الكتاب : مجمع الفوائد
المؤلف : السيد العلامة المجتهد مجدالدين المؤيدي

كتب مجمع الفوائد
تأليف
الإمام الحجة
مجد الدين بن محمد بن منصور المؤيدي أيده الله تعالى

(1/1)


كتاب فصل الخطاب في خبر العرض على الكتاب
تأليف
الإمام الحجة مجد الدين المؤيدي أيده الله تعالى
[مقدمة المؤلف]
بسم اللّه الرحمن الرحيم
الحمدلله وسلام على عباده الذين اصطفى، اللهم اجعل أفضل صلواتك، وأجزل تحياتك وبركاتك، وأكمل سلامك وإكرامك، وأجل إجلالك وإعظامك، على رسولك الذي أرسلته رحمة للعالمين، وأمينك الذي أرشدت به الغاوين، وهديت به الضالين، وحجتك على عبادك إلى يوم الدين، الفاتح لما انغلق من رسالاتك، والخاتم لما سبق من أنباء سماواتك، وعلى أخيه ووصيه وابن عمه ونجيه ووليه وباب مدينة علمه الذي نزلته منه منزلة نفسه، واشتققت نوره المضي من شمسه، وغرسه الباسق الزكي من غرسه، وأيدته بسيفه القاضب، ونصرته بعزمه الماضي، الماحق بذي الفقار فقرات الكافرين، والقاطف بحسامه البتار أعناق الناكثين والقاسطين والمارقين، التالي له في مقامه وعهده والقائم بدينه في أمته من بعده، وعلى عترته الذين قرنتهم بكتابك وأقمتهم حملة لوحيك، وتراجمة لخطابك، فهم سفينة نوح وبابك باب السلم المفتوح، أورثتهم خلافة جدهم في الأرض، وأهلتهم للقيام بالسنة والفرض وجعلتهم أماناً لمن استمسك بهم إلى يوم العرض، وبعد:

(1/2)


[بعض نصوص حديث العرض على الكتاب]
فاعلم أيها الأخ وفقنا اللّه تعالى وإياك والمؤمنين إلى مراشد الهداية، ولطف بنا عن سلوك مداحض الغواية حتى نكون ممن استمسك بالعروة الوثقى واعتصم بالحبل المتين الأقوى، أن مما تداحضت فيه الأقدام وتزاحمت عنده ركائب الأعلام، قول صاحب الشريعة صلى اللّه عليه وآله وسلم: ((سيكذب علي كما كذب على الأنبياء من قبلي، فما أتاكم عني فأعرضوه على كتاب اللّه فما وافق كتاب اللّه فهو مني وأنا قلته، وما خالف كتاب اللّه فليس مني ولا أنا قلته)). أخرجه الإمام الهادي إلى الحق القويم يحيى بن الحسين بن القاسم بن إبراهيم عليهم الصلاة والتسليم في كتاب السنة، والإمام الناصر لدين اللّه أبو الفتح الديلمي في كتاب البرهان تفسير القرآن عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم أنه قال: ((سيكثر علي الكذابة فما أتاكم عني فأعرضوه على كتاب اللّه عز وجل فما وافق كتاب اللّه فخذوه، وما خالف كتاب اللّه فردوه)). وأخرجه الطبراني في الكبير عن ثوبان عن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم أنه قال: ((أعرضوا حديثي على كتاب اللّه فما وافق كتاب اللّه فهو مني وأنا قلته)) ذكره السيوطي في الجامع الصغير وروى أيضا في الكبير عن عبداللّه بن عمر عن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم أنه قال: ((سئلت اليهود عن موسى فأكثروا فيه وزادوا ونقصوا حتى كفروا، وسئلت النصارى عن عيسى فأكثروا فيه وزادوا ونقصوا حتى كفروا، وستنشأ عني أحاديث فما أتاكم من حديثي فاقرؤا كتاب اللّه واعتبروه فما وافق كتاب اللّه فأنا قلتهن وما لم يوافق كتاب اللّه فلم أقله)).
قلت: أراد بما لم يوافق مع المخالفة كما سيأتي، وذكر قاضي القضاة ما لفظه: وقد روي عن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم: ((سيأتيكم عني حديث مختلف فما وافق كتاب اللّه وسنتي فهو مني، وما كان مخالفا لذلك فليس مني ))

(1/3)


وهو مما اعتمده سادات الأئمة الكرام، كما نقله عنهم الإمام الذي أحيا اللّه بعلمه معالم الإسلام وأفنى بسيفه طغاة الطغام أمير المؤمنين المنصور بالله أبو محمد القاسم بن محمد رضوا ن اللّه عليهم المتوفى سنة تسع وعشرين وألف في كتابه (الاعتصام) ولما لم يتضح لبعضهم المعنى فيه لم يعرج عليه ولم يرفع رأساً إليه.والمرء عدو ما جهله، وإلا فعند التحقيق لمعناه لا يتصور أن يرده ذو علم ولا يأباه.
[استدلال الإمام المهدي (ع) على صحة حديث العرض]
وقد أزاح عنه اللثام وأراح عن التجشمات لطامحات الأوهام ونزله على ما يطابق قول الرسول صلى اللّه عليه وآله وسلم ويوافق عمل الأئمة حماة المعقول والمنقول الإمام الأعظم المجدد لما اندرس من رسوم الحق الأقوم أمير المؤمنين المهدي لدين اللّه رب العالمين أبو القاسم محمد بن القاسم الحسيني الحوثي رضوان اللّه عليهم المتوفىسنة تسع عشرة وثلاثمائة وألف قال رضي اللّه عنه: أما حديث العرض فقد رواه أئمتنا عليهم السلام الجلة منهم وصححوه واستشهدوا على صحته بما أفاده متنه، لأنه قال: ((سيكذب علي من بعدي كما كذب على الأنبياء من قبلي)) وروى خبر العرض السابق إلى أن قال: قالوا فلا يخلو إما أن يكون صحيحا أولا، إن كان الأول فهو المطلوب، وإن كان الثاني لزم منه صحته، لأنه قد كذب على رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم. وأما كيفية العمل به فالمعنى الصحيح الظاهر فيه هو أن الكتاب والسنة لايتخالفان فإن تخالفا ردت السنة إليه لأنه الثقل الأكبر، ولأن السنة بيان له وإن خالفت السنة الآحادية الكتاب من كل وجه ردت وحكم بأن الحديث مكذوب -أي موضوع_.

(1/4)


[الأقوال في كيفية العرض وبيان أن ما في السنة على خمسة أقسام]
وقد اختلف في كيفية العرض على أنحاء، فقيل: لابد من عرض كل حديث وهذا يصعب إذ بعض الأحكام أخذت من السنة فقط.
وقيل: المراد العرض الجملي ومعنى فلا يأباه الكتاب ويوجد له فيه ماسة.
وقيل: بل يعرض ولو على قوله تعالى: ((مَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ)) وحينئذ فلايشترط إلا صحة كونه عن الرسول صلى اللّه عليه وآله وسلم مع عدم معارضته للقاطع من كل وجه وأمكن الجمع في الظنيات، فتحصل أن مافي السنة على خمسة أقسام:
[1] ما أمكن عرضه على الكتاب تفصيلا وهذا لاإشكال في صحته.
قلت: ومراد الإمام عليه السلام أنه لا إشكال في صحة العمل بموجبه، لأنه قد عرف حكمه من الكتاب ولم يكن إلا مؤكداً له إن صح، فأما الحديث فلاثقة به إلا بصحة طريقه، نعم ظاهر الخبر أن ماوافق الكتاب فهو صحيح من غير نظر في طريقه لقوله: ((فما وافق كتاب اللّه فهو مني وأنا قلته)) لكنه مخصوص بالأدلة الموجبة للنظر في طرق الأخبار مثل قوله عز وجل: ((وَلاَ تَرْكَنُواْ إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ))، وقوله تعالى: ((إِن جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا))، واشتراط الضبط والعدالة في النَّقَلَة أمر متفق عليه في الجملة، ويحتمل أن تخصص تلك الأدلة بعموم ذلك الخبر فيكون من أخبر بما يوافق الكتاب صادقا وإن كان كافرا أو فاسقا ويكون إعلاما من اللّه تعالى أنه لا يخبر بما يوافق الكتاب إلا وهو حق وصدق وصواب، فهذان عمومان تعارضا يمكن الجمع بينهما بتخصيص أحدهما بالآخر فيرجع فيهما إلى الترجيح فنقول والله أعلم: إن الاحتمال الآخر مرجوح لأن الذي توجبه حياطة الدين وتلزمه حماية سوح التثبت وسرح اليقين ترك تلك العمومات على بابها والتخصيص لهذا العموم بها لكونها أقوى والاعتماد عليها أحرى، هذا هو الذي تقتضيه مسالك الأصول ومدارك المعقول والمنقول، وقد أشار إليه الإمام عليه السلام بقوله إلا صحة كونه عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم.

(1/5)


عدنا إلى كلام الإمام عليه السلام قال:
[2] وما أمكن عرضه عليه جملة، وهذا الصحيح صحته مثل بيانات المجملات الواجبة ونحو ذلك.
والقسم الثالث: ماعارض الكتاب من كل وجه مع كونه آحادياً.
قلت: قوله مع كونه آحادياً لأنه لايتصور ذلك في المتواتر والمتلقى بالقبول كما ذلك معلوم.
قال عليه السلام: وهذا لا إشكال في رده والحكم بوضعه.
والقسم الرابع: ما أمكن الجمع بينه وبين الكتاب بالتعميم والتخصيص والإطلاق والتقييد.
[بحث في جواز تخصيص الكتاب والمتواتر بالآحاد ونحوهما كالقياس]
قلت: ومقصد الإمام عليه السلام أنه يُجرى في كل بحسبه في العلميات والعمليات فيخصص العموم في الأول بالعلمي، وفي الثاني بالعلمي والظني، لأن العموم في العمليات وإن كان قطعي المتن فهو ظني الدلالة لاحتماله، وإنما تطرق إليه الاحتمال لأن الظن يكفي في الأعمال، وهذا إنما هو على مقتضى القول بجواز تخصيص الكتاب والمتواتر بالآحاد ونحوهما كالقياس، وستقف على المختار قريباً إن شاء اللّه تعالى. فأما التخصيص بها في العلميات فلايصح اتفاقاً بين العترة ومن وافقهم للتعبد فيها بالاعتقاد وبقاؤها على الأصل من كون العلم فيها هو المراد ((وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً)) ((إِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا)) ولم يبق تحت النهي إلا مسائل الأصول وإلا عريت عن الفائدة وذلك خلاف المعقول والمنقول، فكيف ينهى عن اتباع الظن ويذمه لنا ثم يتعبدنا به، تعالى اللّه عن هذا المقول.

(1/6)


وللإمام رضوان اللّه عليه تحقيق في هذا المقام يستشفى به من الأُوام أورده في جواباته على علماء ضحيان وفي أثناء الدعوة المسماة: بالموعظة الحسنة. نعم والتحقيق أن العلم هو المطلوب في الأصول والفروع كما دلت عليه أدلة المعقول والمسموع، وقد خصصت بعدم طلب العلم في بعض المسائل العملية التي لم يقم عليها قاطع لما علم أن الرسول صلى اللّه عليه وآله وسلم كان يبعث بالآحاد في تبليغها وعمل الصحابة بها مستندين إليها وفيهم هادي الأمة ووليها والقائم بما قام به نبيها باب مدينة العلم من هو مع الحق والقرآن والحق والقرآن معه، فخصص بتلك العمليات نحو قوله تعالى: ((وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ)) وأما تأويل العلم والظن وحملهما على خلاف حقيقتهما لغير دليل، فإنه بلا ريب تحريف وتبديل والعقل يرده، والاتفاق بيننا وبينهم في العلميات يحجه.
هذا ومن أعطى النظرحقه ولم يملك التعصب والتقليد رقه، فلايتحقق لديه أن الشارع جعل الظن مناطاً لشيء من الأحكام ولامعتمداً في حل ولاإبرام، والأصل بقاؤه على عمومه ((إِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا)) إذ لاموجب للإخراج وليس التعبد بالآحاد ونحوها يوجب الاعتماد عليه وإن كان الظن ملازماً لها في الأغلب، بل قام الدليل القاطع على العمل بها في العمليات سواء حصل الظن أم لا، ألا ترى أنه لايقبل خبر فاسق التصريح وكافره إجماعاً ولا التأويل على الحق من كون عدم العدالة سلب أهلية وإن أفاد الظن، ويجب قبول خبر العدل الضابط وإن لم يحصل الظن وإن كان بعيداً و المقصود تصوير الانفكاك، وإلا فلو كان بينهما تلازم ذاتي لم يوجب أن التعويل على الظن بل على ذلك المظنون، وبينهما فرق يعرفه العالمون.
وانظر بثاقب نظرك وصافي فكرك هل سمعت كتاب اللّه ذكر الظن إلا بالنعي على أهله والذم، وهل طلب غير اليقين والعلم ((إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِّقَوْمٍ يَعْلَمُونَ)).

(1/7)


فإن قيل: فإن الظن مأخوذ به في أبواب لايستند فيها إلا إلى أمارات كمواضع من القياس وتقدير أروش الجنايات وتقويم المتلفات.
قيل: يمكن الجواب أن الشارع علق الأحكام فيها على حصول الأمارات لا لأجل الظن، سلمنا، فمع قيام الدليل القاطع أن الأحكام معلقة فيها على الظن فتخص هي لاغيرها، ويبقى ماعداها على مقتضى دليل العموم، فتأمل.
رجعنا إلى كلام الإمام، قال عليه السلام: وهذا الصحيح الأخذ به عرضاً على قوله تعالى: ((لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ)) والتعميم والتخصيص نوع من البيان اللغوي.
حتى قال: والقسم الخامس: مالايمكن عرضه ولايوجد في الكتاب العزيز مايبطله ولامايصحه.
قلت: أراد الإمام عليه السلام أنه لم يوافق لأن الموافقة: المماثلة والمشاكلة، ولم يخالف لأن المخالفة: المعارضة والمناقضة، ومن لم يحسن النظر في معنى الخبر الشريف توهم حصر مافي السنة على موافقة الكتاب أو مخالفته ومن هنا أُتي، لأنه حمل الموافقة على المماثلة ولا إشكال، وحمل المخالفة على المغايرة، فلم يبق له عنده في السنة ثمرة، لأنه إن وافق _أي أتى بمثل الحكم_ الذي في الكتاب فليس إلا مؤكداً، وإن خالف _أي لم يأت بمثله_ كان مردوداً، ولزم على كلامه هذا أن لاتفيد السنة حكماً مؤسسا.
وقد أزال الإمام صلوات اللّه عليه ماكان ملتبساً بحجج مشرقة الصباح مسفرة المصباح. قال عليه السلام: وهذا الصحيح قبوله لقوله تعالى: ((وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا)) وهو نوع من العرض الجملي، ولقوله صلى اللّه عليه وآله وسلم: (( أعطيت الكتاب ومثليه )). ولقوله تعالى: ((لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ)) إلى غير ذلك.. الخ كلامه عليه السلام.

(1/8)


[الكلام على خبر ((وما لم يوافقه فليس مني))]
فإن قيل: قد ورد: (( ماروي عني فأعرضوه على كتاب اللّه فماوافقه فهو مني ومالم يوافقه فليس مني )) فإذا حملت الموافقة على المماثلة لزم أ ن لايقبل شيء من السنة إلا أن يكون مثله في الكتاب، وهذا هو القول الأول الذي حكاه الإمام واحتج على سقوطه بأن بعض الأحكام أخذت من السنة فقط.
قيل: الخبر الأول أشهر والأخذ به هو الأظهر، وحمل هذا الخبر على ظاهره يؤدي إلى إهدار أكثر السنة. وقد قال تعالى: ((وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا)) ولم يفصل الدليل فوجب العدول إلى التأويل، والجمع بينهما ممكن على أقرب الوجوه.
فنقول: يحمل قوله صلى اللّه عليه وآله وسلم: (( ومالم يوافقه فليس مني)) على التجوز بعدم الموافقة عن المخالفة، ولك في توجيه هذا المجاز وجهان:
أحدهما: أن يكون من المشاكلة، وهو أنه لما تقدم قوله: فما وافقه.. الخ. شاكله بقوله: ومالم يوافقه. والعلاقة بين عدم الموافقة والمخالفة الاطلاق والتقييد، لأن عدم الموافقة يصدق بالمغايرة مطلقاً سواء كان ثم مباينة ومعارضة أم لا، والمخالفة لاتصدق إلا بالمغايرة مع المباينة والمعارضة.
وثانيهما: أن يكون من المجاز المرسل من أول وهلة، والعلاقة مابينهما من الإطلاق والتقييد. فهذان طريقان مسلوكان في اللسان مأهولان عند أهل البيان، وإن رمت النظر في إعمال الخبر على مقتضى قواعد الأصول فلك أن تقول قوله صلى اللّه عليه وآله وسلم: (( ومالم يوافقه فليس مني )) مطلق لأنه صادق مع المصادمة وعدمها وقوله صلى اللّه عليه وآله وسلم: (( وماخالفه )) مقيد لأنه لايصدق إلا مع المصادمة، فيحمل المطلق على المقيد، وكذا ماورد من هذا الباب فإنه من نسج ذلك الجلباب.

(1/9)


[الكلام في الناسخ من السنة لحكم الكتاب]
فإن قيل: فماذا يقال في الناسخ من السنة لحكم الكتاب فإنه مخالف له في الظاهر كما قرره في مباحث الأصول أئمتنا عليهم السلام؟
قيل: كلما في الكتاب قطعي المتن والدلالة في الأصول والفروع على الصحيح، وقد علم أنه لاينسخ القطعي إلا بمثله، فإن تواتر مثلا خبر ناسخ لحكم الكتاب أفاد العلم، وما أفاد العلم فمحال أن يكون مكذوباً، فيجب حمل قول الرسول صلى اللّه عليه وآله وسلم على ماخالفه من الآحاد، وقد أفاده الإمام بمفهوم الصفة حيث قال: وإن خالفت السنة الآحادية ردت.
نعم وفي الكتاب مالايجوز نسخه على أن النسخ ليس بمخالفة على الحقيقة، وإنما هو بيان لانتهاء الحكمة في بقاء الحكم، بلى هو مخالف في الظاهر إذ لاطريق لنا إلى الانتهاء إلا بإعلام شرعي، ومع عدم العلم لايكون بياناً، ودليل بقائه مقطوع به، ودليل انتهائه مظنون، والمظنون لايقاوم المقطوع، وهذا هو المدرك الشرعي في عدم نسخ الظني للقطعي. وإنما قلنا: فإن تواتر مثلا.. الخ. لأنه لم يثبت عندنا نسخ السنة للكتاب وهو المروي عن الإمام القاسم بن إبراهيم وولده محمد بن القاسم وحفيده الإمام الهادي إلى الحق والإمام الناصر لدين اللّه الحسن بن علي الحسيني وهو ظاهر رواية الإمام عن الإمام الأعظم زيد بن علي صلوات اللّه عليهم.
وهذا الخبر حجة قائمة ومحجة لازمة على عدم وقوعه لما أسلفنا لك من أن النسخ ظاهره المخالفة، وقد قال صلى اللّه عليهوآله وسلم: (( وماخالفه فليس مني ولم أقله )).

(1/10)


ولايقال: إن الاحتجاج بحديث العرض غير مستقيم، لأنه ليس إلا في الظنيات، وأما القطعيات فلا يتأتى فيها الكذب فلاعرض. لأنا نقول: قد أفاد حديث العرض أنه لايأتي من الرسول صلى اللّه عليه وآله وسلم مايخالف القرآن، والناسخ مخالف، والمخالف لايتواتر، فيجب القطع بأن الناسخ لايتواتر، فمن هنا يتقرر الاحتجاج في محل النزاع وهو جواز النسخ أو منعه، فتأمل. وماكلامنا المتقدم إلا على فرض الوقوع، لأن الوقوع فرع الجواز، وقد قدمنا أنه لو وقع لم يكن إلا بقاطع، ومحال أن يكون القاطع مكذوباً على الشارع ولو وقع لارتفع التنازع، وفي قول بعض علمائنا رضي اللّه عنهم: وفُهِم صحة نسخ القرآن بالمتواتر من السنة خلافاً للقاسم وابنه محمد بن القاسم والناصر وابن حنبل وكذا الهادي والشافعي في رواية إذ هي حجة توجب العلم كالكتاب فيجوز كالكتاب بالكتاب. انتهى كلامه، تسامح في الحكاية وخلل في الاحتجاج.
أما الحكاية فإنهم لايقولون إن المتواتر من السنة لاينسخ الكتاب ومعاذ اللّه من ذلك، وإنما يقولون: إنه لايصح أن ينسخ الكتاب بالسنة، فلا يمكن أن يتواتر عندهم ناسخ من السنة.

(1/11)


وأما الاحتجاج فإنهم يقولون بموجبه أي أنها إذا أفادت العلم فهي حجة، ولكنهم يذهبون إلى أنه لايجوز أن يتواتر ناسخ من السنة للكتاب، فهم يمنعون الجواز والوقوع معاً، فأما لو وقع لارتفع الخلاف وكان الائتلاف، وإنما يستقيم الاحتجاج لو صح النسخ أو بطلت أدلة المنع بحجة واضحة المنهاج متجلية الفجاج، وسنحكي كلام إمام الأئمة وهادي الأمة وترجمان الكتاب والسنة المبشر به جده الرسول صلى اللّه عليه وآله وسلم الهادي إلى الحق القويم يحيى بن الحسين بن القاسم بن إبراهيم عليهم أفضل صلوات اللّه والتسليم. قال صلوات اللّه عليه في كتاب معاني السنة: والسنة فلم تعارض الكتاب أبداً بإبطال لحكم من أحكامه ولا أمر من أمره. إلى أن قال: ولا رد شيء من منسوخه ولانسخ شيء من مثبته. حتى قال: وفي ذلك مايقول رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم: (( سيكذب علي كما كذب على الأنبياء من قبلي فما أتاكم عني فأعرضوه على كتاب اللّه فما وافق كتاب اللّه فهو مني وأنا قلته وماخالف كتاب اللّه فليس مني ولم أقله ))..الخ كلامه عليه السلام. وكان على الناقلين لأدلة المخالفين كابن الإمام عليه السلام أن يحرروا هذا في حجج المانعين كما احتج به الهادي إلى الحق صلوات اللّه عليه.
وما استدلوا به على الوقوع كنسخ المتعة والوصية فليس بوارد، لأن المراد بالمتعة المذكورة في القرآن النكاح فلا نسخ وأما الوصية فالناسخ آية المواريث.
فإن قيل: قد ورد في كلام أمير المؤمنين عليه السلام المروي في النهج قوله: (( وبين مثبت في الكتاب فرضه، ومعلوم في السنة نسخه)).
قلنا: يجب تأويله لقيام الدليل إما بأن يحمل النسخ على التخصيص، أو بأن المراد في السنة مع الكتاب نسخه.

(1/12)


[المقارنة بين النسخ والتخصيص]
فإن قيل: أليس النسخ والتخصيص لديكم من باب واحد؟
قيل: لاشك في ذلك، ولكنه قد قام الدليل القاطع على وقوع التخصيص ووقع الإجماع عليه دون النسخ، فيقر ذلك على ماورد.
واعلم أنه لاثمرة في الخارج لخلاف المخالف في هذا ولا جدوى، إذ لم يتحقق النسخ بالسنة للكتاب، وإنما هو مجرد دعوى.
واعلم أن الحق الأحق والقول الأوفق أنه لم يظهر بين التخصيص والنسخ فرق سوى لزوم التراخي في النسخ وعدمه في التخصيص، وأما قولهم: التخصيص بيان، فغير متضح، لأنه إن كان باعتبار الانكشاف فكلاهما بيان، فالتخصيص بيان لعدم إرادة المخرَج من الأعيان، والنسخ بيان لعدم إرادة مابعد الناسخ من الأزمان وإن كان باعتبار الظاهر فكلاهما معارض غير مظاهر، وهذا أمر واضح المنار لايخفى على ذوي الأبصار، وماقيل من أن العمل بالتخصيص جمع بينهما لايصلح بل فيه دفع لبعض الدلالة والأصل بقاؤها فيهما.
[رأي المؤلف أنه لا تُخصَّص عموم الكتاب والأخبار القطعية بالسنة الآحادية مع التفصيل]
فإن قلت: يلزمك على هذا أن لاتخصص عموم الكتاب والأخبار القطعية بالسنة الآحادية.
قلت: هو مذهب بعضهم وحكى الإمام عدم جواز ذلك عن الإمام الأعظم زيد بن علي عليه السلام وأنا أقول لعمري إنه لمذهب قويم ومنهج مستقيم.

(1/13)


واعلم أرشدنا اللّه وإياك أيها الراسخ الفهم الثابت القدم فأما من قعد به القصور فهو معذور وليس عنده من جنى الأثمار إلا القشور.
تجل عن الدقيق فهوم قوم .... فتحكم للمجل على المدق
والله عز وجل يعلم ماقصدنا إليه من الخطاب أن هنا أصلا أصَّلوه ومسلكاً نقوله وتقبلوه يجب فيه إمعان النظر الدقيق حتى يقف الباحث في كتاب ربه وسنة نبيئه صلى اللّه عليه وآله وسلم على محض الحق والتحقيق فهو حقيق بذلك أي حقيق وملخصه ومعناه وخلاصته ومؤداه كما يعلم ذلك ذو الإطلاع والانتقاد الملي بالإصدار والإيراد هو: أن كل ما أمكن أن يصرفه دليل عما وضع له أو يقصره على بعض مدلولاته أو يعينه في أحد موضوعاته: فهو ظاهر محتمل لايقطع بتناوله لما دل عليه وإن كان قطعي المتن فهو ظني المدلول إلا أن يكون في مسائل الأصول عند أئمتنا عليهم السلام وأتباعهم الفحول، وعلى هذا بنى الجمهور جواز التخصيص والتقييد للعموم والمطلق من الكتاب والمتواتر بالآحاد والقياس الظني، ويلزم على ذلك جواز النسخ كما قال به البعض إذ لافارق كما سبق، وهذا أمر جليل الخطر ذو شجون ونظر يترتب عليه أي أثر، والذي ندين اللّه به بعد إبلاغ غاية الوسع واستفراغ نهاية الطاقة أن هذا أصل مختل الأركان منهدم البنيان لم تقم عليه حجة ولم ينتهج إليه برهان.

(1/14)


ولنوجه الكلام بما يليق بهذا المقام في مسألة الخصوص والعموم إذ عليها معظم مدار المنطوق والمفهوم، فأقول وبمادة ربي أصول: إن المعلوم من الوضع بالاتفاق دلالة صيغ العموم على جميع أفراد مدلولاتها دلالة مطابقة عند الاطلاق على سبيل الاستغراق، وليس هذا محل النزاع فيتعين الكلام عليه بالأدلة القاطعة والإجماع وقد تقرر في موضعه فيجب القطع حينئذ بحكم العقل والشرع عند العلم بإطلاق الخطاب من الحكيم أنه قصد جميع مدلولاتها وأراد كل فرد من أفراد متناولاتها وماتستلزمه من الأزمنة والأمكنة والأحوال بلا ريب في ذلك ولا احتمال إلا أن ينصب لنا على خلافه دليل أوينتهج إلى إرادة غير ما دلنا عليه سبيل تحكم كهذا الحكم به الألباب ويزول عمن طرق سمعه ذلك الشك والارتياب وأي ريب بعد ذلك يختلج أو احتمال يتردد ويعتلج ((إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يِهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ)) ((لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ)) ((مَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا)). ولئن تطرق إلى ماهذا شأنه الاحتمال لشبهة أنه قد كثر فيه التخصيص والقاطع بما دل عليه أتي من قبل نفسه ليتطرقن إلى كل النصوص من عموم وخصوص ويَرِد ماقاله الرازي إن أصرح الألفاظ النص وهو محتمل لأمور كثيره كالتحريم للنسخ والتجوز والاشتراك والإضمار والتخصيص وغير ذلك، انتهى كلامه. فيرتفع القطع بجميع خطابات الشرع.
فإن قيل: يلزم أن لايجوز تراخي التخصيص ونحوه عن الخطاب.

(1/15)


قلنا: ذلك ملتزم وهو مذهب الإمام أبي طالب الناطق بالحق والإمام المهدي أحمد بن يحيى المرتضى عليهم السلام وغيرهما، وقد قلنا به جميعاً في العلمي بلا ارتياب كلما ابدوه من الفوارق لايثبت إلا بعد قيام الحجة على ما أصلوه في هذا الباب ولله الإمام الناصر لدين اللّه إبراهيم بن محمد بن أحمد بن عز الدين بن علي بن الحسين بن الإمام عز الدين بن الحسن عليهم السلام حيث يقول في الروض الحافل عند الكلام على الفرق بين التخصيص والنسخ: ودلالة العام على أفراده ظنية عند الأكثر وإن كان متنه مقطوعاً به والخاص قد يكون بالعكس فتعادلا، وهذا الإيراد وارد مع القول بأن دلالة العام ظاهرة، وأما إذا لم نقل به وهو الحق فلا ورود. انتهى.
وقال الشيخ العلامة المحقق لطف اللّه بن الغياث في شرحه على الفصول: واحتجوا بأنه لايجوز أن يخاطب بشيء ويريد به غير ظاهره في العلمي مثل عموم الوعد والوعيد وإلا كان معمياً وملبساً، فقد ثبت أن دلالة العموم قطعية. كذا في شرح المقدمة للنجري قال: وهذا الدليل كما ترى يعم العلمي والعملي فينظر ماوجه المخصص بالعلمي.. الخ.
قلت: لله أنت لاوجه له إلا أنه قد بدا لهم فيه الاحتمال بزعمهم لكثرة التخصيص وهو لازم لهم في العلمي على سواء، وقد استدلوا على ذلك بالإجماع من السلف على التخصيص بالآحاد.
والجواب: أن مستندهم في حكايته كما قرروه الاستدلال عليه بأنهم خصصوا نحو قوله تعالى: ((وَأُحِلَّ لَكُم مَّا وَرَاء ذَلِكُمْ)) بحديث النهي عن نكاح المرأة على عمتها وخالتها وعددوا من هذا القبيل صوراً مجمعاً على تخصيصها من عموم الكتاب ولاطريق إلى كون التخصيص بها وحدها سلمنا، فمن أين لهم أنها رويت للسلف بطريق الآحاد ولم لاتكون متواترة لهم ومتلقاة بالقبول؟

(1/16)


ولايقال: لأنها لو كانت متواترة وكان التخصيص بغيرها لنقل، لأنا نقول: الإجماع قد أسقط مؤنة نقلها وأغنى عن التعرض للإستدلال بها وبغيرها: وقد نص الكل بأنه إذا أجمع على الحكم سقط وجوب البحث عن المستند.
فإن قيل: إنهم أجمعوا على التخصيص مستندين إليها وهي آحاد.
قيل: هذه دعوى ممنوعة غير مسموعة، فهلم الدليل وليس إليه من سبيل، غايتها حكايات لاتفيد الظن فضلا عن العلم، وقد بينا أن أصلها منهار ولم يثبت له عماد ولاقرار، واستدلوا بأنها كثرت المخصصات في العمومات العملية والظن يكفي في العمل.
والجواب: أن الكثرة لاتخرجها عن القطعية كما أسلفنا على أنه لازم لهم في العلمية وهم لايقولون به، وأما كونها في العمليات والظن يكفي في العمل، فإنها وإن سلم أنه يكفي فيها الظن فلايقتضي أن تكون أدلتها كلها ظنية على سنن بل العمل بالظن مقصور عليها قصر الصفة على الموصوف وليست مقصورة عليه كما ذلك معروف.
ومما يعضد هذا المذهب ويقويه ويشهد له بالمتانة عند ناظريه أن كثيراً من أئمتنا عليهم السلام يتأول الأخبار الخاصة ويترك عموم الكتاب على بابه مع إمكان التخصيص.
والقاعدة: أن تخصيص العام أولى من تأويل الخاص من ذلك حديث الخضروات في الزكاة.
قال الإمام المؤيد بالله عليه السلام في شرح التجريد بعد أن تأوله على القليل الذي لاتجب فيه الزكاة:
فإن قيل: ما أنكرتم على من قال لكم إذا استعملتم الخبرين أعني: (( فيما سقت السماء العشر )). وقوله: (( ليس في الخضروات صدقة )) بأن جعلتم حديث الخضروات خاصاً وبقيتم قوله: (( فيما سقت السماء العشر)) على عمومه إلا في المقدار الذي ذكرتم.
قيل له: يرجح استعمالنا بقوة خبرنا إذ لا إشكال أن قوله صلى اللّه عليه وآله وسلم: (( فيما سقت السماء العشر )) أقوى وأثبت من حديث الخضروات. انتهى، وغير ذلك مما اشتملت عليه قواعدهم المعروفة وطرائقهم المألوفة، وغرضنا التمثيل لا التطويل.

(1/17)


والعجب من المولى الحسين بن القاسم عليهما السلام كيف لم ينسب الخلاف في جواز التخصيص للكتاب والمتواتر إلا عن الحنابلة بحكاية أبي الخطاب وعن المعتزلة بحكاية الغزالي وعن طائفة من المتكلمين والفقهاء بحكاية عن ابن برهان وعن طائفة من أهل العراق ولم يرفع لخلاف والده الإمام القاسم عليه السلام رأساً ولا رأى في إلغائه عن الحكاية مع جملة المخالفين بأساً، وهو يمنع من ذلك أشد المنع كما صرح بذلك في كتابه الاعتصام.
وقال في الجواب على الخصوم: والجواب والله الموفق أن القرآن معلوم المتن ويجب التمسك بظاهره والحمل على جميع مايتناوله حتى يعلم المخصص له، ويجب البحث عن ذلك والحديث الآحادي ليس معناه ولا لفظه كذلك إلى أن قال: قالوا الظن كاف في صحته. قلنا وبالله التوفيق: ذلك مردود بقوله تعالى: ((إَنَّ الظَّنَّ لاَ يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا)) وقال تعالى: ((إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ)) فأنى لهم أن الظن كاف والقرآن يجب التمسك به، وذلك معلوم من الدين ضرورة مالم يظهر الناسخ والمخصص وتحكيم القرآن على الحديث الآحادي أولى من العكس، لأنه مما علم من دين النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم ضرورة، وأنه مما أنزل اللّه تعالى ((وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ)) الاية ونحوها، ولأنه إذا تعارض معنى القرآن المظنون بزعمهم والحديث الآحادي المظنون فالعقل يقضي ضرورة أن معنى القرآن المذكور أرجح، وترجيح ماذلكم شأنه مجرد تحكم. انتهى كلامه عليه السلام.

(1/18)


وأقول: إن من تصفح استدلالات أعلام الأئمة وهداة هذه الأمة كالإمام القاسم نجم آل الرسول وسبطه الهادي إلى الحق صلوات اللّه عليهم، واطلع على معين علمهم المخزون، وتروى من سلسبيل نميرهم المكنون، علم أنهم مخيمون على عموم الكتاب وخصوصه، واقفون عند إشاراته ونصوصه، قد أمكنوه زمامهم وجعلوه رائدهم وإمامهم، يحلون حيث حل، وينزلون حيث نزل كما قال بمعناه والدهم سيد الوصيين صلوات اللّه عليهم فهم: لايبغون عنه حولا ولايبتغون به بدلا، ولاغرو فهم قرناؤه وأمناؤه ولن يفترقا حتى يردا على الحوض.
نعم وبعد التقرير لما صح في هذا الأصل باحثت كثيراً من علماء العصر فوجدت الأغلب يميل إلى كلام الجمهور إلا المولى العلامة الأوحد إمام التحقيق ونبراس أرباب التدقيق شرف الدين الولي بن الولي الحسن بن الحسين الحوثي حماه اللّه تعالى فإني راجعته في ذلك فقرر مابينته في هذا الأصل، ومعاذ اللّه أن يذهب هذا المذهب عن قول طائفة في كل عصر من حماة التنزيل ووعاة التأويل، وإن كان قد قال بخلافه ثلة من شموس الهداية وأقمار الدراية، ولايعترض على ذلك أنهم كلهم يخصصون الآيات القرآنية، وقد لايستدلون إلا بخبر أو نحوه لايفيد القطع، لأنا نقول: لاطريق إلى كون التخصيص بالخبر الآحادي على انفراده، ثم من أين لكم العلم بأنه عندهم غير معلوم، بل يكفي في قطعيته تلقيه بين العترة والأمة على أن الحكم إذا كان مجمعاً عليه لم يبحث عن سنده كما أسلفناه لك وهو مقرر مرسوم، فياسبحان اللّه، ما باله ضل عن هذه القاعدة الخصوم؟
وعلى الجملة إن هذا الأصل لم يتقرر بدليل قاطع ولابرهان ساطع، وطالب الحق الصريح بالنظر الثاقب الصحيح لاتروعه القعقعة بالشنان، ولاتهوله مجاولة الفرسان، ومنازلة الأقران، ولاتميل به الرجال من يمين إلى شمال فيكون من دين اللّه على أعظم زوال.

(1/19)


[رجوع المؤلف إلى أنه يصح التخصيص للعمومات من القرآن والمتواتر من السنة بأخبار الآحاد الصحيحة]
اعلم أنه بعد إعادة النظر وتكرير البحث وتتبع الأثر تقرر عندي صحة التخصيص للعمومات من القرآن والمتواتر من السنة بأخبار الآحاد الصحيحة لما علم من اكتفاء الشارع بتبليغ الآحاد في ذلك، إذ قد تواترت التخصيصات بالآحاد لبعض العمومات القرآنية كقوله تعالى: ((وَأُحِلَّ لَكُم مَّا وَرَاء ذَلِكُمْ)) بما ورد من تحريم نكاح المرأة على عمتها أوخالتها. ولقوله تعالى: ((خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً)) ونحوها مما يفيد العموم في القليل والكثير بخبر الأوساق وأنصباء الذهب والفضة وحول الحول وسقوط الزكاة عن المال غير المرجو وعن الخضروات وغير ذلك مما يكثر تعداده مع أن الدليل على قبول خبر الآحاد من حيث هو قطعي ولايبعد الإجماع على التخصيص بها حتى أن المانعين من ذلك قد خصصوا بها، ويحتمل أنهم رجعوا عن المنع وهذا هو التحقيق، والله تعالى ولي التوفيق.
فإن قلت: ما الطريق المرضية على القول بأن العمومات العملية ظنية وإن كانت متونها قطعية في جواز التخصيص دون النسخ بالآحاد، وقد تقرر أنهما من واد واحد، وبطل الفرق بينهما بالإجماع على جواز التخصيص كما مر في ذلك النزاع؟
قلت: الطريق إلى عبور هذا المضيق هي أنه لم يكثر عندهم إلا التخصيص، وهو إخراج بعض ماتناوله العموم، فلم يكن الاحتمال إلا في أفراد بعض مادل عليها على سبيل البدل من غير تعيين، ولهذا كانت دلالته على كل فرد بعينه محتملة ظنية لجواز عدم إرادته، وأما دلالته على بعض منها فهي معلومة قطعية لكنه غير متعين، ألا تراهم يقولون: لايصح تخصيص السبب، ما ذلك إلا لتعينه والقطع على إرادته ومن هنا يعلم الفارق لأن النسخ يرفع استمرار كل ما أفاده الخطاب، فلا محالة تدخل تلك الدلالة القاطعة ويزول حكمها بلا ارتياب ويكون قد نسخ القطعي بالظني، وهو خلاف المنهج الشرعي.

(1/20)


وأما ماحكاه ابن الإمام عليه السلام في الغاية من أن التخصيص أهون من النسخ لكون التخصيص رفعاً للبعض والنسخ رفعاً للكل هذا معناه، فذلك لايجدي لأنهما مهما كانا متواردين على ظني فلاتأثير للقوة وعدمها لجواز نسخ الظني للظني، ألا ترى أنه يصح أن ينسخ خبر واحد حكما مظنونا ويصح أن ينسخ بمثله أحكام كثيرة مالم تكن قطعية المتون، وكذا التخصيص فإنه يخصص بخبر واحد فرد من أفراد العموم ويخصص بمثله وإن أخرج أكثر مدلولاته مع كون الأول أهون، فتبين لك أنه لاحكم للأهون إذا لم يخرجا عن دائرة الظن، ولنرجع إلى المقصود وهذا عارض لايخلو إن شاء اللّه تعالى عن فائدة.
فنقول: قد ظهر لك إن كنت ممن ألقى السمع وهو شهيد مؤدى خبر الرسول صلى اللّه عليه وآله وسلم ومراد الأئمة صلوات اللّه عليهم في عرضهم لما ورد عن جدهم وأن هجيراهم ومايحومون حوله رد ماكذب على اللّه ورسوله من مفتريات المشبهة والجبرية والحشوية والمرجئة وغيرهم من مردة البرية، واتضح لك ماقرره الإمام في هذه الأقسام التي لايخرج عن أحدها ماورد عن سيد الأنام وما أبرزه في ذلك من الأدلة على مايؤخذ منها ومالايؤخذ، وأن الكتاب والسنة متحالفان لايتخالفان، وأزاح ذلك كله في هذه الألفاظ القصيرة المتضمنة للمعاني البالغة الكثيرة.

(1/21)


وهكذا كلام الإمام في كل مقام، ولله القاضي العلامة صارم الإسلام وخاتم الأعلام إبراهيم بن عبداللّه الغالبي رضي اللّه عنه حيث يقول في وصف كلام للإمام: فلايبرح الناظر مستخرجاً للدر الحسان إلى أن ينتهي إلى مالايخطر على الأسماع والأذهان في كلام طويل. فهذه هي البلاغة والإيجاز التي لايشق لها غبار ولايلحق بها آثار، وكم من غوامض وعَويصات صيرها مشرقة البيان مؤنقة البرهان، وكم من حجة أقامها ومحجة أوضح أعلامها، ولاغرو فإنها نابعة من عباب العلوم ولباب المنطوق والمفهوم الذي اغترفت من إفاضته علماء الأمة، وارتشفت من فضالته أعلام الأئمة، وماذا يقال في كلام عليه مسحة من العلم الرباني وجذوة من الكلام النبوي.
كيف لا وصاحبه الإمام القائم بحجة اللّه على الأنام والمجدد لدين اللّه إذ أشرف على الانهدام، وكذلك أهل بيت النبوة لم يزل اللّه تعالى يقيم للأمة في كل قرن منهم من يكشف الغمة ويجلو غياهب الظلمة، ولله السيد الإمام محمد بن إبراهيم الوزير حيث يقول:
كفاني علم أهل البيت .... معقولا ومنقولا
فأما غير ماقالوا .... فلن أرضى به قولا
وحيث يقول:
مع أنني لا أرتضي .... إلا مقالات الفواطم
لاسيما علامتي .... ساداتنا يحيى وقاسم

(1/22)


فهل يرجو ممن سواهم التحقيق أم يطلب ممن عداهم التدقيق إلا من سلب الهداية والتوفيق، فالله أسأل وبجلاله أتوسل أن يصلي على رسوله وآل رسوله، وأن يوفقنا لاتباع سبيله، ويعصمنا عن مخالفة قوله في محكم تنزيله ((وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ)) وصلى اللّه وسلم على سيدنا محمد وآله.
قال في الأم: كتب المفتقر إلى اللّه سبحانه المستمد لصالح الدعاء من كافة إخوانه مجد الدين بن محمد بن منصور اليحيوي المؤيدي عفا اللّه تعالى عنهم وكان تحريره بهجرة مولانا ووالدنا إمام اليمن محيي الفرائض والسنن الهادي إلى الحق القويم يحيى بن الحسين بن القاسم بن إبراهيم عليهم أزكى الصلاة والتسليم، وفرغ من تأليفه يوم الإثنين لعله 9 شهر ربيع آخر سنة (1358 هـ) ولاحول ولاقوة إلا بالله العلي العظيم.

(1/23)


كتاب إيضاح الدلالة في تحقيق أحكام العدالة
تأليف
الإمام الحجة مجد الدين المؤيدي أيده الله تعالى
[المقدمة]
بسم اللّه الرحمن الرحيم
الحمدلله وسلام على عباده الذين اصطفى، وبعد. فإنه ورد سؤال كريم أورده بعض الإخوان الأكرمين كثر اللّه تعالى عددهم ويسر مددهم وطلب بيان ماهو المختار في تلك المسائل، وإيضاح ماعليه من الدلائل، وقد اكتفينا برسم الجواب فمنه يتضح السؤال وينحل إن شاء اللّه تعالى الإشكال وهو هذان وأرجو اللّه أن ينفع به، ويجعله من الأعمال المقبولة والآثار المكتوبة، إنه على مايشاء قدير.
الجواب والله تعالى ولي التوفيق إلى أقوم طريق: أن هذه المسائل التي أُوردت جليلة الخطر، عظيمة الموقع والأثر، من أجل معالم الأصول، وأعظم مسالك المنقول، التي يجب فيها إمعان النظر، وقد كثر فيها الخلاف، وقل عندها الائتلاف، وعلى الباحث لدينه الجاهد في تحصيله وتحصينه أن يعدل إلى جانب الدليل، ولايميل مع القال والقيل، ولاتفزعه التهاويل، ولا تروعه الأقاويل، فالحق وأهله قليل، وأي قليل، إذا تقرر هذا.

(1/24)


[الأقوال في مسألة العدالة عند علماء الأصول واختيار المؤلف]
فاعلم وفقنا اللّه تعالى وإياك أن علماء الأصول في مسألة العدالة واعتبار سلب الأهلية أو مظنة التهمة بين قائلين كما بين في مواضعه، والذي ترجح وندين اللّه تعالى به بعد إبلاغ الوسع واستفراغ الطاقة ماذهب إليه قدماء أئمتنا وطائفة من المتأخريين منهم عليهم السلام ومن وافقهم، وهو الأول: أن شرط قبول أخبار الآحاد العدالة تصريحاً، وأنه لايجوز الوثوق ولا الركون في الدين إلا على أهل الثقة والضبط من المحقين، والأدلة على ذلك كثيرة شهيرة ساطعة منيرة منها قوله عز وجل: ((وَلاَ تَرْكَنُواْ إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ)) وهو عام لكل ركون وأي ظلم.
وقوله عز وجل: ((إِن جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا))، ولم يفصل، ونحو قول صاحب الشريعة صلوات اللّه عليه وآله فيما رواه من أئمتنا الإمام أبو طالب عليه السلام: ((العلم دين فانظروا عمن تأخذون دينكم عنه)) وغير ذلك كثير جم غفير وأشف ماتمسك به أهل القول الآخر دعوى الإجماع وكون مدار القبول حصول الظن، ونقول: أما دعوى الإجماع، فمن الحكايات الفارغة التي لايعتمد عليها الناظر النقاد، ولاتنفق عند أرباب البحث والارتياد، وهي من رواية الآحاد وإن كان قد نقلها بعض ذوي الإصدار والإيراد، والمسألة أصولية لايعتمد فيها إلا الدلالة القطعية، وكيف يخفى الإجماع على نجوم الهداية وشموس الدراية من أقطاب حملة الكتاب.

(1/25)


وأما أن المدار الظن فغير مسلم، بل تعبدنا بخبر العدل في ذلك كما أفادته الأدلة القرآنية والأخبار النبوية مع أنه لو كان المدار الظن للزم قبول أخبار كافر التصريح وفاسقه المتحرجين عن الكذب للأنفة منه والمروءة، فإن منهم من يؤثر بذل النفس على الدخول في نقيصة أو رذيلة وأخبارهما مردودة بالإجماع، ومن أين لهم أن المدار الظن والله سبحانه قد نهى عن اتباعه ولم يذكره وأهله إلا بالذم: ((إَنَّ الظَّنَّ لاَ يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا)) [يونس:36]، ((إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ)) [الأنعام:116]، ((وَأَن تَقُولُواْ عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ)) [البقره:169] ولاموجب للتخصيص؟ فإن الأدلة القائمة على قبول الآحادي في العمليات من بعث الرسول صلى اللّه عليه وآله وسلم لتبليغ الشرعيات لم تدل تصريحاً ولاتلويحاً على اعتماد الظن في ورد ولاصدر، لأنه وإن كان يلزم عندها الظن في الأغلب فليس بمعتبر، واللازم غير الملزوم كما يعلمه أرباب الذوق والنظر:
والشمس إن خفيت على ذي مقلة .... وسط النهار فذاك محصول العما
بل ورد التعبد من غير ملاحظة الظن ولاعدمه وإنما يخصص بهذا نحو قوله تعالى: ((وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ)) [الإسراء:36] لكونه لم يعتبر فيه العلم بل طريق شرعية لاعلمية ولاظنية أوصلت إليها الأدلة القطعية.

(1/26)


هذا وأما الدلالة العقلية على قبول المظنون، فإنما هو فيما لايترتب على الأخذ به خطر نحو ما مثلوا به من الإخبار بالطعام المسموم مما يرجح العقل قبوله ولو كان المخبر صبياً أو كافراً صريحاً لعظم الإقدام على تجويز كونه صحيحاً، فأما ماينبني عليه أعظم مواقع الشرع فقد قامت الأدلة القاطعة على المنع، وقد حققت ماعندي في هذا الباب في فصل الخطاب شرح خبر العرض على الكتاب، نفع اللّه به.
[جواب المؤلف عن قبول الخبر الآحادي في الجرح والتعديل]
هذا وأما ما أشرتم إليه من قبول الخبر الآحادي في الجرح والتعديل، فاعلم أيدنا اللّه وإياك بتأييده وأمدنا وإياك بلطفه وتسديده، أن هذا الأصل لايستقيم إلا بإحكام أساس وهو أصل في الموالاة والمعاداة والتكفير والتفسيق، فكم من خابط في المهامه هائم في مهاوى تلك الطريق ضال عن الحق والتحقيق، ولم يزل يتردد البحث هذا في النفس ويكثر النظر فيه حال القراءة والدرس لأن كلمات المؤلفين فيه تضطرب وتتناقض وأقاويلهم عنده تختلف وتتعارض.

(1/27)


وسبب الانضراب أنه وقع خلط مسألتين كل واحدة منهما مباينة للأخرى إحداهما علمية والأخرى عملية بلا امتراء، الأولى منهما: الحكم على المعصية بكونها تقتضي الكفر أو الفسق وهذه علمية بلا كلام، والأخرى: كون هذا الشخص مثلا ارتكب مايفسق به أو يكفر وهذه عملية بلا ريب لأن المقصود المعاملة ظاهراً فتقبل فيها الآحاد ونحوها، وترى كثيراً من المؤلفين يخبط في هذا خبطاً عظيماً، ويخلط الكلام خلطاً جسيماً، ويحكم على إحداهما لما اشتبه عليه بحكم الثانية، وكم تجدهم في كثير من المقامات عند رواية صدور بعض الواقعات المتبين حكمها لاسيما في الخوض على أحداث الصحابة يقولون هذا يقتضي التكفير والتفسيق وهما لايجوزان إلا بقاطع ولايقبل فيهما الآحاد أو نحن من إيمانهم على يقين فلاننتقل عنه إلا بيقين أو ما أشبه هذه العبارة، ولو نظر لعلم أن جميع أبواب الموالاة والمعاداة مبنية على الظاهر وأنه لاسبيل إلى القطع على مغيب أحد غير المعصومين أو من أخبروا بحاله، ولو كان الأمر على ذلك لكان يلزم أن لايقبل فيمن علم كفره أنه أسلم إلا بقاطع.
ولقد كثر لعمر اللّه من ذلك العجب ولا عجب إلا لصدوره من بعض أهل الأنظار المليين بالإيراد والإصدار، فأما من لم يعض بضرس قاطع ولاضرب بسهم نافع فالحال فيه كما قال:
وابن اللبون إذا مالز في قرن .... لم يستطع صولة البزل القناعيس
وقال آخر:
من تزيا بغير ماهو فيه .... فضحته شواهد الامتحان
وجرى في العلوم جري سكيت .... خَلَّفَتْهُ الجياد يوم الرهان
وحسبك بقول الحكيم العليم: ((أَفَمَن يَمْشِي مُكِبًّا عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمَّن يَمْشِي سَوِيًّا
عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ)) [الملك:22]، ((هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ)) [الزمر:9].

(1/28)


[كلام الإمام عزالدين بن الحسن (ع) في قبول الخبر الآحادي في الجرح والتعديل]
نعم وقد وفقت على تحقيق في هذا المقام يستشفى به من الأُوَام لوالدنا إمام المحققين وعلم أعلام المدققين الهادي إلى الحق المبين أبي الحسن عز الدين بن الحسن بن أمير المؤمنين عليهم السلام. قال في المعراج عند قوله في المنهاج: وإنما يعرف الكفر بالشرع وذلك لأنه أمر غيبي لايعلمه إلا اللّه أو من علمه بتعليم لسان نبيئه، وكذلك لايعلم تفاوت المعاصي في كونها كفراً أو كون بعضها أخف عقاباً من البعض إلا من جهة الشرع، وأدلة الشرع نوعان أحدهما ظني وهذا النوع لايؤخذ به في الإكفار ولا التفسيق لأن الإجماع منعقد على أن الأدلة المستعملة في التكفير والتفسيق لاتكون إلا قاطعة لأن الإسلام مقطوع به فلايجوز إبطاله بدليل مظنون.
إلى أن قال: لايقال: أليس من قامت الشهادة على كفره أو أقام في دار الكفر غيرمميز لنفسه بعلامة إسلامية يحكم بكفره، ويعتقد كونه كافراً، ولايفيد ذلك إلا الظن؟
لأنا نقول: ليس الشهادة المذكورة وعدم التمييز هما الطريق إلى كفره في نفس الأمر بل في ظاهر الشرع، والتحقيق أنه يجوز إجراء أحكام الكفار بما لايفيد إلا الظن من الأدلة كأخبار الآحاد ومن الطرق كالشهادة، وقد ذكره الإمام المنصور بالله عليه السلام واختاره.

(1/29)


قال الفقيه حميد: وهو مذهب المحصلين لأنه يجوز قتل المرتد بشهادة الشهود مع عدم حصول العلم وقبلت في ذلك أخبار في عصره صلى اللّه عليه وآله وسلم، ولهذا هم بغزو قوم أخبره الوليد بن عقبة بكفرهم حتى نزل قوله تعالى: ((إِن جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا)) [الحجرات:6] فامتنع صلى اللّه عليه وآله وسلم لأجل فسقه لا لأجل كونه واحداً. انتهى كلامه عليه رضوان اللّه وسلامه، وهو شاف واف مشتمل على غرر يجتنى من أكمامه يانع الثمر، ويلتقط من معانيه نفائس الدرر.
هذا والله أسأل وبجلاله أتوسل أن يصلي على محمد وآله، وأن يفيض علينا وعليكم أنوار الهداية، ويفرغ لنا ولكم التوفيق في البداية والنهاية.
قال في الأم
تم نقلا عن خطه رضي اللّه عنه قال فيه: حرر غرة شوال سنة 1366 هـ كتب المفتقر إلى اللّه مجد الدين بن محمد المؤيدي عفا اللّه تعالى عنهما وغفر لهما وللمؤمنين، وصلى اللّه على محمد وآله ولاحول ولاقوة إلا بالله.

(1/30)


كتاب الفلق المنير بالبرهان
في الرد لما أورده ابن الأمير على حقيقة الإيمان
تأليف
الإمام الحجة مجد الدين المؤيدي أيده الله تعالى
[تقريظ القاضي العلامة محمد بن يحيى مرغم رضي اللّه عنه]
ومما قاله القاضي العلامة محمد بن يحيى مرغم ـ رضي اللّه عنه ـ لَمَّا اطَّلَعَ على الفلق المنير:
هذا هو الحقُّ وهو المذهبُ العالي .... عن مُنْزِلِ الذِّكْرِ لا يَخفى على التالي
وعن إمامِ جميعِ المرسلينَ كما .... أتت به مسنداتٌ خير أقوال
عنه وعن آلهِ الأَخيارِ قاطبةً .... دع من يشذُّ إلى أَقوال ضُّلالِ
لله دَرُّ مُجِيبٍ صاغَ عَسْجَدَهُ .... في قالب الحق إرغاماً لجهال
وكيفَ وهو مجدُالدِّينِ سَيِّدُنا .... وعمدةُ الآلِ في حلٍّ وترحالِ
جازاهُ رَبُّ البرايا عن حمايتِهِ .... للدِّينِ خيرَ مقامٍ باذخٍ عالِ
انتهى وصلى اللّه وسلم على محمد وآله.

(1/31)


بسم اللّه الرحمن الرحيم
وصلى اللّه وسلم على محمد وآله
[مقدمة الإمام مجدالدين المؤيدي ـ أيده الله تعالى ـ ، والباعث له على التأليف]
قال المولى العلامة لسان العترة الطاهرة ضياء الإسلام والدين مجدالدين بن محمد بن منصور المؤيدي ـ أجزل اللّه ثوابه، وضاعف أجره ـ مجيباً على ابن الأمير فيما حَرَّرَهُ على حاشية الغاية:
الحمد لله، اعلم أنه قد كثر التحامل من أهل هذه التعاليق في الإصدار والإيراد والتجافي عن منهاج السداد كأنهم لَم يَقْرَعْ سَمْعَهُم قولُهُ عزَّ وجلَّ: ((يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ)) [آل عمران:71] ولِمَا أخذ اللّه تعالى من البيان، وأمر به في محكم القرآن بمثل قوله عز وجل: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاء لِلّهِ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ)) [النساء:135] ، ((وَإِذَ أَخَذَ اللّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلاَ تَكْتُمُونَهُ)) [آل عمران: 187] تعين الإيضاح لحجة اللّه تعالى، والإفصاح بكلمة اللّه تعالى، وقد قرَّرَ أئمتنا عليهم السلام الكلام في مثل هذا المقام، بما يشفي الأُوام، ويبري السقام، وأبانوا حججاً مشرقة المنار، متجلية الشموس والأقمار، وهم حماة الحق، وقادة الخلق، ولكن لا يحسن ترك التعرض لِمَا زخرفه الواضعون، لاسيما في هذا الأمر الخطير، وفي الإستدلال بآية التطهير، ولا يمنع كون المورد لها السيد العلامة الكبير محمد بن اسماعيل الأمير، فالحسنة من الناس حسنة، وهي من بيت النبوة أحسن، والسيئة من الناس سيئة، وهي من بيت النبوة أشين، لوجوب حلِّ الشبهة، فقد ينقدح على من لَم يكن له مسكة،
ويطمئن إليها من له غرض .... في مسلك الغي أو في قلبه مرض

(1/32)


فأمَّا من كَرَعَ من فرات التحقيق، ولاحظته عنايةُ التسديد والتوفيق، فليس له عليها تعريج، ولا يتم عليه التمويه والترويج، وعليك أيها الأخ المطلع النظر بعين الإنصاف، وطرح الهوى والإعتساف، فهذه طريقة مَنْ ثَبَّتَهُ اللّه تعالى على المنهج القويم، ((أَفَمَن يَمْشِي مُكِبًّا عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمَّن يَمْشِي سَوِيًّا عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ)) [الملك:22] ولنتكلم بما يحتمله الحال من الإختصار ونتجنب ما لا طائل تحته من اللغو والإكثار، فأقول، وبمادة ربي أصول:
[اعتراض ابن الأمير على صاحب الغاية في تعريف المؤمن، والجواب عليه]
قوله[أي ابن الأمير]: الأَوْلَى على رأيه [أي صاحب الغاية] أنه [أي المؤمن]: فاعل الواجبات؛ لأنَّ المسنونَ طاعةٌ، ولا يُعَدُّ تاركه غير مؤمن عند المصنف.. إلخ ما في صفح 248
الجواب: المراد بالطاعات الواجبات بقرينة مقابلتها بالمقبحات.
قوله: ويخرج عن الحدِّ مَن ارتكب المقبحات طول عمره، ثُّمَّ تاب وعاجله الموت.. إلخ ما في ذلك الصفح.
الجواب: هذه حالة نادرة فَرْضية، لا يليق لذي قَدَمٍ أن يجعلها طريقاً إلى النقض، على أنَّه قد أتى بالواجب عليه، وانتهى عن القبيح، وهو المراد.
وقوله: هذا الدليل الذي استدل به المصنف (1)[1]) لا يساوي الدَّعوى؛ لأنَّه ليس فيه ذكر اجتناب المقبحات، ولا في الدعوى: وجل القلب، وزيادة الإيمان عند تلاوة الآيات، فلم يُساوِ الدَّليلُ الدَّعوى... إلخ ما في ذلك الصفح.
__________
(1) ـ وهو قوله تعالى ((إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (2) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ (3) أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَّهُمْ دَرَجَاتٌ عِندَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (4))[الأنفال]

(1/33)


الجواب: يقال: وجل القلب، وزيادة الإيمان يشملهما التصديق، وأمَّا تركُ المقبحات فمن المعلوم أنَّ مَنْ حصلت فيه هذه الأوصاف تركَ المقبحاتِ، على أنَّها قد دلت الآيةُ دلالةً قاطعةً أنَّ الإيمانَ اعتقادٌ وعملٌ، فبطل القول بأنَّه التصديق لا غير، وإذا بَطَلَ ذلك ثبتت الدعوى، إذ لا قائل من الأُمة أنَّ الإيمان: التصديقُ والإتيانُ بهذه الأوصاف المذكورة في الآية فقط، وهذا واضح،
ولكنها الأهواء عمت فأعمت(1)[2]).
[ادِّعاء ابن الأمير على أنَّ المغفرة لا تكون إلاَّ للكبائر، والجواب عليه]
قوله: فإنه لامغفرة إلا لذنب كبير.. الخ.
الجواب: يقال فماتصنع بقوله عز وجل: ((لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ)) [الفتح:2]، ((قَالاَ رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا)) [الأعراف:23].
[ادِّعاء ابن الأمير على أنَّ قوله تعالى {إنَّما المؤمنون الذين إذا ذُكِرَ الله وجِلَت قلوبهم...}، لا يدل على دخول الأعمال في الإيمان، والجواب عليه].
قوله: ولك أن تقول: الآية لاتدل على دخول الأعمال في الإيمان.. الخ ما في صفح 249.
الجواب: أنَّى لك ذلك؟ إنما هذا الشرط ثابت عند تلاوة الآيات، ومعلوم أنه عند سماعها يزداد بها وضوح اليقين ورسوخ الثبات، وهذه العلاوة تدل على زيادة التعامي وفرط الغباوة، فحصول إيمان غير حقٍّ محال ((فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلاَّ الضَّلاَلُ)) [يونس:32]، وبما ذكرنا من معنى الوجل يتبين تلاشي كلامه كله ونقض مرامه وحله، ويتضح أن الاستدلال في غاية الاستقامة، ونهاية المتانة ولكن:
ومَنْ يَكُ ذا فَمٍ مُرٍّ مَريضٍ .... يجدْ مُرَّاً به الماءَ الزُّلالا
__________
(1) ـ صدره: وَنَهْجُ سبيلي واضحٌ لِمَنِ اهتدى.

(1/34)


[ادِّعاء ابن الأمير أنَّ الفاسق من أهل البشارات، والجواب عليه، وتفسير قوله تعالى((إِنَّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء))]
قوله: لأنَّ سامعها (1)[3]) يُجَوِّزُ أنَّها لِمَنْ كان في أَعلى رُتَبِ الإيمان... إلخ ما في ذلك الصفح.
الجواب: أما مع تصديقه بصريح الآيات فلا، إذ البشارة عامة لكل المؤمنين، وأما قوله عز وجل: ((إِنَّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء)) [النساء:116]، فإن من يثبته اللّه تعالى على منهاج الإنصاف، ويجنبه ركوب كاهل الاعتساف، لا يرد المبين إلى المحتمل، والتقييد للآية بالتوبة غنيٌّ عن إبطاله وإبطال غيره، ولو جرى على سَنَنِ أَهلِه، لأَخَذَ تفسيرها من محله، بل المراد بقوله عزَّ وجلَّ: ((وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء))، أهل الصغائر، ببيان الآيات الموضحات للمؤاخذة على الكبائر؛ لأنَّ الآيةَ أفادت أنَّ ماعدا الشركَ مغفورٌ لمن يشاء، والمشيئةُ مُجْمَلَةٌ ليست مقيدة بالتوبة، إذ هي مكفرة للشرك وغيره.

(1/35)


[بحث في الفرق بين الرجاء والإرجاء]
قوله: فيبقى راجياً خائفاً فهو ((يَحْذَرُ الآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّه)) [الزمر:9].. الخ صفح 350.
الجواب: بل مرجياً متمنياً، فهذا التردد هو محض الإرجاء كما حققه نجوم الهدى، ورجوم العدى، وعليه قول اللّه تعالى: ((وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لأَمْرِ اللّه)) [التوبة:106]، وأما القطعُ بخلف الوعيد فهو التكذيب بلا مراء، وأما الرجاءُ فقد بَيِّنَ اللّه تعالى أهلَهُ ومحلَهُ بمثل قوله تعالى: ((فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحًا وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا)) [الكهف:110]، وقوله عز وجل: ((إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَالَّذِينَ هَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أُوْلَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللّهِ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ)) [البقره:218]، ((لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً)) [الأحزاب:21]، وقال تعالى: ((إِنَّ رَحْمَتَ اللّهِ قَرِيبٌ مِّنَ الْمُحْسِنِينَ)) [الأعراف:56]، وقال تعالى: ((وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُم بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ)) [الأعراف:156].. إلخ.
وأمَّا مَن ارتكب الجرائم، وأمن العظائم، فقد أحلَّ الرَّجاءَ في غير محله، ووضعه في غير أهله، ((وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الْغَيِّ ثُمَّ لاَ يُقْصِرُونَ)) [الأعراف:202].

(1/36)


وقد قطع اللّه تعالى أماني المتمنين بما حكم به في محكم كتابه: ((لَّيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَن يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ)) [النساء:123]، وقال تعالى: ((وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذَلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ (20) وَجَاءتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ (21) لَقَدْ كُنتَ فِي غَفْلَةٍ مِّنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنكَ غِطَاءكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ (22) وَقَالَ قَرِينُهُ هَذَا مَا لَدَيَّ عَتِيدٌ (23) أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ (24) مَّنَّاعٍ لِّلْخَيْرِ مُعْتَدٍ مُّرِيبٍ (25) الَّذِي جَعَلَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَأَلْقِيَاهُ فِي الْعَذَابِ الشَّدِيدِ (26) قَالَ قَرِينُهُ رَبَّنَا مَا أَطْغَيْتُهُ وَلَكِن كَانَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ (27) قَالَ لا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُم بِالْوَعِيدِ (28) مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَمَا أَنَا بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ)) [ق:29]، وقال عز وجل: ((يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الإِنسَانُ مَا سَعَى (35) وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَن يَرَى (36) فَأَمَّا مَن طَغَى (37) وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (38) فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى (39) وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى (40) فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى)) [النازعات:41].
وهذا عام في كل من طغى، فمن حرَّفه فقد بغى، ((تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَآيَاتِهِ يُؤْمِنُونَ)) [الجاثية:6]، ((وَيْلٌ لِّكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ (7) يَسْمَعُ آيَاتِ اللَّهِ تُتْلَى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِرًا كَأَن لَّمْ يَسْمَعْهَا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ)) [الجاثية:7].

(1/37)


[اضطراب أقوال المرجئة والحشوية]
ولَم تقف المرجئة والحشوية عند حد، ولا استقرت في المذهب على معتقد، تارةً يقولون: قول لا إله إلا اللّه كافٍ، ومرة إنه لا وعيد على أهل القبلة، وأخرى: إنه إن دخل النار فيخرج كما ترى، وتارة يسوون بين المؤمنين والفاسقين، وكل هذا خلاف ماجاء به القرآن، وسنة سيد ولد عدنان، ولهم روايات لفقوها، وترهات اختلقوها، فما خالف كتاب اللّه تعالى، وسنة رسوله، وأهل بيت نبيئه صلى اللّه عليه وآله وسلم مما افتراه أهل البدع من الوضع، فهو مطرود عن مقاعد السمع، ((وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلّهِ جَمِيعاً وَأَنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ (165) إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُواْ مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُواْ وَرَأَوُاْ الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأَسْبَابُ (166) وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُواْ لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّؤُواْ مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُم بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ)) [البقره:165].
[ادِّعاء ابن الأمير أنَّ الحصر في قوله تعالى ((إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ...))، قد عارضَ الحصرَ في قوله تعالى ((إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ...))، والجواب عليه]
وقوله: يقال عليه: الحصر هنا قد عارض حصرَ أول آية استدل بها للمدعى فإنه حصر المؤمنون هناك على ماعرفت من المعاني وهنا على غيرها.. الخ صفح 250.

(1/38)


الجواب: لايتوجه كلامه هنا أصلا لأنه في الآيات من قصر الصفة على الموصوف لامن قصر الموصوف على الصفة كما يعرف ذلك أهل المعرفة، فإذا قصرت الصفة على موصوفها فلايقتضى أن لايكون موصوف بغيرها وهذا بَيِّن.
وقوله: فلم تتم دلالة تلك الآية على المدعى.. الخ.
الجواب: قد بيَّنَا وجهَ دلالتها آنفاً على ترك المقبحات، ويأتي هنا مثله، وهو أنَّها من حيث كونها دالة على بعض الأركان تكون دالة على البعض الآخر، إذ لافصل بينها، ثُّمَّ إنَّه لا يلزم من كونها غير دالة على الكلِّ بطلانُ دلالتها مع غيرها عليه، وإنَّما كلامُهُ هذا لو صح يتوجه على نفس العبارة لا غير، فليس له طريق إلى مايروم، ولا مستروح حول مايحوم، فكتاب اللّه تعالى، وسنة رسوله ـ صلى اللّه عليه وآله وسلم ـ شاهدان ناطقان، بأن الإيمان: التصديق بالْجَنَان، والقول باللسان، والعمل بالأركان، قال عز وجل: ((قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (1) الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ (2) وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ)) [المؤمنون:1-3] إلى قوله: ((أُوْلَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ (10) الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ)) فأوضح المؤمنين بصفاتهم، وقَصَرَ إرثَ الجنةِ عليهم، وقال تعالى: ((إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُون)) [الحجرات:15].
ومما رواه المنصور بالله عن الإمام علي بن موسى الرِّضا عن آبائه ـ صلوات اللّه عليهم ـ: ((الإيمانُ معرفةٌ بالقلب، وإقرارٌ باللسان، وعملٌ بالأركان))، وغير ذلك مما لا يحصى قد مُلئت به الأَسْفار، ودَوَّنَته الأَئمةُ الأَطهار.
وأما الخطاب في ((منكم))(1)[4])، فبطلان المتمسك به أوضح من أن يحتاج إلى بيان.

(1/39)


[تخصيص ابن الأمير قوله تعالى ((الَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ))، على الصحابة، والجواب عليه]
وقوله: وأُجيب عن الآية بأنَّ المراد بـ((الَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ)): الصحابةُ لا كل مؤمن... الخ ما في صفح 250.
الجواب: يقال: هذا إبطال للعموم الصحيح، وخروج عن الحقِّ الصريح، وقد تقرر أنَّه لا يجوز تخصيص العموم في الأصول إلا بقاطع؛ لأنَّ دلالته على ما تناوله قطعية، كما هو الذي يوجبه الوضع، وأيضاً المطلوب في مسائل الاعتقاد القطعُ، إذ الدخول فيها بغير العلم قبيح، والله تعالى له غير مبيح، ((وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلاَّ ظَنًّا إَنَّ الظَّنَّ لاَ يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا)) [يونس:66]، ((إِنْ عِندَكُم مِّن سُلْطَانٍ بِهَذَا أَتقُولُونَ عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ)) [يونس:68] فكيف يذمه لنا ثم يتعبدنا به تعالى؟!.
وإذا كان المطلوب العلم فالحكيم سبحانه لا يكلف عباده العلم بما لا يفيدهم، فلو أَطلقَ العام وأراد الخاص من دون بيان قاطع مثله لكان تكليفاً بما لا يطاق، والله يتعالى عنه، فتأمل تصب.
[ادِّعاء ابن الأمير أنَّ قوله تعالى ((إِنَّكَ مَن تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ...))، واردة في الكفار]
وقوله: أقول: الآية واردة في الكفار، وسياقها فيهم.. الخ.
الجواب: اعلم أنَّ مدارَ كلامِهِ هنا على الاستدلال بالمفاهيم، والأحاديث المختلقة في معارضة صرايح الآيات القاطعة، ومتواتر السنة الساطعة.
والحق أبلج والبرهان متضح .... وبيننا محكم الآيات والسور

(1/40)


قوله تعالى: ((إِنَّ الْخِزْيَ الْيَوْمَ وَالْسُّوءَ عَلَى الْكَافِرِينَ)) [النحل:27] يحمل إمَّا على الخزي الكامل، أو يكون قصراً إضافياً، والمتعين هنا كونه قلباً، وهو أحد أقسامه باعتبار المخاطبين، والموجب لهذا منطوق قوله تعالى: ((إِنَّكَ مَن تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ)) [آل عمران:192]، فالحكيم سبحانه لاتناقض في شيء من حججه وكلامه ((لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ)) [فصلت:42].
وأما الخروج من النار فهيهات هيهات دونه التصديق بكلام الحكيم الجبار: ((أَفَأَنتَ تُنقِذُ مَن فِي النَّارِ)) [الزمر:19]، ((وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ (14) يَصْلَوْنَهَا يَوْمَ الدِّينِ (15) وَمَا هُمْ عَنْهَا بِغَائِبِينَ)) [الانفطار:14]، ((وَمَن يَعْصِ اللّهَ وَرَسُولَهُ..)) [النساء:14] الخ، وكم آياتٍ تُتلى، وأحاديثَ تُمْلى، والكلام على هذا مبسوط في مواضعه.
وليس يصح في الأذهان شيء .... إذا احتاج النهار إلى دليل
فتثبت أيها الناظر.
لا يستزلك أقوامٌ بأقوال .... مُلَفَّقَاتٍ حَرِّيَاتٍ بإبطالِ
وفقنا اللّه تعالى وإياك في القول والعمل، وعصمنا عن الزيغ والزلل، آمين.
[ادِّعاء ابن الأمير بأنَّه لا بد من الجمع في هذه المسائل، والجواب عليه]
وقوله: فلا بد من الجمع.. الخ.
الجواب: قد وضح فيما أسلفنا المراد بقوله: ((إِنَّ الْخِزْيَ الْيَوْمَ وَالْسُّوءَ عَلَى الْكَافِرِينَ)) [النحل:27] فلا تنافي بين مفهومه وبين منطوق قوله تعالى: ((إِنَّكَ مَن تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ)) [آل عمران:192]، وأما الجمع بين مفتعل الروايات وبين الآيات فغير لازم، بل لا يمكن الجمع بين الحق والباطل، ولئن تصور الجمع بين هذه الآية والرواية لَما أمكن بينها وبين ما لا يحصى كثرةً كتاباً وسنةً

(1/41)


اتسع الخرق على الراقع
وقد طَوَّلَ الأميرُ في هذا البحث بما لا طائل تحته، واعتماده على صحة مارووه من خروج أهل النار، وقد عرفتَ بطلانَهُ لمصادمته الآيات والروايات، وإجماع قرناء القرآن، وأمناء الرحمن، وجعله الأعمال شرطاً في كمال الإيمان فقط خلاف ما صَرَّحَتْ به الآيات كما ترى.
[احتجاج ابن الأمير على الإرجاء بأحاديث خروج مَن في قبله أدنى تصديق]
مارواه من أحاديث خروج من في قلبه أدنى تصديق.. الخ صفح (253).
الجواب: قد تقدمت الإشارة إلى بطلان هذا ويكفي في الجواب ما أجاب به رب الأرباب على أهل الكتاب في محكم الكتاب: ((وَقَالُواْ لَن تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَّ أَيَّاماً مَّعْدُودَةً قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِندَ اللّهِ عَهْدًا فَلَن يُخْلِفَ اللّهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ (80) بَلَى مَن كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ)) [البقره:80].
وأما تسمية الطائفتين مؤمنين والقتلى مسلمين(1)[5])، فإنَّا لَم نمنعْ جوازَ استعماله في غير المطيع تجوزاً مع قيام المانع القاطع عن إرادته(2)[6])، كما ذلك معلوم من البيان عند ذوي العرفان.
[بحث في القسمة الواردة في سورة الواقعة والليل]
وأما القسمة في سورة الواقعة والليل فجوابه الذي يليق بهذا المحل أن غاية ما فيها أن لا تكون القسمة مستوفية للأقسام، مع أنه لامحيص له من ذلك؛ لأن في أوصاف أصحاب الشمال أنَّهم ((كَانُوا يَقُولُونَ أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ))[الواقعة: 47] إلخ، وهو يقتضي إنكار البعث، فلم يشمل أهل الكتاب ولا غيرهم من الكفار المقرين، لإقرارهم به، فما أجاب به فيهم أجبنا به في أهل الكبائر، إلاَّ أنْ يَخرج عن الضرورات، ويتجاوز حد المعقولات، فلا كلام.

(1/42)


[ادِّعاء ابن الأمير على أنه لَم يثبت في القرآن إلاَّ مؤمنٌ وكافرٌ، والجواب عليه]
وأما أنَّه لَم يثبت في القرآن إلاَّ مؤمن وكافر، فقد وضحت الدلالة القاطعة لأعذار المتمنين أنَّ الإيمان مقصورٌ على مَن أتى بالواجبات، واجتنب المقبحات، وأنَّه متى أخل بشيءٍ من ذلك فليس من المؤمنين، فلا يخلو إمَّا أنْ يُلْحِقَهُم بالكافرين، أو يُثْبِت المنزلة بين المنزلتين، وأيّما اختار فلا نقض على ما نحن فيه.
وهذا البحث لايتسع البسط، وفيما ذكرنا إن شاء اللّه تعالى كفاية لمن ألقى السمع وهو شهيد.
انتهى ما أجاب به في هذا الموضع على ابن الأمير مولانا أجزل اللّه ثوابه، وضاعف حسناته، وأحسن مآبه.
تَمَّ زَبْرُها ولله الحمد لعله بعد العصر 4 شعبان سنة 1368 هـ.
[بحث في اشتقاق اسم الفاعل]
قال الأمير في[ج1/ صفح 218]: وبعد معرفتك لهذا تعرف أن شارح الغاية قرر قاعدة من يخالفه في أن القيام هو الحلول، ولايوافق أصله من القول بعدم خلق الأفعال، وكأنه ما تنبه لغائلة هذه القاعدة.. إلخ كلامه.
الجواب والله الهادي، نقول: كلا، لَم يُقَرِّرْ المؤلفُ ـ عليه السلام ـ قاعدةَ مَن يُخالفه، ومن أين نتج لك ذلك؟ إنْ قصدتَ أنَّه من سكوته على جواب الأشاعرة كما نَبَّهَ على ذلك سيلان فلم يسكت إلاَّ لوضوح الرد، ثم لئن فرضنا صحة مدَّعاهم وأنه لايشتق اسم الفاعل إلاَّ لِمَن قام به المعنى فلا يلزم عنه خلق الأفعال أصلاً.

(1/43)


وإنْ أردتَ أنَّ في قولهم بصحة اشتقاق اسم الفاعل لغير من قام به المعنى تسليماً بأن نسبة أفعال المخلوقين إليهم إنما هي لقيامها بهم، وحلولها فيهم، وأنَّ اللّه الخالقُ لها، فهذا لا يؤخذ من كلامهم، ولا يحوم حول مرامهم؛ لأنَّ من قال بصحة الاشتقاق لغير ذي المعنى يقول: لا يشتق إلاَّ لمن أوجده وصدر عنه، كما هو صريح عباراتهم، سواء فسر القيام بالحلول كما ذكرتَ أم لا، وغائلة حدود ابن الحاجب في اسم الفاعل ونحوه إنما ينشأ عنها أنه لايشتق إلا لمن قام به المعنى، ومرامه بهذا إثبات الصفة الكلامية، وإن كان لا يجديه ذلك، ولا ينتج منه أنَّ الفعل مخلوقٌ فيمن قام به وأنه لا اختيار له فيه، إذاً للزم الأشعرية في أفعال الباري تعالى لقولهم: إنه يشتق له لقيام المعنى به تعالى عن أن تكون أفعاله مخلوقة، وأنه غير مختار ـ سبحانه وتعالى ـ، وذلك لايقول به قائل، فتأمل تصب أيها الناظر، وفقنا اللّه تعالى وإياك والمؤمنين.
[بحث في التحسين والتقبيح، وإدراكات العقل، وتخليط ابن الأمير في ذلك]
ومما أجاب به مولانا العلامة المؤلف أيده اللّه وحفظه على الأمير في حاشيته المذكورة مانصه:
قال الأمير في [ج1/صفح 313]: إذا عرفت هذا علمت أنَّ ذكر العاجل والآجل، والإثابة والعقاب تخليط لا يليق بمصنف أن يضمه إلى محل النزاع فيما يدرك العقل... إلى قوله:
إذا عرفت أن إدخال الثواب والعقاب والعاجل والآجل في محل النزاع باطل، قد علمت أن صفة الكمال هي الحسن، وصفة النقص هي القبح، عرفت أنه قد اتفق المعتزليُّ وخصمه على إدراك العقل لهما.. الخ كلامه.
الجواب: اعلم أيها المطلع وفقنا اللّه تعالى وإياك أن مَنْ ذكر العاجل والآجل لم يقصد إلاَّ أن الاستحقاق ثابتٌ على جهة الاستمرار والدوام، ولَم يريدوا باعتبار الآخرة، وأنَّ العقل يُدرك تفصيل أحوالِ الجنة والنار والثواب والعقاب، هذا لا تتطرق إليه الأوهام، ولايقوله عاقل.

(1/44)


إذا عرفتَ هذا تَبِّين لك عدمُ ورود ماكرره في هذا المقام الأمير، ومن حذا هذا الحذو من الناظرين، وأنَّ كلام الإمام القاسم وولده الحسين، ومن سلك هذا المسلك صحيحٌ لا غبار عليه، وأن دعوى الأمير الإتفاق بين العدلية والجبرية في الحسن والقبح العقليين ورفع الخلاف نزاعٌ في المعلوم الضروري، وجهلٌ أو تجاهلٌ بصرائح أقوالهم المعلومة، والله تعالى ولي التوفيق.
قال الأمير في صفح 320: أقول إن كان الاعتماد على هذا دل على نفي ما أثبتوه من إدراك العقل صفة النقص لأنه لم يلجئهم إلى هذا الجواب إلاَّ عدم التفرقة بين القبح العقلي وصفة النقص، وهذا خلاف ما قرروه من الإتفاق من إدراك العقل صفة النقص.. الخ كلامه.
الجواب: بل هذا خلاف ما قررته أنت أيها الأمير، ومنه يعلم بطلان جميع ما تدندن حوله من الاتفاق، وأن حالك في تفسير كلامهم بخلاف المعلوم من مرامهم، وردك للنقولات الصحيحة عنهم أحق بقوله:
صارتْ مُشِرِّقَةً وصرتُ مُغَرِّبَاً .... شتانَ بين مُشَرِّقٍ وَمُغَرِّبِ
وإنك إنما عمدت إلى الإلزامات التي تلزمهم، فجعلتها مذاهب لهم وهم لايرتضونها، فإنهم مصرحون ضرورة بنفي الحسن والقبيح العقليين، وهذا لايحتاج إلى تطويل.
وأما إثباتهم صفة النقص والكمال فإنما ذلك منهم مغالطة ومراوغة، وقد ألزمهم محققوهم كالشريف وغيره المناقضة كما ترى، وذلك لايقتضي أنَّهم قد صاروا عدلية قائلين بالحَسَنِ والقبيح، كيف وهم مصرون على خلافه، منكرون له أشد الإنكار، قد ملأوا بكلامهم فيه واحتجاجهم بطون الأسفار، وعلى الجملة أن المنازعة في هذا تلحق بالمباهتة في البديهيات، نسأل اللّه تعالى السداد.
قال الأمير [في صفح 322]: وقوله العبد مجبور في أفعاله، يقال: لو كان كذلك بطل ما اتفق عليه من إثبات إدراك العقل للقبيح والحسن.. الخ كلامه.

(1/45)


الجواب: الحمدلله على رجوعك إلى موافقة الأمة المحمدية من تحقق النزاع بين العدلية والجبرية، وإدراكك بنفسك مناقضة كلامك، فيقال لك: الأمر عندهم كذلك معلوم قطعاً، وبمثل هذا من نصوصاتهم المعلومة يبطل ما ادعيت من الاتفاق، ويتبين أنَّ ما طوَّلت به لا طائل تحته، وإنما هي تخيلات نشأت من مناقضتهم وملاوذتهم التي أدركها المحققون، وهي لاتخفى على ذي نظر صحيح، والله تعالى الموفق للصواب، وإليه المرجع والمآب.
[إنكار ابن الأمير على الأمير الحسين بن الإمام القاسم (ع)، جعله قوله تعالى: ((كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ))، من العلاقات الجزئية، والجواب عليه]
قال الأمير معترضاً على المولى العلامة شرف الآل الحسين بن القاسم بن محمد ـ عليهم السلام ـ في عبارته في قوله [ج1 من الغاية/ص258/ ط الأولى، طبعة صنعاء]: ومن العلاقات الجزئية عكس الكلية كالعين في الرقيب وهي جزء منه ومنه قوله تعالى: ((كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ)) [القصص:88] أي ذاته، فقال الأمير: أقول: أي من استعمال الجزء وإرادة الكل فإنه عبر بالوجه عن الذات، ولا يخفى أن هذا لا يجوز في حقه تعالى، إذ هو متعالٍ عن اتِّصاف ذاته بالأجزاء، فهذه زلة قلم تابع فيها المؤلفين.
أجاب عليه مولانا العلامة مجد الدين بن محمد حفظه اللّه بما لفظه:
المؤلف ـ عليه السلام ـ أجلُّ من أنْ يَخفى عليه ماهو أدقُّ من هذا، وإنما سلك طريقاً أشار إليها المحققون، وهو أنه يكفي ثبوت العلاقة في الجملة، وليس المعتبر خصوص المادة، أَلا ترى أنَّ إطلاق الرحمة على الأفعال مجازٌ لَمَّا كانت سبباً فيها شاهداً، وقد أُطلقت على أفعال الباري، مع أنها ليست سبباً في أفعاله سبحانه، إذ هي في حقه مستحيلة، فهنا كذلك، لَمَّا كان الوجه يُطلق على الذات في الشاهد بعلاقة الجزئية أُطلق على الباري تعالى وإن كانت في حقه منتفية، وهذا كلامٌ شريفٌ، فليكن على ذكر منك.

(1/46)


تم الجواب والحمدلله سبحانه بعناية سيدي العلامة المؤلف حفظه اللّه وأبقاه في يوم الإثنين 17 شهر رجب سنة 1370 هـ. بقلم الفقير إلى اللّه المنان علي بن يحيى شيبان وفقه اللّه.
---
( [3]) ـ أي آيات البشارة.
( [4]) ـ في قوله تعالى ((قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنكُمْ لِوَاذًا)).
( [5]) ـ تسمية الطائفتين مؤمنين إشارة إلى ما في قوله تعالى ((وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا...))، وأمَّا تسمية القتلى مسلمين فيقصد به حديث (إذا التقى المسلمان بسيفهما...).
( [6]) ـ مع أنَّ تسميتهم مؤمنين ومسلمين باعتبار ما كانوا عليه، وقد أشبع مولانا الإمام مجدالدين المؤيدي ـ أيده الله تعالى ـ البحث في هذا في مؤلفه لوامع الأنوار[ط1/ج2/ص 548 ، ط2/ج2/ص610]، فليرجع إليه من أراد زيادة الفائدة، والله تعالى وليُّ التوفيق.

(1/47)


كتاب الحجج المنيرة على الأصول الخطيرة
تأليف
الإمام الحجة مجد الدين المؤيدي أيده الله تعالى
[مقدمة]
بسم اللّه الرحمن الرحيم
وصلى اللّه على محمد وآله
الحمدلله، وسلام على عباده الذين اصطفى، الحمدلله الذي أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجاً قيماً لينذر بأساً شديداً من لدنه ويبشر المؤمنين، والصلاة والسلام على خاتم أنبيائه الأكرمين المرسل رحمة للعالمين وحجة على العباد إلى يوم الدين، وعلى عترته ورثة الذكر المبين.
وبعد: فإنه وقع الإطلاع على كتاب كريم وخطاب وسيم مشتمل على سؤال متطلب حل إشكال ناهج الصراط المستقيم وعابر سبيل الحق القويم، يضوع عبير الحكم العلوي من نسماته، ويفوح نشر الهدي النبوي من نفحاته، فلا غرو فهي ذرية بعضها من بعض، والله سميع عليم ولفظه:

(1/48)


[سؤال في الإرجاء]

بسم اللّه الرحمن الرحيم
سؤال عن الحديث الوارد في إرشاد العنسي رحمه اللّه عن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم لفظه أو معناه: أن من قرأ سورة الإخلاص مائة شرف بعد كل صلاة أتى يوم القيمة على الصراط وعن يمينه أربعة أذرع وعن يساره كذلك وجبريل آخذ بحجزته، ومن رأى فيها دخلها بذنب غير شرك أخرجه. فهذا معارض لنصوص كثيرة هيهات حصرها نازحة أطرافها، وإن كان يمكن رده إلى الآيات الصريحة والأحاديث الصحيحة، فما حكمه هل موضوع أو غيره، وعظم الإشكال لأن راويه ممن لايصدر عنه إلا الأحاديث الصحيحة، وماحكم ماشابهه من الأحاديث المؤذنة بجبر أو تشبيه أو خلف وعد أو وعيد، أنقذونا من فلاة ضيقة المسالك المصيب فيها قليل والمخطيء كثير هالك، كيف وهي أصل مسألة الوعيد، فيا من فاق أقرانه واغترف من رحيق علوم آبائه وإخوانه مولانا وسيدنا وبركتنا ترجمان القرآن وحليف سنة الرحمن الولي التقي المبرور مجد الدين بن محمد بن منصور المؤيدي أيده اللّه بسربال الرضوان، وأفاض عليه العفو والغفران، أزل عنا الغياهب، وأوضح لنا من زلال علمك مانكمد به الجرح، وهذا دأب من تحمل علماً، وصلاة اللّه عليكم وسلامه ورحمته وبركاته.

(1/49)


[الجواب: أولا كيفة أخذ الزيدية أصولهم]
الجواب والله الهادي إلى منهج الصواب:
أن الخبر الذي ذكرتموه ليس في إرشاد العنسي وحده بل هو مأخوذ مما هو أجل من هذا الكتاب وأبعد عن الشك والارتياب كتاب علوم آل محمد أمالي الإمام أحمد بن عيسى عليهما السلام التي سماها الإمام المنصور بالله عبداللّه بن حمزة عليهما السلام بدايع الأنوار ولفظه: أخبرنا محمد بن راشد الحبال، قال: حدثني عيسى بن عبداللّه، عن أبيه، عن جده، عن عمر بن علي، عن علي عليهم السلام قال: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم: (( من قرأ في دبر كل صلاة مكتوبة مائة مرة قل هو اللّه أحد جاز الصراط يوم القيامة وهو عن يمينه ثمانية أذرع وعن شماله ثمانية أذرع وجبريل آخذ بحجزته وهو متطلع في النار يميناً وشمالا من رأى فيها دخلها بذنب غير شرك أخرجه )) انتهى. وقد سبق إلى الكلام عليه أعلام آل محمد، قادة الدين الحنيف، وذادة المبطلين من الزيغ والتحريف، وينبغي قبل الكلام على المقصود الإشارة بحسب مايليق بالمقام إلى أصول يبنى عليها ويرد ماشذ إليها قررها الأئمة الهداة سفن النجاة أعلام الأمم ومصابيح الظلم ومفاتيح البهم وأحكموا أساسها وأبرموا أمراسها بحجج بينة لذوي الأبصار متجلية المنار مشرقة الشموس والأقمار، كيف لا وهم حجج اللّه تعالى على جميع الفرق، وسفينته المنجية عند اضطراب أمواج الغرق، فمن تلك الأصول أنه لايعتمد إلا على العلم في مسائل أصول الدين وقواعد أصول الفقه وأصول الشريعة على ماهو مفصل في مواضعه، ومن هنا لم يقبلوا أخبار الآحاد فيها إلا مؤكدة لغيرها، وإنما قبولها مع ذلك لجواز أنه يكتفي الرسول صلى اللّه عليه وآله وسلم بالآحاد لقيام الأدلة المعلومة من غيرها.

(1/50)


والحجة على هذا الأصل الكبير والأساس الخطير من المعقول والمنقول، أما المعقول فإنه يقبح الوثوق بالظن ولايحسن العمل عليه إلا في جزئيات يسيره ليس الاعتماد عليها في شيء من الخطر كترك الطعام المخبر بكونه مسموماً ونحو ذلك مما يكتفى فيه بأدنى أمارة بل لو لم يفد الخبر الظن لحسن تركه لعظم الضرر المقدر.
وأما المنقول فإن اللّه عز سلطانه وتعالى عن كل شأن شأنه يقول: ((وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ)) [الإسراء:36] ((إِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا)) [يونس:36] ((وَأَن تَقُولُواْ عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ)) [البقره:169] والتأويل للعلم والظن بإخراجهما عن حقيقتهما تحريف وتبديل وخلاف ماقام عليه الدليل، ((وَمِنَ النَّاسِ مَن يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُّنِيرٍ (8) ثَانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ اللَّهِ)) [الحج:8]، وأيضاً فمن المعلوم ضرورة اختلاف الظنون فيلزم الإتباع لها قطعاً للاختلاف والتفرق الذي نهى عنه رب العالمين قال جل جلاله: ((وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ)) [الأنعام:153]، ((وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ تَفَرَّقُواْ وَاخْتَلَفُواْ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ)) [آل عمران:105]، ومنها أن لله تعالى على عباد حججاً لازمة وبينات قائمة.
أولها: العقل ولولاه لما عرف التوحيد ولا النبوة ولا العدل.

(1/51)


ثانيها: الكتاب المجيد الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد، وقد أوجب سادات آل محمد صلى اللّه عليه وآله وسلم عرض كلما ورد عليه ورد جميع ما نقل إليه لقول اللّه تعالى: ((إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يِهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ)) [الإسراء:9] قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم فيما رواه إمام الأئمة وهادي الأمة وكاشف الغمة يحيى بن الحسين بن القاسم بن إبراهيم عليهم أفضل الصلاة والتسليم: ((سيكذب علي كما كذب على الأنبياء من قبلي فما أتاكم عني فأعرضوه على كتاب اللّه فما وافق كتاب اللّه فهو مني وأنا قلته وما خالف كتاب اللّه فليس مني ولم أقله)) وروى الإمام الناصر أبو الفتح الديلمي في كتابه البرهان في تفسير القرآن عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم أنه قال: ((سيكثر علي الكذابة فما أتاكم عني فأعرضوه على كتاب اللّه عز وجل فما وافق كتاب اللّه فخذوه وما خالف كتاب اللّه فردوه)) وأخرج الطبراني في الكبير عن ثوبان عن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم أنه قال: ((أعرضوا حديثي على كتاب اللّه فما وافقه فهو مني وأنا قلته)) وذكره الأسيوطي في الجامع الصغير وروى أيضا في الكبير عن عبداللّه بن عمر عن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم أنه قال: (( سئلت اليهود عن موسى فأكثروا فيه وزادوا ونقصوا حتى كفروا، وسئلت النصارى عن عيسى فأكثروا فيه وزادوا ونقصوا حتى كفروا، وستنشأ عني أحاديث فما أتاكم من حديثي فاقرؤا كتاب اللّه واعتبروه فما وافق كتاب اللّه فأنا قلته، ومالم يوافق كتاب اللّه فلم أقله)) وذكر قاضي القضاة مالفظه: وقد روي عن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم: ((سيأتيكم عني حديث مختلف فما وافق كتاب اللّه وسنتي فهو مني، وما كان مخالفاً لذلك فليس مني )).
وقد استوفى الكلام في هذا البحث الإمام المجدد للدين أمير المؤمنين المنصور بالله رب العالمين القاسم بن محمد عليهما السلام.

(1/52)


قلت: وعند التحقيق مفاد أحاديث العرض لايأباه أحد من علماء الإسلام، وإنما نشأ الخلاف فيه من عدم التدبر لمعناه والوقوف على حقيقته ومرماه، وذلك أنه تبادر إلى أذهان الكثير خلاف المقصود من الموافقة والمخالفة فحملوا قوله: ((وماخالف)) على المغايرة وعدم المماثلة فلزم عندهم أن لايقبل من السنة إلا ماكان في القرآن مثله، فلم تبق السنة على مقتضاه إلا مؤكدة، وذلك خلاف المعلوم، وليس الأمر كما تصوروه بل الموافقة: المماثلة، والمخالفة: المعارضة والمناقضة.
هذا الذي تقتضيه العربية ومنه يعلم أن أحاديث العرض لم تحصر مافي السنة على الموافقة والمخالفة، وأن ثمة قسماً ثالثاً لايوصف بموافقة ولامخالفة، فما صح منه أخذ لدلالة نحو قوله تعالى: ((وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا))[الحشر:7].
وقد تكلمت في فصل الخطاب في خبر العرض على الكتاب، ولخصت ماتحصل بما فيه كفاية إن شاء اللّه تعالى، ويعلم أيضاً أن ليس مقصود الرسول صلى اللّه عليه وآله وسلم وأئمة أهل البيت عليهم السلام من العرض إلا رد ماكذب على اللّه تعالى ورسوله، وحينئذ فهو ماقضت به الحجج ونطقت به الدلائل، فكتاب اللّه تعالى المرجع والمفزع ((وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ)) [المائدة:44] الآيات.

