الكتاب : مجموع الإمام القاسم بن محمد عليه السلام (القسم الأول)
المؤلف : الإمام القاسم بن محمد عليه السلام

مجموع الإمام القاسم بن محمد عليه السلام
القسم الأول
أعد هذا الكتاب إلكترونيا
قطب الدين بن محمَّد الشَرْوَني الجعفري
للتواصل
viva_intifada@hotmail.com
www.izbacf.org

(1/1)


المقدمة
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين سيدنا محمد الأمين وآله الطاهرين، وأصحابه المنتجبين.
وبعد ..
حينما نتصفح تأريخ الإسلام والمسلمين فإنه قلّما نجد حكاماً مؤلفين أو خلفاء يردمون الهوة بين النظرية والتطبيق، بين القول والعمل، الأمر الذي انفردت به اليمن عن سائر الأقطار، والإمام القاسم بن محمد عليه السلام واحد من سلسلة عظيمة من الأئمة المجتهدين، المفكرين، المؤلفين، والشعراء أيضاً.
ومن الملاحظ أنه لم يقتصر حكم الأئمة " على الجانب السياسي العسكري، بل إن نهوضهم بالأمر لم يكن لولا نبوغهم في العلم وتحصيل الاجتهاد كشرط لقبول الدور الجهادي والسياسي، فجمعت شخصية الإمام القاسم كل مؤهلات وصفات القيادة الروحية والفكرية والسياسية والجهادية، فكل هذه الصفات أشهرت الإمام القاسم عليه السلام في الآفاق، وجعلته في الصدارة من علماء ذلك الزمان المؤهلين للنهوض بالرسالة الجهادية والفكرية لليمن آنذاك.
وللإمام القاسم بن محمد رؤيةٌ تجديديةٌ في الفكر الإسلامي عموماً والفكر الزيدي خصوصاً، وقد بلغت مؤلفاته ورسائله الأربعين -أغلبها لا يزال مخطوطاً تحت التحقيق إن شاء الله عزّ وجّل- أشهرها موسوعته الكلامية (الأساس)، وموسوعته في الحديث والفقه وعلمي الرواية والدراية (الاعتصام) وغيرها.
ويعد الإمام القاسم عليه السلام الجسر الكبير الذي وصل المتأخرين بالمتقدمين من أهل البيت، وأثبت بذلك أنهم ليسوا عالة على المعتزلة كما يروج لذلك خصوم آل البيت.

(1/2)


محتويات الجزء الأول من المجموع
أولاً: الجواب المختار على مسائل عبدالجبار
يسمى هذا الكتاب (الجواب المختار على مسائل القاضي عبد الجبار) يحتوي على مسائل عديدة في أصول الدين، والفقه وأصوله، وعلم الحديث ورجاله، والأخلاق، والزهد وغيرها، أجاب عليها الإمام القاسم عليه السلام إجابة سطعت بنور اليقين شمسها، وبني على قواعد الكتاب والسنة أساسها، فقد بيّن عليه السلام ما التبس على السائل واحتار في حكمه، فوضَّح المبهم، وشرح المجمل، وبيَّن المفصل، وحلّ المشكل معضداً ذلك بالأدلة من كتاب الله عزّوجّل وسنة رسوله صلى الله عليه وآله وسلم وأقوال واجتهاد أئمة أهل البيت ".
والمتأمل في هذه الجوابات الشافية وما احتوت عليه من الفوائد الجمة والتي يحتاجها العالم والمتعلم ولا يستغني عنها المفتي والمستفتي يتيقن علم وحكمة وذكاء وفطنة ودقة وحنكة وبلاغة المجيب عليها.

(1/3)


ثانياً: التحذير من الفتنة
يُسمى هذا الكتاب التحذير للعباد من المعاونة لأهل الفساد، ويسمى التحذير من المعاونة على الفتنة، بيّن فيه الإمام القاسم بن محمد عليه السلام أعمال الظلمة ونتائج السكوت عليها، محذراً من مساندتهم وإعانتهم، حيث ذكر عليه السلام السبب في تأليفه لهذه الرسالة فقال: [فإنه لما وقع النكير على من حذّر من المعاونة على الفتنة بقولٍ كالحث على إحياء أرض الظالمين، أو مالٍ كتسليم ما يعسكرون به العساكر، ويحصنون به الحصون، ويضطهدون بسنة الآمرين بالمعروف، ويضيمون لأجله الناهين عن المنكر، ويُخيفون من أوجب الله أمانه، ويؤمِّنون من أوجب الله تخويفه، ويتقوون به على سفك الدماء، وينكحون به الذكور، ويشربون به الخمور، ويلبسون به الحرير إلى غير ذلك مما لا أُحصي من المحظور، وإثارة الشرور، وعلمت أن الله سبحانه وتعالى لا يعذر عن تبيين الحق حيث قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُوْلَئِكَ يَلْعَنُهُمُ الله وَيَلْعَنُهُمُ اللاَّعِنُونَ} وغيرها مما يؤدي هذه المعنى من الآيات.
وقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ((من كتم علماً مما ينفع الله به في أمر الدين ألجمه الله يوم القيامة بلجام من نار)).

(1/4)


جمعت في هذا الكتاب من الأدلة وأقوال الأئمة " ما يشتد به إن شاء الله ظهور المؤمنين، ويرغم به أُنوف المبطلين، ولا عدوان إلاَّ على الظالمين {إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ الإِصْلاَحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلاَّ بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ}.

(1/5)


ثالثاً: الوصية السنية الدرية الزكية
وهي مما أوصى بها ولده المؤيد بالله محمد يوصيه بتقوى الله وطلب العلم والإكثار من قراءة القرآن والتواضع وغيرها من الوصايا الحسنة والنافعة.
أسأل الله العلي القدير أن يجعل هذا العمل خالصاً لوجهه الكريم، وأن يوفقنا لإخراج ما تبقى من تراث أئمة وعلماء أهل البيت النبوي "، وأن يجزي كل من بذل ويبذل جهوداً في سبيل إخراج هذه الكتب إلى النور وفي المقدمة أستاذي وشيخي العالم المحقق عبد السلام بن عباس الوجيه، حفظه الله، والذي استقيت منه حب العلوم الشرعية والخوض في غمار التحقيق بتشجيعه ودعمه لي في أحلك الظروف، وكذا جميع الإخوان الداعمين والعاملين في مؤسسة الإمام زيد بن علي الثقافية أثابهم الله وجزاهم خير الجزاء.
وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله الطاهرين.

محمد قاسم محمد المتوكل
جمادى الأولى 1424ه‍
الموافق يوليو 2003م

(1/6)


ترجمة المؤلف عليه السلام
نسبه الشريف
هو الإمام المنصور بالله القاسم بن محمد بن علي بن محمد بن علي بن الرشيد بن أحمد بن الأمير الحسين بن علي بن يحيى بن محمد بن الإمام يوسف الأصغر الملقب الأشل بن القاسم بن الإمام الداعي إلى الله يوسف بن المنصور بالله يحيى بن الناصر لدين الله أحمد بن الإمام الهادي إلى الحق يحيى بن الحسين الحافظ ابن نجم آل الرسول الإمام القاسم بن إبراهيم الغمر طباطبا بن إسماعيل الديباج بن إبراهيم الشبه بن الحسن الرضا بن الحسن السبط بن أمير المؤمنين الإمام علي سلام الله عليهم أجمعين.
نسب أضوأ من الضياء وأعذب من شرب الماء على الظمأ.

(1/7)


مولده ونشأته
ولد عليه السلام ليلة الإثنين في الثاني عشر من شهر صفر سنة 967ه‍ بالشاهل من بلاد الشرف، وكان والده يسكن جهات بني مديخة من بلاد الشرف الأسفل، وكان يعمل بعسكر المطهر بن شرف الدين، وخاض معه حروباً كثيرة ضد الباشا سنان، عايش الإمام القاسم هذه الحروب ورأى في أبيه المجاهد الشجاع الذي وقف يقاتل للدفاع عن المذهب والعقيدة والأرض اليمنية مثالاً يحتذى.
ولما بلغ الإمام سن العاشرة قرأ القرآن الكريم، وكان فيه فطنة وفصاحة، وقد أخذ العلم عن كبار العلماء في شتى أنواع العلوم، واتصل بالإمام الحسن بن علي بن داود وظل ملازماً له حتى نفي الأخير إلى الاستانة، ومن أشياخه أيضاً السيد أمير الدين عبد الله بن نهشل بن المطهر، والسيد الحسن بن شرف الدين، والسيد عز الدين بن علي بن عبد الله وغيرهم.
ووسط ذلك الجو العلمي والروحي والجهادي نشأ معروفاً بالطهارة وقوة القلب والشجاعة، وقيل عنه: إنه لم يروعه شيء مما يروع الصبيان، وكان حريصاً في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

(1/8)


اختياره للنهوض بواجب الدعوة
قال عنه المولى مجد الدين المؤيدي في التحف: (قام بعد إياسه من خروج الإمام الناصر الحسن بن علي، ولقد جدّد الله بعلمه، وطهر الأرض من الردى، ونشر فيها الإيمان والهدى).
نتيجة للفتن والاضطرابات التي كانت تعيشها اليمن آنذاك، ونظراً للمؤهلات الفذة التي تمتع بها الإمام القاسم، فقد وقع اختيار العلماء والأعيان من أهل الحل والعقد عليه للقيام بواجب قيادة الأمة وتحمل المسئولية، ينقل لنا الجرموزي صاحب سيرته قول الإمام: (كانت الإمامة ما تعرض في فكري لما أرى من شرارة الخلق وقوة سلطان الترك على الأرض).
وبعد إلحاح الكثير من العلماء نهض الإمام القاسم بالأمر، فأخذ ينتقل من مكان إلى آخر من بلاد الشرف، ثم دخل صنعاء متخفياً يقرأ القرآن ويدعو الأعوان، وكان العثمانيون قد شعروا بخطورته قبل ظهور إمامته فأخذوا يجتهدون في التجسس عليه ومطاردته، وبذل الأموال الكثيرة في سبيل ذلك.
وكان أول ظهور دعوته من (جبل حديد) قارة، سنة 1006ه‍.
وقد اعتمد الإمام على الأسلوب الإعلامي والتوعية للجماهير من خلال الخطابات والرسائل المطولة والكتب الكثيرة التي كان يرسلها للأفراد والجماعات، وكانت تحمل المبادئ التي يدعو إليها في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وإقامة دين الله في أرضه وتطهيرها من الفساد ومما يخالف شرع الله.
عن هذه الرسائل انظر كتاب النبذة المشيرة. سيرة الإمام عليه السلام للجرموزي.

(1/9)


جهاده وانتصاراته العسكرية
بعد انطلاق دعوته من جبال قارة شمالي بلاد الشرف أجابه أعيان تلك الجهات حتى اجتمع عنده نحو أربعمائة نفر، وكان الوالي من قبل الأتراك في بلاد الشرف الأمير حسين بن ناصر، فتقدم نائبه لحرب الإمام، فهزمه أصحاب الإمام، ثم شاع خبره عند الوالي التركي الباشا حسن، فوجه إليه عبد الله بن المعافا في عساكر كثيرة وأتبعه بعساكر عامل (حديد)، فأمر الإمام القاسم أتباعه بالكف عن محاصرة وشحة، والاجتماع به في (حديد) قارة، فاجتمعوا هناك وبينما هم في اجتماعهم إذ وصلتهم جنود الأتراك، ووقعت حروب أسفرت عن إصابة بعض أصحاب الإمام بجروح، وتوغل داخل بعض الأودية، وواصل الغارة من فوره على ناحية عذر، وكانت سنة إمامته الأولى هي سنة الفتوحات، فدخل جنده الحيمة وشظب وحصن السودة وغيره.
لقد كانت لشخصيته الفذة وسيرته الحسنة في الناس أثرها في تحقيق الانتصارات ضد الأتراك، وكانت انتصارات الإمام موضع الدهشة للجميع حتى قيل: (إنه كان من العجائب أن أصحابه إذا توجهوا على حصن فتحوه في أقرب مدة).

(1/10)


النهضة الفكرية والعلمية في عهده
الجانب العلمي: كانت المساجد والجوامع هي المدارس التي يذهب إليها طلبة العلم حيث يتلقون فيها العلوم الدينية مثل قراءة القرآن والحديث والتفسير والفقه والفرائض، وكان الإمام القاسم نفسه يقوم بالتدريس في جامع شهارة، وكان ذلك الحال بالنسبة لأبنائه يقومون بمهمة التدريس إلى جانب مهام الحكم.
لم يقتصر دور الإمام القاسم عليه السلام على الجانب السياسي والعسكري الذي تفوق فيه على الخصوم الأكثر عدداً وعدة لا سيما الأتراك، بل إن نهوضه بذلك الأمر لم يكن لولا نبوغه في العلم وتحصيل الاجتهاد كشرط لقبول الدور الجهادي والسياسي مما جعله في الصدارة من علماء ذلك الزمان المؤهلين للنهوض بالرسالة الجهادية والفكرية لليمن آنذاك.

(1/11)


الإمام القاسم شاعراً
ومن قصيدة له عليه السلام يحث فيها على اتباع أهل البيت ":
ياذا المريد لنفسه تثبيتا .... ولدينه عند الإله ثبوتا
اسلك طريقة آل أحمد واسألن .... سفن النجا إن تسألوا ياقوتا
لا تعدلن بآل أحمد غيرهم .... وهل الحصاة تشاكل الياقوتا
الله أوجب ودهم في وحيه .... والرجس أذهب عنهم إن شئتا
وأئمة الأخيار تروي فضلهم .... فابحث تجده مجملاً وشتيتا
ما إن تلم بمسندٍ أو مرسلٍ .... إلاَّ وجدت لهم هناك نعوتا
إلى آخرها.
وله عليه السلام القصيدة المسماة باستفتاح الفرج (المنفرجة) وهي مائة بيت اخترت منها الأبيات التالية:
يا ملجئاً للخائف المحتارا .... يا من يغيث مشرداً قد طارا
يا حي يا قيوم يا غوث الذي .... يشكو إليك من الذي قد جارا
يا من يجير بفضله مستضعفاً .... مستصرخاً متضرعاً لك جارا
يا من يجير ولا يجار عليه في .... سلطانه يا قاصماً جبارا
يا من هو الله الشديد محاله .... يا قادراً يا غالباً قهارا
يا من تنزه أن يراه بناظرٍ .... يا من يحيط ويدرك الأبصارا
يا أولاً يا آخراً يا ظاهراً .... يا باطناً يا عالماً أسرارا
يا واحداً يا دائماً يا باقياً .... يا من أبان عجائباً وأثارا
يا نافخ الأرواح في أشباحها .... ومقدراً لبقائها مقدارا

(1/12)


إلى قوله:
يا رب يا حنان يا منّان يا .... رحمان يا ديّان يا جبارا
يشكو عُبيدك بعد أن نزلت به .... دهماء يسعر حرها إسعارا
يشكو إليك من الذي بعث الأُولى .... يبغون فجعة مؤمنٍ ودمارا
يشكو شكاية محرق مستضعفٍ .... كثرت جنود عدوه فتجارا
أعوانه متجبرون فأشبهوا .... فرعون أو هامانه الكفارا
إلى قوله:
فبحق ذاتك يا مغيث عُبيده الـ .... ـمضطر ممّن قد أراد ضرارا
وبحق ذاتك يا رحيم برحمة .... رادفتها بتفضل مدرارا
إلى آخرها.
وله الكثير من القصائد، انظرها في (النبذة المشيرة) للجرموزي.

(1/13)


مؤلفاته عليه السلام
1- الإجازات في تصحيح الأسانيد والروايات لعلوم آل محمد عليه السلام.
2- الإرشاد إلى سبيل الرشاد في طريق أعمال العباد عند فقد الاجتهاد.
3- الأساس لعقائد الأكياس. وهو من أشهر كتبه وأهمها وله شروح كثيرة.
4- الاعتصام بحبل الله المتين القاضي بإجماع المتقين ...(فقه وحديث).
5- التحذير للعباد من معاونة أهل البغي والفساد.
6- تحف ذوي الألباب في علم الإعراب -مخطوط-.
7- تفسير القرآن -مخطوط-، وهو تفسير موجز لآيات الأحكام وصل فيه إلى بعض سورة المائدة.
8- الجواب المختار على مسائل القاضي عبد الجبار.
9- جواب السؤالات الصنعانية عن الاختلافات العقائدية.
10- حتف أنف الآفك في الرد على أهل العقائد الزائفة.
11- الدرر في معرفة الله تعالى.
12- مرقاة الوصول إلى علم الأصول.
13- طرفة الراغب في الإعراب عن مقدمة ابن الحاجب.
14- المتجر الرابح في جوابه على مسائل الحاج صالح.
15- المقنع في علم أصول الدين المطلع على مذهب العلماء المتكلمين.
16- الوصية السنية الدرية الزكية، وصيته لولده المؤيد بالله محمد بن القاسم.
وله الكثير من المؤلفات والرسائل انظرها في كتاب (أعلام المؤلفين الزيدية) للأستاذ عبد السلام الوجيه، و(حكام اليمن المؤلفون المجتهدون) للأستاذ عبد الله الحبشي.

(1/14)


النظم العمرانية في عهده
أول أعمال الإمام العمرانية هي عمارة قرية الهجرة في برط سنة 1010ه‍، بعد خروجه من شهارة، فقد حفر بئراً وبنى مسجداً وسماها بالهجرة.
وقد أسس الإمام عليه السلام جامع شهارة في الرابع عشر من شهر محرم عام 1015ه‍، وانتهى من إنشائه في العشر الأواخر من محرم سنة 1018ه‍، وهذا الجامع متسع، به محراب وبه منهل ومنازل لقراءة القرآن، ومساكن لطلاب العلم.
وبعد استقرار الإمام في شهارة كان يدرس فيه طلبة العلم فأصبح مركزاً علمياً شهيراً في شهارة.
كما أسس الإمام السمسرة في مدينة الهجر، وهي عظيمة البناء، فإن أهل النظر في العمران يقولون: إن هذه السمسرة وأساطين جامع شهارة وعقودهما من عجائب اليمن.
كما أسس الإمام مسجد الهجر، وقد بنى الطريق المدرَّج إلى شهارة الفيش حيث مهدها للجمال والخيل، وأقام الحوانيت والبيوت والسوق، وأنشأ السمسرة التي في سوق الثلوث والمسارحة.
وقد أسس المسجد المعروف بمسجد علي بن الإمام في مدينة صعدة.
وفي عهده ازدهر العمران وأُصلِحت السُّبل والمناهل وبنيت عشرات المساجد والهجر العلمية.

(1/15)


وفاته عليه السلام
وبعد جهاد وكفاح واجتهاد وتأليف وتدريس وإفتاء، توفي عليه السلام في 12 ربيع الأول سنة 1029ه‍ بمدينة شهارة التي اتخذها مستقراً لحكمه.
وقد رثي -رحمه الله تعالى وجزاه عن الإسلام والمسلمين خير الجزاء- بمراثٍ عديدة. انظرها في النبذة المشيرة للجرموزي -رحمه الله.

(1/16)


مصادر ترجمة الإمام عليه السلام
1- ترجمة للإمام عليه السلام نشرت في صحيفة الأمة العدد 103، 104، 105.
2- أعلام المؤلفين الزيدية للأستاذ عبد السلام الوجيه.
3- حكام اليمن المؤلفون المجتهدون للأستاذ عبد الله الحبشي.
4- النبذة المشيرة في جمل من عيون السيرة (سيرة الإمام القاسم) للمطهر الجرموزي.
5- العثمانيون والإمام القاسم بن محمد في اليمن، أميرة المداح.
وانظر بقية المصادر في أعلام المؤلفين الزيدية.

(1/17)


نسبة الكتب إلى المؤلف
وأما نسبة الجواب المختار والتحذير من الفتنة والوصية السنية إلى الإمام القاسم بن محمد بن علي عليه السلام، فأنا أرويها عن شيخي السيد العلامة عبدالسلام بن عباس الوجيه، عن العالم الحجة المولى مجدالدين بن محمد المؤيدي، عن والده العالم، عن شيخه الإمام المهدي بن محمد بن القاسم الحوثي، عن الإمام محمد بن عبد الله الوزير، عن السيد العلامة أحمد بن زيد الكبسي، والسيد العلامة أحمد بن يوسف زبارة، عن أبيه، عن جده الحسين بن أحمد، عن السيد الشهير عامر بن علي عامر، عن الإمام القاسم بن محمد بن علي عليه السلام.

(1/18)


عملي في التحقيق
1- دفعت النسخة الأصل إلى الكمبيوتر للصف، وبعد إخراجها قابلتها على الأصل ورمزت لها بالرمز (أ) وبعد ذلك قابلتها على نسخة أخرى ورمزت لها بالرمز (ب) وأثبت الاختلاف بينهما في الهامش.
2- فصلت النص إلى فقرات، والفقرات إلى جمل، واستخدمت في ذلك العلامات المتعارف عليها، كالنقطة والفاصلة والقوس والمعكوف وغيرها.
3- مقابلة النصوص التي أشار إليها المؤلف من مصادرها الأصلية وإثبات الملاحظات في الهامش.
4- وضعت العناوين المناسبة لمواضيع الكتاب، وأثبتها داخل معكوفين [ ].
5- قمت بتخريج أغلب الأحاديث من مصادرها الأصلية.
6- ترجمت للأعلام الواردة أسماءهم في هذا الكتاب ترجمة موجزة.
7- فسرت الألفاظ الغامضة من المعاجم اللغوية.

(1/19)


وصف النسخة المعتمد عليها في التحقيق
1- الجواب المختار على مسائل القاضي عبد الجبار
أ- تمت المقابلة على نسخة مصورة ضمن مجموع بمكتبة الأستاذ عبد السلام الوجيه، ورمزت لها بالرمز (أ)، قال الناسخ في آخرها: تمت النسخة المباركة نهار الأربعاء لعله ثالث وعشرين خلت من شهر ربيع الأول سنة تسعٍ وستين وألف من الهجرة النبوية على صاحبها وآله أفضل الصلاة والتسليم.بخط أسير ذنبه ورهين كسبه أفقر عباد الله وأحوجهم لديه/ صلاح بن مهدي بن محمد بن صلاح بن صالح الآنسي بلداً، والعدلي اعتقاداً، والزيدي مذهباً، غفر الله له ولوالديه ولكافة المؤمنين آمين اللهم آمين. بحق سيد المرسلين وآله الأبرار المتقين. ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
ب- نسخة مصورة ضمن مجموع بمكتبة السيد عبدالملك المروني بصنعاء، قال في آخرها: تم الجواب المختار لمسائل الفقيه عبد الجبار وصلى الله على سيدنا محمد وآله وسلم.
وهي بخط نسخي متوسط متقاربة الأسطر عدد صفحاتها 63 صفحة من القطع الكبير، ورمزت لها بالرمز (ب).
2- التحذير من المعاونة على الفتنة
أ- تمت المقابلة على نسخة مصورة ضمن مجموع بمكتبة الشهيد محمد محمد الكبسي، والتي بحوزة الأخ يحيى أحمد المتوكل بصنعاء، وهي بخط نسخي جيد، وعدد صفحاتها 35 صفحة من القطع المتوسط.
ب- نسخة مصورة ضمن مجموع بمكتبة العالم الزاهد يحيى بن حسين الوجيه، أعطانيها حفيده الأخ الصديق طه يحيى يحيى الوجيه حفظه الله، وهي بخط نسخي ممتاز جداً، بقلم صاحب المكتبة.
3- الوصية السنية الدرية الزكية
تمت المقابلة على نسخة مصورة ضمن مجموع بمكتبة السيد العالم يحيى بن حسين الوجيه، وهي بخط نسخي ممتاز جداً.

(1/20)


الجواب المختار على مسائل القاضي عبد الجبار
بسم الله الرحمن الرحيم
(رب يسر وأعن يا كريم)
[ونسأله الهداية إلى الصراط المستقيم والصلاة والسلام على خاتم النبيين وعلى آله الطيبين الطاهرين]

(1/22)


[الاختلاف في اشتراط الأدلة القطعية]
قال السائل أرشدنا الله وإياه إلى ما يرضيه في مقدمة مسائله: ما يقول علماء الإسلام؟ إلى قوله: في جواب مسائل، إلى قوله: مشتملاً على تبيين الحق في كل مسألة بأدلة قطعية، وإزالة ما يرد على تلك الأدلة من الأسئلة -يريد من الشبه- وذكر أقوال المخالفين وحجة كل قائل، وعلى الجملة فالغرض العلم بجواب كل مسألة مع بسط الكلام، وذكر الأقوال حتى يتميز القول الصحيح من الفاسد لا على وجه التقليد؟
والجواب والله الموفق والمعين: أما طلبه للأدلة القطعية في كل مسألة، ففيها ما هي فرعية كما يأتي إن شاء الله تعالى، والأمة في ذلك على قولين: منهم من يشترط القطع في الفروع كالأصول، ومنهم من يطلب القطع في الفروع إن حصل وإلا اكتفى بالظن، وزعموا أن من طلب القطع فقد عطّل.
واحتجوا على ذلك وقوع التعبد بالمظنون وحسنه بوجوب دفع الضرر المظنون عقلاً، وبخبر عبد الرحمن في المجوس، وكتاب عمرو بن حزم، وبعثة السعاة من الرسول صلى الله عليه وآله، والعمال، وخبر حمل بن مالك في الجنين.
قالوا: والكل آحاد لا يفيد إلا الظن.
قالوا: وقد أطبق التابعون، وفقهاء الأمصار على قبول أخبار الآحاد.
واحتجوا أيضاً بوجوب العمل بالشهادة، وهي لا تثمر إلا الظن.

(1/23)


ومن الدليل على صحة القول الأول قوله تعالى: {وَلاَ تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ، إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ وَأَنْ تَقُولُوا على الله مَا لاَ تَعْلَمُونَ}[البقرة:168،169]، وقوله تعالى: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ...}، إلى قوله تعالى: {وَأَنْ تَقُولُوا على الله مَا لاَ تَعْلَمُونَ}[الأعراف:33]، وقوله تعالى: {وَإِنَّ الظَّنَّ لاَ يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا}[النجم:28] ونحو ذلك من الآيات الدالة على ذم الظن، وقوله صلى الله عليه وآله: ((من أعان على خصومةٍ بغير علم، كان في سخط الله حتى ينزع)) رواه أبو طالب عليه السلام في (الأمالي).
وأما وجوب دفع الضرر المظنون عقلاً، إن كان دفعه بما يعلم أنه يدفعه فلا حجة لهم فيه، وإن كان بما يظن، فإنَّا نعلم وقوع الخطأ في كثير من الظنون ورب خطأٍ مؤدٍ إلى العطب، فإن حذَّر منه بصير وجب تجنُّبه عقلاً، وهذا قد حذّر منه السميع البصير كما تقدم، وكما قال تعالى: {وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ...الآية}[الإسراء:36].
وأما احتجاجهم بما سوى ذلك مما ذكروه، فلنا عليه جوابان: جملي، وتفصيلي.
أما الجملي: فإنه لا يخلو إما أن يكون ثبوت ذلك لدليل أو لغير دليل ليس الثاني؛ لأن الأصول لا يصح ثبوتها لغير دليل عقلاً وشرعاً وإجماعاً.

(1/24)


والأول لا يخلو إما أن يكون الدليل: ظني أو علمي، إن كان الدليل ظني فهو محل النزاع، فكيف يصح الاحتجاج به علينا؛ ونحن ننفيه؟! ودليلنا قائم على بطلانه! وإن كان الدليل علمي فما قضى بصحته الدليل المعلوم كان معلوماً، وخرج بذلك من دائرة الظن إلى دائرة العلم، وإلا انتقض الاستدلال بالمعلوم، ألا ترى أن دليل العمل بالشهادة معلوم! وهو قوله تعالى: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ...}[البقرة:282] الآية ونحوها، وذلك يقضي بصحتها قطعاً، ويخرجها من دائرة الظن إلى دائرة العلم في الظاهر، وكذلك أدلة الأحكام لا تصح عندنا إلا إذا قضى بصحتها الدليل المعلوم، وأخرجها من حيز الظن إلى حيز العلم؛ لئلا نقول على الله ما لا نعلم.
وأما التفصيلي: فخبر عبدالرحمن لم يكن متحداً بروايته؛ لأنا قد روينا بالإسناد الموثوق به إلى علي عليه السلام أنه قال: (لا يقبل من مشركي العرب إلا الإسلام أو السيف، وأما مشركوا العجم فتؤخذ منهم الجزية)، والمجوس من مشركي العجم.
وروينا عن النبي صلى الله عليه وآله: ((أنه قَبِلَ الجزية، من مجوس هجر))؛ ولأن خبر عبدالرحمن ليس فيه أن الصحابة لم يعرفوا ذلك كلهم إلا من جهته.

(1/25)


وأما كتاب عمرو بن حزم، فإنهم لم يعملوا به؛ حتى عرفوا أنه كتاب رسول الله صلى الله عليه وآله الذي كتبه له، وقد يحصل العلم بمثل ذلك إذا عرف الخط ولم يخرج عن أيدي أهل الصدق، وكَكُتب الأئمة، والملوك إلى الأمراء والعمال وغيرهم، فإنهم يقطعون عند وصولها إليهم أنها من أهل أمرهم بانضمام قرينة العلامة والختم وخوف متحمليها من أهل الأمر أن ينكِّلوا بهم لو زوّروها، والناس في كل عصر يقطعون بصحة ما شأنه كذلك، وكذلك القول في السعاة والعمال، والحجة واحدة.
وأما خبر حمل بن مالك في دية الجنين: فإن المشهور أن علياً عليه السلام كان مرجوعاً إليه؛ لأنه باب مدينة العلم كما جاء عن الرسول صلى الله عليه وآله، فأنى لهم أن علياً عليه السلام رجع في ذلك إلى حمل بن مالك، وأيضاً فإن الخبر ليس فيه أن جميع الصحابة لم يعرفوا ذلك إلا منه، وكذلك القول في ما عسى أن يرد من نحو ذلك، والحجة واحدة.
وأما رواية أن علياً عليه السلام كان يُحلّف من يروي له عن النبي صلى الله عليه وآله فيقبله، فلعلّه من روايات من يغمص في حقه، ويقدّم غيره عليه مع أنها أحادية مصادمة لما يأتي ذكره إن شاء الله تعالى من تفصيله عليه السلام لأحوال الرواة.

(1/26)


وأما وجوب العمل بالشهادة، وهي لا تثمر إلا الظن، فهو حكم فرعي اقتضاه دليل علمي خاص وهو قوله تعالى: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ...}[البقرة:282] الآية ونحوها، والحكم غير دليله، وكلامنا إنما هو في أدلة الأحكام لا في نفس الأحكام؛ لأنَّا نوجب في كل حكم أن يكون دليله علمياً، وإن كان الحكم لا يفيد إلا الظن كالتحري في الفطر، وكثلاث زوجات ملتبسات بمطلقة، فتأمله.

(1/27)


[الدليل العلمي]
فإن قيل: فعلى هذا يلزم أن يكون كلما اقتضاه الدليل العلمي غير مفيد للعلم كالإجماع مثلاً.
قلت وبالله التوفيق: إن الذي يقتضيه الدليل العلمي قسمان:
الأول: الحكم وهو نحو ما ذكرناه، فلا يشترط في الحكم أنه يفيد علماً إلا في الظاهر فقط.
والثاني: الدليل نحو الإجماع، فالدليل العلمي لو لم يكن شاهداً بصدقه ظاهراً وباطناً، لم يكن حجة على شيء من الأحكام؛ لقوله تعالى: {وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ}[الإسراء:36].
وأما إطباق التابعين وفقهاء الأمصار على قبول المظنون، فمردود؛ لأن قدماء الأئمة " كما يأتي إن شاء الله تعالى، والبغدادية والظاهرية، وبعض الإمامية لا يقبلون من الأخبار إلا ما يفيد العلم، وذلك ظاهر مشهور.
وأما قولهم: من طلب القطع فقد عطَّل فباطل؛ لأن في كتاب الله سبحانه، والسنة المتواترة والمتلقاة بالقبول بين جماعة الأمة، ثم بين جماعة العترة "، والأحادية الموافقة لكتاب الله سبحانه، حتى كان موافقة الكتاب العزيز لها شاهداً بصحتها، مع شهادة ما نقله علماء الأمة بالأخبار المتواترة، من قوله صلى الله عليه وآله: ((ألا وإنه سيكذب عليَّ كما كذب على الأنبياء من قبلي، فما روي عني فاعرضوه على كتاب الله، فما وافقه فهو مني وأنا قلته، وما خالفه فليس مني ولم أقله)) بحراً لا يدرك قعره.

(1/28)


[حكم القياس]
فإن قيل: إن النصوص فيما ذكرت غير وافية، فلا بد من القياس، وهو ظني.
قلت وبالله التوفيق: قد قال الله تعالى: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إلى الله وَالرَّسُولِ}[النساء:59]، والردُّ إلى الله هو: إلى كتابه، والرد إلى رسوله هو: إلى سنته، وقال تعالى: {وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إلى اللَّهِ}[الشورى:10]، أي مردود إلى ما جاء عن الله في محكم كتابه تعالى وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وآله، وذلك دليل علمي يقضي بصحة القياس من حيث أنه ردَّ إلى النصوص من الكتاب والسنة، لا ينكر ذلك إلا ألد مكابر، وما قضى بصحته المعلوم كان معلوم الصحة خارجاً من حيز الظن إلى حيز القطع وإلا انتقض؛ ولأن الآيتين نصٌ في صحة الاحتجاج به على الأحكام كما تبين، وذلك يقضي بكونه علمياً، وإلا لما صحّ الاحتجاج به لقوله تعالى: {وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ}[الإسراء:36].
فإن قيل: فعلى هذا يلزم صحة الاحتجاج بالأخبار الأحادية والقياس في مسائل الأصول.
قلت وبالله التوفيق: أما الاستدلال بهما على ثبوت الباري تعالى، وتصحيح الرسالة والنبوة، وعلى ثبوتهما في أنفسهما فلا نسلّم لتأدية ذلك إلى الدور القاضي ببطلان الاستدلال بهما، وأما ما سوى ذلك فما المانع؟ وقد قضى الدليل القطعي بكونهما حقا! كما قضى بكون الإجماعين حقاً، وإلا لزم أن لا [يصح أن] يستدل بالإجماعين على شيء من المسائل الأصولية؛ لعدم الفرق وذلك معلوم البطلان.
فإن قيل: إنه قد وقع الخطأ في الاستدلال بهما، وذلك ينافي كون دلالتهما معلومة.

(1/29)


قلت وبالله التوفيق: أما بعد الظفر بهما وبمعناهما على الحقيقة، فلا نُسلّم ذلك؛ لأن الأدلة القطعية تشهد بخلاف ما ذكرتم، وإنما وقع الخطأ لعدم الظفر بهما أو بمعناهما.

(1/30)


[الاجتهاد المطلق]
فإن قيل: فما تقول في الاجتهاد المطلق؟
قلت وبالله التوفيق: إن كان مبنياً على الاحتياط، وموافقة الأصول من الكتاب والسنة، فالقول فيه كالقياس؛ لأن الاحتياط معلوم السلامة عقلاً، وأكدّ ذلك موافقة الكتاب والسنة؛ لأن ذلك ردٌّ إليهما، والمردود إليهما حق؛ لأن الله قد أمر به حيث قال: {فَرُدُّوهُ إلى الله وَالرَّسُولِ}[النساء:59]، وهو تعالى لا يأمر إلا بما كان حقاً.
فإن قيل: إن القائلين: بأن دلالات الثلاثة ظنية، يقولون: إن دليل وجوب العمل بها علمي، فالخلاف راجع إلى اللفظ دون المعنى.
قلت وبالله التوفيق: كيف يكون الخلاف لفظياً، وهم ينفون الاستدلال بها على المسائل العلمية؟!

(1/31)


[بيان الأخبار التي لا يصح الاستدلال بها]
فإن قيل: فما الذي لا يصح الاستدلال به من الأخبار؟
قلت وبالله التوفيق: ذلك الذي لم يكن منها متواتراً، ولا متلقى بالقبول ولا موافقاً لكتاب الله سبحانه وتعالى، ولو صحَّ سنده وحصل الظنَّ بصدقه؛ فإنه لا يُقْبَلُ الاستدلال به في شيء من المسائل؛ لقوله صلى الله عليه وآله وسلم: ((ألا وإنَّه سيكذب عليَّ...)) الخبر، والظن لا يغني من الحق شيئاً، كما أخبر الله تعالى في كتابه؛ ولأن الأخبار قد روي أكثرها بالمعنى وهو مما يقع فيه الغلط، ولأنه قد روي المنسوخ مع عدم التمييز بينه وبين ناسخه عند كثير من الرواة، ولعدم التمييز بين روايات المؤمنين والمنافقين لعدم العلم بهم، كما قال تعالى: {مَرَدُوا على النّفَاقِ لاَ تَعْلَمُهُمْ...}[التوبة:101] الآية، ولما روي عن علي عليه السلام أنه قال: (وإنما أتاك بالحديث أربعة رجال ليس لهم خامس:
رجل: منافق مظهر الإيمان متصنِّع بالإسلام لا يتأثَّم ولا يتحرَّج، يكذب على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم متعمداً، فلو علم الناس أنه منافق كاذب، لم يقبلوا منه، ولم يصدِّقوا قوله، ولكنهم قالوا: صاحب رسول الله [صلى الله عليه وآله] رآه وسمع منه ولقف عنه، فيأخذون بقوله، وقد أخبرك الله عن المنافقين بما أخبرك، ووصفهم بما وصفهم لك، ثم بقوا بعده عليه السلام، فتقربوا إلى أئمة الضلالة، والدعاة إلى النار بالزور والبهتان، فولّوهم الأعمال، وجعلوهم على رقاب الناس، وأكلوا بهم الدنيا، وإنما الناس مع الملوك والدنيا إلا من عصم الله، فهذا أحد الأربعة.

(1/32)


ورجل: سمع من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم شيئاً لم يحفظه على وجهه، فوهم فيه ولم يتعمّد كذباً، فهو في يديه يرويه ويعمل به، ويقول: أنا سمعته من رسول الله، فلو علم المسلمون أنه وَهِمَ فيه لم يقبلوه منه، ولو علم أنه كذلك لرفضه.
ورجل ثالث: سمع من رسول الله صلى الله عليه وآله شيئاً يأمر به ثم نهى عنه وهو لا يعلم، أو سمعه ينهى عن شيء ثم أمر به وهو لا يعلم، فحفظ المنسوخ ولم يحفظ الناسخ، فلو يعلم أنه منسوخ لرفضه، ولو علم المسلمون أنه منسوخ لرفضوه.
وآخر رابع: لم يكذب على الله ولا على رسوله، مبغض للكذب خوفاً لله وتعظيماً لرسول الله، ولم يَهِمْ بل حفظ ما سمع على وجهه، فجاء به على ما سمعه لم يزد فيه ولم ينقص منه، وحفظ الناسخ فعمل به، وحفظ المنسوخ فجنّب عنه، وعرف الخاص والعام فوضع كل شيء موضعه، وعرف المتشابه ومحكمه.
وقد كان يكون من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الكلام له وجهان: فكلام خاص، وكلام عام، فيسمعه من لا يعرف ما عنى الله به، ولا ما عنى به رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فيحمله السامع، ويوجِّهه على غير معرفة معناه، وما قصد به وما خرج من أجله، وليس كل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله كان يسأله، ويستفهمه حتى إن كانوا ليحبون أن يجيء الأعرابي، أو الطارئ، فيسأله عليه السلام حتى يسمعوا، وكان لا يمر بي شيء من ذلك إلا سألت عنه وحفظته) انتهى كلامه عليه السلام.

(1/33)


[اعتماد أكثر المحدثين في رواياتهم على أشياع الأموية والعباسية]
ولأن أكثر المحدثين معتمدون في رواياتهم على أشياع الأموية، والعباسية وذلك معروف لمن طالع كتب السير والتواريخ.
قال العجلي في عمر بن سعد أمير الجيش الذين قتلوا سبط رسول الله الحسين بن علي بن أبي طالب عليه السلام وسَبُوا محارم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: تابعيٌ، فقيهٌ، روى عنه الثقات، ومحمد بن مسلم بن شهاب الزهري أعدل العدول عندهم، وإمام روايتهم، حديثه معتمد عليه في (الصحاح الستة) عندهم، وغيرها.
قال ابن المدائني: له ألفا حديث.
وقال أبو داود: حديثه ألفان ومائتا حديث.
وقد روى أبو جعفر عنه -أعني الزهري- أنه قال لعلي بن الحسين عليه السلام: كان معاوية يسكته الحلم، وينطقه العلم، فقال عليه السلام: كذبت يا زهري، بل كان يسكته الحصر، وينطقه البطر، وأي حلم مع من سفه الحق، وردّ الشرع، وحمل أولاد الأدعياء على بناته، وأظهرهم على أخواته، وكذلك صرّح القاسم بن إبراهيم عليه السلام بجرحه، وذكر الإمام المتوكل على الله أحمد بن سليمان عليه السلام، في (أصول الأحكام)، وأبو جعفر الهوسمي، أنه كان ممن يحرس خشبة زيد بن علي عليه السلام.

(1/34)


وحكى الذهبي، وهو من الخصوم بعد أن أثنى عليه[أعني] الزهري ومجّده، وقال: إن ترجمته تحتمل أربعين ورقة أنه قال: نشأت وأنا غلام، فاتصلت بعبد الملك بن مروان، ثم توفي عبد الملك، فلزمت ولده الوليد، ثم سليمان، ثم عمر بن عبدالعزيز، ثم يزيد فاستقضاني على قضاته، ثم لزمت هشام بن عبد الملك فصيّرني هشام مع أولاده أعلّمهم، وقضى عني سبعة آلاف دينار كانت عليَّ، وحكوا عنه: أنه كان يتزيا بزي جندهم، وقال فيه بعضهم: كان الزهري جندياً جليلاً.
وحكى الذهبي في ترجمة خارجة بن مصعب قال: قدمت على الزهري، وهو صاحب شرطة بني أمية فرأيته يركب وفي يده حربة، وبين يديه الناس بأيديهم الكابركوبات، فقلت: قبّح الله ذا من عالم فلم أسمع منه.
وفي علوم الحديث للحاكم أنه قيل ليحيى بن معين: الأعمش خير أم الزهري؟ فقال: برئت منه إن كان مثل الزهري، إنه كان يعمل لبني أمية.
فهم معتمدون على من كان شأنه كذلك، ومجتنبون روايات النجباء الأطهار من عترة رسول الله صلى الله عليه وعليهم، وروايات أشياعهم رضي الله عنهم.
قال الذهبي في تأريخه: وللزيدية مذهب في الفروع في الحجاز واليمن؛ لكنه من أقوال البدع كالإمامية.
وقال الحافظ المراكشي: الجرح بالبدع كان كثيراً في المتقدمين إلى حد ثلاثمائة؛ والمراد بالبدع عندهم ما خالف مذاهبهم ولو كان حقاً.
وقال أبو بكر المروزي: من أنكر إمامة أبي بكر رُدّت شهادته؛ لمخالفة الإجماع، والمعلوم أنه لم ينعقد إجماع على ذلك إلى يومنا هذا.

(1/35)


وقال ابن سمرة اليمني في (طبقاته): وفي سنة كذا وكذا، جرت في اليمن فتنتان عظيمتان إحداهما: فتنة علي بن الفضل ودعاؤه الناس إلى الكفر، والأخرى: فتنة الشريف يحيى بن الحسين الرسي، ودعاؤه الناس إلى التشيع، فانظر كيف قرن المؤمن الهادي بالكافر المضل!! والدعاء إلى الحق بالدعاء إلى الكفر!! وسماهما فتنتان، وعرّجوا في جرح أئمة الهدى، وجرح أشياعهم الأتقياء على ذلك وتعاموا عن قوله تعالى: {إِنَّمَا يُرِيدُ الله لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا}[الأحزاب:33]، ونحو ذلك من الآيات، وعن قوله صلى الله عليه وآله وسلم: ((إني تارك فيكم ما إن تمسكتم به، لن تضلوا من بعدي أبداً: كتاب الله، وعترتي أهل بيتي...)) الخبر، وقد تضمن هذا الخبر صحاحهم المتفق على صحتها عندهم في ألف وستمائة وخمسة أحاديث، غير ما روي عنه صلى الله عليه وآله في عترته الطاهرة، وأشياعهم، فيما لم يتفقوا على صحته من كتبهم، وغير ما رواه أهل البيت "، وشيعتهم منها -أي من التي تضمنها صحاحهم المتفق على صحتها عندهم- ستمائة وخمسة وثمانون حديثاً، تختص بعلي عليه السلام، وتسعمائة وعشرون حديثاً تختص بالعترة "، كل واحد منها يدل على إمامتهم، وفضلهم على سائر الناس، والحق ما شهدت به الأعداء، وتحكِّموا في تعديل غيرهم بلا دليل، ولا برهان، حتى قال ابن معين، وهو المعتمد على قوله في الجرح والتعديل عندهم في عبد الرزاق: لو ارتدَّ عبدالرزاق ما تركنا حديثه، فكيف يعتمد على من لم يوافق كتاب الله من ذلك! ولا سيما وقد عثر على الكذب فيها، وذلك في الجبر

(1/36)


والتشبيه، وغير ذلك مما صادم قضايا العقول المبتوتة، وآيات الكتاب الصريحة، وقد قال الشعبي، وهو من عيون العدول عندهم: ما أحدقوا بأحد -يعني من رجال الحديث- إلا كلّفوه أن يكذب.
وقال شعبة إمام المحدثين: تسعة أعشار الحديث كذب.
وقال الدارقطني: ما الحديث الصحيح في الحديث إلا كالشعرة البيضاء في الثور الأسود.
وروي أن بعض المحدِّثين أمر السلطان بقتله فقال: افعلوا ما شئتم، فقد حللّت عليكم الحرام، وحرّمت عليكم الحلال، ودسست في مذهبكم أربعة آلاف حديث، فقال بعضهم: وهذه مصيبة حدثت بعد الثلاثة القرون، ابتلي بها كثير من الحفاظ، يروون الحديث الموضوع ولا يثبتون وضعه، فيسألهم الله عن ذلك، وأي فائدة لكتب التواريخ؟ إلا كشف الكذّاب وهتكه!

(1/37)


[مما يقدح به عليهم]
ومما يقدح به عليهم:
ما روى البخاري في صحيحه عن ابن عباس: ((إن أول الخلائق يكسى يوم القيامة، إبراهيم عليه السلام، وإنه سيُجاء برجال من أمتي، فيؤخذ بهم ذات الشمال، فأقول: يا رب أصحابي، فيقول: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك...))، الخبر.
وفي حديث ابن مسعود: ((أنا فرطكم على الحوض، وليرفعن رجال منكم، ثم ليختلّجُنَّ دوني فأقول: يا رب، أصحابي، فيقال: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك)) ومثله في حديث حذيفة.
وفي حديث أنس: ((ليردن عليَّ ناس من أصحابي الحوض، حتى إذا عرفتهم اختلجوا دوني...)) الحديث.
وفي رواية أبي سعيد الخدري: ((فأقول: إنَّهم مني، فيقال: إنَّك لا تدري ما أحدثوا بعدك، فأقول: سحقاً سحقاً لمن غيّر بعدي)).
وفي رواية أبي هريرة: ((يرد عليّ يوم القيامة رهط من أصحابي، فيجلأون عن الحوض، فأقول: يا رب أصحابي...))الخبر إلى قوله: ((إنَّهم ارتدوا على أدبارهم القهقرى)).
وفي حديث سعيد بن المسيب، كان يحدث عن أصحاب النبي عليه السلام، أن النبي عليه السلام قال: ((يرد عليّ الحوض رجال من أصحابي، فيجلأون عنه...)) الخبر، أي: يمنعون ويطردون عنه.
وفي رواية أخرى لأبي هريرة قال: ((بينا أنا قائم إذ زُمرة حتى إذا عرفتهم خرج رجلٌ من بيني وبينهم فقال: هلم، فقلت: إلى أين؟ فقال: إلى النار والله، قلت: وما شأنهم؟ قال: إنهم ارتدوا بعدك على أدبارهم القهقرى، ثم إذا زمرة حتى إذا عرفتهم، ثم ذكر مثل الأول، ثم قال: فلا أراه يخلص منهم إلا مثل همل النعم)).

(1/38)


وما روى مسلم في صحيحه، في حديث أبي هريرة أيضاً قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله: ((ترد عليّ أمتي الحوض، وأنا أذود الناس عنه كما يذود الرجل إبل الرجل عن إبله، قالوا: يا نبي الله، تعرفنا؟ قال: نعم، لكم سيما ليست لأحد غيركم، تردون عليّ غراً محجلين من آثار الوضوء، وليصدّن عني طائفة فلا يصلون، فأقول: يا ربِّ، هؤلاء من أصحابي، فيجيبني ملك فيقول: وهل تدري ما أحدثوا بعدك))، وفي رواية: ((ألا ليُذادنَّ رجال عن حوضي كما يذاد البعير الضال، أناديهم ألا هلمَّ، فيقال: إنهم قد بدَّلوا، فأقول: سحقاً سحقاً)).
وفيه عن أبي هريرة أيضاً: ((لأذودنَّ عن حوضي رجالاً، كما تذاد الغريبة من الإبل)).
وفي حديث أنس: ((ليردنّ عليّ الحوض رجال ممن صاحبني حتى إذا رأيتهم، ورفعوا إليّ اختلجوا دوني، فلأقولنّ: أي ربِّ، أصحابي أصحابي، فيقال: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك)).
وفي حديث لأحمد -أي ابن حنبل-: ((رجال ممن صحبني ورآني)).
ولأحمد من حديث أم سلمة من ثلاث أو أربع طرق: ((إنّ من أصحابي من لا يراني بعد أن يفارقني)) فبلغ ذلك عمر فأتاها، فقال لها: أنشدك بالله أمنهم أنا؟ قالت: لا، ولن أبرئ أحداً بعدك.
وفيه أيضاً حديث عمار، قال: أخبرني حذيفة عن النبي أنه قال: ((في أصحابي اثنا عشر منافقاً، فيهم ثمانية لا يدخلون الجنة، حتى يلج الجمل في سمّ الخياط، ثمانية منهم تكفيهم الدُّبيلة))، وفي رواية: ((كان أصحاب العقبة أربعة عشر، وأشهد بالله أن اثني عشر منهم حرب لله ورسوله في الحياة الدنيا، ويوم يقوم الأشهاد)).

(1/39)


وفي تفسير الثعلبي، رفعه إلى ابن المسيب، عن أبي هريرة: أنه كان يُحدّث أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: ((يرد عليّ يوم القيامة رهط من أصحابي، فيجلأون عن الحوض فأقول: يا رب، أصحابي [أصحابي] فيقال: إنَّك لا علم لك بما أحدثوا، إنَّهم ارتدوا على أدبارهم القهقرى)).
وفي الجمع بين الصحيحين قال: وأخرجه البخاري، من حديث عطاء بن يسار، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وآله أنه قال: ((بينا أنا قائم، إذ أقبلت زمرة حتى إذا عرفتهم، خرج رجل [من] بيني وبينهم، فقال: هلم، فقلت: إلى أين؟ فقال: إلى النار والله، قلت: وما شأنهم؟ قال: [ارتدوا بعدك على أدبارهم القهقرى، ثم إذا زمرة، حتى إذا عرفتهم خرج رجل من بيني وبينهم، فقال: هلم، قلت: إلى أين؟ قال: إلى النار والله، قلت: ما شأنهم؟ قال]: إنهم ارتدوا [على أدبارهم] فلا أراه يخلص منهم إلا مثل همل النعم)).

(1/40)


ووجه القدح عليهم بذلك أنه لا يخلو إما أن يكونوا صادقين في روايات هذه الأخبار أو كاذبين، إن كانوا صادقين فقد خرجوا أكثر الصحابة الذين رووا عنهم، كما ثبت في رواية البخاري، أنه لا يخلص منهم -أي من الصحابة- إلا مثل همل النعم، وإن كانوا كاذبين، فقد لزمتهم التهمة، فثبت بحمد الله عدم الوثوق برواياتهم، إلا ما وقع مجمعاً عليه، أو موافقاً لكتاب الله سبحانه، ولا يقال: إن المراد بتلك الأخبار أهل الردة، كبني حنيفة؛ لأنا نقول: إن في لفظها: ((ممن صحبني ورآني)) وفي لفظها أيضاً: ((فأقول: يا رب أصيحابي أصيحابي)) بالتصغير، وذلك يفيد التحبيب، والتقريب، فالمراد به بعض من كان يحبه، ويقربه، وفي لفظها أيضاً: ((كان أصحاب العقبة أربعة عشر، وأشهد بالله أن اثني عشر حرب لله ورسوله...))الخبر، وفيها أن أم سلمة لم تبرئ غير عمر، وفي لفظها [أيضاً]: ((فلا أراه يخلص منهم إلا مثل همل النعم)) وأهل الردة من بني حنيفة أقل قليل مع أنهم أو أكثرهم لم ير النبي صلى الله عليه وآله البتَّة، والصحابي عند المحدثين، وبعض الفقهاء من اجتمع بالنبي صلى الله عليه وآله مؤمناً، وإن لم تطل مجالسته.

(1/41)


[من هو الصحابي]
ومذهبنا وهو الحق أخص من ذلك، وذلك أنا نقول: الصحابي من طالت مجالسته للنبي صلى الله عليه وآله متبعاً له، يشهد بذلك المعلوم من عرف اللغة، فمتى كان أهل الرِدَّة من بني حنيفة أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم؟ ومتى كانوا محبوبين مقربين عنده صلى الله عليه وآله؟ ومتى كان أصحاب النبي صلى الله عليه وآله مثل همل النعم؟ وقد بلغ المهاجرون [والأنصار]عدداً اكتفى ببعضه في قهر أهل الردة:
فالحق لا يخفى على أحدٍ .... إلا على أحدٍ لا يعرف القمر

(1/42)


[كيفية ضبط الأخبار المتلقاة بالقبول]
فإن قيل: إن ضبط الأخبار المتلقاة بالقبول متعذر لانتشار المسلمين في الأقطار.
قلت وبالله التوفيق: إن مشاهير كتب الفرق تُقرّب ما تباعد من ذلك، والوجادة في ذلك كالسماع إذا كان الكتاب في أيدي جماعة يعزونه إلى مؤلفه، لا سيما إذا كثرت النسخ واتفقت.
والحجة على ذلك: أن الله أقر الوجادة في كتابه، وذلك وجادة بلقيس لكتاب سليمان عليه السلام، من غير اعتبار سماع ولا سند، وكذلك كتب رسول الله صلى الله عليه وآله إلى الملوك والقبائل، واعتماد الصحابة على كتاب عمرو بن حزم، والعرف المتضمن للإجماع الأكبر القطعي في الرسائل والمكاتبات، فإنهم لا يشترطون إسنادها، ولا سماع من يبلغها، على أن ذلك إجماع العترة " أيضاً.
فإن قيل: إن الأحكام كثيرة، والأخبار المتصفة بما ذكرت قليلة جداً.

(1/43)


قلت وبالله التوفيق: لا ضيق في الحق ولا قلة، فرب كلمة من كلام البشر تُنبي على ألف كلمة، فكيف بكلام الله سبحانه وكلام رسوله صلى الله عليه وآله وسلم! يا سبحان الله! أفلأجل قلة ما يوثق به قطعاً يُحلّ الأخذ بما لا يوثق به من الأحاديث المقدوح فيها بما تقدم ذكره إلا ظناً في الدماء والفروج! وأموال المسلمين، ومواريث الأرامل والأيتام! وقد قال تعالى: {إِنَّ الظَّنَّ لاَ يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا} [يونس:36] وقال تعالى:{وَلاَ تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ، إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ وَأَنْ تَقُولُوا على الله مَا لاَ تَعْلَمُونَ}[البقرة:168،169] وقال تعالى: {وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولاً}[الإسراء:36].
وروى أبو طالب عليه السلام في أماليه بإسناده من طريق الناصر عليه السلام إلى أبي قتادة قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله يقول على المنبر: ((أيها الناس إياكم وكثرة الحديث، من قال عليّ، فلا يقولنّ إلا حقاً وصدقاً، ومن قال عليَّ ما لم أقل فليتبوأ مقعده من النار)).
وروى غيره عن عمر، أنه نهى أبا هريرة عن كثرة الحديث والرواية.
وروي عن علي عليه السلام ما يقرب من ذلك: (ألا إنه من ضاق عليه الحق، فلا فسحة له في الباطل ولا كرامة).

(1/44)


[حكم العمل بالمظنون عند أهل البيت [ ع]]
فإن قيل: فمن قد قال بمثل مقالتكم هذه من أهل البيت "؟
قلت وبالله التوفيق: على ذلك إطباق القدماء [منهم] " فما حضرني من أقوالهم فَخُذْ، وما لم يحضرني، فابحث تجده مجملاً وشتيتاً.
أما قولهم: بعدم جواز العمل بالمظنون، فقال علي عليه السلام في وصيته لابنه الحسن عليه السلام: (ولا تقل ما لا تعلم وإن قلّ ما تعلم).
وقال عليه السلام في خطبة له في نهج البلاغة: (وإنما سميت الشبهة شبهة؛ لأنها تشبه الحق، فأما أولياء الله فضياؤهم فيها اليقين، ودليلهم سمت الهدى).

(1/45)


وقال عليه السلام في صفة من يتصدى للحكم وليس له بأهل: (إن أبغض الخلائق إلى الله تعالى رجلان؛ رجل وكله الله إلى نفسه فهو جائر عن قصد السبيل، مشغوف بكلام بدعة، ودعاء ضلالة، فهو فتنة لمن افتتن به في حياته، وبعد وفاته، حمّال خطايا غيره، رهن بخطيئته، ورجل قمش جهلاً مُوْضعٌ في جُهّال الأمة، غادٍ في أغباش الفتنة عَمٍ، بما في عقد الهداية، قد سماه أشباه الناس عالماً، وليس به، بَكّر فاستكثر من جمع ما لو قلَّ منه خير مِمَّا كثر، حتى إذا ارتوى من آجن، وأكثر من غير طائل، جلس بين الناس قاضياً، ضامناً لتخليص ما التبس على غيره، فإن نزلت به إحدى المهمات، هيَّأ لها حشواً رّثاً من رأيه، ثم قطع به، فهو من لبس الشبهات في مثل نسج العنكبوت لا يدري أصاب أم أخطأ، إن أصاب خاف أن يكون قد أخطأ، وإن أخطأ رجا أن يكون قد أصاب، جاهل خبّاط جهالات، غاش ركاب عشوات، لم يعض على العلم بضرس قاطع، يذري الروايات إذراء الريح الهشيم، لامَلِيٌء والله باصدار ما ورد عليه، لا يحسب العلم في شيء مما أنكره، ولا يرى أن من وراء ما بلغ منه مذهباً لغيره، وإن أظلم عليه أمر اكتتم به لما يعلم من جهل نفسه، تصرخ من جور قضائه الدماء، وتعجّ منه المواريث، إلى الله من معشر يعيشون جهالاً، ويموتون ضلالاً، ليس فيهم سلعة أبور من الكتاب إذا تلي حق تلاوته، -يعني إذا عمل بصرائحه-، ولا أغلى ثمناً من الكتاب إذا حرِّف عن مواضعه، لا عندهم أنكر من المعروف، ولا أعرف من المنكر). رُوي ذلك في نهج البلاغة.

(1/46)


قلت وبالله التوفيق: وجميع كلامه عليه السلام يقضي بفساد ما تُتُبع فيه الظن في كل قضّية فليتأمله الناظر.
وقال عليه السلام: (وإن أحب الخلائق إلى الله عبد أعانه الله على نفسه، فاستشعر الحزن، وتجلبب الخوف، وأضمر اليقين، وزهرت مصابيح الهدى في قلبه، فسهل على نفسه الشديد، وقرب عليها البعيد، فلم يدع مبهمة إلا كشف غطاها، ولا مظلمة إلا قصد جلاها، ولا معظلة إلا بلغ مداها، معاين طريقته، مشاهد من كل أمر حقيقته، شرب نهلاً، وسلك طريقاً سهلاً، يحط حيث حطَّ القرآن رَحْلَهُ، وأين نزل كان منزله، فهو من خواص أولياء الله.

(1/47)


وإن أبغض خلق الله إلى الله عبد وكّله الله إلى نفسه، جائر عن قصد السبيل، مشغوف بكلام بدعة، فهو فتنة لمن افتتن به بعبادته، ضال عن هدى من كان قبله، مضل لمن اقتدى به، حّمال خطايا غيره، رهن بخطيئته، قمش جهلاً من الجهال فأوطأ الناس عشوة، عاد بأوباش الفتنة، قد لهج بالصلاة والصوم فسماه أشباهه من الناس عالماً، ولم يَعْنِ في العلم يوماً سالماً، بكّر فاستكثر، وما قلَّ منه خير ممّا كثر، حتى إذا ارتوى من آجن، وأكثر من غير طائل، قعد حاكماً بين الناس، ضامناً لتخليص ما اشتبه عليهم، إن نزلت به إحدى المهمات، هيَّأ لها حشواً من رأيه، فهو من قطع الشبهات في مثل غزل العنكبوت، إن أصاب وإن أخطأ لم يعلم؛ لأنه لا يعلم أصاب أم أخطأ، لا يحسب أن العلم في شيء مما ينكر، ولا أن من وراء ما بلغه غاية، إن قاس شيئاً بشيء لم يكذب بصره، وإن أظلم عليه أمر كتم ما يعلم من نفسه؛ لكيلا يقال: لا يعلم، ركّاب عشوات، وخائض غمرات، ومفتاح ظلمات، ومعتقد شبهات، لا يعتذر مما لا يعلم، ولا يعضُّ على العلم بضرس قاطع [فيسلم]، يذري الرواية ذرو الريح الهشيم، تصرخ منه الدماء، وتبكي منه المواريث، ويستحل بقضائه الفرج الحرام، ويحرم بقضائه الفرج الحلال، لا مليٌّ بإصدار ما ورد عليه، ولا أهل لإصدار ما فرط منه)، رواه أبو طالب عليه السلام في (الأمالي).
قلت وبالله التوفيق: وهذا كالأول؛ لأنه عليه السلام قال: (ولم يغن في العلم يوماً سالما)، وقال: (إن أصاب أو أخطأ لم يعلم؛ لأنه لا يعلم أصاب أم أخطأ)، وقال: (ولا يعض على العلم بضرس قاطع).

(1/48)


وروى زيد بن علي عليه السلام في (مجموعه) عن علي عليه السلام أنه قال: (لا يفتي الناس إلا من قرأ القرآن، وعلم الناسخ والمنسوخ، وفقه السنة، وعلم الفرائض والمواريث).
وقال زين العابدين علي بن الحسين عليهما السلام في دعائه المعروف (بالكامل): (اللهم، إني أعوذ بك من هيجان الحرص،...إلى أن قال: وأن نعضد ظالماً، أو نخذل ملهوفاً، أو نروم ما ليس لنا بحق، أو نقول في العلم بغير علم).
وقال الهادي عليه السلام في كتاب (الأحكام) ما لفظه: (يحتاج القاضي أن يكون عالماً بما قضى)، ولم يقل: أو ظاناً، وجميع ذلك يدل على أنهم لم يعتمدوا على الظن في شيء من العلم.

(1/49)


[حكم العمل بالخبر الأحادي]
وأما قولهم بعدم جواز العمل بالخبر الأحادي ما لم يوافق الكتاب:
فقال القاسم بن إبراهيم عليه السلام في (مسائله) ما لفظه: (والرواية وإن اختلفت وكيفما وصفت لا تخلو من أوجه ثلاثة:
أحدها: أن تكون الرواية ممكنة غير مستنكرة في حكم رب العالمين، ولا فيما نزّله من الكتاب، هذه الرواية إذاً غير مبيّنة، ولا محققة إلا أن تقبل بغير اختلاف عن أهل الصدق والثقة، فتحمل وتقبل حينئذ فتستعمل.
والوجه الثاني من الرواية: فهو ما فسد الألباب والعقول، فما كان من الروايات كذلك فهو غير مقبول.
والوجه الثالث: فهو ما صدّقه الوحي والكتاب، وعرفته فلم تنكره العقول والألباب، فإذا كان ذلك كذلك قُبِلَ، وصُدِّق، وثبت، وحقق، ولم يسع ردّه، ورُدَّ ودُفِعَ ضده).
وقال عليه السلام في (الأصول الخمسة) ما لفظه: (وأن سنة رسول الله صلى الله عليه وآله ما كان لها في القرآن ذكر ومعنى).
قال الهادي عليه السلام في كتاب (تفسير معاني السنة) ما لفظه: (وما روي عن رسول الله صلى الله عليه وآله فلم يشهد له الكتاب، ولم يوجد فيه ذكرها مفصلاً، أو مجملاً مؤصلاً ثابتاً فليس هو من الله، وما لم يكن من الله لم يقله رسول الله صلى الله عليه وآله، وما لم يقله رسول الله صلى الله عليه وآله، ويحكيه عن الله فهو ضد السنة لا منها، وما لم يكن منها لم يجز في دين الله أن ينسب إليها).

(1/50)


وقال عليه السلام في باب اختلاف آل محمد من كتاب (الأحكام) ما لفظه: (فأما من كان منهم مقتبساً من آبائه أباً فأباً حتى ينتهي إلى الأصل، غير ناظر في قول غيرهم، ولا ملتفت إلى رأي سواهم، وكان مع ذلك مميزاً فَهِماً، حاملاً لما يأتيه على الكتاب، والسنة المجمع عليها، والعقل الذي ركّبه الله حجة فيه، وكان راجعاً في جميع أموره إلى الكتاب، وردِّ المتشابه منه إلى المحكم، فذلك لا يضل أبداً، ولا يخالف الحق أصلاً).
قال المحسن بن محمد بن المختار عليهم السلام: (لم يضع الهادي شيئاً في كتابه من نفسه، إنما صنّف ما أجمع عليه علماء أهل البيت " وغيرهم من علماء الإسلام؛ لأنه يسند إلى جميعهم، ويروي عن كلهم ما أخذوه عن نبيهم).
وقال الهادي عليه السلام في كتاب (الجملة) ما لفظه: (وأن من دينهم -يعني المسلمين- التثبت فيما غاب عنهم، حتى يجيئهم اليقين من تواتر الأخبار وتظاهرها)، ثم ساق كلاماً إلى أن قال ما لفظه: (وأنهم يعملون بالأخبار المجمع عليها، ويشكّون في القول الشاذ، وإن روي عنه صلى الله عليه وآله) وجميع ذلك يدلك على أنهم " لم يعتمدوا إلا على المتواتر، والمجمع عليه من السنة، أو ما وافق كتاب الله دون ما عدا ذلك.

(1/51)


[حكم خبر الواحد يثمر العلم مع القرينة]
وأما كون خبر الواحد يثمر العلم مع القرينة:
فقال المؤيد بالله، والمنصور بالله في رواية، والإمام يحيى، والإمام محمد بن المطهر، والسيد محمد بن جعفر وغيرهم من أهل مذهبنا: (إن خبر الواحد يفيد العلم إذا كان مع القرينة)، وهو بحمد الله عندي كذلك، وقد وقع بالتجربة عند كثير من العقلاء.
وقال الإمام المهدي عليه السلام وغيره: (إنه يفيد العلم إذا وقع بحضرة خلق كثير لا حامل لهم على السكوت لو علموا كذبه، وإذا كان يفيد العلم مع القرينة أو يحضره الخلق الكثير، فكيف لا يفيد العلم مع قرينة موافقته للكتاب العزيز، ومع تقرير النبي صلى الله عليه وآله له فيما تواتر من قوله صلى الله عليه وآله في الخبر المتقدم ذكره ((فما وافقه فهو مني وأنا قلته)) وكذلك القياس قد احتج به القاسم، والهادي عليهما السلام في التكفير والتفسيق كما هو مشهور بين أصحابنا، وكذلك احتج به الإمام المتوكل على الله أحمد بن سليمان في مسألة الشفاعة في كتاب (حقائق المعرفة)، فقال بعد أن أثبت الشفاعة للمحسنين ما لفظه: (ويؤيد ذلك ما روي عن عبدالله بن أبي قتادة، عن أبيه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وآله إذا دعي إلى جنازة سأل عنها فإن أثني عليها بخير صلّى عليها، وإن أثني عليها بغير ذلك قال: ((شأنكم بها)) ولم يصل عليها، فلو كان يشفع في الآخرة لأهل الكبائر لجاز أن يصلي عليهم ويدعو لهم في الدنيا.

(1/52)


وهذه المسائل الثلاث من المسائل العلمية بالاتفاق، فإذا كان ما ذهبنا إليه مفيداً للعلم بالحجج القاطعة، فلا استبعاد في موافقته لأهل الحق من العترة الطاهرة، وإنما الاستبعاد في قول من يوجب العمل بما ظنَّ صدقه من أخبار كفار التأويل وفساقه، ولا يوجب عرضاً على كتاب الله سبحانه البتة، ولا أخذاً بالمجمع عليه من الأخبار مع التناقض[الظاهر]، وذلك أنهم يقولون: إن دليل الأخذ به قطعي، ثم يقولون: ولا يفيد في الاستدلال به إلا الظنّ، وتناقض ذلك في غاية الظهور؛ لأنه لو كان دليل الأخذ به قطعياً لكان الاستدلال به قطعياً؛ لأن ما دلّ على صدقه الدليل القطعي فهو صحيح قطعاً، وكيف يكون الدليل على صحة خبر الجبري قطعياً، ونحن لا نأمن أن يكذب على رسول الله صلى الله عليه وآله كما قد كذب على الله تعالى في نسبة القبائح إليه -تعالى عن ذلك-، وهو يعتقد أيضاً أن كذبه على رسول الله صلى الله عليه وآله ليس منه، وإنما هو من الله -تعالى الله عنه علواً كبيراً-.
فإن قيل: فَلِمَ قَبِل الصحابة خبر الواحد؟

(1/53)


قلت وبالله التوفيق: إن اجتمعوا كلهم على خبر ذلك الواحد فاجتماعهم هو القاضي بصحته إذ لا يجتمعون على ضلالة، ولم يجتمعوا إلا بعد أن حصل للمعتمد عليه منهم العلم بصحته، إما بقرينة أو موافقة كتاب الله سبحانه وتعالى لأن الأدلة قاضية بوجوب العمل بالعلم في ذلك، كما مرَّ ذكره من نحو قوله تعالى: {وَأَنْ تَقُولُوا على الله مَا لاَ تَعْلَمُونَ}[البقرة:169]، وقوله تعالى: {وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ}[الإسراء:36]، ونحو قوله تعالى: {وَإِنَّ الظَّنَّ لاَ يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا}[النجم:28]، ولا شك أنهم أعلم بذلك منا، وإن كان بعضهم قَبِلَهُ بغير قرينة توصل إلى العلم فلا حجة فيه علينا.
فإن قيل: إن ذلك يلزم منه الدور، وذلك أنه لا يكون حقاً حتى يجمعوا عليه ولا يجمعوا عليه حتى يكون حقاً، وإلا لم يجمعوا عليه إذ لا يجتمعون على ضلالة!
قلت وبالله التوفيق: لا نُسلم لزوم الدور؛ لأنهم قد علموه حقاً بالقرينة كما مرت الحجة على ذلك؛ ولأن الإجماع إنما هو مبيِّن لما قد كان حقاً، لا أنه لم يكن حقاً إلا بعد أن حصل الإجماع على قبوله، ألا ترى أن كل ما أجمع عليه قد كان حقاً عند نزول الوحي به؟! وقبل أن يجمع عليه فكذلك هذا.
وأما طلب السائل لإزالة ما يرد على أجوبة مسائله.

(1/54)


فالجواب والله الموفق: أنه إن أراد إزالة ما يرد تقديراً، فسأورد -إن شاء الله تعالى- من ذلك ما يحسن إيراده حسب الإمكان، واتساع الأوقات وضيقها، وفراغ الخاطر وشغله دون الاستقصاء، ولعله يوجد في أثناء جوابي هذا -إن شاء الله تعالى- بمنه ولطفه ما يغني في إزالة كثير مما يقدّر وروده مما عسى أني لا أذكره والله الموفق والهادي، ومن عرف الحق لم يَخْفَ عليه الباطل، ومن لم ينتفع ببيّن الحق ونيّره وإن قلَّ، لم ينفعه ما زيد عليه وإن كثر، وإن أراد بذلك ما قد أورده في أثناء مسائله فسنقف عليه إن شاء الله تعالى مفصلاً.
وأما طلبه لذكر أقوال المخالفين وحجة كل قائل:
فالجواب والله الموفق: أني لا أبخل بما ظفرت به من ذلك عند تحرير الجواب، وما لم أظفر به ولا أتذكره فلا يكلف الله نفساً إلا وسعها، ولو توقف الجواب على استقصاء ذلك لتعذر وجوده لا سيما على من حاله مثل حالي، ولعله يجد عند غيري من بقية العلماء الأخيار من ذلك ما يُحب؛ لأن الله سبحانه يقول: {وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ}[يوسف:76].
وأما قوله: حتى يتميز الوجه الصحيح من الفاسد لا على وجه التقليد:
فالجواب والله الموفق: أني لا آلو في ذلك جهداً ولا صمداً للحق ما استطعت، {وَمَا تَوْفِيقِي إِلاَّ بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ}[هود:88]، لكن كثيراً من أهل الزمان، أو الأكثر يستبعدون وجود المجتهد المقررِّ لشيء من الأحكام، لا على وجه التقليد، ولقد جزم السائل بما استعظمه بعضهم، حتى كاد يصير من ادَّعى الاجتهاد عنده كمدّعي النبوة.

