الكتاب : منهاج المتقين في علم الكلام المؤلف : العلامة الكبير يحيى بن الحسن القرشي المحقق : الناشر : الطبعة : عدد الأجزاء : مصدر الكتاب : [ الكتاب ] |
كتاب
منهاج المتقين
في علم الكلام
تأليف
العلامة الكبير يحيى بن الحسن القرشي
بسم الله الرحمن الرحيم رب يسر وأعن يا كريم
الحمد لله الدال على ذاته وصفاته بعجائب مصنوعاته، الكشاف عن عدله وحكمته بوجوب غناه وعالميته، القادر على جميع أجناس المقدورات، العالم فلا يعزب عنه مثقال ذرة في الأرض ولا في السماوات، الحي الذي لا يتغير به الحال، الموجود فيما لم يزل، وفي ما لا يزال، المدرك للمدركات لا بالآلات، المستغني في ثبوت هذه الصفات عن المؤثرات، الواحد ولا شريك له ولا وزير، المتعالي عن المضاد والنظير، الغني فلا تجوز عليه المنافع والمضار، لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار، العدل فليس بظلام للعبيد، الصادق في الوعد والوعيد الذي قضى بالحق وهدى إلى الرشاد، وتنزه عن فعل القبيح وإرادة الفساد وأزاح علل المكلفين بأنواع الألطاف والتمكين، وأزهق الباطل بمترادفات الحجج، وأوضح للخلق عن سوء المنهج حتى صارت طرق الخير والشر متعينة ليهلك من هلك عن بينه ويحيى من حي عن بينة، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، شهادة إخلاص وصدق، وأن محمداً عبد هورسوله بالهدى ودين الحق أرسله كافة للناس بشيراً ونذيراً وداعياً إلى الله بإذنه، وسراجاً منيراً، فبلغ الرسالة هادياً وشهيداً، ثم مضى إلى دار الكرامة حميداً، فصلوات الله ورضوانه على وجهه الكريم كلما طلع نجم أو هب نسيم، وعلى آله الكرام البررة المطهرين، وعلى الصحابة المتبعين أجمعين، والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد:
فإن أهم التكليف علم العقائد، وإن الظفر بالحق فيه مراحل الفوائد، وأنه قد كثرت فيه الآراء واتبعت فيه الأهواء وعدل أكثر الناس فيه عن التحقيق، وسلكوا بنيات الطريق، فمن شق قسطاً ولى بجحد المشاهدات، ويحاول دفع الضرورات، وملحد يبكي الصانع ويضيف التأثير إلى الطبائع، وفلسفي ينفي عن الله الاختيار ويعول على العقل والفلك الدوار وباطني يقول بالسابق والتالي، ويعمد غير الله، ولا يبالي، ومطرفي يقصر تأثير الصانع على الأصول، وهو لم يحصل من إثباته تعالى على محصول، وثنوي يقول بالقديم الثاني /2/، وآخر يتلوه في قديم المعاني، وبرهمي ينفي النبوة رأساً، وذمي لا يرى في تكذيب الرسل بأساً، ومجسم يشبه الله تعالى بالمحدثات، ويثبت له الجوارح والآلات، ومجبر يعتذر للشياطين والعصاة، ويحمل مساوي العباد على الله، ومرج يتعلل بالإخلاص والأمالي، ويبني دينه على حرف التواني، ورافض يبغض شيوخ الإسلام، ويخبط من الغلو والتعصب في ظلام. فهذه أصول فرق الضلالة، والذين تفرعت عنهم كل جهالة، كل منهم بمذهبه فرح مسرور، ورحاهم الكل على قطب الغواية تدور، ليس على غير الباطل يعولون، ويوم تقوم الساعة يومئذ يحسر المبطلون، لقد صدق عليهم إبليس ظنه فاتبعوه، وصاح بهم إلى مخالفة الحق فاستمعوه، واستفز بمكره منهم من استطاع وصار له من علماء السوء أتباع، يدعون له إلى كل بدعة وضلال، ويبالغون في نصرته بالأقوال والأعمال، قد انتصب منهم في كل فرقة أمير يجادل في الله بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير، ويسلك منهم في كل بدعة منهجاً، اقتداء بالذين يصدون عن سبيل الله ويبغونها عوجاً، شرعوا للناس من الدين ما لم يأذن به الله، وسقفوا لهم بالتمويه على كل مهواة، فاستمالوا بشبههم أفئدة الطغام، وأنزلوا على قضيتهم جمهور العوام، إلى أن صارت الطائفة المحقة فرقة من نيف وسبعين فرقة، فلست تكاد ترى للحق محباً، إلا من يصغي لسماع الحجة قلباً، ولا يظفر بمنصف يناظر لله،
ويقبل واضح الحق من حيث أتاه.
نعم، قد قام بنصرة هذا الدين فريق من ذوي البصائر وأهل التحقيق، اعتمدوا فيه على الحق الواضح، وسلكوا منهاج السلف الصالح، بهم حرس الله معالم الحق، وجعلهم في أرضه حجة على الخلق، ليس يحول الشبهات بينهم وبين الصواب ولا ينخدعون بلوامع السراب، فهم أقطاب الدين وعليهم بدور لؤلئية، وإليهم ينتمي الحق، وفي سمائهم يطلع كوكبه، أولئك آل المصطفى وشيوخ الأعتزال، النافون عن علوم الديانة كل تحريف وانتحال، فجزاهم الله عن هداية خلقه أفضل ما جزى القائمين بحقه، وبلغهم آمالهم في الخيرات، وضاعف لهم بفضله الحسنات، ثم أنه بعثني على جمع هذا الكتاب التقرب إلى الله وطلب الثواب، فجمعته على وفق ما جمعه الأولون /3/ الذين يهدون بالحق وبه يعدلون، متبركاً بذكر ما أصلوه لا طلباً لتحصيل شيء أهملوه، واقتداء بقويم هداهم لا طمعاً في بلوغ مداهم، ورجوعاً في طلب الحق إليهم لا استدراكاً في مسائل عليهم، وتمسكاً بهديهم القويم لا اعتراضاً في سبيلهم المستقيم، وتكثيراً لسوادهم لا من قلة، ونصره لمذهبهم لا بعد ذلة، فمثل ذلك غدت في أبها الصاحب وللناس فيما يعشقون مذاهب. عصمنا الله بفضله وبرحمته، وجعلنا ممن يعرفه حق معرفته، إن ذلك على الله يسير، وهو على كل شيء قدير.
مقدمة:
اعلم أن كل علم يشرف بشرف معلومه وتعظيم نفعه لحسب الحاجة إلى مفهومه وتعلق قدره على وفق وضاعه ضده، ويعز وجدانه على عكس دناه، فقده، فمن هنا كان علم التوحيد رأس العلوم؛ لأن معلومه الله الحي القيوم، ولأن به يتميز الكفر من الإيمان، وعليه يدور رحاء الحق في كل زمان، قد حكم بوجوبه وجلالته العقل، وجاء بتأكيد ذلك القول الفصل، فكل عاقل قد أخذ بتحصيله وكلف العلم بجملته وتفصيله.
ثم أنه لارتفاع قدره يعز منا له، وكذا كل نفيس هذا حاله، فإن الشيء بحسب جلالة محصوله تعظم المشقة في تحصيله، وعلى قدر علو مكانه يكون الاهتمام بشأنه، فلن يظفر بفوائد علم التوحيد إلا الخواص كما لا يلتقط اللآلي إلا من غاص، ولا يتمكن من افتضاض أبكاره إلا من أمهرهن صافي أفكاره، فلا يصدنك عنه صعوبة تركته، فأصعب من ذلك عاقبة الجهل به، ولا يلتفت إلى الذين ينهون عن تعلمه ويدعون عظم الخطر في تفهمه، فلم يجهلوا والله قدره، ولا جحدوا بذلك فخره، ولكن رأوا بعد ثناؤه وعز مناله، وأظهروا تجلداً كراهة وصاله، وتكلموا فيه بلسان قاصر، وقلب حائر، فهم في ذلك كما قال الشاعر:
وثب الثعلب يوماً وثبة .... طلباً منه لعنقود العنب
ثم لما لم ينله قال هـ .... ـذا حامض ليس لنا فيه أرب
نعم، فكما أن النفع بهذا الفن كثير فإن خطر الجهل به ليس يسير، فالمقدم عليه كراكب البحر المتلاطم، والمحجم عنه في ظلام متراكم، ومن ثم عظم التكليف به والثواب عليه واستندت الأديان في كل زمان إليه، فسبيل العاقل أن ينظر فيه نظر متعرّف لا نظر متعجرف، ويطلبه طلب متقرب لا طلب متغصب، ويوطن نفسه على قبول الحق من حيث ورد، ولا يعتمد في أمر دينه على أحد، فيكون قد حقب دينه الرجال /4/ وذهب معهم من يمين إلى شمال، فمثله كمثل رجل خلق له عينان فأطبقهما وانخرط في سلك العميان، قسم الله لنا من يوفقه الحظ الأسنى وختم لنا، ولكل مسترشد بالحسنى.
الكلام في معرفة الصانع جل وعز
اعلم أن الكلام في العلم بالله هو يترتب على أربع مقدمات:
الأولى في ماهية العلم وقسمته لما ستعرف إن شاء الله تعالى من أن علم التصور مقدم على علم التصديق.
والثانية: في وجوب معرفة الله تعالى لأنها هي المقصود من الكتاب كله.
والثالثة: في النظر؛ لأنه الطريق إليها. والرابعة: في الأدلة؛ لأنها متعلق للنظر، ثم يقع الكلام بعد ذلك في تفاصيل أبواب الكتاب.
القول في ماهية العلم وقسمته وما يتصل بذلك
العلم والمعرفة والفهم والدرية والفقه في اللغة بمعنى واحد بدليل أنه لا يصح إثبات بعضها ونفي بعض. وفي الاصطلاح: هو الاعتقاد الذي يكون معتقده أو ما يجري مجراه على ما تناوله مع سكون النفس إليه.
قلنا: الاعتقاد ليدخل فيه الجهل والتقليد والتبخيت. وقلنا على ما تناوله ليخرج الجهل. وقلنا: مع سكون النفس؛ ليخرج التقليد والتبخيت حيث يطابقان معتقدهما، فأما حيث لا يطابقانه فهما جهل، لكن خصا بهذه التسمية لمعنى آخر فإن حقيقة التقليد هو اعتقاد الشيء لمجرد أن الغير قال به، ولهذا لا نكون نحن مقلدين للنبي صلى الله عليه وآله وسلم في ما جاء به؛ لأنا لم نعتقده لمجرد قوله، بل للحجة، وكذلك علماء المخالفين ليسو مقلدين لأسلافهم؛ لأنهم لم يعتقدوا ما قالوه لمجرد قولهم بل للشبهة.
وحقيقة التبخيت هو اعتقاد الشي هجوماً وخبطاً لا لأمر، فبهذا يفارقان الجهل، وحاصل الفرق بينهما وبينه أنهما أعم منه من وجه وأخص من وجه، وهو بالعكس، فعمومهما من حيث يسميان بهذه التسمية سواء طابقا معتقدهما أو لا، وعمومه من حيث يسمى جهلاً سواء استند إلى قول الغير أم لا، وسواء فعل هجوماً وخبطاً أو لا.
واردنا بالمعتقد: ما يكون سبباً كالذوات، وبما يجري مجراه ما لا يكون شيئاً كالصفات والأحكام والأمور السلبية. وأردنا بسكون النفس: التفرقة التي يجدها أحدنا بين أن يعتقد كون زيد في الدار بالمشاهدة أو بخبر نبي، وبين أن يعتقد ذلك بخبر رجل من أفناء الناس، ولفظ الاعتقاد والسكون مجاز تشبهاً بعقد الخيط والسكون المقابل للحركة، لكن إضافته إلى النفس قرينة تشعر بالمراد.
وحده الشيخ أبو الحسين بأنه ظهور أمرٍ للحي ظهوراً يمتنع معه في نفسه تجويز خلافه، وليس بسديد /5/ لأن الظهور أمر يختص بالمعلوم، والعلم أمر يختص بالعالم وأيضاً فالظهور هنا مجان ولا قرينة تشعر بالمراد، وأيضاً فلا يصح إطلاقه على الله تعالى، فلا يقال ظهر لله هذا الأمر ولا ينقلب علينا هذا في الاعتقاد؛ لأنا إنما حددنا العلم في الشاهد، والباري تعالى عندنا عالم لا بعلم.
فأما أبو الحسين فإنَّه حد العلم شاهداً وغائباً؛ لأن المرجع به عنده إلى التعلق في الموضعين، وأيضاً فإن أراد بقوله يمتنع تجويز خلافه، أي يستحيل، فغير صحيح؛ لأن أحدنا قد يختار الجهل(1)، ويجوز في نفسه خلاف المعلوم في المسائل الاستدلالية، وإن حصل هذا الظهور ، وإن أراد يمتنع أحدنا من التجويز أي لا يفعله مع القدرة عليه فغير صحيح؛ لأن أحدنا كما يمتنع من هذا التجويز عند حصول هذا الظهور، فإنَّه قد يمتنع منه عند اعتقاد حصول هذا الظهور، وهو لم يعتبر في الحد سكون النفس حتى يتميز به الظهور الحقيقي وغير الحقيقي.
فصل والعلم ضربان: تصور وتصديق.
فالتصور: هو العلم بصور الأشياء ومفرداتها، ومعنى ذلك: أنه يحصل في ذهن الإنسان صورة مطابقة لما في الخارج. ومنه قولهم تصورت هذا الشيء، أي علمت صورته.
والتصديق: هو العلم بالنسب الحاصلة بين تلك المفردات بإثبات أو نفي، وسمي تصديقاً لصحة دخول التصديق في الخبر المطابق له، وكل واحد من هذين القسمين ضروري ومكتسب، فالضروري منهما هو الاعتقاد الذي لا يقف على اختيار المختص به مع سكون النفس.
وقلنا: مع سكون النفس احترازاً من أن يفعل الله فيه اعتقاداً غير مطابق، فإن ذلك جائز من جهة القدرة والمكتسب ما يقف على اختياره كذلك.
__________
(1) . بأن يورد على نفسه شبهة، والله أعلم.
مثال الضروري من التصور العلم بزيد ونحو ذلك مما لا يحتاج إلى تحديد. ومن التصديق: العلم بأن الكل أكثر من الجزء، وأن الظلم قبيح،و العدل حسن، وشكر النعمة، وقضاء الدين واجب، ونحوه. ومثال: المكتسب من التصور العلم بماهية العالم والقديم والمحدث ونحو ذلك مما لا يعلم إلاَّ بالحد. ومن التصديق: العلم بأن العالم محدث وأن الله قادر، ونحو ذلك مما لا يعلم إلا بالدليل.
فصل
وطريق اكتساب علم التصور الحد إن كان المطلوب العلم بالماهية مفصلاً والرسم إن كان المطلوب مجرد تمييزها عن غيرها، والشرح الذي هو الحد اللفظي إن كان المطلوب العلم بالماهية مجملاً.
والحد: قول مؤلف من ذاتيات الشيء الكاشفة عن ماهيته كما إذا حددت الخمر بأنه شراب معتصر /6/ من العنب مسكر كثيره، فإن هذه الأوصاف ذاتية للخمر، ومعنى كونها ذاتية أنه لا يعقل، ولا يكون خمراً إلا بها حتى لو رفعتها عن ذهنك لما أمكنك تصور الخمر.
والرسم: قول مؤلف من عرضيات الشيء المميزة له عن غيره كما إذا حددت الخمر بأنه شديد يقذف بالزبد يحفظ في الدن أحمر ونحو ذلك، وكما إذا حددت الإنسان بأنه المنتصب القامة العريض الأظفار الماشي على رجلين الضاحك ونحو ذلك، فإن هذه الأشياء عرضية ومعنى كونها عرضية أنه يمكن أن تعقل الماهية من دونها، فهي في حكم العارضة الخارجة عن الماهية.
وهذه العرضيات تنقسم إلى لوازم كالولادة للإنسان والزوجية والفردية للعدد، ونحو ذلك.
ومفارقات، وهي ضربان: مستمرة، كسواد الزنجيّ، وبياض الكافور. وزائلة، كصفرة الذهب وحمرة الخجل.
والشرح هو إيراد لفظ مرادف للفظ آخر أجلأ منه عند السائل كما إذا قيل ما الذابل، فقلت الرمح. وطريق اكتساب علم التصديق الأدلة، وسيأتي الكلام فيها.
فصل
ولا بد أن ينتهي الاكتساب إلى الضرورة في طرفي التصور والتصديق وإلا لم تنقطع المطالبة بما في التصوريات، وبلم في التصديقيات، بل كان يحتاج كل حد إلى حد، وكل دليل إلى دليل.
وقال الشيخ الحسن بن أحمد بن متويه: لا يجب ذلك إلا في أصول الأدلة؛ لأن كثيراً من المسائل لا تستند إلى أصل ضروري كالعلم بالصانع، فإنه ينبني على كون أحدنا فاعلاً وليس بضروري على التفصيل، وكذلك كونه قادراً ينبني على كوننا قادرين، وليس بضروري.
قال: وما هذا حاله من الأدلة فإنما يجب على المستدل أن ينهي الخصم إلى ما إذا نظر فيه علم.
قال: ومثال ما ينتهي إلى أصل ضروري، دليل العدل، فإنه ينبني على أن من علم قبح الفعل واستغنى عنه فإنه لا يفعله، وهو ضروري، وكذلك استدلالنا على نفي الظلم عن الله تعالى بأنه لو فعله لاستحق الذم، فإن استحقاق الذم على ذلك ضروري في الشاهد.
وعلى الجملة فأكثر المسائل تنبني على أصل ضروري. ولقائل أن يقول أنه ما لم ينته إلى أصل ضروري لم تنقطع المطالبة. وقوله: إن الواجب منا أن ينتهي الخصم إلى ما إذا نظر فهي علم هو صحيح لكنا إذا قلنا للخصم: انظر إلى ما أنهيناك إليه تعلم كان ذلك استدلالاً منا على أن ذلك المنظور فيه دليل، واستدلالنا هذا لا شك مستند إلى الضرورة، وهي الوجدان من النفس، فإن حين نظرنا فيه، وجدنا أنفسنا عالمة عند النظر فيه حتى لو لم نجد ذلك من أنفسنا /7/ لكان للخصم أن يقول: قد نظرت فيما أنهيتموني إليه، فلم أعلم، ونصدقه فيما قال وما ذكره رحمه الله تعالى من المثال، فهو صحيح، لكنه يمكن استناده إلى أصل ضروري، وإن كثرت مراتبه فإنا وإن لم نعلم كون أحدنا فاعلاً ضرورة فإنا نستدل على ذلك بما يستند إلى الضرورة، وهو أن فعله يدل على قصده وداعيه وأنه يمدح ويذم عليه ونحو ذلك.
فصل
وعلم التصور مقدم على علم التصديق؛ لأن من لا يعلم ماهية المقرين لا يمكنه ينسب أحدهما إلى الآخر بنفي ولا إثبات.
فصل
وينقسم علم التصديق إلى: عقلي، كالعلم بوجوب رد الوديعة، وقبح الظلم، وحدوث العالم.
وشرعي: كالعلم بوجوب الصلاة وتحريم النبيذ.
وينقسم إلى ما يحصل لا عن طريق كالبديهي وعلم المثبتة، وإلى ما يحصل عن طريق ما موجبه كالعلم الحاصل عند المشاهدة أو النظر، أو غير موجبة كالعلم الحاصل عند الدرس، وإلحاق التفصيل بالجملة.
فصل وينقسم علم التصور إلى جملي وتفصيلي.
فالجملي، هو: ما حصل بالحد اللفظي، كما إذا قيل ما العقار؟ فقلت: الخمر. والتفصيلي، هو ما يحصل بالحد المعنوي كما إذا قلت الشراب المعتصر من العنب المسكر كثيره.
وينقسم التصديق إلى جملي وتفصيلي، فالجملي كالعلم بأن زيداً في جملة هذه العشرة، وأن كل ظلم قبيح، والتفصيلي كالعلم بأن هذا الشخص هو زيد وأن هذا الظلم المعين قبيح.
وقد اختلف الشيوخ في ذلك، فقال شيخنا أبو هاشم: العلم الجملي هو التفصيلي، ولكنه لم يكن متعلقاً، ثم تعلق، فالعلم بأن زيداً في جملة العشرة هو العلم بأنه هو هذا الشخص، والعلم بأن كل ظلم قبيح هو العلم بقبح الظلم المعين. ويبطله أنه مبني على بقاء الاعتقادات.
وبعد فإذا شاهدنا السواد في الجسم علمناه على الحقيقة، وإن لم يعلمه غيراً للجسم.
وبعد فنحن نعلم ثواب أهل الجنة، وهو غير متناه، فلو كان العلم الجملي هو التفصيلي لاحتجنا إلى علوم لا يثناها.
وبعد فيعلق العلم لما هو عليه في ذاته، فلو كان العلم بأن كل ظلم قبيح هو العلم بأن هذا الظلم المعين قبيح لكان قد وقف تعلقه على العلم بأن هذا المعين ظلم، وهو أمر منفصل فيقدح في تعلقه على العلم بأن هذا المعين ظلم، وهو أمر منفصل، فيقدح في أن تعلقه لذاته.
وبعد، فلو لم يتعلق العلم الجملي لما فصل أحدنا بين العشرة التي علم كون زيد فيها، وبين غيرها، وأمّا ما ذكره ابن متويه في المحيط والتذكرة من أن الجملي يخالف التفصيلي والشيء لا يصير بصفة مخالفة، ففي الاستدلال به نظر؛ لأنه محل النزاع /8/ فكيف يقول التفصيلي يخالف الجملي، وهما عند الخصم واحد.
حجة أبي هاشم: أنه لو كان العلم بكون زيد في جملة العشرة متعلقاً، لصار الجهل بزيد على التفصيل، فكان يلزم إذا اعتقد في زيد أنه ليس بزيد أن ينتفي عنه الجملي.
والجواب: أن من شرط التضاد اتحاد الطريقة، والجملي لا يضاد التفصيلي.
قال: لو لم يضاده للزم إذا اعتقد في كل واحد من العشرة أنه ليس بزيد أن لا ينتفي العلم الجملي، قيل له: أنه متى اعتقد ذلك دعته هذه الاعتقادات إلى أن يفعل اعتقاداً جملياً بأنه ليس من العشرة.
قال: إنما يدعوه ذلك حال فعل الاعتقاد العاشر، فيلزم اجتماع العلم والجهل في الوقت العاشر؛ لأنه إنما يفعل الاعتقاد الجملي في الوقت الحادي عشر؛ لأنه الثاني من حالة الدعاء.
قيل له: بل الذي يدعوه إلى أن يعتقد في الرجل العاشر أنه ليس بزيد يدعوه إلى فعل اعتقاد جملي بأنه ليس في العشرة، فينبغي الاعتقاد الجملي بانه فيها فلا يجتمع العلم والجهل في العاشر.
فصل والعلم من قبيل الاعتقاد.
وقال أبو الهذيل: بل هو جنس مستقل، وتوقف أبو الحسين. لنا أنه لو كان غيراً للاعتقاد؛ لصح انفصاله عنه حتى يكون أحدنا معتقداً [به] ساكن النفس، ولا يكون عالماً والعكس.
وبعد، فإما أن يضاد الاعتقاد فلا يصح، مجامعته له، وإما أن يخالفه فيلزم إذا طرى الضد أن لا ينفهما جميعاً؛ لأن الضد إنما ينفي المثلين والضدين، وإما أن يماثله وهو المطلوب.
وبعد فحال العالم يلتبس بحال الجاهل والمقلد، والشيء لا يلتبس بما ليس من جنسه.
شبهة: أنه لو كان اعتقاداً لوجب في كل عالم أن يسمى معتقداً، وهو باطل بالقديم تعالى.
والجواب: أنه إنما يلزم ذلك في كل عالم بعلم هو اعتقاد، والله تعالى عالم لا بعلم، ولو قدرناه عالماً بعلم لما صح إطلاق ذلك في حقه؛ لأنه إنما يجوز به في من له قلب وضمير تشبيهاً بعقد الحبل.
قال: لو كان العلم اعتقاداً لكان كل اعتقاد علماً.
قيل له: ولو كانت الحركة كوناً؛ لكان كل كون حركة. والتحقيق أنه لم يكن علماً بمجرد كونه اعتقاداً، بل لأنه اعتقاد واقع على وجه مخصوص.
فصل
والذي به يعرف كون الاعتقاد علماً هو سكون النفس، عند الجمهور.
وقال أبو علي بسلامة طريقه من الانتقاض
وقال الجاحظ: قد يكون الجاهل ساكن النفس. والذي يبطل قول أبي علي أن في العلوم ما لا طريق إليه كالبديهي وغيره، وإنما يعرف كونه علماً /9/ بأمر يرجع إليه، وأنه إنما يعرف سلامة طريقه من النقص بعد أن يعرف كون الاعتقاد الحاصل عنها علماً.
شبهته رحمه الله هو أنا لا يمكن من تعريف الغير بأن اعتقادنا علم وأن اعتقاده ليس بعلم إلا ببيان سلامة طريقنا دون طريقه.
والجواب عليه: أن هذا لا يوجب ما ذكره؛ لأنا لو أمكننا أن نعرف الغير بسكون أنفسنا لكان ذلك هو الواجب.
والذي يبطل قول الجاحظ: أن الجاهل إنما يتصور بصورة ساكن النفس بدليل أنه لو شكك عليه لبطل(1) اعتقاده.
فصل
وهذا الحكم ـ أعني سكون النفس الذي به فارق العلم غيره ـ يعلم ضرورة عن الشيخ أبي عبد الله، سواء كان الاعتقاد المقتضي له ضرورياً أو استدلالياً.
وقال الجمهور: يعلم ضرورة إن كان المقتضي له ضرورياً، أو استدلالاً إن كان المقتضى له استدلالياً. حجة أبي عبد الله أن كل حكم ضروري يثبت في موضع بطريق، فإنه يثبت بها في سائر المواضع.
واعترضه الجمهور بأنه اعتماد على مجرد الوجود، ويمكن أن يحتج لصحة مذهبه بأنه لا يمكن الإشارة إلى من يجعله دليلاً على أنفسنا ساكنة.
وبعد، فكان يلزم صحة أن ينظر أحدنا في الدليل على الوجه الذي يدل فيعلم المدلول ولا يعلم أن نفسه ساكنة بأن لا ينظر في هل هي ساكنة أم لا، أو بأن ينظر في ذلك لا على الوجه الصحيح. وعلى الجملة فلا بد أن يكون محوزاً حال النظر في ذلك، وقد ثبت أن أحدنا عند أن يحصل له العلم لا شك في سكون نفسه.
__________
(1) . في نسخة: لاضطرب.
وبعد فأحدنا يجد نفسه ساكنة من دون نظر، وبعد وكان يلزم التسلسل في الأدلة، فإذا علمنا الشيء بدليل احتجنا إلى دليل آخر على أن أنفسنا ساكنة، ثم إذا نظرنا في ذلك الدليل الآخر فعلمناه وسكنت أنفسنا احتجنا في ذلك السكون إلى دليل آخر على أن أنفسنا ساكنة، وهلم جراً.
وإن قال الجمهور: إن الدليل الذي يحصل به العلم بالمدلول والعلم سكون النفس واحد، وكذلك النظر واحد، فلا يلزم التسلسل في الأدلة ولا التجويز حال العلم بالمدلول.
وقيل لهم: هذا على بعده يلزم عليه كون النظر مولداً لعلمين مختلفين، العلم بالمدلول والعلم بسكون النفس إليه.
على أن أحدنا إنما يجد نفسه طالبة للعلم بالمدلول حال النظر ولا يجدها طالبة للعلم بسكون النفس.
حجة الجمهور: أنه إذا كان الاعتقاد استلالياً فبالأولى ما هو مقتضى عنه؛ لأنه كالفرع له.
ولأبي عبد الله أن يجيب بأنكم إن أردتم بكون سكون النفس استدلالياً أنه مقتضى عن علم /10/ استدلالي، فهو صحيح، لكن ذلك لا يمتنع من كونه معلوماً بالوجدان من النفس وإن أردتم بكونه استدلالياً أن النظر الأول يولده أو أنه يحصل بنظر مستأنف فهو محل النزاع.
قالوا: كان لا يصح زوال العلم الاستدلالي قط بعد حصوله؛ لأن أحدنا يضطر فيه إلى سكون النفس. وله أن يقول بل يصح زوال العلم الاستدلالي، لكن إذا زال ما هو مقتضى عنه، وهو سكون النفس النفس، وإذا زال سكون النفس زال العلم الضروري المتعلق بسكون النفس؛ لأن الله تعالى لا يحدد فينا اعتقاداً ضرورياً يتعلق بالشيء، لا على ما هو به.
فصل كل ما لا يعلم استدلالاً يجوز أن يعلم ضرورة مطلقاً، وكل ما يعلم ضرورة يجوز أن يعلم استدلالاً بشرط زوال العلم الضروري إذا لم يكن من كمال العقل.
وقال قوم: يجوز مطلقاً في الطرفين، ويبطله أن من حق الاستدلال التجويز الاستحالة أن ينظر الإنسان فيما هو قاطع فيه.
وقال الشيخ أبو القاسم: لا يجوز في واحد من الطرفين، وجعل العلم بالله تعالى في دار الآخرة استدلالياً، لكونه في الدنيا كذلك. لنا أما الأول فلأنا إذا قدرنا على العلم فالله تعالى عليه أقدر، فيصح كونه ضرورياً.
وأما الثاني: فلأنه إذا زال العلم بالشيء ضرورة لم يمكنا أن نعلمه إلا بالاستدلال.
وأما قوله في أهل الآخرة، فباطل؛ لأن الاستدلال لا يصح إلا مع التجويز، وفي ذلك يتغيض على أهل الجنة، ويتعيش على أهل النار لتجويزهم الجميع انقطاع ما هم فيه حال النظر.
وبعد فكان يجوز أن لا يختار أهل النار المعرفة، وليس له أن يقول هم ملجئون إليها، لأن الإلجاء بنا في التكليف، وهم عنده مكلفون، وإن كان التكليف في حقهم باطلاً، وإلا وجب أن يكون لهم طريق إلى الانتفاع بما كلفوه، فيؤدي إلى أن يستحق أهل النار ثوباً بالطاعة، وأن يستحق أهل الجنة الذم والعقاب إن عصوا وأن تلحقهم مشقة.
فصل
وللعلم بكونه علماً حال تثبت بالفاعل، وقيل حكم وقيل لا حكم ولا حال.
لنا: إنه قد شارك سائر الاعتقادات في كونه اعتقاداً ومتعلقاً وموجباً لمن اختص به وانفرد باقتضائه لسكون النفس، فلا بد من أمر له يثبت التفرقة، وهو إما فاعل ولا يصح لفقد الاختيار، والأصح أنه يجعل الجهل كذلك.
وأما معنى وهو باطل /11/ لفقد الاختصاص والمخصص.
وأما حكم وهو باطل لأنا نعلم هذه التفرقة من دون اعتبار غير، ولا ما يجري مجراه.
وأما صفة واجبة وهو باطل لمشاركة سائر الاعتقادات له في ذلك.
وأما صفة جائزة وهو المطلوب.
فصل
والمؤثر في هذه الحالة هو الفاعل للاعتقاد بواسطة وقوعه على أحد الوجوه التي سنذكرها؛ لأنه إما أن يكون علماً لجنسه أو لصفة جنسه كما يقوله الشيخ أبو القاسم أو لوجوده أو لحدوثه على وجه أو لمعنى أو لمجرد اختيار الفاعل أو بالفاعل بواسطة أحد هذه الوجوه المذكورة.
والأربعة الأقسام الأولة باطلة لحصولها في سائر الاعتقادات.
والخامس باطل لفقد الاختصاص. والسادس باطل، لفقد الاختيار عند زوال الوجوه.
والسابع هو المطلوب.
فصل
والوجوه التي يقع عليها الاعتقاد فيصير علماً ستة:
أحدها: وقوعه عقيب النظر، والواسطة هنا هو النظر عند ابن متوّيه، وكونه باطراً عند أبي رشيد.
حجة ابن متويه: أنه لو كان المؤثر كونه باطراً للزم إذا فعل الله، في أخذنا نظراً، وكان العلم الحاصل عنه من فعله تعالى أن يكون قد أثرت صفة أحدنا في فعل الله تعالى.
وأجيب عن أبي رشيد بأن الصفة إنما تؤثر حيث يمكن تعليق الحكم بها لا في كل موضع، وهاهنا قد صار وقوعه من فعل الله وجهاً في كونه علماً فلم يمكن تعليق ذلك في الصفة وهذا حسن، لأنه لا يكفي في الدلالة على أن الصفة هي المؤثرة، وأن كفى في جواز ذلك وفي تضعيف استلال ابن متويه رحمه الله تعالى فإذا الأولى في الاستدلال أن يقال أن النظر إذا أثر في الصفة فهو مؤثر في ما تؤثر فيه الصفة إن ثبت لها تأثير، وأيضاً فإذا أثر في الاعتقاد كان أولى أن يؤثر في وقوه على وجه كسائر وجوه الأفعال.
الوجه الثاني: أن يقع عقيب تذكر النظر والاستدلال كعلم المنتبه من رقدته، والمؤثر هنا إما أن يكون نظراً مستأنفاً أو النظر الأول أو تذكره، والأول باطل؛ لأن العلم يحصل أول حالات الانتباه والنظر يحتاج إلى وقت ممتد، ولأن أحدنا لا يجد نفسه ناظرة، والثاني باطل لأن النظر إنما يولد في بأبي وجوده وهاهنا أوقات كثيرة بقي أن يكون المؤثر تذكره للنظر وتأثير التذكر إنما هو على جهة الدعاء لا على جهة الإيجاب؛ لأن الذكر علم ضروري، فلو أوجب لكان علم المنتبه من فعل الله تعالى، ولأن الذكر قد يكون من مجموع أمور، فلا يصح تأثيرها في شيء واحد.
والوجه الثالث: أن يقع من فعل العالم بالمعتقد كالعلم الذي يفعله الله تعالى في أحدنا، وكما إذا فعل أحدنا في نفسه اعتقاداً مبتدأ بما هو عالم به، فإن ذلك يؤثر في كونه علماً تأثير دعاء أيضاً؛ لأن الله تعالى كما يقدر على أن يفعل فينا اعتقاداً مطابقاً يقدر على أن يفعل اعتقاداً غير مطابق، ولا يجوز أن يكون المؤثر كونه مريداً والأوجب إذا أراد أحدنا كون الجهل علماً أن يكون كذلك ولا أن يكون المؤثر كونه قادراً والأوجب في كل قادر أن يكون اعتقاده علماً.
الوجه الرابع: زاده الشيخ أبو عبد الله، وهو وهو إلحاق التفصيل بالجملة كمن يعلم كل ظلم قبيح لم يعلم في فصل معين أنه ظلم، فإن هذين العلمين يدعوا انه إلى فعل علم ثالث بقبح هذا الظلم المعين إلحاقاً للتفصيل بالجملة، وهذا لا يستقيم على أصل أبي هاشم؛ لأن الجملي هو التفصيلي عنده، لكن لم يكن متعلقاً، ثم تعلق.
وأما الشيخ أبو الحسين فإنه يجعل العلم الثالث الذي هو التفصيلي متولداً عن العلم الجملي.
قال: لأنه لو حصل بالداعي لجاز حصول صارف يقابل الداعي، وكان يلزم لو خلق الله في أحدنا علماً ضرورياً بأنه إن فعل هذا العلم الثالث أدخله النار أن لا يعلم قبح الظلم المعين مع العلم بأنه ظلم وأن كل ظلم قبيح ومعلوم خلاف ذلك وإن كان قد التزمه بعض معتزلة الرّيّ.
واعلم أن هذا الإلزام متوجه، فإما قوله أن الجملي يولد التفصلي، فهو لا يستقيم على أصول البهاشمة؛ لأن الاعتقاد عندهم لا يولد الاعتقاد.
قالوا: لأنه لو ولده لولده في محله إذ لا جهة له، ولولده في الوقت الأول إذ لا مقتضي لتأخره، فكان يلزم وجود ما لا يتنافى من العلوم في حالة واحدة، إذ لا وجه يقتضي الحصر. وأيضاً فليس العلم الجملي بأن يولد اعتقاداً أولي من صده، ولأبي الحسين أن يقول ما قولكم يولد ما لا يتناهى، فلا يلزم؛ لأن المولد عندي هو الجملي لا كل علم، وهو أن ولد في الوقت الأول، فالمبق له تفصيلي، والتفصيلي لا يولد عندي، فلا يلزم وجود ما لا يتناهى.
وأما قولكم بأن يولد اعتقاداً أولي من صده فلا يلزم أيضاً كما لا يلزم في النظر إذا ولد العلم أن يولد ضده. إذا ثبت هذا فالأقرب /13/ ـ والله أعلم ـ إن لم يصح ما قاله أبو الحسين من كون، الثالث متولداً أن يكون ضرورياً من جهة الله تعالى بفعله ابتداء عند حصول العلمين الأولين.
فإذا قيل: طريقة العادة، فكان يجوز أن لا يفعله الله تعالى بأن تختلف العادة.
قلنا: هو كذلك، لكنه معدود في كمال العقل، فيكون العلم بقبح الظلم المعين في ذلك كالعلم بقبح الظلم على الجملة، وليس لزوم زواله عند أن لا يختار الله فعله بأبلغ من لزوم زواله عند حصول صارف يزيد على الداعي.
الوجه الخامس: زاده أبو عبد الله أيضاً وهو يذكر العلم، فإذا ذكر أحدنا أنه كان عالماً ثم فعل اعتقاداً، كان ذلك الذكر وجهاً في كونه علماً، وهذا إنما يستقيم على مذهبه في أن العلم بالعلم ليس علماً بالمعلوم، وإليه ذهب القاضي وأبو إسحاق.
فأما الشيخان أبو علي وأبو هاشم، فعندهما أن العلم بالعلم علم بالمعلوم، فإذا علم أحدنا أنه عالم بالشيء فقد علم الشيء ولا حاجة إلى فعل علم آخر.
والحق ما قاله أبو عبد الله وإلاّ لزم، إذا ذكر أحدنا أنه كان عالماً بالله، وقد ثبت أن الذكر علم ضروري أن يكون قد علم الله ضرورة.
الوجه السادس: خرج على مذهب أبي هاشم وهو أن يعتقد أحدنا تقليداً أن زيداً في الدار، ثم يبقى هذا الاعتقاد إلى أن يشاهده فيها، فإنه يصير وجهاً في كون ذلك الاعتقاد علماً؛ لأنه من فعل العالم بالمعتقد، وهذا مبني على مذهبه في بقاء الاعتقادات، وقد ذهب الجمهور إلى أنها لا تبقى.
وقال أبو علي: يبقى الضروري دون المكتسب.
حجة الجمهور: أن الباقي لا ينفى إلا بضد أو ما يجري مجراه، وأحدنا خرج عن كونه عالماً لا الضد، ولا إلى ما يجري مجراه، والشك والسهو ليسا معينين.
وبعد فلو بقيت العلوم لما احتاج أحدنا إلى تكرار الدرس، ولوجب في من سمع سباً أن يحفظه ولا يزول عنه.
فصل
قد يحتاج العلم إلى العلم إما لكونه أصلاً له كاحتياج العلم بالحال إلى القلم بالذات، وإما لكونه طريقاً إليه كاحتياج العلم بكونه تعالى موجوداً إلى العلم بكونه قادراً، والفرق بين أصل الشيء وطريقه أنه لا يصح حصوله من دون أصله، ويصح حصوله من دون طريقه، ولهذا يصح /14/ أن يخلق الله تعالى فينا علماً ضرورياً بكونه موجوداً، وإن لم يعلم كونه قادراً، ولا يصح أن يفعل فينا العلم بصفة الذات دون العلم بالذات.
فصل
والعلوم قد تماثل وقد تختلف، ولا يضاد الاستحالة تعلق العلم بالشيء لا على ما هو به، وذلك شرط التضاد.
ويعرف تماثلها باتحاد المتعلق، والوجه والطريقة والوقت، كأن يعلم زيداً على صفة مخصوصة في وقت مخصوص جملةً أو تفصيلاً، فإنها تكون متماثلة لاتفاقها في أخص ما يثنى عن صفة ذاتها ولتماثل موجبها، ولأن الضد الواحد يبغيها كلها، ويعرف الاختلاف بتعدد(1) أحد هذه الوجوه المذكورة، ولم يشترط ابو هاشم إيجاد الطريقة بناء على مذهبه في أن العلم الجملي لا يتعلق ولا اشترط اتحاد الوقت بناء على مذهبه في بقاء الاعتقادات.
__________
(1) . في نسخة: بتعدن.
فصل
وكل علم حسن عند أبي هاشم وأبي الهذيل، وخالفه أبو القاسم في العلم إذا قصد به وجه قبيح كالعلم بالسحر، للعمل به، والعلم بالشبهة للتلبيس، والعلم إذا كان فيه مفسدة كالعلم بأعيان الصغائر والعلم بما معه تمكن من معارضة القرآن.
قال أبو هاشم: الذي يقبح هو القصد في الأول والتمكين في الثاني. واعترضه ابن متويه بأنه لا يمتنع أن يعلم الله من حال بعض المكلفين أنه إذا حصل له علم ما فسد عنده. ويمكن الجواب بأن العقلاء يستحسنون الإقدام على كل علم على الإطلاق، فلو كان فيها ما هو قبيح لدل عليه الشرع.
فصل
ويصح أن يعلم المعلوم الواحد بعلوم كثيرة خلافاً لأبي علي، وكأنه بناء على أصله في امتناع تسكير الساكر، وجمع المجتمع ونحوه.
لنا: صحة اجتماع المتماثلات والمختلفات في المحل الواحد، ومتى علمه بعلوم فهو كمن علمه بعلم واحد؛ لأن سكون النفس لا يتزايد، فأما الجلاء فالمرجع به إلى كثرة الطرق لا كثرة العلوم، ولهذا قد يكون العلم الواحد أجلا من العلوم الكثيرة كالضروري مع المكتسبات.
وأما قولهم فلان أعلم من فلان فمعناه في أحد قولي أبي علي كثرة علومه كقولهم أقدر، وفي القول الثاني كثرة المعلومات.
وقال أبو هاشم: معناه أنه يعلم ما يعلمه الآخر، وما لا يعلمه.
فصل
وليس يجب إذا علم أحدنا الشيء أن يعلم أنه عالم به بل الظن في ذلك يقوم مقام العلم خلافاً لأبي علي، وجعل ذلك وجهاً في أن أحدنا لا يقطع أنه من أهل الثواب.
فصل
والعقل عندنا مجموع علوم ضرورية يصح بوجه التكليف على من احتضرها على بعض الوجوه، وسميت عقلاً تشبيهاً بالمعنى اللغوي لما كانت تمنع صاحبها من ارتكاب القبائح، ويستعمل القول أيضاً في عرف اللغة بمعنى الوقار، وشدة التثبت وكثرة التحارب، وعلى هذا يقال: فلان لا عقل له، وفلان أعقل من فلان. وهذه العلوم كثيرة:
منها: العلم بأحوال أنفسنا على الجملة، نحو كوننا مريدين ومشتهين، ونحو ذلك.
ومنها: العلم بالبداية، نحو أن الكل أكثر من الجزء. ومنها: العلم بالمحسوسات، نحو: إن الشمس منيرة، وأن الكافور أبيض، ويدخل فيه الخبر؛ لأنا إنما نعلم أن النار محرقة بعد مشاهدة ذلك،و يدخل أيضاً العلم بالأمور الجلية قريبة العهد؛ لأن الله تعالى يحدد فينا العلم بها من حال المشاهدة، ويدخل فيه أيضاً العلم بتعلق الفعل بفاعله، فلا وجه لعد هذه أقساماً مستقلة.
ومنها: العلم بمخبر الأخبار المتواترة عند غير أبي هاشم، نحو: إن في الدنيا مكة، وإن في الملوك كسرى. وهذا وإن استند إلى المشاهدة فليس يدخل في تسميتها؛ لأن المشاهد هنا هم المخبرون بخلاف الخبرة والتجربة.
ومنها: العلم بأن الشيء لا يخلو من نفي وإثبات، نحو: إن زيداً إما في الدار أو ليس فيها.
ومنها: العلم بقصد المخاطب فيما يتجلى إذا عرفت ذاته ضرورة.
ومنها: العلم بأنه لا فيل بحضرتنا، والعلم بأنه لو كان لرأيناه.
ومنها: العلم بوجوب بعض الأفعال كرد الوديعة وشكر المنعم، وقبح بعضها كالظلم والكذب، وحسن بعضها كإرشاد الضال وإنقاذ الغريق وحسن الأخلاق. والذي يدل على أن هذه العلوم هي العقل أنا نعلم في من اختص بها أنه عاقل وإن جهلنا كل أمر، ويعلم في من فقدها أو بعضها أنه ليس بعاقل، وإن علمنا كل أمر.
وبعد فالعقل إما أن يكون ضداً لهذه العلوم فلا يصح مجامعته لها، أو مخالفاً فيصح انفصاله عنها ويجب، وأن لا ينفيه أضدادها، وكله محال، وإما أن يكون مثلاً لها، وهو المطلوب.
وبعد فلو كان غيراً لها لوجب أن نجد من أنفسنا حالاً أو حكماً يستدل به عليه، ونحن لا نجد من أنفسنا، سواء كوننا عالمين بهذه العلوم.
وقد ذهب جمهور أهل الخبر إلى أن العقل قوة يمكن معها إدراك المعقولات، ويبطله أن القوة هي القدرة والقدرة يصح وجودها، ولا عقل.
وبعد /16/ فكثير من المعقولات غير مدرك، وما كان منها مدركاً فالعقل زائداً على إدراكه، ولهذا قد يدركه من لا عقل له.
وبعد فتحديد العقل بالمعقولات إحالة، فإن كل من لا يعلم العقل لا يعلم المعقول.
وذهبت الطرفية إلى أنه القلب، ويبطله لزوم أن يكون كل ذي قلب غافلاً.
وذهبت الفلاسفة إلى أنه جوهر بسيط، هذا ما حكا أصحابنا عنهم، وهو كما حكوه، إلا أنهم أرادوا بذلك العقل الفعال الذي يؤثر في النفوس المؤثرة في الأجسام، وهو الملك عندهم، وسيأتي تحقيق قولهم وإبطاله.
وأما العقل بالمعنى الذي يريده المتكلمون فقد حكاه الغزالي عنه فيه قريباً مما يقوله أصحابنا، وهو التصورات والتصديقات الحاصلة بالفطرة، أي بالضرورة، إلا أنهم لا يسمونه علوماً؛ لأن العلم عندهم ما كان إكتسابياً، وهو اصطلاح مجرد.
وذهب أبو الحسين إلى أن القلب إذا كان مبنياً بنية مخصوصة جرى مع المعقولات مجرى العين الصحيحة مع المرئيات، فكما يجب في الحر منا أن يرى إذا صحت عينه واعتدلت كذلك يجب إذا صحت بنية قلبه واعتدلت، وأدرك المدركات وزال اللبس أن يعلمه، وإذا علمها وجب أن يعلم ما يتفرع عنها من كثير من صفاتها وأحكامها نحو أن الشيء لا يخلو من النفي والإثبات وقبح بعضها ووجوب بعضها مما يعده الجمهور من علوم العقل، ويمكن أن يقال له مع ما تقدم أن بنية قلب النائم صحيحة معتدلة، وهو لا يعقل.
وبعد فقياسه للقلب على العين بعيد؛ لأن العين حاسة يدرك بها، ويمكن استعمالها في المدرك ضرباً من الاستعمال، والقلب ليس كذلك.
وبعد، فقوله إذا اعتدلت بنية قلبه وأدرك المدركات وجب أن يعرفها وما يتفرع عنها لا ينافي ما يقوله الجمهور، لكنهم يجعلون تلك المعرفة من علوم العقل.
فصل
زعم أهل السفسطة والعنود أنه لا يصح العلم بشيء، وانه لا حقيقة لشيء، وأن ما يشاهده العقلاء حال اليقظة كما يشاهدونه حال النوم.
ومنهم فرقة تسمى الآدرية؛ لأنهم يقولون في كل شيء لا يدري، والكلام مع الكل يقع على جهة بيان أنهم كاذبون على أنفسهم لا على جهة المناظرة؛ لأنه كيف يصح مناظرة من ينكر الضروريات التي لا يدخلها شك، فيقال لهم: أتعلمون أنه لا حقيقة لشيء، فقد تركتم مذهبكم أم لا تعلمون، فلم قلتم أنه لا حقيقة لشيء؟ ولم لا تجوزون خلاف ما ذهبتم إليه؟ وإذا جوزتم /17/ فهل تعلمون ذلك الجواز أم لا؟
ويقال لهم: بماذا تجنبون ما يضر وتتبعون ما ينفع، وكيف ميزتم بين ذلك؟
فإن قالوا: بظن ذلك، قيل لهم: وهل تعلمون أنكم تظنون؟ وهل تعلمون الفصل بين العلم والظن، وما يتعلق الظن أم لا.
فإن قالوا: نعم تركوا مذهبهم.
وإن قالوا لا، عاد السؤال.
ويقال لهم: إنكم إذا سئلتم عن الشيء قلتم لا ندري، أفتعلمون أنكم لا تدرون أن قولكم لا ندري يطابق مذهبكم، وهل تعلمون الفصل بين لا ونعم.
شبهتهم: ما يقع من الغلط في المناظر ويتخيلها العقلاء على خلاف حقيقتها كالسراب يظنه العاقل ماء، وكحبة العنب يرى في الماء، كالإجاصة وكالشجرة ترى على الشط منكسة، وكالشط يراه راكب السفينة كأنه سائر، ونحو ذلك.
والجواب: أن هذه شبهة إنما يتأتى على القول بأن للأشياء حقائق يقع اللبس في بعضها، فإما على قولهم فلا يصح، وعندنا أن ذلك اللبس لأمر يرجع إلى الأشعة ومحاولة بعض أجزاء المرئيات لبعض، ثم نقول لهم وهل تعلمون أن العنبة أصغر من الإجّاصة وأ نالسراب ليس بماء، ونحو ذلك مما عدوه.
فإن قالوا: نعم، بطل مذهبهم، وإن قالوا لا سقطت شبهتهم.
القول في وجوب معرفة الله
ذهب الجمهور إلى أنه يجب على كل عاقل أن يعلم الله تعالى على الجملة وما يجب له، ويستحيل عليه وما يحسن منه ويقبح.
وقال أبو علي الأسواري والجاحظ وغيرهما: المعارف ضرورية، فلا يجب. وجوزه السيد المؤيد بالله في حق الأنبياء والأولياء.
وقال قوم: التقليد جائز في حق كل عاقل، فلا تجب المعرفة.
وقال أبو إسحاق بن عياش وأبو القاسم الكعبي: يجوز للعوام تقليد المحق، وروي عن القاسم عليه السلام جواز تقليد المحق مطلقاً.
وقال قوم: يكفي الظن بصانع العالم ولا حاجة إلى العلم.
والكلام على أهل المعارف: هو أن يقول أن هذه المعارف تحصل بحسب أنظارنا في الكمية والمطابقة على طريقة مستمرة، فيجب أن يكون منتبه عنها، ولا يلزم مثله في اللون الحاصل عند الضرب؛ لأنه لون الدم انزعج بدليل أنه لو ضرب الجماد لما حصل لون.
وبعد فالمبتدأ منها يحصل بحسب قصودنا ودواعينا، وينبغي بحسب كراهتنا وصوارفنا مع سلامة الحال، ولا يرد العلم بمخبر الأخبار المتواترة؛ لأنه يحصل باختيار الله تعالى لا باختيار المخبرين، وإلا وجب حصوله عند كل خبر بأن يختاروه، وأن لا يحصل عند خبر الكثرة بأن لا يختاروه.
وبعد، فكان يلزم في من لا يعرف الله تعالى أن يكون /18/ معذوراً، والتزام هذا كفر، ولا يقال العقلاء كلهم يعرفونه، لكن فيهم من جحده؛ لأن الجحود إنما يكون مع التواطي، وهو متعذر في حق الكثرة.
وبعد، فلو كان العلم بالله ضرورياً لكان بديهياً لتعذر ما عداه من الضروريات، فكان يجب أن يشترك العقلاء فيه؛ لأنه من كمال العقل، وأن بعد المخالف فيه مكابر كالسوفسطائي وخلافه معلوم، لا سيما وفي المخالفين من يدعي كون الباري جسماً ضرورياً، فإن إثبات خالق لا نظير له مكابرة.
وبعد فقد مدح الله تعالى العلماء في غير موضع من القرآن وأمر بالمعرفة في قوله: {فاعلم انه لا إله إلا الله}، وكل ذلك يقتضي أن المعرفة من فعلنا.
وأم ما قاله المؤيد بالله فقد أبطله الجمهور بأن المعرفة لطف، فلا يجوز أن يخص الله بها بعض المكلفين دون بعض، فكان يجب أن يفعلها في الجميع ويقبح التكليف باكتسابها، وله أن يقول مسلم: أن المعرفة لطف لجميع المكلفين، لكن ما أنكرتم أن يعلم الله من حال بعضهم أن لطفه في المعرفة الضرورية، ويعلم من حال الاخر أن لطفه في الاكتسابية.
فالأولى في إبطال قوله رحمه الله تعالى ما تقدم من أنها لو كانت ضرورية، لكانت بديهية، فكان يجب اشتراك العقلاء فيها من حيث يعد في كمال العقل لا من حيث اللطف، وأيضاً فتجويزه لذلك في حق الأنبياء والصالحين يقتضي أنهم قد عرفوا الله بالاكتساب قبل حصول المعرفة الضرورية؛ لأنهم إنما يكونون أنبياء وصالحين إذا عرفوا الله، ومتى قدرنا أنهم عرفوه استدلالاً بعد ما ذكره رحمه الله تعالى.
شبهة أهل المعارف: إن المعرفة لو كانت من فعلنا لجاز أن يختار أحدنا الجهل بدلاً منها، في ثاني حال النظر؛ لأن من قدر على الشيء قدر على جنس ضده إذا كان له ضد.
والجواب: إنه معارض بما تعدونه نظرياً من العلوم. والتحقيق: أن العلم قد صار واجب الوجود لوجود سببه، والجهل إنما يقع مبتدأ باختيار الفاعل.
قالوا: لو كلف المعرفة لوجب أن يعرف صفة ما كلفه واحدنا حال النظر لا يعرف صفة المعرفة، إذ لو علمها لما كلف النظر؛ لأنها هي المطلوب.
قلنا: هو يعلم ماهية المعرفة تصوراً، وإن كانت معدومة، وهي مكلف تلك الماهية المتصورة في ذنه، على أن معرفة سببها الموصل إليها يقوم مقام معرفتها، وعلى أنهم معارضون بما يعدونه نظرياً من العلوم.
قالوا: لا مشقة في العرفة، فكيف يكلف بها.
قلنا: المشقة في سببها.
قالوا: وكيف يجب العلم بالشيء قبل العلم بصفة من أوجبه؟
قلنا: العقليات تجب لوجوه يقع علها، فلا يحتاج إلى العلم بالموجب.
قالوا: لو كلف أحدنا /19/ بالمعرفة لنهى عن الجهل، ولو عرف الجهل لعرف المجهول.
قلنا: ليس منهياً عن جهل معين وإنما هو منهي عن كل اعتقاد لا يأمن كونه جهلاً.
والكلام على أهل التقليد هو أن المقلد لا يأمن في ما يعتقده أن يكون جهلاً، والأقدام على ما يؤمن كونه جهلاً قبيح كالإقدام على الجهل.
وبعد فإما أن يقلد الجاهل وهو ظاهر البطلان، أو العالم فذلك العالم إما أن يعتقد مذهبه ضرورة وهو باطل بما تقدم أو تقليداً فيلزم التسلسل، أو دلالة فيبطل التقليد.
وبعد فإما أن يخير والتقليد مع تجويز الخطأ فيلزم صحة تقليد سائر الملل الكفرية أو لا فرق بينها وبين ملة الإسلام عند المقلد في جواز الخطأ، وإما أن يشترطوا في جواز التقليد أن لا يجوز الخطأ على من قلده، فهو باطل؛ لأنه كيف يعلم أنه لا يجوز عليه الخطأ وقد دخل في هذا إبطال ما حكى عن القاسم عليه السلام؛ لأن المقلد كيف يعلم المحق حتَّى يقلده.
وبعد، فلو جاز التقليد لكان أحق الناس بأن يقلده الأنبياء، فيكون(1) إظهار المعجز عبثاً.
وبعد، فإما أن يقلد أرباب المذاهب وفيه اعتقاد المتضادات أو واحداً منهم، ولا مخصص.
فإن قالوا: بالكثرة.
قلنا: هي لا تدل على الحق بدليل: {وإن تطع أكثر من في الأرض يضلوك..} الآية، {وما أكثر الناس ولو حرصت بمؤمنين} {ولكن أكثرهم لا يؤمنون}، {وقليل ما هم}، {وقليل من عبادي الشكور}، {وما آمن معه إلا قليل}، ونحو ذلك، ولأن الكثرة قد تعود قلة والعكس.
وأما قوله صلى الله عليه وآله وسلم: ((عليكم بالسواد الأعظم)) فأحادي، ومحمول على اتباع الإجماع؛ لأنه لا سواد أعظم منه، ومحمول أيضاً على اتباعه في الشرعيات.
فإن قالوا: نقلد الأزهد.
قلنا: في كل فرقة لا زهاد.
__________
(1) . يقال: لم يكونوا أنبياء إلا بإظهار المعجز، فلا يكون عبثاً.
وبعد فقد ذم الله التقليد في عدة آيات نحو: {إنا وجدنا آباءنا على أمة}، ونحو: {إذ تبرأ الذين اتُّبعوا من الذين اتَّبَعوا..} الآية، ونحو: {فهم على آثارهم يهرعون}، ونحو: {اتخذوا أحبارهم..} الآية، ومن السنة قوله عليه الصلاة والسلام: ((لا تكونوا أمّعَةً تقولون إن أحسن الناس أحسنا وإن أساءوا أسأنا ألا إن الأمّعة المحقّب دينه الرجال))، وقال عليه الصلاة والسلام: ((أخوف ما أخاف عليكم زلة عالم وأئمة مضلون وجدال منافق)). وقال عليه الصلاة والسلام: ((لن تهلك أمة إلا من قبل علماء السوء))، ونحو ذلك كثير.
ويقال لأهل التقليد: هل يجب شكر المنعم فلا بد من قولهم بلى.
فيقال: وكيف يجب شكر من لا يعرفه.
ويقال لهم أيضاً: هل يجب الاعتراف بالنبوءات والشرائع، وله تجب /20/ العبادات، فلا بد من قولهم بلى.
فيقال: إذا لم يعرف المعبود وحكمته فكيف تعرف وجوب العبادات ونبوة الأنبياء.
شبهتهم: إن النبي عليه الصلاة والسلام لم يكن يدعو الناس إلا إلى الإقرار بالشهادة، ولم يكن يأمرهم بطلب الدقائق(1)، وحل الشبه وكثير مما يذكره اهل الأصول، ولهذا قال عليه وعلى آله الصلاة والسلام: ((أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله، فإن قالوها حقنوا مني دماءهم وحسابهم على الله)).
والجواب: إنما اقتصر على ذلك في القتال؛ لأن الإكراه لا يتصور في باب العقائد، فإما الحث على النظر والعلم بالله تعالى فمما لا يخفى نحو قوله صلى الله عليه وآله وسلم للأعرابي: ((وماذا صنعت في رأس العلم))؟ قال: وما رأس العلم. قال: ((أن تعرف الله حق معرفته..)) الخبر. وقال عليه وعلى آله الصلاة والسلام: ((تفكر ساعة خير من عبادة سنة))، وبالجملة فإن الكتاب والسنة مشحونان بالحث على النظر والذم على تركه.
__________
(1) . في نسخة: العلم الدقيق.
قالوا: لو كلف العوام والنساء بهذه الأصول والاستدلال عليها بالأدلة الغامضة ودفع الشبه مع علمنا أنهم لم يفعلو ذلك لوجب أن يقضى بكونهم كفاراً، ويجري عليهم أحكام الكفرة، ومعلوم خلافه.
قلنا: لم ندع أنهم كلفوا ما كلفه المبرزون في العلم، وإنما كلفوا جملة يسيرة يسهل اكتسابها وأدلتها مقررة في عقولهم، وعجزهم عن التعبير عنها لا يدل على أنهم غير عالمين بها، فإن كثيراً من العقلاء يعلم ما لا تحسن العبارة عنه، ألا ترى أنك لو سألت رجلاً عاقلاً عن العقل ما هو لما درى كيف يجيبك، ومتى عددت العلوم المذكورة لقال أما هذه فأنا أعلمها. يزيده وضوحاً: أن الذي يذكره العالم للمتعلمين في هذا الفن إنما هو التنبيه على وجوه الاستدلال، وعلى ما هو مقرر في عقولهم.
قالوا: قال تعالى: {إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا..}، فأخبر تعالى أن الإقرار كاف في ذلك.
قلنا: رأس الاستقامة العلم بالله تعالى وإلا لزم في الكافر والمنافق مثله إذا أقر باللسان.
قالوا: قال تعالى: {فبشر عبادي الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه} ولم يشترط الاستدلال.
قلنا: معرفة صحة القول وحسنه يقف على معرفة الله تعالى.
قالوا: قال عليه وعلى آله الصلاة والسلام: ((بني الإسلام على خمس)) ولم يذكر غيرها.
قلنا: شهادة أن لا إله إلا الله وسائر الخمس تقف على معرفة الله؛ لأنه كيف يشهد أنه لا إله إلا الله ولم يعرفه.
والكلام على أهل الظن هو أن التكليف بالظن مع إمكان العلم قبيح في باب الأصول؛ لأن كون الباري تعالى مرئياً أو غير مرئي مثلاً أمر ثابت في نفس الأمر لا يحصل بحسب الظن /21/ ولهذا يخالف الفروع، لأن المصلحة فيها بجواز أن يحصل بحسب الظن.
وبعد فإما أن يكلفوا الظن كيف كان أو الظن الصائب المطابق لأقوى الإمارات.
إن قالوا: بالأول. فهو ظاهر السقوط، وإلا لزم إصابة من ينفي الصانع، وينكر النبوات ويشرك بالله.
وإن قالوا: بالثاني. قلنا: وكيف يعلم أن ظنه صائب مطابق.
وإن قالوا: بالثالث، قلنا: أتريدون بأقوى الإمارات قول الآباء والأسلاف فيلزم إصابة أهل كل ملة أو قيام الأدلة، ففيه رجوع إلى وجوب النظر، وهو المطلوب؛ لأنها حينئذ توصل إلى المعرفة.
فصل
إذا بطلت هذه الأقوال فالدليل على وجوب معرفة الله تعالى أنها لطف للمكلفين في القيام بما كلفوه، ويحصل ما هو لطف بهذه الصفة واجب، فهذان أصلان.
أما الأول: وهو إن أنها لطف فلأن حقيقة اللطف هو ما يمتثل المكلف عنده ما كلفه لأجل أنه كلفه أو يكون أقرب إلى ذلك، ولا شك أن المعرفة بهذه الصفة فإن من عرف أن له صانعاً يثيب من أطاعه ويعاقب من عصاه كان أقرب إلى طاعته،
واعلم أن اللطف في الحقيقة هو العلم بأن هذا الفعل مما يستحق عليه الثواب أو العقاب؛ لأنه الذي يدعوا ويصرف، لكن لما لم يتم إلاَّ بمعرفة المثيب والمعاقب سمى الجميع لطفاً، والظن، وإن ثبت له حظ الدعاء والصرف فهو لا يقوم مقام المعرفة ولا يتناوله التكليف لقبحه ولأنه إن كان اعتقاداً كما يقوله أبو هاشم فوجه قبحه جواز كونه جهلاً، وإن كان جنساً مستقلاً فهو لا يخلوا من اعتقاد تجوّز كونه جهلاً، وذلك الاعتقاد هو التجويز، فيكون الظان لثبوت الصانع مجوّزاً لنفيه والظانّ لعدله مجوزاً تجويزه.
وأما الثاني، وهو أن تحصيل ما هو لطف بهذه الصفة التي هي كونه لطفاً في جميع ما كلفناه واجب فلأنه يجري مجرى دفع الضرر عن النفس فإنه إذا فعل الطاعات دفع عن نفسه ضرر العقاب ولا يتم فعلها طاعة إلا بعد معرفة المطاع ووجوب دفع الضرر عن النفس معلوم ضرورة مظنوناً كان أو معلوماً، إلا أن وجه الوجوب في المعلوم هو كونه دفعاً للضرر، وفي المظنون هو الظن لدفع الضرر، وقد ذهب أبو علي مرة إلى أن وجه وجوب المعرفة وجوب شكر النعمة، وكون أحدنا يتمكن بها من ذلك، وهو باطل؛ لأن شكر نعمة الله تعالى لا تجب إلا بعد معرفته، ومعرفة أنه وجه قصد الإحسان، وإن وجبا للشكر أمكن تأديته مشروطاً، وإن لم يحصل معرفته وذهب مرة إلى أن وجه وجوبها قبح تركها، وهو الجهل والظن، ونحوهما، وأبطله صاحب شرح الأصول بأن ذلك إنما يستقيم لو لم يمكن الانفكاك عن القبيح إلا إلى المعرفة، ومعناه أن المعرفة حينئذ تكون قد منعت من وقوع /22/ القبيح.
قال: وأما مع إمكان الإنفكاك بأن لا يفعلها ولا ما يضادها فإنما ذكره لا يستقيم، ولأبي علي أن يقول أن لا يفعل ترك، والترك عندي فعل فهو قبيح حقيقي، وهو عندكم كالقبيح من حيث كان جهة كافية في استحقاق الذم، وإذا كان كذلك فقد صار أحدنا لا ينفك عن المعرفة إلا إلى ما يستحق به الذم، ويمكن الجواب بأنه وإن كان كذلك إلا أن عدم فعله للمعرفة إنما يقبح إذا ثبت وجوب المعرفة، فلا يمكن أن يجعل وجهاً في وجوبها؛ لأنه دور.
فصل
ومعرفة الله تعالى مما يجب على جميع المكلفين لاشتراكهم في كونها لطفاً لهم، والذي يشتبه أن يقال يجوز أن يعلم الله من حال بعضهم أنه يفعل المطلوب فيه، وإن لم يعرف.
والجواب: إن ذلك لا يخرجها عن كونها لطفاً؛ لأنه معها بكون أقرب لا محالة إلى تأدية ما كلفه، وبعد فأحدنا مكلف بما عنده لا بما في معلوم الله تعالى.
وبعد، ففي علمنا بكفر الجاهل بالله ضرورة من دين النبي صلى الله عليه وآله وسلم وإجماع الأمة دليل على أنه ليس في المكلفين من هذه صفته.
فصل
ويلحق بها ما يترتب عليها مما يعد لطفاً من المعارف كمعرفة الحفظة وشهادتهم علينا وإنطاق الجوارح ونصب الموازين وعذاب القبر والحساب، ونشر الصحف، ونحو ذلك، ونحو معرفة الطبع والختم المذكورين في القرآن، وسماع القرآن وتتبع السنن وسماع الوعظ وأشباه ذلك.
فصل
وأقل ما يجوز أن يكلف الله المرء علماً عند أبي علي معرفة الله بتوحيده.
قال: لأن ما عدا ذلك علم بغيره من الأفعال.
وقال أبو هاشم: لا بد أيضاً من معرفة العدل والوعد والوعيد واستحقاق الثواب والعقاب؛ لأنه الذي يدعو ويصرف، ثم يجوز احترامه من بعد ذلك.
وقال القاضي: اللطف لا يراد لنفسه، فلا بد أن يكلف مع اللطف شياً من الملطوف فيه، ويتمكن منه، ثم نحو من احترامه.
فصل
والذي قد استقر عليه التكليف مع التبعية معرفة التوحيد والعدل والنبوءات والشرائع وما يتصل بكل واحد من هذه الأصول من مقدمات ولواحق.
فصل
وأول علم بالله تعالى عند القاضي وأبو الهذيل أن تعرف أن لهذه الحوادث محدثاً؛ لأنه قد يكون علمه على الجملة.
وقال أبو هاشم: أن تعرف محدثها بصفة من صفاته بناء منه على أن العلم الجملي لا يتعلق.
وقال أبو علي: أن تعرف أن لها محدثاً مخالفاً لنا، وهو كمذهب أبي هاشم؛ لأنه إنما يعرف أنه مخالف لنا إذا عرفه لصفة من صفاته.
فصل
ومعرفة الله تعالى مقدورة لنا لقدرتنا على سببها، وهو النظر من حيث يفق على قصورنا /23/ ودواعينا.
وقال الرازي في محصوله: ليست مقدورة لنا لا هي ولا النظر، وجعل الأمر بها وبالنظر في قوله تعالى: {فاعلم أنه لا إله إلا الله}، و{قل انظروا ماذا في السماوات والأرض} أحد الأدلة على تكليف ما لا يطاق، وهذا قول ظاهر التهافت، ويكفي في شناعته أنه إقرار بالجهل بالله تعالى؛ لأن المعارف عنده نظرية لا ضرورية، وإقرار بإبطال النظر مع أنه إنما يبطل النظر بالنظر، وإقرار بأن جميع ما قاله في مصنفاته كان لا عن علم، وكل هذا يتوجه معه طي المناظرة.
وشبهته ما تقدم من أنا قد كلفنا بالمعرفة، فلا يخلو إما أن يعلم صفة ما كلفناه فيكون صفة ما كلفناه، فنكون قد كلفنا ما لم يعلم.
والجواب: أنا نعلم ماهية المعرفة بالتصور سواء كانت معدومة أو موجودة، وكلفنا بتحصيل تلك الماهية المتصورة، على أن معرفة السبب كافية في حسن التكليف بالمسبب كما سلف ذكره.
فصل
ومعرفة الله تعالى مما يجب على العاقل في كل حال إلاَّ حال السهو للوجه الذي لأجله وجبت في أول أحوال التكليف، وحراستها يكون بتحديدها حالاً فحالاً عند من يمنع بقاء العلوم بالاحتراز من العوارض والأضداد عند من يقول بنفائها.
فإن قال أحدنا يعلم أنه غير عالم بالله وجائزأن يعلم أحدنا الشيء ولا يعلم أنه عالم به إلا بتأمل مستأنف.
القول في النظر
هو مشترك بين معاني.
أحدها: نظر العين، نحو: نظرت إلى الهلال فلم أره، أي قلبت حدقتي السليمة في جهته.
وثانيها: نظر الرحمة، نحو: ولا ينظر إليهم يوم القيامة.
وثالثها: نظر المقابلة، نحو: داري تنظر إلى دار فلان.
ورابعها: نظر الانتظار، نحو: {فناظرة بم يرجع المرسلون}.
وخامسها: نظر الفكر، نحو: {قل انظروا ماذا في السماوات والأرض..} الآية، وهو المقصود هنا، ويسمى نظراً وفكراً وتأملاً وتدبراً ورؤية، وهو المعنى الذي يولد العلم إذا تكاملت شرائطه.
فصل
وهو جنس مستقل لأن له أحكاماً لا توجد في غيره من أفعال القلوب، ولا يصح رجوعه إليها، منها: أنه لا يصح إلا مع الشك والتجويز.
ومنها: أنه إذا حصل على شرائطه أزال ذلك الشك والتجويز بما يتولد عنه، ومنها: أنه يؤثر في وقوع الاعتقاد علماً. ومنها: أنه يلحق بفعله مشقة.
وذهب بعضهم: إلى أن المرجع به إلى حدث النفس والكلام الخفي، وهو باطل؛ لأن النظر يوجب حالاً دون الكلام، ويوجد مع فقد الكلام ويؤثر في وقوع الاعتقاد دون الكلام.
وذهب أبو الحسين وأبو الهذيل إلى أن النظر /24/ هو التأمل الذي يتضمن ترتب اعتقادات أو ظنون ليتوصل بها إلى اعتقادات أو ظنون، وهذا يوافق ما قاله الجمهور؛ لأن التأمل عندهم من أسماء النظر، وإنما نفى الخلاف في هل يولد غير العلم أم لا وسيتضح.
وما ذكره محمود بن الملاحمي من أن المرجع بالتأمل إلى تفريغ القلب عن الاشتغال بتذكر غير المقدمات المعصية إلى العلم المكتسب، وأن هذا هو الذي يحصل به المشقة، فغير صحيح؛ لأن أفعال القلوب كلها غير باقية، فلا يحتاج أحدنا في تفريغ القلب إلى مشقة، بل يكفيه أن لا يفعل سوى استحضار هذه المقدمات، وليس ما نتركه مما يشتهى فيلحق بتركه مشقة.
شبهة:
إنه لو كان التأمل هو النظر والنظر عندكم لا بد أن يوصل إلى العلم لكان التأمل كذلك، ومعلوم أنه قد يحصل التأمل من دون ترتيب المقدمات، فلا يوصل إلى العلم.
ويمكن الجواب أنا ندع في كل نظر، وكل تأمل أنه يوصل إلى العلم، بل قلنا ذلك في النظر الصحيح والتأمل الصحيح، وإنما يكون كذلك إذا تكاملت شرائط التوليد لا سيما وقد ذكر في معتمده أن من يقول أن النظر جنس برأسه لا بد من أن يشرط ترتيب العلوم ليتوصل إلى العلم.
فصل
وشروط وجوه النظر أن يكون القادر عليه شاكاً.
وقال القاضي: وأن يكون مجوزاً وإن نجح أحد المجوزين.
وقال أبو علي: يصح مع التقليد والتجنب، ولك هذه متقارنة؛ لأن المقلد والمنجب غير قاطعين.
وقال أبو عبد الله: يصح مع العلم، وهو باطل، لأن من قطع على حدوث العالم مثلاً كيف ينظر في هل هو محدث أم لا، ولأن أحدنا يتعذر عليه النظر في المشاهد ولا وجه لذلك إلا القطع عليه.
شبهته: إن أحدنا ينظر في دليل فيعلم المدلول ثم ينظر في دليل آخر فيعلم المدلول أيضاً، فكان يلزم تعذر النظر في الدليل الآخر.
والجواب: إنه ينظر في الدليل الآخر ليعلم أنه دليل لا ليعلم المدلول، فمتى علمه دليلاً آخر دعاه ذلك إلى أن يعلم(1) علماً آخر بالمدلول.
فصل
والكلام في تماثل النظر واختلافه كالكلام في العلم، فأما التضاد في الأنظار فغير واقع خلافاً لأبي علي.
لنا: إن شرط التضاد اتحاد المتعلق، وأن يكون التعلق متعاكساً، ويعاكسه مفقود هنا، وإيجاد المتعلق يقتضي التماثل، فأما النظر في شيئين فلا يسلم لأبي علي امتناعه، وإن سلمناه فهو لأمرٍ يرجع إلى الداعي لا للتضاد.
__________
(1) . في نسخة: يغفل.
فصل
والنظر يولد العلم خلافاً لأهل الحيرة والقائلين بأن الأدلة متكافية، وللقائلين بأنه لا طريق إلى علوم الدين إلا السمع، وللقائلين بأن الإسلام لم يرد إلا بالسيف /25/ وأن النظر بدعة.
لنا: إن العلم يوجد بحسب النظر في الكمية والمطابقة، وأن العقلاء يفزعون إليه عند التباس الأمور، فزع من يعلم أنه موصل إلى العلم.
فإن قال: هلا كان طريقاً إلى العلم لا مولداً له.
قيل له: طريق العلم يتعلق بما يتعلق به العلم، كالإدراك، وهاهنا متعلق النظر الدليل، ومتعلق العلم المدلول.
فإن قال: هلا كان داعياً إليه؟
قيل له: الداعي يختص شيئاً بعينه، والنظر ليس بأن يدعو إلى اعتقاد المدلول على صفة، أولى من غيرها، ولا يرد بذكر النظر؛ لأنه يدعونا إلى أن يصير مثل الصفة التي كنا عليها من قبل.
إن قال: هلا كان شرطاً؟ قلنا: من حق الشرط المقارنة.
فإن قال: هو شرط اعيادي بفعل الله العلم عنده كالحفظ عند الدرس كما يقوله بعض أهل المعارف.
قيل له: كان يجو اختلاف العادة فيه كالحفظ.
فإن قالوا: الأسباب يصح مقارنتها للمسببات، ويؤثر في وقوعها فقط لا في وقوعها على وجه، وليس هذا حال النظر .