(1/53)


روى الإمام الناصر أبو الفتح الديلمي عليه السلام عن الحارث الهمداني قال: كنت مررت في المسجد فإذا الناس يخوضون في الأحاديث فدخلت على أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام فقلت: يا أمير المؤمنين ألا ترى الناس قد خاضوا في الأحاديث؟ فقال: أو قد فعلوها؟ فقلت: نعم. قال: أما إني سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم يقول: (( أما إنها ستكون فتنة )) فقلت: فما المخرج منها يارسول اللّه؟ قال: ((كتاب اللّه عز وجل فيه نبأ ماقبلكم، وخبر مابعدكم، وحكم مابينكم، فهو الفصل ليس بالهزل من تركه من جبار قصمه اللّه، ومن ابتغى الهدى من غيره أضله اللّه، هو حبل اللّه المتين، وهو الذكر الحكيم والصراط المستقيم، وهو الذي لاتزيغ به الأهواء ولاتلبس به الألسنة، ولاتشبع منه العلماء، ولايخلق عند كثرة الترداد، ولاتنقضي عجائبه، هو الذي لم تلبث الجن إذ سمعته حتى قالوا: إنا سمعنا قرآناً عجباً يهدي إلى الرشد فآمنا به، من قال به صدق، ومن عمل به أجر، ومن حكم به عدل، ومن دعا إليه هدي إلى صراط مستقيم)) خذها إليك يا أعور. وغير ذلك مما هو معلوم والقصد الإشارة.
وثالثها: ماصح عن الرسول صلى اللّه عليه وآله وسلم من السنة الشريفة رفع اللّه تعالى أحكامها وأنار أعلامها: ((وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا)) [الحشر:7]، ((وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى)) [النجم:3-4].

(1/54)


ورابعها: ماصح عن أخيه وابن عمه ووصيه وباب مدينة علمه المنزل منه تارة بمنزلة نفسه كما نطق به القرآن في سورة آل عمران تارة بمنزلة هارون من موسى أمير المؤمنين وولي المسلمين ومولاهم بنص الكتاب المبين وتبليغ خاتم المرسلين كما في خبر الغدير الكائن في حجة الوداع بمشهد الجم الغفير، ولم يزل الرسول صلى اللّه عليه وآله وسلم يبين للأمة شأنه ويوضح للأمة مكانه، وأنه ثانيه في مقامه وعهده وتاليه في القيام بحجته من بعده من ابتداء البعثة إلى انتهائها، من يدور الحق والقرآن معه، كما قال الرسول صلى اللّه عليه وآله وسلم لمن سمعه قاتل الناكثين والقاسطين والمارقين، من طوق اللّه تعالى بولايته الأعناق، وجعل مودته علامة الإيمان، وبغضه علامة النفاق، من أيد اللّه تعالى بسيفه وعلمه نبوة أخيه ومهد بهما قواعد الإسلام، وأورثه علم أنبيائه ورسله الكرام وجعل أبناءه أبناء رسول اللّه بنص الكتاب في آية المباهلة، فهم حجته على جميع الأنام.
وخامسها: إجماع أهل الذكر وأولي الأمر من آل الرسول صلى اللّه عليه وآله وسلم ورثة الكتاب وحجج اللّه تعالى على ذوي الألباب وأمان أهل الأرض من استئصال العذاب المشهور بحجية إجماعهم وعصمة جماعتهم بآية المودة والتطهير وأحاديث الكساء والتمسك وخبري السفينة وغير ذلك مما لايحصى كثرة كتاباً وسنة، والغرض الإشارة إلى الدليل لا التطويل.
وأما إجماع الأمة فالمدار على العترة على التحقيق ولذا قال قائلهم:
إجماعنا حجة الإجماع وهو له .... أقوى دليل على ماالكتب تنبيه
هذا فما خالف من الآحاد المعلوم من هذه الحجج الرصينة والأدلة الراسخة المتينة ولم يمكن تأويله فهو مردود على قائله مضروب به وجه ناقله موسوم بالوضع مطرود عن مقاعد السمع.

(1/55)


ولهذا رد آل محمد عليهم السلام الأحاديث المحشوة القاضية بالتشبيه والجبر والإرجاء، وإنما قيدنا ذلك بالآحاد لأن القواطع لاتعارض فيها ولاتناقض لأن الحكيم العليم لايناقض حججه، لأن المناقضة خلاف الحكمة وصفة نقص والله يتعالى عنها ((وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفًا كَثِيراً)) [النساء:82]، ((لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ)) [فصلت:42]، ((فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلاَّ الضَّلاَلُ)) [يونس:32].
وأما ما أمكن فيه التأويل والرد بغير تعسف إلى الدليل فالصحيح قبوله كما قرر ذلك في الأصول، هذا مع تكامل شروط الرواية من الضبط والعدالة ولولا التأويل لما استقام دليل، ولهذا مدح اللّه أهله بالرسوخ وقال تعالى: ((وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ)) [النساء:83]. وقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم فيما رواه الإمام زيد بن علي عن آبائه، عن علي عليهم السلام: ((يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله ينفون عنه تحريف الغالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين))، وقد استوفيت طرق هذا الخبر وغيره من الأخبار في لوامع الأنوار.

(1/56)


[ثانيا: الكلام في الحديث وشرحة]
ولنعد إلى المقصود بعون الملك المعبود: إذا تقرر هذا فنقول هذا الخبر من القسم الثاني أعني ما أمكن تأويله وصحت طريقه، فيجب العدول إلى التأويل، والمسألة التي ورد فيها من أصول مسائل الوعد والوعيد، وقد علم من هناك خلود من دخل النار أعاذنا اللّه تعالى منها بآيات القرآن الحكيم وقواطع السنة النبوية وإجماع آل الرسول صلى اللّه عليه وآله وسلم قرناء التنزيل وأمناء التأويل، ((رَبَّنَا إِنَّكَ مَن تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ)) [آل عمران:192]، ((إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ {13} وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ {14} يَصْلَوْنَهَا يَوْمَ الدِّينِ {15} وَمَا هُمْ عَنْهَا بِغَائِبِينَ)) [الإنفطار:13-16]، ((وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا)) [الجن:23]، ((فَلاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ)) [البقره:86]، ((كُلَّمَا أَرَادُوا أَن يَخْرُجُوا مِنْهَا أُعِيدُوا)) [السجده:20]، ((كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا)) [النساء:56]، ((كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيرًا)) [الإسراء:97]، ((مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلَا شَفِيعٍ يُطَاعُ)) [غافر:18] وغير ذلك من العمومات القاطعة والخصوصات الساطعة ممن لايبدل القول لديه وليس بظلام للعبيد.

(1/57)


وكفى في هذا الباب بما قصه اللّه تعالى في الكتاب عن أهل الكتاب حيث يقول جل اسمه: ((وَقَالُواْ لَن تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَّ أَيَّاماً مَّعْدُودَةً قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِندَ اللّهِ عَهْدًا فَلَن يُخْلِفَ اللّهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ (80) بَلَى مَن كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ)) [البقره:80-81] فسلف الذاهب إلى ذلك في قوله هم اليهود: ((تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ)) [البقرة:118] وحسبك في إكذابه وإبطاله قول الملك المعبود.
هذا وأصح ماوقفنا عليه من تأويل هذا الخبر لمتانته وعدم التعسف فيه ماتأوله به والدنا الإمام الأعظم أمير المؤمنين المهدي لدين اللّه رب العالمين محمد بن القاسم الحوثي الحسيني في جواباته على علماء ضحيان، وقد نقل ذلك التأويل في هوامش كثيرة من الأماليات والإرشاد، ولابد من إيراد السؤال والجواب بلفظيهما لما فيهما من الإفادة والتعرض للزيادة، ولابأس بإيضاح حجة وبيان محجة.
قال السائل، وهو القاضي العلامة المنتقد والحافظ المجتهد صارم الإسلام وخاتم المحققين الأعلام إمام الشيعة وواحد أساطين الشريعة الولي بن الولي إبراهيم بن عبداللّه الغالبي رضي اللّه عنهما في سياق السؤال: أخذنا المقصود منه ثم ماروي في أمالي أحمد بن عيسى برواية عيسى بن عبداللّه عن أبيه عن جده عن عمر بن علي عن علي عليهم السلام: ((من قرأ قل هو اللّه أحد مائة مرة جاز على الصراط يوم القيامة وعن يمينه وشماله ثمانية اذرع وجبريل آخذ بحجزته وهو متطلع في النار يميناً وشمالا من رأى فيها دخلها بذنب غير شرك أخرجه)) فهذا مشكل غاية الإشكال على قواعد الآل، إن قلنا برده مع هذا السند لزم التشكيك في جميع أحاديث الكتاب وهو أعظم معتمد أئمتنا، وإن قلنا بقبوله ففيه مافيه، والجواب مطلوب جزيتم خيراً.

(1/58)


وأجاب الإمام عليه السلام عن هذا بما نصه من أثناء كلام: ومثل حديث قل هو اللّه أحد مع كونه ظنياً لايعمل به في مسائل الأصول إلا مؤيداً لغيره يمكن تأويله بأن المراد من رآه في رفاقته من أهل الكبائر. أخرجه من مرافقته في حال الجواز على الصراط عند الإطلاع على النار لأنه في سياقه والمقصود الطريق الموصلة إلى الجنة. وقوله بذنب غير شرك. لأن المشرك لايطمع في مرافقته من أول وهلة، يؤيد هذا التأويل قوله تعالى: ((قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا)) [الحديد:13] ونحو ذلك من التأويلات التي هي أولى من الرد إلى أن قال عليه السلام: وإن ورد مالايمكن تأويله وجب رده كما هي القاعدة المقررة ولايقدح ذلك في ناقله ولاكتابه، أما ناقله فالخطأ والنسيان والوهم تجوز على البشر، وإنما هو ناقل روى ماسمع، وإنما يقدح ماكان عمداً، ولهذا قال صلى اللّه عليه وآله وسلم: ((من كذب علي متعمداً فليتبوأ مقعده من النار)) فقيده بالعمد وكثير من أفراد الأحاديث نظر عليها وحكم بعدم صحتها ولم يعد ذلك قادحاً في الناقل ولافي كتابه، وأما الكتاب فلبقاء الظن بصحته وكمال شروط الرواية في باقيه. انتهى المراد من كلام الإمام عليه السلام وفيه كفاية وافية وهداية شافية لمن ألقى السمع وهو شهيد.
وقد أشار بقوله عليه السلام: ونحو ذلك من التأويلات. إلى أن المقصود الحمل على خلاف الظاهر بأي تأويل ممكن فإن القرائح والفطن متباينة والأنظار متفاوتة فمن لم يسغ له هذا أو رأى غيره أرجح منه عدل إليه ومن تعذر كل ذلك عليه فقد وجب عليه اطراحه كما تقدم بيانه ((لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا)) [البقرة:286] وهي منح ربانية وقسم إلهية ((ذَلِكَ فَضْلُ اللّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاء)) [المائدة:54]، ((ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاء)) [آل عمران:74].

(1/59)


وقد اختص اللّه تعالى أهل بيت نبيئه صلى اللّه عليه وآله وسلم بالحظ الأوفر والنصيب الأكبر لما أهلهم اللّه تعالى من وراثة كتابه وحماية دينه ونالتهم دعوة جدهم صلى اللّه عليه وآله وسلم: ((اللهم اجعل العلم والحكمة في عقبي وعقب عقبي وزرعي وزرع زرعي)). وكما قال صلى اللّه عليه وآله وسلم: ((من سره أن يحيا حياتي ويموت مماتي ويسكن جنة عدن التي وعدني ربي فليتول علياً وذريته من بعدي وليتول وليه وليقتد بأهل بيتي فإنهم عترتي خلقوا من طينتي ورزقوا فهمي وعلمي )) الخبر، جعلنا اللّه تعالى ممن اقتدى بآثارهم واهتدى بأنوارهم.
نعم وقد أفاد الإمام عليه السلام فائدة جليلة بما ساقه من قوله: ولايقدح ذلك في الناقل ولافي كتابه. وأوضح الاستدلال عليه وهي مهمة عظمى وفائدة كبرى قل من يتنبه لها إلا أهل الحل والعقد من أمثال هؤلاء الرجال الراسخة أفهامهم والثابتة أقدامهم في كل مقال ولدى كل مجال فترى كثيراً ممن لم يعض على العلوم بضرس قاطع ولاضرب في الفنون بفهم نافع يدمج الأشكال عموماً ويصير المعلوم موهوماً، فإذا أشكل عليه في المؤلف شيء رماه بالقدح وسارع إلى مؤلفه بالجرح، وذلك لعدم المسكة وفقدان الملكة ولالوم عليه في ذلك.
ولكن صاحب الورع الشحيح لايقدم ولايحجم إلا عن بصيرة فإن الأمر لاسيما في هذا الشأن عظيم ((أَفَمَن يَمْشِي مُكِبًّا عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمَّن يَمْشِي سَوِيًّا عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ)) [الملك:22].
وقد تطاول الكلام بما ساقت إليه الأبحاث حتى كاد يخرج عن المقام ولكن الحديث ذو شجون، ولايخلو إن شاء اللّه تعالى عن فوائد تحقق للراغبين مايرجون، ويؤخذ الجواب عن هذا السؤال وعما شاكله من تلك الغصون، ومن اللّه تعالى أستمد حسن التوفيق والهداية في البداية والنهاية، إنه قريب مجيب. وعليكم السلام الجزيل والإكرام والتبجيل في كل بكرة وأصيل.

(1/60)


قال في الأم: حرر بتاريخه شهر رجب سنة 1365 هـ كتبه المفتقر إلى اللّه سبحانه مجد الدين بن محمد بن منصور المؤيدي عفا اللّه عنهم، تم بحمد اللّه وإعانته زبراً في يوم الأحد 24 شهر رجب سنة 1370 هـ .
بقلم أسير الذنوب راجي رحمة علام الغيوب علي بن يحيى شيبان لطف اللّه به في الدارين آمين.
قال في الأم المنقول عليها هذه النسخة مالفظه:
بسم اللّه الرحمن الرحيم وصلى اللّه وسلم على النبي الكريم وآله الهداة إلى الصراط المستقيم، نعم لما تم لي نساخة هذه الكتب العظيمة النافعة وسماعها على مؤلفها أيده اللّه بتأييده ورأيت علماً عظيماً وصراطاً قويماً.. الخ كلامه وذكر فيه أبياتاً صدرها:
هذي الرياض التي فاضت بها النعم…بشرى فمطلعها الأنوار والكرم
في ثمانية عشر بيتاً قد ذكرت في ديوان الحكمة. قال الناقل عن خطه: إلى قوله المفتقر إلى ربه أسير ذنبه صلاح بن أحمد بن عبداللّه فليتة عفا اللّه عنه آمين.

(1/61)


الرسالة الصادعة بالدليل في الرد على ما أورده صاحب التبديع والتضليل
تأليف
الإمام الحجة مجد الدين المؤيدي أيده الله تعالى
[مقدمة المؤلف ـ أيده الله تعالى]
بسم الله الرحمن الرحيم
وصلى الله على محمد وآله وسلم
الحمدلله القائل في كتابه المبين: ((ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ)) [النحل:125] المقدس عن الأشباه والنظائر، المنزه عن أن تحيط به القلوب والضمائر، أحمده عز وجل، وأشهد أن لاإله إلا الله وحده لاشريك له، شهادة مدخرة إلى يوم تبلى السرائر، خالصة عما يشوبها من الرذائل، مطهرة عن دنس الإشراك وموبقات الدغائل، صادعة بالحق على رغم كل جاحد وغافل.
وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، الداعي إلى سبيله الواقف عند قيله، المبلغ لدينه في وحيه وتَنْزِيله، الذي منه في الذكر المكنون: ((يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ)) [آل عمران:171] صلى الله عليه وعلى آله قرناء الذكر المبين، سفينة النجاة للمتمسكين، ونجوم الهدى، ورجوم العدى، وأمان أهل الأرض من الضلالة والردى، النافين عن الدين تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين.

(1/62)


[الباعث على التأليف]
وبعد: فإنها وصلت إلينا الرسالة المتضمنة للتضليل والتبديع والتكفير للفرقة الناجية والعصابة الهادية من أهل البيت المطهرين عن الأرجاس، المفضلين على كافة الناس، وأشياعهم الراكبين سفينتهم المتمسكين بهديهم، الدالة على إقدام منشيها على ذلك بغير برهان ساطع، ولاسلطان قاطع، ومثل ذلك أمر كبير وخطب خطير، ((وَمِنَ النَّاسِ مَن يُجَادِلُ فِي الله بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدًى وَلا كِتَابٍ مُّنِيرٍ)) [الحج:8]، زاعماً أنه ناهٍ عن البدع وفيها وقع، وارتبك في ضلالها ورتع، ومن آجن كدرها وآسن متغيرها كرع، فتحتم علينا الجواب، ووجب إزاحة مابها من الشبه الضئيلة التي هي أشبه بلمع السراب، لما لايؤمن أن يطَّلَعَ عليها من لا يميز بين الخطأ والصواب، فتوقعه لضعف البصيرة في الحيرة والشك والارتياب، لما أخذ الله تعالى من البيان في محكم القرآن والسنة من أمثال قوله تعالى: ((إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى..)) [البقره:159] الآية، ولقوله ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ: ((إذا ظهرت البدع ولم يظهر العالم علمه فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين))، ولقوله ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ: ((من انتهر صاحب بدعة ملأ الله قلبه أمناً وإيماناً ))، وقد قال ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ: ((إنَّ عند كل بدعة يُكادُ بها الإسلامُ من بعدي ولياً من أهل بيتي، يُعْلِنُ الحقَّ وَيُنَوِّرُهُ، وَيَردُّ كيدَ الكايدين، فاعتبروا يا أُولي الأبصار، وتوكلوا على الله)).
فنقول وبالله تعالى التوفيق، ونسأله الهداية إلى أقوم طريق:
قال بعد حمد الله والصلاة على النبي وآله ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ:

(1/63)


أما بعد: فهذه نبذة في تضليل بعض البدع المحدثة التي صار الاستمرار عليها سنة متبعة والإلف بها والنشوء عليها صيراها حسنة، وإن كانت قبيحة وهي: مسألة تجصيص القبور ورفعها والبناء عليها وزخرفتها وتسريج السرج عليها وفرشها والصلاة فيها والتلاوة عندها والتضرع والاستغاثة.
والجواب والله الموفق لمنهج الصواب: أما الدعاء والتلاوة فلم يورد صاحب الرسالة شيئاً مما يقتضي المنع عنهما بل في سياق ما استدل به مايفيد شرعية الدعاء كما ستقف عليه إن شاء الله تعالى.
[شرعية التلاوة عند القبور]
ولنا على شرعية التلاوة عند القبور أدلة منها:
مارواه الإمام علي بن موسى الرضا بسند آبائه ـ عليهم السلام ـ عن علي ـ عليه السلام ـ قال: قال رسول الله ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ: ((من مَرَّ على المقابر وقرأ ((قُلْ هُوَ الله أَحَدٌ)) إحدى عشرةَ مرةً، ثُّمَّ وهب أَجرَهُ للأموات أُعطي من الأجر بعدد الأموات)).
وأخرج أحمد في المسند، وأبو داود، وابن ماجه، وابن حبان، والحاكم عن مَعْقِلِ بن يسار عنه ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ: ((اقرؤا على موتاكم يس)).
قال في شرح الجامع الصغير: أي مَنْ حضره مقدمات الموت، وأخذ بعضهم بظاهر الخبر، فصحح أنها تقرأ بعد موته، والأولى الجمعُ عملاً بالقولين"، انتهى منه باختصار.
قلت: المتعين الأخذ بالحقيقة لعدم الصارف.
قال في حواشي بلوغ المرام: لابأس بقراءة القرآن على الموتى كما بين ذلك بأدلته الحافظ ابن القيم في كتابه الروح فانظره، وانظر كتابنا المحكم المتين"، انتهى [من صفح 107/ طبع سنة 1372 هـ].
قال الأمير في تأنيس الغريب: وأخرج أبو محمد السمرقندي في فضائل ((قُلْ هُوَ الله أَحَدٌ)) عن علي ـ رضي الله تعالى عنه ـ: من مر على المقابر وقرأ ((قُلْ هُوَ الله أَحَدٌ)) إحدى عشرة مرة، ثُّمَّ وهب أجره للأموات أُعطي من الأجر بعدد الأموات.

(1/64)


قلت: وأخرجه الإمام علي بن موسى الرضا بسند آبائه بلفظه، وأخرجه الرافعي في تاريخه، والدار قطني عن علي ـ عليه السلام ـ بلفظه.
وأخرج أبو القاسم بن أسعد الزنجاني في فوائده عن أبي هريرة قال: قال رسول الله ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ: ((من دخل المقابر ثم قرأ فاتحة الكتاب، و((قُلْ هُوَ الله أَحَدٌ))، و ((أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ))، ثُّمَّ قال: اللهم إنِّي جعلتُ ثوابَ ما قرأتُ من كلامك لأهل المقابر من المؤمنين والمؤمنات كانوا له شفعاءَ إلى الله)).
وأخرج عبدالعزيز صاحب الجلال بسنده عن أنس أن رسول الله ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ قال: ((من دخل المقابر فقرأ سورة يس خفف الله عنهم، وكان له بعدد من فيهم حسنات)).
قال المحب الطبري: وفي الإحياء للغزالي والعاقبة لعبدالحي عن أحمد قال: إذا دخلتم المقابر فاقرأوا بفاتحة الكتاب والمعوذتين و((قُلْ هُوَ الله أَحَدٌ))، واجعلوا ذلك لأهل المقابر فإنه يصل إليهم.
[بحث في أنواع التوسل مدعماً بالأدلة]
وأما التضرع والاستغاثة فلا يخلو:
إمَّا أنْ يكونَ المقصود بذلك مجرد القبر، أو مَن فيه لاعتقاد أنه ينفع ويضر من دون الله تعالى، فلاشك في قبحه، وذلك غير واقع فيما نعلمه في هذه الأقطار، ولو ظهر وقوعه لأُنْكِرَ على فاعله.
وإنْ كان المقصود الدعاء إلى الله وحده، والتوسل بالأخيار، فذلك غير ممنوع، بل مشروع، والأدلة على ذلك مسطورة مشهورة، ولم يأتِ صاحب الرسالة بما يمنع من ذلك لا حجة ولا شبهة فيتوجه الخطاب عليه، وكذلك فرشها لَم يُشِرْ فيه بدليل ولا شبهة قط.

(1/65)


[الكلام على حديث الأعمى الذي توسل برسول الله ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ]
وقد ورد في التوسل من رواية القوم الذين هم عمدة الخصم فهو حجة عليه يلزمه التسليم لها ما أخرجه الحاكم وقال: صحيح على شرط البخاري ومسلم، والترمذي وقال: حسن صحيح غريب، والنسائي، وابن ماجه، وابن خزيمة في صحيحه وصححه، والطبراني من حديث عثمان بن حنيف ـ رضي الله عنه ـ أن أعمى أتى النبي ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ فقال: يارسول الله ادع الله أن يكشف لي عن بصري. فقال: أو أدعك؟ فقال: يارسول الله إني قد شقَّ عليَّ ذهابُ بصري.
قال: ((فانطلق فتوضأ وصل ركعتين ثم قل: اللهم إني أسألك وأتوجه إليك بمحمد نبي الرحمة، يامحمد إني أتوجه بك إلى ربي في حاجتي هذه لتقضى لي اللهم فشفعه في)).
ولَمَّا كان هذا الخبر الصحيح الصريح حجةً دامغةً، وبيِّنَةً قاطعةً، أبلغ الجاحدون لشرعية التوسل كلَّ حيلة، وتوصلوا لتحريفه ورد صريح لفظه ومعناه بكل وسيلة.
من ذلك أن الأعمى إنما سأل من الرسول ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ الدعاء.
والجواب: أنَّا إنّما احتججنا بقول الرسول ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ لا بقول الأعمى، فإنه ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ علمه التوسل، حيث قال له: ((قل: اللهم إني أسألك وأتوجه إليك بمحمدٍ نبيِّ الرحمة، يا محمد أتوجه بك إلى ربي في حاجتي هذه لتقضى لي))، فهل شيء أصرح من هذا في أنَّه علَّمه أن يتوسل به، وأن يناديَهُ وهو غائب، وهو كنداء الميت بلا فرق.
ومن ذلك مازعموه أن المقصود بقوله: أتوجه بك. _أي بدعائك_.

(1/66)


والجواب: أن هذا هو التحريف بعينه وحاشا الرسول ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ أن يُلْغز هذه الألغاز، ويعمي هذه التعمية، وهو المبين للناس ما يختلفون فيه، وإنَّ تقدير مثل هذا الذي يُخْرِجُ الكلام الصريح بلا دليل قاطع هو عين التحريف والتبديل، ولا فرق بينه وبين تأويلات وتحريفات الصوفية والباطنية، ولو ساغ مثل هذا لبطلت النصوص، ولَم يبق ثقة لعموم ولا خصوص، وكيف يكون قول الداعي: ادع الله لي دليلاً على التقدير في كلام رسول الله ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ الصريح لِمَا لا يحتمله، ولا يشير إليه، فضلا عن أن يدل عليه، ((إِنَّهَا لا تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ)) [الحج:46].
[الكلام على استسقاء الصحابة بالعباس ـ رضي الله تعالى عنه ـ]
ومارواه البخاري أن الصحابة استسقوا بالعباس ـ رضي الله عنه ـ عم رسول الله ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ، وقال عمر: اللهم إنا نتوسل إليك بعم نبيئنا.. الخبر، وغير ذلك كثير.
وإذا ثبت شرعيته لَم يقبح، ولَم يكن معصية ولاشركاً، وسواء كان بحيٍّ أو ميت، إذ المقتضي واحد، وحرمة الميت عند الله تعالى باقية ثابتة، لَم يَرد ما يقطعها قطعاً، وإذا كان المقصود التوسل بما له من الحرمة والمنْزِلة عند الله تعالى فالحي والميت سواء لافارق بينهما في ذلك عقلا وسمعاً، وإن كان المراد طلب النفع والضر والخير والشر الذي لا يقدر عليه إلاَّ الله تعالى فهو قبيح، والله تعالى له غير مبيح، سواء في ذلك الحي والميت عقلا وشرعاً ((إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ)) [لقمان:13].
[الكلام على توسل آدم عليه السلام بالرسول صلى الله عليه وآله وسلم]
وقد ذكرتُ في مجمع الفوائد(1) ما رواه الشيخ ابن تيمية [في الجزء الثاني من الفتاوى/ ص 150/ الطبعة الأولى/ سنة (1381 هـ)]:
__________
(1) ـ[ ص 273/ الطبعة الأولى/ 1418 هـ/ دار الحكمة اليمانية].

(1/67)


وروى أبو نعيم الحافظ في دلائل النبوة ومن طريق الشيخ أبي الفرج، حدثنا سليمان بن أحمد (الطبراني)، حدثنا أحمد بن راشد، حدثنا أحمد بن سعيد الفهري، حدثنا عبدالله بن سليمان المدني، عن عبدالرحمن بن زيد بن أسلم، عن أبيه، عن عمر بن الخطاب، قال: قال رسول الله ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ: (( لما أصاب آدم الخطيئة رفع رأسه فقال: يارب بحق محمد إلا غفرت لي، فأوحى إليه: وما محمد ومن محمد؟ فقال: يارب إنك لَمَّا أَتممتَ خَلْقي رفعتُ رأَسي إلى عرشك، فإذا عليه مكتوب: لا إله إلاَّ الله محمد رسول الله، فعلمتُ أنَّه أَكرمُ خلقك عليك، إذ قرنتَ اسمَهُ مع اسمكَ، قال: نعم، قد غفرت لك... إلخ.
قلت: وهذا الخبر مرويٌّ في كتب أئمتنا، وفي هذا رد صريح مفحم لمن يزعم أن معنى ماورد من التوسل هو التوسل بدعائه، وهو وإن كان من التأويل الباطل فقد يمكن التلبيس به على من لا قدم له راسخ، أما هذا فلا يتصور فيه بحال، إذ هو قبل وجوده، وهو أبلغ من التوسل بالموتى من الأنبياء والأولياء ونحوهم إذ قد وجدوا.
[كلام مهم لابن تيمية على حديث الأعمى، وتعليق المؤلف ـ أيده الله تعالى ـ عليه]
وقال أيضاً في [الجزء الثالث/ ص 176] في سياق حقوق رسول الله ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ ما لفظه: وكذلك مما يشرع التوسل به في الدعاء كما في الحديث الذي رواه الترمذي وصححه أن النبي ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ عَلَّم شخصاً أن يقول: ((اللهم إني أسألك وأتوسل إليك بنبيك محمد نبي الرحمة، يامحمد يارسول الله إني أتوسل بك إلى ربي في حاجتي..)) إلخ الخبر الذي سبق.

(1/68)


وهذا صريح في التوسل بذاته ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ لِمَا له من المكانة عند الله سبحانه وتعالى، وتصريحٌ من الشيخ ابن تيمية في جواز ذلك، فهؤلاء الذين يمنعونه أشد المنع، ويتأولون نحو هذا الخبر النبوي بخلاف حقيقته مخالفون لصريح السنة النبوية في هذا الخبر الصحيح ونحوه، ومخالفون للشيخ الذي هو عمدتهم، وعليه يعولون، وقد استوفيت طرق هذا الخبر الشريف ومخرجيه والكلام على التوسل بشرح الزلف [ص 164/ الطبعة الأولى، ص 251/ الطبعة الثانية، ص347/ الطبعة الثالثة]، وقلنا هنالك بعد ذكر الآيات الدالة على التوسل به ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ ما لفظه:
فلا يسوغ لمؤمن بالله تعالى ورسوله أن يجعل ذلك كالتوسل والاستشفاع بالأوثان، واعتقاد تقريبها إلى الله زلفى ((تِلْكَ آيَاتُ الله نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ الله وَآيَاتِهِ يُؤْمِنُونَ)) [الجاثيه:6] إلى قولنا:
وكذلك أَذِنَ الله تعالى أن ترفع جميع بيوته، وهي حجارة لا تضر ولا تنفع، ولا تبصر ولا تسمع، فلم يكن ذلك شركاً له تعالى، ولا عبادة لغيره، ولا قبيحاً، لَمَّا أذن الله تعالى به، بخلاف تعظيم الأصنام، وطيافة من طاف حولها من الأنام، واعتقاد شفاعتها عند ذي الجلال والإكرام، لَمَّا كان مما لم يأذن الله تعالى به، ولَم يَشْرعه... إلخ، وهو كلام مفيد فليراجع.

(1/69)


[الكلام على حديث فاطمة بنت أَسد عليها السلام]
هذا وأخرج الطبراني في الكبير والأوسط، وابن حبان، والحاكم وصححوه عن أنس قال: لَمَّا ماتت فاطمةُ بنت أسد دخل عليها رسول الله ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ فجلس عند رأسها، فقال: رحمك الله يا أُمي بعد أُمي... وذكر ثناءه عليها، وتكفينها ببرده، قال: ثُّمَّ دعا رسول الله ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ أسامةَ وأبا أيوبَ الأنصاري وعمرَ بنَ الخطاب وغلاماً أسودَ يحفرون، فحفروا قبرها، فلَمَّا بلغوا اللحد حفره رسول الله ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ بيده، فلما فرغ دخل رسول الله ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ فاضطجع فيه، ثُّمَّ قال: ((الله الذي يحيي ويميت، وهو حي لا يموت، اغفر لأُمي فاطمة بنت أسد، ووسع عليها مُدْخَلَها بحقِّ نبيك والأنبياء الذين من قبلي)).
[تخريج حديث توسل آدم عليه السلام برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم]
وما أخرجه الطبراني في الصغير، والحاكمُ، وأبو نُعيمٍ، والبيهقيُّ من توسل آدمَ بمحمدٍ ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ وقد مرَّ.
[كلام مفيد لابن تيمية على حديث (وأسألك بحق السائلين عليك...)، وتعليق المؤلف ـ أيده الله تعالى ـ عليه]
وقال ابن تيمية في [الجزء الأول من فتاواه/ ص 209/ الطبعة الأولى] ما لفظه:
وقد جاء في حديث رواه أحمد في مسنده، وابن ماجه عن عطية الْعَوْفِيِّ عن أبي سعيد الخدري عن النبي ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ أنه عَلَّم الخارجَ إلى الصلاة أن يقول في دعائه: وأسألك بحقِّ السائلين عليك، وبحقِّ ممشاي هذا، فإنِّي لَم أَخرج أشَرَاً ولابَطَراً، ولا رياء ولا سمعة.
إلى قول الشيخ ابن تيمية ما لفظه: وهو السؤال بالْمُعَظَّمِ كالسؤال بحقِّ الأنبياء.

(1/70)


إلى قوله: ومن الناس من يُجَوِّزُ ذلك، فنقول: قول السائل لله تعالى: أسألك بحقِّ فلان وفلان من الملائكة والأنبياء والصالحين وغيرهم، أو بجاه فلان، أو بحرمة فلان، يقتضي أنَّ هؤلاء لهم عند الله جاه، وهذا صحيح فإن هؤلاء لهم عند الله مَنْزِلة وجاه وحرمة... إلخ كلامه.
قلت: وهذا هو غرض المجيزين للتوسل بالأنبياء والصالحين، فأصحاب الشيخ المدَّعون لمتابعته، المانعون لذلك، والمنكرون على من أجازه أشد الإنكار بل قد يبلغ بهم الحال إلى أن يقولوا هو من الشرك الأكبر مخالفون لِمَا وَرَدَ في كتاب الله تعالى، وسنة رسوله ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ ، ومخالفون لكلام الشيخ هذا، ويلزمهم تكفيره، وإن كان الشيخ يَتَلَّوَنُ في كلامه، فالعمدة الدليل، والله الهادي إلى سواء السبيل.
وعلى الجملة التوسل عند علماء المسلمين مشروع غير ممنوع، ولَم ينكره إلا مؤلف هذه وأضرابه الذين حذا حذوهم صاحب الرسالة فإن غالبها منقول من رسالتهم باللفظ.
[كلام للقاضي الشوكاني والجزري على جواز التوسل]
قال القاضي الشوكاني في تحفة الذاكرين شرح عدة حصن الحصين [صفحة 36] بعد أن روى خبر الأعمى وذكر من صححه:
فقد صحح الحديث هؤلاء الأئمة، وفي الحديث دليل على جواز التوسل برسول الله ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ إلى الله عز وجل مع اعتقاد أنَّ الفاعل هو الله سبحانه وتعالى، وأنه المعطي المانع... إلخ كلامه.
وقد سبق قول مؤلف عدة الحصن الحصين الجزري [في صفحة 37]: ويتوسل إلى الله سبحانه بأنبيائه والصالحين. فقال الشوكاني: أقول ومن التوسل بالأنبياء ثم ساق خبر الأعمى ثم قال: وأما التوسل بالصالحين فمنه ماثبت في الصحيح أن الصحابة استسقوا بالعباس ـ رضي الله عنه ـ عم رسول الله ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ وقال عمر: اللهم نتوسل إليك بعم نبينا.. إلخ.

(1/71)


[الكلام على تجصيص القبور، والبناء عليها، وزخرفتها، وتسريج السرج عليها، والصلاة فيها]
هذا وأما تجصيص القبور والبناء عليها وزخرفتها وتسريج السرج عليها والصلاة فيها، فاعلم وفقنا الله تعالى وإياك أن هذه مسألة فقهية نظرية لا ينبغي أن يضلل بها فضلا عن أن يفسق أو يكفر فغاية الأمر أن في ذلك نهياً، وقد صح أن النهي ظاهر في التحريم وليس نصاً، وإذا عارضه ما يقتضي صرفه عن ظاهره فلا حجر ولا منع، والواجب إعمال الأدلة والجمع بينها ما أمكن، فالعجب من جعل ذلك طريقة إلى التفسيق والتكفير، وتضليل المسلمين بما لا يتحقق فيه الظن، فضلاً عن القطع، وقد وقع ذلك بين ظهرانَي أئمة الآل خلفاً عن سلف من دون نكير من أحد، وكذا سائر المسلمين.
[الكلام على بناء المشاهد والقباب]
وأما بناء المشاهد والقباب فقد قُبر النبي ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ في بيته بأمره، وهو مبنيٌّ مسقفٌ، وقرَّر ذلك الوصيُّ، ومن معه من الصحابة، وعلى ذلك إجماع آل محمد ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ، وعلماء المسلمين ـ رضي الله عنهم ـ، ولازال أئمةُ الآل في تجديد ما اندرس من قبور أهاليهم ومشاهدهم، ومن اطَّلَع على سيرهم علم ذلك.
وليس بمجرد البناء يصير المبني مسجداً إذاً للزم أن تكونَ البيوتُ والحمامات وغيرها مساجد، ولا قائلَ به، فعلى فرض أنَّ المراد النهي عن بناء المسجد على القبور، وأن ليس المقصود ببناء المساجد فوقها لاتخاذها هي مساجد، فغايته: تحريم أن يبنى لذلك الغرض، وتحريم جعلها مساجد، ولا يفيد تحريم مجرد البناء، إذ ليس كل بناء مسجداً قطعاً، فلا تسمى القباب والمشاهد مساجد لا لغة ولا شرعاً، ولا بنيت لتكون مساجدَ أصلاً، فما هذا التنكير والتهويل بغير دليل؟!، وهذا واضح لمن ألقى السمع وهو شهيد.

(1/72)


فأما البناء حولها فليس مسجداً مالَم يقصد تسبيله للصلاة، وأيضاً فقد ورد في قوله تعالى: ((قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِم مَّسْجِدًا)) [الكهف:21] ولم ينكر القرآن عليهم، ولا يتصور أن يكون في شريعتنا منسوخاً بقوله ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ: ((لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد))؛ لأنَّ النسخ لِمَا قد شُرِعَ لا يكون باللعن عليه، وإنَّما يردُ النسخُ بانتهاءِ بيان الحكمة في ذلك الفعل، فلا يجوز أن يقال: لعنهم الله تعالى لاتِّخاذهم بيتَ المقدس أو نحوه قبلة كما ذلك معلوم، فلابد من الجمع بينه وبين ماورد في السنة من اللعن للمتخذين المساجد على القبور.
والجمع في ذلك بأن يقال: المراد بما ورد في القرآن اتخاذ المسجد حواليهم ومحيطاً بهم لاعلى القبور أنفسها، والمراد: ماورد في السنة بناء المساجد عليها أنفسها، ولايقال إن المراد بالذين غلبوا غير المسلمين لأنه لايبني المساجد إلا المسلمون، وهذا واضح لمن عقل وتدبر معاني القرآن والسنة، وعرف الحجة في عمل المسلمين السلف والخلف قبل هذه الطائفة المبتدعة المعادية لأحياء المسلمين وأمواتهم.
[الرد على ما أورده صاحب الرسالة بالتفصيل]
ونتكلم على ما أورده صاحب الرسالة مفصلا بإعانة الله تعالى:
[ذكر بعض الأنواع الْمُحَرَّمِ فعلُها عند القبور، وتمويه صاحب الرسالة في ذلك، والجواب عليه]
قال: فروت عائشة أنَّ أُم سلمة ذَكرتْ لرسول الله كنيسةً بأرض الحبشة، إلى أن قالت: قال رسول الله ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ: ((أولئك قوم إذا مات فيهم العبد الصالح أو الرجل الصالح بنوا على قبره مسجداً، وصوَّروا فيه تلك الصور، أولئك شرار الخلق عند الله)).

(1/73)


الجواب: ليس فيه شيء مما ادعاه السائل، والحديث مصرح بعلة إنكار فعلهم من اتخاذ قبره مسجداً مع تصوير الصور فيه فنقول بموجبه، فإن أهل البيت ـ عليهم السلام ـ، وشيعتهم ومَن بينهم لا يتخذون شيئاً من القبور مساجد، ولا يرضون بالتصوير.
قال: وروى ابن جرير بإسناده عن سفيان بن منصور عن مجاهد في قوله تعالى: ((أَفَرَأَيْتُمُ اللاتَ وَالْعُزَّى)) [النجم:19] قال: كان يلت لهم السويق فمات فعكفوا على قبره.
وعن ابن عباس: كان يلت السويق للحاج.
الجواب: ياسبحان الله من إيراد هذا، ومَن الذي لا يُنكر عبادة الأوثان والقبور والعكوف عليها لعبادتها؟! وأين هذا مما يروم صاحب الرسالة إنكاره؟!.
قال: فقد ظهر سبب عبادة بعض الآلهة إنما كانت من تعظيم قبورهم، وهذه العلة هي التي لأجلها نهى الشارع عن اتخاذ المساجد على القبور هي التي أوقعت كثيراً من الأمم إمَّا في الإشراك الأكبر، أو فيما دونه من الشرك، فإن الشرك بقبر الرجل الذي يعتقد صلاحه... إلخ.
الجواب: هذا الاستنباط غير مسلم، بل هو اتخاذها آلهة كما تقدم التصريح به في كلام مجاهد، وهو الذي سيقت الآية لأجله، فجميع مارتبه السائل تخريجات ليس عليها دلالة ولا أمارة، ويتفرع عليه إبطال جميع ماشنع به السائل.
قال: فإن المسلمين قد أجمعوا على ما علموه بالاضطرار من دين رسول الله ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ أنَّ الصلاة عند القبور منهيٌّ عنها، وأنه لعن من اتخذها مساجد.
الجواب: ما نقلته من إجماع المسلمين يحتاج إلى تحقيق، ولا تنبغي المجازفة بدعوى الإجماع، والخلاف في الصلاة عليها وعندها مشهور مزبور، وقد تكلم على ذلك في مواضعه من الفقه، وليس ذلك من الشرك في شيء، فكيف تقطع بأن هذا من المحادة لله ولرسوله، والمخالفة لدينه، وابتداع دين لَم يأذن به الله تعالى.

(1/74)


قال: ومن أعظم المحدثات وأسباب الشرك الصلاة عندها، واتِّخاذها مساجد، وبناء المساجد عليها، وقد تواترت النصوص عن النبي ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ بالنهي عن ذلك، والتغليظ فيه.
الجواب: أن جعل ذلك من المحدثات وأسباب الشرك يحتاج إلى برهان قاطع، ودعوى التواتر مفتقرة إلى بيان.
[الكلام على حديث (ألا وإنَّ مَن كان قبلكم كانوا يتخذون قبور أنبيائهم مساجد...)، وحديث (اللهم لا تجعل قبري وثناً)]
قال: ففي صحيح مسلم عن جندب بن عبدالله البجلي قال: سمعت رسول الله ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ قبل أن يموت بخمس وهو يقول في حديث، فَسَاقَهُ إلى أن قال: ((ألا وإن من كان قبلكم كانوا يتخذون قبور أنبيائهم مساجد، ألا فلا تتخذوا القبور مساجد، فإني أنهاكم عن ذلك))، ثُّمَّ حكى بعد ذلك من حديث ابن عباس وعائشة وأبي هريرة وابن مسعود.
الجواب: أولاً: إنْ سلم صحتها فهي مصرحة بالنهي عن اتخاذ القبور أنفسها مساجد، ونقول بموجبه، ولكن أين ذلك مما يرومه صاحب الرسالة؟، مع أنه يحتمل أن يكون ذلك اللعن والذم لاتِّخاذها معبودةً من دون الله تعالى كما ورد ذلك مصرحاً به في قوله ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ: ((اللهم لاتجعل قبري وثناً يعبد، اشتد غضب الله على قوم اتّخذوا قبور أنبيائهم مساجد ))، وفي هذا تنبيه على أن سبب اللعن بذلك جعلهم لها أوثاناً تعبد كما قد روى ذلك صاحب الرسالة، وهو ينقض جعلك لها ذريعة في كلامك، فهو حجة عليك لا لك.

(1/75)


وقد أفاد المقصود بالنهي مارواه الإمام الأعظم زيد بن علي ـ عليهما السلام ـ بسند آبائه ـ عليهم السلام ـ عن النبي ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ قال في أثناء حديث: (( ونهيتكم عن زيارة القبور، وذلك أن المشركين كانوا يأتونها فيعكفون عندها، وينحرون عندها، ويقولون هُجْرَاً من القول، فلا تفعلوا كفعلهم، ولا بأس بإتيانها؛ فإن في إتيانها عظةً ما لَم تقولوا هُجْرَاً))، فصرح بأنَّ النهي للعكوف والنحر والهجر، والعكوف عليها هو العبادة كما أشرت إليه في تفسير مجاهد الذي رويتَهُ.
[الكلام على زيارة النساء للقبور]
قال: وعن ابن عباس قال: لعن رسول الله ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ زائرات القبور والمتخذين عليها المساجد والسرج.
والجواب: أمَّا زيارة النساء للقبور فقد كفانا المؤونة بما أورده صاحب الرسالة من رواية مسلم عن عائشة أن جبريل ـ عليه السلام ـ أتاه فقال: إنَّ ربك...، إلى أن قال في تعليم عائشة للزيارة ـ: قولي السلام على أهل الديار.. إلخ، وهذا يعارض ما رويتَهُ من لعن الزائرات، فكيف تحتج بهما؟.
وأما اتخاذها مساجد فقد أجبنا عنه.

(1/76)


[الكلام على اتِّخاذ السرج على القبور]
وأما اتِّخاذ السرج عليها فغايته تحريم جعل السرج على القبور، والحقيقة تفيد وضعها مباشرة عليها لا تحريم التسريج حولها وبعيداً عنها، وإلاَّ لَزِمَ كون سدنة المسجد النبوي والآمرين لهم والراضين بفعلهم لمشاركتهم لهم داخلين في اللعن منذ اتخذت فيه السرج إلى اليوم وما بعده، ولا مخرج لهم من ذلك؛ لأن التسريج عند القبر النبوي ـ صلوات الله وسلامه على مشرفه وآله ـ وحوله معلوم بالعيان على مرور الزمان، فقد عمل السلف والخلف التسريج عندها للزيارة والتلاوة، فإن صح الحديث فيحمل على وضع السرج عليها، أو أن يكون النهي لاقترانه بعبادتها وقول الهجر عندها، لا لمطلق التسريج، ثُّمَّ إنَّ ذلك الحديث آحادي لا يفيد ما ادَّعاه من المحادة لله ورسوله ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ.
قال: وفي البخاري أن عمر بن الخطاب رأى أنس بن مالك يصلي عند قبر فقال: القبر القبر.
الجواب: أن فعل أنس ينقض ما ادعيته من الإجماع على النهي، وقول عمر لاحجة فيه ولا دلالة.
قال: وقال أبو سعيد الخدري قال رسول الله ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ: ((الأرض كلها مسجد إلا المقبرة والحمام)).
الجواب: هذا ينقض عليك ماخرجته من أن النهي عن الصلاة عند المقابر للإشراك إذ قد قرنها بالحمام، ولا يتوهم فيه ذلك، وهو يفيد أنَّ المراد باتخاذها مسجداً الصلاة عليها، وفيه نقض لِمَا أبرمتَ.
[حديث ((لاتجلسوا على القبور ولاتصلوا إليها))]
قال: وأبلغ من هذا أنه نهى عن الصلاة إلى القبر، فلايكون القبر بين المصلي والقبلة ففي صحيح مسلم: أن رسول الله ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ قال: ((لاتجلسوا على القبور ولاتصلوا إليها)) .
الجواب: أن مفاد الحديث وهو قوله: ((لا تجلسوا على القبور)) خلاف مدعاك من أنها لا تحترم ولا تعظم كما سيأتي لك تشبيهها بمسجد الضرار وقولك: ويجب هدمها وطمسها.
وأما قولك: وفي هذا إبطال قول من زعم أن النهي عن الصلاة فيها لأجل النجاسة.

(1/77)


فالجواب: أنا لو سلمنا أن النهي ليس لأجل النجاسة فلم لا يكون لجعلها قبلة كالوثن وهو معنى قوله: (( لاتتخذوا قبري وثناً يعبد )) هذا وقد ظهر من كلام صاحب الرسالة هنا وفيما سيأتي أنه فهم أن تعليل النهي بالنجاسة ليس إلا لأجل المباشرة وليس كذلك بل لو جعل ذلك العلة لكان لأجل القرب منها تَنْزِيهاً وبعداً ولو لم يباشرها، فياسبحان الله كيف يتوهم أنه لم يظهر لمن علل بالنجاسة أنه لامباشرة في ذلك مع أن الحوائل الكثيفة مانعة عن ذلك.
[معنى حديث (لعن الله اليهود والنصارى اتَّخذوا قبور أنبيائهم مساجد)]
قال: ومنها أنه ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ لعن اليهود والنصارى على اتخاذ قبور أنبيائهم مساجد ومعلوم قطعاً أن هذا ليس لأجل النجاسة.
الجواب: نقول بموجب ما ذكرت؛ لأن العلة ما أشرنا إليها سابقاً من جعلها وثناً تعبد، وأيضاً لا نعلم أحداً علل بالنجاسة في قبور الأنبياء حتى تنقض بذلك عليه، وأيضاً لا يلزم من عدم صحة التعليل بالنجاسة ثبوت ما ادعيت، لِمَ لا يكون لأجل الصلاة عليها وإليها كما هو ظاهر الأحاديث أو يكون حكماً تعبدياً لا علة له ظاهرة؟
قال: ومنها أن موضع مسجده كان مقابر للمشركين فنبش قبورهم وسواها واتخذه مسجداً ولم ينقل ذلك التراب.
الجواب: هذا لا يفيد مطلوبك من منع التعليل بالنجاسة إذ النبش يفيد إزالة ما فيها.
وقولك: لَم ينقل ذلك التراب، لا دليل عليه مع أنه يحتمل زوال النجاسة للإستحالة، مع أن ذلك حكاية ترك.

(1/78)


[ادِّعاء صاحب الرسالة أن فتنة الشرك بالصلاة في القبور ومشابهة عباد الأوثان أعظم بكثير من مفسدة الصلاة بعد العصر والفجر، والجواب عليه، والكلام على قاعدة سد الذرائع]
قال: ومنها: أن فتنة الشرك بالصلاة في القبور ومشابهة عباد الأوثان أعظم بكثير من مفسدة الصلاة بعد العصر والفجر فإذا نهى عن ذلك سداً لذريعة التشبه التي لاتكاد تخطر ببال المصلي فكيف بهذه الذريعة القريبة التي كثيراً مايدعو صاحبها إلى الشرك ودعاء الموتى واستغاثتهم وطلب الحوائج واعتقاد أن الصلاة عند قبورهم والدعاء والتلاوة أفضل منها في المساجد مما هو محادة ظاهرة لله ورسوله.
الجواب: ياسبحان الله من هذا الإيراد الذي تمجه الأسماع وتنفر عنه الطباع، ويقال: من أين لك أن في الصلاة بعد العصر والفجر ذريعة إلى الشرك حتى يقاس هذا عليه؟ وأما قولك: فكيف بهذه الذريعة القريبة. الخ.
فيقال: من أين لك وقوع ذلك الذي ادعيت كثرته وممن وقع؟ وعلى الجملة فغير مسلم التعليل بكونه ذريعه كما سبق تحقيق ذلك، ولو سلم كونه ذريعة لمن لايعقل فليس كل ذريعة يجب سدها بتركها ألا ترى إلى قوله تعالى: ((وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلاَةِ اتَّخَذُوهَا هُزُوًا وَلَعِبًا)) [المائدة:58]، ولم يمنع من النداء وأمثال ذلك.
[الكلام على دعاء الموتى]
وأما قوله: دعاء الموتى واستغاثتهم فإن كان ذلك لذواتهم وطلب النفع منهم فلاشك في قبحه وليس ذلك بواقع ممن رميتهم به، وإن ظهر شيء من ذلك أنكر على فاعله، وإن كان ذلك للتوسل بهم إلى الله تعالى فلا بأس به كما وردت به الأخبار والآثار.
وأما قولك: إن اعتقاد أن الصلاة عند قبورهم والدعاء والتلاوة أفضل منها في المساجد مما هو محادة ظاهرة لله ورسوله.

(1/79)


فالجواب: أما الصلاة فقد تقدم الكلام عليها، وأما الدعاء والتلاوة فإن كان للزيارة فهو مشروع غير ممنوع بل في الأخبار والآثار في الزيارة والدعاء مايفيد أفضلية ذلك على فعله في المساجد ونحوها كما سبق الكلام فيه وسيأتي في كلامك وإن كان لغير الزيارة فلادليل على المنع بل ورد في البقاع مايدل على أفضلية بعضها على بعض، فالعجب كل العجب من جعلك معتقد ذلك محاداً لله ورسوله، فهذا هو الخبط والمجازفة، لا قوة إلا بالله.
قال: ومما يدل على أن النبي ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ قصد منع هذه الأمة بالفتنة بالقبور كما افتتن بها قوم نوح ومن بعدهم من أنه لعن المتخذين عليها المساجد.
فالجواب: أن هذا دليل على أنك تخبط خبط عشواء بينما أنت تستدل به على منع المشاهد والصلاة عندها لكونها وصلة إذ نقضت ذلك بنصك على أن النبي ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ قصد منع هذه الفتنة بالقبور كما افتتن بها قوم نوح، وأي شيء وقع من قوم نوح غير عبادتها وجعلها أوثاناً.
قال: ومنها أنه قرن في اللعن بين متخذ المساجد عليها وموقدي السرج عليها إلى أن قال: ومعلوم أن إيقاد السرج عليها إنما لعن فاعله لكونه وسيلة إلى تعظيمها فكذا اتخاذ المساجد عليها ولهذا قرن بينهما.
الجواب: من أين علم ذلك، بل لايظن ذلك، وبأي طرق العلم استفدته؟ فليس لك إلا محض الدعوى لم لاتكون العلة ما اقترنت به من اتخاذها مساجد أي أوثاناً، وقد سبق الاستدلال عليه وسيأتي قريباً إن شاء الله تعالى.
قال: ومنها أنه ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ قال: ((اللهم لاتجعل قبري وثناً يعبد اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد)) فذكر ذلك عقيب قوله: اللهم لاتجعل قبري وثناً يعبد تنبيه منه على سبب لحوق اللعن وهو توصلهم بذلك إلى أن تصير أوثاناً تعبد.
الجواب: أن الحديث مصرح بما قدمناه من أن اللعن والغضب لاتخاذها أوثاناً تعبد وليس فيه تنبيه على ماذكرت من التوصل والإشارة.

(1/80)


قال: وبالجملة فمن له معرفة بالشرك وأسبابه وذرائعه وفهم عن الرسول ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ مقاصده جزم جزماً لايحتمل النقيض أن هذه المبالغة منه باللعن والنهي بصيغة لاتفعلوا وصيغة: ((إني أنهاكم..)) ليس لأجل النجاسة، بل هو لأجل نجاسة الشرك اللاحقه بمن عصاه وارتكب ماعنه نهاه ولم يخش ربه ومولاه.
الجواب: من أين لك الجزم بذلك فإنه لم يدل عليه دليل ولا أمارة، وأيضاً لا مانع أن تكون العلة غير ماذكرت فما دليل الحصر فيما ادعيته على أنه قد قام الدليل بخلاف ماذكرت من جعلها وصلة وهو مانبه عليه النص من نفس اتخاذها أوثاناً تعبد فبطلت دعواك الحصر، وقد رجعت بحمدالله تعالى إلى الحق على غير قصد في قولك: بل هو لنجاسة الشرك اللاحقة بمن عصاه، وارتكب ما عنه نهاه، ولَم يخشَ رَبَّه ومولاه.
[ادِّعاء صاحب الرسالة أن هذا وأمثاله صيانة لحمى التوحيد، والجواب عليه]
قال: فهذا وأمثاله من النبي ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ صيانة لحمى التوحيد أن يلحقه الشرك ويغشاه وتجريد له وغضب لربه أن يعدل به سواه.
الجواب: لا يخلو إما أن تريد بما أشرت إليه بقولك: فهذا... إلخ، ما ورد النهي عنه من اتِّخاذها أوثاناً ونحوه كما أشرت إليه بقولك بل هو لنجاسة الشرك... إلخ، فهو معلومٌ مُسَّلَمٌ ولا نزاعَ فيه، وإمَّا أن تريد بها منع الزيارة والدعاء والتلاوة ونحو ذلك مما ندب إليه الشرع ورآه المسلمون حسناً فهو ممنوع، فكيف تنصب ماتخيله وهمك، وتطرق إليه فهمك في مصادمة ماورد به الشرع الشريف، واستحسنه أئمة الدين الحنيف؟!.
[ادِّعاء صاحب الرسالة أنَّ بسبب تعظيم قبور الصالحين دخل على عباد الأصنام]
قال: فأبوا وقالوا: بل هذا تعظيم لقبور الصالحين. ولعمر الله من هذا بعينه دخل على عباد يغوث ويعوق ونسر ومنه دخل على عباد الأصنام منذ كانوا إلى يوم القيامة.

(1/81)


الجواب: ماتقصد بقولك: من هذا. فإن كنت تريد اتخاذها أوثاناً واعتقاد تأثيرها النفع والضر من دون الله تعالى كما فعله المشركون فلاريب في تحريم ذلك، وكيف تتجاسر على نسبة فعل ذلك بين ظهرانَي آل محمد قرناء الكتاب وأمناء رب الأرباب وأمان أهل الأرض من العذاب، أم كيف يقرون على مثل ذلك وهم الحامون لحمى الدين الحنيف الذابون عنه كل زيغ وتحريف الباذلون أنفسهم في إحياء معالم الشرع الشريف، سبحانك اللهم هذا بهتان عظيم، وإن كنت تريد تعظيمها بما ندب إليه الشارع من الزيارة والتلاوة والدعاء فقد ركبت متن عمياء، وخبطت خبط عشواء، وأخطأت السبيل، وارتكبت الرد بغير حجة لِمَا اقتضاه الدليل.
[عودة إلى الكلام على سَدِّ الذرائع]
قال: وكل من شم أدنى رائحة من العلم والفقه يعلم أن من أهم الأمور سد الذريعة إلى هذا المحذور.
الجواب: يقال ماهذا المحذور الذي أردت سد ذريعته إن أردت الشرك فليس في شيء مما ورد به الشرع من الزيارة والدعاء والتلاوة ذريعة إلى ذلك أصلا، وإن أردت بالمحذور ماندب إليه الشرع وجرى عليه أهل البيت وشيعتهم بلا منع فيا عجباه من تصيير المعروف محذوراً والمشروع منكراً ومحظوراً
يا ناعيَ الإسلامِ قُمْ فَانْعَهُ .... قدْ ماتَ عُرْفٌ وبَدَا مُنْكَرُ
[ادِّعاء صاحب الرسالة مخالفة أكثر الناس لسنة الرسول ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ ، والصحابة في مسألة القبور، والجواب عليه]
قال: ومن جمع بين سنة رسول الله ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ في القبور وما أمر به ومانهى عنه وماكان عليه أصحابه وبين ماعليه أكثر الناس اليوم رأى أحدهما مناقضاً للآخر مضاداً له بحيث لايجتمعان أبداً.

(1/82)


الجواب: قد سبق الكلام فيما أمر به الرسول ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ ونهى عنه والجمع بين ما أمر به ونهى عنه في حالة مستحيل، ففي العبارة قلق، ونقول: بل إن من نظر في موارد الشرع وما أمر به الرسول ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ وماكان عليه الصالحون وما رآه المسلمون خلفاً عن سلف، وفيما نشأ لأهل الأهواء والبدع ومانسبوه إلى الموحدين وارتكبوه من تضليل طوائف المسلمين سيما العترة الهادين ذرية الرسول الأمين رأى أحدهما منافياً للآخر مناقضاً له، فجعلهم الله ورسوله سفينة النجا وحكم بأنهم لم يخرجوكم من هدى ولن يدخلوكم في ردى، في آيات تتلى وأخبار تملى. وأنت عكست القضية وأخطأت الرمية وعدلت عن السوية فجعلتهم خارجين عن الهدى داخلين في الضلالة والردى، وأمر الرسول ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ بالتعلم منهم والحذو حذوهم والتمسك بهديهم، وأنت أخذت من غيرهم وتعلمت من خصومهم وتمسكت بهدي أعدائهم ونهى رسول الله ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ عن شتمهم والتأخر عنهم ومخالفتهم فقال: ((لاتأخروا عنهم فتهلكوا ولاتخالفوهم فتضلوا ولاتشتموهم فتكفروا)) وأنت تأخرت عنهم وخالفتهم وشتمتهم ولم يرتكب الخوارج ومن حذا حذوهم من المناصبين للعترة الزكية ما ارتكبوه إلا من هذه الطريقة الشنيعة التي أوصلتهم بالتحقيق إلى كل مقالة فضيعة، فما بالك تنهى عن الذرائع وأنت في سوحها راتع ((أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ وَأَنتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ)) [البقره:44].
قال: فنهى رسول الله عن الصلاة في المقبرة وهؤلاء صلوا عندها، ونهى عن اتخاذها مساجد وهؤلاء يبنون عليه المساجد. إلى قوله: ونهى عن إيقاد السرج عليها.
الجواب: تقدم الكلام على ذلك بمافيه كفاية للمستبصر.

(1/83)


[الكلام على تسوية القبور، وجعل الشرفات عليها]
قال: وأمر بتسويتها كما في صحيح مسلم، قال: قال علي بن أبي طالب ـ عليه السلام ـ.. إلى قوله: أن لاتدع تمثالاً إلاَّ طمسته، ولا قبراً مشرفاً إلاَّ سَوَّيته، إلى أن قال: وفيه عن ثمامة قال: كنا مع فضالة بن عبيد بأرض الروم برودس فتوفي صاحب لنا فأمر فضالة بقبره فسوي ثم قال: سمعت رسول الله ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ يأمر بتسويتها قال: وهؤلاء يبالغون في مخالفة هذين الحديثين ويرفعونها عن الأرض كالبيت، ويعقدون عليها القباب.
الجواب: هذان الحديثان الآحاديان لا يبلغ بهما أن يكفر أو يفسق بمخالفة مضمونهما، بل ولا يضلل على فرض وقوع المخالفة، وينبغي أولاً النظر في معناهما، فأما التشريف فيحتمل جعل الشرفات عليها فنهى عن ذلك لِمَا فيه من الزينة التي تخالف التذكر والاعتبار، ويحتمل أن تكون مأخوذاً من الشرف وهو الإرتفاع وهو من الأمور النسبية القابلة للقلة والكثرة، فلعل ذلك فيما وقع ارتفاعاً مجاوزاً، ويحتمل أن يكون فيما رفع وليس بأهل لذلك، ويحتمل أن يكون فيما رفع من قبور الجاهلية لقرب العهد، أو لعل ذلك لكونهم يعكفون عليها، ونحو ذلك من أفعال الجاهلية، ولذلك قرنه بطمس التمثال، وأما التسوية فيحتمل إزالة الشرفات كما سبق، أو إزالة الارتفاع المفرط فلذا قال: إلا سويته ولم يقل: إلا هدمته. والمسألة نظرية للناظر فيها نظره.

(1/84)


[الكلام على تجصيص القبور، والبناء عليها، والكتابة عليها]
قال: ونهى عن تجصيص القبر والبناء عليه كما روى أبو داود والترمذي في سننهما عن جابر.. الخ.
الجواب: وما أورده من التجصيص والكتابة والبناء محتملة على فرض صحة الأحاديث قابلة للتأويل كما أشرنا إليه ومع صحتها وعدم مايعارضها، المسألة ظنية وهي بمراحل عن التكفير والتفسيق والتضليل، ولم يزل الأئمة من آل محمد ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ يبنون المشاهد والقباب ويجددون ما اندرس منها في مشارق الأرض ومغاربها ويكتبون في الصخور أسماء موتاهم والتعريف بحالهم بلا تناكر منهم ولامن أحد من المسلمين حتى نشأ المخالفون ومن حذا حذوهم ممن استمالوه من أتباعهم واستهووه من طغام رعاعهم، ولو لم يكن من ذلك كله إلا مشهد الرسول ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ وقبته المشرفة التي لم يستطع المخالفون محو آثارها ولاطمس منارها، وقد بلغ بخبر الأثبات محاولتهم لذلك فمنعوا بأمر إلهي ومانع رباني كما منع من هدم الكعبة أصحاب الفيل فكبتهم الله وردهم بغيظهم لم ينالوا خيراً، وكفى الله المؤمنين القتال وكان الله قوياً عزيزاً.
أما الكتابة في الصخور ونحوها فأدلة شرعية الزيارة تقتضي ندبية إعلامها بما يتميز به بعضها عن بعض، وقد أَعْلَمَ رسول الله ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ قبرَ عثمانَ بنِ مظعون ـ رضي الله عنه ـ في البقيع بحجر كما صح ذلك، وإنَّما لَم يكتب؛ لأن الألواح لَم تكن هناك، فيحمل ماورد من النهي عن الكتابة إن صح ذلك على كتابة ما لا يحسن كما في قوله ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ: ((كنت نهيتكم ...)) إلخ الخبر المار، والموجب لذلك ماذكرناه من أدلة الزيارة، وفعل السلف والخلف.

(1/85)


[جواب المؤلف أيده الله تعالى على ادِّعاء صاحب الرسالة من أنَّ فاعل ذلك مناقضاً لأمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، محاداً له صلى الله عليه وآله وسلم]
قال: والمقصود أن هؤلاء المعظمين للقبور الموقدين عليها السرج الذين يبنون عليها المساجد والقباب مناقضون لِمَا أمر به رسول الله ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ محادون لِمَا جاء به، إلى قوله: ولأن فيه تضييعاً للمال من غير فائدة، وإفراطاً في تعظيم القبور أشبه بتعظيم الأصنام.
الجواب: أن كلامك يقتضي منع تعظيم القبور على الإطلاق وهو خلاف ما ورد عن الرسول ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ من قصدها بالزيارة والدعاء والتلاوة وأمره بإعلامها ونهيه عن الجلوس عليها وماجرى عليه السلف والخلف من تعظيمها بذلك لو لم يكن إلا تعظيم قبر الرسول ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ المجمع عليه من جميع طوائف الأمة المحمدية، فكيف يالك الويل تجعل فاعل ذلك مناقضاً لما أمر رسول الله ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ محاداً لما جاء به، لقد جئت شيئاً فرياً، وأما بناء المساجد والتسريج فقد تقدم الكلام عليه.
[جواب المؤلف ـ أيده الله تعالى ـ على ادِّعاء صاحب الرسالة من أن في فعل ذلك تضييعاً للمال من غير فائدة]
وأما قولك: إن فيه تضييعاً للمال من غير فائدة إلخ.
فأي فائدة أعظم من الإعانة على ماندب إليه الشارع من التلاوة والدعاء والزيارة؟.
وقولك: إن في ذلك إفراطاً في تعظيم القبور أشبه بتعظيم الأصنام، مجازفة كيف تجعل ما أقررت بشرعه مما ذكر كفعل الجاهلية؟!

(1/86)


[بعض من تخبطات صاحب الرسالة، وجواب المؤلف ـ أيده الله تعالى ـ عليه]
قال: والذي شرعه الرسول عند زيارة القبور إنما هو تذكر الآخرة والإحسان إلى المزور بالدعاء والترحم عليه والاستغفار وسؤال العافية فيكون الزائر محسناً إلى نفسه وإلى الميت قالت عائشة: كان رسول الله ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ كلما كان ليلتها يخرج من آخر الليل إلى البقيع فيقول: ((السلام عليكم دار قوم مؤمنين، وأتاكم ماتوعدون غداً مؤجلون، وإنا إن شاء الله بكم لاحقون، اللهم اغفر لأهل بقيع الغرقد)) رواه مسلم وفي صحيحه عنها أيضاً: ((إن جبريل أتاه فقال: إن ربك يأمرك أن تأتي أهل البقيع فتستغفر لهم. قالت: قلت: كيف أقول لهم يارسول الله؟ قال: قولي: السلام على أهل الديار من المؤمنين والمسلمين، ويرحم الله المستقدمين منا والمستأخرين، وإنا إن شاء الله بكم لاحقون..)) الخ ما أورده في الزيارة والدعاء عندها والاستغفار.
الجواب: هذا مناقض لما ذكرت سابقاً من منع الدعاء عندها، وجعل معظمها بذلك مناقضاً لما أمر به الرسول محاداً لما جاء به، فأنت الآن تستدل بالسنة وفعل السلف على شرعية الدعاء وتخصيص ذلك الموضع بفعله فيه وفي قول عائشة: كلما كان ليلتها يخرج.. الخ، دليل على تكرر ذلك من الرسول ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ وتأكيده لديه فقد كفيتنا بذلك البحث مؤونة الرد عليك ورددت على نفسك بما حررته بيديك وما أحسن قوله:
يصيبُ وما يدري، ويُخطي وما درى .... وليس يكون الجهلُ إلاَّ كذلك
…وقد عدت فنقضت ما أبرمت، ونكثت ما أحكمت، بقولك فيما سيأتي: ومحال أن يكون الدعاء عندهم مشروعاً وعملا صالحاً، وهذا لا ينبغي أن يصدر مثله عن ناظر، ولا شك أنَّ الهوى يُصِمُّ الأَسماع، ويُعمي الأبصار ((وَمَن كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الآخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلاً)) [الإسراء:72].

(1/87)


قال: ولقد جرد السلف الصالح التوحيد وحموا جانبه، حتى كان أحدهم إذا سلَّم على النبي ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ ثُّمَّ أراد الدعاء استقبل القبلة، وجعل ظهره إلى جدار القبر، ثُّم دعا.
الجواب: أنك ناقضت بهذا ماسبق لك من منع الدعاء عند القبور؛ لأنك حكيت هنا أن السلف حموا جانب التوحيد بما حكيت من فعلهم الدعاء عند قبر النبي ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ.
قال: ولَم يفعلوا عند القبور إلا ما أذن فيه رسول الله ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ من السلام على أصحابها والاستغفار لهم والترحم عليهم.
الجواب: أنَّ حصرك ما أذن فيه فيما ذكرت ممنوع، فقد تقدم لك مايقتضي دخول الدعاء لنفس الزائر وغيره كما في حديث عائشة: ويرحم الله المستقدمين منا والمستأخرين، وفي حديث سليمان بن بريدة في تعليم النبي ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ لهم: نسأل الله لنا ولكم العافية، وفي حديث ابن عباس: يغفر الله لنا ولكم ونحن بالأثر، وما أورده في هذا البحث قد مضى الكلام فيه.
[الكلام على قصة نبي الله تعالى دانيال عليه السلام]

(1/88)


قال: وقد ذكر محمد بن إسحاق في مغازيه عن خالد بن دينار، قال: حدثنا أبو العالية، قال: لَمَّا فتحنا تستر وجدنا في بيت مال الهرمزان سريراً عليه رجل ميت عند رأسه مصحف فأخذنا المصحف، فحملناه إلى عمر بن الخطاب فدعا له كعباً فنسخه بالعربية، فأنا أول رجل من العرب قرأه قرأته مثل ما أقرأُ القرآن، فقلتُ لأبي العالية: ما كان فيه؟، قال: سيرتكم وأموركم ولحون كلامكم وما هو كائن بعدُ. قلت: فما صنعتم بالرجل؟ قال: حفرنا له بالنهار ثلاثة عشر قبراً مستغرقة، فلَمَّا كان الليل دفناه، وسوَّينا القبور كلها لنعميه على الناس لا ينبشونه. قلت: ومايرجون منه؟ قال: كانت السماء إذا حبست عنهم أبرزوا السرير فيمطرون. فقلت: من كنتم تظنون الرجل؟ قال: رجل يقال له دانيال. فقلت: منذ كم وجدتموه مات. قال: منذ ثلاثمائة سنة. قلت: ماكان تغير منه شيء؟ قال: إلا شعيرات من قفاه إنَّ لحوم الأنبياء لا تبليها الأرض، ولا تأكلها السباع، ففي هذه القصة ما فعله المهاجرون والأنصار من تعمية قبره لئلا يفتتن به الناس، ولَم يبرزوا للدعاء عنده والتبرك به، ولو ظفر به المتأخرون لجالدوا عليه بالسيوف، وهم قد اتخذوا من هو دونه، وأقاموا له سدنة، وجعلوا له مسجداً، وعظَّموه أعظم من المسجد.

(1/89)


الجواب: أنَّ هذا الأثر على فرض صحته لاحجة فيه، ومن أين لك ظهوره للمهاجرين والأنصار وتقريرهم له فضلا عما ادعيت أنهم فعلوه وهي حكاية فعل لبعض منهم، ولعل تعميتهم له لِمَا ظهر لهم من افتتانهم به كما يفعله أصحاب الأوثان، لكونهم قريبي عهد بالكفر، وأيضاً فقد صرَّح بالعلة في إخفائه بقوله: لا ينبشونه، وهذا مقصدٌ صالحٌ؛ لأن النبش لا يجوز، والتقبيرَ هو المشروع، فمتى لَم يكن ذلك إلاَّ بالإخفاء صار حسناً كما فعله أئمة الهدى عند خشية نحو ذلك، أولهم إمامهم الأعظم، وسيِّدُهم المقدم، أمير المؤمنين، وسيد الوصيين، وأخو سيد النبيئين ـ صلوات الله عليهم وآلهم وسلامه ـ فإنه أُخفي قبره بوصية منه، حتى انقضت سطوة الجبارين، وأظهره أولادُهُ أئمةُ آل محمد؛ لأنه كان معلوماً لديهم يزوره السلف والخلف منهم، كما قال الإمام الناصر للحق الحسن بن علي الأطروش ـ عليهما السلام ـ:
فإذا جئتَ الْغَرِيَّا .... فابْكِ مولانا عَلِيَّا
وقال:
مدائنُ الأرضِ تيها على .... مدائنِ الأرضِ بها تفخرُ
فلو أرادَ الله سوءا بها .... ما كان مقبوراً بها حيدرُ
وكذا فاطمة الزهراء، سيدة نساء الدنيا والأخرى، وخامسة أهل الكساء، أَخفى قَبْرَهَا الوصيُّ، ودَفَنَهَا ليلاً بوصيةٍ منها، لئلا يحضرها الشيخان كما صحَّ ذلك بروايات آل محمد ـ عليهم السلام ـ ، وروايات المخالفين منهم أهل الصحاح البخاري وغيره، فلابأس بإخفائها عند حدوث مثل هذا، ثُّمَّ إظهارها عند زوال الموجب، فهو من حفظها وتعظيم شأنها.
وليت شعري ما أردتَ بسياق هذه القصة؟! أتريد أن تعمي وتنبش قبور المسلمين، وتشرع لهم أن يعموا ضريح سيد المرسلين، وقبور الأئمة الهادين، فذلك ينقض أخبارك التي رويتها أنت في الزيارة لها والدعاء عندها وخلاف ماعليه أهل الإسلام من السلف والخلف؟!

(1/90)


[ادِّعاء صاحب الرسالة المخالفة للسلف، وجواب المؤلف ـ أيده الله تعالى عليه]
قال: واعلم أنَّ بين السلف، وبين هؤلاء ما بين المشرق والمغرب، وأنَّهم على شيء، والسلف على شيء.
راحت مشرقة ورحت مغربا .... شتان بين مشرق ومغرب
عن أم الدرداء قالت: دخل علي أبو الدرداء مُغْضَبَاً، فقلت: مالك؟ فقال: والله ما أعرف فيهم شيئاً من أمر محمد ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ إلا أنهم يصلون جميعاً.
وقال الزهري: دخلت على أنس بدمشق وهو يبكي فقلت له: مايبكيك؟ فقال: ما أعرف شيئاً مما أدركت إلا هذه الصلاة وهذه الصلاة قد ضيعت، وفي لفظ: ما كنت أعرف شيئاً في عهد رسول الله ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ إلاَّ قد أنكرته اليوم.
وقال الحسن البصري: سأل رجل أبا الدرداء فقال: رحمك الله لو أن رسول الله ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ بين أظهرنا هل كان ينكر شيئاً مما نحن عليه؟ فغضب واشتد غضبه وقال: وهل كان يعرف شيئاً مما أنتم عليه؟
وقال المبارك بن فضالة: صلى الحسن الجمعة وجلس فبكى فقيل له: مايبكيك يا أبا سعيد. فقال: تلومونني على البكاء ولو أن رجلا من المهاجرين اطَّلَعَ من باب مسجدكم ماعرف شيئاً مما كان على عهد رسول الله ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ أنتم اليوم عليه إلاَّ قبلتكم هذه، وهذه هي الفتنة العظمى.
وعن ابن إسحاق الجعفري قال: كان عبدالله بن الحسن ـ رضي الله عنه ـ يُكثر الجلوس إلى ربيعة، قال: فتذاكروا يوماً السنن، فقال رجل كان في المجلس: ليس العمل على هذا، فقال عبدالله: أرأيت إن كثر الجهال حتى يكونوا هم الحكام فهم الحجة على السنة. فقال ربيعة: أشهد أن هذا كلام أبناء الأنبياء. نعم فالواجب هدم ذلك كله ومحو أثره كما أمر النبي ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ عليَّاً ـ رضي الله عنه ـ بهدم القبور المشرفة وتسويتها بالأرض.
الجواب: هاهنا أعظم العجب منك أيها المترسل.

(1/91)


[افتراء صاحب الرسالة على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، والجواب عليه]
قولك: أمر النبي ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ علياً ـ رضي الله عنه ـ بهدم القبور.
الجواب: لم يرد هذا اللفظ في أي رواية ولا للهدم ذكر في أي خبر إنما هو من صريح الافتراء والزور، وقولك: وتسويتها بالأرض. زيادة بالأرض من الكيس ليتم التغرير والتلبيس، وليس لها في الخبر أي أثر إنما هي من محض الكذب لتسوية المذهب، فحسبنا الله ونعم الوكيل، ومع هذا فإنك أولاً احتججت بفعل السلف وشنعت على مخالفتهم وجعلت البعد بينهم وبين هؤلاء مابين المشرق والمغرب، ثم حكيت بعد ذلك الآثار الدالة على حصول التغيير والتبديل في عهد السلف من الصحابة والتابعين، فليت شعري من تريد بالسلف غير الذين ذكرت أنها حدثت في أعصارهم مبتدعات الأضاليل، فكيف تشنع على هؤلاء بمخالفة الضالين وتجعلهم فيما هم عليه مبتدعين وعن الحق مائلين؟ ثم بعد هذا كله فليس لك في جميع ما أوردته مأخذ ولامتمسك، فأين أنت من محل النزاع؟ ومانسبته إلى من رميتهم به في المخالفة والابتداع؟ ولعمر الله إنَّ هذا مِمَّا تمجه الأسماع، وتنفر عنه الطباع، ويظهر بهذا وغيره أنك تتكلم وتصول، وأنت لاتدري ماتقول، وكأنك تنقل ماوجدت بغير تدبر ولاروية، وتهذي بما أوردتَ عن فِكْرٍ ردي، ونزغات شيطانية، وخيالات أشعبية، وتروم بذلك تضليل خلاصة الأمة المحمدية من العترة الزكية، وشيعتهم الزيدية وما أحقك بقوله:
يروي أحاديث ويروي نقضاً .... مُخالفاً بعضَ الحديث بعضا
وبقول آخر:
ليس يدرون أنهم ليس يدرون .... بل الجهل عمهم توريثا
وتسموا أهل الحديث وهاهمْ .... لا يكادون يفقهون حديثا

(1/92)


[مخالفة سلف صاحب الرسالة لأهل البيت عليهم السلام]
ولو أمعنت النظر وأجلت الفكر لعلمت أن التغيير والتبديل لم يكن بدؤه إلا من مخالفة سلفك الذين رمت الاحتجاج بهم لآل محمد ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ المأمور بالتمسك بهم ولزوم سفينتهم كما وقع من الناكثين والقاسطين والمارقين ومن حذا حذوهم من علماء السوء المضلين وكرع من آجن ضلالتهم الردية وبدع أشياعهم الناصبية وسائر الفرق الغوية.
[حكم صاحب الرسالة بهدم القبور، ومحو أثرها، وجواب المؤلف ـ أيده الله تعالى ـ عليه]
وأما قولك: فالواجب هدم ذلك كله ومحو أثره.. الخ.
فنقول: هذا حكم صادر عن غير دلالة واضحة ولا أمارة لائحة، فلم يرد في الأخبار التي أوردتها ولاغيرها ماتوهمته من محو آثارها وتسويتها بالأرض أصلا، وقد تقدم الجواب على ما أوردته من الشبه في ذلك، فالعجب من نسبة الأحكام إلى رسول الله ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ التي لَم يقل بها، ولَم يدل عليها دليلٌ ولا أمارةٌ، وقد قال ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ: ((من كذب علي متعمداً فليتبوأ مقعده من النار)).
[تشبيه صاحب الرسالة المساجد المبينية على القبور بمسجد ضرار، وادِّعاؤه أنَّها أولَى بالهدم منه]
قال: وقد أمر رسول الله ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ بهدم مسجد الضرار، ففي هذا دليل على هدم ماهو أعظم فساداً منه كالمساجد المبنية على القبور، فإن حكم الإسلام أن تهدم كلها حتى تسوى بالأرض وهي أولى بالهدم من مسجد الضرار، وكذلك القباب التي على القبور يجب هدمها كلها لأنها أسست على معصية الرسول لأنه قد نهى عن البناء على القبور كما تقدم، فبناءٌ أُسس على معصيته ومخالفته فبناء غير محترم فهو أولى بالهدم من بناء الغاصب قطعاً، وكذلك يجب إزالة كل سراج على قبر وطفيه، فإن فاعل ذلك ملعون بلعنة رسول الله ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ... الخ.

(1/93)


الجواب: نقول سبحان الله من هذا الاستدلال الذي هو بمعزل عن التحقيق والاعتدال، كيف يسوى بين المشاهد المقدسة التي منها مشهد الرسول الأمين ـ صلى الله عليه وعلى آله الأكرمين ـ الذي قال فيه ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ: ((مابين قبري ومنبري روضة من رياض الجنة)) ومشاهد عترته التي هي على التقوى مؤسسة التي أجمع على احترامها ومن فيها، وقد شرع الله تعالى على لسان رسوله زيارتها والتلاوة والدعاء عندها لأهلها وللزائر ولسائر المسلمين كما تقدم الاحتجاج على ذلك فيما أوردته وغيره وبين مسجد الضرار الذي أسس على شفا جرف هار واتخذ ضراراً وكفراً وتفريقاً بين المؤمنين وإرصاداً لمن حارب الله ورسوله، لقد ذهب بك التجاري كل مذهب، وجمعت بين المتناقضات في ذلك المطلب، فكان الأحق أن تقيسها على بيت الله الحرام بجامع كونها من شعائر الإسلام، وما قصد به إحياء طاعة ذي الجلال والإكرام، وقد تقدم الكلام في اتخاذ المساجد عليها وما المراد به، وتقدم الكلام أيضاً في بناء القباب والاحتجاج عليها فلا وجه لإعادته، وإذا كانت مشروعة كما قدمنا فلا وجه لهدمها.
قوله: وكذا إزالة كل سراج وطفيه فإن فاعل ذلك ملعون.. الخ.
قد تقدم الكلام فيه ومايجوز وماكان ينبغي لك التجري والمجازفة باللعن وطريقة العلماء العاملين أن لايؤثموا ولايخطئوا بما لم يصح عند الخصم مما الطريق فيه غير معلومة وإن صح عندهم فهذه مجازفة.
وأما قياسك على الغصب في وجوب الهدم.
فنقول: أولا: لانسلم وجود العلة التي هي المعصية، ثم لو سلمنا فرضاً وجودها فمن أين لك أنها العلة في الحكم مع أنها منقوضة بما بني مفاخرة وسمعة ومكاثرة؟
وأما قولك: ولايصح هذا الوقف ولايحل إثباته وتنفيذه.
فنقول: قد ثبتت شرعية الزيارة للقبور والتلاوة عندها والدعاء كما سبق فالوقف صحيح لما في ذلك من القربة المندوب إليها كسائر القرب.

(1/94)


وبعد هذا فقد أكثرت أيها المترسل من التشنيع والتبديع والتضليل والرمي لطوائف الحق بما لم يعتقدوه ولم يفعلوه ولم يرضوه ولم يقاروا عليه وتشبيههم باليهود والنصارى بغير دلالة ولابرهان وحسابك في ذلك كله على الملك الدَّيان.
[ادِّعاءُ صاحب الرِّسالة أن الدعاء عند القبر من كيد الشيطان، والجواب عليه]
قال: والمقصود أن الشيطان بلطف كيده يحسن الدعاء عند القبر وأنه أرجح منه في بيته ومسجده وأوقات الأسحار.. الخ.
الجواب: قد تقدم مراراً أن الرسول ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ قد ندب إلى الدعاء عند القبور وفعله مؤخر الليل، وبيَّن كيف يقال فيه كما رويته، وفَعَلَهُ السلفُ والخلفُ، فكيف تنسب تحسين ذلك إلى الشيطان؟ الله المستعان.
ونقول: اعلم أن الشيطان بخبث كيده يحسن لأهل البدع والزيغ الإنكار لِمَا خص الله تعالى به أهل البيت ـ عليهم السلام ـ، ورفع من قدرهم، فإذا تقرر ذلك لديهم أدحضهم إلى مزلة أخرى وهي نسبتهم وشيعتهم إلى الابتداع، والمخالفةِ لِمَا أمر به الرسول، وفعل مانهى عنه، فإذا خيل لهم ذلك، وأشربه قلوبهم نقلهم إلى دَرك آخر، وهي أن يحكموا بضلال أهل السفينة، وأتباعهم الهداة، ورميهم بالإشراك، وتشبيههم باليهود والنصارى والغالين مع عليٍّ ـ عليه السلام ـ، فبالحقيقة لا أعظم من دسائس أهل الشُّبَهِ والأهواء، وهذه حبالة إبليس التي اتخذها للإغواء.
عصمنا الله تعالى والمؤمنين عن طرق الضلال والغواية، وثبتنا على الدين القويم، والصراط المستقيم سبيل الحق والهداية، ورزقنا التوفيق، والكون مع خير فريق، وصلى الله على محمد وآله حماة الدين، إلى يوم حشر العالمين، آمين.
قال في الأم: حرر غرة شعبان الوسيم سنة 1369 هـ.

(1/95)


[تقرير السيد الإمام الحسن بن الحسين الحوثي ـ عليهما السلام ـ على هذه الرسالة الشافية]
ولَمَّا اطَّلع مولانا العلامة شرف الملة الإسلامية، وصفوة السلالة العلوية الحسن بن الحسين الحوثي ـ حفظه الله ـ على هذه الرسالة الشافية قال ما لفظه:
بسم الله الرحمن الرحيم
وصلى الله وسلم على محمد وآله
اطَّلَعتُ على هذه الرسالة، والجواب الشافي، فلقد أجاد المجيب وأفاد ـ فجزاه الله عن العترة المظلومة خيراً ـ، وليعلم أنَّه منصورٌ مَن نصرهم، مخذولٌ مَن خذلهم، وأن الأصل في هذا شدة التحامل على العترة حسداً وبغياً من أيام النبي ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ إلى يوم القيامة لما ظهر فيهم من الآيات والأخبار من النبي ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ الدالة على أنهم خليفته ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ في أمته، وأنهم الأمان من الضلال، وأنهم أئمة الأمة، فبالغ القوم في طمس آثارهم حباً للرئاسة ولذا قال علي ـ عليه السلام ـ: ضرب لي الدهر حتى قرنت بفلان وبفلان، ثم ضرب الدهر حتى قرنت بمعاوية وعمرو بن العاص. وقال يوم الدار فيما رواه الواقدي لبني هاشم ـ: إن القوم عادوكم بعد النبي ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ عداوتهم إياكم في حياته ولا والله ينيبون إلا بالسيف، ثم تجاوز بهم الحد إلى قصد إبادتهم.

(1/96)


ولذا قال علي: ود معاوية أنه لم يبق من بني هاشم نافخ ضرمة. مصداق قوله ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ: ((إن عترتي ستلقى من أمتي قتلا وتشريداً))، فقتلوهم وشَرَّدُوهم، فبعضٌ شرد إلى الجيل والديلم، وبعضٌ إلى اليمن، وكأنه لقوله ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ: ((إذا حلت الفتنة بأرض الشام فعليكم بأرض اليمن))،
فوجدت العترة شيعةً نصروهم، وقاموا بحقهم من الإجلال والتعظيم لأَحيائهم وأمواتهم، ولازال السلاطين يحاربونهم، ويبالغون في قصد إطفاء أنوارهم، ويأبى الله إلا أن يتم نوره، وتقرب فقهاءُ السوءِ المؤثرون للحياة الدنيا على الآخرة بوضع أحاديث مطابقة لأغراض السلاطين تقرباً إليهم، وطمعاً فيما لديهم، وبعضُهم شقاوة بما كسبت أيديهم، ولخبث
الميلاد حتى قرَّروا لهم وبين العامة من أنَّ أئمة العترة لَمَّا جاهدوهم خوارج، وتارة يعدونهم وشيعتهم روافض حتى تجاوزَ بهم الحد إلى عدِّ مايصل إليهم من شيعتهم من الإجلال شركاً، من زيارتهم، والإنحنا بالتسليم عليهم، ويعدون الجهر بالصلاة عليهم بدعة، ولكن الموعد القيامة، ونعم الحكم الله، والسلام ختام، بتاريخه شوال سنة 1369 هـ، وكتب الحقير حسن بن حسين ـ وفقه الله ـ.
تَّم نقلاً والحمدلله رب العالمين، وصلى الله على محمد وآله الطاهرين، نساخته يوم الأربعاء 27 رجب 1370 هـ بقلم المفتقر إلى عفو الملك المنان علي بن يحيى شيبان.
---

(1/97)


كتاب الثواقب الصائبة لكواذب الناصبة
تأليف
الإمام الحجة مجد الدين المؤيدي أيده الله تعالى
[المقدمة]
بسم اللّه الرحمن الرحيم
وبالله نستعين
وصلى اللّه وسلم على رسوله المصطفى وآله الحنفاء ورضي اللّه عن من بدينهم اعتصم وبهديهم التزم فاستمسك بالعروة الوثقى واستعصم بالحبل المتين الأقوى، دع عنك من لبّس على العباد بالتدليس، واقتعد مقاعد التدريس وقد اقتاده الضلال بمقاود الهوى فصار من حزب إبليس، اللهم إنا نسألك التثبت في القول والعمل، ونعوذ بك وأنت خير مستعاذ من الزيغ والزلل.
اعلم أيها الأخ أيدنا اللّه تعالى وإياك بتوفيقه، وأمدنا باللطف للزوم منهاج الحق وطريقه، أن اللّه جل شأنه وعز سلطانه يقول: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاء لِلّهِ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ)) [النساء:135]، ويقول عز وجل: ((وَإِذَ أَخَذَ اللّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلاَ تَكْتُمُونَهُ)) [آل عمران:187]، فلمثل هذه الأوامر القرآنية والزواجر الإلهية من الكتاب الكريم والسنة النبوية تحتم وحق الصدع بالحق وإن شق، ولاشك أنا لانعدم من يمج مانلقيه إليه سمعه ويضيق لمانمليه عليه ذرعه ولاسيما إذا توجه النقم على أشياخه وقادته الكبراء الذين قد صاروا محكمين في دينه أمراء، وبمن اللّه تعالى وإفضاله لانقول لهذا وأمثاله إلا كما قال عز وجل: ((وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا)) [الفرقان:63] ((وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا)) [الفرقان:72]، ونقول له من باب إبلاغ الحجة وإزالة الشبهة ماقاله سيد الوصيين صلوات اللّه عليه: إنه لملبوس عليك إن الحق لايعرف بالرجال ولكن الرجال يعرفون بالحق فاعرف الحق تعرف أهله.

(1/98)


واعلم أن من أعظم ماكلف اللّه به الخلق ودعاهم به إلى سبيل نجاتهم، ودلهم على نهج سلامتهم إخلاص الطاعة لأهل بيت رسوله وإصداق الولاية لورثته وعترته في محكم قوله حتى قرنهم بكتابه وجعلهم من كل الورى أدرى به المطهرين عن الرجس المشهود لعصمتهم وحجيتهم بآية التطهير والمودة وأخبار الكساء وأحاديث التمسك وخبري السفينة وغيرها مما طفحت به الأسفار ووضحت به الحجة لذوي الأبصار، فلاحاجة بنا هنا إلى سرد الدلائل القطعية والحجج المنيرة الجلية من الكتاب العزيز والسنة النبوية على وجوب التمسك بآل محمد صلوات اللّه عليه وآله، والكون معهم ومودتهم وتقديمهم على الكافة، وأنه لايفضلهم أحد من الخلائق غيره صلى اللّه عليه وآله وسلم، وأنهم ورثة الكتاب وحجج اللّه على ذوي الألباب، ((وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاء وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ)) [القصص:68] وكونهم عترة الرسول خلقوا من لحمه ودمه، وأوتوا علمه وفهمه، والمدعو لهم بجعل العلم والحكمة في زرعه وزرع زرعه، وعقبه وعقب عقبه، فلانجاة إلا بتسليم الأمر لله والنزول عند حكمه ((وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ)) [الأحزاب:36].
وقد وصف اللّه تعالى الحاكمين بغير ما أنزل اللّه تعالى بالظالمين والفاسقين والكافرين، فهذا حكم اللّه تعالى على جميع بريته، وقضاؤه في كافة خليقته لايعارضه معارض ولايناقضه مناقض، وأن فرضه على العلماء أقدم وحكمه لهم ألزم لأنهم أعلم والمنة لله تعالى ولرسوله صلى اللّه عليه وآله وسلم عليهم أعظم، فكلما تضاعفت النعمة له من علم وعمل ترادفت موجبات الشكر لله تعالى ولرسوله عليهم فيها، وقد جعل اللّه تعالى ذلك كله في مودة أهل البيت، وما الأمر كما يتصوره بعض من ساعد الهوى وغلبت عليه محبة الترأس في الدنيا أنه قد سقط عليه مودة ذوي القربى.

(1/99)


وياسبحان اللّه ألم يعلم أن الشكر واجب عليه لهم في نفس ما استفاده من العلم إن كان من علمهم وإلا فهو ممن أخلد إلى الأرض واتبع هواه وفرح بما عنده من العلم، نعوذ بالله من الهوى ولزوم الشقا، هذا وربما يستبعد مستبعد أنه يذهب إلى هذه المذاهب أحد ممن يتدين بولاية آل محمد صلوات اللّه عليهم فنقول: إن قصدت أنهم لايصارحون به مصارحة ويكاشفون به مكاشفة فنعم، وأنى لهم وقد ألجمتهم عن ذلك الدلالات وكظمتهم عن التصريح به البينات التي هي أشهر من فلق الصباح وأنور من براح وإذاً لكانوا قد خلعوا القناع وكيف وهم قد غَمَّروا على الرَّعَاع أنهم من خلاصة الأشياع والأتباع وإنما يظهر هذا منهم في الأفعال، وإن كانوا على خلاف تلك الأقوال والعامل بما يقوله ويوجبه الدليل قليل.
ثم نقول له: والذي يقول في كتابه المجيد: ((مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ)) [ق:18]، ماحمل على هذا إلا النصح بإيضاح الحجة وبيان المحجة بعد أن علمنا أن اللّه سبحانه وتعالى لايرضى بالسكوت منا وأن الإقرار عليه قبيح، وأن اللّه سبحانه وتعالى له غير مبيح، ثم شأنك وخلاص نفسك، والنظر لما ينجيك عند حلول رمسك، فإن كنت لاترضى بقبوله، فتلك شكاة ظاهر عنك عارها، وإنا بحمد اللّه تعالى لانحب هلاك أحد من عباد اللّه، ونحرص كما علم اللّه على هداية جميع خلق اللّه ((وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ)) [يوسف:103].

(1/100)


نعم واعلم ثبتنا اللّه تعالى وإياك على صراطه المستقيم ومنهاجه القويم، أن عدم النزول عند حكم اللّه تعالى في هذا الشأن والامتثال لأوامره بالجنان والأركان أصل كل فتنة وسبب كل محنة وعدو اللّه وعدونا الشيطان أول من سخط أمر اللّه ورد قضاءه، ثم تبعه كل من نفخ في أنفه واقتاد له وألقى إليه زمامه وملك حله وإبرامه، فأنزل اللّه به سوء النقمة وسلب مالديه من النعمة، وأحل عليه اللعنة، ولم يغن عنه ماتعلل به من الأعذار، ولم ينفعه ماسلف له من السوابق الكبار، وقد عبداللّه ستة آلاف سنة لايدرى أمن سني الدنيا أم من سني الآخرة كما قال الوصي صلوات اللّه عليه، فبطل ذلك كله واضمحل دقُّة وجُلة باستكباره عن امتثال أمر واحد.
قال أمير المؤمنين صلوات اللّه عليه: فمن ذا بعد إبليس يسلم على اللّه بمثل معصيته كلا ماكان اللّه ليدخل الجنة بشراً بأمر _أي مع أمر_ أخرج به منها ملكاً وإن حكم اللّه في أهل السماء وأهل الأرض لواحد، ومابين اللّه وبين أحد من خلقه هوادة في إباحة حماً حرمه على العالمين.
هذا وليس المقصود بما أثبته اللّه لأهل بيت نبيئه صلى اللّه عليه وآله وسلم من لم يكونوا من المعاصرين ولم ينتظموا في سلك الحاضرين، كلا فإنهم صفوة اللّه في كل أوان وحملة حجته في كل زمان، كما أفادته نصوص السنة ومحكم القرآن: ((إني تارك فيكم..)) ، ((كلما أفل نجم طلع نجم..)) ، ((إن عند كل بدعة تكون من بعدي يكاد بها الإسلام ولياً من أهل بيتي يعلن الحق وينوره ويرد كيد الكائدين)) فاعتبروا يا أولي الأبصار وتوكلوا على اللّه، ((يحمل هذا العلم من كل خلف من أهل بيتي عدوله ينفون عن هذا الدين تحريف الغالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين)) إلى مالايحصى كثرة كتاباً وسنة.