(1/55)


قال بعض العلماء ما لفظه: ولقد عظمت المحنة على من اجتهد وترك التقليد من علماء المتأخرين في كل عصرٍ من الأعصار ومصرٍ من الأمصار، كما يعرف ذلك من طالع كتب التواريخ والأخبار، ومات كثير من الأخيار بسبب ذلك في الحبوس، وطرد كثير منهم من الأمصار.
قلت وبالله التوفيق: وبسبب ذلك أنهم لا يعرفون الفضل لأهله فيستعظمون دعوى الاجتهاد ممن اقتحمته عيونهم، وحقرته نفوسهم، وبمثل ذلك ضلَّ أكثر الناس اقتداءً بإمامهم إبليس لعنه الله؛ لأنه استحقر آدم فعصى ربه بترك السجود له فقال: {أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ}[ص:76]، فكانت عليه اللعنة إلى يوم الدين، وكذلك استحقرت الأمم الضالة أنبياء الله المرسلين إليهم، فلم يعترفوا بفضلهم فضلُّوا، قال تعالى: {وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُون}[الأنعام:10]، وقد حكى الله عن قوم نوح ما قالوا له فقال تعالى: {فَقَالَ الْمَلاَُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا نَرَاكَ إِلاَّ بَشَرًا مِثْلَنَا...} إلى قوله تعالى: {وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ...}[هود:27] الآية، وحكى عن قوم هود ما قالوا له، فقال تعالى: {إِنْ نَقُولُ إِلاَّ اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ...}[هود:54]الآية، وحكى عن قوم شعيب ما قالوا له، فقال تعالى: {مَا نَفْقَهُ كَثِيرًا مِمَّا تَقُولُ وَإِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفًا وَلَوْلاَ رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ وَمَا أَنْتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ}[هود:91] وحكى

(1/56)


تعالى مقالة فرعون لموسى، فقال تعالى: {أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلاَ يَكَادُ يُبِينُ}[الزخرف:52]، وحكى عن الذين كفروا بنبينا صلى الله عليه وآله، فقال تعالى: {ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَقَالُوا مُعَلَّمٌ مَجْنُونٌ}[الدخان:14]، وقال تعالى: {وَقَالُوا لَوْلاَ نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ على رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ}[الزخرف:31]، وقال تعالى: {كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ قَالُوا سَاحِرٌ أو مَجْنُونٌ}[الذاريات:52]، ومن طالع السير علم استهزاء قريش برسول الله صلى الله عليه وآله وبالمؤمنين واستحقارهم إياهم حتى أعزّ الله الإسلام.
وقال [علي] عليه السلام في خطبته القاصعة: (فإن الله سبحانه يختبر عباده المستكبرين في أنفسهم بأوليائه المستضعفين في أعينهم، ولقد دخل موسى بن عمران، ومعه أخوه هارون عليهما السلام على فرعون، وعليهما مدارع الصوف، وبأيديهما العصي، فشرطا له -إن أسلم- بقاء ملكه ودوام عزّه، فقال: ألا تعجبون من هذين! يشرطان لي دوام العز وبقاء الملك، وهما بما ترون من حال الفقر والذل، فهلاّ أُلقي عليهما أساورة من ذهب! إعظاماً للذهب وجمعه، واحتقاراً للصوف ولبسه). انتهى.

(1/57)


وكذلك إنما ضلَّ من ضلَّ من فرق هذه الأمة لعدم الاعتراف بفضل أهل الحق من أهل بيت رسول الله صلى الله عليه وآله، الذين شهد لهم صرائح الكتاب، والسنة المعلومة، وقد روي عن رسول الله صلى الله عليه وآله أنه قال: ((ما بال أقوام من أمتي إذا ذُكر عندهم آل إبراهيم استبشرت قلوبهم وتهلّلت وجوههم، فإذا ذكر أهل بيتي اشمأزت قلوبهم وكلحت وجوههم، والذي بعثني بالحق نبياً لو أن الرجل منهم لقي الله بعمل سبعين نبياً، ثم لم يلقه بولاية أولي الأمر من أهل بيتي ما قَبِلَ الله عز وجل منه صرفاً ولا عدلاً)).
وقد قدمت طرفاً من قدحهم في مذهب العترة ".

(1/58)


[قول بعض الفقهاء بعدم جواز الاجتهاد والرد عليهم]
وقال ابن الصلاح: يتعين تقليد الأئمة الأربعة دون غيرهم؛ لأن مذاهبهم قد انتشرت وعلم تقييد مطلقها، وتخصيص عامها، وشرط فروعها بخلاف مذهب غيرهم.
وقد روي عن بعض فقهاء مكة أنه أشار بيده إلى البيت الشريف، وقال: ورب هذا البيت -ثلاثاً- لو رأينا زيدياً لضربنا عنقه، فإذا جحد فضل الأنبياء وهم أمناء الله سبحانه، وفضل عترة رسول الله صلى الله عليه وعليهم، وقد قال تعالى: {إِنَّمَا يُرِيدُ الله لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا}[الأحزاب:33]، وقال فيهم: {قُلْ لاَ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى}[الشورى:23]، وقال فيهم رسول الله صلى الله عليه وآله: ((وإني تارك فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا من بعدي أبداً، كتاب الله وعترتي أهل بيتي، إن اللطيف الخبير نبأني أنهما لن يفترقا حتى يردا عليَّ الحوض))، فبطريق الأولى أن يجحد فضل من سواهم من أفراد العلماء الأخيار كما قد سبق لهم [في ذلك] أسلاف كالرافعي، والنواوي، وابن الصلاح، فإنهم استبعدوا وقوع الاجتهاد في الأعصار المتأخرة.

(1/59)


قال ابن العراف: قال أئمة الدين وأرباب الورع كالرافعي وغيره: الناس في هذا الوقت مجمعون على أنه لا مجتهد مستقل، وعزيز وجود المجتهد المقلد، -يعني به مجتهد المذهب-، وهو المخرِّج على مذهب إمامه، وما أبعد ما قالوا؛ لأن الله سبحانه يقول: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ، بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ}[النحل:43،44]، وهذا خطاب عام للمكلفين في كل عصر من الأعصار؛ لقوله تعالى: {لأِنذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ}[الأنعام:19]، وهذا دليل واضح على أنه لا بد من مجتهد في كل عصر؛ لأن المصنفين ممن مضى لم يستغرقوا كل الأحكام في مصنفاتهم، لو قيل: إن أتباعهم هم أهل العلم بالبينات والزبر، مع أن ذلك في غاية السقوط والبطلان؛ لأن المقلد غير عالم بما قلد فيه وإنما معه ظن فقط، فلمّا لم يكونوا مستغرقين لجميع الأحكام في مصنفاتهم وجب أن يكون ممن يتمكن من معرفة ما عدا ذلك، ليجيب السائلين الذين أمرهم الله بسؤال أهل الذكر وإلا اختل معنى الآية وفائدتها، وقولهم بالاختلال أحق وأولى؛ لأنها من جملة الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه؛ ولأنها قول الله، والله يقول الحق وهو يهدي السبيل، وقد تواتر من السنة ما يدل على أنه لا تخلو الأعصار من المجتهدين، قال صلى الله عليه وآله: ((إني تارك فيكم...)) الخبر إلى قوله: ((لن يفترقا حتى يردا عليَّ الحوض)) ونحو ذلك كثير.

(1/60)


وقال علي كرم الله وجهه في الجنة في كلامه لكميل بن زياد: (اللهم بلى لا تخلو الأرض من قائم لله بحجة، إما ظاهراً مشهوراً، أو خاملاً مغموراً، لئلا تبطل حجج الله وبيناته، وكم ذا! وأين أولئك؟ أولئك والله الأقلون عدداً، والأعظمون قدراً، يحفظ الله حججه وبيناته بهم حتى يودعها نظراءهم...) إلى آخر كلامه عليه السلام.
وذهب أئمة العترة "، والمعتزلة وغيرهم إلى مثل ما ذكرته، إلا الإمام يحيى [بن حمزة] عليه السلام فإنه قال: (يجوز خلو الزمان من المجتهد)، وإلى مثل قوله ذهب الأشاعرة وأكثر الفقهاء، وهم محجوجون بما تقدم ونحوه من الحجج، ولأن ذلك يؤدي إلى تزلزل قواعد الدين، وإلى إجماع الأمة في ذلك العصر على الجهل بمعرفة كتاب الله وسنة رسوله، وأدلة ثبوت الإجماع تمنع من ذلك؛ لأن الجهل بمعرفة كتاب الله وسنة رسوله ضلالٌ، بدليل قوله تعالى: {وَوَجَدَكَ ضَالاً فَهَدَى}[الضحى:7]، أي جاهلاً لشرائع الله سبحانه، وقوله تعالى حاكياً عن موسى عليه السلام: {قَالَ فَعَلْتُهَا إِذًا وَأَنَا مِنَ الضَّالِينَ}[الشعراء:20] أي من الجاهلين للشرائع، وقد قال صلى الله عليه وآله: ((لن تجتمع أمتي على ضلالة))، وقال صلى الله عليه وآله: ((لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين))، ونحو ذلك حتى تواتر معنى وأفاد العلم قطعاً.
فإن قيل: فعلى هذا يلزم أن كل من لم يكن مجتهداً فهو ضال!

(1/61)


قلت وبالله التوفيق: إنه إن كان لم يسأل عن أمر دينه فكذلك نقول، وإن كان يسأل فلا نسلم؛ لأن الله سبحانه قد جعل طريق من كان كذلك السؤال حيث قال تعالى: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ}[النحل:43] وفي آية أخرى: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ، بالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ} [النحل:43،44].
فإن قيل: فإن المقلد كالسائل فلا يلزم ضلال كل الأمة؛ لأن الأعصار وإن خلت من المجتهدين لم تخل من المقلدين.
قلت وبالله التوفيق: إن سلَّمنا ذلك فقد ذكرنا فيما تقدَّم أن المجتهدين لم يستغرقوا جميع الأحكام في مصنفاتهم، فيلزم الجهل فيما سوى ذلك، وإلا فمقلدوا آحاد العلماء مع الاختلاف على خلاف ذلك، كما سيأتي تحقيقه -إن شاء الله تعالى- في أثناء الجواب.

(1/62)


[حكم المعاملات في الدولة الجائرة]
قال السائل: ما يقال في النقدين، والفلوس في النواحي التي غلبت عليها يد الدولة الجائرة، وأخذت من أهلها الأموال كرهاً مع كون الضربة منسوبة إليهم، ولا توجد من غيرهم، وإطباق الناس على المعاملة بها، وعدم التحري فيما أخذته الدولة المذكورة؟ وما حكم المعاملة بها مع ذلك؟
فالجواب والله الموفق والمستعان: إن الدولة إذا كانت تقول بالجبر والتشبيه، أو تذهب إلى مقالة الباطنية، أو تزعم أن لا عقاب على عصاة هذه الأمة، أو ترد نصوص الكتاب والسنة المعلومة، إذا خالفت قواعد أهل مذهبهم، فالدار دار حرب، من استولى على شيء من ذلك أو غيره وغلب عليه مَلِكَهُ، ولو كان المؤمنون موجودين.

(1/63)


[حكم المجبرة والمشبهة]
والدليل على ذلك: أما كون الجبر والتشبيه كفراً؛ فلأنهما من صفات المناقص، ومن وصف الله بصفات المناقص فقد كفر، ألا ترى أن عبداً لأمير مثلاً لو فعل فعلاً قبيحاً مسترذلاً عند العقلاء مما يستنقصون به فاعله ثم تَبَرَّأ من ذلك، ونسبه إلى سيده الأمير أو شبه سيده بنفسه أو بغيره من سائر العبيد في أمرٍ يختص العبيد، ولا يكون لأحد من الأحرار، أليس قد انتقص سيده بذلك؟ !وصغَّره وحقَّره! والجبر والتشبيه من ذلك إلا أن بين الأمرين تفاوتاً عظيماً؛ لأنهما استنقاص بإله العالمين -تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً -، والمعلوم من الدين ضرورة أن من استنقص بإله العالمين فهو كافر، وأي كفر يكون أعظم من كفر من يبرئ عبدة العجل والأوثان! ويقول: إنما فعل ذلك الرحمن -تعالى عنه علواً كبيراً-، وكفر من لا يعرف الله البتة ويعبد جسماً غيره.
ومن الدليل على كفرهم من الكتاب قوله تعالى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى على الله كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْكَافِرِينَ}[العنكبوت:68]، وقوله تعالى: {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ على الله وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جَاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْكَافِرِينَ}[الزمر:32].

(1/64)


ووجه الاحتجاج بالآيتين [المذكورتين]: أن الله سبحانه سمّى من كذب عليه، أو كذب بالحق والصدق في آخرهما كافرين، والمجبرة قد افترت على الله الكذب حيث زعمت أن الله سبحانه فعل المعاصي، وكذّبت بالصدق، وهو قوله تعالى : {وَمَا رَبُّكَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ}[فصلت:46] وهم يقولون: بلى هو فاعل الظلم كله! -تعالى الله عن ذلك-، وكذّبت بقوله تعالى: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ الله ثَالِثُ ثَلاَثَةٍ}[المائدة:73]، حيث قالت: إنه لا فعل لهم من القول وغيره، والمشبِّهة قد افترت على الله الكذب حيث قالت: إن الله أمرهم بعبادة جثة طويلة عريضة عميقة، وأنها هي ربهم -تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً- وكذّبت بالصدق والحق، وهو قوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ}[الشورى:11].
ومما يدل على كفر الطائفتين قوله تعالى: {قُل إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ على الله الْكَذِبَ لاَ يُفْلِحُونَ، مَتَاعٌ فِي الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ نُذِيقُهُمُ الْعَذَابَ الشَّدِيدَ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ}[يونس:69،70]، ووجه الاحتجاج بهذه الآية تضمنه ما مر آنفاً.

(1/65)


[من هم الباطنية]
وأما الباطنية: فإنهم يظهرون الإسلام ويبطنون الكفر، ولا يتقلدون بشيء من الشرائع، والآيات الثلاث تشملهم لتكذيبهم بالحق والصدق، وكذلك من والاهم، لقوله تعالى: {وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ}[المائدة:51]، لعدم الفرق بينهم وبين من نزلت الآية بسببهم، ولقوله تعالى: {لاَ يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ الله فِي شَيْءٍ} [آل عمران:28] ومن لم يكن من الله في شيء فهو كافر قطعاً، وإلا فقد كان من الله في شيء وهو ثبوت الإسلام له، وذلك مصادم للآية، ألا ترى أن الله يقول: {يَاأَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ على شَيْءٍ...}[المائدة:68] الآية إلى آخرها، وأن معناها أنهم كفار حتى يقيموا التوراة والإنجيل، أي يعملوا بما فيهما من التصديق بنبوة محمد صلى الله عليه وآله، والتزام ما جاء به عن الله سبحانه، وكذلك هذا.

(1/66)


[حكم من رد ما علم من الدين ضرورة]
وأما من زعم أنه لا عقاب على عصاة هذه الأمة فالدليل على كفره أنه قد أباح كل المحرمات، ورخَّص في جميع الواجبات، وذلك ردٌّ لما علم من الدين ضرورة، وتكذيب بالحق والصدق من نحو قوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ...}[المائدة:3] الآية، ونحوها وقوله تعالى: {لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلاَ أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلاَ يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ الله وَلِيًّا وَلاَ نَصِيرًا}[النساء:123]، ونحو ذلك كثير.

(1/67)


[حكم من رد نصوص من الكتاب والسنة]
فأما من رد نصوص الكتاب والسنة المعلومة إذا خالفت قواعد مذهبهم.
فالدليل على كفرهم أنهم تقلدوا بشرائع ليست من الله تعالى، وذلك شرك بالله بدليل قوله تعالى: [{أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّه}[الشورى:21] وقوله تعالى:] {وَلاَ يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا}[الكهف:26]، وقوله تعالى: {وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إلى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ}[الأنعام:121]، وقوله تعالى: {وَلاَ تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِين،ِمن الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ}[الروم:31،32]، ومن كان كذلك فهو من الذين فرَّقوا دينهم؛ لأن دين الله لا يصح التفرق فيه؛ لقوله تعالى: {أن أَقِيمُوا الدِّينَ وَلاَ تَتَفَرَّقُوا فِيهِ}[الشورى:13]، وقوله تعالى: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ الله جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُوا}[آل عمران:103] وقوله تعالى: {وَلاَ تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا}[آل عمران:105]، وقد بلغنا [في ذلك] عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه سئل عن قوله تعالى: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ} [التوبة:31] الآية، فقال صلى الله عليه وآله: ((أما إنهم لم يكونوا يعبدونهم، ولكنهم أحلُّوا لهم ما حرم الله، وحرّموا عليهم ما أحلَّ الله))، ومن ذلك اعتقاد كون اللهو واللعب ديناً؛ لأن الله لم يشرعه،ولقوله

(1/68)


تعالى: {قَالُوا إِنَّ الله حَرَّمَهُمَا على الْكَافِرِينَ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَهْوًا وَلَعِبًا} [الأعراف:50،51] الآية، ولقوله تعالى: {وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِبًا وَلَهْوًا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَذَكّرْ بِهِ أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ بِمَا كَسَبَتْ لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ الله وَلِيٌّ وَلاَ شَفِيعٌ وَإِنْ تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لاَ يُؤْخَذْ مِنْهَا أُوْلَئِكَ الَّذِينَ أُبْسِلُوا بِمَا كَسَبُوا لَهُمْ شَرَابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ}[الأنعام:70].
ومن ذلك الفدو، ونسايك رجب، والسلوك في طريق دون أخرى، والمسير في يوم دون آخر، وكسر البيض، ونثر الحب مقلواً، وتفريق شيء من الطعام واللبن والسمن، والذبح للأشجار والأحجار، إذا كان خوفاً من الجن أو الأيام أو النجوم أو غيرها، أو رجاء لها في حصول ولد، أو عافية مريض، أو السلامة في الطريق، أو الظفر بمطلوب ما؛ لأن الله سبحانه لم يشرع شيئاً من ذلك، وعدم كون ذلك مشروعاً معلوم من الدين ضرورة، ولأن اعتقاد أن الجن أو الأيام أو نحوها تضرُّ ردٌّ لقوله تعالى: {لَهُ مُعَقّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ الله إِنَّ الله لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ الله بِقَوْمٍ سُوءًا فَلاَ مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ}[الرعد:11]، وقوله تعالى: {إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ}[الطارق:4].

(1/69)


وعن علي عليه السلام ما معناه: (إن الحفظة " لا يزالون يَذِبُّوْنَ عن الإنسان، فإذا نزل القضاء من السماء اعتزلوه وخلّوا بينه وبين القضاء).
واعتقاد أن للجن ونحوها تأثيراً في حصول الولد ردّ لقوله تعالى: {هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ}[فاطر:3]، وكذلك اعتقاد أن لها تأثيراً في شفاء المريض ردّ لقوله تعالى: {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ}[النمل:62]، وقوله تعالى: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِه فَلاَ يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنكُمْ وَلاَ تَحْوِيلاً}[الإسراء:56]، وقوله تعالى: {قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلاَّ مَا كَتَبَ الله لَنَا}[التوبة:51]، ولا يُرِدُ على هذا الطب؛ لأن الله ينفع بما أودع فيه من حرارة تسخن برودة، أو برودة تطفئ حرارة، أو رطوبة تعدل يبوسة، أو يبوسة تعدّل رطوبة، فهو كإحراق النار الكائن بفعل الله الذي فعله فيها وهي الحرارة، على أنه قد قال تعالى: {يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِهَا شَرَابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ}[النحل:69].

(1/70)


وروي عن أبي الدرداء أن رسول الله صلى الله عليه وآله قال: ((إن الله عز وجل أنزل الداء والدواء فتداووا، ولا تداووا بالحرام)) فثبت أن الشفاء بالطب من الله، وأنه من أفعاله سبحانه المتولدة؛ لأن أفعاله سبحانه وتعالى على قسمين: مبتدأ ومتولد، من حيث أن قدرة الله شاملة، وهو فاعل مختار، فلا يستلزم ذلك الحاجة إلى خلق السبب، وإنما يفعله سبحانه لحكمة يعلمها، وليبتلي به الناس ليعلم من يخافه بالغيب، فيقضي بالحق فيه ومن لا يخافه فيثبت طبعاً، أو يقيس عليه الجن فيعبدهم بالتزام تلك الشرائع المبتدعة قال تعالى: {بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ}[سبأ:41]، ومن ذلك اعتقاد أن للمشائخ والقبور تأثيراً في حصول الولد، ونزول المطر، وإماتة الأحياء وإحياء الموتى ونحو ذلك، من قِبَلِ أنفسها؛ لأنه ردٌّ لقوله تعالى: {هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ}[فاطر:3]، وقوله تعالى: {أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَأَنزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً}[النمل:60] الآية ونحوها، وقوله تعالى: {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً...}[الملك:2] الآية، ولا يَرِدُ القتل؛ لأنه فعل القاتل ضرورة، ولقوله تعالى: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ...}[النساء:93] الآية، ونحوها، ومن ذلك الذبح على القبور، والمشاهد والمساجد، واعتقاد كونه قربة؛ لأن الله لم يشرعه، وعدم كونه مشروعاً معلوم من الدين ضرورة، وقد روي عن النبي صلى الله عليه وآله أنه قال: ((لا

(1/71)


تتخذوا قبري وثناً)) أي لا تجعلوا له ما يُجعل للأوثان، ومنه الذبح [قال تعالى: {وَمَا ذُبِحَ على النُّصُبِ}[المائدة:3]، وروي عن النبي صلى الله عليه وآله ((أنه نهى عن الذبح] على المقابر))، وقال: ((إنه فعال جاهلي)).
ومن ذلك اعتقاد صدق الكهانة والإيمان بالسحر؛ لأن اعتقاد صدق الكهانة ردٌّ لقوله تعالى: {قُلْ لاَ يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ الْغَيْبَ إِلاَّ اللَّهُ}[النمل:65]، ولأن الله سبحانه يقول في السحر: {وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنزِلَ على الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولاَ إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلاَ تَكْفُرْ}[البقرة:102]، ومن السحر التقذية، بدليل أن المقذي لا يستطيع أن يخرج بتقذيته ما كان مشاهداً في مكان ضيق أو بعيد، ومن أراد أن يتحقق صحة ما قلته فليدفن إبرة ولا يخبره بها؛ فإنه لا يستطيع أن يخرجها، أو يسرط برة من بِر ولا يخبره بها ثم يقول: سرطت شيئاً لا تدري ما هو أخرجه لي! فإنه يسحر أعين الحاضرين بغيرها من نحو حصاة أو ذباب! وقد امتحنت أنا مقذياً كذلك، أخفيت له في أذني حصاة ولم أخبره بها، فأخرج في عطيته كقطعة من شعرة من عرق حمار، وقال: أدخلت أذنك مسواكاً وهذه شعرة منه قد تغيَّر لونها لطول المدة، فعلمت كذبه وتمويهه، وأخبرته أنه ساحر.

(1/72)


ومن ذلك مساواة الأنبياء، أو المشائخ بالله -تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً- في شيء مما يختص به ككثير مما تقدم نحو تشريع شريعة، وكإغراق الفيل في الصفا أو في التعظيم أو في السجود أو غير ذلك؛ لأن الله سبحانه يقول: {ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ}[الأنعام:1]، أي يجعلون له عديلاً ومثلاً -تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً- ويقول سبحانه حاكياً عن الكفار: {إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ}[الشعراء:98].
ومن ذلك الحكم بغير ما أنزل الله كما يفعله رؤساء القبائل في وقتنا هذا، وكذلك التزامه؛ لأن الله لم يشرع ذلك، ولقوله تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ الله فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ}[المائدة:44]، وأشباه ذلك كثير.
فإن قيل: كيف يكون الناس كفاراً بذلك، وهم يشهدون الشهادتين ويقومون بالواجبات،وقد قال صلى الله عليه وآله: ((أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله صلى الله عليه وآله،فإذا شهدوا بذلك،وصلوا صلاتنا واستقبلوا قبلتنا،وأكلوا ذبيحتنا حُرّمت علينا دماؤهم وأموالهم إلا بحقها،لهم ما للمسلمين، وعليهم ما على المسلمين)).
قلت وبالله التوفيق: هذا نسيان لما تقدم من الأدلة القطعية، أو تناسٍ مع أنه قد قال تعالى: {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلاَّ وَهُمْ مُشْرِكُونَ}[يوسف:106]، وقال تعالى: {وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلاَ يَخَافُ ظُلْمًا وَلاَ هَضْمًا}[طه:112]
وقال صلى الله عليه وآله: ((بدأ الإسلام غريباً، وسيعود غريباً)).

(1/73)


وقال صلى الله عليه وآله: ((بعثت بين جاهليتين، أخراهما أعظم من أولاهما)) ونحو ذلك كثير، فأرشد جميع ذلك إلى أن فعل الطاعة كلها لا يكون به المكلف مسلماً إلا إذا عرى عن خصلة من خصال الشرك، فتأمل جميع ذلك تعلم الحق.
فأما كون دارهم يصير بذلك دار حرب، ولو كان المؤمنون موجودين فيها فالذي يدل عليه أنهم أهل شوكة الدار والسيف والمنبر لهم، والمعلوم من دين النبي صلى الله عليه وآله أنه كان يأمر بالدعاء إلى الإسلام قبل القتال، وعلى ذلك جرى إجماع المسلمين، وظهور الإسلام مع ذلك لا يخرج الدار عن حكم دار الحرب.

(1/74)


دليل ذلك: مكة حرسها الله تعالى بالصالحين من عباده، كانت قبل الهجرة دار حرب وفيها رسول الله صلى الله عليه وآله والمسلمون يظهرون دينهم ولا يكتمونه، ويتهددون الكفار في بعض الأحوال بالقول والفعل، كما فعل حمزة -أسد الله- في رأس الكفر أبي جهل -لعنه الله- شجّه بالقوس في نادي بني مخزوم، ولم يقدروا أن يغيروا عليه، وكذلك سعد بن أبي وقاص ضرب مشركاً فيها بلحي جمل ميت فشجّه شجة، وهو أول من أسال دم الكفار في دعوة النبي صلى الله عليه وآله، فلم يخرجها ذلك عن أن تكون دار حرب، وكذلك بعد هجرة النبي صلى الله عليه وآله، كان يسلم الجماعة فيها، ويظهرون إسلامهم، فلم تخرج بذلك عن حكم أهل الحرب، وهذا هو قول القاسمية والناصرية لا خلاف بينهم فيه، وهو قول محققي المعتزلة ومحصلي العدلية فيما سبق من الأعصار، حكى معنى ذلك محمد بن أسعد المرادي -رحمه الله تعالى-، وبعض العلماء، وخالف في ذلك جماعة من العلماء، فالمؤيد بالله عليه السلام في قديم قوليه، والشيخ الفضل بن شروين، ومحمد بن المسيب توقفوا في تكفير المجبرة والمشبهة، والحجة عليهم ما تقدم على أن المتوقف شاكِ، والشاك لا مذهب له فيناظر عليه.

(1/75)


وروي عن الإمام يحيى عليه السلام الجزم بعدم تكفيرهم، وما تقدّم يحجُّه، وأيضاً حكى بعض الأئمة الأعلام إجماع العترة على تكفيرهم، وهو صحيح؛ لأنه لم يظهر بينهم فيما مضى [في ذلك] اختلاف، والمؤيد بالله قد رُوي رجوعه، وحُكي أنه كان لا يجزم أن يكفِّرهم بالقياس، حتى تنبَّه للدليل على تكفيرهم من الكتاب العزيز، واحتج على تكفيرهم بآية من الثلاث الآيات التي تقدم ذكرها، وعليها اعتمد المتأخرون من أهل البيت "، ذكر معنى ذلك الديلمي ـ رحمه الله تعالى ـ في كتاب (قواعد عقائد أهل البيت ").
وقال أبو القاسم البلخي في رواية ومن وافقه: إن حكمهم حكم أهل الذمة، وذلك هو المحكي عن أبي الحسن الكرخي.
قال أبو القاسم في هذه الرواية: لأن كفرهم من جهة التأويل وذلك باطل؛ لأن أهل الذمة لم يثبت لهم حكمهم المعروف إلا بعهد، وذلك معلوم من الدين ضرورة، وهؤلاء لم يعقد لهم عهد البتة، ومن يستطيع أن يعقد لهم عهداً وهم أهل السيف والدولة، والقهر، والغلبة، واحتجاجه بأن كفرهم من جملة التأويل ضعيف مردود؛ لاحتياجه إلى إثبات دليل يوجب كون كفر التأويل موجباً لحكم أهل الذمة؛ لأنه محل النزاع.

(1/76)


والحجة لنا عليهم أنه قد ثبت كفرهم بالدليل المتقدم ذكره، والمعلوم من دين النبي صلى الله عليه وآله أن حكم دار الكافرين إذا كانت لهم فيها الشوكة، الإباحة من غير تفصيل بين الملل الكفرية، ولا تخصيص، فلو كان ذلك صحيحاً لورد مفصلاً؛ لأن الله سبحانه لم يترك ذلك هملاً ولا نسياناً ولا جهلاً، -تعالى الله عن ذلك- وقد قال تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ...}[المائدة:3]الآية، ولأنهم مندرجون تحت آية السيف، وهي قوله تعالى: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ}[الأنفال:39]، ونحوها فما أوجبته من الحكم ثبت لهم، وإلا كان تخصيصاً من غير تخصيص وهو باطل.

(1/77)


وقال الإمام أبو عبدالله الداعي، والإمام الناطق بالحق أبو طالب، وقاضي القضاة في رواية وأكثر المعتزلة ومن وافقهم: أن حكمهم حكم المرتدين لا يجوز سبي ذراريهم،ولا أخذ أموالهم، وتكون لورثتهم من المسلمين إن لم يكن لهم شوكة ودار ومنعة، فإن كان لهم ذلك، فحكمهم حكم أهل الحرب تحل دماؤهم وأموالهم، ويجوز غزوهم لغير إمام، واحتجوا على أن حكمهم حكم أهل الردة بأن قالوا: إن إظهارهم للشهادتين إسلام واعتقادهم لذلك ردة، وذلك باطل؛ لأن الإسلام لا يكون إلا مع مطابقة القلب اللسان، لقوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ}[البقرة:8]، وقوله تعالى: {مِنَ الَّذِينَ قَالُوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ}[المائدة:41]، ولما روي أن قوماً من اليهود سألوا النبي صلى الله عليه وآله عن أشياء فلما أخبر بها قبَّلوا يده، وقالوا: نشهد أنك نبي، قال: ((فما يمنعكم أن تتبعوني))؟ قالوا: إن داود دعا أن لا يزال في ذريته نبي، ونحن نخشى إن اتبعناك أن تقتلنا اليهود، فلم يدخلوا بذلك في الإسلام، ولا أجرى عليهم النبي صلى الله عليه وآله حكم المرتدين، ونحن نعلم من حال المجبرة والمشبهة، ومن ظاهرهم أنهم حال تكلمهم بالشهادتين غير مقلعين عن عقائدهم التي خرجوا بها عن الإسلام، ولو قيل لهم: إنكم عند نطقكم بالشهادتين كنتم خارجين عن عقائدكم لأنكروا أشد الإنكار، فكيف يكون حكمهم حكم المرتدين؟! وقد تقضت العصور ونسلت القرون وهم على ذلك!

(1/78)


فإن قيل: قد قال رسول الله صلى الله عليه وآله: ((نحن نحكم بالظاهر والله يتولى السرائر)).
قلت وبالله التوفيق: هذا حجة لنا؛ لأنَّا لم نعتمد بحمد الله إلا على الظاهر الذي يعلنونه، ولا يكتمونه من نسبة القبائح إلى الله، وتشبيهه بخلقه -تعالى الله عن ذلك علواً كبيرا-ً.
وقال بعض الناس: إن دار أهل الردة، وما ضاهاها لا تكون دار حربٍ إلا إذا كانت متاخمة لدار الحرب، ولم أعثر له على حجة حال تحرير هذا الجواب، وهو باطل؛ لأن الأدلة لم تُفصّل؛ ولأن العلة إنما هو ظهور الكفر، وتغلُّب أهله كما تقدَّم فالفرق يحكم؛ ولأن المعلوم من سيرة النبي صلى الله عليه وآله أنه لم يعتبر في دار الحرب ذلك، وإنما كان يجري حكم دار الحرب على ما كان منقطعاً من دور الكفار عن غيره، كالمتصل بغيره من دور أهل الحرب.

(1/79)


[حكم مخالطة العدلية في ديارهم]
فإن قيل: فما تقول في الذين يخالطون العدلية في ديارهم التي الشوكة لأهل العدل فيها؟
قلت وبالله التوفيق: من كان دخوله فيها بأمان من أحد من العدلية إلى مدة مضروبة فهو آمنٌ وإلا فلا؛ لأن العهد لم يرد مطلقاً إلا لأهل الذمة، وقد قال تعالى: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ}[الأنفال:39]، وهذه الآية عامة لم يخرج منها إلا أهل الذمة، ومن عقد له عهد إلى وقت مضروب بما علم من دين النبي صلى الله عليه وآله، وهذا هو الظاهر من مذهب أسلافنا ".
وروي عن قاضي القضاة أنه سئل عن دَيْنٍ لمجبر على عدلي، هل يجب قضاء ذلك الدين؟
فقال: لا يجب، ومثل ذلك حكي عن الشيخ عبدالصمد الجيلي، وكان -رحمه الله- حجة عصره في العلم [والزهد] المرجوع إليه.

(1/80)


[وجوب تعريف الناس بالحق والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر]
فإن قيل: إنك ذكرت أنه لا يكون حكمهم حكم أهل الحرب إلا بعد تعريفهم بالحق، وتعريفهم بالحق ربما تضمن التصريح بأنهم كفار، ومن يطق ذلك إذا كانت لهم الشوكة في الدار؟
قلت وبالله التوفيق: أما أهل الجبر والتشبيه و[أهل] الإرجاء الأكبر الذين يحكمون بنجاة أهل الفسوق والمنكر، فقد كفينا مؤونة تعريفهم بما ظهر لهم، واشتهر من تعريف أهل العدل لهم في كل عصر من الأعصار، ورسموه في كتبهم ليردوه بالأباطيل، وكذلك الباطنية فإنهم عارفون بالدين، دليل ذلك إظهار الإسلام وإبطانهم للكفر، وأما من عداهم فإن الواجب على أهل العدل تعريفهم، وإزاحة الشبهة التي يتعلقون بها بالأدلة القاطعة؛ لقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُوْلَئِكَ يَلْعَنُهُمُ الله وَيَلْعَنُهُمُ اللاَّعِنُونَ}[البقرة:159]، وقوله صلى الله عليه وآله: ((من كتم علماً مما ينفع الله به في أمر الدين ألجمه الله يوم القيامة بلجام من نارٍ)) ويجب تعريفهم ولو ظن أنهم لا يمتثلون؛ لأن الآية والخبر لم يفصلا؛ ولأن الله سبحانه قد أوجب على رسله تبليغ أحكامه وإن علموا أنها لا تقبل منهم، كما قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ}[البقرة:6]، فقال تعالى: {رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ على الله حُجَّةٌ بَعْدَ

(1/81)


الرُّسُلِ}[النساء:165]، بأن يقولوا كما حكى الله سبحانه [في قوله سبحانه]: {مَا جَاءَنَا مِنْ بَشِيرٍ وَلاَ نَذِيرٍ}[المائدة:19]، وقوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلاَ أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزَى}[طه:134]، والاقتداء بالرسل صلوات الله عليهم في ذلك فرض لازم؛ لقوله تعالى بعد ذكره لعدة من الأنبياء تفصيلاً: {وَمِنْ آبَائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوَانِهِمْ}[الأنعام:87] إجمالاً: {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى الله فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ}[الأنعام:90].

(1/82)


ووجه الاحتجاج بذلك أن الآية مخرجها خاص، ومعناها عام، كقوله تعالى: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أو كِلاَهُمَا فَلاَ تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ...}[الإسراء:23] الآية، فقوله تعالى: {فَلاَ تَقُلْ لَهُمَا أُفّ} مخرجه خاص، ومعناه عام بدليل أول الآية وهو قوله تعالى: {أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ}، والوجه في ذلك أن الخطاب إذا وجه إلى رئيس القوم فيما لا تقوم قرينة على اختصاصه به يكون عاماً في عرف اللغة، ألا ترى أن الملك يقول لأمير الجيش: قاتل من قاتلك؟ ويريد بذلك الأمير والجيش كلهم لكن وجه الخطاب إليه؛ لكونه رئيسهم، وفي الحديث عنه صلى الله عليه وآله أنه كان إذ أمّر رجلا على سريته قال له: ((إذا لقيك عدّوك من المشركين فادعهم إلى أحد ثلاث خصال...))، الخبر إلى أن قال: ((فإن أبوا فاستعن بالله عليهم وقاتلهم))، ولأن ما ذكرته هو السابق إلى الفهم، وذلك من أقوى دليل الحقيقة، ونبينا صلى الله عليه وآله رئيس أمته، وذلك معلوم من الدين ضرورة، فوجه [الخطاب] إليه صلى الله عليه وآله في كثير مما أمرنا به فتأمل، ولقوله تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ الله أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ}[الأحزاب:21]، وهذا خبر بمعنى الأمر بإجماع العترة "،وجماهير علماء الأمة، ولأنَّا قد أُمِرْنَا باتّباعه في جميع أفعاله وأقواله إلا ما يخصه دليل قال تعالى: {قل إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ الله فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ}[آل عمران:31] الآية، ونحوها، وقد

(1/83)


قال تعالى: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ}[النور:63]، وقد رخَّص في ذلك شذوذ من الناس، ولو مع ظن التأثير.
واحتجوا بقوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لاَ يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ}[المائدة:105]، وأسقطوا بذلك التكليف بالأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، والجهاد ورخَّصوا في المداهنة [فكان ذلك عضداً وعوناً عظيماً لحزب الشيطان لعنهم الله جميعاً] فضلُّوا وأضلُّوا، ولنا عليهم ما تقدم، وقوله تعالى: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إلى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ...}[آل عمران:104]الآية.
وقوله صلى الله عليه وآله: ((لتأمُرُنَّ بالمعروف ولتنهنّ عن المنكر أو ليسلطن الله عليكم شراركم فيسومونكم سوء العذاب، ثم يدعوا خياركم فلا يستجاب لهم، حتى إذا بلغ الكتاب أجله كان الله تعالى المنتصر لنفسه، ثم يقول: ما منعكم إذ رأيتموني أعصى ألا تغضبوا لي))! رواه الهادي عليه السلام في (الأحكام) وهو في (الشفاء).
وقوله صلى الله عليه وآله: ((لا يحل لعين ترى الله يعصى فتطرف حتى تغير أو تنتقل)) [وقوله صلى الله عليه وآله: ((ما آمن بالله من رأى الله يعصى فيطرف حتى يغيره))].
وقوله صلى الله عليه وآله: ((لتأمرن بالمعروف، ولتنهنّ عن المنكر، أو لتكونن أشقياء زراعين)) إلى غير ذلك مما يكثر، ويطول حتى تواتر معنى وأفاد العلم الذي لا يدفع بشك ولا شبهة.

(1/84)


وقوله تعالى: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ}[الأنفال:39] [وقوله تعالى: {قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً}[التوبة:123] وقوله: {فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا على الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي...}[الحجرات:9]] الآية، ونحو ذلك في كتاب الله كثير.
والخطاب عام لكل مكلف بعد تكليفه إلى انقطاع التكليف، لقوله تعالى: {لأُنذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ}[الأنعام:19]، ولأن المعلوم من الدين ضرورة وجوب العمل بما في كتاب الله إلى انقطاع التكليف إلا ما علم نسخه كالاعتداد بالحول.
وقوله صلى الله عليه وآله وسلم: ((الجهاد ماضٍ إلى يوم القيامة، لا يردُّه جور جائر، ولا عدل عادل)).
فأما ما تعلقوا به من قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ...}[المائدة:105] الآية، فقد اختلف في معناها، فقال عبد الله بن الحسين صنو الهادي عليه السلام ما معناه: (إن المسلمين كانوا يدعون الذين ضربت عليهم الجزية من أهل الكتاب إلى الإسلام ويشددون عليهم) فأنزل الله الآية، [ومنهم من قال: هي موقوفة حتى يعمل بها في آخر الزمان]، ومنهم من قال: تأويلها إلى يوم القيامة، ومنهم من قال: قد مضى تأويلها وإنما كانت صدر الإسلام قبل الأمر بالجهاد.

(1/85)


واعلم: أنه لا حجة لهم؛ لأنه إن صح واحد من هذه التأويلات بطل احتجاجهم بها، وإن لم يصح منها شيء، فمعنى قوله تعالى: {عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ}، كفوا أنفسكم والزموها اتفاقاً بيننا وبين الخصم، والمكفوف عنه محذوف اتفاقاً كذلك ونحن ندَّعي أنه المعاصي لا بعض الطاعات ولا كلها، وشاهدنا على ذلك جميع ما مر لنا.
وقوله تعالى: {إِنَّ الله يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ}[النحل:90]، ونحو ذلك مما يدل على الطاعات والمحرمات.
وقوله تعالى: {لاَ يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ}[المائدة:105]، جواب {عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ}، مجزوم بأن مقدرة بعد ذلك، والحركة على الراء في قوله تعالى: {لاَ يَضُرُّكُمْ} لالتقاء الساكنين، وجعلت ضمة للاتباع وذلك شائع في لغة العرب، والمعنى أن ضلال من ضلّ لا يضر المؤمنين إذا اهتدوا، وكفّوا أنفسهم عن المحارم، بخلاف ما لو لم يكن منهم ذلك فإنه يضرهم ضلالهم؛ لأنهم يكونون مشاركين لهم فيه، وأهل قدوتهم حيث قررهم عليه بالسكوت عنهم، وهذا التأويل أولى مما تقدمه؛ لأن النسخ والتخصيص والوقف خلاف الأصل، فلا يثبت واحد منها إلا بدليل.

(1/86)


وخصمنا يدَّعي أن الذي أُمِرنَا بالكف عنه في هذه الآية هو بعض الطاعات بل سنام الدين، وهو الجهاد في سبيل رب العالمين، ولا يجدون لهم على ذلك شاهداً ولكنهم يتصفون بصفة المنافقين التي ذكرها الله تعالى في قوله: {الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ}[التوبة:67]، ومنه الكف عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والجهاد وتبيين أحكام الله سبحانه، وينهون عن المعروف ومنه الأمر بالمعروف ونحوه، ويقبضون أيديهم ومنه قبضهم أيديهم عن الجهاد.

(1/87)


[نتائج السكوت عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر]
واعلم أن سكوت العلماء عن تبيين الحق، وعن النكير على العوام فيما يركبونه من المنكر قد تزلزلت به قواعد الدين؛ لأن سكوتهم تقرير لفعل القبيح وقولهم: إنه مع عدم التأثير يصير عبثاً مدفوع؛ لأنه سبب لتزلزل قواعد الدين كما ذكرته الآن؛ لأن العوام يعتقدون أن العلماء قد قرروهم على ما فعلوا، وأنه لو لم يكن جائزاً لعرَّفوهم به، كما صاروا يردون علينا في زماننا بذلك، ومدفوع أيضاً بأدلة وجوب تبيين الحق على ما تقدَّم مفصلاً، وأدلة وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ لأنها لم تفصّل، وبقوله تعالى: قالوا {لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا الله مُهْلِكُهُمْ...} الآية إلى قوله تعالى: {قَالُوا مَعْذِرَةً إلى رَبِّكُمْ}[الأعراف:164]، وهم من ذريات الأنبياء وإخوانهم، وقد قال تعالى: {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى الله فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ}[الأنعام:90]، وقوله صلى الله عليه وآله: ((مروا بالمعروف وانهوا عن المنكر ولو حبواً)).
وقول علي عليه السلام: (لا يفسد الجهاد والحج جور جائر، كما لا يفسد الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر غلبة أهل الفساد) فكيف يكون مع عدم ظن التأثير عبثاً؟!

(1/88)


وأعظم من ذلك أن بعض من هو قدوة في زماننا هذا قد صار جسراً يعبر عليه الباطنية الصوفية، ويتوصل به إلى طمس دين الإسلام، وذلك أنه اتخذ حبالهم التي يصيدون بها الجهلة الأغمار من الاجتماع على الموالد والتهاليل على الصفة التي تصنعها الباطنية ديناً، فقوى بذلك مكايدهم، وفتّت بذلك أعضاد الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر، فضلّ وأضلّ بجهله وعدم تمييزه؛ لأن الباطنية يقولون: قد صنع القدوة في الدين كما نصنع، وما ذاك إلا أنه دين وقربة، فيجيبهم الجهَّال والعوام، ويتوصلون به إلى الفساد، وسلخ العوام عن الإسلام إلى الكفر، وإظهار مذاهبهم القبيحة من اللهو واللعب وغير ذلك، وكل طاعة تؤدي إلى مفسدة تنقلب قبيحة.

(1/89)


ألا ترى أن عمارة المساجد من القرب المقرّبة إلى الله تعالى، وأن مسجد الضرار الذي حكاه الله سبحانه في كتابه لما كان اتخاذه ضراراً وكفراً وتفريقاً بين المؤمنين، وإرصاداً لمن حارب الله كان معصية بنص الكتاب! وكذلك قول المسلمين لرسول الله صلى الله عليه وآله: {رَاعِنَا}، أي: امهلنا لنتعرف ما تملي علينا من العلم، هو في الأصل قربة لما كان طلباً لسبب فهم العلم، فصار معصيةً لما كان ذريعة لليهود إلى سب رسول الله صلى الله عليه وآله، وذلك أن لفظ: (راعنا) كانت كلمة سب عند اليهود، فكانوا يسبونه بها جهاراً، فنهاهم الله عن ذلك، فأمرهم أن يقولوا بما يؤدي معناه، وهو قوله تعالى: {وَقُولُوا انظُرْنَا}[البقرة:104]، وكذلك لا شك أن سب الأصنام، ونحوها مما يدعى من دون الله حسن في العقل والشرع، وقد يصير واجباً إذا كان يؤدي إلى التنفير عنها من حيث أنه يكون من باب النهي عن المنكر، وقد يكون حراماً إذا كان يؤدي إلى منكر، كما قال تعالى: {وَلاَ تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا الله عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ} [الأنعام:108]، يؤيد ذلك قوله تعالى: {أَلاَ لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ}[الزمر:3] [يعني] الخالص من كل شائبة للفساد ومن الرياء.
والصوفية إنما يفعلون ذلك رياءً وتوصلاً إلى فسادهم وإطفاء الدين؛ إذ لو علموا أن بضاعتهم تقبل من دون ذلك لما فعلوه.

(1/90)


وقد بلغنا عن النبي صلى الله عليه وآله أنه قال لعلي عليه السلام: ((إذا هممت بأمرٍ فتدبر عاقبته، فإن يك خيراً فاتبعه، وإن يك غياً فدعه))، رواه أبو طالب عليه السلام في (الأمالي) وأحمد بن سليمان عليه السلام في (حقائق المعرفة)، وفيه زيادة تركتها اختصاراً.
وبلغنا عنه صلى الله عليه وآله أنه قال لرجل: ((إذا أنت هممت بأمرٍ فتدبر عاقبته، فإن يك رشداً فامضه، وإن يك غياً فانته عنه)) رواه أبو طالب عليه السلام في (الأمالي) وفيه زيادة تركتها اختصاراً أيضاً، وهذان الخبران نصٌ في وجوب الانتهاء عن أي أمرٍ كان من طاعة أو مباح إذا كانت عاقبته غياً.
وبلغنا عن علي عليه السلام أنه قال: (إذا أخلّت النوافل بالفرائض فارفضوها)، وهذا مُخلٌ بالدين فكيف لا يرفض!.
وذكر العلماء وجوب قتل المؤمن المترس به إذا خشي على الإسلام لو ترك وهو في الأصل من الكبائر، فكيف لا يجوز ترك ما توصل به إلى المحظور مما صورته صورة الطاعة من المحظور!
وأوجب علماؤنا [رحمهم الله تعالى] هدم الصوامع المحدثة، وهي في الأصل من الطاعات إذا كانت يتوصل بها إلى الإطلاع على المحارم، فكيف لا يجب رفض ما يتوصل به إلى رفض الدين وارتكاب المحارم؟! وذكروا -رحمهم الله تعالى- أن العقل قاضٍ بأن لا مصلحة مع مفسدة مثلها.

(1/91)


[حكم المعصية التي بصورة الطاعة]
فإن قيل: وكيف تكون المعصية بصورة الطاعة؟
قلت وبالله التوفيق: ذلك غير عزيز إذ هو كما تقدم ذكره، وكصلاة المرائي وصيامه وحجه وسائر قربه؛ فإن صورتها صورة الطاعة وهي من الكبائر عند الله بالإجماع، وقد قال الله سبحانه في الذين يكون حالهم كهذا القدوة المتقدم ذكره: {وَإِنَّ كَثِيرًا لَيُضِلُّونَ بِأَهْوَائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ}[الأنعام:119]، وقال سبحانه: {لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ...}[النحل:25]الآية، وقال تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ}[يس:12]، أي والسنن الحسنة، والسيئة التي سنُّوها لمن يقتدي بهم، وقال النبي صلى الله عليه وآله: ((من سنَّ سنة سيئة كان عليه وزرها، ومثل وزر من عمل بها من غير أن ينقص من أوزار الناس شيئاً))، أو كما قال.
وقال عليه السلام: (كلام الحكماء إذا كان صواباً كان دواءً، وإذا كان خطأ كان داء)، أو كما قال، وقد جزنا في هذا عن المقصود؛ لأن الخبر ذو شجون.

(1/92)


[حكم الأموال المسلمة لدولة الجور والبغي]
وإن كانت الدولة من أهل البغي وكانت تقبض ذلك من أهل الإسلام، أو من أهل الذمة كان ذلك المال بيت مالٍ إذا سلمه أربابه مداراة مع التمكن من الهجرة، أو رغبة في معاونة الجبّارين لا يحل أن يجعل إلا في مصرفه، وإن تعدى به إلى غيره وتصرف فيه غير مستحقه كان غصباً.
والذي يدل على كون ما شأنه كذلك بيت مالٍ ما روي عنه صلى الله عليه وآله أنه قال: ((هدايا الأمراء غلول)) وفي رواية: ((هدايا العمال غلول))، وكان يأخذ هدايا عماله ويضعها في بيت المال، ولا يظهر خلاف في ذلك على سبيل الجملة.
ووجه الاحتجاج بذلك أن هدايا الأمراء في الأغلب [لا تكون] إلا في مقابلة واجب أو محظور.
أما الواجب فنحو الكف عن ظلمهم، والتعدي عليهم.
والمحظور نحو الإعانة على ما لا يحل والتقرب إلى أئمة الضلال وأرباب الفساد، وما يسلم للدولة الجائرة من ذلك، فاندرج تحت عموم الخبرين ووجب وضعه في بيت المال.
ومما يدل على ذلك قوله عليه السلام يوم الجمل: (ولا تستحلوا مالاً إلا ما جباه القوم، أو وجدتموه في بيت مالهم)، فلو كان ذلك باقياً على ملك من سلّمه لما قال ذلك، مع أنه عليه السلام كان يمكنه معرفة أربابه من أهل وطأتهم، فيقسمه بينهم على السوّية، ويبّين مدعي الزيادة، والفضل لا سيما في المثليات كالدراهم والدنانير، فلم يفعل ذلك وإنما أخذ ما وجد في بيت مالهم، فقسمه بين المجاهدين من أصحابه فأصاب كل رجل منهم خمسمائة خمسمائة.

(1/93)


فإن قيل: إن بين الهدايا وبين ما يسلّم إلى سلاطين الجور من الأموال فرقاً؛ لأن الهدايا لم يتقدمها تخويف بخلاف ذلك فإنه لم يسلّم إلا بعد التخويف.
وأما فعل علي عليه السلام، فلعل المال سُلّم إلى أهل الجمل بالرضا والاختيار فهو مما أجلب به عليهم أو أن أربابه غير منحصرين، والمحصلون من أهل المذهب يقولون: إنما صار في أيدي الظلمة من الأموال لبيت المال لاستهلاكه بالخلط في القيمي والمختلف ولعدم انحصار أرباب المال في المثلي، وظاهر كلامهم التعميم.
قلت وبالله التوفيق: لا نسلم الفرق؛ لأن هدايا الأمراء كثيراً ما تكون بعد التخويف بلا شك، والأدلة لم تفصل؛ ولأن أرباب المال راضون ومختارون لتسليمه لأجل أن يسكنوا في بيوتهم ويتصرفوا في أملاكهم بدليل أنهم متمكنون من أن لا يفعلوا ذلك إما بالهجرة، أو بالاجتماع على الذب عن أنفسهم وترك التخاذل، وأن لا يتعلقوا بشيء مما يطالبون بالمال من سببه، وقد ترى كثيراً من الناس يكون في بلدٍ غير بلده، ثم يقصر عنه نعمة من ربه، فيرجع إلى بلده مختاراً لتسليم المال إليهم من غير تخويف وصل إليه ولا ضرورة ألجته إلى ذلك إلا حب الديار، وإيثار الحياة الدنيا على الآخرة، فلا شك مع ذلك أنهم مجلبون به على أهل الحق وعلى الضعفاء والأرامل والمساكين، ومقوون به لأعضاد الظالمين؛ إذ هو عمود مملكتهم من حيث أنهم لا يتقوّون إلا به ويعسكرون به العساكر ويحصلون به العدد، ويحصّنون به الحصون إلى غير ذلك من أركان الملك، فإن كان فعل علي عليه السلام لأجل رضا أرباب المال بتسليمه، فهذا منه.

(1/94)


وأما دعوى عدم انحصار أربابه فغير مسلَّم؛ لأنه قد أمكن حصرهم في الديوان عند جباة الأموال وجمعها، فحصرهم بعد ذلك أسهل إذا رجعوا إلى الديوان المكتوب، وإن سلم عدم حصرهم على التنزل فما المانع من أن يطلب علي عليه السلام من أمكن من أهل أوطانهم؟ ويقول من أعطاهم شيئاً من ماله وبيّن على كيفيته أعطيناه وهو يعلم أن الله يقول: {وَلاَ تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ}[البقرة:188]، والنبي صلى الله عليه وآله يقول: ((لا يحل مال امرئٍ مسلم إلا بطيبة من نفسه)) وهو كرم الله وجهه يقول: (والله لئن أبيت على حسك السعدان مسهداً أو أُجر في الأغلال مصفداً أحبُّ إليّ من أن ألقى الله ورسوله يوم القيامة ظالماً لبعض العباد، وغاصباً لشيء من الحطام...) الكلام بطوله إلى أن قال عليه السلام: (والله لو أعطيت الأقاليم السبعة بما تحت أفلاكها على أن أعصي الله في نملة أسلبها جلب شعيرة ما فعلته)، وإلإجماع منعقد على أنه من ادّعى أن الظالم من البغاة والمجاهرين اغتصب عليه غصباً، وبيّن عليه وجب أن يرد إليه ولو بعد استيلاء المحقين عليهم ما دام باقياً بعينه، وكذلك إذا علمه المحقون يجب عليهم ردّه لقوله تعالى: {وَلاَ تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ}[البقرة:188]، وللخبر المتقدم ذِكره والإجماع أيضاً.

(1/95)


[حكم الأموال في أيدي الظلمة]
وأما ما ذكره المحصلون للمذهب من أنه لا يصير ما في أيدي الظلمة من المال لبيت المال إلا إذا استهلك بالخلط في القيمي والمختلف، ولعدم انحصار أرباب المال في المثلي فمردودٌ بما ذكرته أنا الآن وبما ذكروه هم من قولهم: إنه يوقف حتى يراضي أربابه، فإن رضوا حلّ لمستهلكه وملكه ولم يضر بيت مال أو يخشى تلفه فيتصدق به، ونحن نعلم أنه يمكنهم مراضاة أربابه ولو رده؛ لأنهم محصورون في ديوانهم فأنى لهم! مع ذلك أنه يكون بيت مال، اللهم إلا أن يرجعوا إلى ما ذكرنا.
وقد نص على معنى ما ذهبت إليه في هذه المسألة الهادي عليه السلام في (الأحكام) وحكاه عن جده القاسم عليه السلام في (الأحكام) أيضاً، ولم يستثن -أعني الهادي عليه السلام إلا المغصوب إذا كان باقياً بعينه، وقال في ذلك ما لفظه: (فإن أقام أحد من المسلمين بينة على شيء بعينه قائم لم يتغير ولم يستهلك، فأقام عليه البينة أنه غصبه غصباً فأخذ منه ظلماً وجوراً سُلّم إليه، ويدفعه الظالم إلى يديه)، ومثل ما ذكرت أيضاً ذكر القاسم بن علي العياني عليه السلام في مسألة الرزق، وكذلك ذكر غيرهم من الأئمة الأعلام ".
وإن كانت الدولة الجائرة تغصب الدراهم والدنانير والفلوس غصباً، أو تغصب الفضة والذهب، والنحاس فتضربها كان جميع ذلك غصباً، والوجه في ذلك ظاهر.
وقال السائل: إن النقدين والفلوس لم يعلم فيهما الغصب بأعيانهما، وإنما علمنا حصول التظالم فيهما على سبيل الجملة، فهل تحل المعاملة بهما؟

(1/96)


والجواب والله الموفق: أنهما إن كانا كما ذكر، فقد صارا لبيت المال حيث علم التظالم فيهما جملة، ولم يعلم أربابهما المظلومون.
والوجه في ذلك أن الغاصب لهما لا يملكهما وذلك معلوم من الدين ضرورة وأربابهما لم يتمكن من الرد إليهم لعدم العلم بهم وتضييعهما حرام إجماعاً، فلم يبق إلا أن يكونا لبيت مال المسلمين على أنه لا خلاف في ذلك، وإذا كانا لبيت مال المسلمين لم يحل أن يتعامل بهما غير مصرفهما؛ لأنه يصير بذلك غاصباً، والوجه ظاهر.
وقال السائل: إذا حكم بالتحريم فلقائل أن يقول: حكمتم به لأجل هذه الحالة، وأنتم من الحل على يقين وهو أن أصل الأشياء الإباحة وأن كل من كان في يده شيء، فالظاهر أنه له ليغتنم بذلك الحمل على السلامة ما لم يعلم أن هذا الشيء غصبه بعينه، والشك لا يدفع اليقين ولا الظن أيضاً، وإلا احتيج إلى دليل أن اليقين يدفع بذلك، ويلزم من القول بالتحريم أن لا يستغني الإنسان بنفسه حيث لم يكن له حرفة إلا المعاملة، والعقل يحكم بقبح ذلك ولاسيما عند الحاجة، وقد ذكر العلماء أن ذلك واجب واستغناء الإنسان بنفسه محال، فقد روي أن أمير المؤمنين عليه السلام قال: (اللهم لا تحوجني إلى أحد من خلقك) فنهاه صلى الله عليه وآله عن ذلك وقال: ((قل: اللهم، لا تحوجني إلى شرار خلقك))؟ أو كما قال!

(1/97)


والجواب والله الموفق: إنما حكمنا بالتحريم بعد اليقين حيث قال السائل: إنه قد علم فيهما التظالم على سبيل الجملة، فقوله بعد ذلك: والشك لا يدفع اليقين ولا الظن أيضاً مناقضة محضة؛ لأنه لم يقل فيما تقدم أنه قد حصل الشك، أو الظن في حصول التظالم فيهما بل قال: وإنما علمنا حصول التظالم في بعضها دون بعض لكنه التبس علينا الحلال بالحرام، فنحن نشك في شيء مُعيّن يصير إلى أيدينا أو نظن أنه حرام، وأصل الأشياء الإباحة.
قلت وبالله التوفيق: قد علم التباس الحلال بالحرام، فكان المعارض للأصل هو العلم لا الشك ولا الظن، فالشك أو الظن في تحريم الذي صار في أيديكم منها ليس بطارئ من حيث أنه قد علم أن الذي يضربه الظالمون بعضه حرام من أول دخوله في أيديهم، وبعضه حلال جرياً على ما ذكرت في هذا الاعتراض، فكيف يكون طارئاً ولمّا لم يكن طارئاً لم يكن من الحل على يقين! سلمنا كون الشك أو الظن في ذلك طارئاً على سبيل التنزل لكن لا نُسلم أنه لا يدفع اليقين فيما يتغير حاله خاصة إذا تواردا على محل واحد كهذه الصورة؛ لأن ذلك واقع ضرورة.

(1/98)


ألا ترى أنك تكون من عافية زيد على يقين فيغيب عنك فيخبرك غداً بموته أو مرضه أنه يحصل لك بذلك ظن أو شك بموته، أو مرضه! ومع ذلك ينتفي اليقين ضرورة؛ لأن اليقين وما يقابله من الشك، أو الظن أو الجهل نقيضان لا يجتمعان، فهذه حجة واضحة على أن الشك والظن كل واحد منهما إذا حصل يدفع اليقين إذا توارد على محل واحدٍ لا يمكن ردها إلا بالسفسطة ولا يرد معارضة المتواتر بخبر الواحد؛ لأن خبر الواحد ليس بشك ولا ظن فيدفع اليقين الحاصل بالمتواتر، ولا يحصل به مع التواتر شك ولا ظن، وذلك معلوم عند كل عاقل.
وأعجب من ذلك ما يقوله بعضهم إن الظن لا ينقضه الظن، وذلك خلاف المعلوم ضرورة.
ألا ترى أنه يحصل لك عند التباس القبلة ظن بها في جهة من الجهات ثم يطرأ عليك ظن آخر ينقضه أنها في الجهة الأخرى وأن ذلك واقع كثيراً، وقد نص العلماء على ذلك، وكذلك المجتهدون المعتبرون في اجتهادهم حصول الظن فقط يتغير اجتهادهم وينقض الظن فيه الظن، فينتقل الواحد منهم عن القول بالشيء إلى القول بخلافه، وينقض الشك فيه الظن أيضاً فينتقل من القول بالشيء إلى التوقف فيه أو العكس، فنعوذ بالله من جحد الضروريات، ونسأله التوفيق والسداد.

(1/99)


وإذا علم التباس الحلال بالحرام كان الملتبس بالحرام حراماً لانتفاء العلم بحله، وقد قال تعالى: {وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ}[الإسراء:36] وقال تعالى: {إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لاَ يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا}[النجم:28]، فما ظنك فيمن يتبع المشكوك في حله [وقد] قال تعالى: {وَذَرُوا ظَاهِرَ الإِثْمِ وَبَاطِنَهُ}[الأنعام:120]، ومن ظاهر الإثم ما اتضح وتبيّن أنه إثم، ومن باطنه ما غمض بالتباسه بما لا إثم فيه، وقال صلى الله عليه وآله: ((الحلال بيّن، والحرام بيّن وبين ذلك أمور مشتبهات وسأضرب لكم مثلاً، إن الله حمى حمىً، وإن حمى الله محارمه وإن من يرع حول الحمى يوشك أن يخالط الحمى))، وقال صلى الله عليه وآله: ((حلال بيّن وحرام بيّن وبينهما شبهات فدع ما يريبك إلى ما لا يريبك))، وعنه [صلى الله عليه وآله أنه قال: ((من دار حول الحمى يوشك أن يقع فيه))، وقال] صلى الله عليه وآله: ((إن العبد لا يكتب في المسلمين ..))الخبر إلى أن قال: ((ولا يُعَدُّ من المتقين حتى يدع ما لا بأس به حذار ما به البأس)) إلى غير ذلك مما تواتر معنىً وأفاد العلم الذي لا يمكن دفعه إلا بالمكابرة.

(1/100)


وقال علي عليه السلام في كتابه إلى عثمان بن حنيف الأنصاري عامله على البصرة: (فانظر إلى ما تقضمه من هذا المقضم فما اشتبه عليك فالفظه، وما أيقنت بطيب وجوهه فنل منه)؛ ولأن القول بحل الملتبس بالحرام متضمن لإباحة الحرام؛ لأنه متى قيل: إن الذي يقع في يدي لا أعلم أنه محرم بعينه، وأصل الأشياء الإباحة لزم القول بمثل ذلك لكل فرد من أفراد الناس، ولكل درهم من الملتبس حتى يستغرق الحلال والحرام؛ لأن التخصيص تحكم والمعلوم من الدين ضرورة تحريم إباحة الحرام.
وأما قول السائل: ويلزم من القول بالتحريم أن يستغني الإنسان بنفسه حيث لم يكن له حرفة إلا المعاملة...إلى آخره، فإنه لا يلزم ذلك ضرورة، وإنما يلزم من ذلك الحاجة إلى غيره، فيكون الخبر الذي أورده حجة لنا، فلا يكون ذلك مما يقضي العقل بقبحه فتأمل.

(1/101)


[دحض حجة إباحة الأموال الملتبسة في دولة الظلمة]
ولعل الذين يرجحون الإباحة على الحظر يرخصون في ذلك، واحتجوا على أصل مذهبهم بقوله تعالى: {يُرِيدُ الله بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ}[البقرة:185]،[وقوله تعالى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ}[الحج:78]، وقوله تعالى: {يُرِيدُ الله أَنْ يُخَفِفَ عَنْكُمْ...}[النساء:28] الآية، ولا حجة لهم في ذلك؛ لأن معنى قوله تعالى: {يُرِيدُ الله بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ}[البقرة:185]] مقصور على الترخيص في الصيام فقط للمريض والمسافر خاصة يدل على ذلك سياق الآية وهي قوله تعالى: {وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أو على سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ الله بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ}[البقرة:185]، مع أن الدين كله يسر بجنب المشتبه وغيره، وإنما العسر ما لا يطاق، والله سبحانه لم يكلفنا به قال تعالى: {لاَ يُكَلِفُ الله نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا}[البقرة:286].

(1/102)


ومعنى قوله تعالى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ}[الحج:78] أنه تعالى لم يكلف الناس ما لا يطيقون يدل على ذلك سياق الآية أيضاً حيث أمرهم سبحانه بالجهاد فقال: {وَجَاهِدُوا فِي الله حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ}[الحج:78]، والجهاد أشق من ترجيح الحظر على الإباحة؛ لأنه تبذل فيه النفس وتخاف به فراق الروح الجسد، وتأيّم الحلائل ويتم البنين، وذلك مما تكرهه النفوس وتستشقه قال تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ}[البقرة:216].
ومعنى قوله تعالى: {يُرِيدُ الله أَنْ يُخَفِفَ عَنْكُمْ}[النساء:28] مقصور على الترخيص في تزويج الإماء عند العنت، وعدم الاستطاعة من نكاح الحرائر يدل على ذلك سياق الكلام [قبله] وهو قوله تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلاً أَنْ يَنكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ...}[النساء:25] إلى آخره، وأيضاً قد أمر الله بالصبر في قوله تعالى: و{اصْبِرُوا وَصَابِرُوا}[آل عمران:200] وقال تعالى: {وَالْعَصْرِ، إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ، إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ}[العصر:1-3]، وليس الصبر إلا على ما تكره النفوس.

(1/103)


وفي الحديث عنه صلى الله عليه وآله: ((حُفّت الجنة بالمكاره)) وترجيح الإباحة على الحظر لا كره فيه ضرورة، فلو كان المراد بقوله تعالى: {يُرِيدُ الله أَنْ يُخَفّفَ عَنْكُمْ...}[النساء:28]الآية ترجيح الإباحة على الحظر لذهبت هذه الأدلة، وما تقدمها من الأدلة القاضية بتحريم المشتبه لغواً، وذلك لا يأتي في كلام حكيم البتة؛ ولأن ترجيح الإباحة على الحظر مما تهواه النفوس؛ لأنه حكم سقوط التكليف في المشتبه وقد قال تعالى: {وَلاَ تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ}[ص:26]، وإلى مثل ما ذكرته، وذهبت إليه في هذه المسألة ذهب أكثر الأئمة ".
قال علي عليه السلام: (يوشك الناس أن ينقصوا حتى لا يكون شيء أحب إلى امرئٍ مسلم من أخٍ مؤمن، أو درهم من حلال، وأنى له به). رواه زيد بن علي عليه السلام في (مجموعه).
وقال القاسم بن إبراهيم في (الخمسة الأصول) ما لفظه: (الخامس من الأصول: أن التقلب في الأموال في التجارات، والمكاسب في وقت ما تعطل فيه الأحكام، وينتهب ما جعل الله للأرامل والأيتام، والمكافيف والزمنى، وسائر الضعفاء ليس هو من الحل والإطلاق كمثله في وقت ولاة العدل والإحسان والقائمين بحدود الرحمن).
وهذا الذي حضرني من كلاماتهم " بلفظه عند تحرير الجواب، وقد ذكرت ما يؤدي هذا المعنى من أقوالهم " في كتاب (الإرشاد إلى سبيل الرشاد) فخذه من هناك من المطلب الثاني في الفصل الرابع.

(1/104)


وقال الإمام المنصور بالله عليه السلام في (المهذب) ثم في باب المظالم ما لفظه: (وفي المعاملة مع الظالمين بدراهمهم ودنانيرهم وهي من مظالمهم وغيرها مما يجلب إليهم من ظاهر الحل أن الحكم للأعم الأكثر، فإن كان الأكثر الحرام فالمقبوض بيت مال بلا إشكال، وإن كان الأكثر الحلال فظاهره الحلال، فإن استويا في الظن رجح الحظر على الإباحة وكان المقبوض لبيت المال).
قلت وبالله التوفيق: قوله عليه السلام: وإن كان الأكثر الحلال، فظاهره الحلال يرد عليه الفتوى بذلك لكل أحد وبكل درهم حتى يستغرق الحلال والحرام، وذلك يتضمن تحليل المحرم، وقال تعالى: {وَلاَ تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ}[البقرة:188]، ولا دليل يدفع هذه الآية بالتخصيص، ولا غيره.
فإن قيل: لعله عثر عليه.
قلت وبالله التوفيق: الأصل العدم فالبينة عليك؛ ولأنه لو صحت هذه الدعوى لم يصح التعلق بشيء من صيغ العموم؛ لأن لكل مخالف أو معترض أن يقول بمثل ذلك، وذلك معلوم البطلان بالإجماع المعلوم، ولله در عبدالله بن علي بن أبي الفرج حيث يقول:
عدمت الذي يسلو كعدمك درهماً .... تناوله من مستقر حلال

(1/105)


[حكم قضاء الديون من الأموال الملتبسة]
وقال السائل: إذا حكم بالتحريم، هل يصح قضاء الدين منها وتبرى [به الذمة] وهبتها ونحو ذلك من سائر التصرفات؟
والجواب والله الموفق: أنه لا يصح شيء من ذلك؛ لأنه تصرف فيما لا يملك بغير إذنٍ ممن جعله الله له، والمعلوم من الدين ضرورة أنه لا يصح تصرف أحد فيما لا يملك إلا بإذن من أهله بتوكيل أو نحوه، ولا يعلم، ولا يظن أن لذلك مخصصاً.

(1/106)


[حكم التصرف في الأموال المغصوبة]
وقال السائل: إن قول الهادي ومن وافقه بالقول بعدم التعيين أن الغاصب إذا أخرج شيئاً من النقدين من يده لم يجب عليه الاستفداء بل يكون ما غصبه في ذمته يستلزم حل ذلك المخرج منهما لمن صارا إليه، وأيضاً قد روى ابن مظفر في الغصب، عن المرتضى عليه السلام: (أن الغاصب إذا أراد أن يجعل ما اغتصبه قضاء عن الدين صحّ ذلك، وذلك [يستلزم القول بحله] لمن أخذه في دينه).
والجواب والله الموفق: أن الله سبحانه يقول: {وَلاَ تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ}[البقرة:188]، ورسوله صلى الله عليه يقول: ((لا يحل مال امرئٍ مسلم إلا بطيبة من نفسه))، ويقول: ((على اليد ما أخذت حتى ترد))، والمعلوم انتفاء المخصص لهذه الأدلة.
وأما قول الهادي عليه السلام: (إن الغاصب إذا أخرج شيئاً من النقدين من يده لم يجب عليه الاستفداء بل يكون ما غصبه في ذمته) فلعدم التمييز في الأغلب لعين المغصوب منهما بعد خروجه للتشابه في الوزن، والشكل، والجنس إذ ذلك ربما يتعذر ويلحق بتكليف ما لا يطاق، أو لتعلق الغرض المقصود بهما وبجنسهما على السواء لجري المعاملة بهما وبجنسهما من دون تفاوت في الزيادة والنقصان؛ لأنا نعلم أنه متى سلّم جنسهما إلى صاحبهما وهو الذي غصبا عليه لم يقع منه مشاحة في الأغلب، فكان التفادي غير واجب لأحد الوجهين المذكورين، أو لمجموعهما، فلا يلزم من عدم وجوب تفاديهما بأعيانهما حلهما لمن صارا إليه من قبل مراضاة المالك.

