سماه الله سبحانه شفاء للناس، من العسل الذي يخرج من أجوافها، فقال تبارك وتعالى: {وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتاً وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ * ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلاً يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِهَا شَرَابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيْهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ}[النحل: 68 ـ 69].
فكما جاز أن يُلهم النحلَ ما تحتاج إليه فتفهمه، حين فهمت الأشجار؛ وميزت الثمار فعرفت ما يخرج منه العسل فقصدته، وعرفت ما لا عسل فيه فتركته، مع عجائب كثيرة من أمرها، ودلائل على أثر الصنع في فعلها، يستدل به من جعل له لبٌ، ويعرف أثر صنع الله فيه من كان له قلبٌ.
فكذلك فعل الله في المَلَكِ يُلهمه ما أراد الهاماً، ويلقيه في فهمه إلقاءً، فيكون فعل الله في ذلك منيراً ساطعاً، عند كل من كان ذا عقل نافع، لا يمتنع من قبوله عقل عاقل، ولا يكون عندكل ذي تمييز بحائل.
فإذا ألهمه الله ما أراد سبحانه، ثبت في قلبه بغاية الثبات، كلما(3) وقع من ربه في الحالات، أثبت وأوضح في قلبه من كلام لوسمعه من غيره؛ لأن هذا الإلهام من الله فعل مفعول في الملهَم، وما كان من فعل الله وإلقائه إلى عبده، فهو أثبت وأوضح من إلقاء مخلوق إلى مخلوق مثله.
__________
(1) كذا في (ج). وفي هامشه: بيوتها.
(2) في (ب) و (ج): وما تحتاج .
(3) كذا في النسخ، والمعنى أن الكلام الملهم أثبت وأوضح من الكلام المسموع.

(2/446)


فهذا معنى ما ماعنه سألت من وصول حكم الله ووحيه، إلى المؤدِّي عنه من ملائكته، ما أراد وشاء من فرضه.
فاعمل فكرك في تدبيره، يوصلك ذلك إن شاء الله إلى فهمه، ويوردك إلى ما أردت من علمه.
[كيف يحاسب الله عباده وما معنى الحساب]
وسألت: كيف يحاسب الله العباد يوم القيامة؟ وما معنى الحساب في يوم المعاد؟
والقول في ذلك: أن الله ذا الجلال والإحسان، قد جعل مع كل إنسان؛ ملكين في كل حال، عن اليمين وعن الشمال، يحفظان عليه فعله، ويحصيان عمله، و يكونان شاهدين عليه بكسبه، محصيين مايكون من صنعه، فإذا كان يوم القيامة، ويوم الحسرة(1) والندامة؛ أتى به ملكاه إلى من أمره الله من الملائكة بمحاسبة العباد ـ ومحاسبتهم فتوقيفهم على أفعالهم، وتعريفهم ما كان من أعمالهم ـ ثم شهد(2) حافظاه عليه، ووقَفَّاه على ما كان من أمره، وبكَّتاه بمعاصيه لربه، ووقفَّاه على جرأته على خالقه، فلم يَذَرَا مما تقدم منه شيئاً؛ إلاَّ أو قفاه عليه حرفاً حرفاً.
فهذا معنى محاسبة الرب لعباده.
قال قلت: فما معنى ذلك؛ إذ كان العقاب لا زماً على المعاقبين، والثواب واجباً للمثابين؟‍!
قيل لك: لأن في تعريف المعاقب ما تقدم من عمله(3) وتوقيفه على ما أتى به من عمله؛ حسرة عليه في يوم الدين أيما حسرة، وفي تحسره جزء عظيم من عذابه. فكان توقيفه سبباً لتحسره وغمه، وكان تحسره وغمه زيادة في عذابه وخزيه.
وكذلك معنى توقيف الله للصالحين على فعلهم، وإعلام حفظتهم لهم بما حفظوا عليهم من عملهم. فكان ذلك سروراً للمؤمنين، وإيقاناً من المتقين بنجاح فعلهم، وحسن موقعه عند ربهم، وبشارة سابقة إليهم من الرحمن، بما أعد لهم من الجزاء والخير والإحسان، وكان ذلك زيادة من الله في ثوابهم، وبشارة سيقت إليهم في يوم معادهم.
فهذا معنى ما عنه سألت من الحساب ومعناه، وما أراد الله بذلك وشاءه.
__________
(1) في (ب): ويوم الحشر.
(2) في (ج): ويشهد.
(3) في (ب): من ذنبه.

(2/447)


[ما هو يوم القيامة وما معنى القيامة]
وسألت فقلت: ما يوم القيامة؟ وأي شيء معنى القيامة؟
القول في ذلك: أن يوم القيامة يوم جعله الله تبارك وتعلى وقتاً لحشره، وحينا لبعثه ونشره، أبان فيه وعيده ووعده، وأبان فيه ما حتم به من حكمه، أنصف فيه المظلوم، وأظهر فيه الحق المعلوم، فأوصل وعده إلى أوليائه، ووعيده إلى أعدائه، وأقر كلاً في داره، ليعلم كل (1) صدق قوله، ويرى إنفاذ إرادته {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ * وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ هَلْ تُجْزَونَ إِلاَّ مَاكُنْتُمْ تَعْمَلُونَ}[النمل: 89 ـ 90].
فأما معنى تسمية ذلك اليوم (بالقيامة)، فمعنى القيامة هي: قيامة هذه الأشياء التي ذكرنا، وقيامها فهو: ظهورها، وظهورها فهو: كينونتها. من ذلك ما يقول القائل: قد قامت الحرب بينهم، يقول: لقحت وبانت، وظهرت واستقامت(2). ومن ذلك ما تقول العرب(3): قام السوق، تريد استوى وقام أمره، وحظر ما يطلب به فيه ويُبتغى؛ من البيع والشراء.
فهذا معنى ما أحببت علمه من ذكر الحساب والقيامة. وقلت: هل ما ذكر الله من ذلك، وما شرح(4) في يوم المعاد؛ فعل يكون ظاهراً؟ أو هو مثل ضربه الله للعباد؟ (5)؟
ولن يكون ذلك أبداً مثلاً؛ وفيه وعيد الله ووعده، وثوابه لأوليائه، وعقابه لأعدائه، بل أمر لاحقٌ، وبجميع الناس واقع، وسيعلم الذين ظلموا أيَّ منقلب ينقلبون.
[على من يجب النفير في سبيل الله]
وسألت فقلت: مَن يجب عليه النفير في سبيل الله؟
__________
(1) في (أ) و(ب): كلا.
(2) في (ب): واستفاضت.
(3) في (أ): ما يقول القائل.
(4) في (أ): من يوم.
(5) في (ب): للعبد.

(2/448)


واعلم هداك الله أن النفير والهجرة في سبيل الله واجب على كل من عرفه ممن عدم أربعة أشياء، وكان سالماً منها، وهي: العرج والعمى، والمرض والفقر، فمن لم يكن من أهل هذه الأربعة الأشياء فالهجرة عليه والنفير واجبان، والجهاد والقيام لا زمان، لا يفكه عن فرضهما، ولا يزيحه عن واجب أمرهما؛ إلاَّ القيام بهما والأثرة لهما، أو الكفر بمن افترضهما، كما قال الرحمن الرحيم، فيما نزل من الفرقان(1) الكريم؛ حين يقول تبارك وتعالى: {انْفِرُوا خِفَافاً وَثِقَالاً وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [التوبة: 41] ثم قال سبحانه ـ قطعاً منه لحجج المتعللين، واعذاراً وإنذاراً إلى العالمين، وتبييناً لفرضه الأكبر، وإقامة لدينه الأوفر، وحضاً على ما به قوام الإسلام، وصلاح دين محمد عليه السلام ـ : {قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ} إلى قوله: {فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ واللَّهُ لاَ يَهْدِي القَوْمَ الفَاسِقِينَ}[التوبة: 24] ، فجعل المتخلفين عن جهاد الظالمين، في الحكم عنده سبحانه من الفاسقين.
وما ذكر به من ذلك أولئك، ومن كان من الخلق كذلك؛ فكثير في القرآن، معلوم عند أهل المعرفة والبيان، يطول شرحه لو شرحناه، ويجزي ما ذكرناه عما تركناه.
__________
(1) في (أ) و (ج): القرآن.

(2/449)


وكيف لا يكون من منع الجهاد، وتعلل بالأموال والأولاد(1)، من أشر العباد عند ذي العزة والأياد؛ وقد هتك الدين، وباين رب العالمين، وشرك في دماء المسلمين، وقوى بذلك جميع الفاسقين؟! فكان بخذلانه للدين، وقعوده عن المحقين؛ شريكاً للكافرين، ومعاضداً للفاجرين، إذ كانت ـ بخذلانه ـ نيته وسطوته على المحقين، بتخلف المتخلفين مُظَاهِرَة. فكان محلُّ الخاذل ـ بخذلانه وقعوده عند الله ـ محلَّ المحارب بمحاربته، لا ينفك الخاذل للمؤمنين، من المشاركة للفاسقين، فيما نالوه من المتقين، في حكم أحكم الحاكمين.
فليتق الله ربّه، وليقس بفتره شبره(2)، وليَتْرُك عنه التعلات، وليحذر من الله النقمات، فقد وضح الحق لطالبه، واستنار الرشد لصاحبه. فلا عذر في تخلف المتخلفين، ولا حجة في تأويل المتأولين، ولا بد من النصرة لرب العالمين، أو الكفر بما أنزل على خاتم النبين صلى الله عليه وعلى آله الطيبين وسلم.
[تكليم الله لموسى]
وسألت عن قول الله سبحانه: {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيماً}[النساء: 164] فقلت: كيف كان الكلام من الله عزَّ وجل لموسى عليه السلام؟ وما معنى قوله: {تَكْلِيماً}؟
واعلم هداك الله أن الله تبارك وتعالى لم يوح إلى أحد من الأنبياء إلاَّ على لسان الملك الكريم جبريل عليه السلام، وكذلك إلى موسى صلى الله عليه، فقد كان منه الإيحاء إليه على لسان جبريل حتى كان في هذا الوقت الذي ذكره الله جل جلاله، عن أن يحويه قول أو يناله، فكان من الله إليه(3) ما ذكره الله سبحانه من الكلام له عليه السلام.
__________
(1) يعني جعلهم له علة وعذراً.
(2) الفِتر: ما بين طرف السبابة والإبهام إذا فتحهما.
(3) في (أ): بما ذكره الله، والمعنى، فكان الإيحاء بما ذكره الله.

(2/450)


وكان معنى ذلك أن الله سبحانه خلق له كلاماً في الشجرة سمعه موسى بإذنه، كما كان يسمع ما يأتي به الملك إليه من وحي ربه، فكان فهم موسى ـ وسماعه لذلك الكلام الذي شاء الله إسماعه إياه؛ لما أراد من كرامته واجتبائه ـ كفهمه لما به كان يأتيه جبريل عن الله من وحيه سواء سواءً. فلما أن لم يكن بين الله سبحانه وبين موسى صلى الله عليه ـ لهذا الكلام المخلوق في الشجرة ـ مُؤد يؤديه إليه؛ كما كان يكون فعله في غيره مما ينزله عليه؛ جاز أن يقول: {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيماً}، يريد: أسمع موسى وأبلغه ما كان يريد من الكلام والوحي إسماعاً؛ بلا مؤد لذلك إليه. فَلَمَّا أَنْ لم يكن بين الله وبين موسى مؤد للكلام إلى موسى ـ وكان المتولي لجعل الكلام وفعله، وخلقه على ما سمعه موسى من البيان، والكفاية والتبيان ـ قال الله سبحانه: {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيماً} معنى {تَكْلِيماً}، هو: تأكيد للإخبار منه عزَّ وجل بما كان من عجيب فعله، وعظيم قدرته، وظاهر برهانه، وما ازداد موسى به بصيرة إلى بصيرته؛ من خلقه لكلام ينطق من غير لسان؛ كما ينطق به ذووا اللهوات والأدوات، واللسان والآلات.
فهذا معنى قوله: {تَكْلِيماً}، لا كما يقول به الجاهلون، وينسب إلى الله الضآلون، من تشبيهه لخلقه، ونَسْبِ الكلام إليه على طريق التكلم به؛ كما يعقلون من كلام الآدميين، ويعرفون من كلام المخلوقين، تعالى عن ذلك أرحم الراحمين، وجل أن يكون كذلك ربُ العالمين.
[ما هو معنى الصور وكيف هو]
وسألت عن الصور، فقلت: ما هو؟ وكيف هو؟ وعلى أي صفة هو؟
واعلم رحمك الله أنَّه ليس ثم صور ينفخ فيه كما يقول الجاهلون، ويلفظ به العَمُوْن، وإنما الصور الذي ذكر الرحمن، فيما نزل من واضح النور والبرهان، هو: جَمْيعُ الصوَر، والصور: جمع الصور والعرب(1) تقول: صورة وصورتان وصور، ثم تجمع الصوَر، فيكون جمعها صُوْراً.
فهذا معنى الصور.
__________
(1) في (ج): فالعرب.

(2/451)


ونفخ الله فيها في النفخة الأولى فهو: إفناؤها، وهو نفخه فيها، وهي الأبدان والصور ـ صور المخلوقين(1) وأبدان العالمين ـ لما أراد من هلاكها، وفنائها ودمارها، فواقعها وحل بها من الله سبحانه ما أزالها، وحق(2) بها منه ما أبادها، وواقعها منه ما أتلفها(3)، فصارت بنفخ الله فيها، وما وعدها من الموت والفناء؛ إلى الزوال والإنقضاء.
فهذا معنى ما ذكر الله من النفخة الأولى في الصور المصورة، والأجسام المفتطرة.
ومعنى النفخة الأخرى، فهي: نفخة الله الثانية، في الصور والأبدان المتمزقة البالية؛ لما أراد الله من حيوتها ونشرها، وتجديدها وبعثها من بعد موتها، فكان نَفْخُه بالحياة فيها، نفخة ثانية أخرى بعد النفخة المهلكة الأولى. فكانت النفخة الأولى للهلكة(4) والوفاة، وكانت النفخة الأخرى للنشور والحياة، قال الله تبارك وتعالى: {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ إِلاَّ مَنْ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ}[الزمر: 68]، فأخبر سبحانه أن النفخ على المعنيين، وأن له حالين مختلًفين؛ إذ كان حال الأولى؛ ما أوجبه الله من حال الهلاك والانقضاء، وحال النفخة الأخرى، ما جعل الله فيها وبها من حال الحياة بعد الفناء.
فافهم ما قلنا، واعرف من ذلك ما شرحنا؛ من شرح النفخ ومعناه، وأنه ما واقع الصور أولاً(5) وآخراً من مراد الله وفعله، وما حكم به سبحانه في خلقه.
[ماهي الأرواح ولماذا لا تموت مع الأبدان]
وسألت عن الأرواح فقلت: ما هي، وكيف هي؟ وقلت: كيف يميت الله الجسم ولا يميت الروح والله عدل لا يجور؟!
فكذلك الله سبحانه عدل في فعله، حكيم في صنعه، لا يجور على أحد من خلقه.
__________
(1) في (ج): صور الخلق.
(2) في (أ) و (ج): وحقّها. وأثبت في (ج) ما هنا نخ.
(3) في (ج): ما أتاها.
(4) في (ب):الْمُهْلِكة.
(5) في (ج): الأولى والأخرى من مراد الله.

(2/452)


فأما ما قلت وسألت عنه؛ من صفة الروح وتفسيره؛ فالروح: شيء خلقه الله قواماً للأبدان، وحياة للإنسان، به تعمل الجوارح المجعولات، وتتصرف الاستطاعة المخلوقة، تَعْدَمُ الجوارحُ الاستتِطاعَةَ بعدمه، وتثبت فيها استطاعتها بوجوده، شيء(1) خلقه الله وصوره، وجعله بحكمته وافتطره؛ لحياة(2) الأبدان والأعضاء، ويعيش به ما جعل الله في الأبدان من الأشياء، به تبصر الأعين المبصرة، وبه تسمع الأذان السامعة، وبه تنطق الألسن، ويشم الأنف، وتبطش اليدان، ويُميّز القلب وتمشي الرجلان؛ فجعله قواماً لما حوت الأبدان، ودليلاً على قدرة الرحمن، ضعيف محدود، تضمه الأبدان المؤلفة، وتجمعه الأعضاء المتفرقة، ويحويه الجسم ويَحُدُّه، مخلوق مجعول، وكائن بتدبير الله مفعول.
فهذه صفة الروح، وبيان ما عنه سألت منه وشرحه.
فإن قلت: انعته لي بصفة غير هذه الصفة أقف عليه بها؛ من لون وطول وعرض، وغير ذلك من الصفات.
__________
(1) في (ب): شَيئاً ولا وجه له.
(2) في (ج): بحياة.

(2/453)


قلنا لك وأجبناك: بأن الذي ذكرت محجوبٌ عنا استأثر الله بعلمه، وأَبى أن يُطْلِعَ أحداً على قدرته، فقال لمن سأل نبيه عما سألت من الروح وتقديره، وصفته بغير ما وصفناه : {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي} [الإسراء: 85] فلم يُنَبَّه عليه السلام ولا إياهم(1) من علم الروح وصفته؛ على غير ما ذكرناه من نعته، وقال: {قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي} يقول: من فعل ربي وخلقه، وتدبيره وصنعه(2)، والشاهد له بالحكمة. ولم يصف الروح بغير ما وصفنا، ولم يستدل عليه بغير ما دللنا، ولس في نعت ذلك لأحد حجة، ولا لأحدٍ إلى علم كيفيته حاجة، وليس عزوب علم ذلك على الآدميين؛ إلاَّ كعزوب علم غيره من الأشياء، مثل: معرفة صورة ملك الموت، وصورة مالك خازن النار، وصورة إبليس وجنده، فهم خلق من خلق الله، قد أَطْلَعَ(3) على تكوينهم وتقديرهم، شَكْلَهم ومِثْلَهم؛ من الملائكة والشياطين(4)، وحَجَب علم ما علمته(5) أشكالهم ـ من تصويرهم وتقديرهم ـ عن(6) الآدميين، فليس من الآدمييين خلَقٌ يصف ما ذكرنا بطول ولا عرض، ولا جسم ولا لون. فهؤلاء مخلوقون يَصِفُهُمْ بما ذكرنا شَكْلُهُم، ويَعرف ذلك مِثْلُهُم، قد عجز عن وصفهم الآدميون، وانحسروا عن تحديدهم، وعجزوا عن شرح ألوانهم وهم خلق من خلق الله قد أَظهَرَه، وفعلٌ من فعله قد بيّنه، لم يُحْجَبْ أَمْثَالَهم منه شيئاً، ولم يستر عن أشكالهم منه جزءً، عَجَزَ عقْلُكَ وعقول أشكالك أيها السائل عن صفتهم، وانحسرت ونظراءك عن تحديدهم، وانْقَطَعْتَ وَهُم عن تقديرهم.
__________
(1) في (أ): فلم يعط نبيه عليه السلام.
(2) في (ب): وصنعته.
(3) في (ج): قد اطلع على تكوينهم.
(4) يعني أنه لا يعرف شكل الملائكة والشياطين إلا من كان من جنسهم وشكلهم.
(5) كذا في (ج)، ولعلها: علم ما عليه.
(6) في (ج): عن.

(2/454)


فكيف تريد أن تحيط بصفة ما ستر الله علمه، وتَقف على تحديد ما منع الله الخلق فهمه؟! ولم يبين(1) من علم كيفيته في نفسه قليلاً ولا كثيراً للملائكة المقربين، ولا للأنبياء والمرسلين، ولا لأحد من المخلوقين. فهذا طلب منك للمحال، وجري في ميادين الضلال، وتشبث بفاسد من المقال.
وقد وصفنا لك الروح، وبيناه بالدلائل التي بينه الله لنا بها، وهدانا سبحانه إليها، حتى عرفته(2) بغاية المعرفة المفهومة، واستدللت عليه بأدل الدلائل المعلومة، التي دلتك على تحديده، وأوقفتك على تقديره، وشهدت لك على أثر صنع الله في تدبيره، وأوضحت لك أنَّه فعل من الله مجعول، وأنه مبعض مفعول، تَضُمُّه الأعضاء، وتحوزه الأجزاء، وتحويه الأبدان، بأبين البيان وأنور البرهان.
فميزّ قولنا، وتدبر شرحنا؛ يَبْنِ لكَ أمرك، ويصح لك من ذلك محبوبك.
وقلت: كيف يميت الله البدن ولا يميت الروح؟! وكل سيموت. فأما معنى تأخير الله لإماتة الروح(3)، فإن ذلك بحكمة الله وفضله(4)، وما اراد من الزيادة في كرامة المؤمنين، واراد من الزيادة في عذاب الفاسقين. فجعل الأرواح حية باقية إلى يوم الدين، ليكون روح المؤمن من بعد فنآء بَدنه في البشارات والسرور، والنعيم والحبور، بما يسمع من تبشير الملائكة بالرضى والرضوان، من الواحد ذي الجلال والسلطان، وما أعد له من الخير العظيم، والثواب الجسيم، كل ذلك يتناهى إليه علمه، ويصل به من ربه فهمه، فيكون ذلك زيادة في ثوابه، ومبتدأ ما يريد الله من إكرامه، حتى يكُونُ يومُ القيامة المذكور، ثم ينفخ في الصور النفخة الأولى فيقع بهذا الروح من الموت ما يقع بغيره في ذلك اليوم، فيموت ويفنى، كما فني البدن أَوَّلاً.
__________
(1) في (أ): يتبيِن.
(2) في (ب): عرفناه.
(3) في (ب): معنى خبر الله من إحياء الروح.
(4) في (أ): بحكم الله.

(2/455)


وكذلك تدبير الله في إبقاء روح الكافر بعد هلاك بدنه؛ لما في بقاء روحه عليه من الحسرة والبلاء؛ بما يعاين ويوقن ويبلغه من إخبار الملائكة وذكرها لما أعدَّ الله له من الجحيم، والأغلال، والسعير وشرب الحميم، وما يصير إليه غداً من العذاب الأليم، فروحه في خزي وبلاء، وحسرات تدوم ولا تفنى، وحلول العويل به والشقا، فيكون ذلك زيادة في عذابه وبلائه، ومُقَدَمة لما أراد الله من إخزائه، حتى ينفخ في الصور، فيحق بهذا الروح ما حق بغيره من الفوت، ويواقعه ما واقع جسمه من الموت. ثم ينفخ النفخة الثانية من بعد موت كل شيء، وهلاك كل حي، ما خلا الواحد الأحد، الفرد الصمد، المميت(1) الذي لا يموت، المحيي الذي لا يخشى من شيء فوتاً. ولو كانت الأرواح تموت مع موت الأبدان؛ لكان في ذلك فرج(2) وراحة للكفار(3)، وغفلة وفرحة للأشرار، ولكان ذلك غماً وكآبةً على المؤمنين، ونقصاناً وتضعضعاً لسرور الصالحين.
فافهم باب حكمة الله وتقديره، وصنعه في ذلك وتدبيره، وما جعل في تأخير موت الأرواح من الكرامة للمؤمنين، والهوان للفاسقين، فإن أنت أَفْكَرت(4) في ذلك بخالص لبك، واستعملت فيه ما جعل الله من مركب(5) فكرك، صحت لك آثار الحكمة في ذلك، وبان لك الأمر من الله سبحانه كذلك
[التفاضل بين الأنبياء والملائكة]
وسألت أكرمك الله عن الملائكة والأنبياء صلوات الله عليهم فقلت: أيهم افضل؟
والجواب في ذلك أن الملائكة أفضل من الأنبياء. والحجة في ذلك أن الفضيلة لا تكون إلاَّ بفضل الأعمال، فلما وجدنا الملائكة أفضل أعمالاً(6) وأكثر عبادة، حكمنا لها بالفضل على من دونها عملاً.
__________
(1) في هامش (ج): الحي.
(2) في (ج): فرح.
(3) في (ج): للكافر.
(4) في (ج): فكرت.
(5) في (ب): من تركيب.
(6) في (ب): الأعمال.