(1/101)


وقد مضت سنة الأولين في سالف الأمم من عصيان أكثر الخلق للأنبياء وبغيهم على الأوصياء وحسدهم لذراري الأنبياء، وعدم انقيادهم لحجج اللّه ووقوفهم عند حدود اللّه، وقد حكى اللّه عنهم ذلك ووبخهم عز وجل بمثل قوله تعالى: ((أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ)) [النساء:45] فسلكت هذه الأمة تلك المسالك، وهلكت في مهاوى تلك المهالك.
قال الإمام السابق الحسن بن علي الأطروش صلوات اللّه عليه:
وأن أمتنا أبدت عداوتنا .... أن خصنا من عطاء اللّه تفضيل
إذا ذكرنا بفضل أو بعارفة .... صاروا كأنهم من غيظهم حول
حقها أخطأت ورشدها أضلت، وكيف لا وقد فارقت خيرة اللّه من سلالة إسماعيل وحملة حجته من ذوابة إبراهيم الخليل، من كللهم اللّه بأكاليل النبوة في الابتداء وسربلهم بسرابيل الإمامة في الانتهاء. واعلم أن من أعظم مايحصل به التغرير والتزوير ويكون منه التأثير الكبير تعمية من يتلبس بالدين ويوهم أنه من أهل التقوى واليقين والتمسك بالأئمة الهادين، قال الوصي صلوات اللّه عليه: وآخر قد سمى نفسه عالماً وليس بعالم، فاقتبص جهائل من جهال، وأضاليل من ضلال، ونصب للناس أشراكاً من حبائل غرور وقول زور، وقد حمل الكتاب على آرائه، وعطف الحق على أهوائه، يؤمن من العظايم ويهوِّن كبير الجرائم، يقول أقف عند الشبهات وفيها وقع، ويقول أعتزل البدع وفيها اضطجع. انتهى.
ولقد نزغت في زماننا هذا نوازع الجهالات، وبزغت فيه بوازغ الضلالات، ولم تزل كذلك في كل زمان إلا أنها كلما هدرت شقاشق الشيطان قطعتها بواتر قرناء القرآن، ونحن أصبحنا في دهر كما قال أمير المؤمنين صلوات اللّه عليه: القائل بالحق فيه قليل، واللسان عن الصدق كليل.
ولله السيد العلامة الهادي بن إبراهيم الوزير حيث يقول:

(1/102)


أقاويل غي في الزمان نواجم .... وأوهام جهل بالضلال هواجم
ومسترق سمعاً لآل محمد .... فأين كرام بالنجوم رواجم
ومستوقد ناراً لحرب علومهم .... فأين البحار الزاخرات الخضارم
ومعترض فيهم بمخراق لاعب .... فأين السيوف الباترات الصوارم
ومجتهد في ذم قوم أكارم .... فأين الأباة السابقون الأكارم
ومنتهش لحماً لهم وهو ثعلب .... فأين الأسود الخادرات الضراغم
[الرد على الجنداري بنسبته الإرجاء إلى العترة (ع)]
فما أشبه الليلة بالبارحة والقضية الغادية بالرائحة، من ذلك أني وقفت على الكتاب المسمى تراجم الرجال المذكورين في شرح الأزهار المنسوب إلى القاضي أحمد الجنداري وإذا فيه تقولات على بعض العترة المطهرة صلوات اللّه عليهم.
منها: أنه عزا الإرجاء إلى بعض الأئمة هكذا إجمالا وبعضهم عينه تفصيلا، فحينئذ تعين الكشف عن الكذب لئلا يغتربه مغرب.
فنقول: أما الجواب عن حكايته المجملة فالمعلوم من دين أهل بيت الرسول صلى اللّه عليه وآله وسلم القول بالعدل والتوحيد وصدق الوعد والوعيد ونفي الإرجاء المباين للرجا، وأنهم يحكمون بما حكم اللّه به نحو قوله عز وجل في محكم كتابه: ((لَّيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَن يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ) [النساء:123] ونحو قوله تعالى في التهديد بالوعيد: ((مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَمَا أَنَا بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ)) [ق:29] وسواهما من حجج العقل والنقل.
وأما الجواب عمن عينهم فمنهم السيد الإمام علم الأعلام في العترة الكرام محيي علوم الآل وماحي رسوم الضلال أبو عبداللّه حميدان بن يحيى بن حميدان بن القاسم بن الحسن بن إبراهيم بن سليمان بن الإمام القاسم بن علي بن رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم فمن صريح كلامه وصحيح إعلامه قوله عليه السلام:

(1/103)


والمسألة الخامسة: إخلاف الوعد والوعيد، وذلك لأن المرجئة يزعمون أن اللّه يخلف وعيده لأهل النار بالخلود فيها، واحتجوا على ذلك من المتشابه والشبه مما لاحجة لهم فيه إلى أن قال: والجواب: أن هذه الآيات وما أشبهها من جملة المتشابه والمجمل، قال: وتحكيم المحكم المبين على المتشابه واجب لايجوز خلافه. ثم أورد طرفاً من الرد عليهم، فهذا ماهو معلوم من دينه ينطق بافترائه ومينه، ويفتق على ناقله مايرتق بشماله ويمينه. والإرجاء يحصل بتجويز إخلاف الوعيد سواء كان بشفاعة أو غيرها إذ مآل ذلك تأخير الأعمال، والاتكال على الآمال، وعدم الوثوق بما أخبر به ذو الجلال، لأن وعيده إخبار بما يؤول إليه الحال، وليس كلامنا فيمن أنكر الوعيد على أهل القبلة لأنه إنما حكى عن هؤلاء الأئمة تجويز الشفاعة للفاسق فقد أثبتوا الوعيد واستحقاق العذاب.
ومن كلام هذا السيد الإمام قوله جواباً على بعض شبه المرجئة وهي قولهم: إنه يحسن إخلاف الوعيد في الشاهد. والجواب: أن ذلك لايحسن إلا لأجل قرائن لايجوز إضافتها إلى اللّه تعالى نحو البداء والندم.. الخ كلامه عليه السلام وأقواله ومؤلفاته معلومة عند الأمة ناطقة ساطعة بالحق على الخلق، لم تزل الأئمة تهتدي بنورها وتعزي ماتدين به إلى نيرات شموسها وبدورها.
هذا وممن رماهم بالإرجاء لزعمه أنهم يجوزون الشفاعة للفاسق السيد الإمام السابق مجدد المآثر ومؤيد الدين الداثر البدر المنير والبحر الغزير الهادي بن إبراهيم الوزير عليه السلام، فمن عقد كلامه الذي لايحل حل إبرامه قوله في قصيدته في أصول الدين المسماة درة الغواص التي شرحها هو وشرحها السيد العلامة عبدالكريم بن عبداللّه أبو طالب رضي اللّه عنه:
ومن مات من بعد الوعيد بكفره .... فإن جزاء النار أعظمه تبري
كذاك من الفساق من مات عاصياً .... فإن له نارا موججة الجمر
يخلده الباري بها في عذابها .... وما إن له في النار يكشف من ضر
بذلك جاء النص وهو مؤيد .... بتحقيق برهان من الكلم الغر
إلى أن قال:
ومذهبنا أن الشفاعة في غد .... لها يتلقى المؤمنون ضحى الحشر
وليست لذي فسق وإن قال قائل .... به فهو مردود بنص من الذكر

(1/104)


فهذه صرائح أقواله تنادي برد ذلك النقل وإبطاله، وليس لقائل أن يقول يحمل على أن له قولا آخر. لأنا نقول له: أين أنت ياوسنان أصاح أم سكران، أتدري أنك في أصل من أصول الأديان، التي كلف اللّه عباده فيها الوقوف على حقيقة العرفان، فمثل هذا الإمام لايكون له فيها قولان، إذ يكون قد صدر أحدهما عن غير برهان، إذ العلمان لايتناقضان، وحاشاه وهو قمر الهداية الزاهر، وبحر الدراية الزاخر، وهذا الكتاب أقل من أن يوثق به في هذا الباب أو يصدق في قوله على حملة الكتاب مع أنه لايجوز الإقدام في هذا المقام إلا بطريق شرعية وحجة قطعية وذلك ثابت معقولا ومنقولا ((وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ
إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً)) [الإسراء:36].
ولقد أضر انحراف هذا الشيخ بكثير ممن أخذ عنه واغتر به فلقد كان الإمام المنصور محمد بن يحيى حميد الدين يقول لولده الإمام المتوكل حين يرى منه بعض المخالفات: تجندرت يا يحيى. لأنه من مشائخه. ولقد حَوَّل أكثر أهل الأهنوم وغيرهم إلى أقوال من يتسمون بالسنية.
[مذاكرة في الإرجاء]
وقد جرت مذاكرة بيني وبين الوالد العلامة محمد بن حسن الوادعي ناظرة الشام المتوفى سنة 1369هـ عن 77 سنة وكان ذلك بحصن السنارة فتمثل بقول الشاعر:ـ
قال المنجم والطبيب كلاهما .... لن يبعث الثقلان قلت: اليكما
إن صح قولكما فليس بضائري .... أو صح قولي فالوبال عليكما
فأجبت بما معناه:ـ ونحن نقول معشر الوعيديه:ـ
إن صح قولكمُ فليس يضرنا .... أو صح قولي فالوبال عليكمُ
فأجاب بقول العلامة هاشم بن يحيى الشامي:ـ
على رغم أنف للوعيدي ابتني .... بتوحيدك اللهم في الخلد مسكنا
ومن يتأول من يشاءُ فقل له .... إذا كنت بواباً عليها فردنا

(1/105)


وأشار إليَّ بيده. فقلت له قال اللّه سبحانه وتعالى: ((لَّيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَن يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلاَ يَجِدْ لَهُ مِن دُونِ اللّهِ وَلِيًّا وَلاَ نَصِيرًا)) [النساء:123] ((وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ)) [الحاقه:41] فقام من مكانه . الخ المذاكرة.
[ممن اغتر بالقاضي الجنداري]
وممن اغتر بهذا الشيخ كثير من أهل التواريخ كالقاضي حسين العرشي في بلوغ المرام حيث قال: وعارضه المهدي محمد بن القاسم الحوثي الحسيني من بقية أهل ضحيان وحوث ومن قال بقولهم إلى قوله: فرأى محمد بن القاسم أن الأحسن متابعتهم مع ما هو عليه من العلم الغزير والتقوى وملازمة الأئمة السابقين الخ كلامه في جانب الإمام وعلماء الإسلام.
والوالد محمد بن محمد زبارة والقاضي عبد الواسع بن يحيى الواسعي ولقد عاتبتهما في بعض النقولات الباطلة عن الأئمة فاعتذرا أنهما اعتمدا على تاريخ الشيخ المذكور.
[تقولات القاضي الجنداري على الأئمة (ع)]
وقد كان لا يبالي بما تَقَوَّل به من خلاف الواقع المعلوم ومن ذلك قوله في منظومته:ـ
ثم دعا من بعد ذاك القاسمي .... وكان فيها أولا كالهائم
فاضطربت به بلاد القبلة .... وهي إلى الآن بتلك العلة
أشار قوم بوصول العلماء .... فوصلوا وكاتبوا وكلما
أجاب قال اثنين في الإمامه .... يجوز هذا مذهبي تمامه
وقد كذبه وعلق على كلامه الإمام الهادي رضي اللّه عنه وأفاد أن هذا زور وبهتان عليه ولم يقل بجواز إمامين، ولو كان ذلك جائزاً فلِم قامت الحرب بينهما وقُتل فيها قتلى كثير. فانظر إلى سخافة كلامه وعباراته المزرية بأئمة الهدى والعلماء العاملين. ومن ذلك قوله في الإمام الأعظم المهدي لدين اللّه محمد بن القاسم الحوثي الحسيني:ـ
وقد دعا الحوثي بعد الهادي .... ولم يقم بواجب الجهاد

(1/106)


وهذا من الإفتراء العظيم، فالإمام المهدي لدين اللّه لم يزل مجاهداً في سبيل اللّه، وإنما حجزه عن الحرب في آخر مدته الورعُ وكونُ الناس يتهافتون على النهب والأطماع فكان يأمر الناس بالمدافعة فقط. ولو أراد سفك الدماء وخوض الدهماء لبلغ ما يريد إذ كان أعلام اليمن في طاعته وأكثر الأمة في ولايته وتحت رايته ولهذا شرط على الإمام المنصور لمَّا ولاه على جهاد الأتراك أن يكون لديه من الجنود ما يمنع أهل الفساد عن التعدي لحدود اللّه كما ذلك مذكور في توليته له، أخبرنا بهذا والدي والعلماء رضي اللّه عنهم المعاصرون للإمام، وقد ذكرنا ذلك في غير هذا الموضع.
وقد عُرف هذا الشيخ بتهجمه على أئمة الهدى وأعلام الإقتداء من الأولين والآخرين كما سبق فقد قال في ترجمة الإمام المهدي لدين اللّه علي بن محمد ما لفظه: ومن الناس من يزعم أنه غير مجتهد والله أعلم. وقد كفانا الرد عليه ما ذكره الأئمة الأعلام في ترجمة الإمام علي بن محمد منها كاشفة الغمة للسيد الإمام الهادي بن إبراهيم الوزير وكذلك ما في مختصر الطبقات حيث قال: الإمام المهدي لدين اللّه علي بن محمد نشأ على طريقة آبائه الأعلام في العلم والعمل والإجتهاد، إلى قوله: كان على طريقة آبائه الأعلام في السعي في أسباب الكمال والتمام حتى برز في كل فن من الفنون وعلوم الإسلام وصارت تشد على عقوته الأكوار لاقتباس الفتاوى وتنفيذ الأحكام من المغرب والمشرق والشام واليمن إلى قوله: يُرى أنه أزال سبع عشرة دولة ظالمة. وكم نعد من هذا القبيل وحسبنا اللّه ونعم الوكيل.

(1/107)


[افتراء القاضي الجنداري على قدماء أهل البيت (ع)]
ومما نقل عن هذا الشيخ في حواشي شرح الغاية المطبوعة أن قدماء أهل البيت يخصصون آية الوعيد بقوله عز وجل: ((وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء)) [النساء:48،116]، فنقول: سبحانك اللهم هذا بهتان عظيم من أين علمت هذا أيها الفقيه عنهم وهذه كتبهم شاهدة ناطقة ومقالاتهم المعلومة عند كافة الأمة بلزوم الوعيد على جميع العصاة إلا التائبين متطابقة، ولو كنت أيها الفقيه ممن يعقل لعلمت أنهم لايردون الصريح المبين إلى المجمل المحتمل، ولكان في بطلان أمثال هذه الأقاويل مايزعك عن نسبته إلى حماة التنزيل ووعاة التأويل، ولكنها الأهواء عمت فأعمت. وقد حرر الرد عليه في هذا الموضع بعض العلماء المعاصرين من أعلام الشيعة وكرام حفاظ الشريعة كثر اللّه فوائدهم ويسر صلاتهم وعوائدهم فقد كفونا المؤونة في هذا المقام، فنكتفي بإيراده ففيه كفاية وافية لذوي الأفهام وهو مالفظه:
بسم اللّه الرحمن الرحيم
وصلى اللّه وسلم على سيدنا محمد وعلى آله الطيبين الطاهرين وبعد.. فإنه لما وقفنا على ماتقوَّل به القاضي أحمد بن عبداللّه الجنداري على قدماء الآل الكرام وسادات الأنام في الجزء الثاني من شرح غاية السؤل في الصافح الأيسر رمز 429 الطبعة الثانية سنة 1401هـ المكتبة الإسلامية، عَنَّ لنا أن نجيب عليه بما لدينا من البيان دفعاً لما غرر به ودلَّس على أغمار العصر، وذلك لما أخذ اللّه على العلماء من نسق الحجة وإيضاح المحجة ((وَإِذَ أَخَذَ اللّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ)) [آل عمران:187]، (ومن كتم علماً..) الخبر. قال: إن قدماء الآل عليهم السلام يقولون: إن قوله تعالى: ((وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء)) [النساء:48،116] مخصصه لآيات الوعيد.

(1/108)


والجواب عليه: أنه رماهم بما ليس عندهم ودهاهم بما لم يكن من معتقدهم، ولاسبب لذلك إلا الاعتراض على هديهم، وعدم التدبر لصحيح مقالهم، فنعوذ بالله من غلبة الأهواء والانقياد لحكم الهوى. والذي يغلب في الظن أنه إنما اطلع على كلام عالم آل محمد عبداللّه بن الحسين صلوات اللّه عليهما في كتابه الناسخ والمنسوخ حيث قال: إن آية المشيئة ناسخة لقوله تعالى: ((وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ)) [النساء:18] الآية، وأنه لما شق ذلك على المسلمين فتشاكوا أنزلت آية المشيئة. وقال عليه السلام: (لاأعلم بين الناس اختلافاً في أن هذه الآية ناسخة لما قبلها.لم يظهر له مرام مولانا عليه السلام، فحمل النسخ على التخصيص، وإلا فمرام الإمام عليه السلام أن اللّه تعالى زاد في أجل التوبة إلى وقت الغرغرة، فأول الكلام وأوسطه يدل على أن الآية في التوبة فإنه قال عليه السلام: وإرجاء أهل الذنوب فلم يخص أحداً منهم لترك قبول توبته وهذه آية مبهمة أخبر اللّه فيها عن قدرته وأنه يغفر ماشاء لمن يشاء غير أنه لايشاء أن يغفر لأهل الكبائر الذين يموتون عليها.
قال: ولعمري إن من مات على غير توبة من أهل الوعيد، فالفقيه نظر في كلامه ولم يتدبر مرامه، ولايخلو من أحد أمرين إما أنه قصر في النظر وهذا قصور لايليق بالعلماء، أو أنه لما رأى قوله أن الآية منسوخة أراد أن ينسب إلى الآل أنهم يخصصون آية المشيئة بآية الوعيد(1)[1]) لينصر مذهبه الواهي، ولكنا نذكر شيئاً من أقوال الآل عليهم السلام إمامهم وصي رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم، فإن المعلوم لمن اطلع على خطبه ورسائله ومواعظه أنه يحكم ويجزم بخلود مرتكب الكبيرة الذي لم يتب منها في نار جهنم خالداً فيها مخلداً، وتلاه أولاده إماماً بعد إمام.
__________
(1) والصواب أنهم يخصصون آية الوعيد بآية المشيئة، تمت من المؤلف أيده الله تعالى

(1/109)


قال الهادي صلوات اللّه عليه في مجموعه في سياق صاحب الكبيرة: وأنه إذا مات مصراً عليها غير نادم ولا مستغفر فإنه من أهل النار خالداً فيها مخلداً لايخرج أبداً منها، وكذلك القاسم الرسي صلوات اللّه عليه له كلام بمعناه في مجموعه وكذا الناصر في بساطه عليه السلام.
وروى الإمام أحمد بن سليمان عليهما السلام والإمام الأواه المنصور بالله عبداللّه بن حمزة عليهما السلام والإمام القاسم بن محمد والقاضي محمد بن أحمد الديلمي إجماع أهل البيت في أن من مات مصراً على معصية فإنه مخلد في النار، وكذلك غيرهم من علماء الآل وشيعتهم عليهم السلام، وهذه مسألة مشهورة وأدلتها غير مغمورة بل هي بصرائح الكتاب وقواطع السنة معمورة، وقد دار فيها الخلاف والنزاع بين أهل العدل ومن خالفهم من المرجئة، وأوضح الآل وشيعتهم فيها الأدلة التي لاتخفى إلا على غبي أو معاند غوي.

(1/110)


فمن أراد السلوك في منهاجهم والعبور في طريقتهم فليطالع مؤلفاتهم، وأما من تنكب عن سواء السبيل وعرَّج على الشبهة ورفض الدليل، فإنه لايزال طالباً للتأويل ومجتهداً في التحويل والتبديل، فكيف تنقلب وقد حققت في حاشيتك على شرح الثلاثين المسألة: بأن صاحب الكبيرة يخلد في العذاب الدائم، ونقلت نيفاً على عشرين حديثاً تقضي بخلود صاحب الكبيرة، وعندك أنها من أحسن الطرق. ولكنك قد ملت إلى كتب أهل البدعة الذين يطلبون لهم المعاذير ولايبالون بمايُقْدِمون عليه من المناكير وقد سبقك من أبطل الزيادة الثابتة في قول النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم: (من قال لاإله إلا اللّه دخل الجنة) الثابتة في رواية زيد بن أرقم، ورجح الأخبار الخالية عن تلك الزيادة، وقال معتمداً على ماصححه أهل سنته من أنا نحمل الأحاديث على أنهم داخلون تحت المشيئة، وقلت: إن هذا التلفيق يصلح تفسيراً لقوله تعالى: ((وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء)) ولو رجعت إلى هداتك الذين أمرك اللّه بالرجوع إليهم والأخذ عنهم لاستبنت المنهج القويم وهديت الصراط المستقيم، وياسبحان اللّه كأن هذه الزيادة لم ترو إلا من طريق زيد بن أرقم وهي أشهر من نار على علم على أنه قد ثبت بالدليل القطعي القرآني والنبوي مايبطل حديثكم الذي تروونه عن أبي ذر وغيره، وحاشا أبا ذر أن يزوِّر على رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم وهو ممن لم تأخذه في اللّه لومة لائم.
كذلك قد سبق في صلاة الجماعة نقلا عن المقبلي في أن المرجئة الذين يقولون لاوعيد على أهل الصلاة ويؤخرونهم عن الوعيد رأساً، وقد كفانا رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم الجواب في الرد عليكم وعلى أهل سنتكم، وأما المقبلي فقد سل الإمام المنصور بالله محمد بن عبداللّه الوزير رضي اللّه عنه سيف دليله عليه فكفانا من أن نرد عليه. وكفى اللّه المؤمنين القتال، وبالله تعالى التوفيق. انتهى كلامهم.

(1/111)


[إثبات الوعيد والرد على المرجئة]
هذا واعلم أنه لما ساق البحث إلى الكلام في هذا الأصل الكبير والمطلب المهم الخطير ((وَمِنَ النَّاسِ مَن يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَانٍ مَّرِيدٍ)) [الحج:8] رأيت إيراد طرف من التبيين مما يقطع أعذار المتمنين ويدحض شبهة المتعللين حسبما يليق بهذا المقام ومن اللّه تعالى نستمد الإعانة والعصمة في الإقدام والإحجام.
فأقول وبالله تعالى أصول: الأمر كما قال بعض أئمة الآل صلوات اللّه عليهم أنها لم تقف الحشوية والمرجئة عند حد ولا استقرت في المذهب على معتقد، فمرة يقولون: إن العفو والرحمة واسعة، وإن المغفرة شاملة جامعة، وإن مايدينون به من الرجاء وليس بالإرجاء، وإن العبد تحت المشيئة، وأخرى إنه لاوعيد على أهل القبلة رأساً، وتارة يقولون: إن لاإله إلا اللّه كاف، وأخرى إنهم لايدخلون النار بسبب شفاعة أو نحوها، ومرة إنهم يدخلون النار ثم يخرجون منها، وأخرى إن الإيمان قول بلا عمل. وكل هذا خلاف ماجاء به القرآن وسنة سيد ولد عدنان الجامعة غير المفرقة، ولهم روايات لفقوها وترهات اختلقوها، فما خالف كتاب اللّه وسنة رسوله صلى اللّه عليه وآله وسلم مما افتراه أهل البدع من الوضع فهو مطرود عن مقاعد السمع ((وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ إِذْ يَرَوْنَ
الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلّهِ جَمِيعاً وَأَنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ (165) إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُواْ مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُواْ وَرَأَوُاْ الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأَسْبَابُ (166) وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُواْ لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّؤُواْ مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُم بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ)) [البقره:167].

(1/112)


فأما قولهم: إن العفو والرحمة الخ. فنقول: هذا هو محض التمني والإرجاء كما حققه نجوم الهدى ورجوم العدى وأعلام الاقتداء وعليه قوله عز وجل: ((وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللّهِ إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ)) [التوبه:106] وأما القطع بخلف الوعيد، فهو التكذيب بلا مراء، وأما الرجاء فقد بين اللّه أهله ومحله بمثل قوله تعالى: ((فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا)) [الكهف:110]، وقوله عز وجل: ((إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَالَّذِينَ هَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أُوْلَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللّهِ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ)) [البقره:218] ((لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً)) [الأحزاب:21]. وقال اللّه تعالى: ((إِنَّ رَحْمَتَ اللّهِ قَرِيبٌ مِّنَ الْمُحْسِنِينَ)) [الأعراف:56]، ((وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُم بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ)) [الأعراف:156]، فأما من ارتكب الجرايم وأمن من العظايم فقد أحل الرجاء في غير محله ووضعه لغير أهله ((وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الْغَيِّ ثُمَّ لاَ يُقْصِرُونَ)) [الأعراف:202]، ((وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذَلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ (20) وَجَاءتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ (21) لَقَدْ كُنتَ فِي غَفْلَةٍ مِّنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنكَ غِطَاءكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ (22) وَقَالَ قَرِينُهُ هَذَا مَا لَدَيَّ عَتِيدٌ (23) أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ (24) مَّنَّاعٍ لِّلْخَيْرِ مُعْتَدٍ مُّرِيبٍ (25) الَّذِي جَعَلَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ

(1/113)


فَأَلْقِيَاهُ فِي الْعَذَابِ الشَّدِيدِ (26) قَالَ قَرِينُهُ رَبَّنَا مَا أَطْغَيْتُهُ وَلَكِن كَانَ فِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ (27) قَالَ لَا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُم بِالْوَعِيدِ (28) مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَمَا أَنَا بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ(29))) [ق:20-29]. وقال تعالى: ((يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الْإِنسَانُ مَا سَعَى (35) وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَن يَرَى (36) فَأَمَّا مَن طَغَى (37) وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (38) فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى (39) وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى (40) فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى)) [النازعات:36-41]، وهذا عام في كل من طغى فمن حرفه فقد بغى، وأما إنكار الوعيد بالجملة على أهل الصلاة والقبلة فهو رد لصريح الكتاب، وإنكار لما علم من الدين ضرورة بلا شك ولاارتياب ((وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ)) [الأنعام:21].
وماذا يصنعون بالآيات الخاصات والعامات المصدرات بيا أيها الذين آمنوا نحو آية الربا وآية الفرار من الزحف وآية المواريث والآية القاطعة لأماني المتمنين النازلة في شأن الكافرين والمسلمين وهي: ((لَّيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَن يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ)) [النساء:123] ومن بلغت مباهتته إلى هذا الحال لايجاب عليه إلا بما قال ذو الجلال والإكرام: ((وَيْلٌ لِّكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ {7} يَسْمَعُ آيَاتِ اللَّهِ تُتْلَى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِرًا كَأَن لَّمْ يَسْمَعْهَا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ)) [الجاثيه:6]
((تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَآيَاتِهِ يُؤْمِنُونَ)) [الجاثيه:5].

(1/114)


وقد دخل الجواب عن قولهم: إن لاإله إلاالله كاف، وإن الإيمان قول بلا عمل. فيما سلف وفيما سيأتي إن شاء اللّه تعالى وكذلك القطع بعدم دخولهم النار أو دخولهم وخروجهم والتردد في ذلك، وأما الشفاعة فإن اللّه جل وعلا يقول: ((مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلَا شَفِيعٍ يُطَاعُ)) [غافر:18]، ((وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى)) [الأنبياء:28]، ((أَفَأَنتَ تُنقِذُ مَن فِي النَّارِ)) [الزمر:19]. ((إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ (13) وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ (14) يَصْلَوْنَهَا يَوْمَ الدِّينِ (15) وَمَا هُمْ عَنْهَا بِغَائِبِينَ)) [الإنفطار:13].
وقد أغنى الجواب جواب رب الأرباب بما أجاب به على أهل الكتاب: ((وَقَالُواْ لَن تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَّ أَيَّاماً مَّعْدُودَةً..)) [البقره:80] الخ، وأما التخصيص لآي الوعيد بآي المشيئة أو آي الوعد فنقول: أما آي المشيئة فهي مجملة ضرورة أنها لم يتبين فيها من المراد بالإخراج فيجب رد المجمل إلى المبين والمتشابه إلى المحكم، وهذا واضح المنهاج، وقد تبين ذلك في كتابه جل وعلا وعلى لسان رسوله المصطفى: ((لِّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَن بَيِّنَةٍ)) [الأنفال:42]، ((مَّا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن شَيْءٍ)) [الأنعام:38].
وأما التخصيص للوعيد بالوعد واحتمال إخراج بعض من شملت من العبيد إما لكونه من أهل الصلاة أو لأنه قد سلف له الوعد بماعمل من الصالحات فيكون مخصوصاً لتلك السابقات، أو بغير ذلك مما يتعلق به أهل الجهالات من الترهات.
ويطمئن إليها من له غرض .... في مسلك الغي أو في قلبه مرض

(1/115)


قلنا في ذلك جواب جامع قاطع وهو الذي نطقت به السنة والكتاب وشهدت له أدلة الألباب هو الحكم بلحوق الوعيد بمن ارتكب أي كبيرة من العبيد وحلوله في العذاب الشديد إلا أن يتوب إلى مولاه عن قريب ويأتيه بقلب سليم، وأنه لاينفعه إن كان قد قدم ماقدمه من الصالحات لأنه أضاعه على نفسه بما ارتكب من المحبطات وكان كما شبهه اللّه تعالى بناكثة الغزل بعد القوة وزلت قدمه بعد ثبوتها في تلك الهُوة أعاذنا اللّه تعالى منها، وأن آي الوعد لاتناول إلا من يأته مؤمناً قد عمل الصالحات، وأن الأمن مقصور على من قصره اللّه تعالى عليه بقوله عز قائلا: ((الَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ)) [الأنعام:82]، والدلائل على هذا كله مشرقة المنار متجلية الشموس والأقمار ولنورد طرفاً تأكيداً لما سبق مما فيه إن شاء اللّه تعالى غنية عن الإكثار مستعينين بالله الواحد القهار.
منها: أن آي الوعيد التي هي في مقام الزجر والتهديد ممن لايبدل القول لديه وليس بظلام للعبيد، لو كانت مخصصة بغير التائب وذوي الصغائر من العصيان لكان ذلك نقضاً للحكمة لما فيه من إغرائهم على القبائح، ولسقط وجوب التحفظ المعلوم من الدين ضرورة عما لايرضاه من العصيان والفضائح، وناقض: ((إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ)) [النحل:90] ولينظر الناظر لو قدر التخصيص متصلا عند تلاوة مايشاء من عمومها ويعرضه على ما أراد من منطوقها ومفهومها ليعلم مضادته لقضاء الحكيم ومناقضته لمصدر الوعيد من العزيز العظيم.
ومن المعلوم عند ذوي الأنظار السليمة والأفكار القويمة أن بقاء التكليف لايستقيم مع عدم التخويف، وأن صدور أي إطماع ينافي حكمة الخبير اللطيف.

(1/116)


كيف وقد أمر خيرته صلى اللّه عليه وآله وسلم من ذوي العصمة أن يبين خوفه من العذاب من مطلق العصيان مع أنه لايجوز عليه انتهاك أي حرمة وتوعده على القليل بما فيه غاية النكال والنقمة ((إِذاً لَّأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ)) [الإسراء:75] وقد علم اللّه سبحانه أنه سينظر في وعده ووعيده ذوو الذوق والنظر ويفحص عن تصريحها وتلويحها أرباب الفحص والفِكر، فانظروا هل استثنى اللّه في شيء من آي الوعيد بالخلود في العذاب الشديد غير التائب وصاحب الصغيرة أحداً من العبيد وهو في مقام البيان ((تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ)) [النحل:89] ((مَّا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن شَيْءٍ)) [الأنعام:38].
ومنها: أنه قد قص ونص نصوصاً بينة جلية على إحباط أعمال المؤمنين إن ارتكبوا معاصي غير مخرجة من الملة قطعاً، وإذا كانت تحبط أعمالهم بالمن والأذى ورفع الصوت فما بالك بما فوقها من مجاوزة الحدود والاعتداء؟! بل شبههم اللّه تعالى بالخارجين عن الملة بقوله عز وجل: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُبْطِلُواْ صَدَقَاتِكُم بِالْمَنِّ وَالأذَى كَالَّذِي يُنفِقُ مَالَهُ رِئَاء النَّاسِ وَلاَ يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْدًا)) [البقره:264] إلى قوله: ((وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ)) [البقره:264] وإذا حبطت أعمالهم دل على تخصيص آي الوعد التي فيها عدم ضياع أعمالهم، وعدم كفران سعيهم وكَتْبِها لهم.

(1/117)


هذا إن كان الكلام فيمن قد سبق له ذلك ودل على شمول آي الوعيد لهم ولجميع العصاة بنحو قوله تعالى: ((وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا)) [الجن:23] الآية، ((وَمَن يَعْصِ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ..)) [النساء:14] الآية، إذ ليس الموجب لتخصيصها إلا الوعد على أعمالهم، وقد تبين أنها تبطل وتضمحل، فذلك أعظم دليل على أنهم عصاة مؤاخذون داخلون في ضمن قوله عز وجل: ((وَمَن يَعْصِ اللّهَ..)) الآية، دخولا مقطوعاً به دلالة وإرادة، إذ الكلام في أمثال هذا المقام مرتب على قاعدة أصولية وهي: أن العام في الأصول المقطوع بمتنه مقطوع بدلالته على جميع أفراده. وإرادتها لا احتمال فيه فلايخص إلا بقاطع مثله، لأن الحكيم لايكلفنا بالعلم ولاينصب لنا عليه إلا دليلا ظنياً للزوم التكليف بما لايطاق والله سبحانه يتعالى عنه وقد ذم الظن وقال: ((إَنَّ الظَّنَّ لاَ يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا)) [يونس:36]، ((وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ)) [الإسراء:36] ولايحتمل التأويل بإخراج العلم والظن عن حقيقتهما من التحريف والتبديل إذ هو لغير دليل بل قام الدليل القطعي على قبح الاعتماد على الظن في الأصول قطعاً واتفاقاً بين أهل العدل مع قيام الدليل الشرعي على ذلك، ولأنه الذي يوجبه الوضع كما قرره المحققون.

(1/118)


نعم مع أن الوعد معلق على الوصف بالإيمان والعمل الصالح، وقد خرجوا عن الإيمان بعد الكبير من العصيان لقيام الأدلة المحكمة الأساس المبرمة الأمراس على أن الإيمان: الإتيان بالواجبات واجتناب المقبحات من أمثاله قوله عز وجل: ((إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ..)) [الأنفال:2] الخ، ((قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ..)) [المؤمنون:1] الخ، كما قرر الاستدلال بها أئمة الآل صلوات اللّه عليهم حملة المعقول والمنقول منهم نجم آل الرسول وشيخ أسباط الوصي والبتول أبو محمد القاسم بن إبراهيم عليه وعلى سلفه وخلفه أفضل الصلاة والتسليم.
وقد اعترض السيد محمد بن إسماعيل الأمير في الدراية استدلال ابن الإمام في شرح الغاية بهذه الآية وغيرها.
وقد حررت عليه مافيه إن شاء اللّه تعالى الكفاية لأولي الحجا والهداية امتثالا لقوله تعالى: ((ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ
وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ)) [النحل:175]، فمن أراد مراجعتها فهي مفردة مستقلة هنالك في ذلك المقام وقد وسمناها: بالفلق المنير بالبرهان في الرد لما أورده ابن الأمير على حقيقة الإيمان. وعسى اللّه تعالى أن ينفع به ويجعله من السعي المبرور والعمل المشكور، فقد وقع إبلاغ الجد وبذل الجهد لأن هذا السيد احتفل في النقض لهذا الأصل العظيم الشأن القويم البنيان بغاية الإمكان مع تمكنه من الإيرادات وتصريف العبارات وتمويه الإشكالات ومثله أعظم خطراً وأشد ضرراً على من لم يكن ذا قدم ثابت وملكة راسخة.

(1/119)


نعم وإذا خرجوا عنه بطل ماعُلق عليه وعُلل به من الوعد بالجنان، وأما محاولة الإخراج والتخصيص بتقدير مالم يدل عليه دليل ولاينتهج إليه سبيل فإنه بلا ريب تحريف وتبديل لاسيما بجعل الخطاب على غير ماعلق عليه أو مقترناً بمالم ينسق إليه حتى يصير غير متلائم نظمه ولامتناسب حكمه، فحاشا كلام الحكيم الذي لايأتيه الباطل من بين يديه ولامن خلفه، أو بأن يصير إلى القول بالخروج من النار الذي قد حكاه وأبطله العزيز الجبار، وحكم جل جلاله على كل من كسب سيئة وأحاطت به خطيئاته على رغم آناف اليهود وغيرهم من أهل الزيغ والعنود.
ومنها: أنه قد علم من دين الرسول صلى اللّه عليه وآله وسلم ضرورة لحوق الوعيد بأهل الإيمان المرتكبين بعده بما لايخرج عن الملة من العصيان بإقامته عليه وآله الصلاة والسلام وإقامة أهل الإسلام عليهم الحدود، وإيجاب قتال الناكثين منهم وعداوتهم وطردهم إن أصروا على العنود، ومعلوم أن في ذلك غاية الإهانة ونهاية الذلة والاستكانة، وأنه لم يبق لهم عند اللّه تعالى ولاعند رسوله أي مكانة، ولو كان لهم شيء ينفعهم في الآخرة لنفعهم في الدنيا التي هي دار الإمهال والإملاء، ولكانوا مهانين ملعونين فاسقين باغين محاربين كما ورد في القرآن مستحقين دار المتقين معظمين مكرمين لما تقدم لهم من الإيمان، وفي ذلك من التناقض والإحالة مالايخفى على ذوي التمييز فضلا عن ذوي العرفان.

(1/120)


ومنها: أنه معلوم متحقق مرسوم عند من أعطى النظر حقه ولم يملك التعصب رقه من الوضع والخطاب الإلهي شمول أمم الكافرين والفاسقين والظالمين وغيرها من أسماء الذم للعاصين من الموحدين والملحدين، والقرآن مملوء من إطلاق اسم الكفر على من أخل بالشكر نحو قوله تعالى: ((قُلْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَالرَّسُولَ فإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ الْكَافِرِينَ)) [آل عمران:32] فإنها مصرحة بتسميتهم كافرين عن التولي عن الطاعة، وفي إقامة الظاهر مقام المضمر مالايخفى من النعي عليهم والشناعة، وكم في الذكر المبين من التصريح باختصاص النار بالكافرين ومعلوم بنص الكتاب الخلود فيها _نعوذ بالله تعالى منها_ لمن لم يكن خارجاً عن الملة من العاصين.
وهذا تبرع بمستند المنع عن الخروج عن أصل الوضع وهو لايلزمنا، لأن الأصل معنا ولعله غر كثيراً مايوجب التغاير من نحو قوله تعالى: ((وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ)) [الحجرات:7] وليس ذلك بضائر فهو مسلم أنها غير مترادفة بل مختلفة المفاهيم متعددة المعاني لكن لانسلم عدم جواز اجتماعها في صاحب المعصية من الكبائر، فإن المعصية الواحدة يطلق عليها أسماء كثيرة متغايرة لاختلاف الاعتبارات مثلا من حيث كونها مخالفة للأمر تسمى عصياناً، ومن حيث كونها إخلالا بشكر المنعم تسمى كفراناً، وهلم جرا، والفرق بين هذا القول والقول بنفي المنزلة بين المنزلتين من الخوارج وغيرهم اختلاف الأحكام وعدمها، فأما الاصطلاحات الحادثة فلا تخرجها عن أصل الوضع وكذلك اختلاف الأحكام والمعاملات في الشرع وقد اختلفت أحكام الكافرين بالإتفاق، فللحربيين معاملات وللذميين كذلك ولم يوجب ذلك خروجهم عن التسمية وعدم الاشتراك، وحينئذ يعمهم الوعيد بإبطال جميع الأعمال والخلود في العذاب والنكال بلا ريب ولاإشكال.

(1/121)


وعلى الجملة أن من أمعن النظر في مواضع التنزيل وكرر البصر في مواقع التأويل علم أنه لاهوادة بين اللّه تعالى وبين أحد من خلقه في انتهاك شيء من كبير حدوده ومحارمه، وأنه لاينفع مرتكبها شيء وإن كان على أفضل طاعاته وأجل مكارمه.
وكفى بما حكى اللّه تعالى في كتابه عن أنبيائه ورسله صلوات اللّه عليهم الذين هم أرفع شأناً وأعلا مكاناً وحسبك ماخاطب اللّه تعالى به خاتم رسله وأمين وحيه من قوله جل شأنه وتعالى سلطانه: ((فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَن تَابَ مَعَكَ وَلاَ تَطْغَوْاْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (112) وَلاَ تَرْكَنُواْ إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُم مِّن دُونِ اللّهِ مِنْ أَوْلِيَاء ثُمَّ لاَ تُنصَرُونَ)) حتى ورد في الآثار أنها شيبت به صلى اللّه عليه وآله وسلم، فهي قاطعة لما يختلج حاسمة لما يتردد ويعتلج، فإن الوعيد فيها مصرح على الطغيان الصادق بأدنى تجاوز لما أمروا به وعصيان وبإمساس النار على الركون _وهو: الميل اليسير_ إلى من صدر منه الظلم دع عنك الظالم نفسه، ثم عقب على دخول النار أنه ليس لهم من دون اللّه تعالى أولياء وأنهم لاينصرون وهو يقتضي الخلود في العذاب وانقطاع الأسباب، فهل يبقى بعد ذلك أي شك وارتياب، فنسأل اللّه تعالى العصمة والسلامة وحسن المرجع والمآب وهو حسبنا ونعم الوكيل.

(1/122)


[رد للأقوال المزوّرة على بعض علماء العترة (ع)]
هذا وقد تكلمنا في التحف الفاطمية على طرف من الرد للأقوال المزورة على بعض علماء العترة كالسيد العلامة حميدان بن يحيى عليه السلام، والسيد العلامة سبط الإمامة والزعامة وشرف السلالة من أبناء الوصاية والرسالة الحسين بن الإمام القاسم بن محمد عليهما السلام فإنه نسب إليه في بعض التراجم القول: بأن الخلاف في الأصول لفظي وفي هذا نقض التوحيد والعدل وهدم دليل العقل والنقل، فياسبحان اللّه كيف وهو عالم بني الزهراء والقائم بتأييد حججهم القاطعة الغراء وأقواله بحمدالله معلومة، وقد نقلنا هناك مايكفي، فلينظر فيها إن شاء اللّه تعالى، وقد كذب على أنبياء اللّه ورسله صلوات اللّه عليهم فلأهل بيت النبوة بهم أعظم أسوة بل قد كذب على اللّه عز وعلا سبحانه وتعالى عما يصفون.
وهاهنا أمر كلي وهو أنه إذا لم يكن للمرء في عقائده وأصول تعبداته إحكام أساس وإبرام أمراس حتى يكون على ثبات من دينه ورسوخ في يقينه تجاذبته الأوهام، واختلجته الشكوك، وروعه أدنى قادح، وأفزعه كل خيال لائح فهو لايجزم بتضليل أحد من الفرق لأنه لايعلم أهو أولى أم هم في ذلك بالحق فحاله كما قال:
قعدت كلا الفرجين تحسب أنه .... مولى المخافة خلفها وأمامها
ولهذا ورد عن سيد البشر قال صلى اللّه عليه وآله وسلم: (( من أخذ دينه عن أفواه الرجال وقلدهم فيه مالت به الرجال من يمين إلى شمال وكان من دين اللّه على أعظم زوال، ومن أخذ دينه عن التفكر في آلاء اللّه والتدبر لسنتي زالت الرواسي ولم يَزُل )) . انتهى.

(1/123)


ولقد اطلعت على تعليق لبعض الواضعين في وقتنا أطنب صاحبه في النهي عن الغيبة حتى خرج به الحال إلى التأويل لفرق الضلال والتكلف للجمع بين صرائح الحق وفضائح الباطل المختلق فجرأه ذلك إلى الاعتراض على رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم فيما اتفقت عليه الأمة من ذمه للقدرية الذين تأول لهم وعلى كافة الأئمة إذ مباراتهم لهم بالسيف والسنان والقلم واللسان في جميع الأزمان لايحتاج إلى بيان، ثم إن اللّه يقول: ((فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلاَّ الضَّلاَلُ)) [يونس:32]، ((وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ)) [المؤمنون:71] ورسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم أخبر بأن أمته ستفترق إلى نيف وسبعين فرقة، كلها هالكة إلا فرقة وكم آيات تتلى وأخبار تملى.
ومن عجيب الزيغ وغريب الخذلان أنه في موضع له آخر شرع في اغتياب بعض الأئمة الذين فرض اللّه طاعتهم على الأمة، ومابلغ به ذلك إلا أن كشف اللّه تعالى قناع تقشفه حيث تنزه عن سب من سب اللّه سبحانه بإضافة القبائح إليه ثم وقع فيمن أوجب اللّه تعالى مودتهم عليه، فأما الأئمة فلم يضرهم من هو أبسط لساناً وأشد أركاناً.
وإن ينبحوا سادات آل محمد .... فهل قمر من نبحة الكلب واجم
وقد كفانا نفسه بجرأته على اللّه تعالى وخوضه فيما لايعلم، ولولا وجوب رفع ماقد يقع على الجاهل به التغرير لكان جديراً أن لايجري بالخوض في هذيانهم قلم ولا تصدير، أطنين أجنحة الذباب تضير؟ ولكن قد ابتلي من هو فوقنا بمن هو دونهم. ومن العجائب _والعجائب جمة_ ماقاله العلامة محمد بن علي الأكوع في مقدمة كتاب كشف أسرار الباطنية وأخبار القرامطة مالفظه: وأما مايروى أن أبا بكر قال: "الأئمة من قريش". وأنه حديث وخبر لايصح وإن رواه من رواه.

(1/124)


وأقول: هكذا هكذا وإلا فلا! لاهكذا يكون الرد والتكذيب والجحود لسنة رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم فبمقتضى كلامه أنه لايقبل وإن تواتر كما هو الواقع أنه متواتر لمن بحث، ثم استشهد بقول إمامهم نشوان المتخبط كالذي يتخبطه الشيطان من المس:
حصرَ الإمامةَ في قريشٍ معشر .... هم باليهود أحق بالإلحاقِ
جهلا كما حصرَ اليهودُ ضلالةً .... أمرَ النبوةِ في بني إسحاقِ
الآبيات التي أقذع فيها على أهل البيت وعلى المهاجرين والأنصار وعلى سائر علماء الأمة كالأئمة الأربعة والمسلمين العاملين بمقتضى الخبر النبوي الأئمة من قريش فلايستنكر بعد أن شبه آل رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم وعلماء الإسلام باليهود ما قيل في حقه:
نشوان شيعيٌ إذا أرضيتَهُ…وهو يهودي إذا ماغضبا
ولانبالي أن يسبنا أعداء الدين فلنا أسوة برسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم، وأقول رداً عليه:
حصرَ الإمامةَ كالنبوة معشرٌ .... دانوا بخيرة ربنا الخلاقِ
في أحمد وبنيه أربابُ الهدى .... هم صفوة الباري ذوو الميثاقِ
قالوا الأئمةَ من سلالةِ أحمدٍ .... بأدلةٍ كالشمس في الإشراقِ
هذي مقالةُ آلِ بيتِ محمدٍ .... وأئمةِ الإسلامِ ذي الإشفاقِ
وأبى النواصبُ واليهودُ ضلالةً .... ومن اقتدى بهم من المُرَّاقِ
لافي حوالي ولازعطان أو .... فلتان قول الطامع العفاقِ

(1/125)


وقد استوفيت البحث عليه وعلى القاضي الأكوع في لوامع الأنوار وفي الجامعة المهمة، ومن مناقضات نشوان قوله في أهل البيت:
وذكرت آل محمدٍ وودادِهم .... فرضٌ علينا في الكتاب مؤكدُ
وأنا المناضلُ ضِدَّكُم عن دينِكم .... والله يشهدُ والبريةُ تشهدُ
لاأستعيضُ بدينِ زيدٍ غيرَهُ .... ليس النُّحاسُ به يقاسُ العَسْجَدُ
وقوله:
سلامُ اللّه كلَّ صباحِ يومٍ .... على خيرِ البرية أجمعينا
على الغرِ الجحاجحِ من قريشٍ .... أئمتنا الذين بهم هُدينا
بني بنت الرسول إلام كل .... يظن بكم من الناس الظنونا
ومن ذلك قول نشوان في الحسين بن القاسم بن محمد بن جعفر بن الإمام القاسم بن علي العياني:
والله والله العظيم إليَّة .... يهتز عرش اللّه منها الأعظم
إني لودك ياحسين لمضمر .... في اللّه أُبديه وحينا أَكتم
إلى قوله:
ولود سائر أهل بيت محمد .... وودادهم فرض لدي ومغنم
قوم أدين بدينهم وبحكمهم .... ونصوصهم أفتى الأنام وأحكم
وأنا المحب ابن المحب وإن وشى .... واشٍ ورجم بالظنون مرجم

(1/126)


[من مناقضات القاضي الأكوع]
ومن مناقضات القاضي الأكوع قوله في هذا البحث: تجمع الأنصار في سقيفة بني ساعدة فتشاوروا فيمن يلي الأمر بعد رسول اللّه وعلى رأسهم حامل لواء المعارضة سيد الخزرج سعد بن عبادة. فقالوا: إنهم أولى. مستدلين أنهم أووا ونصروا وتبوؤا الدار وهي حجة دامغة وقولةٌ نيرة بينما أبو بكر وصحبه من قريش كعمر بن الخطاب وأبو عبيدة بن الجراح قالوا: الخلافة في قريش. محتجين "بأن العرب لاتدين لغير هذا الحي من قريش"، وهي قولة صادقة، لأن قريشاً في ذلك الحين حازت أمرين عظيمين الأول البيت الحرام المعمور في عقر دارهم مكة المكرمة منذ القدم تهوي إليهم أفئدة العرب كل العرب والناس المسلمين وتحج إليه كل عام مما جعل قريشاً تفتخر بذلك، وثاني الأمرين أن نبينا محمداً بعث منهم فأضاف إلفة إلى تلك الإلفة.
وأقول: تأمل أيها الناظر لهذه المناقضة فكيف تكون حجة الأنصار دامغة، وذلك يقتضي أن الحق لهم وحجة قريش صادقة، وهو المعنى الذي أنكره بالقرب من رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم.. الخ كلامه المتهافت المتناقض.
ثم قال: وهناك أمور أخرى ليس موضوعها هنا.
أقول: والذي يظهر أن الأمور التي طوى ذكرها هي احتجاج أمير المؤمنين عليه السلام ومنها: قول أمير المؤمنين عليه السلام: احتجوا بالشجرة وأضاعوا الثمرة. وقوله عليه السلام مخاطباً لأبي بكر:
فإن كنت بالقربى ملكت أمورهم .... فغيرك أولى بالنبي وأقربُ
وإن كنت بالشورى حججت خصيمهم .... فكيف بهذا والمشيرون غُيَّبُ

(1/127)


فهذه الحجج هي الدامغة الصادقة التي لم يستطع الأكوع أن يتكلم بها. وقال: ليس موضوعها هنا. لأنها تنقض كلامه كله، ((وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِن نُّورٍ)) [النور:41]، وإلى اللّه ترجع الأمور.
ومن استهزاء الأكوع بخيرة اللّه قوله: لافي فلان ولافي العنصر الفلاني ولامن السلالة الفلانية ولامن بيت زعطان ولامن بيت فلتان.
قلت: وجوابه على اللّه تعالى فقد قصد بذلك أهل بيت رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم وخيرته من خلقه كقوله تعالى: ((إِنَّ اللّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ {33} ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِن بَعْضٍ وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ)) [النور:33-34] ((وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاء وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ)) [القصص:68] في آيات تتلى وأخبار تملى.
وقد أهدى الأكوع نسخته هذه إليَّ قال فيها مالفظه: بسم اللّه الرحمن الرحيم للأخ العلامة مجد الدين بن محمد بن منصور المؤيدي حفظه اللّه وبارك في أيامه مع أطيب التحيات حرر بتاسع ربيع الأول سنة 1416 هـ من أخيه محمد بن علي الأكوع الحوالي.
أقول: نحن لاننكر أخوتنا للمؤمنين كسلف الأكوع الذين خرج عن منهاجهم وسلك غير أدراجهم.

(1/128)


فهذا مايجب علينا من البيان، ويلزم من الرد على حسب الإمكان، ومرجع الشأن إلى الملك الديان، فقد أعد للعباد بعد دار التكليف داراً للمعاد، ومقاماً للفصل بين أهل الرشاد منهم وأرباب الفساد، وإنما هذه الدنيا محل ابتلاء ومنزل التواء، وقد أوضح اللّه جل وعلا فيها الدليل، وأنهج لسالكها سواء السبيل، ولم يجعلها سبحانه نزلا لأوليائه ولم يرتضها منزلا لأصفيائه فترى أهل بيت النبوة صبروا على ماصبروا عليه ومضوا إلى اللّه قدماً قدماً لاتأخذهم في اللّه لومة لائم، فتلاهم أولياء اللّه الذين جاهدوا في سبيله وبذلوا أنفسهم ونفيسهم بين يدي أبناء رسوله لم يثنهم سطوة ظالم ولابطشة غاشم فهم الذين أنزلهم اللّه أدنى المنازل منهم قرباً حتى لو ضربوا بالسيوف لم يزدادوا لهم إلا حباً، فالله نسأل بحق جلاله أن يجعل أفضل صلاته وأجل بركاته على محمد وآله وأن يوفقنا وإخواننا المؤمنين إلى سلوك منهاجهم ولزوم أدراجهم، وأن يجنبنا معارج الهوى ومحاج الردى، فكم عاثر عليها مقيم ((أَفَمَن يَمْشِي مُكِبًّا عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمَّن يَمْشِي سَوِيًّا عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ)) [الملك:22]،
انتهى والحمدلله وصلى اللّه على سيدنا محمد وعلى آله الطيبين الطاهرين.
وبهذا تم مازبره المؤلف أيده اللّه تعالى وأبقاه وحفظه وكلاه وحماه ووقاه بحق جده الأواه وآله سفن النجاه آمين، اللهم آمين، وصلى اللّه على محمد وآله وسلم، والحمدلله كثيراً.تم بحمد اللّه تعالى زبر هذا المؤلَّف الجليل قبل السحر ليلة الخميس ثاني عشر شهر رجب سنة 1370 للهجرة بقلم المفتقر إلى اللّه الملك الديان علي بن يحيى شيبان.
---

(1/129)


كتاب الدليل القاطع المانع للتنازع
تأليف
الإمام الحجة مجد الدين المؤيدي أيده الله تعالى
بسم اللّه الرحمن الرحيم
الحمدلله رب العالمين القائل في كتابه المبين: ((ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ)) والصلاة والسلام على خاتم النبيين وإمام المرسلين الذي أرسله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون..
وعلى عترته أهل بيته الذين أذهب اللّه عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً، وأبانهم الرسول صلى اللّه عليه وآله وسلم بأخبار الكساء المعلومة التي روتها طوائف الأمة، وجعل مودتهم أجر رسالته، وأنزل في ذلك قرآنا يتلى فقال جل وعلا: ((قُل لَّا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى)) وخلفهم مع كتاب اللّه تعالى على أمته حيث قال: (( إني تارك فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا من بعدي أبداً كتاب اللّه وعترتي أهل بيتي )) وهو بهذا اللفظ ومافي معناه متواتر، ومروي في كتب الإسلام عن بضع وعشرين صحابياً، منهم أمير المؤمنين علي عليه السلام وأبو ذر وجابر وحذيفة وزيد بن أرقم وأبو رافع رضي اللّه عنهم، وقد أخرجه أحمد ومسلم في صحيحه وأبو داود وعبد بن حميد وغيرهم بلفظ: ((وأهل بيتي أذكركم اللّه في أهل بيتي)) ثلاثاً كما ذلك واضح لمن لم يعم الهوى والتعصب عين بصيرته، وجعلهم الأمان كما في أخبار النجوم التي منها: (( فإذا خالفتهم قبيلة اختلفوا فصاروا حزب إبليس )).

(1/130)


وقد أخرج أخبار النجوم والأمان إمام اليمن الهادي إلى الحق في الأحكام وكتاب معرفة اللّه والإمام علي بن موسى الرضا بسنده المتصل عن آبائه والإمام أبو طالب والإمام الموفق بالله والإمام المرشد بالله في الأمالي والإمام المنصور بالله في الشافي بأسانيدهم وصاحب جواهر العقدين عن سلمة بن الأكوع. وقال: خرجه مسددوابن أبي شيبة وأبو يعلى، وأخرجه المحب الطبري في ذخائر العقبى عن سلمة أيضاً، وصاحب الجواهر أيضاً عن أنس قال: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم: ((النجوم أمان لأهل السماء وأهل بيتي أمان لأهل الأرض فإذا هلك أهل بيتي جاء أهل الأرض من الآيات مايوعدون)) وقال: أخرجه ابن المظفر من حديث عبداللّه بن إبراهيم الغفاري.
وعن علي بن أبي طالب رضي اللّه عنه قال: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم: ((النجوم أمان لأهل السماء..)) بلفظ ماتقدم، وأخرجه أحمد بن حنبل في المناقب، وهو في ذخائر العقبى بلفظه. قال: وعن قتادة عن عطاء عن ابن عباس رضي اللّه عنهم قال: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم: ((النجوم أمان لأهل الأرض من الغرق وأهل بيتي أمان لأمتي من الاختلاف فإذا خالفتها قبيلة من العرب اختلفوا فصاروا حزب الشيطان)) أخرجه الحاكم في المستدرك وقال: هذا حديث صحيح الإسناد إلى غير ذلك مما لايحصى كثرة كما قال السيد العلامة الحافظ محمد بن إبراهيم الوزير رضي اللّه عنه:
وأحب آل محمد نفسي الفدا .... لهم فما أحد كآل محمد
هم باب حطة والسفينة والهدى .... فيهم وهم للظالمين بمرصد
وهم النجوم لخَيِّرٍ متعبِّدٍ .... وهمُ الرجوم لكل من لم يعبد
وهم الأمان لكل من تحت السماء .... وجزاء أحمد ودهم فتودد
والقوم والقرآن فاعرف قدرهم .... ثقلان للثقلين نص محمد
وكفى لهم شرفاً ومجداً باذخاً .... شرع الصلاة لهم بكل تشهد
ولهم فضائل لست أحصي عدها .... من رام عد الشهب لم تتعدد

(1/131)


وبعد فإنه وصلنا كتابك أيها الأخ الكريم تذكر فيه: وصول من وصل إلى بلاد آل أبي جبارة للإرشاد. فنقول: وعليكم السلام ورحمة اللّه وبركاته، وأنَّا بحمدالله وفضله يهمنا كل الاهتمام إرشاد العباد، ونشر معالم الدين في البلاد، وبذل النصيحة لكل حاضر وباد، خالية عن الهوى نقية عن الغش بعيدة عن السياسة التي هي من أصول التخريب والفساد، ويعلم اللّه تعالى أنَّا لم نأل جهداً في الإرشاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر حسب الطاقة والإمكان ولكنه قد صار الحال في هذه الأزمان كما جاء عن الرسول الأمين صلى اللّه عليه وآله وسلم في تفسير قوله تعالى: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لاَ يَضُرُّكُم مَّن ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ إِلَى اللّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ)) [المائده:105] قال صلى اللّه عليه وآله وسلم: ((إذا رأيت هوى متبعاً وشحاً مطاعاً ودنيا مؤثرة وإعجاب كل ذي رأي برأيه فعليك بخاصة نفسك)). فصبرنا منتظرين لفرج اللّه على عباده وانتظار الفرج عبادة، وهذا كإيضاح للعذر الموجب للسكوت جواباً لما أشرت إليه من أن الحجة علينا قائمة لإبلاغ ما أمر اللّه بإبلاغه.

(1/132)


نعم وقد سررنا جداً بوصول من ذكرت آملين أن يكون همهم تعليم الجاهل وإرشاد الضال ودعاء العباد إلى محاربة الإلحاد وإزالة ماعم من الفساد، وعند أن وصلتنا رسالتك والسؤال الذي وجهه إلينا بعضهم المجانب لطريق أهل العلم والاسترشاد عجبنا غاية العجب وخاب الأمر حيث انعكس العمل، فانقلب ذلك الإرشاد إلى الإستنكار والأخذ والرد في مسائل الاجتهاد التي قد اتفق علماء الإسلام قاطبة على عدم النكير فيها ولا يثير الاستنكار حولها إلامن يسعى لبذر الفرقة بين الأمة المحمدية، فأملنا فيكم ومن اطلع على رسالتنا هذه من المشائخ والأعيان والأفراد أن يثبتوا ولاينخدعوا ولايغتروا بزخارف الأقوال المجانبة لمنهج العلم وأهله ففي الخبر النبوي على صاحبه وآله أفضل الصلاة والسلام: ((من أخذ دينه عن أفواه الرجال وقلدهم فيه ذهبت به الرجال من يمين إلى شمال وكان من دين اللّه على أعظم زوال)) ولله القائل وهو الإمام الواثق بالله المطهر بن الإمام المهدي لدين اللّه محمد بن الإمام المتوكل على اللّه المطهر ابن يحيى عليهم لاسلام:
لايستزلك أقوام بأقوال .... ملفقات حريات بإبطال
لاترتضي غير آل المصطفى وزراً .... فالآل حق وغير الآل كالآل
فآية الود والتطهير أنزلتا .... فيهم كما قد رووا من غير إشكال
وهل أتى قد أتى فيهم فمالهم .... من الخلائق من ند وأشكال
وهم سفينة نوح كل من حملت .... أنجته من أزل أهواء وأهوال
والمصطفى قال: إن العلم في عقبي .... فاطلبه ثَمَّ وخل الناصب القالي
هذا وإليك الجواب على ماذكرت أنه أورد عليك أما قوله: إن الإمام زيد بن علي عليه السلام منهاجه قوي وحججه فنقول:

(1/133)


أما الإمام الأعظم زيد بن علي بن الحسين بن علي عليهم السلام ففضله وعلمه وجهاده واجتهاده معلوم للأمة المحمدية لاتناكر في ذلك، وأعظم من جد واجتهد في نشر مذهبه وانتسب إليه وأظهر الزيدية وسلك منهاجه إمام اليمن الميمون الهادي إلى الحق يحيى بن الحسين بن القاسم بن إبراهيم عليهم السلام وكلاهما من أهل بيت النبوة ومعدن الرسالة.
وأما قوله: إننا مخالفون للإمام زيد ومخالفون للرسول صلى اللّه عليه وآله وسلم..
فأما المخالفة لرسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم فنقول: سبحانك اللهم هذا بهتان عظيم، كيف وإنما يطلب كل مسلم صحيح الإسلام مايصح له عن الرسول صلى اللّه عليه وآله وسلم، ولاتجوز نسبة المخالفة المتعمدة إلى أحد من علماء الدين في مسائل الخلاف بين علماء المسلمين، ولم يسبق لأحد منهم إطلاق الخلاف عمداً لرسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم لمجرد الخلاف في المسائل الفرعية الاجتهادية، فطريقته هذه مخالفة لما عليه علماء الإسلام المعتد بهم، وقد استوفينا الكلام على مسألة الرفع والضم والجهر ببسم اللّه الرحمن الرحيم والتأذين بحي على خير العمل وغير ذلك من المسائل المهمة في رسالتنا المسماة بالمنهج الأقوم، وقد أرسلنا إليكم منه بنسخة اطلعوا عليها وتأملوه.
وأما قوله: الإمام زيد بن علي عليه السلام كان يضم ويؤمن ولايقول: حي على خير العمل. فكل هذا غير صحيح ولا أصل له فلم يثبت عنه أنه ضم وإنما توهم بعضهم من رواية: ثلاث من أخلاق الأنبياء.. الخبر. وقد تكلمت على ذلك في المنهج الأقوم، ولم ينقل عنه التأمين أصلا وهو الراوي لحي على خير العمل عن أبيه زين العابدين عليهما السلام.

(1/134)


وأما قوله: إنه لايجوز أن يُدعى أحد بلفظ: (ياسيدي) فإن أراد أنه لايجوز إطلاق لفظ السيد على أحد من الخلق فهو رد للقرآن الكريم فقد قال سبحانه وتعالى: ((وَسَيِّدًا وَحَصُورًا وَنَبِيًّا مِّنَ الصَّالِحِينَ)) ورد للسنة الشريفة حيث قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم مشيراً إلى ولده الحسن عليه السلام: ((إن ابني هذا سيد وسيصلح اللّه به بين فئتين من المسلمين)) أخرجه البخاري وغيره.
وقوله صلى اللّه عليه وآله وسلم لأمير المؤمنين علي عليه
السلام: ((أنت سيد في الدنيا وسيد في الآخرة)). أخرجه أحمد والحاكم عن ابن عباس وقال: صحيح على شرط الشيخين. وإن قال: إنها لاتجوز مع الإضافة كلفظ: سيدي وسيدنا ونحوهما. فقد قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم: ((أنا سيد ولد آدم)).
وقال صلى اللّه عليه وآله وسلم: ((الحسن والحسين سيدا شباب أهل
الجنة)). وهذا خبر متواتر مجمع على صحته وإضافته إلى ولد آدم وإلى شباب أهل الجنة أبلغ من إضافة السيد إلى نفس المتكلم أو إليه مع غيره فجوازه بالأولى، وقد قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم: ((قوموا إلى سيدكم )) مريداً به سعد بن معاذ رضي اللّه عنه وهو خبر صحيح رواه أهل السنن كالبخاري وأهل السير، وفي هذا الحديث دلالة على بطلان قوله: إنه لايجوز القيام للعالم والوافدين. وقد نص العلماء على أنه يستحب القيام للقادم من أهل الفضل ولم يصح النهي، ولكن الفتنة كل الفتنة أن يتصدر لتعريف السنة من ليس له في العلم قدم.
هذا وقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم: ((نحن ولد عبدالمطلب سادة أهل الجنة)) الخبر أخرجه الإمام المنصور بالله عبداللّه بن حمزة عليهما السلام بسنده إلى أنس وأخرجه الحاكم عن أنس وقال: صحيح على شرط مسلم، وأخرجه ابن ماجه وابن السري والطبري.

(1/135)


وقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم: ((سيد الشهداء عند اللّه يوم القيامة حمزة بن عبدالمطلب)) أخرجه الحاكم عن جابر بن عبداللّه رضي اللّه عنهما والطبراني عن علي عليه السلام في أخبار كثيرة، وهذه أيضاً أبلغ وأعظم من الإضافة إلى المتكلم.
وأما قوله: إن رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم نهى حيث دعوه: ياسيدنا. فكان عليه أن يوضح طريق روايته ورجال سنده وتعديلهم ومايلزم إيضاحه من أوجه الاستدلال المتعلقة بسنده ومتنه ومعناه وهل هو عام أو خاص أو مطلق أو مقيد أو مجمل أو مبين أو ناسخ أو منسوخ وهل النهي للتحريم أو للتنزيه، ولكن هذا هو شأن أرباب النظر والاجتهاد الذين هم أهل للإصدار والإيراد أما الذين همهم الإيهام والقعقعة بين العوام فإنهم يذرون الروايات ذرواً ويهذون المقالات هذّاً فيركبون متن عمياء ويخبطون خبط عشواء، ولم ينفرد أهل اليمن بتخصيص الهاشميين بلفظ السيادة فسبيلهم سبيل غيرهم من الشعوب الإسلامية في تمييزهم بوصف خاص كالحجاز ومصر والعراق والسودان والمغرب وغيرهم.
وأما قوله: لو أن الرسول صلى اللّه عليه وآله وسلم أوصى بالخلافة لعلي عليه السلام وخالفوه لكفروا.
فالجواب: أن كلام علماء الإسلام في هذه المسألة معلوم، وهذا إلزام باطل ليس عليه أثارة من علم، وقد علم الناس كافة مذهب أهل بيت محمد عليه وعليهم أفضل الصلوات والتسليم ولم يقولوا إنهم كفروا الصحابة ولاغيرهم بالخلاف في الخلافة وإثارة مثل هذا ونشره ليس من الإرشاد في شيء بل هو من قصد التلبيس والإفساد وبذر الفرقة بين طوائف العباد، فإنا لله وإنا إليه راجعون.
وأما قوله: إنه اطلع على كلمة في فضل الإمام الهادي عليه السلام في شرح الزلف فقد أجبنا عليه برسالة مستقلة (الماحي للريب في الإيمان بالغيب) فينبغي أن تطلعوا عليها وتتأملوا فيها.

(1/136)


وأما قوله في شأن شرح الزلف: أنه يريد صحة ماقررناه فيها، فنحن بحمدالله قد أوضحنا فيها الأدلة من الآيات القرآنية والسنة النبوية بطرقها الصحيحة بما إن تأمله ذووا العلم والإنصاف لم يسعهم إلا التسليم والاعتراف، ونحن فاتحون صدورنا لحل ما أشكل على كل مطلع فيها على طريق أهل العلم المجانبين للهوى والاعتساف.
وأما قوله: في حديث ((من كنت مولاه فعلي مولاه..)) الخ فالخبر معلوم للأمة ومعانيه وأسبابه واضحة وقد كرره صلى اللّه عليه وآله وسلم في مقامات عديدة ومواقف كثيرة ولم ينقل ناقل من العلماء ولاغيرهم أن سببه قولهم: إنه تركه بين النساء والصبيان وما أشبه ذلك، فهذا جهل عظيم وخبط جسيم وقد أوضحنا طرقه ورواته وماقاله علماء الأمة فيه في شرح الزلف صفح (226) ص325 الطبعة الثانية، ص432 الطبعة الثالثة، وقد أوردنا في الكتاب المذكور الآيات القرآنية والسنة النبوية كآية التطهير وبيان نزولها في أهل البيت بأخبار الكساء مع ذكر رواتها ومخرجيها من كتب الإسلام وآية المودة وآية الولاية وغير ذلك، وذلك في آخر فصل منها صفح (216) الطبعة الأولى، ص313 الطبعة الثانية، ص419 الطبعة الثالثة، فتأملوه ففيه كفاية لمن ألقى السمع وهو شهيد وله مع ذلك توفيق من اللّه وتسديد، وحسبنا اللّه ونعم الوكيل فهذا ماتيسر إيراده وقد أعرضنا عن الخوض في بعض ماذكرتم مما لاثمرة فيه ولاطائل، ونسأل اللّه للجميع التوفيق والهداية إلى أقوم طريق وأن يجمع الكلمة على مافيه صلاح الإسلام والمسلمين. تم بحمدالله ومنِّه نقل هذا لمؤلفه غرة شهر الحجة الحرام سنة (1395 هجرية) على صاحبها وآله أفضل الصلوات والسلام، كتبه الفقير إلى اللّه أحمد بن يحيى بن أحمد بن عبدالكريم حجر وفقه اللّه لصالح الأعمال.

(1/137)


كتاب الماحي للريب في الإيمان بالغيب
تأليف
الإمام الحجة مجد الدين المؤيدي أيده الله تعالى
بسم اللّه الرحمن الرحيم
الحمدلله رب العالمين ((عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا (26) إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِن رَّسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا)) [الجن:26-27] والصلاة والسلام على من أرسله اللّه رحمة للعالمين المنزل عليه من الذكر المبين ((هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ {2} الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ)) [البقره:2-3] وعلى آله الطاهرين. وبعد:
فإنه لما كان الاطلاع على السؤال الذي لم يبين صاحبُه فيه اسمه ولم يوضح مُورده رسمه بل لم يذكر فيه تحية السلام التي هي سنة أهل الإسلام وإنَّا بحمدالله وفضله لنرغب في البحث والمذاكرة السالكة منهج أهل العلم في السؤال والاسترشاد وطلب الحق مع استعمال آداب البحث المعهودة بين السلف والخلف.
فأقول وبالله تعالى التوفيق: أما قوله: أولا: من راوي الحديث يعني الذي رويناه في شرح الزلف في صفح (63) ولفظه: وأشار الرسول صلى اللّه عليه وآله وسلم بيده إلى اليمن.. الخبر.

(1/138)


فالجواب والله الموفق إلى منهج الصواب أن الحديث هذا رواه كثير من أعلام أهل بيت محمد صلى اللّه عليه وآله وسلم وأوليائهم رضوان اللّه عليهم كما يعرف ذلك من له اطلاع على علومهم ومؤلفاتهم، وممن رواه القاضي العلامة تقي الدين عبداللّه بن محمد بن أبي النجم، والإمام المنصور بالله الحسن بن محمد بدر الدين، والأمير الناصر حافظ العترة الحسين بن بدر الدين، والإمام المنصور بالله القاسم بن محمد وغيرهم، وقد رويته بعد ثبوت صحته لدي، وقد قام البرهان على قبول خبر العدل الحافظ كما هو معلوم في الأصول، ولما لم يكن القصد لرواية هذا الخبر الشريف إلزام الخصم، ولم يكن المقام مقام خلاف ومنازعة لم أخرجه ولم أذكر رواته كما خرجت الأخبار المحتج بها في ذلك الكتاب وأوضحت رواتها والكتب المروية فيها كأخبار الكساء والمنزلة والثقلين وغيرها مما القصد به إقامة الحجة.
أما هذا الخبر الشريف ونحوه مما ليس الغرض فيه ذلك فقد اكتفيت فيه بالإرسال كما هو شأن علماء الإسلام إذ لايوجد بينهم خلاف في ذلك وإنما الخلاف في وجوب العمل بالمرسل، أما الرواية فلاكلام في جوازها ولايدل على منعها دليل لامن العقل ولامن الشرع، والمرسلات مشحونة بها كتب المسلمين لا يعلم أنه يوجد كتاب من كتبهم خالياً من ذلك، والمعلقات والمنقطعات مملوء بها الموطأ والبخاري ومسلم وسائر كتب علماء المسلمين ولم يسبق إلى الاستنكار على ذلك والاعتراض إلا أن يكون هذا من العلم الجديد فلاكلام، وقد أوضحت الحجة على وجوب قبول المرسل وأوردت كلام السيد العلامة محمد بن إسماعيل الأمير عن الحافظ محمد بن إبراهيم الوزير عن العلامة محمد بن جرير الطبري في إجماع السلف على قبوله وذلك في صفح (215) من شرح الزلف الطبعة الأولى، وفي ص 312 في الطبعة الثانية، وفي ص418 الطبة الثالثة.
وأما قوله: ماهو سند الحديث.

(1/139)


فالجواب: أنه قد أغنى عن هذا السؤال السؤال الأول وأغنى جوابه عن جوابه، فلامعنى للتكرير فسند الحديث طريقه.
وأماقوله: في أي الكتب المشهورة.
فالجواب: أنه مروي في كتب كثيرة من كتب أهل البيت وأوليائهم رضي اللّه عنهم منها الأسانيد اليحيوية وأنوار اليقين وينابيع النصيحة والأساس وغيرها، وهذا الخبر النبوي قد رواه الأئمة ولم يعارض أي دليل لامن الكتاب ولامن السنة وليس فيه إلا البشارة بالإمام المجدد للدين، المحيي لكتاب اللّه وسنة جده الرسول الأمين صلى اللّه عليه وعلى أهله الطاهرين، المطهر لليمن الميمون من أرجاس الملحدين والمفسدين أمير المؤمنين الهادي إلى الحق المبين يحيى بن الحسين بن القاسم بن إبراهيم عليهم أزكى التحيات والتسليم، فما هو موجب الإستفسار والاستنكار؟ ولعل السائل يريد بالكتب المشهورة غير كتب أهل البيت وأوليائهم رضي اللّه عنهم!
فالجواب: أنه لم يرد دليل من كتاب اللّه تعالى ولامن سنة رسوله صلى اللّه عليه وآله وسلم ولا إجماع من المسلمين أنه لايقبل إلاَّ مارواه فلان وفلان أو طائفة مخصوصة ولم يدع أحد من أهل الكتب أنه أحاط بسنة رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم، وقد صرح كبار المحدثين كالبخاري ومسلم وغيرهما بما معناه أن الذي تركوه من الحديث الصحيح أكثر من الذي رووه، وقد استوفيت هذا في المنهج الأقوم في صفحة (18)، فليتأمل..
وأما قوله: مارأي المؤلف في الذي يدعي علم الغيب إلى يوم القيامة أو يدعي ذلك للغير؟

(1/140)


فالجواب: أما دعوى علم الغيب من غير طريق الوحي على رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم فدعوى باطلة وصاحبها مفتر كذاب وراد لما أنزل اللّه تعالى وأما التصديق بما أنزل اللّه تعالى على رسوله صلى اللّه عليه وآله وسلم من علم الغيوب الماضية والمستقبلة فهو صريح الإيمان ومن كذب بشيء منه فهو كافر بالله تعالى جاحد راد لما علم من الدين ضرورة. وقد قال تعالى: ((ذَلِكَ مِنْ أَنبَاء الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ)) [يوسف:102] وقد أخبر اللّه تعالى من علم الغيوب بمالايحصى، من ذلك قوله عز وجل: ((وَهُم مِّن بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ {3} فِي بِضْعِ سِنِينَ)) [الروم:2-3] وقوله: ((لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ)) [الفتح:28] وقوله: ((سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ)) [القمر:45] وفي سنة رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم قوله لعمار رضي اللّه عنه: ((تقتله الفئة الباغية يدعوهم إلى الجنة (وفي رواية للبخاري: يدعوهم إلى اللّه) ويدعونه إلى النار)) الخبر المتواتر المجمع على صحته.

(1/141)


وقوله صلى اللّه عليه وآله وسلم لأمير المؤمنين عليه السلام: ((ستقاتل الناكثين والقاسطين والمارقين)). وقوله صلى اللّه عليه وآله وسلم للزبير بن العوام مشيراً إلى علي عليه السلام: ((لتقاتلنه وأنت له ظالم)). وقوله صلى اللّه عليه وآله وسلم لأمير المؤمنين: أنه يضربه أشقى الآخرين. وغير ذلك مما لايحاط به كثرة، ويظهر أن السائل توهم أنه يستفاد من قوله علم مايكون علم الغيب على العموم حقيقة وهو غير صحيح، فإن لفظ العام قد لايراد به جميع مايصلح له فلايكون شاملا، وقد قسم أهل العربية العموم إلى حقيقي وعرفي. وقد قال تعالى: ((وَأُوتِيَتْ مِن كُلِّ شَيْءٍ)) ((تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ)) ولم يريد بذلك العموم حقيقة لقيام القرينة العقلية وهذا كذلك المراد مايتعلق بالأحداث والفتن ونحوها، ومايحتاج إلى العلم به مما اقتضت الحكمة اطلاع رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم، وقد ورد في السنة النبوية مطابقاً للفظ الذي رويناه قال حذيفة رضي اللّه عنه أخبرني رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم بما هو كائن إلى أن تقوم الساعة. أخرجه مسلم وقال حذيفة أيضاً: قام فينا رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم مقاماً فما ترك شيئاً يكون من مقامه ذلك إلا حدثناه، حفظه من حفظه ونسيه من نسيه. أخرجه البخاري ومسلم وأبو داود، وقال عمرو بن أخطب الأنصاري: صلى بنا رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم يوماً الفجر وصعد المنبر فخطبنا حتى حضرت الظهر فنزل فصلى فخطبنا حتى حضرت العصر، ثم نزل فصلى العصر، ثم صعد المنبر فخطبنا حتى غربت الشمس، فأخبرنا بماهو كائن إلى يوم القيامة فأعلمنا أحفظنا. أخرجه مسلم، فماترى أيها السائل فيمن كذب بما أوحى اللّه تعالى به إلى نبيه صلى اللّه عليه وآله وسلم: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا (70) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ

(1/142)


اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا)) [الأحزاب:70-71] وحسبنا اللّه ونعم الوكيل ونعم المولى ونعم النصير.
تم بحمد اللّه ومنه نقل هذا لمؤلفه حفظه اللّه وأبقاه مولانا وشيخنا مفتي اليمن الولي بن الولي مجد الدين بن محمد بن منصور المؤيدي أيده اللّه تعالى آمين، بقلم تلميذه الفقير إلى اللّه أحمد بن يحيى بن أحمد بن عبدالكريم حجر وفقه اللّه.

(1/143)


كتاب إيضاح الأمر في علم الجفر
تأليف
الإمام الحجة مجد الدين المؤيدي أيده الله تعالى
لفظ السؤال:
بسم اللّه الرحمن الرحيم
السيد العلامة مجد الدين المؤيدي حفظه اللّه السلام عليكم ورحمة اللّه وبركاته وبعد:
فنرجو الفتوى عن المسائل الآتية:
أولا: ماهو علم الجفر، ولماذا سمي بذلك، وهل يتمكن صاحبه من معرفة كل غيب في المستقبل، وهل بقي منه شيء؟
ثانياً: هل يليق لمسلم يفسق مسلماً خالفه في فرع من فروع الدين؟
هل تصح إمامة المسلم المتبع للمذهب الزيدي للمسلم المتبع لأي مذهب آخر مثل الشافعي والحنفي والمالكي؟
وهل تصح إمامة المسلم من المذاهب الأربعة للمسلم من المذهب الزيدي؟
ولفظ السؤال هذا للأستاذ: عبدالمجيد الزنداني.
الجواب:
بسم اللّه الرحمن الرحيم
الجواب والله الموفق والهادي إلى منهج الصواب: أن علم الجفر هو: علم أوحاه اللّه تعالى إلى رسوله صلى اللّه عليه وآله وسلم بما يكون من المغيبات كما قال تعالى: ((ذَلِكَ مِنْ أَنبَاء الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ)) [يوسف:103] وقد اختص به أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضوان اللّه عليه، كما اختص حذيفة بن اليمان رضي اللّه عنه بعلم المنافقين كما هو معلوم، ومازال يتناقل عند أهل البيت عليهم السلام حتى وصل إلى الإمام الهادي إلى الحق يحيى بن الحسين رضي اللّه عنهما.
ولما كان يحتاج إلى قوة ملكة لفهم معانيه وكانت تلك الملكة لبعض الأفراد قيل: اختص به. كما يقال في سائر العلوم، اختص فلان بعلم النحو مثلا أو علم الفقه أو نحوه مما يكون له فيه ملكة زائدة وهي عبارة متداولة بين أهل العلم وغيرهم. ولهذا قال العلامة محدث اليمن إبراهيم بن محمد الوزير في الإمام الهادي إلى الحق رضي اللّه عنه:
من خُصَّ بالجفرِ من أبناءِ فاطمةٍ وذي الفقار ومَنْ أروى ظَمى الفقرِ
وقد ذكر علم الجفر كثير من علماء المسلمين السلف والخلف وصححوا وجوده.

(1/144)


قال السيد العلامة البدر محمد بن إسماعيل الأمير في شرح التحفة في سياق إخبار أمير المؤمنين علي عليه السلام بالمغيبات مالفظه: ومعلوم أنها لاتكون إلا بتوقيف. حتى قال: إن النفي في أنه ماخصه رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم بشيء عائد إلى أخبار الأحكام والشرائع التي يبلغها رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم إلى الناس على السوية، ويأمر أن يبلغها الشاهد الغايب فهذه هي التي نفاها الوصي عليه السلام. وأما المغيبات وأخبار الملاحم فلامانع من أن يخص بشيء منها دون غيره إكراماً من اللّه سبحانه وتعالى ورسوله صلى اللّه عليه وآله وسلم ولما عَلِمَه اللّه ورسوله من امتحانه بقتال الثلاث الفرق، وأنه محتاج إلى علم حالها وصفاتها، ولاغرو أن يخص بذلك وقد خص رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم حذيفة بن اليمان وغيره بأعلام كثيرة مما عَلِمَ به لكن لمَّا خصه اللّه بالأُذن الواعية لم ينس شيئاً مما سمعه. وقد ثبت عن الوصي أخبار كثيرة من الملاحم وعن أمراء بأعيانهم كإخباره بعمر بن عبدالعزيز رضي اللّه عنه فيما أخرجه عبداللّه بن أحمد بن حنبل في الزهد إلى قوله: وإخباره بالحجاج إلى قوله: وفي الجامع الكبير وسائر مؤلفات الناس كثير مما أخبر به من الملاحم واشتهر عنه الجفر في المغيبات حتى استعمله الشعراء كما قال أبو العلاء المعري:
لقد عجبوا لأهل البيت لما .... أتاهم علمهم في مَسْك جفرِ
إلى آخر كلامه وهو بحث مهم مفيد ..
وأما لماذا سمي بذلك؟
فلأنه كتب في جلد جفر كما ذكر ذلك أبو العلاء في شعره وابن قتيبة في كتاب أدب الكاتب وغيرهما.

(1/145)


وأما قولك: وهل يتمكن حامله من معرفة كل غيب في المستقبل؟ فالجواب: سبحان اللّه لايعلم كل ذلك إلا اللّه سبحانه، وإنما يتمكن من معرفة ماذكر فيه من العلم لاغير، فالعموم الحقيقي غير مقصود وإن وقع في ظاهر عبارة، فالواجب حملها على مايجوز ويمكن عقلا وشرعاً، وقد وردت عمومات كثيرة في كتاب اللّه تعالى وسنة رسوله صلى اللّه عليه وآله وسلم ولايراد بها العموم الحقيقي كما قال تعالى: ((تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ)) [الأحقاف:25] ((وَأُوتِيَتْ مِن كُلِّ شَيْءٍ)) [النمل:23] ((خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ)) [الأنعام:102] وقد روي في الصحاح أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم خطب خطبة أخبرهم فيها بماهو كائن إلى يوم القيامة. قال حذيفة رضي اللّه عنه: أخبرني رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم بماهو كائن إلى أن تقوم الساعة. أخرجه مسلم، وقال حذيفة أيضاً: قام فينا رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم مقاماً فماترك شيئاً يكون من مقامه ذلك إلا حدثنا حفظه من حفظه ونسيه من نسيه. أخرجه البخاري ومسلم وأبو داود. وقال عمرو بن أخطب الأنصاري: صلى بنا رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم الفجر وصعد المنبر فخطبنا حتى حضرت الظهر فنزل فصلى، ثم صعد المنبر فخطبنا حتى حضرت العصر ثم نزل فصلى، ثم صعد المنبر فخطبنا حتى غربت الشمس، فأخبر بما هو كائن إلى يوم القيامة فأعلمنا أحفظنا. أخرجه مسلم، وهذا كثير لايجهله أحد من أولي العلم.
وأما قولك: وهل بقي منه شيء؟
فالجواب: العلم لله سبحانه، وأمامايدعيه المنجمون والكهنة فليس منه في شيء وإنما هم مفترون دجالون، وقد ورد فيمن صدقهم فيما قالوه ماورد، ولايعلم الغيب إلا اللّه تعالى كما قال تعالى: ((عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا {26} إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِن رَّسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا)) [الجن:26].

(1/146)


وأما قولك: هل يليق بمسلم أن يفسق مسلماً خالفه في فرع من فروع الدين.
فالجواب وبالله التوفيق: أنه لايجوز ولايحل التفسيق والتكفير إلا ببرهان قاطع، وقد قال الرسول صلى اللّه عليه وآله وسلم: ((سباب المسلم فُسُوق وقتاله كفر)) أخرجه الإمام الناصر الأطروش والبخاري وغيرهما.
وأما قولك: هل تصح إمامة المسلم المتبع للمذهب الزيدي.. الخ؟
فالجواب والله الموفق: أنه لايجوز تفريق جماعة المسلمين المؤمنين، وأن الواجب الألفة وإصلاح ذات البين بين المؤمنين كما قال تعالى: ((إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ)) [الحجرات:10] ((اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا)) [الأحزاب:70] والراجح أنه ينبغي للإمام أن يتجنب ماليس مفسداً تركه ولايرى وجوبه والمؤتم يراه مفسداً قصداً للألفة واجتماع الكلمة، وقد قال الرسول صلى اللّه عليه وآله وسلم: ((لو استقبلت من أمري ما استدبرت لما سقت الهدي)) أو كما قال. والذي فعله هو الحق والصواب، ولكن لاستطابة نفوس أصحابه لمَّا شق عليهم، وقد قررت البحث في هذا في المنهج الأقوم جمع اللّه تعالى شمل المؤمنين، وأصلح ذات بينهم، ووفقهم لرضاه وتقواه. حرر نقله شهر الحجة الحرام سنة (1395 هجرية) على صاحبها وآله أفضل الصلوات والسلام كتب الفقير إلى اللّه تعالى أحمد بن يحيى بن أحمد بن عبدالكريم حجر، وفقه اللّه لصالح الأعمال.

(1/147)


كتاب فصل الخصام في مسألة الإحرام
تأليف
الإمام الحجة مجد الدين المؤيدي أيده الله تعالى
بسم اللّه الرحمن الرحيم
الحمد لله الكبير المتعال، ذي العزة والجلال، المحمود على كل حال، المسئول للتسديد في الأقوال والأفعال، المستعان به في جميع الأعمال، المستعاذ به من الزيغ والخذلان والتضليل والإضلال، والصلاة والسلام على من ختمت به النبوة والإرسال، الداعي إلى سبيل ربه بالحكمة والموعظة الحسنة كما أمره ذو الجلال، وعلى آله الذين أوجب مودتهم في الذكر المبين والتمسك بهم كما في أخبار السفينة والنجوم والثقلين، وحرم عليهم الزكاة، وأمر بالصلاة عليهم في الصلاة، كما في أخبار التعليم والتلقين، وبعد..

(1/148)


فقد كان الإطلاع على رسالة مشتملة على نسبة أقوال هي خلاف الواقع متضمنة للفساد في الاحتجاج، وماكنا نقدر أن تصدر ممن له في العلم قدم راسخ ومن التقوى ورع حاجز، أو ينقاد للذي لفقها له وحمله على نشرها لما هو عليه من الغرور، مع أن المسألة فقهية فرعية لا تستوجب التطويل ولاكثرة القال والقيل، ولو أبدى فيها رأيه بدون تعرض للأعراض ونسبة أقوال لا أصل لها لما كان عليه ملام، وإن كان قد أنكر ذلك وقال: إن الاجتهاد لايثبت بالرأي، ولولا وجوب البيان ورفع التغرير لأعرضنا عن الجواب، وقد كنت توقفت عن الإجابة حتى يكون الإعذار لتأكيد الحجة وكراهة الجدال المورث للفرقة، فتوجه إليه السيد العلامة الولي إبراهيم بن علي الشهاري حفظه اللّه تعالى لقصد النصح بعد أن تألم من هذه الرسالة هو وغيره من العلماء الأخيار حتى الذين جرى بيننا وبينهم الخلاف في هذه المسألة، ولكنه خلاف على الطريقة المألوفة بين العلماء المنصفين، فوصل إليه وأبلغ المجهود في النصح فأظهر التأسف والاستغفار، فأخبره أنه يلزم البيان فأمره بكتابة ذلك ثم بعد ذلك أوصل إليه ورقة فيها بيان الرجوع عن تلك الرسالة فوافق على ذلك، ثم أضرب عما كتب، وبعد ذلك أرسل رسالة فيها تقرير للأولى، وأنه أجاب بما اقتضاه نظره، وأنه أبدى رأيه وأنه قول جماعة من العلماء المتقدمين والمتأخرين وعليه العمل من بعض العلماء الآن، قال: وقد وقع في بعض ألفاظ الجواب عبارات توهم بعض الإخوان العلماء أن ذلك تعريض بمن يلتزم خلاف هذا، وذكر عدم الجواز.. الخ.
ولم يظهر فيه أي رجوع، وكيف يقول عبارات توهم إلى آخره، وهي تصريحات بنسبة أقوال إلى القائلين، لم يقولوا بها كما يراها المطلع ولم ننكر عليه ما نسبه إلى نفسه أو إلى بعض العلماء وأشف مافيها أنه قال: لازلت ولن أزال إن شاء اللّه تعالى مقتدياً بآل رسول اللّه مقتفياً آثارهم متبعاً آراءهم لا أعدل بهم سواهم وسأموت على ذلك إن شاء اللّه.