(1/107)


أما على الوجه الأول: فلأنهما قد صارا كالبر المغصوب بعد خروجه من يد الغاصب وتعذر معرفته بعينه، أو كالبقرة المغصوبة بعد خروجها من يد الغاصب [وتعذر معرفتها بعينها، فإنه لا يجب ردها بعينها؛ لأنه من تكليف ما لا يطاق] وذلك لا يقضي بحلهما لمن صارا إليه قبل مراضاة المالك بالإجماع.
وأما على الوجه الثاني: فلأنهما قد صارا كالبر المغصوب الذي يمكن ردّه بعينه، أو البقرة المغصوبة الذي يمكن ردّها بعينها، وكنا نعرف من مالكيهما أنهما يرضيان بأخذ غيرهما لو بذل له عوضاً عنهما، وذلك لا يقضي بحلهما لمن صارا إليه قبل مراضاة المالكين بذلك أو بغيره بالإجماع، فالفرق بين النقدين وغيرهما في مذهب الهادي عليه السلام تحكم.
وأما رواية ابن مظفر عن المرتضى عليه السلام: أن الغاصب إذا أراد أن يجعل ما اغتصبه قضاءً عن الدين صحّ ذلك، فمحمول على أن ذلك بعد مُراضاة المالك، وإلا ففي الرواية سهو؛ لأن ذلك مخالف للنصوص المتقدم ذكرها والإجماع المعلوم، والمرتضى عليه السلام أجل من أن يفتي بذلك، وعلمه، وزهده، وورعه مما لا يخالف فيه عدو، ولا ولي.

(1/108)


[المقصود بعدم التعيين في النقدين عند الهادوية]
وقال السائل: وما تفسير عدم التعيين -يريد في النقدين- عند الهادوية؟ وما الدليل عليه؟
والجواب والله الموفق: إن تفسير ذلك هو: لو اشترى مبيع بنقدٍ معين فانكشف في ذلك النقد المعين معيب أو درهم مغشوش إن ذلك لا يبطل به البيع ويجب تعويض ذلك المعيب، أو المغشوش، وكذا لو اشترى بنقد معين، وسلم في المبيع مثله من جنسه أن البيع يصح.
وأما الدليل على صحة ذلك فقوله تعالى: {إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ}[النساء:29]، وذلك ممن يقع به التراضي بين المسلمين لتعلق الغرض بالبدل، والمبدل في النقدين على سواء، والمخرّجون قد أدرجوا في ذلك المغصوب وأفتوا بحله لمن صار إليه عوضاً عن بضاعته، والله سائلهم عن ذلك؛ لأن أئمتنا" لا يقولون بذلك، وإنما يوجبون تعويضه إذا استحق إلا أن يكون شيء من الذهب والفضة حلية مصاغة، وكانت معينة في الثمن وهي مغصوبة فإن البيع يبطل لتعلق الغرض بها خاصة لأجل الصنعة إلا أن يرضى مالكها بالمبيع عوضاً عنها صح البيع وملكه لقوله تعالى: {إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ}[النساء:29]، مع صحة البيع الموقوف بالإجازة لخبر عروة البارقي، وخبر حكيم بن حزام في شراء الأضحية للنبي صلى الله عليه وآله فاشتريا وباعا، فأجاز فعلهما [صلى الله عليه].

(1/109)


قال الهادي عليه السلام في (الأحكام) ما لفظه: (وكذلك لو وهب رجل لرجل دراهم فاستهلكها أو خلطها بدراهم مثلها، فاختلطت فلم تعرف بأعيانها من غيرها لم يكن له إلى الرجوع فيها سبيل؛ لأنه مال مستهلك غير قائم بعينه).
قلت وبالله التوفيق: وهذا واضح في أن مذهبه أن الدراهم يجب أن تتعيّن إذا كانت غير ثمن، فتأمل.
وقال الإمام المنصور بالله عليه السلام في (المهذب) ما لفظه: (والدراهم والدنانير عندنا لا تتعين في البيع؛ لأن ذلك لا يعلم من قصود المسلمين وبذلك جرت عاداتهم، والعوائد أصل في ثبوت الأحكام).
وقال في موضع آخر من هذا الكتاب ما لفظه: (وإذا عين المشتري ذهباً ثمناً للمبيع وكان الذهب لغيره لم يصح البيع إلا أن يرضى صاحب الذهب بالبيع ملك المبيع هو).
وقال السائل: الذي ذكر الهادي عليه السلام، ومن معه من عدم التعيين، والمرتضى من صحة القضا هو في المغصوب المعروف مالكه، وأما الملتبس مالكه فهل يكون حكمه عندهم في عدم التعيين وغيره حكمه؟
والجواب والله الموفق: أن الملتبس قد صار بيت مال كما تقرر فيما سبق، فإذا تصرف فيه غير مصرفه، فحكمه حكم المغصوب المعروف مالكه لانتفاء الفارق والمخصص.

(1/110)


[حكم الزكاة في الأموال الملتبس حلالها بحرامها]
وقال السائل: هل الزكاة واجبة فيهما -يعني في الفلوس والنقدين الملتبس حلالهما بحرامهما-؟
والجواب والله الموفق: أنه قد ثبت فيما مر أنه لا يملكها المتصرف فيها إذا كان غير مصرفها، والزكاة لا تجب على المكلف إلا فيما يملك بالإجماع المعلوم، فهو معذور عن زكاة ما في يده من ذلك أبداً وغير معذور من إخراجه كله إلى مصرفه؛ لأنه إذا لم يحل له ولا لمن هو مثله لم يحل تضييعه، فلم يبق إلا أن يكون المصرف بيت المال.
وقال السائل: إذا لم تجب الزكاة فحيث يكون المكلف في وقت من الحول وعنده عروض للتجارة، وقدر ما تجب فيه الزكاة ثم أخرج تلك العروض بالبيع وأخذ ثمنها من النقدين المذكورين، ثم أخذ بالنقدين عروضاً ثم باعها وهكذا فهل تجب الزكاة في مثل هذه الصور؟ وكذا حيث باع العروض وأجّل بها إلى آخر الحول هل يجب في ذلك الزكاة أيضاً؟

(1/111)


والجواب والله الموفق: أنه إن كان يوجد في الناحية نقد حلال غير ملتبس لا تفاوت بينه وبين الملتبس، وكان يأخذ من الملتبس في ثمن عروضه مع تمكنه من أن لا يأخذ من المشتري ثمناً في بضاعته إلا من ذلك الحلال وجبت عليه الزكاة؛ لأن ملكه مستقر، وإنما خلط على نفسه؛ لأنه كان يمكنه أن يأخذ من الحلال، والزكاة تجب في الملك المتمكن منه إذا حال عليه الحول وكان نصاباً بالإجماع، وإن كان لا يوجد إلا الملتبس، فإن كان يتمكن من تفادي بضاعته وجبت عليه الزكاة أيضاً لمثل ما ذكرناه الآن وإلا فلا تجب؛ لأنه بالإياس من عروضه تلك يصير حكمه حكم من لا عروض له رأساً، ولهذا لم يوجب المسلمون زكاة على من تغلبّ على ماله الظلمة أو ذهب به اللصوص، والجواب عن الصورتين معاً؛ لأن الحكم واحد، فتأمل.

(1/112)


[حكم المظالم الملتبسة من النقدين]
وقال السائل: من كان في ذمته من النقدين مظالم ملتبس أهلها، ولم يكن عنده إلا من النقدين المذكورين، فهل يصح أن يخرج منهما عمّا في ذمته؟
والجواب والله الموفق: أنه إذا لم يكن من مصرفها كان إخراجه منهما عما في ذمته، كغسل أثر البول بالبول؛ لأنه يجب عليه إخراج ما في يده إلى بيت المال ولم يثبت له في ذلك ملك البتة بدليل ما تقدم، والقضاء عن المظالم الملتبسة إنما يكون بما يملك الإنسان أو بما يتبرع به مالك آخر لا بما حرمه الله عليه، ولا يظهر في ذلك اختلاف في الجملة.
وقال السائل: فإذا لم يجد شيئاً إلا ذلك النقد الملتبس، فهل يكون حكمه حكم الفقير حتى يجد ما يقضيه من الحلال؟ ثم قال: وإذا صار حكمه حكم الفقير، وأراد أن يخلص نفسه بأن صرف شيئاً إلى فقير آخر على أن يرده إليه، ثم يصرفه ثم كذلك، حتى تبرى الذمة فهل له ذلك؟
والجواب والله الموفق: أنه من جملة الفقراء إذا لم يجد شيئاً غير النقد المذكور، وكان من غير المصرف والوجه واضح؛ لأنه لا يملك شيئاً إلا الذي بيده من ذلك [النقد] ولا غيره.

(1/113)


وأما ما ذكره السائل من صرف شيء إلى فقير على أن يرده إليه ثم يصرفه ثم كذلك حتى تبرى الذمة، فذلك حيلة لا تجري إلا على أبْله، وأما الله سبحانه فهو يعلم السر وأخفى وذلك أن مجرد عقد التمليك بصرف أو هبة أو نحو ذلك لا يقع به الملك ما لم يقع التراضي على أن يأخذه المعقود له، ويتصرف فيه تصرفاً يزيل عينه ومنافعه، وحكمه، وما أشبه ذلك بدليل قوله تعالى: {إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ...}[النساء:29] الآية، فإذا كان لا يقع العقد في البيع إلا بعد التراضي، فكذلك ما أشبهه من سائر العقود؛ إذ لا فرق، وقوله صلى الله عليه وآله: ((لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيبة من نفسه))، ولم يفصل بين المعقود عليه من المال وبين غيره، والعاقد لم تطب نفسه بتقويته حيث شرط أنه يرده إليه، أو كانا مضمرين لذلك فمجرد العقد مع ذلك غير واقع، وإذا كان غير واقع فلم يصرف شيئاً يبرى به، وإنما منى نفسه الخلاص ولات حين مناص.

(1/114)


[شروط التوبة من الأموال المغصوبة]
وقال السائل: وهل تصح توبته -يعني الفقير الذي صار في يده شيء من النقدين المذكورين-؟
وقال: فإن قيل: لا تصح، قلنا: أليس التوبة من جملة الواجبات؟ وإذا كانت كذلك صحت ولو كان مخلاً بكثيرٍ من الواجبات كالزكاة والمظالم ونحوها، اللهم إلا أن يقال إن الواجبات شرط في الصحة فلا بأس بذلك بعد معرفة الدليل!
والجواب والله الموفق: أن توبته تصح بشرط التخلص من جميع الواجبات، والتجنب لجميع المقبحات لقوله تعالى:{وَإِنِي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى}[طه:82]، وقوله تعالى:{إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ الله مِنَ الْمُتَّقِينَ} [المائدة:27]، ولا تقوى مع تمادٍ على باطل.
وقوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِي...} إلى قوله تعالى: {أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لاَ تَشْعُرُونَ}[الحجرات:2]، وليس إحباط الأعمال إلا إبطالها وعدم قبولها، وذلك دليل واضح على عدم قبول التوبة مع التمادي على رفع الصوت فوق صوت النبي، والجهر له كجهر بعض المؤمنين لبعض؛ لأنها من جملة الأعمال وكذلك سائر المعاصي المحبطة؛ إذ لا فرق.
وقوله تعالى: {أَطِيعُوا الله وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلاَ تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ}[محمد:33]، وذلك دليل واضح أيضاً على أن الأعمال باطلة إذا كانت معصية الله [ومعصية] رسوله ثابتة، والتوبة من جملتها الأعمال ونحو ذلك في القرآن كثير.

(1/115)


وقوله صلى الله عليه وآله: ((لا تقبل الصلاة إلا بطهور، ولا تقبل الصلاة إلا بقرآن، ولا تتم صلاة إلا بزكاة [ولا تقبل صدقة من غلول)) فقال صلى الله عليه وآله: ((لا تتم صلاة إلا بزكاة))] وكذلك سائر الواجبات لا يتم بعضها إلا ببعض؛ إذ لا فرق، ومن جملتها التوبة، وقد نص الهادي عليه السلام في (الأحكام) في باب القول فيمن يؤتم به في الصلاة ومن لا يؤتم به على أن صلاة الفاسق باطلة فاسدة، فقوله وقول جماعة من العترة موافق لما ذكرته هنا.
وقال أهل الموازنة بخلاف ذلك واحتجوا بقوله تعالى: {أَنّي لاَ أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ...}[آل عمران:195] الآية، وقوله تعالى: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه}[الزلزلة:7]، وقالوا: يفرّق في العقل بين من أساء، ولم يحسن، وبين من أساء وأحسن، ولا حجة لهم في ذلك.
أما الآيتان فالمراد بهما المؤمنون دون أهل الكبائر بدليل قوله سبحانه: {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ الله مِنَ الْمُتَّقِينَ}[المائدة:27]، وقوله تعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ...}[الأنعام:82]الآية، وقوله تعالى: {وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلاَ يَخَافُ ظُلْمًا وَلاَ هَضْمًا}[طه:112]، وجميع ما تقدم ذكره لنا من الحجج؛ إذ هي صرائح فيما ذهبنا إليه ونحو ذلك كثير.

(1/116)


وأما قولهم: يفرق في العقل بين من أساء ولم يحسن، وبين من أساء وأحسن، فمردود بأن العقل يقضي ضرورة برد إحسان المسيء لأجل إساءته، ألا ترى لو أن رجلاً كان مصراً على الفجور بمحارمك وغير مقلع، وعلى قتل من ظفر به من ولدك، وعلى إفساد ما تمكن منه من مالك، ثم هو مع ذلك يتصنع إليك بشيء من الإحسان إليك أفلا يحسن في العقل رد إحسانه؟ وحرمة حدود الله أعظم مما عدّدت لك من خواصك مع أن ذلك مصادم لقوله تعالى: {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ الله مِنَ الْمُتَّقِينَ}[المائدة:27]؟
فإن قيل: فعلى هذا يلزم قضاء ما فعل من الواجبات كالفوائت، والإجماع على خلافه.
قلت وبالله التوفيق: إن صح الإجماع وثبت فهو الدليل على عدم وجوب قضاء ذلك؛ لأنه قد تقبّل بدليل: {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ الله مِنَ الْمُتَّقِينَ} [المائدة:27] ونحوها.

(1/117)


[وجوب إخراج شيئاً من العروض وسائر المثليات عن المظالم الملتبس أهلها من النقود وغيرها]
وقال السائل: هل له أن يخرج من العروض وسائر المثليات -يريد عن المظالم الملتبس أهلها من النقود وغيرها- إذا لم يجد إلا من النقدين المتقدم ذكرهما؟
والجواب والله الموفق: أنه إذا كان لا يجد إلا ذلك وجب عليه إخراجه عن المظالم المذكورة؛ لقوله تعالى: {لاَ يُكَلّفُ الله نَفْسًا إِلاَّ مَا آتَاهَا}[الطلاق:7]، ولا يحل له التراخي لقوله تعالى: {فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ}[البقرة:148]، وقوله صلى الله عليه وآله: ((وبادروا بالأعمال الصالحة قبل أن تشغلوا))، وقول علي عليه السلام: (وبادروا بالأعمال، عمراً ناكساً، أو مرضاً حابساً، أو موتاً خالساً) ونحو ذلك كثير.
وأهل التراخي يرخصون في ذلك قالوا: لأن الأمر المطلق غير مخصص بوقت دون وقت، فلو أراد الحكيم وقتاً بيّنه.
والجواب والله الموفق: أن الحكيم قد بينه فيما ذكرنا الآن؛ ولأن التأخير خلاف الإحتياط، والإحتياط في الدين واجب؛ لقوله تعالى: {وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ}[الإسراء:36]، ولأن المبادرة متفق عليها بين العترة "، والتأخير مختلف فيه، فوجب العمل بالمتفق عليه ورفض المختلف فيه لعدم الدليل.
قالوا: يلزم أن يكون فعل التراخي قضاء.
والجواب والله الموفق: أنه لا يلزم ذلك، وإنما تقديره افعل في الوقت الأول، فإن لم ففي الثاني مع التوبة؛ لأنك قد أثمت بالتراخي ثم كذلك، والدليل على ذلك ما مر لنا من إطلاق الأمر.

(1/118)


قالوا: إن فريضة الحج نزلت لسنة ست من الهجرة فأخرّه صلى الله عليه وآله إلى سنة عشر.
قلنا: لم نعرف وجه تراخيه صلى الله عليه وآله، فلعله لعذرٍ، ولأن ذلك معارض بما مر لنا ولا قوة له على مصادمة الآية.
قالوا: أمر رسول الله صلى الله عليه وآله منادياً: ألا إن رسول الله صلى الله عليه وآله حاج، فمن أراد الحج فليحج، فعلّقه بالإرادة، وذلك يدل على التراخي.
والجواب والله الموفق: أنه لا دلالة على ذلك، وإنما هو كقوله تعالى: {فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إلى رَبِّهِ سَبِيلاً}[المزمل:19]، وقوله تعالى: {فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ}[الكهف:29].
إذا عرفت ذلك وجب إخراج ما في يده من العروض، ونحوها عن تلك المظالم على وجه لا يوهم أنه متفضل به كالهدية والضيافة لوجوب المكافأة على ما وقع كذلك قال تعالى: {هَلْ جَزَاءُ الإِحْسَانِ إِلاَّ الإِحْسَانُ}[الرحمن:60].
وروى الهادي عليه السلام في (الأحكام) عن رسول الله صلى الله عليه وآله أنه قال لعائشة: ((أتروين شعر ابن عريض اليهودي؟)) قالت: لا، فقالت أم سلمة: ولكني أرويه، فقال لها: ((وكيف قال))؟: فقالت: قال:
أجزيك أن أثني عليك وإن من .... أثنى عليك بما فعلت فقد جزى
فقال رسول الله صلى الله عليه وآله: ((قال جبريل: يا محمد من أولاك يداً فكافه فإن لم تقدر فاثن عليه)).

(1/119)


[وجوب الإخلاص لله عند إخراج المظالم]
وإخراج المظالم يجب أن تكون خالصة لله لا جزاء في إخراجها لأحدٍ سواه؛ لأنها حق لله، وإخراج حق الله عبادة ودين، وقد قال تعالى: {وَلاَ يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا}[الكهف:110]، وقال تعالى: {أَلاَ لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ}[الزمر:3] ولأن إيهام التفضل بذلك ينبي عن محبته؛ لأن يحمد الموهم بما لم يفعل من محض التفضل بالمعروف، وقد قال تعالى: {يُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا...}[آل عمران:188] الآية.

(1/120)


[عدم الضمان للمتولي لبيع أموال التجارة بالنقدين المغصوبين]
وقال السائل: لو أن رجلاً كان يتولى بيع أموال التجارة ثم يأمر من يأخذ [له] الثمن من النقدين المقدم ذكرهما، ثم يأخذ سلعة، ثم يأمر من يسلم الثمن منهما ثم كذلك، هل يصير ضامناً لكل ما أمر بقبضه وتسليمه منهما كالفاعل؟ والغرض أنه ليس بملبس ولا بأقوى من المأمور بحيث لو أراد المأمور الامتناع من القبض لامتنع.
والجواب والله الموفق: أنه مع ذلك ليس بضامن لقوله تعالى: {وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى}[الأنعام:164]، أي ما يستحق بسبب وزرها في الدنيا والآخرة، وقوله تعالى: {وَمَا هُمْ بِحَامِلِينَ مِنْ خَطَايَاهُمْ مِنْ شَيْءٍ}[العنكبوت:12]، أي ما يعاقبون به من أجل خطاياهم في الدنيا والآخرة، وإن كان آثماً بنفس الأمر والرضا بالقبض، ولقوله صلى الله عليه وآله: ((على اليد ما أخذت حتى ترد))، وهذا لم يأخذ، وقوله صلى الله عليه وآله: ((لا يأخذ أحدكم عصا صاحبه لاعباً ولا جاداً وإن أخذ عصا صاحبه فليردها إليه)) وفي رواية أخرى: ((لا يأخذ أحدكم متاع صاحبه)) مكان عصا صاحبه، وهذا لم يأخذه، فلم يتناوله الأمر بالرد، اللهم إلا أن يكون قد ضمّه إلى مخازينه وغلّق عليه أبوابه، فإن ذلك آخذٌ له؛ لأن الأخذ إنما يكون من المخلوق بالجارحة، أو بآلة ضرورة وذلك من جملة الآلات.

(1/121)


[حكم المبيع وتصرف البائع والمشتري بالنقدين المغصوبين]
وقال السائل: هل يكون المبيع في يده مع ذلك حلال؟
فإن قيل: نعم، فهل تبرى ذمة المشتري بالدفع من النقدين المذكورين؟
فإن قيل: لا، فهل للبايع أن يسترجع المبيع لتعذر الثمن حيث كان باقياً؟
والجواب والله الموفق: إنه إن لم يكن من المشتري تلبيس على البائع في الثمن الذي يدفعه إليه فالمبيع في يده حلال؛ لإنه لم يأخذه ظلماً بغصب، ولا خديعة، وإنما أخذه برضاه وطيبة من نفسه، وقد قال تعالى: {إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ}[النساء:29]، وقال صلى الله عليه وآله: ((لا يحل مال امرئٍ مسلم إلا بطيبة من نفسه))، ولكن لا تبرى ذمة المشتري بالدفع من النقدين المذكورين؛ لأنه أعطاه ما لا يملكه بدليل ما مر فالثمن باق في ذمته بلا إشكال، وللبايع أن يسترجع المبيع إن كان باقياً لتعذر الثمن والوجه في ذلك أنه لم يرض بإخراجه عن ملكه إلى ملك المشتري إلا بالثمن المتراضى عليه، فلمّا تعذر الثمن كان الرضا منتفياً ولا تأثير لمجرد العقد من دون تراض وعوض إجماعاً، والأصل في ذلك قوله تعالى: {إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ}[النساء:29].
وقال السائل: هل للمشتري أن يمتنع من تسليم المبيع للبائع حيث حكم به -أي بالتسليم- حتى يرد المشتري ما أخذه من النقدين؟

(1/122)


والجواب والله الموفق: أن هذا السؤال مضطرب، فإن كان على ظاهره فلا وجه لامتناع المشتري من رد المبيع الذي قبضه حتى يرد -أي المشتري المذكور- بنفسه ما أخذه من النقدين، وما الموجب لذلك والحامل عليه؟ وقد حكم بذلك الحاكم بتسليم ما كان قبضه من المبيع إلى البائع لتعذر الثمن وانتفاء الرضا كما تقدم ذكره.
وقال السائل: فهل للمشتري أن يصرف ما أخذه من البائع؟
والجواب والله الموفق: أنه لا وجه لصرف ما أخذه المشتري من البائع؛ لأنه إنما أخذ منه المبيع، وقد تقدم وجه أن للبائع الرجوع فيه وإنما يجب على المشتري رده إليه لقوله تعالى: {وَلاَ تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ}[البقرة:188].
فإن كان في تحرير هذا السؤال غلط، وأراد السائل أن يقول: هل للبائع أن يصرف ما أخذه من المشتري؟ -يريد [من] الثمن- وغلط بما ذكره الآن.
فالجواب والله الموفق: أنه يجب عليه أن يصرفه وجوباً، ولا يحل له أن يرده إليه؛ لأنه في يده أمانة حيث لم يتعد بقبضه، والله يقول: {إِنَّ الله يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إلى أَهْلِهَا}[النساء:58]، وليس أهل ذلك إلا مصرفه.
فإن قيل: إنه قد كان في يد المشتري أمانة فَلِمَ لا يرده إليه لأن أمانته متقدمة؟
قلت وبالله التوفيق: قد ذهبت أمانته وانقلبت خيانته بجعله له عوضاً في منافع نفسه، فلا يحل رده إليه رأساً للآية، وهذا هو مذهب أكثر العترة.
وقال أبو العباس، والمنصور بالله عليهما السلام: (إنه من رد الغصب إلى الغاصب فقد برئت ذمته).

(1/123)


قال المنصور بالله: (لأن الضمان لا يتكرر، وذلك محل النزاع فلا يصح تعلقهما به) ولنا الآية.
وقال السائل: إذا كان البائع لا يتحرج في الثمن، وإنما غرضه بيع سلعته من غير مبالاة بالحرام، فما حكم المبيع في هذه الصورة؟
والجواب والله الموفق: أنه إن صادف الحل في ثمن سلعته، فلا إشكال في صحة البيع، وإن صادف الحرام في ذلك فالمبيع لبيت المال.
والوجه في ذلك أنه جعل عوضاً عمّا لا يحل، كمهر البغي وحلوان الكاهن، وأجر المغنّية، ولا أعلم اختلافاً بين أهل البيت " في أن ذلك يصير لبيت المال؛ ولأنه كالرشوة التي تجعل في مقابلة ما لا يحل وقد مرّت النصوص في أنها توضع في بيت المال.
وقد ذكر المنصور بالله عليه السلام نحو ما ذكرته في كتاب الغصب من (المهذب) لكن الذي ذكرته أنا في المبيع، والذي ذكره عليه السلام في الثمن، ولا فرق بينهما إلا دعوى كون النقدين لا يتعينان مع كونهما غصباً، وقد مر بطلان ذلك.

(1/124)


[حكم الضمان على المأمور لقبض الأموال الملتبسة]
وقال السائل: من قبض شيئاً من بيوت الأموال بأمر آخر، والآمر والمأمور سواء في القوة والضعف إلا أن المأمور عليه الحياء مع كراهته لذلك في الباطن، هل يكون ضامناً في هذه الصورة لما قبض؟ وهل يضمن بذلك الآمر؟
والجواب والله الموفق: أن المأمور يضمن بذلك لقوله تعالى: {وَلاَ تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ}[البقرة:188]، والمعنى: لا تأخذوها وتذهبوا بها وتفوتوها على أهلها ولا أعلم خلافاً في هذا المعنى، ولقوله صلى الله عليه وآله: ((على اليد ما أخذت حتى ترد)) ونحوه، ولا تأثير للحياء؛ لأن الواجب على عباد الله أن لا يخافوا في الله لومة لائم، كما ذكره الله سبحانه في كتابه، والآمر حكمه مثل ما مر في جواب من أمر أن يأخذ في ثمن سلعته من النقدين المذكورين، فلا فائدة في التكرار.

(1/125)


[أحكام السلم بالنقدين المغصوبين]
وقال السائل: إذا اجتمعت شروط السلم كلها إلا أن رأس المال من النقدين المذكورين، فهل يصح السلم؟
والجواب والله الموفق: أنه لا يصح؛ لأنه يجب أن يُسّلِم المُسّلِم إلى المُسلم إليه ما يصح أن يملكه عوضاً عن المسلم فيه بالإجماع المعلوم في الجملة، وفي هذه الصورة لم يقع ذلك، وإنما أسلم ما لا يصح أن يتملكه واحد منهما بدليل ما تقدم.
وقال السائل: فلو فعلا ذلك وسلّم المُسلم إليه المسّلم فيه وقبضه المسّلم بالتراضي فما يكون حكم ذلك؟
والجواب والله الموفق: إن المسلم فيه يصير لبيت المال لما مر.
وقال السائل: فلو تواطأ البيعان على أن رأس مال السلم يكون شيئاً من العروض الحلال، وعلى أن المسلم يشتري تلك العروض بنقدٍ قد تراضيا عليه في رأس مال السلم من النقدين المذكورين، وكان فعلهما ذلك لأجل الضرورة، هل يصح ذلك؛ لأنه لم يكن حيلة في تحليل محرم؟
والجواب والله الموفق: أنه لا ثمرة لذلك إلا إفساد السلم، والتوصل به إلى تحليل المحرم.
أما فساد السلم؛ فلأن ذلك بيعتان في بيع، وقد نهى النبي صلى الله عليه وآله عن مثل ذلك؛ ولأنه بيع وشرط، وقد نهى النبي صلى الله عليه وآله عن بيع وشرط، والنهي في الموضعين رفع للإذن بذلك لغة، ويدل عليه الاستقراء الموصل إلى العلم، والعقود الشرعية متوقفة على إذن الشارع بالإجماع المعلوم، فثبت فساده لارتفاع الإذن به.

(1/126)


وأما كونه متوصلاً به إلى تحليل المحرم؛ فلأنه قد جعل المشتبه الذي لا يحل ثمناً لرأس مال السلم، ولم أدر ما تلك الضرورة الداعية [إلى فعل ذلك] التي ذكرها السائل فقوله: لم يكن حيلة في تحليل محرم باطل.
وقال السائل: من كان مضطراً إلى المعاملة أو غيرها من الحرف لعدم ما يستغني به من نحو مستغل، ولا يتحصل له بذلك شيء إلا من النقدين المذكورين، وهو غني لا لمصلحة فيه أو فقير غير عدل، وغير معذور من التكسب لأجل الضرورة، هل تجوز له المعاملة بذلك من غير إثم ولا ضمان لأجل الضرورة؟
والجواب والله الموفق: أما الغني فليس بمضطر إلى المعاملة بذلك، فلا وجه لإيراده في السؤال.
وأما الفقير الذي ليس بعدلٍ فلا يحل له ذلك لما تقدم من الدليل على تحريمه.
قال السائل: فمن أين ينفق على نفسه وعوله؟

(1/127)


والجواب والله الموفق: أن الحلال مع ذلك غير معدوم بدليل قوله تعالى: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلاَّ على الله رِزْقُهَا}[هود:6]، فليتق الله في ذلك، فقد تكفل الله له برزقه قال تعالى: {وَمَنْ يَتَّقِ الله يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا، وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ}[الطلاق:2،3]، ولا يظن بالله سوءاً؛ فإن ذلك من أمر الشيطان -لعنه الله- قال تعالى: {الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلاً}[البقرة:268]، وروي عن رسول الله صلى الله عليه وآله أنه قال: ((إن أحدكم لن يموت حتى يستكمل رزقه، فلا تستبطئوا الرزق، واتقوا الله أيها الناس، وأجملوا في الطلب، خذوا ما حلَّ، ودعوا ما حرم)) رواه أبو طالب عليه السلام في (الأمالي).

(1/128)


[حكم الزكاة في المسلم فيه]
وقال السائل: من أسلم جميع رأس ماله الذي تجب فيه الزكاة قبل تمام الحول وقبض المسلم فيه بعد تمام الحول أيعتبر رأس المال في وجوب الزكاة؟ أم يعتبر المسلم فيه؟
والجواب والله الموفق: أنه يعتبر في وجوب الزكاة المسلم فيه لخروج رأس المال عن ملكه بأن صار ديناً مرجواً عند وجوبها، والأصل في ذلك قوله تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً}[التوبة:103]، وقوله صلى الله عليه وآله لمعاذ: ((اعلمهم أن في أموالهم صدقة...)) الخبر، فرأس المال لم يكن من ماله بعد عقد السلم الصحيح، وإخراجه عن ملكه والمسلم فيه قد صار من ماله.
وقال السائل: إذا وجبت الزكاة في المسلم فيه، فكم يكون المخرج حيث اختلفت قيمته؟
والجواب والله الموفق: أنه يكون بحسب قيمته يوم وجبت الزكاة، وذلك عند تمام حول مبدله، وهو رأس المال المسلم، ولا اعتبار باختلاف القيمة بعد ذلك ولا قبله؛ لأن ذلك هو وقت الوجوب، والوجوب متعلق به لا سواه، ولا يظهر في ذلك اختلاف بين العترة " في الجملة، ومن قال من الأئمة ": أن الزكاة تجب في الذهب والفضة وغيرهما من المواشي عند ابتداء دخولها في الملك لا يخالف في وجوب الزكاة عند تمام الحول إذا لم ينقص ذلك عن النصاب.

(1/129)


[حكم الهبة بجميع الأموال أو التصدق بها]
وقال السائل: من وهب جميع ماله لولده الصغير ليقلّ بذلك جمعه للأموال [ولتصح] توبته مما قد تلبسّ به من المظالم ونحوها تجويزاً لا يقيناً، ولتبرى بذلك ذمته عن ذلك المجوّز بأن تواطأ هو، وفقير آخر على مساقطة ذلك المجوّز بصرف شيء إليه وردّه ثم كذلك حتى يغلب الظن بالبراءة من جميع ذلك المجوّز، هل له ذلك؟
والجواب والله الموفق: أن ذلك لا يصح إذا كان يؤدّي إلى حاجته إلى الناس؛ لقوله تعالى: {وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إلى عُنُقِكَ وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ} [الإسراء:29]، وقوله تعالى: {وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا}[الفرقان:67]، وقد أمر الله بالاقتداء بهم؛ لأنهم من الأنبياء، وآبائهم، وإخوانهم، وذرياتهم وقد قال تعالى فيهم: {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى الله فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ}[الأنعام:90]، ولقوله صلى الله عليه وآله:[((كفى بالمرأ إثماً أن يضيع من يعول أو يكون عيالاً على المؤمنين)) رواه أبو طالب عليه السلام في (الأمالي)، فقال صلى الله عليه وآله]: ((أو يكون عيالاً على المؤمنين))، ونحو ذلك كخبر بيضة الذهب، وفي (مجموع زيد بن علي) عليهما السلام عن علي عليه السلام: ((كفى بالمرء إثماً أن يضيع من يعول، أو يكون عيالاً على الناس))، [فأما إذا كان] ما عند الله أوثق منه بما في يده ولم يحمله ذلك على الحاجة إلى أحد من الناس، فإنه لا بأس به إذا كان فيه قربة لقوله تعالى: {وَيُؤْثِرُونَ على أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ

(1/130)


كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}[الحشر:9]، وقال تعالى: {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ على حُبِّهِ} أي حب الطعام والحاجة إليه {مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا}[الإنسان:8].
والقصة في ذلك مع أهل البيت " مشهورة، وكانت الحاجة منهم " إلى ما تصدقوا به مما عرفها الخاص والعام حسبما جاء في الروايات، ولقوله تعالى: {وَمَا أَنفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ}[سبأ:39].
ورُوي: ((من أيقن بالخلف جاد بالعطية)) لكن لا تصح توبته مع ذلك مما قد تلبس به من المظالم تجويزاً؛ لأنه خلاف الاحتياط، وقد أوجبه الله تعالى حيث قال: {وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ}[الإسراء:36]، وبه جاءت السنة وقد تقدم ذكر طرف مما روي في ذلك، فلا تصح المساقطة لذلك ولمثل ما تقدم.

(1/131)


وقد ذكر الهادي عليه السلام: (أنه لا يصح أن يهب المكلف أكثر من الثلث)، ذكره في (الأحكام) في كتاب الوقف، وذكر في (الأحكام) في كتاب الوصايا (أن له أن يفعل في ملكه ما شاء)، والجمع بين ذلك ممكن على نحو ما ذكرته إلا أنه لا وجه للتحديد بالثلث إلا القياس على الوصية وفعل المدنف، ويمكن الفرق بينهما بأنه تصرف فيما قد انتقل إلى الوارث بعد موته أو صار على شرف الانتقال كتصرف المدنف بخلاف ما فعله في حال حياته، فإنه تصرف محض في ملكه والفرق بين التصرف في محض الملك وغيره واضح، يؤيد هذا الفرق أنه لو نذر بثلث ماله على زيد ثم نذر بثلث ما بقي بعد النذر الأول على عمرو صحّ ذلك مما بقي بعد الثلث الأول بالإجماع ولو أوصى بثلث ماله لزيد، ثم بثلث ما بقي بعد الثلث الأول لعمرو لم يجز أن يتعدى بذلك على ثلث كل المال بالإجماع، فتأمل.

(1/132)


[حكم النذر بجميع المال]
وكذلك القول عندي في النذر، ولا يجب قصره على الثلث لقوله تعالى: {وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ}[الحج:29]، ولم يحده بحدٍ، وقوله صلى الله عليه وآله: ((من نذر نذراً سماه فعليه الوفاء به)) الخبر، ولم يحده بحد، اللهم إلا أن يكون المتصدق به أو الموهوب، أو المنذور به مما فعل في الأمراض المخوفة، فإن سبيله في ذلك سبيل الوصية لقوله تعالى: {وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا الله وَلْيَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدًا}[النساء:9]، وقوله صلى الله عليه وآله: ((إن الله تعالى جعل الثلث في آخر أعماركم زيادة في أعمالكم)) ونحوه.
وكذلك إذا فعله في حال الصحة فيما يظن بقاؤه بعد موته، ولا مال لوارثه سواه وهو يخشى عليه الحاجة إلى الناس لقوله تعالى: {وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا...} الآية، ولقوله صلى الله عليه وآله: ((إنك إن تترك ذريتك أغنياء خير من أن تتركهم عالةً يتكففون الناس))، لكن لا يقصر على الثلث لاختصاص ذلك بالوصية وما في حكمها؛ ولأنه لا يجب ذلك في حق نفسه كما قدمنا، وهو المالك فبالحري في حق غيره في شيء هو أحق الناس به في حال تصرفه، وقد اختار الأخوان عليهما السلام نحو ما ذكرته، وهو الذي يشعر به كلام الهادي عليه السلام في (الأحكام) إلا أنهم لم يصرّحوا باستثناء الكفاية.

(1/133)


وقال أبو حنيفة: إن قال: جميع مالي، لزمه إخراج ما تجب فيه الزكاة، وإن قال: جميع ملكي، لزمه إخراج جميع ما يملكه إلا قدر قوته، ولا وجه للفرق إلا أن يكون هناك عرف في أن المال لا يطلق إلا على ما تجب فيه الزكاة فلا بأس.
وقال الشافعي: إن شاء وفا بالنذر وإن شاء أخرج كفارة يمين، وما تقدم بحجة؛ لأنه لا دلالة على التخيير في ذلك، وكذلك لا يصح أن يعطي بعض أولاده شيئاً هبة ولا نذراً ولا صدقة دون بعض لما روي عنه صلى الله عليه وآله أنه قال: ((سوّوا بين أولادكم ولو في القبل))، ولخبر النعمان بن بشير، وهو متفق عليه في الجملة، وذلك أن أباه أنحله غلاماً دون إخوته ففي بعض الروايات أن النبي صلى الله عليه وآله قال: ((اتقوا الله واعدلوا بين أولادكم)) وفي بعضها: ((أشهدوا عليه غيري، فإني لا أشهد إلا على حق))، وفي بعضها: ((فإن هذا لا يصلح، وإني لا أشهد إلا على حق))، وفي بعضها: ((لا أشهد على جور))، ولما روي عن ابن عباس أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله:[((ساووا بين أولادكم في العطية فلو كنت مفضلاً فضلت البنات))، وروي عنه صلى الله عليه وآله] أنه قال: ((سووا بين أولادكم في العطية فإني لو فضلت أحداً على أحد لفضلت النساء على الرجال))، اللهم إلا أن يكون بعضهم أبرّ به من بعض فإنه لا بأس باختصاصه بشيء من ذلك من غير حيف في وصيته، ولا إجحاف بسائر إخوته لقوله تعالى: {هَلْ جَزَاءُ الإِحْسَانِ إِلاَّ الإِحْسَانُ}[الرحمن:60]، ولما رواه الهادي عليه السلام في (الأحكام) عن رسول الله صلى الله عليه وآله أنه قال: [قال] جبريل عليه السلام:

(1/134)


((يا محمد، من أولاك براً فكافه فإن لم تقدر فاثن عليه)).
وقلنا من دون حيف في وصيته، ولا إجحاف لقوله تعالى: {فَمَنْ خَافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفًا أو إِثْمًا...}[البقرة:182]الآية، وذلك نص صريح في نقض الوصية بالصلح لما روي عنه صلى الله عليه وآله أنه قال: ((لو أن رجلاً عبد الله ستين سنة، ثم ختم وصيته بضرار لأحبط الضرار عبادته، ثم أدخله النار)).
وقال السائل: أما الوالد فله أن يأكل من مال ابنه وليس له في مال غيره التصرف فيكون فعله ذلك -يعني تمليكه ولده جميع ما يملك وافياً بالغرضين-؟!
والجواب والله الموفق: إن كان فعله ذلك يؤدي إلى اعتماده على مال ولده، والاحتياج إليه، فإنه لا يصح تمليكه الجميع؛ لأنه قد صار عيالاً على بعض المؤمنين وهم ولده وقد تقدم الخبر في تحريم ذلك، ولما روي عنه صلى الله عليه وآله أن رجلاً جاء إليه بمثل بيضة من الذهب فقال: أصبتها من معدن فخذها فهي صدقة ما أملك غيرها، فأعرض عنه رسول الله صلى الله عليه وآله ثم أتاه من قبل يمينه فقال مثل ذلك، فأعرض رسول الله عنه، ثم أتاه من خلفه فأخذها رسول الله صلى الله عليه وآله فخذفه بها، ولو أصابته أوجعته أو عقرته ثم قال صلى الله عليه وآله: ((يأتي أحدكم بما يملك ثم يقول: هذه صدقة ثم يقعد يتكفف الناس)) الخبر ونحوه، وولده من جملة الناس.

(1/135)


وأما قول السائل: فله أن يأكل من مال ابنه، كذلك الفقير له أن يأكل من مال قريبه، وللمسلم أن يطلب الناس عند الضرورة الملجئة، فالفرق مع ذلك غير صحيح، فالأولى به إن فعل ذلك أن يستثني قدر كفايته مع التسوية بين أولاده، وعدم المضارة ليصح فعله ويتم غرضه وينجو من سخط ربه.

(1/136)


[حكم المضاربة بمال الأولاد]
وقال السائل: هل للوالد أن يضارب بمال ابنه من نفسه أو يوكل من يضاربه بمال ولده؟
والجواب والله الموفق: قد ذكروا أن مثل ذلك لا يصح، قالوا: لأنه يتعلق به الحقوق من كلا الطرفين نحو المطالبة، والقبض، والإقباض، وأنا لا أرى منعاً من ذلك إذا كان الوكيل ناصحاً غير غاش، ولا مقصرٍ لقوله تعالى: {كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ...}[المائدة:8] الآية، ولما روي عنه صلى الله عليه وآله أنه قال: ((ألا وإن الدين النصيحة)) الخبر ونحوه، فإذا نصح للموكلين فقد قام بالقسط، وإذا قد قام بالقسط فما الداعي إلى إبطال الوكالة؟
فإن قيل: إن مطالبة الرجل نفسه لا يصح وإذا كان البائع موكلاً بالشراء لم يتميز إقباضه للمبيع عن نفسه وقبضه عن موكله بالشراء.
قلت وبالله التوفيق: أما المطالبة فليست بصفة لعقد البيع يفسد إن عدمت، ويصح إن ثبتت؛ لأنه يصح البيع والقبض والإقباض من دون مطالبة، وذلك مما لا يظهر فيه اختلاف بين المسلمين.
وأما القبض والإقباض، فقد قال صلى الله عليه وآله: ((الأعمال بالنيات))، فإذا قبضه من نفسه عن نفسه في هذه الصورة أو عن موكله بالبيع في غيرها وقبضه عن موكله بالشراء إن لم يكن مشترياً موكلاً بالبيع، فما المانع من ذلك؟
فإن قيل: إن ذلك يؤدي إلى التشاجر لو تلف المبيع قبل صيرورته إلى المشتري أو الثمن قبل صيرورته إلى البائع.
قلت وبالله التوفيق: لا تشاجر مع ائتمان بعضهما لبعض، فإن استخان أحدهما صاحبه وجب على الوكيل في ذلك مثل ما يجب عليه لو انفرد بالوكالة من أحد الطرفين إذ لا فرق.

(1/137)


وقال السائل: فإذا تصرف في مال ابنه فيما هو أصلح له من البيع والشراء وغيرهما، بنية الأجرة فكم يستحق؟
إن قلتم أجرة المثل، فلعلها لا تعرف في بعض البلدان؛ لعدم الاستئجار على نحو ذلك في بلده تلك.
والجواب والله الموفق: أنه يجب على الأب أن يجتهد في تقدير الأجرة إذا لم يعرف إجرة المثل، فإن لم يهتد باجتهاده إلى تقديرها طلب عدلين يقدران له ذلك بالنظر، والاجتهاد، والقياس، والتقريب من الأعمال التي يقع عليها الأستئجار في بلده أو ما يقرب منها على قدر وجود العاملين بالأجرة في القلة، والكثرة والتيسير، والتعسير ويعمل في ذلك على ما يريانه من الصواب؛ لأن الله سبحانه قد اعتبر رأي العدلين فيما لم يكن أمره معروفاً متضحاً للمكلفين، وذلك جزاء الصيد، قال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ}[المائدة:95]، وهذا أصل واضحٌ من كتاب الله تعالى يجب الرجوع إليه في مثل ذلك؛ لأن العلة واحدة، وهو عدم إيضاح الأمر، وقد قال تعالى: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إلى الله وَالرَّسُولِ}[النساء:59]، أي إلى كتاب الله وسنة رسوله، وما لم يتضح الأمر فيه فلا شك في وقوع النزاع فيه ولو لم يكن إلا عدم التسليم لما فعل منه، فتأمل.
فإن قيل: فعلى هذا يلزم أن لا يفعل في ذلك باجتهاده، وأنه يجب عليه الرجوع إلى قوله: {عدلين} بأول وهلة.

(1/138)


قلت وبالله التوفيق: لو لم يكن الأب موكلاً إلى نظره فيما يصلح ولده إذا كان عدلا لوجب ذلك، لكن الأب أولى بذلك من العدلين؛ لقوله تعالى: {وَأُوْلُوا الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ...}[الأنفال:75] الآية، وذلك يشمل الولاية، وغيرها إلا ما خصه دليل على أنه لا يظهر في ذلك اختلاف.

(1/139)


[حكم من عليه مظالم لا يفي ماله بذلك]
وقال السائل: من كان عليه واجبات نحو مظالم، وكان ماله لا يفي بذلك، أيستثنى له ما يستثنى للفقير من المنزل والخادم والثياب، وزيادة على ذلك المستثنى دون النصاب؟ أم لا يستثنى له إلا ما يستثنى للمعسر؟
والجواب والله الموفق: أنه لا يستثنى له إلا ما يستثنى للمعسر؛ لأن ذلك دين لازم له، يجب عليه التخلص منه، والخروج من عهدته، وأداؤه إلى أهله؛ لقوله تعالى: {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إلى مَيْسَرَةٍ}[البقرة:280]، وذلك نص صريح في أنه لا نظرة إلا لذي العسرة؛ ولقوله صلى الله عليه وآله: ((ليّ الواجد يحل عرضه وعقوبته)).
قال السائل: في ذلك إشكال؛ لأنه إذا صح أن يصرف فيه الزكاة، والمظالم لزم أن لا يجب أن يخرج إلا ما وفي النصاب والزائد عليه!
والجواب والله الموفق: أنه لا وجه للزوم؛ لأن استحقاقه الزكاة والمظالم ليس بمانع لوجوب قضاء الدين بالإجماع [المعلوم].

(1/140)


[حكم التلفظ بكلمة الكفر]
وقال السائل: من تكلم بكلمة الكفر مختاراً لغرض من الأغراض كأن تتكلم به المرأة لينفسخ نكاحها ونحو ذلك، هل تقع بذلك الردة ولو لم يطابقه الاعتقاد؟
والجواب والله الموفق: أن كلمة الكفر سب لله تعالى، إذا قال: إن الله تعالى علواً كبيراً عمَّا يقول الظالمون له شريك، ونحو ذلك أو إظهار لعداوته تعالى إذا تبرّأ من الله تعالى، أو سبّ لرسوله، إذا قال: إن رسول الله وخاتم النبيين صلى الله عليه وآله ليس بنبي، أو إظهار لعداوته إذا تبرّئ منه والسبّ لله ولرسوله وإظهار عداوة الله ورسوله كفرٌ، وذلك معلوم من الدين ضرورة، وهذا قد شرح بما لفظ به من ذلك صدراً، ولم يكره عليه ولم يستثنِ الله تعالى في كتابه، إلا المكره قال تعالى: {مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً}[النحل:106].
وروى الهادي عليه السلام في (الأحكام) عن النبي صلى الله عليه وآله أنه قال: ((من سبني فاقتلوه)).

(1/141)


وعن زيد بن علي عن أبيه عن جده عن علي " أنه قال: (من شتم نبياً قتلناه) على أنه لا خلاف في معنى الخبرين، والقتل لا يكون إلا لأجل الكفر ونقض العهد في حق الذمي، وحد الزنا، وقتل النفس بغير نفس، والسعي في الأرض بالفساد كالدياثة، وقطع السبيل، والدعاء إلى الكفر والبغي على من أمنّه الله تعالى، وهذا ليس من السعي في الأرض بالفساد ولا بزنا ولا بقتل نفس بغير نفس، فما بقي إلا أن يكون كفراً، وإذا كان ذلك في حق رسول الله صلى الله عليه وآله كفراً فبطريق الأولى أن يكون في حق الله العلي الأعلى كفراً تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً، ولكني أرى أنه يجب على الإمام أن يؤدب من فعل ذلك لغرض كما ذكر السائل بعد التوبة أدباً بليغاً ليرتدع بذلك من لا خير فيه من الناس؛ لأن في ذلك صيانة للدين، والله سبحانه قد أوجب بذل أرواح المؤمنين وأموالهم في صيانة الدين في قوله تعالى: {إِنَّ الله اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ...}[التوبة:111]الآية ونحوها فما ظنك في صيانته بتأديب من قد تمرد على الله سبحانه؟!!
وقد ذكر المنصور بالله عليه السلام في باب الاجتهاد من (المهذب): (أن للإمام أن يوجب باجتهاده ما لم يكن واجباً).
وقد روي عن الهادي عليه السلام، أنه خرب دور وايلة وقطع أعنابهم وهم يجأرون بالتوبة، فلم يقلع لمصلحة رآها في ذلك.
هذا وقد خالف فيما ذهبت إليه في هذه المسألة جماعة من متأخري أئمتنا "، مثل الإمام المهدي لدين الله علي بن محمد، والإمام يحيى، والإمام المهدي لدين الله أحمد بن يحيى ".

(1/142)


قال الإمام المهدي لدين الله علي بن محمد عليه السلام ومن وافقه ما معناه: من نطقت بكلمة الكفر لتبين من زوجها وهي غير معتقدة للكفر أنها لا تبين بذلك مناقضة لغرضها، كقاتل العمد يناقض غرضه بعدم التوريث، وهذا باطل لمصادمته النص وذلك أنه قد ثبت النص، فيما مر على كفرها، وقوله تعالى: {وَلاَ تَنكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ...}[البقرة:221] الآية نص على تحريم النكاح بينها وبين زوجها، والقياس يبطل بمصادمته النصوص إجماعاً، ولأن عدم توريث القاتل عمداً تغليظ في الحكم، ومناقضة غرض المتكلم بكلمة الكفر، تعطيل للحكم فلم تقع المشاركة في العلة؛ لأن الفرق بين التعطيل والتغليظ جلي، وقال الإمام يحيى عليه السلام ما معناه: إنما لم تبن بذلك لأنها لم تشرح بالكفر صدرها، حيث لم تعتقد معناه، وإنما هي في حكم المكرهة حيث فعلت ذلك لشدة الكراهة، وقد قال تعالى:{وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراًً}[النحل:106]، وقوى ذلك الإمام المهدي لدين الله أحمد بن يحيى عليه السلام.
والجواب والله الموفق: أنها قد شرحت بنفس ما نطقت به صدراً حيث فعلته مختارة بلا إرهاب ولا تخويف، وقد ثبت بما مر أنه سب لله ولرسوله وأن ذلك كفر، فبطل ذلك.

(1/143)


وقوله عليه السلام: إنها في حكم المكرهة حيث فعلت لشدة الكراهة احتجاج بمحل النزاع؛ لأنا لا نسلم أن حكمها مع ذلك حكم المكرهة وإلا لزم أن تارك الصلاة لشدة كراهته التوضئ بالماء البارد، والحاج لشدة كراهة المشقة للسفر، والمجاهد لشدة كراهته ملاقاة الأعداء وخوف سيوفهم في حكم المكره، وكذلك يلزم أن يكون شارب الخمر لشدة كراهة مفارقته إذا كان قد تعوده في حكم المكره، ولا قائل بجواز ذلك البتة، والفرق تحكم.

(1/144)


[حكم صرف الزكاة إلى الفقراء من العوام الجاهلين بأصول الدين]
وقال السائل: هل يجزي صرف الواجبات إلى الفقراء من العوام الذين ظاهرهم الجودة والعدالة، مع حصول الظن أنهم لو سئلوا عن شيء من مسائل أصول الدين لم يهتدوا إلى الصواب إلا بالتقليد؟
والجواب والله الموفق: أنه يجب على المكلفين كافة ترك التقصير في معرفة خالقهم ومعرفة حدوده؛ لأن من لم يعرف الله فهو كافر، ومن لم يعرف حدوده فهو ضال جاهل، وكلا الأمرين معلومان من الدين ضرورة، فإذا أخرجه جهله إلى الكفر بالله سبحانه لم يصح صرف الزكاة فيه إجماعاً، وإن كان جاهلاً لحدود الله لم يخش الله؛ لقوله تعالى: {إِنَّمَا يَخْشَى الله مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ}[فاطر:28]، وإذا لم يخش الله فهو من الخاسرين؛ لقوله تعالى: {أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلاَ يَأْمَنُ مَكْرَ الله إِلاَّ الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ}[الأعراف:99]، وإذا كان من الخاسرين فإقامته على ذلك من أعظم الفتن؛ لقوله تعالى: {لاَ يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ}[الأعراف:27]، وقد قال تعالى: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ...}[الأنفال:39] الآية.
وصرف الزكاة ينافي قتالهم ضرورة فإذا توهم مخرج الزكاة فيمن ظاهره الصلاح من العوام أنه جاهل بالله وحدوده، سأله بلطف عن كون الله سبحانه قديماً، قادراً، عالماً، حياً، ليس كمثله شيء، وأن المخلوق لا يقدر أن يُكيف الخالق بوهم ولا علم، ولا يدركه بشيء من الحواس في الدنيا ولا في الآخرة، وأن الله تعالى مختص بعلم ذاته.

(1/145)


ويسأله عن حدود الله سبحانه وتعالى، جملة وأنه يجب الرجوع إلى سؤال أهل العلم إذا لم يكن من العلماء في جميع ما يلتبس عليه من أمر دينه، فإن أجابه عن ذلك بجواب مطابق للحق وجب قبوله، ولو لم يأت عليه بدليل؛ لأن كثيراً من الناس قد يعرف الحق ويعزب عنه التعبير عنه، لا سيما مع عدم الإطلاع على ما قد وضعه أهل علم الكلام واصطلحوا عليه من الألفاظ.
ولأن المعلوم من أحوال النبي صلى الله عليه وآله والأئمة الهادين من بعده أنهم لا يطلبون الداخلين في الدين التعبير عن أدلة دينهم من لدن الدخول في أول الإسلام إلى يومنا هذا؛ لأن الله قد ألزم عباده القبول حيث يقول: {وَلاَ تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلاَمَ لَسْتَ مُؤْمِناً}[النساء:94].

(1/146)


وروي عن الحارث، عن أمير المؤمنين عليه السلام أنه دخل السوق فإذا هو برجل مول ظهره يقول: لا والذي احتجب بالسبع، فضرب علي عليه السلام على ظهره، ثم قال: من الذي احتجب بالسبع؟، قال: الله يا أمير المؤمنين، قال: أخطأت، ثكلتك أمك! إن الله ليس بينه وبين خلقه حجاب، لأنه معهم أينما كانوا، قال: ما كفارة ما قلت؟ قال: أن تعلم أن الله معك حيث كنت، قال: أطعم المساكين؟ قال: إنما حلفت بغير ربك. فانظر كيف رجع إلى الحق واعترف به، ولم يطلبه أمير المؤمنين عليه السلام التعبير عن الدليل، وإن لم يجبه بجواب مطابق بل أخطأ في ذلك، وجب على من عرف ذلك هدايته وتعليمه بما يحتمله عقله ويفهمه من لغته؛ لقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى...}[البقرة:159] الآية، وأقرب ما يكون في ذلك وأوضحه أن يأتي له بدليل القياس، فيقول: لو كان الله يشبه شيئاً من خلقه جسماً أو عرضاً لوجب أن يكون مخلوقاً مثله لعدم الفرق؛ لأن العقل يقضي بالتماثل في المتماثلات، والتخالف في المتخالفات ضرورة، ألا ترى أنك لو رأيت بناء قديماً ولم يخبرك مخبر بأن له بانٍ أنك تعلم أنه محدث! وأن له بانياً قياساً على ما قد عرفت حدوثه من المبنيات بالمشاهدة! وكذلك سائر الأشياء، والله سبحانه قد احتج بالقياس على أهل العقول في مواضع كثيرة من كتابه العزيز قال تعالى: {وَتَرَى الأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ، ذَلِكَ بِأَنَّ الله هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ

(1/147)


يُحْيِ الْمَوْتَى وَأَنَّهُ على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}[الحج:5،6]، فقاس الله سبحانه لعباده إحياءه الموتى وخلقه لكل شيء حيث قال: {وَأَنَّهُ على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}: بما عرف حدوثه ضرورة بما ذكره في هذه الآية وما قبلها من خلق الإنسان، وقال تعالى: {وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ، قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ}[يس:78،79]، وقال تعالى: {وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الأُولَى فَلَوْلاَ تَذكَّرُونَ}[الواقعة:62]، وقال الله سبحانه: {فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنَا قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ}[الإسراء:51] فقاس لهم سبحانه النشأة الأخرى بالأولى ونحو ذلك في كتاب الله العزيز كثير، وقد قال تعالى: {فَاعْتَبِرُوا يَاأُولِي الأَبْصَارِ}[الحشر:2] أي قيسوا، ولا يقال: إنه من العبرة الذي هو من البكاء؛ لأن أحداً لم يقل بوجوب البكاء؛ ولئن سلم فحمله على البكاء دون القياس تحكم، وعدم العمل بأيهما إهمال لخطاب الحكيم، وإهمال خطاب الحكيم لا يسوغ لقوله تعالى: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا...}[طه:124] الآية. ومن زعم أن له من بيان الحجة للسائلين وعلى المعاندين أبلغ مما أودع الله في كتابه فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه؛ لرده ما علم من الدين ضرورة، ولقوله تعالى: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ}[الإسراء:9]، فإذا عرف الله بذلك عرفه بأنه يجب عليه سؤال أهل العلم في أمر ما يجب

(1/148)


عليه لربه كله، فإذا قيل ذلك كان من المهتدين، وجازت له الزكاة إن كان فقيراً غير هاشمي.

(1/149)


[العلماء الذين تحل لهم الزكاة]
فإن قيل: قد ذكرت فيما سبق في جواب هذه المسألة أن غير العلماء لا تصح لهم الزكاة، ومن كان كذلك فليس من العلماء.
قلت وبالله التوفيق: ليس المراد بالعلماء في الآية هم الذين درسوا في العلم حتى رسخوا فيه فقط، بل المراد بها عموم من يعلم الله ويعلم حدوده، إما بالدرس وإما بالسؤال، بدليل أن الله سبحانه لم يحتم الدرس على جميع العباد وإنما جعله سبحانه من فروض الكفايات حيث قال: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ}[النحل:43،44]، فأمر بالسؤال، وذلك يستلزم الأمر بمعرفة ما يسأل عنه للبعض، وإلا كان الأمر لغواً وعبثاً، والله منزه عن ذلك لكونه من صفات المناقص تعالى الله عنها، وقال رسول الله صلى الله عليه وآله: ((العالم والمتعلم شريكان في الأجر، إلا أن للعالم أجرين، وللمتعلم أجراً، فكن عالماً أو متعلماً، وإياك أن تكون لاهياً متلذذاً)).
وقال أمير المؤمنين كرم الله وجهه في الجنة في كلامه لكميل بن زياد رحمه الله تعالى: (الناس ثلاثة: فعالم رباني، ومتعلم على سبيل نجاة، وهمج رعاع أتباع كل ناعق، [يميلون مع كل ريح]، لم يستضيئوا بنور العلم، ولم يلجأوا إلى ركن وثيق...) إلى آخر كلامه عليه السلام.

(1/150)


[حكم الزكاة على البعيد عن وطنه]
وقال السائل: من كان بينه وبين وطنه مسافة بعيدة، وله في وطنه ما يصير به غنياً لا تحل له مع ذلك الزكاة إلا ما دام في سفره لعدم ما يملكه في ذلك السفر، إلا ما يبلغه إلى وطنه أو دون ذلك، أو لا يكون معه شيء من ماله أصلاً وعليه زكوات ومظالم هل له أن يساقط ما عليه من الواجبات ما دام في سفره، بأن يصرف إلى فقير بنية الرد، ثم كذلك حتى تبرى ذمته، كما جاز أن يصرف إليه الزكاة؟ وإلا فما الفرق؟
والجواب والله الموفق: إن كان معه ما يبلغه إلى وطنه فإنه لا يجوز صرف الزكاة إليه إذا كان في وطنه ما يصير به غنياً، ولا يظهر في ذلك اختلاف البتة.
وإن لم يكن ما يبلغه إلى وطنه جاز أن يصرف إليه من الزكاة مقدار ما يبلغه فقط بلا خلاف أيضاً، لكن إذا وصل وطنه ومعه من ذلك فضلة، فقد قيل: إنه لا يجب عليه إخراجه لأنه قد ملكه،واستحب له أن يخرجه لزوال الوجه الذي استحق به أخذه،وليس له أن يساقط ما عليه من الواجبات؛لأنه إنما استحق أخذ الزكاة ليتبلغ بها إلى وطنه، لمساقطة لم تشاركه في هذه العلة،وهذا وجه الفرق بينهما لا سيما مع ما تقدم من بطلان المساقطة. والله علم.
وقال السائل: هل تصح المساقطة بين الفقيرين حيث كان أحدهما يعلم أن عليه شيئاً من الواجبات والآخر يعلم أن لا شيء عليه، وكذلك إذا كانا محتاطين من غير علم بأن عليهما شيئاً، وإنما كانا يظنان أن عليهما شيئاً ظناً أو شكاً في ذلك، وأما إذا كان أحدهما محتاطاً دون الآخر فقد ذكر العلماء أن ذلك يصح؟

(1/151)


والجواب والله الموفق: أن ذلك لا يصح في جميع الصور المذكورة، وقد تقدم من الحجة على ذلك في أثناء هذه الجوابات ما فيه كفاية لمن أنصف، فلا حاجة لإعادتها هنا إلا مجرد التطويل.

(1/152)


[العلة في عدم جواز صرف شيئٍ من العروض عن مظلمة النقدين على جهة التمليك أو الهدية]
وقال السائل: لِمَ لا يجوز أن يخرج شيئاً من العروض والمثليات عن مظلمة النقدين والفلوس على جهة التمليك أو الهدية والضيافة وليس الغرض من صرف الواجبات إلا نفع الفقراء ونحوهم، وذلك يحصل بالنقدين وبسائر القيميات والمثليات على السواء، بل ربما تكون الحاجة إلى غيرهما أدعى كالطعام والكسوة في بعض الأحوال والأوقات؟
والجواب والله الموفق: أن الهدية والضيافة لا تجوز كما مر في أثناء الجوابات، وأما التمليك فإن كان لتعذر النقدين أو الفلوس فقد تقدم الكلام على ذلك فارجع إليه، وإن كان لغير ذلك إما لاستواء الانتفاع بالنقدين والفلوس وغيرهما من المثليات والقيميات، أو لكون حاجة المصرف إلى غيرهما أدعى كما ذكره السائل، فالأحوط إخراج الفلوس أو النقدين لتعلق الوجوب بهما إجماعاً وعدم الدليل على إخراج غيرهما مع وجودهما، وإن احتاج المصرف إلى شيء مما في يد الصارف من غيرهما اشتراه بقيمته أو أقل ودفع إليه ما كان قد صار إليه من ذلك ثمناً، ولا يجوز أن يعطيه في ذلك أكثر من قيمته خوفاً من أن يكون إنما جعل الزائد على القيمة محاباة ومكافأة على ما اختص به من صرف تلك المظلمة فتكون رشوة لكونها في مقابلة واجب، وقد قال صلى الله عليه وآله وسلم: ((دع ما يريبك إلى ما لا يريبك)) ونحوه. والله أعلم.
ولما روي أن عمر بن الخطاب أعطى رجلاً فرساً في سبيل الله، ثم رآه يباع، وأراد ابتياعه، فسأل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن ذلك؟ فقال: ((لا تبتعه ولا تعد في صدقتك)).

(1/153)


قال الأمير الحسين عليه السلام في (الشفاء): دل ذلك على قبح ابتياعه؛ لأنه ربما حاباه فيها لأجل إحسانه إليه.
وقال السائل: وهل يجوز صرف المظالم الملتبسة في الغني من أهل البيت " وإن لم يكن فيه مصلحة سوى أنه من المؤمنين؟ وهل يصح ذلك في فقيرهم العاصي؟ وهل حكم غير أهل البيت " في ذلك حكمهم؟
والجواب والله الموفق: أن الفقير والغني من أهل البيت " وغيرهم إن كانوا من المؤمنين الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر، والحافظين لحدود الله غير مداهنين للظالمين، ولا كافين عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر استصلاحاً لدنياهم فهم في ذلك على سواء.
والوجه في ذلك أن المظالم من جملة بيوت الأموال وبيوت الأموال يجب إخراجها إلى من كان حاله كذلك كما كان يفعل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، والأئمة الهادين من بعده.
وعن علي عليه السلام أنه لما انقضى أمر أهل الجمل دخل على بيت المال، فرأى فيه الْبِدَرَ من الذهب والفضة، فقال: (صلصلي صلصالك، فلست من أشكالك) فقسمه من وقته بين الناس بالسوية، ولم يخص أحداً من أحد.
وروي أنه خرج لكل واحدٍ خمسمائة، خمسمائة، وأعطى الحسن والحسين عليهما السلام خمسمائة خمسمائة، وأخذ لنفسه خمسمائة، فجاءه سائل فأعطاه نصيبه، وكذلك كان يفعل في بيوت الأموال ولم يشترط فقراً ولا صلاحاً سوى ما ذكرناه، وذلك معلوم لمن طالع السير والتواريخ.

(1/154)


وروي أن عمر في خلافته كان يعطي الحسن والحسين عليهما السلام من بيوت الأموال وقت العطاء خمسة آلاف، خمسة آلاف ومثل ذلك كان يعطي أهل بدر، فلو كان ذلك مما يختص الفقراء لم يقبلوه أو لم يقبلوا الزائد على دون النصاب.
قال القاسم بن علي العياني عليه السلام في مسألة الرزق ما لفظه: (فأما من أصاب مما في أيدي هؤلاء الظلمة -يعني سلاطين الجور وأعوانهم- شيئاً من المسلمين الذين هم لله مطيعون فلا تبعة عليهم فيما نالوا مما في أيدي هؤلاء الظلمة؛ لأنهم إنما نالوا قليلاً من كثير أحله الله لهم وحجره على من سواهم من أعدائهم، وليس من أولياء الله أحد غني ولا فقير إلا وله في أموال الله نصيب) -يعني بأموال الله: بيوت الأموال. والله أعلم. وذلك صحيح لما قدمنا ما لم يتوصل إليه بإيناسهم ومجالستهم ومداهنتهم وإلا كانوا من أعداء الله وكان حراماً عليهم، والوجه واضح بعد التدبر لما ذكرناه أولاً وعليه يحمل قول زين العابدين عليه السلام: (من أكل من حلواهم مال إلى هواهم) لكن إذا لم يكن ثَمَّ إمام فإخراجها إلى فقراء بني هاشم أفضل لمنعهم من الخمس وعدم استحقاقهم للزكاة، وإذا كان أحد ظاهره الصلاح ولم يكن من المباينين لأعداء الله، ولا من الآمرين بالمعروف، ولا الناهين عن المنكر فلا نصيب له في ذلك، ولا كرامة، والوجه في ذلك أنه لم يؤثر عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ولا عن الأئمة الهادين أنهم كانوا يعطون من حاله كذلك إلا تأليفاً أو سد فاقته إذا كان أسيراً معدماً فقط، ولا يصح التأليف من أحد بعد النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلا من أئمة الهدى فقط

(1/155)


وذلك مما لا يظهر فيه اختلاف، ولا يصح أن يقاس على الأسير؛ لأن الأسير لا يتمكن من التكسب لنفسه لكونه محبوساً بخلاف المطلق.

(1/156)


[حكم من عليه مظلمة وزكاة وفطرة وكفارة ونحوها وما له لا يفي بذلك]
وقال السائل: من عليه مظلمة ملتبسة وزكاة وفطرة وكفارة وخمس وحج، وماله لا يفي بذلك فقد ذكر العلماء في هذه الصورة أنه يقسط في كل منها حصته، هل يظهر لذلك فائدة؟ وما المانع في صرف المال في واحد من هذه الأمور، والحق كله لله تعالى؟
والجواب والله الموفق: أما الوصية بالحج مِنْ مَنْ ماله مستغرق بالحقوق فإنه يتعين صرف جميع المال في الحقوق دون الحج.
والوجه في ذلك أن وجوب الحقوق متعلق بالمال ومتعين كالزكاة، ووجوب الحج متعلق بالبدن، وينتقل إلى المال بالوصية إذا كان المال غير مستحق، والمال في هذه الصورة قد صار مستحقاً حيث تعلق الوجوب به وقد ذكر معنى ما ذكرته في هذا الأمير الحسين عليه السلام في كتاب الوصايا من (الشفاء)، وأظن أنه لا يخالف في ذلك أحد ممن يوجب إخراج وصية الحج من الثلث.

(1/157)


وأما من يوجب إخراجها من رأس المال فلعله يوجب التقسيط بينها وبين غيرها من نحو ما ذكره السائل، ويحتج بأنه منصوص على تحجيج الغير عن الميت، وذلك لا يكون إلا بالأجرة، ويجب أن يكون من رأس المال كسائر الديون وهو مردود؛ لأن نذر المدنف المشروط بالموت ووصيته من المنصوص عليه، والنذر بعد التلفظ به وحصول شرطه يكون واجباً، والوصية بعد موت الموصي تكون واجبة، وهما معينان في المال، ولا يصحان من المستغرق ماله بالحقوق والديون بلا خلاف أعلمه، بخلاف التحجيج عن الغير فإنه إن ورد النص به لم يرد النص بتعيينه في المال كالنذر المذكور والوصية، فكيف يكون أعلى حالاً منهما! ويؤيد ما ذكرناه وقوع الإجماع على أنه لا يجب التحجيج عن الميت إذا لم يوص، وإن قال بعضهم بالجواز من الولد فقط، وذلك دليل واضح على أنه لا يتعلق بالمال بعد الموت، وإلا لوجب بغير وصية كالزكاة وسائر الديون، فلما اتضح لنا الدليل على عدم تعلقه بالمال علمنا أنه لا يزاحم الحقوق المتعلقة بالمال المستغرقة له فتأمل.
وأما سائر الحقوق فإن اتحد مصرفها فإنه لا يجب التقسيط؛ لأنه لا إجحاف في ذلك على أحد ولا مضرة كلو كان دَيناً لواحد عن أجرة وقرض وثمن مبيع إذ لا فرق.
وأما إذا لم يتحد المصرف بل تعدد وجب التقسيط لقوله تعالى: {إِنَّ الله يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ}[النحل:90]، وليس من العدل والإحسان ترك تقسيط الحقوق بين أهلها الذين يتضررون ويحتاجون.

(1/158)


[كيفية التقسيط فيمن عليه ديون واجبة]
وقال السائل: يكون التقسيط على قدر عدد الواجبات كأن يكون في زكاة وخمس مثلاً فيجعل نصفين، ولو كانا متفاوتين في القلة والكثرة، أم يكون على قدر مقاديرها فيجعل لكل مصرف مقدار الواجب الذي يستحقه؟
والجواب والله الموفق: أنه يكون على مقاديرها فيجعل لكل مصرف بقدر الواجب الذي يستحقه؛ لأن خلاف ذلك خلاف العدل، وقد قال الله تعالى: {إِنَّ الله يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ}[النحل:90].
وقال السائل: أيلزم ذلك؟ أم يستحب؟
والجواب والله الموفق: أنه يلزم ذلك ويجب للآية؛ لأنها نص على الأمر بذلك، وأمر المالك المنعم يقتضي الوجوب عقلاً؛ لأن العقلاء يستقبحون عصيان المالك المنعم والإخلال بأمره، ولغةً لأن العرب يعاقبون من أخل بأمرهم ويعتذرون بتقديم الأمر، وما ذاك إلا لأنه يفهم منه الحتم والإلزام وإلا لم يعتذروا به، وشرعاً لقوله تعالى: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أو يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}[النور:63].
وقال السائل: من لزمه خمس حطب وحشيش بعد أن استهلكه أيجب فيه القيمة؟ أم يجب الإخراج من الجنس؟
والجواب والله الموفق: أن الوجوب متعلق بعين ذلك بلا إشكال، وهو قيمي فيجب أن يخرج قيمته كسائر القيميات إذ لا فرق.
وقال السائل: من أجر جملاً أو نحوه من آخر ليحطب عليه على أن يكون الحطب بينهما نصفين ثم صار حصة الأجير إلى مالك الجمل عن شراء أو نحوه فعلى من يكون الخمس؟ أعلى الأجير؟ أم على مالك الجمل؟

(1/159)


والجواب والله الموفق: أن الخمس لازم للأجير؛ لأنه الغانم ويتعين في الحطب فلا يتناول عقد البيع أو نحوه إلا ما عدا الخمس لقوله تعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى...}[الأنفال:41] الآية أي خمس ذلك المغنم، ولم يقل فيه خمسه ولا مثله ولا عوضه وذلك واضح.
وقال السائل: إذا كان الجمل مغصوباً فهل يكون على مشتري الحطب ضمان؟
والجواب والله الموفق: أنه إن أراد السائل بالضمان ضمان الأجرة فإن الأجرة لا تلزم إلا المستعمل للجمل فقط؛ لقوله تعالى: {وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى}الإسراء:15]، على أنه لا يظهر اختلاف في أن من اشترى شيئاً قد حمل على مغصوب أو حفظ فيه أو صنيع به أنه لا يلزمه الأجرة ما لم يستعمله بنفسه؛ ولأن الأجرة إنما تلزم في الذمة، ولا يتعين في المال المعمول أو المحفوظ أو المحمول حيث لم يقع التراضي بذلك كهذه الصورة بإجماع العترة ومن وافقهم من مثبتي الإجازة فلا مدخل للضمان.
وإن أراد بالضمان ضمان الجمل فلا يضمنه المشتري للحطب أيضاً ما لم يقبضه كمن لم يشتر الحطب؛ إذ لا فرق على أنه لا يظهر في ذلك اختلاف.

