الكتاب : مجموع السيد الإمام حميدان بن يحيى القاسمي عليهما السلام
المؤلف : السيد الإمام حميدان بن يحيى القاسمي عليهما السلام

مجموع السيد الإمام حميدان بن يحيى القاسمي عليهما السلام

(1/1)


بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله ربّ العالمين، والصلاة والسلام على سيّدنا محمد وعلى أهل بيته الطيبين الطاهرين، الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهّرهم تطهيراً - وبعد:
يسرّ مركز أهل البيت(ع) للدراسات الإسلامية أن يقدم لك أخي المؤمن الكريم كتاب ( مجموع السيد حميدان) تأليف السيد الإمام أبي عبدالله حميدان بن يحيى القاسمي(ع)، وذلك ضمن الدفعة الرابعة الصادرة عن المركز عام 1424هـ، 2004م.
وخلال ذلك نجدد العهد لله تعالى ولرسوله -صَلَّى الله عَلَيْهِ وآله وَسَلَّم- ولأئمة أهل البيت -صلوات الله عليهم - بمواصلة ما بدأناه، والسير قدماً في نشر عقائد أهل البيت(ع) ومذهبهم من خلال نشر تراثهم الفكري، وما خلّفوه من علوم جليلة أسهمت وتُسْهم في صلاح المجتمعات، والوصول بها إلى السعادة الأبديّة، دون أن نحاول صياغة عقائدهم حسب ما يروق لنا، ونجعلها سَلِسَة بِسَلاسَةِ عَصْرنا، بل نقدّمها كما قدّمها أئمة الآل، قفد كفوْنا المؤونة في ذلك، وما بقي إلا أن نغترف من مائهم الزلال، وما اهتمامنا بذلك إلا لما سبق وذكرناه من أمثال قوله تعالى: { إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا}[الأحزاب:33] وقوله تعالى: "{ ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون }" \{إنما وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ ءَامَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ} [المائدة:55]، وقوله تعالى: { قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى} [الشورى:23].
وأمثال قول رسول الله -صَلَّى الله عَلَيْهِ وآله وَسَلَّم-:((إني تارك فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا من بعدي أبداً كتاب اللّه وعترتي أهل بيتي، إن اللطيف الخبير نبأني أنهما لن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض))، وقوله -صَلَّى الله عَلَيْهِ وآله وَسَلَّم-:((أهل بيتي فيكم كسفينة نوح، من ركبها نجا ومن تخلّف عنها غرق وهوى))، وقوله -صَلَّى الله عَلَيْهِ وآله وَسَلَّم-:((أهل بيتي أمان لأهل الأرض كما أن النجوم أمان لأهل السماء))، وقوله -صَلَّى الله عَلَيْهِ وآله وَسَلَّم-: (( من سرّه أن يحيا حياتي؛ ويموت مماتي؛ ويسكن جنة عدن التي وعدني ربي؛ فليتولّ علياً وذريته من بعدي؛ وليتولّ وليّه؛ وليقتدِ بأهل بيتي؛ فإنهم عترتي؛ خُلقوا من طينتي ؛ ورُزقوا فهمي وعلمي.....)) الخبر- وقد بيّن -صَلَّى الله عَلَيْهِ وآله وَسَلَّم -أنهم علي؛ "علي بن أبي طالب" وفاطمة؛ "فاطمة" والحسن "حسن" والحسين "حسين" وذريّتهما - عَلَيْهم السَّلام - عندما جلَّلهم -صَلَّى الله عَلَيْهِ وآله وَسَلَّم- "رسول الله"بكساءٍ وقال: ((اللّهم هؤلاء أهل بيتي فأذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً)).
وغيرها من النصوص الواضحة الجليّة الدالة على أنهم العروة الوثقى، والحبل المتين الأقوى، فمن اعتصم بهم نجا ومن تخلّف عنهم غرق وهوى.
* * * * * * * * * * * *

(1/2)


وقد صدر عن مركز أهل البيت(ع) للدراسات الإسلامية - بصعدة-:
1- مَحَاسِن الأَزْهَارِفي تَفْصِيْلِ مَنَاقِبِ العِتْرَةِ الأَطْهَاْرِ، شرح القصيدة التي نظمها الإمام المنصور بالله أمير المؤمنين عبدالله بن حمزة(ع)، تأليف/ الفقيه العلامة الشهيد حميد بن أحمد المحلي الهمداني الوادعي رحمه الله تعالى.
2- مجموع السيد حميدان، تأليف/ السيد العالم نور الدين أبي عبدالله حميدان بن يحيى بن حميدان القاسمي الحسني رضي الله تعالى عنه
3-السفينة المنجية في مستخلص المرفوع من الأدعية، تأليف/ الإمام أحمد بن هاشم(ع).
4- لوامع الأنوار في جوامع العلوم والآثار وتراجم أولي العلم والأنظار، تأليف/ الإمام الحجة/ مجدالدين بن محمد بن منصور المؤيدي - أيده الله تعالى-.
5- مجموع كتب ورسائل الإمام الأعظم أمير المؤمنين زيد بن علي(ع)، تأليف/ الإمام الأعظم زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب(ع).
6- شرح الرسالة الناصحة بالأدلة الواضحة، تأليف/ الإمام الحجة عبدالله بن حمزة(ع).
7- صفوة الإختيار في أصول الفقه، تأليف/ الإمام الحجة عبدالله بن حمزة (ع).
8- المختار من صحيح الأحاديث والآثار من كتب الأئمة الأطهار وشيعتهم الأخيار، تأليف/ السيد العلامة محمد بن يحيى الحوثي حفظه الله.
9- هداية الراغبين إلى مذهب العترة الطاهرين، تأليف/ السيد الإمام الهادي بن إبراهيم الوزير(ع).
10- الإفادة في تاريخ الأئمة السادة، تأليف/ الإمام أبي طالب يحيى بن الحسين الهاروني(ع).
11- المنير - على مذهب الهادي إلى الحق يحيى بن الحسين بن القاسم بن إبراهيم -عَلَيْهمالسَّلام-، تأليف/ أحمد بن موسى الطبري رضي الله عنه.
12- نهاية التنويه في إزهاق التمويه، تأليف السيد الإمام / الهادي بن إبراهيم الوزير(ع).

(1/3)


13- تنبيه الغافلين عن فضائل الطالبيين، تأليف/ الحاكم الجشمي المحسن بن محمد بن كرامة رحمه الله تعالى.
14- عيون المختار من فنون الأشعار والآثار، تأليف الإمام الحجة/ مجدالدين بن محمد بن منصور المؤيدي - أيده الله تعالى-.
15- أخبار فخ وخبر يحيى بن عبدالله (ع) وأخيه إدريس بن عبدالله(ع)، تأليف/ أحمد بن سهل الرازي رحمه الله تعالى.
16- الوافد على العالم، تأليف/ الإمام نجم آل الرسول القاسم بن إبراهيم الرسي(ع).
17- الهجرة والوصية، تأليف/ الإمام محمد بن القاسم بن إبراهيم الرسي(ع).
18-الجامعة المهمة في أسانيد كتب الأئمة، تأليف/الإمام الحجة مجدالدين بن محمد بن منصور المؤيدي - أيده الله تعالى-.
19- المختصر المفيد فيما لا يجوز الإخلال به لكلّ مكلف من العبيد، تأليف/ القاضي العلامة أحمد بن إسماعيل العلفي رضي الله عنه.
20- خمسون خطبة للجمع والأعياد.
21- رسالة الثبات فيما على البنين والبنات، تأليف/ الإمام الحجة عبدالله بن حمزة(ع).
22-الرسالة الصادعة بالدليل في الرد على صاحب التبديع والتضليل، تأليف/ الإمام الحجة/ مجدالدين بن محمد بن منصور المؤيدي - أيده الله تعالى-.
23- إيضاح الدلالة في تحقيق أحكام العدالة، تأليف/ الإمام الحجة مجدالدين بن محمد بن منصور المؤيدي - أيده الله تعالى-.
24- الحجج المنيرة على الأصول الخطيرة، تأليف/الإمام الحجة مجدالدين بن محمد بن منصور المؤيدي - أيده الله تعالى-.
25- النور الساطع، تأليف/ الإمام الهادي الحسن بن يحيى القاسمي رحمه الله تعالى.
26- سبيل الرشاد إلى معرفة ربّ العباد، تأليف/ السيد العلامة محمد بن الحسن بن الإمام القاسم بن محمد(ع).
27- الجواب الكاشف للإلتباس عن مسائل الإفريقي إلياس - ويليه/ الجواب الراقي على مسائل العراقي، تأليف/ السيد العلامة الحسين بن يحيى الحوثي حفظه الله تعالى.
28- أصول الدين، تأليف/ الإمام الهادي إلى الحق يحيى بن الحسين(ع).
29- الرسالة البديعة المعلنة بفضائل الشيعة، تأليف/ القاضي العلامة عبدالله بن زيد العنسي رحمه الله تعالى.
30- العقد الثمين في معرفة رب العالمين، تأليف الأمير الحسين بن بدرالدين محمد بن أحمد -عَلَيْهم السَّلام-.

(1/4)


كما شارك مركز أهل البيت(ع) للدراسات الإسلامية -بصعدة- بالتعاون مع مؤسسة الإمام زيد بن علي(ع) الثقافية في إخراج:
31- مجموع رسائل الإمام الهادي(ع)، تأليف/ الإمام الهادي إلى الحق يحيى بن الحسين بن القاسم بن إبراهيم(ع).
32- العقد الثمين في تبيين أحكام الأئمة الهادين، تأليف/ الإمام الحجة عبدالله بن حمز(ع).
33- المصابيح وتتمته، تأليف/ السيد الإمام أبي العباس الحسني(ع)، والتتمة لعلي بن بلال رضي الله عنه.
34- الموعظة الحسنة، تأليف/ الإمام المهدي محمد بن القاسم الحوثي(ع).
ومع مكتبة التراث الإسلامي:
35- البدور المضيئة جوابات الأسئلة الضحيانية، تأليف/ الإمام المهدي محمد بن القاسم الحوثي(ع).
وهناك الكثير الطيّب في طريقه للخروج إلى النور إنشاء الله تعالى، نسأل الله تعالى الإعانة والتوفيق.
* * * * * * * * * * * *
ونتقدّم في هذه العجالة بالشكر الجزيل لكلّ من ساهم في إخراج هذا العمل الجليل إلى النور، ونسأل الله أن يكتب ذلك للجميع في ميزان الحسنات، وأن يجزل لهم الأجر والمثوبة.
وأخصّ بالذكر الإخوان الكرام:
عبدالرحيم بن يحيى المؤيدي، علي بن مجدالدين بن محمد المؤيدي، هادي بن حسن بن هادي الحمزي، إسماعيل بن مجدالدين بن محمد المؤيدي، صالح علي علي أبو زيد.
والذين كان لهم الدور الفاعل والبارز في جميع إصدارات المركز.
وختاماً نتشرّف بإهداء هذا العمل المتواضع إلى مولانا الإمام الحجة/ مجدالدين بن محمد بن منصور المؤيدي -أيده الله تعالى وأدام في الداريْن علاه- باعث كنوز أهل البيت(ع) ومفاخرهم، وصاحب الفضل في نشر تراث أهل البيت(ع) وشيعتهم الأبرار رضي الله عنهم.
وصلى الله على سيّدنا محمد وعلى أهل بيته الطيبين الطاهرين.
مدير المركز/
إبراهيم بن مجدالدين بن محمد المؤيدي
2 جماد الأول 1424هـ - 2/7/2003م

(1/5)


بسم الله الرحمن الرحيم
قال والدنا ومولانا الإمام الحجة/
مجدالدين بن محمد بن منصور المؤيدي أيده الله تعالى:
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله، وسلام على عباده الذين اصطفى، وبعد:
فهذا الكتاب العظيم (مَجْمُوْعُ السَّيدِ حُمَيْدَان ) تأليف السيد الإمام، حامي علوم الآل، وماحي رسوم الضلال، أبي عبدالله حميدان بن يحيى القاسمي(ع)، ولما اطلع على مجموعة الإمام أحمد بن الحسين(ع) أثنى عليه وقال ما معناه: هو الحق الصحيح، والدين الصريح، وإنه معتقد آل الرسول، وكذا: الإمام المنصور بالله الحسن بن بدر الدين، والإمام المطهر بن يحيى، وولده الإمام محمد بن المطهر، والإمام القاسم بن محمد عليهم السلام، قالوا جميعاً: هو معتقدهم الذي يدينون الله به، حتى قال الإمام القاسم(ع): ما كان في الأساس مخالفاً له فيرد إليه، واستثنى الإمام الحسن: الإرادة، فإنه توقّف فيها، والإمام محمد بن المطهر: الجوهر الفرد.
قال الإمام الواثق بالله المطهر بن محمد بن المطهر(ع) في الأبيات الفخرية:
أما حميدان من شاد المنار فقد

أحيا بهمته قولاً لهم بالي
وقد تيسر بحمد الله تعالى طباعته ليعمّ نفعه، جعلنا اللَّه ممن استمسك بالعروة الوثقى، واعتصم بالحبل المتين الأقوى، واقتفى سوِيَّ مناهج أهل البيت الطاهرين، ومشى على سنن أدراجهم، وهو دينه القويم، وصراطه المستقيم، إنه هو السميع العليم، وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى أهل بيته الطيبين الطاهرين.
مجدالدين بن محمد بن منصور المؤيدي
غفر الله لهم وللمؤمنين
كتب بأمره ولده/ إبراهيم بن مجدالدين بن محمد المؤيدي

(1/6)


بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
مقدمة التحقيق
الحمد لله رب العالمين، المنزل في الذكر المبين: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا..} الآية [فاطر:32]، والصلاة والسلام على رسوله الأمين، وعترته الطاهرين، أئمة الهدى ومصابيح الدجا، أطواد الإيمان، وأسباب الأمان، فمثلهم كمِثْل سفينة نوح من ركبها نجا ومن تخلّف عنها غرق وهوى؛ كما قال المصطفى - صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم - فهم الذادون عن الدين وحماة سرح اليقين، وفي ذلك يقول -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم -: ((إن عند كل بدعة تكون من بعدي يكاد بها الإسلام ولياً من أهل بيتي موكلاً يذب عنه ويعلن الحق وينوّره ويرد كيد الكائدين فاعتبروا يا أولي الأبصار وتوكّلوا على الله)).
وبعد: فهذا المجموع العظيم، والسفر العالي الفخيم، من تصنيف السيد الإمام حامي علوم الآل، وماحي رسوم الضلال، السيد العلامة الكبير البليغ المتكلّم الأصولي، لسان العترة، نور الدين أبي عبدالله حميدان بن يحيى بن حميدان بن القاسم بن الحسن بن إبراهيم بن سليمان بن الإمام المنصور بالله القاسم بن علي بن عبدالله بن محمد بن القاسم بن إبراهيم بن إسماعيل بن إبراهيم بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب -سلام الله عليهم- صاحب التصانيف في علم الكلام، والمترجم عن أهل البيت المصرّح بمذهبهم.
قال السيد الهادي بن إبراهيم الصغير: هو ممن عاصر حيّ الإمام المهدي أحمد بن الحسين -عليهم السلام-؛ وكان علامة في الكلام مطلعاً على أقوال أهله ومتبحراً في ذلك متقناً غاية الإتقان، وإليه لمّح الواثق بقوله في الأبيات الفخرية:
أما حميدان من شاد المنار فقد.... أحيا بهمّته قولاً لهم بالي
وهذه الأبيات الفخرية شهيرة، وشرحها السيد العلامة محمد بن يحيى القاسمي وقال في ذلك: يريد بذلك السيد الإمام زينة الأنام تاج آل طه -عليهم السلام-..إلى قوله: محيي رسوم آل الرسول، أبا عبدالله حميدان ؛ ثم قال: له من التصانيف الغريبة والأنظار الصائبة العجيبة ما شهدت به العقول الراجحة، والآي والآثار الواضحة، والعترة الهادية المهدية، وشيعتهم الطاهرة الزكية.

(1/7)


وقد اشتمل هذا المجموع المبارك على أكثر مؤلفاته (عَلَيْه السَّلام) وهي على النحو التالي:
1-تنبيه الغافلين على مغالط المتوهمين.
2-التصريح بالمذهب الصحيح.
3-المسائل الباحثة عن معاني الأقوال الحادثة.
4-المنتزع الأول من أقوال الأئمة (ع).
5-المنتزع الثاني من أقوال الأئمة (ع).
6-تذكرة تشتمل على أربع مسائل من كلامه (ع).
7-الفصل السابع من سبعة فصول من كتاب التطريف.
8-تنبيه أولي الألباب على تنزيه ورثة الكتاب.
9-بيان الإشكال فيما حُكي عن المهدي (ع) من الأقوال.
10-حكاية الأقوال العاصمة من الإعتزال مما انتزع وجمع من كتب الإمام المنصور بالله (ع).
11-جواب المسائل الشتوية والشبه الحشوية.
12-خبر خولة الحنفية.
13-سؤال وجواب.
قسم الأشعار:
14-الرسالة المزلزلة لأعضاد المعتزلة.
15-من كلام السيد حميدان قصيدة أولها:
أيها المستفيد من علم قوم
نكبوا عن سبيل سفن النجاة
16-ومن كلامه -رضي الله عنه وأرضاه-:
يا عاذلي عن مذهبي ومعنّفي.... دعني فإني بالأئمة مقتفي
17-وقال أيضاً:
لقد ظهرت بعد النبي من الورى.... دفائن أضغان العتاة الروافض
18-وقال أيضاً:
زال أهل التفعيل والإنفعال.... وأديل التطريف بالإعتزال

(1/8)


ولما اطّلع على مجموعه الإمام أحمد بن الحسين(ع) أثنى عليه وقال ما معناه: هو الحق الصحيح، والدين الصريح، وإنه معتقد آل الرسول. كما سيأتي في هامش هذا الكتاب، وروى السيد العلامة محمد بن إبراهيم، عن الإمام أحمد بن الحسين، والإمام المنصور بالله الحسن بن بدر الدين، والإمام المتوكل على الله المطهر بن يحيى، وابنه محمد بن المطهر أنهم كتبوا على مجموعه -رضي الله عنه-: أنه معتقدهم؛ إلا أن الإمام محمد بن المطهر استثنى الجوهر وقال: إن لي فيه نظراً، والإمام الحسن بن بدر الدين استثنى الإرادة فإنه توقّف فيها، وقال القاضي أحمد بن صالح الدواري: هذا السيد حميدان، مصنف هذه المجموعات المذكورة من أكابر علماء العترة النبوية وأفاضلهم، ومتمسكاً بحقائق عقائدهم ومذاهبهم، وكان معاصراً للإمام أحمد بن الحسين(ع) وللإمام المطهر بن يحيى(ع)، وقال: ذكر في بعض كتبه: أن الإمام المهدي أحمد بن الحسين وقف على بعضها فقال: مذهب العترة -عليهم السلام-. مشهده (عَلَيْه السَّلام): بهجرة الظهراوين من أعمال شظب.
الكتاب
أما الكتاب فقد اشتمل على كتب عظيمة تعبّر عن معتقد أهل البيت (ع) والرد على مخالفيهم وهي كما يلي:
1-تنبيه الغافلين على مغالط المتوهمين:
وهذا الكتاب يشتمل على خمسة فصول، يتكلّم في الفصل الأول على مقدمات تنبّه المتعلم على ترك الاغترار بظواهر الدعاوى وزخارف الأقوال.

(1/9)


ويتكلم في الفصل الثاني في العقل والنفس وذكر أقوال المختلفين فيهما.
ويتكلم في الفصل الثالث عن معنى العلم وتنوعه وطرقه وفي ذكر جملة من الأسماء وفي الهيولى والصورة، وفي الفرق بين صفات القديم والمحدث، وبين الفاعل والعلّة وغير ذلك.
ويتكلم في الفصل الرابع عن العالم وذكر الخلاف في ماهيته وفي أصله وفي أنواعه، وفي حدوثه.
ويتكلم في الفصل الخامس عن الإسلام ومعنى الإيمان بالله تعالى وصفاته وغير ذلك.
2-التصريح بالمذهب الصحيح:
وهذا الكتاب يشتمل على خمسة مواضيع، يتكلم في الأول منها في جملة من مقدمات البلوى التي ينبني عليها الكلام في علوم الدين وهو ينقسم إلى سبعة فصول.
وفي الثاني عن مسائل الإمامة لكونها من أول ما وقع فيه الإختلاف بين الأمة، وهو ينقسم إلى عشرة فصول.
وفي الثالث عن الصانع تعالى وما يستحق من الصفات لذاته أو لفعله وهو ينقسم إلى أربعة فصول.
وفي الرابع عن العالم وصفات ذواته وكيفية فنائه وهو ينقسم إلى ستة فصول.
وفي الخامس عن جملة من أصول مغالط المعتزلة التي أوهموا أنها أدلة وهو ينقسم إلى عشرة فصول.
3-المسائل الباحثة عن معاني الأقوال الحادثة:
وهذا الكتاب يشتمل على عشرين مسألة يفنّد فيها عدداً من مصطلحات المعتزلة ويظهر فيها مذهب أهل البيت -عليهم السلام-.
4-المنتزع الأول من أقوال الأئمة(ع):
وهذا الكتاب يشتمل على جمل من كلام الأئمة -عليهم السلام- في النص على الإمامة والحصر وصفة الإمام وذكر حكم من يخالف في ذلك من فرق الإسلام.
5-المنتزع الثاني من أقوال الأئمة -عليهم السلام-:
وهذا الكتاب يشتمل على جمل من كلام الأئمة -عليهم السلام- في ذكر بعض ما اختلف فيه أهل الكلام من الأقوال في الذوات والصفات والأحكام.

(1/10)


6-تذكرة تشتمل على أربع مسائل من كلامه -رضي الله عنه-:
يتكلم في هذه التذكرة في أربع مسائل مما يستغلط بالسؤال عنها بعض الصفاتية ويجيب -رحمه الله تعالى- عن ذلك وذلك مثل سؤالهم في المسألة الأولى عن النظر في إثبات الصانع تعالى هل يحصل به العلم أنه تعالى قادر وعالم، إذا حصل هذا فما الفائدة في تكرار النظر ثانياً وثالثاً، ونحو ذلك مما يوهمون به أنه لا بد لله سبحانه من صفات زائدة على ذاته مختلفة بحسب إختلاف الأدلة المنظور فيها، وغير ذلك من مغالطهم، وهو يجيب (عَلَيْه السَّلام) بأحسن جواب.
7-الفصل السابع من سبعة فصول من كتاب التطريف:
وفي هذا الكتاب يرد (عَلَيْه السَّلام) على المطرفية الغوية ويبين فيه بطلان بدعهم بالعقل والنقل من الكتاب والسنة والإجماع وأقوال الأئمة -عليهم السلام-.
8-تنبيه أولي الألباب على تنزيه ورثة الكتاب:
وهذا الكتاب يشتمل على ستة فصول، الأول في ذكر جملة من أصول الفقه المذكورة في الكتاب والسنة وأحكامها.
والثاني في ذكر الأصول التي يحتج بها من خالف الأئمة أو خالف بينهم وهو ينقسم إلى ثلاثة أصول.
والثالث في ذكر جملة من اختلاف أحوال الأئمة -عليهم السلام-.
والرابع في ذكر ضروب من أمثلة ما خولف فيه بين الأئمة وما يصح منه وما لا يصح وهو ينقسم إلى عشرة ضروب.
والخامس في ذكر ما أُجمع عليه من صفة من يجوز له الإجتهاد.
والسادس في ذكر الفرق بين الشيعي والمتشيّع.

(1/11)


9-بيان الإشكال فيما حُكي عن المهدي (ع) من الأقوال:
وفي هذا الكتاب يذكر ما الذي يجب أن ينسب من الأقوال إلى الإمام المهدي لدين الله الحسين بن القاسم -عليهما السلام - فانتزع - رحمه الله تعالى - من مشهور ألفاظ الإمام المهدي (عَلَيْه السَّلام) الصريحة المذكورة فيما أُجمع عليه من كتبه الصحيحة أقوالاً أخبر (عَلَيْه السَّلام) فيها أنه قد كُذِب عليه في كثير مما ينسب إليه، وأقوالاً حذّر فيها من الاغترار ببعض المتنسكين، وبما سُطر في الكتب من مشكل روايات المدلّسين، وأقوالاً علم فيها كيف يعمل فيما يقع في بعض العترة من الإشكال، وفي مشكل ما ينسب إلى الأئمة(ع) من الأقوال، وأقوالاً عارض بها ما ينسب إليه من البدع.
10-حكاية الأقوال العاصمة من الإعتزال مما انتزع وجمع من كتب الإمام المنصور بالله(ع):
وفي هذا الكتاب يحكي جملة من فوائد كتب الإمام المنصور بالله (عَلَيْه السَّلام) المتضمنة لتحقيق مذهبه ليبين بها الفرق بين التشيع والاعتزال ويتميز لأجلها الصحيح عن المحال، ويشتمل هذا الكتاب على أربعة فصول:
الأول: في ذكر بعض ما استدل به (عَلَيْه السَّلام) من الأخبار الموافقة لمحكم الكتاب ولما أجمعت عليه العترة.
والثاني: في ذكر شبه واعتراضات مما حكاه عن المخالفين وأجاب عنه.
والثالث: في حكاية أقوال منتزعة من كتبه متضمنة لمدح العترة وذم من خالفهم وأنكر فضلهم، واستغنى عنهم بغيرهم.
والرابع: في ذكر جملة مما حكاه من أقوال فضلاء العترة في معنى ذلك.
11-جواب المسائل الشتوية والشبه الحشوية:
وفي هذا الكتاب يجيب (عَلَيْه السَّلام) على عدة مسائل أوردها أحد متفقهة عصره، ونصبة دهره، اعتراضاً على بعض أقوال الزيدية -حرسها الله تعالى بالذرية الزكية والعترة الهادية المهدية- فهم -صلوات الله عليهم- كما قال أبيهم المصطفى -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم-: ((في كل خلف من أهل بيتي عدول ينفون عن هذا الدين تحريف الغالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين)).

(1/12)


12-خبر خولة الحنفية:
وفيه يبين (عَلَيْه السَّلام) أن أمير المؤمنين -صلوات الله عليه- عقد على خولة الحنفية عقدة النكاح ووطئها بالعقد لا بملك اليمين.
13-سؤال وجواب من كلامه -رضي الله عنه وأرضاه-.
وله (عَلَيْه السَّلام) في النظم عدة قصائد مذكورة في هذا المجموع المبارك وهي كما يلي:
1-الرسالة الناظمة لمعاني الأدلة العاصمة:
من كلامه (عَلَيْه السَّلام) التي سماها الإمام المطهر بن يحيى (ع) المزلزلة لأعضاد المعتزلة أولها:
حمداً وشكراً دائماً طول الأبد.... مضاعفاً مجاوزاً حد الأمد
2-وله أيضاً قصيدة أولها:
أيها المستفيد من علم قوم.... نكبوا عن سبيل سفن النجاة
3-وله -رضي الله عنه- أيضاً قصيدة أولها:
يا عاذلي عن مذهبي ومعنّفي.... دعني فإني بالأئمة مقتفي
4-وله -رضي الله عنه- أيضاً قصيدة أولها:
لقد ظهرت بعد النبي من الورى.... دفائن أضغان العتاة الروافض
5-وله -رضي الله عنه وأرضاه- أيضاً قصيدة أولها:
زال أهل التفعيل والانفعال.... وأديل التطريف بالاعتزال
وبهذا ينتهي هذا المجموع الكبير والسفر الجليل.

(1/13)


سند الكتاب
وهذا الكتاب مشهور في أوساط الزيدية، ونحن نروي هذا المجموع المبارك عن الإمام الأعظم والبحر الخضم، نقطة البيكار، ودرة التقصار، الولي بن الولي /مجدالدين بن محمد بن منصور المؤيدي -أيده الله تعالى- إجازة فيه وفي غيره مما صحّت له روايته وما ثبت عنه من رواية ودراية وتأليف؛ بأسانيده المسطّرة في كتابه العظيم (لوامع الأنوار في جوامع العلوم والآثار وتراجم أولي العلم والأنظار)، وكتابه (الجامعة المهمة لأسانيد كتب الأئمة).
أما الكتاب فقد تمت قصاصته على ثلاث نسخ ما عدا الجواب على المسائل الشتوية والشبه الحشوية، وخبر خولة الحنفية، وسؤال وجواب، فلم توجد إلا في نسخة (ج)، وقد عثرنا على نسخة أخرى رمزنا لها بـ(هـ) وقمنا بقصاصة المسائل الشتوية والشبه الحشوية وخبر خولة عليها أيضاً،هذا وستجد ذكر تلك النسخ في آخر الكتاب في الهامش.
وفي الختام نسأل الله العلي القدير أن يجعل أعمالنا وأقوالنا وأفعالنا خالصة لوجهه الكريم، ومقرّبة لنا إلى جنات النعيم، وأن ينصر الإسلام والمسلمين، إنه ولي ذلك والقادر على ما هنالك، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وآله.

(1/14)


تنبيه الغافلين على مغالط المتوهمين

مما ولي تصنيفه السيد العالم نور الدين أبو عبدالله
حميدان بن يحيى بن حميدان القاسمي الحسني [الهاشمي] عليه وعلى آبائه [الأكرمين أفضل صلاة رب العالمين]
بسم الله الرحمن الرحيم
(وبه نستعين)
[ديباجة الكتاب والدافع إلى تأليفه]
أما بعد حمد ذي العزة والطول، ومن به القوة والحول، والصلاة على محمد خاتم النبيين، وعلى وصيه علي أمير المؤمنين، وعلى آلهما العترة الطاهرين.
فإني لما عرفت طرفاً من أقوال المختلفين، وبعضاً من أصول مغالط المتكلفين، وجملة من ردود الأئمة الهادين، المبصرة لمن تمسك بها وبهم من المسترشدين، اختصرت من جملة ذلك خمسة فصول، منبهة على معرفة أكثر مغالط الأصول،
الأول: في ذكر جملة مما ينبغي للمعلم والمتعلم تقديم معرفته.
والثاني: في العقل والنفس.
والثالث: في العلم.
والرابع: في العالم.
والخامس: في الإسلام.
[ذكر جملة مما ينبغي للمعلم والمتعلم تقديم معرفته]
أما الفصل الأول
فهو يشتمل على ذكر ست مقدمات مما ينبه المتعلم على ترك الاغترار بظواهر الدعاوى، وزخارف الأقوال:

(1/15)


الأولى: أن يعلم على الجملة أنه لا بد لعلم كل فرقة ولمذهبهم من ثمرة وزبدة يُنْتَهى إليها، ولا يمكن كتمها، وأن كل من كانت ثمرة علمه، وزبدة مذهبه، جحد الصانع تعالى، أو جحد كونه مختاراً لفعله، أو تثنيته، أو تشبيهه، أو إضافة شيء من صنعه إلى غيره، أو إضافة شيء من فعل غيره إليه، أو تحريف بعض محكم كتابه، أو رفض بعض حججه، أو الإلحاد في شيء من أسمائه، أو إنكار ما يعقل، أو إثبات ما لا يعقل، وما أشبه ذلك؛ فهو المخالف للحق وأهله، والناظر بوهمه لا بعقله، إذ ليس الغرض بالتعلم في دين الإسلام إلا طلب السلامة من شبه المخالفين [له].
الثانية: أنه لا يعتمد في طلب الحق على ما يسبق إلى قلبه، من محبة أحد أو بغضه، لما في ذلك من خطر التعصب على الباطل.
الثالثة: أن لا يرخص لنفسه في تجويز أن يؤدي النظر والإستدلال إلى خلاف شيء مما يعلم ضرورة أو بالإجماع، وذلك لأن المعلوم ضرورة، أو المعلوم بالإجماع لا يُجوَّزُ الغلط فيه ولا الإلتباس؛ كما يُجَوَّزُ في النظر والإستدلال؛ فلذلك يجب أن يستشهد بالضروري على صحة الإستدلالي، ولا يُحكِّم الاستدلالي على الضروري، ولا المختلف فيه على المجمع عليه، وسيأتي ذكر أمثلة ذلك فيما بعد إن شاء الله تعالى.
الرابعة: أن يعلم أنه لا بد لكل مسألةِ خلافٍ من أصل؛ إما صحيح، وإما باطل، ولذلك فإن الخوض في فروع المسائل قبل معرفة صحة أصلها مما يطول فيه الكلام، ولا ينتهى فيه إلى حد معلوم.

(1/16)


الخامسة: أن يعلم على الجملة، أنه يعجز عن الإحاطة بتفصيل جميع العلوم المختلفة، التي تعجز في دقتها وكثرتها الفِكَر، وينفد دون إدراك جميعها العُمُر، وأن يعلم مع ذلك أنه لا يجوز له في العقل ولا في الشرع الاتباع لجميع علماء الفرق المختلفين في علوم الدين، لما في ذلك من لبس الحق بالباطل، والجمع بين الأقوال المتناقضة، والإعتقادات المتداحضة، ولا يجوز له الإعتزال لجميعهم؛ لما في ذلك من الترك للحق مع الباطل، ولا يجوز له الإتباع لبعضهم دون بعضٍ بغير دليل؛ لما في ذلك من خطر التقليد لغير المحق.
السادسة: أن يعلم أنه يجب على كل مكلف أن يقف عند منتهى قدره، وحدّ عقله؛ أما وقوفه عند منتهى قدره فلئلا يدعي ما ليس له، نحو دعوى من يدعي من الزنادقة أنه رب، ودعوى من يدعي من الروافض أنه نبي أو إمام.
وأما وقوفه عند حد عقله، فلئلا يخرج إلى الغلو نحو ما يأتي من أمثلته فيما بعد إن شاء الله سبحانه، فهذه جملة مما ينبغي لكل عالم ومتعلم الابتداء بمعرفته وتعريفه.
[الكلام في العقل والنفس]
وأما الفصل الثاني
وهو الكلام في العقل والنفس؛ فهو ينقسم إلى ذكر أقوال المختلفين في العقل والنفس ما هما؟ وأين هما؟ وإلى ذكر جملة مما يعرف [به] الفرق بينهما:
[ذكر أقوال المختلفين في العقل والنفس]
أما ذكر أقوال المختلفين في العقل والنفس فجملة المشهور منها ستة أقوال:
[قول أئمة العترة ومن قال مثل قولهم في العقل والنفس]

(1/17)


الأول: قول أئمة العترة ومن قال مثل قولهم، وهو: أنهما من جملة الأعراض التي خلقها الله سبحانه، وجعل محلهما القلب، وأن مثل حلول العقل فيه، كمثل حلول البصر في العين، ولذلك قال الله سبحانه: {لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا}[الأعراف:179]، وقال: {فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ(46)} [الحج].
وقال النبي - صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم -: ((اللسان معرفة القلب)) وقال: ((المرء مخبوء تحت لسانه))، ومثل حلول النفس فيه كمثل حلول حرارة النار في النار، ولذلك قيل: إنها تقوى بالوسواس كما تقوى النار بالحطب.
[ذكر وجه الحكمة في خلق العقل والنفس وفي مقارنتها له]
واعلم أن وجه الحكمة في خلق العقل: هو كونه نعمة من أتم النعم، وحجة من أبلغ الحجج، وكونه هادياً إلى طريق النجاة.

(1/18)


ووجه الحكمة في خلق النفس: هو ما فطرت عليه من محبة ما لا بد من إصلاحه من أمور الدنيا.
ووجه الحكمة في مقارنة النفس للعقل: هو ما أراد الله سبحانه في ذلك من الاختبار والامتحان.
[قول الفلاسفة في العقل والنفس وما تفرع منه من الأقوال]
[و]القول الثاني: قول الفلاسفة: إن العقل الأول من العقول العشرة التي زعموا أنها قبل الزمان والمكان هو أول منفعل انفعل من العلة الأزلية التي وصفوها بأنها علة العلل، وأنها واحدة لا كثرة فيها، وأنه لا يصدر عنها إلا معلول واحد، وأن صور جميع الأشياء كامنة فيها قبل ظهورها، وموجودة فيها بالقوة قبل وجودها بالإنفعال.
قالوا: وذلك العقل الأول هو العقل الكلي، وسائر العقول جزئيات له، والنفس المنفعلة منه هي الكلية، وسائر النفوس جزئيات لها.
قالوا: وهذه النفس الكلية إذا أضيفت إلى ما بعدها من العقول فهي عقل، وما أشبه ذلك من أقوالهم التي هي الأصل والقدوة لكل غالٍ، ومنها تفرعت كل بدعة باطلة، نحو قول المجوس: إن الميت منهم إذا ألقي في النار صعدت به إلى النور.
وقول أهل التناسخ: إن الإنسان يخرج من هيكله إذا مات إلى هيكل آخر.
وقول الباطنية: إن منهم من هو بعض رب، ومنهم رب، ومنهم أكثر، وأن الميت منهم ينتقل؛ لأنه بزعمهم شيء غير الجثة المحمولة.
وقول الصوفية: إن ربهم هواهم.
وقول الأشعرية بالإرادة القديمة التي أضافوا إليها أفعال العباد.
وقول المعتزلة بثبوت ذوات العالم فيما لم يزل.

(1/19)


وقول أهل القفحة بالقفحة، وما أشبه ذلك.
[الدليل على بطلان أقوال الفلاسفة وما تفرع منها]
واعلم أن مما يدل على بطلان أقوال الفلاسفة التي تفرعت منها هذه المحالات وما أشبهها أمور:
منها: كونها على الجملة مذهباً مخالفاً لمذهب أهل ملة الإسلام فيما الحق فيه مع واحد، وذلك ظاهر؛ إذ ليس غرضهم إلا نفي الصانع المختار، وتعطيل الشرائع، وإبطال القول بالبعث والحساب، وقد ثبت بالأدلة الصحيحة صحة الإسلام، وبطلان [كل] ما خالفه، وذلك لأن كل مذهبين نقيضين إذا صح أحدهما فإن صحته تدل على بطلان نقيضه، وهذا الدليل مما يعلم صحته ضرورة.
ومنها: كونها بدعاً مخترصة، وهم لا ينكرون ذلك لأنهم يفتخرون بأن علماءهم وقدماءهم أول من استنبط معانيها بدقة نظره، وسمى ما سمى منها ووصفها بأنها علوم إلاهية فجرت في ذلك مجرى ما ذمه الله سبحانه بقوله: {إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَءَابَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ} [النجم:23] ، {إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ(148)} [الأنعام].
ومنها: كونها خارجة عن حد العقل لوجهين:

(1/20)


أحدهما تفكرهم في كيفية مبدأ الخلق وما أشبه ذلك من الغيوب التي لا يعلمها إلا الله سبحانه، وكذلك قال سبحانه: {مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ} [الكهف:51].
والثاني: إنكارهم لما يعقل وإثباتهم لما لا يعقل، أما إنكارهم لما يعقل فنحو كون أنواع المتولدات، من الحيوان والنبات، وما فيها من حسن التدبير والتسخير والتركيب العجيب ليس دالاً على أن لها صانعاً مختاراً.
وأما إثباتهم لما لا يعقل فنحو إضافتهم لذلك إلى علل ميتة مخلوقة، ونحو تجويزهم لكمون الضد في ضده، ووجوده قبل وجوده، وقدمه قبل حدوثه، وما أشبه ذلك من المحالات الخارجة عن حد العقل.
ومنها: كون أكثر عباراتهم متناقضة في اللفظ والمعنى نحو وصفهم للعلة الأزلية بأنها واحدة لا كثرة فيها، ونقضهم لذلك بقولهم إن صور جميع الأشياء كامنة فيها وكل مكمون فيه فالكامن بعضه أو في بعضه وكل ما له بعض فليس بواحد على الحقيقة ولابأزلي.

(1/21)


ووصفهم للعقل الكلي بأنه أزلي لأجل أزلية علته، وأنه لا يجوز أن يتوسط العدم بين العلة ومعلولها، ونقضهم لذلك بوصفهم له بالإنفعال منها، والمنفعل لا يعقل كونه منفعلاً إلا إذا كان بعد أن لم يكن، لعدم الفرق بين الفعل والإنفعال في كون كل واحد منهما محدثاً، ووصفهم للعشرة العقول بالتقدم والتأخر، ونقضهم لذلك بقولهم إنها موجودة قبل الزمان والمكان، إذ لا يعقل الفرق بين المتقدم والمتأخر من الأشياء المنفعلة إلا بالوقت والمكان؛ إذ لولا ذلك لما عُلِمَ الفرق بين كون الثاني ثانياً والثالث ثالثاً، ولا بين رتبتيهما ولا انفعالهما، وكل هذه الأدلة مما لا يمكن كل عاقل إنكارها إلا بالمكابرة الدالة على العجز، ولذلك جمع كثير من الغلاة بين اسم الإسلام ومعنى الفلسفة ليتوصلوا بذلك إلى إبطال محكم التنزيل، بما ادعوا من علم التأويل، الذي زعموا أنه علم مكنون مكتوم، فمنهم من لا يُعَلِّمُهُ إلا من أخذ عليه العهد والميثاق، ومنهم من لا يُعَلِّمُهُ إلا من قد قبل منه ما يلقي إليه من المقدمات التي إذا نظر فيها المتعلم أداه النظر فيها إلى ذلك العلم المكتوم، وما أشبه ذلك من الحيل والمكائد التي لا تجوز إلا على من بهر عقله زخرف أقوالهم، وقصر به الشك عن بلوغ درجة اليقين.

(1/22)


[قول بعض من جمع بين الفلسفة والإسلام في العقل والنفس وإبطاله]
والقول الثالث: قول بعض من جمع بين الفلسفة والإسلام: إن العقل هو أول مخلوق خلقه الله سبحانه قبل الزمان والمكان، واحتجوا على ذلك بخبر رووه، وهو أن الله سبحانه لما خلق ذلك العقل قال له: أقبل، فأقبل، ثم قال له: أدبر، فأدبر..إلى آخر الخبر.
وهذا الخبر هو من أقرب وأوضح ما يدل على بطلان قولهم، وذلك لأنه لا يخلو: إما أن يكون محمولاً على ظاهره أو متأولاً.
فإن كان محمولاً على ظاهره، وجب القطع على كونه مكذوباً على النبي - صَلَّى الله عَلَيْه وعلى آله وَسَلَّم - لأجل تناقضه وتضمنه لمعنى التشبيه، وللجهل بالفرق بين صفة العقل وصفة العاقل.
فأما تناقضه؛ فلأن الإدبار بعد الإقبال، والإقبال قبل الإدبار لا يعقل إلا إذا كان بينهما وقت يعرف به التمييز بينهما، وكذلك الإقبال إلى المقبَل إليه والإدبار عنه لا يعقل إلا إذا كان بينهما مسافة، وكان كل واحد منهما في مكان غير مكان الثاني.
فإن قالوا: هو معقول، بطل قولهم بنفي الزمان والمكان، وإن قالوا: هو غير معقول فإثباتهم له عبث.
وأما كونه متضمناً لمعنى التشبيه، فلأن المفهوم من فحوى الأمر بالإقبال والإدبار -هو كون الآمر والمأمور متقابلين، وتقابلهما لا يعقل إلا إذا كان كل واحد منهما في جهةٍ مقابلة لجهة الثاني حتى يقع بصره على ما أقبل به إليه دون ما أدبر به عنه، تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً.

(1/23)


وأما تضمنه للجهل بالفرق بين صفة العقل وصفة العاقل؛ فلأن العقل صفة والعاقل موصوف، والصفة حالة، والموصوف محلول فيه، والحال غير المحلول، ولأن المأمور المنهي المميز بين ما أُمر به ونُهي عنه لا يكون إلا عاقلاً بعقل هو غيره، وهذا هو المعقول المعلوم بالمشاهدة، ولأن العقل لو كان يجوز أن يوصف بصفة العاقل لاحتاج كل عقل إلى عقل إلى ما لانهاية له، وذلك محال بالإجماع.
وإن كان ذلك الخبر متأولاً على غير ما يفيده بظاهره؛ لم يكن لهم فيه حجة، وكل دعوى بلا حجة فهي باطلة بالإجماع.
[قول المعتزلة في العقل والرد على ذلك]
والقول الرابع: هو قول المعتزلة: إنّ العقل مجموع عشرة علوم ضرورية، وذلك تكلف منهم وتوهم لما لا طريق لهم إلى معرفة ماهيته وكيفيته، لأجل كون العقل جارياً مجرى السمع والبصر وما أشبههما مما يعلم ولا يتوهم، ومع ذلك فلو صح قولهم لما جاز أن يتفاضل العقلاء في العقل؛ لأجل كون تلك العلوم فيهم بزعمهم على سواء، والمعلوم خلاف ذلك، ولأن العلوم الضرورية أكثر من عشرة، وتخصيصهم لبعض منها دون غيره دعوى مبتدعة لا دليل على صحتها من عقل ولا سمع ولا قال بذلك أحد قبلهم ولا بعدهم إلا من قلدهم بغير دليل.

(1/24)


[قول الطبيعية في العقل]
والقول الخامس: قول من زعم من الطبيعية إن العقل في الدماغ واحتجوا بكي الدماغ، والذي يدل على بطلان ذلك ما تقدم ذكره من نصوص الكتاب والسنة على أن العقل في القلب، ولذلك وصف الله سبحانه قلب من لم يستعمل عقله بالعمى، وعماه هو ذهاب بصره، وبصره هو العقل، كما أن عمى العين [هو] ذهاب بصرها، وأما كي الدماغ فأكثر الآلات الباطنة يُكوى لأوجاعها في غيرها من ظاهر الجسم.
[قول المطرفية في العقل وإبطاله]
والقول السادس: قول المطرفية إن العقل هو القلب بناءً على أصلهم الباطل، وهو قولهم: إن صفة الجسم هي الجسم، واحتجوا بقول الله سبحانه: {قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا} [الحج:46] ، وقوله: {لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ} [ق:37]، والذي يدل على بطلان قولهم إن العقل هو القلب وتحريفهم لمعنى الآيتين: هو عدم المخصص لقلب دون قلب فيلزمهم لأجل ذلك أن يعتقدوا أن الله سبحانه خاطب كل ذي قلب من الحيوانات، ومعلوم خلاف ذلك.
وأما قولهم: إن صفة الجسم هي الجسم؛ فلو صح ذلك للزم أن يكون الجسم الواحد موجوداً معدوماً في حالة واحدة لأجل [جواز] وجود بعض صفاته وعدم بعضها في حالة واحدة، وذلك محال، وكل قول يؤدي إلى المحال فهو محال.

(1/25)


فإن جوزوا كُمُون ما عدم لزمهم أعظم من ذلك وهو تجويز أن يكون الموصوف الواحد موصوفين اثنين أحدهما كامن في الثاني.
[ذكر جملة مما يعرف به الفرق بين العقل والنفس]
وأما القسم الثاني من الكلام في العقل؛ وهو في ذكر جملة مما يُعرف به الفرق بين العقل والنفس فهو يعرف باختلافهما في ستة أمور مما يجوز أن يختلفا فيه بعد الإشتراك في كون كل واحد منهما عرضاً حالاً في القلب.
فالأول: اختلافهما في لفظ التسمية ومعناها، وذلك لأن تسمية العقل عقلاً خاص له، وقيل إنه مشتق من عَقْل نوادِّ الإبل بالعقال؛ لأنه يعقل من نظر به عن الجهل، وقيل لأنه يعقل الحكمة في القلب أي يمنعها من الذهاب، وله مع ذلك أسماء مترادفة نحو اللب والحَجْر والحجا.
واسم النفس مشترك: فمنه ما يراد به الإنسان في مثل قول الله سبحانه: {يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَنْ نَفْسِهَا} [النحل:111].
ومنه ما يراد به الروح [في] مثل قوله سبحانه: {اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا} [الزمر:42].
ومنه ما يراد به الدم نحو ما في الشرع من ذكر ما لا نفس له سائلة.

(1/26)


ومنه ما يذكر مجازاً وهو متأول نحو قول الله سبحانه: {تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي - أي ما أخفي - وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ} [المائدة:116]، أي ما حجبت علمه عني.
ومنه ما يراد به النفس المقارنة للعقل وهي هذه التي الغرض ذكر الفرق بينها وبينه.
الثاني: اختلافهما في وقت الوجود، وذلك لأن الله سبحانه جعل وجود النفس ملازماً لأول وقت وجود الحياة لأجل كون الحي من البشر مشتهياً ونافراً، والشهوة والنفرة من طباع النفوس التي فطرها الله سبحانه عليها، لما علم في البلوى بذلك من المصلحة والحكمة البالغة.
واعلم أنه ما مَثَلُها في البلوى بتقديم وجودها واستحواذها على القلب واستخدامها للحواس في حال مغيب العقل المؤمر عليها وعلى جميع الحواس إلا كمِثْلِ من ملكه الله سبحانه من ملوك أهل الدنيا بالتمكين والتخلية والإمهال حتى يتصرف في العباد والبلاد في حال مغيب من يبعثه الله سبحانه بعد ذلك من رسله إليه، أو من يقوم مقامهم ليزجره عن غيه، ويمنعه من بغيه.

(1/27)


والثالث: اختلاف صفاتهما وذلك لأن من صفات العقل كونه هادياً إلى الرشاد، ومميزاً بين الصدق والكذب في الأقوال، والحق والباطل في الإعتقادات، والخير والشر في عواقب الأعمال، وداعياً إلى التخلق بمحمود الأخلاق نحو [العلم و]الحلم والكرم والصبر وما أشبه ذلك.
ومن صفات النفس كونها كما قال الله سبحانه أمارة بالسوء، وموسوسة، ومسولة، وداعية إلى مذموم الأخلاق نحو الجزع والهلع والشح والطيش وما أشبه ذلك.
والرابع: اختلافهما في النظر والإستدلال وذلك لأن نظر العقل هو التفكر في الصنع من حيث هو حكمة ونعمة، والتدبر لما حكى الله سبحانه في كتابه من الآيات الدالة عليه، والقياس لما لم يعرف وجه الحكمة فيه على ما عرف، ونظر النفس تظنن وتوهم وتتبع لمواضع الشبه والمتشابه، وقياس ما عرف وجه الحكمة فيه على ما لم يعرف في الحيوانات المؤذية والضارة وما أشبه ذلك مما يدلس به أهل الزندقة على المتعلمين.
والخامس: اختلاف مادتهما، وذلك لأن العقل يستمد من توفيق الله سبحانه وتسديده، ولذلك قال سبحانه: {وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى} [محمد:17]، ويستمد من محكم الكتاب والسنة و[من] علوم أئمة الهدى.

(1/28)


والنفس تستمد من وساوس الشيطان، ومن الشبه والمتشابه، ومن علوم علماء السوء، ولذلك قال الله سبحانه: {يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا} [الأنعام:112].
والسادس: اختلاف أحوال أتباعهما، وذلك لأن المتبع لعقله يقف عند حد قدره لئلا يجهل فضل من فضلَّه الله عليه، ويقف عند حد عقله لئلا يغلو في دينه غير الحق. والمتبع لهوى نفسه يخوض فيما وراء حد عقله، ويتكبر على من هو أفضل منه، ويحسده، ولذلك قال الله سبحانه: {أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ(87)} [البقرة]، وقال: {فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنَ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ(50)} [القصص].

(1/29)


واعلم أن هذه الفروق وما أشبهها [هي] التي يعلم بها ضلال كل معطل ورافض، وكذب كل مدعٍ أن عقله دله على صحة مخالفته للحق وأهله، ويعلم به الفرق بين ما يعلم ولا يتوهم نحو الباري سبحانه، وما يتوهم ولا يعلم نحو ما تقدم ذكره من بدع الفلاسفة وغيرهم، ويعلم به الفرق بين العالم والمتوهم.
وأما الفصل الثالث وهو الكلام في العلم
فهو يتفرع إلى ذكر ضروب مما يتعلق به الغرض، وهو التنبيه على كثير من أصول مغالط المختلفين فيه، وجملة ذلك هو الكلام في معناه، وفي تنوعه، وفي طرقه، وفي ذكر جملة من الأسماء، وفي الهيولى والصورة، وفي الفرق بين صفات القديم والمحدث، وبين الفاعل والعلة، وبين الحقائق الصحيحة والباطلة، وبين حد العقل والغلو، وبين المحكم والمتشابه، وبين ما يجوز من التقليد وما لا يجوز.
[الكلام في معنى العلم]
أما معنى العلم: ففيه ثلاثة أقوال:
[قول الأئمة (ع) في معنى العلم]
الأول: قول الأئمة - عَلَيْهم السَّلام -: إنه أبين من أن يفسر بغيره، ومع ذلك فإنه اسم عام لأنواع مختلفة المعاني، وكل اسم كذلك فإنه لا يصح السؤال عن معناه حتى يبين السائل أيها يريد؛ فإن لم يبين كان سؤاله مغلطة وتعنتاً.

(1/30)


[قول الفلاسفة في معنى العلم وبيان فساده]
والثاني: قول الفلاسفة إن معنى العلم وحقيقته: هو ثبوت صورة المعلوم في نفس العالم، وذلك مشتق من دعواهم الباطلة، وهي قولهم: إن لكل معلوم من الموجودات بعد العدم صورةً ثابتةً فيما لم يزل قبل وجوده، وهو محال، ولأن من المعلومات ما لا صورة له نحو الباري تعالى، وكذلك الأعراض، ولأنه يستحيل أن يكون للمعلوم الواحد ألف صورة في أنفس ألف عالم، ويستحيل أن لا يعلم صورته إلا عالم واحد.
[قول المعتزلة في معنى العلم وبيان فساده]
والثالث: قول المعتزلة: إن العلم هو الإعتقاد الذي يقتضي سكون نفس معتقِده..إلى آخر ما ذكروا، وهو غير صحيح لأجل ما تقدم ذكره من كون اسم العلم عاماً لأنواع من العلم مختلفة المعاني، ولأن علم كل عالم من علماء السوء قد اقتضى سكون نفسه بحيث لا يخطر بباله أن أحداً أعلم منه، وكل حقيقة لا يحصل بها التمييز بين الحق والباطل فهي باطلة.
[الكلام في تنوع العلم]
وأما تنوع العلم؛ فلأنه ينقسم على الجملة إلى صحيح وباطل، والصحيح ينقسم إلى علم غيب وعلم شهادة، وعلم الشهادة ينقسم إلى علوم الدين وعلوم الدنيا، وعلوم الدين تنقسم إلى معقول ومسموع، والمعقول ينقسم إلى ضروري واستدلالي، والمسموع ينقسم إلى تَنْزِيل وتأويل وسنة واجتهاد.

(1/31)


[الكلام في طرق العلم]
وأما طريق العلم؛ فمن العلوم الضرورية ما جبل الله العقول وفطرها على معرفته ابتداءً لا عن طريق نحو علم العاقل بأحوال نفسه وتمييزه بين كثير مما ينفعه أو يضره، ونظير ذلك في غير العاقل من الحيوانات ما فطرها عليه من الإلهام.
ومنها - أعني العلوم الضرورية -: ما جعل الله طريق معرفته الخبرة، أو إدراك إحدى الحواس الخمس، والمخالف في العلوم الضرورية كلها لا يوصف بأنه غالط ولا جاهل بها، ولكن يقال مكابر ومتجاهل.
ومن العلوم ما جعل الله سبحانه طريقه النظر في الأدلة العقلية والإستدلال بما حضر من المنظور فيه على ما غاب بطريقة القياس العقلي، والمخالف فيه يوصف بالغلط وبالجهل.
ومنها: ما جعل الله سبحانه طريق معرفته خبر من يجب قبول خبره إما لحكمته وهو الله سبحانه وتعالى، وإما لعصمته وهو النبي - صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم -، أو من شهد له النبي - صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم - بالصدق نحو كافة الأمة أو جماعة العترة، وإما لأجل وجوب طاعته وهو الإمام السابق، والمخالف لخبر الله سبحانه ولخبر النبي - صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم - ولإجماع الأمة كافر بالإجماع، والمخالف لإجماع العترة -عَلَيْهم السَّلام- مختلف في كفره، والمخالف لخبر الإمام السابق رافض وعاصٍ لله ولرسوله - صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم - [إذ] لا فرق بين وجوب طاعته وطاعة رسول الله - صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم -.

(1/32)


وكل من طلب علماً من غير هذه الطرق فهو متوهم ومتظنن ومخترص، ومن هنا يُعلم بطلان القول بعقول ونفوس وجواهر ليست بأجسام ولا أعراض، ومن هذا الأصل يعلم غلط كل مخالف لأئمة العترة - عَلَيْهم السَّلام -.
[الكلام في ذكر جملة من الأسماء]
وأما الكلام في ذكر جملة من الأسماء: فالغرض به التنبيه على معرفة اختلاف فوائدها، وكثرة مغالطها، وذلك لأنها على ضربين: صحيحة وباطلة.
فالصحيحة: هي كل اسم علمه الله سبحانه عباده، أو ألهمهم على التسمية به، كما قال الله سبحانه: {وَعَلَّمَ ءَادَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا} [البقرة:31]؛ قال بعض الأئمة - عَلَيْهم السَّلام -: يعني [أسماء] جميع ما خلق الله بين السماء والأرض.

(1/33)


والباطلة: هي جميع أسماء البدع، ولذلك قال الله سبحانه: {إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَءَابَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ} [النجم:23] {إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ(148)} [الأنعام].
والصحيحة أيضاً على ضربين: أحدهما يفيد الإثبات، والثاني يفيد النفي، والأسماء المثبتة منها حقيقة ومنها مجاز؛ فالحقيقة: هو كل اسم موجود، والمجاز: هو كل اسم مستعار، وكذلك المعدوم أيضاً فإنه يجوز تسميته شيئاً مجازاً، ولذلك قال الله سبحانه: {إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ(1)} [الحج]، يعني إذا أوجدها.

(1/34)


والذي يدل على أنه ليس بحقيقة قول الله سبحانه: {هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا(1)} [الإنسان].
والأسماء التي تفيد نفي المسمى: هي كل اسم عبر به عن المحال، وكذلك المعدوم في حال عدمه، وذلك نحو كون العالَم معدوماً فيما لم يزل؛ لأنه لا شيء فيما لم يزل إلا الله وحده لا شريك له خلافاً لمن زعم أن أعيان العالم قديمة، وموجودة بالقوة، ولمن زعم أن ذواته أشياء ثابتة فيما لم يزل.
ثم اعلم أن الأسماء التي تفيد الإثبات: منها ما هو خاص للخالق تعالى نحو قوله: {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ}، ومنها خاص للمخلوق نحو المحدث والجسم، ومنها عام في اللفظ دون المعنى نحو الشيء والموجود والقديم، وما أشبه ذلك مما سيأتي ذكر ما ينبه عليه فيما بعد إن شاء الله سبحانه.
[الكلام في الهيولى والصورة]
وأما الكلام في الهيولى والصورة؛ فهو ينقسم إلى ذكر من ابتدعهما، وذكر تفسيرهما، وذكر مثالهما، وذكر الغرض المقصود بهما، وذكر جملة مما يدل على بطلانه.

(1/35)


[ذكر من ابتدع الهيولى والصورة وتفسيرهما ومثالهما والغرض بهما]
أما من ابتدعهما: فهم الفلاسفة الذين زعموا أن علمهم إلاهي، وأن أدلتهم براهين باهرة، وأن ألفاظهم منطقية مهذبة.
[و]أما تفسيرهما: فلا فرق بينهما في المعنى، وبين الأصل والفرع، والجنس والنوع.
وأما مثالهما: فمما ضربوه لهما مثلاً الحديد وما يعمل منه من الآلات المختلفة الصور، والأسماء نحو السيف والسكين والمنشار، وما أشبه ذلك؛ فزعموا أن الهيولى هو الحديد، وأن الصورة هي هيئة ما يُعمل من الحديد كانت كامنة فيه قبل ظهورها.
قالوا: وكذلك صورة الحديد كانت كامنة في المعدن، وكذلك هيولى المعدن حتى ينتهوا إلى علة العلل التي زعموا أن صور جميع الأشياء الحادثة كانت كامنة فيها، وموجودة فيها بالقوة، قالوا: وكذلك القول في جميع صور الحيوانات والنباتات.
وأما ذكر غرضهم الذي قصدوه: فهو جعلهم لذلك مقدمة للقياس، وشبكة يصيدون بها الأغمار كغيرها من المقدمات التي يستحوذون بها على عقل المتعلم، حتى لا يخطر بباله شك في صحتها، [و] في أن نظره فيها، واستدلاله بها؛ يدله على صحة القول بالعلل المؤثرة، وبطلان القول بالصانع المختار عقلاً بزعمه لا تقليداً، ولم يشعر بكونه مقلداً في قبوله لتلك المقدمة من غير نظر في صحتها، وصحة ما تؤدي إليه من المحالات الخارجة عن حد العقل.

(1/36)


[ذكر جملة مما يدل على بطلان القول بالهيولى والصورة]
وأما الذكر لجملة مما يدل على بطلان القول بذلك: فمما يدل عليه هو كونه دعوى مبتدعة لفظاً ومعنى بغير دليل، ومع ذلك فإن الصورة لا يعقل كونها صورة إلا إذا كانت فعلاً لمصور، كما أن الصور التي تعمل من الحديد لا يصح كونها صوراً إلا بمصور صورها، وكذلك كل صورة معمولة في الشاهد لا بد لها من فاعل مختار؛ فكذلك يجب أن يكون لكل صورة من صور العالم فاعلاً مختاراً.
ولأن كل عاقل غير مكابر لعقله يعلم ضرورة أنه يستحيل كمون جملة الإنسان، بما فيه من أنواع الأجسام المختلفة، والأعراض المتضادة، وبما فيه من حياة وقدرة وسمع وبصر ونحو ذلك في نطفة قليلة ضعيفة ميتة. وكذلك يعلم أيضاً من طريق الإستدلال العقلي أن كل ما في الإنسان من أثر الصنع العجيب يدل على أن له صانعاً حياً قادراً عالماً، هذا مع ما ورد به نص الكتاب من الآيات الدالة لكل عاقل على صحة ما دل عليه العقل نحو قول الله سبحانه: {يَاأَيُّهَا الْإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ(6) الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ(7) فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ(8)} [الانفطار]، وقوله: {هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ} [آل عمران:6]، وما أشبه ذلك مما هو على الحقيقة علم إلاهي، وبراهين واضحة، خلافاً لما ادعته الفلاسفة من المحال، وزخرفته من الأقوال.

(1/37)


[الكلام في الفرق بين صفات القديم والمحدث]
وأما الكلام في الفرق بين صفات القديم والمحدث: فالقديم الأزلي هو نقيض المحدث في اللفظ والمعنى، ولا واسطة بينهما ولا مماثلة، ولا مشاركة.
فأما عموم بعض الأسماء والأوصاف فليس في ذلك حجة لمن زعم من المشبهة أن الباري سبحانه مماثل للأشياء لأجل كونه شيئاً، ولا لمن زعم من المعتزلة أنه مشارك لها في ذلك.
والذي يدل على بطلان استغلاطهم للمتعلمين بذلك هو أن جميع الأسماء والأوصاف التي تعم الخالق والمخلوق يجب أن يقيد مطلقها ويخص عمومها بما يجب نفيه عن الخالق، وإثباته للمخلوق نحو أن يقال في الخالق سبحانه: شيء لا كالأشياء، وموجود لا بعد عدم، وواحد لا بمعنى العدد، وحي لا بحياة، وما أشبه ذلك مما يقع به التمييز والفرق بين القديم والمحدث في اللفظ والمعنى حقيقة لا مجازاً.
وبهذا الدليل يعلم بيقين أنه لا يجوز أن تكون أسماء الخالق سبحانه ولا أوصافه مشتقة من معنى غير ذاته، ولا من مزية زائدة عليها ليست بشيء، ولا لا شيء لما في ذلك من إيهام زائد ومزيد عليه، ومشتق ومشتق منه تعالى الله عن ذلك.
[الكلام في الفرق بين الفاعل والعلة]
وأما الكلام في الفرق بين الفاعل والعلّة:
أما الفاعل: فاعلم أن الفاعل الذي هو فاعل على الحقيقة هو كل حي قادر مختار إن شاء فعل، وإن شاء لم يفعل، أو مكره على الفعل بغير اختيار، وجملة الفاعلين أربعة:

(1/38)


[أقسام الفاعلين]
فالفاعل الأول: هو الله الخالق الباريء المصور المبديء المعيد، الفعال لما يريد، وفعله هو جميع أصول العالم وفروعه، التي لا خالق لها إلا هو سبحانه، خلافاً لمن أنكر ذلك من فرق الملحدين.
والفاعل الثاني: هو كل حي قادر عالم عاقل متمكن بما ركب الله له وفيه من القدرة، ومن آلة الحركة والسكون على تصريف حركته وسكونه فيما يختاره من فعل واجب أو مستحب أو محظور أو مكروه أو مباح، خلافاً للمجبرة.
والفاعل الثالث: هو كل عاقل مكره على فعل أو مسخورٍ من المماليك وغيرهم.
والفاعل الرابع: هو كل حي غير عاقل، وذلك لأن جميع أصناف الحيوانات التي ليست بعاقلة لا توصف بأنها مختارة، وإن كان بعضها ملهماً للتمييز بين ما ينفع ويضر، وهذا التقسيم للفاعلين مخالف لمذهب المجبرة؛ لأن كل فاعل من الخلق مجبور بزعمهم على فعله.
[ذكر صفة العلة عند القائلين بها]
وأما العلّة: فصفتها عند القائلين بها أنها بخلاف جميع ما تقدم ذكره من أوصاف الفاعلين؛ لأن وجود معلولها يجب أن يكون مقارناً لوجودها، قالوا: وتقدمها عليه تقدم بالرتبة لا بالزمان، وليس لها إلا معلول واحد.
[أقسام العلل]
واعلم أن العلل تنقسم على خمسة أضرب:

(1/39)


ضرب: يستعمله من له معرفة بالقياسات العقلية من الموحدين، مثاله: ما يعلم ضرورة من كون كل صناعة في الشاهد كالبناء والكتابة محتاجة إلى صانع؛ لأجل كونها محدثة؛ فالعلة هي كون الصنعة محدثة، ومعلولها هو الحاجة إلى الصانع ولهذا وجب بطريقة القياس العقلي أن يكون العالم محتاجاً إلى صانع لأجل كونه محدثاً.
والضرب الثاني: يستعمله من له معرفة بالقياسات الفقهية، مثاله: تحريم النبي - صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم - لبيع الفضة بالفضة متفاضلاً ونسأ؛ لأجل كونها جنساً موزوناً فالجنس والوزن هو العلة، ومعلولها هو تحريم البيع متفاضلاً ونسأ، وكذلك البر بالبر ولهذا وجب من طريق القياس الشرعي إجراء الحكم بذلك في كل ما شارك المنصوص عليه مما عداه في العلة والحكم.
والضرب الثالث: ما يستعمله من له معرفة بوجه الحكمة إذا سئل عن فعل من أفعال الله سبحانه لِمَ فعله؟؛ نحو أن يقال: لم خلق الله العالم؟
فنقول: لإظهار الحكمة.
فإن قيل: لم أظهر الحكمة؟
قيل: لأن إظهارها في العقل حسن، وفعل الحسن في العقل أولى من تركه، وهذا غاية ما ينتهى إليه بالسؤال في هذه المسألة.
وإذا سئل عما لم يعرف وجه الحكمة فيه، لم يُجِب إلا بأن الباري سبحانه حكيم، والحكيم لا يجب عليه أن يعرِّف الناس بعلة كل فعل يفعله، ولا خلاف في أنه يجب التسليم للحكيم المخلوق؛ فبأن يجب للباري سبحانه أولى.

(1/40)


[و] الضرب الرابع: يستعمله كل أحدٍ إذا سئل عن أمر لم فعله؟ أو لم لم يفعله؟ فيقول: لأجل كذا صدقاً كان أو كذباً، وشاهد ذلك قول الشاعر:
وكنتُ إذا ما جئتُ جئتُ بعلّةٍ .... فأفنيتُ علاّتي فكيفَ أقولُ؟
والضرب الخامس: يستعمله كل مدلس؛ إما عمداً وإما جهلاً، نحو علل الفلاسفة التي أضافوا إليها التأثير في أصول العالم وفروعه، وكذلك علل المشبهة التي أثبتوا التشبيه لأجلها، وكذلك علل المعتزلة والأشعرية التي أثبتوا لها أحكاماً خارجة عن حد العقل نحو إثبات المعتزلة لأحكام ليست بشيء ولا لا شيء، وإثبات الأشعرية لإرادة أزليّة، وكلام قديم ورؤية غير معقولة.
[الكلام في الفرق بين الحقائق الصحيحة والباطلة]
وأما الكلام في الفرق بين الحقائق الصحيحة والباطلة: فهو يتفرع إلى ذكر حقيقة الحقيقة، وكيفية التحقيق، وكيفية السؤال عنه، وذكر جملة من أمثلة الحقائق المنطقية التي تصح في اللفظ والمعنى، أو في اللفظ دون المعنى، أو في المعنى دون اللفظ، أو لا تصح [لا] في اللفظ ولا في المعنى.
[ذكر حقيقة الحقيقة وكيفية التحقيق]
أما حقيقة الحقيقة: فإن أريد بها اللفظ قيل: هو كل لفظ جلي يكشف عن معنى لفظ خفي، وإن أريد بها المعنى فمعنى لفظ الحقيقة: هو ذات المحقَّق، وذات كل شيء هي هو.
وأما كيفية التحقيق: فالحقائق على ضربين: عرفية عامة لا اختلاف فيها.

(1/41)


وكيفيتها: هي أن يذكر السائل بعض أوصاف المسؤول عنه التي يحصل له بذكرها معرفة ما سأل عنه، نحو أن يقول مثلاً: ما هو الجسم؟ فيجاب بأنه: ما يصح أن يُرى، أو ما يشغل الجهة عن غيره، أو ما تحويه الجهات الست، أو ما يحله العرض، أو ما له طول وعرض وعمق.
والثانية: اصطلاحية مبتدعة خاصة مختلف في صحتها؛ لأجل كونها مما يقع فيها وبها الغلط والإستغلاط، وكيفيتها: أن يوصف الاسم الذي هو جنس متنوع بوصفين: أحدهما عام له ولغيره من أجناسه المشاركة له في ذلك الوصف العام.
والثاني: خاص له دون غيره ليكون فاصلاً له من غيره بعد الإشتراك، قالوا: ومما يدل على صحة هذا الحد هو كونه من جنس وفصل، ويجمع ويمنع، ويطرد وينعكس، ومثال ذلك: تحديدهم للخمر بأنه كل شراب مسكر؛ فالوصف الجامع للجنس هو قولهم: شراب؛ لأن جميع أنواع المشروبات مشتركة فيه، والوصف الخاص الذي يفصله من سائر المشروبات هو قولهم: مسكر، وعكس هذه الحقيقة هو أن يقال: وكل شراب مسكر فهو خمر؛ فتأمل طول هذا الشرح الذي ادعت الفلاسفة، ومن حذا حذوهم من المعتزلة أنه يدل على صحة الحد، وأن صحة الحد تدل على صحة المحدود، وهذا تدليس ظاهر لمن تأمله؛ لأنه ما من بدعة مستحيلة إلا ويمكن أن يصح لها حد جامع لهذه الشروط.

(1/42)


مثاله: النور الذي يعبده المجوس؛ فإنه يمكنهم أن يقولوا: هو كل إله يفعل الخير، فقولهم الإله وصف جامع له وللظلْمة، وقولهم: يفعل الخير وصف خاص يفصله منها، وعكسه أن يقال: وكل إله يفعل الخير فهو نور – تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً -.
[ذكر كيفية السؤال عن الحقيقة وجملة من أمثلة الحقائق المبتدعة والاصطلاحية]
وأما كيفية السؤال عن الحقيقة، والجواب عنه:
أما السؤال: فهو يقع بألفاظٍ مختلفة، ومعانيها متقاربة، وهو أن يقال: ما هو؟ أو ما حقيقته؟ أو ما حده؟ أو ما معناه؟ أو ما تفسيره؟
وأما الجواب: فنحو ما تقدم [مثاله] في العرفية والصيغة الاصطلاحية.
وأما الذكر لجملة من أمثلة الحقائق المبتدعة الاصطلاحية:
فمثال ما يصح في اللفظ والمعنى: تحقيقهم للخمر بما تقدم ذكره.
ومثال ما يصح في اللفظ دون المعنى: تحقيق المعتزلة للمعدوم بأنه المعلوم الذي ليس بموجود، وذلك لأن ذات المعدوم عندهم ثابتة فيما لم يزل لأجل كونه معلوماً فاللفظ صحيح والمعنى باطل.
ومثال ما يصح في المعنى دون اللفظ تحقيقهم أيضاً للجسم بأنه الجواهر المؤتلفة طولاً وعرضاً وعمقاً، أما صحة المعنى فلأن الجسم هو كل ما له طول وعرض وعمق.

(1/43)


وأما كون اللفظ غير صحيح فلأجل ذكرهم للجواهر التي يزعمون أنها ثابتة فيما لم يزل، وأن الجسم إذا فني عاد جواهراً، وأن الجوهر جزء لا يتجزأ، وأنه ليس له إلا حد واحد يلاقي به ما جاوره، وأن الجواهر إذا ائتلفت طولاً فهي خط، وإذا ائتلفت طولاً وعرضاً فهي سطح، [وإذا ائتلفت طولاً وعرضاً وعمقاً فهي جسم] وكل هذه الأقوال باطلة، وأسماء مخترصة لغير مسمى.
ومما يدل على ذلك على سبيل الإختصار: تناقض قولين من أقوالهم في الجوهر؛ أحدهما: قولهم إن الجوهر ليس له إلا حد [واحد]، ونقيض ذلك قولهم: إنه يشغل الجهة، وشغل الجهة لا يعقل إلا إذا كانت الجهة محيطة بجوانب ما شغلها، وكل ما أحاطت الجهة بجوانبه وجب أن يكون له ستة حدود وهي: الأمام والخلف واليمين والشمال والفوق والتحت.
والقول الثاني: هو ما زعموا من أن الجواهر تأتلف طولاً وذلك مما ينقض قولهم: إنه ليس للجوهر إلا حد واحد، إذ لا يصح ولا يعقل ائتلاف ثلاثة جواهر طولاً إلا إذا كان أحدها متوسطاً بين اثنين، وتوسطه لا يصح، ولا يعقل إلا إذا كان محاداً لهما بحدّين، كل ذلك معلوم بيقين لكل من تأمّله بعقل صحيح.

(1/44)


ومثال ما لا يصح في اللفظ ولا في المعنى: هو تحقيقهم أيضاً للذات بأنه ما يصح العلم به على انفراده، وذلك لأنه يستحيل عندهم خلو الذات وانفرادها عن صفتها الأخص التي زعموا أنها لا شيء ولا لا شيء، والإستحالة نقيض الصحة؛ لأنه لا يجتمع، ولا يجوز القول بأنه يصح انفراد الذات عما يستحيل انفرادها عنه؛ فتأمل ذلك وما أشبهه من حقائقهم التي ليست شيئاً سوى لفظ الدعوى صحيحةً كانت أو باطلةً.
وكل ما كان كذلك فهو موضوع، وأصل للتغرير والتلبيس، وتسميته علماً ودليلاً تدليس وتمويه على من يوهمونه أنهم بلغوا في تدقيق النظر وفي معرفة علم التوحيد إلى حيث ما لم يبلغ أئمة العترة - عَلَيْهم السَّلام -.
[الكلام في الفرق بين حد العقل والغلو]
وأما الكلام في الفرق بين حد العقل والغلو: فاعلم أن العقل من جملة الفضائل التي جعل الله سبحانه لكل واحدة منها منزلة محمودة متوسطة بين طريقين مذمومين نحو السخاء المحمود المتوسط بين التقتير والتبذير، والعدل المتوسط بين الإهمال والجور.
وكذلك العقل فإنه متوسط بين التفريط والإفراط، ومَثَلُه في هدايته للعلم المتوسط بين الجهل والغلو كمَثَل من يسير بمن اتبعه في طريق معلوم لغرض مفهوم إلى حد مقصود.
والغلو: هو المروق والتعدي لحد العقل إلىالطريق المذموم، وهو الإفراط، ومَثَلُه في الإضلال كمَثَل من يسير بمن اتبعه في غير طريق لا لغرض ولا إلى حد، وهو ثلاثة أضرب:

(1/45)


فالأول: غلو الإنسان في تعديه لحد نفسه وقدره، نحو من يدعي من المخلوقين الربوبية، ومن يدعي من الرعية النبوة أوالإمامة، ومن يدعي من الروافض أنه أعلم بعلوم الدين من الأئمة -عَلَيْهم السَّلام–.
والثاني: غلوه في غيره نحو غلو الصوفية والباطنية في مدحهم لكبرائهم، ووصفهم لهم بصفات الإله تعالى.
والثالث: غلوه في نظره نحو ادعاء الفلاسفة بعلم المبدأ والمعاد، وكيفية ترتيب العالم، وكم مساحته، وعدد أجناسه وأنواعه.
ونحو ادعاء السوفسطائية أن نظرهم أداهم إلى تبطيل حقائق الأشياء المشاهدة.
وادعاء الأشعرية للعلم بقدم الإرادة، وقدم القرآن.
وادعاء المعتزلة للعلم بثبوت ذوات العالم فيما لم يزل، ولإثبات أمور ليست بشيء ولا لا شيء.
[الكلام في الفرق بين المحكم والمتشابه]
وأما الكلام في الفرق بين المحكم والمتشابه: فاعلم أن المحكم من كتاب الله سبحانه من جملة ما فضله الله على غيره، وجعله إماماً يقتدى به نحو العلم الضروري الذي جعله الله أصلاً يبنى عليه، ويرجع في كل ما اختلف فيه من العلوم الإستدلالية إليه.

(1/46)


ونحو من اصطفاه من الملائكة والناس للرسالة، ومن أوجب طاعته وسؤاله، والرد إليه، وكذلك المحكم جعله الله سبحانه أصلاً، وقدوة كما قال سبحانه: {مِنْهُ ءَايَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ} [آل عمران:7]، أي أصله الذي يجب تحكيمه على المتشابه.
والفرق بين صفته وصفة المتشابه: أن المحكم: هو كل قول يفهم معناه من ظاهر لفظه، ولو حمل على غيره لم يعقل، مثاله قول الله سبحانه: {لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ} [الأنعام:103]" ، وذلك لأنه لا خلاف في أن درك الأبصار هو رؤية العيون، وأنه لا يعقل حمله على غير ذلك. وصفة المتشابه: هو أنه لا يفهم معناه من ظاهر لفظه إما لأجل كونه لفظاً مشتركاً بين معان، وإما لكونه مما يستعمل مجازاً لا حقيقة؛ فمثال المشترك قول الله سبحانه: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ(22) إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ(23)} [القيامة]، وذلك لأن لفظ النظر مشترك بين النظر الذي هو بمعنى البصر، والنظر الذي [هو] بمعنى الإنتظار؛ فلذلك لم يفهم معناه إلا بعد تأويله، وقد دل الدليل على أن الله سبحانه لم يرد به نظر البصر؛ لأن الله سبحانه قد نفاه في جوابه لموسى - صلى الله عليه - حين قال: {رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي} [الأعراف:143]، فدل بنفيه للرؤية على أن النظر الذي أراده موسى - عَلَيْه السَّلام - هو نظر البصر، وعلى أنه سبحانه لا يُرى، وعلى أن المحكم هو قوله سبحانه: {لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ} [الأنعام:103] ، وعلى أن المجبرة من جملة من أخبر الله سبحانه أنهم اتبعوا

(1/47)


المتشابه لأجل ما في قلوبهم من الزيغ.
ومثال ما يستعمل مجازاً ما ذكره [الله] سبحانه من الوجه والجنب واليد، ونحو ذلك مما يوصف به المخلوق حقيقة، والمحكم الذي يجب رده إليه وحمله عليه نحو قوله سبحانه: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى:11].
[الكلام في الفرق بين ما يجوز من التقليد وما لا يجوز]
وأما الكلام فيما يجوز من التقليد وما لا يجوز: فاعلم أن الله سبحانه وتعالى لما فاضل بين عباده في العقول وفي الطاقة، فاضل بينهم في التكليف، ولم يكل المفضول منهم إلى نفسه ولا إلى عقله؛ فلذلك أوجب على المفضول طاعة الفاضل وسؤاله والرد إليه، ولولا أن مما تعبد المكلفي بمعرفته مما يجب التقليد فيه، وأن من عباده من يجب تقليده لما أمر بطاعة أولي الأمر، وسؤال أهل الذكر، ولولا أنه سبحانه قد عرفهم بما يقلدون فيه وهو قوله سبحانه: {وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ} [الشورى:10]، وعرفهم بمن يقلدونه في مثل قوله سبحانه: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا} [فاطر:32]، وتبيين النبي - صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم - لذلك بقوله: ((إني تارك فيكم ما إن تمسكتم به من بعدي لن تضلوا أبداً: كتاب الله وعترتي أهل بيتي)) ونحو ذلك مما سيأتي ذكر بعضه إن شاء الله

(1/48)


لكان أمره بالطاعة والسؤال تكليفاً لعلم ما لا يُطاق وعلم ما لا يُعلم؛ فتعالى عن ذلك علواً كبيراً؛ فهذه جملة مما تنبه على وجوب طلب العلم الصحيح من أهله[ومحله].
وأما الفصل الرابع وهو في الكلام في العالم
فهو ينقسم إلى ذكر الخلاف في ماهيته وفي أصله، وفي أنواعه، وفي حدوثه، وفي المؤثر فيه.
[ذكر الخلاف في ماهية العالم]
أما الخلاف فيه ما هو: فهو بين الموحدين والملحدين.
أما قول الموحدين: فإذا أريد بالعالم جملة ما يعقل وما لا يعقل فهو السماوات والأرض وما بينهما، وإن أريد به ما يعقل خاصة فالعالمون هم الملائكة والجن والإنس، واحدهم عالم، ويقال لأهل كل عصر عالم، ومن رواة الأخبار من قال: إن العرش والكرسي غير السماوات والأرض.
وقال بعض الأئمة: يمكن أن يكون العرش هو جملة العالم، ويمكن أن يكون موضعاً من أشرف العالم وأعلاه.
عظَّم الله أمره وسماه عرشاً له، كما عظم أمر مواضع في الأرض وسماها بيوتاً له.
قال: ويمكن أن يكون الكرسي ضرب مثلاً لإحاطة علم الله سبحانه بكل شيء، ولا فرق بين قوله سبحانه: إنه استوى على العرش، وقوله: إنه في السماء إله وفي الأرض إله، وقوله: ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم [ولا خمسة إلا هو سادسهم] في أن ذلك كله وما أشبهه متأول على غير ما يفيده ظاهره؛ لأنه سبحانه لا يجوز أن يوصف بالحاجة إلى المكان.

(1/49)


وأما قول الملحدين: فالفلاسفة ومن قال بقولهم من الباطنية وأشباههم يزعمون أن العوالم كثيرة منها عالم العقول التي زعموا أنها قبل الزمان والمكان.
ومنهم من يعبر عن تلك العقول بأنهم الملائكة الروحانيون المقربون.
ومنها عالم الأفلاك والأملاك، ومنهم من يعبر عنها بأنها الملائكة الكروبيون.
ومنها عالم الطبائع الأربع التي يسمونها العناصر والأمهات والاستقصآت [والإرادات] والأركان.
ومنها: عالم الكون والفساد،وهو الأرض وما فيها مما يحدث ويفنى ويزيد وينقص، ويحيى ويموت.
[ذكر الخلاف في أصل العالم]
وأما الخلاف في أصل العالم: فقد تقدم ذكر ما زخرفته الفلاسفة في ذلك من الأقوال المبتدعة المتوهمة.

(1/50)


وأما أئمة العترة -عَلَيْهم السَّلام–؛ فهم يقولون: إن معرفة أول مخلوق وكيفية خلقه من الغيوب التي لا طريق إليها إلا الخبر الذي يروونه عن النبي – صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم – [وهو]: ((أن أول ما خلق الله سبحانه الهواء الذي هو مكان لا في مكان، وهو جسم لطيف يتحرك ويسكن، واستدلوا بذلك على أن أول وقت خلقه الله سبحانه يجب أن يكون وجوده مقارناً لوجود الهواء، ثم خلق الله سبحانه بعد الهواء الماء، ثم خلق الرياح حركت ذلك الماء حتى أزبد، ثم خلق النار فأحرقت ذلك الزبد، ثم خلق الأرض من الحراقة، والسماء من الدخان)) "((أن أول ما خلق الله سبحانه الهواء الذي هو مكان لا في مكان، وهو جسم لطيف يتحرك ويسكن، واستدلوا بذلك على أن أول وقت خلقه الله سبحانه يجب أن يكون وجوده مقارناً لوجود الهواء، ثم خلق الله سبحانه بعد الهواء الماء، ثم خلق الرياح حركت ذلك الماء حتى أزبد، ثم خلق النار فأحرقت ذلك الزبد، ثم خلق الأرض من الحراقة، والسماء من الدخان))" "((أن أول ما خلق الله سبحانه الهواء الذي هو مكان لا في مكان، وهو جسم لطيف يتحرك ويسكن، واستدلوا بذلك على أن أول وقت خلقه الله سبحانه يجب أن يكون وجوده مقارناً لوجود الهواء، ثم خلق الله سبحانه بعد الهواء الماء، ثم خلق الرياح حركت ذلك الماء حتى أزبد، ثم خلق" ، ونحو ذلك مما قصه الله سبحانه في كتابه، وعلى لسان نبيه – صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم -.

(1/51)


[ذكر الخلاف في أنواع العالم]
وأما الخلاف في أنواع العالم: فمذهب أئمة العترة - عَلَيْهم السَّلام - فيه بخلاف ما ذهبت إليه الفلاسفة، وهو ما تقدم، وبخلاف ما ذهبوا إليه هم والمعتزلة من القول بالجوهر والخط والسطح، وبخلاف ما ذهبت إليه نفاة الأعراض ومن جوز وجود عرض لا في محل.
وذلك لأنهم - عَلَيْهم السَّلام - لم يتعدوا حد عقولهم، ولم يتكلفوا علم ما لا طريق لهم إلى العلم به، ولا ما قد علموه بالمشاهدة ضرورة أو بطريقة القياس العقلي لما لم يشاهدوا على ما شاهدوا، وذلك لأن جميع ما يشاهد من العالم لا يخلو: من أن يكون محلاً لغيره أو حالاً في غيره؛ فالمحل هو الجسم، والحال هو العرض، والعرض صفة، والجسم موصوف، ومن المعلوم بالمشاهدة استحالة وجود جسم خال من عرض، ووجود عرض لا في محل.
وأما تنوع الأجسام إلى كثيف ولطيف وحيوان وجماد، وتنوع الأعراض إلى ما يعلم بدرك الحواس الخمس، وما يعلم بالدليل؛ فذلك ظاهر لكل من لم يكابر الضروريات بكاذب التوهم أو التجويز الذي هو طريق كل مدلس، وملجأ كل مقلد.

(1/52)


[ذكر الخلاف في حدوث العالم]
وأما الخلاف في حدوث العالم: فقد تقدم ذكر قول الفلاسفة بقدم أعيان العالم، وأنه موجود بالقوة فيما لم يزل قبل وجوده بالفعل لأجل ثبوت صورة بزعمهم في النفس الأزلية، وكذلك قول المعتزلة بثبوت ذوات العالم فيما لم يزل لأجل تعلق علم الله بها بزعمهم فيما لم يزل، وأنه لا تأثير له سبحانه إلا في الصفة التي ليست بشيء، ولا لاشيء، ولا هي معلومة له، قالوا فيما لم يزل وهي الوجود.
وأما مذهب أئمة العترة - عَلَيْهم السَّلام -: فهو أن الله سبحانه يعلم أنه لا شيء ثابت ولا موجود فيما لم يزل إلا هو وحده، وأن جميع ذوات العالم وصفاته أشياء، جعلها أشياء بعد أن لم تكن، وأنه لا يجوز وصف بعض العالم بالأزل وبعضه بالحدوث، ولا وصف الذات الواحدة بأنها أزلية ومحدثة أو ثابتة ومعدومة، وأن للعالم أصلاً وفرعاً، وكلاً وبعضاً، وأن بعض فروعه مما لا خلاف في حدثه، وإنّ حدثَ بعضِ الشيء وفرعِه يدلُ على حدث كله وأصله؛ لعدم المخصص، ولأن كل ما له كل وبعض وأصل وفرع فله نهاية، وكلما له نهاية فهو محدث، ولأن جميع أصول العالم وفروعه غير خالية من الأعراض المتضادة التي يستحيل اجتماعها ويدل وجود كل واحد منها بعد عدمه على حدثه، وكل ما لم يخل من المحدث فهو محدث مثله.
[ذكر الخلاف في المؤثر في العالم]
وأما الخلاف في المؤثر في العالم: فقد تقدم أيضاً ذكر قول الفلاسفة بالعلل التي زعموا أنها موجبة لأصل العالم وفروعه.

(1/53)


ومنها: ما هو غير معقول وهي العقول والنفوس التي زعموا أنها قبل الزمان والمكان، وأن العاشر منها عقل فعال غير مفعول هو ولا فعله.
ومنها: ما هو أجسام ميتة مسخرة وهي النجوم.
ومنها: ما هو أعراض ضرورية لا تقوم بأنفسها، ولا توجد إلا في غيرها، وهي الطبائع الأربع: الحرارة والبرودة والرطوبة واليبوسة.
ومن المتعمقين منهم في الزندقة من زعم أن في كل شيء من الفروع الحادثة نفساً جزئية من النفس الكلية أو أنفساً، تدبره وتنقله من حالة إلى حالة.
وأما مذهب أئمة العترة - عَلَيْهم السَّلام -: فهو أنه لا يجوز إضافة صنع العالم إلا إلى صانع حي قادر عالم مختار كما أن كل صناعة محكمة في الشاهد لا بد لها من صانع حي قادر عالم مختار لصنعها، وغير مشابه لها، وهذا وما أشبهه مما قد تقدم ذكره من جنسه في حكم المقدمة للكلام في الفصل الخامس الذي هو الغرض المقصود إن شاء الله سبحانه.
وأما الفصل الخامس وهو الكلام في الإسلام
فاعلم أن للإسلام معنىً عاماً لدين جميع الأنبياء - عَلَيْهم السَّلام - وهو: كل ما تعبد الله سبحانه [به] جميع المكلفين مما لا يجوز نسخه.