قلنا: أما الأول فلأن شرط النظر التجويز، وهو لا يقارن العلم.
وأما الثاني، فهو شيء اختص به النظر دون سائر الأسباب لقيام الدليل.
فإن قال: قد يحصل العلم لأحد الناظرين قبل الآخر، وكذلك قد يحصل لأحدهما دون الآخر، ولو كان سبباً لحصل لهما على حد واحد.
قلنا: أما سرعة حصوله لأحدهما فمن حيث يتمكن من استحضار المقدمات قبل الآخر، فإن القلب خلق آلةً لذلك، والآلات تختلف في سرعة الفعل بها، وأما حصوله لأحدهما دون الآخر فمن حيث نظر على الوجه الصحيح.
شبهة: القائلين بالخيرة أن الناس اختلفت اعتقاداتهم من أن كلهم قد نظروا بل الرجل الواحد قد يعتقد صحة مذهب بالنظر زماناً طويلاً، ثم يعتقد بطلانه بالنظر، وأن الحق غيره، ولو كان النظر يوصل إلى العلم لاتفقت الأناسي والأحوال فيه؛ لاتفاقها في سببه.
والجواب: أنا نعلم بالضرورة بعد الاختيار أنه موصل إلى العلم إذا وقع على الوجه الصحيح، فلا تقدح الشبهة في ذلك.
وبعد فلم يدع في كل نظر أنه يوصل إلى العلم، وإنما يوصل إليه النظر الصحيح، فمن نظر على الوجه الصحيح حصل له العلم، فإن اعتقد خلافه من بعد فلشبهة تدعوه إلى فعل الجهل.
وبعد، فاتفقنا على أن الإدراك طريق إلى العلم مع أنه قد يختلف الحال فيه لضروب من اللبس بعرض، وكذلك الحساب.
ثم يقال لهم أبالضرورة علمتم أن النظر يؤدي إلى الحيرة، وهذه مكابرة أم بالنظر علمتم ذلك، فقد بطل /26/ مذهبكم.
شبهة: أهل التكافي إن كل أهل مذهب قد استدلوا بمثل دليل مخالفيهم، ورجح كل منهم مقالته بمثل ما رجح به خصمه، فلا مزية لدليل على ذلك.
والجواب: ما تقدم على أهل الشك.
ثم يقال لهم هذه الأدلة المتكافئة إما أن توصل كلها إلى العلم حتى تكون جميع المذاهب حقاً، وهذا باطل ظاهر الفساد؛ لأنه كيف يكون حقاً قول من ثبت الصانع وقول من ينفيه، وإما أن لا يوصل شيء منها إلى العلم، وفي هذا خروجها عن كونها أدلة فضلاً عن كونها متكافية.
وأما أن يوصل بعضها إلى العلم دون بعض، وهو المطلوب، لكنا نسمي الذي يوصل إلى العلم دليلاً والاخر شبهة.
وأما القائلون بأنه لا طريق إلى العلوم إلا السمع فيقال لهم: كيف تعلمون صحة السمع، ثم ما يريدون بالسمع إن أرتم الكتاب والسنة والإجماع، فكلها تتضمن الحث على النظر والتفكر والمطالبة بالبراهين والذم على ترك ذلك، وإن أردتم بالسمع قول الإمام، فذلك الإمام إما أن يقول بالكتاب والسنة والعقل أم لا إن قال بها فالكلام ما تقدم، وإن لم يقسم بها فليس بإمام.
ثم ما طريق الإمام إلى صحة ما تقوله.
وأما القائلون بأن الإسلام لم يرد إلا بالسيف والنظر بدعة.
فيقال لهم: المعلوم ضرورة من دين النبي عليه وعلى آله الصلاة والسلام أنه كان يدعو إلى دينه بالقرآن المشتمل على أنواع الحجج والبراهين والرد على أهل الكفر والبدع من أهل الكفر والشرك والمنكرين للقيامة والبعث والرسل والآيات المتضمنة للحث على النظر في المخلوقات والذم على ترك ذلك أكثر من أن يحصى.
وقولهم: إن النظر بدعة مدفوع بما يعلمه ضرورة من الدين، ومن أحوال العقلاء والفزع إليه عند التباس الأمور.
شبهة للكل. قالوا: لو أوصل إلى العلم لما عدل أحد عنه.
والجواب: بل يعدل عنه آثاراً للدعة أو تجويزاً للتقليد ونحو ذلك مما يصرف عن النظر، وكذلك يمكن الانصراف عن العلم الحاصل عنه للشبهة أو لاتباع الأسلاف والتعصب لهم، فتعرض عما يخالفهم، وإن قاد إليه النظر كما هو حال كثير من المخالفين أو لاتباع مذهب يستفيد به رئاسة ويصير به قدوة، وإن كان باطلاً.
فصل
إذا ثبت أن النظر يولد العلم فهو لا يولد غيره.
وقال القاضي وغيره: إن النظر في الإمارات يولد الظن، وإن النظر في المقدمات المعتقدة المطابقة غير المعلومة تولد اعتقاداً غير علم.
لنا: إنا نعلم حسن جميع الأنظار لعلمنا بحسن الإقدام عليها على الإطلاق، فلو كانت تولد الاعتقادات /27/ والظنون ومعلوم أن فيها ما هو قبيح لما حسنت الأنظار على الإطلاق؛ لأن قبح المسبب يقتضي قبح السبب.
فإن قيل: إن في الأنظار ما هو قبيح كالنظر في الشبهة للتلبيس وفي السحر للعمل به، ونحو ذلك.
قلنا: قد قال به الشيخ أبو القاسم وأبو علي، وليس بصحيح لما تقدم، وإنما يقبح العضد المقترن به.
وأما العلم الحاصل عند النظر في تبين مراد الغير فهو ضروري بالعادة.
وأما الجهل الحاصل عند النظر في الشبهة فهو مبتدأ باختيار الناظر بدعوة الشبه إلى ذلك لأنه لا يعلق للشبهة، فتولد النظر فيها الجهل.
يوضحه أن النظر في الدليل قد لا يولده بأن لا يكون عالماً بوجه دلالته مع أن له علته بالمدلول، فأولى في النظر في الشبهة؛ ولأن النظر في الشبهة لو ولد الجهل للزم إذا نظرنا في شبهة الخصم من الوجه الذي كانت له شبهة أن يولد الجهل لنا لولا أنه بالداعي، وأن ما يدعو زيداً يجوز أن لا يدعو عمراً. وقريب من هذا الكلام في الظن الحاصل عند النظر في الإمارة.
فصل
وإنما يولد العلم إذا وقع في دليل أو طريقة نظر. مثال الأول: أن ينظر في ذات فيحصل له العلم بذات أخرى أو في صفة لذات، فيحصل له العلم بصفة لذات أخرى.
ومثال الثاني أن ينظر في صفة لذات فيحصل له العلم بصفة أخرى لتلك الذات.
فصل
وشروط توليده للعلم أن يكون الناظر عاقلاً، وأن يكون عالماً بالدليل، أي بنفس الدليل لا بكونه دليلاً؛ لأن ذلك يتأخر عن العلم المتأخر عن النظر، وأن يكون عالماً لوجه دلالة الدليل، فإن الملحد يعلم الأجسام وينظر فيها ولا يحصل له العلم بالصانع لما لم يعلم وجه دلالتها، وهو الحدوث. ومن هاهنا أسد على المجبرة باب الاستدلال بخطاب الله تعالى لما جهلوا وجه دلالته، وهو صدوره عن عدل حكيم.
فصل
والنظر في الفرع يتوقف في توليده للعلم على النظر في الأصل، وتوليده للعلم إذا كان الأصل نظرياً كالنظر في حدوث الأعراض، فإن توليده للعلم يقف على توليد النظر في إثباتها للعلم.
فصل
وإذا نظر أحدنا فعلم ثم طرت شبهة فزال العلم فإنه إذا حل الشبهة لم ينجح إلى تجديد النظر، بل يكفي بذكره كالنائم؛ لاستوائهما في زوال العلم.
فصل
وإذا نظر فعلم المدلول ثم سهى عن الدليل ووجه دلالته فهل يستمر كونه عالماً أم لا، فمن لا يقول ببقاء العلوم يذهب إلى أنه يتذكر النظر ويفعل العلم /28/ حالاً فحالاً.
والقائلون ببقائها اختلفوا، فقال أبو علي ببقاء المكتسب إذا أمنع صاحبه من فعل ضده كما قاله في جواز خلو القدرة عن الفعل عند حصول منع، فإنه لم يمنع فغير باق، وإنما يجدده حالاً بعد حال.
وقال أبو هاشم: لا يبقى العلم والحال هذه؛ لأن العلم بالدليل ووجه دلالته أصل للعلم بالمدلول، فإذا زال كالعلم بالحال مع العلم بالذات.
قال: ولأنه متى شك في الدليل ووجه دلالته زال العلم بالمدلول اتفاقاً، فكذلك إذا سهى عنه لاستوائهما في عدم العلم.
وقال أبو عبد الله ببقاء من غير فصل، واستدل بأن أحدهما إذا دهمه حادث عظيم فإنه يفشل ويذهل عن الدليل، ووجه دلالته ولا يزول عنه العلم بالتوحيد والعدل.
والجواب لا نسلمه، بل هو عالم بالدليل، ولكن لا نعلم أنه عالم لأجل ما دهمه.
فصل
ومتى نظر في دليل فعلم لم يجب عليه من جهة العقل أن ينظر في دليل آخر خلافاً لقوم، فأما الحسن فيحسن لأنه قد يرد شبهة على أحد الدليلين، فيستعين بالآخر على حلها وعلى تحديد العلم، وكذلك يجوز أن يجب بالسمع النظر في كل دليل لجواز أن يكون ذلك لطفاً.
فصل
والنظر في معرفة الله تعالى واجب خلافاً لأهل المعارف وأهل التقليد وأهل الشك وأهل التكافي وأهل السمع وأهل الظن وأهل البدعة، وتقدم فساد قول الجميع.
ولنا في وجوب النظر دلايلان:
أحدهما: أن معرفة الله تعالى واجبة على كل مكلف من غير شرط، وهي لا تحصل إلا بالنظر، وما لا يحصل الواجب الذي هذه صفته إلا به يجب كوجوبه، فهذه أصول ثلاثة. أما الأولان فقد نفد ما حيث بينا أن المعرفة لطف لجميع المكلفين وأنها ليست ضرورية وإنما يحصل بحسب النظر.
وأما الثالث، فهو معلوم ضرورة على الجملة، فإن من معه وديعة ولا يتم له ردها إلا بالقيام وفتح الباب والمناولة فإن العقلاء يقضون بوجوب هذه الأفعال ويذمون تاركها، ولا وجه لذلك إلا كون الواجب لا يتم إلا بها بدليل أنه لو تم بغيرها لما وجبت، وقلنا من غير شرط احترازاً مما يكون وجوبه مشروطاً بما لا يتم إلا به كالحج، وكما إذا قال السيد لعبده: اصعد السطح إذا كان السلم منصوباً.
الدليل الثاني: أن العاقل عند كمال عقله لا بد أن يخاف من ترك النظر ضرراً وهو لا يرجو زوال ذلك الخوف إلا بالنظر، وذلك يقتضي وجوبه، فهذه ثلاثة أصول /29/.
أما الأول: فاعلم أولاً أن الخوف هو الظن لحصول ضرر او فوت يقع في المستقبل واعتبرنا الظن اتباعاً لأهل اللغة ولا يرد خوفنا للموت؛ لأنا إنما نخاف وقته ولا خوف الملائكة عليهم السلام في قوله تعالى: {يخافون ربهم من فوقهم} لأنه خوف توقّ أي يخافون مرافقة ما يفضي إلى الضرر، وقيل: معناه يفعلون أفعال الخائفين هذا ما ذكره أصحابنا، والأقرب أنهم يخافون خوفاً حقيقياً؛ لأنهم مكلفون بمعرفة الله تعالى، وهي إنما يحصل عن النظر في حق كل مكلف، ووجه وجوب النظر هو الخوف من تركه في حق كل مكلف، فلا بد أن يخافوا من ترك النظر ضرراً ليكون ذلك وجهاً في وجوبه عليهم، وقول أصحابنا أنهم يقطعون على أنهم لا يعذبون، وهو صحيح، لكن إنما يقطعون على ذلك بعد معرفة الله والخوف من ترك النظر متقدم عليها، واعتبرنا تعلق الظن يفوت النفع، وحصول الضرر؛ لأن تعلقه بعكس ذلك رجاء، واعتبرنا الاستقبال لأن ما قد وقع لا يخاف ولا يجوز أن يكون الخوف من فعل الله تعالى؛ لأنه ظن والظن لا يحسن فعله ولا الفعل لأجله والترك إلا إذا حصل عند إمارة صحيحة ينظر فيها فاعل الظن، وبهذا يفارق ظن السوداوي والنظر في الأمارة مستحيل على الله تعالى؛ لأنه عالم لذاته.
واعلم أن للخوف أسباباً منها أن يتنبه من ذي قبل نفسه بأن يرى بدائع الحكمة وعجائب الصنعة في نفسه وفي غيره، فيجوز أن يكون لها صانع يثيب على الحسن ويعاقب على القبيح فيخاف.
ومنها أن يرى افتراق الناس في الأديان وتضليل بعضهم بعضاً، فيجوز أن يكون من الصالحين فيخاف. ومنها: أن يسمع الوعظ والأخبار والقصص والكتب المنزلة وما فيها من ذكرا لصانع والثواب والعقاب فيجوز أن يكون ذلك حقاً فيخاف، فإن لم يحصل أحد هذه الأسباب وجب على الله تعالى أن ينبهه بالخاطئ والأقبح التكليف لصيرورته حينئذ في حكم الساهي، وهو كلام خفي يلقيه الله تعالى في باطن سمعه أو على لسان بعض ملائكته، ويفارق الوسوسة بكونه من جهة الله وداعياً إلى الخير، وهي من جهة الشيطان وداعيه إلى الشر، وليس من قبيل الاعتقاد، وكما يقوله أبو علي لأنه كان لا يخلو إما أن يطابق فيكون علماً ضرورياً أو لا يطابق فيكون جهلاً، وكلاهما باطل، وليس أيضاً من قبيل الظن ولا من قبيل الفكر؛ لأنا نفرق بين كوننا ظانين ومتفكرين وبين الخاطر؛ ولأن الله تعالى لا يفعل الظن.
وكيفية وروده أن يقول قد نرى عظيم هذه النعم وقد يقرر في عقلك حسن /30/ استحقاق الذم على القبيح أن يكون لك صانع أنعم عليك بها إن عرفته وأطعته أثابك، وإن عصيته وجهلته عاقبك، فيخاف حينئذ عند حصول أحد هذه الأسباب لا محالة لأن من حق العاقل أن يخاف إذا خوف بإمارة صحيحة وإلا خرج عن كونه عاقلاً.
وأما الأصل الثاني فالذي يدل عليه أنه لا يأمن ويزول خوفه إلا أن يكون على يقين من أمره وعارف بالصانع وثوابه وعقابه، فيفعل بطاعته ويتحرز عن معصيته، ولن يتم ذلك إلا بالنظر.
وأما الأصل الثالث، فيدل عليه أن النظر يجري مجرى دفع الضرر عن النفس؛ لأن معه يتمكن من دفع ضرر العقال بفعل الطاعة وترك المعصية المتوقفين(1) على معرفة المطاع والمقضيّ، وقد تقرر في العقول وجوب دفع الضرر عن النفس مظنوناً كان أو معلوماً، وإن اختلف وجه الوجوب كما سلف.
فإن قال: لو وجب النظر لعلمنا استحقاق الثواب عليه؛ لأنه إنما يحسن الإيجاب لذلك، وفيه العلم بالمبيت، وهو دور.
__________
(1) . المتوقف. ط
قلنا: بل إنما يقف الوجوب على العلم بوجه الوجوب لا على العلم بوجه حسن ألا يجاب حتى لو لم يضمن القديم تعالى ثواباً على الواجب لما خرج عن كونه واجباً.
فإن قال: لو وجب لعرف وجوبه كل مكلف، وإلا كان معذوراً في تركه، ومعلوم أن كل المكلفين لا يعلمون وجوب النظر.
قلنا: التمكن من معرفة الوجوب كمعرفة الوجوب، فلا يكون معذوراً في الترك، والعقلاء يعلمون وجوب كل نظر يندفع به الضرر عن النفس وإنما تختلف أحوالهم في الأنظار المعضلة لاحتياجها إلى أن ترد إلى الجملة المقررة عند أبي هاشم، وإلى مضار الدنيا عند أبي علي، وحينئذ يعلم وجوبه عند الخوف وسلامة الحال، وإن لم يعلم فلعارض يصرف عن العلم من شبهة أو تجويز التقليد ونحو ذلك.
فصل
والنظر أول الواجبات من الأفعال التي لا يعرى عنها مكلف من غير شرط، واحترزنا بالأفعال من التروك، فإنه كما يجب النظر أول أحوال التكليف فكذلك يجب ترك المقبحات والوجوب وإن كان من صفات الأفعال، فهو يطلق على التروك مجازاً.
وقلنا: التي لا يعرى عنها مكلف احترازاً من نحو قضاء الدين ورد الوديعة وشكر النعمة فإنه قد يقارن وجوبه وجوب النظر، بأن يطالب حال وجوب النظر بل قد يتقدمه بأن يطالب حال كمال العقل، وهي أول أحوال التكليف التي يحصل فيها أحد أسباب الخوف، لكنها قد تعرى عنها مكلف بأن لا يكون عنده وديعة ولا عليه دين ولا نعمة، والذي يشتبه /31/ نعمة الوالدين وهو قد يعرى عنها بأن يكون عرضهما بالملامسة مجرد قضاء الوطر، ولا يصل إليه منهما نفع من حال الولادة.
وقلنا: من غير شرط، احترازاً من نعمة الله تعالى، فإنه لا يعرى عنها مكلف، لكنه لا يجب إلا بشرط أن يعلم أنه قصد وجه الإحسان، وذلك يترتب على معرفته هذا ما ذكره أصحابنا، وذكر فيه صاحب تعليق شرح الأصول أشكالاً، وهو أن الشكر إذا كان لا يجب إلا بعد معرفة الله تعالى، فقد خرج بقولنا أول الواجبات؛ لأنه حينئذ ليس بواجب، وهذا لازم، لكن الأقرب أن شكر نعمة الله واجب على كل حال؛ لأن وجوب شكر النعمة مقرر في العقول سواء كان لها وجود في الخارج أم لا، فإذا كان علينا نعمة وجب علينا شكرها بحكم العقل، لكن لهذا الشكر حالات.
أحدها: أن نعلم فاعلها وأنه قصد وجه الإحسان، فهاهنا يجب فعل الشكر مطلقاً، فنقول: شكراً لله على هذه النعمة ولا شك في أن هذا لا يجب إلا بعد معرفة الله تعالى.
الثانية: أن نعلم فاعلها، ولا نعلم أنه قصد وجه الإحسان، فيجب علينا تأدية الشكر مشروطاً بشرط واحد، فنقول: شكراً لفاعل هذه المنفعة إن كان قصد بها وجه الإحسان فيكون الشرط قد دخل في تأدية الشكر لا في وجوبه.
الثالثة: أن لا يعلم فاعلها مفصلاً ولا أنه قصد وجه الإحسان، فيجب تأدية الشكر مشوطاً بشرطين، فنقول: شكراً لفاعل هذه المنفعة إن كان لها فاعل قصد بها وجه الإحسان فيكون الشرط في التأدية لا في الوجوب، وجائز تعلق الشيء بشرطين كما تعلق بشرط واحد، وليس الجهل بالفاعل ولا بكونه قاصداً وجه الإحسان يقدح في العلم بوجوب شكر النعمة كما لا يقدح الجهل بالمودع في وجوب رد الوديعة فيبقى الاحتراز عن شكر النعمة بالقيد، سلماً عن الاعتراض الذي ذكره.
فإن قيل: هلا كان الخوف أول الواجبات؟
قيل له: هو شرط في حسن التكليف، والتكليف ليس من فعلنا، فلا يجب علينا تحصيل شرطه، على أن العاقل ملجأ إلى فعل عند حصول أحد الأسباب، ولا وجوب مع الإلجاء.
فإن قال: هلا كان النظر في وجوب النظر أول الواجبات؟
قيل له: وجوب النظر عند الخوف معلوم ضرورة أو بالرد إلى ما علم ضرورة، فلا يحتاج إلى نظر، وإن سلمنا احتياجه إليه فهو نظر في معرفة الله، فلا يخرج عما قلناه.
فإن قال: هلا كان القصد إلى النظر أول الواجبات؟
قيل له: النظر جنس الفعل من حيث لا يقع إلا نظراً، ومن حيث لا يحتاج في وجوده إلى كون فاعله عالماً، ومن حيث لا يقع إلا حسناً فلا يحتاج إلى القصد /32/ فإذا القصد غير واجب فضلاً عن كونه أول الواجبات.
القول في الأدلة وبيان ما يصح الاستدلال به على الله تعالى وما لا يصح
الدليل في اللغة: هو ما يعرف طرق الأمكنة على وجه يقتدى به أو بقوله، ولا فرق بين أن يكون متقدماً أو متأخراً بأن يقول يميناً أو شمالاً كما فعلت ابنة شعيب في دلالة موسى عليه السلام، ولا فرق أيضاً بين أن يكون جمادا أو حيواناً، فإنا نقول نصب هذا الميل ليدل الناس على الطريق، ونقول: دلنا الجبل الفلاني على البلد، ولا فرق أيضاً بين أن يكون عالاً أو غيره، فإنهم يقولون دلنا الجمل على بلد أهل، ودلنا صوت الكلاب على مكان الحي، ونحو ذلك.
والدلالة: هي العلامة في اللغة. وفي الاصطلاح: الدليل والدلالة واحد، وهو ما إذا نظر فيه الناظر على الوجه الصحيح أوصله إلى العلم بالغير أو بصفة أو حكم للغير.
قلنا: أوصله إلى العلم بالغير، ولم نقل: بالمطلوب احترازاً من طريقة النظر، وهي أن ينظر في صفة أو حكم الذات فيحصل له العلم بصفة أخرى، وحكم لتلك الذات كان ينظر في كونه تعالى قادراً عالماً، فيحصل له العلم بكونه حياً، وكان ينظر في جواز العدم على الإعراض، فيعلم حدوثها، وهو معترض بصحة الفعل، فإنها دليل على كونه قادراً، ومع ذلك فإنهما يختصان ذاتاً واحدة.
واعلم أن الفرق بين الدليل وطريقه النظر في التسمية إنما هو اصطلاح مجرد ليقع التمييز بن ما هو إذا كان الطريق والمتطرق إليه راجعين إلى ذات واحدة، وبين ما إذا كانا راجعين إلى ذاتين، فأما من جهة المعنى فلا فرق بينهما؛ لأنك لا تكاد تجد موضعاً يتعلق بالنظر فيه بذات، وإنما يتعلق بالصفات والأحكام، لكن لما لم يستقل بأنفسها بوجه النظر إلى الذوات على تلك المزايا.
بيان هذا: أن النظر في الأجسام لإثبات الصانع نظر في دلالة لا في طريقه نظر بالاتفاق، ومعلوم أنا لا ننظر في مجرد ذواتها، وإلا كان يصح النظر فيها، وهي معدومة، وإنما ينظر فيها على صفة لها معلومة ضرورة على الجملة، وهي الكائنية فنجد هذه الصفة لا تزايل الجسم ولا تتقدمه بل نجدها تتغير وتبدل، فنعلم أن حصولها عن أول، وينظر بذلك إلى أن حصول الجسم عن أول فنكون قد علمنا صفة له وهي الحدوث، ثم ينظر في هذه الصفة التي هي الحدوث، فيحصل لنا العلم بالمحدث، فالنظر في هذه الصورة إنما هو في صفة، وهي الكائنية والحدوث.
فإن قال: إن المنظور فيه هو الكون لا الكائنية؟
قيل له: إن المعلوم على الجملة ضرورة هي الكائنية /33/ وبها يتوصل إلى الكون، فالنظر إنما يتوجه إليها أولا على أن الأكوان وإن دلت على الحدوث فإنما تدل عليه من حيث لثبوتها أول، وذلك حاصل في الصفات، ولهذا نعلم حدوث الأجسام من لا يثبت الأكوان، وأيضاً هذا السؤال لا يستمر في الاستدلال بحدوث الأجسام على الصانع فإنه لا شبهة في أن المنظور فيه في هذه الصورة صفة، وهي الحدوث.
يوضحه أنا إنما نستدل على الباري بفعله الذي أثر فيه، ومعلوم أن الذي أثر فيه هو الحدوث، فالنظر إنما يتعلق بالدليل الذي هو الحدوث، وكذلك الدليل على كونه قادراً وعالماً هو صحة الفعل وصحة الأحكام.
وإذا ثبت أن النظر في الأدلة إنما يتعلق بصفات وأحكام يتوصل بها في الغالب إلى صفات وأحكام ومعلوم أنها لا تثبت فيها مغايرة حقيقية، فقد ظهر أن لا فرق بين الدليل وطريقه النظر. وليس له أن يقول أن النظر في طريقه النظر يتوجه إلى مجرد النظر، فإذا نظر في كونه تعالى قادراً عالماً ليتوصل بذلك إل كونه حياً، فهو ينظر في مجردها بين الصفتين؛ لأن ذات الباري معلومة؛ لأنا نقول إذا صح تعلق النظر بالصفة على انفرادها في طريقة النظر فكذلك في الأدلة من غير فرق، فيكون أحدنا قد نظر في مجرد الكائنية ومجرد الحدوث؛ لأن ذات الجسم معلومة.
فصل
والأدلة خمسة: العقل، والكتاب، والسنة المتواترة، والإجماع والقياس القطعيان.
وزعم أهل الجبر والفلاسفة أنه لا يوصل إلى العلم اليقين إلا حجة العقل الواردة على أحد أشكال أربعة يذكرونها في علم المنطق، فأما السمعيات فهي إنما يوصل عندهم إلى الظن، وكذلك قياس التمثيل الذي نسميه نحن الاستدلال بالشاهد على الغائب، فنحن نذكر منشأ زللهم في ذلك، ونكشف عن وجه خديعتهم ونرد عليهم بحسب ما يحتمله هذا الكتاب.
فصول في الاستدلال بالعقل
اعلم أن أكثر مسائل أصول الدين لا مجال للسمع فيها إلا مؤكداً، وإنما يعرف بالعقل ويعني بكون العقل دليلاً أنا نعلم به شيئاً بين مفردات متصورة بثبوت أو نفي أو حسن أو قبح أو وجوب فتصير هذه النسب المعلومة مقدمات يتوصل بها إلى ثبوت نسب أخرى مجهولة، ولكنا لا نثبت النسبة لذات لأجل ثبوتها لذات أخرى إلا بجامع الأمر الذي له ثبتت النسبة في الذات الأولى.
مثاله: إذا علمنا أن أفعالنا محتاجة إلينا، ، فإنا نتوصل بذلك إلى أن للعالم صانعاً، وإنما يمكن هذا التوصل إذا علمنا حصول تلك العلة في أفعال القديم تعالى وعلى مثل هذا يقع الكلام في كونه تعالى /34/ قادرا وعالماً وغير ذلك ما لا بد فيه من أحد الطرق الرابطة بين الشاهد والغائب، وهذا القياس الذي يسميه المخالفون قياس التمثيل وقياس الغايب على الشاهد، ويجعلونه ظيناً وسموه قياس التمثيل؛ لأنه بزعمهم تمثيل للغائب بالشاهد أن هؤلاء الفلاسفة وأهل الإلحاد قد وضعوا قواعد عظمت بها جنايتهم على المسلم وحرفوا بها كثيراً عن قواعد دينهم وأدرجوها في علم المنطق واتبعهم فيها أهل الجبر بأسرهم، وكانت هي السبب في القول بالجبر، وكثير من مسائل الخلاف.
ونحن نذكر من ذلك قاعدتين عليهما يدور مكرهم: إحداهما، أبطلوا أنها مسائل التوحيد. والأخرى أبطلوا أنها مسائل العدل.
أما القاعدة الأولى فهي أنهم قسموا الأقيسية إلى نفسي وظني ومعالطي وشجري، ولا حاجة إلى ذكر المعالطي والشجري إذ لا فائدة فيهما.
وأما الظني فهو عندهم ضربان:
أحدهما: قياس التمثيل الذي نسميه قياس الغائب على الشاهد.
والثاني: القياس الذي مقدماته سمعية من كتاب أو سنة، فتوصلوا بهذا إلى أن الكلام في إثبات الصانع جل وعز وصفاته ظني لا يمكن العلم به وإلى أن الكلام في أصول الشرعية ظني، وقد علمت أن جميع مسائل التوحيد مبنية على قياس الغائب على الشاهد، فانظر إلى هذه الخديعة التي اتبعهم فيها كثير من علماء الإسلام، وأقروا أنه لا يمكن العلم بالله وصفاته حتى ذكر الرازي في محصوله مستدلاً على تكليف ما لا يطاق أن الله تعالى أمرنا أن نعلمه في قوله: {فاعلم أنه لا إله إلا الله} والعلم به غير مقدور لنا، مع أن المعارف عنده ليست ضرورية.
وأما التقينية عندهم فهي الأقيسيّة التي مقدماتها معلومة ضرورة بشرط أن يورد على أحد الأشكال الأربعة التي يذكرونها في علم المنطق.
ولنورد على الشكل الأول مثالاً اقترانياً ومثالاً استثنائياً فالاقتراني نحو قولك: كل إنسان حيوان، ولا شيء من الحيوان بحجر ينتج لا شيء من الإنسان بحجر. والاستثنائي نحو قولك: كلما كانت الشمس طالعة فالنهار موجود، لكن الشمس طالعة ينتج أن النهار موجود.
والرد عليهم بعد تسليم كون هذا تقيساً يقع من وجهين:
أحدهما: أن جميع ما يذكرونه من لأمثلة في هذه الأشكال لا فائة فيه ولا ثمرة تحته فإنا عند العلم بها بين المقدمتين نعلم النتيجة من دون أن يتكلف إيراد مقدمتين في شكل مخصوص، فمتى علمنا أن كل إنسان حيوان وأنه لا شيء من الحيوان حجر، فإنا نعلم أنه لا شيء من الإنسان حجر، وكذا إذا علمنا أن الشمس طالعة علمنا أن النهار موجود من غير عناية سواء قسنا أو لم نقس /35/ ولهذا الوضع أخذنا من القياس لما خرج عن كونه عالماً بذلك.
يوضحه: أن العلم عندهم بالمقدمتين ضروري، وعند حصوله يتأهل النفس؛ لأن يفعل الله فيها العلم بالنتيجة، فقد صار الكل ضرورياً غير واقف على اختيارنا، فأي فعل يفعل القايس يسمونه قياسا برهانياً من استحضار أو غيره.
هذا إن لم ندّع أن أحدنا يعلم أنه ليس في شيء من الناس حجر، وإن لم يخطر بباله المقدمتين المذكورتين.
وبعد، فما الثمرة في أن نعلم أنه ليس شيء من الناس حجر أو أن النهار موجود حتى يكلفوا له فناً من أدق الفنون، ولم يذكروا فيه مسألة مقيدة.
وبعد فحاصل جميع ما ذكروه من البراهين الحاصلة عن إشكالهم هو عندنا نوع واحد، وهو إلحاق التفصيل بالجملة، وهو من أقل العلوم كلفة إن لم يكن ضرورياً على ما قد صححناه من قبل، وكما هو مذهب الخصوم أو متولد على ما يقوله شيخنا أبو الحسين أو بكون هو نفيس العلم الجملي على ما يقوله شيخنا أبو هاشم.
الوجه الثاني من الرد عليهم: وهو التحقيق إن ثبت هنا قياس، وهو أن يبين أن القياس التعيني لا يكون تعينياً بل لا يكون قياساً، إلا إذا حصل فيه علة جامعة، وحينئذ يكون من باب قياس التمثيل الذي جعلوه ظنياً، فنقول: لسنا نعلم أن الإنسان حيوان إلا لأجل كونه حياً بحياة على شكل مخصوص بدليل أنه إذا لم يكن له حياة أو كانت، لكنه على شكل الفرس أو الطائر لم يسم إنساناً، فإذا علمنا أن الحجر لم يحصل فيه الأمر الذي لأجله كان الإنسان إنساناً علمنا أنه ليس بإنسان، وهم لا يعنون بقياس التمثيل أكثر من هذا، فقد عاد الأمر إلى ما قلناه.
وهاهنا فضيحة الفلاسفة ننبهك عليها لتعلم أن غرضهم المكر والإلحاد لا بيان الأدلة، وهي أنه أجمع محققوهم على أن المقدمات الكلية اليقينية إنما يتصيدها العقل من استقراء الجزيئيات.
قال أبو الحسين: ومثله أرسطاطاليس بان يتصور صورة زيد، ثم صورة شخص آخر حتى يرتسم في نفسه صورة الإنسان الكلية الشاملة لجميع أشخاص الناس، وإذا كان كذلك ومن صريح مذهبهم ومذهب المجبرة أن الاستقراء لا يفيد إلا الظن الضعيف فقد نقضوا قولهم وظهر أنه لا تعيني قط ليس المقدمات التي سموها يقينية قد بنوها على الاستقرار الذي لا يفيد إلا الظن اتفاقاً بيننا وبينهم.
القاعدة الثانية مما ألحدوا به في الدين هو أنهم قسموا القضايا التي تجعل مقدمات للأقيسية إلى /36/ نصيات ومشهورات ومظنونات ومأخوذات ووهميات.
قالوا: فالتغيبيات هي الضرورية مثل أن الكل أكثر من الجزء، وأن الشمس منيرة، ونحو ذلك.
والمشهورات هي التي لا عمدة عليها إلا الشهرة، ولو خلى الإنسان وعقله لما قضى بها نحو الحكم بقبح الظلم والكذب والعبث وحسن العدل ووجوب رد الوديعة وشكر المنعم.
قالوا: فهذه ليس فيها إلا ظن ضعيف.
قلوا: ولسنا نحكم بها إلا لأحد أسباب، منها: رقة القلب والرحمة فيحكم الإنسان بقبح الظلم لرقة قلبه.
قالوا: ومن هاهنا حكم المعتزلة بقبح ذبح البهائم عقلاً لرقة قلوبهم، ومنها: ما طبع عليه الإنسان من الحمية والأنفة كجنس تعظيم الأبوين وشكر المنعم، ونحو ذلك.
ومنها: محبة التسالم والموادعة والتعاون على المعاش، فلهذا استقبح الظلم والكذب واستحسن إرشاد الضال وإنقاذ الغريق والتصادق والعدل ونحو ذلك.
ومنها: التأديب الشرعي الذي تكرر في الأسماع ورسخ رسوخاً يظن الظان أنه حكم للعقل عن استحسان إفشاء السلام ومكارم الأخلاق ونحوه. ومنها: استقر الجزئيات الكثيرة نحو استحسان الصدق، فإنه لما رأى حسناً في أكثر أحواله ظن الظان أنه حكم للعقل ولم يتنبه لقبحه في بعض الأمكنة نحو الصدق المتضمن للدلالة على نبي قد اختفى من عدوه.
قالوا: فلأجل هذه الأسباب الخمسة حكمنا بهذه الأحكام لا لأجل العقل كما يقوله المعتزلة، هذا حاصل ما ذكروه في المشهورات.
وأما الظنونات قالوا فهي المقدمات السمعية سواء كانت متواترة أو آحادية.
وأما المأخوذات فهي ما أخذ عن العلماء وعن من يحسن الظن به، وما سلمه الخصم.
وأما الوهميات فهي ما يحكم به الوهم المجرد كحكمه باستحالة موجود ليس بجسم ولا عرض ولا داخل في العالم ولا خارج عنه، ومن هذا القبيل ما يحكم به الجنس المجرد كحكمه بأن الشمس في قدر مجن وأن الظل واقف لا يسير، وكذلك الصغير واقف على الشق حاله البصر، وأن السحاب البعيد منتصب ونحو ذلك.
قالوا: فالقياس المتركب من التغيبيّات يسمى تغيبياً، وهذا لا نزاع فيه.
قالوا: والقياس المتركب من الوهميات والحسيات والمجردة يسمى مغالطياً وسوقسطائياً، وهذا أيضاً لا نزاع فيه.
قالوا: والقياس المتركب من المأخوذات والسمعيات يسمى ظنياً، وقد عرفت ما أرادوا بهذا من إبطال الشرع ومساواته لما تقوله شيوخهم وقدماءهم في أنه لا يفيد إلا الظن، وهذا لا يشتبه على مسلم بطلانه.
قالوا: والقياس المتركب من المشهورات /37/ يسمى جدلياً لا ينبغي أن يلتفت إليه ولا يسمع قائله، فإن صاحبه وإن غلب، فإنما هو لقوة القائل لا لقوة القول، فانظر إلى هذه القاعدة التي أبطلوا بها العدل والوعد والوعيد والشرائع، واتبعهم فيها أهل الجبر بأسرهم حتى أنك إذا أخذت تستدل للعالم منهم على أن الله تعالى عدل حكيم وأن نبيه صادق بقبح الظلم والكذب أو نحو ذلك مما يقوله أهل العدل، أجابك بأن هذا من قبيل المشهورات التي لا تفيد إلا الظن الضعيف في حق الشاهد، فأما في حق الغائب فلا يفيد شيئاً أصلاً، ولهذا أقسم الرازي يمين كبيرة في محصوله أنه ما يعلم بعقله وجوب شكر النعمة في حق الله تعالى.
والرد عليهم ـ وبالله التوفيق ـ أن يقال: إنما يكون الضروري من العلوم ضرورياً بأن يكون مفعولاً فينا وغير واقف على اختيارنا، ولا بد من الإقرار بهذا، وإذا كان كذلك فإنا نجد أنفسنا مضطرة إلى العلم بقبح الظلم والكذب وحسن إرشاد الضال وإنقاذ الغريق ووجوب رد الوديعة وشكر المنعم، ونحو ذلك مما سموه مشهوراً، ونجد هذا العلم غير واقف على أخبارنا ولا نجد فرقاً بينه وبين العلم بالبداية والمشاهدات في كونه ضرورياً.
وأما ما تقوله علماء المجبرة من أنا إنما نحكم بذلك لأحد الأساب الخمسة، فهو ظاهر السقوط بدليل إنا لو فرضنا العاقل متعرياً عن جميع هذه الأسباب فإنه يعلم بكمال عقله قبح الظلم والكذب ووجوب رد الوديعة وشكر المنعم، والمنكر لذلك مباهت.
ثم يقال لهم: ولم قلتم أنه لا يعني إلا ما كان ضرورياً أو ينتج من مقدمات ضرورية، ولم يجعلوا الاستدلاليات يقينية مع حصول علامة اليقين فيها من المطابقة وسكون النفس.
ثم يقال لأهل الإسلام منهم كالرازي والغزالي والأشعري وغيرهم: إن هذا اليقين الذي ذكرتموه مفقود في أدلتكم على إثبات الصانع وصفاته، أفتعترفون بأنها ليست بيقينية أم تعترفون بأن المشهورات يقينية، ولا بد من أحدهما.
فإن قالوا: وكيف ذلك؟
قلنا: أما دليل إثبات الصانع فلا شك أنه مبني على أن العالم محدث وأن المحدث لا بد له من محدث، وأن محدثه ليس إلا الله تعالى.
فاستدل الرازي على حدوث الأجسام بأنها لو كانت أزلية لكانت إما محتركة أو ساكنة، والقسمان باطلان، فيجب أن لا تكون أزلية.
فيقال له: أول ما في هذا أنه مبني على إثبات الحركة أو السكون معنيين، وكثير من الناس لا يسلمه /38/ فضلاً عن أن يدعي فيه ضرورة، ومبني على أن الجسم إنما يكون كائناً لأجل تحيزه ليثبت ذلك في الأجسام الأزلية.
ومبني على أن هذه المعاني لم تتقدم الجسم عليها، وكثير من الناس لا يسلمه.
ومبني على إبطال الحوادث لا أول لها، وعلى إبطال الكمون والظهور ونحو ذلك مما ليس بضروري، وقد لا ينتهي إلى أصل ضروري، وهذا ينقض كون هذه المقدمات يقينية على أصله.
واستدل أيضاً على حدوث ما سوى الله تعالى بأنه لا واجب الوجود إلا واحد، وما عداه ممكن الوجود لذاته، وكل ممكن الوجود لذاته محدث.
قال: بيان المقدمة الأولى أنا إذا فرضنا موجودين كل واحد منهما واجب الوجود لذاته فلا بد أن يكونا متشاركين في الوجوب وغير متشاريكن في التعيين، فيكون كل واحد منهما مركباً مما به المشاركة، ومما به المباينة، وهذا يقتضي التركيب في صانع العالم، وأردنا بالتركيب أن ماهيته تكون مركبة من جنس وفصل.
فيقال له: هذا الدليل مبني على أن الوجود زائد على الذات، وأنت لا تقول به. ومبني على أن الوجود يوصف بالوجوب، وأن وجوب الصفة مما به تقع المشاركة وإن اختلفت الصفة.
وأن التعيين مما به تقع المخالفة، وأن اجتماع ما به تقع المباينة، وما به تقع المشاركة يقتضي الكثرة في الذات وأكثر هذه الأصول غير صحيحة فضلاً عن أن يكون ضرورية.
يوضحه أنه أورد للفلاسفة من الأسئلة على هذه الأصول ما لم يحسن الجواب عنه.
أظهرها أن قالوا: أوليس علم الله وقدرته قديمة، وواجبة الوجود في الأزل؟ فقد صار واجب الوجود أكثر من واحد، فتلزم الكثرة في ذات الباري أو حدوث هذه المعاني.
قال: وهذا سؤال صعب وهو مما يستخير الله فيه. ثم استدل على ثبوت الصانع بأن العالم ممكن الوجود لذاته، وكل ممكن الوجود لذاته محتاج إلى المؤثر وبني ذلك على أن وقوع الممكن لا بد له من مرجح وادعى الضرورة في ذلك وقد ذكر في غير موضع من كتاب النهاية وكتاب الأربعين أن أحد الممكنين قد يقع لا لمرجح، ومثله بأن القادر يقع أحد مقدوريه لا لمرجح وأن الجائع يأكل أحد الرغيفين لا لمرجح، ومن أحد جوانب المائدة دون الآخر لا لمرجح، وكذلك الهارب إذا عن له طريقان ونحو ذلك، فكيف يدعي الضرورة في خلافه، ثم كيف يدعي كون هذا برهانياً.
وقد ألزمه الفلاسفة عليه كون العالم أزلياً /39/ وإن افتقر إلى مؤثر، وكان ممكناً لذاته من حيث أن الممكن قد يحتاج إلى المؤثر حالة البقاء كمعلول العلة، وألزموه أن يكون الباري موجباً غير مختار بما يرجع إلى مذهبه في الإرادة القديمة واستحالة خلاف المعلوم، ونحو ذلك، مما يلزمه على مذهبه في الجبر وعلى ما وافقهم فيه من إبطال صحيح الأدلة.
ثم أنه تكلم في مسألة أن الله تعالى قادر، فأول ما قاله أنه حد القادر بأنه الذي يصح منه الفعل والترك بحسب الدواعي المختلفة.
قال: مثاله الإنسان، فإنه إن شاء أن يمشي قدر على ذلك، وإن شاء أن لا يمشي.
قال: والتفرقة بين المختار والموجب ضرورية.
قال: فإن أحدنا يفرق بالضرورة بين قيامه وقعوده وكلامه وبين كون الحجر هابطاً بالطبع.
فيقال له: هذا تصريح بأن معرفة معنى القادر يتوقف على معرفة أن الإنسان قادر فاعل وأنتم لا تقولون به، ثم إن قلتم به فهو غير ضروري على التفصيل فلا يكون هذه المقدمة برهانيه على أصلكم المتقدم.
ثم استدل على أن الله تعالى قادر بأنه لو كان موجباً لكان إما أن يقف تأثيره في العالم على شرط أم لا، إن لم يقف لزم قدم العالم أو حدوث الصانع وإن وقف على شرط فهو إما قديم فيلزم قدم العالم، وإما محدث فيكون الكلام منه كالكلام في العالم.
فيقال له: هذه المقدمة غير برهانية؛ لأن للخصم أن يقول بل يقف على شرط، وهو حصول الوقت الذي تمكن فيه وجود العالم لاستحالة وجوده في الأزل، كما تقولونه أنتم في تأثيره على جهة الإختيار، فلا يكون بد من الرجوع إلى استدلال المعتزلة الذي هو من قبيل المشهورات عنده.
ثم استدل على أن الله تعالى عالم بأن أفعاله محكمة متقنة، وكل من كان كذلك كان عالماً.
قال: ونحن نعلم ذلك ضرورة بعد الاستقراء والاختبار في الشاهد بم فسر كونه متقناً بمطابقته للمصلحة.
فيقال له: هذا القياس قياس التمثيل الذي هو عندك ظني، فكيف تورده في هذه المسألة، ثم كيف يستدل بالشاهد وهو لا فعل له فضلاً عن أن يكون محكماً، ثم كيف يدعي أن فعل الله متقن مطابق للمصلحة مع أن كل قبيح وظلم وعبث وكذب وفساد فهو فاعله، ثم كيف يقول معلوم ضرورة بعد الاستقراء، والاستقراء إنما يفيد الظن.
وكذلك استدل على أن الله تعالى حي بصحة أن يقدر ويعلم، وعلى أنه مريد بوقوع أفعاله على الوجوه المختلفة، وعلى أنه لا يقع في ملكه ما لا يريده بأنه يدل على العجز كالشاهد، وكل هذه الأقيسية من باب التمثيل الذي عابوه على أهل العدل وجعلوه ظنياً /40/.
فهذا ما يتحصل لي في هذا الفصل، وقد طال الكلام فيه، والعذر في ذلك أن الفلاسفة استدلوا بها بين القاعدتين كثيراً من فرق الإسلام ولطف مدخلهم في ذلك، ولم أجد لأحد من أصحابنا في الرد عليهم في هذه المسألة كلاماً ولا ينبهنا على خديعة أهل الإلحاد إلا ما أشار إليه سيدنا القاضي الأوحد العلامة سليمان بن إبراهيم النحوي رحمه الله تعالى(1) ففصلت ما أشار إليه، وليس الغرض إلا تقرير دليل العقل على ما يقوله أهل الحق وأن قياس الغائب على الشاهد دليل تعيني إذا حصلت فيه إحدى الطرق الرابطة وأنه لا يقدح في ذلك ما يقوله أهل الزيغ.
فصل
لا بد بين الدليل والمدلول من تعلق وإلا لم يكن بأن يدل عليه أول من يدل على غيره أو من أن لا يدل.
قال قاضي القضاة: وذلك التعلق هو أن يكون لولا المدلول لما صحت الدلالة أو لولاه لما وجبت أو لولاه لما أجبرت أو لولاه لما حسنت مثال الأول دلالة الفعل على الفاعل فإنه لولا الفاعل لما صح الفعل، ومثال الثاني دلالة المعلول على العلة والمسبب على السبب والمقتضى على مقتضيه، فإنه لولا المدلول لما وجبت الدلالة، ويدخل في هذا دلالة مقارنة الجسم للحوادث على حدوثه إن ثبت أنهما غيران وما شأنه ذلك وهو أيضاً يدخل في باب ما لولاه لما صح.
ومثال الثالث دلالة فعل القبيح على الجهل والحاجة، فإنه لولاهما لما اختير، وكذلك دلالة العدو في الشوك والنار على الإلجاء.
ومثال الرابع: دلالة المعجز على صدق المدعي للنبوة، فإنه لولا الصدق لما حسن إظهار المعجز، ويدخل في هذا الأدلة الشرعية، فإنَّه لولا كونها مصالح لما حسن التكليف بها.
قال أبو الحسين: وتخرج من هذا القيد دلالة كونه حياً على كونه مدركاً في حق الغائب فإن كونه مدركاً وإن كان هو الدليل في الشاهد على كونه حياً فالأمر بالعكس في حقه تعالى، ونحن فرضنا الكلام فيه.
فصل
__________
(1) . أبقاه الله.
قد يكون الاستدلال بالتابع على المتبوع، وقد يكون بالعكس، وقد يكون لا يؤاخذ منهما.
والأول كالاستدلال بالفعل، ووجوهه على الفاعل وأحواله وبالمعلول على العلة والمسبب على السبب والمقتضى على مقتضيه، وبوقوع الفعل من العالم المختار على الداعي وباستحالة اجتماع الضدين على التضاد وبوجوب صفات الله تعالى على أنها ذاتية، وبعدم ظهور المعجز على كذب المدعى، وبظهوره على صدقه، وعلى وجوب ذلك الظهور.
والثاني: كالاستدلال بالعلة على المعلول لو قدرنا /41/ أنه يسبق العلم بها، وكذلك الاستدلال بالسبب على المسبب، وكذلك سائرها، ومن هذا القبيل الاستدلال بكونه تعالى قديماً على استحالة العدم والاستدلال بكونه حيّاً على كونه مدركاً، وبكونه عالماً غنياً على أنه لا يفعل القبيح ولا يحل بالواجب والاستدلال بطرو الضد على انتفاء ضده، وتقدم المعاني على زوال تعلقها ونحو ذلك.
والثالث: كالاستدلال ببعض أحكام التخير على بعض وتبعض معلولات العلل على بعض في حق ما يوجب صفة وحكماً، وكالاستدلال بصحة الصفة الذاتية والمقتضاة على وجوبهما وكالاستدلال بجواز عدم الإعراض على حدوثها، فإنه يكشف عن أن وجوبها لم يكن لذاتها.
فصل
قد يجب مقارنة الدليل للمدلول كمعلولات العلل، وقد يجب تأخر الدليل كأفعال الفاعلين، وقد يجوز الأمران كمسببات الأسباب، وكدلالة كونه حياً على كونه مدركاً.
فصل
قال ابن الهذيل: يعرف انتقاض المنتقض من الأدلة بأحد ثلاثة أمور، إما بترك أجزاء العلة في المعلول، وإما بنقض الجملة بالتيسير، وإما بحجة الاضطراب.
مثال الأول: أن يقول الرجل: فرسي جواد.
فيقال: لم؟ فيقول: لأني أجريته عشرة فراسخ، فاستمر.
فيقال: أوَكل فرس أجري عشرة فراسخ فاستمر فهو جواد أم لا؟
فإن قال: نعم، فقد أجرى علته واعتبرت صحة دعواه وفساده بحال غيره من الأفراس.
إن قال: لا، قيل له: قد نقضت علتك، فاطلب لصحة دعواك دلالة.
ومثال الثاني: قول القائل: إذا اشتد حر الصيف اشتد برد الشتاء الذي يليه، وإذا اشتد برد الشتاء اشتد حر الصيف الذي يليه ثم يقول بعد ذلك: وقد يعبران جميعاً، فإنه قد نقض الجملة لأنها لو صحت لاشتد الحر والبرد أبداً، فلا يوجد فتور.
ومثال الثالث سؤالنا للتنويه عن شيخ رأيناه قاعداً على هيئة حصان في مكان مخصوص أتقولون أنه لم يزل كذلك.
فإن قالوا إلا بل قد كان على غير هذه الحالة أقروا بالحدوث وإن قالوا: نعم جحدوا الاضطرار.
قال الشيخ أبو القاسم: وهذا الكلام كان من حقه أن يكتب بماء الذهب لعظم نفعه لولا أن كلام الله تعالى خير منه، وقد كتب بالمداد.
قال: وأكثر ما يدور بين الخصوم إجراء العلة في المعلول وبه يستدل على إبطال كثير من مذاهب خصومنا.
مثاله بأن يقول لأهل الجبر في جميع مسائلهم قد أجزتم على الله تعالى كل قبيح من ظلم وعبث وهذيان وتكليف ما لا يطاق، وإرادة كل قبيح ونحو ذلك، وزعمتم أنه مع ذلك /42/ عدل حكيم لا يقبح منه قبيح، وعللتم ذلك بأن الأمر أمره، وأنه لا يسأل عما يفعل، وأنه ليس يلحقه نقص بصفات الأفعال قط إذا كانت صفات الذات صفات كمال، فهل تجرون علتكم هذه فتزعمون أنه يصح أن يقول في ما لم يكن أنه قد كان وفي ما كان أنه لم يكن، وأنه يجوز أن يكلف الجماد، ويكلف ما لم يعلم، ونحو ذلك، أم لا يجرونها، فإن قالوا: نعم يجوز ذلك كله ظهر عنادهم وأبطلوا الرسل والوعد والوعيد والجنة والنار.
وإن قالوا: لا يجوز لعلة كذا، قيل لهم: قد نقضتم علتكم من أن الأمر أمره وأنه لا يسأل عما يفعل فاطلبوا لصحة دعواكم علة غيرها.
فصل
كثير ما يجري في كتب المتكلمين ذكر ما لا طريق إليه، فمرة يقولون لا يجوز إثباته ومرة يقولون يجب نفيه، والأصل في ذلك أنهما طرفان:
أحدهما أن يقال لا يجوز إثبات ما لا طريق إليه. والثاني: أن يقال يجب نفيه.
أما الطرف الأول، فهو على ظاهره، ودليله لو جاز إثبات ما لا طريق إليه لا يقبح باب الجهالات، وزالت الثقة بالمدركات، وذلك يقدح في العلوم الضرورية والاستدلالية، أما قدحه في الضرورية فلأنه إذا زالت الثقة بالمشاهد جوزنا أن تكون الخردلة بمنزلة جبل عظيم، لكن منع من رؤية بعضها مانع لا طريق إليه، وأن يكون لزيد رؤوس كثيرة، كذلك وأن يكون بين أيدينا فيلة أو جبال أو مهاوي، فيكون سير أحدنا كسير الأعمى.
وأما قدحه في العلوم الاستدلالية فلأناً كنا نجوز حصول شبه قادحة لا طريق إلى العلم بها، فلا يولد النظر العلم بشيء قط، بل كنا نجوز أن يكون على نفي ذلك الشيء دليل لا طريق إليه، ويلزم تجويز أن يكون في المحل معاني لا طريق إليها، فلا نعلم إسناد معلول إلى علة معينة، ولا منافاة ضد لضد لجواز أن تكون العلة في كون أحدنا قادراً غير القدرة، فما لا طريق إليه فلا يصح قياس الغائب، وكان يلزم أن لا يقطع بإسناد فعل إلى فاعله لجواز أن يكون الفاعل غيره، فتزول أحكام الأفعال من مدح وذم وغيرهما.
وأما الطرف الثاني فينبغي التفصيل فيه.
فيقال: ما لا طريق إليه ضربان:
أحدهما: يمكن أن يكون إليه طريق، فهذا لا يجب نفيه بل يجوز ثبوته، ويجوز انتفاؤه كما نقول له في أن الباري تعالى كان قبل أن يخلق العالم لا طريق إليه، ولم يوجب ذلك نفيه لما كان يجوز أن يكون إليه طريق، وهو فعله، ومن هذا القبيل تجويزنا /43/كون جبريل عليه السلام في السماء السابعة، فإنه يجوز أن يكون إلى ذلك طريق، وهو الرؤية لمن قوى الله شعاعة أو الخبر الصادق، وكذا تجويز كون زيد في الدار، وكون الذنب صغيراً، أو كبيراً، ونحو ذلك من الغيوب التي يجوز ثبوتها، وإن لم يظهر عليها دليل.
الضرب الثاني: أن يكون المجوز مما لا يمكن أن يكون إليه طريق، فهذا يجب نفيه كما يقوله في تجويز مانع سواء هذا الموانع المعقولة وتجويز صفة الله تعالى لا يعلمها، إلا هو كما يقوله ضرار، فإنه لا طريق إلى صفاته تعالى إلا أفعاله، فما لم يدل عليه الفعل بنفسه أو بواسطة وجب نفيه، وباجلمة فكلما لو سئل مجوزه كيف كانت بكون الطريق إليه لما درى كيف يجيب، فإنه يجب نفيه.
فإن قيل: ليس بأن يجب نفي ما لا طريق إلى ثبوته بأولى من أن يجب إثبات ما لا طريق إلى نفيه.
قلنا: لم تحصل العلة في وجوب نفيه أنه لا طريق إلى ثبوته بل لأن تجويز ثبوته بفتح باب الجهالات كما علمت سببه.
أعلم أن هذا التفصيل المتقدم إنما هو في العمليات، فأما السمعيات فإن فقد الدليل على ثبوت شيء منها بعد الفحص دليل على نفيه، فلهذا انتفى وجوب صلاة سادسة وحج بيت آخر ونحو ذلك، وبهذا يبطل قول القائل إن فقد الدليل على نفي الشيء دليل على ثبوته، فيقول له جوز صلاة سادسة وحجاً غير هذا وأشياء كثيرة لا يسعه إثباتها، فإن أثبتها فعاد وهو بين.
فصل في الاستدلال على الله تعالى
وهذا هو المقصود بالباب، وما تقدم كان كالتوطئة.
اعلم أنه إنما يستدل على الله تعالى بأفعاله المخصوصة؛ لأنه ليس بعلة فسيدل بمعلوله، ولا سبباً فيستدل بمسببه، وهو تعالى منفرد بالقدم، فليس يصح أن يؤثر فيه ذات أخرى، فيستدل بها عليه، وصحة السمع متوقفة على معرفته تعالى، والأخبار المتواترة حقها أن تستند إلى المشاهدة.
فصل
وكما أن الدليل على ذاته تعالى هو أفعاله، فهي الدليل أيضاً على صفاته، وكذلك كل دليل يدل على ذات فإنه يدل على صفات تلك الذات، فلا يثبت له تعالى من الصفات إلا ما دل عليه الفعل إما بنفسه كدلالته على كونه قادراً وعالماً، وليس الأحكام واسطة هنا لرجوعه إلى نفس الفعل أو بواسطة كدلالته على كونه حياً بواسطة كونه قادراً عالماً، وبواسطتين كدلالته على كونه مدركاً بواسطة كونه حياً وكونه عالماً قادراً أو بثلاث /44/ وسائط كدلالته على الصفة الأخص بواسطة كونه قادراً عالماً وكونه حياً، ووجوب كونه حياً، ومثاله في غير صفاته تعالى ما يقوله في أن الإدراك طريق إلى الجوهر، فكذلك إلى صفاته، والذي يتناوله الإدراك من صفاته هي التحيز، فإنه يدرك عليها، ثم هي واسطة في سائر صفاته.
أما الجوهرية فالتحيز مقتضى عنها.
وأما الكائنية فهو مضمر بها.
وأما الوجود فهو مشروط به.
فصل
والذي يصح الاستدلال به على الله تعالى هو كلما يختص بالقدرة عليه كالجواهر والألوان ونحوها، أو يدخل تحت مقدور العباد، لكن يقع على وجه لا يصح وقوعه من العباد كالألم الزائد عند لسع العقرب، فإنه لو وجد هذا القدر من أقوى القادرين لما حصل هذا الألم، وكالكلام الموجود في الحصى والسحر وحركة المرتعش والعروق الضار به، ونحو ذلك، وكالعلوم الضرورية، فإنها لو كانت من فعلنا لوقفت على أحوالنا، ولو كانت من فعل أمثالنا لكانت إنما تصدر عن اعتماد، وهو لا تأثير له في ذلك، والألزم إذا اعتمد أحدنا على صدر الغير أن يتغير حاله في الاعتقاد، وأن يولد ما لا يتناهى على أنه ليس بأن يولد اعتقاداً أولى من ضده؛ لأنه كان يولد لا بشرط يستحيل اجتماعه، فتفارق توليده للكون.
فصل
وكيفية الاستدلال بأفعاله تعالى أن نعلم ثبوتها أوّلاً وأنها محدثة وأن المحدث لا بد له من محدث، وأن المحدث ليس إلا الله، لكن الاستدلال بالأجسام أولى من الاستدلال بالأعراض؛ لأن ثبوتها ضروري جملة وتفصيلاً، وثبوت الأعراض استدلالي جملة وتفصيلاً إذا كانت غير مدركة وتفصيلاً إذا كانت مدركة، ولأن الاستدلال بالأجسام يتضمن حدوث الأعراض ولا عكس، ويتضمن العلم بنفي التشبيه، وهو كمال التوحيد.
فصل
وقبل الاستدلال بالأجسام وغيرها يتكلم في حقيقة الشيء وأقسامه لأن معرفة ذلك مما يحتاج إليه في أكثر أبواب التوحيد والعدل.
والشيء في اللغة: ما يصح العلم به والخبر عنه، موجوداً كان أو معدوماً، قديماً كان أو محدثاً، ثابتاً كان أو مستحيلاً.
وفي الاصطلاح: لا فرق بينه وبين الذات، وهو كلما صح العلم به على انفراده.
وينقسم: إلى موجود ومعدوم.
فالمعدوم: هو المعلوم الذي ليس بموجود. والموجود: أظهر من أن يحد.
وينقسم الموجود: إلى قديم ومحدث.
فالقديم: هو الذي لا أول لوجوده /45/. والمحدث: هو الذي لوجوده أول.
وينقسم إلى متحيز وغير متحيز، ولا طريق إلى ثالث، خلافاً للفلاسفة، وسيتضح.
والمتحيز: هو المختص بصفة، لكونه عليها يمنع مثله من أن يكون بحيثه، ويحتمل العرض، وهو إن لم يقبل التجزي، فهو الجوهر الفرد، وإن قبله من جهة الطول فهو الخط وإن قبله من جهة الطول والعرض فهو السطح، وإن قبله من جهة الطول والعرض والعمق فهو الجسم.
وغير المتحيز هو العرض وهو اثنان وعشرون جنساً الألوان والطعوم والروائح والحرارة والبرودة والرطوبة واليبوسة والشهوة والنفرة والحياة والقدرة والفناء والأكوان والاعتمادات والتأليفات والأصوات والآلام والاعتقادات والإرادات والكراهات والظنون والأفكار.
وينقسم إلى مدرك، وهي: الخمسة الأول والصوت والألم غير مدرك، وهو سائرها.
وينقسم إلى مقدور لله تعالى فقط، وهي الاثنى عشر الأولة، وإلى مقدور للعباد أيضاً، وهي العشرة الباقية.
وينقسم إلى: ما لا يوجب، وهي المدركات والفناء وإلى ما يوجب وهو سائرها.
وينقسم إلى باق، وهي ما عدا الصوت والألم من المدركات والرطوبة واليبوسة والحياة والقدرة والكون والتأليف واللازم من الاعتماد وغير باق وهو سائرها إلى غير ذلك من القسمة.
فصل
والمعدوم شيء عند الجمهور وخالف أبو الهذيل وأبو الحسين وابن الملاحمي والبردعي وهشام بن عمر والمجبرة بأسرهم.
وقال أبو القاسم شيء وليس بذات.
وقال قوم: المعدوم الأصلي ليس شيء، والمعدوم بعد وجوده شيء.
لنا أنه يصح العلم به على انفراده، وذلك هو معنى الشيء والذات والمنكر لصحة العلم به مكابر، فإنا نعلم الجنة والنار والقيامة ونحو ذالك.
واعترضه ابن الملاحمي بأن معنى ذلك أنا نتصور حقيقة المعدوم وماهيته، ويميز بين بعض الأجناس وبعض لأن علمنا قد تعلق بذات معينة.
ويمكن الجواب بأن في هذه إقرار بأن للمعدوم حقيقة وماهية يمكن تصورها، ويفصل بينها وبين غيرها، وهو المطلوب بكونه شيئاً.
قال في الفائق: إنا نجد هذه المعلوم علوماً بصور المعدومات عند وجودها.
ويمكن الجواب بأن يقال إن أردت عند وجود المعدوم نفسه لم يصح لأنا فرضنا الكلام في العلم به حال عدمه، وليس العلم به حال عدمه هو العلم به حال وجوده، لا سيما على أصلك في أن العلم بأن الشي سيوجد ليس علماً بوجوده إذا وجد، وإن أردت عند وجود أمثاله لم يصح، لأنا فرضنا /46/ الكلام في العلم بهذا المعدوم لا العلم بأمثاله. على أنا نعرض الكلام في العلم بمعدوم لم يوجد له نظير بأن يوجد، فنشاهده، ثم يعدم ولا يوجد له نظير. وكما قال صلى الله عليه وآله وسلم: (فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر).
قال في المعتمد: إن تصور المعدوم كتصورنا ثاني القديم، والبقاء والإدراك.
ومعلوم أن تصور هذه الأشياء لا تقتضي كونها ذوات، ولنا أن نقول لا نسلم صحة تصور ثاني القديم وسائر ما ليس شيء؛ لأن التصور علم بصور الأشياء وماهياتها، وليس لثاني القديم ماهيّة يمكن بصورها.
دليل قد ثبت أن المقدور إنما يكون مقدوراً في حال العدم؛ لاستحالة إيجاد الموجود، ومعلوم أن المقدور لا يوصف بصحة الوجود إلا ما دام معدوماً، فأما إذا قد وجد فقد استحال وجوده ومعلوم أن صحة وجود المقدور أمر زائد على المقدور، ومزيّة له، والمزايا لا بد أن يستند إلى الذوات لتعذر استقلالها بأنفسها.
قال ابن الملاحمي: ما أنكرتم أن صحة وجود الجوهر قبل وجوده يستند إلى ما يتصور، ويتوهم من الحجم لا إلى شيء معين.
ولنا أن نقول أتريد أن هذه الصحة تستند إلى ما يتصور من الحجم قبل وجوده أو حال وجوه إن أردت قبل وجوده فهو صحيح لكن ذلك يقتضي كونه ذاتاً؛ لأن ما ليس بذات وماهية لا يمكن تصوره، وإن أردت حال وجوده فغير صحيح؛ لأن الصحة الثابتة حال العدم كيف يستند إلى أمر منتظر.
على أن هذه الصحة زائلة عند وجوده؛ لأن الموجود لا يصح وجوده.
قال رحمه الله تعالى: صحة الصفة حكم والصفة ليست بذات، فقد استند الحكم إلى ما ليس بذات.
ويمكن الجواب بأن هذه الصحة تستند إلى الموصوف والصفة جميعاً فإنا لم نشترط أن يكون بين غيرين حقيقيين.
قال رحمه الله تعالى: الاستحالة حكم كالصحة، فيلزم أن يستند إلى ذات في نحو قولنا ثاني القديم يستحيل أن يوجد والضدان يستحيل اجتماعهما، وفي ذلك لزوم أن يكون ثاني القديم واجتماع الضدين ذواتاً.
ويمكن الجواب بأن يقال: لسنا نقول ثاني القديم يستحيل أن يوجد، ولكن نقول: يستحيل أن يثبت ويكون هذا الكلام بمنزلة قولنا ثاني القديم ليس شيء، فلا تكون الاستحالة حكماً في هذا المكان وإن سلمنا أنها حكم فهي إنما يستند إلى ذات الباري تعالى وصفاته الواجبة؛ لأنه بمنزلة قولنا ذات القديم يستحيل أن يكون لها مثل، ولهذا جعل أصحابنا نفي الثاني مما يستحيل على الله تعالى /47/.
وأما استحالة اجتماع الضدين فهي تستند إلى ذواتهما وصفاتهما دليل لا شك أن للقادر تعلقاً بمقدوره بمعنى أنه يصح اتخاذه له، وهذا التعلق حكم تعلم بين القادر والمقدور، فلا بد أن يكون المقدور ذاتاً أو صفة لتعلم الحكم بينه وبين القادر، وباطل بالاتفاق أن يكون صفة نفي أن يكون ذاتاً وإلا كان الحكم قد علم لا بين غير ولا بين غير وما يجري مجراه.
واعترضه ابن الملاحمي بأن معنى هذا التعلق هو أن القادر يصح منه لذاته أو لاختصاصه بصفة أن يجعل ذاتاً لا أن في العدم ذاتاً معينة يصح إيجادها.
ويمكن الجواب بأن يقال: أتريد أن القادر يصح أن يجعل ذاتاً في حال وجودها وهذا محال؛ لأن الموجود لا يتعلق بالقادر أ وفي حال عدمها، فهو الذي يقول ويعني بكونها معينة صحة العلم بها على انفرادها، وهذا لا يمكن دفعه فإن الله تعالى لو أخبر أنه يعذب زيداً بجزء من العذاب، لكان لا بد أن يعلم ذلك الجزاء بانفراده.
دليل قد ثبت أن أحدنا يفصل في حال عدم الأشياء بين ما يقدر عليه وما لا يقدر عليه، ولو لم يكن المعدوم ذاتاً لما صح هذا التمييز، لأن الفصل بين الأشياء هو لأمر يرجع إلى ذواتها، وقول أبي الحسين أن التمييز يرجع إلى تصور حقائقها وما هياتها، قد سلف الجواب عنه من أن ما ليس بشيء فليس له حقيقة ولا ما هية يمكن تصورها، وإنما يتوهم وهماً ويقدر تقديراً كثاني القديم والبقاء.
دليل قد ثبت أن القادر يقصد إلى الجوهر دون السواد مثلاً، فلو لم يكونا ذاتين لما صح منه القصد إلى أحدهما دون الآخر.
يوضحه: أنه قد وقع الاتفاق على صحة إعدام المكلفين وعلى صحة إعادتهم، فنقول: أخبرونا هل المعاد هو الأجزاء التي أطاعت وعصت بعينها أم غيرها، والثاني باطل؛ لأنه كيف يثاب ويعاقب من لم يطع ولم يعص.
وإن قالوا: هي بعينها. قيل لهم: وهل هي متعينة في حالة العدم ليصح القصد إلى اتحادها بعينها، فهو الذي يقول أوليست بمتعينة، فبماذا نعلم أنها هي بعينها وكيف يصح القصد إليها.
دليل: يقول أهل اللغة: علمت شيئاً موجوداً أو علمت شيئاً معدوماً، فلو لم يكن المعدوم شيئاً لكان الأول تكراراً، والثاني بعضاً، وقال تعالى: {ولا تقولن لشيء إني فاعل ذلك غداً} و: {إنما قولنا لشيء إذا أردناه}، {والله على كل شيء قدير}، ونحو ذلك.
واعترض بأن المراد بالشيء في هذه المواضع اللغوي لا الشيء الاصطلاحي المتعين في نفسه.
والجواب أنا لا نسلم ذلك، فإن الإشارة /48/ في قوله تعالى: {إني فاعل ذلك غداً} ظاهرها الرجوع إلى شيء معين في نفسه، وهو الجواب على اليهود السائلين عن قصة أهل الكهف وذي القرنين، وكذلك قوله تعالى: {إنما قولنا لشيء إذا أردناه} يقتضي ظاهرها الانصراف إلى أمر معين يريده الله تعالى، وكذلك قولهم: علمت شيئاً معدوماً.
فصل
إذا ثبت أن المعدوم شيء، فكل ما كان من الألفاظ لا يفيد الرجوع لفظاً ولا معنى جاز إطلاقه عليه في حال العدم كقولنا: جوهر ولون ونحو ذلك من الأسماء التي لا تفيد إلا إبانة نوع من نوع؛ لأن قولنا جوهر لا يفيد إلا أنه شيء يتحيز عند الوجود بخلاف قولنا جسم، لأن الجسم لا بد فيه من تأليف مخصوص، وكذلك قولنا محدث وباق وشخص ونحو ذلك.
الكلام في التوحيد
التوحيد في اللغة: قال أصحابنا عبارة عما به يصير الشيء واحداً، يقال وحد الشجرة إذا قطع أغصانها وأبقى أصلها، وهو التسويد والتحريك والتسكين، فإنه عبارة عما به يصير الشيء أسود ومحتركاً وساكناً.
والأولى أن يقال: هو فعل ما به يصير الشيء واحداً، وذلك لأن الذي به يصير الشيء واحداً، وذلك؛ لأن الذي به يصير الشيء متحركاً هو يحركه والتحريك ليس عبارة عن الحركة، وإنما هو عبارة عن فعل الحركة التي بها يصير الشيء متحركاً، وكذا في سائرها (فراغ) عرف اللغة هو الخبر عن كون الشيء واحداً (فراغ) اصطلاح المتكلمين، هو العلم بالله تعالى وما يجب له من الصفات وما يستحيل عليه منها، وأنه لا ثاني له يشاركه في ذلك على الحد الذي يستحقه.
فصل
ومضمون هذا الباب العلم بأن للعالم صانعاً، وانه قادر حي سميع بصير مدرك، قديم، وأنه يستحق هذه الصفات لذاته لا لمعان، وأنه غني متنزه عن مشابهة المحدثات، وعن رؤية الرائين، وأنه لا ثاني له وما يتصل بكل واحدة من هذه المعارف.
القول في أن للعالم صانعاً، اتفق الناس على أنه لا بد من مؤثر ما، ثم اختلفوا.
فقال أهل الإسلام والكتابيون والبراهمة وبعض عباد الأصنام أنه فاعل مختار، وبه قالت المطرفية، لكن زعموا أنه لا يؤثر إلا في الأصول الأربعة التي هي الهوى والماء والأرض والنار.
وقال أهل الإلحاد: إنه موجب، ثم اختلفوا.
فقال أهل النجوم: التأثير لها ولحركاتها فقط، ولم يثبتوا غير ذلك.
وقالت الدهرية: التأثير للدهر، وهو قريب من الأول إذا المرجع بالدهر إلى حركات الأفلاك.
وقالت الطبائعية بالطبع.
وقالت الباطنية إن ذات الباري تعالى /49/ علة قديمة صدر عنها السابق، وصدر عن السابق التالي وصدر عن التالي النفس الكلية، ثم احتركت، فحصلت الحرارة وسكنت فحصلت البرودة، وتولد عن الحرارة يبوسة، وعن البرودة رطوبة، ثم تولدت الأصول الأربعة المذكورة أولاً، وهي التي حصل منها الأشياء بحسب الاعتدال وعدمه وقوته وضعفه.
قال الفقيه حميد: وربما قالوا: إن العلة الأولى كانت غير متحيزة، فعرض لها أوهام، فأظلمت ذواتها فتحركت تريد الخلاص من الظلمة، فامتد منها طول وعرض وعمق وصارت أجساماً، وتركبت منها الكواكب والأفلاك والأصول المذكورة.
وقالت الفلاسفة المؤثر في العالم علة قديمة صدر عنها عقل واحد من حيث عملت نفسها، ثم تكثر هذا العقل من ثلاث جهات، فمن حيث عقل باريه صدر عنه عقل، وهو أشرف ما تضددوا ومن حيث هو واجب الوجود من باريه صدر عنه نفس الفلك الأعلى وهو السماء التاسعة التي يعبر عنها المسلمون بالعرش، وهو أوسط ما يصدر، ومن حيث هو ممكن الوجود من ذاته صدر عنه جرم ذلك الفلك، وهو أخيس السلامة لأنه جسم، ثم صدر عن العقل الثاني عقل ثالث ونفس فلك الكواكب وجرمه، وهي السماء الثامنة التي سمّي الكرسي، ثم صدر عن اعقل الثالث رابع ونفس فلك زحل وجرمه، ثم صدر عن الرابع خامس، ونفس فلك المشتري وجرمه، ثم هكذا إلى العقل العاشر ونفس فلك القمر وجرمه، وهذا وهذا العقل العاشر وهو الأدنى إلينا هو العقل الفعّال عندهم، ومعنى ذلك أنه صدر عنه ما دون هذه السماء من الأجسام وغيرها، وهي المادة القابلة للكون والفساد من العقل الفعال بواسطة طبائع الأفلاك وحركاتها.
قالوا: فالأشياء على هذا تنقسم إلى حال لا يقوم بنفسه وهي الأعراض، وإلى قائم بنفسه تحله الأعراض، وهي الأجسام وإلى قائم بنفسه يؤثر في الأجسام، وهي النفوس ، وإلى قائم بنفسه يؤثر في النفوس، وهي العقول، وإلى قائم بنفسه يؤثر في العقول، وهي العلة الأولى.
قالوا: والأجسام عشرة أجسام سبع سماوات وهي حاصلة لم تزل لصدورها على جهة الإيجاب وجنة الضالين لها نفوساً، والجسم العاشر هو هذه المادة القابلة للكون والفساد والنمو والذبول، ويعنون بالكون الصلاح أي الوجود.
قالوا: وهذه العقول التسعة هي الملائكة، لكن تسميتها الحقيقية أملاك إلى غير ذلك من ضلالاتهم وهوسهم الذي يطرد ذكره.
والدليل على صحة ما يقول أهل الإسلام أن هذه الأجسام /50/ محدثة، والمحدث لا بد له من محدث، ومحدثها ليس إلا الله تعالى.