(1/160)


[وجوب إيصال الزكاة إلى المصرف]
وقال السائل: إذا لم يكن في الزمان إمام هل يجب على من وجبت عليه الزكاة إيصالها إلى المصرف وإن بعد؟
والجواب والله الموفق: أن المصرف إن لم يكن حاضراً ولا يرجو من وجبت عليه الزكاة حضوره أو حضور نائبه لتحشمه أو ضعفه وجب عليه إيصالها لتبرئ ذمته؛ لكون الواجبات المطلقة يتحتم المبادرة بها مع الإمكان كما تقدم تحقيقه في أثناء الجواب؛ ولأنه من المعاونة على البر والتقوى، وقد قال الله تعالى: {وَتَعَاوَنُوا على الْبِرِّ وَالتَّقْوَى}[المائدة:2].
وقال السائل: فإن احتيج إلى الأجرة على ذلك فعلى من تجب؟
والجواب والله الموفق: أنها تجب على المزكي لا على المصرف؛ لأن الوجوب قد تعين عليه كما تقرر، وما لا يتم الواجب إلا به يلزم وجوبه وإلا انتقض الوجوب والتحق بالنفل؛ ولأن المصرف لم يكن مالكاً لها قبل إيصالها وقبضه لها، ولم يكن منه إخلال بواجب بالتأجير فكيف تجب عليه الأجرة المنتزع بها حيث لم يؤذن بها في حمل ما لم يكن مالكاً له حينئذٍ! وهل ذلك إلا خلاف الإجماع! ولا يقال: إنها تجب من الزكاة؛ لأن الله تعالى قد جعل في مصرفها العاملين عليها، وحاملها إلى الفقير من جملة العاملين؛ لأنا نقول والله الموفق: إن العاملين عليها هم جباتها بإذن الإمام بإجماع المفسرين والفقهاء من أهل البيت وغيرهم، ولا قائل بأن من جباها أو حملها بإذن من وجبت عليه داخل في ذلك.

(1/161)


[حكم من قبض جميع ماله وفيه الزكاة]
وقال السائل: من قبض جميع ماله وفيه الزكاة أو قبض بعض ما يجب فيه العشر، وقلنا: إن العشر يجب في القليل والكثير، وغلب في الظن أن مالك المال لا يخرجها أو يخرجها إلى غير مصرفها في اعتقاد القابض، فهل له أن يخرجها من المال بغير إذن المالك؟
والجواب والله الموفق: إن كان المالك يأذن له بإخراجها لم يجز إخراجها إلا بإذنه ولا أعلم في ذلك اختلافاً، وإن كان لا يأذن له وكانت مما يجب إخراجها من نفس المال نحو أن يكون من زكاة النقدين أو من الأعشار، وبلغ المكيل منه خمسة أوسق لصحة خبر الأوساق وجب عليه إخراجها من نفس ذلك المال؛لأنها قد تعينت فيه لقوله تعالى:{خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً}[التوبة:103]، وقوله صلى الله عليه وآله وسلم: ((إن الله تعالى فرض في مال الغني في كل مائتين خمسة)) الخبر، وقوله صلى الله عليه وآله في كتابه لعمرو بن حزم: ((ما سقت السماء إذا كان سيحاً أو بَعْلاً، ففيه العشر إذا بلغ خمسة أوسق)) الخبر، وقوله صلى الله عليه وآله وسلم: ((خذ الحب من الحب، والشاة من الغنم، والبعير من الإبل، والبقرة من البقر)) ونحوه، ولا يضمن لرب المال شيئاً لقوله تعالى: {إِنَّ الله يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إلى أَهْلِهَا}[النساء:58]، وليس أهلها بعد منع رب المال لها، أو جعله لها في غير مستحقها إلا مصرفها بلا إشكال، فقد صار بعد إخراجه لها من المحسنين لامتثال رب العالمين، وهو يقول: {مَا على الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ}[التوبة:91].
فإن قيل: فهل يبرئ المالك بذلك؟

(1/162)


فالجواب والله الموفق: أنه يبرئ بذلك وفاقاً لأحمد بن عيسى، وللقائلين بأن من كان من أهل الصلاح فله استيفاء الحقوق في غير وقت الإمام كالأمير الحسين عليه السلام، وخلافاً لكثير من العلماء.
والحجة لنا عليهم: أن الزكاة قد تعينت في المال بدليل ما مر، وكان لمالكه تعيينها حيث كان أميناً، فلما ظهرت خيانته بالمنع أو جعلها في غير مستحقها لم يبق أميناً عليها فلم يكن إليه تعيينها بعد ذلك بإجماع العترة "، على فعل مصدق الإمام مع الممتنع من تسليمها، فلما لم يكن إليه أن يعينها بعد ذلك فقد تعينت في المال المقبوض، وكان القابض له قد قبضها من جملته فوجب عليه إخراجها إلى مصرفها، لقوله تعالى: {إِنَّ الله يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إلى أَهْلِهَا}[النساء:58].
فإن قيل: إن إخراجها يفتقر إلى النية.
قلت وبالله التوفيق: ليس لمالك المال إلا تعيينها فقط؛ لأن الله سبحانه وتعالى قد أوجبها فيه فهي مع أصل المال المزكى كالمال المشترك بغير فرق إلا التحكم، ولقوله تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً}[التوبة:103]، وقوله صلى الله عليه وآله وسلم: ((خذ الحب من الحب)) الخبر ونحوه، والأخذ ينافي نية المالك ضرورة، ولإجماع العترة على فعل مصدق الإمام مع الممتنع من إخراجها، وبدليل وجوب الزكاة في أموال ناقصي العقول كالصبي والمجنون، فلو كانت تفتقر إلى النية لم تجب عليهم الصلاة والصيام وسائر الواجبات.

(1/163)


وإن كانت لم تعين في المال المقبوض كزكاة خمس من الإبل إذا قبضها لم يجب على القابض شيء؛ لأنه لم يقبض الزكاة مع جملة المال المزكَّى كالصورة الأولى، فيجب عليه أداؤها إلى أهلها، فلم يتناوله قوله تعالى: {إِنَّ الله يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إلى أَهْلِهَا}[النساء:58].

(1/164)


[حكم من أوصى بشيء حسن وهو عاصٍ]
وقال السائل: من أوصى بغلة بعض أراضيه في قراءة قرآن أو حج، والفرض أنه عاص، هل تصح وصيته؟
والجواب والله الموفق: أن وصيته غير صحيحة إن مات مصراً على عصيانه؛ لأنه جعل ذلك قربة، والله يقول: {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ الله مِنَ الْمُتَّقِينَ}[المائدة:27]، ويقول تعالى: {وَقَدِمْنَا إلى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا}[الفرقان:23]، وقد صح لي من مذهب الهادي عليه السلام مثل ذلك.
وأهل الموازنة يقولون بصحة الوصية.
والحجة عليهم ما مر في جواب هذه المسألة، وما تقدمه في أثناء الجواب فارجع إليه.
وقال السائل: فماذا يفعل الوصي بتلك الغلة، وكذلك من قبض شيئاً منها؟
والجواب والله الموفق: أنه يجب أن يصيرها الوصي ومن قبضها إلى الوارث لعدم خروجها من جملة الموروث بدليل ما تقدم.
وقال السائل: فإذا استأجر الوصي من يقرأ أو يحج عن الميت بغير مبالاة هل يضمن؟ وكذا القارئ والحاج هل يضمن ما قبضه؟
والجواب والله الموفق: أن الوصي والقارئ والحاج عن الميت يضمنون؛ وذلك لأنه تصرف في المال بغير إذن مالكه، وقد قال تعالى: {وَلاَ تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ}[البقرة:188]، وقد قال صلى الله عليه وآله وسلم: ((على اليد ردُّ ما أخذت)) اللهم، إلا أن يأذن الوارث بذلك في حال صحة تصرفه فلا ضمان عليهم بلا خلاف أعلمه.

(1/165)


[حكم قراءة الفاسق وحجه عن الميت]
وقال السائل: فإذا صحت الوصية فهل يصح أن يقرأ الفاسق أو يحج عن الميت؟
والجواب والله الموفق: أنه لا يصح أن يقرأ الفاسق ولا يحج عن الميت ولا بد أن يكون القارئ أو الحاج عن الميت من المؤمنين؛ لأن الوصية بالقرآن لا تكون إلا متوسلاً بها إلى الله تعالى في أن يغفر للميت ويرحمه كالرقية أو نيابة عنه كالتحجيج وأيهما كان فهو من الفاسق غير مقبول لقوله تعالى: {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ الله مِنَ الْمُتَّقِينَ}[المائدة:27] ونحو ذلك.
وقال السائل: هل يضمن الفاسق ما قبضه لأجل ذلك؟
والجواب والله الموفق: إن كان مدلساً بالتزيي بزي العدالة ضمن؛ لأن المؤجر له على ذلك لم تطب نفسه بما سلم إليه لو لم يدلس عليه، وقد قال تعالى: {وَلاَ تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ}[البقرة:188]، وقال صلى الله عليه وآله وسلم: ((لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيبة من نفسه)).
وإن كان غير مدلس وفسقه ظاهر مكشوف لمن أجّره على ذلك لم يضمن؛ لأنه أعطاه بطيبة من نفسه هذا حيث كان المؤجر هو الوارث المرشد لا الوصي الأجنبي فيضمنان معاً، والدليل ما تقدم.
وقال السائل: فهل للفاسق بعد ضمانه لما قبض أن يستأجر للميت من يقرأ له؟
والجواب والله الموفق: أنه ليس له ذلك؛ لأنه ليس بوصي فهو كما لو أجّر عنه سائر المعرضين إذ لا فرق، وذلك لا يصح بلا خلاف.
وقال السائل: فإذا كان المستأجر للقراءة أو الحج لنفسه حياً، ووقع ذلك في حال حياته، هل يكون حكم فعله في ذلك مثل ما تقدم؟

(1/166)


والجواب والله الموفق: أن حكم فعله في ذلك مثل ما تقدم، والدليل واحد فليعتبر هنا على حد اعتباره هنالك إذ لا مخصص.

(1/167)


[حكم النذر لجنس معين هل يتجاوز إلى غيره بالإطعام]
وقال السائل: من نذر لمشهد أحمد بن الحسين عليه السلام مثلاً، وغرضه أن يكون للإطعام هل يصح لمن كان مجاوراً له من الفقراء والأيتام والضعفاء من الرجال والنساء، ولو لم يكن منهم أحياء في ذلك المشهد من قراءة علم أو قرآن؟
والجواب والله الموفق: أن العبرة في ذلك بقصد الناذر، فإن قصد أنه لا يطعم إلا من أحيا في المشهد دون من جاوره لم يجز تعدي ذلك، وإن قصد أن يطعم المحيي والمجاور من نحو الذين ذكرهم السائل جاز، ولا يظهر في ذلك اختلاف؛ ولأنه كالنذر لزيد لا يجوز أن يصير منه شيء إلى عمرو إلا إذا أشركه الناذر فيه إذ لا فرق.
فإن قيل: فإذا لم يعرف للناذر قصد سوى مجرد الإطعام!
قلت وبالله التوفيق: إن كان قد عرف أنه يتعدى بالإطعام في ذلك المشهد إلى المجاورين له عرفنا دخولهم في قصده لما أطلق نذره ولم يقصره على المحيين وإن كان لا يعرف إلا أن الإطعام فيه لا يكون إلا للمحيين أو الوافدين لم يجز أن يجعل النذر طعماً إلا لمن كان يعرف أنه يطعم من الصنفين المذكورين، لأنه المعروف حينئذٍ من قصده، وإن كان لم يطلع على شيء من ذلك رأساً وقد بلغه أنه يوصي للمشهد في الطعم وينذر له وجعل نذره من جملة ذلك جعل حيث يجعل ذلك على العادة المعروفة مع المتولين من أهل الصلاح والتحري؛ لأنه قد عرف من قصده أنه يجعل نذره حيث يجعل ما سبقه من النذور والوصايا حيث أطلق ولم يبين المصرف، والله أعلم.
وقال السائل: وهل يصح أيضاً أن يطعم من تلك النذور من كان يحيا في المشهد أو يفد إليه وهو غير عدلٍ؟

(1/168)


والجواب والله الموفق: أن الوافد المذكور إن لم يتوصل بذلك إلى فعل محظور ولا مضرة أحدٍ من المسلمين ولا أهل الذمة فلا بأس أن يطعم؛ لأنه قد صار من جملة المستحقين ولو كان غير عدل لقوله تعالى: {لاَ يَنْهَاكُمُ الله عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ الله يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ}[الممتحنة:8] ولقوله صلى الله عليه وآله وسلم: ((اصطنع المعروف إلى من هو أهله ومن ليس بأهله)) الخبر رواه الهادي عليه السلام في (الأحكام).

(1/169)


وعن الهادي عليه السلام في (الأحكام) أيضاً أنه قال: (وقد كان صلى الله عليه وآله وسلم يطعم اليهود ويهب لهم وهم به كافرون، ولما جاء به من الحق جاحدون، اللهم إلا أن يستثني الناذر غير العدل لم يجز أن يطعم، والوجه نحو ما تقدم، وإن كان الوافد المذكور يتوصل به إلى فعل محظور أو مضرة أحد من المسلمين أو من أهل الذمة لم يجز؛ لأن ذلك من المعاونة له على فعله، والله يقول: {وَلاَ تَعَاوَنُوا على الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ}[المائدة:2] ولا يقال: إن المعاونة تفتقر إلى القصد؛ لأنه خلاف المعلوم من استقراء لغة العرب حسبما قررته في كتاب (التحذير) ولنذكر من ذلك قوله تعالى: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ الله مَا لاَ يَنفَعُهُمْ وَلاَ يَضُرُّهُمْ وَكَانَ الْكَافِرُ على رَبِّهِ ظَهِيرًا}[الفرقان:55] أي معيناً، والكفار لا قصد لهم على المظاهرة التي هي المعاونة على الله بدليل قوله: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَا إلى الله زُلْفَى}[الزمر:3].
وقال السائل: فإذا لم يصح الإطعام وذلك حيث خولف قصد الناذر أو كان يتوصل به إلى معصية فعلى من الضمان؟ أعلى المتولي؟ أم على الآكل؟
والجواب والله الموفق: أنه يجب على الوالي للمشهد ضمان ما أخرجه من ذلك لتعديه، ولا يظهر في مثل ذلك اختلاف، وعلى الآكل قيمة ما أكل لبيت المال؛ لأنه حينما استهلكه الوالي متعدياً بذلك ولم يتمكن من رده إلى المصرف وقيل الغرامة لتصير لبيت المال، والأصل في ذلك خبر شاة الأسارى، وليس من كان غير عدل بمصرف لبيت المال على ما تقرر في أثناء الجواب.

(1/170)


وقال السائل: فهل يجب أن يصرف ما وجب بالضمان في ذلك الموضع فقط؟
والجواب والله الموفق: أما ما وجب على الوالي من الضمان فإنه يجب أن يرده إلى المشهد، والوجه في ذلك ظاهر، [وأما الأكل فإنه يجب أن يضعه في بيت المال حيث كان، وإلا وجب أن يصرفه في مصرفه حيث كان، والوجه أيضاً في ذلك ظاهر].

(1/171)


[حكم بيع الرجا والأدلة على تحريمه]
وقال السائل: ما الدليل على عدم صحة بيع الرجا؟
والجواب والله الموفق: أن بيع الرجا ضرب من الربا فكان غير صحيح؛ لقول الله تعالى: {وَأَحَلَّ الله الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا}[البقرة:275].
وبيان كونه ضرباً من الربا أن عقده غير صحيح؛ لقوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ}[النساء:29]، ولقوله صلى الله عليه وآله وسلم: ((إنما البيع عن تراض)).
ووجه الاحتجاج بذلك أن التراضي معتبر بصريح الآية والخبر في تمليك البايع المبيع من المشتري حتى يجري فيه جميع تصرفه من الإتلاف والبيع والهدية والنذر والهبة والوقف، وعلى الجملة أن البائع يرضى بخروجه عن ملكه خروجاً نافذاً في مقابلة الثمن، وكذلك التراضي معتبر بصريح الآية والخبر في تمليك المشتري البائع الثمن تمليكاً ناجزاً في مقابلة المبيع وذلك إجماع.
وبيع الرجا لم يقع التراضي على تمليك البايع المبيع من المشتري تمليكاً نافذاً، ولم يقع من المشتري تمليك الثمن من البائع تمليكاً نافذاً حيث شرط الرد لمثله.
ومما يدل على أن عقده غير صحيح ما روي عنه صلى الله عليه وآله وسلم أنه ((نهى عن بيع وشرط))، وعقد بيع الرجا بيع وشرط؛ لأنه يلفظ بعقد البيع وشرط لرد المبيع عند رد مثل الثمن.
وما روي عنه صلى الله عليه وآله وسلم أنه ((نهى عن شرطين في بيع))، وبيع الرجا كذلك؛ لأنه بيع وشرط من البائع برد المبيع، وشرط آخر من المشتري برد الثمن.

(1/172)


وما روي عنه صلى الله عليه وآله وسلم أنه ((نهى عن بيع السنين))، وهو: بيع الشجرة سنتين أو أكثر أو أقل كذلك المستغلات كالأراضي، ونهى صلى الله عليه وآله وسلم عن المعاومة وهو مثل بيع السنين، وذلك فيما لا يشرط فيه رد الثمن فما ظنك فيما شرط فيه ذلك وهو بيع الرجا! وما روي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه ((نهى عن الثنيا))، ومنه اشتراط رد المبيع والثمن كما في بيع الرجا، والنهي في العقود يدل على عدم وقوعها إلا ما خصه دليل؛ لأنها متوقفة على إذن الشارع، والنهي يدل على رفع الإذن وذلك معلوم من لغة العرب، فلما لم يقع العقد في بيع الرجا بصرائح الأدلة من الكتاب والسنة علمنا أنه ملتحق بالقرض [الذي يشرط فيه تسليم أرض أو شجر يستغلها المقرض بيده بقاء القرض] والإجماع المعلوم بين الأمة أن ذلك ربا، وقد قال الله تعالى: {وَأَحَلَّ الله الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا}[البقرة:275]، وقال عز قائلاً: {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لاَ يَقُومُونَ إِلاَّ كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ}[البقرة:275].
وروى الهادي عليه السلام في (الأحكام) وهو في (الشفاء) أيضاً، عن علي عليه السلام أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ((لدرهم ربا أشد على الله من أربع وثلاثين زنية أهونها إتيان الرجل أمه)).
وعن أنس، عنه صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: ((لئن يزني الرجل ستة وثلاثين زنية خير من أن يأكل درهماً من ربا)) رواه في (الشفاء) ونحو ذلك كثير.

(1/173)


وزعم قوم أن النهي في العقود لا يدل على صحة ولا بطلان، قالوا: لأن الصحة هي أن يترتب على العقد ثمراته، والبطلان عدم ترتب ثمرات العقد عليه، والنهي إنما يفيد معناه اللغوي، وأهل اللغة لا يعرفون ثمرات العقود الشرعية لولا تعريف الشرع.
والجواب والله الموفق: أنه قد ثبت بالاستقراء المفضي إلى العلم أن النهي عند أهل اللغة يفيد رفع الإذن، وذلك كافٍ في بطلان العقود لرفع الإذن بها، ألا ترى لو أن سيداً أذن لعبده في صناعة لا يعرفها أهل اللغة ثم نهاه عنها! إن ذلك يفيد رفع الإذن بها بلا إشكال كذلك هذا.
وقال آخرون كأبي حنيفة ومحمد بن الحسن الشيباني: [إن النهي في العقود يدل على الصحة قالوا: لأنه إذا لم يفد النهي الصحة لم يصح الخطاب به؛ لأن المنع على الممتنع لا يصح كالمنع من طلوع السماء.
والجواب والله الموفق]: أن النهي في العقود قد أفاد رفع الإذن بها كما تكرر فالمنع إنما كان لأجل رفع الإذن، ولولا رفع الإذن لكان ممكناً فلا يمتنع الخطاب به لذلك بخلاف طلوع السماء فإنه غير ممكن [ولو أراد الإذن به تقديراً] فالفرق ظاهر.

(1/174)


[مسألة في بيع الرجا]
وقال السائل: فإن عدل إلى أمر آخر قد أذن الشرع به يريد في تصحيح بيع الرجا وهو أن يبيح له منافع أرضه أو داره على غرض من الأغراض، وهو أن مالك النقدين أو نحوهما قد أذن لصاحب الدار والأرض بالإتلاف، ومتى انقضت مدة الإباحة وردّ له مثل ماله رجعت للمالك منافع ملكه، وكان ذلك بين المتعاملين بالتراضي وطيبة النفس، وقد قال صلى الله عليه وآله وسلم: ((لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيبة من نفسه)) وهاهنا قد طابت النفس من جهتهما.
والجواب والله الموفق: أما أولاً: فإن صاحب النقدين إذا أذن لغيره بإتلاف ما سلم إليه منهما في مدة، وانقضت تلك المدة لا يقتضي منع المالك من منافع ملكه حتى يرد مثل ما قبض وأتلف إلا أن يكون المأذون بإتلافه قرضاً، والملك الممنوع المنافع رهناً في ذلك، ولا يظهر فيما ذكرته خلاف على سبيل الجملة، وذلك لا دلالة فيه على صحة بيع الرجا ولا فساده؛ لكونه أجنبياً عنه.

(1/175)


وأما ثانياً: فإنه إن أراد بذلك أن صاحب النقدين قد أذن بالإتلاف في مقابلة المنافع، وصاحب المنافع قد أذن بالإتلاف في مقابلة النقدين وأنه، متى رد لصاحب النقدين مثل ماله يرجع له منافع ملكه، يريد أنه يرجع له منافع ملكه التي لم يأذن له بإتلافها، وهي الحاصلة بعد مضي المدة ورد الثمن لا غيرها كيلا ينقض غرضه فذلك أيضاً لا يدل على صحة بيع الرجا ولا حله ولو وقع به التراضي، وإنما هو عين علة الربا في القرض بالإجماع المعلوم، فكيف يصح أن يستدل به على تصحيح ما قد تقدم الدليل من الكتاب والسنة على أنه من جملة هذا الذي عين علة الربا المذكورة حاصلة فيه!
وقال السائل: إن بالناس حاجة ماسة إلى المعاملة به، ولا يلزم من ذلك محذور؛ لأن المنافع لم تكن إلا في مقابلة تسليم النقدين والإذن بالإتلاف.
والجواب والله الموفق: أن حاجة الناس إلى القرض بشرط استغلال أرض أو نحوها كالحاجة إلى هذا، والمنافع لم تكن إلا في مقابلة تسليم النقدين والإذن بالإتلاف، والإجماع المعلوم على أن ذلك لا يقضي بصحة القرض بشرط الاستغلال ولا يبيحه، وقد قام الدليل على أن بيع الرجا من ذلك كما تقدم.

(1/176)


[حكم المعاملة ببيع الرجا]
وقال السائل: إن الناس مطبقون على هذه المعاملة.
والجواب والله الموفق: إن عنى بذلك الإجماع، فالعلماء يعلمون بطلانه؛ لوقوع الخلاف في ذلك.
وإن عنى كثرة المتعاملين في ناحيته فلا يجدي ذلك في صحته.
وقال السائل: فإن قيل: إنه حيلة في تصحيح بيع الرجا وقد ثبت بطلانه.
قلنا: ما أجيب به عن العدول إلى البيع الناجز والإجارة ونحوهما فجوابه مثله.
والجواب والله الموفق: أن قوله: فإن قيل: إنه حيلة في تصحيح بيع الرجا لم يصدر عن فطانة؛ لأنا لا نقول: إن بيع الرجا حيلة في تصحيح نفسه، ولا غيرنا ممن يبطله يقول بذلك، ولكنهم قد قالوا: إنه حيلة في تحليل الربا والحيل لا تجري على الله تعالى؛ لأن الحيلة خديعة، والخديعة لا تقع إلا على من يصح عليه الجهل والله متعالٍ عن ذلك؛ لأنه يعلم السر وأخفى.
وقوله: ما أجيب به عن العدول إلى البيع الناجز والإجارة ونحوهما، فجوابهم مثله، ليت شعري! ما الذي يرد على البيع الناجز والإجارة ونحوهما إذا كانت صحيحة حتى يجاب عنه فيكون جوابه عن بيع الرجا مثله، وهذه مجادلة في ميدان الإنصاف، وإلا فالعالم الورع لا يوجب الجواب على مثل ذلك؛ لأن البيع الصحيح تشهد به صرائح الأدلة من الكتاب والسنة على أنه معلوم من الدين ضرورة فهذا بيع الرجا بالغ هذه الرتبة فيجب عند السائل بصرائح الأدلة من الكتاب والسنة والعلم [من الدين ضرورة]، أين الثريا من ثرى التراب!!؟

(1/177)


وقال السائل: الناس مجمعون على أن للإنسان التصرف في ماله بما شاء من هبة وعارية ونذر ووقف، وغير ذلك على غرض وعلى غير غرض، والأغراض قد تعلق بالنقدين أكثر من غيرهما من الأرض والدار ولا سيما لأهل التجارة.
والجواب والله الموفق: أن الإجماع على جواز التصرف في جميع ما ذكره السائل لا يدل على تصحيح بيع الرجا وأنى له ذلك! وقد دل الدليل على أنه داخل في جملة القرض الواقع بشرط الاستغلال مدة بقاء الأرض كما تقدم تحقيقه، والإجماع منعقد على أن القرض إذا كان كذلك أنه لا يصح ولا يحل.
فإن عنى السائل بأن بيع الرجا مشارك لما ذكره في تعلق الغرض بالتصرف في المال به فيكون مقيساً على ذلك بجامع العلة فذلك باطل؛ لأن تلك العلة من الطرد المهجور عند العلماء؛ إذ لو كانت معتبرة في ذلك لوجب أن يعتبر في الربا الذي لا مخالف فيه؛ لأن الغرض قد يتعلق به في بعض الأحوال ولا سيما أهل التجارات ومن يطلب الربح ويبالغ فيه ويحبه.
فإن قيل: إن الربا قد خرج من ذلك بالنص إذ لولا النص لكان داخلاً.
قلت وبالله التوفيق: وهذا قد وقع النص على أنه غير صحيح أولا، وبعدم صحته التحق بما قد خرج من ذلك بالنص ثانياً فارجع إليه وتأمله.

(1/178)


وعن الإمام المتوكل على الله أحمد بن سليمان عليه السلام في حديث طويل في ذم المخالفين لكتاب الله تعالى يرفعه إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: ((ويستحلون الحرام والمعاصي والشبهات والأسماء الكاذبة فيستحلون الربا بالبيع)) الخبر بطوله، رواه في (حقائق المعرفة)، وهذا ربما كما تقرر قد استحل بالبيع أي بلفظ البيع كما يفعله الداخلون فيه، وبالقياس عليه كما حاول السائل في هذا الموضع، والحديث صحيح لموافقته لقوله تعالى: {قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا} [البقرة:275].

(1/179)


[حكم النذر المشروط بفعل أمرين محظورين]
وقال السائل: ما يلزم في النذر المشروط بفعل أمرين محظورين الخارج مخرج اليمين نحو أن يقول قائل: إن لم أنم نميمة، وأغتاب أحداً من المسلمين مثلاً فعليه ثلاثون حجة، وثلاثون حرفاً ثم فعل أحدهما.
والجواب والله الموفق: أنه لا يعطف بالواو إلا عند تعذر الجمع بين المعطوف والمعطوف عليه بلفظ واحد كالمثنى والمجموع؛ إذ المعطوف والمعطوف عليه بالواو بمعنى ذلك يدل على استقراء لغة العرب، وهو يفيد القطع.
وإذا نذر ناذر بحج أو غيره إن كلم رجلين أو رجالاً ثم كلم البعض فإنه لا يلزمه شيء؛ لأن البعض غير الذي دل عليه اللفظ الذي علق به النذر، وهو المثنى والمجموع وكذلك المعطوف والمعطوف عليه بالواو؛ لأن الحكم واحد كما تقرر.
وقال السائل: فإن التبس عليه فلم يدر أكان العطف بالواو؟ أم كان بأو المفيد التخيير؟ أو كان الشرط بأحدهما من غير عطف وقد فعل واحداً فقط، فما يلزم في ذلك؟

(1/180)


والجواب والله الموفق: أن الأحوط الوفاء بالنذر مع ذلك؛ لأن النذر في الجملة يجب الوفاء به إذا كان طاعة مقدورة لقوله تعالى: {وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ}[الحج:29]، وقوله صلى الله عليه وآله وسلم: ((من نذر نذراً فعليه الوفاءُ به)) الخبر ونحوه، وبراءة الذمة مع التباس وقوع الشرط لا يعلم لو حكم بها، والله يقول: {وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ}[الإسراء:36]، وليدفع بذلك الشك والريب، وقد قال صلى الله عليه وآله وسلم: ((دع ما يريبك إلى ما لا يريبك))، وبعضهم يقول: إنه لا يلزمه شيء في ذلك، ويحتج عليه بأن الأصل براءة الذمة، وما ذكرناه من الكتاب والسنة بحجة؛ لدلالته على انتفاء حكم الأصل كما توضح آنفاً.
وقال السائل: هل يكفي غالب الظن في عدم حصول الشرط في ذلك؟
والجواب والله الموفق: أنه لا يكفي حصول الظن لقوله تعالى: {وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ}[الإسراء:36]، وقوله تعالى: {إِنَّ الظَّنَّ لاَ يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا}[النجم:28] فاعلم ذلك.

(1/181)


[المقصود بالكبر والتواضع]
وقال السائل: ما تفسير التكبر والتجبر المحبطين للطاعات؟
والجواب والله الموفق: أن التكبر والتجبر والتعظم والتعزز والاستعلاء بمعنى واحد، وذلك المعنى هو ضد التواضع، والتواضع هو التذلل والرحامة لقوله تعالى: {أَذِلَّةٍ على الْمُؤْمِنِينَ [أَعِزَّةٍ على الْكَافِرِينَ...}[المائدة:54] الآية، وقوله تعالى: {رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ...}[الفتح:29] الآية، وقوله تعالى لإبليس لعنه الله تعالى لما ترك التواضع، وهو السجود لآدم عليه السلام: {فَمَا يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيهَا...}[الأعراف:13] الآية.

(1/182)


[حكم من اعتقد الفضل]
وقال السائل ما معناه: فإذا لاح لأحد من جهة الوهم أنه أفضل أو أكمل هل ذلك من الكبر؟
والجواب والله الموفق: أنه إن حمله ذلك على ترك التواضع فذلك من صميم التكبر، وإلا فلا، خلافاً للمهدي عليه السلام، والوجه ما تقدم.
قال السائل ما معناه: فمن اعتقد أنه أفضل وهو في الواقع كذلك هل اعتقاده من التكبر؟
والجواب والله الموفق: أنه إن حمله ذلك على ترك التواضع كما ذكرناه الآن فهو من التكبر كما تقدم وإلا فلا؛ لأن الأنبياء والملائكة صلوات الله عليهم يعتقدون أنهم أفضل ممن هو دونهم، والمؤمنون يعتقدون أنهم أفضل من الفساق ولم يعد ذلك من التكبر أصلاً، وعدم عده من الكبر معلوم من الدين ضرورة.

(1/183)


[تفسير خفض الجناح]
وقال السائل: ما تفسير خفض المؤمنين جناح الذل بعضهم لبعض وللوالدين، وقوله تعالى: {وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ}[الحجر:88]؟
والجواب والله الموفق: أن خفض الجناح هو: لين الجانب، ولين الجانب هو: التواضع والتذلل والرحامة وترك التعظم كما تقدم ذكره.

(1/184)


[حكم التكبر على الفساق]
وقال السائل: هل يكون من التكبر المذموم التكبر على الكفار والفساق؟
والجواب والله الموفق: أن التكبر على الكفار والفساق من جملة المفروضات اللازمة لقوله تعالى:[{وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً}[التوبة:123]، فكيف يكون من المذموم مع ذلك! ومع قوله تعالى] {مُحَمَّدٌ رَسُولُ الله وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ على الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا}[الفتح:29] وقوله: {أَذِلَّةٍ على الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ على الْكَافِرِينَ}[المائدة:54].

(1/185)


[الفرق بين التكبر والعزة]
وقال السائل: ما الفرق بين التكبر والعزة التي وصف الله بها المؤمنين بقوله تعالى: {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ}[المنافقون:8]؟
والجواب والله الموفق: أن الفرق بينهما هو أن التكبر هو ترك التواضع لله تعالى ولعباده المؤمنين، والعزة التي وصف الله بها المؤمنين هو التكبر على أعداء الله تعالى كالمنافقين؛ لأن الله جعل ذلك رداً على المنافقين في قولهم: {لَيُخْرِجَنَّ الأَعَزُّ مِنْهَا الأَذَلَّ}[المنافقون:8] فتأمل.

(1/186)


[المقصود بحسن الخلق]
وقال السائل: ما تفسير حسن الخلق؟
والجواب والله الموفق: أن خلق الرجل حاله وما يتصف به ويستمر عليه من قبيل أفعاله وأقواله وتروكه الواقعة باختياره كالسخاء والسماحة ولين الجانب ولين الكلام والشجاعة والطاعة، وتجنب أضداد ذلك من الفعل والترك، قال تعالى لنبيه صلى الله عليه وآله وسلم: {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ}[القلم:4] أي: على حال عظيم وصفة عظيمة، وهي استمرارك على ما أمرناك به ونهيناك عنه.
وفي (نهج البلاغة) ما لفظه: وقال عليه السلام وقد لقيه عند مسيره إلى الشام دهّاقين الأنبار فترجلوا له واشتدوا بين يديه: (ما هذا الذي صنعتموه؟ فقالوا: خلق منا نعظم به أمراءنا. فقال: والله ما ينتفع بهذا أمراؤكم، وإنكم لتَشِقُّون به على أنفسكم [في دنياكم] وتشقون به في آخرتكم). الخبر.
وقال أبو الأسود الدؤلي:
لا تنه عن خلقٍ وتأتي مثله .... عار عليك إذا فعلت عظيم
وقال غيره:
ومن يقترف خلقاً سوى خلق نفسه .... يدعه وترجع إليه الرواجع
ومن ذلك قول حسان بن ثابت شعر:
قومٌ إذا حاربوا ضروا عدوهم .... أو حاولوا النفع في أشياعهم نفعوا
سجية تلك منهم غير محدثة .... إن الخلائق فاعلم شرها البدع
فالخلائق: جمع خليقة وهي الخُلق.
إذا عرفت ذلك فحسن الخلق الاستمرار والتعود لما يحمد من كل فعل أو ترك، وقد غلب في العرف على لين الجانب وضده على شراسة الجانب.

(1/187)


[وجوب حسن الخلق على المؤمنين لبعضهم]
وقال السائل: هل يجب حسن الخلق على المؤمنين من بعضهم لبعض؟
والجواب والله الموفق: أن تعود ما يجب على المؤمنين واجب وما يندب لهم مندوب؛ إذ ذلك معنى حسن خلق المؤمن للمؤمن كما تقرر، ووجه الوجوب والندب في ذلك ظاهر.

(1/188)


[حكم حسن الخلق للكفار والفساق]
وقال السائل: هل يجوز للمؤمن أن يحسن خلقه للكفار والفساق؟
والجواب والله الموفق: أنه إن كان يرجى صلاح من كان كذلك أو كان لا يستمع حجج الله عليه أو لا يعين على إقامة المعروف وإزالة المنكر إلا بالإحسان إليه ولين الجانب وجب ذلك؛ لقوله تعالى: {فَقُولاَ لَهُ قَوْلاً لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أو يَخْشَى}[طه:44]، فأمر الله تعالى موسى وهارون عليهما السلام بلين القول لفرعون، وقد أمر بالاقتداء بهم كما مر في أثناء هذا الجواب.
وقوله تعالى: {وَلاَ تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلاَ السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ}[فصلت:34]؛ ولأن ما يرجى منهم من الدخول في طاعة الله تعالى، والمعاونة على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من جملة البر والتقوى، وقد قال تعالى: {وَتَعَاوَنُوا على الْبِرِّ وَالتَّقْوَى}[المائدة:2] فحسن الخلق من جملة المعاونة على ذلك.
وإن كانوا قد عرفوا بحجج الله سبحانه ولم يرج دخولهم في طاعة الله تعالى ولا المعاونة على إقامة المعروف وإزالة المنكر وجب التكبر عليهم والتصغير بهم كما صغر الله بهم ما أمكن؛ ولأن العزة لله ولرسوله وللمؤمنين كما أخبر الله تعالى، وهذا مما لا خلاف فيه.

(1/189)


[حكم رد السلام عليهم]
وقال السائل: فما حكم رد السلام عليهم؟
والجواب والله الموفق: أنهم إن كانوا ممن لا يحل قتالهم لذمة أو غيرها فلا بأس به لقوله تعالى: {لاَ يَنْهَاكُمُ الله عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ...}[الممتحنة:8] الآية، ورد السلام من جملة البر.
ولما روى الهادي عليه السلام في (الأحكام) عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: ((إن اليهود إذا سلموا عليكم فإنما يقولون: السام عليكم، فقولوا: وعليكم)) فلم ينه صلى الله عليه وآله عن رد السلام، وإنما أمر صلى الله عليه وآله أن يرد عليهم بمثل ما قالوا، لكن يجب أن نحترز من الدعاء لهم بما لا يجوز من نحو المغفرة والرحمة في المستقبل، والأصل في ذلك قوله تعالى: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ...} إلى قوله: {مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ}[التوبة:113]، والفساق من أصحاب الجحيم بالأدلة القاطعة، وعلى ذلك إجماع أهل البيت ".
وقال السائل: فإذا قال المبتدئ فاسقاً كان أو كافراً لا يحل قتاله عند ابتدائه بالسلام ورحمة الله فهل يجب الرد لذلك لقوله تعالى: {أَوْ رُدُّوهَا}[النساء:86].

(1/190)


والجواب والله الموفق: أن ذلك لا يجوز إذا كان بمعنى الرحمة في المستقبل، وإذا كان بمعنى الرحمة الراهنة جاز؛ لأنها من الله شاملة للعصاة والمطيعين بدليل قوله تعالى: {وَإِنْ نَشَأْ نُغْرِقْهُمْ فَلاَ صَرِيخَ لَهُمْ وَلاَ هُمْ يُنقَذُونَ، إِلاَّ رَحْمَةً مِنَّا وَمَتَاعًا إلى حِينٍ}[يس:43،44].

(1/191)


[معنى السلام]
فإن قيل: فما معنى السلام؟
والجواب والله الموفق: أن السلام من أسماء الله تعالى قال تعالى: {هُوَ الله الَّذِي لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلاَمُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ...}[الحشر:23] الآية، وبهذا المعنى يرد على الفساق.
وبمعنى السلامة قال الله تعالى: {قُلْنَا يَانَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلاَمًا على إِبْرَاهِيمَ}[الأنبياء:69]، فلا يجوز عليهم بهذا المعنى إذا قصد به سلامتهم في المستقبل كالرحمة سواء والدليل ما مر.
فإن قيل: فإن قصد المسلم بالسلام الله سبحانه أو السلامة الراهنة، وكذلك بقوله: ورحمة الله الرحمة الراهنة فأي محذور يلزم مع ذلك لو ابتدأ المؤمن بالسلام على من يجب قتاله أو رده عليه؟
قلت وبالله التوفيق: إن ذلك لا يحل لهم لما فيه من الإيناس لهم والتطيب لخواطرهم وذلك خلاف ما قال الله تعالى: {وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً}[التوبة:123] فتأمل.
وقال السائل: فإن خشي المؤمن أن يهتك عرضه حيث لم يبدأ بالسلام، أو لم يكن سلامه شافياً، أو حيث لم يحسن خلقه لا سيما إذا كان العاصي قد فعل للمؤمن معروفاً ولم يحسن خلقه إليه فهل يجوز لأجل شيء في ذلك؟

(1/192)


والجواب والله الموفق: أن العاصي إذا لم يكن من الذين يرجى صلاحهم أو من الذين يحل قتالهم لم يجب الابتداء بالسلام ولا رده لا شافياً ولا غير شافٍ، ولا تحسين الأخلاق إليهم لما تقدم مفصلاً، ولو كان المؤمن مع ذلك يخشى هتك عرضه؛ لأنه يجب على المؤمنين أن لا يخافون في الله لومة لائم، كما أخبر الله في كتابه، ولما روى المنصور بالله عليه السلام في (الشافي) عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: ((اجعل مالك دون دمك فإن تجاوزك البلاء فاجعل مالك ودمك دون دينك)).
قلت وبالله التوفيق: فإذا قد أمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم بأن يجعل المال والدم دون الدين فما ظنك ببذل العرض دون الدين! ولأن هتك العرض قد قابله ارتكاب المحرم فتأثير صيانة العرض على صيانة الدين مندرج تحت قوله تعالى:{فَأَمَّا مَنْ طَغَى، وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا، فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى}[النازعات:37-39]، وكذلك إذا كان العاصي قد فعل للمؤمن معروفاً ولم يحسن خلقه إليه لا يرخص في ذلك؛ لما تقدم؛ ولأنه لا يجوز قبول ذلك من أصله؛ لأنه من أسباب التواد لقوله صلى الله عليه وآله وسلم: ((جبلت القلوب على حب من أحسن إليها)) الخبر ونحوه، وقال تعالى: {لاَ تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ الله وَرَسُولَهُ...}[المجادلة:22] الآية.

(1/193)


[تحريم محبة وموالاة الكفار والفساق]
وقال السائل: ماذا يحرم على المكلفين للكفار والفساق؟
والجواب والله الموفق: أنه يحرم أمور كثيرة؛ منها محبتهم وموالاتهم؛ للآية المتقدمة آنفاً، ولقوله تعالى: {وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ...}[المائدة:51] الآية، وقوله تعالى: {لاَ تَتَّخِذُوا آبَاءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ على الإِيمَانِ...}[التوبة:23] الآية ونحوها، وهذا مما يعم الفريقين.
ومنها مناكحتهم لقوله تعالى: {وَلاَ تُنكِحُوا الْمُشْرِكِينَ...}[البقرة:221] الآية، وهذا مما يخص المشركين.
ومنها مساكنتهم وعدم الهجرة من بينهم؛ لقوله تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجَرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلاَيَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا}[الأنفال:72] وهذا مما يعم إلى غير ذلك مما يطول ويكثر تعداده.

(1/194)


[مسائل في المعاداة]
وقال السائل: ما تفسير المعاداة؟
والجواب والله الموفق: أن المعاداة هي: محبة المساوئ وكراهة المحاسن بدليل قوله تعالى في المنافقين: {إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ يَقُولُوا قَدْ أَخَذْنَا أَمْرَنَا مِنْ قَبْلُ وَيَتَوَلَّوا وَهُمْ فَرِحُونَ}[التوبة:50] مع قوله تعالى فيهم: {هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ...}[المنافقون:4] الآية، وهذا من خطاب التكميل، وقد يطلق على إساءة العمل إلى الغير بدليل قوله تعالى: {لاَ تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ...}[الممتحنة:1] الآية، فأعداء الله أساؤا إليه أعمالهم بعصيانه، وقد يطلق على من فعل خصلة من ذلك بدليل قول أمير المؤمنين كرم الله وجهه في الجنة: (وأعداؤك ثلاثة: عدوك، وعدو صديقك، وصديق عدوك).
والوجه في ذلك أنه إن عادى صديقك فقد كره لك خصلة من المحاسن، وأساء الفعل إليك بذلك، وإن صادق عدوك فقد أحب لك خصلة من المساوئ وأساء الفعل إليك بذلك.
وأصل المعاداة: من عدا إذا غشم وظلم، هكذا ذكر أهل اللغة، ولا يعد في ذلك لمناسبته.
وقال السائل: فإذا قيل: هي أن تحب له كلما تكره لنفسك، وتكره له كلما تحب لنفسك.
قلنا: فهل هو على إطلاقه؟
فإن قيل: نعم.
قلنا: المؤمن من جملة المكلفين بذلك، وهو يحب الإيمان لنفسه ويجب عليه أن يحبه لغيره من الفساق، ويكره له كلما يكره لنفسه من فعل المعاصي والإصرار عليها.

(1/195)


والجواب والله الموفق: أنه يصح أن تفسر المعاداة بذلك كما ذكره الإمام المهدي لدين الله أحمد بن يحيى عليه السلام في (البحر)، وقد روى أبو طالب عليه السلام في (الأمالي) بإسناده إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن معاذ بن جبل سأله عن أفضل الإيمان؟ فقال: ((أن تحب لله وتبغض لله وتعمل لسانك في ذكر الله، قال: وما ذاك يا رسول الله؟ فقال: أن تحب للناس ما تحب لنفسك، وتكره لهم ما تكرهه لنفسك))، ثم لا يرد ما ذكره السائل إلا على معتبري المنطق، وأما نحن فلا يرد علينا شيء من ذلك؛ لأنا مقتدون بكتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وسالكون مناهج العرب حيث جرى خطاب الله سبحانه في كتابه، وخطاب رسوله صلى الله عليه وآله وسلم في سنته، وخطاب بلغاء العرب في خطبهم وأشعارهم على الاعتماد على ألفاظ العموم التي يراد بها الخاص كالاعتماد على الألفاظ التي لا تدل إلا على الخاص اكتفاءً بما يدل على التخصيص من القرائن الحالية والمقالية ونحن نكتفي في إخراج نحو كراهة الكفر للغير وإدخال محبة نحو الإيمان بما علم من الدين ضرورة، وبذلك يعرف بطلان اعتبار المنطق في معرفة الحدود؛ لأن ما ذكرناه معلومٌ بالاستقراء.

(1/196)


[استغناء العلوم الإسلامية عن المنطق]
وعلى الجملة: أن جميع العلوم الإسلامية مستغنية عن المنطق؛ لأنه في معرفة الحد والبرهان، فأما الحد فهو: ضرب من التفسير، وقد ذكرنا وجه الاستغناء عنه، وهو الإقتداء بكتاب الله سبحانه وسنة رسوله صلى الله عليه وآله وسلم وبلغاء العرب، وأما البرهان فهو عندهم: وسط لمقدمتين يستلزم المطلوب، وهو قسمان: اقتراني، واستثنائي، وستأتي أمثلتهما إن شاء الله تعالى.
وعلوم الإسلام إنما تستمد من أصل عقلي أو شرعي أو قياس كذلك أو استصحاب حال كذلك، أو اجتهاد مطلق: إما بالأصل كقضية العقل المبتوتة في نحو وجوب شكر المنعم، والنصوص السمعية كقوله تعالى: {أَقِيمُوا الصَّلاَةَ}[الأنعام:72] فلا يحتاج إلى ذلك ضرورة.
وإما بالقياس والمعتبر في ثبوته ثبوت الجامع بين الفرع والأصل بدليل أصلي عقلي أو سمعي، فمتى ثبت ذلك استغني عن المقدمتين وكفى بالتعبير عنه بنحو أن يقال: النبيذ حرام كالخمر لمشاركته له في المقتضى للتحريم وهو السكر مثلاً، وكذا في العقلي، ومتى لم يثبت لم يصح بهما ولو أمكن تركيبهما؛ لأنه مع تركيبهما يصير القياس من باب الحكم على العام بحكم النوع المختص به، وذلك معلوم البطلان كقول الملاحدة لعنهم الله إذا أرادوا بطلان القرآن بالبرهان الاقتراني وهو أربعة أشكال:

(1/197)


في الشكل الأول: على شرطه وهو إيجاب المقدمة الصغرى، وهي المقدمة الأولى، وكلية الكبرى، وهي المقدمة الأخرى: القرآن كلام، وكل كلام يجوز أن يخالطه اللغو ينتج القرآن يجوز أن يخالطه اللغو -نزهه الله عن ذلك- وذلك كفر ورد؛ لقوله تعالى: {لاَ يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلاَ مِنْ خَلْفِهِ}[فصلت:42].
الشكل الثاني: على شرطه وهو اختلاف مقدمتيه إيجاباً وسلباً أي: إثباتاً ونفياً وكلية كبرى: القرآن كلام، وكل ما لا يجوز فيه اللغو ليس بكلام كسائر الكلامات ينتج نحو ذلك.
الشكل الثالث: على شرطه وهو إيجاب الصغرى وكلية إحداهما: كل كلام يجوز أن يخالطه اللغو، والمراد المقيس عليه وبعض الكلام القرآن ينتج نحو ذلك.
الشكل الرابع: على شرطه وهو أن لا تكون إحدى المقدمتين جزء يسأل به كل كلام يجوز أن يخالطه اللغو والمراد المقيس عليه وكل القرآن كلام ينتج نحو ذلك.
وأما البرهان الاستثنائي: إن كان القرآن ليس بكلام لم يجز فيه اللغو، لكنه كلام ينتج نحو ذلك، وكذلك سائر ما بقي من البرهان الاستثنائي.
والرد عليهم: إن ذلك باطل من حيث أنا نعلم أن الكلام المتحقق فيه عدم اللغو عند العقلاء لم يجز فيه اللغو ضرورة، والقرآن من ذلك؛ لأنا قد تحققنا عدم اللغو بما قام من الدليل الباهر وهو المعجزات الشاهدة بصدق المبلغ كحنين الجذع، وشهادة الذئب والثعلب، وغير ذلك مما تواتر لمن بحث السير وكتب الحديث، وكعجز فصحاء العرب على أن يأتوا بمثله على أنه كلام من لا يجوز عليه اللغو وهو الله رب العالمين.

(1/198)


فإن قيل: إنهم لا يثبتون ذلك إلا إذا كان النوع مشاركاً للعام في الحكم لا مع عدم المشاركة فإنهم لا يثبتونه وإنما يحكمون ببطلانه.
قلت وبالله التوفيق: إذا كان لا بد من المشاركة فلا يخلو إما أن يكون بالقياس فقد جعلوا ذلك بيان المشاركة بصحة المقدمتين بين الأصل والفرع كما نبينه الآن، وذلك لا يجدي إلا فتح باب الجهالات والكفر كما تقرر أو بشمول العموم في اللفظ حتى يندرج الخاص في حكمه وذلك مناقضة لظاهر دعواهم حيث قالوا: إنه نفس القياس، ومن المعلوم عند العقلاء أن القياس غير الخاص المندرج تحت العام، ومن المعلوم أنهم يستغنون في التعبير عن ذلك عن البرهان فيقولون: لفظ الحيوان يتناول الإنسان لغةً، فإن وجدوا للخاص حكماً يخصه بدليل أجروه عليه وإلا أثبتوا له حكم العام وعبروا عنه بنحو قولهم قوله تعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْسًا}[محمد:8] يتناول الفلاسفة لأنهم من الكفار، {وَأَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ}[محمد:8] يتناول ما وضعوه من المنطق؛ لأنه من أعمالهم فتأمل.
وأما استصحاب الحال فيكفي في التعبير عنه بنحو أن يقال: لا تجب علينا صلاة سادسة؛ لأن الأصل العدم.
وأما الاجتهاد المطلق فيكفي في التعبير عنه أن يقال: قتل المترَّس به أهون من هدم الدين واستئصال شأفة المسلمين عقلاً.

(1/199)


[حكم فعل سبب المحبة للعاصي]
وقال السائل: هل يحرم على المكلف أن يفعل سبب المحبة للعاصي كالمؤاكلة والمهاداة ونحوها؟
والجواب والله الموفق: أنه إن لم يرج بذلك صلاحه ولا معاونته على حق لم يجز ذلك بل يحرم لقوله تعالى: {وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلاً عَظِيمًا}[النساء:27] والمراد أهل المعاصي؛ لأن النار محفوفة بالشهوات كما في الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وفعل ما ذكره السائل ينافي الميل عنهم؛ ولأن الله قد حرم محبتهم كما تقدم، وذلك يستلزم تحريم سبب المحبة وإلا ذهبت فائدة الخطاب بالتحريم، وصارت لغواً ضرورة وذلك لا يجوز على الله سبحانه، والأدلة على تحريم ذلك كثيرة، وفيما ذكرته كفاية للمسترشدين.

(1/200)


[واجبات المكلفين لكل مؤمن]
وقال السائل: ماذا يجب للمؤمن على المكلفين؟
والجواب والله الموفق: أنه يجب على المكلفين لكل مؤمن أمور كثيرة:
منها النصيحة لقوله صلى الله عليه وآله وسلم [((ألا وإن الدين النصيحة...)) الخبر، وقوله صلى الله عليه وآله وسلم]: ((المؤمن مرآة أخيه))، وقوله صلى الله عليه وآله وسلم: ((ليس منا من غشنا)) إلى غير ذلك مما تواتر معنى وأفاد العلم.
ومنها مناصرته لقوله تعالى: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا على الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي}[الحجرات:9]، ولما روى أبو طالب عليه السلام في (الأمالي) بإسناده إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: ((من أصبح لا يهتم بأمر المسلمين فليس من المسلمين، ومن سمع مسلماً ينادي: يا للمسلمين فلم يجبه فليس من المسلمين)) ونحو ذلك كثير.
ومنها محبته لقوله تعالى: {وَمَنْ يَتَوَلَّ الله وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ الله هُمُ الْغَالِبُونَ}[المائدة:56] وذلك يتضمن المحبة، ولما رواه أبو طالب عليه السلام في (الأمالي) بإسناده إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: ((يقول الله عز وجل: وجبت محبتي للذين يتحابون فيَّ...)) الخبر، وقوله صلى الله عليه وآله وسلم: ((لا تؤمنوا حتى تحابوا...)) الخبر ونحوه، والإجماع المعلوم على ذلك إلى غير ذلك مما يجب للمؤمن مما يطول ويكثر تعداده.

(1/201)


[مسائل في الموالاة]
وقال السائل: ما تفسير الموالاة؟
والجواب والله الموفق: أنها ضد المعاداة بلا خلاف، وقد عرفت حقيقة المعاداة فيما سبق، فإن أردت توضيح ذلك فهي: محبة المحاسن للغير وكراهة المساوئ مع النصيحة وعدم الخذلان حسب الإمكان؛ لأن من خذل لم يكن منه ضد المعاداة ضرورة.
وقال السائل: [فإن قيل]: هي أن تحب له كلما تحب لنفسك وتكره له كلما تكره لنفسك.
قلنا: فهل هذا على إطلاقه؟
فإن قيل: نعم.
قلنا: من جملة المكلفين بذلك الفساق، وهم يحبون لأنفسهم الترفع والمعاصي.
والجواب والله الموفق: أنه يجوز أن تفسر المعاداة بذلك كما ذكره الإمام المهدي عليه السلام في (البحر)، وكما مرّ في الحديث المتقدم من تفسير المعاداة، ثم لا يرد ما أورده السائل إلا على معتبري المنطق بمثل ما تقدم في تفسير المعاداة من غير زيادة ولا نقصان.

(1/202)


[وجوب فعل المكلف سبب المحبة للمؤمن]
وقال السائل: فهل يجب أن يفعل المكلف للمؤمن سبب المحبة والمودة كالمواصلة والمواكلة وكالمهاداة وغيرها حيث لم يحدث الله في قلبه المحبة؟
والجواب والله الموفق: أنه لا يبعد وجوب ذلك؛ لأنه من المعاونة على البر والتقوى، [وقد قال تعالى: {وَتَعَاوَنُوا على الْبِرِّ وَالتَّقْوَى}[المائدة:2]]، وقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ((لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا ولا تؤمنوا حتى تحابوا، ألا أدلكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم؟ قالوا: بلى يا رسول الله، قال: أفشوا السلام وتواصلوا وتباذلوا)) وذلك أمر، والأمر يقتضي الوجوب كما مر تحقيقه.

(1/203)


[معرفة أسباب المحبة]
وقول السائل: حيث لم يحدث الله في قلبه المحبة تصريح بأن المحبة من فعل الله وذلك باطل؛ لأنها لو كانت من فعل الله لم يحسن الأمر بها لله ولرسوله وللمؤمنين، والنهي عنها لمن حاد الله ورسوله، ولا كان يستحق بها ثواب ولا عقاب كما لا يستحقان بالطول والقصر، قال الله تعالى: {قُلْ لاَ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى}[الشورى:23] وهذا بمعنى الأمر يستحق ممتثله الثواب، وقال تعالى: {لاَ تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ الله وَرَسُولَهُ...}[المجادلة:22] الآية، وهذا بمعنى النهي يستحق مخالفه العقاب.
فإن قيل: إن المحبة قد لا يمكن دفعها كمحبة الزوجة، ولو كانت من فعل الإنسان أمكنه دفعها.
قلت وبالله التوفيق: إن المحبة تتولد في القلوب من أسبابها فمتى حصل السبب حصلت، ومتى انتفى انتفت فهي كالحرارة المحسوسة المتولدة بمقاربة النار وكالبرودة المحسوسة المتولدة بمقاربة الثلج، والإنسان متمكن من تحصيل المحبة بتحصيل سببها كتمكنه من تحصيل حس حرارة النار بتقريبها، ومن حس برودة الثلج بتقريبه، ومتمكن من ترك المحبة بترك سببها كتمكنه من ترك حس حرارة النار بتجنبها، ومن ترك حس برودة الثلج بتجنبه، وقد يكون السبب من الله فلا يقدر على دفعه كالمعذبين في النار وفي الزمهرير.
ومحبة الزوجة قد يتمكن الإنسان من تركها بقطع العلائق بينه وبينها ولو لم يكن إلا بأن لا يعرفها.

(1/204)


وقد يكون سبب المحبة من الله سبحانه كمحبة ما جبل عليه من الأكل والشرب والنكاح وغيرها، فهذه المحبة لا يحس الأمر بها ولا النهي عنها ولا يستحق عليها عقاب ولا ثواب؛ لعدم التمكن من تحصيل السبب ومن تجنبه فتأمل ذلك ولا تستبعده، فإن له نظائر كما ذكره أمير المؤمنين عليه السلام في عهده للأشتر حيث قال: (فإن البخل والجبن والحرص غرائز شتى يجمعها سوء الظن بالله سبحانه) [فذكر عليه السلام أن تلك غرائز، وأن سببها سوء الظن بالله سبحانه وتعالى]، ولهذا حس النهي عنها والعقاب عليها لما كان صاحبها متمكناً من تحصيل سببها ومن تجنبه وهو سوء الظن بالله سبحانه.
فإن قيل: فما معنى قوله تعالى: {وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً ورحمة}[الروم:21]؟
قلت وبالله التوفيق: إنه سبحانه يجعل أسباب المودة كالشباب والحسن ونحوهما كجعله للنار التي هي سبب لحس حراراتها وأنت متمكن من مقاربة ذلك، ومن قطع العلائق بينك وبينه ضرورة.
فإن قيل: فما معنى قوله صلى الله عليه وآله وسلم: ((جُبلت القلوب على حب من أحسن إليها وبغض من أساء إليها))؟
قلت وبالله التوفيق: لا شك أن القلوب مجبولة على ذلك كما أن الأجساد مجبولة على حس حرارة النار وحس برودة الثلج وذلك لا ينافي الاختيار كما تقدم تحقيقه.

(1/205)


[تحريم الدعاء بالرحمة والإستغفار لأهل الكبائر]
وقال السائل: لِمَ لا يجوز الدعاء بالرحمة والاستغفار لأهل الكبائر وقد قال تعالى: {وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الأَرْضِ}[الشورى:5]؟
والجواب والله الموفق: أن ذلك لا يجوز لقوله تعالى: {مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلاَ يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ الله وَلِيًّا وَلاَ نَصِيرًا}[النساء:123]، وقوله تعالى: {مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلاَ شَفِيعٍ يُطَاعُ}[غافر:18] أي يقبل كقوله تعالى: {وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ}[الأنعام:116] أي: إن تقبل، فلو كان ذلك جائزاً لكان الداعون لهم بالرحمة والمستغفرون أولياء وأنصاراً بذلك وشفعاء؛ لأن الشفاعة ليست إلا طلب الشيء للغير كطلب الرحمة لهم والمغفرة، ولقوله تعالى: { مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُوْلِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ }[التوبة:113] وذلك نص صريح في تحريم الاستغفار للمشركين معلَّل أنهم من أصحاب الجحيم، والفساق مشاركون لهم في العلة؛ لأنهم من أصحاب الجحيم بالدلائل القطعية نحو ما مر الآن فثبت تحريم الاستغفار لهم لمشاركتهم للكفار فيما علق تحريم الاستغفار به، ولقوله تعالى: {فَإِنَّ الله لاَ يَرْضَى عَنِ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ}[التوبة:96] وإذا كان لا يرضى عنهم فلا يجوز الدعاء لهم بالرحمة؛ لأن الله نهى نوحاً عليه السلام عن الدعاء لولده الذي تخلف عنه فقال: {فَلاَ

(1/206)


تَسْأَلْنِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ}[هود:46]، وقد أمر الله أن يقتدى بالأنبياء " كما مر تحقيقه.
وأما قوله تعالى: {وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الأَرْضِ}[الشورى:5] فالمراد به التائبون، بدليل قوله تعالى حاكياً عن الملائكة صلوات الله عليهم: {فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ...}[غافر:7] الآية.
وأما أهل الكبائر فإن الملائكة يلعنونهم، واللعن ينافي الاستغفار، وذلك قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ....} إلى قوله: {أُوْلَئِكَ يَلْعَنُهُمُ الله وَيَلْعَنُهُمُ اللاَّعِنُونَ}[البقرة:159]، وقوله تعالى: {وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ، أُوْلَئِكَ جَزَاؤُهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ الله وَالْمَلاَئِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ}[آل عمران:86،87] يزيد ذلك تأكيداً قوله تعالى في وصفه للملائكة ": {بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ، لاَ يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ، يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلاَ يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنِ ارْتَضَى...}[الأنبياء:26-28] الآية، والدعاء بالرحمة والاستغفار من جملة الشفاعة كما تقرر، والله لا يرتضي أهل الكبائر بدليل قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ الله لَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُوا إِنَّ الله لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ}[المائدة:87] أي لا يرتضيهم بدليل أنه لا يصح أن يقول: أحبهم وما ارتضاهم،

(1/207)


ولا ارتضاهم وما أحبهم؛ للتناقض، وإنما يرتضي سبحانه عباده المؤمنين بدليل قوله تعالى: {لَيْسَ على الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا...} إلى قوله: {وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ}[المائدة:93].

(1/208)


[حكم فاعل المعاصي الملتبسة بين الصغر والكبر]
وقال السائل: فهل يحرم ذلك على من فعل معصية التبست بين الصغر والكبر؟ وهل يكون حكمه حكم صاحب الكبيرة؟
والجواب والله الموفق: أن من فعل من المؤمنين أي معصية على سبيل الهفوة مع التدارك لها بالندم والإستغفار فإنه لا يُحرم ذلك ولا يكون حكمه حكم صاحب الكبيرة في حال من الأحوال البتة؛ لأنهم لا يخرجون بذلك من جملة المؤمنين بدليل قوله تعالى: {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أو ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا الله فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ الله وَلَمْ يُصِرُّوا على مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ، أُوْلَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ}[آل عمران:135،136]، وقوله تعالى فيهم: {إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ}[الأعراف:201]، ومن فعل ذلك متعمداً فإنه يحرم الدعاء له بالرحمة والاستغفار له، ويكون حكمه حكم صاحب الكبيرة حتى يتوب؛ لأن الأصل في المعاصي الكبر كما هو مذهب عيون العترة "، ومنهم علي عليه السلام بدليل قوله تعالى: {وَمَنْ يَعْصِ الله وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ}[النساء:14]، وقوله تعالى: {وَمَنْ يَعْصِ الله وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا}[الجن:23]، وقوله تعالى: {أَلَمْ يَعْلَمُوا

(1/209)


أَنَّهُ مَنْ يُحَادِدِ الله وَرَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدًا فِيهَا ذَلِكَ الْخِزْيُ الْعَظِيمُ}[التوبة:63].
وروي في باب نواقض الوضوء من (الشفاء) عنه صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: ((لا صغيرة مع إصرار، ولا كبيرة مع استغفار)) ولا مخصص لذلك إلا ما ذكرناه آنفاً، وإلا ما وقع خطأ بدليل قوله تعالى مرشداً لعباده: {رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أو أَخْطَأْنَا...}[البقرة:286] الآية، أو إكراهاً بدليل قوله تعالى: {إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ}[النحل:106] وقوله صلى الله عليه وآله: ((رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه)).

(1/210)


[تفسير قوله تعالى: إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه...]
فإن قيل: فما معنى قوله تعالى: {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ...}[النساء:31] الآية؟
قلت وبالله التوفيق: معنى ذلك: أنه تعالى يغفر ما وقع بعد ذلك هفوة؛ لأنه ليس محادة لله ورسوله، ولا يغفر ذلك لأهل الكبائر؛ لأنهم قد حادوا الله ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم فلم يكونوا من المتقين، والله يقول: {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ الله مِنَ الْمُتَّقِينَ}[المائدة:27] حتى يقبل توبتهم مما وقع هفوةً كالمؤمنين، ومن فعل ذلك من المؤمنين ولم يتب ولم يعلم تعمده ولا خطاؤه وجب الوقف لأنه إن قيل: الأصل الإيمان فقد عارضه بكون الأصل في أفعال المكلفين العمد بدليل أنه من قتل قتيلاً وادعى الخطأ لم يقبل قوله بإجماع العترة ".
وقد قيل: إن المعصية من أهل السوابق صغيرة ولو كانت عمداً.

(1/211)


واحتجوا على ذلك بأن قالوا: المعصية مع السوابق تصير بجنبها صغائر، وذلك باطل لكونه احتجاجاً بمحل النزاع؛ لأنا نقول: إن السوابق لم تصير المعاصي معها صغائر، لأن الأدلة لم تفصل؛ ولأن الله يقول في أهل السوابق العظام كنبيه محمد صلى الله عليه وآله وسلموهو من أهل السوابق العظام: {لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلاً، إِذًا لاََذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ} [الإسراء:74،75]، ويقول تعالى: {قُلْ إِنّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ}[الزمر:13]، ويقول تعالى في أهل السوابق من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الذين صبروا في المواطن وواسوه بالأنفس والأموال: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلاَ تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لاَ تَشْعُرُونَ}[الحجرات:2].
فإن قيل: إنا نجد الفرق بين من قدم الإحسان إليك ثم أساء وبين من يسيء من غير إحسان.

(1/212)


قلت وبالله التوفيق: القياس على ذلك باطل؛ لأن أصحاب السوابق وغيرهم عباد مملوكون لمالك منعم فسوابقهم لم تكن إلا في مقابلة بعض النعم؛ لأن ما فعلوه محصى، ونعم الله سبحانه لا تحصى قال تعالى: {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ الله لاَ تُحْصُوهَا}[إبراهيم:34]؛ ولأن ملكاً لو مُنع شربة من ماء عندما يشتد به العطش لا يبعد أن يشتريها بجميع مملكته، ولو كانت كملك سليمان لا سيما إذا علم أنه لا يقبض روحه مع العطش إلا بعد دهر طويل، فإذا كانت شربة أو أقل تساوي ملك الدنيا عند شدة الحاجة إليها فما ظنك بالعمل اليسير! وقد نشاهد كثيراً من يجهد يومه في الفلاحة وغيرها في مقابلة ما يساوي ربع قفلة ودون ذلك.

(1/213)


والدليل على أن السوابق في مقابلة ما ذكرناه قوله تعالى: {اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا}[سبأ:13]، وهذا مما لا يختلف باختلاف الشرائع؛ [لأن شكر الله في الجملة لا يختلف باختلاف الشرائع] بالإجماع وذلك من الشكر بنص الآية، ولأن الله سبحانه قد أمر بالاقتداء بالأنبياء صلوات الله عليهم وآبائهم وإخوانهم وذرياتهم كما مر وآل داود منهم، وقد شهد بصحة ذلك رصين العقل، ألا ترى أن العقلاء يذمون العبد إذا أخل بامتثال أمر مالكه المنعم عليه لمكان الملك والنعمة وهذا من ذاك! فلما ثبت أن السوابق في مقابلة بعض النعم كانت المعصية قد قابل بها عبد السوء ربه في مقابلة نعمٍ لا تحصى، هذا إن سلمنا قبول السوابق مع ذلك، وإلا فالله سبحانه قد أخبر بأنها تحبط مع ذلك حيث قال تعالى: {أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لاَ تَشْعُرُونَ}[الحجرات:2]، وقال تعالى: {وَقَدِمْنَا إلى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا}[الفرقان:23] وليس معنى ذلك إلا عدم قبول الأعمال.

(1/214)


[معنى قوله تعالى: الذين تتوفاهم الملائكة طيبين...]
فإن قيل: إذا كانت الأعمال في مقابلة النعم، فما معنى قوله تعالى: {الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلاَئِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلاَمٌ عَلَيْكُمُ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ}[النحل:32]، وقوله تعالى لأهل الجنة: {كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الأَيَّامِ الْخَالِيَةِ...}[الحاقة:24] [الآية] ونحوها؟
قلت وبالله التوفيق: معنى ذلك كمعنى الزيادة التي ذكر الله في قوله تعالى: {لَئِنْ شَكَرْتُمْ لاََزِيدَنَّكُمْ}[إبراهيم:7]؛ لأن الزيادة قد جعلها تعالى في مقابلة الشكر تفضلاً، وكذلك الثواب جعله في مقابلة الأعمال تفضلاً، بل مذهب آبائنا " أن الثواب من جملة الزيادة التي ذكرها الله تعالى في قوله تعالى: {ولَئِنْ شَكَرْتُمْ لاََزِيدَنَّكُمْ}[إبراهيم:7] كما صرحوا بذلك في تفاسيرهم، وقد ذكر ذلك أمير المؤمنين عليه السلام كما يأتي [إن شاء الله تعالى].

(1/215)


[أقوال العلماء في ذلك]
وذكره الهادي عليه السلام في (الأحكام) في كتاب (الديات)، والحسين بن القاسم عليهما السلام في (تفسيره) ويؤيد ذلك قوله تعالى: {لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْ فَضْلِهِ}[الروم:45]، وقوله تعالى: {وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ، الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ مِنْ فَضْلِهِ لاَ يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلاَ يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ}[فاطر:34،35]، وقوله تعالى: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقَامٍ أَمِينٍ، فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ، يَلْبَسُونَ مِنْ سُندُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَقَابِلِينَ...} إلى قوله: {وَوَقَاهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ، فَضْلاً مِنْ رَبِّكَ...}[الدخان:51-57] الآية، وقوله تعالى: {سَابِقُوا إلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ الله يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاء...}[الحديد:21]الآية، فهذه الآيات نصوص صرائح في أن الثواب من فضل الله والفضل غير واجب، يزيد ذلك بياناً قوله تعالى حاكياً عن أهل ثوابه: {فَمَنَّ الله عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ}[الطور:27] والمنّ التفضل بلا خلاف.
وروى أبو طالب عليه السلام في (الأمالي) بإسناده إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال في حديث طويل: ((وبالعفو تنجون، وبالرحمة تدخلون، وبأعمالكم تقتسمون)).

(1/216)


وروى عليه السلام في (الأمالي) أيضاً بإسناده إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: ((إن الله يجمع فقراء هذه الأمة ومياسيرها في رحبة باب الجنة ثم يبعث منادياً فينادي من بطنان العرش: أيما رجل منكم وصله أخوه المؤمن في الله تعالى ولو بلقمة من خبز فليأخذ بيده على مهلٍ حتى يدخله الجنة، قال: وهم أعرف بهم يومئذ منهم بآبائهم وأمهاتهم، قال: فيجيء الرجل منهم حتى يضع يده على ذراع أخيه المكرم والواصل له فيقول: يا أخي أما تعرفني، ألست الصانع لي كذا وكذا؟ فيعرفه كل شيء صنعه به من البر والتحفة فقم معي، فيقول: إلى أين؟ فيقول: لأدخلنك الجنة فإن الله عز وجل قد أذن لي في ذلك فينطلق به آخذاً بيده لا يفارقه حتى يدخله الجنة، بفضل رحمة الله عز وجل لهما ومنِّه عليهما)).