(1/149)


ونقول: إنه لم يؤلمنا ماوقع إلا أنك من أهل هذا المذهب، فما عدا مما بدا؟
ثم قال: فإن كان قد وقع مني خطيئة في هذا أو غيره فأنا أستغفر اللّه العظيم التواب الرحيم وأتوب إليه من كل ذنب أذنبته أو سيئة اقترفتها لأي أخ مسلم صغير أو كبير، أما المسألة فللناظر نظره ولا اعتراض على من اتبع ما ظهر له ترجيحه أو قلد من اختار تقليده من العلماء الأعلام، فهذا ما أدين الله به وأعتقده إلى آخره.
وهذا كلام سليم وقول قويم، إلا أنه لم يصرح فيه بالرجوع عما فيها من الأقوال المخالفة للواقع والرواية عن القائلين لما لم يقولوه فلزم البيان للحق، أما هو فإن كان في علم اللّه تعالى أنه قد غُلب على أمره أو عنده أنه قد أدى ماعليه وأبلغ جهده فلايكلف اللّه نفساً إلا وسعها والحكم لله العلي الكبير، ووجب أن أتكلم لتحقيق المسألة وإن لم تكن هي المراد لما في ذلك من الفائدة المقصودة والثمرة المنشودة، ولأنه قد سألني بعض العلماء العاملين
فأقول وبالله التوفيق إلى أقوم طريق:

(1/150)


الأصل في هذا النزاع أنها صدرت منا الفتوى على مقتضى مادلت عليه الأدلة المعلومة، وجرى عليه عمل السلف والخلف أن الحاج والمعتمر متى وصل إلى أحد المواقيت الشرعية التي وقتها رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم لمن حج أو اعتمر أحرم منه ولايتجاوزه إلا وقد أحرم، وفي هذه المدة اليسيرة الأخيرة لما كان أهل اليمن يتوجهون للحج في وقت متسع خوفاً من إغلاق الحدود رأى البعض منهم مع تيسر المواصلات بالسيارات أن يقدم الزيارة ويتجاوز الميقات الذي وقته رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم بدون إحرام اعتماداً من البعض على قوله في الأزهار: إلى الحرم. ومن البعض على أنه لم يقصد الحج إلا بعد الزيارة، ويقول: إنه لم يقصد بسيره هذا الدخول إلى الحرم أو الحج وأنه لايريد الإحرام الآن. فأفتينا من سألنا عن قولنا في ذلك: إنه لا يجوز لهم مجاوزة الميقات الشرعي الذي وقته لهم رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم ووصلوا إليه أولاً مهما كانوا حجاجاً أو معتمرين لأنهم في تلك الحال ممن أراد الحج كما هو في بعض الألفاظ النبوية، وهم في حال سيرهم للزيارة قد جاوزوا الميقات الذي شرع لهم الإحرام منه مريدين للحج منه فلم ينقطع سيرهم للحج وإرادتهم له التي هي في الخبر مصرحاً بها ممن أراد الحج.. الخ. بقصدهم الزيارة ومهما كانوا في ذلك السفر الذي سافروا للحج فهو يطلق عليهم حجاج قطعاً لغة وعرفاً وشرعاً، ولايخرجهم القصد للزيارة وقد وقت رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم ذلك الميقات الذي وصلوا إليه لمن حج أو اعتمر، وليس المراد بقوله صلى اللّه عليه وآله وسلم: ((لمن حج أو اعتمر..)) من فعلهما قطعاً، وإنما هو من أرادهما ماشياً إليهما مزاولاً مقدمات أعمالهما كما في قوله تعالى: ((فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ)) [النحل:98] و ((إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ..)) [المائده:6] أي أردت القراءة وأردتم

(1/151)


القيام، فللإرادة مع التوجه للفعل تأثير قطعاً
ولا المراد بقوله: ((لمن حج أو اعتمر)) لمن أراد الإحرام، لأن ذلك ليس معناه لا لغة ولاشرعاً، وليس الإحرام إلا جزءاً من أجزاء الحج، والأخبار لمن حج أو أراد الحج، ويلزم على القول هذا أنَّ مَنْ وصل الميقات، وهو يريد الحج أو العمرة إلا أنه لايريد الإحرام من الميقات وإنما يريد الإحرام بعد دخول مكة ألَّا يلزمه الإحرام لأنه ماقد أراد الإحرام وليس ميقاتاً إلا لمن أراد الإحرام، وهذا خلاف المفهوم المعلوم عند الأمة، وخلاف مارواه الأثبات من الإجماع على أنه لايجوز لمن أراد الحج أو العمرة مجاوزة الميقات الذي يصله إلا بإحرام، وأيضاً يلزم ألا يكون للتمتع ثمرة أصلا، لأنه على هذا القول لايحتاج إلى الإحرام من الميقات بل يكفيه ألا يريد الإحرام منه، بل يريد تأخيره إلى يوم عرفه مثلا ويبقى في مكة متمتعاً بدون إحرام إلى وقت إرادته الإحرام، والمعلوم عند الأمة أنه لايجوز لمن وصل أي المواقيت وهو حاج أو معتمر أي مريد لهما أن يتجاوزه داخلا إلا بإحرام، وهذا هو المفهوم من التوقيت لامعنى له إلا ذلك، وإلا كان الميقات وغيره على سواء متى أراد الإحرام أحرم من أي مكان فكأنه قال: من أراد أن يحرم من الميقات فليحرم منه، وأيضاً لامعنى على هذا أن يكون لأهل كل جهة ميقات بل يكفي أن يقول هذه المواقيت لكل من أراد الإحرام من أي جهة فيصح للمدني أن يدخل من ذي الحليفة مريداً للحج ولايحرم إلا من وادي السيل مثلاً، لأنه لايريد الإحرام إلا من هناك، وكذا أهل كل ميقات يتجاوزون مواقيتهم مريدين للحج ويؤخرون الإحرام إلى ميقات آخر، لأن ميقاتهم ليس ميقاتاً إلا لمن أراد الإحرام منه، وليس كذلك من أراد بسفره أو مشيه الحج لأنه كما سبق يطلق عليه اسم الحاج وأنه حج وقد دل عليه قوله: ((لمن حج)) إذ ليس ا لمراد من فعل الحج ضرورة بخلاف الإحرام فلم يطلق عليه الشرع أنه أحرم ولا أنه محرم إلا بعد فعله،

(1/152)


وأما الحج فقد أطلقه عليه قبل فعله ضرورة فتدبر
ولا يقال: إنه بدخوله الميقات ومجاوزته له غير قاصد بذلك الدخول والمجاوزة الحج.
لأنا نقول: قد وقت الرسول صلى اللّه عليه وآله وسلم هذا الميقات الذي وصلت إليه فمتى وصلته حاجاً فلايجوز لك مجاوزته وتعديه بغير إحرام، لأن هذا معنى جعله لك ميقاتاً متى حججت لامعنى له غيره، وأنت في هذه الحال ممن حج قطعاً، إذ قد علم أنه ليس المراد بمن حج من أكمل الحج بل من فعل مقدماته مع أنك بقصدك المدينة المطهرة وسيرك إليها لم ينقطع سيرك للحج في تلك الحال، لأنك تريد الحج الآن من هناك فسيرك هذا هو للحج والزيارة، وإلا لزم أن من مشى لأي حاجة من الحاجات غير المشي للحج بعد دخول المواقيت أو قبل أن ينقطع سيره للحج في تلك الحال كمن يتوجه إلى مطعم أو محل مبيت أو لقضاء الحاجة لأن ذلك السير ليس إلى الحج أو الحرم.
وعلى هذا فلايصح حج الأجير على المذهب لانقطاع سيره، ولايكون للحاج في ذلك أجر الحاج لخروجه في تلك الحال عن اسم الحاج، وأيضاً فلايمكن مجاوزة الميقات إلى الحرم أو إلى الحج لأنه لابد من اشتغاله بغير المشي إلى الحرم والحج، فلايلزم الإحرام إلا من لايعرج على أي حاجة غير المشي المقصود به الحرم أو الحج، وهذا محال. لايقال: إن المشي لتلك الحاجات يسير بخلاف السير إلى المدينة فكثير. لأنا نقول: ليس ثمة دليل قط على الفرق بين الكثير والقليل مهما لم يخرجه ذلك عن اسم الحاج واسم من حج

(1/153)


لايقال: فيلزم أن من وصل الميقات أول السنة وهو مريد للحج آخرها أو بعد أن يصل إلى الهند أو مصر أو لندن أنه يجب عليه أن يحرم، لأنا نقول: من كان كذلك لايقال له حاج ولا إنه سائر للحج ولامسافر له، ولايلزم الإحرام إلا من يصح إطلاق اسم الحاج عليه، ويصح أن يقال: إنه حج. لأن الشرع جعل التوقيت لمن حج لا لمن كان كذلك فلايطلق عليه أنه حج لالغة ولاعرفاً ولاشرعاً، فليس في سفر الحج ولاهو بصدد الحج، ولو سماه أحد حاجاً لعد ساخراً مستهزءاً، فيا سبحان اللّه أين هذا من ذاك؟ ولقد أطنبت في ذلك لقصد الإفادة بتقرير المسألة وإيضاح ماعندي في ذلك، فمن كان قابلاً فأقل من هذا يكفيه ومن لايقبل فلامعنى لمعاناته
ولم أقصد كما علم اللّه تعالى الإنكار على من تقرر عنده من أهل النظر والترجيح خلاف هذا وأقول كما قال اللّه تعالى: ((فَبَشِّرْ عِبَادِ (17) الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ)) [الزمر:17-18] وماكان يقدر أن يحدث في هذا خلاف لما عليه الأمة من أن الحاج متى وصل الميقات لم يتجاوزه إلا بإحرام، وحين حدث الخلاف لم تزل المراجعة والمذاكرة بيننا وبين العلماء الأعلام على الطريقة المألوفة بين العلماء في مسائل الخلاف بدون مجافاة ولادعاوى باطلة، حتى إن بعض الأعلام من الذين لم يوافقوا في هذه المسألة يحكي للناس ما أفتينا به ويقول: هو الأحوط والأولى. في كلام فيه الإنصاف والتواضع والاتزان.

(1/154)


هذا وقد أجاب عنها القاضي العلامة حليف الفضل والاستقامة صلاح الإسلام صلاح بن أحمد فليته حفظه اللّه وتولاه وهو من العلماء الموافقين على ما أفتيت به، ومنهم السيد العلامة نجم العترة الأكرمين عماد الدين يحيى بن عبداللّه راويه، ومنهم السيد العلامة بدر آل محمد الأعلام بدر الدين بن أمير الدين بن الحسين الحوثي، والسيد العلامة صارم ا لإسلام إبراهيم بن علي الشهاري، والقاضي العلامة عمدة المحققين جمال الإسلام علي بن إسماعيل المتعيش، والسيد العلامة صلاح الإسلام وبدر الأعلام صلاح بن محمد بن إبراهيم الهاشمي، فقد وصل إليَّ وأفاد أنه تقرر عنده أن ما أفتينا به هو كلام أهل المذهب، وغير هؤلاء، وإنما ذكرتهم لنقل صاحب الرسالة عن بعض العلماء وإلا فالحق أحق بالإتباع سواء قال به قليل أم كثير، بل الأغلب أن يكون الحق مع القليل، ولسنا نستوحش بحمد ا لله تعالى في جانب الحق لقلة ولانهاب خلافه لكثرة، ولقد أصدرت الفتوى وأنا أعرف أنه سيعدل إلى الترخيص في الكثير لميل النفوس إلى مافيه التخفيف، ولكون الشبهة سريعة الانقداح ولاتحتاج إلى نظر وإنما خلافها هو الذي يحتاج إلى نظر وتحقيق، والله تعالى ولي التوفيق.
هذا فأقول: قال صاحب الرسالة: إنه يكفي السائل في فهم ماقصده من تحقيق المسألة صريح الأزهار، فإنه نص على: عدم لزوم الإحرام إلى آخره.

(1/155)


وأقول: يالله العجب من هذا الكلام، فهل هذا كلام من يميز بين الصريح وغير الصريح ويفرق بين المنطوق والمفهوم وبين النص والظاهر ليس في الأزهار تصريح قط على عدم لزوم الإحرام وإنما فيه النص على عدم جواز المجاوزة للآفاقي.. إلى قوله: إلى الحرم. ويفهم منه بمفهوم المخالفة جوازها لمن لم يجمع الشروط، فأين التصريح وأين النص؟ ولكن هكذا يصنع من يكون همه الجدال وتكثير القيل والقال، ومع هذا فقد فهم هذا المفهوم فهماً مغلوطاً كما سبق توضيحه، فالسائر للزيارة قبل الحج قاصد للحج والزيارة ولولا قصد الحج والزيارة لما سار إلى المدينة فلم ينقطع سيره للحج ولم يضرب عنه كما سلف فهو عازم للإحرام من ذي الحليفة وقاصد له، فسيره إليها كسيره من بيته إلى الميقات الأول، ولو مر من بعض القرى التي ليست في وسط الطريق لما خرج عن كونه ممن حج وممن أراد الحج الذي رتب الشارع عليه عدم جواز المجاوزة للميقات الذي يصل إليه إلا بإحرام، إذ لامعنى لتوقيته له إلا ذلك، فإنكار هذا شبيه بإنكار الضروريات.
ثم قال: واعلم أيها السائل أنها لم تقدح هذه الشبهة في قلوب بعض الناس إلا من قبل نحو عامين وإلا فكان الناس يعدون ذلك فرصة ليدخلوا المدينة .. إلى آخره.
فأقول: هذا عجيب بل الحقيقة الواقعة المعلومة العكس، وذلك أن انقداح الشبهة هو في ترك الإحرام من الميقات الشرعي لمن دخله من الحجاج وهذه الشبهة هي التي حدثت من قريب.

(1/156)


وقوله: فكان الناس يعدون ذلك فرصة. هذا خلاف الواقع قطعاً فإن الناس كانوا _أي الحجاج منهم_ يحرمون من الميقات، وماكانوا يزورون إلا بعد الحج وإنما حدث العزم للزيارة قبل فعل الحج من قريب، ففي كلامه إيهام أن الحجاج في الأعصار الماضية كانوا يقدمون الزيارة ولايحرمون وهو خلاف الواقع قطعاً. ثم قال: ولايخفى أن القائلين بلزوم الإحرام عند مجاوزة الميقات ولو إلى غير الحرم كانوا متمسكين بما يفعله غيرهم الآن من الزيارة قبل الحج مجاوزين الميقات بغير إحرام، فما عدا مما بدا؟
فأقول: سبحانك اللهم هذا بهتان عظيم، فلم يسبق لنا التمسك بذلك ولا العمل به، فإن قصد غيرنا فكان عليه أن يخصص أو يقول البعض، ولا يأتي بعبارة تفيد الكل، ومع هذا فإن فرض أن البعض كان يعمل ذلك ثم رجع عنه فما في هذا من غضاضة أو نقص، فهذا شأن أهل النظر والاجتهاد يرجعون عن القول متى ترجح لهم خلافه، وقد عدوا ذلك دلالة على غزارة العلم وإمعان النظر فالتصميم على ماعرف أنه خطأ هو المذموم عقلاً وشرعاً، فلأي معنى يأتي بهذه العبارة التي فيها الإيهام على قاصري الأفهام، أفهذه طريقة العلماء الأعلام؟!
ثم قال: فإن كان لرأي فالاجتهاد لايثبت بالرأي.
أقول: أنظر أيها النقاد، وهل يصدر هذا ممن لم مسكة أو معرفة بحقيقة الاجتهاد، وهل الاجتهاد يكون إلا بالرأي وهو صريح خبر معاذ: وأجتهد رأيي، وليس المذموم إلا الرأي المجرد الذي لايستند إلى أصل شرعي.
ثم قال: وإن كان لدليل فاللازم إبرازه.

(1/157)


ونقول: الدليل واضح وبارز وهو الأخبار المعلومة في توقيت رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم المواقيت لمن حج أو اعتمر، ومن أراد الحج. فإن قال: إنه إنما يريد الحج بعد الزيارة. قلنا: فأنت إذاً مريد الآن للحج وإن كنت تريد تأخير الإحرام إلى بعد الزيارة وإلا فيلزم أن يجوز الدخول من الميقات إلى أي مكان داخل المواقيت إن كان في عزمه ألا يحرم إلا بعد أيام لأنه لايريد الحج إلا بعد تلك المدة، فهو كقولكم إنكم لاتريدون الحج إلا بعد الزيارة سواء سواء، ولافرق عند من يتدبر بل يلزم أن يدخل مكة على الصحيح من أنه لايلزم الإحرام إلا من قصد أحد النسكين حيث يكون عازماً على تأخير الإحرام أياماً كمن يصل قبل يوم عرفة بأيام، لأنه على قولكم لايكون قاصداً للحج إلا متى أراد أن يحرم على الفور قبل أن يعمل أي عمل، أما وفي عزمه أن يعمل أي عمل قبل الإحرام فليس عازماً على الحج إلا بعد ذلك العمل، فتأمل أيها الناظر، وفكر تجد هذا عين الحقيقة، وما أردت بهذا إلا النصيحة، والله ولي التسديد.
ثم قال: وكان عليهم أن يتداركوا ما لزمهم من الدماء.
أقول: قد قدمت الكلام على أن هذا لم يقع منا وإن كان قصده الغير فهو من الإيهام والتغرير، ثم إن هذا غلط واضح فلا يلزم الدم من جاوز الميقات إلا إذا لم يعد إلى الميقات قبل الإحرام أو دخول الحرم، وهؤلاء قد أحرموا من الميقات فلا دم عليهم، وأيضاً فمن عمل بذلك من أهل الاجتهاد فقد عمل بما أدى إليه نظره ولادم عليه، ومن وافقه من العامة فكذلك لادم عليه ولا إنكار في مسائل الاجتهاد، وأيضاً فالمحرَّم بالإجماع هو المجاوزة بلا إحرام لمريد أحد النسكين، وأما لزوم الدم ففيه كلام آخر كما أوضحته في كتاب الحج والعمرة.
وقوله: لأن محظورات الإحرام جناية لاتسقط بالجهل.
يقال: هذا خلاف كلام الإمام الهادي والإمام الناصر وغيرهما من أئمة العترة وغيرهم.

(1/158)


وأما قوله: وكأنهم لم يطلعوا على ماذكره في بعض حواشي الأزهار إلى آخره.
فأقول: بل قد اطلعنا على ذلك وذكرناه في كتاب الحج والعمرة، ولكن هذا من ذاك إنما هو فيمن لم يكن له قصد للحج أو للعمرة وكلامنا في القاصد.
ثم قال: والعجب كل العجب.. إلى قوله: إنهم أفرطوا في الدعوى حتى ضللوا غيرهم وقالوا ببطلان أعمالهم، وهذا يدل على تعصب ماكان ينبغي القول به.. إلى آخر كلامه.
فأقول: سبحانك اللهم هذا بهتان عظيم فلم يصدر منا تضليل ولا إبطال، هذا إن كان قصده نسبة هذا إلينا وإن كان قصده غيرنا، فأولاً: كان عليه أن يرفع اللبس بأن يذكر أنه لم يقصدنا، لأن الذي يطلع على رسالته لايتبادر ذهنه إلا إلينا لاشتهار ذلك عنا، ولكن الحكم اللّه، وإنا لله وإنا إليه راجعون، وحسبنا اللّه ونعم الوكيل، وصلى اللّه على محمد وآله وسلم.
تم نقل هذا الجواب بحمد اللّه الكريم التواب عن خط مولانا حجة الإسلام وصفوة العلماء الأعلام المرجع لحل المشكلات، والفاتح لمغلق المبهمات الولي بن الولي مجد الدين بن محمد المؤيدي حفظه اللّه وأبقاه للإسلام والمسلمين آمين اللهم آمين، وصلى اللّه على محمد وآله الأكرمين، ولاحول ولاقوة إلا بالله العلي العظيم.
حرر 5 شهر صفر سنة 1408 هـ كتبه الفقير إلى ربه راجي عفوه ومغفرته صلاح بن أحمد فليته وفقه اللّه وغفر له ولوالديه وللمؤمنين.
ثم قال: والعجب كل العجب.. إلى قوله: إنهم أفرطوا في الدعوى حتى ضللوا غيرهم وقالوا ببطلان أعمالهم، وهذا يدل على تعصب ماكان ينبغي القول به.. إلى آخر كلامه.

(1/159)


فأقول: سبحانك اللهم هذا بهتان عظيم فلم يصدر منا تضليل ولا إبطال، هذا إن كان قصده نسبة هذا إلينا وإن كان قصده غيرنا، فأولاً: كان عليه أن يرفع اللبس بأن يذكر أنه لم يقصدنا، لأن الذي يطلع على رسالته لايتبادر ذهنه إلا إلينا لاشتهار ذلك عنا، ولكن الحكم اللّه، وإنا لله وإنا إليه راجعون، وحسبنا اللّه ونعم الوكيل، وصلى اللّه على محمد وآله وسلم.
تم نقل هذا الجواب بحمد اللّه الكريم التواب عن خط مولانا حجة الإسلام وصفوة العلماء الأعلام المرجع لحل المشكلات، والفاتح لمغلق المبهمات الولي بن الولي مجد الدين بن محمد المؤيدي حفظه اللّه وأبقاه للإسلام والمسلمين آمين اللهم آمين، وصلى اللّه على محمد وآله الأكرمين، ولاحول ولاقوة إلا بالله العلي العظيم.
حرر 5 شهر صفر سنة 1408 هـ كتبه الفقير إلى ربه راجي عفوه ومغفرته صلاح بن أحمد فليته وفقه اللّه وغفر له ولوالديه وللمؤمنين.

(1/160)


كتاب رفع الملام في رفع اليدين عند تكبيرة الإحرام
تأليف
الإمام الحجة مجد الدين المؤيدي أيده الله تعالى
بسم اللّه الرحمن الرحيم
الحمدلله وحده.
حاشية مفيدة من قول الإمام القاسم بن محمد في الاعتصام رضوان اللّه عليه: ورفع الأيدي حال تكبيرة الإحرام منسوخ. صفح (356) سطر (2) .
أقول: اعلم وفقنا اللّه وإياك بالتسديد والتوفيق وهدانا سبيل الحق والتحقيق، أن القول بأن رفع اليدين منسوخ لايستقيم بحال. أما أولا: فلا تعارض أصلا بين روايات ثبوته عند تكبيرة الإحرام ورواية النهي عن رفع اليدين لأنه عام والأول خاص، ولا يجوز العدول إلى النسخ مع إمكان الجمع كما هو المقرر، هذا مع أن النهي ورد في الإشارة بالأيدي عند السلام، وقوله: ((اسكنوا في الصلاة)) المراد فيما لم يرد الشرع بالحركة فيه قطعا، وكذا الخشوع والقنوت لا يتوجه إلى ترك شيء من الحركات المشروعة كالركوع والسجود على أن رفع اليدين عند تكبيرة الإحرام ليس في الصلاة، وفي الأخبار التصريح بأنهم رافعون أيديهم في الصلاة فيكون المقصود به عند الركوع والسجود كما يأتي عن أمير المؤمنين عليه السلام ثم لم يرفعهما ثم لا يعود، وفي قول القاسم بن إبراهيم عليهما السلام: يكره أن يرفع يديه في رفع وخفض بعد التكبيرة الأولى، وذكر عن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم أنه نهى عن ذلك دلالة صريحة.
وأما ثانيا: فالنهي ورد بصيغة الإنكار والتشبيه بأذناب الدواب، ولا يرد النسخ من الحكيم بذلك إذ لا معنى للإستنكار لما قد شرعه اللّه سبحانه ورسوله صلى اللّه عليه وآله وسلم، وإنما يرد بتوضيح انتهاء الحكم كقوله صلى اللّه عليه وآله وسلم: ((كنت نهيتكم وإن اللّه يحدث من أمره ما يشاء)).

(1/161)


وأما ثالثا: فقد صح بلا ريب برواية أئمة الهدى من العترة وغيرهم من علماء الأمة أن أمير المؤمنين عليه السلام استمر على فعله، وهو لا يفعل المنسوخ لأنه مع الحق وهو مقرر عند أعلام أئمة العترة عليهم السلام، فلا موجب للإطالة فيه.
إذا عرفت هذا فالروايات الصحيحة الصريحة بالرفع عند تكبيرة الإحرام ثابتة في جميع كتب أهل البيت عليهم السلام المعتمدة، أولها المجموع للإمام زيد بن علي عليهما السلام في موضعين، والثالث برواية أبي حنيفة عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم بسماع الإمام الأعظم وتقريره ولفظ الرواية الأولى بهذا السند المسلسل النبوي: عن علي بن أبي طالب عليهم السلام أنه كان يرفع يديه في التكبيرة الأولى إلى فروع أذنيه ثم لا يرفعهما حتى يقضي صلاته.
ولفظ الثانية: أنه كان يرفع يديه في التكبيرة الأولى ثم لا يعود. والمجموع هو المتلقى بالقبول عند أهل البيت عليهم السلام، قال الإمام الهادي عز الدين بن الحسن عليهما السلام: والمجموع متلقى بالقبول عند أهل البيت عليهم السلام وهو أول كتاب جمع في الفقه. انتهى.
وقال السيد صارم الدين في علوم الحديث: ولا يمتري أئمتنا في عدالة أبي خالد وصدقه وثقته وأحاديثه في جميع كتبهم، وقد روى عنه الهادي عليه السلام بضعا وعشرين حديثا. إلى أن قال: وهو مسلسل الأحاديث النبوية بسند السلسلة الذهبية. انتهى. وأخباره مملؤة بها مؤلفاتهم ولا يبعد إجماع الأمة على ثبوته، فإن من قدح من العامة إنما قدح في أبي خالد، فقد اتفق الكل على ثبوته عن أبي خالد وأبو خالد رضي اللّه عنه مجمع على عدالته عند آل محمد عليهم الصلاة والسلام.

(1/162)


قال الإمام القاسم بن محمد عليهما السلام: وكذلك طعنوا على أبي خالد وقد عدله أئمة الهدى عليهم السلام. وقال: والذي قدح عليه النواصب. وروايته معتمدة في جميع مؤلفاتهم منها أمالي الإمام أحمد بن عيسى فهو الطريق إلى جده الإمام الأعظم، والبساط للناصر الأطروش، وقد روى عنه الإمام الهادي إلى الحق عليه السلام في الأحكام أخبارا كثيرة بل أخباره النافعة من طريقه، وشرح التجريد للمؤيد بالله وهو الراوي لإحدى طرقه الأربع إلى أمير المؤمنين عليه السلام، وشرح التحرير لأبي طالب عليه السلام، والجامع الكافي والأماليات وأصول الأحكام والشافي للمنصور بالله عليه السلام صدر به سنده إليه لروايته للمجموع في ديباجته والشفاء والإنتصار والبحر والإعتصام، والسلف والخلف من أهل البيت عليهم السلام وأوليائهم يصدرون أسانيدهم إلى المجموع الشريف في جميع مروياتهم وأسانيدهم، وجميع رواته من أئمة العترة وأوليائهم الأبرار يتلقونه خلفا عن سلف، وقد خرجت أخبار المجموع من كتب الإسلام فهو الحقيق أن يقال فيه: إنه أصح كتاب بعد كتاب اللّه على التحقيق.

(1/163)


نعم والرفع مروي في أمالي الإمام أحمد بن عيسى عليهما السلام، وفي الجامع الكافي، وفي أحكام الإمام الهادي إلى الحق عن أبيه عن جده عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم: أنه رفع يديه في أول تكبيرة في صلاة الجنازة. وهي من جملة الصلوات ولم يقل هو ولا غيره إنه خاص بها. وفي المنتخب قال عليه السلام: قد رويت في ذلك أخبار كثيرة عن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم أنه كان يرفع يديه في التكبيرة الأولى إلى قريب الأذنين أو الخدين أو المنكبين إلى آخره، وبهذا ونحوه يسقط القول بأنه فعل جاهلي أو أن علماء آل رسول اللّه لا يجيزونه لأنه لو كان كذلك لم يصح أن يفعل في أي صلوة، وأما الرواية في جواب الرازي فيجب أن تحمل على الرفع في تكبيرة الركوع والسجود وهو الذي نص عليه بقوله: نهى عنه في خفض ورفع. وهذا يفيد بمفهومه عدم النهي في غير ذلك وليس إلا في التكبيرة الأولى، إذا عرفت هذا فرفع اليدين عند التكبيرة الأولى هو مذهب أعلام آل محمد عليهم الصلوة والسلام الإمام زيد بن علي وأحمد بن عيسى وعبداللّه بن موسى والحسن بن يحيى والإمام الناصر الأطروش والإمام المؤيد بالله والإمام يحيى وغيرهم وهو قول الإمام القاسم بن إبراهيم في رواية محمد بن منصور عنه في الأمالي، ويرجح روايته عنه لأنه ملازم لمقامه مدة خمس وعشرين، سنة وهو الذي يفيده قوله السابق بعد التكبيرة الأولى ومع أن الرواية عنه في الأحكام ليست صريحة بالمنع في التكبيرة الأولى، فيجب أن تحمل على غيرها جمعا بينها وبين رواية الأحكام عنه في الجنائز ورواية محمد بن منصور لثبوتها، وهذا واضح لمن تدبر.

(1/164)


وما عدل عنه الإمام الهادي إلى الحق عليه السلام إلا بضرب من الرأي إما للإختلاف في محله كما تفهمه عبارته في المنتخب، ولكن لا يضر لأنه يحمل على التخيير مع الصحة لأنه لا تعارض في الأفعال أو لئلا يؤدي إلى الرفع في المنهي عنه عنده من الرفع والخفض أو نحو ذلك، وعلى كل حال لا يجوز أن تطرح الروايات الصحيحة الصريحة لمجرد إجتهاد مجتهد كائنا من كان، هذا خلف من القول وغلو لا يرضى به نفسه وحاشاه، فهو الداعي إلى اتباع الكتاب والسنة والجهاد والإجتهاد، ونقول للإمام الهادي إلى الحق عليه السلام: قد رويت لنا أنت وأنت الثقة الأمين والعدل المرضي وإمام الهدى: رفع اليدين في التكبيرة الأولى في الجامعين الأحكام والمنتخب مع وصفك لها بالكثرة، فنحن نأخذ بروايتك ورواية غيرك من الأئمة والأمة، وهذا هو الذي كلفنا اللّه تعالى به بالإجماع، والمسألة اجتهادية، والخلاف واقع بين أهل البيت عليهم السلام، ولا يقول أحد منهم بوجوب إتباع إمام معين بعد أمير المؤمنين عليه السلام، وقد روى الإمام القاسم بن محمد عليهما السلام في الإرشاد في الفصل الثالث في وقوع الإختلاف بين أهل البيت عليهم السلام عن المؤيد بالله عليه السلام ما لفظه: ويجوز أن يخطي الإمام ويسهو فيما يفتي ويجتهد من المسائل ولا خلاف في ذلك إلا عن الإمامية قال فيه: قال الإمام المنصور بالله عليه السلام وأما قول السائل: هل ينقض حكم الهادي فنحن نهاب ذلك لعظم حاله. إلى قوله: بل نقول لا يمتنع وقوع السهو في المسألة وأشباهها لا سيما على مثله عليه السلام، فإن كثيرا منها أملاها وهو على ظهر فرسه تجاه العدو.. إلى آخره، وكثيرا ما يرجع الإمام الهادي إلى الحق عليه السلام عن قوله لظهور دليل لم يظهر له من قبل كالمسح على الجبائر فإنه أنكرها في الأحكام وأثبتها في المنتخب، والقول بأن المنتخب هو المتقدم غير صحيح فإنه ابتدأ في تأليف الأحكام قبل خروجه اليمن والمنتخب كله في اليمن فلا

(1/165)


قطع بالتقديم على الإطلاق، ولا يبعد عندي أن يؤخذَ للإمام الهادي عليه السلام من روايته للرفع في التكبيرة الأولى عن أبيه عن جده عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم وتقريره القولُ بثبوته عند من عرف طرائقه ومارس أساليبه، والخلاف بين أئمة العترة أكثر من أن يحصر، وهذا هو الذي تميز به مذهب آل محمد عليهم السلام الذي فتح باب الإجتهاد وحرم على المجتهد التقليد والله يقول: ((فَبَشِّرْ عِبَادِ (17) الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ)) [الزمر:17].
وأما الأحوط فلا معنى له هنا، أولا: أنه لا تفسد به الصلوة بالإجماع لأنه فعل يسير وإنما يفسد الكثير مما لم يشرع. ثانيا: أن الأخذ بالأحوط إنما يكون فيما يشتبه، أما ما صح دليله واتضح سبيله فالواجب العمل به وإن خالف فيه من خالف، فخلاف المخالف لا يوجب طرح ما صح عن اللّه سبحانه وعن رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم لأجل خلافه على أنه مع ذلك قد لا تتأتى صلوة مجمع عليها، ألا ترى أن من لم يقرأ الفاتحة في كل ركعة أو في الأولتين وكذا من جمع بين الصلوتين ومن جمع في السفر في غير عرفة ومزدلفة ومن صلى فرادى مع تمكنه من الجماعة مختلف في صلاته إلى غير ذلك من الخلافات فالواجب العمل بالدليل، والله تعالى يقول الحق وهو يهدي السبيل، وقد طال الكلام لقصد الإفادة لا بخصوص هذه المسألة، والله ولي التوفيق والتسديد.
المفتقر إلى اللّه سبحانه وتعالى مجد الدين بن محمد بن منصور المؤيدي غفر اللّه تعالى لهم وللمؤمنين آمين.
قال في النسخة المنقول عليها:

(1/166)


الحمدلله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسوله الأمين وآله المطهرين، وبعد فقد تم نقل هذه الحاشية المفيدة من خط وإملاء مولانا العلامة الحجة مفتي اليمن والمحيي لما اندرس من معالم الكتاب والسنن من لايجارى في مضمار ولايشق له غبار البقية الباقية من العترة النبوية والسلالة المصطفوية أبي الحسين مجد الدين بن محمد بن منصور المؤيدي أيده اللّه تعالى، ونفع بعلومه الإسلام والمسلمين، ولقد أفاد وأجاد وألم بالمراد فجزاه اللّه عن الإسلام والمسلمين خير جزاه آمين.
بقلم تلميذه الفقير إلى عفو اللّه قاسم بن صلاح بن يحيى عامر الشهيد غفر اللّه لهم أجمعين. كتب هذا أسير ذنوبه الراجي عفو ربه الكريم طالب الدعاء والمسامحة عبدالرحمن بن صلاح بن يحيى بن عامر الشهيد غفر اللّه له ولوالديه وللمؤمنين والمؤمنات أجمعين آمين، ولاحول ولاقوة إلا بالله العلي العظيم، وصلى اللّه وسلم على سيدنا محمد وآله. وهذا بعناية مولانا وشيخنا العلامة الكبير وحيد عصره وفريد دهره صاحب الأنظار المضيئة والأقوال المنيرة شيخ الإسلام والمسلمين مجد الدين بن محمد بن منصور المؤيدي أيده الله تعالى، وحفظه ونفع بعلومه وأشاد بمؤلفاته، وزادنا اللّه تعالى من بركاته، وآجره اللّه أجر المتقين الأبرار في العاجل والآجل، وصلى اللّه وسلم على سيدنا محمد وآله.
حرر بدار المهجر بنجران لعله 21 شهر جمادى الأولى سنة 1408 هجرية على صاحبها وآله أفضل الصلاة والتسليم آمين آمين.
الكلام مع المؤيد بالله في شرح التجريد
قال أيده اللّه تعالى معلقا على قول الإمام المؤيد بالله عليه السلام في ج 1 ص 167 عن جابر بن سمرة قال: دخل النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم المسجد وهم رافعون أيديهم في الصلاة فقال: (( مالي أراكم رافعي أيديكم كأنها.. )) الخ.

(1/167)


هذا دليل على أنهم فعلوا رفعاً لم يشرع قط ولايتصور أنه نسخ لشيء قد شرع، والمعلوم أن رفع اليدين قد شرع، ودليل أيضاً أن الرفع منهم كان في الصلاة ورفع اليدين عند التكبيرة الأولى هو قبل الدخول فيها أما بعد الدخول فيها فإنما يكون الإرسال، وأيضاً التشبيه يقتضي أنهم أمالوها يمنة ويسرة كفعل الخيل بأذنابها، وذلك يحقق السبب المروي من أنهم كانوا يشيرون بهما عند السلام يمنة ويسرة، وهو الذي رواه الإمام قبل الفصل المار عن جابر بن سمرة، فتأمل فذلك واضح، والله ولي التوفيق.
من صفح (167) ج (1) قوله عليه السلام: إنه صلى اللّه عليه وآله وسلم نهى عن رفع الأيدي في الصلاة من غير أن يكون استثنى منها موضعاً من موضع، فاقتضى ذلك النهي عن رفع الأيدي فيها عاماً من غير تخصيص.. الخ كلامه.

(1/168)


قال أيده اللّه تعالى: إن كان عاماً فيجب تخصيصه بماصح وثبت من رفع اليدين عند التكبيرة الأولى برواية أئمة العترة عليهم السلام وسائر علماء الأمة حتى رواية الإمام الهادي إلى الحق عن أبيه، عن جده، عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم في صلاة الجنازة، ولو كان الرفع منهياً عنه، ووجوب سكون اليدين ثابت في التكبيرة الأولى وغيرها لم تجز في أي صلاة وإن خصصت صلاة الجنازة وجب أن نخص سائر الصلوات بمثل ماخصت به وهو ثبوت فعلها في الأولى، وأيضاً يلزم إن لم يخصص الرفع بما ثبت شرعاً ألا يرفع المصلي يديه ولايتحرك للركوع ولا للسجود ولا للقيام ولا لتسكين مايؤذيه، فإن قيل: ذلك مخصوص قطعاً بالضرورة. قلنا: وكذلك هو مخصوص قطعاً بالروايات الصحيحة المجمع على صحتها عند التكبيرة الأولى، وأما الآية وهي: ((قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ..)) الخ، فرفع اليدين عند تكبيرة الإحرام لاينافي الخشوع، ولو كان منافياً له لما ثبت عن الشارع في أي صلاة لاجنازة ولا غيرها ولاعند الدعاء في غير الصلاة، والعجب من الإمام المؤيد بالله عليه السلام في استدلاله بحديث الإمام الأعظم زيد بن علي عن آبائه عليهم السلام في النهي عن العبث في الصلاة ولايستدل بروايته عن آبائه عليهم السلام في الرفع عند التكبيرة الأولى في هذا المقام مع أنه قد استدل برواية الإمام زيد بن علي عليهم السلام في الرفع عند التكبيرة الأولى فيما سيأتي في ص 245 بقوله: وقلنا إنه يرفع يديه في أول تكبيرة لمارواه الإمام زيد بن علي عن آبائه، عن علي عليهم السلام أنه كان يرفع يديه في التكبيرة الأولى ثم لايعود. وقد علقت عليه بقولي: قف على رواية الإمام المؤيد بالله عليه السلام عن الإمام زيد بن علي، عن آبائه، عن علي عليهم السلام أنه كان يرفع يديه.. الخ، وهو في جميع الصلوات، وهذا يدل على أنه ثابت غير منسوخ، فما تقدم له غير معتمد عنده، وإنما هو استدلال للمذهب بما يمكن أن يقال كما

(1/169)


أشرنا إلى ذلك كما سبق.. الخ.
والعجب أيضاً من مبالغته عليه السلام في الاستدلال على ترك الرفع مع أن مذهبه ثبوته في التكبيرة الأولى، وهو مذهب أعلام أهل البيت عليهم السلام ومنهم الإمام الهادي إلى الحق على الصحيح من رجوعه إليه لروايته له في صلاة الجنازة وهي من جملة الصلوات عنده، ولم يقل هو ولا غيره إنه مخصوص بها ولايتصور أن يرويها ويقررها وهي غير ثابتة عنده، وعلى كل حال الواجب على أهل النظر أن يعملوا بما صح من الأدلة وإن خالف من خالف، فليس قول أحد على انفراده حجة إلا قول علي عليه السلام هذا بإجماع أهل البيت عليهم السلام، وحاشا الإمام الهادي إلى الحق عليه السلام أن يريد من أحد أن يعمل بقوله وإن صح له خلافه، وإنما المغالون في التقليد يوهمون ذلك لعدم البصيرة، وإنهم ليجنون على المذهب الذي أوجب على المجتهد أن يعمل باجتهاده، فإنا لله وإنا إليه راجعون.
من صفح (168) ج (1) قوله عليه السلام: فأما الأخبار الواردة في رفع اليدين عند التكبيرات فهي عندنا منسوخة بقوله صلى اللّه عليه وآله وسلم: مالي أراكم رافعي.. الخ.
قال أيده اللّه تعالى: اعلم وفقنا اللّه وإياك للحق والتحقيق أن دعوى النسخ لرفع اليدين عند تكبيرة الإحرام لايستقيم بحال.
أما أولا: فقد صح برواية أئمة الهدى وغيرهم أن أمير المؤمنين عليه السلام استمر على فعله بقولهم: كان وهو لايستمر على فعل المنسوخ لانه مع الحق، وهذا مقرر عند أعلام آل محمد عليه وآله الصلاة والسلام فلا موجب للإطالة.
وأما ثانياً: فالنسخ من الحكيم لايصدر بصيغة الاستنكار والاستهجان والتشبيه بالأذناب لما قد شرعه قطعاً.
وأما ثالثاً: فلايجوز الحكم بالنسخ مع إمكان الجمع، فيجب أن يحمل النهي والأمر بالسكون على غير التكبيرة الأولى التي ثبت فعلها واستمر عليها أمير المؤمنين عليه السلام وأولاده الذين هم أقرب إليه.

(1/170)


إذا عرفت هذا فالروايات الصحيحة بالرفع عند تكبيرة الإحرام ثابتة في جميع كتب أهل البيت المعتمدة: مجموع الإمام زيد بن علي عن آبائه عن علي عليهم السلام في ثلاثة مواضع:
لفظ الرواية الأولى: أنه كان يرفع يديه في التكبيرة الأولى إلى فروع أذنيه ثم لايرفعهما حتى يقضي صلاته.
ولفظ الثانية: أنه كان يرفع يديه في التكبيرة الأولى ثم لايعود.
والثالثة برواية أبي حنيفة عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم بسماع الإمام زيد عليه السلام وتقريره والمجموع هو المتلقى بالقبول عند أهل البيت عليهم السلام: قال الإمام عز الدين بن الحسن عليهما السلام: والمجموع متلقى بالقبول عند أهل البيت عليهم السلام، وهو أول كتاب جمع في الفقه. وقال محدث اليمن إبراهيم بن محمد الوزير رضي اللّه عنهما: ولايمتري أئمتنا في عدالة أبي خالد وصدقه وثقته وأحاديثه في جميع كتبهم، وقد روى عنه الإمام الهادي عليه السلام بضعاً وعشرين حديثاً إلى قوله: وهو مسلسل الأحاديث النبوية بسند السلسلة الذهبية. انتهى من علوم الحديث. وقال الإمام القاسم بن محمد عليهما السلام في أبي خالد: وقد عدله أئمة الهدى والذي قدح فيه النواصب. انتهى.

(1/171)


قلت: فالذين يشككون فيه من أهل الغفلة والقصور قد باركوا كلام النواصب وساعدوهم بالقدح في أصح وأصلح وأجمع وأنفع كتب آل محمد عليه وعليهم الصلوات والتسليم، وما قدح فيه النواصب إلا لأن فيه مايقطع دابرهم ((وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَن يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ)) [البروج:8]، ورواياته معتمدة في جميع مؤلفاتهم منها أمالي الإمام أحمد بن عيسى عليهما السلام وأحكام الإمام الهادي عليه السلام بل أخباره النافعة فيه من طريقه، وبساط الإمام الناصر للحق الحسن بن علي عليهما السلام، وشرح التجريد للإمام المؤيد بالله وهو أحد طرقه الأربع، وشرح التحرير للإمام أبي طالب عليهما السلام، والجامع الكافي، والأماليات، وأصول الأحكام، والشافي، والشفاء، والبحر، والاعتصام، كلها مشحونة بأخباره فالقدح فيه قدح في جميعها.

(1/172)


والسلف والخلف يصدرون أسانيدهم إليه وجميع رواته من أعلام العترة الأبرار وأولياءهم الأخيار من لدينا إلى إمام الأئمة وهادي هداة الأمة الإمام الأعظم الولي بن الولي زيد بن علي بن الحسين بن علي عليهم السلام، وقد خرجت أخباره من سائر كتب الإسلام، فهو الحقيق بأن يقال فيه إنه أصح كتاب بعد كتاب اللّه تعالى، نعم والرفع مروي في أمالي الإمام أحمد بن عيسى عليهما السلام، وفي الجامع الكافي، وفي أحكام الإمام الهادي إلى الحق، عن أبيه، عن جده، عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم أنه رفع يديه في أول تكبيرة في صلاة الجنازة وهي من جملة الصلوات عنده، ولم يقل هو ولاغيره إنه مخصوص بها، ولو أنه فعل جاهلي أو مستنكر لم يجز في أي صلاة، ولو أنه منسوخ لم يروه القاسم والهادي عليهما السلام مقررين له، فذلك دليل واضح في أن الإمام الهادي عليه السلام قد رجع إلى القول بالرفع كما رجع إلى القول بالمسح على الجبائر، وقد جعله ـ أي المسح ـ الإمام المؤيد بالله (ع) قوله الأخير وهو في المنتخب وقال فيه: قد رويت في ذلك أخبار كثيرة عن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم أنه كان يرفع يديه في التكبيرة الأولى إلى قريب من الأذنين أو الخدين أو المنكبين إلى آخره، فقد أثبت الرواية له ووصفها بالكثرة فلايمكن أن يقال فيه إنه فعل جاهلي، وأما الرواية في جواب الرازي فيجب أن تحمل على الرفع عند تكبيرة الركوع والسجود ولايصح أن تحمل على غير ذلك لمخالفتها للمعلوم، وهو الذي نص عليه بقوله: ونهى عنه في خفض ورفع. وهذا يفيد بمفهومه عدم النهي في غير ذلك، وليس إلا في الأولى.

(1/173)


إذا عرفت هذا فرفع اليدين عند التكبيرة الأولى هو مذهب أعلام آل محمد عليه وعليهم الصلاة والسلام الإمام زيد بن علي، وأحمد بن عيسى، وعبداللّه بن موسى، والحسن بن يحيى، والناصر الأطروش، والمؤيد بالله، وإن ذكر النسخ هنا فهو لايقول به لمذهبه وقد ألمح للمتأمل بقوله: عند التكبيرات _أي كلها لابعضها_ وإن رجع في آخر الكلام إلى الأولى فقد صحح رواية الرفع واستدلاله بقوله: ثم لم يعد. في غاية الضعف، إذ ليس المقصود إلا أنه لم يعد في سائر التكبيرات كما هو الصريح في سائر الروايات، ثم لايرفعهما حتى يقضي صلاته، ولايخفى على الإمام عليه السلام سقوط ذلك ولكنه يورد مايمكن أن يقال وإن كان لايقول به.
نعم والرفع في الأولى هو مذهب جده الإمام القاسم بن إبراهيم عليهم السلام، في رواية محمد بن منصور عنه، وهو الملازم له مدة خمس وعشرين سنة، وهو الذي يفيده قوله: يكره أن يرفع يديه في رفع وخفض بعد التكبيرة الأولى. وذكر أن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم نهى عن ذلك فقوله: بعد التكبيرة الأولى. إثبات له فيها وتقييد النهي بالرفع والخفض رواية لثبوته بالمفهوم في غيرهما، وقد سبق أنه القول الأخير للإمام الهادي إلى الحق عليه السلام.
وعلى كل حال لايجوز أن تطرح الروايات الصحيحة الصريحة لمجرد اجتهاد مجتهد كائناً من كان، هذا غلو لايرضى به الإمام الهادي إلى الحق عليه السلام، وحاشاه فهو من أعظم الدعاة إلى اتباع الكتاب والسنة والجهاد والاجتهاد، والله تعالى ولي التوفيق والسداد إلى سبيل الرشاد.

(1/174)


كتاب الجواب التام في مسألة الإمام
تأليف
الإمام الحجة مجد الدين المؤيدي أيده الله تعالى
أجاب به مولانا العلامة الجامع لأشتات الفضائل وملحق الأواخر بالأوائل أبو الحسين الولي مجد الدين بن محمد بن منصور المؤيدي
لطف اللّه به وحفظه حفظ كتابه آمين
بسم اللّه الرحمن الرحيم
وصلى اللّه على محمد وآله وسلم
الحمدلله كما يجب لجلاله، وصلاته وسلامه على رسوله محمد وآله، وبعد.
فإنه وقع الإطلاع على مشرفكم الكريم، ومحرركم العذب الوسيم، وما اشتمل عليه من الأسئلة:
الأول:
عن قوله تعالى: ((إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ..)) [المائده:55] الآية، قلتم: أليس ظاهرها يفيد نفي إمامة الحسنين ومن بعدهما.. الخ.
أقول: الجواب والله الهادي إلى منهج الصواب أنها إذا حملت الولاية على ملك التصرف كما هو المعلوم من الدلالات القاطعة على إرادته المعلومة من تلك المقامات قولاً وحالاً وفعلاً فالحصر حقيقي تحقيقي ولاينافيه ثبوت الإمامة لمن بعده صلوات اللّه عليهم، إذ لا يراد ولايفهم من ثبوت الولاية وملك التصرف إلا في عصره وأيام حياته صلوات اللّه عليه وأن يدين الخلق بثبوت ذلك بعد وفاته، وإن حملت على جميع معانيها الممكنة فلاشك في ثبوت بعضها لغيره عليه السلام، فيكون القصر باعتبارها حقيقياً ادعائياً لأنه الفرد الكامل في ذلك وقد تعرض للجواب عن الطرف هذا شارح الأساس عليه السلام.

(1/175)


نعم ظاهرها وظاهر سائر الأدلة على إمامة الوصي صلوات اللّه عليه كخبر الغدير والمنزلة ثبوت ملك التصرف له عليه السلام في أيام الرسول صلوات اللّه عليه وسلامه وآله، والمعلوم أنه لاتصرف على الأئمة في عهده صلى اللّه عليه وآله وسلم لغيره والإجماع على ذلك إلا في حال غيبته صلى اللّه عليه وآله وسلم، فقد قال الإمام أبو طالب عليه السلام بثبوت ذلك لأمير المؤمنين عليه السلام ولامانع منه، هذا فتكون مخصصه _أي أحوال حضور النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم_ مستثناة من تلك الأدلة، كما أن النص على إمامة الحسنين صلوات اللّه عليهما مخصوص مخرج منه أيام الرسول والوصي صلوات اللّه عليهما وآلهما مثل ذلك.
نعم وبهذا يتضح الجواب عن السؤال الثاني في شأن قول اللّه تعالى: ((أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ)) [النساء:59] فكل من أثبت له الأمر منهم كان مراداً داخلا في عمومها والمقصود طاعته والقيام بواجب حقه أيام ولايته، ولاتنافي ولاتعارض للتخصيص بما تقدم، وهو معلوم فلا يحتاج إلى الإطالة.
وأما خبر: ((الحسن والحسين إمامان قاما أو قعدا)) فلم يزل أئمتنا عليهم السلام وشيعتهم رضي اللّه عنهم يستدلون به على إمامتهما خلفاً عن سلف.
قال الأمير الناصر للحق أبو طالب الحسين بن بدر الدين عليهما السلام في ينابيع النصيحة: ولاشبهة في كون هذا الخبر مما تلقته الأمة بالقبول وبلغ حد التواتر وصح الاحتجاج به وهو نص صريح في إمامتهما وإشارة إلى إمامة أبيهما.. الخ كلامه عليه السلام.

(1/176)


وقال الإمام المؤتمن الهادي إلى الحق أبو الحسن عز الدين بن الحسن عليهما السلام في المعراج: واعلم أن هذا الخبر مما ادعى بعضهم تواتره وبعضهم ادعى الإجماع على صحته، والإجماع على صحته يقوم مقام تواتره في القطع بأن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم قاله، وحكى الفقيه حميد إجماع العترة على صحته قال: وقد ظهر بين الأمة ولم يعلم من أحد منهم إنكاره إلى أن قال: ولايقدح في ذلك أنه يلزم منه ثبوت إمامتهما في كل زمان فيكونان إمامين في زمن أبيهما ويكون الحسين إماماً في زمن الحسن، ويقال: الواجب تأويله أنهما سيصيران إمامين وقت ولايتهما، فإنه وإن اقتضى ذلك فالأوقات التي ذكرت خارجة بإجماع الأمة على أنه لا أمر لهما في زمن أبيهما ولا للحسين في زمن الحسن. إلى أن قال: وأما حمله على أنهما سيصيران إمامين إذا بويع لهما فعدول عن ظاهر الخبر فلا يصار إليه.. الخ.
وقال سيد المحققين العلامة أحمد بن محمد الشرفي في شرح الأساس: وهذا الخبر مما أجمعت عليه الأمة ذكره المنصور بالله عليه السلام وغيره من أئمة أهل البيت عليهم السلام وغيرهم إلى آخر كلامه عليه السلام، وكلام غيرهم على ذلك المنوال لا لبس فيه ولا إشكال فهو نص صريح واضح المنار متجلي الأنوار على أن جميع الطرق المعتبرة عند الأمة في إثبات الإمامة معلومة في حقهما من النص هذا، والأدلة الدالة على إمامة العترة عليهم السلام، وإجماع العترة على إمامتهما وإمامة أبيهما صلوات اللّه عليهم وسلامه، والدعوة مع الزيادة على مايعتبر من الكمال في باب الإمامة والعقد والاختيار عند من قال به، وعلى الجملة فلو لم يكن إلا قولهما صلوات اللّه عليهما فهما العترة المطهرة المعصومة في حال إمامتهما صلوات اللّه عليهما وعلى سلفهما وخلفهما.

(1/177)


وأما السؤال على حصر الإمامة في أولاد الحسنين عليهم السلام، وأن أصحابنا يستدلون على ذلك بالإجماع على جوازها فيهم وعدم الدليل على جوازها في غيرهم مع كونها شرعية ويقولون لا اعتداد بخلاف الإمامية لأنه لادليل لهم، ولعل الإمامية يحتجون على مذهبهم بأنه أخذ بأقل ماقيل لعدم جوازها في غير الاثني عشر، وبهذا يظهر أنه لابد لأصحابنا من دليل على بطلان قول الإمامية غير إبطال نصهم.. الخ كلام السائل أيده اللّه تعالى.
فالجواب والله ولي التوفيق:

(1/178)


أولا: أن أدلة القصر في البطنين كثيرة العدد واسعة المدد نيرة البرهان راسخة البنيان من ذلكم قوله عز وجل: ((أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ)) [النساء:59] مع إجماعهم على كونهم المرادين وإجماعهم حجة كما قضت به الدلائل النيرة، وقوله تعالى: ((وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُم بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ)) [الطور:21] الآية، وقوله تعالى: ((وَأُوْلُواْ الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ)) [الأنفال:75]. وأخبار الثقلين والتمسك، والسفينة، فإنها قضت بالاستخلاف فيكونون قائمين مقام من استخلفهم في كل ماله إلا ماخصه الدليل، وبوجوب التمسك بهم في كل شيء ومن جملته الإمامة وكون الراكب لغير سفينتهم هالكاً في كل شيء، وهي تفيد الاقتداء والإمامة قطعاً، بل هي معظم ذلك وعليها أساس أركان الدين وبها تتم مصالح الإسلام والمسلمين، والنصوص كثيرة تبلغ حد التواتر معنى نحو: ((قدموهم ولاتقدموا عليهم ))، ((وإن عند كل بدعة تكون من بعدي يكاد بها الإسلام ولياً من أهل بيتي يعلن الحق وينوره ويرد كيد الكائدين فاعتبروا يا أولي الأبصار وتوكلوا على اللّه))، ((وأهل بيتي أمان لأهل الأرض..))، ((ومن سمع واعيتنا أهل البيت)) ((ومن أمر بالمعروف ونهى عن المنكر من ذريتي فهو خليفة اللّه وخليفة رسوله وخليفة كتابه )) الخبر الذي احتج به إمام الأئمة وهادي الأمة يحيى بن الحسين عليهما السلام. وقوله صلى اللّه عليه وآله وسلم: (( من سره أن يحيا حياتي ويموت ميتتي ويدخل جنة عدن التي وعدني ربي فليتول علي بن أبي طالب وذريته (عليهم أفضل الصلاة والسلام) الطاهرين أئمة الهدى ومصابيح الدجا من بعدي فإنهم لم يخرجوكم من باب الهدى إلى باب الضلالة)) هذا من رواية آل محمد صلوات اللّه عليهم، ومن رواية العامة ما أخرجه الأسيوطي في الجامع الكبير، وروى أبو نعيم في الحلية، والرافعي عن

(1/179)


ابن عباس: ((من سره أن يحيى حياتي ويموت مماتي ويسكن جنة عدن التي غرسها ربي فليتول علياً وليتول وليه وليقتد بأهل بيتي من بعدي فإنهم عترتي خلقوا من طينتي ورزقوا فهمي وويل للمكذبين بفضلهم من أمتي، القاطعين فيهم صلتي لا أنالهم اللّه شفاعتي))، ونحو: خبر التجديد والضارب بسيفه أمام ذريتي وغير ذلك جم غفير وجمع كثير، والوامض اليسير يدل على النو المطير، وقد خرجنا هذه الأخبار في لوامع الأنوار.
ثانياً: إجماعهم المحقق المعلوم من الصدر الأول ومن بعده على حصرها فيهم، ويكفي احتجاجات الوصي والحسنين صلوات اللّه عليهم على قصرها فيهم نحو قوله: احتجوا بالشجرة وأضاعوا الثمرة. وقوله صلوات اللّه عليه: ((في هذا البطن من هاشم لاتصلح على سواهم ولاتصلح الولاة من غيرهم، وهو مع الحق والقرآن والحق معه)).
وقول ولده الحسن السبط المعصوم المطهر عن الرجس: فلما توفي صلى اللّه عليه وآله وسلم تنازعت سلطانه العرب فقالت قريش نحن قبيلته وأسرته وأولياؤه. إلى قوله: فرأت العرب أن القول كما قالت قريش وأن الحجة في ذلك على من نازعها أمر محمد صلى اللّه عليه وآله وسلم، فأنعمت لهم العرب وسلمت ذلك، ثم حاججنا نحن قريشاً بمثل ما به حاجت العرب فلم تنصفنا قريش إنصاف العرب لها.. الخ كلامه صلوات اللّه عليه وذلك معلوم من صرايح أقوالهم وأفعالهم الدالة على اعتقادهم انحصارها فيهم أولهم وآخرهم، ولله الإمام المنصور بالله عبداللّه بن حمزة بن رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم حيث يقول:
أمن غير أبناء النبي محمد .... إمام لقد حاولتَ نقل شمام
تمسك بأبناء النبي فإنهم .... زمام لدين اللّه أي زمام
لتنجو مع الناجين من كل موبق .... إذا قيل للوفد ادخلوا بسلام
فيدعى الورى يوم الجزاء بإمامهم .... فتعدد لقول اللّه خير إمام

(1/180)


ثالثاً: ماذكرتم من إجماع الأمة على جوازها فيهم وعدم الدليل على غيرهم مع اشتمالها على أمور شرعية لايجوز تناولها إلا بدلالة قطعية فالحصر في الحقيقة مركب من الإجماع وعدم الدليل على سواهم هكذا قرروه.
نعم فما ذكرتم من إيراد خلاف الإمامية.
فالجواب: أولا أن خلافهم مسبوق بالإجماع العام وإجماع آل محمد صلى اللّه عليه وآله وسلم خصوصاً، فالمعلوم أنهم كانوا يطبقون على إمامة القائم منهم من أي البطنين كان ولم يخالف مخالف في إمامة الإمام الأعظم زيد بن علي وولده يحيى عليهم السلام والنفس الزكية محمد بن عبداللّه وإخوته الأئمة عليهم السلام، بل بايع الصادق جعفر بن محمد محمد بن عبداللّه عليهم السلام وأخرج معه ولديه موسى الكاظم وعبداللّه عليهما السلام وهما من الاثني عشر، وبايع موسى الكاظم الإمام الحسين بن علي صاحب فخ عليه السلام، وذلك معلوم من أحوالهم ضرورة لمن عرف سيرهم وأخبارهم مع أنه كما قال الإمام عز الدين بن الحسن عليهما السلام في المعراج مامعناه: ليس خلافاً في محل النزاع وهو عدم جواز الإمامة في غير أولاد الحسنين، بل هم موافقون، وإنما بالغوا فيه فقصروا على بعضهم.
ثانياً: أن الإمامية إنما بنوا قولهم على دعوى النص قطعاً، فإذا ثبت بطلانه ارتفع الخلاف، وهذا القدر كاف في المقصود.
ثالثاً: أنه لم تقم حجية الإجماع على ذلك إلا مع فقد الدليل على جوازها في غيرهم، ولم يتم هذا إلا في حق سائر الأمة وأما أهل البيت عليهم السلام، فقد قامت الأدلة كما أشرنا إليها على جوازها فيهم بل قصرها عليهم.
هذا وأما السؤال الوارد على الاستدلال بأن الإمامة شرط في إقامة الحدود.. الخ.

(1/181)


فالجواب والله الموفق إلى منهج الصواب: نعم من جملة مااستدل به على وجوب الإمامة كونها وردت واجبات مطلقة والإمامة شرط فيها، وقد علم من القاعدة الأصولية: أن ماورد مطلقاً فمالايتم إلا به من المقدمات الممكنة يكون حكمه حكمه. وقد دل الدليل على إيجاب الحدود مطلقاً وهي ضرورية والأئمة فيها شرط أداء، وقد استدل على ذلك بإجماع الأمة وبقوله صلى اللّه عليه وآله وسلم: ((أربعة إلى الولاة الحدود والجمعات والفيء والصدقات)) ، وروى الإمام زيد بن علي، عن أبيه، عن جده، عن علي صلوات اللّه عليهم: ((خمسة أشياء إلى الإمام: صلاة الجمعة، والعيدين، والصدقات، والحدود، والقضاء، والقصاص)).
وأورد على هذا الاستدلال أن الإجماع غير صحيح على اشتراط الإمام فيها، فالخلاف ظاهر والخبر آحادي لايفيد، وقد استدل بهذه الطريقة الإمام نجم آل الرسول القاسم بن إبراهيم وأبو علي وأبو هاشم واعتمده الرازي وقد عرفتم ما أورد عليه وهو إيراد وارد، والذي يظهر والله أعلم أن الإمام القاسم صلوات اللّه عليه ومن استدل به من المحققين إنما يريدون به الاستظهار وإلزام الخصم، وإلا فمثله لاتقوم به الحجة القاطعة المطلوبة في هذا الباب، والأدلة على وجوب الإمامة كثيرة شهيرة، فإن الإمامة ثانية النبوة في الوجه الذي وجبت له كما قال نجم آل الرسول القاسم بن إبراهيم عليهما السلام: إن أفرض الفرائض وأوكدها فرضاً الإمامة، لأن جميع الفرايض لاتقوم إلا بها.. الخ كلامه. ومن المعلوم أنه لايستقيم حفظ معالم الإسلام ودفع المظالم بين الأنام إلا بالإمام، والعقل يؤيد دليل الشرع على وجوبها، فإن بتركها يختل النظام ويفسد أمر الخاص والعام، ولهذا لم يسمع إهمال الرئيس في أمة من الأمم ولاطائفة من الطوائف من جميع العرب والعجم.

(1/182)


وقد أجمعت الأمة على ذلك بعد رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم وفي كل عصر فإنهم يفزعون إلى إقامة الإمام ولايكون لهم عقيب وفاته هم إلا إقامة آخر إلا لمانع من تغلب الظالمين ومنع الجبارين علم ذلك قطعاً من حالهم، وأن فعلهم ذلك على طريقة اعتقاد الوجوب، وأدلة الإجماع معلومة مقررة مرسومة لايحتاج إلى إيرادها هنا، والله سبحانه يقول في إبراهيم صلوات اللّه عليه: ((إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِي قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ)) [البقره:124] ((وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا)) [السجده:24]، ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ)) [النساء:59] وهي تفيد استمرار وجوب طاعتهم.
ومن السنة نحو قوله صلى اللّه عليه وآله وسلم: ((من مات ولم يعرف إمامه مات ميتة جاهلية)) قالوا: وهذا الخبر متلقى بالقبول.
قال أمير المؤمنين صلوات اللّه عليه: وإنما الأئمة قوام اللّه على خلقه وعرفاؤه على عباده لايدخل الجنة إلا من عرفهم وعرفوه، ولايدخل النار إلا من أنكرهم وأنكروه. وقال أيضاً لما سمع قول الخوارج: لاحكم إلا لله: هذه كلمة حق يراد بها باطل، إنه لاحكم إلا لله، ولكن هؤلاء يقولون: إنه لا أمر وأنه لا بد للناس من أمير.. الخ كلامه صلوات اللّه عليه وسلامه وغير ذلك والأدلة على هذا الأصل مشروحة مستوفاة في مباحثها.
وأما قولكم: فإن قالوا: الدليل على الإمامة حاجة الناس إليها لم تجب شرعيتها لأجل الحاجة، وما المانع من ترك شرعيتها ابتلاء.. الخ كلامه.
فنقول: إن المدعى أن الحاجة إليها في الدين لما لايتم إلا بها، وإذا علم حاجتهم إليها في الدين كذلك فالحكيم لايلزمهم مالايتم من الدين إلا بالإمام ولايوجبه ولايبينه، هذا ماظهر وتيسر، وحسبنا اللّه ونعم الوكيل.

(1/183)


قال في الأم: تم هذا نقلا عن خطه رضي اللّه عنه وحفظه بحفظه ورعاه بلطفه وصلى اللّه وسلم على محمد وآله، وكان الفراغ من زبر هذا بحمد اللّه وإعانته ولطفه وإحسانه عند ارتفاع النهار يوم الأربعاء 17 شهر رجب الأصب سنة (1370 هـ). نقل هذا عن خط القاضي العلامة علي بن يحيى شيبان رضي اللّه عنه.

(1/184)


تعليق على الرسالة الحاكمة
تأليف
الإمام الحجة مجد الدين المؤيدي أيده الله تعالى
تعليق على الرسالة الحاكمة
بسم اللّه الرحمن الرحيم
والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين وحجة باقية إلى يوم الدين، وعلى آله الذين طهرهم اللّه من الأرجاس، وفضلهم على جميع الناس، أئمة الهدى ومصابيح الدجى، والعروة الوثقى، وبعد فهذه المقدمة لمولانا وشيخنا شيخ الإسلام والمسلمين والمجدد لما اندرس من علوم الدين من لايجارى في مضمار ولايشق له غبار الإمام أبي الحسين مجد الدين بن محمد بن منصور المؤيدي أيده اللّه تعالى تعليق على الرسالة الآتية المسماة: بالرسالة الحاكمة، وقد بين أيده اللّه مايجب العمل به في شأن المعارضة بين أئمة الهدى ونجوم الاقتداء، قال أيده اللّه تعالى:

(1/185)


الحمدلله وسلام على عباده الذين اصطفى، مؤلف هذه الرسالة هو القاضي شيخ الإسلام وأستاذ الأئمة الأعلام عبد اللّه بن علي الغالبي الضحياني رضي اللّه عنهما فيما شجر من النزاع بين الإمام الأواه المنصور بالله محمد بن عبد اللّه الوزير وبين الإمام الأمجد المتوكل على اللّه المحسِّن بن أحمد سلام اللّه عليهم ومن في جانبي الإمامين من الأعلام. واعلم أنه لما كان الإمامان من أئمة الهدى وأتباعهما من أعلام الاقتداء بل هم صفوة الصفوة في ذلك الزمن وخيرة الخيرة من أقطاب اليمن، ومقصدهم جميعاً الدعاء إلى اللّه تعالى وإحياء كتابه وسنة نبيه صلى اللّه عليه وآله وسلم، وإرشاد العباد وإصلاح البلاد بلا ميل إلى الهوى ولاتعريج على الدنيا، وإنما أوجب الخلاف اختلاف الآراء وتعارض الأنظار، وجب حمل الجميع على السلامة وعدم الإقدام على التورط في السب والملامة المحرمين قطعاً عقلا وشرعاً في حق من ظهر صلاحه، ففي الخبر النبوي الصحيح: ((سباب المسلم فسوق وقتاله كفر)) ولم يزل الخلاف هذا بين الأئمة الأعلام وهداة الأنام، ولم يظهر من أحد من أهل الحق أو التحقيق أي سب منهم لأحد أو تفسيق، لأن المسائل التي يختلفون فيها ليست من ضروريات الدين، ولامما وضحت في أحد الجانبين الأدلة القاطعة والبراهين، وثبوت الإمامة في الأفراد بعد المنصوص عليهم ليست قطعية على الصحيح كما صرح به الإمام محمد بن عبد اللّه الوزير رضي اللّه عنه في هامش الورقة الرابعة من هذه الرسالة حيث قال: ولانسلم قطعية إمامة كل إمام ولم ينتهض على ذلك دليل، وإنما القطعي أصل الإمامة لا أفراد الأئمة.. إلى آخر كلامه. ولو سلم كونها قطعية فليس الخلاف في كل قطعي يوجب التكفير والتفسيق، والله سبحانه وتعالى يقول: ((وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُم بِهِ وَلَكِن مَّا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ)) [الأحزاب:5] ((لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا)) ولم يفصل، وكلام

(1/186)


هذا العالم القدوة صاحب الرسالة ليس فيه أي سب أو تفسيق، والمقام لايحتمل البسط، والله ولي التسديد والتوفيق، وقد أوضحت هذا الكلام في صحفة (144) من شرح الزلف في الطبعة الأولى وفي الطبعة الثانية صفحة 220 ـ 221، وفي الطبعة الثالثة صفحة309.
كتبه المفتقر إلى اللّه تعالى مجد الدين بن محمد بن منصور المؤيدي غفر اللّه تعالى لهم آمين سنة (1406 هـ) بخط المفتقر إلى عفو اللّه تعالى نقلا عن خط مولانا الحجة الإمام أبي الحسين أيدهم اللّه تعالى قاسم صلاح يحيى عامر غفر اللّه تعالى له ولوالديه وللمؤمنين.

(1/187)


ومن نص هذه الرسالة ـ أي الحاكمة ـ قول القاضي العلامة عبدالله بن علي الغالبي مالفظه: هذا ولما نظرنا ماجرى بين علماء صنعاء عافاهم الله وكبيرهم الأخ العلامة الصفي أحمد بن إسماعيل العلفي عافاه الله وبين الإمام المنصور بالله محمد بن عبدالله حفظه الله وبعد خروجه من صنعاء إلى قوله: طلبناهم الرجوع إلى كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حكم مرضي، فإن قبلوا ذلك ورحبوا به ففي كتاب الله وسنة رسوله شفاء كل داء ونجاة من كل فتنة عمياء، وأنه إن قبله أحدهما وأبى الآخر واختار البقاء على هواه واعتقاده فقد خرج من الأخوَّة في الله، وبطلت حجته، وكان هو المخطئ وأرسلناها مع ثلاثة أمناء من عندنا هم أعدل أهل جهاتنا لايخافون في الله لومة لائم ولا ينخدعون ولايميلون عن الحق إن مال عنه مائل مع علمهم وحسن معرفتهم وهم سيدي العماد العلامة يحيى بن علي القاسمي المؤيدي، وسيدي العلامة يحيى بن أحمد العجري المؤيدي، والولد العلامة المجاهد عمير بن عيظة عريج شكر الله سعيهم، وكتب في صحائف الحسنات أجرهم، وقد تعبوا ودأبوا ولم يألوا جهداً في السعي في الصلاح أو المحاكمة وأعرضوا ماشرحناه على جميع علماء صنعاء والروضة الذين هم المشار إليهم وصوبوا مارقمناه وأجمعوا على أن المحاكمة عند الاختلاف طريقة الآل والإسلام، وأن ذلك قطعي بل بعضهم قال إنه ضروري، وأجمعوا أن من أبى فقد أخطأ واتبع الهوى وبطلت حجته عند الله آخرهم سيدي العلم قاسم بن أحمد عافاه الله قد كان بايع سيدي الحسام وشرط في بيعته المحاكمة، وكذلك سيدي العلامة أحمد بن محمد الكبسي حماه الله فقد كان بايع وشرط في بيعته المحاكمة، وصوب الجميع ماتضمنته رسالتنا فهذه ألفاظهم للأمناء، ثم وصل الأمناء إلى القاضي أحمد وذكروا له كلام العلماء فأبى من المحاكمة هو وسيدي الحسام عافاه الله، وقد كانوا أولا اعتلوا بالعلماء أنهم إذا قالوا طريقة الآل فخرجنا فأبوا بعد ذلك، ثم

(1/188)


وصلوا إلى الإمام المنصور بالله عافاه الله فامتثل ووضع يده على رأسه، وقال: مرحباً عند حَكَم يرضونه الأمناء، وصوب علماء صنعاء.
إلى قوله: ثم تعقب ذلك بعد وصول الأمناء لدينا كتب ورسائل القاضي أحمد تضمنت المنع من المحاكمة وإن من طلب ذلك فقد أحيا سنة معاوية، وكذلك كتاب سيدي الحسام عافاه الله وهي لدينا بخطوطهم، هذا ومن رقم علامته من العلماء في ذلك المرقوم الذي فيه القدح على المنصور بالله قد اختل سلك ذلك النظام فرأسهم في ذلك هو سيدي العلامة أحمد بن محمد الكبسي عافاه الله، وقد أرسل إلينا برسالته وكتب إلينا بخطه بإقراره بالنكث لبيعة الإمام المنصور بالله مما قدحوا به في حاله وأنه تبرأ من ذلك وأظهر توبته وحمد الله على تعجيل عقوبته في الدنيا، وأن ماوقع فيه عقوبة وأنه مغرور غره القاضي أحمد وذكر في رسالته أن الإمام المنصور بالله هو حجة الله وأنه عالم آل محمد، وعَرَّفنا نبث ذلك في البلاد وإظهار توبته، وكذلك العلامة المرجع ممن أعلم في المرقوم اعترف بالخطأ وأنه مكره على العَلاَمة.
إلى قوله: وهذا الأخ العلامة الصفي أكثر مايعوِّل عليه في إمامة سيدي محسن الأنهضية، وأن سيدي محسن أنهض ويجب على المنصور أن يسلمها إلى الأنهض، وإلا اختلت عدالته وأضرب عما في المرقوم وليت شعري من أين هذه الأنهضية مع عدم الناصر.

(1/189)


إلى قوله: ومن أنهض من المنصور عند وجود الناصر، وسل عنه فتكاتهِ في الشام واليمن مما لايحتاج إلى بيان وأخذه للمعاقل التي لايقدر عليها ملوك العجم والجبابرة من ملوك العرب. هذا مضمون ذلك العالم وهو المحسوس المعلوم فقد عرفت أن هؤلاء عمدة العلماء وغيرهم أتباعهم ماخلا الصنو العلامة فقد اختل نظام ذلك المرام بلاشك ولاريب، ثم لايخفى ما كثره القاضي في كتبه ورسالته من أن مسألة الإمام قطعية فمسلم وليس محل النزاع كما ستعرف وإن كان محل النزاع كما توهمه وأوهمه فليست عقلية كمسائل الاعتقاد في التوحيد والعدل بل هي قطعية شرعية، وإنما دخلت في علم الأصول لترتب أحكامها على العلم كمسألة الشفاعة، فهي فرعية ترتبت على علمي، ولهذا لايجوز التقليد فيها ويوضح ذلك أن القطعي وجوب نصب الإمامة على الأمة بدليل إجماع الصحابة في المبادرة إليه قبل مواراة النبي صلى الله عليه وآله وسلم بلا نكير.

(1/190)


وكذلك اعتبار الشروط في الإمام قطعية، لأن الإمام قائم مقام الرسول، فلابد أن يحوز صفاته إلا الوحي، وكذلك لايجوز لأحد عامي ولاعالم أن يعتقد إمامته إلا بعد ثبوت تلك المزايا والصفات له إما بالتواتر أو إجماع العلماء أو الاختبار حتى يحصل له العلم باتصافه بها، هذا ظاهر كلام الأئمة في الإيراد والإصدار، ذكره الفقيه ابن سليمان وقرره العلامة علي بن محمد البكري والإمام عز الدين وقد صرح به قاسم بن حسن إلا في مسألة العلم، فإنه شرع للعوام التقليد للعلماء فيه لعدم معرفتهم، فيعملون بقول العلماء إن الإمام قد أحرز القدر المعتبر فيه بخلاف سائر الشروط فلا بد له من العلم بها، وبهذا قال الإمام أحمد بن يحيى عليه السلام، فإنه ذكر أنه يجب على العوام معرفة ما عدا العلم من الشرائط بالخبرة أو التواتر وإذا عرف الإمام من العامي أن اعتقاده صدر لاعن دليل فلاشك في لزوم الإنكار لإقدامه على قبيح، ذكر ذلك الإمام عز الدين وعلي بن محمد البكري، وليس لقائل أن يجوز التقليد في المسائل الفرعية القطعية الظنية، لأنا نقول: لايجوز ذلك فيما كان منهما عملي يترتب على علمي كمسائل الشفاعة والموالاة.
ومسألة الإمام إما علمية كاعتقاد إمامته أو عملية تترتب على علمي كتسليم الحقوق إليه ووجوب طاعته ونصرته، وهي مترتبة على العلم باستجماعه للشروط، وقد أضرب الأخ الصفي عن مابناه وبنوه الأئمة، بل لايزال يبعث بواحد يلزم الناس اعتقاد إمامة سيدي محسن وتسليم الحقوق إليه إلى العالم والجاهل، وهو عين القبيح وطلبا لتقليده، وهذا على فرض عدم تقدم مجاب وإلا فلايجوز له ولا لغيره الاعتقاد، وهذا منه محض طلب أن يقلدوه الناس على اعتقاده فياسبحان الله.

(1/191)


وأما قول الأخ الصفي إنه لاتحاكم في هذه المسألة لأنه لاتحاكم إلا في المسائل الظنية، وذكر ذلك في الرسالة الواصلة إلينا بخطه ومن طلب المحاكمة فقد أحيا سنة معاوية، وإنما الطريق المناظرة. فنقول: قد خلط الأخ الصفي المسائل القطعية عقليها وشرعيها وليس كذلك فإن مسائل العلم العقلية كمعرفة الصانع وصفاته ومسائل التوحيد والعدل عقلية ليس فيها إلا المناظرة فقط، وأما المسائل القطعية الشرعية أعني التي دليلها الشرع الشريف لا العقل، فمرجعها الكتاب والسنة والإجماع والقياس، وقد أجمعت الأمة وفيها الآل أن نصب الحكام للحكم وفصل الشجار بين الناس في القطعي والظني وكم في المعاملات من قطعي كآي المواريث وغيرها، ولو كان كما ذكره القاضي الصفي إنما هو في الظني لا القطعي، للزم كل حاكم أن ينظر في القضايا فما وجده قطعياً خلى المتشاجرين على فتنتهم وهواهم، مثلاً لايحكم في ميراث الزوجة ولافي ميراث الزوج ولا الأولاد ولا الإخوة لأم وماثبت في الفرائض بالقطع من كتاب وسنة، وهذا لايقول به أحد من العلماء ولاغيرهم، إلا أنه يحكم فيما قدم عليه من الخصومات قطعيها وظنيها فإن كان ظنياً صار ما حكم به في الظني قطعياً ينفذ ظاهراً لاباطناً ولو كان خلاف مذهب الخصم، وأما القطعي فذاك حكمه في نفوذه الحكم به ظاهراً وباطناً ولاينقض حكمه العلمي فقط، فعرفت هذا القول وخرقه للإجماع، ولنذكر الدليل على ثبوت التحاكم في هذه المسألة وهي معارضة الإمام أو الخروج عن بيعته بعد صحتها وغيرها، وأن المحاكمة طريق لأهل الشريعة الغراء وإجماع الأمة أن الحاكم والإمام لايحكم لنفسه ولايرد عند الاختلاف إلى الهوى ويتبع كل أحد هوى نفسه، وأما شرع نصب الأئمة والحكام لفصل الخصومات ودفع المظالمات وردع المعتدين ويعين المظلومين.

(1/192)


فأولاً في خصوص محل النزاع محاكمة الوصي أمير المؤمنين، ومعلوم أنه الإمام قطعاً عند الموالف والمخالف، والحال أن إمامته قطعية في تلك الحال، وكتاب الله كله له ولم يفعلها معاوية اللعين إلا خديعة ونشر المصاحف فبين أمير المؤمنين لأصحابه ذلك ولم يرد المحاكمة بل قبلها بشرط أن يحكم الحكمان بكتاب الله واشترط أن يكون الحكم مرضياً وهو عبدالله بن العباس جنب الخداع المكار فأبى الخوارج وقالوا: أبا موسى. وهو عدو الوصي الذي امتنع من بيعة أمير المؤمنين، وثبط أهل الكوفة من بيعته، وأكرهوه عليه، ثم بعد ذلك مرقت المارقة واعترضوا عليه أولاً بأنه حَكَّم الرجال ولاحكم إلا لله فاحتج عليهم عبدالله بن العباس رضي الله عنه وأمير المؤمنين عليه السلام بنفسه. وقالوا في الحجة على الخوارج: إن الله جل جلاله قد حكم الرجال في ربع دينار أوأربعة ونحوها من صيد البر للمحرم فقال: ((يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِّنكُمْ هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ)) وحكم الرجال في المرأة حيث قال: ((فَابْعَثُواْ حَكَمًا مِّنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِّنْ أَهْلِهَا)) فكان على مقتضى قول القاضي أحمد أن يقرر أمير المؤمنين قول الخوارج إنه لاحكم في الإمامة للرجال ولايحكم ويقول الوصي صدقتم، وإنما أكرهوني بل رد قولهم واحتج عليهم بأن التحكيم في هذا وغيره سنة الله، ولن تجد لسنة الله تبديلا، وإن كان الطالب لحكم الله والرجوع إلى كتاب الله عند الاختلاف محيياً لسنة معاوية فيا سبحان الله، فالأخ الصفي قد أحيا بإنكار التحاكم سنة المارقين، والإمام المنصور بالله أحيا سنة جده أمير المؤمنين وسلفه من الأئمة السابقين: ((إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَن يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا)) [النور:51]، ((وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِن شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ)) [الشورى:10] ((فَإِن تَنَازَعْتُمْ

(1/193)


فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ)) [النساء:59] والرد إلى الله هو الرد إلى كتاب الله، والرد إلى الرسول هو الرد إلى سنته صلى الله عليه وآله وسلم. وعموم (من شيءٍ) أدخل القطعي والظني فما المخصص الشرعي كهذه المسألة، وقوله تعالى: ((فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا)) [النساء:56]، وانظر إلى عموم قوله من شيء وما المخصص الشرعي، ولله در كتاب الله: ((وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِن فَاءتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ)) [الحجرات:9]، وهذا في محل النزاع والقسط العدل ماورد في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وآله وسلم.
وروينا عن أمير المؤمنين عليه السلام قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: ((ستكون فتنة)) فقلت: يارسول الله فما المخرج منها؟ قال: ((كتاب الله فيه نبأ من قبلكم وخبر من بعدكم وحكم مابينكم والفصل ليس بالهزل من اتبع الهدى من غيره أضله الله وهو الحبل المتين والذكر الحكيم والصراط المستقيم وهو الذي لاتزيغ به الأهواء ولاتلتبس به الألسنة ولاتشبع منه العلماء ولايَخْلَقُ على كثرة الرد ولاتنقضي عجائبه)) وفي رواية: ((من قال به صدق ومن حكم به عدل ومن عمل به أجر ومن جعله أمامه قاده إلى الجنة ومن جعله خلفه ساقه إلى النار)).

(1/194)


وروي عن جابر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان إذا خطب احمرت عيناه وعلا صوته كأنه منذر جيش يقول: صبحكم ومساكم. ويقول: بعثت أنا والساعة كهاتين. ويفرق بين أصابعه السبابة والوسطى ويقول: أما بعد فإن خير الهدى هدي محمد _صلى الله عليه وآله وسلم_، فهذه القطعية ومادلت عليه فهو إجماع الأمة كما شرحناه، وهذا على فرض أن محل النزاع قطعي وقد نصوا أن اختلاف الأئمة والمعارضة بينهما وكونه هل يصح إمامان في قطرين وغير ذلك ظني لاقطعي فالأمر أهون فتكون المحاكمة واجبة قطعية عند الأخ العلامة ولكن الأخ العلامة كثير التمويه على من لامعرفة له بمسائل الإمامة كما هو شأن الأكثر من أهل الفقه لايعرفون إلا مافي شرح الأزهار ومحلُ بحثها وسعةُ أدلتها وذيولُها في كتب الأصول وفي مسائلها دقة تحتاج إلى نظر ثاقب لكثرة الخلافات والتشكيكات، والواجب على العالم والعامي معرفتها بأصولها وأدلتها وفروعها للحاجة الماسة إليها، ولايعذر أحد عن جهلها كما ذكره علماء آل الرسول صلى الله عليه وآله وسلم.

(1/195)


إلى قوله: والذي نعتقده وندين به نحن ومن قد صحت له إمامة الإمام المنصور بالله بالتواتر وإجماع العلماء بكماله لشروط الإمامة مع معرفتي لها منه لملازمتي له من أيام القراءة في المعلامة إلى الآن، واختباره في بلاد خولان الشام بكماله في الشجاعة وجودة الرأي كان إذا رجعنا إلى مشورته وتبعناها وقع فيها البركة وإن تركناها وقعنا في ضيق وتحير على مايترتب على الترك، يرى بنور الله والكرم والسياسة وعلو الهمة والعفة وصلابته في دين الله لايخاف لومة لائم وغضبه عند مخالفة الأمور الشرعية أشد الغضب، وأحكامه التي فيها فصل الخطاب، وجواباته ورسائله التي تدل على سعة علمه وفصاحته التي لاتنكر، وقد أبلينا العذر وتعبنا وأتعبنا في النظر، والرجوع للمشككين إلى كتاب الله فأبوا فبقينا على علمنا، وقد توضح بحمد الله عدم صحة ماقدحوا به مما عدوه قادحاً بما رقمناه عنهم ولله الحمد.

(1/196)


القسم الثاني: قسم الردود والتعليقات ويحتوي على:
مع ابن حجر في فتح الباري
مع ابن تيمية
مع ابن القيم في زاد المعاد
مع ابن الوزير في إيثار الحق على الخلق
مع العامري في بهجة المحافل
مع الإمام يحيى بن حمزة (ع) في الرسالة الوازعة
مع الإمام القاسم بن محمد (ع) في رسالة التحذير
مع الإمام المؤيد بالله (ع) في شرح التجريد
مع ابن الأمير في سبل السلام
مع الجلال في كتاب العصمة عن الضلال
مع الجلال في فيض الشعاع
مع الشوكاني في العقد الثمين في وصاية أمير المؤمنين
مع الشوكاني في فتح القدير
مع السياغي في الروض النضير
التعليق على منتهى المرام في شرح آيات الأحكام
مع العباس بن أحمد في تتمة الروض النضير
مع محمد عبده يماني في كتابه علِّموا أولادكم حب آل بيت النبي (ص)
فتاوى وبحوث
مسائل العلامة محمد بن منصور المؤيدي إلى الإمام المنصور محمد بن يحيى حميد الدين (ع)ـ
اختيارات العلامة محمد بن منصور (ع)ـ
البلاغ المبين

(1/197)


مع ابن حجر في فتح الباري
تأليف
الإمام الحجة مجد الدين المؤيدي أيده الله تعالى
اعتراف المحدثين بما ورد في علي وفي سائر أهل البيت عليهم السلام
الحمدلله وسلام على عباده الذين اصطفى.
قال في الجزء السابع من فتح الباري شرح البخاري صفح (71) مالفظه: قال أحمد وإسماعيل القاضي والنسائي وأبو علي النيسابوري لم يرد في حق أحد من الصحابة بالأسانيد الجياد أكثر مما جاء في علي.
وقال في صفح (58) منه بعد كلام مالفظه: ويؤيده مارواه البزار عن ابن مسعود. قال: كنا نتحدث أن أفضل أهل المدينة علي بن أبي طالب، رجاله موثقون انتهى.
قلت: وقال الحافظ ابن عبدالبر في الاستيعاب: وقال أحمد بن حنبل وإسماعيل بن اسحاق القاضي: لم يرو في فضائل أحد من الصحابة بالأسانيد الحسان ماروي في علي بن أبي طالب، وكذلك أحمد بن شعيب بن علي النسائي رحمه الله، انتهى من صفح (51) من الجزء الثالث في الاستيعاب أيضا، وهو كذلك في طبعة دار الكتاب العربي _بيروت السطر السابع، وروي عن سلمان وأبي ذر والمقداد وخباب وجابر وأبي سعيد الخدري وزيد بن أرقم: أن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أول من أسلم وفَضّلَه هؤلاء على غيره.
وفيه _أي الاستيعاب_ بالسند إلى ابن عباس رضي الله عنهما قال: كنا إذا أتانا الثبت عن علي لم نعدل به. انتهى.
وفي الجزء السابع من فتح الباري صفح (73): فقد روى ابن سعد بإسناد صحيح عن ابن عباس قال: إذا حدثنا ثقة عن علي بفتيا لم نتجاوزها. انتهى.

(1/198)


وفي الفتح الجزء السابع صفح (138) في فضائل أم المؤمنين خديجة بنت خويلد عليها السلام مالفظه: وفي ذكر البيت معنى آخر، لأن مرجع أهل بيت النبي صلى الله عليه وآله وسلم إليها لما ثبت في تفسير قوله تعالى: ((إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ)) [الأحزاب:33] قالت أم سلمة: لمَاّ َنزلت دعا النبي صلى الله عليه وآله وسلم فاطمة وعلياً والحسن والحسين فجللهم بكساء فقال: ((اللهم هؤلاء أهل بيتي الحديث أخرجه الترمذي وغيره)).
قلت: وأخرجه مالك ووكيع وأحمد بن حنبل وإسحاق ومسلم وأبو داود وعامة المحدثين وأهل البيت عليهم السلام، وقد استوفيت ذلك في شرح الزلف صفح (334) الطبعة الأولى، ص 334 الطبعة الثانية، ص442 الطبعة الثالثة.
قال ـ أي ابن حجر ـ: ومرجع أهل البيت هؤلاء إلى خديجة لأن الحسنين من فاطمة وفاطمة بنتها وعلي نشأ في بيت خديجة وهو صغير ثم تزوج بنتها بعدها _ أي بعد موتها ) _ فظهر رجوع أهل البيت النبوي إلى خديجة دون غيرها. انتهى المراد.
وهو في ذكر البشارة لها عليها سلام الله ورضوانه ببيت في الجنة.
كتبه المفتقر إلى الله تعالى مجد الدين بن محمد بن منصور المؤيدي غفر الله له وللمؤمنين، نقلته من خطه وإملائه كتب الفقير إلى الله أحمد بن يحيى بن أحمد حجر وفقه الله.
فائدة: ومما يدل على أن أمير المؤمنين عليه السلام كان يخطيء من خالفه من الصحابة، لأن الحق معه كما ورد في النصوص النبوية ما أورده ابن تيمية في الجزء 20 صفح 24 في الطبعة الأولى من فتاواه وقال علي في قضية التي أرسل إليها عمر فأسقطت لما قال له عثمان وعبدالرحمن بن عوف: أنت مؤدب ولاشيء عليك (إن كانا اجتهدا فقد أخطآ، وإن لم يكونا اجتهدا فقد غشاك).

(1/199)


حديث سد الأبواب
في فتح الباري صفح (14) من الجزء السابع مالفظه: تنبيه: جاء في سد الأبواب التي حول المسجد أحاديث يخالف ظاهرها حديث الباب.
قلت: أي الذي في البخاري بلفظ: (( سدوا الأبواب إلا باب أبي بكر )) قال _أي صاحب الفتح_: منها حديث سعد بن أبي وقاص قال: أمرنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بسد الأبواب الشارعة إلى المسجد وترك باب علي. أخرجه أحمد والنسائي، وإسناده قوي.
وفي رواية للطبراني في الأوسط رجالها ثقات من الزيادة قالوا: يارسول الله سددت أبوابنا فقال: ما أنا سددتها ولكن الله سدها. وعن زيد بن أرقم قال: كان لنفر من الصحابة أبواب شارعة في المسجد، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ((سدوا هذه الأبواب إلا باب علي )) فتكلم ناس في ذلك فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ((إني والله ماسددت شيئاً ولافتحته ولكن أمرت بشيء فاتبعته )) أخرجه أحمد والنسائي والحاكم ورجاله ثقات. وعن ابن عباس قال: أمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بأبواب المسجد فسدت إلا باب علي، وفي رواية: وأمر بسد الأبواب غير باب علي، فكان يدخل المسجد وهو جنب ليس له طريق غيره. أخرجهما أحمد والنسائي ورجالهما ثقات. وعن جابر بن سمرة أمرنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بسد الأبواب كلها غير باب علي، فربما مر فيه وهو جنب. أخرجه الطبراني. وعن ابن عمر قال: كنا نقول في زمن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم خير الناس أبو بكر ثم عمر ولقد أعطي علي بن أبي طالب ثلاث خصال لأَن تكون لي واحدة منهن أحبُّ إلي من حُمر النعم: زوجه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ابنته فولدت له، وسد الأبواب إلا بابه في المسجد، وأعطاه الراية يوم خيبر. أخرجه أحمد وإسناده حسن.

(1/200)


وأخرج النسائي من طريق العلاء بن عرار بمهملات قال: فقلت لابن عمر: أخبرني عن علي وعثمان فذكر الحديث، وفيه: وأما علي فلاتسأل عنه أحداً، وانظر إلى منزلته من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وقد سد أبوابنا في المسجد وأقرَّ بابه. ورجاله رجال الصحيح إلا العلاء وقد وثقه يحيى بن معين وغيره، وهذه الأحاديث يقوي بعضها بعضاً وكل طريق منها صالح للاحتجاج فضلا عن مجموعها، وقد أورد ابن الجوزي هذا الحديث في الموضوعات أخرجه من حديث سعد بن أبي وقاص وزيد بن أرقم وابن عمر مقتصراً على بعض طرقه عنهم، وأعلَّه ببعض من تكلم فيه من رواته، وليس ذلك بقادح لما ذكرت من كثرة الطرق، وأعلَّه أيضاً بأنه مخالف للأحاديث الصحيحة الثابتة في باب أبي بكر. إلى قوله: وأخطأ في ذلك خطأً شنيعاً، فإنه سلك في ذلك رد الأحاديث الصحيحة بتوهمه المعارضة مع أن الجمع بين القضيتين ممكن، وقد أشار إلى ذلك البزار في مسنده فقال: وساق كلام البزار إلى قوله: فالجمع بينهما بما دل عليه حديث أبي سعيد الخدري يعني الذي أخرجه الترمذي أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: ((لايحل لأحد أن يطرق هذا المسجد جنباً غيري وغيرك)). إلى قوله: ويؤيد ذلك ما أخرجه إسماعيل القاضي في أحكام القرآن من طريق المطلب بن عبدالله بن حنطب أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يأذن لأحد أن يمر في المسجد وهو جنب إلا لعلي بن أبي طالب ثم قال: لأن بيته كان في المسجد. قلت: بالله عليك أيها المنصف انظر كيف يتمحلون لصرف الفضائل الشهيرة، ويدافعون في أوجه الدلائل المنيرة، وقد صرح الرسول صلى الله عليه وآله وسلم أن هذه خصوصية وفضيلة خصه الله بها كما خص رسوله صلى الله عليه وآله وسلم بقوله: (( لايحل لأحد أن يطرق هذا المسجد جنباً غيري وغيرك )) وبقوله صلى الله عليه وآله وسلم: (( ما أنا سددتها ولكن الله سدها )) وبقوله صلى الله عليه وآله وسلم: (( إني والله ماسددت شيئاً ولافتحته ولكن

(1/201)


أُمرت بشيء فاتبعته )) وقد فهم ذلك الصحابة وعلموه، قال ابن عمر: هو ذاك بيته أوسط بيوت النبي صلى الله عليه وآله وسلم. أخرجه البخاري قال في الفتح: أي أحسنها بناء. وقال الدراوردي معناه: أنه في وسطها وهو أصح ووقع عن النسائي من طريق عطاء بن السائب عن سعد بن عبيدة في هذا الحديث فقال ـ أي ابن عمر ـ: لاتسأل عن علي ولكن انظر إلى بيته في بيوت النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وله من رواية العلاء بن عرار قال: سألت ابن عمر عن علي فقال: انظر إلى منزلته من نبي الله ليس في المسجد غير بيته. انتهى.
وقد سبق لهم فيما رووه من باب أبي بكر قولهم فيه إشارة قوية إلى استحقاقه للخلافة، بل قال صاحب الكتاب وقد ادعى بعضهم أن الباب كناية عن الخلافة.. الخ.
مع أن الواقع أن الرواية إن صحت في قصة أبي بكر فإنما هي في الخوخة كما سيأتي من اعترافهم بذلك، قال في الفتح في صفح (15): ومحصل الجمع أن الأمر بسد الأبواب وقع مرتين في الأولى استثنى علي لما ذكره. قلت: أي العلة التي ذكروها المخالفة للنصوص المعلومة، وهذا كلام أقربهم إلى الإنصاف.
قال: وفي الأخرى استثنى أبو بكر، ولكن لايتم ذلك إلا بأن يحمل مافي قصة علي على الباب الحقيقي ومافي قصة أبي بكر على الباب المجازي، والمراد به الخوخة كما صرح به في بعض طرقه، وكأنهم لما أمروا بسد الأبواب سدوها وأحدثوا خُوخاً يستقربون الدخول إلى المسجد منها فأمروا بعد ذلك بسدها.

(1/202)


قلت: قوله: يستقربون الدخول، توصُّل إلى جعلها في معنى الباب لتمشية روايته، ولتكون مقاربة لباب علي عليه السلام، وذلك لايصح أصلا فلو كانت كذلك لما كان للأمر بسد الأبواب ثمرة أصلا، ولكان يقول بتصغير الأبواب لابسدها. قال: فهذه طريقة لابأس بها في الجمع بين الحديثين، وبها جمع بين الحديثين المذكورين أبو جعفر الطحاوي في مشكل الآثار وهو في أوائل الثلث الثالث منه، وأبو بكر الكلاباذي في معاني الأخبار وصرح بأن بيت أبي بكر كان له باب من خارج المسجد وخوخة إلى داخل المسجد وبيت علي لم يكن له باب إلا من داخل المسجد. والله أعلم.
قلت: وقد استوفيت الروايات والكلام على ذلك وغيره في كتاب لوامع الأنوار نفع الله تعالى به وماهذه إلا عجالة سفر، فمن أراد الاستكمال في هذا الباب وغيره فليراجعه إن شاء الله ففيه بغية الرائد وضالة الناشد.
والحق أبلج ما تخيل سبيله والحق يعرفه أولوا الألباب
والله ولي التسديد والتوفيق. حرر بالطائف 29 شعبان سنة 1393 من الهجرة النبوية على صاحبها وآله أفضل الصلوات والتسليم، وكان النزول إلى الحرم الشريف للعمرة يوم الجمعة 2 شهر الله المعظم رمضان الكريم، ثم كان التوجه من جدة إلى نجران دار الإقامة في هذه المدة أيام الهجرة يوم الإثنين خامس الشهر المبارك الكريم.
سبحان الله العظيم وبحمده،سبحان الله العظيم ولاحول ولاقوة إلا بالله العلي العظيم.

(1/203)


خبر المنزلة ودلالته على خلافة أمير المؤمنين عليه السلام
الحمدلله وحده والصلاة والسلام على من لانبي بعده وآله المقتفين أثره.
في فتح الباري شرح البخاري صفح (75) من الجزء الثامن في شرح خبر المنزلة مالفظه: قوله: ((أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى)) أي نازلا مني منزلة هارون من موسى والبا زائدة. وفي رواية سعيد بن المسيب عن سعد فقال علي: "رضيت رضيت". أخرجه أحمد، ولابن سعد من حديث البراء وزيد بن أرقم نحو هذه القصة قال: بلى يارسول الله. قال: فإنه كذلك. وفي أول حديثهما أنه عليه الصلاة والسلام قال لعلي: لابد أن أقيم أو تقيم فأقام علي إلى قوله: وإسناده قوي، ووقع في رواية عامر بن سعد بن أبي وقاص عند مسلم والترمذي قال: قال معاوية لسعد: مامنعك أن تسب أبا تراب قال: أما ماذكرت ثلاثاً قالهن له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فلن أسبه فذكر الحديث وقوله: (( لأعطين الراية غداً رجلا يحبه الله ورسوله )) وقوله: لمّا نزلت: ((فَقُلْ تَعَالَوْاْ نَدْعُ أَبْنَاءنَا وَأَبْنَاءكُمْ)) [آل عمران:61] فدعا علياً وفاطمة والحسن والحسين فقال: (( اللهم هؤلاء أهلي )) وعند أبي يعلى عن سعد من وجه لابأس به قال: لو وضع المنشار على مفرقي على أن أسب علياً ماسببته أبداً. وهذا الحديث _أعني حديث الباب دون الزيادة_ روي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن غير سعد من حديث عمر وعلي نفسه وأبي هريرة وابن عباس وجابر بن عبدالله والبراء وزيد بن أرقم وأبي سعيد وأنس وجابر بن سمرة وحبشي بن جنادة ومعاوية وأسماء بنت عميس وغيرهم، وقد استوعب طرقه ابن عساكر في ترجمة علي، وقريب من هذا الحديث في المعنى حديث جابر بن سمرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لعلي: ((من أشقى الأولين؟ قال: عاقر الناقة. قال: فمن أشقى الآخرين؟ قال: الله ورسوله أعلم. قال: قاتلك)). أخرجه الطبراني وله شاهد من حديث عمار بن ياسر عند أحمد، ومن حديث صهيب عند الطبراني، وعن علي نفسه عند أبي يعلى بإسناد لَيِّن، وعند البزار بإسناد جيد.