(1/54)


ومعنىً خاصاً وهو: دين نبينا - صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم - الذي أظهره الله على الدين كله، ونسخ بشريعته ما شاء أن ينسخه من شرائع من قبله، وهو الذي عناه بقوله: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ} [آل عمران:19]، وقوله: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ(85)} [آل عمران].

(1/55)


وهو الذي كان النبي - صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم - يدعو إليه كافة الثقلين؛ فمن أجابه إلى الدخول فيه قولاً وعملاً واعتقاداً فهو المسلم على الحقيقة، ومن لم يجبه إليه من البشر فهو الكافر [على الحقيقة] المباح للمسلمين دمه وولده وماله، ومن أجابه إليه ظاهراً وهو مبطن للكفر فهو منافق في الباطن، وحكمه حكم المسلمين في الظاهر حتى ينكشف ستره، ومن رجع عن الإسلام بعد الدخول فيه فهو مرتد وله أحكام تخصه، ومن أحدث في الإسلام بدعة أو تأويلاً مخالفاً لشيء من أصول الدين لزمه اسم الكفر، وللأئمة النظر في السيرة فيه، ومن فعل شيئاً من كبائر المعاصي مع اعترافه بصحة الإسلام وبكونه مخطئاً فهو فاسق وعاص وكافر نعمة وله أحكام مختلفة بحسب اختلاف معاصيه.
[الكلام في معنى الإسلام والإيمان]
واعلم أنه لا فرق بين معنى الإسلام ومعنى الإيمان إلا أن الإسلام مشتق من التسليم لأمر الله، والإيمان: هو التصديق، ولذلك قال أمير المؤمنين - عَلَيْه السَّلام -: (الإيمان قول مقول، وعمل معمول، وعرفان بالعقول)، وقوله: هذا هو الذي ينقسم إليه الكلام في هذا الفصل.
أما القول المقول: فهو جميع الأذكار التي أوجبها الله سبحانه، أو ندب إليها في كتابه وعلى لسان نبيه - صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم - نحو الأقوال المذكورة في الصلاة وما أشبه ذلك من كل قول واجب أو مندوب.

(1/56)


وأما العمل المعمول: فهو استعمال الإنسان لبدنه وجميع آلاته الظاهرة، وتصريفه لحركاته وسكونه في كل ما أوجب الله عليه من فعل أو ترك، خلافاً لمن زعم من المعتزلة أن الترك ليس بشيء، وأن تارك الصلاة يستحق الذم والعقاب على غير فعل فعله.
وأما العرفان بالعقول: فهو المعرفة لله سبحانه بأدلة العقل التي بها ولأجلها وجب التصديق والمعرفة للفروض التي أوجب الله سبحانه الإيمان بها، وهي: الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، وفي كل واحد من هذه الخمسة كلام يشتمل على حكاية المذاهب فيه، وذكر جملة مما يدل على صحة الصحيح منها.
[الكلام في الإيمان بالله سبحانه]
أما الإيمان بالله سبحانه: فهو ينقسم إلى الكلام في الذات، وفي الأسماء والصفات، وفي الأفعال.
[الكلام في الذات]
أما الذات: فاعلم أن لبعض المعتزلة في ذلك مذهباً، وهو أنه لا فرق بزعمهم بين ذات الباري سبحانه، وبين [غيره من] سائر الذوات في الذاتية لأجل الإشتراك في اللفظ، وأنه سبحانه لا يفارق ما عداه من الذوات إلا بمزية خاصة له لا هي هو ولا هي غيره، ولا شيء ولا لا شيء، وأنه سبحانه لا يستحق لذاته سوى تلك المزية، وما عداها من الصفات الذاتية مقتضى عنها، ونحو ذلك مما قد تكرر ذكره في مواضع من هذا المختصر وغيره.

(1/57)


وأما مذهب أئمة العترة - عَلَيْهم السَّلام -: فهو أن ذات الباري سبحانه هي هو، وهو الذي ليس كمثله شيء لا في الذاتية ولا في غيرها، وإذا لم يكن له مِثْلٌ بطل أن يكون له مشارك لعدم الفرق بين المماثلة في الذات والمشاركة، وكذلك المضاهاة والمشابهة.
وكذلك لا يجوز عندهم - عَلَيْهم السَّلام - أن يوصف الباري سبحانه بأنه جنس للذوات، ولا أنه نوع من الموجودات لأجل كون التجنيس والتنويع مما يدل على الحدث، ولا يجوز أن يوصف به إلا المحدث.
وكذلك أيضاً لا يجوز عندهم إثبات أمر ليس شيء، ولا لا شيء لأجل كون ذلك نفياً للنفي والإثبات معاً، وإثباتاً لأمر متوسط بينهما وذلك مما يعلم ضرورة أنه محال، وكل دليل أدى إلى إثبات المحال فهو محال.

(1/58)


ونظير ذلك في الشاهد ما ضربوه هم وغيرهم مثلاً لما يعلم ضرورة وهو قول القائل: زيد لا يخلو إما أن يكون في الدار أو ليس فيها؛ فكما لا يجوز أن يقول قائل: لا هو فيها ولا في غيرها؛ فكذلك لا يجوز أن يقال لا شيء ولا لا شيء، وذلك لأن تجويز إثبات ما لا يعقل أو ما يخالف المعلوم ضرورة يؤدي إلى تجويز إنكار كل معقول، وإلى تجويز إثبات ما لا نهاية له من الجهالات والمحالات، وإلى تجويز إصابة الفلاسفة في تعديهم لحد العقل، وإصابة السوفسطائية في إنكارهم للمشاهدات، وكما لا يجوز لعاقل موحد تصويبهم في شيء من ذلك، فكذلك لا يجوز تصويب المعتزلة في التفكر في ذات الباري سبحانه، ولا في إثبات المشاركة بينه وبين غيره في ذات ولا في غيرها، ولا تكلف إثبات صفات له سبحانه بطريقة القياس، ولا الإدعاء لدقة النظر الذي أداهم إلى الخروج من حد العقل، وإثبات ما لا يعقل، والجمع بين اسم التوحيد ومعنى التشبيه، والاصطلاح على الفرق بين ما لا فرق بينه في لغة العرب نحو الأمر والشيء، والزائد والغير، والمشاركة والمماثلة، والثبوت والوجود، والتجدد والحدوث، وما أشبه ذلك.
[الكلام في الأسماء والصفات]
وأما الأسماء والصفات: فالكلام فيها ينقسم إلى ذكر اثني عشر منها، وإلى ذكر الإختلاف فيها، وإلى ذكر الفرق بينها في الخصوص والعموم، وفي الإضافة وفي الإشتقاق.
أما الاثني عشر: فهو قولنا شيء وموجود وواحد، وقديم وحي قادر عالم، وسميع بصير، وعدل ومتكلم ومريد.

(1/59)


[ذكر الاختلاف في الأسماء والصفات]
وأما الاختلاف في ذلك: فقد تقدم ذكر بعضه، لكن هذا وما أشبهه مما يحسن فيه التكرار.
واعلم: أن من الفِرَقِ من يزعم أن الاسم في الشاهد والغائب هو المسمى، ومنهم من يزعم أن الصفة في الشاهد والغائب هي الموصوف ومنهم من زعم أن معبوده لا شيء ولا لا شيء، وكذلك جميع الأسماء والصفات، هذا على الجملة.
[الكلام في معنى أن الله سبحانه شيء وذكر الاختلاف فيه]
وأما على التفصيل: فالمشبهة تزعم أن الباري سبحانه مماثل للأشياء المحدثة؛ لأجل كونه شيئاً، والمعتزلة تزعم أنه سبحانه مشارك لها في الشيئية، ومخالف لها بصفة زائدة خاصة.
وأئمة العترة - عَلَيْهم السَّلام - يقولون: إن الله سبحانه شيء لا كالأشياء، وما كان بخلاف الأشياء كلها لم يجز وصفه بأنه مماثل لها ولا مشارك، ولا يجوز أن تكون المشاركة في لفظ الاسم موجبة للمماثلة ولا للمشاركة إلا إذا كان كلا المشتركين فيه متماثلين في ضرب من ضروب الكيفيات.
والكيفية لا تكون إلا للمحدَث ومن هنا نعلم أن كل اسم يشترك فيه الخالق والمخلوق عام، وليس باسم جنس لاستحالة وصف الباري سبحانه بالجنس والنوع.
ومما استدلوا به -على أن الباري سبحانه شيء- من العقل هو أنه قد ثبت أنه سبحانه محدِث للعالم، وأنه لا واسطة بين شيء ولا شيء، وإذا لم يكن محدث العالم لا شيء وجب أن يكون شيئاً.

(1/60)


ومن السمع: قوله سبحانه: {قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ} [الأنعام:19]، وقوله: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ} [القصص:88]، فدل باستثنائه لنفسه من جملة الأشياء على أنه سبحانه شيء.
وكذلك قوله: {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ} [الطور:35]، واستدلوا على أنه لا كالأشياء بقوله سبحانه: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى:11]، وبما سيأتي [ذكره] من أدلة العقل.
[الكلام في معنى أن الله سبحانه موجود وذكر الاختلاف فيه]
وأما الموجود فزعم بعض المعتزلة أن وجود الباري سبحانه وتعالى أمر زائد على ذاته ليس بشيء ولا لا شيء، قالوا: وكذلك وجود المحدَث ولم يفرقوا بينه سبحانه وبين المحدَث إلا بأن لوجود المحدَث أولاً؛ فأما كونه بزعمهم ذاتاً ثابتة أو ذواتاً فيما لم يزل فلا فرق.

(1/61)


ومذهب [أئمة] العترة - عَلَيْهم السَّلام -: هو أنه سبحانه موجود لا في مكان، ولا بعد عدم، ولا بمشاهدة، وأنه لا يجوز إثبات وجود للموجود غير ذاته، ولا يجوز على الجملة إثبات أمر ليس بشيء، ولا لا شيء في الشاهد ولا في الغائب لكون ذلك مستحيلاً، وغير مفروض ولا معقول.
[الكلام في معنى أن الله سبحانه واحد وذكر الاختلاف فيه]
وأما الواحد: فاعلم أن من زنادقة الفلاسفة من يدلس على المتعلمين بضرب مثال يضربونه لوحدانية علتهم التي زعموا أنها أزلية، وهو أن مثلها عندهم كمثل واحد العدد الذي يضاف إلى ما بعده، ولا يضاف إلى شيء قبله.
قالوا: ومثل العقل الأول المنفعل منها كمثل الثاني الذي رتبته ما بين الأول والثالث، ومثل النفس المنفعلة من العقل الأول [المنفعل منها] كمثل الثالث؛ حتى ينتهوا إلى التاسع.
ثم تكلموا في العاشر، قالوا: وهو العقل الفعال، وهو آخر العشرة، ونحو ذلك مما قد شغلوا به الأوراق، وأنفدوا في الإشتغال به الأعمار.
وأما مذهب أئمة العترة - عَلَيْهم السَّلام -: فهو أن وحدانية الله سبحانه وحدانية مَلِكٍ لا بمعنى العدد؛ لأن واحد العدد يشبه سائر الآحاد ويتجزأ في نفسه، وكل متجزٍ ومشابه لغيره فليس بواحد على الحقيقة لأنه يكثر بإضافة غيره [إليه] ويقل في جنب ما هو أكثر منه.

(1/62)


[ذكر بعض من الأمور التي استدل بها على أن الله سبحانه واحد]
ومما استدلوا به على أن الله سبحانه واحد، أمور منها: أن الذي دلهم على إثباته هو ما شاهدوا من أثر صنعهِ، وكذلك ما وصف نفسه به في كتابه، ولم يجدوا في شيء من ذلك إلا ما يدلهم على صانع واحد فعلموا أنه لو كان له ثانٍ لدل على نفسه فلما لم يوجد ذلك كانت الدعوى له دعوىً لغير مدع ولا مُوكِلٍ وكل دعوى كذلك فهي باطلة.
ومنها: أنه لو كان له ثانٍ لم يخل إما أن يكونا مجتمعين أو مفترقين، والإجتماع والإفتراق مما يدل على [ثبوت] الحدث.
ومنها: أنه لو كان له ثانٍ لم يخل إما أن يتفقا ويصطلحا، وإما أن يختلفا ويتعارضا، والإتفاق يدل على العجز والحاجة، وكل عاجز محتاج فليس بإله، وإن تعارضا لم يمتنع من طريق التقدير أن يريد أحدهما فعل شيء، و(يريد) الآخر منعه؛ فإن تكافأت قدرهما دل على عجزهما، وإن نفذ مراد أحدهما دل على عجز الثاني، ولا يصح أن يقال بنفاذ مراد كليهما لما في ذلك من تجويز كون المراد موجوداً معدوماً في حالة واحدة، وقد أيد الله سبحانه هذا التقدير بقوله تعالى: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا ءَالِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا} [الأنبياء:22].

(1/63)


[الكلام في معنى أن الله سبحانه قديم وذكر الاختلاف في معناه]
وأما القديم: فاعلم أن من المعتزلة من يفرق بين القديم والأزلي فيشارك بين الله سبحانه وبين ذوات العالم في الأزلية دون القدم، وفي الثبوت في الأزل دون الوجود.
وأما مذهب أئمة العترة - عَلَيْهم السَّلام -: فهو أنه قد يجوز أن يوصف المخلوق بالقدم لأجل تقادم وقت وجوده على وقت وجود غيره، قال الله سبحانه: {حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ(39)} [يس].
قالوا: ولا يجوز أن يوصف بأنه أزلي إلا الله سبحانه إذ لو جاز أن يوصف به أكثر من واحد للزم باضطرار تقدير الإجتماع أو الإفتراق، والتماثل أو التضاد أو الإختلاف، وكل ذلك من صفات الحدث الذي هو نقيض الأزل، قالوا: وإذا كان الوصف بالأزل خاصاً لله سبحانه بطل قول المعتزلة بالمشاركة فيه.
ومما استدلوا به على ذلك: دليل العكس الذي يحصل به العلم اليقين لكل عاقل غير مكابر، وهو كون كل شيء لا يخلو من أن يكون قديماً أو محدثاً قالوا: ومن المعلوم ضرورة أنه لا يجوز أن يتوسط بين هذين الوصفين النقيضين إلا أحد محالين إما جمعهما معاً، وإما نفيهما معاً.

(1/64)


قالوا: وقد ثبت بالدليل أن محدِث العالم لا يجوز أن يكون محدَثاً لما في ذلك من تجويز حاجة كل محدَث إلى محدِث إلى ما لا نهاية له وهو محال بين، وإذا بطل أن يكون محدَثاً وجب باضطرار أن يكون قديماً لعدم الواسطة، وهذا الدليل هو الذي يستدلون به على ما أشبه هذه المسألة من [جميع] مسائل التوحيد.
قالوا: ولا سبيل لأحد إلى تجويز التفكر في كيفية قدم الباري سبحانه لأنه قدم لا بوقت فلذلك لم يجز التفكر فيما قبل القبل؛ لأنه لا قبل لأول وقت خلقه الله سبحانه، وكذلك لا يجوز التفكر فيما بعد البعد، وما فوق الفوق الذي لا فوق له، وما تحت التحت، وما أشبه ذلك مما لا سبيل إليه إلا الخرص والتوهم والتجويز لتعدي حد العقل، وإثبات ما لا يعقل.
[الكلام في معنى أن الله سبحانه حي قادر عالم وذكر الاختلاف فيها]
وأما كونه سبحانه حياً قادراً عالماً:
فاعلم أن للمعتزلة في ذلك أقوالاً:
منها: ما وافقوا فيه [قول] المشبهة، وهو إجماعهم معهم على الجملة على أنه لا بد من موجب أوجب كون الباري سبحانه حياً وقادراً وعالماً.
ومنها: ما وافقوا فيه قول أئمة العترة، وهو إجماعهم معهم على الجملة على أن الباري سبحانه حي لا بحياة، وقادر لا بقدرة، وعالم لا بعلم.
ومنها: ما اختصوا بابتداعه نحو قولهم: إن لله سبحانه صفة أخص زائدة على ذاته، وإن تلك الصفة موجبة ومقتضية لكونه حياً وقادراً وعالماً.

(1/65)


وقولهم: إن تلك الصفة الأخص ومقتضياتها وأحكام مقتضياتها أمور ثابتة فيما لم يزل.
وأما مذهب أئمة العترة - عَلَيْهم السَّلام -: فهو أن الله سبحانه مستحق للوصف بكونه حياً قادراً عالماً لا لأمر، وأنه لا يجوز أن يكون لله صفات متوسطة بين ذاته ووصفه، وأنه كما لا يجوز أن يوصف [الله] سبحانه بإن ذاته وصفاتها أشياء قديمة؛ فكذلك لا يجوز أن توصف بأنها أمور ثابتة فيما لم يزل لعدم الفرق بين الأشياء والأمور، وبين القدم والأزل، فكما لا يجوز أن يكون قادراً لأجل قدرةٍ أوجبت كونه قادراً فكذلك لا يجوز أن يكون قادراً لأجل أمرٍ اقتضى كونه قادراً لعدم الفرق بين موجِبٍ اسمهُ علةٌ، وموجب اسمه مقتضي، وكما لا يجوز أن يتفكر في إثبات قدرة مُوجِبَةٍ فكذلك لا يجوز أن يتفكر في إثبات أمر مقتضى.
ولذلك قال أمير المؤمنين - عَلَيْه السَّلام -: (من وصفه فقد حده[ومن حده فقد عده]) وقال: (ومن وصفه فقد شبهه، ومن لم يصفه فقد نفاه، ووصفه أنه سميع ولا صفة لسمعه [سبحانه]) وقال: (ليس بعلة ولا معلول) وما أشبه ذلك مما أوجب به إثبات الوصف ونفي الصفة.
[الكلام في معنى أن الله سبحانه سميع بصير وذكر الاختلاف فيه]
وأما كونه سبحانه سميعاً بصيراً:
فللمشبهة المجسمة في ذلك مذهب منسوب إلى التفريط في النظر بالعقل الصحيح، وهو وصفهم للباري سبحانه بصفة المخلوق في الإدراك وغيره.

(1/66)


وللمعتزلة فيه مذهب منسوب إلى الإفراط والتعدي لحد العقل، وهو وصفهم له سبحانه بأنه مُدْرِكٌ للمسموع والمبصر بدرك متجدد زائد على كونه عالماً، قالوا: وهو أمر ليس بشيء ولا لا شيء.
ولأئمة العترة - عَلَيْهم السَّلام - فيه مذهب متوسط، وهو قولهم: إنه سبحانه مُدْرِكٌ لكل مُدْرَكٍ دَرَكُ عِلْمٍ لا يعزب عنه منها شيء فيما لم يزل، وفيما لا يزال، ولا يجوز توهمه، ولا قياسه ولا التفكر فيه، ولا فرق عندهم بين المتجدد والمحدث في كون كل واحد منهما كائن بعد العدم، وفي الحاجة إلى مكون كونهما، ولا فرق بين التكوين والإيجاد والإحداث والتجديد في المعنى.
ومن أوضح الأدلة على كون تحديد المعتزلة محالاً؛ وصفهم له بأنه لا شيء ولا لا شيء مع أنه لو جاز لهم تجويز ذلك في المسموع والمبصر لجاز تجويز تجدد سائر الإدراكات التي لا يجوز إضافتها إلى الله سبحانه نحو [إدراك] لذة المشتهيات - تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً -.
[الكلام في معنى أن الله سبحانه عدل]
وأما وصف الباري سبحانه بأنه عدل: فالعدل مأخوذ من الإعتدال، واعتدال الشيء هو استواؤه واستقامته، وهو من أسماء الأضداد يقال: عدل عن الحق إذا مال عنه، ويقال: عدل في حكمه إذا حكم بالحق.
واعلم أن جميع فرق الإسلام تصف الله سبحانه بأنه عدل حكيم؛ لكن منهم من زعم أنه سبحانه خالق لظلم الظالمين، وجور الجائرين، وهم المجبرة القدرية؛ فخرجوا بذلك من جملة القائلين بالعدل.

(1/67)


ومنهم من سمى بعض أفعال الله سبحانه جوراً وظلماً نحو: ما يصيب الناس في أموالهم وأنفسهم وثمراتهم من النقائص وهم الطبيعية المطرفية.
وأما مذهب أئمة العترة - عَلَيْهم السَّلام - ومن قال مثل قولهم: فهو القول بأن الله سبحانه قد مكن المكلف بما جعل له [و]فيه من القدرة والعقل من فعل ما يختاره لنفسه من فعل بر أو فجور ابتلاء منه سبحانه له بذلك، ولذلك سمي مكلفاً، ومُتَعَبداً، والقول بأن جميع ما يبتلي الله سبحانه به عباده من النقائص والآفات والأمراض حكمة ومصلحة، وذلك ظاهر لا ينكره إلا من أنكر محكم الكتاب، والمجمع عليه من سنة رسول الله - صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم -.
[الكلام في معنى أن الله سبحانه متكلم وذكر الاختلاف في القرآن]
وأما وصفه سبحانه بأنه متكلم فلم يقع الاختلاف إلا في هذا القرآن المكتوب في المصاحف، المتلو بالألسن، المحفوظ في القلوب، هل هو كلام الله سبحانه أم غيره؟؛ ولم يختلف في أنه سبحانه متكلم لأجل قوله: {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا(164)} [النساء]، ولا اختلف من عدا المشبهة الذين لا يعتد بخلافهم في أن الله سبحانه لا يجوز أن يتكلم بآلة كآلة المخلوق، ولا في أنه سبحانه لا يجوز عليه الكون في الشجرة، ولا في أن الشجرة تكلمت.

(1/68)


فأما اختلافهم في القرآن فأئمة العترة - عَلَيْهم السَّلام - ومن قال مثل قولهم يقولون: إنه كلام الله سبحانه وإنه أوجده كما أوجد غيره من مخلوقاته، وإنه لا فرق بينه وبين كلام المخلوقين إلا بكونه أفصح، وكونه معجزاً.
[ذكر الدليل على أن القرآن كلام الله سبحانه]
ومما استدلوا به على ذلك: قوله سبحانه: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ} [التوبة:6]، والكلام الذي يسمعه هو ما يتلى عليه من هذا القرآن الحكيم، وهذا نص صريح في موضع الخلاف، و[لأن] من المعلوم الذي لا اختلاف فيه أنه لا يعقل كون الكلام كلاماً إلا إذا كان منتظماً من حرفين فصاعداً حتى يصح النطق به وسماعه وكتابته.
[ذكر قول الأشعرية في القرآن والدليل على بطلانه]
وخالفهم في ذلك الأشعرية والمطرفية؛
أما الأشعرية: فزعموا أن القرآن قديم، وأن الله سبحانه متكلم فيما لم يزل، واحتجوا على ذلك بأنه لو لم يكن متكلماً لكان ساكتاً أو أخرس.
قالوا: وأما ما يسمعه الناس ويكتبونه فهو دليل عليه، وليس هو هو، واحتج بعضهم على ذلك بقول الشاعر:
إن الكلام لفي الفؤاد وإنما.... جُعِل اللسان على الفؤاد دليلا

(1/69)


والذي يدل على بطلان قولهم إنه قديم: وصفهم له بأنه كلام، وإذا كان كلاماً؛ فهو محدث؛ لأنه لا يعقل كون الكلام كلاماً إلا إذا كان فعلاً للمتكلم يتصرف تصرف الأفعال، ولذلك قال الله سبحانه: {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا(164)} [النساء].
والذي يدل على بطلان قولهم: إنه لو لم يكن متكلماً فيما لم يزل لكان ساكتاً أو أخرس: أن السكوت والخرس من صفات آلة الكلام، وهم لا يقولون إنه سبحانه متكلم بآلة فبطل إلزامهم.
والذي يدل على بطلان قولهم: إن ما يسمع ويكتب دليل على القرآن وليس هو هو: تكذيب الله سبحانه لذلك بما حكاه من سماع موسى لكلامه، و[كذلك] قوله في المشرك: {حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ} [التوبة:6]،وكذلك قوله سبحانه: {إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولَى(18) صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى(19)} [الأعلى]، ونحو ذلك مما يدل على أن كلامه يسمع ويكتب.

(1/70)


[ذكر قول المطرفية في القرآن وبيان بطلانه]
وأما المطرفية: فزعموا أن هذا القرآن حكاية عن القرآن الذي زعموا أنه صفة لقلب الملَكِ الأعلى.
واعلم أن هذا تكلف منهم لتفسير القرآن بما تقدم ذكره من حكاية قول الفلاسفة بالعقل الأول، وذلك العقل عند بعضهم هو الملك الأعلى، وهو إسرافيل، ودلسوا نفوسهم ومذهبهم بادعائهم أنهم زيدية ومسلمون، ليستحوذوا بذلك على عقل من أضلوه من أغمار المقلدين، وقولهم هذا وما أشبهه من تدليساتهم اختراص وتوهم ودعاوى لا دليل لهم على صحتها من عقل ولا سمع فيشكل على [كل] عاقل أو يحتاج إلى جواب، وذلك لأنهم يعجزون عن صفة الملك الأعلى فضلاً عن صفة قلبه.
ومما يوضح ذلك أنهم لا يتكلمون به و[لا] يعلِّمونَه إلا من قَبِلَهُ [منهم]، فأما من طلب منهم عليه الحجة أو عرفوا أنه قد عرف من أين أخذوه فإنهم لا يسعفون للكلام فيه معه، ومنهم من يجحده إذا أمكنه ذلك، ويوهمون أتباعهم أن مشائخهم أوصوهم بأن لا يتكلموا في ذلك مع الجهّال، وكذلك جميع غلاة الباطنية والصوفية؛ فاعرف ذلك.
[الكلام في معنى أن الله سبحانه مريد وذكر الأقوال في ذلك]
وأما وصف الباري سبحانه بأنه مريد: فالخلاف في الإرادة لا في المريد، وفي ذلك ثلاثة مذاهب:
الأول: قول أئمة العترة - عَلَيْهم السَّلام - إنه سبحانه مريد لا بإرادة كما أنه فاعل لا بآلة، ومتكلم لا بآلة، وقادر لا بقدرة، وذلك لأنه سبحانه لو كان مريداً بإرادة لم تخل تلك الإرادة إما أن تكون معقولة فليس المعقول إلا ما أشبه إرادة المخلوق - تعالى الله عن ذلك -، وإما أن تكون غير معقولة فيكون الكلام فيها غلواً وعبثاً وتجاوزاً لحد العقل وحد التكليف.

(1/71)


والمذهب الثاني: قول الأشعرية إنه سبحانه مريد لذاته إرادة قديمة.
والذي يدل على بطلان ذلك هو: كونه خارجاً عن حد العقل، وذلك لأنه لا يعقل كون الإرادة إرادة إلا إذا كانت فعلاً للمريد، ووصف الفعل بالقدم مما لا يخفى بطلانه على كل عاقل.
والمذهب الثالث: قول المعتزلة إنه سبحانه مريد بإرادة محدثة، وإنه خلقها ولم يردها، وإنها عرض موجود لا في محل، وإنها مختصة به على أبلغ الوجوه لأجل وجوده لا في محل، وكل هذه الأقوال ظاهرة البطلان.
أما قولهم: إنه مريد بإرادة محدثة.
فالذي يدل على بطلانه كون دليلهم عليه مبنياً على الغلط، وذلك قولهم: قد ثبت كونه سبحانه مريداً؛ فلا يخلو: إما أن يكون مريداً لذاته أو لغيره، وإذا كان مريداً لغيره فلا يخلو إما أن يكون فاعلاً أو علة، وإذا كان لعلة لم يخل إما أن تكون قديمة أو محدثة؛ ثم أبطلوا الأقسام كلها إلا العلة المحدثة التي زعموا أنها أوجبت كونه سبحانه مريداً.

(1/72)


وموضع الغلط من هذه القسمة في أولها، وهو قولهم: لا يخلو: إما أن يكون مريداً لذاته أو لغيره، ثم وقفوا على هذين القسمين المستحيلين، وأسقطوا القسم الثالث الذي هو صحيح، وهو كونه سبحانه مريداً لا لذاته ولا لغيره؛ لأجل كونه مريداً لا بإرادة.
وأما قولهم: إنه سبحانه خلق الإرادة، ولم يردها.
فالذي يدل على بطلانه: هو ما يعلمه كل عاقل من أن الفاعل لما لا يريد لا يخلو: من أن يكون زائل العقل، أو ساهياً، أو ملجأً - تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً -.
فإن زعموا أن الدليل أداهم إلى تجويز ذلك فيه سبحانه خاصة؛ فالجواب: أنه إذا لم يجز أن يؤدي الدليل إلى إثباته في المخلوق، فبأن لا يؤدي إلى إثباته في الباري سبحانه أولى.
وأما قولهم: إنها عرض موجود لا في محل.
فالذي يدل على بطلانه: إجماعهم مع الأئمة - عَلَيْهم السَّلام - على أنه يستحيل في الشاهد وجود عرض لا في محل، ومن المعلوم بالدليل الصحيح أنه لم يستحيل [في الشاهد] إلا لأجل كونه عرضاً، ولا مخصص في ذلك لعرض دون ما عداه.
وأما قولهم: إنه مختص به سبحانه لأجل وجوده لا في محل؛ فوجوده لا في محل مستحيل مع أن جملة العالم موجود لا في محل، وليس بمختص به سبحانه، ومع أنه لو جاز [وجود] عرض لا في محل وجاز أن يختص به الموجود لا في محل لكان العالم الموجود لا في محل أولى بالاختصاص بذلك العرض من الباري سبحانه وتعالى عما يصفون.

(1/73)


[ذكر الفرق بين الأسماء والصفات]
وأما ذكر الفرق بين هذه الأسماء والصفات: فينبه عليه ذكر مسألتين:
الأولى: رد مجاز عموم الإشتراك فيها إلى حقيقة الوصف الخاص لله سبحانه نحو: أن يقال موجود لا بعد عدم، وقديم لا بزمان، وواحد لا بمعنى العدد، وحي لا بحياة.
والثانية: كون قدرة المخلوق وعلمه وما أشبههما أشياء غير ذاته يصح إضافتها إليه حقيقة، واشتقاق أوصافه منها، وكون الباري سبحانه موصوفاً لا بصفات.
[ذكر أفعال الباري سبحانه]
وأما [ذكر] أفعال الباري سبحانه: فقد تقدم ذكر كون العالم دالاً على أن له صانعاً حياً قادراً عالماً مريداً مختاراً لا مثل له ولا شريك في خلق جميع أصول العالم وفروعه، أجسامه وأعراضه، لا فرق في جميع ذلك بين ما شاهدنا حدثه خلقاً بعد خلق نحو قوله سبحانه: {فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ مِمَّ خُلِقَ(5)} [الطارق]، وقوله: {فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ إِلَى طَعَامِهِ(24)} [عبس].

(1/74)


وبين ما أخبرنا به ولم نشاهده نحو قوله سبحانه: {بَدِيعُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ} [البقرة:117]، وبين ما لم نشاهده ولم يخبرنا به نحو قوله سبحانه: {وَيَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ(8)} [النحل]، في كون [كل] ذلك مخلوقاً ومكوناً ومحدثاً بالقصد لا بآلة ولا عناية، وسواء كان ذلك مما يحيل أو يستحيل من صلاح إلى تغيير، أو من تغيير إلى صلاح، وسواء كان له سبب أو شرط من فعل الله سبحانه، أو من فعل غيره؛ فإنه لا يجوز نسبة شيء من ذلك حقيقة إلا إلى الله سبحانه، ولذلك قال سبحانه: {أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ(16)} [الرعد].

(1/75)


فأما مجازاً فقد ورد نص الكتاب بذلك، وكذلك فإنه لا يجوز أن يضاف إلى أحد من المخلوقين فعل شيء حقيقة إلا شيئين من الأعراض لا ثالث لهما، وهما: حركة كل حيوان وسكونه، وذلك لأن كل فعل يفعله الحيوان فهو راجع إلى الحركة، وكل ترك يتركه فهو راجع إلى السكون، ومن هنا يعلم غلط من زعم أن التارك للفعل لم يفعل شيئاً، وسواء كان المتحرك الساكن مختاراً لفعله أو ملهماً له أو ملجأً إليه، وإن اختلفت الأحكام.
ولا خلاف في شيء من ذلك بعد بطلان بدع الفلاسفة إلا مع فرقتين وهما: أصحاب القول بالفطرة والتركيب، وأصحاب القول بالجبر.
[قول المطرفية الطبيعية بأن الله سبحانه لم يخلق بالقصد إلا الأصول والدليل على بطلانه]
أما أصحاب القول بالفطرة والتركيب: فهم فرقة من المطرفية الطبيعية يزعمون أن الله سبحانه لم يخلق بالقصد إلا الأصول، وأما الفروع فزعموا أنه خلقها بالفطرة والتركيب لا بالقصد، وغرضهم بنفي القصد إثبات بدعهم، نحو إنكارهم للحكمة في خلق الحيوانات المؤذية، وفي الأمراض، وفي رزق العصاة، وأشباه ذلك مما زعموا أنه لا يجوز أن يقال إن الله سبحانه خلقه بالقصد.

(1/76)


ومما يدل على بطلانها: أنهم إذا سئلوا عن الأجسام والأعراض الضرورية، هل لها خالق غير الله سبحانه؟ أقروا أنه لا خالق لها إلا هو سبحانه، وإذا سئلوا عن أرزاق العصاة، هل هي أجسام؟ وعن الآلام هل هي أعراض ضرورية؟ أقروا بذلك، وكذلك إذا سئلوا عن الفطرة، هل هي فاعلة مختارة أو علة موجبة؟ صاروا في جميع ذلك وما أشبهه في حيرة مترددين، لا هادين ولا مهتدين.
[قول الأشعرية القدرية بأن المكلف مجبور على الطاعة والمعصية والدليل على بطلانه]
وأما أصحاب القول بالجبر: فهم الأشعرية القدرية الذين يزعمون أن المكلف مجبور على الطاعة والمعصية، وأنهما فعل الله سبحانه [لا له]، ثم نقضوا ذلك بقولهم: إنها كسب له، وزعموا أن بين الفعل والكسب فرقاً، وإنما ابتدعوه ليدلسوا به على المقلدين لهم.
والذي يدل على بطلان ذلك: أنه لا فرق في العقل ولا في السمع بين إضافة كل واحد منهما إلى العبد، ولا بين القدرة عليهما، ولا بين الإرادة لهما، ولا بين حدثهما في وقت واحد من فاعل واحد، ولا بين استحقاق المدح أو الذم عليهما.

(1/77)


ومما يدل من كتاب الله سبحانه على الفرق بين الإستطاعة والجبر قوله سبحانه: {وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ(42) خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ وَقَدْ كَانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سَالِمُونَ(43)} [القلم]، فانظر كيف فرق سبحانه بين ما يدعون إليه من السجود في الدنيا، وما يدعون إليه في الآخرة لكونهم مستطيعين في الدنيا وممنوعين في الآخرة.

(1/78)


ومما يدل من الكتاب أيضاً على أن الله سبحانه لم يخلق شيئاً من أفعال العباد، وعلى أنها ليست بفعل له قوله سبحانه: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ(12) ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ(13) ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً...إلى آخر الآية} [المؤمنون]، فانظر كيف فرق سبحانه بين ذلك لما كان إلقاء النطفة في القرار المكين فعلاً للمُلْقي بأن عبر عنه بالجعل دون ما قبله و[ما] بعده لأجل كون الجعل محتملاً للتأويل، ويصح به التمييز بين فعله سبحانه وفعل غيره؛ فتأمل ذلك وما أشبهه موفقاً إن شاء الله تعالى.
[الكلام في الإيمان بملائكة الله سبحانه]
وأما الإيمان بملائكة الله سبحانه: فالكلام فيه ينقسم إلى حكاية أقوال المختلفين فيهم، وإلى ذكر جملة مما أخبر الله سبحانه [به] عنهم.
[حكاية أقوال المختلفين في الملائكة (ع)]
أما حكاية الأقوال:
فمنها: قول من حكاه الله عنهم إنهم سموهم بتسمية الأنثى ظناً واختراصاً.

(1/79)


ومنها: قول من قال من الفلاسفة وأتباعهم: إن الملائكة [عبارة] بزعمهم عن العقول، وعن الكواكب السبعة، وعن الطبائع، ونحو ذلك من تحريفهم للكلم عن مواضعه.
ومنها: قول أئمة العترة - عَلَيْهم السَّلام -: وهو أنه لا طريق إلى معرفتهم إلا ما أخبر الله سبحانه به عنهم في كتبه أو على ألسن أنبيائه.
[ذكر جملة مما أخبر الله سبحانه به عن الملائكة -(ع)-]
وأما الذكر لجملة مما أخبر الله سبحانه به عنهم: فمن ذلك وصفه لهم - عَلَيْهم السَّلام - بأنهم أولي أجنحة، وأنهم عباد مربوبون، لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون، وأنهم أهل السماوات وحفظتها، وأن منهم من يرسل بالروح من أمره إلى من يشاء من عباده، ومنهم من هو موكل بحفظ أعمال المكلفين ليلاً ونهاراً، ومنهم موكل بقبض الأرواح، ومنهم حملة العرش على حسب الخلاف في تأويل العرش وكيفية الحمل، ومنهم الموكلون بمحاسبة العباد في يوم المعاد، ومنهم خزنة الجنة، وخزنة النار، وأشباه ذلك مما يجب التصديق به.
[الكلام في الإيمان بكتب الله سبحانه]
وأما الإيمان بكتب الله سبحانه: فأما ما قبل القرآن من كتب الأنبياء - عَلَيْهم السَّلام -؛ فيجب على الجملة التصديق بكونها قولاً لله سبحانه صدقاً، وديناً حقاً، وإن كانت لا يجب التعلم فيها، ولا يجب العمل بمنسوخها.

(1/80)


وأما القرآن: فيجب الإيمان به قولاً عملاً واعتقاداً لأجل كونه حجة الله بعد العقل باقية لا يجوز مخالفته، وكونه معجزاً لا يقدر أحد على الإتيان بمثله لا في الفصاحة، ولا فيما يتضمن من الأخبار بالغيوب الماضية والمستقبلة، ولا في كونه محفوظاً لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، ولا فيما وصفه الله سبحانه به نحو كونه تبياناً لكل شيء ونوراً، وروحاً وشفاء، وبصائر وهدى وبشرى للمؤمنين.
وكذلك وصف النبي - صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم - [له] بقوله: ((إذا التبست عليكم الأمور كقطع الليل المظلم فعليكم بالقرآن فإنه شافع مشفع، وشاهد مصدق، من جعله أمامه قاده إلى الجنة، ومن جعله خلفه ساقه إلى النار، هو أوضح دليل إلى خير سبيل، من قال به صدق، ومن عمل به أجر، ومن حكم به عدل)) ويجب تحكيم المحكم منه على المتشابه، والمبين على المجمل، والناسخ على المنسوخ، والخاص على
العام، ويجب الإئتمار [بجميع] ما أمر الله سبحانه به، والإنتهاء عن جميع ما نهى [الله] عنه، ويجب الرجوع في كل مشكل من غامض علومه، أو مختلف فيه من تأويله، إلى سؤال من أمر الله بسؤاله، والرد إليه من ورثته وأهله، والتمسك بهم مع الكتاب، ولذلك قال النبي - صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم -: ((إني تارك فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا من بعدي أبداً: كتاب الله وعترتي أهل بيتي)) ونحو ذلك من الأخبار المتفقة في المعنى، وإن اختلفت الألفاظ.
ويجب ترك الاغترار بشبه من زعم أن عقله يغنيه عن الكتاب وأهله، ومن زعم أن ورثة الكتاب هم جميع العلماء، ومن زعم أن القرآن الصحيح مكتوم مع الأئمة الغائبين، ومن زعم أن للقرآن تأويلاً باطناً مخالفاً لجميع ظواهره.

(1/81)


[الكلام في الإيمان برسل الله سبحانه]
وأما الإيمان برسل الله سبحانه: فالكلام فيه ينقسم إلى ذكر من تقدم من الأنبياء - عَلَيْهم السَّلام -، وإلى ذكر نبينا -صَلَّى الله عَلَيْهِ وآله وَسَلَّم- خاصة، وإلى ذكر من يقوم من ذريته مقامه من بعده.
[ذكر من تقدم من الأنبياء -(ع)-]
أما ذكر من تقدم من الأنبياء - صلوات الله عليهم -: فهو يشتمل على جمل تفيد من تأملها يقيناً في علمه، وخشوعاً في قلبه، إذا لم يكن فيه زيغ يمنعه من البصر بعقله.
منها: حكاية الله سبحانه لاتفاق أقوالهم في الدعاء لأممهم إلى الإيمان بالله سبحانه، والاستدلال عليه بصنعه نحو:
قول نوح - عَلَيْه السَّلام -: {مَا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا(13) وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا(14)} [نوح]، أي مرة بعد مرة، وخلقاً بعد خلق.

(1/82)


وقول هود - عَلَيْه السَّلام -: {وَاتَّقُوا الَّذِي أَمَدَّكُمْ بِمَا تَعْلَمُونَ(132) أَمَدَّكُمْ بِأَنْعَامٍ وَبَنِينَ(133) وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ(134)} [الشعراء]، أي خافوا الله الذي رزقكم.وقول صالح - عَلَيْه السَّلام -: {وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ عَادٍ وَبَوَّأَكُمْ فِي الْأَرْضِتَتَّخِذُونَ مِنْ سُهُولِهَا قُصُورًا} [الأعراف:74]، أي تذكروا لتعلموا أن الله سبحانه [الذي] خلقكم وجعلكم خلفاء لعاد، وأسكنكم في مساكنهم فلا تعصوه فيفعل بكم مثل ما فعل بهم.
وقول شعيب - عَلَيْه السَّلام -: {وَاتَّقُوا الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالْجِبِلَّةَ الْأَوَّلِينَ(184)} [الشعراء].
وقول إبراهيم - على جميعهم السلام -: {أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ(95) وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ(96)} [الصافات]، وأشباه ذلك مما يجمعه قول الله سبحانه: {أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا اللَّهُ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْوَاهِهِمْ وَقَالُوا إِنَّا كَفَرْنَا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَنَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ(9) قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ...ألآية} [إبراهيم]؛ فهذا وما أشبهه هو الذي إذا تفكر فيه الموحد ازداد يقيناً إن شاء الله [سبحانه].

(1/83)


ومنها: حكايته سبحانه للمعجزات التي جعلها دالة على معرفته وحجة لأنبيائه نحو قوله سبحانه للنار: {كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ(69)} [الأنبياء]، ونحو ما جعل في عصا موسى - صلى الله عليه - من الآيات، ونحو خلقه لعيسى - صلى الله عليه - من غير أب وإنطاقه له في المهد، وما جعل على يديه من إحياء الموتى، وإبراء الأكمه والأبرص وما أشبه ذلك مما أعجز كل متزندق إطفاء نوره.
ومنها: حكايته سبحانه لما ابتلى به أنبياءه من المحن نحو عمى يعقوب، وضر أيوب، وما أشبه ذلك من أنواع الضر والخوف والحاجة التي محصهم [الله] بها في الدنيا ليكونوا من عباده المخلصين، وليكونوا في ذلك أسوة وقدوة للمؤمنين، وليدل [بذلك] على كذب من نسبه إلى طالع المولود، وما يقارنه من نحوس أو سعود.

(1/84)


[ذكر نبينا (ص) خاصة]
وأما ذكر نبينا خاصة - صلى الله عليه وعلى آله -: فلأن الله سبحانه خصه بأن جعله رسولاً إلى كافة الثقلين، وختم به الرسل، وفضله على جميع الأولين والآخرين، وأظهر دينه على جميع الأديان، وافترض على كل مكلف اتباع سبيله، والمودة له والطاعة، والصلاة عليه، والإقتداء به في الدين، والموالاة لمن والاه، والمعاداة لمن عاداه، وجعل سبحانه طاعته طريقاً إلى الجنة، ومعصيته طريقاً إلى النار قضاء وقدراً لا محيص عنه؛ فلهذا أوجب الإيمان به خاصة، والتمسك بدينه قولاً وعملاً واعتقاداً.
[ذكر من يقوم مقامه (ص) من ذريته ويخلفه من بعده]
وأما ذكر من يقوم مقامه من ذريته ويخلفه من بعده: فلأنه لا فرق بين الحاجة إليه، والحاجة إلى من يقوم مقامه في كل عصر.
والكلام في ذلك ينقسم إلى: حكاية أقوال المختلفين، وإلى ذكر جملة مما يدل على بطلان ما عدا قول أئمة العترة - عَلَيْهم السَّلام -.

(1/85)


[حكاية أقوال المخالفين في الإمامة]
أما حكاية الأقوال:
فزعمت الخوارج، وقدماء المعتزلة أن الإمامة في جميع الناس.
وزعمت المرجئة ومن قال بقولهم من المعتزلة أن الإمامة في قريش فكل هؤلاء يزعم أن طريق ثبوت الإمامة الشورى والعقد والاختيار.
وزعمت شيعة بني العباس أن الإمامة فيهم بالإرث، وطريق ثبوتها القهر والغلبة.
وزعمت فرق الإمامية: أن الإمامة بعد الحسن [والحسين] في ولد الحسين خاصة، وطريق ثبوتها الوصية، وجوزوا غيبة الإمام مع [بقاء] كونه حجة في حال غيبته.ومن الشيعة المعتزلة من زعم أن إجماع العترة ليس بحجة، وأن الخبر الذي يرويه الإمام السابق ليس بحجة، وكذلك اجتهاده، وكل هذه الأقوال مخالفة لقول أئمة العترة - عَلَيْهم السَّلام - [الزيدية]، وهو: ثبوت الإمامة في علي والحسن والحسين - عَلَيْهم السَّلام - بالنص الجلي، وفي ولد الحسن والحسين بالدليل، وأن طريق ثبوتها تكامل الشروط وظهور الدعوة.
[ذكر جملة مما يدل على بطلان قول المخالفين لأئمة العترة (ع) في الإمامة]
وأما القسم الثاني: وهو في ذكر جملة مما يدل على بطلان أقوال المخالفين لأئمة العترة - عَلَيْهم السَّلام -.

(1/86)


[ذكر ما يدل على بطلان قول الخوارج بثبوت الإمامة في جميع الناس وقول من قال بالشورى والعقد والاختيار]
فالذي يدل على بطلان قول الخوارج بثبوت الإمامة في جميع الناس، وقول من قال بالشورى والعقد والاختيار: قولُ الله سبحانه: {اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ} [الحج:75]، وقولُه: {اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ} [الأنعام:124]، وقولُه: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا وَإِبْرَاهِيمَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ} [الحديد:26]، وقولُه سبحانه لإبراهيم - صلى الله عليه -: {قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي[قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ](124)} [البقرة]، فاستجاب له، ولذلك استثنى [الظالمين] منهم ثم خاطب هؤلاء الذرية بقوله سبحانه: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ(77) وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ...الآية} [الحج]

(1/87)


[ذكر ما يدل على بطلان قول من زعم أن الإمامة في كل قريش أو في بني العباس]
والذي يدل على بطلان قول من زعم أن الإمامة في كل قريش، أو في بني العباس: ما في آية المباهلة، وفي خبر الكساء من النص اليقين على كون الحسن والحسين ابنين لرسول الله - صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم - وعترة له وأهل بيت وذرية وإيجابه سبحانه لمودة ذوي قرباه، وللصلاة في كل صلاة عليهم، وأَمْر النبي - صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم - لأمته بأن يتمسكوا بعترته مع الكتاب وما أشبه ذلك من الأدلة التي قدمها الله سبحانه حجة له ولأوليائه على أعدائه لعلمه سبحانه بأنهم سيحسدونهم كما قدم الدلالة في التوراة والإنجيل على نبوة محمد - صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم - لعلمه بأن اليهود والنصارى سينكرون نبوته، وكذلك كل مختلف فيه من الدين لأنه لا بد لله سبحانه ولأوليائه [عليه] من حجة ظاهرة على أعدائه لا يمكنهم جحدها بقلوبهم، وإن أظهروا إنكارها بألسنتهم.
[ذكر ما يدل على بطلان تخصيص الإمامية لولد الحسين وتجويزهم لغيبة الإمام وبقاء كونه حجة في حال الغيبة]
والذي يدل على بطلان تخصيص الإمامية لولد الحسين دون ولد الحسن كون ذلك بدعة حادثة لا دليل عليها، ولذلك اختلفوا وخالفهم فيه صلحاء ولد الحسين.

(1/88)


والذي يدل على بطلان تجويزهم لغيبة الإمام وبقاء كونه حجة في حال الغيبة قول الله سبحانه: {إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ(7)} [الرعد].
وما روي عنه - عَلَيْه السَّلام - من أنه لا بد لله سبحانه في كل عصر من حجة إما سابق وإما مقتصد، وإخبار النبي - صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم - بأن الحجة من عترته في كل عصر لا تفارق الكتاب.
[الأدلة على صحة مذهب العترة في مسألة الإمامة]
والذي يدل على صحة القول بالنص الجلي: قول النبي - صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم - لعلي - عَلَيْه السَّلام - في قصة أسد بن غويلم: ((اخرج إليه يا علي ولك الإمامة من بعدي)) وقوله: ((الحسن والحسين إمامان قاما أو قعدا، وأبوهما خير منهما)).

(1/89)


والذي يدل على أن منصب الإمامة في ولد الحسن والحسين خاصة إخبار الله سبحانه بأنه اصطفاهم لإرث كتابه، وأنه اختارهم على علم على العالمين، وأنه أذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً، ونحو ذلك مما يدل على أنه سبحانه إنما اختارهم لعلمه بصلاحهم وعدالتهم، وهذا أيضاً هو الذي يدل على كون إجماعهم حجة.
والذي يدل على أن الإمام السابق حجة لله سبحانه يجب تصديقه والاقتداء به: قول الله سبحانه: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} [النساء:59]، وأولوا الأمر هم أئمة الأعصار؛ فدل بذلك على أن طاعتهم واجبة كطاعته وطاعة رسوله، وكل من وجبت طاعته لم تجز مخالفته ولا الشك في روايته واجتهاده في سيرته فاعلم ذلك.

(1/90)


[الكلام في الإيمان باليوم الآخر]
وأما الإيمان باليوم الآخر: فالكلام فيه ينقسم إلى خمس مسائل:
[الكلام في البعث على الجملة]
الأولى: [في] الكلام في البعث على الجملة، وذلك لأن جميع فرق الكفار والزنادقة استبعدوا واستعظموا أن يعود الإنسان حياً بعد كونه تراباً، قال الله سبحانه: {بَلْ عَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ فَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ(2) أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ(3)}...إلى قوله سبحانه: {كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَأَصْحَابُ الرَّسِّ وَثَمُودُ(12) وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ وَإِخْوَانُ لُوطٍ(13) وَأَصْحَابُ الْأَيْكَةِ وَقَوْمُ تُبَّعٍ كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ(14) أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ(15)} [ق]

(1/91)


، ومما علم سبحانه أنبياءه من الأدلة وأمرهم أن يحتجوا بها على أممهم، أربع دلالات لكل دلالة طريق من سلكه انتهى به إلى العلم اليقين:
الأولى: دلالة المبدأ على المعاد، نحو قوله سبحانه: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلَا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًاوَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ(5) ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِي الْمَوْتَى وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ(6) وَأَنَّ السَّاعَةَ ءَاتِيَةٌ لَا رَيْبَ فِيهَا وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ(7)} [الحج]
ووجه الإستدلال بهذه الآية: من وجهين:
أحدهما: أنه لما كان لا يحسن الكلام مع الكفار في البعث قبل الكلام في إثبات الصانع القادر نبههم على النظر في كونهم مخلوقين خلقاً بعد خلق، ليستدلوا بذلك على أن لهم صانعاً أوجدهم بعد عدمهم، وكثرهم بعد قلتهم، وأحياهم بعد موتهم. والوجه الثاني: تنبيهه سبحانه لهم على أن الذي خلق أولهم من تراب في الإبتداء يقدر أن يعيدهم أحياء بعد كونهم تراباً، ونظائر هذا كثير، نحو قوله سبحانه: {وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ(78) قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ(79)} [يس].

(1/92)


والدلالة الثانية: طريقها قياس بعض الصنع على بعض نحو قول الله سبحانه: {أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلَى وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ(81)} [يس]، وقوله سبحانه: {وَيُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَكَذَلِكَ تُخْرَجُونَ(19)} [الروم]، وقوله سبحانه: {فَأَحْيَيْنَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا كَذَلِكَ النُّشُورُ(9)} [فاطر]، وقوله سبحانه: {فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ كَذَلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتَى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ(57)} [الأعراف]
، وقوله سبحانه: {إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِي الْمَوْتَى} [فصلت:39]، وما أشبه ذلك مما نبَّه الله سبحانه على أنه لا فرق بين إحياء الأرض بعد موتها، وإحياء الناس بعد موتهم.
والدلالة الثالثة: طريقها خبر الحكيم الذي يجب تصديقه، وهو الله سبحانه، وقد أخبر بذلك، ومعرفة وجوب تصديقه فرع على معرفة حكمته على ما تقدم.

(1/93)


والدلالة الرابعة: طريقها المشاهدة نحو ما شاهده إبراهيم - صلى الله عليه - فيما حكاه الله سبحانه في قوله: {فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ(260)} [البقرة]، وما شاهده عزير فيما حكاه الله سبحانه [عنه] بقوله: {وَانْظُرْ إِلَى حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ ءَايَةً لِلنَّاسِ وَانْظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنْشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا} [البقرة:259]، وما شاهده بنو إسرائيل فيما حكاه سبحانه [عنهم] بقوله: {فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحْيِي اللَّهُ الْمَوْتَى وَيُرِيكُمْ ءَايَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ(73)} [البقرة].

(1/94)


[الكلام في بعث ما عدا الآدميين من الحيوانات]
والمسألة الثانية: بعث ما عدا الآدميين من الحيوانات، وذلك لأن من المخالفين من زعم أنها لا تبعث، ومنهم من زعم أنها تبعث، ثم يقال لها: كوني تراباً، ومنهم من قال: إنها تبعث وتعوض على ما نالها من المحن في الدنيا، وإنها باقية أبداً إذ لا فرق بينها وبين الآدميين في كونها مخلوقة بالقصد، ولذلك قال الله سبحانه: {وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ} [النور:45]، وقال: {وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ} [البقرة:164]، فكما أنه لا فرق بين جميع الدواب في ذلك في الدنيا، فكذلك لا فرق بينها في البعث في الآخرة.
وكذلك قال الله سبحانه: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ(38)} [الأنعام].
وكذلك فإن العقل يقضي بأن إحياءها بعد الموت أولى في الحكمة من تركها ميتة، وأن تعويضها بالنعيم الدائم أولى من إماتتها بعد الحشر.

(1/95)


[الكلام في قول الله سبحانه: {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا} والصراط وتأويلهما]
والمسألة الثالثة: تأويل قول الله سبحانه: {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا} [مريم:71]، وتأويل الصراط، وذلك لأن من المفسرين من زعم أن الضمير في: واردها، المراد به جهنم، وأن جميع الناس يمرون في صراط فوقها؛ فمنهم من تزل قدمه، ومنهم من يسلم.
وأنكر ذلك بعضهم، وقال: [إن] الضمير في واردها راجع إلى الموضع الذي ذكره الله سبحانه بقوله: {ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيًّا(68)} [مريم] ، هذا إذا كان الخطاب عاماً لأهل الجنة وأهل النار.
وإن كان خاصاً للذين عناهم بقوله سبحانه: {فَوَرَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّيَاطِينَ} [مريم:68]، ارتفع الخلاف. ومما احتج به من أنكر ورود أهل الجنة [لجهنم] قول الله سبحانه: {لَا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا} [الأنبياء:102]، وقوله: {وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ ءَامِنُونَ(89)} [النمل]، قالوا: ولا فزع أعظم من المرور فوق جهنم على مثل حد السيف، ومع ذلك فقد أخبر الله سبحانه أن لكل باب من أبواب جهنم جزءاً من أهل النار مقسوماً، وأنهم يساقون إليها من موضع الحساب الذي يَرِدُهُ كل إنسان إلا من شاء الله سبحانه من الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون، وكذلك أهل الجنة يساقون إليها من ذلك الموضع لا إلى جهنم.

(1/96)


[الكلام في استحقاق الخلود في النار هل هو بعمل أو لا بعمل؟]
[و]المسألة الرابعة: في استحقاق الخلود في النار هل هو بعمل أو لا بعمل؟
وذلك لأن المجبرة يزعمون أنه مستحق لا بعمل؛ لأنه لا قدرة للمخلوق بزعمهم.
ومما يشنع به بعضهم سؤالهم عمن مات عقيب بلوغه، وقد عصى معصية واحدة هل يخلد أم لا؟ فإن قيل: يخلد، أَلْزَموا أن ذلك ظلم؛ لئلا يعترض بمثله عليهم، وإن قيل: لا يخلد، أَلْزَموا الخروج من المذهب.
وقد تقدم ذكر ما يدل على بطلان قولهم إنه لا قدرة للمكلف على فعل ما كلف فعله، وترك ما كلف تركه مع كون بطلانه ظاهراً لأجل مخالفتهم به للعقل والسمع.
أما العقل: فلأن الله سبحانه جبل العقول على معرفة الفرق بين الظلم والعدل في الشاهد.
وأما السمع: فلأن الله سبحانه نفى الظلم عن نفسه، وأضافه إلى الظالمين من عباده، ومن المعلوم ضرورة أنه لا يعقل كون الظالم من المخلوقين ظالماً إلا إذا فعل الظلم، وأنه لا يعقل كون العادل عادلاً إلا إذا أنصف المظلوم من الظالم، ومن المعلوم عقلاً وسمعاً أنه لا يجوز أن يضاف إلى الله سبحانه فعل ما جبل العقول على معرفة قبحه، ونهى المكلفين عن فعله، وكذلك كلما تمدح سبحانه بنفيه عن نفسه.

(1/97)


[الجواب عن تدليس المجبرة بالسؤال عمن عصى معصية واحدة عقيب بلوغه ثم مات]
وأما تشنيعهم وتدليسهم بالسؤال عمن عصى معصية واحدة عقيب بلوغه ثم مات.
فالجواب عن ذلك بأمور:
منها: أنا لم نتعبد بعلم الغيب، وإنما تعبدنا بإجراء أحكام الشريعة في الظاهر، وترك الخوض بالأوهام فيما لا علم لنا به.
ومنها: أنه لا يعتبر في استحقاق الخلود في النار بالمعصية إلا الإصرار عليها بحيث أنه لو أخرج من النار لعاد لما نهي عنه.
ومنها: أن لله سبحانه ألطافاً خفية، ورحمة واسعة، ومن الممكن أن يكون سبحانه ألهم ذلك العاصي التوبة والندم قبل موته، وعلمها من ضميره، وختم بها له فيكون حكمه عند الله في الباطن بخلاف حكمه عندنا في الظاهر.
ومنها: أنه يمكن أن يكون ممن تقبل الله سبحانه فيه الشفاعة.
وأشباه ذلك مما يدل على أن الله سبحانه لا يدخل أحداً النار ويخلده فيها إلا بذنب فعله في الدنيا، ومات مصراً عليه بعد الإعذار والإنذار والتمكين من فعل الطاعة وترك المعصية.

(1/98)


[زعم المرجئة أن الله سبحانه يخلف وعيده لأهل النار بالخلود فيها والرد عليهم]
والمسألة الخامسة: إخلاف الوعيد، وذلك لأن المرجئة يزعمون أن الله [سبحانه] يخلف وعيده لأهل النار بالخلود [فيها]، واحتجوا على ذلك من المتشابه والشبه بما لا حجة لهم فيه.
أما المتشابه: فنحو قول الله سبحانه: {لَابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا(23)} [النبأ]، وقوله: {خَالِدِينَ فِيهَا} ثم استثنى بقوله: {إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ} [الأنعام:128]، وقوله: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا} [الشورى:40]. والجواب: أن هذه الآيات وما أشبهها من [جملة] المتشابه المجمل الذي قد بينه الله سبحانه بالآيات التي أكدها بالتأبيد الذي لا انقطاع له، وتحكيم المحكم المبيَّن على المتشابه المجمل واجب لا يجوز خلافه مع أنه لو لم يرد في ذلك إلا ما حكاه الله سبحانه من قول الكفار: {لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً} وتكذيبه سبحانه لهم بقوله: {قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدًا فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ(80) بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ(81)} [البقرة].

(1/99)


ونحو قوله سبحانه: {قَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ(24)} [آل عمران]، لكفى به للمرجئة ناصحاً، ولنا عليهم دليلاً واضحاً.
وأما إيهامهم للمماثلة بين سيئة العاصي والسيئة التي هي جزاء له فليس بينهما مماثلة في الكيفية ولا في المقدار، مثاله: ما نعلمه في الشاهد من قطع يد السارق التي ديتها خمس مائة مثقال على سرقته التي قيمتها عشرة دراهم قفلة.
وأما الشبه، فنحو قولهم: إن العقلاء في الشاهد يستحسنون إخلاف الوعيد، ويمدحون عليه.
والجواب: أن ذلك لم يحسن إلا لأجل قرائن لا يجوز إضافتها إلى الله سبحانه نحو البدأ، والندم من الظلم وطلب الذكر أو العوض، بدليل أن المتوعد لو كان إمام حق لما جاز له في الشرع ولا حسن في العقل أن يخلف توعده للظالم، وأن يترك إنصاف المظلوم منه مع القدرة عليه.
فهذه جملة ما قصدت به التنبيه للمتعلمين على طلب العلم من أهله ومعدنه.
والحمد لله وحده، وصلى الله على محمد وآله وسلم.

(1/100)


الهوامش:
() ـ المجوس: هم الذين يقولون بصانعين يزدان وهو: فاعل الخير بزعمهم، وهو عندهم الله، تعالى عن قولهم، واهرمن وهو: الشيطان فاعل الشر ويقولون إن أهرمن حدث من فكرة يزدان الردية، ولهم أقوال ظاهرة الفساد سريعة البطلان.
وطبقات المجوس، ثلاث: الكيومرثية، والزروانية، والزردشتية، وفكرة يزدان الردية هي: أن يزدان لما تم له الأمر قال في نفسه لو كان لي منازع كيف حالي فحدث أهرمن. الملل والنحل للإمام المرتضى 72، الملل والنحل للشهرستاني 1/171. () - أهل التناسخ: قال بالتناسخ بعض الكفار وبعض من ينتحل الإسلام كالروافض، وأول من أحدثه فيهم رجل يقال له: أحمد بن حائط، وله جهالات خرج بها عن الإسلام، زعموا أن الروح تنتقل في الهياكل فالمثاب يتلذذ والمعاقب إلى بهيمة يتألمّ، وأنكروا البعث إلى غير ذلك من الجهالات، انتهى من المنية والأمل شرح الملل والنحل. قال في كتاب الحور العين: وقال أصحاب التناسخ -منهم جمهر بن بختكان الفارسي ومن قال بقولهـ: بدوام الثواب والعقاب فالثواب انتقال أرواح المحسنين إلى الأبدان الإنسية، والعقاب انتقال أرواح المسيئين إلى أبدان البهائم والسباع والهوام. انتهى.

(1/101)


() - الباطنية: فرقة من الفرق التي تنتحل الإسلام وهم في الحقيقة خارجون عن الدين، لإنكارهم الخالق تعالى وإنكارهم المعاد الجسماني، وأصول مذهبهم تعود إلى مذاهب الفلاسفة والمجوس وهم من أعظم الفرق ضرراً ومكيدة لأن مذهبهم لايكاد يُعرف، لتسترهم وإحداثهم كل وقت مذهباً، وفشا مذهبهم بعد مائتين من الهجرة أحدثه عبدالله بن ميمون القداح، وكان مجوسياً تستر بالتشيع ليبطل الإسلام، وسموا الباطنية لدعواهم أن لكل ظاهر باطناً، ويقال لهم الإسماعيلية والقرامطة والمزدكية والتعليمية والملحدة، والباطنية أشهر ألقابهم، ولهم أقوال وخرافات لايسع المقام إحصاؤها وحصرها. الملل والنحل للإمام المرتضى 103، للشهرستاني 1/142، النبذة المشيرة. وقد رد عليهم الإمام المؤيد بالله يحيى بن حمزة (عَلَيْه السَّلام) في مشكاة الأنوار الهادمة لمذهب الباطنية الأشرار، وكتاب الإفحام لأفئدة الباطنية الطغام، وكذلك الفقيه العلامة محمد بن الحسن الديلمي في قواعد عقائد آل محمد، وقد طُبِع منه الجزء الذي في الردّ عليهم.

(1/102)


() ـ قال الشرفي في شرح الأساس الصغير: الأشعرية منسوبون إلى مذهب أبي الحسن الأشعري وهو علي بن أبي بشر بن إسحاق بن سالم بن إسماعيل بن عبدالله بن موسى بن أبي بردة بن أبي موسى الأشعري، كذا ذكره ابن خلكان.
قال الإمام المنصور بالله في الشافي: والأشعري بصري وليس له سلف يرجع إليهم لامن أهل العدل، ولا من أهل الجبر؛ لأنه درس على أبي علي الجبائي شيخ المعتزلة وخالفه إلى مقالة المجبرة، ولم يرجع إلى أحد من شيوخ المجبرة بل أحيا مذاهب لجهم بن صفوان كانت داثرة فحرفها وصحفها ليبقى له أدنى مسكة من الإسلام، وقد حيل بينه وبين ذلك بالدليل...إلخ.
() - القفحة: هي الضربة الثانية المتولدة من الضربة الأولى إذا أرخى الضارب يده يقولون لا فاعل لها. تمت من هامش نخ (هـ).

(1/103)


() - الذي يظهر من خلال كلام القاضي العلامة عبدالله بن زيد العنسي -رحمه الله- أنهم -أي أهل القفحة- فرقة من المطرفية الغوية وذلك أنه قال في كتابه التمييز بين الإسلام ومذهب المطرفية الطغام ما نصه: وقالت المطرفية في تحقيق مذهبها، وما انفردت به في بدعتها في هذا الركن من التوحيد بزعمهم: إن العالم يحيل ويستحيل، ومعنى يحيل: يغير ؛ ومعنى يستحيل: يتغير، وما أحد منهم على اختلاف مذاهبهم إلا وهو يقول بالإحالة والإستحالة غير أنهم يختلفون فأهل القفحة يقولون: إن الله تعالى ما خلق إلا الأصول الأربعة وهي: الماء والهواء والرياح والنار، وركبها لتكون منها فروعها، وما خلق بعدها جسماً ولا عرضاً أبداً فجميع الأجسام والأعراض ليست من خلق الله تعالى ولا حدثت بإرادته ما عدا هذه الأصول. انتهى كلامه عليه رحمة الله ورضوانه. والمطرفية فرقة تنسب إلى مطرف بن شهاب أحدثوا أقوالاً باطلة، قال الإمام المنصور بالله عبدالله بن حمزة -عليهما السلام-: وكان أول ناجم في مذهبهم الخبيث أحدثه شيخ من رؤوس ضلالتهم يقال له ابن أبي الغوازي وكان من أهل قاعة في البون وأنكر عليه من كان في عصره من آل رسول الله -صَلَّى الله عَلَيْهِ وآله وَسَلَّم- وكان أعلم أهل زمان في ذلك العصر من آل رسول الله -صَلَّى الله عَلَيْهِ وآله وَسَلَّم- الشريف العالم الفاضل زيد بن علي من ولد الحسن بن زيد بن الحسن بن علي بن أبي طالب -عليهم السلام- وهو الذي أظهر مذهب الزيدية بصنعاء وإليه تنسب دار الشريف المعروفة هنالك، ورد عليهم وأخزاهم، وتصنيفه عليهم عندنا موجود مشهور، وكذلك العابد من ولد الهادي -عليهما السلام- يعرف بالعابد عبدالله بن المختار بن الناصر -عليهم السلام- فإنه رد عليهم رداً شافياً، وكذلك الشريف الأجل الإمام العالم عماد الدين الحسن بن محمد المهول من ولد الهادي له عليهم

(1/104)


تصنيف مشهور يبين فيه كفرهم ومكرهم، وكذلك الإمام الناصر لدين الله أبو الفتح بن الحسين الناصر الديلمي (عَلَيْه السَّلام) له عليهم تصنيف سماه -الرسالة المبهجة في الرد على الفرقة الضالة المتلجلجة، وكذلك الشريف الإمام الفاضل النفس الزكية والسلالة المرضية حمزة بن أبي هاشم الإمام الحسن بن عبدالرحمن له عليهم رد، والإمام الأجل المتوكل على الله عز وجل أحمد بن سليمان بن الهادي (عَلَيْه السَّلام) له عليهم
ردود عظيمة ظاهرة موجودة في أرض اليمن منتشرة في أقطار البلاد منها: كتاب يسمى تبيين كفر المطرفية، ورسالة تسمى الرسالة العامة، وكتاب سماه كتاب المطاعن لأنهم طعنوا على الإمام فرد عليهم، وكتاب سماه العمدة في الرد على المطرفية المرتدة ومن وافقوا من أهل الردة فإنه بين فيه مشاركتهم للثنوية والمجوس والطبائعية واليهود والنصارى، ثم بين ما شاركوا فيه الفرق الضالة من أهل الانتساب إلى الإسلام من المجبرة القدرية والمرجئة النابتية والنواصب الشقية والخوارج الردية، ثم بين بعد ذلك ما خالفوا فيه جميع العقلاء من البرية الإسلامية والكفرية.
فأما حالنا وحال القوم وحال من هو في أيامنا من علماء آل الرسول كشيخي آل الرسول الداعيين إلى الله شمس الدين وبدره ورأس الإسلام وصدره عضدي أمير المؤمنين يحيى ومحمد ابني الهادي -عليهم السلام- فرأي الكفر في المطرفية معلوم وكتاب العمدة عندنا موجود. انتهى المراد من كلامه عليه سلام الله ورضوانه.

(1/105)


وقال الإمام المتوكل على الرحمن أ؛مد بن سليمان (عَلَيْه السَّلام) في الحكمة الدرية: وكانت الزيدية باليمن فرقة واحدة حتى دخل فيهم الشيطان بسحره فمرق منهم فرقتان إحداهما المطرفية وكان سبب خروجهم إلى ما خرجوا إليه: أن رجلاً منهم يقال له مطرف بن شهاب وكان ممن درس هو وصاحبان له على رجل من الباطنية يقال له حسين بن عامر، انتهى المراد.
وقال الفقيه العلامة فخر الدين عبدالله بن زيد العنسي -رحمه الله تعالى- في رسالته المنقذة من العطب السالكة بالنصيحة إلى شظب: إن أول من أحدث مذهب المطرفية بقاعة رجل يقال له ابن أبي الغوازي، وأول من أحدثه ببلاد بني شهاب رجل يقال له مطرف بن شهاب وأخذه من الملاحدة -لعنهم الله- بحيل وأسباب، انتهى المراد.
ولهذه الفرقة أقوال محدثة وعقائد مبتدعة وأقوالهم تنقسم إلى ثلاثة أقسام:
القسم الأول: مقالات ابتدعوها في الدين وخالفوا فيها جميع العالمين -أي المؤمنين والكافرين-.
والقسم الثاني: مقالات باينوا بها مذهب أهل البيت (ع) وتابعوا فيها أهل الضلال من المنتسبين إلى الإسلام. هذا لفظ القاضي جعفر.
وقال الإمام أحمد بن سليمان (عَلَيْه السَّلام): فقسم خالفوا فيه جميع العقلاء المؤمنين منهم والكفار، وقسم وافقوا به الكفار وخالفوا فيه الكافة من أهل الإسلام، وقسم اتبعوا فيه ضلال الأمة وخالفوا فيه جميع الأئمة. وقد أحببت أن أذكر من كل قسم بعض مسائله لتعرف عقيدتهم لأنه لم يبق في زماننا هذا أحد يقول بمقالتهم.

(1/106)


فالقسم الذي خالفوا فيه جميع العقلاء ولم يقل به مؤمن ولا كافر من أقوالهم فيه:
قولهم: إن عقل الإنسان هو قلبه، وقولهم: إن كثيراً من أفعال الله ليس بحكمة ولا صواب، وقولهم: إن الله تعالى لم يرزق العصاة، وقولهم: إن الله لا يخلق المضار ولا المنفرات ولا شيئاً من المهلكات قالوا: فهو منزه عن أن يخلق الذباب والذئاب والسباع الضارة والكلاب.
قال الإمام أحمد بن سليمان (عَلَيْه السَّلام): وهذه مقالات لم يقل بها أحد من البشر لا من آمن ولا من كفر.
وأما القسم الثاني فهي مقالات شاركوا فيها الكفار الخارجين عن ملة الإسلام منها: قولهم: إن العالم يحيل ويستحيل وافقوا فيه الطبائعية الملحدة وإن كان الطبيعية يقولون: يؤثر بعضه في بعضه. وقولهم: إن الله لا يميت أحداً من الأطفال ولا من المؤمنين حتى يبلغ العمر الطبيعي وهو مائة وعشرون سنة.
والقسم الثالث ما شاركوا فيه أهل الضلالات من هذه الأمة من ذلك: شاركوا الخطابية فهي قولهم بجواز شيء من الكذب عند الحاجة كما تقوله الخطابية. ومنها قولهم: إن أسماء الله هي ذات الله وهو مذهب الكرامية من المشبهة. ولهم غير هذه الأقوال كثير.
ولأجل هذه الأقوال التي أحدثتها المطرفية الطغام وخرجوا بها عن دين الإسلام حكم الأئمة الأعلام -عليهم السلام- بكفرهم وضلالهم ووجوب قتالهم ؛ فإليك حكم الإمام المتوكل على الرحمن أحمد بن سليمان (عَلَيْه السَّلام) في آخر كتابه -الهاشمة لأنف الضلال من مذاهب المطرفية الجهال:- فلهذا قلنا: إنهم قد خرجوا من جملة المسلمين وفارقوا أهل ملة الإسلام، فلا تحل مناكحتهم ولا ذبائحهم ولا رطوبتهم، ولا تقبل شهادتهم، ولا يجوز دفع الزكوات إليهم وغيرها من حقوق الله سبحانه ولا إلى أحد منهم، ولا يجوز دفنهم في مقابر المسلمين، ولا الصلاة على أحد من موتاهم، ويحكم فيهم بأحكام الكفار ويحكم في هجرهم وأماكنهم التي غلبوا عليها وحكموا فيها على ساكنيها بأتباعهم في مذاهبهم بأحكام دار الحرب {وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ(227)} [الشعراء].

(1/107)


وإليك أيضاً حكم الإمام الحجة المنصور بالله عبدالله بن حمزة -عليهما السلام- قال (عَلَيْه السَّلام) في الرسالة الهادية: ولما نجم ناجم الفرقة الملعونة المرتدة المفتونة الضالة الغوية المسماة بالمطرفية وجعلت شعارها إنكار دينها لترحض درن الكفر برجس ماء الكذب وحاكمناهم إلى الله تعالى فحكم لنا عليهم أنفذنا فيهم أحكام الله تعالى في أمثالهم من الكفرة: {سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا(62)} [الأحزاب] {وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَحْوِيلًا(43)} [فاطر]، من قتل المقاتلة وسبي الذرية قال تعالى: {أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُولَئِكُمْ أَمْ لَكُمْ بَرَاءَةٌ فِي الزُّبُرِ(43)} [القمر]، إلى قوله (عَلَيْه السَّلام): ومذهب هذه الفرقة الملعونة يظهروه في عوشات كفرها ومكامن كيدها التي سموها هجراً ولا يفتقر إلى ذمة ولا جوار، وإن كانت في ذمة أو جوار ممن يزعم إصابتها ويعتقد صلاحها فهو كافر بذلك لكفرها وممالاته فكل جهاتهم دار حرب يحل فيها قتل مقاتليهم وسبي ذراريهم ونسائهم وغزوهم كما تغزى ديار الحرب ليلاً أو نهاراً وأخذهم سراً وجهاراً، والقعود لهم كل مرصد، وقد أبحناهم لمن اعتقد إمامتنا من المسلمين غيلة ومجاهرة. انتهى المراد من كلامه عليه صلوات الله وسلامه.
وقد حكم بكفر وضلال هذه الفرقة مع من تقدم الأئمة والعلماء من أهل البيت (ع) وغيرهم وقد طال الكلام والغرض الاختصار وإنما المراد بهذا التعريف وإلا فقد انقرضت هذه الفرقة وانتهت ولله الحمد والمنة بحميد سعي الإمامين المتوكل على الرحمن أحمد بن سليمان والمنصور بالله عبدالله بن حمزة عليهما السلام وقد غزاهم وقتلهم وسباهم وأخرب دورهم الإمام الأعظم والبحر الخضم المنصور بالله عبدالله بن حمزة عليه سلام الله ورضوانه، وقد حكى الإمام المحسن بن أحمد (عَلَيْه السَّلام) في رسالته إزاحة الإشكال عن العدلية: أنهم مجمعون على القول بكفر المطرفية، ولكن كما قال الشاعر:
ويطمئن إليهم من له غرض.... في مسلك الغي أو في قلبه مرض
وسيأتي في هذا المجموع مزيد ذكر لهذه الفرقة وأقوالها والرد عليها في الفصل السابع وغيره من كتب هذا المجموع.

(1/108)


() - قال شيخ الإسلام وإمام أهل البيت الكرام الإمام الحافظ الحجة الولي بن الولي بن الولي مجدالدين بن محمد بن منصور المؤيدي أدام الله ظله ومتعنا بحياته في لوامع الأنوار (ط2) (1/309): وأما تمويه الأشعرية بالكسب فراراً على زعمهم من لوازم الجبر فلا معنى له بل مذهبهم عين مذهب الجبر فالكسب كما قالت العدلية: أمرٌ لا تحقق له. وعباراتهم تفيد محض كلام الجبرية فقد فسروا الكسب بما يرجع إلى المحلية، وجعلوا العبد محلاً لما يخلقه الله ويوجده -على زعمهم- فيه من الأفعال وليس العبد عندهم بموجد لطاعته ولا معصيته ولا قدرة له مؤثرة في شيء من الأعمال، وقد اعترف محققوهم بفساد ما تستروا به من الكسب، وإليك من نصوصهم في ذلك المقال: صرح الجويني في مقدمات البرهان بأن الكسب تمويه بل لو سئلوا عن كل جزء من أجزاء الفعل فإن كان من الله فهو الجبر وتعطل معنى الكسب والجزء الاختياري، وإن كان من العبد فهو مذهب أهل العدل فليس جواب عن هذا السؤال إلا بالجبر أو العدل..إلى قوله: قال بعض العدلية: الأشاعرة تحيروا وحيروا أتباعهم وصاروا يوهمون أنهم على شيء وأنهم متمسكون بذنب الحق وهم في طرق الضلال وعجزوا عن التعبير عن هذا الخيال وهم في الباطن معترفون بأنهم في حومة الإشكال.
قلت: ومعترفون أيضاً في الظاهر كما تعرفه من الأقوال.
قال: ألا ترى أن التفتازاني وهو من أشدهم في نصرة الأشعري ولو بمجرد الجدال قد اعترف بصعوبة إيضاح معنى الكسب.

(1/109)


قال الغزالي: لا تُعْرف مسألة الكسب لا في الدنيا ولا في الآخرة.
وقال ابن عربي: مكثت ثلاثين سنة أبحث عنها ولم أعرفها؛ ثم اعترف بالجبر حتى قال والذي أظنه أن الأشعري إنما قال بالكسب مع معرفته أنه ليس تحته مسمى تستراً عما يلزم الجبر في اللوازم..إلخ.
قال بعضهم -أي بعض العدلية-: ومن العجائب إصرارهم على دعوى الكسب مع عدم عثورهم على ماهيته قرناً بعد قرن منذ عصر الشيخ أبي الحسن -أي الأشعري- إلى تاريخنا وقد تعب من تعب منهم في البحث عن حقيقته وأفنى عمره في طلب معرفته فلم يجد ما يشفي وكأنهم يلتمسون محله الذي واراه فيه الشيخ الكبير ويظنون بأنفسهم القصور أو التقصير وهم في هذا التعب والشقاء ولم يعلموا أن الشيخ إنما دفنه تحت بيضة العنقاء. انتهى.
()ـ روى نحوه الإمام أبو طالب في الأمالي بعدة طرق في بعضها زيادة، وروى بعضه الإمام المرشد بالله في الأمالي الخميسية (1/113) ولمزيد من الأحاديث والآثار والحكايات في فضل القرآن الكريم انظر أمالي المرشد بالله الخميسية (1/72- 123).

(1/110)


() - الخوارج: يُسمون الشراة والحرورية والمحكّمة، ويرضون بذلك، والمارقة للخبر ولا يرضونه، ويجمعهم إكفار علي عليه السلام، وأصول فرقهم خمس: الأزارقة: منسوبون إلى أبي راشد نافع بن الأزرق، والأباضية: إلى عبدالله بن يحيى بن أباض، والصفرية: إلى زياد الأصفر، والبيهسية: إلى أبي بيهس، والنجدات: إلى نجدة بن عامر، ثم تشعّبوا، وأنشأ مذهبهم عند التحكيم عبدالله بن الكّواء، وعبدالله بن وهب، وفارقا علياً عليه السلام، ومن مصنّفيهم: أبو عبيده وأبو العَيْناء وغيرهما، انظر: الملل والنحل، جلاء الأبصار.
() ـ المرجئة: سميت بذلك لتركهم القطع بوعيد الفساق، والإرجاء في اللغة: التأخير، وهم الذين يقولون الإيمان قول بلا عمل، ويقولون لاتضر مع الإيمان معصية، وقد قال فيهم الرسول -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم-: ((صنفان من أمتي لاتنالهما شفاعتي لعنوا على لسان سبعين نبياً: القدرية، والمرجئة)) قالوا: فما القدرية؟ قال: ((الذين يقولون أن المعاصي بقضاء من الله وقدر، والمرجئة الذين يقولون الإيمان قول بلا عمل))، وهم فرق كثيرة، ولهم أقوال مختلفة.

(1/111)


() - الإمامية: سُميت بذلك لجعلها أمور الدين كلها إلى الإمام وأنه كالنبي صلى الله عليه وآله وسلم، وسُموا رافضة لرفضهم إمامة زيد بن علي(ع)، وافترقوا فرقاً كثيرة: كيسانية ومغيرية ومنصورية ومباركية وجعفرية وناووسية وإسماعيلية وشمطية وعمارية ومفضلية وقطعية، وافترقت القطعية فرقاً كثيرة قد انقرض أكثرها، وخرج كثير منهم عن الأمة كالكاملية والسبأيّة والخطابية والرزامية والسمنية، ومن أوضح دليل على إبطال ما يدّعون من النص على اثني عشر اختلافهم عند موت كل إمام في القائم بعده، ومن أكابرهم هشام بن الحكم وغيره، ومما انفردوا به: القول بالبدا، والرجعة، وأن علم الله حادث، وأطبقوا - إلا من عصم الله - على الجبر والتشبيه، انظر: الملل والنحل، جِلاء الأبصار.
() ـ هذا الخبر مشهور عند الأمة، ومتلقى بالقبول من جميع الطوائف إذ الأمة بين عامل به ومتأوّل له، ولم يصدر عن أحد من الأمة إنكاره أو ردّه أو تضعيفه، وما أحسن قول حافظ اليمن السيد صارم الدين الوزير (ع):
وإن التلقي بالقبول على الذي.... به يستدل المرء خير دليل
وما أمّة المختار من آل هاشم.... تلقّى حديثاً كاذباً بقبول

(1/112)


قال الإمام الهادي إلى الحق القويم يحيى بن الحسين بن القاسم بن إبراهيم عليهم صلوات رب العالمين في كتاب أصول الدين (104): وأجمعت الأمة أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: ((الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة وأبوهما خير منهما))، وقال هما: ((إمامان قاما أو قعدا))، ورواه الإمام محمد بن القاسم في كتاب الأصول الثمانية، ورواه الإمام أبو طالب في كتاب شرح البالغ المدرك، وأخرجه الأمير الحسين في شفاء الأوام (3/497)، وأورده (ع) في العقد الثمين وقال: وهذا نصّ جلي على إمامتهما وفيه إشارة إلى إمامة أبيهما، ورواه أحمد بن الحسن الرصاص في مصباح العلوم، وأورده الإمام الحافظ الحجة الولي مجدالدين بن محمد المؤيدي في لوامع الأنوار (ط/2) (3/35) وقال: وقوله صلى الله عليه وآله وسلم: ((الحسن والحسين إمامان قاما أو قعدا وأبوهما خير منهما)) فهو كذلك مجمع عليه بين الأئمة.
قال الإمام الحسن بن بدر الدين عليه السلام: والعترة مجمعة على صحته، وقال: إنه مما ظهر واشتهر بين الأمة، وتلقّته بالقبول، ولا يجحده أحد ممن يعوّل عليه من علماء الإسلام، بل هم بين عامل به، ومتأوّل له.
وقال النجري: ويدل على إمامتهما الحديث المشهور المتلقى بالقبول - يعني هذا الحديث -.
وقال القاضي أحمد بن يحيى حابس: وصحته إما لأنه متواتر على رأي أو متلقى بالقبول، ولأن العترة أجمعت على صحته.

(1/113)


وقال الإمام القاسم بن محمد عليه السلام: إنه مجمع على صحته، قال الشرفي: لأنه متلقى بالقبول من الناس جميعاً.
وقال الإمام عز الدين بن الحسن في المعراج: حكى الفقيه حميد إجماع العترة على صحته، قال: وقد ظهر بين الأمة، ولم يعلم من أحد إنكاره، انتهى.
وقال الفقيه عبدالله بن زيد العنسي في المحجة: إنه مما ظهر واشتهر بين الأمة، وتلقته بالقبول، ولم ينكره أحد من المخالفين.
وقال الإمام المهدي لدين الله محمد بن القاسم عليه السلام في الموعظة الحسنة (98): وهذا الخبر مما أجمعت عليه العترة وهو نص صريح في إمامتهما عليهما السلام، ورواه الإمام المتوكل على الله إسماعيل في كتاب العقيدة الصحيحة.
انظر لوامع الأنوار لمولانا الإمام الحجة مجد الدين بن محمد بن منصور المؤيدي أيده الله تعالى ج2-584-ط2.

(1/114)


() - قال في هامش نخ (ج): وذلك بأن تكون معصيته صغيرة فترفع بالشفاعة منْزلته، والحكم بخلود أهل الكبائر معلوم مقطوع من مذهب السيد (عَلَيْه السَّلام) فلا يصح حمل كلامه على خلافه والمعصية المتقدمة صادقة بالصغيرة والكبيرة وإن قدر أن في هذه العبارة ظاهراً فالصارف معلوم وهذا كلامه في المسألة الخامسة ينادي برد ذلك ويصرح بإبطال ما هنالك.
وكم من عائب قولاً صحيحاً .... وآفته من الفهم السقيم
فلا ينبغي أن يتعلق بمثله ذو قدم راسخ وفهم قويم لا سيما في جناب سادات العترة وأعلام الأسرة -عليهم السلام- كالمؤلف -رضوان الله عليه- ومؤلفه هذا لم تزل أئمة العترة تهتدي بنوره وتقتدي بشموسه وبدوره حتى نصوا أنهم يدينون الله بما فيه،
ونهج سبيلي واضح لمن اهتدى.... ولكنها الأهواء عمت فأعمت
فكأنه قال: وهذه المعصية الواحدة التي شنعتم بها يمكن أن تكون صغيرة فيكون..إلخ.
وهذا كلام واضح المنهاج لمن لم يرتطم في أمواج الغي واللجاج، وقد أشرت إلى الرد على بعض الأقوال المفتراة على أعلام الأئمة الهداة في التحف الفاطمية شرح الزلف الإمامية وفي الثواقب الصائبة لكواذب الناصبة، {وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ(8)} [البروج]،
وإن ينبحوا سادات آل محمد.... فهل قمر من نبحة الكلب واجم
ولهم بجدهم النبي ووالدهم الوصي أعظم أسوة وأكرم قدوة -صلى الله عليهم وآلهم وسلم- وما غرضنا إلا التنبيه لإخواننا المؤمنين لئلا يغتروا بزخارف المموهين. والله الموفق تمت من مولانا الإمام الحجة/ مجدالدين بن محمد بن منصور المؤيدي أيده الله تعالى.

(1/115)


التصريح بالمذهب الصحيح

مما ولي تأليفه السيد العالم العامل [نور الدين وعين الموحدين
محيي علوم آبائه الأكرمين]
حميدان بن يحيى بن حميدان بن القاسم بن الحسن القاسمي
قدس الله روحه ونور ضريحه بحق محمد وآل محمد

بسم الله الرحمن الرحيم، [وبه أستعين]
[ديباجة الكتاب والغرض من تأليفه]
أحمد الله تعالى حمد معترف بوحدانيته وجلاله وعدله، وحكمته سبحانه في جميع أفعاله وأقواله، مؤدٍ لما يجب من شكر سني مواهبه الهنية ونواله، وما لا نحصي[له] عدداً من جزيل إنعامه وإفضاله، وتركيبه فينا العقول المميزة بين صحيح القول ومحاله، وإحكامه لما صَرَّف في كتابه المبين من آياته وأمثاله، وهدايته لمعرفة معالم دينه الحنيف وإكماله، ولمَا افترض من الوقوف عند حدود حرامه وحلاله، وإيجابه للتمسك بعترة من خصه بختم إرساله، محمد صلى الله عليه وعلى الطيبين الطاهرين من آله.