(1/217)


وروى الحاكم في (السفينة) عن محمد بن المنكدر، عن جابر قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلينا فقال: ((خرجت من عند خليلي جبريل آنفاً فقال: يا محمد، والذي بعثني بالحق إن لله عبداً من عباده عبد الله خمسمائة سنة على رأس جبل عرضه وطوله ثلاثون ذراعاً في ثلاثين ذراعاً، والبحر محيط به أربعة آلاف فرسخ من كل ناحية، فأخرج الله له عيناً عذباً بعرض الأصبع [أبيض من بيض الحجر إذا رشح] بماء عذب فيستنقع في أسفل الجبل، وشجرة رمان تخرج له كل ليلة رمانة فيصوم يومه، فإذا أمسى نزل فأصاب من الوضوء وأخذ تلك الرمانة فأكلها ثم قام لصلاته فسأل ربه عند وقت الأجل أن يقبضه ساجداً، وأن لا يجعل للأرض ولا لشيءٍ عليه سبيلاً حتى يبعثه وهو ساجد ففعل، قال: فنحن نمر عليه إذا هبطنا وإذا صعدنا فنجده في العلم يبعث يوم القيامة، فيقف بين يدي الله تعالى فيقول له الرب: أدخلوا عبدي الجنة برحمتي، فيقول: بل بعملي، فيقول الله تعالى للملائكة: قايسوا عمل عبدي بنعمتي عليه، فيوجد عليه نعمة البصر قد أحاطت بعبادته خمسمائة سنة وبقيت نعمة الجسد فضلاً عليه...)) الخبر بطوله.
وقال أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (كرم الله وجهه في الجنة) في بعض خطبه: (وتالله لو انماثت قلوبكم انمياثاً، وسالت عيونكم من رغبة إليه ورهبة منه دماً، ثم عُمِّرتم في الدنيا ما الدنيا باقية، ما جزت أعمالكم ولو لم تبقوا شيئاً من جهدكم أنعمه عليكم العظام وهداه إياكم الإيمان).

(1/218)


وقال عليه السلام في خطبة أخرى خطبها بصفين: (ولكنه جعل حقه على العباد أن يطيعوه، وجعل جزاءهم عليه مضاعفة الثواب تفضلاً منه وتوسعاً بما هو من المزيد أهله).
وقال عليه السلام في خطبة أخرى: (رافق بهم رسله، وأراهم ملائكته، وأكرم أسماعهم أن تسمع حسيس نار أبداً، وصان أجسادهم أن تلقى لغوباً ونصباً: {ذَلِكَ فَضْلُ الله يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ}[الحديد:21]).
وقال علي بن الحسين زين العابدين عليه السلام في دعائه المعروف ب‍(الصحيفة) في دعائه إذا استقال من ذنوبه، أو تضرع في طلب العفو عن عيوبه ما لفظه: (إلهي، لو بكيتُ إليك حتى تسقط أشفار عيني، وانتحبت إليك حتى ينقطع صوتي، وقمت إليك حتى تنتشر قدماي، وركعت حتى ينخلع صلبي، وسجدت لك حتى تتفقأ حدقتاي، وأكلت ترب الأرض طول عمري، وشربت ماء الرماد آخر دهري، وذكرتك في خلال ذلك حتى يكل لساني ثم لم أرفع طرفي إلى آفاق السماء استحياء منك ما استوجبت بذلك محو سيئة من سيئاتي، وإن كنت تغفر لي حين أستوجب مغفرتك، وتعفو عني حين أستحق عفوك فإن ذلك غير واجب لي باستحقاق، ولا أنا أهل له باستيجاب إذا كان جزائي منك في أول ما عصيتك النار، فإن تعذبني فإنك غير ظالم لي).
وقد نص القاسم عليه السلام في كتاب (الرد على الملحد)، والهادي عليه السلام في (الأحكام) على أن الأعمال شكر لله تعالى، وبالجملة إن ذلك إجماع القدماء من أهل البيت "، وبعض المتأخرين كالإمام شرف الدين عليه السلام.

(1/219)


اللهم، إن هذا اعتقادي ولا حق لي عليك إلا ما تفضلت به، فأحيني على ذلك وأمتني عليه وابعثني عليه وثبتني بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة، فإنه من احتج عليك بعمله ومَنَّ به عليك بعد فطرة العقل والإعذار والإنذار فإن حجته داحضة ومنُّه باطل، وكيف أحتج على من له الحجة! وأمنُّ على من له المنّة أعوذبك اللهم من ذلك في حياتي [وفي مماتي] ومبعثي، إنك على كل شيء قدير، وارحمني إنك أنت أرحم الراحمين، بحق محمد الأمين وآله الطيبين الطاهرين.

(1/220)


[مسائل في تفسير بر الوالدين وعقوقهما]
وقال السائل: ما تفسير البر للوالدين والعقوق الذي من فعله دخل النار لا محالة؟
والجواب والله الموفق: أما البر فهو فعل المعروف والإحسان إليهما باللسان والأركان، كما قال تعالى: {وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أو كِلاَهُمَا فَلاَ تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا، وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا}[الإسراء:23،24].
وأما العقوق الذي من فعله دخل النار لا محالة فهو الإساءة إليهما كما قال تعالى: {فَلاَ تَقُلْ لَهُمَا أُفّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا}[الإسراء:23].
وقال السائل: وهل من جملة البر بهما تعظيمهما فوق تعظيم سائر المؤمنين وسمع أمرهما في شيء من أمور الدنيا؟

(1/221)


والجواب والله الموفق: أما تعظيمهما فوق تعظيم المؤمنين فإنه يجب ذلك فعلاً لا اعتقاداً إذا لم يبلغا ذلك في الواقع وذلك بأن يجعل لهما مزية في التعظيم ويؤثرهما بتلك المزية على غيرهما؛ لأن الله قد أوجب شكرهما وعطفه على شكره تعالى، فقال تعالى: {أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ}[لقمان:14]، ولم يشرك الله تعالى أحداً في شكرهما كما لم يشرك سبحانه أحداً في شكره، وما ذكرناه من جملة الشكر؛ لأنه في مقابلة تربيتهما قال تعالى: {وَقُلْ رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًاً}[الإسراء:24]، وفي مقابلة حنوهما وشفقتهما ومحبة إيصال كل خير إليه، ولتحملهما أذاه من غير كراهة كما جميع ذلك معلوم من حالهما؛ ولقوله تعالى: {حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا على وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ...}[لقمان:14] الآية، ولا مشارك لهما في ذلك.
وروى الهادي عليه السلام في (الأحكام) عن زيد بن علي عليه السلام عن آبائه " عن علي عليه السلام قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ((إن من تعظيم إجلال الله أن تجلَ الأبوين في طاعة الله)) فجعل النبي صلى الله عليه وآله ذلك من تعظيم إجلال الله تعالى؛ لأنه امتثال لأمره كما تقدم بيانه.
وقال الهادي عليه السلام في (الأحكام) أيضاً: وبلغنا عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: ((النظر إلى بيت الله الحرام عبادة، والنظر في كتاب الله عبادة، والنظر في وجه الوالدين عبادة إعظاماً لهما وإجلالاً))، وعلى الجملة أنه لا يظهر في ذلك اختلاف.

(1/222)


وأما سمع أمرهما في شيء من أمور الدنيا فإن كانا مضطرين إلى ذلك ومحتاجين له ولا معصية للخالق فيه فلا إشكال فيه؛ لأن الله قد وصاه بهما كما قال تعالى: {وَوَصَّيْنَا الإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ}[لقمان:14]، وقال تعالى: {وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا}[الإسراء:23].
وأما إذا لم يكونا مضطرين ولا محتاجين إليه فكما يأتي إن شاء الله تعالى في أثناء الجواب على ما بقي من المسائل، ولا بد إن شاء الله تعالى من التنبيه على ذلك وإيراد ما أورده السائل والجواب عليه، والله الموفق.
وأما إذا كان فيه معصية لله تعالى فإنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، وذلك معلوم من الدين ضرورة.
وقال السائل: إن كان تعظيم الوالدين لأجل الإنعام الواجب عليهما وجب على الفقير لمن صرف إليه زكاة أو نحوها مثله، وإن كان لأجل الزائد على الواجب وجب على من تفضَّل عليه للمتفضل مثل ذلك، وإن كان الأمر خارج فلا شيء يشار إليه غير ما أوجب الله تعالى للمؤمنين.

(1/223)


والجواب والله الموفق: أن الله سبحانه جعل ذلك شكراً كما مر تحقيقه، والشكر ليس إلا في مقابلة النعم الواجبة وغيرها ولا يلزم مثل ذلك لمن صرف زكاته أو نحوها على المصروف إليه؛ لأنها عبادة لم يجعلها إلا لله خالصة لوجهه الكريم بخلاف الأبوين فإن الله جعل ذلك حقاً لهما، وجعل ذلك الحق من طاعته كسجود الملائكة صلوات الله عليهم لآدم عليه السلام حكمة منه وتفضلاً عليهما ورحمة لهما، ألا ترى أنه تعالى أمر بذلك في كتابه وعلى لسان رسوله كما تقدم ذكره! مثل ما أمر بالسجود لآدم وأوجب فعل المعروف إليهما ولو كانا كافرين، فقال تعالى: {وَإِنْ جَاهَدَاكَ على أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلاَ تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفاً}[لقمان:15]، فأنى لك! أنه لا شيء يشار إليه فيما ذكرناه سوى ما أوجب الله للمؤمنين مع ذلك، ومع ما أوجب الله لذي الرحم على رحمه مما لا يختلف فيه علماء الإسلام، وهما أحق ذوي الأرحام كما تقرر؛ ولقوله صلى الله عليه وآله وسلم للذي سأله فقال: يا رسول الله، من أحق الناس مني بحسن الصحبة وبالبر؟ قال: ((أمك، قال: ثم من؟ قال: أمك، قال: ثم من؟ قال: أمك، قال: ثم من؟ قال أبوك، قال: ثم من؟ قال: أقاربك أدناك أدناك)) ولا ينعكس الحكم حيث يكون الولد أكثر إنعاماً على والديه منهما عليه أو لم يكن منهما فعل معروف له سوى الولادة لما تقدم، وللإجماع على ذلك، وللقواعد الشرعية لقوله صلى الله عليه وآله وسلم: ((ليس منا من لم يوقر الكبير.. )) الخبر، ومن تقديم الأكبر سناً في الإمامة الكبرى والصغرى [إذا

(1/224)


استووا في الصلاح] لذلك كما هو مقرر في مواضعه.

(1/225)


[مسائل في صلة الرحم وقطيعتها]
وقال السائل: ما تفسير صلة الرحم وقطيعتها؟
والجواب والله الموفق: أما صلة الرحم فهي القيام بما يجب لهم من العطية وترك هجرهم ولا يظهر في ذلك اختلاف.
وأما قطيعتها فهو الإخلال بذلك قال تعالى: {فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ وَتُقَطّعُوا أَرْحَامَكُمْ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ الله فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ}[محمد:22،23] ، وقال تعالى:{إِنَّ الله يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى}[النحل:90]،وقال تعالى: {وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ}[الإسراء:26] الآية.
وعن الهادي عليه السلام في (الأحكام) ما لفظه: وبلغنا عن زيد بن علي رحمة الله عليه عن آبائه، عن علي رضوان الله عليه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ((من أحب أن يَملأ له في عمره، ويبسط له في رزقه، ويستجاب له الدعاء، ويدفع عنه ميتة السوء فليطع أبويه في طاعة الله عزّ وجلّ وليصل رحمه وليعلم أن الرحم معلقة بالعرش تأتي يوم القيامة لها لسان طَلِقٌ ذَلِقً تقول: اللهم صِلْ من وصلني، اللهم اقطع من قطعني، قال: فيجيبها الله تبارك وتعالى أني قد استجبت دعوتك، فإن العبد لقائم يرى أنه بسبيل خير حتى تأتيه الرحم فتأخذ بهامته فتذهب به إلى أسفل درك من النار بقطيعته إياها كان في دار الدنيا)).

(1/226)


وعنه عليه السلام فيه أيضاً ما لفظه: وبلغنا عن الحسين بن علي عليه السلام أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ((إن الرجل ليصل رحمه وقد بقي من عمره ثلاث سنين فيجعلها الله ثلاثاً وثلاثين سنة، وإن الرجل ليقطع رحمه وقد بقي من عمره ثلاث وثلاثون، فيجعلها الله ثلاثاً)).
قلت وبالله التوفيق: معنى ذلك أنه إن وصل رحمه وكان الباقي من عمره ثلاث سنين مثلاً جعلها الله تعالى ثلاثاً وثلاثين سنة، وإن كان ثلاث برهات من الزمان كثلاثة أشهر جعلها الله ثلاثة وثلاثين شهراً، أو ثلاثة أسبوعات جعلها الله تعالى ثلاثة وثلاثين أسبوعاً، أو ثلاثة أيام جعلها الله ثلاثة وثلاثين يوماً ونحو ذلك، والعكس في قطع الرحم والله أعلم.
وعنه عليه السلام فيه أيضاً ما لفظه: وبلغنا عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: ((من يضمن لي واحدة أضمن له أربعاً، من يصل رحمه فيحبه أهله، ويكثر ماله، ويطول عمره، ويدخل جنة ربه)).

(1/227)


[حكم طاعة الوالدين إذا كانا كافرين وكذا سائر الأرحام]
وقال السائل: إذا كان الوالدان وسائر الأرحام من أهل الكبائر [هل يجب على الولد أن يعاملهم معاملة غيرهم من أهل الكبائر] لقوله تعالى: {وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أو أَبْنَاءَهُمْ}[المجادلة:22] الآية؟ أم يجب عليه لهم شيء يحرم منه فعله لغيرهم؟
والجواب والله الموفق: أما الوالدان فيجب صلتهما وفعل المعروف إليهما ولو كانا كافرين، لقوله تعالى: {وَوَصَّيْنَا الإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ...}الآية إلى قوله تعالى: {وَإِنْ جَاهَدَاكَ على أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلاَ تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفاً}[لقمان:14،15].
وما أورده السائل من قوله تعالى: {وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ...} الآية، فالمراد تحريم الموادة كما يدل عليه أول الآية وذلك لا ينافي صلتهما، وكذلك قوله تعالى: {قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ...}[التوبة:24] الآية، يدل على تحريم إيثار ما ذكره الله في الآية على طاعته وطاعة رسوله والجهاد في سبيله، وذلك لا ينافي صلتهما وفعل المعروف إليهما ما لم يكن بمعصية لله تعالى فتأمل.

(1/228)


وأما سائر ذوي الأرحام فإن بقوا مع ارتكاب الكبيرة من أهل الملة ولم يكونوا بذلك مرتدين عن الإسلام فالحكم كذلك، أعني أن صلتهم -ما لم تكن بمعصية الله تعالى كأن يتوصلوا بها إلى محظور- واجبة؛ لقوله تعالى: {وَلاَ تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ الله لَكُمْ قِيَامًا وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ}[النساء:5]، وكلمة السفهاء في الآية تناول العصاة بدليل قوله تعالى: {سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ...}[البقرة:142] الآية، وقوله تعالى: {وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلاَّ مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ}[البقرة:130]، ولقوله تعالى: {وَلاَ يَأْتَلِ أُوْلُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُوْلِي الْقُرْبَى...}[النور:22] الآية.
ووجه الاحتجاج بهذه الآية أنها نزلت في أبي بكر لما آلَ أن لا يصل مسطحاً بعد أن قذف عائشة بالزنا وكان بذلك ممن تولى كبره أي كبر الأمر وهو معظمه، وقد قال تعالى: {وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ}[النور:11] وجملة من تولى كبره منهم ثلاثة نفر: حسان، ومسطح، وحمنة بنت جحش؛ لأنهم صرحوا بقذفها، وجلدهم النبي صلى الله عليه وآله الحد كل واحد ثمانين، وقال في ذلك شاعر من المسلمين شعراً:
لقد ذاق حسان الذي هو أهله .... وحمنة إذا قالوا هجيراً ومسطحُ
تعاطوا برجم الغيب زوج نبيهم .... وسخطة ذي العرش الكريم وأبرحوا
فصب عليهم محصبات كأنها .... شآبيب قطرٍ من ذرا المزن تسفح
فنهى الله سبحانه عن الإئتلاء المذكور ولم يشترط توبةً.

(1/229)


ولما روى أبو طالب عليه السلام بإسناده إلى علي عليه السلام أنه قال: إن رجلاً أتى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال: يا رسول الله أهل بيتي أبَوا إلا توثباً عليَّ وقطيعة لي وشتيمة، أفأرفُضُهم؟ قال: ((إذاً يرفضكم الله جميعاً، قال: فكيف أصنع؟ قال: تصل من قطعك، وتعطي من حرمك، وتعفو عمن ظلمك، فإنك إذا فعلت ذلك كان لك من الله ظهير)).
وروى أيضاً بإسناده إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: ((أفضل الفضائل أن تعطي من حرمك، وتصفح عمن شتمك، وتصل من قطعك)) ونحو ذلك كثير ولعله متواتر معنىً إن بحث عنه، والله أعلم. [ولأنه لا يظهر فيما ذكرته على الجملة خلاف].
وإن كان ذوو الأرحام من أهل الكفر فإنها لا تجب صلتهم لقوله تعالى: {وَلَنْ يَجْعَلَ الله لِلْكَافِرِينَ على الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً}[النساء:141]، ولكن يستحب لقوله تعالى: {لاَ يَنْهَاكُمُ الله عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وتقسطوا إليهم}[الممتحنة:8] الآية، ما خلا الوالدين فإنها تجب لقوله تعالى: {وَإِنْ جَاهَدَاكَ على أَنْ تُشْرِكَ بِي...}[لقمان:15] الآية، وقد تقدمت.

(1/230)


[حكم أخذ الوالد من مال ولده]
وقال السائل: إذا أخذ الوالد من مال ولده وهو غني والولد كاره فهل يلزم الوالد الرد؟
والجواب والله الموفق: أنه قد قيل: إنه لا خلاف في أن للوالد أن يتصرف في مال ولده فيما يصلح الولد أو لنفسه إذا كان محتاجاً إلى حد الكفاية ولا يجوز له غير ذلك، فإن كان ذلك صحيحاً معلوماً فيه ونَعِمَ وإلا فقوله تعالى: {وَلاَ تَنْهَرْهُمَا}[الإسراء:23] يقضي بأنه ليس للولد أن يمنع أبويه ولايجرهما إلى الحاكم ولو كانا غنيين؛ لأن ذلك نص في النهي عن نهرهما مطلقاً في حال الفقر وحال الغنى، وقد رويت أخبار كثيرة عن النبي صلى الله عليه وآله تؤدي ما ذكرناه.
منها ما رواه أبو طالب عليه السلام بإسناده إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وذكر أموراً أوصى بها أبا ذر رحمه الله تعالى إلى أن قال: ثم قام إليه رجل من الأنصار فقال: يا رسول الله أوصني، فقال: ((بر والديك وإن أمراك أن تنخلع من مالك فافعل)) الخبر.
ومنها الحديث المشهور عنه صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: ((أنت ومالك لأبيك)).
ومنها ما رواه في (الشفاء) عن عائشة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: ((أطيب ما يأكل الرجل من كسبه وإن ولده من كسبه))، وكذلك القول إذا طلب الوالد من الولد أن يخدمه وهو قوي، أو يجد من يخدمه بالأجرة والحجة واحدة.
وأورد السائل على ذلك بأن قال: فقد ذكر العلماء أنه من استعمل ولده الصغير في شيء من نحو ذلك لزمته الأجرة، فكذا نقول في الكبير إذا كان الوالد غنياً قوياً.

(1/231)


والجواب والله الموفق: أن الفرق بين الكبير والصغير واضح من حيث أن الصغير معذور من التكاليف الشرعية بخلاف البالغ العاقل فتأمل.
فإن قيل: هذا مناقضة لما قدمت في أثناء جوابك حيث قلت هناك ما معناه: إنه لا يجوز أن يملك الرجل ولده الصغير جميع ما يملك ويعتمد على مال ابنه.
قلت وبالله التوفيق: لا مناقضة في ذلك؛ لأن تكليف الأب أن يستغني بما رزقه الله تعالى، وتكليف الولد أن لا يمنع أباه ولو كان مستغنياً فتأمل.
بلى يجوز للولد جر والده إلى الحاكم لنفقته حيث وجبت على الأب لفقر الولد إذا خشي على نفسه التلف فقط؛ لقوله تعالى: {وَلاَ تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ}[النساء:29]، وقوله تعالى: {وَلاَ تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إلى التَّهْلُكَةِ} [البقرة:195]، ولما رواه في (الشفاء) عنه صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: ((عند الضرورات تباح المحظورات)).

(1/232)


[حكم أخذ الولد من مال أبيه]
وقال السائل: فهل للولد أن يأخذ من مال أبيه بقدر ما أخذ من ماله من جنس ما أخذ الأب إن أمكن أو من غير جنسه على وجه الحقيقة إذا كان الأب غنياً؟
والجواب والله الموفق: أن الله قد أوصى بهما وبالإحسان إليهما كما تقدم ذكره، والأخذ من مالهما مما يسؤهما وذلك خلاف ما وصّى الله بهما من البر بهما وخلاف الإحسان إليهما، ومثل أذية التأفيف وفوقها، ومثل أذية نهرهما أو فوقها أيضاً، وقد قال تعالى: {فَلاَ تَقُلْ لَهُمَا أُفّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا...} إلى قوله: {وَقُلْ رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا}[الإسراء:23،24]، وما ذكرناه من ذلك موافق لأصول ما قرره العلماء حيث قالوا: لا يقتص من والد لولده ولا يحد له إن قذفه.
وقال بعضهم: لا يحبس لنفقة ولده فتأمل.

(1/233)


[حكم أخذ الدين من مال الغريم إن أمكن]
وقال السائل: فإذا كان الغريم غير الوالد وتمرد أو لم يكن مع صاحب الدين شهادة وخشي إن جرّه إلى الحاكم أنه يحكم عليه بعدم ثبوت الدين لفقد الشهادة أو كان يتحشم من جره إلى الحاكم، فهل له أن يأخذ من مال الغريم من جنس دينه إن أمكن؟ وإلا أخذ من غير جنسه!
والجواب والله الموفق: أن الغريم إذا كان معترفاً بالدين وتمرد ولا حاكم، وكان الدين مثلياً جاز لصاحب الدين أن يأخذ من حق الغريم مثله جنساً وقدراً وصفة بشرط الأمان من إثارة الفتنة بينهما؛ لأن المعلوم من الدين ضرورة أن ذلك هو اللازم في مال الغريم لصاحب الدّين، وقد قال تعالى: {وَلَمَنِ انتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُوْلَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ، إِنَّمَا السَّبِيلُ على الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ}[الشورى:41،42]، ولأنه داخل تحت قوله تعالى: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ...}[النحل:126] الآية.
وأما إذا كان الأمر على خلاف ذلك فلا يجوز.

(1/234)


أما إذا كان الغريم منكراً فيه فقد قال تعالى: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إلى الله وَالرَّسُولِ}[النساء:59]، والرد إلى الله هو إلى كتابه، والرد إلى رسوله هو إلى سنته الجامعة غير المفرقة، ولا يظهر في ذلك اختلاف بين آبائنا "، وقد وقع النزاع بإنكار الغريم فوجب عليهما الرجوع إلى ما في كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فإن لم يهتديا إليه ولم يتفقا عليه وجب الرجوع إلى ما أثبت الله تعالى في كتابه، ورسوله في سنته صلى الله عليه وآله من التحاكم إلى العدل الذي يحكم بما أنزل الله، وهو القسط حيث قال تعالى: {إِنَّ الله يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إلى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ}[النساء:58] وحيث قال تعالى: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ...}[المائدة:49] الآية، وحيث قال رسول الله صلى الله عليه وآله: ((القضاة ثلاثة...)) الخبر، ونحوه.
وأما إذا لم يتمرد فإن له حق القضاء إجماعاً، ألا ترى أنه لا يظهر اختلاف أن الحاكم لا يقضي الغرماء شيئاً من مال الغريم إلا إذا تمرد! وإذا كان له حق القضاء فإسقاط حق الغير ظلم كسائر الحقوق الثابتة من نحو ولاية النكاح.
وأما إذا كان الحاكم موجوداً فلأن حق القضاء قد انتقل إلى الحاكم بلا خلاف أعلمه بين الأمة، وإسقاط حق الحاكم ظلم كما ذكرناه الآن.
وأما إذا كان المأخوذ [في الدين] قيمياً فلا يخلو إما أن يأخذه عن دين مثلي أو عن دينٍ قيمي كالمهر إذا جعل عبداً في الذمة مثلاً.

(1/235)


إن كان الأول: وهو أن يأخذه عن دين مثلي فذلك بيع إجماعاً، وقد قال تعالى: {إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ}[النساء:29]، والتراضي مع الاستقلال بالأخذ مفقود؛ ولأنه لا يلزم الغريم في ماله إلا مثل الدين المثلي بدليل أنه إذا امتنع صاحب الدين من أخذ شيء غير ذلك كان له ذلك لقوله تعالى: {إِنَّ الله يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ}[النحل:90]، وليس من العدل أن يكلف على أن يأخذ غير دينه الذي يستحقه على أنه لا يظهر في ذلك بين المسلمين اختلاف.
وإن كان الثاني: وهو أن يأخذه عن دينٍ قيمي كالمهر فإن أخذ من غير جنس المسمى فالكلام فيه كالأول، وإن أخذ من جنسه أدى إلى التنازع والشجار وذلك من الفتنة.
وأما إذا كان الأخذ يؤدي إلى إثارة الفتنة بينهما فلما في ذلك من نقض الغرض من نصب الحكام؛ لأنه لا فائدة في ذلك إلا درأ الفتنة ودفع التظالم؛ لأن المعلوم من الدين ضرورة أنه لا يجب التحاكم إذا أمن ذلك بوقوع التراضي بين الخصمين. والله أعلم.
هذا واعلم أنه لا يظهر اختلاف إذا كان الحاكم موجوداً وكان من المحقين يأخذ للمظلوم من الظالم في أنه لا يجوز لصاحب الدين أن يأخذ بدينه من مال الغريم ولو كان متمرداً من دون حكم الحاكم، وقد وقع الخلاف إذا كان متمرداً ولا حاكم ينصف للمظلوم من الظالم، والصحيح ما ذكرناه للأدلة المذكورة.

(1/236)


[حكم الهجرة من دار الكفر ودار الفسق]
وقال السائل: لا نزاع في وجوب الهجرة من دار الكفر ودار الفسق -يعني أن يذهب إلى القول بذلك- وإلا فالخلاف في ذلك مشهور.
قال: لكن الأغلب على الأرض الإسلامية عدم خلوها من الفسق وقت خلوها من الأئمة "؛ لأنها إن غلبت عليها الدول الجائرة ظهر فيها بعض الكبائر كأخذ الأموال من غير إنكار نكير، وإن كانت الأرض غير مدولة ظهر فيها الخوف على الأموال والنفوس وظهرت الفواحش والخمور، قال: وحينئذٍ تسقط الهجرة من دار الفسق لعدم دار لا يوجد فيها ذلك.
والجواب والله الموفق: أن الهجرة من دار الكفر ودار الفسق واجبة، أما من دار الكفر؛ فلأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم هاجر من مكة حرسها الله تعالى بالصالحين لما كانت دار كفر، وقد قال تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ الله أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو الله وَالْيَوْمَ الآخِرَ}[الأحزاب:21]، وقوله تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلاَيَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا}[الأنفال:72]، وقوله صلى الله عليه وآله وسلم: ((أنا بريء ممن وقف في دار الحرب)) أو كما قال، وزعم بعض أهل الأهواء أنها منسوخة بقوله صلى الله عليه وآله: ((لا هجرة بعد الفتح)) ليس شيء؛ لأنه إن صح الخبر فإنما قال ذلك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لاستواء الدار بعد الفتح ولأن الخبر أحادي، ولا يصح أن تنسخ به صرائح الآيات من كتاب الله تعالى.

(1/237)


وأما دار الفسق فإنه يجب أمر أهل المعاصي بالمعروف ونهيهم عن المنكر إذا كان ذلك ممكناً، ولا تحل الهجرة مع ذلك بل يجب الوقوف لقوله تعالى: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إلى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ...}[آل عمران:104] الآية ونحوها، وقوله صلى الله عليه وآله وسلم: ((لتأمرن بالمعروف ولتنهن عن المنكر...)) الخبر ونحوه، وإن لم يكن ذلك ممكناً وجبت الهجرة؛ لقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلاَئِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ الله وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا}[النساء:97]، وقوله صلى الله عليه وآله وسلم: ((ما من قوم يكون بين ظهرانيهم من يعمل بالمعاصي فلا يغيروا عليه إلا أصابهم الله بعقاب)) ونحوه، ولا خلاف في ذلك بين أهل البيت " إذا كان ثم إمام، وإن لم يكن ثم إمام فقالت الناصرية والمؤيد بالله عليه السلام ومن وافقهم: لا تجب، وقالت القاسمية: بل تجب، وهو الحق؛ لأن الأدلة لم تفصل.
فإن قيل: إن جماعة من أهل البيت " في مدة الدولتين الأموية والعباسية لم يهاجروا من ديارهم.

(1/238)


قلت وبالله التوفيق: لا حجة في ذلك؛ لأنه ليس بإجماع منهم؛ لأن المشهور أن كثيراً من عيون أهل البيت " كانوا خائفين ومشردين وذلك هجرة، وأيضاً فإنه قد روي عن محمد بن عبدالله النفس الزكية أنه أمر بالهجرة من ديارهم ولا إمام؛ لأنه كان قبل دعوته، وإن سلم فلعل الواقفين كانوا يقدرون على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أو كانوا في أماكن لا يظهر فيها من المناكير مثل ما يظهر في غيرها، والهجرة إلى مثل ما صفته كذلك من الأماكن تجب إذا تعذر وجود دار أحسن منها كما سأبينه إن شاء الله تعالى فبطل قول السائل بسقوط الهجرة.
وقال السائل: هل تجب الهجرة إلى الهجر التي هي من جملة دار الفسق لكن المعاصي لا تظهر فيها لا لقوتهم؟
والجواب والله الموفق: أن الهجرة إلى ما ذكره السائل تجب إذا كان لا يوجد دار أحسن منها؛ لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قد أمر بالهجرة إلى الحبشة، وهي دار كفر لكنها كانت أهون من مكة لشدة كفر أهلها، وإعلانهم بشتم الإسلام والاستهانة به، فكذلك الحكم في دار الفسق إذ لافرق؛ ولأنا مأمورون بالتأسي بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم، وقد أمر بذلك أمر إيجاب، فيجب علينا الأمر به كذلك، وذلك يستلزم الوجوب على المؤمنين، ولقوله صلى الله عليه وآله وسلم: ((حكمي على الواحد حكمي على الجماعة)).

(1/239)


[حكم المشاهدة لجمع الأموال في الأسواق بالكره]
وقال السائل: لو شوهد جمع الأموال في الأسواق بالكره، هل يجب على المكلف أن يعدل إلى مكان آخر من السوق؟
والجواب والله الموفق: أنه إذا كان لا يقدر على النكير فلا يجوز دخول السوق أصلاً؛ لأنه مع ذلك بين ظهراني أهل المعاصي، وقد تقدم دليل تحريم الوقوف بين ظهرانيهم، فإن ألجت ضرورة إلى دخول السوق على حد الاضطرار إلى أكل الميتة جاز الدخول والتجنب قدر الاستطاعة؛ لقوله تعالى: {فَاتَّقُوا الله مَا اسْتَطَعْتُمْ}[التغابن:16]، وقوله صلى الله عليه وآله وسلم: ((إذا أُمِرتم بأمر فأتوا منه ما استطعتم)).
وقال السائل: هل يستحق الرعية الثواب، والعوض على الصبر والاغتمام بما أخذ منهم السلطان؟
والجواب والله الموفق: أنه إذا أخذ السلطان منهم شيئاً وهم في غير الدار التي هو متولٍ عليها كأن يغزوهم وهم غارون فيأخذهم، أو كانوا يظنون أنهم يقدرون على دفعه فيغلبهم فيأخذهم، فلا شك أن لهم على ذلك العوض والثواب على الصبر والاغتمام عليه؛ لأنهم مظلومون ولا يخالف في ذلك أحد من المسلمين، وإذا كان ذلك وهم في ديارهم، ويتمكنون من الهجرة منها فإن ذلك حرام عليهم يستحقون به من الله تعالى النكال والخلود في النار؛ لأنه مما يتقوى به الظالمون فكان من أعظم المعاونة على الظلم، وقد قال تعالى: {وَلاَ تَعَاوَنُوا على الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ}[المائدة:2].

(1/240)


وزعم بعضهم: أن ذلك لايكون معاونة إلا مع القسط؛ وهو باطل؛ لأن الله يقول حاكياً عن الكافرين: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَا إلى الله زُلْفَى}[الزمر:3]، ويقول تعالى: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ الله مَا لاَ يَنفَعُهُمْ وَلاَ يَضُرُّهُمْ وَكَانَ الْكَافِرُ على رَبِّهِ ظَهِيرًا}[الفرقان:55] أي معيناً فجعل الله الكافر بعبادته غير الله معيناً على الله، وهو لاقصد له في المعاونة على الله وإنما قصد بذلك أن يقربه معبوده إلى الله زلفى، وكذلك العلماء يوجبون على صاحب الجدار المائل على طريق المسلمين رفعه، ويقضون بتحريم التراخي ويضمنونه ما أفسد ولا يشترطون في ذلك قسطاً، وكذلك يقولون: إذا كانت إعانة الظالم على إقامة معروف أو إزالة منكر تؤدي إلى قوة ظلمه فهي حرام، ولا يشترطون في ذلك قسطاً على أنما ذكرته قد أجمع عليه أهل البيت " على ما قررته في كتاب (التحذير)، ولعل السائل يطلع عليه إنشاء الله تعالى، ففيه من البيان وإزاحة الشبه ما تبرى به إن شاء الله تعالى علة العليل وتشفى به إن شاء الله حرارة الغليل.
وقال السائل: إنهم لم يسلموا الأموال إلا بعد القتل والطرد والنهب وغير ذلك؟

(1/241)


قلت وبالله التوفيق: إنهم إن كانوا يتمكنون من الخروج من تلك الديار التي فعل بهم ذلك فيها فليس ذلك بعذر؛ لأن السكون في الديار مباح وإلا لحرم التنقل في الأرض وذلك خلاف المعلوم من الدين ضرورة والمباح لايكون أعلى من المعاونة على إقامة المعروف وإزالة المنكر؛ لأنها أي المعاونة على ذلك من أعظم الفروض؛ لقوله تعالى: {وَتَعَاوَنُوا على الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُوا على الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ}[المائدة:2]، وقد تصير محرمة إذا كانت تؤدي إلى قوة ظلم الظالم بإجماع العترة "، فما ظنك بتسليم المال الذي لولاه لما انتصبت للظالمين راية ولا استمرت لهم دولة، وإنما السكون في الديار مع ذلك إيثاراً للحياة الدنيا على الآخرة، وقد قال تعالى: {فَأَمَّا مَنْ طَغَى وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى}[النازعات:37-39].

(1/242)


[من يُعذر عن الهجرة]
وقال السائل: يجب أن يعرف جميع ما يكون المكلف معذوراً به عن الهجرة والوجه في الوجوب؟
والجواب والله الموفق: أنه لايعذر عن الهجرة إلا من لا يستطيع حيلة ولا يهتدي إليها سبيلاً؛ لقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلاَئِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ الله وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا، إِلاَّ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلاَ يَهْتَدُونَ سَبِيلاً، فَأُوْلَئِكَ عَسَى الله أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ الله عَفُوًّا غَفُورًا}[النساء:97-99].
وأما الوجه في الوجوب الذي ذكره السائل: فإن أراد وجه وجوب الهجرة فهو ما اقتضته هذه الآية الكريمة وما تقد م من الأدلة، وإن أراد وجه وجوب العذر أي وجه ثبوته فما اقتضاه الاستثناء في هذه الآية، وهو قوله تعالى: {إلاَّ الْمُسْتَضْعَفِينَ...} الآية إلى آخرها.
وقال السائل: وهل من جملة الأعذار عن الهجرة من له ضيعة ودار في بلده لم يقع له فيهما من الثمن لوباعه إلا دون ما يرغبه، ولم تسمح نفسه بذلك؛ لأنه لايحصل له بذلك الثمن في الموضع الذي يهاجر إليه إلا دون الذي باعه من أرضه وداره أو كان ثم مانع من اكتساب الأموال، وحينئذ يخشى الإنسان أن يشتغل بأمر معيشته فيقع في الطاعات تقصير بسبب ذلك، وطاعته في بلاده أكمل لانتفاء مثل ذلك؟

(1/243)


والجواب والله الموفق: أن جميع ما ذكره السائل ليس يعذر عن الهجرة؛ لأن الله لم يستثن إلا من كان لايستطيع حيلة ولا يهتدي إلى الهجرة سبيلاً كما تقدم بيانه.
وأما المال فقد قال تعالى: {قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ...} إلى قوله تعالى: {وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ الله وَرَسُولِهِ...}[التوبة:24] الآية، أي من الله وطاعته، ومن رسول الله وطاعته؛ لأن المحبة تستلزم الطاعة بدليل قوله تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ الله فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ...}[آل عمران:31] الآية.
ويروى لعلي عليه السلام شعر وهو قوله [كرم الله وجهه في الجنة]:
تعصي الإله وأنت تظهر حبه .... هذا محال في القياس بديع
لو كان حُبُّك صادقاً لأطعته .... إن المحب لمن يُحِب مطيع

(1/244)


ومن جملة طاعة الله الهجرة كما تقدم الدليل على ذلك، وقال تعالى: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لاَ يُبْخَسُونَ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ إِلاَّ النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}[هود:15،16] وقال تعالى: {وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ}[الشورى:20] وقوله تعالى: {فَأَمَّا مَنْ طَغَى، وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا، فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى}[النازعات:37-39]، ومن ترك الهجرة لأجل ذلك فقد طغى بمعصيته لخالقه وآثر الحياة الدنيا وأراد حرث الدنيا وأراد الحياة الدنيا وزينتها ولم يرد حرث الآخرة ولاطاعة الله سبحانه إذ لو أراد ذلك لفعله.
وأما كون طاعته مع ذلك أكمل فهي في الحقيقة كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء؛ ولأنه مع ذلك غير متق لله سبحانه، وقد قال تعالى: {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ الله مِنَ الْمُتَّقِينَ}[المائدة:27]، وقال تعالى لمن آثر الحياة الدنيا: {فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى}[النازعات:39]، وقال تعالى لمن أراد الحياة الدنيا وزينتها: {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ إِلاَّ النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [هود:16]، كما تقدم بيانه الآن.

(1/245)


وأما كون طاعته مع الهجرة قليلة فليس ذلك بقليل، وكيف يقل ما يتقبل! والله سبحانه يقول: {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا...}[الأنعام:160] الآية، ونحوها.

(1/246)


[وجوب التعليم من الحُفّاظ للملحن في قراءة القرآن]
وقال السائل: من كان يقرأ القرآن وهو يلحن فيه لحناً كثيراً، ويتكرر منه ذلك مرة بعد أخرى وليس في المصحف لحن، هل يجب أن يعرف الصواب ويتكرر وجوب ذلك، ولو تكرر اللحن منه في الموضع الذي يعود اللحن فيه فشق على السامع؟
والجواب والله الموفق: أن ذلك واجب على الحفاظ لكتاب الله سبحانه؛ لأنه من جملة الأمر بالمعروف [والنهي عن المنكر] وقد مر الدليل على وجوبه في أثناء هذا الجواب، ومن جملة المعاونة على البر والتقوى، وقد قال تعالى: {وَتَعَاوَنُوا على الْبِرِّ وَالتَّقْوَى}[المائدة:2]، والمشقة في ذلك لا ترّخص في تركه؛ لأن التكاليف كلها شاقة كما لا يختلف في ذلك أحد من المسلمين ولذلك سميت تكاليف.

(1/247)


[حكم معاونة الكفار والفساق بشيء من أعمال الدنيا]
وقال السائل: هل يجوز أن يعان الكفار والفساق بشيء من أعمال الدنيا كالتجارة والزراعة ونحو ذلك، ولو بالأجرة؟
والجواب والله الموفق: أنه إن كان الكافر والفاسق لايتوصل بذلك أو بعضه إلى معصية الله سبحانه، ولا مضرة أحد من المسلمين فلا خلاف في جوازه؛ ولقوله تعالى: {لاَ يَنْهَاكُمُ الله عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ...}[الممتحنة:8] الآية.
وأما إذا كان يتوصل به أو بعضه إلى معصية الله سبحانه، فذلك من المعاونة على الإثم والعدوان كما تقدم بيانه.
وقال السائل: إذا غلب في ظن المكلف أنه لايتم له الحج إلا بمداهنة للأمراء الظالمين ونحوهم من الجبابرة في سفره والمخالطة والمؤاكلة، وإن تجنبهم اضطر إلى مخالطة من لاتمييز له في الطهارة فيترطب بها في الطهور والمشروب والمأكول، وربما يضطر إلى مسايرة أهل الجبر وقد يصدر منهم ما لايجوز للإنسان السكوت عليه ولا الرضا به، وعلى الجملة فحال هذا السفر غير خاف يعني في هذا الزمان، فهل يكون ذلك عذر في ترك الحج؟
والجواب والله والموفق: أن ذلك لايكون عذراً لترك الحج؛ لأنه يمكنه بتجنب مخالطة الجبابرة من الأمراء وغيرهم إذ ليسوا في كل فج ولا في كل طريق، وقد يسير معهم جل الناس في نفس الطريق ولا يخالطونهم ولا يواكلونهم، وكذلك يمكنه أن يتجنب من لا تمييز له في الطهارة في أن يتولى أمور نفسه في طهوره ومأكوله ومشروبه.

(1/248)


وأما أهل الجبر فحالهم كحال عباد الأصنام من المشركين، وقد كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنون من أصحابه يحجون وأهل مكة مشركون، وعباد أصنام، وكانوا يسمعون منهم ويشاهدون من الأفعال الكفرية ما لايخفى، فلم يكن ذلك مرخصاً في ترك الحج، والتأسي بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم واجب، وأجر الأمة فيما لم ينسخ من الأحكام، ولم يظهر فيه دليل كونه خاصاً بأحد دون أحد كأولها وذلك معلوم من الدين ضرورة.

(1/249)


[إجماع أهل البيت حجة قطعية]
وقال السائل: قد دل الدليل الشرعي على أن إجماع أهل البيت " حجة قطعية؛ لقوله تعالى: {إِنَّمَا يُرِيدُ الله لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا}[الأحزاب:33]، والمراد رجس المعاصي بعد خروج الزوجات منهم بالدليل، ودخول من عدى الأربعة المشار إليهم؛ للأحاديث الدالة على أنهم أهل بيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ثم اقترانهم بالكتاب إلى آخر الدهر، وآية المودة والله لايأمر بمودة العصاة، وقد نهى عن ذلك وأمر بالعدواة لهم وحينئذ نعلم الحق فيما أجمعوا عليه، ويجب على من عداهم الموافقة لهم فيما أجمعوا عليه لقوله تعالى: {وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ}[النساء:115] وهم المؤمنون، بقي الإشكال فيما اختلفوا فيه على قول من قال بعدم تصويب كل المجتهدين في الفرعيات، وأدلة هذا المذهب قوية لولا تشوش النفس وعدم سكونها عند ورود أشياء.
وأورد السائل مسائل سيأتي ذكرها في موضعها ـ إن شاء الله تعالى ـ.

(1/250)


والجواب والله والموفق: أنه لاشك أن إجماع أهل البيت " حجة لآية التطهير، وجميع علماء العترة عترة رسول الله صلى الله عليه وعليهم يروون خلفاً عن سلف حتى يتصل برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، أنها لما نزلت دعا حسناً وحسيناً فأجلس كل واحد منهما على فخذه، وأدنى فاطمة من حجره وزوجها علي بن أبي طالب، ثم لفَّ عليهم الكساء، وقال: {إِنَّمَا يُرِيدُ الله لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ...}[الأحزاب:33] الآية، لا نعلم بين من ذكرنا في ذلك اختلاف، وإن وقع اختلاف يسير في اللفظ، وكذلك عيون رواة المخالفين لا يختلفون في صحة ذلك، رواه ابن حنبل في (مسنده)، والبخاري ومسلم في (صحيحيهما)، وأبو داود السجستاني في (سننه)، ومالك في (الموطأ)، والثعلبي في (تفسيره)، والحميدي في (الجمع بين الصحيحين)، ورزين في (الجمع بين الصحاح الستة)، وغيرهم ممن لم نذكره منهم بطرق مختلفة عن ابن عباس، وواثلة بن الأسقع من طرق عدة، وأم سلمة، وعائشة، وأبي سعيد الخدري، وجعفر بن أبي طالب، وأبي الحمراء، كل واحد من هولاء يرويه عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم من غير واسطة، وهذا مع ما تقدم من رواية أهل البيت " وشيعتهم -رضي الله عنهم- محض التواتر الذي يفيد العلم الذي لايمكن دفعه بشك ولا شبهة، وذلك يفيد عصمتهم " من الاعتماد على غير الحق في العلم والعمل؛ لأن رجس الأقذار حكمهم فيه وحكم غيرهم واحد بالإجماع المعلوم، فلم يبق إلا ما ذكرنا.
فإن قيل: إن الله سبحانه يريد ذلك من كل الناس.

(1/251)


قلت وبالله التوفيق: إن الله سبحانه يريد أن يفعل ذلك لأهل البيت " بنص قوله تعالى: {إِنَّمَا يُرِيدُ الله لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا}[الأحزاب:33]، وإذا أراد شيئاً فعله لقدرته القاهرة بخلاف غيرهم فإن الله يريد أن يفعلوا ذلك هم لا أن يفعله لهم، كما قال تعالى في بعض من يريد الله أن يفعلوا التطهير لأنفسهم: {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ الله أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ...}[المائدة:41] الآية.

(1/252)


[تأكيد نزول الآية فيهم]
فإن قيل: قد قيل إن أزواج النبي صلى الله عليه وآله وسلم داخلات في الآية بدليل إدراجها في سياق ذكرهن، وتذكير التطهير للتغليب، فلا يكون إجماعهم من دون أزواج النبي صلى الله عليه وآله وسلم حجة؟
قلت وبالله التوفيق: إن ذلك لايدل على دخولهن في الآية؛ لأن أهل علم البلاغة مطبقون على أن أحسن مواقع إنما التعريض، وذلك تعريض بهن إنهن غير معصومات لمجيئه في سياق وعظهن كقوله تعالى: {يَانِسَاءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ...}[الأحزاب:30] الآيات، إلى قوله: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلاَ تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأُولَى وَأَقِمْنَ الصَّلاَةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ الله وَرَسُولَهُ إِنَّمَا يُرِيدُ الله لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا}[الأحزاب:33].
ويؤيد ذلك إفشاء سر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من بعضهن كما ذكره الله في سورة التحريم، وما ضرب الله من المثل بامرأة نوح وامرأة لوط، حيث قال تعالى: {فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ الله شَيْئًا وَقِيلَ ادْخُلاَ النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ}[التحريم:10]، وخروج عائشة على علي [ عليه السلام] وهو إمام الحق.
فإن قيل: هذا نص في الأربعة "، فما دليل دخول من عداهم من ذريتهم الطاهرين؟

(1/253)


قلت وبالله التوفيق: الآية متناولة لجميع أهل البيت " [إذ لم يفصل، فجمع النبي صلى الله عليه وآله وسلم الموجودين منهم "] تحت الكساء بعد نزول الآية وحدهم لتعذر إحضار من لم يوجد، كما أن قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ على تِجَارَةٍ تُنجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ، تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ الله بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ...}[الصف:10،11] الآية تتناول جميع المؤمنين إلى آخر الدهر بدليل قوله تعالى: {لأُِنذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ}[الأنعام:19]؛ ولأن السابق مأمور بإبلاغ اللاحق، وذلك معلوم من الدين ضرورة.
وكان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يوجه الخطاب بهذه الآية للموجودين من المؤمنين ـ رضي الله عنهم ـ وحدهم لتعذر خطاب من لم يوجد، فالفرق بين الآيتين تحكم.
فإن قيل: إنا قد علمنا وقوع الكبائر من كثير من ذرية النبي صلى الله عليه وآله وسلم؟
قلت وبالله التوفيق: إنا نعلم ضرورة أن وقوع ذلك من بعضهم لايستلزم وقوعه من جميعهم.

(1/254)


[إستحالة إجماع أهل البيت على باطل]
فإن قيل: إذا قد وقع من بعضهم جاز أن يقع من جميعهم في بعض الأعصار؛ لأن أولئك بعضهم لا كلهم فلا يكون حجة إلا ما اجتمعوا عليه إلى آخر الدهر وانقطاع التكليف!
قلت وبالله التوفيق: ذلك باطل؛ لأنه إذا كانوا في عصر من الأعصار مخالفين للحق لم يكونوا مجمعين عليه إلى آخر الدهر، وانقطاع التكليف لانقطاع ذلك في بعض الأعصار، وذلك يبطل فائدة الآية ويلحقها باللغو والهدر، فهذا الإعتراض بذلك أجدر؛ لأنها من كلام أحكم الحاكمين الذي يقول الحق وهويهدي إلى السبيل؛ ولأن الآية تناول أهل كل عصر كقوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ على تِجَارَةٍ تُنجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ..}[الصف:10] الآية ونحوها، وإلا كان ألغازاً وتعمية؛ لأنه لا ناسخ لها ولا مخصص لأهل عصر دون غيره، وإذا كانت تناول أهل كل عصر كذلك بطل ما قالوا، وإلا أدى إلى إبطال فائدتها في بعض الأعصار كما زعموا، وقولهم بذلك أحق؛ لأنها من جملة الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.
فإن قيل: قد وقع من بعضهم ارتكاب الكبائر، وذلك يستلزم أن الأربعة أعني عليا وفاطمة والحسنين " ليس معصوم إلا جماعتهم دون أفرادهم؟

(1/255)


قلت وبالله التوفيق: ذلك باطل؛ لأن وقوع المعاصي من غيرهم لايستلزم وقوع المعاصي منهم ضرورة؛ ولأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم جمعهم تحت الكساء وأشار إليهم كما في الأخبار المتواترة، فلو جوز عدم عصمة واحد منهم لم يجز أن يدخله تحت الكساء ويشير إليه؛ لأن المخرج من معنى العموم لايكون مقصوداً في خطاب العموم البتة،وإنما يقصد به من عداه، ويجعل دليل التخصيص بياناً لذلك، وإلا كان بداء، وهو لا يجوز على الله سبحانه، وكل فرد من الأربعة " قد دخل في معنى الآية بدليل إدخال النبي صلى الله عليه وآله وسلم لهم تحت الكساء وإشارته إليهم بخلاف غيرهم من أهل التمادي على الباطل من أهل الكبائر من أهل البيت "، فإنهم غير مقصودين في الآية بدليل وقوع الكبائر منهم وتناول آيات الوعيد لهم، فتأمل.

(1/256)


[الرد على من قال: لا تكون الآية حجة على صحة إجماعهم]
وقال بعض أهل التعسف: لا تكون الآية حجة على صحة إجماعهم؛ لأن الرجس هو ما فحش من المعاصي، ولو سلم فلا نسلم تناوله للخطأ المعفو عنه!
والجواب والله الموفق: أن كل ما خالف الحق فقد فحش بدليل قوله تعالى: {وَلاَ تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ...}[الأنعام:151] [الآية]، والمراد به المعاصي بإجماع المفسرين، وكلما خالف الحق معصية بدليل أنه لا يصح أن يقال: عصى الله وما خالف الحق، ثم إن قوله تعالى: {وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا}، يتناول الطهارة من التمادي والاستمرار على كل خطأ معفواً عنه كان أو معاقباً عليه، وإلا لم يكونوا مطهرين بدليل أنه لايصح أن يقال: طهروا عن الباطل وهم متمادون ومستمرون عليه، فتأمل.

(1/257)


ومما يدل على أن إجماعهم حجة قوله تعالى: {قُلْ لاَ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى}[الشورى:23]، والمراد بها أهل بيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لايختلف أهل البيت " ولا شيعتهم ـ رضي الله عنهم ـ في ذلك، وقد ثبت صحة ذلك عند عيون المخالفين، رواه ابن حنبل في (مسنده)، والبخاري، ومسلم، والزمخشري، والثعلبي في (تفسيره)، و غيرهم من طرق مختلفة حتى تواتر ذلك، وعلمنا صحته، والله سبحانه لايأمر إلا بمودة المؤمنين، لقوله تعالى: {لاَ تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ الله وَرَسُولَهُ...} [المجادلة:22] الآية، فعلمنا إيمانهم بذلك وعلمنا تحريم مخالفتهم؛ لقوله تعالى: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا}[النساء:115]، وقوله صلى الله عليه وآله وسلم: ((إني تارك فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا من بعدي، كتاب الله وعترتي أهل بيتي، إن اللطيف الخبير نبأني أنهما لن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض))، وهذا الحديث متواتر ترويه العترة " وشيعتهم رضي الله عنهم خلفاً عن سلف حتى ينتهي إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وكذلك عيون المخالفين كابن حنبل، ومسلم، وأبو داود، والترمذي، ورزين، وغيرهم ممن لم أُحصِ من طرق شتى، وألفاظ متفقة المعنى وإن وقع في بعضها اختلاف في اللفظ.

(1/258)


ووجه دلالة ذلك على إجماعهم أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم نفى الضلال عن من تمسك بها وبالكتاب، وذلك نص صريح على أنهم لا يخالفون الحق أبداً.

(1/259)


[الجهل بالأدلة ليست حجة للمبطلين]
وقد قال بعض أهل التعسف: أنه إذا وقع لكم التواتر بذلك فلا يفيدنا ولا يكون حجة علينا، وإن سلم فلا يقتضي ذلك خطأ المخالف؛ لأنه عمل بالمفهوم ونحن لا نقول به!!
والجواب والله الموفق: أن الجهل بالأدلة لا يخرجها عن كونها حجة على المبطلين وإلا جاز أن يبطل حجج الله تعالى بمعارضتها بجهل الجاهلين، وذلك خلاف ما علم من الدين ضرورة، ولكنه يجب على الجهال البحث والنظر حتى يعرفوا الحجة، ولا يجوز التمادي على الجهل كهذا المعترض، وذلك معلوم من الدين ضرورة، ثم لا نسلم أن دلالة الخبر على خطأ المخالف بالمفهوم وحده؛ لأن ذكر التمسك بهم نص صريح في الحث على اتباعهم، فلو كان المخالف لهم على الحق لم يحثه الرسول صلى الله عليه وآله وسلم على ذلك وترك ما في يده من الحق؛ لأن الحث على الباطل وترك الحق قبيح عقلاً وشرعاً مع أن الشرط لو لم تكن دلالته على المفهوم صحيحة لم يكن لذكره فائدة، ولما جرى في خطاب الحكيم.
وقال هذا المتعسف: إن سلمنا ذلك فهو متروك الظاهر؛ لأن مقتضاه خطأ اتباع الكتاب وحده لإفادة الواو الجمعية وهو خلاف الإجماع، ولو سلم فإنما يفيد وجوب الإتباع حيث اتفق الكتاب وقول العترة [عليهم السلام]، والحجة حينئذ إنما هو الكتاب وحده!

(1/260)


[وجوب اتباع الكتاب والعترة]
والجواب والله الموفق: أن من لازم اتباع الكتاب العمل بمقتضى هذا الخبر؛ [لأنٍ] من جملة اتباع الكتاب العمل بقوله تعالى: {مَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا}[الحشر:7]، وقد آتانا الرسول هذا الخبر فوجب أن نأخذه، وليس أخذه إلا العمل به وهو أن نتمسك بالكتاب والعترة معاً، كما أن اللازم من طاعة الله طاعة رسوله وأولي الأمر، كما في قوله تعال: {أَطِيعُوا الله وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ}[النساء:59]، والفرق معدوم.
وأما كونه لايفيد الاتباع إلا حيث اتفقوا هم والكتاب فكذلك نقول كما أفاده الخبر من أنهم لا يخالفون الكتاب ولا الكتاب يخالفهم، وذلك لا يخرج إجماعهم عن كونه حجة كالإجماع الأكبر؛ لأنه لابد من موافقته للمستند من الكتاب والسنة، والخصم لا يخرج الإجماع بذلك عن كونه حجة، وفعل المستند من الكتاب والسنة هو والحجة وحده دون الإجماع، فالفرق تَحكم.
ومما يدل على كون إجماعهم حجة قوله صلى الله عليه وآله وسلم: ((مثل أهل بيتي فيكم كسفينة نوح من ركبها نجا ومن تخلف عنها غرق وهوى))، وهذا الخبر لا يختلف في صحته عترة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وكذلك أشياعهم رضي الله عنهم.

(1/261)


ورواه المخالفون، وهو نص صريح في كون إجماعهم " حجة، وبالجملة أن الأحاديث التي تدل على حجية إجماعهم أكثر من أن تحصى، وقد أطبق على روايتها المخالف والموالف، منها ما يدل على ذلك تصريح لفظه، ومنها ما يدل عليه بالتضمن، ومنها ما يدل عليه بالالتزام، وهذا هو عين التواتر المعنوي الذي يفيد العلم القطعي الذي لايمكن دفعه بشك ولا شبهة، وقد قلت في معنى ذلك من جملة أبيات في التحذير من مذهب الصوفية الباطنية شعراً، وهو:
ياذا المريد لنفسه تثبيتاً .... ولدينه عند الإله ثبوتا
أسلك طريقة آل أحمد واسألن .... سفن النجا إن تسألوا ياقوتا
لاتعدلن بآل أحمد غيرهم .... وهل الحصاة تشا كل الياقوتا
الله أوجب ودهم في وحيه .... والرجس أذهب عنهم إن شئتا
وأئمة الأخيار تروي فضلهم .... فابحث تجده مجملاً وشتيتا
ما إن تلم بمسندٍ أو مُرسَلٍٍ .... إلا وجدت لهم هناك نعوتا
فيها نعوت نجاتهم فدع الذي .... لم تلق يوما بالنجا منعوتا
وقال بعض أهل التعسف: جميع ما يستدل به على إجماعهم غايته الظهور وذلك لايفيد إلا الظن، وما ادعى من إجماعهم أصل من الأصول لايثبت بالظنون!

(1/262)


والجواب والله الموفق: أن ذلك قد ثبت في الكتاب العزيز وفي السنة مع اختلاف المذاهب، وتشتيت الرواة وتباعد الجهات كما تقدم التصريح به والإشارة إليه، فإن أراد بالظهور أنه وقع في المتن أعني أنه رواه أكثر من واحد ولم يبلغ حد التواتر، فذلك سفسطة صريحة؛ لأن القرآن متواتر المتن وكذلك الأخبار التي ذكرنا بعضها وأشرنا إلى أكثرها، منها ماهو متواتر لفظاً، ومنها ما هو متواتر معنى لوقوع الإجماع على نقل ذلك كما بيناه، وإن أراد بالظهور أنه واقع في المعنى أعني أنه يدعي أنه يحتمل غير ما ذكرناه من كون إجماعهم " حجة، فتصير دلالته على ذلك حينئذ ظنية، فذلك انحراف عن الحق وتعام عنه بينّ؛ لأن كل لفظ إذا انتفى ما يدل على أن المراد به غير ظاهره يصير نصاً جلياً، وإلا لزم أن قول الله تعالى: {اللَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ}[البقرة:255]، لا يكون نصاً جلياً في التوحيد، وكذلك قوله تعالى: {وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ}[البقرة:282]، لا يكون نصاً جلياً في شمول علمه تعالى للأشياء، وكذلك قوله تعالى: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ}[آل عمران:144]، لا يكون نصاً جلياً في كونه صلى الله عليه وآله وسلم رسولاً، وأن يكون المراد بها خلاف ظواهرها لكونها صالحة لذلك، كما أن المعنىفي قوله: ((لا سيف إلا ذو الفقار، ولا فتى إلا علي)) نفي الكمال، وفي قوله تعالى: {تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ}[الأحقاف:25]، البعض لا الشمول لكل شيء، بدليل خروج السماوات والأرض، وفي قولهم: ما زيد إلا أسد أي كأسد، واعتقاد ذلك كفر بالله ورسوله ؛

(1/263)


لأنه خلاف ما علم من الدين ضرورة، وما ذكرناه من الأدلة على إجماعهم " لايوجد دليل بخروجها عن كون المراد بها خلاف ظواهرها ومن بحث علم ذلك علماً يقيناً؛ لأن المخالفين يتعسفون في تأويلها بغير دليل، إذ لو كان ثم دليل لأتى به هذا المعاند للحق، ولم يكتف بمجرد التعسف.
وأيضاً: لو كان المراد بها خلاف ظواهرها لورد الدليل على ذلك على حد ورودها، وإلا كان ألغازاً وتعمية، وذلك لايجوز على الله تعالى، وإنما ذلك كما قال الله سبحانه: {وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ}[الأحزاب:4].

(1/264)


[ثبوت إجماع أهل البيت على الحق]
هذا ولنرجع إلى جواب السائل، فنقول وبالله التوفيق: قد ثبت أن الحق فيما أجمعوا عليه لما تقدم من الأدلة.
وأما ما اختلفوا فيه فليس كله باطل؛ لأن الحق لا يخرج من أيديهم كما تقدم، ولا كله حق لقوله تعالى: {وَلاَ تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا} [آل عمران:105]، وقوله تعالى: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ الله جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُوا}[آل عمران:103]، وقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ}[الأنعام:159] وقوله تعالى: {أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلاَ تَتَفَرَّقُوا فِيهِ}[الشورى:13]، وقوله صلى الله عليه وآله وسلم: ((ألا لايقتتل مسلمان ولايختلف عالمان)) ونحوه، وقد علمنا انتفاء المخصص بما ذكرته مفصلاً في كتاب (الإرشاد إلى سبيل الرشاد) بما نورده إن شا الله تعالى الآن من شبه المخالفين التي تعلقوا بها وحلها؛ لأنهم المطلعون على [معين] كتاب الله سبحانه، وعلى كتب الحديث النبوي، والمتبحرون فيها وأهل التفتيش والحك والتنقيش، فلو وجدوا مخصصاً لما أوردناه على ما ذكروا لما عولوا إلا عليه، ولم يقتصروا على ما هو دونه.
قالوا: والمخصص لتلك الأدلة والموجب لقصرها على المسائل الأصولية وقوع الاختلاف بين الصحابة.

(1/265)


[وقوع الاختلاف بين المجتهدين وليس كل مجتهد مصيب مع الأدلة]
وقالوا: وذلك إجماع منهم لعدم النكير فثبت أن كل مجتهد في الفرعيات مصيب.
والجواب والله الموفق: أن وقوع الاختلاف بين الصحابة لايدل على ذلك؛ لأن الأفعال لادلالة لها على المعاني المترجم عنها بالقول كخرق الخضر عليه السلام للسفينة، فإن موسى عليه السلام لم يفهم بمجرده ما الغرض منه بل قد يكون ما يعتاد لأمر قرينه على تحصيله لذلك الأمر كالأكل والشرب، فإن كل واحد منهما قرينة على تحصيله لأجل الحاجة المخصوصة المعروفة عند العقلاء، فوقوع الخلاف قرينة على تخطئة كلٌ لصاحبه؛ لأن العاقل في مجرى العادة لايخالف صاحبه فيما اتفق على طلبه إلا إذا عرف خطأه عن المطلوب وإلا لوافقه عليه لارتفاع المانع.
وأما دعوى عدم النكيرمن بعضهم على بعض فباطلة؛ لأنه نقل بالأخبار المتواترة وقوع النزاع بينهم في ذلك، ومن عادات العقلاء أن لايقع نزاع بينهم إلا فيما ينكر بعضهم على بعض.
وأيضاً: قد وقع التصريح بالنكير من علي عليه السلام في كثير من المسائل، وصرّح أيضاً بالتخطئة في مشهد من الصحابة في قصة المرأة التي استحضرها عمر، فأسقطت خوفاً منه، فاستشارهم عمر، فقال عبد الرحمن بن عوف، وعثمان بن عفان: (إنما أنت مؤدب لا نرى عليك شيئاً).
فقال علي عليه السلام: (إن كانا قد اجتهدا فقد أخطئا الخبر).
وفي رواية أن القائل لذلك عبد الرحمن بن عوف وحده.

(1/266)


فقال علي عليه السلام: (إن اجتهد فقد أخطئ) الخبر، ولم ينازعه أحد منهم في التخطئة، ولو كان القول بالتصويب مذهباً لبعضهم لنازعه فيها كما كانوا ينازعونه في كثير من المسائل لماّ كان مذهبهم فيها خلاف مذهبه.
وله عليه السلام في (نهج البلاغة) كلام بسيط في ذم الاختلاف، فليطلع عليه السائل هنالك.
وروي عنه عليه السلام، وزيد بن ثابت وغيرهم: تخطئة ابن عباس في عدم القول بالعول.
وروي عن ابن عباس: أنه خطّأ أهل القول بالعول.
وروي عن ابن عباس أنه قال: (ألا يتقي الله زيد بن ثابت يجعل ابن الابن ابناً أي في منزلة الإبن في الميراث ولا يجعل أب الأب أباً) أي في منزلة الأب في الميراث.
وروي أن أبا بكر سُئل وهو على منبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن الكلالة؟
فقال: (ما سمعت فيها شيئاً، وسأقول فيها برأي فإن أصبت فالله وفقني، وإن أخطأت فمني ومن الشيطان..) الخبر، ولم ينقل أنه نوزع في التخطئة، ولو كان القول بالتصويب مذهباً لبعضهم لنازعه ونقل.
وروي أن عمر قيل له في بعض اجتهاداته: أصبت، فعلى القائل بالدرة، وقال: (لا تزكونا في أوجاهنا فإني لا أدري أصبت أم أخطأت).
وروي أن كاتباً كتب عند عمر: هذا ما أرى الله عمر.
فقال عمر: (امحه واكتب هذا ما رأى عمر، فإن يكن صواباً فمن الله، وإن يكن غير صواب فمن عمر).
وروي أن ابن مسعود سئل عن امرأة مات عنها زوجها ولم يفرض لها صداقاً، فقال: (أقول فيها برأيي فإن يكن صواباً فمن الله، وإن يكن خطأ فمني ومن الشيطان..) الخبر.

(1/267)


والرأي هنا المراد به الاجتهاد لا يختلف في ذلك، فانظر كيف صرحوا بعدم القطع بالتصويب، وتنفيذ ما اجتهدوا من ذلك، وعدم الرجوع عنه، وتأويل ما روي من ذلك بأنه للتشديد في الاجتهاد فقط تلعب بأقاويل أكابر الصحابة بلا دليل إلا أنه خلاف مذهب المتأول.
وأيضاً: قد وقع الخلاف بين الصحابة في الإمامة والسكوت من الجميع بعد النزاع كما وقع النزاع في المختلف فيه من الفروع والسكوت بعد ذلك، والإمامة من الأصول فلو كان ذلك يدل على التصويب لجرى في الأصول كما جرى في الفروع لعدم الفرق، وأيضاً أن السكوت لم يقع من الصحابة إلا بعد الإياس من الرجوع كل إلى صاحبه، وأهل القول بالتصويب ممن يقول أنه لا يجب النكير عند الإياس من الرجوع إلى الحق فكيف يعتد بذلك في تخصيص الأدلة القطعية؟
وقالوا: لم ينقض أحد منهم حكم صاحبه!
والجواب والله الموفق: أنا نجيب في ذلك بمثل ما يعتمدون عليه، حيث قالوا: إنما لم يصح للحاكم أن ينقض ما يخالف مذهبه صيانة للأحكام، وإلا لم يستقر حكم البته، فعدم نقض المصيبين لأحكام من خالفهم من المخطئين إنما كان لصيانة ما وقع صواباً من الأحكام من النقض؛ لأنه لو نقضوا حكم المخطئ لنقض حكمهم؛ لأنه يدعي أن الحق معه.
وقالوا: كانوا يعتذرون في المخالفة ويقولون: هذا رأيي وهذا رأيك!
والجواب والله الموفق: أما الاعتذار بما ذكروه فبمراحل من الدلالة على التصويب؛ لأن الله سبحانه قد قال في كتابه: {قُلْ يَاأَيُّهَا الْكَافِرُونَ...} إلى قوله تعالى: {لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ}[الكافرون:1-6]، فلم يكن ذلك تقرير للكفار على دينهم ولا تصويباً.

(1/268)


وقالوا: قد روي عن أبي هريرة عنه صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: ((إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران، وإن أخطأ فله أجر واحد)).
وعن عقبة بن عامر عنه صلى الله عليه وآله وسلم: ((اقض بينهما -يعني خصمين- فإن أصبت فلك عشر حسنات، وإن أخطأت فلك حسنة واحدة)).
والجواب والله الموفق: أن هذين الخبرين حجة لنا؛ لأن فيهما تصريح بالتخطئة، وأما الأجر والحسنة مع الخطأ فثواب من الله سبحانه على نية العمل بالحق لا على الحكم بالخطأ إذ هو ذنب معفو عنه بدليل قوله تعالى: {وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ}[الأحزاب:5].
قالوا: وروي عنه صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: ((اختلاف أمتي رحمة)).
والجواب والله الموفق: أنه لادلالة في ذلك على الصواب لو صح؛ لأنه من جملة البلوى وكل بلوى رحمة للمؤمنين، بدليل قوله تعالى: {وَلِيُمَحِّصَ الله الَّذِينَ آمَنُوا...}[آل عمران:141] الآية، ونحوها مع قوله تعالى: {وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا}[الأحزاب:43] وقوله صلى الله عليه وآله وسلم: ((إذا صافى الله عبداً صبَّ عليه البلاء صبًّا)) الخبر، أو كما قال مع قوله صلى الله عليه وآله وسلم: ((إنَّ الله بالمؤمنين أرحم من أم الفراخ بفراخها)) الخبر أو كما قال، وجميع ذلك من خطاب التكميل.
وقالوا: لا يمتنع أن يريد الله من كل مجتهد ما فهمه؛ لأن الشرائع مصالح وهي تختلف باختلاف الناس، ولا حكم فيها معيّن وإنما مراد الله تابع لمراد المجتهد!

(1/269)


والجواب والله الموفق: أن هذا كله مجرد كلام بلا دليل فكيف يصح الاعتماد عليه في تخصيص محكم التنزيل! وقالوا: لا يخلو إما أن يريد الله سبحانه من كل ما أداه إليه نظرة، أو يريده من بعض دون بعض:
أولا: يريد ذلك من كلهم الثالث باطل؛ لأنه خلاف الإجماع.
والثاني: باطل أيضاً؛ لأنه محاباة ومن وصف الله بها كفر، فثبت الأول؟
والجواب والله الموفق ما قدمناه من أن الأدلة تقضي أن الحق واحد وأن الله يريد من كل اصابته، فمن أصابه فقد طابق مراده، ومن أخطأه لم يطابق مراده تعالى، وهذا خارج من ذلك التقسيم؛ لأنه مع ذلك لم يرد من كل ما فهمه وإنما طابق مراده المصيب ولم يكن محاباة؛ لأنه قد أراد من الجميع إصابته ولم يرد من كلهم عدم إصابته، وإنما أراد العكس لما تقدم من الأدلة نحو قوله تعالى: {وَلاَ تَفَرَّقُوا}[آل عمران:103].
وقال السائل: لادليل قاطع أن فلاناً مصيب ولا فلاناً مخطئ!
والجواب والله الموفق: أما مع عرض الأقوال على كتاب الله سبحانه، وسنة نبيه صلى الله عليه وآله وسلم، فلا شك أن الموافق لهما مصيب، والمخالف لهما مخطئ، والله قد أمر بالعرض عليهما حيث قال: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إلى الله وَالرَّسُولِ}[النساء:59]، وحيث قال تعالى: {وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إلى اللَّهِ}[الشورى:10]، أي مردود إلى ما جاء عنه تعالى في كتابه وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وآله وسلم وقال تعالى: {وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الأَمْرُ كُلُّهُ}[هود:123].

(1/270)


[إجماع أهل البيت على أن الحق واحد]
وقال السائل: إن علماء أهل البيت " كافة وجمهورهم اتفقوا على أنه يجب الحق عند كل واحد، ولا يجوز التخطئة للمخالف منهم!
قال السائل: وإلا أدى إلى أحد محذورين:
أحدهما: أنا إذا جوزنا التخطئة في أحد منهم جوزناها في الآخر، فلا يكون إجماعهم حجة، وذلك باطل وإن جوزنا في بعض دون بعض كان تحكماً لعدم الدليل!
والجواب والله الموفق: أن إجماع القدماء من أهل بيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على أن الحق واحد، وأن المخالف مخطئ غير آثم إلا أن يتعمد.
ذكرت هذا عن تحقيق بعد فحص وتدقيق، ولم يقل بأن كل مجتهد مصيب إلا جماعة من المتأخرين معدودين محصورين كما هو مقرر في بسايط كتب أصحابنا.
وأما تجويز التخطئة مع إجماعهم فمنتفية عن البعض والكل؛ لما تقدم من الأدلة، فلا يكون ما ذكره السائل قدحاً في إجماعهم وذلك واضح.
وأما مع اختلافهم فنحن نقطع بخطأ بعضهم دون بعض لما تقدم من الأدلة على أن الحق واحد، فإن عرضنا الأقوال على كتاب الله، وسنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كما تقدم الوجه في وجوب ذلك تعين الخطأ في قول من خالفهما وإلا كان المخطئ والمصيب غير معينين فلا تحكم، ولا يجوز مع الاختلاف خروج الحق من أيديهم كلهم؛ لما تقدم من الأدلة ووجوب التمسك بهم الدالة على ذلك بالمطابقة والتضمن والالتزام، ونحو ذلك مما لم نذكره مما يدل على ذلك كذلك.