وهذه ثلاثة أركان، أما الركن الأول وهو أن هذه الأجسام محدثة فقد خالف في ذلك ما تقدم ذكره من الفلاسفة وغيرهم، فإنهم اتفقوا الجميع على أنها حاصلة في الأزل، وهذا هو معنى القدم، وإن أطلقوا لفظ الحدوث بمعنى أنها حصلت من غيرها.
لنا أنها لم تحل من الأعراض المحدثة، ولم تتقدمها، وما لم يحل من المحدث ولمن يتقدمه فهو محدث مثله، وهذه الدلالة مبنية على أربع دعاوي، وهي أن في الجسم أعراضاً هي غيره، وأنها محدثة، وأن الجسم لم يحل منها وإن ما لم يخل من المحدث ولم يتقدمه فهو محدث مثله.
أما الدعوى الأولى وهي أن في الجسم أعراضاً هي غيره فالخلاف فيها من جهتين: إحداهما في هل ثم أمور زائدة على الجسم أم لا. والثانية في هل تلك الأمور أحوال فقط أو أحوال ومعاني تؤثر فيها.
الجهة الأولى: ذهب الجمهور من الناس إلى أن ثم أمور زائدة على الجسم، وخالف بعض الفلاسفة والأصم وحفص وهشام بن الحكم.
لنا أن الأجسام اتفقت في الجوهرية والتحيز والوجود، ثم افترقت في الحركة والسكون والاجتماع والافتراق، فلا بد أن يكون لنا ما اقترفت فيه أمراً زائداً على ما اتفقت فيه وإلا كانت متفقة مختلفة في أمر واحد وهو محال.
وبعد فالأجسام متماثلة، وحصولها في الجهات يتضاد، والمتضاد غير المتماثل لا محالة، وبعد فالأجسام ثابتة مستمرة، وحصولها في الجهات يتجدد ويتبدل، والمتجدد غير المستمر لا محالة.
وبعد، فإذا حرك أحدنا الجسم بعد سكونه علمنا ضرورة انه قد حصل أمر لم يكن، ومحال أن يكون هو الجسم لأنه غير مقدور لنا، ولأنه موجود قبل التحريك.
وبعد فاتفق العقلاء على حسن أمر السيد غلامه بمناولة الكوز مثلاً، والنهي عن ذلك، وعلقوا المدح بالامتثال والذم بعدمه، وكل ذلك إما أن يتعلق بنفس الكوز وهو باطل؛ لأنه غير مقدور، ولأنه موجود أو بأمر زائد وهو المطلوب.
وبعد فقال أبو الهذيل للأصم: كم تزيد حد الزاني على حد القاذف؟ قال: عشرون جلدة، قال: فهذه العشرون هي الجالد أم المجلود أو السوط أو الهوى أو الأرض ؟ قال: لا واحد من ذلك. قال: فما هي؟ قال: لا شيء. قال: فكأنك تقول لا شيء يزيد على لا شيء بعشرين لا شيء، فانقطع.
وبعد ففيها ما يعلم ضرورة على الجملة نحو تصرفاتنا وتصرفات ما يشاهده، وذلك لأنا نعلم قبح كثير منها وحسن كثير بالضرورة، وإذا علمنا أحكامها بالضرورة فكذلك هي، لأن أحكامها فروع عليها، وإنما يرجع الاستدلال إلى التفصيل.
الجهة الثانية: ذهب الشيخ أبو إسحاق بن عياش إلى أن هذه الأمور الزائدة الذي نسميها الأكوان /51/ وغيرها صفات يثبت بالفاعلين، وليس ثم معان تؤثر في هذه الصفات ونصرة الشيخان.
أبو الحسين وابنا الملاحمي(1) وبعض المتأخرين، وذهب الجمهور من أهل العدل وأهل الجبر إلى إثبات المعاني وأن هذه الصفات موجبة عنها.
لنا أن الجسم حصل في جهة من جواز أن يحصل في غيرها، والحال واحدة والشرط واحد فلا بد من أمر له حصل كذلك، وذلك الأمر ليس إلا وجود معنى. فهذه أربعة أصول.
__________
(1) . وفي نسخة: والإمام يحيى بن حمزة.
أما الأصل الأول وهو أنه حصل كذلك مع الجواز فهو معلوم ضرورة في ما يشاهده من الأجسام، وفي ما غاب عنا بجامع التحيز الذي هو مصحح لذلك، ولكنا نذكر الدليل استظهاراً فنقول: لو حصل في تلك الجهة مع الوجوب لاستحال خروجه عنها ولوجب مشاركة جميع الأجسام في ذلك، لأن حصوله فيها يكون لأمر يرجع إلى ذاته، ولزم أن يحصل هو في جميع الجهات، إذ لا مخصص لبعضها، ولتأتي من بعض القادرين تحريك جبل بان يصادف وقت وجوب احتراكه وتعذر عليه تحريك ريشة بأن يصادف وقت وجوب سكونها، وكله محال.
وأما الأصل الثاني وهو أن الحال واحدة والشرط واحد، فنريد بالحال هنا ما تصح الصفة المعنوية وبعضها إذا كان لها نقيض، وهو ها هنا التحيز، فإنه المصحح لكونه مجتمعاً، ولكونه مفترقاً، وهو في غير هذا المكان كونه حياً، فإنه المصحح لجيمع صفات الجمل ونريد بالشرط ها هنا ما كان مصححاً لهذه الحال كالبنية بالنسبة إلى حال صفات الجمل أو شرطاً في صحة هذه الحال كالوجود بالنسبة إلى التحيز أو شرطاً في كونها حالاً بهذا المعنى كبنية القلب بالنسبة إلى كونه حياً في تصحيحها لكونه عالماً أو مريداً أو كارهاً ونحو ذلك، فإن كونه حياً لا يكون حالاً لهذه الصفات إلا إذا حصلت البنية. وإذا عرفت معنى الحال والشرط فالحال في هذه المسألة هو التحيز؛ لأنها التي تصحح صفات المحال من كونه محتركاً وساكناً ومجتمعاً ومفترقاً، والشرط هو الوجود، فإن التحيز لا يصح إلا بالوجود.
ومعنى كون الحال واحداً والشرط واحداً أنهما مستمران حال ثبوت الواحدة من هذه الصفات، وحال انتفائها، وحال ثبوت ضدها، فنعلم بذلك أنه لا تأثير لهما في هذه الصفات، وإنما لهما حط التصحيح فقط؛ لأنهما مع الجميع على سواء.
وأما الأصل الثالث وهو أنه لا بد من أمر فقد قيل: يعلم ذلك ضرورة، فإنه لا بد بالضرورة من أمر يخصص أحد الجائزين بالوقوع دون الآخر.
وقال أصحابنا: نعلم ذلك بأدنى تأمل، وهو أنه لو لم يكن هناك مخصص لما كان أحدهما ثان يقع أولى من أن يقع ضده.
/52/ وأما الأصل الرابع وهو أن ذلك الأمر ليس إلا وجود معنى، فلنفرض الكلام في واحد من هذه الصفات، وهي أن ذلك الأمر كونه مجتمعاً، فنقول: إما أن يكون مجتمعاً لذاته أو لما هو عليه في ذاته أو لوجوده أو بحدوثه أو لحدوثه على وجه أو لعدمه أو لعدم معنى أو بالفاعل أو لوجود معنى.
وهذه الأقسام هي التي يشتبه الحال فيها وكلها باطلة إلا الأخير.
أما الأولان فباطلان لما تقدم من أنها حاصلة مع الجواز.
وأما الثالث فباطل بما تقدم من أن الوجود مع الاجتماع كهوية مع عدمه ومع ثبوت ضده، وذلك دليل على أنه لا تأثير له وإلا لم يكن الوجود بأن يؤثر في كونه مجتمعاً أولى من كونه مفترقاً، فكان يلزم حصوله على صفتين ضدين، وكان يلزم في جميع الأجسام أن يكون مجتمعه لاشتراكها في الوجود، ويلزم أن تستمر هذه الصفة ما استمر الوجود، والرابع باطل بما بطل به الثالث، ويلزم أن لا تحدد له هذه الصفة حالة البقاء.
وبهذا الأخير يبطل الخامس وبأنه لا وجه يشار إليه بكون الجسم مجتمعاً لحدوثه عليه.
والسادس باطل؛ لأن المصحح لهذه الصفة هو التحيز، وهو مشروط بالوجود، ولأن عدمه ليس ثان يؤثر في كونه مجتمعاً أولى من ضدها بل ليس بأن يوجب الكائنية أولى من غيرها من الصفات.
والسابع باطل؛ لأن المعنى المعدوم لا يختص رأساً، ولو اختص فليس بأن يختص ببعض الأجسام أولى من بعض، ولا بأن يوجب بعض الصفات أولى من بعض؛ ولأن هذه الصفة تقف على اختيارنا بخلاف المعنى المعدوم ولأن في العدم افتراقاً كما أن فيه اجتماعاً. والذي يشتبه من هذه الأقسام أن يكون مجتمعاً بالفاعل كما يقوله أبو الحسين وأصحابه. والذي يدل على إبطاله وجوه:
الأول: أن لو قدر أحدنا على أن يجعل الجسم على صفة من دون معنى لقدر على اتحاد ذاته كالكلام، فإنه لما قدر على أن يجعله على صفة وهو كونه خبراً مثلاً من دون معنى قدر على اتخاذ ذاته، وهذا ينبني على أن الكلام ذات لا صفة، وأن له بكونه خبراً صفة وأنها مقدورة لنا وأن قدرتنا عليها علة في قدرتنا على اتخاذ الذات.
أما أنه ذات فلأنه يعلم على انفراده، وذلك هو معنى الذات، واحتياجه إلى محل، إنما يعلم بدليل منفصل، وإذا كان ذاتاً فليست ذات الجسم كما يقول النظام؛ لأن الجسم باق /53/ والكلام يعدم، ولأن الأجسام متماثلة والحروف والأصوات قد تختلف، ولأن الأجسام غير مقدورة لنا.
وأما الكلام في أن له بكونه خبراً صفة فدليله أن القائل إذا قال زيد في الدار جاز أن يكون خبراً عن زيد بن عبد الله، وجاز أن يكون خبراً عن زيد بن خالد، وهو لا يكون خبراً عن أحدهما إلا لأمر لمثل ما تقدم، وذلك الأمر إما أن يكون عائداً إلى نفس الصيغة وهو باطل؛ لأنها مع الزيدين على سواء، وإما أن يكون عائداً إلى المخبر عنه وهو باطل؛ لأن الخبر غير واقف على أحواله، ولأن الزيدين مع الخبر على سواء بقي أن يكون عائداً إلى المخبر، وهو قصده وإرادته، وتلك الإرادة إما ان تتعلق بالمخبر عنه وهو باطل؛ لأنه قد يخبر عما لا يصح تعلق الإرادة به كالماضي والباقي والقديم، وإما أن تتعلق بمجرد الصيغة وهو باطل؛ لأنها مزادة سواء أخبر عن زيد بن عبد الله أو عن زيد بن خالد، وإما أن تتعلق بالصفة على حال وهو المطلوب، وإما أن تلك الحال هي مقدورة لنا فلأنها تقف على أحوالنا ثبوتاً وانتفاء، ويتعلق بها المدح والذم وغيرهما.
وإما أن قدرتنا عليها علة في القدرة على اتحاد الذات، فلأن القدرة على اتحاد الذات تتبع القدرة على جعلها على صفة من دون معنى ثبوتاً وانتفاء مع زوال ما هو اولى من ذلك بتعليق الحكم، وقد اعترضه صاحب تعليق شرح الأصول باعتراضين:
أحدهما: أن القدرة على الذات أصل للقدرة على الصفة، فالقدرة على الذات بأن تكون علة في القدرة على الصفة أولى، ويمكن الجواب بأنه وإن كان كذلك لكنها علة كشف لا علة تأثير، فهي كجعلنا صحة الفعل علة في كونه قادراً.
والثاني: أنه قد يقدر على اتحاد الذات من لا يقدر على جعلها صفة كالساهي والنائم، وهذا الاعتراض ينبغي أن يكون اعتراضاً عليه رحمه الله في ما اختاره.
فيقال: إذا كانت القدرة على الذات أولى بأن يكون علة في القدرة على الصفة وجب حيث تحصل القدرة على الذات أن تحصل القدرة على الصفة، فينتقض عليك بما ذكرت من الساهي والنائم، فإنهما يقدران على اتحاد الذات ولا يقدران على الصفة بخلاف العكس؛ لأنه قد يوجد الحكم مع فقد العلة بأن يخلفها علة أخرى.
وهذا هو الذي رجح به ابن متويه. الطريقة الأولى وضعف الثانية، إلا أنه يمكن الجواب عن أصل الاعتراض بأن يقال أن الساهي والنائم يقدران على الصفة وإنما لم يوجد لفقد شرطها، وهو القصد لا لفقد القدرة، وقد ذكر عن المتأخرين طريقة ثالثة، وهي أن القدرة على الذات شرط في القدرة على الصفة لا علة وعلى كل حال /54/ فقد حصل الغرض من أن القدرة على الصفة ملازمة للقدرة على الذات، ومعلوم أن هذه الصفات تحدد على الجسم في حال كونه غير مقدور كحالة البقاء، فإنها حالة وجود وهو غير مقدور فيها مع تجدد الكائنية فيها.
الوجه الثاني: إن كل وجه يقع عليه الشيء بالفاعل فإنه يتبع حال الحدوث. دليله: كون الكلام أمراً ونهياً وخبراً وكون الفعل طاعة أو معصية، وكونه ظلماً أو عبثاً أو كذباً أو نحو ذلك من وجوه الأفعال، فلو كان الجسم مجتمعاً بالفاعل لما صح اجتماعه حال البقاء كما لا يصح حال العدم لاشتراك الحالين في فقد الحدوث.واعترضه ابن الملاحمي بأن قال: ما أنكرتم أن وجوه الأفعال تنقسم إلى ما هو كيفية في الحدوث ككون الكلام خبراً، فلا يصح إلا في حال الحدوث إلى ما لا يكون كذلك نحو كونه كائناً فيصح حال البقاء.
ويمكن الجواب بأن يقال أول ما في هذا أن هذه الوجوه ليست كيفية في الحدوث؛ لأن الحدوث كيفية في الوجود، فكيف تكون للكيفية كيفية، ولأن الكيفية لا تفارق ما هي كيفية فيه، فلو كان كون الصوت خبراً كيفية فيه لما صح وجوده إلا خبراً ومعلوم أنه يصح أن يوجد ولا يكون كلاماً فضلاً عن أن يكون خبراً، وكذلك سائرها.
وبعد، فهب أنها كيفيات في الحدوث، فنحن ألزمنا ككون الاجتماع مثل هذه الأشياء في كونه كيفية في الحدوث، وأنت فرقت بنفس المذهب.
الوجه الثالث: لو قدر أحدنا على أن يجعل الجسم مجتمعاً من دون معنى لقدر على سائر صفاته التي بالفاعلين من نحو كونه أسود، وخلواً على مذهب الخصم قياساً على الكلام، فإنه لما قدر على جعله خبراً قدر على سائر وجوهه وكسائر الأفعال، فإنه لما قدر على جعلها طاعة قدر على سائر وجوهها، ولا علة لقدرته على كل الوجوه إلاَّ قدرته على وجه منها لدوران الحكم بدوران هذه العلة ثبوتاً وانتفاء، ألا ترى أنه لما لم يقدر على وجه من وجوه أفعال الغير لم يقدر على جميعها، ولا يلزمنا مثله في القدرة على بعض الذوات دون بعض؛ لأن الذوات مستقلة بنفسها؛ ولأنا نعلم بالاضطرار الفرق بين ما يتعلق بنا من الذوات وما لا يتعلق بخلاف وجوه الأفعال، فإنا وجدنا القدرة على بعضها تلازم القدرة على البعض الآخر، ووجدنا المتعلق بنا هي وجوه أفعالنا، فإما أن يتصرف في أفعال غيرنا فيجعلها على وجوه فلا، خاصه حال البقاء.
الوجه الرابع: أن الكائنية يصح فيها التزايد، والتي بالفاعل لا يصح فيها التزايد، إما أن الكائنية يصح فيها التزايد فلأن القوي إذا سكن الساكن /55/ يعذر على الضعيف نقله، وإذا لم يسكنه لم يتعذر، فلو لا تزايد الصفة لم يفترق الحال.
واعترضه الشيخ محمود بأن التزايد هو في كثرة المدافعة التي تفعلها القوي لا في الكائنية؛ لأن المرجع بالكائنية إلى شغل الجهة وهو لا يعقل فيه التزايد.
ويمكن الجواب إما قوله يرجع إلى كثرة المدافعة فباطل؛ لأن كثرة المدافعة تحتاج إلى كثرة الجهات، فلا يعقل كثرة المدافعة في الجهة الواحدة، ونحن فرضنا الكلام في تسكين الساكن.
وبعد فيقال له إن أردت بالمدافعة معنى هو الاعتماد فقد أفردت بالمعاني، وقلنا لك الاعتماد عندنا يولد السكون، وإن أردت بالمدافعة صفة يثبت بالفاعل كان الكلام في تزايدها كالكلام في مسلمتنا.
وأما أن الصفة أن الصفة بالفاعل لا تصح فيها التزايد فدليله صفة الوجود التابعة له فإن تعذر الزائد فيها معلوم، ولا وجه له إلا كونها بالفاعل.
وأيضاً فالفاعل مؤثر فلا يتعدى تأثيره الصفة الواحدة كالعلة إذ لو تعدى في الموضعين لتعدي ولا خاص، وليس له أن يفرق بان الفاعل يؤثر على جهة الاختيار؛ لأنا ألزمناه التعدي ولا حاضر، فكان يصح أن يوجد أحدنا من الكائنيات ما يحرك به الجبل العظيم بأن يختار ذلك، هذا ما ذكره أصحابنا.
وله أن يقول إنما يصح أن يوجد من ذلك القدر الذي جعل له قدرة عليه كما يقولونه أنتم في الأكوان الموجبة للصفات.
الوجه الخامس: أنه يتعذر على أحدنا حمل الثقيل دون الخفيف، فلولا أن أحدنا يحتاج في ذلك إلى زيادة قدر يفعل بها أكواناً واعتمادات لما صح الفرق لحصول كونه قادراً واحتمال المحل في الموضعين.
واعترضه ابن الملاحمي بأن الفرق هو أن الجسم متى كان ثقيلاً فلا بد أن يكون محركة حضيف الجسم صليباً ليقع التقابل من خصافة جسمه وبين الثقيل ليمكنه أن يفعل من الجذب ما يقابل ثقله والحصافة مما يقبل التزايد.
ويمكن الجواب بأنه لا بد أن يرجع بالخضافة إلى معنى هو التأليث وفي ذلك إقرار ثبوت المعاني وتزائدها.
وبعد فالصلابة تحصل في الجماد، فكان يلزم إذا أحد الضعيف عوداً صليباً أن يمكنه أن يحرك به الثقيل.
وبعد فقوله ليتمكن من أن يفعل من الحدث ما يقابل به ثقله إقرار بإثبات الحدث الذي نسميه نحن الاعتماد وهذا يوافق ما قلناه، لكن عندنا أن الاعتماد يولد الأكوان.
فصل
وأما الدعوى الثانية وهي أن الأعراض محدثة فقد خالف في ذلك فرقة من الفلاسفة زعموا أنها قديمة، ولكنها تكمن وتظهر.
لنا أنه يجوز عليها العدم والبطلان والقديم لا يجوز عليه العدم /56/ وهذان أصلان أما أنه يجوز عليها العدم، فقد ادعى فيه كثير من الناس الضرورة والمستدل يقول ما من متحرك إلا ويجوز أن يسكن وما من مجتمع إلا ويجوز افتراقه، وذلك ضروري في ما يشاهده للتحيز وهو حاصل في ما غاب عنا إذا ثبت ذلك، وفرضناه افتراقاً بعد اجتماع لم يخل ذلك الاجتماع، إما أن يكون باقياً أو منتقلاً أو معدوماً، والأول باطل لتأديته إلى أن يكون الجسم مجتمعا مفترقاً دفعة واحدة، فإن قال إنما يكون مفترقاً فقط لأن الافتراق هو الطاري فله خط الطرو فيكون الموجب والاجتماع يكمن.
قلنا: إنما يكون الشيء طارياً إذا كان له حالة حدوث يكون فيها أولى بالوقوع والإيجاب من حيث هي حالة وجوب وقوعه من فاعله والاقتراف عندكم باق بل قديم فلا معنى للطرو فيه، وإن سلمنا أنه طار فإنما يكون طارياً في حالة واحدة، ففي الثانية تعود الإلزام أو العدم.
وأما الكمون والظهور فإنما يعقل في الأجسام على أنه ليس أحدهما بالكمون أولى من الأخير.
وبعد: فالعلة إنما توجب لما هي عليه في ذاتها، وهو حاصل في جميع الحالات، فلا يصح أن يوجد ولا يوجب بأن تكمن.
وبعد، فلو جوزنا وجودها غير موجبة لما كان إلى وجودها طريق ولا الفصل من عدمها.
والثاني باطل؛ لأنه إن أريد بالانتقال ما هو المعقول من أنه تفريغ جهة وشغل أخرى فهو إنما يثبت في المتحيزات، ومنه يتميز عن غيرها، والإعراض ليس بمتحيز، وإلا لم يصح اجتماع الأعراض الكثيرة في المحل الواحد، ولما كانت بأن تحل في الأجسام أولى من أن تحل فيها الأجسام، ولكان يجب أن يمتلي الزق إذا أدخل أحدنا يده فيه فحركها، وكان يجب أن يتكاثف وتعظم. وإن أريد بالانتقال أن يحل محلاً غير محلها الأول فهو لا يصح؛ لأن حلول العرض في المحل المعين كيفية في وجوده وكيفية الوجود لا تفارقه؛ ولأن ما يحل محلاً لو جاز حلوله في غيره لم يكن ليحل في أحد هذين الجائزين دون الآخر إلا لمخصص من فاعل أو علة.
ولا يصح أن يكون الفاعل وإلا صح أن يجعله حالاً فيهما وأن يجعله غير حال أصلاً. على أنه يحصل منه غرضنا لأن حلول العرض إذا كان بالفاعل فوجوده بالفاعل لما سلف من أنه لا يجعل الذات على صفة إلا من يوجد تلك الذات، ولا يجوز أن يكون بالمعنى لأن المعنى لا يختص المعنى، ولأن الكلام في ذلك المعنى كالكلام في هذا، ولأنه ليس بأن يوجب حلوله في محل أولى من غيره /57/، وإن أريد بالانتقال أن يوجد لا في محل بعد أن كان في محل لم يصح لما تقدم من أن من أن الحلول وعدمه كيفية في الوجود، فما يحل يستحيل أن لا يحل، وما لا يحل يستحيل أن يحل، إذ لو جاز عليه الأمران لافتقر في ثبوت أحدهما إلى مخصص كما تقدم.
وعلى الجملة فإما أن يكون الانتقال على سبيل الجواز أو الوجوب وكلاهما باطل.
وأما الأصل الثاني وهو أن القديم لا يجوز عليه العدم، فلوجوه:
الأول: إن جواز العدم ينافي وجوب الوجود، ويقتضي أن الوجود والعدم على سواء في الجواز، وإذا كان كذلك لم يكن الوجود أولى من العدم إلا لمخصص من فاعل أو علة وكلاهما باطل كما سيأتي، ولأن ذلك يقتضي أن يكون له حالة عدم ليصح أن يؤثر فيه مؤثر، وذلك يبطل قدمه.
الوجه الثاني: أن القديم باق لأنه قد وجد أكثر من وقت، والباقي لا ينتفي إلا بضد أو ما يجري مجراه؛ لأنه إذا انتفى مع جواز أن يبقى لم يكن بد من أمر ولا اختيار للفاعل في ذلك، والقديم لا ضد له ولا ما يجري مجراه؛ لأنه لو كان له ضد وقد ثبت أن القدم صفة مقتضاه لوجب أن يكون مقتضاه ذلك الضد بالعكس منها؛ لأن التضاد من أحكام الصفة المقتضاة، فيجب إذا كان القديم موجوداً لما هو عليه في ذاته أن يكون هذا الضد معدوماً لما هو عليه في ذاته، وفي ذلك بطلان تأثيره في نفي القديم.
وأما ما يجري مجرى الضد فلأن القديم لا يحتاج في وجوده إلى شيء، ولذلك الشيء ضد ينفيه حتى يكون منافاته لما يحتاج إليه القديم يجري مجرى منافاته للقديم.
الوجه الثالث: إن القديم قديم لذاته وخروج الموصوف عن صفة ذاته لا يجوز، وهذان أصلان.
أما أنه قديم لذاته فلأنه لو لم يكن قديماً لذاته لكان قديماً لغيره، وذلك الغير إما الفاعل أو العلة، والعلة إما معدومة أو موجودة، والموجودة إما قديمة أو محدثة.
لا يجوز أن يكون قديماً بالفاعل؛ لأن من حق الفاعل أن يتقدم بها على فعله، ولا حالة قبل القديم يتقدم فيها الفاعل، ولأن الفاعل لا يقدر على صفة للذات إلاَّ إذا كان قادراً على تلك الذات، ولأن الفاعل إن كان قديماً نقلنا الكلام إليه، وإن كان محدثاً لزم تقدم فعله عليه، ولا يجوز أن يكون قديماً لعلة معدومة؛ لأن المعدوم لا يختص، فلا يوجب ولأنها مع الاشياء على سواء، ولأنها ثابتة في الأزل، فيجب ثبوت معلولها لم يزل وفي ذلك استغناؤه عنها لوجوبه فلا ينفي إلى ثبوتها طريق، ولا يجوز أن يكون قديماً لعله قديمة لأن الكلام في قدمها كالكلام في قدمه ولأنه ليس أحدهما بأن يوجب للآخر أولى من العكس لاستوائهما في القدم ولأنها ثابتة في الأزل، وفي ذلك وجوب معلولها واستغناؤه عنها، وزوال الطريق إليها /58/ ولا يجوز أن يكون قديماً لعلة محدثة؛ لأن كونه قديماً سابق عليها فيستغني عنها نفي أن يكون قديماً لذاته، وأما أن خروج الموصوف عن صفة ذاته لا يجوز فلأن بصفته الذاتية تكون ذاتاً، ويدخل في صحة كونه معلوماً، وخروجه عن كونه ذاتاً محال، ولأنها ثابتة لا لأمر يخصها بحال دون حال، ولأن صفة الذات كمعلول العلة، فكما لا يزايلها معلولها كذلك لا يزايل الذات صفتها، والجامع عدم افتقارهما إلى غيرهما وتحقيق هذه الجملة أنه لو خرج عن صفة ذاته لم يخلو إما أن يخرج منها إلى غيرها أم لا باطل أن يخرج عنها لا إلى غيرها لأن في ذلك خروجه عن صحة كونه معلوماً وباطل أن يخرج عنها إلى صفة ذاتية أخرى؛ لأن تلك الصفة التي خرج إليها إما أن يختص به بعد خروجه عن هذه فيؤدي إلى اجتماع صفتين ذاتيتين، وإما أن يختص به بعد خروجه عن هذه فيؤدي إلى تجدد الصفة الذاتية وحصولها بعد إن لم تكن، وذلك يبطل كونها ذاتية. إذا ثبت هذا أمكنك استخراج دليل آخر على حدوث الأعراض فنقول: لو كانت قديمة لتماثلت لاشتراكها في صفة ذاتية، وهي القدم، ومتى اختلفت فإنما يختلف لصفة
أخرى ذاتية، وذلك يقتضي كونها متماثلة مختلفة، فيلزم إذا طرى عليها الضد أن ينفيها من حيث هي متماثلة، ولا ينفيها من حيث هي مختلفة، فتكون موجودة معدومة.
فصل
وأما الدعوى الثالة، وهي أن الأجسام لم تخل من الأعراض المحدثة، وتزيد الأكوان فقط؛ لأن ما عداها ضربان، ضرب غير باق، فيجوز خلو الجسم عنه بكل حال، وضرب باق فيجوز خلو الجسم عنه قبل وجوده، فإن وجد لم يجز خلوه عنه لا لأمر يرجع إلى الجسم بل لأنه باق والباقي لا ينتفي إلا بضد أو ما يجري مجراه، وذلك الضد من نوعه، وإنما الذي لا يخلو عنه الجسم هو الكون، ثم إذا حققنا فالذي لا يخلو عنه الجسم هو الكون المطلق الحاصل حال حدوثه، وما عداه فقد يقدم الجسم عليه، وإن أمكن الاستدلال به على حدوث الجسم لأن الجسم لم يسبقه إلا بوقت واحد، وقد خالف فيه فرقة من الفلاسفة زعموا أن هتولاه قديمة كانت خالية عن العرض حتى خلتها الصورة، ويريدون الهيولا أصل الشيء المتنزل منه منزلة الطير من اللبن، وبالصورة ما يحصل من التركيب المتنزل منزلة الربيع عنه.
لنا أن الجسم لا يحصل إلا في محاذاة بالضرورة في ما يشاهده ويجامع التحيز في ما غاب عنا، ولسنا نعني بالكون أكثر من حصوله في الجهة ،و لكن التسمية بغير عليه فيسمى سكوناً إن لبث به الجسم أكثر من وقت واحد /59/ وحركه إذا انتقل به(1) واجتماعاً إذا وجد مع الجوهر غيره، وكان بالقرب منه وافتراقاً إذا كان ذلك الغير بالبعد منه، ويسمى مطلقاً، وهو ضربان: مطلق بالنسبة إلى الحركة والسكون، وهو حاصل حال الحدوث، فإنَّه من جنسهما، وليس يسمى حركة ولا سكوناً، وسواء وجد اجتماع أو افتراق أم لا وجد اجتماع أو افتراق أم لا. ومطلق بالنسبة إلى الاجتماع والافتراق، وهو الحاصل في الجوهر الفرد، إذا لم يوجد غيره، فإنَّه يكون من جنس الاجتماع والافتراق، ولا يسمى اجتماعاً ولا افتراقاً، وسواء حصل حال الحدوث أو حال البداء فإنَّه مطلق حتى يوصل جوهر آخر، وحينئذ يسمى اجتماعاً إن وجد ذلك الآخر بالقرب، وافتراقاً إن وجد بالبعد، دليل لو جاز خلوه عن الأكوان في ما مضى من الزمان لجاز الآن؛ لأنه لم يتغير عليه إلاَّ مرور الزمان، وذلك لا يؤثر في ما يجب للجسم أو يجوز أو يستحيل، وجواز خلوه عنها الآن مستحيل، فإن العقلاء يكذبون من أخبر بوجود جسم ليس بمحترك ولا ساكن، أو جسمين لا مجتمعين ولا مفترقين.
دليل: قال أبو الهذيل لعبض أهل الهيولا إذا كانت الأجسام خالية من قبل عن الأعراض فأي الأعراض سبق إليها، هل الحركة، فكيف يحترك ما لم يكن ساكناً أو السكون، فكيف يسكن ما لم يكن محتركاً، (فكيف زائد يحترك ما لم يكن ساكناً، أو السكون، فكيف يسكن ما لم يكن محتركاً)، وقال له فإنها السابق إليه عندكم، قال: الكون المطلق، وهو إنما يتأتى مع الإقرار بالحدوث.
__________
(1) . في نسخة: عنه.
واعلم أن هذا الدليل مبني على أن التحيز ليس بمحدود، وسيتضح، وقولهم: بالهيولا والصورة باطل؛ لأنهما غير معقولين، ولا طريق إليهما، ولأنهما إذا كانا قديمين غير متحيزين لم يكن أحدهما بأن يكون هيولاً والآخر صورة، ولا بأن يكون حالاً، والآخر محلاً أولى من العكس، لاشتراكهما في القدم، ولأنهما حاصلين في جهتين، وذلك مترتب على الكون، ولأنهما إما ان يكون بينهما بون فهو الافتراق أو لا يكون، فهو الاجتماع، ولأن من أصولهم أن الجزء يتجزأ فلا يستقيم قولهم جوهران بسيطان؛ لأنهم يريدون بالبسيط الفرد، ومع تجزي الجزء لا يصح الافراد، ولا يكون بد من اجتماع فيه.
فصل
وأما الدعوى الرابعة وهي إنما لم يخل من المحدث ولم يتقدمه فهو محدث مثله، فالخلاف فيها من ثلاثة جهات:
الجهة الأولى: ذهب أبو الحسين إلى أن الرابعة هي الثالثة، وليست غيراً لها.
قال: لأن العلم بأنه لم يسبق المحدث، هو العلم بأن لوجوده أول، وذلك هو معنى الحدوث، وليست الأدلة تنصب لأجل التسمية، فيستدل في الرابعة على أن الجسم يسمى محدثاً، قال: ومثله الاستدلال بأن لأحد التؤمين /60/ عشر سنين على أن للآخر كذلك، والاستدلال عل أن هذا الكتب بسم ـ باء وسين وميم ـ والاستدلال على أن الإنسان حيوان، بأنه جسم حساس منتصب، وعلى أن هذا المكان سوق بأنه مكان مؤهل لاجتماع الناس للبيع والشراء، كل هذه الاستدلالات بالشيء على نفسه، وهذا قوي كما ترى.
الجهة الثانية: قال أنور سيد العلم بالرابعة ضروري مطلقاً، فلا يعد دعوى، وقال القاضي: إذا كانت الذات معينة والحادث معين فالعلم بحدثوها ضروري وإلا فمكتسب.
قيل، والحق أن العلم بحدوث ما لم يحل من المحدث على الجملة ضروري كالعلم بأن كل ظلم قبيح، والعبرة بالتفصيل بالمقدمات، فإن كان علمنا بحدوث الأعراض ضرورة، وأن الجسم لا يخلو منها ضرورة فالعلم بحدثوها ضروري، وإن كان الأولان اكتسابيين فالثالث اكتسابي، وهذا حسن إن ثبت أن الدعوى الرابعة غير الثالثة.
الجهة الثالثة: زعم ابن الراوندي والفلاسفة أن الجسم قديم، ولم يخل من الأعراض المحدثة لكنها تحدث فيه حادثاً قبل حادث، إلى ما لا أول له.
ويبطله أن الجسم إذا لم يخل من المحدثات فقد صار وجوده معها أو بعدها، وصار لوجوده أول كما أن لوجودها أول، ولسنا نعني بحدوثه أكثر من ذلك.
وقولهم: بحوادث لا أول لها ظاهر الفساد؛ لأنه إذا كان كل واحد من هذه الحوادث له فاعل، وحق الفاعل أن يتقدم على فعله، كان في ذلك تقدمه على جميعها، فلا يستقيم حصول شيء منها في ما أول له لتقدم غيرها عليها.
وبعد فحق القديم أن يتقدم على كل محدث تقدماً لا أول له، فلو كان الجسم قديماً لكان سابقاً على جميع الأعراض، فيكون قد خلا عنها حالة السبق، وقد بينا أنه لا يخلو عنها.
وبعد فهذه الحوادث قد حصرها الوجود، وفي ذلك تناهيها من حيث يجوز حصول زيادة فيها، ولا بد أن يكون مع تلك الزيادة أكثر منها بغير زيادة، وما كان غيره أكثر منه فهو متناه.
وقولهم: آحادها محدثة وجملتها قديمة ظاهر التناقض؛ لأن الحدوث ثبت لإجادها من غير شرط، فيجب ثبوته لجملتها، فهو كثبوت السواد لكل واحد من الزنج لا كثبوت جواز الخطأ على كل واحد من الأمة، شبهتهم أنه قد جاز حوادث لا آخر لها، فليجز حوادث لا أول لها.
والجواب: أن كونه لا آخر لها لا يخرجها عن كونها محدثة وكونها لا أول لها تخرجها عن ذلك. على أن /61/ أبا الهذيل قد كان التزم امتناع حوادث لا آخر لها، وقال: تتناهى حركات أهل الجنة ثم رجع عن ذلك.
قالوا: إذا لم يخل الجسم من الأعراض ولم يكن عرضاً، فهلا جاز أن لا يخلو منها، ولا يكون محدثاً.
قلنا: إنه إذا لم يخل منها فقد شاركها في حقيقة الحدوث ولم يشاركها في حقيقة العرضية فلزم الأول دون الثاني، وليس العلة في كون العرض عرضاً حدوثه حتى يلزم مثله في الجسم.
قالوا: أليس لم يخل من الحوادث الآن ولا يكون حادثاً الآن، فهلا كان كذلك في ما مضى من الزمان.
قلنا: أتريدون بما مضى فيما لم يزل أو من بعد إن قلتم في ما لم يزل نقضتم سؤالكم؛ لأنه ليس في ما لم يزل شيء حادث، فيقال: لم يخلو منه الجسم وإن قلتم من بعد فلا فرج لكم في ذلك؛ لأنه ليس يلزم من جوازه قدم الجسم.
على أنا نلتزم أن يكون محدثاً الآن لحصول حقيقة المحدث فيه الآن، وهو أنه موجود لوجوده أول، وليس يلزمنا أن يتحدد له الوجود الآن؛ لأنا لم ندع أن يكون حادثاً كلما حدث فيه عرض، قالوا: عندكم أن القديم يسبق المحدث بما لو كان هناك أوقات لكانت بلا نهاية، فقد جوزتم حوادث لا أول لها.
قلنا: ليس تقدير حوادث لا أول لها يقتضي جواز ثبوتها، ويخرجها عن كونها مستحيلة كما أن تقدير قديم ثان وأنه لو كان لمانع الباري جل وعز لا يقتضي صحة ذلك، والغرض لهذين التقديرين الاستدلال على أن تقدم القديم للمحدث لا أول له أن التمانع جائز بين كل قادرين وإن كان المقدر مستحيلاً، انتهى الكلام في دليل حدوث الأجسام.
تنبيه:
اعلم أنه كما يصح الاستدلال بطريقة المعاني يصح أيضاً بطريقة الأحوال سواء كانت بالفاعل كما يقوله أبو الحسين أو معنوية كما يقوله الجمهور؛ لأن الاستدلال بالمعاني إنما هو من حيث كان لثبوتها أول، ولم يخل منها الجسم، وذلك حاصل في الأحوال، بل ربما أن طريقة الأحوال أولى من حيث أنها معلومة على الجملة ضرورة وأنها هي الطريقة إلى المعاني، ولأن النظر في الحقيقة إنما هو في الأحوال، وقد رجح القاضي طريقة المعاني بأنه يرد على طريقة الأحوال شبه لا يمكن حلها إلا بإثبات المعاني.
منها: أن يقول الخصم لمن ينفي المعاني: إذا جاز عندك الآن أن يحترك الجسم يمنة دون يسرة لا لأمر، فهلا جاز في الأزل أن يكون الجسم في جهة لا لأمر.
واعترضه أبو الحسين بأنا لا نقول أنه احترك يمنة دون يسرة لا لأمر بل لأمر، وهو الفاعل، وليس يمكن إثبات المعاني إلا بعد إبطال كون /62/ الصفة بالفاعل.
ومنها: أن الاستدلال بالأحوال ينبني على صحة خروج الموصوف منها إلى غيرها، وإنما يعلم ذلك بإثبات المعاني التي توجب لذواتها فيستحيل بقاء موجبها مع زوالها والعكس.
ويمكن أن يعترض بأن المستدل بالأحوال يقول لو لم يصح خروج الموصوف عنها لكانت واجبة، فتكون ذاتية، ولو كانت ذاتية لاستحال خروج الجوهر عن الجهة التي هو فيها، ولوجب أن يكون في جميع الجهات؛ لأنه لا اختصاص لذاته ببعض دون بعض، ولزم في جميع الجواهر مثل ذلك، وكل ذلك باطل، ولا يحتاج في إبطاله إلى إثبات المعاني.
قال ابن الملاحمي: وما ذكره القاضي رحمه الله تعالى دور لأنه جعل العلم باستحالة أن تكون هذه الصفة ذاتية متوقفاً على العلم بإثبات المعاني، ومعلوم أن المعاني إنما تثبت بعد بطلان كونها ذاتية.
فصل في شبه القائلين بقدم الأجسام
اعلم أولاً أن الشبهة هي ما التبس بالدليل، وليس بالدليل، وهي ضربان، ضرب يقدح بأن يرد على أركان الدليل فيكون العلم بحله من فروض الأعيان، ولسنا نشترط في العلم بحله أن يعلم كيفية التعيين عن حل الشبهة.
وضرب لا يقدح بأن يرد على المذهب فيكون العلم بحله من فروض الكفاية، وشبه هؤلاء كلها من هذا الضرب، فلا يقدح الجهل بحلها في العلم. قالوا: لو كان العالم محدثاً لكان، فاعله قد حصل فاعلاً بعد إن لم يكن فلا بد من أمر، وذلك الأمر يحدث، والكلام فيه كالكلام في العلم، فيتسلسل.
قلنا: ليس للفاعل بكونه فاعلاً حال حتى يجب تعليلها، وإلا لزم مثله في كون أحدنا فاعلاً، والحوادث اليومية، على أنا نقول ذلك الأمر هو كونه قادراً أو الداعي، وكلاهما غير محدث في حق صانع العالم.
قالوا: لو كان العالم محدثاً لكان الله غير عالم بوجوده في ما لم يزل، ثم حصل عالماً بعد إن لم يكن، وفي ذلك تغيره.
قلنا: العلم بأن الشيء سيوجد علم بوجوده إذا وجد، ثم يقال لهم: أتريدون أن في ذلك تغير ذاته بمعنى أنها صارت غير ما كانت، فهو لا يلزم، وإلا لزم مثله في كون أحدنا عالماً بعد إن لم يكن أو يريدون بغير صفته بمعنى أنها كانت متعلقة بأنه سيوجد، ثم تعلقت بوجوده، فصحيح، لكننا لا نسميه تغيراً.
قالوا: استحال وجوده في ما لم يزل لم يخل وجه الاستحالة، إما أن يرجع إلى القادر أو إلى المقدور أو إليهما وكله ثابت في كل حال، فيلزم استمرار الاستحالة.
قلنا: يجوز أن يكون هذا الحكم مما لا يعلل لكون الاستحالة نفياً أو لغير ذلك من الوجوه المانعة من التعليل كالحلول وغيره، ويجوز /63/ أن يكون لهذه الاستحالة وجه لا يعلم، وليس الجهل بوجه الشيء يقدح في العلم به إذا ثبت بدليل، ثم نقول وجهها يرجع إلى القادر والمقدور، وهو وجوب تقدم القادر وتأخر المقدور من حيث يؤثر على جهة الصحة، وإلا لم يكن قادراً ولا المقدور مقدوراً، وليس كذلك إذا وجد العالم بغير عدم؛ لأن المحيل حينئذ زائل، ثم يعارضهم بما يعترفون بحدوثه كالحوادث اليومية، قالوا: لو كان محدثاً لكان لا بد أن يتقدم عليه محدثه بزمان لاستحالة التقدم لا بزمان، وذلك الزمان إما قديم فيلزم قدم العالم لأن المرجع بالزمان إلى حركات الأفلاك، ولأن ما وجد في الزمان القديم فهو قديم، وأما محدث فيعود السؤال في محدثه فيتسلسل.
قلنا: ليس من ضرورة المتقدم أن يتقدم بزمان، ودليله: تقدم الليل على النهار والشهر على الشهر، وأما القديم فتقدمه على المحدث بما لو كان زمان لكان بلا أول.
ثم يقلب عليهم السؤال في الحوادث اليومية. قالوا: الباري تعالى جواد لم يزل؛ لأن في خلاف ذلك نقضه، وكونه بخيلاً.
قلنا: لا نسلم كونه تعالى جواداً، لم يزل بهذا المعنى، ولا أن يحدد هذا الوصف نقص؛ لأن ذلك من صفات الأفعال، فهو كقولنا: رازق ومحسن، وكذلك ليحل المرجع به إلى أنه إحلال مخصوص بواجب مخصوص، فلا يطلق عليه تعالى بحال.
قالوا: إذا وجد العالم في وقت صح أن يتوهم وجوده قبل ذلك الوقت بوقت، وقبل الوقت بوقت، ولهم جراً إلى ما لا أول له.
قلنا: هذا هو محل النزاع، فما الدليل عليه، وهو أيضاً مبني على وجود الأوقات في ما لم يزل ولم يسلمه.
ثم يقال: إذا رأينا داراً مبنية وشخصاً قاعداً على سرير أن يكون كونهما كذلك لم يزل؛ لأنه لا وقت يسار إليه إلا ويصح أن يتوهم كونهما كذلك قبله، فإن أجازوه كابروا وإن منعوه نقضوا شبهتهم.
قالوا: يستحيل وجود شيء لا من شيء، وهذا يقتضي قدم الهيولى.
قلنا: أتريدون يستحيل وجود شيء لا من فاعل مختار فصحيح، لكن فيه حدوث الهيولى، وقدم الباري تعالى أو تريدون يستحيل وجود شيء لا من شيء موجب فمحل النزاع.
قالوا: إنما أثر الله تعالى في العالم لكونه قادراً، وهو حاصل لم يزل، فيجب قدم العالم لحصول المؤثر فيه لم يزل.
قلنا: فأما كونه قادراً على جهة الصحة، فيجب تقدمها. قالوا: لو احتاج العالم في ثبوته إلى الصانع ومعلوم أنه لولا العالم لما ثبت الصانع، لأدى إلى التوقف لاحتياج كل واحد إلى الآخر.
قلنا: العالم يحتاج إلى الصانع في وجوده، والصانع يحتاج إليه في العلم به، فاختلف وجه الحالة، فلا توقف، ونظيره احتياج كل واحد من العلة والمعلول /64/ إلى صاحبه، واحتياج كل واحدة من الجناتين إلى الآخر.
قالوا: لو كان للعالم صانع قديم لكان إنما يفعله لداعي حكمه، وهو علمه بحسنه، وحصول نفع الغير فيه، وذلك الداعي حاصل لم يزل، فيجب حصول العالم فيما لم يزل.
قلنا: الداعي إنما يدعو إلى ما يصح، ووجود العالم في الأزل يستحيل، فلا يدعو إليه الداعي.
وتحقيقه أنه لا يكفي العلم بحسن الشيء، وحصول يقع للغير فيه، أو لنفسه في كونه داعياً، بل لأنه من أن يعلم أو يعتقد إمكانه، وكونه مقدوراً، ولهذا لا يقال دعا أحدنا الداعي إلى أن يفعل لنفسه أو لغيره مالاً وتبين لما كان مستحيلاً من جهته، وإن دعاه إلى أن يوجد من جهة الله تعالى لعلمه أو اعتقاده صحة ذلك منه تعالى، فحصل من هذا أن علم الباري تعالى بحسن الفعل لا يوصف بأنه داع إليه إلا في حال إمكانه، ومتى انتهى إلى تلك الحال فإنما يفعل فعلاً دون فعل، وقدراً دون ما زاد عليه، وفي وقت دون وقت؛ لأن هذا سبيل داعي الحكمة، ألا ترى أن أحدنا يتصدق بدرهم دون درهم وعلى فقير دون فقير، وفي وقت دون وقت، فلا يقال هلا وجدت هذه الموجودات أو أكثر منها دفعة واحدة في أول أحوال الإمكان.
فصل
وأما الركن الثاني وهو أن المحدث لا بد له من محدث، فقد اتفق العقلاء على أنه لا بد من أمر.
قيل: والعلم بذلك ضروري، ونحن نستدل استظهاراً فنقول: المحدث إما أن يحدث مع الوجوب أو مع الجواز أو في كليهما يلزم حصوله، لم يزل دفعة واحدة، أو أن لا يحصل أبداً إذ ليس بأن يجب أو يجوز في حال أولى من حال، ولا بأن يجب أو يجوز أولى من أن لا يجب ولا يجوز لو لا ثبوت أمر لأجله كان الحدوث أولى من العدم، والحدوث في حال أولى من حال.
دليل، قد وجد في المحدثات ما فيه إحكام عظيم، وصنعة باهرة وإتقان عجيب، فلو كان ذلك لا من مؤثر أو من موجب لصح أن يجتمع الواح في البحر ويتركب منها سفينة محكمة من دون صانع أو تطيع لتك الألواح.
دليل: قد ثبت أن لنا أفعالاً وأنها محدثة، وأنها محتاجة إلينا، وإنما احتاجت إلينا لحدوثها، والأجسام قد شاركتها في الحدوث، فيجب أن تشاركها في الاحتياج إلى محدث.
وهذه خمسة أصول، أما الأولان فيقدما في الدعوتين الأولتين، وأما الثالث فمعنى حاجتها إلينا أنه لولا نحن لما وجدت، وأن لا حول لنا فيها، تأثيراً من كوننا قادرين ومريدين ونحوهما.
دليله أنها توجد بحسب قصودنا ودواعينا، وينبغي بحسب كراهتنا وصوارفنا تحقيقاً أو تقديراً مع سلامة الحال، ويتعلق بها المدح والذم، وليس كذلك أفعال غيرنا كالجواهر والألوان، وحركات غيرنا وكلامه ونحو ذلك.
وأما أنها إنما احتاجت /65/ إلينا لحدوثها فلأن الذي يقف على أحوالنا هو حدوثها أو حدوثها على وجه، ولأنها إما أن تحتاج إلينا لأجل عدمها، وهو ظاهر البطلان؛ لأنها معدومة قبل أن يكون لنا فيها تأثيراً، ولأجل بقائها، وهو باطل أيضاً، لأن كثيراً منها لا يبقى، وإن اخترنا بقاه وكثيراً يبقى، وإن اخترنا زواله ولأنه كان يلزم إذا مات الكاتب والباني أن تزول الكتابة والبناء لفقد ما يحتاجان إليه أو لأجل حدوثها، وهو المطلوب.
فإن قيل: إن حالة الحدوث هي حالة الاستغناء عن المحدث، فكيف يجعل علة في الاحتياج إليه.
قلنا: إنها علة كاشفة بمعنى أن الحدوث كشف عن الاحتياج إلى محدث، فهو كجعل صحة الفعل علة في كونه قادراً.
فإن قال: هلا كانت العلة في الاحتياج هو الحدوث مع الجواز، وإذا حدث مع الوجوب لم يحتج.
قلنا: بالحدوث فقط يعلم الاحتياج إلى محدث، ولا يعتبر قيداً آخر كما أن يكون الفعل ظلماً بعلم قبحه ولا يعتبر حصوله مع الجواز ولا غير ذلك من القيود.
وأما أن الأجسام قد شاركتها في الحدوث فتقدم.
وأما أنه يجب أن يكون لها محدث فلأن الاشتراك في علة حكم يقتضي الاشتراك في الحكم وإلا بطل كونها علة.
وهاهنا أصل، وهي أفعالنا وفرع، وهي أفعال القديم جل وعز، وعلة، وهي الحدوث، وحكم، وهو الاحتياج إلى المحدث. وهذه طريقة من أربع طرق يجمع بها بين الشاهد والغايب، ويسمى علة الحكم لمشابهتها العلة الحقيقية في حصول الحكم عندها لا محالة.
والثانية: طريقة الحكم كاستدلالنا على أن الله تعالى قادر بصحة الفعل منه وتعذره على غيره.
فإن هذه الطريقة التي علمنا بها كون القادر قادراً في الشاهد وإن لم يسم علة، وإن حصل الشبه المتقدم لئلا يوهم أن صحة الفعل هي المؤثرة في كونه قادراً والأمر بالعكس.
والثالثة: ما يجري مجرى العلة كاستدلالنا على كونه تعالى مريداً باختلاف وجوه أفعاله، فإن ذلك هو الدليل على كون المريد مريداً في الشاهد، وإنما لم يسم علة لمثل ما تقدم، ولا سميت طريقة، لأنها لا تطرد دلالتها إلا في من تثبت حكمته، ألا ترى أن أحدنا يوجد كلامه في صورة الأمر وهو لا يريد المأمور لعارض من العوارض.
والرابعة: طريقه الأولى كاستدلالنا على أنه تعالى لا يفعل القبيح بكونه عالماً بقبح القبيح، وغنياً عن فعله وعالماً عن استغنائه عنه، فإن هذه الأوصاف تمنع من فعل القبيح في الشاهد، وإن كان الشاهد عالماً بعلم غبياً بشيء عن شيء، فأولى وأحرى في حق من يستحقها لذاته، ولهذا سمعت طريقه الأولى.
واعلم أنه قد يطلق على الكل علة الحكم لحصول الشبه المتقدم، ولا مضايقة في العبادات إذا فهم المعنى، وهذه الطرق عليها مدار كثير من أصول /66/ الدين، وقد قدح فيها أهل الإلحاد على ما تقدم، وبايعهم من أهل الإسلام المجبرة وغيرهم ممن أحسن الظن بهم، ولم يفهم ما أرادوا به، فالله المستعان.
فصل
وأما الركن الثالث وهو أن محدثها ليس إلا الفاعل المختار جل وعز، فقد خالف فيه من تقدم ذكره من الفلاسفة القائلين بالعقول والأنفس والباطنية القائلين بالسابق والتالي، وأهل الطبع وأصحاب النجوم.
لنا أنها إما (1) أحدثت نفسها أو غيرها، والأول باطل لأنها حالة العدم يستحيل أن تقدر فصلاً عن أن تؤثر في نفسها وحالة الوجود يستغني عن المؤثر، وأن أحدثها غيرها فهو إما مختار كما يقول أو موجب، وهو باطل؛ لأن ذلك الموجب إن كان محدثاً عاد الكلام فيه وفي محدثه حتى ينتهي إلى المختار، وإن كان قديماً أو معدوماً لزم حصول الأجسام لم يزل لاستحالة تأخر المعلول عن العلة، ولزم أن يحصل دفعة واحدة، بل في كل الجهات؛ لأنه لا يخصصها بوقت دن وقت وجهة دون جهة، إلا المختار ولزم أن يكون بصفة واحدة؛ لأنه ليس بعضها بأن يوجب كون الماء ماء والطين طيناً أولى من العكس، ولا بأن يوجب كون الماء طيناً والطين يابساً أولى من العكس.
__________
(1) . في نسخة: إما أن تكون.
فإن قال: إنما لم يوجد في الأزل لحصول مانع أو فقد شرط، قيل له: ذلك المانع إن كان محدثاً عاد الكلام في كون محدثه مختاراً أو موجباً، وإن كان قديماً استحال عليه الزوال، فلا يوجد العالم أبداً لاستمرار المانع، ولو سلمنا زواله لكان إنما يزول بمزيل، وذلك المزيل إما موجب أو مختار، وكذلك الكلام في فقد الشرط؛ لأن الشرط إن كان واجباً فقده استحال وجوده فلا يوجد العالم قط، وإن كان جائزاً فقده وجائزاً حصوله لم يكن بالحصول أولى من الزوال، ولا بالحصول في وقت أولى من وقت إلا لأمر إما موجب ومختار القسمة بعينها.
وأما الفلاسفة فيقال لهم: أي شيء العقول والنفوس، وما الدليل على ثبوتها، وإذا كانت قديمة لم تكن البعض بأن يؤثر في البعض أولى من العكس، ولم كان البعض بان يكون عقلاً والآخر نفساً أولى من العكس، ولِم اقتصرتم على عشرة عقول مع حصول جهة التكثير في العاشر، ولِم كان العقل العاشر هو الفعال والمدبر لعالم الكون والفساد، ولِمَ كانت النفوس حية، ولم كان بان يجعل الماء ماء والطين طيناً أولى من العكس، ولِم كان بأن يجعل بعض الأجسام حياً والآخر جماداً أولى من العكس؟ وما الدليل على ان الأفلاك حية وأن لها نفوساً؟. وبقريب من هذا الكلام يبطل قول الباطنية
وأما الطبائعية فيبطل قولهم أن /67/ الطبع غير معقول، وبعد فهو إما موجود أو معدوم، والموجود إما قديم أو محدث، القسمة الأولى بعينها وكله باطل. وبعد فالطبع شيء واحد، فما الأمر الذي اقتضى وقوع الأشياء على هذا الترتيب البديع والحكمة الباهرة ووقوعها بحسب المصالح كل وقت، وأما أصحاب النجوم فيبطل قولهم أنها غير حية لكثرة حرارتها ولاستمرار حركاتها على وتيرة واحدة؛ لأنها لا تدرك، والفعل لا يصح إلاَّ من حي، ولأنها أجسام فلا يصح منها فعل الأجسام ولأنها كانت لا تفعل إلا باعتماد أو مماسسة ونحن نعلم بحدوث أشياء فينا ولا نحس باعتماد معتمد علينا أو لأنها إن كانت قديمة، لزم قدم العالم، وإن كانت محدثة نقلنا الكلام إلى محدثها.
الكلام في الصفات والأحكام
الصفة في اللغة، هي قول الواصف كقولك: فلان كريم. وفي العرف ما أفاده، قول الواصف كالكرم مثلاً.
وفي الاصطلاح: بالمعنى العام، كل مزية للذات تعلم لا بانفرادها، وقد دخل الحكم في ذلك، وبالمعنى الخاص كل مزية للذات راجعة إلى الإثبات، نعلم الذات عليها لا باعتبار غير ولا ما يجري مجراه.
وقولنا: راجعه إلى الإثبات يخرج ما يرجع إلى النفي كنفي التجسيم والحاجة والروية والجهل وغيره، فإنها إنما تكون صفات بالمعنى العام.
وقلنا: نعلم الذات عليها؛ لأن الصفة لا تستقل بالمعلومية، وبهذا تفارق الذات. وقلنا: لا باعتبار غير، ولا ما يجري مجراه لينفصل عن الحكم.
والحكم في اللغة: هو المنع، ومنه سمى اللجام حكمه لمنعه من الذهاب، وسميت الحكمة حكمه لمنعها من القبيح، وفي العرف هو الإلزام، يقال: حكم القاضي أي ألزم، وفي اصطلاح الفقهاء هو ما يتصف به الأفعال من وجوب وقبح وندب ونحو ذلك.
وفي اصطلاح المتكلمين: بالمعنى العام كالصفة بالمعنى العام سواء وبالمعنى الخاص كالصفة بالمعنى الخاص، إلا في اعتبار الغير أو ما يجري مجراه، فإن الحكم لا يعلم الذات عليه إلا باعتبار غير او ما يجري مجراه، والذي يعلم بين غيرين أو ذاتين كالمماثلة والمخالفة ونحو ذلك، والذي يعلم بين غير وما يجري مجراه أي بين ذات وصفة كصحة وجود الشيء في نفسه يعلم بين ذات الشيء وبين كونه موجوداً، وكذلك صحة الفعل من القادر يعلم بين ذات ذلك الفعل وبين صفة القادر.
فصل
والصفة ضربان:
واجبة، وهي التي يستحيل خلافها عند إمكانها على التعيين /68/.
وجائزة، وهي التي ليست كذلك، وقلنا على التعيين احترازاً من الكائنية، فإنه يستحيل خلافها عند إمكانها، لكن لا على التعيين أي لا يجب كائنية معينة، بل ما من كائنية إلا ويجوز خروجه عنها إلى خلافها، وإن كان لا يخرج إلا إلى كائنية أخرى بخلاف الواجبة كالجوهرية والتحيز، فإنها لا تتبدل لحال.
والواجبة ضربان:
ذاتية، وهي التي تجب للذات على التعيين لا لاختصاصها بصفة أخرى كالجوهرية ومقتضاه، وهي التي يجب للذات على التعيين لاختصاصها بصفة أخرى كالتحيز فإنها تجب للجوهر لاختصاصه بالجوهرية بشرط الوجود.
وقلنا: على التعيين احترازاً من الكائنية أيضاً فإنها تجب للجوهر لاختصاصه بصفة أخرى، وهي التحيز، لكن لا على التعيين.
والجائزة ضربان:
معنوية، وهي كل صفة زائدة على الوجود يثبت لمؤثر على سبيل الإيجاب.
وقلنا: زائدة على الوجود احترازاً من وجود المسبب، فإنها صفة تثبت لمؤثر على سبيل الإيجاب، وهو السبب، وليست معنوية، وبالفاعل، وهي كل صفة تفتقر إلى مؤثر على سبيل الصحة، والاختيار.
فصل
والأحكام ثلاثة: مقتضى ومعنوي وبالفاعل ولا ذاتي في الأحكام.
فالمقتضى كأحكام التحيز من نحو احتماله لعرض وصحة إدراكه بحاستين وشغله للجهة ونحو صحة الفعل وما شأنه هذا من الأحكام المقتضاة التي يستدل بها على مقتضياتها.
والمعنوي: كسكون النفس، فإنه يثبت لمعنى وهو العلم.
والذي بالفاعل نحو كون الكل كفر خبراً أو أمراً، وكون الفعل ظلماً ونحو ذلك من وجوه الأفعال. والذي يدل على أنه لا ذاتي في الأحكام وجهان:
أحدهما: أن الذاتي هو الذي يدخل به الشيء في صحة كونه معلوماً، وقد ثبت أن الحكم لا يعلم إلا بين غيرين أو غير وما يجري مجراه، فلو كان ذاتياً لاقتضى كون الغيرين معلوماً واحداً؛ لأنه لو اقتضى كون كل واحد منهما معلوماً على انفراده لم يخل إما أن يصح العلم بأحدهما دون الآخر، وهذا يبطل كون المصحح لكونه معلوماً حكماً، وإما أن لا يصح العلم بأحدهما دون الآخر وذلك يبطل كونهما معلومين وغيرين، ويصيرهما معلوماً واحداً؛ لأنه لم يختص أحدهما إلا بما اختص به صاحبه، وهو هذا الحكم المصحح لكونهما معلومين، وما عدا ذلك من الذاتيات تابع له. هذا ما ذكره الشيخ الحسن رحمه الله تعالى في كتاب الكنفية.
ولقائل أن يقول: إن الحكم إنما يكون ذاتياً لذات واحدة لا لذاتين جميعاً، وبه تدخل تلك الذات فقط في صحة كونها معلومة، وإنما /69/ يعتبر الغير أو ما يجري مجراه في العلم بالحكم أي لا يعلم الذات على حكمها الذاتي إلا باعتبار غيراً وما يجري مجراه، وذلك لأمر يرجع إلى الحكم، والعلم به لا إلى تصحيحه لما يصححه ولا إلى كونه ذاتياً، وبعد فهب أن به يدخلان جميعاً في صحة كونهما معلومين، فما المانع من أن يصح كل واحد منهما معلوماً على انفراده، ولكن لا يعلم أحدهما دون الآخر لأمر يرجع إلى شأنه كاشف عنهما جميعاً أو أنهما معتبران في العلم به، فإذا كشف عن أحدهما فقد كشف عن الآخر كالدليل إذا دل على أمرين مختلفين، فإنه إذا علم أحدهما علم الآخر لاتحاد طريقتهما لا لاتحاد ذاتيهما.
وبالجملة فبينهما تلازم يرجع إلى ما هية الحكم ودلالته، وليس إذا تلازم العلم بأمرين لزم كونهما أمراً واحداً، يوضحه أن العلم بالمتحيز يلازم العلم بالكون على الجملة، ولم يجب أن يكون المتحيز والكون شيئاً واحداً، وكذلك العلم بأحد المتضايفين يلازم العلم بالآخر كالعلم بكون زيداً أباً يلازم العلم بأن له ابناً، ومثله المالك والمملوك، والوديعة والوديع ونحو ذلك مما لا يدل تلازم العلم به على اتحاده، يزيده وضوحاً أن أحدنا لا يصح أن يعلم الذات إلا على صفتها الذاتية ومعلوم ان العلم بالصفة تبع للعلم بالذات، فلم يدل تلازم العلم بالذات والعلم بصفتها على أنهما معلوم واحدة.
وقوله رحمه الله تعالى في آخر هذا الوجه: لأنه لم يختص أحدهما إلا بما اختص به الآخر، وهو هذا الحكم وما عداه من الذاتيات تبع له غير مسلم، بل لكل واحد من الغيرين ذاتية في حكم المغايرة لذاتية الآخر، فتكون هي الأصل، وفي تصحيحها لكونه معلوماً وفي مماثلة مماثله وفي مخالفة مخالفه، وإنما كانت هي الأصل في جميع ذلك؛ لأن الذات تعلم عليها من دون اعتبار غير ولا ما يجري مجراه، ولهذا لو لم يخلق الله إلا ذاتاً واحدة لصح العلم بها، وإن لم يوجد هذا الحكم المذكور، فصح أنها أخص من الحكم، وإن كانا ذاتيين كما أن التحيز أخص من صحة كون الجوهر معلوماً وإن كانا مقتضيين.
الوجه الثاني: ذكره أيضاً في الكيفية وهو أن الذاتي ما به يماثل الشيء مماثلة ويخالف مخالفة فلو كان الحكم ذاتياً لم يخل إما أن يقتضي تماثل الغيرين أو اختلافهما أو لا يقتضي تماثلهما ولا اختلافهما.
والأول باطل؛ لأن من حق التماثل أن يثبت لأحد الذاتيين مثل ما يثبت للأخرى، وهاهنا الثابت للآخرى هو بعينه الثابت للأخرى.
والثاني: باطل أولى وأحرى؛ لأن من حق الاختلاف أن لا يختص أحدهما بمثل ما اختص به الآخر ولا بما يماثله.
والثالث: باطل؛ لأنه إذا لم يقتض تماثلهما ولا اختلافهما خرجا عن أن يكونا مثلين ومختلفين وهو محال؛ لأنهما ذاتان، ومن حكم كل ذاتين التماثل أو الاختلاف، فإذا لم يتماثلا ولم يختلفا خرجا عن كونهما ذاتين.
ولقائل أن يقول: إن الذي يقتضي التماثل والاختلاف /70/ هو أخص الذاتيات وهاهنا ما هو أخص من هذا الحكم وهو الصفات الذاتية، فلا يقتضي هذا الحكم تماثلاً ولا اختلافاً، وليس إذا لم يقتضي التماثل ولا الاختلاف لزم أن لا يكونا مثلين، ولا مختلفين لحصول أمر سوى الحكم، هو أحق باقتضاء التماثل والاختلاف، وهو الصفات الذاتية، وبعد، فقد تقدم في الأشكال على الوجه الأول أنه إنما يكون ذاتياً لأحدهما، فلا جزم أن تقتضى مماثلتهما للذات التي يحصل لها مثله، فلا يستقيم قوله أن الذي يثبت لأحد الذاتين هو الذي يثبت للآخر.
يوضحه أن صحة احتمال الجوهر للعرض حكم يعلم بين غيرين وهما ذات المتحيز وذات العرض أو بين المتحيز وكونه متحيزاً، ومع ذلك فإنما هو مقتضى عن أحد الأمرين، وهو التحيز، فكذلك يعلم الحكم الذاتي بين غيرين، وإن كان ذاتياً لأحدهما، وهذا الكلام كله إذا كان الأمر أن اللذان يعلم بينهما الحكم غيرين حقيقيين فأما إذا كانا ذاتاً وصفة فالأشكال أظهر في أنه لا يقتضي كونهما معلوماً واحداً، وأنه لا يقتضي تماثلاً ولا اختلافاً؛ لأن الصفة لا تعلم على انفرادها سواء كان الحكم ذاتياً أم لا، وكذلك لا يثبت فيهما مماثلة ولا مخالفة.
فصل
قد عرفت بما سلف أن الصفات أربع، ذاتية ومقتضاة ومعنوية وبالفاعل، وأن الذوات ثلاث الباري جل وعز، والجسم والعرض إذا ثبت هذا فاعلم أن الجسم يستحق هذه الصفات الأربع فالذاتية له هي الجوهرية والمقتضاة هي التحيز وكونه مدركاً في حق الأحياء والمعنوية هي الكائنية والقادرية ونحوهما، والتي بالفاعل هي الوجود والعرض يستحق ثلاثاً ذاتية، وهي التي بها تماثل مماثلة وتخالف مخالفة كالسوادية مثلاً ومقتضاه، وهي التي بها يوجب موجبه ويتعلق بمتعلقه ويضاد ضده كالهيئة مثلاً وبالفاعل، وهي الوجود، ولا يستحق معنوية؛ لأنه معنى فلا يختص به معنى والباري جل وعز يستحق ثلاثا ذاتية، وهي الصفة الأخص، ومقتضاه، وهي القادرية والعالمية ونحوهما ومعنوية، وهي كونه مريداً أو كارهاً، ولا يستحق صفة بالفاعل؛ لأن الفاعل لا يفعل للذات صفة من دون واسطة إلا إذا فعل تلك الذات والباري تعالى قديم لا فاعل له. وليستدل على ثبوت هذه الصفات لهذه الذوات على التفصيل، فإنه قد خالف فيه شيخنا أبو الحسين، ولنبدأ بصفات المحدثات؛ لأن عليها يترتب العلم بصفات القديم تعالى.
فصل
والذي يدل على أن للجوهر بكونه جوهراً حال وجوه ثلاثة:
الأول: أن الجوهر يماثل الجوهر ويخالف السواد والمماثلة والمخالفة لا تصح إلا بصفة ذاتية /71/ وسيأتي تحقيقه في الاستدلال على أن الجوهرية ثابتة في حال العدم.
والوجه الثاني: أن الجوهر والسواد قد اشتركا في كونهما ذاتين، واختلفا في كون أحدهما جوهر والآخر سواد أو ما به الاشتراك غير ما به الامتياز.
واعترضه أصحاب أبي الحسين بأنهما اشتركا في أمر جلي، وهو صحة كونهما معلومين على انفرادهما، وافترقا في أنفسهما التي أضيف إليهما هذا الحكم الذي هو صحة كونهما معلومين على الانفراد، وبعد فقد اشتركت الجوهرية والسوادية في كونهما صفتين، ثم افترقا في كون أحدهما جوهرية والأخرى سوادية، ولم يلزم من ذلك تعليل هذه المفارقة بأمر زائد على مجردهما.
والجواب: قولهم افترقا في أنفسهما لا يصح لوجهين: أحدهما أن أنفسهما تصح كونها معلومة على الانفراد وكون أحدهما جوهراً والآخر سواداً لا يعلم على انفراده بل يعلم تبعاً لذاتهما، فدل على أنه زائد عليهما.
الثاني: أنه قد يعقل ذات الجوهر والسواد من لا يعقل كونه جوهراً ولا سواداً.
وأما المعارضة بالصفتين وافتراقهما بعد الاشتراك فقد قال الشيوخ فيه أن افتراقهما في مجردهما كان قبل اشتراكهما في كونهما صفتين؛ لأن كون الصفة صفة هو من توابع مجردها ولواحقه، وإذا كان الافتراق قبل الاشتراك لم يجب تعليله بخلاف اشتراك السواد والجوهر في كونهما ذاتين فإنه حاصل قبل افتراقهما بدليل أنه لا يعقل إلا تبعاً، والمراد قبلية الذهن لا قبلية الزمان.
الوجه الثالث: إن علمنا بكون الجوهر جوهر إما أن يتعلق بمجرد ذاته أو بمعنى غيرها أو بحكم لها أو بكيفية صفة أو بصفة على ما نقوله لا يجوز أن يتعلق بمجرد الذات؛ لأنا قد نعلمه ذاتاً ولا نعلمه جوهراً، ولا أن يتعلق بمعنى؛ لأن كونه جوهراً واجب، ولأن ذلك المعنى لا يختص به إلاَّ بأن يحله ولا يحله إلاَّ بعد أن يتحيز ولا يتحيز إلا بعد كونه جوهراً ولا أن يتعلق بحكم؛ لأنا نعلم المفارقة بين الجوهر وغيره من دون اعتبار غير أو لا ما يجري مجراه ولا أن يتعلق بكيفية صفة، لأن كيفية الصفة تابعة للصفة كالحدوث والقدم، فإنهما يتبعان الوجود وبقي أن يتعلق بصفة وهو المطلوب.
وربما يورد أصحابنا هذا الوجه على غير هذه العبارة فيقولون: لو أخبرنا الصادق بوجود ذات، وإنا نعلم غير الذات ونعلم وجودها ثم أخبرنا أنها جوهر فإنا نعلم ثابتاً غير ما علمناه أولاً، ولا بد أن يكون ذلك الأمر الزائد صفة للذات وهي الجوهرية. واعترضه أصحاب أبي الحسين بأن الذي تعلق به علمنا أولاً هو أنه ذات يصح العلم بها على انفرادها، ثم تعلق علمنا ثانياً بتلك الذات على التفصيل، وهو أنها ذات /72/ تخالف السواد مثلاً.
قالوا: ومعنى مخالفتها للسواد أنها شيء يدرك بحاستين، ويشغل الجهة والسواد هيئة تجمع الشعاع.
والجواب: أنه ما لم يكن كونه جوهراً أو كونه سواداً أمراً زائداً على ذاته لا يكون علمنا قد تعلق ثانياً بأزيد مما تعلق به أولاً، وخلاف ذلك ومعلوم.
قال أصحابنا: وقولهم إنه تعلق أولاً بكونها ذاتاً يصح العلم بها على انفرادها غير صحيح؛ لأن كونها ذاتاً موجودة ليس هو صحة العلم بها على انفرادها، بل صحة العلم بها على انفرادها حكم كاشف عن كونها ذاتاً، وتابع له لا أنه هو وكونها ذاتاً موجودة، ليس هو كونها ذاتاً اتفاقاً.
أما عندنا فلأنها صفة زائدة على الذات. وأما عندهم فلأن الوجود هو عين الذات وعين الذات ليس هو كونها ذاتاً بل كونها ذاتاً حكم للذات عندهم ومضاف إليها.
وحاصل الكلام: إن كونها ذاتاً ووجودها وصحة العلم بها على الانفراد قد علمناه بالخبر الأول، فلا بد أن نعلم بالخبر الثاني أمراً زائداً على ذلك وقولهم إن علمنا ثانياً تعلق بأنها ذات يخالف السواد غير صحيح؛ لأن المخالفة لا تعلم إلاَّ باعتبار المخالف، ونحن نعلمه جوهراً، وإن لم نعلم ذاتاً أخرى يخالفها الجوهر من سواد ولا غيره، وأيضاً فالبياض يشارك الجوهر في كونه مخالفاً للسواد، فكيف يكون معنى كونه جوهراً هو أنه ذات يخالف السواد، وكذلك قولهم أن معنى المخالفة هو أنها ذات يصح إدركاها بحاسة، والسواد هيئة يجمع الشعاع غير صحيح؛ لأن صحة إدراكه بحاستين يعتبر فيه الإدراك، والحاستين وكونه مخالفاً للسواد لا يعتبر فيه ذلك للسواد يعتبر فيه السواد، وصحة إدراكه بحاستين لا يعتبر فيه ذلك؛ ولأن صحة إدراكه بحاستين أمر إثباتي، وكونه مخالف للسواد أمر سلبي إذ المرجع به إلى أنه لا يسد مسده عندنا، والمرجع به إلى أنه ليس كالسواد عندهم، وكما أن صحة إدراكه بحاستين ليس هي كونه مخالفاً للسواد، فليست أيضاً هي كونه جوهر المثل ما تقدم؛ ولأن عندهم كونه جوهراً هو نفس ذاته ومعلوم أن صحة إدراكه بحاستين ومخالفته لغيره، ونحو ذلك مزايا ثابتة له ومضافة إليه وليست كونه جوهراً. يوضحه أنهم فسروا كونه جوهراً بهذه الأشياء، ولم يفسروه بكونه ذاتاً ولا بكونه جوهراً، وبعد فقد يعلم الجوهر جوهراً من لا يعلم مخالفته لغيره، وعلى الجملة مما لم يكن كونه جوهراً أو سواداً زائداً على ذاته لا يكون فرق بين علمنا أولاً وبين علمنا ثانياً؛ لأن العلم الأول قد تعلق بنفس الذات ووجودها، فبماذا يتعلق علمنا ثانياً لولا أن هناك مزية؟
وأشف ما أوردوه في إبطال هذه المسألة /73/ ونظائرها المعارضة، فإنهم قالوا قد ثبت أنه لو أخبرنا الصادق أن هذا الجسم قد اختص بصفة لعلمناها على الجملة، ثم إذا أخبرنا ثانياً بان تلك الصفة جوهرية أو كائنية فإنا نعلم ثانياً غير ما علمناه أولاً، فيلزم أن يتعلق علمنا بصفة للصفة او مزية مطلقة.
قالوا: ومتى التزمتم حصول مزية نقلنا الكلام إلهيا في صحة الإخبار عنها جملة وتفصيلاً حتى يلزم ما لا يتناهى من المزايا. قالوا: فإن قلتم أن كون الجوهر جوهراً مما لا يعلل فلا يلزم أن يكون مفارقة الججوهرية للسواد معللة بصفة.