(2/456)


ألا تسمع كيف يشهد الله لها بكثرة العبادة، ودوام الطاعة؟ حين يقول عزَّ وجل: {وَلَهُ مَنْ فِيْ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَنْ عِنْدَهُ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلا يَسْتَحْسِرُونَ * يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لاَ يَفْتَرُونَ}[الأنبياء: 19 ـ 20]، فذكر سبحانه عنهم ما ذكر من عبادتهم، ودوام طاعتهم، في التسبيح له والتقديس في الليل والنهار لا يفترون، ومن كان عابداً لله الليل والنهار لا يفتر؛ خلاف من هو يفتر في الليل والنهار، ويشتغل بلذات نفسه، وشهوات قلبه من الجماع، والمآكل والمشارب(1) والنوم والجلوس والحديث.
فلما أن صح عندنا أن الملائكة مأمورة ومنهية كالأنبياء مختارة للطاعة كاختيار الأنبياء، قادرة على ضد الطاعة لو أرادته، بما جعل الله فيها من الاستطاعة والتمكين. ثم وجدناها قد استعملت ذلك كله أَثَرةً لله، وإقبالاً على طاعته، ففرغت أنفسها الليل والنهار في عبادته لا تفتر، حتى شهد الله لها بذلك؛ كانت عندنا أفضل من الأنبياء، لما ذكرنا(2) من فضل عملها، ودوام طاعتها.
ومن الدليل على فضل الملائكة على الأنبياء قول الله عزَّ وجل: {لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ اَنْ يَكُونَ عَبْداً لِلَّهِ وَلاَ الْمَلاَئِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ}[النساء: 172] فقال سبحانه: {لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ} ثم قال: {وَلاَ الْمَلاَئِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ} فذكر الملائكة بعد الميسح، فعلمنا أنَّها أكبر منه وأعظم وأفضل. وأقل مما ذكرنا ما كفى؛ من كان ذا فهم واجتزاء.
[معنى السموات مطويات بيمينه]
وسألت عن قول الله سبحانه: {وَالسَّمَوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ}[الزمر: 67].
__________
(1) في (ج): والمشروبات.
(2) في (ج): بما ذكرنا.

(2/457)


وهذا رحمك الله مثل ضربه الله لهم، مما تعرفه العرب وتمثل به. وذلك أن العرب تقول لمالك الشيء: هو في يده، وهو في يمينه، وهي تريد بذلك تأكيد الملك له؛ لأن كل ما كان في يد المالك فهو أقدر ما يكون عليه. (واليد في كلام العرب هي الملك)(1) .
ألا تسمع كيف يقول العرب: بلاد كذا وكذا في يد فلان، قرية كذا وكذا في يد فلان.
وتقول العرب: بنو فلان في يد فلان، يريدون في طاعته وملكه؛ لا بين أصابعه ولا في كفَّه، فأرادوا بذلك الملك، ونفاذ الأمر فيهم، لا القبض بالأصابع والضم لها عليهم(2).
فأخبر الله تبارك وتعالى أن مقدرته على ما ذكر من السماوات المطويات، فوق مقدرتهم على ما هو في ملكهم.
(فأما قوله: {مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ}[الزمر: 67] فإخبار منه لهم أن السماوات مطويات في ملكه) (3)، متصرفات في أمره، مجموعات في حكمه، كما يجمع الشيء المطوي جامعه، ويحوزه ويضم عليه طاويه.
فمثل لهم أمر نفاذ حكمه في السموات وقدرته عليهم؛ بما يعرفون من مقدرتهم على ما يطوونه وينشرونه؛ من كتب أو صحف، أو غير ذلك من المطويات المملوكات.
فهذا ما عنه سألت من قول الله سبحانه في السموات إنهن مطويات.
[الفرق بين الاسم والمسمى]
وسألت عن الفرق بين الاسم والمسمى.
والفرق بينهما، بقاء الاسم، وفناء المسمى، وتناسخ الاسم(4)، واشتراك المسمين(5) فيه. فلما أن رأينا الاسم الواحد ينتقل في المسمين؛ علمنا أن الاسم غير المسمى، وأنه دلالة على المسمى وعلامة له، ليست به ولا هو بها.
ومن الدليل على ذلك أنك تسمي بالاسم مسمى؛ ثم يموت المسمى فَيَبلَى؛ والاسم باق لم يفن. ولو كان الاسم هو المسمى؛ لعَدِم بعدم الجسم ولزال ولتغير بتغيره، ولما أمكن بأن يكون لغيره.
__________
(1) سقط من (أ).
(2) في(ب): عليه.
(3) سقط من (أ).
(4) أي تعاقبه على أكثر من مسمى.
(5) في (ب) و (ج): المسمى.

(2/458)


وهذا الأمر فأبين ما يكون، ولن يخلط في الفرق بين الاسم والمسمى، حتى يقول: إن الاسم هو المسمى إلاَّ جاهل عمي، وضال غوي، لا يفرق بين علامة ولا معتلم(1)، ولا دلالة ولا مستدل عليه، ولا عرض ولا جسم. فافهم ما قلنا به في ذلك و شرحناه؛ بين لك إن شاء الله صدق ما قلناه.
[معنى: كل نفس بما كسبت رهينة]
وسألت عن قول الله سبحانه: {كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ}[المدثر: 38].
فمعنى قول الله سبحانه: {رَهِينَةٌ} أي مرتهنة، ومعنى مرتهنة: مأخوذة، ومعنى مأخوذة هو: مجازاةٌ بعملها، مكافأة على فعلها. فأخبر سبحانه أن كل نفس بِكَسْبِها مأخوذة، وكسبُها فهو عملها، وأخذه لها سبحانه بعملها، فهو إنفاذ وعده ووعيده لها، {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَومَئِذٍ آمِنُونَ * وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ هَلْ تُجْزَونَ إِلاَّ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ}[النمل: 89 ـ90]، {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلاَ يُجْزَى إِلاَّ مِثْلَهَا وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ}[الأنعام: 160].
[وسوسة إبليس]
وسألت عن وسوسة إبليس كيف تكون منه إلى الآدمي؟
والوسوسة منه فإنماهي المقاربة والمداناة، والموالفة والمساواة.
__________
(1) في (ب): متعلم.

(2/459)


وذلك أن إبليس اللعين بني على الفطنة والذكاء، والسرعة والمعرفة بمعاني الأشياء، التي ربما عرفها الآدميون، واستدركها منهم الفطنون، فيعرف إبليس اللعين في حركات الإنسان ووجهه؛ دلائل يستدل بها على ما أضمر في قلبه، من المعاصي لربه، فإذا رأى تلك الدلائل والعلامات في وجهه؛ استدل بهن على بعض ضميره، فإذا رأى في وجهه علامات إضمار المعصية، وتبين له أنَّه قد هم بغير الطاعة، واستبان ذلك من شواهد(1) حركات الآدمي، كما استدرك(2) كثيراً من ذلك الآدميون بعضهم من بعض، بما يرون(3) من شواهد ذلك ودلالاته وعلاماته، حتى ربما فطن الإنسان لصاحبه ما يريد منه، وما يريد في كثير من أمره، وكذلك يستبين منه الغضب والرضى، والسرور والغم، يتبين كل واحد من هذه الأشياء في وجه صاحبه، حتى يعرفه أهل الفطنة والفهم بما يظهر من شواهده في وجه مضمره، وكل يتبين الفَزَع والرُّعب في وجه المرعوب والفِزَع لمن كان ذا فطنة.
فكذلك وعلى ذلك، وبالشواهد في وجوه أولئك، يعرف إبليس اللعين ما أضمره صاحب المعصية والخطيئة، فإذا أيقن إبليس بذلك من الآدمي دانى قلبه وقاربه ولاصقه. وإبليس فَهَمَّهُ وإرادته ومعناه: المعصية واللعنة، فإذا قارب هذا الشكل من إبليس اللعين زيادة شكل المعصية التي هي في قلب الآدمي؛ قويت نيَّة الآدمي بالمعصية بمقاربة ما في قلبه من المعصية لشكله وهو إبليس؛ فيقوى الشكل بمقاربة شكله، والجنس بمقارنة جنسه، كما يقوى كل شيء بمداناة مثله، ومقاربة شكله.
فهذا معنى وسوسة إبليس، هو بالمقاربة والمداناة، لا بالمكالمة والمناجاة.
__________
(1) في (ج): منه بشواهد.
(2) في (ج): يستدرك.
(3) في (ب): بما يأتمرون.

(2/460)


ومثل قوة المعصية في قلب الآدمي؛ بمداناة شكلها من هذا اللعين الجِنِّي؛ مثل الجمر جَعَلْتَ منها في بيت جماعة(1) خمسين رطلاً جَمْراً متوقداً يَقِدُِ بَعْضُهُ في بعض؛ ثم أتيت بمائة رطل أخرى جمراً متوقداً، و القيته إلى جنب ذلك الجمر الأول، فقوي عمل الأول بعمل الآخر، وقوي عمل الآخر بعمل الأول، واشتد عملهما، وصَعُبَ أمرهما، حتى لا يُطيق من في البيت أن يجلس فيه ولا يقوم مع شدة ما فيه من حرِّ النار وتلهبها، وقوة بعضها ببعض، فقوي عمل الجزئين بمقاربة أحدهما لصاحبه؛ إذ هما شكل واحد ومعنى واحد، ولو أفرد كل واحد منهما وفرق بينهما؛ لم يكن عملهما متباعدين كعملهما متقاربين.
فعلى هذا ومثله، من قوة الشكل بشكله، تكون وسوسة إبليس لصاحبه الآدمي، المضمر لما أضمر إبليس، المشاكل له بالإضمار في عمله، والمقارب بإضماره له في فعله.
فافهم ما ذكرنا من معاني الوسوسة، وفطنة إبليس لما يفطن به(2) في الآدمي من المعصية.
وقد قال غيرنا في ذلك بأقاويل، فزعموا أنَّه يجري في الآدمي مجرى الدم، (في الأبشار)(3)فاستحال ذلك عند من فهم؛ لأنَّه لا يجوز أن يدخل جسم في جوف جسم، فيجري في عروقه، ويجتمع في بدن واحد روحان، روح ساكن، وروح متحرك، هذا محال أن يستجن(4) في جسم واحد روحان، ولا يدخل في جسمٍ جسمٌ؛ لأن هذا لا يعرف في الأجسام، ولا يتهيأ ولا يثبت في العقول، فلما لم تقبله العقول(5) استحال أن يكون شيئاً معقولاً.
وقال قوم: يَلْقَى إبليس روح الآدمي (عند جولانه في وقت منامه، فيأمره وينهاه، ويزين له ما يريده ويشاه. وقالوا: لا تكون الوسوسة من إبليس إلاَّ من بعد النوم، ويلقى روح الآدمي) (6) عند خروجه من بدنه، وجولانه بعد نومه، فيكون منه إليه ما ذكرنا، ويُلقي إليه ما قلنا.
__________
(1) في (أ): في بيت فيه جماعة.
(2) في (ج): يفطن له.
(3) سقط من (أ) و (ج).
(4) في (ج): أن يسكن.
(5) في (ج): فلما نفته العقول.
(6) سقط من (أ).

(2/461)


واستحال(1) هذا من قولهم أيضاً، كما استحال القول الأول؛ لأنا نظرنا في هذا المعنى فوجدناه باطلاً، وبطلانه أنا وجدنا الادميين ربما أتوا من أنواع المعاصي وألوانها في مجلس واحد بألوان وهم أيقاظ(2) غير نيام. فلما أن وجدناهم يعملون في مجلس واحد ألواناً كثيرة من المعاصي التي تخطر على قلوبهم بعضاً بعد بعض(3)، وتحدث في صدروهم حادثاً بعد حادث، وخاطراً بعد خاطر لم يتعملوا(4) قبل ذلك المجلس في شيء منها، ولم يضمروا جنساً من جنوسها، علمنا أن ذلك لوسواس(5) الشيطان ومقاربته، ورأينا من كان كذلك يقظاناً غير نائم، والمعاصي تأتي منه أولاً فأولا في مجلسه ذلك؛ من قذف المحصنات، وشرب خمرٍ، وقتل مسلم، وأخذ مال يتيم ومسكين، وضرب مؤمن، وسفك دمٍ حرامٍ، وشهادة زورٍ، وكذبِ وبهتان، وتشبيه الله سبحانه، وتجويره في فعله، وإكذاب لوعده ووعيده، وغير ذلك من ألوان الفسق، مما يأتي به كَفَرَةُ الخلق؛ فلما رأينا هذه الأشياء تكون من فاعلها في أوقات وساعات لم يدخل بينها منه نوم ولا غفلة، استحال عندنا أن تكون وسوسة إبليس من بعد النوم وخروج الروح؛ لان هذه المعاصي كلها في افتراقها وتشَتّت أصنافها كانت منه في يقظة لا نوم فيها. واستحال عندنا قول من قال بهذا الثاني، كما استحال قول من قال بالقول الأول.
ولم نجد باباً أصح ولا أثبت، ولا أقوى ولا أجدر أن لا يكسره أحد أبداً(6)، مما قلنا؛ من مداناة الشكل لشكله، وقوة الشبيه بشبيهه(7)، ووجدناه ثابتاً عند أهل العقل، لا ينكره ولا يجحده من وهبَ لباً، وفطنةً وفهماً.
[مم خلقت الملائكة والشياطين]
وسألت فقلت: من أي شيء خلقت الملائكة؟ ومن أي شيء خلقت الشياطين؟
__________
(1) في (أ): فاستحال.
(2) في (أ) و (ب): يقاظاً. والصواب: ما أثبته من (ج).
(3) في (أ): بعضها على قلوبهم بعد بعض.
(4) في (ب): لم يتعلموا.
(5) في (أ): بوساوس.
(6) يعني لا ينقضه ويبطله.
(7) في (أ): الشبه لشبهه.

(2/462)


الجواب في ذلك أن الملائكة فيما سمعنا وبلغنا والله أعلم وأحكم خلقت من الريح والهوى، وأما الشياطين فخلقت مما قال الله وَحَكَى؛ {مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ}[الرحمن: 15]. والمارج فهو خالص لهب النار، والذي هو يمرج من لهبها، ويتقطّع في الهواء منها، عند ارتفاع اللهب وعلوه، فيذهب في الهواء قطعاً قطعاً، ويتفصل من اللهب(1) تفصلاً، يستبان ذلك ويعرف عند تأجج النار وتوقدها، وعظمها وارتفاع لهبها، فعند ارتفاع اللهب وعلوه يخلص خالصه، ويمرج مارجه، ويتقطع المارج من اللهب، ويتفصل مارج النار من لهبها، ويذهب في الهواء متقطعاً، وذلك فهو مارج النار الذي ذكر الرحمن أنَّه خلق منه الجان.
والجان فهو الجن، والجن فهي الشياطين، وإنما سميت جناً وجاناً لا ستجنانها عن أبصار الآدميين، واستجنانها فهو غيبتها، فلما كانت بغيبتها مستجنة سميت باستجنانها جاناً. ألا تسمع كيف قال إبليس في آدم عليه السلام حين يقول: {أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِيْنٍ}[الأعراف: 12 ، ص: 76]. فهذا دليل على ما به قلنا. وأدل منه قول اللّه تبارك وتعالى: {وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ}[الرحمن: 15] وهذا مما لا شك(2) فيه ولا امتراء، والحمد لله العلي الأعلى.
[معنى: يوم تبدل الأرض غير الأرض والسما وات]
وسألت عن قول الله سبحانه: {يَوْمَ تُبَدَّلُ الأَرْضُ غَيْرَ الأَرْضِ وَالسَّمَوَاتُِ}[إبراهيم: 48].
__________
(1) في (أ): وينفصل من اللهب.
(2) في (أ): فما لا شك.

(2/463)


تأويل تبدل هو تَغَيَّر، وتغييرها هو: نسف ما على وجهها من الجبال، وبعثرة ما فيها من القبور، وبعثرة القبور فهو: إخراج ما فيها من الموتى، وردهم بعد الفناء أجساماً وأحياءً، وتسوية تفاوتها ودكها دكاً، كما قال الله العلي الأعلى: {يَوْمَ تُبَدَّلُ الأَرْضُ غَيْرَ الأَرْضِ}[إبراهيم: 48] إلى آخر الآية، وتبديل حالها تسوية خلقها، وعدل متفاوتها، وقشع أوساخها، وتجديد بهجتها، واستواء أقطارها، حتىتكون الأرض مستوية فيحآء(1)، معتدلة الأرجاء، لا تفاوت فيها ولا اختلاف، بل تكون في ذلك اليوم كلها على غاية الإستواء والإئتلاف، لا يرى شيء من آلة الدنيا فيها ولا أثر فعل(2) من أفاعيل الدهر عليها، فهذا تبديلها وتغييرها. وكذلك تبديل السموات فهو رد الله لها إلى ما كانت عليه(3) في الإبتدا، ثم يردها على ما هي عليه اليوم من الإسٍتواء من بعد أن تصير كالمهل، والمهل فهو شيء يكون كالدهن يخرج من صفو القطران، فذكر الرحمن أنها تكون في يوم الدين كالمهل السائل، بعد التجسُّم الهائل، وهو قوله: {يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ}[الدخان: 10] يريد أنها تعود إلى ما كانت عليه من الدخان، ثم ترد السموات(4) مطبقات(5)، كما خلقت من الدخان أولاً سموات مقدرات مجعولات، تبييناً منه سبحانه لقدرته، وإظهاراً لنفاذ أمره فيما افتطره من فطرته.
فهذا معنى ما ذكره الله من تبديل الأرض والسماء لا أنَّه يذهب بهما ويخلق سواهما(6) من غيرهما.
وإنما تبديله لهما وتغيييره: نقلهما من حال إلى حال، والأصل واحد مستقيم، غير فان ولا معدوم.
__________
(1) الفيحاء: الواسعة.
(2) في (أ): لا ترى شيئاً.. ولا فعلاً
(3) في (ب): عليها.
(4) في (أ): سموات.
(5) يعني: طباقاً.
(6) في (ب): بها ويخلق سواها.

(2/464)


مثل ذلك: مثل خلخال من ذهب أو فضة كُسِر؛ فصير خلخالاً أوسع منه قدراً؛ فكان قد بدلت خلقته، وغيّرت صيغته، ونقلت حالته من حال إلى حال، ومن مثال إلى مثال؛ فبدل تصويره وأصل فضته ثابت لم يبدل ولم يغير، وإنما غير منها خلقها وتقديرها، وصورتها وتمثيلها، والأصل ثابت قائم، موجود من العدم سالم.
وكذلك تبديل ما يبدل من الحديد؛ فيكون أولاً سيفاً، ثم يرد خنجراً، ثم يجعل الخنجر سكيناً، ثم تنقل السكين فتجعل أو تاداً وسككاً، وهو ينقل من حال إلى حال وهو الحديد الأول لم يتغير ولم يبدل، وإنما التغيير منه تصاويره وتقاديره، ونقل أحواله ومقاديره، فهو الحديد الثابت يجعل مرة سيفاً كما ذكرنا، (ويقلب ثانية صنفاً من الصنوف التي ذكرنا، فهو) (1) وإن تغيرت أحواله واختلفت مجعولاته فهي الحديدة المعروفة، الأولة الأصلية المفهومة.
وكذلك ما ذكر رب العالمين؛ في تبديل السموات والأرضين؛ فهو نقله لهما من حالة في التصوير إلى حالة، ومن صفة في التقدير إلى صفة، وهن في أصلهن اللواتي كن، لم يبدل أصلهن ولم يحل، ولم ينقل عما كان ولم يزل، فافهم ما أجبناك به فيما عنه سألت، وفسرناه لك فيما شرحت وقلت.
[تكفير أهل القبلة]
وسألت (وفقك الله)(2) فقلت من أين يلزم أهل القبلة الكفر وقد سماهم الله مسلمين ومؤمنين؟
الجواب في ذلك يطول ويكثر، وسنجيبك عليه إنشاء الله بجواب مختصر، نجمل لك فيه المعنى، ونوقفك على الإستواء، حتى تفهم في ذلك مرادك، ويبين لك إن شاء الله جوابك، بأصل جامع لهذه الأشياء، لا يدفعه إن شاء الله أحد من العلماء.
__________
(1) سقط من (أ).
(2) سقط من (أ) و (ج).

(2/465)


من ذلك أنا وجدنا الله تبارك وتعالى ألزم من ألزمه من أهل الكبائر القتل على ما يجترم من كبائر عصيانه، وكذلك فعله في من قتل مؤمناً ظلماً متعمداً، وكذلك حكمه فيمن قطع الطريق وسفك الدماء، وكذلك حكمه فيمن عاند أئمة الحق من الباغين، فأوجب عليهم الحرب والقتال، والقتل والنكال؛ حيت يفيؤا إلى أمر الله، ويرجعوا إلى حكم الله، فلما وجدنا حكمه سبحانه فيمن بغى من أهل القبلة وتعدى القتل والقتال، حتى يرجعوا إلى الحق في كل قول وفعال؛ علمنا أنهم في ذلك الوقت ـ وقت وقوع القتل بحكم الله عليهم، ووجوب الهلكة فيهم ـ لله أعداءٌ مباينون، وحرب لله محاربون؛ لأنَّه سبحانه لا يوجب الحرب والقتل على ولي من أوليائه، ولا يحكم به سبحانه إلاَّ على عدو من أعدائه. ولم نجد الله سبحانه عادى إلا كافراً، ولا والى إلاَّ مؤمناً؛ فلما أن قتلهم بحكمه، ومثل بهم سبحانه بأمره، علمنا أنهم من الموالاة أبرياء، وأنهم له بأحق الحقائق أعداء، وأنه لا يعادي سبحانه مؤمناً تقياً، ولن يباين بالمحاربة له عبداً زكياً. فصح عندنا بإباحة الله لدمائهم، وافتراضه ما افترض على المؤمنين من جهادهم؛ أنهم على غير ما ارتضى، وأن فعلهم على خلاف ما أحب(1) وشاء. ومن كان فعله على خلاف إرادة الله فليس من المؤمنين، وَمَنْ كان اختياره غير ما اختار الله فليس من المتقين، ومن ترك فرائض الله، وسعى في ضِدِّها من حرام الله؛ فليس من المهتدين، ومن كان كذلك فهو لله من العاصين، ومن عصى الله وفسق في دينه، وخالف أمره في نفسه أو غيره؛ فلم يحكم في فعله بحكم الله، ومن لم يحكم بما أنزل الله فهو من الكافرين، وفي ذلك ما يقول أحكم الحاكمين، فيما نزل من الكتاب المبين: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الكَافِرُونَ}[المائدة: 44] فأخبر سبحانه بالدلالة على الكفرين، ووصفهم بالعدول عن شرائع الدين، ومن عدل عن شرائع الدين ولم يحكم
__________
(1) في (ب): ما أوجب.

(2/466)


في فعله بحكم رب العالمين؛ فهو في حكم الله عنده من الكافرين، لا يسميه ذو عقل وبيان، فيما أتى به من المعاندة لحكم(1) الله من العصيان، إلاَّ بما سماه الله سبحانه من الكفران.
ومن الحجة في ذلك أنا لم نجد أصل الكفر والشرك ـ من عبادة الأوثان، وعبادة الشيطان، وعبادة النجوم والأنصاب والنيران، والدعاء مع الله إلهاً آخر ـ غير المعصية، بل وجدنا هذه الأنواع كلها هي من المعصية لله سبحانه، فيما صح عندنا أن من عبد من دون الله غيره أن لم يعبده إلا بمعصية الله سبحانه؛ لأن الله جل ذكره نهاه أن يعبد معه غيره، فتعدى أمره، فكان له عاصياً، وكان بعصيانه له كافراً؛ إذ نهاه أن يعبد معه غيره فعبد معه سواه(2).
وكذلك اليهود والنصارى لم نجد أصل كفرهم وشركهم إلاَّ معصية الله في محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم، ولو أطاعوا الله في محمد والتصديق بما جاء به من عند الله لكانوا مؤمنين، فثبت عليهم الشرك بمعصية الله، وترك طاعتهم لمحمد وهم بالله مقرون، وله فيما أمر به عاصون. فلما أن عصوه في أمره كانوا عنده كافرين، وفي حكمه فاسقين.
__________
(1) في (أ): لحكم.
(2) في (أ): معه سواه، فعبد معه غيره.

(2/467)


وكذلك من ينتحل اسم الإسلام والإيمان، وهو مقيم لله سبحانه على كبائر العصيان، فحاله عندنا حال من ذكرنا من العاصين، وإن كان(1) بمحمد من المقرين، فهو مقرٌ بلسانه جاحد بفعله، عن الله معرض بقلبه، وقد أبى الله عزَّ وجل أن يكون من كان كذلك أو على شيء من ذلك مؤمناً، حتى يقيم شرائع الإيمان بفعله، ويصحح القول بعمله، وفي ذلك ما يقول الله تبارك وتعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ}[الحجرات: 15] فدل بقوله إنما المؤمنون الذين آمنوا وفعلوا على ان من لم يفعل ذلك فليس من المؤمنين، ومن لم يكن من المؤمنين فليس من المتقين، ومن لم يكن من المؤمنين المتقين فهو من الكافرين الفاسقين.
وفي ذلك ما يروى عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب صلى الله عليه، أنَّه قال: (( الإيمان قول مقولٌ، وعمل معمولٌ، وعرفان بالعقول )) فبيّن أن العمل أصل الإيمان، وأن من لم يكن له عملٌ زكي فليس بمؤمن تقي، ومن لم يكن مؤمناً مرضياً فهو كافر شقي.
والاحتجاج في هذا فكثير، وقليلة يجزي عن كثيره، لبيانه لمن علم، ووضوحه لمن فهم. وفي أقل مما به احتججنا من القول، كفاية لأهل المعرفة والعقول.
__________
(1) في (أ): كانوا.