(1/271)


وقال السائل: قد ثبت معاوضة دليل القائلين بأن الحق واحد نحو قوله تعالى: {وَلاَ تَفَرَّقُوا فِيهِ}[الشورى:13] بقوله تعالى: {فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلاًّ آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا}[الأنبياء:79]، وقوله تعالى: {مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أو تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً على أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ الله وَلِيُخْزِيَ الْفَاسِقِينَ}[الحشر:5]، وقوله صلى الله عليه وآله وسلم لمعاذ بن جبل حين بعثه إلى اليمن قاضياً، قال: ((بم تحكم)) قال: بكتاب الله، قال: ((فإن لم تجد))، قال: بسنة رسول الله،، قال: ((فإن لم تجد))، قال: اجتهد رأيي لا آلو احتياطاً، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ((الحمد لله الذي وفق رسول رسوله)).
وقوله صلى الله عليه وآله وسلم: ((أصحابي كالنجوم بأيهم أقتديتم اهتديتم))، وقول أبي بكر في حضرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم للآخذ السلب: ((لاها الله إذن))، كذا في الرواية، لا تعمد إلى أسد من أُسْدِ الله يقاتل عن دين الله فيعطيك سلبه، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ((صدق )) الخبر.
ثم قال السائل: ونحو ذلك كثير!
والجواب والله الموفق: أما قوله تعالى: {فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ...} الآية، فهو حجة لنا؛ لأنه لو كان كل واحد منهما أعني داود، وسليمان عليهما السلام في ذلك مصيب لم يكن لتخصيص سليمان عليه السلام بالتفهيم من الله تعالى فائدة، والله تعالى متعال عن أن يفعل شيئاً لالفائدة واعتقاد كفر، وذلك لكونه من صفات المناقص.

(1/272)


وأما قوله تعالى:{وَكُلاًّ آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا}، فللإحتراس عن سوء توهم من يتوهم أن داود عليه السلام لم يكن ذا حكم وعلم على الإطلاق فإنه لو اقتصر على ذكر تفهيم سليمان عليه السلام ربما توهم أن داود عليه السلام لم يحصل له تفهيم في شيء من الأحكام، كما في قوله تعالى: {أَذِلَّةٍ على الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ على الْكَافِرِينَ}[المائدة:54]، فإنه لواقتصر على وصفهم بالذلة للمؤمنين ربما توهم أن ذلك لضعفهم، وقوله تعالى: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ الله وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ على الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ}[الفتح:29]، فإنه لو اقتصر على وصفهم بالشدة ربما توهم أن الرحمة منهم منتفية، وكقول كعب بن سعد [ الغنوي شعراً]:
حليم إذا ما الحلم زين أهله .... مع الحلم في عين العدو مهيب
فإنه لو اقتصر على وصفه بالحلم ربما توهم أن ذلك من عجزه، فأزال ذلك ببيان أن حلمه إنما هو في وقت يزين الحلم لأهله، وذلك إنما يكون مع القدرة ونحو ذلك كثير.
فإن قيل: إن الذي ذكرت قاض بتخطئة الأنبياء " في بعض أحكامهم، وقد قال المؤيد بالله عليه السلام في جواب مطاعن الشريف علوي عليه بعد أن ذكر اقطاع النبي صلى الله عليه وآله وسلم الدهنا ورجوعه ما لفظه: (وأما ظن من يظن أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أخطأ في الحكم الأول فهو عظيم من الإثم قريب من مفارقة الدين، قال تعالى : {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى}[النجم:3]).

(1/273)


قلت وبالله التوفيق: ذلك نبأ منه عليه السلام على عدم جواز تعبد الأنبياء صلوات الله عليهم بالاجتهاد عقلاً كما هو مذهبه ومذهب أبي علي، وأبي هاشم، وأبي عبد الله البصري، وهو باطل؛ لأنه لا مانع عقلاً وقع ووقع فيه الخطأ لكن لم يقر عليه وذلك في إذنه صلى الله عليه وآله وسلم للمنافقين بدليل قوله تعالى: {عَفَا الله عَنْكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ...}[التوبة:43] الآية، وفي عبوسه صلى الله عليه وآله وسلم وتوليه عن الأعمى وتصديه لمن استغنى ليتألفه بذلك، فعاتبه الله تعالى بقوله: {عَبَسَ وَتَوَلَّى، أَنْ جَاءَهُ الأَعْمَى...} إلى قوله تعالى: {أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى، فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى}[عبس:1-6]، وفي قوله صلى الله عليه وآله وسلم في رأي أصحابه في أخذ الفداء من أسارى بدر أوغيره حتى كانوا سبباً لنزول قوله تعالى: {مَا كَانَ لِنَبِيّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الآخِرَةَ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ، لَوْلاَ كِتَابٌ مِنَ الله سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ}[الأنفال:67-68] ومن بحث في قصص الأنبياء " وأخبارهم وجد خطاياهم أو أكثرها من هذا القبيل، فقوله تعالى: {وما ينطق عن الهوى...}[النجم:3] الآية، لايدفع ذلك؛ لأنه صلى الله عليه وآله وسلم لم يفعل ذلك اتباعاً للهوى؛ ولأنه خاص بتبليغ الوحي بدليل قوله تعالى: {إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى}[النجم:4]، وليس في تبليغ الوحي اجتهاد.

(1/274)


[دليل أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لا يقر على الخطأ]
فإن قيل: قد ذكرت أنه صلى الله عليه وآله وسلم لايقر على الخطأ فما الدليل على ذلك؟
قلت وبالله التوفيق: إن كل من أمرنا الله باتباعه كالرسل صلوات الله عليهم والوصي والعترة لا يجوز أن يقروا على الخطأ لاستلزامه الأمر بالباطل، وما لا يرتضيه الله في علمه مع قدرته على إزالة ذلك، وذلك من صفات المناقص التي لاتجوز على الله سبحانه، لاسيما وقد قال: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ}[المائدة:3]، بعد أمره باتباع الرسول صلى الله عليه وآله وسلم كما ذلك معلوم من الدين ضرورة.
وقوله تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ}[الحشر:7]، وقد أمرنا صلى الله عليه وآله وسلم أن نتبع الوصي والعترة" كما رواه الصديق والعدو من فرق الأمة مما يطول ويكثر.
فإن قيل: فبأي شيء يتداركهم الله سبحانه؟
قلت وبالله التوفيق: أما الأنبياء صلوات الله عليهم فبالوحي، أو التوفيق والألطاف، وأما غيرهم فبالألطاف والتوفيق فقط لانقطاع الوحي.
وأما قوله تعالى: {مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أو تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً على أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ الله وَلِيُخْزِيَ الْفَاسِقِينَ}[الحشر:5]، فلا تدل على تصويب المجتهدين مع الاختلاف البته؛ لأن معناها الإباحة فقط حيث ساوى الله تعالى بين القطع والترك.

(1/275)


[سبب نزول الآية {ما قطعتم من لينة أو تركتموها...}]
فإن قيل: إن سبب نزولها أن الصحابة اختلفوا في القطع، فبعضهم سوغه وبعضهم لم يسوغه، فأنزل الله تعالى الآية لتصويب الفريقين!
قلت وبالله التوفيق: لو سلم صحة ذلك لم تفد الآية غير ما ذكرنا من معنى الإباحة، فهي بيان لحكم ما اختلفوا فيه لا لتصويب المجتهدين، ألا ترى أنه مع ذلك يسوغ لكل واحد من الفريقين العمل بأي الأمرين على التخيير ولا يسوغ مثل ذلك في المسائل المختلف فيها بالإجماع المعلوم! وإلا فقد ذكر بعض المفسرين أن سبب نزولها أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أمرهم بالقطع، فقال بعض أصحابه: كيف نفعل ذلك وقد نهى الله عن الفساد في الأرض؟ فنزلت، وذلك يبطل ما ذكر من خلافه بالمعارضة إن لم يكن راجحاً.
وأما خبر معاذ فلايدل على تصويب المجتهدين مع الاختلاف أيضاً؛ لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم إنما حمد الله على توفيق الله لمعاذ إلى طرق الأحكام، وسياق الخبر شاهد بذلك؛ ولأن دعوى كون معاذ لا يخطئ في اجتهاداته باطلة؛ لأنه لايصح أن يكون أرفع حالاً من النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وقد صح جواز الخطأ عليه في اجتهاداته كما تقدم بيانه، فكيف يكون مصيباً على الإطلاق؟ وإن سلم فلا يصح قياس سائر المجتهدين عليه؛ لأنهم لم يكونوا رسلاً لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، والنبي إنما قال: ((الحمد لله الذي وفق رسول رسوله)).

(1/276)


وأما ما روي عنه صلى الله عليه وآله أنه قال: ((أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم))، إن صح فلايدل على تصويب المجتهدين مع الاختلاف من حيث أن اللفظ لا يدل على ذلك لا بالمنطوق ولا بالمفهوم لاسيما مع ما كثر من أخبار النفاق، والإجلاء عن الحوض حتى لا يبقى من أصحابه صلى الله عليه وآله وسلم كما زعموا إلا مثل همل النعم كما تقدم بيانه، ومعنى الاتفاق على صحة قوله صلى الله عليه وآله: ((مثل أهل بيتي فيكم كسفينة نوح من ركبها نجا)) الخبر ونحوه. وقوله صلى الله عليه وآله وسلم: ((أنا مدينة العلم وعلي بابها)) الخبر ونحوه مما يدل على أنه يجب على جميع الصحابة اتباعه، وذلك يسلتزم عدم الاقتداء بهم مما يخالف أهل البيت " عامة وعلياً عليه السلام خاصة، على أن هذا الخبر ضعيف أحادي لا يعتد به في مسائل الأصول، فكيف يصح أن يعتمد عليه ويعارض به القواطع؟
وأما إيراد خبر أبي بكر فسامج؛ لأنه إنما قال ذلك بعد قول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في المجلس: ((من قتل قتيلاً له عليه بينة فله سلبه)) فلم يكن قول أبي بكر صادراً عن اجتهاد، وإنما قاله عن دليل قطعي وهو ما سمعه من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وذلك لا يسمى اجتهاداً بالإجماع، وإن سلم فغايته أن أبا بكر أصاب في ذلك الحكم وحده فلا يلزم إصابته وإصابة سائر المجتهدين في سائر الأحكام، وإلا لزم أن يقال: إن ابن عمر أخطأ في طلاق امرأته في حال الحيض، فلزم أن يكون كل مجتهد مخطئاً إذ لافرق، وذلك فتح لباب الجهالات.

(1/277)


وأما قول السائل: ونحو ذلك كثير، فإن أراد نحو قول أبي بكر من أقوال المصيبين للحق!
فالجواب عليه نحو ما مر من غير زيادة ولا نقصان، وإن أراد غير ذلك من الشبه التي بها يحصل الشك ولم يتضمنها هذا الجواب فهاتها، فلعله يجد -إن شاء الله تعالى- عندي حلها والله الموفق والهادي.
وقال السائل: إن قوله تعالى: {ولا تفرقوا فِيهِ}[الشورى:13]، ونحوه يحتمل أن يكون في أصول الدين ونحوه مما اتفق أكثر العلماء على عدم جواز التقليد فيه.
والجواب والله الموفق: أنه قد تبين لك انتفاء المخصص فيما سبق ومع انتفائه ينتفي الاحتمال لما ذكرت، وإلا لزم أن لايوثق بمضمون ما يدل على أكثر من معنى واحد من أدلة الكتاب والسنة، وذلك باطل لكونه خلاف ما علم من الدين ضرورة.
وقال السائل: لاإشكال أنه يجب العمل بما أجمع عليه أهل البيت "، لكن معرفة ذلك تكاد تلحق بالمستحيل؛ لكثرتهم وانتشارهم في الأقطار، فما ذا يقال فيما يحكيه العدل من إجماعهم؟
والجواب والله الموفق: إن كان الخلاف مما توفر الدواعي على نقله لو كان قبلت حكايته لذلك؛ وإلا فالواجب عرضها على كتاب الله سبحانه، فإن وافقها فهو صحيح؛ لأنهما لن يفترقا كما في الخبر.

(1/278)


[وجوب العرض على كتاب الله وسنة رسوله عند كثرة اختلاف المجتهدين]
وقال السائل: فما طريق من أمر باتباعهم من المجتهدين مع الاختلاف مع كون المسائل المختلف فيها أكثر من المجمع عليها؟ ومن يتبعون؟ ومن يرفضون؟
والجواب والله الموفق: أنه يجب مع ذلك العرض على كتاب الله وسنة رسوله، لقوله تعالى: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إلى الله وَالرَّسُولِ...}[النساء:59] الآية ونحوها فإن لم يحسن ذلك المقلد عمل بالأحوط؛ لأنه يرجع إلى إجماعهم فيترك بيع الرجاء؛ لأنهم مجمعون على أنه لا إثم على فاعله ونحو ذلك، ويترك رفع اليدين في الصلاة ووضع اليد على اليد، والتأمين والقنوت بغير القرآن؛ لأنهم مجمعون على صحة صلاة من ترك ذلك، ومختلفون في صحة صلاة من فعل واحد منها؛ ولقوله تعالى : {وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ...}[الإسراء:36] الآية، وهي تناول كلما اختلف فيه، وقوله تعالى: {فَبَشِّرْ عِبَادِ، الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ...}[الزمر:17،18] الآية، وهي تناول ما ذكرناه من العمل بالأحوط؛ لأنه أحسن لكونه معلوم السلامة، وهذا مذهب القدماء من أهل البيت " وجماعة من متأخريهم.
ولقد نقلت من كلاماتهم بألفاظها في كتاب (الإرشاد إلى سبيل الرشاد) ما يشفي وحاوح صدر المؤمن، فليلتمس من هناك،و لله القائل شعراً:
لا عيب في الحيطة والنظافة .... والأخذ بالحزم من المخافة
غيره:
وليس بتقوى الله طول عبادة .... ولكنما التقوى مجانبة الشبه
وقال السائل: هل يكون المخطئ هالكاً آثماً؟

(1/279)


والجواب والله الموفق: أنه لا إثم على المخطئ لقوله تعالى: {وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ}[الأحزاب:5]، وقوله صلى الله عليه وآله وسلم: ((رفع عن أمتي الخطأ والنسيان)).
وقال السائل: هل يكون حكم المقلد في ذلك حكم من قلده؟
والجواب والله الموفق: أنه لايصح التقليد مع الاختلاف لما تقدم من وجوب رد المتنازع فيه إلى كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وقد ذهب أكثر الناس إلى جواز التقليد مع الاختلاف.
واحتجوا: بوقوع التقليد في زمن الصحابة مع الاختلاف من غير نكير!
قالوا: وذلك إجماع منهم وليس شيء؛ لأن نكير أمير المؤمنين عليه السلام لمن اتبع غيره غير خاف كما ذهب إليه قدماء العترة، وجل متأخريهم ومما رووا عنه كرم الله وجهه في الجنة أنه قال: (وافترقت هذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقة، كل فرقة على ثلاث وسبعين ملة، كل ملة ضالة مضلة؛ إلا من أخذ بحجزتي وحجزة أهل بيت رسوله وكتابه وسنته، واتباع الحبل الأكبر، والحبل الأصغر) ونحو ذلك وإن سلم عدم النكير فلعدم الارعوى بعد وقوع النزاع وظهوره بينهم كما تقدم تحقيقه.

(1/280)


[صحة الاجتهاد ومتى يكون؟ وممن؟]
وقال السائل: هل يصح الاجتهاد ويمكن في غير أهل البيت "؟
والجواب والله الموفق: أن ذلك ممكن وإنكاره سفسطة!
لكن أيقال: هل يسوغ؟
والجواب والله الموفق: أن من اجتهد من غيرهم فكان عاملاً في ذلك بالإحتياط والاستقصاء في موافقة الأصول من الكتاب، والسنة، والعترة، جاز ذلك؛ لخبر معاذ وقد تقدم، ولما رواه الأئمة عن زيد بن علي عليه السلام عن آبائه عن علي عليه السلام أنه قال: (أول القضاء بما في كتاب الله عزّ وجلّ، ثم بما قاله رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ثم ما أجمع عليه الصالحون، فإن لم يوجد ذلك [في كتاب الله عز وجل ولا في السنة ولا فيما أجمع عليه الصالحون] اجتهد الإمام في ذلك لايألو احتياطاً، واعتبر وقاس الأمور بعضها ببعض، فإذا تبين له الحق أمضاه، ولقاضي المسلمين من ذلك ما لإمامهم).
وما روي عن الناصر عليه السلام أنه قال: (ولله تعالى أدلة على الحوادث على المكلف إصابتها التي الأمة فيها سواء).

(1/281)


وأما سوى هذه الأصول والأحكام في الحوادث النازلة التي يسوغ فيها الاجتهاد، ولا نص فيها من كتاب ولا سنة، ولا إجماع من الأمة والأئمة فالاجتهاد فيها إلى علماء آل الرسول " دون غيرهم؛ لقوله تعالى: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إلى الله وَالرَّسُولِ}[النساء:59]؛ ولقوله تعالى أيضاً: {وَلَوْ رَدُّوهُ إلى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ...}[النساء:83] الآية، ونحو ذلك مما يروى عن الأئمة " [فالمراد أنه يجب على المجتهد من غير أهل البيت "] أن لايستقل بالاجتهاد من دون أن يكون موافقاً لهم فلابد من عرضه عليهم ورده إليهم لما لايؤمن من أن يقولوا بخلافه لما ذكره عليه السلام من الدليل، وقوله صلى الله عليه وآله وسلم: ((قدموهم ولا تقدموهم)) الخبر، ونحوه كثير.

(1/282)


[شروط الإمامة عند أهل البيت عليهم السلام]
وقال السائل: إذا ادعى رجل من أهل البيت " أنه يصلح للإمامة، وظاهره العدالة هل يقبل قوله، وتجب نصرته وإن لم يحصل بقوله إلا الظن؟
والجواب والله الموفق: أنه لابد مع ذلك أن يكون مشهوراً بالعلم، والاجتهاد، والورع، ورصانة العقل، وثبات الرأي والتدبير، ومنابذة أعداء الله الظالمين، وعدم المخالطة للظالمين حال دعوته وقبلها إلا أن يتفق منه ذلك، ثم يختبر بالتوبة من ذلك، والتوجع منه مع إظهار المعاداة لهم، والمنابذة مدة يعرف بها صدق توبته، وأن يكون مقداماً على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لا يخاف في الله لومة لائم، معروفاً بالسخاء والرأفة والرحمة لأهل الحاجة واليتم والمسكنة، متواضعاً لله لايتكبر على المؤمنين ولا يحتقر أحداً منهم، بل يعظمهم ويكرمهم، فإذا كان مشهوراً بذلك كامل الشروط لا يعرف أكمل منه وجبت طاعته ونصرته، وحرم خذلانه والقعود عنه، وعلى ذلك إجماع الصالحين من هذه الأمة، ووجوب طاعة الأئمة في الجملة معلوم من الدين ضرورة، وإن لم يكن مشهوراً كذلك فلابد من اختباره لما لايؤمن من أن يكون طالباً مجرد الدنيا والرئاسة، وذلك من الكبائر، لقوله تعالى: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لاَ يُبْخَسُونَ، أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ إِلاَّ النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}[هود:15،16]، ونحو ذلك فيكون المجيب له على ذلك معيناً له على الإثم والعدوان،

(1/283)


وقد قال تعالى: {وَلاَ تَعَاوَنُوا على الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ}[المائدة:2]، فإن عرف بالاختبار وكان فيه ما ذكرنا وكان في ذلك أكمل من غيره في عصره أو مساوياً وجبت طاعته لما تقدم.

(1/284)


[وجوب متابعة العوام للأئمة الهادين]
وقال السائل: إن أكثر المجاهدين مع الأئمة منذ أيام أمير المؤمنين عليه السلام إلى الآن كانوا عوام ولم يروا أن أحداً من الأئمة أنكر عليهم الإقدام على القتل ونحوه من نصرة أئمتهم " حتى يباحثوه في علوم الاجتهاد، بل كانوا يأمرونهم بذلك ويحرضونهم عليه فيكون ذلك كالإجماع منهم على أن الإختبار إنما هو للمجتهدين من الأئمة دون سائر العامة!
والجواب والله الموفق: أن العوام قد كانوا يتابعون أئمة الجور أكثر من متابعتهم لأئمة الهدى كما ذلك ظاهر معلوم، وأئمة الهدى ينكرون على العوام في متابعة من لم يعرف بالكمال في شروط الإمامة، ومصنفاتهم ناطقة بذلك.
ومن الحجة علىذلك قوله تعالى: {وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولاً}[الإسراء:36]، وقوله صلى الله عليه وآله وسلم: ((دع ما يريبك إلى ما لا يريبك))، وقول علي عليه السلام: (الناس ثلاثة: فعالم رباني، ومتعلم على سبيل النجاة، وهمج رعاع أتباع كل ناعق يميلون مع كل ريح لم يستضيئوا بنور العلم، ولم يلجأوا إلى ركن وثيق).
وأما عدم إنكار الأئمة " على من تابع من اشتهر فضله وكماله على الناس فلم يرد على محل النزاع؛ لأن الشهرة كافية للعالم والعامي كما تقدم بيانه.
فإن قيل: إن الشهرة لاتفيد إلا الظن لعدم الاطلاع على حقيقة الأمر، وما انطوت عليه القلوب من قصد الآخرة بالقيام بالإمامة أو الدين؟

(1/285)


قلت وبالله التوفيق: إن تكليفنا إنما هو بالظاهر دون الباطن والأصل في ذلك قوله تعالى:{لَوْلاَ إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنفُسِهِمْ خَيْرًا}[النور:12] الآية، وقوله تعالى:{إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ}[الحجرات:12]، وقوله صلى الله عليه وآله وسلم: ((نحن نحكم بالظاهر..)) الخبر[والله يتولى السرائر] ولأن العمل بذلك يؤدي إلى سد باب الإمامة وبطلانها فهو بالبطلان أجدر.
فإن قيل: قد أوجبت الإختبار في حق الملتبس حاله على العالم والعامي، والعامي لا يستطيع ذلك [ولا يُهتدى إليه] ولا يهتدي إليه إلا بعد زمان طويل؛ لأنه يشتغل بالتدريس حتى يبلغ رتبةً يعرف بها حال المتلبس حاله.
قلت وبالله التوفيق: لانسلم ذلك؛ لأنه يمكنه ذلك بما يظهر على الألسن ويصير ذلك مشهوراً، ويكفي العامي في ذلك قول أهل الصلاح والورع والخيفة لله سبحانه هو كامل الشروط، بل ذلك كاف لغيره من سائر العلماء كما يكتفون بما ينقلونه إليهم من الأخبار النبوية التي تنبني عليها الشرائع والأحكام من الإمامة وغيرها، كيف لاتكون أخبار العلماء للعوام بأنه كامل الشروط معنياً عن اختبارهم! وقد قال تعالى: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ، بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ}[النحل:43،44].

(1/286)


[دليل وجوب متابعة العوام للإمام]
فإن قيل: وكيف يصح من العوام قتل النفوس بين يدي الإمام وهم لا يعرفون الوجه الموجب لذلك كالكفر مثلاً إلا تقليداً، وهو لايجوز التقليد في التكفير والتفسيق على ما هو مذكور في مواضعه؟
قلت وبالله التوفيق: قد قال تعالى: {أَطِيعُوا الله وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ} [النساء:59] فإذاً قد صحت إمامة الإمام للعامي بما ذكره وجبت طاعته، ويكفي في ذلك العلم بهذه الآية؛ فإذا علم العامي بهذه الآية لم يكن مقلداً في فعله بل يكون ممتثلاً لأمر ربه تعالى.

(1/287)


[عدم صحة إمامة المقلد]
فإن قيل: إنك ذكرت أن يكون الإمام مجتهداً، وقد قيل: بصحة إمامة المقلد!
قلت وبالله التوفيق: لا تصح إمامة المقلد؛ لقوله تعالى: {أَفَمَنْ يَهْدِي إلى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لاَ يَهِدِّي إِلاَّ أَنْ يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ}[يونس:35]، والمقلد لا يهدي إلا أن يهدى، وقد تقدم من الأدلة أنه لا يخلو زمان من المجتهدين ما فيه كفاية للمسترشدين، ولا يكون ذلك إلا في أهل بيت رسول الله صلى الله عليه وعليهم؛ لأنّا مأمورون باتباعهم دون غيرهم لخبر السفينة وغيره، فلو كان استمرار المجتهدين من غيرهم دونهم، لكنا مأمورين باتباعهم دونهم ولم يكن شيء من ذلك.

(1/288)


[تفسير قول الرسول (ص): من مات ولم يعرف إمامه مات ميتة جاهلية]
وقال السائل: ما المراد بقوله صلى الله عليه وآله وسلم: ((من مات ولم يعرف إمامه مات ميتة جاهلية))؟
والجواب والله الموفق: أن المراد بذلك وجوب معرفة الإمام الذي يقتدى به ويهتدى بهديه بالشهرة أو بالخبرة، فإن لم يكن ظاهراً وجبت معرفة من يستحق في الجملة والانتظار لظهوره، والاستعداد لطاعته، ونصرته ونصيحته، فإن كان المكلف يتمكن من معرفة ذلك بالنظرفي الأدلة، وإلا سأل أهل الصلاح من عترة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وشيعتهم رضي الله عنهم، فإن لم يفعل ذلك مات ميتة جاهلية كما في الخبر.

(1/289)


[حكم العامي المقلد المتخبط بين الأقوال]
وقال السائل: ما حكم من كان عامياً صرفاً تعلم من غيره شيئاً من العبادات والمعاملات، فظن أن ذلك هو الذي أمر الله به، وأنه نفس مذهب الزيدية، وأنه لا اختلاف بينهم رأساً ثم انكشف له بعد ذلك اختلافهم وشروط التقليد والمجتهد والمقلد والالتزام وغيره، فعمل بمختار الأزهار من غير نية الالتزام، ثم التزم مذهب أهل البيت " جملة، اعتقاداً منه أن ذلك أحوط وأحسن ليكون مخيراً للعمل بين الأقوال فيعمل بقول من شاء عند الاختلاف، وكان يظن أن له مع ذلك أن ينتقل من القول الذي قد عمل به إلى قول الآخر القاضي بخلافه، ثم انكشف له بعد ذلك أنه متى عمل بقول أحدهم صار لازماً له فعاد إلى ما كان يعمل به بدياً من الذي يعمله قبل انكشاف الاختلاف، واستمر عليه مع التردد والحيرة في أمره، فتارة يقول: التزمت مذهب إمام معين! وتارة يقول: الإلتزام الأول قد لزم وكل هذا الصادر منه! وهو يعتقد أن كل مجتهد مصيب لما ذكره أهل التصويب من الحجج، فلما اطلع على حجج من قال بعدم التصويب تشوشت نفسه وبقي محتاراً لايدري ماذا يفعل، وهو بعد هذه الصورة لا يكره التزام مذهب الهادي عليه السلام أو غيره من أجلة الأئمة " إذا ساغ له ذلك؛ لأن الهادي عليه السلام ينبوع العلم والحلم، ومن بحر علمه يُغترف، والأئمة المعتبرون مجمعون على أنه عليه السلام ذو بسطة في العلم وأن من بعده من الأئمة " لا يرتقي إلى رتبته في ذلك!!

(1/290)


والجواب والله الموفق: أنه قد تقدم في أثناء الجواب أنه لايصح تقليد الآحاد من أهل البيت " ومن غيرهم مع الاختلاف لتأديته إلى التفرق في الدين، وقد نهى الله عنه كما تقدم، وأن الغرض في ذلك العرض على كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وآله وسلم إن أمكن، وإلا عمل بالأحوط كما مر جميع ذلك مفصلاً، ومع ثبوت ذلك كذلك بالدليل كما تقدم، نعرف أن التزام مذهب إمام معين أو غير معين مع الاختلاف غير لازم ما لم يعرض ذلك على كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وآله وسلم فيوافقهما.
وأما قول السائل: أنه لا يكره التزام مذهب الهادي عليه السلام أو غيره من أجلة الأئمة "، فالهادي عليه السلام وغيره من قدماء الأئمة " يوجبون ما ذكرنا من العرض على كتاب الله، وسنة رسوله صلى الله عليه وآله وسلم مع الاختلاف.
قال الهادي عليه السلام في آخر خطبة (الأحكام) ما لفظه: (فيجب عليه أن يطلب من ذلك ما ينبغي له طلبه من علم أهل بيت نبيه صلى الله عليه وآله وسلمفيتبع من ذلك أحسنه وأقربه إلى الكتاب، فإن الله سبحانه يقول:{فَبَشِّرْ عِبَادِ، الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ الله وَأُوْلَئِكَ هُمْ أُوْلُوا الأَلْبَابِ} [الزمر:17،18]).

(1/291)


وقال عليه السلام في كتاب (القياس) ما لفظه: (وإن ادعى أحد من آل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه على علم رسول الله، وأنه مقتد بأمير المؤمنين، والحسن والحسين صلوات الله عليهم فاعلم هديت أن علم آل رسول الله لا يخالف [علم رسول الله، وأن علم رسول الله لا يخالف] أمر الله ووحيه، فاعرض قول من ادعى ذلك على الكتاب والسنة، فإن وافقهما [ووافقاه] فهو من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وإن خالفهما وخالفاه فليس منه صلى الله عليه وآله وسلم) إلى آخر كلامه عليه السلام [ولأجلة الأئمة القدماء "، وغيرهم من المتأخرين "] كلامات تؤدي هذا المعنى، وقد ذكرت بعض ذلك في كتاب (الإرشاد إلى سبيل الرشاد) فالتمسه من هنالك.
وقال السائل لمن قلد الإمام المهدي عليه السلام في (الأزهار): هل يكون بذلك مقلداً للإمام الهادي عليه السلام؟
والجواب والله الموفق: أن كل ما قاله الإمام الهادي عليه السلام فقد صار مقلداً له فيه، لكن لاينبغي ذلك في المسائل المختلف فيها حتى نعرف موافقتها للكتاب والسنة كما تقدم.
وقال السائل: فهل الأقوال التي في الأزهار من تصانيف الهادوية للهادي وحده؟

(1/292)


قلت وبالله التوفيق: إن تلك الأقوال له ولغيره حسبما اختاروه كما ذلك معروف، ومنها تخاريج له وللقاسم وغيرهما، من سائر العترة " بعضها على ضد مذهبه،وقد جعلت مذهباً وهو منها برآء، ولذلك قال الإمام الناطق بالحق أبو طالب عليه السلام: (إنه لا يثق بتخاريج علي بن بلال صاحب الوافي)، والهادي عليه السلام قد أنكر القياس على أقوال المجتهدين، وصرح بذلك في كتاب (القياس) ومما خرج له ومذهبه ضد ذلك قول بعضهم: إنه يجوز تولي القضاء من جهة الظالمين تخريجاً للهادي عليه السلام من قوله في أحكام البغاة: يقر من أحكامهم ويثبت ما كان حقاً، ذكر ذلك في السير من (الأحكام).
ومن قوله في (المنتخب): (لو أن رجلاً مات وخلف أولادً صغاراً، ولم يوص فجعل بعض السلاطين أمر الصغار إلى بعض الكبار، وجعله وصياً عليهم جاز ذلك)، وهذا الترجيح مصادم لنصوصه حيث أوجب الهجرة من ديارهم وترك موآنستهم.
قال عليه السلام في (الأحكام) ما لفظه: (لا يجوز مكاتبة الظالمين ولا يحل موآنستهم بكتاب ولا غيره للمؤمنين).
وقال فيه أيضاً ما لفظه: (يجب على المؤمنين إنكار المنكر على الظالمين بأيديهم إن استطاعوا ذلك، فإن لم يستطيعوا وجب عليهم إنكاره بألسنتهم، فإن لم يستطيعوه وجب عليهم الهجرة عنهم والمعاداة للظالمين بقلوبهم وترك المقام بينهم والمجاورة لهم)، وكذلك جاء التشديد في مصنفاته، فكيف يصح التولي من جهتهم وذلك من أعظم الإيناس لهم! ويلزم منه مساكنتهم، وعدم الهجرة من بينهم مع ترك النكير عليهم؛ لأن عوائدهم جائرة بالتجبر والتكبر وعدم الرضا بالنكير عليهم.

(1/293)


ومما يقضي فساد ذلك التخريج ما ذكره عقيب كلامه الذي خرجوا منه في (الأحكام) فإنه قال ما لفظه: (يقر من أحكامهم ويثبت ما كان حقاً ويدفع ما كان باطلاً، وإنما أثبتنا ما كان موافقاً للحق؛ لأنه حق وما كان حق فهو حكم الله لاحكم الحاكم به). انتهى كلامه عليه السلام فانظر كيف نفى حكم حكامهم، وإنما جعل ذلك من حكم الله تعالى، فكيف يقال: إن مذهبه يقضي بجواز تولية القضاءٍ من جهة الظالمين مع ذلك؟!
وأما ماذكره عليه السلام في (المنتخب) من جعل بعض السلاطين أمر الصغار إلى بعض الكبار فليس فيه تصريح ولا تلويح بأن المراد بالسلاطين فيما ذكره من ذلك سلاطين الجور؛ لأن السلطان قد يطلق على إمام الحق وعلى المتولي من جهة إمام الحق، ولا خلاف في ذلك وإن سلم أنه عني بذلك سلاطين الجور فإنه ليس ذلك بتقرير لما فعل، وإنما الحاكم بذلك الله سبحانه؛ لأنه إذا عدم الإمام والحاكم المحق جاز للكبير تولية أمر الصغيرمن جهة الصلاحية لقوله تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلاَحٌ لَهُمْ...} [البقرة:220] الآية، فكان منه ذلك عليه السلام تقريراً لحكم الله لا لتولية الظالمين.

(1/294)


[اختلاف المصنفين]
وقال السائل: فهل المصنفون يختلفون في المعنى، بمعنى أن هذا يفهم غير ما يفهم الآخر، فيصنف كل واحد منهم ما اعتقد أنه مراده؟
والجواب والله الموفق: أن من نقل منهم المعنى فلايبعد أن يقع فيه الغلط كما قد وقع من المفسرين لكتاب الله، ووقع بسبب ذلك الاختلاف في التفسير، وقد يقع التحريف بالتأويل من أهل الأهواء إذا كان المعنى الصريح يقضي بفساد ما يهوون، وليسألنهم الله عن ذلك.
وقال السائل: فإن قيل: إن التقليد لايصح رأساً بل الواجب أن ينظر الإنسان لنفسه ويجتهد بغير أن يبحث عن الدليل.
قلنا: إنما يحصل بنظره واجتهاده ظن فقط، لاشك أنه يعلم ويتيقن أن نظره لايصل إلى ما يصل إليه نظر الأئمة " لاسيما الهادي عليه السلام وأشباهه "، ومن أنكر هذا فقد تسفسط، فالظن مع ذلك بإصابة الحق بتقليد الأئمة " أقوى منه بإصابة النظر، وإذا كان أقوى وجب تقليدهم.

(1/295)


[وجوب اتباع الأئمة]
والجواب والله الموفق: أن الواجب اتباع الأئمة إذا أجمعوا؛ لما مر والعمل بقول من وافق الكتاب والسنة منهم إن اختلفوا أو العمل بالأحوط لما مر متكرراً، ولاشك أن هذا أقوى من تقليد واحد منهم مع الاختلاف، مع عدم معرفته للكتاب والسنة، وإذا كان أقوى تعيّن وجوبه لكونه معلوم السلامة دون ما عداه، وقد قال تعالى: {وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ...}[الإسراء:36] الآية.
وقول السائل: ومن أنكر أن نظره لا يصل إلى ما يصل إليه نظر الأئمة لاسيما الهادي عليه السلام وأشباهه " فقد تسفسط فيه [الخبر] ما فيه؛ لأن التسفسط جحد الضرورة ومعرفة كون أنظار الأئمة أثقب من أنظار غيرهم لا يعلم ضرورة، وإنما هو استدلالي فقط دل عليه قوله تعالى: {إِنْ تَتَّقُوا الله يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا}[الأنفال:29]، وهم أتقى من غيرهم لما تقدم من الأدلة الشاهدة بذلك، وقوله تعالى: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا...}[العنكبوت:69] الاية، وجهادهم أتم من جهاد غيرهم وأعظم؛ لكونهم أصله، وعليهم تدور رحاه، ولنحو قوله صلى الله عليه وآله وسلم: ((مثل أهل بيتي فيكم كسفينة نوح...)) الخبر.
وقول السائل: إن المجتهد لايحصل له بنظره إلا ظن فقط مناقضة لما اقترحه علينا في مقدمة مسائله حيث طلب أن يؤتى في جواباتها بأدلة قطعية.

(1/296)


[عدم صحة التقليد في أصول الدين]
وقال السائل: لم لايقال بوجوب تقليد أهل البيت " في أصول الدين وغيره من المسائل المجمع عليها؟ وإن كان في الحقيقة غير مقلد؛ لأن الدليل قد قام على أنهم أهل الحق ومن عندهم يلتمس؛ إذ هم الفرقة الناجية، والأدلة على هذا المعنى أكثر من أن تحصى، وشبهة وجوب قبول أقوال الرسول صلى الله عليه وآله وسلم بعد قيام المعجز على أنه لاينطق عن الهوى، كذلك من قام الدليل القاطع على أن الحق يلتمس من عنده، ونحن نعلم أنه لا واسطة بين الحق والباطل، قال تعالى: {فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلاَّ الضَّلاَلُ}[يونس:32]، وجب قبول قوله بلا إشكال، فإن من ورث القرآن والسنة والهدى والنور فيهما فلاسبيل إلى ذلك من غيره؟
والجواب والله الموفق: أما إثبات الدليل على الله سبحانه وتعالى، وعلى صحة نبوة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وكون الكتاب والسنة حقاً، فلا يصح ذلك؛ لأنالم نعرف كون إجماع آل الرسول حجة إلا بعد تمام معرفة ذلك، وأما ما سوى ذلك من المسائل الأصولية فما أجمعوا عليه أعتمد عليه، لكن لا يسمى تقليداً لكون إجماعهم حجة كما تقدم، واتباع الحجة لايسمى تقليداً بإجماع علماء الإسلام.

(1/297)


قال الإمام حجة الله على الأنام، ومحيي شريعة جده عليه السلام أمير المؤمنين وسيد المسلمين المنصور بالله القاسم بن محمد بن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بعد تمام هذه الأجوبة التي سطعت بنور اليقين شمسها، وبني على قواعد الكتاب والسنة أساسها: تم الجواب المختار لمسائل الفقيه عبد الجبار [أبو علي بن شمر، ضحى يوم الخميس لليلتين بقيتا من شهر رمضان الكريم سنة خمس وألف.
فلله الحمد والمنة، وقد اختصرت سؤالاته غالباً ولم أخل بشيء من المعنى؛ لأني لم أترك من ألفاظه إلا ما أثبته من السؤال والجواب.
والحمد لله وحده وصلى على سيدنا محمد وآله وسلم.

تمت النسخة المباركة نهار الأربعاء لعله ثالث وعشرين خلت من شهر ربيع الأول سنة تسع وستين وألف من الهجرة النبوية على صاحبها أفضل الصلاة والتسليم.
بخط أسير ذنبه، ورهين كسبه، أفقر عباد الله وأحوجهم لديه: صلاح بن مهدي بن محمد بن صلاح بن صالح بلداً والعدلي اعتقاداً والزيدي مذهباً، عفى الله له ولطالبه ولكافة المؤمنين آمين اللهم آمين بحق سيد المرسلين وآله الأبرار المتقين يا الله بحقهم اغفر لي، ولا حول ولاقوة إلابالله العلي العظيم].

(1/298)


التحذير من المعاونة على الفتنة
[مقدمة المؤلف]
بسم الله الرحمن الرحيم

[وبه أستعين وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وآله]
الحمد لله الذي جعل الكتاب هدى للمتقين، وشفاء لصدور المؤمنين، ودامغاً لباطل المبطلين، فمن تمسك بحبله عصم، ومن خالفه قصم، ومن قال به صدق، ومن حرّفه مرق، ومن التمس الهدى فيه وفي موافقته من السنة اهتدى، ومن طلبه في غيرهما ضل وغوى.
والصلاة والسلام على محمد الأمين وعلى آله الأكرمين وعلى أصحابهم المتقين، وأشياعهم الصالحين إلى يوم الدين.
أما بعد:
فإنه لما وقع النكير على من حذّر من المعاونة على الفتنة، بقول كالحث على إحياء أرض الظالمين، أو مال كتسليم ما يعسكرون به العساكر، ويحصنون به الحصون، ويضطهدون بسنة الآمرين بالمعروف، ويضيمون لأجله الناهين عن المنكر، ويخيفون من أوجب الله أمانه، ويؤمّنون به من أوجب الله تخويفه، ويتقوون به على سفك الدماء، وينكحون به الذكور، ويشربون به الخمور، ويلبسون به الحرير، إلى غير ذلك مما لا أُحصي له من المحظور، وإثارة الشرور.
وعلمت أن الله سبحانه لا يعذر عن تبيين الحق، قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُوْلَئِكَ يَلْعَنُهُمُ الله وَيَلْعَنُهُمُ اللاَّعِنُونَ}[البقرة:159] وغيرها مما يؤدي هذا المعنى من الآيات.
وقال صلى الله عليه وآله وسلم: ((من كتم علماً مما ينفع الله به في أمر الدين ألجمه الله يوم القيامة بلجام من نار)) وغيره مما يؤدي هذا المعنى من الأخبار.

(1/299)


جمعت في هذا الكتاب من الأدلة وأقوال الأئمة -"- ما يشتد به إن شاء الله ظهور المؤمنين، ويرغم به أنوف المبطلين، ولا عدوان إلا على الظالمين {إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ الإِصْلاَحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلاَّ بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيب}[هود:88].

(1/300)


[الأدلة على تحريم معاونة الظالمين]
أما الأدلة، فقال تعالى: {وَلاَ تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ}[المائدة:2].
وقال صلى الله عليه وآله وسلم: ((إن المعين للظالمين كالمعين لفرعون على موسى))، رواه الهادي عليه السلام في (الأحكام) .
وعن أبي جعفر محمد الباقر بن علي عليه السلام أنه كان يروي ويقول: ((إذا كان يوم القيامة جُعل سرادق من نار، وجعل فيه أعوان الظلمة، وجعل لهم أظافير من حديد يحكّون بها[أبدانهم] حتى تبدو أفئدتهم فتحترق، فيقولون: ربنا، ألم نكن نعبدك؟ فيقول: ((بلى، ولكنكم كنتم أعواناً للظالمين))، رواه الهادي عليه السلام في (الأحكام) أيضاً، وهو في (الشفاء).
وقال صلى الله عليه وعلى آله وسلم في حديث طويل: ((أمراء يكونون من بعدي لا يهتدون بهديي، ولا يستنون بسنتي، فمن صدقهم بكذبهم وأعانهم على ظلمهم، فأولئك ليسوا مني، ولست منهم، ولا يردون على حوضي)) ، الخبر، رواه أبو طالب عليه السلام في (الأمالي).
وروى حديثاً نحوه من طريق أخرى.
وبالجملة من طالع كتب الحديث وجد ذلك متواتراً معنىً، بل ذلك معلوم من الدين ضرورة، وإنما أوردت ذلك؛ لما في ذكره من الموعظة والتخويف، وقد قيل: إن تسليم الأموال إليهم وما ضاها ذلك لا يكون معاونة لهم إلا مع قصد كونه معاونة.

(1/301)


[شبهة القائلين بجواز ذلك والرد عليهم]
وشبهتهم في ذلك أن قالوا: إنما هو مجرد تمكين، ومجرد التمكين لا يقبح، كتمكين الله تعالى للعصاة من الأموال وغيرها، ثم لايسمى مجرد التمكين من غير قصد معاونة، وإلا لزم أن يسمى الله تعالى معيناً على الظلم والله تعالى منزه عن ذلك، فما كان من المكلف من التسليم إليهم من غير قصد لا تناوله تلك الأدلة، وذلك باطل؛ لأن تمكين الله تعالى للعصاة إنما كان ليصح التكليف، وتثبت الطاعة للمطيع والمعصية للعاصي، إذ لو لم يُمكِّنهم لم يكن المطيع مطيعا، ولا العاصي عاصيا، ولا اسْتُحِقّ ثواب ولا عقاب، ألا ترى أنه تعالى مكّنهم من المعاصي! ولم يكن ذلك قبيحاً منه تعالى لما كان لا يصح التكليف إلا به، ولم يجز للمكلف أن يمكن العاصي من المعصية لما كان مكلفاً بالذبِّ عن دين الله سبحانه وتعالىّ.
ياسبحان الله فَلِمَ لم يجعلوا ذلك كتمكين المكلف للعاصي من المعاصي! كأن يمكِّنه من الخمر فيشربه، أو من الزنى فيفعله، أو من نفس محرمة فيقتلها، وينظروا هل يحل ذلك! لأن القياس بهذا أولى؛ لأنه من قياس بعض أحكام التكليف على بعض.
هذا إن زعموا أن تسليم الأموال إليهم ليس من نفس التمكين من المعصية، وإلا فهو من صميمه لا ينكره إلا ألدّ مكابر؛ لأن إنفاق المال في المعاصي معصية إجماعاً، وهؤلاء قد مكّنوهم من ذلك.

(1/302)


[تفنيد شبهة القائلين بجواز ذلك]
وأما قولهم: لا يسمى مجرد التمكين من غير قصد معاونة فباطل أيضاً؛ لأنه خلاف المعلوم من لغة العرب، ألا ترى أنهم لايشترطون في تسمية الأفعال أن تكون مقصودة! وإنما يقولون: تحرَّك النائم، وجرى المآء، وهبّت الريح وهي لا قصد لها! والكتاب والسنة إنما جريا على لغة العرب.

(1/303)


(من القرآن)
قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ}[إبراهيم:4]، مع أن الكتاب والسنة واللغة تشهد لنا بالحق في نفس المتنازع فيه.
قال تعالى: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ الله مَا لاَ يَنفَعُهُمْ وَلاَ يَضُرُّهُمْ وَكَانَ الْكَافِرُ عَلَى رَبِّهِ ظَهِيراً}[الفرقان:55] أي: معيناً.
ولا خلاف في ذلك بين المفسرين، والكافر لا قصد له في المعاونة على الله تعالى بدليل قوله تعالى، حاكياً عن الكفار: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى الله زُلْفَى} [الزمر:3].

(1/304)


(من السنة النبوية)
وروي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: ((من دعا لظالم بالبقاء فقد أعان على هدم الإسلام)) ، ومن البعيد الملتحق بالمستحيل أن يكون من يدعو إلى الله تعالى له قصد في أن يعين بدعائه على هدم الإسلام.
وعنه صلى الله عليه وآله وسلم: ((أنه نهى عن أكل الطين، وقال: إنه ليعظم البطن ويعين على القتل))، رواه الهادي عليه السلام في (الأحكام) .
وعن عائشة قالت: قال النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: ((ياحميراء، إياك وأكل الطين، فإنه يعظم البطن، ويعين على القتل)) رواه الأمير الحسينفي (الشفاء) . والطين لا قصد له ضرورة، وإنما تأثيره كجري الماء، وهبوب الريح، وإحراق النار.

(1/305)


[من أقوال الأئمة عليهم السلام]
وعن زيد بن علي عليه السلام، عن أمير المؤمنين كرم الله وجهه في الجنة أنه قال: (وإن أنت رميت طيراً بسهم فوقع على الأرض فلا تأكل، فإني أخاف أن تكون الأرض أعانت على قتله)، رواه الإمام محمد بن المطهر عليه السلام في (المنهاج الجلي).
وقيل لعلي عليه السلام: بأي شيء غلبت الأقران؟ فقال عليه السلام: (ما لقيت أحداً إلا أعانني على نفسه)، رواه في (نهج البلاغة).
ومن البعيد الملتحق بالمستحيل أنهم يقصدون المعاونة على قتلهم.

(1/306)


[قول الإمام الهادي عليه السلام]
وقال الهادي عليه السلام في (الأحكام): (فإن أرسل مرسل كلباً معلماً على صيد فعارضه كلب غير معلم، فأعانه عليه [حتى قتله يحبس عليه]، أو أخذ معه، فلا يجوز أكله، وقد أفسد ذكاته معاونة الكلب الذي ليس بمكلب)، فسمى عليه السلام فعل الكلب الغير المكلب معاونة، مع أنه إنما فعل ذلك ليأكل فقط، والهادي عليه السلام ممن يحتج بعربيته.

(1/307)


[قول الأمير الحسين عليه السلام]
قال الأمير الحسين عليه السلام في باب صفة من توضع فيهم الزكاة من (الشفاء) في سياق ذكر المسكين: ونص عليه القاسم، والهادي -عليهما السلام- وهما حجازيّا اللغة، أراد بذلك أنهما ممن يحتج بلغته.
وقال بعض بني جهينة في وقعة كانت لكلب وفزارة شعراً:
فإنّا وكلباً كاليدين متى تقع .... شمالك في الهيجاء تعنها يمينها
أي: يقع من اليمين ما يعضد الشمال ويعينها، وهي لا قصد لها ضرورة، فعلمنا بذلك علماً أن الأدلة متناولة لإعطائهم الأموال وللإشارة بإحياء أرضهم والمشورة، وكان علم المعطين والمشيرين بثمرة إعطائهم وإشارتهم مغنياً عن قصد المعاونة في التحريم، واستحقاق النكال من الله تعالى؛ لأن المعلوم من حال كل عاقل أن يعلم أنه لولا تسليم الأموال إليهم لما انتصبت لهم راية، ولا تبعهم أحد من جنودهم، ولا تمكنوا من شمول الفتنة التي شملوا بها أهل وطأتهم، وجحود ذلك وإنكاره سفسطة، وكان أيضاً العلم في ذلك مغنياً عن القصد، كما أن العلم مغنياً عن القصد عند الإقدام على سائر المعاصي، وإلا لزم الإثم على جنودهم في الغزو بين أيديهم وسفكهم للدماء، إذا كان قصدهم بذلك مجرد منفعة أنفسهم.
وكذلك يلزم الإثم على من بقر بطن محترم الدم من مسلم أو معاهد لاستخراج درهم مثلاً في بطنه قاصداً بذلك مجرد انتفاعه بالدرهم، ولو كان يعلم بذلك هلاك النفس المحرمة، إذ جعل بعض المعاصي مفتقراً إلى القصد دون بعض تحكم، والقول بذلك خلاف ما علم من الدين ضرورة.

(1/308)


ومما يعضد هذا: أن عواقب الأمور التي يؤول إليها مراعاة في ثبوت التحليل والتحريم من دون اعتبار القصد عقلاً وشرعاً:
أما عقلاً: فإن العقل يقضي ضرورة بقبح الفعل الذي يكون سبباً لقبيح.
وأما شرعاً: فإن الله سبحانه وتعالى حرّم شرب الخمر، وفعل الميسر، لما كان عاقبتهما التي يؤولان إليها إيقاع الشيطان العداوة والبغضاء بين المؤمنين، والصد عن ذكر الله، وعن الصلاة، قال تعالى: {إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ الله وَعَنِ الصَّلاَةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنتَهُونَ}[المائدة:91]، ولم يشترط في ذلك قصدا.
وعن أبي طالب عليه السلام في (الأمالي) وأنا أرويه بالإسناد الصحيح المتصل إليه أنه قال: أخبرني أبي رحمه الله تعالى، قال أخبرنا حمزة بن القاسم العلوي العباسي، قال حدثنا أحمد بن محمد بن خالد، قال حدثنا علي بن الحسين، عن هارون بن مسلم، عن مسعدة بن صدقة، عن جعفر بن محمد، [عن ابيه] عن آبائه، عن علي عليه السلام أن رجلاً أتى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال: يارسول الله أوصني، فقال له: ((هل أنت مستوصٍ إن أوصيتك؟)) حتى قال له ذلك ثلاثاً، في كلها يقول الرجل: نعم يارسول الله، فقال له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ((فإني موصيك، إذا هممت بأمر فتدبر عاقبته، فإن يك رشداً فامضه، وإن يك غياً فانته عنه)).

(1/309)


وعن الإمام المتوكل على الله عليه السلام أحمد بن سليمان في كتاب (حقائق المعرفة) يرفعه إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال لعلي عليه السلام: ((عليك باليأس مما في أيدي الناس فإنه الغنى الحاضر))، فقلت: زدني ياسول الله صلى الله عليك؟، فقال: ((إذا هممت بأمر فتدبر عاقبته، فإن يك خيراً فاتبعه، وإن يك غياً فدعه)) ورواه أبو طالب في (الأمالي) أيضاً ونحوه.
فلو كان التحليل والتحريم في ذلك يفتقر إلى القصد لما أمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم بتدبر العاقبة، إذ لو لم يتدبرها لم يعرفها، فضلاً عن أن يقصدها.
ومن العجب أنهم يفتون بتحريم التراخي عن إزالة الجدار إذا كان مائلاً يخاف وقوعه على مارة الطريق، ولا يشترطون في ذلك قصداً، وإنما يجعلون ذلك حراماً بمجرد العلم، ويقولون في مسألتنا هذه بخلاف ذلك من غير فرق يجدونه، وهم يعلمون أن عاقبة تسليم المال إلى الجبارين تكثير سوادهم، وانتشار فسادهم، وسفك دماء المسلمين، وظلم الأرامل والأيتام والمساكين.

(1/310)


[شبهة القائلين بأن الله يعين العاصي بتمكينه ما يستعين به على ظلمه والرد عليهم]
وأما قولهم: يلزم أن يسمى الله تعالى معيناً على المعاصي لإعطائه لهم ما استعانوا به على ظلمهم، فمعارض بأنه يلزمهم أن يسموا الله تعالى مقوياً على المعصية؛ لأنه خالق القوى للعاصين وغيرهم، ولا محيد لهم عنه، حيث جعلوا شبه ذلك لازماً.
وأما نحن فنقول: إن الله سبحانه لا يجوز أن يجري له من الأسماء إلا ما تضمن مدحاً، وإن كان جائزاً في اللغة؛ لدليل مذكور في علم الكلام لا ينكره الموحدون، وهو إجماع.

(1/311)


[من الأدلة الدالة على تحريم تسليم الأموال للظلمة]
(قوله تعالى: {وَلاَ تُبَذّرْ تَبْذِيراً}).
ومما يخص تحريم تسليم الأموال إليهم قوله تعالى: {وَلاَ تُبَذّرْ تَبْذِيراً، إِنَّ الْمُبَذّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُوراً} [الإسراء:26،27].
ووجه الاستدلال بهذه الآية أن التبذير لا يعدو أحد وجهين:
إما أن يكون المراد به تضييع المال أو إنفاقه في المعاصي، إن كان الأول، وهو تضييعه، فدلالة الآية على تحريم تسليمه إلى من ينفقه في المعاصي بطريق الأولى؛ لأن تسليمه إلى من كان ينفقه في المعاصي أقبح ضرورة، وإن كان الثاني، وهو إنفاقه في المعاصي، فدلالتها على تحريم تسليمه إلى من ينفقه في المعاصي بصريح لفظها، وذلك أنها لم تفصل بين أن يكون إنفاق المال بالنفس أو بالنيابة، وهنا قد جعل الظالم نائباً عنه في إنفاقه في المعاصي لما كان المعطي عالماً بذلك، ومختاراً له لأجل أن يقر في بيته، ويسكن في وطنه، وإلا فهو متمكن من أن لا يعطيهم شيئاً بأحد أمرين:
إما أن يهاجر، أو أن لا يتعلق بشيء مما يحملهم على الأخذ منه.

(1/312)


(قوله تعالى: {وَلاَ تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ...})
ومما يخص تحريم تسليم الأموال إليهم قوله تعالى: {وَلاَ تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ...الآية}[النساء:5].
ووجه الاستدلال بها أن تفسيرها لا يخلو من أحد معنيين:
إما أن يكون المراد بالسفهاء الذين ينفقون المال في المعاصي، أو الذين يضيعونه، فأيهما ثبت، فلا يخلو من أحد وجهين أيضاً، وذلك: إما أن تكون الآية عامة في كل السفهاء، أو خاصة بمن يجب إنفاقه، أو يستحب أو يباح، إن كانت عامة وكان المراد بالسفهاء من ينفق المال في المعاصي فواضح؛ لأن الذين يسلمون المال إليهم وينفقونه في المعاصي قد تناولتهم الآية بصريحها؛ لأنهم ينفقونه في المعاصي من سفك الدماء ونهب الأموال، واضطهاد المحقين، وظلم الأيتام والأرامل والمساكين، ويجب أن يكون قوله تعالى: {وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ}[النساء:5] خاص بسد فاقة من لا يحل دمه، وستر عورته ممن يجب إنفاقه، أو يستحب أو يباح من أهل المعاصي دون الذين يبغون في الأرض بغير الحق من سلاطين الجور وأعوانهم؛ لقوله تعالى: {فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي...}الآية، وثمرة القتال إتلافهم بأي ممكن، وسلبهم وانتهاب ما يجلبون به على المسلمين، ويتقوّون به.

(1/313)


ومن أطعمهم أو كساهم فقد ناقض في ذلك حكم أحكم الحاكمين، وإن كانت خاصة بمن عدا الباغين من الذين يجب إنفاقهم، أو يستحب أو يباح، وكان المراد بالسفهاء من ينفق المال في المعاصي أيضاً، فهي تدل على تحريم تسليم الأموال إلى غيرهم من الظالمين بالفحوى؛ لأنه إذا حرم تسليم المال إلى من ينفقه في المعاصي من خواص الإنسان، أو إلى من يستحب له أن ينفقه أو يباح، فبالأولى أن يحرم تسليمه إلى من ينفقه في المعاصي من غيرهم؛ لأنه لا أصل لجواز تسليم المال إليه، وهو على تلك الحال البتة، وإن كان المراد بالسفهاء من يضيع المال، فإنه يدل على تحريم تسليم المال إلى من ينفقه في المعاصي بالفحوى، سواءً كانت الآية عامة أو خاصة بمن تقدم ذكره[أما حيث كانت الآية عامة فواضح].
وأما حيث كانت خاصة بمن يجب إنفاقه أو يستحب أو يباح، فإنه إذا حرم تسليم الأموال إلى من يضيعها منهم، فإن تسليم الأموال إلى من ينفقها في المعاصي أعظم لا يخفى ذلك، وجميع ذلك مبني على أن المراد بالأموال أموال المعطين بكسر الطاء، كما هو ظاهر الآية الكريمة، لا أموال السفهاء كما ذهب إليه بعض المفسرين.
فأما على مذهبه هذا إن صح، فاعلم أنه إذا كان حرام أن يسلم إلى الإنسان نفس ما يملكه لأجل أن يضيعه أو ينفقه في المعاصي، فتسليم ما لا يملك العاصي من المال إليه لينفقه في المعاصي أعظم، ودلالة الآية على تحريمه أقوى، وذلك بحمد الله واضح.

(1/314)


[من الأدلة على تحريم ذلك من السنة]
( حديث: ((من جبا درهماً...)) ووجه الاستدلال به]
ومما يخص تحريم تسليم الأموال إليهم من السنة قوله صلى الله عليه وآله وسلم: ((من جبا درهما لإمام جائر كبّه الله على منخريه في النار))، رواه الهادي عليه السلام في (الأحكام).
ووجه الاستدلال به أن الجباية تفيد معنيين:
أحدهما: جلب ما ينتفع به، قال تعالى: {أَوَلَمْ نُمَكِنْ لَهُمْ حَرَماً آمِناً يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ}[القصص:57] أي: تُجلب.
والثاني: أخذ المال على وجه الاستعلاء، ومنه الجبّاء الذي يأخذ المال عن أمر السلطان.
ومن سلم المال إلى سلاطين الجور فقد جلبه لهم إما بنفسه أو بنائبه الذي يوصله إليه حيث سلّمه إليه مختاراً، إذ كان يمكنه ألاّ يسلم شيئاً بأن يهاجر، أو بأن لا يتعلق بشيء مما يطالب به، فلما ثبت ذلك كان الخبر متناولاً له؛ لأنه مشترك بين معنيين، ولا يجوز أن يحمل على أحدهما دون الآخر إلا بدليل، وإلا كان تحكماً، والدليل هنا منتفٍ؛ ولأنه إذا انتفى الدليل على إرادة البعض، مما يدل عليه المشترك من المعاني دون البعض وكان الجمع بين معانيه ممكناً وجب حمله على الجمع لغة عند العترة " ما خلا الإمام يحيى عليه السلام، فإنه قال: إنه يصح من حيث الإرادة لا اللغة، وهو محجوج بقوله تعالى: {إِنَّ الله وَمَلاَئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ}[ الأحزاب:56]، الآية ولفظ يصلون مشترك بين معنيين:

(1/315)


الصلاة من الله، وهي: معظم الرحمة، والصلاة من الملائكة، وهي: الاستغفار، وقد قال تعالى: {بِلِسَانٍ عَرَبِيٍ مُبِينٍ}[الشعراء:195] وقال تعالى: {قُرآناً عَرَبِيّاً} وقال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ}[إبراهيم:4]، فدل على أن ذلك من اللغة فتأمله؛ ولأنه قد جاء نحو ذلك في قول الشاعر:
إذا نزل السماء بأرض قوم .... رعيناه وإن كانوا غضابا
فلفظ السماء قد استعمله لمعنيين معاً:
أحدهما: المطر، بدليل قوله: نزل السماء.
والثاني: النبات، بدليل قوله: رعيناه، وفي قول الآخر:
وسقى الغضى والساكنيه وإن هم .... شبّوه بين جوانحي وضلوعي
فإن الغضى استعمله لثلاثة معان:
الأول: الشجر المخصوص بدليل قوله: وسقي الغضى.
والثاني: منبته ومكانه، بدليل قوله: والساكنيه.
والثالث: النار العظيمة المتوقدة في معظم الشجر، بدليل قوله: وإن هم شبّوه، ويسمى ذلك في البيتين وما جرى مجراه: الاستخدام.

(1/316)


(حديث: ((ثلاثة لا يستجاب لهم...)))
ومما يخص تحريم تسليم الأموال إليهم من السنة قوله صلى الله عليه وآله وسلم: ((ثلاثة لا يستجاب لهم))، وذكر منهم: ((رجلاً دفع إلى سفيه ماله)) ، رواه الأمير الحسين عليه السلام في (الشفاء)، والاحتجاج به على نحو ما مر في ذكر السفهاء.

(1/317)


[الآية: {إن الذين توفاهم الملائكة...} ووجه الاستدلال بها]
ومما يدل على تحريم تسليم الأموال إليهم قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلاَئِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ الله وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيراً}[النساء:97].
ووجه الاستدلال بهذه الآية: أن المراد بها الذين أخلّوا بالفرائض التي افترضها الله سبحانه وتعالى، أو بعضها لكونهم مستضعفين وهم متمكنون من الهجرة، بدليل الوعيد في آخرها، وهو لا يكون إلا لمن أخلّ بما افترض الله سبحانه من القيام بالواجب، أو ترك القبيح وهو يتمكن من القيام بهما، كأن يهاجر.
ومن جملة ما افترض الله تعالى تجنب مشاهدة المعاصي حين تُفعل إلا لتغييرها، بدليل قوله صلى الله عليه وآله وسلم: ((لا يحل لعين ترى الله يعصى فتطرف حتى تغير أو تنتقل))، ونحو ذلك، فلما ثبت الوعيد لمن لم يتجنب مشاهدة المعاصي، ولم يغيرها لأجل الاستضعاف ثبت الوعيد لمن يُسلم إليهم الأموال المقوية لهم على سفك الدماء وشرب الخمور، ونكح الذكور، ولبس الحرير، وغير ذلك من المنكرات؛ لأجل الاستضعاف ولم يهاجر بطريق الأولى، وكانت دلالة الآية على ذلك أقوى.

(1/318)


(حديث: ((إن الله بعثني بالرحمة...)) ووجه الاستدلال به)
ومما يدل على تحريم تسليم الأموال إليهم أيضاً [من السنة] قوله ً: ((إن الله بعثني بالرحمة واللحمة، وجعل رزقي في ظل رمحي، ولم يجعلني حراثاً ولا تاجرا، ألا إن من شرار عباد الله الحرّاثون والتجار إلا من أخذ الحق وأعطى الحق)) ، رواه الهادي عليه السلام.
وروى نحوه أخوه عبد الله بن الحسين في كتاب (الناسخ والمنسوخ).
ووجه الاستدلال بذلك: أن المراد به من ترك الفرائض أو بعضها لأجل الحرث أو التجارة إما لا شتغاله بهما أو بأحدهما، أو لأنه لا يتم له شيء منهما إلا بالإخلال بشيء من الفرائض، نحو إن أمر بالمعروف أو نهى عن المنكر أخافه الظلمة حتى لا يتم حرثه أو تجارته، فيؤثر حرثه أو تجارته، فيكدح في ذلك ويخل بفرائض الله سبحانه وتعالى الذي هو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر،فيكون مؤثراً للحياة الدنيا على الآخرة،ويشهد بصحة ذلك قوله تعالى:{فَأَمَّا مَنْ طَغَى، وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا، فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى} [النازعات:37-39] فإذا كان ذلك دليلاً على أن من ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ليستقيم حرثه أو تجارته، فهو من شرار عباد الله، وممن طغى وآثر الحياة الدنيا، فإن جهنم مأواه بصريح الآية، كان دلالة جميع ذلك على أن من أعطى قسطاً من ماله يتقوى به أعضاد الظالمين على المناكير العظيمة من شرار عباد الله، وممن طغى وآثر الحياة الدنيا، وأن مأواه جهنم بطريق الأولى.

(1/319)


[الأدلة على وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر]
ونحو ذلك قوله صلى الله عليه وآله وسلم: ((لتأمرنّ بالمعروف ولتنهنّ عن المنكر أو لتكوننّ أشقياء زرّاعين))، رواه عبد الله بن الحسين عليه السلام في كتاب (الناسخ والمنسوخ) أيضاً، والاحتجاج به على نحو ما مر الآن.
ومن ذلك ما في (الأحكام) فإنه قال: بلغنا عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: ((لتأمرنّ بالمعروف ولتنهنّ عن المنكر أو ليسلطن الله عليكم شراركم فيسومونكم سوء العذاب، ثم يدعو خياركم فلا يستجاب لهم، حتى إذا بلغ الكتاب أجله كان الله المنتصر لنفسه، ثم يقول: ما منعكم إذا رأيتموني أُعصى ألا تغضبوا لي!)) .
ومن ذلك قوله صلى الله عليه وآله وسلم: ((ما من قوم يكون بين ظهرانيهم من يعمل بالمعاصي فلا يغيروا عليه إلا أصابهم الله بعقاب))، رواه عبد الله بن الحسين عليه السلام في كتاب (الناسخ والمنسوخ) أيضاً، وروى نحوه السيد أبو طالب عليه السلام في (الأمالي).
ووجه الإستدلال بهذين الخبرين أنهما نصان في الوعيد على من كان بين أهل المعاصي، ولم يغيروا عليهم، ودلالتهما على تحريم تسليم الأموال التي هي سبب لفعل المعاصي بطريق الأولى، وفيهما فائدة أخرى، وهو: أنه يجب أن يغير على أهل المعاصي من كان بين ظهرانيهم، ولو كانوا ضعفاء، وإلا وجب أن يفارقوهم حتى لا يكونوا بين ظهرانيهم، ويؤيد هذا قوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: ((لا تمنعنّ أحدكم مخافة أن يتكلم بالحق إذا رآه)) رواه أبو طالب عليه السلام في (الأمالي) أيضاً.

(1/320)


أقوال الأئمة في ذلك
وأما أقوال الأئمة " فقال علي عليه السلام في (نهج البلاغة): (ألا وإن إعطاء المال في غير حقه تبذير وإسراف).
قلت وبالله التوفيق: وإعطاء المال لمن يعلم أنه لا يضعه إلا في مضرة الإسلام والمسلمين، وما يغضب رب العالمين ليس من حقه عند أهل الملة والدين، ولا ينكر ذلك إلا أفاك أثيم، والتبذير حرام؛ لقوله تعالى: {إِنَّ الْمُبَذّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورا}[الإسراء:27] وكذلك الإسراف؛ لأن الله نهى عنه في قوله تعالى: {كُلُوا وَاشْرَبُوا وَلاَ تُسْرِفُوا إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ}[الأعراف:31].
والنهي للتحريم؛ لأن الله تعالى قد أمر بالانتهاء في قوله تعالى: {وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا}[الحشر:7]، والأمر للوجوب؛ لقوله تعالى: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}[النور:63].

(1/321)


قول الإمام علي عليه السلام
وقال علي عليه السلام في خطبة له في (نهج البلاغة) أيضاً: (فعند ذلك لايبقى بيت مدر ولا وبر إلا وأدخله الظلمة ترحة، وأولجوا فيه نقمة، فيومئذ لايبقى لهم في السماء عاذر ولا في الأرض ناصر، أصفيتم بالحق غير أهله، وأوردتموه غير ورده، وسينتقم الله ممن ظلم...) إلى آخر كلامه عليه السلام.

(1/322)


تفسير المؤلف لكلام الإمام علي عليه السلام
قلت وبالله التوفيق: قوله عليه السلام: فيومئذ، أي: يدخل الظلم بيوت المدر والوبر الترحة، ويولجون فيه النقمة، والتنوين في لفظ إذ عوض عن هذا المحذوف، والمراد بقوله عليه السلام:(لا يبقى لهم في السماء عاذر)، أهل بيوت المدر والوبر، بدليل قوله عليه السلام: (ولا في الأرض ناصر)؛ لأن الظلمة يتغلبون في ذلك الوقت وأنصارهم في الأرض موجودون، وإلا لم يقدروا على إدخال بيوت المدر والوبر شيئاً من الترح والنقم، فكان أهل السماء غير عاذرين لهم أعني: أهل بيوت المدر والوبر مع ما بهم من الترح والنقم، وما ذاك إلا لأنهم قد عصوا بتسليم الحق إليهم من أموال الله من الزكوات والخراج، وغيرهما الذي عناه أمير المؤمنين عليه السلام في آخر الكلام، حيث قال: (أصفيتم بالحق غير أهله) أي: جعلتموه لهم صافياً عن كدر الاشتراك، فلم يخالطهم فيه من أهله مخالط، وأوردتموه غير ورده، أي: جلبتموه إلى غير موضعه الذي كان يجب أن يرد إليه، وجاء عليه السلام بلفظ أصفيتم، ولفظ أوردتموه للخطاب بعد أن سبقه للغيبة قوله عليه السلام: (لا يبقى لهم في السماء عاذر ولا في الأرض ناصر) لما فيهما أي في لفظ: أصفيتم، ولفظ أوردتموه من التوبيخ واللوم على فعل ذلك، ويسمى هذا التفاتاً، وذلك من الفصاحة بمكان، وقد جاء في الكتاب العزيز كثير، كأول سورة الحمد إلى قوله تعالى: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} فإنه للغيبة، وقوله تعالى: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} للخطاب، والسر في ذلك في سورة الحمد: أن أول الحمد مدح لله تعالى، وتمجيد

(1/323)


له، وأبلغ المدح والتمجيد ما كان في الغيبة عند العرب لسلامته مما يتهم به ذي الوجهين الذي يمدح في الوجه، ويذم في الغيبة، ولبعده عن الكذب لانتفاء ما يحمل عليه مما يرتجى في الممدوح إذا كان غائباً في الأغلب، فأجراه الله على الوجه البليغ المحبوب عندهم ليفيد كون ذلك حقاً لا مثل ما يفعله من يكذب في مدحه، وإلا فهو سبحانه وتعالى حاضر لا يغيب، وقوله سبحانه وتعالى مرشداً لعباده: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} مؤدياً لمعنى خضوع العبد لله سبحانه وتعالى واستكانته في الحاجة إليه، وطلب الإعانة منه على طريق الهدى المبلغ إلى النعيم المقيم، والسلامة من العذاب الدائم الأليم، وتلك حاجة كل حاجة غيرها كالعدم، وأبلغ الخضوع والاستكانة والترفق لطلب الحوائج عند العقلاء كافة لا تقع من الدليل للقاهر القادر في الشاهد إلا إذا كان حاضراً، والله سبحانه وتعالى حاضر غير غائب، فأجراه الله تعالى على ذلك ليكون اللفظ مطابقاً للمعنى، فالمعنى بالغ النهاية التي لا وراها واللفظ بالغ الغاية في البلاغة التي لا وراها، وما قاله صاحب (التلخيص) مما يخالف هذا ليس بسديدٍ عندي؛ لأنه مؤدٍ إلى أن العبد لم يكن مقبلاً على ربه حتى ينتهي إلى خاتمة صفاته تعالى المحمودة، وهو قوله تعالى: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ}.
ومن المعلوم أن المخلصين من عباد الله تعالى يقبلون على الله تعالى ويخضعون له بالاستكانة من عند أن يقوموا بين يديه ويشرعون في صلاتهم، فيكون هذا المعنى منتفٍ في حقهم.