(1/116)


وبعد، فإن الغرض بهذا المختصر وتأليفه، والأرب الذي دعا إلى جمعه وتصنيفه، هو التقرب إلى الله سبحانه بتصريح الحق وتعريفه، وكشف لُبَسِ من لَبَّسه بمغالط تأويلاته وتحريفه، ومشاركته بين الخالق والمخلوق في بعض وصفه وتكييفه، وتهجينه بأقوال الموحدين من الأئمة وتعنيفه، وتعظيمه لما زعم أنه من دقيق علم الكلام ولطيفه، الذي ادعت المعتزلة أنهم استنبطوه بثواقب العقول، وأوهموا أنهم ميزوا به بين [كل] معلوم ومجهول، فيما اعتمدوه من رفضهم لأئمة آل الرسول، صلى الله عليه وعليهم واعتقدوه من جواز تقديم الأبعد المفضول، وابتدعوه من الأقوال المزخرفة في الفروع والأصول، الخارجة بمن اغتر بها عن حد المسموع والمعقول، وفي سلوكهم لطريقة الفلاسفة في الجدال، ولبس أدلة الهدى بمغالط الضلال، وادعائهم للحق فيما اخترصوه من مذهبهم، والسبق إلى ما امتدحوا به من لقبهم، وتسميتهم لبدعهم باسم العدل والتوحيد، وتظهيرهم لذم الجهل والتقليد، ليصيدوا بذلك من اغتر به من أغمار الأمة، ويصدوهم به عن التمسك بعلوم الأئمة، الذين اصطفاهم الله تعالى لإرث الكتاب، وإيتاء الحكمة وفصل الخطاب، وجعلهم حفظة للعقول عن تجاوز الغايات، والإختيار لسبل مهاوي الغوايات، وملجئاً لكشف ما التبس من الشبهات، وتبيين ما اخْتُلِف فيه من تأويل الآيات المتشابهات، وما يوافقها من الأخبار المزخرفة، وتفرع عنها من القياسات المتكلفة، ولذلك أمر المؤمنين بالإعتماد في السؤال عليهم، والرد في كل شيء

(1/117)


اختلفوا فيه إليهم، وحتم بالمودة لهم حتماً لازماً، وحكم في الصلاة بالصلاة عليهم حكماً واجباً، وأخبر سبحانه بتطهيره لهم، ليشهر بذلك فضلهم، وبين في محكم كتابه المبين، أنه اختارهم على علم على العالمين؛ لعلمه سبحانه باهتدائهم إلى سواء الصراط، المتوسط بين التفريط والإفراط، ولما زادهم بعد اهتدائهم من الهدى، الذي جعلهم لأجله ممن بهم يهتدى ويقتدى.
ثم إن من أَنْكَرِ البدع، وأشهر الشنع، طموح العجب بأهوى المعتزلة، إلى الطمع في النزول بهذه المنزلة، تحكماً في الدين وغلواً، وتعظماً على المنتجبين وعلواً، وليسوا في ذلك بأعجب حكاية، ولا أعظم في الدين نكاية، من سائر رفضة الأئمة السابقين، والبغضة لكافة العترة المحقين، لولا ميل من خدعوه بزخارف الأقوال، من الجامعين بين التشيع والإعتزال، إلى الترجيح لأقوالهم، والتصحيح لمحالهم، والتعظيم لأخطارهم، والتفخيم لأنظارهم، والتفضيل لمذهبهم، والتبجيل لكتبهم؛ ليتوصلوا بذلك إلى اعتزال علوم الأئمة الهادين، والوصف لهم بقلة العلم بدقائق النظر في أصول الدين، واعتذروا لهم في التقصير عن بلوغ المراد، في نشر العلوم وهداية العباد، بأنهم قنعوا بالجمل واشتغلوا بالجهاد.
فلما سمعت بذلك عنهم، وسمعته شفاهاً من بعض من عرفت منهم، مع علمي ببعض ما يدحضه من الأدلة الباهرة، وينقضه من أقوال أئمة العترة الطاهرة، تعين علي حينئذ فرض التصريح، بما علمت من أدلة المذهب الصحيح.

(1/118)


فاجتهدت في ذلك بحسب الإمكان، لكي لا أكون ممن ذمه الله سبحانه بالكتمان، واعتمدت [بعد] التوكل على الله والتفويض إليه، والإعتماد فيما قصدت من ذلك عليه، على التبيين لمذهب الأئمة - عَلَيْهم السَّلام -، في أهمِّ ما خالفهم فيه أهل علم الكلام، وأهمُّ ما وقع بينهم فيه من الإختلاف:
مسائل الإمامة والذوات والأوصاف، مع ما هو في حكم المشتق منها، والمتفرع من المسائل عنها، وجملة الكلام في ذلك يقع في خمسة مواضع:
الأول منها: في ذكر جملة من مقدمات البلوى التي ينبني عليها الكلام في علوم الدين.
والثاني: في مسائل الإمامة لكونها من أول ما وقع فيه الإختلاف بين الأمة.
والثالث: في الصانع تعالى وما يستحق من الصفات لذاته أو لفعله.
والرابع: في العالم وصفات ذواته وذكر فنائه.
والخامس: في ذكر جملة من أصول مغالط المعتزلة، التي أوهموا أنها أدلة.
[ذكر جملة من مقدمات البلوى التي ينبني عليها الكلام في علوم الدين]
أما الموضع الأول
فهو ينقسم على سبعة فصول:
الأول: في ذكر عموم البلوى، وبيان وجه الحكمة فيها.
والثاني: في البلوى باختلاف طرق العلم وذكر بعض أمثلتها، وما يجب ترتيبه منها.
والثالث: في البلوى بمقارنة هوى النفوس للعقول.

(1/119)


والرابع: في البلوى باشتمال القرآن على المحكم والمتشابه.
والخامس: في البلوى بجواز استعمال المجاز مع الحقيقة في كثير من الأسماء والعبارات.
والسادس: في البلوى بالتخلية والتمكين، لأعداء الحق والمحقين.والسابع: في البلوى بإيجاب الولاء والبراء في الدين.
[ذكر عموم البلوى وبيان وجه الحكمة فيها وبعض الأمثلة]
أما الفصل الأول
فكل عاقل على الجملة مبتلى بضروب من البلوى، ولذلك سمي متعبداً ومكلفاً، وذلك ظاهر في كتاب الله سبحانه بما يكثر عن الإحصار، من ذلك قول الله سبحانه: {إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ} [الإنسان:2]، وقال تعالى: {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} [الملك:2]، وقال: {وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً} [الأنبياء:35].
وقال تعالى في بلوى المفاضلة: {وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا ءَاتَاكُمْ} [الأنعام:165]، وقال: {وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهَؤُلَاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا} [الأنعام:53]، وهذا موضع الفائدة من هذا الفصل، وهو التنبيه على معرفة عظم هذه البلية التي لأجلها هلك أكثر الأولين والآخرين.

(1/120)


وأما بيان وجه الحكمة في الإبتلاء؛ فهو ما أخبر الله سبحانه به من التمييز بين المطيعين والعاصين بما يظهر عند البلوى من أسرارهم؛ لأنه سبحانه لحكمته لا يعذب على ما يعلم من معاصي العباد قبل ظهورها، وظهورها لا يكون إلا بالإمتحان كما قال سبحانه: {الم(1) أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا ءَامَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ(2) وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ(3)} [العنكبوت]، وقال: {مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ} [آل عمران:179].
ومن أمثلة ذلك: ما حكى سبحانه من امتحانه للملائكة بإيجاب السجود من أجل آدم؛ فسجدوا إلا إبليس.
وامتحانه لأصحاب طالوت بتحريم الشرب من النهر [فشربوا إلا قليلاً منهم]، وامتحانه لأصحاب القرية بتحريم صيد يوم السبت.
وامتحانه لقوم موسى بمغيبه عنهم، واستخلافه لهارون فيهم، وأشباه ذلك مما يدل على أنه سبحانه يمتحن أهل كل عصر إلى يوم القيامة بما يميز بينهم، ويوجب له الحجة عليهم، ليهلك من هلك عن بينة ويحيى من حي عن بينة.

(1/121)


ولذلك قرن سبحانه وجوب طاعته على المؤمنين بطاعة رسوله -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم-، وطاعة أولي الأمر من القائمين مقام رسوله - صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم -، وأمر بالرد إليهم، وأمر نبيه أن يُعَرِّف الأمة بهم.
[نبذ من كلام أمير المؤمنين (ع) في الحكمة من بعثة الرسل والابتلاء]
ومما يؤيد هذه الجملة من كلام أمير المؤمنين - عَلَيْه السَّلام – [المحكي عنه في كتاب نهج البلاغة]: قوله: (فبعث الله فيهم رسله، وواتر إليهم أنبياءه، ليستأدوهم ميثاق فطرته، ويذكروهم منشأ نعمته، ويحتجوا عليهم بالتبليغ، ويثيروا لهم دفائن العقول، ويُرُوهم آيات القدرة من سقف فوقهم مرفوع، ومهاد تحتهم موضوع، ومعائش تحييهم، وآجال تفنيهم، وأوصاب تهرمهم، وأحداث تتابع عليهم).
وقوله - عَلَيْه السَّلام -: (ولم يُخْلِ الله سبحانه خلقه من نبي مرسل، وكتاب منزل، وحجة لازمة، أو محجة قائمة).
وقوله في البلوى: (ولكن الله سبحانه يبتلي خلقه ببعض ما يجهلون أصله تمييزاً بالاختبار لهم، ونفياً للإستكبار عنهم).
وقوله - عَلَيْه السَّلام - في إبليس ومن اقتدى بفعله: (فعدو الله إمام المتعصبين، وسلف المستكبرين، الذي وضع أساس العصبية، ونازع الله رداء الجبروتية، وادَّرَعَ لباس التعزز، وخلع قناع التذلل).

(1/122)


..إلى قوله: (فمن [ذا] بعد إبليس يسلم على الله بمثل معصيته؟؛ كلاَّ؛ ما كان الله ليدخل الجنة بشراً بأمر أخرج به منها ملكاً، إنَّ حُكْمَهُ في أهل السماء وأهل الأرض لواحد، وما بين الله وبين أحد من خلقه هوادة في إباحة حمىً حرمه على العالمين).
[ذكر وجه الحكمة في البلوى باختلاف طرق العلم وذكر بعض أمثلتها وما يجب ترتيبه منها]
وأما الفصل الثاني
وهو في البلوى باختلاف طرق العلم، وذكر بعض أمثلتها وما يجب ترتيبه منها
فوجه الحكمة فيها التمييز بين من يقف بعقله على حده وفرضه، و[بين] من يتعدَّ الحدود بوهمه، ويتعاطى معرفة ما لا علم له به، وذلك لأن من المعلومات ما لا طريق لكل المكلفين أو لبعضهم إلى معرفته على الجملة، أو على الجملة والتفصيل لكونها من الغيوب التي استأثر الله بعلمها أو خص بعلمها بعض عباده.
وشاهد ذلك قوله سبحانه: {وَيَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ(8)} [النحل]، وقوله تعالى: {وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا(85)} [الإسراء]، وقوله: {وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ(76)} [يوسف]، وقوله: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشَاءُ} [آل عمران:179]، وقوله: {وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ} [البقرة:255]، وقوله: {وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} [الإسراء:36].

(1/123)


ومن المعلومات ما فطر الله العقول على معرفته ضرورة، وهو على الجملة كلما يُعَدُّ من خالف فيه مكابراً لعقله.
ومن أمثلة ما يتعلق بذكره الغرض:
منها: العلم بأنه يستحيل إثبات متوسط بين النفي والإثبات، نحو شيء ولا شيء؛ فإنه لا يجوز أن يتوسط بينهما إلا ما يعلم ضرورة أنه محال نحو أن يوصف أمر بالنفي والإثبات معاً فيقال: شيء ولا شيء، أو يوصف بنفيهما معاً فيقال: لا شيء ولا لا شيء.
وكذلك الجمع بين صفتي القدم والحدوث نحو أن يوصف أمر بأنه محدث وأزلي، أو محدث ولا نهاية لجنس ذاته، أو محدث ولا أول لذاته.
وكذلك الجمع بين صفتي الوجود والعدم، نحو أن يوصف أمر بأنه ثابت معدوم، وأشباه ذلك مما يكثر عن الإحصاء.
ومن المعلومات ما طريق معرفته درك الحواس الخمس، وأمثلتها ظاهرة في الأجسام والأعراض.
ومنها: ما طريق معرفته درك النفوس نحو: الفرح والغم والتوهم، وأشباه ذلك مما قد ذكره الأئمة - عَلَيْهم السَّلام -.
ومنها: ما طريق معرفته النظر العقلي، والقياس الاستدلالي، نحو الإستدلال بالصنع على أنَّ له صانعاً، والإستدلال على مخالفة كل نقيض [لنقيضه] بكونه نقيضاً له، ولذلك وجب وصف الله سبحانه بأنه شيء لا كالأشياء، وأنه ليس كمثله شيء.

(1/124)


وكذلك الاستدلال بمعلوم النشأة الأولى على جواز ما سيكون من النشأة الآخرة، ومما نبه الله [به]على ذلك قوله سبحانه: {وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولَى فَلَوْلَا تَذَكَّرُونَ(62)} [الواقعة]، وقوله: {قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ(79)} [يس].
ومن المعلومات ما طريق معرفته خبر من يجب قبول خبره إما لحكمته وإما لعصمته، وإما لوجوب طاعته، وهذه الجملة تشتمل على الكتاب، والسنة، وإجماع الأمة، أو العترة، وأقوال أئمة الأعصار وهم أولوا الأمر الذين أوجب الله طاعتهم مع طاعته وطاعة رسوله، وأمر بسؤالهم والرد إليهم، وهو سبحانه لا يأمر بسؤال من لا يجب قبول أخباره فيما سئل عنه.
وأما ما يجب ترتيبه من ذلك: فأدلة العقل مقدمة على أدلة السمع؛ بمعنى أنه لا يجوز القنوع بالتقليد فيما يجب معرفته بالعقل، وأنه لا يحتج بالفرع على من ينكر أصله.
ثم الضروري من المعلومات مقدم على الإستدلالي؛ بمعنى أنه كافٍ في الإستدلال، وأنه لا يجوز أن يتوصل بالنظر والإستدلال إلى مخالفته.
والكتاب مقدم على السنة؛ بمعنى أنه لا يجوز مخالفة محكم الكتاب بما ينسب إلى السنة؛ لأنه يجب عرض ما اختلف فيه من السنة على محكم الكتاب.
والسنة مقدمة على الإجماع؛ بمعنى أنه لا يصح دعوى الإجماع على ما يخالف محكم السنة.
والإجماع مقدم على أقوال أولي الأمر؛ بمعنى أنه لا يجوز أن ينسب إلى الأئمة الهادين ما يخالف الإجماع.

(1/125)


ثم أقوال الأئمة مقدمة على ما عداها؛ بمعنى أنه لا يجوز معارضة الأئمة بأقوال مخالفيهم.
ومما ينبه على النظر في معاني هذا الفصل من كلام النبي صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم:
قوله: ((من أخذ دينه عن التفكر في آلاء الله، والتدبر لكتابه، والتفهم لسنتي؛ زالت الرواسي ولم يزُل)).
وقوله: ((تفكروا في المخلوق، ولا تفكروا في الخالق)).
وقوله: ((أنا مدينة العلم وعلي بابها)) ونحو ذلك مما ينبه على معرفة طرق العلم والأخذ له من أهله.
ومن كلام أمير المؤمنين - عَلَيْه السَّلام - في بعض خطبه[المذكورة في كتاب] نهج البلاغة قوله: (وما كلفك الشيطان علمه مما ليس عليك في القرآن فرضه، ولا في سنة النبي - صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم - وأئمة الهدى أثره؛ فكل علمه إلى الله، فذلك منتهى حق الله عليك).
[ذكر وجه الحكمة في البلوى بمقارنة هوى النفوس للعقول]
وأما الفصل الثالث
وهو في البلوى بمقارنة هوى النفوس([61]) للعقول
فوجه الحكمة في ذلك ما تقدم ذكره من التمييز؛ لأن الله سبحانه لو أخلى العقول المركبة في البشر عن هوى النفوس لم يظهر الفرق بين من يُحَكِّمُ عقله على هوى نفسه، وبين من يؤثر هوى نفسه على عقله، ولا الفرق بين الملائكة - عَلَيْهم السَّلام - وغيرهم.

(1/126)


ولو أخلى [الله] هوى نفوس المكلفين من البشر عن العقول لأشبهوا البهائم، ولأجل عظم البلوى بهوى النفس ضَرَبَ لها المثل بالعدو الذي إن غفلت عنه لم يغفل عنك، ولذلك وصفها الله سبحانه بأنها أمارة بالسوء ومسولة للقبيح.
وضَرَبَ المثل للعقل بالحكيم الذي إن طلبته وجدته، وإن غفلت عنه لم يطلبك، ولذلك قال الله سبحانه: {لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا} [الأعراف:179]، وقال: {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْءَانَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا(24)} [محمد].
واتباع هوى النفس هو سبب كل معصية لله ولرسوله، وسبب الإعتراض بالشبه على الأدلة، وبالمتشابه على المحكم، وبأئمة الضلال وعلماء السوء على أئمة الهدى، وهو سبب استحقاق كل عقوبة كانت في الدنيا، وما سيكون في الآخرة.
ولأجل عظم البلوى بهوى النفوس سمى النبي - صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم - جهادها الجهاد الأكبر، ومما ينبه على ذلك من كتاب الله سبحانه قولُه: {أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ(87)} [البقرة]، وقوله: {إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى(23)} [النجم]، وقوله: {وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى(40) فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى(41)} [النازعات].

(1/127)


ومن الأخبار المروية عن النبي - صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم- [قوله]: ((إنما يؤتى الناس يوم القيامة من إحدى ثلاث: إما من شبهة في الدين ارتكبوها، أو شهوة للذة آثروها، أو عصبية لحمية أعملوها)).
وقوله: ((إني أخاف على أمتي أعمالاً ثلاثة: زلة عالم، وحكم جائر، وهوى متبعاً)).
ومن كلام أمير المؤمنين - عَلَيْه السَّلام - المحكي عنه في كتاب نهج البلاغة قوله: (إنما بدءُ وقوع الفتن: أهواء تتبع، وأحكام تبتدع، يخالف فيها كتاب الله، ويتولى عليها رجال رجالاً على غير دين الله؛ فلو أن الباطل خلص من مزاج الحق، لم يَخْفَ على المرتادين، ولو أن الحق خلص من لبس الباطل انقطعت عنه ألسن المعاندين، ولكن يؤخذ من هذا ضِغْثٌ ومن هذا ضِغْث فيمتزجان فهنالك يستولي الشيطان على أوليائه، وينجوا من سبقت لهم من الله الحسنى).

(1/128)


[ذكر وجه الحكمة في البلوى باشتمال القرآن على المحكم والمتشابه]
وأما الفصل الرابع
وهو في البلوى باشتمال القرآن على المحكم والمتشابهفلأن الله سبحانه لو جعله ضرباً واحداً جلياً علمه، مستمراً حكمه، لم يظهر به الفرق بين المؤمن بلسانه وقلبه، والمؤمن بلسانه دون قلبه، ولو لم يظهر لم يتميز بعد النبي - صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم - عدو أئمة الهدى من وليهم، وإنما جعله الله سبحانه مشتملاً على المحكم والمتشابه، والمجمل والمبين، والناسخ والمنسوخ، وأشباه ذلك مما لأجل البلوى به ظهر سر كل مؤمن بلسانه متبع لهوى نفسه، وأمكنه لأجله أن يعارض محكم الكتاب والسنة بزخرف التأويلات، ومبدع الروايات المستحيلات؛ فلذلك تبين رفضه الأئمة الهادين، وظهر الفرق بينه وبين المخلصين للدين، وعظمت به البلوى على المسترشدين والمقلدين.
ومما يشهد بصحة ذلك من كتاب الله سبحانه قوله: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ ءَايَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ ءَامَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ(7)} [آل عمران].

(1/129)


ومن كلام أمير المؤمنين - عَلَيْه السَّلام - قوله المحكي في النهج: (واعلم أن الراسخين في العلم هم الذين أغناهم عن اقتحام السدد المضروبة دون الغيوب، الإقرارُ بجملة ما جهلوا تفسيره من الغيب المحجوب؛ فمدح الله اعترافهم بالعجز عن تأويل ما لم يحيطوا به علماً، وسمى تركهم للتعمق فيما لم يكلفوا البحث عن كنهه رسوخاً).
وقوله: (إن في أيدي الناس حقاً وباطلاً، وصدقاً وكذباً، وناسخاً ومنسوخاً، وعاماً وخاصاً، ومحكماً ومتشابهاً، وحفظاً ووهماً، وقد كذب على رسول الله -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم- على عهده حتى قام خطيباً؛ فقال: ((من كذب علي متعمداً فليتبوأ مقعده من النار))).
وقوله: (فإنه لا سواء إمام الهدى وإمام الردى، وقد قال النبي - صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم -: ((إني لا أخاف على أمتي مؤمناً ولا مشركاً؛ أما المؤمن فيمنعه الله بإيمانه، وأما المشرك فيمنعه الله بشركه، ولكني أخاف عليهم منافق الجنان، عالم اللسان يقول ما يعرفون، ويفعل ما ينكرون))).
وقوله: (دعه يا عمار فإنه لم يأخذ من الدين إلا ما قاربته الدنيا، وعلى عمد لبس على نفسه ليجعل الشبهات عاذراً لسقطاته).

(1/130)


[ذكر البلوى بجواز استعمال المجاز مع الحقيقة في كثير من الأسماء ووجه الحكمة في ذلك]
وأما الفصل الخامس
وهو في البلوى بجواز استعمال المجاز مع الحقيقة في كثير من الأسماء والعبارات:فذلك ظاهر في إباحة الله سبحانه لعباده أن يتسموا مجازاً بما هو من أسمائه حقيقة نحو الملك والقادر.
وإضافته إلى نفسه مجازاً ما هو من صفاتهم حقيقة نحو العين واليد، وذلك هو الذي يجب أن يحمل عليه كل اسم تسمى به الله وغيره من الأسماء المشتركة في اللفظ دون المعنى، ولا يجوز أن يجعل من قبيل أسماء الأجناس، التي يتوصل بها إلى القياس؛ لكون أسماء الأجناس من خصائص المحدثات التي يتعالى الله سبحانه عنها لقوله: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى:11]، وإذا لم يكن له مثل فليس له جنس، [وإذا لم يكن له جنس] فالمشاركة بينه وبين غيره فيما يتوصل به إلى القياس له على غيره تكون إلحاداً في أسمائه، وعدولاً عن طريق معرفته، وتحريفاً للكلم عن مواضعه، وتلبيساً على من لا يميز بين ما يكون من الأسماء مشتركاً بين أشياء مختلفة نحو العين والوجه، وما يكون من الأشياء مسمى بأسماء مترادفة نحو وجود الشيء وثبوته، وكونه وكنهه، وذاته وعينه، أو قدمه وأزله، أو حدثه وتجدده، إذا أريد بالتجدد كونه بعد أن لم يكن.
وما يدل من الأسماء على نفي المسمى نحو العدم والمعدوم، [وما يدل على إثبات مسمى غير مُكَيَّف ولا معين نحو الشيء والموجود]، وما يدل على إثبات مسمى مكيف مجانس نحو الجسم والحيوان.

(1/131)


وما يدل على إثبات صفة زائدة على ذات الموصوف نحو القادر من المخلوقين لكونه قادراً بقدرة بخلاف الباري سبحانه لكونه قادراً لا بقدرة، وأشباه ذلك من تصاريف الكلام، واختلاف معاني الأسماء والعبارات التي لأجل البلوى باختلافها ظهر الفرق والتمييز بين الأئمة الموحدين، و[بين]من خالفهم في علوم الدين على ما سيأتي من شواهد ذلك، وبيان ما يحتاج إلى بيانه فيما بعد إن شاء الله سبحانه.
[ذكر وجه الحكمة في البلوى بالتخلية والتمكين لأعداء الحق والمحقين]
وأما الفصل السادس
وهو في البلوى بالتخلية والتمكين لأعداء الحق والمحقين:
فوجه الحكمة في ذلك: إظهار ما علم الله سبحانه من صبر الأنبياء والأئمة وأتباعهم على كريه ما ابتلاهم به من المحن في دنياهم، وإظهار ما علم سبحانه من حسد أعدائهم لهم، وقلة صبرهم على ما ابتلاهم به من إيجاب طاعتهم، وميلهم إلى متابعة أهوائهم، لما في الميل إلى الدنيا من حصول شهوات أنفسهم، التي لأجل الحب لها تظاهر أئمة الضلال وعلماء السوء وأتباعهم، على عداوة أئمة الهدى والصد عنهم، وعلى المعارضة لأدلة العقول بشبه أوهام النفوس، ولمحكم الكتاب والسنة بمتشابه الآيات وزخارف الروايات، ولما يجب من توقير الأئمة الهادين، بتعظيم الرؤساء المضلين.

(1/132)


ومما يشهد بصحة هذه الجملة من كتاب الله سبحانه: قوله في [ذكر] البلوى، بالتخلية والإملاء: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ (112) } [الأنعام]، وقوله: {فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهَذَا الْحَدِيثِ سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ(44) وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ(45)} [القلم].
وقوله في ذم الأكثر من الناس عموماً ومن العلماء والعباد خصوصاً: {وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ(103)} [يوسف]، وقوله: {وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ(116)} [الأنعام]، وقوله: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا إِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ...الآية} [التوبة:34].
ومن كلام أمير المؤمنين - عَلَيْه السَّلام - في ذم الأكثر من أهل عصره، والوعظ لمن يغتر بالكثرة [قوله (عَلَيْه السَّلام)]: (واعلموا رحمكم الله أنكم في زمان القائل فيه بالحق قليل، واللسان عن الصدق كليل، واللازم للحق ذليل).

(1/133)


وقوله: (ولقد أصبحنا في زمان إتخد أكثر أهله الغدر كيّساً، ونسبهم أهل الجهل فيه إلى حسن الحيلة، ما لهم قاتلهم الله قد يرى الحُوَّلُ القُلَّبُ وجه الحيلة، ودونها مانع من الله ونهيه، فيدعها رأي عين بعد القدرة عليها، وينتهز فرصتها من لا حريجة له في الدين).
وقوله في ذكر قلة أنصاره على أهل السقيفة: (فنظرت فإذا ليس لي ناصر [ولا ذاب ولا مساعد] إلا أهل بيتي فظننت بهم عن الموت، وأغضيت على القذى، وشربت على الشجا، وصبرت على أخذ الكظم، وعلى أمر من طعم العلقم).
وقوله: ([يا] أيها الناس لا تستوحشوا في طريق الهدى لقلة أهله).
وقوله للحارث بن خوط لما قال له: أترى يا أمير المؤمنين أن أهل الشام مع كثرتهم على الباطل، وأن أهل العراق مع قلتهم على الحق: (يا حار، إنه لملبوس عليك، إن الحق لا يعرف بالرجال، وإنما الرجال يعرفون بالحق؛ فاعرف الحق تعرف أهله قلوا أم كثروا، واعرف الباطل تعرف أهله قلوا أم كثروا).
وقوله له أيضاً لما قال له: أتراني أظن أصحاب الجمل كانوا على ضلالة؟ (يا حار، إنك نظرت تحتك، ولم تنظر فوقك فحرت إنك لم تعرف الحق فتعرف من أتاه، ولم تعرف الباطل فتعرف من أتاه) فقال: إني أعتزل مع سعد بن مالك وعبدالله بن عمر، فقال - عَلَيْه السَّلام -: (إن سعداً وعبدالله بن عمر لم ينصرا الحق ولم يخذلا الباطل).

(1/134)


وأما الفصل السابع
وهو في البلوى بإيجاب الولاء والبراء في الدين:
فالولاء ينقسم إلى عام: نحو ما ذكره الله سبحانه من موالاة المؤمنين والمؤمنات بعضهم لبعض، وإلى خاص: وهو ما أوجب الله سبحانه على المؤمنين من طاعة أولي الأمر منهم ومودتهم، وتوقيرهم وسؤالهم، والرد إليهم، والاقتفاء لآثارهم في الدين قولاً وعملاً واعتقاداً.
والبراء ينقسم إلى المبارأة لكل عاص لله تعالى بالقلب واللسان مع جواز البر له والإقساط إليه -إذا كان مسالماً- بكل ممكن، وإلى المباراة لمن حارب أئمة الهدى وظاهَر على حربهم والمعاداة لهم.
وأما كون التعبد بالولاء والبراء من جملة البلوى؛ فلما فيه من وجوب إكراه النفس على البغضة والمهاجرة لمن ولعت نفسه بمحبته، وأنست بصحبته، من الآباء والأبناء، والسادات والأخلاء، إذا كانوا محادين لله ولأوليائه، وإكراهها على ما تكره من الموادة والموالاة لمن عاداهم.
وأما وجوب الولاء والبراء: فهو ظاهر بما في كتاب الله سبحانه من الأمر بموالاة أوليائه، والوعد على ذلك بالثواب، والنهي عن موادة أعدائه، والوعيد على ذلك بالعقاب.
وبما في أقوال النبي - صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم - وأفعاله، واشتراطه للولاء والبراء على من تابعه.
ولا خلاف في وجوبهما على الجملة؛ لأن أهل كل مذهب يوجبونهما على أتباعهم، ويدعون أنهم [هم] الفرقة الناجية.

(1/135)


وإنما الخلاف في معرفة الفرق بين ولي الله وعدوه، ومعرفة الفرق بينهما فرع على معرفة الفرق بين الحق والباطل بصفاتهما وأدلتهما التي من عرفها لم يوال من تجب مباراته، ولم يبار من تجب موالاته.
ومعرفة الفرق بين الحق والباطل فرع على معرفة الفرق بين أدلة العقل وما يعارضها من الشبه المتوهمة، وبين محكم الكتاب والسنة، وما يعارضهما من المتشابه، ومن الآراء المبتدعة.
وبمعرفة هذا الأصل وهذه الجملة من مقدمات البلوى يُعْرَفُ الفرق بين الحق والباطل، وبين أهلهما، وبمعرفة ذلك كله يستعان على معرفة البلوى بما أوجب الله تعالى على الأمة من طاعة من جعله [الله] ولياً لهم بعد رسول الله - صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم - وأميراً لهم في حياته وبعد موته، وعرفهم به، وبما يجب من موالاته ومعاداة من نازعه؛ إذ لا واسطة بين إمام الهدى وإمام الضلال، ولا يجوز اعتقاد صحة إمامة كليهما مع التنازع، ولا يجوز رفض كليهما لما في ذلك من تجويز خروج الحق من أيدي جميع الأمة.
ومن كلام أمير المؤمنين - عَلَيْه السَّلام - فيما ينبه على ذلك تعريضه لمن قدم غيره عليه بقوله: (خلفتم الحق وراء ظهوركم، وقطعتم الأدنى ووصلتم الأبعد، واعلموا أنكم إن اتبعتم الداعي لكم سلك بكم منهاج الرسول، وكفيتم مؤنة الإعتساف).
وقوله: (ألا فالحذر الحذر من طاعة ساداتكم وكبرائكم الذين تكبروا عن حسبهم، وترفعوا فوق نسبهم).

(1/136)


وتعريضه لمن لم يُحَكِّم القرآن على رأيه بقوله: (فإنه ينادي مناد يوم القيامة: ألا إن كل حارث مبتلى في حرثه وعاقبة عمله غيرَ حرثة القرآن؛ فكونوا من حرثته وأتباعه، واستدلوا به على ربكم، واستنصحوه على أنفسكم، واتهموا عليه آراءكم، واغشوا فيه أهواءكم، العمل العمل، ثم النهاية النهاية، والإستقامة الإستقامة، ثم الصبر الصبر، والورع الورع، إن لكم نهاية فانتهوا إلى نهايتكم، وإن لكم علماً فاهتدوا بعلمكم).
وقوله في قصة التحكيم: (ولما دعانا القوم إلى أن يَحْكُمَ بيننا القرآن لم نكن الفريق المتولي عن كتاب الله، [فنحن أحق الناس به]، وقال الله سبحانه: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} [النساء:59]، فرده إلى الله أن نحكم بكتابه، ورده إلى الرسول أن نأخذ بسنته؛ فإذا حكم بالصدق في كتاب الله فنحن أحق الناس به، وإن حكم بسنة رسول الله - صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم - فنحن أولاهم بها).
وتعريضه لمن لم ينكر على من تقدم عليه بقوله: (أيها الناس إنما يجمع الناس الرضى والسخط، وإنما عقر ناقة ثمود رجل واحد فعمهم الله بالعذاب لما عموه بالرضى).
وقوله: (وإنما الناس رجلان: متبع شِرْعة، ومتبع بدعة ليس معه من الله سبحانه برهان سنة، ولا ضياء حجة).
تم الكلام في الموضع الأول.
[الكلام في مسائل الإمامة]
وأما([125]) الموضع الثاني
وهو في الكلام في مسائل الإمامة
فهو ينقسم على عشرة فصول:

(1/137)


الأول: في حكاية جملة [من] مذهب العترة في ذلك، ومذهب المعتزلة.
والثاني: في ذكر جملة مما يدل على صحة مذهب العترة وبطلان ما عداه.
والثالث: في صفة الإمام الذي تجب طاعته.
والرابع: في ذكر حكم من يخالف الأئمة في علوم الدين التي يجب العلم بها.
والخامس: في ذكر حكم من يخالف بين أئمة العترة وينسبهم إلى التفرق في الدين.
والسادس: في ذكر جملة مما يجب أن يحمل عليه ما اختلف من الأقوال المنسوبة إلى الأئمة - عَلَيْهم السَّلام -.
والسابع: في ذكر جملة من معارضات المعتزلة لأدلة الأئمة في مسائل الإمامة.
والثامن: في ذكر جملة مما يعتذر به من جمع بين التشيع والإعتزال.
والتاسع: في ذكر فروق تميز بين الأئمة والعامة.
والعاشر: في ذكر جملة مما يكشف عن أسرار المتشيعين.
[حكاية جملة من مذهب العترة في الإمامة ومذهب المعتزلة]
أما الفصل الأول
فمذهب العترة ومن شايعهم: هو القول بأن الله سبحانه قد أوجب في محكم كتابه، وعلى لسان نبيه - صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم - أن تكون الإمامة بعد وفاة النبي -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم- لعلي ثم للحسن ثم للحسين - عَلَيْهم السَّلام - على التعيين.

(1/138)


ثم من بعدهم على الجملة لمن بلغ درجة السبق، وجمع خصال الفضل من ولد الحسن والحسين خاصة، وأنهم هم آل النبي وعترته وذريته الذين أوجب الله مودتهم واصطفاهم لإرث كتابه وسماهم أهل الذكر وأولي الأمر، وأمر بسؤالهم، وأوجب طاعتهم مع طاعته وطاعة رسوله، وأمر بالرد إليهم، وجعل طريق النجاة في طاعتهم والتمسك بهم، وطريق الهلاك في مخالفتهم.
ومذهب المعتزلة: هو القول بأن النص بدعة، وأن أولي الأمر وأهل الذكر ليس المراد بهم أهل البيت خاصة، وأن الله سبحانه لم يجعل الإمامة بعد النبي -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم- في واحد بعينه، ولا في منصب من قريش مخصوص، بل جعل الأمر في ذلك شورى بين الأمة يعقدون ويختارون للإمامة من اتفق رايهم على تقديمه، واحتجوا بقول الله سبحانه: {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ} [الشورى:38].
وحكى الحاكم -رحمه الله تعالى- في السفينة: أن شاعرهم قال في ذلك:
ما نصّ في الأمرِ على الأئمهْ.... لكنّه حكَّم فيه الأمّهْ
والإمام عندهم بعد النبي - صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم - أبو بكر ثم عمر ثم عثمان ثم علي - عَلَيْه السَّلام -.

(1/139)


[ذكر ما يدل على صحة مذهب العترة في الإمامة وبطلان ما عداه]
وأما الفصل الثاني
وهو في ذكر ما يدل على صحة مذهب العترة وبطلان ما عداه:فيدل على ذلك: نصوص الكتاب وموافقها من الأخبار، وأدلة العقل المستنبطة من أدلة الكتاب والسنة، وإجماع الأمة مع العترة على جواز الإمامة فيهم، وإجماع الصحابة مع العترة على أن الأفضل أولى بالإمامة، وإجماع المعتزلة مع العترة على القول بإمامة علي - عَلَيْه السَّلام -.
[الأدلة من الكتاب على صحة مذهب العترة في الإمامة]
أما نصوص الكتاب:
فمنها: قول الله سبحانه: {اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ} [الأنعام:124]، وقوله: {وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ...الآية} [القصص:68]، وقوله: {وَلَقَدِ اخْتَرْنَاهُمْ عَلَى عِلْمٍ عَلَى الْعَالَمِينَ(32)} [الدخان]، ونحو ذلك من الآيات المتضمنة للنص الصريح على أن الله سبحانه هو الذي يختار ويصطفي ويجتبي لتبليغ رسالاته، وإرث كتبه، وتمليك الأمر والنهي في بريته، من يشاء من عباده، وأنه لا خيرة في ذلك لغيره، وكل من اختاره الله سبحانه فقد نص عليه وبينه في كتابه وعلى لسان نبيه -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم- إما معيناً باسمه وصفته، وإما مجملاً بصفته دون اسمه.

(1/140)


وقوله سبحانه: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ(54) إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ ءَامَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ(55) وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ ءَامَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ(56)} [المائدة].
ودلالة هذه الآيات فيما تضمنته من نص الله سبحانه على ولي المؤمنين، الذي قرن ولايته لهم بولايته وولاية رسوله، ليدل بذلك على وجوب طاعته، وإخباره سبحانه في الآية الأولى بأنه يأتي به وإتيانه به، هو نصه عليه بالصفات التي لم توجد في أحد من الصحابة -على أبلغ الوجوه- إلا في أمير المؤمنين - عَلَيْه السَّلام -، وهي المحبة لله ولرسوله.
ودليل صحة المحبة: استمرار الطاعة والنصيحة، والجهاد في سبيل الله حق الجهاد، والرأفة بالمؤمنين، والغلظة على الكافرين، وترك خوف اللائمين، والتصدق في حال الركوع.

(1/141)


وأورد سبحانه هذه الصفات بلفظ الجمع امتحاناً مع كون ذلك جائزاً في لغة العرب للتعظيم، [و]مع التخصيص بالقرينة التي لم توجد ولا تعلم إلا لأمير المؤمنين –عَلَيْه السَّلام- وهو التصدق في حال الركوع، ولأن ذلك لو كان عاماً لالتبس ولم يفهم، والله سبحانه لحكمته وعدله لا يخاطب بما لا يفهم ولا يعلم في موضع الأمر والإيجاب، ولأن العرف جار في كل عصر بأن ولي أمر المؤمنين لا يكون إلا واحداً معيناً معلوماً، ولأن النبي - صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم - قد بين ذلك بما سيأتي ذكره إن شاء الله سبحانه من الأخبار الموافقة له.
وقوله سبحانه: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ(119)} [التوبة]، ودلالة هذه الآية فيما تضمنته من الأمر للمؤمنين بالكون مع الصادقين، والأمر يقتضي الوجوب، والله سبحانه لحكمته لا يأمر بالكون مع من لا يعلم صدقه قطعاً.
ولا يعلم صدقه قطعاً إلا من شهد الله له به، وممن شهد الله له بالصدق علي - عَلَيْه السَّلام - في قوله تعالى: {رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ} يعني حمزة بن عبد المطلب وجعفر بن أبي طالب وعبيدة بن الحارث - رضي الله عنهم - {وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ} [الأحزاب:23]، يعني علياً - عَلَيْه السَّلام - لأنه بقي منتظراً للشهادة إلى سنة أربعين من الهجرة.

(1/142)


والطريق إلى معرفة صحة ذلك إجماع العترة -عَلَيْهم السَّلام-، وهو حجة على ما سيأتي من بيان ذلك إن شاء الله سبحانه.
وقوله سبحانه: {قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى} [الشورى:23]، وفائدة هذه الآية فيما تضمنته من إيجاب المودة لذوي قربى الرسول - صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم - في مقابلة بعض ما يستحقه من الأجر على ما تحمل من المشاق في القيام بهدايتهم وإصلاح أمورهم، وهو سبحانه لحكمته لا يوجب المودة على القطع إلا لمن تجب له؛ لأنه سبحانه قد ذم الموادة لمن يحاده.
وصدق المودة لا تعلم إلا بالطاعة والإتباع، لا بالرفض والإعتزال، وقد بين سبحانه ذلك بقوله: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ...الآية} [آل عمران:31].
وقال النبي - صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم -: ((المرء مع من أحب)).
وقوله سبحانه في آية المباهلة: {[فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ] فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ...الآية} [آل عمران:61]، ودلالتها ظاهرة بنص الكتاب الجلي، وبفعل النبي - صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم - على أعيان من شهد المباهلة على كون علي والحسن والحسين وفاطمة - عَلَيْهم السَّلام - ذوي قربى النبي -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم- خاصة، وآله وأهل بيته، وأن ذريتهم ذريته إلى يوم القيامة.

(1/143)


[آية الاصطفاء ودلالتها]
وقوله سبحانه: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ...الآية} [فاطر:32]، ودلالتها فيما تضمنته من النص على اصطفاء بعض من العباد لإرث الكتاب، وعلى أن من أولئك الورثة من هو سابق بالخيرات بإذنه، والسابق بالخيرات لا يكون إلا الإمام، والإمام لا يجوز أن يكون مجهولاً؛ فلذلك تبطل تأويلات من خالف العترة في دعوى وراثتهم للكتاب. ومما يؤيد ذلك قول الله سبحانه: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا وَإِبْرَاهِيمَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ فَمِنْهُمْ مُهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ(26)} [الحديد]، ومحمد - صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم - هو خاتم الأنبياء من ذريتهما فيجب أن تكون ذريته [هم] خاتمة الذراري الذين أخبر الله سبحانه أن يجعل الكتاب فيهم.

(1/144)


وقوله سبحانه: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ(43)} [النحل]، ودلالتها فيما تضمنته من وجوب السؤال لأهل الذكر، والذكر الذي أمر الله بسؤال أهله هو النبي - صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم - بدليل قوله سبحانه: {قَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْرًا(10) رَسُولًا} [الطلاق].
وقد سمي القرآن أيضاً ذكراً وهم أهله وورثته، وليس يوجد في الأمة أهل بيت مشهور يجمعهم النسب والمذهب، وهم مجمعون على أنهم [هم] أهل النبي وأهل الكتاب غير أهل بيت محمد - صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم -.
والذي يعدل بالسؤال عنهم إلى غيرهم لا يخلو إما أن يسأل علماء كل فرقة مع اختلافهم؛ فلم يأمر الله سبحانه بالسؤال إلا فيما وقع فيه الإختلاف، وهو سبحانه لا يأمر المختلفين بسؤال المختلفين.
وإما أن يقتصر على سؤال بعضهم بغير دليل فلا يأمن أن يكون الحق مع من لم يسأله؛ وإما أن يترك السؤال لكلهم؛ فيعصي الله بتركه لطلب العلم من أهله.

(1/145)


وقوله سبحانه: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ...الآية} [النساء:59]،ودلالتها فيما تضمنته من وجوب طاعة أولي الأمر من المؤمنين على المؤمنين، ووجوب الطاعة فرع على وجوب معرفة المطاع؛ لأن الله سبحانه لا يكلف المؤمنين طاعة من لا يُعْرَف، ولذلك قال النبي - صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم -: ((من مات لا يعرف إمامه مات ميتة جاهلية)).
قال الهادي - عَلَيْه السَّلام -: يعني إما باسمه إن كان حاضراً، وإما بصفته إن كان وقت فترة.
وقوله سبحانه: {وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ} [الحج:78].
وقوله: {إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ ءَامَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ(68)} [آل عمران].
وقوله سبحانه: {النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ} [الأحزاب:6].
ودلالات هذه الآيات ظاهرة لمن لم تعمه عنها شبه المعارضين، وزخرف تأويلات الرافضين؛

(1/146)


أما الآية الأولى: فدلالتها فيما تضمنته من تبيين مجمل قول الله سبحانه: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} [آل عمران:104]، وقوله: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ} [البقرة:143]، وقوله: {وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ} [آل عمران:140].
فجَعْله سبحانه للجهاد حق الجهاد، وللشهادة على الناس في ذرية إبراهيم خاصة دون من عداهم في قوله: {مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ } [الحج:78]، وفيما تضمنته أيضاً من تخصيص بعض ولد إبراهيم بذلك وهم الذين استجاب دعوته فيهم حيث حكى [قوله] بقوله سبحانه: {وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ} [البقرة:128]، وقوله: {وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ(35)} [إبراهيم]، وقوله: {إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ(124)} [البقرة]، فثبت بذلك أن الإمامة لا تكون في ذريته إلا لمن لا يتقدم إسلامه شرك، ولم يلبس إيمانه بظلم.
وأما الآية الثانية: فدلالتها فيما تضمنته من البيان على أن النبي - صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم - هو أولى ذرية إبراهيم به وبمذهبه.

(1/147)


وأما الآية الثالثة: فدلالتها فيما تضمنته من البيان على أن النبي - صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم - أولى بالمؤمنين من أنفسهم، وأن ذوي رحمه الذين لم يشركوا ولم يظلموا هم أولى بولاية المؤمنين من بعده كما أنه أولى ولد إبراهيم وإسماعيل بمقامهما الذي خصهما الله به وذريتهما - على جميعهم السلام ورحمة الله وبركاته[وصلواته وسلامه].
[ذكر الأخبار الدالة على صحة مذهب العترة في الإمامة]
وأما ما يوافق نصوص الكتاب من الأخبار؛ فمن ذلك:
رواية الهادي إلى الحق يحيى بن الحسين - عَلَيْه السَّلام - في الأحكام، عن النبي - صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم - أنه قال: ((من أمر بالمعروف ونهى عن المنكر من ذريتي فهو خليفة الله في أرضه، وخليفة كتابه، وخليفة رسوله)).
ورواية الإمام المتوكل على الله أحمد بن سليمان - عَلَيْه السَّلام - [في كتاب الحكمة] عنه - صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم - أنه قال: ((إن الله جعل علياً لي وزيراً، وأخاً ووصياً، وجعل الشجاعة في قلبه، وألبسه الهيبة على عدوه، وهو أول من آمن بي، وهو أول من وحد الله معي، وهو سيد الأوصياء، اللحوق به سعادة، والموت في طاعته شهادة، واسمه في التوراة مقرون إلى اسمي، زوجته الصديقة الكبرى، وابناه سيدا شباب أهل الجنة، وهو وهما والأئمة من بعدهما من ولدهما حجج الله على خلقه)).

(1/148)


وقال: ((ما بال أقوام إذا ذكر عندهم آل إبراهيم استبشرت قلوبهم وتهللت وجوههم، وإذا ذكر أهل بيتي اشمأزت قلوبهم وكلحت وجوههم، والذي بعثني بالحق نبياً لو أن رجلاً لقي الله عز وجل بعمل سبعين نبياً ثم لم يلقه بولاية أولي الأمر من أهل بيتي ما قبل الله منه صرفاً ولا عدلاً)).
وقال -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم-: ((عليكم بأهل بيتي فإنهم لن يخرجوكم من باب هدىً، ولن يدخلوكم في باب ردى)).
ورواية الإمام المنصور بالله [أمير المؤمنين] عبدالله بن حمزة - عَلَيْه السَّلام -، عنه - صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم - في الشافي وغيره أنه قال: ((من ناصب علياً في الخلافة بعدي فهو كافر، ومن شك في علي فهو كافر)).
وقال: ((علي خير البشر من أبا فقد كفر)).
وقال: ((ويل لأعداء أهل بيتي المستأثرين عليهم، لا نالتهم شفاعتي، ولا رأوا جنة ربي)).
وقال: ((إني تارك فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا من بعدي أبداً: كتاب الله وعترتي أهل بيتي إن اللطيف الخبير نبأني أنهما لن يفترقا حتى يردا علي الحوض)).
وقال: ((أهل بيتي كالنجوم كلما أفل نجم طلع نجم)).
وقال: ((أهل بيتي أمان لأهل الأرض كما أن النجوم أمان لأهل السماء؛ فإذا زال أهل بيتي من الأرض أتى أهل الأرض ما يوعدون، وإذا زالت النجوم من السماء أتى أهل السماء ما يوعدون)).

(1/149)


وقال: ((أيها الناس إني خلفت فيكم كتاب الله وسنتي وعترتي أهل بيتي؛ فالمضيع لكتاب الله كالمضيع لسنتي، والمضيع لسنتي كالمضيع لعترتي، أما إن ذلك لن يفترق حتى اللقاء على الحوض)).
وقال: ((مثل أهل بيتي فيكم مثل سفينة نوح من ركبها نجا ومن تخلف عنها هلك)).
وقال: ((ليس أحد من الخلائق يَفْضُل أهل بيتي غيري)).
وقال: ((قدموهم ولا تقدموهم، وتعلموا منهم ولا تعلموهم، ولا تخالفوهم فتضلوا، ولا تشتموهم فتكفروا)).
وقال: ((إن عند كل بدعة تكون من بعدي يكاد بها الإسلام ولياً من أهل بيتي موكلاً يعلن الحق وينوره ويرد كيد الكائدين؛ فاعتبروا يا أولي الأبصار، وتوكلوا على الله)).
ومما روي بالإسناد إلى الحاكم رحمه الله، وهو ممن كان يقول بالإعتزال، ثم رجع عنه في كتابه المسمى تنبيه الغافلين عن فضائل الطالبيين.
ومنه: روايته عن النبي - صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم - أنه قال عقيب نكول أبي بكر وعمر عن حرب أهل خيبر: ((لأبعثن بالراية غداً رجلاً يحب الله ورسوله، ويحبه الله ورسوله كرار غير فرار)).
وقال لعلي - عَلَيْه السَّلام -: ((حبك إيمان، وبغضك نفاق)).
وقال: ((أقضى أمتي بكتاب الله علي بن أبي طالب - عَلَيْه السَّلام - من أحبني فليحبه، وإن العبد لا ينال ولايتي إلا بحب علي)).
وقال: ((من أحب الحسن والحسين؛ فقد أحبني، ومن أبغضهما فقد أبغضني)).

(1/150)


وقال: ((أحبوا الله لما يغذوكم به من نعمه، وأحبوني لحب الله، وأحبوا أهل بيتي لحبي)).
وقال: ((الصديقون ثلاثة: حبيب النجار مؤمن آل يسين، وحزقيل مؤمن آل فرعون، وعلي بن أبي طالب مؤمن آل محمد - صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم -)).
وروي أن علياً - عَلَيْه السَّلام - قال: (أنا عبدالله وأخو رسول الله -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم-، وأنا الصديق الأكبر لا يقولها بعدي إلا كذاب).
وقال النبي - صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم -: ((من كنت مولاه فعلي مولاه، اللهم وال من والاه وعاد من عاداه وانصر من نصره واخذل من خذله)).
وقال: ((علي مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي)).
وقال: ((الحسن والحسين إمامان قاما أو قعدا وأبوهما خير منهما)).
وقال لعلي - عَلَيْه السَّلام -: ((أنت الولي وأنت الوزير، والوصي والخليفة في الأهل والمال والمسلمين في كل غيبة)).
وقال: ((علي مع الحق والقرآن، والحق والقرآن مع علي لن يفترقا حتى يردا علي الحوض)).
وقال: ((أوحى الله إلي في علي أنه سيد المسلمين، وإمام المتقين، وقائد الغر المحجلين إلى جنات النعيم)).
وقال يوم أحجم الناس عن قتال أسد بن غويلم: ((يا علي، اخرج إليه ولك الإمامة بعدي)).

(1/151)


وقال: ((خذوا بحجزة هذا الأنزع فإنه الصديق الأكبر، والهادي لمن اتبعه، ومن اعتصم به أخذ بحبل الله، ومن تركه مرق من دين الله، ومن تخلف عنه محقه الله، ومن ترك ولايته أضله الله، ومن أخذ بولايته هداه الله)).
وقال: ((في كل خلف من أهل بيتي عدول ينفون عن هذا الدين تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين، ألا إن أئمتكم وفدكم إلى الله، فانظروا من تقدمون في دينكم)).
وقال: ((أيها الناس، إنما أنا بشر أوشك أن أدعى فأجيب ألا [و]إني تارك فيكم الثقلين، أحدهما كتاب الله وهو حبل الله من اتبعه كان على الهدى، ومن تركه كان على الضلالة، ثم أهل بيتي أذكركم الله في أهل بيتي)).
وقال: ((مثل أهل بيتي فيكم كسفينة نوح من ركبها نجا ومن تخلف عنها هلك، ومثل باب حطة في بني إسرائيل)).
ووجدت في بعض الكتب مروياً عن النبي - صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم - أنه قال: ((أُمِرْتُ بطاعة الله، وأُمِرَ أهلُ بيتي بطاعة الله وطاعتي، وأُمِرَ الناسُ جميعاً بطاعة الله وطاعتي وطاعة الأئمة من أهل بيتي)).
[ذكر أدلة العقل الدالة على صحة مذهب العترة في الإمامة]
وأما أدلة العقل المستنبطة من أدلة الكتاب والسنة:
فمنها: أنه قد ثبت في العقل أن شكر المنعم واجب، وثبت بالدليل أن الله سبحانه منعم يجب شكره، ومن شكره طاعته فيما أوجب من عبادته، وكيفية عبادته لا تعلم إلا بمعرف من جهته؛ فلذلك علم وجوب بعثة الرسل إلى المكلفين.

(1/152)


ولا فرق بين حاجتهم إلى الرسول وحاجتهم إلى من يقوم مقامه بعد وفاته؛ فلذلك يعلم على الجملة وجوب نصب الأئمة في كل عصر يحتاج فيه إليهم، وقد ثبت أنه لا اختيار للمكلفين في الرسل فكذلك فيمن يقوم مقامهم.
ومنها: أنه قد ثبت بالدليل أن الله سبحانه عالم بما كان وبما سيكون، وأنه حكيم لا يجوز عليه الظلم، ولا العبث، وقد علم سبحانه ما سيكون من اختلاف الأمة بعد وفاة نبيهم - صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم - وعلم أن اختلافهم مؤد إلى هلاكهم، وأنه لا نجاة لهم إلا بمن يجمع كلمتهم، ويلم شعثهم؛ فلو لم يدلهم سبحانه على من يتمسكون به في دينهم ويعرفهم بمن تكون على يديه نجاتهم لكان مهملاً لهم، والإهمال قبيح لا تجوز إضافته إلى الله سبحانه.
ومنها: أنه قد ثبت أمر الله سبحانه للمؤمنين بطاعة أولي الأمر منهم أمراً مجملاً، فلو لم يبينهُ لهم ويعرفهم بمن تجب عليهم طاعته لكان مخاطباً لهم بما لا يفهم، ومكلفاً لهم بطاعة من لا يعرف، ومغرياً لهم بطاعة من نهى عن اتباعه من الكبراء والسادات الذين يوهمون أنهم أولوا الأمر، وذلك مما لا تجوز نسبته إلى الله سبحانه.
ومنها: أن الإمامة فضيلة تخص الأئمة، ونعمة تعم المأمومين، وذلك مما لا تجوز إضافته إلا إلى الله سبحانه؛ لأنه الذي بيده الملك وهو الذي يؤتي الملك من يشاء لا أهل العقد والإختيار.

(1/153)


ومنها: أن المراد بنصب الإمام إصلاح أمور الأمة، ولا يصلح لذلك إلا من يعلم صلاحه ظاهراً وباطناً، والعلم بذلك من الغيوب التي لا يعلمها إلا الله سبحانه، ولذلك قال الله سبحانه: {اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَاتِهُ} [الأنعام:124]، والرسالات بعد [موت] الأنبياء لا تكون إلا مع من يقوم مقامهم من الأئمة.
ومنها: أن اختيار الأئمة لو كان موقوفاً على رأي الأمة مع اختلافهم لم يمتنع أن تختار كل فرقة إماماً فيقع التشاجر، أو لا يختار أحد منهم فيقع الإهمال، أو يختار بعضهم دون بعض فليس فيما احتجوا به من ذكرهم للشورى ما يدل على أن بعض فرق الأمة أولى بذلك من غيره، من سائر الفرق.
ومنها: أن الإمامة لو كانت لا تثبت إلا بالشورى والعقد والاختيار لما جاز لأبي بكر أن يجعلها في عمر من غير شورى، ولا جاز لعمر أن يجعلها في ستة مخصوصين فَيَلْزَمُ أتباعهما القائلين بالشورى إما تكذيب أنفسهم فيما حكوه عن الله سبحانه من أنه جعل الإمامة موقوفة على الشورى بتصويبهم للشيخين في مخالفتهما للقول بالشورى، وإما تضليل الشيخين فيما أقدما عليه من المخالفة لأمر الله سبحانه.

(1/154)


ومنها: أن تسميتهم لأبي بكر خليفة توهم أن النبي - صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم - استخلفه وهم لا يقولون بذلك؛ بل هم الذين استخلفوه فيلزمهم في ذلك أن يكونوا مناقضين، ولذلك قيل إن أبا بكر لما كتب إلى أسامة بن زيد كتابه الذي يقول فيه: من أبي بكر خليفة رسول الله -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم- إلى أسامة بن زيد، أما بعد: (فإن المسلمين ولوني على أنفسهم؛ فإذا قرأت كتابي [هذا] فاقدم أنت ومن معك).
أجابه [أسامة بن زيد] بكتابه الذي يقول فيه: (من أسامة بن زيد [مولى رسول الله - صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم-] إلى أبي بكر بن أبي قحافة، أما بعد فإنك كتبت إلي كتاباً ينقض آخرُهُ أولَه فلو كنت خليفة رسول الله لم تحتج إلى ولاية [من] المسلمين، ورسول الله توفي وقد أمَّرني عليك؛ فمن أمّرك عليّ بعده؛ فخل المكان لأهله، والحَقْ بموضعك الذي أمرك به رسول الله - صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم -).
ومنها: أن أفعال النبي - صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم - حجة كأقواله؛ فإن كان لم يستخلف وجب الإقتداء به في ترك الإستخلاف، وإن كان استخلف وجب اتباع خليفته.
ومنها: أنه - صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم- لم يهمل أمته في حال حضوره ولا يتركهم بلا زعيم يختاره لهم في كل غيبة يغيبونها عنه، وذلك يدل بطريقة الأولى على أنه لا يجوز أن يهملهم بعد وفاته - صلى الله عليه وعلى آله -.

(1/155)


[ذكر إجماع الأمة مع العترة على جواز الإمامة في العترة]
وأما إجماع الأمة مع العترة على جواز الإمامة فيهم؛ ففائدة الإستدلال به: التنبيه على أن كل الناس وكل قريش لم يجمعوا على دعوى الإمامة كما أجمعت العترة، وعلى أن العترة لم يجمعوا معهم على جوازها فيهم؛ فدل ذلك على أن الإجماع لم ينعقد إلا على جواز الإمامة في العترة، وعلى أن دعوى الخوارج ودعوى المعتزلة باطلة لكونها دعوى للغير بغير دليل.
[ذكر إجماع الصحابة مع العترة على أن الأفضل أولى بالإمامة وبعض فضائل أمير المؤمنين (ع)]
وأما إجماع الصحابة مع العترة على أن الأفضل أولى بالإمامة؛ ففائدة الإستدلال به: التنبيه على أن ذلك يكون حجة عليهم؛ لأنه قد اجتمع لعلي - عَلَيْه السَّلام - من الفضائل ما لا يمكنهم جحدها، ولا يوجد لغيره مجتمعاً مثلها.
ومن مشهور فضائله - عَلَيْه السَّلام -: فضيلة القربى، وفضيلة النجابة، وفضيلة طيب المنشأ، وفضيلة السبق، وفضيلة العلم، وفضيلة الصبر، وفضيلة الصدق والوفاء، وفضيلة التخصيص بالكرامات المنبهة على علو منزلته عند الله سبحانه.
أما فضيلة القربى: فلأنه ابن عم النبي -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم- لأبيه وأمه، وشاهد ذلك قول أبي طالب، شعراً:
إن علياً وجعفراً ثِقَةٌ
لا تخذلا وانصرا ابن عمكما

عند شِداد الأمور والكرب
أخي لأمي من بينهم وأبي

(1/156)


ولذلك فإنه - عَلَيْه السَّلام - لما علم باحتجاج قريش على الأنصار بالقربى، قال: (احتجوا بالشجرة، وأضاعوا الثمرة)، وقال في معنى ذلك، شعراً:
فإن كنت بالشورى ملكت أمورهم
وإن كنت بالقربى حججت خصيمهم
فكيف تليها والمشيرون غُيَّبُ
فغيرك أولى بالنبي وأقربُ

وأما فضيلة النجابة: فلأن نسبه هو نسب النبي - صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم - لم يفرق بينهما من الأمهات إلا فاطمة بنت أسد بن هاشم أم علي - عَلَيْه السَّلام - ففضائلها مشهورة.
ومما يؤيد ذلك: حكاية الحاكم رحمه الله في كتاب تنبيه الغافلين عن النبي - صَلَّى الله عَلَيْه وآله - أنه قال: ((إن الله تعالى خلق روحي وروح علي قبل أن يخلق آدم (عَلَيْه السَّلام) بما شاء الله؛ فلما خلق آدم (عَلَيْه السَّلام) أودع أرواحنا صلبه، فلم يزل ينقلها من صلب طاهر إلى رحمٍ طاهر لم يصبها دنس الشرك، ولا عهر الجاهلية حتى أقرها في صلب عبد المطلب، ثم أخرجها من صلبه فقسمها قسمين فجعل روحي في صلب عبدالله، وروح علي في صلب أبي طالب؛ فعلي مني وأنا من علي، نفسه كنفسي، وطاعته كطاعتي لا يحبني من يبغضه، ولا يبغضني من يحبه)).

(1/157)


وأما فضيلة طيب المنشأ: فلأن النبي - صلى الله عليه وعلى آله - هو الذي كفله وآواه، وأدبه ورباه، فلم يسجد - عَلَيْه السَّلام - لصنم، ولم يقع في مأثم، وقد بين علي ذلك في بعض خطبه المذكورة في كتاب نهج البلاغة؛ فقال: (وقد علمتم موضعي من رسول الله - صَلَّى الله عَلَيْه وآله - بالقرابة القريبة، والمزية الخصيصة، وضعني في حجره وأنا وليد يضمني إلى صدره، ويكنفني في فراشه، ويمسني جسدَه، ويشمني عرقه، وكان يمضغ الشيء ثم يلقمنيه، وما وجد لي كذبة في قول، ولا خطلة في فعل).
وأما فضيلة السبق: فلأنه - عَلَيْه السَّلام - أول ذكر آمن بالنبي - صَلَّى الله عَلَيْه وآله - وصلى معه، وله - عَلَيْه السَّلام - في ذلك مع فضيلة السبق فضيلة العصمة، وفضيلة إيتاء الحكمة في حال الصغر، ومن شعره - عَلَيْه السَّلام - في معنى ذلك [قوله]:
سَبَقْتُكُمُ إلى الإسْلامِ طُراً .... صغيراً ما بلغتُ أوانَ حلمي
وآتاني ولايتَه عليكم .... رسولُ اللهِ يومَ غديرِ خمِّ
وأما فضيلة العلم: فلأنه - عَلَيْه السَّلام - وارث علم النبي - صلى الله عليه وعلى آله - والمخصوص بمكنون سره، ولذلك قال النبي - صلى الله عليه وعلى آله -: ((أنا مدينة العلم وعلي بابها)) وكان كل الصحابة محتاجاً إلى علمه -عَلَيْه السَّلام- ولم يكن محتاجاً إلى علم أحدٍ منهم.

(1/158)


ومما يؤيد ذلك: حكاية الحاكم -رحمه الله- عنه - عَلَيْه السَّلام - في كتاب تنبيه الغافلين أنه قال: (لو كسرت لي الوسادة، ثم جلست عليها لقضيت بين أهل التوراة بتوراتهم، وبين أهل الإنجيل بإنجيلهم، وبين أهل الزبور بزبورهم، وبين أهل الفرقان بفرقانهم، والله ما من آية نزلت في بر ولا بحر، ولا سماء ولا أرض، ولا سهل ولا جبل، ولا ليل ولا نهار؛ إلا وأنا أعلم متى نزلت وفي أي شيء نزلت، وما من رجل من قريش جرت عليه المَواسِي إلا وأنا أعلم أي آية نزلت فيه تسوقه إلى جنة أو نار).
وأما فضيلة الصبر: فلأنه - عَلَيْه السَّلام - ذكر في كتاب المحن أن الله سبحانه ابتلى صبره في أربعة عشر موطناً، سبعة في حياة النبي - صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم - وسبعة بعد وفاته.
وجملة ذلك: أنه - عَلَيْه السَّلام - بلي من المحن بما لم يبل به أحد غيره من الصحابة، وظهر من صبره عليها ما لم يظهر من غيره مثله على ما هو دونها، وذلك منذ مبيته على فراش النبي - صَلَّى الله عَلَيْه وآله - موطِّناً لنفسه على الصبر للقتل إلى ما كان من صبره في مواطن الزحف التي تزل فيها الأقدام، وتبلغ القلوب الحناجر، إلى ما كان من صبره على ما ابتلي به من وفاة رسول الله - صَلَّى الله عَلَيْه وآله - وإجماع أكثر الصحابة في ذلك الحال على استغنام الفرصة في ظلمه، والإستئثار بالأمر دونه، وعظم الصبر على قدر عظم البلوى، وعظم البلوى على قدر عظم حال المبتلى.

(1/159)


وقد مدح الله الصابرين، وجعل من ثواب بعضهم استحقاق الإمامة؛ فقال سبحانه: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا...الآية} [السجدة:24].
وأما فضيلة الصدق والوفاء: فلأنه - عَلَيْه السَّلام - لم ينكث عهداً، ولم يخلف موعداً، وشاهده في ذلك قول الله سبحانه: {رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ...الآية} [الأحزاب:23]، وقد تقدم ذكرها، وقوله سبحانه: {يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا(7)} [الإنسان].
وأما فضيلة التخصيص بالكرامات المنبهة على علو منزلته عند الله سبحانه: فهي أكثر من أن تحصر وقد نظم ذلك الإمام المنصور بالله أمير المؤمنين - عَلَيْه السَّلام - في شعره الذي يقول فيه:
ردتْ لهُ شمسُ الضحى وردها .... من أعظم الآيات والفضائل
ولو عَدَدْتُ ما قضيتُ حقَه .... ومن يَعُدُّ حَبَّ رمل هائل
فَصُرِّفَت عنه لغير موجب .... بل لهناتٍ قيل أو دغائل

(1/160)


[فائدة الاستدلال بإجماع المعتزلة مع العترة على القول بإمامة علي (ع) والمشهور من مذهبه (ع)]
وإما إجماع المعتزلة مع العترة على القول بإمامة علي - عَلَيْه السَّلام -؛ ففائدة الإستدلال به التنبيه على أنه يلزمهم تصديقه - عَلَيْه السَّلام - والسلوك لمذهبه، والاقتفاء لآثاره في الدين قولاً وعملاً واعتقاداً؛ إذ لا يجوز لمن يعتقد صحة إمامته ترك الائتمام به إلا على وجه الرفض والمعصية، ولا يصح الجمع بين الإقرار بصحة إمامته ومخالفته إلا على وجه التدليس والنفاق.
ومن مشهور مذهبه الذي لا يمكنهم كتمه ولا جحده إلا على وجه المكابرة توبيخه - عَلَيْه السَّلام - للمشائخ وأتباعهم على ما أقدموا عليه من ظلمه، وعلى مخالفتهم لما أوجب الله له عليهم من المودة والطاعة، وعلى نكثهم للعهد، ورجوعهم على الأعقاب، ولذلك هجرهم وامتنع من نصرتهم، ومعاونتهم، ومن البيعة لهم إلا ما ذُكِرَ من إكراههم له على البيعة لأبي بكر بعد جمعهم لحزم الحطب على داره ليحرقوها بمن فيها إن لم يخرج، وعزمهم بعد خروجه على قتله إن لم يبايع؛ فذلك لم يفرق بينهم وبين معاوية في الحسد له والبغي عليه بل جعلهم له أولاً، وجعله لهم آخراً، وذلك ظاهر في قوله - عَلَيْه السَّلام - المحكي عنه في كتاب نهج البلاغة:
(أما والذي فلق الحبة وبرأ النسمة، لولا حضور الحاضر، وقيام الحجة بوجود الناصر، وما أخذ الله على العلماء ألا يُقَارُّوا على كِظَّةِ ظالم، ولا على سَغَبِ مظلوم، لألقيت حبلها على غاربها ولسقيت آخرها بكأس أولها).

(1/161)


وروى أحمد بن موسى الطبري رحمه الله أن رجلاً قال يوم الجمل: ما أعظم هذه الفتنة !! فقال علي - عَلَيْه السَّلام -: (وأي فتنة وأنا قائدها وأميرها؟! وإنما بدء الفتنة من يوم السقيفة ثم يوم الشورى ويوم الدار).
ومن صريح ما ذكر - عَلَيْه السَّلام - في النص والحصر قوله: (إن الإمامة من قريش في هذا البطن من هاشم لا تصلح على سواهم ولا يصلح الولاة من غيرهم).
وقوله: (ولا يعادل بآل محمد من هذه الأمة أحد، ولا يساوى بهم من جرت نعمتهم عليه أبداً، هم أساس الدين، وعماد اليقين، إليهم يفيء الغالي، وبهم يلحق التالي، ولهم خصائص حق الولاية، وفيهم الوصية والوراثة).
ومن شعره - عَلَيْه السَّلام - في معنى ذلك قوله:
أنا علي صاحب الصمصامهْ .... أخو نبي الله ذي العلامهْ
قد قال إذ عممني العمامهْ .... أنت الذي بعدي لك الإمامهْ
[الكلام في إجماع العترة هل هو حجة؟ وهل يصح أن يستدل به على صحة حصر الإمامة فيهم]
ولا خلاف في إجماع العترة على دعوى النص والحصر، وإنما الخلاف في إجماعهم هل هو حجة أم لا؟ وإذا ثبت كونه حجة هل يصح أن يستدل به على صحة حصر الإمامة فيهم أم لا؟
والذي يدل على كون إجماعهم حجة هو ما تقدم من بيان كونهم خيرة الله سبحانه اصطفاهم لإرث كتابه والجهاد فيه حق الجهاد، والشهادة على العباد، وأمر بطاعتهم وسؤالهم والرد إليهم، وهو سبحانه حكيم، والحكيم لا يختار لذلك إلا من يجب قبول قوله، وكلما أوجب الله قبوله فهو حجة.

(1/162)


والذي يدل على أنه يصح الاستدلال بإجماعهم على صحة حصر الإمامة فيهم: هو أن الله سبحانه قد أمر بالرد إليهم وسؤالهم عن كل مختلف فيه والإمامة من جملة ما وقع فيه الإختلاف فيجب قبول قولهم فيها، والتمسك بهم، والترك لمخالفتهم لعدم المخصص لمختلف فيه دون غيره مع كونهم أعلم بما يجب لهم وعليهم؛ لأجل كونهم خيرة لله سبحانه وورثة لكتابه كما أن النبي - صَلَّى الله عَلَيْه وآله - أعلم بما يجب له وعليه لأجل كونه خيرة لله سبحانه.
[ذكر صفة الإمام الذي تجب طاعته]
وأما الفصل الثالث
وهو في صفة الإمام الذي تجب طاعته:
فمذهب العترة ومن شايعهم أن من صفة من يستحق الإمامة من ولد الحسن والحسين - عليهما السلام - أن يكون بالغاً في العلم إلى درجة السبق، وهي الإحاطة بما يحتاج إلى معرفته من علم الكتاب والسنة، والتمكن من استنباط غامضهما، وأن يكون فيه مع ذلك من السخاء والقوة والزهد والورع وحسن التدبير ما يصلح لأجله أن يكون ممن يعتمد عليه ويركن إليه، ويوثق به لسد الثغور، وتدبير الأمور، وجمع كلمة المسلمين، ومنعهم بالدليل عن التفرق في الدين، ونحو ذلك مما لا يصلح للقيام به إلا السابق بالخيرات من العترة؛ خلافاً للمعتزلة ومن شايعهم فإنه يجوز عندهم أن يكون في رعية الإمام من هو مثله في العلم أو أعلم منه قياساً على قلة علم أئمتهم، واختلاف آرائهم، ورجوعهم في المشكلات إلى غيرهم.

(1/163)


ومما يشهد بصدق حكاية مذهب العترة في ذلك من أقوال أئمتهم - عَلَيْهم السَّلام - على وجه التنبيه بالقليل على الكثير قول أمير المؤمنين - عَلَيْه السَّلام - فيما حكي عنه في كتاب نهج البلاغة في وصفه لأئمة العترة: (هم الذين يخبركم حكمهم عن علمهم، وصمتهم عن منطقهم، وظاهرهم عن باطنهم، لا يخالفون الدين، ولا يختلفون فيه).
وقول زيد بن علي - عَلَيْه السَّلام - فيما روي عنه: (اعلم أنه لا ينبغي لأحد منا أن يدعو إلى هذا الأمر حتى تجتمع فيه هذه الخلال، حتى يعلم التنزيل والتأويل، والمحكم والمتشابه، والناسخ والمنسوخ، وعلم الحلال والحرام، والسنة الناسخة ما كان قبلها، وما يحدث كيف يرده إلى ما قد كان بما فيه وله، وحتى يعلم السيرة في أهل البغي، والسيرة في أهل الشرك، ويكون قوياً على جهاد عدو المؤمنين يدافع عنهم، ويبذل نفسه لهم، ولا يسلمهم حذار دائرة، ولا يخالف فيهم حكم الله؛ فهذه صفة من تجب طاعته من آل رسول الله - صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم -).

(1/164)


وذكر القاسم بن إبراهيم – عَلَيْه السَّلام – في كتاب تثبيت الإمامة ما خص الله به الأنبياء من المعجز، والأوصياء من مكنون العلم، وذكر بعد ذلك ما خص به الأئمة بعدهم؛ فقال: (ثم أبان الأئمة من بعدهم، ودل الأمة فيهم على رشدهم، بدليلين مبينين، وعلمين مضيئين، لا يحتملان لبس تغليط، ولا زيغ شبه تخليط، لا يطيق خلقهما متقن، ولا يحسن تخلقهما محسن، ولي ذلك منهما، ومظهر دلالة صنعه فيهما، الله رب العالمين، وخالق جميع المحدثين، وهما ما لا يدفعه عن الله دافع، ولا ينتحل صنعه مع الله صانع، من القرابة بالرسول - صَلَّى الله عَلَيْه وآله - وما جعل من احتمال كمال الحكمة فيمن الإمامة فيه، وحَدّ الحكمة، وحقيقة تأويلها درك حقائق الأحكام كلها).
وذكر الهادي إلى الحق يحيى بن الحسين - عَلَيْه السَّلام - في كتاب القياس ما خص الله به السابقين من العترة بعد ذكره لما أوجب الله من سؤال العترة على الجملة؛ فقال: (ثم ذكر السابقين منهم بالخيرات، المقيمين لدعائم البركات، وهم الأئمة الطاهرون، المجاهدون السابقون، القائمون بحق الله، المنابذون لأعداء الله، المنفذون لأحكام الله، الراضون لرضاه، الساخطون لسخطه، والحجة بينه وبين خلقه، المستاهلون لتأييده، المستوجبون لتوفيقه، المخصوصون بتسديده، في كل حكم حكموا به، وقياس في شيء من الأحكام قاسوا به، حجة الله الكبرى، ونعمته العظمى، الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً).

(1/165)


وقال ابنه المرتضى - عَلَيْه السَّلام - في كتاب الرد على الروافض: (وجرى الأمر في ولد النبي - صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم - الصفوة بعد الصفوة، وإنما الصفوة لا يكون إلا خير أهل زمانه أكثرهم اجتهاداً، وأكثرهم تعبداً، وأطوعهم لله سبحانه، وأعرفهم لحلال الله وحرامه، وأقومهم بحق الله، وأزهدهم في الدنيا، وأرغبهم في الآخرة، وأشوقهم للقاء ربه؛ فهذه صفة الإمام).
وقال في جوابه للطبريين: (فالواجب على الرعية إذا وثقت بعدالة إمامها، وصحت عندهم إمامته، أن يعلموا أن علمهم يقصر عن علمه، ولا يقعون من الغامض على ما يقع عليه؛ فإذا علموا ذلك وجب عليهم التسليم).
[ذكر حكم من يخالف أئمة العترة في علوم الدين]
وأما الفصل الرابع
وهو في ذكر حكم من يخالف أئمة العترة في علوم الدين التي يجب العلم بها

(1/166)


فحكمه عندهم في الضلال كحكم من شاق الله ورسوله، واتبع غير سبيل المؤمنين، وقطع ما أمر الله به أن يوصل؛ خلافاً للشيعة المعتزلة، وذلك لأن الله سبحانه قد أمر باتباعهم، ونهى عن مخالفتهم، وقال لنبيه - صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم -: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي...الآية} [يوسف:108]، والذين اتبعوا سبيله في الدعاء إلى الله سبحانه على بصيرة هم الأئمة الذين أوجب الله طاعتهم مع طاعته، وطاعة رسوله، وأمر بسؤالهم، والرد لما اختلف فيه إليهم، وذلك يدل على أن من خالفهم في علوم الدين فليس على بصيرة، وإن أظهر أنه يدعو إلى الله سبحانه.
ولأن النبي - صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم - وهو لا ينطق عن الهوى قد قرن العترة بالكتاب وأمر بالتمسك به وبهم معاً؛ فدل بذلك على أنه لا يصح دعوى التمسك بالكتاب مع رفضهم، كما لا يصح دعوى التمسك بهم مع رفض الكتاب، ولأنه - صَلَّى الله عَلَيْه وآله - قد صرح بتهليك من خالفهم في قوله: ((وستفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة، كلها هالكة إلا فرقة واحدة)).
وقوله: ((مثل أهل بيتي فيكم كمثل سفينة نوح من ركبها نجا ومن تخلف عنها غرق وهوى)) وهذا بيان لا يحتمل التأويل، ولا يصح معه التجويز لسلامة من يخالف العترة؛ لما في تجويزها من التعريض بالمشاقة والمعارضة والمخالفة والرد لقول النبي - صَلَّى الله عَلَيْه وآله -.

(1/167)


[ذكر أقوال أئمة العترة (ع) في وجوب اتباعهم]
ومن صريح ما ذكره الأئمة - عَلَيْهم السَّلام - في معنى ذلك: قول أمير المؤمنين - عَلَيْه السَّلام - المذكور في كتاب نهج البلاغة: (فأين يتاه بكم، بل كيف تعمهون؟ وبينكم عترة نبيكم، وهم أزمة الحق، وألسنة الصدق).
وقول ابنه الحسن - عَلَيْهِمَا السَّلام - المروي عنه: (ومن البلاء على هذه الأمة أنا إذا دعوناهم لم يجيبونا، وإذا تركناهم لم يهتدوا إلا بنا).
وقول زين العابدين علي بن الحسين - عَلَيْهما السَّلام - في موشحته القافية: (فمن الأمان به على بلاغ الحجة وتأويل الكتاب إلا أهل الكتاب، وأبناء أئمة الهدى، ومصابيح الدجى، الذين احتج الله بهم على خلقه ولم يترك الخلق سدى).
وحكى الحاكم عن زيد بن علي - عَلَيْهما السَّلام - أنه قال: (الرد إلينا؛ نحن والكتاب الثقلان).
وقول الهادي إلى الحق -عَلَيْهما السَّلام- في جوابه لأهل صنعاء: (لست بزنديق ولا دهري، ولا ممن يقول بالطبع ولا ثنوي، ولا مجبر قدري، ولا حشوي ولا خارجي، وإلى الله أبرأ من كل رافضٍ غوي، ومن كل حروري ناصبي، ومن كل معتزلي غال، ومن جميع الفرق الشاذة، ونعوذ بالله من كل مقالة غالية، ولا بد من فرقة ناجية عالية، وهذه الفرق كلها عندي حجتهم داحضة، والحمد لله).
وقال ابنه المرتضى - عَلَيْهما السَّلام - في الرسالة السابقة: (فمن غدا بهذا الأمر في غير أهل بيت نبيه فقد عبث بنفسه، وتمرد في دين خالقه).

(1/168)


وقول الإمام القاسم بن علي - عَلَيْهما السَّلام - في رسالته إلى أهل طبرستان: (معارضنا في التأويل، كمعارض جدنا في التنزيل).
وقول الإمام المتوكل على الله أحمد بن سليمان - عَلَيْه السَّلام - في جوابه لمسائل الأمراء السليمانيين: (وقد قال رسول الله - صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم -: ((ستفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة كلها هالكة إلا فرقة واحدة)) وقد بينها النبي -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم- وأوضحها في أهل بيته - عَلَيْهم السَّلام - ومن تبعهم).
وقول الإمام المنصور بالله أمير المؤمنين - عَلَيْه السَّلام - في شرح الرسالة الناصحة: (أمر النبي - صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم - أمته باتباع عترته المطهرة فخالفوه في ذلك، ولهم أتباع في كل وقت يقتفون آثارهم في خلاف العترة الطاهرة حذو النعل بالنعل، بل قد تعدوا ذلك إلى أن قالوا: هم أولى بالحق منهم واتباعهم أوجب من اتباع هداتهم، فردوا بذلك قول النبي - صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم -: ((قدموهم ولا تقدموهم، وتعلموا منهم ولا تعلموهم، ولا تخالفوهم فتضلوا، ولا تشتموهم فتكفروا)).

(1/169)


[ذكر حكم من يخالف بين أئمة العترة]
وأما الفصل الخامس
وهو في ذكر حكم من يخالف بين أئمة العترة وينسبهم إلى التفرق في الدين فحكمه عندهم في الضلال كحكم من يفرق بين الأنبياء، وكحكم من يؤمن ببعض الكتاب ويكفر ببعض، وكحكم من يلبس الحق بالباطل؛ وبيان قبح التفريق بينهم ظاهر في الكتاب والسنة وأقوال الأئمة.
[بيان قبح التفريق بين أئمة العترة من الكتاب والسنة وأقوال الأئمة]
أما الكتاب: فنحو قول الله سبحانه: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ...الآية} [الشورى:13]، وقوله: {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ} [الأنعام:159].
وأما السنة: فنحو إخبار النبي -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم- على الجملة بأن عترته مع الكتاب لا يفارقهم ولا يفارقونه، وذلك دليل الإتفاق على موافقة الكتاب، وهو - صَلَّى الله عَلَيْه وآله - صادق مصدوق، وتصديقه واجب، ومن شرط صحة تصديقه تكذيب المخالفين له في ذلك لأجل قبح الجمع بين تصديقه وتصديقهم فيه.
وأما أقوال الأئمة: فنحو ما تقدم من أقوال أمير المؤمنين - عَلَيْه السَّلام - في وصفه للأئمة: (لا يخالفون الدين ولا يختلفون فيه).

(1/170)


وقول الهادي إلى الحق - عَلَيْه السَّلام - في كتاب القياس: (فإن قال قائل: فكيف لا تقع الفرقة، ولا تقع بين أولئك - عَلَيْهم السَّلام - خِلْفة؟ قيل: لأنهم أخذوا علمهم من الكتاب والسنة، ولم يحتاجوا إلى إحداث رأي ولا بدعة).
وقول ابنه المرتضى - عَلَيْهما السَّلام - في جواب مسائل الطبريين: (وقلت هل يجوز للأئمة الإختلاف في الديانة كما جاز للأنبياء الإختلاف في الشريعة؟ واعلم أعانك الله أن الأئمة متبعة للنبي لا مبتدعة، محتذية لا مخترعة من نفوسها، ولا مقتحمة بذلك على خالقها، والأنبياء فإنما اختلفوا في الشريعة لأمر الله سبحانه لهم بذلك).
وقول القاسم بن علي - عَلَيْه السَّلام - في رسالته إلى أهل طبرستان: (المفرق بين العترة الهادين، كالمفرق بين النبيين).
وقول ابنه الحسين - عَلَيْهما السَّلام - في كتاب تثبيت إمامة أبيه: (فكيف إلا أنه قد قال بإجماعهم -لو انتفعوا بقلوبهم وأسماعهم-: ((إني تارك فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا من بعدي أبداً: كتاب الله وعترتي أهل بيتي، إن اللطيف الخبير نبأني أنهما لن يفترقا حتى يردا علي الحوض)) ولا يخلو قوله - صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم -: لن يفترقا، من أن يكون باطلاً أو حقاً؛ فنعوذ بالله من تكذيب الرسول، ومكابرة حجج العقول).

(1/171)


وقول الإمام المنصور بالله - عَلَيْه السَّلام - في الشافي: (ألم تعلم أن المفرق بين العترة الهادين كالمفرق بين النبيين)، وقوله: (وكيف تخالف الذرية أباها وقد شهد لهم النبي - صَلَّى الله عَلَيْه وآله - بالإستقامة بقوله: ((لن يفترقا حتى يردا علي الحوض))).
[ذكر جملة مما يجب أن يحمل عليه ما اختلف من الأقوال المنسوبة إلى الأئمة (ع)]
وأما الفصل السادس
وهو في ذكر جملة مما يجب أن يحمل عليه ما اختلف فيه من الأقوال المنسوبة إلى الأئمة -عليهم السلام-
فإذا لم يكن الخلاف فيها منسوباً إلى بعض من ظلم نفسه من العترة باتباعه لمذهب غير أهله، وكان منسوباً إلى أئمة الهدى؛ فهو لا يخلو إما أن يكون فيما يجوز الإختلاف فيه نحو السِّيَر والحوادث التي لا نص عليها، وما كان من الآيات والأخبار له في اللغة أكثر من معنى.
وإما أن يكون فيما الحق فيه واحد نحو الواجبات العقلية، والفرائض السمعية.
فإن كان من السير والحوادث التي يختلف النظر فيها لاختلاف الأحوال، أو كان مما له أكثر من معنى، فنسبة الإختلاف فيه إلى الأئمة على الإطلاق من غير تبيين يكون تمويهاً وتشنيعاً، وموهمة للمساواة بين أئمة الهدى وعلماء السوء، وأئمة الضلال المفرقين لأديانهم، المختلفين في مذاهبهم، وذلك مما ينفر المسترشدين من الأمة، عن الإتباع لعلوم الأئمة.

(1/172)


وإن كان ذلك الإختلاف فيما الحق فيه واحد فنسبته إلى الأئمة على الإطلاق مع إمكان تأويله يكون قبيحاً على ما تقدم.
ومن الوجوه التي يمكن حمله عليها تجويز أن يكون الإمام الذي نسب إليه ذلك قصد الحكاية لمذهب غيره فظن السامع أنه حكاه عن نفسه، أو يكون في القول المخالف إجمال أو مجاز لم يعرف السامع له معناه وحمله على ما توهم، أو يكون مما ألجأت الضرورة إلى تظهيره وترك بيانه كما قال القاسم بن إبراهيم - عَلَيْه السَّلام -:
كم من غريبة علم لو أبوح بها .... لقيل إنك ممن يعبد الوثنا
ولاستحل أناس ناسكون دمي .... يرون أقبح ما يأتونه حسنا
أو يكون بعض شيعة الإمام الأول جعلوا بعض شدائده أو رخصه فرائض، وردها الإمام الثاني إلى الأصل، أو يكون ذلك القول المخالف وقع من الإمام على وجه السهو والغلط والمرور على الأثر من غير نظر، أو يكون مما ألجأت الضرورة إلى الترخيص فيه لسائل مخصوص، أو يكون مكذوباً على الإمام، أو محرفاً بتبديل أو زيادة أو نقصان، ونحو ذلك مما لا طريق لذي ورع معه إلى إساءة الظن بأحد من الأئمة - عَلَيْهم السَّلام - ولا إلى المخالفة بينهم.

(1/173)


ومما يؤيد هذه الجملة من أقوال الأئمة -عَلَيْهم السَّلام-: قول الهادي إلى الحق - عَلَيْه السَّلام - في كتاب الأحكام وأوثق وثائق الإسلام: (إن آل محمد لا يختلفون إلا من جهة التفريط، فمن فرط في علم آبائه ولم يتبع علم أهل بيته أباً فأباً حتى ينتهي إلى علم علي بن أبي طالب - رحمة الله عليه - والنبي - صَلَّى الله عَلَيْه وآله - وشارك العامة في أقاويلها، وتابعها في سيئ تأويلها، لزمه الإختلاف لا سيما إذا لم يكن ذا نظر وتمييز، ورد لما ورد عليه إلى الكتاب، ورد كل متشابه إلى المحكم).
وقول الناصر للحق الحسن بن علي - عَلَيْه السَّلام - فيما حكاه عنه مصنف المسفر: (فإذا نظر الطالب للحق في اختلاف علماء آل الرسول فله أن يتبع قول أحدهم إذا وقع له الحق فيه بدليل من غير طعن ولا تخطئة للباقين).

(1/174)


وقول المرتضى لدين الله محمد بن يحيى - عَلَيْه السَّلام - في جوابه لمسائل الطبريين: (وإنا لنعلم أن في المسائل التي نسخناها لك عنهما مما لم يجيبا به واجتزينا باليسير المقيم للحجة عن الكثير المفرع دقائق وزيادة في الشرح لم تقع في الكتب حفظناها من لفظ الهادي إلى الحق - صلوات الله عليه - وأداها إلينا عن القاسم بن إبراهيم - عَلَيْه السَّلام - من لحقنا من ولده فدعانا إلى ترك شرحها لك معرفتنا بأن ذلك الشرح ليس عندكم، ولم يصل في الكتب إليكم؛ فخشينا عند ذلك إن شرحناها لكم أن تنسبونا إلى خلاف تارة أخرى، وقد أعلمتك في مسائلك الأولى أنه لا يحل ولا يجوز لمن أراد الفائدة والعلم أن يسيء الظن ولا ينسب إلى المخالفة؛ فلكل مسألة جواب وشرح، وأوقات يظهر ذلك فيها، وأوقات يغمض إلا ما لا بد منه، ودهر يعمل فيه بالقليل لشِرَّةِ أهله، والخوف لظلمهم، والتعدي منهم لقلة معرفتهم، وعلى قدر الإمكان والقدرة تجب إقامة الحجة.
وفي دون ما ذكرنا لك من ذلك كفاية غير أنه قد يحدث في الكُتُب من الكُتَّابِ فساد بالزيادة والنقصان والتصحيف؛ فكل ما وجد في كتبنا مما هو يتفاوت في أصول الحق؛ فنعوذ بالله أن يكون منا، وإنما ذلك مزيود مكذوب علينا.