(2/468)


ومما يقال لمن زعم أن من قال بلسانه، وترك العمل بجوارحه مؤمن، أن يقال له: خبِّرنا عمن قتل النفس التي حرم الله وزنى، وشهد شهادات الزور وأكل الربا، وقبل الرُّشا، وظلم المسلمين، وعطّل أحكام ربّ العالمين، وشرب الخمر، وترك الصلاة، وأفطر شهر رمضان، ولم يؤد زكاة، وركب الذكور من الغلمان ولم يحل حلالاً فيفعله، ولم يحرّم حراماً فيتركه، هل يكون من كانت فيه هذه الصفات مؤمناً حقاً عندك؟ فإن قال: نعم، قيل له: فالواجب في القياس والحق أَنْ يَكُوْنَ من أقام الصلاة، وآتى الزكاة، وحج البيت، وأتم الصيام، وحافظ على الصلاة، واجتنب الزنى، ولم يركب الذكران، ولم يشهد شهادات الزور، ولم يأكل الرِّبا، ولم يقبل الرشا، ولم يسفك الدماء على غير حلها، ولم يأكل أموال المسلمين ولا أموال اليتامى، ولم يحرم لله حلالاً فيتركه، ولم يحلل له حراماً فيفعله، وكان بالله عارفاً، وعن محارمه واقفاً، كَافِراً في قولكم حقاً؛ لأن هذين المعنيين المتضادين لا بدّ أن يفترق معناهما، ويختلف سبيلهما، فيكونا باختلافهما متباينين، ويكون أهلهما والفاعلون لهما أيضاً مختلفين، فيجب ما وقع لفاعل أحدهما(1) من اسم(2) وقع ضد ذلك الاسم لفاعل الصنف الآخر، والاسمان المتضادان فهو الإيمان والكفر، فحيث شئت من هذين الصنفين فأوقع اسم الإيمان على فاعلهما؛ فحيث أوقعت اسم الإيمان من هاتين الصفتين، وهذين المعنيين المختلفين وقع اسم الكفر على فاعل ضده، وحيث وقع اسم الكفر، فليس يقع معه اسم الإيمان، وحيث وقع اسم الإيمان فلن يقع معه اسم الكفر؛ لأن الاسمين مخَتلِفَان متضادان، ولا يجتمعان في اسم(3) واحد، كما لا يجتمع ليل ولا نهار في حالة واحدة، ولا حياة ووفاة على جسم واحد في حالة واحدة.
__________
(1) في (ب): ما وقع بفاعل اختصهما.
(2) في (أ): لفاعل أحدهما من اسم.
(3) في (أ): في معنى.

(2/469)


فلابد لمن سئل عن مثل هذا القول ان يقول الحق، فيعلم أن الإيمان مع الطاعة، وأن الكفر مع المعصية، فيكون من أهل الحق، ويرجع إليه ويعتمد عليه، أو ينبذ الحق بعد وضوحه، ويعاند الصواب بعد شروعه فيزعم أن من كانت فيه هذه الشروط المنكرة الفاحشة ـ من معاصي الله والمحاربة له ـ مؤمن بالله؛ فيزعم أن الله حضّ على معاصيه، ورضي بمعصيته(1) لعباده، وجعل العاصين المنكرين على رب العالمين، أخوة الملائكة(2) المقربين، وأنهم عند الله خيرة مصطفون، لأن الله عزَّ وجل يقول في كتابه: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ}[الحجرات: 10]، والأنبياء والملائكة إخوة للمؤمنين من الآدميين، ومن زعم أن أهل المعاصي إخوة للملائكة المقربين؛ فقد زعم أنهم صفوة الله وخيرته، وأحباؤه وأهل ثوابه وسكان جنته، ومن زعم أنّ الله أسكن جنته المحاربين له العاصين، وأنه آخى بينهم وبين الملائكة المقربين، فقد لزمه ووجب عليه في القياس والحق اللازم أن يقول: إن الله باعد بين المطيعين العابدين من عباده، القائمين القانتين الحاكمين بكتابه، المحتذين بحذو أنبيائه، وبين رسله وبين الملائكة(3)؛ فلم يجعلهم لهم إخوة بطاعتهم له، وأنه يسكن أولياءه وأهل طاعته ناره، ويصليهم جحيمه، ومن قال بهذا ولزمه فقد خرج من حد الإسلام، وصار عند الله من الجهلة الطغام، وكان عند الله أولى بالعذاب؛ ممن جعله الله من المؤمنين أهلاً للثواب.
فمِيِّز رحمك الله ما قلنا، واستعمل فكرك فيما ذكرنا، يتجلَّ لك بذلك الصواب، وينكشف عن قلبك سدف(4) الارتياب.
[الحدود وعلى من تقام]
وسالت فقلت: كيف تقيم الحد على من لم تشمله جِرَايتك من العطاء والكسوة؟ ولم يسمع ما فيه حياته من العلم.
__________
(1) في (أ): بالمعصية.
(2) في (أ): للملائكة.
(3) في (أ): وبين ملائكته.
(4) في (أ): سجِف، والسجف: الستر، والسدف: الظلمة.

(2/470)


وهذا قول مختلف؛ لأن معنى من لم(1) ينله الإحسان من العطاء والكسوة في مضي الحكم عليه خلاف من لم يستمع ما فيه حياته من العلم والهدى.
وسنبين لك إن شاء الله القول في المعنيين، ونوضح لك القول في المسألتين، ونوضح لك فعل الإمام في الحالين.
فأما من لم تبلغه الدعوة، وتقم عليه بذلك الحجة، ويعلم ما يحل وما يحرم، وما يجب به عليه الحد عند الإمام، فلا نذيقه بأسنا، ولا نجري عليه حدودنا، حتى نُعَلِّمه ما به تقوم عليه الحدود، وتلزمه العقوبات اللازمة.
فإذا علم ذلك وأتى عليه، وعرف ماله وما عليه فيه، وأتى قَوْلُنَا على سمعه، وثبت إعذارنا وإنذارنا في قلبه؛ ثم أتى بعد ذلك ما عنه نهاه الواحد الرحمن، واجترأ على ما يجب فيه الحد في القرآن، أقمنا عليه بما أوجب الله من الأدب، من بعد أن فهم وأبصر، وأيقن وخبر.
فأما أن نقيم الحدود على من لم يعلم حلالاً من حرام، ولم يقف على ما فيه الحدود(2) من الآثام؛ فليس ذلك قولنا، ولا ـ ولله الحمد ـ طريقتنا، وكذلك فعل الله في خلقه، وحكمه على بريته، وحجته على خليقته؛ فلا تقع ولا تجب إلا بعد تعريف الله عباده إياها وإيقافه لهم عليها.
__________
(1) في (أ): ما لم.
(2) في (أ): الحد.

(2/471)


فأما ما قلت من إقامة الحد(1) على من لم تنله منا الكسوة والعطاء، فليس الكسوة والعطاء يوجبان حجة، والحدود ما ضية على من لم ينل ذلك منا، من بعد ما ذكرنا من التفهيم له والهداية إلى الحلال والحرام والتوقيف، ولسنا ندفع عنه بعد تعريفه ما يجب عليه فيه الآداب، حدودَ اللهِ ببطئ ما يأمل منا من الرفد في كل الأسباب؛ لأن الرفد وإن أبطا مصيره إليه؛ لا يدفع عنه حداً إن وجب في حكم الله عليه، وكيف يندفع عنه حكم الله الجاري عليه على يدي الإمام، في أمر يلزمه(2) الحكم عليه في الآخرة عند ذي الجلال والإكرام؛ والمعنيان كلاهما من اللّه حكم لازم على الفاعل؟! فكيف يلزم الله عبداً من عباده على فعل من أفعاله حكماً حكم به عليه فيه ـ وجعله واجباً بفعله عليه ـ في دار الآخرة الباقية، ويزيله عنه في دار الدنيا الفانية؟ فهذا ما لا يكون ولا يصح في العقول، بل كل ما كان عليه العبد من الفعل معاقباً في الآخرة؛ فعقوبة الله له عليه في الدنيا لازمة، وما سقطت عقوبة الله عنه فيه في الآخرة كانت عقوبته ساقطة عن صاحبه(3) في الدنيا.
ألا ترى كيف أزحنا عن الجاهل بالحرام والحلال، ومن لم يعرف ما تجري عليه فيه الحدود من الفعال؛ العقوبة في الدنيا بتركنا له، وطرحنا عنه ما ألزمناه غيره ممن فهم أمرنا، ووقف على ما يلزم فيه أدبنا، وتجب به عليه حدود ربنا، وإنما طرحنا ذلك عنه؛ ولم نحكم به فيه؛ لان الله سبحانه أسقط عمن كان كذلك عقوبة الآخرة فلما سقطت عقوبة الله عنه في الآخرة؛ زالت عنه في الدنيا عقوبة الأئمة.
فافهم الفرق بين المعنيين، وقف بصافي فكرك ولبَّك على الحالين.
__________
(1) في (ب) الحدود.
(2) في (ب): في أمرِ ما يلزمه.
(3) في (أ): فاعله.

(2/472)


فأما ما يُذْكَر عن جدي صلوات الله عليه (محمد بن إبراهيم) القائم بالكوفة الذي صحبه (أبو السرايا) من تخليته للسارق الذي خلاه، وتركه لم يقطع يده، وقوله في ذلك: (( لم يذق عدلنا، فنجري عليه حكمنا )) فإنما أراد بقوله: عدلنا، أي تعليمنا وتفهيمنا، وتوقيفنا له على حلال الله وحرامه، حتى يعلم ما يجب به عليه القطع من غيره، وما تجب به عليه الحدود كلها.
وكذلك فعلنا نحن أيضاً، في بعض ما دخلنا من القرى، فأتينا بسكران من جانب المسجد، وكان ذلك في وقت ما دخلنا، فسألناه عن فعله، فذكر أنَّه لم يعلم أنا نحرم الخمر، ولا أنا نحد عليها، ولا أنَّه يكون منا أدب فيها، فأزحنا عنه الحد بما أدلى به من جهله، وعرفنا له الحق علينا من أمره.
وذلك أن سيرتنا، والواجب علينا إذا دخلنا بلداً أن نكتب كتاباً نبين فيه للأمة ما نقيم به الحدود عليها، ثم نقرؤه عليها في أسواقها ومساجدها، ومواضعها ومجتمعاتها، فإذا أتينا ذلك لها، وأعذرنا وأنذرنا بالحق إليها؛ جرت بعد ذلك أحكام الله سبحانه عليها، ومضت حدوده سبحانه فيها.
وإنما فعلنا ذلك لعلمنا بكثرة الجهال، وغلبة الضُّلاَّل، وقلة الهدى، وتراكم الغفلة والهوى. وذلك لفقدان الرعا(1)، وعدم أهل التقوى، وبعد الأئمة الهادين، وقرب الأئمة الفاسقين، الذين لا يلزمون أنفسهم تعريف الأمة رشداً، ولا اكتسابها براً ولا هدى.
__________
(1) في (ب): الدعاء.

(2/473)


فلما كانت أئمتهم كذلك، وكانوا هم أشر من ذلك؛ فعموا عن الدين، وجهلوا فروض رب العالمين، ولم يعلموا حراماً من حلال، من قول ولا فعال؛ شابهوا أئمتهم في فعلهم، واقتدوا بفعلهم(1) في أديانهم، فهم بأديان أئمتهم يقتدون، وفي عمى كبرائهم يعمهون، لم يروا محدوداً على حد فيخافوا ما ناله، ولم يروا مهتدياً فيتبعوا حاله، ضُلاَّلٌ أشقياء متحيّرون أَرْدِياء، قد غرقوا في الضلال المبين، وجنبوا عن طريق الحق واليقين، اتباع كل ناعق، سيقة كل سائق، لا يعرفون سبيل رشد فيتبعوه، ولا طريق هُلك(2) فَيَتَجَنَّبُوه، قد اتخذهم كبراؤهم سنداً، وجعلوهم لهم يداً، يطفئون بها نور الهدى، ويقتلون بها أهل التقوى، ويظهرون بها (أهل)(3) الفحش والردى، ويخملون بها نور الإسلام، ويظهرون بها أفعال الطغام، ويحاربون بها من دعا إلى دين محمد عليه السلام. يتبلغ(4) الجبارون المتكبرون بأتباعهم المتحيرين، وينالون بهم معصية رب العالمين.
فلما أن علمنا أن هذه حالهم، ووقفنا على أنها سبيلهم، لم نستجز ـ بعد ملكهم والقهر لهم، والعلو بعون الله على جبابرتهم ـ أن نقيم الحدود فيهم، مع ما قد علمنا من جهلهم، حتى نبين لهم ما ندعوهم إليه، وما نوقفهم عليه، ثم نمضي الحدود بعد الإنذار والإعذار؛ {لَيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللَّهَ لَسِمِيعٌ عَلِيمٌ}[الأنفال: 42].
[تسبيح الجمادات وسجودها]
وسالت أكرمك الله عن قول الله سبحانه: {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لاَتَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ} [الإسراء: 44].
__________
(1) في (أ): بهم.
(2) في (أ): هلاك.
(3) ليس في (أ).
(4) في (ب): فبلغ.

(2/474)


واعلم أن معنى هذا وأحسن ما يؤول في فهمنا أن الله تبارك وتعالى أراد بذلك أنَّه ليس من شيء إلاَّ وفيه من أثر صنعه وتدبيره وتقديره؛ ما يدل على جاعله ومصوره، ويوجب له سبحانه على من عرف أثر صنعته(1) فيه التسبيح والتهليل، والإقرار بالواحدانية والتبجيل، عند تفكر المتفكر واعتبار المعتبر؛ بما يرى من عجائب فعله جل جلاله، فيما خلق من عروق الأشجار الضاربة في الثراء، وفروعها الباسقة في الهواء، وما يكون منها من ثمار مختلفة شتَّى، فإذا نظر إلى اثر تدبير الجبار فيها أيقن بالصنع، وإذا أيقن بالصنع أيقن بالصانع، وإذا استدل على الصانع ثبتت معرفته في قلبه، ورسخت وحدانيته في صدره، فإذا ثبتت المعرفة في قلب المعتبر، وصحت في جوراح الناظر؛ نطق لسانه بالتسبيح لجاعل الأشياء، وظهرت منه العبادة لصانعها.
__________
(1) في (أ): صنعه.

(2/475)


فهذا معنى: {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ}، لمَّا كان في الأشياء كلها الدليل على جاعلها، وفي الدليل على جاعلها ما يوجب الإقرار به، وفي الإقرار به ما يوجب ذكره بما هو أهله من التقديس والتبجيل ، والتسبيح والمعرفة والإقرار لقدرته(1)، جاز أن يقال: {يُسَبِّحُ}؛ إذ كان بسببه التسبيح من المسبح، المستدل على ربه بما بين له في كل شيء من أثر صنعته(2) فقال: {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ} وهو يعني بالتسبيح تسبيح المسبحين؛ لسبب أثر الصنع من المعتبرين بذلك، فجاز ذلك إذ كان بسبب أثر الصنع في هذه الأشياء، وكان التسبيح فيها من المسبحين، المقرين بالله المعترفين، وما التسبيح إلا كقول الله: {زينا لهم أعمالهم}[النمل: 4] فليس(3) الله يزين لأحد قبيحاً، ولكن لما كان سبب زينة الدنيا وما فيها من الله خلقاً وجعلاً، وكان منه الإملاء للفاسقين، والتأخير الذي به تزينت أعمالهم، جاز أن يقال: {زَيَّنَا} ولم يزين لهم سبحانه قبيحاً من فعلهم.
وكذلك قوله سبحانه: {وَلاَ تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا}[الكهف: 28]، فليس الله سبحانه يغفل قلب أحد عن ذكره، ولا يصرفه عن معرفته، ولكن لما أن كان منه سبحانه ترك المعاجلة للمسيء على فعله، والتأخير له في اجله، جاز أن يقول: {أَغْفَلْنَا}؛ إذ كانت الغفلة هي الإعراض، والترك للحق والتوبة والإنابة. فجاز من قبل إملاء الله وتأخيره للمسيء المذنب أن يقول: أغفلنا؛ على مجاز الكلام.
ومثل هذا كثير في القرآن يعرفه ذو الفهم والبيان.
__________
(1) في (أ): بقدرته.
(2) في (أ): صنعه.
(3) في (أ): وليس.

(2/476)


ومما حكى الله تعالى عن ولد يعقوب عليه السلام {وَاسْأَلِ القَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيْهَا وَالعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنَا فِيهَا}[يوسف: 82] فقال: القرية، والقرية فإنما هي البيوت والدور، وليس البيوت والدور تَسأل، وإنما أراد أهل القرية؛ لأنها من سبب الأهل، والأهل من سببها، فجاز ذلك في اللغة العربية.
وكذلك قولهم: سل العير التي أقبلنا فيها، والعير فإنما هي الجمال المحملة، وليس الجمال تسأل، ولا تجيب ولا تستشهد، وإنما أرادوا أهل الجمال وأرباب الحمولة، فقالوا: سل العير، وإنما أرادوا أهلها.
فكذلك قوله سبحانه: {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ} يريد وإن من شيء إلاَّ وهو يوجب التسبيح على من اعتبر ونظر، وفكر في أثر صنع الله بما فيه، فجاز أن يقال: {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ}، لما أن كان أثر الصنع فيه موجباً للتسبيح لصانعه، على المعتبرين من عباده.
فأما قوله: {وَلَكِنْ لاَ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ} (فهو ذم لمن لم يعتبر ويستدل بأثر الصنع في الأشياء، فقال: {وَلَكِنْ لاَ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ})(1) يريد: لا يفقهون ما به من أثر الصنع فيها، الذي يوجب التسبيح للصانع والإجلال والتوقير. فكان ذلك ذماً لمن لا يعتبر ولا يتفكر، ولا يحسن التمييز في أثر صنع الله فيعلم بأثر صنعه؛ ما يستدل به على قدرته، ويصح لربه ما يجب لمعرفته (2)؛ من توحيده والإقرار بربوبيته.
وأما قوله: {وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ}[الرحمن: 6] فقد قال بعض العلماء: إن معنى السجود سجود ظلال الأشياء، ووقوعها على الأرض.وقال بعضهم: إن هذا على المثل، يقول: إنَّه لو كان في شيء من الأشياء؛ من الفهم والتمييز مثل ما جعل الله في الآدميين والشياطين، والملائكة المقربين؛ إذن لعبد الله كل شيء وسبحه بأكثر من عبادة الآدميين وتسبيحهم.
__________
(1) سقط من (أ).
(2) في (أ): بمعرفته.

(2/477)


فجعل هذا مثلاً؛ كما قال سبحانه: {إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ}[الأحزاب: 72] الآية، أراد تبارك وتعالى أنَّه لو كان في السموات والأرض والجبال من الفهم والتمييز ما في الآدميين، ثم عرض عليها ما عرض على الآدميين من حمل الأمانات التي قبلها الآدميون؛ لأشفقت السموات والأرض والجبال من حملها، ولما قامت بما يقوم به الآدمي من نقضها(1)، مع ما في الأمانة من الخطر وعظيم الأمر على من لم يؤدها(2) على حقها، ويقم بها على صدقها.
والأمانة على صنوف شتى، فمنها قول الحق وفعله، ومنها أداء الشهادة على وجهها، ومنها أداء الحقوق إلى أهلها، من الأنبياء المرسلين، والأئمة الهادين، ومنها الودائع من الأموال وغيرها.
ومنها العقود التي قال الله تبارك وتعالى فيها، وفيما عظم من خطرها، وأجل من أمرها: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالعُقُودِ}[المائدة: 1].
فكل ما ذكرنا فهو أمانة عند العالمين، واجب عليهم تأديتها عند رب العالمين.
__________
(1) في (ب): من بعضها.
(2) في (ب): يردها.

(2/478)


وأحسن ما أرى والله أعلم وأحكم في تأويل قوله سبحانه: {وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ}[الرحمن: 6]، أنَّه أراد بقوله: يسجدان ومعنى يسجدان؛ فهو لما فيهما من التدبير، وأثرالصنع والتقدير؛ لله الواحد القدير. فإذا رأى المعتبرون المؤمنون ما فيهما من جليل صنع الله، وعظيم(1) جعله لهما، وما سخرهما له وجعلهما عليه، من جولان النجم في الأفلاك، تارة مصعداً وتارة منحدراً، وتارة طالعاً وتارة آفلاً، تقديراً من العزيز العليم لما أراد من الدلالة على الدهور والأزمان، والدلالة على عدد الشهور والسنين والأيام للإنسان، فإذا رأى ذلك كله مسلم تقي، أو معتبر مهتد؛ سجد له بالمعرفة والإيقان، واستدل عليه سبحانه بذلك الصنع في كل شأن؛ فَعَبَدَه عِبَادَةَ عارف مقرٌ، عالم غير منكر، فسجد له متذللاً عارفاً، مستدلاً عليه سبحانه بما أبصر من الدلائل في النجوم عليه.
وكذلك حال الشجر وما فيه من عجائب الصنع والتدبير، وما ركبه الله سبحانه عليه من التقدير، في ألوان ثمارها وطعومها، واختلاف ألوانها، وهي تسقى بماء واحد وتكون في أرض واحدة، كما قال الله سبحانه: {وَفِي الأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيرُ صِنْوانٍ تُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الأُكُلِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَومٍ يَعْقِلُونَ}[الرعد: 4] فكل ذلك من اختلافها، دليل على قدرة جاعلها، ووحدانية فاطرها.
فهذا أحسن المعاني عندي والله أعلم وأحكم في (يسجدان)، أنَّه يسجد من أثر الصنع فيهما، وأثر القدرة في تقديرهما؛ كُلُّ مؤمن عارف بالله، مقرٌ بصنع الله وحكمته، ويستدل(2) عليه بأثر قدرته.
فافهم مابه قلنا في قوله يسجدان، وتفكر فيما شرحنا وميز قولنا؛ يبن لك فيه الصواب، ويزح عنك فيه الشك والإرتياب.
[متى يعلم العبد أنه صادق عند ربه]
__________
(1) في (ب): وعظم.
(2) في (أ): يستدل.

(2/479)


وسالت فقلت: متى يعلم العبد أنَّه صادق عند ربه.
والجواب(1) في ذلك أنَّه إذا علم من نفسه أنَّه مطيع له غير عاص، صادق غير كاذب، وقائم بحجته غير مقصر، ومُؤَمن لنفسه من عقوبة ربه؛ بما يكون منه من طاعة خالقه، وترك جميع ما يسخط سيده، فهو ـ إذا أيقن من نفسه بذلك ـ صادق عند ربه، مقبولٌ ما يكون من عمله، محمود في كل فعله.
[لقاح العقل]
وسالت(2) عن لقاح العقل.
ولقاح العقل فهو التجربة؛ لأن كل شيء يحتاج إلى العقل، والعقل محتاج إلى التجربة ومضطر إليها، غير مستغن عنها.
[رياضة النفس]
وسالت عن رياضة النفس ما هي؟ وكيف هي تكون؟
واعلم رحمك الله ووفقك، وهداك للرشد وسددك، أن رياضة النفس على صنوف، يجمع الصنوف المختلفة أصلٌ واحدٌ تكون فيه مؤتلفة، وهو: ترغيبها فيما أعد الله للمتقين، وجعل سبحانه في الآخرة من الثواب للمؤمنين، وحكم به من الفوز لأوليائه الصالحين، والترهيب لها بما أعد الله للعاصين؛ من العذاب المهين، وشراب الحميم، وطعام الزقوم،، وما أشبه ذلك من ألوان العذاب المقيم.
فهذا أصل رياضة النفس.
ومن فروع ذلك ما روي عن بعض الصالحين أنَّه كان يرهب نفسه بما يشبهه(3) بعذاب رب العالمين؛ من أنَّه كان ربما لذع نفسه بالنار إذا طمعت، أو همت بالمعصية أو طغت، فإذا وجدت حرقة النار، قال: هذا جزعك من النار الصغيرة، فكيف تدعينني إلى ما يدخلني وإياك النار الكبيرة.
ومن رياضة النفس ما ذكر عن بعض الصالحين من أنَّه كان يخلو،ثم يخاصم نفسه بأرفع ما يكون من الصوت، كما يخاصم الخصم خصمه، ويحاور الضد ضده؛ فيقول: فعلت بي كذا وكذا، وفعلت بي كذا وكذا، وهذا هلكتي وهلكتك، وتلفي وتلفك، فلا يزال كذلك حتى تنكسر له نفسه، وتراجع له.
__________
(1) في (أ): الجواب.
(2) في (أ): وسألت فقلت: ما لقاح العقل.
(3) في (ب): مما يشتهيه.