(1/204)


واستدل بحديث الباب على استحقاق علي للخلافة دون غيره من الصحابة، فإن هارون كان خليفة موسى، وأجيب بأن هارون لم يكن خليفة موسى إلا في حياته لابعد موته لأنه مات قبل موسى باتفاق أشار إلى ذلك الخطابي.
وقال الطِبِّي: معنى الحديث أنه متصل بي نازل مني منزلة هارون من موسى وفيه تشبيه مُبْهَم بيَّنه بقوله: إلا أنه لانبي بعدي. فعرف أن الاتصال المذكور بينهما ليس من جهة النبوة بل من جهة مادونها وهو الخلافة، ولما كان هارون المشبه به إنما كان خليفة في حياة موسى، دل ذلك على تخصيص خلافة علي للنبي صلى الله عليه وآله وسلم بحياته، والله أعلم.
قلت: الحمدلله وحده، قد اعترف هؤلاء الحفَّاظ بوجه دلالة النصوص على الخلافة كما يقوله أهل البيت عليهم السلام ومن وافقهم، وماذكروه من وفاة هارون عليه السلام لايصلح شبهة فضلاً عن حجة، فإن موته قبل موسى عليه السلام لايؤثر في استحقاقه لخلافته قطعاً وشركته في الأمر، والمعلوم بالنص القرآني حيث جعله شريكه في أمره، وحيث كان أحق الخلق بمقامه، أنه لو عاش لكان هو خليفته، وقد نزل علياً عليه السلام في هذا الاستحقاق وفي هذه الفضيلة منزلته، وهو لفظ عام بدلالة الاستثناء، وقد أكد كونه في جميع منازله باستثنائه للنبوة، وقد دل دلالة قاطعة أنه لو كان بعده صلى الله عليه وآله نبي لكان علي نبياً، فكيف يجوز أن يستحق مقامه صلى الله عليه وآله وسلم غيره، وهذا واضح، ولعمر الله إن مثل ذلك لايخفى على هؤلاء النُّظَّار، ولكن لِهَوى النفوس سريرة لاتعلم.
والحق أبلج والبرهان متضح .... وبيننا محكم التنزيل والسور
نعم قال في الفتح: وقد أخرج المصنف من مناقب علي أشياء في غير هذا الموضع منها حديث عمر: (( علي أقضانا )) وسيأتي في تفسير البقرة، وله شاهد صحيح من حديث ابن مسعود، وعند الحاكم.

(1/205)


ومنها حديث قتاله البغاة، وهو في حديث أبي سعيد: (( تقتل عماراً الفئة الباغية )) وكان عمار مع علي. وقد تقدمت الإشارة إلى الحديث المذكور في الصلاة.
ومنها: حديث قتاله الخوارج، وقد تقدم من حديث أبي سعيد في علامات النبوة، وغير ذلك مما يعرف بالتتبع.
وأوعب من جمع مناقبه من الأحاديث الجياد النسائي في كتاب الخصائص.
وأما حديث: (( من كنت مولاه فعلي مولاه )) فقد أخرجه الترمذي والنسائي، وهو كثير الطرق جداً، وقد استوعبها ابن عقدة في كتاب مفرد وكثير من أسانيدها صحاح وحسان، وقد روينا عن الإمام أحمد قال: مابلغنا عن أحد من الصحابة مابلغنا عن علي بن أبي طالب. انتهى المراد نقله في المكان والتاريخ السابقين والقصد التقريب للباحث، والله سبحانه ولي التوفيق.
قال في الأصل: كتبه المفتقر إلى الله تعالى مجد الدين بن محمد المؤيدي غفر الله لهما وللمؤمنين.

(1/206)


مع ابن تيمية
تأليف
الإمام الحجة مجد الدين المؤيدي أيده الله تعالى
[حول الشيعة والتشيع]
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمدلله وحده..
قال ابن تيمية في الجزء الثالث عشر من فتاواه الطبعة الأولى صفح (31) في ذكر الخوارج مالفظه: قد ثبت عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، أحاديث صحيحة في ذمهم والأمر بقتالهم.. الخ.
قلت: ولكنهم يقبلون حديثهم ويأخذون عنهم لأنهم ليسوا بشيعة، ويقولون: إن مقاصدهم صالحة، وإن قال الرسول صلى الله عليه وآله وسلم: ((إنهم يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية)) و((إنهم كلاب النار)) و((أنهم شر الخلق والخليقة يقتلهم خير الخلق والخليقة)). هكذا يقول لسان حالهم كما يعلم ذلك من تصفح صرائح كلامهم.
قال في ذلك الصفح: ثم الشيعة لما حدثوا لم يكن الذي ابتدع التشيع قصده الدين بل كان غرضه فاسداً، وقد قيل: إنه كان منافقاً زنديقاً.. الخ.

(1/207)


قلت: لأن التشيع أصله محبة أمير المؤمنين وأهل بيته عليهم السلام وتفضيله على غيره كما ذكره علماء الأمة من المحدثين وغيرهم، وهو الفطرة التي قضى بها كتاب الله تعالى بمثل قوله تعالى: ((قُل لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى)) [الشورى:23] ونحو قوله تعالى: ((إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا)) [الأحزاب:33]، ((فَقُلْ تَعَالَوْاْ نَدْعُ أَبْنَاءنَا وَأَبْنَاءكُمْ)) [آل عمران :61] الآية، ((إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ..))[المائدة:58] وسنة رسوله صلى الله عليه وآله وسلم بمثل خبر الغدير، والمنزلة، وخبر فتح خيبر، وبراءة، وخبر: (( لايحبك إلا مؤمن ولايبغضك إلا منافق )) وغير ذلك مما عرفه الخاص والعام وامتلأت به دواوين الإسلام، فلهذا ترمونهم جميعاً بكل فاقرة وبكل حجر ومدر، وتقولون: ليس قصدهم الدين، وإن أغراضهم فاسدة. وليس الغرض والمقصود الغلاة بل من يطلق عليه اسم الشيعة كما ذكرنا ليدخل في ذلك أصحاب أمير المؤمنين الخلص وأصحاب أولاده بل وأولاده أنفسهم لأن هذا مذهبهم جميعاً، بل وأبرار صحابة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كعمار وسلمان والمقداد وأبي ذر رضي الله عنهم لأنهم من الشيعة القائلين بتفضيله بإجماع الأمة، لأنهم قد حدوا التشيع بحد يدخل فيه الجميع حيث قالوا: إنه محبة علي وتفضيله على غيره كما حدَّه به ابن حجر وغيره. هكذا يصرح به لسان مقالهم، سبحانك اللهم هذا بهتان عظيم.
قال ابن تيمية في ذلك الصفح: فأصل بدعتهم _أي الشيعة_ مبنية على الكذب.
قلت: لروايتهم فضائل أهل البيت عليهم السلام.
قال: وتكذيب الأحاديث الصحيحة.
قلت: أي التي وضعت لمعاوية وأضرابه وروايات الحشوية للتشبيه والجبر ونحوها.
قال: ولهذا لايوجد في فرق الأمة من الكذب أكثر مما وجد فيهم.

(1/208)


قلت: لكثرة مارووه في تنزيه الله سبحانه وتعالى وفضائل أهل البيت عليهم السلام.
وقال في صفح (32): والشيعة لايكاد يوثق برواية أحد منهم من شيوخهم.
قلت: لأن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم قد شهد لهم بالإيمان ـ أعني الشيعة المخلصين ـ بقوله صلى الله عليه وآله وسلم في علي عليه السلام: (( لايحبه إلا مؤمن ولايبغضه إلا منافق )) أخرجه أهل الصحاح وغيرهم, فلايوثق برواية أحد منهم في حكم الشيخ ابن تيمية وأضرابه من أهل حران وأتباعهم، فاعتبر إن كنت ممن يبصر.
قال في ذلك الصفح: ولهذا أعرض عنهم أهل الصحيح فلايروي البخاري ومسلم أحاديث علي إلا عن أهل بيته، كأولاده مثل الحسن والحسين ومثل محمد بن الحنفية وكاتبه عبيدالله بن أبي رافع.. إلخ.
قلت: هؤلاء الذين لم يستطيعوا القدح فيهم خشية الفضيحة بين الأمة، ولكن قد قدحوا في جميع أصحابهم والرواة عنهم إلا من روى مايوافق هواهم، وبذلك سدوا الباب عن الأخذ عن أمير المؤمنين وعن أولاده إلا رواية أخبار يسيرة لاتعارض مذاهبهم، ولهذا لم يرووا عن الإمام زيد بن علي ولاعن عبدالله بن الحسن الكامل ولاعن جعفر الصادق ولاعن الإمام محمد بن عبدالله النفس الزكية ولاعن إخوته الأئمة، بل قد قدحوا في جعفر بن محمد الصادق، فقال يحيى بن سعيد القطان: مجالد أحب إلي منه. والقطان شيخ مشائخ البخاري، وقدحوا في الإمام النفس الزكية محمد بن عبد الله، فقال البخاري المخذول: لايتابع على حديثه، وذلك لما أمكنتهم الفرصة بمساعدة الدولة لهم، ولم يرووا عن أحد من أضرابهم، ولم يتركوا جهداً في إطفاء نورهم، وإخفاء ذكرهم، ومحو أثرهم هكذا ينطق لسان حالهم، ويأبى الله إلا أن يتم نوره.
وقال في ذلك الصفح: وقام قوم من أهل الفتنة والظلم فقتلوا عثمان فتفرق المسلمون بعد مقتل عثمان، ولما اقتتل المسلمون بصفين واتفقوا على تحكيم حكمين خرجت الخوارج على أمير المؤمنين علي بن أبي طالب وفارقوه.. الخ.

(1/209)


قلت: أما الذين قتلوا عثمان فمن أهل الفتنة والظلم، وأما الذين قاتلوا أمير المؤمنين عليه السلام بصفين وقاتلوا الحسنين عليهما السلام وحرصوا على قتلهم وقتلوا عمار بن ياسر الذي تواترت الأخبار أنها تقتله الفئة الباغية يدعوهم إلى الجنة ويدعونه إلى النار وقتلوا خزيمة بن ثابت ذا الشهادتين وأويس القرني سيد التابعين والألوف المؤلفة من المؤمنين، فهم عند الشيخ وأصحابه مسلمون مجتهدون مأجورون، ولهذا قال: ولما اقتتل المسلمون. ليعمهم جميعاً بذلك، ولم يقل كما قال في قتلة عثمان، إنهم أهل فتنة أو ظلم. سبحان الله كيف يصنع الهوى بأهله، إنا لله وإنا إليه راجعون، وذكر أن الشيعة ثلاث طوائف:-
قال: طائفة تقول: إنه إله. وهؤلاء لمَّا ظهر عليهم أحرقهم بالنار.
قلت: هذه الطائفة لاتعد من فرق الشيعة على التحقيق وهي خارجة عن الإسلام بإجماع الأنام.
ثم قال في صفح (33): وقد روى البخاري في صحيحه عن ابن عباس، قال: أُتي علي بزنادقة فحرقهم بالنار، ولو كنت أنا لم أحرقهم لنهي النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن يعذب بعذاب الله ولضربت أعناقهم لقوله: (( من بدل دينه فاقتلو )) ..الخ.

(1/210)


قلت: بالله عليك أيها المطالع المنصف انظر ما أراد ابن تيمية بنقل هذا عن ابن عباس رضي الله عنهما وهو خارج عن البحث بعيد عن المقصود إذ كان قد أتم ذكر هذه الطائفة، فالأمر واضح ما أراد بذكر هذا الأثر عن ابن عباس الذي فيه تخطئة أمير المؤمنين وإمام المتقين وسيد الوصيين عليه السلام الذي قال فيه أخوه الرسول الأمين صلى الله عليه وعلى آله الطاهرين وسلم: (( علي مع الحق والقرآن والحق والقرآن معه )) وقال فيه: (( اللهم أدر الحق معه حيثما دار )) وقال فيه: ((من كنت مولاه فعلي مولاه اللهم وال من والاه وعاد من عاداه وانصر من نصره واخذل من خذله )) ومن هو منه بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لانبي بعده، وجعله باب مدينة علمه وأقضى الأمة، ولايحبه إلا مؤمن ولايبغضه إلا منافق، إلى مالايحصى كثرة كتاباً وسنة، وحاشا حَبر الأمة وترجمان القرآن ابن مسعود رضي الله عنهما من ذاك المقال، وقد كان أتبع لابن عمه من ظله مؤتماً به مجاهداً بين يديه مقتدياً بأثره متبعاً لقوله وفعله، وهو القائل: كنا إذا أتانا الثبت عن علي لم نعدل به. أخرجه المحدث الكبير ابن عبدالبر. والقائل: إذا حدثنا ثقة عن علي بفتيا لم نتجاوزها. أخرجه الحافظ ابن حجر في فتح الباري في الجزء السابع قال فيه: بإسناد صحيح.
ورجوعه إليه في القضايا والأحكام ورجوع الصحابة في ذلك إليه معلوم بين الأمة ومما تواتر: (( لولا علي لهلك عمر )) ومما يحقق وضع هذا المقال المصطنع أن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم قد هم بتحريق المتخلفين عن الجماعة كما هو مروي عند الكافة، وهو لايهم إلا بالجائز للعصمة، وقد أحرق خالد بن الوليد الرجل الذي كان يؤتى كما تؤتى المرأة بأمر أبي بكر بعد أن استشار الصحابة فأشار عليه أمير المؤمنين علي عليه السلام بإحراقه. رواه ابن القيم في كتاب الداء والدواء وقال: ثبت ذلك.

(1/211)


مع أنه لو صح النهي عن التحريق فهو مخصوص بخبر تحريق المتخلفين عن صلاة الجماعة ومن فعل مايربو على فعلهم من باب الأولى، وهذا مايبين لك إن كنت ذا نظر ثاقب أن في الصحاح ماليس بصحيح كما يعرف ذلك ذوو الاجتهاد والتحقيق لا أرباب المتابعة والتقليد، وقد انتقد الدار قطني على البخاري مائتي حديث، وصرح ابن حزم بوضع بعض أحاديث في البخاري ومسلم، وقد استوفيت البحث في هذا في كتاب لوامع الأنوار والله ولي التوفيق.
وقال في صفح (35): وأما لفظ الرافضة، فهذا اللفظ أول ماظهر في الإسلام لما خرج زيد بن علي بن الحسين في أوائل المائة الثانية في خلافة هشام بن عبدالملك واتبعه الشيعة فسئل عن أبي بكر وعمر فتولاهما وترحم عليهما، فرفضه قومٌ فقال: رفضتموني رفضتموني. فسموا الرافضة، فالرافضة تتولى أخاه أبا جعفر محمد بن علي، والزيدية يتولون زيداً وينسبون إليه، ومن حينئذ انقسمت الشيعة إلى زيدية ورافضة إمامية.. إلخ.
قلت: ولكنهم لما علموا أن بهذا تخرج الزيدية عن اسم الرفض نقلوه إلى معنى آخر ليعم الفريقين فقالوا: الرافضي من يفضل علياً على غيره كما صرح بذلك الذهبي تلميذ الشيخ ابن تيمية وابن حجر وغيرهما، بل جعل بعضهم تفضيل علي عليه السلام على عثمان أول درجة من الرفض، ولم يبال بكون ذلك خلاف الحقيقة وخلاف موضوع الرفض بإجماع الأمة، ولابكونه سيدخل فيه أعيان الصحابة الأبرار كعمار وسلمان وابن مسعود وخباب وأبي ذر والمقداد وجابر وغيرهم ممن نقل أهل الحديث وغيرهم أنهم كانوا يفضلونه.
قال ابن حجر في الجزء السابع من فتح الباري: روى البزار عن ابن مسعود قال: كنا نتحدث أن أفضل أهل المدينة علي بن أبي طالب رجاله موثقون. انتهى. وهذا يدل أن ذلك كان معلوماً لديهم جميعاً إذ قوله: كنا. يدل على ذلك، ويدل على أن ذلك من السنة، إذ أورده مورد الاحتجاج، والكلام على قول الصحابي: كنا وكانوا، معلوم في الأصول.

(1/212)


وقال ابن عبدالبر في الاستيعاب: وروي عن سلمان وأبي ذر والمقداد وخباب وجابر وأبي سعيد الخدري وزيد بن أرقم أن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أول من أسلم، وفضله هؤلاء على غيره، وغير ذلك مما لايسعه المقام، وسيدخل فيه أيضاً جميع أهل بيت محمد صلى الله عليه وآله وسلم، لأن ذلك المعلوم من مذاهبهم بين الأمة، بل سيدخل فيه الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم، وحاشاه وإن كان غير مقصود لأنه قدمه عليه السلام على الكل في أقوال وأفعال لاتحصى ولاتحصر، فهذا مقتضى أقوالهم وأفعالهم فهو تعبير عن لسان حالهم.
وقد قال ابن تيمية في صفح: (34) في تقسيم الشيعة الذين ذمهم ذلك الذم الشنيع على وجه التعميم مالفظه: والثانية: السابة.. إلى قوله: والثالثة: المفضلة الذين يفضلونه على أبي بكر وعمر.. إلخ.

(1/213)


هذا كلامه في الفتاوي، واعلم أن كثيراً من المخالفين لايزالون يذمون الشيعة على الإطلاق، ويجعلون اسم الشيعة اسم ذم، وهو خلاف ماورد في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وآله وسلم، وقد قال تعالى: ((وَإِنَّ مِن شِيعَتِهِ لإِبْرَاهِيمَ)) [الصافات:83] وقال سبحانه: ((فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِن شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ)) [القصص:15] فقد قابل الله تعالى بين الشيعة والأعداء، فمن لم يكن من شيعة أهل بيت محمد عليه وعليهم الصلاة والسلام فهو من عدوهم، وهذا عارض وله بحث وهذه الأبحاث قد استوفيتها في لوامع الأنوار، وأوضحت هنالك بحمد الله تعالى مافيه ذكرى لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد، هذا ومع ذلكم فقد اعترف الشيخ ابن تيمية بأصل تسمية الروافض، وأن الذي سماهم به الإمام الأعظم زيد بن علي عليهما السلام، وأنه سماهم لأنهم رفضوه، ولم ينقل هو ولاغيره أنه جرى للتفضيل أو التقديم أو الإمامة أي ذكر ولانقل حرف واحد مانقلوا إليه اسم الرفض، واعترف أيضاً بأنه لايطلق على الزيدية، واعترف بعلمهم وصدقهم وشجاعتهم حيث قال في الجزء الثاني من المنهاج صفح (67): وإنما سموا رافضة لما خرج زيد بن علي بن الحسين بالكوفة في خلافة هشام فسأله الشيعة عن أبي بكر وعمر فترحم عليهما فرفضه قوم. فقال: رفضتموني رفضتموني، فسموا رافضة، وتولاه قوم فسموا زيدية لانتسابهم إليه، ومن حينئذ انقسمت الشيعة إلى رافضة إمامية وزيدية إلى قوله: فالزيدية خير من الرافضة، أعلم وأصدق وأشجع. انتهى المراد.
قال ابن تيمية أيضاً في الجزء الأول من المنهاج صفح (21): لفظ: الرافضة، إنما ظهر لما رفضوا زيد بن علي بن الحسين في خلافة هشام وقصة زيد بن علي بن الحسين كانت بعد العشرين ومائة سنة (121 هـ) أو (122 هـ) في آخر خلافة هشام.

(1/214)


قال ابن تيمية: قال أبو حاتم البستي: قتل زيد بن علي بن الحسين بالكوفة سنة (122 هـ)، وصلب على خشبة، وكان من أفاضل أهل البيت وعلمائهم وكانت الشيعة تنتحله. قال ـ أي الشيخ ابن تيمية ـ: ومن زمن خروج زيد افترقت الشيعة إلى رافضة وزيدية، فإنه لما سئل عن أبي بكر وعمر فترحم عليهما رفضه قوم. فقال: رفضتموني. فسموا رافضة لرفضهم إياه، وسمى من لم يرفضه من الشيعة زيدياً لانتسابهم إليه، ولما صلب كانت العُبَّاد تأتي إلى خشبته بالليل فيتعبدون عندها.. إلى آخره، وتأمل قوله: كانت العُبَّاد تأتي.. الخ. والأمة مجمعة على أن الإمام الأعظم زيد بن علي بن الحسين عليهم السلام هو الذي سماهم الرافضة لأنهم رفضوه، وإن اختلف في السبب الذي لأجله رفضوه، ولم ينقل ناقل ولاروى راو أنه جرى للتقديم أو لتفضيل بعض الصحابة على بعض ذكر، فنقل اسم الرفض إلى من قدَّم أو فَضَّل مجرد افتراء وزور وتحريف للكلم عن مواضعه، ورمي أتباع الإمام الأعظم زيد بن علي بن الحسين بن علي عليهم السلام وخلص أوليائه وأنصاره بهذا الإسم الذي سمى به أعداءه بهتان عظيم وإجرام جسيم ((وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ)) [الشعراء:227].

(1/215)


في التوسل
قال ابن تيمية في الجزء الثاني من الفتاوي صفح (150) الطبعة الأولى سنة (1381هـ): وروى أبو نعيم الحافظ في كتاب دلائل النبوة ومن طريق الشيخ أبي الفرج، حدثنا سليمان بن أحمد الطبراني، حدثنا أحمد بن راشد، حدثنا أحمد بن سعيد الفهري، حدثنا عبدالله بن سليمان المدني، عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم، عن أبيه، عن عمر بن الخطاب، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (( لما أصاب آدم الخطيئة رفع رأسه فقال: يارب بحق محمد إلا غفرت لي فأوحى إليه ومامحمد ومن محمد؟ قال: يارب إنك لما أتممت خلقي رفعت رأسي إلى عرشك فإذا عليه مكتوب: لاإله إلاالله محمد رسول الله، فعلمت أنه أكرم خلقك عليك إذ قرنت اسمه مع اسمك. فقال: نعم قد غفرت لك، وهو آخر الأنبياء من ذريتك ولولاه ما خلقتك.. )) إلى آخره.
قلت: وفي هذا رد صريح مفحم لمن يزعم أن معنى ماورد من التوسل هو التوسل بدعائه، وهو وإن كان من التأويل الباطل الذي لادليل عليه والذي هو خلاف المنطوق به فإنه قد يمكن التلبيس به على من لاقدم له راسخ، أما هذا الخبر فلايتصور ذلك فيه بحال إذ هو قبل وجوده وهو أبلغ وأدخل من التوسل بالموتى من الأنبياء عليهم السلام ونحوهم إذ قد وُجِدوا.
وقال أيضاً في الجزء الثالث من صفح: (176) في سياق حقوق رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مالفظه: وكذلك مما يشرع التوسل به في الدعاء كما في الحديث الذي رواه الترمذي وصححه أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم علَّم شخصاً أن يقول: اللهم إني أسألك وأتوسل إليك بنبيك محمد نبي الرحمة، يامحمد يارسول الله إني أتوسل بك إلى ربي في حاجتي ليقضيها، اللهم فشفعه فيَّ.. الخ.

(1/216)


قلت: وهذا صريح أيضاً في التوسل بذاته صلى الله عليه وآله وسلم لماله من المكانة عند الله سبحانه وتصريح من الشيخ ابن تيمية في جواز ذلك، فهؤلاء الذين يمنعونه أشد المنع ويتأولون نحو هذا الخبر النبوي بخلاف حقيقته مخالفون لصريح السنة الشريفة النبوية في هذا الخبر النبوي الصحيح الصريح، ومخالفون للشيخ الذي هو عمدتهم وعليه يعولون، هذا وقد استوفيت طرق هذا الخبر الشريف والكلام على التوسل في أواخر شرح الزلف [صفح 164 الطبعة الأولى، وفي الثانيةص250،والرابعةص347].نعم وفي قوله: يامحمد يارسول الله.. الخ. التصريح بنداء الغائب ولافرق بينه وبين الميت بحال، فتدبر والله سبحانه ولي التوفيق.
أخرج الطبراني في الكبير والأوسط وابن حبان والحاكم وصححوه عن أنس قال: لما ماتت فاطمة بنت أسد دخل عليها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فجلس عند رأسها فقال: رحمك الله يا أمي بعد أمي. وذكر ثناءه عليها وتكفينها ببرده. قال: ثم دعا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أسامة وأبا أيوب الأنصاري وعمر بن الخطاب وغلاماً أسود يحفرون فحفروا قبرها، فلما بلغوا اللحد حفره رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بيده، فلما فرغ دخل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فاضطجع فيه ثم قال: (( الله الذي يحيي ويميت وهو حي لايموت، اغفر لأمي فاطمة بنت أسد ووسع عليها مدخلها بحق نبيك والأنبياء الذين من قبلي )) وما أخرجه الطبراني في الصغير والحاكم وأبو نعيم والبيهقي من توسل آدم بمحمد صلى الله عليه وآله وسلم.

(1/217)


هذا قال الأمير في تأنيس الغريب: وأخرج أبو محمد السمرقندي في فضائل قل هو الله أحد عن علي رضي الله تعالى عنه: ((من مر على المقابر وقرأ قل هو الله إحدى عشرة مرة ثم وهب أجره للأموات أعطي من الأجر بعدد الأموات )) . قلت: وأخرجه الإمام علي بن موسى الرضا بسند آبائه بلفظه، وأخرجه الرافعي عن علي عليه السلام بلفظه وأخرج القاسم بن أسعد الزنجاني في فوائده عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (( من دخل المقابر ثم قرأ فاتحة الكتاب وقل هو الله أحد وألهاكم التكاثر، ثم قال: اللهم إني جعلت ثواب ماقرأت من كلامك لأهل المقابر من المؤمنين والمؤمنات كانوا له شفعاء إلى الله )) .
وأخرج عبدالعزيز صاحب الجلال بسنده عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: (( من دخل المقابر فقرأ سورة يس خفف الله عنهم وكان له بعدد من فيهم حسنات )) .
قال المحب الطبري: وفي الإحياء للغزالي والعاقبة لعبد الحي عن أحمد بن حنبل قال: (( إذا دخلتم المقابر فاقرأوا بفاتحة الكتاب والمعوذتين وقل هو الله أحد، واجعلوا ذلك لأهل المقابر فإنه يصل إليهم )) .
قال ابن تيمية في الجزء الأول من الفتاوى صفح (209) الطبعة الأولى مالفظه:

(1/218)


وقد جاء في حديث رواه أحمد في مسنده وابن ماجه عن عطية العوفي عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه علَّم الخارج إلى الصلاة أن يقول في دعائه: (( وأسألك بحق السائلين عليك وبحق ممشاي هذا فإني لم أخرج أشراً ولابطراً ولارياء ولاسمعة، ولكن خرجت اتقاء سخطك وابتغاء مرضاتك )) قال: فإن كان هذا صحيحاً فحق السائلين عليه أن يجيبهم، وحق العابدين له أن يثيبهم، وهو حق أوجبه على نفسه لهم كما يسأل بالإيمان والعمل الصالح الذي جعله سبباً لإجابة الدعاء إلى قوله: فقد تبين أن قول القائل: أسألك بكذا نوعان: فإن الباء قد تكون للقسم، وقد تكون للسبب، فقد تكون قسما به على الله وقد تكون سؤالاً بسببه، فأما الأول فالقَسَم بالمخلوقات لا يجوز على المخلوق فكيف بالخالق، وأما الثاني وهو السؤال بالمعظم كالسؤال بحق الأنبياء فهذا فيه نزاع، وقد تقدم عن أبي حنيفة وأصحابه أنه لا يجوز ذلك، ومن الناس من يجوز ذلك، فنقول: قول السائل لله تعالى: أسألك بحق فلان وفلان من الملائكة والأنبياء والصالحين وغيرهم أو بجاه فلان أو بحرمة فلان، تقتضي أن هؤلاء لهم عند الله جاه، وهذا صحيح، فإن هؤلاء لهم عند الله منزلة وجاه وحرمة إلخ كلامه. قلت: وهذا هو غرض المجيزين للتوسل بالأنبياء والصالحين، فأصحاب الشيخ المدعون لمتابعته المانعون لذلك والمنكرون على من أجازه أشد الإنكار فد يبلغ بهم الحال إلى ان يقولوا: هو من الشرك الأكبر مخالفون لما ورد في كتاب الله تعالى وسنة نبيه صلى الله عليه وآله وسلم ومخالفون له، وقد بسطت الكلام على ذلك في الرسالة الصادعة بالدليل، وفي شرح الزلف [صفح 164 الطبعة الأولى ، والطبعة الثانية صفح250، والثالثة347] والله ولي التوفيق.

(1/219)


[بحث في حديث: ((الأئمة من قريش))]
بسم الله الرحمن الرحيم
مبحث في الخبر النبوي: (( الأئمة من قريش )): ومافي معناه من كتب المحدثين، وقد اخترت النقل عن البخاري وشرحه الفتح لكونهما أشهر كتب العامة، وهو مستوفى من طرق أهل البيت عليهم السلام في الشافي وشرح المجموع إذ هو من أخبار المجموع الشريف والجامع الكافي ونهج البلاغةوغيرها، وفيه اعتراف المحدث الكبير ابن حجر لأئمة أهل البيت عليهم السلام باليمن، ونقل إجماع الأمة على أن الإمامة في قريش إلا من لايعتد بقوله كالخوارج، وفيه الرد المفحم على من يتشدق بالإنكار على أئمة أهل البيت عليهم السلام وفي مقدمتهم الإمام الهادي إلى الحق رضوان الله عليهم في قولهم بمنصب الإمامة غاية الأمر الخلاف في كونها في جميع قريش أم في البطنين، فقد بطل قول هؤلاء المبتدعين بالنصوص النبوية، وإجماع الأمة المحمدية ((وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاء وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ)) [القصص:68] ((أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُم مُّلْكًا عَظِيمًا)) [النساء:54].

(1/220)


بسم الله الرحمن الرحيم
الحمدلله وسلام على عباده الذين اصطفى.
في البخاري بسنده إلى ابن عمر قال: رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (( لايزال هذا الأمر في قريش مابقي منهم اثنان )) وقد ترجم بلفظ: باب الأمراء من قريش. قال ابن حجر في فتح الباري في الجزء 16 صفح 230 طبع 1387 هـ بمصر مالفظه: ولفظ الترجمة لفظ حديث أخرجه يعقوب بن سفيان وأبو يعلى والطبراني من طريق سكين بن عبدالعزيز حدثنا سيار بن سلامة أبو المنهال قال: دخلت مع أبي على أبي برزة الأسلمي فذكر الحديث الذي أوله: (( إني أصبحت ساخطاً على أحياء قريش.. )) إلى قوله: وفي آخره سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: ((الأمراء من قريش )) الحديث. إلى قوله: وفي لفظ للطبراني: الأئمة بدل الأمراء وله شاهد من حديث علي رفعه: (( ألا إن الأمراء من قريش ما أقاموا ثلاثاً.. )) الحديث. أخرجه الطبراني وأخرجه الطيالسي والبزار والمصنف في التاريخ من طريق سعد بن إبراهيم عن أنس بلفظ: (( الأئمة من قريش ما إذا حكموا فعدلوا )) الحديث، وأخرجه النسائي والبخاري ايضاً في التاريخ وأبو يعلى من طريق بكير الجزري عن أنس، وله طرق متعددة عن أنس منها للطبراني من رواية قتادة عن أنس بلفظ: (( إن الملك في قريش)) الحديث، وأخرج أحمد هذا اللفظ مقتصراً عليه من حديث أبي هريرة ومن حديث أبي بكر الصديق بلفظ: ((الأئمة من قريش )) ورجاله رجال الصحيح لكن في سنده انقطاع وأخرجه الطبراني والحاكم من حديث علي بهذا اللفظ الأخير ثم قال في صفح: (235) مالفظه: فإن بالبلاد اليمنية وهي النجود منها ـ أي صنعاء وصعدة ونواحيهما ـ طائفة من ذرية الحسن بن علي لم تزل مملكة تلك البلاد معهم من أواخر المائة الثالثة. قلت: أي سنة مائتين وأربعة وثمانين. وهو عصر إمام الأئمة الهادي إلى الحق المبين يحيى بن الحسين بن القاسم بن إبراهيم عليهم أزكى التحيات والتسليم كما هو معلوم.

(1/221)


قال: وأما مَنْ بالحجاز من ذرية الحسن بن علي وهم أمراء مكة وأمراء ينبع، ومن ذرية الحسين بن علي وهم أمراء المدينة، فإنهم وإن كانوا من صميم قريش لكنهم تحت حكم غيرهم من ملوك الديار المصرية، فبقي الأمر في قريش بقطر من الأقطار ـ أي اليمن ـ في الجملة، وكبير أولائك يقال له الإمام، ولايتولى الإمامة فيهم إلا من يكون عالماً متحرياً للعدل. وقال الكرماني: لم يخل الزمان عن وجود خليفة من قريش إذ في المغرب خليفة منهم على ماقيل وكذا في مصر، قال ابن حجر: قلت: الذي في مصر لاشك في كونه قرشياً لأنه من ذرية العباس، والذي في صعدة ـ أي إمام اليمن الهادي إلى الحق يحيى بن الحسين وذريته عليهم السلام ـ وغيرها من اليمن لاشك في كونه قرشياً لأنه من ذرية الحسن بن علي. إلى قوله: ولحديث ابن عمر شاهد من حديث ابن عباس أخرجه البزار بلفظ: (( لايزال هذا الدين واصباً مابقي من قريش عشرون رجلا )) وقال النووي: حكم حديث ابن عمر مستمر إلى يوم القيامة مابقي من الناس اثنان وقد ظهر ماقاله رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فمن زمنه إلى الآن لم تزل الخلافة في قريش من غير مزاحمة لهم على ذلك ومن تغلب على الملك بطريق الشركة لاينكر أن الخلافة في قريش، وإنما يدعي أن ذلك بطريق النيابة عنهم. انتهى.
قال ابن حجر: وقد أورد عليه أن الخوارج في زمن بني أمية تسموا بالخلافة واحداً بعد واحد ولم يكونوا من قريش، وكذلك ادعى الخلافة بنو عبيد وخُطب لهم بمصر والشام والحجاز ولبعضهم بالعراق أيضاً إلى قوله: والجواب: أما عن بني عبيد فإنهم كانوا يقولون: إنهم من ذرية الحسين بن علي، ولم يبايعوا إلا على هذا الوصف، والذين أثبتوا نسبهم ليسوا بدون من نفاه.

(1/222)


قلت: ولهم حجة على إثباته قول الشريف الرضي في أبياته المشهورة:
احمل الضيم في بلاد الأعادي .... وبمصر الخليفة العلوي
فهو أخص وأعرف وليس الخلاف في المذهب يوجب نفي النسب، وقد اتضح أن نفي نسبهم كان مصانعة للدولة العباسية فتدبر، ولم يثبت عنهم ماينسب إليهم من مذهب القرامطة الباطنية بطرق صحيحة، ولايصدقون في افترائهم عليهم وقد كانوا يستمدون الولاية منهم، ولكنهم كانوا متى تمكنوا نبذوا ولايتهم وأظهروا الإلحاد والإباحية كما فعل الجنابي صاحب الحسا، وكما فعل ابن فضل القرمطي باليمن وغيرهما في سائر الأقطار، وقد تكلم العقاد في كتابه عن هذا الشأن. إلا أنه يشكل على إثبات النسب العلوي نفي الأئمة الأثبات أهل الإطلاع والورع لنسبتهم منهم الإمام المتوكل علىالله أحمد بن سليمان، والإمام المنصور بالله عبدالله بن حمزة، والإمام القاسم بن محمد عليهم السلام وغيرهم، وأما أبيات الشريف الرضي فقد روى في شرح النهج أنه أنكرها، وأما نفي مذهب الباطنية عنهم فيشكل عليه أنهم كانوا يمدونهم بالولاية ويعينونهم على محاربة أئمة الهدى في اليمن من أيام الإمام الهادي عليه السلام حتى قتلوا الإمام أبا الفتح الديلمي والأمير حمزة بن أبي هاشم، وكتاب عبيدالله المهدي إلى الجنابي الذي أخذ الحجر الأسود وقتل الألوف من الحجاج: إنك حققت الكفر علينا. يدل على الاشتراك في المذهب، والله أعلم.

(1/223)


قال: وأما سائر من ذكر ومن لم يذكر فهم من المتغلبين وحكمهم حكم البغاة فلاعبرة بهم. وقال القرطبي: هذا الحديث خبر عن المشروعية أي لاتنعقد الإمامة الكبرى إلا لقرشي مهما وجد منهم أحد، وكأنه جنح إلى أنه خبر بمعنى الأمر، وقد ورد الأمر بذلك في حديث جبير بن مطعم رفعه: (( قدموا قريشاً ولاتقدموها )) أخرجه البيهقي، وعند الطبراني من حديث عبدالله بن حنطب، ومن حديث عبدالله بن السائب مثله. وفي نسخة أبي اليمان عن شعيث عن أبي هريرة عن أبي بكر بن سليمان بن أبي حثمة مرسلا أنه بلغه مثله، وفي نسخة أخرجه الشافعي من وجه آخر عن ابن شهاب أنه بلغه مثله وفي الباب حديث أبي هريرة رفعه: ((الناس تبع لقريش في هذا الشأن)) أخرجاه في الصحيحين من رواية المغيرة بن عبدالرحمن ومسلم أيضاً من رواية سفيان بن عيينة كلاهما عن الأعرج عن أبي هريرة وتقدم في مناقب قريش، وأخرجه مسلم أيضاً من رواية همام عن أبي هريرة ولأحمد من رواية أبي سلمة عن أبي هريرة مثله، لكن قال: في هذا الأمر، وشاهده عند مسلم عن جابر كالأول وعند الطبراني من حديث سهل بن سعد، وعند أحمد وابن أبي شيبة من حديث معاوية.

(1/224)


قلت: والتواتر لاتشترط فيه العدالة بل ولا الإسلام كما هو معلوم. قال ابن حجر في هذا الصفح: وعند البزار من حديث علي إلى قوله: قال ابن المنير: وجه الدلالة من الحديث ليس من جهة تخصيص قريش بالذكر فإنه يكون مفهوم لقب ولاحجة فيه عند المحققين، وإنما الحجة وقوع المبتدأ معرفاً باللام الجنسية لأن المبتدأ بالحقيقة ههنا هو الأمر الواقع صفة لهذا، وهذا لايوصف إلا بالجنس فمقتضاه حصر جنس الأمر في قريش فيصير كأنه قال: لا أمر إلا في قريش. وهو كقوله: الشفعة فيما لم يقسم. والحديث وإن كان بلفظ الخبر فهو بمعنى الأمر كأنه قال: ائتموا بقريش خاصة، وبقية طرق الحديث تؤيد ذلك ويؤخذ منه أن الصحابة اتفقوا على إفادة المفهوم للحصر خلافاً لمن أنكر ذلك، وإلى هذا ذهب جمهور أهل العلم أن شرط الإمام أن يكون قرشياً وقيد ذلك طوائف ببعض قريش، فقالت طائفة: لايجوز إلا من ولد علي. وهذا قول الشيعة إلى قوله: وقالت الخوارج، وطائفة من المعتزلة: يجوز أن يكون الإمام غير قرشي. ثم قال: وقال أبو بكر بن الطيب: لم يعرج المسلمون على هذا القول بعد ثبوت: ((الأئمة من قريش )) وعمل المسلمون به قرناً بعد قرن، وانعقد الإجماع على إعتبار ذلك قبل أن يقع الإختلاف. إلى قوله: وقال عياض: إشتراط كون الإمام قرشيا مذهب العلماء كافة وقد عدوها في مسائل الإجماع، ولم ينقل عن أحد من السلف فيها خلاف، وكذلك من بعدهم في جميع الأمصار قال: ولا اعتبار بقول الخوارج ومن وافقهم من المعتزلة لما فيه من مخالفة المسلمين. انتهى المراد نقله.

(1/225)


قال ابن تيمية في الجزء التاسع عشر من الفتاوى (ص 29 الطبعة الأولى سنة 1382 هـ) مالفظه: وقد ثبت عنه صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: ((إن الله اصطفى كنانة من بني إسماعيل، واصطفى قريشاً من كنانة، واصطفى بني هاشم من قريش، فأنا خيركم نفساً ونسباً )) . قال: وجمهور العلماء على أن جنس العرب خير من غيرهم وجنس بني هاشم خير من غيرهم وقد ثبت في الصحيح: (( الناس معادن كمعادن الذهب والفضة خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقهوا)) .
وقال في صفح (30): ولكن خص قريشاً بأن الإمامة فيهم وخص بني هاشم بتحريم الزكاة عليهم، وذلك لأن جنس قريش لما كانوا أفضل الأجناس وجب أن تكون الإمامة في أفضل الأجناس مع الإمكان. انتهى كلامه.

(1/226)


قلت: ولهذا أوجب أهل البيت عليهم السلام ومن تبعهم أن تكون الإمامة في أبناء الحسنين، وقد أجمعت طوائف الأمة من حنفية وشافعية ومالكية وحنبلية وجميع فرق الأمة إلا الخوارج ومن تبعهم أن منصب الإمامة في قريش للنص النبوي: ((الأئمة من قريش)) ، وقد أوردنا الأخبار النبوية في ذلك من طرق المحدثين وماساقه في فتح الباري شرح البخاري من تخريجها وحكايته للإجماع على ذلك في البحث السابق، والمعلوم أن بني هاشم أفضل قريش، وأن أبناء الحسنين أفضل بني هاشم بعد أبويهم رسول الله ووصيه وأمهم صلوات الله وسلامه عليهم، لاختصاصهم بولادة الرسول والوصي والزهراء عليهم الصلاة والسلام وهم أفضل بني هاشم قطعاً بل أفضل البشر على الإطلاق، وهذا مع ماورد من وجوب التمسك بهم كما في أخبار الثقلين المتواترة والمُتَمَسَّك به أفضل من المُتَمَسِّك قطعاً، وكونهم سفينة نوح والنجوم والأمان وغير ذلك من الأخبار النبوية التي في بعضها التصريح بإمامتهم كما أوضحناها في لوامع الأنوار، وليس ذلك من التحجر للواسع ولا الإحتكار ولا العنصرية، بل هو امتثال لما حكم الله تعالى به في كتابه وسنة نبيه صلى الله عليه وآله وسلم قال عز وجل: ((ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا)) [فاطر:32] ((وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاء وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ)) [القصص:68] كما اختار الله سبحانه أنبياءه ورسله صلوات الله وسلامه عليهم، ((أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُم مُّلْكًا عَظِيمًا)) [النساء:54] ((فَمَن شَاء فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاء فَلْيَكْفُرْ)) [الكهف:29]، وبهذا يجاب على بعض الكتاب الذين أطلعوا رؤوسهم لمَّا خلا لهم الجو في هذه الأيام الممتلئة بالأحداث أمثال محمد الأكوع وعبدالله الشماحي.

(1/227)


قال الأول في موضوعه اليمن الخضراء ص (103) مالفظه: وإنما سموا زيدية نسبة إلى الإمام الأعظم زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهم من باب التغليب وإلا فهم هادوية أتباع الإمام الهادي يحيى بن الحسين المشهور إذ هم يخالفون زيد ـ كذا بغير ألِفٍ في كتابه وقال ـ: وإنما يوافقون زيد بن علي في ثلاث مسائل: الأولى في وجوب الخروج على الظلمة ومحاربتهم لأجل ذلك. ثانيهما ـ كذا في كتابه بضمير التثنية والصواب: وثانيها وثالثها تمت ـ: القول بالعدل والتوحيد في أصول الدين. وثالثهما: في الإمامة أنها لاتصح إلا في البطنين الحسن والحسين ابني علي بن أبي طالب رضي الله عنهم.

(1/228)


قلت: وهذه الثلاث المسائل التي أراد الأكوع تقليلها كما هو المفهوم من عبارته هي أصول الإسلام وعمدة الدين كله ولم يبق إلا مسائل الفروع التي لايجوز التقليد فيها لأرباب الاجتهاد بل يجب على كل مجتهد أن يعمل بما أوصله إليه اجتهاده وأدى إليه نظره، فإذاً قد وافقوا الإمام الأعظم في المسائل التي يجب فيها الوفاق ولايجوز فيها التقليد ولا الاختلاف، وقد أوضحت السبب الذي أوجب الانتساب إلى الإمام الأعظم عليه السلام في شرح الزلف ص (28) وفي الطبعة الثانيةص(46) وفي الطبعة الثالثة ص (67) كما أوضحه الإمام المنصور بالله عبدالله بن حمزة عليهما السلام في الشافي ونقلته في الجامعة المهمة ص (71)، هذا قال الأكوع: ولاشك أنهم في هذه المسألة الأخيرة قد تحجروا شيئاً واسعاً ولم ينظروا بعين الإنصاف، ثم استدل عليهم بقوله تعالى: ((قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ..)) [آل عمران:26] الآية، وقوله تعالى: ((وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا.. إلى قوله: إِنَّ اللّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ..)) [البقره:247] الآية. والآيتان حجتان عليه لا له فهما من الأدلة المصرحة باختصاص الله سبحانه واصطفائه لمن يشاء من عباده، وهو المعنى الذي أنكره، فنعوذ بالله من الحَيْرَة وعمى البصيرة، واستدل أيضاً برواية موضوعة غير ثابتة ولامعروفة عن أمير المؤمنين عليه السلام أنه قال: تكون شورى بين صالحي المؤمنين قال: أو معنى هذا. وأقوال أمير المؤمنين عليه السلام معلومة مرسومة وصاحب البيت أدرى بالذي فيه، ولو سلم ثبوت تلك الرواية فليس فيها حجة، إذ هو يعلم أن صالحي المؤمنين لايختارون غير سبط رسول الله وريحانته وسيد شباب أهل الجنة فهم لايعدلون عمن اختاره الله سبحانه ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم، ولأمير المؤمنين من صحيح الأقوال والأفعال مالاتوازنه هذه الرواية المجهولة المصطنعة، ثم يقال: وهل عملتم معشر

(1/229)


الجمهوريين بمقتضى ذلك وهو أن يكون الأمر شورى بين صالحي المؤمنين، كلا بل موضوع الجمهورية أن يكون بين جميع الشعب يشترك فيها الهمج الرعاع وأهل الفساد والطغيان وأرباب الجهل والسفه والفسوق والكفران فتكون الغلبة لهم بحكم الأكثرية، إذ هم الأكثر كما هو المعلوم والمشهود له بنصوص القرآن ((وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ)) [الحج:70] ((وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ)) [يوسف:103] ((وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ)) [الحج:71] فهذا النظام المخالف لنظام الإسلام هو الذي سعى وكدح وجد واجتهد في إقامته أمثال الأكوع والشماحي، وصاروا يحاربون الإمامة التي شرعها الله سبحانه في كتابه وسنة رسوله صلى الله عليه وآله وسلم، وأجمع عليها المسلمون من عصر الصحابة الراشدين إلى هذا التاريخ، الذي ظهر فيه الفساد وانتشر الكفر والإلحاد، ولقد صار جل فخرهما في موضوعاتهما بل كله بالجاهلية الجهلاء والقرون الكافرة الأولى، وهو الفخر الذي أنكرته الشريعة الإسلامية والملة المحمدية، يفتخران بسبأ وحمير وأشباه كسرى وقيصر على أهل بيت النبوة ومعدن الرسالة ومهبط الوحي، ونقول ماقال الأول: فخارنا برسول الله يكفينا.. الخ. ولله القائل:
اذا افتخرت أميتهم علينا .... بقول جريرها في الامتداح
ألستم خير من ركب المطايا .... وأندى العالمين بطون راح
أجبناهم بما قد قيل فينا .... وفي آبائنا صيد البطاح
أليس لجدكم في اللوح ذكر .... مع اسم الله لايمحوه ماحي
ومن قال الإمامة في سوانا .... كمن قال النبوة في سجاح
أي: في البطلان ومخالفة الحق.
ليس لنا فخر إلا بالله جل جلاله وبرسوله صلى الله عليه وآله وسلم وأهل بيته عليهم السلام وأصفيائه وأوليائه.
وحسبكم هذا التفاوت بيننا .... وكل إناء بالذي فيه ينضح

(1/230)


((وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ)) [الشعراء:227] وحسبنا الله ونعم الوكيل ونعم المولى ونعم النصير.
هذا وقال الشيخ ابن تيمية في اقتضاء الصراط المستقيم من ص (150) ومابعده الطبعة الثانية مالفظه:
والدليل على فضل جنس العرب، ثم جنس قريش، ثم جنس بني هاشم، مارواه الترمذي من حديث إسماعيل بن أبي خالد عن يزيد بن أبي زياد عن عبدالله بن الحارث عن العباس بن عبدالمطلب رضي الله عنه قال: قلت: يارسول الله إن قريشاً جلسوا فتذاكروا أحسابهم بينهم فجعلوا مثلك كمثل نخلة في كبوة من الأرض، فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (( إن الله خلق الخلق فجعلني في خير فرقهم ثم خير القبايل فجعلني في خير قبيلة ثم خير البيوت فجعلني في خير بيوتهم فأنا خيرهم نفساً وخيرهم بيتاً )) . قال الترمذي: هذا حديث حسن. وعبدالله بن الحارث هو ابن نوفل. الكبا بالكسر والقصر والكبوة الكناسة والتراب الذي يكنس من البيت، والمعنى أن النخلة طيبة في نفسها وإن كان أصلها ليس بذاك، فأخبر أنه صلى الله عليه وآله وسلم خيرهم نفساً ونسباً، ثم ساق في الأخبار المقتضية لهذا المعنى إلى قوله: وقد بين صلى الله عليه وآله وسلم أن هذا التفضيل يوجب المحبة لبني هاشم ثم لقريش ثم للعرب، ثم روى خبراً من الترمذي بسنده إلى المطلب بن أبي ربيعة بن الحارث بن عبدالمطلب أن العباس بن عبدالمطلب دخل على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مغضباً قال ـ وأنا عنده ـ: ما أغضبك؟ فقال: يارسول الله مالنا ولقريش إذا تلاقوا بينهم تلاقوا بوجوه مبشرة، وإذا لقونا لقونا بغير ذلك. قال: فغضب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حتى احمر وجهه ثم قال: (( والذي نفسي بيده لايدخل قلب رجل الإيمان حتى يحبكم لله ولرسوله )) .

(1/231)


إلى قوله: قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح. وروى أحمد في المسند مثل هذا من حديث إسماعيل بن أبي خالد. إلى قوله: ورواه أيضاً من حديث جرير عن يزيد بن أبي زياد ثم ساق الخبر. وفيه: ثم قال: (( والله لايدخل قلب امرىء إيمان حتى يحبكم لله ولقرابتي)) ثم ساق إلى قوله: ومثله أيضاً في المسألة مارواه أحمد ومسلم والترمذي من حديث الأوزاعي عن شداد بن عمار عن واثلة بن الأسقع قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: ((إن الله اصطفى كنانة من ولد إسماعيل واصطفى قريشاً من كنانة واصطفى من قريش بني هاشم واصطفاني من بني هاشم )) .
إلى قوله في صفح (154): واعلم أن الأحاديث في فضل قريش، ثم في فضل بني هاشم فيها كثرة.
إلى قوله: قال: فإن الله خص العرب ولسانهم بأحكام تميزوا بها، ثم خص قريشاً على سائر العرب بما جعل فيهم من خلافة النبوة وغير ذلك من الخصائص، ثم خص بني هاشم بتحريم الصدقة واستحقاق قسط من الفي إلى غير ذلك من الخصائص فأعطى الله سبحانه كل درجة من الفضل بحسبها والله عليم حكيم، ((اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ)) [الحج:75] ((اللّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ)) [الأنعام:123] ثم ساق في الاستدلال بحثاً نفيساً لايسع الحال استكماله، وفيما ذكر كفاية في اعتراف الشيخ بتفضيل بني هاشم، والرد على الجاحدين المدعين لمتابعة الشيخ وأمثاله، ولهذا اخترت نقل كلامه والله ولي التوفيق والاستقامة. قال في الأم: كتبه المفتقر إلى الله مجد الدين بن محمد المؤيدي.

(1/232)


[مسائل نص بن تيمية على أن القول بها من الخطأ المغفور]
الحمدلله وحده
هذا بحث أنقل فيه كلام الشيخ ابن تيمية في مسائل نص على أن القول بها من الخطأ المغفور وهي أهم المسائل التي وقع فيها النزاع بين أهل البيت وأتباعهم من الزيدية وسائر العدلية من جهة وبين غيرهم من سائر الأمة من جهة أخرى، أحببت إيراده ليعرف المطلع أن الذين ينكرون أشد الإنكار على القائلين بها ويسبونهم وينسبونهم إلى القدرية والرافضة ومخالفة السنة بل قد يكفرونهم ومع ذلك يَدَّعون أنهم موافقون لهذا الشيخ ليعرف أنهم مخالفون له، جاهلون لكلامه وكلام أمثاله من أئمتهم الذين هم قدوتهم ومعتمدهم فأقول وبالله التوفيق:
قال في الجزء العشرين صفح (33) الطبعة الأولى من فتاواه مالفظه: فصل، والخطأ المغفور في الاجتهاد هو في نوع المسائل الخبرية والعلمية كما قد بسط في غير موضع كمن اعتقد ثبوت شيء لدلالة آية أو حديث وكان لذلك مايعارضه ويبين المراد ولم يعرفه مثل من اعتقد أن الذبيح إسحاق لحديث اعتقد ثبوته أو اعتقد أن الله لايُرى لقوله تعالى: ((لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ)) [الأنعام:103] ولقوله: ((وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلا وَحْيًا أَوْ مِن وَرَاء حِجَابٍ)) [الشورى:51]

(1/233)


كما احتجت عائشة بهاتين الآيتين على انتفاء الرؤية في حق النبي صلى الله عليه وآله وسلم وإنما يدلان بطريق العموم، وكما نقل عن بعض التابعين أن الله لا يُرى وفسروا قوله: ((وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ (22) إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ)) [القيامة:23] بأنها تنتظر ثواب ربها كما نقل عن مجاهد وأبي صالح،... إلى قوله: أو اعتقد أن الله لا يَعْجَب كما اعتقد شريح لاعتقاده أن العُجْب إنما يكون من جهل السبب والله منزه عن الجهل، أو اعتقد أن علياً أفضل الصحابة لاعتقاده صحة حديث الطير وأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (( اللهم ائتني بأحب الخلق إليك يأكل معي من هذا الطائر )) إلى قوله: وكما أنكر طائفة من السلف والخلف أن الله يريد المعاصي لاعتقادهم أن معناه أن الله يحب ذلك ويرضاه ويأمر به، وأنكر طائفة من السلف والخلف أن الله يريد المعاصي بكونهم ظنوا أن الإرادة لاتكون إلا بمعنى المشيئة لخلقها.. إلى آخر كلامه، فتأمله والله ولي التوفيق.

(1/234)


في الصلاة على غير الرسل:
قال ابن تيمية في الجزء (37 صفح 410) في بحث الصلاة على غير الرسول صلى الله عليه وآله وسلم منفرداً، وقد أنكره البعض من المدعين المتابعة لهذا الشيخ، فلهذا أوردته مالفظه: إن ذلك جائز وهو منصوص أحمد في غير موضع. إلى قوله: وعليه جمهور أصحابه كالقاضي أبي يعلى وابن عقيل والشيخ عبدالقادر ولم يذكروا في ذلك نزاعاً.. إلى قوله: ومن جوز ذلك يحتج بالخليفتين الراشدين عمر وعلي وبأنه ليس في الكتاب ولا السنة نهي عن ذلك، لكن لايجب ذلك في حق أحد كما يجب في حق النبي صلى الله عليه وآله وسلم فتخصيصه كان بالأمر والإيجاب لابالجواز والاستحباب. قالوا: وقد ثبت أن الملائكة تصلي على المؤمنين كما في الصحيح أن الملائكة تصلي على أحدكم مادام في مصلاه، فإذا كان الله وملائكته يصلون على المؤمن فلماذا لايجوز أن يصلي عليه المؤمنون، ثم ذكر من خص بالصلاة علياً صلوات الله عليه فقال: وهم لايصلون على كل أحد من بني هاشم من العباسيين ولاعلى كل أحد من ولد الحسن والحسين ولاعلى أزواجه مع أنه قد ثبت في الصحيح: اللهم صل على محمد وعلى أزواجه وذريته، فحينئذ لاحجة لمن خص بالصلاة بعض أهل البيت دون سائر أهل البيت ودون سائر المؤمنين، ولما كان الله تعالى أمر بالصلاة والسلام عليه ثم قال: من قال: إن الصلاة على غيره ممنوع منها طرد ذلك طائفة منهم أبو محمد الجويني فقالوا: لايسلم على غيره وهذا لم يعرف عن أحد من المتقدمين، وأكثر المتأخرين أنكروه فأي السلام على الغير مشروع إلى آخره. وقد استوفينا الكلام على هذا في شرح الزلف.

(1/235)


في مقتل الحسين عليه السلام
قال ابن تيمية في الجزء (27 صفح 471) من الفتاوى الطبعة الأولى في سياق قصة الحسين عليه السلام مالفظه:
ووقع القتل حتى أكرم الله الحسين ومن أكرمه من أهل بيته بالشهادة رضي الله عنهم وأرضاهم وأهان بالبغي والظلم والعدوان من أهانه بما انتهكه من حرمتهم واستحله من دمائهم ((وَمَن يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِن مُّكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاء)) [الحج:18] وكان ذلك من نعمة الله على الحسين وكرامته له لينال منازل الشهداء حيث لم يجعل له في أول الإسلام من الإبتلاء والامتحان ماجعل لسائر أهل بيته لجده صلى الله عليه وآله وسلم وأبيه وعمه وعم أبيه رضي الله، عنهم فإن بني هاشم أفضل قريش وقريشاً أفضل العرب والعرب أفضل بني آدم كما صح ذلك عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم مثل قوله في الحديث الصحيح: ((إن الله اصطفى من ولد إبراهيم بني إسماعيل واصطفى كنانة من بني إسماعيل واصطفى قريشاً من كنانة واصطفى بني هاشم من قريش واصطفاني من بني هاشم )) وفي صحيح مسلم: أنه قال يوم غدير خم: ((أذكركم الله في أهل بيتي أذكركم الله في أهل بيتي أذكركم الله في أهل بيتي )) وفي السنن أنه شكى إليه العباس أن بعض قريش يحقرونهم، فقال: (( والذي نفسي بيده لايدخلون الجنة حتى يحبوكم لله ولقرابتي )) وإذا كانوا أفضل الخلق فلاريب أن أعمالهم أفضل الأعمال وكان أفضلهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الذي لاعدل له من البشر ففاضلهم أفضل من كل فاضل من سائر قبائل قريش والعرب بل ومن بني إسرائيل وغيرهم، ثم علي وحمزة وجعفر وعبيدة بن الحارث هم من السابقين الأولين من المهاجرين فهم أفضل من الطبقة الثانية من سائر القبائل، ولهذا لما كان يوم بدر أمرهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالمبارزة لما برز عتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة والوليد بن عتبة فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: قم ياحمزة قم ياعبيدة قم ياعلي فبرز إلى الثلاثة ثلاثة من بني هاشم، وقد ثبت في الصحيح أن فيهم نزل قوله تعالى: ((هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ..))

(1/236)


[الحج:19] الآية، وإن كان في الآية عموم، ولما كان الحسن والحسين سيدي شباب أهل الجنة وكانا قد ولدا بعد الهجرة في عز الإسلام ولم ينلهم من الأذى والبلاء مانال سلفهما الطيب فأكرمهما الله بما أكرمهما به من الابتلاء لترفع درجاتهما وذلك من كرامتهما عليه لامن هوانهما عنده كما أكرم حمزة وعلياً وجعفراً وعمر وعثمان وغيرهم بالشهادة.. إلى قوله: وقد علم الله أن مصيبته تذكر على طول الزمان.. إلى قوله: وطائفة من العلماء يلعنون المعين كيزيد.. إلى قوله: ويزيد بن معاوية قد أتى أموراً منكرة منها وقعة الحرة.. إلى قوله: ولهذا قيل للإمام أحمد أيكتب الحديث عن يزيد. فقال: لا ولاكرامة أوليس هو الذي فعل بأهل الحرة مافعل. وقيل له: أما تحب يزيد؟ فقال: وهل يحب يزيد أحد يؤمن بالله واليوم الآخر. فقيل: فلماذا لاتلعنه؟ فقال: ومتى رأيت أباك يلعن أحداً؟ إلى أن قال ابن تيمية في ذكر يزيد لعنه الله تعالى: لكنه مع ذلك ما انتقم من قاتليه ولاعاقبهم على مافعلوا، إذ كانوا قتلوه لحفظ ملكه الذي كان يخاف عليه من الحسين وأهل البيت رضي الله عنهم.. إلى آخر كلامه. وهو كلام نفيس. وفيه رد واضح على المخالفين المدَّعين لمتابعة الشيخ المذكور، وإلى الله ترجع الأمور، والشيخ ابن تيمية يقول: بأن إجماع أهل البيت حجة. نص عليه في فتاواه.
اعلم أن الذي سبق من النقل عن ابن تيمية مما يدل على موافقته إنما هو من إخراج الحق على ألسنة الخصوم وإلا فهو من أشدهم عناداً وأبينهم فساداً، وسأنقل هنا مافيه أكبر برهان على ذلك مع بيان الرد عليه وعلى أمثاله بالأدلة القاطعة والحجج المنيرة الساطعة.

(1/237)


في الخلافة بعد رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم
قال ابن تيمية في المنهاج في الجزء الأول ص (269) مالفظه: فلما تبين لهم أن هذا الأمر في قريش قطعوا المنازعة.. إلى قوله: ولم يقل أحد قط إني أحق بهذا من أبي بكر، ولاقاله أحد في أحد بعينه: إن فلاناً أحق بهذا الأمر من أبي بكر، وإنما قاله من فيه أثر جاهلية عربية أو فارسية أن بيت الرسول أحق بالولاية، لأن العرب في جاهليتها تقدم أهل بيت الرؤساء وصاحب هذا الرأي لم يكن له غرض في علي بل كان العباس بحكم رأيه أولى من علي. وإن قدر أنه رجح علياً بأن يقول الإسلام يقدم الإيمان والتقوى على النسب، فأراد أن يجمع بين حكم الجاهلية والإسلام، فأما الذين كانوا يحكمون بحكم الإسلام المحض وهو الإيمان والتقوى فلم يختلف منهم اثنان في أبي بكر.. الخ.
أقول وبالله التوفيق: اعلم وفقنا الله وإياك أن هذا الكتاب قد امتلأ بالإفتراءات وإنكار المعلومات ورد الضروريات، ولابأس بلفت نظر الناظر إلى بعض من ذلك ليعرف ذووا الألباب إلى أي مبلغ بلغ في هذا الباب، فأولاً: قوله فلما تبين لهم أن هذا الأمر في قريش قطعوا المنازعة.

(1/238)


يقال: وهل كان الأمر في قريش الذين هم قرابة النبي صلى الله عليه وآله وسلم أثر جاهلية عربية أو فارسية أم لايكون أثر جاهلية أو فارسية إلا إذا كان في أهل بيت الرسول صلى الله عليه وآله وسلم خاصة، فعلى هذا يجب العمل بقوله صلى الله عليه وآله وسلم: (( الأئمة من قريش )) بشرط أن لايكون في علي أو في بني هاشم! ثم يقال له: ماذا تصنع بقوله تعالى حاكياً عن إبراهيم الخليل صلوات الله عليه وآله: ((وَمِن ذُرِّيَّتِي)) أي: واجعل من ذريتي أئمة، أيكون ذلك أثر جاهلية او فارسية؟! وكذا قول الله سبحانه: ((فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُم مُّلْكًا عَظِيمًا)) أيكون ذلك أثر جاهلية او فارسية، أم لايكون أثر جاهلية أو فارسية إلا إذا كان في آل محمد صلى الله عليه وآله وسلم! ثم انظر إلى ماكرره في هذا البحث من الإنكار والجحد للمعلوم ضرورة وبإجماع المسلمين وبرواية الصحاح وغيرها أن علياً والعباس وجميع بني هاشم والزبير بن العوام وغيرهم من سادات المهاجرين والأنصار قالوا: إن علياً عليه السلام أحق بهذا الأمر، وقد روى البخاري ومسلم أن علياً لم يبايع أبا بكر ولا أحد من بني هاشم حتى ماتت فاطمة عليها السلام، وهل يكون في هؤلاء أثر جاهلية أو فارسية؟! وانظر إلى قوله: وإن قدر أنه رجح علياً بأن يقول الإسلام يقدم الإيمان والتقوى على النسب فأراد أن يجمع بين حكم الجاهلية والإسلام.. الخ.

(1/239)


ففيه التصريح بأن تقديم علي عليه السلام لأجل الإيمان والتقوى جمعاً بين حكم الجاهلية والإسلام لأجل نسبه، فعلى هذا لايصح أن يكون الخليفة أقرب إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وإن بلغ في الاستحقاق من الإيمان والتقوى والعلم والفضل أي مبلغ لأجل قرابته من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فقد صارت القرابة من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مانعة من الإمامة ولو نص عليها الرسول صلى الله عليه وآله وسلم لكان ذلك أثر جاهلية أو فارسية في حكم ابن تيمية وأضرابه سبحانك اللهم هذا بهتان عظيم، وانظر إلى مباهتته وإنكاره للضرورة في قوله: وصاحب هذا الرأي لم يكن له غرض في علي بل كان العباس بحكم رأيه أولى من علي. فهذا كذب وافتراء محض ليس له أي شبهة أو مبرر، فالمعلوم من جميع الأمة أن العباس رضي الله عنه لم يقل ولاغيره إنه أولى بالأمر من علي عليه السلام، والمعلوم كذلك أن سعد بن عبادة ادعى أنه أولى بالأمر من أبي بكر وأنه لم يبايع حتى توفي، فكيف يقول: ولم يقل أحد قط إني أحق بهذا من أبي بكر؟ وعلى الجملة فهذا الكلام أغنى عن التصدي لرده وإبطاله، وحسبنا الله ونعم الوكيل.

(1/240)


في قتال علي عليه السلام
قال ابن تيمية كافاه الله في الجزء الثاني من منهاجه (ص 230) مالفظه: وعلي يقاتل ليطاع ويتصرف في النفوس والأموال، فكيف يجعل هذا قتالا على الدين؟ وأبو بكر يقاتل من ارتد عن الإسلام ومن ترك مافرض الله ليطيع الله ورسوله فقط.. الخ.
أقول: بالله عليك أيها المطلع انظر كيف جعل جهاد علي عليه السلام للكفار والمشركين، وهو وعمه أسد الله الحمزة بن عبدالمطلب وابن عمهما عبيدة بن الحارث عليهم السلام أول من بارز للجهاد في سبيل الله تعالى، وجهاده في بدر وأحد والخندق وخيبر وحنين، وقتاله للناكثين والقاسطين الذين هم الفئة الباغية الداعية إلى النار القاتلة لعمار رضوان الله عليه، وللمارقين الذين هم الخوارج المارقون عن الدين، وهو الجهاد والقتال الذي ثبت الله به قواعد الإسلام، جعل ذلك كله ليطاع ويتصرف في النفوس والأموال، تأمل بالله عليك هل يقول هذا من يؤمن بالله تعالى ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم واليوم الآخر، وصدق الرسول الأمين صلى الله عليه وآله وسلم: (( لايحبه إلا مؤمن ولايبغضه إلا منافق )) .
في آية الولاية
قال ابن تيمية في الجزء الثاني من منهاجه (ص 74) في سياق جحده لنزول آيات في أمير المؤمنين عليه السلام آية ((إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ)) مالفظه: وصيغة الجمع لايراد بها اثنان فقط لاتفاق الناس، بل إما الثلاثة فصاعداً، وإما الإثنان فصاعداً، أما إرادة الإثنين فقط فخلاف الإجماع.. انتهى المراد.

(1/241)


وأقول: إن الكذب والتكذيب للصدق من هذا الشيخ لاينحصران، لكن أريد أن أوضح لك هنا أنه كذاب بالنص القرآني، فقد أطلق الله صيغة الجمع وأراد الإثنين فقط قال تعالى: ((إِن تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا)) فأطلق صيغة الجمع وهي قلوب على قلبين قطعاً، والآية نازلة في حفصة وعائشة بلاريب، فهذا نص قرآني صريح في تكذيبه بلا احتمال، وماهذا من غيره فقد صار الكذب الصريح والتكذيب للصحيح لهجة له يجازف بها بلا عدد ولاحساب ولامكيال ولاميزان، وإذا لم تستح فاصنع ماشئت، وماحكم علماء عصره بتكفيره وزندقته وسجن حتى مات إلا لشأن، ولقد كنت أعجب غاية العجب من محمد بن إبراهيم الوزير حيث أثنى عليه في الإيثار حتى وقفت على كلامه فيه أنه لم يطَّلِع على منهاجه، فهوَّن ذلك عليَّ، وكذا ابن عقيل في النصائح ثم ذكر في كتابه تقوية الإيمان أنه لم يكن اطلع على منهاجه، هذا ورد عليه أبلغ الرد، وحسبنا الله ونعم الوكيل.
قال ابن حجر الهيثمي في فتاواه مالفظه: ابن تيمية عبد خذله الله تعالى وأضله وأعماه وأصمه وأذله، بذلك صرح الأئمة الذين بينوا فساد أحواله وكذب أقواله، ومن أراد ذلك فعليه بمطالعة كلام _الإمام المجتهد المتفق على إمامته وجلالته وبلوغه مرتبة الاجتهاد أبي الحسن السبكي_ وولده التاج والشيخ الإمام العز بن جماعة وأهل عصره من الشافعية والمالكية والحنفية إلى قوله: والحاصل أنه لايقام لكلامه وزن بل يرمى به في كل وعر وحَزَن، ويعتقد فيه أنه مبتدع ضال جاهل غال عامله الله تعالى بعدله وأجارنا من مثل طريقته وفعله. آمين.
انتهى من كتاب جلا العينين في محاكمة الأحمدين _يعني ابن حجر الهيثمي وأحمد بن عبدالحليم ابن تيمية_ للألوسي من الصفحة الرابعة.

(1/242)


مع ابن القيم في زاد المعاد
تأليف
الإمام الحجة مجد الدين المؤيدي أيده الله تعالى
بحث في المؤاخاة:
قال ابن القيم في صفح (56) من الجزء الثاني من زاد المعاد: فصل، ثم آخى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم _ولم يذكر الصلاة على الآل على عادتهم_ قال: بين المهاجرين والأنصار.. إلى قوله: وقد قيل إنه آخى بين المهاجرين بعضهم مع بعض مؤاخاة ثانية واتخذ فيها علياً أخاً لنفسه.. إلى قوله: ولو واخى بين المهاجرين كان أحق الناس بأخوته أحب الخلق إليه ورفيقه في الهجرة وأنيسه في الغار وأفضل الصحابة وأكرمهم عليه أبوبكر وقد قال: "لو كنت متخذاً من أهل الأرض خليلاً لاتخذت أبا بكر خليلا ولكن أخوة الإسلام أفضل" إلى آخره.

(1/243)


الجواب: ((أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ)) هذا صريح في أن موجب رد الروايات الصحيحة كونها تضمنت اتخاذه صلى الله عليه وآله وسلم علياً عليه السلام أخاه دون أبي بكر وهو خلاف المذهب، فيقال للشيخ: ماذا تقول في الخبر المتواتر الذي أخرجه البخاري ومسلم وأخرجه كل المحدثين: ((أنت مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لانبي بعدي )) بألفاظه، وسياقاته ومقاماته التي قد جمعتها في لوامع الأنوار فبلغت زيادة على اثني عشر مقاماً سوى مقام تبوك وهارون أخو موسى ووزيره وشريكه في أمره بنص الكتاب أترده لأنه لم يقل أبو بكر مني.. الخ؟! قد ذكرت ماقاله علماء الإسلام من المحدثين وغيرهم في وجه دلالته في شرح الزلف صفح (229 الطبعة الأولى) و (ص328 الطبعة الثانية) و (ص 435 الطبعة الثالثة) وفي مجمع الفوائد هذا، وماذا تصنع بقوله صلى الله عليه وآله وسلم: ((من كنت مولاه فعلي مولاه، اللهم وال من والاه، وعاد من عاداه، وانصر من نصره، واخذل من خذله )) الخبر المتواتر المعلوم الذي أقر الذهبي بالقطع به بعد أن بهرته طرقه، وقد أوضحت ذلك واستوفيت كلام علماء الإسلام عليه في لوامع الأنوار وشرح الزلف صفح (226 الطبعة الأولى) و (ص 325 الطبعة الثانية) و (ص 432 الطبعة الثالثة) أترده لأنه لم يقل فأبو بكر مولاه؟! وماترى في مباهلته صلى الله عليه وآله وسلم وإخراجه لعلي وابنيه وابنته عليهم الصلاة والسلام بإجماع الأمة وهي فضيلة لاتدانى ولاتضاهى، فقد جعل علياً نفسه لأنه المقصود بأنفسنا إذ الإنسان لايدعو نفسه وجمعه تعظيماً وتكريماً كما جمع نساءنا ولم يكن إلا فاطمة عليها السلام والحسنان ابناه أتنكره لأنه لم يخرج أبا بكر وهو أحق عندك منهم؟! وماتفعل بخبر الكساء الذي لفَّه عليهم، وقال: اللهم هؤلاء أهل بيتي فأذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا.. الخبر المعلوم الذي أخرجه أهل الصحاح وغيرهم أتجحده لأنه لم يدخل أبا بكر في الكساء ولاعائشة وقد طلبته هي

(1/244)


وغيرها من أمهات المؤمنين؟! وماتقول في خبر الراية: ((لأعطين الراية غداً رجلا يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله كرار غير فرار، فبات الناس يدوكون ليلتهم أيهم يعطاها )) هكذا في الصحاح لما في ذلك من الفضل العظيم الذي تتقاصر عنه الفضائل والشرف الرفيع الذي تتضاءل دونه المنازل، وهو كذلك خبر متواتر مجمع عليه بين الأمة أتقدح فيه لأنه لم يعط أبابكر وهو أحق عندك؟! وغير ذلك مما لايحاط به كثرة كتاباً وسنة.
هذي المكارم لاقَعبان من لبن .... شيبا بماء فعادا بعد أبوالا
إنها لاتعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور، وهي مما اتفقت عليها الأمة وتطابقت على نقلها النقلة، فأما قوله: أحب الخلق إليه. فدعوى مجردة عن البرهان، وأما رفيقه في الهجرة فصحيح، ولكن أفضل من ذلك المبيت على فراشه لفدائه بنفسه، وأما أفضل الصحابة وأكرمهم عليه، فمن الدعاوي التي لم تقم عليها دلالة بل البرهان قائم على خلافها من الكتاب والسنة، ولو لم يكن إلا سبق أمير المؤمنين عليه السلام إلى الإسلام من غير أن يتقدمه كفر بالله سبحانه طرفة عين بإجماع الأمة بخلاف غيره وجهاده في سبيل الله الذي لايدانيه مدان باتفاق الخلائق، وعلمه الذي رجعت إليه جميع علماء الصحابة ومما اشتهر: ((لولاعلي لهلك عمر)) . وأما قوله: لو كنت متخذاً خليلا.. الخ.
فهذا الخبر الآحادي الذي ينقض أوله آخره حيث قال: ولكن أخوة الإسلام أفضل. ففضلها على الخلة هذا الخبر، الذي لايبلغ عشير معشار ماورد في أمير المؤمنين عليه السلام هو في سياق خبر سد الأبواب إلا باب علي وهي معلومة عند الأمة، وقد ساق طائفة منها نافعة شارح البخاري ابن حجر العسقلاني وأوضح صحتها وجمع بينها بما خلاصته أن المراد الباب في خبر علي عليه السلام والخوخة في خبر أبي بكر، وقد أوردت جميع ذلك في لوامع الأنوار وأوضحت التضعيف في رجال رواية باب أبي بكر هنالك.
والحق أبلج مايخيل سبيله .... والحق يعرفه أولوا الأباب

(1/245)


هذا وأخبار المؤاخاة كثيرة شهيرة، وكانت المؤاخاة مرتين في كلتيهما جعل الرسول صلى الله عليه وآله وسلم عليا أخاه، وقد أخرجه باللفظ الذي ذكره الإمام المنصور بالله عبدالله في الشافي: ((أنت أخي في الدنيا والآخرة )) الحاكم في صفح (14) من الجزء الثالث من المستدرك عن ابن عمر من طريقين صحيحين على شرط الشيخين.
وأخرجه الذهبي في تلخيصه معترفاً بصحته، وأخرجه الترمذي فيما نقله ابن حجر في صفح (73) من صواعقه، وقال صلى الله عليه وآله وسلم: (( هذا أخي وابن عمي وصهري وأبو ولدي )) . أخرجه الشيرازي في الألقاب وابن النجار عن ابن عمر، وقال له صلى الله عليه وآله وسلم: (( أنت أخي وصاحبي )) أخرجه ابن عبدالبر في الاستيعاب بسنده إلى ابن عباس، وقال له صلى الله عليه وآله وسلم: (( وأما أنت ياعلي فأخي وأبو ولدي ومني وإلي )) ، أخرجه الحاكم في الجزء الثالث واعترف الذهبي بصحته، وقال له صلى الله عليه وآله وسلم: (( أنت أخي ووزيري تقضي ديني وتنجز موعدي وتبريء ذمتي)) . أخرجه الطبراني في الكبير عن ابن عمر، وكان علي عليه السلام يقول: أنا عبدالله وأخو رسوله وأنا الصديق الأكبر لايقولها بعدي إلا كاذب. أخرجه النسائي في الخصائص والحاكم وابن أبي شيبة وابن أبي عاصم وأبو نعيم.
وقال علي عليه السلام: ((والله إني لأخوه، ووليه، وابن عمه، ووارث علمه فمن أحق به مني )) أخرجه في المستدرك والذهبي مُسَلِّماً بصحته.

(1/246)


قال ابن عبدالبر في الاستيعاب: آخى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بين المهاجرين، ثم آخا بين المهاجرين والأنصار وقال في كل واحدة منهما لعلي: (( أنت أخي في الدنيا والآخرة )) وممن أخرج أخبار المؤاخاة بين الرسول وبين علي صلوات الله عليهما وآلهما وسلامه أحمد بن حنبل في المناقب وابن عساكر في تاريخه والطبراني والبيهقي في مجمعيهما والباوردي في المعرفة وابن عدي وغيرهم وأخرج الإمام أحمد في مسنده، والإمام النسائي في خصائصه والحاكم في مستدركه والذهبي في تلخيصه معترفاً بصحته وغيرهم، من أصحاب السنن بطرق مجمع على صحتها عن عمرو بن ميمون عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه صلى الله عليه وآله وسلم قال في حديث طويل: (( لايذهب بها أي براءة إلا رجل هو مني وأنا منه )) وأنه قال له صلى الله عليه وآله وسلم: (( أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه ليس بعدي نبي )) ((إنه لاينبغي أن أذهب إلا وأنت خليفتي))، وأنه قال له صلى الله عليه وآله وسلم: (( أنت وليي في الدنيا والآخرة )) ، وأنه قال له صلى الله عليه وآله وسلم: (( أنت ولي كل مؤمن بعدي ومؤمنة )) ، وفيه قال ابن عباس: وسد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أبواب المسجد غير باب علي فكان يدخل المسجد جنباً وهو طريقه ليس له طريق غيره، وأنه قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ((من كنت مولاه فإن مولاه علي )) . والحديث طويل اختصرته وقد ذكر فيه خبر الراية، وأنه أول الناس إسلاماً، وخبر الكساء، وشراء علي نفسه ليلة نام على الفراش وشواهده لاتحصى.

(1/247)


[إثبات الوصاية لأمير المؤمنين عليه السلام]
وقال صلى الله عليه وآله وسلم: (( إن هذا أخي ووصيي وخليفتي فيكم فاسمعوا له وأطيعوا )) مخاطباً لبني عبدالمطلب في خبر الإنذار. أخرجه بهذه الألفاظ ابن إسحاق، وابن جرير، وابن أبي حاتم، وابن مردويه، وأبو نعيم، والبيهقي في سننه ودلائله، والثعلبي والطبري في سورة الشعراء من تفسيريهما، والطبري أيضاً في الجزء الأول من تاريخه صفح (217)، وأبو جعفر الإسكافي في نقض العثمانية مصححاً له، والحلبي وغيرهم، وأخرج الطبراني في الكبير بسنده إلى سلمان قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (( إن وصيي وموضع سري وخير من أترك بعدي ينجز عدتي ويقضي ديني علي بن أبي طالب)) .
وأخرج محمد بن حميد الرازي عن بريدة عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ((لكل نبي وصي ووارث وإن وصيي ووارثي علي بن أبي طالب )) وأخبار المؤاخاة والوصية كثيرة. انظر البسائط كتخريج الشافي لشيخنا علامة العترة الحسن بن الحسين الحوثي رضي الله عنهما واستوفينا ذلك في لوامع الأنوار، وقد ألف في إثبات الوصية لأمير المؤمنين عليه السلام القاضي العلامة محمد بن علي الشوكاني صاحب نيل الأوطار مؤلفاً سماه العقد الثمين وقد طبع في ضمن الرسائل اليمنية ورَدَّ على ماروي في البخاري ومسلم عن عائشة، ولفظ ما روياه: ذكر عند عائشة أن النبي أوصى إلى علي رضي الله عنه فقالت: من قاله إلى قولها: فكيف أوصى إلى علي، قال بعض العترة: قد تعلم أن الشيخين يعني البخاري ومسلماً رويا في هذا الحديث وصية النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى علي من حيث لايقصدان، فإن الذين ذكروا يومئذ أن النبي أوصى إلى علي لم يكونوا خارجين من الأمة بل كانوا من الصحابة أو التابعين إلى آخر كلامه.

(1/248)


قلت: وهذا واضح ويأبى الله إلا أن يخرج الحق على ألسنة منكريه، ومثل هذا ماروياه عن طلحة بن مصرف قال: سألت عبدالله بن أبي أوفى هل كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم أوصى؟ قال: لا. قلت: كيف كتب على الناس الوصية ثم تركها؟ قال: أوصى بكتاب الله!. انظر كيف تناقض كلامه لما صدمته الحجة أثبت الوصية بعد أن نفاها، وقد نبه على هذه المناقضة المنصور بالله عبدالله بن حمزة عليهما السلام في الشافي والقاضي الشوكاني في العقد الثمين.
والحق أبلج ماتخيل سبيله .... والحق يعرفه أولوا الألباب
قال في شرح النهج الجزء الأول ص 143 الطبعة الثانية 1385 هـ في شرح قول أمير المؤمنين عليه السلام: "لايقاس بآل محمد صلى اللّه عليه وآله من هذه الأمة أحد، ولايُسوى بهم من جرت نعمتهم عليه أبداً، هم أساس الدين، وعماد اليقين، إليهم يفيء الغالي وبهم يلحق التالي، ولهم خصائص حق الولاية وفيهم الوصية والوراثة، الآن إذ رجع الحق إلى أهله ونقل إلى منتقله" مانصه: ومما رويناه من الشعر المقول في صدر الإسلام المتضمن كونه عليه السلام وصي رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم قول عبد اللّه بن أبي سفيان بن الحارث بن عبدالمطلب:
ومنا عليٌّ ذاك صاحبُ خيبرٍ .... وصاحبُ بدرٍ يوم سالت كَتَائِبُه
وصيُّ النبي المصطفى وابنُ عمه .... فمن ذا يدانيه ومن ذا يُقَارِبُه
وقال عبد الرحمن بن جعيل:
لعمري لقد بايعتمُ ذا حفيظة .... على الدين معروف العفاف موفقا
علياً وصيُّ المصطفى وابن عَمِّهِ .... وأول من صلى أخا الدين والتُّقى
وقال أبو الهيثم بن التيهان وكان بدرياً:
قل للزبير وقل لطلحة إننا .... نحن اللذين شعارنا الأنصارُ
نحن الذين رأت قريشٌ فعلَنا .... يوم القَلِيب أولئك الكفارُ
كنا شعارَ نبينا ودثارَه .... يفديه منا الروحُ والأبصارُ
إن الوصيَّ إمامُنا ووليُّنا .... برح الخفاءُ وباحَت الأسرارُ

(1/249)


وقال عمر بن حارثة الأنصاري إلى قوله:
أبا حسن أنت فصل الأمور .... يبين بك الحل والمحرم
جمعت الرجال على راية .... بها ابنُك يوم الوغَى مُقْحِم
ولم ينكص المرءُ من ضعفه .... ولكن توالت له أسهم
فقال رويداً ولاتعجلوا .... فإني إذا رشقوا مقدم
فأعجلته والفتى مجمع .... بمايكره الوجل المحجم
سمي النبي وشبه الوصي .... ورايته لونها العندم(1)
وقال رجل من الأزد يوم الجمل:
هذا علي وهُو الوصيُّ .... آخاه يوم النجوة النبي
وقال هذا بعدي الولي .... وعاه واع ونسي الشقي
وخرج يوم الجمل غلام من بني ضبة شاب معلم من عسكر عائشة وهو يقول:
نحن بني ضبة أعداء علي
وفارس الخيل على عهد النبي .... ذاك الذي يعرف قدماً بالوصي
لكنني أنعى ابن عفان التقي .... ما أنا عن فضل علي بالعمي
إن الولي طالب ثأر الولي
__________
(1) ـ أي الحلال والحرام. تمت من المؤلف.
(2) ـ المران: الرماح الصلبة. واحده: مرانه.

(1/250)


وقال سعيد بن قيس الهمداني يوم الجمل وكان في عسكر علي عليه السلام:
أية حرب أُضرمت نيرانُها .... وكسرت يوم الوغى مُرَّانُها
قل للوصي أقبلت قحطانها .... فادع بها تكفيكها همدانها(1)
همُ بنوها وهمُ إخوانها
وقال زياد بن لبيد الأنصاري يوم الجمل ـ وكان من أصحاب علي عليه السلام ـ:
كيف ترى الأنصارَ في يوم الكَلِب .... إنا أُناس لانُبالي مَن عَطِب
ولانبالي في الوصي مَن غَضِب .... وإنما الأنصار جِدٌ لا لعب
هذا علي وابن عبدالمطلب .... ننصره اليوم على من قد كذب
من يكسب البغي فبئسما اكتسب
وقال حجر بن عدي الكندي في ذلك اليوم أيضاً:
ياربَّنا سلِّم لنا عليا .... سلم لنا المبارك المضيا
المؤمن الموحدُ التقيا .... لاخطل الرأي ولاغويا
بل هادياً موفقاً مهديا .... واحفظه ربي واحفظ النبيا
فيه فقد كان له وليا .... ثم ارتضاه بعده وصيا
__________
(1) ـ المران: الرماح الصلبة. واحده: مرانه.

(1/251)


وقال خزيمة بن ثابت الأنصاري ذو الشهادتين ـ وكان بدرياً ـ في يوم الجمل أيضاً:
ليس بين الأنصار في جحمة الحر .... ب وبين العداة إلا الطعانُ
وقراع الكماة بالقضب البيـ .... ـض إذا ماتحطم المُرّانُ
فادعها تستجب فليس من الخز .... رجِ والأَوسِ ياعلي جبانُ
ياوصي النبي قد أجلت الحر .... ب الأعادي وسارت الأضعانُ
واستقامت لك الأمور سوى الشـ .... ـام وفي الشام يظهر الإذعانُ
حسبهم مارأوا وحسبك منا .... هكذا نحن حيث كنا وكانوا
وقال خزيمة بن ثابت أيضاً في يوم الجمل:
أعائش خلي عن علي وعيبه .... بما ليس فيه إنما أنت والده
وصي رسول اللّه من دون أهله .... وأنت على ماكان من ذاك شاهده
وحسبك منه بعض ماتعلمينه .... ويكفيك لو لم تعلمي غير واحده
إذا قيل ماذا عبت منه رميته .... بخذل ابن عفان وماتلك آبده
وليس سماء اللّه قاطرة دما .... لذاك وما الأرض الفضاء بمائده
وقال ابن بديل بن ورقاء الخزاعي يوم الجمل أيضاً:
ياقوم للخطة العظمى التي حدثت .... حرب الوصي وما للحرب من آسي
الفاصل الحكم بالتقوى إذا ضربت .... تلك القبائل أخماسا لأسداس

(1/252)


وقال عمرو بن أحيحة يوم الجمل في خطبة الحسن بن علي عليهما السلام بعد خطبة عبد اللّه بن الزبير:
حسن الخير ياشبيه أبيه .... قمت فينا مقام خير خطيب
قمت بالخطبة التي صدع اللـ .... ـه بها عن أبيك أهل العيوب
وكشفت القناع فاتضح الأمـ .... ـر وأصلحت فاسدات القلوب
لست كابن الزبير لجلج في القو .... ل وطأطأ عنان فسل مريب
وأبى اللّه أن يقوم بما قا .... م به ابن الوصي وابن النجيب
إن شخصاً بين النبي ـ لك الخـ .... ـير ـ وبين الوصي غير مشوب
وقال زحر بن قيس الجعفي يوم الجمل أيضاً:
أضربكم حتى تقروا لعلي .... خير قريش كلها بعد النبي
من زانه اللّه وسماه الوصي .... إن الولي حافظ ظهر الولي
كما الغوي تابع أمر الغوي
ذكر هذه الأشعار والأراجيز بأجمعها أبو مخنف لوط بن يحيى في كتاب وقعة الجمل، وأبو مخنف من المحدثين، وممن يرى صحة الإمامة بالاختيار وليس من الشيعة ولامعدوداً من رجالها، ومما رويناه من أشعار صفين التي تتضمن تسميته عليه السلام بالوصي ماذكره نصر بن مزاحم بن يسار المنقري في كتاب صفين وهو من رجال الحديث، قال نصر بن مزاحم: قال زحر بن قيس الجعفي:
فصلى الإله على أحمد .... رسول المليك تمام النعم
رسول المليك ومن بعده .... خليفتنا القائم المدعم
علياً عنيت وصي النبي .... نجالد عنه غواة الأمم

(1/253)


قال نصر: ومن الشعر المنسوب إلى الأشعث بن قيس:
أتانا الرسول رسول الإمام .... فسر بمقدمه المسلمونا
رسول الوصي وصي النبي .... له السبق والفضل في المؤمنينا
ومن الشعر المنسوب إلى الأشعث أيضاً:
أتانا الرسول رسول الوصي .... علي المهذب من هاشم
وزير النبي وذو صهره .... وخير البرية والعالم
قال نصر بن مزاحم: من شعر أمير المؤمنين عليه السلام في صفين:
ياعجباً لقد سمعت منكرا .... كذباً على اللّه يشيب الشعرا
ماكان يرضى أحمد لو أخبرا .... أن يقرنوا وصيه والأبترا
شاني الرسول واللعين الأخزرا .... إني إذا الموت دنا وحضرا
شمرت ثوبي ودعوت قنبرا .... قدم لوائي لاتؤخر حذرا
لايدفع الحذار ماقد قدرا .... لو أن عندي يا ابن حرب جعفرا
أو حمزة القرم الهمام الأزهرا .... رأت قريش نجم ليل ظهرا
وقال جرير بن عبد اللّه البجلي: كتب بهذا الشعر إلى شرحبيل بن السمط الكندي رئيس اليمانية من أصحاب معاوية:
نصحتك يا ابن السمط لاتتبع الهوى .... فمالك في الدنيا من الدين من بدل
ولاتك كالمجرى إلى شر غاية .... فقدخرق السربال واستنوق الجمل
مقال ابن هند في علي عظيمة .... وَلَلَّهُ في صدر ابن أبي طالب أجل
وماكان إلا لازماً قعر بيته .... إلى أن أتى عثمان في بيته الأجل
وصي رسول اللّه من دون أهله .... وفارسه الحامي به يضرب المثل

(1/254)


وقال النعمان بن عجلان الأنصاري:
كيف التفرق والوصي إمامنا .... لاكيف إلا حَيْرَة وتخاذلا
لاتغبنن عقولكم لاخير في .... من لم يكن عند البلابل عاقلا
وذروا معاوية الغوي وتابعوا .... دين الوصي لتحمدوه آجلا
وقال عبد الرحمن بن ذؤيب الأسلمي:
ألا أبلغ معاوية بن حرب .... فمالك لاتهش إلى الضراب
فإن تسلم وتبق الدهر يوماً .... نزرك بجحفل عدد التراب
يقودهم الوصي إليك حتى .... يردك عن ضلال وارتياب
وقال المغيرة بن الحارث بن عبدالمطلب:
ياعصبة الموت صبراً لايهولكم .... جيش بن حرب فإن الحق قد ظهرا
وأيقنوا أن من أضحى يخالفكم .... أضحى شقياً وأمسى نفسه خسرا
فيكم وصي رسول اللّه قائدكم .... وصهره وكتاب اللّه قد نشرا
وقال عبد اللّه بن عباس بن عبدالمطلب:
وصي رسول اللّه من دون أهله .... وفارسه إن قيل هل من منازل
فدونكه إن كنت تبغي مهاجراً .... أشم كنصل السيف غير حُلاحل

(1/255)


والأشعار التي تتضمن هذه اللفظة كثيرة جداً، ولكنا ذكرنا منها هاهنا بعض ماقيل في هذين الحربين، فأما ماعداهما فإنه يجل عن الحصر ويعظم عن الإحصاء والعد، ولولا خوف الملالة والإضجار لذكرنا من ذلك مايملأ أوراقاً كثيرة.انتهى من شرح النهج.
ولولا ضيق المقام لسقت من الأخبار النبوية وأقوال الصحابة والتابعين المروية مايقطع ريب كل مرتاب، وإلى الله المرجع والمآب.
مسألة:
في عدم التفاضل لأجل الصنعة في متفقي الجنس والتقدير
حاشية على قول ابن القيم في ج 3 ص 230 ط 1، وفي ج 3 ص 466 ط 2، فالعاقل لايبيع هذه بوزنها من جنسها.. الخ من الروض.
بسم اللّه الرحمن الرحيم
الحمدلله وحده أقول وبالله التوفيق. إن مثل هذه التخيلات والتفلسفات التي هي أشبه بلمع السراب لايصح أن يعارض بها نصوص السنة النبوية ومحكم الكتاب ولاتنفق في سوق التحقيق على أرباب الفهم والتدقيق من ذوي الألباب.
أما قوله: إن كانت صناعته محرمة حرم بيعه بجنسه وغير جنسه وبيع هذا الذي أنكره عُبادةٌ على معاوية.. الخ. فقد أجاب عليه الشارح رحمه اللّه وأفاد وإن كان قد تأثر بقياساته الشعرية.
وأما قوله: فالعاقل لايبيع هذه بوزنها من جنسها، فإنه سفه وإضاعة للصنعة، فالشارع أحكم من أن يلزم الأمة بذلك.
يقال: إن الشارع لم يلزم الأمة بذلك وقد أجاز له أن يبيع المصنوع بغير جنسه مثلاً الذهب بالفضة أو العكس كيف شاء، ثم يشتري بذلك من الذهب غير المصنوع إن شاء فيستوفي قيمة صنعته ويخرج من الربا الذي حرمه الشرع وعلم الحكمة في إبطاله وإن لم يعلمها الجاهلون، ويلزم مثل ماذكره فيما ورد فيه النص الصريح.

(1/256)


فيقال له: والعاقل لايبيع الصاع الجيد الذي يساوي صاعين من الردي بصاع منه فإنه سفه وإضاعة للجودة سواء سواء، وقد أرشدنا الشرع الشريف بأن يبيع الذي معه ويشتري بثمنه من الآخر ولاحرج عليه ولانقص.
وقوله: ولم يبق إلا تحريم بيعها إلا بجنس آخر، وفي هذا من الحرج ماتنفيه الشريعة، فإن أكثر الناس ليس عندهم ذهب يشترون به مايحتاجون من ذلك والبائع لايبيعه ببر مثلا أو شعير أو ثياب إلى آخر الهذيان الذي لامعنى له في إباحة ماحرمه الشرع.
ونقول: ليس في ذلك أي حرج ولاسفه وكيف يكون كذلك وقد نص عليه الشارع الحكيم وأرشد على لسان رسوله صلى اللّه عليه وآله وسلم أن يبيع الردي ويشتري بثمنه الجيد والأجناس كثيرة، وأي حرج في أن يبيع المصنوع من الذهب أو الفضة بالجنس الآخر وكذا سائر الأجناس فليس بمتعذر ولامتعسر بل متيسر، ولو كان كذلك لما أمره الرسول صلى اللّه عليه وآله وسلم ببيع التمر الردي بغير جنسه، بل الحرج والمشقة هو الدخول في الربا الذي هو أشد من أقبح أنواع الزنى وفيه الدخول في حرب الله.
وقوله: والحِيَل باطلة في الشرع.
يقال: أما مانص عليه الشرع من الحِيَل كبيع ذلك بغير جنسه فأي بطلان فيه، وكيف يقال: الحيل باطلة، وقد شرعها اللّه سبحانه وتعالى ورسوله صلى اللّه عليه وآله وسلم وحيلة الضغث منصوص عليها في كتاب اللّه تعالى، فكيف يقال: الحيل باطلة في الشرع؟ وإنما الباطل ماكان فيه معارضة للشرع الشريف كحيلة أصحاب السبت وكهذه الحيلة في بيع الذهب بأكثر منه ذهباً بحيلة الصنعة مع أن الشرع لم يعتبر الجودة والرداءة في الجنس الواحد من التمر بالنص الصريح، ولافرق قطعاً بين الصنعة والجودة عند كل عاقل.
وأما قوله: والنصوص الواردة عن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم ليس فيها ماهو صريح في المنع وغايتها أن تكون عامة أو مطلقة ولاينكر تخصيص العام وتقييد المطلق بالقياس الجلي.