قيل لكم: وكذلك كون الذات جوهراً ما لا يعلل، فلا يحتاج إلى صفة تكون قد فارق بها السواد، وقد أجاب الشيخ الحسن رحمه الله تعالى في هذا بجواب غير مقنع، وحاصله أن الذات مما يصح العلم بها على انفرادها ولا نعلم تبعاً لغيرها، فإذا اخترنا الصادق بوجود ذات في الجملة لم يجز أن نعلم وجودها وكونها ذاتاً إلا تبعاً للعلم بمجردها حتى لو لم يعلم مجردها ما صح منا أن نعلم وجودها ولا كونها ذاتاً، فلم يكن بد من أن نعلم بخبره الثاني أمر زائد عليها؛ لأنها قد علمناها، فأما الصفة فهي لا تعلم على انفرادها، وإنما نعلم تبعاً للذات على كل حال، فإذا أخبرنا الصادق بثبوت صفة جاز أن يكون ذلك خبراً عن بعض لوازمها وتوابعها المضافة إلى الذات المختصة بها، فإن كونها صفة وكونها ثابتة من لوازم مجردها وجائز أن يعلم بعض لوازم الصفة وإن لم يعلم مجردها ويكون العلم الثاني متعلقاً بمجردها هذا إذا كانت من الحقائق المفردة التي لا يتركب من جنس وفصل كالوجود وإن كانت مما يتركب من جنس وفصل كالكائنية، فإن كونها كائنية تجمع بين المتحركية والساكنية، فلا بد أن يحصل بخبره الثاني في هذه الصورة غير ما حصل أولاً من التوابع واللوازم ولا يلزم تسلسل اللوازم والمزايا بل ينتهي ذلك إلى الحقائق المفردة، وحينئذ يكون العلم الثاني علماً بمجردها، ولقائل أن يقول: إن أكثر هذا الكلام لا طائل فيه ولا فرح؛ لأن الدليل الذي استدللتم به على أن العلم بكونه جوهراً لا بد أن يتعلق بصفة زائدة على الذات هو بعينه حاصل فيما عارضناكم به من الصفة، وهو انه تعلمها صفة من لا يعلمها جوهرية ولا كائنية، فإن دل هناك على ثبوت مزية دل هنا أيضاً من غير فرق.
وأما فرقكم بأنه يجوز أن يعلم بعض لوازم الصفة من دون العلم بعينها بخلاف الذات فهو مبني على محل النزاع، فإن عند الخصم أنه يعلم عين الشيء بالخبرين جميعاً في الصفة وفي الذات، ولكن يعلمها بالأول جملة وبالثاني تفصيلاً. على أنه لا فرق بين وراء اتفاقهما فيما جعلتموه دليلاً على ثبوت المزية، فيجب أن يدل في الموضعين وأن يكون للمزية مزية لحصول ذلك الدليل في كل مزية تعرض.
وقولكم /74/ بتسلسل اللوازم في الحقائق المركبة حتى تنتهي إلى المفردة غير مخلص من وجهين: أحدهما أن ما جعلتموه دليلاً على الأمر الزائد في الذوات وفي الصفات المركبة هو بعينه حاصل في الحقائق المفردة.
والثاني أنه ما من أمر يقصد إلى تحديده إلا ويمكن تركيبه من جنس وفصل إذا جُدّ جداً معنوياً. يوضحه أنه ما من صفة معينة من وجود أو غيره إلا ويجمعها وغيرها كونها صفة، ويكون جنساً لها ويفصلها عما عداها نوعها وقبيلها فلا وجه لجعل بعض الصفات مفرة وبعضها مركبة، فيلزم حصول أمر زائد في الجميع عند الخبر الثاني إذاً هذا فلا يستقيم جواب الشيخ الحسن رحمه الله تعالى، إلا أن يصح ما يقوله أهل المنطق من أن لوازم الأشياء ولوازم لوازمها لا يتناهى ولا ينحصر من الأمور السلسة والنبوية، ولهذا بعينه عدلوا عن التحديد باللوازم العرضية إلى الذاتيات، قالوا: لأن الذاتيات منحصرة، فيمكن أن نجمع في حد بخلاف اللوازم، ولوازم اللوازم، فإنها لا تنحصر وتحي الوطن والوطن يلازمه الملامسة والملامسة يلازمها الكون والكون يلازمه التحيز والتحيز يلازمه الوجود، والوجود يلازمه الحدوث، والحدوث يلازمه المحدث، والمحدث يلازمه القادرية، والقادرية يلازمها الحياة. وهلم جرا على هذا المنوال، فإن صح هذا صح كلام الشيخ الحسن، وألزمنا أنه لا فرق بين الذات والصفة في أن كل خبر خاص يفيد لازماً من لوازم ما أفاده العام.
فصل
وقريب مما تقدم الاستدلال على أن للجوهر بكونه متحيزاً حال وبكونه موجوداً، وإن كان الكلام في هذا الفصل آكد من حيث قد ثبت أن المعدوم شيء لكن ذهب أبو إسحاق التصيبيني إلى أن التحيز هو الوجود.
لنا أن التحيز واجب والوجود جائز، وبعد فالجوهر يضاد الفناء بشرط الوجود والتضاد مقتضى عن التحيز، فلو كان التحيز هو الوجود لكان الشيء شرطاً في نفسه وللزم التضاد في كل موجود، وبعد فالجوهر يدرك على التحيز، فلو كانت هي الوجود لكان قد أدرك على الوجود فيلزم مثله في كل موجود لتماثل الوجود، وبعد فالموجودات تشترك في الوجود ولا تشترك في التحيز.
فصل
والذي يدل على أنه له بكونه كائناً حال أنه يستحيل كونه في جهتين في حالة واحدة ولا وجه لهذه الاستحالة إلا حصوله على صفتين ضدين.
وبعد، فنحن نفرق بين كونه في جهة وبين كونه في جهة أخرى، فلا بد من أمر يعلل به كما سيأتي، وذلك الأمر إما أن يرجع به إلى وجود معنى هو الكون، وهو باطل؛ لأن التفرقة ضرورية دون الكون، ولأن الطريق إلى الكون هو الصفة، وإما إلى عدم معنى وهو باطل؛ لأن عدم المعنى مع الجهتين على سواء، فكان يلزم حصوله فيهما دفعة واحدة، ولأن عدم المعنى يترتب /75/ على ثبوته، فإذا لم يرجع بها إلى ثبوته فأولى إلى عدمه، وأما إلى انتفاء صفة وهو باطل؛ لأن انتفائها مع الجهتين على سواء، ولأن الأمور الثابتة لا تعلل بالنفي هاهنا، وأما إلى كيفية صفة هي الوجود، وهو باطل؛ لأن كيفية الصفة يتبعها، فكان يلزم أن لا يحدد كونه كائناً في الجهة إلا إذا تحدد وجوده على أن الوجود صفة متماثلة والكائنية تتضاد بحسب اختلاف الجهات، وإما إلى ثبوت صفة وهو المطلوب.
فصل
ولا يثبت للذات في حالة العدم من الصفات إلا الصفة الذاتية، ودليل ثبوتها في حالة العدم هو أن الجوهر يستحقها لذاته لبطلان سائر وجوه التعليل وذاته ثابتة في كل حال. وبعد فقد وجب تحيز الجوهر عند الوجود واستحال عند العدم فلا بد من مؤثر في التحيز، وذلك المؤثر لا يصح أن يكون فاعلاً لما سيعرف ولا يصح أن يكون هو الوجود؛ لأن تأثير الوجود في التحيز تأثير شرط لا تأثير إجياب وإلا لزم في كل موجود أن يتحيز ، بقي أن يكون المؤثر صفة ذاتية وهي إما فتجدده فيحل محل التحيز في الاحتياج إلى التعليل فلا يكون تعليل التحيز بها أولى من العكس وإما مستدامه وهو المطلوب. وبعد فقد ثبت أن الذوات تماثل وتختلف في حالة العدم؛ لأن بعضها إما أن يسد مسد البعض في ما يكشف عن صفتها الذاتية على التفصيل أو لا، والأول هو التماثل، والثاني هو الاختلاف، والذي يكشف عن الصفة الذاتية هو المقتضى عنها إلا أنه قد يكشف على التفصيل كالتحيز فإنه يكشف عن ذاتية هي جوهرية فيدل الاشتراك فيه على التماثل، وقد يكشف على الجملة كصفة كون الشيء معلوماً، فإنه يكشف عن ذاتية مجملة لا ندري أجوهرية هي أم سوادية، فلا يدل الاشتراك فيها على التماثل، إذا ثبتت المماثلة والمخالفة فهي إما أن تثبت للذات بمجرد كونها ذاتاً وهو محال لاشتراك الذوات كلها في ذلك وإما أن يثبت لكونها ذاتاً مخصوصة كما يقوله أبو الحسين، وهو باطل؛ لأنا نقول له: بماذا هي مخصوصة، هل بكونها ذاتاً فيلزم تماثل جميع الذوات أو بأمر زائد وهو المطلوب، وهذا قد أورده أصحابنا دليلاً مستقلاً على إثبات الجوهرية وما عارضهم به أصحاب أبي الحسين من أن معنى المماثلة حاصل في الصفات وأن الجوهرية في حكم المماثلة للجوهرية الأخرى، فكان يجب أن يثبت صفات أخرى للصفات، فهو غير لازم؛ لأن المماثلة الحقيقية لا تثبت إلاَّ في الذوات، ومعنى قول أصحابنا أن الصفات تجري مجر المتماثلة هو أنها لو كانت ذوات لكانت
متماثلة، فالتماثل فيها مقدر، وليس يجب إذا علل الحكم المحقق بصفة إن تعلل المقدر بذلك، وإما أن تثبت المماثلة لمعنى، وهو محال؛ لأن المعنى لا يختص بالمعدوم /76/ ولأن المعنى يماثل مماثلة ولأن ما أثر فيه المعنى فهو جائز، وأما إن ثبت الحكم وهو محال لأنها إنما ثبتت لأمر ذاتي وقد تقدم أنه لا ذاتي في الأحكام، وأما إن تثبت بالفاعل وهو محال لأن الفاعل لا يؤثر إلا في الحدوث وتوابعه، ولأن الفاعل يماثل فيحتاج إلى فاعل آخر، ولأن المخالفة تثبت للباري تعالى وهو لا فاعل له، ولأن ما يؤثر فيه الفاعل جائز، والمماثلة والمخالفة تثبت واجبتان وأما إن ثبت لصفة ذاتية منتظرة كما يقوله أبو إسحاق بن عياش حيث أثبت التحيز ونفى الجوهرية وهو باطل؛ لأن هذه الأحكام ثابتة حال العدم فلا يصح في المؤثر فيها أن يتراخى عنها.
بقي أن نثبت لصفة ذاتية ثانية حال العدم وهو المطلوب إلا أن الشيخ أبا عبد الله يقول: إنها هي التحيز، وينفي الجوهرية، ويجعل أحكام التحيز من شغل الجهة ونحوه مشروطاً بالوجود، ويبطله أن هذه الأحكام التي هي شغل الجهة ونحوه حقيقة في التحيز، وبها يتميز عن غيره فلا يصح انفصالها عنه كصحة الفعل مع كونه قادراً فلا يثبت التحيز إلا حال الوجود، وفي ذلك كونه غيراً للجوهرية.
فصل
ولا يتزايد من هذه الصفات إلا المعنوية أما الذاتية فلأنها لو تزايدت للزم أن تكون الذات مماثلة لنفسها لحصولها على ما لو حصل عليه غيرها لماثلها؛ ولأن إثبات صفة بكون ثبوتها كانتفائها لا يصح إذ لا طريق إليه، ولأن الصفة إنما تتزايد بتزايد المؤثر فيها كالمعنوية أو بتزايد المقتضى لها أو شرط الاقتضاء ككونه مدركاً، والذاتية لا تستند إلى شيء يصح فيه التزايد، ولكل هذه الوجوه يبطل تزايد المقتضاة الكاشفة عن الذاتية كالتحيز، ولأنه كان يصح إن يعظم الجزء الواحد حتى يصير كالجبل بأن يتزايد تحيزه، ولكلها يبطل تزايد الوجود، ولأنه كان يصح أن يثبت للسواد وجهان في الوجود يقابلان وجهي البياض، ثم كان يصح حصوله على أحدهما، فلا ينفي البياض على الإطلاق، ولأنه لو صح التزايد حال الحدوث لصح حال البقاء، وفيه اتحاد الموجود، ولأنه لو كان له بالوجود صفات لصح أن يحصل على بعضها بقادر وعلى البعض الآخر بقادر آخر، وفيه صحة مقدور بين قادرين، ولأن القادر لو أثر في أكثر من صفة للمقدور لصح مثله في تأثير العلة، فكان يصح أن يمنع أحدنا سكنات كثيرة بحركة واحدة لها وجودات كثيرة، وأما المعنوية فيصح فيها التزايد لتزايد المؤثر فيها، فإذا كثرت الأكوان وجب كل واحد منها كائنية، وكذلك إذا كثرت القدر ونحو ذلك مما يوجب، وكذلك يصح تزايد بعض المقتضيات لتزايد مقتضيه أو لتزايد يشترط الاقتضاء ككونه مدركاً يتزايد بتزايد كونه حياً، ووجود المدرك.
فصل
عند الجمهور أن التحيز صفة واجبة مقتضاة عن الجوهرية؛ لأنه لا يجوز أن يتحيز الجوهر لمجرد ذاته وإلا تحيز في حال العدم، فكان يصح حلول المعاني فيه فيثبت فيها التضاد فلا يصح عدم الضدين، وكان يشغل الجهة فيتعذر علينا التصرف في بعض الجهات بأن يكون فيها جواهر معدومه ويتعذر ملاقاة الجوهر لستة أمثاله عند الوجود بأن يلاقيه من بعض جهاته جواهر معدومة، ولا يجوز أن يتحيز لوجوده، وإلا لزم في كل موجود أن يتحيز لتماثل الوجود، ولا يجوز أن يتحيز لحدوثه لمثل ذلك، وللزوم أن لا يتحيز حال البقاء، ولا لحدوثه على وجه؛ لأنه لا وجهه يشار إليه هذه حالة بخلاف بخلاف وجوه القبح، فإنها معقولة، ولا يجوز أن يتحيز لوجود معنى؛ لأن التحيز واجب والمعنوية جائزة يصح أن لا يحصل بأن لا يحصل المعنى، ولأن المعنى لا يوجب له إلا بأن يختص به بطريقة الحلول وذلك يقف على التحيز فكيف يقف التحيز عليه، ولأن المعنى إنما يوجب لصفته المقتضاة، والكلام فيها كالكلام في التحيز، ولا يجوز أن يتحيز لعدم معنى أولى وأحرى، ولأن المعنى المعدوم مع جميع الأشياء على سواء، ولا يجوز أن يتحيز بالفاعل، وهذا هو الذي يشتبه الحال فيه، وهو موضع الكلام في أن سائر صفات الأجناس لا يكون بالفاعلين.
وخالف فيه الشيخان أبو الحسني وابن الملاحمي. لنا لو كان تحيز الجوهر بالفاعل لصح أن يوجده الفاعل ولا يجعله متحيزاً كما صح أن يوجد الكلام ولا يجعله حيزاً، فكان ينسد طريق العلم به إذ لا نعلم الجوهر إلا بالتحيز بل يصح أن يجعله سواداً بدلاً من تحيزه كما صح أن يجعله الكلام أمراً بدلاً عن كونه نهياً، فتنسد طريق العلم بالمماثلة والمخالفة؛ لأنهما يثبتان للصفة الذاتية والطريق إليها التحيز بل كان يصح أن يجعله سواداً متحيزاً، إذ لا تنافي بين الصفتين ولا ما يجري مجراه، فكان يلزم إذا قدرنا طرو ضد، وهو البياض أن ينفيه من حيث هو سواد لحصول التضاد، ولا ينفيه من حيث هو متحيز لفقد التضاد، فيكون موجوداً معدوماً، ولا ينقلب علينا في كون الكلام أمراً نهياً لاستنادهما إلى ضدين وهما الإرادة والكراهة ولا في كون الفعل حسناً قبيحاً لاستناد القبح إلى وجه والحسن إلى زواله.
واعترض الشيخ محمود هذا الدليل باعتراضات كلها مبني على أن المعدوم ليس بذات، وأن وجود الشيء وتحيزه، وهو نفس ذاته، وسلف إبطاله.
قال: ولو سلمنا أن للمتحيز صفة وللسواد صفة لم يلزمنا صحة الجمع بينهما، بل ذلك مستحيل بما أنهيتم إليه الكلام من وجوب كونه /78/ موجوداً ومعدوماً.
وأجاب عليه الشيخ إسماعيل بن علي الرازي بأن هذا المحال أدى إليه مذهبك، فلا يصح الانفصال به كما لا يصح للمجسم أن يقول لا يلزم مني بالتجسيم أن يكون الله محدثاً لتأديته إلى المحال.
واعترض بأن مذهبي لا يؤدي إلى المحال؛ لأن هذه الصفات وإن تعلقت بالفاعل فإنما تتعلق به على الوجه الذي يصح دون الوجه الذي يستحيل، فكما أن القادر يقدر على الضدين ولا يقدر على الجمع بينهما لتأديته إلى المحال كذلك يقدر على هذه الصفات ولا يقدر على الجمع بينها لتأديته إلى المحال أيضاً، وهذا حسن. فالأولى في الجواب أن يقال لا نسلم استحالة الجمع بين الصفتين لأجل ما ذكرت؛ لأن هذا المحال إنما يلزم حال طرو الضد، وطرو الضد أمر منتظر، وقد لا يحصل، ووجه الاستحالة والتنافي لا بد أن يكون حاصلاً في كل حالة، فإن قال وجه التنافي هو أن التحيز يصح حلول البياض والسواد يحيله فلا يجتمع مصحح ومحيل لشيء واحد.
قلنا: إنما يصح حلول البياض بشرط أن لا يكون الذات سواداً كما أن كون الحي حياً، إنما يصحح كونه جاهلاً بشرط أن لا يجب كون عالماً.
فصل
والصفات ضربان: متعلقة وغير متعلقة.
فالمتعلقة: هي الصفة التي تستدعي بمجرد ثبوتها ثبوت حكم بين ما اختص بها وبين ذات أخرى، ولا يثبت إلا كذلك.
قلنا: التي يستدعي بمجرد ثبوتها احترازاً مما يستدعي بكيفية ثبوتها كالصفة الذاتية، فإنها تستعدي المخالفة، لكن بكيفيتها، وهو كونها ذاتية عند من لا يجعلها تستدعي ذلك بمجردها.
وقلنا: بين ما اختص بها وبين ذات أخرى احترازاً من كونه حيا، فإنها تستدعي بمجرد ثبوتها ثبوت حكم، وهو صحة أن يقدر ويعلم، لكن بين ما اختص بها وبين صفاته التي هي كونه قادراً وعالماً لا بينه وبين ذات أخرى.
وقلنا: ولا يثبت إلا كذلك احترازاً من كونه كائناً، فإنها تستدعي بمجردها ثبوت حكم وهو أنه لا بد أن يكون بين الجوهر المختص بها وبين ما يماثله بون ومسافة أو لا يكون لكنها قد ثبتت من دون هذا الحكم بأن تقدر أن الله تعالى لم يخلق إلا جوهراً واحداً بخلاف الصفات المتعلقة، فإنها لا تثبت إلا متعلقة، وإن كان بعضها يصح أن يوجد في نوعه ما لا يتعلق ككونه معتقداً وكونه مريداً ونحو ذلك، لكن المتعلق منها لا يثبت إلا متعلقاً، وهذا الاحتراز أحسن من قول أصحابنا، وإن كانت مخالفة؛ لأن للقائل أن يقول: معنى قولكم وإن كانت مخالفة هو أن هذا الحكم يثبت ببينها وبين ذات أخرى سواء كانت تلك الذات الأخرى مماثلة أو مخالفة، فلا يندفع لاعتراض بالكائنية، ويلزم كونها متعلقة؛ لأن ظاهر كلامهم يصدق معه أن تكون الصفة /79/ متعلقة وإن استدعت الحكم بين ما اختص بها وبين ما يماثله.
يوضحه: أن كون أحدنا عالماً صفة متعلقة، وإن علم أحدنا ما يماثله فثبوت حكم الكائنية بين الجوهرين كثبوت حكم العالمية بين أحدنا وبين ما يماثله، وقد حصل من هذا أن جميع صفات الباري كلها تتعلق إلا الصفة الأخص، وكونه موجوداً وحياً. وأما صفات الجسم فما كان منها راجعاً إلى الآحاد فكلها لا تتعلق إلا التحيز، فإنه يتعلق باعتبار احتماله للعرض، وما كان راجعاً إلى الجملة فكله تتعلق إلا كونه حياً.
تنبيه
والصفات المتعلقة تنقسم، فمنها ما لا يوجد في نوعه إلا ما يتعلق، وهي أربع، كونه قادراً ومدركاً ومشتهياً ونافراً، فهذه لا توجد في نوعها شيء غير متعلق بمعنى أنه لا يثبت القادرية إلا وهناك مقدور محققاً، وكذلك سائر الأربع، ومنها ما يوجد في نوعه ما لا يتعلق، وهي خمس، كونه معتقداً ومريداً وكارهاً وظاناً وناظراً، فكل هذه تصح أن لا يكون لها متعلق حقيقي، نحو أن يعتقد البقاء أو يريده وهو ليس بمعنى.
واعلم أن هذه الصفات الخمس تشترك في أنها تتعلق على سبيل الجملة والتفصيل وأنها تتعدى المتعلق الواحد على الجملة ولا تتعداه على التفصيل.
وأما الأربع النافية فتشترك في أنها لا تتعلق إلا على التفصيل ثم تختلف، فمنها: ما لا يتعدى الواحد، وهو كونه مدركاً، ومنها ما يتعداه في المتماثلات فقط، وهو كونه مشتهياً ونافراً.
ومنها ما يتعده في المختلفات مطلقاً ويتعداه في المتماثلات بشرط اختلاف الوقت أو المحل أو الوجه، وهو كونه قادراً.
القول في أن الله تعالى قادر
القادر هو المختص بصفة لمكانها يصح أن يفعل وأن لا يفعل مع سلامة الحال.
وقال بغاة الأحوال من شيوخنا: هو المتميز تميزاً لأجله يصح أن يفعل إلى آخره، وسيتضح موضع الخلاف.
فصل
ذهب أهل الإسلام والكتابيون وغيرهم إلى أن الله تعالى قادراً.
وقالت الباطنية: لا قادر ولا غير قادر، وقال برغوث معنى كونه قادراً، أنه ليس بعاجز. وألزمت المطرفية أن لا يكون قادراً لإضافتهم التأثيرات إلى غيره، فلا يبقى طريق إلى كونه قادراً.
وقالت الفلاسفة: هو قادر، ولكنه موجب لفعله، قالوا: لأن الموجودات تنقسم إلى موجود بالفعل وهو ما قد حصل كالأجسام ونحوها، وموجود بالقوة، وهو ما يصح أن يحصل كالعلم موجود في الطفل والنخل موجود في النواة.
قالوا: والقوة ضربان، قوة انفعال كليونة الشمع القاتل للتنفس.
وقوة فعل، وهي ضربان، قوة طبيعة: وهي ما يحصل به الشيء /80/ دون نقيضه كقوة النار على الإحراق، وقوة إرادية: وهي ما يحصل بها الفعل ونقيضه، كقوة أحدنا على الحركة والسكون، وكقوة الباري تعالى على الفعل والترك، وهذه عندهم هي القدرة التامة.
قالوا: فمتى حصل معها إرادة تامة ولم يحصل مانع خرج الشيء من القوة إلى الفعل على جهة الوجوب بطبع تلك الذات.
قالوا: ولا يتخلف إلا القصور في الطبع أو في الإرادة أو في الذات والقصور مستحيل على الله تعالى، بل إرادته تامة، وذاته تامة، ووجوده وحكمته حاصلان في كل حال، فلذلك حصل فعله في الأزل إذ لو تخلف لاحتاج إلى أمر متجدد يخرجه من القوة إلى الفعل، ومتى حصل ذلك الأمر صار واجباً وإلا احتاج إلى أمر آخر، وتسلسل هذا تحرير مذهبهم.
لنا أن الفعل قد صح منه، والفعل لا يصح إلاَّ من قادر، أما أنه قد صح منه فلأنه قد وقع، فإما أن يكون وقوعه على جهة الوجوب وهو باطل وإلا لزم حصوله في الأزل دفعة واحدة، ولزم قدمه ونحو ذلك مما تقدم فساده أو على جهة الصحة، وهو المطلوب، ونعني بالصحة إمكان أن يفعل وأن لا يفعل بحسب اختياره، وإن استعملت في غير هذا المكان بمعنى الآخر أو بمعنى البرء من المرض وبمعنى الصدق وبمعنى التأليف المخصوص، وإما أن الفعل لا يصح إلا من قادر، فلأن ذلك هو معنى القادر وهو معلوم على الجملة ضرورة، فإن العقلاء يصفون من أمكنه أن يفعل وأن لا يفعل بحسب اختياره بأنه قادر، ويوجهون إليه المدح والذم ونحو ذلك، والمعتبر في الدلالة هي الصحة دون الوقوع؛ لأن معها بدون العلم بالقادرية ثبوتاً وانتفاء بخلاف الوقوع، وإن كان بالوقوع تعرف الصحة.
فصل
وطريقه التفصيل في ذلك أنا نفرق في الشاهد بين الحي الذي يصح منه الفعل والحي الذي لا يصح منه، فلا بد من أمر تعلل به هذه التفرقة، وليس ذلك الأمر إلا صفة ترجع إلى الجملة، فهذه ثلاثة أصول.
أما التفرقة فضرورية، وأما أنها معللة بأمر فلحصول طريقة التعليل وطريقة التعليل هي أن تقبل الحكم مؤثراً من فاعل أو علة او سبب أو بعمل ما يجري مجرى المؤثر من مقتض أو شرط أو داع.
وقيل: هي أن يحصل الحكم مع الجواز أو يثبت بعد انتفاء أو يقع فيه افتراق بعد الاشتراك في غيره، وقيل: هي أن يتحدد الحكم بعد إن لم يكن أو يضاف إلى ذات دون أخرى، وكله متقارب، وقد نظرنا في صحة الفعل فوجدناها مما يقبل المقتضى ومما يحصل فيه افتراق بعد الاشتراك في غيره، ومما يضاف إلى ذات دون أخرى فيجب تعليله بأمر.
وإما أن ذلك الأمر صفة راجعة إلى الجملة فقد خالف فيه أبو الحسين وأصحابه وكثير من غيرهم /81/.
لنا أنه إما أن يصح منه الفعل لمجرد ذاته أو بالفاعل أو لوجود معنى أو لعدم معنى أو للطبع أو لزوال المنع أو للبنية والصحة أو لصفة ترجع إلى الجملة على ما نقوله، لا يجوز أن يكون لمجرد ذاته وإلا لزم في كل ذات مثله، وأن يكون قادراً في حاله العدم وأن لا يخرج عن كونه قادراً.
ولا يجوز أن يكون بالفاعل لأنه إنما يؤثر على جهة الصحة والكلام في تلك الصحة كالكلام في هذه، ولأن هذه الصحة تتجدد والذوات بما لها وما كان بالفاعل لا يتجدد إلا بتجدد الذات.
ولا يجوز أن يكون لوجود معنىً من دون إيجاب صفة للجملة؛ لأن المعنى يختص المحل والصحة، حكم صدر عن الجملة.
ولا يجوز أن يكون لعدم معنى أولى وأخرى؛ لأن عدم المعنى لا يختص رأساً فضلاً عن أن يختص بذات دون ذات. ولا يجوز أن يكون للطبع؛ لأنه غير معقول، وإن أريد به اعتدال البنية والصحة فسنتكلم عليه، ولا يجوز أن يكون لزوال المانع؛ لأن المانع إنما يمنع من حكم صححه مصحح، وذلك يقتضي حصول مصحح غير زوال المانع، وهو المطلوب؛ ولأن زوال المانع يشترك فيه القادرون، فكان يلزم اشتراكهم في صحة الفعل المعين، وفيه صحة مقدور بين قادرين، ولأن صحة الفعل يقبل التزايد وزوال المانع لا يقبله، ولأن الشيء إنما يتزايد بتزايد المؤثر فيه أو مقتضيه أو شرط الاقتضاء ولأن المنع إنما يكون بضد أو ما يجري مجراه، ولو حصل ضد في من(1) تعذر عليه الفعل لكان كما تعذر عليه تحريك نفسه يتعذر علينا أيضاً تحريكه، ولأن زوال الموانع نفي، وصحة الفعل حكم ثابت، فلا نعلل به تعليل تأثير.
فأما تعليل الكشف فيصح فيه تعليل النفي.
والثاني كتعليل قبح الظلم لكونه لا نفع فيه ولا دفع ضرر، ولا استحقاق.
والثالث: كتعليل كونه تعالى لا يفعل القبيح بكونه عالماً بقبحه وعالماً باستغنائه عنه.
ولا يجوز أن يكون للبنية المخصوصة، واعتدال المزاج كما ذهب إليه أبو الحسين؛ لأن البنية تأليف مخصوص، والتأليف مقصور على المحل بدليل صحة وجوده في الجماد، وصحة الفعل حكم صدر عن الجملة، والجملة والمحل في حكم الغيرين كزيد وعمرو، فلا يصح الفعل من الجملة لأمر يرجع إلى المحل كما لا يصح من زيد لأمر يرجع إلى عمرو، واعترضه أبو الحسين بأنكم إن أردتم أن الفعل صدر عن الجملة أنه وقع بكلها فباطل؛ لأنا نعلم أن البطش وقع باليد مثلاً، وأنه لا يؤاخذ في جميع الجملة.
__________
(1) . في نسخة: بمن.
وإن أردتم أنه وقع بحسب كون الجملة مريدة ومعتقدة ونحو ذلك، فهذا لا يمنع من كونه وقع باليد لا بالجملة؛ لأنه يجوز أن يعلم الجملة نفعاً في /82/ فعل اليد ويريده فيقع باليد؛ لا بالجملة نوضحه أنه لا بد من استعمال محل القدرة، ومن كونه مبنياً بنية مخصوصة، وإذا وقفت صحة الفعل على بنية اليد فهلاكها ذلك من دون اعتبار صفة راجعة إلى الجملة.
ويمكن الجواب بأنا نريد بصدوره عن الجملة ما هو المعقول عند جميع العقلاء من أن المعنى الذي عبروا عنه بقولهم فعل زيد وقال زيد ونحو ذلك، ولم يقولوا فعلت يد زيد وتكلم لسان زيد، ولههذا يتوجه المدح والذم والثواب والعقاب إل الجملة، ولسنا ننكر أن الفعل وقع باليد، ولكنها آلة للجملة فالفعل واقع من الجملة بآلتها والآلة لا بد من استعمالها سواء كان فيها قدرة أم لا، إلا أن الآلة التي فيها قدرة لا بد فيها من بنية مخصوصة ليصح وجود القدرة فيها، فالذي وقف على البنية هو وجود القدرة لا صحة الفعل حتى لو كان أحدنا قادراً لا بقدرة، لما احتاج إلى بينة كالباري تعالى.
دليل: المرجع بالبنية المخصوصة عند الجمهور إلى أمور كثيرة من تأليف ورطوبة ويبوسة وحرارة وبرودة واعتدال في ذلك، والأمور الكثيرة لا تؤثر في الحكم الواحد، وليس بعضها بأن يكون مؤثراً والآخر شرطاً أولى من العكس.
واعترضه ابن الملاحمي بأنه وإن كان كذلك إلا أن المؤثر شيء واحد؛ لأن عند اجتماع أجزاء رطبة وأجزاء يابسة ونحو ذلك يحصل شيء واحد معتدل تقف الصحة عليه.
ويمكن الجواب بأنه إن أراد بذلك الشيء الواحد نفس الأجزاء المجموعة لم يصح؛ لأنها هي جملة الحي التي صح منها الفعل، فكأنه قال: يصح الفعل من الجملة للجملة او لكونها جملة ونحن فرضنا الكلام في حين اشتركا في كونهما جملتين، وإن أراد بذلك الشيء الواحد البنية المخصوصة لم يصح للاتفاق على أنها أمور كثيرة، وهي أول المسألة، وإن أراد شيئاً غير البنية والمبني لم يخل ذلك الشيء إما ان يرجع به إلى الآحاد فالكلام فيه كالكلام في البينة، وهو أيضاً غير معقول، وأما أن يرجع به إلى الجملة وهو المطلوب.
قال رحمه الله تعالى: أوليس صحة كون الأجزاء حية تقف عندكم على البنية وإن كانت أموراً كثيرة والصوت يقف على الصلابة وهي بنية مخصوصة، فكذلك وقوف صحة الفعل عليها.
ويمكن الجواب بأن لا ينكر وقوف هذه الأشياء على البنية المخصوصة، ولكنه وقوف المشروط على الشرط لا وقوف الأثر على المؤثر؛ لأنه يمتنع في الشيء الواحد أشياء كثيرة، ولا يمتنع أن يشرط الشيء الواحد بأشياء كثيرة، فوزانه أن تجعل البنية شرطاً في صحة الفعل، والمؤثر غيرها، وهو المطلوب. على أن صحة كون الأخرى حية لا عن الجملة؛ لأنها لم تكن جملة حينئذ، فيجوز أن يؤثر فيه ما يرجع إلى المحل وهو البنية /83/ إلا أن هذا لا يدفع ما ذكره من أن المؤثر في هذه الصحة أمور كثيرة، فالأولى ما تقدم.
دليل: يمكن أن يقال لأبي الحسين إذا كان المرجع عند الجميع بالبنية المخصوصة إلى التأليف والرطوبة واليبوسة ونحو ذلك فأي شيء التأليف والرطوبة إذا كنت لا تثبت المعاني.
فإن قال: هي صفات ثبتت بالفاعل كالسواد والبياض. قيل له: هب أنه كذلك، فلِمَ كانت هذه الصفات بأن تقتضي صحة الفعل أولى من السواد والبياض والجميع بالفاعل.
فإن قال: قد تكون الصفة بالفاعل ولها حكم يختصها كما يقولونه في الوجود فإنه بالفاعل، وله حكم، وهو أنه تظهر عنده الصفات والأحكام المقتضاة عن صفة الذات.
قيل له: إن الوجود عندنا شرط، والمؤثر في الحقيقة هو الصفة الذاتية، فوزانه أن يجعل هذه البنية المخصوصة شرطاً، والمؤثر في الحقيقة هو صفة القادر، وكذلك نقول.
ثم إن سلمنا أن الوجود هو المؤثر في الحقيقة فهو لا يختلف بل كل وجود يؤثر في وجود ذلك، ونحن ألزمناه أن لا تختلف الصفات التي بالفاعل بل يستوي في التأثير في صحة الفعل، فما الجواب عنه.
دليل: ويمكن أن يقال له: قد يكون أحد الحيين أصح بنية من الآخر، وأشد عافية منه، وأكثر سمناً وأطيب مأكلاً، ليس به مرض، ويكون الآخر دونه في كل ذلك، ثم يقهره ويستبد بالفعل عليه، فلولا اختصاصه بأمر زائد على البنية والحياة لما صح ذلك.
فإن قال: بل بنية الذي استبد بالفعل أكثر خصافة وأشد اعتدالاً.
قيل له: المرجع بالخصافة عندك إلى كثرة الأجزاء، ولا شك أن السمين أكثر أجزاء، وأما شدة الاعتدال فليس الطريق إليه إلا حصول العافية وزوال الأمراض، وقد فرضنا الكلام في حين زالت عنهما الأمراض.
فصل
إذا ثبت أن للقادر بكونه قادراً حال، فهي لا شك غير كونه حياً، وكونه مشتهياً ونحو ذلك من صفات الجمل؛ لأن جميع ذلك قد يحصل لمن تعذر منه الفعل، وقد لا يحصل راساً مع حصول التفرقة، أعني ما عدا كونه حياً، ولأن هذه الصفات قد تماثل والقادرية لا تماثل لاستحالة إيجاد متعلقها، ولأنها لا تختص فعله دون فعل غيره، بخلاف القادرية.
فصل
والطريق إلى هذه الحال في الشاهد هو صحة الفعل كما علمت، فيجب ثبوتها للباري تعالى لحصول طريقها في حقه. واعترضه ابن الملاحمي بأنه إنما يصح ذلك لو دلت صحة الفعل بنفسها على هذه الصفة في الشاهد لكنها تدل عليها بطريقة السير، وقد أبطلتم /84/ أن يصح الفعل من الشاهد لذات الجملة، فدلوا على أنه لا يصح الفعل من الباري تعالى لذاته المخصوصة ليتأتى لكم إثبات صفة زائدة.
ويمكن الجواب بأن يقال له أتريد أن يصح من الباري تعالى لمجرد ذاته أو لذاته المخصوصة إن كان الأول لزم مثله في كل ذات، وليس لك أن تقول هي مخالفة لسائر الذوات؛ لأن الذات لا تخالف غيرها لمجرد كونها ذاتاً، بل لا بد من أمر زائد على ذلك كما سلف، وإن كان الثاني قيل له فما معنى كونها مخصوصة عندك، أتريد أنها مخصوصة بكونها قادرة، فهو الذي نقول، فإنه يقتضي أن الذي خصت به زائدة عليها كما تقوله أنت في إثبات التبين أمراً زائداً على ذات الباري تعالى في مسألة عالم أو تريد أنها مخصوصة بأمر غير كونها قادرة، فما هو، أو تريد أنها مخصوصة بكونها ذاتاً، فهذه الخصوصية ثابتة لكل ذات.
قال أصحاب أبي الحسين: فيجب في هذه الحالة التي يرجع إلى الجملة في الشاهد أن يرجع إلى الجملة في حقه تعالى، ويدل على كونه جملة.
قال أصحاب أبي هاشم، إن رجوع الحالة إلى الجملة ليس هو مجرد الحالة وخسيتها، ولا ملازم لها حتى يلم من الاشتراك في الحالة الاشتراك في رجوعها إلى الجملة، بل هو أمر زائد يتبع الدليل.
وتحقيق هذا أن الحالة إنما رجعت إلى الجملة ؛ لأن الحكم صدر عن الجملة التي هي مجموع أجزاء قد صارت بالحياة في حكم الشيء الواحد، وهذا مفقود في حق الباري تعالى.
فصل
وهذه الحالة معنوية في الشاهد لثوبتها مع الجواز، والحال واحدة والشرط واحد كما تقدم في الكائنية، ويختص هذا المكان حصول التزايد في هذه الصفة، فلا بد أن يستند إلى ما يتزايد، وليس إلا المعنى.
فصل
وحكم هذه الصفة مطلقاً صحة الأحداث وتعلقها بالضدين على البدل وحكمها إذا استحقت للذات صحة الاختراع والتقديم والتأخير على متعلقها واستحالة انحصار متعلقها في الجنس والعدد واستحالة خروج الموصوف عنها واستحالة المنع ونحو ذلك وبالعكس من هذا إذا استحقت لمعنى.
فصل في ما يجري عليه تعالى من الأسماء بمعنى كونه قادراً
اعلم أولاً أن كل لفظة تفيد معنى على جهة الحقيقة، وحصل معناها في حق الله تعالى، ولم يكن إطلاقها يوهم الخطأ، فإنه يجوز إطلاقها عليه تعالى، ولا يحتاج أذن سمعي.
وقال أكثر البغدادية: لا بد من أذن.
لنا أنا نعلم بالعقل حسن الدعاء والتضرع إلى الله تعالى، ولا يتم ذلك إلا بأن ندعوه بالأسماء التي ثبتت معناها في حقه.
ولأنه متى لم يكن في العبارة وجه قبح ولا ضرر على أحد /85/ جوز العقل إطلاقها كسائر ما أصله الإباحة، ولأن التفاهم بالألفاظ يتبع المواصفة، وإذا جاز للمتواضعين أن يصفوا أسماء تفيد التعظيم على مسميات من دون إذن جاز أن يطلقوا تلك الأسماء إذا أرادوا تعظيم الله تعالى، وذكره لاحتياجهم إلى ذلك، ولهذا قال تعالى: {ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها}، وهذا كله في الحقائق، فأما المجازات فإنه لا يجوز إجراؤها على الله تعالى، إلاَّ بإذن اتفاقاً، ويقر أيضاً حيث ورد بها الأذن، فلا يقاس عليها بحق لفظ الخداع والمكر والاستهزاء والنسيان في قوله: {نسوا الله فنسيهم}، والفراغ في قوله: {سنفرغ لكم أيها الثقلان}، وأشباه ذلك، وهكذا ما طريقه الألقاب المحضة لا يجوز إجراؤها عليه تعالى اتفاقاً لخروجه عن حد الإفادة، وكقيامه مقام الإشارة.
وأما قولنا شيء، فليس من هذا القبيل، بل له شبه بالمفيد من حيث يفهم منه ما يصح العلم به والخبر عنه، فيجوز إجراؤه على الله تعالى، وعلى هذا قال تعالى: {قل أي شيء أكبر شهادة قل الله}. وإذا تمهدت هذه القاعدة فمن الأسماء التي تجرى عليه تعالى بمعنى كونه قادراً، قولنا: القادر والمقتدر والقدير، وفي هذين الأخيرين مبالغة لإفادتهما استحالة المنع.
ومنها: القوي، كالقادر سواء، واستعماله في الشديد مجاز. ومنها: المقيت، أي المقتدر، وقيل: خالق الأقوات. ومنها: القاهر، عند أبي علي، قال: ويجوز إجراؤه في ما لم يزل، وكأنه راعا صحة القهر لا وقوعه، ومثله الغالب، وغيره راعا فيهما الوقوع.
ومنها الظاهر، أي الظاهر اقتداره وغلبته، كقوله: {فأصبحوا ظاهرين}، وقيل: معناه الظاهر بالدلالة الباطن المشاهدة.
ومنها: المالك، والملك والمليك، كله يفيد المقتدر على الكمال، ولهذا لا يقال للوكيل مالك لما لم يملك التصرف التام. وقيل: هو مأخوذ من الربط والشد، ومنه قولهم: أملك الرجل بالمرأة، أي ربط عليها، ثم نقل إلى معنى الاقتدار، وملك ومالك عند الشيخين على سواء، قالا ولهذا قري بهما. وقال غيرهما: أما من طرية اللغة فملك أبلغ؛ لأنه مأخوذ من الملك، ومالك مأخوذ من الملك، ولهذا يقال: مالك الدار ولا يقال ملك الدار، واتفقوا على أن مليك مبالغة فيهما مثل قدير.
ومنها: الرب معناه المالك المدبر. ومنه قول صفوان بن أمية: لئن يربني رجل من قريش أحب إلي من أن يربني رجل من هوازن، أي يملكني.
ولا يصح إجراؤه على غير الله تعالى، إلا مقيداً، فيقال: رب الدار ورب الإبل ونحو ذلك.
ومنها: السيد، أي المالك، والمولى مثله /86/، وكذلك الصمد، إلا أنه يفيد زيادة تعظيم، وقيل: هو أنه مصمود(1) إليه في الحوائج.
ومنها: العزيز، معناه القادر الذي لا يغالب، مأخوذ من قولهم: أرض عزاز إذا كانت صليبة يمتنع تفريق أجزائها. ومثله قولنا: كريم وإن كان لها معنى آخر، وهو كثرة العطاء، فيكون من غير هذا الباب.
ومنها: الجبار، وهو أبلغ من العزيز مأخوذ من قولهم: نخلة جبارة إذا فانت اليد وامتنعت من أن تنال.
وقيل: هو مأخوذ من الجبر وهو الإصلاح، فيكون من صفات الأفعال، وإنما كان ذماً في أحدنا؛ لأنه يدعي ما لا ينبغي له ويتشبه بمن يستحق هذا الوصف، ومنها الكبير معناه المالك المقتدر كما يقال: فلان كبير قومه، ولا يراد بذلك كبر الجرم. ومثله العظيم والجليل. وقيل: هذه الثلاثة تفيد في حقه تعالى جميع صفات الإلهية، وتنْزيهه عما لا يجوز، وأما المتكبر فهو مبالغة في الكبير، وهو ذم في العباد لمثل ما تقدم في الجبار.
__________
(1) . في نسخة: مقصود.
قيل: ولولا السمع لما صح إطلاقه عليه تعالى؛ لأنه مفيد في الشاهد نوعاً من التكليف، ولهذا لا يطلق عليه تعالى متحيزا بمعنى جبار.
ومنها المستولي، ولا يستعمل ما في معناه كالمستوي لإيهامه الاستقرار وتقر حيث ورد نحو على العرش استوى.
ومنها: العلي والعالي والمتعالي معناها المقتدر اقتداراً لا يصح معه المنع، ويستعمل بمعنى المتنزه عما لا يجوز، ومتى خشي المطلق لهذا الاسم إيهام علو المكان وجب عليه التقييد، ولا يصح أن يطلق عليه تعالى ما في معناه كالرفيع والشريف لكونهما أدخل في الإيهام، ويقر حيث ورد نحو رفيع الدرجات.
ومنها الإله، ومعناه القادر على أصول النعم التي لأجلها تحق له العبادة. قيل: ولهذا لا يوصف بأنه إله إلا لمن تصح عليه النعم كالأحياء، فلا يقال إنه إله الجمادات والأعراض ويحمل قولهم إله الأرض والسماوات على حذف المضاف تقديره إله أهل الأرض والسماوات. ومثله قولنا: الله، لأن أصله الإله حذفت الهمزة التي بين اللامين وبقي بلامين متحركين، أدغمت الأولى في الثانية، وقيل: الله.
ومنها: المستطيع، في نحو قوله تعالى: {هل يستطيع ربك..} الآية.
تنبيه
وأما قولنا مطيق فلا يجوز إجراؤه عليه تعالى؛ لأن فائدته ترجع إلى الجهد، وكذا قولنا مطلق ومخلا لأنهما يفيدان جواز المنع عليه، وكذلك قولنا: شديد ومتين؛ لأنهما يفيدان الصلابة، وقوله تعالى: {ذو القوة المتين} مجاز يقر حيث ورد.
القول في أن الله تعالى عالم العالم
هو المختص بصفة لمكانها تصح منه الأحكام تحقيقاً أو تقديراً، أو الإحكام هو إيجاد فعل عقيب فعل أو مع فعل على وجه لا يتأتى من كل قادر ابتداء، والمحكم هو المترتب لذلك، ونريد بالتقدير ما لا يكون مقدوراً كفعل الغير، أو يكون مقدوراً، لكن لا يصح إحكامه كالفعل الواحد، فإنما هذه حالة يصح إحكامه تقديراً بمعنى أنه لو كان مقدوراً، ومما يصح ترتيبه لا حكمناه.
وقال أبو الحسين وابن الملاحمي: هو المتبين لأمر من الأمور تبيّناً يمتنع معه في نفسه تجويز خلافه، وهو لا يصح كما تقدم؛ لأن هذا اللفظ لا يطلق إلا على من يتعرف الشيء بمشقة وتجويز، وأيضاً فهو لا يفيد حصول المعرفة، ولهذا يقال: تبينت الشيء فما عرفته أي طلبت معرفته؛ ولأن المتبين أخفى من العالم فلا نحد به.
فصل
وذهب أهل الإسلام وأهل الكتاب وغيرهم إلى أن الله تعالى عالم. وقالت الباطنية وابن غوث بمقالتهم في كونه قادراً. وقالت الفلاسفة هو عالم.
ثم اختلفوا، فقال أوائلهم هو عالم بنفسه فقط، ولا يعلم غيره، قالوا: والعلم والعالم والمعلوم شيء واحد؛ لأنه لو علم غيره لاقتضى ذلك التكثر في ذاته، ومن هاهنا اقتضى علمه بنفسه صدور العقل الأول منه، فلو علم غير نفسه لصدر عنه غير ذلك العقل، وقال أواخرهم كابن سيناء والفارابي وابن الراوندي: هو شيء يعلم مع ذاته الأمور الكلية دون الأمور الجزئية المنقسمة بانقسام الزمان إلى الماضي والحاضر والمستقبل؛ لأنها متغيرة، والعلم بها مختلف متغير، فلو علمها لاقتضى التغير في ذاته، قالوا مثاله الكسوف، فإن له ثلاث حالات، حالة عدم وحالة وجود وحالة عدم بعد ذلك الوجود، فأحدنا يعلمه أولاً معدوماً، ثم إذا وجد علمه موجوداً، ثم إذا عدم علمه معدوماً، وكل واحد من هذه العلوم غير الآخر، فإذا حصل تغير الآخر وتغير العلوم يقتضي تغير العالم، قالوا: فلا يعلم تعالى الأمور المفصلة لا ما كان ولا ما هو كائن، ولا ما سيكون، وإنما يعلم علماً كلياً، وهو أن الأرض مثلاً متى توسطت بين الشمس والقمر أكسف القمر، فأما إنه قد أكسف القمر أو سيكسف، فلا يعلمه، هذا تحرير مذهبهم، وسيتضح بطلانه في آخر فصل الكيفية، وإن كان لا طريق لهم إلى إثباته تعالى عالماً، وقد أضافوا الأفعال المحكمة إلى العقول والأفلاك.
لنا: إنه تعالى قد صح منه الفعل المحكم والفعل لا يصح إلا من عالم.
أما أنه قد صح منه الفعل المحكم فذلك ظاهر /88/ في ملكوت السماوات والأرض، فإن في ذلك من عجائب الصنعة وغرائب الحكمة ما تقصر عنه الأوصاف وتحتار فيه الأفكار من أنواع النبات وأصناف الحيوانات وأجناس المخلوقات، وتفاصيل ذلك بحسب مصالح المكلفين من غير زيادة ولا نقص.
فإن قيل: ما أنكرتم أن الله تعالى أوجد هذه الأشياء وأحكمها غيره.
قلنا: ذلك الغير، إما أن يكون قديماً وهو محال؛ لأنه لا يأتي لله، وإما محدثاً، وهو إنما يكون، قادراً بقدرة، وعالماً بعلم، وذلك يحتاج إلى بنية مخصوصة يحتاج إلى غاية الإحكام، فيجب في فاعله أن يكون عالماً، وذلك كاف في حصول الغرض؛ لأن فاعله هو الله، وإلا لزم التسلسل.
وإما أن من صح منه الفعل المحكم فهو عالم، فلأن ذلك هو معنى العالم وهو ضروري على الجملة بدليل أن العقلاء يصفون من هذه حاله بأنه عالم.
فصل
وطريقة التفصيل فيه أنا وجدنا في الشاهد قادرين صح من أحدهما الإحكام دون الآخر، فلا بد من أمر له صح، وذلك الأمر ليس إلا صفة ترجع إلى الجملة في الشاهد وإلى الحي في الغايب، وتصحيح هذا يجري على نحو ما تقدم في مسألة قادر، وقد خالف أبو الحسين وابن الملاحمي وغيرهما في إثبات حالة للعالم على الحد الذي يثبته سائر الشيوخ، وأثبتا له تعالى تعلقاً، وهو التبين، وجعله ابن الملاحمي حكماً للقلب في الشاهد، وللذات في حق الباري تعالى، والفرق بين كلامه وبين كلام الجمهور أنهم يثبتون حاله وتعلقاً زائداً عليها، وهو أثبت التعلق فقط، وجعله حاله، واستدل على أنه حالة للقلب بأنه لا يعقل من دون القلب، ولو كان حاله للجملة لتساوت أجزاؤها فيه كما تساوى الأجزاء السود في السواد.
قال: ونحن نجد هذا التبين في ناحية الصدر ولا نجد الأعضاء متساوية فيه.
ويمكن أن يعترض فيقال إن كونه لا يعقل من دون القلب لا يقتضي كونه حالاً للقلب وإلا لزم أن تكون الكتابة حالة لليد لأنها لا تعقل إلا بها.
وبعد، فما تريد بقولك لو كانت حالة للجملة لتساوت أجزاؤها، أتريد بكون كل جزء منها عالماً، فليس ذلك من قولنا بخلاف السواد فإنه يختص المحل أو تريد أن يقال زيد عالم ولا يقال قلبه عالم، فذلك الذي نريد مما يلزم منه، وأما أنا نجد هذا التبين في ناحية الصدر فمسلم لكن العالم هو الجملة كما أن قدرة الكتابة توجد في اليد والكاتب هو الجملة، واستدل على أنه حالة لذات الباري تعال بأن قال إن كونه تعالى مقيساً أمراً زائداً على ذاته تعالى، ولا يعقل من دون ذاته، فكان حاله له، وأما أنه أمر زائد على ذاته فلأنه قد صح منه الفعل المحكم أن يصح منه؛ لأنه ذات مطلقة /89/ أو لأنه ذات مخصوصة أو لأن ذاته تبين للأشياء.
قال: والأول باطل وإلاّ لزم صحة الفعل المحكم من كل ذات.
قال: وأما الثاني فيقال لهم أصح منه؛ لأنه ذات مخصوصة بكونها متبينة أم لا إن قالوا لا قيل لهم، فقد صح الفعل المحكم ممن لم يتبين وهو محال.
قال: وأما الثالث فباطل؛ لأن ذاته لو كانت تبيناً للأشياء، وهذا التبين حاصل لنا لكان يلزم أن يكون مثلاً لتبينا.
قال: وأما أن التبين لا يعقل من دون ذاته، فهو ظاهر، فثبتت بذلك كونه حالة لذاته تعالى، هذا ما حكاه الشيخ محمود.
ويمكن أن يقال له: هذا الدليل الذي ذكرت هو الذي يستدل به أصحاب أبي هاشم على إثبات الحالة، فهو موضع وفاق، لكنهم يثبتون للعالم تعلقاً بالمعلوم غير هذه الحالة، وهو صحة اتحاد المعلوم من جهته محكماً تحقيقاً أو تقديراً، وهذا مما لا يمكن إنكاره، ثم يقال له: لم لا تقبل هذا الدليل في إثبات حالة للقادر، وما الفرق بين الموضعين، فأما الشيخ محمود فاستدل على أن هذا التبين حكم لا حالة، بأن قال: إن التعلق بين العالم والمعلوم لا يعقل من دونهما، والحالة لا يعتبر فيها الغير.
ولنا أن نقول: إن هذا التعلق نحن نسلم أنه حكم، ولكنا نستدل على الحالة بما ذكرته عن أبي الحسين ولم تبطله.
وقد استدل شيوخنا لإثبات هذه الحالة مع ما تقدم بأن قالوا: يستحيل حصول العلم بالشيء في جزء من العلم والجهل به في جزء آخر، ولا وجه لهذه الاستحالة إلا حصوله على صفتين ضدين؛ لأن المعاني لا تتضاد إلا على المحل.
واعترضه ابن الملاحمي بأنه مبني على إثبات المعاني، ويمكن الجواب بأنا لا نحتاج في ذلك إلى ذكر المعاني، بل يكفي أن نقول: يستحيل أن يكون أحدنا عالماً بالشيء جاهلاً، ولا وجه لهذه الاستحالة إلا حصوله على صفتين ضدين، إذ لو لم يكن إلا مجرد التعلق لما استحال أن يتعلق القلب بالشيء على ما هو به، وعلى ما ليس هو به، ألا ترى أن المحور قد تعلق قلبه بالشيء على ما هو به، وعلى ما ليس هو به، وليس له أن يفرق سكون النفس؛ لأنه لا يثبته، ولأنه من أحكام العلم.
قال أصحابنا: ولو لم يكن إلا ما في القلب من التعلق وفي اليد من البنية لما صح وقوع الفعل ولا أحكامه باليد لداع في القلب كما لا يصح بيد زيد لداع في قلب عمرو.
قالوا: ولا يصح الفرق بأن اليد متصلة بالجملة؛ لأنه لا حكم للاتصال إلا إذا كان المؤثر راجعاً إلى الجملة.
واعترضه أبو الحسين بأنه يلزم أيضاً أن لا يصح الفعل المحكم باليد لحال العالم؛ لأن العالم هو الجملة دون اليد، وهذا لا يستقيم؛ لأن الفعل المحكم عندنا وقع من الجملة باليد من حيث هي آلة، فالفعل واقع من الجملة لحال الجملة.
قال ابن الملاحمي /90/ في الاعتراض على أصحاب أبي هاشم أن يقال ليس يمتنع وقوع الفعل بالجملة لما يختص ببعضها، وهو التعلق الحاصل في القلب من حيث أن اليد آلة متصلة أعصابها، وعروقها بالدماغ وبالقلب بخلاف يد زيد وقلب عمرو، فلا اتصال بينهما.
ويمكن الجواب بأن يقال له لست تعترض على البهشمية في إثبات الحالة للجملة بأنه يعلم العالم عالماً والقادر قادراً من لا يعلم هذه الحالة، وهذا متوجه إليك هنا، فيقال: إنه يعلم التفرقة بين وقوع الفعل بيد زيد لداع في قلبه ووقوعه في يده لداع في قلب عمرو من لا يعلم اتصال عروق اليد وعصبها بالدماغ والقلب، بل هذا أخفى وأحق أن لا تعلل به هذه التفرقة.
ثم يقال له: يلزم إذا ألصق الله ظهر زيد إلى ظهر عمرو وواصل بين عروق الظهرين أن يصح الفعل بيد زيد لداع في قلب عمرو؛ لأن يد زيد قد اتصلت بما يتصل بدماغ عمرو وقلبه، فثبت بهذا أن للعالم حالة راجعة إلى الجملة، وهذه الحالة إنما تشتبه بكونه معتقداً وظاناً وناظراً ولا يصح رجوعها إلى شيء من ذلك؛ لأن جميع هذه الأشياء قد تحصل مع تعذر الأحكام، فيجب أن يكون غيرها، وهي كونه عالماً.
فصل
وإذا ثبتت هذه الحالة في الشاهد فهي تثبت للباري تعالى؛ لأن الطريق واحدة، وتصحيح هذا على نحو ما مر في مسألة قادر، وليس عدم الأحكام في بعض الأفعال يدل على فقد هذه الصفة لجواز أن تكون الحكمة في أن لا يكون محكماً، ألا ترى أن كثيراً من أفعال الباري تعالى لا يكون محكماً، وإن كان حكمةً لحصول غرض فيه مع حسنه.
فصل فيما يجوز أن يجرى عليه تعالى من الأسماء بمعنى كونه عالماً وما لا يجوز
أما الأسماء الجائزة، فمنها: العالم والعليم والعلام، وفي الأخير من مبالغة تفيد استحالة الجهل.
ومنها: العارف إذ لا فرق بين العلم والمعرفة، لكنه أقل استعمالاً من العالم، وأيضاً لا يتأتى فيه من المبالغة ما يتأتى في العالم، فلا يقال عراف لاتهامه الخطأ.
ومنها: الداري، أي العالم، قال الشاعر:
لا هم لأدرى وأنت الداري
وهو وإن كان أصله من دريت الصيد إذا توصلت إليه بحيلة، فأصل الاشتقاق لا يراعى في الألفاظ إذا وقع التعارف على وجه معنى صحيح كالحال، فإن أصله التغير والانقلاب، ثم استعمل في الصفات، ومنها البصير كما يقال: فلان بصير بكذا أي عالم به، وإن كان يستعمل بمعنى كونه حياً لا آفة به، ويستعمل مبالغة في المبصر.
ومنها: الحكيم، أي العالم، قال تعالى: {وآتيناه الحكمة} وقال: {ومن يؤت الحكمة} أي: العلم، ويستعمل بمعنى المحكم أي فعل الحكمة /91/ فيكون من صفات الأفعال، ويستعمل أيضاً بمعنى المحكم بالفتح نحو: والقرآن الحكيم.
ومنها: الواجد عند بعض شيوخنا، ومنه قوله تعالى: {ووجدك ضالاً فهدى}. وقيل: يقر حيث ورد لإيهامه الخطأ من حيث لا يطلق الوجدان إلا بعد طلب.
ومنها: الرائي لا بمعنى المشاهدة، لأن الرؤية كما تستعمل حقيقة في المشاهدة تستعمل حقيقة في مطلق العلم، وعلته قوله تعالى: {أولم ير الإنسان أنا خلقناه من نطفة}، ونحوه ألم يعلم.
ومنها الخبير، أي العالم بكنه الشيء كالعلم، وقيل: معناه المخبر كالسميع بمعنى المسمع في نحو قوله: أمن ريحانه الداعي السميع.
ومنها: الرقيب، نحو: {كنت أنت الرقيب عليهم}، وقد تعورف به في العالم بتفاصيل الأحوال، وإن كان أصله من الارتقاب لحال غيره، ومثله الحفيظ، وإن كان يستعمل بمعنى الحافظ، فيكون من صفات الأفعال.
ومنها: الشهيد، مبالغة في الشاهد، أي العالم الذي لا تخفى عليه الأسرار، ويستعمل بمعنى المدرك، فيكون من بابه.
ومنها: المطلع عند بعض شيوخنا؛ لأنه قد تعورف به في العالم، وقيل: يقر حيث ورد لإيهامه المشاهدة من المكان المرتفع إلى المكان المنخفض.
ومنها: الواسع، قيل: معناه العالم. وقيل: معناه الغني. وقيل: معناه المكثر من العطاء. وقيل: يقر حيث ورد لإيهامه الخطأ، إلا أن يفيد نحو: واسع الرحمة والعطاء، ونحو ذلك.
وأما الأسماء التي لا تجوز في هذا الباب: فنحو قولنا طبيب؛ لأنه قد تعورف به في من يتعاطا صناعة مخصوصة، وكذلك الفقيه؛ لأن الفقيه إنما يستعمل بالعرف في ما يدخله بعض غموض، وكذلك الشاعر؛ لأنه يفيد ضرباً من التفطن لمعاني الكلام وقوافي الشعر، ولأنه لا بد فيه من تجدد، فلا يستعمل إلا في ما علم بعد جهل، وكذلك الفطن؛ لأنه يفيد استدراك معاني الكلام مع نوع صعوبة من فكر أو استنباط، وكذلك المتقين لإفادته حصول العلم بطلب بعد إن لم تكن، ومثله المتحقق والمتبصر والمتيقن، كلها تقيد حصول العلم بعد البحث، فيرتفع الشك، وكذلك لا يوصف الباري تعالى بأنه يحسن الأشياء. قال أبو علي: لأنه يفيد أول العلم بما يدركه المرء ويشاهده، وهو تعالى مستمر علمه بالأشياء.
وقال ابن هاشم: بل لأنه يفيد إدراكه للأشياء بحاسة، وكذلك الحاذق؛ لأنه يفيد نوع معالجة، ولأنه في الأصل اسم للقاطع يقال سكين حاذق، وخلّ حاذق أي قاطع، وكذلك الذكي، لا يستعمل إلا في ذي قلب سريع التلقن، وكذلك الحافظ بمعنى العالم لإيهامه حفظ الدرس بخلاف الحفيظ، وكذلك العاقل /92/ لأن هذه العلوم إنما سميت عقلاً لمنعها صاحبها عما ينزع إليه نفسه مأخوذ من عقال الناقة، والمنع يستحيل على الله تعالى، وكذلك المعتقد؛ لأنه مأخوذ من عقد الخيط كان المعتقد بعقد قلبه على شيء، وكذلك المحيط لا يصح إجراؤه إلا مع التقييد نحو أحاط بكل شيء علماً لإيهامه الجسمية، وكذلك لا يقال: ساكن النفس لإيهامه السكون المعاقب للحركة، ولأنه مجاز، وكذلك المتعجب؛ لأنه يفيد حصول العلم للإنسان بما لم يكن عالماً به مما لم تجر به العادة، وفيه غرابة.
وأما الغم والندم والأسف الحسرة ونحو ذلك فلا شبهة في امتناع إجرائها عليه تعالى؛ لأنها تفيد اعتقاداً مخصوصاً فيما يرجع إلى فوات النفع أو وقوع الضرر وهو مستحيل عليه تعالى. وقوله تعالى: {يا حسرة على العباد} مجاز. وقيل: معناه أن أفعالهم تصير حسرة عليهم. وقوله: فلما أسفونا مجاز. وقيل: تقديره فلما أسفوا أولياءنا.
القول في أن الله تعالى حي
الحي هو المختص بصفة لمكانها يصح أن يقدر ويعلم، وخصصنا أن يقدر ويعلم دون سائر ما يصححه كونه حياً؛ لأنهما يصحان لكل حي في كل وقت، وما عداهما ليس كذلك.
فصل
ذهب المسلمون وكثير من الناس إلى أن الله تعالى حي، والخلاف في ذلك على نحو ما مر في مسألة قادر وعالم، لنا أنه تعالى قادر عالم والقادر العالم لا يكون إلا حياً، أما أنه قادر عالم فقد تقدم بيانه.
وأما أن القادر العالم لا يكون إلا حياً فهو على الجملة معلوم ضرورة، ولهذا يصفة العقلاء بأنه حي.
وطريقة التفصيل فيه: أنا وجدنا في الشاهد جسمين أحدهما صح أن يقدر ويعلم بخلاف الآخر، ولا بد لهذه التفرقة من أمر، وليس إلا صفة ترجع إلى الجملة، وهي كونه حياً، وتصحيح هذه الأصول تجري على نحو ما سلف، والذي يشتبه أن يرجع بهذه الصفة إليه كونه قادراً، وذلك لا يصح؛ لأن حكمها وهو صحة الإدراك مخالف لحكم كونه قادراً، وهو صحة الفعل، ولا يقال الحكمان، وإن اختلفا يرجعان إلى صفة واحدة كأحكام التحيز؛ لأنا نقول صحة الإدراك تكشف عن صفة قد تكون متماثلة، وصحة الفعل تكشف عن صفة مختلفة بكل حال، وكشف هذين الحكمين عن التماثل والاختلاف إنما هو بحسب اتحاد المتعلق، وتعدده لا بحسب كون الحكم في نفسه متماثلاً أو مختلفاً.
فصل
وقد ذهب أبو الحسين وابن الملاحمي في كونه حياً إلى مثل ما ذهبنا إليه في كونه قادراً، وذكر أن الشيوخ استدلوا مع ما تقدم إلى إثبات هذه الحالة بأن أحدنا أجزاء كثيرة، وقد صارت شيئاً واحداً /93/ فلا بد من حالة واحدة بخلاف البنية، فإنها أمور كبيرة، وبأن أحدنا مدرك واحد، فيجب أن يختص بحالة واحدة، يصحح كونه مدركاً.
واعترضنا على هذين الدليلين وعلى ما تقدم بأن من صح أن يحيي فارق من لا يصح أن يحيي، فكان يلزم تعليل هذه المفارقة بحالة للجملة.
وقد أجاب الجمهور عن هذا بأنا إنما أوجبنا تعليل هذه المفارقة بأمر، فأما أن ذلك الأمر صفة ترجع إلى الجملة فإنما تعلم بدليل آخر، وهو أن الحكم قد صدر عن الجملة، فيجب أن يعلل بأمر راجع إلى الجملة، وصحة أن يحيي الآخر أحكم لم يصدر عن الجملة لأنها لا تكون جملة إلا بعد كونها حية، فلهذا عللنا المفارقة فيه بأمر راجع إلى الإجزاء، وهو البنية المصححة لوجود الحياة.
قال الجمهور: ولو لم يحتج كونه قادراً عالماً إلا إلى القدرة والعلم دون حال الجملة للزم صحة الفعل باليد المثابة لوجود القدرة التي هي البنية فيها، ولا حكم للاتصال، ألا ترى أن الظفر والشعر متصل وليس بداخل في جملة الحي، فصح انه إنما يتعذر الفعل باليد المتانة لخروجها عن جملة الحي.
قال ابن الملاحمي: بل إنما يتعذر الفعل بها لفقد الحياة المصححة للقدرة، ويمكن أن يقال له: أوليس المرجع بالحياة عندك إلى البنية المخصوصة كالقدرة، فما دليلك على زوالهما جميعاً على اليد المنانة، ولم وجب زوالهما بالإبانة.
واستدل الرازي لمذهب الجمهور بأنه إذا كان معنى الحي عند أبي الحسين هو الذي لا يمتنع أن يقدر ويعلم، فهذه إشارة إلى نفي الامتناع والامتناع نفي ونفي النفي إثبات، فقد ثبت أمراً زائداً على الذات، وهو المطلوب، وهذا ليس بالمقنع؛ لأن أبا الحسين يثبت حكماً زائداً على الذات، وهو صحة أن يقدر ويعلم، وإنما نفى الحال التي يستند إليها هذا الحكم.
قالت الفلاسفة على أصل المسألة: إن القادر العالم في الشاهد كما يجب أن يكون حياً يجب أن يكون جسماً ومتحركاً وملتذاً، وجائزاً عليه الموت فقولوا مثله في الله تعالى.
قلنا: إن كونه حياً إنما يصحح القادرية والمعالمية ونحوهما دون كونه جسماً، وسائر ما ذكرتم، وإنما وجبت هذه الأمور في الشاهد من حيث يستحق هذه الصفات لمعان يحتاج إلى بنية.
قالوا: فيغلب عليكم فنقول إنما كان القادر العالم في الشاهد حياً؛ لأنه يستحقها بين الصفتين لمعان توجب للجملة، وإنما تكون جملة إذا كانت حية، وكذلك يحتاج إلى محل مبني بنية مخصوصة، والقديم يستحقها لذاته.
قلنا: بل إنما وجب أن يكون القادر /94/ العالم في الشاهد حياً لتعلق بين هاتين الصفتين وبين كونه حياً بدليل إنما دخل في جملة الحي دخل في جملة القادر العالم، وما خرج عن جملة الحي خرج عن جملة القادر العالم. يوضحه أن العبرة بصحة أن يقدر ويعلم سواء حصل قدره وعلم أم لا.
قالوا: كونه قادراً عالماً فرع على كونه حيا، فلا يصح الاستدلال بهما عليه كما أن أفعال الباري تعالى فرع عليه في الثبوت، ويصح الاستدلال بها عليه.
قالوا: كما تصحح هذه الصفة كونه قادراً عالماً تصحح أيضاً كونه مشتهياً ونافراً ونحوهما، فيلزم جواز ذلك على الله تعالى،و هو محال.
قلنا: إنما تصح هذه بشرط جواز الزيادة والنقصان والمنافع والمضار كما تصحح كونه حياً، هل الشرط أن لا يجب كونه عالماً، والضبط في مثل هذا أنه لا يلزم من الاشتراك في صفة الاشتراك في صفة أخرى إلا إذا كانت إحداهما حقيقة في الأخرى ككونه قادراً وكونه حياً أو مقتضية لها كالتحيز والجوهرية أو كان دليلهما واحداً.
فصل
إذا ثبت أن للحي بكونه حياً صفة في الشاهد فكذك في حقه تعالى لاستمرار طريقهما في الموضعين، وهي معنوية في الشاهد لمثل ما تقدم في غيرها، وستأتي كيفية استحقاق الجميع في حقه تعالى.
فصل
والذي يجري عليه تعالى من الأسماء بهذا المعنى نحو قولنا حي، وكذلك سميع بصير؛ لأن المرجع بكونه سميعاً بصيراً إلى أنه حي لا أنه كما سيأتي، وأما قولنا حيوان أو روحاني فلا يصح إجراؤه عليه تعالى، لأنه يفيد الحياة والجسمية.
القول في أن الله تعالى سميع بصير
المرجع بذلك عند الجمهور إلى أنه حي لا آفة به، وحكي عن الشيخ أبي هاشم إثبات حالة زائدة، وهو لا يصح؛ لأن العلم بكونه سميعاً بصيراً يدور مع العلم بكونه حياً لا آفة به ثبوتاً وانتفاء، فلو كانتا غيرين لصح انفصال أحدهما عن الآخر.
واعلم أن الحكاية في ذلك عن أبي هاشم رحمه الله تعالى محتملة؛ لأنه إنما ذكره في بعض الأبواب أن العلم بأنه حي يخالف العلم بأنه سميع بصير من حيث قد يعلم كونه حياً بصحة أن يقدر ويعلم، وإن لم يعلم هل هذه الصفة تقتضي صحة الإدراك أم لا، ثم يعلم اقتضاءها لصحة الإدراك من بعد بنظر آخر، فأخذ الحاكي من هذا الكلام أنه يثبت حالة زائدة على كونه حياً، وهذا لا يدل على أنه يثبتها؛ لأن اختلاف العلمين بالذات كما يكون لاختلاف حالين لها قد يكون لتغابن أحكام حال واحدة. ولما كان لكونه حياً أحكام متغايرة منها صحة أن يقدر.
منها صحة أن يعلم، ومنها صحة أن يدرك كأن العلم بصحة كون الذات حية على بعض هذه الأحكام غير العلم بكونها حية /95/ على البعض الآخر لتغاير الأحكام، ومع هذا التأويل يصير كلام أبي هاشم في نقض الأبواب موافقاً لكلامه في غيره، ولكلام الشيوخ، ولهذا قال ابن الملاحمي في الفائق: ذهب الشيخ أبو هاشم وأصحابه إلى أن معنى كونه سميعاً بصيراً هو أنه لا يستحيل أن يدرك المسموع والمبصر إذا وجد، وهذا يدل على أن أبا هاشم موافق سائر الشيوخ.
القول في أن الله تعالى مدرك المدرك
عندنا هو المختص بصفة لمكانها يسمع ويبصر في الحال، وقد اتفق المسلمون على أنه تعالى سامع مبصر. وخالف أهل الإلحاد كما تقدم، لنا أنه تعالى حي لا آفة به ولا مانع له والمدرك موجود، وهذه الأمور هي التي معها تدرك المدركات، أما أنه حي فقد تقدم، وأما أنه حي لا آفة به ولا مانع له؛ فلأن الآفات والموانع إنما تجوز على الأجسام ذوي الحواس، وأما أن المدرك موجود فلأن المدركات ثمانية أجناس، وكلها موجودة، وأما أن هذه الأمور هي التي معها تدرك المدركات فدليله الشاهد، وذلك ضروري، وقد قال تعالى: {وهو يدرك الأبصار}، وقال: {إنني معكما أسمع وأرى} ونحو ذلك من الآيات.
فصل
واختلف الناس في تفصيل كونه مدركاً، فقال جمهور البصريين من شيوخنا: هي حالة زائدة على الذات، وعلى صفاتها، وبه قال أهل الجبر.
وقال البغداديون: معنى ذلك أنه عالم بالمدركات.
وقالت الفلاسفة: ليس إلا انطباع المدرك في الحاسة فقط، حكاه أبو الحسين عنهم، ولم نجبهم عنه، ولا صرح بكونه مذهباً له، وإنما ذكره اعتراضاً على البهشمية في إثبات الحال.
لنا أن أحدنا يجد التفرقة بين كونه مدركاً وبين كونه غير مدرك، فلا بد من أمر يعلل به هذه التفرقة، وليس إلا صفة للجملة في الشاهد، وللحي في الغايب، أما أن أحدنا يجد التفرقة فهو ضروري، وأما أنه لا بد من أمر فلما تقدم، وأما أن ذلك الأمر ليس إلاَّ صفة، فلأن كونه مدركاً لو كان ذاتاً لعلم على انفراده ولو كان حكماً لما علم إلا باعتبار غير أو ما يجري مجراه، بقي أن يكون صفة، ولا يجوز ان يرجع بها إلى كونه حياً؛ لأنها تتعلق دون كونه حياً، ولأنها واجبة دون كونه حياً، ولأنها تتجدد مع استمرار كونه حياً، ولأنها توجد من النفس دون كونه حياً، ولا يجوز أن يرجع بها إلى كونه عالماً كما يقوله البغداديون، لأن أحدنا يعلم ما لا يدرك كالقديم تعالى والمعدوم، وكثير من الأعراض، ويدرك ما لا يعلم كقرض البق والبرغيث، ولئن أحدنا قد يعلم الشيء فإذا أدركه /96/ وجد مزية غير كونه عالماً، ولأن كونه مدركاً واجب وكونه عالماً قد يكون جائزاً، ولأن كونه مدركاً يتجدد ويزول مع استمرار كونه عالماً وثبوته.
ولا يجوز أن يرجع بها إلى الانطباع وتأثير المرئي في الحواس كما تقوله الفلاسفة؛ لأنه غير معقول، ولأنا ندرك الأجسام العظام كالسماء والجبال ويستحيل انطباعها في الحاسة لأنها صغيرة، ولأن كون أحدنا مدركاً أمر صادر من جهته والانطباع صادر من جهة المرئي، ولأنا ندرك ما يعلم بالضرورة أنه لم ينتقل إلى حواسنا، وفي ما يدرك ما لا يصح عليه الانتقال كالأعراض، ولأنا نفعل الصوت ويسمعه الغير، فلو كان سماعه له هو تأثيره في حاسته لكنا نحن الفاعلين لذلك السماع بفعلنا لسببه وهو الصوت.
شبهتهم: إن أحدنا إذا أدمن النظر إلى الشمس ثم غمض عينيه رأى الشمس كأنه لم يغمض، وكذلك إذا أدمن النظر إلى الخضرة ثم أبصر لوناً أبيض رآه كأنه أخضر، فدل مثل ذلك أن المرئي ينطبع في الحاسة.