(2/480)


ومن رياضة النفس ـ مما هو(1) فرع للأصلين الذين أثبتناهما وذكرناهما لك وفسرناهما ـ ذكرها(2) للموت والفناء، وخروجها مما تميل إليه من لذات الدنيا، وانتقالها من دار سرورها ورخائها، إلى دار فنائها وبلائها، وما يكون من تمزق بدنها في الثرى، ثم ما يكون من بعده من الحسرة في يوم الدين، والمحاسبة لها من رب العالمين.
ومن رياضتها تذكرها لأهوال(3) الوقوف في يوم الحشر، وما في كتاب الله من وصف حال يوم النشر(4).
فهذا وما كان متفرعاً من الأصلين فهو رياضة النفس وتوقيفها، وردها إلى الحق وتعريفها.
وأصل ذلك كله وفرعه، والذي هو عون لصاحبه على نفسه؛ فهو إخلاص النية إلى ربه، والإستعانة به على نفسه، فإن من خلصت له نيته، وصلحت له علانيته؛ أصلح الله له سريرته، وقواه على إرادته، بالتوفيق والتسديد، والمعونة والتأييد؛ لأنَّه إذا كان منه ما ذكرنا من إخلاص النية والإرادة، والإقبال إلى الله والتوبة؛ فقد اهتدى، وإذا اهتدى فقد قبله الله سبحانه فزاده هدىً، ومن زاده هدى، فقد وجب له الحياطة، في كل معنى، ومن حاطه الله وهداه فقد أعانه على طاعته وتقواه.
[متى يعلم العبد اجتهاده في رضاء الله]
وسالت فقلتَ: متى يعلم العبد أنَّه مجتهد في رضاء ربه؟
فالجواب أنَّه لا يعلم بحقيقة العلم أنَّه مجتهدٌ لله فيما يرضيه، حتى يعلم أنَّه أبداً لا يعصيه، فإذا وثق من نفسه، أنه لا يأتي لله معصية، ولا يترك له فريضة؛ فعند علمه بذلك من نفسه؛ يعلم أنَّه مجتهد في رضى ربه، فعلمه باجتهاده ورضى ربه(5)، تابع لعلمه بالإئتمار بأمره، والإنتهاء عن نهيه، وعلى قدر ما يكون الإئتمار من العبد بأمره، والإنتهاء عن نهيه، يكون الإجتهاد منه في رضى خالقه.
[متى يعلم العبد استحقاقه للجنة]
__________
(1) في (ب): ماهو.
(2) في (أ): تذكرها.
(3) في (أ): تذكيرها هول.
(4) في (ب): النشور.
(5) في (أ): في رضى ربه.

(2/481)


وسالت فقلت: متى يعلم العبد أنَّه قد استوجب الجنة من الله سبحانه؟
والجواب(1) في ذلك إذا علم بحقيقة العلم أنَّه قد أخلص التوبة النصوح إلى الله، وأنه لا يدخل في معصية من معاصي الله، وأنه لا يدع شيئاً من فرض الله؛ ثم علم أن ذلك منه بإخلاص واستواء، وثبات ونية وتقوى؛ فليعلم عند ذلك أنَّه من المؤمنين، وقد أخبر الله بمحل المؤمنين، فقال سبحانه: {أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كَانَ فَاسِقاً لاَ يَسْتَوُونَ * أَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَأْوَى نُزُلاً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}[السجدة: 18 ـ 19]؛ فإذا أيقن بذلك من نفسه وعلمه، فليعلم أنَّه قد صار من أهل الجنة، كما ذكر الله في كتابه في هذه الآية التي ذكرنا (والله أعلم)(2).
[المساواة في الحقوق]
وسالت فقلت: أكان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يساوي بين الأغنياء والفقراء في الحق؟
وكذلك لعمري كان صلى الله عليه وآله وسلم.
فإن كنت تريد بقولك: (يساوي بينهم في الحق، أي) (3) يساوي بينهم في الحكم، وينصف كلاً من صاحبه؛ فكذلك لعمري كان صلى الله عليه وآله وسلم. وإن كنت تريد بقولك: يساوي(4) في الجوائز والعطاء والرزق؛ فنعم قد كانوا عنده في ذلك سواء فيما يجب لهم ويجري عليهم، مما يجب(5) التسوية بينهم فيه؛ مثل قسم الفيء، وقسم الغنائم. فأما في أرزاق المرتزقين(6)، وسهام الأجناد المتجندين؛ فلا يستوون في ذلك، ولا يكونون في الجوائز(7) سواء كذلك، بل الأرزاق للمرتزقين؛ على قدر ما يرى(8) إمامُ المسلمين من جرايتهم وعنايتهم، وحاجتهم إلى ما كفهم وأغناهم، وقام بأسبابهم؛ فعليه في ذلك حسن النظر لهم؛ والتمييز في كل ذلك بينهم.
__________
(1) في (أ): الجواب.
(2) ليس في (أ).
(3) سقط من (أ).
(4) في (ب): سواء.
(5) في (ب): مما يوجب.
(6) في (ب): وأما ما في أرزاق المرزوقين.
(7) في (ج): في الحق.
(8) في (أ): على ما قد يرى.

(2/482)


[أخذ الجزية من الدراهم]
وسالت فقلت: كان(1) رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم يأخذ من أهل الذمة ثوباً عسكرياً(2) وغيره من العروض من الإنسان منهم، ومن اين جاز أن يؤخذ اليوم منهم ثمانية وأربعون درهماً، وأربعة وعشرون، واثنا عشر؟
القول في ذلك: أنَّه كان صلى الله عليه وآله وسلم، لما أمره الله بأخذ الجزية من جميع أهل الذمة، أخذ منهم ما أمر به، فكان ما أمربه(3): أن يأخذ من ملوكهم ثمانية وأربعين درهماً ومن أوساطهم أربعة وعشرين درهماً، ومن فقرائهم اثني عشر، ولم يكن في دهره ولا في أرضه ولا في دار هجرته في ذلك الوقت من ملوكهم أحد، وكان كل من كان معه في دارهجرته فقراء وأوساطاً أصحاب اثني عشر وأربعة وعشرين، وكانت الدراهم تعسر بهم، ولا تتهيأ في ذلك الوقت معهم، فكان يأخذ منهم عروضاً من ثياب وغيرها؛ بالقيمة التي يقومها من يفهما(4) ويبصرها، وكذلك فعل من كان بعده، أخذوا من أهل الجزية حين وصلوا إلى اليسارة منهم؛ أخذوا الثمانية وأربعين درهماً التي(5) ذكرها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن الله، وأمر بها فيهم بأمر الله. وكذلك أيضاً لو عسرت عليهم اليوم الدراهم، لأخذنا من كل إنسان من تجارته وبضاعته عرضاً بقيمة الدراهم، إذا صح عسرها عليهم، وثبت امتناعها منهم.
[كلام أهل الجنة لأهل النار هل هو حقيقة أم مثل]
وسالت عن كلام أهل الجنة لأهل النار في قولهم: {فَهَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقّاً قَالُوا نَعَمْ}[الأعراف: 44] فقلت: أمَثَل هو مضروبٌ؟ أم قول مقول؟ وقلت(6): هل يقرب بينهما حتى يكلم بعضهم بعضاً؟
واعلم هديت ووفقت أنَّه قول مقول منهم، وعمل معمول من فعلهم.
__________
(1) في (أ): أكان.
(2) في (أ): ثوب عسكري.
(3) في (أ): ما أمر به.
(4) في (ب): من يقيمها وينصرها.
(5) في (أ): الذين.
(6) في (ب): فقلت: هو.

(2/483)


فأما ما سألت من التقرب (1) بينهم حتى يسمع بعضهم قول بعض؛ فليس ذلك كذلك فيهم، ولا ذلك فعل الله تبارك وتعالى بهم، وكيف يسمع أهل الجنة كلام أهل النار، وهم لا يسمعون حسيس النار؟ فحسيس النار أشد حِساً، وأبعد صوتاً(2) من كلام أهلها الذين ذكر الله عنهم، وشرح سبحانه أنَّه يكون منهم.
ألا تسمع كيف يقول الله سبحانه: {لاَ يَسْمَعُونَ حسيسها وَهُمْ فِيمَا اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ خَالِدُونَ}[الأنبياء: 102]؟ فأخبر أن المؤمنين لا يسمعون للنار حسيساً، وأنهم عنها مبعدون.
وإنما كلامهم لأهل النار، وكلام أهل النار لهم، عند قولهم: {أَفِيضُوا عَلَينَا مِنَ الْمَاءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ}[الأعراف: 50] فهو بالرسائل التي تبلغها الملائكة عنهم، وتمشي بها بينهم، وذلك منها صلوات الله عليها فبإذن من الله لها فيه، وتقدير منه سبحانه لها عليه.
وإنما جعلهم الله كذلك، وأذن لهم في ذلك؛ ليكون ذلك سروراً للمؤمنين، ومعرفة منهم بما نزل بالمكذبين الضالين، فيتجدد لهم بذلك البهج والسرور، وتكمل لهم به الغبطة والحبور، ويكون ـ من علم أخبار المؤمنين، وبما هم(3) عليه من عطايا رب العالمين ـ حسرة في قلوب الكافرين، وعذاباً لهم مع عذاب النار، وأسفاً لما فاتهم من كريم القرار، ونعيم الدار؛ التي جعلها لله ثواباً للأبرار.
فافهم ما عنه سألت، وقف من الجواب على ما طلبت.
[هل ترد أزواج المؤمنين في الآخرة]
وسالت فقلت: هل ترد على المؤمنين أزواجهم اللواتي كن معهم في الدنيا؟
واعلم رحمك الله أنهن إن كن مؤمنات مثلهم، متقيات لله كَهُمْ؛ جمع الله بينهم في الآخرة الباقية، كما جمع بينهم في دار الدنيا الفانية.
__________
(1) في (ج): من القرب.
(2) في (ب): ضرراً.
(3) في (أ): وما هم.

(2/484)


وقد ذكر أن الرسول(1) صلى الله عليه وعلى آله وسلم سئل عن ذلك فقال: (( نعم يجمع الله بين جميع أهل البيت، إذا كانوا مؤمنين في دار ثواب المتقين )).
[معنى وإن يوماً عند ربك كألف سنة]
وسالت عن قول الله سبحانه: {وَإِنَّ يَوماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ}[الحج: 47].
المعنى في ذلك فهو إخبار من الله سبحانه عن نفاذ قدرته، وإمضاء مشيئته، وسرعة فعله، يخبرسبحانه أنَّه يُنفِّذ في يوم واحد ما ينفذه جميع الخلق إذا اعتونوا(2) عليه في ألف سنة؛ من محاسبة المحاسبين، وتوقيف الموقفين على ما تقدم من أعمالهم في دنياهم وحياتهم.
فهذا معنى ما عنه سألت من قول الله سبحانه: {وَإِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ}[الحج: 47].
[من ظلم دراهم أو دنانير كيف يستوفيها في الآخرة]
وسالت عمن ظُلِمَ في الدنيا دنانير أو دراهم، كيف يكون اللحوق لحقه(3) من ذلك في الآخرة، وليس في الآخرة دراهم ولا دنانير؟
القول في ذلك: أن الله سبحانه يعطي المظلوم إذا كان مؤمناً من الثواب على ما امتحنَ به من ذهاب ماله في الدنيا، فصبر لله على ذلك صبراً حسناً؛ فآتاه من الثواب والجزاء؛ أكثر مما لو رد إليه أموال الدنيا، ويعرفه سبحانه أن ذلك جزاء على ما كان من صبره واحتسابه؛ بما ذهب في الدنيا من ماله، ويستوفي له من ظالمه الفاسق الردِّي؛ بالزيادة في العذاب الأليم، حتى يعلم الخائن أن ذلك نزل به خصوصية على مظلمة المؤمن، ويطلع الله المؤمن على ما نزل بظالمه، ويعلمه أن ذلك الذي حل به من الزيادة في العذاب هو من أجل ما غصبه من ماله، وظلمه به في حقه.
فهذا حال المؤمن المظلوم، وحال الفاسق الظالم عند الجزاء؛ في الآخرة التي تبقى.
__________
(1) في (أ): أن رسول الله.
(2) في (ج): اعتنوا.
(3) في (ب): يكون اللحوق يصلح ما لحقه.

(2/485)


فإن كان الظالم والمظلوم فاسقين عذبهما على كفرهما وفسقهما، وزيد في عذاب الظالم من الفاسقين لصاحبه، حتى يعلم كلاهما أن تلك الزيادة نزلت بالظالم لتَعِديه في حكم ربه، وتناوله ما حرم الله عليه من ظلمه، ومَنَع منه من غشمه.
فافهم هديت ما به قلنا ـ فيما عنه سألت ـ وشرحنا.
[تعدد الأئمة الأكفاء]
وسالت عن الأئمة يخرج واحد واثنان وثلاثة وأربعة في عصر واحد، يكونون أكفاءً (1) زعمت في العلم والجسم والورع، فقلت: من المستحق منهم؟
واعلم رحمك الله أن الأمر لأفضلهم فضلاً، وأبرعهم معرفة وعلماً.
فإن قلت: قد استووا (في ذلك، فلن يستووا، ولن يشتبهوا عند من جعل الله له لباً، وتمييزاً وفهماً؛ وذلك أنهم إن استووا) (2) في الورع، فلن يستووا في العلم، وإن استووا في العلم فلن يستووا في سائر الخصال، وإن التبس أمرهم في ذلك عند الجهال؛ لم يلتبس أمرهم في التعبير والكلام، والتبيين والشرح لشرائع الإسلام؛ فيكون (أولهم)(3) أولاهم بالإمامة، وإن اشتبهوا في الورع والعلم والمعرفة فأجودهم شرحاً وتبييناً، وأهداهم (إلى تفهيم الرعية ما تحتاج إليه، وما لا غنى بها عنه، ولا عذر لها فيه. فمن كان له الفضل) (4) في شيء مما ذكرنا، كان أحق الجماعة بالإمامة من ربنا.
فافهم ما قلنا، وتبيّن في مسألتك ما شرحنا.
[معنى: وعلى الأعراف رجال]
وسالت عن قول الله سبحانه: {وَعَلَى الأَعْرَافِ رِجَالٌ يَعْرِفُونَ كُلاًّ بِسِيمَاهُمْ}[الأعراف: 46].
الجواب في ذلك أن {الأعراف} هو: ما ارتفع من الأرض وعلا، وشمخ منها في الهوى.
فتلك أعراف الأرض ومعارفها.
والرجال التي عليها في يوم الدين، فقد قيل: إنها رجال من المؤمنين.
__________
(1) في (أ): أكفياء.
(2) سقط من (أ).
(3) سقط من (ج).
(4) سقط من (ب).

(2/486)


وقيل: إنها الحفظة التي كانت من الملائكة المقربين، حفظة في الدنيا على العالمين، التي قال الله في كتابه وذكرهم، وما أخبر(1) من حفظهم لمن كان من الخلق معهم، حين يقول: {عَنِ اليَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٍ * مَا يَلْفِظُ مِنْ قَولٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ}[ق: 17 ـ 18]، وهذا فأشبه المعنيين عندي والله أعلم وأحكم.
ومعنى {يَعْرِفُونَ كُلاًّ بِسِيمَاهُمْ} فهو: معرفة أولئك الحفظة لمن كانوا يحفظون. ومعنى {يَعْرِفُونَ} فهو: يتعرفون ويتفهمون، حتى يوقنوا بهم، ويعرفوهم ويقفوا عليهم ويثبتوهم معرفةً. ومعنى {بِسِيمَاهُمْ} فهو: بِحِليتهم التي كانوا يعرفونها في الدنيا، ومعناهم في صفاتهم وخلقهم، وبنيتهم المعْرُوفة من صُوَرِهِم.
[رفع اليدين في التكبير]
وسالت عن رفع اليدين في التكبير.
وهذا أمر لا يجيزه في الصلاة علماء آل رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم؛ لأن الصلاة إنما هي خشوع وتذلل لذي الجلال والطول، وإرسال اليدين والكف عن رفعهما؛ أكبر في الدين لصاحبهما.
وقد قيل: إن رفع اليدين فعال جاهلي كانت قريش تفعله لآلهتها وأصنامها، عند الوقوف تجاهها، والسلام منهم عليها. فإن يكن ذلك كذلك والله أعلم، فلا ينبغي ولا يجوز لمسلم أن يَفْعَل ما يُفْعَلُ للأصنام، مع ما في ذلك من قلة الخشوع لله؛ لأن الصلاة التي فرضها الله فرض معها الخشوع والتذلل؛ فلما كان ترك رفع اليدين في الصلاة إلى الخشوع أقرب؛ كان فعله دون غيره على المصلي أوجب.
[قيام الليل]
وسالت عن قول الله سبحانه: {إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ} إلى قوله: {فَاقْرَأُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ}[المزمل: 20] فقلت: إن بعض الناس زعم أن هذا فرض من الله. وقال بعضهم: نافلة.
__________
(1) في (ج): وما بين.

(2/487)


واعلم رحمك الله أن الله عزَّ وجل لم يَعنِ بما ذكر من الصلاة في أول هذه السورة وآخرها، إلاَّ صلاة العَتَمة المفروضة. فجعل هذه الأوقات لمن كان كذلك وقتاً، ألا تسمع كيف قال(1) سبحانه: {عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضَى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَاقْرَأُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاَةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً} [المزمل: 20] فأوجب على كل مريض، وعلى كل مسافر، وعلى كل مجاهد فعل ذلك، وإقامة الصلاة في هذه الأحوال كلها، ولا يجب ما أوجب الله من ذلك، على من كان من الخلق كذلك؛ إلاَّ وهو فرض مؤكد، وأمر مشدد. ولا يُعْرَفُ لله في الليل فرضُ صلاة مفروضة؛ إلاَّ ما ذكرنا من العتمة والعشاء، وقد شرحنا ذلك وفسرناه، واستقصيناه فيما شرحنا من تفسيره في سورة المزمل.
[صلاة التراويح]
وسالت عما روي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (( أنه صلى التراويح في شهر رمضان ليلة واحدة، ثم أمر الناس بالأنصراف إلى بيوتهم ))، وقد روى ذلك بعض الناس وذكره، ولسنا نصحح شيئاً من ذلك لا ليلة ولا ليلتين، ولا نعرفه عنه ولا نرويه. ولم يبلغنا أنَّه صلى بالناس صلى الله عليه وآله وسلم تراويح ليلة ولا ليلتين، ولا ساعة ولا ساعتين، ولا ركعة ولا ركعتين، ولم يروه أحدٌ من علمائنا ولم يأثره(2) عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أحد من أبائنا، ولو كان ذلك شيئاً كان منه؛ لروته آباؤنا عن آبائها وجدودها، ولما سقط عنهم شيء منه، ولأتوا به مصححاً عنه.
[اختلاف الزوجين في الدين]
__________
(1) في (أ): يقول.
(2) في (بأ): يوثره.

(2/488)


وسالت عن الرجل يتزوج امرأة(1) لا تعرف الدين، ومذهبها على خلاف مذهبه، وهي في فنٍّ سوى فنّه، فعلمها ما يجب عليها من دينها، وما هو الحق اليقين عند ربها، فلا تتعلم، ولا تقبل ولا تفهم، فقلت: هل يجوز له أن يمسكها على ذلك؟
فالواجب عليه أن لا يبقي غاية في نصيحتها(2)، والتأني بها، وتعريفها وتفهيمها؛ فإن عرفت وفهمت، وتابت ورجعت؛ فذلك الواجب عليها، وإن أبت الدين، ولجَّت في مخالفة اليقين؛ فلا يجوز له إمساكها، ولا يسعه الإفضاء إليها، حتى ترجع إلى الحق الذي افترضه الله عليها الواحد الخلاق، أو يوقع عليها إن غَلَبته بينه وبينها ـ الواجب على مثلها من الفراق.
[معنى: ويحمل عرش ربك]
وسالت عن قول الله سبحانه: {وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَومَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ}[الحاقة: 17].
ومعنى {العَرْشِ} فهو: المُلك، والملك فهو ما خلق الله وذرأ، من الآخرة كلها والأولى، وما فيهما من جميع الأشياء.
ومعنى {ثَمَانِيَة} فهو لا يخلو من أن يكون ثمانية أصناف من الملائكة، أو ثمانية آلاف، (أو ثمانية أملاك)(3). وحملها للعرش الذي هو الملك فهو: قيامها فيه ونهوضها، وقيامها به فهو: أمرها ونهيها، وإنفاذ أمر ربها، وإيصال الثواب إلى المثابين، والعقاب إلى المعاقبين، وما يكون من فعل الله في ذلك اليوم في المخلوقين.
فأخبر الله سبحانه أنَّه يقوم بحساب الخلق في ذلك اليوم، وإيصال ثوابه وعقابه إليهم، وإنفاذ جميع أمره فيهم؛ هذه الثمانية التي ذكرنا أوَّلاً، كانت من الملائكة آلافاً أو أصنافاً (أو أملاكاً) (4).
__________
(1) في (أ): مرأة.
(2) في (أ): في نصحها.
(3) سقط من (أ) و (ب).
(4) سقط من (أ) و (ب).

(2/489)


ومعنى قوله: {فَوقَهُمْ} فهو: منهم، غير أن (فوق) قامت مقام (من)؛ لأنها من حروف الصفات، فهما يعتقبان. أراد سبحانه: {وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ} منهم ثمانية، ومعنى {مِنْهُمْ} فهو: من الملائكة. فأخبر أن الثمانية هم القائمون بأمر الله في ذلك اليوم ونهيه، وجميع ما يكون من فعله في خلقه، دون غيرهم من الملائكة المقربين.
وقد شرحنا تفسير هذه الآية في كتاب على حدة شرحاً مبيناً مفسراً، مستغنياً(1) بما مضى في الكتاب عن تكراره، في هذا الموضع(2)، من شرح ذلك كفاية لمن فَهِمَ، واهتدى لمعرفة ربه فعلم.
[الصلح مع نصارى تغلب]
وسالت عما ذكر أن النبي(3) صلى الله عليه وآله وسلم صالح أهل الكتاب على أن يكون أولادهم مسلمين، لا يعلمونهم اليهودية ولا النصرانية، وقلت: قد نقضوا العهد، فهل للإمام أن يبدأهم؟ وقلت: إنَّه يقال: إنهم الذين عناهم الله بقوله: {قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الكُفَّارِ}[التوبة: 123] دون غيرهم.
واعلم هداك الله أن اليهود ليسوا في شيء من هذا، وإنما أولئك الذين صالحهم رسول الله صلى الله عليه على أن لا يصبغوا(4) أولادهم، ولا يدخلوهم في شيء من أديانهم؛ هم نصارى (بني تغلب) دون غيرهم من النصارى.
__________
(1) في (أ): مستغنىً.
(2) كذا في النسخ، ولعل الصواب: وفي هذا الموضع.
(3) في (أ): أن رسول الله.
(4) الصبغة: الملة والدين، وماء أصفر يصبغ به النصارى الطفل ويسمى التعميد.

(2/490)


وذلك أن بني تغلب عرب، وليسوا من بني إسرائيل، فأنفوا حين أخذ رسول الله صلى الله عليه الجزية من جميع أهل الذمة؛ فطلبوا من رسول الله صلى الله عليه أن يأخذ منهم ـ كما يأخذ من العرب ـ العشر، فأخبرهم صلى الله عليه وآله وسلم أن العشر لا يكون إلاَّ صدقة، وأن الصدقة لا تؤخذ إلاَّ من أهل الصلاة؛ لأنها تطهرة لهم وتزكية، فسألوه أن يأخذ منهم ضعفي ما يؤخذ من المسلمين على طريق الصلح؛ لسلامة أنفسهم، ونجاة رقابهم، لا على طريق الزكاة والتطهرة، فصالحهم صلى الله عليه وآله وسلم على ذلك، وعلى أن لا يصبغوا أولادهم، وأن يكون أولادهم من بعدهم مسلمين، فأخذ منهم من أموالهم في كل أربعين شاة شاتين، وفي كل ثلاثين بقرة تبيعين أو تبيعتين، وفي الإبل في كل خمس(1) شاتين، وفيما يكال (ويوزن)(2) الخمس مما يسقى سيحاً أو بماء السماء، أو العشر فيما سقي من السواني والدوالي والخطَّارات، وفي النقد من الذهب في كل عشرين مثقالاً مثقال، وفي (الدراهم في)(3) مأتي درهم من الفضة عشرة دراهم، نصف العشر من الذهب والفضة، وأضعف(4) عليهم ما يجب على المسلمين من الزكاة المفروضة، وشرط عليهم أن لا يدخلوا أولادهم في شيء من اليهودية والنصرانية، وعلى ذلك أعطوا العهد.
__________
(1) في (ج): في خمس.
(2) ليس في (أ) و (ج).
(3) سقط من (أ).
(4) في (أ): أضعف، والمعنى أخذ منهم ضعف ما يأخذ من المسلمين.