(1/257)


يقال: إنه وإن لم يقل الذهب المصنوع وغيره بالذهب المصنوع وغيره هذا هو الذي يريده فقد نص على ذلك بالعموم، فإن الذهب عام لكل أنواعه سواء المصنوع وغيره، ولايجوز أن يخرج عن العموم إلا بمخصص صحيح لابمجرد التخيلات والتوهمات، وأين القياس الجلي الذي أخرجت به المصنوع من عموم الذهب بالذهب؟
وأما قوله: وهي بمنزلة نصوص وجوب الزكاة في الذهب والفضة والجمهور يقولون: لم تدخل الحلية.
يقال: قول الجمهور ليس دليلا أو حجة، والصحيح أن الحلية تجب فيها الزكاة وقد وردت نصوص في وجوبها في الحلية والمعتمد الدليل لاتتبع الأقاويل.
فقوله: فتجب الزكاة ويجري الربا في بعض صوره تخصيص لغير مخصص من الشرع وإنما هو بمجرد الرأي الذي لم يستند فيه إلى دليل إنما معه أنه قول الجمهور، ثم ساق كلامه الذي ليس فيه أي حجة بل ذلك مخالف للنصوص الشرعية، ومثل ذلك تمحلات وهمية وقياسات تمثيلية في مقابلة النصوص الشرعية، وقد أوجب الرسول صلى اللّه عليه وآله وسلم الفصل في خبر القلادة وهي مصنوعة ليتيقن التساوي، وأمر ذات السوارين بالزكاة.
قوله: كانوا يتخذون الحلية. إلى قوله: ومعلوم أنها لاتباع بوزنها.
هذا كله من القطع بالعلم والمعرفة بلا دليل ودعوى بلا برهان، فيا لله العجب من الاستناد إلى مثل هذه الشبه التي هي أوهن من نسج العنكبوت.
ثم قوله في العرايا: وتحريم الحرير والذهب على الرجال وأنه أبيح منه ماتدعو إليه الحاجة.
يقال: لم يبح منه إلا ما أبيح بنصوص من الشرع صحيحة ولاكلام فيما ورد فيه النص، وأما تعليله بالحاجة المطلقة فيلزم منه أن يباح جميع أنواع الربا بمجرد الحاجة، فمن احتاج إلى ذهب جيد يجوز له أن يشتريه بأكثر منه ردي وكذا جميع أنواع الربويات، ولم يبق معنى لتحريم الربا إلا مالايحتاج إليه على قوله هذا، إذ قد جعل الحاجة مبيحة لما حرمه الشرع بهذا القياس المعكوس والنظر المنكوس، فإنا لله وإنا إليه راجعون.

(1/258)


وأما قول المؤلف: وقد تعقبه بعض المتأخرين. نقول: كان على المؤلف أن يذكر التعقيب.
ثم قوله: إلا أنه لما اشتدت حاجة الناس إلى العمل به. إلى قوله: ولانص يخالفها كان للفتوى بذلك وجه وجيه.
يقال: بل قد ورد النص بما يخالف هذه الفتوى وهو قوله ((الذهب بالذهب.. الخ)). وكذا النص الصريح في التمر الجيد بالردي، فكيف يقال: ولانص يخالفها؟ ثم قوله: وقد تقدم نظير ذلك فيما نقلناه عن ابن القيم في باب طواف الزيارة.
يقال: الكلام عليه هناك كالكلام هنا فإنه إبطال للنص بالرأي الفاسد، كيف وقد قال صلى اللّه عليه وآله وسلم في حق صفيه: ((أحابستنا هي؟)) أي إن لم تكن قد أفاضت، ولم يقل: لابأس يجوز أن تطوف وهي حائض لئلا تحبس الرسول صلى اللّه عليه وآله وسلم ومن معه من الحجيج، كما أجازه ابن القيم وخصص العموم بمجرد الرأي الذي لادليل عليه، وهذا يدلك أن المؤلف رحمه اللّه قد تأثر بالرأي المذكور، فلاحول ولاقوة إلا بالله العلي العظيم.
---

(1/259)


مع ابن الوزير في إيثار الحق على الخلق

[الجواب على قوله : وجود ما علم أنه لا يوجد]
من صفح (271) في طبعة 1318هـ الطبعة الأولى: قوله: اتفق أهل السنة من أهل الأثر والنظر والأشعرية على أن الإرادة لا يصح أن تضاد العلم ولا يريد الله تعالى وجود ما قد علم أنه لا يوجد.
قلت: يقال: لاتضاد في ذلك أصلا فقد علم قطعاً عقلاً وشرعاً أن الله تعالى مريد للطاعات من جميع المكلفين لقوله تعالى: ((وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ)) [الذاريات:56] وهو عالم عز وجل أنها لاتقع إلا من المؤمنين، ولادليل يدل على استحالة ذلك أصلا لاعقلا ولانقلا.
وأما قوله: فإنا ندرك من أنفسنا امتناعها مثل أن نريد من الله تعالى.. الخ.
فإنما المدرك هو المحاولة لذلك لا الإرادة فهي ممكنة وواقعة كما قال الشاعر:
ألاليت الشباب يعود يوماً .... فأخبره بماصنع المشيب
على أنه يقال بعد هذا كله إن إرادة الله تعالى مخالفة لإرادة خلقه إنما هي في حقه جل جلاله، إما العلم باشتمال الشيء على المصلحة وهذا المعنى حاصل قطعاً فإن في طاعة العباد المصلحة العامة، وإما بمعنى الأمر للعباد وقد وقع قطعاً، وماسوى ذينك باطل وإن ذهب إليه ذاهب، وأيضاً فليست الحكمة في طلب الطاعات من العصاة هي حصولها بل إقامة الحجة وإيضاح المحجة والتعريض على الخير الممكن الذي لايمنع منه مانع وهو حسن قطعاً وإن علم أنه غير واقع، وإذا تأملت هذا حق التأمل اتضح لك أن جميع ماطول به في هذا الباب تطويل بلاطائل.

(1/260)


[الجواب على قوله: فحين علمنا أن ذلك حقيقة قولهم ...الخ]
ومن صفح (276) قوله: فحين علمنا أن ذلك حقيقة قولهم.. الخ.
قلت: يقال: قد صرحوا كما أفدت في جميع تصرفاتهم بخلافه، فمن أين علمت أن هذا حقيقة قولهم، وإنما صرح واحد منهم وهو الشهرستاني في مقام واحد؟ فمن أين صح حمل جميع تصريحاتهم عليه مع أنه صرح نفسه بأن فعل العبد خلق لله تعالى؟ وهذه الطريقة في التلفيق هي طريقة السيد الحافظ في أغلب أبحاثه وإيراداته في عواصمه وقواصمه وإيثاره أنه يتلمس أي عبارة لأحد المخالفين فيها أدنى رائحة لما يروم نسبته إلى إحدى الطوائف، ثم يبني عليها ويضيف إليها موافقة جميع أهل تلك الطائفة ويعرض بعد ذلك عن صريح نصوصهم وتصريحاتهم التي لاتحتمل التأويل، وهي طريق أوهى من نسج العنكبوت، وقد أفاد ماذكرناه الإمام المنصور بالله محمد بن عبدالله الوزير رضي الله عنه في فرائد اللآلي فقد أطنب في الرد على المؤلف، ومما وصفه به أنه يريد أن يجمع بين الماء والنار، وهو شاهد من أهله وهو أعرف به، فمن أراد التحقيق فعليه بمطالعته، وكذا العلامة المفضال أحمد بن صالح بن أبي الرجال في مطلع البدور في ترجمة المؤلف.
والعجب من تنظيره لذلك بتفسير الزمخشري الذي صرح تصريحاً ليس بعده تصريح بأن ذلك مجاز، وكتابه مشحون بذلك، ولقد نقض تأويله هذا الذي قصده لهم بقوله: ولكن هذا منهم مجرد لجاج وشدة مراء وجدل.. الخ.
فتدبر وكن على حذر، _من مثل هذا التخبط والتخليط العجيب _ وخذ الثمر، وخل العود للنار، والله ولي التوفيق إلى أقوم طريق.

(1/261)


[الجواب على قوله: وهنا تحقيق بالغ وهو أن مراد أهل السنة في مسألة الإرادة أن يكون الله غالبا غير مغلوب]
ومن صفح (277) قوله: وهنا تحقيق بالغ، وهو أن مراد أهل السنة في مسألة الإرادة أن يكون الله غالباً غير مغلوب.
قلت: يقال: أما هذا فلايخالف فيه مسلم، ولو وقف عليه المخالفون ماوقع النزاع، ولكنهم فرعوا عليه مالايدل عليه ولايلزم عنه، وهو: أن كل واقع في العالم من حسن وقبيح وخير وشر وطاعة ومعصية وإيمان وكفر وفسوق وصلاح وفساد وظلم وإحسان وعدوان فهو بإرادته ومشيئته وقضائه وقدره وأنه عز وجل لايقبح منه قبيح هذا معلوم عنهم بالضرورة، وكم للمؤلف من محاولات في هذا المؤلف وغيره لتلفيق الوفاق بتصيد عبارات، وبتلفيق كلمات وفلتات للبعض منهم لاتدل على الاتفاق، ولقد أداه ذلك إلى المناقضات وتخليط المقالات. ثم يقال له: إن كان الأمر كما ذكرت فما معنى تطويلك بالرد عليهم فيما سبق من الأبحاث وما يأتي، وأين ماسبق لك في صفح (216) من قولك: وأما الأشعرية فقدحوا في الحكمة بأسرها إلى آخره؟ فإنا لله وإنا إليه راجعون. انتهى.

(1/262)


[الجواب على قوله: ورد عليه أن عالم الغيب يمنع من طلب وحصول ما علم أنه لا يحصل]
ومن صفح (278) قوله: وسر هذا التحقيق أنه لا خلاف أن سبب المعاصي مراد وهو: خلق القدرة والتمكين والتكليف، لكنه ليس بجبر محض، بل الظاهر في سبب الشر أنه شر، فمن نفى الحكمة قال: هو مراد لنفسه، ومن أثبتها قال: لا بد من مراد آخر وهو المراد الأول المسمى: الغرض وغرضه، فمن قال: هو الجنة في حق الكفار، ورد عليه أن عالم الغيب يمنع من طلب وحصول ماعلم أنه لايحصل.
قلت: يقال: هذا عجيب، ألم يأمر العصاة بالطاعة؟ ألم يأمر إبليس بالسجود؟ أوليس الأمر طلباً وأي طلب، وقد سبق التنبيه على الصواب وإلى الله المرجع والمآب.
[الجواب على قوله: فإنهم الجميع قد اتفقوا على نفي الجبر]
ومن صفح (278) قوله: فإنهم الجميع قد اتفقوا على نفي الجبر. إلى آخره.
قلت: يقال: أما الأشعرية والذين يسميهم المؤلف باسم أهل السنة، فإنهم وإن وافقوا في اللفظ فلم يوافقوا في المعنى، وماموافقتهم تلك إلا مراوغة مما لزم أهل الجبر وهي مراوغة لاتجديهم شيئاً فإنهم مجمعون على أن أفعال العباد مخلوقة لله تعالى، وأنه تعالى مريد لكل القبائح وأنه لايقبح منه قبيح، والكسب الذي أثبتوه ليس له معنى على التحقيق، وكذا تلك القدرة الموجبة المقارنة للمقدور التي لاتصلح للضدين وهي التي يعنون بالاختيار، وفيما مر للمؤلف وما يأتي مايناقض هذه التلفيقات التي يتكلفها ويكفيك قوله في صفح (372): وتسموا بالسنية واتسموا بحماتها من أهل البدعة فسلموا لأعداء الإسلام نسبة كل قبيح مذموم إلى الله تعالى وأنه منه لا من غيره،

(1/263)


وأن ذلك وجميع أفعاله صدرت منه لغير حكمة ولاعاقبة حميدة، وأنه لايعاقب العصاة لأجل المعصية ولايثيب المحسنين لأجل الإحسان، بل تصدر أفعاله عنه كما تصدر المعلولات عن عللها الموجبة لها, والاتفاقيات والاختياريات من الصبيان والمجانين، وأنه قد وقع منه تكليف المحال، وأنه ليس هو أولى به من تكليف الممكن، وأمثال هذا مما لم تكن الملاحدة تطمع أن يمضي لهم طرفة عين، فقد صار ذلك من آكد عقائد هؤلاء الحماة عن السنة والإسلام يوصون به في المختصرات عموم المسلمين فيوهمون أن ذلك من أركان الإسلام، فلولا أن هذا قد وقع منهم ماكان العاقل يصدق بوقوعه ممن هو دونهم، فنسأل الله تعالى العافية. انتهى.فتدبر فهذا هو عين التحقيق والله ولي التوفيق.
[الجواب على قوله: ولكن أكثر المعتزلة زعموا أن الله تعالى مريد لفعل جميع ما يقدر عليه ...الخ]
ومن صفح (291) قوله: ولكن أكثر المعتزلة زعموا أن الله تعالى مريد لفعل جميع مايقدر عليه من هداية المكلفين واللطف بهم بل اعتقدوا أن ذلك واجب عليه ولأجل اعتقادهم وجوبه عليه قطعوا حين لم يفعله أنه غير قادر عليه.. الخ.
قلت: اعلم أولا أن القائل بوجوب جميع مايمكن من الألطاف هم طائفة من المعتزلة لاكلهم، وقد ذكر المؤلف أنهم أكثرهم، والواقع أنهم ليسوا بأكثرهم ولامعنى للتهويل والتشنيع عليهم بأنهم قالوا بأنه غير قادر عليه،

(1/264)


والمعلوم أنهم إنما قالوا: إن الله تعالى لو علم أن اللطف ينفع فيهم لفعله وإنما لاينفع فيهم لأنهم لايقبلونه، واللطف ليس موجباً للهداية، وإنما يكون المكلف معه أقرب إلى أداء ماكلفه، وقد دلت الآيات على أنه لاينفع فيهم شيء لو لم يكن إلا قوله تعالى: ((وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلآئِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلاً مَّا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ إِلاَّ أَن يَشَاء اللّهُ)) [الأنعام:111] وقوله تعالى: ((وَلَوْ رُدُّواْ لَعَادُواْ لِمَا نُهُواْ عَنْهُ)) [الأنعام: 28] وغير ذلك كثير ومتى كانوا لايختارون قبول اللطف استحال أن ينفع فيهم إلا على جهة الإجبار وهو معنى إلا أن يشاء الله، فإن أجبرهم لم يكونوا مختارين، ومحال أن يكونوا مختارين مجبرين، والمحال لايوصف بكونه مقدوراً فما بقي على هذا إلا تأويل نحو قوله تعالى: ((وَلَوْ شَاء لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ)) [النحل:9] على مشيئة الإلجاء، وأما مشيئة الإختيار فقد شاء ذلك قطعاً بدلالة أول الآية: ((سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُواْلَوْ شَاء اللّهُ مَا أَشْرَكْنَا)) [الأنعام:148] فإن الله تعالى قد أبطل قولهم ونفى أن يكون عندهم علم وحصرهم وقصرهم على الخرص وهو الكذب وهو يفيد قطعاً أنه لم يشأ إشراكهم، وإذا لم يشأ إشراكهم فقد شاء هدايتهم.

(1/265)


وأما قوله: وهذه هفوة المعتزلة الكبرى ومقابلته إياها بهفوة الجبرية في نفي الاختيار، فعجيب جداً، ومتى تأملت ماذكرنا عرفت أنه لامعنى لذلك وأيضاً نسبته إلى المعتزلة وهو لبعضهم غير لائق إذ المقام يقتضي التحقيق في نسبة الأقوال، ولقد نقض المؤلف هذا البحث كله بقوله في صفح (293): ثم إن المعتزلة رجعوا إلى قول أهل السنة في هذا بعد التعسف الشديد في تأويل القرآن والسنة واجتمعت الكلمة في الحقيقة على أن الله تعالى على كل شيء قدير وعلى مايشاء لطيف، ومابقي إلا اللجاج في المراء بين أهل الكلام.. الخ.كلامه.
[ تم بحمد الله نقل هذه الحواشي وقت أذان المغرب يوم الجمعة السادس عشر شهر الحجة الحرام سنة (1395 هـ) وهي مفيدة على إيثار الحق على الخلق كتبه الفقير إلى الله تعالى أحمد بن يحيى بن أحمد بن عبدالكريم حجر وفقه الله لصالح الأعمال. آمين.]

(1/266)


مع العامري في بهجة المحافل

حول رؤية الله تعالى
من صفح (131) ج (1) قوله: ورأى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ربه ليلة الإسراء بعيني رأسه.
قلت: اعلم أن الرؤية المقتضية للتكييف ممتنعة على الله سبحانه وتعالى بالاتفاق بين العدلية وغيرهم، والذين أثبتوها من الأشعرية يقولون: بلاكيف، ولهذا قال صاحب الكشاف راداً عليهم:
وجماعة سموا هواهم سنة .... وجماعة حمر لعمري موكفة
قد شبهوه بخلقه وتخوفوا .... شنع الورى فتستروا بالبلكفة
أي قالوا: بلا كيف. قلت: والإدراك بعيني الرأس أو بإحدى الحواس لايجوز على الله جل جلاله قطعاً عقلا وشرعاً. أما العقل: فلأنه يستحيل رؤية غير الجسم والعرض، لأنه لايُرى إلا المقابل أو مافي حكم المقابل وهو مافي الماء أو المرآة، والمقابلة ومافي حكمها تقتضي المكان والتكييف وذلك من لوازم الأجسام والأعراض المستوجبة للحدوث، ولو كان يُرى في حال لرأيناه جل وعلا في الحال إذ الحواس سليمة والموانع مرتفعة.

(1/267)


وأما الشرع: فقوله جل شأنه: ((لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ)) [النعام:103] فقد جعل الله تعالى من الممادح الإلهية عدم إدراكه المبصرون بالأبصار، فلو كان يدركه أي بصر في حال دون حال أو يدركه أي مبصر لما صح، إذ غيره جل وعلا كذلك فلاخصوصية، فهو من عموم السلب لاسلب العموم كما هو معلوم، وقوله عز وجل لموسى عليه السلام _لما سأل لقومه لا له، فهو أعرف بالله تعالى، وكان ذلك قبل الإذن فلهذا شاركهم في العقوبة_: ((لَن تَرَانِي)) وعلقه على المحال وهو استقرار الجبل حال دكه، والدليل على أن السؤال كان لقومه قوله تعالى: ((وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ)) [البقرة:55] وقوله تعالى: ((فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ قَالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُم مِّن قَبْلُ وَإِيَّايَ أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاء)) [الأعراف:155] الآية، وقوله تعالى: ((فَقَدْ سَأَلُواْمُوسَى أَكْبَرَ مِن ذَلِكَ فَقَالُواْ أَرِنَا اللّهِ)) [النساء:135] الآية، ففي كل هذا ينسب الله السؤال لقومه فقد ندد الله سبحانه بهم وكرر توبيخهم على ذلك السؤال، فليس إلا لأنهم سألوا مالايجوز على الله سبحانه وتعالى وماهو مناف للإلهية، فلو كان جائزاً أن يدركه مدرك أو يبصره مبصر في أي حال مانزل بهم مانزل، وهذا معلوم لمن عقل، وقد رووا في ذلك روايات فما لم يصح منها فهو مردود وماصح فهو متأول بإطلاق الرؤية على العلم للأدلة العقلية والنقلية والمسألة مبسوطة في محلها، والله تعالى الموفق.

(1/268)


[التعليق على قوله: ولهذا اعتزل أسامة الحروب التي جرت بين الصحابة]
من صفح (9) ج (2) قوله: ولهذا اعتزل أسامة الحروب التي جرت بين الصحابة فلم يخالط شيئاً منها. قال الشارح: وممن اعتزلها من الصحابة محمد بن مسلمة وأبو بكرة وعبدالله بن عمر وأبو ذر وحذيفة.. الخ.
قلت: أما أبو ذر وحذيفة رضي الله عنهما فهما ماتا قبل الحروب، توفي أبو ذر عام اثنين وثلاثين، وحذيفة عام ستة وثلاثين بعد مقتل عثمان بأربعين ليلة وكان يحث أصحابه على اللحاق بأمير المؤمنين عليه السلام وأمر ولديه صفوان وسعيداً باللحاق بالوصي عليه السلام فقتلا بصفين رضي الله عنهما، أفاده ابن عبدالبر في الاستيعاب والمسعودي في مروج الذهب. واعلم أن هؤلاء المدعين للسنة يستحسنون اعتزال قتال الناكثين والقاسطين والمارقين مع أن النصوص القرآنية والأخبار المتواترة النبوية قاضية بقتالهم قال الله تعالى: ((فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ)) [الحجرات:9] وقد أجمعت الأمة أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال لعمار: ((تقتلك الفئة الباغية تدعوهم إلى الجنة ويدعونك إلى النار )). والرسول صلى الله عليه وآله وسلم يقول: ((علي مع الحق والحق مع علي اللهم أدر الحق معه حيثما دار )). ويقول صلى الله عليه وآله وسلم: ((من كنت مولاه فعلي مولاه اللهم وال من والاه وعاد من عاداه وانصر من نصره واخذل من خذله)).. إلى غير ذلك مما لايحاط به كثرة، والأمة مجمعة ومنهم هؤلاء المدعون للسنة أن أمير المؤمنين عليه السلام صاحب الحق، وإمام الهدى في تلك الحروب كلها فكيف يحمد من اعتزل الحق وأهله وخذل أمير المؤمنين وسيد المسلمين وإمام المتقين، نعوذ بالله من الخذلان، هذا ولاتغتر بمازخرفه المُحَشِّي من تأويل الآية بما ليس عليه دليل، فإن ذلك من قسم التحريف والتبديل، وحسبنا الله ونعم الوكيل.

(1/269)


[التعليق على قوله: ومنها هجران أهل البدع والمعاصي الظاهرة]
من صفح (42) ج (2) قوله: ومنها هجران أهل البدع والمعاصي الظاهرة وترك السلام عليهم تحقيراً لهم وزجراً.. الخ.
قلت: ومنها يؤخذ أن خبر: ((ومايدريك لعل الله اطلع على أهل بدر فقال: اعملوا ماشئتم)) غير صحيح وإن كان في الصحاح، أو أنه ليس على ظاهره أو أنه خاص بالصغائر أي: اعملوا ماشئتم من الصغائر، أي: إن عملوها على سبيل الخطأ في التأويل كما في قصة حاطب، وذلك لأن صاحبي كعب من أهل بدر، وهذا هو الواجب أي: الحمل على ماذكر، لأن صريح الكتاب والسنة قاضيان بالنار والمؤاخذة على أهل الكبائر كالشرك بالله وعقوق الوالدين وقتل المؤمن والزنا والسرقة ونحوها، ولايعدل عن تلك النصوص القاطعة لخبر آحادي محتمل مخالف ظاهره لحكمة الزجر عن الكبائر ومستلزم للإغراء في حق غير المعصوم إلا من هو في ضلال مبين، وحسبنا الله ونعم الوكيل.
[التعليق على قوله: وهذان الحديثان من أدل الدلائل على خلافة أبي بكر]
من صفح (101) ج (2) قوله: وهذان الحديثان من أدل الدلائل على خلافة أبي بكر، والحديثان هما مارووه أنه صلى الله عليه وآله وسلم قال لعائشة: ((لقد هممت أو أردت أن أرسل إلى أبي بكر وابنه فأعهد أن يقول القائل أو يتمنى المتمنون، ثم قلت: يأبى الله ويدفع المؤمنون أو يدفع الله ويأبى المؤمنون )) رواه البخاري، وروى مسلم أيضاً عن عائشة قالت: قال لي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في مرضه: ((ادعي لي أبا بكر أباك وأخاك حتى أكتب كتاباً فإني أخاف أن يتمن متمن أو يقول قائل أنا أولى ويأبى الله والمؤمنون إلا أبا بكر))..الخ

(1/270)


قلت: يقال: لو كان من هذا شيء لاحتج به أبو بكر يوم السقيفة فقد كان في أمس الحاجة إلى ذلك وقد كادت الفتنة أن تثور، ولم يحتج أبو بكر إلا بالقرب من الرسول صلى الله عليه وآله وسلم كما ذلك مأثور، ولهذا قال الوصي عليه السلام: احتجوا بالشجرة وأضاعوا الثمرة، ولو كان من هذا شيء ماتأخر أمير المؤمنين عليه السلام وكافة بني هاشم وأعلام السابقين عن بيعتهم يوم السقيفة وهو مع الحق والقرآن والحق والقرآن معه، كما هو معلوم بالنص النبوي المتفق عليه، لو كان شيء ما تأخر لحظة واحدة كيف وقد اعتزلهم ستة أشهر برواية البخاري ومسلم، ولكنها لم تكن قد لفقت مثل هذه التراهات ودست في الصحاح، وهذان الحديثان الآحاديان المرويان عن عائشة لايقاومان عشر معشار الوارد في أمير المؤمنين عليه السلام لارواية ولادلالة كخبر الغدير المتواتر الذي جمع فيه الرسول صلى الله عليه وآله وسلم الحجيج في حجة الوداع وخطبهم فيه وبلغهم على رؤوس الأشهاد وقال: ((من كنت مولاه فعلي مولاه، اللهم وال من والاه، وعاد من عاداه، وانصر من نصره، واخذل من خذله )) بعد أن قال: ((ألست أولى بالمؤمنين من أنفسهم؟ قالوا: بلى )) فهل بعد هذا البيان من بيان، ولهذا قال المقبلي: إنه لا أوضح منه دلالة ورواية وقال: فإن كان هذا معلوماً وإلا فما في الدنيا معلوم. وقال الذهبي على شدة انحرافه ونصبه: بهرتني طرقه فقطعت به.
وستأتي روايته للمؤلف في ذكر فضل أهل البيت صفح 400 وهو أوضح من فلق النهار.
وليس يصح في الأذهان شيءٌ…إذا احتاج النهارُ إلى دليلِ

(1/271)


وكخبر المنزلة الذي قال الرسول صلى الله عليه وآله وسلم فيه: (( أنت مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لانبيء بعدي )) . وقد استوفينا طرق روايته وغيره، وأوضحت _أنه صلى الله عليه وآله وسلم قاله لعلي عليه السلام في اثني عشر مقاماً لا في غزوة تبوك فحسب_ في لوامع الأنوار وقد رواه جميع أهل الصحاح والسنن وغيرهم، واعترف ابن حجر بدلالته على الإمامة كما تقوله الشيعة، قال: لولا أن هارون مات قبل موسى عليهما السلام، وقد أجيب عليه بما فيه كفاية، وأن ذلك لايمت إلى الدلالة بصلة إذ الفرض بيان الاستحقاق لجميع منازله من موسى لا أن يكون كهارون من كل وجه، ومن منازله أنه أحق بالأمر وأفضل الأمة إلى غير ذلك مما أفاده عموم المنزلة لدلالة الاستثناء، ولأنها جنس مضاف وهي من صيغ العموم كما قرر في الأصول إلى غير ذلك من الأخبار النبوية كقوله صلى الله عليه وآله وسلم: ((وهو وليكم من بعدي )) وغير ذلك من سائر الدلالات والإشارات مما لايحاط به كثرة كتاباً وسنة ولعمر الله إنها لاتخفى على أمثال هؤلاء العلماء، ولكن كما قيل:
نعرف الحق ثم نعرض عنه… ونراه ونحن عنه نميل

(1/272)


لهوى النفوس سريرة لاتعلم، فالحكم لله العلي الكبير، نعم المولى ونعم النصير. وهذان الحديثان مما وضعا معارضة للخبر المعلوم المروي في الصحيحين وغيرهما من طلبه صلى الله عليه وآله وسلم أن يكتب لهم كتاباً لن يضلوا من بعده، فقال عمر: رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قد غلبه الوجع وعندكم القرآن حسبكم كتاب الله. فلما أكثروا اللغط والاختلاف قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ((قوموا عني )) . وكان ابن عباس يقول: إن الرزية كل الرزية ماحال بين رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وبين أن يكتب لهم ذلك الكتاب ثم بكى ابن عباس حتى بل دمعه الحصى. هذه رواية البخاري ومسلم، ولقد فهم عمر مراد الرسول صلى الله عليه وآله وسلم من التأكيد بخلافة أخيه كما صرح به عمر في رواية صحيحة ولولا أنه صلى الله عليه وآله وسلم قد بلغهم في يوم الغدير وغيره لما استطاع عمر ولاغيره أن يمنعوه من تبليغ ما أمره الله به، ومما يدلك على وضع هذين الخبرين مافيهما من أنه هم أن يرسل إلى أبي بكر وابنه فيعهد إليهما، فكيف تكون حجة الله على الخلق في خلافته على جهة المسارة لأبي بكر وابنه فأين هذا مما بَلَّغَه الرسول صلى الله عليه وآله وسلم على رؤوس الأشهاد في خبر الغدير؟! وغيره هذا معلوم لايخفى على من له أدنى مسكة من التمييز.
والحق أبلج ماتخيل سبيله .... والحق يعرفه ذووا الألباب

(1/273)


[الكلام في وصاية أمير المؤمنين عليه السلام]
من صفح (123) ج (2) قال حسان بن ثابت شاعر النبي صلى الله عليه وآله وسلم يرثيه:
مابال عينك لاتنام كأنها .... كحلت أماقيها بكحل الأرمد
إلى أن قال:
لو يعلموا أن الوصي من بعده .... أوصى ونطفته قسيمة أحمد
نوراً تنقل من خلاصة هاشم .... إذ بايعوه هدوا لدين محمد
نوراً أضاء على البرية كلها .... من يهد للنور المبارك يهتد
قلت: في هذا تصريح بالوصاية والأخبار فيها والآثار أشهر من فلق النهار، قد امتلأت بها الأسفار وحفلت بها أشعار المهاجرين والأنصار. وفي هذه الأبيات أيضاً إشارة إلى الخبر النبوي في النور ومن ألفاظه الشريفة: ((إن الله أنزل قطعة من نور فأسكنها في صلب آدم فساقها حتى قسمها نصفين فجعل جزءاً في صلب عبدالله وجزءاً في صلب أبي طالب فأخرجني نبياً وأخرج علياً وصياً )) أخرجه الإمام المنصور بالله عبدالله بن حمزة في الشافي، وأخرج نحوه من مسند أحمد بن حنبل ومن الفردوس والحاكم الجشمي في السفينة وغيرهم، وقد استوفينا الكلام عليه في لوامع الأنوار. نعم وفي هذا الشعر جزم المضارع بلو كما في قول الشاعر:
لو يشأْ طار بها ذو ميعة… لاحق الآطال نهد ذو خصل

(1/274)


[بحث في إثبات أن القرآن محدث مخلوق]
من صفح (212) ج (2) قوله: ولقد أحسن صاحب البردة حيث يقول في وصف آيات القرآن العظيم، وفي تحقيق معنى ماقدمناه أيضاً:
آيات حق من الرحمن محدثة .... قديمة صفة الموصوف بالقدم
.. الخ
قلت: اعلم أن القول بأن القرآن صفة لله تعالى ذاتية، وأن تلك الصفة وست صفات أيضاً قديمات مع الله سبحانه وتعالى وهن: العلم والقدرة والحياة والسمع والبصر والإرادة، وأن الذات الثامنة هو قول الأشعرية ومن وافقهم من المحدثين وغيرهم، وهو صريح في تعدد القدماء مع الله تعالى، وهو يقتضي تعدد الآلهة للاشتراك في الصفة الذاتية إذ المشاركة في صفة ذاتية توجب المشاركة في جميع الصفات الذاتية والاشتراك في الذات ضرورة، ألا ترى أن التحيز مثلا لما كان صفة ذاتية للجسم استحال أن يعقل جسم غير متحيز أو غير شاغل للمحل إلى غير ذلك من الصفات الذاتية، والإلهية لله تعالى صفة ذاتية قطعاً، فيستحيل أن يوجد قديم غير إلاه. ولكن هؤلاء لما لم يكن لهم مسكة في علم التوحيد والأصول ولا تعويل على دلائل العقول، التي هي الطريق إلى إثبات المنقول، لايبالون بماوقعوا فيه من الارتباك والتورط في حبائل الإشراك، هذا وقد قال أمير المؤمنين وإمام الموحدين، وصي الرسول الأمين صلى الله عليه وآله الطاهرين: وإنما كلامه سبحانه فعل منه أنشأه ومثله، ولم يكن من قبل ذلك كائناً، ولو كان قديماً لكان إلهاً ثانياً.. إلى آخره. فصفاته جل وعلا إنما هي تعبير عن ذاته المقدس عن الأشباه بمعنى: أنه عالم بذاته، قادر بذاته، وليس له عز وجل معنى غيره، هذا هو قول علماء التوحيد والعدل، وأما غيرهم فقد انقسموا طوائف: فمنهم من أثبت معاني كما هي ثابتة في المخلوق، _أعني أن الله تعالى عالم بعلم غير ذاته، وقادر بقدرة غير ذاته إلى آخره _، ثم تخبطوا بعد ذلك، فمنهم: من جعلها معاني قديمة ولم يبالوا بلزوم تعدد الآلهة وهم هؤلاء، ومنهم: من أثبتها محدثة ولم يبالوا بلزوم حدوث ذي الجلال وكل ذلك للجهل المردي، نعوذ بالله منه، ومع هذا فقد قاموا بمنازعة العلماء الذين قرن الله شهادتهم بشهادته حيث قال: ((شَهِدَاللّهُ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلاَئِكَةُ وَأُوْلُواْ

(1/275)


الْعِلْمِ قَآئِمَاً بِالْقِسْطِ)) [آل عمران:18] الآية، ولم يرضوا بالسكوت على ماهم عليه من الجهالة، ويزعمون أن ذلك من الخوض فيما لايجوز، وأن القول الحق الذي هو حقيقة التوحيد والتنزيه عن شبه المخلوقين تعطيل لَمَّا لم يفهموا إلا صفات المخلوقين، وما أشبه تنزيههم هذا بتسبيح البروية حيث قالت: سبحان الله قبل الله سبحان الله بعد الله. وغيرر ذلك من الجهالات والضلالات، ولم يثبت علماء التوحيد إلا مادلت عليه أدلة العقل والنقل وإمامهم في ذلك باب مدينة العلم ولي الأمة والمبين لهم مايختلفون فيه بعد أخيه صلى الله عليه وآله وسلم قال عليه السلام: وكمال توحيده الإخلاص له، وكمال الإخلاص له نفي الصفات عنه، بشهادة كل صفة أنها غير الموصوف، وشهادة كل موصوف أنه غير الصفة، فمن وصف الله فقد قرنه، ومن قرنه فقد ثناه، ومن ثناه فقد جزأه، ومن جزأه فقد جهله. وقال عليه السلام: كان إلهاً حياً بلا حياة. وقال: من وصفه فقد شبهه، ومن لم يصفه فقد نفاه، وصفته أنه سميع ولاصفة لسمعه. وقال عليه السلام: باينهم بصفته رباً كما باينوه بحدوثهم خلقاً.. الخ. وقد استوفينا الكلام في هذا في كتاب لوامع الأنوار، والله تعالى ولي التوفيق.
[التعليق على قوله: وقد صحح جماعة من أصحابنا جواز الصلاة في الخف المتنجس أسفله إذا دلكه بالأرض حتى تذهب العين]
من صفح (298) ج (2) قوله: وقد صحح جماعة من أصحابنا جواز الصلاة في الخف المتنجس أسفله إذا دلكه بالأرض حتى تذهب العين.. الخ.
قلت: لكن الدليل يقضي بخلافه قال الله تعالى: ((وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ)) وفي الرواية:أنه نزل جبريل عليه السلام على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأمره بخلع نعله لأن فيها قذراً،وهو يحتمل أن يكون غير نجس فكيف بالنجاسة المحققة،لايقال: إنه لم يعد الصلاة. لأنه يقال: يحتمل ماسبق _أي أنها غير نجاسة_، ويحتمل أنه يعفى مع عدم العلم وهو الأظهر، أو أن ذلك في أول نزول الحكم ولاتكليف قبل التبليغ لأنه تكليف بمالايعلم، والله أعلم.

(1/276)


[الكلام على وجوب التسمية عند الوضوء]
من صفح (299) ج (2) قوله: أما أذكاره فكان صلى الله عليه وآله وسلم يسمي الله أوله ووردت أحاديث تدل على التحتم في التسمية وكلها مؤولة أو ضعيفة.. الخ.
قلت: تأويلاً خلاف الظاهر ولاموجب للعدول عنه فالواجب العمل بذلك، فمن الأدلة على الوجوب قوله صلى الله عليه وآله وسلم: ((لاصلاة لمن لا وضوء له ولاوضوء لمن لم يذكر اسم الله عليه )) أخرجه الإمام المؤيد بالله في شرح التجريد عن أمير المؤمنين عليه السلام وصححه الحاكم من حديث أبي هريرة قال في الروض النضير: قال ابن حجر: وفي الباب عن أبي سعيد وسعيد بن زيد وعائشة وسهل بن سعد وأبي سبرة وأم سبرة وعلي وأنس ثم ذكر حديث كل واحد منهم وهو حديث: ((لاصلاة لمن لا وضوء له )) .. الخ. وفي كل منها مقال، وقال بعد ذلك: والظاهر أن مجموع الأحاديث يحدث منها قوة تدل على أن له أصلا قال أبو بكر بن أبي شيبة: ثبت لنا أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قاله. انتهى المراد. قلت: والتأويل الذي ذكروه هو أن يحمل على نفي الفضيلة، وهو خلاف الظاهر بلا دليل يمنع من حمله على الحقيقة التي هي نفي الوضوء إذ هو شرعي أو نفي الصحة، لأنها أقرب شيء إلى العدم كما قرر في محله من الأصول.

(1/277)


[الكلام على اشتراط ضربتين في التيمم]
من صفح (300) ج (2) قوله في التيمم: عن عمار بن ياسر قال: بعثنا النبي صلى الله عليه وآله وسلم في حاجة فأجنبت فلم أجد الماء إلى أن قال: ثم أتيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فذكرت ذلك له فقال: (( إنما يكفيك أن تضرب بيديك هكذا، ثم ضرب بيديه الأرض ضربة واحدة، ثم مسح الشمال على اليمين وظاهر كفيه ووجهه )) وفي رواية لهما _أي البخاري ومسلم_: ((وضرب بيديه الأرض ونفخ فيهما، ثم مسح بهما وجهه )) ففي هذا الحديث أدل دليل على أنه لايشترط فوق ذلك إلى أن قال: قيل: ولايعلم في حديث يقطع بصحته اشتراط ضربتين.. الخ.
قلت: قد صح الاشتراط عن أمير المؤمنين عليه السلام بقوله: التيمم ضربتان ضربة للوجه وضربة للذراعين إلى المرفقين. أخرجه الإمام الأعظم زيد بن علي بن الحسين عن آبائه عليهم السلام عنه عليه السلام، وروى السيوطي في جمع الجوامع في مسند علي عليه السلام: وأخرج الحاكم عن جابر عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (( التيمم ضربتان ضربة للوجه وضربة لليدين إلى المرفقين )) . وأخرج الإمام المؤيد بالله عليه السلام في شرح التجريد من طريق الهادي عليه السلام بإسناده إلى علي عليه السلام قال: أعضاء التيمم الوجه واليدان إلى المرفقين. قال ابن عبدالبر: لما اختلفت الروايات في كيفية التيمم وتعارضت كان الواجب ضربة للوجه وضربة أخرى لليدين إلى المرفقين قياساً على الوضوء. انتهى المراد.

(1/278)


[التعليق على قوله: ولا يعلم في حديث التحتم في التيمم لكل فريضة]
من صفح (301) ج (2) قوله: ولايعلم في حديث التحتم في التيمم لكل فريضة.
قلت: في أمالي الإمام أحمد بن عيسى بن الإمام زيد بن علي عليهم السلام، قال محمد بن منصور: حدثنا حسين بن نصر، عن خالد بن عيسى، عن حصين، عن جعفر، عن أبيه، قال: جرت السنة ألا يُصلى بالتيمم الواحد إلا صلاة واحدة ونافلتها. قلت: وهذا له حكم المرفوع فمثل هذا اللفظ يحمل على سنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كما قرر في الأصول والرواة جميعهم من الثقات الأثبات عند العترة عليهم السلام. وفيه: وحدثنا جعفر ـ يعني النيروسي ـ عن قاسم بن إبراهيم، قال: يصلي المتيمم صلاة واحدة بالتيمم ويتيمم لوقت كل صلاة. وفي سنن البيهقي بإسناده إلى ابن عمر قال: تيمم لكل صلاة وإن لم تحدث. قال: إسناده صحيح، وحكى في التلخيص عن البيهقي قال: ولانعلم له مخالفاً من الصحابة، وقد روي عن علي وعن ابن عباس والرواية عن علي أخرجها بإسناده إلى أبي بكر بن أبي شيبة: أخبرنا هشيم، عن حجاج، عن أبي إسحاق، عن الحارث، عن علي، قال: يتيمم لكل صلاة. والرواية عن ابن عباس أخرجه بإسناده إلى عبدالرزاق، عن ابن أبي عمارة، عن الحكم، عن مجاهد، عن ابن عباس قال: من السنة ألايصلي الرجل بالتيمم إلا صلاة واحدة ثم يتيمم للصلاة الأخرى. أفاده في الروض النضير، وهذا كاف في الحجة ولاعبرة بتضعيفهم لبعض الرواة فهو للمخالفة في المذهب وهو غير مقبول بالاتفاق، والله تعالى ولي التوفيق.

(1/279)


[الكلام في عبدالله بن الزبير]
من صفح (307) ج (2) قوله: وكان عبدالله بن الزبير إذا سجد تنزل العصافير على ظهره لاتحسبه إلا جذم حائط من طول السجود.
قلت: نوم على يقين خير من عبادة على شك، وماينفعه ذلك والرسول صلى الله عليه وآله وسلم يقول في علي عليه السلام: (( لايحبه إلا مؤمن ولايبغضه إلا منافق )) وقد كان من أشد المبغضين له والمقاتلين له، وقد قال أمير المؤمنين عليه السلام: مازال الزبير رجلا منا حتى نشأ ولده المشئوم عبدالله فأفسده. فما أحقه وأمثاله بقوله تعالى: ((وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ (2)عَامِلَةٌ نَّاصِبَةٌ (3) تَصْلَى نَارًا حَامِيَةً)) [الغاشيه:2-4] ولقد كان الخوارج أشد عبادة منه ونسكاً ومانفعهم ذلك، بل مرقوا من الدين كما يمرق السهم من الرمية كما ورد في الخبر النبوي صلوات الله وسلامه على صاحبه وآله، فنسأل الله تعالى التوفيق وحسن الخاتمة.
[التعليق على قوله: واعلم أن رفع اليدين عند الركوع والرفع منه سنة ثابتة]
من صفح (324) ج (2) قوله: واعلم أن رفع اليدين عند الركوع والرفع منه سنة ثابتة.. الخ.
قلت: رفع اليدين عند تكبيرة الإحرام هو السنة الثابتة التي رواها العدد الكثير واعتمدها الجم الغفير من أهل البيت عليهم السلام منهم الإمام الأعظم زيد بن علي بن الحسين بن علي، والإمام نجم آل الرسول القاسم بن إبراهيم الرسي، روى ذلك عنه حفيده إمام الأئمة الهادي إلى الحق يحيى بن الحسين بن القاسم في كتاب الأحكام في صلاة الجنازة، ولافرق بينها وبين غيرها قطعاً، وأما في الموضعين المذكورين ففيهما خلاف كثير، وقد روى الإمام زيد بن علي عن آبائه عن علي عليهم السلام أنه كان يرفع يديه في التكبيرة الأولى إلى فروع أذنيه ثم لايرفعهما حتى يقضي صلاته. ورواه غيره من المحدثين كما أوضحته في المنهج الأقوم.

(1/280)


[التعليق على حديث: قال (ص) ((من سب أحد أصحابي فعليه لعنة الله ...)) الحديث]
من صفح (404) ج (2) قوله: إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: ((من سب أحد أصحابي فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، لايقبل الله منه صرفاً ولاعدلا )) ..الخ
قلت: اعلم أن معاوية وعمرو بن العاص والمغيرة بن شعبة وأشباههم أول داخل في هذا اللعن النبوي، لأنهم سبوا أعظم السب أول أصحابه السابقين أمير المؤمنين وأخا الرسول الأمين صلى الله عليه وآله وسلم بإجماع الأمة، بل قرروا سبه على فروع المنابر، فهم أول مراد بهذا وأمثاله، فياعجباه لمن يدعي السنة ويقصد الذب عن هؤلاء بتوجيه الوعيد الوارد عليهم الذين هم أول مقصود به وداخل فيه إلى من تكلم فيهم، إن هذا لحيف شديد وزيغ عظيم، فتأمل أيها المؤمن المنصف ((وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِن نُّورٍ)) [النور:40] وإلى الله ترجع الأمور.
[الكلام في معاوية بن أبي سفيان]
من صفح (405) ج (2) قوله: قال رجل للمعافى بن عمران: أين عمر بن عبدالعزيز من معاوية؟ فغضب، وقال: لايقاس بأصحاب النبي أحد معاوية صاحبه وصهره وكاتبه وأمينه على وحي الله.
قلت: العجب ممن يدعي العلم ويقول إنه متبع للسنة ويتكلم بمثل هذه الأقوال الملبسة التي لاتغني من الحق شيئاً، ويريد أن يعارض بها كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وآله وسلم، فنقول: معاوية عدو الله وعدو رسوله لقوله صلى الله عليه وآله وسلم لعلي عليه السلام في الخبر المتواتر: ((اللهم وال من والاه وعاد من عاداه )) ، معاوية منافق لقوله صلى الله عليه وآله وسلم لعلي في الخبر المعلوم المجمع عليه: (( لايحبه إلا مؤمن ولايبغضه إلا منافق )). معاوية رأس البغاة الدعاة إلى النار لقوله صلى الله عليه وآله وسلم لعمار: ((تقتلك الفئة الباغية تدعوهم إلى الجنة ويدعونك إلى النار )) الخبر النبوي المتواتر.

(1/281)


معاوية قاتل عمار بن ياسر وحجر بن عدي والألوف المؤلفة من المؤمنين، وقد قال الله تعالى: ((وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُّتَعَمِّدًا فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا)) [النساء:93].
معاوية مستحق للوعيد بكل آية لعن فيها من اتصف بصفته كقوله عز وجل: ((أَلاَ لَعْنَةُ اللّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ)) ((فَنَجْعَل لَّعْنَةُ اللّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ)) ((فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَآيَاتِهِ يُؤْمِنُونَ)).
وقد استحق المتولون له والمدافعون عنه الوعيد الشديد بمثل قوله تعالى: ((لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ)) [المجادله:22] ((وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ)) [المائده:51] ((ويحشر المرء مع من أحب))، فلاتغتر أيها الناظر بقعقعة عمي الأبصار صم الأسماع، فلم يرد الثناء في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وآله وسلم إلا على الصحابة الذين آمنوا به واتبعوا النور الذي أنزل معه ولم ينقلبوا على أعقابهم ولم يرتدوا على أدبارهم ومن نكث فإنما ينكث على نفسه، وقد قال الرسول صلى الله عليه وآله وسلم في أخبار الحوض: إنه لاينجو منهم إلا كهمل النعم، وأنه يقول لهم: سحقاً سحقاً لمن غير وبدل. وهي مروية في الصحاح وغيرها مجمع عليها، والله المستعان والمستعاذ به من الخذلان، وقد سبق في الجزء الأولمن لوامع الأنوار على نصيحة المؤلف مافيه كفاية لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد.

(1/282)


مع الإمام يحيى بن حمزة (ع) في الرسالة الوازعة

[الكلام في التكفير والتفسيق والمولاة]
في صفح (13) من الرسالة الوازعة للإمام يحيى بن حمزة عليهما السلام:
المسلك الأول: وساق فيه إلى أن قال: ولاشك أن التكفير والتفسيق من أعظم الأحكام، فإذا لم تكن فيهما دلالة قاطعة ولابرهان بيِّن وجب التوقف.
قلت: يقال: فلم لم تتوقف أيها الإمام كما قضيت أنه الواجب. اهـ.
قوله في صفح (14): وجوب الموالاة.
قلت: يقال: قد سبق قوله وجوب التوقف، وسيأتي للإمام عليه السلام في صفح (35) أن التوقف أولى وهو لايتفق مع هذا، وسيأتي له أن دلالة إمامة أمير المؤمنين عليه السلام قاطعة والحق فيها واحد، وأنها ليست من مسائل الاجتهاد، وأن من خالفها مخطيء لمخالفته للدلالة القاطعة، فكيف يصح مع هذا أن نبقى على الأول وهو وجوب الموالاة، وغاية مايمكن أن المعصية محتملة للصغر والكبر وذلك يوجب التوقف لا القطع على الصغر إذ لادليل عليه ولا البقاء على الأصل لوجود الناقل عنه، فتأمل فهذا هو الحق والإنصاف ولايغني جمع الروايات الباطلة الملفقة والقعقعة والإرجاف، والله يقول الحق وهو يهدي السبيل.
[الكلام على قتال أهل الردة]
وقوله في الصفح المذكور في المسلك الرابع: وماكان منه عليه السلام من المناصرة والمعاضدة لأبي بكر في أيام قتال أهل الردة.. إلخ.
قلت: يقال: أما قتال أهل الردة فقد كان قتالاً عن حوزة الإسلام، فهو واجب على كل مسلم وفي كل حال ومع إمام وغير إمام، وعلي عليه السلام هو إمام الهدى فكيف لايذب عن الدين الحنيف، وذلك هو الذي أوجب سكوته ومصالحة القوم التي وردت بلفظها في رواية البخاري وغيره فطلب مصالحه أبي بكر.. الخ. ولهذا قال: فأمسكت يدي حتى رأيت راجعه الإسلام رجعت.. إلخ.

(1/283)


[الكلام في خير هذه الأمة بعد نبيها (ص)]
وفي صفح (15) قوله: خير هذه الأمة بعد نبيها أبو بكر وعمر. قلت: اعلم أن هذا وأمثاله لايصح. لمخالفته للنصوص المتواترة المعلومة القاضية بأن أمير المؤمنين وسيد المسلمين عليه السلام خير هذه الأمة وأفضلها وأعظمها عند الله منزلة، وهي مناقضة لما سبق للإمام يحيى عليه السلام ويأتي من أن أمير المؤمنين عليه السلام أفضل الخلق بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لما خصه الله تعالى من الفضائل الظاهرة التي لم يحزها أحد بعده، ولا كانت لأحد قبله، وأن إمامته ثابتة بالنص عليه، وعلى ولديه، وأن فضله على غيره من الصحابة أظهر من نور الشمس إلى آخر الكلام السابق.
[الكلام في أن الإمام بعد رسول الله (ص) علي بن أبي طالب (ع)]
وقوله في صفح (24): الحكم الأول: أن الإمام بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم هو علي بن أبي طالب.. الخ.
الحكم الثاني: أن دلالة إمامته قاطعة والحق فيها واحد وليست من مسائل الإجتهاد، فمن خالفها فلاشك أنه مخطيء لمخالفته للدلالة القاطعة.. إلى آخره.
قلت: فمثل هذه الروايات الملفقة المتهافتة لاتقاوم الأدلة المعلومة من الكتاب والسنة وليس ذلك مما يخفى على الإمام يحيى وإنما أراد النكير والإرهاب على أهل الجرأة والسباب بغير دليل، والذي يظهر أن فيها دساً على الإمام فحاشاه عن مثل هذه المناقضة التي لاتصدر عن من له أدنى نظر، وحسبنا الله ونعم الوكيل.

(1/284)


[الكلام في الوصاية]
وفي صفح (16) من الرسالة الوازعة أيضاً للإمام يحيى بن حمزة عليهما السلام: لم يوص رسول الله فأوصي ولكن إن أراد الله بالناس خيراً.. إلخ.
قلت: يقال: كيف يصح هذا أيها الإمام وإمامة أمير المؤمنين عليه السلام عندك وعند جميع أهل بيت محمد صلى الله عليه وآله وسلم قطعية؟ وكيف يصح هذا وأمير المؤمنين عليه السلام أنكر مافعلوه يوم السقيفة واعتزلهم بإجماع الأمة وروايات الصحاح مصرحة أنه لم يبايع لاهو ولاأحد من بني هاشم ستة أشهر، وبعدها طلب مصالحة أبي بكر، هذه رواية البخاري وغيره، وعند أهل بيت محمد صلى الله عليهم وسلم أنه لم يبايع أصلاً. كيف وهو مع الحق والحق معه؟ وكيف تنكر الوصية وهي ثابتة بالنصوص النبوية وإجماع أهل البيت عليهم السلام وأنت أيها الإمام منهم بل لاتزال تقول: وصي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في جميع كتبك؟ وكيف يصح ذلك وهو يقول مخاطباً لأبي بكر:
فإن كنت بالشورى ملكتَ أمورَهم .... فكيف بهذا والمُشيرون غُيَّبُ
وإن كنت بالقربى حَجَجْتَ خصيمهم .... فغيرك أولى بالنبيِّ وأقربُ
مع أن هذه العبارة لايصح مثلها عن أمير المؤمنين عليه السلام لما فيها من الشك في إرادة الله سبحانه الخير، واحتمال أن لايريد منهم ذلك، وهو عين الجبر تعالى الله عن ذلك وهو القائل سبحانه: ((يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ)) [البقره:185] ((يريد الله أن يتوب عليكم ويهديكم)) إلى مالايحصى من الأدلة عقلا ونقلا.
فمثل هذا الكلام المتهافت لايمكن صدوره عنه عليه السلام، وهو مما يحقق الوضع في كثير من هذه الرسالة، وهو يناقض نصوصه الصريحة حتى في هذه الرسالة نفسها.

(1/285)


مع الإمام القاسم بن محمد (ع) في رسالة التحذير

من صفح 19 في رسالة التحذير وأما قولهم: يلزم أن يسمى الله تعالى معيناً على المعاصي لإعطائه لهم ما استعانوا به على ظلمهم فمعارض بأنه يلزمهم أن يسموا الله مقوياً على المعصية لأنه خالق القوى للعاصين وغيرهم ولامحيد لهم عنه، حيث جعلوا شبه ذلك لازماً، وأما نحن فنقول: إن الله سبحانه لايجوز أن يجرى له من الأسماء إلا ما تضمن مدحاً. قلت: يقال: هذان الجوابان غير مقنعين، أما الأول: وهو قوله: فمعارض بأنه يلزمهم أن يسموا الله مُقَوِّيا. فهو إلزامي غير مفيد للحل. وأما الثاني: وهو قوله: أما نحن فنقول: إن الله سبحانه لا يجوز أن يجري له من الأسماء إلا ما تضمن مدحا .. الخ
قلت: فنقول: إن الله سبحانه وتعالى يتعالى عن فعل القبيح سواء اشتق له منه اسم أم لا، والحل هو ما أشار إليه عليه السلام سابقاً في صفح (12) بقوله: لأن تمكين الله العصاة إنما كان ليصح التكليف وتنسب الطاعة للمطيع إلى آخره. نعم فلما كانت المصلحة أعظم من مفسدة الإعانة رجحت عليها وصيرتها مصلحة خالصة، وذلك كقطع اليد المتآكلة وشرب الدواء الضار والكي والفصد، لم يعتد بما فيها من المفاسد والأضرار بجنب مافيها من المصالح العظيمة ودفع المفاسد الكبيرة، والذي يظهر والله أعلم أن يقال: قد علم تحريم إعانة الظالم بنصوص الكتاب والسنة سواء قصدت الإعانة أم لا مهما وقع الفعل وعلم أن فيه إعانة، ولاتشترط النية إلا في الطاعات أما المعاصي فلاتشترط فيها النية، فمن شرب الخمر ليتقوى بها فهو عاص وإن لم يقصد المعصية، ومن قتل مؤمناً ليجرب سلاحه فهو قاتل وإن لم يقصد قتله لكونه مؤمناً، وهلم جرا في جميع المعاصي.
وقد استدل الإمام القاسم عليه السلام على أن الإعانة لايشترط فيها القصد بما فيه الكفاية.

(1/286)


هذا وقد علم جواز بعض الأفعال التي فيها إعانة لاتضر بالمسلمين لما فيها من المصالح الكبيرة بنص القرآن الكريم نحو قوله تعالى: ((لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ)) [الممتحنه:8] إلى قوله: ((أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ)) [الممتحنه:8] وقوله تعالى: ((وَطَعَامُكُمْ حِلُّ لَّهُمْ)) [المائده:5] والمعلوم أن في البر والإقساط إليهم وإطعامهم الطعام إعانة لهم ومنفعة، وعمل الرسول صلى الله عليه وآله وسلم بمعاملتهم بالبيع والشراء وإطعامهم وغير ذلك مما لايضر بالمسلمين، وكإعطاء المؤلفة قلوبهم حتى ضرب الله لهم سهماً في القرآن وإن كانت في ذلك إعانة لهم فهي يسيرة مضمحلة في جنب مابها من المنافع العظيمة والمصالح الجسيمة بقتالهم مع المسلمين أو دفع ضررهم، ولهذا قصر أئمة أهل البيت التحريم في البيع منهم على الكراع والسلاح ونحوه مما فيه إضرار بالمسلمين، ويستثنى من هذا ما ورد النص عليه بخصوصه كالجباية المنصوص عليها بقوله صلى الله عليه وآله وسلم: (من جبى درهماً لإمام جائر كبه الله على منخره في النار) وكذا تسليم الأموال الجسيمة التي بها تستقيم دولة الظلمة ولاسيما أموال الله التي جعلها للفقراء والمساكين وسائر المصارف الشرعية وجعل ولايتها إلى من ولاه الله أمر المسلمين، فإن إعطاءها الظلمة مع العلم أنهم يستعينون بها على الفساد في الأرض والطغيان وقتال أهل الحق وقتل أولياء الله تعالى وإهلاك الحرث والنسل وشرب الخمور وسائر أنواع معاصي الله تعالى قبيح عقلا وشرعاً، وفي ذلك أعظم إعانة لهم على الإثم والعدوان بل مشاركة لهم في الفساد والطغيان وهو من أعظم الركون إليهم الذي نهى الله تعالى عنه في كتابه بقوله تعالى: ((وَلاَ تَرْكَنُواْ إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ)) [هود:113] والركون: هو الميل اليسير، وأي ميل أعظم من إعطائهم الأموال الجزيلة التي بها يتم

(1/287)


إقامة دولتهم وبغيهم في الأرض، وفي إعطائهم الأموال بالاختيار الموادة لهم والله تعالى يقول: ((َلا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ)) [المجادله:22] الآية. وماروته الحشوية من الأخبار معارضة للكتاب والسنة وإجماع أهل البيت عليهم السلام، وإنما أجاز بعضهم الدفع إليهم بالإكراه والإجبار لا بالاختيار، وأما عدم أمر أئمة الهدى بإعادة الزكاة على من دفعها إلى الظلمة فهو لأجل الإكراه، وكيف يقال إن الله سبحانه وتعالى أمر بدفع أمواله إليهم وقد أمر بقتالهم بقوله تعالى: ((فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ)) [الحجرات:9] وقال تعالى: ((لايَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ)) [البقره:128] وأي عهد أعظم من أمر العباد أن يدفعوا إليهم الأموال التي بها يتم سلطانهم وطغيانهم، والعهد عام لأنه جنس مضاف كما هو معلوم، وبهذا يعلم أن التعميم في الترخيص أو في المنع غير صحيح، وأن التمييز بين المحرم من ذلك والجائز راجع إلى المضار والمفاسد، ويرجع المكلف في ذلك إلى علمه وتمييزه ودينه، وعلى الجملة الأصل التحريم والمنع إلا ماعلم تخصيصه مما ليس فيه إضرار بالمسلمين، والواجب الاحتياط والتحري لما في ذلك من الخطر، والمؤمنون وقافون عند الشبهات، والله تعالى ولي التوفيق. تمت من أنظار مولانا شيخ الإسلام مجد الدين بن محمد بن منصور المؤيدي أيده الله.

(1/288)


مع الإمام المؤيد بالله (ع) في شرح التجريد

القنوت
من صفح (169) ج (1) قوله عليه السلام: وقد ذكرنا في مسألة الوتر، ماورد في قنوت الوتر وبينا منها الوجه الذي من أجله اخترنا أن يكون القنوت بعد الركوع، وحديث أنس يصرح بذلك، وكذلك حديث ابن ضميرة عن علي عليه السلام.
قال أيده الله تعالى: روى الإمام الأعظم زيد بن علي، عن أبيه، عن جده، عن علي عليهم السلام أنه كان يقنت في الفجر قبل الركوع، وفي الوتر بعد الركوع، ثم قنت بالكوفة في الوتر قبل الركوع. وروى محمد بن منصور رضي الله عنه في أمالي الإمام أحمد بن عيسى عليهما السلام بسنده عن علي عليه السلام أنه قال: القنوت قبل الركوع في الفجر والوتر. رواه عن الحارث عن علي عليه السلام، وروى بسنده عن جعفر بن محمد عن أبيه عن علي عليهم السلام، وعن أبي إسحاق عن الحارث عن علي عليه السلام قال: القنوت في الفجر والوتر بعد القراءة وقبل الركوع. وكل ذلك برواية الرجال الأثبات الثقات.وفي الجامع الكافي عن الإمام أحمد بن عيسى عليهما السلام: وأما أنا فأقنت قبل الركوع، ثبت لنا ذلك عن علي عليه السلام وعن أبي جعفر وزيد بن علي. انتهى. وقد ثبتت الرواية الصحيحة به قبل الركوع وبعده، إلا أنها قبل أكثر وأرجح لاسيما في الجماعة لأجل اللاحقين والله تعالى ولي التوفيق.

(1/289)


الشك في الصلاة
من صفح (193) ج (1) قوله عليه السلام: فإن قيل: روى عطاء بن يسار عن أبي سعيد عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (إذا صلى أحدكم فلم يدر ثلاثاً صلى أم أربعاً فليبن على اليقين وليدع الشك..) الخ.
روى الإمام زيد بن علي، عن أبيه، عن جده، عن علي عليهم السلام في الرجل يهم في صلاته فلم يدر أصلى ثلاثاً أم أربعاً فليتم على الثلاث فإن الله لايعذب بمازاد من الصلاة. وخبر أبي سعيد رواه مسلم وأبو داود والنسائي وابن ماجه، وأخرج البيهقي وأبو داود عن عطاء بن يسار عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم مثل خبر أبي سعيد الخدري وغير ذلك.
قلت: فهذا الخبر الصحيح الذي رواه الإمام الأعظم، عن آبائه عليهم السلام صريح في البناء على اليقين، وخبر التحري الذي لايبلغ هذه الدرجة أولى بأن يتأول على وجهين: أحدهما: أنه يتحرى _أي يقصد الذي هو الصواب_ كما هو في لفظ الخبر، فلينظر أحرى ذلك إلى الصواب وهو البناء على اليقين، وقد ورد التحري بمعنى اليقين كما في قوله تعالى: ((فَأُوْلَئِكَ تَحَرَّوْا رَشَدًا)) ومعنى التحري: هو طلب أحرى الأمرين أي: أولاهما بالصواب، والبناء على اليقين هو أصوبهما بنص الأخبار الصريحة التي لاتحتمل التأويل، وقول الإمام عليه السلام المطلوب بالتحري هو غالب الظن دون اليقين. قلت: غير مسلم أنه معناه في جميع موارده بدليل الآية ((تَحَرَّوْا رَشَدًا)). وقوله عليه السلام: إنه لايختص بهذه المسألة.. الخ.

(1/290)


قلت: يقال: قد أجيب عليه بمايفيده في هذه المسألة وغيرها، ولايلزم أن يجاب بمايقتصر على المسألة بعينها، بل في ذلك زيادة فائدة. فقوله عليه السلام: إنه قد أُخذ عليه ترك الزيادة كما أُخذ عليه ترك النقصان والزيادة تفسدها كما يفسدها النقصان على بعض الوجوه. قلت: يقال: لاسواء فإن النقصان يفسدها على كل حال سواء نقص عمداً أم سهواً ولم يفعله، فأما الزيادة فإنما تفسدها مع العمد، والذي وَهِم لم يتعمد الزيادة على الواجب وإنما أراد إتمامه فلو تيقن الزيادة بعد ذلك لم يفسدها بالاتفاق، وقد احترس الإمام عليه السلام عن ذلك بقوله: على بعض الوجوه، وقوله: فلايجب على هذا أن يكون الباني على الأقل مؤدياً للفرض حسبما أُمر به على اليقين. قلت: يقال: بل قد أداه على ما أُمر به في الأخبار الصحيحة، وقد احترس الإمام عليه السلام بقوله: فلايجب على هذا، فتأمل رمزات الإمام عليه السلام الخفية، وتأويل الإمام عليه السلام بأن المراد باليقين استئناف الصلاة في حق من تعذر عليه التحري لايصح لأن الاستئناف ليس ببناء ولاتمام، فمعنى البناء الاستمرار على ماسبق قطعاً، والخبر: ((دع مايريبك))، شاهد للبناء على اليقين لاعلى غيره. ثانيهما: أن المراد بالتحري على فرض التسليم أنه لايراد به البناء على اليقين هو في حق من لايستطيع أن يبني على اليقين، بل كل مازاد تشكك كما هو معروف في كثير ممن تغلب عليهم الأوهام والشكوك كما حملوه على من تعذر عليه التحري، فالبناء على اليقين هو أولى وأحوط لما فيه من العمل بالأخبار الصحيحة وللخروج عن عهدة الواجب بيقين مع أن الزيادة غير المتعمدة غير مفسدة، ولامعنى للنظر بعد ورود الأثر، ولايخفى على الإمام المؤيد بالله عليه السلام مثل هذا، ولكنه كما ذكرنا قد يستدل بما أمكن وإن كان غير راجح عنده وخلاف مذهبه، هذا معلوم لاشك فيه، وما القصد إلا التنبيه على الصواب، وإلى الله سبحانه المرجع والمآب.

(1/291)


مع ابن الأمير في سبل السلام

[شرح حديث حذيفة ((لا تشربوا في آنية الذهب والفضة))]
حاشية على قول الأمير في سبل السلام: وهذا من شؤم تبديل اللفظ النبوي.. الخ صفح (39) قبل آخر سطر بسبعة أسطر في طبع سنة (1375 هـ) الجزء الأول شرح حديث حذيفة: (( لاتشربوا في آنية الذهب والفضة )) .
قلت: يقال: حاشا علماء الإسلام وذوي الحل والإبرام، وحفاظ شريعة سيد الأنام عن تبديل اللفظ النبوي بغير معناه، أو العدول عن عبارته وهجر العبارة النبوية، وأن يجيئوا بلفظ من تلقاء أنفسهم، فمثل هذه القعقعة والتشنيعات المصطنعة ليس من دأب الأعلام الفحول ولاتنفق إلا على قاصري الأفهام وذوي العقول، والواقع والحقيقة عند من له أدنى بصيرة أن ليس الأمر كما ذكر من التبديل والهجر، بل مستند من قضى بتحريم الاستعمال هو أحد أمرين: الأول: قياس سائر الاستعمالات على الأكل والشرب بجامع الخيلاء كما قد صرح به في نقله، والقياس طريق من طرق الاجتهاد في الشرع الشريف. والثاني: بما ورد من تحريم الذهب نحو حديث أمير المؤمنين عليه السلام أنه قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وفي إحدى يديه ذهب وفي الأخرى حرير فقال: ((هذان حرام على ذكور أمتي حل لإناثها )) رواه في الشفا، وأخرجه أبو داود والنسائي عنه بدون ذكر: ((حل لإناثها)). وفي الجامع الكافي قال محمد: روينا عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وعن كثير من الصحابة وعن العلماء من آل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنهم قالوا: إن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: ((الذهب والديباج والحرير حرام على ذكور أمتي حلال لإناثهم )) . وفي ذلك أخبار كثيرة، وهذه مسألة معروفة في أصول الفقه, وهو أن التحريم ونحوه لاتعقل إضافته إلى الأعيان فالصحة العقلية تقتضي مقدراً من أفعالنا، فمنهم: من اختار كونه عاماً إذ لامخصص لِمُقَدِّر دون مُقَدَّر إلا بدليل فيقدر في مثل هذا كل أفعالنا من أكل وشرب ولبس وغير ذلك

(1/292)


فيدخل كل الاستعمالات إلا ماخصه دليل، ومنهم: من يقدر المتعارف المفهوم فيقول في مثل: ((حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ))[المائده:3] المراد الأكل و((حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ)) [لنساء:23] المراد النكاح وهكذا.
ومنهم من قال: إن ذلك مجمل إذ الضرورة لاتوجب إلا مقدراً واحداً ولامخصص، فهذا هو الذي أوجب ذلك ولاشؤم ولاتبديل ولاتحريف ولاتغيير، والواجب حمل علماء المسلمين على السلامة، ولا حرج في إبداء الرأي من دون إزراء ولاتبديع ولاتضليل لعلماء المسلمين ونسبة أشياء إليهم هم عنها برآء، ومن العجب قوله: فإنه ورد بتحريم الأكل والشرب فقط. مع أنه قد ورد غير ذلك كالخبر الذي سبقت الإشارة إليه، وكخبر تحريم التختم بالذهب مع قوله في الخبر نفسه الذي رواه حذيفة: (( فإنها لهم في الدنيا ولكم في الآخرة )) يؤخذ منه العموم إذ قد قصر حلها لنا في الآخرة، فيفهم منه تحريمها علينا في الدنيا والتحريم يحتاج إلى مُقَدَّر.
[شرح حديث ((يغسل من بول الجارية ويرش من بول الغلام))]
ومن صفح (53 من سبل السلام) طبع مصر سنة (1357 هـ) في شرح حديث: (( يغسل من بول الجارية ويرش من بول الغلام )) .قوله: وللعلماء في ذلك ثلاثة مذاهب الأول للهادوية والحنفية والمالكية: أنه يجب غسلها كسائر النجاسات قياساً على سائر النجاسات. وتأولوا الأحاديث وهو تقديم للقياس على النص.. الخ.
قلت: بل تقديم للعمل بعموم النص الوارد في خبر عمار الذي صححه أئمة العترة عليهم السلام وسائر الأدلة الدالة على نجاسة البول على العموم كحديث عذاب القبر والإجماع على نجاسة البول في الجملة وتأولوا هذه الأخبار الضعيفة وذلك هو الذي يقتضيه الاحتياط، ولاوجه لهذا التطليح كما يعرف ذلك ذو النظر الصحيح واللب الرجيح.

(1/293)


[جواب المؤلف على قول ابن الأمير: فالأحسن أن يقال: إن قول الراوي أمره أن يعيد الوضوء أي غسل ما تركه]
وفي صفح (80) طبع مصر قوله: فالأحسن أن يقال: إن قول الراوي أمره أن يعيد الوضوء أي غسل ماتركه.. الخ.
قلت: لم يذكر دليلا يوجب التأويل المذكور، ولو نظر المؤلف إلى كتب أهله _أهل البيت_ لوجد مايغنيه عن التكلف، ففي شرح التجريد للإمام المؤيد بالله بالسند الصحيح إلى جعفر بن محمد عن آبائه عن علي عليهم السلام. قال: بينا أنا ورسول الله صلى الله عليه وآله وسلم جالسان في المسجد إذ أقبل رجل من الأنصار حتى سلم وقد تطهر وعليه أثر الطهور، فتقدم في مقدم المسجد ليصلي، فرأى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم جانباً من عقبه جافاً. فقال لي: ((ياعلي هل ترى ما أرى؟ قلت: نعم. فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ياصاحب الصلاة إني أرى جانباً من عقبك جافاً فإن كنت أمسسته الماء فامض في صلاتك، وإن كنت لم تمسسه الماء فاخرج من الصلاة. فقال: يارسول الله كيف أصنع أستقبل الطهور؟ قال: لا بل اغسل مابقي. فقلت: يارسول الله لو صلى هكذا كانت مقبولة؟ قال صلى الله عليه وآله وسلم: لا حتى يعيدها )) .
وفي الجامع الكافي عن علي عليه السلام قال: رأى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم رجلا يصلي وساق الخبر.. إلى قوله: ((أستقبل الطهور؟ فقال صلى الله عليه وآله وسلم: لا، بل اغسل مابقي )) . انتهى.

(1/294)


[جواب المؤلف على ابن الأمير في قوله: وهو تقديم للقياس على النص]
حاشية أخرى على قوله: وهو تقديم للقياس على النص من صفح (53) في شرح حديث أبي السمح في سبل السلام.
قلت: يقال: ليس عمدتهم في ذلك القياس أصلا، وإنما استدلوا بالأخبار الدالة على نجاسة البول على العموم، ولم يصح لهم التخصيص لضعف سنده واحتماله على أن كثيراً من علماء الأصول لاسيما قدماء أئمة العترة عليهم السلام من سلف المؤلف الذين يتجاهل مؤلفاتهم وتحقيق مذاهبهم يقولون بوجوب تأويل الخاص إذا كان العام قطعي السند. وقد بسطت الكلام على ذلك في فصل الخطاب بما لايحتمله المقام، والمسألة مستوفاة في محلها من الأصول، والعمومات هي أحاديث عذاب القبر من البول وقد رواها الإمام الأعظم زيد بن علي عليهما السلام والستة إلا الموطأ وخبر عمار رضي الله عنه الذي أعرض عنه المؤلف صفحاً وطوى دونه كشحاً، لأن بعض القوم قد قدح فيه ولم يأتوا على ذلك بحجة وإنما جرحوا الراوي لمخالفته لهم في المذهب وهو مردود بإقرارهم وبعض الجرح تعديل، وقد قبله أعلام العترة عليهم السلام والقول ماقالت حذام، وطريقة المؤلف معلومة في مجانبته، فلاتراه يروي خبراً من مجموع الإمام الأعظم زيد بن علي بن الحسين بن علي عليهم السلام، ولامن أمالي الإمام أحمد بن عيسى، ولا من أحكام الإمام الهادي إلى الحق، ولا من شرح التجريد للإمام المؤيد بالله، ولامن شرح التحرير للإمام أبي طالب، ولامن أمالياتهم ولا من غيرها من مروياتهم عليهم السلام لاتحس لها في شرحه هذا ولاغيره من مؤلفاته ذكرا، ولاتسمع لها عنده ركزا، مشياً على منهج خصومهم المعرضين عن علومهم، واللوم له ألزم، والعَتْب عليه أعظم، وحسبنا الله ونعم الوكيل.

(1/295)


[الكلام على صحة حديث ((لا يؤمنكم ذو جرأة في دينه))]
وقوله في سبل السلام الجزء الثاني في صفح (19) ـ وهي أحاديث كثيرة دالة على صحة الصلاة خلف كل بار وفاجر إلا أنها كلها ضعيفة ـ: وقد عارضها حديث: ((لايؤمنكم ذو جرأة في دينه )) ونحوه وهي أيضاً ضعيفة.
قلت: يقال: أما حديث: ((لايؤمنكم ذو جرأة في دينه)) فقد رواه شيخ الإسلام محمد بن منصور المرادي عن السيد الإمام أبي الطاهر العلوي أحمد بن عيسى بن عبدالله بن محمد بن عمر بن علي بن أبي طالب قال: حدثني أبي عن أبيه عن جده عن علي عليهم السلام عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وأخرجه الإمام المؤيد بالله في شرح التجريد، فهو خبر علوي نبوي مسند صحيح، والله تعالى ولي التوفيق.
[الكلام على جواز جمع الصلاة]
وفي الجزء الثاني من كتاب سبل السلام آخر صفح (40) من قوله: وأما حديث ابن عباس عند مسلم أنه جمع بين الظهر والعصر والمغرب والعشاء بالمدينة من غير خوف ولامطر.. إلى قوله: فلايصح الاحتجاج به، لأنه غير معين لجمع التقديم والتأخير كما هو ظاهر رواية مسلم وتعيين واحد منها تَحَكُّم.. الخ.
قلت: يقال: لايحتاج إلى التعيين لأنه إذا ثبت أحدهما فقد بطل القول بوجوب التوقيت ولم يبق إلا القول لعدم وجوب التوقيت وجواز الجمع فلايضر هذا الاحتمال.

(1/296)


[الكلام على من قال: المقصود بالجمع هو الجمع الصوري]
وقوله في صفح (41) وقد أول بعضهم حديث ابن عباس في الجمع الصوري.
قلت: يقال: يرد هذا التأويل أن الجمع بين الصلاتين إذا أطلق في الشرع لم يفهم منه إلا الجمع المعهود شرعاً، وهو جمع الصلاتين في وقت إحداهما، وظن أبي الشعثاء لاحجة فيه، والرواية المرفوعة عن ابن عباس فيها نظر.
وقوله: وأما قياس الحاضر على المسافر..
قلت: يقال: ليس من القياس في شيء، إذ لادليل على أن العلة السفر، وأفعاله صلى الله عليه وآله وسلم في الحضر والسفر حجة على الحاضر والمسافر، ولهذا احتج أعلام أهل البيت كالقاسم والهادي إلى الحق عليهم السلام بذلك على الجواز مطلقاً، والإلزام بالقصر والفطر في غاية السقوط، إذ قد ثبت النص القرآني بأن ذلك في السفر لاغيره، وهذا واضح لمن أمعن النظر، والله تعالى ولي التوفيق.

(1/297)


[تعليق المؤلف على حديث ((لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد))]
وفي صفح (246) من الجزء الثاني من سبل السلام في حديث: ((لاتشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد)) قوله بضم الدال المهملة على أنه نفي ويُروى بسكونها على أنه نهي. قلت: يقال: هذا وهم عجيب فإن المضعف لايصح تسكينه ولايستقيم لالتقاء الساكنين، وإن كان نهياً فإنما يكسر للتخلص من الساكنين أو يفتح للتخفيف، وإن كان ماقبل المضعف مضموماً جاز ضمه للاتباع مثل: لم يمد. وقوله في ذلك الصفح: ودل بمفهوم الحصر أنه يحرم شد الرحال .. الخ. قلت: يقال: العجب كل العجب من هذا الاستدلال وهذا الإعمال البعيد عن التحقيق والاعتدال، ويقال عليه:
أولا: إن الخبر محتمل للنفي كما سبق لك بل هو الرواية الظاهرة بضم الدال ومع ذلك فلادلالة على التحريم أصلا ويكون المعنى فيه المبالغة، فهو من الحصر الإدعائي فكأن شد الرحال إلى غير الثلاثة المساجد كلا شد فيكون لنفي كماله في الفضيله أو نحو ذلك، ولايجوز حمله على أنه في معنى النهي لما سيأتي، ثانياً: وأنه وإن فرض احتماله للنهي فلااستدلال بمحتمل.

(1/298)


ثالثاً: أنه وإن كان للنهي فهو محمول على أنها لاتشد الرحال إلى شيء من المساجد إلا إلى الثلاثة لا أنها لاتشد الرحال على الإطلاق والعموم إلا إلى ثلاثة مساجد، لما علم قطعاً أنها تشد الرحال إلى الجهاد وإلى الهجرة وجوباً وإلى غيرهما جوازاً، هذا معلوم من الدين ضرورة. وانظر إلى تمثيله بقوله: كزيارة الصالحين إلى آخره. قلت: ماهو المخصص لما ذكر وأن يكون لقصد ولقصد، والحديث يفيد العموم والأخبار الواردة في الحث والترغيب على زيارة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وزيارة الصالحين أحياء وأمواتاً أكثر من أن تحصر وإن أنكرها بعض المنكرين، ولو لم يكن من ذلك إلا فعله صلى الله عليه وآله وسلم في زيارة أهل البقيع وأهل أحد، وتعليمه صلى الله عليه وآله وسلم للزيارة المخرجة في كتب العترة وصحاح العامة، وقوله صلى الله عليه وآله وسلم في القبور: ((ألا فزوروها)) الخبر الصحيح
بالإجماع، والعجب ممن يزعم كراهية التصريح بزيارة القبر مع ورود التصريح به في الألفاظ النبوية كهذا الخبر الصحيح المروي في الصحاح وغيرها، وذلك يصلح لصرف ذلك الخبر الآحادي عن ظاهره لو كان له ظاهر وينهض لتأويله، وأن مثل هذا لايخفى على أمثال هذا العالم النظار، ولكن لهوى النفوس سريرة لاتعلم، والله تعالى ولي التوفيق.

(1/299)


مع الجلال في كتاب العصمة عن الضلال

وفي صفح (13) من كتاب العصمة عن الضلال للسيد الحسن بن أحمد الجلال قوله: واعلم أن المعتزلة وإن هربوا من الجبر فقد لزمهم ماهربوا منه، وذلك لمَّا أوجبوا اللطف.. الخ.
قلت: يقال: أولا: الكثيرون منهم لايوجبون الأصلح من اللطف فلايرد عليهم هذا الإيراد من أصله، فإلزامه للمعتزلة من الإيهام والتلبيس والتغرير. ثانياً: أن القائلين بوجوب اللطف لايقولون هذه المقالة ولايرتبون هذا الترتيب، وإنما يقولون: إن اللطف مبني على الاختيار فمن علم الله منه أنه يقبله وينتفع به ويختار عنده فعل ماكلفه لطف به، ومن علم أنه لايختار عنده ذلك ولايلتطف لم يجعل له لطفاً لأنه لامعنى له. فلامعنى للتهويل بقوله: خلقه على بنية لاتقبل.. الخ. بل خلقه على بنية يكون معها متمكناً من القبول وعدمه. انتهى.

(1/300)


مع الجلال في فيض الشعاع
تأليف
الإمام الحجة مجد الدين المؤيدي أيده الله تعالى
مع الجلال في فيض الشعاع
وفي صفح (4) من فيض الشعاع للحسن بن أحمد الجلال قوله: على حرمة التفرق في الدين.
قلت: يقال: التفرق المحرم في الدين هو التفرق في أصول الدين وهو الذي أرسل الله تعالى به رسله وأنزل به كتبه ولم تختلف فيه الشرائع الإلهية والكتب السماوية وهو توحيد الله تعالى وعدله والإيمان به وبملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر. وأما في فروع الشريعة ومسائل الاجتهاد الظنية فلاحرمة ولا إجماع ولافرقة في الدين، والأمة مجمعة أن ليس على المجتهد إلا إبلاغ الجهد في النظر، والأمة المعتد بها مجمعة على عدم التأثيم في الاختلاف في المسائل النظرية، وإنما الاختلاف في أن كل مجتهد مصيب أو أن الحق واحد والمخالف له معذور، إذا حققت هذا اتضح لك البطلان والاختلال لما قعقع به ولفقه المحقق العلامة الحسن الجلال.
وفي صفح (5) منه أيضاً قوله: العمل بالقياس.
قلت: يقال: القياس أحد الأدلة التي دل على حجيتها والعمل بها الكتاب والسنة وكل ذلك مبسوط في محله من الأصول، وكان عليه على مقتضى تأصيله هذا أن يحرم العمل بالآحاد من السنة والأخذ بالدلالات الظنية من الكتاب، بل والبحث عن معاني الكتاب لأن ذلك مما يفضي إلى الاختلاف، ليصح إغلاق الباب وخروج الدجال على هذا المنوال من ظفرات الجلال، ولولا ضيق الوقت وترادف عوامل الأشغال عن توسيع دائرة الجدال، لكان استيفاء الكلام لتستقي _أيها الناظر بعين البصيرة_ من النمير الزلال، عصمنا الله تعالى وإياك والمؤمنين من الزيغ والضلال.
وقوله أيضاً: والكتابة وإن كانت مما يرجع إلى بدعة التأصل.
قلت: يقال:
فمالك ياهمام دخلت فيه…كأن دخولكم من غير نِيَّة
وكذلك الجدال بالحاصل من ذلك وأيضاً الدعاء إلى تقليد الميت، لأنك تريد قطعاً أن تتبع وتقلد في أنظارك هذه، وإلا فلماذا أمليتها؟ ولقد أعيت عليه المذاهب وانسدت المسالك.

(1/301)


والحق أبلج ماتخيل سبيله …والحق يعرفه ذووا الألباب
وفي صفح (43) منه أيضاً سطر (12) قوله: ولأن حجة الكفار إنما تنتهض لو أردنا بالضرورة البديهية، أما إذا قلنا: إنها ضرورة متوقفة على شرط عادي هو الإلتفات إلى دلالة الأنفس والآفاق والمعجزات كما يتوقف العلم التواتري على سماع أخبار التواتر، فلايلزم ذلك لأنهم يؤتون من جهة أنفسهم في عدم تحصيل الشرط. الخ.
قلت: يقال: وبهذا يبطل كلما زخرفه ويضمحل جميع ماروقه وزيفه، فقد عاد إلى تسليم الاحتياج إلى الاستدلال بالعقل القويم والنظر السليم وملاوذته بأنه شرط عادي أو ليس ببديهي لاتجدي شيئاً، إذ قد سلم الاحتياج إلى الاستدلال، ودعواه أن ذلك شرط عادي كسماع الأخبار في التواتر باطلة بالضرورة للفرق المعلوم بين الشرط العادي كسماع الأخبار وتقليب الحدقة وبين الاستدلال بدلالة الأنفس والآفاق. وذلك واضح لمن ألقى السمع وهو شهيد، ويا لله العجب من تهافت أنظار ذوي الأنظار مثل هذا العالم النظار، وحسبنا الله ونعم الوكيل.
وقوله أيضاً: حتى يعلم أن خالقه عدل.. إلخ.

(1/302)


قلت: ومن هنا يعلم أن القصد بهذا المغالطة بل السفسطة والتشكيك في الضروريات، فالمعلوم ضرورة أن دلالة العقل لاتتوقف على ذلك وإلا لما استدل به العقلاء على شيء أصلا، ولما عرف الشرع أصلا، وقد علم بطلان ذلك بقوله: فيعود الجميع بلاعقل ولاميزان. ((وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِن نُّورٍ)) [النور:40] ولو لم يكن العقل حجة الله سبحانه وتعالى العظمى على عباده لما كرر الاحتجاج به وملأ بذلك القرآن ((أَفَلَا يَنظُرُونَ)) ((مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ)) ((إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ)) [الرعد:4]. وأما الحل الذي ذكره فبطلانه بالضرورة أوضح من أن يحتاج إلى برهان، ولو كان كذلك لما اختلف فيه العقلاء، وحكى الله سبحانه وتعالى عن أكثرهم عدم الإيمان والشك والارتياب، ولكان كل كافر بعد العلم معذوراً، ولما تحداهم بالإتيان بمثله، ولما قال: ((وَإِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ)) [البقرة:23] ((إِن كُنتُمْ فِي شَكٍّ)) ولاكان لذلك معنى، وهذا تنبيه بحسب مايقتضيه المقام، والله تعالى ولي التوفيق والإنعام.
وفي صفح (46) منه قوله: وقد طال هذا البحث.. إلخ.
قلت: ولكنه بغير طائل بل هو أشبه شيء بلمع السراب الزائل، فالمعلوم بالضرورة التي لاتنتفي بشك ولاشبهة أن المعجز لايحصل العلم به الضروري وإلا لما اختلف فيه العقلاء ولاكذب به أكثر الأمم، ولو فرض وقدر على استحالته أنه يدل على وجود الصانع عز وجل ضرورة فلايدل قطعاً على عدله وحكمته ولاعلى صدق وعده ووعيده، ولو كان يدل بالضرورة لما وجبت المعرفة على الخلق إذ الضرورية من فعل الله سبحانه وتعالى، ولما جاز توجه اللوم على كافر بالله تعالى لعدم علمه أصلا، وقد لاوذ المصنف للتخلص من هذا حيث قال في صفح (43): وأما إذا قلنا إنها ضرورة متوقفة.. الخ.
قلت: ولكنها ملاوذة غير مخلصة. وكذا قوله في هذا الصفح: ولو سلم بقاء تجويز الكذب.. الخ.

(1/303)


قلت: يقال: فكيف تكون الثقة والقطع بالصدق مع التجويز لخلافه؟ وكيف يوصف بالإيمان من ليس عنده جزم من تصديق الله تعالى ورسله صلوات الله وسلامه عليهم؟ وهكذا عند التحقيق يتضح بطلان أكثر ماهذى به وقعقع المؤلف كافاه الله تعالى، والله تعالى ولي التوفيق.
والحق أبلج ماتخيل سبيله …والحق يعرفه ذوو الألباب
ومنه أيضاً صفح (52) قوله: لاينكر مسلم أن الكتابة من أعظم النعم إلى قوله: إنما المنكر أن يكتب بها المعنى الذي اشتمل عليه قوله تعالى: ((وَلاَ تَقُولُواْ لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ..)) الخ الآية.
قلت: يقال: ألم تقل قبل هذا بأسطر: إذا تحققت استقرار الخلاف في جواز كتب كلام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والعمل الذي لاينطق عن الهوى.. الخ، ألم تقرر قبل ذلك بقاء النهي عن الكتابة وتضعف التخصيص وترد الإجماع؟ إن هذا لشيء عجاب!.
وقوله أيضاً: لزم حرمة كل ما أوصل إليها.. إلى آخره.
قلت: يقال: هذا غير صحيح، فلم يحرم الندا الموصل إلى استهزاء الكفار المحرم قطعاً حيث قال تعالى: ((وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلاَةِ اتَّخَذُوهَا هُزُوًا..)) [النساء:58] الآية، ولم تحرم تلاوة آيات الله على الذين يزدادون بها كفراً، ولم يحرم الدعاء لمن يولي بسببه مستكبراً، ولم يحرم إنزال الآيات التي يزدادون بها كفراً كما قال تعالى: ((وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِّنْهُم مَّا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا)) [المائدة:64] وإنما حرم من الوسائل مايكون المفسدة التي تحصل به أكثر من المصلحة.
وقوله أيضاً: وحقق إطباق علماء الأعصر الأخيرة على مقارفتها ما ذهب إليه بعضهم من أن إجماع المتأخرين ليس بحجة.. الخ.

(1/304)


قلت: يقال: بل تحقق أن ماتوهمته حراماً غير صحيح، إذ إجماع الأمة حجة في الأعصر الأولة والأخيرة، إذ لم تفصل الأدلة بين إجماع وإجماع، ثم يقال: إلى أي الأعصر يكون الإجماع حجة؟ ومن أين حد الأعصر الأخيرة؟ ثم بماذا تنسخ حجة الأعصر الأخيرة؟ إن هذا لبين البطلان، ومما لم ينزل الله به من سلطان، وليس مثله مما يخفى على هذا العلامة النظار، ولكنه من ظفراته العجيبة ونظراته الغريبة التي يموه بها على ذوي المباديء والأفكار القريبة، وماهي إلا كسراب بقيعة.

(1/305)


مع الشوكاني في العقد الثمين في وصاية أمير المؤمنين

وفي صفح (5) من العقد الثمين في وصاية أمير المؤمنين للشوكاني قوله: وأنت تعلم أن قوله: أوصى بكتاب الله تعالى لا يتم معه قوله: (لا) في أول الحديث.
قلت: يقال: قد سبق إلى إيراد هذه المناقضة في كلام ابن أبي أوفى الإمام الأعظم المنصور بالله عبدالله بن حمزة عليهما السلام في الشافي، ورد عليه بالرد الوافي وأفاد أنه كان من المنحرفين عن أمير المؤمنين عليه السلام، وأما عائشة فالأمر فيها أوضح من أن يخفى، والحجج على إثبات الوصية لأمير المؤمنين وسيد الوصيين وأخي سيد النبيين صلوات الله عليهم أجمعين أكثر من أن تحصى.
وفي تعب من يحسد الشمسَ ضوءها ويجهد أن يأتي لها بضريب
وفي صفح (7) من العقد: نعم قد أراد صلى الله عليه وآله وسلم أن يكتب لأمته مكتوباً عند موته.. إلى قوله: وحيل بينه وبين ماهنالك.
قلت: يقال: الله حسب من حال بينه وبين ذلك.

(1/306)


مع الشوكاني في فتح القدير
تأليف
الإمام الحجة مجد الدين المؤيدي أيده الله تعالى
مع الشوكاني في فتح القدير
حول الخروج من النار
في الجزء الثاني في سياق تفسير قوله تعالى: ((يُرِيدُونَ أَن يَخْرُجُواْ مِنَ النَّارِ وَمَا هُم بِخَارِجِينَ مِنْهَا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُّقِيمٌ)) [المائدة:37]، صفحة 39 من قول الشوكاني: ويالله العجب من رجلٍ لايفرق بين أصح الصحيح وأكذب الكذب. بل نقول: يالله العجب منك أيها الرجل حيث لاتفرق بين ماثبت بنصوص كتاب الله سبحانه وتواتر من سنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وبين ماروته ولفقته الحشوية، وهل بعد ماورد في كتاب الله العزيز بالنص الصريح في قاتل المؤمن عمداً بالخلود في النار تصريح والقتل لايوجب الكفر بالله سبحانه، فإن حمله على الكافر الخارج عن الملة فهو تحريف وإخراج للوعيد على القتل، وكذا الزاني توعده الله بالخلود مع المشرك والقاتل قال تعالى: ((وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا (68) يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا)) [الفرقان:68-69] ولو كان المراد بالزاني الكافر، لكان ذكر الزنا والقتل لامعنى له لأن الوعيد على الكفر، ولكان بمثابة من قال: من أشرك بالله وشرب الماء أو عصى معصية صغيرة فهو خالد في النار.

(1/307)


وعلى الجملة فالقول بالخروج من النار هو مذهب اليهود الذين رد الله عليهم في كتابه حيث قالوا: ((وَقَالُواْ لَن تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَّ أَيَّاماً مَّعْدُودَةً قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِندَ اللّهِ عَهْدًا فَلَن يُخْلِفَ اللّهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ {80} بَلَى مَن كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ)) [البقره:80-81] وقال تعالى: ((لَّيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَن يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلاَ يَجِدْ لَهُ مِن دُونِ اللّهِ وَلِيًّا وَلاَ نَصِيرًا)) [النساء:123] ولايضر أئمة العلم تهجم المؤلف وأمثاله عليهم.
مايضر اليم بحراً زاخراً… أن رمى فيه سفيهٌ بحجر
ماضر تغلب وائل أهجوتها… أم بلت حيث تناطح البحران
والأدلة مستوفاة في محلها، والله تعالى ولي التوفيق.
آية الولاية
حاشية على تفسير قوله تعالى: ((إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ))، الآية 55 المائدة/ في فتح القدير الجزء الثاني ص 51 من السطر 26 من قوله: ويدفعه عدم جواز إخراج الزكاة في تلك الحال.
أقول: بل يصححه الواقع، وهو أنه تصدق بخاتمه وهو راكع حيث أشار بيده إلى السائل فأخذه كما ثبت في الروايات المتواترة، وليست بكيل ولاوزن حتى لايصح في الصلاة كما توصل إليه الشوكاني ليرد الحقيقة الواقعة لما في القلب من الزيغ والخذلان الواضح، وحسبنا الله ونعم الوكيل، وقد أتى في آخر البحث ببعض الروايات في نزول الآية في أمير المؤمنين عليه السلام.
حول رؤية الله تعالى
حاشية في فتح القدير الجزء الخامس في سورة القيامة تفسير قوله تعالى: ((وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ (22) إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ)) صفحة 240 سطر 21 من قوله: ولم يتمسك من نفاها واستبعدها بشيء يصلح للتمسك به لامن كتاب الله ولامن سنة رسوله.

(1/308)


أقول: أليس قوله تعالى: ((لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ)) من كتاب الله سبحانه، وقوله تعالى: ((لَن تَرَانِي)) من كتاب الله تعالى، وتعليق رؤيته تعالى بالمحال وهو استقرار الجبل حال تدكدكه، وقوله تعالى رداً على اليهود الذين سألوا موسى الرؤية البصرية كما هو مذهب الحشوية: ((فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ))، أليس هذا من كتاب الله عز وجل؟ إنها لاتعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور، وقد استوفينا البحث في لوامع الأنوار وغيره.