(1/175)


ولقد وجدت في كتب الأحكام التي وضعها الهادي إلى الحق - صلوات الله عليه - باباً مزيوداً عليه، منسوباً إليه، ما وضعه قط، ووجد هو أيضاً - رحمة الله عليه - باباً آخر موضوعاً منسوباً إليه لم يضعه، تعمده بعض من لا يتقي الله؛ فهذا ومثله كثير، فما وجدتم من ذلك فليس منا.
وقوله: (إنما تختلف الأئمة في غير الحلال والحرام، وفي الشرح والكلام، ولكل إمام في عصره نوازل تنزل به وعليه يحكم فيها بما يوفقه الله له فيستنبطها من كتاب الله وسنة نبيه -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم-، أو حجة العقل التي يستدل بها على غامض الكتاب، ويستخرج بها الحق والصواب، ولو نزلت هذه المسألة بالأول لاستخرجها كما يستخرجها الآخِر، والأئمة مؤتمنه على الخلق قد أمرهم الله عز وجل بحسن السيرة فيهم، والنصح لهم؛ فلعله أن يجري في عصر الإمام سبب من أسباب الرعية يحكم فيه بالصواب، الذي يشهد له به الكتاب، ثم تنزل تلك النازلة في عصر آخر من الأئمة لا يمكنه من إنفاذ الحكم فيها مثل ما أمكن الأول فيكون بذلك عند الله معذوراً).
وقول القاسم بن علي - عَلَيْه السَّلام - في كتاب التفريع: (وما ينسب من الخلاف بين الأئمة فمستحيل، ولا ينسب إليهم ذلك إلا من جهل ما بين الحق والباطل، وإنما تختلف ظواهر سيرهم وتأويلاتهم، وهي موافقة للعدل غير خارجة منه.

(1/176)


إلى قوله: وأما ما يعترض به من الإختلاف بين ولد الحسن وولد الحسين في التأويل والسير نحو اختلافهم في الإمامة وفي الكلالة والطلاق ونحو ذلك من المسائل.
فأما الإمامة: فذهبت كل شيعة إلى غير ما ذهبت إليه أئمتها، وتعلقوا بروايات عن النبي - صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم - لم يصح أكثرها، ومنها ما هو صحيح وهو على غير ما تأولوا.
ولقد روى لنا من وثقنا به عن القاسم بن إبراهيم - عَلَيْه السَّلام - أنه قال: أدركت مشيخة آل محمد من ولد الحسن والحسين وما بين أحد منهم اختلاف حتى كان بآخره، ثم ظهر أحداث فتابعوا العامة في أقوالها.
وكذلك روي لنا في خطب جرى من عبدالله بن الحسن إلى جعفر بن محمد - عَلَيْهم السَّلام - وهما بالروحاء يريدان الحج؛ فقال جعفر بن محمد: (والله وحق هذه البنية التي أنا قاصد لها إني لمكذوب علي، وما المذهب إلا واحد).
ففضلاء آل محمد متفقون، ولم يزل الأشياع مختلفين متداغلين.
وقوله (عَلَيْه السَّلام) في كتاب التنبيه: (والقاسم - عَلَيْه السَّلام - العالم، وبه يقتدي العالم، ثم ولده من بعده يقتفون أثره، ويعلمون أمره، وما أعلم منهم من بعد القاسم إلى هذه الغاية مختلفين، ولا فيما بَعُد من الأرض وقرب إلا مؤتلفين، إلا أن يكون ذو جهل نظنه ولا نعرفه بعينه، فلعله أن يكون لقلة معرفته يتابع المخالفين، تعرضاً لدنيء ما ينال، وطمعاً لما يأكل من سحت الأموال، ولعله مع ذلك موافق لأهل بيته في باطن أمره).

(1/177)


وقوله في كتاب الإستفهام: (وقد اتخذ كثير من الشيعة آراء الأئمة فرائض لازمة، يُكَفِّرُون من تركها، ويُجَهِّلون منهم من لا يعملها، وليس ذلك بواجب كما ذكرت لك؛ فاعلم ذلك).
وقال ابنه الحسين – عَلَيْه السَّلام – في كتاب مختصر الأحكام: (ولست أصدق بكل ما روي عن رسول الله -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم- لقلة الثقات وطول الزمان، وهاأنا أسمع في حياتي من الروايات الكاذبة علي ما لم أقل ولم أفعل، فربما يسمع بذلك أولياء الله فيصدقون به والعهد قريب؛ فكيف برسول الله وله مدة طويلة من الزمان).
وروي عن الإمام أبي الفتح بن الحسين الديلمي - عَلَيْه السَّلام - أنه قال: (أما فروع الشريعة فإن وقع بين الأئمة - عَلَيْهم السَّلام - في ذلك اختلاف فليس ذلك مما ينقص من علمهم وفضلهم؛ لأن الإجتهاد في الدين واجب، والإحتياط لازم، والرجوع إلى الكتاب والسنة مما تعم به البلوى، ولكل في عصره نظر واستدلال وبحث وكشف، وقد ينكشف للمتأخر ما لم ينكشف للمتقدم، لا بأن المتقدم قصر عما بان للمتأخر إلى قوله: وليس من الدين تخطئة واحد منهم، والحكم عليه بأنه خالف الشريعة والأئمة).
وحكى الإمام المنصور بالله - عَلَيْه السَّلام - في الشافي عن محمد بن الداعي - عَلَيْه السَّلام - أنه لما وصل الديلم وبين الشيعة القاسمية والشيعة الناصرية الإختلاف في الفروع، وكل منهم يضلل من خالف إمامه جمع كلمتهم وبين لهم أن مذهب الإمامين -عليهما السلام- واحد.

(1/178)


[ذكر جملة من معارضات المعتزلة لأدلة العترة]
وأما الفصل السابع
وهو في ذكر جملة من معارضات المعتزلة لأدلة العترة
فذكرها مفصلة يكثر عن الإختصار؛ فأما على وجه الإجمال فهي خمس:
[ذكر معارضة المعتزلة لما تستدل به العترة من الآيات في مسألة الإمامة والجواب عن ذلك]
الأولى: معارضتهم لما تستدل به العترة من الآيات التي تقدم ذكر بعضها بقولهم: إنها مجملة تحتاج إلى بيان، واحتجوا باختلاف علمائهم وأشباههم في تأويلها.
مثال ذلك: ما حكاه الحاكم رحمه الله تعالى في كتاب تنبيه الغافلين من اختلافهم في أهل الذكر، قال: منهم من قال: يعني أهل العلم بأخبار الأمم، ومنهم من قال: أهل الكتاب، ومنهم من قال: من آمن من أهل الكتاب.
وكذلك اختلافهم في أولي الأمر، قال: منهم من قال: يعني أمراء السرايا، ومنهم من قال: العلماء، ومنهم من قال: الخلفاء الأربعة، ومنهم من قال: المهاجرون والأنصار، ومنهم من قال: الصحابة، ومنهم من قال: الأئمة والسلاطين.

(1/179)


ومن الجواب: أن يقال: إن الحجة في ذلك عليهم لا لهم لأن اختلافهم في تأويلها يدل على جهلهم بمعانيها، وجهلهم بمعانيها دليل على أن الله سبحانه وتعالى لم يجعلهم أهلاً لتأويل كتابه، وهداية عباده؛ لأنهم لو كانوا أهلاً لذلك لعلموه، ولو علموه لم يختلفوا فيه؛ لأن الله سبحانه لا يصطفي لإرث كتابه إلا من يعلم من حالهم أنهم لا يخالفون الدين، ولا يختلفون فيه، ولأن تأويلاتهم المختلفة لا يصح أن تكون بياناً للمجمل لكونها أحوج إلى البيان، وذلك يؤدي إلى أن يحتاج كل بيان إلى بيان، أو إلى اقتصار على بيان عالم منهم دون غيره بغير دليل.
ولأنه لو كان جائزاً لكل عالم من فرق الأمة أن يتأول مع اختلافهم للزم أن يكون الله سبحانه آمراً بالإختلاف والتفرق الذي نهى عنه - تعالى عن ذلك علواً كبيراً - ولبطل معنى التمييز بالإمتحان الذي أخبر الله سبحانه أنه يميز به الخبيث من الطيب، ولو بطل ذلك لبطل معنى الثواب والعقاب.
ومما ذكره الأئمة - عَلَيْهم السَّلام - في معنى ذلك:
ما حكاه المرتضى لدين الله محمد بن يحيى عن أبيه الهادي إلى الحق - عَلَيْهما السَّلام - في الإيضاح أنه أجاب من سأل عن مثل ذلك بجواب منه، قوله: فإن قال: وما هذا الذي منع الله سبحانه أن يجعل القرآن كله محكماً ولا يجعل فيه متشابهاً، ومنعه أن يأمر بنصب علي وقطع الأمر فيه وجعل ذلك بالدلالات، والإشارات والعلامات، ومنع رسول الله -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم- من ذلك فيه؟

(1/180)


قيل له: باب المحنة والإختبار، وما أراد الله سبحانه أن يكون في عباده من الأخيار، وما فرض عليهم من معرفة الحق واقتباسه من أهله، والوقوف عن الباطل والرفض له بعد معرفته؛ {لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَا مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ(42)} [الأنفال].
[ذكر معارضة المعتزلة لما تستدل به العترة من الأخبار في مسألة الإمامة والجواب عن ذلك]
الثانية: معارضتهم لما تستدل به العترة من الأخبار بقولهم في المجمع عليه منها: إنه متأول كالآيات، وفيما عداه إنه أخبار آحاد لا يوصل إلى العلم.
ومما يجاب به عن ذلك: أن يقال: إن الذي يدل على صحة الخبر وعلى معناه هو كونه موافقاً لمعنى المحكم من الكتاب إذا عرض عليه كما أمر النبي - صَلَّى الله عَلَيْه وآله - وإذا كان الكلام في الخبر فرعاً على الكلام في المحكم الذي خالفت المعتزلة في كونه محكماً فلا وجه للكلام معهم في الخبر إلا على سبيل الإلزام بأن يقال: قد ثبت بما تقدم ذكر بعضه من الأدلة أن العترة أهل الكتاب وورثته وأهل النبي -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم- وذريته، وأنهم لأجل ذلك أعلم الأمة بالكتاب والسنة، وإذا ثبت ذلك علم على الجملة أن كل معارض لهم فيهما رافض، وأن معارضة كل رافض باطلة.

(1/181)


[ذكر تقسيم أمير المؤمنين (ع) لرجال الحديث]
ويؤيد ذلك: ما حكي في كتاب نهج البلاغة عن أمير المؤمنين - عَلَيْه السَّلام - أنه قال: (رجال الحديث أربعة: الأول: منافق يتعمد الكذب؛ وظاهره أنه صاحب لرسول الله - صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم - وهو ممن وصفه الله بما وصف وبقي بعد النبي -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم- يتقرب بالكذب إلى أئمة الضلال، وإنما الناس مع الملوك والدنيا إلا من عصم الله.
والثاني: رجل سمع ولم يحفظ بل توهم.
والثالث: رجل سمع شيئاً ثم نُهِي عنه، ولم يعلم بنسخه.
والرابع: رجل سمع من الكلام ما له وجهان ولم يعلم أيهما عنى النبي - صَلَّى الله عَلَيْه وآله - وليس كل أصحاب رسول الله - صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم - كان يسأله ويستفهمه، حتى إن كانوا ليحبون أن يجيء الإعرابي أو الطارئ فيسأله حتى يسمعوه، وكان لا يمر بي من ذلك شيء إلا سألت عنه وحفظته).
وقال - عَلَيْه السَّلام -: (تالله لقد عَلِمتُ بتبليغ الرسالات وإتمام العدات، وتمام الكلمات، وعندنا أهل البيت أبواب الحكم، وضياء الأمر).
[ذكر معارضة المعتزلة لما تستدل به العترة في مسألة الإمامة من إجماعهم على دعواهم للنص والحصر والجواب عن ذلك]
الثالثة: معارضتهم للإستدلال بإجماع العترة على دعواهم للنص والحصر بقولهم: إن ذلك مثل شهادة الجارِّ للنفع إلى نفسه.

(1/182)


ومما يجاب به عن ذلك: أن الذي دل على كون إجماع العترة حجة؛ هو إخبار الله سبحانه في كتابه وعلى لسان نبيه بأنه اختارهم من خلقه، واصفطاهم لإرث كتابه، وللجهاد فيه حق جهاده، وللشهادة له على عباده، وأمرهم بمودتهم وطاعتهم، وسؤالهم والرد إليهم، وجعله لطاعتهم مقرونةً بطاعته؛ فدل بذلك على عصمة جماعتهم، وعدالة أئمتهم، وكل من أوجب الله ذلك له فقوله حجة وقبوله واجب.
وأما قياسهم لذلك على شهادة الجار لنفسه؛ فهو قياس من لا يعرف شروط القياس؛ لأن الإجماع دليل يحصل به العلم، والشهادة يحصل بها الظن، ولأن القياس لا يكون إلا لما لا دليل عليه، والإجماع مدلول عليه، ولأن من شرط ما يقاس أن يكون مشاركاً لما يقاس عليه في علة الحكم المطلوب، ولأن إجماع العترة على دعوى الإمامة لا تجر لهم في الدنيا إلا المضار التي تزيل التهم عنهم لكون ذلك تكليفاً شاقاً، فبان بذلك أن الإجماع والشهادة لم يشتركا في شيء من أوصافهما، وكل أمرين لم يشتركا في وصف فقياس أحدهما على الثاني باطل.
[ذكر أدلة الأئمة على حجية إجماع العترة]
وقد تكلم في ذلك: السيد أبو طالب يحيى بن الحسين الهاروني، والسيد أبو عبدالله الحسين بن إسماعيل الجرجاني، والإمام المنصور بالله - على جميعهم السلام - بما يكثر أن يحكى لفظاً ومعنى.

(1/183)


فمن معاني أدلة السيد أبي طالب (عَلَيْه السَّلام): نفي الله سبحانه للرجس عن العترة في آية التطهير، وهو رجس المعاصي؛ فدل بذلك على أنهم لا يجمعون إلا على حق يجب قبوله.
ومن معاني أدلة السيد أبي عبدالله - عَلَيْه السَّلام -: مقارنة النبي - صَلَّى الله عَلَيْه وآله - للعترة بالكتاب ونفيه لافتراقهما، وتسميته لهما باسم واحد وهو الثقل؛ فدل بذلك على كونهم حجة كالكتاب.
ومن معاني أدلة الإمام المنصور بالله - عَلَيْه السَّلام -: جعل الله سبحانه العترة شهوداً على الناس وهو سبحانه لحكمته لا يختار للشهادة إلا العدول، والعدول لا يقولون إلا الحق، والحق لا يجوز خلافه.
وجعل النبي - صَلَّى الله عَلَيْه وآله - التمسك بهم شرطاً للنجاة من الضلال، قال (عَلَيْه السَّلام): (ولا يُشَبَّه إجماع العترة بشهادة الجارِّ إلى نفسه؛ لكون إجماعهم منصوصاً عليه من جهة غيرهم، قال: ولأن الأمة قد تجمع على ما يجر النفع إليها، ولا يرد إجماعها).
[ذكر معارضة المعتزلة لما أوجب الله سبحانه من مودة العترة والجواب عن ذلك]
الرابعة: معارضتهم لما أوجب الله سبحانه من مودة العترة وتعظيمهم وتفضيلهم؛ بغلوهم في مدح الصحابة على الجملة، واستدلالهم على ذلك بروايتهم عن النبي - صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم - أنه قال: ((أصحابي مثل النجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم)) ونحو ذلك.

(1/184)


ومما يجاب به عن ذلك: لكونه شبهة يجب حلها أن يقال: إن مدح الصحابة على الإطلاق بعد تفرقهم يؤدي إلى مخالفة إجماع العترة، وإلى الإخلال بفرض الولاء والبراء، وإلى لبس أئمة الهدى بأئمة الضلال، وإلى لبس المحق بالمبطل، وإلى تعظيم من لا يجوز تعظيمه، وكل ذلك قبيح، وما أدى إلى القبيح فهو قبيح.
وذلك لكون اسم الصحابة عاماً لكل من صحب النبي - صَلَّى الله عَلَيْه وآله - في حياته، وقد تفرقوا بعد وفاته؛ فمنهم: من ارتد عن جملة الإسلام.
ومنهم: من بقي على نفاقه مجتهداً في التدليس.
ومنهم: من ظلم الأمة بصده لهم عن سبيل نجاتهم، وظلم الأئمة بدفعه لهم عن مقامهم وإرثهم، وظلم الإمامة بجعله لها في غير موضعها، وظلم نفسه بمعصيته لله ورسوله في نكثه لبيعته ورجوعه عن جيش أسامة بغير إذن، وقطعه لما أمر الله به أن يوصل، وكونه أول من سن رفض الأئمة، والخلاف بين الأمة، وقد ميز الله سبحانه من لم يظلم من المؤمنين عمن ظلم بقوله: {الَّذِينَ ءَامَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ(82)} [الأنعام].
ومنهم: الناكثون، ومنهم: القاسطون، ومنهم: المارقون، ومنهم: المعتزلون لعلي - عَلَيْه السَّلام - المكتفون بأنفسهم، والمحكمون لآرائهم المتشككون في جهاد معاوية.

(1/185)


فبأي هؤلاء يقتدي المقتدي؟ وأين فضل الصحابة من فضل القرابة؟ وما المانع من أن يكون لأهل السقيفة أسوة بقوم موسى - صلى الله عليه - في فعلهم ومعصيتهم لولي أمرهم، وخليفة نبيهم فيهم، كما أن لأمير المؤمنين –عَلَيْه السَّلام- أسوة بهارون - عَلَيْه السَّلام -.
[حكاية تظلُّم أمير المؤمنين(ع) وتشكيه من أهل السقيفة]
ومما يؤيد هذه الجملة من كلام أمير المؤمنين - عَلَيْه السَّلام -:
قوله في كتاب المحن: (فلم أشعر بعد قبض رسول الله - صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم - إلا برجال من بعث أسامة وعسكره، قد تركوا مراكزهم، وأخلوا مواضعهم، وخالفوا أمر رسول الله - صَلَّى الله عَلَيْه وآله - فيما أنهضهم فيه، وأمرهم به، وتقدم إليهم فيه من ملازمة أميرهم والمسير معه وتحت لوائه حتى ينفذ لوجهه الذي وجهه له، وخلفوا أميرهم مقيماً في عسكره؛ فأقبلوا يتبادرون على الخيل ركضاً إلى عقد عقده الله ورسوله - صَلَّى الله عَلَيْه وآله - لي في أعناقهم، وعهد عهده الله لي إليهم ورسوله فنكثوه وعقدوا لأنفسهم).
وقوله المحكي في كتاب نهج البلاغة: (حتى إذا قبض رسول الله - صلى الله عليه وعلى آله - رجع قوم على الأعقاب، وغالتهم السبل، واتكلوا على الولائج، ووصلوا غير الرحم، وهجروا النسب الذي أمروا بمودته، ونقلوا البناء عن أرض أساسه، فبنوه في غير موضعه).

(1/186)


وقوله: (اللهم إني استعديك على قريش؛ فإنهم قطعوا رحمي، وأكفأوا إنائي، وأجمعوا على منازعتي حقاً كنت أولى به من غيري، وقالوا ألا إن في الحق أن نأخذه وفي الحق أن نُمْنَعَه، فاصبر مغموماً أو مت متأسفاً؛ فنظرت فإذا ليس لي رافد ولا ذاب ولا مساعد إلا أهل بيتي؛ فظننت بهم عن المنية).
وقوله في خطبته المعروفة بالموضحة ذات البيان: (فاجتدع المسلمون ثمَّ سبقي، واقتطعوني دون حقي، التيمي منهم ثم العدوي، احتيالاً واغتيالاً إلى قوله بعد ذكره للمواقف التي لم يسبق إليها أهل السبق إلى السقيفة معرضاً لهم بقول الله سبحانه: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا فَلَا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبَارَ(15) وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ(16)} [الأنفال]، ثم قال - عَلَيْه السَّلام -: (فاغضبوا رحمكم الله على من غضب الله عليه).
وروى فيها بعد ذلك عن النبي - صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم - أنه قال: ((ترفع لي يوم القيامة ريح سوداء تخطف من دوني أقواماً ممن صحبتهم وصحبوني من عظماء أصحابي من المهاجرين والأنصار؛ فأقول: يا رب أصحابي؛ فيقال: يا أحمد إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك، إنهم ارتدوا على أدبارهم القهقرى)).

(1/187)


[ذكر معارضة المعتزلة لما أوجب الله سبحانه من سؤال أهل الذكر من العترة]
الخامسة: معارضتهم لما أوجب الله سبحانه من سؤال أهل الذكر من العترة، والرد إلى أولي الأمر منهم بادعائهم أن كل عالم منهم متعبد بنظره واجتهاده، واحتجاجهم على ذلك بروايتهم عن النبي - صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم - أنه قال: ((العلماء ورثة الأنبياء)).
وبحكايتهم عن أمير المؤمنين - عَلَيْه السَّلام - أنه كان يرى جواز بيع أمهات الأولاد في أحد قوليه، وأن عَبيدة السلماني قال له: (رأيك يا أمير المؤمنين في الجماعة أحب إلينا من رأيك وحدك).
وبروايتهم أن النبي - صَلَّى الله عَلَيْه وآله - أذن لمعاذ حين بعثه إلى اليمن أن يجتهد رأيه إذا عدم الحكم في الكتاب والسنة، وأنه قال - صَلَّى الله عَلَيْه وآله -: ((كل مجتهد مصيب)).
[احتجاج المعتزلة بقوله(ص): ((العلماء ورثة الأنبياء)) والجواب عن ذلك]
فأما احتجاجهم بقوله - صَلَّى الله عَلَيْه وآله -: ((العلماء ورثة الأنبياء)) فإنما أصلوا ذلك ليتوصلوا به إلى أن يجعلوا أنفسهم من ورثته - صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم - خلافاً للعترة.
ومما يمكن أن يجاب به عن ذلك: أن يقال: إن قوله: ((العلماء ورثة الأنبياء)) لا يخلو إما أن يريد به علماء كل فرقة مع اختلافهم، أو يريد به علماء الفرقة الناجية، ولا يجوز أن يريد به علماء كل فرقة لوجهين:

(1/188)


أحدهما: أن في تجويز نجاة علماء كل فرقة رد ما أخبر الله تعالى به من ضلال كثير من الأحبار والرهبان.
والثاني: ما في ذلك من تجويز أن يكون الله سبحانه أمر المختلفين بسؤال المختلفين، وكل ذلك باطل، وفي بطلانه دليل على أن النبي - صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم - لم يرد بذلك إلا علماء الفرقة الناجية.
وإذا ثبت بأدلة الكتاب والسنة أن العترة ومن شايعهم هم الفرقة الناجية لزم من أنكر ذلك بعد معرفته له بقلبه، وإن أنكره بلسانه أن يكون كاتماً لما أنزل الله من البيان فيهم، وقد قال سبحانه [وتعالى]: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ(159) إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا...الآية} [البقرة].
وشاهد هذه الجملة: ما روي من ذم زيد بن علي - عَلَيْه السَّلام - لعلماء الفرق في رسالته التي منها قوله: (عباد الله: إن الظالمين قد استحلوا دماءنا، وأخافونا في ديارنا، وقد اتخذوا خذلانكم حجة علينا، فيما كرهوه من دعوتنا، وفيما سفهوه من حقنا، وفيما أنكروه من فضلنا.

(1/189)


عباد الله: فأنتم شركاؤهم في دمائنا، وأعوانهم على ظلمنا، فكل مال لله أنفقوه، وكل جمع جمعوه، وكل سيف شحذوه، وكل عدل تركوه، وكل جور ركبوه، وكل ذمة لله أخفروها، وكل مسلم أذلوه، وكل كتاب نبذوه، وكل حكم لله عطلوه، وكل عهد لله نقضوه؛ فأنتم المعاونون لهم بالسكوت عن نهيهم عن السوء.
عباد الله: إن الأحبار والرهبان من كل أمة مسؤلون عما استحفظوا عليه؛ فأعدوا جواباً لله سبحانه عن سؤاله).
[حكاية المعتزلة أن أمير المؤمنين(ع) كان يرى بالرأي ويجوز بيع أمهات الأولاد والجواب على ذلك]
وأما حكايتهم عن أمير المؤمنين عَلَيْه السَّلام: أنه كان يرى بالرأي، وبجواز بيع أمهات الأولاد؛ فأصَّلوه ليتوصلوا به إلى دعوى كونه - عَلَيْه السَّلام - مجمعاً معهم على القول بالرأي، وإلى تجويز مخالفتهم لرأيه فيما خالفهم فيه.
والجواب: أن ذلك غير صحيح عن أمير المؤمنين - عَلَيْه السَّلام -؛ لأن تحريم بيع أمهات الأولاد ثابت بقول النبي - صَلَّى الله عَلَيْه وآله - لأم ولدهِ: ((أعتقها ولدها))، وذلك نص لا يجوز أن ينسب إلى أمير المؤمنين - عَلَيْه السَّلام -، أنه يجهله ولا أنه يخالفه برأيه.
وأما حكايتهم عن عَبِيدة أنه لا يحب من رأي أمير المؤمنين إلا ما وافق هواه ففي ذلك -مع كونه غير صحيح- دليل على أن من يفعل ذلك رافض أو مشك.

(1/190)


وشاهد ذلك: قول الهادي إلى الحق - عَلَيْه السَّلام - في باب بيع أمهات الأولاد من كتاب الأحكام: (فأما ما يرويه همج الناس عن أمير المؤمنين من إطلاق بيعهن؛ فذلك ما لا يصدق به عليه، ولا يقول به من عرفه فيه.
وفي ذلك: ما حدثني أبي عن أبيه أنه سئل عن بيع أمهات الأولاد؛ فقال: لا يجوز ذلك فيهن، ولا يحكم به عليهن.
وأما ما يرويه أهل الجهل عن أمير المؤمنين؛ فلا نقبل ذلك منهم ولا نصدق به عليه).
[رواية المعتزلة عن النبي (ص) أنه أذن لمعاذ أن يجتهد رأيه والجواب عن ذلك]
وأما روايتهم عن النبي - صَلَّى الله عَلَيْه وآله - أنه أذن لمعاذ أن يجتهد رأيه، فأصلوه ليتوصلوا به إلى معارضة ما يجب من سؤال أهل الذكر، والرد إلى أولي الأمر، والحجة فيه عليهم لا لهم؛ لأنه إذا صح فإنما جاز لمعاذ بشروط لم يوجد مثلها لأحد من المعتزلة، وهي إذن النبي - صَلَّى الله عَلَيْه وآله - لمعاذ في ذلك، وكونه عالماً بأحكام الكتاب والسنة التي لا يجوز الإجتهاد إلا بعد عدمها، وكون علمه بذلك سماعاً له عن النبي - صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم - ولا مخالف له في تأويلها، وكون معاذ في تلك الحال موافقاً لأهل الحق، وكون اجتهاده فيما حدث دون ما سيحدث، وفي حال بُعْدِه عمن يجب عليه سؤاله والرد إليه، وبَعْدَ عدمه للحكم في الكتاب والسنة، وكونه في حكم المضطر إلى أن يجتهد.

(1/191)


[رواية المعتزلة عن النبي (ص) أنه قال: ((كل مجتهد مصيب)) والجواب على ذلك]
وأما روايتهم عن النبي - صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم - أنه قال: ((كل مجتهد مصيب)) فأصلوه ليتوصلوا به إلى تصويب مشائخهم؛ فيما أداهم إليه الإجتهاد والرأي من البدع؛ نحو اجتهاد أهل السقيفة في أن يجعلوا الإمامة في أبي بكر، واجتهاد أبي بكر في أن ينزع فدكاً من أهلها وأن يجعل الإمامة في عمر، واجتهاد عمر في أن ينقص من الأذان ما هو منه، ويزيد فيه ما ليس منه، وأن يثبت صلاة التراويح، وأن يجعل الإمامة شورى في ستة، واجتهاد عثمان في أن يؤوي طريد رسول الله - صَلَّى الله عَلَيْه وآله -، ويؤثره وأشباهه بما جعله الله ورسوله لكافة المسلمين، وما أشبه ذلك من اجتهاداتهم، واجتهادات أتباعهم، من أئمة الضلال وعلماء السوء.
ومما يمكن أن يجابوا به: أن يقال: إن ذلك الخبر لا يخلو إما أن يحمل على ظاهره؛ فيلزم من ذلك أن يكون ناسخاً لأكثر نصوص الكتاب والسنة، وأن لا يخطأ أحد من جميع ما أداه اجتهاده إلى تحليل ما حرم الله سبحانه، وذلك باطل بالإجماع.
وإما أن يكون متأولاً؛ فيبطل احتجاج المعتزلة به، ويجب أن يتأول على ما يوافق الحق والمحقين.
[أقسام الإجتهاد]
وبيان ذلك: أن الإجتهاد ينقسم؛ فمنه ما يجب أن يرجع فيه إلى الإستنباط من غامض علم الكتاب والسنة لا إلى الظن، وذلك هو الذي أمر الله سبحانه برده إلى أولي الأمر، وهم الأئمة السابقون.

(1/192)


وإنما وجب رده إليهم لأنه لا يجتهد فيه إلا بعد عدم الدليل الظاهر عليه في الكتاب والسنة، ولا يعدمه إلا من أحاط بعلم أحكامهما، ولا يحيط بعلمهما إلا السابق بالخيرات من أهلهما وورثتهما، ولأن من شرط من يصلح للإجتهاد عند الجميع أن يكون عالماً بخطاب الله سبحانه، وخطاب رسوله - صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم -، وكيفية الإستدلال بذلك.
ومن جملة خطاب الله وخطاب رسوله، ما تقدم ذكر بعضه من نصوص الكتاب والسنة الدالة على حصر الإمامة، وقد خالفت فيها المعتزلة؛ فيلزم أن يكونوا جاهلين ببعض خطاب الله وخطاب رسوله -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم-، وقد أجمعوا على أن من جهل شيئاً من ذلك؛ لم يصح اجتهاده ولا تسميته بالفقيه حقيقة.
ومن الإجتهاد ما يرجع فيه إلى الإقتداء بظواهر النصوص واعتبار الأحوال، وذلك نحو ما يرد إلى الحكام من تقدير النفقات وأروش الجنايات، ونحو ما يرد إلى حكم ذوي عدل في تقويم جزاء ما يستهلك من الصيد المُحَرَّمِ، وكذلك ما يرد إلى حكم الحكمين، المبعوثين من أهل الزوجين، كما أمر الله سبحانه.
ومن الاجتهاد ما لا يقوم فيه أحد مقام أحد، نحو تحري جهة الكعبة، ووقت الصلاة إذا أشكل، وهذا وما أشبهه خاصة هو الذي يصح أن يقال فيه على الإطلاق: إن كل مجتهد مصيب

(1/193)


[ذكر أقوال الأئمة (ع) في ذم من يقول في الدين بالرأي]
ومما يؤيد هذه الجملة من أقوال الأئمة في ذم من يقول في الدين بالرأي، ويعارض الأئمة في الإجتهاد:
قول أمير المؤمنين - عَلَيْه السَّلام - فيما حكي عنه في كتاب نهج البلاغة: (إن أبغض الخلائق إلى الله رجلان: رجل وكله الله إلى نفسه، فهو جائر عن قصد السبيل مشغوف بكلام بدعة، ودعاء ضلالة؛ فهو فتنة لمن افتتن به، ضال عن هدي من كان قبله، مضل لمن اقتدى به في حياته وبعد وفاته، حمال خطايا غيره، رهن بخطيئته.
ورجل قمش جهلاً موضع في جهال الأمة، عادٍ في أغباش الفتنة، عم بما في عقد الهدنة، قد سماه أشباه الناس عالماً وليس به)
إلى قوله -عَلَيْه السَّلام-: (فإن نزلت به إحدى المبهمات هيأ لها حشواً رثاً من رأيه، ثم قطع به، فهو من لبس الشبهات، في مثل نسج العنكبوت، لا يدري أصاب أم أخطأ، إن أصاب خاف أن يكون قد أخطأ، وإن أخطأ رجا أن يكون قد أصاب، جاهل خباط جهالات، عاشٍ ركاب عشوات، لم يعض على العلم بضرس قاطع، يَذْري الروايات إذراء الريح الهشيم، لا مليء والله بإصدار ما ورد عليه، ولا هو أهل لما فوض إليه، لا يحسب العلم في شيء مما أنكره، ولا يرى أن وراء ما بلغ منه مذهباً لغيره، وإن أظلم عليه أمره اكتتم به، لما يعلم من جهل نفسه).
وقوله -عَلَيْه السَّلام-: (وآخر قد تسمى عالماً وليس بعالم، فاقتبس جهائل من جهال، وأضاليل من ضلال، ونصب للناس أشراكاً من حبائل غرور، وقول زور، وقد حمل الكتاب على آرائه، وعطف الحق على أهوائه، يُؤَمِّنُ من العظائم، ويهون كبير الجرائم، يقول: أقف عند الشبهات وفيها وقع، ويقول: أعتزل البدع وفيها اضطجع).
..

(1/194)


وقول محمد بن القاسم - عَلَيْهما السَّلام - في كتاب شرح دعائم الإيمان: (فأهل غائص الفهم الذين لا يتكلفون النطق فيه، ولا يسألون عما لم يقع؛ فإذا وقع لزمهم النظر فيه، فوجدوه في الكتاب والسنة، والأدلة القائمة، ولم يقولوا في دين الله وأحكامه وشرائعه برأيهم وقياسهم، بل يغوصون عليه بغائص فهمهم، حتى يخرجوه من الكتاب والسنة والأدلة القائمة.
كما روي ذلك عن علي - صلوات الله عليه- حين أراد عمر أن يرجم امرأة أتت بولد لستة أشهر؛ فقال: (إن خاصمتكم بكتاب الله خصمتكم، قال الله تعالى: {وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا} [الأحقاف:15]، فخلا عمر سبيلها).
وقول الهادي إلى الحق - عَلَيْه السَّلام - في كتاب القياس: (والقياس فلا يجوز أبداً ولا يكون بحيلة من الحيل، ولا يمكن أن يتناوله متناول، ولا يطول إليه متطاول، ولا يطمع فيه طامع إلا من بعد إحكام أصول العلم بالكتاب، والوقوف على ما فيه من جميع الأسباب، من الحلال والحرام، وما جعل الله فيه من الأحكام، وبين عز وجل من شرائع الإسلام، التي جعلها الله سبحانه للدين قواماً، وللمسلمين إماماً، ومن بَعْدُ علم أصول السنة، وفهم فروعها المتفرعة...

(1/195)


فإذا تمكن المتمكن في علمه، وأحاط بجميع ما تحتاج إليه الأمة في دينها، ثم فرع فيها للأمة ما لا غنى بالأمة عن معرفته في جميع أسبابها، من حلالها وحرامها، وما جعله الله ديناً لها، وافترضه سبحانه عليها؛ فإذا فرغ من علوم الدين، وأحاط بمعرفة ما افترض الله على المسلمين، فكان بذلك كله عارفاً، ومن الجهل بشيء منه سالماً.
ثم كان من بعد ذلك ذا لب رصين، ودين ثابت متين، جاز له القياس في الدين، وأمكنه الحكم في ذلك وبه بين المؤمنين، وكان حقيقاً بالصواب، حرياً بإتقان الجواب.
إلى قوله: ثم اعلم أيها السائل علماً يقيناً، وافهم فهماً ثابتاً متيناً، أن العلماء تتفاضل في علمها، وتتفاوت في قياسها وفهمها، وفيما قلنا به من ذلك؛ يقول الله سبحانه: {نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ(76)} [يوسف]، وإنه ليس أحد من المخلوقين، أولى بفهم أحكام رب العالمين، ممن اختاره الله واصطفاه، وانتجبه وارتضاه)...

(1/196)


وقول الناصر للحق الحسن بن علي - عَلَيْهما السَّلام - فيما حكى عنه مصنف المسفر: (ولله أدلة على الحوادث على المكلف إصابتها التي الأمة فيها سواء، فأما سوى هذه الأصول من الأحكام في الحوادث النازلة التي يسوغ فيها الإجتهاد إذ لا نص فيها من كتاب ولا سنة، ولا إجماع من الأمة والأئمة؛ فالإجتهاد فيها إلى علماء آل الرسول - عَلَيْهم السَّلام - دون غيرهم لقوله تعالى: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} [النساء:59]، ولقوله تعالى: {وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ..الآية} [النساء:83].
وقول الإمام المنصور بالله عبدالله بن حمزة - عَلَيْه السَّلام -، في الرسالة الناصحة للإخوان: (وما ذكر الناصر - عَلَيْه السَّلام - من أن الإجتهاد جائز فيما لا نص فيه؛ فذلك ثابت عندنا فيما لا نص فيه، ولا استدلال بنص ولا ما يجري مجراه، ولا ما يتبعه من القياس على النص، وبعد ذلك يصح الإجتهاد لمن جمع شروط الإجتهاد، وهو أن يكون عالماً بخطاب الله تعالى، وخطاب رسوله - صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم -، وأقسام الخطاب، وأحكامه، وما يجوز عليه تعالى في الخطاب، وما لا يجوز، وما يجوز أن يفعله، وما لا يجوز أن يفعله، وما يتبع ذلك من الأخبار والأفعال، والإجماع والقياس...

(1/197)


ويشتمل هذا على الأوامر والنواهي، والعموم والخصوص، والمجمل والمبين، والناسخ والمنسوخ، والمحكم والمتشابه، والأخبار والأفعال، والإجماع والقياس، وأدلتها وأحكامها، وعلل ما يجب تعليله منها، وكيفية الإستدلال بها، وما يتبع كيفية الإستدلال؛ على ما ذلك مقرر في مواضعه من أصول الفقه.
وأهل البيت - عَلَيْهم السَّلام - أحق بذلك؛ لأن الرجوع إليهم واجب بما ظهر من الأدلة بما قدمنا، ولأن اتباع آحادهم من العلماء تكون النفس إليه أسكن، والظن لإصابته أغلب، والدليل على وجوب اتباع الإمام منهم قائم، وهو الأمر بطاعته في قوله تعالى: {أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ } [النساء:59]، وأولوا الأمر هم الأئمة - عَلَيْهم السَّلام -.
وقال تعالى: {وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ} [النساء:83]، والطاعة تشمل ذلك، وقد أمرنا بالرد إليهم، والأمر يقتضي الوجوب، ولأن قضاياه أحكام وقضايا غيره فتاوى، والحكم يسقط الفتوى؛ فإن كان وقت فترة فاتباع عالمهم أولى.
[ذكر جملة مما يعتذر به من جمع بين التشيع والإعتزال]
وأما الفصل الثامن
وهو في ذكر جملة مما يعتذر به من جمع بين التشيع والإعتزال
فالغرض التنبيه -بذكر بعضها وبيان بطلانه- على خدعهم بإظهار التشيع لمن لم يكن ليدخل معهم في مذهب الإعتزال لولا خدعهم له بذلك.

(1/198)


فمما ينبه من ذلك على أشباهه: إيهامهم أنهم لم يجدوا للأئمة في أصول الدين وأصول الفقه من العلم مثل الذي وجدوا للمعتزلة في الدقة والكثرة والبيان، وأنهم لم يتبعوهم في ذلك إلا من طريق النظر والإستدلال لا من طريق التقليد، وأنهم لو اكتفوا في ذلك بعلوم الأئمة للزمهم أن يكونوا مقلدين ومفرطين.
واعتذارهم للأئمة فيما نسبوه إليهم من التقصير، بأنهم قنعوا بالجمل واشتغلوا بالجهاد، وقولهم: إن المعتزلة شيوخ لكثير من الأئمة في العلم، وقول بعضهم: إن لفظة الإعتزال ما ورد في الكتاب والسنة إلا صفة مدح، ومعارضتهم لآيات الإحباط بآيات الموازنة، ليوهموا أن خلاف المعتزلة في الإمامة هين في جنب ما وضعوا من العلوم في العدل والتوحيد، وكل ذلك منهم غلاط، وإخبار بما لا صحة لأكثره.
أما إيهامهم أنهم لم يجدوا للأئمة في الأصولين مثل الذي وجدوا للمعتزلة؛ فلو وقفوا على كتب الأئمة وعقلوا ما فيها لعلموا أن الذم للمعتزلة في اتباعهم لغير ما في الكتاب والسنة، وفي كتب الأئمة أولى من مدحهم لأجل إتيانهم بما لا يعقل، وبما يعلم كونه محالاً على ما يأتي بيانه إن شاء الله سبحانه.
وليس أحد من العلماء المخالفين إلا وفي كتبهم من البدع ما لا يوجد للأئمة مثله؛ فلا معنى لتخصيص المعتزلة بما خالفوا به الأئمة لأجل تسميتهم له علماً.

(1/199)


وأما إيهامهم أنهم لم يتبعوهم في ذلك إلا من طريق النظر والإستدلال لا من طريق التقليد؛ فخلاف ذلك ظاهر؛ لأنهم إن زعموا أنهم نظروا واستدلوا على صحة علوم المعتزلة قبل تعلمهم فيها فذلك محال؛ إذ لا طريق لهم إلى ذلك إلا إخبار الغير لهم عنه.
وإن زعموا أنهم نظروا في صحتها، واستدلوا بعد تعلمهم فيها؛ فقد قلدوا من علّمهم في بدء أمرهم، وفي حال اتباعهم له حتى أدخلهم في مذهبه.
وأما إيهامهم أنهم لو اكتفوا بعلوم الأئمة للزمهم التقليد والتفريط؛ فغلاطهم في ذلك بين؛ لأن الأئمة - عَلَيْهم السَّلام - لا يعلمون من اتبعهم إلا في معقولٍ بينةٍ أدلتُهُ، أو مسموعٍ منصوصٍ عليه، أو فيما يجب رده إليهم، كما يجب رده إلى الرسول؛ لأن الله سبحانه قد أخبر أنهم لو ردوه إليهم لعلموه، وذلك يعم كل مختلف فيه معقولاً كان أو مسموعاً؛ لأن الله سبحانه أدخل حرف من الذي هو للتبعيض على اسم شيء الذي هو أعم النكرات في قوله تعالى: {وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ} [الشورى:10]، فوجب أن يستغرق لكونه عموماً لا مخصص له، وحكم الله سبحانه في كل مختلف فيه أن يرد إلى الكتاب أو السنة إن عدم في الكتاب، أو إلى أولي الأمر إن عدم في السنة على ما تقدم ذكره.

(1/200)


وأما اعتذارهم للأئمة في التقصير عن بلوغ درجة المعتزلة في علوم الدين؛ بأنهم قنعوا بالجمل واشتغلوا بالجهاد؛ فذلك قول من لا يعرف الجمل ولا شروط الجهاد؛ لأن تلك الجمل التي زُعِمَ أنهم قنعوا بها هي منتهى ما يعقل ويجب، ولا منفذ بعدها لعقل مكلفٍ من البشر إلا إلى الغلو والإفراط والخرص والتوهم المنهي عن تكلفه والخوض فيه.
ولأن الجهاد للنفس عن التقصير مقدم على الجهاد للغير، والجهاد بالسيف فرع على الجهاد بالعلم؛ لأن من شرط الإمام الذي يجب عليه الجهاد أن يكون سابقاً، والسابق لا يوصف بأنه قانع في علوم الدين بالجمل لكون القانع بالجمل مسبوقاً.
ومع ذلك فإن أكثر الأئمة - عَلَيْهم السَّلام - لم يكن لهم شغل إلا الجهاد بالعلم دون الجهاد بالسيف؛ لقلة الأتباع، وخذلان الأشياع.
وأما قولهم: إن المعتزلة شيوخ لكثير من الأئمة في العلم؛ فإن أرادوا بذلك الإيهام بأن الأئمة محتاجة إلى المعتزلة في علوم الدين؛ فذلك خلاف ما اقتضته أدلة الكتاب والسنة، وانعقد عليه إجماع العترة.
وإن أرادوا أن من الأئمة من قرأ في علوم المعتزلة على شيوخهم؛ فليس لهم في ذلك حجة؛ لأنه يجوز أن يقرأ في كل فنٍ من سائر العلوم على شيوخ أهله إذا كان فيه صلاح.
وإن أرادوا أن من العترة من اعتزل؛ فلو صح ذلك لم يكن لهم فيه حجة؛ لأن الله سبحانه قد أخبر أن من العترة من هو ظالم لنفسه.

(1/201)


وأما قول من قال منهم: إن لفظة الإعتزال ما وردت في الكتاب والسنة إلا صفة مدح؛ فذلك دليل على أنهم لم يحيطوا بعلم ألفاظ القرآن فضلاً عن معانيه؛ لأن الله سبحانه قد وصف الكفار بالإعتزال في قوله تعالى: {وَإِنْ لَمْ تُؤْمِنُوا لِي فَاعْتَزِلُونِ(21)} [الدخان]، ونحو ذلك مما يدل على أنه لا مدح في لقب الإعتزال لمن اعتزل الحق وأهله، واكتفى في الدين بنفسه، واعتمد فيه على رأيه.
وأما معارضتهم لآيات الإحباط بآيات الموازنة؛ ليتوصلوا بذلك إلى تحسين الظن بالمعتزلة وأئمتهم، وإلى أن يوهموا أن خلافهم في الإمامة هين في جنب أفعالهم المستحسنة، وعلومهم الباهرة؛ فلأنهم لو اعتقدوا كون الإمامة والولاء فيها والبراء من الفروض المعينة التي يقبح الإخلال بها، وقالوا مع ذلك بالإحباط لم يمكنهم تجويز السلامة لأحد ممن يخالف في ذلك، سواء كان من الصحابة أو من المعتزلة أو من غيرهم.
والذي يبطل هذه المعارضة: هو كونها معارضة للمحكم بالمتشابه، وللحقيقة بالمجاز، وبيان ذلك: أن آيات الإحباط لا يعقل معناها إلا إذا حملت على ظاهرها، وذلك هو الذي يدل على صحة كونها محكمة وحقيقة.
وليس كذلك آيات الموازنة؛ فإنه لا يعقل معناها إلا إذا تأولت على غير ما يفيده ظاهرها، أو حملت على أن المراد بها ضرب المثل.

(1/202)


بدليل: أنها لو حملت على ظاهرها للزم من ذلك تجويز وزن الأعراض وكون ذلك محالاً معلوم ضرورة، أو لزم تجويز كون أفعال العباد أجساماً، وكونه محالاً معلوم أيضاً ضرورة، وذلك هو الذي يدل على كون ما كان كذلك متشابهاً ومجازاً.
وإن قيل: إن الوزن يقع على ما هي مكتوبة فيه كان عدولاً عن الظاهر؛ لكون ما هي مكتوبة فيه ليس بطاعة ولا معصية؛ ولأن الصحيح من المذهب أن كل من كانت خاتمة معاصيه التوبة النصوح فهو من أهل الجنة، ومن كانت خاتمة طاعاته الإصرار على معصية واحدة فهو من أهل النار، وذلك مما يرجح القول بالإحباط على القول بالموازنة.
[كلام الأئمة في ذم كل مخالف في الإمامة]
ومما يؤيد ما تقدم ذكره في هذا الفصل من كلام الأئمة في ذم كل مخالف في الإمامة سواء كان صحابياً أو معتزلياً أو كان ممن شايعهم وحسن الظن بهم:
قول أمير المؤمنين - عَلَيْه السَّلام - المحكي عنه في كتاب نهج البلاغة في ذم من استغنى برأيه وعلم شيوخه: (فيا عجباً، وما لي لا أعجب من خطأ هذه الفرق على اختلاف حججها في دينها، لا يقتفون أثر نبي، ولا يقتدون بعمل وصي، ولا يؤمنون بغيب، ولا يَعِفُّون عن عيب، يعملون في الشبهات، ويسيرون في الشهوات، المعروف فيهم ما عرفوه، والمنكر عندهم ما أنكروه، ومفزعهم في المعضلات إلى أنفسهم، وتعويلهم في المبهمات على آرائهم، كأن كل امرء منهم إمام نفسه).

(1/203)


وحُكي عن زيد بن علي - عَلَيْهما السَّلام - أنه نسب ما أصابه من ظلم هشام إلى الشيخين لكونهما أول من سن ظلم العترة والتقدم على الأئمة.
وحكى الإمام المنصور بالله - عَلَيْه السَّلام - كلام محمد بن عبدالله النفس الزكية - عَلَيْه السَّلام - الذي منه قوله: (فأوصى بها أبو بكر إلى عمر عن غير شورى؛ فقام بها عمر وعمل في الولاية بغير عمل صاحبه، وليس بيده فيها عهد من رسول الله - صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم -، ولا تأويل من كتاب الله إلا رأي توخاه، هو فيه مفارق لرأي صاحبه، جعلها بين ستة ووضع عليهم أُمراء أمرهم إن هم اختلفوا أن يقتل الأول من الفتية، وصغروا من أمرهم ما عظم الله، وصاروا سبباً لولاة السوء، وسدت عليهم أبواب التوبة، واشتملت عليهم النار بما فيها، والله جل ثناؤه بالمرصاد).
وقول القاسم بن إبراهيم - عَلَيْه السَّلام - في جواب من سأله عن الشيخين: (كانت لنا أم صديقة بنت صديق، وماتت وهي غضبانة عليهما، ونحن غاضبون لغضبها؛ لقول النبي - صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم -: ((إن الله يغضب لغضب فاطمة ويرضى لرضاها))...

(1/204)


وقوله في كتاب تثبيت الإمامة: (ولو كان الأمر في الإمامة كما قال المبطلون فيها، وعلى ما زعموا من أنهم الحاكمون بآرائهم واختيارهم عليها، وأن الخيرة فيها ما اختاروا، والرأي فيها وبها ما رأوا؛ لكان في ذلك من طول مدة الإلتماس، وما قد أعطبوا بقبحه وفساده من إهمال الناس، ما لا يخفى على نظرة عين، ولا يسلم معه عصمة دين).
وقول الهادي إلى الحق - عَلَيْه السَّلام -، في كتاب الأحكام: (ولاية أمير المؤمنين علي بن أبي طالب - صلوات الله عليه - واجبة على جميع المسلمين، فرض من الله رب العالمين، لا ينجو أحد من عذاب الرحمن، ولا يتم له اسم الإيمان، حتى يعتقد ذلك بأيقن الإيقان).
وقوله في جوابه لأهل صنعاء: (وإلى الله أبرأ من كل رافض غوي، ومن كل حروري ناصبي، ومن كل معتزلي غال).
وقول الناصر للحق الحسن بن علي - عَلَيْه السَّلام - فيما حكاه عنه مصنف المسفر: (لا إيمان إلا بالبراءة من أعداء الله وأعداء رسوله - صَلَّى الله عَلَيْه وآله - وهم الذين ظلموا آل محمد - صَلَّى الله عَلَيْه وآله - وأخذوا ميراثهم، وغصبوا خمسهم، وهموا بإحراق منازلهم)...

(1/205)


وحكى - عَلَيْه السَّلام - أن أبا بكر وعمر اختلفا في المشورة على النبي - صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم - فيمن يرأس على بني تميم من وفدهم فأشار أبو بكر بالأقرع بن حابس، وأشار عمر بغيره، وتعارضا حتى علت أصواتهما فوق صوت النبي - صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم - فأنزل الله سبحانه فيهما: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ(2)} [الحجرات].
قال - عَلَيْه السَّلام -: (فإذا كانت طاعتهم تحبط برفع الصوت؛ فما ظنك بمن قلة طاعته، وعظم خلافه للنبي - صَلَّى الله عَلَيْه وآله -).
وحكى عنه جوابه عن تعميقات الفلاسفة، ثم قال -وخص بالإنكار المعتزلة لأنهم خائضون فيما دق عليهم ولم يكلفوه، وهم معروفون به-؛ فقال - عَلَيْه السَّلام - في كتاب الكفر والإيمان: (ثم انصدعت من هذه الملة طائفة تحلت باسم الإعتزال استهواها واصل بن عطاء، وعمرو بن عبيد...

(1/206)


إلى قوله: ولأن غرضه - عَلَيْه السَّلام - ترك الخوض فيما دق إذ لم يكلفه الخائض فيه، كالقول في معرفة الباري تعالى عن غير الجهة التي عرفهم منها نفسه، حتى خاضوا في صفات ذاته، وضربوا له الأمثال، وقد نهى الله عن ذلك؛ فقال تعالى: {فَلَا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثَالَ} [النحل:74]، {وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ(33)} [الأعراف]، وبالغوا في خلاف ذلك ولم يرضوا حتى تعدوا إلى الكلام في كل ما لا يعلمون ولا يدركون خلافاً لله تعالى ولرسوله - صَلَّى الله عَلَيْه وآله -، وابتداعاً وتخرصاً وميناً، ورمياً بعقولهم وحواسهم من وراء غاياتها ونهاياتها؛ تائهة ضالة حائرة مرتطمة في بحور الجهالات، على غير مثال، وبغير دليل.
فتكلموا في تقضي نعيم أهل الجنة، وما قدرها وهيئتها من التدوير والتربيع حتى تبرأ بعضهم من بعض لأجل الخلاف بينهم فيه، وقالوا بالأصلح، واللطف، والكمون والظهور، وتحديد الأعراض والأجسام والجزء، والطفر، وفي إرادة الله تعالى، وفي علمه، وإدراكه، وما حقيقة المعلوم والمجهول، والمباشرة للفعل والتولد، والمداخلة بين الأجزاء والمجاورة...

(1/207)


وقد كُفُوا عن ذلك بما أبانه الله تعالى من وصفه لنفسه، ووصفه لخلقه فقال: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ(11)} [الشورى]، وقال: {لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ(103)} [الأنعام]، وقال تعالى في وصف خلقه: {وَيَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ(8)} [النحل].
إلى قوله: وتكلموا من دقيق الكلام بما لم يكلفوا، وبما لعل حواسهم خلقت مقصرة عن إدراك حقيقتها، وعاجزة عن قصد السبيل فيها).
وقول القاسم بن علي العياني - عَلَيْه السَّلام - في كتاب التنبيه: (وسألت عن السواد الأعظم، وإرماله للحج إلى بيت الله الحرام، وزيارة قبر رسول الله - عَلَيْه السَّلام -، يشهدون بالأمر والخلافة لصاحب الغار، وينكرون قول رسول الله - صَلَّى الله عَلَيْه وآله -: ((من كنت مولاه فعلي مولاه)).
الجواب: اعلم أيها الأخ - أكرمك الله - أن هؤلاء سامرية أمة محمد - صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم - ولا فرق بينهم وبين سامرية أمة موسى - صلى الله عليه - كما لا فرق بين موسى ومحمد، وكما لا فرق بين هارون وعلي إلا النبؤة لقول النبي - صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم -: ((علي مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي)))...

(1/208)


وقول ابنه الحسين بن القاسم - عَلَيْهما السَّلام - في كتاب الرد على الملحدين: (فيا أيتها الأمة الضالة عن رشدها، الجاهدة في هلاك أنفسها، أمرتم بمودة آل النبي أم فرض عليكم مودة تيم وعدي).
وقول الإمام المتوكل على الله أحمد بن سليمان - عَلَيْه السَّلام - في كتاب الحكمة: (وكان من جملة الظالمين من غصب علياً - عَلَيْه السَّلام - حقه، وأنكر سبقه، واستولى على الأمر الذي كان أولى به، كأبي بكر وعمر وعثمان ومن أعانهم على أمرهم).
وقوله في جواب مسائل الأمراء السليمانيين: (سموا المعتزلة معتزلة حيث اعتزلوا عن أمير المؤمنين - عَلَيْه السَّلام - منهم سعد بن مالك بن أبي وقاص، وعبدالله بن عمر، ومحمد بن مسلمة الأنصاري، وأسامة بن زيد بن حارثة الكلبي، والأحنف بن قيس، وسموا نفوسهم أهل العدل والتوحيد).
وقول الإمام المنصور بالله عبدالله بن حمزة - عَلَيْه السَّلام - في شرح الرسالة الناصحة: (وقد روينا عن أبينا رسول الله - صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم - أنه قال: ((من كان في قلبه مثقال حبة من خردل عداوة لي ولأهل بيتي لم يرح رائحة الجنة)) ولا يعلم أشد لهم عداوة، ولا أعظم مكيدة لدين الله سبحانه ونبيه - صَلَّى الله عَلَيْه وآله - ممن أنكر فضل عترته، وساوى بينهم وبين غيرهم).
وقوله: (ولا يرد الحوض إلا من خلصت مودته لهم، ولا تخلص مودة من أنكر فضلهم، وجحد حقهم، وساوى بينهم وبين غيرهم).

(1/209)


وقوله: (كيف يكون شيعياً لآل محمد - عليه وعَلَيْهم السَّلام - من أنكر فضلهم، وجحد حقهم، وقبس العلم بزعمه من غيرهم).
وقوله في الشافي: (اعلم أن كافة أهل البيت الطاهرين، ذرية خاتم النبيين -صلى الله عليه وعلى آله- يدينون ويعتقدون أنه لا نجاة لأبي بكر وعمر وعثمان إلا بخلوص ولايتهم [فيهم]؛ لأن الله تعالى أوجب محبتهم على جميع المكلفين، وهم منهم.
ولأنا روينا عن النبي - صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم - أنه قال: ((أحبوا الله لما يغذوكم به من نعمه، وأحبوني لحب الله، وأحبوا أهل بيتي لحبي))).
[ذكر فروق تميز بين أئمة العترة وعلماء العامة]
وأما الفصل التاسع
وهو في ذكر فروق تميز بها بين أئمة العترة ومخالفيهم من علماء العامة
[الفرق الأول: اختلافهم في الفضل]
فأول ذلك: اختلافهم في الفضل، وذلك لأنه قد ثبت بالأدلة أن العترة خيرة الله سبحانه الذين خصهم بولادة أنبيائه، واصطفاهم لإرث كتابه، وخلافة نبيه، وحفظ دينه؛ فدل ذلك على أنهم الفضلاء ومن عداهم مفضول، والخاصة ومن عداهم عامة، والرعاة ومن عداهم رعية، والشهود ومن عداهم مشهود عليه، والأئمة ومن عداهم مأموم.

(1/210)


وإذا ثبت ذلك فمخالفهم في علوم الدين ليس بعالم على الحقيقة فضلاً عن أن يكون مثلهم في العلم، أو أعلم منهم.
ومما يؤيد ذلك وينبه على ما عداه من أقوال الأئمة:
قول زيد بن علي - عَلَيْه السَّلام - في كتاب الصفوة: (فليس كل العباد أصفياء الله، ولكن الله يصطفي منهم من يشاء، وقال عز وجل: {اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ} [الحج:75]، وإنما فضلت نعم الله بين الناس من غير حول أحد منهم ولا قوة؛ بل منٌّ من الله ونعمة وفضل يختص به من يشاء؛ فكنا أهل البيت ممن خصه الله بنعمته وفضله).
وقول الهادي إلى الحق يحيى بن الحسين - عَلَيْه السَّلام - في جوابه لأهل صنعاء: (وإني متمسك بأهل بيت النبوة، ومعدن الرسالة ومهبط الوحي، ومعدن العلم، وأهل الذكر، الذين بهم وحد الرحمن، وفي بيتهم نزل القرآن والفرقان، ولديهم التأويل والبيان، وبمفاتيح منطقهم نطق كل إنسان، ولذلك حث عليهم رسول الله - صلى الله عليه وعلى آله - بقوله: ((إني تارك فيكم الثقلين لن يفترقا حتى يردا علي الحوض: كتاب الله وعترتي أهل بيتي مثلهم فيكم كسفينة نوح من ركبها نجا، ومن تخلف عنها غرق وهوى))).
وقول الإمام السيد المؤيد بالله أحمد بن الحسين الهاروني - عَلَيْه السَّلام - في أول كتاب البلغة: (وصلى الله على النبي المجتبى، محمد المصطفى، وآله الطاهرين الذين جعلهم الله معادن وحيه، وحفظة علمه، ورعاة دينه)...

(1/211)


وقول الإمام أبي الفتح بن الحسين الديلمي (عَلَيْه السَّلام) في تفسيره لقول الله سبحانه: {نُورٌ عَلَى نُورٍ} [النور:35]، (أراد أن النبي - صَلَّى الله عَلَيْه وآله - من نسل إبراهيم -عَلَيْه السَّلام- والحسن والحسين من نسله، والأئمة الهداة من نسلهما).
وقوله في تفسيره لقول الله سبحانه: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ ءَامَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ} [النور:55]، (هذه الآية نزلت في رسول الله - صَلَّى الله عَلَيْه وآله - وأمير المؤمنين علي - عَلَيْه السَّلام - وخيار أهل بيتهما، ومن سار بسيرتهما، وتبع طريقتهما، إلى يوم القيامة لأنهم ورثة الكتاب والعالمون به، ولهم الخلافة في الأرض، إلى يوم العرض).
وقوله في تفسيره لقول الله سبحانه: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا...الآية} [فاطر:32]، (هذه الآية خاصة في رسول الله - صَلَّى الله عَلَيْه وآله- وخيار أهل بيته، من كان منهم علىطريقته، ومتبعاً لسنته؛ فإن الله اصطفاهم لوراثة الكتاب، وائتمنهم عليه، وحكم لهم به)...

(1/212)


[الفرق الثاني: اختلاف قصودهم]
والفرق الثاني: باختلاف قصودهم، وذلك لأن الأئمة - عَلَيْهم السَّلام - لم يقصدوا بما وضعوا من العلوم في الدين إلا أداء ما أوجب الله عليهم من هداية الأمة، بخلاف قصد من خالفهم في ذلك من علماء العامة؛ فإن وضعهم للخلاف الذي سموه علماً تكلف منهم وتعاط يدل على أنهم قصدوا به الفساد وإن أظهروا أنهم قصدوا به الصلاح.
ومما يؤيد ذلك: قول القاسم بن إبراهيم - عَلَيْه السَّلام - في كتاب الرد على ابن المقفع بعد ذكره لما اشتبه على أهل القول بالظلمة والنور لأجل اغترارهم بعلماء العامة وتركهم لطلب العلم من أهله؛ فلما عموا عن حكمة الله في ذلك ورسله، وما حكم به سبحانه من أحكام عدله.
..إلى قوله: ولم يلقوا فيما اشتبه عليهم منه من جعلهم الله معدنه فيكشفوا لهم الأغطية عن محكم نوره، ويظهروا لهم الأخفية من مشتبه أموره، الذين جعلهم الله الأمناء عليها، ومنَّ عليهم بأن جعلهم الأئمة فيها، ولم يجدوا عند علماء هذه العامة فيما اشتبه عليهم منه شفاء، ولم يرجوا منهم في مسألة لو كانت لهم عنه اكتفاء، ازدادوا بذلك إلى حيرتهم فيه حيرة، ولم تفدهم أقوال العلماء فيه بصيرة).

(1/213)


[الفرق الثالث: اختلاف علومهم فيما طريق معرفته النظر والإستدلال]
والفرق الثالث: باختلاف علومهم فيما طريق معرفته النظر والاستدلال، وذلك لأن الأئمة - عَلَيْهم السَّلام - مخصوصون من زكاءِ العقل، وذكاء الفطنة، وخصائص التوفيق، ومواد التأييد، بحسب ما خصوا به من التكليف بالقيام مقام النبي - صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم - في هداية العباد، إلى طريق الرشاد، وحفظ علوم الدين، عن تلبيسات الملحدين، وتحريفات المعاندين، بخلاف مخالفيهم من علماء العامة فإنهم لأجل مخالفتهم لأئمتهم، وسلوكهم لغير طريقهم، من جملة الضالين المتحيرين، السالكين لغير سبيل المؤمنين، الذين جمعوا بين اسم العقل ومعنى الجهل، وخاضوا بالوهم فيما وراء حد العقل.
ومما يؤيد ذلك: قول زيد بن علي - عَلَيْه السَّلام - في رسالته إلى علماء الأمصار: (فنحن أعلم الأمة بالله، وأوعى الخلق للحكمة، وعلينا نزل القرآن، وفينا كان يهبط جبريل - عَلَيْه السَّلام -، ومن عندنا اقتبس الخير؛ فمن علم خيراً فمنا اقتبسه، ومن قال خيراً فنحن أصله، ونحن أهل المعروف، ونحن الناهون عن المنكر، ونحن الحافظون لحدود الله).
..

(1/214)


وقول الحسين بن القاسم - عَلَيْه السَّلام - في كتاب التوفيق والتسديد: (وسألت عن العقول هل هي مستوية أم بينها اختلاف؟..إلى قوله: فأفضل العقول عقول الملائكة الأكرمين، ثم عقول الأنبياء أكمل من عقول الأوصياء، ثم الأوصياء أكمل من الأئمة في العقول، وأفضل في الإعتقاد والقول، ثم للسابقين من الفضيلة على المقتصدين؛ كمثل فضيلة الأنبياء على الوصيين، وللأئمة المقتصدين من الفضل ما لا يكون لفضلاء المؤمنين، وأفضل الناس كلهم فضلاً، وأكملهم ديناً وعقلاً، محمد خاتم النبيين - صلوات الله عليه وعلى أهل بيته الطيبين الطاهرين -).
وقوله في كتاب نبأ الحكمة: (وجميع العقول مفتقرة إلى عقول الأئمة - عَلَيْهم السَّلام -، ولولا ذلك لما احتاج أحد إلى إمام، ولسقط فرض الإمامة عن جميع الأنام).

(1/215)


[الفرق الرابع: باختلاف تأويلهم للكتاب]
والفرق الرابع: باختلاف تأويلهم للكتاب، وذلك لأن الأئمة - عَلَيْهم السَّلام - هم أهل الكتاب، ولا معنى لكونهم أهلاً له إلا كونهم ورثة لعلمه، وأنهم أعلم الأمة بمحكمه ومتشابهه، ومجمله ومبينه، وخاصه وعامه، وأمره ونهيه، وناسخه ومنسوخه، وإيجابه وحظره، وإباحته وزجره وندبه، ومقدمه ومؤخره، ومجموعه ومفصله، وصريحه وكنايته، وقصصه وأمثاله، ونحو ذلك مما لا يجوز [لأحد] تأويله إلا بعد معرفته ومعرفة كون محكمه أصلاً لتأويل ما عداه، وكل مخالف لهم في ذلك من علماء العامة فإنه مخالف للمحكم ومتعلق بالمتشابه ونحوه مما يوافق هوى نفسه، وأراء شيوخه.

(1/216)


[أقوال الأئمة في أنهم أهل التأويل]
ومما يؤيد ذلك: قول القاسم بن إبراهيم - عَلَيْه السَّلام - في كتاب الرد على ابن المقفع: (وكلما ذكره الله في السور فله وجوه متصرفة يعرفها من عرفه الله إياها..إلى قوله: فليسأل عنها، وليطلب ما خفي عليه منها، عند ورثة الكتاب، الذين جعلهم الله معدن ما خفي فيه من الأسباب؛ فإنه يقول سبحانه: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ(32)} [فاطر]، ولتكن مسألته منهم للسابقين بالخيرات؛ فإن أولئك أمناء الله على سرائر الخفيات، من منزل وحي كتابه، وما فيه من خفي عجائبه؛ فقد سمعت قول الله سبحانه: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ(43)} [النحل].
..

(1/217)


وجواب المرتضى لدين الله محمد بن يحيى - عَلَيْه السَّلام - لمن سأله عن الفرق بين تفسير الأئمة والعامة الذي منه قوله: (وفي الحديث الذي ترويه العامة ما لا تقوم به حجة، ولا تتضح به بينة، ولا يشهد له كتاب ولا سنة، وكلما قلنا به، وأجبنا عليه، فشاهده في كتاب الله عز وجل وفي السنة المجمع عليها عن رسول الله - صَلَّى الله عَلَيْه وآله - أو حجة من العقل يصدقها الكتاب؛ فكل ما كان من هذا فهو أصح مطلوب، وأنور حجة في القلوب، وليس يجوز تفسيره إلا لأهله، الذين خصهم الله بعلمه، من أهل بيت نبيئه - صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم -).
[الفرق الخامس: باختلاف علومهم في أصول الفقه وفروعه]
والفرق الخامس: باختلاف علومهم في أصول الفقه وفروعه، وذلك لأن الأئمة - عَلَيْهم السَّلام - جعلوا محكم الكتاب وموافقه من السنة وقضايا أمير المؤمنين - عَلَيْه السَّلام - أصولاً يفرعون عنها الأحكام، ويحفظونها عن تحريف علماء العوام، الذين عدلوا عن كثير من النصوص، وعن الإقتداء بأمير المؤمنين - عَلَيْه السَّلام - إلى القول بالرأي والإقتداء بالشيوخ.
ومما يؤيد ذلك: ما حكي في كتاب نهج البلاغة عن أمير المؤمنين - عَلَيْه السَّلام - من وصفه للمحِقّ من العترة، وذمه لمن يخالفه من العامة بقوله الذي منه: (يعطف الهوى على الهدى، إذا عطفوا الهدى على الهوى، ويعطف الرأي على القرآن إذا عطفوا القرآن على الرأي)...

(1/218)


وقول جعفر بن محمد الصادق - عَلَيْه السَّلام - الذي روي أنه قال لأبي حنيفة - وقيل اسمه النعمان بن ثابت لما قدم من العراق إلى المدينة - الذي منه: (اتق الله ولا تقس الدين فإن أول من قاس إبليس إذ أمره الله بالسجود لآدم، فقال: {أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ(12)} [الأعراف].
ثم قال: ويحك أيهما أعظم عند الله عز وجل قتل النفس التي حرم الله أم الزنا؟ قال: [لا]، بل قتل النفس، قال: فإن الله تعالى قد رضي وقبل في قتل النفس شاهدين، ولم يقبل في الزنا إلا أربعة؛ فكيف يقوم لك قياس.
ثم قال: أيهما أعظم عند الله عز وجل الصلاة أم الصوم؟ قال: بل الصلاة، قال: فما بال المرأة إذا حاضت تقضي الصيام ولا تقضي الصلاة؟ اتق الله يا عبد الله ولا تقس فإنا نقف نحن غداً وأنت ومن خالفنا بين يدي الله عز وجل، فنقول: قال رسول الله صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم، قال الله عز وتعالى، وتقول أنت وأصحابك: سمعنا ورأينا، فيفعل بنا وبكم ما يشاء).

(1/219)


[الفرق السادس: باختلاف علومهم على الجملة في الصحة والبيان]
والفرق السادس: باختلاف علومهم على الجملة في الصحة والبيان، وذلك لأن علوم الأئمة - عَلَيْهم السَّلام -، مبنية على أصول صحيحة معلومة، وموضوعة بألفاظ فصيحة مفهومة، سلكوا فيها طريقة العرب في الخطاب بالمجاز، واقتدوا بألفاظ الكتاب والسنة في السجع والإيجاز، وليس كذلك أكثر علوم مخالفيهم من علماء العامة؛ فإنها مبنية على أصول أكثرها مجهولة ومختلفة وموضوعة، بألفاظ أكثرها متكلفة ومزخرفة، سلكوا بها طريقة الفلاسفة، في استعمال الموضوعات المنطقية، والتأصيل للمقدمات المغلطة الاصطلاحية، والتفريع عنها بالقياسات المبدعة الوهمية، التي تميل إلى سماعها النفوس، وتنفر عن مغالطها العقول.
ومما ينبه على معرفة الفرق بين الأئمة والعامة من الكتاب قول الله سبحانه: {أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لَا يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ(35)} [يونس].
ذكر الحاكم رحمه الله في كتاب تنبيه الغافلين: أن المراد بالهادي في هذه الآية أمير المؤمنين -عَلَيْه السَّلام- واحتج بقول الله سبحانه: {إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ(7)} [الرعد]، وبأخبار رواها في معنى ذلك، وقد ذكر الأئمة - عَلَيْهم السَّلام - أن هذه الآية تدل على أن لكل قوم في عصرٍ هادياً من العترة - عَلَيْهم السَّلام -.

(1/220)


[الفرق السابع: بقلة ألفاظ علوم الأئمة مع البيان وكثرة ألفاظ مخالفيهم مع الالتباس]
والفرق السابع: بقلة ألفاظ علوم الأئمة مع البيان، وكثرة ألفاظ علوم مخالفيهم من العامة مع الالتباس، وذلك لأن الأئمة - عَلَيْهم السَّلام - اكتفوا بما قد أغناهم الله سبحانه به، عن تكلف غيره، وهو العلم الذي كان كافياً لأهل عصر النبي - صَلَّى الله عَلَيْه وآله - ولم يزيدوا عليه إلا ما تدعو الحاجة إلى تبيينه نحو حل شبهة، أو تبيين مجمل، أو تفريع حكم، أو حكاية ما يريدون إبطاله من أقوال المخالفين، وليس كذلك علوم أكثر مخالفيهم من علماء العامة؛ فإنهم كثروها بشروح يقل عن الإحاطة بكلها العمر، وتضل في طريق مغالطها الفِكَرُ، وطولوها بحكاياتهم لكثير من الأقوال المتعارضة، التي لا فائدة في ذكرها، من غير تبيين للفرق بينها، إلا توصلهم إلى من خافوه، أو أحبوه بما يوافقه منها، أو إيهامهم أن لمن حكاها، فضلاً في العلم على من لم يحك مثلها.
والفرق بين علوم الأئمة وعلوم العامة في ذلك جلي، لولا تلبيس من ينظر في كتب الأئمة بعين الاستزراء، ويعبر عنها بلسان الإستهزاء، ليتوصل بالتشكيك في علوم الأئمة، إلى الترغيب في علوم العامة.

(1/221)


[الفرق الثامن: باختلافهم في الإئتلاف]
والفرق الثامن: باختلافهم في الإئتلاف، وذلك لأن الأئمة - عَلَيْهم السَّلام - فرقة واحدة لأجل تمسكهم بالكتاب وكل واحد منهم متبع لسبيل من قبله من الأئمة، وحاذ حذوهم، ومبين لما اختلف فيه من أقوالهم وسيرهم، ولما حرف من كلامهم، أو زيد عليه أو نقص منه، ومنكر على من خالفهم أو خالف بينهم، بخلاف علماء العامة؛ فإنهم فرق ولكل فرقة منهم مذهب يعتزون إليه، وشيخ يعتمدون فيه عليه.
ومما يؤيد ذلك: قول أمير المؤمنين -عَلَيْه السَّلام- المحكي عنه في نهج البلاغة الذي منه قوله في ذم المختلفين: (أفأمرهم الله سبحانه بالاختلاف فأطاعوه؟ أم نهاهم عنه فعصوه؟ أم أنزل الله ديناً ناقصاً فاستعان بهم على إتمامه؟ أم كانوا له شركاء، فلهم أن يقولوا وعليه أن يرضى؟ أم أنزل الله ديناً تاماً فقصر الرسول -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم- عن تبليغه وأدائه؟).
وكذلك ما حكاه الناصر للحق الحسن بن علي - عَلَيْه السَّلام -، -فيما رواه عنه مصنف المسفر- من اختلاف كثير من شيوخ المعتزلة في علوم الدين حتى تبرأ بعضهم من بعض لأجل ذلك.
[ذكر جملة مما يكشف عن أسرار المتشيعين]
وأما الفصل العاشر
وهو في ذكر جملة مما يكشف عن أسرار المتشيعين
فلأن من صفة شيعي العترة عندهم: أن يكون متبعاً لسبيلهم في الدين قولاً وعملاً واعتقاداً لا يخالفهم ولا يخالف بينهم، ولا يوالي من خالفهم، ولا ينكر كون إجماع العترة حجة لازمة، ولا كون التمسك بهم واجباً.

(1/222)


وبيان ذلك بطريقة التقسيم والإلزام يقع في ثلاث مسائل مما أجمعت عليه العترة كافية في التنبيه على ما عداها:
الأولى: إجماعهم على أن معرفة مسائل الإمامة من أصول الدين المفروضة المعينة التي يستحق كل من أخل بها الذم والعقاب.
والثانية: إجماعهم على أن كل مدع للإمامة لا يخلو إما أن يكون إمام هدى أو إمام ضلال.
والثالثة: إجماعهم على أن الإمام السابق قائم في أهل عصره مقام رسول الله - صَلَّى الله عَلَيْه وآله - فيما يجب له عليهم من الطاعة والتسليم، ويجب لهم عليه من الحياطة والتعظيم.
[الإجماع على أن معرفة مسائل الإمامة من أصول الدين المفروضة]
أما إجماعهم في المسألة الأولى على أن معرفة مسائل الإمامة، واعتقاد صحتها من الفروض المعينة؛ فمدعي التشيع لا يخلو إما أن يقر بما أجمعوا عليه ويعترف بصحته، أو لا.
فإن أنكر ذلك أو تأوله، فليس بشيعي، وإن اعترف بصحة ذلك لزمه أن يعتقد أن كل من خالف في وجوب تقديم علي - عَلَيْه السَّلام - مستحق للذم والعقاب سواء كان صحابياً أو معتزلياً أو غيرهما لعدم المخصص لمُخِلّ بفرض دون غيره؛ فإن اعترض على ذلك بتوقف من توقف من العترة في معصية الشيخين هل هي صغيرة أم كبيرة؟
فالجواب: أن التوقف ليس بمذهب يجب سلوكه؛ لأن المتوقف في ذلك منهم لا يخلو إما أن يكون مشكاً أو متاقياً أو متألفاً...

(1/223)


فإن كان مشكاً فهو منتظر للدليل ومجوز لحصوله، إما له وإما لغيره، وإن كان متاقياً أو متألفاً فهو منتظر للنصر والفرج.
ولأن المتوقف في ذلك من العترة لا يتوقف عن وصف فعل الشيخين بأنه ظلم ومعصية على الجملة، وإن توقف عن سبهما، ولأنه لا يتوقف عن وصف النبي - صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم - بأنه قد بين لأصحابه ما أمره الله بتبليغه إليهم، ولأنه لا يتوقف عن تفسيق من فعل مثل فعلهما مع من هو دون علي - عَلَيْه السَّلام - في الفضل مِنْ سائر مَنْ بعده من الأئمة، ولأنه لا يوجب التوقف على غيره ولا يبطل عدالة من لم يتوقف من أئمة العترة.
ومما يؤيد ذلك من أقوال الأئمة مع ما تقدم ذكر بعضه:
قول الهادي إلى الحق يحيى بن الحسين - عَلَيْه السَّلام - في جوابه لأهل صنعاء: (ولا أسب إلا من نقض العهد والعزيمة، وفي كل وقت له هزيمة، من الذين بالنفاق تفردوا، وعلى الرسول مرة بعد أخرى تمردوا، وعلى أهل بيته اجتروا وطعنوا).
وقول الإمام المنصور بالله - عَلَيْه السَّلام - في شرح الرسالة الناصحة: (ولا أتم رياسة، ولا أعظم نفاسة، مما حكم الله سبحانه به لآبائنا - عَلَيْهم السَّلام -، وأورثنا إياه إلى يوم نشر العظام، من ولاية خاص خلقه والعام، وإلحاق الكفر والفسق بمن أنكر حقنا في ذلك من جميع الأنام)...

(1/224)


وقوله في الشافي: (اعلم أن كافة أهل البيت الطاهرين - عَلَيْهم السَّلام - ذرية خاتم النبيئين - صلى الله عليه وآله - يدينون ويعتقدون أنه لا نجاة لأبي بكر وعمر وعثمان إلا بخلوص ولايتهم فيهم؛ لأن الله تعالى أوجب محبتهم على جميع المكلفين وهم منهم).
وقوله في بعض أجوبته الموجودة بخطه في ذكر توقف من توقف من العترة: (وأكثر ما نقل وصح عن السلف فهو ما قلنا على تلفيق واجتهاد وإن كان الطعن والسب من بعض الجارودية ظاهراً).
[الإجماع على أن مدَّع الإمامة إما إمام هدى أو ضلال]
وأما إجماع العترة في المسألة الثانية، على أن كل مدع للإمامة لا يخلو إما أن يكون إمام هدى أو إمام ضلال.
فمدعي التشيع لا يخلو إما أن يلتزم ذلك لكون هذه القسمة دائرة بين النفي والإثبات، أو لا يلتزم؛ فإن لم يلتزم فليس بشيعي، وإن التزمه لزمه أن يدين الله تعالى بأن المشائخ أئمة ضلال، وأن كل متبع لهم ضال؛ لأن الحق إذا تعين مع علي - عَلَيْه السَّلام - لزم أن يكون الضلال مع مخالفته لقول الله سبحانه: {فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ} [يونس:32]...

(1/225)


فإن ادعى بعض المتشيعين أو تأول بأن المشائخ لم يعلموا ما أراد الله تعالى بقوله: {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ ءَامَنُوا...الآية} [المائدة:55]، ولا ما أراد النبي بقوله: ((من كنت مولاه فعلي مولاه)) وقوله: ((الحسن والحسين إمامان قاما أو قعدا، وأبوهما خير منهما)) ونحو ذلك من الآيات والأخبار، لزمه أن يكون باهتاً لهم بما لم يدعوه، ولا ادعاه لهم أحد من أتباعهم؛ لأنهم لا يسلمون أنهم يجهلون خطاب الله تعالى وخطاب رسوله مع كونهم من صميم العرب الذي نزل القرآن بلسانهم، ولا يسلمون أنهم يجهلون ما هو من أهم أصول الدين وفروضه مع كونهم من أفاضل الصحابة.
ومن المعلوم عقلاً وشرعاً أن المعصية تعظم على قدر عظم معرفة من أقدم عليها بما يجب له وعليه، ولا يجتمع لمنصف من المتشيعين أن يعتقد أن النبي -صلى الله عليه وآله- قد بين للمشائخ ما أمره الله بتبليغه إليهم، وأن يعتقد أن المشائخ لم يفهموا بيانه وتقديمه لعلي - عَلَيْه السَّلام - قولاً وفعلاً مع ما في ذلك من إبطال حجة التبليغ والبيان، وإثبات حجة أهل الرفض والعصيان.
ومما يؤيد ذلك: قول أمير المؤمنين - عَلَيْه السَّلام - في خطبته المعروفة بالموضحة ذات البيان: (إنا أهل البيت قوم شيد الله فوق بناء قريش بناءنا، وأعلى فوق رؤوسهم رؤوسنا، اختارنا دونهم، واصطفانا عليهم بعلمه؛ فنقموا على الله أن اختارنا، فسخطوا ما رضيه، وأحبوا ما كرهه)...

(1/226)


وقوله فيما حكي عنه في كتاب نهج البلاغة: (أما والله لقد تقمصها ابن أبي قحافة، وإنه ليعلم أن محلي منها محل القطب من الرحا).
وقوله فيه: (حتى إذا مضى الأول لسبيله أدلى بها إلى غيري بعده؛ فيا عجباً بينا هو يستقيلها في حياته، إذ عقدها لآخر بعد وفاته) وأشباه ذلك مما تقدم ذكر بعضه.
[الإجماع على أن الإمام السابق قائم مقام النبي]
وأما إجماع العترة في المسألة الثالثة: على أن الإمام السابق قائم مقام النبي - صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم - فيما يجب له وعليه؛ فإنما أجمعوا على ذلك لأجل أن الله سبحانه لم يفرق بين وجوب طاعته وطاعة رسوله، وطاعة أولي الأمر، وأن النبي - صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم - أوجب للأئمة من بعده مثل الذي يجب له في قوله: ((قدموهم ولا تَقَدَّموهم، وتعلموا منهم ولا تعلموهم، ولا تخالفوهم فتضلوا، ولا تشتموهم فتكفروا)) ونحو ذلك من الآيات والأخبار.

(1/227)


وإذا ثبت ذلك فمدعي التشيع لا يخلو إما أن يلتزمه أو لا يلتزمه؛ فإن لم يلتزمه فليس بشيعي، وإن التزمه لزمه أن يعتقد أنه لا فرق في استحقاق الذم والعقاب بين من خالف النبي -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم- وبين من خالف الإمام السابق، وأنه كما لا يجوز لمسلم أن يتوصل بنظره واستدلاله إلى مخالفة النبي لكونه متعدياً بنظره واستدلاله، فكذلك لا يجوز له أن يتوصل بنظره واستدلاله إلى مخالفة الإمام، وكما لا يجوز له معارضة النبي في التنزيل؛ فكذلك لا يجوز له معارضة الإمام في التأويل، وكما لا ينفع مؤمناً إيمانه بجميع الأنبياء مع جحده لواحد منهم فكذلك لا ينفعه مع رفضه لإمامٍ واحد، وكما لا يجوز لأحد إنكار فضل النبي وكونه حجة لأجل كونه من جملة البشر المتعبدين، فكذلك لا يجوز إنكار فضل الإمام وكونه حجة لأجل كونه من جملة البشر المتعبدين.
وكما لا يصح ولا ينفع الإقرار بصحة نبوة النبي -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم- مع اعتزاله أو موالاة من اعتزله؛ فكذلك لا يصح ولا ينفع الإقرار بصحة إمامة الإمام مع اعتزاله أو موالاة من اعتزله.
ومما يؤيد ذلك من أقوال الأئمة - عَلَيْهم السَّلام -:..

(1/228)


قول محمد بن القاسم - عَلَيْه السَّلام - في كتاب الشرح والتبيين: (ورأس النجاة لكم، فيما اشتبه عليكم من دينكم، أن لا يقبل بعضكم قول بعض، ولكن ليرجع وليسأل فيما اشتبه عليه من جعله الله معدنه وموضعه من أهل الذكر، قال الله تعالى: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ(43)} [النحل]، فافهموا يرحمكم الله هذا.
ثم افهموا؛ فأنتم وجميع من له دين وورع ممن يتشيع لا ينبغي أن يسأل بعضكم بعضاً، وإنما ينبغي أن تسألوا من يعلم من آل نبيكم، من هو عالم حجة منهم، يفهم ما يحل وما جعله الله محرماً، ولا يتخذ بعضكم بعضاً أرباباً من دون الله).
وقول الناصر للحق الحسن بن علي - عَلَيْهما السَّلام - في شعره المحكي عنه في المسفر، وفي الشافي:
لا تبتغوا غير آل المصطفى علماً
آل النبي وعنه إرث علمهمُ
وقولهم مسند عن قول جدهمُ
..إلى قوله:
كل يرى الحق ما فيه قد اختلفوا
أعني الأولى فقههم إشراك ضدهم

لهديكمْ فَهُمُ خير الورى آلُ
القائمون بنصح الخلق لم يألوا
عن جبرئيل عن الباري إذا قالوا

وهم بمفروض علم الحق جهالُ
وسائر الناس بالإهمال عقال..

(1/229)


وقول المرتضى لدين الله محمد بن يحيى - عَلَيْه السَّلام - في كتاب الرد على الروافض: (لأن الله سبحانه ختم النبيين بمحمد - صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم - فلا نبي بعده، ولا مرسل من الله سواه، فلما أن كان ذلك كذلك لم يستغن الخلق عن قائم في كل وقت بأمرهم، حاكم فيهم بكتاب الله، يبين الأحكام، ويوضح الإسلام، فجعل سبحانه القائمين بذلك آل نبيه، وافترض طاعتهم على خلقه، وأمر باتباعهم).
وقوله في جوابه لمن سأله عن حكم من يخالف التنزيل بالتأويل: (وكيف يقر بالتنزيل من جحد ما فيه من الحلال والحرام، والدين والأحكام، ومن أنكر حكماً واحداً من أحكام الله المفترضة كمن أنكر القرآن جميعاً، ومن أنكر صنع الله سبحانه في نملة أو ذباب كمن أنكر صنعه في السماوات والأرضين).
وقول أخيه الناصر لدين الله أحمد بن يحيى - عَلَيْه السَّلام - في كتاب النجاة: (وكذلك المؤمنون بعضهم أعلم من بعض، ولذلك صارت الأئمة - عَلَيْهم السَّلام - أولى بمقامات الأنبياء من الأمة لما علم الله عندهم من العلم والحكمة، والمعرفة بالكتاب والسنة).
وقول القاسم بن علي - عَلَيْه السَّلام - في كتاب التفريع: (ومن آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله، وكفر بذرية محمد - صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم - ولم يصدق بهم لم يمنع إيمانه من هُلكه إلا أن يكون ممن قد جرت لأوله ذمة من النبي - صَلَّى الله عَلَيْه وآله -).

(1/230)


وقوله في كتاب التنبيه: (فإن عليكم سؤالنا وعلينا جوابكم، وقد أمركم الله جل اسمه؛ فقال عز من قائل: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ(43)} [النحل]، وقد سمى رسوله ذكراً، وفي كل خلف من أهل بيته عدول ينفون عن الله تعالى الشبهات، ويحكمون بآياته البينات، هم حجج الله على خلقه في كل زمان، وهم الهداة إليه في كل أوان.
إلى قوله: لأنا أهل البيت يتعلم بعضنا من بعض، ونجتزي بذلك عن التعلم من غيرنا، ولا يسعنا أن نتعلم من سوانا، إلا ما يجيزه لنا علماؤنا، وأنتم يا شيعتنا فلا يسعكم أن يتعلم بعضكم من بعض إلا ما يجيزه لكم علماء أهل بيت نبيكم - صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم -).
وقول ابنه الحسين بن القاسم - عَلَيْه السَّلام - في كتاب الفرق بين الأفعال: (فلما قبضه الله إليه، واختار له من الثواب ما لديه، علم أن سيكونُ من عباده من يحتاج إلى الهدى، ويكشف عنهم الضلالة والردى، بذوي الدين والفضل والحجا، ذرية الرسول أئمة الهدى، وأعلام الدين ومصابيح الدجى؛ فكشف عنهم أغطية الضلال، وقمع بهم من عاند الحق من الجهال، فمن طلب الحق عند غيرهم فقد جهل، ومن عاندهم فقد ضل وخذل؛ لأن الله لو علم أن العباد يكتفون بعقولهم، لما فرض الله سؤال آل نبيهم - عَلَيْهم السَّلام -...