(2/491)


فواجب علىأهل الحق إذا أعلى الله كلمتهم، أن تُسبى نساؤهم، وتقتل رجالهم وتؤخذ أموالهم، إلاَّ أن يدخلوا في الإسلام كلهم فيرى رأيه(1)؛ لان القوم(2) الذين كانوا على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لم يفوا له بعهده، فانتقضت عهودهم، ووجب ما ذكرنامن الحكم عليهم. غير أن الباطل قد شمل وظهر، والمنكر قد علا وقهر، وعطلت الأحكام، ودَرَس الإسلام، وظهر الفسق، ومات الحق، فإلى الله في ذلك المفزع والمشتكى، عليه توكلنا وهو العلي الأعلى.
فأما ما ذكرت من أنهم الذين قال الله سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الكُفَّارِ}[التوبة: 123] فغيرهم أولى بهذه الآية منهم، من هو أقرب إلى الإسلام، وأَضّرَّ على دين محمد عليه السلام، من أولئك الكفرة الطغام.
__________
(1) أي الإمام.
(2) في (أ): لأن العرب.

(2/492)


و{الَّذِينَ يَلُونَكُمْ} فهم: الذين بينكم ومعكم ممن يدعي الإسلام، وهو كافر بالله ذي الجلال والإكرم، كاذب فيما يدعيه، ثابت من الكفر فيما هو عليه،(1) من جبابرة الظالمين، وفراعنة العاصين، الذين قتلوا الدين، وخالفوا رب العالمين وأحلوا حرام الله، وحرموا حلاله، وانتهكوا محارمه، ولم يأتمروا بأمره، ولم ينتهوا(2)عن نهيه، وحاربوه في آناء الليل وأطراف النهار، فراعِنَة ملاعين، جوَرَةٌ متكبرون(3) لا يحكمون بكتاب الله، ولا يقيمون شيئاً من شرائع دين الله، قد قتلوا الإسلام والمسلمين، وأضاعوا الأيتام والمساكين، واستأثروا عليهم بأموالهم، فمات الخلق(4) هَزَلاً في دولتهم، لا في أمور المسلمين ينظرون، ولا إلى الله يرغبون(5)، ولا عذابه يخافون، ولا ثوابه يرجون، معتكفين على اللهو والمزامير، والضرب بالمعازف والطنابير(6)، هممهم(7) هِمَمُ بهائمهم ما واروه في بطونهم، أو باشروه بفروجهم، أو لبسوه(8) على ظهورهم؛ بغيتهم إذلال الحق والمحقين، وشأنهم إظهار الفسق والفاسقين، ومعتمد أمرهم مكايدة(9) رب العالمين، فهؤلاء يرحمك الله ومثلهم، وأعوانهم وخدمهم، وأصحابهم وشكلهم؛ أولى بالمجاهدة والقتال؛ من نصارى بني تغلب الأنذال؛ لأن هؤلاء أضر بالإسلام وأهله وأنكى، ومن كان كذلك من العباد؛ فهو أولى بالجهاد لضرره على المسلمين والعباد.
فافهم ما ذكرنا من تفسير خبرهم، واجتزينا بالقليل من ذكرهم، فإن لك في ذلك كفاية وشفاء، ودليلاً على ما سألت عنه وجزاء.
[المعراج في اليقظة أو المنام]
وسالت عما روي من صعود رسول الله صلى الله عليه إلى السماء.
فقلت: أكان نائماً، أو يقظاناً؟
__________
(1) في (ب): في الكفر مما هو عليه.
(2) في (أ): ولم يأمروا.. ولم ينهوا.
(3) في (ب): متكبرين.
(4) في (أ): فمات الحق.
(5) في (أ): يرتجون.
(6) الطنبور: من آلات اللهو، معرب.
(7) في (ج): همتهم.
(8) في (أ): ولبسوه.
(9) في (أ): مكابرة.

(2/493)


وإذا صح ذلك وثبت فلا يكون نائماً أبداً، ولا يكون إلاَّ يقظاناً فهماً؛ لأنَّه إن كان كذلك فإنما أراد الله بإرقائه إلى السماء التعبير له والكرامة، وليُريه من عجائب خلقه، وعظيم فعله، ما حجبه عن غيره، ولم يكرم به سواه.
فإذا كان نائماً في ذلك كله؛ فلم ينتفع بشيء مما صعد إلى السماء له، ولم ير شيئاً مما ينتفع به؛ فلذلك استحال أن يكون نائماً كما قال من جهل.
[معنى: فكان قاب قوسين]
وسالت عن قول الله سبحانه: {فَكَانَ قَابَ قَوْسَينِ أَوْ أَدْنَى} [النجم: 9].
الجواب: أن الذي صار قاب قوسين أو أدنى هو جبريل صلى الله عليه، فكان في هذا الموقف قد دنى من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في صورته التي هو عليها مع الملائكة المقربين، حتى كان من الرسول قاب قوسين أو أدنى.
ومعنى {قَابَ قَوْسَينِ} فهو: مقياس رميتين بالقوس في الهواء، فدنى منه صلى الله عليهما حتى كان في الموضع الذي ذكره الله تبارك وتعالى فيه؛ {فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى}[النجم: 10] مما أرسله الله به من الأشياء.
فهذا تفسير ما عنه سألت من قوله: {قَابَ قَوسَينِ أَوْ أَدْنَى}.
[ما يجزي الأعجمي من المعرفة]
وسالت عن عجمي لا يحسن إلاَّ سورة أو سورتين من القرآن (فقلت)(1): هل يجزيه(2) إذا عرف أصل التوحيد؟
فلعمري إن ذلك مجزِ كاف؛ إذا أقام بالسورتين أو الثلاث ما أمره الله به من الصلاة بحدودها، وأدَّى ما أوجب الله من ركوعها وسجودها، وكان في ذلك موحداً لربه، عارفاً مع ذلك لعدله، مصدقاً لوعده ووعيده، عارفاً بالحق وأهله، تاركاً لمعاصي ربه، مؤدياً لفرائض إلهه؛ فإذا كان(3) كذلك فهو من المسلمين، وعند الله إن شاء الله من الناجين، ولم يضره عجمة لسانه، إذا أقام له قلبُه دعائم أديانه.
[ما يجزي المرأة من المعرفة]
__________
(1) في (أ): من عجمي.
(2) في (أ): هل يجوز.
(3) في (ب): كان ذلك كذلك.

(2/494)


وسالت عن النساء إذا عرفن الله وأدين الفرض؛ فقلت: هل يجزيهن ذلك عن تعليم(1) القرآن، وفرائض الله الرحمن؟
الجواب في ذلك أنَّه لا بد للنساء والرجال؛ من معرفة ما أوجب الله فرضه من الأعمال، وأوجب على الخلق القيام به من الأفعال، إلاَّ ما طرحه الله عن النساء من الجهاد، والسعي إلى الجمعة، وما أشبه ذلك من الأشياء، وأنه لا يجوز لهن التقصير عن معرفة ما أوجب الله عليهن معرفته، والعمل بما أوجب الله عليهن العمل به.
وعليهن أن يتعلمن ويتفهمن، ولا يجوز لهن أن يتعلقن بالجهل المنهي عنه، ولا يتمادين في شيء منه. تمت المسائل وجوابها، والحمد لله حمداً كثيراً، وصلواته على سيدنا محمد النبي وعلى آله الذين طهرهم من الرجس تطهيراً.
****
جواب مسائل
الحسين بن عبدالله الطبري(2)
m
__________
(1) في (ج): تعلم.
(2) في (ب): الحسن بن عبدالله، ولم أقف له على ترجمة ولاذكر في سيرة الإمام، والطبريون جماعة من طبرستان هاجروا إلى الإمام ووقفوا معه مواقف الأبطال، وثبتوا ثبوت الجبال، وكانوا يده الطيعة التي يصول بها على أعدائه، وساعده في حروبه على المتمردين عليه، مع بصيرة نافذة وإدراك ثاقب.

(2/495)


قال يحيى بن الحسين بن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ذكرت حاطك الله وحفظك، ووفقك وسددك، أنَّه بلغكم وتناهى إلى بلدكم اسباب من فعلنا، وأمور من سيرتنا، التبس فيها على كثير من الناس الصواب، ولم يحضرك في كثير منها الجواب، فشنع من لا يفهمها، وأنكر علينا فيها من لا يعرفها، واستعجل بالظن السيء من لا يفقهها، حتى نسب صوابها إلى الخطأ، ونَيِّر حقها إلى العدا، فحشاً من قوله، وظلماً في حكمه، وبغياً في أمره، واستعجالاً بالسيئة قبل الحسنة، وبقول الخطأ قبل المعرفة، كأن لم يسمع الله سبحانه فيما يعيب على من فعل مثل هذا الفعال، وقال بالظن كما قال صاحب هذا المقال: {لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ}[النمل: 46]، فنعوذ بالله لنا ولك ولكل مؤمن من ذلك، ونستجير به من أن نكون كذلك.
وسنفسر لك إن شاء الله ما جهل فيه من جهل فعلنا، ونشرح لك من ذلك ما لم يقف عليه الطاعن في سيرتنا، حتى يصح لك ولهم في ذلك الصدق، ويتبين لك ولهم أن فعلنا هو الحق.

(2/496)


فما مثلنا ومثلهم، وخبرنا وخبرهم؛ فيما علمناه وجهلوه، وعرفنا مفاصل صوابه وعميوه، إلاَّ كمثل موسى وصاحبه صلى الله عليهما؛ العالم الذي اتبعه موسى على أن يعلمه مما علمه الله رشداً، فأعلمه أنَّه لا يستطيع معه صبراً؛ إذ ليس يعلم كعلمه، ولا يقف على ما يرى من فعله. فأخبره أنَّه لا يصبر إذا رأى منه شيئاً مما لا يعرفه؛ حتى يسأله ويبحثه، ويدخله الشك في فعله؛ فقال له موسى: {سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِراً وَلاَ أَعْصِي لَكَ أَمْراً}[الكهف: 69]، ثم لم يصبر لما رأى ما ينكره قلبه، حتى عاتبه فيه وسأله عنه. فكان أول ما أنكر عليه موسى عليه السلام خرق السفينة، فعظم ذلك في صدر موسى فقال له ما قال، فقال له العالم: {أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً}، فقال له موسى: {لاَ تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ وَلاَ تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْراً} فغفرها له، و{انْطَلَقَا حَتَّى إِذَا لَقِيَا غُلاَماً فَقَتَلَهُ}؛ قال له موسى: {أَقَتَلْتَ نَفْساً زَاكِيَةً بِغَيرِ نَفْسٍ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً نُكْراً قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيَعَ مَعِي صَبْراً قَالَ إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلاَ تُصَاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْراً فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا أتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُمَا فَوَجَدَا فِيهَا جِدَاراً يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ فَأَقَامَهُ قَالَ لَوْ شِئْتَ لاتَّخَذْتَ عَلَيهِ أَجْراً} يريد بهذا منه(1) ـ إذ هو خائف لا يؤمن سُقوطه ـ: تَأَجَّرت (2) في ذلك، فقال العالم لموسى: {هَذَا فِرَاقُ بَينِي وَبَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيهِ صَبْراً}[الكهف: 72 ـ 78] ثم أخبره بمعاني أفعاله، وصوابه في أعماله، التي كانت عند موسى منكرة
__________
(1) في هامش (ج): انهدامه.
(2) في (أ): فأجرت.

(2/497)


عظيمة، فاحشة كبيرة، وهي عند الله وعند العالم صواب، وعند موسى صلى الله عليه خطأ وارتياب، إذ لم يعلم وجه أمرها، ولم يقف على كنه خبرها، فيتضح له نيِّر صوابها، كما وضح لفاعلها؛ فقال فاعلها لموسى: {أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي البَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْباً} إلى قوله: {مَا لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً}[الكهف: 79 ـ 82].
وكذلك حال الإمام فيما شرحت وحال ما ذكرت ممن أنكر فعل الإمام؛ إذ لم يكن علمه كعلمه(1)، ولا حاله في المعرفة بالنازلات كحاله. وكيف يستوي المتفاوتان، أو يأتزن الرطل والرطلان، لا كيف؟! وفي ذلك ما يقول الله سبحانه: {هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الأَلْبَابِ}[الزمر: 9]، ويقول سبحانه: {وَفَوقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ}[يوسف: 76]، ويقول: {وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلاَّ العَالِمُونَ} [العنكبوت: 43]، ويقول سبحانه: {أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُوا الأَلْبَابِ}[الرعد: 19] ويقول سبحانه: {وَلَو رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلاَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاَتَّبَعْتُمُ الشَّيطَانَ إِلاَّ قَلِيلاً}[النساء: 83].
__________
(1) في (ب): عمله كعمله.

(2/498)


ومن لم يعرف ـ يرحمك الله ـ أمراً أنكره، ومن لم يقف على معنى شيء دفعه، ولوحسن يقين من أنكر فعل الإمام لم يعجل بالعيب في ذلك عليه، غير أن وسواس الشيطان، يتمكن في قلوب أهل الشك والريب من الإنسان. والشك والريب فلا يثبت معهما محض إيمان، ألا تسمع كيف يقول في ذلك الواحد الرحمن: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ}[الحجرات: 15]؟ فلم يحكم بحقائق الإيمان؛ إلاَّ لمن بعد منه الارتياب في وجوه الدين والإحسان. فنسأل الله الثبات على دينه، والتوفيق لما يرضيه برحمته.
[الزيادة على الحد للتأديب]
ذكرت ضَرْبَنَا من نضربه من بعد الحد الذي ألزمه الله تعالى إياه؛ فقلت: ما سبب هذه الزيادة من بعد تمام الحد؟
واعلم أكرمك الله أن الله سبحانه حكم على الأئمة وافترض عليهم حسن النظر للبرية، وأن تفعل في كل معنى مما ترجوا به الصلاح للرعية.
وهؤلاء القوم الذين ترانا نضربهم بعد الحد في أرجلهم ثلاثين وأربعين وعشرين؛ فهم قوم قد با يعوا على الحق، وأعطونا عقودهم(1) على الصدق، وعلى الأمر بالمعروف الأكبر، والنهي عن التظالم والمنكر، ثم نكثوا بعهودهم، وحنثوا في أيمانهم، فعملوا المنكر في أنفسهم، ورفضوا المعروف الذي يأمرون به غيرهم، وردوا الفسق بعد موته، وأحيوا المنكر في دار الحق بعد خموله.
فكان أقل(2) ما يجب على من نكث عهده، وحنث في يمينه التي أقسم فيها باسم ربه؛ أن يكون عليه في نقضه لعهده، وحنثه بقسمه؛ أَدَبٌ لما اجترأ به على ربه، وتمرد به في ذلك على خالقه، فأدبناه كما ترى غضباً لله، وانتقاماً لدين الله، وتنكيلاً له عن نقض العهود المعقدة، ورد الفاحشة بعد خمولها في دار الحق، وإظهار الكبائر والفسق.
__________
(1) في أ: عهودهم.
(2) في ب، ج: أول.

(2/499)


فهذا سبب أدبنا لمن نؤدبه بعد حد الله، وذلك الواجب على كل إمام في دين الله؛ أن يفعله بمن نقض عهده، ونكث بعد قسمه بالله. ألا تسمع كيف يقول الله سبحانه: {وَلاَ تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لأَيْمَانِكُمْ}[البقرة: 224]؟ أن يحلف المرء بالله كاذباً، أو ينقض لله عقداً. وما نهى الله عنه، ومنع عباده منه؛ فلا بد لكل من اجترأ عليه وفعله من الأدب، وإلا فلم يكن لنهي الله عنه معنى، ولا سبب.
فهذا حجتنا فيما عنه سألت من ذلك، فتدبر القول فيه يصح لك جوابه(1)، ويزول عنك شكه وارتيابه.
وكذلك ما ذكرت، وعنه سألت؛ من خرص النخل وحزرها(2)، وهذا أمر(3) لا ينكره مسلم، ولا يدفعه من كان لأحكام رسول الله صلى الله عليه وآله مسلماً؛ لأن الأمة كلها بأسرها ـ إلاَّ أن يكون الشاذ الضعيف العلم منها ـ مجمعة على أن رسول الله صلى الله عليه خرص وحزر ثمار المدينة وثمار خيبر، وكان يرسل في كل سنة عبدالله بن رواحة الأنصاري (4) فيخرص الثمار كلها، ثم يأخذهم بخرصها، ويحكم عليهم بما حزر فيها.
__________
(1) في أ، ج: صوابه.
(2) الخرص والحزر: التقدير.
(3) في (أ): وهذا الأمر.
(4) هو عبد اللّه بن رواحة بن ثعلبة بن امرئ القيس الخزرجي الأنصاري الشاعر، أحد السابقين، شهد بدراً، وكان ثالث الأمراء في غزوة مؤتة، وبها استشهد في جمادى الأولى سنة ثمان.

(2/500)


ونحن فكذلك فعلنا، وبه صلى الله عليه في ذلك اقتدينا، ثم احتطنا من بعد ذلك باستحلاف من أمرناه بخرص الثمار، فإذا أردنا أن نوجه قوماً يخرصونها من ثقات من نعلم، وأبصر من يفهم ويخرص الثمار، ممن قد جرب فهمه، وامتحن في ذلك نفسه، ثم امتحنه فيه غيره، حتى صح أنَّه أقرب أهل بلده إلى المعرفة بما وجهناه له من حرز التمر فيخرصه، ثم نستحلفه بأوكد ما يحلف به لتنصحنَّ، ولتجتهدنَّ، ولتحرصنَّ، ولتقصدنَّ الحق بجهدك، ولتحرَّيَنَّه بطاقتك، ولا تعمَّدنَّ لمسلم غشاً، ولا لمال الله وَكْسا (1)، ولئن شككت (2) في شيء من ذلك، أو التبس عليك، لتجعلن الحمل على أموال الله دون أموال عباده، ثم ننفذه فيما به أمرناه، فيجتهد ويحرص، ويكتب ما يحزر، ويخرص (3)، فإن شكا أحدٌ من الناس بعد ذلك غبناً فيما خرص عليه وحزر؛ استحلفناه على ما أتى من ثمره وصدقناه، وأخذنامنه على ما حلف عليه وتركناه.
وكذلك قد نخير من خرصنا عليه نخله؛ فنقول: إن شئت فخذ بما قد خرصنا، وإن شئت أخذنا وأوفيناك حقك على ما خرصنا وقسمنا. فهل على من فعل ذلك حيف وجور، أو تحامل في شيء من الأمور؟ أم على من اقتدى برسول الله صلى الله عليه مطعن في مقال من المقال، أو تعنيف (4) في فعل من احتذى به فيه كائناً ما كان من الأفعال؟ كلا وفالق الإصباح، ومجري الرياح؛ أن من كان كذلك لبعيد من الخطأ في كل ذلك. وليس يلزم أهل العلم فيما يفعلون من الفعال(5)؛ إنكار من لا علم له من أهل الجهل، وإنما قول العلماء؛ هو الحاكم على أقاويل الجهلاء، وليس أقاويل الجهلاء بأهل أن يحكم بها على العلماء. والحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، وسلام على المرسلين.
[أخذ المال غير الواجب للاستعانة في الجهاد]
__________
(1) الوكس: النقص.
(2) في ب: ولاسلكت.
(3) في ب: من يحزر ويخرص ثمره.
(4) في أ: أو تعسف.
(5) في ب: من الأفعال.

(3/1)


ومما سألت عنه وأحببت الجواب فيه؛ ما كان من مجيء كبراء أهل صنعاء إلينا ومشائخهم، وما سألونا من التقدم إليهم والمصير إلى بلدهم، فاخبرناهم بقلة ذات اليد، وأنا لا نطيق الإنفاق على العسكر(1)، ولا نجد إلى ذلك سبيلاً، فذكروا أنهم يعينون ويجتهدون، وأن أهل البلد على ذلك مجمعون.
فلما صرنا إليهم كتب على الناس على قدر طاقتهم، بل دون طاقتهم ودونها ، فكتب على صاحب العشرة آلاف مائة، وعلى صاحب العشرين ألفامائتان، وعلى صاحب الخمسين ديناران، وعلى صاحب الثلاثين دينار. وشبيهاً بذلك. فكلهم إلى ذلك مُسارع، وكلهم رأى فيه المنفعة لنفسه في ماله وحرمته.
وقد علمت كيف كان فعل أمير المؤمنين علي بن أبي طالب صلوات الله عليه حين دخل البصرة بعد حرب طلحة والزبير، فوجد في بيوت الأموال من أهل البصرة مالاً كثيراً؛ من الفيّ الذي هو للصغير والكبير، والمرأة والرجل، والطفلة والطفل، فدعا كبراء البلد ووجوه أهله؛ ثم قال لهم: إن في بيت مالكم مالاً، وبأصحابي حاجة شديدة، فأَطْلِقُوا لي حتى أقسمه على أصحابي دونكم، ففعلوا وأطلقوا له قسمه على أصحابه دونهم، فقسمه على أصحابه؛ فوقع لكل إنسان منهم خمسمائة درهم قفله. ولم يدع أوساط الناس، ولا النساء ولا الصبيان، ولا كل من يملكه، واجتزى برأي كبرائهم، إذ كان في ذلك صلاح لهم، ومنفعة لبلدهم، وعايدة في العاقبة عليهم، فافهم هذا المعنى.
وسنشرح لك في ذلك حجة أخرى قوية، نيَّرة بينة عند أهل العلم والفهم واضحة.
__________
(1) في ب: العساكر.

(3/2)


نحن نقول وكل ذي فهم وبصيرة من العلماء: إن الإمام المحق، العادل المستحق، له أن يأخذ من المسلمين العفو من أموالهم، اليسير الذي لا يضرهم، فيرده على صلاحهم وصلاح بلدهم، ويدفع العدو الفاجر عن أموالهم وحرمهم ودمائهم، أحبوا أم كرهوا، أطاعوا أم أبوا، ثم نقول: إن ذلك من حسن النظر لهم، الذي لا يجوز له عند الله غيره، إذ لا يجد منه بداً، ولا عن أخذه مندفعاً، وإلا لم يكن إلاَّ انفضاض عسكره، وهلاك المجاهدين الذين معه، أو أخذ ما يأخذ من رعيته؛ لأنَّه إن قصر في ذلك انفض العسكر، وافترقت الجماعة، فذل الإمام والمؤمنون، وهلكت الرعية المستضعفون، وقوي عليهم الأعداء الفاجرون، وملكتهم الجبابرة الطاغون، فأخذوا الأموال، وقتلوا الرجال، وأهلكوا الأطفال، (واصطلموا الأموال) (1)، ومات الحق، وظهر الباطل والفسق. هذا ما لا يحل(2) لإمام الحق أن يفعله، ولا يجوز هذا إلاَّ لإمام حق، مستحق بموضع الإمامة، نافذ حكمه في الأمة، حاكم بالكتاب والسنة؛ لأن في فعله ذلك نجاة للمسلمين، وفي تركه له هلاك جميع المؤمنين.
وإذا كان ذلك كذلك، فأَخْذُ جزء من أموال المسلمين فرض عليه في ذلك، فإن قصر فيه فقد شرك مهلكهم في هلكتهم، ولم يحسن النظر لهم، وكان قد تحرى في تركهم صلاحاً ورشداً، فوقع من ذلك في هلكة وارتكب إدّاً (3).
وسنضرب لك في ذلك أمثالاً(4)، ونقول فيه بالصواب إن شاء الله مقالاً؛ يصح رشده لكل ذي لُبِّ وعلم، ويتبين صدقه لكل ذي تمييز وفهم.
__________
(1) سقط من (أ، ج).
(2) في (أ): ما يحل. وكلاهما صحيح مع توجيه اسم الإشارة.
(3) الإدُّ: الداهية، والأمر الفظيع.
(4) في أ: مثالاً. وفي ج: الأمثال.