والجواب أن ذلك هو لأمر يرجع إلى الشعاع وافتراقه، فيتخيل عند الانصراف أنه يرى الشيء بدليل أنه لا يكون إلا مع الإدامة الشديدة، وفي حق من بصره ضعيف، ولو كان للإنطباع لحصل من أول مرة. وأيضاً فمتى غمض عينيه تخيل له أنه يرى الشمس مقابلة له، ولو كان للانطباع لم يرها؛ لأن من حق المرئي أن ينفصل عن الحاسة. وأيضاً فإذا أطبق عينيه والحال هذه فربما تتخيل له الشمس في غير صورة البياض فبطل ما قالوه، وثبت أن للمدرك بكونه مدركاً حال، والكلام في رجوعها إلى الجملة في الشاهد وإلى الحي في الغائب مثل ما تقدم في مطائره.
فصل
وهذه الحال تثبت للباري تعالى، وقال البغداديون إن لم يرجع بها إلى كونه عالماً فلا تثبت للباري تعالى.
لنا أنها مقتضاة في الشاهد عن كونه حياً فقط، وما عدا ذلك من صحة الحاسة وزوال المانع ووجود المدرك فهو شرط، وقد حصل هذا المقتضى على الحد الذي يقتضي في حقه تعالى، فيجب ثبوت هذه الصفة له، وهذان أصلان:
أما الأصل الأول وهو أنها مقتضاة عن كونه حياً فقط فلأنا نعلم بالضرورة وقوفها على هذه الأمور ثبوتاً وانتفاء.
ولا يجوز أن تكون كلها مؤثرة، والشرط غيرها لأنه كان يلزم صحة حصولها ولا يدرك بأن لا يصحل ذلك الشرط ولأنها أمور كثيرة مختلفة، ولا يصح تأثيرها في صفة واحدة، ولأن فيها ما يرجع إلى النفي، وما يرجع إلى المحل وكونه مدركاً أمر ثابت راجع إلى الجملة، وبهذا يبطل أن يكون المؤثر صحة الحاسة أو زوال المنع.
ولا يجوز أن يكون المؤثر وجود المدرك؛ لأنه أمر منفصل عن المدرك، فلا يؤثر في ما يرجع إلى المدرك. بقي أن يكون المؤثر كونه حياً والباقي شرط وهو المطلوب.
وقد استدل ابن الملاحمي /97/ بأن العلم بكونه حياً يتبعه العلم بصحة أن يدركه على بعض الوجوه، وهي أن تحصل الشروط، قال: لأن العقلاء متى علموه حياً، وأخبروا بأنه أدرك لم يحيلوا ذلك بخلاف الجماد، وفيه نظر؛ لأن لقائل أن يقول: إنما أحالوا ذلك في الجماد؛ لأن كونه حياً شرط والمؤثر وجود المدرك مثلاً، ألا ترى أنهم لو أخبروا بأن الحي أدرك شيئاً لم يوجد لأحالوا ذلك، والعلم بصحة الإدراك كما يتبع كونه حياً يتبع وجود المدرك وغير ذلك مما جعلناه شرطاً.
فإن قال: كان يلزم إذا وجد المدرك صح إدراك الجماد له على بعض الوجوه. قيل له: لست تريد بقولك على بعض الوجوه إلا حصول الشروط، وكذلك يقول الخصم هنا؛ لأن كونه حياً من جملة الشروط عنده، فالجماد يصح أن يدرك إذا حصل الشرط، وهو كونه حياً، وأما الأصل الثاني وهو أنه قد حصل المقتضى على الحد الذي يقتضي في حقه تعالى، فلأنه حي لا آفة به ولا مانع له، والمدركات موجودة.
فإن قيل: من جملة الشروط صحة الحاسة، وهو مفقود في حقه تعالى.
قلنا: إنما يجب أن يكون شرطاً في حق الحي بحياة؛ لأنه إنما يدرك بالآلة فاعتبر صحتها.
شبهة البغداديين أنه تعالى لو كان مدركاً بهذا المعنى لكان قد حصل على هذه الصفة بعد إن لم يكن عليها، وذلك تغيّر.
والجواب إن أردتم بالتغير أنه قد حصل له صفة لم يكن عليها، فذلك نقول لكن من أين لكم أن هذا يسمى تغيراً أليس إذا أدرك أحدنا بعد إن لم يعلم لم يقل اهل اللغة أنه قد تغير، وأنه قد تغير وإن أردتم بالتغير أن ذاته صارت غير ما كانت فذلك غير لازم، دليله الشاهد قالوا: لو حصلت هذه الصفة بعد إن لم تكن مدركاً أو علم بعد إن لم يكن، لكانت معنوية، قلنا إنما يكن معنوية إذا ثبتت مع الجواز، وهذه تثبت مع الوجوب.
قالوا: يلزم أن يسمى شاماً وذائقاً ولامساً.
قلنا: ليست هذه أسماء المدرك، وإنما هي اسماء لمن جمع بين آلة الإدراك وبين المدرك طلباً لإدراكه سواء أدرك أم لا، وإن سلمنا أنها من أسماء المدرك فإنما هي أسماء لمدرك مخصوص وهو المدرك بالحاسة كما في المباشر والمتعدي.
قالوا: لا طريق إليها إلا حكمها، وهو كونها طريقاً إلى العلم، وهذا لا يصح في حقه تعالى؛ لأنه عالم لذاته.
قلنا: إنما يستدل عليها لحكمها إذا لم تكن معلومة بنفسها، وهذه موجودة من النفس، وإن سلمنا أنها لا توجد من النفس فالطريق إليها مقتضتها وهو كونه حياً لا ما ذكرتم.
فصل
إذا ثبت كونه تعالى مدركاً فهو مدرك لجميع المدركات. وقال أبو القاسم بن سهلويه: يدركها إلا الألم واللذة.
لنا أن كونه حياً مع المدركات على سواء.
قال: كان يجب أن يسمى ألماً وملتذاً. قيل له /98/ معارض بالشام والذائق واللامس. والتحقيق أن الألم والملتذ اسم لمن يدرك الألم واللذة بمحل الحياة فيه مع الشهوة والنفرة، وذلك مستحيل في حقه تعالى.
فصل
قد علمت بما سلف أن هذه الصفة مقتضاة عن كونه حياً، والذي يختص هذا المكان مما يؤكد ذلك إبطال كون الإدراك معنى، وقد خالف أبو علي وأبو الهذيل والبغدادية والصالحي وصالح قبة والأشعرية، إلا أن الأشعرية يثبتونه معنىً شاهداً وغائباً، وهؤلاء الشيوخ يثبتونه معنى في الشاهد فقط.
لنا: أن هذه الصفة تقترن صحتها بوجوبها وإلا انفتح باب الجهالات وارتقعت الثقة بالمشاهدات، فكان يجوز أن يكون بين أيدينا فيلة ونحوها، ولا ندركها بأن لا يخلق الله الإدراك فينا أو بأن لا نفعله نحن؛ لأنه مقدور لنا عند البغداديين، ومعلوم أنا نعلم بالضرورة أنه لا فيل بحضرتنا، وهذا العلم يستند إلى أنه لو كان لرأيناه ولا ينقلب علينا في العلم الحاصل عند المشاهدة، فيقال: يلزم صحة أن نشاهده ولا يخلق الله العلم؛ لأن المشاهدة طريق إلى العلم، فيجب حصوله عند حصول طريقه مع سلامة الحال.
وقلنا: مع سلامة الحال احترازاً من مشاهدة الساهي والنائم، ومن لا عقل له، فإن قال: نحن نقطع على أنه لا فيل بحضرتنا. قيل له: هذا يستند إلى أنه لو كان لرأيناه، وإذا جوزت أن يكون ولا تراه لم يمكنك القطع بذلك.
فإن قال: قد جوزتم أشياء وقطعتم على خلافها نحو أن الله يخلق مكلفين يشتبهان من كل وجه، وأن يميت العالم الآن وأن يقيم القيامة الآن، ونحو ذلك. قلنا: كل هذه علوم مبتدأة لا يستند إلى شيء بخلاف العلم بأنه لا فبل بحضرتنا، فإنه يستند إلى أنه لو كان لرأيناه، وذلك مما لا يمكن إنكاره بل يعلمه الصبيان، فإنك لو مددت الحصبي بيدك فارغة وقلت له خذ هذا الدرهم لقال لا شيء في يدك، ولو كان لرأيته.
دليل: لو كان الإدراك معنى لكان لا يتعلق على التفصيل إلا بمتعلق واحد، فكان يجوز حصول مدركات بين أيدينا ولا ندرك إلا واحداً منها.
دليل لو كان معنى لجاز أن ندرك الذرة على الجبل ولا ندركه، بأن يخلق فينا إدراكها دونه لجواز انفصال أحد الإدراكين عن الآخر.
دليل لو كان معنى لوجب أن يدرك الرقيق والمحجوب بأن يحصل إدراكه؛ لأن إيجاب العلل لا تقف على شرط، وهذا كله يبطل كون الإدراك معنى في الشاهد، وأما في حقه تعالى فما أبطله أن يكون قادراً لمعنىً أبطل أن يكون مدركاً لمعنى، على أنه إذا بطل كونه معنى في الشاهد بطل في حقه تعالى؛ لأن المجبرة إنما أثبتوه له تعالى قياساً على الشاهد.
فصل
والذي يجري عليه تعالى من الأسماء /99/ في هذا الباب نحو قولنا مدرك وسامع ورائي ومبصر، ولا يصح آخر شيء من هذه الأوصاف إلا بعد وجود المدركات، وأما قولنا مشاهد فلا يصح إجراؤه عليه؛ لأنه يفيد ما يرجع إلى طريقه المقابلة.
القول في أن الله تعالى قديم
القديم في اللغة: هو ما تقادم وجوده ومنه حتى عاد كالعرجون القديم، وفي الاصطلاح هو الموجود الذي لا أول لوجوده، ولنتكلم في طرفين أحدهما أنه تعالى موجود، والثاني أنه لا أول لوجوده.
أما الطرف الأول، وهو أنه تعالى موجود، فلا يحتاج إلى استدلال عند من يجعل الوجود هو ذات الموجود شاهداً وغائباً كما يقوله ابن عياش وابو الحسين غائباً، فقط كما تقوله الفلاسفة، والأشعرية إلا أن هؤلاء إنما منعوا من كونه زائداً وغائباً على أنه البلاء يقتضي التكثير لا لما يقوله شيوخنا.
وأما جمهور المعتزلة فيجعلونه زائداً على الذات شاهداً وغائباً، فاحتاجوا إلى الاستدلال، وصحة ما يقولونه مبني على أن المعدوم ذات وسلف تقريره. ويزيده وضوحاً أن الوجود متماثل والذوات مختلفة، وأيضاً فالوجود بديهي التصور لا يحتاج إلى حد، ولو كان الوجود هو الذات لكان الذوات كلها بديهية التصور، ومعلوم أن فيها ما لا يتصور رأساً كذات القديم، وفيها ما لا يتصور بالبديهة بل بالحدود، وبعد، فقد اتفق الناس على قولهم أن ذات الباري واجبة الوجود، ولو كان الوجود هو الذات لكان ذلك بمنزلة قولهم إن ذات الباري واجبة الذات.
وأما ما منع به الشيخ محمود على أصحاب أبي هاشم من أنهم يجوزون بعد إقامة الدلالة على أن الله تعالى قادر عالم حكيم مرسل من مثيب معاقب أن يكون مع ذلك معدوماً حتى تقوم الدلالة على وجوده، وأنه متعجب من هذا ومستطرق له، فيمكن الجواب عليه بأن يقال من أين لك أن أصحاب أبي هاشم يجوزون كونه معدوماً بعد إقامة الدلالة على كونه قادراً عالماً أوليس كونه قادراً عالماً هما الدليل على كونه موجوداً عندهم، فكيف يجوزون كونه معدوماً مع قيام الدليل على وجوده، بل لا يجوزون ذلك، ولا يجوزه المميز من العوام؛ لأن من علم كونه قادراً عالماً علم كونه موجوداً على الجملة، وإنما يستدلون على تفصيل ذلك وكيفية دلالة كونه قادراً عالماً عليه إذا ثبت هذا فالدليل على أن الله تعالى موجود هو انه تعالى قادر عالم والقادر العالم له تعلق بمقدوره ومعلومه، والعدم يحيل التعلق فثبت بذلك وجوده، فهذه أربعة أصول.
أما أنه قادر عالم فتقدم.
وأما أن القادر العالم له تعلق بمقدوره ومعلومه فلأن معنى /100/ ذلك أنه يصح منه إيجاده مع سلامة الحال أو إيجاده محكماً تحقيقاً أو تقديراً، والأول حاصل لكل قادر، والثاني حاصل لكل عالم، وأ/ا أن العدم يحيل التعلق فلأنا وجدنا معاني متعلقة كالإرادة وغيرها، ووجدنا تعلقها يزول إذا عدمت، ولا علة لزواله إلا عدمها، فلو كان تعالى معدوماً لزال تعلقه، فيبطل كونه قادراً عالماً، ويريد بتعلق الإرادة صحة إيقاع المراد بها على وجه دون وجه، وإيجابها الصفة للمريد.
ويدل على أنها إذا عدمت زال تعلقها أنها لو تعلقت بعد العدم لما انفصل وجودها من عدمها، ولجاز أن يكون أحدنا مريداً للشيء كارهاً له في حالة واحدة بإرادة وكراهة معدومتين، وأيضاً فلو نفى تعلقها بعد العدم لكانت إما أن تتعلق بما تعلقت به من قبل وهو باطل لأنه ما من مراد إلا ويجوز نقيضه وتعلقها بالمقتضى محال، وأما أن تتعلق بغيره وهو باطل؛ لأن فيه اتصافها بصفة مخالفها من حيث يجوز أن يكون قد تعلق بذلك الغير إرادة أخرى حال تعلق هذه بالمراد الأول، فيكونان مختلفين، فمتى تعلقت هذه بما تعلقت به مخالفتها صارت بصفة مخالفها، وأيضاً فأحدنا يخرج عن كونه مريداً وعالماً حال النوم، ويدل على أن علة زوال تعلقها عدمها أن العلم بزوال التعلق يدور مع العلم بالعدم ثبوتاً وانتفاء، وليس هناك ما هو أولى من العدم بأن يجعل علة في زوال التعلق، والذي يشتبه أن يقال أن العلة في زوال تعلقها تقضى مرادها أو خروجها عن الصفة المقتضاة او عن أن توجب صفة للمريد، والأول باطل، وإلا وجب أن يتعلق حال عدمها إذا لم ينقض المراد والثاني والثالث باطلان؛ لأن خروجها عن الأمرين كزوال تعلقها فليس البعض بأن تعلل بالبعض أولى من العكس، ولأن ذلك تابع لعدمها، فالعدم بأن يكون علة أولى، ولا يقال هذا تعليل نفي ينفي؛ لأن ذلك جائز إذا كانت العلل كاشفة، ولهذا تعلل انتفاء صحة الفعل بانتفاء القادرية.
وأما أنه يثبت بذلك وجوده تعالى فلأنه لو كان معدوماً لم يكن له تعلق بمقدوره ومعلومه لحصول علة زوال التعلق، وذلك يعود على كونه قادراً عالماً بالبعض.
دليل، قد ثبت في صفة الأجناس المقتضاة كالتحيز في الجوهر والهيئة في اللون أنها مشروطة بالوجود ولا بد من أمر لأجله كان ذلك الوجود شرطاً وإلا لم يكن بذلك أولى من ألا يكون، وذلك إما أن يكون كونها صفات فقط أو كونها مقتضاة فقط، وكونها صفات مقتضاة، والأول باطل؛ لأن الذاتية صفة، وهي غير مشروطة بالوجود، والثاني باطل؛ لأن المماثلة /101/ والمخالفة أحكام مقتضيات، وليست مشروطة بالوجود، بقي أن تكون العلة كونها صفات مقتضاة، وقد ثبت للباري تعالى صفات مقتضاة ككونه قادراً وعالماً وغيرهما، فليكن مشروطه بالوجود، ويجب أن يكون الله تعالى موجوداً إذ لا يصح حصول المشروط دون الشرط وإلا بطل كونه شرطاً.
وأما الطرف الثاني وهو أنه تعالى لا أول لوجوده فلأنه لو كان لوجوده أول لكان محدثاً؛ لأن ذلك هو حقيقة المحدث، ولو كان محدثاً لاحتاج إلى محدث، والمحدث إلى محدث حتى يتسلسل إلى ما لا يتناهى من المحدثين، ومحدثهم أو ينتهي إلى محدث قديم، وهو المطلوب.
وبعد فلو كان تعالى محدثاً لما صح منه، فعل الأجسام؛ لأنه حينئذ يكون قادراً بقدرة محدثه فيكون جسماً، وسيتضح أن الجسم لا يفعل الجسم.
فصل
في أنه تعالى باق وأنه لا ضد له. اعلم أن البقاء هو استمرار الوجود بدليل أن من علمه مستمر الوجود علمه باقياً، العكس، ولا يعقل أحدهما من دون الآخر، ولا ينقلب علينا في التحيز، وكونه كائناً؛ لأنه ما من كائنية إلاَّ وتعقل التحيز من دونها بل تعقل التحيز، وإن لم يخطر ببالنا الكائنية إذا ثبت هذا، وقد ثبت أن الله تعالى واجب الوجود لم يزل، فيكون واجب الوجود لا يزال لأنها صفة ذاتية فلا يصح خروجه عنها بحال، وقد ذهبت الأشعرية والكلابية إلى أن الباقي يبقى ببقاء شاهداً وغائباً، وبه قال الكعبي شاهداً فقط.
لنا أنه لو كان البقاء معنى لكان جنس الفعل، فكان يصح حدوثه حال حدوث الجوهر، فيكون حادثاً باقياً. ولا ينقلب علينا في السكون، لأنا نجوز حصول ما هو من جنسه حال الحدوث، لكن لا يسمى سكوناً إلا بأن ينضم إليه مثله.
فإن قال إنه حصل حال الحدوث مانع وهو استحالة هذه الصفة.
قلنا: استحالة الصفة يتبع استحالة المعنى على أنا قد بينا أنه لا صفة للباقي أكثر من استمرار الوجود، وإلا لزم أن يكون كونه فانياً صفة يضادها، فيحتاج كل واحدة منهما إلى استمرار الوجود؛ لأن ما احتاج إليه أحد الضدين احتاج إليه الآخر، وفي ذلك كون الفاني مستمر الوجود.
فإن قال: إنه يحصل حال الحدوث معنى يضاد البقاء وهو الحدوث كما يقول عناد وهشام الفوطي. قلنا: ليس الحدوث معنى لأنه كان لا يخلو إما أن يكون قديماً فيلزم قدم الحوادث وإما محدثاً فيحتاج إلى معنى، والكلام فيه كالكلام في هذا، فيتسلسل، ثم إن سلمنا أن الحدوث معنى يضاد البقاء فكان يلزم أن يعاقب البقاء كما يصح أن يعاقبه البقاء لأن هذا حق كل ضدين، فيلزم صحة أن يكون الشيء حادثاً باقياً بأن يحصل الحدوث حال البقاء.
فإن قال: إن البقاء يحتاج إلى استمرار الوجود.
قيل له /102/ كيف يصح ذلك واستمرار الوجود يحتاج إلى البقاء.
دليل لو كان البقاء معنى لما صح بقاء كثير من الأعراض؛ لأن المعنى لا يختص المعنى، وقد التزمه الأشعري وهو ظاهر السقوط؛ لأن الذي به يعلم بقاء الجسم به يعلم بقاء اللون.
فإن قال: يختص محله قلنا فكان يقتضي بقاء جميع ما يحل ذلك المحل إذ لا مخصص.
شبهتهم أنه بقي بعد إن لم يكن باقياً، فلا بد من معنى.
والجواب: أنه لم تتجدد له صفة بعد إن لم تكن، بل هي صفة واحدة، ولكن تغيرت التسمية، ولا يلزمنا في من علم الشيء حادثاً ان يعلمه باقياً؛ لأن العلم بالشيء على صفة في وقت غير العلم بكونه عليها في وقت آخر.
فصل
وكما أنه تعالى باق فهو لا ضد له، وإلا كانت صفات ذلك الضد الذاتية بالعكس من صفاته تعالى، فإذا كان الله تعالى موجوداً قادراً عالماً لذاته كان ذلك الضد معدوماً عاجزاً جهلاً لذاته؛ لأن هذه سبيل كل ضدين.
دليل: لو كان له تعالى ضد لكان إما واجب الوجود لم يزل، وفي ذلك حصول الضدين على الوجه الذي يتنافيان فيه وإثبات قديم مع الله، وكله محال، وإما جائز الوجود لم يزل بدلاً من القدم، وذلك يقدح في كونه تعالى واجب الوجود لم يزل وهو محال.
القول في الصفة
الأخص هي الصفة الذاتية التي تقتضي لمن اختص بها كونه قادراً عالماً حياً موجوداً، وقد نفاها الشيخ أبو علي ومن قبله ونفاة الأحوال وأهل الجبر وأثبتها أبو هاشم والقاسم عليهم السلام، وأكثر من بعدهما.
لنا أن الباري تعالى مخالف للمحدثات، ولا يجوز أن تقع المخالفة بنفس هذه الصفات الأربع اتفاقاً؛ لأنا قد شاركناه تعالى فيها، ولأنه كان يجب أن تختلف الأجسام بحسب الاختلاف في هذه الصفات أو في أحدها، ولا يجوز ان يقع بكيفيتها، وهو وجوهاً كما يقوله أبو علي؛ لأنه إن أريد بوجوبها أنه يستحيل خلافها وأنها لا تزول في حال من الأحوال، وهذا نفي، والمخالفة لا تقع بالنفي وإن أريد بوجوبها استمرارها في كل حال، فالمخالفة لا تقع بذلك، ألا ترى أن أحد الجوهرين لو استمر له التحيز والآخر لم يتحيز إلا في وقت، ثم عدم لم يقتض ذلك مخالفة بينها بعد اشتراكهما في التحيز، ولا يجوز أن يقع بنفس الذات كما يقوله أبو الحسين وابن الملاحمي؛ لأنهما إن أرادا أنها تقع بمجرد كونها ذاتاً لم يصح لاشتراك الذوات في ذلك، وإن أرادا بكونها ذاتاً مخصوصة فلا معنى للخصوصية إلا أن لها صفة ليست لغيرها، وهو الذي يقول، وقد علمت بهذا بطلان ما يقولانه من أن حقيقة المخالفة هي أن لا يكون أحد الذاتين /103/ كالذات الأخرى؛ لأنا نقول أتريد أن لا يكون كالذات الأخرى في كونها ذاتاً في أمر زائد والأول باطل، والثاني هو المطلوب.
دليل لا شك أن الأصل في معرفة الاختلاف بين الذوات هو الإدراك، وما عداه مشبه به، فلا بد من اختصاص كل ذات بصفة لو أدركت لأدركت عليها، والباري تعالى لو أدرك لما أدرك على شيء من هذه الصفات الأربع؛ لأن غيره قد شاركه فيها، فيجب أن يختص غيرها لو أدرك لأدرك عليها.
دليل قد ثبت وجوب الصفات الأربع له وجوازها لنا، فلا بد من أمر لأجله وجبت له وجازت لنا، وإلا لم يكن ذلك أولى من عكسه، وذلك الأمر إما مجرد الذات وهو باطل كما تقدم، وإما الفاعل أو العلة وهو أظهر فساداً، وإما صفة ذاتية وهو المطلوب.
دليل قد ثبت أنه لا بد للذات من صفة ذاتية ولا يجوز أن تكون هذه الصفات الأربع ذاتية؛ لأن الذات لو اختصت بأكثر من ذاتية واحدة للزم أن تكون مماثلة لنفسها إن كانت تلك الذاتيات متماثلة ومخالفة لنفسها إن كانت مختلفة لحصولها على ما لو حصل عليه غيرها لماثل أو خالف.
واعترض بأن شرط المماثلة والمخالفة الغيرية، وهي مستحيلة في الذات الواحدة، فلا يخالف نفسها، وأجيب بأنه كان يصح حصول هذا الشرط على بعض الأحوال إذ لا يصح حصول المقتضى، ويستحيل شرط الاقتضاء على الإطلاق، وإلا لم يفترق الحال بين ما يقتضى وما لا يقتضى، وقلنا على الإطلاق احترازاً مما لا يبقى إذا خرج وقت وجوبه، فإن وجوده قد استحال مع أنه شرط في اقتضاء الذاتية للمقتضاة، ولكنه لم يستحل على الإطلاق؛ لأنه كان يجوز حصوله في بعض الأحوال.
هذا ما ذكره أصحابنا.
وفيه إشكال وهو أن يقال أليس كونه تعالى حياً يصحح كونه مشتهياً ونافياً بشرط جواز الزيادة والنقصان، ومعلوم أن هذا الشرط مستحيل في حقه تعالى، فكان يلزم أن لا يفترق الحال بين ما يصحح وما لا يصحح.
ويمكن الجواب بأنه وإن استحال في حق ذات ولم يستحل في حق ذات أخرى فهو غير مستحيل على الإطلاق، بخلاف مغايرة الذات لنفسها.
وفيه إشكال آخر، وهو أن يقال: ليس الغيرية شرطاً في المماثلة والمخالفة، وإنما هي جزء حقيقتها، فلا تكون المخالفة مخالفة، ولا المماثلة مماثلة إلا بالغيرية، وإذا كان كذلك لم يلزم أن تكون الذات الواحدة مخالفة لنفسها إذا اختصت بذاتيات كثيرة لفقد حقيقة المخالفة.
فصل
والذي يجري عليه تعالى من الأسماء في هذا الباب /104/ نحو قولنا شيء وذات، وكذلك قولنا الله عند بعضهم؛ لأنه قد جرى مجرى العلم الموضوع على المختص بالصفات الإلهية، وكذلك سبوح قدوس؛ لأنه يفيد تنزيهه في ذاته وصفاته عما لا يليق به، وكذلك قولنا حق؛ لأنه يفيد في اللغة الثبوت.
وأما قولنا عين ونفس، فلا يجوز إطلاقهما عليه تعالى للإيهام الحاصل فيهما، وقوله تعالى: {ولا أعلم ما في نفسك} إنما أراد به طريقة الغيب لا النفس الحقيقية. وأما قولنا: معنىً فإنما يستعمل في الأخراص دون غيرها من الذوات، فلا شبهة في امتناع إطلاقه عليه تعالى. وأبعد من ذلك قولناعلة، لأنه كان في الأصل ملا يتغير به بدن الحي، ثم تعورف به في ما يؤثر تأثيراً مخصوصاً من الأعراض، وأما قولنا: تام وأوافر وكامل ونحوه فلا يجوز إجراؤه عليه تعالى؛ لإيهامه حصول ذلك على وجه يصح معه النقص. وأما وصفه تعالى بأنه حسن فلا يصح؛ لأنه إنما يوصف به الأفعال والصور المخصوصة.
فصل
قد زعم ضرار بن عمرو أن لله تعالى ماهية لا يعلمها إلا هو وأن إراد بذلك ما يقوله أصحابنا من إثبات صفة ذاتية أو ما يقوله شيخنا أبو الحسين من أنه ذات مخصوصة تفارق بنفسها سائر الذوات، فهو صحيح، لكنه أخطأ في قوله ماهية؛ لأنه لا يقال في الله ما هو، ولا أي شيء هو، من حيث يجري ذلك مجرى التكييف، وأخطأ أيضاً في قوله: لا يعلمها إلا هو، لأنا قد علمنا ذلك. على أنه قد ناقض في كلامه؛ لأن مذهبه أنه تعالى يُرى على تلك الصفة، فكيف لا يعلم عليها، وليس لها حكم أكثر من اقتضائها، لهذه الصفات فلا يقال أنه تعالى يعلم من حكمها ما لا يعلمه.
شبهته: إنا نعلم ذاتاً مختصة بصفات، ولسنا نعلم حقيقة تلك الذات،و لهذا لو سئلنا ما تلك الحقيقة لما أمكنا تعيينها ولا التعبير عنها، وهو تعال عالم بحقيقة ذاته، ويمكنه التعبير بما ينبني عنها.
والجواب: وأن كل شيء يعلم على التفصيل إما أن يكون الطريق إليه الإحساس أو تأثيره أو حكمه، فما كان الطريق إليه الحسن فإنا نعلمه بالحسن على حقيقته، ويمكننا أن نعبر عما تعلق به علمنا مما هو عليه في ذاته بالعبارات التي وضعها أهل اللغة، فنقول متحيزاً مثلاً أو سواداً أو نحو ذلك، ولا يجوز أن يكون له ماهية أكثر مما أدركناه، وما كان الطريق إليه فعله أو حكمه فإنا متى علمناه بذلك الطريق جرى ذلك مجرى الإدراك في تعيينه، والعلم بحقيقته ولا يجوز أن يكون سبباً غير ما علمناه، وإلا انفتح باب الجهالات، ألا ترى أنا نعلم القدرة والحياة وغيرهما. ولا يجوز أن يكون لها ماهيات يتناولها الإدراك غير ما علمناه.
قال: هو تعالى يرى نفسه، فيجب أن يعلم من نفسه ما لا نعلمه /105/ قلنا: لا نسلم أنه يصح رؤيته وإن سلمناه فالذي علمه بالرؤية هو الذي علمناه بالدليل لما قدمنا من أن الدليل يجري مجرى الإدراك في التفصيل.
قال: أوليس أحدنا إذا أخبره الصادق بذات علمها ثم إذا أدركها وجد مزية.
قلنا: العلم الحاصل بالخبر جملي والحاصل عند الإدراك تفصيلي؛ لأن الإدراك يتناول أخص صفاتها، وكذلك نقول في الله تعال عندنا فإنا إذا علنما ذاته كان علمنا به على الجملة، وإذا علمنا صفاته كان علمنا به على التفصيل، وإن كان العلمان استدلاليين، ثم لسنا نجوز شيئاً آخر يتناوله الإدراك بعد علمنا به على التفصيل.
قال ألسنا نعلمه في الآخرة، ضرورة، فهلا كان ذلك علماً بما هيئه، قلنا: ومن سلم حصول ماهية غير ما علمناه فيتعلق بها العلم الضروري بل الذي نعلمه في الآخرة ضرورة، هو الذي علمناه في الدنيا استدلالاً.
قال: أوليس أحدنا يعلم من نفسه ما لا يعلمه غيره.
قلنا: أما في إلى ذاته وما هيئته ووجوده فلا وأما أحوال نفسه المعنوية من نحو كونه مريداً ومشتهياً فهو وإن علمها من نفس ضرورة على الجملة فغيره يعلمها بالدلالة، ولسنا نثبت له ما لا يقوم عليه دليل.
قال: أليس أحدثنا يجد مزية للعلم الضروري على العلم الاستدلالي. قلنا: بلى لأمر يرجع إلى طريقهما، فإما أن يكون أحد العلمين أزيد من الآخر أو معلومة أكثر من معلوم الآخر، فلا والله تعالى يعلم ذاته وصفاته لا عن طريق، فلا يقال أن طريقه أجلى من طريقنا، والذي يعلمه تعالى لا عن طريق هو الذي علمناه بطريق، ولا يجوز شيئاً غير ذلك يوجه إليه مزية الوجدان من النفس.
قال: وقع الإجماع على أن الله أعلم بنفسه منا وأن الأنبياء يوصفون بأنهم أعلم بالله تعالى.
قلنا: نحن نسلم مقتضاه، فإنه تعالى يعلم من تفاصيل مقدوراته ومعلوماته ومتعلقات صفاته ما لا نعلمه، وكذلك يعلم الأنبياء من ذلك ما لا نعلمه، وتختلف أحوال العلماء في ذلك.
القول في كيفية استحقاقه تعالى لهذه الصفات
اتفق أهل العدل على أنه تعالى يستحقها لذاته أو لما هو عليه في ذاته، ولا يحتاج في ثبوتها إلى مؤثر، واتفق أهل الجبر على أنه يستحقها لمعان.
ثم اختلفوا، فقالت الصفاتية: لا يوصف بقدم ولا غيره، لأنها صفات /106/.
وقال ابن كلاّب: أزلية.
وقال الأشعري: قديمة، واتفقا على أنها لا هي الله ولا هي غيره، ولا بعضها هو البعض الآخر، ولا غيره. وقالت الكرامية: قديمة أعيان لله تعالى أعراض حالة في ذاته.
ولنبطل أولاً قول الصفاتية فنقول: هذه المعاني إما أن تعلم على انفرادها أو تعلم لا على انفرادها أو لا تعلم أصلاً، إن قالوا بالثالث كفانا ذلك في نفيها؛ لأنه كيف يثبت ما لا يعلم، وإن قالوا بالثاني، فهو الذي يريد بالصفات،لكن أخطأوا في تسميتها معاني، وأيضاً فكلامنا الآن في الأمر الذي لأمره استحقت هذه الصفات، فما هو، وإن قالوا: بالأول لم يصح المنع من وصفها؛ لأن كل ما يعلم على انفراده فإنا نعلم بالضرورة أنه لا يخلو من وجود أو عدم، ثم إذا كان موجوداً لم يخل من حدوث أو قدم والمنكر لذلك مكابر.
شبهتهم: أنها لا تقوم بنفسها، ولكن تقوم بغيرها.
والجواب: كل الأعراض كذلك، فهلا امتنعتم من وصف الأعراض، ثم ما المانع من وصفها، وإن قامت بغيرها أو لستم قد وصفتموها بأنها معان، وبأنها صفات بالمعنى العام، وبأنها قائمة بذات الله ونحو ذلك.
قالوا: وصف الشيء يقتضي قيام معنىً به.
قلنا: معارض بالأعراض، فإن وصفها لا يقتضي قيام معنى بها، وكذلك قد وصفتموها بأنها معان وبأنها غير ذلك، وكذلك وصفكم الباري بأنه فاعل وأول وآخر ونحو ذلك.
ولنعد إلى إبطال قول الجميع في إثبات المعاني، فنقول: لا طريق إليها؛ لأن المعنى إذا لم يكن مدركاً فالطريق إليه إنما هو حول موجبه مع الجواز، وهذه الصفات واجبة لله تعالى، فيستغنى عن المعاني؛ لأن وجود المعاني والحال هذه كعدمها، ولأن الصفة الواجبة لو عللت بأمر منفصل لكان قد وقف حصولها على ذلك الأمر حتى لو لم يحصل لما حصلت، وذلك يقدح في وجوبها.
يوضحه أن كونه تعالى موجوداً استغنى عن المعنى، وكذلك صفات المعاني وسائر صفات الأجناس، ولا وجه لاستغناء هذه الصفات إلا وجوبها؛ لأن العلم بالاستغناء يدور مع العلم بالوجوب ثبوتاً وانتفاء، ألا ترى أن كل صفة جائزة فلا بد لها من فاعل أو معنى، وإذا كان صفات الباري تعالى واجبة استغنت عن المعاني كالوجود وكصفات الأجناس، وقد وافق أكثر المجبرة في أنه تعالى موجود لا لمعنى، وخالف اليسير.
ويبطله أنه لو كان تعالى موجوداً لمعنى لكان ذلك المعنى لا بد أن يكون موجوداً، فإما أن يحتاج إلى معنى فيتسلسل أو لا يحتاج، فالله تعالى أحق بأن لا يحتاج إلى معنى، والإجماع واقع قبل هؤلاء على أنه تعالى لا يحتاج في وجوده إلى مؤثر، وأنه واجب الوجود من ذاته، بل قد وافق أكثر الملحدة، /107/ وكذلك وافقت المجبرة في استغناء صفات العلل عن المعاني لكن جعلوا العلة في هذا الاستغناء استحالة قيام المعنى بالمعنى لا وجوبها، وليس بصحيح لأنه إنما يستحيل قيام المعنى بالمعنى إذا فسر القيام بالحلول، فإما بالتفسير الذي يريدونه في هذه المسألة فلا يستحيل قيام المعنى بالمعنى.
طريقة آخرى:
هذه المعاني إما واجبة الوجود من ذاتها وهو باطل بالاتفاق، وإلا كانت آلهة، وإما ممكنة الوجود من ذواتها فيلزم أن تكون محدثة؛ لأن كل ممكن الوجود من ذاته هو مسبوق بالعدم ولا يترجح وجوده على عدمه إلا المؤثر، وهذا هو أصل دليل المخالف على حدوث العالم وإثبات الصانع، فلا يسعهم إنكاره.
وأما ما ذكره الرازي في كتاب الأربعين من أنها ممكنة الوجود من ذاتها واجبة الوجود من غيرها فهو زلل وضلالة؛ لأنه كيف تكون واجبة الوجود من غيرها، وذلك الغير ليس بمؤثر فيها عندهم، وأيضاً فهي ليست بأعيان لله، وأيضاً فهذا يقدح في حدوث العالم وإثبات الصانع بأن يقال له: هلا كان العالم قديماً وإن كان ممكن الوجود من ذاته لصدوره على جهة الإيجاب، وهلا كانت العقول والأفلاك صادرة عن ذات الباري تعالى كصدور هذه المعاني، ويقال أيضاً: إذا كانت الذات أوجبت هذه المعاني عندك، فهلا قلت بأن الذات أوجبت الصفات واسترحت من التكليف لإثبات المعاني لا سيما وفي ذلك مشابهة للقائلين بالعقول والأفلاك.
طريقة أخرى
قد وقع الإجماع، وقامت الأدلة على أن الله تعالى ليس بمحتاج والقول بإثبات معاني قديمة وصف لله بالحاجة على أبلغ الوجوه؛ لأن أهل هذا المذهب متفقون على أن هذه المعاني لو انتفت عن الله تعالى ولم يوجد أضدادها لكان في ذلك عدمه، ولو انتفت مع وجود أضدادها لكان في ذلك غاية النقض بان يصير ميتاً عاجزاً جاهلاً ونحو ذلك، فقد اقتضى هذا القول احتياجه إلى هذه المعاني في وجوده أو كماله حتى لولاها لما وجد أو لما كمل، وذلك أبلغ في الحاجة من الاحتياج إلى الطعام والشراب؛ لأن فقد الطعام والشراب لا يقتضي عدم المحتاج إليها، ولا نقضه، وليس ينجيهم من هذا الامتناع(1) من إطلاق العبارة إذ قد أثبتوا المعنى، وكذلك لا ينجيهم اعتقادهم إن هذا ليس هو معنى الحاجة.
طريقة أخرى:
لا بد لهذه المعاني من صفات لأجلها يخالف مخالفها ويوجب موجبها، ويتعلق بمتعلقها ويضاد ضدها، فأما أن يستحقها لمعان /108/ أخرى فيلزم التسلسل أو لذاتها، فالله تعالى أحق أن يستحق صفاته لذاته، ولا حاجة إلى معان.
فصل
في أنه لا يجوز أن يستحقها لمعان قديمة كما يقوله جمهور المجبرة، وهذا وإن كان قد دخل في ما تقدم لكنا نخصه بالإبطال كما سنخص غيره، فنقول لو استحقها لمعان قديمة لوجب أن يكون امتثالاً لله تعالى لمشاركتها له في القدم الذي هو صفة ذاتية أو كاشفة عن الصفة الذاتية كما سلف، ولو كانت امتثالاً لله تعالى للزم أن يكون بصفتها حتى يكون عالماً، وقدرة، وأن يكون بصفته حتى يكون آلهة قادرة عالمة؛ لأنها قد شراكته في ما يصحح كونه حياً، فأولى أن يشاركه في ما يصححه كونه حياً، وهو كونه قادراً عالماً، وإذا ثبت لها ذلك احتاجت أيضاً في استحقاقها له إلى معان أخر. ويلزم أن يكون بعضها بصفة البعض الآخر حتى يكون العلم علماً وقدرة وحياة، وإذا كان كذلك لزم استغناؤه عنها واستغناؤها عنه، والاستغناء ببعضها عن بعض.
__________
(1) . في نسخة: امتناع.
فإن قالوا: ولم إذا اشترك الشيئان في صفة ذاتية لزم أن يشركا في سائر صفات الذات حتى يلزم التماثل.
قلنا: لأنهما لو اشتركا في صفة ذاتية وافترقا في صفة ذاتية أخرى لكانا مثلين مختلفين لحصول ما يقتضي المماثلة والمخالفة، فإنا قد قدمنا أن المماثلة تقع بالصفة الذاتية بشرط الاتفاق فيها والاختلاف يقع بالصفة الذاتية شرط الاختلاف فيها، وكون الشيئين مثلين مختلفين محال لتأديته إلى أن يكونا موجودين معدومين عند تقدير طرو الضد بان ينفيهما من حيث كونهما مثلين ولا ينفيهما من حيث كونهما مختلفين.
فإن قالوا: هذه المعاني لا تقدوم بنفسها وإنما يلزم المماثلة في قديمين مستقلين يقوم كل واحد منهما بنفسه.
قلنا: إن مع القول بأنها ذوات أو معان يلزم أن تكون قائمة بنفسها مستقلة بالمعلومية لا سيما وليس قيامها بمعنى الحلول عندكم حتى يمكن الفرق بين الحال والمحل على أنها ليست بأن تكون قائمة بالله تعالى أولى من العكس لمشاركتها له في القدم.
فصل في إبطال كل واحد من هذه المعاني على انفراده
أما ما يختص العلم فلأنه لو كان تعالى عالماً بعلم لكان لا بد أن يعلم بذلك العلم على انفراده؛ لأن ما لا يعلم أصلاً لا يمكن إثباته، وما لا يعلم لا على انفراده صفة لا معنى، وكلامنا في جهة استحقاق الصفة لا فيها، وإذا علم على انفراده فإما أن يعلمه الله تعالى بعلم آخر فيؤدي إلى التسلسل أو يعلمه لذاته فيجب أن يعلم جميع الأشياء لذاته إذ لا اختصاص لها ببعض الأشياء دون بعض.
ولا تنقلب علينا في الصفة؛ لأن الصفة لا تعلم على انفرادها.
دليل: لو كان عالماً بعلم /109/ لوجب أن يكون مثلاً لعلومنا إذا تعلق بمتعلقها على أخص ما يمكن لاشتراكهما حينئذ في صفاتهما المقتضاة التي لأجلها تتعلقان، وليس تغاير العالمين يمنع تماثل العلمين كما لا يمنعه في الشاهد، وكما لا يمنعه تغاير المحلين، وإذا كان مثلاً لعلومنا وجب أن يكون محدثاً أو تكون علو منا قديمة، ووجب أ، يضاده ما يضاد علومنا، ولا ينقلب علينا في صفته تعالى، إذا تعلقت بما تتعلق به صفاتنا؛ لأن وجه التعلق مختلف، فتعلقه تعلق العالمين، وتعلقنا تعلق العلوم.
دليل، قد ثبت أن معلوماته تعالى غير متناهية، فإما أن يعلمها بعلوم غير متناهية وهو باطل؛ لأن دخول ما لا يتناهى في الوجود محال، وإما أن يعلمها بعلوم متناهية، وهو باطل؛ لأن العلوم المتناهيةة إذا وزع علمها معلومات غير متناهية صار كل علم منها متعلقاً بما لا نهاية له، وإما أن يعلمها بعلم واحد، وهو باطل؛ لأن العلم الواحد لا يتعلق على جهة التفصيل إلا بمعلوم واحد من حيث أن كل معلومين يصح أن يعلم أحدهما بعلم، ويعلم الآخر بعلم آخر، وقد ثبت أن ذلك يقتضي اختلاف العلمين؛ لأن تعلق العلم بمعلومه هو حكمه الخاص الكاشف عما هو عليه، فما لم يشاركه من العلوم في هذا الحكم وهو التعلق بهذا المعلوم فقد خالفه إذا ثبت هذا فلو تعلق العلم الواحد على التفصيل بمعلومين أو أكثر لزم أن يكون مخالفاً لنفسه لحصوله على صفتي مختلفين.
ولا ينقلب علينا في تعلق ذات الباري بالمعلومات الكثيرة؛ لأن لذاته تعالى أحكاماً هي أخص من التعلق، تكشف عما هو عليه، فلا يلزم من تعلقه بمعلومين حصوله على صفتي مختلفين.
وبعد فلو تعدى العلم في تعلقه على التفصيل المعلوم الواحد لتعدى إلى ما لا نهاية له لفقد الحاضر، وذلك محال في الشاهد، ولا وجه لامتناعه، إلا كونه عالماً، وامتناع ذلك في العالمية الموجبة عن العلم تبع لامتناعه في العلم؛ لأن تعلقها تبع لتعلقه، فلهذا لا يمتنع هذا التعدي في عالمية الباري؛ لأن تعلقها تعلق العالمين.
قال الرازي: أوليس العلم بالتضاد الواقع بين السواد والبياض هو بنفسه علم بالسواد والبياض فقد تعلق هذا العلم على التفصيل أكثر من متعلق واحد.
والجواب لا نسلم أنه علم واحد، بل هي علوم، ولكن العلم بالتضاد بين الذوات فرع على العلم بتلك الذوات، فلهذا لا يمكن العلم بالتضاد إلا بعد العلم بالمتضاد بدليل أنه يمكن أن يعلم الذوات من لا يعلم تضادها، ولو كان علماً واحداً لما أمكن ذلك. وأما /110/ العلم بالمتضايفين كالأب والابن فمعلومه واحد؛ لأن كون الرجل أباً لغيره هو نفس كون ذلك الغير خلق من مائة.
وأما ما يختص القدرة فهو أنه لو كان قادراً بقدره لكان لا بد أن تكون واحده فيلزم أن يكون مخالفه لنفسها كما تقدم في العلم سواء، ويلزم أن ينحصر مقدوراتها، وأن لا تعلق بالأجسام ونحوها لما سيتضح من أن علة الحصار مقدورات القدر وامتناع تعلقها بالأجسام هي كونها قدراً، ويلزم أن يكون حاله في الباري تعالى لما نعلمه في الشاهد من أنه لا يصح الفعل بالقدرة إلا بعد استعمال محلها، وبهذا الأخير يبطل أن يكون حياً بحياة؛ لأن الحياة لا يصح(1) الإدراك بها إلا بعد استعمال محلها.
فصل في ذكر ما يلزم أهل هذه المقالة من المحالات
يقال لهم: أجمعت الأمة على كفر النصارى، ولا وجه لذلك إلا إثباتهم قدماً مع الله تعالى، فإن قالوا: بل لإثباتهم آلهة مع الله تعالى.
قلنا: لم يقولوا بثلاثة آلهة وإنما قالوا بثلاثة أقانيم وأكثرهم يقول أن بعض هذه الأقانيم صفات لا تستقل، ولهذا أيعتقدون أن المستحق للعبادة شيء واحد.
__________
(1) . في نسخة: يمكن.
يوضحه أن التثليث الحقيقي إنما هو في العدد لا في الصفات، وقد قال تعالى: {الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة} ولم يقل: ثلاثة آلهة، وأما قوله تعالى: {وما من إله إلا إله واحد} فإنما هو على طريق الإلزام، فكأنه قال: إذا قالوا بالقدماء الثلاثة لزمهم القول بآلهة ثلاثة، وما من إله إلا الله.
فإن قالوا: إنما كفروا لأنهم قالوا أن الله شيء واحد على الحقيقة ثلاثة أشياء على الحقيقة.
قلنا: إنما أرادوا المعنى الذي ذهبتم إليه من أن الأقنومين الآخرين لا هما الله ولا هما غيره، ولكن اختلفت العبارة.
قال البستي: قيل للأشعري إذا كنت موافقاً للنصارى، فلم كفرتهم؟ قال: لأنهم نقضوا عن الواجب، واقتصروا على الثلاثة.
وبعد فكما يلزمهم مذهب النصارى يلزمهم مذهب الثنوية لأنهم لم يشركوا بين الاثنين إلا في القدم، وكذلك من أثبت الهيولى قديمة، والعقول والأفلاك، فإنه لا وجه لكفر جميع هؤلاء إلا التشريك في القدم.
ويقال لهم: ليس القدرة القديمة تتعلق بكل مقدور والإرادة القديمة تتعلق بكل واقع، فلا بد من بلى. فيقال لهم: فما أنكرتم من إثبات قديمين قادرين بقدتين قديمتين ويتعلقان بكل مقدور ويريدان بإرادتين قديمتين تتعلقان بكل واقع.
فإن قالوا: كان يلزم صحة التمانع بينهما بأن يريد أحدهما شيئاً ويكرهه الآخر.
قلنا: إنه لا يريده أحدهما إلا إذا كان واقعاً لاستحالة تعلق الإرادة القديمة عندكم، فتقدير كون الشيء مراداً لأحدهما دون الآخر محال فيكون التمانع محال أيضاً.
فإن قالوا: يؤدي هذا إلى مقدور بين قادرين /111/، قلنا: إنما يستحيل مقدور بين قادرين إذا صح أن يريده أحدهما دون الآخر، وقد بينا استحالة ذلك مع القول بالقدر والإرادات القديمة. وبعد فهب أن لهم طريقاً إلى نفي الثاني القادر فما طريقهم إلى نفي الثاني العاجز الجاهل كما يقوله أكثر الثنوية في الظلمة.
ويقال لهم: أليس وقع الإجماع في الصدر الأول على أنه لا قديم مع الله تعالى، فلا بد من بلاء، ولكن الإجماع مصروف إلى أنه لا إله مع الله، فيقال الظاهر معنا ولا دليل على خلافه على أنا قد بينا أن المشاركة في القدم تقتضي المشاركة في الإلهية.
ويقال لهم: أليس عباد الأوثان خرجوا من التوحيد لاعتقاد مشاركتها في استحقاق العبادة، وإن كانت جماداً محدثة فلا بد من قولهم بلى، فيقال: فاعتقاد أشياء مشاركة لله تعالى في القدم أحق بأن يكون خروجاً عن التوحيد، وذلك لأن العبادة تستحق لأمر يرجع إلى الفعل وهو كونه تعالى منعماً بأصول النعم والقدم يستحق لأمر يرجع إلى الذات وكمال الذات بصفاتها الذاتية أعظم من كمالها بصفاتها الفعلية.
فصل في إبطال قولهم لا هي الله ولا هي غيره ولا بعضه
اعلم أولاً أن الغيرين هما كل معلومين ليس أحدهما هو الآخر ولا بعضه.
وقالت المجبرة: هما كل موجودين يصح وجود أحدهما مع عدم الآخر، وهو منتقض بمن يعتقد قدم الأجسام، فإنه يعلم(1) صحة وجود أحدهما مع عدم البعض، وبعد فالكون مغاير للجسم ولا يصح وجود أحدهما مع عدم الآخر اتفاقاً، وبعد فمن علم في الشيئين ما ذكرنا علم تغايرهما وإن لم يخطر بباله صحة وجود أحدهما مع عدم الآخر.
__________
(1) . في نسخة: يعتقد.
وبعد فالتباين في سائر الصفات يدل على الغيرية فلا وجه لتخصيص صفة الوجود بذلك. وبعد فكل شيئين يصح وجود أحدهما مع عدم الآخر فلا بد أن يكون أحدهما ليس هو الآخر أو بعضه، فقد عاد الأمر إلى ما قلناه إذا ثبت هذا كفانا في بطلان قولهم؛ لأن هذه المعاني إذا لم تكن هي الله ولا بعضه كانت غيره لا محالة، والقول بأنها ليست غيره محض المناقضة، وبعد فقد قالوا: إن هذه المعاني خلافه، قالوا: ولا نقول أنها مخالفة له تعالى، وهذا خطل(1) من القول؛ لأنه لا فرق في اللغة بين أن يقول هذا الشيء خلاف هذا وبين أن يقول مخالفة له، واختلاف هذه العبارات لا تحريج عليه، وإذا ثبت أن هذه المعاني مخالفة لله تعالى كانت مغايرة له أولى وأحرى؛ لأنه إذا كان المثلان غيرين فالمختلفان أولى بذلك. وبعد /112/ فلا بد أن تكون هذه المعاني متغايرة في أنفسها كما هي كذلك في الشاهد.
فصل في إبطال قولهم بأنها قائمة بذات الله تعالى
أما الكرامية فقد ذهبوا إلى ما هو المعقول من القيام وهو الحلول فقالوا هي حالة في ذاته تعالى، وكذلك المعاني كالإرادة والكراهة المحدثة وكالكلام عندهم، قالوا: لأنه لا فارق بين القديم والمحدث إلا القدم والحدوث، وهو لا يؤثر في المنع من القيام بالذات، وهو لازم للكلابية والأشعرية، وأما الذين يمنعون من القيام بمعنى الحلول فيقال لهم القيام مشترك بين معان قيام بمعنى الحلول وقيام بمعنى الانتصاب وقيام بمعنى الحفظ، نحو: أفمن هو قائم على كل نفس بما كسبت، وقيام بمعنى الوجود نحو قولهم: السماوات قائمة بالله إلى موجودة به، وقيام بمعنى التكفل والتحمل كما يقال فلان قائم بأمر المساكين وقيام بمعنى التعميد والحياطة كما يقال، فلأن قائم بأمر الأيتام ولا يعقل من القيام غير ذلك، فأي هذه الأقسام تريدون ولا يشتبه الحال في شيء منها.
__________
(1) . خطل: أي باطل.
فصل في شبههم في إثبات المعاني
قالوا: العالم في اللغة مشتق من العلم وإذا صدق المشتق صدق المشتق منه.
قلنا: أول ما في هذا أنه يوصل بالعبارات إلى المعاني، ومن أين أن أهل اللغة إذا قالوا عالم كان قد حصل معنى هو العلم بل الواجب أن يعلم المعاني أولاً، ثم يعبر عنها، المعتمد في ثبوت ما لا يعلم ضرورة من الذوات هو فعله أو حكمه لا العبارات.
يوضحه أنه لا بد أن يمكن الاستدلال على هذا المعنى قبل مواضعه، أهل اللغة وقبل اشتقاقاتهم، وبعد فلا نسلم كون العالم مشتقاً من العلم الذي يريدونه؛ لأن المعنى الذي يثبته المتكلمون غير معقول لأهل اللغة، فكيف يشتقون الاسم من شيء لا يعقلونه وإنما قولهم فلان عالم بكذا، وله علم بكذا، لفظان مترادفان بمعنى واحد، ولهذا يقولون: هل لك علم بكذا أي هل أنت عالم به.
وبعد فهب أن العالم مشتق من العلم، فلم قلتم أنه إذا صدق المشتق صدق المشتق منه أوليس الوجود مشتقاً من الوجود، أولا يدل ذلك على أن الوجود معين، وبعد فهب أنه لم يصدق المشتق منه، فليس يجب أن يثبت المشتق منه لمن أشتق له الاسم، وما أنكرتم أن يشتق الاسم لمسمى من معنى قائم بغيره أو ليس الرازق مشتق من الرزق والرزق إن ثبت معنى، فهو قائم بغير الله، وكذلك المحسن وغيره من الأسماء التي اشتقت لله تعالى من معاني لا يقوم به. يزيده وضوحاً أنا قد اتفقنا على أن الله تعالى إذا وجد كلاماً في سحر أو غيره /113/ فإنه يوصف بأنه متكلم بذلك الكلام، وإن قام، وبعد فهذا قياس الغائب على الشاهد وهو عندهم غير صحيح، وإن كان صحيحاً فهو لا يفيد إلا ظناً ضعيفاً؛ لأنه من باب قياس التمثيل عندهم.
شبهة، قالوا: العالم في الشاهد من له العلم فكذلك في الغايب، قلنا: وكذلك الموجود في الشاهد من له الوجود، فهلا كان الوجود معنى قائم بذات الباري تعالى كالعلم. وبعد فالعالم في الشاهد من له القلب والجسم والعلم المحدث وانحصار المعلومات وجواز الجهل فهلا كان كذلك في حقه تعالى.
وبعد فإن أرادوا طريقة التحديد لم يصح؛ لأن من لا يعلم العالم لم يعلم العلم أولى وأحرى، وأيضاً فهم يحدون العلم بأنه ما قام العالم أو ما يوجب كون الذات عالماً، وهذا محض الإحالة، وهو مناقضة؛ لأن العلة تجب أن يكون غير المعلول، ومتى كان العلم من حقيقته كونه عالماً لم يصح أن يكون علة في كونه عالماً؛ لأنه كيف يصح أن يكون علة في نفسه. وبعد فكان يجب في من علم العالم أن يعلم العلم جملةً وتفصيلاً، وقد ثبت أنه يعلم العالم من لا يعلم العلم كنفاة المعاني.
وبعد، فإنما يجب من الاشتراك في الصفة الاشتراك في المؤثر فيها إذا كان ذلك المؤثر حقيقة فيها كقولنا أسود، فإن السواد حقيقة في هذا الوصف وككونه مدركاً مع كونه حياً أو كانت الصفة تدل على المؤثر كالحدوث يدل على المحدث. وبعد فالطريق إلى العلم في الشاهد إنما هو حصول الصفة مع الجواز، وهذه الطريق لم تحصل في حقه تعالى.
واعترض الباقلاني بأنه لو كان المقتضى للعلم هو الجواز لوجب أن يكون في الجاهل علم بما جهل؛ لأنه في حال جهله يجوز أن يعلم.
والجواب أن هذا الكلام في ظاهر الخطل والتهافت؛ لأنا لم نقل الدليل هو الجواز فقط، بل قلنا حصول كونه عالماً مع الجواز، والجاهل ليس بعالم بما جهله، فضلاً عن أن يكون عالماً له مع الجواز.
قال: ويلزم المعتزلة أن يكون الباقي باقياً ببقاء لأنه بقي مع الجواز.
قالت له المعتزلة: إن الصفة إذا حصلت مع الجواز فإنما يجب أن نعلله بأمر، فإما أن يكون ذلك الأمر هو المعنى فإنما يعلم بطريق الستر، ونحن نعلل صحة بقاء الباقي بما هو عليه في ذاته، فلا يلزم ثبوت معنى.
شبهة، قالوا: قول أهل اللغة عالم إثبات، فإما أن يكون إثباتاً لذاته وهو باطل وإلا كان قولهم ليس بعالم نفياً لذاته /114/ وإما أن يكون إثباتاً لذاته على حال، وهو باطل، وإلا لزم في من يقول ليس بعالم أن يكون باقياً لذاته وللحال، وإما أن يكون إثباتاً للعلم وهو المطلوب.
والجواب: أتريدون أنه إثبات للعلم فقط أو إثبات للذات على العلم الأول باطل؛ لأنا نعلم بالضرورة أن قولنا عالم وصف للعالم لا للعلم، ولولا ذلك لكان العالم هو العلم والقادر هو القدرة، وإذا كان إثباتاً لذاته على علم فما ألزمتموناه في كونه إثباتاً لذاته على حال فهو لازم لكم في كونه إثباتاً لذاته على علم فجوابكم جوابنا.
ثم يقال لهم: ولا يلزم إذا كان قولنا عالم إثبات للذات على حال أن يكون قولنا ليس بعالم نفياً للذات وللحال، بل إنما يكون نفياً للحال فقط، ثم يقال لهم: هذا اعتماد على مجرد عبارة أهل اللغة وهب أن قولهم عالم إثبات للعلم، فهل علموا ما أثبتوه بالضرورة، فكان يجب أن يشاركهم أو بالدلالة، فما هي تلك الدلالة.
وقريب من هذه الشبهة قولهم: علمنا بكونه تعالى عالماً، أما أن يتعلق بذاته أو بها على حال أو بمعنى غيرها إلا أن في هذا إقراراً تكون هذه المعاني أعياناً لله.
شبهة، قالوا: يصح الأمر بأن يعلم والأمر إنما يتعلق بإحداث شيء، وذلك ليس إلا المعنى؛ لأن الصفة ليست مما يوصف بالحدوث، وإذا لم يتعلق الأمر إلا بالمعنى فكذلك الخبر في قولنا زيد عالم والله عالم.
والجواب: أما أبو عبد الله فجعله أمراً بأن نجعل أنفسنا على صفة العالمين، ولكن لما لم يتم ذلك إلا بالعلم كان الأمر بالصفة أمراً به.
قال: وقولهم لا يتعلق الأمر إلا بالأحداث غير مسلم، بل يكفي في ذلك ان يتعلق بما يتجدد؛ لأنه إنما حسن تعلق الأمر بما يحدث؛ لأن الحدوث يتعلق بنا، فكذلك يحسن في كل صفة تتعلق بنا، وإن كانت بواسطة معنى، وإذا كان كذلك كان الخبر أيضاً يتعلق بهذه الصفة، فحيث لا يثبت إلاَّ لمعنى يتعلق الخبر به أيضاً وحيث يثبت من دون معنى يتعلق الخبر بها فقط، وأما سائر الشيوخ فيقولون مسلم أن الأمر إنما يتعلق بإحداث شيء وهو العلم دون الصفة، لكن لم زعمتم أن الخبر كذلك في قولنا الله عالم أو ليس الخبر يصح تعلقه بما هو ثابت مستقر سواء كان ذاتاً أو صفة، وتتعلق بالأحداث وبغيره وبالموجود والمعدوم، والثابت والمنتفي والقديم والمحدث.
وبعد، فيجب أن يعلم أولاً أن العالم عالم بعلم حتى يحسن منا الأمر بذلك المعنى، وإذا تقدم العلم بالمعنى على حسن الأمر بطل الاستدلال عليه بحسن الأمر.
ويقال لهم: كيف تقولون أن الأمر لا يحسن إلا بإحداث شيء، وعندكم أن القدرة المحدثة إنما تتعلق بالاكتساب لا بالأحداث، فهلا كان الأمر بأن /115/ يعلم أمراً باكتساب الحال أو باكتساب الذات على حال.
فإن قالوا: كيف يتعلق بناء ذات الجسم. قلنا: بأن يكتسبوها ويحدثها الله كما في سائر الأفعال، شبهة.
قالوا: العالمية تقتضي العلم في الشاهد بمجردها، فكذلك في الغائب.
الجواب: أن الصفة إذا حصلت مع الوجوب ولم تكن متجددة لم يحتج إلى أمر يعلل به، فضلاً عن أن يكون ذلك الأمر معنى.
وبعد، فإما أن يقتضيه اقتضاء إيجاب أو اقتضاء دلالة، والأول باطل اتفاقاً؛ لأن العلم لو ثبت لكان هو الموجب للعالمية لا العكس، والثاني باطل؛ لأنه إنما يتم لهم دلالتها بمجردها إذا أبطلوا كون الدال حصولها مع الجواب كما تقدم.
شبهة، قالوا: لو كان عالماً لذاته لكان كل عالم كذلك كما أن الجوهر لما كان جوهراً لذاته كان كل جوهر كذلك.
والجواب: يقال لهم: إذا كان تعالى موجوداً لذاته وجب مثله في كل موجود، وجوابهم جوابنا. والتحقيق أنه إنما يجب المشاركة في صفات الذات وتوابعها إذا وقعت المشاركة في الذات وذوات الجوهر متماثلة بخلاف ذوات العالمين.
شبهة، قالوا: العلم علمه لهذه الصفة في الشاهد، فلو حصلت الصفة من دون علم لقدح ذلك في كونه علة كما أنها لما حصلت من دون الشهوة مثلاً دل ذلك عل ان الشهوة ليست علة فيها.
والجواب: أن هذا مبني على أن الصفة معللة في كل موضع، وأنها إذا عللت في موضع بعلة عللت بها في كل موضع ونحن لا نسلم واحداً من الطرفين فنقول إنما تعلل الصفة بأمر منفصل إذا حصلت مع الجواز وتجددت بعد إن لم تكن وعالمية الباري تعالى كم يحصل كذلك فلا يعلل بأمر منفصل، وعن هذا يهرب وهو محل النزاع.
ثم إن سلمنا أنها تعلل فلا نسلم أنها تعلل في كل موضع بالعلم؛ لأن العكس لا يجب عندنا في العلل، وما أنكرتم أن تحصل الصفة بعلة غير العلم ومتى حصل العلم كان علة أيضاً كما أن فساد الصلاة قد تحصل مع زوال الحدث ولا يدل ذلك على أن الحدث ليس بعلة إذا وجد، وكذلك انتفاء السواد قد يكون بالبياض تارة وبالحمرة أخرى وإن لم تكن عللاً حقيقة.
وأما ما ذكروه في الشهوة، فإنما لم يكن في العالمية لا لأنها وجدت من دونها بل لأن الشهوة ليست بصفة العلم وإنما توجب العالمية في الشاهد ما كان بصفة العلم.
فإن قالوا: كيف لا يجب عكس العلل ونحن نعلم أن المتحركية توجد بوجود الحركة وتزول بزوالها، ولا يجوز أن تخلفها علة أخرى.
قلنا: إنما وجب ذلك في الحركة؛ لأن المتحركية لا تعقل إلا في متحيز /116/ وكان الدليل على ثبوت الحركة شاملاً لكل متحيز، ومنع الدليل من صحة أن يكون الجسم متحركاً لذاته أو لغير الحركة.
وبعد فوجود الصفة من دون العلم إنما تدل على أنه ليس بعلة فيها في ذلك الموضع فقط، فمن أين أنه ليس بعلة فيها في غيره، وبعد فوجود الباري تعالى لا يتعلق بالفاعل في الشاهد. وبعد ففي المقدور علوم كثيرة، فهلا دل فقد بعضها على أنه ليس بعلة إذا حصل وخلافه معلوم.
شبهة، قالوا: لو كان عالماً لذاته لكان بصفة العلم لأن العلم إما تبين عما ليس بعلم بإيجابه الصفة.
والجواب لم نرد بقولنا لذاته طريقة التعليل ولو أردناه لما لزمنا ما ذكروه؛ لأن اشتراك الشيئين في الإيجاب لا يقتضي التماثل إلا إذا أوجبنا على حد واحد، وهو غير حاصل هنا؛ لأن ذاته تعالى لو أوجبت الصفة لأوجبتها لنفسها، والعلم يوجبها لغيره، فاختلف الإجابان. وبعد فإنما يقتضي الإيجاب التماثل في حق الذوات التي تكون أخص أحكامها الإيجاب، والباري تعال يخالف مخالفه بأمر أخص من الإيجاب. وبعد فلو كان الاشتراك في الإيجاب يقتضي التماثل لكان علمه تعالى مثلاً لعلومنا بل هذا ألزم لهم لإيجاد الإيجاب.
فإن قالوا: إنا أردنا في أول الشبهة أن يكون تعالى بصفة العلم في كونه علماً لا في المماثلة وهذا حاصل في علمه وعلومنا.
قلنا: إذاً لا يلزمنا ذلك؛ لأن العلم يكون علماً لوقوعه على وجه، لا لإيجابه الصفة.
وقولهم في الشبهة أن العلم إنما تبين عما ليس بعلم بإيجابه الصفة غير مسلم، بل باقتضائه لسكون النفس.
شبهة. قالوا: مخالفة القدرة للعلم ليس بأكثر من مخالفته تعالى للعلم، فكما لا توجب القدرة العالمية فذلك لا توجبها ذاته.
والجواب: ما قدمنا ذكره في الشهوة، ومن أن المراد ليس طريقه التعليل، ومن المعارضة بالوجود ونعارضهم أيضاً فنقول: ليست مخالفة القدرة لعلومنا بأكثر من مخالفة علمه لعلومنا، فكما لا يوجب القدرة العالمية لا توجبها علم مخالفة لعلومنا، وجوابهم جوابنا.
شبهة، قالوا: دلالة العقل المحكم في الشاهد إما أن يكون دلالة على ذاته وهو باطل بالاتفاق أو على حال لذاته، وتكون تلك الحال دالة على العلم، وهو باطل؛ لأنه ليس بأولى من عكسه، وهو أن يدل على العلم والعلم يدل على الحال وهو المطلوب.
والجواب: بل ما ذكرناه أولى من العكس؛ لأن صحة الأحكام صدر عن الجملة، فلا يصح أن يدل على العلم؛ لأنه يختص بعض الجملة، ويجب أن يدل على أمر راجع إلى الجملة، وهو الصفة، ثم يستدل بحصول الصفة مع الجواز على ثبوت العلم. ثم يقال لهم: إذا لم يكن للشاهد فعل فكيف يصح الاستدلال بالأحكام من جهته على أن له علماً، ثم يقاس الغايب عليه، هذا ما لا يتأتى لكم.
شبهة /117/، قالوا: لو كان قادراً عالماً لذاته لكان الذي به قدر هو الذي به علم، وفي ذلك كونه قادراً على ذاته كما أنه عالم بذاته.
والجواب: وهي ليس يلزم إذا كان المقتضى لصفتين واحداً أن يكون حكمهما واحداً.
يوضحه: أن التحيز يقتضي أحكاماً كثيرة كاحتماله للغرض وصحة إدراكه بحاستين، وشغله للجهة، ومعلوم كون هذه الأحكام مختلفة، وتحقيقه أنه إنما يكون قادراً لذاته على ما يصح كونه مقدوراً، ويعلم لذاته ما يصح كونه معلوماً، وذاته يصح كونها معلومة، ولا يصح كونها مقدورة.
شبهة: قالوا: يستحيل حصول العالمية من دون ما يصححها، وهي الحييه، فكذلك يستحيل حصولها من دون ما يوجبها، وهو العلم؛ لأن الموجب أقوى من المصحح.
والجواب: أن كونه حياً يصحح العالمية شاهداً وغائباً، وأن العلم لا يوجبها شاهداً وغائباً، وقولهم: أن الموجب أقوى من المصحح لا نسلمه؛ لأن المصحح يوجب صحة الحكم، ويلزمه صحة الحكم، كما أن الموجب يوجب الحكم ويلزمه الحكم فهما سواء، وإن سلمنا أن الموجب أقوى فذلك لا يقتضي تساويهما في محل النزاع، والعبرة في ذلك بالأدلة.
وبعد فنحن نقول يستحيل حصول العالمية من دون ما يوجبها، لكن الموجب لها في حقه تعالى يخالف الموجب لها في حقنا، وهو ذاته تعالى كما أن المصحح قد يختلف اتفاقاً. يزيده تأكيداً، أن المصحح لقيام المعاني بنا هو التحيز، وفي حق الباري تعالى عندهم هو الذات.
شبهة: قالوا: لو علمنا بكونه تعالى قادراً يخالف علمنا بكونه عالماً، فلا بد أن يكون متعلق هذين العلمين مختلفاً، وليس إلا العلم والقدرة؛ لأن الذات واحدة.
والجواب: إنما اختلفا لأن كل واحد منهما تعلق بالذات على حال في حكم المخالفة للأخرى، ثم يقال لهم: هذا إقرار بأن المعاني القديمة متغايرة؛ لأن المخالفة أبلغ من المغايرة، وبعد فقد قال الرازي في كتاب الأربعين مستدلاً على أنه تعالى عالم بجميع المعلومات أنه تعالى حي، ومن كان حياً صح أن يعلمها أجمع، قال: والموجب لعالميته هو ذاته ونسبة الذات إلى الكل على السوية، فانظر كيف رجع إلى قول المعتزلة عند صدق الخناق، وهو ممن يثبت المعاني، فهلا قال بأنه عالم لذاته وترك معانيه هذه.
شبهة سمعية، قالوا: قال تعالى: {أنزله بعلمه} ولا يضع إلا بعلمه، {ولا يحيطون بشيء من علمه}.
والجواب: أن العلم بصحة السمع يقف على العلم بأنه عالم لذاته؛ لأنه إذا كان عالماً بعلم، انحصرت معلوماته، فلا يكون عالماً بكل القبائح، وبعد فالعرب إنما يستعملون العلم بمعنى العالم أو بمعنى المعلوم، فيقولون: جرى هذا بعلمي أي وأنا عالم به، ولا يعقلون المعنى الذي يثبته المتكلمون؛ لأنه إنما يعرف بتأمل كبير /118/ والله تعالى إنما يخاطبهم بما يعقلونه، وتقديره أنزله وهو عالم به، ولا يضع إلاَّ وهو عالم. وبعد فالظاهر متروك؛ لأن الباء في مثل هذا للالصاق بما هو آلة للفعل نحو كتبت بالقلم، فلو كان المراد بالعلم المعنى لكان علمه تعالى آلة في الإنزال والوضع، وأما قوله: {ولا يحيطون بشيء من علمه} فالمراد من معلوماته تعالى كما يقال هذا علم أهل البيت عليهم السلام، وعلم أبي حنيفة رضي الله عنه، أي معلومة، وكقولهم: اللهم اغفر علمك فينا أي معلومك، ولأن من للتبعيض والمعنى الذي يثبته المتكلمون لا يتبعض، ولأن الاستثناء لا يصح إلا إذا حمل على المعلوم، وتقديره بشيء من معلومه إلا بما شاء، فلولا ذلك لكنا قد أحطنا بنقص علمه القائم بذاته، وهو محال.
وأما معارضة أصحابنا لهم بقوله تعالى وفوق كل ذي علم عليم، فلا يستقيم؛ لأن لهم أن يقلبوا علينا فيقولوا عندكم أن العلم هنا بمعنى العالم، فيلزم أن يكون فوق كل عالم عليم، فلا يكون بد من التأويل.
واحتجوا لإثبات القدرة بقوله تعالى: {ذو القوة المتين}، وقوله: {هو اشد منهم قوة} ونحو ذلك. والجواب ما تقدم من أن العرب لا يعقلون معاني المتكلمين وإنما يستعملون للقدرة بمعنى الإقتدار، فيقولون القدرة لله تعالى، أي الاقتدار، ويقولون لفلان قدرة على كذا، أي هو قادر عليه، ولأن الظاهر متروك من حيث أن الشدة والمتانة إنما يستعملان في الأجسام.
فصل
في أنه لا يجوز أن يستحقها لمعان محدثة كما يقوله هشام بن الحكم في كونه عالماً، والذي يبطله أن هذه الصفات ثابتة لم تزل فلا يؤثر فيها ما هو متأخر عنها، ولأن محدثها لا بد أن يكون هو الله تعالى، وهو لا يحدثها إلا بعد أن يكون مختصاً بهذه الصفات، والذي يشتبه ما يقوله ابن الحكم وأبو البركات من الفلاسفة من أنه عالم بعلم محدث ويبطله أن العلم اعتقاد واقع على وجه مخصوص كما تقدم، ولا يصح وقوعه على ذلك الوجه إلا من عالم؛ لأنه كيف يقع من ناظر أو متذكر نظر أو ملحق لتفصيل يحمله من دون عقل، وعلم بالدليل، ووجه دلالته، ومن دون علم بالتفصيل، والجملة وكيفية الإلحاق.
فإن قيل: إنه يعلم المعلومات الأزلية لذاته، وإذا كان عالماً بها صح أن يحدث علماً بهذه المعلومات المحدثه، قلنا إذا كان عالماً بعض الأشياء لذاته علم جميع المعلومات إذ لا اختصاص للذات بمعلوم دون معلوم، فلا يحتاج إلى علم محدث، ولأنه لو أحدث لنفسه علماً لأوجده لا في محل كالإرادة، ولو قدر على علم لا في محل لقدر على جهل لا في محل، إما بدلاً من العلم وإما متعلقاً بغير ما يتعلق به العلم، فيوجب له ذلك الجهل كونه جاهلاً، وهو محال بالاتفاق.
شبهتهما /119/ من جهة العقل أنه تعالى لم يكن عالماً بوجود الأشياء لم يزل، وإنما يعلم وجودها حال يوجد؛ لأن العلم تابع للمعلوم.
واختلف في الجواب، فقال الشيخ محمود المرجع بكونه تعالى عالماً إلى تعلق ذاته، وهذا التعلق يتجدد بتجدد المتعلق فذاته تعالى توجب له هذا التعلق بشرط ثبوت المتعلق، وبهذا نفارق القائلين بالعلم المحدث لأنهم يثبتونه معنى بالفاعل.
وقريب من هذا قول أبي الحسين إلا أنه يقول ببقاء التعلق الأول، قال: لأنه تعالى يعلم للشيء حالة عدم، ثم حالة وجود بعد ذلك العدم، وهو مستمر.
وحكي عن الشيخ أبي علي ما هذا لفظه: أنه وإن كان عالماً لنفسه فإنه إنما يوصف بأنه عالم بوجود زيد عند وجوده من حيث تعلق علمه بوجوده كما أنه وإن كان مدركاً لنفسه فإنه إنما يوصف بأنه يدرك المدركات عند وجودها لتعلق كونه مدركاً بوجودها.