(1/231)


وقول الإمام المنصور بالله - عَلَيْه السَّلام - في شرح الرسالة الناصحة مع ما تقدم: (وورود الحوض لا يكون إلا لأتباع آل محمد - صلى الله عليه وعليهم وسلم - وهم أشياعهم، ولا يكون ذلك إلا بالإعتراف بفضلهم، ومطابقتهم في قولهم واعتقادهم).
تم الموضع الثاني
[الكلام في الصانع تعالى وما يستحق من الصفات لذاته أو لفعله]
وأما الموضع الثالث
وهو في الكلام في الصانع تعالى وما يستحق من الصفات لذاته أو لفعله
فهو ينقسم على أربعة فصول: الأول: في الذات، والثاني: في صفات الذات، والثالث: في الإرادة، والرابع: في الإدراك.
[الكلام في الذات]
أما الأول:
فمذهب العترة أن قول القائل: ذات الباري، عبارة تفيد الإخبار عنه سبحانه على الجملة، من غير توهم مشاركة ولا مجانسة بينه سبحانه وبين غيره، ومعنى ذلك عندهم كمعنى قوله سبحانه: {وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ} [آل عمران:28]، وقوله سبحانه: {فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} [البقرة:115]، أي فثم الله بمعنى أنه لا يخفى عليه شيء من أمرهم؛ فذاته سبحانه هي هو، وكذلك نفسه ووجهه، وهو سبحانه ليس بجنس فيوصف بأنه مشارك لغيره...

(1/232)


ومذهب بعض المعتزلة أن لفظ ذات اسم جنس يشترك فيه ذات الباري سبحانه، وذوات الجواهر وذوات الأعراض، ولا يقع الفرق بينها إلا بأمور زائدة، ويحتجون على ذلك بما يجمعها من الحد المنطقي الذي زعموا أنه مركب من جنس وفصل، وأنه يجمع ويمنع، وينعكس ويطرد، وهو قولهم حقيقة الذات: هو ما يصح العلم به والخبر عنه بانفراده، واحترزوا بذكر الإنفراد عن الصفات التي زعموا أن الذوات تعلم عليها ولا تعلم بانفرادها.
والذي يدل على صحة مذهب العترة وبطلان مذهب المعتزلة: أمور؛
منها: أنه قد ثبت بأدلة العقل والسمع أن الله سبحانه واحد ليس كمثله شيء، ولا له كفؤ ولا ند ولا شريك، وأنه لا يحاط به علماً، ولا يجوز توهمه، ولا تصوره، ولا تكييفه، ولا قياسه، ولا التفكر فيه، ولا يصح أن يجاب من سأل عن ذاته، بمثل ما يجاب به من سأل عن ذات غيره.
ومنها: أن القول بالمشاركة في الذاتية قول مبدع متكلف ليس بمفروض ولا معقول ولا مسموع، وكل قول مُبْدَع في الدين فهو باطل.
ومنها: أن المشاركة والجنس والنوع من خصائص أوصاف المحدثات التي لا يجوز إضافتها إلى الله سبحانه لما فيها من لزوم التشبيه.
ومنها: أن ذات الباري سبحانه هي نفسه، ونفسه هي هو، ولا يجوز أن يوصف سبحانه بأنه مشارك في نفسه لعدم الفرق بين المشاركة في الذاتية، والمشاركة في النفسية...

(1/233)


ومنها: أنه لا فرق في اللغة بين المشاركة في الذاتية، والمماثلة فيها، وقد ثبت بالدليل أنه لا مثل له سبحانه؛ فكذلك يجب أن يكون لا مشارك له.
ومنها: أن لفظ ذات قد يُعبَّر به عن الشيء جملة كما يقال: فعل فلان كذا بذاته أي فعله هو، وقد يعبر به عن محل العرض، فيقال: ذات الجسم وعرضه، وكل لفظ عبر به عن معنيين مختلفين فليس باسم جنس يصح فيه الإشتراك.
ومنها: أن تحديدهم لذات الباري سبحانه بالحد الذي زعموا أنه مركب من جنس وفصل لم يتضمن إلا نفس حكاية مذهبهم الذي ابتدعوه لفظاً ومعنى، ومجرد الحكاية لا تصح أن تكون دليلاً على صحة المحكي؛ فلذلك فإنه ما من دعوى باطلة إلا ويمكن أن تحد بحد مركب من جنس وفصل وذلك بين لمن تأمله.
ومنها: مخالفتهم بذلك للموحدين في معنى التوحيد، ولأهل علم المنطق في شروط علم التحديد، أما مخالفتهم في معنى التوحيد؛ فلأجل وصفهم لله سبحانه بالمشاركة والجنس والفصل الذي يدل على النوع.
وأما مخالفتهم في شروط التحديد؛ فلأن من شرط الحد المركب من جنس وفصل عند الفلاسفة أن يكون المحدود به جنساً يتنوع، وذات الباري سبحانه هي هو، وهو سبحانه واحد ليس بجنس ولا نوع.
ومنها: أنه لا بد لكل ذات عندهم من صفة ذاتية، أو صفات يستحيل خلوها عنها، وذلك ناقض لقولهم في حد الذات إنه يصح العلم بها على انفرادها؛ لأن من أبين المناقضة أن توصف الذات بأنه يصح العلم بها بانفرادها عما يستحيل خلوها عنه...

(1/234)


ومنها: أن لفظ ذات لو كان اسم جنس لما جاز أن يقال: إن الله سبحانه ذات لا كالذوات وإنه سبحانه شيء لا كالأشياء؛ كما لم يجز أن يقال كذلك في شيء من أسماء الأجناس؛ مثاله: تناقض قول من يقول محدث لا كالمحدثات، وجسم لا كالأجسام.
ومما يؤيد هذه الجملة من أقوال الأئمة:
قول أمير المؤمنين - عَلَيْه السَّلام - في خطبته المذكورة في كتاب نهج البلاغة وفي الدرة اليتيمة: (ليس لذاته تكييف، ولا لصفاته تجنيس، احتجب عن العقل كما احتجب عن الأبصار).
وقوله: (واحد لا بعدد، دائم لا بأمد، قائم لا بعمد، ليس بجنس فتعادله الأجناس).
وقوله: (صفته أنه لا مثل له من خلقه، وحليته أنه لا شبيه له من بريته، ومعرفته ألا إحاطة به، والعلم به ألا معدل عنه).
وقول علي بن الحسين زين العابدين - عَلَيْه السَّلام - في توحيده: (فأسماؤه تعبير، وأفعاله تفهيم، وذاته حقيقة، وكنهه تفريق بينه وبين غيره، وغيوره تحديد لما سواه).
وقول جعفر بن محمد الصادق - عَلَيْه السَّلام - في كتاب الإهليلجة: (من قال الإنسان واحد فهو له اسم وتشبيه، والله واحد وهو له إسم وليس له بتشبيه، وليس المعنى واحداً).
وقول القاسم بن إبراهيم - عَلَيْه السَّلام - في كتاب المسترشد: (فإن سأل من الجهمية سائل فقال: هل الله شيء؟ قيل له: نعم، الله شيء لا يشبه بالأشياء، الأشياء مشيأة وهو سبحانه شيء لا مشيأ بل الله مشيئ الأشياء لا يشبه ما شيأ، وليس في قولي أنا شيء، والله شيء تشبيه...

(1/235)


إلى قوله: وقد يشتبه قولي شيء وشيء، ولا يشتبه المسمى إلا أن أوقع عليه من أي الأشياء هو وما هو؟ فحينئذ تشتبه المسميات).
وقول محمد بن القاسم - عَلَيْه السَّلام - في كتاب الوصية: (حقيقة الإيمان به أنه هو الذي هو خلاف الأشياء كلها).
وقوله: (حقيقة اليقين به والمعرفة له أنه لا يدرك بحلية ولا تحديد ولا تمثيل ولا صفة؛ وكيف يوصف من لا تدركه العقول ولا الفِكَرُ ولا الحواس).
وقوله في كتاب الأصول: (وما اشترك في نوع من الأنواع مثلاً فهو مثله).
وقول الهادي إلى الحق - عَلَيْه السَّلام - في كتاب المسترشد: (نقول: إن ربنا جل وتقدس إلهنا شيء لا كالأشياء سبحانه وتعالى وتبارك، لا شبيه له ولا يدانيه شيء، ولم يزل سبحانه قبل كل شيء، وهو المشيئ لكل الأشياء).
وقوله: (نريد بقولنا شيء إثبات الموجود، ونفي العدم المفقود؛ لأن الإثبات أن نقول شيء، والعدم أن لا نثبت شيئاً).
وقول القاسم بن علي - عَلَيْه السَّلام - في كتاب التوحيد: (إن قال قائل: إذا زعمتم أنه شيء لا كالأشياء فما أنكرتم أن يكون جسماً لا كالأجسام، وإذا قلتم إنه شيء لا يشبهه شيء موجود ولا موهوم فما أنكرتم أن يكون جسماً لا يشبهه جسم موجود ولا موهوم...

(1/236)


قلنا: الفرق بينهما أن قول القائل شيء إثبات، وليس يذهب الذاهب فيه إلى جسم دون عرض، ولا إلى عرض دون جسم، ولا إلى إنسان دون مَلَك، ولا إلى مَلَك دون إنسان؛ فلما كان ذلك كذلك لم يجب به تشبيه، وقولنا جسم: وصف خاص لجنس دون جنس لا يجوز أن يشركه فيه غيره من الأشياء).
وقول ابنه الحسين - عَلَيْهم السَّلام - في كتاب الرد على الملحدين: (اعلم أن قولنا شيء إثبات موجود ونفي معدوم، وقولنا لا كالأشياء نفي للتشبيه).
[الكلام في صفات الذات]
وأما الفصل الثاني: وهو الكلام في صفات الذات
فمذهب العترة أن وصف الباري سبحانه بأنه قادر وعالم، وحي وموجود، ونحو ذلك مما يستحق الوصف به أزلاً وأبداً لا يدل على إثبات صفات لذاته زائدة عليها، وأن معنى إضافتها إليه كمعنى إضافة وجهه ونفسه إليه؛ وذلك لأنه عندهم يستحيل إثبات واسطة بين وصفه وذاته كما يستحيل إثبات وجه ونفس له سبحانه، ويجب عندهم أن نفرق في ذلك بينه سبحانه وبين المخلوق الذي يجب أن يدل وصفه بالقدرة والعلم على وجود قدرة مخلوقة له، وعلم إما مكتسب وإما ضروري.
ومذهب بعض المعتزلة أن وصف الباري سبحانه بكونه قادراً وعالماً، وحياً وموجوداً يدل على صفات زائدة على ذاته سبحانه، وثابتة له فيما لم يزل...

(1/237)


ومنهم من يقول: إنه يستحقها كلها لذاته، ومنهم من يقول: إنه يستحقها لأمر زائد على ذاته أخص منها لا يستحق لذاته سوى ذلك الأمر، واصطلحوا على تسمية الصفات على الجملة أموراً لا أشياء، وثابتة لا موجودة، وأزلية لا قديمة، وزوائد على الذات لا أغياراً لها.
وعلى وصفها بأنها لا شيء ولا لاشيء، ولا قديمة ولا محدثة، ولا موجودة ولا معدومة، وأنها لا تعلم مع الذات ولا منفردة، وأشباه ذلك مما لم يسبقهم إلى القول به موحد، ولا يتبعهم فيه إلا مقلد.
والذي يدل على صحة مذهب العترة في ذلك وبطلان مذهب المعتزلة: هو كون مذهبهم فيه متضمناً لضروب من المحالات التي أولها كونه مذهباً حادثاً متكلفاً بغير دليل معقول ولا مسموع يدل على وجوده أو على صحته وكل مذهب حادث كذلك فهو باطل لقول الله سبحانه: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ...} إلى قوله: {وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ(33)} [الأعراف]، وقوله سبحانه: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُنِيرٍ(8)} [الحج]، وقوله في مثل ذلك: {إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَءَابَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ} [النجم:23]، {إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ(148)} [الأنعام].

(1/238)


ولما روى الحاكم عن النبي - صَلَّى الله عَلَيْه وآله - أنه قال: ((يوشك الشرك أن ينتقل من ربع إلى ربع، ومن قبيلة إلى قبيلة)) قيل: يا رسول الله، وما ذاك الشرك؟
قال: ((قوم يأتون بعدكم يحدون الله حداً بالصفة)).
وثانيها: أن علمهم بذلك لا يخلو إما أن يكون عن التفكر في الله سبحانه، أو عن التفكر في غيره، أو عن التفكر لا في ذاته ولا في غيره.
فإن كان عن التفكر لا في الله ولا في غيره؛ فهو تفكر لا في شيء.
وإن كان عن التفكر في غير الله سبحانه؛ فالتفكر في غيره لا يؤدي إلى العلم بكيفية استحقاقه لصفات ذاته.
وإن كان عن التفكر فيه سبحانه؛ فذلك باطل لتحريمه سبحانه عليهم أن يقولوا عليه ما لا يعلمون، وقد أخبر الله سبحانه أنهم لا يحيطون به علماً.
ولقول النبي - صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم -: ((تفكروا في آلاء الله، ولا تفكروا في الله)).
وقوله: ((تفكروا في المخلوق ولا تفكروا في الخالق)).
وقول أمير المؤمنين - عَلَيْه السَّلام -: ((من فكر في الصنع وحد، ومن فكر في الصانع ألحد)).
وثالثها: تناقض أقوالهم في كثير من ذلك، وكل متناقض فهو باطل.
مثال ذلك: قولهم: إن الصفات لا توصف، ونقضهم لذلك بوصفهم لبعضها بالأزل، ولبعضها بالتجدد.
وكذلك قولهم إنها لا تَغَايَر، نقضوه بجعلهم لبعضها مُقْتَضِياً ولبعضها مُقْتَضاً، وكل مذكورين على هذا الوجه فإنه يجب أن يكون أحدهما غير الآخر...

(1/239)


ومن جملة المناقضة: وصفهم لها بأنها لا شيء، ولا لا شيء، وأنها زائدة على الذات وليست غيرها، وأشباه ذلك.
ورابعها: تحريفهم لمعاني كثير من الألفاظ التي لا فرق (بين معانيها) لا لغة ولا عرفاً نحو الأمر والشيء، والزائد والغير، والقدم والأزل، والحدوث والتجدد، وأشباه ذلك مما توصلوا بتحريفهم لمعانيه المعقولة إلى أن يعبروا به عما لا يعقل مع كونهم غير مفوضين، ولا حكماء ولا معصومين عن الدخول في زمرة من ذمهم الله سبحانه على تحريفهم للكلم عن مواضعه.
وخامسها: إثباتهم لأمور متوسطة بين النفي والإثبات نحو قولهم: لا شيء ولا لاشيء، وكون ذلك محالاً مما يعلم ضرورة كما يعلم ضرورة أن قول من يقول: زيد لا في الدار، ولا في غيرها محال.
وسادسها: موافقتهم بقولهم: إن صفات الله أمور زائدة على ذاته لقول من قال صفات الله أشياء غير ذاته، وأشباه ذلك مما لا فرق بينه إلا بما اخترصوه من الإصطلاح الذي لا يجوز قبوله فضلاً عن أن يجب.
ومما يشهد بصحة هذه الجملة من أقوال الأئمة:
قول أمير المؤمنين - عَلَيْه السَّلام - في خطبته المتقدم ذكرها: (باينهم بصفته رباً، كما باينوه بحدوثهم خلقاً، فمن وصفه فقد شبهه، ومن لم يصفه فقد نفاه، وصفته أنه سميع ولا صفة لسمعه).

(1/240)


وقوله: (وكمال الإخلاص له نفي الصفات عنه؛ بشهادة كل صفة أنها غير الموصوف، وشهادة كل موصوف أنه غير الصفة؛ فمن وصف الله سبحانه فقد قرنه، ومن قرنه فقد ثناه، ومن ثناه فقد جزأه، ومن جزأه فقد جهله).
وقوله: (ومن وصفه فقد حده، ومن حده فقد عده، ومن عده فقد أبطل أزله).
وقول ابنه الحسن - عَلَيْهما السَّلام - في جوابه لابن الأزرق الذي حكاه عنه الحاكم في السفينة: (أصف إلهي بما وصف به نفسه، وأعرفه بما عرف به نفسه، لا يدرك بالحواس، ولا يقاس بالناس).
وقول القاسم بن إبراهيم - عَلَيْه السَّلام - في جواب مسائل الطبريين: (فهذه صفته تبارك وتعالى في الأينية والذات، ليست فيه جل جلاله بمختلفة ولا ذات أشتات، ولو كانت فيه مختلفة لكان اثنين أو أكثر في الذكر والعدة، وإنما صفته سبحانه هو).
وقول ابنه محمد - عَلَيْه السَّلام - في كتاب الأصول: (وصفته لذاته هو قولنا لنفسه، نريد بذلك حقيقة وجوده).
وقول الهادي إلى الحق - عَلَيْه السَّلام - في كتاب المسترشد: (وليس قولنا صفتان قديمتان أن مع الله سبحانه صفة يوصف بها، ولا نقول إن ثم صفةً وموصوفاً، ولا إن ثم شيئاً سوى الله عند ذوي العقول مجهولاً ولا معروفاً)...

(1/241)


وقوله في كتاب الديانة: (من زعم أن علمه وقدرته وسمعه وبصره صفات له لم يزل موصوفاً بها قبل أن يخلق، وقبل أن يكون أحد يصفه بها، وقبل أن يصف هو بها نفسه، وتلك الصفات زعم لا يقال هي الله، ولا يقال هي غيره، فقد قال منكراً من القول وزوراً).
وقول القاسم بن علي - عَلَيْه السَّلام - في كتاب التوحيد: (إن زعم زاعم أنه عالم بعلم ليس هو هو، ولا هو غيره؛ لم يكن بينه وبين من زعم أنه عالم بعلم هو هو، وهو غيره فرق).
وقول ابنه الحسين - عَلَيْهم السَّلام - في جوابه ليحيى بن مالك الصعدي: (ما تفسير علم الله وقدرته إلا كتفسير وجهه ونفسه؛ فهل يقول أحد يعقل بأن له وجهاً كوجه الإنسان أو نفساً كأنفس ذوي الأبدان، هذا ما لا يقول به أحد من ذوي الألباب ولا يعتقده في الله رب الأرباب، وإنما وجهه هو ذاته وكذلك علمه وقدرته).
[الكلام في الإرادة]
وأما الفصل الثالث: وهو الكلام في الإرادة
فمذهب العترة أن الله سبحانه مريد لا بإرادة كما أنه سبحانه فاعل لا بحركة لوجوب كونه سبحانه في ذلك بخلاف المخلوقين.
ومذهب المعتزلة أنه سبحانه مريد بإرادة خلقها ولم يردها، قالوا: وهي عرض موجود لا في محل، وتختص به سبحانه على أبلغ الوجوه لكونه موجوداً لا في محل، مع إقرارهم بأن له سبحانه إرادات مختلفة بحسب اختلاف أفعاله.
والذي يدل على صحة مذهب العترة وبطلان مذهب المعتزلة: هو كون أقوالهم في ذلك على الجملة مبدعة وخارجة عن حد العقل...

(1/242)


وأما على التفصيل: فقولهم: إن لله سبحانه إرادة خلقها ولم يردها يبطل؛ لأجل أن الفاعل لما لا يريد لا يخلو إما أن يكون ساهياً أو مضطراً، وذلك مما لا يجوز إضافته إلا إلى المخلوق دون الخالق سبحانه، ولأنه قد ثبت بالدليل أن الله سبحانه فاعل مختار، والفاعل المختار مريد لما يختاره؛ إذ لا يصح وجود الاختيار مع عدم الإرادة.
ولأن الذي دلهم بزعمهم على كون الباري سبحانه مريداً هو وقوع أفعاله على الوجوه المختلفة، وقد ثبت بإجماعهم أن إرادات الباري وكراهاته أفعال له وواقعة على وجوه مختلفة، ومن شرط صحة الأدلة الصحيحة بإجماعهم أن تطرد شاهداً وغائباً، فيلزمهم على قود قولهم إما أن تحتاج كل إرادة إلى إرادة، وإما القول بأن الله سبحانه مريد لا بإرادة.
وقولهم: إنها عرض موجود لا في محل يبطل؛ لأجل أن العرض لا يعقل وجوده إلا إذا كان حالاً في غيره، لكونه عارضاً حالة وجوده في غيره، ولذلك سمي عرضاً، ولأنه لا فرق بين القول بوجوده لا في محل، والقول بوجوده حيث لا يوجد؛ لكون صحة وجوده مشروطة بحلوله، ولأنه لو جاز أن يؤدي أحداً نظره إلى إثبات إرادة لله سبحانه لا في محل؛ لم يمتنع أن يؤديه ذلك النظر إلى إثبات حركة له سبحانه لا في محل، وشهوة لا في محل ونحو ذلك من المحالات؛ التي ليس بعضها أولى بالإثبات من بعض بغير دليل...

(1/243)


وأما قولهم: إنها مختصة به على أبلغ الوجوه، لكونها موجودة على حد وجوده لا في محل؛ فهو باطل على أبلغ الوجوه، لأجل أنه يستحيل أن يوصف الباري سبحانه بأنه يختص بالأعراض، (ولأجل أنه) يستحيل وجود العرض لا في محل.
ومما يشهد بصحة هذه الجملة من أقوال الأئمة:
قول أمير المؤمنين - عَلَيْه السَّلام - فيما تقدم ذكره: (يقول ولا يلفظ، ويحفظ ولا يتحفظ، ويريد ولا يضمر، يحب ويرضى من غير رقة، ويبغض ويغضب من غير مشقة).
وقوله: (ومشيئته الإنفاذ لحكمه، وإرادته الإمضاء لأموره).
وقول علي بن الحسين بن علي - عَلَيْهم السَّلام - في توحيده: (فاعل لا باضطرار، مقدر لا بجولان فكره، مدبر لا بحركة، مريد لا بهمامة).
وقول جعفر بن محمد الصادق - عَلَيْه السَّلام - في كتاب الإهليلجة: (الإرادة من العباد الضمير وما يبدو بعد ذلك من الفعل؛ فأما من الله عز وجل فالإرادة للفعل إحداثه لأنه لا يرى ولا يتفكر).
وقول الهادي إلى الحق - عَلَيْه السَّلام - في كتاب المسترشد: (ألا ترى أن الفاعل لما لا يريد، فجاهل مذموم من العبيد، فكيف يقال بذلك في الله الواحد الحميد).
وقوله: (لا فرق بين إرادة الله ومراده، وإن الإرادة منه هي المراد، وإن مراده هو الموجود الكائن المخلوق).
وقول ابنه المرتضى لدين الله - عَلَيْه السَّلام - في كتاب الشرح والبيان: ([و]العرض لا يقوم بنفسه، ولا بد له من شبح يقوم فيه وبه)...

(1/244)


وقول أخيه الناصر لدين الله - عَلَيْه السَّلام - في كتاب النجاة: (لا يقوم عرض إلا في جسم، ولا جسم إلا وفيه عرض).
وقول القاسم بن علي - عَلَيْه السَّلام - في كتاب التجريد: (فإن قال السائل: فلا أرى لله إرادة إذا كان مراده وجود فعله؛ فإنا نقول: إن مراده لو لم يكن وجود فعله لكانت صفاته كصفات خلقه).
وقول ابنه الحسين - عَلَيْهما السَّلام - في كتاب الرد على الملحدين: (ولو كانت إرادته قبل فعله لكانت كإرادة المخلوقين، ولكانت عرضاً من جسم، ولو كان جسماً لأشبه الأجسام، وإنما إرادته فعله، وفعله مراده، وليس ثم إرادة غير المراد، فيكون مشابهاً للعباد).
وذكر الإمام المنصور بالله - عَلَيْه السَّلام - في الرسالة الناصحة للإخوان أن من جملة محالات المطرفية قولهم في الإحالة: (إنها لا حالة ولا محلولة)، وذلك يدل على أن قول من قال في الإرادة: إنها لا حالة ولا محلولة محال كالقول في الإحالة لعدم الفرق.
[الكلام في الإدراك]
وأما الفصل الرابع: وهو في الكلام في الإدراك
فمذهب العترة: أن الله سبحانه مدرك لجميع المدركات من المحسوسات وغيرها درك علم لا كيفية له، ولا يجوز توهمه، ولا التفكر فيه.
ومذهب المعتزلة: أنه سبحانه مدرك للمسموعات والمبصرات إذا كانت موجودة بإدراك متجدد زائد على كونه عالماً بها.
والذي يدل على صحة مذهب العترة وبطلان مذهب المعتزلة على وجه الإختصار أربعة أدلة:..

(1/245)


الأول: أن ذلك الإدراك المتجدد لا يخلو إما أن يكون معقولاً، أو غير معقول؛ فإن كان غير معقول لم يجز إثباته لتحريم الله سبحانه على المكلفين أن يقولوا عليه ما لا يعلمون.
وإن كان معقولاً فلا يخلو إما أن يكون درك العلم أو درك الحواس، ولا واسطة مما يعقل؛ فإن كان درك العلم لم يجز وصفه بالتجدد، وإن كان درك الحواس لم تجز إضافته إلى الله سبحانه.
الثاني: أن الإدراك المتجدد لا يعقل إلا إذا كان بعد أن لم يكن، وكل متجدد كان بعد أن لم يكن فإنه يجب أن يحتاج إلى مجدد جدده، لاستحالة أن يكون جدد نفسه، وأن يكون تجدد لا عن مجدد كما يستحيل في كل محدث بإجماعهم أن يحدث نفسه وأن يحدث لا عن محدث، ولا فرق بين التجدد والحدوث في المعنى إلا باصطلاحهم الخارج عن حد العقل.
الثالث: أن الله سبحانه لو كان مدركاً بإدراك متجدد لم يخل إما أن يدرك به الذوات دون الصفات، أو الصفات دون الذوات، أو الذوات والصفات معاً.
فإن زعموا أنه يدرك الذوات؛ فالذوات عندهم ثابتة فيما لم يزل.
وإن زعموا أنه يدرك الصفات التي هي الوجود وتوابعه؛ فالوجود عندهم لا يعلم بانفراده فضلاً عن أن يدرك.
وإن زعموا أنه يدرك الذوات والصفات معاً؛ فالصفات عندهم ليست شيء، ولا لا شيء؛ فكيف يصح لهم وصفها بأنها مدركة مع الذوات.

(1/246)


الرابع: أنه لو جاز أن يؤدي النظر إلى إثبات إدراك لله سبحانه متجدد يدرك به المسموعات والمبصرات؛ لم يمتنع أن يؤدي ذلك النظر إلى إثبات إدراك له سبحانه [متجدد] يدرك به المشتهيات والملموسات لعدم المخصص لإدراك دون إدراك، ومدرك دون مدرك، وكل ذلك مستحيل لا تجوز إضافته إلى الله سبحانه.
ومما يشهد بصحة هذه الجملة من أقوال الأئمة:
قول أمير المؤمنين - عَلَيْه السَّلام - فيما تقدم ذكره من خطبته: (عينه المشاهدة لخلقة، ومشاهدته لخلقه أن لا امتناع منه، سمعه الإتقان لبريته).
وقول علي بن الحسين - عَلَيْه السَّلام - في توحيده: (سميع لا بآلة بصير لا بأداة).
وقول جعفر بن محمد الصادق - عَلَيْه السَّلام - في كتاب الإهليلجة: (إنما تسمى تعالى سميعاً بصيراً لأنه لا يخفى عليه شيء).
وقول محمد بن القاسم - عَلَيْه السَّلام - في كتاب الشرح والتبيين: (إنما عنى بقوله تبارك وتعالى: سميع بصير، الدلالة لخلقه على دركهم، وعلمه لأصواتهم، التي إنما يعقلون دركها عندهم بالأسماع، وأنه مدرك عالم بجميع أشخاصهم وهيئاتهم، وصورهم وألوانهم، وصفاتهم وحركاتهم، التي إنما يعقلون دركها بالعيون والأبصار، إذ درك المخلوقين؛ للأصوات والأشخاص بالأسماع والعيون، التي ربما كلت وتحيرت وأخطأت، وأدركت ظاهراً دون باطن وقصرت.
ودرك الله تبارك وتعالى لهذا كله درك واحد، محيط بما ظهر وبطن، وبما بَعُدَ وقرب، وهو درك علمه الذي لا يفوته من المدركات شيء)...

(1/247)


وقول الهادي إلى الحق - عَلَيْه السَّلام - في كتاب المسترشد: (معنى سميع هو عليم، والحجة على ذلك قول الرحمن الرحيم: {أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لَا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ} [الزخرف:80]، والسر فهو ما انطوت عليه الضمائر، وقوله: {بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ(15)} [آل عمران]، يريد عالم محيط بكل أمرهم مطلع على خفي سرائرهم).
وقوله في كتاب الديانة: (وهو السميع البصير ليس سمعه غيره، ولا بصره سواه، ولا السمع غير البصر، ولا البصر غير السمع).
وقول القاسم بن علي - عَلَيْه السَّلام - في كتاب التجريد: (والله فعظيم الشأن، قوي السلطان، لم يزل مدركاً للأشياء قبل تكوينها، ولا فرق بين دركه لها بعد تكوينها، ودركه لها قبل تكوينها).
تم الكلام في الموضع الثالث.

[الكلام في العالم وصفات ذواته وذكر فنائه]
وأما الموضع الرابع: وهو الكلام في العالم وصفات ذواته وكيفية فنائه
فهو ينقسم على ستة فصول:
الأول: في ذكر ذوات العالم وصفاتها على الجملة.
والثاني: في ذكر تعلق العلم بالمعلوم.
والثالث: في ذكر تعلق القدرة بالمقدور.
والرابع: في ذكر ما ليس لله فيه تأثير، وما ليس هو له في الأزل بمعلوم.
والخامس: في ذكر الجواهر.
والسادس: في ذكر كيفية فناء ذوات العالم.
[ذكر ذوات العالم وصفاتها على الجملة]
أما الفصل الأول: وهو في الكلام في ذوات العالم وصفاتها على الجملة..

(1/248)


فمذهب العترة: أن ذوات العالم هي أجسامه، وصفاتها هي أعراضها، وأنه لا يصح العلم بانفراد ذوات العالم عن الأعراض، ولا العلم بانفراد الأعراض عن ذوات العالم، وأنه لا دليل في العقل ولا في السمع يدل على أن شيئاً سوى الله -سبحانه- ليس بجسم، أو صفة جسم وهي لا توجد منفردة عن محل.
ومذهب المعتزلة المقدم ذكرهم: أن ذوات العالم جواهر وأعراض يصح العلم بكل واحدٍ منها على انفراده، وأن صفاتها أمور زائدة عليها لا توصف بأنها هي هي، ولا غيرها، ولا شيء ولا لاشيء، ولا فرق في ذلك على الجملة عندهم بين الباري سبحانه وبين غيره، ولذلك حدوا الذوات كلها بحد واحد جامع، وشاركوا بينها في الذاتية، وكذلك الصفات.
والذي يدل على صحة مذهب العترة في ذلك وبطلان مذهب المعتزلة: هو أن تسمية الجوهر جوهراً والعرض عرضاً فرع على معرفة الفرق بينهما؛ لأنه لو لم يكن بينهما فرق لم يكن أحدهما بأن يكون جوهراً أو عرضاً أولى من الثاني.
ولا سبيل إلى معرفة الفرق بينهما إلا بعد وجودهما، ولا فرق بينهما بعد وجودهما إلا بكون الجوهر محلاً، وكون العرض حالاً عارضاً حالة وجوده في غيره؛ فلذلك سمي عرضاً، ولا يعقل وجوده إلا حالاً في غيره، وما لم يعقل وجوده إلا في غيره لم تصح دعوى العلم به منفرداً.
بدليل أن أحداً لو ادعى مشاهدة ذلك لعلم كذبه ضرورة، وكذلك الجوهر لا يعقل وجوده إلا مجتمعاً أو متفرقاً، أو متحركاً أو ساكناً، فلا يصح دعوى العلم به منفرداً...

(1/249)


ومما ينبه اتباع أئمة الهدى على صحة ذلك من أقوالهم:
قول القاسم بن إبراهيم - عَلَيْه السَّلام - في كتاب الدليل الكبير: (وحدث الحركة والزمان، وقرائنهما من الجسم والصورة والمكان، مما لا ينكره إلا مكابر لعقله وفاحش مستنكر من جهله دون من سلمت من الخبل نفسه ونجت من نقص الآفات حواسه).
وقوله في كتاب مسألة الملحد: (لأن الأجسام لا يجوز أن تخلو من هذه الصفات فيتوهمه ويمثله في نفسه خالياً منها؛ فإذا لم يجز ذلك ثبت أن الأجسام حكم أصولها كحكم فروعها).
وقول الهادي إلى الحق - عَلَيْه السَّلام - في كتاب المسترشد: (فلما أن وجدت العقول والحواس أجساماً مثلها مصورات كتصويرها، وأعراضاً لا تقوم إلا بغيرها استَدْلَلَتْ على الفاعل بفعله).
وقول الحسين بن القاسم - عَلَيْه السَّلام - في كتاب نهج الحكمة: (وإنما الأصل في الأجسام أن كل ما قام بنفسه، وتعلقت الأحوال به، فهو جسم محل للأعراض، والعرض هو ما كان حالاً في غيره، وكان لا ينفرد بذاته ولا يحله سواه).
[ذكر تعلق العلم بالمعلوم والقدرة بالمقدور]
وأما الفصل الثاني والثالث:
وهما الكلام في ذكر تعلق العلم بالمعلوم وتعلق القدرة بالمقدور..

(1/250)


فمذهب العترة في ذلك: أن الله سبحانه عالم بكل شيء يصح العلم به، من صفة وموصوف، وأن علمه بذلك فيما لم يزل لا يوجب ثبوت شيء من خلقه قبل أن يجعله شيئاً، ولا ثبوت شيء من أفعال عباده قبل أن يفعلوها، وأنه لا يجوز أن يوصف بالثبوت فيما لم يزل إلا الله وحده لا شريك له، وأنه سبحانه قادر على أن يخلق خلقاً بعد خلق إلى ما لا نهاية له.
ولا يجوز أن توصفبعض مقدوراته سبحانه بأنها ثابتة فيما لم يزل لأجل كونه قادراً فيما لم يزل، ولا بأنها لا نهاية لها لأجل كونه سبحانه قادراً لذاته.
ومذهب بعض المعتزلة: أن كل شيء معلوم لله سبحانه فيما لم يزل؛ فإنه يجب أن يكون ثابتاً فيما لم يزل، لأجل كونه سبحانه عالماً به فيما لم يزل، ولذلك لم يمكنهم أن يفرقوا بين ذات الباري سبحانه وبين سائر الذوات في الوصف بالثبوت فيما لم يزل، ولا في أنه يصح العلم بكل واحد منها على انفرادها؛ لأنه قد انتضمها وجمعها الحد المنطقي بزعمهم.
قالوا: وكل مقدور له سبحانه فإنه يجب ثبوته فيما لم يزل لأجل كونه قادراً فيما لم يزل، ويجب أن تكون مقدوراته سبحانه لا نهاية لها؛ لأجل كونه بزعمهم قادراً لذاته أو لما هو عليه في ذاته على حسب اختلافهم في الموجب لكونه قادراً...

(1/251)


والذي يدل على صحة مذهب العترة في ذلك وبطلان مذهب من خالفهم فيه من المعتزلة وغيرهم: هو كون ذوات العالم بإجماعهم هي العالم، والعالم محدث، والحدث نقيض الأزل؛ فيجب أن يستحيل الجمع بين وصف ذوات العالم بأنها محدثة وثابتة فيما لم يزل، وكذلك فإنه يستحيل بإجماعهم وجود ذوات العالم فيما لم يزل فيجب أن يستحيل ثبوتها فيما لم يزل لعدم الفرق المعقول بين الثبوت والوجود، ولأن الله سبحانه قد أخبر في محكم كتابه بأنه الأول، وثبت بأدلة العقل أنه سبحانه ثابت فيما لم يزل، وأنه لا أول لثبوته.
فلو كانت ذوات العالم كما زعموا ثابتة فيما لم يزل، لم يكن ما لا أول لثبوته أولى بالأولية مما لثبوته أول؛ ولأن القول بذلك يؤدي إلى إبطال أدلة العقل والسمع، وإبطال معنى التوحيد؛ لأنه سبحانه قد أخبر أنه لا يحاط به علماً.
فلو كانت ذاته كما زعموا يصح العلم بها على انفرادها كسائر الذوات للزم أن لا يكون بين ذاته سبحانه وبين سائر الذوات فرق في أنه يحاط بها علماً أو أنه لا يحاط بها علماً...

(1/252)


والذي يدل على بطلان قولهم بأن مقدورات الباري سبحانه ثابتة فيما لم يزل، وأنه لا نهاية لها: إقرارهم بأن ذوات العالم هي بعض المقدورات التي زعموا أنها ثابتة فيما لم يزل، وأنها لا نهاية لها، وإقرارهم بأن للعالم نهاية فيلزمهم بالإضطرار أن يكون لكلها نهاية؛ لأن كل ما له بعض فبعضه لا يخلو من أن يكون مثله أو أقل منه أو أكثر، وكل موصوف بالتساوي والقلة والكثرة متناهٍ وكل متناهٍ محدث، والحدث نقيض الأزل...

(1/253)


المسائل الباحثة عن معاني الأقوال الحادثة
من كلامه رضي الله عنه وأرضاه
بسم الله الرحمن الرحيم
مسألة: كيف يجوز التفكر في إثبات ذات الله سبحانه مشارِكةً لذوات الجواهر، ولذوات الأعراض في الذاتية، وفي أنه يصح العلم بها على انفرادها، مع كون التفكر فيه سبحانه محظوراً؟ ولذلك قال النبي - صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم -: ((تفكروا في آلاء الله، ولا تفكروا في الله)) ، وقوله: ((تفكروا في المخلوق ولا تفكروا في الخالق)).
وقول أمير المؤمنين - عَلَيْه السَّلام -: (من تفكر في الصنع وحد، ومن تفكر في الصانع ألحد).
مسألة: كيف يجوز التوصل بالنظر والقياس إلى إثبات أمر موجبٍ لكون الباري سبحانه قادراً وعالماً، وحياً وموجوداً، مع كون ذلك تكلفاً لما لا يجب، وإثباتاً لما لا يجوز ولا يعقل؟ ولذلك قال أمير المؤمنين - عَلَيْه السَّلام -: (انظر أيها السائل فما دلك القرآن عليه من صفته فائتم به، واستضيء بنور هدايته، وما كلفك الشيطان علمه مما ليس عليك في القرآن فرضه، ولا في سنة النبي - صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم - وأئمة الهدى أثره، فَكِلْ علمه إلى الله فذلك منتهى حق الله عليك).....

(1/254)


وقال في وصيته لابنه الحسن - عَلَيْهما السَّلام -: (واعلم - أي بني - أن أحب ما أنت آخذ به من وصيتي تقوى الله؛ والإقتصار على ما افترض الله عليك، والأخذ بما مضى عليه أولوك من آبائك، والصالحون من أهل بيتك؛ فإنهم لم يدعوا أن ينظروا لأنفسهم كما أنت ناظر، وفكروا كما أنت مفكر، ثم ردهم ذلك إلى الأخذ بما عرفوا، والإمساك عما لم يكلفوا).
..إلى قوله: (واعلم أن أحداً لم ينبئ عن الله عز وجل كما أنبأ محمد - صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم - فارض به رائداً، وإلى النجاة قائداً).
مسألة: كيف يجوز إثبات صفات الباري سبحانه ووصفها بأنها أمور زائدة على ذاته مترتبة في الوجوب، مختلفة في الأحكام، ومشتركة في الثبوت فيما لم يزل، مع كون ذلك موجباً للتعديد إذ لا يعقل إثبات موجب وواجب، وموجب له فيما لم يزل لشرط ثبوت هذه الثلاثة المعدودة فيما لم يزل، وذلك خلاف التوحيد؟
ولذلك قال أمير المؤمنين - عَلَيْه السَّلام - في توحيده الموثوق بصحته: (من وصفه فقد حده، ومن حده فقد عده، ومن عده فقد أبطل أزله).
وقال: (وكمال الإخلاص له نفي الصفات عنه بشهادة كل صفة أنها غير الموصوف، وشهادة كل موصوف أنه غير الصفة؛ فمن وصف الله سبحانه فقد قرنه، ومن قرنه فقد ثناه، ومن ثناه فقد جزأه، ومن جزأه فقد جهله).

(1/255)


مسألة: كيف يجوز أن يجعل الشيء أو الذات اسم جنس عام للخالق ليتوصل بالمشاركة فيه بين الباري وغيره إلى جعل ذاته من جملة الذوات المحدودة بالحد الجامع المركب من جنس وفصل، وإلى قياس (صفاته على صفات المخلوقين)، مع كون الجنسية والنوعية والمشاركة والقياس من أوصاف الأشياء المحدثة، التي يصح قياس بعضها على بعض لأجل اشتراكها في صفات تعم، وافتراقها لأجل صفات تخص، ولذلك لم يجز فيها لما كانت أجناساً متنوعة أن يقال: محدث لا كالمحدثات، وجسم لا كالأجسام، وجاز في الله سبحانه لما لم يكن جنساً لشيء ولا نوعاً من جنس، أن يقال: إنه سبحانه شيء لا كالأشياء؛ فدل ذلك على أن الشيئية ليست باسم جنس حقيقة.
ولذلك قال أمير المؤمنين - عَلَيْه السَّلام -: (ليس لذاته تكييف، ولا لصفاته تجنيس، احتجب عن العقول كما احتجب عن الأبصار).
وقال: (لم يلتبس به حال، ولا نازعه بال، ولا الذات ذَيَّتته، ولا الملكة ملكته، ولا الصفة أوجدته بل هو مُوْجِدُ كلِّ موجود، وخالق كل صفة وموصوف).
وقال: (باينهم بصفته رباً، كما باينوه بحدوثهم خلقاً).
وقال: (واحد لا بعدد، دائم لا بأمد، قائم لا بعمد، ليس بجنس فتعادله الأجناس).
وقال: (صفته أنه لا مثل له من خلقه، وحليته أنه لا شبيه له من بريته، ومعرفته أنه لا إحاطة به، والعلم به أن لا معدل عنه).

(1/256)


مسألة: كيف يصح الإستدلال بكون الباري سبحانه عالماً فيما لم يزل على ثبوت ذوات العالم فيما لم يزل مع اتفاق الموحدين على أن ذوات العالم هي العالم المحدث الذي يستحيل وصفه بالقدم، واتفاق أكثرهم على أنه لا يجوز أن يوصف بالثبوت فيما لم يزل إلا الله سبحانه.
ولذلك قال أمير المؤمنين - عَلَيْه السَّلام -: (الحمد لله الذي دل على وجوده بخلقه، وبحدث خلقه على أزليته).
وقال: (والذي الحدث يلحقه فالأزل يباينه).
وقال: (عالم إذ لا معلوم، ورب إذ لا مربوب، وقادر إذ لا مقدور).
مسألة: كيف يصح الجمع بين القول بأن لوجود ذوات العالم أولاً، والقول بأنه لا أول لثبوتها مع عدم الفرق بين ثبوتها ووجودها، وكذلك الحال في القول بأن: ذوت العالم هي العالم المحدث، والقول بأن ذوات العالم ثابتة فيما لم يزل؟
مسألة: إذا كانت ذوات العالم المتناهية لها نهاية بإجماع من يزعم أنها بعض الذوات وبعض المقدورات التي لا نهاية لها بزعمهم؛ فكيف يصح أو يعقل أن يوصف ما لبعضه نهاية بأنه لا نهاية لكله مع ما في ذلك من التناقض البين؟..

(1/257)


مسألة: إذا لم تكن ذوات العالم محتاجة في كونها ذواتاً إلى مؤثر يجعلها ذواتاً بعد أن لم تكن، فكيف يصح وصفها بأنها مقدورة لله سبحانه لأجل تأثيره في أمر زائد عليها ليس هو هي ولا غيرها، وهو الوجود الذي قيل إنه سبحانه لا يؤثر إلا فيه، وأنه لا يعلمه فيما لم يزل؟ وهل يعقل من ذلك إلا القول بأن كل شيء تعلق به علمه فلا تأثير له فيه، وكل أمر أثر فيه فليس هو له بمعلوم فيما لم يزل مع ما في ذلك من التجهيل والتعجيز الذي لا يجوز وصفه به.
مسألة: إذا كان كون العالم محكماً يدل على كون الباري سبحانه عالماً بالإحكام قبل كونه فرعاً على إيجاده، بمعنى أن حصول الإحكام والعلم به لا يمكن من دون حصول الإيجاد والعلم به، وكان الذي يدل على كون الباري سبحانه عالماً هو وجود العالم محكماً؛ فكيف يصح أو يجوز أن يقال: إن الله سبحانه لا يعلم فيما لم يزل إلا مجرد الذوات دون الإيجاد والإحكام، مع ما في القول بذلك من لزوم إبطال الدليل والمدلول عليه، لأجل وقوف العلم بكونه سبحانه عالماً على كونه عالماً بالإحكام قبل حصول علمه بالإحكام على حصول الإحكام بعد الإيجاد، وكون الإيجاد غير معلوم له سبحانه فيما لم يزل.
مسألة: إذا كان لكل ذاتٍ صفة أو صفات يستحيل خلوها عنها فيما لم يزل وفيما لا يزال عند من يقول بأزلية كل ذات، فكيف يصح أن يقال في حقيقة الذوات إنه يصح العلم بها على انفرادها، وهل يعقل انفرادها عما يستحيل خلوها عنه مع كون ذلك متناقضاً...

(1/258)


مسألة: كيف يصح الجمع بين القول بأن الجوهر ليس له إلا جهة واحدة لأجل كونه جزءاً لا يتجزأ، والقول بجواز ائتلاف الجواهر طولاً مع حصول العلم ضرورة بأن ائتلاف ثلاثة جواهر طولاً لا يصح ولا يعقل إلا إذا كان أحدها متوسطاً وأن توسطه لا يصح ولا يعقل إلا إذا كان بين جوهرين، ومحاداً لهما بحدين؟
مسألة: ما الفرق بين قول من قال: صفات الله أشياء غير ذاته، وقول من قال صفاته أمور زائدة على ذاته ؟ مع أنه ما من دليل يدل على بطلان كونها أشياء غير ذاته، إلا ويصح أن يدل على بطلان كونها أموراً زائدة على ذاته ومع عدم الفرق بين تسميتها أموراً وتسميتها أشياء، ومع عدم الفرق بين جعلها زائدة وجعلها غيراً، ولذلك يجوز أن يقال: كل أمر شيء، وكل زائد على شيء فهو غير له.
مسألة: إذا كان يعلم ضرورة أنه لا يجوز نفي النفي والإثبات معاً، ولا إثباتهما معاً، ولا دخول متوسط بينهما، وكان كل معلوم ضرورة أصلاً يدل على صحة ما يوافقه من النظر، وفساد ما يخالفه منه، فكيف يصح مع ذلك أن يؤدي النظر والإستدلال إلى إثبات أمور ليست بشيء ولا لا شيء كما يصح أن يؤدي إلى إثبات أمور هي شيء ولا لاشيء؟
مسألة: ما الفرق بين قول من قال: أعيان العالم قديمة، وقول من قال: ذواته ثابتة فيما لم يزل؟ مع جواز أن يعبر بالأزل بدلاً عن القدم، وبذات الشيء بدلاً عن عينه...

(1/259)


مسألة: كيف يجوز الإستغلاط بحصر القسمة في أن الله سبحانه لا يخلو: إما أن يكون مريداً لذاته أو لغيره مع جواز أن يقال: أو لا لذاته ولا لغيره؛ لأجل كونه سبحانه مريداً لا بإرادة كإرادة المخلوق كما أنه قادر لا بقدرة، فاعل لا بآلة.
ولذلك قال أمير المؤمنين - عَلَيْه السَّلام -: (يقول ولا يلفظ، ويحفظ ولا يتحفظ، ويريد ولا يضمر).
وقال: (مشيئته الإنفاذ لحكمه، وإرادته الإمضاء لأموره).
مسألة: إذا كان الله سبحانه فاعلاً مختاراً لفعله ولا يجوز عليه السهو ولا الاضطرار، وكان لا يصح في العقل إثبات كون الفاعل مختاراً لفعله مع نفي كونه مريداً له؛ فكيف يجوز مع ذلك وصف الباري سبحانه بأنه يخلق ما لا يريد، مع ما في إضافة ذلك إليه من النقص الذي لا يجوز إضافته إليه؟
مسألة: إذا كان العرض إنما سمي عرضاً لأجل كونه صفة لمحله، وعارضاً حالة وجوده في غيره، ولذلك استحال في الشاهد وجود عرض لا في محل، كما يستحيل وجود الجسم خالياً عن جميع الأعراض؛ فكيف يجوز مع ذلك أن يتفكر في إثبات عرض موجود لا في محل، بل كيف يجوز وصف بعض الأعراض بأنه ضد لجواهر العالم، مع عدم المضادة مع كون ذلك غير ممكن ولا معقول.
مسألة: إذا ثبت بأدلة العقل أن الله سبحانه وتعالى عالم فيما لم يزل، وفيما لا يزال بما كان وبما سيكون، وبما لو كان كيف يكون، وثبت بنص الكتاب أنه سبحانه عالم الغيب والشهادة...

(1/260)


وقال أمير المؤمنين - عَلَيْه السَّلام -: (عينه المشاهدة لخلقه، ومشاهدته لخلقه أن لا امتناع منه). وقال: (سمعه الإتقان لبريته) فكيف يجوز مع ذلك إثبات إدراك له سبحانه متجدد زائد على كونه عالماً بطريقة القياس على إدراك المخلوقين، مع كون ذلك الإدراك غير معقول، وكونه موهماً لنقص المحتاج إليه؟
مسألة: ما الفرق بين أن يدعي مدعٍ أن نظره يؤديه إلى إثبات إدراك لله سبحانه (متجدد زائد) على كونه عالماً؛ يدرك به المسموعات والمبصرات، وبين أن يدعي أن نظره يؤديه إلى إثبات إدراك له سبحانه متجدد يدرك به الملموسات والمشتهيات من المطعومات والمشمومات، ونحوها مع عدم المخصص (لمدرك من) المحسوسات دون غيره، وعدم الفرق بين إثبات إدراك دون غيره؟
مسألة: إذا كان كل محدث باتفاق الموحدين من العترة ومن قال بقولهم محتاجاً إلى محدث لاستحالة أن يكون أحدث نفسه، أو حدث لا عن محدث، فكيف يصح إثبات متجدد لا يحتاج إلى مجدد مع عدم الفرق بين المحدث والمتجدد في المعنى، وهو حصول كل واحد منهما بعد أن لم يكن؟
والحمد لله رب العالمين وصلى الله على محمد وآله وسلم ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.

(1/261)


المنتزع الأول من أقوال الأئمة(ع)
يتضمن الكلام في النص والحصر وصفة الإمام
وذكر حكم من يخالف في ذلك من فرق الإسلام

انتزعه السيد العالم العامل، الورع الكامل، نور الدين، عين الموحدين،
فرع العترة الأكرمين الهادين، محيي علوم آبائه الأكرمين
حميدان بن يحيى بن حميدان القاسمي الحسني الهاشمي
رضي الله عنه وأرضاه، وجعل الجنة مصيره ومأواه
وصلى الله على سيدنا محمد وآله وسلم
بسم الله الرحمن الرحيم، (وبه نستعين)
[ديباجة الكتاب]
أما بعد حمد الله تعالى على سوابغ نعمه، وما أوضحه لجميع المتعبدين من بوالغ حكمه، والصلاة على من اختاره لختم إرساله، وخلفه في أمته بالأئمة السابقين من آله.
فإنه لما كان الكلام في مسائل الإمامة والأئمة، من أول ما وقع فيه الخلاف والتنازع بين الأمة، وقد صح بالأدلة وجوب طاعة أئمة العترة واتباعهم، وأنه لا يجوز لأحد من المؤمنين مخالفة إجماعهم، جمعت من أقوال كثير من الأئمة - عَلَيْهم السَّلام - جملاً من الكلام؛ في النص والحصر، وصفة الإمام.
[ذكر أقوال أمير المؤمنين (ع) في الإمامة]
فمن ذلك: قول أمير المؤمنين - عَلَيْه السَّلام - في كتاب نهج البلاغة [في قصة أبي بكر]: (أما والله لقد تقمصها ابن أبي قحافة، وإنه ليعلم أن محلي منها محل القطب من الرحا).
وقوله: (حتى إذا مضى الأول لسبيله أدلى بها إلى غيري بعده؛ فيا عجباً بينا هو يستقيلها في حياته إذ عقدها لآخر بعد وفاته).

(1/262)


وقوله بعد ذلك في قصة عمر: (فصبرت على طول المدة، وشدة المحنة؛ حتى إذا مضى لسبيله جعلها في جماعة زعم أني سادسهم؛ فيا لله (و)للشورى، متى اعترض الريب فيَّ مع الأول منهم حتى صرت أقرن إلى هذه النظائر).
وقوله في كتاب المحن في قصة عثمان وأصحابه: (فلما لم يجدوا عندي إلا المحجة البيضاء، والحمل على الكتاب وسنة الرسول، وإعطاء كل امرء ما جعل الله له، ومنعه ما لم يجعل الله له، انتبذ من القوم منتبذ فأزالها (إلى ابن) عفان طمعاً في التبجح معه في الدنيا).
وقال في قصة الجميع: (فلم أشعر بعد قبض رسول الله - صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم - إلا برجال من بعث أسامة وعسكره قد تركوا مراكزهم، وأخلوا مواضعهم، وخالفوا أمر رسول الله -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم- فيما أنهضهم فيه، وأمرهم (به) وتقدم إليهم فيه من ملازمة أميرهم، والمسير معه وتحت لوائه، حتى ينفذ لوجهه الذي وجهه له، وخلفوا أميرهم مقيماً في عسكره؛ فأقبلوا يتبادرون على الخيل ركضاً إلى عقد عقده الله ورسوله - صَلَّى الله عَلَيْه وآله - في أعناقهم، وعهد عهده الله لي إليهم ورسوله فنكثوه وعقدوا لأنفسهم).
وقال في كتاب نهج البلاغة: (حتى إذا قبض رسول الله - صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم - رجع قوم على الأعقاب، وغالتهم السبل، واتكلوا على الولائج، ووصلوا غير الرحم، وهجروا النسب الذي أمروا بمودته، ونقلوا البناء عن أرض أساسه، فبنوه في غير موضعه)...

(1/263)


وقال في سبب تركه لقتالهم: (فنظرت فإذا ليس لي معين إلا أهل بيتي فظننت بهم عن الموت، وأغضيت على القذى، وشربت على الشجا، وصبرت على أخذ الكظم، وعلى أمر من طعم العلقم).
وقال في خطبته المعروفة بالموضحة بعد ذكره للمواطن التي فر عنها أبو بكر وعمر: (واعلموا رحمكم الله أنه من أخفى الغدر وطلب الحق من غير أهله، ارتطم في بحر الهلاك، وصار بجهله أقرب إلى الشك والإشراك، والله يقول سبحانه: {إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا فَلَا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبَارَ(15) وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ(16)} [الأنفال]، فاغضبوا رحمكم الله على من غضب الله عليه)...

(1/264)


وقال: (فنقضوا عهد رسول الله - صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم -، وخالفوا إلى غير فعله في أخذهم فدكاً من يد ابنته، وتأولوا ما لم يعلموا معرفة حكمه).
وقال -عَلَيْه السَّلام-: (كذب المفترون، وضل الكاذبون على الله وعلى رسوله ضلالاً بعيداً، بل الله يخلق ما يشاء ويختار ما كان لهم الخيرة من دونه، وهو أعلم حيث يجعل رسالاته، ويهدي لنوره من يشاء، ولا معقب لحكمه، ولا راد لأمره، وقد اختار الله طالوت واصطفاه، ووكله بأمره فمن أطاعه ظفر، ومن عصاه كفر؛ فاعتبروا به فلكم فيه معتبر).
ومن شعره - عَلَيْه السَّلام - في معنى ذلك، قوله:
أنا علي صاحب الصمصامهْ.... أخو نبي الله ذي العلامهْ
قد قال إذ عممني العمامهْ.... أنت الذي بعدي له الإمامهْ
وقوله:
سبقتكم إلى الإسلام طراً.... صغيراً ما بلغت أوان حلمي
وآتاني ولايته عليكم.... رسول الله يوم غدير خمِّ
وقوله:
فإن كنتَ بالشورى ملكتَ أمورهم.... فكيف تليها والمشيرون غيّبُ
وإن كنتَ بالقربى حججتَ خصيمهم.... فغيرك أولى بالنبي وأقربُ

(1/265)


وقال - عَلَيْه السَّلام - في كتاب نهج البلاغة في ذكر العترة والأئمة منهم: (أين الذين زعموا أنهم الراسخون في العلم دوننا، كذباً وبغياً (علينا) أن رفعنا الله ووضعهم، وأعطانا وحرمهم، وأدخلنا وأخرجهم، بنا يستضاء الهدى، وبنا يستجلى العمى، إن الأئمة من قريش في هذا البطن من هاشم؛ لا تصلح على من سواهم، ولا يصلح الولاة من غيرهم)
وقال: (فأين يتاه بكم؛ بل كيف تعمهون وبينكم عترة نبيكم، وهم أزمة الحق، وألسنة الصدق، فأنزلوهم بأحسن منازل القرآن، ورِدُوهم وِرْدَ الهيمِ العطاش).
وقال: (لا يعادل بآل محمد من هذه الأمة أحد، ولا يساوى بهم من جرت نعمتهم عليه أبداً، هم أساس الدين، وعماد اليقين، إليهم يفيء الغالي، وبهم يلحق التالي، ولهم خصائص حق الولاية، وفيهم الوصية والوراثة).
وقال: (فالتمسوا ذلك من عند أهله؛ فإنهم عيش العلم، وموت الجهل، هم الذين يخبركم حكمهم عن علمهم، وصمتهم عن منطقهم، وظاهرهم عن باطنهم، لا يخالفون الدين، ولا يختلفون فيه).
وقال في ذم من استغنى برأيه، وعلم شيوخه: (فيا عجباً، وما لي لا أعجب من خطأ هذه الفرق على اختلاف حججها في دينها، لا يقتفون أثر نبي، ولا يقتدون بعمل وصي، ولا يؤمنون بغيب، ولا يعفون عن عيب، يعملون في الشبهات، ويسيرون في الشهوات، المعروف فيهم ما عرفوا، والمنكر عندهم ما أنكروا، ومفزعهم في المعضلات إلى أنفسهم، وتعويلهم في المبهمات على آرائهم، كأن كل امرئ منهم إمام نفسه)

(1/266)


[ذكر أقوال الأئمة (ع) في الإمامة]
وذكر الحسن بن علي - عَلَيْه السَّلام - في خطبته التي خطب الناس بها بعد مهادنته لمعاوية -لعنه الله-، أن الذي ألجأه إلى المهادنة هو الذي ألجأ النبي - صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم - إلى دخول الغار، وألجأ أمير المؤمنين - عَلَيْه السَّلام - إلى مبايعة أبي بكر حين جمعت حزم الحطب على داره لتحرق بمن فيها من ذرية رسول الله - صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم - إن لم يخرج يبايع.
وقال في غيرها: ومن البلاء على هذه الأمة أنا إذا دعوناهم لم يجيبونا، وإذا تركناهم لم يهتدوا إلا بنا.
وقال الحسين بن علي - عَلَيْه السَّلام - في بعض رسائله إلى أهل البصرة: أما بعد فإن الله ابتعث محمداً بالحق، واصطفاه على جميع الخلق، وكنا أهله وأولياءه، وذريته وأحق الناس في الناس بمقامه..إلى آخر ما ذكره من قصة المشائخ واستئثارهم بالأمر.
وقال زين العابدين علي بن الحسين - عَلَيْه السَّلام - في موشحته القافية: فمن الأمان به على إبلاغ الحجة وتأويل الكتاب إلا أهل الكتاب، وأبناء أئمة الهدى، ومصابيح الدجى، الذين احتج الله بهم على خلقه، ولم يدع الخلق سدىً؛ هل تعرفونهم أو تجدونهم إلا فرع الشجرة المباركة، وبقايا الصفوة، الذين طهرهم الله من الرجس، وبرأهم من الآفات، شعراً:
هم العروة الوثقى وهم معدن التقى.... وخير حبال العالمين وثيقها

(1/267)


وحكي عن زيد بن علي - عَلَيْه السَّلام - أنه نسب ما أصابه من ظلم هشام إلى الشيخين لأجل كونهما أول من سن ظلم العترة، والتقدم على الأئمة.
وقال في كتاب الصفوة: واعلم أن ما أصاب الناس (من) الفتن، واشتبهت عليهم الأمور من قِبَلِ ما أذكر لك فأحسن النظر في كتابي هذا، واعلم أنك لن تستشفي بأول قولي حتى تبلغ آخره - إن شاء الله تعالى - وذلك أنهم لم يروا لأهل بيت نبيهم فضلاً عليهم يعترفون لهم به في قرابتهم من النبي - صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم -، ولا علماً بالكتاب ينتهون إلى شيء من قولهم فيه.
وقال: وليس كتاب إلا وله أهل هم أعلم الناس به، ضل منهم من ضل، واهتدى من اهتدى.
ثم قال بعد كلام: ورسول الله - صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم - هو جدنا، وابن عمه المهاجر معه أبونا، وابنته أمنا، وزوجته أفضل أزواجه جدتنا، فمن أهل الأنبياء إلا من نزل بمنزلتنا من نبينا - صَلَّى الله عَلَيْه وآله - والله المستعان.

(1/268)


واحتج على ذلك بقوله سبحانه: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا وَإِبْرَاهِيمَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ فَمِنْهُمْ مُهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ(26)} [الحديد].
وحكى عنه الحاكم أنه قال: الرد إلينا، نحن والكتاب الثقلان.
وذكر محمد بن علي الباقر - عَلَيْه السَّلام - في مناظرته للحروري أن الشيخين مغتصبان لموضع قبريهما من دار رسول الله - صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم - مع غير ذلك مما ذكر من زلاتهما في حياة النبي - صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم - وبعد وفاته.
وحكى الحاكم رحمه الله عن جعفر بن محمد الصادق - عَلَيْه السَّلام - أنه قال: نحن حبل الله الذي قال: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا} [آل عمران:103]

(1/269)


وحكى الإمام المنصور بالله - عَلَيْه السَّلام - عن المهدي لدين الله محمد بن عبدالله النفس الزكية - عَلَيْه السَّلام - أنه قال بعد كلام ذكر فيه قصة المشائح: فنظر علي للدين قبل نظره لنفسه؛ فوجد حقه لا ينال إلا بالسيف المشهور، وتذكر ما هو به من حديث عهد بجاهلية، فكره أن يضرب بعضهم ببعض فيكون في ذلك ترك الألفة؛ فأوصى بها أبو بكر إلى عمر عن غير شورى، فقام بها عمر وعمل في الولاية بغير عمل صاحبه، وليس بيده فيها عهد من رسول الله - صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم - ولا تأويل من كتاب الله، إلا رأي توخاه هو فيه مفارق لرأي صاحبه؛ فجعلها بين ستة، ووضع عليهم أمراء أمرهم إن هم اختلفوا أن يقتل الأول من الفتية، وصغروا من أمرهم ما عظم الله، وصاروا سبباً لولاة السوء، وسدت عليهم أبواب التوبة، واشتملت عليهم النار بما فيها، والله جل ثناؤه بالمرصاد، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.

(1/270)


وكذلك حكى - عَلَيْه السَّلام - عن الإمام يحيى بن عبدالله - عَلَيْهما السَّلام - أنه قال في كلام (كتب به) إلى هارون يذكر فيه قصة المشائخ، وقصة علي - عَلَيْه السَّلام -: ولو شاء أمير المؤمنين - عَلَيْه السَّلام - لهدأت له وركنت إليه بمحاباة الظالمين، واتخاذ المضلين، وموالاة المارقين، ولكن أبى الله ورسوله أن يكون للخائنين متخذاً، وللظالمين موالياً، ولم يكن أمره عندهم مشكلاً؛ فبدلوا نعمة الله كفراً، واتخذوا آيات الله هزواً، وأنكروا كرامة الله، (وكرهوا) وجحدوا فضيلة الله، فقال رابعهم: أنى يكون لهم الخلافة والنبوة حسداً وبغياً؛ فقديماً ما حُسِدَ النبيون وأبناء النبيين، الذين اختصهم الله بمثل ما اختصنا، فأخبر عنهم تبارك وتعالى؛ فقال: {أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا ءَاتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ ءَاتَيْنَا ءَالَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَءَاتَيْنَاهُمْ مُلْكًا عَظِيمًا(54)} [النساء] وقال في كلام وعظ به الألف والثلاثمائة الذين شهدوا أنه - عَلَيْه السَّلام - مملوك لهارون: فخلف فيكم ذريته، فأخرتموهم وقدمتم غيرهم، ووليتم أموركم سواهم.

(1/271)


وقال القاسم بن إبراهيم - عَلَيْه السَّلام - في كتاب تثبيت الإمامة في صفة علي - عَلَيْه السَّلام - بعد ذكره لجملة من فضائله: مع ما يكون عند الأوصياء من علم حوادث الأشياء، وما يلقون بعد الأنبياء من شدائد كل كيد، ودول كل جبار عنيد.
وقال في جواب سائل سأله عن الشيخين: كانت لنا أم صديقة بنت صديق، وماتت وهي غضبانة عليهما، ونحن غاضبون لغضبها لقول النبي - صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم -: ((إن الله يغضب لغضب فاطمة ويرضى لرضاها)) وقال في كتاب تثبيت الإمامة أيضاً: ولو كان الأمر في الإمامة كما قال المبطلون فيها، وعلى ما زعموا (من) أنهم الحاكمون بآرائهم واختيارهم (عليها)، وأن الخيرة فيها ما اختاروا، والرأي منها وبها ما رأوا؛ لكان في ذلك من طول مدة الإلتماس، وما قد أعطيوا بقبحه وفساده من إهمال الناس، ما لا يخفى على نظرة عين، ولا تسلم معه عصمة دين.
وقال: واللهُ ما جعل إليهم الخيرة فيما خَوَّلهم، ولا فيما جعل من أموالهم لهم؛ فكيف تكون لهم الخيرة في أعظم الدين عظماً، وأكبره عند علماء المؤمنين حكماً.....

(1/272)


وقال محمد بن القاسم - عَلَيْه السَّلام - في كتاب الأصول: وأما صفة الإمامة فإن الأصل فيها أنها فريضة من الله ورسوله، نطق بها الكتاب، وجاءت بها السنة.
وقال في كتاب الشرح والتبيين: ورأس النجاة لكم، فيما اشتبه عليكم من دينكم؛ ألا يقبل بعضكم قول بعض، ولكن ليرجع وليسأل فيما اشتبه عليه من جعله الله تعالى معدنه وموضعه من أهل الذكر، قال الله تعالى: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ(7)} [الأنبياء].
وقال في شرح دعائم الإيمان: فأولئك هم الذين أمر الله بطاعتهم، وهم العترة الطاهرون من آل نبيه - عَلَيْه السَّلام -، وأقامهم أئمة يهدون بأمره، وأمر الخلق كلهم أن يسألوهم إذا جهلوا، وأن يردوا إليهم علم ما اختلفوا فيه؛ لأنهم أهل الاستنباط، والبحث والنظر الذين أمر الله تعالى بالرد إليهم.
وقال: وقد أخبرنا الله عز وجل أنه قد كفى عباده ما يحتاجون إليه بقوله: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} [الأنعام:38]، وفيه تبيان كل شيء، فالمدركون له علماء آل محمد - صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم -...

(1/273)


وقال الهادي إلى الحق يحيى بن الحسين - عَلَيْه السَّلام - في كتاب الأحكام: ولاية أمير المؤمنين علي بن أبي طالب - صلوات الله عليه- واجبة على جميع المسلمين، فرض من الله رب العالمين، لا ينجو أحد من عذاب الرحمن، ولا يتم له اسم الإيمان، حتى يعتقد ذلك بأيقن الإيقان.
وقال: فمن أنكر أن يكون علي أولى الناس بمقام الرسول، فقد رد كتاب الله ذي الجلال والطول، وأبطل قول رب العالمين، وخالف في ذلك ما نطق به الكتاب المبين، وأخرج هارون من أمر موسى كله، وأكذب رسول الله -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم- في قوله، وأبطل ما حكم به في أمير المؤمنين، فلا بد أن يكون من كذب بهذين المعنيين؛ في دين الله فاجراً، وعند جميع المسلمين كافراً...
وقال: والاختيار في ذلك إلى الرحمن، وليس من الاختيار في ذلك شيء إلى الإنسان، كما قال [الله] سبحانه: {وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ(68)} [القصص]، ويقول سبحانه: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا(36)} [الأحزاب]، صدق الله سبحانه؛ لقد ضل من اختار سوى خيرته، وقضى بخلاف قضائه، وحكم بضد حكمه

(1/274)


وقال في جوابه لأهل صنعاء: لست بزنديق ولا دهري، ولا ممن يقول بالطبع ولا ثنوي، ولا مجبر قدري، ولا حشوي ولا خارجي، وإلى الله أبرأ من كل رافضي غوي، ومن كل حروري ناصبي، ومن كل معتزلي غال، ومن جميع الفرق الشاذة، ونعوذ بالله من كل مقالة غالية، ولا بد من فرقة ناجية عالية، وهذه الفرق كلها عندي حجتهم داحضة، والحمد لله.
وقال في كتاب القياس: وقع هذا الإختلاف، وكان ما سألت عنه من قلة الإئتلاف، لفساد هذه الأمة وافتراقها، وقلة نظرها لأنفسها في أمورها، وتركها لمن أمرها الله باتباعه، والإقتباس من علمه، ورفضها لأئمتها وقادتها؛ الذين أمرت بالتعلم منهم، والسؤال لهم.
ثم قال: فإن قال: كيف لا تقع الفرقة، ولا يقع بين أولئك - عَلَيْهم السَّلام - خُلْفَة؟
قيل: لأنهم أخذوا علمهم من الكتاب والسنة، ولم يحتاجوا إلى إحداث رأي ولا بدعة.

(1/275)


ثم قال: ثم اعلم من بعد كل علم وقبله، وعند استعمالك لعقلك في فهمه، أن الذين أمرنا باتباعهم؛ من آل رسول الله - صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم -، وحضضنا على التعلم منهم، وذكرنا ما ذكرنا من أمر الله برد الأمور إليهم، هم الذين احتذوا بالكتاب من آل رسول الله -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم-، واقتدوا بسنة رسول الله - صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم - الذين اقتبسوا علمهم من علم آبائهم وأجدادهم جداً عن جد، وأباً فأباً؛ حتى انتهوا إلى مدينة العلم، وحصن الحلم، الصادق المصدق، الأمين الموفق، الطاهر المطهر، المطاع عند الله سبحانه المقدم محمد - صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم - فمن كان من آل رسول الله على ما ذكرنا ناقلاً عن آبائه، مقتبساً عن أجداده، لم يزغ عنهم، ولم يقصد غيرهم، ولم يتعلم من سواهم؛ فعلمه ثابت صحيح.
وقال في رفضة الأئمة: لا يجهل فضلهم إلا جهول معاند، ولا ينكر حقهم إلا معطل جاحد، ولا ينازعهم معرفة ما أتوا به عن الله سبحانه إلا ظلوم، ولا يكابرهم فيما ادعوه عن الله إلا غشوم...

(1/276)


وقال في الأحكام، أيضاً وأوثق وثائق الإسلام: إن آل محمد لا يختلفون إلا من جهة التفريط؛ فمن فرط في علم آبائه، ولم يتبع علم أهل بيته، أباً فأباً حتى ينتهي إلى علي بن أبي طالب – رحمة الله عليه – والنبي – صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم – شارك العامة في أقاويلها، وتابعها في سيء تأويلها، ولزمه الإختلاف لا سيما إذا لم يكن ذا نظر وتمييز، ورد لما ورد عليه إلى الكتاب، ورد كل متشابه إلى المحكم.
وقال الناصر للحق الحسن بن علي - عَلَيْه السَّلام - فيما حكاه عنه مصنف المسفر في ذكر علي - عَلَيْه السَّلام -: كان وصي رسول الله - صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم - وخليفته، وخير هذه الأمة بعده، وأحق الناس بمجلسه؛ لأنه خص بالدعاء إلى الإيمان قبل البلوغ فضيلة له دون غيره، وأن من حاربه وظلمه كافر تجب البراءة منه.
وقال: لا إيمان إلا بالبراءة من أعداء الله وأعداء رسوله - صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم - وهم الذين ظلموا آل محمد - صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم - وأخذوا ميراثهم، وغصبوا خمسهم، وهموا بإحراق منازلهم.

(1/277)


وحكى - عَلَيْه السَّلام - أن أبا بكر وعمر اختلفا في المشورة على النبي - صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم - فيمن يرأس على بني تميم فأشار أبو بكر بالأقرع بن حابس، وأشار عمر بغيره؛ حتى علت أصواتهما فوق صوت النبي - صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم - فأنزل الله فيهما: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ(2)} [الحجرات].
قال - عَلَيْه السَّلام -: فإذا كانت طاعتهم تحبط برفع الصوت، فما ظنك بمن قلَّت طاعته، وعظم خلافه للنبي - صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم -
وقال: ولله أدلة على الحوادث على المكلف إصابتها التي الأمة فيها (على) سواء؛ فأما سوى هذه الأصول والأحكام في الحوادث النازلة التي يسوغ فيها الاجتهاد إذ لا نص فيها من كتاب ولا سنة، ولا إجماع من الأمة والأئمة؛ فالإجتهاد فيها إلى علماء آل الرسول - عَلَيْهم السَّلام - دون غيرهم لقوله تعالى: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} [النساء:59] ، ولقوله [تعالى] (أيضاً): {وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ...الآية} [النساء:83].
قال: فإذا نظر الطالب للحق في اختلاف علماء آل الرسول -صلوات الله عليهم-، فله أن يتبع قول أحدهم، إذا وقع له الحق فيه بدليل من غير طعن ولا تخطئة للباقين.......

(1/278)


وذكر - عَلَيْه السَّلام - أن المعتزلة وأصحاب الرأي يرون الإجتهاد ويقولون: إن أول من اجتهد عمر.
ومن شعره - عَلَيْه السَّلام - في معنى ذلك قوله:
لا تبتغوا غير آل المصطفى علماً.... لهديكم فهمو خير الورى آلُ
آل النبي وعنه إرث علمهمُ.... القائمون بنصح الخلق لم يألوا
وقولهم مسند عن قول جدهم.... عن جبرئيل عن الباري إذا قالوا
وقوله:
أشكو إلى الله أن الحق مُتَّرَك.... بين العباد وأن الشر مقبولُ
إلى قوله:
وأن أمتنا أبدت عداوتنا....أن خصنا من عطاء الله تفضيلُ
إذا ذكرنا بعلم أو بعارفة....صاروا كأنهم من غيظهم حولُ
وقال المرتضى لدين الله محمد بن يحيى - عَلَيْه السَّلام - في كتاب مسائل الطبريين: فأمر الله عز وجل أمة محمد -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم- أن يجعلوا مكافأته المحبة لولده، وأوجب عليهم بذلك طاعتهم، وافترض محبتهم، كما افترض الصلاة، وذلك لإقامة الحجة في رقابهم، وقطع عللهم؛ لما قد علم سبحانه بما سيكون من أمة محمد - صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم - [فيهم] ولهم من العداوة والبغضة.

(1/279)


وقال في كتاب الشرح والبيان: ولسنا نطلق في أهل الفضل والدين، والتصديق لذي القوة المتين، من أصحاب محمد خاتم النبيين، الذين آمنوا به واتبعوه، وجاهدوا معه وصدقوه، ولا نقول فيهم إنهم اختلفوا ولا تضادوا، ولكن كان معه - صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم - منافقون قد ذكرهم الله في كتابه في غير موضع.
وقال في الرسالة السابعة: قد حكم الله سبحانه بهذا الأمر لقوم سماهم، ودل عليهم ونصبهم، وحظره على غيرهم؛ فجعله لهم فضيلة على سواهم، وذلك قوله سبحانه: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا...الآية} [فاطر:32] "{ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا...الآية} [فاطر:32]" "{ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا...الآية} [فاطر:32]" ، ثم ذكر كثيراً من الآيات والأخبار.
وقال بعد ذلك: فمن غدا بهذا الأمر في غير أهل بيت نبيه - صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم - فقد عبث بنفسه، وتمرد في دين خالقه...

(1/280)


وقال في جوابه للقرامطة: ودل على أولي الأمر بما ذكر في كتابه [حيث يقول عز ذكره]: {أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ} ثم قال: {وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} [النساء:59]، فدل على طاعة ثالثة، وقال: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ(119)} [التوبة]، فجمعت هذه الكلمة جميع من آمن ثم [استثنى منهم قوماً فقال: كونوا مع الصادقين؛ فإذا به] استثنى قوماً من المؤمنين أمر المؤمنين بتبعهم والكينونة معهم، ثم قال عز وجل: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا} [فاطر:32]، فدل على قوم أورثهم الكتاب وهم آل الرسول المذكورون أولاً وآخراً... وقال في جوابه للطبريين: إنما تختلف الأئمة في غير الحلال والحرام، وفي الشرح والكلام، ولكل إمام في عصره نوازل تنزل به، وعليه أن يحكم فيها بما يوفقه الله [له]، فيستنبطها من كتاب الله وسنة نبيه، أو حجة العقل التي يستدل بها على غامض الكتاب، ويستخرج بها الحق والصواب، ولو نزلت هذه المسألة بالأول لاستخرجها كما يستخرجها الآخر.

(1/281)


والأئمة مؤتمنة على الخلق قد أمرهم الله عز وجل بحسن السيرة فيهم، والنصح لهم، فلعله أن يجري في عصر الإمام سبب من أسباب الرعية يحكم فيه بالصواب الذي يشهد له به الكتاب، ثم تنزل تلك النازلة في عصر آخر من الأئمة لا يمكنه من إنفاذ الحكم فيها ما أمكن الأول فيكون بذلك عند الله معذوراً.
وقال: فالواجب على الرعية إذا وثقت بعدالة إمامها وصحت عندهم إمامته أن يعلموا أن علمهم يقصر عن علمه، ولا يقعون من الغامض على ما يقع عليه؛ فإذا علموا ذلك وجب عليهم التسليم.
ومن شعره - عَلَيْه السَّلام - في معنى ذلك، قوله:
بدعنا كل مكرمة ولما.... نزل للمجد مذ كنا سناما
وما إن زال أولنا نبياً.... ولا ينفك آخرنا إماما
يصلي كلُّ محتلمٍ علينا.... ويتبعها إذا صلى السلاما
وحَسْبُكِ مفخراً أنا جُعلنا.... لكل هدىً ومكرمةٍ تماما..

(1/282)


وقال (أخوه) الناصر لدين الله أحمد بن يحيى - عَلَيْه السَّلام - في كتاب مسائل أبي إسحاق: وقد قال الله عز وجل: {وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ(43)} [العنكبوت]، فأعلمك عز وجل أنه لا يعقلها إلا العالمون، ولا علم لمن جهل معدن الحق، وقدر النبوة، وخيرة الإمامة.
وقال في كتاب النجاة: وتعاموا عن قوله عز وجل: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا(33)} [الأحزاب]، والمطهَّر من الرجس لا يكون في دينه زلل، ولا في قوله ميل، ولا في تأويله للقرآن خطل؛ فلم يكن عز وجل ليطهر من يكذب عليه؛ فيكون من عانده أولى بالحق منه، وهو عز وجل أعلم بالمفسد من المصلح... وقال القاسم بن علي العياني - عَلَيْه السَّلام - في كتاب ذم الأهواء والوهوم: قد أتى الخبر أن النبي - صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم - لم يفارق الدنيا حتى خولف أمره في جيش أسامة وغيره، ومن قبل ما فعل القوم أخبر الله بفعلهم فقال عز من قائل: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ(144)} [آل عمران]، فلم يكن الشاكرون فيما بلغنا إلا علي وذرية رسول الله - صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم - وذرية أمير المؤمنين، ومن تبعهم من المؤمنين؛ فكانت هذه أول فرقة أمة محمد - صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم - فكان الناس كلهم فرقة،

(1/283)


وكان علي وأصحابه أمة ثانية؛ فلم يزل أمير المؤمنين مع الكتاب كما ذكر رسول الله - صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم - والقوم في دنياهم يخبطون خبط العشوى لا يهتدون إلا ما هداهم له - عَلَيْه السَّلام - عند فزعهم في بعض الأمور [إليه] تثبيتاً للحجة عليهم، وهم يُدَوِّلون ولايتهم إدوال من كان من أمم الأنبياء قبلهم.
وقال في كتاب التنبيه: وسألت عن السواد الأعظم، وإرماله للحج إلى بيت الله (الحرام)، وزيارة قبر رسول الله - صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم - يشهدون بالأمر والخلافة لصاحب الغار، وينكرون قول رسول الله - صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم -: ((من كنت مولاه فعلي مولاه)).
فالجواب: اعلم أيها الأخ - أكرمك الله - أن هؤلاء سامرية أمة محمد - صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم - لا فرق بينهم وبين سامرية [أمة] موسى - صلى الله عليه - كما لا فرق بين موسى ومحمد، وكما لا فرق بين هارون وعلي إلا النبوة؛ لقول النبي - صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم -: ((علي مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي)).

(1/284)


وقال في رسالته إلى أهل طبرستان: أصل التأويل أول الخبال، والاختلاف في الأئمة أول الضلال، والاعتماد على غير العترة أول الوبال، أصل العلم مع السؤال، وأصل الجهل مع الجدال، العالم في غير علمنا كالجاهل بحقنا، الراغب في عدونا كالزاهد فينا، المحسن إلى عدونا كالمسيء إلينا، الشاكر لعدونا كالذام لنا، المعترض لنحلتنا كالغازي علينا، معارضنا في التأويل كمعارض جدنا في التنزيل، الراعي لما لم يُستَرع كالمضيع لما استرعي، القائم بما لم يستأمن عليه كالمعتدي فيما استحفظ (عليه)، الخاذل لنا كالمعين علينا، المتخلف عن داعينا كالمجيب لعدونا، معارضنا في الحكم كالحاكم بغير الحق، المفرق بين العترة الهادين كالمفرق بين النبيين، هنا أصل الفتنة يا جماعة الشيعة.
وقال ابنه الحسين بن القاسم - عَلَيْه السَّلام - في كتاب الرد على الملحدين: فيا أيتها الأمة الضالة عن رشدها، الجاهدة في هلاك أنفسها، أمرتم بمودة آل النبي، أم فرض عليكم مودة تيم وعدي؟
وقال في كتاب التوحيد: ولو تمسكوا بسفن النجى لما غرقوا في بحار العمى، ولو شربوا من علم آل نبيهم لشفوا من الظمأ، ولظفروا بالغنائم العظمى، ولأنارت قلوبهم لموافقة الحكماء، ولكنهم اكتفوا بعلم أنفسهم، واستقلوا آل نبيهم؛ فلا يبعد الله إلا من ظلم، وعلى نفسه السوء اجترم.

(1/285)


وقال في مختصر الأحكام: وجميع العقول مفتقرة إلى عقول الأئمة - عَلَيْهم السَّلام - ولولا ذلك لما احتاج أحد إلى إمام، ولسقط فرض الإمامة عن جميع الأنام، ولو سقط ذلك عنهم لما فرضه الله عليهم.
وقال في كتاب الرد على الملحدين: الإمامة فرض من الله لا يسع أحداً جهلها؛ لأن الحكيم لا يهمل خلقه مع ما يرى من اختلافهم، من الحجة على من عند عن الحق منهم، والهداية لمن طلب النجاة من أوليائه، والبيان لتلبيس أعدائه، وإلا فقد ساوى بين حقهم وباطلهم.
وفي ذلك ما يقول النبي - صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم -: ((من مات لا يعرف إمامه مات ميتة جاهلية)) وقول الله عز وجل: {إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ(7)} [الرعد]، فأخبر أن النبي - صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم - منذر للعباد، وأن لكل قوم هادياً إلى الحق في كل زمان، يوضح ما التبس من الأديان، ويرد على من دان بغير دين الإسلام...

(1/286)


وقال أبو الفتح بن الحسين الديلمي عَلَيْه السَّلام في تفسيره في معنى قول الله سبحانه: {وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ} [القصص:68]، قال: أي يخلق ما يشاء من الخلق ويختار من يشاء للنبوة والإمامة.
وفي معنى قوله سبحانه: {وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ} [الأحزاب:6]، قال: عنى بالأزواج من بانت خيرتها، وصحت سريرتها؛ كخديجة بنت خويلد -رضي الله عنها- أم الأئمة - عليها وعَلَيْهم السَّلام -، وكأم سلمة - رضي الله عنها - فأما من عَنَدَ منهن عن الحق، وشق عصا المسلمين فلسن بأمهات المسلمين، ولا هن بأهل (كرامة) عند الله رب العالمين.
وفي معنى قول الله سبحانه: {وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ} [البقرة:27]، قال: هم الذين لا يوجبون محبة آل محمد - صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم - وينكرون فضلهم.
وفي معنى قوله سبحانه: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ}، قال: هم العلماء من آل الرسول عَلَيْهم السَّلام.
وفي معنى قول الله سبحانه: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ ءَامَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ} [النور:55]، قال: نزلت في رسول الله - صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم - وأمير المؤمنين علي - عَلَيْه السَّلام - والحسن والحسين وخيار أهل بيتهما، ومن سار بسيرتهما، وتبع طريقتهما إلى يوم القيامة لأنهم ورثة الكتاب والعالمون به، ولهم الخلافة في الأرض، إلى يوم العرض.

(1/287)


وفي معنى قوله سبحانه: {وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ} [النور:55]، قال: يعني دين الإسلام، وذلك عند ظهور حجة الله القائم
وروي عنه - عَلَيْه السَّلام - أنه قال: أما فروع الشريعة فإن وقع بين الأئمة - عَلَيْهم السَّلام - في ذلك اختلاف فليس ذلك مما ينقص من علمهم وفضلهم لأن الاجتهاد في الدين واجب، والإحتياط لازم، والرجوع إلى الكتاب والسنة مما تعم به البلوى، ولكل في عصره نظر واستدلال وبحث وكشف، وقد ينكشف للمتأخر ما لم ينكشف للمتقدم، لا بأن المتقدم قصر عما بان للمتأخر.
وقال: وليس من الدين تخطئة واحد منهم، والحكم عليه بأنه خالف الشريعة والأئمة.
وقال الإمام المتوكل على الله أحمد بن سليمان - عَلَيْه السَّلام - في كتاب الحكمة: وقد أجمع ذووا قربى (الرسول) - صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم - على أن الإمامة خاصة في الحسن والحسين وأولادهما؛ فكان إجماعهم حجة؛ لأن خلافهم خلاف المودة، ولم يودهم من خالفهم، وقد قال الله تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ(31)} [آل عمران]، فقرن المحبة بالاتباع؛ فمن لم يتبعهم لم يحبهم؛ فصح ما قلناه.

(1/288)


وقال فيه يحكي قصة السقيفة: فلما اشتغل أمير المؤمنين - عَلَيْه السَّلام - بما ينبغي له أن يشتغل به، اجتمع المهاجرون والأنصار إلى سقيفة بني ساعدة، وتنافسوا في الملك، ونسوا ما أوصاهم به رسول الله - صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم - من أمره لهم باتباعهم لعلي - عَلَيْه السَّلام - في مواقف كثيرة، وأكاليم شهيرة.
وقال: وكان من جملة الظالمين من غصب علياً - عَلَيْه السَّلام - حقه، وأنكر سبقه، واستولى على الأمر الذي كان أولى به؛ كأبي بكر وعمر وعثمان، ومن أعانهم على أمرهم واحتج على نكثهم لأيمانهم وإيمانهم بقول الله سبحانه: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ...الآية} [المائدة:54] ، وذكر أنها نزلت فيهم.
وقال في جوابه لمسائل الأمراء السليمانيين: سمي المعتزلة معتزلة حيث اعتزلوا عن أمير المؤمنين - عَلَيْه السَّلام - منهم سعد بن مالك بن أبي وقاص، وعبدالله بن عمر، ومحمد بن مسلمة الأنصاري، وأسامة بن زيد بن حارثة الكلبي، والأحنف بن قيس، (وسموا نفوسهم) أهل العدل والتوحيد...
وقال فيه: وقد قال رسول الله صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم: ((ستفترق أمتي من بعدي على ثلاث وسبعين فرقة كلها هالكة إلا فرقة واحدة)) وقد بينها النبي - صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم - وأوضحها في أهل بيته - عَلَيْهم السَّلام - ومن تبعهم في مواضع كثيرة منها ما قال - صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم -: ((مثل أهل بيتي فيكم كسفينة نوح من ركبها نجا ومن تخلف عنها غرق وهوى)).

(1/289)


وقال الإمام المنصور بالله أمير المؤمنين، عبدالله بن حمزة بن سليمان - عَلَيْه السَّلام -، في كتاب شرح الرسالة الناصحة: انظر - أيدك الله - بفكر ثاقب، كيف يسوغ لمسلم إنكار فضل قوم تبدأ بذكرهم الخطب، وتختم بذكرهم الصلاة، حتى لا تتم صلاة مسلم إلا بذكرهم، وذكرهم مقرون بذكر الله سبحانه وذكر رسوله - صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم - أين العقول السليمة، والأفكار الصافية من هذا.
وقال: هم أعلام الدين، وقدوة المؤمنين، والقادة إلى عليين، والذادة عن سرح الإسلام والمسلمين، وبهم أقام الله الحجة على الفاسقين، ورد كيد أعداء الدين، وهم القائمون دون هذا الدين القويم، حتى تقوم الساعة، ينفون عنه شبه الجاحدين، وإلحاد الملحدين.
وفي ذلك ما روينا عن النبي - صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم - أنه قال: ((أهل بيتي كالنجوم كلما أفل نجم طلع نجم)) فكما أنا نعلم أنه لا يجوز أفول نجم إلا بطلوع نجم آخر حتى تقوم الساعة، نعلم أنه لا يمضي منهم سلف صالح إلا وعقبه خلف صالح، وقد قال الله سبحانه لنبيه - صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم -: {إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ(7)} [الرعد]، فمعنى هذه الآية -والله أعلم-: أن الله جل ذكره جعل في كل وقت من أهل بيت نبيه - صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم - هادياً لقوم ذلك الوقت.