(3/3)


ما يقول من أنكر علينا ذلك في نفسه؛ لو كان في قرية من قرى المسلمين، وكان أمره فيها نافذاً وحكمه جارياً، وقوله(1) فيهم جائزاً ماضياً، ثم دلف (2) إليه طاغية من طواغي المشركين، أو طاغوت من طواغيت الباغين، ليقتل رجالها، ويسبي نساءها، ويأخذ أموالها، ويخرب ديارها، فوجد هذا الإنسان الرئيس عليها، النافذُ أمره فيها؛ أعواناً يدفع بهم عن القرية ما قد غشاها، ويزيح عنها من الهلكة ما قد أتاها(3)؛ أكان الواجب (4) عليه في حكم الله، وفيما يحب للمسلم على المسلم أن يأخذ من أموالهم طرفاً يقوت (5) به هؤلاء الذين يدفعون عنهم، حتى يسلموا من الهلكة؟ أو يخليهم حتى يهلكوا، ويُستباحوا ويقتلوا؟
فإن قال قائل: بل يخليهم فيقتلوا قبل أن يأخذ منهم يسيراً يحميهم(6) به؛ فقد أساء في القول، وجار في الحكم، وخالف الحق؛ لأن الله سبحانه يقول في كتابه: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى البِرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالعُدْوَانِ}، ومن فعل ذلك فقد أعان على الإثم والعدوان، وترك المعونة على البر والتقوى.
وإن قال: بل الواجب علي أن آخذ منهم ما أدفع به عنهم، أحبوا أم كرهوا، وأقيم فرض الله علي فيما يلزم للمسلم على المسلم، ولا أنظر إلى قولهم، إذا أبو النظر لأنفسهم، واستدعوا الهلكة إليها؛ إذكنت مقلداً لأمرهم، بنفاذ أمري وحكمي عليهم؛ فقد أصاب في قوله واحتذا، وسلك الطريقة المثلى، فهذه حُجَّة أخرى.
ومن الحجة في ذلك على من أنكره، وقال بغيره ورفضه، أن يقال له:
__________
(1) في أ، ج: وحكمه وقوله.
(2) دلف الشيخ: مشى وقارب الخطو، ودلفت الكتيبة: تقدمت.
(3) في (أ) ما أتاها.
(4) في أ: فإن الواجب، والصواب ما أثبت.
(5) في أ: يقرب.
(6) في أ، ج: يحييهم.

(3/4)


خبرنا عنك؛ لو سرت في قافلة من قوافل المسلمين، وأمرك فيهم نافذ، فوجدت في بعض الطريق قوماً قد قطع بهم، وأخذ ما معهم، وتركوا مطرَّحين(1) جياعاً عطاشاً عراة، لا يطيقون مشياً، إن تركتهم ماتوا، وإن حملتهم نجوا، وإن أطعمتهم وسقيتهم حيوا؛ أليس كان الواجب عليك في حكم الله أن تأخذ لهم من أهل الرفقة قوتاً يحييهم، وتلزمهم لهم المعاقبة على رواحلهم (2)، حتى يلحقوا بالقرى والمناهل، أولا تأخذ لهم منهم قوتاً ولا ماء ولا مركباً، فيموتوا كلهم، ويهلكوا بأجمعهم؟
فإن قال قائل: بل أتركهم يموتون؛ فقد شرك في قتلهم، وقال بالمنكر من القول فيهم، الذي ينكره عليه الجهال، فضلاً عن العلماء من الرجال. وإن قال: بل أحمل أهل القافلة على أن يواسوهم بما لا يضرهم في الطعام والشراب، والمعاقبة على الركاب؛ فقد قال بحق من المقال، وانتحل(3) صواباً من الفعال، وأدى حقوق الله وحقوق المسلمين، ونجا من قتل إخوانه أجمعين.
ألا تسمع كيف يقول الله سبحانه: {مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً} [المائدة: 32] فحكم الله علىكل مسلم بإزاحة الهلكة عن المسلمين بجهده وطاقته.
فكذلك يجب على الإمام أن يواسي بين المهاجرين والأنصار، وبين الرعية من أهل الدار، ولا يترك المهاجرين، المدافعين عن المستضعفين، الدائمين المقيمين لدعائم الدين؛ يهلكوا (4) جوعاً بين أهل الأموال والجِدة (5) من المسلمين.
ومن فعل ذلك كان على أحد وجهين:
إما افترق عنه المجاهدون إذا اشتد عليهم البلاء، ولم يجدوا قوتاً لأنفسهم ممسكاً.
__________
(1) في (ب): مطروحين.
(2) يعني أن يركب كل منهم عقيب الآخر.
(3) في (ب): وانحل.
(4) في (أ): يهلكون.
(5) الجِدَة: السعة والغنى.

(3/5)


أو صبروا فهلكوا وماتوا جمعياً معاً، ضراً وحرناً وجوعاً،، فهلك بهلكتهم الإسلام، واجتيح(1) بعدهم الأنام، وكان في ذلك كله آثماً، وللمجاهدين في الله وعلى دينه ظالماً.
فافهم هداك الله ما به قلنا، وفي ذلك احتججنا؛ فإن الحجج في ذلك تكثر لو بها نطقنا(2)، ويسير ذلك يغني عند أهل العقل عن كثيره، ويُجتزى عن الكثير فيه بيسيره.
[العشر: هل يجوز لآل رسول الله؟]
وسالت عن العشر (فقلت)(3): هل يجوز لآل رسول الله صلى الله عليه وعلىآله؟
والقول في ذلك: أنَّه لا يجوز لهم أكله، ولا استحلاله، ولا الإنتفاع بشيء منه، إلاَّ أن يشترى بأغلى الثمن وأوفاه، فيكون حاله كحال غيره من أموال المسلمين التي يحرم على المسلمين استحلالها وأكلها، وتحل لهم إذا اشتروها بالأثمان.
وكذلك يجوز للأئمة أن يشتروا الأعشار من جُبَاتِها وعُمالها بأغلى ما تباع في أسواقهم، وتحتاط في ذلك على أنفسها لهم. وكذلك في الأعلافِ من التبنان والقصبان(4)، لا تأخذ منه شيئاً إلاَّ بثمن فوق ما يباع في السوق، يحاسِبون على ذلك العمال، ويوفونهم الأثمان في كلّ حال.
فعلى هذا تجوز الأعشار للأئمة ولجميع آل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا اشتروها شراءً قاطعاً، كما يجوز لهم أكل مال اليتيم إذا اشتروه بشراءٍ منقطع.
فأما أن يأكله أحد من أهل بيت رسول الله لا يؤدي له ثمناً، ويعتقده حلالاً؛ فمن فعل ذلك فهو على غير دين الإسلام، وعلى غير شرائع دين محمد عليه السلام.
__________
(1) في (أ، ج): وأجيح.
(2) في (ب): يكثر كونها ويسير ذلك.
(3) سقط من (أ).
(4) يعني التبن والقصب.

(3/6)


بل قولنا إنَّا نتبرأ(1) إلى الله ممن استحل العشر من آل رسول الله، وقال: إنَّه حلال له من غير آل رسول الله. بل لو أن رجلاً من آل رسول الله ألجئ إلى أكل العشور استحلالاً أو إلى أكل الميتة إذا كان مضطراً؛ لرأينا له أن يأكل الميتة قبل أن يستحل ويستبيح شيئاً من العشور(2).
ثم أقول: والذي نفس يحيى بن الحسين بيده لو اضطررت إلى أن آكل جفنة مملؤة خبزاً ولحماً من العشر وأنا له مستحل مستبيح، لم أشتره بثمني، أو أدفع فيه نقدي؛ أو أن آكل من الميتة ما يمسك نفسي، ويدفع عن هلكتي؛ لأكلت من الميتة قبل أن آكل من لحم العُشُر وخبزه؛ لأن الله سبحانه قد أطلق لي أكل الميتة عند الضرورة وخوف الهلكة، ولم يطلق لي استباحة العشر ولا استحلاله في حالةٍ مَّا. فأما إذا اشتريت العُشُر شراءً صحيحاً ثابتاً، ودفعت فيه مالي ونقدي، حل لي، وطاب أكله بشرائي له، كما يحل لي مال اليتيم إذا اشتريته، ومال المسلم إذا ابتعته.
فافهم هذه الخلة التي يجوز فيها الأعشار لآل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، والحالة التي لا يجوز لهم أكلها، ولا الانتفاع بشيء منها.
وقد يجوز له بحالة أخرى، وهو أن يأخذ منها بعضُ أهلها المستحقين لها من سائر المسلمين شيئاً فيهدون بعضه إلى آل رسول الله صلى الله عليه وآله، ويدعونهم إلى طعام من أعشار الصدقة فيجيبونهم، فيجوز لهم أكله، إذا أجازه لهم أهله، فيكون أخذ المسلمين له باستحقاق ووجوب، ويكون قبول آل رسول الله صلى الله عليه له منهم ـ أن أهدوه(3) إليهم ـ قبولاً لهدية إخوانهم المسلمين، مما أطعمهم إياه وأجازه لهم رب العالمين.
فقد حل لهم بهذا المعنى وفي هذا الوجه، حين خرج من معنى الصدقة، وصار من أخيهم المسلم ـ الذي قد ملكه ـ إليهم هدية.
__________
(1) في (ب): تبرأنا.
(2) في (أ، ج): من العشر.
(3) في (ب): أن أخذوه.

(3/7)


وفي ذلك ما يروى عن النبي صلى الله عليه وعلى آله: أنه دخل على عائشة، فوجد عندها تمراً، فقال: (( من أين لكم هذا؟ قالت يا رسول الله صدقة تُصُدق بها على برّيرة(1)، فقال: هو عليها صدقة، ولنا منها هدية، فقدمته بريرة إليه فأكل منه )) .
فعلى هذا الباب قولنا به في هدايا المسلمين، إلى آل رسول رب العالمين، مما جعله الله للمسلمين حلالا من صدقات إخوانهم المؤمنين.
فافهم هديت ما عنه سألت، وقف على هذه الوجوه فقد أكملت لك فيها كل ما طلبت، مما يجوز لآل رسول الله صلى الله عليه من صدقات المسلمين، وأوساخ أيدي المتصدقين، وأعلمتك بأي سبب يحل لهم، وفسرت لك متى يجوز لهم به أكلها، والمعنى الذي يدخل في ذلك حتى يحل لهم من بعده.
[تصرف الأئمة في قسمة الأعشار وغيرها إعطاء ومنعاً]
وسالت عن المعنى الذي يجوز لهم(2) به قسم الزكاة على أصنافها، وتسليم ربعها إلى الفقراء والمساكين، وقلت: كيف كنت في أول الأمر تقسم ذلك على أهله، وأنت اليوم ربما قسمت، وربما لم تقسم، وربما أعطيت، وربما لم تعط ؟ فقد تكلم بعض من تكلم، ورأيتهم ينكرون عليك في بعض الأوقات إذا لم تقسم.
وقد سألتَ فافهم (3)، وإذا فهمت فاعلم، أن من لم يعرف شيئاً أنكره، ومن لم يعرف حقيقة أمر عَظَّمه.
أما علمت إن جهلوا، وفهمت إن غفلوا: أن رسول الله صلى الله عليه وآله لما أن أتاه مال من البحرين، يقال: إنَّه ثمانون ألف أوقيّة من أعشار البحرين ومن جزية ذمتها، ومن صواف كثيرة كانت بها؛ فقسم الثمانين ألفاً(4) في مجلسه على جلسائه، يعطيهم غرفاً غرفاً، وكفاً كفاً، حتى لم يبق من ذلك شيء؟ وذلك أنَّه صلى الله عليه وعلى آله وسلم علم أن ذلك أصلح للإسلام في ذلك الوقت، من القسم على السهام الثمانية.
__________
(1) في (أ): برّيرة: مولاة عائشة، صحابية مشهورة، عاشت إلى زمن يزيد.
(2) في (ب): لايجوز به قسم.
(3) في (أ): وسألت عن ذلك فافهم.
(4) في (أ): الثمانين الف.

(3/8)


وكذلك فعل في غنائم حنين(1)، وهب للمؤلفة قلوبهم من خمسين بعيراً إلى مائة بعير إلى مائتين إلى ثلثمائة، وحرم المهاجرين والأنصار في ذلك الوقت؛ حتى تكلم من تكلم من الأنصار، فكان منه من الفعل ما قد بلغك، وذلك فلم يفعله صلى الله عليه إلاَّ للصلاح الذي رآه، فأمضى رأيه في الغنائم، ولم يقسمها على أهلها، نظراً منه عليه السلام؛ للمسلمين والإسلام.
وكذلك كان فعلنا في العشر، نقسمه مرة، ونتركه مرة، نتحرى في ذلك الإصلاح للإسلام إذا رأيناه، وبان لنا وعرفناه، وإذا استغنى الإسلام والمسلمون، وقلت حاجتنا إلى هذه الأعشار، قسمناها على أصنافها، أو من وجدنا منهم. وإذا احتاج المسلمون والإسلام إليها؛ آثرناهم بها على أهلها، نظراً منا لهم، ومعرفة بأن ذلك أرجع في كل الأمور عليهم.
__________
(1) في (أ): خيبر. وما هنا أثبته من نخ.

(3/9)


وذلك أن الدار لا تصلح إلاَّ بالجيوش والأنصار، والخيل والرجال، ولا تقوم ولا تجتمع إلاَّ بالأموال. فنظرنا فإذا بالبلد الذي نحن فيه ليس فيه شيء غير هذه الأعشار، وإن نحن ـ عند حاجة المهاجرين والأنصار إلى القوت، وما به تدفع الهلكة والموت، من دفع هذه الأعشار التافهة إليهم، وردها دون الأصناف عليهم ـ دفعناها إلى المساكين، وغيرهم من الأصناف المذكورين؛ هلكت الجنود المجندة، وتبددت الجماعة المجتمعة، وافترق المهاجرون، وذل المسلمون، ووقعت البليَّة، وعظمت المصيبة، وشملت الفتنة، ولم تضبط البلاد، ولم يصلح أحد من العباد، وعلا الظالمون، وخمل المؤمنون، وبطل الجهاد، وخربت البلاد، وشمل البلاء، وذل الأمر والرجاء، فهلك في ذلك الضعفاء، وشحَّ الأغنياء، ومات الفقراء، ووقع الضياع، وكثر الجياع. وعلمنا أنا إن آثرنا بها من به قوام الدار، من أهل الإسلام من المهاجرين والأنصار، استوسقت السبل(1) وأمنت البلاد، وعاش العباد، وتجر التجار، وعمرت الديار(2)، وزرع الزارعون، وتقلب المتقلبون، واستغنت الرعيّة، وحسن حال البرية، فعاش بينها(3) أهل الصدقة من هؤلاء الأصناف المذكورين، وسخا الأغنياء بالعطية للطالبين، وتقلب الفقراء والمساكين؛ في دار الأغنياء الواجدين، وتكسبوا معهم، وأصابوا من فضلهم، وحسنت بصلاح دارهم حالهم(4)، واستقامت لِعِزّ الإمام أمورهم.
__________
(1) في (ب): السبيل.
(2) في (أ): البلاد.
(3) في (ب): منها.
(4) في (أ): لصلاح حالهم، كذا. وما أثبت أولى.

(3/10)


فلهذا المعنى قسمنا الصدقة عند ما يستغني عنها الإسلام والمسلمون، وحبسناها عند ما يحتاج إليها ويضطر الأنصار والمجاهدون؛ نظراً منا للرعية، واحتياطاً في الحياطة للبرية، وأداء إلى الله سبحانه النصيحة لعباده، وإحساناً وأداء إليه ما استأمننا عليه من الأموال(1) في بلاده، فصرفناها في إصلاح الدين والمسلمين، ورددناها على الأصناف من المسلمين حيناً (2)؛ اجتهاداً لله في النصيحة، وتأدية منا إليه ما حملنا من الأمانة؛ إذ كُنَّا عن ذلك مسؤلين، وبإحسان النظر للإسلام والمسلمين مأمورين، وعن التفريط فيما يصلح البلاد مَنْهِيِّين.
وسأضرب لك ـ إن شاء الله ولمن عقل صواب رشدنا ـ قولاً ومثلاً، يبين لك حقائق علمنا، فليس كل متكلم مصيباً في قوله، ولا كل منتحل للعلم عالماً(3) بكل ما يحتاج إليه، {وَفَوقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ}[يوسف: 76]، ومن طعن بغير علم على أولياء الله كان آثَمُ أثِيمٍ:
__________
(1) في (أ، ج): من أموال بلاده.
(2) في (ب): حيثما كانوا.
(3) في (أ): عالم لكل. كذا

(3/11)


ما يقول وما يذهب إليه الطاعن علينا بما لا يعلم متأول(1): في رجل متول لأمورِ أَيتامٍ تحت يده، مسكنة صغار؛ من ضَعَفَةٍ لهم أرض بعضها أعنابٌ، وبعضها حرث، فاستغل لهم من ذلك العنب زبيباً؛ ثم حدث في العنب والحرث حدث من سيل؛ فأخرب الحرث، أو نارٍ أحرقت العنب وخشبه، أكان الواجب عندك في دين اللّه وفرضه، وما حكم على ولي اليتامى من حكمه؛ أن يصلح حرثهم وعنبهم بما قد أخذ من الثمر قبل خراب الحرث والعنب، وينفقه ويرده عليه؛ ولو مدوا أيديهم لطلب الصدقة، وبَدَتْ منهم في تلك السنة الخصاصة والحاجة، حتى يصلح عنبهم إذا رد فيه ما احترق من خشبه، وتصلح أرضهم إذا عمرت؛ فتغل(2) أرضهم وعنبهم في كل سنة من بعد صلاحه ما يعيشون به، ويرجع نعيمهم إذا رجعت غلتهم، ويكمل حُسن حالهم بصلاح أموالهم؟ أم يترك أرضهم وعنبهم خراباً، ويخليها فاسدة يباباً(3)، وينفق الغلة التي أنفقها في صلاح ما لهم عليهم؛ فيأكلونها سَنَتَهم، ويهلكون في طول عمرهم؛ إذ قد خربت أموالهم؟
فإن قلت: ينفق عليهم هذه الغلة وتخرب أموالهم، فقد قلت قولاً شططاً، وحكمت في ذلك بغير الحق حكماً؛ إذ لم تحسن لهؤلاء الأيتام نظراً، ومن لم يحسن النظر لأيتامه؛ فقد باء عند الله بعبء آثامه(4)، وشهد عليه جميع الرجال؛ بالقول الفاحش والمحال.
وإن قلت: بل يعمر ضياعهم، ويُحْيي أموالهم؛ بهذه الغلة اليسيرة؛ ليلحقوا بذلك في أموالهم المعيشة الكثيرة، الدائمة الكافية الغزيرة؛ فقد أصبت في قولك، وقلت حقاً في حكمك، وفعلت ما يُصَوبك فيه الجهلاء، فضلاً عن أهل العقول من العلماء.
فإذا قلت بذلك من الحق، وتكلمت فيه بقول الصدق؛ فكذلك فقل في فعلنا في بلاد رعيتنا، ومواضع ضعفتنا.
__________
(1) كذا في النسخ.
(2) في (أ، ج): فيعمل. وظنن في ج بما أثبت من (ب).
(3) الأرض اليباب الأرض الخراب.
(4) في (أ): من الله بعبء آثامه.

(3/12)


ألا ترى أنا لو قسمنا هذه الزكاة على أهلها، في وقت الحاجة حاجة الإسلام والمجاهدين إليها، ونزول الخصاصة بالمدافعين عن أهلها، فافترقوا عنا، وانتزحوا من قربنا؛ فوقع الضعف على الإسلام والمسلمين؛ لِمَا وقع من الخصاصة بالمجاهدين، وقوي بذلك أهل الضلال من المضلين؛ ففسد أمر الرعية، واختلفت أحوال البرية، ووقع الضياع عليهم، وكثر الجياع، واختلفت أمورهم، وساءت أحوالهم، وشح بالمعروف أغنياؤهم؛ فهلك لذلك فقراؤهم،، وخافت سُبُلهم، وخربت أموالهم، وظهر عليهم أعداؤهم؟
وإن نحن رددنا زكاة الأمصار؛ على المجاهدين والأنصار؛ دون أهلها من هذه الأصناف المذكورة، ووقت(1) ما تنزل بالمجاهدين الحاجة والضرورة؛ قوي الحق، وضعف الفسق، وعاش في الدار المستضعفون، وجاد بالمعروف الأغنياء، واستغنى في دار معروفهم الفقراء، وأمنت سُبلهم، وحسنت حالهم، وزال ضرهم.
فهذا والمثل الذي ضربناه أولاً سِيَّان، في القول والمعنى اثنان، والحمد لله على الحق والإستواء. فأفكر فيما ذكرت لك بِلُبِّك، وانظر فيه إذا نظرت بخالص مركب عقلك، يبن لك في ذلك الصواب، ويَزُلْ(2) عنك فيه الشك والارتياب.
[طريق الإمامة وصفات الأئمة]
وسالت عن إثبات الإمامة في الإمام من آل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؛ فقلت: بم تثبت له؟ أبعقد الناس وإجماعهم عليه؟ أم برواية رويت عن الرسول فيه؟ أم بغير ذلك؟
واعلم هداك اللّه بأن الإمامة لا تثبت بإجماع الأمة، ولا بعقد بريَّة، ولا برواية مروية. ولكن تثبت لصاحبها بتثبيت الله لها فيه، وبعقدها في رقاب من أوجبها عليه، من جميع خلقه، وأهل دينه وحقه.
__________
(1) كذا ولعلها وقت.
(2) في (ب، ج): ويزول، وما هنا في هامش ج نخ.

(3/13)


وذلك قول الله سبحانه: {أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ}[النساء: 59] وأولوا(1) الأمر الذين أمروا بالكينونة معهم؛ فهم: الصادقون بادعاء الإمامة، وهم المستوجبون لها، والمستحقون لفرضها.
وهم من كانت فيه الصفات التي تجب له بها الإمامة؛ من ولادة الرسول، والعلم، والدين، والزهد، والورع، والمجاهدة لأعداء الله، مَنْ كَشَف رأسه، وسَلَّ سيفه، ونشر رايته، ودعى إلى الحق وعمل به، وزاحف الصفوف بالصفوف، وأزلف الألوف إلى الألوف، وخاض في طاعة الله الحتوف، وضرب بالسيوف الأنوف، وأقام حدود الله على من استوجبها، وأخذ أموال الله من مواضعها، وصرفها في وجوهها، وكان رحيماً بالمؤمنين، مجاهداً غليظاً على الكافرين والمنافقين، مَعَهُ عَلَمُه ودليله، والعلم والدليل: الكلام بالحكمة، وحسن التعبير والجواب عند المسألة، والفهم لدقائق غامض(2) الكتاب، ولدقائق غيره من كل الأسباب، التي يعجز عن استنباطها غيره، ويضعف عن تثبيتها سواه.
__________
(1) في (ب): وأولي، وهي على الحكاية.
(2) في (أ) لغامض دقائق.

(3/14)


فمن كان في الصفة كما ذكرنا، وفي الأمر كما قلنا؛ فهو الإمام الذي عقد الله له الإمامة، وحكم له على الخلق(1) بالطاعة، فمن اتبعه رشد واهتدى، وأطاع الله فيما أمر به واتَّقَى، ومن خالفه فقد هلك وهوى، وأفحش النظر لنفسه وأساء، واستوجب(2) على فعله من الله العذاب الأليم، والخلود في الهوان المقيم، {أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كَانَ فَاسِقاً لاَ يَسْتَوُونَ أَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَأْوَى نُزُلاً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْوَاهُمُ النَّارُ كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا أُعِيدُوا فِيْهَا وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ}[السجدة: 18 ـ 20].
[المعنى الذي تجب به الإمامة والطاعة ويجوز جهاد المخالف]
وسالت(3) يا أبا عبد الله حفظك الله، ووفر في الخيرات حَظَّك؛ عن المعنى الذي وجبت به لنا على الخلق الطاعة، ووجب به علينا جهاد من أَبْدى لنا المعصية، وثبتت به لله سبحانه في ذلك علينا الحجة، حتى حكمنا بالهلكة على المتجانفين(4) عن دعوتنا، وبالنجاة للمسلِّمين لأمرنا، الساعين في طاعتنا، حتى سمينا من قتله الظالمون منَّا شهيدا، وحكمنا له بالوعد الذي وعد الله الشهداء، وسمينا من قتلْنا نحن من الظلمة كافراً متعدياً، وحكمنا عليه باستحقاق الوعيد من الله العلي الأعلى.
__________
(1) في (ب): على الحق.
(2) في (ب): واستحق.
(3) في (أ، ج): مسألة أجاب عنها أيضاً عليه السلام في الإمامة، وهي آخر مسائل الحسين بن عبد اللّه الطبري: بسم اللّه الرحمن الرحيم سألت..الخ.
(4) في (ب): المجانفين. وفي (ج): المخالفين.