(1/309)


ومن أعجب العجب ماذكره الرازي في الاستدلال على جواز الرؤية، وقد رأيت أن أنقل هنا كلامه والجواب عليه من كتاب الحق الدامغ حيث قال: وأما الفخر الرازي فقد قال: (( لو لم يكن تعالى جائز الرؤية لما حصل التمدح بقوله: ((لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ)) ألا ترى أن المعدوم لاتصح رؤيته والعلوم والقدرة والإرادة والروائح والطعوم لايصح رؤية شيء منها، ولامدح لشيء منها في كونها بحيث لاتصح رؤيتها، فثبت أن قوله: ((لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ)) يفيد المدح، وثبت أن ذلك إنما يفيد المدح لو كان صحيح الرؤية، وهذا يدل على أن قوله تعالى: ((لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ)) يفيد كونه تعالى جائز الرؤية، وتمام التحقيق فيه أن الشيء إذا كان في نفسه بحيث يمتنع رؤيته فحينئذ لايلزم من عدم رؤيته مدح وتعظيم للشيء، أما إذا كان في نفسه جائز الرؤية ثم إنه قدر على حجب الأبصار عن رؤيته وعن إدراكه كانت هذه القدرة الكاملة دالة على المدح والعظمة، فثبت أن هذه الآية دالة على أنه تعالى جائز الرؤية بحسب ذاته. وإذا ثبت هذا وجب القطع بأن المؤمنين يرونه يوم القيامة، والدليل عليه أن القائل قائلان، قائل قال: بجواز الرؤية مع أن المؤمنين يرونه، وقائل قال: لايرونه ولاتجوز رؤيته، فأما القول بأنه تعالى تجوز رؤيته مع أنه لايراه أحد من المؤمنين فهو قول لم يقل به أحد من الأمة فكان باطلا، فثبت بما ذكرنا أن هذه الآية تدل على أنه تعالى جائز الرؤية في ذاته، وثبت أنه متى كان الأمر كذلك وجب القطع بأن المؤمنين يرونه، فثبت بما ذكرنا دلالة هذه الآية على حصول الرؤية، وهذا استدلال لطيف من هذه الآية )).

(1/310)


قلت: وليس بعد هذا القول الذي قاله الفخر الرازي تعليق لأحد، إلا السؤال عن عقيدته في وحدانية اللّه ونفي الولد والشريك عنه، مادام يجعل من نفي الشيء دليلا على إثباته، وبموجب هذا القول فإن للنصارى والمشركين أن ينتزعوا من قوله تعالى: ((وَقُلِ الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَم يَكُن لَّهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ)) دليلا قاطعاً بأن له سبحانه ولداً وشريكاً وأن يضيفوا إلى ذلك إثبات الصاحبة له تعالى، بل وإثبات كل مانفاه عنه من السنة والنوم والغفلة واللغوب والظلم والجور مادام النفي دليلاً قاطعاً على الإمكان وبالتالي على الإثبات، وإن تعجب فعجب أن يكون الفخر الذي اتخذ من قوله تعالى: ((لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ)) سلماً إلى القطع بثبوت الرؤية قلباً للحقيقة وعكساً للحجة هو الذي يقول في تأصيلاته بأن دلائل الألفاظ على المعاني لاتتجاوز الظن كما هو صريح في قوله: ((دلالة الألفاظ على معانيها ظنية لأنها موقوفة على نقل اللغات ونقل الإعرابات والتصريفات مع أن أول أحوال تلك الناقلين أنهم كانوا آحاداً، ورواية الآحاد لاتفيد إلا الظن، وأيضاً فتلك الدلائل موقوفة على عدم الاشتراك وعدم المجاز وعدم النقل وعدم الإجمال وعدم التخصيص وعدم المعارض العقلي، فإن بتقدير حصوله يجب صرف اللفظ إلى المجاز، ولاشك أن اعتقاد هذه المقدمات ظن محض والموقوف على الظن أولى أن يكون ظناً )).
فانظر كيف يجعل الفخر دلالة الألفاظ على المعاني الموضوعة لها ظنية، مع جعله دلالتها على ضد تلك المعاني قطعية.

(1/311)


والخلاصة من كل ماتقدم أن دلالة الآية الكريمة على انتفاء رؤيته تعالى في الدنيا والآخرة دلالة قطعية، وكل ماتعلق به القائلون بخلاف ذلك لايتجاوز أن يكون ضباباً من الوهم، لايلبث أن يتلاشى بإشراق شمس الحقيقة ويؤيد نصيتها على ذلك تذييلها بقوله تعالى: ((وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ)) فإن قوله: ((اللَّطِيفُ)) كالتعليل لقوله: ((لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ)) وقوله: ((الْخَبِيرُ)) كالتعليل لقوله: ((وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ))، والصفتان المذكورتان من صفات ذاته تعالى لاتتبدلان أزلاً وأبداً، أما الخبير فكونه من صفات الذات ظاهر لأنه كالعليم، وأما اللطيف فلأنه كما يقول الإمام ابن عاشور: "صفة مشبهة تدل على صفة من صفات ذات اللّه تعالى وهي صفة تنزيهه تعالى عن إحاطة العقول بماهيته، أو إحاطة الحواس بذاته وصفاته، فيكون اختيارها للتعبير عن هذا الوصف في جانب اللّه تعالى هو منتهى الصراحة والرشاقة في الكلمة لأنها أقرب مادة في اللغة العربية تقرب معنى وصف ذاته تعالى بحسب ماوضعت له اللغة من متعارف الناس.
قوله تعالى لموسى عليه السلام: ((لَن تَرَانِي)) [الأعراف: 143] فإنه نفي مطلق غير مقيد بزمان ولاتبديل لكلمات اللّه، فلو حصلت الرؤية في أي وقت من أزمان الدنيا أو الآخرة لكان ذلك منافياً لصدق هذا الخبر، وتتأكد دلالة هذا لنص على هذا المعنى باندكاك الجبل الذي علقت الرؤية على استقراره اندكاكاً هائلا، ليكون آية بينة تستأصل أطماع المتطاولين على اللّه بطلب أو تمني مايستحيل عليه ويتنافى مع كبريائه، وقد وضح لكل ذي عينين صبح الحق بعدم استقرار الجبل، فلامطمع في حصولها لأنها إحدى المستحيلات". انتهى.
قلت: وهذا كلام متين واستدلال رصين، والحكمة ضالة المؤمن، والله تعالى ولي الهداية والتوفيق.

(1/312)


مع السياغي في الروض النضير

[الكلام في حديث أول ما فُرِضت الصلاة]
حاشية في صفحة (246) من الروض النضير الجزء الثاني في قوله بأجوبة ذكروها قال الإمام الأعظم المهدي لدين الله أحمد بن يحيى المرتضى عليهما السلام في المنهاج شرح المعيار: والجواب أن هذا الخبر آحادي ويتضمن من أنواع التشبيه مايدل على أن أكثره موضوع، وأيضاً فإن ذلك يقتضي النسخ قبل إمكان فعله وقبل إمكان العلم بالتكليف به، والخصم يمنع من ذلك لأنه جعل فائدة النسخ قبل إمكان العمل إيجاب العزم والاعتقاد لوجوبه، وهذا يدفع الفائدة بالمرة في كل وجه ولايجوزه الخصم.قلت: وينبغي حمل الخبر على أنه لم يكن قد فرض مازاد على الخمس ولا أمر بها على سبيل الحتم والجزم بل أمر نبيه أن يعرض على أمته التكليف بالخمسين فلما أخبر موسى فهم أنها تثقل عليهم فأشار بما أشار حتى وقفت على الخمس فحَتمها وأمضاها، يدل على ذلك ماروي في آخر الخبر أنه قال: وأمضيت فريضتي هي خمس، وهو محمل حسن.
قلت: والأمر بالعرض على الأمة يجب حمله على أنه موقوف على اختيار الرسول صلى الله عليه وآله وسلم لاعلى سبيل الحتم، لئلا يلزم النسخ فيه قبل إمكان العمل ونحو ذلك، والله تعالى ولي التوفيق. انتهى من خط مولانا شيخ الإسلام مجد الدين بن محمد بن منصور المؤيدي حفظه الله.

(1/313)


[الكلام في قوله: إحرام المرأة في وجهها]
حاشية من صفحة (220) من الجزء الثاني من الروض النضير طبعة جديدة من قوله: الحمدلله وحده..اعلم أن كلام الشارح المحقق في هذا البحث غير محرر ففيه قلق وانضراب فقوله: إحرام المرأة في وجهها.. الخ ليس فيه حصر.. الخ.
قلت: يقال: الإحرام جنس مضاف وهو من ألفاظ العموم كما ذكروه في الأصول فكأنه قال: كل إحرامها في وجهها، وذلك مفيد للحصر. وقوله في اللفظ الثاني: والظاهر أن القصر فيه للقلب وهو حقيقي. هذا غير صحيح إذ قصر القلب إضافي وهو قسيم للحقيقي كيف يكون إياه. وقوله: ويحتمل أن القصر للتعيين أيضاً من حيث توهموا أنه يجب عليها كشف الرأس والوجه.. الخ.
وهذا عجيب أيضاً فإن ذلك مثال للإفراد لا للتعيين، وإنما يخاطب بالتعيين المتردد بين أمرين، والحاصل أن القصر ينقسم إلى حقيقي وإضافي، والإضافي إلى قلب وإفراد وتعيين، والحقيقي تحقيقي وادعائي، وهذه الخمسة مضروبة في اثنين قصر موصوف على صفة والعكس، هذه عشرة أقسام: فالحقيقي التحقيقي كقولنا: لاإله إلاالله،ولاقديم إلا الله، ونحو ذلك. والإدعائي نحو: إنما العالم زيد، ونحو ذلك من المبالغة. أما الإضافي: فهو باعتبار المخاطب، فإن اعتقد أن القائم زيد لاعمرو فيقال له: إنما القائم عمرو. حيث كان كذلك وهذا هو القلب، وإن اعتقد أنهما قاما فيقال له: إنما القائم زيد أي: لاهما، وهذا هو الإفراد. وإن تردد في القائم منهما قيل له: إنما القائم زيد، أي: لاعمرو، وهذا هو قصر التعيين، وهذا لقصد إيضاح المقام وإلا فهو معروف لمن له بهذا الفن إلمام، والله تعالى ولي التوفيق والإنعام. تمت من المفتقر إلى الله مجد الدين بن محمد المنصور المؤيدي غفر الله تعالى لهم.

(1/314)


التعليق على منتهى المرام في شرح آيات الأحكام

[تصحيح المؤلف حديث ((أن رجلا سأل الرسول (ص) عن العمرة أهي واجبة؟ قال: لا وأن تعتمر هو أفضل)) الحديث]
قال شيخنا أبوا الحسين مجد الدين بن محمد بن منصور المؤيدي أيده الله تعالى، في تعاليق على منتهى المرام من قوله ص(61): قد اتفق أهل الحديث على ضعف هذا الحديث، وهو أن رجلا سأل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن العمرة أهي واجبة؟ قال: لا، وأن تعتمر هو أفضل ...إلخ.
يقال: بل هو صحيح، فقد رواه الإمام الأعظم زيد بن علي عن آبائه عن علي عليهم السلام بلفظ: لا، ولكن أن تعتمر خير لك، والعجب أن كثيرا من الأصحاب يكبون على كتب العامة، ولا يمعنون النظر في كتب العترة عليهم السلام، كمجموع الإمام الأعظم زيد بن علي، وأحكام الإمام الهادي إلى الحق، وأمالي الإمام أحمد بن عيسى عليهم السلام، وغيرها، وذلك قصور أو تقصير والله تعالى المستعان.
[الكلام في شروط النكاح]
وقال صاحب منتهى المرام في شرح آيات الأحكام ص 94: قلت: حديث مَعْقِل وأبْيَنُ منه ما أخرجه ابن أبي شيبة إلى أن قال: عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: ((أيما امرأة نكحت بغير إذن وليها فنكاحها باطل. إلى أن قال: فالسلطان ولي من لا ولي لها.. )) الخ.
قلت: يقال: الصريح الأبين مارواه الإمام الأعظم زيد بن علي عن أبيه عن جده عن علي عليهم السلام: لانكاح إلا بولي وشاهدين. ويظهر أن المؤلف يعدل عن مثل هذا لأنه موقوف على أمير المؤمنين عليه السلام، إما لأجل الاحتجاج على الغير الذين لايقولون: بأن له حكم المرفوع، أو لأن مذهبه ذلك، والحق أن قول علي عليه السلام: حجة له حكم المرفوع، وهو قول جمهور العترة عليهم السلام للأخبار المعلومة نحو قوله صلى الله عليه وآله وسلم: ((علي مع الحق )) وهو يعم الأصول والفروع، وقد استوفى الاحتجاج على ذلك والد المؤلف الحسين بن القاسم عليهما السلام في شرح الغاية وغيره، واستكملت البحث في لوامع الأنوار والله تعالى ولي التوفيق.

(1/315)


[التعليق على قوله: والحال قيد في صاحبها]
قوله ص 117 والحال قيد في صاحبها: أي في أنت طالق إن دخلت راكبة.. الخ.
قلت: صوابه قيد في العامل وهو في المثال دخلت فالدخول مقيد بالركوب، فالحال وصف للصاحب قيد للعامل كقوله: جاء زيد راكباً. فالركوب قيد للمجيء وصف لزيد، هذا هو المعروف في قواعد النحو والله تعالى ولي التوفيق.
[الكلام في قوله تعالى ((فمن جاءه موعظة من ربه ...)) الآية]
قوله ص 117: وفي الآية دليل على أن من استحل ماحرم الله سبحانه وتعالى مما اتفقت عليه الأمة وشاع تحريمه فيها أنه يكفر بذلك وهو قوله تعالى: ((فَمَن جَاءهُ مَوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّهِ فَانتَهَىَ فَلَهُ مَا سَلَفَ..)) الخ.
قلت:ينظر في دلالة الآية على ذلك، فالوعيد والخلود في النار _نعوذ بالله تعالى منها_ لايفيدان الكفر المذكور والخروج عن الملة الذي أشار إليه المؤلف، ولافيها دلالة على المستحل أصلا، ولاشك أن المستحل لما ذكر إن كان مما علم ضرورة كافر، أي: خارج عن الملة، لكنه غير مأخوذ من الآية، والله تعالى الموفق.

(1/316)


[التعليق على قوله: لعل الله اطلع على أهل بدر فقال: ((اعملوا ما شئتم فقد وجبت لكم الجنة)) الحديث]
قوله في ص 129 في سياق قصة حاطب: لعل الله اطلع على أهل بدر فقال: ((اعملوا ما شئتم فقد وجبت لكم الجنة..))الخ.
قلت: يحمل هذا على الخطأ المعفو عنه كما كان من حاطب لا المعاصي الكبائر ولاالصغائر، فلايجوز من الحكيم أن يبيحها لهم لأنه يكون إغراء وهو قبيح، وقد قال تعالى لرسوله صلى الله عليه وآله وسلم ومن معه من أهل بدر وغيرهم: ((فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَن تَابَ مَعَكَ وَلاَ تَطْغَوْاْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (112) وَلاَ تَرْكَنُواْ إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُم مِّن دُونِ اللّهِ مِنْ أَوْلِيَاء ثُمَّ لاَ تُنصَرُونَ)) وقد وقعت المؤاخذة لأهل بدر كما في قصة الثلاثة الذين خُلفوا وأمر رسول الله بهجرهم حتى تابوا، وغير ذلك، وكذا قتال أمير المؤمنين عليه السلام لطلحة والزبير بأمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم له بقتال الناكثين والقاسطين والمارقين وقوله صلى الله عليه وآله وسلم للزبير: ((لتقاتلنه وأنت له ظالم)) والله تعالى ولي التوفيق.
[اثبات المؤلف عدالة الحسين بن عبدالله بن ضميرة]
قوله في ص 131: وحسين هذا هو ابن عبدالله بن ضميرة وهو: واه.. الخ.
قلت: الحسين بن عبدالله بن ضميرة من الثقات الأثبات اعتمده الإمام القاسم بن إبراهيم، والإمام أحمد بن عيسى، والإمام الهادي إلى الحق عليهم السلام في الأحكام، فكلام المخالفين فيه ككلامهم في أبي خالد الواسطي المجمع على عدالته عند آل محمد عليه وعليهم الصلاة والسلام، والعجب من المؤلف كيف ينقل كلامهم هذا الباطل ولايرده، ولعل هذا من السهو. وتفسير السبيل بالزاد والراحلة قد رواه الإمام الأعظم زيد بن علي عن آبائه عن علي عليهم السلام في مجموعه، وإغفال مثل هذا من الإكباب على كتب المخالفين، والله المستعان.

(1/317)


[الكلام في صلاة الخوف]
قوله في ص 199: وهو المروي عن علي عليه السلام.. الخ.
قلت: الصحيح عن أمير المؤمنين عليه السلام مارواه الإمام الأعظم زيد بن علي عن آبائه عن علي عليهم السلام أنه قال في صلاة الخوف: يقسم الإمام أصحابه طائفتين، فتقوم طائفة موازية للعدو ويأخذون أسلحتهم ويصلي بالطائفة التي معه ركعة وسجدتين، فإذا رفع الإمام رأسه من السجدة الثانية فليكونوا من ورائهم ولتأت طائفة أخرى لم يصلوا فليصلوا معه، ونكص هؤلاء فقاموا مقام أصحابهم فيصلي بالطائفة الثانية ركعة وسجدتين ثم يسلم، فيقوم هؤلاء فيقضون ركعة وسجدتين ثم يسلمون ثم يقفون في موقف أصحابهم، ويجيء من كان بإزاء العدو فيصلون ركعة وسجدتين ويسلمون. انتهى. وهذا هو الموافق لظاهر الآية: ((فَإِذَا سَجَدُواْ فَلْيَكُونُواْ مِن وَرَآئِكُمْ)) فتأمل. وماذكره المؤلف من أن المراد بقوله: سجدوا. فرغوا من الصلاة خلاف الظاهر، والاحتجاج بقوله: لم يصلوا. ليس بواضح، لأنهم إذا كانوا قد صلوا بعض الصلاة فقد صح أن يقال لمن لم يدخل: لم يصل. ومفهوم أن غيره قد صلى تلك الصلاة. ولكن مارواه أهل البيت عن آبائهم أصح، والله تعالى ولي التوفيق.

(1/318)


قوله في ص 200: إذ الطائفتان جميعاً لم تصل واحدة منهما.. الخ.
قلت: يقال: لا سوا لأن الطائفة الأولى قد صلت بعض الصلاة والثانية ماقد صلت بعضها، وصح أن يقال في الثانية لم يصلوا لاحقيقة ولامجازاً، ومفهوم أن الأولى قد صلت كل الصلاة يعارضه منطوق: ((فَإِذَا سَجَدُواْ)) إذ هو نص في أنهم بعد السجود ويكونون من ورائهم والمنطوق يبطل المفهوم ويعارضه الرواية الصحيحة الصريحة عن أمير المؤمنين عليه السلام وعن غيره أيضاً، والرواية المسندة بالإسناد الذي هو في أعلى مراتب الصحة أولى من الرواية المجهولة عن أمير المؤمنين عليه السلام، ومن الرواية التي تحتاج إلى النظر في تصحيحها على أنها إن صحت أي هذه الرواية الأخرى فتحمل على جواز الأمرين، وأن الكل واسع، ولايجوز منع الصلاة التي رويت بالسند الصحيح الصريح عن أمير المؤمنين عليه السلام، وهذا هو الذي يجب المصير إليه لعدم التعارض في الأفعال كما هو المقرر في الأصول وليس الغرض إلا التنبيه على الصواب، وإلى الله سبحانه المرجع والمآب.

(1/319)


[الكلام في أن قول أمير المؤمنين (ع) حجة]
قوله في ص 253: قلنا يحتمل الاجتهاد.. الخ.
قلت: الصحيح أن قول أمير المؤمنين عليه السلام حجة لقول الرسول صلى الله عليه وآله وسلم: ((علي مع الحق والقرآن )) وهو عام في الأصول والفروع، وقد قرر ذلك بالأدلة المعلومة والد المؤلف الحسين بن الإمام القاسم عليهم السلام في شرح الغاية بمافيه الكفاية، وهذا هو قول قدماء أهل البيت عليهم السلام، والله تعالى ولي التوفيق.
[الكلام في قوله (ص): ((لا يقطع السارق في أقل من عشرة دراهم)) الحديث]
قوله في ص 255: فإن صح هذا أو حديث مثله ففيه التصريح بالدلالة على المقصود بالنطق والمفهوم أي: حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ((لايقطع السارق في أقل من عشرة دراهم)).
قلت: الصحيح مارواه الإمام الأعظم زيد بن علي عن آبائه عن علي عليهم السلام أنه قال: لاقطع في أقل من عشرة دراهم. وله حكم المرفوع، والمؤلف يحمل مثل هذا على الاجتهاد كما سبق له، وهو خلاف ماعليه عامة أهل البيت عليهم السلام، أقربهم إليه والده وجده عليهما السلام، والمعتمد الدليل وقد سبقت الإشارة إليه، ومن أراد الاستكمال فليطالع كتب الأصول لأهل البيت عليهم السلام ومن أجمعها شرح الغاية لوالد المؤلف الحسين بن الإمام عليهما السلام، وقد استوفيت الأدلة في ذلك وغيره في لوامع الأنوار، ففيه بحمد الله تعالى بغية الرائد وضالة الناشد. والله تعالى ولي التوفيق.

(1/320)


[الكلام على حديث ((ليس في الخصروات صدقة)) الحديث]
قوله في ص 304: وأما حديث ليس في الخضروات صدقة فقد ضعفت طرقه.
قلت: التضعيف غير صحيح فهو من رواية الإمام زيد بن علي عن آبائه عن علي عليهم السلام بلفظ: ليس في الخضروات صدقة. فهو في أصح طرق أهل البيت عليهم السلام، وقد تأوله أهل المذهب بأن المراد: مالم يبلغ النصاب وهو ضعيف، لأن مالم يبلغ النصاب لازكاة فيه سواء الخضروات وغيرها. والله تعالى ولي التوفيق.
[الكلام في زكاة الأحجار الكريمة]
قوله في ص 329: وعند زيد بن علي عليهما السلام وأبي حنيفة لاشيء فيه. لحديث عمرو بن شعيب يرفعه: لازكاة في حجر.. الخ.
قلت: أما الإمام زيد بن علي عليهما السلام فدليله مارواه عن أبيه عن جده عن أمير المؤمنين عليهم السلام: عفا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن الإبل العوامل تكون في المصر وعن الغنم تكون في المصر فإذا رعت وجبت فيها الزكاة، وعن الدور والرقيق والخيل والحمير والبراذين والكسوة والياقوت والزمرد مالم تُرَد به تجارة. وحكم اللؤلؤ والياقوت واحد، فالإمام الأعظم زيد بن علي عليهما السلام لم يرو عن عمرو بن شعيب ولايحتاج لروايته وهو في غنى برواياته عن آبائه عليهم السلام عن رواية عمرو بن شعيب وأضرابه، والخبر هذا وإن كان وارداً في الزكاة فلعله يجعل العفو عاماً في الزكاة والخمس، ويحتمل أن يستدل بما سبق في صفحة 326 من أن الغنيمة اسم لما أخذ من الكفار فقط، كذا قال. والصواب: لما أخذ في الحرب ليدخل ما أجلب به البغاة وهذا إن صحت الرواية عن الإمام زيد بن علي عليهما السلام. والله سبحانه أعلم.

(1/321)


[الكلام على قوله: للفارس ثلاثة أسهم]
قوله في ص 333 للفارس ثلاثة أسهم لحديث ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أسهم للرجل ولفرسه ثلاثة أسهم.. الخ.
قلت: الأولى تقديم الاحتجاج برواية الإمام الأعظم زيد بن علي عن آبائه عن علي عليهم السلام، قال: أسهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم للفارس ثلاثة أسهم سهم له وسهمان لفرسه. ولكن المؤلف كثير الاعتماد على كتب المحدثين والله تعالى المستعان، ولاوجه لحمله على التنفيل فإنه صريح في أنه غير تنفيل، إذ لايقال أسهم في التنفيل، وليس في ذلك تفضيل للبهيمة على المسلم، إذ السهام كلها للمسلم، فهو تفضيل للفارس على الراجل، وإذا ورد الأثر بطل النظر، والله تعالى ولي التوفيق.

(1/322)


مع العباس بن أحمد في تتمة الروض النضير

[هذه تعليقات على تتمة الروض النضير من أنظار مولانا العلامة نجم العترة المطهرة شرف الإسلام الولي الحسن بن الحسين الحوثي رضي الله عنهما، ومن أنظار مولانا العلامة الحافظ شيخ الإسلام مجد الدين بن محمد المؤيدي أيده الله تعالى وحفظه ولطف به آمين].
[التعليق على قوله: ودعوى أبي بكر بن مجاهد الإجماع على عدم الخروج على الظلمة]
الأولى: من قوله ودعوى أبي بكر بن مجاهد الإجماع على عدم الخروج على الظلمة في شرح حديث: ((من مات وليس له إمام.. )) الخ في الطبعة الأولى من الجزء الرابع صفحة (8) وفي الطبعة الأخيرة في الجزء الخامس صفحة (13).
قال مولانا العلامة نجم العترة الحسن بن الحسين الحوثي رضي الله عنهما آمين: فيكون الحسين السبط وزيد بن علي ومحمد بن عبدالله وأخوه إبراهيم ونحوهم من الأئمة الهادين قد خرقوا الإجماع، سبحانك اللهم هذا بهتان عظيم، ولاثمرة لقول الشارح: وقد قيد المصطفى.. الخ.

(1/323)


إذ لاغرض للظلمة في ترك إقامة الصلاة ويبعد منهم الخروج من الملة إلى اليهودية والنصرانية فيكون كفراً بواحاً، وإنما غرضهم الانهماك في الشهوات من اللهو وشرب الخمور والاستيثار بفيء المسلمين ولايغير عليهم ولايؤخذ على أيديهم، لأنه قد وضع لهم من الأحاديث ماتستقيم به رئاستهم من وجوب طاعتهم ما أقاموا الصلاة ومالم يكن الكفر البواح، ويكون هذا جمعاً بين الأخبار بزعم من خذله الله وخرج عن سفينة النجاة، ولاغرو فإنها دعوة نبوية: ((واخذل من خذله)) ولذا قال صلى الله عليه وآله وسلم: ((أهل بيتي أمان من الاختلاف فإذا خالفتها قبيلة صاروا حزب الشيطان)) أو نحو هذا من رواية ابن عباس، فإنا لله وإنا إليه راجعون، والله المستعان. وسيجيء الحديث في الأصل عن علي: ((حق على الإمام أن يحكم بما أنزل الله وأن يعدل في الرعية فإذا فعل ذلك فحق عليهم أن يسمعوا ويطيعوا وأن يجيبوا إذا دعوا، وأيما إمام لم يحكم بما أنزل الله فلا طاعة له)) فلم لايجمع بين الأخبار بقول باب المدينة وباب الحكم والمبين للأمة الضال من خالفه، وقد قال صلى الله عليه وآله وسلم: ((لعن الله من خالف علياً)) رواه القاسم بن إبراهيم عن زيد بن أرقم وقال فيه: ((ولاتخالفوه في حكمه)) رواه الكنجي وأبو عيسى الترمذي عن عمران بن الحصين وهو الهادي بالنص وقد قال تعالى: ((أَفَمَن يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَن يُتَّبَعَ أَمَّن لاَّ يَهِدِّيَ إِلاَّ أَن يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ)) وقد خرج على عثمان المسلمون ولم تنكر سادات الصحابة، بل قال عمار: إنما قتله الصالحون الآمرون بالقسط، ولم يترك عثمان الصلاة إنما استأثر بالفيء، وظلم أبا ذر وغيره، إلا أن تكون أفعال عثمان من الكفر البواح، فالخلاف لفظي، ففعل الصحابة في حق عثمان يقضي بعدم الفرق في وجوب جهاد الظالم بين ألا يقيم الصلاة أو يكون الكفر البواح، وبين أن يظلم ويستأثر بفيء المسلمين، بل من طالع السير

(1/324)


يعلم أن معظم الحامل على الخروج على عثمان إنما هو الاستئثار ونحوه مما لم يكن كفراً بواحاً عند المخالف، فإذاً لافرق بين عصيان وعصيان.
ومن قوله ماهو أنكر مما هو في الصفح المذكور.
يقال: هذه المفسدة حاصلة سواء أقام الصلاة أم لا، وسواء كان كفراً بواحاً أم لا، فلم جاز الخروج مع كفره. اهـ.
من قوله: ورأينا كفراً بواحاً.
يقال: والخروج عليه مع هذا يؤدي إلى ماهو أنكر من سفك الدماء وإخراب البلاد وبث أنواع الفساد إلى آخر مامر، فمن أين يرتفع ذلك إذا ضيع الصلاة. انتهى.
من قوله: لايلاحظ فيه زيادة مفسدة.. الخ ص (14) في الطبعة الجديدة وفي القديمة (9) لمولانا العلامة الولي نجم العترة الحسن بن الحسين الحوثي رضي الله عنهما.
ويقال: والفسق كالكفر فإنه لايلاحظ فيه زيادة المفسدة، فلم لايلاحظ النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالأخذ على يد الظالم وأطره على الحق، ولاشك أن للجهاد والأمر بالمعروف شروطاً فمتى حصلت وجب الجهاد والأمر والنهي ولافرق بين الكفر والفسق، ومثل الآثار المقيدة لايصح التقييد بمثلها مع ضعفها وكونها من روايات الحشوية ونحوهم سيما والعترة لايعولون على مثلها، وهم مجمعون على وجوب الجهاد مع الإمكان بوجود الناصر والخروج على الظلمة، فكيف تقبل آثاره وسفن النجاة عنها بمعزل وقد أَمِنَّا مع التمسك بهم من الضلال، بل لايخفى أن مثل هذه الآثار إنما وضعت تحيلا للظالمين وتعمية لئلا يغير عليهم، والله الهادي. اهـ.
من قوله: أو أنها لم تبلغهم تلك الأحاديث.. الخ ص (14) في الطبعة الجديدة وفي القديمة (9).

(1/325)


أو لأنها لم تكن قد وضعت أو أنهم عرفوا وضعها فلم يلتفتوا إليها، كما قد شكا الباقر من أنها: وضعت أحاديث لم تكن ولم تخلق، وكما قال ابن نفطويه: وضعت أحاديث مراغمة لبني هاشم. وكما قال المدائني: أمر معاوية بوضع أحاديث معارضة لما روي في علي وذويه. فلعل هذا من ذاك، ومن منع من الخروج يحوم إلى القول بوجوب طاعة الظالم وأن ولايته ثابتة من الله ورسوله، وماذكر هنا فإنما هو ملاحظة لشروط وجوب الخروج أو جوازه، وفرق بين قولنا: لايجب الخروج أو لايجوز الخروج مع عدم تكامل الشروط، وبين قولنا: تجب طاعة الظالم. وكيف يكون فقدان شروط وجوب الأخذ على يده والخروج عليه يقتضي وجوب طاعته، وقد قال علي عليه السلام: ((أطيعوني ماأطعت الله، فإذا عصيته فلاطاعة لي عليكم)) رواه كثير من المحدثين.

(1/326)


فالذي يقع به الإشراق وجمع شمل الأحاديث هو الجمع بقول علي الآتي في هذه الورقة: حق على الإمام .. إلخ. فهو المطابق للقرآن ((لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ)) ولأنه قال صلى الله عليه وآله وسلم في علي: ((هو المبين ما أرسلت به لأمتي)). رواه الديلمي، وقال: ((وتبين لهم ما اختلفوا فيه من بعدي)). رواه أبو نعيم والكنجي ومحمد بن سليمان الكوفي وعلي بن الحسين في المحيط وغيرهم، وقد علقنا بعض أدلة على كون قول علي حجة على الحديث الآتي للشارح أوله: ((أرأف أمتي بأمتي أبو بكر..)) الخ. وماذكر في الجمع لايصح معه إطلاق القول بوجوب طاعة الظالم إنما يكون عذراً في عدم وجوب نهيهم وجهادهم.وقد قال علي كرم الله وجهه: ((فإذا عصيته فلا طاعة لي عليكم )) وهو مع الحق، ويأتي إقرار الشارح بتواتر الآثار معنى أن علياً لايزيغ عن الحق ولايفارقه في باب الجد في صفح (81) وفي الطبعة القديمة في صفح (55): وبهذا لايتم في هذه المباحث شيء مع مخالفة قول علي عليه السلام.إلى قوله: وقال أبو بكر في خطبة له ورواه الواقدي: (( فإذا عصيت فلاطاعة لي عليكم )) ورواه الزبير بن بكار. انتهى.
[التعليق على قوله: هي في جميع قريش]
وقال مولانا العلامة شيخ الإسلام مجد الدين بن محمد المؤيدي أيده الله على قول المؤلف فقال: هي في جميع قريش في آخر صفح (17) وفي القديمة صفح (11).
اعلم أيها المطلع أن لفظ: جميع. زيادة موضوعة لاشك في ذلك ولاشبهة فهي غير موجودة في شيء من نسخ المجموع القديمة والحديثة الخطية والمطبوعة، ولافي شيء من شروح المجموع كالمنهاج الجلي شرح مجموع الإمام زيد بن علي للإمام المهدي محمد بن المطهر بن يحيى عليهم السلام، ولاهي مروية في أي كتاب من كتب الحديث، لاكتب أهل البيت ولاكتب غيرهم، ومع هذا فهي مخالفة لما عليه آل محمد جميعاً.

(1/327)


وقد روجع المؤلف فيها أيام وصوله إلى صعدة، فغاية ما أفاد أنه وجدها في نسخة قديمة وكتب ذلك بقلمه في نسخته التي صارت إليَّ بحمد الله بالشراء من القاضي أحمد الواسعي وصارت إلى والده بالشراء من المؤلف.
ومثل هذه الوجادة مردودة لا أصل لها، وقد تكلم الناس وخاضوا في مسألة الإمامة ولم يذكرها متكلم أصلا، ولقد كانت أعظم حجة على أهل البيت لو كان لها أصل، يعلم ذلك.
زاد مولانا العلامة الحجة مجد الدين في حاشية أخرى بل هي موضوعة مصادمة للأدلة المعلومة التي فيها إجماع العترة النبوية عليهم السلام ولاتوجد في نسخة من نسخ المجموع الشريف.. الخ. إلى أن قال: ولو ظفر المعارضون لأهل البيت صلوات اللّه عليهم لكان لهم أعظم حجة ولقد تتبع فقيه الخارقة المجموع الشريف حرفاً حرفاً ليصحح دعواه على الإمام الأعظم المنصور بالله عبد اللّه بن حمزة رضي اللّه عنه وعلى جماعة الزيدية مخالفتهم للإمام الأعظم زيد بن علي بن الحسين سلام اللّه عليهم ورضوانه فلم يذكر هذه النسخة التي كان له أقوى دليل.. الخ.
وكل من شرح المجموع لم يذكرها كالمهدي محمد بن المطهر. إلى أن قال: فحكم هذه النسخة حكم الزيادة في سائر الكتب المعلومة المتلقاة بالقبول ومعلوم أن زيادة كهذه لاتقبل.

(1/328)


قلت: والأمثال لها حكمها يقال آفة الكذب المواجهة. فإن مولانا العلامة مجد الدين بن محمد حفظه اللّه لما لاقى المؤلف بجامع صعدة المقدس وألزمه الخروج فيما لا أصل له وهي لفظة: جميع. أجابه أنها في بعض النسخ فألجأه مرة أخرى أن يعين النسخة ومن الكاتب ومن الراوي فانقطع المؤلف وأحصر، وبهذا فلتثق أيها المطلع أن لفظة: جميع. من بعض الوفاق الذي يقال فيه: في بعض الوفاق نفاق.
تنبيه لك: اطلع على نهج البلاغة مايقول علي عليه السلام في هذا الشأن في هذا البطن من هاشم مشيراً إلى الحسنين، فانظر وطالع وتدبر إنا لله وإنا إليه راجعون. كتبه متطفلاً بعد البحرين شرف الدين وضياء الملة رحمه اللّه الحسن وأبقى لنا مجدنا ببقاء مولانا مجد الدين بن محمد المؤيدي حفظه اللّه تعالى إسماعيل بن أحمد بن المؤيد محمد بن المتوكل على اللّه إسماعيل الملقب المختفي.
وروى علي بن الحسين صاحب المحيط بالإمامة بإسناده قال: دخل نفر من الكوفة على زيد بن علي وساق إلى قوله: فقال ـ يعني زيد بن علي عليهما السلام ـ إنه مامن قرن ينشأ إلا بعث الله عز وجل منا رجلا أو خرج منا رجل حجة على ذلك القرن علمه من علم وجهله من جهل. وروى أبو جعفر الطبري في تاريخه وابن الأثير عن زيد بن علي أنه قال للذين رفضوه وقد قالوا له: ماتقول في أبي بكر وعمر؟: إن أشد ما أقول فيمن ذكرتم أنا كنا أحق بسلطان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ممن ذكرتم ومن الناس أجمعين فدفعونا عنه ولم يبلغ ذلك بهم كفرا، فهذه رواية العامة كما أفاد ذلك المولى الحسن بن الحسين الحوثي أيده الله، فكيف يعدل عن هذا الشارح ولا يتنبه لذلك، والله المستعان. انتهى .

(1/329)


[التعليق على قوله: لكنه إذا تغلّب وجبت طاعته]
قال مولانا الحافظ العلامة الحجة مجد الدين بن محمد المؤيدي أيده الله آمين على قول المؤلف: لكنه إذا تغلب وجبت طاعته من صفح (33) في الطبعة الحديثة وفي القديمة (14)
كلا ولا كرامة ((لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ)) وأي عهد أعظم من أن يوجب الله طاعته ((وَمَا كُنتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُدًا)) ومتى كان ظالماً فقد لعنه الله في كتابه العزيز، فكيف يكون مهاناً ملعوناً وهو أشد الطرد؟ واجبة طاعته هذا تناقض وخلف من القول، وأين آيات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر المملوء بها القرآن الكريم.

(1/330)


((وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ..)) الآية، ((لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوا وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ (78)كَانُواْ لاَ يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ)) الآية، والرسول صلى الله عليه وآله وسلم يقول: ((من رأى منكم منكراً فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه..)) الخبر. وكيف يغير على من تجب طاعته، وفي الخبر: ((سيكون عليكم أمراء من بعدي يأمرونكم بماتعرفون ويعملون بما تنكرون، فليس أولئك عليكم بأئمة)) أخرجه الطبراني عن عبادة بن الصامت، وفي آخر: ((سيكون أمراء تعرفون وتنكرون فمن نابذهم نجا ومن اعتزلهم سلم ومن خالطهم هلك)). أخرجه ابن أبي شيبة والطبراني عن ابن عباس رضي الله عنهما، وفي آخر: ((استقيموا لقريش ما استقاموا لكم فإن لم يستقيموا لكم فضعوا سيوفكم على عواتقكم وأبيدوا خضراءهم)) أخرجه في الجامع الكافي عن طريق محمد بن منصور وأحمد بن حنبل والخطيب عن ثوبان والطبراني عن نعمان بن بشير وحسنه السيوطي.
وفي آخر: ((الأئمة من قريش ما إذا حكموا عدلوا، وإذا قسموا أقسطوا، وإذا استرحموا رحموا، فمن لم يفعل ذلك منهم فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين)) أخرجه محمد بن منصور في الجامع الكافي ورواه أحمد بن حنبل بزيادة: ((لايقبل منهم صرف ولاعدل )) . قال المنذري: ورواته ثقات.
وفي آخر: ((الأئمة من قريش إن لي عليكم حقاً ولهم عليكم حقاً مثل ذلك ما إن استرحموا رحموا، وإن عاهدوا وفوا، وإن حكموا عدلوا، فمن لم يفعل ذلك منهم فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين)) أخرجه أحمد عن أنس، وقد سبقت. وفي معناها أخبار كثيرة.
وفي آخر: ((فلاطاعة لمن عصى الله عز وجل)) أخرجه الطبراني والحاكم عن عبادة بن الصامت.

(1/331)


وفي آخر: ((لاطاعة لمن لم يطع الله)) أخرجه أحمد عن أنس.
وفي آخر: ((لتأخذن على يد الظالم ولتأطرنه على الحق أطراً)) الخبر أخرجه الناصر الأطروش وغيره.وفي الكتاب والسنة الكثير من هذا لو لم يكن إلا قوله تعالى: ((احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ)) وهم أعوانهم، وأي إعانة أكبر من الطاعة، فكيف يرفض هذا كله أو يرد أو يقيد لأجل خبر أو خبرين أو نحو ذلك يقضي ببطلانها العقل والنقل والمعلوم والواقع؟ أنها لفقت مساعدة للظلمة ومصانعة لدول الفساد.
فإن قيل: إنه قد رواها أهل الصحاح.
قلت: أو كلما في كتب الصحاح معلوم الصحة يعارض به الكتاب ومالايحصى كثرة في السنة، أو ليس قد ترك العمل بأخبار كثيرة في الصحاح، ونص أئمة النقل من أهل السنة وغيرهم على ضعف بل ووضع بعض الأخبار في البخاري ومسلم كما ذلك معلوم لمن له أدنى اطلاع، وقد انتقد الدار قطني وغيره على نحو مائتي خبر في البخاري، ونص ابن حزم على بطلان خبرين في البخاري ومسلم، وهذا المحل لايسع البسط وقد أوضحنا ذلك في لوامع الأنوار، وكفى بقول أمير المؤمنين وسيد المسلمين وغيره من أئمة الدين: ((أطيعوني ما أطعت الله)) فتدبر أيها الناظر، والله تعالى ولي التوفيق.

(1/332)


[التعليق على بيعة أبي بكر]
وقال مولانا شيخ الإسلام العلامة مجد الدين بن محمد المؤيدي أيده الله على قول المؤلف: والمراد اجتماع أهل الحل والعقد من المهاجرين والأنصار وإلا لما تمت بيعة أبي بكر مع تأخر علي عليه السلام صفح (7) في الطبعة الجديدة وفي القديمة (32):
قلت: ياسبحان الله ومن أين تمت بيعة أبي بكر وماهو الدليل على ذلك بأي كتاب أم بأية سنة، كيف تتم بيعة تخلف عنها من هو مع الحق والقرآن والحق والقرآن معه، من هو مولى المؤمنين بنص رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يوم الغدير، ووليهم بآية المائدة من هو من محمد بمنزلة هارون من موسى عليهم الصلاة والسلام من لاتحصى فضائله ولاتحصر مناقبه، ولو لم يكن نص لقدمه الفضل، وتخلف معه أيضاً الحسنان سبطا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وريحانتاه وسيدا شباب أهل الجنة وعم رسول الله (ص) وبقية آبائه العباس وأولاده منهم حبر الأمة وترجمان القرآن عبدالله بن العباس وجميع بني هاشم، هذا بإجماع الأمة ورواية أهل الصحاح منهم البخاري، وتخلف معهم أيضاً سادات السابقين من المهاجرين والأنصار منهم عمار بن ياسر المشهود له بالجنة وسلمان الفارسي الذي هو من أهل البيت وأبو ذر والمقداد المشهود لهم باشتياق الجنة إليهم والزبير بن العوام وسعد بن عبادة وولده ومن معهم من الأنصار.
وكيف تصح البيعة وقد أجمع أهل بيت النبوة أولهم وآخرهم وسابقهم ولاحقهم على عدم صحتها وإنما اختلفوا في التأويل للمشايخ الثلاثة، أما أنها صحت البيعة وتمت الإمامة فلم يقل بذلك أحد منهم وعلى قود قول المؤلف: إنها تمت البيعة. فكان يجوز قتال المتخلفين المذكورين وعلى رأسهم أمير المؤمنين وأخو رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأهل بيته وسادات المهاجرين والأنصار الذين تخلفوا، سبحانك اللهم هذا بهتان عظيم، وكيف وعمر نفسه وهو رأس العاقدين لتلك البيعة يقول على المنبر: كانت بيعة أبي بكر فلتة.. الخ. برواية البخاري وغيره. ويقول أيضاً: فمن عاد إلى مثلها فاقتلوه وقد نظمت في ذلك الأشعار كما قال:
فبيعة هذا أحكم الله عقدها …وبيعة هذا فلتة قال صاحبه
فهم يقرون أنها كانت فلتة ويحكمون على من عاد إلى مثلها بالقتل.

(1/333)


ونقول: نحن بل إنها تمت وانعقدت بإجماع جل أهل الحل والعقد ولا اعتبار بمن تخلف عنها، ونستدل بها على صحة ماوقع على مثلها، إن هذا لأعجب العجب، وإنه لمخالف حتى للعاقدين أنفسهم.
وأما قول أمير المؤمنين عليه السلام: إنه قد بايعني القوم.. الخ. فإنما هو احتجاج على معاوية وإلزام للخصم بما يلتزمه وقوله: وإنما الشورى للمهاجرين والأنصار إلى آخره صحيح أنهم متى أجمعوا.. الخ. ولم يقل أنهم اجتمعوا على إمامة أبي بكر وعمر وكيف يقول ذلك أو يقصده وهو أول المخالفين، وإنما كلامه عليه السلام على الأسلوب الحكيم في استدراج الخصم وإلزامه بما يلتزمه وما يعقلها إلا العالمون، ثم يقال: إن كانت البيعة قد تمت فلماذا لم يزل أبو بكر وعمر يتابعان أمير المؤمنين عليه السلام والمتخلفين معه في البيعة حتى طلب مصالحته بعد ستة أشهر كما روى ذلك البخاري وغيره، لماذا هذه المتابعة لمن لا اعتبار به ولايعتد بخلافه، لقد كان أهون للمؤلف أن يدعي كما ادعى المحاولون لتصحيح بيعة أبي بكر أنها تمت بعد البيعة المدعاة منه عليه السلام، ولم يتجاسروا على القول أنها تمت مع تأخر علي عليه السلام، وأنه لايضر خلافه ويجاب بعد هذا بما أجاب به العترة أن هذه البيعة المدعاة غير صحيحة، وإنما هي مصالحة ومسالمة كما رواها أهل الصحاح، وكيف وهو والحسنان وسائر أهل البيت عليهم السلام لم يزالوا يصرحون بعدم ذلك ولكنه عليه السلام رأى أن صلاح الإسلام والمسلمين في ترك النزاع مع استقامة سيرة الشيخين كما قال عليه السلام: (( لأسلمن ماسلمت أمور المسلمين ولم يكن الجور إلا علي خاصة )) أو كما قال، وإلى الله ترجع الأمور.

(1/334)


[التعليق على قوله: وفي هذا الحديث دلالة واضحة أن زيد بن ثابت أعلم الصحابة بالفرائض]
وقال مولانا العلامة نجم العترة المطهرة الحسن بن الحسين الحوثي رضي الله عنهما على قول المؤلف: وفي هذا الحديث دلالة واضحة أن زيد بن ثابت أعلم الصحابة بالفرائض صفحة (40) في الطبعة الحديثة وفي القديمة صفحة (26)
قد ثبت بالأدلة المتواترة من أحاديث الثقلين وغيرها أن العترة هداة الأمة والأمان من الضلال، ومن المعلوم أن علياً رأس العترة والملحوظ الأعظم، وقد ورد فيه بخصوصه مايعلم به كونه الحجة مثل قوله صلى الله عليه وآله وسلم فيه: (( فإنه لن يخرجكم عن هدى.. )) الخ من حديث زيد بن أرقم الذي أخرجه الحاكم والكنجي والطبراني وأبو نعيم ومحمد بن سليمان الكوفي، وقوله صلى الله عليه وآله وسلم لعمار في علي: ((إنه لن يدلك على ردى ولن يخرجك عن هدى)). رواه الديلمي والطبراني والحاكم والإمام عبدالله بن حمزة عليهما السلام ورواه الديلمي أيضاً عن أبي أيوب، وقوله صلى الله عليه وآله وسلم: ((علي مع الحق والحق مع علي )). رواه في المحيط بإسناده إلى أبن ابي اليسر عن عائشة ورواه ابن المغازلي بسنده إلى ابن أبي سعيد، ورواه أيضاً من حديث المناشدة عن علي عليه السلام ورواه أبو طالب عن أم سلمة بلفظ: ((علي مع الحق والقرآن والحق والقرآن مع علي )) وأخرجه الحاكم والطبراني ومالك في الموطأ بلفظ: ((علي مع القرآن والقرآن مع علي )) عن أم سلمة كما أخرجه وزاد فيه: ((ولن يفترقا حتى يردا علي الحوض )) ذكره في المحيط.

(1/335)


وقال فيه: ومن خصائص علي أن قوله حجة، وذلك قول أهل البيت عليهم السلام لايختلفون فيه، وقال فيه حديث: ((علي مع الحق والحق مع علي )) . روى رواية عامة لم يدفعه أحد، وروى في المحيط أيضاً بسنده إلى زيد بن علي عليهما السلام قال: نحن أهل البيت لم نستوحش إلى أحد من هذه الأمة إذا ثبت لنا الأمر عن أمير المؤمنين لم نَعدُه إلى غيره. وروى أيضاً بسنده إلى ابن عباس قال: إذا بلغنا شيء عن علي من قضاء أو فتيا وثبت لم نجاوزه إلى غيره. وروى أيضاً بسنده إلى عبدالله بن الحسن قال: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يذكر الفتن ومايكون في أمته فمر علي بن أبي طالب. فقال: ((ياحذيفة هذا وحزبه الهداة إلى يوم القيامة، ياحذيفة لو أخذت الأمة جانباً وأخذ علي جانباً كان الحق مع علي وعلي مع الحق )) .
وروى محمد بن سليمان الكوفي بسنده إلى سعد وأم سلمة أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: ((علي مع الحق والحق معه)) وروى أيضاً بإسناده إلى سهل بن سعد الساعدي قال: سمعت رسول الله يقول: ((من أحبني فليحب علياً.. )) وساق إلى قوله: ((فالحق معه وهو حيث الحق )) وروى بسنده إلى أم سلمة قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول لعلي: ((أنت مع الحق والحق معك)) وروى بسنده إلى زيد بن علي عن آبائه عن علي عليه السلام قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ((ياعلي إنك الهادي لمن تبعك ومن خالف طريقك ضل إلى يوم القيامة )) . وفي حديث رواه الناصر برواية الحاكم عنه عن جابر عنه صلى الله عليه وآله وسلم قال في علي: ((وأن الحق معك وعلى لسانك وفي قلبك وبين عينيك )) . وقوله صلى الله عليه وآله وسلم لعلي: (( أنت باب علمي والحق معك وعلى لسانك )) أخرجه الكنجي عن علي.
وأخرج البخاري في صحيحه عن علي عليه السلام قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: ((رحم الله علياً اللهم أدر الحق معه حيث دار)) ( (

(1/336)


[1]) ـ ليس موجوداً في نسخ البخاري المطبوعة، ولعله مما حذف كما حذف غيره وقد روي من طرق كثيرة. ابحث في لوامع الأنوار.
[1]) وقوله: ((من فارق علياً فقد فارقني )). أخرجه الحاكم وابن المغازلي أيضاً عن ابن عمر، وأخرج أحمد نحوه بلفظ: ((من فارقك فقد فارقني.. )) وكذا الحاكم كلاهما عن أبي ذر. وقوله صلى الله عليه وآله وسلم: ((الحق مع ذا الحق مع ذا )) يعني علياً، أخرجه أبو علي وسعيد بن منصور عن أبي سعيد ورواه ابن المغازلي عن أبي سعيد أيضاً.
وقوله صلى الله عليه وآله وسلم: (( أنا وهذا _يعني علياً_ حجة على أمتي )) أخرجه ابن المغازلي والخطيب عن أنس.وقوله (ص): ((ليهنك العلم يا أبا الحسن لقد شربته شرباً ونهلته نهلاً )) . أخرجه أبو نعيم والكنجي والخوارزمي وأخرج نحوه عبدالوهاب الكلابي عن علي. وقوله صلى الله عليه وآله وسلم: ((أعلم أمتي من بعدي علي )) أخرجه الديلمي والكنجي عن سلمان ولم يذكر الكنجي عن سلمان ((من بعدي)). قال: ورواه أبو العُلى الهمداني وتابعه الخوارزمي، وأخرج عن القاسم عن أبي أمامة عنه صلى الله عليه وآله وسلم: ((أعلم أمتي بالسنة والقضاء بعدي علي بن أبي طالب )) وقوله صلى الله عليه وآله وسلم: (( علي عيبة علمي )) أخرجه ابن عدي عن ابن عباس والكنجي عنه، وقال: رواه ابن عساكر هكذا. وقوله صلى الله عليه وآله وسلم: ((أقضى أمتي بكتاب الله علي )) رواه في المحيط عن أبي طالب بسنده إلى ابن عباس ورواه عنه في شمس الأخبار.
وقال ابن أبي الحديد: وقد روت العامة والخاصة أنه صلى الله عليه وآله وسلم قال: ((أقضاكم علي)). وقوله صلى الله عليه وآله وسلم في دعائه لعلي: ((اللهم املأ قلبه علماً وفهماً وحلماً ونوراً )) . وقال: ((أخبرني ربي أنه استجاب لي فيك)) رواه الكنجي عن علي، وقال الحافظ الدمشقي: وقوله صلى الله عليه وآله وسلم: ((علي باب علمي ومبين للناس ما أرسلت به )) أخرجه الديلمي.

(1/337)


وقوله صلى الله عليه وآله وسلم في علي: (( ينطق بلساني ويقضي بحكمي )) رواه إبراهيم الصنعاني عن الباقر عن آبائه عليهم السلام. وقوله صلى الله عليه وآله وسلم في علي: ((وهو بابي الذي أوتى منه )) رواه الكنجي عن ابن عباس. وقوله صلى الله عليه وآله وسلم لفاطمة: (( ثم زوجتك أكثرهم علماً )). أخرجه أحمد وعلي بن الحسين في المحيط وأبو علي الصفار ومحمد بن سليمان الكوفي وعيسى بن حفص وأبو العُلى الهمداني وابن المغازلي والطبراني بعضهم عن أبي أيوب وبعضهم عن معقل بن يسار وبعض عن أنس وبعض عن زين العابدين.وقوله صلى الله عليه وآله وسلم: ((يامعشر الأنصار ألا أدلكم على ما إن تمسكتم به لن تضلوا.. الخ )) أخرجه الطبراني والكنجي ومحمد بن سليمان والكوفي عن الحسن بن علي عليه السلام. وقوله صلى الله عليه وآله وسلم: ((أنا المنذر وعلي الهادي.. الخ )) أخرجه ابن جرير والثعلبي والنقاش وأخرجه علي بن الحسين في المحيط عن ابن عباس، وأخرج نحوه الناصر للحق عن أبي برزة الأسلمي، ونحوه في المحيط عن علي زين العابدين موقوفاً أخرجه الحاكم أبو القاسم عن ابن عباس من ست طرق وعن أبي برزة من ثلاث طرق، وعن أبي هريرة وعن يعلى بن مرة، وعن علي ومجاهد، وعن زرقاء الكوفية. وأخرج نحوه عن علي من ثلاث طرق، وعن أبي برزة، وأخرجه أبن عساكر عن علي عليه السلام. وقوله صلى الله عليه وآله وسلم: ((من أحب أن يتمسك بالعروة الوثقى فليأتم علياً.. الخ )) أخرجه الحاكم أيضاً عن علي.

(1/338)


وقوله صلى الله عليه وآله وسلم لعلي: ((أنت الطريق الواضح وأنت الصراط المستقيم )) أخرجه الحاكم أيضاً عن الحسين السبط عليهم السلام. وقوله صلى الله عليه وآله وسلم: ((أنا مدينة العلم وعلي بابها.. الخ )) أخرجه ابن المغازلي والحاكم والخطيب وابن عدي والعقيلي وعبدالوهاب الكلابي عن ابن عباس وصححه الحاكم وابن جرير الطبري وأخرجه الحاكم عن جابر ونحوه الكنجي عن جابر والطبراني عن ابن عباس والكنجي عن علي وابن عباس.

(1/339)


وقوله صلى الله عليه وآله وسلم في علي: ((وهو باب مدينة علمي )) أخرجه ابن المغازلي عن ابن عباس. وقوله صلى الله عليه وآله وسلم: ((أنا مدينة العلم وعلي بابها )) رواه الحاكم الحسكاني عن ابن عباس وعن علي.وقوله صلى الله عليه وآله وسلم: ((أنا دار العلم وعلي بابها )) رواه الحاكم أبو القاسم عن شريك من ثلاث طرق عن سلمة بن كهيل عن أبي عبدالله الصنابحي عن علي. وقوله صلى الله عليه وآله وسلم: ((أنا دار الحكمة وعلي بابها )) أخرجه ابن المغازلي والترمذي وأبو نعيم والكنجي وصاحب المحيط عن علي، وغير ذلك مما لايحصى، أيجوز أن تعدل عن هذه الأدلة لخبر واهي الأركان ثم تفرع عليه بأن علياً من عرض الصحابة، بل ترجح عليه زيد بن ثابت في حكم المواريث؟ هذا شأن المعرض عن علوم العترة والعدلية، والحافظ في علم العامة سيما ذوي المبادئ يكون كالذي يتخبطه الشيطان من المس، ولذا قال علي عليه السلام في رد مثل هذا _أعني خبر الأصل_: أين الذين زعموا أنهم الراسخون في العلم دوننا كذباً وبغياً علينا.. الخ مافي نهج البلاغة، وقال: نحن الشعار والأصحاب والخزنة والأبواب ولاتؤتى البيوت إلا من أبوابها، فمن أتاها من غير أبوابها سمي سارقاً، وكيف يكون أبو بكر أرحم وعمر أشد وأبو عبيدة أميناً؟ وهم أول من ظلم آل محمد وغالتهم السبل، ونقلوا إلبناء عن رص أساسه، معادن كل خطيئة وأبواب كل ضارب في غمره، وأما عثمان فحمال الخطايا قال عمار ومحمد بن أبي بكر فيه: أراد أن يغير ديننا بدل حكم القرآن. والله الموفق، انتهى بحمد الله ومنه ولطفه وتأييده، انتهى نقل هذه العبقة المسكية والنفحة العنبرية من إفادات المولى العلامة شرف الملة الحسن بن الحسين الحوثي، بقلم الملتجي إلى الملك العلي علي بن يحيى شيبان، ثبته الله بالقول الثابت.

(1/340)


[التعليق على قوله: لعل السامع أخطأ في شرح حديث: كنت أنا ورسول الله نرعى عنما]
وقال مولانا العلامة نجم العترة المطهرة الحسن بن الحسين الحوثي رضي الله عنهما: على قوله: لعل السامع أخطأ في شرح حديث: كنت أنا ورسول الله نرعى غنماً.. الخ في صفحة (150) في الطبعة الحديثة وفي القديمة صفحة (240).
هذا تحريف، فإذاً لايوثق بخبر لجواز أنه لايضبط الراوي، فكيف وقد روي في طريق أخرى فرواه النسائي عن عبدالله الهذلي عن علي بلفظ: عبدالله قبل أن يعبده أحد من هذه الأمة بسبع سنين. تمت من خصائصه، ورواه محمد سليمان الكوفي بلفظ: ((سبع أو خمس..)) عن سلمة بن كهيل، ورواه أبو جعفر الإسكافي عن زاذان عن علي، ورواه عن عباد بن عبدالله الأسدي عن علي، ورواه الطبري في تاريخه عن عبدالله بن عبدالله عن علي، وروى نحوه الحاكم الحسكاني عن أبي رافع بزيادة: وأشهراً. وروى أيضاً عن علي: ((لقد مكثت الملائكة سبع سنين مايستغفرون إلا لرسول الله ولي، وفينا نزلت هاتان الآيتان: ((الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ.. إلى قوله: الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ)) . هل يحمل مثل هؤلاء على عدم الضبط أم يحمل الذهبي على توغله في النصب مع أنه قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ((لقد صلت الملائكة علي وعلى علي سبع سنين، وذلك أنه لم يصل فيها أحد غيري وغيره )) رواه الإمام أبو طالب عليه السلام والناصر للحق ومحمد بن سليمان الكوفي وابن المغازلي والكنجي عن أبي أيوب كلهم يروونه عنه، وكذا رواه أبو جعفر الإسكافي عن أبي أيوب والصفار، ورواه الحاكم أبو القاسم عن أبي ذر، ورواه أيضاً عن أنس، وروى ابن المغازلي نحوه عن أنس. وبهذا يعرف أنما ضعفه القوم فهو بمظنة الصحة، وإنما ينشأ منهم مثل هذا لبغاضة العترة الطاهرة. لكنا نستدل به على نفاقهم وخذلانهم، فكيف يجوز الوثوق بقدحهم أو بما صححوه مما يجر إلى بدعتهم وأهوائهم؟! والله المستعان.
وأما قول الشارح: قبل البلوغ.

(1/341)


وصححه الذهبي فقد خَصَم صلى الله عليه وآله وسلم الذهبي فإنه (ص) قال: ((ياعلي تخصم الناس بسبع أنت أول الناس إيماناً.. الخ )) فكيف يخصمهم بما لااعتداد به؟ وقال صلى الله عليه وآله وسلم: ((أولكم إسلاماً علي.. الخ )) وهو أفضل السابقين، ومثل هذا لايحتاج إلى الأدلة، وليس العجب إلا من ولوع الشارح بذكر الذهبي وهو أهون من أن يذكر هو. وقوله: وتأتي رواية الحديث عن عباد بن عبدالله عن علي أنه قال: "أنا عبدالله وأخو رسوله، وأنا الصديق الأكبر لايقولها بعدي إلا كذاب مفتر، ولقد صليت قبل الناس بسبع سنين " أخرجه ابن أبي شيبة وابن أبي عاصم والنسائي والحاكم والعقيلي وأبو نعيم (مساكم الله بالنعيم)، وروى أبو علي الحسن بن علي الصفار عن عباد عن عبدالله عن علي قال: "لقد صليت قبل الناس سبع سنين" انتهى من كتاب الأربعين له في الفضائل.
وروى صاحب المحيط بالإمامة عن شيخه أبي طالب ورفعه إلى علي قال: "صليت مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم سبع سنين ما يصلي معه أحد غيري وغير خديجة". وعلى قوله: ((ووارث علمه..)) الخ صفحة (351) أخرجه النسائي وأبو علي الصفار كلاهما عن ابن عباس بلفظ: ((ووارثه)) فإن كان لفظ: ((ووارث علمه)) كما أشار إليه في التفريج حيث قال: (( ووارث علمه )) من رواية الحاكم فتأمل في السر في اختيارها هنا.

(1/342)


[التعليق على قوله: عليكم بسنة الخلفاء]
وقال مولانا العلامة الحافظ شيخ العترة الحسن بن الحسين الحوثي رضي الله عنهما ونفع بعلومهما على قول المؤلف: عليكم بسنة الخلفاء. في صفح (358) في الحديثة وفي القديمة (246):
قد ثبت بالأدلة المعلومة أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أرشدنا إلى أن آل محمد صلى الله عليه وآله وسلم طريق النجاة والأمان من الضلال كأحاديث الثقلين المتواترة: ((إني تارك فيكم.. الخ )) ، ((إني مخلف فيكم..الخ )) ((أهل بيتي كسفينة نوح )) ، ((أهل بيتي كالنجوم )) وغير ذلك، وكذا ماورد في علي عليه السلام بخصوصه مثل حديث أنس: ((ألا أدلكم على ماإن تمسكتم به لن تضلوا. قالوا: بلى. قال: هذا علي بن أبي طالب فأحبوه لحبي..)) الخ. وحديث زيد بن الأرقم: ((من أحب أن يتمسك بالقضيب الذي غرسه الله فليتول علي بن أبي طالب، فإنه لن يخرجكم عن هدى ولن يدخلكم في ضلاله)). وفي رواية عنه قال: قال رسول الله: ((ألا أدلكم على ما إن تمسكتم به لن تضلوا؟ قالوا: بلى. قال: الله وليكم وعلي إمامكم )). وكذا حديث عمار: ((إذا سلك الناس وادياً إلى قوله: فعليك بوادي علي، وخل عن الناس ياعمار، إن علياً لن يدلك على ردى، ولن يخرجك عن هدى)) . وحديث حذيفة: ((لو سلك الناس جانباً وعلي جانباً لكان علي مع الحق )) إلخ. وقوله صلى الله عليه وآله وسلم: ((علي مع الحق والقرآن )) . إلخ. وقوله صلى الله عليه وآله وسلم: ((أنا المنذر وعلي الهادي بك ياعلي يهتدي المهتدون)) . ومالايمكن حصره مما أفاد العلم، فما معنى عليكم بسنة الخلفاء، هل يراد من تقدم علياً فيعارض القواطع بآحادي، كيف وقد صحح الترمذي الحديث في من علم نفاقه وهو معاوية: ((اللهم اجعله هاديا مهديا))؟؟

(1/343)


ثم كيف يأمر بما يغضب ابنته صلى اللّه عليه وآله وسلم فيغضب الله ويأمر بظلم أخيه ووصيه ووليه وخليفته ووزيره ووارثه ونفسه فتنتزعه سلطانه وتأخذ حقه وتتولى عليه وهو ولينا ومولانا وسيدنا وأميرنا ويعسوبنا وإمامنا _أعني المسلمين_، أيأمرنا ويغوينا بسنة مَنْ غَيَّر واستأثر ونفى أبا ذر؟! سبحان الله كنا نرى أن من مال وانحرف يكتفي بأن يحمل حالهم ويتمعذر لهم بما يكون الوقف هو الأولى، فإذا قد غلا
وتجاوز إلى أن يأتي بخبر يغرينا بأن نستن بسنتهم، فإنالله وإنا إليه راجعون، وإن تأولناه بأن المراد الخلفاء شرعاً وهم علي وآله سارع مولى الخبر إلى رمينا بالتعسف، لكنا نقول: ياهذا إن قبلت هذا التأويل منا انقطع النزاع، وإن أبيت قذفنا بحديثك هذا إلى وادي السباع، يرعى مع الحمير، ونتبعه بحديث عبدالملك بن عمير.
قال أبو الحسين أيده اللّه تعالى: حديث عبدالملك بن عمير هو: ((أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم )) . وقد أوضح الحفاظ بطلانه، واستوفى الكلام في ذلك السيد محمد بن إبراهيم الوزير، والسيد الإمام الحسين بن القاسم في شرح الغاية وفي حواشي كافل ابن لقمان. والله تعالى ولي التوفيق.
[الجواب على تعليله سبب انتشار فضائل الوصي]
وقال مولانا العلامة الحافظ شيخ الإسلام مجد الدين بن محمد المؤيدي أيده اللّه تعالى: قوله: وكان السبب في ذلك أنه تأخر.. الخ صفحة (367) في الحديثة وفي القديمة (252):
انظر إلى هذا التمحل الباطل لتعليل انتشار فضائل إمام الأبرار بماهو خلاف الحقيقة والواقع، فالمعلوم أن الدولتين الأموية والعباسية قامتا بإبلاغ كل الجهد في كتم فضائل الوصي وطمس مناقبه، وساعدهم المؤلفون رغبة ورهبة حتى كانوا لايستطيعون أن يذكروه باسمه، وأن هذا الكلام المتكلف والتأول المتعسف من آثار ذلك، ولكن بحمدالله خرج من بين الكاتمين ماملأ الخافقين، ويأبى الله إلا أن يتم نوره. والله تعالى ولي التوفيق.

(1/344)


[التعليق على قوله: لا يخرج على قول أهل السنة والجماعة أصلا]
وقال أبو الحسين مجد الدين بن محمد بن منصور المؤيدي أيده اللّه تعالى: قوله: لايخرج على قول أهل السنة والجماعة أصلا. في الصفح المذكور (367).
يقال: سنة مَنْ وجماعة مَنْ، ياخيبة الداعي إلامَ دعى! لما قطع عمر بن عبدالعزيز رحمه الله سنَّةَ معاوية قال له عمرو بن شعيب: السنة السنة. فقال له: قبحك الله بل البدعة. هذا هو الأصل في التسمية وإن لم يقصده المتأخرون، ولما صالح الحسن السبط معاوية سموا ذلك العام عام الجماعة، وعلى هذا الأساس المنهار سموا أنفسهم أهل السنة والجماعة، أما سنة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وجماعة الحق فهي مشتركة الدعوى بين فرق الأمة وأهل بيت النبوة الذين شهدت لهم آي التطهير والمودة والمباهلة وأخبار الكساء والثقلين والسفينة، أولى بذلك قطعاً. وبالله عليك أيها الناظر المنصف المتدبر انظر كيف يدافعون وجوه النصوص النبوية بل والآيات القرآنية ويعطفونها على قول أهل السنة والجماعة بزعمهم بمجرد الهوى والعصبية، فالمعنى فإنها وإن بلغت أي مبلغ أو دلت أي دلالة، أو أقر أئمتهم وقدوتهم في الحديث: أنه لم يرد في حق أحد ماورد في الوصي أمير المؤمنين عليه السلام. فلايتصور أو يقدر أن يخالف قول أهل السنة والجماعة كأنهم يحاشون الكتاب والسنة عن أن تخرج عما أصلوه وأسسوه على طبق سنتهم وجماعتهم، وكل ذلك مما لم يقم عليه برهان ولا أنزل الله به من سلطان، وليس في أيديهم أي دلالة لامن كتاب ولاسنة على هذا الترتيب والتأسيس في الفضل الذي هو بيد الله يؤتيه من يشاء، وإنما صنعوه من عند أنفسهم وجعلوه من أصول الدين والشريعة يضللون من خالفهم فيه ويعدونه من أهل البدع مع أن الصحابة لم يدعوا ذلك لأنفسهم، وأول من ادعى الترتيب في الفضل على حسب الترتيب في الخلافة هو معاوية، وقد أجاب عليه أمير المؤمنين بما هو معروف، أما الصحابة فلم يدعوا ذلك وحاشاهم، وقد كانوا ولاسيما عمر يقرون بتفضيل علي وسبقه وعلمه وجهاده وقرابته ومما اشتهر: ((لولا علي لهلك عمر )) .

(1/345)


وماكانوا يعتذرون عن التقدم عليه إلا بأعذار منها صغر سنه كما صرح بذلك عمر وأبو عبيدة. ومنها: نفور الكثير ممن قد وترهم بسيفه الذي قام به عمود الإسلام ونحو ذلك، ولقد كان جماعة من الصحابة السابقين يفضلون أمير المؤمنين عليه السلام علانية على جميع الأمة منهم: عمار بن ياسر، وسلمان، وأبو ذر، والمقداد، وخزيمة بن ثابت ذو الشهادتين، وكالعباس عم رسول الله، وولده عبدالله حبر الأمة، وسائر بني هاشم، وغيرهم كثير.
وقد أقر بذلك علماء الحديث ورووه عن جماعة من الصحابة كابن عبدالبر في الاستيعاب وصاحب التهذيب وغيرهما، وإن العجب كل العجب صدور مثل هذا عن أكابرهم وأقربهم إلى الإنصاف وذوي قوة الباع وسعة الإطلاع كابن حجر، هذا فكيف بأرباب الجهالة والعناد الواضح من الأتباع؟ فاعتبر واستعبر، إنا لله وإنا إليه راجعون. وانظر هذا التمحل العظيم، والتوجيه الذي هو غير مستقيم، وبحق إن هذا لشبيه بمقالة بعض الجهلة: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على مذهب الشافعي أو كما قيل، وليت شعري ماهو هذا الميزان الذي قد وزنوا به الآيات والأخبار وحرروها حتى لاتزيد ولاتنقص مثقال ذرة، فلله دره من ميزان، ماهذا الإحكام والإتقان وليتهم أبدوه وأوضحوه لتوزن به الآيات والأخبار، ولعمر الله تعالى ليس ذلك إلا ميزان الهوى والتعصب للمذهب، ونقول: تالله قسماً صادقاً يشهد له البرهان أن خبراً واحداً، إما خبر الموالاة أو خبر المنزلة دع ماسواها لم يرد في حق أحد الصحابة مايوازنه أو يقاربه فضلا عن أن يساويه ولكن الهوى يعمي ويصم.
لهوى النفوس سريرة لاتعلم …كم حار فيها عالم متكلم
والحمدلله العلي الكبير وإليه ترجع الأمور.

(1/346)


[الكلام في القضاء والقدر]
وقال أبو الحسين مجد الدين بن محمد بن منصور المؤيدي أيده اللّه تعالى: قوله: فإن من زعم أن في الأرض شيئاً لم يقدره اللَّهولم يقضه ولم يخلقه فقد زعم أن مع الله إلها آخر يقضي ويقدر، سبحان الله عما يقولون علوا كبيرا .. الخ صفحة (369) في الطبعة الحديثه وفي القديمة (253).. الخ
اعلم أيها المطلع ثبتنا الله وإياك أن هذا كلام متكلف مصطنع ليس عليه طلاوة الكلام العلوي المستمد من مشكاة النور النبوي، وآثار الوضع عليه بينة وليس له وجود في أي نسخة من نسخ المجموع، ولا له أصل في كتب العترة ولا في كتب غيرهم.
وفي حاشية لشيخنا العلامة المولى الحسن بن الحسين الحوثي رضي الله عنهما مالفظه: الله أعلم ما هو الحامل للشارح على وضع هذا، هل تقرباً إلى بعض المخالفين، أم هو يميل إلى مذهب الجبرية: مجوس هذه الأمة؟ ألا استحياء ممن يطلع عليه من علماء القطر اليماني؟! ثم لو كان له طريق إلى مثل هذه، فهلا جعلها في أثناء شرحه فإنه أوسع له من أن يغرر، فذو الوجهين لايكون وجيهاً عند الله، ياخيبتاه ويافضيحتاه وياحسرتاه، ألا يعلم أنه مع هذا تتطرق إليه التهمة في سائر ما زبر، وإن كان لايعلم وإنما وجده في نسخة غريبة فيها هذا المدسوس، فهلا أدرك ذلك بفكرته وأنه بمنأً عن مذهب آل محمد وأتباعهم من العدلية، ثم كيف إن كان هذا عذره أن يبني تأليفه على نسخة غريبة غير مأنوسة من دون أن يقابلها بنسخة معروفة، هل مرامه التأليف والتصنيف لا البناء على أساس، إن هذا لشيء عجاب، من وقف مواقف التهم فلايلومن من أساء به الظن. والله المستعان، وهذا شأن الإكباب على مؤلفات أعداء العترة بل أعداء الله، فلا بد من الوقوع في الحيرة، فويل لمن خذلهم وعاندهم، فالحذر الحذر.

(1/347)


[جواب المؤلف على أن نساء النبي لسن مرادات في آية التطهير]
قوله:إلا أنه يعكرعليه أن سياق قوله تعالى: ((إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا)) في نساء النبي صلى الله عليه وآهل وسلم وما تضمنه السياق لا يصح إخراجه من الحكم كالسبب، لأن دخوله قطعي فليتأمل صفحة (466) جديدة وقديمة (321) السطر الاسبع عشر. الخ.
كان التأمل، فظهر أن هذا وهم مركب، فالذي لايصح إخراجه هو السبب المنصوص عليه لاغير على خلاف في ذلك كما هو مشروح في الأصول، وليس في الآية نص ودلالة السياق ظنية، وفي تحويل ضمير الخطاب من المؤنث إلى المذكر تصريح بالخروج عن السياق السابق، وبعد فأخبار الكساء الناصة على أن المراد الخمسة صلوات الله عليهم وآلهم، وعلى إخراج أم سلمة رضوان الله عليها وسائر الأزواج وبالأولى غيرهن متواترة قطعية، فكيف تتعارض القواطع وذلك لايجوز قطعاً عقلاً وشرعاً، وظاهر عبارة الشارح أن السياق يدل على أنهن المرادات فقط كما قد يذهب إليه بعض أهل العناد، وهذا أبعد وأبعد فإنه صريح في رد أخبار الكساء الناصة على علي وفاطمة والحسنين عليهم السلام نصاً صريحاً معلوماً ضرورياً، ولعله أراد أن السياق يدل على إدخالهن معهم لا أنها فيهن خاصة لكن العبارة لاتفيده فليتدبر.. والله تعالى ولي التوفيق. وقال مولانا العلامة الحسن بن الحسين الحوثي رضي الله عنه في ذلك الصفح: لكنه يقال: الضمير في عنكم خطاب لجماعة الذكور ولا يدخل الإناث إلا تغليبا، ولا تغليب إلا مع قيام الدلالة على إرادة دخولهن ولادليل عليها، بل قام الدليل على إخراجهن كما صرحت به أحاديث الكساء: ((أنه قال لأم سلمة لما قالت: وأنا يارسول الله.

(1/348)


فقال صلى الله عليه وآله وسلم: مكانك إنك إلى خير إنك من أزواج النبي. وكذا قاله لعائشة ولم يدع أزواجه ولاغيرهن بل لف ثوبه على علي وفاطمة والحسنين ثم قال: اللهم إن هؤلاء أهلي وفي بعض الروايات: آل محمد. وفي بعض: أهلي وعترتي)). ولاتفسير فوق تفسيره صلى الله عليه وآله وسلم. فإنه المبين ((لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ)) ولم يبين إلا أنهم هو صلى الله عليه وآله وسلم والأربعة، وقد روي من طرق عديدة عن أبي سعيد أنها نزلت الآية في خمسة: رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وعلي وفاطمة والحسنين. رواه كثير من المحدثين، فراجع أحاديث الكساء تجد الشفاء، وأما السياق فلم لايجوز أن يقال إن الله لما توعد نساءه صلى الله عليه وآله وسلم على الفاحشة ورغبهن بتضعيف الأجر على العمل الصالح زجراً لهن وترغيباً لئلا يَلْحق محمداً صلى الله عليه وآله وسلم وصمة أو عيب فأراد الله أن يزجرهن ويهددهن لكونه يريد أن يُطَهِّر رسوله وعترة رسوله ويذهب الرجس عنهم، فلايقع منهم كبيرة ولايلحقهم عيب من أحد سيما المنافقين فإنهم حريصون على تنقيص شأنه صلى الله عليه وآله وسلم، ولذا سارعوا إلى إشاعة مارميت به عائشة إلى قوله: وأنزل الله في براءتها آيات، فبهذا المعنى وبه ينتظم ارتباط آية التطهير وماقبلها من ذكر الوعيد والوعد للزوجات، وهذا بين لمن تدبر، فكيف يعكر عليه ماذكره الشارح فتدخل الزوجات بفهمنا السقيم من الآية والسياق. ونقول: إن الله أدخلهن، وقد صح أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أخرجهن فينتظمنا قوله تعالى: ((يُرِيدُونَ أَن يُفَرِّقُواْ بَيْنَ اللّهِ وَرُسُلِهِ))

(1/349)


وهذا ما سنح للحقير، فنسأله العصمة والتيسير، والحمدلله، وليس الحامل على المناقشة في هذا الكتاب إلا لكونه شرحاً لكتاب إمام الشيعة، ولما كان الشرح منتزعاً من كتب العامة لاجرم حصل الخبط والتخليط، وقد اتسع الخرق على الراقع، والمقصود التنبيه لئلا يغتر مغتر.
انتهى نقل هذه التعليقات المفيدة الرائعة التي أعلنت الحق الصحيح وأشادته بالبرهان الصحيح، ولقد اضمحل بها ماهنالك من التحريفات والتأويلات الباطلة والخرافات العاطلة التي هي سجية المضلين والمخدوعين المنحرفين. فجزى الله هذين العالمين المؤيدين أفضل الجزاء لما قاما به من الحماية عن الإسلام والمسلمين، ولقد صدق فيهما الحديث النبوي: (( إن لله عند كل بدعة يكاد بها الإسلام ولياً من أهل بيتي..)) الحديث المشهور، والله ولي التوفيق وهو المستعان والمستعاذ به من الخذلان قال في الأم: وحرر بتاريخ 15/4/1390هـ، كتبه صلاح بن أحمد فليته، وفقه الله.
---

(1/350)


مع محمد عبده يماني في كتابه علِّموا أولادكم حب آل بيت النبي (ص)

[مقدمة المؤلف في فضائل أهل البيت عليهم السلام]
الحمدلله كما يجب لجلاله وصلاته وسلامه على رسوله وآله، اعلم أيها المطلع الكريم أن صاحب هذا الكتاب قد أفصح وصرح بالأخبار المعلومة في أهل البيت عليهم السلام التي ماكان يتجاسر على الإفصاح بها والتصريح أغلب المخالفين مع علمهم بها إما خوفاً وإما حسداً كما قال عز وجل: ((وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ)) [النمل:14]، فتراهم لايذكرون خبر الثقلين إلا بلفظ: ((كتاب الله وسنتي)) الخبر الشاذ الآحادي الذي لم يرو في شيء من الصحاح بل ذكره في الموطأ بلاغا مرسلا ورواه الحاكم من طريق واحدة وروى: ((وعترتي)) من ثلاث طرق، أما الخبر المتواتر المروي في الصحيح وسائر السنن عن بضع وعشرين صحابياً بلفظ: ((كتاب الله وعترتي أهل بيتي )) فلايذكرونه أصلا، وكذا غيره من الأخبار المعلومة لافي خطابه ولافي صحافة ولامراسلة، فلاتجد لأخبار الغدير والمنزلة والكساء والمباهلة والسفينة والنجوم ومالايحاط به كثرة عندهم عيناً ولا أثراً، وإن صدرت من أحدهم فلتة في أندر النادر أو جرت على لسانه في أقل القليل فلايذكرها ذاكر كأنه امتثال لقوله تعالى: ((قُل لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى)) [الشورى:23].
ولقوله صلى الله عليه وآله وسلم: ((أذكركم الله في أهل بيتي)) ثلاثاً كما أخرجه في خبر الثقلين بهذا اللفظ أحمد ومسلم في صحيحه وأبو داود وعبد بن حميد وغيرهم، فهذه هي الميزة التي امتاز بها هذا الكتاب من كتبهم هذه الحديثة ولأجل هذا وقع عليه هذا الإقبال لغرابة صدوره ممن صدر منه ولكنه قد دس فيه سموم حيات وعقارب

(1/351)


[جواب المؤلف على محمد عبده يماني حيث جعل قتل الحسين السبط (ع) بقضاء الله تعالى وقدره ومحبته]
منها تصريحه بالجبر كما في صفحة (157) حيث جعل قتل الحسين السبط عليه السلام بقضاء الله وقدره ومحبته الذي يجب الإيمان به والرضاء به، ويقصد بالقضاء والقدر الخلق كما هو المعلوم من مذهب المجبرة قال في هذه الصفحة (157): وليكن لنا من صدق الإيمان وأدب التفويض ما يجعلنا راضين بقضاء الله وقدره. إلى قوله: ولو شاء الله ماوقع شيء على خلاف مايحبه الله والمؤمنون.. إلى آخره، فعلى قوله هذا يجب الرضاء بما جرى من إبليس وأتباعه وبجميع أنواع الكفر بالله سبحانه ومعاصيه لأنها بقضاء الله وقدره ومشيئته ومحبته، وهذا هو عين الكفر بالله سبحانه وتعالى، فإن الرضاء بالكفر كفر والمحبة للكفر كفر قطعاً وبإجماع المسلمين والمجبرة وإن كان هذا مقتضى مذهبهم فلايتجاسرون على التصريح به هذا التصريح، وإنما نلزمهم به إلزاماً لأنه يجب الرضاء بما قدره الله ورضيه بمعنى خلقه بإجماع الأمة، وهم يقولون: إن جميع الكائنات بقضاءه وقدره. أي بخلقه وإرادته ومن ذلك جميع أنواع الكفر والفساد، تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً.
ونحن نقول: إن القضاء والقدر والمشيئة والإرادة التي ضلت المجبرة فيها بسبب جهلهم بعدل الله وحكمته وجهلهم لمعانيها في كتاب الله تعالى ولغة العرب فلها معان صحيحة في كتاب الله تعالى،

(1/352)


[بيان المؤلف أن من معاني القضاء والقدر العلم والإعلام]
فالقضاء والقدر بمعنى: العلم والإعلام كما قال تعالى: ((وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الأَرْضِ مَرَّتَيْنِ))[الإسراء:4]. وقال سبحانه: ((وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاء مَاء بِقَدَرٍ)) [المؤمنون:18]. وقوله تعالى: ((وَلَكِن يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَّا يَشَاء)) [الشورى:27] وبهذا المعنى يجب الإيمان بأن كل شيء بقضاء الله وقدره _أي بعلمه_ لأنه بكل شيء عليم، ولايجب ولايجوز الرضاء والإيمان بكل شيء قضاه وقدره _أي علمه أو أعلم به_ لأن مما علمه وأعلم به تعالى الكفر والفساد وجميع المعاصي ولايرضاه الله سبحانه وتعالى قال عز وجل: ((وَلا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ)) [الزمر:7]. ((وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الفَسَادَ)) [البقره:205]، ((وَمَا اللّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِّلْعَالَمِينَ)) [آل عمران:108]، ((يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ)) [البقره:185] وليس من اليسر أن يدخلنا في الكفر والمعاصي التي توجب النار بل من العسر، وكيف يأمرنا بالرضا بها وهو عز وجل يقول: ((وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ)) [الحجرات:7] وفرق واضح لمن عقل بين الإيمان والرضاء بالقدر والقضاء بمعنى العلم والإخبار من الله تعالى وبين الإيمان والرضاء بالمعلوم الذي هو من العباد، فالذي هو من الله يجب الإيمان به، والذي هو من العباد ماكان خيراً يجوز الرضاء به وماكان شراً لايجوز الرضاء به، والمعلوم ليس بقضاء ولاقدر، إنما هو مقضي ومقدر _أي معلوم على هذا المعنى_.

(1/353)


[بيان المؤلف أن من معاني القضاء الأمر والحكم]
ومن معاني القضاء: الأمر والحكم قال تعالى: ((وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ)) [الإسراء:23]، وقال تعالى: ((وَاللَّهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ)) [غافر:10] والمعلوم قطعاً وإجماعاً أن الفساد وجميع المعاصي ومن أقبحها قتل الحسين السبط عليه السلام لايجوز الرضاء بها ولا المحبة لها، فليست بقضاء الله تعالى وقدره _أي أمره وحكمه_.
[بحث مفيد في المشيئة]
وأما المشيئة وفي معناها الإرادة فالتحقيق الذي يقتضيه الكتاب والسنة والعدل والنقل واللغة العربية أنها على وجهين مشيئة حتم (قسر) وإجبار ومشيئة رضاء واختيار، فأما مشيئة الحتم والإجبار فما شاء الله تعالى كونه كان وهي المراد بقوله عز وجل: ((وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لآمَنَ مَن فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا)) [يونس:99] أي لو شاء أن يكرههم على الإيمان لآمنوا كلهم ولذا قال عز وجل: ((أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ)) [يونس:99] لأنه لايقدر على إكراههم جبراً وقسراً إلا الله سبحانه ولو أجبرهم لبطل التكليف ولما استحقوا الثواب ولا العقاب. وأما مشيئة الاختيار فقد شاء من العباد كلهم الإيمان ولذا رد على المشركين قولهم: ((لَوْ شَاء اللّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلاَ آبَاؤُنَا)) [الأنعام:148] وكذبهم ونفى أن يكون عندهم بذلك من سلطان، ولولا اختلاف المشيئتين لتناقض كلام الله سبحانه الذي لايأتيه الباطل من بين يديه ولامن خلفه،

(1/354)


فنقول: لو شاء أن يمنعهم جبراً وقسراً من قتل الحسين السبط عليه السلام وغيره من أنبيائه وأوليائه لمنعهم لأنه على كل شيء قدير، ولكن قضت حكمته بالتخلية في هذه الدار بين العباد وأخر الجزاء لهم إلى يوم المعاد وحاشا الله أن يشاء أويرضى أو يحب أو يريد قتل أوليائه، لأن ذلك من الظلم والفساد ((وَمَا اللّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِّلْعَالَمِينَ)) [آل عمران:108]، ((وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الفَسَادَ)) [البقره:205] وقد تضمن هذا الكتاب غير ذلك من المفاسد والدسائس لاتخفى على المستبصر، فتدبر وكن على حذر، والله ولي التوفيق والتسديد. قال: كتب المفتقر إلى الله سبحانه مجد الدين بن محمد بن منصور المؤيدي غفر الله تعالى لهم وللمؤمنين 23 من شعبان الوسيم سنة (1412 هـ) بجدة عجالة على ظهر السفر.

(1/355)


من فتاوى الإمام الحجة مجد الدين بن محمد المؤيدي أيده الله تعالى
في صلاة الجمعة
الجواب عن السؤال الأول وهو في موضوع صلاة الجمعة. فأقول والله تعالى الموفق للصواب وسلوك منهج السنة والكتاب: لاشك أن صلاة الجمعة شأنها عظيم وخطرها في الإسلام جسيم. وأن الآية في وجوب السعي إلى ذكر الله تعالى، وكذا الأخبار النبوية نصوص معلومة، ولكن حكمها حكم سائر ما افترضه الله تعالى في القرآن الحكيم من الصلاة والزكاة والصيام والحج وغيرها، مما وردت مطلقات ومجملات وعامات، وبين مجملها وقيد مطلقها وخصص عامها، وأوضح شرائطها وكيفية أدائها على لسان رسوله الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم كما قال جل جلاله: ((لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ))، ومن المعلوم المجمع عليه المسلَّم به أنه يقبل البيان للمجملات، والتقييد للمطلقات، والشروط في المشروطات، والتعيين للمحتملات ولو بأخبار الآحاد الصحيحات كما في أوقات الصلوات دخولا وخروجاً وجهة القبلة والطهارة ولزوم النية والتسمية والمضمضة والاستنشاق وأنصباء الزكاة وسقوطها في المال الذي لم يكمل فيه النصاب كالذهب والفضة مثلا مع وجوبها في الأموال بنص القرآن على العموم وغير ذلك مما لايحصر، فكيف إذا ورد البيان بنصوص الكتاب العزيز والسنة المطهرة الصحيحة الصريحة، فما بال هذا النص في الجمعة لايجوز تقييده ولاتبيينه ولاتخصيصه؟ لاشك أن ثمة هوى من البعض وعدم إمعان النظر أو الاغترار من البعض الآخر، إذا تقرر هذا.فأقول: هذا النص الظاهر القرآني بوجوب السعي إلى ذكر الله تعالى وكذا غيره من الأخبار مقيد بالنصوص القرآنية الكثيرة كقوله عز وجل: ((وَإِمَّا يُنسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلاَ تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ)) [الأنعام:28]، فحرم سبحانه القعود مع الظالمين تحريماً عاماً مطلقاً فلايخص إلا بدليل صحيح واضح، فهنا عمومان يمكن تخصيص كل منهما بالآخر فيرجع إلى

(1/356)


الترجيح فآية النهي وغيرها من الآيات الآتية تقتضي الحضر والتحريم والعمل بالحاضر أرجح بالإتفاق والآيات القاضية بالتحريم مع ذلك، والأخبار أكثر وأقوى وأصرح فهي أرجح، أما إذا خاض الخطيب أو الإمام أو غيرهما فيما لايجوز كمدح الظلمة كما لايخلو في الغالب والدعاء لهم وكالجبر والتشبيه أحياناً فالذنب أعظم وأطم. وقد قال تعالى: ((وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللّهِ يُكَفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلاَ تَقْعُدُواْ مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُواْ فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِّثْلُهُمْ)) [النساء:129] ومفهوم قوله: ((حَتَّى يَخُوضُواْ فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ)) مقيد بالتوبة للآية الأولى وغيرها أو يكون القعود للتبليغ أو نحوه، هذا والله تعالى يقول في الآية نفسها: ((فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ)) ولم يقل إلى معصية الله تعالى وسبه بنسبة القبائح إليه والكذب عليه والمدح لأعدائه وقد ورد: ((إذا مدح الظالم اهتز عرش الله)) أو كما قال وفي الخبر الصحيح: ((لايحل لعين ترى الله يعصى فتطرف حتى تغير أو تنتقل)) وفي بعض: أو تنصرف. وأيضاً في الحضور مع الظلمة إظهار المودة لهم والتولي والمعاونة لهم على طغيانهم والركون إليهم، هذا معلوم لاريب فيه، ولذا تراهم يحرصون على حضور جمعهم ويعاقبون على التخلف عنها والله عز وجل يقول: ((لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءهُمْ أَوْ أَبْنَاءهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُم بِرُوحٍ مِّنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُوْلَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ

(1/357)


الْمُفْلِحُونَ)) آخر آية المجادلة. ويقول تعالى: ((وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ)) [المائده:51] الآيات. ويقول تعالى: ((وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ)) [المائدة:2]، ويقول جل وعلا: ((وَلاَ تَرْكَنُواْ إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُم مِّن دُونِ اللّهِ مِنْ أَوْلِيَاء ثُمَّ لاَ تُنصَرُونَ)) [هود:113]، والركون: هو الميل اليسير، وقد قال تعالى: ((لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ)) [البقره:124]، ولو أوجب الحضور معهم مع مافيه من الميل إليهم وتقوية سلطانهم لكان من العهد.
وأما السنة فكثير كقوله صلى الله عليه وآله وسلم: ((لايؤمنكم ذو خزبة في دينه)) . أخرجه في أمالي أحمد بن عيسى عليهما السلام إلى أمير المؤمنين عليه السلام والهادي إلى الحق والمؤيد بالله وأبو طالب وأحمد بن سليمان عليهم السلام وهو في الجامع الكافي، والخزبة: شبه الخدش وهو النقص. وقوله صلى الله عليه وآله وسلم: ((لايؤمن مؤمناً فاجر ولايصل مؤمن خلف فاجر)) أخرجه في أمالي الإمام أحمد بن عيسى عليهما السلام وهو في الجامع الكافي وأصول الأحكام .
وقوله صلى الله عليه وآله وسلم: ((لايؤمن فاجر مؤمناً إلا أن يخاف سيفه أو سوطه)) . أخرجه المؤيد بالله وقال: في ذلك تصريح بالنهي عن الصلاة خلف الفاجر والنهي يقتضي فساد المنهي عنه على أنه إجماع أهل البيت عليهم السلام ولا أعلم فيه منهم خلافاً. انتهى كلامه عليه السلام.

(1/358)


وقوله صلى الله عليه وآله وسلم: ((لايؤمن فاجر مؤمناً)) رواه ابن حجر في بلوغ المرام. وقوله صلى الله عليه وآله وسلم: ((إن سركم أن تقبل صلواتكم فقدموا خياركم فإنهم وفدكم فيما بينكم وبين ربكم)) رواه الحاكم، وهذا هو إجماع أهل البيت عليهم السلام رواه أئمتهم الثقات الأثبات، فلايضر خلاف بعض المتأخرين لسبق إجماع سلفهم، وإن حملوا على السلامة لعدم تعمدهم لمخالفة الإجماع، وللشبهة.
ومن نصوص أعلامهم قول إمام الأئمة زيد بن علي عليهما السلام: ((لاتصل خلف الحرورية (الخوارج) ولا خلف المرجئة ولا القدرية ولامن نصب لآل محمد حرباً )) . وقوله عليه السلام: ((ليس يجب عليك السعي إلى أئمة الفسقة إنما يجب عليك السعي إلى أئمة الهدى)) .
وقال الإمام المؤيد بالله عليه السلام: فإن قيل من أين قلتم إن السلطان الظالم لاتصح معه الجمعة؟ قال: قيل له: لقوله تعالى: ((وَلاَ تَرْكَنُواْ إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ)) [هود:113] ولاركون في باب الدين أوكد من أن تعلق بهم صلوة الجمعة، وروى محمد بن منصور بإسناده إلى إبراهيم بن عبدالله بن الحسن أنه سئل عن الجمعة هل تجوز مع الإمام الجائر؟ فقال: إن علي بن الحسين وكان سيد أهل البيت كان لايعتد بها معهم وهو مذهب جميع أهل البيت فيما عرفته، ومذهبنا أن إجماعهم حجة. انتهى كلامه عليه السلام.وقال الإمام القاسم بن محمد عليهما السلام في الجزء الثاني من الاعتصام: ولايقتدي بأئمة الجور أحد من المؤمنين ولايكونون لهم أئمة لقوله تعالى: ((وَلاَ تَرْكَنُواْ إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ)) وقوله صلى الله عليه وآله وسلم: ((ولايؤمن فاجر مؤمناً..)) إلى آخره. ومن المعلوم أنه لايجوز الإنكار على من تابع أحداً من أئمة الهدى فكيف من تابع إجماعهم، وللمخالفين شبه واهية وردودات غير واضحة منها التمسك بآية النداء، وقد سبق القول بما فيه الكفاية لمن أنصف.