(1/290)


وقد روينا عن أبينا رسول الله - صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم - أنه قال: ((من كان في قلبه مثقال حبة من خردل عداوة لي ولأهل بيتي لم يرح رائحة الجنة)) ولا نعلم أشد لهم عداوة، ولا أعظم مكيدة لدين الله ونبيه - صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم - ممن أنكر فضل عترته، وساوى بينهم وبين غيرهم.
وقال: ولا يرد الحوض إلا من خلصت مودته لهم ولا تخلص مودة من أنكر فضلهم، وجحد حقهم، وساوى بينهم وبين غيرهم.
وقال: كيف يكون شيعياً لآل محمد - عَلَيْهم السَّلام - من أنكر فضلهم، وجحد حقهم، وقبس العلم بزعمه من غيرهم.
وقال: منكر فضل أهل البيت - عَلَيْهم السَّلام - يشارك قتلة زيد بن علي - عَلَيْه السَّلام - وأصحابه - رضي الله عنهم - في سفك دمائهم، ووزر قتالهم؛ لأن علة قتالهم لزيد بن علي -عَلَيْهما السَّلام- وأصحابه -رضي الله عنهم أجمعين- إنكار فضله وفضل أهل بيته - صلوات الله عليهم - وما أوجب الله على الكافة من توقيرهم، والرجوع إليهم، وأخذ العلم عنهم، والجهاد بين أيديهم...

(1/291)


وقال: واعلم أن من تأمل أدنى تأمل في أحد الأدلة فضلاً عن مجموعها إما في دلالة العقل أو في كتاب الله سبحانه، أو في سنة الرسول -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم-، أو في إجماع الأمة أو العترة، أو تتبع أقوال الأئمة - عَلَيْهم السَّلام - علم صدق ما قلناه، ولكن وأين من يترك يصل إلى ذلك، ويمنعه من ذلك إيجاب الرجوع إلى قول الشيخ.
وقال: أمر النبي - صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم - أمته باتباع عترته المطهرة؛ فخالفوه في ذلك، ولهم أتباع في كل وقت يقتفون آثارهم في خلاف العترة الطاهرة حذو النعل بالنعل، بل قد تعدوا في ذلك إلى أن قالوا هم أولى بالحق واتباعهم أوجب من اتباع هداتهم فردوا بذلك قول النبي - صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم -: ((قدموهم ولا تقدموهم، وتعلموا منهم ولا تعلموهم، ولا تخالفوهم فتضلوا، ولا تشتموهم فتكفروا)) وهذا نص في موضع الخلاف لا يجهل معناه إلا من خذل...

(1/292)


وقال في الشافي: قال الله تعالى: {إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ(7)} [الرعد]، فالمنذر رسول الله - صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم - والهادي هو الإمام من ذريته الطاهرة.
وقال: ألم تعلم أن المفرق بين العترة الهادين كالمفرق بين النبيين.
وقال في معنى ذلك: كيف تخالف الذرية أباها، وقد شهد لهم النبي - صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم - بالاستقامة بقوله: ((إنهما لن يفترقا حتى يردا علي الحوض)).
وقال: اعلم أن كافة أهل البيت الطاهرين، وذرية خاتم النبيين - صلى الله عليه وآله وسلم - يدينون ويعتقدون أنه لا نجاة لأبي بكر وعمر وعثمان إلا بخلوص ولايتهم فيهم؛ لأن الله تعالى أوجب محبتهم على جميع المكلفين وهم منهم، ولأنا روينا عن النبي - صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم - أنه قال: ((أحبوا الله لما يغذوكم به من نعمه، وأحبوني لحب الله، وأحبوا أهل بيتي لحبي)).
وروى فيه عن النبي - صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم - أنه قال: ((من ناصب علياً الخلافة بعدي فهو كافر وقد حارب الله، ومن شك في علي فهو كافر)).
وقال - صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم -: ((ويل لأعداء أهل بيتي المستأثرين عليهم لا نالتهم شفاعتي، ولا رأوا جنة ربي)).

(1/293)


وقال: ولما قبض رسول الله - صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم - مرضي الفعل، مشكور العمل قد أنقذ الخلائق من شفا الحفرة، ونجاهم عن بحار الهلكة، وأضفى عليهم ستر الإسلام الحسن الجميل، ولم يبق عنق مكلف إلا فيه له - صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم - منة الهداية، والمنة لله تعالى.
وكان من أمر فاطمة - عليها السلام - السلالة المرضية، والنسمة الزكية، والجمانة البحرية، والياقوتة المضيئة، ما كان من النزاع في أمر الإرث، وبعد ذلك في أمر النحلة لفدك وغيره ما شاع في الناس ذكره، وعظم على بعضهم أمره، حتى قال قائلهم:
وما ضرّهم لو صدقوها بما ادعت....وماذا عليهم لو أطابوا جنانها
وقد علموها بضعة من نبيهم.... فلم طلبوا فيما ادعته بيانها
فمرضت سراً، ودفنت ليلاً، وذلك بعد دفع الوصي عن مقامه، واتفاق الأكثر على اهتضامه، فتجرع أهل البيت - عَلَيْهم السَّلام - الرزية، وصبروا على البلية، علماً بأن لله تعالى داراً غير هذه الدار، يجبر فيها مصاب الأولياء، ويضاعف لهم فيها المسار، وهي دار الدوام، ومحل القرار، ويضاعف على الأعداء الخزي والبوار، ويخلدون في أنواع العذاب التي إحداها النار.
وحكى - عَلَيْه السَّلام - كلام فاطمة - عليها السلام - مع نساء المهاجرين والأنصار الذي عرضت فيه للمشائخ وأتباعهم بقول الله سبحانه: {لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ(80)} [المائدة].
ثم قال عقيب ذلك: فهذا كلام فاطمة - عليها السلام - الذي لقيت عليه الله سبحانه، فلم نتعد طريقة من يجب الاقتداء به من الآباء والأمهات - عَلَيْهم السَّلام -.

(1/294)


وقال: لو لم يتقلد الأمر أبو بكر ما تأهل له عمر، ولو لم يتقلده عمر ما طمع فيه عثمان، ولو لم يتقلده عثمان ما طمع فيه معاوية ومن تبعه من جبابرة بني أمية، ولولا أخذه جبابرة بني أمية ما تقلده بنو العباس.
وقال في كتاب حديقة الحكمة في شرح التاسع عشر من الأخبار السيلقية: فأما حب الرفعة فقد هلك فيه قوم كثير، والله بما تعملون بصير، ألم تسمع إلى قول بعض الأنصار في معنى الافتتان برفعة الدنيا والحب لشرفها، وذلك لما قتل سعد بن عبادة بسهمين رمي بهما في الليل، وقد خرج لقضاء حاجته ليلاً، وزعم من زعم أنه سمع من الجن قائلاً يقول:
قتلنا سيد الخزرج سعد بن عباده.... رميناه بسهمين فلم نخط فؤاده
فقال في ذلك بعض الأنصار -وكان سعد قبل مغاضباً لأبي بكر ممتنعاً من بيعته، وروي عنه أنه قال: لما رأينا قريشاً عدلت بالأمر عن أهله طمعنا فيه في قصص طوال، فقال بعض الأنصار في ذلك-:
يقولون سعداً شقّت الجن بطنه... ألا ربما حققت فعلك بالعذر
وما ذنب سعد أنه بال قائما.... ولكن سعداً لم يبايع أبا بكر
لئن صبرت عن فتنة المال أنفس.... لما صبرت عن فتنة النهي والأمر
يعرض بأبي بكر في ذلك، وأنه لم يصبر عن فتنة النهي والأمر، وشرف الرئاسة.

(1/295)


وقال يعني المنصور بالله (ع) في بعض أجوبته الموجودة بخطه - عَلَيْه السَّلام -: وسألت عمن يرضي عن الخلفاء، ويحسن الظن فيهم وهو من الزيدية ويقول: أنا أقدم علياً - عَلَيْه السَّلام - وأرضي عن المشائخ، ما يكون حكمه، وهل تجوز الصلاة خلفه ؟
الجواب عن ذلك: أن هذه مسألة غير صحيحة فيتوجه الجواب عنها لأن الزيدية على الحقيقة هم الجارودية، ولا يعلم في الأئمة - عَلَيْهم السَّلام - بعد زيد بن علي - عَلَيْه السَّلام - من ليس بجارودي، وأتباعهم كذلك، وأكثر ما نقل وصح عن السلف هو ما قلنا -يعني التوقف- على تلفيق واجتهاد، وإن كان الطعن والسب من بعض الجارودية ظاهراً، وإنما هذا رأي المحصلين منهم، وإنما هذا القول قول بعض المعتزلة يفضلون علياً - عَلَيْه السَّلام - ويرضُّون عن المشائخ؛ فليس هذا يطلق على أحد من الزيدية.
لأنا نقول: قد صح النص على أمير المؤمنين (عَلَيْه السَّلام) من الله تبارك وتعالى ورسوله - صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم - وصحت معصية القوم وظلمهم وتعديهم لأمر الله سبحانه، وإن كانت جائزة المعصية والترضية؛ فما أبعد الشاعرُ في قوله:
فويل تالي القرآن في ظلم الليـ.... ـل وطوبى لعابد الوثن
ومن حاله ما ذكرت لا يعد في الزيدية رأساً، وإنما هذا قول بعض المعتزلة، وصاحب هذا القول معتزلي لا شيعي ولا زيدي.

(1/296)


وأجمل من قال في أبي بكر وعمر وعثمان من آبائنا المتأخرين عَلَيْهم السَّلام إنما هو المؤيد بالله عَلَيْه السَّلام فنهاية ما ذكر أنهم لا يسبون، وأن سبهم لا تصح روايته عن أحد من السلف الصالح عَلَيْهم السَّلام.
فأما الترضية فهذا يوجب القطع على أن معصيتهم صغيرة فإن أوجدنا صاحب هذه المقالة البرهان على أن معصيتهم صغيرة تابعناه؛ فليس على متبع الحق غضاضة، ولكنه لا يجد السبيل إلى ذلك أبداً.
أو عصمتهم ولا قائل بذلك من الأمة، وشاهد الحال لو ادعى ذلك لفضحه؛ لأن طلحة والزبير من أفاضلهم وقد صح فسقهما بالخروج على إمام الحق، وإنما رويت توبتهما، ولم يرو من الثلاثة توبة عما أقدموا عليه من الإمامة وتأخير علي عَلَيْه السَّلام عن مقامه الذي أقامه الله سبحانه فيه ورسوله.
وأما الصلاة خلف من ذكرت ففي الصلاة خلاف طويل، وقد أجازها الأكثر خلف المخالفين ما لم يكن خلافهم كفراً؛ فالأمر في ذلك يهون، والاحتراز من الصلاة خلف من يقول بذلك أولى.
ومن شعره - عَلَيْه السَّلام - في معنى ذلك، قوله:
فعدّ عن المنازل والتصابي.... وهات لنا حديث غدير خمّ
[فيا لك موقفاً ما كان أسنى.... ولكن مر في آذان صمّ]
لقد مالَ الأنامُ معاً علينا.... كأن خروجنا من خلف ردمِ
وقوله:
أرى الناس من بعد يوم الغدير.... سواسية ليلهم أغدرا
فلم قدموا شيخ تيم عتيق.... ولم أخروا الهاشمي حيدرا
فلا تعجبنَّ فإن الخطوب.... تُري ما يُرى أنه لا يُرى

(1/297)


وقوله:
أأرضى أن يكون أبو حسينٍ.... رباعياً وفي كفي حسامي
معاذَ اللهِ ليسَ يكونُ هذا.... ولما نحتسي جرع الزؤامِ
إذا لم تغضبوا للدين جهراً.... ولم تحموا عليه فمَن يحامِ
وقوله:
أيها الطالب ملكاً لم تصب.... إن فيه الهلك فاسأل مَنْ خَبر
لو وعوا ما قيل في أربابها.... لم يقلدها أبو بكر عمر
وقوله:
كم بين قولي عن أبي عن جده.... وأبو أبي فهو النبي الهادي
وفتىً يقول حكى لنا أشياخنا.... ما ذلك الإسناد من إسنادي
(والحمد لله رب العالمين وصلى الله على محمد وآله وسلم ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم).
الهوامش______
()ـ هو الإمام الباقر محمد بن علي زين العابدين بن الحسين بن علي بن أبي طالب -عَلَيْهم السَّلام- ويكنى بأبي جعفر.
ولد -عَلَيْه السَّلام- سنة تسع وخمسين، ولقب بالباقر، وبشر به رسول الله -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم- وأمر جابر أن يقرئه السلام بقوله -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم-: ((يا جابر إنك ستعيش حتى تدرك رجلاً من أولادي اسمه اسمي يبقر العلم بقراً، فإذا رأيته فأقرئه مني السلام)) فلما رآه جابر اعتنقه وقال له: جدك يقرأ عليك السلام.
وكان -عَلَيْه السَّلام- من عظماء أهل البيت -عَلَيْهم السَّلام- وعلمائهم المجمع على جلالته وفضله وعلمه وعلو منزلته، وأمه هي فاطمة بنت الحسن بن علي بن أبي طالب، وهو أول من اجتمعت له ولادة الحسنين.

(1/298)


توفي -عَلَيْه السَّلام- سنة ثمان عشرة ومائة، عن ثلاث وستين سنة، ودفن بالبقيع إلى جنب أبيه السجاد، وجده الحسن بن علي، وجدته فاطمة بنت رسول الله -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم-.
()ـ المشهور أن هذه الأبيات من قصيدة الإمام المنتصر لدين الله محمد بن الإمام المختار القاسم بن الإمام الناصر أحمد بن الهادي -عَلَيْهم السَّلام- من قصيدته المشهورة التي مطلعها:
علام اللوم يا سلمى علاما.... عداك اللوم فاطّرحي الملاما
() ـ سعد بن عبادة بن دُليم الخزرجي سيد الخزرج صاحب راية الأنصار في المشاهد كلها، وشهد بدراً، وقيل لم يشهدها، وهو من نقباء الأنصار ليلة العقبة، وكان يسمى الكامل لكماله في أشياء كثيرة كالرمي وغيره، وكان كثير الصدقات والجود، وتخلف عن بيعة أبي بكر، وخرج من المدينة، ولم يرجع إليها حتى قتل سنة إحدى عشرة في خلافة أبي بكر، وفي قتله ما يقول حسان بن ثابت:
يقولون سعداً شقّت الجنّ بطنَه.... ألا ربما حققت أمرك بالعذرِ
وما ذنب سعد أنه بال قائماً.... ولكن سعداً لم يبايع أبا بكرِ
لأن سَلِمَتْ من فتنة المال أنفسٌ.... لما سلمت من فتنة النهي والأمرِ
فيا عجبا للجن تقتل مسلماً.... على غير ذنب ثم ترثيه بالشعرِ

(1/299)


وروي في قتله: أن والي الشام جعل له كميناً؛ فلما خرج إلى الصحراء قتله ذلك الكمين، بسبب تخلّفه عن البيعة، وروي أنه قُتل بحوّارين من أعمال دمشق سنة (15هـ) تقريباً في خلافة عمر بن الخطاب، انظر: شرح نهج البلاغة ج1 ص292، لوامع الأنوار ج3 ص85، الطبقات - خ -، حاشية شرح الأزهار ج1.

(1/300)


المنتزع الثاني منتزع من أقوال الأئمة (ع)

في ذكر بعض ما اختلف فيه أهل الكلام من الأقوال في الذوات والصفات والأحكام
من تصنيف السيد الإمام حميدان بن يحيى القاسمي -عَلَيْهمَا السَّلامُ-
بسم الله الرحمن الرحيم
وصلى الله على محمد وآله وسلم
[ديباجة الكتاب]
أما بعد حمد الله تعالى ذي الجلال والإكرام، والصلاة على محمد وآله المختارين على علم على الأنام.
فإني قد جمعت من كثير من كتب الأئمة - عَلَيْهم السَّلام - جُملاً تنبه من أحب التدبر لفوائد كتبهم، والسلوك في طلب علم التوحيد لمذهبهم، والتمسك من مغالط أهل الضلال بهم؛ فمن ذلك:
[ذكر أقوال الأئمة (ع) في الذات والصفات والأحكام]
[أقوال أمير المؤمنين (ع)]
قول أمير المؤمنين - عَلَيْه السَّلام - في وصيته لابنه الحسن - عَلَيْهما السَّلام - في ذكر ما يجب من النظر، وما لا يجوز: (واعلم - أي بني - أن أحب ما أنت آخذ به من وصيتي تقوى الله، والإقتصار على ما افترض الله عليك، والأخذ بما مضى عليه أولوك من آبائك، والصالحون من أهل بيتك؛ فإنهم لم يدعوا أن ينظروا لأنفسهم كما أنت ناظر، وفكروا كما أنت مفكر، ثم ردهم ذلك إلى الأخذ بما عرفوا، والإمساك عما لم يكلفوا).

(1/301)


إلى قوله -عَلَيْه السَّلام-: (واعلم يا بني أن أحداً لم ينبيء عن الله عز وجل كما أنبأ محمد - صلى الله عليه وعلى أهله - فارض به رائداً، وإلى النجاة قائداً).
وفي الخطب المحكية عنه في كتاب نهج البلاغة وفي الدرة اليتيمة قوله (عَلَيْه السَّلام): (انظر أيها السائل فما دلك القرآن عليه من صفته فائتم به، واستضيء بنور هدايته، وما كلفك الشيطان علمه، مما ليس عليك في القرآن فرضه، ولا في سنة النبي - صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم - وأئمة الهدى أثره، فَكِلْ علمه إلى الله؛ فذلك منتهى حق الله عليك).
وقوله: (والملائكة المقربون على كمال البنية، وصفاء الجوهرية، وتقادم الابتداء، وسوابق المعارف بالمعنى، ومقاربة النجوى، من الخلق الأول، والنور الأفضل، وعلو المنازل والمقامات المعلومة، والآلاء المحمودة، لا يعلمون منه إلا ما علمهم {قَالُوا سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا} [البقرة:32]، فكيف من هو من بعدهم في الحلية، ودونهم في المعرفة، كذب العادلون، وخاب المفترون، وخسر الواصفون، بل هو الواصف لنفسه، والملهم لربوبيته، والمظهر لآياته، إذ كان ولا شيء كائن).
وقوله في إيجاب الأزلية لله وحده، ونفي الصفات عنه: (والحمد لله الذي دل على وجوده بخلقه، وبحدث خلقه على أزليته، وباشتباههم على ألا شبه له).
وقوله: (والذي الحدث يلحقه، فالأزل يباينه).

(1/302)


وقوله: (عالم إذ لا معلوم، ورب إذ لا مربوب، وقادر إذ لا مقدور).
وقوله: (أول الدين معرفة الله، وكمال معرفته التصديق به، وكمال التصديق به توحيده، وكمال توحيده الإخلاص له، وكمال الإخلاص له، نفي الصفات عنه، بشهادة كل صفة أنها غير الموصوف، وشهادة كل موصوف أنه غير الصفة؛ فمن وصف الله سبحانه فقد قرنه، ومن قرنه فقد ثناه، ومن ثناه فقد جزأه، ومن جزأه فقد جهله).
وقوله: (لم يلتبس به حال، ولا نازعه بال، ولا الذاتُ ذَيَّتَتْهُ، ولا الملكة ملكته، ولا الصفة أوجدته، بل هو موجد كل موجود، وخالق كل صفة وموصوف).
وقوله: (باينهم بصفته رباً كما باينوه بحدوثهم خلقاً؛ فمن وصفه فقد شبهه، ومن لم يصفه فقد نفاه، وصفته أنه سميع ولا صفة لسمعه).
وقوله: (من وصفه فقد حدَّه، ومن حدَّه فقد عدَّه، ومن عده فقد أبطل أزلَه).
وقوله: (ليس لذاته تكييف، ولا لصفاته تجنيس، احتجب عن العقل كما احتجب عن الأبصار).
وقوله: (واحد لا بعدد، دائم لا بأمد، قائم لا بعمد، ليس بجنس فتعادله الأجناس).
وقوله: (صفته أنه لا مثل له من خلقه، وحليته أنه لا شبيه له من بريته، ومعرفته ألا إحاطة به، والعلم به ألا مَعْدِلَ عنه).
وقوله: (دل على كونه بعظيم ما خلق، وأبان قدرته بعجائب ما صنع، وبان عن الصفات بخلقه كل موصوف، وبانت عنه الصفات لأنه بغير الصفة معروف).

(1/303)


وقوله في الإدراك والإرادة: (عينه المشاهدة لخلقه، ومشاهدته لخلقه ألا امتناع منه، سمعه الإتقان لبريته، ومشيئته الإنفاذ لحكمه، وإرادته الإمضاء لأموره).
وقوله: (يقول ولا يَلْفِظُ، ويحفظُ ولا يتحفَّظُ، ويريد ولا يُضْمِرُ، [ويحب] ويرضى من غير رِقَّة، ويبغضُ ويغضبُ من غير مشقَّة).
[أقوال الإمام الحسن بن علي (ع)]
وقال الحسن بن علي أمير المؤمنين - عَلَيْهم السَّلام - في جوابه لابن الأزرق: أصف إلهي بما وصف [به] نفسه، وأعرفه بما عرف به نفسه، لا يدرك بالحواس، ولا يقاس بالناس.
[أقوال الإمام زين العابدين (ع)]
وقال زين العابدين علي بن الحسين - عَلَيْهما السَّلام - في جوابه لنجدة بن عامر: سبحان من ابتدع البرايا فأحارها، وأنشأها فأمارها، وشيأها فأصارها، لا من شيء كان قبلها، ولا عن مثال احتذاه لها.
وقال: كيف يستحق الأزل من لا يمتنع من الحدث.
وقال: له جل جلاله معنى الربوبية إذ لا مربوب، وحقيقة الإلهية ولا مألوه، ومعنى العلم ولا معلوم.
وقال: أول عبادة الله معرفته، وأصل معرفته توحيده، ونظام توحيده نفي جميع صفات التشبيه عنه، لشهادة العقول أن كل صفة وموصوف مخلوق، وشهادة كل مخلوق أن له خالقاً ليس بصفة ولا موصوف، وشهادة كل صفة وموصوف بالإقتران، وشهادة الإقتران بالحدث، وشهادة الحدث بالإمتناع من الأزل الممتنع من الحدث.

(1/304)


وقال: فأسماؤه تعبير، وأفعاله تفهيم، وذاته حقيقة، وكنهه تفريق بينه وبين خلقه، وغيوره تحديد لما سواه، فقد جهل الله من استوصفه، وقد تعداه من اشتمله، وقد أخطأه من اكتنهه؛ فمن قال كيف؟ فقد شبَّهه، ومن قال لِمَ؟ فقد أعلَّه.
وقال: فاعل لا باضطراب [آلةٍ]، مقدِّرٌ لا بجَوَلاَنِ فكرةٍ، مدبِّرٌ لا بحركةٍ، مريد لا بهُمَامَةٍ، سميعٌ لا بآلةٍ، بصيرٌ لا بأداةٍ.
[أقوال الإمام جعفر الصادق(ع)]
وقال جعفر بن محمد الصادق - عَلَيْهما السَّلام - في كتاب الإهليلجة: في كل شيء أثر تدبير وتركيب، شاهد يدل على صُنْعِهِ والدلالة على من صَنَعَهُ، ولم يك شيئاً.
وقال: من قال الإنسان واحد فهو له اسم وتشبيه، والله سبحانه واحد وهو له اسم، وليس [له] بتشبيه، وليس المعنى واحداً.
وقال: إنما يسمى تعالى سميعاً بصيراً لأنه لا يخفى عليه شيء.
وقال: الإرادة من العباد الضمير وما يبدو بعد ذلك من الفعل، فأما عن الله عز وجل فالإرادة للفعل إحداثه؛ لأنه لا يرى ولا يتفكر.
[أقوال الإمام القاسم بن إبراهيم(ع)]
وقال القاسم بن إبراهيم - عَلَيْه السَّلام - في كتاب الرد على النصارى في نفي المشاركة بين الله سبحانه وغيره: جل جلالهُ عن أن يصح عليه تشبيه لشيء أو يناله في أزلية قديمة، أو ذات أو صفة ما كانت من الصفات إذ في ذلك لو كان كذلك إشراك غيره معه في الإلهية، إذ كان شريكاً له في القدم والأزلية.

(1/305)


وقال: فكلما سواه فخلق ابتدعه وابتداه، فوجدنا لله خلقاً بدءاً بعد عدمه، برياً من مشاركة الله في قدرته وقدمه.
وقال في كتاب الرد على ابن المقفع: الأشياء ليست إلا قديماً أو حادثاً، لا يتوهم متوهم فيها وجهاً ثالثاً.
وقال في كتاب المسترشد: فإن سأل من الجهمية سائل فقال: هل الله شيء؟
قيل له: نعم، الله شيء لا يشبه الأشياء، الأشياء مُشَيَّأةٌ وهو سبحانه شيءٌ لا مُشَيَّأ بل الله مُشَيِّءُ الأشياء لا يشبه ما شَيَّأه، وليس في قولي أنا شيء والله شيء تشبيه.
..إلى قوله: وقد يشتبه قولي شيء وشيء، ولا يشتبه المسمى إلا إن أوقع عليه من أي الأشياء هو وما هو فحينئذ تشتبه المسميات.
وقال في كتاب الدليل الكبير: وهذا الباب من خلافه سبحانه لأجزاء الأشياء كلها، فيما يدرك من فروع الأشياء جميعاً وأصلها، فيما لا يوجد أبداً إلا بين الأشياء وبينه، ولا يوصف بها أبداً غيره سبحانه، وهي الصفة التي لا يشاركه فيها سبحانه مشارك، ولا يملكها عليه تعالى مالك، ولا يعم الأشياء اختلاف عمومه، ولا يصحح الألباب أبداً إلا لله معلومة؛ لأنه وإن وقع بين الأشياء ما يقع من الإختلاف، فليس يوجد واقعاً إلا بين ذوات الأوصاف، وكل واحد منها وإن خالف غيره في صفة فقد يوافقه في صفة أخرى سواء كان مما يعقل أو كان مما يلمس ويرى.

(1/306)


وقال في جواب مسألة الطبريين: فهذه صفته تبارك وتعالى في الأينية الثبوت، والذات ليست فيه جل ثناؤه بمختلفة، ولا ذات أشتات، ولو كانت فيه مختلفة لكان اثنين أو أكثر في الذكر والعدة، وإنما صفته سبحانه هو.
وقال في كتاب التوحيد: وهو الواحد لا من عدد، ولا فيه عدد يجزأ، وليس شيء يقال إنه واحد في الحقيقة غير الله تعالى.
[أقوال الإمام محمد بن القاسم(ع)]
وقال محمد بن القاسم - عَلَيْه السَّلام - في كتاب الوصية: الحمد لله الحي القيوم ذي العظمة والجلال، الذي لم يزل ولا شيء غيره.
وقال: حقيقة الإيمان به أنه هو الذي هو خلاف الأشياء كلها.
وقال: حقيقة اليقين به والمعرفة له أنه لا يدرك بحلية ولا تحديد ولا تمثيل ولا صفة، وكيف يوصف من لا تدركه العقول ولا الفكر ولا الحواس.
..إلى قوله: وقد روي عن النبي - صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم - أنه قال: ((تفكروا في المخلوق ولا تفكروا في الخالق)) فاجعل تفكرك في صنعه، تستدل منه على عجيب فعله، وعظيم قدرته، في كل محدث، ولا تفكر فيه فإنك تتيه، وتهلك نفسك، فاستعمل العقل، وتابع السمع، واستدل باليسير على الكثير تسلم.
وقال في كتاب الأصول: وصفته لذاته، هو قولنا لنفسه، نريد بذلك حقيقة وجوده.

(1/307)


وقال في كتاب الشرح والتبيين: وإنما عنى بقوله تبارك وتعالى سميع بصير الدلالة لخلقه على دركهم وعلمه لأصواتهم، التي إنما يعقلون دَرَكَها عندهم بالأسماع، وأنه مدرك عالم بجميع أشخاصهم وهيآءتهم وصورهم، وألوانهم وصفاتهم وحركاتهم، التي إنما يعقلون دَرَكها بالعيون والأبصار إذ إدراك المخلوقين للأصوات والأشخاص بالأسماع والعيون، التي ربما كَلَّت وتحَيَّرَت، وأخطأت وأدركت ظاهراً دون باطن وقَصُرَت، ودَرَكُ الله تبارك وتعالى لهذا كله دَرَكٌ واحد محيط بما ظهر وبطن، وبما بَعُدَ وقَرُبَ، وهو دَرَكُ علمه الذي لا يفوته من المدركات شيء.
[أقوال الإمام الهادي(ع)]
وقال الهادي للحق يحيى بن الحسين - عَلَيْه السَّلام - في كتاب المسترشد: نقول إن ربنا جل وتقدس إلهنا شيء لا كالأشياء سبحانه وتعالى وتبارك لا شبيه له ولا يدانيه شيء، ولم يزل سبحانه قبل كل شيء، وهو المشيء لكل الأشياء.
وقال: نريد بقولنا شيء إثبات الموجود، ونفي العدم المفقود؛ لأن الإثبات أن نقول: شيء، والعدم أن لا نثبت شيئاً.
وقال: يعلم ما يكون قبل كينونته، كما يعلمه من بعد بينونته.
وقال: وليس قولنا صفتان قديمتان أن مع الله سبحانه صفة يوصف بها، ولا نقول إنّ ثم صفة وموصوفاً، ولا أن ثم شيئاً سوى الله عند ذوي العقول مجهولاً ولا معروفاً.

(1/308)


وقال: معنى سميع: هو عليم، والحجة على ذلك قول الرحمن الرحيم: {أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لَا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ} [الزخرف:80]، والسر هو ما انطوت عليه الضمائر، وقوله: {بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ(15)} [آل عمران]، يريد عالم بهم، محيط بكل أمرهم، مطلع على خفي سرائرهم.
وقال: ألا ترى أن الفاعل لما لا يريد، فجاهل مذموم من العبيد، فكيف يقال بذلك في الله الواحد الحميد؟
وقال: لا فرق بين إرادة الله ومراده، وأن الإرادة منه هي المراد، وأن مراده هو الموجود الكائن المخلوق.
وقال في كتاب الديانة: ليس قدرته وعلمه سواه، وهو القادر لا بقدرة سواه، وهو السميع البصير ليس سمعه غيره، ولا بصره سواه، ولا السمع غير البصر، ولا البصر غير السمع.
وقال: من زعم أن علمه وقدرته، وسمعه وبصره، صفات له، وأنه لم يزل موصوفاً بها قبل أن يخلق وقبل أن يكون أحد يصفه بها، وقبل أن يصف بها نفسه، وتلك الصفات زعم لا يقال هي الله ولا يقال هي غيره فقد قال منكراً من القول وزوراً.

(1/309)


وقال في كتاب الرد على أهل الزيغ من المشبهين: فلما صح عند ذوي العقول والبيان وثبت في عقل كل ذي فهم وبيان أن الحواس المخلوقة، والألباب المجعولة، لا تقع إلا على مثلها، ولا تلحق إلا بشكلها، ولا تَحُدُّ إلا نظيرها، صحت له لما عجزت عن درك تحديده الوحدانية، وثبت للممتنع عليها من ذلك الربوبية؛ لأنه مخالف لها في كل معانيها، بائنٌ عنها في كل أسبابها، ولو شاكلها في سبب من الأسباب، لوقع عليه ما يقع عليها من دَرَكِ الألباب، فلما تباينت ذاتُه وذاتَها، وكانت هي فعله وكان هو فاعلها، بانت بأحق الحقائق صفاتُه وصفاتُها، فكان درك الأوهام والعقول لها بالتبعيض والتحديد، وكان درك معرفته سبحانه بأفعاله، وبما أظهره من آياته، ودل على نفسه من دلالاته.
[أقوال الإمام الناصر الأطروش(ع)]
وقال الناصر للحق - عَلَيْه السَّلام - الحسن بن علي بن الحسن بن علي بن عمر الأشرف بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب - عَلَيْهم السَّلام - في كتاب البساط: وتمام توحيده نفي الصفات والتشبيه لخلقه عنه لشهادة كل عقل سليم من الرين بما كسب، والإفك فيما يقول ويرتكب، واتباعِ الأهوى والرؤساء، أن كلَّ صفة وموصوف مصنوعٌ، وشهادة كل مصنوع بأن له صانعاً مؤلفاً، وشهادة كل مؤلَّفٍ بأن مؤلفه لا يشبهُهُ، وشهادةِ كل صفة وموصوف مؤلف بالإقتران والحدث، وشهادة الحدث بالإمتناع من الأزل، فلم يعرف اللهَ سبحانه من وصف ذاته بغير ما وصف به نفسه.

(1/310)


وحكى عنه مصنف المسفر [أنه] قال: المفروض معرفة الاسم والمسمى، وأن الاسم غير المسمى؛ لأن المسمى يعرف بالصنع والدليل، والاسم يعرف من طرق السمع.
وقال في كتاب الكفر والإيمان: ثم انصدعت من هذه الملة طائفة تحلت باسم الاعتزال..إلى قوله بعد ذكره لكثير من تعمقهم: حتى خاضوا في صفات ذاته، وضربوا له الأمثال، وقد نهى الله عن ذلك بقوله تعالى: {فَلَا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثَالَ} [النحل:74]، {وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ(33)} [الأعراف]، وبالغوا في [خلاف] ذلك، ولم يرضوا حتى تعدوا إلى الكلام في كل ما لا يعلمون ولا يدركون، خلافاً لله تعالى ولرسوله - صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم -، وابتداعاً وتخرصاً وميناً، ورمياً بعقولهم وحواسهم من وراء غاياتها.
..إلى قوله: وتكلموا من دقيق الكلام بما لم يُكَلَّفوا، وبما لعل حواسهم خُلِقت مُقصِّرةً عن إدراك حقيقتها، وعاجزة عن قصد السبيل فيها.
ومن شعره (عَلَيْه السَّلام) في معنى ذلك قوله:
قد تعدا الناس حتى أحدثوا بدعاً.... حتى استخف بحق الله أكثرهم

(1/311)


في الدين بالرأي لم تبعث بها الرسلُ.... وفي الذي جعلوا من حقه شغلُ
وقوله:
كل يرى الحق ما فيه قد اختلفوا.... وهم بمفروض علم الحق جهالُ
أعني الأولى فقههم إشراك ضدهم.... وسائر الناس بالإهمال عقالُ
وقوله:
فجاهد وقلد كتاب الإله.... لتلقى الإله إذا مت بهْ
فقد قلد الناس رهبانهم.... وكل يجادل عن راهبهْ
وللحق مستنبط واحد.... وكل يرى الحق في مذهبهْ
[أقوال الإمام المرتضى بن الهادي(ع)]
وقال المرتضى لدين الله محمد بن يحيى - عَلَيْه السَّلام - في كتاب الشرح والبيان: إن سأل سائل عن الدليل أن الأشياء خلقت لا من شيء فقال: ما الحجة في ذلك؟ فالقول في ذلك: أن الأشياء محدثة مجعولة مبتدعة مخلوقة؛ لأن الله سبحانه كان ولا شيء.
وقال: من قال: لم يزل فيما لم يزل، فقد أوجب أن مع الله شيئاً لم يزل، وإنما هذا من لغز المتناظرين، أو قول من قول المتجاهلين.
وقال: يقال: الله حي لا يموت، ويقال الإنسان حي، وإنما يقال له حي على مجاز الكلام، وإنما هو على الصحة مُحْيَى.
وقال: نقول: إن الله تعالى العالم بنفسه، ولا يجوز أن نقول غير ذلك.
وقال: العرض لا يقوم بنفسه، ولا بد له من شبح يقوم فيه وبه.

(1/312)


وقال في كتاب الإيضاح: إنما أراد بقوله: شيء، أوقع عليه اسم الشيء إذا علم أنه سيكون بإيجاده له وذلك في كتاب الله موجود إذ يقول: {إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ(1)} [الحج]، ولم تقم الساعة فيكون لها شيء يُعرف، وإنما أخبر عز وجل بما سيفعله مما ينتظمه اسم الشيء.
[أقوال الإمام الناصر بن الهادي(ع)]
وقال أخوه الناصر لدين الله أحمد بن يحيى - عَلَيْه السَّلام - في كتاب النجاة: قولنا: إن الله تبارك وتعالى هو الأول قبل كل شيء من خلقه، ولم يزل عالماً بجميع الأشياء من قبل كونها أنها ستكون.
وقال: لا يقوم عرض إلا في جسم، ولا جسم إلا في عرض.
وقال في كتاب الموعظة: لا الضمائر تقع عليه، ولا الفكر تدركه، ولا طوامح العقول تكتنهه، ولا السمات تلزمه، ولا القياس يحيط به، ولا النظائر تنتظمه، ولا المشاعر تلتمسه، ولا الأوهام تمثله.
[أقوال الإمام القاسم العياني(ع)]
وقال القاسم بن علي - عَلَيْه السَّلام - في كتاب الأدلة من القرآن على توحيد الله وصفته: ولا بد من معارض لنا في علم القرآن، ممن اكتفى بأفانين الكلام، وجعل من ذلك دليلاً على الرحمن يقول: إن القرآن لا يغني علمه عن النظر فإذا قال ذلك قائل، قلنا له: فالنظر دلتك عليه نفسك أم دلك عليه خالقك في منزل كتابه؟

(1/313)


فإن قال: إن نفسه دلّته على ذلك من قبل دلالة خالقه، أحال ووجد الله سبحانه يأمره بذلك أمراً في كتابه ويندبه إليه ندباً.
وإن قال: إن ذلك من الله علم أن الله سبحانه هو الذي أمره بذلك، وندبه إليه، ووجد في جميع ما أمره به دليلاً يغني عن كل دليل، ويهدي إلى كل سبيل..إلى آخر ما ذكره - عَلَيْه السَّلام - من كون القرآن معجزة وصنعاً لله سبحانه يدل عليه كسائر مصنوعاته تعالى.
وقال في كتاب التوحيد: إن قال قائل: إذا زعمتم أنه شيء لا كالأشياء فما أنكرتم أن يكون جسماً لا كالأجسام، وإذا قلتم: إنه شيء لا يشبهه شيء موجود ولا موهوم؛ فما أنكرتم أن يكون جسماً لا يشبهه جسم موجود ولا موهوم؟
قلنا: الفرق بينهما أن قول القائل: شيء إثبات، وليس يذهب الذاهب فيه إلى جسم دون عرض، ولا إلى عرض دون جسم، ولا إلى إنسان دون ملك، ولا إلى ملك دون إنسان؛ فلما كان ذلك كذلك لم يجب به تشبيه، وقولنا: جسم وصف خاص لجنس دون جنس لا يجوز أن يشرك فيه غيره من الأشياء.
وقال: إن زعم زاعم أنه عالم بعلم ليس هو هو، ولا هو غيره، لم يكن بينه وبين من زعم أنه عالم بعلم هو هو وهو غيره فرق.
فإن زعم أن القائل إذا قال: هو هو، ثم قال: هو غيره فقد ناقض، قلنا: وكذلك إذا قال: ليس هو هو ثم قال: وليس هو غيره، فقد ناقض.
وقال: فإن قال: إنكم قد قلتم صفات ذات، وصفات فعل؛ فإذا قلتم صفات ذات فقد أثبتم صفاتٍ ما، وإذا قلتم إنا لا نرجع في ذلك إلى غير الذات فقد ناقضتم.

(1/314)


قلنا: ليس الأمر كذلك لأنا حين قلنا صفات الذات؛ فإنما أردنا أن نعلمك بذلك أنا لا نثبت بها غيره فلم نرد به إلا أن الصفات هي ذاته، وأن الصفات أشياء ليست غيره.
وقال في كتاب التجريد: وقولنا ذاته إشارة منا إليه نفسه، وليس إشارتنا هو هو ولا غيره، وإنما أسماؤه التي تسمى بها لنا، وصفاته التي وصف بها نفسه لنا، دلائل عليه ليستدل بها القاصدون، ليباشر بها قلوبهم اليقين البت، وتستشعر أنفسهم الحق المثبت.
وقال: صفاته دلائل عليه يدرك علمهن، ولا يدرك الموصوف بهن؛ لأنه جل وعلا بَعُدَ من المُدْرِك، وجل عن الدَّرَكِ، فهو كما قال عز من قائل: {لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ} [الأنعام:103]، وقال: {وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا(110)} [طه]، فالله جل جلاله عز عن أن يحويه قول أو يناله يُعرَفُ بما جَعَلَ من الدلائل عليه، ولا تُوْصِلُ شيءٌ من الحواس إليه، فليس ما نطقت به الألسن من صفاته هو هو، ولا ما سمعت الآذان من صفاته هو هو، ولا ما كتبت الأيدي من صفاته هو هو؛ بل هو سبحانه الموصوف لا الصفات، والمعروف بما تَعَرَّفَ به إلى خلقه من الآيات.

(1/315)


وقال: صفاته كلها محدث علمها لنا، وسابقة في علمه قبل كوننا، وقد فطرنا جل وعلا على فطرة لم يَعْرِها من الصفات، ثم قال: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى:11]، (فكان كما قال جل وعلا).
وقال: إن سأل سائل عن الموجود القديم، أموجود لنفسه أم لغيره، أم لنفسه ولغيره، أم لا لنفسه ولا لغيره؟
فإنا نقول: إن كان سؤالك عن الله سبحانه؛ فإنا نقول: إنه موجود لا بإدراك كما وصف نفسه فقال: {وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا(64)} [النساء]، فقال: لوجدوا.

(1/316)


وأما قوله: موجود لنفسه ولغيره..إلى آخر قوله؛ فليس هذه الصفة من صفات الله سبحانه التي وصف بها نفسه، ولا من صفات الخير التي وصفه بها أولياؤه؛ لأن الموجود لنفسه ولغيره له موجد لم يزل والله سبحانه يعز عن هذه الصفة ويجل، وإنما يوصف بما وصف به نفسه؛ لأنه الموجد لكل موجود لا أن وجوده كوجود الموجودات لأنفسها ولغيرها تبارك الله عن ذلك وعلا علواً كبيراً.
وقال: والله فعظيم الشأن، قوي السلطان، لم يزل مدركاً للأشياء قبل تكوينها، ولا فرق بين دركه لها بعد تكوينها، وبين دركه لها قبل تكوينها.
وقال: فإن قال: فما معنى قول الله: {إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى(46)} [طه]، فقد تجده يصف نفسه بالسمع والبصر؟
فإنا نقول: إن الرآي من الخلق هو المدرك لما أبصر، وكذلك السامع فهو المدرك لما سمع، فَلِدَرَكِ السامع لما سمع وُصِفَ بالسمع المخروق، ولِدَرَكِ المبصِرِ ما أبصر وُصِفَ بالعين ذات الجُفْنِ المشقوق؛ فأما الله سبحانه فيُدْرِكُ المسموعات والمبصرات لا بآلة من الآلات لكن دَرَكُ قدرة بها وصف نفسه، ولا هي هو ولا غيره من المجسمات من خلقه، لكنها من كلماته المخلوقات.
وقال: فإن قال السائل: فما الفرق بين إرادة الله لما يفعل وبين إرادة المخلوقين لما يفعلون؟

(1/317)


فإنا نقول للسائل: إن بين صفات الله وصفات خلقه فرقاً والحمد لله؛ لأن إرادة الله سبحانه صفة له، ومراده وجود فعله، وإرادة المخلوقين خواطر في ضمائر القلوب، وبين ذلك فرق كبير لا يخفى إلا على من ضعف فهمه وقل عقله.
فإن قال السائل: فلا أرى لله إرادة إذا كان مراده وجود فعله.
فإنا نقول: إن مراده لو لم يكن وجود فعله لكانت صفاته كصفات خلقه.
[أقوال الإمام الحسين بن القاسم(ع)]
وقال ابنه الحسين بن القاسم - عَلَيْه السَّلام - في كتاب الرد على الملحدين: اعلم أن قولنا شيء، إثبات موجود ونفي معدوم، وقولنا: لا كالأشياء، نفي للتشبيه.
وقال: هو الأول لا قبل لأوليته، ولا كيف لأزليته، كان في حال القدم قبل بريته ولا عقل ولا معقول سواه، ولم يكن معه أزمنة ولا شهور ولا ساعات، ولا أمكنة ولا أوقات، ولا علم ولا معلوم، ولا فهم ولا مفهوم، ولا وهم ولا موهوم.
وقال في الصفات ونحوها: إذا جعلتها أزلية بطل الحدث، وإذا جعلتها محدثة بطل القدم، وإذا جعلتها محدثة أزلية فسد قولك.

(1/318)


وقال: لم يزل عالماً بجميع فعله، عالماً بما سيريد كينونته، وإنما الذي يريد بلا علم تقدم، ويضمر بغير تكوين هو الإنسان الجاهل، الجائل الفكر الذي تحدث له النية بعد النية، والإرادة بإضمار القلب والطوية، ولو كانت إرادته قبل فعله لكانت كإرادة المخلوقين، ولكانت عرضاً من جسم، ولو كان جسماً لأشبه الأجسام، وإنما إرادته فعله، وفعله مراده، وليس ثم إرادة غير المراد، فيكون مشابهاً للعباد.
وقال في كتاب شواهد الصنع: إذا كان هذا المحدث عدماً قبل حدوثه (فالعدم لا شيء، ولا شيء لا يكون شيئاً بغير شيء)، وذكر الجسم والعرض، والجزء الذي زعم من زعم أنه واحد في نفسه لا يتجزأ.
وفي كتاب مهج الحكمة والفوائد بكلام جملته: أن كل محدث لا يخلو من أن يكون جسماً أو عرضاً؛ فالجسم ما يقوم بنفسه وتحله الأعراض، والعرض ما لا ينفرد بذاته ولا يوجد إلا حالاً، واستدل على بطلان كون الجزء واحداً في نفسه بكونه غير خال من الحركة أو السكون، وما لم يخل من صفة مقارنة فليس بواحد في نفسه، واستدل على أنه يتجزأ بكونه لا يوجد إلا في جهة، وكل متحيز فله جوانب تحويه.
وقال في كتاب الصفات: فإن قال: ما أنكرت من أن يكون علم الله لا هو الله ولا هو غيره؟
قيل له ولا قوة إلا بالله: لا بد أن يكون هذا العلم الذي ذكرت، وغيره من الصفات التي زعمت، محدثاً أو قديماً، خالقاً أو مخلوقاً، موجوداً أو معدوماً.

(1/319)


فإن قلت: إن علم الله محدث، جهَّلته، وإن قلت: إن علمه شيء موجود قديم، فلا يُعلم شيء موجود قديم إلا هو وحده، وأما قولك: لا هو هو، ولا هو غيره؛ فهذا لا شيء؛ لأن الله سبحانه قديم وغيره محدث.
وقال: إن كنت أردت الأسماء من الألفاظ والكلام، وما ينطق به من ذلك جميع الأنام، وما يوجد في الصحف والأجسام، فذلك غير الموصوف، لأن الموصوف هو الله، وهذا الكلام هو من المفعولات المحدثات، والله أحدث علم ذلك وغيره من الصفات، وإن كنت أردت المسمى بهذه النعوت فهو الله رب العالمين، وهو معناها عند المؤمنين.
وقال في جوابه ليحيى بن مالك: ما تفسير علم الله وقدرته، إلا كتفسير وجهه ونفسه، فهل يقول أحد يعقل بأن له وجهاً كوجه الإنسان، أو نفساً كأنفس ذوي الأبدان؟ هذا ما لا يقول به أحد من ذوي الألباب، ولا يعتقده في الله رب الأرباب، وإنما وجهه هو ذاته، وكذلك علمه وقدرته.

(1/320)


[أقوال الإمامين أبي الفتح الديلمي والمنصور بالله (ع)]
وقال الإمام الديلمي أبو الفتح بن الحسين بن الناصر بن محمد بن عيسى بن محمد بن عبدالله بن أحمد بن عبدالله بن علي بن الحسن بن زيد بن الحسن بن علي بن أبي طالب - عَلَيْهم السَّلام - في تفسيره لقول الله سبحانه: {وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ}[الروم:27]"، إنما [بين الله تعالى] للإنسان تنقل أحواله حتى استكمل خلقه ليعلم نعمته عليه، وحكمته فيه، وأن بعثه بعد الموت أهون عليه من إنشائه ولم يكن شيئاً.
وحكى الإمام المنصور بالله - عَلَيْه السَّلام - في الرسالة الناصحة للإخوان جملة من محالات المطرفية تدل على بطلان ما شابهها من محالات المعتزلة منها قولهم: إن العرض ليس بحال ولا محلول، ولا قديم ولا محدث، وقولهم: الإحالة إرادة الله ومراده، لكنه لم يردها، وقولهم: إن الله تعالى سمي بأنه كائن، وأنه مشارك للأجسام في هذه التسمية.
فهذه جملة من أقوال الأئمة عَلَيْهم السَّلام ليس منها قول يذهب إليه الأئمة عَلَيْهم السَّلام إلا ومن أقوال المعتزلة ما يخالفه، ولذلك انتزعتها دون غيرها.
والحمد لله رب العالمين وصلى الله على محمد وآله وسلم ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.

(1/321)


تذكرة تشتمل على أربع مسائل
من كلامه - رضي الله عنه - مما يستغلط بالسؤال عنها بعض الصفاتية
[وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وآله]

بسم الله الرحمن الرحيم
الأولى: سؤالهم عن النظر في إثبات الصانع تعالى هل يحصل به العلم أنه تعالى قادر وعالم؟ فما الفائدة في تكرار النظر ثانياً وثالثاً؟ ونحو ذلك مما يوهمون به أنه لا بد لله سبحانه من صفات زائدة على ذاته مختلفة بحسب اختلاف الأدلة المنظور فيها.
والجواب عن ذلك: أن النظر في الأدلة الدالة على كون الباري سبحانه صانعاً وقادراً وعالماً لا تدل على أن الصانع غير القادر، ولا على أن القادر غير العالم، ولا على أن لله سبحانه قدرة غير ذاته، ولا علماً غير قدرته لما في ذلك من لزوم التشبيه، وإبطال التوحيد.
ولأن تزائد الأنظار، وتفاضل علوم النظار، لا يدل على تزايد المنظور في إثباته، ولا على وجوب إثبات صفات زائدة على ذاته؛ لأن الموجب لتزايد الأنظار هو عجز كل ناظر عن الجمع بين كل نظرين في دليلين مختلفين في حالة واحدة.
ولذلك فإن الناظر في الدليل على كون الباري سبحانه قادراً لا يحصل له العلم بذلك النظر أنه سبحانه قادر فيما لم يزل، ولا أنه قادر لا بقدرة، ولم يدل تزايد نظره في ذلك على إثبات أمور زائدة على ذات الباري سبحانه.
وإذا ثبت بالدليل أن الله سبحانه قادر لا بقدرة، عالم لا بعلم؛ فالسؤال عما يوهم إثبات القدرة والعلم وما يجري مجراهما مغلطة يتحير المسؤول عنه في جوابه لأجل أنه لا يجد جواباً معقولاً سالماً من التشبيه.
* * * * * * * * * * *

(1/322)


الثانية: سؤالهم هل أفاد قولنا قادر نفس ما أفاد قولنا عالم؟ فذلك تكرار أم أفاد كل واحد من الوصفين غير ما أفاده الثاني فما تلك الفائدة؟
وكذلك سؤال من يسأل: ما الفرق بين معنى قولنا: قادر ومعنى قولنا: عالم؟ وسؤال من يسأل: لم سمي القادر قادراً؟
والجواب عن ذلك وما أشبهه: هو أن يقال: لو كان لوصف الباري سبحانه بأنه قادر، ووصفه بأنه عالم معنى أو فائدة أو موجب أو مزية زائدة على ذاته سبحانه لكان ذلك المعنى أو الفائدة أو الموجب أو المزية لا يخلو من أن يكون شيئاً معقولاً أو غير شيء معقول ولا واسطة.
فإن كان شيئاً معقولاً فإثباته يكون إثباتاً لأشياء مقارنة لذات الباري سبحانه، وذلك تشبيه مخالف لمعنى توحيده سبحانه؛ إذ لا معنى له إلا نفي المقارنة والمشاركة والعلل الموجبة والأحكام الموجبة؛ لكون كل ذلك موجِباً للتحديد، ودالاً على الحدث.
وإن كان غير شيء معقول؛ فالسؤال عنه مغلطة، والتفكر فيه محظور، والخوض فيه غلو وتعمق، والخائض فيه خارج عن حد العقل، وغير خارج عن حد التشبيه.
أما كونه خارجاً عن حد العقل فلأجل تفكره وخوضه في إثبات أمور ليست بشيء ولا لا شيء، وأما كونه غير خارج عن حد التشبيه فلأجل إثباته لصفات زائدة على ذات الباري سبحانه كما أن لكل ذات من ذوات الجواهر والأعراض بزعمه صفات زائدة ليست بشيء ولا لاشيء، وكل سؤال لا يمكن أن يجاب عنه إلا بما يؤدي إلى الخروج عن حد العقل وحد التوحيد فهو من جملة مسائل المحال التي لا يصح الجواب عنها، ولا يجوز الخوض فيها.
ومن جملتها: سؤال من سأل: ما الفرق بين صفات الباري سبحانه وذاته؟ لأنه لا فرق إلا بين شيئين أو أشياء والله سبحانه شيء واحد.
* * * * * * * * * * * * *

(1/323)


الثالثة: سؤالهم عن الفرق بين الوصف والصفة على الجملة، وهل يصح الوصف بغير صفة؟
والجواب عن ذلك: أن الوصف على الجملة هو قول الواصف، وكل قول شيء، والباري سبحانه مستحق للوصف في حال عدم الوصف والواصف، ولا يجوز أن يكون موصوفاً فيما لم يزل لما في ذلك من إيهام قدم الوصف والواصف.وأما الصفة المعقولة فهي تنقسم على أربعة أضرب: ضرب منها يجب نفيه عن الباري سبحانه لفظاً ومعنى، وثلاثة تجوز إضافتها إليه سبحانه في اللفظ مجازاً لا بمعنى الإضافة الموهمة للتشبيه.
أما الضرب الأول الذي يجب نفيه عن الباري سبحانه لفظاً ومعنى: فهو كل صفة معلومة مقارنة لذات الموصوف بها، نحو قدرة المخلوق وعلمه وحياته التي لأجلها وصف بأنه قادر وعالم وحي، وصح الوصف والصفة بخلاف الباري سبحانه؛ لأنه موصوف لا بصفة، ولذلك وجب وصفه سبحانه بأنه قادر لا بقدرة، وعالم لا بعلم، وحي لا بحياة؛ فصح الوصف وبطلت الصفة.
ولذلك قال أمير المؤمنين - عَلَيْه السَّلام -: (فمن وصفه فقد شبهه، ومن لم يصفه فقد نفاه، وصفته أنه سميع ولا صفة لسمعه).

(1/324)


وأما الثلاثة الأضرب التي يجوز إضافتها إلى الباري سبحانه لا بمعنى الإضافة الموهمة للتشبيه:
فالأول: هو كل صفة أريد بها الوصف، وسميت صفة مجازاً، مثال ذلك: تسمية الموحدين لكون الباري سبحانه قادراً وعالماً وحياً وموجوداً وواحداً وقديماً صفات ذاتية.
ولذلك قال أمير المؤمنين - عَلَيْه السَّلام -: (باينهم بصفته رباً، كما باينوه بحدوثهم خلقاً).والضرب الثاني: هو كل صفة أريد بها النفي، مثاله: قول أمير المؤمنين - عَلَيْه السَّلام -: (صفته أنه لا مثل له من خلقه).
والضرب الثالث: هو كل صفة تذكر والمراد بها الذات لا الصفة، مثاله: قسم من يقسم بقدرة الله سبحانه أو بعلمه، وغرضه القسم بالقادر سبحانه لا بقدرة له غير ذاته، وذلك لأن من المعلوم سمعاً أن القسم الذي يتعلق به البر والحنث لا يصح إلا بشيء معلوم، وأنه لا يصح القسم بغير الله سبحانه.
وقد ثبت بالأدلة العقلية أنه لا يجوز إثبات قدرة وعلم لله سبحانه يصح القسم بهما دونه، ولذلك قال بعض الأئمة - عَلَيْهم السَّلام -: صفات الله الذاتية هي هو لا بمعنى أن له سبحانه صفات زائدة هي هو.
* * * * * * * * * * *

(1/325)


الرابعة: سؤالهم عن مفارقة ذات الباري سبحانه لسائر الذوات هل هي بأمر أم لا بأمر؟ ليوهموا بذلك أنه سبحانه مشارَك في الذاتية ومفارِق بأمر زائد عليها.
والجواب عن ذلك بأمور:
منها: أن المفارقة بعد المشاركة لا يجوز إطلاقها على الحقيقة، إلا على الأجناس المتنوعة المكيفة، التي ذواتها مقارنة لصفاتها، والله سبحانه ليس بجنس ولا نوع.
ومنها: أن المفارقة بعد المشاركة طريق لإثبات التعليل، والتعليل طريق لإثبات القياس، والقياس لا يكون إلا لما يشارك في علة القياس، والعلة لا تكون إلا صفة مقارنة للذات، ولا يجوز وصف ذات الباري سبحانه بأنها مقارنة للعلل والمعلولات.
ومنها: أنه لا فرق في العقل ولا في العرف بين المشاركة في صفة، والمماثلة والمشابهة فيها، وقد ثبت بإجماع الخصم أنه لا مثل لله سبحانه ولا مشابه.
ومنها: أن الله سبحانه لو كان مشاركاً في أمر ومخالفاً بأمر لم يخل كل واحد من الأمرين من أن يكون شيئاً معقولاً أو غير شيء معقول، ولا واسطة.
والخصم إذا كان من العدلية يجمع على أنه ليس بشيء معقول، وإذا لم يكن شيئاً معقولاً فالسؤال عنه استغلاط، والمتكلم فيه خارج عن حد العقل، وقافٍ لما ليس له به علم، ومجادل في الله سبحانه بغير علم ولا هدىً ولا كتاب منير.

(1/326)


ومنها: أنه قد ثبت بأدلة العقل والسمع أن الله سبحانه ليس كمثله شيء، وأنه لا كيفية له، وإذا لم يكن له سبحانه مثل ولا كيفية فهو مفارق للذوات لا بعد المشاركة، ولا بأمر لأجل كونه سبحانه مفارقاً لها بأنه لا مثل له ولا كيفية، وكونه لا مثل له راجعاً إلى النفي، وكل صفة راجعة إلى النفي فليست تسمى أمراً ولا مزية بإجماع الخصم.
قال - رضي الله عنه -: الأصل في معرفة التوحيد على الحقيقة هو معرفة الفرق بين المسائل الصحيحة والمسائل المستحيلة على الجملة والتفصيل.
وقال - رضي الله عنه -: مما تعارض به مسائلهم المستحيلة أن يقال: هل بين ذات الشيء وصفته الأخص فرق أم لا؟
فإن قال: ليس بينهما فرق؛ لزمه ما ألزم خصمه، وإن قال: بينهما فرق، قيل: فهل تفرق بينهما بذاتيهما أم بأمر زائد عليهما، أم بأمرين؟
وكذلك السؤال عن الفرق بين المقتضي والمقتضى، والعلة والحكم، والمتجدد والأزلي، وقس على ذلك.
تم ذلك بحمد الله ومنّه وصلى الله على محمد وآله وسلم تسليماً كثيراً.

(1/327)


الفصل السابع من سبعة فصول من كتاب تعريف التطريف
من تأليف السيد الشريف العالم العامل العفيف
حميدان بن يحيى بن حميدان القاسمي الحسني الهاشمي (عَلَيْه السَّلام)

بسم الله الرحمن الرحيم
[الكلام في معرفة الحجج الدالة على بطلان الإحالة وما يتصل بها من بدع المطرفية]
قال - رضي الله عنه -: وأما الفصل السابع وهو الكلام في معرفة الحجج الدالة على بطلان الإحالة، وما يتصل بها من سائر بدع المطرفية فهي أدلة العقل وموافقها من محكم الكتاب، وموافق ذلك من السنة، وكذلك أقوال الأئمة - عَلَيْهم السَّلام - والإجماع، وتظاهر هذه الحجج واتفاقها على الشهادة بإثبات صانع واحد ونفي ما عداه من كل ما يعبده من دونه جميع المشركين.
[ذكر أدلة العقل الدالة على بطلان الإحالة وسائر بدع المطرفية]
أما أدلة العقل:
فمنها: أنه قد ثبت عند جميع المسلمين أن جميع الفروع أجسام متضمنة لأعراض ضرورية، وأن جميعها محدث، وأن كل محدث لا بد له من محدث، وأن محدث الأجسام والأعراض الضرورية هو الله سبحانه لا شريك له ولا ظهير لاستحالة جواز العجز عليه سبحانه، ولاستحالة وجود إلهين قديمين ولاستحالة أن تُحدِثَ الأجسامُ أنفُسَها في حالة عدمها أو في حالة وجودها، ولاستحالة أن يحدثها مثلها، ولاستحالة حصولها هملاً لا محدث لها ولم يُظْهِرِ الخلافَ في ذلك إلا (الملحدون والمشركون) على اختلاف مذاهبهم.

(1/328)


فأما المطرفية: فإنهم يظهرون الإقرار بالإسلام فلا يخلو إقرارهم بذلك: إما أن يكون صدقاً أو كذباً، فإن كان صدقاً بطل قولهم بأن الله سبحانه لم يقصد خلق الفروع، وإن كان كذباً تبين كفرهم وكان الجواب كالجواب على أشباههم.
ومنها: أن جميع الفروع لا تخلو من أن تكون حيواناً أو جماداً، أو رزقاً أو مرزوقاً، أو نفعاً أو منتفعاً، أو مسخراً أو مسخراً له، وكل ذلك يدل على خالق حكيم قاصد لذلك مقدر عليم؛ لاستحالة أن يكون إحكام من غير محكم، وإنعام من غير منعمٍ قاصدٍ لذلك غير جاهل ولا ساهٍ ولا مُلْجَأ، ولأنه لا خلاف في وجود النعم والمنعَم عليهم، وفي كون شكر المنعم واجباً، فلا تخلو المطرفية: أما أن يقروا بذلك إقراراً صحيحاً فيبطل قولهم بأن الله سبحانه لم يقصد خلق الفروع أو يجحدوه فيتبين خروجهم من دائرة الإسلام.
ومنها: أن المطرفية يقولون بأن الله سبحانه خلق الأصول بالقصد لكونها مخلوقة لا من شيء، وليس ذلك بأعجب في الصنعة، ولا أبلغ في الحكمة من خلق النار من الشجر الأخضر، ولا إخراج الحي من الميت، ولا خلق الشيء الكثير من الشيء القليل، ولا من إمساك السماء أن تقع على الأرض، وكذلك إمساك الأرض من الإنحدار، وكذلك إمساك الماء والطير في الهواء ونحو ذلك مما لا يحصى عدداً لكثرته.

(1/329)


(ولأن الذي يدل على كون الله سبحانه) قاصداً لخلق الأصول لا يخلو من أن يكون كونها أجساماً وأعراضاً، وكونها محدثة، وكونها محكمة ونحو ذلك مما يدل على صانع مختار (فكل ذلك) موجود في الفروع.
فأما كونها مخلوقة لا من شيء فلا فرق بينه وبين خلق الشيء من الشيء (في كون كل ذلك) مخلوقاً دالاً على خالق بل خلق الشيء من الشيء أظهر بياناً وأقرب دلالة إلى الإنسان؛ لكون ذلك مشاهداً ومعايناً، ولذلك تمدح به الله سبحانه، ونبه خلقه على النظر فيه والإستدلال به عليه، فقال سبحانه: {فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ مِمَّ خُلِقَ(5)} [الطارق]، وقال سبحانه: {فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ إِلَى طَعَامِهِ(24)} [عبس]، ونحو ذلك.
ومنها: أن الغذاء إذا صار في المعدة ثم حدث لأجله نمو في الجسد وزيادة في القوة، ودرك الحواس الظاهرة والباطنة، وحصل النفع الذي يدل على (كون صانعه) حكيماً منعماً مع تقسيم منافع ذلك الغذاء في جميع الجسد أسفله وأعلاه على حسب المصلحة، وكذلك حدوث النبات بعد اجتماع الماء والطين والحب، وفلق الحب وإظهار فروعه وثمره ونموه وحصاده وما فيه من المنافع........... [هنا بياض في جميع النسخ الموجودة] ومكتوب فيها هكذا في الأم...

(1/330)


[ذكر موافق أدلة العقل من محكم الكتاب الدالة على بطلان الإحالة وسائر بدع المطرفية]
{يَخْلُقُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ(45)} [النور]، فانظر كيف صرح سبحانه بخلاف ما قالته المطرفية في الإحالة، وفي تنزيه الله سبحانه من إنزال البرد على بعض المخلوقين دون بعض [و]في المساواة في الخلق ونحو ذلك.
والثالثة عشرة: قوله سبحانه: {أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ} [النمل:25]، اعلم أني ربما ذكرت بعض آية نحو هذه، أو ذكرت أكثر من آية ولم احترز في ذلك ممن يتتبع العثرة لأن غرضي تعريف الفائدة فاعرف.
واعلم، أن خبء السماء: هو المطر، وخبء الأرض: هو النبات، ونحو ذلك من كل ما استتر فيها قبل خروجه.
وانظر كيف حكى الله سبحانه عن الهدهد أو غيره الإقرار بذلك والتعجب ممن جحده من المشركين فلو كان القائل لذلك طبعياً أو ممن يقول بالإحالة لما استدل به على الله سبحانه.

(1/331)


والرابعة عشرة: قوله سبحانه: {قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلَامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ(59) أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا أَءِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ(60) أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَرَارًا وَجَعَلَ خِلَالَهَا أَنْهَارًا وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزًا أَءِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ(61) أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ أَءِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ(62) أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَنْ يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أَءِلَهٌ مَعَ اللَّهِ تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ(63) أَمَّنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَءِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ(64)} [النمل].

(1/332)


فانظر كيف تمدّح الله سبحانه بخلق جميع ذلك، وسمى من نسبه إلى غيره مشركاً وعادلاً أي جاعلاً لله مثلاً، ووصفهم بقلة التذكر، وتحداهم على وجه المقت لهم والتوبيخ والتهدد أن يأتوا ببرهان.
وقد ابتدعت المطرفية القول بالإحالة وفائدتها مشتملة على نفي قصد الله سبحانه لخلق الفروع التي تمدح الله سبحانه بخلقها فيلزمهم أن يكونوا من الجاحدين.
والخامسة عشرة: قوله سبحانه: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِي الْأَرْضِ ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطَامًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ(21)} [الزمر]، فانظر كيف صرح الله سبحانه بأنه ينزل المطر، وينقل الزرع من حالة إلى حالة على وجه يدل عليه سبحانه مَنْ تفكر فيه من جميع أهل العقول.
واعلم أنه لا يكون في الفروع آيات تدل على الله سبحانه إذا لم يقصد خلقها وكانت حاصلة بالإحالة.
والسادسة عشرة: قوله سبحانه: {يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ(49) أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيمًا إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ(50)} [الشورى]، فانظر كيف صرح الله سبحانه بأنه يشاء المفاضلة بين عباده في هبة الأولاد، والمشيئة هي القصد لاستحالة إثبات أحدهما في حقه سبحانه دون الآخر، فاعرف ذلك.

(1/333)


والسابعة عشرة: قوله سبحانه: {إِنَّ فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ(3) وَفِي خَلْقِكُمْ وَمَا يَبُثُّ مِنْ دَابَّةٍ ءَايَاتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ(4) وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا أَنزَلَ اللَّهُ مِنْ السَّمَاءِ مِنْ رِزْقٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ آيَاتٌ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ(5) تِلْكَ ءَايَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَءَايَاتِهِ يُؤْمِنُونَ(6)} [الجاثية]، والقول بالإحالة من جملة الحديث الذي آمنت به المطرفية بعد الله وآياته، فاعرف ذلك.
والثامنة عشرة: قوله سبحانه: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذَلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ(40)} [الروم]، فانظر كيف صرح الله سبحانه بأنه لا شريك له يعارضه في الخلق والرزق، والموت والحياة، والمطرفية تنزهه بزعمهم عن قصد ذلك، ويقولون: إنه من فعل الأصول بالإحالة وذلك من أبين المعارضة لكلام الله سبحانه فاعرفه.

(1/334)


والتاسعة عشرة: قوله سبحانه: {هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ(11)} [لقمان]، فانظر كيف أضاف إلى نفسه سبحانه ما أضافته المطرفية إلى الأصول ونفته عنه، تعالى عما يشركون.
والعشرون: قوله سبحانه: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ(25)} [لقمان]، فانظر كيف حكى الله سبحانه جنس قول المطرفية عن أشباههم، وكفى بذلك دليلاً واضحاً على كون المطرفية مخالفين للحق.
والحادية والعشرون: قوله سبحانه: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ(3)} [فاطر]، وهذا السؤال متوجه إلى من أضاف الخلق إلى غير الله سبحانه، والمطرفية من جملتهم لأجل قولهم: إن الله سبحانه لم يقصد خلق الفروع.

(1/335)


والثانية والعشرون: قوله سبحانه: {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْوَاجًا وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلَا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلَا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ(11)} [فاطر]، فانظر كيف صرح سبحانه بإبطال الإحالة والعمر الطبيعي تصريحاً ظاهراً لفظاً ومعنى.

(1/336)


تنبيه أولي الألباب على تنزيه ورثة الكتاب
من كلامه - عَلَيْه السَّلام -
بسم الله الرحمن الرحيم
[مقدمة الكتاب والحامل للمؤلف على تأليفه]
أما بعد حمد من فطر العقول على معرفة الأدلة، وعرف المكلفين بجميع حدود فرائض الملة، وبأولي الأمر الحافظين لها ولهم من الشبه المضلة، والصلاة على محمد خاتم النبيين، وعلى آله الخيرة المنتجبين.
فإنه لما كثرت مخالفة من خالف بين الأئمة، واستغنى بالإجتهاد عنهم كثير من الأمة، وقل من ينظر فيما يجب من معرفة التأويل، لما يوجد في كتبهم من مختلف الأقاويل، رأيت لأجل ذلك أن أنبه من أحب أن يتفقه من الشيعة، فيما وضعوه - عَلَيْهم السَّلام - من كتب الشريعة، بمختصر مما يحض على سلوك مذهبهم، وعلى التبصر في فوائد كتبهم، ويدل على أنهم - عَلَيْهم السَّلام - لم يفرقوا دينهم، فيكون في ذلك حجة لمن خالفهم أو خالف بينهم، غير متحدٍّ في شيء من ذلك لرافض، ولا متعرض به لجدال معارض، وقسمتُ جملة الكلام فيه على ستة فصول:
الأول: في ذكر جملة من أصول الفقه المذكورة في الكتاب والسنة وأحكامها.
والثاني: في ذكر الأصول التي يحتج بها من خالف الأئمة أو خالف بينهم.
والثالث: في ذكر جملة من اختلاف أحوال الأئمة.
والرابع: في ذكر ضروب من أمثلة ما خولف فيه بين الأئمة، وما يصح منه وما لا يصح.
والخامس: في ذكر ما أجمع عليه من صفة من يجوز له الإجتهاد.
والسادس: في ذكر الفرق بين الشيعي والمتشيع.

(1/337)


[ذكر جملة من أصول الفقه المذكورة في الكتاب والسنة وأحكامها]
أما الفصل الأول: وهو في ذكر أصول الفقه في الكتاب والسنة وأحكامها
فالغرض بذكرها التنبيه على معرفة الفرق بين الخطاب العام والخاص، والإختلاف المحظور والجائز، وبين ما يرجع المجتهد فيه إلى نفسه أو إلى غيره، ونحو ذلك مما يمكن من عرفه رد كل ما يسأل عنه إلى أصله، والتمييز بين ما التبس من فقه الأئمة، بمبتدع فقه العامة، وبين الحاكي لمذهب غيره، والمتعاطي برأيه.
[ذكر جملة ما يعمه اسم الفقه وطريق معرفته]
وبيان ذلك هو: أن جملة ما يعمه اسم الفقه ستة أنواع مختلفة الأحكام، وذلك لأن جميع مسائل الفقه لا تخلو: إما أن تكون مما طريق معرفته النص البين، أو القياس المنصوص على مثال جنسه، أو السؤال لمن يجب سؤاله والرد إليه من أولي الأمر وأهل الذكر، أو الرجوع فيها إلى الحاكم، أو إلى حكم عدلين، أو إلى نظر المكلف لنفسه وتحريه للأصلح فيما التبس عليه.
[ذكر ما طريق معرفته من مسائل الفقه النص البين وأمثلته والأحكام التي تخصه]
أما ما طريق معرفته النص البين: فمن أمثلة ذلك ما ذكره الله سبحانه من مقادير سهام ذوي السهام من الورثة، وأنواع الكفارات، وأوقات العدة، وكذلك كلما لم يختلف في أن النبي - صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم - بينه بقوله أو فعله من مجمل النصوص.
ومن أحكام هذا النوع التي تخصه كون الخطاب به عاماً يستوي في معرفته، و[في] وجوب العمل به كل مكلف.

(1/338)


ومنها: استمرار وجوب التعبد به في كل عصر، من غير تكلف نظر.
ومنها: حظر السؤال عن علل أحكامه لأجل كونه تكليف من لا يُسأل عما يفعل، ولذلك قال القاسم بن إبراهيم - عَلَيْه السَّلام -: السؤال عن اللِّميات في الشرعيات زندقة.
ومنها: حظر تأولها وتحريفها على غير ما يفيده ظاهرها، ولذلك سميت الباطنية زنادقة لأجل قولهم: إن لكل ظاهر من الفروض باطناً، وذلك لأن النصوص البينة جارية في العلم بها مجرى العلوم الضرورية؛ فكما لا يجوز تحريف العلوم الضرورية العقلية، فكذلك لا يجوز تحريف النصوص الشرعية البينة.
[ذكر ما طريق معرفته من مسائل الفقه القياس وأمثلته والأحكام الخاصة له]
وأما النوع الثاني: وهو ما طريق معرفته القياس على ما ورد النص بتعيين جنسه، وذكر صفته فمن أمثلته نهي النبي - صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم - عن بيع الفضة بالفضة إلا مثلاً بمثل، [و]يداً بيد، وكذلك البر بالبر ونحو ذلك مما علم من قصده - صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم - أنه إنما أصله ليقاس عليه كل ما شاركه في اسم الجنس، وصفة الوزن أو الكيل في تحريم بيع بعض ببعض متفاضلاً أو مؤجلاً، ومن أحكام هذا النوع الخاصة له كون مسائله بخلاف مسائل النوع الأول، وإن كان كلها معلوماً بالنص، وذلك لأن كل فريضة من فرائض النوع الأول نحو الصلاة والزكاة لا يصح قياسها ولا القياس عليها، ولذلك لم يجز السؤال عن عللها إذ لو كان لها علل وجبت لأجلها لما عقل كونها تعبداً لفاعل حكيم مختار يجب التسليم لأمره.

(1/339)


ومسائل هذا النوع الثاني يصح السؤال عن عللها لأجل كونها مسائل قياس كما أراد الله سبحانه، والقياس لا يصح كونه قياساً إلا إذا كان الذي يقاس مشاركاً للذي يقاس عليه في اسم جنس معلوم وصفة خاصة معلومة، ولذلك جاز ورود الغلط والإلتباس، في كثير من مسائل القياس، لأجل جهل كثير من القايسين بصفة ما يصح قياسه، والقياس عليه، وصفة من يجوز له القياس.
[ذكر ما طريق معرفته من مسائل الفقه السؤال لمن يجب سؤاله وذكر أحكامه]
وأما النوع الثالث: وهو ما طريق معرفته السؤال لمن يجب سؤاله، والرد إليه من أولي الأمر وأهل الذكر.
فاعلم أن الله سبحانه لما علم ما سيكون من الأمة في تأويل كثير من الآيات، وفي كثير من الأخبار جعل لكل قوم في كل عصر هادياً، وأوجب على رعيته طاعته وسؤاله عن كل مختلف فيه، وسيأتي إن شاء الله تعالى من أمثلة ذلك ما ينبه على ما عداه في فصل ما خولف فيه بين الأئمة.

(1/340)


[سبب اختلاف فتاوى الأئمة وسيرهم والحكم في ذلك]
ومن أحكام هذا النوع جواز اختلاف فتاوى الأئمة - عَلَيْهم السَّلام - وسيرهم إما لأجل [كون] بعض ما يحتجون به من الآيات والأخبار محتملاً لأكثر من تأويل، وإما لاختلاف أحوالهم في التمكن، وإما لأجل سهو بعضهم في بعض المسائل أو سهو من حكى عنهم، وإما تدليس مدلس في بعض كتبهم، ونحو ذلك مما يجوز وقوعه.
ولا يجوز لأحد أن ينسب إليهم الإختلاف في الدين بل يجب حسن الظن بهم، والتأول لما أشكل من كلامهم، ونفي كل ما علم كونه خطأ عنهم، ويجب التمسك بالحي منهم دون الميت، وإن كان وقت فترة وجب العمل بالأحوط من أقوالهم، وذلك لأن كثيراً من المسائل مرجأ لأنظار الأئمة في كل عصر على حسب تمكنهم نحو الحكم فيمن كُفْره كفر إلزام، وفي حمل المرتدة الذي حملت به قبل ردتها هي وزوجها، وفي ذمة أهل الكتاب، وفي قاطع الصلاة المقر بوجوبها عليه، وفي مسألة الرد على ذوي الأرحام، وفي رجل خلف أختين لأب وأم وأختاً لأب معها عصبة غير إخوة، وفي أمور مما يجب أن تدرأ به الحدود، وفي غلو من غلا من شيعة الإمام الأول إما في تشديد أو ترخيص ورده إلى الحد الذي تعداه.

(1/341)


ومن لطيف أنظار الأئمة، ومستحسن سيرهم استخراج بعضهم من مجمل حكم بعض ما يكون أصلح للمحكوم عليه في بعض الأحوال اقتداء بما حكاه الله سبحانه من حكم داود وسليمان - عَلَيْهما السَّلام - في غرم ما استهلكته غنم قوم من غَلَّة حرث قوم آخرين؛ فحكم داود - عَلَيْه السَّلام - بوجوب غرم ذلك حكماً مجملاً من غير تعيين وقت، وذلك هو ظاهر الحكم الواجب الذي لا خلاف فيه، ونظر سليمان - عَلَيْه السَّلام - في ذلك بتوفيق الله سبحانه له فعلم أن الغرم من غلّة الغنم أصلح لأهلها، وأنه لا خلل في ذلك على أهل غلة الحرث لأجل تأخر وقت حصاد تلك الغَلّة كتأخر غلة الغنم؛ فصوب الله سبحانه حكمه بذلك، ولم يخط أباه بل قال سبحانه: {فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا ءَاتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا} [الأنبياء:79]، فتأمل ذلك وما أشبهه.
[ذكر ما طريق معرفته من مسائل الفقه الرجوع فيه إلى حكم الحاكم وأمثلته وأحكامه]
وأما النوع الرابع: وهو ما طريق معرفته الرجوع فيه إلى حكم الحاكم؛ فمن أمثلته تقدير الحكومات فيما لا أرش له من الجنايات، ومقادير واجب النفقات، والتوسط بالصلح فيما تساوت فيه الأيمان أو البينات، وما أشبه ذلك من الأحكام التي لا يجوز أن ينظر فيها إلا من ينصبه إمام الحق إلا على وجه الإحتساب في أوقات الفترات لمن يجوز له الإحتساب من أهل الدين والعلم والورع.

(1/342)


ومن أحكام هذا النوع: كونه متفرعاً عن معرفة الحاكم لظواهر أحكام الشريعة، وعن الخبرة والمعرفة لأحوال الخصوم بخلاف ما لايجوز الرجوع فيه إلا إلى الأئمة خاصة لأن ما يرجع فيه إليهم متفرع عن استنباطهم لغامض علم الكتاب الذي خصهم الله بإرثه وجعلهم أهلاً له.
وعلم الحكام متفرع عن علوم الأئمة، ومن هنا يعلم بطلان قول من زعم أنه لا فرق بينه وبين الأئمة في علم غامض الكتاب، ويعلم أن كل اجتهاد لهم خالفوا فيه إجماع العترة فهو باطل، وأن ما كان منه موافقاً لكلهم أو لبعضهم فنسبته إلى الأئمة أولى من نسبته إليهم لأجل كونهم رعية لا رعاة؛ فاعرف.
[ذكر ما طريق معرفته من مسائل الفقه الرجوع إلى حكم عدلين وأمثلته وأحكامه]
وأما النوع الخامس: وهو ما طريق المعرفة له الرجوع إلى حكم عدلين؛ فمن أمثلته قول الله سبحانه في جزاء ما يقتل من الصيد المُحْرِمُ: {يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ} [المائدة:95]، وقوله سبحانه في شأن الزوجين: {فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا...الآية} [النساء:35].

(1/343)


كتاب
بيان الإشكال فيما حُكيَ عن المهدي(ع) من الأقوال

تأليف السيد الإمام / أبي عبدالله نور الدين حميدان بن يحيى
رضي الله عنه وأرضاه

بسم الله الرحمن الرحيم
[وبه نستعين]
[ديباجة الكتاب]
أما بعد حمد الله تعالى على جزيل آلائه، والصلاة على محمد خاتم أنبيائه، وعلى السابقين والمقتصدين من أبنائه، والسلام على جميع الصالحين من أوليائه.
فإنه لما صحّت لنا إمامة الإمام المهدي لدين الله الحسين بن القاسم بن علي بن عبدالله بن محمد بن القاسم بن إبراهيم بن إسماعيل عَلَيْهم السَّلام لأجل تكامل شروط الإمامة المعتبرة في كل إمام، ولما خصه الله تعالى به من الفضائل والخصائص المشهورة، ولما وضع على حداثة سنه من العلوم الباهرة الكثيرة، ولحسن سياسته وسيرته، وظهور عدله ولطفه برعيته، واستظهاره بما أوضح من الأدلة الدامغة لجميع مخالفيه.
ولما رُوي من إشارة النبي - صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم - إلى قيامه في الوقت الذي قام فيه، وأشباه ذلك مما عجز رفضته عن إنكاره لاشتهاره، حتى التجأوا إلى التحيل بأن يكون بعضهم من خواصه وأنصاره، ليتوصلوا بذلك إلى اللبس والتدليس في كتبه، والصد بالكذب والتحريف عن سلوك مذهبه، وحتى أن من الناس من نسبه لأجل ذلك إلى الجهل، ومنهم من وصفه بزوال العقل، ومنهم من غلا ففضله على السلف، ورفض من بعده من أئمة الخلف.

(1/344)


أردت إذ ذلك أن أعرف بما المعول عليه، وما الذي يجب أن ينسب من الأقوال إليه؛ فانتزعت من مشهور ألفاظه الصريحة المذكورة فيما أجمع عليه من كتبه الصحيحة أقوالاً أخبر عَلَيْه السَّلام فيها أنه قد كذب عليه، في كثير مما ينسب إليه، وأقوالاً حذر فيها من الاغترار ببعض المتنسكين، وبما يصدر في الكتب من مشكل روايات المدلسين، وأقوالاً علم فيها كيف يعمل فيما يقع في بعض العترة من الإشكال، وفي مشكل ما ينسب إلى الأئمة - عَلَيْهم السَّلام - من الأقوال، وأقوالاً عارض بها ما ينسب إليه من البدع، وكثر بها عليه من الشنع.
[ذكر أقوال الإمام المهدي (ع) التي أخبر فيها أنه قد كُذب عليه]
أما الأقوال التي أخبر فيها أنه قد كذب عليه:
فمنه؛ قوله في باب السَّلَمِ من كتاب مختصر الأحكام: ولست أصدق بكل ما روي عن رسول الله -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم- لقلة الثقات، وطول الزمان، وهاأنا أسمع في حياتي، من الروايات الكاذبة عليَّ، ما لم أقل ولم أفعل؛ فربما يسمع بذلك أولياء الله فيصدقون به، والعهد قريب.
وقوله في بعض أجوبته لعبد الملك بن غطريف: وذكرت أني فضلت نفسي على الأنبياء عَلَيْهم السَّلام وحاش لله ما قلت ذلك في شيء من الكلام.
..إلى قوله: فمتى سمعت أني فضلت نفسي عليهم، أو ذكرت أني أعلم وأبرع منهم، ما أحسب إلا أن ذلك نقل إليك، واشتبه اللفظ والكلام عليك.

(1/345)


وقوله في بعضها: فذكرت في كتابك أنك مسترشد معاتب، ثم حرّفت قولي فصح أنك معاند كاذب، وأنت والحمد للهِ من درك ما رجوتَ خائب، واللهُ سائلك عما حرفت من كلامنا، ومناقشك على الكذبِ الذي أتيت به علينا، والكلامِ الركيك الذي نسبته إلينا.
وقوله في بعض أدعيته التي ذكر فيها أصناف رفضته: ومنهم من هو مجتهد في إهلاك عرضي واغتيابي وانتقاصي.
وفي بعضها: اللهم طهرني من كذب الألفاف، ونزهني من روايات الهمج السفساف.
وفي بعضها: يا رب أسألك الخلاص من عِشْرَةِ من لا يعرفني، فقد والله أقرحت عشرتهم قلبي، إن أمرتهم بأمر لم يقبلوه، وإن نهيتهم عن منكر لم يتركوه، وإن أدبتهم بأدب لم يحفظوه، وإن سمعوا مني رواية لم يأتوا بها على وجهها، وإن رأوا حكمة لم يقفوا على فهمها..إلى قوله: وإن رأوا مني علماً حرَّفوه جهلاً.
[ذكر أربع مسائل تنبه على النظر فيما ذكر عن المهدي (ع)]
فصل:
يشتمل على أربع مسائل مما تنبه على النظر:
الأولى: أن يقال إذا قد ثبت بالدليل كون المهدي - عَلَيْه السَّلام - إمام حق يجب تصديقه في كل ما قال وادّعى، فهل يجب تصديقه فيما ذكر وأخبر به من أنه قد كذب عليه، في بعض ما نسب من الأقوال إليه، أم لا ؟
الثانية: هل ذلك الكذب الذي أخبر به موجود الآن أم لا ؟
الثالثة: إذا كان ذلك الكذب موجوداً هل هو الأقوال المختلف فيها أم الأقوال المجمع على صحتها؟

(1/346)


الرابعة: ما الفرق في التشنيع على المهدي – عَلَيْه السَّلام – بين قول من زعم أنه ترقى من القول بتفضيله للنبي على نفسه، والتكذيب لمن نسب ذلك إليه إلى القول بتفضيله لنفسه على النبي -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم-، والرجوع إلى تصديق من كان نسب ذلك إليه، وأي بدعة أفحش من هذه البدعة، وهي جعل قول عبد الملك أصح وأشهر من قول المهدي - عَلَيْه السَّلام -.
[ذكر الأقوال التي حذر فيها المهدي (ع) من الإغترار ببعض المتنسكين وبما يسطر في الكتب من مشكل الروايات]
رجعٌ، وأما الأقوال التي حذر فيها من الاغترار ببعض المتنسكين، وبما يسطر في الكتب من مشكل الروايات؛ فمن ذلك:
قوله – عَلَيْه السَّلام – في كتاب الرد على أهل التقليد والنفاق: ومن بان لك منه النفاق فلا تبسط إليه وإن تنسك، وأَعرَضَ عن القبيح وأمسك؛ لأنه لا يؤمن عند إظهاره لديانته، أن يجعل ذلك سبباً للخيانة.
وقوله في كتاب الرد على الدعي: ولم يُدْخل على أمة من الأمم إلا من مأمنها، ولم تفتتن القرون الماضية إلا لمن يوهمها أنه من المودة على دينها.
وقوله في كتاب الرد على الدعي أيضاً: ولو كان من خاف من شيء أو شك فيه عقده في رقبته، وتقحم عليه، ودعا جميع المسلمين إليه؛ لحكم الشك على اليقين، ولما فرق بين الباطل والحق المبين.
وقوله –عَلَيْه السَّلام- في كتاب الرحمة: وليس كل ما روي حقاً، ولا ما سطر كان صدقاً، مما يخالف علماء آل الرسول، وتحيله ثواقب العقول.

(1/347)


وقوله في كتاب التوفيق والتسديد: فقد رأينا من يتكبر عن الجهل وهو لا يعلم، ويحمله الكبر أن لا يقول: الله أعلم.
فصل:
انظر كم بين قوله - عَلَيْه السَّلام - في هذا، وبين قول من زعم أنه من قال في أمره الله أعلم كانت النار أولى به.
[ذكر أقواله (ع) التي علَّم فيها كيف يعمل فيمن أشكل أمره من العترة والأقوال المنسوبة إلى الأئمة]
وأما الأقوال التي علَّم(ع) فيها كيف يعمل فيمن أشكل أمره من العترة، وفيما أشكل من الأقوال المنسوبة إلى الأئمة(ع) فمن ذلك:
قوله في رسالته إلى شيعة أبيه - عَلَيْهما السَّلام -: ولا تقلدوا أحداً من آل نبيكم، ممن اشتبه عليكم أمره منهم، وكِلُوه إلى ربكم، ولا تقلدوه دينكم، ولا تقاطعوا في الوقوف أحداً من إخوانكم، ومن تبين لكم رشده فاتبعوه، ومن بان لكم غيه فاجتنبوه، ومن اشتبه عليكم حاله فارجوه، وكلوه إلى خالقه ولا تعادوه؛ فالمؤمنون وقافون عند الشبهات.

(1/348)


وقوله في كتاب تثبيت إمامة أبيه – عَلَيْهما السَّلام – بعد كلام: وإن قول أئمتنا لا يخالف محكم الكتاب، ولا يحيد عن الحق والصواب، وإنَّ ما اختلف من أقاويلهم، تمسكنا فيه بتأويلهم، وتبرأنا إلى الله من تكذيبهم، واعتمدنا على قول ربهم، واتبعنا من ذلك أحسنه، وأقربه إلى الحق وأبينه، وما اشتبه علينا من كلامهم، رجعنا فيه إلى أحكامهم، كيلا نبوء بآثامهم؛ لأن الله اللطيف بنا، أرحم من أن يعذبنا، على ما يكون من وقوفنا وطلبنا لسبيل نجاتنا، وما نرجو من عفوه لحسن ظنوننا، واطراحنا لأهوى أنفسنا، واعتمادنا على محكم كتاب ربنا، وسنة نبينا -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم-، والله على ذلك المستعان، وهو حسبنا وعليه التِكلان.