(3/15)


وهذا أكرمك الله فقد وجب لنا على أنفسنا السؤال عنه، والبحث لها فيه، عند ما دعتنا إليه؛ من دعاء الخلق إلى طاعتنا، والمناداة إلى إجابتنا(1)، وضرب أعناق المحاربين لنا، وأخذ أموالهم، واستباحة ديارهم.
فسألناها فقلنا: ما الذي وجب لكِ به ذلك؟
فكان من جوابها لنا، عندما احتجنا إليه من علم ذلك منها، أَنْ قالت: وجب لي ذلك بما وجب للأئمة من قبلي، من لدن القاسم بن إبراهيم عليه السلام، ومن تقدمه من الأئمة القائمين؛ الذين كانوا حججاً لله على العالمين، سواء سواء.
فقلنا لها: فَبِمَ أوجبتِ(2) لأولئك صلوات الله عليهم الطاعة على الخلق؟
فقالت: بوجوب الإمامة التي عقدها الله لهم بأحق الحق، وأصح القول والصدق.
فقلنا لها: وَبِمَ عقد الله سبحانه الإمامة لأولئك؟ وبأي معنى كانوا صلوات الله عليهم عند الله عزَّ وجل كذلك؟
فقالت: بولادة الرسول صلى الله عليه وآله(3)، وبمعرفتهم بذي الجلال والإكرام، وبالورع الذي جعله قواماً للإسلام، وبالمعرفة بالحلال عند الله والحرام، وبما يحتاج إليه في الدين جميع الأنام، وبأخذ الحق وإعطائه، وبِقِلَّة الرغبة في الدنيا، والزهد في دار الفنى، والرغبة والمحبة لدار البقاء(4)، وبكشف الرؤوس، وتجريد السُيوف، ورفع الرايات لله وفي الله عزَّ وجل، والمنابذة لأعداء الله، وبإظهار الدعاء إلى الله، والغضب لله والرضى، وإقامة الدار، والدعاء إلى الله الواحد القهار، وإحياء الكتاب والسنة، وإقامة الحق والعدل في الرعيّة، والإطلاع على غامض كتاب الله ووحيه، الذي لا يطلع عليه إلاَّ من قلده الله السياسة، وحكم له بالإمامة دون غيره، فآتاه الحكمة، وخصه بالفضيلة، وأكمل له النعمة، وجعله له على الخلق حجة، وبالشجاعة عند اللقاء، والصبر في البأسآء والضرآء، والجود والسخاء، مع النصفة للأولياء.
__________
(1) في (ب): والمبادر.
(2) في (ب): وجبت.
(3) يعني بكونهم من أولاد الرسول.
(4) في (ب): والرغبة في دار.

(3/16)


فصدقناها فيما احتجب به من الأمر الذي تجب به من الله سبحانه الإمامة لأهلها، ويتأكد لهم به من الله عزَّ وجل فرض الطاعة على خلقه.
فلما أن أجمعنا نحن وهي على أن من كانت فيه هذه الخصال، وثبت له ما ذكرنا في كل حال، فقد وجبت له بحُكم الله الإمامة، وتأكدت له بفرض الله على الخلق الطاعة، أوجبنا على أنفسنا المحنة؛ فامتحناها فيما أجمعنا نحن وهي وغيرنا عليه من الشروط التي تجب بها الإمامة، وتثبت بها لأهلها على الخلق الطاعة. فلم نَجِدها ولله الحمد عن ذلك منصرفة، ولا منه مُعوِزَة، بل وجدناها به قائمة، وبالتسمية(1) به مستحقة؛ فأجبناها إلى ما دعتنا إليه، وأعنَّاها بكليتنا عليه، فصدقناها ولله المنُّ بعد المحنة به.
ولك يا أبا عبد الله أكرمك الله علينا من الحجة، والسؤال والمحنة؛ مثل الذي كان لنا على أنفسنا، فانظر في ذلك معنا، بمثل ما نظرنا نحن مع أنفسنا، فإن وجدت ما وجدنا، وشهد عقلك لك في أمرنا بمثل ما شهدت به عقولنا لأنفسنا؛ فقد حق لك ما طلبت، وصح لك ما عنه سألت، وجاءتك من نفسك البينات، وأنارت لك في ذلك النيّرات.
وإن لم تجد الشروط التي نشهد نحن وأنت وكل المسلمين بأنها شروط الأئمة الهادين، المفترضة طاعتهم، والمحرّمة معصيتهم، كنت على بينة من أمرك، ورخصة من فرضك(2)، وراحة من تعبك.
واعلم هداك اللّه أن الإمتحان والنظر لا يكون إلاَّ بالنصفة من المتناظِرَيْن، وطلب الحق في ذلك من المتسائلَين،وقبول الحق عند ظهوره، وأخذه بأفضل قبوله. ونحن أكرمك الله لكل ذلك باذلون، وإليه لك مسرعون، وله منك مُحِبُّون.
فهذا الباب الذي وجبت به إمامة كل إمام(3)، على جميع من تقدم من أهل الإسلام، وبه تجب إمامة من بقي من أئمة الهدى، إلى آخر أيام الدنيا، ولن تجب إمامة إمام أبداً بغير ما ذكرنا، ولن يوجد سَببٌ يثبت لأحد سوى ما شرحنا.
__________
(1) في (أ، ج): وللشهرة.
(2) في (ب): من فضلك.
(3) في (ب): الإمامة لكل إمام.

(3/17)


والحمد لله(1) كثيراً، وسبحان الله بكرة وأصيلاً، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وسلم تسليماً.
****
جواب مسائل لابنه المرتضى (ع)
m
[معنى حديث: ما كان على أهل هذا الجدي.. إلخ]
قال الإمام المرتضى لدين اللّه محمد بن الهادي إلى الحق يحيى بن الحسين صلوات الله عليهما:
سألت أبي الهادي إلى الحق صلوات الله عليه عما روي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم من أنَّه مرَّ بجدي ميّت مطروح على كِبَا (2)، فقال عليه السلام: (( ما كان على أهل هذا الجدي لو انتفعوا بجلده )).
قال الهادي إلى الحق أعزه الله: لم يرد النبي عليه السلام الانتفاع بجلده بعد موته، ولكنه صلى الله عليه أراد: ما كان عليهم ـ إذ لم يكن فيه لحم يذبح ويذكى له ومن أجله، لما كان فيه من الهزال(3) والهلاك ـ لو ذبحوه، فحل(4) لهم بذبحه الانتفاع بجلده؛ (فانتفعوا بجلده)(5) إذ لم يكن في لحمه منفعة.
فهذا يا بني معنى قوله صلى الله عليه، لا ما ذهب إليه الجهال، ونسب إليه العماة الضُلاَّل.
واعلم يا بني أن كلام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم له معان وأبواب؛ تحتاج إلى تفسير عالم فهم(6) باللغة، كما يحتاج القرآن إلى التفسير.
[معنى حديث: إن اللّه يبغض الحبر السمين]
__________
(1) في (أ): تم والحمدلله كثيراً، وصلى اللّه على محمد وآله وسلم.
(2) في (ب): كناسة، وهي معنى الكبا.
(3) في (ب): الهوان.
(4) في (ب): يحل.
(5) سقط من (ب).
(6) في (ج): فهيم. وماهنا أثبته في الهامش.

(3/18)


من ذلك قوله: (( إن الله يبغض الحبرَ السمين )) فتوهم من لا فهم له أن معناه: البَدِن الشَّحِم؛ فذموا بذلك كل عالم سمين، وكان صلى الله عليه وآله قد بلغ من الشحم والسِّمَن غاية، حتى كان قد جعل في محرابه بالمدينة عوداً هو اليوم في المحراب، وكان إذا نهض بعد السجود أخذ به؛ حتى ينهض من ثقل بدنه(1)، وكان صلى الله عليه يتنفل بعض نوافله قاعداً لثقل بدنه، وهو صلى الله عليه حبر الأحبار(2) وأفضلها.
وإنما أراد بقوله: (( إن الله يبغض الحبر السمين ))؛ يعني الذي قد سمن من أكل الرُّشا والحرام.
[معنى حديث: إن اللّه يبغض البيت اللحم]
وكذلك رُوي عنه عليه السلام أنَّه قال: (( إن الله يبغض البيت اللَّحِم ))؛ فتأوّل ذلك من لا فهم له أنَّه: البيت الذي يؤكل فيه اللحم كل يوم دائماً. وهذا باطل من التأويل، كيف يقول ذلك في اللحم؛ وهو يفضله ويقول: (( خير(3) إدامكم اللحم ))، وكان يشتهيه ويأكله إذا وجده؟!
__________
(1) في (ب): بعد السجود يعتمد به حتى ينهض.
(2) في (أ، ج): أحبر الأحبار.
(3) في (أ، ج): أفضل.

(3/19)


وإنما أراد بقوله ذلك: البيت الذي يُؤْكَلُ المسلمون فيه، معنى يؤكل فيه: يُوقَع فيهم، ويُطعن عليهم، ويُؤذون فيه. ألاَ تسمع كيف يقول الله سبحانه: {أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ}[الحجرات: 12]؟ وقد رُوى عنه صلى الله عليه أنَّه لما رجم ماعز بن مالك الأسلمي حين أقر بالزنا؛ فسمع عند منصرفه الزبير(1) يقول لطلحة(2): انظر إلى هذا الذي ستر الله عليه فلم يستر على نفسه حتى رجم مرجَم الكلب. فسكت عنهما رسول الله صلى الله عليه وآله حتى مر بجيفة حمار شاغرٍ بِرجْليه؛ فقال لهما: (( انزلا فأصيبا من هذا الحمار ))، فقالا: نعيذك يا رسول الله، أنأكل الميتة؟ فقال لهما: لما أصبتما من أخيكما آنفاً أكبر مما تصيبان من هذا الحمار، إنَّه الآن ليتقمص(3) في أنهار الجنة.
وغير ما ذكرناه عنه في هذا المعنى فكثير غير قليل، ومعروف غير مجهول، ولله الحمد، نجتز(4) بقليله عن التطويل بذكر كثيره والسلام.
[معنى قوله تعالى: {وآخرون اعترفوا..} الآية]
__________
(1) هو الزبير بن العوام بن خويلد بن أسد بن عبدالعزى بن قصي بن كلاب، أبو عبد اللّه القرشي الأسدي، أحد العشرة المشهورين، من شجعان الصحابة وأبطالهم، أبلي مع رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم بلاء حسناً، نكث مع طلحة على الإمام علي عليه السلام بعد البيعة على الأصح، فكانت وقعة الجمل الشهيرة، قتل بعد منصرفه منها سنة (36 هـ).
(2) هو طلحة بن عبيدالله بن عثمان بن عمرو بن كعب بن سعد بن تميم بن مرة التيمي، أبو محمد المدني، أحد العشرة، شجاع باسل، أبلى بلاء حسناً مع السرول صلى اللّه عليه وآله، لكنه نكث بيعة الإمام علي، قتل يوم الجمل سنة (36 هـ)، وله (63 سنة).
(3) كذا في النسخ، ولعلها: ليتغمص.
(4) في (أ،ج): يُجْتَزَى.

(3/20)


وسالته عن قول الله سبحانه: {وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلاً صَالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ}[التوبة: 102]، فقال: هؤلاء أهل التوبة إلى الله من بعد المعصية، فذكر الله عنهم أنهم عملوا عملاً سيئاً، ثم خلطوا أعمالهم بالصالحات؛ فعملوا بها من بعد التوبة وبعد العمل الردي. ومعنى {عَسَى اللَّهُ}؛ هو: إيجاب القبول(1) للتوبة من التائبين من بعد الإخلاص لله بالتوبة، وليس كما يقول الجهال: إنهم يعملون قبيحاً وحسناً في حالة واحدة، ويتقبل منهم الحسن، هذا ما لا يكون؛ لان الله يقول:{إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ}[المائدة: 27]، ومن كان في معصية الله فليس بمتق، ومن لم يكن بمتق فليس يقبل عمله منه.
[معنى قول الله: {فلا وربك..} الآية]
وسالته عن قول الله سبحانه: {فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً}[النساء: 56]. يقول سبحانه لنبيه صلى الله عليه وآله، مخبراً له عن أصحابه، مقسماً بنفسه؛ أن أصحابه لا يؤمنون على حقيقة الإيمان؛ حتى يردوا إليه عليه السلام ما تشاجروا فيه ـ وهو مااختلفوا فيه ـ ثم يرضوا بحكمه في ذلك، ولا يجدوا في صدورهم شيئاً فيه، ولا غضباً منه، {وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً}، أي ينفذوا حكمه ويسلموا له، ويرضوا به ولا يردوه
****
ومن مسائل علي بن محمد العلوي (2)
مما سأل عنها الهادي إلى الحق صلوات الله عليه.
m
[أطفال المشركين هل يحل سبيهم؟]
وسالته عن أطفال المشركين هل يحل سبيهم؟
__________
(1) في (أ،ج): إيجاب لقبول التوبة عن.
(2) هو مصنف سيرة الإمام الهادي، له مواقف شجاعة مع الإمام عليه السلام.

(3/21)


فقال: نعم. قلت: ومن أين، وقد قال رسول الله صلى الله عليه: (( كل مولود(1) يولد فإنما يولد على فطرة الإسلام، حتى يكون أبواه اللذان يهودانه أو ينصّرِانه ))؟
فقال: إنما هذا في الأطفال الذين يولدون في دار الإسلام، فأما من يولد في دار الكفر فقد حكم الله عليه بالسبي، وحكم على ما فيها من مال أو نفس وأبانها، وأحل ما فيها، وصيَّرها ملكاً وغنيمة للمؤمنين، فما جاز من سبي الكبير جاز في سبي الصغير؛ لأن الدار دار كفر، فافهم الفرق بين دار الكفر ودار الإسلام.
[الجزية على النساء ودعوتهن]
وسالته عن نساء اليهود والنصارى، هل تجب عليهن الجزية؟
فقال: لا. قلت: ومن(2) أين لم تجب عليهنَّ الجزية؟ فقال: لأن الله تبارك وتعالى حكم على الرجال بالقتل، وأوجب عليهم الجزية فداءً من القتل، فمن وجب عليه القتل من الرجال وجبت عليه الجزية. قلت: فهل تجب دعوة النساء؟ قال: نعم. قلت: فإن لم يفعلن؟ قال: يستخدمن ويُهَنَّ. قلت: وهل تحل خدمتهنَّ؟ قال: نعم، كما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم بصفيّة ابنة حيي بن أخطب حتى أسلمت، فتزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقد قال بعض علماء أهل البيت: إنهن يدعين؛ فإن لم يُسلمن قتلن.
قلت: فما قولك أنت يا أمير المؤمنين؟
فقال: حتى تبلغ ذلك إن شاء الله، وأعلمتك برأيي فيهن(3).
ومن مسائل محمد بن عبيد الله (3)
[موالاة الظالمين ومداراتهم]
__________
(1) في (أ، ج): طفل.
(2) في (أ، ج): فقلت من.
(3) في (أ): ثم أعلمتك. ولعلها: أعلمك.

(3/22)


قال محمد بن عبيدالله(1) رحمه الله: سألت الهادي إلى الحق صلوات الله عليه عن موالاة الظالمين. فقال: لا تجوز موالاة الظالمين لأحد من المؤمنين، وموالاتهم فهي: مودتهم ومحبتهم؛ لأن الله سبحانه يقول: {لاَ تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَاليَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ}[المجادلة: 22]. فحرّم الله تعالى موالاتهم ومحبتهم، ولم يطلق للمؤمنين الإنطواء على شيء من إضمار المودة لهم. وفي ذلك مايقول اللّه عزَّ وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ اَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيهِمْ بِالْمَوَدَّةِ..} الآية[الممتحنة: 1]. فمن انطوى وأضمر محبّة ظالم فقد خرج من دين الله، وليس من المؤمنين بالله، ولا تجتمع معرفة الله ومحبته وموالاته مع مودة أعداء الله ومحبتهم؛ لأن الله عدو للظالمين، والظالمون أعداءٌ لرب العالمين، ولن يجتمع ضدان معاً في قلب مسلم.
فأما المداراة للظالمين باللسان، والهبة والعطية، ورفع المجلس، والإقبال بالوجه عليهم؛ فلا بأس بذلك؛ لأن الله قد فعل في أمرهم ـ وهم أعداؤه ـ ما فعل؛ من جعله لهم جُزءاً في الصدقات؛ يتألفهم به على الحق، ويكسر به بعض بلائهم وظلمهم عن الإسلام، وذلك قوله عزَّ وجل: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ} الآية [التوبة: 60] فجعل للمؤلفة جزءاً، وهم أعداء الله وأعداء الإسلام؛ يكسر حدَّهم عن المؤمنين، ويصليهم به نار جهنم وبئس المصير، ويجعله عليهم وبالاً في الآخرة ولهم عذاب أليم.
__________
(1) في (ب): عبدالله. وهو: محمد بن عبيدالله العلوي العباسي والد مؤلف السيرة، أحد أبرز أصحاب الإمام، وفد عليه للجهاد بين يديه، تولى للإمام وسحة، ثم صعدة، ثم نجران في سنة (287 هـ)، خالف عليه بنو الحارث بنجران وقتلوه ظلماً وعدواناً في وقعة رهيبة تشبه وقعة الإمام الحسين عليه السلام في شهر ذي الحجة سنة (295 هـ).

(3/23)


وكذلك كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يفعل بالمنافقين الظالمين؛ يؤثرهم على من معه من إخوانه المؤمنين، ويكل إخوانه على إيمانهم.
من ذلك ما فعل في غنائم حنين، فرقها كلها على المؤلفة قلوبهم، ولم يعط المؤمنين منها درهماً واحدا، ولا شاة واحدة، ولا بعيراً واحداً يتألفهم بذلك، ويكسر عن المؤمنين شر حدهم.
وكذلك كان يفعل بكبراء المشركين إذا كاتبوه وأتوه؛ يكاتبهم بأحسن المكاتبة، ويفرش لهم ثوبه إذا أتوه يُجلسهم عليه، نظراً منه للإسلام، ومداراة لهؤلاء الطغام، عن غير موالاة ولا محبة.
[الاستعانة بالظالمين]
قال محمد بن عبيد الله(1): وسألت الهادي إلى الحق صلوات الله عليه هل تجوز الإستعانة بالظالمين؟ وقلتُ: ما معنى قول الله سبحانه: {وَمَا كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُداً} [الكهف: 51]. فقال: أما ما سألت عنه من قول الله سبحانه؛ فإنما أراد بالعَضُد: الوُدِّ والْمُشَاوَرَة(2) في المبثوث من جميع الأسرار الظاهرة والباطنة، والمحبوب في السر والعلانية، المعتَقَدة ولا يته، الجائزة عند الله مناكحته، وأكل ذبيحته، وقبول شهادته، والإعتماد على قوله، والركون إلى مصافاته، فهذا العَضُد. فمن لم يكن عند صاحبه على هذه الحال، على حقيقة الفعل والمقال؛ فليس له بعضد ولا كرامة له، ولا ينتظمه هذا الاسم أبداً، ولا يجوز له أصلاً.
__________
(1) في (ب): عبد الله.
(2) في (ج): الوِدَّ الْمُشَاوِر، والود: المحب.

(3/24)


فأما ما اسعنت به في مهمّاتك، وتقويت(1) به واستعنت به في ساعات حاجاتك، في إصلاح الإسلام والمسلمين، وهايبت به من كان مثله من الظالمين، واستعنت به على من هو أفجر منه، وأنت له شانئ، ومنه متبرئ، وبه غير واثق، تكتمه أسرارك، وتجمل لديه أخبارك، لا تستحل له مناكحة، ولا تأكل له ذبيحة، ولا تقبل له شهادة، ولا تأتم به في صلاة، فكيف تكون له متخذاً عضداً، وتكون له ولياً مرشداً؟ هذا ما لا يغلط فيه إلاَّ الجهال، وإلا من أعمى الله قلبه من الرجال، فهو يتكمه في عمايات الضلال، يدعو الليل نهاراً والنهار ليلاً، والعدو ولياً والولي عدواً، ينحل كل واحد منهما نحلة ضده، ويدعو كلاَّ بغير اسمه.
وأما ما سألت عنه من استعانة المحقين بالظالمين، في طاعة رب العالمين لمحاربة المحاربين؛ فإنا لانستحل غيره في مذهبنا؛ لأن الاستعانة بالظالمين على من حارب الحق والمحقين؛ واجب على المسلمين، لا يسع أحداً تركه، ولا يجوز رفضه، إذا صار الإسلام إلى ذلك محتاجا، وكان الحق إليه مُضطراً، إذا جرت عليهم(2) أحكام الإمام ومن في عصره من خدم الظالمين وأعوانهم، الذين استعان بهم في وقت حاجته لهم.
ونقول: إن فرض ذلك يجب من وجهين:
فأما أحدهما: فإنه لا يحل للإمام أن يقتل الإسلام ويضيّعه، ويمكن عدوه منه، وهو يجد إلى غيره سبيلاً، وعلى إجابته معيناً، تجري أحكامه عليه؛ لأنَّه إن امتنع من الاستعانة بهم في وقت ضرورته، ظهر من هو شر ممن كره الاستعانة به على الإسلام فأهلكه.
__________
(1) في (ب): وتقربت.
(2) في (ب): عليه.

(3/25)


والمعنى الآخر فبيّنٌ بحمد الله عند من عقل، وهو أن يقال لمن أنكر الاستعانة بالظالمين: أيها الجاهل هل عذر الله أحداً أوأطلق له ترك فرض من فرائضه، أو أطلق له ترك إقامة طاعة من طاعاته، فاسقاً كان المتعبَّد أو مؤمناً، أو ظالماً أو محسناً؟ فإن قال: نعم قد عذرهم الله في ترك فروضه، وأطلق لهم في وقت فسقهم وظلمهم رفض شيء من حدوده؛ فقد كفر القائل بذلك، واجْتُزِيَ بكفره عن مناظرته في شيء من دينه؛ لأنَّه يزعم أن الله سوغ للظالمين شيئاً من معاصيه، وأجاز لهم ترك فرائضه التي فرض، وهذا فتحريم ما أحل الله، وتحليل ما حرم الله. وإن قال: لا، لم يجز الله لظالم في وقت ظلمه، ولا لفاسق في وقت فسقه، ترك شيء من أداء فرائضه، والفرض لا زم لهم، واجب عليهم. قيل له: فأيّ فرض أكبر من الجهاد في سبيل الله، والقيام بمحاربة من عند عن أمر الله، والمعاونة لأولياء الله؟
فإذا قال: لا فرض أكبر من ذلك.
قيل له: فمن أين أجزت لهم القعود عن نصره؟ ومن أين أجزت للإمام أن يَدَعَهم من أداء هذا الفرض، ولم تجز له أن يكرههم عليه في حال فسقهم، فضلاً عن أن يأتوه طائعين، ولحكمه مسلمين؟ فإن أجزت للإمام أن يَدَعَ إلزامهم فرض الجهاد الأكبر، وقد أتوه طائعين، ولفرض الله في الجهاد معه مسلمين، وأجزت له أن يترك الاستعانة بهم من طريق القهر لهم إن قدر على ذلك، أو قلت: لا يجوز أن يقهرهم على ذلك إن أطاق قهرهم، فضلاً عن أن يسلموا أو يطيعوا؟ فيجب عليك أن تقول: إنَّه لا يجب على الإمام أن يقهرهم على طاعة الله كلها وفرائضه، من الصلاة، والصيام، وغير ذلك مما هو دون الجهاد.

(3/26)


وقد أغنى الله من عقل بما كان من فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك؛ من الاستعانة بغير أهل الملة، من اليهود وغيرهم من مشركي الحبش، وكان صلى الله عليه يستعين باليهود في حربه، وبالمنافقين الكافرين به، المستهزئين بحقه. وكتاب الله يبين ذلك له من أمرهم، وينزل عليهم(1) بكرة وعشياً.
وأمر صلى الله عليه وعلى آله أصحابه الذين آمنوا به ـ وهم اثنان وسبعون رجلاً ـ أن يمضوا ويهاجروا إلى بلاد الحبش، وأمرهم أن يستعينوا به، وبطعامه وبشرابه على من يريدهم بسوء، فجهزت قريش لمَّا جاؤا إليه البُرُدَ(2) في أمرهم، وبذلوا الأموال في تسليمه إياهم إليهم، فأرسل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يسأله(3) المعونة على قريش لأصحابه وله، ويسأله أن لا يسلمهم ويعينهم على أمرهم، ففعل ذلك، وأهدى إليه حراباً وبغلتين وشيئاً من الذهب، فقبل ذلك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وكانت الحراب تحمل قدامه، وتركز بين يديه إذا صلَّى. وكذلك أهدى إليه ملك قبط مصر جاريتين وبغلتين(4)، وحللاً من حُلل مصر، فقبل ذلك كله صلى الله عليه وآله وسلم من القبطي، والقبطي مشرك بالله، جاحد لرسول الله، فاتخذ إحدى الجاريتين، ويقال: إنهما كانتا أختين، فدعاهما إلى الإسلام، فأسلمت واحدة فوطئها، فولدت له إبراهيم صلى الله عليه، ووهب الأخرى لحسان بن ثابت الأنصاري. فأي استعانة أكثر من هذا، أو حجة أبين مما ذكرنا؟ والحمد لله وهذا يجزي لمن عقل عن التطويل إن شاء الله، والقوة بالله.
وكذلك استعان صلى الله عليه في فتح مكة من أعراب فزارة، وغير ذلك من أعراب البوادي وجفاتهم، ممن هو مُسَلّم لحكمه، غير عارف بحدود ربه.
تم ذلك والحمدلله كثيراً، وصلى اللّه على سيدنا محمد وآله وسلم.
مسألة في الذبائح
m
__________
(1) في (ب): عليه.
(2) البُرُد: جمع بريد.
(3) في (أ): يسألهم.
(4) في (أ، ج): وبغلة.