وهذا الكلام يحتمل وجهين: أحدهما أن يريد أن العالمية متجددة بتجدد التعلق كالمدركية، وذلك لا يقدح في كونها للنفس أو مقتضاة؛ لأنها متعلقة، والمتعلقة تتجدد بتجدد متعلقها ككونه مدركاً. ومتى قيل له هذا يؤدي إلى خروج الموصوف عن صفته المقتضاة أو الذاتية أجاب بأن الصفة إذا كانت مشروطة بثبوت المتعلق لم يمتنع زوالها عند زواله، وإن كانت ذاتية أو مقتضاة، وهذا الوجه غير سديد؛ لأنه مع مخالفته لأصول الجمهور، فإنه يؤدي إلى أن يكون له بكونه عالماً صفات كثيرة.
الوجه الثاني أن الصفة واحدة مستمرة والتعلق يتحدد فتكون متعلقة بأن الشيء سيوجد، فإذا وجد زال التعلق الأول وصارت متعلقة بوجوه، وهذا قريب، وقد صرح به ابن الملاحمي في (الفائق) عن أبي علي، وما ذكره الفقيه قاسم بن حميد صاحب تعليق شرح الأصول من أنه لو تجدد التعلق لكان لا بد أن يتماثل التعلقان، وإنما يتماثلان باتحاد المتعلق، ومع اتحاده لا يحتاج إلى تحدد التعلق فهو غير سديد، ولقائل أن يقول: إن مماثلة التعلق الثاني للأول لا يمنع من ثبوت الثاني إذا قام عليه دليل، وقد قام الدليل هنا فإنا إذا علمنا أن الشيء سيوجد ثم علمنا وجوده، فإنا نجد مزية لم تكن فلا أقل من أن تكون تلك المزية الحاصلة تعلقاً متجدداً للصفة إذا بطل أن يكون المتجدد هو الصفة. ثم يقال له: وما أنكرت أن يختلف التعلقان لاختلاف متعلقهما من حيث أن أحدهما تعلق بأنه سيوجد والآخر تعلق بأنه وجد.
فإن قال: هذا يؤدي إلى أن العلم بأنه سيوجد غير العلم بأنه وجد.
قيل له: إن أردت أن العالمية غير /120/ العالمية فلا نسلمه، وإن أردت أن التعلق غير التعلق فهو محل النزاع، فلم منعت منه؟ وقد أجاب جمهور الشيوخ عن أصل الشبهة بأن العلم بأن الشيء سيوجد علم بوجوده إذا وجد وخالفهم أبو الحسين، فقال هما علمان.
واستدل الجمهور بأنا إذا علمنا أن الشمس ستطلع غداً ثم قدرنا بقاء هذا العلم حتى طلعت لم يكن بد من أن يتعلق؛ لأن في خلاف ذلك انقلاب جنسه، فإما أن يتعلق بأنها ستطلع وهو محال؛ لأنها قد طلعت، وإما أن تتعلق بطلوعها، وهو المطلوب، وهذا الدليل لا يستقيم في علم الشاهد؛ لأن عند الجمهور أن العلوم لا تبقى، وإذا كان كذلك لم يكن بد من أن يكون العلم بوجوده غير العلم بأنه سيوجد؛ لأن العلم بأنه سيوجد قد عدم في تأتي وجوده، فأما في عالمية الباري تعالى فالدليل قوي، لكنه لا بد من أن يبنى على تجدد التعلق.
واستدلوا أيضاً بأنهما لو كانا علمين لكانا متولدين عن نظر واحد حيث يكونان نظريين ولجاز أن يجهل وجوده مع العلم أنه سيوجد. ويمكن اعتراضه بأن للخصم أن يجعلهما نظريين، ويلتزم جواز الجهل بوجوده مع العلم بأنه سيوجد، ولهذا لو أخبرنا نبي صادق بأن زيداً سيموت إذا ظهر على نبي معجز، فإنا من يأتي حال الخبر يشك في هل مات زيداً أم لا مع أنا لا نشك في أنه سيموت، فإذا نظرنا فعلمنا أن الله أظهر معجزاً على هذا المدعي للنبوة علمنا وقوع الموت بعلم ثان، كما إذا نظرنا في أن الفعل ظلم علمنا قبحه بعلم ثان.
حجة أبي الحسين أن العلم بأن الشمس ستطلع لو كان علماً بطلوعها لعلمنا ذلك، وإن كنا في بيت مظلم.
ويمكن الجواب بأنا إنما لم نعلم طلوعها والحال هذه؛ لأنه لم يتجدد لعلمنا تعلق بطلوعها، ونحن قد بينا أنه لا بد أن يتجدد تعلق لهذا العلم حال وجود المعلوم، ومتى قيل فهل يجوز ان يكون تعلق العلم بأنها ستطلع باقياً حال طلوعها.
قلنا: يجوز ذلك، ولكنها متى طلعت والتعلق باق صار العلم جهلاً لتعلقه بالشيء لا على ما هو به، وذلك جائز، وهو يريده الشيوخ بقولهم أن العلم من جنس الجهل، وهذا الجواب كله إنما يستقيم على القول ببقاء العلوم، فإما مع القول بأنها لا تبقى فالقول ما قاله أبو الحسين من أنهما علمان، ولا بد للجمهور من الاعتراف بذلك.
قال أبو الحسين رحمه الله تعالى: العلم بأن الشيء سيوجد لا يقوم مقام العلم بوجوده، ولهذا يشك في أنه هل وجد حيث لا يشك في أنه سيوجد.
ويمكن الجواب بما تقدم من أنه علم واحد، ولكن له تعلقات لا يقوم أحدهما مقام الآخر. قال رحمه الله تعالى: اختلاف المتعلق عندكم يدل على اختلاف العلوم، وهذه المتعلقات مختلفة من حيث أن كون الشيء مما سيوجد مخالفاً لكونه مما وجد، وفي اختلاف العلوم تغائرها، ويمكن الجواب /121/ بأن اختلاف المتعلق إنما يدل على اختلاف العلوم إذا كانت علوماً، فأما وهو علم واحد فاختلاف متعلقه إنما يدل على اختلاف التعلق، ونحن نلتزمه كما تقوله أنت في تعلق الذات بالمعلومات.
شبهتهما من جهة السمع قوله تعالى حتى نعلم المجاهدين منكم، وقوله تعالى: {الآن خفف الله عنكم وعلم أن فيكم ضعفاً}، ونحوها من الآيات.
والجواب إما مع القول بتجدد التعلق فلا كلام، وأما مع القول بأنه لا يتجدد، فقد تقدم أن العلم في اللغة يستعمل بمعنى العالم، والمعلوم فقط، فيكون تقديره حتى يقع الجهاد المعلوم، والآن وقع الضعف المعلوم، إلا أن هذا ما لا يطرد في نحو قوله تعالى: {ليعلم الذين نافقوا..} الآية، فكيف يكون غرض الحكيم وقوع النفاق. وأما قوله تعالى: {لعله يتذكر أو يخشى}، وقوله تعالى: {لعلكم تتقون}، ونحو ذلك، فلا يدل على جهله تعالى في تلك الحال؛ لأن لعل هنا ليست بمعنى الترجي، وإنما هي بمعنى كي فطرب، وأبو علي، واستشهدا قول الشاعر:
نكف ووثقتم لنا كل موثق .... فقلنا لهم كفوا الحروب لعلنا
وقال غيرهما: معناه قولا له قول راج لتذكره، فالترجي راجع إلى موسى وهارون عليهما السلام، وكذلك قوله تعالى: {لعلكم تتقون}، معناه اعبدوا عبادة متق إلاَّ أن هذا لا يشمل مواقع لعل في القرآن من نحو عفونا عنكم لعلكم تشكرون.
وقد قيل في معناه أنه تعالى شبه ما فعله لنا من الألطاف والتكليف بفعل التراخي الطامع في صلاحنا، وإن لم يكن رجاء حقيقياً وشاهده قوله تعالى: وتتخذون مصانع لعلكم تخلدون، أي تفعلون فعل راج للخلود طامع فيه وإن كنتم تعلمون أنه لا خلود.
فصل في أنه تعالى يستحق هذه الصفات الأربع ما لم يزل، وفي ما لا يزال،
وقد زعم جهم أنه تعالى لا يعلم المعدومات، وبه قال ابن الحكم.
لنا: أما على القول بأنها ذاتية فظاهر لما تقدم من أن خروج الموصوف عن صفة ذاته، لا يجوز، وإما على القول بأنها مقتضاة فلأنها مقتضاة بشرط مستدام، فأما كونه مدركاً فإنها مقتضاة بشرط متجدد، وهو وجود المدرك، فلذلك لم يثبت في ما لم يزل.
فصل في أنه تعالى عالم بجميع أعيان المعلومات
يدل عليه أنه يصح أن يعلمها أجمع لأنه تعالى حي، وإذا صح وجب؛ لأن المصحح ملازم للموجب، وهو ذاته تعالى أو ما هو عليه في ذاته بخلاف الواحد منا، فإنه وإن صح أن تعلمها أجمع لكن لا يجب من حيث ان المصحح هو كونه حياً، والموجب هو العلم، ولا تجب ملازمة الموجب للمصحح.
وبعد فالله تعالى عالم لذاته ولا اختصاص لذاته /122/ بمعلوم دون معلوم، فيجب أن يعلمها أجمع، فإذا وجب أن يعلمها أجمع فإنه يجب أن يعلمها على الوجوه التي يصح أن يعلم عليها من جملة وتفصيل، ومشروط وغير مشروط، وقد ذهب الشيخ أبو هاشم إلى أن الله تعالى لا يعلم جملة، وإنما يعلم مفصلاً، وهو مبني على مذهبه في أن الجملي هو التفصيلي، وذهب جهم إلى أنه تعالى لا يعلم الشيء مشروطاً. قال: لأنه يعلم هل يحصل الشرط أم لا.
لنا أنه تعالى أخبر محمداً عليه السلام بأنه إن أشرك حبط عمله، بأن محمداً لا يشرك ينافي علمه بأنه إن أشرك حبط عمله، ومثل هذا أخباره عليه السلام بأن صلة الرحم تزيد في العمر ونحو ذلك.
فصل
في أن الله تعالى قادر على جميع أجناس المقدورات دليله ما تقدم في أنه تعالى عالم بجميع أعيان المعلومات سواء، ولكن الفرق من جهة الأعيان والأجناس، فإنه تعالى يعلم جميع الأعيان لصحة معلوم بين عالمين، ولا يقدر على أعيان مقدورات العباد لامتناع مقدور بين قادرين، ولكنه يقدر على أجناسها، وهذا هو مذهب الجمهور من الشيوخ، وذهب أبو الهذيل ومحمد بن شبيب وأبو يعقوب وأبو الحسين ومحمود وأكثر أهل الجبر إلى مقدور بين قادرين.
والخلاف في هذه المسألة واقع من طريقين: أحدهما في مقدور بين قادرين من جهة واحدة بأن يكون له وجود واحد يتعلق بالقادرين، والثانية في صحة مقدور بين قادرين من جهتين بأن يكون له وجودات كثيرة تتعلق بعضها بقادر، والبعض الآخر بقادر آخر.
أما الطريق الأولى فاستدل الجمهور على امتناعها بأن حكم كل قادرين صحة اختلافهما في الدواعي، وإلا لم يفترق الحي الواحد من الحيين، فكان يصح أن يدعو زيداً الداعي إلى إيجاد فعل، ويصرف عمراً الصارف عن وجوده، فيكون موجوداً من جهة زيد؛ لأن حق القادر أن يقع فعله عند توفر دواعيه، ومعدوماً من جهة عمر، ولأن من حق القادر أن لا يوجد فعله عند صارفه فيكون موجوداً من جهة زيد معدوماً من جهة عمر، وكون الفعل الواحد موجوداً معدوماً محال.
واعترض بأنه إنما يكون موجوداً فقط؛ لأن معنى كونه معدوماً من جهة عمرو هو أنه يجب أن لا يقع من جهته عند توفر صوارفه، وليس كونه غير واقع من جهته يمنع كونه واقعاً من جهة غيره، وحال وقوعه من جهة زيد يخرج عن كونه مقدوراً لهما جميعاً؛ لأنه قد وجد.
وأجاب المتأخرون من أصحابنا بأنه يجب أن يكون موجوداً معدوماً من جهة كل واحد منهما لأنا إذا فرضنا مقدور زيد وجوده ومقدور عمرو لا يوجد وفرضنا أن كل واحد /123/ من هذين المقدورين يتعلق بالقادرين كليهما لزم صحة حصول المقدورين من كل واحد من القادرين فيوجد ولا يوجد من جهة كل واحد منهما.
قالوا: وله مثال أجلى من هذا وهو أن يريد زيد إيجاد حركة في هذا الجوهر، ويريد عمرو إيجاد سكون فيه، وكل واحد من الحركة والسكون متعلق بكل واحد من القادرين، ويكون متحركاً من جهة زيد من حيث أراد تحريكه، وساكناً من جهته من حيث أنه مقدور عمرو متعلق به، وكذلك العكس، ويمكن أن يعترض بأن الحركة والسكون إنا تتعلقان بزيد على البدل، وكذلك بعمر فإذا وجدت الحركة من جهة زيد لتوفر دواعيه لم يلزم أن يوجد السكون من جهته؛ لأنه إنما كان مقدوراً له قبل وجود الحركة، وهذا حكم كل ضدين يتعلقان بالقادر سواء تعلقا بقادر آخر أم لا.
دليل آخر للجمهور، قالوا: لو وجد عند توفر دواعي زيد مع قيام صارف عمرو لكان عمرو فاعلاً له مع كراهته له؛ لأنه وجد ما كان قادراً عليه، وذلك هو حقيقة الفاعل، ويمكن أن يعترض بأنه إنما يكون فاعلاً إذاوجد ما كان قادراً عليه من جهته، وذلك من تتمة حد الفاعل. دليل: قال الجمهور لو وجد الفعل من جهة قادرين لما انفصل عن وجوده من جهة قادر واحد إذ لم يختص أحدهما بتأثير ليس للآخر.
واعترضه ابن الملاحمي بأن الفصل يظهر بالتمانع فيكون الفعل الصادر من قادرين أولى من ضده الصادر من قادر واحد.
وفيه نظر إلا أن يبني على تزايد الوجود وسيأتي في الطريق الثانية.
قال: وكلام الجمهور معارض بطروّ جزئين من البياض على جزء من السواد، فإنهما ينفيانه على حد لا ينفصل عن انتفائه بأحدهما.
دليل: قال الجمهور، لو تعلق الفعل بقادرين لصح أن يقدر الله تعالى عليه مبتدأ ولا يقدر أحدنا عليه إلا مسبباً، وفي ذلك كونه محتاجاً إلى المسبب غير محتاج.
واعترضه ابن الملاحمي بأنه لا يمتنع احتياجه إلى السبب في حال دون حال، وبهذا اعترض قولهم لو تعلق بقادرين لما صح أن يوجداه في محل قدرتيهما، وإلا كان مثلاً للتأليف، وإذا فعله أحدهما مباشراً والآخر مسبباً أدى إلى أن يكون محتاجاً إلى السبب غير محتاج.
وأما الطريقة الثانية، فقد استدل الجمهور على امتناعها بأنه لو تزايدت الوجودات حتى يصح تعلق بعضها بقادر والبعض الآخر بقادر آخر لصح أن يدعو أحد القادرين الداعي إلى الإيجاد دون الآخر فيكون موجوداً معدوماً.
قال أبو الحسين: أيلزمون الخصم التسمية أو المعنى، وكلاهما لا يلزم، أما التسمية للخصم /124/ أن يقول إلى اسمية موجوداً لحصول صفة الوجود له، ولا اسمية معدوماً لانتفاء صفة الوجود الأخرى كما اسمى الجوهر أسود لحصول سواد فيه، وإن لم يحصل سواد آخر، وكذلك اسمية كائناً لحصول كائنية فيه، وإن لم تحصل كائنية أخرى.
وأما المعنى فللخصم أن يقول أتريدون بكونه موجوداً معدوماً أنه حصل علىإحدى صفتي الوجود دون الأخرى فهو صحيح فما المانع منه أو تريدون أنه ليس له صفة وجود قط، فغير صحيح؛ لأنه كيف يقول القائل إذا كان لهذا الشيء صفة وجود بأحد القادرين لم يكن له صفة وجود قط، وهل هذا إلا كأن يقول إذا كان زيد في الدار لم يكن في الدار.
دليل: قال الجمهور: لو تزايدت صفة الوجود وحصل بعضها لم يكن بأن تظهر عندها الصفة المقتضاة أولى من أن لا يظهر.
واعترضه ابن الملاحمي بأن ظهورها أولى لحصول الوجود الذي هو شرط، ولا يضر فقد صفة أخرى، لو حصلت لكانت شرطاً كما أن الحياة شرط في العلم، ومتى حصلت صح وجود العلم، وإن فقدت حياة أخرى. ومتى قيل له أن الوجودات كلها شرط، أجاب بأن هذا وإن كان ضعيفاً فإنه يبطل السؤال من أصله؛ لأنه يصير عدم ظهور المقتضاة أولى لفقد شرطها، وهو جميع الوجودات فلا يستقيم قولهم في الدليل لا يكون بأن تظهر عند بعض الوجودات أولى من أن لا تظهر.
دليل: قال الجمهور لو جوزنا تزايد صفة الوجود لكنا قد جوزنا صفة حصولها كان لا يحصل، وذلك محال.
ويمكن أن نعترض بما تقدم من أن لحصولها تأثير في المنع، ويمكن الجواب بأنه لو كان كذلك لصح أن يمنع أحدنا عشر حركات تحركه واحدة لها عشر وجودات. ويمكن أن يعترض بأنكم إن أردتم عشر وجودات من عشرة قادرين، فصحيح على مذهب الخصم وإن أردتم بقادر واحد، فكيف يصح وعندكم أن القدرة الواحدة لا تتعدى على التفصيل الوجود الواحد.
والأحسن في الجواب أن يقال أن التمانع يقع لا لأجل التنافي والتنافي هو لأجل الصفة المقتضاة، وهي لا تتزايد اتفاقاً، فلا يكون لتزايد الوجود تأثير في المنع؛ لأن المنع يستند إلى ما يتزايد فيكون تزايد الوجود كلا تزايد ويستقيم الدليل.
دليل: قال الجمهور: لو صح تزايد الوجود حال الحدوث لصح حال البقاء، ولصح أن يبدأ أحد القادرين فيكسب الفعل صفة وجود، ثم يأتي، قادر آخر بعد فيكسبه وجوداً آخر حال بقائه، وفي ذلك اتخاذ الموجود وهو محال.
ويمكن أن يعترض بأن ما تعلق بالقادرين يتبع حال الحدوث، فلا يصح تزايد الوجود حال البقاء.
فصل
لا معنى لمكالمة أهل الجبر في مقدور بين قادرين وإن كانوا يقولون به.
أما الجهمية فلأنهم يجعلون القادر واحداً وهو الله تعالى. وأما أهل الكسب فهم كالجهمية سواء في المعنى وإن خالفوا في العبارة، وكذلك اهل القول بالقدرة الموجبة من حيث أن فاعل السبب فاعل المسبب، وإذا كان عند جميعهم أنه لا فاعل إلا الله فلا معنى لقولهم مقدور بين قادرين.
شبهتهم أنه إذا أقدرنا الله تعالى على فعل فهو بأن يقدر عليه أولى. والجواب معنى أن الله تعالى أقدرنا عليه عندكم أنه خلق فينا الفعل وخلق فينا قدرة مقارنة له أو خلق فينا قدرة موجبة له، وإذا كان كذلك لم يكن قد أقدرنا عليه، وإلا لزم أن يكون قد أقدر المرمي به من شاهق على الهُوِيَّ بأن خلق فيه قدرة مقارنة له أو فعل فيه ما يوجبه، وهو الثقل، وكل هذا باطل، فأما على أصلنا فهو تعالى وإن أقدرنا على الفعل لم يلزم من ذلك أن يكون قادراً على متعلق تلك القدرة لاستحالة ذلك لولا هذا لوجب إذ خلق فينا شهوة متعلقة بشيء أن يكون هو مشتهياً له أولى وأحرى.
وأرك من هذه الشبهة قولهم إذا صح مملوك بين مالكين صح مقدور بين قادرين؛ لأن المعنى كون المملوك بين المالكين أن لكل واحد منهما أن يصرفه نوعاً من التصرف ويستخدمه نوعاً من الاستخدام، وما فعله المملوك لأحدهما غير ما فعله للآخر، ويقال لهم: إذا جاز تعلق المقدور بقادرين من جهتين حدوث وكسب فهلا جاز تعلقه بهما من جهة واحدة كالمراد والمعلوم.
ويقال لهم: هلا صح أن يتعلق بأكثر من قادرين فلم منعتم منه، وقد فقد الحاضر كالمراد والمعلوم والمملوك.
ويقال لهم: إذا جاز فعل من فاعلين فهلا جاز ظلم من ظالمين، وكذب من كاذبين، وكلام من متكلمين، ونحو ذلك.
فصل
إن قيل: المجوزون من شيوخكم مقدوراً بين قادرين بماذا يعلمون أن أفعالهم منهم لا من الله تعالى، وهلا جاز أن يكون كلام أحدهم منه ومن الله تعالى وسائر أفعاله.
والجواب: أن هذا السؤال لا يختص المجوزين المقدور بين قادرين، بل يقال للجمهور أيضاً: ما أنكرتم ان يكون الله تعالى فعل فيكم مثلا كلامكم، ومثل مشيئتكم، فالمانع من ذلك شامل على المذهبين جميعاً. وقد ادعى المجوزون لمقدور بين قادرين وغيرهم الضرورة في الفرق بين فعلهم وبين ما يفعل فيهم.
واستدل الباقون بطريقين إحداهما أنا نعلم ضرورة وقوف أفعالنا على أحوالنا، ولو كانت مفعولة فينا لكنا محمولين عليها.
والثانية دليل العدل والحكمة وسيتضح.
القول في أن الله تعالى مريد وكاره
المريد: هو المختص بصفة لمكانها يصح أن يوقع الفعل على وجه دون وجه إذا كان مقدوراً له.
قلنا: إذا كان مقدوراً له ليدخل كونه مريداً لفعل الغير، فالكاره هو المختص بصفة لمكانها يصح منه إيقاع كلامه نهياً ونحوه، وكان أبو علي وأبو هاشم أولاً يحدون المريد بأنه من وجدت إرادته بحيث تتعاقب هي وضدها.
ويبطله ما ثبت من صحة خلق الحي عن الإرادة والكراهة، وعن الشيء وضده وايضاً فقد يعلم المريد من لا يعلم الإرادة، وإلا كنا لا نحتاج إلى إقامة الدلالة على الإرادة بعد العلم بالمريد.
وحده أبو القاسم بأنه فاعل الإرادة، ولهذا لم يقل بأن الله تعالى قادر على الإرادة لما كان غير مريد على الحقيقة عنده، ويبطله أنه ليس للفاعل بكونه فاعلاً حال بخلاف المريد، وبأنه كان يلزم صحة أن يفعل الإرادة في جزء من قلبه ، والكراهة في جزء آخركالحركة والسكون، وأيضاً فأحدنا يجد من نفسه كونه مريداً بل قد يضطر إلى ذلك من غيره، وإن لم يخطر بباله الفعلية، وأيضاً فالمرجع بكون أحدنا مريداً إلى الشهوة عنده وهي غير مقدورة لنا.
فصل
وللمريد بكونه مريداً حال، وكذلك الكاره، والعلم بها على الجملة ضروري، فإن أحدنا يجد من النفس التفرقة بين كونه مريداً وبين كونه غير مريد، وقد يضطر إلى ذلك من غيره، وإنما الخلاف في تفصيلهما، فذهب جمهور شيوخنا إلى أنها زائدة على الداعي، والداعي والصارف، وقال الكعبي والبغدادية: المرجع بهما إلى الشهوة والنفرة.
لنا ما تقدم في نظائره من أنه لا يمكن المرجع لهذه التفرقة إلا إلى حال.
وبعد فقد ثبت استحالة كون أحدنا مريداً للشيء كارهاً له، وإن اختلف محل الإرادة والكراهة فلا وجه لذلك إلا حصوله على صفتين ضدين، وبعد فلكونه مريداً تأثير في وقوع الفعل على الوجوه المختلفة فلا بد من حالة ترجع إلى الجملة ويبطل قول ابن الملاحمي أن إرادة القبيح وكراهة الحسن يقبحان بخلاف الداعي إلى القبيح والصارف عن الحسن حيث يكونان من قبيل العلوم لا سيما الضرورية، وبعد فالإرادة والكراهة تتضادان بخلاف الداعي والصارف، ولهذا يجتمع الداعي والصارف في الطعام المسموم في حق الجائع.
ومن قوي ما يمكن أن يقال له أن داعي القديم ثابت في ما لم يزل، ومعلوم أنه غير مريد في ما لم يزل، وإلا كان مريداً لذاته، والمعنى قديم وهو لا يقول به.
ويبطل قول البغداديين /127/ أن الشهوة والنفار لا يكونان إلا حسنين بخلاف الإرادة، وكذلك الشهوة والنفار غير مقدورين بخلاف الإرادة والكراهة، ويتعديان في التعلق في جميع الأجناس المدركات والإرادة والكراهة لا يتعديان الحدوث وتوابعه في المدرك وغيره، وإنهما يثبتان مع السهو والنوم بخلاف الإرادة والكراهة ويستحيلان على الله تعالى بخلاف الإرادة والكراهة ولا يتعلقان إلا على التفصيل بخلاف الإرادة والكراهة ولا يؤثران في وقوع الفعل على وجه بخلاف الإرادة والكراهة. وبعد فأحدنا يريد ما لا يشتهيه كشرب الأدوية الكريهة والفصد، ويشتهي ما لا يريده كالزنا وشرب الخمر والأكل في رمضان.
فصل
وهذه الصفة تثبت لمعنى هو الإرادة؛ لأنها تثبت مع الجواز والحال واحدة والشرط واحد، فلا بد من أمر، وليس إلا وجود معنى على ما مر في نظائره.
فصل
وحيث لا تعلم هذه الصفة ضرورة فإنا نعلم ثبوتها في حق المختص بها بطريقين:
إحداهما: أن العالم بما يفعله إذا كان فعله مقصوداً في نفسه ولم يمنع من إرادته فإن الذي يدعوه إلى فعله يدعوه إلى إرادته، وذلك ضروري في الشاهد، فإن الذي يدعوا أحدنا إلى الأكل يدعوه إلى إرادته.
واعتبرنا أن يكون عالماً بما يفعله أي ليس في حكم الساهي عنه؛ لأنه متى كان ساهياً عنه استحال أن يريده، فضلاً عن أن يحب إرادته، واعتبرنا أن يكون الفعل مقصوداً في نفسه احترازاً مما يسمى جنس الفعل، وهو الذي لا يقع إلا على وجه واحد، ولا يفتقر في وجوده إلى أزيد من القدرة من القدرة كالإرادة نفسها، وكرد الوديعة ونحو ذلك، فإنه لا يجب أن يراد وإن صح ذلك، وكذلك الألم الحاصل عند القصد وانتقاص التراب عند الجلد.
وبالجملة فكل ما يفعل تبعاً لغيره أو لا يقع إلاَّ على وجه واحد واعتبرنا ألا يكون ممنوعاً من إراته احترازاً مما يدعوه الداعي إلى الأكل ويمنع من إرادته فإنه يأكل لا محالة ولا يحتاج إلى إرادة، وكذلك الواقف على باب الجنة فإنه إذا علم بما فيها من النعيم ومنع من إرادة دخولها وخلق فيه إرادة دخول النار فإنه يدخل الجنة من دون إرادة وأشباه هذا.
الطريق الثانية: أن تقع أفعاله على وجوه مختلفة من نحو كون كلامه أمراً وخبراً ونحو ذلك، ولا يصح وقوع الفعل على الوجوه المختلفة إلا من يريد ثباته أنه إذا قال زيد في الدار جاز أن يكون خبراً عن زيد بن عبد الله وعن زيد بن خالد، وهو لا يكون خبراً عن أحدهما دون الآخر، إلا لأمر، وذلك الأمر إما أن يرجع إلى المخبر عنه أو إلى الصيغة /128/ أو إلى المخبر لا يجوز رجوعه إلى المخبر عنه؛ لأن الزيدين مع الصيغة على سواء، ولا يجوز رجوعه إلى نفس الصيغة من ذاتها وصفاتها؛ لن كل ذلك مع الزيدين على سواء، وكان يجب أن يكون خبراً في حالة السهو والنومن وبهذا يبطل قول البغداديين من أنه خبر لعينه بمعنى إنما كان خبراً عن زيد لا يصح أن يكون خبراً إلا عنه وإن جاز في مثله أن لا يكون خبراً عنه، وبعد فكنا نعلم الخبر خبراً والمخبر مخبراً وإن لم نعلم إلا الصيغة، وبعد فإنما يصح هذا القول بعد العلم بماهية الخبر ومعه لا يصح العلم بها. وبعد فكان يصح أن يكون خبراً قبل المواضعة، وكان لا يصح التجوز في الكلام.
قال ابن الملاحمي: ولهم أن يقولوا أن التجوز وقع بمثل الخبر.
ولنا أن نجيب بأن الصيغة إذا كانت خبراً عن زيد لعينها لم يصح في ما ماثلها أن يكون خبراً إلا عنه، وبعد فكان لا يمكن أحدنا الإخبار إلا عن أشخاص متعددة بحسب عدد قدره وأن يستحيل إخباره عما لا يتناهى من الزيدين.
قال ابن الملاحمي: ولهم أن يقولوا إن أردتم يخبر عنهم بصيغ متماثلة، فجائز قدرته على ما لا يتناهى على البدل، وإن أردتم يخبر عنه بصيغة واحدة كان يقول الزيدون في الدار، فذلك صحيح، ويكون مخبر الصيغة حينئذ واحداً، ويصح ايقاعها بقدرة واحدة كما يقولونه في إرادة الأخبار عنهم، فالمعتمد في أنه لا يصح رجوع ذلك الأمر إلى نفس الصيغة ما تقدم.
بقي أن يكون ذلك الأمر راجعاً إلى المخبر وهو إما ذاته أو صفات ذاته، وكونه قادراً فيلزم ما تقدم من صحة الأخبار حال السهو والنوم وإلا يحتاج إلى المواضعة ونحو ذلك، وأما كونه عالماً فيلزم أن لا يحتاج إلى المواضعة على أنه قد يكون عالماً بالزيدين على سواء، وكونهما في الدار، وأيضاً فهو مخبر وإن كان كاذباً غير عالم بما أخبر عنه، وإما أن يكون ذلك الأمر هو الداعي الذي دعاه إلى الإخبار عن أحدهما كما يقوله ابن الملاحمي، وهو باطل بما تقدم من أن الإرادة غير الداعي.
يزيده وضوحاً أنه قد يكون داعيه إلى الإخبار عن الزيدين على سواء، ثم يخبر عن أحدهما كما تقدم في تناول أحد الرغيفين، وإما أن يكون ذلك الأمر هو كونه مريداً وهو المطلوب.
وقريب من هذا يقع الكلام في كون الصيغة أمراً فإنها لا تنفصل عن التهديد والتحدي والإباحة إلا بالإرادة، وكذلك كون الصيغة نهياً في دلالتها على كونه كارهاً.
فصل
في الدلالة على إثبات هذه الصفة للباري تعالى.
اعلم أن الاضطرار إلى كونه تعالى مريداً لا يصح، والدار دار تكليف؛ لأن العلم بصفاته تعالى فرع على العلم لذاته /129/ وإنما يعلم استدلالاً، وقد ذهب أبو الحسين وابن الملاحمي إلى أن معنى كونه تعالى مريداً لأفعاله أنه دعاه الداعي إلى اتخاذها، ومعنى كونه مريداً لأفعال غيره هو أنه أمر بها.
وقال أبو الهذيل وابو القاسم والنظام والجاحظ: معنى كونه تعالى مريداً لأفعاله أنه أوجدها وهو غير ساه ولا مغلوب، ومعنى كونه مريداً لأفعال غيره أنه أمر بها.
وقال جمهور أصحابنا وأهل الجبر معنى كونه مريداً لأفعال نفسه ولأفعال غيره أنه مختص بصفة كما تقدم.
وسيدلنا أن ندل على صحة هذه الصفة في حقه تعالى، ثم على ثبوتها.
أما صحتها فدليله أن من حق كل حي قادر صحة أن يوقع فعله على وجه دون وجه، وكل من صح منه أن يوقع فعله على وجه دون وجه صح أن يكون مريداً وكارهاً لأنهما اللذان يؤثران في وقوع الفعل كذلك.
وأما وقوعها فما تقدم من الطريقين المذكورين حاصل هنا لأنه تعالى أوجد أكثر أفعاله لأغراض يخصها ويستحيل أن يمنع من إرادتها، فيجب أن يريدها؛ ولأن جميع أفعاله واقعة على وجوه مخصوصة. أما الخطابات ففيها الأمر والنهي والخبر.
وأما غير الخطاب من أفعاله تعالى فلا يخرج عن كونه نعمة أو نقمة، ومعلوم أن المنفعة إنما تكون نعمة إذا قصد بها فاعلها وجه الإحسان، وكذلك المضرة إنما تكون نقمة إذا قصد وجه الأضرار وإلا لزم في الأمراض والبلاوي أن تكون نقمة وخلافه معلوم.
يزيده وضوحاً أن الله تعالى خلق فينا شهوة القبيح ونفرة الحسن، فلو لم يكن عرضه بذلك كمال شرائط التكليف لكان عبثاً، بل أغرا بالقبيح.
فصل
والباري تعالى يستحق هذه الصفة لمعنى محدث كالشاهد.
وقالت البحارية وبشر بن المعتمر: أنه يستحقها لذاته. وقالت الأشعرية يستحقها لمعنى قديم.
لنا أنه تعالى حصل مريداً مع الجواز، والحال واحدة، والشرط واحد، فلا بد من أمر، وليس إلا ثبوت معنى على مثل طريقتنا في إثبات المعاني، وإنما يثبت لنا أنه حصل مريداً مع الجواز إذا أبطلنا أن يكون مريداً لذاته أو لمعنى قديم؛ لأنه الذي يشتبه الحال فيه، والذي يبطل ذلك أنه لو كان مريداً لذته أو بإرادة قديمة لوجب أن يكون مريداً لجميع المرادات بل لجميع ما يصح أن يراد، وهو محال إما انه كان يجب ذلك فلأنه لا اختصاص لذاته ولا للمعنى القديم ببعض ما يصح ان يراد دون بعض ككونه عالماً لا ككونه قادراً؛ لأنه يستحيل مقدور بين قادرين، ولا يستحيل معلوم بين عالمين /130/ ولا مراد بين مريدين، وإما أن ذلك محال فلأنه لو اراد جميع ما يصح أن يراد لوقع لا سيما على مذهب الخصم في إنما يريده الله تعالى لا بد أن يقع، فكان يجب إذا أراد أحدنا شيئاً أو صح أن يريده أن يقع لأنه مراد الله تعالى، وكان يلزم أن يكون مريداً للإيمان من الكافر والكفر من المؤمن؛ لأنه مما يصح أن يراد، وكان يلزم أن لا يكره الله شيئاً قط؛ لأن كل ما يكرهه فهو مما يصح أن يراد، فكان يلزم أن يوجد الله أكثر مما أوجد وأكثر، وأكثر وقبل الوقت الذي أوجد فيه، وقيل: وقبل لصحة أن يريد ذلك، وليس يتأتى للخصم أن يقول أن الإرادة تتبع الداعي فلا يريد إلا ما دعاه إليه الداعي؛ لأن عنده أن الله يريد الكفر من الكافر ولا يدعوه إليه الداعي، وكان يلزم أن يكون الله تعالى مريداً للضدين لأنهما مما يصح أن يريدهما مريدان، ومريد واحد إذا اعتقد ارتفاع التضاد بينهما، وبهذا يبطل كون إرادتي الضدين ضدين فلا يقال أنه يكون بإرادتي الضدين حاصلاً على صفتين ضدين، ومتى أراد الضدين فإما أن يوجدا معاً وهو محال وإما أن لا يوجد واحد منهما وفيه تخلف مراده، وقد أراده وهو محال عندهم، وأما أن يوجد أحدهما ولا مخصص، فبهذا يبطل أن يكون تعالى مريداً لذاته أو بمعنى قديم، وإن كان جميع ما تقدم في
إبطال المعاني القديمة يرد في إبطال الإرادة القديمة.
دليل: لو كان تعالى مريداً لذاته أو لمعنى قديم لاستحال خروجه عن هذه الصفة ككونه عالماً وقادراً ومعلوم خلافه لا سيما على مذهب الخصم في أنه لا يريد إلا الواقعات فيريد الإيمان من زيد ما دام يفعله، فإذا كفر أو عجز أو مات خرج الباري عن كونه مريداً له.
دليل: لو كان تعالى مريداً لذاته أو لمعنى قديم لبطل الاختيار في أفعاله تعالى، ولما صح وصفه بالقدرة على إقامة القيامة الآن ولا أن يجعل لزيد رأسين ونحو ذلك من التقديم والتأخير والزيادة والنقصان؛ لأن الإرادة القديمة لم تعلق بذلك، وما لم تتعلق به الإرادة القديمة استحال أن يقع، وليس لهم أن يقيسوه على العلم؛ لأنا نجوز القدرة على خلاف المعلوم، وهم لا يجوزون تعلق الإرادة بخلاف المعلوم، وهذا يبطل ما قد قامت عليه الدلالة من أنه إن شاء أن يفعل فعل، وقد نطق القرآن بذلك، قال تعالى: {ولئن شئنا لنذهبن بالذي أوحينا إليك}. يوضحه: أن الشرط لا يدخل إلا في المستقبل ولا بد أن يعترفوا بأنه أراد هذا الشيء مع جواز أن لا يريده..
فصل
وللمخالف شبه في أنه تعالى مريد لذاته أو بإرادة قديمة وأكثرها قد دخل في أثناء الكلام وبقي شبهتان.
إحداهما أن قالوا لو لم يكن مريداً لم يزل لكان قد حصل مريداً بعد إن لم يكن، وذلك تغير كالمحل إذا أسود بعد أن كان أبيض.
والجواب هل أردتم بالتغير أنه حصل على صفة لم تكن عليها فهذا لا يسمى /131/ تغيراً كما تقدم في كونه مدركاً بعد إن لم يكن، وفاعلاً بعد إن لم يكن ونحو ذلكن وأما قول العرب في الجسم إذا اسودّ بعد بياض أنه قد تغير فلاعتقادهم أنه صار غير ما كان، وإلا ساء في بديع اعتقاداتهم، وإن أردتم التغير الحقيقي وهو أن ذاته صارت غير ما كانت فما دليلكم عليه.
الشبهة الثانية:
إن قالوا أنه في ما لم يزل غير ساه ولا غافل فيجب أن يكون مريداً.
والجواب: إنما يلزم فيمن ليس بساه ولا غافل أن يكون عالماً، فإما أن يكون مريداً فلا يلزم لأنهما يضادان العلم ولا يضادان الإرادة ولو ضادها لم يكن انتفائهما دليلاً على ثبوتهما إلا إذا لم يجز خلو الذات عن الصفة وضدها وقد بينا جوازه.
يوضحه: أنه تعالى غير ساه عن نفسه ولا غافل ولا يكون مريداً لها.
فصل
وإذا ثبت أنه تعالى مريد بإرادة محدثة فهي إنما توجد لا في محل لأنه تعالى يستحيل أن يكون محلاً للأعراض ويستحيل أن يوجب له الإرادة وهي حالة في غيره من حي أو جماد.
أما الجماد فيستحيل وجود الإرادة فيه رأساً، وأما الحي فلأنها متى وجدت فيه كانت بأن يوجب له أولى من القديم تعالى، فلم يبق إلا أن يكون لا في محل وليس في ذلك إلا تشنيع من يشنع بأنه كيف يوجد عرض لا في محل، والأصل في مثل هذا أن وجود الشيء إذا كان بالدلالة فكيفية وجوده يتبع الدلالة.
ولهذا منعنا المشبهة أن يقيسوا كيفية وجوده تعالى على كيفية وجود الأجسام والأعراض.
وقلنا لهم: طريق ذلك الأدلة لا الاعتماد على مجرد الوجود، فإذا كان الطريق إلى إرادة الباري الدلالة فكذلك كيفية وجودها، فإذا منع الدليل من أن يكون حاله في الباري تعالى أو في غيره ثبت أنها لا في محل، وقياس بعض الأعراض على بعض في كيفية الوجود لا يصح كما لا يصح في كيفية الإيجاب، فإن بعضها يوجب للجملة وبعضها يوجب للمحل، ولولا قيام الدلالة على أن ما عدا إرادة الباري وكراهته والفناء لا يوجد إلا في محل لجوزنا وجوده لا في محل.
فإن قال: كيف يختص بالباري تعالى وقد وجدت لا في محل، وحالها مع جميع الأحياء على سواء.
قيل له: من حق الاختصاص أن يكون على أبلغ الوجوه ولا يمكن اختصاصها بالباري على أبلغ من هذا الوجه بخلاف سائر الأحياء، فإنَّه يمكن أن يكون لها بهم اختصاص على أبلغ من هذا الوجه، وهو الحلول، وإذا بطل أن تكون موجبة لحي محدث وجب أن يوجب للقديم تعالى وإلا خرجت عما هي عليه في ذاتها، وصار الحال فيها كالحال في المقدور فإنه إذا بطل قدرتنا عليه وجب أن يكون الباري تعالى قادراً عليه وإلا خرج عن كونه مقدوراً.
فصل في ما يصح أن يراد ويستحيل ويجب ويحسن ويقبح.
أما ما يصح، فكل ما صح حدوثه /132/ كالمقدورات أو اعتقد صحة حدوثه كاجتماع الضدين صح أن يراد، وكلما لم يكن كذلك كالقديم والباقي واجتماع الضدين في حق من يعلم تضادهما استحال أن يراد.
وأما ما يجب أن يراد فهو كل فعل يفعله الفاعل لغرض يخصه ولا يكون في حكم الساهي عنه، ولا ممنوعاً من إرادته.
وأما ما يحس فهو إرادة الحسن إذا لم يتعلق بالإضرار بالنفس، ولم يكن عبثاً، واحترزنا من العاصي إذا أراد نزول العقاب بنفسه فإن هذه الإرادة وإن تعلقت بالحسن قبحت لما كانت إرادة للإضرار بالنفس.
وقلنا: ولم يكن عبثاً احترازاً من إرادتنا للمكروهات ومن إرادة الباري تعالى لها وللمباحات عند من لا يجوز إرادتها.
وأما ما يقبح فكل إرادة تعلقت بقبيح ويحسن صفته ما تقدم.
فصل في ما يريده الله تعالى وما لا يريده
وأما أفعاله تعالى فجميعها مرادة له؛ لأن كل واحد منها يتعلق به عرض يخصه إلاَّ الإرادة، فإنها تفعل تبعاً لغيرها، فلذلك لا يكون تعالى مريداً لها؛ ولأن جميع أفعاله تعالى حكمة، وهي إنما يكون كذلك بالإرادة التي يخصصها بوجه دون وجه، فأما الإرادة نفسها فهي من حيث يقع تبعاً للمراد هي كالجزء منه فلا يحتاج إلى الإفراد بالإرادة ولا يخرج عن كونها حكمة، وهذا الكلام في إرادته تعالى المتعلقة بأفعاله، فأما إرادته المتعلقة بفعل غيره فيجب أن يريدها تعالى لأنها ليست بفعل تبعاً لغيرها بل لغرض يخصها، وإنا لم يجز أن يكره من أفعال نفسه تعالى؛ لأنها لا تقع منه ولا هو ممن يصح عليه الزجر والجهل بالقبيح حتى يقال يفعل الكراهة زجراً لنفسه وتعريفاً لها بالقبيح كما يفعل الكراهة المتعلقة بفعل الغير، وإن كان المعلوم أن ذلك الفعل لا يقع.
فإن قال: هل يجوز أن يريد كل جزء من أفعاله تعالى بإرادة مستقلة أو قد يريد جملة أفعال بإرادة واحدة.
قيل له: كل جزء يستقل بالغرض الذي فعل لأجله، فإنه يراد بإرادة تخصه كالجوهر ونحوه، وكل جزء لا يتم الغرض به وحده بل لا بد من انضمام غيره إليه فإنه يراد هو وجميع ما لا يتم الغرض به وحده بل لا بد من انضمام غيره إليه، فإنه يراد هو وجميع ما لا يتم الغرض إلا به بإرادة واحدة كالخبر والأمر، فإنه لا يكون كذلك إلا بمجموع حروف، فإرادة جميع تلك الحروف واحدة (فراغ) أفعال غيره تعالى، فما كان منها مكروهاً أو فعلاً يسيراً أو صادراً من غير مكلف فلا يريده تعالى ولا يكرهه اتفاقاً بين الشيوخ، وكلما كان منها قبيحاً فاتفق الشيوخ على أنه لا يريده وأنه يكرهه، وكلما كان منها واجباً أو مندوباً فاتفقوا أنه يريده ولا يكرهه واتفقوا أيضاً على أنه تعالى لا يريد المباح في الدنيا لأنه لا مزية لفعله على تركه ولو أراده لترجح فعله، فكان واجباً أو مندوباً.
فإن قال: إذا كان الله تعالى خلق الأشياء لينتفع بها الأحياء فقد أراد الانتفاع بها وهو مباح /133/.
قيل له: إنه تعالى يقال إنما أراد خلقها على وجه يصح أن ينتفع بها، وأراده أن ينتفع بها غير إرادة وقوعها على الوجه الذي معه يصح أن ينتفع بها، واختلفوا في هل يريد المباحات في الآخرة أم لا.
فقال أبو علي: لا يريدها كالدنيا، وجعل قوله تعالى: {كلوا واشربوا} إباحة لا أمراً حقيقياً.
وقال أبو هاشم: يصح أن يريدها في الآخرة؛ لأن ذلك زيادة مسرة أهل الجنة وانتشاطهم، وحق الثواب أن يكون على أبلغ الوجوه، وليست دار تكليف، فيقال إن إرادته لها تخرجها عن كونها مباحة ويدخلها في باب المندوبات.
فصل وفيه ذكر طرف من أحكام الإرادة.
منها: أنه يجوز تقديمها، وخالف أهل الجبر. لنا أن أحدنا يجد من نفسه إرادة ما يتأخر، والمخالف يبني على أن الإرادة موجبة للمراد، وهذا أصل مضمحل عندنا.
فأما إرادة الباري فما تعلق منها بأفعاله المبتدأة والمسببة غير المتراخية عن اسبابها، وحيث مقارنته لا لأن الإرادة موجبة، بل لأنها لا تقدم إلا لتعجيل المسرة وتوطين النفس، وذلك يستحيل في حقه تعالى، ولهذا امتنع العزم عليه، وما تعلق منها بأفعاله المسببة المتراخية فقيل يفارق السبب ويكون في حكم المقارنة للمسبب؛ لأنه في حكم الواقع لوقوع سببه.
وقيل: يقارن المسبب محافظة على الأصل المذكور، وما تعلق منها بفعل الغير فهو متقدم على ذلك الفعل ومقارن للأمر به لوجهين:
أحدهما: أن الأمر لا يكون أمراً إلا بالإرادة.
والثاني: أن إرادته تعالى كالحاث على الفعل الباعث عليه، وحث الباعث التقدم على الفعل.
ومنها: أنها لا تتعلق بأن لا يفعل ونحوه من النفي خلافاً لأهل الجبر.
لنا أنها لو تعدت الحدوث وتوابعه لتعدت، ولا حاضر، فكان يصح تعلقها بالقديم، والباقي والماضي كالعلم، وأما نية الصوم فإنها تتعلق بكراهة الأكل ونحوه أو بالامتناع المحقق وهو إطباق التعيين عن المأكول وتسكين اللسان عن الرفث والحجر على آلة النكاح من النكاح وأشباه ذلك.
ومنها أن إرادة الشيء ليست كراهة لضده خلافاً لهم؛ لأنه ليس هذا أولى من عكسه.
وبعد، فكان يستحيل إرادة الضدين على البدل؛ لأنه يكون بإرادة كل واحد منهما، فذكره الآخر وبمثل هذا يبطل تضاد إرادتي الضدين؛ لأن إرادتي الضدين ثابتة، وإنما يدخل البدل في الوقوع لا في الإرادة.
وبعد فلو تعلقت بالشيء على أنها كراهة لضده لكانت قد تعدت المتعلق الواحد على التفصيل، وتقدم بطلانه، ولكان لها ضربان من التعلق متنافيان، فيكشف ذلك عن اختصاصها بذاتيين مختلفيين.
وبعد فكان يلزم من أن يريد الشيء ويكرهه في حالة واحدة بأن /134/ يريد أحد ضديه، ويكره الآخر، وبعد، فكان لا يصح أن يريد الله تعالى النوافل لأنه لا يكره أضدادها، فأحدنا يجد الفرق بين كونه مريداً وكونه كارهاً.
فصل
والذي يجري عليه تعالى من الأسماء في هذا الباب نحو قولنا: مريد؛ لأنه يفيد اختصاصه بصفة، وليس طريقه الفعلية، وإن كان لا يريد إلا بإرادة يفعلها.
ومنها: المحب لأنه لا فرق بين الإرادة والمحبة. ومتى أضيفت المحبة إلى الأشخاص فقيل يحب المؤمنين ويحب التوابين والغرض إرادته لإعظامهم ومدحهم، وكذلك إذا قيل فلان يحب فلاناً فالغرض أنه يريد منافعة ولا يريد مضارة.
ومثله الودود والمود والواد.
ومنها: قولنا يشاء؛ لأنه لا فرق بين الإرادة والمشيئة.
ومنها: قولنا: راض، إلاَّ أنه لا يوصف بذلك إلا إذا وقع الفعل مطابقاً لإرادته من عباده فلا يقال رضيه قبل وقوعه.
ومتى قيل رضي الله عن فلان فقيل معناه أنه أراد بكل أفعاله ورضيها.
وقيل: قد صار بالعرف من الأسماء المقيدة للتعظيم، وهو الحق؛ لأنه لو كان على القول الأول لما صح الترضية إلا عمن يقطع بأنه لم يأت معصية قط، وذلك يؤدي إلى أن لا يرضى عن أحد حتى الأنبياء.
ومنها: قولنا قاصد ومختار إلا أنهما لا يستعملان إلا في فعل النفس بشرط المقارنة أو ما في حكمها، وقد يستعمل الاختيار في إيقاع الفعل لا على وجه الإكراه.
وأما ما يجري عليه بمعنى كونه كارهاً فنحو قولنا ساخط وهو نقيض الراضي يفيد وقوع الفعل المكروه، ومتى علق بالفاعل نحو قوله تعالى: {أن سخط الله عليهم}، فمعناه كراهة المنافع وإرادة المضار، وفيه من الخلاف ما تقدم، والحق أنه قد نقل إلى ما يفيد الذم والاستحقاق لولا هذا لما جاز إطلاقه على أحد قط؛ لأنه ما من مكلف إلا وقد فعل واجباً أو ترك قبيحاً.
وأما الغضب والبغض فيصح أن يكون من باب إرادة المضار، ويصح أن يكون من باب كراهة المنافع، وكذلك المعاداة من الله تعالى لعباده.
وأما المعاداة من العباد لله تعالى فمعناه معاداة أوليائه بإرادة مضارهم والاستخفاف بهم أو كراهة منافعهم وإعظامهم.
وأما البراءة من الله تعالى فإن علقت بالفعل فالمراد أنه كراهة نحو: إن الله بريء من الكفر وإن علقت بالفاعل نحو: إن الله بريء من المشركين، جاز أن يكون بمعنى كراهة فعله، وجاز أن يكون متفق له إلى معنى الذم والاستخفاف.
وأما الغيظ فلا يجوز إجراؤه؛ لأنه يفيد ضرباً من التغير وفوران النفس.
القول في أن الله تعالى غني
الغني في اللغة: من استغنى بما في يده /135/ عن ما في أيدي الناس، ومنه القناعة رأس الغنا. وفي اصطلاح الفقهاء هو من ملك النصاب أو ما قيمته نصاب، وقيل من ملك الكفاية.
وفي اصطلاح المتكلمين هو الحي الذي ليس بمحتاج.
والحاجة ضربان: حاجة الأثر إلى المؤثر، وتقدم نفيها عن الله تعالى في ذاته وصفاته وحاجة دعاء وصرف، وهي ما يدعو الحي إلى جلب نفع له أو نصرته عن جلب ضرر إليه، والداعي: هو ما يرجح وجود فعل على عدمه من غير تأثير.
وينقسم إلى داعي حكمة، وهو علم الحي أو ظنه، واعتقاده بأن للغير في الفعل نفع أو دفع ضرر مع حسنه. وقلنا: مع حسنه، احترازاً من إثابة أهل النار وداعي حاجة، وهو كداعي الحكمة إلا في اعتبار الحسن، وفي أن النفع ودفع الضرر هنا عائدان إلى نفس الحي، ولهذا امتنع في حقه تعالى، والصارف ما يرجح عدم الفعل على وجوده من غير تأثير، وقسمته كقسمة الداعي إلا أن تعلقه على العكس والمنفعة هي اللذة والسرور أو ما أدى إليهما أو إلى أحدهما، ويفارق النعمة مفارقة الأعم للأخص من حيث أن النعمة منفعة مخصوصة، والمضرة هي الألم والغم أو ما أدى إليهما أو إلى أحدهما، ويفارق النقمة والظلم مفارقة الأعم للأخص أيضاً، واللذة والألم هما المعنى المدرك بمحل الحياة فيه، لكن إن قارنه شهوة سمى لذة، وإن قارنه نفار سمي ألماً، فبهذا التدريج صارت الحياة ملازمة للشهوة والنفار اتفاقاً بين الشيوخ، وإنما اختلفوا في علة امتناع الشهوة والنفار عليه تعالى. فقال أبو هاشم: لأنهما يلازمان الزيادة والنقصان من حيث يزداد جسم أحدنا يتناول ما يشتهيه وينقص بتناول ما ينفر عنه.
واعترض بأن الزيادة والنقصان يقعان بمجرى العادة من الله تعالى وأيضاً فقد يكون الأمر بالعكس مما ذكره.
وقال الشيخ أبو إسحاق بن عياش والجمهور: لأنه لو جاز أن يشتهى لكان إما أن يشتهي لذاته أو لما هو عليه في ذاته أو بالفاعل والمعنى، والأول باطل، وإلا وجب أن يشتهى جميع المشتهيات فيكون ملجأ إلى فعلها دفعة واحدة، وإلى أن يوجد أكثر مما أوجد، وأكثر وقيل الوقت الذي أوجد فيه، وقيل: لتوفر دواعيه إلى جميع ذلك.
والثاني: باطل لما تقدم من أن القديم لا فاعل له ولا لشيء من صفاته، ولأن تأثير الفاعل لا يتعدى الحدوث وتوابعه أي الأحوال، ولأنه كان يلزم أن لا ينحصر تعلق هذه الصفة؛ لأنه لا ينحصر تعلق الصفة إلا لمعنى فيلزم ما تقدم.
والثالث: باطل لأن المعنى إن كان قديماً أو معدوماً لزم ما تقدم في كونه مشتهياً لذاته، وإن كان محدثاً لزم ذلك أيضاً وزيادة، وهو أن يكون ملجأً إلى إيجاد الشهوات على الحد الذي يكون ملجأ إلى إيجاد المشتهيات، ومثل هذا يجيء الكلام في أنه تعالى لا يجوز /136/ أن يكون نافراً إلا في كونه نافراً بنفار محدث، فإنه يقال لو جاز عليه النفار المحدث لجازت عليه الشهوة المحدثة إذ لو قلنا كان يلزم أن يكون ملجأ إلى أن لا يخلق شيئاً من النفرة ولا من المنفر لكان لقائل أن يقول أنه يخلق لنفسه نفرة عن منفرات لم يخلقها ولا يخلق نفرة عن المنفرات التي خلقها.
القول في أن الله تعالى ليس بجسم ولا عرض ولا يجوز عليه ما يجوز عليهما
أما أنه لا يكون جسماً فقد خالف فيه فرق كثيرة.
فقال هشام بن الحكم وغيره: جسم له أعضاء وجوارح، وهو خمسة أشبار بشبر نفسه.
وقال بعض الحشوية: إنه سبيكة ملقاة فوق العرش.
وقال مقاتل بن سليمان وداود الجواربي أنه على العرش كبعض ملوك البشر لحم ودم.
وقال قوم: إنه فضاء منثبت والأجسام كلها فيه، قالوا: وهو لا يحتاج إلى مكان؛ لأنه مكان في نفسه.
وحكي عن بعض الحنابلة القول بأنه جسم طويل عريض عميق وعليه جل أهل الحشو.
وقالت الثنوية: إنه نور لا يتناهى إلا من جهة السفل، وبه قال بعض الكرامية، وقال البعض الآخر: إنه جسم قائم بذاته لا طويل ولا عريض ولا عميق.
وحكى عنهم الرازي القول بأنه في مكان.
وقالت الفلاسفة: إنه جوهر بسيط غير مركب.
وقالت النصارى: جوهر، وأكثر هذه المقالات هو بين لا يعقل فضلاً عن أن يشبته الحال فيه.
لنا أن كل جسم متحيز وكل متحيز محدث والله تعالى قديم.
أما إن كل جسم متحيز فلأن هذا هو المعقول من الجسم بالضرورةن وأما إن كان متحيز محدث فلما تقدم في دليل الدعاوي.
وأما أن الله تعالى قديم فتقدم أيضاً،و قد يورد هذا الدليل على وجه آخر وهو أن الأجسام متماثلة لاشتراكها في أخص أوصافها، وهو التحيز، ولالتباسها على المدرك مع العلم بتغايرها والمتماثلات لا يجوز افتراقها في القدم والحدوث، ولا يقال إن الجوهرية تقتضي القدم في حقه تعالى دوننا؛ لأنا نقول إما أن تقتضيها لا بشرط فيجب أن تقتضيها لنا، وإما أن تقتضيها بشرط، فكان يصح حصوله لنا إذ لا يصح حصول المقتضى، ويستحيل شرط الاقتضاء على الإطلاق، وأيضاً فلا بد أن يكون ذلك الشرط بعض صفاته الأربع، وكلها قد استحققتا قبيلها.
دليل: كل جسم مؤلف بالضرورة، وكل مؤلف محدث من حيث لو كان قديماً لكانت أجزاؤه قديمة، فيكون كل جزء منها قادراً عالماً لمشاركته للجملة في صفة ذاتية، وهي القدم، فيودي إلى التمانع.
دليل.
لو كان تعالى جسماً لاستحال أن يكون قادراً عالماً؛ لأنه لا يصح أن يستحق هذه الصفات لذاته، وإلا لزم في كل جسم مثله، ولا لمعان لما تقدم في فصل الكيفية ولا بالفاعل لتأدية ذلك إلى أن يكون محدثاً، دليل كل جسم، فهو متناهي المقدار في المساحة والعدد وكل متناه محدث.
دليل: كل جسم مركب، وكل مركب عليه، وفي ذلك صحة خروجه عن كونه قادراً وحياً ونحوهما وهو محال.
دليل: لو كان جسماً لكان كائناً في ما لم يزل، فتكون هذه الصفة واجبة فتشاركه فيها جميع الأجسام؛ لأن المتماثلات /137/ لا يجوز افتراقها في ما يجب أو يجوز أو يستحيل مما يكون وجوبه وجوازه واستحالته راجعاً إلى الذات، ألا ترى أنه يجب له التميز في كل حال ويجوز عليه التنقل في كل حال، ويستحيل عليه الكون في جهتين في وقت واحد على كل حال واحترزنا عن ما يكون وجوبه وجوازه واستحالته راجعاً إلى غير الذات كوجوب القادرية عند وجود القدرة وصحة الموت عند حصول الحياة واستحالة الحياة عند فقد البنية.
دليل: كل جسم فإنه إنما يفعل الفعل مباشراً ومتعدياً، والله تعالى يفعل مخترعاً، فيجب أن لا يكون جسماً، أما أن كل جسم لا يفعل إلا مباشراً أو متعدياً فذلك ضروري في الشاهد، فإن كل عاقل يعلم أن الجسم لا يفعل إلا في محل قدرته أو بواسطة فعل في محلها، والأول هو المباشر والثاني هو المتعدي، وأما أن الله تعالى يفعل مخترعاً فدليله أنه يفعل الأفعال الكثيرة في الأماكن المتباعدة في الوقت الواحد، ولأنه يفعل الأفعال الكثيرة فينا ولسنا محلاً لقدرته، ولا يحسن لمماسة لمحل قدرته.
دليل: لو كان جسماً لما صح منه فعل الأجسام لأنه إما أن يفعلها مباشرة أو متعدية أو مخترعة.
والأول: باطل لتأديته إلى تداخل المتحيزات أو حلول المتحيز.
والثاني: باطل لأن الفعل لا يتعدى إلى الغير إلا بالاعتماد والاعتماد لا تأثير له في توليد الأجسام، وإلا وجب مثله في الاعتماد الذي نفعله فيفعل أحدنا لنفسه بالاعتماد ما شاء من الأموال.
فإن قيل: إن الاعتماد الذي يولد الأجسام غير مقدور لكم.
قلنا: أنواع الاعتمادات ستة فقط بحسب الجهات الست وكلها تقدر عليه.
فإن قيل: إنما لم يفعل أحدنا الجسم لمانع.
قلنا: لا مانع يعقل إلا أن يقال إن الجهات مشغولة، ولو كان كذلك لما صح من الله تعالى أيضاً ولتعذر علينا التصرف.
والثالث: باطل لأنه لو صح الاختراع من بعض الأجسام القادرة لصح لصح من سائرها لتماثلها، ولأنا نعلم بالاختيار وتعذره ولا وجه لذلك، إلا كونها أجساماً ولما تقدم.
دليل: لو كان جسماً لكان قارداً بقدرة إذ لو كان قادراً لذاته لوجب ذلك في جميع الأجسام لتماثلها، ولو كان قادراً بقدرة، وقد ثبت أنه يصح منه فعل الأجسام لكان يصح منا أيضاً لأن مقدورات القدر منحصرة متجانسة، فلأنا نعني بكونها وتجانست لكونها قدراً، فلو كان تعالى قادراً بقدرة لوجب انحصار مقدورها وتجانسه، فهذه ثلاثة أصول.
إما أن مقدورات القدر منحصرة متجانسة فلأنا نعني بكونها منحصرة أنها مقصورة على الأجناس العشرة، وذلك معلوم من حالها، ونعني بتجانسها أنه ما من جنس من هذه العشرة يصح أن يفعل بقدرة إلا ويصح أن يفعل بسائر القدر، وذلك ظاهر أيضاً، وإنما يشتبه الحال في هل يصح تعلق قدر الجوارح بأفعال /138/ القلوب أم لا، والعكس، وذلك صحيح بأن يدخل الله آخر الجوارح في تضاعيف أجزاء القلب أو العكس.
وإما أن العلة في هذا الانحصار والتجانس هو كونها قدراً، فلأن هذا الحكم بدور مع كونها قدراً ثبوتاً وانتفاء مع فقد ما هو أولى بتعليق الحكم.
واعترضه ابن الملاحمي باعتراضين:
أحدهما: انه ليس المقدر بكونها قدراً صفة يشملها فيصح التعليل بها.
ويمكن أن يعارض بما ذكر في مسألة عالم مستدلاً على أن كونه تعالى متبيناً للأشياء أمر زائداً على ذاته، فقال: قد صح منه الفعل المحكم، فإما أن يصح منه لأنه ذات مطلقة أو لأنه ذات مخصوصة، والأول باطل؛ لأنه كان يجب أن يصح الفعل المحكم من كل ذات فيقال له ليس للذوات بكونها ذواتاً صفة يشملها فيصح التعليل بها.
فإن قال: لها حكم وهو صحة كونها معلومة. قيل له: وللقدر حكم وهو صحة الفعل بها.
فإن قال: إن صحة كونها معلومة حكم متماثل وصحة الفعل حكم مختلف على أصلكم في اختلاف القدر.
قيل له: إما من يجوز مقدوراً بين قادرين فلا يتوجه إليه أيضاً، وأما من لا يجوزه فنقول: لا معنى لكون صحة العلم حكماً متماثلاً إلا أن يشتبه إلى الذوات نسبة واحدة، وكذلك نسبة صحة الفعل إلى جميع الأجناس نسبة واحدة، وهذا كاف لنا لأنا إنما نعلل التجانس والانحصار لا التساوي في أعيان المقدورات فصحة الفعل وإن اختلفت نسبتها إلى الأعيان فهو أمر زائد على ما قد حصل به الغرض وهو اتحاد نسبتها إلى الأجناس.
الاعتراض الثاني: إن قال: كيف تعلل تعذر فعل وهو الجسم ونحوه بصحة فعل آخر وهو الأجناس العشرة.
ويمكن أن يجاب بأنا لم نعلل التعذر بالصحة وإنما عللنا التعذر بكونها قدراً، ثم استدللنا بصحة فعل الأجناس العشرة على صحة التعليل بكونها قدراً، ودليل صحة العلة غير العلة، ثم يقال له: قد ثبت أن الله تعالى قادر فما أنكرت أن يكون معنى ذلك أن له بنية صحيحة، واعتدال في الامتزاج يصح معه فعل الأجسام والاختراع دوننا، فما أجاب به فهو جوابنا، وقوله: إن إثبات ذلك إثبات ما لا طريق إليه غير مستقيم؛ لأن الخصم يقول الطريق إليه عندي هو صحة الفعل منه، وتعذره على غيره، فلا يكون لأبي الحسين بد من الرجوع إلى قول الجمهور.
دليل: من جهة السمع لا شك أن القرآن والسنة مشحونان بنفي التشبيه نحو قوله تعالى: {قل هو الله أحد}، و{ليس كمثله شيء}، وهو معلوم ضرورة من الدين والاستدلال بالسمع هنا إنما هو من طريق الجدل على من يقر بالسمع، فأما من جهة العلم فالحق أنه لا يصح؛ لأن صحة السمع تنبني على العدل إذ العدل ينبني على أنه عالم لذاته وغني لذاته والجسم ليس كذلك.
واعلم أن هذه الأدلة إنما توجه إلى من يثبت له الجسمية حقيقة، فأما من يخالف في العبارة /139/ فالمرجع في إبطال كلامه إلى الوضع وقد وجدنا أهل اللغة لا يستعملون الجسم إلا في ما كان طويلاً عريضاً عميقاً، ولو سلمنا استعماله في غيره لمعنا إطلاقه على الله تعالى لإيهامه الخطأ وليس إذا صح أن يقول شيء لا كالأشياء صح أن يقول جسم لا كالأجسام لاختلاف الفائدة كما تقدم.
فصل
في شبهة المجسمة.
أما من جهة العقل فهو أنه قادر عالم، والقادر العالم لا يكون إلا جسماً دليله الشاهد، والجواب هذا اعتماد على مجرد الوجود ولا جامع بين الموضعين، ثم نعارضهم فنقول: القادر العالم في الشاهد يجوز عليه أضداد مجرد هذه الصفات وزوالها، ولا يفعل إلا مباشراً أو متعدياً، فيلزم مثله في الغائب.
والتحقيق: أن القادر العالم في الشاهد إنما وجب أن يكون جسماً لأنه قادر بقدرة وعالم بعلم وهي تحتاج إلى محل فكان جسماً، والباري تعالى يستحقها لذاته، ولما هو عليه في ذاته فافترقا.
شبهة: قالوا: إثبات موجود ليس بجسم ولا عرض لا يعقل.
والجواب: إن معنى قولهم لا يعقل أنه لم يوجد له نظير، وهذا لا يمنع من إثباته إذا قام عليه دليل كما أنهم قد أثبتوه قديماً وقادراً على الأجسام، ويستحيل عليه الموت. وكل هذا لا نظير له.
شبهة: قال ابن الحكم ليس في المعلومات إلا حاضر أو غائب، ولا بد من الاستدلال بالحاضر على الغائب، فأما أن يسوى بينهما في كل وجه وذلك باطل؛ لأنه يقتضي حدوث الباري تعالى، وإما أن يفرق بينهما في كل وجه، وذلك يقتضي أن لا يكون الله تعالى عالماً قادراً، فلم يبق إلا أن يسوي بينهما في وجه دون وجه، وليس إلا كونه جسماً؛ لأنه فاعل قادر عالم، ولا يعقل هذه الصفات إلا للجسم فبقي الجسمية تقتضي نفيها.
والجواب: إما نجمع بين الشاهد والغائب في الوجه الذي نجمعهما عليه، ولم تكن العلة في كون الشاهد جسماً هي أنه قادر عالم بل لأنه يستحق هذه الصفات لمعان محدثة يحتاج إلى محال مبنية، ولأن الشاهد لا يفعل إلا على جهة المباشرة أو التوليد.
شبهة: قالوا: لم يشاهد حياً إلا ويجوز عليه الحس والحركة ولا ما يجوز عليه الحس والحركة إلا وهو حي(1) فيجب مثله في القديم؛ لأنه حي.
والجواب: نعارضهم بأنا لم نشاهد شيئاً إلا وهو محدث ولا محدثاً إلا وهو شيء، فيجب مثله في الباري؛ لأنه شيء، وجوابهم جوابنا.
والتحقيق: أن الذي يدل على أنه حي ليس هو الدليل على جواز الحس والحركة، وكذلك ما يدل على جواز الحس والحركة ليس هو الدليل على أنه حي قط، بل يدل على أنه جسم حي فلا يلزم في كل حي أن يكون جسماً، وكذلك الكلام في ما عارضناهم به، فإن الدليل على أن الشاهد شيء ليس هو الدليل على أنه محدث ولا الدليل على أنه محدث هو الدليل على أنه شيء فقط بل على أنه شيء وجسم أو عرض فلا يلزمهم مثله في القديم.
وشبهتهم من جهة السمع آيات، منها: {الرحمن على العرش استوى} وبما خص العرش بالذكر؛ لأنه أعظم المخلوقات. ومنها: {الله نور السماوات والأرض}.
والجواب: إن ظاهرها متروك؛ لأنه لو أراد النور بمعنى الضياء لم يكن لإضافته إلى السماوات والأرض فائدة، وأيضاً فكان لا يوجد فيهما ظلمة؛ لأن الله تعالى دائم، وكان يجب أن تقع الاستضائة دون الشمس والقمر وخلافه معلوم، وأيضاً فالنور مخلوق بدليل قوله تعالى: {وجعل الظلمات والنور}، وأيضاً فكثير من الناس يجعل النور عرضاً لا جسماً.
__________
(1) . في نسخة: جسم.
إذا ثبت هذا فقد قيل معناه منور السماوات والأرض، وقيل: معناه هادي أهل السماوات والأرض. عن علي وابن مسعود، ومنه قوله تعالى: {والنور الذي أنزلنا} أي الهدى، وكذلك قوله تعالى: {وسراجاً منيراً} أي هادياً، وقوله: {نخرجهم من الظلمات إلى النور} أي إلى الهدى، وقوله: {فهو على نور من ربه}.
وأما قوله: {مثل نوره} فقيل شبهه بالإيمان الذي في قلب المؤمن، ولهذا قرأ أبي بن كعب ومجاهد: {مثل نور المؤمن}. وقيل: كان أبيّ(1) يقرأ: {مثل نور من آمن به}.
ومنها: {كل شيء هالك إلا وجهه} ونحوها مما فيه ذكر الوجه.
والجواب لا تعلق بظاهرها؛ لأنه يقتضي أن يهلك كله إلا الوجه.
والمعنى كل شيء هالك إلا هو كما يقال: هذا وجه الرأي أي هاذ هو الرأي، وكما يقال: فعلت هذا لوجهك، أي لأجلك.
والوجه يستعمل في معان غير هذين المعنيين، فيستعمل بمعنى أول الشيء كقوله تعالى: {وجه النهار} وبمعنى القصد والإرادة كقوله: {ومن يسلم وجهه إلى الله} أي قصده، وقوله: {فأقم وجهك للدين}، وقول الشاعر:
استغفر الله ذنباً لست محصيه .... رب العباد إليه الوجه والعمل
... أي القصد، وبمعنى الخيار يقال: هذا وجه القوم أي خيارهم، ومثله وجه الثوب، وبمعنى المقدار يقال لفلان وجه عند الأمير، أي جاه وفلان أوجه من فلان ووجه فلان عريض أي جاهه. ومنها: قوله تعالى: {لما خلقت بيدي} و{مما عملته أيدينا} ونحو ذلك.
والجواب لا تعلق بظاهرها؛ لأن الخلق باليد يمنع الاختراع، والأجسام لا تفعل إلا اختراعاً. والمعنى: لما خلقته أنا كما تقول العرب: هذا ما جنت يداك، أي فعلته أنت، وكقوله تعالى: {بما قدمت يداك} و{أيديهم}، وفي المثل: يداك أَوْكَتَا وفُوْكَ نَفَخْ، وأشباه ذلك كثير.
__________
(1) . في نسخة: مجاهد.
واليد تستعمل بمعنى الجارحة وبمعنى النعمة، وعليه يحمل قوله تعالى: {بل يداه مبسوطتان}، بدليل ما قبل هذه اللفظة وما بعدها، ولا يقال فما معنى التثنية؛ لأن العرب تستعملها مثناة بهذا المعنى، قال الشاعر:
فيدان بيضاوان عند محلّم .... قد يمنعانك بينهم أن تهضما
/141/ وتستعمل بمعنى القدرة، وعليه يحمل قوله تعالى: {يد الله فوق أيديهم}، وقد ينبني بهذا المعنى كقوله:
فقالا شفاك الله والله ما بنا .... لما حمَلَت منك الضلوع يدان
وبمعنى المظاهرة كما قال عليه السلام: وهم(1) يد على من سواهم، أي متظاهرون، وبمعنى النقد والإحضار كما قال عليه السلام في باب الربا: يداً بيد. وقال تعالى: {حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون} وبمعنى أمام إذا قرن بها بين وثنيت نحو: {بين يدي عذاب شديد}،و: قام فلان بين يدي الأمير، ونحوه.
ومنها: قوله: ولتصنع على عيني، و: {اصنع الفلك بأعيننا}، ونحوه.
والجواب: لا بد من ترك ظاهرها لاقتضائها أن يكون موسى فوق عين الله ونوح في عينه، أو أن تكون عينه له في صناعة الفلك، وكله محال، والمعنى: ولتصنع بعلمي، وكذلك سائرها، وقيل: العين تستعمل بمعنى المراعاة للشيء والعناية كما قال ابن حلزّة:
وبعينيك أو قدت هند النار .... عشاء بلوى بها العلياء
فنوّرت نارها من بعيد .... بخزازي هيهات منك الصلاء
فقوله: فنورت نارها من بعيدٍ دليل على أنه لم يرعها، ولكن عرف بعنايته، فيكون المعنى على هذا: ولتصنع على مراعاة مني وحياطة. والعين مشتركة بين الجارحة والماء الجاري وعين الركبة والنقد الحاصل، يقال: بعت عيناً بدين، والمطر، وعين الميزان، والذهب، وبمعنى الاستكثار والغبطة، يقال: أصاب فلاناً عين، أي فساد لأجل استعجاب الغير به، وعين الشمس وعين موضع بالعراق، وعين الشيء خياره، وعين القوم رئيسهم، وعين الرأي ذاته.
__________
(1) . أي المسلمون.
ومنها: قوله: {يا حسرتا على ما فرطت في جنب الله}. والجواب: أن الظاهر متروك؛ لأن التفريط في الجنب الذي هو العضو غير معقول، والمعنى في الجانب الذي لله، كما قال الشاعر:
الناس جنب والأمير جنب
وقيل: معناه في أمر الله عن مجاهد، واستشهد قول الشاعر:
خليلي كفّا واذكرا الله في جنبي .... فقد نلتما من غير إثم ولا ذنب
أي اذكراه في أمري وشأني واتركا الغيبة.
وقيل: معناه من أجل الله ويشتبه كما قال كثيّر عزّة:
فَمَا ظنّة ٌ في جنبكَ اليومَ منهمُ .... أُزَنُّ بها إلاّ اضطلعتُ احتِمالَها
أي ما تهمه إلا من أجلك وبسببك وكل ذلك حسن.