(1/324)


وأما غير المخلص فلا يخطر [ما ذكر] ببال أحدٍ منهم، فهو منتفٍ أيضاً في حقهم، فتأمل ذلك.
والسر في كلام أمير المؤمنين عليه السلام أن أول كلامه إخبار محض عن حالهم وحكمهم، والإخبار المحض ليس إلا بالمغيبات، فأجرى عليه السلام اللفظ مطابقاً للمعنى، إذ لا مقتضى للعدول عنه.
وفي قوله عليه السلام: (أصفيتم بالحق غير أهله).. إلى آخره، معنى التوبيخ كما ذكرت أولاً، وأبلغ التوبيخ ما كان في وجه الموبخ؛ لما فيه له من التقريع والتبكيت؛ ولما فيه من انتفاء ما يتهم به صاحب الوجهين، فأجراه عليه السلام ذلك المجرى ليعرف أنه قصد بذلك غاية التوبيخ لهم، فتأمل جميع ذلك ترشد إن شاء الله.
وقال علي عليه السلام في وصيته لابنه الحسن -عليهما السلام- في (نهج البلاغة): (يا بني لا تخلف من ورائك شيئاً من الدنيا... إلى قوله: وإما رجل عمل فيه بمعصية الله فكنت عوناً له على معصيته) ، فبئسما ما يخلفه عوناً على المعصية.

(1/325)


تفسير الحسين (ع) لقوله تعالى: {من قتل نفساً}
وقال الحسين بن علي عليه السلام في تفسير قوله تعالى: {مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً}[المائدة:32] (من أعان إماماً جائراً على إمام عادل حتى يظهر عليه فكأنما قتل الناس جميعاً) رواه أبو طالب عليه السلام في (الأمالي) ، ولم يفصل عليه السلام بأن تكون المعونة بالمال أو بغيره، ولم يشترط في ذلك قصدا.

(1/326)


قول الإمام زيد عليه السلام في رسالته إلى علماء الفرق
وقال زيد بن علي -عليهما السلام- في رسالته إلى علماء الفرق في كلام له ما لفظه: (إن الظالمين قد استحلوا دماءنا، وأخافونا في ديارنا، وقد اتخذوا خذلانكم حجة علينا، فيما كرهوه من دعوتنا، وفيما منعوه من حقنا، وفيما أنكروه من فضلنا، عباد الله فأنتم شركاء لهم في دمائنا، وأعوانهم على ظلمنا، فكل مال الله أنفقوه، وكل جمع جمعوه، وكل سيفٍ شحذوه، وكل عدلٍ تركوه، وكل جورٍ ركبوه، وكل ذمة لله أخفروها، وكل مسلم أذلّوه، وكل كتاب نبذوه، وكل حكم لله عطّلوه، وكل عهدٍ لله نقضوه، وأنتم المعاونون لهم بالسكوت عن نهيهم عن السُوء)، رواه السيد حميدان في كتاب (التصريح في المذهب الصحيح).
وعن عيسى بن عبد الله، قال: (مرّ حسن بن حسن بن حسن على إبراهيم بن حسن بن حسن وهو يعلف إبلاً له، فقال له: أتعلف إبلك وعبد الله بن الحسن محبوس! أطلق عقالها ياغلام فأطلقها وصاح في أدبارها فذهبت فلم يوجد منها واحدة)، رواه أبو طالب عليه السلام.

(1/327)


قلت وبالله التوفيق: وذلك لا يخلو إما أن يكون جزعاً من حبس عبد الله بن الحسن، أو يكون خوفاً من أن يأخذها الظلمة، فينفقونها في المعاصي، وظنا -عليهما السلام- أن حبس عبد الله بن الحسن عليه السلام كان مبتدأ به في الغشم عليهم، والظلم لايصح أن يكون جزعاً؛ لأن الجزع معصية، وإضاعة المال معصية، وهما عليهما السلام من الأخيار البررة الأطهار، وحملهما على ذلك سوء ظن بهما، وهو لا يحل، بقي أن يكون خوفاً من أن يأخذها الظلمة فينفقونها في المعاصي، فكان الضياع للمال أهون من أن يأخذوه؛ لأنهم يتقوّون به في المعاصي، فصار الضياع مباحاً للضرورة، فافهم ذلك.

(1/328)


قول الإمام محمد النفس الزكية (ع)
وقال محمد بن عبد الله النفس الزكية عليه السلام في كلام تركت بعضه اختصاراً ما لفظه: (يا أبا خالد إن امرأً مؤمناً لا يُصبح حزيناً ويُمسي حزيناً مما يعاين من أعمالهم إنه لمغبون مفتون، قال: قلت: يا سيدي والله إن المؤمن لكذلك، ولكن كيف بنا ونحن مقهورون مستضعفون خائفون لا نستطيع لهم تغييراً؟! فقال: يا أبا خالد إذا كنتم كذلك فلا تكونوا لهم جمعاً، وانفذوا من أرضهم). رواه أبو طالب عليه السلام في (الأمالي) .
فقال عليه السلام: (لا تكونوا لهم جمعاً) أي: أهل جمع، وأمر بالنفوذ من أرضهم، وهو: الذهاب من أرضهم والخروج إلى غيرها.

(1/329)


قول الإمام القاسم بن إبراهيم عليه السلام
وقال القاسم بن إبراهيم عليه السلام في الجزء الثاني من مسائله في تفسير قوله تعالى: {وَلاَ تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ}[النساء:5] ما لفظه:
(فكيف يجوز أن يؤتي أحدٌ ماله أحداً إذا كان في أرض الله أو لدينه مفسداً، وقد نهى الله عن ذلك...) إلى آخر كلامه عليه السلام.
(وسُئل عليه السلام عن أموال التجار التي تكون في عساكر الظلمة الفجار، هل تكون غنيمة للمسلمين وفيئاً؟ أم لايحل ذلك للمؤمنين عند ظهورهم عليهم؟ فقال: ما كان للتجار في عساكرهم أو لغيرهم وسلم أهله من أن يجلبوا به على المسلمين، أو ينصبوا بما في أيديهم منه لمحاربة المؤمنين، فلا يحل للمؤمنين أخذه ولا اغتنامه، وعلى المسلمين تسليمه إلى أهله وأسلامه؛ لأن متاجرتهم لهم في تلك الحال، ورفقهم عليهم بمرافق تجارتهم، وإن كانت فسقاً فلم يجعل الله تغنم أموالهم بفسقهم في تلك الحال للمؤمنين حلالاً ولا حقاً، والمؤمنون وإن قالوا بعداوتهم في ذلك ونكالهم، فليس يستحلون مع ذلك وإن قالوا به فيهم تغنم شيء من أموالهم). رواه الهادي عليه السلام، عن أبيه عنه " في باب أموال تجار عسكر البغي في السير من كتاب (الأحكام)، ونقلته بلفظه.
قلت وبالله التوفيق: إذا كان ذلك فسقاً مع أخذ العوض فكيف بتسليم الأموال إليهم بغير عوض!

(1/330)


قول الإمام الهادي عليه السلام
وقال الهادي عليه السلام في باب القول فيما يجب على المحرم توقيه في أبواب الحج من كتاب (الأحكام) ما لفظه: (والفسوق فهو الفسق [والتجني] والكذب، والظلم...إلى أن قال: والإدخال بشيء من المرافق على عدوٍ من أعداء الله) فجعل عليه السلام ذلك في الفسوق.
وقال الهادي عليه السلام أيضاً في الباب الثاني من أبواب البيع في كتاب (الأحكام) ما لفظه: (ولا بأس أن يتجر المسلم ليغني أهله وعياله عن ذل المسألة واستكانة الحاجة، وتكون تجارته في أقل الأشياء منافع للظالمين الجورة الفاسقين، وفي أقلّها ضرراً على المسلمين، ولا يجوز [ولا يحل] له أن يتجر في دهره هذا في شيء من السلاح والكراع ولا العبيد والإماء، فإن ذلك أكثر منافع للظالمين، وأقوى قوة للفاسقين، وليتجر في غير ذلك من الأشياء أقلها منفعة لهم، وأبعدها من مرافقهم، ويستحب له إن اتجّر في شيء فاحتاج ممن سمينا محتاج إلى شيء مما عنده أن يدفعه بعلل يتعلل بها عليه من إغلاء [ثمن] عليه، أو غيره مما يدفعه به عن المبايعة له، ولا يفعل ما يفعل فجرة التجار والخونة الأشرار من التعمد لمنافعهم، والايثار بذلك لهم دون غيرهم والتعمد لشراء مايصلح لهم يطلبون بذلك ازدياداً في الربح يسيراً، ويستوجبون به من الله عذاباً كبيراً).

(1/331)


قلت وبالله التوفيق: إذاكان دفع ما يتقوّون به من المال إليهم حراماً مع المعاوضة فكيف بدفعه من غير معاوضة‍ وفي المعاوضة انتقاص؛ لما في أيديهم من الأموال، وقوله عليه السلام: (ويستحب له إن اتّجر في شيء) معناه: ويجب عليه؛ لأن لفظ الاستحباب في عرفهم قد يطلق على الوجوب، كالكراهة تطلق على الحظر بدليل قوله عليه السلام: ولا يفعل ما يفعل فجرة التجار إلى قوله: ويستوجبون به من الله عذاباً كبيرا؛ ولأنه عليه السلام قد نص في باب أموال تجار عسكر البغي في السير من كتاب (الأحكام): أن جلب المنافع إليهم فسق.
وروى مثل ذلك عن جده القاسم عليه السلام، وقد تقدمت الرواية بلفظها يزيد ذلك وضوحاً ما قاله عليه السلام، في بعض أبواب الحج من كتاب (الأحكام) أيضاً، (حدثني أبي عن أبيه في الرجل يفرق بين طوافه وسعيه، فقال: لابأس بذلك[إن كان تفريقه ذلك لعلة مانعة] إلى قوله: فإن أبطأ عن ذلك فتركه حتى تكثر أيامه، فيستحب له أن يهريق دماً، وقد وسع في هذا غيرنا، ولسنا نقول به).
فقال: فيستحب مع أنه لم يقل بالتوسيع.

(1/332)


قلت وبالله التوفيق: وماذكره الهادي والقاسم -عليهما السلام- من أن جلب المنافع إلى عسكر الظالمين فسق، هو الحق؛ لأن سبيل المؤمنين في ذلك قتالهم؛ لقوله تعالى: {فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي...} الآية. وجلب المنافع إليهم ينافي القتال ضرورة، فعلمنا أن ذلك غير سبيل المؤمنين، وقد قال تعالى: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا}[النساء:115].
وقال الهادي عليه السلام: أيضاً في باب معاونة الظالمين من كتاب (الأحكام) مالفظه:
(فمن كثر بنفسه أوبقوله، أو أعان بماله على محق من آل الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، فقد شرك في دمه) إلى آخر كلامه عليه السلام، ولا يقال: إن ذلك لا يكون إلا مع القصد؛ لأنه عليه السلام لم يشترط ذلك، ولأنه عليه السلام، قد جعل التجارة في عسكر الظالمين فسقاً، والتجار إنما يقصدون الزيادة في الربح فتأمل ذلك، فإن تقوى الله لاتكون بالتعسف في التأويل، ورد القول إلى ما يطابق هوى النفس.
وقال الهادي عليه السلام في كتاب (العدل والتوحيد) ما لفظه:
(كدأب الذين يعينون الظالمين، ويقيمون دولتهم بزرعهم وتجارتهم، وينصرونهم على قتل المسلمين، وهتك حريمهم، وأخذ أموالهم، ولولا التجار والزرّاعون ماقامت للظالمين دولة، ولاثبتت لهم راية، ولذلك قال تبارك وتعالى: {وَلاَ تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ}[هود:113]) .

(1/333)


وقال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، ((إن الله تعالى بعثني باللحمة والرحمة، وجعل رزقي في ظل رمحي، ولم يجعلني حراثاً ولا تاجراً، ألا إن من شرار عباد الله الحرّاثون والتجار، إلاّ من أخذ الحق وأعطى الحق))؛ لأن الحراثين يحرثون، والظالمين يلعبون، وهم يحصدون وينامون، ويجوعون ويشبعون، ويسعون في صلاحهم، وهم يسعون في هلاك الرعية، فهم لهم خدم لا يؤجرون، وأعوان لايشكرون، فراعنة جبّارون، وأهل خنا فاسقون، إن استرحموا لم يرحموا، وإ ن استنصفوا لم ينصفوا، لايذكرون المعاد، ولايصلحون البلاد، ولايرحمون العباد، معتكفون على اللهو والطنابير، وضرب المعازف والمزامير، قد اتخذوا دين الله دغلا، وعباده خولا، وماله دولا، بما يقويهم به التجار والحراثون، ثم يقولون: إنهم مستضعفون كأن لم يسمعوا قول الله تبارك وتعالى فيهم، وفيمن اعتل بمثل علتهم إذ يحكي عنهم قولهم: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلاَئِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ الله وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيراً}[النساء:97] إلى آخر كلامه عليه السلام.
ومن كلام الهادي عليه السلام أيضاً ما ذكره في كتاب (خطايا الأنبياء) " وعلى آلهم الذي أجاب به على إبراهيم بن المحسن العلوي رحمه الله تعالى، وهذا لفظه:

(1/334)


(وسألته عن رجل ساكن في بلدة، وقد تولى أمر البلدة سلطان ظالم، والسلطان يقبض منه جباية من غير طيبة من نفسه، وهو يخاف إن خرج من البلد على نفسه من التلف؟
الجواب في ذلك: إن كانت مخافته على نفسه مخافة أن يجوع في الأرض أو يعرى، أو يتلف إن خرج من تلك البلدة، فليس هذا له بعذر؛ لأن الله تعالى يرزقه في بلده و غيرها، وإن كان يخاف أن يظفر به سلطان بلده فيقتله إن خرج، ولم يكن له حيلة في الانسلال عنه، وكان لامحالة واقعاً في يده إن خرج، فله في ذلك العذر، إلى أن يأتيه الله عزوجل بفرج، وإن قدر وأمكنه أن لايعمل عملاً يأخذ منه فيه السلطان فليفعل).
وقال الهادي عليه السلام: في جواب مسائل أبي القاسم الرازي -رحمه الله تعالى- مالفظه: (وكان الخاذل بخذلانه وقعوده [عن الله] كمثل المحارب بمحاربته، لا ينفك الخاذل للمؤمنين من المشاركة للفاسقين فيما نالوه من المتقين في حكم أحكم الحاكمين...) إلى آخر كلامه عليه السلام.
قلت وبالله التوفيق: إذا كان هذا في الخاذل، وهو القاعد عن نصرة الدين وأهله، فكيف بالمعطي من المال مايهدم به الظالمون، من دين رب العالمين! وكيف بالمشير بذلك!
وقال الناصر عليه السلام في كتاب (الألفاظ) مالفظه: (فمن سوّد علينا فقد شرك في دمائنا).
قلت وبالله التوفيق: وهذا اللفظ نبوي؛ لأن الهادي عليه السلام رفعه إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم في كتاب (الأحكام).

(1/335)


قلت وبالله التوفيق: ولا تسويد أعظم من تسليم المال إلى الجبارين؛ لأنه لولا المال لما اجتمع للظلمة من عساكرهم الكثيفة ما يضر الدين وأهله أبداً، وذلك معلوم لكل عاقل، والعلم به كافٍ في استحقاق العقاب والنكال من الله سبحانه، ومغنٍ عن القصد كالإقدام على سائر المعاصي إذ لافرق.

(1/336)


[رواية علي بن العباس(ع)]
وحكى علي بن العباس عليه السلام في (مجموعه): إجماع أهل البيت " على أن المشركين أو البغاة إذا نزلوا بساحة مدينة الإسلام، أو باب حصن المسلمين فلاضير على المسلمين إذا لم يقدروا على حمل غلات أنفسهم أن يحرقوها، أو يخربوا القرى لئلاّ ينتفع بها المشركون أو البغاة.
قلت وبالله التوفيق: وهذا يقتضي عدم جواز الدخول تحت ظل جناح دولتهم لكي تسلم أموالهم، إذ لو جاز الدخول كذلك لم يجز تحريق الأموال وتخريب القرى؛ لأنهما إضاعة مال، وهي لا تجوز في الأصل، وإذا لم يجز الدخول تحت ظل جناح دولتهم فكيف بتسليم ما يقويهم على هدم الدين!
فإن قيل: فإنه ذكر لفظ: لا ضير، ولم يقل: فإنه يجب.
قلت وبالله التوفيق: من رزقه الله زيادة في بصيرته وجلَّى قلبه عن العمى، فهم من ذلك الوجوب؛ لأن السبب في ذلك تعارض محظورين، وعدم المخلص إلاّ بفعل أحدهما، وهما: إتلاف المال، أو الدخول فيما يتقوّون به على الفساد في الأرض بغير الحق، فكان إتلاف المال أهون، فعبّر عن ذلك بلفظ لا ضير؛ لأجل كونه في الأصل محظوراً لا سيما وعيون العترة "، والمعتزلة [وأكثر الفقهاء] يوجبون الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مع خشية المضرة على المال، وذلك مذكور في بعض كتب أهل المذهب المعتبرة لم أسه فيه ولم أغفل، وإذا وجب اختيار المضرة في المال لأجل واجب هو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فكيف لا يجب توقياً من فعل محظور! وهو تقوية الظالمين على سفك دماء المسلمين واستمرار ظلمهم ونهب أموالهم، وإطفاء الفرائض والسنن، وإحياء البدع والفتن.

(1/337)


[قول المرتضى بن الهادي (ع)]
وقال المرتضى محمد بن يحيى عليه السلام في كتاب (الإيضاح) ما لفظه: وسألتم عن العشر هل يعطاه فاسق ذو كبيرة إذا كان فقيراً؟
قال عليه السلام [ما لفظه]: لا يعطى منه شيء؛ لأن في إعطائه العشر ممايقويه على ما يحبه من المعصية والمباعدة لله سبحانه، فليس لمن ظهرت معصيته في أموال الله حق، وإنما يعطى من لم يعلم منه إلا خير، فقال: لأن في إعطائه العشر مما يقويه على ما يحبه من المعصية، وكذلك لا ينكر أنه يتقوى بما يعطى من أموال الناس.
وقال عليه السلام في بعض (رسائله) ما لفظه: (ومن قرب من أعداء الله شبراً بَعُد منه بذلك باعاً، فلا ترضوا بمداناتهم، ولا تُرخِّصوا لأنفسكم في مداراتهم، فإنهم أعداء الرحمن وأحزاب الشيطان...إلى قوله عليه السلام: مهلكوا العباد ومظهروا الفساد)، فقال عليه السلام: ولا ترخصوا لأنفسكم في مداراتهم، وذلك عام يفيد النهي عن الترخيص في مداراتهم بالمال وغيره؛ لأن لفظ مداراة مصدر، والمصدر: اسم جنس باتفاق أهل العربية كالماء والعسل، واسم الجنس إذا أضيف أفاد العموم، كقولك: عسل النحل صادف الحلاوة.
وفي كتاب البيوع من (اللمع) ما لفظه: في تعليق أبي الفوارس ذكره محمد بن يحيى: (لا ينبغي لأحد أن يبيع شيئاً من سلطان ظالم ولا يعامله كان ماله حلالاً أو حراماً، إلا أن يضطر إليه، فيأخذ المال مما يعلم أنه حلال).

(1/338)


قلت وبالله التوفيق: إنه لم يستثن من جواز معاملتهم إلا عند الاضطرار كالاضطرار إلى أكل الميتة، وإذا لم يبح البيع منهم والمعاملة بيقين حل المال إلا مع الاضطرار، فما ظنك بتسليم الأموال إليهم مع عدم انتقاصهم لشيء من الأعواض!

(1/339)


[قول الإمام القاسم العياني(ع)]
وقال الإمام المنصور بالله القاسم بن علي العياني عليه السلام في (رسالته إلى أهل طبرستان) ما لفظه:
(الخاذل لنا كالمعين علينا، المتخلف عن داعينا كالمجيب لعدونا)، رواه في (أنوار اليقين). قال وهو منقول من رواية المنصور بالله عبد الله بن حمزة عليه السلام.
قلت وبالله التوفيق: إذا كان ما ذكره عليه السلام في حق الخاذل المتخلف، فما ظنك بالمسلّم من الأموال ماهو سبب لهلاك الدين وتقوية للجبارين!

(1/340)


[قول المؤيد بالله (ع)في كيفية إزالة المنكر]
وقال المؤيد بالله عليه السلام في باب كيفية إزالة المنكر في كتاب الحظر والإباحة من كتاب (الإفادة) ما لفظه: (وفي سلطان فاسق يدعو الناس إلى إقامة المعروف وإزالة المنكر، وهو لا يتعدى أمر المسلمين ورأيهم لا يجوز للمسلمين متابعته ولا تقوية يده، وإن التمس ذلك هو منهم)، فقال: ولا تقوية يده، أي: بتلك المعاونة على إقامة المعروف وإزالة المنكر؛ لأن سياق الكلام مؤد هذ المعنى، وإذا كان لا يجوز ذلك؛ لكونه مؤدياً إلى تقوية الظالم على ظلمه مع أنه في الأصل واجب، فبالأحرى أنه لا يجوز تسليم المال إلى سلاطين الجور؛ لأنه مؤدٍ إلى تقويتهم على الظلم ضرورة.
وقال عليه السلام في هذا الباب نفسه: (وفي ظالمين أحدهما أكثر من الآخر ظلماً، فالأقل منهما ظلماً يلتمس من المسلمين معاونة على دفع الأكثر ظلماً وفي غالب ظن هؤلاء المسلمين أن لو أعانوه على دفعه دفعوه، ويأخذ الزكاة والأعشار من المسلمين، ويصرفها في الوجوه التي تؤدي إلى مصالح الرب) أنه لايجوز معاونة من يكون أقل ظلماً على شيء من الظلم، فأخذ الزكاة والعشر من جملة الظلم.
قوله عليه السلام: (وفي غالب ظن هؤلاء المسلمين أن لو أعانوه على دفعه دفعوه، ويأخذ الزكاة والأعشار...إلى آخره) أي: في غالب ظنهم أنهم يدفعون الأكثر ظلماً، وأن الظالم الذي أعانوه يأخذ الزكاة والأعشار.
فقال عليه السلام: إن ذلك لا يجوز، وقال: إن ذلك من جملة الظلم.

(1/341)


قلت وبالله التوفيق: إذا كان دفع الأكثر ظلماً مؤدياً في غالب الظن إلى شيء من جملة الظلم، وهو أخذ الزكاة والعشور، وأنه لا يجوز لأجل ذلك، فكيف بتسليم المال المقطوع بتأديته إلى أعظم الظلم وأشده!
فإن قيل: قد قال عليه السلام قبيل هذا من هذا الكتاب مالفظه: (ولا تجب الهجرة لما يأخذه الظالم من الإتاوة قهراً).
قلت وبالله التوفيق: إنه لم يذكر أنها لو كانت تؤدي إلى قوة ظلم الظالم، فلعله حيث كان لا دولة لمن يأخذ الإتاوة، ولا جنود يجندها للفساد في الأرض بغير الحق، ويؤيد هذا ما ذكرناه من كلامه عليه السلام أولاً، وإلا كان مناقضة، وأيضاً من قواعد أئمتنا " أنهم يجعلون الحكم للمقيد ويردّون المطلق إليه حتى يتفق المعنيان، ويسلما من التنافي، وما حكيناه عنه عليه السلام أولاً مقيد بكونه مؤدياً إلى قوة ظلم الظالم، أو مؤدياً إلى شيء من الظلم، وهذا مطلق، فيجب تأويله بما ذكرناه.
وأيضاً قد عرف من قاعدته عليه السلام أنه يتأول ما جاء من الأئمة " شبه هذا القول كتأويله عليه السلام لقول القاسم بن إبراهيم عليه السلام (لا بأس بالفرش والمقارم تكون من الحرير)، فقال المؤيد بالله عليه السلام: (يحتمل أن يكون المراد به أن ذلك يحل للنساء)، وذلك مذكور في (أصول الأحكام).
فإن أثبت هذا التأويل فاعلم أن الإفادة مجموعة من فتاويه، وقد روي في سيرته أنه قال: (وددت أن أتمكن مما أفتيت به فأحرقه).

(1/342)


قلت وبالله التوفيق: وإنما قال ذلك؛ لأنه قد تيقن الخطأ في كثير من الفتاوى، فيجب أن يقرر ما طابق الكتاب والسنة من نحو ما تقدم، وما طابق إجماع العترة " كما يأتي تحقيقه إن شاء الله، ويرفض ما خالف ذلك؛ لأنه مما قد رجع عنه في الجملة.
فإن قيل: والذي ذكرت قد رجع عنه في الجملة أيضا.
قلت وبالله التوفيق: لانسلم؛ لأن حكاية إجماع أهل البيت " كما يأتي إن شاء الله قد تضمنت إثباته.
وفي باب الظهار من (الشفاء) ما لفظه: (وعن السيد أبي طالب أيضاً أنه قال: يجب أن تكون الرقبة مؤمنة بالغة أو غير بالغة، وذكر في الاحتجاج أن المعلوم من دين المسلمين أنه لا قربة في الهدنة إلى من يقطع الطريق، ويحارب المسلمين أو يتعاطى شرب الخمر وضرب المعازف والطنابير، والعلة في جميع ذلك: أنه إحسان إلى من يغلب على الظن أنه يستعين به على الفسق أو على الكفر.
فقال عليه السلام: لا قربة في الهدنة إلى من ذكر، وإذا انتفت القربة بقي الجواز والتحريم، لا يصح أن تكون الهدنة جائزة؛ لأن تعليله عليه السلام صريح في أنه يستعان بها على الفسق أو الكفر، ومن المعلوم من دين المسلمين أن إعطاء المال إلى من يحرقه أو يرمي به في البحر تبذير، والتبذير محرم إجماعاً، ومستنده قوله تعالى: {وَلاَ تُبَذّرْ تَبْذِيراً...} الآية، وإذا كان ذلك محرماً فبالأولى أن يكون هذا محرماً؛ لأن تضييع المال أهون من إنفاقه في المعاصي، وذلك لا يخفى على ذوي البصائر.
قلت وبالله التوفيق: وكلام أبي طالب يشعر بالإجماع، حيث قال: إن المعلوم من دين المسلمين... إلى آخره.

(1/343)


وفي باب البيوع الصحيحة والفاسدة من (الشفاء) أيضاً ما لفظه: ونص الهادي إلى الحق عليه السلام في (المسائل) على أن بيعه ممن يتخذ الخمر لايجوز، واحتج له، فخرجوا مذهبه على أنه يكون معاونة على الإثم والفعل الحرام، وقد قال تعالى: {وَلاَ تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ}[المائدة:2].
قلت وبالله التوفيق: وإنما أخرت هذا الكلام من كلام الهادي عليه السلام، ولم أذكره مع ما تقدم له؛ لأجل أن تصدر حكاية قول مخرجي مذهبه في الموضع الذي أردت من ترتيب الأقوال، والمراد معرفة ما صرّحوا به من أن بيع ما يُجعل خمراً ممن يجعله خمراً معاونة على الإثم والفعل الحرام، وأنه يستلزم تحريم ما يسلم إلى سلاطين الجور بطريقة الأولى؛ لأنهم لم ينقصوا بأخذ عوض في ذلك؛ ولأن المناكير التي تحصل بسبب تسليم الأموال إليهم من سفك الدماء، واضطهاد الآمرين بالمعروف، وضيم الناهين عن المنكر أعظم من شرب رجل أو جماعة محصورة الخمر.

(1/344)


[حرمة دفع الصدقة للفاسق]
وفي باب ذكر من لا تحل له الصدقة من (الشفاء) أيضاً ما لفظه: (قال القاضي زيد: وهذا خطاب للمسلمين الذين لم يظهرمنهم الفسق، قال: ولأن الفاسق لا يتحرز من إنفاقها في المعاصي، فكان دفعها إليه إعانة له على المعاصي، وقد قال تعالى: {وَلاَ تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ}[المائدة:2]. فقال: فكان دفعها إليه، أي: الزكاة إلى الفقير الذي يظهر منه الفسق إعانة له على المعاصي).
قلت وبالله التوفيق: وكذلك يكون ما يدفع إلى الظلمة من خالص المال إعانة لهم على المعاصي، بل هو في هذا الموضع ألزم؛ لأن ذلك مظنون، وهذا معلوم.
فإن قيل: فإن الأمير الحسين عليه السلام قد استبعد ذلك، وقال ما معناه: (لا يكون معاونة إلا مع القصد)، واحتج بتمكين الله تعالى للعصاة ما يتقوّون به من الرزق على المعاصي.

(1/345)


قلت وبالله التوفيق: قد تقدم لنا من الاحتجاج على ما كان كذلك أنه يطلق عليه اسم الإعانة قطعاً، ولنعد قوله تعالى: {وَكَانَ الْكَافِرُ عَلَى رَبِّهِ ظَهِيراً}[الفرقان:55] أي: معيناً، مع قوله تعالى حاكياً عن المشركين: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى الله زُلْفَى}[الزمر:3]؛ لأن ذلك من الأدلة القطعية، فخطاؤه عليه السلام في هذا متيقن، وليس بمظنون، لكنه لا إثم عليه؛ لقوله تعالى: {وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِه}[الأحزاب:5]، وكذلك احتجاجه بتمكين الله تعالى للعصاة من الأرزاق والقوى؛ لأن ذلك إنما كان ليصح التكليف، ولو قاسه على فعل المكلفين لأصاب؛ لأن المكلف لا يجوز له تمكين العاصي من المعصية، وكذلك هذا، وإذا كان كذلك فالرجوع إلى الأدلة المعلومة أولى، وأيضاً إنما كلامه عليه السلام فيمن يظن أن يجعل الزكاة في المعاصي لا فيمن يعلم أنه يجعلها في مهر البغي، وثمن الخمر، ونفقة لقُطّاع الطريق، وزاد لمن يبلغ بها إلى قتل النفوس المحرمة، فإن ذلك لم يقل به أحد من علماء الإسلام، وسيأتي له عليه السلام [من الكلام] ما يدل على تحريم تسليم الأموال إلى سلاطين الجور إن شاء الله تعالى.

(1/346)


[أقوال الإمام عبد الله بن حمزة (ع)]
وقال الإمام المنصور بالله عليه السلام في باب السيرة من (المهذب) في أهل الفسق وأهل البغي في كتاب السير في (المهذب) ما لفظه: (ونحن لا نشك أن الضعفاء الذين لبسوهم الحرير، وركبوهم الذكور، وسقوهم الخمور، فأي عونٍ أعظم من هذا!).
وقال عليه السلام في باب الهجرة من كتاب السير من (المهذب) أيضاً ما لفظه: (وقد ثبت من دين أهل البيت " أن الخاذل لهم فاسق ومن المعلوم أن الساكن مع الظالمين أكثر مضرة، وأنفع للفاسقين، وأقبح حالة، وأشنع جرماً من الخاذلين).
قلت وبالله التوفيق: وقوله عليه السلام وقد ثبت من دين أهل البيت " يشعر أنهم مجمعون على ذلك.
وقال عليه السلام في هذا الباب بعينه من هذا الكتاب بنفسه ما لفظه: (ولا أعظم من كون المؤمن ظهيراً للمجرمين؛ لأن أشد المظاهرة وأعظمها تقويتهم بالخراج، وكونهم مستضعفين فيما بينهم لايخرجهم عن حكمهم، ألا ترى أن الله تعالى ردّ حجتهم داحضة خاسئة بقوله تعالى فيهم:{قَالُوا فِيمَ كُنتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ}[فرد ذلك تعالى بقوله] {قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ الله وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا} [النساء:97]).
فإن قيل: فقد قال عليه السلام في باب الحظر والإباحة من هذا الكتاب بنفسه ما لفظه: (وما يجمع للظلمة على وجه المدافعة والمداراة فهو جائز إن لم يمكن دفعهم إلا بذلك، ويجوز أخذه من القوي والضعيف واليتيم بالرضا والإكراه).

(1/347)


قلت وبالله التوفيق: مراده عليه السلام بذلك لمن يندفع بذلك من الظالمين عن مضرة المسلمين باعطائه المال، ولا يستقيم له عليهم دولة، بدليل ما ذكرناه عنه أولاً، وبدليل قوله عليه السلام: (إن لم يمكن دفعهم إلا بذلك)، وهو تصريح بمعنى ما ذكرت؛ لأن من تستمر دولته غير ممكن دفعه، بما يُعطى ضرورة، وإنما هو مستمر على ظلمهم وسومهم سوء العذاب، وإعطائهم المال مع ذلك مما يقوي شوكتهم ويشد أعضادهم، وتتمكن به وطأتهم، فتأمل ذلك.

(1/348)


[من الأدلة على حرمة تضييع المال]
وقال الأمير الحسين عليه السلام في باب حكم الدخول في الشهادة وبيان من يفتقر إلى الشهادة من العقود من (الشفاء) ما لفظه: خبر وروي أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: ((ثلاثة لا يستجاب لهم: رجل باع شيئاً ولم يشهد عليه، ورجل معه امرأة سيئة ولا يطلقها، ورجل دفع إلى سفيه ماله))؛ دل ذلك على حكمين:
أحدهما: إثبات البيع من دون شهادة؛ لأنه قال: ((باع شيئاً)).
الثاني: أن تضييع المال لا يجوز.
ومن جملة تضييعه أن يبيعه ممن لا يثق منه بالوفاء، أو بدفع ماله إلى سفيه فيضيعه.
فقال عليه السلام: ((أو بدفع ماله إلى سفيه فيضيعه)).
ومن المعلوم أن تضييع المال أهون من إنفاقه في مضرة الإسلام والمسلمين وما يغضب رب العالمين من تكثيف الجيوش على المؤمنين[وقال عليه السلام في باب صفة من توضع فيهم الزكاة من (الشفاء) ما لفظه: فإن كانت] الديون لزمته في غير سرف ولا إنفاق في معصية، وهو فقير جاز أن يصرف إليه سهم منها ليستعين به على قضاء دينه؛ لقوله تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ}[المائدة:2] فدل أول الآية على جواز معونته إذا كانت ديونه لزمته في غير سرف ولا إنفاق في معصية؛ لأن ذلك من وجوه البر، ودلّ آخرها على أنه لايجوز معاونته إذا كانت لزمته في سرف أو إنفاق في معصية.

(1/349)


قلت وبالله التوفيق: إذا كان إعطاء الزكاة من يقضها عن دين لزمه في سرف أو معصية معاونة على الإثم والعدوان عنده عليه السلام، فبطريق الأولى أن يكون إعطاء المال من ينفقه بعينه في المعصية معاونة على الإثم والعدوان؛ لأن الإنفاق في الصورة الأولى غير الذي أعطي بخلاف هذه فهو عين ما أُعطي،[وقال الإمام المطهر عليه السلام] في كتاب الإجارة من كتاب (المنهاج الجلي) ما لفظه: (فرع، قلت: ولا يجوز له أن يكري حانوتاً لخمار ولا لذمي إلى قوله: والوجه في ذلك أن هذا معصية، وقد قال تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ}[المائدة:2]).
قلت وبالله التوفيق: وكلامه عليه السلام يدل على تحريم تسليم الأموال إلى من ذكر بطريق الأولى؛ لأن ذلك يؤدي إلى معصية خاصة وتسليم الأموال إليهم يؤدي إلى معاصٍ عظيمة لا تحد ولا تنحصر بعدٍ.

(1/350)


[قول الإمام المهدي (ع)]
وقال الإمام المهدي لدين الله أحمد بن يحيى عليه السلام في(الغيث) ما لفظه: (قال الشيخ علي خليل في مجموعه للمؤيد بالله عليه السلام في سلطان فاسق يدعو الناس إلى إقامة المعروف، وإزالة المنكر، وهو لا يتعد أمر المسلمين ورأيهم: أنه لايجوز للمسملين متابعته وتقويته وإن التمس هو ذلك، ويمكن جواز الاستعانة به على إقامة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر).
قلت: وهذا معنى ما ذكرناه بعينه.
فقال عليه السلام: قلت: وهذا معنى ما ذكرناه بعينه، يريد في قوله عليه السلام مهما وقف على الرأي، ولم يؤد إلى قوة ظلمه؛ لأن ذلك في سياق شرح هذا اللفظ، ثم ساق كلاماً بعد هذا إلى أن قال ما لفظه: فصارت هذه وجوه ثلاثة، وهي: أن يعينوه على أخذ الأعشار ونحوها فلا يجوز، وعلى دفع الأكثر فقط فيجب.
والثالث: أن يقصدوا معاونته على دفع الأكثر، لكن إذا عرفوا أنهم إن أعانوه على ذلك ازداد ظلماً، فقيل: ينظر في الزيادة، فإن بلغت مثل ظلم المعان عليه أو فوقه لم تجز المعاونة وإن بلغت دونه جاز؛ لأنه دفع منكر بما هو دونه.
قلت: وقد تضمن لفظ (الأزهار) المعاني كلها فتأمله.
قلت وبالله التوفيق: إذا كان إقامة المعروف وإزالة المنكر وإزالة الأكثر ظلماً لا يجوز حيث كانت مؤدية إلى قوة ظلم الظالم كما صرح به عليه السلام، وهي في الأصل واجبة، فما ظنك بتسليم المال الذي لا شك في أنه يؤدي إلى قوة ظلم الظالم مع أنه لا أصل له في الوجوب!

(1/351)


[حكم النذر للفساق]
وقال عليه السلام في (البحر) في كتاب النذر ما لفظه: (ولا يصح للفساق عموماً لتضمنه المعصية، ولا للفقراء الفساق لذلك).
قلت وبالله التوفيق: كل فعل تضمن المعصية لاشك في أنه معصية عند المسلمين، وقد صرّح عليه السلام بأن النذر على الفساق عموماً أو على فقرائهم متضمن للمعصية، وتسليم المال إلى سلاطين الجور من هذا الباب؛ لأن سلطان الجور رأس من تصير إليهم الأموال من المعينين له ممن دخل ديوانه ومن يرجو دخوله، وكذلك من يواليه من العصاة، وهم لا حصر لهم، بل هو في هذا أعظم لتضمنه تقويته على الظلم، وذلك لا يخفى على عاقل.

(1/352)


[مراحل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر]
وقال عليه السلام في باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في (البحر) أيضاً في سياق ذكر النهي عن المنكر ما لفظه: (فيقدم الوعظ ثم السب ثم كسر الملاهي ثم الضرب بالعصا، ثم بالسلاح، فإن احتاج إلى تجييش فهو إلى الإمام لا إلى الآحاد، إذْ هو من الآحاد يؤدي إلى تهييج الفتن والضلال).
وقال عليه السلام في آخر هذا الكلام ما لفظه: (الغزالي يُجوّز للآحاد التجييش والحرب).
قلت: ولا وجه له لما ذكرنا، فقال عليه السلام: لا وجه لجواز التجييش للآحاد لما ذكر عليه السلام من تأديته إلى تهييج الفتن والضلال.
قلت وبالله التوفيق: إذا كان التجييش للآحاد المقصود به دفع المنكر لا يجوز؛ لأنه يؤدي إلى تهييج الفتن والضلال، فكيف الحال في تسليم الأموال المؤدي إلى تهييج الفتن والضلال! مع أنه لم يقصد به دفع منكر البتة، وإنما يقصد به أمراً لا رضا لله فيه، وهو السكون في الديار بين الظالمين الأشرار، وقد حرم الله ذلك على لسان رسوله صلى الله عليه وآله وسلم حيث قال: ((ما من رجل يجاور قوماً فيعمل بين ظهرانيهم بالمعاصي، فلا يأخذوا على يديه إلا أوشك أن يعمّهم الله بعقاب))، رواه أبو طالب عليه السلام في (الأمالي).
قلت وبالله التوفيق: وهم لم يأخذوا على يدي الظالم، وإنما أعانوه بالمال ولم يخرجوه عنهم حتى لايكون بين ظهرانيهم، فأسأل الله تعالى أن يعمّهم بعذاب إلا من تاب.
وفي (شرح ابن مفتاح على الأزهار) في كتاب الوصايا: (أن الوصية للمحاربين من جملة المحظور).

(1/353)


قلت وبالله التوفيق: وكذلك تسليم الأموال إلى سلاطين الجور، إذ لا فرق؛ ولأنه إنما قصد بذلك مجرد التمثيل لا الحصر.

(1/354)


[إجماع أهل البيت (ع) على حرمة إعانة الظالم على إقامة معروف يؤدي إلى قوة ظلمه]
وفي كتب السادة من آل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وأظنه (الجوهر الشفاف) ما معناه: (أن الأئمة من آل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مجمعون على أنه لا يجوز إعانة الظالم على إقامة معروف أو إزالة منكر، أو إزالة من هو أكثر ظلماً إذا كان يؤدي إلى قوة ظلمه، وأما إذا كان لا يؤدي إلى قوة ظلمه فهم مختلفون في ذلك، فمنهم من قال بتحريمه؛ لأنه متبوع وليس بتابع، ولا يجوز أن يكون متبوعاً. ومنهم من قال بخلاف ذلك).
قلت وبالله التوفيق: إذا كانوا " مجمعين على تحريم ما هو في الأصل واجب إذا كان يؤدي إلى قوة ظلم الظالم، فإجماعهم على ذلك يدل على تحريم تسليم الأموال إلى سلاطين الجور بالأولوية ؛ لأنه مؤدٍّ إلى قوتهم على أكثر الظلم.
وقال الإمام الناصر لدين الله الحسن بن علي بن داود عليه السلام في بعض جواباته ما لفظه: (وعدم النقلة من ديارهم ترك واجب، وسبب لمحظورات لا تنحصر بعدّ ولا تنضبط بحد إلى قوله عليه السلام: ولله در الإمام المنصور بالله عليه السلام حيث قال متمثلاً:
وليس حي من الأحياء نعلمه .... من ذي يمان ولا بكرٍ ولا مضر
إلا وهم شركاء في دمائهم .... كما تشارك أنسارٌ على جزر
وعلى الجملة أن ذلك إجماع العترة ").

(1/355)


وفي كلام علي بن العباس، وأبي طالب، والمنصور بالله، والمهدي لدين الله أحمد بن يحيى، وبعض السادة " جميعاً ما يشهد بصحة ما ذكرته من إجماعهم "، وكذلك قول القاسم بن إبراهيم عليه السلام حيث قال: (والمؤمنون وإن قالوا بعداوتهم في ذلك ونكالهم) إلى آخره، وجميع هذه الأقوال الشاهدة بإجماع العترة " قد تضمنها هذا الكتاب، فارجع إليها تعرف حقيقة ذلك إن شاء الله تعالى، وقد قلت أنا في معنى ذلك شعراً:
هذا مقال أئمتي .... من آل أحمد يامخطي
منهم وصي محمدٍ .... وأبو الأُلى قاموا بقسطي
ودليلهم آي الكتا .... ب وسنة لا رأي مخطي
ليس الهوى بباطلٍ .... عند المرآء ولا بخبط
فهو الشفاء من العمى .... وهو الهدى من وعر شطي
فدع اعتراضك بالخطأ .... والاعتماد على المبطي
هذا ولنشرع في ذكر ما يتعلق به المخطي من الشبه وحلها:
قالوا: روي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه كتب يوم الخندق لعيينة بن حصن، ومن تابعه من غطفان بثلث ثمار المدينة من دون مشورة أهلها، فلما عرّفوه صلى الله عليه وآله وسلم بحالهم وقوتهم أعطاهم الكتاب فمزقوه.
قالوا: وذلك دليل على جواز تسليم المال إلى سلاطين الجور!
قلت وبالله التوفيق: إن استدلالهم بذلك باطل؛ لأن ثلث ثمار المدينة إنما قصد به صلى الله عليه وعلى آله وسلم تفريق الأحزاب وتفتييت أعضادهم، وذلك معلوم بين أهل العلم، فلم يكن في ذلك تمكين للظالم مما يجند به الجنود للبغي والفساد في الأرض بغير الحق.

(1/356)


وفي الرواية المشهورة تصريح بمعنى هذا الذي ذكرته، وكذلك نقول بوجوب تسليم المال إذا كان يؤدي إلى تفريق شمل الظالمين، ولم يتمكن من دفعهم إلا به، كما قصد رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم في هذا الخبر بعينه؛ لقوله تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى} وهذا من ذلك.
وأما ما كان يؤدي إلى قوة ظلم الظالمين، واستمرار دولتهم فليس في هذا الخبر شيء من الدلالة على جواز ذلك فتأمل.
فإن أبيت هذا المعنى فاعلم أن في الرواية المشهورة ما معناه أن أهل المدينة قالوا: يارسول الله أهذا أمر من الله؟ أم رأي رأيته؟
فقال: ((ليس هذا بأمر من الله، ولكنه رأي رأيته))، فإذا كان كذلك، والأمر على ما تزعم من جواز تسليم ما يقوي أعضاد الظلمة فلا يصلح دليلاً؛ لأنا لم نعلم أيقره الله على ذلك ويبيح للناس به معاونة الظالمين؟ أم لا يقره؟
فنقول: كما قال الله تعالى: {عَفَا الله عَنْكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ}[التوبة:43] لأنه قد ذكر صلى الله عليه وآله وسلم أنه لم يكن لله في ذلك أمر، فإذا كنا لا نعلم ما حكم الله تعالى فيه؟ فكيف نعتمد عليه؟ ونترك قوله تعالى: {وَلاَ تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ}[المائدة:2] وما وافقه من الأدلة القطعية، وهل ذلك إلا ضلال!
وقالوا: قد ذكر العلماء جواز تسليم معتاد الرصد، وهذا مثله!

(1/357)


قلت وبالله التوفيق: إن معتاد الرصد إنما جعل لحفظ الطريق عن اللصوص، وعن منع المارة بخلاف ما يعطى سلاطين الجور، فإنه لتقويتهم على الفساد في الأرض بغير الحق، وتجييش حزب الشيطان، وبثهم في الآفاق لسفك الدماء وأخذ أموال الناس بالباطل، فالفرق بحمد الله بيّن، والقياس باطل.

(1/358)


[الرد على القائلين بجواز تسليم بعض المال للظلمة]
وقالوا: إنما قلنا بجواز تسليم بعض المال ليسلم ما هو أكثر منه وليندفع بذلك محظوراً، وهو: اغتصاب الظلمة سائر أملاكنا لو فررنا وتركناها أو إفسادها.
قلت وبالله التوفيق: إن ذلك لا يصح التعلق به؛ لأن الله لم يجعله عذراً في محكم كتابه حيث قال تعالى: {قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ الله وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ الله بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ}[التوبة:24].

(1/359)


ووجه الاستدلال بهذه الآية الكريمة على بطلان ما تمسكوا به: أن مفارقة الآباء والأبناء والإخوان والأزواج والعشيرة، وكذلك الأموال ولو انتهت أو فسدت؛ لأن الله تعالى لم يستثن شيئاً ولم يجعله الله عذراً ولا رخصة في ترك طاعته وطاعة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وترك الجهاد في سبيله، حيث قال تعالى: {قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ} إلى قوله: {أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ الله وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ}، والمراد بذلك طاعته تعالى وطاعة رسوله، لا مجرد المحبة التي يزعمون أنها لا تفارق قلوبهم؛ لأنه لو أراد ذلك لم يكن للآية معنى؛ لأن مجرد تلك المحبة التي يزعمون ممكنة مع عدم المفارقة للمال، فإن أبيت هذا التأويل فاعلم أن المحبة لله ولرسوله مستلزمة لطاعة الله وطاعة رسوله؛ لأن المحبوب مطاع كما في قوله تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ الله فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ}[آل عمران:31].
وكما يروى لأمير المؤمنين كرم الله وجهه شعراً:
تعص الإله وأنت تظهر حبه .... هذا محال في القياس بديع
لو كان حبك صادقاً لأطعته .... إن المحب لمن يحب مطيع

(1/360)


فإذا لم تكن مفارقة الآباء والأبناء والإخوان والأزواج والعشيرة والأموال على أنواعها، ولا خشية اغتصابها وفسادها عذر ولا رخصة في ترك طاعة الله وطاعة رسوله والجهاد في سبيله فبطريق الأولى أن لا يكون مراعاة صيانتها من الانتهاب لها وفسادها عذراً، ولا رخصة في فعل معصية، وهي تقوية الظالم على ظلمه؛ لأنه ترك طاعة الله تعالى، وهي: مباينة الظالمين، والإنفصال عنهم، وترك للجهاد في سبيله، وهو نهيهم عن المنكر بالحد إذا لم يؤثر ما هو دونه مع زيادة تقويتهم بما يسلمون إليهم، وذلك لا يخفى على عاقل، فتسليم بعض المال ليسلم الكثير إذا كان يؤدي إلى قوة ظلم الظالم فسق بصريح قوله تعالى في آخر الآية: {وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ}[المائدة:108].
وقولهم: ليدفعوا بذلك محضوراً، وهو اغتصاب أموالهم وإفسادها ضلال عن الحق بيّن؛ لأنهم ولو دفعوا ذلك فقد جلبوا به من المحظورات ما لا يحصى مما هو أعظم من ذلك وأكثر، كقتل النفوس المحرمة [بغير الحق]، وتعطيل الشرائع مع أن ما ذكروه واجب عليهم تركه إذا لم يتمكنوا من حمله ولا من إفساده بأنفسهم لئلاّ ينتفع به الظالمون بنص قوله تعالى: {قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ...} الآية.

(1/361)


[وصف أمير المؤمنين لأقوام آخر الزمان]
لله أبوهم ألا يخافون أن يكونوا آباءهم! عنى أمير المؤمنين عليه السلام في قوله: (يكون في آخر الزمان قوم نبغ فيهم قوم مراءون فيتقرأون ويتنسكون لا يوجبون أمراً بالمعروف ولا نهياً عن المنكر إلا إذا أمنوا الضرر، يطلبون لأنفسهم الرخص والمعاذير، يتبعون زلات العلماء، وما لايضرهم [من نفس أو مال]، فلو أضرت الصلاة والصيام وسائر ما يعملون بأموالهم وأبدانهم لرفضوها، وقد رفضوا أسنم الفرائض، وأشرفها: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فريضة عظيمة، بها تقام الفرائض، ألا إن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر سبيل الأنبياء، ومنهاج الصالحين، فريضة بها تُقام الفرائض، وتُحل المكاسب، وتُرد المظالم، وتُعمر الأرض، ويُنتصف من الأعداء، فأنكروا المنكر بألسنتكم وصُكّوا بها جباههم، ولا تخافوا في الله لومة لائم.
وأوحى الله عز وجل إلى نبي من أنبيائه: أني معذب من قومك مائة ألف، أربعين ألفاً من شرارهم، وستين ألفاً من خيارهم، فقال: يارب هؤلاء الأشرار، فما بال الأخيار؟ قال: ((داهنوا أهل المعاصي ولم يغضبوا لغضبي))، روى ذلك أبو طالب عليه السلام في (الأمالي).
وإنما خشيت أن يكونوا إياهم، عنى أمير المؤمنين عليه السلامبذلك؛ لأنهم رخّصوا في تسليم ما يقوي على ترك المعروف وفعل المنكر؛ طلباً لصيانة أموالهم فضلاً عن أن يقولوا بوجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فتأمل.

(1/362)


واعلم أنهم لم يستندوا في عذرهم ذلك إلى دليل، ولا إلى أحد من علماء العترة "، وما ذاك إلا لأن الأدلة قاضية ببطلان ما تمسكوا به كما رأيت؛ ولأن العترة " مجمعون على أن ذلك غير رخصة كما حكاه علي بن العباس فيما مضى، وقال بإفساد الغلاّت، وخراب القرى لئلا ينتفع بها العدو، وكذلك قد صح لنا من عيون العترة " والجمهور من علماء الأمة أن الخشية على المال لا تكون رخصة في ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كما تقدم ذكره، فكيف تكون رخصة في عماد المنكر وأساسه! وهو تسليم المال إلى الجبارين، فافهم ذلك. وأيضاً لو غلب بعض الجبارين على بعض المسلمين، وقال لا عذر لك من أحد أمرين:
إما الاستمرار على ترك الصلاة، أو إفساد جميع ما تملك، وهو يعلم أنه لو أفسد أملاكه أنه يعيش بأن ينتقل في الأرض لطلب المعاش، لعلمنا أنه إن اختار الاستمرار على ترك الصلاة لصيانة دنياه، فقد آثر الحياة الدنيا على الآخرة، وكان من جملة من ذكره الله تعالى في قوله: {فَأَمَّا مَنْ طَغَى، وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا، فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى}[النازعات:37-39]، ولا يخرج من هذا ممن ابتلي بذلك إلا من لم يصنع كذلك، والإجماع المعلوم على ذلك، وكذلك والله أهل زماننا فإنهم تركوا نهي الجبارين عن المنكر، وهم يقدرون عليه، لولا تخاذلهم بل أمدّوهم بالأموال الجليلة التي تقوّوا بها على فعل المنكر صيانة لدنياهم وإيثاراً لها، وأنه لولا تخاذلهم لم يكن شيء من ذلك، ولعاشوا فلا يخرج من حكمهم هذا إلا من باينهم ولم يصنع كما صنعوا وإلا كان مشاركاً لهم في ذلك ضرورة.

(1/363)


وقالوا: لو هاجرنا لانتفع الظالمون بالمال بعدنا، فلم تؤثِّر هجرتنا إلا التعب!
قلت وبالله التوفيق: الواجب إفساد المال كما تقدم ذكره لئلا ينتفع به الظالمون، والدليل على ذلك قوله تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ}[المائدة:2]، وترك إفساده معاونة لهم؛ لأن المعلوم أنهم ينتفعون به، وكذلك إجماع العترة " المقدم ذكره كذلك دليل عليه، فإن لم يتمكن من إتلافه ترك لهم، وما استعانوا به منه بعد إذٍ فلا يؤآخذ به؛ لأنه لم يدخل في تحت وسعه ولا يكلف الله نفساً إلا وسعها، وليس ذلك بمرخص في بقائه، والدخول تحت طاعتهم؛ لأن انتفاعهم به أهون من انتفاعهم بما يستمر من تسليم الأموال إليهم؛ لأن ما يستمر غير منقطع، وذلك منقطع ولا شك، إنما يتقوّون به على المنكر، وينقطع أهون من الذي يتقوّون به عليه ويستمر.
فإن قيل: فإن منها ما يستمر كالمزارع؛ لأنه يأتي من يزدرعها ويستمر تسليمه إليهم من غلاتها!
قلت وبالله التوفيق: قد ثبت بما تقدم أن تسليم الأموال إليهم محرم من أرباب المزارع كان أو من غيرهم، والإثم على فاعله؛ لقوله تعالى: {وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى}[الأنعام:164] أي: لا يحمل مذنب ذنب مذنب غيره، فلما كان كذلك علمنا أن الذنب على من يزرعها، ويسلم إليهم من غلاتها دون من تجنب ذلك فهو كالزنا، وليس في شريعة الإسلام إباحة الزنا لأجل أن الغير لا يتركه، وذلك بحمد الله واضح.
وقالوا: قد عمّت المحنة وشملت الفتنة، فالمهاجر من أرضه لم ينج من تسليم الأموال إليهم!

(1/364)


قلت وبالله التوفيق: هذا خلاف ما نعلمه؛ لأنا نعلم أن كثيراً من الأرض ذات الطول والعرض لو هاجروا إليها لنجوا من تسليم الأموال إليهم ولكن بعدت عليهم الشقة فكأن الأرض لم تكن إلا حيث يهوون، هلاّ اقتدوا بالمؤمنين من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وما كان من هجرتهم إلى الحبشة تارة، وإلى المدينة أخرى مع التعب الشديد والسفر البعيد.
فإن قالوا: لسنا كأصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم!
قلت وبالله التوفيق: إن أردتم أنكم لستم كأصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في التكليف بالأحكام الشرعية، فقد كذبتم جهاراً؛ لأن التكليف بالأحكام الشرعية متحد ماعدا المستثنى، ومن جملتها ترك تقوية الظالمين، والفرار إلى أرض الله الواسعة كما قال تعالى:{قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ الله وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا}[النساء:97].
وإن أردتم أنكم لستم كمثلهم في فعل الطاعة فلقد صدقتم، فإنهم أطاعوا الله سبحانه وأنتم عصيتم، وقلتم: إنا نخاف الضياع إذا هاجرنا إلى غير الأماكن التي لا تنجو من تسليم الأموال فيها، وقد جربنا تقاصر الرزق والحاجة في هذه الأماكن القريبة فضلاً عن غيرها!
قلت وبالله التوفيق: وقد وعد الله سبحانه بالرزق للمهاجرين في سبيل الله، قال تعالى: {وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ الله يَجِدْ فِي الأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً}[النساء:100].

(1/365)


[قول الهادي(ع) في الهجرة]
قال الهادي عليه السلامفي تفسير هذه الآية: (فمن هاجر من ديار الظالمين ولحق بدار الحق والمحقين رزقه الله من الرزق الواسع ما يرغم به أنف من ألجأه إلى الخروج من وطنه) .
وقال تعالى: {الَّذِينَ هَاجَرُوا فِي الله مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَلاََجْرُ الآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ، الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} [النحل:41،42] فقال تعالى: {لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً}، وذلك الرزق الواسع الحسن، فقد وعد الله بذلك، وهو سبحانه لا يخلف وعده، وقد وعد إبليس بخلافه، قال تعالى: {الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلاً}[البقرة:268] فمن كان وعده عندكم أصدق فتوكلوا عليه فهو حسبكم.
وأما قولكم: قد جربتم تقاصر الرزق والحاجة في الأماكن القريبة فضلاً عن غيرها!

(1/366)


فالجواب والله الموفق للصواب: أن ذلك لما علم الله سبحانه وتعالى أن {مِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ الله عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالآخِرَةَ}[الحج:11] كما أخبر الله في كتابه العزيز، جعل ذلك بليّة ليُمحّص الله الذين آمنوا حتى يحصل منهم ما يستوجبون به الثواب الجزيل والسلامة من العذاب الأليم من الصبر على بلاء الله والرضا بما قسم الله، ويمحق الذين يؤثرون الحياة الدنيا على الآخرة، حتى يحصل منهم ما يستوجبون به النكال والخلود في النار من عدم الصبر على بلاء الله وترك الرضا بماقسم الله، والانقلاب على الأعقاب.
فإن قيل: إنك قد ذكرت أن الله سبحانه يوسع على المهاجرين في سبيل الله، واحتججت بالآيتين المتقدم ذكرهما، وذكرت هنا أنه قد يقع القصور في المعيشة ابتلاءً من الله تعالى.
قلت وبالله التوفيق: إن المعنى في ذلك أن الله تعالى متى علم وقوع الصبر على بلائه والرضا بقسمته وسع على عبيده المخلصين ليجمع لهم بين النعمتين الثواب على الصبر والرضا، والتوسعة في الأرزاق في الدنيا، فيكون جمعاً بين خيري الدنيا والآخرة.

(1/367)


والذي يدل على صحة هذا التأويل قوله تعالى: {وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي الله مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَلاََجْرُ الآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ، الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} [النحل: 41،42] [فقال تعالى: {الَّذِينَ صَبَرُوا}]وليس الصبر إلا على ما يتحمل من المشاق، وذلك منها، فتأمل.
وقوله تعالى: {وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ الله وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ}[آل عمران:146] إلى قوله تعالى: {فَآتَاهُمُ الله ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الآخِرَةِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ}[آل عمران:148] فقال تعالى: {فَآتَاهُمُ الله ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الآخِرَةِ} والفاء للتعقيب، والمعنى: أن الله سبحانه آتاهم ذلك بعد الصبر، وأيضاً أن من المعلوم لمن بحث في السير أن المهاجرين من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لم يقع لهم الرخاء إلا بعد الشدة والبلاء، شهد بذلك قوله تعالى: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ... الآية}[البقرة:214].

(1/368)


وقال علي عليه السلامفي بعض خطبه: (فمن أخذ بالتقوى عزبت عنه الشدائد بعد دنوها، واحلولت له الأمور بعد مرارتها، وانفرجت عنه الأمواج بعد تراكمها، وأسهلت له الصعاب بعد انصبابها، وهطلت عليه الكرامة بعد قحوطها، وتحدبت عليه الرحمة بعد نفورها، وتفجرت عليه النعم بعد نضوبها، ووبلت عليه البركة بعد إرذاذها) .
وقالوا: إن أكثر الناس على ذلك، ومن البعيد أن يكونوا على الخطأ، ومن لا يكاد يوجد إلا على سبيل الندرة على الصواب!
قلت وبالله التوفيق: قد تبين بحمد الله الحجة على ذلك من الكتاب والسنة، وإجماع العترة " والعقل أيضاً قاضٍ على أن الإعانة على القبيح قبيحة، والكثرة لا تأثير لها في إبطال حجج الله سبحانه لا سيما وقد قال تعالى:{وَمَا وَجَدْنَا لأَِكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ وَإِنْ وَجَدْنَا أَكْثَرَهُمْ لَفَاسِقِينَ} [الأعراف:102] وقال تعالى: {وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِين}[يوسف:103] وقال تعالى: {وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ}[الأنعام:116].
وقال صلى الله عليه وآله وسلم: ((بدأ الإسلام غريباً وسيعود غريباً))، ولعل هذا الخبر لا خلاف في صحته، وهو في (الأمالي) لأبي طالب بإسناده إلى جابر عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وفيه زيادة، وهي قوله صلى الله عليه وآله وسلم: ((فطوبى للغرباء)) قيل: ومن هم يارسول الله؟ قيل: ((الذين يَصْلَحون عند فساد الناس)).

(1/369)


وقال صلى الله عليه وآله وسلم: ((بعثت بين جاهليتين أخراهم أعظم من أولاهم))، رواه الإمام القاسم بن إبراهيم عليه السلامفي (المسائل)، والأمير الحسين عليه السلامفي (الشفاء) في كتاب الزكاة.
وقال صلى الله عليه وآله وسلم: ((تكردس الفتن في جراثيم العرب حتى لايقال الله، ثم يبعث الله قوماً يجتمعون كما يجتمع قزع الخريف، فهنالك يحيي الله الحق ويميت الباطل))، رواه الهادي عليه السلامفي (الأحكام).
وقال علي عليه السلام: (يوشك الناس أن ينقصوا حتى لا يكون شيء أحبَّ إلى امرءٍ مسلمٍ من أخٍ مؤمن أو من درهم حلال وأنّى له به)، رواه زيد بن علي عليه السلامفي (مجموعه).
وقال عليه السلام في (نهج البلاغة): (أيها الناس سيأتي عليكم زمان يكفأ فيه الإسلام كما يكفأ الإناء بما فيه).
وقالوا: إذا كانت الهجرة لأجل ذلك واجبة، فأين يسع الناس مع إطباقهم عليه وكثرتهم؟.

(1/370)


[متى تكون الهجرة واجبة]
قلت وبالله التوفيق: إن الهجرة لا تجب إلا عند إصرار الأكثر وتماديهم على ذلك لا إذا اعترفوا بكون ذلك باطلاً، ورجعوا إلى الله وتابوا، إذ لو حصل منهم لذبّوا عن دينهم، وكانت الهجرة حينئذٍ إليهم؛ لأن من المعلوم أنه لولا تقوية الأكثر للظالمين بما يسلمون إليهم من الأموال لما استقامت لهم دولة، وذلك بحمد الله واضح، وكذلك أنا نعلم لولا تخاذلهم لما استولى ظالم على قطر من أقطار المسلمين، لكنهم تخاذلوا ولم يعملوا بقوله تعالى: {فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي}.
ولله در أمير المؤمنين عليه السلامحيث قال في بعض خطبه: (أيها الناس، إنه لابد من رحى ضلالة تطحن ألا وإن لطحنها دوياً، ألا وإن على الله فلّها، ألا وإنه لا يزال البلاء بكم من بعدي حتى يكون المحب لي والمتبع لأثري أذل بين أهل زمانه من فرج الأمة ولم ذلك؟ ذلك بما كسبت أيديكم، ورضاكم بالدنيّة في الدين، ولو أن أحدكم إذا ظهر الجور من أئمة الجور باع نفسه من ربه، وأخذ حظه من الجهاد لقام دين الله على قطبه...، الدنيا الفانية، ولرضيتم من ربكم فنصركم).

(1/371)


قلت والله المستعان: إن الذين يقتدى بهم من أهل زماننا يقولون بنقيض ما قال أمير المؤمنين عليه السلام، يقولون ما معناه: ادفعوا أيها الناس إلى الظالمين ما يتقوّون به على الجور، وأنتم من مكر الله آمنون، وبأهل رضاه لاحقون، ولا تلتفتون إلى ما يقول هؤلاء الذين قد اقتحمتهم العيون، وحقرتهم القلوب، وما عسى أن يكونوا قد بلغوا في العلم! ونحن أكثر منهم قدراً، وأقدم منهم عمرا، قد حفظنا الأقاويل، وأتقنّا التأويل، وأحسنَّا التعليل، فإنه لا يجب عليكم ترك تسليم الأموال إليهم فضلاً عن النكير عليهم إلا عند الأمان على الطارف والتلاد، وما افترقتموه في البلاد لتعودوا به على الأهل والأولاد، وتستعينوا به على مسألة الحاضر والباد.

(1/372)


قلت وبالله التوفيق: كأنهم لم يسمعوا قول الله تعالى [حيث قال:] {إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلاَدُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ}[التغابن:15] وحيث قال تعالى: {الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلاً}[الكهف:46] وحيث قال: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لاَ يُبْخَسُونَ، أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ إِلاَّ النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}[هود:15،16] وحيث قال تعالى: {فَأَمَّا مَنْ طَغَى، وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا، فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى}[النازعات:37-39] وحيث قال تعالى: {قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ...} إلى قوله: {الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ}[التوبة:24] وحيث قال تعالى: {أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّ هُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ، نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَل لاَ يَشْعُرُونَ}[المؤمنون:55،56].

(1/373)


وحيث قال: {بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا، وَالآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى}[الأعلى:16،17] مع إقرارهم بأنهم ليسوا بمجتهدين، ولا بطريق الاستدلال عارفين، ولا من نصوص أئمتهم لذلك آخذين، وقد قال تعالى: {وَلاَ تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ، إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى الله مَا لاَ تَعْلَمُونَ}[البقرة:168،169].
وقال تعالى: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّي الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ...} إلى قوله تعالى: {وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى الله مَا لاَ تَعْلَمُونَ}[الأعراف:33].
وقال تعالى: {وَإِنَّ كَثِيراً لَيُضِلُّونَ بِأَهْوَائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ}[الأنعام:119].
وقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ((من أعان على خصومة بغير علم كان في سخط الله حتى ينزع))، رواه أبو طالب عليه السلام في (الأمالي).
وقال علي عليه السلام: (لايفتي الناس إلا من قرأ القرآن، وعلم الناسخ والمنسوخ، وَفِقهَ السنة، وعلم الفرائض والمواريث) رواه زيد بن علي عليه السلام في (مجموعه).

(1/374)


وقال عليه السلام في (نهج البلاغة): (وإن العامل بغير علم كالسائر على غير الطريق، فلا يزيده بُعْدُه عن الطريق إلا بُعْداً من حاجته، والعامل بالعلم كالسائر على الطريق الواضح)، مع ما في ذلك من خطر الاستمرار، كما في قوله تعالى: {لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلاَ سَاءَ مَا يَزِرُونَ}[النحل:25].
وقوله صلى الله عليه وآله وسلم: ((من أحيا سنة من سنتي قد أميتت من بعدي فله أجر من عمل بها من الناس لا ينقص ذلك من أجور الناس شيئاً، ومن ابتدع بدعة لا يرضاها الله ورسوله كان عليه إثم من عمل بها لا ينقص ذلك من إثم الناس شيئاً))، رواه الهادي عليه السلامفي (الأحكام).
وقوله صلى الله عليه وآله وسلم: ((إن الرجل ليتكلم بالكلمة من رضوان الله ما كان يظن أنها تبلغ ما بلغت، فيكتب له بها رضوانه إلى يوم يلقاه، وإن الرجل ليتكلم بالكلمة من سخط الله ما كان يظن أنها تبلغ ما بلغت فيكتب له بها سخطه إلى يوم يلقاه))، رواه الهادي عليه السلامفي (الأحكام) أيضاً.

(1/375)


أيها الناس: اعرفوا الحق تعرفوا من لزمه فاهتدى بهديه، واستضاء بنوره، واعرفوا الباطل تعرفوا من لزمه فضل بضلاله وارتطم في ظلماته، فقد قال تعالى: {فَبَشِّرْ عِبَادِ، الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ الله وَأُوْلَئِكَ هُمْ أُوْلُوا الأَلْبَابِ}[الزمر:17،18] وقال تعالى: {وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولاً}[الإسراء:36].
وقال صلى الله عليه وآله وسلم: ((إن هذا العلم دين فانظروا عن من تأخذون دينكم))، رواه أبو طالب " في (الأمالي).
وقال أمير المؤمنين عليه السلام في (نهج البلاغة): (فإنما البصير من سمع فتفكر، ونظر فأبصر، وانتفع بالعبر، ثم سلك جدداً واضحاً، يتجنب فيه الصرعة في المهاوي والضلال في المغاوي، ولا يعين على نفسه الغواة بتعسفٍ في حق، أو تحريف في نطق، أو تخوف من صدق)، ولاتنظروا إلى أحوال الرجال، فقد قال الله تعالى: {تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لاَ يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الأَرْضِ وَلاَ فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ}[القصص:83].
وقال صلى الله عليه وآله وسلم: ((كم من عاقل عقل عن الله أمره وهو حقير عند الناس، ذميم المنظر، ينجو غداً، وكم من ظريف اللسان جميل المنظر عند الناس، يهلك غداً في القيامة))، رواه أبو طالب عليه السلامفي (الأمالي) .

(1/376)


وقال علي عليه السلامفي خطبته المشهورة المعروفة ب‍(القاصعة): (فإن الله سبحانه يختبر عباده المستكبرين في أنفسهم بأوليائه المستضعفين في أعينهم) .
وإياكم ومتابعة من اشتدّت رغبته في الدنيا، فقد قال الهادي عليه السلامفي (كتاب الخشية) ما لفظه: (ومن اشتدت رغبته في الدنيا طلب لنفسه التأويلات [الكاذبات، ومن طلب لنفسه التأويلات الكاذبات]، تقحم بلا شك في المهلكات، وكان عند الله من أهل الخطيئات).
قلت وبالله التوفيق: ومن الدليل على صحة ما قاله الهادي عليه السلام، قوله تعالى: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لاَ يُبْخَسُونَ، أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ إِلاَّ النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}[هود:15،16].
وما رواه أبو طالب عليه السلام في (الأمالي) بإسناده إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم في حديث طويل: ((ألا وإنه من رغب في الدنيا وطال فيها أمله أعمى الله قلبه على قدر رغبته فيها)).
قلت وبالله التوفيق: ومعنى ذلك أن الله تعالى يخذله ويسلبه الألطاف، ويكله إلى نفسه، فيكون سيقة للشيطان يعمل بالشبهات، ويطلب بصرائح الأدلة من التأويلات حتى يردها إلى ما يطابق هواه، ويصلح له دنياه.

(1/377)


وما قاله أمير المؤمنين عليه السلامفي كلام طويل، كلّم به كميل بن زياد، وهو قوله: (أو منهوماً باللذة، سلس القياد للشهوة، أو مغرماً بالجمع والادخار، ليسا من رعاة الدين في شيء، أقرب شيء شبهاً بهما بالأنعام السائمة) ، ولا يقولوا بعد تبيين الحق ووضوحه نعمل بخلاف هذا، ونجعل بيننا وبين النار عالما، فإني أخاف أن يكون ذلك شركاً؛ لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم سئل عن قوله تعالى: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ}[التوبة:31].
فقال صلى الله عليه وآله وسلم: ((أما إنهم لم يكونوا يعبدونهم، ولكنهم كانوا يُحلّون لهم ما حرم الله عليهم فيستحلونه، ويُحرمون عليهم ما أحلّ الله لهم فيحرمونه)) رواه أبو طالب عليه السلام في (الأمالي) .
قلت وبالله التوفيق: وهذا [الحديث صحيح] لموافقته لقوله تعالى: {وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ}[الأنعام:121].
ووجه كونهم مشركين أنهم قد تقلّدوا حكماً والتزموه، وعبدّوا له أنفسهم؛ امتثالاً لمن شرعه لهم وابتدعه، وهو غير الله سبحانه، فقد جعلوا لله شريكاً في تشريع الشرائع!! وذلك بحمد الله واضح.
وقوله تعالى: {وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ}[الأنعام:121] نص صريح على ذلك.

(1/378)


ولا يقل أحدكم: إن الذي أعطيته كمجة في لجة، فلا يكون مؤثراً في إعانتهم؛ لأنا نقول وبالله التوفيق: إن الإجماع المعلوم بين الأمة أن المشاركة في ارتكاب المعصية محرم بل ذلك معلوم من الدين ضرورة، وفاعل ذلك مشارك ضرورة، وأيضاً لو كان ذلك عذراً للواحد لكان عذراً للجميع؛ لأن لكل واحد أن يقول ذلك وإلا كان تحكماً، وجميع ما تقدم يشهد ببطلانه، ولا تقولوا: إن الأمر مشتبه علينا؛ لأنا لا نعلم صحة هذا القول، ولا صحة ما يخالفه فنداري على دنيانا، ولعل الله لا يؤاخذنا بما لا نعلم؛ لأنا نقول وبالله التوفيق: إن الأدلة القطعية تقضي بتحريم العمل بالمشتبه، قال الله تعالى: {وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولا}[الإسراء:36].
وقال صلى الله عليه وآله وسلم: ((بئس القوم قوم يستحلون الشهوات بالشبهات))، رواه أبو طالب عليه السلامفي (الأمالي) في حديث طويل.
وقال صلى الله عليه وآله وسلم: ((دع ما يريبك إلى ما لا يريبك))، رواه الأمير الحسين عليه السلام في (الشفاء) .
ونحو ذلك من الأحاديث كثير حتى تواتر معنىً، وأفاد العلم قطعا.
وقال علي عليه السلام في بعض خطبه: (ولا ترخصوا لأنفسكم فتذهب بكم الرخص مذاهب الظلمة).
وقال عليه السلام: (إن العامل بغير علم كالسائر على غير طريق فلا يزده بعده عن الطريق إلا بعداً عن حاجته) وقد تقدم ذلك.
وقال المنصور بالله عليه السلام: (تتبع الرخص زندقة).