(1/349)


وقوله في كتاب مهج الحكمة: من أراد أن يستفيد من خاتم النبيين، ومن أمير المؤمنين –عَلَيْه السَّلام-؛ فليقف على ما وضع الهادي إلى الحق – صلوات الله عليه – وكذلك ما وضع المرتضى لدين الله – عَلَيْه السَّلام – من العدل والتوحيد والحلال والحرام، وغير ذلك من شرائع الإسلام؛ لأنهما أخذا العلم الذي جاء به رسول الله - صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم - ولا يلتفت إلى اختلاف المختلفين، ولا يعتمد على أقاويل القائلين، فإني وطئت من العلوم مهجها، واعتزلت والحمد لله همجها، فما رأيت علماً أشفى، ولا أبين ولا أكفى، مما أتيا به من خالص الدين، ومحض اليقين، رواية عن خاتم النبيين، وسيد الأولين والآخرين، أخذاه عن آبائهما، وحفظاه عن سلفهما، أباً فأباً، وجداً فجداً؛ حتى ينتهي إلى الأصل أمير المؤمنين، عن سيد المرسلين، عن الروح الأمين، وإخوانه الملائكة المقربين، عن الله رب العالمين، وفاطر السماوات والأرضين؛ فالحمد لله الذي جعلنا من المقتدين، ومن علمهما مستفيدين، فمن علمهما اشتفيت، وبهداهما اهتديت، وبهما في جميع الأمور اقتديت، وفي آثارهما مشيت.
وقوله في كتاب الرحمة: وليعلم من سمع لنا قولاً أنه منهما، وإنا إن شاء الله لا نتكلم بخلاف قولهما، ولا ندين الله بغير دينهما، ودين من حذا بحذوهما من ذريتهما؛ فمن سمع لنا كلاماً فليعرضه على كلامهما؛ فما خالف قولهما فليس منا، وما وافق ذلك فهو منّا.

(1/350)


[ذكر حال الراوي عن الإمام المهدي (ع) تلك الروايات المكذوبة عليه]
فصل:
فإن قيل: إن الفضلاء من قرابة المهدي - عَلَيْه السَّلام - هم الذين رووا تلك الروايات، وهي إلى الآن مشهورة في كتبهم.
فالجواب: أن فضل الفضلاء من قرابة المهدي - رحمة الله عليهم -؛ لا يمنع من اغترارهم، ووجود الخطأ في كتبهم، وأن مخالفة ما يوجد من الخطأ في كتبهم، لا ينقص من فضلهم، وذلك لأن جميع الفضلاء من الأنبياء وغيرهم؛ يجوز عليهم تصديق ما ليس بصحيح، ولذلك قيل إن النبي - صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم - أُذُنٌ، ووصفه الله سبحانه بأنه يؤمن للمؤمنين أي يصدقهم.
وقال المهدي - عَلَيْه السَّلام - عقيب ذكره للروايات الكاذبة عليه: فربما يسمع بذلك أولياء الله فيصدقون به، والعهد قريب؛ فانظر كيف وصفهم بأنهم أولياء الله مع تجويزه لتصديقهم للكذب عليه.
فإن قيل: إن أولئك الفضلاء حكوا أنهم سمعوا تلك الروايات عن المهدي - عَلَيْه السَّلام -.
فالجواب: أنه إذا ثبت كونها خطأ فأكثر ما يجب من حقهم أن نتأول فيهم كما نتأول في المهدي - عَلَيْه السَّلام - لو صح أنهم قالوا ذلك، ولم يصح بل في الرواية المشهورة أن علي بن القاسم - رحمة الله عليه - وهو أعلم إخوة المهدي وأخصهم به قال: ما صح عنده من كلام الناس إلا رواية روتها له امرأة المهدي اللَّغْوِيَّة.

(1/351)


[حكاية الأقوال التي عارض بها الإمام المهدي (ع) قول من زعم أنه فضَّل نفسه على النبي (ص)]
رجع، وأما الأقوال التي عارض بها ما شنع به عليه من الروايات؛ فمما عارض به قول من زعم أنه فضل نفسه على النبي - صَلَّى الله عَلَيْه وآله -:
قوله في كتاب الرد على من أنكر الوحي بالمنام: وليعلم من سمع قولنا، أو فهم تأويلنا؛ أن الوحي الذي ذكرنا، فيما تقدم من كلامنا، أن الله ختمه بنبينا -صَلَّى الله عَلَيْهِ وآله وَسَلَّم-، هو هبوط الملائكة، وما كان يسمع موسى -عَلَيْه السَّلام- من المخاطبة؛ فذلك الذي ختمه الله وقطعه بعد محمد - صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم - لأنه علم أنه أفضل الآدميين، ففرق بينه وبين أهل بيته أجمعين، بأن جعلهم له تابعين، وبشريعته مقتدين، ولو علم في ذريته أفضل منه، لأزاح ختم النبوة عنه، ولجعل بعده أنبياء مثله، ولما أبان على فضلهم فضله.
وقوله في كتاب تفسير غريب القرآن: وبلغنا والله أعلم عن بعض الإمامية - لعنهم الله - أنهم قالوا: محمد رسول الله، وخاتم النبيين المهدي، وكذب أعداء الله في قولهم؛ بل محمد خاتم النبيين، وسيد الأولين والآخرين.

(1/352)


وقوله في كتاب التوفيق والتسديد: وسألت عن العقول هل هي مستوية أم بينها اختلاف ؟ والجواب: أن اختلاف عقول الناس كاختلاف قواهم، فمن كانت قوته تبلغ أداء الفرائض وجبت عليه، ومن لم يطق فلا يكلفه الله ما يعدم لديه، ولا يصل بقوته إليه، وإنما العقول على وجوه معروفة، وأحوال بينة موصوفة، منها عقول سادتنا الملائكة المقربين، ومنها عقول الأنبياء [و]المرسلين، وعقول الأوصياء المستخلفين، وعقول الأئمة الطاهرين، وبعد ذلك عقول المكلفين.
فأفضل العقول عقول الملائكة الأكرمين، ثم عقول الأنبياء أكمل من عقول الأوصياء، ثم عقول الأوصياء أكمل من الأئمة في العقول، وأفضل في الاعتقاد والقول، ثم للسابقين من الفضيلة على المقتصدين، كمثل فضل الأنبياء على الوصيين، وللأئمة المقتصدين من الفضل ما لا يكون لفضلاء المؤمنين، وأفضل الناس كلهم فضلاً، وأكملهم ديناً وعقلاً، محمد خاتم النبيين، - صلوات الله عليه وعلى أهل بيته الطاهرين -.
[حكاية أقوال المهدي (ع) التي عارض بها قول من زعم أن كلامه أبهر من كلام الله سبحانه]
ومما عارض به قول من زعم أن كلامه أبهر من كلام الله سبحانه:
قوله في تفسير غريب سورة الأنعام: ولا نعلم دليلاً أبين من القرآن، ولا أشفى ولا أوضح من الفرقان، ولا أبهر ولا أنور في البيان، مما جاء به محمد وأهل بيته في البرهان.

(1/353)


وقوله في كتاب تثبيت إمامة أبيه عَلَيْهما السَّلام: ولا يقول أحد إن كتب الأئمة أولى من كتاب الله بالصدق، وأقرب إلى الصواب والحق.
وقوله في جوابه لمن سأله عن معنى قوله: إن أدلة المعقول أقطع للملحدين من أدلة المسموع، وقوله إن تفسير الأئمة عَلَيْهم السَّلام للمتشابه أبين من المتشابه: إنما معنى قولي إنه أقطع للمشبهين والملحدين؛ أنه أبين من المتشابه من كتاب الله للمتعلمين؛ فأما أن يأتي أحد بمثل آية من كتاب الله فلا يدعي ذلك إلا كاذب.
[حكاية أقوال المهدي (ع) التي عارض بها قول من زعم أنه لا حجة بعده]
ومما عارض به قول من زعم أنه لا حجة بعده:
قوله في كتاب تثبيت إمامة أبيه عَلَيْهما السَّلام: وأما قولهم: إن كتب الإمام وما سطر، حجة على جميع البشر؛ فلعمري إن قبول ما فيها من الحق واجب على جميع المخلوقين، لا ما ذهبوا إليه من رفض الأئمة الباقين، والتعلق بكتب الماضين، ولو كان ما قالوا عند من عقل صدقاً، وكان ما نطقوا به من الزور حقاً، لكان ذلك رداً لقول رب العالمين، وإثباتاً لقول المخالفين؛ إذ كلهم متعلق بكتب من عدم شخصه، رافض لمن كان من الأئمة بعده، ولو كان لأحد منهم أن يقف على إمامة رجل برفض من بعده؛ لجاز ذلك لمن كان من الروافض قبله، ولجاز لهم من ذلك ما جاز له، ولصارت العوام أولى بالإمامة من آل نبيهم، ولنقضوا قول ربهم، ولما كان لقوله: {وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ(7)} [الرعد]، معنى، ولكان تمرداً وعبثاً؛ فتعالى الله عما يقولون علواً كبيراً.

(1/354)


..إلى قوله: وزعموا أن لله حجة مغمورة، إذا لم يكن ثم حجة مشهورة، غير من هو عندهم معارض، ولكلام الأئمة رافض، والله سائلهم عما ذكروا من المحال، وأفحشوا في أولياء الله من المقال، وأكذبوا ما قال فيهم ذو الجلال، فأخرجوا الله بحجتهم هذا المغمور، من الحكمة والعظمة والتدبير؛ إذ زعموا أن الله يحتج على عباده، وينفي الفساد من بلاده، بحجة لا ترى ولا تبصر، ولا يسمع بها ولا تذكر، ولا يأمر بمعروف ولا ينهى عن منكر، ولا يرد على أحد من المبطلين، ولا ينصر الحق والمحقين.
..إلى قوله: وأيضاً فليس من حكمة الحكيم أن يحتج على عباده؛ بحجة من أهل بيت نبيه، ثم يخفيها عنهم ويغمرها ولا يعلمهم بها، ويسترها ثم يحاسبهم على ما لم يعلموا، ويعذبهم على ما لم يفهموا، أجل؛ إنه عز وجل لبعيد عن هذه الفِرْية وأمثالها، ونظائرها من القول وأشكالها.
وإنما معنى ما روي من الحجة الباطنة عن أمير المؤمنين - عليه صلوات رب العالمين- هو المقتصد من آل الرسول.
وقد رُوي عن النبي - صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم - أنه ذكر الحجة، ثم قال: ((إما السابق وإما المقتصد)) وإنما سمي المقتصد [مقتصداً] لاقتصاده عن المراد، وسمي حجة لاحتجاجه على جميع العباد.

(1/355)


..إلى قوله: فكيف إلا أنه قد قال بإجماعهم، لو انتفعوا بعقولهم وأسماعهم، ((إني تارك فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا [من] بعدي [أبداً] كتاب الله وعترتي أهل بيتي، إن اللطيف الخبير نبأني أنهما لن يفترقا حتى يردا علي الحوض)) ولا يخلو قوله - صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم -: ((لن يفترقا [حتى يردا علي الحوض))] من أن يكون باطلاً أو حقاً؛ فنعوذ بالله من تكذيب الرسول، ومكابرة حجج العقول، ولقد كفر من كذب كتاب رب العالمين، ورد قول الرسول الأمين، وتعلق بأوهامه وظنونه، وقبل وحي شياطينه، واعتمد على المتشابه من الأقاويل، وجهل مخارج السور والتأويل، وفارق محكم التنزيل، واتكل على الأقاويل المهلكات، وقبل ما روي من المتشابهات، وتبرأ من الأمهات المحكمات.

(1/356)


وقوله في كتاب شواهد الصنع: أصل الإمامة في العقول؛ لأن الحكيم قد علم أن لا بد من اختلاف بين المخلوقين؛ فجعل في كل زمانٍ حياً مترجماً لغوامض الأمور، مبيناً للخيرات من الشرور، ولا يعدم ذلك في كل قرن من القرون، إما ظاهراً جلياً، أو مغموراً خفياً.
فإن قيل: وما الظاهر الجلي، وما المغمور الخفي؟
قيل - ولا قوة إلا بالله -: أما الظاهر فالسابق المنذر لجميع الخلائق، وأما الخفي فالمقتصد المحتج [لله] على جميع العباد، الآمر بالمعروف والناهي عن الفساد، بغير قيام ولا جهاد.
ومما عارض [به] قول من زعم أنه مهدي عيسى (ع)، وأنه لا بد لمهدي عيسى من غيبة قبل قيامه:
تفسيره - عَلَيْه السَّلام - لقول الله سبحانه: {وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ} [النساء:159]، قال: يحتمل أن يريد إلا من قد آمن وأتى بالمستقبل بمعنى الماضي، ويحتمل ما روي عن الأئمة - عَلَيْهم السَّلام - أن الله سبحانه يظهره في آخر الزمان يدعو إلى طاعته وطاعة المهدي، ويصلي خلفه.

(1/357)


وتفسيره لقوله تعالى: {لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ} [التوبة:33]، قال: هو وعدٌ من الله [سبحانه] لرسوله فكان ما وعد، قال: وأتى في الخبر عن الأئمة، عن النبي - صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم -: أن هذا الظهور يكون على يد المهدي - عَلَيْه السَّلام - يقهر جميع أديان الأمم.
وتفسيره لقوله تعالى: {وَأَرْضًا لَمْ تَطَئُوهَا} [الأحزاب:27]، قال: أي ستملكونها، وقيل: سيملكها القائم من آل محمد في آخر الزمان.
[وتفسيره لمعنى ما روي عن النبي -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم- في المهدي: [أنه] يؤيم عرسه، قال - عَلَيْه السَّلام -: معنى يؤيم [عرسه] أنه يتركها عند قيامه اشتغالاً بالجهاد عنها].

(1/358)


وتفسيره لمعنى ما روي عن أمير المؤمنين - عَلَيْه السَّلام - في الحجة الباطنة بأنه المقتصد، واحتج على ذلك بقول النبي - صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم -: ((ستأتي من بعدي فتن متشابهة كقطع الليل المظلم؛ فيظن المؤمنون أنهم هالكون فيها، ثم يكشفها الله عنهم بنا أهل البيت برجل من ولدي خامل الذِّكْر لا أقول خاملاً في حسبه ودينه وعلمه، ولكن لصغر سنه، وغيبته عن أهله، واكتتامه في عصره)) "((سيأتي من بعدي فتن متشابهة كقطع الليل المظلم؛ فيظن المؤمنون أنهم هالكون فيها، ثم يكشفها الله عنهم بنا أهل البيت برجل من ولدي خامل الذكر لا أقول خاملاً في حسبه ودينه وعلمه، ولكن لصغر سنه وغيبته عن أهله واكتتامه في عصره))" [قال] فبين النبي -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم- أنه يريد بذلك الإقتصاد، لا ما ذهب إليه أهل اللداد.
فصل
انظر كيف يجوز أن يضاف إليه ما عابه على غيره، وسماه فرية وكفراً ولداداً، ونحو ذلك، وكيف يجوز الخروج من هذا المعلوم المجمع عليه إلى الروايات المظنونة المختلف فيها، ومن أقوال أئمة الزيدية إلى أقوال غلاة الإمامية.

(1/359)


ومما عارض به قول من روى عنه أنه لا يموت ولا يستشهد حتى يقوم في آخر الزمان:
قوله في رسالته إلى شيعة جده القاسم بن إبراهيم - عَلَيْه السَّلام -: فالعياذ بالله كيف يداري في الحق من أصبح وأمسى منتظراً لسفك دمه، وقد وطى وطأة المتثاقل على رقاب أعداء الله.
وقوله في كتاب الدامغ يصف نفسه - عَلَيْه السَّلام -: وأُصْبِحُ متوقعاً للموت والفناء، وعاداً للفقر أحب إليَّ من الغنى.
وقوله في كتاب الأسرار: فوالذي أنا في يده ما نمت نومة حتى أناقش نفسي، وأتذكر ما اجترحت في يومي وأمسي؛ لأن النائم ربما حيل بينه وبين انتباهه، كما يحال بين اليقظان ومنامه.
وقوله في بعض أدعيته: وأكبر همي الشهادة في سبيلك، والغضب لدينك، وأنا حريص في ذلك؛ فيا رب لا تخيب أملي، ولا تخترم دون الشهادة أجلي، وعجل يا مولاي ذلك، وارحم تضرعي..إلى قوله: وعليَّ أن أبذل جسدي وعرضي ولساني، حتى يفرق بين روحي وجسدي، ويقطع فيه أجلي.
اللهم خُذْ بذلك عهدي وميثاقي، واشهد علي وكفى بك شهيداً، اللهم إني أشهدك وأشهد ملائكتك وحملة عرشك وأهل سماواتك وأرضك، أني لا أرجع ولا أنثني ولا أستقيلك في بيعتي حتى ينقطع عمري، ثم أزور قبري أو يذهب لك في الغضب لحمي ودمي.

(1/360)


انظركيف يجوز أن يضاف إليه (عَلَيْه السَّلام) أنه لم يف بعهده وميثاقه، وكيف يجوز أن يترك تصديقه في هذا وشبهه لأجل روايات لا دليل على صحتها، ولا ثقة بمن أسندت إليه من النسوان والمتشيعين الذين حكى عنهم بعض إخوة المهدي - عَلَيْه السَّلام-.
ومما يعارض به قول من زعم أنه كان يرى ما حُكي عنه في المنام:
قوله - عَلَيْه السَّلام – [في كتاب الإمامة]: واعلم أن الإمامة لا تصح بالملاحم والمنام، ولا تبطل إمامة الأئمة بالأحلام؛ لأن الرؤيا وإن كانت من حكمة الله جل جلاله، وعظمت نعمته وإفضاله، فإنها تحمل على التأويل، ولا يعتبر ظاهرها في جميع الأقاويل، والحكيم لا يصرح بكل أسبابه، لما في النظر والتمييز من ثوابه، مع ما في النظر من لقاح العقل، وبطلان الحَيْرَة والجهل، وربما رؤيت الرؤيا للرجل، وإنما المراد بها سواه من ذريته، أو بعض إخوانه وقرابته.
[مناقشة حسنة]
فصل: يشتمل على مسائل:
الأولى: إذا كان للمهدي - عَلَيْه السَّلام - أقوال مجمع على صحتها، وأقوال مختلف فيها، ما الواجب أن نتبع من ذلك في وقت الفترة ؟
الثانية: إذا كان لا بد لله سبحانه من حجة من العترة في كل عصر وكان كل حجة بعد المهدي – عَلَيْه السَّلام – لا يصدق بما شنع عليه، هل يجب الإقتداء به مع ذلك، أم يجب رفضه؟

(1/361)


الثالثة: إذا كان مهدي عيسى - عَلَيْهما السَّلام - لا يعلم أنه هو إلا بعد ظهور عيسى –عَلَيْه السَّلام- ولا يعلم أن عيسى هو هو حتى يحيي الموتى؛ فكيف يعلم مع عدم ذلك ؟
الرابعة: إذا كان فضل النبي - صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم - مجمعاً على كونه معلوماً بالنص؛ فكيف يجوز نسخه بفضل مختلف فيه ؟
الخامسة: هل تصح إمامة من يدعي خلاف ما أجمعت عليه الأمة ؟ مع أن من شرط صحة إمامته ألا يخالف شيئاً من الأدلة، وأن يكون مقتدياً بمن قبله من الأئمة، وغير مخالف لإجماعهم.
السادسة: لو صح القول بتفضيل المهدي –عَلَيْه السَّلام- على النبي -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم-؛ هل يكون فضله عليه معقولاً أو مسموعاً ؟ تفضلاً أو مجازاة؟ وهل يكون قبل ظهور عيسى أو بعده ؟
السابعة: إذا قام من العترة بعد المهدي – عَلَيْه السَّلام – إمام وأنكر بعض ما يجد في كتب المهدي [(عَلَيْه السَّلام)] من الروايات هل يكذب أو يصدق – كما قال القاسم بن علي [العياني] – عَلَيْه السَّلام – في كتاب ذم الأهوى والوهوم في مثل ذلك: واحذروا رحمكم الله من فتنة الهوى، ومخالفة حجج الله التي تعاين وترى، ولا تأتموا بالأخبار التي ترد عليكم من أئمة الهدى، فإن الله لم يجعل حججه خبراً فاسداً، ولا كتاباً مفرداً، ليس معه من ذرية الرسول معين-؟
والحمد لله رب العالمين وصلى الله على سيدنا محمد وآله وسلم، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم
**************************

(1/362)


قال القاضي الأجل الأوحد الأفضل، العالم العامل الأكمل، أبو عبدالله محمد بن جعفر بن الشبيل بن غالبيه رحمه الله تعالى: لما سمعت من السيد الشريف الفاضل حميدان بن يحيى هذه المجموعات التي جمعها، وذلك بعد أن نسختها من الكراريس التي بخطه، ومن جملتها هذا الذي من كلام مولانا الإمام المهدي لدين الله الحسين بن القاسم - سلام الله عليه ورضوانه - قلت فيه - عَلَيْه السَّلام - أبياتاً وهي هذه:
هذا إمام عالم عامل
ومن موالاة لأعدائه
قف واتق الله إله السما
إن تك منه اليوم مستقرضاً
أدين أن الحق ما قاله
وأن من في فضله قد غلا
فخف إله الخلق يا من غلا
مثل ابن غطريف الذي لم يقل
قال ابن غطريف الذي قاله
ورد ما قال ولم يرضه
صلى عليه الله من راحض

أبرأ إلى الرحمن من بغضهِ
ومن غلوٍ فيه أو رفضهِ
يا أيها الطاعن في عرضهِ
ففي غد تندم من قرضهِ
من صفة الباري ومن فرضهِ
أكبر جرماً من ذوي بُغْضِه
في خلط ما قد شيب في محضه
في كله الحق ولا بعضه
فشمر المهدي في نقضه
إذ أسخط الله ولم يرضه
طاب فطاب الدين من رحضه

تمت الأبيات رحمة الله على قائلها ورضوانه.
وصلى الله على محمد وآله.
ــ.

(1/363)


كتاب حكاية الأقوال العاصمة من الإعتزال
مما انتُزع وجُمِع من كتب الإمام المنصور بالله أمير المؤمنين /
عبدالله بن حمزة بن سليمان بن رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وآله وَسَلَّم

بسم الله الرحمن الرحيم
[ديباجة الكتاب وسبب تأليفه]
أما بعد حمدِ مَنْ نِعَمُهُ لا تُحصى، ومحامده لا تُستقصى، والصلاة على خير مبعوث إلى الورى، وأول مبعوث من الثرى، محمد خاتم النبيين، وعلى آله الطيبين.
فإنه لما ظهر كثير من الأقوال، التي ابتدعها أهل الإعتزال، في بعض من يدعي أنه من شيعة الإمام المنصور بالله [أمير المؤمنين] - عَلَيْه السَّلام -؛ دعاني ذلك إلى حكاية جملة من فوائد كتبه، المتضمنة لتحقيق مذهبه، ليتبين بها الفرق بين التشيع والإعتزال، ويتميز لأجلها الصحيح عن المحال، وقسمت الكلام في ذلك على أربعة فصول:
الأول: في ذكر بعض ما استدل به - عَلَيْه السَّلام - من الأخبار الموافقة لمحكم الكتاب، ولما أجمعت عليه العترة -عليهم السلام-.
والثاني: في ذكر شبهٍ واعتراضات مما حكاه عن المخالفين وأجاب عنه.
والثالث: في حكاية أقوال منتزعة من كتبه متضمنة لمدح العترة وذم من خالفهم، وأنكر فضلهم، واستغنى عنهم بغيرهم.
والرابع: في ذكر جملة مما حكاه من أقوال فضلاء العترة في معنى ذلك.

(1/364)


أما الفصل الأول
وهو في ذكر ما استدل به - عَلَيْه السَّلام - من الأخبار الموافقة لمحكم الكتاب، ولما أجمعت عليه العترة، فهي في الشافي وشرح الرسالة الناصحة مذكورة.
[الأدلة على إمامة أمير المؤمنين(ع)]
منها: روايته عن النبي - صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم - أنه قال: ((من ناصب علياً في الخلافة بعدي فهو كافر، ومن شك في علي فهو كافر)).
وقال: ((علي خير البشر من أبى فقد كفر)).
وقال لكافة من حضر يوم غدير خم، وهو على مكان عال في يوم شديد الحر، وهو آخذ بيد علي - عَلَيْه السَّلام -: ((ألست أولى بكم من أنفسكم؟)) قالوا: بلى يا رسول الله، قال: ((فمن كنت مولاه فعلي مولاه، اللهم وال من والاه، وعاد من عاداه، وانصر من نصره، واخذل من خذله)).

(1/365)


قال الإمام - عَلَيْه السَّلام -: وهذا الخبر مما نقلته الأمة نقلاً متواتراً، ولم يختلفوا إلا في تأويله.
وقال - صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم -: ((يا علي، بحبك يعرف المؤمنون، وببغضك يعرف المنافقون)).
وقال: ((إن الله تعالى قال له ليلة المسرى: مَنْ خَلَّفتَ على أمتك؟ قال: يا رب، أنت أعلم، قال: خلّفتَ عليهم الصديق الأكبر، الطاهر المطهر، زوج ابنتك، وأبا سبطيك، يا محمد أنت شجرة وعلي أغصانها، وفاطمة ورقها، والحسن والحسين ثمارها، خلقتكم من طينة عليين وخلقت شيعتكم منكم، إنهم لو ضربوا على أعناقهم بالسيوف لم يزدادوا لكم إلا حباً)).

(1/366)


طينة عليين وخلقت شيعت".
وقال - صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم - لما فرَّ أبو بكر وعمر عن أهل خيبر: ((لأعطين الراية غداً رجلاً كراراً غير فرار يحب الله ورسوله، ويحبه الله ورسوله، لا يرجع حتى يفتح الله على يديه)).
قال الإمام - عَلَيْه السَّلام -: تضمن هذا الخبر القطع على تعيينه بالكر؛ فدل على الإمامة.
[حديث: ((الحسن والحسين إمامان قاما أو قعدا..إلخ))]
وقال - صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم -: ((الحسن والحسين إمامان قاما أو قعدا، وأبوهما خير منهما)).
قال الإمام - عَلَيْه السَّلام -: وهذا الخبر مما أطبقت الأمة على نقله لشهرته، وذكر أنه ظاهر التصريح بإمامتهما، وأن فيه دلالة على إمامة أبيهما بطريق الأولى.
[الحض على التمسك بأهل البيت (ع) والتحذير من بغضهم ومخالفتهم]
وقال - صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم -: ((ويل لأعداء أهل بيتي المستأثرين عليهم، لا نالوا شفاعتي، ولا رأوا جنة ربي)).
وقال - صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم -: ((حرمت الجنة على من أبغض أهل بيتي، وعلى من حاربهم، وعلى المعين عليهم، أولئك لا خلاق لهم في الآخرة ولا يكلمهم الله يوم القيامة ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم)).

(1/367)


وقال: ((إني تارك فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا من بعدي أبداً كتاب الله وعترتي أهل بيتي إن اللطيف الخبير نبأني أنهما لن يفترقا حتى يردا عليَّ الحوض)).
قال الإمام - عَلَيْه السَّلام -: وهذا الخبر مما ظهر بين الأمة ظهوراً عاماً بحيث لم ينكره أحد، وذكر في وجه الاستدلال به أن النبي - صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم - صرح بأن التمسك بهم بمنزلة التمسك بالكتاب، قال: ولا شك في وجوب التمسك بالكتاب فكذلك يجب التمسك بهم، قال: وصرح بأنهم لا يفارقون الكتاب إلى منقَطَع التكليف، وجعل التمسك بهم شرطاً للنجاة من الضلال، ولا يُعْقَلْ معنى التمسك إلا بالائتمام، والائتمام فرع على الإمامة.

(1/368)


وقال - صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم -: ((دخرت شفاعتي لثلاثة من أمتي: رجل أحب أهل بيتي بقلبه ولسانه، ورجل قضى حوائجهم لما احتاجوا إليه، ورجل ضارب بين أيديهم بسيفه)).
قال الإمام - عَلَيْه السَّلام -: [و]هذا الخبر يفيد معنى الإمامة لأن المضاربة بين أيديهم على الإطلاق لا تكون إلا بعد ثبوت الإمامة.
وقال - صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم -: ((أهل بيتي كالنجوم كلما أفل نجم طلع نجم)).
وقال: ((أهل بيتي أمان لأهل الأرض، كما أن النجوم أمان لأهل السماء؛ فإذا زال أهل بيتي من الأرض أتى أهل الأرض ما يوعدون [وإذا زالت النجوم من السماء أتى أهل السماء ما يوعدون])).
وقال: ((أيها الناس، أوصيكم بعترتي أهل بيتي خيراً؛ فإنهم لُحْمتي وفصيلتي فاحفظوا منهم ما تحفظون مني)).
قال الإمام - عَلَيْه السَّلام -: ومما يحفظ منه توقيره وتعظيمه - صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم -.
وقال - صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم -: ((كل سبب ونسب منقطع يوم القيامة إلا سببي ونسبي)).

(1/369)


وقال: ((أيها الناس، إني خلفت فيكم كتاب الله وسنتي وعترتي أهل بيتي؛ فالمضيع لكتاب الله كالمضيع لسنتي، والمضيع لسنتي كالمضيع لعترتي؛ أما إن ذلك لن يفترقا حتى اللقاء على الحوض)).
وقال - صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم - لأهل بيته لما شكوا عليه جفوة أمته: ((لن ينالوا الخير حتى يحبوكم لله ولقرابتي)).
وقال - صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم -: ((أحبوا الله لما يغذوكم [به] من نِعَمِهِ، وأحبوني لحب الله، وأحبوا أهل بيتي لحبي)).

(1/370)


وقال - صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم -: ((من أبغضنا أهل البيت حشره الله يوم القيامة يهودياً)).
وقال - صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم -: ((مثل أهل بيتي فيكم مثل سفينة نوح من ركبها نجا، ومن تخلف عنها غرق وهوى)).
وقال الإمام - عَلَيْه السَّلام -: لم يُخْتَلَفْ في صحة هذا الخبر، ولا في صدق راويه - وهو أبو ذر رحمة الله عليه-.
وقال - صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم -: ((ليس أحد يفضل أهل بيتي غيري)).
وقال - صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم -: ((قَدِّمُوهم ولا تَقَدَّمُوهم، وتعلموا منهم ولا تعلموهم، ولا تخالفوهم فتضلوا، ولا تشتموهم فتكفروا)).

(1/371)


قال الإمام - عَلَيْه السَّلام -: وهذا نص في موضع الخلاف لا يجهل معناه إلا من خُذِل.
وقال - صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم -: ((من سمع واعيتنا أهل البيت فلم يجبها أكبه الله على منخريه في نار جهنم)).
وقال: ((إن عند كل بدعة تكون من بعدي يكاد بها الإسلام ولياً من أهل بيتي موكلاً يعلن الحق وينوره، ويرد كيد الكائدين؛ فاعتبروا يا أولي الأبصار وتوكلوا على الله)).
[ذكر شبه واعتراضات مما حكاه الإمام المنصور بالله (ع) عن المخالفين وأجاب عنها]
وأما الفصل الثاني: وهو في ذكر شبه واعتراضات مما حكاه عن المخالفين، وأجاب عنه
[شبه الخوارج في الإمامة والجواب عليها]
أما الشبه:
فمن ذلك: استدلال الخوارج بقول الله سبحانه وتعالى: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ...الآية} [آل عمران:104]، وبقوله سبحانه: {وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ(10)} [الواقعة]، وقوله: {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ} [آل عمران:133].
وبما روي عن النبي - صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم - أنه قال: ((أطيعوا السلطان ولو كان عبداً حبشياً)).

(1/372)


أما آية الأمر بالجهاد؛ فأجاب - عَلَيْه السَّلام - عن ذلك: بأنه خطاب لبعضٍ أمرهم الله سبحانه بالجهاد خاصة؛ لأجل قوله: (منكم) ومن حرف تبعيض، وهم العترة بالأدلة الواضحة.
وأما آيتا المسابقة؛ فأجاب - عَلَيْه السَّلام - عن ذلك بجملة منها قوله: إن جعلوا الخطاب بالمسابقة دليلاً على الإمامة عاماً وجب تناولها لأهل العاهات والنساء والمماليك، وذلك خلاف ما وقع عليه الإجماع، وإن رجعوا إلى التأويل لم يكونوا أولى به من غيرهم، من غير دليل.
وأما الخبر: فأجاب عنه - عَلَيْه السَّلام - بجملة منها قوله: لفظ السلطان لا يفيد الإمام مطلقاً بغير قرينة لكونه مشتركاً، وكذلك لفظ العبد إذا أطلق أفاد في الشريعة نقيض الحر، والمملوك لا يصلح للإمامة؛ لأنه لا يملك التصرف في نفسه فضلاً عن غيره؛ فبطل تعلقهم بظاهر الخبر لو صح، وإن رجعوا إلى التأويل لم يكونوا أولى به من غيرهم.
قال - عَلَيْه السَّلام -: وإن صح الخبر فالمراد به الحض على طاعة أمير البلدة أو الجيش وإن كان عبداً حبشياً كما أمَّر النبي - صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم - زيداً، وكان فيما تقدم عبداً.
[شبه المعتزلة في الإمامة والجواب عليها]
ومن شبه المعتزلة: استدلالهم بقول النبي - صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم -: ((الأئمة من قريش)) وبادعائهم لإجماع الأمة على اختيار أبي بكر والعقد له.

(1/373)


أما الخبر؛ فأجاب عنه: بأن الاحتجاج به للعترة أولى لأن قوله: ((من قريش)) يدل على بعض منهم دون كلهم؛ لكون (من) للتبعيض، ولبيان الجنس.
وأما دعوى الإجماع؛ فأجاب عَلَيْه السَّلام عنها: بأنها دعوى باطلة؛ لأن الإجماع لم يقع على إمامة أبي بكر وقتاً واحداً بل وقع النزاع في الابتداء على أبلغ الوجوه وذلك ظاهر.
قال - عَلَيْه السَّلام -: وأما العقد والإختيار فلا يجوز أن يكونا طريقاً إلى الإمامة لكون ذلك بدعة لا دليل على صحتها من عقل ولا سمع، ولأنهما لا يوصلان إلى العلم بصحة الإمامة لمن عقدت له؛ لأن أكثر ما قيل يعقد ويختار خمسة، وليس تجويز نصيحتهم أولى في العقل من تجويز خيانتهم؛ لأنه لا قائل بعصمتهم، ولا مانع من خطئهم كما قد وقع -يعني كما قد أخطأ من قدم المشائخ على علي؛عَلَيْه السَّلام؛-.
قال عَلَيْه السَّلام: ولأن الإمامة مصلحة في الدين، والمصالح غيوب لا يعلمها إلا الله سبحانه؛ فلا يجوز أن تكون الأدلة عليها إلا من جهته سبحانه.
[اعتراضات المخالفين في أدلة إمامة أمير المؤمنين(ع) والجواب عليها]
وأما ما ورد من اعتراضات المخالفين:
فمن ذلك: إذا قيل: إن القول بالنص مطلقاً يقتضي إمامة علي - عَلَيْه السَّلام - والحسن والحسين عَلَيْهما السَّلام في أيام النبي صَلَّى الله عَلَيْه وعلى آله وسَلّم.

(1/374)


الجواب: قال الإمام عَلَيْه السَّلام: أما الاستحقاق للإمامة فهو ثابت في كل وقت، وأما التصرف على الكافة فهو مخصوص بدلالة الإجماع الذي هو آكد الدلالة، ويجوز تخصيص الكتاب والسنة به.
فإن قيل: إن زيد بن حارثة قال لعلي عَلَيْه السَّلام: لست مولاي، فقال النبي صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم: ((من كنت مولاه فعلي مولاه)).
الجواب: قال الإمام - عَلَيْه السَّلام -: هذا اعتراض ظاهر البطلان؛ لأن زيداً - رضي الله عنه - استشهد بمؤتة، والخبر كان في منصرف النبي - صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم - من حجة الوداع.
فإن قيل: يجوز أن يكون المراد بقوله تعالى: {وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ(55)} [المائدة]، أي والركوع من شأنهم لا أن التصدق كان في حال الركوع.
الجواب: قال الإمام - عَلَيْه السَّلام -: لو كان كذلك لم يكن للآية معنى، مثاله: لو قيل: فلان يلقط الرمح من الأرض وهو راكب، ولأنه تعالى خاطب المؤمنين فيجب أن يكون المخاطَب من أجله غيرَ المخاطَب، وإلا كان معنى الآية: إنما وليكم الله ورسوله وأنتم، وذلك مما لا يجوز في كلام المخلوق مثله فضلاً عن الخالق تعالى.
فإن قيل: لو تصدق في حال الصلاة لفسدت.

(1/375)


الجواب: قال الإمام عَلَيْه السَّلام: لو كان مفسداً لصلاته لما مدحه الله سبحانه، ولأنه يجوز أن يكون ذلك قبل النهي عن الأفعال في الصلاة، ويجوز أن يكون ذلك فعلاً قليلاً مما رخص في مثله نحو درء المار وتسوية الثياب والتأخر من صف إلى صف، ويجوز أن يكون ذلك خاصاً له - عَلَيْه السَّلام - لبعض ما يعلمه الله سبحانه من المصالح.
فإن قيل: إن الله سبحانه نهى قبل هذه الآية عن موالاة اليهود والنصارى، ثم عقب ذلك بتولي المؤمنين.
الجواب: قال الإمام عَلَيْه السَّلام: ذلك مما يؤكد قولنا؛ لأن الله تعالى نهى عن موالاة بعض من الخلق مخصوصين، وولَّى على المؤمنين بعضاً منهم مخصوصاً، ذكره بلفظ الجمع للتعظيم.
[الجواب على من قال بلزوم وجوب الإمامة لجميع أولاد أمير المؤمنين(ع)]
فإن قيل: لو صحّ ذلك وما أشبهه من الأدلة للزم وجوب الإمامة لجميع أولاد علي - عَلَيْه السَّلام -.
قال الإمام - عَلَيْه السَّلام -: الجواب عن ذلك من وجهين: جدلي وعلمي.
أما الجدلي: فهو أن أحداً من أولاد علي - عَلَيْه السَّلام - سوى الحسن والحسين - على جميعهم السلام - لم يدعها لنفسه مع بلوغهم الغاية القصوى في الفضل والعلم، وكل دعوى للغير في الشرع لا تسمع إذا كانت من غير ولاية ولا وكالة.

(1/376)


وأما العلمي: فهو أن عموم الآية مخصص بإجماع العترة، وإجماعهم حجة؛ لما ثبت بالدليل من كونهم خيرة الله سبحانه اصطفاهم لإرث كتابه، وللشهادة على الناس، وهو سبحانه لحكمته لا يختار إلا العدول، والعدول لا يقولون إلا الحق، والحق لا يجوز خلافه، [وكلما لا يجوز خلافه] فهو حجة.
[الجواب على من قال: لا يصح إجماع العترة فيما يرجع إليهم]
فإن قيل: لا يصح إجماع العترة فيما يرجع إليهم؛ لأنه يكون مثل شهادة الجارِّ إلى نفسه.
الجواب: قال الإمام - عَلَيْه السَّلام -: ذلك تخصيص بغير دليل، وهو لا يجوز.
قال: ولأن الشاهد لهم بذلك هو النبي - صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم -، ولأنه - صلى الله عليه وعلى آله وسلم- أمر باتباعهم عموماً في الأقوال والأفعال، ولم يخص حالاً من حال، وأمَّن في اتباعهم من مواقعة الضلال.
قال: ولأن هذا الإعتراض يفتح باب الجهالات، ويسد طريقة الإجماع، وذلك باطل؛ لأن أكثر ما أجمعت عليه الأمة إنما وقع في أمور ترجع إليها، فكما لا يجوز الإعتراض بذلك على الأمة لا يجوز على العترة عَلَيْهم السَّلام.

(1/377)


[بيان وجوب اتباع أهل البيت (ع)]
فإن قيل: من أين يجوز لكم إطلاق القول بأنه يجب إتباع أهل البيت - عَلَيْهم السَّلام - وفيهم الظالم لنفسه إما بمعصية ظاهرة، وإما بضلال في الدين كما يقولون فيمن خالفهم.
الجواب: قال الإمام - عَلَيْه السَّلام -: قلنا: جاز ذلك كما جاز إطلاق القول بوجوب اتباع القرآن مع أن فيه المنسوخ والمتشابه.
[وقال - عَلَيْه السَّلام - في موضع غير هذا من الكتاب:] ولأن في الكتاب المحكم والمتشابه والمنسوخ فكذلك فيهم السابق إلى الخيرات، والظالم لنفسه، والمخطئ في التأويل؛ فالسابق بالخيرات هو الإمام ومن اقتدى به منهم؛ وهو بمنزلة المحكم يجب الرجوع إلى أوامره، والإنزجار عن مناهيه، وذلك معنى الإمامة، والظالم لنفسه بمنزلة المنسوخ وهو المصرح بالمعصية، والمخطئ في التأويل هو الداخل في المذاهب الخارجة عن الحق، وهو بمنزلة المتشابه.

(1/378)


[الجواب على من قال بأن الأدلة مقصورةعلى الحسن والحسين وبيان دخول الذرية]
فإن قيل: ما المانع أن تكون الأدلة مقصورة على الحسن والحسين - عَلَيْهم السَّلام -؟
فالجواب: قول الإمام - عَلَيْه السَّلام - بعد استدلاله على ذلك بقول النبي - صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم - لفاطمة - عليها السلام -: ((ائتيني بزوجك وابنيك)) فجاءت بهم؛ فألقى عليهم كساء فدكياً ثم قال: ((اللهم إن هؤلاء آل محمد فاجعل شرائف صلواتك وبركاتك على محمد وعلى آل محمد كما جعلتها على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد)).
ثم قال - عَلَيْه السَّلام -: وأولاد الحسن والحسين -عَلَيْهم السَّلام- داخلون تحت هذا الحكم لثلاثة أوجه:
أحدها: أن أحداً من الأمة لم يفرق بينهم فلا يجوز إحداث الفرق؛ لأنه يكون اتباعاً لغير سبيلهم.
والثاني: إجماع العترة [الطاهرة] - عَلَيْهم السَّلام - على أنهم داخلون تحته.
والثالث: أن إخراجهم من هذا الظاهر يؤدي القائل به إلى الكفر والإلحاد، ولا يبعد الله إلا من كفر.
بيان ذلك: أنا نقول: لأي معنى أخرجتهم؟

(1/379)


فإن قال: لأن النبي - صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم - خص أولئك بالذكر فلا أدخل معهم من لم يذكره - عَلَيْه وآله السَّلام -.
قلنا له: ما ترى في رجل تزوج بنت بنته أو بنت أخيه أو أخته ما يكون حكمه؟
فإن قال: كافراً، صدق لأن الحكم الوارد من الله تعالى ومن رسوله - صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم - يجب طرده ولا يجوز قصره على الإطلاق، وإن قال: مؤمناً مصيباً في فعله -لأن الله تعالى خص البنت والأخت بالذكر، وطرد القول في ذلك حِراسة لمذهبه الفاسد- كفر بإجماع الأمة.

(1/380)


[الجواب على من قال بأن الأمر باتباع أئمة العترة(ع) يكون أمراً بالتقليد]
فإن قيل: الأمر باتباع أئمة العترة [-عَلَيْهم السَّلام-] يكون أمراً بالتقليد.
والجواب: قول الإمام - عَلَيْه السَّلام -: وكيف نرخص في التقليد، ونحن أشد الناس ذماً للمقلدين، فما أمرنا العباد بالرجوع إلينا، واتباع آثارنا، إلا بما أمرهم به أحكم الحاكمين، وذلك ظاهر في قوله: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ(43)} [النحل]، والذكر هو الرسول - صلى الله عليه وعلى آله الطيبين - بدلالة قوله تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ يَاأُولِي الْأَلْبَابِ الَّذِينَ ءَامَنُوا قَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْرًا(10) رَسُولًا...الآية} [الطلاق]، فكان مما تلاه على الكافة من الآيات، وبينه لهم من الدلالات، وأخرجهم به من الظلمات، أَمْرُهُ لهم باتباع عترته، والاقتداء بذريته، وأمّنهم مع التمسك بهم من الضلال، وهو صادق مصدوق، وذلك ثابت فيما رويناه بالإسناد الموثوق به من قوله - عَلَيْه السَّلام -: ((إني تارك فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا من بعدي أبداً: كتاب الله وعترتي أهل بيتي، إن اللطيف الخبير نبأني أنهما لن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض)).

(1/381)


قال - عَلَيْه السَّلام -: وهذا كما ترون أمرٌ للكافة بالاتباع، وردّ على من ادعا من الرفضة والنواصب مفارقة العترة الطاهرة - عَلَيْهم السَّلام - للكتاب.
إلى قوله - عَلَيْه السَّلام -: لما روينا عن آبائنا الطاهرين - سلام الله عليهم - عن جدهم خاتم النبيين، الشفيع المشفع يوم الدين، صلى الله عليه وعلى آله الأكرمين، أنه قال: ((قدموهم ولا تقدموهم، وتعلموا منهم ولا تعلموهم، ولا تخالفوهم فتضلوا، ولا تشتموهم فتكفروا)).قال - عَلَيْه السَّلام -: فهذا تصريح منه - صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم - بما قلنا، وفوق ما قلنا من وجوب اتباعهم، والاقتداء بهم، وأخذ العلم عنهم، وقلة المخالفة لهم، وتحريم الطعن عليهم؛ فكيف يسوغ لمسلم التخلف عنهم، فضلاً عن نسبته نفسه إلى الصواب والوفاق، ونسبتهم بزعمه إلى الخلاف والشقاق، لولا اتباع الهوى، وتغليب جنبة الضلال على جنبة الهدى.
فإن قيل: قد أكثرتم في أمرهم، ونحن نعاين من أكثرهم المعاصي، ومنهم عندكم من هو ضال في الدين؛ فكيف يسوغ لكم تضيفون إليهم أسباب الهدى ووراثة الكتاب.
الجواب: قال الإمام - عَلَيْه السَّلام -: قلنا: هذا سؤال ممن استوضح سلسال فرات الدين من مد بصره ثم قام هناك، ولم يزاحم على شرائعة بمنكبيه؛ لأن ما ذكر لا يخرجهم من ذلك، وكيف يخرجهم والله عز من قائل يقول: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا وَإِبْرَاهِيمَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ فَمِنْهُمْ مُهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ(26)} [الحديد]، ففسق الفاسق كما ترى لم يسقط وجوب الرجوع إلى المهتدي.

(1/382)


وقال عز من قائل: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ} [فاطر:32]، فصرح عز وجل باصطفائه لهم مع أن فيهم الظالم لنفسه؛ لأنه علام الغيوب، وقد ذكره للبيان لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد؛ فقد رأيت تهدم هذا السؤال من كل جانب، بكلام الصادق الذي لا يجوز عليه الكذب.
[الجواب على من قال بأن لفظ عترة النبي(ص) يعم ذريته وغيرهم]
فإن قيل: إن لفظ عترة النبي - صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم - يعم ذريته وغيرهم.
الجواب: قول الإمام - عَلَيْه السَّلام -: كون عترة النبي خاصاً لذريته مجمع عليه، وضم غيرهم إليهم مختلف فيه؛ فالمجمع عليه يجب اتباعه، والمختلف فيه ينتظر الدليل، ولأن أهل الكتب الكبار في اللغة قد ذكروا أن العترة مأخوذة من العتيرة وهي نبت متشعب على أصل واحد شبه به أولاد الرجل وأولاد أولاده لتشعبهم عنه، ولأن اللفظ إذا أطلق سبق إليهم دون غيرهم، وذلك دليل على أنهم عترة النبي - صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم - دون غيرهم؛ فإن عنى بذلك غيرهم كان مجازاً، ولأن إجماعهم منعقد على أنهم عترة النبي - صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم - دون غيرهم.
إلى قوله: وهم ذووا أرحام النبي - صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم - لغة وعرفاً وشرعاً، وقد قال الله تعالى: {وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ} [الأنفال:75]، فهم أولى بالنبي - صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم.

(1/383)


إلى قوله: فهم عترته بهذه الوجوه جميعها، التي يوصل النظر في بعضها إلى العلم؛ فكيف بمجموعها، فقد صار اتباعهم واجباً، وقصر الإمامة فيهم أحد أصول أقوالهم المهمة.
وغيرهم من الأمة وقريش لم يرد في بابهم ما يوصل إلى الظن فضلاً عن العلم، ولأنه قد قيد الخبر في بابهم بقوله - صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم -: ((أهل بيتي)) وحصرهم بما ذكر بلا اختلاف في حديث الكساء، حتى أن أم سلمة - رحمة الله عليها - جاءت لتدخل معهم فدفعها، وقال: ((مكانك وإنك على خير)) ثم قال: ((اللهم إن هؤلاء عترتي أهل بيتي فأذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً)).

(1/384)


ومن احتج بهذا الخبر على وجه من الوجوه لم يفرق بينهم وبين أولاد الحسن والحسين - عَلَيْهم السَّلام - إلى سائر الأعصار، ولم يدخل معهم أحداً من أولاد علي - عَلَيْه السَّلام - ولا غيرهم من بني هاشم، ولولا هذا الخبر وكون أمير المؤمنين علي - عَلَيْه السَّلام - معهم تحت الكساء وإشراك النبي - صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم - له معهم لما قضينا بأن علياً - عَلَيْه السَّلام - من العترة فاستعمال لفظ العترة في أولاد الحسن والحسين - عَلَيْهم السَّلام - حقيقة لما قدمنا، مجاز في أمير المؤمنين - عَلَيْه السَّلام - بدلالة الخبر، وقد صار في علي - عَلَيْه السَّلام - لكثرة الإستعمال حقيقة، وخطاب الحكيم بالمجاز جائز في الحكمة، جواز الخطاب بالحقيقة، وكذلك الكلام في لفظ القربى.
وروي عن النبي - صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم - أنه سئل عن قرابته الذين أمر الله بمودتهم؟ فقال: ((علي وفاطمة وابناهما)).
[ذكر شبهة للإمامية والجواب عليها وذكر بعض الأدلة على بطلان قولهم بالنص]
فإن قال بعض الإمامية: إن إجماع ولد الحسن مع ولد الحسين على جواز قصر الإمامة فيهم معاً، ومخالفة ولد الحسين لولد الحسن في جواز قصرها فيهم خاصة دليل يحج ولد الحسن.

(1/385)


قال الإمام - عَلَيْه السَّلام -: الجواب عن ذلك من وجهين: أحدهما: أن الذي ادعوه من مخالفة ولد الحسين لولد الحسن في ذلك دعوى باطلة يعلم ذلك كل من علم قصص الصدر الأول وأخبارهم نحو قصة محمد بن عبدالله - عَلَيْه السَّلام - ومن اتبعه من ولد الحسين.
والوجه الثاني: أن يجاب عن ذلك بمثل ما يجاب من زعم من اليهود أن إجماعنا معهم على نبوة موسى - صلى الله عليه- ومخالفتهم لنا في نبوة محمد - صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم - دليل على بطلان ما اختلفنا فيه؛ هذا مع ما ذكره - عَلَيْه السَّلام - من الأدلة على بطلان قولهم بالنص.
من ذلك: قوله - عَلَيْه السَّلام -: إنه لا دليل لهم [عليه]؛ لأنه لو كان عليه دليل لاشتهر كما اشتهر الدليل على النص على علي - عَلَيْه السَّلام - وولديه؛ لأن كل تعبد أوجبه الله سبحانه؛ فإنه لا بد أن يكون للمتعبدين طريق إلى معرفة وجوبه، وإلا كان التعبد به تكليفاً لما لا يعلم.
قال: ولأن النص الذي ادعوه لو كان معلوماً لهم كما ادعوا لما اختلفوا فيه كما لم يختلفوا في النص على علي - عَلَيْه السَّلام - وولديه - عَلَيْهما السَّلام -، ولأنهم وصفوا أئمتهم، الذين ادعوا أنه منصوص عليهم، بما لا يجوز أن يوصف به إلا الله سبحانه، وبما لا يجوز إلا للأنبياء - عَلَيْهم السَّلام -، وكل ذلك تعدٍ للحدود.

(1/386)


[حكاية أقوال منتزعة من كتب الإمام المنصور بالله (ع) متضمنة لمدح العترة (ع) وذم من خالفهم]
وأما الفصل الثالث: وهو في حكاية أقوال منتزعة من كتبه(ع) متضمنة لمدح العترة(ع) وذم من خالفهم، وأنكر فضلهم، واستغنى عنهم بغيرهم
فمن ذلك: قوله - عَلَيْه السَّلام - في شرح الرسالة الناصحة: وإذ قد فرغنا من الكلام في بطلان مذاهب المخالفين؛ من الخوارج والمعتزلة والإمامية، ومن انضاف إليهم من شذاذ الأمة، والمنتسبين إليها من الناصبين للإسلام المكائد، بالدخول فيه إيهاماً من غير حقيقة لإظهار الله سبحانه لدينه كما وعد، {عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ} [الصف:9]، {وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ(8)} [الصف]، وكيف يتم مرام الكائدين، وقد جعل الله في كل وقت من الأوقات من أهل بيت نبيه الصادقين، وأتباعهم المستبصرين، - صلوات الله عليهم أجمعين -، من يفل شباهم، ويُخْبِرُ الناس أنباءهم.
وقوله - عَلَيْه السَّلام -: [و]قد فسد القول بجواز الإمامة في جميع الناس، وهو قول الخوارج، وفسد القول بثبوت النص، وهو قول الإمامية ومن تبعها؛ فوجب اعتبار المنصب، وأهل المنصب فرقتان:
فرقة هم القائلون بأن منصبها جميع قريش، وهم المعتزلة ومن طابقهم، وقد تبين فساد قولهم.

(1/387)


وفرقة قالوا: إنها مقصورة في ولد الحسن والحسين - عَلَيْهم السَّلام -، وهم الزيدية الجارودية؛ فلو بطل قولهم أيضاً لخرج الحق عن أيدي جميع الأمة، وذلك لا يجوز لأنهم الأمة المختارة الوسطى، والله سبحانه لحكمته لا يختار من يخرج الحق من يده.
[ذكر أنه لا يمر وقت من الأوقات إلا وفي أهل البيت(ع) من يجب اتباعه ويحرم خلافه]
وقوله - عَلَيْه السَّلام -: واعلم أن مما يجب أن يعلمه كل مسلم أنه لا يمر عصر من الأعصار، ولا وقت من الأوقات، إلا وفيهم من يصلح للإمامة، ويؤهل للزعامة، وأن الأمة إنما أتيت من قبل أنفسها، لا من قبل عترة نبيها - عليه وعليهم أفضل السلام -.
وكيف لا يكونون كذلك وأهل ذلك، وهم أمناء الله في بلاده، وشهوده على عباده، وهم حفظة هذا الدين ورعاته، وأمناؤه وثقاته، وبهم يحرس الله هذه الأمة من عاجل النقمات، وينزل عليهم نافع البركات.
وقوله: انظر أيّدك الله بفكر ثاقب كيف يسوغ إنكار فضل قوم تُبْدأُ بذكرهم الخطب، وتُخْتَمُ بذكرهم الصلاة؛ حتى لا تتم صلاة مسلم إلا بذكرهم، وذكرهم مقرون بذكر الله سبحانه وذكر رسوله - صلى الله عليه وعليهم - أين العقول السليمة والأفكار الصافية من هذا؟

(1/388)


وقد بلغنا عن بعض من ينفي [فضل] أهل البيت – عَلَيْهم السَّلام – أن الحجة إذا لزمته في ذلك ذهب إلى القسم الثالث، وهو الظالم لنفسه، وذكره وأراه العوام، وقال: كيف يجب إتِّباع هذا بل كيف يجوز؟ ليسقط الحجة عنه، وذلك بعيد؛ لأنه لا يجوز مرور وقت من الأوقات، ولا عصر من الأعصار إلا وفيهم – سلام الله عليهم – من يجب اتباعه، ويحرم خلافه من الصالحين، الذين هم أعلام الدين، وقدوة المؤمنين، والقادة إلى عليين، والذادة عن سرح الإسلام والمسلمين، وبهم أقام [الله] الحجة على الفاسقين، ورد كيد أعداء الدين، وهم القائمون دون هذا الدين القويم، حتى تقوم الساعة، ينفون عنه شبه الجاحدين، وإلحاد الملحدين.
وقوله - عَلَيْه السَّلام -: والأصل في تشعب هذه المقالات إهمال العقول، واطراح الدليل، ومخالفة آل الرسول - صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم - في أمر هذه الأمة بالرجوع إلى أهل بيت نبيها الذين شهد لهم بملازمة الكتاب، إلى يوم الحساب، وأخبر أن فيهم العلم والصواب.
[حكم من أنكر فضل أهل البيت(ع)]
وقوله: ومن كان يدعي الإيمان وينكر فضلهم لم يكن له بد من أحد أمرين: إما أن يرجع إلى الحق في اعتقاد تفضيل الله لهم، ووجوب طاعتهم، والانقياد لأمرهم، ولا شك أن الرجوع إلى الحق خير من التمادي في الباطل.
وإما الخروج عن هذه الدعوى الشريفة التي هي الإيمان؛ لأن من خالفهم خرج من زمرة المؤمنين، ولحق بأعداء الله الفاسقين.

(1/389)


وقوله - عَلَيْه السَّلام -: ولا شك في أن إنكار فضلهم، وجحدان شرفهم يكون انسلاخاً عن الدين جملة؛ لأن المعلوم من إجماعهم - صلوات الله عليهم - أنهم أفضل البشر بعد رسول الله - صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم -.
وقوله - عَلَيْه السَّلام -: من أنكر فضل العترة الطاهرين - عَلَيْهم السَّلام - ومفاضلة الله تعالى بين عباده فسق بالاتفاق، ولم يبعد تكفيره لرده نصوص الكتاب العزيز التي لا يصح تأويلها على ذلك إلا بالتعسف.
وقوله: ولولا ادعاء فرعون الربوبية ومظاهرة هامان - لعنهما الله - له على ذلك لكان لقولنا إن منكر فضل آل محمد - صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم - أشد منهما ومن أتباعهما عذاباً مساغٌ في الاستدلال.
وقوله: ولا أتمّ رئاسة، ولا أعظم نفاسة؛ مما حكم الله سبحانه وتعالى به لآبائنا – عَلَيْهم السَّلام -، وأورثنا إياه إلى يوم نشر العظام، من ولاية خاص خلقه والعام، وإلحاق الكفر والفسق بمن أنكر حقنا في ذلك من جميع الأنام.

(1/390)


وقوله - عَلَيْه السَّلام -: أمر النبي - صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم - أمته باتباع عترته المطهرة؛ فخالفوه في ذلك ولهم أتباع في كل وقت يقتفون آثارهم في خلاف العترة الطاهرة حذو النعل بالنعل، بل قد تعدوا ذلك إلى أن قالوا: هم أولى بالحق منهم، واتباعهم أوجب من اتباع هداتهم، فردوا بذلك قول النبي صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم: ((قدموهم ولا تقدموهم، وتعلموا منهم ولا تعلموهم، ولا تخالفوهم فتضلوا، ولا تشتموهم فتكفروا)).
وقوله في جوابه لمن يزعم أنه مماثل للإمام في كثير مما أنعم الله به عليه بعد احتجاجه - عَلَيْه السَّلام - بتفضيل الله سبحانه للذهب على الرصاص ونحو ذلك، ثم عقبه بقوله: وكذلك أنت أيها المخالف الطالب مماثلة العترة الطاهرة بزعمك بما ذكرت من الوجوه الفاتحة باب الجهالات، وإنْ أنعم الله عليك بشيء من نعمه فإن من شكرها ألا تنكر تفضيله لما فضل من خلقه ابتداء، ولمن فضل.
واعلم أن هذه مهواة دحضت فيها قدم إبليس -عليه لعنة الله ولعنة اللاعنين من الملائكة والناس أجمعين- وذلك أنه أنكر تفضيل الله سبحانه لآدم - صلوات الله عليه - ابتداء، وهذا كفر.

(1/391)


إلى قوله - عَلَيْه السَّلام -: فتدبر موفقاً ما ذكرت لك فإنه يفضي بك إلى برد اليقين، ولذة العلم، ويخرجك عن دائرة المقلدين، وأهل الحيرة المتلددين، الذين نبذوا هداتهم، ولم يرضوا بهذه المصيبة حتى أضافوا إليها ما هو أعظم منها وهو أنهم مثلهم، وربما يتعدا ذلك منهم من يختص بضرب من الصفاقة والوقاحة فيركب مركب إبليس - لعنه الله - في أنهم أفضل من أهل عصرهم من عترة نبيهم، ويحتج لذلك بكثرة عبادته كما فعل الملعون.
وقوله: واعلم أن الاستدلال على تفضيل أهل البيت - عَلَيْهم السَّلام - أسقطجميع الأقوال فلا وجه لإفراد كل فرقة منها بالذكر.
[الكلام في تفضيل أهل البيت(ع)]
وقوله - عَلَيْه السَّلام -: ومما يؤيد ذلك ما رويناه بالإسناد الموثوق به إلى النبي - صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم - أنه قال: ((قال لي جبريل -عَلَيْه السَّلام-: طفت مشارق الأرض ومغاربها؛ فلم أر أهل بيت أفضل من بني هاشم)) ولا شك أن النبي - صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم - أفضل بني هاشم؛ فما ظنك بمذهبٍ يؤدي إلى رد شهادة جبريل - عَلَيْه السَّلام -، ثقة الملك الجليل سبحانه وتعالى، وإنكار فضل أفضل الخلق؛ فنعوذ بالله من الزيغ بعد الهدى، وموافقة أسباب الردى.

(1/392)


[ذكر إجماع أهل البيت(ع)أنهم أفضل الناس]
ولأن أهل البيت مجمعون بحيث لا يعلم خلافه أنهم أفضل الناس لولا ذلك لما أوجبوا على الأمة الرجوع إلى أقوالهم، والاقتداء بأفعالهم، وإجماعهم حجة كما قدمنا، وهذا - أعني اعتقاد فضل أهل البيت عَلَيْهم السَّلام - مذهب الزيدية خصوصاً، وطبقات الشيعة عموماً، ولم يعرفوا من بين الفرق إلا بذلك، وبما يؤدي إليه، مما ينبني عليه.
وذلك أنهم اعتقدوا فضل أهل البيت - عَلَيْهم السَّلام - وأخذوا الدين عنهم بالأدلة، وأوجبوا على سائر الخلق مشايعتهم على ذلك؛ فسموا شيعة، وذلك ظاهر، ولأنهم لو لم يعتقدوا فضلهم، لم يصغوا إلى كلامهم، كما فعل غيرهم من الناس، ولا نعلم خلافاً في عموم ذلك فيهم - عَلَيْهم السَّلام - إلا مع الروافض الظالمين، والنواصب الكافرين؛ فنعوذ بالله من حالهم أجمعين.
وقد قال الله تعالى رداً عليهم: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا...الآية} [فاطر:32]، وأهل البيت - عَلَيْهم السَّلام - مجمعون بأنهم المرادون بهذه الآية، وإجماعهم حجة كما قدمنا؛ فأخبر تعالى أنهم صفوته من خلقه، وصفوة كل شيء أفضله، ولذلك قضينا بأنهم أفضل الخلق.

(1/393)


وقوله - عَلَيْه السَّلام -: وقد روينا عن أبينا رسول الله - صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم - أنه قال: ((من كان في قلبه مثقال حبة من خردل عداوة لي ولأهل بيتي لم يرح رائحة الجنة)) ولا نعلم أشد لهم عداوة ولا أعظم مكيدة لدين الله ونبيه - صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم - ممن أنكر فضل عترته وساوى بينهم وبين غيرهم.
وقوله: كيف يكون شيعياً لآل محمد - عَلَيْهم السَّلام - من أنكر فضلهم، وقبس العلم بزعمه من غيرهم.
وقوله: فما ظنك بمن أنكر فضل ثمرةٍ؛ رسولُ الله - صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم - أصلها، وزعم مع ذلك أنه شيعي لها، ما تنفع الدعوى بغير شهود.
وقال - صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم -: ((المرء مع من أحب، وله ما اكتسب)).
إلى قوله: وورود الحوض لا يكون إلا لأتباع آل محمد - صلوات الله عليهم - فهم أشياعهم، ولا يكون ذلك إلا بالإعتراف بفضلهم، ومطابقتهم في قولهم وعملهم واعتقادهم، ولا يرد الحوض إلا من خلصت مودته لهم، ولا تخلص مودة من أنكر فضلهم، وجحد حقهم، وساوى بينهم وبين غيرهم.

(1/394)


وقوله: منكر فضل أهل البيت - عَلَيْهم السَّلام - يشارك قتلة زيد بن علي - عَلَيْه السَّلام - وأصحابه - رضي الله عنهم - في سفك دمائهم ووزر قتالهم؛ لأن علة قتالهم لزيد إنكار فضله وفضل أهل بيته - صلوات الله عليهم - وما أوجب الله على الكافة من توقيرهم، والرجوع إليهم، وأخذ العلم عنهم، والجهاد بين أيديهم.
وقوله - عَلَيْه السَّلام -: لا أعلم لإنكار هذه الفرقة المنتسبة إلى أهل البيت الشريف عند الله في الدنيا والآخرة وجهاً يُصرَفُ إليه إنكارهم لفضلهم -سيما مع إيهامهم للناس أنهم خواصهم وأتباعهم دون غيرهم، حتى إذا نسب إليهم خلافهم لهم ضجوا من ذلك وأنكروه- إلا عجبهم بنفوسهم واستكثارهم لأعمالهم، وقولهم من أطول منا عبادة، وأكثر منا علماً، أو لم يعلموا أن العترة المطهرة التي ملكها الله تعالى أزمتهم، وافترض عليهم الرجوع إليها في جميع الأوقات إلى آخر التعبد، أزكى منهم عبادةً، وأغزر علماً، وأرجح حلماً، وأرصن فهماً؛ فكيف لا يكونون كذلك وأهل ذلك، وهم عترة رسول الله – صلى الله عليه وعليهم – وورثة علمه، وصفوته من خلقه؛ فينتج العُجْب الذي ذكرنا أنه لا فضل إلا بعمل، وهذا كما ترى جهل وقد قدمنا بيانه.
وانضاف إليه اعتقاد فاسد، وهو أنهم أعمل الناس فازدوجا فأنتجا أنهم أفضل الناس ففرحوا بهذه النتيجة وأعجبوا بها، ولم يبلغ فهمهم إلى أن النتائج لا تصح إلا أن تكون مقدماتها صادقة، فإن العجب يحمل صاحبه على دعوى مالم يجعل الله تعالى له.

(1/395)


وقوله: مُتْ غيظاً أيها المخالف إن كنتَ رافضياً لأهل البيت - عَلَيْهم السَّلام - الذين أوجب الله سبحانه عليك الصلاة عليهم في الصلاة، وذكر أبيهم في الأذان، وأوجب عليك مودتهم في القرآن، إلا أن تظلم رسول الله - صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم - أجره على الهدى والبيان، قال الله سبحانه وتعالى: {قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى} [الشورى:23]، وقال لنبيه - صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم -: {وَءَاتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ} [الإسراء:26]، فآتاهم الخمس عوضهم الحكيم سبحانه إياه عن الزكاة، فعلم الناس مراد الحكيم في المودة مع أنهم قد سألوه مَنْ قرابته الذين أمرهم الله تعالى بمودتهم؛ فقال: ((فاطمة وأبناؤها)).
والرافضي عند أهل البيت - عَلَيْهم السَّلام -: هو منكر فضلهم، وجاحد حقهم، كما أن الناصبي عندهم: من حاربهم لا يجهل ذلك أحد منهم، ولا من أتباعهم البررة العلماء - عَلَيْهم السَّلام وعلى أتباعهم الرحمة -.

(1/396)


وقوله: ألا ترى أن العترة إذا أجمعت على حكم من الأحكام، وخالفهم فيه جميع الخلق لم يسغ لهم خلافهم عند أهل البصائر، وردتهم الأدلة إليهم صاغرين، ومتى أجمعت الأمة أسودها وأحمرها وخالفهم واحد من أهل البيت - عَلَيْهم السَّلام - على قول ساغ له خلافهم ولم تصح [دعوى] ادعاء الإجماع في تلك المسألة على قول الكافة، وهذا غاية الاختصاص بالشرف الكبير، والتمييز بالفضل العظيم.
وقوله في شرح الرسالة الناصحة: فإن قيل: إن إنكار الفضل للنسب هو قول الشيخ، وهو عابد كما تعلمون. قلنا: نوم النبي - صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم - خير من عبادته، وقوله - صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم - أولى بالاتباع من قوله، وقد قال تعالى: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ} [النور:63]، وخوفنا من مخالفة النبي - عَلَيْه السَّلام - ومخالفة عترته، ولم يخوفنا من مخالفة الشيخ ولا غيره، ممن تنكب منهاجهم؛ لأن النبي - صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم - كان لا يقول شيئاً من تلقاء نفسه، وإنما يقول ما أوحي إليه من ربه، وقد قال تعالى: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى(3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى(4)} [النجم]، والشيخ قال ما قال من تلقاء نفسه.

(1/397)


وقوله في الرسالة الناصحة للإخوان، بعد ذكره لشروط الاجتهاد، وشروط من يصح أن يجتهد: وأهل البيت - عَلَيْهم السَّلام - أحق بذلك؛ لأن الرجوع إليهم واجب لما ظهر من الأدلة بما قدمنا، ولأن اتباع آحادهم من العلماء، تكون النفس إليه أسكن، والظن لإصابته أغلب، والدليل على وجوب اتباع الإمام منهم قائم، وهو الأمر بطاعته في قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} [النساء:59]، وأولوا الأمر هم الأئمة - عَلَيْهم السَّلام -.
وقوله تعالى: {وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ} [النساء:83]، والطاعة تشمل ذلك، وقد أمر بالرد إليه، والأمر يقتضي الوجوب.
ولأن قضاياه أحكام، وقضايا غيره فتاوى، والحكم يسقط الفتوى؛ فإن كان وقت فترة فاتباع عالمهم أولى.

(1/398)


وقوله في شرح الرسالة الناصحة: واعلم أن من تأمل في أحد الأدلة فضلاً عن مجموعها إما في دلالة العقل، أو في كتاب الله سبحانه، أو في سنة الرسول، أو في إجماع الأمة، أو العترة، أو تتبع أقوال الأئمة - عَلَيْهم السَّلام - علم صدق ما قلناه، ولكن وأين من يترك يصل إلى ذلك، ويمنعه [من] ذلك إيجاب الرجوع إلى قول الشيخ.
وقوله: للدين قواعد لا يستقيم إلا عليها، وغايات لا ينتهي إلا إليها، [و]تفضيل أهل البيت - عَلَيْهم السَّلام - قواعده، والاقتداء بهم غاياته؛ فمن بنى على غير قاعدة انهار بناؤه، وتهافتت أركانه، ومن جاوز الغاية ضل سعيه، وكانت النار سبقته.
وقوله: فأعداء أهل البيت - عَلَيْهم السَّلام - الذين كانوا ربما اعترفوا بفضلهم في بعض الحالات يكونون أهون جرماً ممن ظاهره الدين، وباطنه الانتقاص لعترة محمد خاتم النبيين - صلوات الله عليه وعليهم أجمعين -.
ألا ترى أن من ناصبهم من بني أمية وبني العباس، لم يمكنهم صرف بواطن الناس، عن هذه العترة الطاهرة، ولا أنس الناس بهم في ذلك، وظاهرهم الحرب [لهم] والعداوة فكلامهم فيهم غير مستمع، ومنكر فضلهم ممن ظاهره التقشف والإسلام والعبادة قد غر الناس بعبادته فصرفهم عن عترة نبيهم - صَلَّى الله عَلَيْه وعليهم- باعتقاده، فهو فتنة لمن اغتر به، ضال عن رشده؛ فكيده حينئذ يكون أعظم من كيدهم، وجرمه عند الله أكبر من جرمهم.

(1/399)


وقد روي عن أمير المؤمنين - صلوات الله عليه - أنه قال: (قطع ظهري اثنان: عالم فاسق يصد الناس عن علمه بفسقه، وذو بدعة ناسك يدعو الناس إلى بدعته بنسكه).
[بيان الشيء الذي يجب عليه حمل كلام الأئمة(ع)]
وقوله - عَلَيْه السَّلام -: ربما احتجوا بقول يضيفونه إلى بعض آبائنا - عَلَيْهم السَّلام - جهلاً بأحكام الإضافة، وهو لم يصح، وإن صح وجب تأويله على موافقة كتاب الله تعالى وسنة رسوله - صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم -، وحجج العقول.
إلى قوله: فهذا الذي يجب عليه حمل كلام الأئمة - عَلَيْهم السَّلام - لئلا تتناقض حجج الله وبيناته، وينسب إلى أئمة الهدى - عَلَيْهم السَّلام - مخالفة نصوص الكتاب، وأدلة العقول.
[قول الإمام (ع) أن المفرق بين العترة الهادين كالمفرق بين النبيين]
وقوله في الشافي: ألم تعلم أن المفرق بين العترة الهادين كالمفرق بين النبيين.
وقوله - عَلَيْه السَّلام -: كيف تخالف الذرية أباها، وقد شهد لهم النبي - صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم - بالاستقامة بقوله: ((إنهما لن يفترقا حتى يردا علي الحوض)).

(1/400)


[بيان اعتقاد أهل البيت(ع) في أبي بكر وعمر وعثمان]
وقوله: اعلم أن كافة أهل البيت الطاهرين، ذرية خاتم النبيين - صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم -، يدينون ويعتقدون أنه لا نجاة لأبي بكر وعمر وعثمان إلا بخلوص ولايتهم فيهم؛ لأن الله تعالى أوجب محبتهم على جميع المكلفين وهم منهم.
وقوله: لو لم يتقلد الأمر أبو بكر ما تأهل له عمر، ولو لم يتقلده عمر ما طمع فيه عثمان، ولولا تقلده عثمان لم يطمع فيه معاوية ومن تبعه من جبابرة بني أمية، ولولا أخذه جبابرة بني أمية ما تقلده بنو العباس.
وقوله في شرح الرسالة الناصحة: ولم يعلم بين هذه العترة الطاهرة اختلاف في ثبوت الإمامة لمن قام من [ولد] أحد البطنين الطاهرين الحسن والحسين - عَلَيْهم السَّلام - وهو جامع لخصال الإمامة إلى أيام المأمون، وتصنع في عمل مذهب الإمامية يريد بذلك تفريق الشيعة والعترة، وأطلق الأموال الخطيرة، لمن يعلم منه الإلحاد، وشدة كيد الإسلام؛ فصنفوا في ذلك كتباً ظاهرة السقوط والبطلان.
[جواب للإمام(ع) عمن سأله عن حكم من قال: أنا أقدم علياً (ع) وأرضَّي عن المشائخ وهل تجوز الصلاة خلفه؟]
وقوله - عَلَيْه السَّلام - في بعض أجوبته الموجودة بخطه: وسألتَ عمن يرضّي عن الخلفاء، ويحسن الظن فيهم وهو من الزيدية، ويقول: أنا أقدم علياً - عَلَيْه السَّلام - وأرضي عن المشائخ ما يكون حكمه، وهل تجوز الصلاة خلفه؟

(1/401)


الجواب عن ذلك: أن هذه مسألة غير صحيحة فيتوجه الجواب عنها؛ لأن الزيدية على الحقيقة هم الجارودية، ولا يعلم في الأئمة -عَلَيْهم السَّلام - من بعد زيد بن علي - عَلَيْه السَّلام - من ليس بجارودي، وأتباعهم كذلك، وأكثر ما نقل وصحّ عن السلف هو ما قلنا [من التوقف] على تلفيق واجتهاد، وإن كان الطعن والسبّ من بعض الجارودية ظاهراً، وإنما هذا رأي المحصلين منهم، وإنما هذا القول قول بعض المعتزلة يفضلون علياً - عَلَيْه السَّلام - ويترضون عن المشائخ؛ فليس هذا يطلق على أحد من الزيدية.
ولأنا نقول: قد صح النص على أمير المؤمنين - عَلَيْه السَّلام - من الله و[من] رسوله - صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم - وصحت معصية القوم وظلمهم وتعديهم لأمر الله سبحانه، وإن كانت جائزة المعصية والترضية فما أبعدَ الشاعرُ في قوله:
[إن كان يجزى بالخير فاعله.... شراً ويجزى المسيء بالحسن]
فويل تالي القرآن في ظلم الليـ.... ـل وطوبى لعابد الوثن
ومن حاله ما ذكرت لا يعد في الزيدية رأساً، وإنما هذا [القول] قول بعض المعتزلة، وصاحب هذا القول معتزلي لا شيعي، ولا زيدي..إلى قوله: والاحتراز من الصلاة خلف من يقول بذلك أولى.

(1/402)


[ذكر جملة ما حكاه الإمام المنصور بالله (ع) من أقوال فضلاء العترة في مدح العترة وذم مخالفهم]
وأما الفصل الرابع: وهو في ذكر جملة مما حكاه من أقوال فضلاء العترة في معنى ذلك
[كلام أمير المؤمنين(ع) في الحض على التمسك بأهل البيت(ع)]
فمن ذلك: حكايته في شرح الرسالة الناصحة عن أمير المؤمنين - عَلَيْه السَّلام - أنه قال: (أيها الناس، اعلموا أن العلم الذي أنزله الله على الأنبياء من قبلكم في عترة نبيكم، فأين يتاه بكم عن علم تنوسخ من أصلاب أصحاب السفينة، هؤلاء مثلها فيكم، وهم كالكهف لأصحاب الكهف، وهم باب السلم فادخلوا في السلم كافة، وهم باب حطة من دخله غفر له؛ خذوها عني عن خاتم المرسلين حجة من ذي حجة قالها في حجة الوداع: ((إني تارك فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا من بعدي أبداً: كتاب الله وعترتي أهل بيتي، إن اللطيف الخبير نبأني أنهما لن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض))).

(1/403)


[كلام فاطمة(ع) الذي لقِيَت الله تعالى عليه في مدح العترة وذم مخالفيهم]
وحكايته في الشافي لكلام فاطمة - عليها السلام - مع من زارها من نساء المهاجرين والأنصار، الذي منه قولها: (أصبحت والله عائفة لدنياكم، قالية لرجالكم، شنئتهم بعد أن سبرتهم، ولفظتهم بعد إذ عجمتهم، فقبحاً لفلول الحد، وخور القناة، وخطل الرأي، وبئس ما قدمت لهم أنفسهم أن سخط الله عليهم وفي العذاب هم خالدون، ويحهم لقد زحزحوها عن رواسي الرسالة، وقواعد النبوة، ومهبط الروح الأمين، والطيبين لأهل الدنيا والدين، وما نقموا من أبي حسن؟
إلى قولها: (ولكن كذبوا وسيعذبهم الله بما كانوا يكسبون، ألا هلممن فاسمعن وما عشتن أراكن الدهر عجباً، إلى أي ركن لجأوا، وبأي عروة تمسكوا؛ لبئس المولى ولبئس العشير، وبئس للظالمين بدلاً، استبدلوا والله الذنابى بالقوادم، والعجز بالكاهل، وبعداً وسحقاً لقوم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً ألا إنهم هم المفسدون ولكن لا يشعرون).
قال الإمام - عَلَيْه السَّلام -: فهذا قول فاطمة - عليها السلام - الذي لقيت عليه الله سبحانه؛ فلم نتعد طريقة من يجب الاقتداء به من الآباء والأمهات - عَلَيْهم السَّلام -.

(1/404)


[كلام الإمام الحسين(ع) مع أعوان عمر بن سعد من أهل الكوفة]
وحكايته - عَلَيْه السَّلام - في شرح الرسالة الناصحة لكلام الحسين بن علي - عَلَيْه السَّلام - مع أعوان عمر بن سعد من أهل الكوفة في اليوم الذي استشهد فيه رحمه الله الذي منه قوله: (تباً لكم أيتها الجماعة وترحاً، أحين استصرختمونا ولهين متحيرين؛ فأصرخناكم موجزين مستعدين، سللتم علينا سيفاً في رقابنا، وحششتم علينا نار الفتن جناها عدوكم وعدونا، فأصبتحم إلباً على أوليائكم، ويداً عليهم لأعدائكم، بغير عدل أفشوه فيكم، ولا أمل أصبح لكم فيهم، إلا الحرام من الدنيا أنالوكم، وخسيس عيش طمعتم فيه، من غير حدث كان منا، ولا رأي يقيل، فهلا لكم الويلات تجهمتمونا والسيف لم يشهر، والجأش طامن، والرأي لم يستخف، لكن أسرعتم إلينا كطيرة الذباب، وتداعيتم كتداعي الفراش؛ فقبحاً لكم وترحاً فإنما أنتم من طواغيت الأمة، وشذاذ الأحزاب، ونبذة الكتاب، ونفثة الشيطان، وعصبة الآثام، ومحرفي الكتاب، ومطفئي السنن، وقتلة أولاد الأنبياء، ومبيدي عترة الأوصياء).

(1/405)


[جواب الإمام علي بن الحسين (ع) في محضر جماعة من أهل بيته على أبي الجارود التميمي عندما سأله كيف أصبحتم؟]
وحكايته عن زين العابدين علي بن الحسين - عَلَيْهما السَّلام - التي هي قوله: فلو لم يكن من ذلك إلا ما روينا بالإسناد الموثوق به إلى [ابن] الجارود التميمي رحمة الله عليه أنه قال: دخلت المدينة؛ فإذا أنا بعلي بن الحسين وجماعة أهل بيته وهم جلوس في حلقة فأتيتهم فقلت: السلام عليكم يا أهل بيت الرحمة ومعدن الرسالة ومختلف الملائكة، كيف أصبحتم رحمكم الله؛ فرفع رأسه إلي فقال: أو ما تدري كيف نمسي ونصبح، أصبحنا في قومنا بمنزلة بني إسرائيل في آل فرعون يذبحون الأبناء ويستحيون النساء، وأصبح خير الأمة يشتم على المنابر، وأصبح من يبغضنا يعطى الأموال على بغضنا، وأصبح من يحبنا منقوصاً حقه - أو قال: حظه - أصبحت قريش تفتخر على العرب بأن محمداً - صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم - كان قرشياً، وأصبحت العرب تفتخر على العجم بأن محمداً - صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم - كان عربياً؛ فهم يطولون بحقنا، ولا يعرفون لنا حقاً؛ اجلس أبا عمران فهذا صباحنا من مسائنا.
قال الإمام - عَلَيْه السَّلام -: فهذا كما ترى تصريح من علي بن الحسين - عَلَيْه السَّلام - في محضر جماعة أهل بيته - قدس الله أرواحهم - بأنهم أفضل الخلق بنسبهم إلى رسول الله - صلى الله عليه وعليهم - وذلك طريق معرفة الإجماع.

(1/406)


ولأن علي بن الحسين - عَلَيْه السَّلام - قدوة وإن انفرد وحده، ولأنه - عَلَيْه السَّلام - قد أكد ذلك بإجماع الكافة من العرب وقريش بادعاء الشرف والفخر بالقرب إلى رسول الله - صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم - وأهل بيته أقرب من الكافة إليه - صلى الله وملائكته عليه وعليهم -.
[جواب الإمام زيد بن علي(ع) على هشام بن عبدالملك لما افتخر ببني أمية]
وحكايته عَلَيْه السَّلام في الشافي لجواب زيد بن علي عَلَيْه السَّلام لهشام بن عبد الملك لما افتخر ببني أمية وهو قوله: (على من تفتخر؟؛ على هاشم أول من أطعم الطعام، وضرب الهام، وخضعت له قريش بإرغام؟؛ أم على عبد المطلب سيد مضر جميعاً؟؛ وإن قلت: معد كلها صدقت، كان إذا ركب مشوا، وإذا انتعل احتفوا، وإذا تكلم سكتوا، وكان يطعم الوحش في رؤوس الجبال، والطير والسباع والإنس في السهل، حافر بير زمزم، وساقي الحجيج، ربيع العمرتين؛ أم على بنيه أشرف رجال؟؛ أم على سيد ولد آدم رسول الله -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم-؟؛ حمله الله على البراق، وجعل الجنة بيمينه، والنار بشماله، فمن تبعه دخل الجنة، ومن تأخر عنه دخل النار، أم على أمير المؤمنين وسيد الوصيين علي بن أبي طالب أخي رسول الله -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم - وابن عمه، المفرج الكرب عنه وأول من قال: لا إله إلا الله بعد رسول الله - صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم -؟ لم يبارزه فارس قط إلا قتله، وقال فيه رسول الله صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم ما لم يقل في أحد من أصحابه، ولا لأحد من أهل بيته.

(1/407)


[كلام الإمام محمد بن عبدالله النفس الزكية (ع) في أمر الوصي (ع) والمشائخ]
وحكايته - عَلَيْه السَّلام - عن محمد بن عبدالله النفس الزكية - عَلَيْه السَّلام - لكلام منه قوله: (فنظر علي - عَلَيْه السَّلام - للدين قبل نظره لنفسه؛ فوجد حقه لا ينال إلا بالسيف المشهور، وتذكر ما هو به من حديث عهد بجاهلية فكره أن يضرب بعضهم ببعض؛ فيكون في ذلك ترك الألفة فأوصى بها أبو بكر إلى عمر عن غير شورى ؛ فقام بها عمر وعمل في الولاية بغير عمل صاحبه، وليس بيده فيها عهد من رسول الله - صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم -، ولا تأويل من كتاب الله، إلا رأي توخَّاه هو فيه مفارق لرأي صاحبه، جعلها بين ستة ووضع عليهم آمراً أمرهم إن هم اختلفوا أن يقتل الأول من الفتية، وصغروا من أمرهم ما عظم الله، وصاروا سبباً لولاة السوء، وسدت عليهم أبواب التوبة، واشتملت عليهم النار بما فيها، والله جل ثناؤه بالمرصاد، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم).

(1/408)


[بعض من جواب الإمام يحيى بن عبدالله (ع) على هارون]
وحكايته - عَلَيْه السَّلام - لجواب يحيى بن عبدالله - عَلَيْه السَّلام - لهارون الذي منه قوله: (وإن أعش فمدرك ثأري، داعياً إلى الله سبحانه على سبيل الرشاد أنا ومن اتبعني، نسلك قصد من سلف من آبائي وإخوتي وإخواني، القائمين بالقسط الدعاة إلى الحق، وإن أمت فعلى سنن ما ماتوا غير راهب لمصرعهم، ولا راغب عن مذهبهم؛ فلي بهم أسوة حسنة، وقدوة هادية؛ فأول قدوتي منهم أمير المؤمنين رضوان الله عليه إذ كان ما زال قائماً وقت القيام مع الإمكان حتماً، والنهوض لمجاهدة الجبارين فرضاً؛ فاعترض عليه من كان كالظلف مع الخف، ونازعه من كان كالظلمة مع الشمس، فوجدوا لعمر الله من حزب الشيطان مثل من وجدت، وظاهرهم مثل من ظاهرك، وهم لمكان الحق عارفون، ولمواضع الرشد عالمون، فباعوا عظيم أجر الآخرة بحقير عاجل الدنيا، ولذيذ الصدق بغليظ مرارة الإفك، ولو شاء أمير المؤمنين لهدأت له، وركنت إليه، بمحاباة الظالمين، واتخاذ المضلين، وموالاة المارقين، ولكن أبى الله ورسوله أن يكون للخائنين متخذاً، وللظالمين موالياً، ولم يكن أمره عندهم مشكلاً؛ فبدلوا نعمة الله كفراً، واتخذوا آيات الله هزواً، وأنكروا كرامة الله، وجحدوا فضيلة الله، فقال رابعهم: أنى تكون لهم الخلافة والنبوة حسداً وبغياً؛ فقديماً ما حُسِد النبيون وأبناء النبيين الذين اختصهم الله بمثل ما اختصنا؛ فأخبر تبارك وتعالى فقال: {أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا ءَاتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ ءَاتَيْنَا ءَالَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَءَاتَيْنَاهُمْ مُلْكًا عَظِيمًا(54)} [النساء]، فجمع لهم المكارم والفضائل، والكتاب والحكمة والنبوة والملك العظيم).

(1/409)


[كلام الإمام القاسم بن إبراهيم (ع) في التفضيل]
وحكايته - عَلَيْه السَّلام - في شرح الرسالة الناصحة عن القاسم بن إبراهيم - عَلَيْه السَّلام - أنه قال في أول كتاب تثبيت الإمامة:(الحمد لله فاطر السماوات والأرض، مفضل بعض مفطورات خلقه على بعض، بلوى منه تعالى للفاضلين بشكره، واختباراً للمفضولين بما أراد في ذلك من أمره؛ ليزيد الشاكرين في الآخرة بشكرهم من تفضيله، وليذيق المفضولين بسخط إن كان ذلك منهم من تنكيله، ابتداء في ذلك للفاضلين بفضله، وفعلاً فعله بالمفضولين عن عدله؛ [و]لقوله جل ثناؤه، وتباركت وتقدست أسماؤه: {لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ(23)} [الأنبياء].
قال الإمام - عَلَيْه السَّلام -: فهذا تصريح منه - عَلَيْه السَّلام - بالمفاضلة منه بين خلقه، وبأنه ابتدأهم بذلك، وبأنه أوجب على الفاضلين الشكر، وعلى المفضولين الصبر، وأن المفضولين إن سخطوا حكمه وقسمه في ذلك نكلهم، وأن الفاضلين إن شكروا زادهم في الآخرة، وأعطاهم ثواب الشاكرين، وهذا مذهبنا بغير زيادة ولا نقصان، قد أجمله - صلوات الله عليه - في هذا الفصل، والحمد لله الذي جعلنا من ذريته، وهدانا لسلوك منهاجه.
فالواجب على العاقل إنصاف نفسه، وتصفح قول هداته وأئمته، وإمعان النظر في كتاب ربه، والاقتداء بالمستحفظين من عترة نبيه - صلى الله عليه وعليهم أجمعين -.