ومنها: قوله: {يوم يكشف عن ساق} روى أهل الزيغ فيه حديثاً أن ربهم يأتيهم يوم القيامة في غير صورته التي يعرفون فيهمون أن يبطشوا به لإنكارهم له، فيكشف لهم عن ساقه فيخرون له سجداً /142/ والجواب: أن الظاهر متروك أيضاً، إذ لا فائدة في كشف الساق الذي هو الجارحة، فإن الوجه واليد ونحوهما أظهر منه وأحسن، ويقتضي أن يكون فعله فعل المخادع تعالى الله عن ذلك. والمعنى يوم يكشف عن شدة، قاله مجاهد، قال ابن عباس: هي أشد ساعة في القيامة. ومنه قولهم: قامت الحرب على ساق، قال سعد بن مالك جدّ طرفه يصف الحرب:
كَشَفَتْ لَهُمْ عَنْ سَاقِهَا ... وبَدَا مِنَ الشَّرِّ الصُّرَاخُ
وقال آخر:
وإنْ شمّرت عن ساقها الحَرْبُ شَمَّرا
فصل
وأما أنه تعالى لا يجوز أن يكون عرضاً فقد خالف فيه بعض الصوفة، زعموا أنه عرض يحل الصور الحسنة، وهؤلاء أحقر من أن يكالموا، وإنما أرادوا بذلك أن يقبلوا الصور الحسنة من الصبيان وغيرهم.
لنا أن الأعراض محدثة والله تعالى قديم كما تقدم تفصيله. وبعد فالله تعالى حي قادر، والعرض يستحيل ذلك عليه من حيث إما أنه يستحق هذه الصفة لذاته وهو محال وإلا وجب قبله في كل عرض ولزم ما تقدم من المحالات. وإما أن يستحقها بالفاعل وفي ذلك حدوثه وامتناعها لم يزل. وإما أن يستحقها لمعنىً وهو محال؛ لأن المعنى لا يختص المعنى.
وبعد فلو جاز عليه تعالى الحلول كما يقوله هؤلاء، للزم قدم المحل أو حدوث الحال لما تقرر من أن ما يحل لا يجوز أن يوجد غير حال، وللزم أن يحل في محل واحد فقط لا لاستحالة الانتقال على الأعراض.
فصل
وكما لا يجوز أن يكون جسماً ولا عرضاً فكذلك لا يجوز عليه ما يجوز على الأجسام من المجي والذهاب والكون في الأماكن ونحو ذلك ولا ما يجوز على الأعراض من الحلول والتضاد وجواز العدم ونحو ذلك.
القول في استحالة الرؤية على الله تعالى
ذهب أهل العدل /143/ إلى أنه يستحيل أن يرى نفسه وأن يراه غيره، وذهبت المجسمة وأهل الجبر إلا النجار إلى أنه يرى نفسه ويراه غيره، ومنع القلانسي منهم إطلاق القول بأنه تعالى مدرك ونسب إلى الشيخ أبي القاسم القول بأنه يرى نفسه ولا يراه غيره، وليس بصحيح عنه.
قيل: والحق أنه لم يقل بهذا أحد من أهل العدل.
لنا: أما من جهة العقل فدليلان: الأول أنه لو صح أنه يرى نفسه أو يراه غيره في حال من الأحوال لرأيناه الآن، ومعلوم بالضرورة أنا لا نراه الآن، ويدل على أنه لو صح أن يرى في حال من الأحوال لرأيناه الآن، ومعلوم بالضرورة أنا لا نراه الآن، ويدل على أنه لو صح أن يرى في حال من الأحوال لرأيناه الآن هو أنه تعالى حاصل على الصفة التي لو رأى لما رأى إلا لكونه عليها وأحدنا حاصل على الصفة التي لو رأى لما رأى إلا لكونه عليها والحواس سليمة والموانع مرتفعة، وهو تعالى موجود، وهذه الشرائط التي يجب معها رؤية المرئيات متى حصلت، وهذه خمسة أصول، أما أنه تعالى حاصل على الصفة التي لو رأى لما رأى إلا لكونه عليها فهو متفق عليه، وإن اختلف في ما تلك الصفة، فعندنا أنها الذاتية في حقه تعالى، والمقتضاة في حق المحدثات كالتحيز في الجوهر والهيئة في اللون وعند المجبرة أنها الوجود في الموضعين.
ويبطله أن الوجود متماثل في الذوات اتفاقاً بين من يجعله زائداً على الذات فكان يلزم في كل موجود أن يرى، ومتى جعلوا الوجود هو نفس الذات فكأنهم قالوا: يرى الشيء لذاته، فيعود الأمر إلى ما قلناه، ولا ينقلب علينا في الصفة المقتضاة، فحلفه فيقال: كان يجب في كل ما له صفة مقتضاة أن يرى؛ لأن الصفة المقتضاة، فيقال: كان يجب في كل ما له صفة مقتضاة أن يرى لأن الصفة المقتضاة مختلفة بخلاف الوجود.
وأما أن الواحد منا حاصل على الصفة التي لو رأى لما رأى إلا لكونه عليها فقد حالف فيه الأشعرية حيث أثبتوا الإدراك معنى وضرار حيث زعم أنه تعالى يرى بحاسة سادسة يخلقها في الآخرة، وتقدم إبطال كون الإدراك معنى. ويبطل قول ضرار أنه إثبات ما لا طريق إليه، ويلزم عليه تجويز حاسة سابعة يلمس بها، وكذلك في الشم والذوق والسمع، وهو ظاهر البطلان، وبعد، فإن كانت لهذه مماثلة فهذه الحواس وجب الاستغناء عنها، ووجب أن نراه بهذه، وإن كانت مخالفة فليس بأشد من مخالفة بعضها لبعض، ومع اختلافها فقد اتفقت في الرؤية، وليس لأحد أن يقول أنها تخالف هذه الحواس في الرؤية لأنها لا في مجرد الشكل؛ لأن ذلك ينبني على أن الإدراك معنى، وقد أبطلناه ونفس الرؤية لا يقع فيها اختلاف فلم يبق إلا الاختلاف في الشكل. وبعد فلو احتاجب رؤيته إلى حاسة مخالفة لهذه الحواس لأجل مخالفته للمرئيات احتاج العلم به إلى آلة غير آلة القلب لمخالفته للمعلومات.
وأما أن الموانع مرتفعة فلأن الموانع المعقولة هي القرب والبعد المفرطان والرقة واللطافة وانحجاب /144/ الكشف وعدم الضياء المناسب للعين، وكون المرئي في غير جهة الرأي، وكون محله في بعض هذه الأوصاف وكل هذه الموانع مرتفعة في حقه تعالى؛ لأنها إنما تمنع من رؤية الأجسام والألوان، وقد قدمنا ما يلزم من تجويز مانع سواها، وأما أنه تعالى موجود فقد تقدم. وأما أن هذه الشرائط التي معها ترى المرئيات فلأنه قد حصل المقتضى، وهو كون أحدنا حياً، وشرط الاقتضاء، وهو صحة الحاسة وزوال المانع ووجود المدرك، فيجب حصول المقتضى، وهو كون أحدنا مدركاً له تعالى وبهذه الطريقة، نعلم أنه تعالى مدرك المدركات فلو جوزنا أن لا يدرك أحدنا مع حصولها لجوزنا مثله في الباري تعالى.
وقد اعترض الرازي على هذا الدليل بوجوه: الأول أن قال: أنا نرى الكبير صغيراً مع البعد، فإنا كنا رأيناه كله، وجب أن نراه كبيراً وإن كنا رأينا بعضه بطل قولكم أن هذه الشرائط التي معها يرى المرئيات، وأجاب أصحابنا بأن الشعاع المنفصل ضوء يرى الشكل بمثابة المثلث فما بعد الشيء استدقّت زاوية الشعاع، فيقع على بعضه إذا كان كبيراً.
واعترضه الفقيه قاسم في تعليق شرح الأصول بوجهين:
أحدهما أن إيصال الشعاع بالمرئي ليس بشرط عند المحصلين وإنما شرطه أن يتصل بما هو كالآلة من أجزاء الهوى. ويمكن الجواب بأن الذي يتصل به الشعاع من أجزاء الهوى لا بد أن يكون مستدقاً على هيئة استدقاق الشعاع لولا ذلك للزم إذا انفصل الشعاع إلى بعض أجزاء الهوى أن يرى أحدنا ما خلفه وعن يمينه ويساره لاتصال بعض أجزاء الهوى ببعض وضرورة الجميع في حكم الآلة.
الثاني: أنه كان يلزم إذا وقع الشعاع على بعضه أن نميزه فنعلم هل هو طرف أو وسط، ويمكن الجواب بأن للتعد تأثيراً في عدم التمييز، ألا ترى أنا ندرك الجسم المتلون ولونه، ولا نفصل ونميز اللون هل هو سواد أو غيره إلا مع القرب.
ووجه ثالث ذكره الرازي على هذا الجواب فقال: لو كان الاستدقاق زاوية الشعاع للزم إذا بعد شبراً من موضعه أن لا يراه البتة.
ويمكن الجواب بأنا لم نفرض الواقع على المرئي آخر زاوية الشعاع بل يجوز أن يبقى منها ما لو بعد المرئي لرأى أصغر مما كان كذلك حتى ينقطع فلا يرى.
فإذن يكون الأولى في الاعتراض على جواب أصحابنا أن يقال لو كان ذلك الاستدقاق زاوية الشعاع للزم ألا يرى ما حول هذا الشيء؛ لأن زاوية الشعاع إذا صغرت عنه ولم يقع إلا على بعضه فكيف يرى ما حوله، وأيضاً فكان يلزم إذا صرفنا زاوية الشعاع إلى البعض الآخر /145/ أن يراه، ومعلوم أنا لا نرى الأشياء واحداً، إذا ثبت هذا فالأحسن في الجواب على الرازي أن نقول أنا نرى الشيء كله على البعد كما نراه كله على القرب لكن يخيل إلينا أنه صغير لأجل اتساع ما نرى حوله من القضاء أو غيره، فإنه إن كان طائراً في الهوى فإنا حين نراه يقع بصرنا على جرم السماء فنراه صغيراً في حينها، وكذلك الشجرة في الفلاة أو في الجبل وكلما قربنا إليه قل ما يقع عليه بصرنا مما حوله فرأيناه كأنه يكبر.
يزيده وضوحاً أن الشيء إذا ضم إلى ما هو أكبر منه رئي كأنه صغير وازدرته العيون، وكذلك الرجل الكامل إذا استقام عنده المفرط في الطول رأي الكامل كأنه قصير، وهذا ظاهر، فإن كثيراً من الأشياء إنما يعلم كبره أو حسنه بأن يضم إلى غيره.
ووجه آخر في الجواب، وهو: أن يقال للرازي هذا السؤال لازم لك أيضاً لأنك توافق في اعتبار هذه الشرائط، وإنما تعتبر أمراً زائداً وهو الإدراك الذي يفعله الله فينا، فأخبرنا ما الوجه في أنا نرى الكبير صغيراً مع حصول الإدراك الذي يدرك به الجميع لو قرب فلا يكون له بد من الرجوع إلى ما قلناه.
الاعتراض الثاني للرازي على أصل الدلالة أن قال إذا نظرنا إلى مجموع كف من التراب رأيناه ونحن لا نرى أجزاءه إذا انفردت، فإن كان رؤية كل واحد من أجزائه مشروطة برؤية الآخر لزم الدور وإن لم تكن مشروطة بذلك صارت نسبة الرؤية إلى الجميع على سواء، ونحن لا نرى الإجزاء إذا انفردت، فبطل قولكم أن هذه الشرائط التي معها ترى المرئيات.
والجواب: كيف يلزمنا ذلك ونحن نجعل اللطافة أحد الموانع من الرؤية وهي حاصلة في الجزء الواحد بل قد أحال بعض شيوخنا رؤيته على انفراده، قال: لأنه يدخل في تضاعيف الشعاع فلا يتميز المرئي من المرئي به ولسنا نجعل رؤية البعض شرطاً في روية البعض حتى يلزم الدور، ولكنا نجعل الشرط الإنضمام ثم نقلب عليه السؤال فلا يكون له بد من الرجوع إلى ما قلناه.
الاعتراض الثالث: له أن قال إن هذه الشرائط التي معها ترى المرئيات في الشاهد فمن أين يجب عند حصولها أن يرى الله تعالى.
والجواب: لو جوزنا اعتبار شرط آخر لا دليل عليه لجوزنا أيضاً في الشاهد، فكان يجوز أن يكون بين أيدينا ذوات مخالفة لما نشاهده ولكنا لا نراها لفقد شرط مجوز، وبعد فلو جوزنا شرطاً سواها لما أمكننا القطع على أن الله تعالى مدرك؛ لأنا لا نعلم هل حصل ذلك الشرط في حقه تعالى أم لا. وبعد /146/ فعنده أنه لا بد من اعتبار هذه الشروط لكن إذا حصل معها الإدراك الذي ندرك نحن به الله تعالى، وجب أن يدركه فيقال ما أنكرت أن يحصل الإدراك أيضاً ولا ندركه بأن يقف إدراكنا له على شرط آخر مجوز، وكل شرط يفرض حصوله فإنه يلزم تجويز غيره فلا يمكنه القطع بأن الله تعالى يرى.
الدليل الثاني: من جهة العقل أن أحدنا لا يرى إلا بالحاسة والرأي بالحاسة لا يرى إلا ما كان مقابلاً للجسم أو حالاً في المقابل كاللون أو في حكم المقابل كالوجه في المرآة والله تعالى ليس كذلك، وهذه ثلاثة أصول، أما الأول فهو ضروري عند أبي الحسين وأصحابه واستدلالي عند الجمهور، والأولى التفصيل فيقال: إن كان الكلام في وقوع الرؤية على هذا الحد فهو ضروري، ولهذا يعلم جميع العقلاء من أنفسهم أنهم لا يرون إلا بالحاسة، ويكذبون من أخبر بخلاف ذلك، وسواء فرضنا الكلام في أن الإدراك معنى أم لا، ألا ترى أن كون القدرة معنى لا تخرج الكتابة عن كونها لا تقع إلا باليد والخصوم يوافقون في هذا، ولكنهم يدعون أنه بمجرى العادة وإن كان الكلام في الصحة فهاهنا ينبغي أن يكون الخلاف بين أبي الحسين وسائر الشيوخ، فعنده أنا نعلم بالضرورة استحالة الرؤية بغير حاسة. ويمكن أن يفصل فيه أيضاً فيقال إما أن الرؤية لا يصح إلا بالحاسة التي هي مبنية بنية مخصوصة فليس بضروري؛ لأن الخصوم يجوزون حصول الإدراك في الجزء المتفرد من دون بنية بل يجوزون ذلك في العلم والقدرة ونحوهما. وإما أن الرؤية لا تصح إلا بالآلة سواء كانت تسمى حاسة أو كانت جزءاً منفرداً على ما يجوزه الخصم فهو ضروري، والخصوم يوافقون فيه ويحيلون وجود الإدراك إلا في محل وإذا كانت كذلك فقد وافقوا في أن أحدنا لا يرى إلا بآلة، وبهذا يحصل غرضنا فإنا سواء، قلنا في عقد الدلالة إن أحدنا لا يرى إلا بالحاسة أو قلنا أن أحدنا لا يرى إلا بالآلة فإنه يحصل به المقصود.
وأما سائر الشيوخ فيستدلون بأن عند حصول الحاسة يصح أن يرى أحدنا، وعند فقدها يستحيل أن يرى، فدل ذلك على أنها شرط ويبطلون ما يدعيه الخصوم من أن طريق ذلك العادة بأنه كان يجوز اختلاف العادة، فيصدق من يخبرنا بأن في بعض البلاد رجلاً يرى لا بحاسة كما يصدقونه في أنه زرع زرعاً فلم ينبت. وبعد فلا بد فيما طريقه العادة أن يفارق ما طريقه الوجوب، ولولا هذا لاستوى في العقل الواجب والجائز، فجوزنا أن تكون المعلولات والمسببات بمجرى العادة، ويمكن أن يؤكد بما تقدم من أن الخصوم يوافقون في استحالة الرؤية لا بآلة، وذلك كاف في الغرض وإن جوزوا حصول الإدراك /147/ والعلم والقدرة ونحوها في الجزء المنفرد.
فإن قيل: إذا جوزوا حصول هذه المعاني في الجزء المنفرد فقد جوزوا الإدراك لا بحاسة ولا بآلة؛ لأن الحاسة من حقها أن تكون مبنية بنية مخصوصة والآلة من حقها أن تكون في حكم الغير للحي، ومذهبهم يقتضي جواز أن يكون الحي المدرك القادر العالم جزءاً منفرداً.
قلنا: هذا وإن كان مذهب القوم فإن كلامنا في رؤية الواحد منا في الدنيا والآخرة، وهم يوافقون في أنه ليس أحد منا جوهراً فرداً حتى يكون قد أدرك لا بحاسة ولا بآلة. على ان هذا لا يضرنا في صحة الدليل لأنا حيئذ نقول في عقد الدلالة الواحد منا متحيز والمتحيز لا يرى إلا ما كان مقابلاً أو حالاً في المقابل أو في حكم المقابل، ثم أنا نبطل ما قالوه بأنه لو صح حصول هذه المعاني من دون بنية لجوزنا في أجزاء الحجر والتراب ونحوهما أن تكون حية قادرة عالمة مدركة مكلفة. فإن قال ذلك جائز ولكن علم أنه غير واقع للعادة.
قيل له: هذا التجويز كاف في معرفة عنادك ومكابرتك، ثم أنا نلزمك الوقوع فنقول: ما أنكرت وقوع ذلك، ولكن طريق العلم به الإدراك والله تعالى لم يخلقه فيك، وبعد فلو لم تحتج هذه المعاني إلى بنية لكان يجب أن يكون القادر منا هو محل القدرة دون الجملة، وكذلك العالم وسائرها، وقد التزمه الأشعري وهو مكابرة، ويلزم عليه ألا يصح الفعل في اليد لداع في القلب ولا الكتابة لعلم في القلب ولا يكون للإرادة تأثير في الأفعال، وفي ذلك وقوع الفعل المحكم من القادر الذي هو جزء في اليد وهو ليس بعالم؛ لأن العالم جزء في القلب، ويلزم أن لا ترجع الأحكام إلى الجملة بل يكون المستحق للجلد هو اللسان؛ لأنه القاذف، وكذلك الزنا ونحوه، ويلزم أن يكون أحدنا بمنزلة أحياء كثيرة وقادرين ضم بعضهم إلى بعض فلا يصح(1) منه الفعل بداع واحد، ومتى التزم جميع ذلك ملتزم طوينا عنه الكلام ولم يكن عندنا أهلاً للمناظرة.
وأما الأصل الثاني وهو أن الرأي بالحاسة لا يرى إلا ما كان مقابلاً أو حالاً في المقابل أو في حكم المقابل، فقد ادعى أبو الحسين فيه الضرورة وهو القوي، ولهذا نبادر إلى تكذيب من أخبرنا أنه رأى شيئاً ليس كذلك كما نكذب من أخبرنا بأنه رأى جسماً غير متحرك ولا ساكن، وخلاف الأشاعرة محمول على أحد وجهين (فراغ) على جحد الضرورة، وذلك غير مستنكر منهم لقلتهم في الأصل، ولأن لهم مداخل في المكابرة وحسرة على العباد وصناعة في التمويه وليس ذلك بأبلغ من استحسانهم تكليف ما لا يطاق وإنكارهم قبح الظلم والكذب ووجوب /148/ رد الوديعة وشكرا لمنعم في العقل وتجويزهم أن يرى القدرة والحياة والإرادة، وأما على أن في الضروريات ما لا يجوز اختلاف العقلاء فيه كالعلم بأن هذا زيد الذي كنا شاهدناه ونحو ذلك مما لا يعدّ في كمال العقل.
__________
(1) . يلزم. ط
ووجه ثالث وهو أن يكونوا عالمين بذلك ضرورة ولا يعلمون أنهم عالمون به لما قد نمقوه من أساطيرهم واعتقدوه من خيالاتهم على مثل ما نصرف إليه خلاف السوفسطائية وقد استدل سائر الشيوخ بأن صحة الرؤية ووقوعها ينتفي بانتفاء المقابلة أو ما في حكمها وبين قولنا وثبتت بثبوتها، فدل ذلك على أنها شرط، وهذا رجوع إلى قول أبي الحسين؛ لأنه لا بد أن يكون علمنا بانتفاء صحة الرؤية عند انتفاء المقابلة أو ما في حكمها وبين قولنا أنا لا نرى إلا ما كان كذلك، إذا ثبت هذا فقد اعترض المخالفون هذا الدليل باعتراضات: الأول المعارضة بالعلم، قالوا: فإذا جاز أن نعلم ما ليس بمقابل ولا حال في المقابل ولا حال في المقابل ولا في حكمه جاز أن نراه، وهذا عي ومهازلة، ولو جاز أن تقاس رؤية القديم على العلم به لجاز مثله في المعدوم فيقال إذا صح أن يعلم المعدوم وهو ليس بمقابل ولا حال في المقابل ولا في حكمه جاز أن نراه، كذلك إذا خلق الله فينا إدراكه.
الاعتراض الثاني: إن قالوا إن المقابلة وما في حكمها إنما هي شرط في رؤية المحدثات فكيف يكون شرطاً في رؤيته تعالى.
والجواب: أنا قد بينا أن العقول تحيل رؤية لا بمقابلة ولا نحوها، فقد جوز رؤية الباري تعالى لزمه تجويز المقابلة أو ما في حكمها ومن أحال ذلك فقد أحال الرؤية ولا يجوز في العقل انفصال أحدهما عن الآخر، ومن فصل بينهما عددناه مكابراً.
وقلنا له: ما أنكرت أن يكون الله تعالى جسماً متحيزاً لا في جهة؛ لأن الجهة إنا تجوز على المحدثات.
فإن قال: أن كونه جسماً حقيقة يستلزم الجهة. قيل له: وكذلك الرؤية تستلزم المقابلة أو ما في حكمها، وما ذكره الرازي من أن التزام هذا الشرط في رؤيته تعالى من أحكام الوهم والخيال فهو غير صحيح؛ لأنا إنما نعلم أن الحكم للوهم والخيال إذا قام الدليل العقلي على خلافه كما يقضي الحس بأن الشمس في قدر رغيف، وأن السحاب المتباعد منتصب، وأن الظل واقف ونحو ذلك، فأما إذا قضت النفوس قضاء جزماً ولم يقم دليل على خلافه لم نقل أنه حكم الحس والخيال لولا هذا كان للمجسم أن يقول إلزام الحدوث على القول بالتجسيم من أحكام الخيال، ولكان لقائل أن يقول: إن الله يكون مقابلاً /149/ إذا رأيناه ولا يقتض ذلك الجسمية؛ لأن الحكم بجسمية المقابل من أحكام الخيال.
الاعتراض الثالث لبعض مشيختهم، قال: قال إن المقابلة وما في حكمها إنما كانت شرطاً في الرؤية بمجرى العادة، ويجوز أن يخلق الله فينا رؤية الأجسام والألوان من دون مقابلة أو ما في حكمها.
والجواب: يجري على نحو ما تقدم من أن هذا مكابرة، ثم يقال: لهذا ما أنكرت من أن تحيز الأجسام عند وجودها بمجرى العادة، ويجوز أن يخلق الله جسماً عند متحيز ويجعل الجسم متحيزاً من دون وجود؛ لأن كون الوجود شرطاً هو بمجرى العادة وما أنكرت أن الحياة إنما كانت شرطاً في العلم والقدرة بمجرى العادة، ويجوز أن يكون في الشاهد الغائب قادر عالم ليس بحي، وكذلك منافاة الأضداد دلالة الشهوة والنفار على الزيادة والنقص وكله طريقة العادة، وليس ذلك في العقول بأبعد من تجويز رؤية بغير مقابلة أو ما في حكمها. ومتى قيل أوليس الله يرى الأشياء من دون مقابلة فهلا صح أن يرى كذلك، على أن العقول إنا قضت بوجوب المقابلة من حيث أن الرائي جسماً ويستحيل أن يكون الجسم رائياً بما ليس بمقابل له والله تعالى ليس بجسم فيُرى لا بمقابلة بخلاف رؤية أحدنا؛ لأن الرؤية أمر صادر من جهة الرأي فإذا كان الرائي في جهة استحال أن تصدر الرؤية منه إلا إلى ما يقابل تلك الجهة أو يكون في حكم المقابل لها، وإذا لم يكن الرائي في جهة صح أن يرى ما ليس بمقابل لأنه لا يعقل أن يكون له مقابل.
يزيده وضوحاً: أن الله تعالى يرى الأشياء في جهاتها.
تنبيه
اعلم أن كلامنا هذا كله مع المخالفين إنما هو على تقدير ثبوت الإدراك معنى، ونحن قد أبطلنا كونه معنى بما لا مزيد عليه وفي ذلك إبطال اعتراضاتهم في هذين الدليلين جملة واحدة.
فصل
فيما استدل به من السمع على هذا المسألة فإنها مما يصح الاستدلال عليها بالسمع من حيث لا يقف العلم بصحة السمع عليها فمن ذلك قوله تعالى لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار والاستدلال بهذه الآية من وجهين:
أحدهما: أنه تعالى تمدح بنفي إدراك الأبصار عن نفسه تمدحاً راجعاً إلى ذاته وإدراك الأبصار هو رؤيتها وإثبات ما نفته مدح راجع إلى الذات يؤدي إلى النقض، وهذه أربعة أصول. أما الأصل الأول وهو أنه تعالى تمدح بذلك فلا خلاف فيه دليله سياق الآية فإن أولها تمدح وآخرها تمدح، ومن المستهجن عند أهلا للسان أن يتوسط بين أوصاف المدح ما ليس بمدح، وبعد فلسنا نعني بالمدح إلا اختصاص الممدوح بمزية لا يشاركه فيها غيره، وليس شيء من الأشياء ترى ولا يرى إلا الله ولو كان /150/ الخصم لكان قد شاركه في ذلك غيره، فلا يبقى للتمدح معنى، وقد يسقط بهذا قولهم أن المعدومات وكثيراً من الأعراض لا يرى فقد شاركه الباري في ذلك؛ لأنا نقول التمدح لم يكن بأنه لا يرى فقط بل بأنه يرى، ولا يرى ولم يشاركه في ذلك شيء، وصار كالتمدح بأنه لا تأخذه سنة ولا نوم، وينفي الصاحبة والولد، فإنه إنما يكون مدحاً بانضمامه إلى كونه حياً ويصير الجميع كالكاشف لمخالفته تعالى للمحدثات. وبعد فقد قيل إنه تعالى جعل التمدح بنفي الرؤية منبهاً على التمدح بنفي الصاحبة والولد في الآية، فكأنه قال: كيف من لا تدركه الأبصار تكون له صاحبة أو ولد.
وأما الأصل الثاني: وهو أن تمدحه بذلك راجع إلى ذاته، فلأن كون الشيء مرئياً أو غير مرئي، مما يرجع إلى ذاته سواء كان يرى على صفة ذاتية أو على صفة الوجود، فإذا تمدح بأن ذاته لا تُرى فهو تمدح بثبوت صفة لأجلها لا يُرى، وقد خالف في ذلك فرق، فقالت المجسمة إنه تعالى تمدح بنفي الإحاطة، وهذا ساقط؛ لأن الإدراك لا يستعمل بمعنى الإحاطة بل يثبت حيث ينتفي وينتفي حيث يثبت، وأيضاً فلا مدح في نفي الإحاطة؛ لأن السماء وغيرها من الأجسام العظيمة تشاركه في أنها لا تحيط بها الأبصار.
وذهب بعض المجبرة إلى أنه تمدح بنفي الإدارك الذي هو اللحوق وسنبين أن إدراك الأبصار هو رؤيتها، ولأنه كما لا تلحقه الأبصار، فهي لا تلحق غيره كالمعدوم ونحوه، ولأنه كان يلزم أن يكون التقدير وهو يلحق الأبصار، ويقال لهؤلاء: أتريدون بالابصار المعاني التي هي الإدراكات، فالمعاني لا يصح عليها اللحوق على أنه يكون التقدير لا يلحقه اللحوق أو تريدون بالأنصار الجوارح، فهي لا تلحق ساقط أو يريدون الأشعة التي تنفصل من الحواس، فليس من مذهبكم إثباتها، ولأن أثبتموها فليس من مذهبكم أنها هي البصر.
وذهب جمهور أهل الجبر إلى أن التمدح هو الإبانة لم يفعل الإدراك الذي ندرك به، فيكون راجعاً إلى الفعل، وهذا أيضاً جهالة؛ لأنه لا مدح في انه لم يخلق لنا إدراكاً يدرك به كما لا مدح في أنه لم يخلق لنا إدراكاً ندرك به الحياة والقدرة والفِيَلة التي بين ايدينا، ولهذا لو صرح بما قالوا فقال خالق كل شيء وهو على كل شيء وكيل، لا يخلق لكم إدراكاً تدركونه به وهو اللطيف الخبير، لكان هذا مستهجناً كما تقدم، وبعد فالعرب لا تعرف الإدراك الذي يثبته المتكلمون فكيف يخاطبون بما لا يفعلون، على أنا لا نسلم لهم كون الإدراك معنى، وبعد فيلزم مثله في قوله تعالى: {يطعم ولا يُطعَم} فيكون المعنى انه لم يخلق لنا إدراكاً نطعمه به وأكثرهم يلتزم هذا، وإن كانوا لا يطلقون العبارة وسيتضح مذهبهم في ذلك وإبطاله /151/. قال الرازي: إنما يحصل المدح بنفي الرؤية إذا كانت جائزة وكان تعالى قادراً على منع الأبصار عن ذلك، وجعل هذا وجهاً مستقلاً في جوازها.
والجواب: يقال له وكذلك في التمدح بنفي السنة والنوم والصاحبة والولد وجوابه جوابنا، وأما قياسه لذلك على التمدح بنفي الظلم والعبث فليس فغير صحيح؛ لأن التمدح هنا راجع إلى الفعل، وما كان كذلك فلا تم المدح فيه إلا مع القدرة عليه، ولهذا لا يصح التمدح بنفي الجمع بين الضدين ونحو ذلك بخلاف ما كان راجعاً إلى الذات، فإنه غير مقدور، على أنا ننفي ما تمدح الله بنفيه وإن رجع إلى الفعل، ونقول: لا يظلم في الدنيا ولا في الآخرة، فهلا قال بمثله في نفي الإدراك.
وأما الأصل الثالث: وهو أن إدراك الأبصار هو رؤيتها فلأنه وإن كان مشتركاً بين المشاهدة واللحوق والبلوغ والاتباع فإنه متى قرن بالبصر أفاد الرؤية بلا شبهة، ولهذا لا يقال أدركت ببصري شخصاً وما رأيته أو العكس، وما ينكر هذا إلا مكابر، وأما قول القائل: أدركت ببصري حرارة الميل فهو خارج عن هذه المسألة؛ لأن العين كغيرها في إدراك الحرارة لمساً، ولهذا يقلوله الأعمى.
قال الرازي: لا نسلم أن إدراك الأبصار هو رؤيتها، بل هو عبارة عن الوصول، وهو حقيقة فيه فقط. قال: فإذا رأى أحدنا شيئاً ورأى أطرافه ونهاياته قيل إنه أدركه على تقدير أن رؤيته قد أحاطت به من جميع جوانبه وإنما يتأتى هذا في الشيء إذا كان له أطراف ونهايات والباري تعالى منزه عن ذلك فلم تكن رؤيته إدراكاً له، فلا يلزم من نفي إدراك الأبصار نفي الرؤية. قال: والحاصل أن الإدراك رؤية مكيفة. ولنا أن نقول أن هذا الكلام فيه من التهافت والخبط ما لا يخفى على مميز.
أما أولاً فقد بينا أن من أثبت هذين اللفظين ونفى الآخر عده العقلاء مناقضاً سواء فرضنا الإدراك مشتركاً بتردد الفهم عند إطلاقه. وأما ثانياً فيلزمه أن لا يكون الباري تعالى مدركاً للأشياء لأنه يستحيل أن يصل إليها والإدراك هو عنده والوصول بمعنى، وأما ثالثاً فالإدراك عنده معنى قائم بذات الباري تعالى، وبذات أحدنا فكيف يعقل في هذا المعنى أن يكون قد وصل إلى المرئيات فضلاً عن أن يكون سمعه قد أحاط بالشيء من جميع جوانبه، وأما خامساً فالله تعالى يدرك نفسه عندهم بهذه الإدراكات الخمسة، فكيف يكون قد وصلت هذه الإدراكات إليه.
وبالجملة فكيف يعقل في المعاني / 152/ الوصول إلى غيرها، وأما سادساً فأهل اللغة لا يعقلون هذه المعاني فضلاً عن أن يجعلوا الإدراك هو أن يحيط بالشيء من جميع جوانبه(1). وأما سابعاً فهو أول كلامه جعل الإدراك بمعنى الوصول فقط، وفي آخره جعله بمعنى الإحاطة، وقدمنا أن الإدراك ليس من الإحاطة في شيء.
وأما الأصل الرابع وهو أن إثبات ما نفيه مدح راجع إلى الذات يؤدي إلى الانقلاب والنقص فلأن كون الشيء مرئياً أو غير مرئي إذا كان لأمر يرجع إلى ذاته وغير تابع للاختيار، فإن كونه مرئياً يقتضي خروجه عما لأجله كان غير مرأي والعكس ويفيد اختصاصه بصفة لم يكن عليها وهو محال اتفاقاً، وبعد فأما أن تمدح بنفي صفة كمال وهو محال اتفاقاً أو بنفي صفة لا كمال فيها، ولا نقصص، وهو محال؛ لأن نفي ذلك لا يكون مدحاً ولا ذماً، وكذلك ثبوته وهو بمنزلة قول القائل فلان لا يقوم ولا يقعد أو تمدح بنفي صفة نقص وهو المطلوب.
الوجه الثاني من الاستدلال بهذه الآية أن الله تعالى نفى إدراك الأبصار عن نفسه نفياً عاماً للأشخاص والأوقات من حيث أن حرف النفي إذا دخل على اسم الجنس المعرف باللام اقتضى الاستغراق بدليل صحة الاستثناء، وهذا لا يسع إنكاره، وقد اعترف به محققوهم لكن راموا الانفصال بما لا محصول له.
__________
(1) . في نسخة: جهاته.
قالوا: هو وإن كان عاماً فقد خصص بقوله: {وجوه يومئذ ناظرة..} الآية. إن من حق التخصيص التنافي على مقتضى الخاص ونحن سنبين أن النظر لا يفيد الرؤية وأنه يصح الجمع بين إثبات النظر ونفي الرؤية.
قال الرازي: إن قوله: {لا تدركه الأبصار} نقيض لقولنا: تدركه الأبصار، وقولنا: تدركه الأبصار، موجبة كلمة تقتضي أن يدركه كل أحد؛ لأن اللام للاستغراق، ونقيض الموجبة الكلية سالبة جزئية، وهو قولنا لا تدركه بعض الأبصار، فإذا كذبت السالبة الجزئية فإنا نسلم أن لا تسلمه بعض الأبصار، وهم الكفار، ويمكن الجواب بأنه يبنى على أن قوله تعالى: {لا تدركه الأبصار} سالبة جزئية بمنزلة قوله: بعض الأبصار لا تدركه، ونحن لا نسلمه، بل هي عندنا سالبة كلية تنزل منزلة قوله: لا واحد من الأبصار تدركه؛ لأنه إذا صدق أحد النقيضين كذب الآخر. على أنا إن سلمنا أنها سالبة جزئية فلا نسلم صحة ما ذهبوا إليه؛ لأن قوله: {لا تدركه بعض الأبصار} لا يدل على صحة أن تدركه البعض الآخر كما أن القائل إذا قال: ليس بعض الرجال في الدار لم يدل ذلك على أن البعض الآخر فيها، وبعد فإذا استحال في بعض الأبصار أن تدركه استحال في البعض الآخر؛ لأن وجه الاستحالة /153/ ثابت في الجميع، وهو أن كونه غير مرئي هو لأمر يرجع إلى ذاته.
فصل في شبههم في إثبات الرؤية
قد تعلقوا من جهة العقل بأنه تعالى موجود فيصح أن يرى؛ لأن علة صحة الرؤية هي الوجود من حيث وجدنا المختلفات كالجواهر والألوان مشتركة في صحة الرؤية، فلا بد أن يعلل بأمر يجمعها، وليس ذلك إلا الوجود؛ لأن الحكم المشترك لا يعلل إلا بعلة مشتركة.
والجواب هو أن يقال لهم: أليس من صريح مذهبكم أن الصحيح أمور سلبيّة كصحة وجود الشيء وصحة كونه معلوماً، فلِمَ عللتموها بأمر ثابت.
واعلم ان الذي أداهم إلى القول بأنها امور سلبية هو أن العالم في ما لم يزل يوصف بأنه يصح وجوده ويصح العلم به قالوا فلو كانت أموراً ثابتة للزم قدمها، وأيضاً فهي من صفات العالم، فلو كانت ثابتة لزم ثبوت الموصوف حال ثبوتها، وفي ذلك قدم العالم هذا كلامهم.
وأما نحن فعندنا أنها أحكام ثابتة في كل حال الذوات ثابتة في كل حال، ولا يلزم من ذلك قدمها؛ لأنها أحكام، والأحكام والصفات لا توصف بقدم ولا حدوث من حيث ليست بأشياء، وكذلك لا يلزم قدم الذوات المتصفة بها؛ لأن القدم كيفية في الوجود والعالم فيما لم يزل معدوم، وبعد، فسلمنا أن صحة الرؤية على أصلهم أمر ثابت، فمن أين لهم أنهم أيضاً حكم متماثل وأن صحة رؤية الجوهر تماثل صحة رؤية اللون، وتماثل صحة رؤية الباري، أوليس بعض هذه الصحح لا تقوم مقام البعض فإن صحة رؤية اللون يحتاج إلى ما تحتاج إليه صحة رؤية الجوهر، وهو المخل، وكذلك صحة رؤية الجوهر يحتاج إلى التميز ولا يحتاج إليه صحة رؤية القديم عندهم، وبعد فسلمنا أنها حكم متماثل فما دليلهم على أن الأحكام المتماثلة لا تعلل بعلل مختلفة، وهل توزعوا إلاَّ في ذلك، فإن من مذهب خصومهم أنها معللة بالمقتضيات وهي مختلفة في الأجناس، ونظير ذلك في العقليات صحة كون الأشياء معلومة، فإنها معللة بصفاتها الذاتية، وهي مختلفة، ومن الشرعيات فساد الصلاة، فإنَّه يعلل بالعلل المختلفة من حدَث وكفر ووطء نجاسة ونحو ذلك، وبعد فسلمنا أنها لا تعلل إلاَّ بالمتماثلات، فما أنكروا ان صحة الرؤية في الجوهر واللون هي كونهما ممكني الوجود من ذاتيهما أو كونهما معلومين يلزم عليه صحة رؤية المعدوم.
فإن قالوا: المعدوم ليس بشيء.
قيل لهم: ليس بمخلص لأنه إذا كان علة صحة الرؤية كونه ممكناً أو كونه معلوماً بطل اشتراط كونه شيئاً على أنه عندنا شيء.
قال: قالوا نحن نعلم استحالة رؤية المعدوم.
قيل لهم: ليس ذلك بأبلغ من استحالة رؤية /154/ القدرة والعلم والسمع والبصر ونحو ذلك مما قد جوزوه.
طريقة أخرى في الجواب: يقال لهم: أتطردون عليكم هذه فتزعمون أن كل موجود يصح أن يرى حتى القدرة والحياة والسمع والبصر ونحوها، أم لا تطردونها فيبطل كونها علة إذ لا أقل من إطراد العلة. وعند أهل السؤال افترقوا فرقتين، فأما أهل التحصيل منهم فقهقر وأعن هذه الشبهة واعترفوا ببطلانها، ولهذا قال الرازي في الأربعين: أما نحن فعاجزون عن تمشية هذا الدليل، يعني دليل الوجود، وأما أهل العناد منهم فاقتحموا ذلك، فقالوا: إن كل موجود يصح ان يرى حتى رؤية الباري وسمعه وبصره، وإنما أجرى الله العادة بانه لا يخلق فينا إدراك هذه الأمور.
وسبيلنا مع هؤلاء أن نبين لهم أولاً أنهم عاجزون عن طرد هذه العلة حتى التزموا المحال من أجلها، ثم يذكرهم ما يلزمهم على هذه المقالة فنقول: أليس الله تعالى يرى الأشياء برؤية قديمة، فلا بد من قولهم بلى، فيقال: أفيصح أن ترى هذه الرؤية أم لا، إن قلتم: لا يصح، بطل أصلكم، وإن قلتم يصح لزم أن يرى الرؤية برؤية الرؤية بروية أخرى إلى ما لا تناهي، وأن يكون رائياً لا برؤية، وفيه إبطال كون الإدراك معنى، ثم يقال لهم: أليس يصح أن يرى الحياة وأن يخلق الله لوناً غير هذه الألوان فنراه فلا بد من بلى، فيقال: إذا رأيتم الحياة ورأيتم ذلك اللون المجوز فبأي شيء تفرقون بينهما حتى تعلموا اللون لوناً والحياة حياة وهلا كانا لونين أو حياتين، وكذلك يسألون عن الفرق بين اللون والصوت عند سماعهما أو عند رؤيتهما ويسألون عن الفرق بين قدرته تعالى، وعلمه عند إدراكها.
طريقة أخرى في الجواب: يقال لهم: أتجعلون الوجود علة في صحة الرؤية فقط أو في صحة جميع الإدراكات عليه تعالى حتى يصح أن تسمع ذاته وأن تذاق وتشم وتلمس، والأول لا يمكنهم القول به لاتحاد الطريقة في الجميع، والثاني قد التزمه الأشعرية وأجازوا أن تدرك ذاته تعالى على حد إدراكنا للألم واللذة والريح والطعم والحرارة، وأجازوا أن يدرك علمه وحياته على حد إدراكنا لجميع هذه المدركات، وهو زيغ شديد وضلال بعيد.
طريقة أخرى يقال لهم: هل الوجود صفة زائدة على ذات الموجود أو هو نفس الذات، فإن قالوا: بالأول لزمهم ثبوت الذوات في حالة العدم، وقيل لهم: هلا جاز إدراكها وهي معدومة، ولكن لم يخلق الله فينا إدراكها، وإن قالوا: بالثاني فكأنهم قالوا ترى الأشياء لذواتها؛ لأن وجودها هو ذاتها، وهذا يقتضي تعليل صحة الرؤية بشيء مختلف وهو الذوات /155/ ويلزم عليه صحة الرؤية حال العدم كما سلف.
طريقة أخرى: يقال لهم: أوليس قياس الغائب على الشاهد بعلة جامعة هو عندكم من باب قياس التمثيل الذي لا يفيد إلا الظن الضعيف فكيف قطعتم على صحته هنا وهو ليس من الأقيسية البرهانية عندكم.
شبهة أخرى: لهم عقلية قالوا القول بصحة الرؤية لا يوجب حدوثه تعالى ولا حدوث معنى فيه ولا تشبيهه بخلقه ولا تكذيبه ولا تجويزه ولا قلب ذاته، فيجب القول بصحتها.
والجواب هذا بني أخذوه من كلام شيخنا أبي علي وأول ما فيه أنا نقول القول باستحالة الرؤية لا يؤدي إلى شيء، فما ذكروه فيجب القول باستحالتها، وكذلك القول بإثبات ماهية لله تعالى لا يعلمها إلا هو لا يؤدي إلى شيء من ذلك، فكان يجب ذلك كما يقوله ضرار وهم يأبونه.
ومثله إثبات معان لا نهاية لها للباري وصفات فهلا أثبتوه. ومتى قالوا كان يصح بينهما التمانع، قيل لهم: وما أنكرتم أن التمانع إنما يصح من المحدثات بمجرى العادة أو أن الحكم بصحة التمانع من أحكام الخيال، وبعد فمن سلم لهم أن القول بصحة الرؤية لا يؤدي إلى تشبيهه بخلقه أو إلى قلب ذاته أو ليس خصومهم يلزمونهم أن يكون مقابلاً أو في حكم المقابل وفي ذلك مشابهته للمحدثات، ويلزمونهم أن إثبات ما نفيه مدح راجع إلى الذات يؤدي إلى الانقلاب والنقص.
وبعد، فهب أن ذلك لا يؤدي إلى شيء مما ذكروه، فكيف يحكمون بصحة شيء لا دليل عليه.
فصل
في شبهتهم من جهة السمع أقوى ما تمسكوا به، سؤال موسى عليه السلام، قالوا: فلولا جواز الرؤية لما سألها، وربما يؤكدون ذلك بالتشنيع على أصحابنا فيقولون تزعمون يا معاشر المعتزلة أنكم أعرف بما يستحيل من نبي الله وكليمه في هذيان طويل يذكرونه.
والجواب: أول ما في هذا أنا نعارضهم فنقول تزعمون يا معاشر المجبرة أنكم أعرف من نبي الله وكليمه بما يتأخر في حكم الله إلى دار الآخرة ويمتنع في دار الدنيا.
وبعد فما أنكرتم أن موسى علم استحالة الرؤية لكن خلق الله فيه السؤال من دون اختياره كما خلق في قومه سؤال أن يجعل لهم آلهة حيث قالوا: يا موسى اجعل لنا إلهاً، وكما خلق في آدم أكل الشجرة. وبالجملة فإذا كانت الأفعال خلقاً لله لم يتولهم تعلق في سؤال موسى عليه السلام. وبعد فهم يعترفون أن موسى أذنب سؤال الرؤية وتاب، فكيف يصح ذلك في سؤال ما هو جائز، وأي ذنب فيه، وبعد فما أنكرتم /156/ أنه سألها عن قومه وأضاف ذلك إلى نفسه كمايقول الشفيع الذي يظهر العناية في طلب الحاجة فيقول: اقض حاجتي، وهو يريد حاجة من استشفعني أو ليعلموا أنها إذا تعذرت الرؤية مع كونه أضاف السؤال إلى نفسه فأولى إذا سألها غيره أو ليرد من جهته تعالى ما فيه مقنع للقوم وقطع لطمعهم حيث لم ينزجر وآمن كلام موسى وجوابه لهم ويدل على صحة هذا أنا نعلم ضرورة من الدين أن قوم موسى سألوه الرؤية كما حكى الله عنهم بقوله: {أرنا الله جهرة} وقولهم: {حتى نرى الله جهرة} ونعلم أنهم ضعفوا لأجل ذلك كما قال تعالى: {فأخذتهم الصاعقة} فيقال للخصوم أما أن تزعموا أن سؤال الرؤية كان مرتين وهذا شيء بعيد؛ لأنه كيف يسألها موسى وقد صعق قومه عند سؤالها وعلم تعذرها أو سألها قومه وقد صعق هو عند سؤالها وهو نبي الله وكليمه، وأما إن تغير فإن السؤال كان مرة واحدة، فلا يمكنهم القول بأنه سألها لنفسه؛ لأنه لو كان كذلك لما كان لهم ذنب فيصعقوا من أجله ولبطل ما علمنا من إضافتها إليهم، وهذا من أوضح دليل على أنه سألها عن قومه.
وأما توبته عليه السلام فهي إما لأن طريقه الأنبياء والصالحين كثير التوبة والاستغفار وأنهم لم يكن لهم ذنب لا سيما إذا رأوا نزول العقوبة بغيرهم، وبكون سبب الصاعقة في حقه على هذا التأويل، هو الفزع من عظيم قدرة الله تعالى، كما يروى مثله عن محمد عليه السلام حين رأى جبريل في صورته الهائلة، وأما لأنه يسأل بحضرة القوم من غير إذن فكان ذلك ذنباً وبكون الصاعقة في حقه على هذا امتحاناً لا عقوبة، وإن كانت في حقهم عقوبة إنما يفترق ذلك بالقصد كما أن سبب دخول بيت المقدس وقتل بني إسرائيل هو الكفر والمعاصي وبكون ذلك ابتلاء في حق من لم يكفر منهم.
وأما قولهم: كيف طلب بالسؤال المنع من الرؤية في السمع ولم يطلب دليلاً سمعياً في مسألة قولهم: {اجعل لنا إلهاً كما لهم آلهة} وغير ذلك، فهو اقتراح على موسى في أفعاله ويحكم عليه في ما يختاره. على أن مسألة الرؤية مما يشتبه الحال فيه ويحتاج إلى نظر دقيق بخلاف غيره، ولهذا اختلف المسلمون في مسألة الرؤية، ولم يختلفوا في جواز إثبات إله ثان. وبعد فما أنكرتم أن ثم مضافاً محذوفاً بعدك أرني أنظر إلى عظيم سلطانك لأزداد به يقيناً كما سأله إبراهيم عليه السلام مثل ذلك، ويكون تقدير الجواب لن ترى عظيم سلطاني في الدنيا لأن أهل الدنيا يضعفون عن ذلك، ولكن انظر إلى الجبل فسأريك فيه آية دون ما تريد، فإن استطعت بصر ذلك فسوف ترى عظيم سلطاني.
يوضحه: قوله: {فلما تجلى ربه للجبل جعله دكا} لأن التقدير فلما على عظيم سلطنه ونور سماواته لا كما يهدي به الخصوم /157/ من أنه تعالى خلق للجبل حياة ورؤية، ثم انكشف له، فلما رآه تدكدك، وكيف يصح هذا لهم وقد أجمعوا على ان جميع المخلقوات لا تراه في الدنيا، وبعد فيقال لهم: ما أنكرتم أن مسالة الرؤية لم تكن خطرت ببال موسى قبل وقت السؤال، فلما خطرت بباله وكان مشتغلاً بالمناجاة عن النظر طلب فيها دليلاً سمعياً وليس عدم العلم بمسألة الرؤية مما بباله من قبل، فأخذ بالنظر فيها حتى طلب دليلاً سمعياً وليس عدم العلم بمسألة الرؤية مما يقطع بكونه كثيراً ولا هذه المسألة مما يتوقف عليها العلم بالنبوة. وبعد الا يستدل على ما نقوله نحن من وجهين: أحدهما قوله تعالى: {لن تراني} فإن (لن) في اللغة لتأبيد النفي، وأما قوله تعالى: {ولن يتمنونه أبداً بما قدمت أيديهم..} إلى قوله: { قل إن الموت الذي تفرون منه فإنه ملاقيكم ثم تردون إلى عالم الغيب والشهادة}، فأخبر تعالى أن الموت الذي يفرون منه هو الموت الأول بدليل قوله: : {ثم تردون إلى عالم الغيب والشهادة}.
يزيده وضوحاً أنه تعالى ذكر التأبيد في هاتين الآيتين، فلا بد للخصم من العدول عن ظاهر التأبيد، كذلك العدول عن ظاهر في لفظ (لن). على أنه قد قيل أن المراد بقوله: {ولن يتمنوه، أي الرجوع إلى الآخرة، وإنما غير عند ذلك بالموت؛ لأنه لا بد منه، وإذا كان كذلك فهم لا يتمنون الرجوع إلى الآخرة أبداً، وهذا جيد، ويؤيده قوله تعالى: {قل إن كانت لكم الدار الآخرة}.
الوجه الثاني: أنه علق الرؤية بشرط مستحيل وهو استقرار الجبل حال تحركه، وتدكدكه إذ لو علقها باستقراره قبل ذلك أو بعد، ومعلوم أن ذلك قد حصل لوجب حصول الرؤية لحصول شرطها، هذا ما ذكره أصحابنا، ولهم أن يقولوا: بل علقها باستمرار الاستقرار، فكأنه قال: إن لم يتدكدك الجبل فسوف تراني، والأولى أن يجعل الوجه الثاني هو أن قوله تعالى: {فسوف تراني} يفيد في اللغة الاستقبال المتراخي، ومن مذهب الخصوم أن موسى سوف يراه في الآخرة، فإذا علق الله هذا التسويف والرؤية المستقبلة باستقرار الجبل ولم يستقر حكمنا بأنه لا يراه أبداً في المستقبل، وإلا بطلت فائدة الكلام؛ لأن عند الخصم أنه سوف يراه سواء استقر الجبل أم لا.
شبهة: تمسكوا بقوله تعالى: {وجوه يومئذ ناضرة}.
والجواب: ليس النظر بمعنى الرؤية قط، بدليل: أنه يثبت وينفي، فيقال: نظرت إلى الهلال فلم أره، وتثبت الرؤية حيث ينفي النظر، فيقال في الله: رائي ولا يقال ناظر، وتعقب النظر بالرؤية فيقال: نظرت فرأيت ويجعل وصله إلى الرؤية، فيقال انظر لعلك ترى، ويجعل غاية له الرؤية، فيقال ما زلت أنظر حتى رأيت.
قالوا: النظر إذا قرب بإلى أفاد الرؤية. قلنا: محال بدليل قوله تعالى: {وتراهم ينظرون إليك /158/ وهم لا يبصرون} وقال تعالى: {ولا ينظر إليهم}، فإنه ليس معناه لا يبصرهم اتفاقاً، وتقول العرب: نظرت إلى الهلال فلم أره، وحكى الرازي عن الخليل أن العرب تقول نظرت إلى فلان أي انتضرته.
وعن ابن عباس أن العرب تقول: إنما أنظر إلى الله وإلى فلان. وقال النابغة:
نظرت إليك لحاجة لم تقضها .... نظر المريض إلى وجوه العود
وقال الكميت:
وشعث ينظرون إلى بلال .... كما نظر الظماء حياء الغمام
أي ينتظروه، وقال آخر:
وقفت كأني من وراء حاجة .... إلى الدار من فرط الصيانة أنظر
فعيناي طوراً تغرقان من البكاء .... فأغشى وطوراً يحسران فأبصر
فأثبت النظر في حالتي الأبصار وعدمه، وقال آخر:
وإذا نظرت إليك من ملك .... والبحر دونك زدتني نعماً
والنظر مع كون البحر حائلاً هو الانتظار.
وقال آخر:
أبي البكر لما وعدت لناظر .... نظر الذليل إلى العزيز القاهر
وقال الفارسي وهو من كبار أئمة اللغة: النظر لا يفيد الرؤية، وأنشد مستدلاً على ذلك:
قيامي هل تجري بكائي بمثله .... مراراً وأنفاسي عليك الزوافر
وإلى متى أشرف من الجانب الذي .... به أتت من بين الجوانب ناظر
قال: فطلب منها الجزاء على كونه ناظراً إليها، ولو كان النظر هو الرؤية لما طلب عليه جزءاً وهو المحب بل حقه أن يبذل فيه الرغائب.
قالوا: النظر إذا قرن بالوجه أفاد الرؤية.
قلنا: لا نسلمه، أما أولاً فهو محل النزاع، وبعد فقد ورد كثيراً في اللغة وهو لا يفيد الرؤية، بل الانتظار، قال حسان:
وجوه يوم بدر ناظرات .... إلى الرحمن يأتي بالفلاح
وروي بالخلاص:
وروي ينتظر الفلاحا .... وروي ينتظر الخلاصا
وقال البعيث:
وجوه نهار ليل الحجاز على النوى .... إلى ملك زان المغارب ناظره
فتبين أن أهل الحجاز ينتظرون ملك المغرب، ومعلوم أنه لم يرد الرؤية، وقال آخر:
ويوم بداقار رأيت وجوههم .... إلى الموت من وقع السيوف نواظرا
فهذا كله يدل على بطلان ما قالوه، وإنما أكثر بالاستشهاد في ذلك؛ لأن بعض المتعجرفين منهم لم ير في كتب أصحابنا إلاَّ بيت حسان، فقال: إنا قد أفسدنا أصول المعتزلة، وهددنا أركانهم، ولسنا نترك أصلاً لنثبت شعر لا ندري عن قائله، يعني بيت حسان، فأريناه أن الأصل الثابت في اللغة ما ذهبنا إليه، ثم إن هذا الرجل المذكور استشهد بيتاً واحداً في جملة المسألة وهو /159/:
نظرت إلى من حسن الله وجهها .... فيا نظرة كادت على عاشق تقضي
ونحن نجيبه بمثل قوله، فنقول: كيف نهدم أصلاً ظاهراً في اللغة يثبت لا ندري من قائله، ولعلك أنت الذي قلته ونسبته إلى أهل اللغة، وبعد، فهب أنه صحيح فهو لا يدل على ما ذهبت إليه؛ لأنا نعترف أن النظر تتعقبه الرؤية ويكون سبباً فيها، ولهذا قال عليه السلام: النظر إلى المرأة الحسناء سهم من سهام إبليس، فإنه ليس المراد الرؤية؛ لأنها من الله، وغيرها من الإدراكات، والذي نهى عنه عليه السلام من النظر إنما هو الذي يقدر عليه، وهو تقليب الحدقة التي تتبعه الرؤية، ولهذا لا يذم أحدنا على العشق؛ لأنه فعل الله دائماً يذم على سببه وهو تقليب الحدقة التماساً للرؤية لا على نفس الرؤية التي هي معنى تحل العين. وبعد فيجوز أن يكون النظر في البيت بمعنى الانتظار، وهذا أولى لأنه الذي يحصل به المشقة وتلاف العشاق، وليس الرؤية تقضي على العاشق بل هي مما يستلذ به، فكيف يسميها موتاً بل يجيبه أولى كما هو أسلوب الفصحاء، وأما قول النابغة:
وما رأيتك إلا نظرة عرضت .... يوم النمارة والمأمور معذور
فتقديره إلا عند نظرة عرضت؛ لأن الذي يعرض هو تقليب الحدقة لا الرؤية اتفاقاً، ولهذا أيقول حانت مني التفاته فرأيت وعرض مني نظرة فرأيت ونحو ذلك.
طريقة أخرى في الجواب: يقال لهم: ظاهر الآية متروك من وجوه، منها: أن ظاهرها يثبت الرؤية يوم القيامة، وأنتم إنما تثبتونه في الجنة لا في القيامة؛ لأنه يوم حساب وحشر، والوقت الذي يدخل الناس فيه الجنة لا يوصف بأنه يوم القيامة، ومنها: أن ظاهرها أن الوجوه هي الناضرة وليس كذلك، فإن الناظر هو الجملة لا الوجه، ولا العين، ولهذا عطف عليه بقوله: ووجوه يومئذٍ باسرة تظن أن يفعل بها فاقرة، والوجوه لا تظن، فدل على أنه أراد ذوي الوجوه، ونظيره قوله تعالى: {وجوه يومئذ خاشعة..} إلى قوله: {لسعيها راضية}. ومنها: أن الخصم رد النظر إلى الرؤية وهو خلاف ما قد بيناه.
طريقة أخرى: يقال لهم: ما المانع من حمله على الانتظار كما حمله عليه أمير المؤمنين علي عليه السلام حيث قال للأعرابي: اكفف يدك واغضض من بصرك، فإنك لن تراه، ولن تناله، قال: إن لم أره في الدنيا فسأراه في الآخرة، فقال عليه السلام: كذبت بل لا نراه في الدنيا ولا في الآخرة، إن أهل الآخرة ينتظرون إلى الله تعالى كما ينتظر إليه أهل الدنيا ينتظرون ما يأتيهم من بره وإحسانه، وقد اسندت هذه الحكاية إلى ابن عباس لا إلى علي عليه السلام، وقد قدمنا /160/ ما يقوله ابن عباس والجليل الفارسي من أئمة اللغة، وهو قول الكلبي وجويبر والضحاك، وابن المسيب وابن جبير ومجاهد، وروي عن الحسن وأبي حاصلح وجرير بن منصور ونافع بن الأزرق وغيرهم من كبار علماء التفسير من التابعين وغيرهم دون متبعي الأهواء والبدع وهو الذي قاد إليه صريح العقل ومحكم الكتاب.
يوضحه أن الله تعالى جعل الظن الذي هو الخوف في مقابلة النظر فإذا حملنا النظر على الانتظار الذي هو الرجاء كنا قد جعلنا الرجاء في مقابلة الخوف والنظارة في مقابلة النسارة فيزدوج الكلام ويستقيم النظم ويحسن المعنى، وإذا حملنا النظر على الرؤية كما قالوه كنا قد جعلنا الرؤية في مقابلة الخوف فلم يزدوج الكلام، ودخله بعض بعضٍ عند الفصحاء، ولهذا عابوا على امرء القيس في قوله:
فإني لم أركب جواداً للذة .... ولم أتبطر كاعباً ذات خلخال
ولم أشرب الزق الروي ولم أقل .... لخيلي كرى كرة بعد إحفال
(فراغ) الكلام. فقالوا: لو جعل عجز البيت الثاني مع صدر الثاني لكان أفصح لمشاكلة المعنى وازدواح الكلام.
طريقة أخرى يقال لهم: ما أنكرتم أن ثم مضافاً محذوفاً تقديره إلى ثواب ربها ناظرة كما هو سبيل كثير من المتشابه نحو قوله تعالى: {وجاء ربك} وقوله: {فأتاهم الله من حيث لم يحتسبوا} وأشباه ذلكن وهذا مروي عن أمير المؤمنين عليه السلام أيضاً، ويمكن مجامعته للأول فتكون رؤيته لشيء من ثواب الله ومنتظره لشيء آخر.
فإن قيل: إن في الانتظار تبعيضاً، ولهذا قيل: إنه يورث الاصفرار.
وقيل: الانتظار الموت الأحمر.
قلنا: إنما يكون كذلك إذا كان المنتظر سلكاً في حصول ما ينتظره وغير مستغن عنه بما عنده، فإذا لم يكن كذلك فالأمر بالعكس، ولهذا قيل المأمول خير من المأكول، وفي السنة العوام رجاه خير من لقاه، وقد قال تعالى: {ويرجون رحمته} ولا معنى للرجاء إلا الانتظار، ولا بد للخصوم من مثل ذلك، فإن الرؤية عندهم غير حاصلة في كل حال.
طريقة أخرى، يقال لهم: ما أنكرتم إن إلى واحدة الآلاء كما قال الشاعر:
أبيضُ لا يرهبُ الهزالَ، ولا .... يَقْطَعُ رِحْماً، وَلا يَخُونُ إلا
أي نعمة، ويكون التقدير نعمة ربها ناظرة.
شبهة: تمسكوا بقوله تعالى: {تحيتهم يوم يلقونه سلام} ونحو ذلك، فما فيه ذكر الملاقاة، وهذا تمسك فارغ؛ لأن الملاقاة لو أفادت الرؤية لكان كل إنسان يراه لقوله تعالى: {يا أيها الإنسان إنك كادح إلى ربك كدحاً فملاقيه}، فتبين أن كل أحد يلقاه، ثم قسمهم بعد ذلك بقوله تعالى: {فأما من أوتي كتابه بيمينه..} الآية، وكان يجب أن يراه الكفار لقوله تعالى: {فأعقبهم /161/ نفاقاً في قلوبهم إلى يوم يلقونه}، وبعد فقد قال تعالى مخاطباً للجميع واعلموا أنكم ملاقوه، فلو كان اللقاء بمعنى الرؤية لكان كأنه قال: فاعلموا أنكم من أهل الثواب، وقد وقع الاتفاق على أن ليس أحد يعلم هل هو من أهل الثواب إلا الأنبياء ومن أخبروه، وبعد وظاهر الآية متروك اتفاقاً؛ لأن الملاقاة مفاعلة وأصلها في اللغة تقابل الشيئين وتقاربهما بعد مباعدة، وهو مستحيل في حقه تعالى، قالوا: إذا قال القائل لغيره إذا لقيت فلاناً فأقرءه عني السلام علمنا أن معناه إذا رأيته.
قلنا: لم تعلموا ذلك، ولكن ظننتموه لقرينة، وهي أن الملاقاة إنما تكون في أغلب الأحوال مع الرؤية. يوضحه أنه يصح أن تقول للأعمى إذا لقيت فلاناً فأقرءه مني السلام، ولا رؤية هنا.
فإن قيل: فما معنى الآية. قلنا: فيها محذوف تقديره ملاقاة حسابه تعالى وما وعد من ثواب وعقاب، فإن ذلك هو الذي يصح فيه معنى الملاقاة.
شبهة: تمسكوا بقوله تعالى: كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون.
والجواب: إن الظاهر متروك لاقتضائه أن يكون بينهم وبين الله حجاب، وأنه لا يراهم لذلك الحجاب، والحجاب لا يصح إلا على الأجسام، ولأنه لا بد من تقديم محذوف فيها وتقديره عندنا عن رحمة ربهم وعندهم عن رؤية ربهم، وكلامنا أرجح لما تقدم من الأدلة، ولأنه إذا لم يصح أن يكونوا محجوبين عن ذاته لم يصح ان يكونوا محجوبين عن رؤيته؛ لأن رؤيته معنى يخلقه الله فيهم، فلا معنى للحجة، والحاصل أن الرؤية إذا كانت معنى يخلق فيهم فهو إما ان يخلقه الله تعالى فيجب أن يروه ولا تأثير للحجاب، وإما أن لا يخلقه فلا تصح الرؤية، وإن زال الحجاب، وبعد فليس في كونهم محجوبين دليل على أن غيرهم لا يحجب، فإن هذا من الخطابات التي لا مفهوم لها اتفاقاً بين المحققين.
شبهة: تمسكوا بقوله تعالى: {للذين أحسنوا الحسنى وزيادة} قالوا: الحسنى هي الجنة والزيادة هي الرؤية.
والجواب: إنه لا علقة لهم ظاهرها، وإنما يروون في تفسيرهم جبراً عن أبي بكر رضي الله عنه، وهو آحادي، وغير صحيح عند جمهور أهل الحديث، وكيف يصح هذا ونعم الله على المثابين لا ينفك من زيادة بعد زيادة، فمن أين لهم أن تلك الزيادة هي الرؤية وقد روي عن أمير المؤمنين عليه السلام: الزيادة غرفة في الجنة من لؤلؤة لها أربعة أبواب، وعن زيد بن ربيع والكلبي وأبي صالح وعلقمة وابن عباس أن الحسنة بالحسنة والتسع زيادة في قوله تعالى: {فله عشر أمثالها} وعن يحيى بن ثابت وابن أبي ليلى: الزيادة انتظارهم لما يزيدهم الله من فضله.
شبهتهم من جهة الأخبار، ما رووه عن قيس بن أبي حازم عن جرير بن عبد الله البلخي: (سترون /162/ ربكم يوم القيامة كما ترون القمر ليلة البدر لا تضامون فيه(1)).
__________
(1) . لا تظامون: أي لا تشكون فيه.
والجواب: إن هذا آحادي، والمسألة قطعية، وهو مطعون في سنده، فإن جريراً هذا يروى أنه كان يبغض علياً عليه السلام ويأمر بأسراره إلى معاوية، ثم كان من أصحاب معاوية من بعد، وكذلك قيس كان يرى رأي الخوارج، وروي أنه قال مذ سمعت علياً على منبر الكوفة يقول: أتفروا إلى بقية الأحزاب، يعني أهل النهروان، دخل بغضه في قلبي، ومن كان يبغض علياً فعدالته ساقطة ودينه مدخول لقوله عليه السلام لعلي: (لا يحبك إلا مؤمن ولا يبغضك إلا منافق)، وأيضاً فقد روي أن قيساً خولط في آخر زمانه ونقص عقله، وكان يروي الأخبار وهو كذلك.
وبعد، فظاهر الخبر يقتضي التشبيه لأنا نرى القمر في جهة ومع مقابله ونحوها مما لا يحصى تجوز على الله تعالى. وبعد، فمعناه ستعلمون ربكم، والرؤية بمعنى العلم في اللغة أكثر من أن يحصى، قال تعالى: {أولم ير الإنسان أنا خلقناه}، وقال: {ألم تر إلى ربك} وقال: {ألم تر كيف فعل ربك بأصحاب الفيل}، ونحو ذلك من الآيات، ومثله قوله عليه السلام: (ليس لعين ترى الله يعصى)، فإن المراد العلم؛ لأنه سواء رأى بعينه أو علم بغيرها، فإنه يجب التغيير أو الانتقال، وهذا يدل على أن المراد الجملة لا العين؛ لأن العين لا يصح أن تغير ولا أن تنتقل. قال الشاعر:
رأيت الله إذ سما نزاراً .... وأسكنهم بمكة قاطنينا
أي علمت، وقال آخر:
أوَما ترى الرحمن أخرج آدماً .... منها إلى الدنيا بذنب واحد
وبعد فهو معارض بما رواه جابر بن عبد الله عنه عليه السلام: (ليس يرى الله أحد في الدنيا ولا في الآخرة)، وروي أنه عليه السلام سئل هل نرى ربنا في الآخرة، فانتفض وسقط ولصق بالأرض. وقالت عائشة ـ رضي الله عنها وقد سئلت هل رأى محمد ربه ـ: لقد قفّ شعري يا هذا مما قلت. ثلاث، من قالهن فقد أعظم الفرية على الله.. الخبر.
القول في أن الله واحد لا ثاني له
الواحد يستعمل في معان، فقد يراد به واحد العدد وهذا مستحيل في حقه تعالى، لاقتضائه التناهي والتحديد، وقد يراد به ما لا يقبل التجزي والانقسام أما من كل وجه وهذا المعنى جائز في حقه تعالى، ويكون مدحاً بانضمامه إلى كونه حياً خلافاً لعباد، وأما من بعض الوجوه كالإنسان الواحد والدار الواحد، فإنه لا يقبل التجزي من حيث الإنسانية الدارية وأن قبله من جهة أخرى، وهذا المعنى مستحيل في حقه تعالى، وقد يراد به المختص بصفات الكمال أو بعضها على حد يقل المشارك له كما يقال فلان وحيد عصره، وقد يراد به واحد القدم والإلهية المستحق للعبادة وهو المنفرد بصفات الكمال على حد يستحيل أن يشاركه فيها مشارك على الوجه الذي استحقها عليه وهو المقصود.
فصل
ذهب المسلمون /163/ إلى أن الله تعالى واحد، وخالفت الثنوية والصائون والنصارى والذام المجبرة، أما الثنوية فاتفقوا على النور والظلمة، وأن كل خير فهو النور بطبعه، وأن كل شر فهو من الظلمة بطبعها، وأن كل واحد منهما لا يقدر على خلاف ما يصدر عنه، وأن العالم ممتزج منهما وأنهما غير متناهين إلا من جهة التلاقي، ثم اختلفوا فقالت المانوية قديمان قادران عالمان مدركان، وقالت الديصانية بذلك في النور فقط، فأما الظلمة فعاجزة جاهلة موات، وقالت المردكية النور يفعل بالقصد والظلمة بالخبط وأثبتت المرفثونية ـ بالثاء ـ امتزج العالم منه، ومن الظلمة قالوا فلما رأى النور تعدى الظلمة على هذا المتوسط بعث إلى هذا العالم الممتزج روحاً، وهو ابنه عيسى ومرقيون هذا لحق بعض أصحاب عيسى عليه السلام، وأخذ عنه وسمت المجوس النور يزدان والظلمة أهرمن، وقال بعض هؤلاء: بحدوث أهرمن قيل من عفونه كانت قديمة، وقيل من فكرة يزدان الردية، وقيل من شكه، وزعموا أن عند حدوث هذا الثاني حصل بينهما حرب، ثم اصطلحا على شروط ستنقضي ويغلب بردان.
وأما الصابؤون فزعموا أن للعالم صانعاً واحداً لكنه خلق الأفلاك حية قادرة عالمة وجعلها إلهه، فعبدوها وعظموها وسموها المليكة وجعلوا بيوت العبادات بعدة الأفلاك السبعة وزعموا أن بيت الله الحرام هو بيت زحل وأنكروا الآخرة، وفيهم قائلون بالتناسخ، وزعموا أن لهم أنبياء، وأنهم على دين شيث.
وأما النصارى اتفقوا على أن الله جوهر واحد ثلاثة أقانيم أقنوم الأب وهو الذات، وقيل الوجود وهو متقارب؛ لأن الوجود عندهم هو الذات، وأقنوم الابن وهو الكلمة، وقيل العلم، وأقنوم روح القدس، وهو الحياة، واتفقوا على أنه لم يزل الأب أباً والابن ابناً، وروح القدس قابضة بينهما، وأن البنوة لا على جهة التناسل بل هي كتولد الحر من النار والضياء من الشمس.
ثم اختلفوا في الأقانيم فقيل: هي الجوهر وهو هي وقيل الجوهر واحد ذو ثلاثة أقانيم، فهي هو وليس هو هي بل غيرها، ثم اختلفوا من وجهٍ، فقال بعضهم: متفقة في الجوهرية مختلفة في الأقنومية.
وقال آخرون: لا نطلق عليها كونها مختلفة، ثم اختلفوا في تغايرها، فقال به الأقل ومنعه جمهورهم، ثم اختلفوا في جواز انفراد بعضها عن بعض واستقلاله، فأجازه الأقل ومنعه جمهورهم، ثم اختلفوا في تسميتها، فقيل: أشخاص، وقيل: أعراض، وقيل صفات.
واتفقوا على اتحاد الكلمة التي يسمونها اللاهوت بجسد عيسى التي يسمونه الناسوت. ثم اختلفوا في كيفية اتحاده فقالت /164/ اليعقوبية: مازجه ممازجة الدهن للسمسم، والنار للحطب، فصار المسيح جوهراً من جوهرين لاهوت وناسوت، وقالت النسطورية: أدزعة وحصل معه على جهة المحاورة كالشمس على الجدار فالمسيح عندهم جوهران على الحقيقة، وحكى عنهم السيد في شرح الأصول أنهما اتحدا في المشيئة، وقالت الملكية(1) اتحدت الكلمة بمعنى الإنسانية المتصورة في الذهن لا بالشخص، وقالت فرقة منهم: معنى الاتحاد أن الكلمة ظهرت على الجسد كالصورة في المرآة.
__________
(1) . الملكانية.
وأما ألزام المجبرة فقد ألزمهم أصحابنا مذهب المجوس وسيأتي إن شاء الله في بيان من القدرية وألزموهم أيضاً مذهب النصارى حيث أثبتوا قدماء مع الله تعالى وسموها صفات، فإن هذا مذهب جمهور النصارى في الأقانيم، حيثوكذلك إذا لم تكن المعاني أغياراً لله كانت هي هو، وذلك هو مذهب النصارى في الأقانيم أيضاً، وكذلك قولهم: ليست بمستقلة مع القول بأنها معاني كقول النصارى في الأقانيم، فإن عندهم أنها لا تستقل بنفسها، ولا يصح انفراد بعضها عن بعض.
وكذلك تسميتهم للمعاني علماً وحياة، وهو مذهب جمهور النصارى في الأقانيم.
يزيده وضوحاً أنه لم يقل أحد من الناس أن لله ثانياً يشاركه في جميع الصفات، وإنما يقولون بالمشاركة في كونهما واجبي الوجود والمجبرة إما أن يجعلوا هذه المعاني جائزة الوجود فيلزم حدوثها؛ لأن هذا هو دليلهم على حدوث العالم، وإما أن يجعلوها واجبة الوجود من ذاتها، وهو نفس مذهب الثنوية، وأما أن يجعلوها واجبة الوجود من غيرها، وهو نفس مذهب الفلاسفة في العقول والأفلاك، وقدم العالم، ومتى قيل أن الثنوية اعتقدوا استحقاق الثاني للعبادة.
قلنا: ليس كذلك، فإن المجوس لا يعبدون أهرمن وكذلك سائر الثنوية لا يعبدون الظلْمَة، وكذلك الفلاسفة لا يقولون باستحقاق العقول والأفلاك للعبادة، وإنما عتب عليهم القول بقدمها، على أن المجبرة متى لم يعترفوا بأن هذه المعاني أعيان لله تعالى لزمهم أن تكون هي هو، فتكون مستحقة للعبادة. وبعد فلم يذمهم الله على مجرد القول باستحقاق العبادة، ألا ترى إلى قوله تعالى: {قالوا اتخذ الله ولداً سبحانه هو الغني} فبين أن هذه المقالة تقتضي جواز الحاجة عليه وهذا لازم للمجبرة كما سلف.
فصل
ودليل أهل الحق أنه لو كان معه قديم ثانٍ لصح بينهما التمانع وصحة التمانع محال، فهذان أصلان، أما الأول وهو أنه كان يصح بينهما التمانع، فلأن اشتراكهما في القدم /165/ يقتضي اشتراكهما في القادرية وفي سائر صفات الذات، ومن حق كل قادرين صحة التمانع بينهما، وذلك ضروري في الشاهد، ولا علة لهذه الصحة إلا كونهما قادرين بدليل أن العلم بها يدور مع العلم بالقادرية ثبوتاً وانتفاء، مع فقد ما هو أولى من القادرية بأن تعلق عليه صحة التمانع، والتمانع هو أن يفعل كل واحد من القادرين ما لأجله يتعذر على الآخر اتحاد مراده كمتجاذبي الحبل، فإن كل واحد منهما يفعل من الاعتماد ما لأجله يتعذر على الآخر، تحصيل الجبل في جهته التي يجذبه إليها.