(1/379)


وفي (الغيث) ما معناه: (أنه يحرم تتبع الرخص اتباعاً للهوى إجماعاً)، وكذلك في (الفصول)، وهذا من تتبع الرخص اتباعاً للهوى؛ لأنه عمل بالأخف اتباعاً لما تهواه النفوس من الاستصلاح لدنياهم، يريدون بذلك الراحة، وما أبعدها!!
أما في الآخرة فإنه ليس لمن عصى الله ومات مصراً على ذلك عند الله إلا العذاب الأليم، وأما في الدنيا فقد قال تعالى: {وَكَذَلِكَ نُوَلّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ}[الأنعام:129].
ومعنى الآية: أن الله يسلط الجبابرة على من عصاه حتى لا تتم لهم راحة.
وروي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم من أنه قال ما لفظه أو معناه: ((من حاول أمراً بمعصية الله تعالى كان أفوت لما رجا وأقرب لمجيء ما اتقى)).
وقال علي كرم الله وجهه في الجنة في (نهج البلاغة): (لا يترك الناس [شيئاً] من دينهم لاستصلاح دنياهم إلا فتح الله عليهم ما هو أضر منه، أيها الناس لا تستوحشوا في طريق الحق لقلة أهله، ولا يجرمنّكم استحقار أهل الزمان للعاملين به أن لا تعملوا به، ولا تستهوينكم الدنيا فتؤثروها على الآخرة، وقد قال تعالى: {فَأَمَّا مَنْ طَغَى، وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا، فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى}[النازعات:37-39]، اذكروا انقطاع اللذات وبقاء التبعات، وانظروا في أثر الماضين واستنطقوها عن أخبارهم تخبركم والله بلسان الحال، إنهم أفردوا عن دنياهم إلى القبور وتركوا ورائهم الذخائر والقصور، فلم يدفع عنهم شيئاً مما نزل بهم من معضلات الأمور، وعلموا بعد ذلك أنه لاينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم.

(1/380)


قال أمير المؤمنين كرم الله وجهه في الجنة في بعض خطبه: (ألا وإن هذه الدنيا التي أصبحتم تتمنونها وترغبون إليها وأصبحت تغضبكم وترضيكم ليست بداركم، ولا منزلكم الذي خلقتم له، ولا الذي دعيتم إليه، ألا وإنها ليست بباقية لكم، ولا تبقون عليها، وهي وإن غرتكم فقد حذرتكم شرها، فدعوا غرورها لتحذيرها، وأطماعها لتخويفها، وسابقوا فيها إلى الدار التي دعيتم إليها، وانصرفوا بقلوبكم عنها، ولا يخنن أحدكم خنين الأمة على ما زوي عنه منها، واستتموا نعمة الله عليكم بالصبر على طاعة الله والمحافظة على ما استحفظكم من كتابه، ألا وإنه لايضركم تضييع شيء من دنياكم بعد حفظكم قائمة دينكم، ألا وإنه لا ينفعكم بعد تضييع دينكم شيء حافظتم عليه من أمر دنياكم).
وقال علي عليه السلامفي خطبة أخرى: (وأيم الله ما كان قوم قط في غض نعمة من عيش فزال عنهم إلا بذنوب اجترحوها؛ لأن الله ليس بظلام للعبيد).
قلت وبالله التوفيق: ومما يشهد بصحة ذلك قوله تعالى: {أَنَّ الله لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ وَأَنَّ الله سَمِيعٌ عَلِيمٌ}[الأنفال:53] أفلا تخافون زوال دنياكم لذنوبٍ قوّمتم بها عمود الجور والفساد، وأقمتم بها رايات الضلالة وجعلتموها أساساً لحزب الشيطان! فتصبحوا لا دنيا ولا آخرة!

(1/381)


اللهم إن هذا جهدي في النصيحة، اللهم فمن عرف الحق فاتبعه، ونهى نفسه عن هواها، وكدها في مرضاتك، وصبر على بلائك، فاشرح صدره، واهد قلبه ووسع عليه، وارزقه رزقاً حسناً، وأحيه حياة طيبة، وارحمه إذا توفيته، وأسكنه جنتك، وقه عذابك، وارزقه شفاعة صفيك[ونجيَّك] ونبيك ورسولك محمد بن عبد الله صلى الله عليه وآله وسلم.
اللهم ومن عرف الحق فخالفه، واتبع هوى النفس إيثاراً للدنيا الفانية على نعيم الآخرة الباقية، فاطمس على ماله، واشدد على قلبه، فلا يؤمن حتى يرى العذاب الأليم.
اللهم ومن أعان على هدم دينك وظلم أهل بيت نبيك، وسفك الدماء، وتهييج الدهماء، وانتهاب الأرامل والمساكين والمستضعفين الذين لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلاً من غير ضرورة ملجية إلا اتباع الهوى، وحباً للدنيا، فأبسلهم بما كسبوا، وسلِّط عليهم من لا يرحمهم، وأذقهم لباس الجوع والخوف، وابتلهم بالشدائد والزلازل، وامحق دنياهم، وعجّل آجالهم بالموت الأحمر والجوع الأغبر، ولا تؤمنهم يوم الفزع الأكبر.
اللهم، واجعل هذه النصيحة خالصة لوجهك الكريم، واكتبها لي حسنة لديك، وحط يا إلهي وزري، وبارك لي في أمري، ووفقني لما يرضيك واعصمني عن معاصيك، واختم لي ولوالديَّ وللمؤمنين بخير يا أرحم الراحمين، والحمد الله رب العالمين.
وصلى الله على محمد وعلى آله وسلم، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.

(1/382)


الوصية السنية الدرية الزكية

بسم الله الرحمن الرحيم
هذه الوصية السنية الدريّة الزكية، وصية مولانا أمير المؤمنين وسيد المسلمين، وخليفة رب العالمين، المنصور بالله رب العالمين القاسم بن محمد بن علي عليه السلام، أوصى بها ولده السيد البدر العالم العلم الطود الأشم، كشاف الغمم، صاحب السيادة والزهادة: محمد بن القاسم بن محمد ".
بسم الله الرحمن الرحيم
أما بعد، فالسلام عليك ورحمة الله وبركاته، ثم إني أوصيك أن لا تترك درس القرآن يوماً واحداً ولو في كل يوم جزءين أو جزءاً واحداً، لا تترك ذلك أبداً، وعليك بصلاة الجماعة فإنها من الواجبات، ولا يغرنّك قول من قال: إنها سنة، وعليك بملازمة العلم وطلبه فإنه من أكبر الفرائض، واستعن على ذلك بتقوى الله سبحانه؛ لأن الله تعالى يقول: {إِنْ تَتَّقُوا الله يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَاناً}[الأنفال:29] والفرقان هو: العلم والفطنة وتنوير القلب الذي يفرق به بين الحق والباطل، وتقوى الله هي: أن تترك كل حرام وكل مشتبه بالحرام كأكل الشظا لأجل الخلاف، وأن تقوم بكل ما أوجب الله عليك.
ومما تستعين به على تحصيل العلم: ترك حب الدنيا والاشتغال بها؛ لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم يقول: ((من اشتدت رغبته في الدنيا أعمى الله قلبه على قدر رغبته فيها)).
وعليك بالإكثار من الحسنات؛ لأن الله تعالى يقول: {إِنَّ الله مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُون}[النحل:128] وعليك بالتواضع للمؤمنين، وترك التكبر عليهم؛ لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم يقول: ((من تواضع لله رفعه الله، ومن تكبرّ

(1/383)


وضعه الله)).
وعليك بترك الإعجاب بنفسك، وذلك أن تعتقد أنك أفضل من غيرك من المؤمنين، فإن ذلك من الكبائر الموبقات المحبطات للأعمال؛ لأن إبليس -لعنه الله- كان قد عبد الله ستة آلاف سنة أو خمسة آلاف سنة -شككت أنا في ذلك- فاعتقد أنه أفضل من آدم عليه السلام، فجعل الله عليه لعنته إلى يوم الدين.
وروى الإمام أحمد بن سليمان عليه السلامفي كتاب (حقائق المعرفة): أن أعرابياً سأل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن صفة المحبين للرحمن، فأمر علياً عليه السلامأن يخبره، فقال له علي عليه السلام: (يا ذا خذ عني صفة المحبين للرحمن: عبد استصغر بذله في الله واستعظم ذنبه، ووطن نفسه أنه ليس في السماوات والأرض مؤاخذ غيره حينئذٍ-يعني اعتقد أنه لا يؤاخذ أحد من المؤمنين من أهل السماوات والأرض- قال: فصعق الأعرابي حينئذ- يعني ذهب عقله- حتى وقع على الأرض كالميت، فلمّا أفاق يعني رجع له عقله، قال: أخبرنا يا ابن أبي طالب هل تكون في حالة أعلى من هذا العبد؟
قال: نعم، سبعين درجة حينئذٍ يعني أنه خائف أنه ليس مؤاخذ في السماوات والأرض غيره خوفاً زائداً على خوف العبد الذي وصفه سبعين درجة.
واعلم يابني أن ذلك صحيح؛ لأن الله سبحانه وتعالى يقول: {أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلاَ يَأْمَنُ مَكْرَ الله إِلاَّ الْقَوْمُ الْخَاسِرُون}[الأعراف:99].
ولا تظن بأحدٍ من المؤمنين سوءاً؛ لأن الله سبحانه وتعالى يقول: {لَوْلاَ إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنفُسِهِمْ خَيْراً}[النور:12] ويقول: { إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْم}.
وعليك

(1/384)


بترك المرآء، وهو: كثرة المراجعة، فلا تفعل شيئاً من ذلك، لكن إذا عرضت مراجعة وقد عرفت الحق إن قبل وإلا سكت؛ لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم يقول: ((أنا زعيم لمن ترك المرآء ببيت في ربض الجنة، وإن كان محقاً)) .
وعن علي عليه السلامأنه قال: (ومن كثر نزاعه بالجهل دام عماه عن الحق).
وقال عليه السلام: (فمن جعل المرآء ديناً لم يصبح ليله والدين العادة)، ومعنى أنه لم يصبح ليله: أنه يبقى في الظلمات لا يهتدي إلى الحق.
وقال عليه السلامفي وصيته لابنه الحسن: (فإن أبت نفسك أن تقبل ذلك دون أن تعلم كما علموا، وليكن طلبك بتفهم وتعلّم، لابتورط الشبهات، وعلم الخصومات...) في كلام طويل إلى أن قال فيه: (وليس كل طالب للدين من خبط أو خلط، والإمساك عن ذلك أمثل).
وقال بعض الشعراء في ذلك:
إياك إياك المرآء فإنه إلى الشر دعّاء وللشر جالب

(1/385)


وعليك بتعظيم شيخك في العلم؛ لقوله تعالى: {هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لاَ يَعْلَمُون}[الزمر:9]...الآية، وقوله تعالى: {يَرْفَعِ الله الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ}[المجادلة:11]، فمن جمع بين الإيمان والعلم أفضل من الذي لم يكن منه الإيمان فقط، وهو التعلم.
واعلم يابني أني لم آمرك بالعلم إلا أنه من أعظم الطاعات لحاجتنا إليه؛ ولأنه لا ينجو إلا العلماء العاملون؛ لأنه لا ينجو من عذاب الله إلا من خشي الله بدليل قوله تعالى: {فَلاَ يَأْمَنُ مَكْرَ الله إِلاَّ الْقَوْمُ الْخَاسِرُون}[الأعراف:99] وقال تعالى: {وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ، هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ، مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَانَ بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ}[ق:31-33] وقد أخبر الله سبحانه أنه لا يخشاه إلاّ العلماء حيث قال: {إِنَّمَا يَخْشَى الله مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ}[فاطر:28] والعابد يوشك أن يقدح الشك في قلبه، فإذا هو في وادي الهلكات.
وروى زيد بن علي عليه السلام عن علي عليه السلام أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ((من سلك طريقاً يطلب فيه علماً سلك الله به طريقاً إلى الجنة، وإن الملائكة لتضع أجنحتها لطالب العلم، وأنه يستغفر لطالب العلم من في السماوات[ومن في] والأرض حتى حيتان البحر، وهوام البر، وإن فضل العالم على العابد كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب)).
[ومما أوصى به أولاده عليه السلام: يا بني اتقوا الله يكرمكم،

(1/386)


وصلوا أرحامكم تطول أعماركم، ويبارك لكم في أموالكم، وتصدقوا ترزقوا، وأمروا بالمعروف تخصبوا، وانهوا عن المنكر تنصروا، واخمصوا بطونكم من أموال الناس يكن طلبكم جميلاً، وإياكم ودماء الناس فإن تبعاتها في الدارين عظيمة، واصلحوا المال حذار جفوة مخلوق تلجأون، أو نبوة زمان يقل الصبر فيه، وإذا ابتليتم بمسألة أحد فقفوا عند أولها، وكفى بالرد منعاً، وأكرموا الضيف بما تجدون، ولا يكن لكم عن طلب العلم مانع يستغرق أوقاتكم، اجعلوا خيرها وأكثرها في طلب العلم، إلاّ ما لابد منه في إصلاح أموالكم، ففي أوقاته وحين تدعو الضرورة إليه، وإذا طلبتم العلم فعليكم بالعلم النافع، وهو علم آل محمد صلى الله عليه وآله، ودعوا الإغراق فيما لا ينفع، فرب طلب علم جاهل، ورب ساعٍ يضره، ومع استقامة دينكم وعدم معاونتكم للظالمين، فإن لم يستقم دينكم، وحملكم على معاونة ظالم والعياذ بالله فعليكم بالفرار إلى الله تعالى، وتوكلوا عليه، وهو لا يضيعكم، تمت الوصية النافعة].

(1/387)


إجازة العلامة أحمد بن يحيى حابس
بقلم الإمام القاسم بن محمد (ع)
وبالله الحول والقوة والطول.
يقول الفقير إلى الله تعالى أمير المؤمنين القاسم بن محمد لطف الله به آمين:
الحمد لله المكرم لنا بسنة سيد الأنام، الكرامة العظمى من نعمه التوام، وأياديه الجسام، المتفضل علينا بتوفيقنا لنحملها عن حفظتها الأعلام المتصلين إسناداً بالنبي محمد عليه وعلى آله من الله أفضل الصلاة والسلام إلى نظرائهم من أهل دين الإسلام، الطالبين معرفة الحلال والحرام وما سوى ذلك من الأحكام.
وبعد:
فإن دين الإسلام لما كان مأخوذاً من سيد الأنام وخاتم الرسل الكرام، وتراخت بنا الأيام عن إدراك زمانه، ففاتنا الأخذ عنه مشافهة، وخلف فينا كتاب الله المعلوم بالاضطرار من دينه يسمعه أهل كل عصر عن من سبقه من غير حصر حتى ينتهي إلى سيد المرسلين، لا يختلفون في ذلك فهو معلوم الإسناد المتصل إلى النبي صلى الله عليه وعلى آله، وخلف فينا صلى الله عليه وعلى آله سنته، وإن لم يبلغ أكثر ما أسند منها مبلغ ما أسند به كتاب الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد، فقد استعنا بالله سبحانه وطلبناه ففتح الله لنا من ذلك بنصيب وافر، فلله الحمد كثيراً، بكرة وأصيلاً.

(1/388)


ولنبدأ إن شاء بأسانيد العترة الطاهرين، وأشياعهم المتقين؛ لأن العترة قرناء وحي الله وشيعتهم متمسكون بهما، وقد قال صلى الله عليه وآله: ((إني تارك فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا من بعدي أبداً، كتاب الله وعترتي أهل بيتي، إن اللطيف الخبير نبأني أنهما لن يفترقا حتى يردا عليَّ الحوض)) ، وأحاديث التمسك بالعترة الطاهرة لها طرق كثيرة، وردت عن نيف وعشرين صحابياً فيما رواه العامة.
وأما الأئمة " وشيعتهم رضي الله عنهم جميعاً فإنهم لا يختلفون في حديث التمسك، ويرويه منهم خلف عن سلف، ويرفعونه إلى النبي صلى الله عليه وعلى آله، يعرف ذلك من قرأ في علومهم واطلع على مصنفاتهم.
ثم نتبع ذلك بما ثبت لنا طريقة من سائر كتب الحديث وغيرها إن شاء الله تعالى.
فأقول وبالله الثقة والحول والقوة: أنا أروي من فقه الزيدية (الأزهار)، وشرح ابن مفتاح، و(التذكرة)، و(مفتاح الفرائض)، وشرح الناظري على السيد العالم التقي جمال الدين علي بن إبراهيم القاسمي، قراءة عن الفقيه العلامة محمد بن عبد الله بن رواع قراءة [ ] .
(ح) وعن الفقيه العالم المهدي بن أحمد الرجمي قراءة لجميع كتاب الأحكام من (البحر)، وإجازة لسائر كتب آل محمد وشيعتهم قراءة لكتاب الأحكام من (البحر) على الفقيه العلامة إبراهيم بن مسعود الحوالي، قراءة على الفقيه العلامة محمد بن عبد الله بن راوع مقدم الذكر، وإجازة له من الفقيه سعيد بن عطاف القداري الآتي ذكره -إن شاء الله تعالى-.

(1/389)


(ح) وعن السيد العلامة المجاهد في سبيل الله إبراهيم بن المهدي القاسمي الجحافي قراءة لـ(أصول الأحكام) للإمام أحمد بن سليمان، وإجازة لغيره عن السيد أحمد بن عبد الله الوزير، وقراءة لكتاب (أصول الأحكام)، وإجازة لغيره أيضاً.
(ح) وعن السيد العلامة أمير الدين بن عبد الله قراءة لجميع كتاب (شفاء الأوام) من أوله إلى آخره، وإجازة لجميع كتب علوم أهل محمد وغيرها مما يأتي ذكره -إن شاء الله تعالى- عن السيد أحمد بن عبد الله بن الوزير مقدم الذكر.
(ح) وعن القاضي العلامة محب آل محمد أحمد بن صلاح الدوّاري الملقب بالقضعة إجازة عن السيد أحمد بن عبد الله بن الوزير مقدم الذكر. وعن الحاكم عبد العزيز بن محمد بن بهران الآتي ذكره.
(ح) وعن الفقيه العلامة عبد الرحمن بن عبد الله الحيمي قراءة لقطعة من كتاب (شفاء الأوام)، وإجازة لباقيه عن السيد أحمد بن عبد الله بن الوزير المقدم ذكره.
(ح) وعن الحاكم عبد العزيز بن محمد بن يحيى بن بهران التميمي إجازة عن والده محمد بن يحيى ومشائخه الذين هم: يحيى بن محمد بن حميد المقرائي، ومحمد بن علي بن عمر الضمدي، والفقيه حسن الزريقي.
(ح) وعن السيد الأكمل صلاح بن أحمد بن عبد الله بن الوزير مقدم الذكر إجازة عن والده أحمد بن عبد الله.
(ح) وعن الفقيه العلامة عبد الله بن المهلاّ التيسائي إجازة عن السيد أحمد بن عبدالله مقدم الذكر.
(ح) وأروي أيضاً جميع كتاب (شفاء الأوام) عن الفقيه المحقق المتقن عامر بن محمد قراءة عن الحاكم عبد العزيز بن محمد بن يحيى بهران قراءة عن مشائخه المذكورين.

(1/390)


(ح) وعن الفقيه سعيد بن عطاف القداري إجازة عن يحيى بن محمد بن حسن المقرائي.
(ح) وعن أحمد بن يحيى الذويد الصعدي إجازة عن عبد العزيز عن والده وعن مشائخه المذكورين، وهؤلاء الذين انتهى إليهم السند كلهم يروون عن الإمام يحيى شرف الدين عليه السلام جميع ما سنقف عليه إن شاء الله تعالى فيما يأتي ذكره من كتب أهل المذهب " وغيرهم من أتباعهم وغيرهم من فقهاء العامة.
وعلى الجملة فكل ما في هذا الإسناد مما هو سماع أو إجازة أو مناولة أو غيرها من الطرق للإمام شرف الدين عليه السلام فقد صار لنا بمثل تلك الطرق التي للإمام شرف الدين إليه عن المقدم ذكرهم عن مشائخهم عن الإمام شرف الدين عليه السلام حسبما قد وضعناه هاهنا، والله الموفق والهادي.
ولبعض من تقدم ذكره من الطرق غير طريق الإمام شرف الدين عليه السلام كما يأتي -إن شاء الله تعالى-، ولنا أيضاً من الطرق غير ما ذكرنا، وستقف علىذلك إن شاء الله تعالى.
وأقول وأنا العبد الفقير الخائف من عذاب ربه العلي الكبير أحمد بن يحيى بن أحمد بن حابس بعد حمد الله على سوابغ نعمائه، وبوالغ آلائه، والصلاة على النبي وآله: لما منّ الله عليّ وأحسن إليّ بالاتفاق بمولانا وإمام زماننا وحجة الله علينا: القاسم بن محمد أيده الله تعالى ليلة السبت في العشر الأواخر من شهر محرم سنة اثنين وعشرين وألف.

(1/391)


[طريقة أهل البيت في علم الحديث]
كان من جملة ما ذكره لي وأوصاني به أن قال: إنما في علم الحديث ويكون الاعتماد على حديث القدماء من أهل البيت، إذ طريقهم فيه الطريقة المعتمدة حيث كان عمدتهم على طلب اليقين وترك الظن الذي لا يغني من الحق شيئاً.
قال عليه السلام: واعلم أن الحديث على خمسة أقسام:
الأول: المتواتر.
والثاني: المتلقى بالقبول، وهو: ما يتفق عليه أئمتنا والصحاح الستة للفقهاء.
الثالث: الأحادي، الذي يشهد له الكتاب إما بنص أو قياس، وهذه الثلاثة هي المعتمدة.
الرابع: الأحادي المصادم للكتاب، أو المتواتر، فهذا حقيق بالإطراح.
الخامس: الأحادي الذي لم يشهد له الكتاب ولا خالفه، فهذا لا يعتمد عليه لما قد علمنا من وقوع الكذب في الحديث ممن لانرضى طريقته.
ولما ذكر لي هذا الخطاب الذي أتى فيه بما يروق ويستطاب، سكن لذلك خاطري، وقر بذلك ناظري، فقلت له: أريد منكم ترسمون لي إجازة فيما قد حصل لكم فيه من طرق السماع وغيرها من الطرق المعتبرة، وما قد جمعتموه من كتب وجوابات.
فقال لي مشافهاً: قد أجزت لك جميع ما قد حصل لي فيه من الطرق المعتبرة، حسبما هو موضوع في كتاب (الإجازة) المسمى (كتاب إجازة المنصور بالله) وفيه إجازات عديدة من العلماء، منها ما يستند إلى الإمام شرف الدين عليه السلام كإجازته لمحمد بن يحيى بن بهران، ومحمد بن علي بن عمر الضمدي وغيرها، ومنها: ما سنده إلى غيره، وكذلك جميع ما قد ألفته من كتب وجوابات.

(1/392)


ثم إنه صلوات الله عليه قد كان أجاز لي قبل هذا التأريخ مثل هذه الإجازة، أعني بالعموم الشامل، ونص على كتب منها: كتاب (شفاء الأوام) بعد أن كنت قد قرأت عليه أيده الله تعالى قطعة منه، ولله الحمد، ونسأله تمام سماعه.
ومنها: كتاب (البحر)، ومنها: كتاب (الأساس)، و(الإرشاد)، و(التحذير)، و( جواب مسائل عبد الجبار).
واشترط عليَّ في إجازته مطلقاً ما يشترطه العلماء من حسن التأدية والضبط فالتزمت ذلك.
هذا من فضل الله علينا وعلى الناس، {وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَشْكُرُونَ}[غافر:61].
واعلم: أن مولانا وإمام زماننا أيده الله تعالى قد أحيا الله به ما اندرس من معالم علم آبائه وأجداده الذين هم سفن النجاة، وله من العناية بسائر العلوم والتحري في طرقها ما ليس لأحد من أبناء زمانه مثله، سيما علم الحديث الذي كاد يندرس في البلاد وتنطمس معالمه مع شدة الحاجة إليه، وكثرة الاعتماد عليه، وهو يفتقر إلى تصحيح الرواية، لما قد وقع من التحريف والكذب على النبي صلى الله عليه وآله.

(1/393)


نقلت من خط مولانا أمير المؤمنين أيده الله تعالى ما لفظه: المروي عن النبي صلى الله عليه وآله من الأخبار غير مصون من إفك المنافقين، ووضع الفاسقين، ووهم الواهمين، ثم من حشو الملاحدة وأهل البدع والأهواء من المارقين الخوارج، وعتاة النواصب، وغلاة الروافض، وطغام المجبرة والمشبهة، وهمج القصاص والوعاظ والحشوية، وأغتام الظاهرية، والكرامية، والخطابية، وغيرهم مما لا أحصي كثرة من المسترسلين في وضع الأخبار من عوام المتفقهين، ونساك المتعبدين والمتصوفين الذاهبين إلى قبول المجهولين.
قال شعبة: لم يفتش أحد عن الحديث تفتيشي، فوجدت ثلثي ما وجدت منه كذباً.
وقال ابن المعتز: كذبنا عن الكذابين، ولقد تسامح من ينظر إليه في أحاديث الترغيب والترهيب، واعتمد من يعتمد على قوله في وجوب العمل بما ظن صدقه، مع أن المعلوم عقلاً أن الظن يخطئ، ومع قوله تعالى: {إِنَّ الظَّنَّ لاَ يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً}[النجم:28] وقوله تعالى: {إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ}[الحجرات:12].
وروى أيده الله تعالى عن مقدمة (جامع الأصول) ما لفظه: قال شيخ من شيوخ الخوارج بعد أن تاب: إن هذه الأحاديث دين فانظروا عمّن تأخذون دينكم، فإنا كنا إذا هوينا أمراً صيّرناه حديثاً.

(1/394)


وما ذكرناه فهو حاصل في زمن الصحابة أعني من التحريف والكذب على النبي صلى الله عليه وعلى آله، خلافاً لابن الصلاح؛ لأنه قال في النوع التاسع والثلاثين من كتاب (معرفة أنواع علم الحديث) للصحابة بأسرهم خصيصة، وهي: أنه لا يسأل عن عدالة أحد منهم، بل ذلك أمر مفروغ منه؛ لكونهم على الإطلاق معدلين بالكتاب والسنة، وإجماع من يعتد به في الإجماع من الأمة، قال الله تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ}[آل عمران:110] وقال تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ}[البقرة:143] وقال سبحانه:{مُحَمَّدٌ رَسُولُ الله وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ} [الفتح:29].
قال: وفي نصوص السنة الشاهدة بذلك كثرة كحديث أبي سعيد المتفق على صحته أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: ((لاتسبوا أصحابي...)) الخبر.
قال: ثم إن الأمة مجمعة على تعديل جميع الصحابة ومن لابس الفتن منهم كذلك بإجماع العلماء الذين يعتد بهم في الإجماع.

(1/395)


قال مولانا أمير المؤمنين أيده الله تعالى: وهلاّ تلا ابن الصلاح قوله تعالى: {مَرَدُوا عَلَى النّفَاقِ لاَ تَعْلَمُهُمْ...}[التوبة:101] الآية، وقوله تعالى: {مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الآخِرَةَ...}[آل عمران:152] الآية، مع قوله تعالى: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا...}[هود:15] الآية، وهل يذكر ما روى هو في الصحاح قوله صلى الله عليه وآله في أصحابه الذين يردون الحوض فيجلأون عنه، فيقال: إنك لاتدري ما أحدثوا بعدك، وأين إجماع الأمة على التعديل مع استحلال دماء وقعة الجمل وصفين والنهروان دماء بعضهم بعضاً؟ اللهم إلا أن يخرج أولئك عن الأمة، وكيف وهم كانوا هم الأمة؟ ثم مَنْ هؤلاء الذين يعتد بإجماعهم دون من سواهم إن كان بدليل خاص فليبرزه فهو في محل الاحتجاج الذي لا يقتصر فيه على مجرد الدعوى، ثم إن المخالفة أن تدعي خلاف ما أدعي، ثم لا تكون أيهما أولى بصحة دعواه من الآخر!
هذا جوابه عليه السلام على ابن الصلاح، ولقد أجاد وأفاد، فتأمله، فهو يدفع عنك زخارف أهل العناد.
هذا وإن أصحابنا المتأخرين قد سلكوا في كتبهم الفقهية طريقاً كان الأولى لهم والأجدر بحالهم أن يسلكوا طريقاً غيرها، وهي: أنهم يعتمدون على نقل أقوال مخالفيهم من فقهاء العامة ويملأون كتبهم بكثرة أقوالهم حتى أنهم يذكرون للعالم أقوالاً عديدة، ويعدون ذلك مفخراً عظيماً!

(1/396)


وهذا غاية التساهل، فإن الأولى الإعتناء في حديث النبي صلى الله عليه وعلى آله الصحيح منه والساقط، فإنهم يحتجون بالحديث في تحليل أو تحريم، ولا يبحثون عن صحته، ومن رواه مع ما في هذا من الخطر العظيم، وأنت ترى فقهاء العامة لا يلتفتون إلى أقوالهم ولا يعولون عليها، بل لا يبعد أنهم يدعون الإجماع مع إجماع الزيدية على خلاف ما ذكروا.
ولنا سلف بحمد الله صالح لاتجد لفقهاء العامة مثله، يروون الحديث عن الآباء والأجداد الطاهرين عن سيد المرسلين، لا يشاركهم فيه مشارك إلا من عرفوا عدالته من شيعتهم الأخيار كزيد بن علي عليه السلام، ومحمد الباقر، وجعفر الصادق، والإمام أحمد بن عيسى، والقاسم بن إبراهيم، والهادي يحيى بن الحسين "، ومحمد بن منصور المرادي، والمؤيد بالله، وأبي طالب وغيرهم، فهم قد اتخذوا من طرق الحديث أبهجها وأحسنها.

(1/397)


قال السيد الهادي بن إبراهيم أعاد الله من بركاته في كتاب (هداية الراغبين إلى مذهب العترة الطيبين): وصنف زيد بن علي (مجموع الفقه)، وهو: أول من صنف من العترة النبوية وبوّب في الفقه أبواباً، وتكلم عليها، وليس بينه وبين رسول الله صلى الله عليه وعلى آله إلا ثلاثة: أبوه، وجده الحسين بن علي، وأمير المؤمنين عليه السلام، فهو يروي عن زين العابدين وأبوه عن أبيه سبط سيد المرسلين، وهو عن أبيه خاتم الوصيين الأنزع البطين، فمن أولى بالتقليد والاتباع في الدين؟ من لم يكن بينه وبين صاحب الشريعة إلا أبوه وجده وجد أبيه ثلاثة، اثنان معصومان، والثالث قريب من العصمة، أم غيره من علماء الأمة؟! لولا قلة الإنصاف وأخلاف الخلاف!!، فلينظر الناظر لنفسه، وقد ذكرنا من حديث الباقر بن محمد بن علي عليهما السلام تعظيمه لزيد، وأنه كان يقول فيه: هذا والله سيد بني هاشم، وقصته معه في كتاب أبيه الذي كان طلبه منه وأنه استغنى عنه بكتاب الله.
وفي بعض كلام الباقر دليل عظيم على علم زيد -عليهما السلام-، وأن الباقر إنما سمي بهذا الإسم لتبقره في العلم، والتبقر: التوسع، فإذا اعترف الباقر لزيد بالسيادة فقد اعترف له بالريادة عليه في العلم بقوله لأبي خالد وأبي حمزة، وقد تقدم ذكرهما: يا أبا خالد، ويا أبا حمزة إن زيداً أعطي من العلم علينا بسطة، فصح بإقراره عليه السلام واعترافه أن زيداً كان أعلم منه وأفضل، فما ظنك برجل فاق الباقر فضلاً وعلماً، واعترف بفضله وصحة إمامته أبو حنيفة أكثر الأمة فهماً.

(1/398)


قال الذهبي في ترجمة جابر الجعفي: أنه حفظ عن الباقر سبعين ألف حديث، فانظر إلى سعة علمه عليه السلام، وانظر إلى سعة علم زيد حيث يقول الباقر: هو أعلم منه صلوات الله عليهما، انتهى بلفظه.
قلت: ولم يخل زمان من قائم من أهل البيت " يعلن الحق ويظهره، ويمحو الباطل ويطمسه، لقوله صلى الله عليه وآله وسلم: ((لاتزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين))، والمراد به أهل البيت لما صح من الأخبار المشهورة والمتواترة مثل قوله صلى الله عليه وآله وسلم: ((إني تارك فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا من بعدي أبداً كتاب الله وعترتي أهل بيتي، إن اللطيف الخبير نبأني أنهما لن يفترقا حتى يردا عليَّ الحوض)).
وقوله صلى الله عليه وآله وسلم: ((مثل أهل بيتي فيكم كمثل سفينة نوح من ركبها نجا، ومن تخلف عنها غرق وهوى)).
وقوله صلى الله عليه وآله وسلم: ((النجوم أمان لأهل السماء، فإذا ذهبت النجوم أتى أهل السماء ما يوعدون، وأهل بيتي أمان لأهل الأرض فإذا ذهب أهل بيتي من الأرض أتى أهل الأرض ما يوعدون)) إلى غير ذلك، فقد دلت هذه الأخبار على عدم خلو الزمان منهم، فما ظنك بمن علمه هو: العلم، واتباعه هو: النجاة، وسنده أصح الأسانيد.
قال العلماء: إن الله لما خلق الدنيا بأسرها من أجل محمد صلى الله عليه وآله وسلم جعل دوامها بدوامه، ودوام أهل بيته ".

(1/399)


والذي يدل على نجاتهم ونجاة من اتبعهم أدلة كثيرة من الكتاب مثل: {إِنَّمَا يُرِيدُ الله لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ}[الأحزاب:33]، ومثل: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا}[فاطر:32] وهم: أهل البيت؛ لأنه مجمل بينه: (( إني تارك فيكم...))الخبر، ونحوه وغير ذلك من الآيات.
وأما الأحاديث فكثيرة.
روى مولانا أمير المؤمنين أيده الله تعالى في كتاب (الإرشاد) عن الديلمي رحمه الله تعالى أنه قال: الأحاديث التي من روايات الفقهاء المتفق عليها يعني في أهل البيت ": ألف وستمائة وخمسة أحاديث غير ما ذكره أهل البيت " وشيعتهم رضي الله عنهم، منها ستمائة وخمسة وثمانون حديثاً تختص بعلي عليه السلام، وتسعمائة وعشرون تختص بالعترة "، كل واحد منها يدل على إمامتهم وفضلهم على سائر الناس.
وروى أيده الله تعالى عن المنصور بالله عليه السلام أنه قال ما معناه: الأحاديث فيهم " من رواية الموالف والمخالف قربت من ألفي حديث.
فهذا تنبيه لطيف وإشارة يسيرة ترشدنا إلى أن أهل البيت " لايحتاج من اتبعهم إلى علم غيرهم؛ لأن علمهم دين كامل كافل بنيل السؤل والمرام، فمالنا والتلذذ حول علم غيرهم والاحتجاج بحديث غيرهم ".
وقد روى النجري في مقدمة شرح البيان عن أبي طالب -عليهما السلام- ما معناه أنه قال: كيف يحتج علينا بحديث من يستحل قطع رقابنا؟
فينبغي للإنسان أن لا يقتبس إلا من نورهم، ولا يهتدي إلا بهديهم، وأن لايغره الشيطان بأن يقول: إنهم ليس لهم عناية في علم الحديث.

(1/400)


ولا أقول لك إنك لا تذكر حديث غيرهم رأساً، فينبغي ذكره زيادة في تأكيد الحجة، واستعانة على دحض الخصم بحديثه الذي يصح عنده، وهذا مقصد مهم، وإنما أردت بقولي لك أولاً أنك لا تجعل حديثهم أصلاً في دينك ترجع إليه وترجحه على حديث أهل البيت "، فافهم أيها المسترشد موفقاً.
واعلم: أنه يجب عليك التفهم لكتاب الله تعالى وما صح لك من الأخبار حتى إذا ورد عليك شيء من الحديث عرضته على ذلك، فإن وافقه ولو بتأويل من غير تعسف قبل، وإلا أطرح، وعند ذلك يسهل عليك عبور هذا الميدان والدخول في هذا الشأن.
ولقد تكلم في ذلك الفقيه الحافظ رزين بن معاوية الأندلسي بكلام يشفي الأفئدة من الأوام، ويذهب عنها حزة الاضطرام، ذكره في أول كتاب (تجريد الصحاح)، قال ما لفظه: واعلم أنه كما يحتج طائفة بأن هذا ليس في الصحيح، فكذا تحتج طائفة أخرى لما يرومون به الانحلال من الصحيح وغيره بنحو ما روي عن سفيان بن عيينة من قوله: الحديث مضلة إلا للفقهاء.
ولعمري لقد صدق على الوجه الذي قصده لا على الوجه الذي تأولوه هم عليه.
نعم: وأيضاً فلو كان مما ليس له إلا وجه واحد يحمل عليه لما كان ينبغي أن يجعل قول أحد في مقابلة قول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ولا معترضاً عليه، ولو ارتفع ما ارتفع في علمه وزمانه، وكيف وقد قال صلى الله عليه وآله وسلم: ((تركت فيكم أمرين لن تضلوا ما تمسكتم بهما: كتاب الله وسنة رسوله)).

(1/401)


وقال عليه السلام: ((إنما أنا رحمة مهداة))، وقد قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ}[الأنبياء:107] فقد بيّن صلى الله عليه وآله وسلم أن حديثه وسنته هدى، وأن لا ضلالة على من تمسك به، وإنما معنى قول سفيان رضي الله عنه: الحديث هدى إلا لمن لا يفقهه ويروم إحالته عن حقيقته ويتأوله بغير علم على ما لا يصح ولا يليق به بوجه، فهو لهذا مضلة، فهذا معنى لفظه، والمقصود من اللفظ: المعنى، وهو روحه وسره، وحين أطلق سفيان هذا اللفظ ما منعه من تقييد، والله أعلم، إلا أنه قد علم أنه لا يلتبس على أحد ممن يسمعه إلا أحد من الرعاع الذين لا مبالاة بهم ولا بأمثالهم، ولا يتوهم ذو علم وفهم أنه يعني أن حديث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم سبيل إلى الضلال، ولا أن التمسك به ضلال، فإن اعتقاد هذا بالاجماع ضلال.
نعم ويحتمل أن يريد حين لم يرد في اللفظ حديث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن يريد أن الحديث من أحاديث الناس، أو مما يروون من الموضوعات والإسرائيليات، وأحاديث من قبلنا ممن لا يوافق حكمة الله ولا سنة رسوله مما يروي غير الثقات من الأحاديث الموضوعة والمغيرة عن وجهها فمثل هذا إذا تعلق به الجاهل، لم يؤمن عليه الضلال، وإنما يميزه ويفصل الحقيقة فيه أهل الفقه والعلم، العالمون بكتاب الله، وما صح عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من السنة.

(1/402)


وهذا وجه أو يكون أراد أن من تأول حديث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بغير حقيقة فقه له ولا صحة فهم بمعناه، ربما أخرجه تأويله إلى الضلالة، ألا ترى إلى قول الحسن البصري لما سأله عن تعلم العربية؟ فقال له حسن: فتعلمها، فإن الرجل يقرأ الآية فيعي بوجهها فيضل، أو قال: فيهوي في النار، وإذا كان من تأول القرآن الذي هو أصل كل هدى بغير فقه ولا علم يخرجه ذلك إلى الضلال، فهكذا يكون حال من تأول حديث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بغير علم ولسنا بصدد الرد على أهل الأهواء.
فلنرجع إلى العرض فنقول: أصل الحديث راجع إلى القرآن، وإنما هو تفصيل لمجمله فاعتمد على القرآن وما في الصحاح المذكورة، وقس على ذلك جميع ما ورد عليك من الحديث، فما وافقه فلا تتلعثم في قبوله، ولينشرح صدرك له، ولا تستبعد أن يكون في الصحاح المذكورة أصل لكل حديث يرد عليك، أو معنى يقويه أو يضعفه، لكن تحتاج إلى تعاهدها وتذكارها، فإن أهل الحديث قد جمعوا معاني الحديث إلى أحاديث يسيرة حتى قال بعضهم: إن أربعة أحاديث تجمع ذلك على وجه وقع لهم ورأوه، وهو قوله صلى الله عليه وآله وسلم: ((الحلال بيّن والحرام بيّن وبين ذلك أمور مشتبهات، فمن اتقى الشبهات استبرئ لعرضه ودينه، ومن وقع في الشبهات يوشك أن يواقع الحرام، كالمرتعي حول الحمى يوشك أن يواقعه، ألا وإن لكل ملك حمى ألا وإن حمى الله في أرضه محارمه...)) الحديث، وقوله صلى الله عليه وآله وسلم: ((من حسن إسلام المرء تركه ما لايعنيه)).

(1/403)


وقوله عليه السلام: ((إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئٍ ما نوى، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله...)) الحديث.
وقوله صلى الله عليه وآله وسلم لرجل يوصيه وقد سأله أن يوصيه: ((لاتغضب)).
وقال آخرون: بل الواقع قوله لرجل وقد قال له: دلني على عمل إذا عملته أحبني الله، وعمل إذا عملته أحبني الناس؟.
فقال: ((ازهد في الدنيا يحبك الله، وازهد فيما في أيدي الناس، وانبذ إليهم بما في يديك يحبك الناس)).
وقال آخرون: بل الواقع قوله صلى الله عليه وآله وسلم: ((يا أيها الناس إن الله طيب لا يقبل إلا الطيب، وإن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين، فقال: يا أيها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحاً، وقال: {ياأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ}[البقرة:172]، ثم ذكر الرجل يطيل السفر أشعث أغبر ومطعمه حرام وملبسه حرام وغذي بالحرام فأنى يستجاب لذلك)! فإذا كان هذا هكذا فلا يستبعد أن يكون القرآن أصل العلوم، ثم الصحاح المشهورة أسٌ بيّنا عليها جميع الحديث، فما وافقه فلا تتلعثم في قبوله، وما خالفه ترك من غير أن يحال عن وجهه بتغيير معناه، فإنما الفقيه من أخذ فقهه عن الكتاب والسنة والإجماع، داخل في السنة؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قد بيّن بسنته أن الأمة لا تجتمع على ضلالة، وهو مأخوذ من القرآن من قوله تعالى: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ...}[النساء:115] الآية، انتهى ما ذكره الحافظ رزين.

(1/404)


وإذا قد نجز هذا فلنرجع إلى ما نحن بصدده، فنقول: إنه لما كان الأمر كما أسلفنا، ومنَّ الله علينا بهذه الطريق الحسنى، وكانت عامة في جميع العلوم من طرق شتى قد ذكرها مولانا أيده الله تعالى، اتجه أن يذكر شطراً من تلك الطرق، وهي طريق الحاكم عبد العزيز بن محمد بن يحيى بهران رحمه الله تعالى؛ لأنا ظفرنا بطرقه مرقومة بخطه وخط غيره من العلماء الذين حصل له من قبلهم الطرق، وإن كان سائر العلوم الدينية، قد ذكر الإمام المهدي لدين الله أنه يجوز الأخذ فيها بما صنفه العالم وإن لم يحصل تلك الطرق.
قال الفقيه يحيى بن محمد بن حميد في كتاب ( الشموس والأقمار) ما لفظه: وقد تكون الوجادة أبلغ حالة من الإجازة، لا سيما حيث كان في الكتاب أثر التصحيح والضبط والعناية من أهل المعرفة، وقد يقول المحقق: تم قراءةً وتصحيحاً وضبطاً على كذا، فإن هذه النسخة التي هذا حالها أبلغ من أن يقول أجزت لفلان كتاب كذا، ولذلك الكتاب نسخ عديدة لا يتميز صحيحها عن سقيمها، وقد ذكر الإمام المهدي عليه السلام في (المنهاج شرح المعيار) ما معناه: أنه يجوز الأخذ بما صنفه العالم وإن لم يحصل تلك الطرق؛ لأنه لايعمل ذلك الكتاب ويضعه إلا وقد أراد الأخذ بما فيه، والعمل به، بل لا مراد له سواه، لكن إنما يجوز في النقليات بشرط أن يكون ذلك الكتاب قد ضبطت ألفاظه على تلك الصفة حتى لا يتردد في المراد.
وأما العقليات فإنما يعمل بذلك الكتاب حيث طابق ما فيه ما وقر في نظره، فحينئذٍ يكون عملاً بتعلمه لا لو لم يوافق لم يعمل، إذ لا يجوز التقليد فيها، انتهى.

(1/405)


قلت: أما حديث النبي صلى الله عليه وآله وسلم فإنه يجب أن يؤخذ فيه بأحسن الطرق، ويتحرى فيه مبلغ الجهد بكثرة الطرق لما أسلفنا.

(1/406)


[كلام منقول من إجازة الفقيه شمس الدين أحمد بن عثمان للإمام القاسم]
منقول من إجازة الفقيه العارف المحدث شمس الدين أحمد بن عثمان بن عبد الرحيم صاحب المسوح للإمام المنصور بالله عليه السلام.
قال بعد أن ذكر البسملة والحمد والشهادة والصلاة على النبي وآله.
أما بعد:
فإن موالاة آل محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم فرض على البرية محتوم، والتدين بحبهم بالضرورة من الدين معلوم، خصوصاً الإمام المجتبى والولي المرتضى يعسوب الدين ومولى كافة الموحدين، قرين التنزيل، وعيبة العلم الجزيل، أمير المؤمنين وأخا سيد المرسلين، عنصر الأطايب على المطالب علي بن أبي طالب عليه السلام، وزكي التحية والإكرام، وذلك لما ورد من عظم التنويه بقدره وقدر بيته.
ولنغترف الآن نبذ الولاية غرفةً من يم فضلهم الذي ليس لقعره غاية، ومن ثم قال أحمد بن محمد بن حنبل رحمه الله مع غيره من علماء الصدر الأول كإسماعيل القاضي، والنسائي، وأبي علي النيسابوري رحمهم الله: ما جاء لأحد من الفضائل ما جاء لعلي عليه السلام، ولم يرد في حق أحد من الصحابة رضي الله عنهم أكثر مما جاء فيه.
وقد أخرج ابن عساكر عن حبر الأمة، وترجمان القرآن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما أنه قال: (ما نزل في أحد من كتاب الله عز وجل ما نزل في علي كرم الله وجهه).
وأخرج عنه أيضاً قال: (نزلت في علي ثلاثمائة آية).

(1/407)


وأخرج الطبراني، وابن أبي حاتم، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: ما أنزل الله: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} إلا وعلي أميرها وشريفها، ولقد عاتب الله أصحاب محمد صلى الله عليه وآله وسلم في غير مكان، وما ذكر علياً إلا بخير.
وقال ابن عباس: (كانت لعلي عليه السلام ثماني عشرة منقبة ما كانت لأحد من هذه الأمة).
وأما الأحاديث فأكثر من أن تحصر، وأشهر من أن تذكر، فنذكر منها نزراً يسيراً تبركاً بالجناب العلي، وتشرفاً بخدمة مولانا علي.
منها: حديث غدير خم المشهور:
وهو ما أخرجه كثير من المحدثين، ورواه عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ثلاثون صحابياً، أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم جمع الصحابة رضي الله عنهم مرجعه من حجة الوداع بالغدير المذكور، وخطب وكرر عليهم: ((ألست أولى بكم من أنفسكم))؟ ثلاثاً، وهم يجيبون بالتصديق والإعتراف، ثم رفع يد علي عليه السلام وقال: ((من كنت مولاه فعلي مولاه، اللهم وال من والاه وعاد من عاداه، وأحب من أحبه، وابغض من أبغضه، وانصر من نصره، واخذل من خذله، وأدر الحق معه حيث دار)) فكيف يسوغ الاعتذار لمن خالف بعد هذا النص علياً! وبِمَ يلقى الله من لم يكن له موالياً وولياً!
وما أخرجه البخاري ومسلم وغيرهما، عن جماعة من الصحابة أن النبي صلى الله عليه وآله استخلف علياً كرم الله وجهه على المدينة لما خرج إلى تبوك فقال له: يارسول الله تخلفني في النساء والصبيان، فقال صلى الله عليه وآله وسلم: ((أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى غير أنه لا نبي بعدي)).

(1/408)


وأخرجا أيضاً، والطبراني، والبزار عن جماعة من الصحابة رضي الله عنهم أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال يوم خيبر: ((لأعطين الراية غداً رجلاً يفتح الله على يديه يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله)) فأعطاها علياً كرم الله وجهه.
وأخرج الحاكم في (المستدرك) عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: ((علي إمام البررة، وقاتل الفجرة، منصور من نصره، مخذول من خذله)).
وأخرج الخطيب في (التأريخ): عن البراء بن عازب، والديلمي في (مسند الفردوس) عن ابن عباس أنه صلى الله عليه وآله وسلم قال: ((علي مني بمنزلة رأسي من بدني)).
وأخرج أحمد، والترمذي، والنسائي، وابن ماجة أنه عليه الصلاة والسلام قال: ((علي مني وأنا من علي ولا يؤدي عني إلا أنا أو علي)).
وأخرج ابن أبي شيبة، عن عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه قال: لما حضر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الطائف قام خطيباً فحمد الله تعالى وأثنى عليه ثم قال: ((أوصيكم بعترتي خيراً، وإن موعدكم الحوض، والذي نفسي بيده لتقيمن الصلاة، ولتؤتن الزكاة، أو ليبعثن إليكم رجلاً مني أو كنفسي يضرب أعناقكم)) ثم أخذ بيد علي كرم الله وجهه ثم قال: ((هو هذا)).
وأخرج البيهقي، والديلمي، عن أنس أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: ((علي يزهر في الجنة ككواكب الصبح لأهل الدنيا)).

(1/409)


وأخرج الترمذي، عن ابن عمر قال: آخا النبي صلى الله عليه وآله وسلم بين أصحابه، فجاء علي بدمع عيناه، فقال: يا رسول الله آخيت بين أصحابك ولم تؤاخ بيني وبين أحد، فقال صلى الله عليه وآله وسلم: ((أنت أخي في الدنيا و الآخرة)).
وأخرج الطبراني في (الكبير) عن ابن عمر أنه صلى الله عليه وآله وسلم قال: ((علي أخي في الدنيا والآخرة)).
وأخرج مسلم عن علي عليه السلام: (والذي فلق الحبة وبرأ النسمة، إنه لعهد النبي الأمي إليَّ أنه لا يحبني إلا مؤمن ولا يبغضني إلا منافق).
وأخرج الترمذي والحاكم عن بريدة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ((إن الله أمرني بحب أربعة، وأخبرني أنه يحبهم)).
قيل: يارسول الله سمهم لنا؟
قال: ((علي منهم)) يقول ذلك ثلاثاً ((وأبو ذر، والمقداد وسلمان)) رضي الله عنهم.
وأخرج أبو الخير الحاكمي، وصاحب (كنوز المطالب في بني أبي طالب) أن علياً عليه السلام دخل على النبي صلى الله عليه وآله وسلم وعنده العباس رضي الله عنه فسلم فرد عليه صلى الله عليه وآله وسلم، وقام فعانقه وقبّل ما بين عينيه، وأجلسه عن يمينه، فقال له العباس: أتحبه؟
فقال ياعم: ((والله لله أشد حباً له مني، إن الله عز وجل جعل ذرية كل نبي في صلبه وجعل ذريتي في صلب هذا)).
وأخرج أحمد والحاكم عن أم سلمة رضي الله عنها قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: ((من سب علياً فقد سبني)).
وأخرج الدارقطني عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: ((علي باب حطة، من دخل منه كان مؤمناً، ومن خرج منه كان كافراً)).

(1/410)


وأخرج أبو نعيم وابن عساكر أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: ((الصديقون ثلاثة: حبيب النجار، ومؤمن آل فرعون الذي قال: أتقتلون رجلاً أن يقول ربي الله؟ وعلي بن أبي طالب كرم الله وجهه)).
وأخرج ابن المظفر وابن أبي الدنيا عن أبي سعيد الخدري قال: خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في مرضه الذي توفي فيه، ونحن بصلاة الغداة فقال: ((إني تركت فيكم كتاب الله عز وجل وسنتي استنطقوا القرآن لسنتي، فإنه لن تعمى أبصاركم ولن تزل أقدامكم، ولن تقصرأيديكم ما أخذتم بهما))، ثم قال: ((أوصيكم بهذين خيراً))، وأشار إلى علي والعباس رضي الله عنهما لا يكف عنهما أحداً ولا يحفظهما إلا أعطاه الله نوراً حتى يرد به عليَّ يوم القيامة)).
وأخرج ابن السمان أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه قال: سمعت النبي صلى الله عليه وآله وسلم يقول: ((لا يجوز أحد الصراط إلا من كتب له علي الجواز)).
وأخرج أحمد في (المناقب) عن علي عليه السلام أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال له: ((أنت أخي وأبو ولدي تقاتل على سنتي، من مات على عهدي فهو في كنز الجنة، ومن مات على عهدك فقد قضى نحبه، ومن مات بحبك بعد موتك ختم له بالأمن والإيمان)).
وأخرج الديلمي عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: ((خير أخوتي علي، وخير أعمامي حمزة، ذكر علي عبادة)).
وأخرج الخطيب عن أنس أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: ((عنوان صحيفة المؤمن حب علي)).

(1/411)


وأخرج الطبراني أن علياً رضي الله عنه قال: (إن خليلي صلى الله عليه وآله وسلم قال: ((ياعلي إنك ستقدم على الله تعالى وشيعتك راضين مرضيين، ويقدم عليه عدوك غضاباً .....)) ثم جمع علي رضي الله عنه يده إلى عنقه يريهم الأقماح.
وأخرج الطبراني في (الأوسط) والحاكم في (المستدرك) عن أم سلمة أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: ((علي مع القرآن، والقرآن مع علي، لن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض)).
وأخرج ابن عدي في (الكامل) عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: ((علي عيبة علمي)).

(1/412)


وأخرج الطبراني في (الأوسط) والبزار عن جابر، والحاكم والعقيلي وابن عدي عن ابن عمر، والترمذي والحاكم عن علي عليه السلام أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: ((أنا مدينة العلم وعلي بابها، فمن أراد العلم فليأت الباب))، فلم تزل الأمة من مدينة العلم النبوي وبابها العلوي يمتدون، وبأنوارها إلى سبيل النجاة يهتدون، لاسيما أهل بيت النبوة ذوي الرجاحة والفصاحة والفتوة والشهامة والفخامة والمرؤة، فإنهم المخصوصون من أنوار الهداية بأوضحها، وأنهجها، الهداة للعالمين إلى اقتفاء سواء منهجها، لم يزل مسلسلاً فيهم ذلك المدد باقياً إلى آخر الأبد، مصداق ذلك ماقاله سيد الأولين والآخرين عليه صلوات رب العزة وسلامه إلى يوم الدين، مما أخرجه أحمد أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: ((الحمد لله الذي جعل فينا الحكمة أهل البيت))، وما أخرجه أحمد أيضاً والطبراني: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: ((إني تارك فيكم خلفيتي كتاب الله حبل مدود مابين السماء والأرض وعترتي أهل بيتي وأنهما لن يفترقا حتى يردا عليَّ الحوض)) وفي رواية للترمذي: ((إني تارك فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا))، إلى أن قال: ((وإن اللطيف الخبير أخبرني أنهما لن يفترقا حتى يردا عليَّ الحوض، فانظروا بما تخلفوني فيهما)).
وفي رواية صحيحة: ((إني تارك فيكم أمرين لن تضلوا إن اتبعتموهما، وهما: كتاب الله وأهل بيتي عترتي)).
وأحاديث: التمسك بالعترة الطاهرة لها طرق كثيرة، وردت عن نيف وعشرين صحابياً.

(1/413)


ومعلوم أن ماورد في مولانا علي بخصوصه من التنويه فذريته الطاهرة داخلون فيه، لقوله صلى الله عليه وآله وسلم: ((الناس من شجر شتى وأنا وعلي من شجرة واحدة)).
وأيضاً ماورد في أهل البيت من عظيم الفضائل، فعلي عليه السلام فيه أول داخل، ولنتيمن الآن بإيراد نموذج قليل مما ورد في حقهم من الفضل الجليل، وفي حق محبيهم من الثواب الجزيل، والثناء الحسن الجميل، إذ فضلهم لايحد، كيف وقد أثنى عليهم الواحد الأحد في تنزيله الكريم الذي ليس فوق تعظيمه تعظيم.
وأما الأحاديث فكثيرة جمة لايحيط بها علماً إلا القليل من علماء الأمة، منها ما أخرجه مسلم: عن سعد بن أبي وقاص قال: لما نزلت آية المباهلة، وهي قوله تعالى: {فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ...}[آل عمران:61]الآية، دعا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم علياً وفاطمة وحسناً وحسيناً، وقال: ((اللهم هؤلاء أهل بيتي)).
قال في (الكشاف): (لا دليل أقوى من هذا على فضل أصحاب الكساء).
وفي رواية: ((فأذهب عنهم الرجس وطهّرهم تطهيرا)).
وأخرج أحمد أنه صلى الله عليه وآله وسلم أخذ بيد الحسن والحسين وقال: ((من أحبني وأحب هذين وأباهما وأمهما كان في درجتي يوم القيامة)).
وفي رواية الترمذي: ((كان معي في الجنة)).
وأخرج أحمد في (المناقب) أنه صلى الله عليه وآله وسلم قال لعلي: ((إنك معي في الجنة والحسن والحسين وذريتنا خلف ظهورنا، وأزواجنا خلف ذرياتنا، وشيعتنا عن أيماننا وشمائلنا)).

(1/414)


وأخرج ابن سعد عن علي كرم الله وجهه، قال: أخبرني رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ((أن أول من يدخل الجنة أنا وفاطمة والحسن والحسين))، قلت: يارسول الله فمحبونا؟.
قال: ((من ورائكم)).
وأخرج البيهقي وأبو الشيخ والديلمي أنه صلى الله عليه وآله وسلم قال: ((لايؤمن عبد حتى أكون أحب إليه من نفسه، وتكون عترتي أحب إليه من عترته، ويكون أهلي أحب إليه من أهله، ويكون ذاتي أحب إليه من ذاته)).
وأخرج الديلمي أنه صلى الله عليه وآله وسلم قال: ((أدّبوا أولادكم على ثلاث خصال: حب نبيكم وحب أهل بيته، وعلى قراءة القرآن والحديث)).
وأخرج ابن عدي والديلمي عن علي عليه السلام أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: ((أثبتكم على الصراط أشدكم حباً لأهل بيتي)).
وأخرج الطبراني وأبو الشيخ عن ابن عمر رضي الله عنه أنه صلى الله عليه وآله وسلم قال: ((إن لله عز وجل ثلاث حرمات من حفظهن حفظ الله دينه، ومن لم يحفظهن لم يحفظ الله دنياه ولا آخرته)).
قلت: وما هن؟
قال: ((حرمة الإسلام، وحرمتي، وحرمة رحمي)).
وأخرج ابن سعد والملاّ في (سيرته) أنه صلى الله عليه وآله وسلم قال: ((استوصوا بأهل بيتي خيراً فإني أخاصمكم عنهم غداً، ومن كنت خصمه أخصمه، ومن أخصمه دخل النار)).وأنه صلى الله عليه وآله وسلم قال: ((من حفظني في أهل بيتي فقد اتخذ عند الله عهداً)).
وأخرج الملا أيضاً أنه صلى الله عليه وآله وسلم قال: ((لا يحبنا أهل البيت إلا مؤمن تقي، ولا يبغضنا إلا منافق شقي)).

(1/415)


وأخرج الديلمي أنه صلى الله عليه وآله وسلم قال: ((من أراد التوسل إلي أن تكون له عندي يدٌ أشفع له بها يوم القيامة، فليصل أهل بيتي وليدخل عليهم السرور)).
وفي (الشفاء) للقاضي عياض رحمه الله أنه صلى الله عليه وآله وسلم قال: ((معرفة آل محمد براءة من النار، وحب آل محمد جواز على الصراط، والولاية لأهل محمد أمان من العذاب)).
وروي أنه صلى الله عليه وآله وسلم قال: ((ألزموا مودتنا أهل البيت فإن من لقي الله وهو يودنا دخل الجنة بشفاعتنا، والذي نفسي بيده لا ينفع عبداً عمله إلا بمعرفة حقنا)).
وصحح الحاكم خبر أنه صلى الله عليه وآله وسلم قال: ((يا بني عبد المطلب إني سألت الله ثلاثاً: أن يثبت قائمكم، وأن يهدي ضالكم، وأن يُعلّم جاهلكم، وسألت الله أن يجعلكم جوداء))، أو في رواية: ((نجدآء نجبآء رحمآء، فلو أن رجلاً صفن بين الركن والمقام فصلى وصام، ثم لقي الله وهو مبغض لأهل بيت محمد صلى الله عليه وآله وسلم دخل النار)).
وروي أنه صلى الله عليه وآله وسلم قال: ((يرد عليَّ الحوض أهل بيتي، ومن أحبهم من أمتي كهاتين السبابتين))، ويشهد له خبر: ((المرء مع من أحب)).
وروي أنه صلى الله عليه وآله وسلم قال: ((من أحبنا بقلبه وأعاننا بيده ولسانه كنت أنا وهو في عليين، ومن أحبنا بقلبه وأعاننا بلسانه وكف يده فهو في الدرجة التي تليها)).
وصح أنه صلى الله عليه وآله وسلم قال: ((أحبوا الله لما يغذوكم به من نعمه، وأحبوني لحب الله، وأحبوا أهل بيتي لحبي)).

(1/416)


وقال صلى الله عليه وآله وسلم: ((والذي نفسي بيده لا يدخلوا الجنة حتى يؤمنوا، ولا يؤمنوا حتى يحبوكم لله ولرسوله)).
وروي أنه صلى الله عليه وآله وسلم قال: ((إن لكل بني أب عصبة ينتمون إليها إلا أولاد فاطمة فأنا وليهم وعصبتهم وهم عترتي، خلقوا من طينتي، ويل للمكذبين بفضلهم، من أحبهم أحبه الله، ومن أبغضهم أبغضه الله)).
وروي أنه عليه السلام قال: ((والذي نفسي بيده لا يبغضنا أهل البيت أحدٌ إلا كبه الله في النار)).
وأخرج الديلمي أنه صلى الله عليه وآله وسلم قال: ((اشتد غضب الله على من آذاني وعترتي)).
وأخرج أبو بكر الخوارزمي أنه صلى الله عليه وآله وسلم خرج على أصحابه ووجهه مشرق كدائرة القمر، فسأله عبد الرحمن بن عوف، فقال: ((بشارة أتتني من ربي في أخي وابن عمي وابنتي بأن الله زوج علياً من فاطمة -عليهما السلام-، وأمر رضوان خازن الجنان فهزّ شجرة طوبى، فحملت صكاكاً بعدد محبي أهل البيت، وأنشأ تحتها ملائكة من نور[................................].
فلا يبقى محب لأهل البيت [..............] فصار أخي وابن عمي وابنتي فكاك رقاب رجال ونساء من أمتي من النار.
وروي أنه صلى الله عليه وآله وسلم قال: ((من أحب أن ينسأ في أجله، وأن يُمتّع بما خوّله الله فليخلفني في أهل بيتي خلافة حسنة، فمن لم يخلفني فيهم بتر الله عمره، وورد عليّ مسوداً)).
وأخرج الخطيب عن عثمان أنه صلى الله عليه وآله وسلم قال: ((من آذى شعرة مني فقد آذاني، ومن آذاني فقد آذى الله)).

(1/417)


وأخرج الطبراني والديلمي أنه صلى الله عليه وآله وسلم قال: ((الدعاء محجوب حتى يصلى على محمد وأهل بيته)).
وروى عنه عليه السلام أنه قال : ((لا تصلوا عليّ الصلاة البتراء؟ فقالوا: وما الصلاة البتراء؟ قال: تقولون: اللهم صلّ على محمد، وتمسكون بل قولوا: اللهم صلّ على محمد وآل محمد)).
وأخرج الطبراني عن ابن عمر أنه قال: آخر ما تكلم به النبي صلى الله عليه وآله وسلم : ((اخلفوني في أهل بيتي)).
وأخرج الحاكم عن أبي ذر رضي الله عنه أنه صلى الله عليه وآله وسلم قال: ((إن مثل أهل بيتي فيكم كمثل سفينة نوح من ركبها نجا، ومن تخلف عنها هلك)).
وأخرج أبو يعلى عن سلمة بن الأكوع رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: ((النجوم أمان لأهل السماء، وأهل بيتي أمان لأمتي))، أشار صلى الله عليه وآله وسلم إلى قوله تعالى: {وَمَا كَانَ الله لِيُعَذّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ}[الأنفال:33] وإن وجود أهل بيته كوجوده؛ لأنهم يساوونه في أشياء، منها: أنهم بضعة منه صلى الله عليه وآله وسلم بواسطة فاطمة +، فأقامهم مقامه، في الأمان لأهل الأرض.
قال العلماء: إن الله لما خلق الدنيا بأسرها من أجل محمد صلى الله عليه وآله وسلم جعل دوامها بدوامه ودوام أهل بيته ".
هذه لمعة من أنوارفضائلهم الباهرة، وقطرة من بحار مجدهم الزاخرة، ومن يحيط بما منحهم الله من عظم الشرف وأكرمهم به من سني الزلف، وأن هذا لهو المفخر المشيد، والثناء الخالد على التأبيد.
معال هي الفخر الصحيح وغيرها .... معال مجازٍ بين واهٍ وسالم
ومن ذا يقيس الشمس في رونق الضحى .... إلى كوكب في غيهب الليل عاتم

(1/418)


فتأمل أيها المحب بعض ما ورد من الحث الأكيد على حبهم، ومراعاة حقهم والوعيد الشديد على الغض من منصبهم، والتجنب لواضح طريقهم، وإن أردت استقصاء ما لهم من حميد المآثر فهي مرقومة برودها بأنامل المحابر منظومة عقودها في أجياد الدفاتر، مشحونة بها بطون الدواوين، متسلسلة إلى مشرفهم صلى الله عليه وآله وسلم بعدول الراوين، ومن يطيق يزح العباب أو يحصي عدد القطر والتراب.
يفنى الكلام وما يحيط بفضلهم .... أيحيط ما يفنى ما لا ينفد
ولنقف على ما أورده المؤلف من الفضائل في إجازته لمولانا أيده الله تعالى إذ هو المقصود لنا في هذا الأوان، لعدم تمكننا من نقل الكتاب بأسره، فالله المستعان، وبه الاعتصام، وعليه التكلان.
وصلى الله على سيدنا محمد وآله وسلم
فرغ رقمها يوم الخميس في شهر محرم سنة اثنين وعشرين وألف بخط مالكه الفقير إلى الله أحمد بن يحيى بن حابس، عفا الله عنه، ولوالديه، وللمسلمين.

(1/419)


أهم مراجع التحقيق
القرآن الكريم.
الأحكام في الحلال والحرام، الإمام الهادي إلى الحق يحيى بن الحسين(ع)، المتوفى سنة (298ه‍). الطبعة الثانية- مكتبة التراث الإسلامي
-اليمن- صعدة.
أعلام المؤلفين الزيدية، الأستاذ عبد السلام الوجيه، الطبعة الأولى- مؤسسة الإمام زيد بن علي الثقافية.
مجموع كتب ورسائل الإمام الهادي يحيى بن الحسين (ع)، تحقيق الأستاذ/ عبد الله الشاذلي. الطبعة الأولى- مؤسسة الإمام زيد بن علي الثقافية.
المجموع الحديثي والفقهي، الإمام زيد بن علي (ع)، تحقيق الأستاذ/ عبدالله بن حمود العزي، الطبعة الأولى- مؤسسة الإمام زيد بن علي الثقافية.
تيسير المطالب في أمالي أبي طالب، الإمام أبو طالب يحيى بن الحسين الهاروني، تحقيق/ عبد الله حمود العزي، الطبعة الأولى- مؤسسة الإمام زيد بن علي الثقافية.
الزهري أحاديث وسيرته، للعالم بدر الدين الحوثي، طبعة مؤسسة الإمام زيد بن علي الثقافية.
أمالي المرشد بالله يحيى بن الحسين الشجري، طبعة عالم الكتب، بيروت-لبنان.
شرح نهج البلاغة، ابن أبي الحديد، تحقيق/ محمد أبو الفضل إبراهيم، الطبعة الثانية- دار إحياء التراث العربي للطباعة والنشر والتوزيع.
شرح نهج البلاغة، الشيخ محمد عبده، منشورات دار المعرفة
-بيروت- لبنان.
الفلك الدوار في علوم الحديث والفقه والآثار، صارم الدين إبراهيم بن محمد الوزير، تحقيق محمد يحيى سالم عزان، طبعة دار التراث اليمني.

(1/420)


المصابيح الساطعة الأنوار في تفسير أئمة أهل البيت الأطهار وشيعتهم الأبرار (1،2،3)، أحمد بن إبراهيم الشرفي، تحقيق/ محمد قاسم الهاشمي- عبد السلام عباس الوجيه، الطبعة الأولى- مكتبة التراث الإسلامي- اليمن- صعدة.
المصابيح في السيرة، أبو العباس الحسني، تحقيق/ عبدالله الحوثي- مؤسسة الإمام زيد بن علي الثقافية.
موسوعة أطراف الحديث النبوي، جمع محمد السعيد زغلول، عالم التراث- بيروت- لبنان.
البحر الزخار الجامع لمذاهب علماء الأمصار، الإمام أحمد بن يحيى المرتضى-طبعة دار الحكمة اليمانية.
مجموع كتب ورسائل الإمام القاسم بن إبراهيم الرسي، تحقيق/ عبدالكريم جدبان، الطبعة الأولى- دار الحكمة اليمانية- صنعاء.
مناقب أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (ع)، ابن المغازلي الشافعي، منشورات مكتبة الحياة- بيروت- لبنان.
المنية والأمل في شرح الملل والنحل، الإمام أحمد بن يحيى المرتضى، تحقيق/ محمد جواد مشكور (ط 2)-دار الندى-دمشق- سوريا.
لوامع الأنوار في جوامع العلوم والآثار، العالم المجتهد مجدالدين المؤيدي، الطبعة الأولى- مكتبة التراث الإسلامي.
الناسخ والمنسوخ في القرآن الكريم، عبد الله بن الحسين بن القاسم، تحقيق/ عبد الله الحوثي- الطبعة الأولى- مؤسسة الإمام زيد بن علي الثقافية.
الاعتبار وسلوة العارفين، الإمام الموفق بالله الحسين بن إسماعيل الجرجاني، تحقيق الأستاذ/ عبد السلام الوجيه- الطبعة الأولى- مؤسسة الإمام زيد بن علي الثقافية.
النبذة المشيرة في جمل من عيون السيرة، سيرة القاسم بن محمد(ع)، المطهر الجرموزي، تحت الطبع.

(1/421)


الجوهرة المنيرة في جمل من عيون السيرة، سيرة المؤيد بالله محمد بن القاسم(ع)، المطهر الجرومزي- تحت الطبع-.
تحفة الأسماع والأبصار بما في السيرة المتوكلية من الأخبار- سيرة المتوكل على الله إسماعيل بن القاسم، المطهر الجرموزي، تحقيق/ عبد الحكيم الهجري، الطبعة الأولى- مؤسسة الإمام زيد بن علي الثقافية.
مآثر الأبرار في تفصيل مجملات الأخبار، شرح بسامة صارم الدين إبراهيم الوزير، تحقيق الأستاذ/ عبد السلام الوجيه والأستاذ خالد قاسم المتوكل، الطبعة الأولى- مؤسسة الإمام زيد بن علي الثقافية.
الاعتصام بحبل الله المتين، الإمام القاسم بن محمد(ع)، المطابع الملكية-عمان- الأردن.
مجمع الفوائد، العالم الحجة مجدالدين المؤيدي، طبعة دار الحكمة اليمانية..
معجم رجال الاعتبار وسلوة العارفين، عبد السلام عباس الوجيه، الطبعة الأولى- مؤسسة الإمام زيد بن علي الثقافية.
الأعلام، خير الدين الزركلي، الطبعة السادسة-دار العلم للملايين،بيروت- لبنان.
القاموس المحيط، الفيروزآبادي، الطبعة الخامسة-مؤسسة الرسالة.
مختار الصحاح، محمد بن أبي بكر الرازي، طبعة دار القلم-بيروت-لبنان.
أساس البلاغة،جار الله محمود بن عمر الزمخشري،طبعة دار المعرفة،بيروت-لبنان.
صحيفة الأمة (العدد 103،104،105).

(1/422)