(1/359)


ومنها: حديث: ((وله إمام عادل أو جائر)) وقد ضعفت هذه الزيادة وتأولها الأئمة بأن المعنى جائر في الباطن، وفائدته: أن على المسلمين أن يعملوا بظاهر العدالة وليس عليهم أن يتكلفوا معرفة الباطن، وأنه إن كان الإمام غير عادل في الباطن فلاحرج عليهم مهما كان ظاهره العدالة وأن العصمة غير شرط في الأئمة، وفيه رد على من اشترطها كالإمامية، وهذه فوائد عظيمة وتأوله الإمام القاسم عليه السلام في الاعتصام بتأويل حسن خلاصته: أن اللام تفيد الاختصاص، فالجائر ليس بإمام للمؤمن، فليس له بإمام وإنما يعاقب من ائتم به، فلايدخل المؤمن في الوعيد بتركها مع الجائر.
قلت: وأيضاً في الخبر: ((من تركها استخفافاً وجحوداً)). وفي بعض: ((من غير عذر)). فتاركها مع الإمام الجائر ليس مستخفاً بها ولاجاحداً لحقها مع أن هذا الخبر لايقوى على معارضة الأدلة من الآيات والأخبار المفيدة للمنع، وإجماع أهل البيت ومن شبههم حضور بعض السلف لجمع الظلمة ولاحجة في ذلك لأنه للتقية وخشية السيف والسوط أو لخشية افتراق كلمة المسلمين وغلبة أهل الكفر. وقد تخلف أمير المؤمنين عليه السلام ستة أشهر كما رواه البخاري ومسلم وغيرهما ثم طلب مصالحة أبي بكر كما في روايتهما وفي روايتيهما أن ذلك لانصراف وجوه الناس بعد موت فاطمة عليها السلام، وعندنا أن ذلك لإشفاقه على الإسلام كما قال: ((فأمسكت يدي حتى رأيت راجعة الإسلام رجعت فخشيت أن أرى في الإسلام ثلماً هو أعظم علي من فوت ولايتكم هذه)) . أو كما قال. وقد أكثر المخالفون في ذلك الإرهاب والتهويل، والمعتمد الدليل والله سبحانه الهادي إلى خير سبيل، وهذا الشرط وهو أن لايقيمها الظالم أو من ينتمي إليه وأن لايقترن بها معصية هو الذي وقع الكلام فيه، وبقية الشروط ماثبت بدليل واضح فهو صحيح ومالا فلا، والتفصيل يوجب التطويل ولايسع الحال.

(1/360)


ومما لم يتضح عليه دليل اشتراط أن يدرك المصلي قدر آية من الخطبة لصحة الجمعة لقيام الخطبتين مقام ركعتين، وهذا من كلام عمر ولاحجة فيه، والمختار ماذهب إليه بعض أئمة الهدى منهم إمام الأئمة زيد بن علي والإمام المؤيد بالله والإمام المنصور بالله عبدالله بن حمزة والإمام القاسم بن محمد وولده الإمام المؤيد بالله محمد بن القاسم عليهم السلام وقد أجاب الإمام المنصور بالله عبدالله بن حمزة على جعلهم الخطبتين بمثابة ركعتين لأنه لايستقيم على أصولهم إذ قد أوجبوها على المسافر _أي: النازل وسامع النداء_، ولأنها لو كانت بمثابة ركعتين لكان من لم يستمع الأولى يصلي ثلاثاً وإجماعهم على خلافه، قال الإمام المؤيد بالله محمد بن القاسم: ويلزمهم أيضاً ألا يتولاهما ـ أي: الخطبتين ـ والصلاة إلا شخص واحد كالصلاة وهم لايشترطونه انتهى. والأخبار واردة: ((أن من أدرك ركعة من الصلاة فقد أدرك الصلاة)). وهذا عام في الجمعة وغيرها مع أن في بعض الروايات: (( من أدرك من صلاة الجمعة ركعة فقد أدرك )) وعلى الجملة فلا تسقط فريضة الجمعة المقطوع بها بلا دليل والله تعالى ولي التوفيق. قلت: وهذا هو المختار المعمول به عندي وكذا غيرها من الشروط التي لم يقم عليها دليل واضح، فلا معنى لاسقاط هذه الفريضة المؤكدة المعلومة في القرآن بشروط لم ينزل الله بها من سلطان والله المستعان.

(1/361)


الهجرة
هذا وأما قولكم: وفي بلاد الكفر. فقد أشرت إشارة عابرة إلى وجوب الهجرة بنحو قوله تعالى: ((وَإِمَّا يُنسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلاَ تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ)) وقوله صلى الله عليه وآله وسلم: ((لا يحل لعين ترى الله يعصى فتطرف حتى تغير أو تنتقل واعلم أن دار الكفر هي مالا تظهر فيها الشهادتان إلا بجوار أو بأن تظهر فيها خصلة كفرية من غير جوار وإن ظهرت فيها الشهادتان من غير جوار هذا كلام أهل المذهب، وعند الإمام المؤيد بالله وأبي حنيفة أن الحكم لظهور الشهادتين في البلد من غير جوار فتكون دار الإسلام وإن ظهرت فيها الخصلة الكفرية من غير جوار، والمختار كلام الإمام المنصور بالله عليه السلام: أن الإعتبار بالشوكة، والدليل على ذلك أن مكة المكرمة صارت دار إسلام بعد الفتح وكان فيها كثير ممن يظهر الكفر بغير جوار. إذا عرفت هذا فقد نص أعلام أئمتنا كالقاسم والهادي والناصر عليهم السلام أنها تجب الهجرة عن دار الكفر وعن دار الفسق وهي ماظهر فيها ما يوجب الفسق من دون أن يتمكن المسلمون من إنكار المنكر بالفعل. قال المنصور بالله: وهو الظاهر من مذهب أهل البيت عليهم السلام. قال في اللمع: وإلا فسق بالإقامة لقوله تعالى: ((فَلاَ تَقْعُدُواْ مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُواْ فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِّثْلُهُمْ)) ولهذه العلة يكفر من ساكن الكفار عند القاسم والهادي. قال المنصور بالله: وإن لم يستحل الوقوف معهم لأنه أظهر على نفسه الكفر. قال في مهذبه: وكان وقوفه معهم أكثر من سنة وتجب الهجرة إلى خلي عما هاجر لأجله، فإن لم يجد خاليا وجب عليه أن يهاجر إلى ما فيه دون ما هاجر لأجله، ويجب عليه أن يهاجر بنفسه وأهله إلا لمصلحة دينية كإرشاد بعض أهلها أو مرض أو حبس أو خوف سبيل. والأدلة على وجوب الهجرة معلومة وهو قوله تعالى: ((إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلآئِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ

(1/362)


قَالُواْ فِيمَ كُنتُمْ قَالُواْ كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالْوَاْ أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُواْ فِيهَا فَأُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءتْ مَصِيرًا (97) إِلاَّ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاء وَالْوِلْدَانِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلاَ يَهْتَدُونَ سَبِيلاً (98) فَأُوْلَئِكَ عَسَى اللّهُ أَن يَعْفُوَ عَنْهُمْ)) [النساء:97-99] وقال تعالى: ((وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يُهَاجِرُواْ مَا لَكُم مِّن وَلاَيَتِهِم مِّن شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُواْ)) [الأنفال:72] وعنه صلى الله عليه وآله وسلم: ((عليك بالهجرة فإنه لا مثل لها حتى تنقطع التوبة، ولا تنقطع التوبة حتى تطلع الشمس من مغربها)) وفي شرح الأساس المسمى بعدة الأكياس: وروى السيوطي في الجامع الكبير عنه صلى الله عليه وآله وسلم: ((لا تنقطع الهجرة ما قوتل الكفار)) أخرجه أحمد والطبراني وابن منده والبيهقي عن عبدالله بن السعدي، وروى أيضا: ((لا تنقطع الهجرة ما تقبلت التوبة، ولا تزال التوبة مقبولة حتى تطلع الشمس من المغرب، ختم على كل قلب وكفي الناس العمل))، قال: أخرجه ابن عساكر عن عبد الرحمن بن عوف ومعاوية بن عمر، وما روى عن عبدالله بن السعدي، قال: قال: رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ((لا تنقطع الهجرة ما قوتل العدو)) قال الإمام المنصور بالله القاسم بن محمد عليهما السلام: وهذا لا شك في صحتهلموافقته الكتاب العزيز من نحو قوله تعالى: ((مَا لَكُم مِّن وَلاَيَتِهِم مِّن شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُواْ)) والعدو يعم الكفار وأهل الطغيان والبغاة والمنافقين. انتهى من أنوار التمام هذا الذي أمكن إيراده.

(1/363)


قال الإمام القاسم عليه السلام: فاعلم أنه إن حمل على فعل المعصية وجبت عليه الهجرة إجماعا بين علماء الإسلام كافة، وكذلك مع أمر الإمام بالهجرة فتجب إجماعا، ومن جملة المعاصي الموجبة للهجرة إعانة الظالمين سلاطين الجور بالغارة معهم وتسليم المال إليهم بالقسر أو الرضى، فإذا حصل مع شخص أحدها أو خاف صدور ذلك منه وجب عليه الإنتقال لقوله تعالى: ((فَلاَ تَقْعُدُواْ مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُواْ فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِّثْلُهُمْ إِنَّ اللّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا)) [النساء:140] قال في أنوار التمام: وقد تقدم ما يقتضي حظر المساكنة للظلمة بالآيات الصريحة والسنة الصحيحة، قال: وقد روى الهادي عليه السلام في الأحكام عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: ((المعين للظالمين كالمعين لفرعون على موسى صلى الله عليه وسلم)) وأخرج الطبراني في الكبير عن معاذ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ((ثلاث من فعلهن فقد أجرم، من عقد لواءً في غير حق، أو عق والديه، أو مشى مع ظالم لينصره)) قال تعالى: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ بِطَانَةً مِّن دُونِكُمْ لاَ يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً)) انتهى. هذا ما تيسر إيراده، وقد استوفيت الكلام في هذا وغيره في مجمع الفوائد، والله تعالى ولي التوفيق والهداية إلى أقوم طريق.

(1/364)


في الثوب الذي يغطي الكعبين:
والجواب عن السؤال الثاني وهو عن الثوب الذي يغطي الكعبين أنهم نصوا في الجزء الثالث من شرح الأزهار في صفحة (109) في الحاشية بقولهم: فرع والسنة في الإزار والقميص أن يكون إلى نصف الساق ولابأس بالزيادة إلى ظهر القدم، ذكره في الأحكام، وما زاد عنه فهو منهي عنه، إلا في حال الصلاة فيجوز ويكره إلى الأرض، ذكره أصحاب الشافعي. انتهى من البيان. هذا كلامهم نقلته لأن في السؤال عنهم خلافه، فينظر أين ذكروا أن الصلاة غير مقبولة، والمختار الكراهة للتنزيه إن نزل إلى تحت الكعب مطلقاً _أي في الصلاة وغيرها_، والتحريم إن صحبه الخيلاء لتقييده به في بعض الأخبار ويحمل المطلق على المقيد.
فيما يقال في سجود التلاوة
والجواب عن السؤال الثالث وهو فيما يقال في سجود التلاوة زيادة على ماذكرتم فقد روي عنه صلى الله عليه وآله وسلم أنه كان يقول: (( اللهم لك سجدت، ولك اسلمت، وبك آمنت، وعليك توكلت، سجد وجهي للذي خلقه وصوره وشق سمعه وبصره بحوله وقوته تبارك الله أحسن الخالقين، اللهم اكتب لي بها أجرا، واجعلها لي عندك ذخرا، وضع عني بها وزرا، واقبلها مني كما قبلتها من عبدك داود)) رواه في شرح البحر، ويكبر للإفتتاح وللسجود وإن زاد أو نقص في الدعاء فلاحرج، وعند أهل المذهب أنه يسبح فيها بتسبيح الصلاة، وعندهم أنه يكون بصفة المصلي في الوضوء والطهارة، وعند الإمام أبي طالب والمنصور بالله عليهما السلام أنه لايشترط، وهو الراجح لأنها ليست بصلاة، ولم يرو في ذلك شيء، وعندهم أنها لاتصح في صلاة الفريضة وتصح في النافلة، والمختار أنها تصح مطلقاً، ولو كانت تقتضي الفساد لأفسدت في النافلة، وقد صحت في الفريضة في أخبار صحيحة منها عن أمير المؤمنين عليه السلام.

(1/365)


في زكاة المستغلات
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمدلله وحده، والصلاة والسلام على محمد الأمين وآله الطاهرين.
هذا سؤال لفظه: سؤال لكافة العلماء الأعلام خصوصاً سيدي العلامة المجتهد المطلق مجد الدين بن محمد بن منصور المؤيدي حفظكم الله وأبقاكم ماتقول في الدكاكين المستغلة وغيرها، هل تلزم فيها الزكاة؟ ومادليل من أوجب الزكاة فيها؟ وأين الصحيح عندكم لنعتمد عليه؟ أفيدونا كثر الله في العلماء من أمثالكم، فتقليد الحي أولى من الميت، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته حرر صفر 13/1393 هـ.
السائل محمد يحيى لطف شاكر
فكان الجواب بما لفظه:
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمدلله رب العالمين والصلاة والسلام على سيد المرسلين وآله الطاهرين، وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته. الجواب والله الموفق إلى منهج الصواب: إن الزكاة في المستغلات كالدكاكين التي للكرى وغيرها تلزم عند الإمام الهادي إلى الحق عليه السلام، وقد استدل له بعموم قوله تعالى: ((خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً)) الآية قال في البحر: قلنا: مخصص بقوله ((ليس على المسلم صدقة)). قال في التخريج: وعن أبي هريرة ((ليس على المسلم صدقة في عبده ولافي فرسه)) وفي رواية: أنه قال: ((ليس على العبد صدقة إلا صدقة الفطر)) أخرجه البخاري ومسلم وللباقين نحو الأولى. قلت: وهذا الاستدلال قاصر فالإمام الهادي إلى الحق عليه السلام لاينكر التخصيص وإنما هو يقول لم يخص إلا مالم يرد به تجارة كما هو لفظ الخبر الآتي، والمستغلات ملحقة بما يراد به التجارة، وهذا صريح كلامه في الأحكام.

(1/366)


قال عليه السلام: عفا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن الإبل العوامل تكون في المصر إلى قوله: وعفا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن الدور والخدم والكسوة والخيل، قال يحيى بن الحسين عليه السلام: وإنما عفا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن ذلك إذا لم يكن صاحبه اتخذه للتجارة ولا اشتراه لطلب ربح، فأما إن كان اشترى شيئا من ذلك كله أو من غيره إلى قوله: لطلب ربح واستغل فيه المال للتجارة، فعلى من أراد به ذلك الزكاة يزكيه على قدر ثمنه إذا كان ثمنه مما يجب في مثله الزكاة.. إلخ كلامه عليه السلام. وقد احتج للإمام الهادي إلى الحق المؤيد بالله عليهما السلام في شرح التجريد بقوله: ومن جهة النظر أن مال التجارة إذا وجبت فيه الزكاة وجبت في المستغل قياساً عليه، والمعنى أن كل واحد منهما مال يبتغى به النماء بالتصرف فيه.. الخ، فهذا هو الاستدلال الواضح، هذا وقال الأكثر وهو المختار لاتجب الزكاة في المستغلات لما سبق، ولما رواه الإمام الأعظم زيد بن علي بن
الحسين بن علي عليهم السلام عفا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن الإبل العوامل تكون في المصر إلى قوله: وعن الدور والخدم والخيل والحمير والبراذين والكسوة والياقوت والزمرد مالم ترد به تجارة، وقد سبقت رواية الإمام الهادي إلى الحق عليه السلام لبعضه، والأخبار في هذا كثيرة صريحة صحيحة والآية ونحوها مجملة كقوله تعالى: ((أَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاة)) من المجملات المحتملات، وما أحسن مانقله الإمام المهدي في البحر عن الإمام يحيى عليهما السلام واستقواه: أن الأوامر القرآنية صريحة في الطلب محتملة في الوجوب مجملة في التفصيل. حكاه في الروض وإلحاقها بأموال التجارة غير متضح. والله تعالى ولي التوفيق والهداية إلى أقوم طريق.

(1/367)


في مسائل الطلاق
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمدلله كما يجب لجلاله وصلواته وسلامه على سيدنا محمد وآله، وبعد فقد كان الإطلاع على السؤال المؤرخ سادس وعشرين/2/1388هـ.
والجواب والله الهادي إلى منهج الصواب: أن مراقبة الله سبحانه ومعاملته هي العمدة وعليها المدار في الأمر كله فهو عز وجل علام الغيوب والمطلع على ضمائر القلوب يعلم خائنة الأعين وماتخفي الصدور، وفي الأخبار النبوية: ((إنما الأعمال بالنية )) أخرجه الستة سوى مالك، و ((لاقول ولاعمل إلابنية ولاقول ولاعمل ولانية إلا بإصابة السنة)) أخرجه الإمام الناصر والإمام المؤيد بالله وأبو طالب وأبو العباس من طريق جعفر بن محمد عن آبائه رضوان الله عليهم، فاعتبار النية في جميع الألفاظ الصريح منها والكناية هو الحق، وهو قول كثير من الأئمة رضي الله عنهم منهم الباقر والصادق والناصر ومالك وأحمد. وما أحسن كلام بعض العلماء حيث قال: والله سبحانه ذكر الطلاق ولم يعين لفظاً. فعلم أنه رد الناس إلى مايتعارفونه طلاقاً، فأي لفظ جرى عرفهم وقع به الطلاق مع النية والألفاظ التي لاتراد بعينها، بل للدلالة على مقاصد لافظها، فإذا تكلم بلفظ دال على معنى وقصد به ذلك المعنى ترتب عليه حكمه، ولهذا يقع الطلاق من العجمي والتركي والهندي بألسنتهم، بل لو طلق أحدهم بصريح الطلاق بالعربية ولم يفهم معناه لم يقع به شيء قطعاً.

(1/368)


وقد دل حديث كعب بن مالك على أن الطلاق لايقع بهذا اللفظ وأمثاله إلا بالنية وأشار بذلك إلى قوله: ((إلحقي بأهلك )) . قال: والصواب أن ذلك جار في سائر الألفاظ صريحها وكنايتها حتى قال: وتقسيم الألفاظ إلى صريح وكناية وإن كان تقسيماً صحيحاً في أصل الوضع لكن تختلف باختلاف الأشخاص والأزمنة والأمكنة، فليس حكماً ثابتاً للفظ ذاته فرب لفظ صريح عند قوم كناية عند آخرين.. إلى آخره.
إذا عرفت ذلك فهذا اللفظ الذي ذكره السائل وهو قول: اعتبري نفسك مطلقة. بحسب الظاهر أمرٌ لها باعتبار نفسها كذلك، واعتبار نفسها مطلقة ليس بصريح طلاق وإنما هو بمعنى افرضي أو قدري أو احسبي أو اجعلي، وغاية مافيه أنه يحتمل أن يقصد بذلك إيقاع الطلاق أو الإقرار به وإن لم يكن موضوعاً له، وقد أقسم السائل بالله أنه لم ينو طلاقاً. ولم يزد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على تحليف ركانة في خبره المعروف في الطلاق، ولايعرف قصده ونيته إلا من جهته، وبناء على ماقرره السائل وعَبَّر به عن قصده وأكده باليمين فلم يقع بذلك طلاق فالمرأة باقية في عقد نكاحه لايجوز لها الامتناع منه ولايجوز لأحد أن يمنعها منه، هذا هو الذي يقضي به الشرع الشريف، ولم نبحث عن السنة والبدعة في هذا لعدم لزومه هنا حيث لم يتقرر وقوع شيء. والله تعالى ولي التوفيق.
حرر 29/2/1388هـ
المفتقر إلى الله تعالى مجد الدين بن محمد بن منصور المؤيدي وفقه الله تعالى.

(1/369)


الجواب على مسألة العملة الورقية
بسم اللّه الرحمن الرحيم
وصلى اللّه على محمد الأمين وعلى آله الطاهرين، ورد إلينا سؤال حاصله: هل تجب الزكاة في العملة الورقية؟. والجواب والله الهادي إلى الصواب:
أن العملة الورقية إن كان المقصود بها عند التملك لها التجارة فلا إشكال في وجوب الزكاة فيها كسائر أموال التجارة، وإن لم يكن المقصود بها إلا القنية للحاجة إن عرضت كالتزويج والنفقة وغير ذلك فهذا محط النظر. والمختار أنها إن لم يقصد بها التجارة عند التملك لها بالاختيار فلاتجب فيها الزكاة كسائر العروض من البنادق والسيوف والأسلحة والسيارات الثمينة والدور والرقيق وغير ذلك مما عفا عنه الرسول صلى اللّه عليه وآله وسلم. وقد بلغ عن بعض العلماء إيجاب الزكاة فيها تحرياً وتشدداً في الإيجاب على الناس وهو عكس التحري الواجب، قال اللّه تعالى: ((يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ)) والرسول صلى اللّه عليه وآله وسلم يقول: ((يسروا ولاتعسروا))، وقال أمير المؤمنين عليه السلام: :"لأن أخطيء في العفو أحب إلي من أن أخطيء في العقوبة".

(1/370)


وأما كون العملة لها مقابل من الذهب والفضة فليس ذلك يقتضي تمليك من هي في يده للذهب والفضة. وأما قياسها على النقود فغير صحيح لعدم ثبوت العلة بطريق صحيحة. فأما العلل الشبهية والدوران ونحو ذلك، فالمختار أنها غير معتمدة وأنه لايثبت القياس إلا بالنص على العلة مع استكمال شروطها المعلومة في الأصول. وأما التعلل بجعلها للتجارة بكونها لاينتفع بها إلا بالبيع لها فغير صحيح، لأن ذلك لايوجب كونها للتجارة لاشرعاً ولالغة ولاعرفاً، وكثير من الأراضي والدور والحبوب لاينتفع بها صاحبها إلا إذا بيعت على أنه قد يمكن الانتفاع بها بالتجمل والاحتراس بها للحاجة وإظهار الغنى، وعلى الجملة ليس المناط في إيجاب الزكاة صحة الانتفاع بها أو عدمه وقد يتعامل بما لاتجب فيه الزكاة قطعاً كالحبوب ونحوها، وقد كان الناس لاسيما الزراع قبل وجود الورق ومع قلة النقود معهم يأخذون حاجاتهم بالحبوب، ولم يقل أحد من العلماء إن الحب الذي يخزنونه لشراء حاجاتهم صار للتجارة أصلاً، فهو إجماع منهم أنه لايصير الشيء المعد للحاجة متى عرضت للتجارة مالم يقصد به التجارة عند الملك.
وإيجاب مالم يوجبه الشرع لايجوز قال تعالى: ((وَلاَ تَقُولُواْ لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلاَلٌ وَهَذَا حَرَامٌ)) الآية، ولقد قلت لبعض المتشددين: ألستم اشتريتم أراضي لتغرسوها أشجاراً لبيع ثمارها وكذلك تشترون الأشجار لغرسها وبيع ثمارها، وذلك كله يوجب كون تلك الأراضي والأشجار للتجارة فيجب تقويمها وتزكيتها في كل حول وأنتم لاتزكونها، وهذا أظهر في وجوب الزكاة من ورق العملة التي هي للقنية ولم يرد بها تجارة. وهذا واضح، والله تعالى ولي التوفيق.

(1/371)


في الشركة العرفية
بسم الله الرحمن الرحيم
وبعد فالشركة العرفية تقتضي المساواة بين المشتركين فيما كسبوه بالسعي، ولايفضل أحد من السعاة باعتبار زيادة عمله أو تعبه أو حظه لأن دخوله في هذه الشركة التي العرف الجاري فيها المساواة رضاً منه بالاستواء فهو كالعقد، وقد قال تعالى: ((أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ)) [المائدة:1] ولأنه يتعذر معرفة مقدار ما يستحقه من الزيادة المفروضة ولاموجب للتقدير مع رضاهم بالمشاركة التي مقتضاها المساواة عرفاً، والعدل الذي يظن في التفضيل لمن يقدر أن له زيادة في الكسب معارض بالجور المحقق على إخوانه المشاركين له الذين قد استحقوا المشاركة في الجميع بمقتضى الشركة، ولأن فتح باب المفاضلة يؤدي إلى المشاجرة والمنازعة بلاريب، ولو كان مبنى هذه الشركة على ذلك لكانت ممنوعة شرعاً لهذه المفسدة التي قد منع الشرع المعاملة المؤدية إلى ذلك، ولأن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم قد منع التفضيل لمن له عمل في الكسب وزيادة ظاهرة بمواظبته على السوق، ولم يفضل أيضاً المواظب على المسجد باعتبار أن أخاه إنما رزق بمواظبته على المسجد، بل اعتبر الشركة فساوى بينهما، ولاوجه لدعوى الخصوصية ولو كان لها لأوضحه إذ هو في مقام البيان كما أوضح صلى الله عليه وآله وسلم الخصوصية للمضحي.
وأما صاحب الكفارة في الصيام التي صرفها فيه فليس للخصوصية بل لبيان أنها ليست بواجبة كما هو رأي أصحابنا، ويحتمل أنه صرفها فيه بعد أن قبضها صلى الله عليه وآله وسلم أو أنه أعطاه إياها لحاجته الماسة وتبقى الكفارة عليه، وهذان الوجهان الأخيران هما العمدة في قصة المظاهر فلم تظهر الخصوصية وهذا نص في محل النزاع أي قصة الأخوين فعدم المفاضلة بين المشتركين هو الذي قضى به الدليل وقرره الأئمة الأعلام وجرى به العرف بين السلف والخلف.

(1/372)


قال الإمام شرف الدين عليه السلام: إن مثل هذه تكون شركة أبدان. إلى قوله: ولو كان عمل بعضهم أكثر من بعض لأن من عمله أكثر قد رضي بمشاركةمن عمله أقل، والعرف جارٍ بالاستواء.
وفي ضوء النهار: إذا دخل الشركاء في الشركة.. إلى قوله: في الوجوه والأبدان على الرؤوس على ذلك جرى العرف إلى آخره.
وفي حاشية شرح الأزهار من الشركة صفح (361): ماجرى به العرف وبه الفتوى وعليه العمل أن ما كسبه أحد الشركاء لنفسه يكون للجميع وعلى الجميع أهـ. إملاء سيدنا حسن الشبيبي رحمه الله قرر.
ومن جواب المتوكل على الله اسماعيل بن الإمام القاسم عليهما السلام مالفظه: لايستقل المشتري والحال ماذكر بشيء مما شرى وإن خص نفسه بالإضافة من بيع وشراء وغير ذلك مما مداره على الأعمال والتصرفات بالكسب والفلاحة بل يكون للجميع وعلى الجميع كما تقتضيه الشركة، ولايعتبر هنا عقد بل يجري بالتراضي بها مجراه، إذ لاينضد العدل الذي أمر الله به في مثل هذا إلا بذلك لعدم تيقن مقدار عمل كل عامل وللحديث النبوي: ((إنما كنت رزقت بمواظبة أخيك على المسجد)).
وإنما يستقل بما استقل بسبب لامن قبل الفلاحة والكسب كمهر وأرش جناية. انتهى.

(1/373)


قلت: أو هبة أو ميراث أو نحو ذلك مما ليس داخلا في عمل الكسب. نعم وتتميماً للفائدة وإن لم يكن محل الكلام المسئول عنه أنه إن كان للشركاء تركة مخلفة وكان لها أثر في إعانتهم على الكسب فلها نصيبها بما قرره عدلان أنها تستحقه، ويقسم ذلك مع أصل التركة على جميع الورثة كبير وصغير ذكر وأنثى عامل في الشركة وغير عامل. أما المكتسب غير نصيب التركة المذكورة فلايشترك فيه إلا العاملون البالغون، أما من لم يكن بالغاً فلايشارك العاملين البالغين إلا من تاريخ بلوغه إن شاركهم في الكسب، لأن الشركة هذه مبناها على التراضي ولايصح من الصغير وعلى العرف وهو كذلك فإن ألزموا الصغار بعمل لمثله أجره استحقوا أجرة المثل. وكذا النساء حكمهن هذا فلايشاركن العاملين إلا أن يجري عرف بمشاركتهن دخلن في الشركة ولو لم يكن إلا في عمل البيت، وقد بسط الأطراف في الشركة العرفية واستوفاها والدنا الإمام المهدي الأخير محمد بن القاسم الحوثي رضي الله عنهم في جواباته على الأسئلة الضحيانية قال فيها: فالشركة العرفية عندهم معناها التكافؤ في الأعمال، بحيث يسد كل واحد من الشركاء في نوع من العمل تتم المصلحة بالمجموع، سواء استوى محصولهم أو اختلف وسواء كانوا أخوة أو غيرهم، فمرجعها عندهم إلى شركة الأبدان، لكنها لاتفتقر إلى عقد، إذ الجري عليها رضاً بالتساوي في المستفاد. وقاعدتهم أن العرف الجاري كالشرط المنطوق به، والعرف باب من أبواب الشرع معمول به مالم يصادم نصاً ولانص هنا، وما استحسنه المسلمون فهو عند الله حسن، فلهذا قالوا يستوون في الربح والخسران. وللمتوكل على الله إسماعيل بن القاسم عليهما السلام في هذا كلام جيد يؤيد ماذكرناه، وعلله بأن التساوي هو العدل المأمور به، واستدل عليه بقوله صلى الله عليه وآله وسلم: ((إنما رزقت بمواظبة أخيك على المسجد)) إلى آخر كلامه.

(1/374)


نعم وماذكرتم من القسمة بين المذكورين فلعله كان لمن فَضَّله دخل من غير طريق الكسب كما هو الظاهر، أو أن له سعياً من قبل بلوغ أخوته، والمسألة اجتهادية، وإنما القصد التنبيه على ماهو الصواب، وماذكرتم من التفضيل في العادة وأنه لم يجعل المستكثر فيها كمن التزم فيها الفرائض. وقولكم كيف يكون حال من له الدخل بكدحه وتعبه الخ.فالجواب: أما التفاضل في الأجر فلانزاع فيه فسيجازي الله العباد على أعمالهم وكتابه تعالى لايغادر صغيرة ولاكبيرة إلا أحصاها، وليس مما نحن فيه في شيء ولاننكر أن صاحب العمل الكثير سيجازى في الآخرة بحسب عمله أما في الكسب والاستفادة في المال فدخوله في الشركة هذه رضاً منه بالمساواة، وقد استحق شركاؤه المشاركة في تلك الزيادة المفروضة التي لاسبيل إلى التحقيق فيها برضاه كما لو وهبه لهم بطيبة من نفسه ونصوص الكتاب والسنة قاضية إنما أعطاه بطيبة من نفسه حلال وجائز أخذه وقد سبق أن دخوله فيها كالعقد، وقد أمر الله سبحانه بالإيفاء بالعقود، فهذا الذي تطمئن له النفس وينشرح له الصدر، والله سبحانه الموفق للصواب، وإليه المرجع والمآب.
حرر شهر القعدة الحرام سنة (1411 هـ) على عجل وشغل والسلام.

(1/375)


في الأجرة
والجواب عن السؤال الرابع: وهو في موضوع الأجرة فيما يتعلق بالمعاملة، وقد شرحت لكم ذلك، وهو أنه ماكان في مقابلة العمل فلاحرج فيه فليس من القرض لجر منفعة، وإنما يحرم ماكان في مقابلة القرض للخبر: ((كل قرض جر منفعة فهو ربا)) وأما ماوقعت المذاكرة فيه وهو إذا حل الأجل ولم يوف الذي عليه الدين فيزاد عليه زيادة فهو ربا الجاهلية المجمع على تحريمه لقوله تعالى: ((لاَ تَأْكُلُواْ الرِّبَا أَضْعَافًا مُّضَاعَفَةً)) كانوا في الجاهلية إذا حل أجل الدين قالوا لصاحبه: إما قضيت أو أربيت، فإن لم يقض زادوا عليه وجعلوا له أجلا آخر، وهذا لاخلاف في تحريمه، إنما الخلاف في بيع الشيء بأكثر من سعر يومه لأجل النسا _وهو الإمهال ويسمونه بيع التقسيط_. فقال الإمام الهادي عليه السلام وغيره من الأئمة: هذا ربا لأنه يشبه ربا الجاهلية حيث لم تكن الزيادة إلا في مقابل المدة.

(1/376)


وقال من أجازه كالمؤيد بالله عليه السلام: لاسواء فذلك لم تكن الزيادة ببيع فهي باطلة، أما هذا فهي بالبيع وقد أحل الله البيع وحرم الربا ومن حرمه يقول لم يحرم ذلك إلا لأجل الزيادة في مقابل المدة، فظهر أن الزيادة لأجلها ربا والبيع لايحلل الربا الذي حرمه الله سبحانه كما في بيع الذهب بالذهب ونحوه من الربويات، ومن أجازه يقول: تلك الأجناس قد وقع النص على تحريم البيع مع التفاضل فيها وفيما شاركها في الجنس والتقدير عندنا بخلاف البيع، هذا فلم يرد نص على تحريمه والقياس لايصح مع وجود الفارق، والقول بأن الدليل يقتضي تحريم كل زيادة إلا ماخصه دليل ضعيف جداً، ويلزم منه تحريم البيع بزيادة على ماباع غيره أو على ماباع هو سابقاً أو زيادة على قيمته وهلم جرا، مما يعلم به أن ليس المراد عموم كل زيادة، وإنما المراد زيادة مخصوصة، وهي ماورد النص فيه من الأجناس وماشاركها في العلة، فتدبر، وأيضاً للمجيز أن يعارض بعموم جواز كل بيع إلا ماخصه الدليل، والعموم في تحريم كل زيادة غير مراد قطعاً، والذي يترجح عندي هو اجتناب هذا البيع لأن خطر الربا عظيم ولأنه الأحوط.

(1/377)


الجمع بن الصلاتين
والجواب عن السؤال الخامس وهو في موضوع الجمع بين الصلاتين المسألة تحتاج إلى بحث طويل، والحال لايحتمل التطويل وسألخص المقصود بإعانة الله تعالى وتسديده فأقول وبالله تعالى التوفيق: إن الآيات القرآنية في الأوقات مجملات كقوله عز وجل: ((إِنَّ الصَّلاَةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَّوْقُوتًا)) [النساء:10]، ومعنى موقوت: هو محدود، فلم تبين الآية الأوقات المحدودة، وكذا قوله تعالى: ((أَقِمِ الصَّلاَةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ)) [الإسراء:78]، وهي كذلك لم يتضح فيها بيان الصلاة التي تقام في هذه الأوقات، وقد بينها خبر جبريل عليه السلام فإنه حدد وقت كل صلاة وقال: مابين هذين الوقتين وقت. أي مابين وقت كل صلاة أول يوم وثاني يوم لأنه جعل لكل صلاة وقتين إلا المغرب فإنه صلاها اول يوم وثاني يوم في وقت واحد، ولكن قد بين أن وقتها يمتد إلى دخول العشاء بجعل أول العشاء عند ذهاب الشفق وتأخير صلاتها في السفر، والمعلوم أن من دخول المغرب إلى أول العشاء وقت للمغرب، فظاهر خبر جبريل عليه السلام يدل على وجوب التوقيت لكل صلاة وعدم جواز الجمع بين الصلاتين، لكنه قد صح برواية أهل البيت وغيرهم أن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم جمع بين الظهر والعصر وبين المغرب والعشاء في المدينة المطهرة لغير سفر ولامطر ولاعلة لئلا يحرج أمته إن جمع رجل كذا وردت الأخبار، فدل على جواز الجمع فخبر جبريل عليه السلام محمول على أن تلك الأوقات للفضيلة، وكذلك ملازمته صلى الله عليه وآله وسلم لتلك الأوقات تدل على أنها أفضل، وقد أجاب من أوجب التوقيت عن ذلك بأنه لم يبين في الخبر أنه جمع تقديماً أو تأخيراً، وبأنه يحتمل أن يكون أخر الأولى _أي الظهر_ في جمع الظهر والعصر والمغرب في جمع المغرب والعشاء إلى آخر وقتها، وقدم الأخرى _وهي العصر_ في الأول والعشاء في الآخر في أول وقتها وهو المسمى بالجمع الصوري، وقد ذكر بعض الرواة وهو أبو الشعثاء أنه يظنه كذلك.

(1/378)


وأجاب من أجاز الجمع بأنه لايضر عدم البيان لكونه تقديماً أو تأخيراً، لأنه قد ثبت الجمع ومتى ثبت فقد بطل القول بوجوب التوقيت سواء كان الجمع تقديما أم تأخيراً، وأما أنه أخر الأولى وقدم الأخرى فلم يثبت ذلك برواية صحيحة، ولايلزم ظن بعض الرواة فلم نتعبد بظنه ومجرد الاحتمال لايؤثر، وأيضاً الجمع في الشرع لايطلق إلا على جمع الصلاتين في وقت إحداهما، والجمع الصوري كل صلاة في وقتها وليس إلا جمعاً لغوياً والحقيقة الشرعية مقدمة على اللُّغوية، فيقال خبر التوقيت واستمرار فعل الرسول يدلان على الأفضلية، وخبر الجمع في المدينة يدل على الجواز لغير عذر، وفي ذلك جمع بين الأدلة وقد استدل القاسم والهادي عليهما السلام على جواز الجمع بجمعه صلى الله عليه وآله في الأسفار وهو استدلال قوي إذ لم يبين صلى الله عليه وآله وسلم أن العلة في جمعه هي السفر كما بين الكتاب أن الإفطار للمرض والسفر بقوله تعالى: ((فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ)) [البقره:184]، وبين صلى الله عليه وآله وسلم أن القصر للصلاة هو للسفر ومجرد أنه فعله في السفر لايقتضي أنه مقصور عليه إلا لدليل يدل على أنه مقصور عليه كما في الإفطار والقصر، ففعله صلى الله عليه وآله وسلم حجة على الإطلاق سواء فعله في سفر أو حضر إلا لدليل يقصره على أحدهما، وقد استدلوا على جواز جمع الصلاتين بوضوء واحد بجمعه صلى الله عليه وآله وسلم الصلوات في مكة بوضوء واحد وهو في السفر ولم يقصروا الجواز على السفر، بل أجازوه في السفر والحضر مع أنه في الحضر كان يتوضأ لكل صلاة،

(1/379)


وكذا سائر أفعاله صلى الله عليه وآله وسلم سواء وقعت في حضر أو سفر لاتخص أحدهما إلا لدليل يدل عليه، وهذا واضح لمن تدبر، ومما يدل على أن وقتي الظهر والعصر وقت لهما وأن وقتي المغرب والعشاء وقت لهما أنه صلى الله عليه وآله وسلم لم يجمع بين العصر والمغرب ولابين العشاء والفجر في سفر ولاحضر لما كان وقت كل واحدة مختصا بها، وكان يجمع بين الظهر والعصر وبين المغرب والعشاء تقديما وتأخيراً لما كان وقت كل واحدة وقتاً للأخرى، وإنما التفريق للفضيلة أو لعدم العذر على حسب الخلاف، وكلام أهل المذهب قريب جداً حيث أجازوا الجمع للسفر وللمرض وللإشتغال بطاعة أو مباح ينفعه وينقصه التوقيت، فما بقي إلا أن يترك الأوقات التي شرع الله تعالى النداء إليها خمس مرات ولازمها الرسول صلى الله عليه وآله وسلم لالمعنى . والله الموفق للصواب، وإليه المرجع والمآب حرر على عجل وشغل بالمعالجة والسفر 10/ ربيع الأول سنة (1412 هـ) بالرياض.

(1/380)


المراد بافتراق البيعين
الحمدلله وحده، اللهم صل على محمد وعلى آل محمد، وبعد.
فالذي تقرر عندي أن المراد بالافتراق في قوله صلى الله عليه وآله وسلم: ((البيعان بالخيار فيما تبايعا حتى يفترقا عن رضا)) هكذا رواية الإمام الأعظم زيد بن علي، عن آبائه، عن علي عليهم السلام، عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. والأخبار في هذا الباب متواترة؛ افتراق الأبدان كما رواه في البحر وغيره عن أمير المؤمنين وزين العابدين والباقر والصادق وأحمد بن عيسى والناصر والإمام يحيى بن حمزة عليهم السلام.أولا: أنه المفهوم من قوله صلى الله عليه وآله وسلم: ((البيعان)) فلايطلق عليهما ذلك الاسم حقيقة إلا بعد الإيجاب والقبول ولاموجب لارتكاب المجاز لايقال: وتسميتهما بعد تقضي الفعل منهما مجاز. لأنا نقول: لاسواء فإن اشتقاق اسم الفاعل لمن سيفعل أبعد من اشتقاقه لمن قد فعل.
ثانياً: أن الفرقة بالأقوال لاتكون إلا مع المخالفة والمعارضة لامع الاتفاق كما في قوله تعالى: ((إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُواْ دِينَهُمْ)) الآية، وقوله تعالى: ((وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ تَفَرَّقُواْ وَاخْتَلَفُواْ)).. الآية، فالبائع والمشتري لم يختلفا في العقد بل أوجباه واتفقا عليه.

(1/381)


ثالثاً: أنه مروي عن أمير المؤمنين عليه السلام وهو مع الحق والقرآن والحق والقرآن معه. وقول غيره من أهل البيت والصحابة كابن عباس وابن عمر وأبي برزة وهم أعرف الناس باللغة العربية.
وأما قول الإمام زيد بن علي عليهما السلام: إنما يقول بالفرقة بالأبدان من لايعرف كلام العرب.. الخ. فهو محمول على من قصر الفرقة على الأبدان ولم يثبت الفرقة بالأقوال والعقائد كما هو صريح الحصر في قوله عليه السلام: وإنما يقول بالفرقة بالأبدان.. الخ. فنحن نثبت الفرقة بالأقوال لكن مع الاختلاف كالآيات التي احتج بها الإمام مثل قوله تعالى: ((إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُواْ دِينَهُمْ)) الآية.

(1/382)


فأما الأخبار المروية في افتراق البيعين فالمراد بها فرقة الأبدان وفي الخبر الذي رواه الإمام عليه السلام وهو: ((البيعان بالخيار فيما تبايعا حتى يفترقا عن رضا)) مايفيد ذلك، وبهذا يعرف أنه لابد أن يكون البيعان مجتمعين سواء كانا في مجلس أو على دابتين أو سفينتين أو نحو ذلك مهما كان يطلق عليهما الاجتماع ولايشترط المجلس بخصوصه، وهذا هو المقصود بخيار الفرقة فقد أثبته الشرع لهما كخيار الشرط والرؤية والعيب، فالاستدلال بقوله تعالى: ((تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ)) وقوله تعالى: ((أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ)) وقوله تعالى: ((وَأَشْهِدُوْاْ إِذَا تَبَايَعْتُمْ)) لايعارض ذلك كما سبق في الخيارات الثابتة فما أجابوا به فهو جوابنا، وقد روى البيهقي بسنده إلى سليمان بن موسى عن نافع، عن ابن عمر، وعن عطاء بن أبي رباح، عن ابن عباس أنهما كانا يقولان: عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ((من اشترى بيعاً فوجب له فهو بالخيار مالم يفارقه صاحبه إن شاء أخذه فإن فارقه فلاخيار له))، فقوله: فوجب له؛ أي تم البيع وانبرم. وكذلك قضاء أبي برزة واسمه عباد بن نسيب رواه عنه أبو الوضي قال: غزونا غزوة فنزلنا منزلاً فباع صاحبنا فرساً لغلام، ثم أقام بقية يومهما وليلتهما، فلما أصبح من الغد حضر الرحيل، فقام إلى فرسه يسرجه وندم، فأتى الرجل وأخذه بالبيع، فأبى الرجل أن يدفعه إليه، فقال: بيني وبينك أبو برزة صاحب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فأتيا أبا برزة في ناحية العسكر، فقالا له: هذه القصة فقال: أترضيان أن أقضي بينكما بقضاء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ((البيعان بالخيار مالم يفترقا)) . وفي رواية أنه قال: ما أراكما افترقتما.. أخرج الحديث أبو داود. وهذا على سبيل الاستظهار والحجة ماتقدم.

(1/383)


وأما احتجاج الإمام الهادي عليه السلام في الأحكام بعد تصحيحه للخبر ((البيعان بالخيار مالم يفترقا)) على أن الافتراق بالأبدان يلزم منه في المحبوسين ونحوهما ألا يقطع الخيار بينهما.. الخ كلامه عليه السلام، فلايعارض ماسبق من الأدلة وهذه حالة نادرة ويمكن أن يصححا البيع بينهما بالاختيار كما ورد في بعض الأخبار من ذلك مارواه في شرح الأحكام بسند صحيح عن علي بن الحسين عليهما السلام قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ((كل متبايعين فكل واحد منهما على صاحبه بالخيار مالم يفترقا أو يكون خيار)). ويلزم في خيار الرؤية حيث يكونان محبوسين ولم يكن المبيع عندهما.
وقد رجح في البحر كلام القائلين بفرقة الأبدان بقوله: قلت: إن أجمع على صحة خبرهم فهو أقوى ولايعارضه ماذكرناه أي الآيات السابقة ((تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ)) ((أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ)) ((وَأَشْهِدُوْاْ إِذَا تَبَايَعْتُمْ)) بل كالمطلق والمقيد والخبر أولى من القياس، أي القياس على النكاح.وقوله: إن أجمع على صحة خبرهم. يقال: قد صح الخبر ولايحتاج إلى الإجماع عليه.
وقد رواه الإمام زيد بن علي في مجموعه وهو في أمالي الإمام أحمد بن عيسى وأحكام الإمام الهادي وفي الجامع الكافي وشرح الأحكام وشرح التجريد وشرح القاضي زيد، وأخرجه البخاري ومسلم والترمذي والنسائي وابن ماجه ومالك، وعلى الجملة الخبر متواتر.
وقال السيد العلامة شارح الأساس أحمد بن محمد الشرفي رضي الله عنه في كتاب ضياء ذوي الأبصار: وهذا الحديث رواه كثير ولعله متواتر، وحمله على تفرق الأقوال خلاف الظاهر.وحكى عليه السلام في البحر عن بعض العترة عليهم السلام وبعض الفقهاء أن خيار المجلس قبل التفرق مشروع في كل عقد ولو مشاركة أو صلحاً، لا النكاح إذ شرع لدوام العشرة، والخيار ينقضه ولا الرهن لبقائه على ملك المالك، ولا الهبة من غير عوض والصدقة إذا شرع لدفع الغبن ولا غبن فيهما.. الخ كلامه.

(1/384)


فإن قيل: كيف يخالف الإمام زيد بن علي والإمام الهادي إلى الحق عليهم السلام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب وزين العابدين عليهم السلام.
فالجواب: إن الروايات الصحيحة لاترد لمثل هذا لاستبعاد، وفي ذلك احتمالات لاتخفى على ذي النظر الثاقب على أن اعتمادنا على الأخبار المتواترة التي لانزاع فيها ولايجوز العدول عن الدليل لاجتهاد مجتهد أو قول قائل كما هو معلوم، فقول الإمامين الأعظمين الإمام زيد بن علي والإمام الهادي عليهم السلام ومن تبعهما في تفسير الافتراق بالأقوال صادر عن نظر واجتهاد ولو رويا أو أحدهما في ذلك خبراً عن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم أو عن أمير المؤمنين عليه السلام لم نعدل عنه فهما إماما آل محمد والمقتدى بهما عند أهل الحق، ولكنهما لم يقولا ولا أحد من أهل البيت عليهم السلام بوجوب المتابعة لهما على المجتهدين لاسيما في ماصح لهم من الدليل كيف وهما فاتحا باب الجهاد والاجتهاد.
البيع والشراء بواسطة التلفونات
وقد ورد سؤال في العقود ونحوها بواسطة التلفونات مثل البيع والشراء .. الخ السؤال فأجاب عنه الولد العلامة الأوحد الحسن بن محمد الفيشي حفظه الله وأفاد بما يقتضيه نظره الثاقب وفكره الصائب، وقد أحال الجواب علينا فأقول:قد أوضحت ماعندي في ذلك بما سبق من اعتبار الاجتماع بين المتبايعين في عقود المبايعة ونحوها لاعتبار الشارع الافتراق، وقد تقرر أن المراد بالافتراق فرقة الأبدان ولايكون إلا بعد الاجتماع حسبما سبق تحقيقه وعدم اعتبار المجلس بخصوصه، فأما كلام أهل المذهب فقد نصوا نصاً صريحاً لايحتمل التأويل على اعتبار المجلس وأنه لايكفي العلم بوقوع الايجاب والقبول مالم يكونا في مجلس واحد ولهذا نصوا على عدم صحة عقد الراكبين على دابتين أو سفينتين.

(1/385)


وماذكر في الكتابة والرسالة والمصارفة لاينقض التصريح الذي لايحتمل ويمكن أن يخصصوا ذلك لأن الكتابة والرسالة ونحوهما قائمان مقام الكاتب والمرسل، وفي الصرف قد اعتبر الشارع عدم الافتراق بين المتصارفين بالأبدان وإن كان ذلك يشكل عليهم.
والذي يترجح عندي في عقود التلفونات ونحوها هو أنه إذا علم الصوت من المتعاقدين وثبتت الشهادة على ذلك أن ذلك يقوم مقام الاجتماع الذي اعتبره الشارع، ويشترط وقوع الافتراق بين المتعاقدين فيما اعتبر الشرع الافتراق فيه بالأبدان ثبوت الشهادة على أنهما افترقا بالأبدان بعد العقد، أو وقع الاختيار الذي ثبت بالخبر الصحيح السابق عن علي بن الحسين عليهما السلام وله شواهد.
فإن قيل: كيف اشترطتم الاجتماع والافتراق بعده مع أنهما مفترقان ضرورة.
قيل له: نحن لم نشترط الاجتماع في المجلس بل مايطلق عليه اجتماع فألحقنا محليهما في المكالمة محل الاجتماع لعدم الفارق، وكذلك انتقالهما من محل المكالمة مقام الافتراق الذي اعتبره الشرع الشريف سواء ظهرت العلة في ذلك أم لا، فهذا هو التحقيق، والله تعالى ولي التوفيق.

(1/386)


ورد سؤال في شأن إسقاط الحمل قبل مضي أربعين.
والجواب والله الموفق للصواب: أنه يجوز إسقاط الحمل قبل نفخ الروح فيه بالتراضي بين الزوجين، ويجوز للمرأة إذا أفاد الطبيب المختص أن في بقاء الحمل ضرراً كبيراً زائداً على المعتاد أن تسقط الحمل وإن لم يرض الزوج لقوله صلى الله عليه وآله وسلم: ((لاضرر ولاضرار في الإسلام)) الخبر المعلوم.
والدليل على جواز الإسقاط بالتراضي ماثبت من جواز العزل عن الحرة برضاها وغير الحرة مطلقاً، وإذ هو قبل نفخ الروح فيه بمنزلة النطفة ونحوها لاحرمة له، وروى جابر بن عبدالله رضي الله عنه أن رجلاً أتى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال: إن لي جارية هي خادمتنا وساقينا في النخل وأنا أطوف عليها وأكره أن تحمل. فقال: ((اعزل عنها إن شئت، فإنه سيأتيها ماقدر لها)) أخرجه مسلم وأبو داود.
وأخرج ابن ماجه عن عمر بن الخطاب قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن يعزل عن الحرة إلا بإذنها.
وما ورد من النهي عن العزل وإنه الوأد الخفي محمول على كراهة ذلك إن لم يكن في الحمل ضرر جمعاً بين الأخبار. والله الموفق للصواب، وإليه المرجع والمآب. تمت إملاء مولانا حجة الإسلام والمسلمين مجد الدين بن محمد بن منصور المؤيدي غفر الله لهم.

(1/387)


حديث ارفعوا أصواتكم بالصلوة علي..
قال أبو الحسين مجد الدين بن محمد بن منصور المؤيدي أيده الله، تعليقاً على الحديث المروي في بعض كتب أئمتنا عليهم السلام: وهو قوله صلى الله عليه وآله وسلم: ((ارفعوا أصواتكم بالصلاة علي وعلى أهل بيتي..)) الخ.
اعلم وفقنا الله تعالى وإياك للصواب أن حديث: ارفعوا أصواتكم بالصلاة إلى آخره. لم يصح من طريق صحيحة بعد البحث والتحقيق، وثبت أن في رواته بعض الغلاة وإن رواه بعض أئمتنا المتأخرين فقد أوضحوا سنده، فالعهدة على المطلع في النظر في الرجال، وقد انكشف أنه غير صحيح بل قد قدح في بعض رواته الإمامية مع أنه منهم فمن رواته البرقي. قال النجاشي: إنه أكثر الرواية عن الضعفاء واعتمد على المراسيل، وفي الخلاصة للحلي من الإمامية والنجاشي. قال الغضائري: طعن عليه القميون وليس الطعن عليه إنما الطعن فيمن يروي عنه، فهذا بعض الكلام في بعض رجاله، ولايسع الحال الاستكمال، وقد أوضحت الكلام في ذلك في غير هذا المقام، وما أحقه ألا يصح لمخالفته لما ورد في كتاب الله تعالى صريحاً، كقوله تعالى: ((وَاذْكُر رَّبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ)). وقوله عز وجل: ((ادْعُواْ رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ)) ومدح نبيئه زكريا بقوله تعالى: ((إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاء خَفِيًّا)) ولم يشرع رفع الصوت إلا في الأذان والخطب وإمام الصلاة والتلبية في الحج مع أنه قد روي أنه أنكر عليهم زيادة الرفع لما كان المقصود الإعلام مع أن المؤذن والخطيب والإمام يرفع وحده،

(1/388)


فأما الرفع من الجماعة على صفة التغريد والإنشاد فلم يشرع قط، ولم يؤثر عن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، ولاعن أحد من أئمة الهدى لا الإمام زيد بن علي ولا القاسم ولاالهادي إلى الحق عليهم السلام ولاغيرهم مع مافي ذلك من شغلة المصلين في المساجد وقطع الأذكار الواردة من التسبيح والتحميد والتكبير وتلاوة سورة الإخلاص وآية الكرسي، ولو تركوا التغريد لأمكنهم الكل وقد يتوهم بعض من لامعرفة له أن المراد ترك الصلوات الخمس بالكلية، ومعاذ الله من ذلك كيف وقد أمر الله جل جلاله في كتابه العزيز بالصلاة والتسليم على نبيئه صلى الله عليه وآله وسلم، وأوجب الصلاة عليه وعلى آله في الصلاة من صلى عليه صلى الله عليه وآله وسلم مرة صلى الله عليه بها عشراً إلى غير ذلك مما لانحيط به كثرة، ونحن نروي الصلوات الخمس المسلسلة بالعد بالسند الصحيح إلى سيد المرسلين عن جبريل الأمين عن رب العالمين، فهي من أفضل الأعمال وأجل القرب إلى ذي الجلال. وفق الله تعالى الجميع لمافيه رضاه وتقواه إنه قريب مجيب، وماتوفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب.

(1/389)


فائدة في إعراب هلم جرا
قال والدنا الإمام الهادي إلى الحق أبو الحسن عز الدين بن الحسن عليهما السلام في المعراج: قوله هلم جرا. يعني قول القرشي صاحب المنهاج: هذه كلمة تستعمل في معنى الاستمرار وعدم الاقتصار، وهلم: اسم فعل بمعنى أقبل. قال الله تعالى: ((هَلُمَّ إِلَيْنَا)). وجرا: مصدر منتصب على أنه مفعول مطلق، وفي بعض حواشي الصحاح جرا: إسم مقصور لاتنوين فيه ولامد، وأصل معنى جرا: أي تترك الإبل والبقر ترعى وهي تسير من دون قصر لها. قال بعض أهل اللغة: معنى هلم جرا: تسيروا على هيئتكم فلاتشقوا على أنفسكم وركابكم: ثم استعملت في هذا المعنى وهو عدم الاقتصار على غاية ومنع الحصر. قال الجوهري: نقول كان ذلك عام كذا وهلم جرا إلى اليوم. تمت سماعاً عن شيخنا حجة الإسلام والمسلمين مولانا مجد الدين بن محمد بن منصور المؤيدي أيده الله تعالى.

(1/390)


فتوى في التصوير
قال مولانا شيخ الإسلام وإمام أهل البيت الكرام الإمام الرباني مفتي القطر اليماني كهف العلوم حجة المنطوق والمفهوم شامة الزمان وجوهرة الأقران الإمام الأعظم والبحر الخضم مجد الدين بن محمد بن منصور المؤيدي أيد الله به الدين:
كنا نتحرج من التصوير لما قد ورد في المصورين، فلما عرفنا كيفية أخذ هذه الرسوم لم نر بها بأساً لأنها ليست بتصوير وإنما هي كالنظر في الماء والمرآة، فمن زعم أنها تصوير فقد غلط، لأن التصوير تفعيل، وهو أن تنحت الصورة، وهذا إنما هو حبس الصورة الإلهية، فلهذا يشترط أن يكون ثمة إضاءة حتى تظهر الصورة الإلهية، فليس للراسم أي تأثير في التصوير، وبعد أن تحقق هذا أذن جماعة من العلماء الأعلام في أخذ رسومهم منهم شيخنا العلامة محمد بن إبراهيم المؤيدي الملقب بابن حورية، ومنهم شيخنا العلامة عبدالله بن الإمام الهادي الحسن بن يحيى، ومنهم شيخنا العلامة الحسن بن الحسين الحوثي رضي الله عنهم وغيرهم كثير. والعجب ممن يعتقد أنها تصوير وأنها محرمة ويبالغ في ذلك ثم يبيحها ويستعملها في الجوازات والإقامات والرخص والبطاقات والنقود ويزعم أن ذلك للضرورة وليس هناك ضرورة تبيح المحرم لإمكان الاستغناء عن ذلك كبصمة الإبهام مع أنه قد ورد عن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم باستثناء الرقم في الثوب من قوله صلى الله عليه وآله وسلم: ((لاتدخل الملائكة بيتاً فيه كلب ولاصورة إلا رقماً في ثوب )) رواه الإمام الهادي إلى الحق عليه السلام، ورواه بعض أهل السنن ولكن هذا الرسم ليس بتصوير كما سبق، أما التصوير فنحن نكرهه على الإطلاق كما ذكر ذلك الإمام الهادي إلى الحق عليه السلام، والله تعالى ولي التوفيق.

(1/391)


في بيع الدم ونقله
قال مولانا حجة الإسلام والمسلمين مجد الدين بن محمد بن منصور المؤيدي أيده الله تعالى وحفظه: بسم الله الرحمن الرحيم. ورد سؤال في البيع والشراء في الدم ونقله من شخص لآخر، ونقل عضو من شخص لآخر مع أنه بائن حي. وفي حل ذلك إذا كان من غير مسلم، وكيف حال من ركب فيه في صلاته؟
وقد أجاب على ذلك سيدي الولد العلامة شرف الأعلام الحسن بن محمد الفيشي حفظه الله تعالى وتولاه وأدام علاه وعرض ذلك الجواب علي للنظر فيه وحاصله: أن الشرع الشريف قد أباح للمضطر في كتابه الحكيم التناول من المحرمات مايدفع به الضرر فيجوز ذلك سواء حصل ذلك بجهة التبرع أو المعاوضة فيجوز للمعطي أن يدفع النقود للمستعطي لا المستعطي. وأما صلاة المرقع والمسعف بالدم فلايصل بغيره. هذا ملخص المقصود الواقع السؤال عنه أما ماتعرض له في أوله فلاتعلق له بالسؤال. فأقول وبالله التوفيق: قد أفاد في الجواب مافيه الكفاية، والراجح عندي صحة صلاة من نقل إليه ذلك والصلاة بغيره، إذ قد صار حكمه حكم دمه وأعضائه، والدليل على هذا أن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم أذن لمن قطعت أنفه بتبديلها ذهباً وذلك في عضو قطعي وهو مانع من غسل ماتحته ولم يأمره أن لايصلي بغيره، وقد أجبت بهذا في تركيب الأسنان في الفم مع أنه إن كان المنقول من مسلم فالذي أختاره عدم نجاسة ميتة، المسلم ونحوها وهو قول الإمام المنصور بالله والأمير الحسين عليهما السلام لقوله صلى الله عليه وآله وسلم في الخبر
الصحيح: ((المسلم لاينجس)) رواه الإمام الأعظم زيد بن علي عن آبائه عليهم السلام عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم . وأخرجه عنه في أمالي الإمام أحمد بن عيسى عليهما السلام، وأخرج البخاري تعليقاً عن ابن عباس: ((المسلم لاينجس حياً ولاميتاً)) ووصله الحاكم في المستدرك . والله تعالى ولي التوفيق.

(1/392)


مسائل العلامة محمد بن منصور المؤيدي إلى الإمام المنصور محمد بن يحيى حميد الدين (ع)

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمدلله وسلام على عباده الذين اصطفى، وبعد: فهذه أسئلة وجهها مولانا ووالدنا شيخ بني الحسن وإمام أعلام اليمن ذو الفضل المشهور والعمل المبرور نجم آل محمد الولي محمد بن منصور المؤيدي إلى مقام الإمام المنصور بالله رب العالمين محمد بن يحيى حميد الدين رضوان الله عليهم يختبره بها، وذلك بعد وفاة الإمام المهدي لدين الله محمد بن القاسم الحوثي رضي الله عنهم بشهر ولفظها:
الحمدلله رب العالمين بسم الله الرحمن الرحيم، والصلاة والسلام على من أطفى الله به رسوم الجاهلية وجلى به سنن المرسلين خاتم الأنبياء وعلى آله البررة الأتقياء القافين أثره. أما بعد: فصدرت هذه الأحرف من الحقير الراجي عفو الله ورضوانه محمد بن منصور المؤيدي إلى مولانا حليف السنة والقرآن .
إلى قوله: لايخفى مولانا أن الإمامة من أمهات مسائل أصول الدين الدخول فيها صعب والخروج أصعب والمراد رضاء الله والتثبت لما ندين عند الله وحال مولانا حفظه الله لايخفى على الخاص والعام، ولكن ((بَلِ الْإِنسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ)) فتفضلوا بالإجابة في هذه الأطراف.
إلى قوله: ومع علمنا بكثرة شغلكم واهتمامكم بسنام الدين لم نجعلها إلا على إيجاز ومسائل لاتعنيكم بالبحث لأن ليس المراد إلا براءة الذمة.
السؤال الأول: ما قولكم في قول القائل: الله يريد دخول المؤمنين الجنة والكفار النار مع إتيانه بالمضارع الحالي، ودخول المؤمنين الجنة والكفار النار لايكون إلا بعد الموت والحشر والنشر مع قول العدلية: إرادة الله مراده. فإن رديناه إلى معنى المشيئة والرضى احتاج إلى برهان أن المشيئة تستعمل بمعنى الإرادة، إما حقيقة فهو محل النزاع، وإما مجازاً فتحتاج إلى علاقة.

(1/393)


إلى قوله: فأوضحوا ماهو الوجه المسوغ لإطلاق هذا اللفظ؟
السؤال الثاني: ماقولكم رضي الله عنكم في قوله صلى الله عليه وآله وسلم: ((ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة)) مع قوله: ((في ماسقت السماء العشر)) فجعل أهل المذهب الأول مخصصاً للثاني مع أن القاعدة أنه لايصح التخصيص إلا مع معرفة التاريخ وهو خاف، فبينوا ما المختار لكم بدليله؟
السؤال الثالث: ماقولكم رضي الله عنكم في قوله صلى الله عليه وآله وسلم: ((لايقضي القاضي وهو غضبان)) فإن فيه تنبيهاً على أن الغضب علة عدم جواز الحكم كما ذكره الأصوليون لأنه مشوش للنظر، فهل ينقض حكم الحاكم إذا وقع الحكم منه في حاله؟ فإن قلتم: نعم، فبينوا ما الوجه مع أنه لاينقض حكم الحاكم إلا بدليل قطعي، وإن قلتم: لايصح نقضه فالقاعدة أن النهي يدل على فساد المنهي عنه في العبادات.
السؤال الرابع: قولهم: مالايتم الواجب إلا به يجب لوجوبه، لأن الأمر بالشيء أمر بمقدماته، فما الدليل الواضح على أن الأمر بالشيء أمر بمقدماته. وقد قال بعض أصحابنا: إنا لو لم نقل إن الأمر بالشيء أمر بمقدماته لاستلزم تكليف مالايطاق، وإنما يستلزم تكليف مالايطاق لو منع من المقدمة وأوجب مايترتب عليها، فبينوا ما المختار لكم بدليله؟
السؤال الخامس: في كلام أهل المذهب في وجوب القصاص أن العبرة بقصد الذات فإذا قصد الرامي ذات المرمي قتل به، واللازم من كلامهم أنه لو قتل ظاناً لاستحقاق دم المرمي وأنه الذي قتل أباه أو أخاه فانكشف خلافه أن يقاد به مع العلم أو الظن الغالب أن الفاعل لو علم أنه غير المستحق له ماقتله، فما المختار لكم هل مع القرائن المفيدة للعلم أنه غلط يقاد به أم اللازم الدية؟

(1/394)


السؤال السادس: ذكر أهل علم التصريف أنه إذا أريد وزن الكلمة قوبلت أصولها بالفاء والعين واللام، فإن بقي بعد هذه الثلاثة أصل عبر عنه باللام، فإن كان في الكلمة زايد عبر عن الزايد بلفظه، فما وزن (نكتل) من قوله تعالى: ((أَرْسِلْ مَعَنَا أَخَانَا نَكْتَلْ)).
السؤال السابع: ماقولكم رضي الله عنكم في قول القائل: من يفعل هذا إلا زيد. وفي قوله تعالى: ((وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللّهُ)) مارفع زيد عليه وإلا الله في الآية، ومامحل مَنْ من الإعراب، وكذا في قول القائل: من ذا لقيت. مامحل (من) و (ذا)، فتفضلوا يامولانا بالجواب مبادرة لمصالح دينية تبنى عليه.؟
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
جوابات الإمام المنصور بالله عليه السلام :

(1/395)


قال في صدرها بعد كلام يسير: والمقدم تحقيق معنى الصفات الذاتية لما يتفرع عليها من المشتقات لذلك وقع الفرق بين سميع وبصير وسامع مبصر، والخلاف الذي لايعزب عنكم فنقول: إن من رام معرفة حقائق صفات الله تورط في الإشراك، ومن عجز وقصر أقدام فهمه فالعجز عن درك الإدراك إدراك، كما لم نكلف بمعرفة حقيقة الذات لم نكلف بمعرفة حقيقة الصفات، وإن الله لم يتعرف إلينا بذاته بل تعرف بأفعاله نحو: ((إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ)) ونحوها مما لايحصى. فإن قلت: قد وصف نفسه بعليم قدير سميع بصير مريد. قلنا: عبر عن إحاطة علمه بكل نوع من أنواع المدركات بمانعقله في أنفسنا فإدراك المسموع غير إدراك المبصر، فإن حملناه على المعلوم فينا من الأعراض شبهناه وجسمناه وإن حملناه على الإحاطة بأنواع المدركات من دون تحقيق كيفية الإدراك آمنا به ونزهناه، ولذلك قال الوصي إمام الموحدين ومعجزة الرسول الأمين: أول الدين معرفته، وكمال معرفته التصديق به، وكمال التصديق به توحيده، وكمال توحيده الإخلاص له، وكمال الإخلاص له نفي الصفات عنه بشهادة كل صفة أنها غير الموصوف، وشهادة كل موصوف أنه غير الصفة، فمن وصف الله فقد قرنه، ومن قرنه فقد ثناه، ومن ثناه فقد جزأه. إلى قوله: أنشأ الخلق إنشاء، وابتدأه ابتداء، بلا روية أجالها، ولا رؤية استفادها ولاحركة أحدثها، ولاهمامة نفس اضطرب فيها.

(1/396)


وقال عليه السلام: كل معروف بنفسه مصنوع، وكل قائم في سواه معلول، فاعل لا باضطراب آلة، مقدر لابجولان فكرة. إلى قوله: يريد ولايضمر، يحب ويرضى من غير رقة، ويبغض ويغضب من غير مشقة، يقول لما أراد كونه كن لابصوت يقرع ولانداء يسمع، وإنما كلامه فعل منه أنشأه ومثله. ولذلك أطبقت الأئمة المتقدمون على أن صفات الله ذاته، والمعنى أنا لانثبت أشياء غير الذات وعلى أن الإرادة نفس المراد، والمعنى أنا لانثبت شيئاً غير المريد والمراد، وأن أفعاله صادرة بإحكام لاكما يفعله الناسي والساهي وصاحب المنام، فإن أردت تطبيقه على قواعد الحقيقة والمجاز، فلايتأتى ذلك عند صاحب الاحتراز، لأن الحقيقتين مختلفتان وإن أكثرنا الإطناب أو الإيجاز، إذ شرط الحقيقة أن تكون موافقة للإصطلاح الذي به التخاطب، والمجاز غير ذلك، واستعماله في حق الله وصفاته لايجوز بغير إذن كما لايخفى، غاية مايجوز الإقدام عليه القول بأنه من باب التشبيه والتمثيل وهو تشبيه الهيئة بالهيئة والوجه منتزع من متعدد كقوله:
كأن مثار النقع فوق رؤوسنا .... وأسيافنا ليل تهاوى كواكبه
والمعنى: تعدد الإدراكات لمسموع ومبصر. وقد أشار إليه الوصي فيما حكيناه عنه بقوله: وإنما كلامه فعل منه أنشأه ومثله.
وأما مسألة لايقضي القاضي وهو غضبان، فالنهي للإرشاد لكون حالة الغضب مظنة الغلط أو الحمق، وأما المئنة المتعلقة بصحة الحكم أو بطلانه فهي إعطاء النظر حقه بدليل قوله صلى الله عليه وآله وسلم: ((إذا حكم الحاكم وأصاب فله أجران وإن أخطأ فله أجر واحد)). وحديث: ((الحكام ثلاثة حاكم في الجنة وحاكمان في النار)). وهو المطابق لقوله تعالى: ((فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا)) فتقرر أن الحكم بالتعلق بالحكم هو إعطاء النظر حقه أو عدمه، فلايتفرع عليه كون النهي يدل على الفساد أو عدمه.

(1/397)


وأما مسألة القاعدة الأصولية مالايتم الواجب إلا به يجب لوجوبه، فالحق استشكال ذلك لمعارضته للقاعدة الأخرى قولهم: تحصيل شرط الواجب ليجب لايجب، وجوابه: أن الأمر إن ورد مطلقاً وجب تحصيل مالايتم إلا به، وإن ورد مقيداً بشرطه فتحصيل شرطه لايجب، ودليله في الشاهد: إذا قال السيد لعبده: اصعد إلى السطح فلم يكلفه إلا بالصعود فيجب عليه فعله بأي وجه إما بالتسور أو سلم أو أي حيلة، فذلك معنى قولهم: مالايتم الواجب إلا به يجب لوجوبه. وإن قال له: انظر (سلماً واصعد عليه إلى السطح فقد علق الصعود بوجود السلم فإن وجده وجب الصعود وإلا فلا. ودليله في أوامر الشارع: ((وَلِلّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً)) فقد علق الوجوب بالاستطاعة فلايجب عليه التكسب لتحصيل الاستطاعة إجماعاً.
وأما مسألة قتل الخطأ، فمن قصد الذات التي أصلها تحريم القتل فهو عامد لقتل النفس المحرمة لا إن كان أصلها إباحة القتل كما استثناه في الأزهار بغالباً.
وأما مسألة نكتل، فهو مشتق، ومصدره كيلا، وعند تصريفه صار المضارع منه نكتال، وعند جزمه جواباً للأمر، وهو أرسل حذفت العين، والنون نون المضارع، والتاء تاء الإفتعال، فعرفت حينئذ أنه لم يبق من الأصول إلا الكاف واللام والباقي زوائد فوزنه: نفتل.
وأما مسألة رفع زيد ورفع الجلالة في قول القائل: من يفعل هذا إلا زيد. وفي قول الله: ((وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللّهُ)) فهو على حكم الاستثناء المفرغ يجوز النصب ويختار البدل فهو مفرغ للعامل الذي قبل إلا وهو يغفر ويفعل وهما يتقاضيان فاعلاً وذلك مما حكمه واضح، ولاتروا إن وقع تقصير فلايعزب عنكم مانحن فيه، والدعاء مستمد، وشريف السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

(1/398)


اختيارات العلامة محمد بن منصور (ع)
تأليف
الإمام الحجة مجد الدين المؤيدي أيده الله تعالى
اختيارات العلامة محمد بن منصور والد مولانا مجد الدين
هذه المسائل من اختيارات والدنا العلامة شيخ آل الرسول الزاهد العابد الولي محمد بن منصور المؤيدي رضوان الله وسلامه عليهما. قال رضي الله عنه:
هذا حصر المسائل المختارة كما تضمنته الأدلة وماسواها من المسائل في الفروع، والمأخوذ به هو مانص عليه الهادي عليه السلام بالأدلة الظاهرة لأصول المذهب من مفهومها ومنطوقها حسب ماقرره سيدنا حسن الشبيبي رضي الله عنه، وماصح لي النظر فيه بعد إعمال الأدلة على مقتضى مسائل الأصول الفقهية، وقد بينت ماهو المختار فيها في متن الغاية بقولي المختار فوق مسائل متنها تقريباً.
هذا شروع في ما اخترته بعد إعمال الأدلة:
1 ـ أن الفرجين ليسا من أعضاء الوضوء. وهو المختار لمولانا حجة الإسلام والمسلمين ولده أبي الحسنين مجد الدين بن محمد أيده الله تعالى.
2 ـ لايجب إزالة الخلالة حتماً، إذ لو كان واجباً لأبانه الشارع، إذ هو مما تعم به البلوى وهو في مقام التعليم.
3 ـ الاستنجاء والاستجمار باليمين محرم لورود النهي عن ذلك، ولم نجد صارفاً يدل على خلافه.
4 ـ يطهر أديم ميتة المأكول بالدبغ بحيث لو ذكي حل أكله، وهو المختار لولده أبي الحسنين مجد الدين بن محمد أيده الله تعالى لماروى الإمام الأعظم زيد بن علي.
5 ـ إذا كان العليل لايرجو زوال علته في آخر الوقت جاز له أن يتيمم للصلاة في أول الوقت، وهو مذهب أهل السلسلة الذهبية والجم الغفير من الأئمة والعلماء، إذ لامعنى للتلوم إلى آخر الوقت في حقه. وهو المختار عندي.
6 ـ صلاة الجمعة خارج البلد في الصحراء صحيحة. وهو المختار عندي.
7 ـ صلاة الجمعة في غير وقت إمام تصح رخصة. وعند ولده أبي الحسنين مجد الدين بن محمد أيده الله تعالى واجبة.
8 ـ تحل صدقات بني هاشم بعضهم لبعض. وهو المختار عندي.

(1/399)


9 ـ أن من نذر بصوم العيدين أنه لاينعقد صيامه ولايجب عليه قضاء يومين بدلهما لأنه يلزم أن يكون صيامه قربة ومعصية. والمذهب أن النذر ينعقد ويجب عليه إفطارهما ويقضي يومين بدلهما لما روي أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم رخص للمتمتع فلولا أنه يصح الصوم فيها لما أمره بذلك والأول أظهر فإنه مخصوص بالمتمتع كما هو مذكور بالدليل. وهو المختار عندي.
10 ـ إذا التبس على المصلي هل قد صلى أربع ركعات أو أقل أو نحو ذلك بنا على الأقل المتيقن لما ورد عن أمير المؤمنين. وهو المختار لولده شيخ الإسلام أبي الحسنين مجد الدين بن محمد أيده الله تعالى، كما أوضحه في كتاب الحج.
11 ـ أن أم الولد والسِرِيَّة إذا أعتقها سيدها اعتدت بثلاث حيض. وهو المختار عندي.
12 ـ إذا بلغ الصغير أو راهق خير بين أبيه وأمه. وهو المختار عندي.
13 ـ ومما صح بالدليل وترجح جواز مس رطوبات الكفار سواء كتابي أو غيره. وهو المختار لولده أبي الحسنين مجد الدين بن محمد أيده الله.
14 ـ وكذلك جواز أكل طعام أهل الكتاب وذبائحهم من اليهود والنصارى وغيرهم من كفار أهل القبلة كالمجبرة والمشبهة للاشتراك في العلة وهو كونهم أهل كتاب إلا نصارى بني تغلب لما رواه الحاكم عن أمير المؤمنين عليه السلام أنه وجدهم ليسوا بنصارى على الحقيقة فلايجوز أكل ذبائحهم. وهو المختار عندي.
15 ـ لايجب الفدية على المحرم فيما لبسه ناسياً أو جاهلاً. وكذا من اختضب بالورس ونحوه ناسياً أو جاهلاً كذا يجب على من أحرم الغسل من الجنابة، وكذا الحائض والنفساء. وهو المختار عندي.
16 ـ يجب على المرأة أن تترك لبس الحلي حال الإحرام. قال ولده أبو الحسنين أيده الله: ولاتلبس النقاب والقفازين لورود النهي الصحيح عن ذلك والكلام مستوفى في كتاب الحج.

(1/400)


17 ـ المختار أن المتوفى عنها لايجب عليها أن تبيت في بيت زوجها بل يجوز لها أن تبيت في بيتها أو بيت زوجها أو في بيت أبيها لمظاهرة النصوص على ذلك ويحمل ما استدل به للمذهب على وجوب البيتوتة حيث وجبت على الاستحباب لاحتماله التأويل والأدلة الدالة على الجواز لاتحتمل، والجمع بين الأدلة واجب كما قرر في مواضعه. وهو المختار عندي.
18 ـ لايصح عتق الرقبة الفاسقة في الظهار كما هو مذهب الناطق بالحق أبي طالب وقواه طود العترة أبو طالب الأمير الحسين وهو المختار لقوة دليله ورجحانه.
19 ـ والمختار أنه إذا وقع الأمر الموجب للحد في غير ولاية الإمام في زمانه فله أن يقيمه إذا ظفر به أي ظفر المستحق للحد وكذا إذا وقعت الجناية في ولاية الإمام وفي زمانه ثم مات ذلك الإمام وخلفه إمام آخر أقام الحد الإمام الثاني وهذا ما اختاره المؤيد بالله عليه السلام لظهور الأدلة القاضية بذلك وقوتها ورجحانها. وهو المختار عندي.

(1/401)


البلاغ المبين
تأليف
الإمام الحجة مجد الدين المؤيدي أيده الله تعالى
البلاغ المبين
بسم اللّه الرحمن الرحيم
الحمدلله رب العالمين والصلاة والسلام على إمام المرسلين محمد خاتم النبيين المرسل رحمة للعالمين وحجة على الخلق أجمعين وعلى آله الذين أذهب اللّه عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً، هداة الأمة ومعدن الحكمة، ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيراً كثيراً، أمر بالصلاة عليهم معه في الصلاة، وحرم عليهم مع سائر ذوي قرباه كما حرم عليه الزكاة، وخلفهم في أمته مع كتاب اللّه وأخبر أنهم أمان كالنجوم وكسفينة النجاة، وبعد، فيقول المفتقر إلى اللّه عز وجل المستغني به فيما دق وجل، المستعين به على ماعقد وحل، أبو الحسنين مجد الدين بن محمد بن منصور بن أحمد بن عبد اللّه بن يحيى بن الحسن بن يحيى بن عبد اللّه بن علي بن صلاح بن علي بن الحسين بن الإمام عز الدين بن الحسن بن الإمام علي بن المؤيد الحسني المؤيدي أسبل اللّه تعالى عليهم رضوانه وأسبغ عليهم شآبيب فضله وإحسانه: إنه توجه الطلب ممن ينبغي إسعادهم ولايحق ردهم وإبعادهم، أن أجمع ماتفرق في مؤلفات العترة المطهرة وأوليائهم البررة من صحيح سنة الرسول الأمين صلى اللّه عليه وعلى آله الطاهرين، وماصح عن أمير المؤمنين الذي هو مع الحق كما أخبر سيد الخلق، أو صح فيه الإجماع وقد أورد مايشهد لما صح وإن لم يصح عندي سنده اعتماداً على مايصح وأنبه على ذلك بأن أقول: ويشهد أو نحوه. وكذا ماتواتر لأن ما أفاد العلم فهو حجة من غير نظر إلى راويه، وأتكلم على تقرير الدلالة بحسب الإمكان، وقد يسر اللّه سبحانه وله الحمد كتاب لوامع الأنوار وما اختصر منه كالجامعة المهمة وتحصل فيه المختار من الأسانيد الصحيحة إلى مؤلفات أعلام الأمة والكثير الطيب من صحيح الأسانيد والرجال في بطون تلك المؤلفات مع اشتماله على المباحث المهمة، فأغنى ذلك عن ذكر الأسانيد إلى تلك الكتب، إذ صارت في متناول الباحث عن كثب، وأما

(1/402)


الأسانيد لما في المؤلفات فقد جمعت بحمد اللّه تعالى في لوامع الأنوار بغية الرائد وضالة الناشد، وأفردت للرجال فصلاً مفرداً العمل الآن جارٍ في إتمامه بإعانة اللّه تعالى وتيسيره، فأجبتهم إلى ذلك المطلب.
وسميته البلاغ المبين بصحاح سنة الرسول الأمين صلى اللّه عليه وعلى آله الطاهرين، وسيكون إن شاء اللّه تعالى على طريقة الإيجاز مع الاستكمال ليكون قريب التناول، راجياً من اللّه ذي الجلال أن ينفع به، وأن يجعله من الأعمال المقربة إليه، والآثار المكتوبة لديه، إنه قريب مجيب، وماتوفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب.
بحث في الشرط والمختار في معنى العدالة والإشارة إلى دليله

(1/403)


الشرط: هو اتصال السند الصحيح أو إرسال من لايرسل إلا الصحيح، هذا في غير المتواتر، والمتلقى بالقبول، وقد أوضحت المختار بدليله في الصحة والعدالة في لوامع الأنوار وفي فصل الخطاب وفي الرسالة المسماة إيضاح الدلالة، وأفيد الناظر هنا أني أشترط العدالة المحققة ولا أعتمد على رواية كافر أو فاسق بتصريح أو تأويل. أما الأول فهو إجماع، وأما الثاني وهو محل النزاع فلنحو قوله تعالى: ((وَلاَ تَرْكَنُواْ إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ)) والركون هو: الميل اليسير كما ثبت في التفسير وأخذِ الدين عنهم من الميل إليهم، ولقوله جل شأنه: ((إِن جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا))، وهذا العموم القرآني يتناول المصرح والمتأول، ودعوى تخصيصه بالإجماع مردودة بل لو ادعي العكس في الصدر الأول لما كان بعيداً فقد نقل رد المخالف نقلاً لايرده إلا جاهل أو متجاهل، والأمر بالتبين يوجب عدم الاعتماد عليه وهو المطلوب لا القطع بكذبه فليس بمراد ولاوجه له، ولكون الأدلة الموجبة للعمل التي أقواها بعث الرسول صلى اللّه عليه وآله وسلم للتبليغ بالآحاد والإجماع لم تثبت في المتأول، إذ لم يكن في عصره صلى اللّه عليه وآله وسلم ولا إجماع على غير من ذكرنا، ولايروعنك كثرة القائلين بالقبول فليست الكثرة دلالة الحق بل أهله القليل، ولا المجازفة بدعوى الإجماع وإن صدرت من بعض ذوي التحقيق والاطلاع فالواقع خلاف ذلك، والحق لايعرف بالرجال، ولايجب العمل بمجرد الظن على فرض ثبوته، فالظن لايغني من الحق شيئاً، ثم إنه يلزم قبول المصرح إن ظن صدقه والإجماع يرده ولقد ضاقت بالسيد الحافظ محمد بن إبراهيم الوزير المذاهب لما انتقض به عليه ولجأ إلى دعوى التخصيص، ثم لو فرض جواز العمل بالظن في بعض جزئيات العمليات التي يتعذر فيها سواه كأروش الجنايات وقيم المتلفات فيخص به ويبقى تحت العموم الدال على المنع ما عداه.

(1/404)


ومن أعجب التهافت أن الكثير لاسيما من يدعون ويدعى لهم أنهم لايُخَرِّجون إلا الصحيح حتى صار ذلك لقباً لبعض كتبهم، وحتى صار المقلدون من أتباعهم يجرحون ويقدحون فيمن أبدى أي منازعة في حديث أو راو من رواتهم كأنها نزلت آية محكمة من كتاب اللّه تعالى أو تواترت سنة من رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم بصحة جميع ما أخرجوه وهؤلاء يقبلون المصرحين زاعمين أنهم من المتأولين كالوليد بن عقبة الذي هو سبب نزول الآية: ((إِن جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ))، والسبب مقطوع به فلايجوز تخصيصه بالاتفاق وأمثاله كثير، والتمحلات التي يدافع بها البعض لاتنفق في سوق التحقيق، والله تعالى ولي التوفيق.
فإن قلت: مابالك خصصت المقلدين من الأَتباع. قلت: لأن أرباب البحث والاطلاع لاترى عندهم ذلك التعصب وسوء الطباع، ألا ترى إلى قدح كثير من حفاظهم كالدار قطني وابن حجر صاحب الفتح وغيرهما في بعض رجال الصحيحين وأحاديثهما وقد أوضحت هذه الأبحاث في اللوامع، وإنما الداء العضال هم المقلدون الأغبياء، فإنك تجد من الإنصاف وفهم المقاصد وتجنب الإعتساف عند خصمك العالم مالاتجده عند موافقك الجاهل.
ومن البلية عذل من لايرعوي…عن غيه وخطاب من لايفهم
وفقنا اللّه تعالى لفهم الصواب، وسلوك منهج السنة والكتاب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
كتاب الطهارة

(1/405)


جرت سنة المؤلفين من أول تأليف في الإسلام على الصحيح وهو مجموع إمام الأئمة الإمام الأعظم زيد بن علي بن الحسين بن علي عليهم السلام على افتتاح كتب الحديث والفقه به، لأن الصلاة أعظم أركان الإسلام ومفتاحها وأحد شروطها الطهارة فحسن الابتداء بها، ولابأس بإشارة إلى بعض المعاني وإن كان الغرض هو جمع الصحاح فلا بأس بالشرح والإيضاح، فالكتاب إما مصدر كَتَبَ كالكتب والكتبه أو اسم مصدر ويشهد له جمعه على كُتُبٍ وهو من خواص الأسماء، ومادة كتب تدل على الجمع والضم استعمل فيما يجمع مسائل خاصة وهو حقيقة في الحروف المكتوبة مجاز في المعاني.
والطهارة لغة: النظافة والنزاهة عن الأقذار والأنجاس الحسية، مجاز في التنزه عن العيوب والذنوب. وفي عرف الفقهاء: إما مصدر طهر اللازم المخفف فهي الوصف القائم بالفاعل وهو الذات المتجردة عن الحدث والنجس أو أحدهما، وحقيقتها: صفة حكمية تثبت لموصوفها جواز الصلاة به أو فيه أو له، والضمائر للموصوف باعتباره ثوباً أو مكاناً أو بدناً، وإما مصدر طهَّر المتعدي المضعَّف فهي الوصف القائم بالمفعول، وحقيقتها على هذا ما قاله الإمام المهدي عليه السلام في البحر: عبارة عن غسل ومسح أو أحدهما أو مافي حكمهما بصفة مشروعة، والذي في حكمهما سائر المطهرات كالإسلام والاستحالة والنضوب. قال الإمام عز الدين بن الحسن عليهما السلام في شرح البحر: قيل: هو أصح الحدود الشرعية وفي حاشية الهداية لابن الوزير: والمطهرات على خلاف في البعض أربعة عشر يجمعها قوله:
ماء وترب وإسلام حجارتهم مسح منزح جفاف بعده الريق
ثم النضوب والاستيلا استحالتهم كذا مكاثرة جمع وتفريق
وفي البحر خلاف في أن الشمس والريح تطهر الأرض. أهـ
فصل في النية

(1/406)


لما كانت أصلاً في جميع الأعمال، بل لاوجود للشرعية على المختار كما هو قول الإمام أبي طالب عليه السلام على ماحققه في شرح الغاية ولاصحة لغيرها إلا بها كما يفيده الحصر في الأخبار إلا ماخصه الدليل كإزالة النجاسة المخصوصة بالإجماع كما ذكره الإمام المؤيد بالله عليه السلام حسن تقديمها كما فعل ذلك بعض المؤلفين كالإمام القاسم بن محمد عليهما السلام في الاعتصام.
حقيقتها لغة: القصد. وقد اختلف أهي في الشرع مجرد هذا القصد فلا يشترط إلا وقوع المقصود على سبيل الاختيار، أم هي زيادة على ذلك بإعمال الفكر كما أشار إليه في المصباح بقوله: نويته أنويه: قصدته، والاسم النية، والتخفيف لغة، ثم خصت النية في غالب الاستعمال: بعزم القلب على أمر من الأمور .. الخ، وهذا أمر زائد على المعنى اللغوي كما قال: وعزم عزيمةً، جد واجتهد في أمره، فتكون أخص من القصد المجرد، وقد استوفى البحث في شرح المجموع وللناظر نظره.
الأدلة عليها كثيرة كتاباً وسنة قال عز وجل: ((وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ)) دلت على قصر الأمر على العبادة حال الإخلاص، وقد تقرر أن لفظ الأمر حقيقة في الصيغة التي هي: إفعل أو نحوه، وهي حقيقة في الإيجاب ولا يكون إخلاص إلا بالنية ضرورة.
وأروي بالسند الصحيح المذكور في لوامع الأنوار وأينما قلت: بالسند، فالمراد السند الصحيح المتقدم في الكتاب هنا إلى الإمام الناصر للحق الحسن بن علي الأطروش عليهما السلام كتابه البساط، قال فيه: حدثنا محمد بن منصور، قال: حدثنا عبد اللّه بن داهر، عن عمر بن جُميع، عن جعفر بن محمد.
وأروي بالسند الصحيح المتقدم إلى الإمام المؤيد بالله عليه السلام كتابه شرح التجريد، قال فيه: أخبرني أبي، قال: أخبرنا عبدالله بن أحمد بن سلام، قال: أخبرنا أبي، قال: أخبرنا أبو العباس الحسني، قال: حدثنا إسحاق بن إبراهيم الجريري. قال: حدثنا جعفر بن محمد.

(1/407)


وأروي بالسند الصحيح إلى الإمام أبي طالب كتابه الأمالي قال فيه: حدثنا محمد بن منصور بسنده السابق إلى جعفر بن محمد عليهما السلام في جميعها عن أبيه عن جده، قال: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم: (( لاقول إلا بعمل، ولاقول ولاعمل إلا بنية، ولاقول ولاعمل ولانية إلا بإصابة السنة )) وبالسند الصحيح إلى السيد الإمام الحسن بن علي بن أبي طالب قال: حدثني سيدي ووالدي أبو الحسن علي بن أبي طالب في سنة ست وستين وأربعمائة، قال: حدثني سيدي ووالدي أبو طالب الحسن بن عبيدالله الحسيني سنة أربع وثلاثين وأربعمائة، قال: حدثني سيدي ووالدي عبيدالله، قال: حدثني والدي محمد، قال: حدثني والدي عبيدالله، قال: حدثني والدي علي، قال: حدثني سيدي ووالدي الحسن، قال: حدثني والدي الحسين، قال: حدثني والدي جعفر الملقب الحجة، قال: حدثني سيدي ووالدي عبيدالله الزاهد، قال: حدثني سيدي ووالدي الحسين الأصغر، قال: حدثني سيدي ووالدي علي بن الحسين زين العابدين، قال: حدثني سيدي ووالدي الحسين المظلوم الشهيد سبط رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم، قال: حدثني سيدي ووالدي أمير المؤمنين يعسوب الدين علي بن أبي طالب، قال: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم: (( الأعمال بالنية )).
رجال هذه الأسانيد من العترة وأوليائهم الأثبات، وكل سند أورده أو خبر أرويه فهو صحيح إلا ما ذكرته بلفظ: أخرج أو أنبه على ذلك، فليس العهدة عَلَيَّ فيه، نعم وأخرج الإمام المرشد بالله والبخاري ومسلم وأبو داود والنسائي والترمذي بأسانيدهم إلى يحيى بن سعيد الأنصاري تفرد بالخبر الآتي ومن فوقه إلى عمر بن الخطاب عنه صلى اللّه عليه وآله وسلم: (( إنما الأعمال بالنية وإنما لامرئ مانوى)) .

(1/408)


وفي الترغيب في الإخلاص أروي بالسند الصحيح إلى الإمام الأعظم زيد بن علي مجموعه وفيه عن أبيه عن جده عن علي عليهم السلام قال: من أخلص لله أربعين صباحاً يأكل الحلال صائماً نهاره قائماً ليله أجرى اللّه ينابيع الحكمة من قلبه على لسانه. وليس هذا من المبحوث عنه ولكن للتبرك.
فصل: في إيجاب التطهر من النجاسات
قال اللّه تعالى: ((وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ)) الحقيقة فيه تطهير الثياب من النجاسة. قال الإمام المؤيد بالله في شرح التجريد بعد ذكر الآية: ولاخلاف أنه لايجب تطهيرها على من لم يرد الصلاة، فثبت أنه يجب للصلاة.
قلت: والطواف صلاة فلانقض لكلامه به.
وأروي بالسند الصحيح إلى الحاكم رضي اللّه عنه تفسيره التهذيب، قال فيه: الحمل على طهارة الثياب من النجاسة هو الحقيقة والعدول عنها مع الإمكان تعسف أو توسع وأروي بالسند الصحيح إلى صاحب الكشاف قال فيه في تفسير الآية: طهارة الثياب شرط في صحة الصلاة وفي غير الصلاة الطهارة مستحبة.. الخ.
وأروي بالسند الصحيح إلى الإمام المرتضى محمد بن الإمام الهادي إلى الحق يحيى بن الحسين عليهم السلام كتابه المناهي وفيه عن آبائه عن علي عليهم السلام قال: نهى رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم أن يصلي الرجل في ثوب غير طاهر.
باب المياه

(1/409)


قال عز سلطانه: ((وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاء مَاء طَهُورًا))، وقال جل شأنه: ((وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُم مِّن السَّمَاء مَاء لِّيُطَهِّرَكُم بِهِ)). وأروي بالسند الصحيح إلى الإمام الهادي إلى الحق عليه السلام كتبه منها المنتخب قال فيه في ماء البحر: هو الطهور ماؤه لااختلاف عند علماء آل الرسول عليهم السلام في ذلك. قلت: وفي شرح التجريد بعد ذكر الإجماع على أنه طهور مالفظه: وكذلك المشهور من كلام النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم في البحر: (( هو الطهور ماؤه والحل ميتته )) وقد سبق ذكر السند إلى شرح التجريد للمؤيد بالله عليه السلام، قال فيه: أخبرنا علي بن إسماعيل، قال: حدثنا أبو جعفر محمد بن الحسين بن اليمان، قال: حدثنا أبو عبد اللّه محمد بن شجاع، قال: حدثنا أبو قطن ـ قلت: بفتح القاف عمرو بن الهيثم من العدلية ـ، عن حمزة الزيات ـ قلت: أحد القراء السبعة ـ، عن أبي سفيان السعدي ـ قلت: اسمه طريف بن شهاب ـ، عن أبي نضرة، عن أبي سعيد الخدري، قال: انتهى رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم إلى غدير فيه جيفة فقال: (( اسقوا واستقوا فإن الماء لاينجسه شيء )). قلت: وقد ثبت تعديل بعض رجال السند، ولم يظهر في البقية أي قادح وقد وثقهم الإمام المؤيد بالله عليه السلام جميعاً، وقد روي عن أبي سعيد من غير طريق مع صحة معنى الخبر نص أعلام العترة وغيرهم على ذلك، وبمجموع هذا أُرَجِّحُ صحته.
وأروي بالسند الصحيح إلى الإمام القاسم بن إبراهيم نجم آل الرسول صلوات اللّه عليه وعليهم أنه قال: ((لاينجس الماء شيء إلا أن يتغير ريحه أو طعمه أو لونه)) إلى آخره.

(1/410)


وأروي بالسند الصحيح إلى السيد الإمام أبي عبد اللّه العلوي كتابه الجامع الكافي قال فيه: قال القاسم عليه السلام: لايفسد الماء عندنا إلا ماغيره وتبين فيه أثره وقذره. إلى قوله: وقال القاسم عليه السلام أيضاً فيما رواه داود عنه: إذا وقع في إناء الوضوء قطرة من خمر أو دم أو جيفة فغلب الماء عليه ولم يتغير ولم يتبين فيه نتن توضأ به.
قلت: وهذا يفيد أنه لاينجس عنده من الماء إلا ماغيرته النجاسة سواء كان قليلا أم كثيراً، وهو قول جم غفير من أئمة العترة وسائر علماء الأمة، وقد سبقت الإشارة إلى دليله ولم ينهض شيء مما استدل به على أن القليل ينجس مطلقاً ولا على تحديده، أما خبر الاستيقاظ وقد ثبتت روايته بغير لفظ التثليث في غسل اليد ولا لفظ: لايدري.. الخ. بالسند الصحيح إلى المرتضى عليه السلام في كتاب النهي فلم يصرح فيه بالتنجيس والظاهر فيه التعبد، وكذلك خبر النهي عن البول في الماء الدائم وكذا خبر الولوغ وخبر القلل لم يصح مع اضطرابه وإحالته على مجهول، وأما تحديد القليل بما يظن استعمال النجاسة باستعماله وهو أشفها فمتى حكم الشرع أن الماء لاينجس بشيء فقد أفاد أن النجاسة لاحكم لها فيه مالم يظهر أثرها، وهذا هو المختار إلا أن الراجح تجنب مايظن استعمال النجاسة باستعماله احتياطاً لاحكماً بالتنجيس، وأما ماغيرته النجاسة فهو ينجس بالإجماع، وقد روي في بعض الأخبار زيادة استثنائه ولم تثبت لكن معناها مجمع عليه وكفى بذلك. وإلى هنا توقف القلم للاشتغال بما هو أهم، ولكونه قد اهتم بجمع الصحيح الولدان الأوحدان العلامة محمد بن الحسن العجري المؤيدي، والعلامة محمد بن يحيى الحوثي أيدهما الله تعالى، وإن يسر الله كان الإتمام، والله تعالى ولي التوفيق.

(1/411)