(3/27)


قال الهادي إلى الحق يحيى بن الحسين بن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: سألت عن الذبائح، ما يحل منها وما يحرم؟
والجواب أنَّه يحرم من الذبائح ست ذبائح:
ذبيحة اليهودي؛ لأن اللّه عزَّ وجل قال: {وَقَالَتِ اليَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ}[التوبة: 30].
وذبيحة النصراني، لقول الله عزَّ وجل {وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ}[التوبة30].
وذبيحة المجوس(1)؛ لأنَّه يقول: إن الله قضى عليه بركوب أمه، وابنته، وأخته.
وذبيحة المجبر؛ لأنَّه يقول: إن الله جبر(2) خلقه على المعاصي.
وذبيحة المشبه؛ لأنَّه يقول: إنَّه يعبد الذي يقع عليه بصره يوم القيامة.
وذبيحة المرجئ؛ لأنَّه يقول: الإيمان قول بلا عمل.
قال الله تبارك وتعالى لجميع عباده: {فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ}[الأنعام: 118]، {وَلاَ تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ}[الأنعام: 121]؛ فجيمع هؤلاء الستة الأصناف ما ذكروا اسم الله تبارك وتعالى على شيء من ذبائحهم، إذ لم يعرفوه تبارك وتعالى حق معرفته، فلم(3) يقروا له بتوحيده وعدله، ولم يصدقوه في وعده ووعيده، وكذبوا قوله في وليه وعدوه.
تمت المسألة وجوابها والحمد لله وحده وصلواته على رسوله سيدنا محمد وعلى آله وسلم
جواب مسألة لرجل من أهل قم
m
قال يحيى بن الحسين صلوات الله عليه:
سألت عصمنا الله وإياك بعصمته، ووفقنا وإياك لمرضاته، وجعلنا وإياك من أهل طاعته، وختم لنا ولك بمغفرته، ونجانا وإياك من حيرة هذا الدهر برحمته:
[معرفة اللّه هل هي فعل اللّه أو فعل العبد؟]
__________
(1) في (أ): المجوسي.
(2) في (أ): يجبر.
(3) في (أ): ولم.

(3/28)


عن معرفة الله تبارك وتعالى؛ ما تصرفها في الخلق؟ وكيف تكوينها في العباد؟ وما محلها في الأجساد؟ وهل هي من أفعال المخلوقين؟ أم هي خلق أحسن الخالقين؟ غريزة ركبها في عباده، فجعلها سبحانه كما خلق وركب وجعل فيهما من العقول.
واعلم هداك الله أن المعرفة هي: كمال العقل والعمل به، فإذا كمل العقل، وصح واستعمل؛ تفرعت منه المعارف والأفهام، لذوي الفكر والأحلام، ومتى عدمت من الأدميين الألباب؛ لم تصح فيهم المعارف بسبب من الأسباب، بل تكون بنأيه أنأَى من كل ناءٍ، وبدنوه أدنى من كل دان، تحضر بحضوره، وتعزب بعزوبه، محتاجة إليه، وهو فغير مضطر ولا محتاج إليها، متفرعة من فروعه، كامنة في أصوله، كائنة بكينونته، وهو فغير متفرع منها، ولا محتاج مضطر إلى كينونتها، بل هو مقيد العماد، راسخ الأوتاد، فكل معرفة كانت من العباد، بالأزلي الخالق الجواد؛ فبالعقول استدركها المستدركون من ذوي الألباب، واستخرجها المستخرجون، ووقف على حدود شرائعها العالمون.
وعلى ذوي العقول افتُرِضَت معرفة الله وعبادته، وهم الذين ينالون باداء فرائض الله ثوابَه، ويستحقون برفضها ـ دون غيرهم ممن سلب لبه ـ عقابَه. فالعالمون من ذوي الألباب هم المجازون بالحسنة الحسنات، وبالسيئات من الأفعال(1) السيئات. والعقلاء فهم الموقوفون للحساب، الخائفون لأليم العقاب، والكائن منهم ما ذكر الله سبحانه حين يقول: {يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ} [آل عمران: 106]، وهو يوم تخشع الأصوات للرحمن فلا تسمع إلاَّ همساً، فتبيآضُّ (2) فيه وجوه من جاء بصالح الأعمال، وتسوآدُّ وجوه من جاء بسيء الأفعال، يكون حال من سلب لبه فيه كحال الأطفال، آمناً إذ ذاك من هائل الأهوال، لا يسألهم الواحد العدل المنان، عما منهم في دنياهم كان، فتبارك الله العادل في خلقه الرحمن.
__________
(1) في (ج): من أفعالهم.
(2) في (ب) فتبيض.

(3/29)


وفيما نقله الثِّقات من ذوي العقول، ثقة عن ثقة عن الرسول عليه السلام، أنَّه قال: (( لما أن خلق الله العقل قال له: أقبل، فأقبل، ثم قال له: أدبر، فأدبر، فقال: وعزتي وجلالي ما خلقت خلقاً هو أحب إليَّ منك، بك أعطي، وبك آخذ )). فقوله: بك أعطي وبك آخذ؛ دليل على أنَّه لا يثاب على فعل فعله، ولا يعاقب على جُرم اجترمه؛ إلاَّ من ركب فيه لُبٌ حاضر، ورأي صادرٌ.
وفي قول الله تعالى: {إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُوا الأَلْبَابِ} [الرعد: 19، الزمر: 9]؛ أكبر الدليل علىأنه لا يكون تذكرة ولا تَفْكرة، تعود إلى معرفة وبيان، وحسن نظر وإتقان؛ إلاَّ بلب تتفرع منه التذكرة والمعرفة في الإنسان. فتبارك مَنْ علمُ خَفيات ضمائر القلوب عنده كالإعلان.
فإن قيل لك: أَبِن لنا ما معنى تفرعها من العقل؟ وكيف تتفرع؟ وما معنى قولك: يستعمل العقل؟ وكيف يستعمل؟ وَمَثِّل لنا ذلك بمثل تقبله عقولنا، وتفهمه أنفسنا.
فقل: مثل العقل في الآدمي؛ كمثل الإستطاعة فيه، والإستطاعة(1) هي سلامة أدواته، فإذا استعملت الأدوات فيما تصلح له؛ تفرعت أفعاله منها، كمثل ما يتفرع من الكف من الحركة، مما يؤدي إلى رفع أو وضع، أو ما يتفرع من حركات الرجل؛ من مشي أو عدوٍ، أو ركوب أو نزول، أو غير ذلك. وكل أداة ففعلها متفرع منها، وتفرعه فهو خروجه. وكل فعلِ أداةٍ(2) فغير كائن بغيرها من الأدوات، ولن يوجد إلاَّ بوجودها، ويتغير بتغيرها، ويزيد بزيادتها، ويكمل بكمالها، ويعدم بعدمها، ويدخل عليه من الضرر ما يدخل عليها.
فكذلك تفرع المعرفة من العقل وكسبها به؛ كتفرع الحركات من الأدوات، توجد بوجوده، وتعدم بعدمه.
__________
(1) في (أ، ج): فالاستطاعة.
(2) في (ج): أدوات.

(3/30)


والعقل فهو خلق الله وتركيبه في عباده، والمعرفة فهي أفعال المخلوقين متفرعة من العقول،فكل من أَعْمَل عقله في شيء من آيات الله؛ قاده إِعماله لعقله من معرفة الله تبارك وتعالى إلى أبين بيان، وتبين له بما يتفرع من المعرفة بالله أنور البرهان. فيثيب الله مَنْ قَبِلَ ما دل عليه ـ مما تفرع من مركب لُبِهِ الذي جعله الله فيه ـ من المعرفة بالله عزَّ وجل، فإذا ميَّز وأعمل النظر في صغير آيات الله دون كبيرها، فعلم أن لها خالقاً كريماً، ومدبراً عليماً؛ فقبل ذلك بأحسن القبول؛ فاستوجب من الله الزيادة والتوفيق.
ويُعَاقِب من كابر لبه، وأنكر آيات ربه، فاستوجب بذلك منه الخذلان، وتمكنت منه وساوس الشيطان. كما يثيب من عمل بكفه خيراً، ويعاقب من اكتسب بها شراً.
وأما استعمال العقل فهو الفكر به والنظر، والتمييز بين الأشياء، والنظر فيها وفي تركيبها، وتدبيرها وحسن تقديرها، حتى يقوده ويدله ما يتفرع من لبه، عند استعماله له؛ على معرفة علام الغيوب، ومقلب ما يشاء من القلوب، فإذا ثبت عنده أن له خالقاً ومصوراً، ولجميع الأشياء فاطراً ومدبراً؛ وجب عليه أن ينظر في كتاب الله تبارك وتعالى، ويسأل العلماء عما ذكر الله من كرسيه وعرشه، ويده ووجهه حتى ينبيه كل عالم بما يحضره من الجواب. والسوال فواجب عليه؛ لقول الله تبارك وتعالى: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ}[النحل: 43، الأنبياء: 7] وهم آل محمد صلى الله عليه وعليهم، فإذا أنبئ عما سأل؛ وجب عليه أن يتفكر بعقله، فيضيف إلى الله سبحانه من الأشياء ما هو أولى به، وينفي عنه الشبهات التي تكون في خلقه، ويعلم أن ليس كمثله شيء، كما قال: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيْرُ}[الشورى: 11].

(3/31)


فإذا علم أن الله واحد أحدٌ، وأنه مباين للأشياء كلها مخالف لها، غير مشاكل لما خلق، لا يحويه مكان، ولا يشغله شأن عن شان، وهو بالمرصاد كما قال سبحانه؛ وجب عليه أن يعلم أنه عدل لايجور، فإذا علم ذلك فقد أكمل معرفة ربه سبحانه.
فإن قال: فإنا نجد المعرفة بائنة من العقل، لا تدل على صفات الله، ولا يقف صاحبها عليها من غير تعريف ولا سؤال؟ فقال(1): إن المعرفة إنما هي تعليم من بعض لبعض، مستغنية بنفسها (كما هي)(2) غير محتاجة إلى العقل.
قيل له: فأخبرنا عمن عمل شيئاً يجب على من أضافه إلى الله أن يكون ناسباً إلى الله الجور والظلم، وما يجب على من اعتقد ان يكون الله مشبّهاً بخلقه؛ فقال بذلك واعتقده، هل يكون بالله عارفاً، ولله موحداً؟! فإن قال: نعم، كفر. وإن قال: لا، قيل له: أفرأيت إن اختلفت عليه الأقاويل؟ وأمره قوم باعتقاد ما يلزمه به التشبيه والتجوير لربه، وأمره آخرون باعتقاد التوحيد والقول بالعدل، والتبس عليه أمره، وعمي عليه رشده؛ ما الذي يجب عليه في ذلك؟
__________
(1) كذا في النسخ، ولعلها: وقال.
(2) ليس في (ج).

(3/32)


فإن قال: إنَّه يجب عليه أن يقلد أحد الفريقين قوله ويقول به، وزعم أنَّه إذا قلد قوماً قولاً؛ ثم عمل به واعتقده نجا من إثمه، وكان عليهم وزره؛ وجب عليه أن يقول: إن كل من أمر بدين من الأديان؛ من اليهودية والنصرانية، أو أي دين كان من أديان الكفر، وأشار به، فقبله منه قابل، وقلده إثمه ودخل فيه، فأحل ما حرم الله، وحرم ما أحل الله؛ كان بذلك بريئاً من الوزر، وكان جميع ذلك الأمر على من أمر به، دون من قبله، ولو كان ذلك كذلك لم يعذب الله إلاَّ المؤسسين(1) لأنواع الشرك من القرون الأولة، ولكان كل من عمل بعملهم ناجياً من سخطه وعقابه، ولكان كل من قال على الله بالحق، ودان بدين محمد صلى الله عليه وعلى أهل بيته الطيبين غير مثاب عليه، ولكان الثواب واجباً في القياس للرسول، ولم يكن لمن عمل به ثواب ولا محمدة، ولم يكن المذنب بإجرامه بأهل للعقوبة من المحسن في أعماله، ولكان المطيع والعاصي في الثواب والمجازاة بالعقاب سِيَّان؛ إذ كانا من جميع أفعالهما بريئين.
__________
(1) في (ب): الموسوسين.

(3/33)


ثم يسأل فيقال له: أخبرنا عن إبليس إذا أمر العباد، ووسوس وزين لهم المعاصي، حتى يكونوا لها عاملين، ولعظائمها(1) مرتكبين، على من إثمها؟ فإن قال: على إبليس دونهم. قيل له: فإنا نجد الله قد أخبرنا في كتابه، أنَّه من أطاع إبليس فإنه من العاصين، المعاقبين على ارتكاب ما يأمره بركوبه، ويزينه ويوسوس له به، فقال سبحانه في ذلك: {فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ}[ص: 84 ـ 85]، فهل وجب عندك على من أطاع إبليس، وعمل بما أمره به من المعاصي عقوبة النيران؟ فإن قال: لا؛ كفر. وإن قال: نعم؛ ترك قوله، وخرج من حد التقليد، فلا يجد بداً من أن يقول: إن الواجب عليه عند التباس الأقوال، واختلاف الأفنان أن يرجع إلى عقله في ذلك فيتفكر به، ويميز فينظر بعقله ويتخير لنفسه، فيتفرع له من عقله من المعرفة ما يقول على الله به الحق، ويذكره بما يشبهه من الذكر الذي لا يكون إلاَّ له سبحانه. فليعلم أن المعرفة كلها خارجة متفرعة من العقل، وأنه لا تكون معرفة إلاَّ من العقل وبالعقل.
__________
(1) في (ب): ولعصيانها.

(3/34)


ومن الدليل على أن المعرفة هي ثبات العقل وكماله، بان علمنا أن شُرَّابَ الخمور، وأهل الدعارة والشرور، إذا شربوها زالت عنهم الألباب، وأنها مضطرة إليه محتاجة، تعزب بعزوبه، وتحضر بحضوره، وتتفرع في ثباته، وتعدم عند عدمه، فعدمت بزواله منهم المعارف، حتى يطيح عنهم واضح البيان(1) ويزيح بما قد كان مؤدياً إليهم من بيّن اللغة واللسان، وحتى تلتبس عليه حلائله من أخواته، وأمهاته من خالاته، ويأتي على لسانه من القذف والفحش، والمنكر والدناءة، في النادي والجماعات؛ ما يفضحه ويشينه، وما لعله لو عرض مفروجاً(2) عليه عند ثبات لبه، وتفرع معرفته سوء(3) ما كان منه إذ كان لا معرفة له بما سلف منه في حال كينونته، ويأتي ـ متيقظاً ـ واحداً(4) من أفعاله في عزوب لبه؛ ما فعل ذلك أبداً، بل لعله يود أنه كان ميتاً فانياً، مفقوداً نائياً، ولا تبين منه الأشياء الفواضح، والأفعال الطوالح.
ففي أقل ما ذكرنا دليل على أنَّ المعرفة لا تثبت ولا تكون إلاَّ بالعقل ومن العقل.
فإن احتج فقال: قد نرى البهائم ـ التي نعلم نحن وأنت أنها عدمت العقول ـ تعرف أولادها وأمهاتها، وتعرف طعامها وشرابها من غيره، وتعرف ما يضرها مما ينفعها ، فتعتزل المضار، وتتبع المنافع.
__________
(1) في (ب): الثبات.
(2) كذا في (ب)، وفي (أ): مفروحاً. مهملة، وفي (ج): مفروضا، ولم أهتد إلى معناها.
(3) في (ب): سوى.
(4) متيقظاً: منصوب على الحالية، و (واحداً) مفعول يأتي. والمعنى أنه لو عرض عليه ما عرض ويأتي حال صحوه ما أتى حال سكره من الأفعال ما فعل ذلك أبداً، وهذا دليل على أنه قد فقد المعرفة عندما فقد لبه، وهو المطلوب. والله أعلم.

(3/35)


قيل له: إنما كلامنا في المثابين والمعاقبين، من الجنة والآدميين؛ من المأمورين والمنهيين، الذين ينالون الطاعة والمعصية؛ بما ركب فيهم من الإستطاعة، فيكونون متخيرين لأحدهما، يثابون على طاعة إن كانت منهم، ويعاقبون على معصية إن جاؤا بها،، ولا يكون تخير الواحد من الأمرين إلاَّ من ذي لب واضح، وعقل راجح. فأما البهائم فإنها غير مأمورة ولا منهيّة، ولا مثابة ولا معاقبة، وإنما عدمت الثواب والعقاب، لما سلبته من الألباب. وأما ما يكون منها من شيء فعلى غير معرفة ثابتة ولا تمييز، وإنما يكون ما يكون منها؛ من معرفة الذكر للأنثى ومعرفتها لأربابها، ومعرفة الذكر لما يكون لاقحاً من الإناث، فهو أعرف وأكبر من معرفة الطعام والشراب، والأمهات والأولاد، فإنها(1) منها على الإلهام، وإنهن لملهمات لذلك إلهاماً، كما يلهم الطفل في صغره معرفة الثدي وطلبه له، وبكاءه وسكوته، وحزنه وسروره. وكل ما كان من الطفل بغير تمييز ولا عرفان؛ فإنما هو طبع وإلهام، حتى إذا كمل من عقله ما يحوز به التمييز من الأشياء، ميز حينئذ فاختار، فأخذ وترك، وعرف ما ينفعه مما يضره، فاجتنب ما يضره، وطلب ما ينفعه. وهو في صغره لو وضع قدامه تمر أو جمر، أو ملح، أو سكر؛ لكان حَرِيّاً بالأخذ للضار له منهما؛ لعدم عقله، وذهاب معرفته وفهمه.
ففي أقل مما ذكرنا إن شاء الله ما بين وكفى؛ عن التطويل وشفى؛ من كان مسترشداً تابعاً للهدى والحمد لله أولاً وآخراً، وصلى الله وملائكته وجميع الأنبياء والمرسلين من خلقه على محمد عبده ورسُوله النبي الأمي، الهادي المهدي، وعلى أهل بيته الطيبين الأخيار، الصادقين الأبرار، الذي أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً.
وقلت: ما الدليل على أن الله خلق الأشياء لا من شيء؟
__________
(1) في (ج): فإنه. والضمير المؤنث للمعرفة، والمذكر لـ(ما يكون).

(3/36)


والدليل في ذلك أنَّه لا يخلو أن يكون خلق أصل الأشياء ومبتدأها من شيء، أو من غير شيء، فإن خلقها من شيء أزلي، فقد كان معه في الأزلية والقدم غيره من الأشياء، ولو كان كذلك تعالى الله عن ذلك؛ لم تصح له الأزلية، وإذا لم تصح له الأزلية؛ لم تصح له الوحدانية، وإذا لم تصح له الوحدانية؛ لم تصح له الربوبية؛ لأن من كان معه شيء لا من خلقه؛ فليس برب للأشياء كلها؛ إذ لم يكن لكلها خالقاً، فمن ها هنا صح أنَّه خلق الأشياء لا من شيء، وابتدع تكوين ابتدائها من غير شيء.
وقلت: لأي علة بعث الله الرسل؟ وَبعْثُهم ليكونوا حجَّة على خلقه، وليبلغوا من عنده ما تعبَدهم به من فرضه؛ إذ مفروضاته سبحانه معقول ومسموع: فما كان من المسموع فلا بد فيه من مسمع يؤديه، وناطق به عن الله بما فيه، وهم الرسل عليهم السلام، المؤدون إلى خلق الله رسائله، والمبلغون إليهم عنه مراده (منهم)(1) فلهذا المعنى ـ من تأديتهم عنه ـ بعثهم.
تم ذلك والحمد لله كثيراً وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وسلم.
وسئل صلى الله عليه، عن الرجل(2) إذا اشترى شيئاً، فوجد به عيباً؛ ثم استعمله بعد ما وجد فيه العيب.
فقال: ليس له أن يرده، وليس له إلاَّ أرشه، وهو نقصان من الثمن بالعيب.
وقال: إذا جاء المشتري يرد بعيب، وكان العيب مما يحدث مثله في تلك الأيام، ثم أقام عند المشتري، فعلى المشتري البينة أنَّه اشتراه وبه ذلك العيب.
فإن لم يكن له بينة؛ فعلى البائع اليمين ما باعه هذه السلعة وفيها هذا العيب.
وقال صلى الله عليه: إذا اشترى رجل جارية؛ فوجدها ولد زنا من أمة الرجل الذي باعها، فليس هذا عيب ترد به.
وقال: إن البول عيب في الكبير، وليس بعيب في الصغير.
تمت المسألة.
*****
جواب مسألة من مسائل النباعي(3)
m
__________
(1) ليس في (ج).
(2) في (ج): عن رجل.
(3) لم أعرفه له ترجمة وعلى ذهني أنه ذكر في سيرة الإمام الهادي اسم محمد بن زكريا التباعي، فعله هو والله أعلم.

(3/37)


قال الإمام الهادي إلى الحق يحيى بن الحسين بن القاسم بن إبراهيم بن إسماعيل صلوات الله عليهم أجمعين وعلى آبائهم الطاهرين: سألت عن قول الله عز ذكره، وجلت أسماؤه {أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِيْ حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا}[الأحقاف:20]، فقلت: ما الطيبات في هذه الدنيا؟ أهو ما يتنعم به الناس ويلبسونه من صالحيهم وطالحيهم؟
وإن(1) من لبس الثياب السريّة، وأكل الطعام الفائق، وركب الخيول حلالاً كان أو حراماً، فقد أذهب طيبات الآخرة، بما أطلق لنفسه من استعمال طيبات الدنيا.
فأما الكافر وأسبابه؛ فقد استغنينا عن الفتش في أمره بما قد وجدنا(2) من حاله، كثرت دنياه أو قلت، فمصيره إلى النار.
__________
(1) في (ب): فإن.
(2) في (أ، ج): قد قرَّ عندنا.

(3/38)


وأما المؤمن به، والعامل بطاعة خالقه، المتحري(1) في أمره لما أمره به خالقه، فكيف تكون تلك حاله(2)، وإنما جعل الله الطيّبات للمؤمنين خاصة دون الفاسقين، فقال في كتابه عز وجل لأنبيائه عليهم السلام: {يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنْ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحاً} [المؤمنون:51]، وقال في كتابه: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِيْنَةَ اللهِ الَّتِي أَخَرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِيْنَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَومَ القِيَامَةِ}[الأعراف: 32]، ومعناها: ويوم القيامة، وقال في كتابه: {لَيْسَ عَلَى الَّذِيْنَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيْمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقُوا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ثُمَّ اتَّقُوا وَآمَنُوا ثُمَّ اتَّقُوا وَاَحْسَنُوا وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِيْنَ} [المائدة:93]، فلم يجعل الله سبحانه على المؤمنين حرجاً في شيء مما رزقهم، إذ أخذوه على ما جعل لهم وأمرهم به، فساروا فيه بطاعة الله، ولم يتعدوا إلى شيء مما يسخط الله؛ لأن الله عز وجل ـ أيها السائل ـ لم يجعل ما في هذه الدنيا من خيرها ومراكبها التي خلقها لشرار أهلها ولا لمن عند عن طاعة خالقها، وإنما جعلها الله للصالحين، ولعباده المتقين، يأمرون فيها بأمره، وينهون فيها عن نهيه، ويقيمون أحكامه فيها، منفذون لأمره عليها، فللطاعة والمطيعين خلقها رب العالمين، ثم أمرهم ونهاهم، وبصّرهم غيّهم وهداهم، وجعل لهم الاستطاعة إلى طاعة مولاهم، {لِيَهِلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَا مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللهَ لَسَمِيْعٌ عَلِيْمٌ}[الأنفال:42].
__________
(1) في (ب): المجتري، وهو خطأ.
(2) في (ب): تلك الحالة.

(3/39)


وإنما معنى الآية وقول الله: {أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِيْ حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا}، فتبكيت منه سبحانه لأهل النار، وتوقيف على تفريطهم في طاعة ربهم. ومعنى {أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ}، أي تركتم ومحقتم وعطلتم ما جعل الله لكم بالطاعة من النعيم المقيم، والخلد مع المتقين في الثواب الكريم بارتكابكم للمعاصي، وترككم للطاعة، حتى خرجتم مما جعل الله للمطيعين وصرتم إلى حكم الفسقة الكافرين؛ في عذاب مهين. فهذا معنى: {أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ}.
تَمّ والحمد لله كثيراً، وصلى الله على سيدنا محمد وآله الذين طهرهم من الرجس تطهيراً.
*****

(3/40)