(1/410)


وحكايته - عَلَيْه السَّلام - لمثل ذلك عن محمد بن القاسم - عَلَيْه السَّلام - التي عقبها بقوله: وما حكيناه عن محمد بن القاسم - عَلَيْه السَّلام - مذكور في سيرة الهادي - عَلَيْه السَّلام - وقد كان في قول القاسم - عَلَيْه السَّلام - كفاية، ولكنا أردنا مظاهرة أقوال آبائنا - عَلَيْهم السَّلام - ليعلم المستبصر اللبيب أنى على منهاجهم نلقطه لقطاً، وأن من انتسب إلى آبائنا - عَلَيْهم السَّلام - ورفضنا جعل ذلك تدليساً لأمره، وتلبيساً على العوام بمكره، وأنه كما خالفنا، هو أيضاً مخالف لآبائنا - عَلَيْهم السَّلام -، وإنما انتسب إليهم إلحاداً في الدين، وتمويها على ضعفة المسلمين.
[حكاية الإمام(ع) لقول الإمام الهادي(ع) بالتفضيل]
وحكايته - عَلَيْه السَّلام - عن الهادي إلى الحق يحيى بن الحسين - عَلَيْه السَّلام - لما ذكر في كتاب الفوائد من مفاضلة الله سبحانه بين الأجسام، وكذلك ما ذكر - عَلَيْه السَّلام - في كتاب الشريعة من اعتبار الكفاءة في النسب ثم عقب ذلك - عَلَيْه السَّلام - بقوله: وذلك مذهبه - عَلَيْه السَّلام - ومذهب الأئمة من أولاده - عَلَيْهم السَّلام - إلى يومنا هذا، وفيه دلالة واضحة لمن أنصف عقله؛ لأن الناس لو كانوا عنده – عَلَيْه السَّلام – على سواء لم يعتبر إلا كفاءة الدين؛ فظهور فساد قول من يزعم أن الناس لا تفاضل بينهم، وأن الله تعالى لم يفاضل بين خلقه معلوم لكل من لم يتخذ إلهه هواه.

(1/411)


[تصريح المرتضى لدين الله محمد بن يحيى(ع) بأن إجماع العترة منعقد على أنهم أفضل الخلق]
وحكايته - عَلَيْه السَّلام - عن المرتضى لدين الله محمد بن يحيى - عَلَيْه السَّلام - أنه قد صرح في مسائله بأن إجماع العترة - عَلَيْهم السَّلام - منعقد على أنهم أفضل الخلق، وأن الواجب على جميع أهل الملل الرجوعُ إليهم، والانقيادُ لأمرهم.
قال الإمام - عَلَيْه السَّلام -: ولا إشكال فيه فيحتاج إلى ذكر مواضعه.
[رسالة الإمام القاسم بن علي العياني (ع) إلى أهل طبرستان]
وحكايته - عَلَيْه السَّلام - لرسالة القاسم بن علي العياني - عَلَيْه السَّلام - إلى أهل طبرستان التي منها قوله: (أصل التأويل أول الخبال، والاختلاف في الأئمة أول الضلال، والاعتماد على غير العترة أول الوبال، أصل العلم مع السؤال، وأصل الجهل مع الجدال، العالم في غير علمنا، كالجاهل بحقنا، الراغب في عدونا، كالزاهد فينا، المحسن إلى عدونا، كالمسيء إلينا، الشاكر لعدونا، كالذام لنا، المتعرض لنحلتنا، كالعادي علينا، معارضنا في التأويل، كمعارض جدنا في التنزيل، الراعي لما لم يسترعَ، كالمضيع لما استرعي، القائم بما لم يُسْتَأمن عليه، كالمتعدي فيما استحفظ، الخاذل لنا، كالمعين علينا، المتخلف عن داعينا، كالمجيب لعدونا، معارضنا في الحكم، كالحاكم بغير الحق، المفرق بين العترة الهادين، كالمفرق بين النبيين، هاهنا أصل الفتنة يا جماعة الشيعة.

(1/412)


قال الإمام - عَلَيْه السَّلام - وأقول صدق - صلى الله عليه - إن أصل الفتنة التفريق بين العترة - عَلَيْهم السَّلام -.
[استدلال الإمام الحسين بن القاسم العياني(ع) على حصر الإمامة من جهة العقل]
وحكايته - عَلَيْه السَّلام - لكلام الحسين بن القاسم العياني - عَلَيْه السَّلام - الذي منه بعد استدلاله على حصر الإمامة من جهة العقل، قوله: فمن هاهنا وجب أن تكون الإمامة في أهل بيت معروفين، وبالفضل والشرف مخصوصين.
وأما في الكتاب فقول الله سبحانه: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا(33)} [الأحزاب]، وقوله سبحانه لنبيه - صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم -: { قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى } [الشورى:23]، فافترض سبحانه مودة ذوي القربى من رسوله؛ فيا أيها الأمة الضالة عن سبيل رشدها، الجاهدة في إهلاك أنفسها، أمرتم بمودة آل النبي -صلى الله عليه وعليهم- أم فرض عليكم مودة تيم وعدي؟؛ ومن الذين أذهب الله عنهم الرجس إلا الذين أمرتم بمودتهم من ذوي القربى من آل نبيكم.
فهذه بحمد الله حجج واضحة منيرة لا تطفى، وشواهد مشهورة لا تخفى، إلا على مكابر عمي، أو شيطان غوي، قد كابر عقله، ورفض لبه).

(1/413)


قال الإمام - عَلَيْه السَّلام -: هذا كلامه - صلوات الله عليه - وقد تقدم ما ذكرنا في ذلك من كلام الله سبحانه، وكلام رسوله - صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم -، وأقوال أولاده الأئمة السابقين -عليهم سلام رب العالمين - وتركنا من ذلك الأكثر لعلمنا أن في دون ما أوردناه كفاية لمن نظر بعين البصيرة، وانقاد لحكم الضرورة.
[تفسير الإمام أبي الفتح الديلمي(ع) لقوله تعالى: {وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ}]
وحكايته - عَلَيْه السَّلام - عن الإمام أبي الفتح بن الحسين الديلمي - عَلَيْه السَّلام - أنه قال في تفسير قول الله سبحانه وتعالى: {وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ} [البقرة:27]، هم الذين لا يوجبون محبة آل محمد - صلى الله عليه وعليهم - وينكرون فضلهم.
قال الإمام - عَلَيْه السَّلام -: وهذا معنى قويّ عندنا، وبه نقول، والله أعلم، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وسلم تسليماً كثيراً.
***********

(1/414)


جواب المسائل الشتوية والشبه الحشوية
تأليف/ الشريف حميدان بن يحيى -عَلَيْه السَّلام-
[بيان الحامل له على الجواب]
لما وصل كتاب الشيخ الفقيه، تأملت [جميع] ما أودع فيه، وجدته مشتملاً على التعريض للمشاعرة، والتحدي بالمناظرة، مع ما فيه من الإغلاظ في الأذيّة، ومن الألفاظ الركيكة والمعاني الردية، فاعتمدت على ذكر بعض معاني ألفاظه، وتركت المكافاة على قبيح أغلاطه، وابتدأت قبل إجابة ما أوردت من مسائله؛ بذكر معاني أبيات من شعره الدال على فضائله، وأول ما أتى به قبل ذلك في كتابه؛ قوله: المماليك الشيعة الزيدية المنصورية.
أقول: وكيف يكون شيعياً من لا يباري رفضة علي -عَلَيْه السَّلام-، وجحدة النص والفضل، ومنصب الإمام ؟! وكيف يكون زيدياً من لا يعتقد صحة ما ذكر زيد بن علي -عَلَيْهما السَّلام- في كتاب الصفوة في الإمامة، ويصدق ما في رسالته التي هي إلى كافة علماء العامة ؟ وكيف يكون منصورياً من لا يعتمد على ما ذكر المنصور بالله -عَلَيْه السَّلام- في رسالته الناصحة، وأشباهها من سائر تصانيفه الباهرة الواضحة؟
وأما الأبيات فمنها قوله:
سلامٌ على أبناءِ فاطمة الزهرا.... على أهلِ عليينَ والعترةِ الغرى
على مَنْ حكى جبريلُ إذ طافَ أفقها.... فلم ير إنساناً بفضلهم أحرى

(1/415)


إن كان قصد بذلك السلام على الأمير، فلم لم يعينه بلفظ شهير؟، وإن كان قصد به جميع العترة؛ فقد دخل فيه كل من يكره، وإن أضمر أنه قصد به بعض الغابرين، فذلك دليل على بغضه لكل الحاضرين، وإن صح ما حكاه عن جبريل، فما حكم من يفضل المعتزلة على الأئمة بغير دليل؟
وقوله:
أتانا حديثٌ أنكرته قلوبنا.... وأسماعنا مجته لما يلج نقرا
هل يحسن لمن زعم أنه لا يبارى في العلم، ولا يجارى في دقة النظر والفهم، أن يعبر بالنقر عن الأسماع، وأن يحكي إنكار قلبه لما يعلمه من جهة السماع؟!
وقوله:
وإلا فقل لي لا مساس ونادني.... يجبك شبيب تحته سبحة شقرا
هل يجوز أن يتشبه أحد من الأمة بالسامريين؟ إلا من أشبه رفضه هارون من رفضه علي أمير المؤمنين، وهل يحسن أن يتشبه في العلم بشبيب، فدم لا يحسن أن يسأل أو يجيب؟
وقوله:
ثلاثون ألفاً كان تحت لوائه.... من اشياع زيد صار عسكره صفرا
هل يجوز في هذا البيت أن يوجد كان، أو أن يجعل العسكر كظرف المكان؟
وقوله:
وتاب فلم تُقْبل له قط توبة.... فأسبل دمعاً بعدنا يشبه القطرا
هل يجوز أن يفتخر بترك قبول التوبة أحد من المسلمين، أو يوهم أنه كان مشاهداً لوقعات المتقدمين؟
وقوله:
ولولا أخو همدان جارت على الورى.... أساطيره اللاتي سطرن به سطراً
هلا بين أخو همدان لقبه، وعين للناس نسبه، فيبين لعارفيه، أنه الذي قال الإمام فيه:
حفاظ أكارم عافوا الدنايا.... وخافوا قول حاسدهم أضيعا

(1/416)


وسبب ذلك أن أخا همدان نظم شعراً هجا به الأمراء الحمزيين، وذكر فيه أنهم ضيعوا حي الأمير مجدالدين، فأمر الإمام -عَلَيْه السَّلام- بأن يعارض شعره، وكان مما عارضه به ما تقدم ذكره، فانظر كيف جعله من جملة الحاسدين، فضلاً عن أن يكون من العلماء المجاهدين.
وأما قوله عقيب ذلك:
ولكنه قد قام لله جاهداً.... ولم يبتغ إذ قام من أحد أجرا
فأين بلغ باجتهاده، وهل هو إنفاقه أو جلاده، فأما افتخاره بالمبالغة في السباب، فليس ذلك من شيم ذوي الحلوم والآداب.
وأما مسائله:
فالأولى: ما يرى الناقل عنا ما لم نقل في حقيقة الإمام هل هو الشخص الجامع للرئاسة على الخلق في الدين والدنيا على وجه لا يكون فوق يده يد؛ كما قالته أئمتنا -عَلَيْهم السَّلام- فعندنا أن أمير المؤمنين وولديه أئمةٌ من وقت أن نص لهم رسول الله -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم- ومع ذلك فوق أيديهم يد رسول الله -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم- فإما أن تنقض حقيقة أصحابنا أو تأتينا بحقيقة أخرى أو تخرق الإجماع بأن يد رسول الله -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم- ليست فوق أيديهم.
الجواب: أما قوله إنه نقل عنه ما لم يقله، فإن صح قوله إنه نقل عنه لم يصح قوله إنه لم يقله، وإن صح قوله إنه لم يقله لم يصح قوله إنه نقل عنه، ومولانا الأمير -خلد الله سلطانه وشيد في ذرى المجد بنيانه- أعلم بالناقل إليه، وما يجب للمدعي وعليه.

(1/417)


وأما تخييره لي بين نقض الحقيقة التي زعم مرة أنها لأئمته، ومرة أنها لأصحابه، وبين خرق الإجماع بأن يد رسول الله فوق يد علي وولديه، وبين الإتيان بحقيقة أخرى.
فأما نقض حقيقة أصحابه لئلا يخرق الإجماع؛ فلو أنها كانت مثلاً من الكتاب لوجب القطع على أنها متأولة محمولة على خلاف ما أفاد ظاهرها من تفسير الخاص بالعام، وإلزام خرق الإجماع بأن يد النبي ليست فوق يد الإمام، ولو كانت من الأخبار المروية عن النبي -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم- ولم تحتمل التأويل لوجب القطع على أنها مكذوبة عليه.
وكذلك لو كانت من كلام بعض أئمة آل محمد مع أن تحديد المسائل الدينية بالحدود المنطقية مذهب حادث، وأصله للفلاسفة ثم تدرج إلى المعتزلة ثم استحسنه بعض الشيعة الجامعين بين التشيع والاعتزال.
وعلى الجملة فإن ألفاظ الحد ليست بأكثر من ألفاظ الدعوى، وصحة الحد مشروطة بصحة الدعوى، وذلك لأن التحديد بالحدود المنطقية صناعة مستنبطة، فمن عرف تلك الصنعة أمكنه أن يحقق دعواه صحيحة كانت تلك الدعوى أو باطلة، ولذلك وقع الاختلاف في الحدود على حسب الاختلاف في المحدود، وذلك ظاهر لمن تأمله بعد معرفته له.
وأما إلزامه لي أن آتي بحقيقة أخرى؛ فليس يجب عليّ بعد معرفتي لشروط الإمامة، وصفة الإمام؛ أن أحققه بحقيقة أهل علم المنطق إلا أن يدعي وجوب ذلك فعليه البيان، وعليّ القبول إن شاء الله تعالى.

(1/418)


والثانية: قوله: ما يرى الناقل عنا ما لم نقل في قول الزيدية: إنه لا طريق للإمامة إلا الدعوة فإن بها يصير الإمام إماماً فيمن قال لا يجوز أن يصير إماماً بدعوته لأنه لم يرد في الشرع لأن ولايات المرء الحاصلة على وجهين، ولاية تحصل له من جهة النسب كولاية النكاح للابن والأب وكذا التصرف في المال، وولاية تحصل بعقد الغير له كولاية الإمام لواليه وقاضيه وكلاهما من غيره فلا يجوز أن يكتسب الإنسان لنفسه بنفسه ولاية.
والجواب عن ذلك: أما حكايته عن الزيدية أنهم يقولون: لا طريق للإمامة إلا الدعوة فذلك قول من لا يعرف كل الزيدية، والصحيح عند الزيدية المحققين أن من الأئمة من طريق معرفة إمامته النص [وهم علي (عَلَيْه السَّلام) وابناه -عليهما السلام- ومنهم من طريق إمامته على الجملة النص] على المنصب وصفة السبق وتكامل الشروط فمن بلغ هذه الدرجة من الأئمة فهو مستحق للإمامة وطاعته وسؤاله عن كل مشكل في الدين واجب قبل الدعوة وبعدها لقول الله سبحانه: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ..} الآية [النحل:43] ، وأَمْرِه بطاعة أولي الأمر.
فأما الدعوة فإنما تكون طريقاً إلى معرفة الإمام لمن انتزح عنه ولم يعرفه، وتكون طريقاً إلى وجوب الهجرة والنصرة.

(1/419)


ومما يبين ذلك: أن الإمام لو لم يكن إماماً إلا بالدعوة، ولم تجز له الدعوة حتى يكون إماماً؛ لوقفت إمامته على دعوته ودعوته على إمامته، ولأنه يجب على المؤمنين طلب الإمام ولا يجب على الإمام طلب المؤمنين، ولا الدعوة إلا بعد أن يجتمع معه من المؤمنين المحقين من يجب الجهاد بمثلهم، وبذلك عرف الفرق بين دعوة النبي -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم- ودعوة الإمام.
وأما حكايته لقول من قال إنه لا يجوز أن يكسب الإنسان لنفسه بنفسه ولاية؛ فليس ذلك بمستمر على الإطلاق؛ لأن المحتسب قد تحصل له الولاية باختياره لا من جهة غيره، ولا يبطل ذلك بنصب الخمسة له ؛ لأن أصله كما قال المنصور بالله –عَلَيْه السَّلام-: فعل أهل السقيفة، وليس بحجة.
والثالثة: قوله من مذهب الزيدية –أعزهم الله- إجماعاً أن الإمام يجب أن يكون واحداً والناصر –عَلَيْه السَّلام- قد قام في وقت فيه قبله على الناس إمام فإما أن يخرج عن إجماع الزيدية أو يكون دعاؤه إلى غيره وهو باطل.
الجواب: أن دعواه لإجماع الزيدية غير صحيحة؛ لأنه قد نقض ذلك بما حكاه عنهم في المسألة الأولى وهو قوله: إن علياً وابنيه عندهم أئمة من وقت أن نص لهم رسول الله –صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم- وكذلك ما حكاه من قيام الناصر في وقت قيام الهادي، وهما من أئمة الزيدية، ولم يخرقا الإجماع وكيف يعتد بإجماع من ليس من أهله؟

(1/420)


وإنما الذي أجمع عليه المحققون من الزيدية هو أنه إذا اجتمع جماعة من آل محمد -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم- في وقت واحد ومكان واحد، وكلهم يصلح للقيام بالأمر لم يقم به إلا واحد منهم، ولم يكن كذلك قيام الهادي والناصر -عَلَيْهما السَّلام- فينتقض ما أجمعوا عليه.
ولبعض الأئمة كلام في هذه المسألة لم يعرفه السائل المتعنت، ولا بحث عنه، وجملته: أنه لا فرق بين الأنبياء والأئمة في جواز الاجتماع في وقت واحد إذا كان الغرض بذلك المعاونة والموازرة، فأما ما يعترض به على ذلك وهو ما روي عن النبي -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم- قال: ((إذا بويع لخليفتين فاقتلوا الأخير منهما)) فإن صح الخبر لم يجز حمله على ظاهره؛ لما فيه من تجويز قتل علي -عَلَيْه السَّلام- لو بويع له بعد بيعة أبي بكر، وتجويز كون أبي بكر خليفة لسبقه بالبيعة، وتجويز حكم عمر بقتل أحد الستة الذين جعل الإمامة شورى بينهم، وتجويز قتل الناصر -عَلَيْه السَّلام- وإبطال إمامته، وكل هذه التجويزات غير صحيحة.
والرابعة: قوله: من مذهب الزيدية -أعزهم الله تعالى- أن الإمام يجب أن يكون من أحد البطنين بعد علي -عَلَيْه السَّلام- وما حجتهم على ذلك ؟

(1/421)


فإن قلت: إجماعهم وعنيت به العترة فهي شهادة الجار لنفسه، ونفس المذهب لا يثبت بنفس الدعوى فإما أن تقيم دليلاً أو تطلبه من الشيعة.
الجواب: أما قوله: ما الحجة على أن الإمام يجب أن يكون من أحد البطنين ؟ فللزيدية المحققين على ذلك خمسة أدلة، وهي: العقل، والكتاب، والسنة، وإجماع الأمة، وإجماع العترة.
أما العقل: فمن قِبَل أن الله –سبحانه- حكيم وعالم بما سيكون من اختلاف الأمة فيما تعبدهم به من العلم والعمل، وعالم أن الحق فيما الحق فيه واحد لا يكون إلا مع بعضهم، وأن معرفته لا تحصل للمتعبدين إلا بمعرِّف معلوم؛ بالنص على عينه أو صفته، وإلا كان التكليف بمعرفة الحق تكليفاً لما لا يعلم.
وأما الكتاب: فمن قِبَل إخبار الله -سبحانه وتعالى- أن لكل قوم هادياً، وأمره للمؤمنين بطاعة أولي الأمر منهم، وسؤال أهل الذكر.
ووجه الاستدلال بذلك: فلا يجوز في الحكمة والعدل أن يريد بذلك أولي الأمر من كل فرقة؛ لما فيه من الإغراء بالاختلاف واتباع الأقوال المتعارضة.

(1/422)


وأما السنة: فقول النبي -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم-: ((من أمر بالمعروف ونهى عن المنكر من ذريتي فهو خليفة الله في أرضه وخليفة كتابه وخليفة رسوله)) وقوله: ((مثل أهل بيتي فيكم كمثل سفينة نوح من ركبها نجا ومن تخلف عنها هلك)) و((مثل باب حطة في بني إسرائيل)).
وقوله: ((في كل خلف من أهل بيتي عدول ينفون عن هذا الدين تحريف الغالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين)).
وقوله: ((أُمِرتُ بطاعة الله وأُمِرَ أهل بيتي بطاعة الله وطاعتي، وأمر الناس جميعاً بطاعته وطاعتي وطاعة الأئمة من أهل بيتي)).
والذي يدل على أن ذريته وعترته وأهل بيته هم الحسن والحسين وذريتهما: قوله -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم-: ((جعل الله ذرية كل نبي من صلبه وجعل ذريتي من صلب علي)) وقوله حين ضم علياً وفاطمة والحسن والحسين تحت كسائه: (( اللهم هؤلاء أهل بيتي فأذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً)).
وأما إجماع الأمة: فمن قِبل تجويزهم للإمامة في كل الناس أو في كل قريش، ومن قِبل إقرارهم بأدلة الكتاب على الجملة.

(1/423)


وأما إجماع العترة: فلا خلاف في إجماعهم على ادعاء ذلك وإنما الخلاف في إجماعهم هل هو حجة أو لا ؟ ومن الحجة على كونه حجة أن الله –سبحانه- قد أمر بمودتهم، والصلاة في الصلاة عليهم وجعلهم ورثة الكتاب، وأمر نبيه أن ينص عليهم، ولو علم سبحانه أنهم يجمعون على غير حق لم يجز في الحكمة والعدل أن يغر الناس فيهم.
وبذلك يبطل قول السائل المتعنت إن إجماعهم على ذلك شهادة الجار لنفسه.
وقوله: فإما أن تقيم دليلاً أو تطلبه من الشيعة.
فإن عنى الشيعة المحقين الذين ذكرهم المرتضى –عَلَيْه السَّلام- في كتاب الست المائة فليس عندهم غير ما ذكرت، وإن عنى غيرهم من فرق الشيعة فليس يجب عليّ طلب الحق منهم حتى يقيموا دليلاً على أنهم هم أهل الذكر الذين يجب سؤالهم عن كل ما وقع فيه الخلاف، وأن البينة على دعاوي الأئمة لا تكون إلا عندهم ومنهم.
والخامسة: قوله: من مذهب الزيدية –أعزهم الله تعالى- أن الإمام يجب أن يكون أفضل الناس أو كأفضلهم أو كأعلمهم، وقالت الإمامية: إنه يقبح أن يكون فوق الإمام أحد في خصاله كما يقبح أن يتولى القضاء على أبي حنيفة من هو دونه في خصال، وقد أدلوا في ذلك بالحجة الواضحة وهي أن الطريقة التي لها استحق أمير المؤمنين –عَلَيْه السَّلام- الإمامة هي اجتماع خصال الفضل فيه زائدة على كل الصحابة وأن الصحابة طلبت ذلك فيمن عقدت له الإمامة.

(1/424)


الجواب: أنه لا خلاف بين الزيدية المحققين ومن لم يغلُ من الإمامية أن العترة على الجملة أفضل الناس لكونهم مصطفين لإرث الكتاب ومنصب الإمامة، وأن من بلغ منهم درجة السبق فإنه أعلم العترة أو كأعلمهم.
وفي صحة ذلك بطلان قول السائل المتعنت كأعلم الناس على الإطلاق؛ لكون ذلك مبنياً على جحد فضل العترة وتجويز إمامة المشائخ وذلك هو مذهب المعتزلة وأشباههم.
وكذلك قوله: إن علياً –عَلَيْه السَّلام- لم يستحق الإمامة إلا باجتماع خصائص الفضل مبني على جحد النص، وكل ذلك خارج عن قول الزيدية المحقين، ولأجل الجهل بالفرق بين مذهب الزيدية المحقين ومذهب المعتزلة إلتبست أقوال من جمع بين هذين المذهبين المتضادين؛ لأن النص على إمامة علي والحسن والحسين –عَلَيْهم السَّلام- وعلى منصب الإمامة حق عند الشيعة المحقين وبدعة عند المعتزلة، وكذلك إرث الكتاب خاص للعترة عند الشيعة، وعام للعلماء عند المعتزلة.
ومن فرق الشيعة من جمع بين قول الشيعة المحقين بالنص وبين قول المعتزلة بعموم إرث الكتاب، وما أشبه ذلك من الأقوال التي لأجل جمعهم بينها صاروا فرقة بين الفريقين، غير محمودين عند الفريقين ؛ لأن المعتزلة يذمونهم لأجل اتباعهم للبدعة التي هي عندهم القول بالنص، والشيعة المحقين يذمونهم لأجل موالاتهم لمن يجيز الإمامة في كل قريش، ونحو ذلك مما جرى من بني أمية وبني العباس على ظلم آل محمد –عَلَيْهم السَّلام-.

(1/425)


السادسة: قوله: من مذهب الزيدية –أعزهم الله تعالى- أن علياً –عَلَيْه السَّلام- معصوم قوله كقول رسول الله -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم- يجب اتباعه، وقد وجدت له أقوالاً متدافعة كنهيه عن بيع أمهات الأولاد ثم رأيه في بيعهن بعد ذلك؛ فأيهما الحق جواز بيعهن فقد أجمعت العترة على خلافه وهي معصومة، والنهي عن بيعهن فقد استقر عليه آخر قولي المعصوم؟
الجواب: أما قوله بعصمة علي –عَلَيْه السَّلام- ففي معنى العصمة خلاف بين الزيدية المحقين وغيرهم؛ فقول الزيدية المحقين إن الله -سبحانه - لما نص على أن علياً ولي المؤمنين وأمر نبيه أن ينص على أنه الخليفة من بعده علم لأجل ذلك أن الله -سبحانه- قد علم باعتصام علي –عَلَيْه السَّلام-، وتصديق الله واجب؛ فلأجل ذلك وجب القطع على أن علياً –عَلَيْه السَّلام- معصوم باختياره.
وغيرهم يزعم أن الله –سبحانه- يفعل للمعصوم ألطافاً يعتصم لأجلها، وفي ذلك إيجاب كون العصمة من الله –سبحانه- وإذا كانت منه لم يكن للمعصوم فضل ولا أجر على اعتصامه.
وأما قوله: إن لعلي –عَلَيْه السَّلام- أقوالاً متدافعة كنهيه عن بيع أم الولد، وإباحته له من بعد ؛ فتحريم بيع أمهات الأولاد لا يخلو: إما أن يكون بنص معلوم من الكتاب والسنة، وإما أن يكون باجتهاد.

(1/426)


فإن كان بنص وجب القطع على أن علياً –عَلَيْه السَّلام- لا يخالف النص، وإن كان باجتهاد فقد يختلف الاجتهاد لأجل اختلاف المصالح في الأوقات، وقد يجوز أن يغلط المجتهد، ولا يبطل بذلك كونه إماماً ومعصوماً، وقد ورد السمع بتصويب فتوى النبي سليمان دون فتوى أبيه -عَلَيْهما السَّلام-، وورد بجواز وقوع الصغائر من الأنبياء -عَلَيْهم السَّلام- على سبيل السهو، وللأئمة بالأنبياء أسوة في مثل ذلك وعذر لهم عند من أحب أن يحملهم على الصلاح.
وأما ادعاؤه لإجماع العترة على خلاف أحد قولي علي –عَلَيْه السَّلام- فإن كانت المسألة من مسائل الإجتهاد فلا معنى للإجماع، وإن كانت مما الحق فيه مع واحد؛ فليسوا يجمعون على مخالفة الحق، ولا على أن علياً –عَلَيْه السَّلام- خالفه مع أنه لا معرفة لهذا السائل المتعنت بإجماع العترة لأنه لم يشاهد كلهم، ولم يحط بجميع كتبهم.
وأما قوله: إن العترة معصومة فقد تقدم بيان جهله بمعنى العصمة ومعنى الإجماع.
والسابعة: قوله: من مذهب الزيدية –أعزهم الله تعالى- أن رسول الله -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم- خلف فينا الثقلين الكتاب والعترة، وأمرنا باتباعهما، وبعد موته -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم- لم يكن إلا علي –عَلَيْه السَّلام- لا غير، وليس من العترة على الصحيح من المذهب؛ لأن عترة الرجل ولده والحسن والحسين كانا صغيرين بعد موته –عَلَيْه السَّلام- فما ترى في ذلك؟

(1/427)


الجواب: أما قوله: من مذهب الزيدية أن رسول الله –صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم- خلف فينا الثقلين، وأمرنا باتباعهما، وهما الكتاب والعترة؛ فذلك مما لا يجحده [ويخالف فيه] إلا رافض معاند لنص الكتاب والسنة.
وأما قوله: إن علياً –عَلَيْه السَّلام- ليس من العترة فقد أكذبه النبي -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم- بجعله لعلي (عَلَيْه السَّلام) من أهل بيته في خبر الكساء ولا فرق بين عترته وأهل بيته في ذلك مع أن إمامة علي –عَلَيْه السَّلام- ثابتة بالنص، والنص على العترة لا يناقض النص على الوصي.
وأما قوله: إن الحسن والحسين كانا صغيرين بعد موت النبي -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم-؛ فليس صغرهما في تلك الحال بأكثر من عدم أولادهما وأولادهم إلى آخرهم، وكلهم أحد الثقلين مع أن هذا السائل المتعنت قد نقض قوله بقوله في المسألة الأولى فعندنا أن أمير المؤمنين وولديه أئمة من وقت أن نص لهم رسول الله -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم-.

(1/428)


والثامنة: من مذهب الزيدية أن إمامة العبد لا تجوز، وقد قال -صَلَّى الله عَلَيْه وآله-: ((أطيعوا السلطان ولو كان عبداً حبشياً)) والسلطان إذا أطلق أريد به الإمام كما قال -صَلَّى الله عَلَيْه وآله-: ((السلطان ولي من لا ولي له)) فإما أن تكذب الخبر أو تتأوله على أنه أراد به مأمور السلطان فلفظ (لو) ترد بعد الكلام للتحقير وليس الحبش أحقر أجناس الأمم كما قال الشاعر:
فما سأل الله عبد فخاب.... ولو أنه كان من باهله
الجواب: أما قوله: من مذهب الزيدية أن إمامة العبد لا تجوز؛ فمذهب الزيديةالمحقين أن إمامة أبي بكر لا تجوز فضلاً عن العبد.
وأما روايته عن النبي -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم- أنه أمر بطاعة السلطان ولو كان عبداً حبشياً؛ فإن صح ذلك ولم يحتمل التأويل؛ قطع على كونه مكذوباً عليه؛ لأجل مخالفته محكم الكتاب والسنة، ولذلك أمر -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم- بأن يعرض ما روي عنه على الكتاب.
وأما قوله: فلفظ (لو) ترد بعد الكلام للتحقير ففي ذلك اضطراب في اللفظ والمعنى يعرفه من تأمله.

(1/429)


وأما قوله: وليس الحبش بأحقر أجناس الأمم؛ فجملة الكلام في ذلك أن العبد إذا ذكر مطلقاً أفاد بعض عبيد الله –سبحانه- في الأغلب، وإذا ذكر مقيداً ببعض قبائل السودان أفاد بعض العبيد الرق.
التاسعة: قوله: من مذهب الزيدية –أعزهم الله تعالى- أن جلد الميتة لا يطهر بالدباغ حكاه عنهم أبو عبدالله الحسين بن إسماعيل - عَلَيْهما السَّلام- والإمام المنصور بالله –عَلَيْه السَّلام- كان يرى إقرار المذهب على خلاف ذلك؛ فإما أن يرى أنه –عَلَيْه السَّلام- لا يخالف العترة أو لا يرى إجماعهم حجة وكلاهما باطل وعداوة العاقل خير من صداقة الجاهل.
الجواب: أما حكايته لإجماع أئمة الزيدية على أن جلد الميتة لا يطهر بالدباغ؛ فالأصل في تحريم الميتة نص الكتاب على الجملة، فلو كان جلدها يطهر بالدباغ جاز أن يطهر لحمها بالإنضاج؛ فلذلك أجمع الأئمة على تحريم الميتة على كل حال.
وأما قوله: إن المنصور بالله –عَلَيْه السَّلام- أقر المذهب على خلاف ذلك؛ فقد أقر –عَلَيْه السَّلام- كثيراً من العوام والفقهاء على خلاف مذهبه في كثير من المسائل، وكذلك غيره من الأئمة –عَلَيْهم السَّلام- وليس يكون بمجرد إقراره لهم مخالفاً للأئمة، وإنما يكون مخالفاً لهم لو أفتى بأن الميتة لا تحرم أو بأن جلدها يطهر بالدباغ.

(1/430)


على أنه لو روي عنه –عَلَيْه السَّلام- ما يخالف النص أو الإجماع لوجب القطع على أنه مكذوب عليه أو غلط من الراوي أو حاصل على سبيل السهو، وبهذه الطريقة أبطل الأئمة –عَلَيْهم السَّلام- أقوال من يخالف بينهم فيما الحق فيه واحد؛ لأنه لا يجوز التفريق بينهم كما لا يجوز التفريق بين الأنبياء –عَلَيْهم السَّلام-، مع أن هذه المسألة لم يوردها أحد من أهل النصب إلا هذا السائل المتعنت.
وأما قوله: وعداوة العاقل خير من صداقة الجاهل؛ فذلك صحيح إذا لم يكن ذلك العاقل من علماء السوء الذين يأكلون أموال الناس بالباطل ويصدون عن سبيل الله.
والعاشرة: قوله: قال الإمامان الكريمان المتوكل على الله والمنصور بالله -عَلَيْهما السَّلام-: إن نكاح الفاطميات لغير الفاطميين لا يجوز وادعيا الإجماع وهذا أبو الطاهر أحمد بن عيسى بن عبدالله بن محمد بن عمر بن علي جدته بنت محمد الباقر وهي من الفاطميات بل خيرهن وليس من الفاطميين؛ فإما أن تبطل حكايتهما وحاشاك من ذلك، أو تبين لنا وجه الجواب، وليس تهتدي إليه سبيلاً، أو ترجع إلى الشيعة صاغراً وتقول: أخبرونا منا فالجهل بنفسك أقبح الأشياء منك.

(1/431)


الجواب: أما حكايته عن المتوكل والمنصور بالله -عَلَيْهما السَّلام- أنهما ادعيا الإجماع على أن نكاح الفاطميات لا يجوز لغير الفاطميين؛ فتلك دعوى صحيحة عند الزيدية المحقين، والأصل في ذلك ما ورد به الشرع الشريف من وجوب اعتبار الكفاءة في النكاح؛ لأجل التفاضل الذي جعله الله -سبحانه- بين الناس، وقد صح بالنص أن لبني فاطمة –عَلَيْهم السَّلام- فضلاً على سائر الناس بما خصهم الله به؛ من إرث الكتاب، ومنصب الإمامة، وقرابة الرسول، وإيجاب المودة، والطاعة لهم، والصلاة في الصلاة عليهم، والرد لكل ما اختلف فيه إليهم، ونحو ذلك وأقل أحوال فضلهم بذلك أن يكون مثل فضل الأحرار المنتجبين على الأحرار غير المنتجبين إذا لم يكن مثل فضل الأحرار على المماليك.
وقد ذكر القاسم بن علي وابنه الحسين -عَلَيْهما السَّلام- مثل الذي حكى عن الإمامين -عَلَيْهما السَّلام-، وذلك هو المشهور المعلوم من مذهب الهادي –عَلَيْه السَّلام- ولذلك فإن الدعام بن إبراهيم لما علم ذلك منه وسمعه عنه رام الاقتداء به، وجعل ذلك سنة في عقبه.
وفي الرواية المشهورة عن أحمد بن عيسى –عَلَيْه السَّلام- أنه دعا على ابنته بالموت مخافة أن يزوجها من ابن خالها وهو من الأحرار المسلمين ولم ينكر ذلك أحد من الأئمة -عَلَيْهم السَّلام- فما ظن السائل المتعنت بهم؟!

(1/432)


وأما حكايته عن أبي الطاهر أن جدته بنت الباقر فإن صح ذلك وجب حمله على أنه وقع على سبيل الإكراه أو الجهل؛ مع أن هذه الرواية الشاذة لا تقدح في الإجماع، ومع أن تحسين الظن بالجماعة أولى منه بالواحد، ومع أن الأئمة -عَلَيْهم السَّلام- لم يدعوا أن ذلك لا يقع، وإنما ادعوا أنه لا يجوز للزوج والمزوج تعمد إبطال حق الكفاءة لغير عذر.
وأما قوله: فأما أن تبطل حكايتهما وحاشاك من ذلك؛ فأقول: على من يبطل مثل ما على من يفرق بين الرسل، ومن يحسد الناس على ما آتاهم الله من فضله.
وأما قوله: أو تبين لنا ما الجواب ولم تجد إلى ذلك سبيلاً؛ فقد وجدت السبيل إلى تصديق الأئمة –عَلَيْهم السَّلام-، وتكذيب من خالفهم من جميع فرق الإسلام، فكيف يعرف السبيل من يرفض الدليل!؟
وأما قوله: أو ترجع إلى الشيعة صاغراً وتقول: أخبرونا منا فإن يكن عنى الزيدية المحقين فليس عندهم غير ما ذكرت، وإن عنى غيرهم من فرق الشيعة الذين يفضلون أنفسهم على الأئمة، ويتمسكون بعلوم من خالفهم من فرق الأمة، فلست بخارج من النور إلى الظلمات، وما الملجئ لي إلى ذلك وفي كتاب الله –سبحانه- بيان كل شيء، وفي كلام النبي -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم- الذي لا ينطق عن الهوى وفي كتب الأئمة الذين هم سفن النجاة وأعلام العلم ومعادن الهدى.
ولا مانع أن يعطي الله -سبحانه- آل محمد من العقل أزكى وأكثر مما أعطى أولئك الشيعة الذين أمرني بالرجوع إليهم والسؤال لهم.

(1/433)


وأما قوله: فالجهل بنفسك أقبح الأشياء منك؛ فإنما يجهل نفسه من ملكها زمام هواه، واتبع {أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ(77)} [المائدة].
وأما ما ذكرتَ في أبياتك الذميمة، المؤسسة على البغي والنميمة، من ذكر من خالف أو هجا فليس الذنب في ذلك لي ولا العذر فيه إليك.
وأما قولك فيها: إن المخرجين لأحمد بن سليمان -عَلَيْه السَّلام- من ثافت هم ذؤابة معشرك، فأكثر المخالفين على الأئمة من ذؤابة معشرك لا سيما من أشبهك منهم، وأما تعريفك لي بقولك لي: لست هنالك، ولا سلكت في تلك المسالك، وغير ذلك من اعتدائك علي، وتسرعك بالأذية إليّ، فأحسن جوابك عن ذلك السكوت، لكون عرضك أهون من نسج العنكبوت، وإني وإياك لكما قال الشاعر:
ولو أني بليت بهاشمي.... خؤولته بنو عبد المدان
صبرت على عداوته ولكن.... تعالوا فانظروا بمن ابتلاني

(1/434)


وأما قولك: إنك على أوفى يقين، من بغضك للعترة الحاضرين، فهب أنه وجب عليك بغض من عرفت من السرف، فما الذي حملك على تناولك من سلف من السلف، وقد قال الله تعالى في كتابه المبين، مؤذناً لعباده المؤمنين: {وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} [المائدة:8] ، مع أنك لو وفقت ما امتدحت ببغضهم وقد قال الإمام المنصور بالله -عَلَيْه السَّلام-:
إن شك في المولود يوماً والدٌ.... فحبنا يوماً عليه شاهد
وأما قولك: إنك إن لم تفضل المعتزلة على الأئمة فقد أكذبت نفسك بتفضيلك لعلوم المعتزلة، إذ لا خلاف في فضل العالم على من هو دونه في العلم.
وأما قولك: إن لفظة الاعتزال ما وردت في الكتاب والسنة إلا صفة مدح؛ فقد أكذبك الله بقوله: {وَإِنْ لَمْ تُؤْمِنُوا لِي فَاعْتَزِلُونِ(21)} [الدخان]، وبوصفه لابن نوح أنه كان بمعزل عن أبيه، مع أن من اعتزل أئمة الهدى وعلومهم لا يستحق المدح بذلك.

(1/435)


وأما قولك: إن من الأئمة من رحّم على المعتزلة فذلك محتمل للتأويل وقد صح عن الإمام المنصور بالله -عَلَيْه السَّلام- أفتى بأن لا يصلى خلف من يرضي عن أئمة المعتزلة فضلاً عن المعتزلة.
وأما قولك: إن الصاحب الكافي مدح نفسه بالجمع بين التشيع والاعتزال؛ فلا يخلو إما أن يكون جمع بين حقين؛ فيكون قد وصف الشيعة والمعتزلة باتباع الباطل الذي ترك.
وإما أن يكون قد جمع بين حق وباطل فذلك الذي أنكرت إنكاري له. وإما ترحمك عليه مطلقاً فقد خالفت الإمام -عَلَيْه السَّلام- لأنه لم يرحم عليه كما رحم على أبي الجارود بل نفعه الله بصالح عمله فاقتد به إن كنت منصورياً كما ادعيت.
وأما حكايتك عن بعض شعراء الزيدية المعتزلة أنه قال:
ما فرقة من جميع الناس قاطبة.... إلا وصالَ عليها كلُّ معتزلي
فلم أنكر أنهم صالوا بجدالهم على الأئمة، فضلاً عن سائر فرق الأمة.
وأما قولك: إنه بلغك أني صنفت في أذية المعتزلة أوراقاً، فلم أقصد إلا ذم من تبرأ منه الهادي -عَلَيْه السَّلام-، ووصفهم بالغلو بغير الحق في ملة الإسلام.

(1/436)


وأما اعتذارك لقولك في شعرك وأسماعنا مجته لما يلج نقراً بما حكيت من قول الإمامية إن جبريل -عَلَيْه السَّلام- ينقر إذن إمامهم بالأحكام والمسائل؛ فلم تقل ينقر أذناً بل قلت يلج نقراً؛ فميز كم بين ركاكة شعرك، وبرودة عذرك، فلا تكن كأعمى يكشف عورته للناس ويحسب أن كلاً أعمى مثله، وأما اعتذارك لتوحيدك فعل الجماعة... شرفهم وفضلهم كما يجب تصديق النبي -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم- من كونه أفضل ولد آدم، وكون عمه أفضل الشهداء، وكون ابن عمه أخاً له ووزيراً ووصياً وإماماً بعده، وكون ابنته سيدة نساء الأمة، وكون ابنيها سيدي شباب أهل الجنة، وإمامين قاما أو قعدا، وكون الكتاب مع ذريتهما إلى يوم القيامة، وأشباه ذلك مما فضله الله به وأهل بيته للإبلاء والابتلاء، وللتمييز بين الرفضة والأولياء.
فهذا الذي يقع به التخلص من الشبه مع ترك المعارضة والمكابرة والمجادلة بالباطل، ولبس الأدلة بالدلس المضلة، فاعرف ذلك وإن لم تكن من جملة ما يتضمنه قول الله -سبحانه وتعالى-: {بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ مِنْ هَذَا وَلَهُمْ أَعْمَالٌ مِنْ دُونِ ذَلِكَ هُمْ لَهَا عَامِلُونَ(63)} [المؤمنون]، والسلام على من اتبع الهدى، ونهى النفس عن الهوى.
تمّ ذلك بحمد الله ومنه، ولطفه وكرمه، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله الطيبين الطاهرين وسلم يا كريم.
* * * * * * * * * * * * *

(1/437)


هذا خبر خولة الحنفية وفيه فضيلة لعلي بن أبي طالب(ع)
بسم الله الرحمن الرحيم وصلى الله على محمد وآله قال في كتاب إقرار الصحابة، بفضل إمام الهدى علي بن أبي طالب –سلام الله على روحه الطاهرة- تأليف الشيخ الفقيه العالم العابد أبي القاسم محمد بن جعفر بن علي المشهدي الجابري -رحمه الله تعالى- أخبرنا الشيخ العفيف أبو البقاء هبة الله بن نما -رضي الله عنه- قال: حدثني الشيخ الإمام العالم أبو عبدالله الحسين بن أحمد بن محمد بن طحال المقدادي –رحمه الله تعالى- قال: حدثني الشيخ الرئيس الأجل العالم شيخ الإسلام عز العلماء أبو الوفاء عبدالجبار بن عبدالله المقري الرازي -رحمه الله- في مدرسته بالري يوم العشرين من شعبان سنة ثلاث وعشرين وخمسمائة، قال: حدثني الرئيس المخلص سعد المعالي ذو الكنانتين أبو الجوائز بن باري الكاتب -رحمه الله- في يوم الأحد عاشر شهر القعدة سنة ثمان وخمسين وأربعمائة في مشهد الإمام موسى بن جعفر -عَلَيْهما السَّلام- بالنيل، قال: أخبرنا أبو الحسن علي بن محمد بن علي بن سعيد الوراق عن أبيه، عن أبي سعيد، عن ميمون بن مصعب المكي، قال: كنا عند أبي العباس بن سابق المكي فحدثنا بحديث أهل الردة وتذاكرنا أمر خولة الحنفية قال: عرفت أن محمد بن علي الباقر –عَلَيْه السَّلام- كان يوماً في مجلسه إذ جاءه رجلان فقالا له: يا أبا جعفر أليس زعمت أن جدك ما رضي بمن تقدمه وكان غير محالفٍ وهذه خولة نكحها وهي من سبيهم ؟

(1/438)


فقال –عَلَيْه السَّلام-: من يأتيني بجابر بن عبدالله الأنصاري ؟ فمضى من جاء به وكان يومئذ محجوباً لا يبصر بين يديه فسلم عليه فأجابه وحياه وقربه وقال: يا جابر أتدري ما أنا سائلك عنه ؟ فقال: لا.
قال: إن عندي رجلين ذكرا أن أمير المؤمنين –عَلَيْه السَّلام- رضي بمن تقدم عليه فسألتهما عن حجتهما في ذلك فذكرا أمر خولة.
فبكى جابر حتى اخضلت لحيته وقال: والله لظننت أن أموت وأخرج من الدنيا ولا أُسأل عن هذه بما أودي فيما شاهدته من الأمانة، أنا والله كنت جالساً بجنب أبي بكر وقد طلع سبي بني حنيفة من قبل خالد بن الوليد وفيهم خولة، وكانت جارية مراهقة، فلما دخلت المسجد قالت: أيها الناس ما فُعِلَ بمحمد رسول الله ؟ فقالوا: قبض، فقالت: بالله، هل من بينة ؟ قالوا: نعم، هذا قبره، فنادته: السلام عليك يا أحمد، السلام عليك يا محمد رسول الله إنا سُبِينا من بعدك وإنا نقول: لا إله إلا الله محمد رسول الله؛ فوثب طلحة والزبير فطرحا ثوبهما عليها.
فقالت: معاشر المسلمين ما لكم تصونون حلائلكم، وتهتكون حلائل المسلمين، فقالوا لها: لمخالفتهم ؛ حين يقولون: نصلي ولا نزكي أم نزكي ولا نصلي، فقال طلحة والزبير: إنا طرحنا ثيابنا عليك لنبالغ في ثمنك.

(1/439)


فقالت: أقسم بالله ربي وبمحمد نبيي لا يملك رقي إلا من يخبرني بما رأت أمي في منامها وهي حامل وما قالت لي عند ولادتها وما العلامة التي بيني وبين أمي وإلا بقرت بطني فيذهب مالي ونسبي ويكون الله المطالب بحقي.
قالوا: يا جارية اذكري رؤياك حتى نذكر عبارتها، فقالت: الذي يريد أن يملكني هو الذي يقدر أن يخبرني بالرؤيا ويعبرها فأخذا ثوبيهما عنها وجلسا بإزائها يحجزان عنها.
إذ دخل علي –عَلَيْه السَّلام- وهم في هرج فقال: ما هذا الصوت في المسجد ؟ فقالوا: امرأة من بني حنيفة خرجت رقها للمسلمين وقالت: إني لمن يخبرني بالرؤيا التي رأت أمي وهي حامل بي وعبارتها بالعلامة التي بيني وبينها.
فقال علي –عَلَيْه السَّلام-: ما دعت إلى باطل أخبروها تملكوها؛ فقالوا: من فينا يعلم الغيب. فقال أبو بكر: يا علي تخبرها أنت ؟
فقال: إن أخبرتها ملكتها بلا اعتراض من أحد منكم عليّ فيها ؟
قالوا: نعم.
قال: يا جارية أخبرك ؟ قالت: من أنت الذي تخبرني بما يعجز عنه أصحابك ؟
قال: أنا علي بن أبي طالب، فقالت: لعلك الرجل الذي نصبك رسول الله –صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم- صبيحة يوم الجمعة بغدير خم علماً للناس ؟
فقال: أنا ذلك.

(1/440)


فقالت: إنا من أجلك عصينا، ومن قبلك أبينا ألا إن رجالنا قالوا: لا نسلم صدقات أموالنا ولا طاعات نفوسنا إلا لمن نصبه رسول الله –صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم- فينا وفيكم؛ فقال علي –عَلَيْه السَّلام-: إن أمركم غير خاف عن الله تعالى وإنه لموفي كل نفس بما كسبت.
ثم قال: يا حنفية حملت بك أمك في زمان قحط، وقد منعت السماء قطرها، والأرض نباتها وغارت العيون، وتعذرت على البهائم المراعي، وكانت تقول عنك إنك حمل مشؤوم في زمان غير مبارك فلما كان بعد تسعة أشهر رأت في نومها كأنك قد وضعتك وكأنها تقول لك: إنك ولد مشؤوم في زمان غير مبارك وكأنك تقولين لها: لا تتشاءمي بي فإني ولد مبارك أنشأ منشأً مباركاً حسناً يملكني سيد ويولدني ولداً يكون لحنيفة فخراً.
فقالت: صدقتَ يا علي، أنّى لك هذا. قال: هو إخبار عن رسول الله -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم-. قالت: فما العلامة بيني وبين أمي ؟ قال: إنها لما وضعتك كتبت كلامك والرؤيا في لوح من نحاس وأودعته قمة الباب فلما كان بعد عشرين سنة جمعت بينك وبين اللوح فقالت: يا بنيه إذا نزل بساحتكم من يسفك دماءكم ويسبي ذراريكم وتُسبين فيمن سبي فخذي هذا اللوح واجتهدي أن لا يملكك إلا من يخبرك بالرؤيا وهذا اللوح.
فقالت: صدقت؛ فأين اللوح ؟
فقال: في عقصتك.

(1/441)


فأخرج اللوح من عقصتها بين الناس وتملكها يا أبا جعفر دون غيره بما ظهر من حجته، ونادى ببينته ثم إنه عقد عليها عقدة النكاح ووطئها بالعقد لا بملك اليمين.
تم ذلك والحمد لله رب العالمين وصل اللهم على سيدنا محمد الأمين وعلى آله الطيبين الطاهرين وسلم يا كريم، آمين.

(1/442)


يتلوه سؤال وجواب من كلامه -رضي الله عنه وأرضاه-
يسأل الذين قدّموا أمير المؤمنين -عَلَيْه السَّلام- وقالوا بإمامته وإنه الخليفة من غير فصل لمَ يرضون على من تقدمه فيقال لهم ما تقولون فيمن تقدم على الإمام المحق ومنعه من التصرف في رعيته ؟ ولا بد أن يكون فاسقاً عند كافة العلماء أعني من تقدم على الإمام المحق.
فإذا قيل: إن أبا بكر وعمر لهما سوابق يمكن أن تكون هذه مكفرة في جنبها فلا نقطع على التفسيق.
قلنا: فما عذرك في الترضية مع حصول المعصية التي قلت لو كانت من غيرهما لكانت فسقاً.
فإن قال: إن المعلوم إيمانهما فلا يخرج عن المعلوم للتجويز، ولأن الله تعالى قد رضي عنهما في كتابه فقال: {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ} [الفتح:18].

(1/443)


قلنا: كيف يصح بقاء الإيمان معلوماً مع حصول المعصية التي قلنا إنها تكون فسقاً من غيرهم وفي حقهم تحتمل الفسق وتحتمل أن تكون مكفرة فقد قطعت على المعصية وتوقفك ليس إلا في كونها كبيرة أو غير كبيرة على أنه يمكن أن يقال إذا ثبت أن مثل فعلهما لو فعله غيرهما كان فسقاً فكيف يصح أن يقال فيه إنه يجوز كونه مكفراً في جنب طاعتهما، وقد قلنا إن الكبيرة محبطة للثواب، وقلنا إن من فعل معصية كبيرة لا تكون مُسْقَطة بثوابه ما لم يتب، وإن بقي عمر نوح ؛ فكيف يصح أن تخرج الكبيرة عن كونها كبيرة بالإضافة إلى كثرة الثواب مع هذا، وهذا مناقضة ظاهرة.
فأما قوله: {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ} [الفتح:18]. فالجواب: أن ذلك إخبار عن الحال أنه تعالى راض عنهم ببيعتهم لرسوله إذ لا يمكن أن يقول لقد رضي الله عنهم في كل حال إذ قد فسق بعضهم بالإجماع منا ومن المعتزلة كطلحة والزبير وغيرهما وإذا ثبت أنه إخبار عن الحال في تلك الحال، قلنا: إنهم وإن كانوا كذلك فقد خرجوا عنه بتقدّمهم على مولاهم، وظلم بنت نبيهم، وقد قال -صلى الله عليه وآله-: ((فاطمة بضعة مني يريبني ما يريبها ويؤذيني ما يؤذيها)) وقال -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم-: ((إن الله يغضب لغضبك يا فاطمة ويرضى لرضاك)).

(1/444)


ولا خلاف بين آبائنا أنها ماتت وهي غضبانة عليهم، وكلامها يشهد بذلك، وهو الذي ذكرتْه في جوابها لنساء المهاجرين والأنصار حين قلن: كيف أصبحت يا بنت رسول الله ؟ في مرض موتها ؛ فقالت: أصبحتُ والله عائفة لدنياكم، قالية لرجالكم، شنيتهم بعد أن سبرتهم، ولفظتهم بعد أن عجمتهم، فقبحاً لفلول الحد، وخور القناة، وخطل الرأي، وبئس ما قدمت لهم أنفسهم أن سخط الله عليهم وفي العذاب هم خالدون، ويحهم لقد زحزحوها عن رواسي الرسالة، وقواعد النبوة، ومهبط الروح الأمين، والطيبين لأهل الدنيا والدين، ألا ذلك هو الخسران المبين، وما نقموا من أبي حسن نقموا والله نكير سيفه، ونكال وقعته، وشدة وطأته، وتنمره في ذات الله، والله لو تكافوا على زمام نبذه إليه رسول الله –صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم- لاعتقله ولسار بهم سيراً سجحاً لا تنكلم خشاشته، ولا يتعتع راكبه، ولأوردهم مورداً نميراً تمير ضفتاه ولأصدر[هم] بطاناً قد تحبرهم الري غير متحلي منه بطائل إلا بغمرة الناهز وردعه سورة الساغب ولفتحت عليهم بركات من السماء والأرض ولكن كذبوا وسيعذبهم الله بما كانوا يكسبون ألا هلمن فاسمعن وما عشتن أراكن الدهر عجباً، إلى أي ركن لجأوا، وبأي عروة تمسكوا، ولبئس المولى ولبئس العشير وبئس للظالمين بدلاً، استبدلوا والله الذنابا بالقوادم والعجز بالكاهل وبعداً وسحقاً لقوم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً، ألا إنهم هم المفسدون ولكن لا يشعرون.

(1/445)


قال الإمام المنصور بالله -عَلَيْه السَّلام-: فهذا كلام فاطمة -عليها السلام- الذي لقيت عليه الله سبحانه وإذا ثبتت معصيتهم بطل أن تكون الترضية ثابتة كما قال الإمام المنصور بالله -عَلَيْه السَّلام- وإذا كانت جائزة المعصية والترضية فما أبعد الشاعر في قوله:
فويل تالي القرآن في ظلم الليـ.... ـل وطوبى لعابد الوثن
تمت هذه الكتب النافعة والأقوال القامعة بعون الله ومنّه ولطفه والحمد لله رب العالمين.

(1/446)


الرسالة الناظمة لمعاني الأدلة العاصمة
من كلامه(ع) التي سماها الإمام المطهر بن يحيى(ع): المزلزلة لأعضاد المعتزلة:
بسم الله الرحمن الرحيم:
حمداً وشكراً دائماً طولَ الأبدْ....مضاعفاً مجاوزاً حد الأمدْ
لخالقٍ ما إنْ له كفواً أحدْ....ورازق إنعامُهُ فاتَ العددْ
عمَّ البرايا مَنْ عصى ومَنْ عبد....ومن أقرَّ طائعاً ومن جحدْ
وإنْ ألم مؤيدٌ يوهي الجلد....فما لهم إلا عليه معتمد
إذ ما لهم من دونه من ملتحدْ....ولا إله غيره باق صمدْ
أحمده حمد امرءٍ موحدِ....مقدسٍ منزهٍ ممجدِ
مستمسك في دينه بأحمد....وبالوصي ذي التقى والسؤدد
وسيدين ابني إمامٍ سيدِ....ومَنْ بهم إلى النجاةِ أهتدي
مِنْ آلهم مِنْ بعدهم واقتدي....آل النبي المصطفى محمد
أقفو على آثارهم لا أعتدي....فعلَ مطيعٍ ليسَ بالمقلّد
وهل لمن يعصي الهداة دينُ....إني بما دانوا به أدينُ
همُ الذين علمُهم رصينُ....دين النبي فيهم مصون
لم ينكثوا العهدَ ولم يخونوا....وهم لمن يبغي النجا سفين
نص بذاكَ المصطفى الأمين()....مما به أخبره جبرين()
وكلُّ ما أوحى به يقينُ....والرافضي علمه ظنون
هذا الذي من مذهبي أصرحهْ....وبالدليل المستبين أوضحهْ
خير المقال في الجدال الحجهْ....أَبْيَنَهُ معانياً وأفصحه
لا زخرف يغوى به من شرحه....وخبرهُ عندَ الخبيرِ يفضحه
وخير مفت للفتى من ينصحه....بما يحوطُ دينَه ويصلحه
لا مَلِقٍ عند الحضور يمدحه....وفي المغيبِ بالمعيب يجرحُه

(1/447)


فاعرفْ أصول مبتدا التكليفِ....يا ممعناً في العلم بالتعريفِ()
وما الذي يُنْجِي مِن التحريفِ....وأينَ حد الفكر في التلطيف
فإنه لا بدَّ مِنْ وقوف....إذ ليس كل ثابت معروف
يعرف كالمعروف بالتكييف....ثم اختصاصُ الخالقِ اللطيف
لبعض من يشاء بالتشريف....مختبراً في ذاك للمشروفِ
إنَّ الذي لخلقهِ تعبدا....قد أكملَ الخلقَ تعالى وهدى
وصيّر العقل دليلاً مُرشدا....وأرسل الرسل الثقات بالهدى
واختصهم بوحيه ليقتدى....بقولهم وفعلهم فيهتدى
ثم اصطفى من آلهم وأيدا....أئمةً منجيةً مِن الردى
وخصَّ بالفضل الشهير أحمد....وآله فما عدا مما بدا
حتى اعتدت بعد النبي أمتُه....فخولفت في آله وصيتُهْ
وألبستْ ثوبَ الصغار ابنته....وحولت عن الوصي رتبته
كأنهم لم يعلموا مَنْ عترته....ومن له من بينهم أخوّته
وإرثه وعلمه وعصمته....ومن جرت على الجميع إمرته
دليل إخلاص التقى مودته....ومن أمارات النفاق بغضته
فأخّروا() مِنْ بعدهِ مَنْ قدّمه....وصغروا مِنْ حقه ما عظّمه
وكمْ له من وقعة وملحمهْ....مذكورة مشكورة ومكرمهْ
وآيةٍ بها المليك أكرمه....كانت على عهد النبي محكمهْ
وسنةٍ مأثورة مفهمهْ....لكل ناج قلبه من الكمه
لا رافض يقول تلك مبهمهْ....غلوه في شيخه قد تيمه
كذاك نصَّ المصطفى على علي....وخصّه بأنهُ المولى الولي
في يوم خم لم يكن بمشكل....بل خاطبَ القوم بمعقولٍ جلي
في محفل أعظم به من محفل....وقوله رسالة للمرسِلِ
ولم يكن لخلقه بمهمل....فكيف يأتيهم بما لم يعقل؟!
هل عن صريح نصه من معدل....لمسلم لم يغل في التأوّل؟

(1/448)


وهبهم بزعمهم لم يعرفوا.... ما عطّلوا من حجة وحرفوا
فلم أتوا بغير ما قد كلفوا؟....ما بالهم بالمصطفى لم يكتفوا؟
ويهتدوا بفعله ويقتفوا....وفعله كقوله لو أنصفوا
فإن يكن كما حكوا وصنفوا....أهملهم فلو قفوا ما استخلفوا
وإن يكونوا بالولي عرِّفوا....فكيف عن وليهم تخلفوا؟
الغاصب الأمر ومن منهم سرق....ومَنْ حذا بحذوهم من الفرق
من ناكث وقاسط ومن مرق....وذي اعتزال صار في لج الغرق
ومدّعٍ جهلاً لنص مختلق....به لزيدٍ عن أخيه قد فرق
وعابه إذ لم يمل إلى الفَرَق....وما اقتدى إلا بفعل من سبق
ممن عليه بالنصوص متفق....فمن ترى يكون بالحق أحق؟
ومن يكون في الورى مستخلفا....يحوطهم في دينهم والمصحفا؟
بهديه في كل عصر يشتفى....مِنْ بعدِ مِنْ نصَّ عليه المصطفى
إلا الذي لهم من الآل اقتفى....ممن بهم وبالكتاب عرفا
مبلغاً مِنْ وصفهمْ ما كُلفا....ومُخْبِراً ممن يكون الخلفا
قوم لهم علم الكتاب معتفى....ليسوا كمن بالشيخ والرأي اكتفى
كفى لذي لب وأذن واعيهْ....بما حكاه المصطفى في الواعيهْ
وعترة إلى النجاة داعيهْ....مختارة مهدية وهاديهْ
وفرقة دون الأنام ناجيهْ....وعصمة للمهتدين كافيهْ
ليسوا كأحزاب الجموع الباغيهْ....ولا الأولى مالوا إلى الرفاهيهْ
للشك في جهادهم معاويهْ....فاعتزلوا عن الجميع ناحيهْ
يا أمةً تفضلُ كل أمهْ....إن لم تَشُبْ نور الهدى بظلمهْ
ولم تغير بالضلال النعمهْ....قول النبي قدوة ورحمهْ
قد خصه الله بنور الحكمهْ....ليهتدي به من استأمه
مقتبساً آدابه وعلمه....وللرسول بالدليل عصمهْ
تمنعنا أن نستخين حكمه....وقد أبان الحكم في الأئمهْ

(1/449)


بواضح الألفاظ والمعاني.... ممثلاً لكل ذي إيمانِ
مصدق بمنزل التبيانِ.... وسنة الرسول ذي البيانِ
في وصفه للآل بالأمانِ.... من عاجل الأهوال في الزمانِ
وأنهم لخائف الطغيان.... سفينةٌ كفلكِ ذي الطوفانِ
ومثل باب حطة الغفران.... وكم لهم في محكم الفرقان
من آية من ربهم منزلهْ.... تُحلَّهم في الفضل أعلى منزلهْ
مبيناً ببعضها ما أجمله.... فما اعتذار رافضٍ إنْ بدله؟
كالأمر بالرد وفرض المسئلة.... لأهل من سماه ذكراً أنزله
وآيةٍ() في الود ليست مشكلهْ.... بها أتمَّ دينه وأكمله
ومن قضى إلهه بالود له.... فقد قضى بعدله إذ فضله
وقد قضى بالفضل للمجاهد.... على الوزير والجليس القاعد
قضاء عدلٍ ما له من جاحدِ.... أكرم به من حجة وشاهدِ
وكل فضل في الكتاب وارد.... فمحنة لصابر وحامدِ
ومخرجٌ لضغن كل حاسدِ.... ورافض وباغض معاندِ
معارض عن الرشاد حائدِ.... كفعل إبليس اللعين الماردِ
وكم له في فعله من متبعْ.... بعقله وعلمه لم ينتفعْ
مصمم في غيه لم ينقرعْ.... وإن نهاه ناصحٌ لم يستمعْ
يعجبه مِنْ قوله ما يبتدعْ.... مدلس محرف لما سمعْ
من كل قول في البيان قد وضعْ.... مجتهد في خدع كل منخدعْ
جنابُه لكل غاوٍ متسعْ.... فبئس ما يلجأ إليه المنتجعْ
وشر من يغوى به المسترشدُ.... وطالب العلم ومن يقلدُ
مَنْ يظهر التوحيد وهو ملحدُ.... ويدعي الإصلاح وهو مفسدُ
وزاهد ما إن يزال يعبدُ.... جليسه كتابه والمسجدُ
وهمه العلم وفيه يجهدُ....مشمر في كسبه مجردُ
لكنه إلى الشيوخِ يسندُ....ولا يرى لهم نظيراً يوجدُ

(1/450)


فإن ذكرتَ عنده القرابهْ....وفضلَهم بالعلم والنجابهْ
أجاب لا مبرهناً جوابه....جواب ذي عجز عن الإجابهْ
مجانب لمنهج الإصابهْ....مكشر في وجههِ صلابهْ
يقول ما تقول في الصحابهْ....فأيهم سد النبي بابهْ
وما الذي من فضلهم تشابه....فحارَ فيهم فكره ورأيهْ
وأيهم أدنى إليه في النسب....فرعان عن صنوين مِنْ أمٍّ وأبْ
ولم يزل يحنو إليه مُنْذُ دب....معلماً ملقناً له الأدبْ
لكي يكون مرتضى كما أحب....فلم يدنس عرضَه مسُّ الريبْ
وأيهم لدا الخطوب والخطب....يشهد بالفضل له كل العربْ
إلا الذي جلى الهموم والكرب....عن النبي في الوغى لا من هربْ
هل في وصي المصطفى المعصوم شك....سادس أخيار موفيهم ملكْ؟
وعترة كمثل أنجم الفلك....يفوز من لنهجهم طوعاً سلك
من لم يكن مستمسكاً بهم هلك....ليسوا كمن أسلافهم لهم شَرَكْ
وخائني نبيهم فيمن ترك....والغاصبين إرثهم حتى فدكْ
والمهدري دماءهم لمن سفك....فأيهم يجوز فيه أن يشُك؟
من لم يميز بينهم فقد رزي....ورام أن يحظى بأمر معوز
ليس المنى لخائف بمحرزِ....ولا الذي أيقن كالمجوزي
فاسمعْ لنصح ذي مقال موجزِ....وقل لمبدي رفضه والملغزِ
ليس الغلاطُ في المرا بمعجزِ....فانظر بعقل ثاقب مميزِ
كم بين من إلى الكتاب يعتزي....ومن بزخرف الشيوخ يجتزي

(1/451)


إنَّ الشيوخَ المترفينَ في الدولْ.... والموهمين أنهم فوضىً هملْ
ما دينهم أكثره إلا حيل.... وشاهدُ الثباتِ في صدقِ العملْ
فعالمٌ ضلَّ وأغوى من أضلْ.... وراهبٌ للسحت بالصد أكل
وكلُّهم برفضهم نالوا الأملْ.... من لم يكن محارباً منهم خَذلْ
وشرُّهم مكيدةً من اعتزل.... وزخرف القول وسماه جمل
أو خاض في العلم بوهمٍ مغرقِ.... مجاوزٍ لحدِه مدققِ
مغلغلِ في لجةِ التعمقِ.... وتابعٍ لأهل علمِ المنطقِ
في وصفه للعلم بالتعلق.... بثابت من قبل أن لم يخلقِ
وفي اشتراك مبدع ملفق.... في اللفظ بالذات ووصف مطلقِ
ليثبت التجنيس للمحقق.... والفصل بالتنويع للمفرقِ
وكي يقيس ربه بشاهد.... من يقرن الذات إلى الزوائد
ويوهم التفريق بالفوائدِ.... معولاً على قياس فاسدِ
لبعض أوصاف القديم الواحدِ.... سبحانه عن فرية المناددِ
وعن قياس كل غاو عاندِ.... ينظر في الصانع كالمشاهدِ
وليس في قياسه بواحدِ.... إلا لمجبول على التزايدِ
وما الذي ألجأهم إلى الخطرْ.... والخوض في علم الغيوب بالنظرْ
وما يقال فيه للمخطي كفرْ.... وفي النبي أسوة ومعتبرْ
وقدوة محمودة لمن شكرْ.... ولم يخالف بالوهوم ما ذكرْ
فإنه في الفكر لله حظرْ.... وفي عجيب الصنع بالفكر أمرْ
فمن يكون بعده من البشرْ.... أدرى بما يأتي به وما يذرْ

(1/452)


مدينةٌ في سوحها العلم ثوى....وقوله عن ربه إذا روى
فمَنْ حوى من العلوم ما حوى....ومَن يكون وعظه هو الدوا
لداءِ كل جاهل إذا ارعوى....إلا الذي أخلاقه لا تجتوا
ولم يَفُه بعلمه عن الهوى....ولا ادعاه ضلة ولا غوى
لكن به أوحى إليه ذا القوى....فهل يكون الوحي والخرصُ سوا؟
أم النبي بالإله أعلمُ؟....أم لم يكن موحداً أم يكتمُ؟
بل علمه مستيقن محكمٌ....على عقول الناظرين يحكمُ
وهو الذي عنه الفروض تعلمُ....ثم الوصي بعده المقدمُ
وآله للعالمين أنجمُ....من خص بالعلم الصحيح منهمُ
فقل لمن توحيدهم توهمُ....أرافض الهادين أدرى أم همُ؟
ليس الإله الواحد القدوسُ....كما يظنه الذي يقيسُ
من وصفه التشريك والتجنيسُ....بل قولهم مشارك تلبيسُ
إذ كل فكر دونه محبوسُ....وكل ما تخاله النفوسُ
فمدرك مكيف محسوسُ....فاحذر شيوخاً علمها تنميسُ
وهمها التدقيق والتدليسُ....قد حازها دون الهدى إبليسُ
فحكَّموا حَدْسَ الظنونِ الخائبهْ....واستنتجوا مقدمات كاذبهْ
عن القديم للمديح سالبهْ....فأنتجتْ لهم وهوماً ثالبهْ
مجهولة عن الصوابِ ناكبهْ....مخالفاتٍ للعقول الثاقبهْ
إلا عقولاً في الضلال ذاهبهْ....لخاشعاتٍ عاملاتٍ ناصبهْ
من فرقةٍ عَن الهدى مجانبه....قد جاوزوا حدَّ الفروض الواجبهْ
وألحقوا في علمه زيادهْ....حددها إدراكه إفادهْ
وميزوا الغيبَ عن الشهادهْ....وأثبتوا أيضاً له إرادهْ
من عرض قَدْ أوجبوا انفرادهْ....مخلوقة ولم تكن مرادهْ
وطال ما أجرى الغلو عادهْ....وأظهروا التزيين بالعبادهْ
مشائخٌ أكابرٌ وسادهْ....أضحوا إلى سبل الضلال قادهْ

(1/453)


أَمِنْ فروضِ العلمِ بالتوحيدِ....وصف الإله الواحد المجيدِ
بالنوع والتجنيس في التحديدِ....وذاته بواجب المزيدِ
مخصص ومقتضى مفيدِ....وعلم ما يدرك بالتحديدِ؟
هل بعد ذا لطالب التحديدِ....وطالب التشبيه والتعديدِ
من مطلب يا مؤثر التقليدِ؟....فانظر بفكر سالم سديدِ
ما الفرق بين مقتضي وعلهْ....وزائد وكثرة وقلهْ
إلا اصطلاح سادةٍ مضلهْ....قد سلكوا في طرقٍ مزلهْ
فاقنع بنحلة النبي نحلهْ....قنوع ذي دين مسلم لهْ
فالمصطفى من أهل كل ملهْ....أعلم بالمدلول والأدلهْ
وبالفروض الواجبات لله....والشيخ أدنى أن يكون مثله
فانظر بعين ناقد بصيرِ....مستبصر في البحث للأمورِ
وموضع التلبيس والتغريرِ....من علم كل رافض نحريرِ
مجوز للصلح بالتغييرِ....والقلب والتحريف في التعبيرِ
وما حكوا من موجب التأثيرِ....والوصف للصانع بالتكثيرِ
وما ادعوا في قسم الحصورِ....وفي شروط الحد للمحصورِ
للشيخ من نشر العلوم الفائضهْ....أظهرها قالوا وكانت غامضهْ
وإنما تلك العلوم الغامضهْ....فاعلم وهوم في النفوس عارضهْ
فيما ورا حد العقول خائضهْ....وبعضها للبعض منها ناقضهْ
وحجةُ الغالينَ فيها داحضهْ....فارفض شيوخاً للهداة رافضهْ
وللمُوالي للوصي باغضهْ....وبالضلال للهدى معارضهْ

(1/454)


في الجمع للإفراط والتفريطِ....بكل قول واضح التخليطِ
فاعرف مثال الخدع بالتغليطِ....عرفان ذي علم به محيطِ
فيما ادعوا للجوهر البسيطِ....في ذاته والمقتضى المشروطِ
بما به أفتوا من الشروطِ....ومنعه عن رتبة التوسيطِ
إذا التقت جواهر الخطوطِ....كلؤلؤ ينضم في سموطِ
واسمع لما أحكيه يا عذولُ....فإنه من قولهم منقولُ
جواهر العالم لا تحولُ....وكلها في صفة تزولُ
بعرض ما إن له حلولُ....وأي وهم فيه لم يجولوا
وما الذي بالخرص لم يقولوا....في كل ما تنكره العقولُ
لم يقضه الله ولا الرسولُ....وذكر كل قولهم يطولُ
وأحدثوا في الفقه رأياً يبتدعْ....فأصبحوا كمثل أحزاب الشيعْ
كلُّ امرءٍ لرأيهِ قَدْ اتبعْ....خوفاً من الجهل وفي الجهل وقعْ
ومنهم لمذهبين قد جمعْ....مُظَهِّراً تشيعاً به خدعْ
ولو وعوا من النبي ما شرعْ....ومن حبا بإرثه ومن منعْ
لأيقنوا أنّ الهدى فيما وضعْ....لا في الذي دانوا به من البدعْ
في كل قول حادث مخروصِ....والجعل للعموم كالخصوصِ
ليوهموا التشكيك في النصوصِ....مكيدة للأفضل المخصوصِ
وما لهم عن رتبة المنقوصِ....ورتبة المفضول من محيصِ
إلا إلى الإنكار والنكوصِ....وكونهم في العلم كاللصوصِ
لكل ما في الذكر من تخصيصِ....فهل لهم في ذاك من ترخيص؟
بل أُعجِبوا بعلمهمْ فاستكبروا....وكم لهم من بدعةٍ لو فكروا
لمثلها ممن عداهم أنكروا....وفَسَّقوا مَنْ قالها وكفَّروا
وكم إمام عاصروا لم ينصروا....بل ثبَّطوا عن نصره ونفَّروا
وأوهموا بأنه مقصر....ثم استعاضوا خمسةً واستشوروا
وقدموا برأيهم وأخروا....وخبْرُهم يعرفُهُ من يخبرُ

(1/455)


في لبسهم لمحكم التنزيلِ....ومستفيض سنة الرسولِ
ما ادعوا من منكر التأويلِ....والحكم بالرأي على الأصولِ
والعكس للمدلول والدليلِ....وليس كل واضح معقولِ
بمشكل الألفاظ مستحيلِ....والفكر للأوهام للعقولِ
في الفرق للشريك والتمثيلِ....ليعلموا التوحيد بالتعليلِ
وجعلهم للعترة الأشهادِ....ومعدن التأويل والإرشادِ
بزعمهم مِنْ جملةِ الآحادِ....في حادث الفقه وفي الإسنادِ
كغيرهم من حاضر وبادِ....وأنهم للشغل بالجهادِ
لم يظفروا في العلم بالمرادِ....ألم يعوا تفضيل ذي الأيادي
لمن به قضى من العبادِ؟!....وقوله لكل قوم هادي
فلم يزل ولا يزال في الزمنْ....بعد الوصي والحسين والحسنْ
مِنْ آلهم في كلِّ عصرٍ مؤتمنْ....يقفوهم مع الكتاب في سننْ
محافظاً على الفروض والسننْ....وحافظاً للعلم عن لبس وظنْ
وكتبهم مشهورة في كل فنْ....لدا العراق والحجاز واليمنْ
لولا افتتان من بها قد افتتنْ....والحق فيها ظاهرٌ لكنْ لمنْ
إذ قد غدوا بين الورى كالأجنبي....بعد النبي أو عدوٍّ مذنبِ
قد أسعفت فرصتهم لمغصبِ....ومنكر لفضلهم بالمنصبِ
ورافض لفضلهم مكذبِ....وشيعة تفرقت في المذهبِ
واستبدلت بأبعد عن أقربِ....فأهملت فرض الولاء الموجبِ
وعلم من عليهم مع النبي....أسنا الصلاة والسلام الأطيبِ تمت الرسالة بحمد الله ومنّه فله الحمد على كل حال من الأحوال والصلاة والسلام على محمد وآله خير آل.

(1/456)


وقال أيضاً:
أيُّها المستفيدُ من علم قومٍ .... نكبوا عن سبيل سفن النجاةِ
لا يغرنَّكَ بالزخارف علمٌ .... باطل بالأدلة المحكماتِ
ألَّفَتْهُ الغلاةُ بالوهمِ خَرْصاً .... كي يكونوا أئمة الامعاتِ
دلسوا العلم بالتفقهِ في الديـ .... ـن وبالرفض للهداة الثقاتِ
واكتفوا منه بالتسمي ومالوا .... عن صحيح المقال للترهاتِ
أعملوا الفكر في الإله فتاهوا .... في مهاوي مجاهل مهلكاتِ
أثبتوا الله جل عن ذاك جنساً .... كي يقولوا مشارك للذواتِ
ثم قاسوه بالذوات اللواتي .... أكمل الله خلقها بالصفاتِ
جعلوه كمثلها ذا صفاتٍ .... زائدات في ضمنه داخلاتِ
وادعوا حصر علمه في ذواتٍ .... لم تزل أجل علمه ثابتاتِ
وهي مقدورةٌ له لا تناهى .... لا بِعَدٍّ قالوا ولا بجهاتِ
حكِّمِ الفكرَ كي ترى كيف نصوا .... بعض وصف القديم للمحدثاتِ
واستردوا مِنْ وصفها ما أعا .... ضوه افتراءً كوصفه بالثباتِ
ولهم في الصفات شرحٌ بديعٌ .... واصطلاحٌ مخالفٌ للغاتِ
لا ذوات غدت ولا لا ذوات .... بل أمور جعلن للتفرقاتِ
ليس لا شيء ولا هنَّ شيء .... أي عقلٍ لمثل هذا يؤاتِ
ليس بين النفي والإثبات قسمٌ .... غير جمع النقائض البيناتِ
ليس بالاضطرار يعلم أمر .... لا بنفي يدعى ولا إثباتِ
كل فكر أدى إلى مثل هذا .... فهو وهمٌ ما إن له من ثباتِ

(1/457)


هكذا العدل فيه حاروا فمالوا .... عن سبيل الرشاد مثل السراتِ
أكمل الله دينه باصطفاه .... للمودي زكاته في الصلاةِ
واجتباه لعلمه أنه أو.... لى بأمر الرسول بعد الوفاةِ
نصَّ ذاك النبي في يوم خمٍّ.... وهو أدرى بما يقول ويأتيِ
لم يقلْ عن هوىً بذلك فيهِ .... بل لآي أتت به منزلاتِ
فأبى عن قبول ذلك قومٌ .... لهنات يقال أو لحناتِ
واستدلت لذاك أخبارَ سوءٍ .... ليصدوا عن الهدى والهداتِ
جعلوا العقد في الإمامة شرطاً .... وادعوا أنهم ولاة الولاةِ
كيف يضحي من الرعية بالـ .... ـعكس أمير مفوض في الرعاتِ؟!
أو ليس الإله بالأمر أولى .... ويعلم الأسرار والنياتِ
إذ قضى بالوداد حتماً لقومٍ .... ونفى الدين عن مؤدى العصاتِ
هلْ لتوحيد ذي الجلال وللـ .... ـعدل بصير مبصر للغواتِ؟
هلْ لأهل الفرقان من مستأمٍ .... تابع للحماة عنه الأباتِ؟
داخلٍ باب حطة مستعدٍ .... راكبٍ في السفاين المنجياتِ
ممسكٍ بالعرى الوثاق لينجو .... من طواغيت عصره المطغياتِ
مخلصٍ للوداد فيهم مطيع .... لائذٍ بالسؤال في المشكلاتِ
إذ هم الصفوةُ الخيارُ أولوا الـ .... أمر وأهلُ التطهير أهلُ العباتِ
من يُصلَّى مع النبي عليهم؟ .... مَنْ سواهم له كهذي السماتِ؟

(1/458)


ومن كلامه رضي الله عنه وأرضاه:
يا عاذلي عن مذهبي ومُعَنّفي .... دعني فإني بالأئمةِ مُقتفي()
قومٌ قفوا في الدين منهج جدهمْ .... يا حبذاك المقتفى والمقتفي
قومٌ همُ سفنُ النجاةِ وملجأُ الـ .... ـعاني اللهيف ومستغاثُ المعتفي
ومنارُ مَنْ يبغي الإنابة والهدى .... في كل فنٍّ في العلومِ ليشتفي
وهم الذين مِنَ الأنام تُخيروا .... بعد النبي لإرثِ علمِ المصحفِ
هل في الورى من بعدهم مِنْ مصطفى؟ .... أم هلْ سوى ربِّ الورى مِنْ مُصْطَفِي؟
وهم الخلائف للنبي بنصهِ .... صلَّ الإلهُ عليهِ من مستخلفِ
نصب الأئمة للبرية قدوةً .... فهم الأمان من الضلال المتلفِ
الكاشفون لكل كربٍ كارثٍ .... ولكل حادث مذهبٍ متكلفِ
ودسيس زنديقٍ ودلسة رافضٍ .... وغلو مغتالٍ ولبسةِ فلسفي
ولكل شبهة ملحدٍ متعنتٍ .... ومقال كل مزخرفٍ ومحرفِ
لم يخلُ عصرٌ منهمُ مِنْ مرشدٍ .... هادٍ إلى سبل النجاةِ معرفِ
لا دين إلا ما ارتضوه لأهلهِ .... كالتبر ينقده محكُّ الصيرفي
أيصدني عن علمهم من صدهُ .... علمُ الشيوخِ عن المحل الأشرفِ
فبأي عذرٍ إنْ رفضتُ علومَهمْ .... ألقى الإلهَ بذكرهِ في الموقف؟

(1/459)


وقال أيضاً:
لقدْ ظهرتْ بعدَ النبي مِن الورى .... دفائنُ أضغانِ العتاةِ الروافضِ
وفي العدل والتوحيد من خوض بعضهمْ .... أقاويلُ زورٍ بيناتِ التناقضِ
فضلوا وغروا من أضلوا بعلمهمْ .... وإن كان ما قالوه ليس بغامضِ
ولكنهُ مَنْ لم يحطْ أصلَ دينه .... عن الرفض لم يشعر بلبسِ المعارضِ
ومن لم يكن آلُ النبي هداتَه .... إلى الحق ألقى نفسَهُ في المداحضِ

(1/460)


وقال أيضاً:
زالَ أهلُ التفعيلِ والانفعالِ.... وأديلَ التطريفُ بالاعتزالِ
كيف ينجو مِن الضلالة ناج.... صار منها إلى أضل الضلالِ
ليسَ مَنْ ليسَ ينكرُ النص والحصـ.... ـر وإن قال ذاك بالأعمالِ
مثل من ينكرُ الوصيةَ والنصَّ.... عليها وفرض جمع الخصالِ
مستجيزاً لجحده العدل عمداً.... مستحلاً للقول بالإهمالِ
حرفوا محكم النصوص فصاروا.... قدوةً في التلبيس والإضلالِ
ولهم في التوحيد أقوالُ زورٍ.... مزرياتٌ في الزور بالأقوالِ
رائقاتٌ بالمين كل مخيلٍ.... فائقاتٌ في النكر كل محالِ
شاهداتٌ لمفرغ الوهمِ فيها.... باعتداء الحدود والإيغالِ
أصلوا للقياس أصل اصطلاحٍ.... جلَّ عن أصل صلحهم ذو الجلالِ
لقبوا الجسم بالذوات ليقضوا.... باشتراكٍ في حالةٍ وانفصالِ
وادعوا أن للمهيمنِ ذاتاً.... شاركت ثم فارقت في خلالِ
ثم قاسوا ما فرعوه وخاضوا.... في شروحٍ لهم عراضٍ طوالِ
باختراصٍ في قولهم وابتداعٍ.... وبظنٍ منهم له وانتحالِ
واختيالٍ في فرقهم للمعاني.... بينما ليس فيه فرقٌ بحالِ
نحو ما قد جمعتُ منه مثالاً.... هاهنا فاستمع لضرب المثالِ
أزلي ثبوته وقديمٌ.... ذو وجود ما إن له من زوالِ
وكذا الفرق بين أمرٍ وشيءٍ.... واشتراك الذوات والأمثالِ
ومزيدٍ على الذوات وغيرِه.... واقتضاءٍ للأحكام والأعلالِ
وأمورٍ تجددت وذواتٍ.... فاعلاتٍ حوادثَ الأفعالِ
أي فرقٍ ما بين اثنين منها....في صحيح الذكا وصدقِ المقالِ؟

(1/461)


ليس إنْ قيلَ ثابتٌ أزليٌ.... هو إلا لربِّنا المتعالِ.
ضل من قال لم يزل كل شيءٍ.... ذا ذواتٍ ثوابت الأحوالِ..
باعتماد منه لعكس المقالا.... تِ ولبس المعلوم بالإدّغالِ
لو يجوز التبديل للقول صلحا.... جازَ قلبُ القرآن بالإبدالِ
ما أتى في التكليف أمرٌ بهذا.... لا بقولٍ يروى ولا في فعالِ
بل أتى الأمر بالتفكر في الصنـ.... ـع وتركِ اتباعِ رأي الرجالِ
غيرَ مَنْ كان مصطفىً ذا اعتصامٍ.... أو حكيماً في قوله غير غالِ
مستحقاً في الذكر أن يقتدى منـ.... ـهُ بما قال من رخيصٍ وغالِ
كل دين مزخرف القولِ إلا.... دينَ آلِ المصطفى خير آلِ
أوجب الله ودهم واجتباهم.... وارتضاهمْ في وحيهِ للسؤالِ
فاستعاض الأنام عنهمْ شيوخاً.... آثروهم بالود والإجلالِ
واستخفوا بعلم كل إمامٍ.... واستأموا بسادة ضُلالِ
مثل ما كان قبلهم قومُ موسى.... لم يطيعوه عرضَ تلك الليالي
قدموا مِنْ شيوخهمْ غيرَ هارو.... نَ فأصبحوا مثولةً في النكالِ
واحتذتْ أمةُ النبي فعالَ الـ.... ـخاسرينَ الطغاةِ حذو النعالِ
أتواصوا بذاكَ أم ذاك أمرٌ.... فيه تلقى تشابه الأشكالِ

تم ذلك بحمد الله ولطفه(1)
___________
(1)ـ قال في آخر نخ (ج): تم الكتاب المبارك ضحوة يوم الجمعة المباركة /11/ شهر ربيع الآخر / سنة (1041هـ) بعناية السيد الأوحد الأفضل العلامة ضياء الدين صلاح بن محمد العادل تجاوز الله عنا وإياه وختم للجميع بالحسنى وللمؤمنين والمؤمنات إنه غفور رحيم.

(1/462)


وذلك بخط من هو معترف بذنبه وراجي عفو ربه ومغفرته: راشد بن محمد بن عبدالله الطفيري الزيدي مذهباً، والعدلي اعتقاداً، وفقه الله تعالى لصالح العمل آمين.
قال في آخر النسخة التي تمّ قصاصة الرسالة الناظمة كنسخة ثانية: تم الكتاب المبارك قبيل ظهر يوم الربوع لعله 21 شهر الحجة من شهور سنة (1355هـ) بعناية سيدي عزّ الإسلام محمد بن منصور المؤيدي حفظه الله وتجاوز الله عنا وإياه وختم للجميع بالحسنى وللمؤمنين والمؤمنات إنه غفور رحيم ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، بقلم الحقير المعترف بذنبه وراجي عفو ربه ومغفرته قاسم بن محمد سهيل وفقه الله لصالح الأعمال بحوله وطوله (1355هـ).
قال في آخر نخ (أ): تم المجموع بحمد الله ومنه فله الحمد كثيراً بكرة وأصيلاً وكان الفراغ من رقمه يوم الجمعة المباركة رابع عشر من شهر القعدة سنة (1056) من هجرته صلى الله عليه وعلى آله وسلم، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
تمّ لي مطالعة مجموع السيد العلامة حميدان بن يحيى بن حميدان العلامة الفهامة والخائض بأكمل صناعة في السبح في بحار الربوبية والنبوة والإمامة وكان الفراغ صبح يوم السبت ثالث شهر المحرم سنة (1380هـ) بقلم الحقير أحمد بن أمير المؤمنين الناصر -رضي الله عنه-. وصلى الله على محمد وآله وسلم.

(1/463)


قال في آخر نسخة (ب): صادف الفراغ والمنة لله على ذلك يوم السبت 4/شهر جمادى الأولى سنة (1337هـ) بقلم أسير ذنبه الراجي عفو ربه ومغفرته ومستمد الدعاء ممن اطلع عليه يحيى بن إبراهيم المتميز ثبته الله والمؤمنين آمين اللهم.

(1/464)