وأما الأصل الثاني وهو أن صحة التمانع محال فلأنا إذا قدرنا أن أحد القديمين أراد تحريك الجسم يمنة والآخر أراد تحريكه يسرة فإما أن يوجد مرادهما جميعاً وفيه اجتماع الضدين، وإما أن لا يوجد مراد واحد منهما وفيه خروجهما عن كونهما قادرين، وإما أن يوجد مراد أحدهما دون الآخر، وفيه خروج من لم يوجد مراده عن كوه قادراً للذات من حيث أن القادر للذات وجود مراده عند توفر دواعيه وإلا لم يكن قادراً للذات، وكان قادراً بقدرة، وكل قادر بقدرة جسم، وكل جسم محدث، وبعد فجواز المنع على أحدهما يدل على أنه متناهي المقدور وإلا لما منع من اتحاد مراده عند توفر دواعيه.
فإن قيل: أيهما حكمان فلا يختلفان في الإرادة والداعي. قلنا: كلامنا في الصحة لا في الوقوع ومعلوم أن كل حين يصح اختلافهما في الإرادة والداعي والألم ينفصل الحي والواحد من الاثنين، على أنه يعلم صحة التمانع من لا يعلم اتحاد الإرادة، وتعددها بل يعلمه من ينفي المعاني، وبعد فقد يقع التمانع مع زوال الإرادة والداعي كالنائمين يتجاذبان الثوب وكذلك الساهيان، وبعد فلا يمتنع كون كل واحد من الضدين مصلحة على البدل، فتكون إرادة كل واحد منهما حكمة.
فإن قيل: إرادتهما معنى واحد يوجد لا في محل، فيوجب لهما فلا يصح تقدير اختلافهما في الإرادة.
قلنا: باطل لأن هذا المعنى لا يصح أن يكون فعلاً لهما جميعاً لاستحالة مقدور بين قادرين، ولجواز أن يريد أحدهما فعله ولا يريده الآخر، فيعود الإلزام من أصله، وإذا كان من فعل أحدهما استحال أن يؤثر في فعل الآخر، ولهذا لو خلق الله فينا إرادة الأكل مع توفر الصوارف عنه بأن يكون مسموماً لما أكلناه أو خلق فينا إرادة تركه مع توفر الدواعي إليه لما تركناه، ومن هنا قال اصحابنا: إن الإرادة لو خلقت فينا لما أثرت في كون كلامنا أمراً وخبراً.
فإن قيل: لم قام تقدير اختلافهما في الداعي والإرادة مقام الوقوع في الدلالة على صحة التمانع ولم يقم تقدير وقوع الظلم من جهة الله تعالى مقام وقوعه في الدلالة على الجهل والحاجة.
قلنا: الحق أنه لا يصح تقدير وقوع الظلم من الله تعالى /166/ والحاجة مستحيلان عليه تعالى وتقدير وقوع الظلم يتبعه صحة وقوع الجهل والحاجة، وما أدى تقديره إلى تقدير المحال لم يصح تقديره.
والضبط في مثل هذا أن تقدير الموجب المصحح وهو وقوع الظلم مع إحالة المصحح له وهو الجهل والحاجة لا يجوز، ولولا هذا لصح تقدير ثبوت المعلول مع إحالة العلة ولجاز صحة الفعل مع إحالة القادرية، وهذا يؤدي إلى كل جهالة.
فإن قيل: إذا استوت الصحة والوقوع في الدلالة على التمانع فهلا اعتبرتم الوقوع لمساواته للصحة فلا يلزم التمانع.
قلنا: إن باعتبار الصحة يحصل غرضنا من نفي الثاني وفي اعتبار الوقوع إقرار بثبوت الثاني، فكيف يكون قصدنا نفي الثاني ونورد الدليل على وجه يقتضي ثبوت الثاني.
فإن قيل: إن مقدورهما واحد لأنهما قادران للذات فلا يصح التمانع بينهما.
قلنا: إن حكم القادر للذات أن يقدر على جميع أجناس المقدورات لا على جميع أعيانها، فمن أين يجب أن يتحد مقدورهما أليس الباري تعالى قادراً لذاته ولا يجب أن يكون قادراً على أعيان مقدورات العباد. وبعد فقد قال تعالى: {إذاً لذهب كل إله بما خلق ولعلا بعضهم على بعض} فبين أنه يكون مخلوق أحدهما غير مخلوق الآخر.
ثم إن سلمنا أن مقدورهما واحد لم يقدح في صحة التمانع؛ لأن الحركة يمنة والحركة يسرة ضدان فتعلقهما بكل واحد من القادرين على البدل فمتى أراد أحدهما التحريك يمنة بدلاً من التحريك يسرة وجب أن يوجد مراده، وكذلك إذا أراد الآخر التحريك يسرة بدلاً من التحريك يمنة فهذا تحرير دلالة التمانع من جهة العقل.
وأما من جهة السمع فقوله تعالى: {لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا}، وقوله: {إذاً لذهب كل إله بما خلق..} الآية، ونحو ذلك.
دليل لو كان مع الله تعالى قديم ثان لما انفصل وجود ذلك الثاني من عدمه؛ لأن باشتراكهما في القدم يجب اشتراكهما في جميع صفات الذات، فلا ينفصل أحدهما عن الآخر بما يرجع إلى ذاته ولا هما مما يصح عليه المكان فينفصلان بالمكان ولا مما يصح عليه الحدوث، فينفصلان بالزمان.
فإن قيل: ينفصلان بالأفعال فتدل أفعال كل واحد منهما عليه.قلنا: أما من يوجب كون مقدورهما واحد فلا يتوجه هذا إليه، وأما من لا يوجبه فنقول: قد أمكن إضافة جميع ما يتعذر على المحدثات إلى خالق واحد، فلا يكون إلى إثبات الثاني طريق.
فصل في الكلام على الثنوية في النور والظلمة
يقال: إن النور والظلمة جمسان عند كثير من الناس، وعرضان عند آخرين، والأجسام والأعراض محدثة. وبعد فلو كانا قديمين لم يكن أحدهما ثان، يكون نوراً والثاني ظلمة، أولى من عكسه، ومن أن لا /167/ يكونا نورين جميعاً، ولا كان أحدهما بأن يكون فاعلاً للخير أولى من الشر، وكذلك في المدح وألزم لا سيما وهما قادران للذات.
ويقال للديصانية: إذا كانا قديمين فلم كان النور قادراً عالماً دون الظلمة، وهلا كان بالعكس وكيف يصح الفعل من غير حي ولا قادر. ويقال للمرقيونية في إثبات الثالث: لِم كان بأن يمنزج أولى من أحدهما أو من يكون ممزوحاً، وهل وقع الامتزاج على جهة الوجوب فكان يجب حصوله لم يزل ولا يحتاج إلى مازج أو على جهة الاختيار، فليس من مذهب الخصم، ولو قال به لقيل له فهلا صح من الإله الواحد أن يفعل الخير والشر باختياره ولا حاجة إلى إثبات ثان وثالث. على أنه يكون قد صدر الخير والشر من غيرهما وهو الثالث.
ويقال للمجوس في حدوث اهرمن: أما القول بانه من عفونه فباطل؛ لأن العفونة جسم، وكل جسم محدث، ولأن الجسم لا يتولد من الجسم، ولأن العفونة من القاذورات، ومما يعدونه شرطاً، فهلا كان الشرور كلها قديمة ولا يحتاج إلى إثبات ثان يخلقها أو كانت هذه العفونة محدثة فيجب تقدم اهرمن عليها فيكون محدثاً لها، ولأنه كان يجب أن يتولد من كل عفونة أهرمن ولأنه إذا كان أهرمن محدثاً فكيف يكون إلهاً دون غيره من المحدثات، وكيف صح منه فعل الأجسام.
وأما القول بأنه حدث من فكرة الله تعالى أو من شكه فباطل لأن الفكرة والشك إنما يجوزان على من يجهل، ولأنه كان يجب في كل فكرة وشك مثله لأن الفكر يتماثل إذا اتحد متعلقه ولأنه إذا حدث من فكرة يزدان لزم كون يزدان محدثاً للشرور، ولأن هذه الفكرة الردية من قبيل الشرور وفي ذلك حصول الشر من غير أهرمن.
فصل في شبهة الثنوية
زعموا أن كل ما تنفر عنه النفووس من الآلام والقاذورات والحيوانات قبيح، وكلما تستلذه النفوس حسن والفاعل الواحد لا يفعل الخير والشر.
والجواب: لا نسلم أن كل ما تنفر عنه النفوس قبيح، دليله تحمل المشاق في الأسفار والفصد والحجامة وبالجملة جميع ما كلفناه من المحسنات لا بد فيه من النفرة، وكذلك جميع ما كلفنا تركه لا بد فيه من لذة، وبعد فأفعال الباري تعالى كلها حكمة ولا عبرة بالمرئي والمنظر ولا باللذة وعدمها، وبعد فلا نسلم أن الفاعل الواحد لا يفعل الخير والشر بل يجب في من قدر على الشي أن يقدر على جنس ضده إذا كان له ضد، وقد يفعل الضدين دفعة واحدة، كما إذا قتل بيمينه وأنقذ الغريق بيساره، ويقال لهم: قد وجدنا النور يتعذر معه على أحدنا أن يختفي من عدوه، وهذا شر، والظلمة يتمكن معها من الاختفاء وهو خير ووجدنا إدامة النظر إلى النور يضر بالنضر وهذا شر وإدامة النظر إلى الخضرة /168/ يزيد فيه، وهذا خير ووجدنا أحدنا يسيء ويحسن ويصدق ويكذب ويعلم ويجهل ويفعل القبيح ويتوب ونحو ذلك، وهو فاعل واحد. ومتى ومتى قالوا أنهما أجبراه على ذلك. قلنا: ولم كانا بأن يجبرا بعض الناس أولى من البعض الآخر، وفي بعض الأوقات أولى من بعض.
فصل في الكلام على الصابئين
اعلم أن كلامهم وكلام الباطنية في السابق والتالي وكلام المنجمين وكلام الفلاسفة في العقول والأفلاك متقارب؛ لأن كلهم فلاسفة، وإن اختلفت عباراتهم وتفاصيلهم، وكلهم متفقون على أن للكواكب تأثير، لكن اختص الصابئون بعبادتها فكل ما تقدم على الفلاسفة والباطنية وارد هنا من أن الأفلاك مسخرة غير حية، ولا قادرة وأن الطبع غير معقول وأنه لا طريق إلى العقول، وأن كل ما سوى الله محدث.
فصل في الكلام على النصارى
أما قولهم بأنه أحد ثلاثة فهو من أظهر الأقوال تناقضاً وإحالة لأن كون الشيء واحداً يمنع من تعدده وكونه متعدداً يمنع من اتحاده، ولهذا قال بعض الشعراء:
قل للذي يحسب من جهله .... أن النصارى يعرفون الحساب
لو صح ذا ما جعلوا واحداً .... ثلاثة وهو خلاف الصواب
ولعلهم أرادوا ما يقوله أهل الجبر من أنه ذات تختص بمعان هي الكلمة والعلم والحياة لكن اختصوا بإطلاق لفظ التثليث والأبوة ونحوه، وأما قولهم بالاتحاد فيبطله على سبيل الجملة من وجوه منها أنهما إما أن يتحدا على سبيل الوجوب، فيلزم قدم المسيح أو كونه إلهاً حالة العدم او على جهة الجواز فيحتاج إلى فاعل أو علة، واحتياجه إلى ذلك باطل؛ لأنه لا يصح أن يكون شيء من صفات الباري بالفاعل لأن في ذلك حدوثه، وأما العلة فهي إن كانت قديمة لزم الاتحاد، لم يزل وإن كانت محدثة لم يحل، إما أن يكون حاله فيلزم كون القديم مجلاً للحوادث أو غير حالة، فلا يكون لها اختصاص بأقنوم الابن دون سائر الأقانيم؛ لأن الكل قديم. وبعد فعندهم أن الناسوت محدث واللاهوت قديم، فهل صار المحدث بالاتحاد قديماً أو صار القديم محدثاً أو كل واحد منهما باق على حقيقته، والأول والثاني باطلان بالاتفاق والثالث يبطل معنى الاتحاد، وبعد فالكلمة التي اتحدت بالابن إما أن تفارق الأب فيلزم جواز البعض عليه أو لا يفارقه فيلزم قيام صفة بموصوفين، وبعد فالاتحاد إما أن يكون صفة كمال فيلزم حصوله لم يزل وفيه قدم الناسوت أولا بكون صفة كمال فيمتنع ثبوته. وبعد فكيف اختص أقنوم الابن دون أقنوب الأب وروح القدس بأن اتخذث بالناسوت مع أن بعض الأقانيم لا تنفصل عن بعض. وبعد فعندهم أن المسيح /169/ صلب، وقيل: فإن كان المصلوب هو اللاهوت فكيف يصح الموت عليه، وإن كان المصلوب هو الناسوت فكيف يصلب مصاحب الإله ومجاوره، وكيف يصح في من قهر أن يكون إلهاً، ولقد أحسن القائل:
عجباً للمسيح بين النصارى .... وإلى أي والد نسبوه
إن حكمنا بصحة الصلب والقتل .... عليه فأين كان أبوه
ولئن كان راضياً بأذاهم .... فاحمدوهم لأجل ما فعلوه
ولئن كان ساخطاً لأذاهم .... فاعبدوه لأنهم غلبوه
والكلام عليهم على جهة التفصيل هو ان يقال إن أردتم بالاتحاد أن ذاتهما صارت واحدة فهو مستحيل؛ لأن فيه انقلاب المحدث قديماً أو القديم محدثاً أو خروج الموصوف عن صفة ذاته أو حصوله على صفتين للنفس أكثر من صفة للنفس. على أنهم يجعلون الإيجاد بالفاعل ولا اختيار لفاعل في أن يجعل الشيئين شيئاً واحداً، وإن أرادوا بالاتحاد الامتزاج أو الادراع فباطل؛ لأن ذلك إنما يعقل في الأجسام، ولأن محاورة الشيئين لا يصيرهما شيئاً واحداً، ومتى سماه أهل اللغة بذلك فهو لأنهم اعتقدوا صحته والتسمية تتبع اعتقاداتهم، فهم مصيبون في التسمية مخطئون في الاعتقاد كتسميتهم الأصنام آلهة لاعتقادهم أنها تستحق العبادة. وإن أرادوا بالاتحاد في المشيئة فإما أن يعنوا بذلك أن إرادتهما واحدة أو أن مرادهما واحد والأول باطل لأن إرادة الباري لا تختص بالأجسام، وإن اختصت فهي مع جميع الأجسام على سواء، فلا يكون للمسيح مزية في ذلك، وكذلك إرادة المسيح مع الباري تعالى ومع سائر الأحياء على سواء، فليس بأن يوجب له أولى من غيره، ولأنه لو جاز أن يتحدا في المشيئة لجاز أن يتحدا في العلم وغير ذلك من الصفات، ولأن الإرادة إما أن توجب صفة واحدة فلا يصح اختصاصه بموصوفين فيبطل الاتحاد أو توجب صفتين وهو محال وإلا وجب أن توجب ما لا يتناهى من الصفات لفقد الحاضر والثاني باطل؛ لأن الباري تعالى قد يريد ما لا يريده المسيح ولا يخطر له على بال، وكذلك يريد المسيح ما لا يريده الله من المباحات والمكروهات والصغائر، ولأنه كان يلزم إذا أردنا ما أراده الباري تعالى أن يكون قد اتحد بنا وبالجملة، فكل حيَّيْن يصح أن يختلفا في الإرادة.
فصل في شبهة النصارى
تعلقوا من جهة العقل بظهور المعجز عليه من الإبراء والإحياء ونحو ذلك، قالوا: ومثل هذه الأشياء لا يفعله إلا الإله.
والجواب: أنه ما من نبي إلا قد ظهر عليه من المعجزات ما لا يفعله إلا الله تعالى، أو يكون في الحكم كأنه من فعله، ونحن نسلم أن الفاعل للأحياء والأبراء إله، وهو الله تعالى فعله به معجزة /170/ لعيسى، فلا تبقى شبهة تقتضي كون المسيح إلهاً وأما كونه من غير أب فآدم عليه السلام كذلك، وكثير من الحيوانات يوجده الله لا على جهة التناسل وبعضها شيء من غير أب.
ومن جهة السمع، تعلقوا بقوله تعالى: {وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه}.
والجواب: أن العرب تسمي الرسول كلمة ولساناً يقال هذا لسان فلان وكلمته أي المبلغ عنه، وقيل: معناه ألقا إليها قوله كن فكان.
وبعد فالكلام عرض محدث بعدم في الوقت الثاني وأما قوله تعالى: {وروح منه}، فالروح عندنا هو النفس، وهو أجسام رقيقة بإرادة وهو من فعل الله تعالى.
يوضحه قوله تعالى: {ونفخنا فيه من روحنا}، ونحوها، والنفخ إنما يكون في الأجسام، ووكذلك يوصف الروح بأنه يقبض ويرسل، وذلك يدل على أنه جسم ويجوز ان يكون الله تعالى سماه روحاً لأنه هدى به إلى الحق، وقد سمى الهداية روحاً في قوله: {أولئك كتب في قلوبهم الإيمان وأيدهم بروح منه} أي هداية، ويجوز أن يريد بالروح هنا الوحي كما قال تعالى: {يلقي الروح من أمره على من يشاء}، ويجوز أن يريد بالروح الرسول كما قال تعالى: {نزله روح القدس}، وتعلقوا بجزازيف(1) يسندوها إلى الكتب المنزلة.
__________
(1) . أي كذوبات.
قالوا: قال عيسى في الإنجيل: أنا وأبي واحد، ومن رآني فقد رأى أبي. وقال: إني ذاهب إلى أبي وأبيكم، وقال: أنا وأبي واحد، فمن أطاعني فقد أطاعه.
والجواب: إن في هذه الألفاظ من الركة والسماحة ما يشهد بكونها كذباً وافتراء على الله، ولنا في إبطالها طريقان: أحدهما أن أهل الكتب قد بدلوا وغيروا كما حكى الله عنهم، وبطل التواتر في نقلهم، والثانية: أن هذه الألفاظ عربية وكتبهم أعجمية وهم فسروها على فاسد أصولهم، ولسنا نقبل تفسيرهم؛ لأنهم عندنا غير مصدقين، ومن الجائز أن يكون هناك قرائن تشعر بالمراد، وأن هذا كغيره من المتشابه وكتابنا العزيز مشحون بإبطال مذهب النصارى.
الكلام في العدل
العدل في اللغة: مصدر عدل، ويستعمل في الفاعل مبالغة إذا أكثر من فعل العدل، فيقال: رجل عدل، كما يقال صوم ورضى، ومنه أنه عمل غير صالح.
وفي اصطلاح الفقهاء: من كان ظاهره السلامة في فعل الطاعات واجتناب المقبحات.
وفي اصطلاح المتكلمين فقد يراد به الفعل، وقد يراد به الفاعل، وقد يراد به هذا العلم المخصوص الذي باين به أهل الحق من سواهم، فإذا أريد به الفعل فهو عند قاضي القضاة /171/ كل فعل حسن يفعله الفاعل لينفع به الغير أو ليضره وهذا بناء على أصله في أن ابتداء خلق العالم عدل، وأن العدل لا يكون مقصوراً على الحقوق وهو منتقض بترك الظلم، فإنه عدل، وليس بفعل، وعند الجمهور هو إنصاف الغير بفعل ما يجب له أو يستحق عليه، وبترك ما لا يستحق عليه مع القدرة واحترزوا بقولهم مع القدرة من الضعيف إذا ترك ظلم السلطان، فإن ذلك لا يسمى عدلاً، وأرادوا بقولهم مع القدرة أي مع الاختيار، وكون القادر غير ملجأ إلى الترك، ولم يريدوا بقولهم مع القدرة أي مع كونه قادراً؛ لأن من ليس بقادر قد خرج عن الحد بذكرا لترك؛ لأن من لا يقدر على الشيء لا يسمى تاركاً له، وإن استعمل في الفاعل فهو الذي لا يفعل القبيح، ولا يخل بالواجب مع العلم والاختيار.
قلنا: مع العلم والاختيار احترازاً من غير المكلفين والساهي والنائم، فإنهم وإن لم يفعلوا القبيح ولا أخلوا بالواجب إذ لا واجب عليهم، فليسوا عدولاً، لفقد العلم، وكذلك الممنوع من فعل القبيح، والإخلال بالواجب لا يكون عدلاً لفقد الاختيار، وهذا أحسن من قولهم في الحد وأفعاله كلها حسنة؛ لأن ذلك يبطل فائدة قولهم لا يفعل القبيح، وهي أم المسائل.
فصل
مر في هذه الجملة ذكرا لفعل والواجب والحسن والقبيح فاقتضى ذلك بيان معاني هذه الألفاظ فالفعل هو ما وجد من جهة من كان قادراً عليه، وقلنا كان لأن حال وجوده يخرج عن تعلقه بالقادر، بل في الأفعال ما يجوز وجوده حال عجز فاعله أو موته كالمسببات المتراجية، وتنقسم إلى قبيح وحسن، ولا قبيح ولا حسن، فالذي ليس بقبيح ولا حسن هو ما ليس له صفة زائدة على كونه فعلاً كانخفاض الرمل عند السير وانتثار التراب عند الجلد ونحو ذلك من الأفعال اليسيرة.
والقبيح: هو ما إذا فعله القادر عليه استحق الذم على بعض الوجوه لا في حالة عارضة. قلنا على بعض الوجوه ليدخل الصغائر والقبائح الواقعة من الساهي والنائم عند غير أبي هاشم، فإنه يشترط في القبيح القصد ولتدخل القبائح الواقعة من الصبيان وسائر من لا عقل له عند غير أبي الحسين فإنه يشترط في القبيح العلم أو التمكن منه، وكذلك القبائح الواقعة من الملجأ والمكره عند من يقول بقبحها، فإن كل هذه قبائح، ولا يستحق الذم عليها إلاَّ على بعض الوجوه، وقلنا إلا في حالة عارضة احترازاً من تناول الميتة وشرب الخمر عند الاضطرار المفرط، فإنه واجب، ومع ذلك فإنه يستحق الذم عليه على بعض الوجوه إلا أن الخمر حالة وجوده حالة عارضة، وأصله القبح لدخوله في حقيقة القبيح ولا يخرج من الحد ما استحق الذم عليه على كل الوجوه؛ لأنه قد استحق على بعض الوجوه وزيادة.
/172/ والحسن: هو ما إذا فعله المتمكن من العلم بصفته لم يستحق الذم بوجه. قلنا: المتمكن مع العلم بصفة لتخرج أفعال غير المكلفين وأفعال الساهي والنائم، فإنها لا توصف بالحسن وإن وصفت بالقبح والفرق أن القبيح يقبح لوقوعه على وجه، فمتى وقع عليه قبح من أي فاعل كان والحسن إنما يحسن لحصول غرض فيه وتعريه عن سائر وجوه القبح، هذا ما يقوله الجمهور، فأما الشيخان فعندهما أن الحسن أيضاً إنما يحسن لوقوعه على وجه من كونه جلب نفع أو دفع ضرر، إما للنفس أو للغير. واعترضه الجمهور بأنه يلزم حسن الكذب الذي فيه جلب نفع أو دفع ضرر.
ويمكن الجواب بأنهما يشترطان تعرية عن وجوه القبح كما يشترطان في قبح القبيح صدوره عن قصد.
فصل
وينقسم الحسن إلى واجب ومندوب أو ما في حكمه، ومكروه ومباح.
فالواجب في اللغة: هو التساقط، ومنه فإذا وجبت جنوبها وهو الثالث أيضاً.
وفي الاصطلاح: هو ما إذا لم يفعله القادر عليه استحق الذم على بعض الوجوه، ويدخل في ذلك ما يكون استحقاق الذم على الإخلال به عارضاً.
قلنا: على بعض الوجوه لتدخل الواجبات المخيرة وفرض الكفاية، والواجب الموسع والمضيق الذي تركه صغيرة، فإنه إنما يستحق الذم على الإخلال بهذه على بعض الوجوه، ولا ينتقض بما يستحق الذم بالإخلال به على كل الوجوه لعدم التنافي. قلنا: ويدخل في ذلك ما يستحق الذم على الإخلال به في حالة عارضة أردنا به بعض المخطورات والمباحات، فإنه يجب عند الاضطرار ويستحق الذم بتركه، إلا أن هذه الحالة عارضة وهو غير واجب في ما عداها، وإن كان قد استحق الذم على الإخلال به على بعض الوجوه لما كان وجوبه عارضاً والأصل خلافه، وينقسم إلى عقلي كقضاء الدين ودفع الضرر عن النفس ونحو ذلك، وشرعي كالصلاة والنية ونحو ذلك.
وينقسم إلى: مخير، وهو الواجب الذي يقوم مخالفه في الصورة مقامه كرد الوديعة بالنفس وبالغلام وكالكفارات الثلاث.
ومعين، وهو ما لا يقوم مخالفه في الصورة مقامه كمعرفة الله تعالى وكالصلاة.
وينقسم إلى: موسع، وهو: ما يجوز تأخيره عن أول أوقات وجوبه، كقضاء الدين قبل المطالبة والصلاة في أول الوقت.
ومضيق، وهو الذي لا يجوز تأخيره كقضاء الدين بعد المطالبة والصلاة في آخر الوقت.
والمندوب، هو ما كلفنا فعله ولم نذم على تركه بحال. وقلنا: بحال احترازاً من الواجب المخير، وفروض الكفايات وسائر ما احترزنا منه في حقيقة الواجب، فإنا كلفنا فعله ولم نذم بتركه في بعض الأحوال لكنا نذم في بعضها بخلاف المندوب، فإنا لا نذم بتركه أصلاً /173/ وأما ذم الفقهاء لتارك النوافل أجمع، فليس بذم على الحقيقة وإنما هو استنقاص له من حيث يستدل على استهانته بالخير وقصور همته.
والذي في حكم المندوب هو التفضل الصادر من جهة الله تعالى، فإنه لا يوصف بشيء من هذه الأوصاف مع أنه حسن.
والمكروه ما كلفنا تركه ولم نذم على فعله بحال. وقلنا: احترازاً من الصغائر وسائر ما تقدم ذكره في حقيقة القبيح، فإنا كلفنا تركه ولم نذم على فعله في بعض الأحوال لكنا نذم في بعضها بخلاف المكروه، فإنا لا نذم عليه أصلاً.
والمباح: هو ما لم نكلف بفعله ولا بتركه مع حسنه، وقلنا: مع حسنه احترازاً من الفعل اليسير فإنه ليس بحسن.
فصل في الوجه الذي لأجله وجب الواجب وقبح القبيح وحسن الحسن
اعلم أولاً أن العلم بالقبح فرع على العلم بوجه القبح جملة أو تفصيلاً فلا يعلم وجه قبح الظلم مثلاً إلا من علم كونه ظلماً؛ لأنه هو الوجه في قبحه وسواء علم التفصيل وهو أن كونه ظلماً هو الوجه في القبح أو لم يعلم أنه الوجه لكنه قد علمه.
إذا ثبت هذا فقد عرفت انقسام الأفعال إلى عقلي وشرعي، فأما العقليات فتجب لوجوه يقع عليها من نحو كونها قضاء دين أو رد وديعة أو شكر منعم أو دفع ضرر ويقبح لوجوه يقع عليها من نحو كونها ظلماً وعبثاً وجلب ضرر ومفسدة ونحو ذلك، وتحسن لحصول غرضٍ فيها وتعريها عن سائر وجوه القبح بحسب الخلاف المتقدم.
وأما الشرعيات فيحسن عند غير أبي علي لكونها مصالح وإلطافاً في العقليات العمليات احترازاً من نحو المعرفة، فما كان لطفاً في واجب فهو واجب كالفرائض وما كان لطفاً في مندوب فهو مندوب كالنوافل بحسب خلاف في النوافل سيأتي في باب التكليف ويقبح عند غير أبي علي لكونها مفاسد في العقليات العمليات. وقال أبو علي: يجب لمنعها من القبيح، ويقبح لمنعها من الواجب.
واعلم أن معنى كون هذه المحسنات والمقبحات شرعية أنا علمنا حسنها وقبحها بالشرع، وليس المراد أن الشرع جعلها حسنة أو قبيحة، فإن ذلك عندنا غير واقف على اختيار مختار لولا هذا لما حسن التكليف. ومن هنا قال أصحابنا إن العلم بأصول المحسنات والمقبحات ضروري أرادوا بذلك أنا نعلم بالضرورة قبح كل مفسدة في الدين وحسن كل مصلحة فيه في الدين على الجملة، فإذا كان في الأفعال ما هو مصلحة وفيها ما هو مفسدة ولم تقف عقولنا على العلم بذلك وقد علمنا بدليل العقل أن الله لا يأمر إلا بالمصلحة ولا ينهى إلا عن المفسدة، فمتى عرفنا ذلك بالشرع ألحقناه بالجملة المقررة ولم يكن من جهة /174/ الشرع إلا التعريف فقط كما نعلم بالضرورة وجوب دفع الضرر عن النفس، فمتى عرفنا الطبيب أن في بعض المأكولات ضرراً وجب علينا اجتنابه، ولم يكن منه إلا التعريف، وبمثل هذا نجيب على البراهمة حيث قالوا: إن جاء الأنبياء بما يوافق العقل ففي العقل عنهم غنية وإن جاءوا بما يخالفه وجب رده، فقلنا: جاء الأنبياء بتعريف المصالح والمفاسد التي لم يفق العقل على معرفتها، وقد تقرر في العقل حسن المصالح وقبح المفاسد وهذا واضح كما ترى، ولا نلتفت إلى ما يشنع به أهل الزيع من قولهم أن المعتزلة تزعم أنه يعرف بالعقل وجوب الصلاة فإن المعتزلة إنما قالوا يعلم بالعقل حسن حسَن كل مصلحة وقبح كل مفسدة، فإما أن الصلاة مصلحة والخمر مفسدة فلا يعلم بالعقل.
فصل
وذهب البغداديون من شيوخنا إلى أن القبيح يقبح لعينه، وقال ابن الأحشد: يقبح القبيح للإرادة. وقالت الأشعرية: إنما يحسن الفعل ويجب للأمر، ويقبح للنهي. وقالت الجهمية: لكوننا مملوكين مربوبين. وقالت الفلاسفة وبعض أهل الجبر: لا قبيح ولا حسن إلا من جهة الاستخلاء والنفرة.
لنا أن العلم بالوجوب وبالقبيح بدور مع العلم بالوجوه التي تقع عليها الأفعال العقلية ثبوتاً وانتفاء مع زوال ما هو أولى من ذلك، وكذلك العلم بالحسن يدور مع العلم بحصول الغرض وزوال وجوه القبح، وسيتضح عن قريب ويبطل قول البغداديين أنا وجدنا كثيراً من الأفعال يقبح في حالة دون حالة ولو قبح لعينه لقبح في كل حال؛ لأنه عين واحدة كالسجدة تحسن إذا كانت لله وتقبح إذا كانت للشيطان، وكذلك الخبر بأن زيداً في الدار يحسن إذا كان فيها ويقبح إذا لم يكن فيها، وهو خبر واحد.
شبهتهم: أن الجهل لا يقع غير جهل.
والجواب: لا نسلمه بل يجوز أن يقع غير جهل، فإنه لو اعتقد أن زيداً في الدار وليس فهيا كان جهلاً ولو اعتقد هذا الاعتقاد بعينه وهو فيها مع سكون النفس لكان علماً، وكذلك لو بقي الاعتقاد حتى نشاهده فيها فإنه يصير علماً.
ومن هنا قال أصحابنا أن العلم من جنس الجهل. وبعد فلو سلمنا أن الجهل لا يصير غير جهل لما سلمنا في سائر القبائح، ويبطل قول ابن الأخشيد أنه يعلم القبيح من لا يعلم الإرادة بل من لا يثبتها. وبعد فالإرادة مما يقبح ويحسن، فكان يجب أن يحتاج إلى أداة، وبعد فما ذكره دور لأن الإرادة إنما تقبح لقبح المراد، فكيف يقبح المراد لقبح الإرادة.
شبهته: إن الكذب إنما يكون كذباً بإرادة الإخبار عن الشيء لا على ما هو به.
والجواب: أنا لا نسلمه بل يكون الخبر كذباً إذا لم يطابق سواء أراد أم لا، بل يكون كاذباً وإن اعتقد المطابقة /175/ وأراد الإخبار عنها، وبعد فلو سلمنا ذلك في الكذب لما سلمناه في غير الكذب من القبائح. ويبطل قول أهل الاستحلاء ما نعلمه من قبح الظلم والكذب والعبث وإن استحلته النفوس ووجوب رد الوديعة وقضاء الدين ودفع الضرر بالقصد ونحوه، وإن نفرت عنه النفوس وما نعلمه من حسن تحمل المشاق في الأسفار مع النفرة، ويبطل قول أهل الجبر أنه يعلم هذا الوجوب والقبح من لا يعلم أنا مأمورون ومنهيون أو مملوكون مربوبون كالملحدة والبراهمة والجاهلية والعلم بالقبح فرع على العلم بوجه القبح جملة أو تفصيلاً، وبعد فلو قبح فعل منا لأنا مملوكون مربوبون لوجب أن لا يحسن منا فعل قط لاستمرار علة القبح، وبعد فيلزم أن لا يجب علينا معرفة النبوة بل لا يمكن لأنه إنما يجب علينا معرفتها إذا علمنا أنا مأمورون منهيون ومملوكون مربوبون، ونحن لا نعلم أنا مأمورون إلا بعد العلم بالنبوة وهو محض الدور وإذا لم يمكن العلم بالنبوة لم يمكن العلم بوجوب واجب قط، وبعد فكان يلزم لو أمرنا الله بالظلم والكذب وسب نفسه وقتل من أحسن إلينا أن يحب ذلك ولو نهى عن عبادته وعن العدل والصدق وحسن الأخلاق أن يقبح وفي التزام هذا من الشناعة ما لا يخفى، وبعد فيلزم أن لا يوصف فعل الله بحسن ولا قبح لفقد الأمر والنهي، وبعد فيلزم في من أرتد أن ينتفي عنه العلم بقبح الظلم والكذب ووجوب قضاء الدين ورد الوديعة كما انتفى عنه العلم بقبح شرب الخمر ووجوب الصلاة، وبعد فلو أثر أمره تعالى ونهيه في القبح لأثر أمرنا ونهينا لأن صيغ الأمر والنهي تتماثل، فإن قالوا: الفرق أن الخالق يحب طاعته، قيل لهم: بالعقل علمتم وجوب طاعة الخالق فقد أبطلتم مذهبكم في أن العقل لا يقضي بوجوب أم بالأمر فيعود الإلزام لأنكم إنما توزعتم في الفرق بين أمره وبين أمر عباده فما لم يجعلوا الفرق عقلياً
فالإلزام باق ولا يتقلب علينا هذا؛ لأنا نجعل أمره تعالى دليلاً على الوجوب لا مؤثراً فيه، وصح ذلك في أمره دن أمرنا؛ لأنه تعالى حكيم لا يأمر إلا بحسن، فلذلك لم يدل أمرنا على الوجوب ولا نهينا على القبح، وأما نهي صاحب الدار عن دخولها فهو إنما يكشف عن عدم الرضى والدخول مع عدم الرضى ظلم، فلذلك قبح الدخول لا لأجل النهي.
شبهتهم أنه يقبح من الله تعالى فعل الظن ولا يقبح منا.
والجواب: لم تكن العلة في قبحه منه تعالى هي أنه ظن حتى يقبح منا لذلك بل قبح منه لأنه يكون عبثاً لا فائدة فيه من حيث لا حكم للظن أي لا يقتضي حسن فعل ولا وجوبه إلا إذا صدر عن إمارة ينظر فيها فاعل الظن والنظر /176/ في الإمارة يستحيل عليه تعالى.
شبهةقالوا: أليس يحسن منه تعالى تكليف من المعلوم من حاله أنه لا يؤمن ويقبح من أ؛دنا طلب هذا التكليف إذا علم من نفسه أنه لا يؤمن.
والجواب: أول ما في هذا أنهما أمران متغائران، فالذي حسن منه تعالى هو التكليف والذي قبح من أحدنا هو طلبه والتكليف غير طلبه، وبعد فإنما قبح من أحدنا هذا الطلب لأنه يستجلب به الضرر على نفسه.
شبهة: قالوا: الإماتة بالإحراق والغرق وإهلاك الأموال يحسن منه تعالى ويقبح من المخلوقين.
والجواب: أنه يحسن منه تعالى لعلة مفقودة فينا، وهو علمه بأن فيه مصلحة واعتباراً مع كونه تعالى يضمن في مقابلته من الأعواض ما لو خير المؤلم لاختاره، وبهذين الوجهين يخرج عن كونه ظلماً وعبثاً بخلاف ما إذا صدر من احدنا.
فصل
عندنا أنه يعلم بالعقل وجوب كثير من الواجبات كقضاء الدين ورد الوديعة ونحوه وقبح كثير من المقبحات وحسن كثير من المحسنات، وقال أهل الجبر: لا نعلم شيئاً من ذلك إلاَّ بالشرع وبنوا ذلك على ما أصله الفلاسفة من أن هذه القضايا تسمى المشهورات أي لا عمدة لها إلا الشهرة التي لا تفيد إلا الظن الضعيف، فإنا إنما نحكم بها لأحد الأسباب الخمسة المتقدم ذكرها، وأن الإنسان لو خلى وعقله المجرد لما قضى بها، ونحن قد أبطلنا هذه القاعدة في صدر الكتاب وأوضحنا أنه لا فرق بينها وبين البديهيات في كونها ضرورية، وبينا ما أراده الفلاسفة بذلك من هدم قواعد الدين، ويختص هذا المكان أن يقال لهم هل يحكمون بوجوب معرفة الله تعالى وقبح الجهل به وقبح إضافة صفات النقص إليه.
فإن قالوا: لا يقضى بشيء من ذلك طوينا عنهم الكلام واكتفينا بذلك في معرفة عنادهم ولزمهم تصويب أهل الشرك والجحود وأن لا يحكموا بشيء من أنواع الكفر.
وإن قالوا: يقضى بوجوب معرفة الله تعالى وقبح الجهل به وغير ذلك من أنواع الكفر.
قيل لهم: أبالعقل عرفتم وجوب معرفة الله تعالى وقبح الجهل به فهو الذي نقول، أم بالشرع علمتم ذلك، فأي شرع ثبت لكم قبل معرفته حتى استدللتم به على وجوبها، وبعد فهب أن الشرع متقدم على معرفة الله لكن إذا قال النبي لكم إن معرفة الله تعالى واجبة فاعرفوه، فماذا تعلمون وجوب امتثال أمر النبي أبالعقل فهو المطلوب أم بالشرع فأي شرع ثبت قبل الأنبياء.
فصل
عند الجمهور أن الله تعالى قادر على ما(1) فعله لكان قبيحاً ويصح أن يقع منه لولا العدل والحكمة.
وقال أبو الهذيل وأبو الحسين: يقدر عليه ويستحيل منه لفقد الداعي. وقال النظام والجاحظ والأسواري: لا يوصف بالقدرة عليه. وقالت المجبرة /176/: لا يقدر عليه منفرداً بل يوجده والعبد يكتسبه.
__________
(1) . لو. ظن
قلنا: إنه ما من فعل إلا وكما صح أن يقع على الوجه فيحسن يصح أن يقع على وجه فيقبح، فإذا قدر القادر على إيقاعه على أحدهما قدر على إيقاعه على الآخر ولا تأثير لاختلاف وجوه الأفعال في قدرة القادر، بيان هذا أنه كما تقدر أن يقول زيد في الدار وهو فيها تقدر أن تقول ذلك القول بعينه وهو ليس فيها، والأول صدق والثاني كذب، وكما يقدر أن يظهر المعجز والمدعي صادق بقدر أن يظهر، وهو كاذب إذ لا تأثير لكذب المدعي ولا لصدقه في قدرة القادر، وكما تقدر أن تقول العالم ليس بقديم تقدر أن تقوله بحذف ليس وكما تقدر أن تعاقب مع الاستحقاق تقدر مع عدمه.
واعترضه أبو الحسين بأن قال: أليس لا تتعلق قدرة القادر باختصاص الفعل بوقت معين ومع ذلك فإذا انقضى الوقت خرج الفعل عن تعلقه بالقادر فكذلك لا تتعلق قدرة القادر بالقبح، ومع ذلك إذا اختص الفعل بوجه دون وجه خرج عن تعلقه بالقادر.
ويمكن الجواب بأن الوجه الذي لأجله خرج الفعل عن تعلقه بالقادر إذا انقضى وقته غير حاصل في الفعل إذا اختلف وجهه وإذا لم يكن جامع بين الموضعين بطلت المقايسة. على أنا إنما أوجبنا اختصاص الفعل بوقته في حق القادر بقدره، ونحن فرضنا المسألة في القادر لذاته، وهو تعالى كما يصح أن يوقع الفعل في وقته يصح أن يوقعه في غيره لا سيما المبتدأ النافي، فكذلك إذا صح أن يوقعه على وجه صح أن يوقعه على غيره.
فإن قال: قد قام دليل على اختصاص الفعل بوجه دون وجه وهو استحالة الفعل دون داع.
قيل له: إن عدم الداعي إنما يدل على استمرار عدم الوقوع لا على استحالة الوقوع كما أن ثبوت الداعي إنما يدل على استمرار الوقوع لا على وجوبه.
دليل قد تمدح تعالى بأنه لا يظلم الناس شيئاً، ومعنى ذلك أنه لا يفعل الظلم ولا يتم التمدح بترك الفعل إلا بأن يكون قادراً عليه، والأصح منه التمدح بأنه لا يجمع بين الضدين.
قالوا: تمدحه تعالى بنفي القدرة على الظلم، قلنا: إذاً يكون تمدحاً راجعاً إلى ذاته فيكون إثبات القدرة على الظلم نقصاً فيلزم أن تكون الملائكة والأنبياء على صفة نقص لقدرتهم على القبيح، ويلزم أيضاً أن يكون نفي القدرة على الجمع بين الضدين مدحاً، وهذا الدليل كما يستدل به الشيوخ يستدل به أبو الحسين أيضاً، لأنه وإن نفى الصحة فلأمر يرجع إلى فقد الدواعي لا إلى فقد القدرة، ألا ترى أن أحدنا كلما قويت صوارفه عن القبيح وبعد عنه لنزاهته وفرط حكمته كان مدحه أكمل، فكذلك الباري /178/ إذا استحال عليه دواعي القبيح من الجهل والحاجة كان مدحه أكمل. والأقرب والله تعالى أعلم أن الخلاف بين الجمهور وبين أبي الحسين إنما هو في عبارة، لأن أبا الحسين يقول باستحالة الوقوع من حيث الدواعي لا من حيث القدرة وسائر الشيوخ لا بد أن يقولوا باستحالة الوقوع من حيث العدل والحكمة لا من حيث القدرة، إذ لو جوزوا الوقوع مع العدل لم يبق دليل على أن الله تعالى لا يفعله، وإذا كان كذلك فالاستدلال بالعدل والحكمة موافق للاستدلال بفقد الدواعي؛ لأن معنى كونه عدلاً حكيماً أنه عالم بقبح القبائح، وغني عن فعلها، ومعنى فقد الدواعي إلى القبيح هو فقد الجهل به والحاجة إليه؛ لأنهما اللذان يدعوان إليه، ولا فرق بين قولنا أن الله ليس بجاهل ولا محتاج وبين قولنا أنه عالم غني قادر لا فرق بين كلام أبي الحسني وبني كلام الجمهور، ويمكن أن ترجح عبارة أبي الحسين بأن يقال للجمهور أتقولون أنه يصح منه فعل القبيح مع علمه بقبحه وغناه عنه أم تقولون لا يصح. إن قلتم يصح بطل استدلالكم على أن كل عالم بقبح القبيح وغني عنه لا يفعله وإن قلتم لا يصح فهو مطلوب أبي الحسين.
ولهم أن يجيبوا فيقولوا: لو يصح أن يوقعه من حيث القدرة فإما من حيث الحكمة فلا، وله أن يقول: لست أنازع في صحة وقوعه من حيث القدرة لكن من حيث الدواعي التي يسمون فقدها حكمة، فمتى قلتم باستحالته من حيث الحكمة فقد حصل المطلوب وصار الحال في استحالته من جهة الحكمة التي هي فقد دواعي القبيح كاستحالته من دون آلة إذا كان مما يحتاج إليها. وأما ما يقوله المتأخرون من أصحابنا أن أبا الحسين قد ناقض حيث قال: يصح ويستحيل فهو غير سديد؛ لأنه إنما يكون مناقضاً إذا قال بالاستحالة والصحة من وجه واحد، فأما مع اختلاف الوجه فلا مناقضة بل لا بد من الرجوع إلى ما قاله.
شبهة النظام والأسواري: أنه تعالى لو قدر على القبيح لوجب أن يوقعه.
والجواب: من أين يلزم أن من قدر على شيء وجب أن يوقعه أليس أحدنا يقدر على السعي في السوق ولا يفعله والله يقدر على إقامة القيمة الآن ولا يفعله.
قالوا: اتصافه بالقدرة على القبيح نقص. قلنا: بل مدح؛ لأن من ترك القبيح مع القدرة خير ممن ترك القبيح مع عدم القدرة، ولهذا يصح التمدح على أنه معارض بالأنبياء والملائكة.
قالوا: القول بأنه قادر على القبيح مع القول بامتناعه لأجل العدل أو فقد الداعي متناقض.
قلنا: هو كالقول بالقدرة /179/ على الفعل الذي يحتاج إلى الآلة مع القول بتعذره عند عدمها.
قالوا: فقوله: أنه قادر على المستحيل لو لم يكن مستحيلاً كما قلتم تقدر على القبيح وإن استحال أن لا يكون عدلاً حكيماً.
قلنا: أتلزموننا المعنى فصحيح إذ لا بد من القول بأن المستحيل لو لم يكن مستحيلاً لكان الله قادراً عليه أو تلزموننا التسمية فغير صحيح كيف يقول هو قادر على شيء لم تثبت القدرة عليه بخلاف القبيح، فإن القدرة عليه ثابتة وامتناعه هو لأجل الحكمة وفقد الداعي.
قالوا: لو قدر على القبيح لصح أن يوقعه لأن هذا حكم القادر، ولو صح أن يوقعه وقدرنا وقوعه لكان إما أن يدل على الجهل والحاجة وهو محال في حق العالم الغني لذاته وإما أن لا يدل وهو محال لأن طرق الأدلة لا تختلف شاهداً وغائباً.
قلنا: يصح أن يوقعه من جهة القدرة بمعنى أنه لو كان غير حكيم أو كان له داع إليه لوقع منه ويستحيل وقوعه من جهة الحكمة عندنا، ومن جهة فقد الداعي عند أبي الحسين وقولهم لو قدرنا وقوعه لكان إما أن يدل أو لا يدل فهو غير صحيح؛ لأنا قد منعنا في مسألة نفي الثاني من صحة تقدير وقوعه ومنعناه أيضاً على مقتضى عبارة أبي الحسين؛ لأن ما يستحيل لا يصح تقديره. وأما الجمهور فالتزموا صحة تقديره وامتنعوا من الجواب بلا أو بنعم وعلله الشيخ أبو علي بكلام حاصله أن كل كلامين تعلق الثاني بالأول على تقدير وجود الأول لا يخلوا إما أن يكون أحدهما هو الآخر كقوله: إن كان زيد فاعل للظلم فهو ظالم أو يكون أحدهما موجباً للآخر كقولك إن كان في قلب زيد علم فهو عالم وإن كان عالماً ففي قلبه علم، أو يكون أحدهما مصححاً للآخر نحو: إن كان الجوهر متحيزاً احتمل العرض وإن كان زيد عالماً كان حياً، وإما أن لا يكون أحدهما هو الآخر ولا موجباً له ولا مصححاً إن كان من القسم الأول وجب على المسئول أن يجيب بلا أو بنعم، وإن كان من القسم الثاني صح الامتناع من الجواب بأحد الأمرين إذا دل الدليل على فسادهما كمسألتنا هذه، فإنا إذا قدرنا وقوع الظلم منه تعالى ففاسد أن يدل على الجهل والحاجة؛ لأنه عالم لذاته غني لذاته وفاسد أن لا يدل لأنه يعود بالبعض على دلالته في الشاهد، فكان لنا أن نمتنع لأن الظلم ليس هو الجهل والحاجة، ولا يصححهما ولا يصححانه في حق الباري ولا يوجبهما ولا يوجبانه من حيث أن المصحح للظلم في حق الباري هو كونه قادراً فقط.
واعترضه أبو الحسين بما معناه أن الخصم لم يلزمكم العبارة حتى تمتنعوا من إطلاقها وتستدلوا على فسادها وإنما ألزمكم المعنى وهو أنا إذا قدرنا وقوع الظلم من الباري /180/ فهل كان ذلك الظلم يولد العلم بالجهل والحاجة أم لا، وليس يخرج النظر عن كونه مولداً لهذا العلم أو لا يكون.
والأقرب والله أعلم أن يفصل الكلام فيقال إن كان السائل يقدر الوقوع مطلقاً بأن يقول لو وقع الظلم من فاعل ما، هل كان يدل على الجهل والحاجة أو لا يدل، فإنه لا يصح الامتناع هنا من الجواب بأحد الأمرين لما ذكره أبو الحسين.
وإن قيد السائل كلامه بما يحيل كلا الوصفين عند ذلك التقدير صح الامتناع من الجواب بأحدهما لفظاً ومعنى، وعاد على ذلك التقدير والقيد بالنقض كأن يقول: لو وقع الظلم من حكيم هل كان يدل على الجهل والحاجة أم لا، فيكون لنا أن نقول لا يدل ولا لا يدل لأن قولك في السؤال حكيم يحيل الجهل والحاجة؛ لأن معهما لا يكون حكيماً وأنت فرضته في السؤال حكماً، وقولك وقوع الظلم يمنع قولنا لا يدل؛ لأن كل ظلم يدل على جهل فاعله وحاجته فصار الحال في هذا كالحال في قول القائل لو قدرنا اجتماع الضدين في المحل هل كانا يتنافيان أم لا، فإنا نقول لهذا السائل: لا يصح القول بأنهما يتنافيان؛ لأنه يعود على تقدير اجتماعهما في المحل بالنقض وأنت فرضتهما مجتمعين، ولا يصح القول بأنهما لا يتنافيان؛ لأنه يعود على كونهما ضدين بالنقض، وأنت فرضتهما ضدين، فكل سؤال هذا حاله فإنه يعود على التقدير والقيد بالنقض وإذا زال التقدير والقيد زال الإشكال من أصله. وهذا أقصى ما يمكن ذكره في هذه المسألة، وإن كان بعض شيوخنا قد ذكر أن قووع الظلم من جهته تعالى لا يدل على الجهل والحاجة قال: لأن شر دلالته على ذلك أن يصح الجهل والحاجة على فاعله ويلزمه أن لا يجد دليلاً على أن الله لا يفعل القيبح. ومتى قال إنه حكيم وصوارفه متوفرة. قيل له: إذا كانت الحكمة والصوارف تصرف عن القبيح لا محالة كان وقوعه دليلاً على زوال تلك الصوارف، فيلزم دلالته على الجهل عن القبيح لا محالة كان وقوعه دليلاً على زوال تلك الصوراف، فيلزم دلالته على الجهل والحاجة.
شبهة: قال النظام والأسواري: العلم في الأصل دلالة على الجهل والحاجة كما أن الخبر الصدق بالجهل والحاجة دليل على ذلك، فإذا قدر تعالى على الظلم وجب أن يقدر على خبر صدق بأنه جاهل محتاج.
والجواب منع الحاجة، والفرق بأن معنى كون الخبر صدقاً هو أن مخبره على ما هو به، فالقائل بأن الله تعالى يقدر على خبر صدق /181/ بأنه جاهل يحتاج قاتل، فإنه يقدر على أن يجعل ذاته جاهلة محتاجة، وذلك مستحيل، فكذلك ما في معناه وليس معنى وقوع الظلم هو أنه جاهل محتاج حتى تكون القدرة على أحدهما قدرة على الآخر.
فإن قيل: فإذا كان الظلم في الأصل دليلاً على الجهل والحاجة فالقول بأنه قادر عليه قول بأنه يقدر على أن يدلنا على جهله وحاجته.
قلنا: نرجع في جواز هذا الكلام إلى التفصيل المتقدم فنقول: إن إردتم أن الظلم دليل على الجهل والحاجة عند زوال حكمة فاعله وصوارفه عنه فهو مجاب إليه، فالله قادر على ما لو زالت حكمته وصوارفه عنه لدل على جهله وحاجته، وذلك مستحيل وإن أردتم أن الظلم يدل على ثبوت الحكمة والصوارف فغير لازم أن يدل كما تقدم لأنه يصير المعنى أنه قادر على ما لو قدر وقوعه على الوجه المستحيل لكان دليلاً غير دليل. وأما شبهة المجبرة في القول بأنه لا يقدر عليه متفرداً فهي مبنية على فاسد أصولهم من أن القبيح إنما يقبح للنهي وسلف إبطاله.
فصل في بيان ما يجري عليه تعالى من الأسماء بمعنى أنه لا يفعل ما يقدر عليه
منها قولنا:سبوح قدوس، فإن من فائدته تنزيهه تعالى عن فعل القبيح الذي يقدر عليه. ومنها قولنا: ظاهر معناه لا يفعل ما يقدر عليه من القبيح، ولا خلاف أنه مجاز في حقه تعالى؛ لأنه في الأصل من طهارة البدن، ثم استعمل في المتنزه عن فعل القبيح، ولا يشبهه قولنا نضيف ونقي؛ لأنهما من صفات المحال. ومنها قولنا: تارك معناه في اللغة الذي لا يفعل الفعل مع القدرة عليه. ومنها قولنا: غافر، وغفور وغفار، كلها تفيد أنه لا يفعل العقاب، ومثله قولنا مكفر لأنه يفيد ترك العقوبة لأجل الثواب ويقتضيه قولنا محيط أي لا يفعل الثواب لأجل المعصية المحيطة له. ومنها قولنا: حليم، معناه لا يعاجل بالعقوبة، وأما قولنا صبور، فلا يصح إجراؤه عليه؛ لأنه يفيد احتمال المكاره وإجازة بعضهم بمعنى حليم، وليس يصح لأن استعماله في الحليم مجاز، فإن ورد به سمع أقر حيث ورد وإلا منع رأساً. وأظهر من ذلك قولنا وقور ورزين؛ لأنهما يفيدان ملازمته لمكانه ومعارفته طريقه القلق مع مشقة في ذلك وداع إلى خلافه.
القول في أن الله تعالى عدل حكيم
ذهب أهل الحق إلى أنه تعالى عدل حكيم، ولم يسمع عن أحد من أهل الجبر هذا القول ولا ذكرت هذه المسألة في شيء من كتبهم الكلامية، وإن كانوا لو سئلوا عن ذلك /182/ لما وسعهم إنكاره.
نعم قد وافقوا في المنع من إطلاق القول بأنه تعالى ظالم جائر وفاعل للقبيح، وأثبتوا المعنى وأفاقوا إليه كل قبيح وجعلوا يحتالون للمنع من إطلاق العبارة بما لا محصول له ولا طائل فيه.
لنا أنا نعلم بالضرورة في الشاهد أن من كان عالماً بقبح القبيح وغنياً عن فعله وعالماً باستغنائه عنه فإنه لا يفعله ولا علة لكونه لا يفعله، وهذه ثلاثة أصول.
أما أنه لا علة لكونه لا يفعله إلا اجتماع هذه الأوصاف، فلأن العلم بذلك يدور مع العلم باجتماعها ثبوتاً وانتفاء، ولو كان المؤثر غيرها لجاز أن يفعل أحدنا القبيح مع اجتماعها، وأن يستمر الحال في أن لا يفعله مع زوالها أو بعضها، وخلافه معلوم، ألا ترى أن الظلمة لا يغصبون الأموال إلا لاعتقادهم أنهم يحتاجون إليها أو لجهلهم بكون ذلك ظلماً إما بأن يعتقدون أن المغصوب عليه يستحق أن يغصب عليه أو بأنهم يدفعون بذلك ضرراً عن الرعية ويدخرونه لما ينوب الجميع.
يزيده وضوحاً: أن العاقل لو خير فيما أتيح له الإخبار عنه بين أن يصدق ويأخذ درهماً وبين أن يكذب ويأخذ درهماً مثله، فإنه يختار الصدق لا محالة.
فإن قيل: إنما يختار الكذب لأنه يستحق الذم عليه والعقوبة.
قلنا: نفرض الكلام في كافر دني لا يعلم استحقاق العقاب ولا يتضرر بالذم، فثبت أنه لا علة لكونه لا يفعله إلا اجتماع هذه الأوصاف وهي وإن كانت أوصافاً كثيرة فجائز أن تتركب العلة من مجموع أوصاف إذا كانت كاشفة كما أن علة قبح الظلم هو كونه ضررا عارياً عن جلب نفع أو دفع ضرر إلى آخرها. يوضحه: أن الخصم يعلل وجود الفعل بقدرة العبد وإرادته وقدرة الله وإرادته.
واعلم أن مثال الصدق والكذب إنما يستقيم في القبائح التي تكون في المقدور من الحسن ما سد مسدها، فأما ما ليس كذلك فيكفي فيه اجتماع هذه الأوصاف، وذلك كان يعلم الله أن المكلف لا يلتطف إلا ببعثه كاذب أو فاسق، وكإثابة من لا يستحق الثواب، وإما أن هذه الأوصاف قد اجتمعت في حق الباري تعالى على أبلغ الوجوه فتقدم في مسألة عالم غني، أنه يستحيل عليه الجهل والحاجة، وأما أنه يجب أن لا يفعل القبح فلأن طرق الأدلة لا تختلف شاهداً وغائباً.
فإن قيل: كما أن احدنا لا يفعل القبيح لاجتماع هذه الأوصاف فهو لا يفعل الحسن إلا لجلب نفع أو دفع ضرر، وهو مستحيل في حقه تعالى، وإذا لم يصح الجمع بين /183/ الشاهد والغائب في الوجه الذي لأجله يفعل الحسن لم يصح الجمع بينهما في الوجه الذي لأجله يترك القبيح.
قلنا: دل الدليل على اتفاق الغائب والشاهد في الوجه الذي لأجله يترك القبيح فيجب اشتراكهما في ترك القبيح ولم يشتركا في الوجه الثاني لأجله فعل الحسن وهو الجلب والدفع، وبعد فأحدنا كما يفعل الحسن لجلب نفع أو دفع ضرر فقد يفعله لحسنه ولكونه إحساناً لولا هذا لم يكن لأحد على أحد نعمة لأنه يكون قد قصد بما فعله نفع نفسه أو الدفع عنها، بل قد يذم إذا لم يقصد ذلك، فيقال: فعله رياء وسمعه أو لنفع نفسه، وبعد، فكل عاقل يستحسن بكمال عقله إنقاذ الغريق وإرشاد الضال والإحسان إلى الغير بالصدقة ونحوها، واعترضه المجبرة بما تقدم من أصل الفلاسفة في المشهورات، وهو أن هذا الاستحسان لم يكن للعقل بل لسبب خارج من رقة طباع أو تأديب شرعي أو محبة التسالم أو نحو ذلك.
وأجاب أصحابنا بأنا نفرض الكلام في رجل خاسي القلب لا يعرف الله ولا الدار الآخرة، ولا شيئاً من الشرعيات، فإنه يستحسن بكمال عقله ذلك. واعرضه الرازي بأنه وإن عري عن هذه الأسباب فهو يتخيل حصولها، وذلك لأن الضلال والغرض يلازمان رقة الطبع غالباً، وكذلك الصدقة وحسن الأخلاق يلازم التأديب الشرعي.
وبالجملة فكل شيء مما يقضي به العقل عندكم يلازم سبباً مما ذكرناه في الغالب، فإذا رأى أحدنا رجلاً يتردى أو يغرق ظن أن رقة الطبع حاصلة فحينئذ يستحسن الإرشاد والإنقاذ، وصار الحال فيه كالحال في الحبْل المبَرقَش المشبه للحيَّة فإن الإنسان لما رأى الضرر يلازم البرقشة في الحية والحنش وتوهم أن الحبل المبرقش حيّة نفر طبعه وإن لم يكن هناك ضرر.
ويمكن الجواب بأن يقال أول ما في هذا أنا قلنا أن العاقل المتعرّي عن الأسباب التي ذكرتم يعلم بكمال عقله حسن هذه الأشياء وقبح غيرها، وأنت قلت بظن ذلك وبين العلم الضروري والظن فرقان. وبعد فهذا العاقل يستحسن الإنقاذ والإرشاد، وإن لم يكن هناك عرق وضلال، وكلامك مبني على أنه لا يظن حصول رقة الطبع إلا عند ووقع الضلال والغرق كما أنه لا يظن الضرر إلا عند رؤية الحبل المبرقش. وبعد فرقة الطبع أمر موجود من النفس فمتى حصل علم حصوله ومتى فقد علم فقده ولا يصح أن يظن حصوله كما لا يصح أن يقول القائل أظن أبي اشتهى وهو لا يشتهي، فكذلك لا يقول أظن أني أرحم /184/ وهو لا يرحم، وبعد فإنما يكون ذلك ملازماً لرقة الطبع غالباً في حق من يكون أغلب أحواله الرحمة ورقة الطبع ونحن فرضنا الكلام في رجل خاسي القلب الدهر كله فكيف يظن حصول ما لا يعتاده أو يعقل عليه الأمر في حقه. وبعد فقياسه على الحبل المبرقش يفسد ما قاله؛ لأن العاقل إذا رآه فإنما يظن الأذية والضرر في وقت يسير حتى يراه رؤية معقولة، فإذا علم أنه حبل زال الخوف والنفرة وإن كانت البرقشة باقية، فكان يلزم أن لا يستحسن العاقل الإنقاذ والإرشاد إلا في وقت يسير ثم يزول، ومعلوم أن هذا الاستحسان لا يزول.
فصل فيما يلزم المجبرة في هذه المسألة
يقال لهم: أليس يجو ان يفعل الله ما هو قبيح في الشاهد ولا يقبح فلا بد من قولهم بلا أو فيقال فليجز أن يخبر عن الشيء لا على ما هو به، ولا يقبح منه وقد التزمه العطوي.
قال: لأنه ليس بأعظم من غيره من القبائح، وقالت النجّاريّة: الكذب قبيح، والله تعالى غير موصوف بالقدرة على ما يقبح، ولأنه يدل على الجهل والحاجة ويبطل الأول ما تقدم من أنه قادر على القبحيح وأيضاً فكل كذب في العالم إنما يكون متولداً عن الاعتماد، وعندهم أن المتولدات ينفرد الله بها. ويبطل الثاني أن الكذب كغيره من القبائح، فإما أن يجوزوا الجميع أو يمنعوا الجميع. وقالت الأشعرية: إنما لم يجز الكذب عليه، لأنه صادق لذاته، حتى لو كان الكلام فعلاً له لما قبح منه.
ويمكن أن يقال لهم: إن الخصم ألزمكم على مذهبكم أن لا يكون صادقاً، فدلو أولاً على أنه صادق حتى يمكنكم القول بأنه صادق لذاته، وبعد فاتفقنا نحن وأنتم على أن الكلام الذي سمعناه من محمد عليه السلام فعل ويزعمون أنه حكاية أو عبارة فما يؤمنكم أن هذا الذي سمعناه كذب وأن كلام الله القائم بذاته خبراً عن كون المؤمنين في النار والكفار في الجنة عكس ما سمعناه من محمد، وبعد فعندكم أنه آمر لذاته ومع ذلك يجوز أن يأمر ببعض الأشياء وينهى عن بعض، فهلا جاز أن يكون صادقاً لذاته، ومع ذلك يكون صادقاً في بعض الأشياء دون بعض. وبعد فعندكم أن كلام الله تعالى معنى قائم بذاته يوجب كونه متكلماً ومعلوم أن الخبر نوع الكلام النفسي ومع كونه ثاتباً لمعنى يمتنع أن يكون ثابتاً للذات.
يوضحه: أن قولنا صادق مشتق من الصدق، فيجب كون الصدق معنى كما هو أصلهم في إثبات المعاني، وإذا كان كذلك وكان الخبر بكون زيد في الدار معنىً قديم صح ثبوت ذلك المعنى وزيد ليس في الدار كما يثبت، وزيد فيها إذ لا تأثير لدخول زيد الدار وخروجه في تغيير المعنى القديم /185/، وبعد فما أنكرتم أن ذلك المعنى القديم كذب وليس بصدق.
فإن قالوا: إنه تعالى عالم بكل شيء، فلا يجوز أن يخالف كلامه علمه.
قلنا: ولِم لا يجوز وقد جاز ذلك في الشاهد، أليس أحدنا يقول في نفسي كلام هو أن زيداً في الدار وهو يعلم أنه ليس فيها. وبعد فكثير منكم يذهب إلى حسن الكذب الذي فيه نفع ومصلحة كالحلف في الوعيد، فهلا كان المعنى القائم بذاته كذباً حسناً لنفع فيه وصلاح لا تعلمونه أو ليكون كذباً من وجه دون وجه كما أنه أمر من وجه ونهي من وجه.
وعلى الجملة فنحن نلزمهم الكذب في الكلام الذي عبارة عن المعنى النفسي، فلا نثبت دلالته على المعنى النفسي. إلزام يقال لهم: إذا صح أن يفعل الظلم صح أن يأمر به وكل وجه يذكرونه في المنع من الأمر به قائم في المنع من فعله، ولا يقال أليس أمر الله تعالى بالصلاة ولا يفعلها لأنا نقول هذا عكس ما ألزمناهم؛ لأنا ألزمناهم صحة أن يأمر بما يفعله لا صحة أن يفعل ما أمر به.
إلزام يقال: إذا صح ان يفعل القبائح ولا يقبح فهلا جاز أن ينصب الأدلة على الباطل ويكون الحق عكس ما تقتضيه الأدلة، فلا تحصل الثقة بأن ما عليه المسلمون حق وليس تجويزه بأعظم من تجويز أن يضل عن الدين ويخلق اعتقاد الباطل والحيل والجهل بالأدلة وتكذيب الأنبياء ونحو ذلك مما يجوزونه ولا يقبح منه.
إلزام يقال: إذا جاز أن يخلق الضلال والباطل والكفر والكذب، فهلا جاز أن يبعث رسولاً يدعو إلى ذلك ولا يقبح منه، فليس بعثه من يدعو إلى الضلال بأعظم من خلق الضلال، ومتى جاز ذلك فكيف يمكن القطع بأن الأنبياء دعوا إلى الحق.
إلزام يقال: إذا كان لا يقبح منه قبيح فهلا جاز ان يظهر المعجز على الكذابين ولا يظهره على الصادق فلا يوثق بصدق نبي ولا كذب متنب وقولهم إن المعجز موضوع للتصديق كلام فارغ؛ لأنه إنما يثبت ذلك إذا ثبت أن المدعي صادق وأن الله حكيم، والسائل ألزمهم كذب جميع الأنبياء وإن ظهر عليهم المعجز.
تنبيه: وكما يلزمهم جميع هذه الإلزمات فإنه يلزمهم أن لا يحتالوا للانفصال عنها، وأن لا يستنكروا إلزامها ويتكلفوا الجواب عنها؛ لأنه لا يتصور فيها قبح عندهم لو صدرت منه تعالى.
القول في خلق الأفعال
ذهب أهل العدل إلى أن أفعال العباد منهم، وقال أهل الجبر: هي من الله تعالى، واختلفوا فقال جهم: هم لها كالظروف وإضافتها إليهم كإضافة ألوانهم وكإضافة حركة الشجرة إليها، وسوى في ذلك بين المباشر والمتعدي.
وقال ضرار هي من الله حدوثاً ومن العبد /186/ اكتساباً ولم يفرق بين المباشر والمتعدي، وبه قال الأشعري في المباشر، فأما المتعدي فالله مستفرد به عنده. وقال المدعون للتحقيق منهم: الفعل يقع بقدرة العبد، ولكنها موجبة، ففاعلها هو فاعل الفعل؛ لأن فاعل السبب هو فاعل المسبب.
والأقرب أن هذه الأقوال تعود إلى قول جهم في التحقيق لأن أهل الكسب لا بد أن جعلوا العباد كالظروف لها في الحدوث، وأما الكسب فهو إما أن لا يكون فعلاً فذكره هنا باطلة وهذيان؛ لأن كلامنا في الأفعال، وإما أن يكون فعلاً فهو إما أن يتفرد الله به وهو مذهب جهم، وإما أن يحتاج إلى كسب آخر فيعود السؤال، وكذلك المثبتون للقدرة الموجبة لا بد أن يجعلوا العباد كالظروف لأفعالهم؛ لأنه لا اختيار لهم في السبب ولا في المسبب، ويصير الحال فيه كالحال في الشجرة التي يوجد الله فيها اعتماداً يوجب الحركة، فإن ذلك لا يخرج الشجرة عن كونها كالظرف للحركة الموجبة عن الاعتماد، فظهر لك أن المجبرة كلهم جهمية في التحقيق.
فصل
وقد اختلف أصحابنا في تفضل الكلام عليهم، فقال أبو الحسين: العلم بأنا محدثون لأفعالنا ضروري لا مجال للشك فيه؛ لأن العقلاء يعلمون بعقولهم حسن الأمر بها والنهي عنها والترغيب والترهيب والمدح والذم، ويعللون ذلك بكونه فعله، وكل ذلك فرع على أنهم محدثون لها، ومحال أن يعلم الفرع ضرورة والأصل استدلالاً.
يوضحهه أنهم يطلبون الفاعل طلب المضطر إلى أنه فعل ويعجبون الناس من كونه فعل، قال: بل هذا العلم حاصل للصبيان المراهقين، قال: والمجبرة يعلمون ذلك، ولكن جحده علمائهم ميلاً إلى الهوى وتعصباً للأسلاف وطلباً للرئاسة وتقرباً إلى السلطان، وليست شبههم أكثر ولا أدق من شبه السوفسطائية، فلم يدل ذلك إلى أنهم غير جاحدين للضرورة. على أنه يمكن صرف خلاف الجميع إلى أنهم علموا ولم يعلموا أنهم علموا، فإنه لا يمتنع أن يطري شبهة في العلم بالعلم لا في العلم نفسه. يزيده وضوحاً أنك إذا حكيت مذهبهم هذا لعوامهم الذين لا يعرفون كيفية أقوالهم لأنكروه ولنزّهوهم عن هذه المقالة، بل نجد علماءهم معتزلة في المعاملات فلا يذمون إلا من ظلمهم ولا يحمدون إلا من أحسن إليهم حتى لو رميت أحد منهم بحجر فشجه لذمك ولم يذم، ولم يذم الحجر ولوثب إليك وثبة مضطر إلى أنك الذي /187/ جرحته، ولو أخذت عليه دانقاً لما سهّل فيه ولخصك من بين الناس بطلبه.
وبالجملة فلو جمعت أهل الجبر في صعيد واحد ثم رأوا رجلاً يقتل آخر أو يأخذ ماله واستشهدهم بعض الحكام لشهدوا أنه قاتله، ولما خالجتهم شبهة في ذلك ولو كان الحق ما ذهبوا إليه لكانت شهادتهم بذلك زائرة. وأما ما قاله الرازي في كتبه من أنه شديد التعجب من أبي الحسين حيث جميع بين هذا القول وهو غلو في الاعتزال وبين قوله إن الفعل موقوف على الداعي، وهو غلو في الجبر.
فيمكن الجواب عليه بأن الفعل وإن كان لا يقع إلا لداع فليس الداعي موجباً للفعل فلا يلزمه الجبر.
ثم يقال له: هل يقدر أبو الحسين على أن يقول، وتقدر أنت على أن تتعجب، فإن قال: نعم نقدر على ذلك فقد ترك مذهبه، وهو بأن يتعجب من نفسه أولى. وقيل له: فهل تقدر على أن تترك قوله وتقدر على أن تترك تعجبك أم لا، فإن قال: نعم، أبطل مذهبه، وإن قال بالثاني، قيل له: فأي لوم عليه في قوله وأي فضل لك في تعجبك، وهل هذا إلا بمنزلة من يذم غيره على أنه يشتهي الحامض ويمدح نفسه على أنه يشته الحلو، ويذم الحجر لأنها تهوي ويمدح الدخان لأنه يتصاعد، وإن قال: لا يقدر أبو الحسين على أن يقول ولا أقدر على أن أتعجب، قيل له: فأنت أبداً تحكي الأكاذيب فتقول قال أبو الحسين وتعجبت وأنت تعلم أن أبا الحسين لم يقل وإنما الذي قال هو الله الذي فعل القول في أبي الحسين كما فعله في الشجرة التي تُؤدِي منها موسى ومن بلغ معه الإلزام إلى هذا الحد، فهو حقيق بأن يرق له ويرحم.
فصل
وقد استدل سائر الشيوخ بوجوه من الأدلة، منها: أن أفعالنا توجد بحسب قصودنا ودواعينا، وتنتفي بحسب كراهتنا وصوارفنا مع سلامة الحال تحقيقاً أو تقديراً، فلولا أنها من فعلنا لما وجب فيها ذلك، وهذان أصلان، أما الأول فدليله أن أحدنا متى اعتقد أو ظن أن له في الفعل جلب نفع أو دفع ضرر وهو قارد عليه غير ممنوع منه فإنه يقع منه لا محالة حتى انه لو لم يقع علمنا أنه غير قادر، وبهذه الطريقة علمنا أن العرب عجزوا عن معارضة القرآن، وكذلك إذا توفرت صوارفه بأن يعتقد أو يظن أن في الفعل جلب ضرر أو فوت نفع وهو قادر عليه وغير ملجأ إلى فعله فإنه لا يفعله وهذا معلوم ضرورة.
ويزيد سلامة الحال زوال الموانع وخلوص الداعي من /188/ صارف يساويه أو يزيد عليه وخلوص الصارف من داع يساويه أو يزيد عليه. ويزيده بالتحقيق فعل العالم المميز لفعله، ويزيد بالتقدير فعل الساهي والنائم، فإنه وإن لم يكن لهما داع محقق فهو مقدر بمعنى أنهما لو كانا في حال اليقظة أ والتنبّه لما وجد الفعل ولا انتفى إلا بحسب دواعيهما وصوارفهما المحققة، هذا عند الجمهور، وأما أبو الحسين، فعنده أن داوعيهما وصوارفهما وقصودهما محققة.
قال: لأن الداعي قد يكون ظناً واعتقاداً وهما صحيحان على النائم والساهي، وأبطله الجمهور بأن الداعي أيضاً فعل فإما أن يحتاج إلى داع آخر من فعل أحدنا فيتسلسل أو ينتهي إلى داع ضروري وهو ليس يصح؛ لأن الله تعالى لا يفعل الظن في أحدنا، وكذلك الاعتقاد لو فعله في النائم لكان علماً ضرورياً ومعلوم خلافه، وأما القصد فلا يشبهه في أن من حقه أن يكون من فعل فاعل ولا يصح من الساهي والنام فعل القصد لاحتياجه إلى العلم، وأما فعل الملجأ فإنه يوجده بحسب قصده وداعية لكن وافق ذلك قصد الملجي وداعيه وكذلك سير الدابة وافق قصدها فيه قصد الراكب بدليل أنه لو رام الإقدام بها على السبع أو الحيد لأبت ذلك، وأما نعيم أهل الجنة فلم يوجد بحسب قصودهم ودواعيهم، ولهذا لو دعا أحدهم الداعي إلى أن يبلغ درجة الأنبياء لما حصل له ذلك، وأما اللون الحاصل عند ضرب بدن الحي فإنما هو لون الدم انزعج بالضرب فلا جزم كان انزعاجه فعل الضارب، وقد ذهب البغداديون إلى أنه متولد عن الضرب، ويبطله أنه كان يلزم أن يولد الضرب في الجماد؛ لأن المحل محتمل وهو تولد لا يشرط فلا يتغلب علينا في توليده الألم، وكان يلزم أن يتولد من أول ضربة وأن يتولد في ظاهر البشرة، ومثله الكلام عليهم في بياض القبَّيْطات واللون الحاصل عند خلط الزاج بالعفص والحرارة الحاصلة عند حك أحد الراحتين بالأخرى.
وأما الأصل الثاني وهو أنها لو لم تكن من فعلنا لما وجبت فيها هذه القضية فدليله أنها لو كانت من فعل الله لجرت مجرى الصور والأولوان والأمراض وحركة المرتعش ونحو ذلك مما علمنا أن العلة في تعذره أنه لا يقف على أحوالنا بل يوجد، وإن كرهناه ويعتقد وإن أردناه وكذلك أفعال غيرنا لما لم تكن من فعلنا لم تقف على أحوالنا.
فإن قيل: ما أنكرتم أن يوجد الله أفعالكم عند قصودكم /188/ ودواعيكم بمجرى العادة. قلنا: كل شيء طريقه العادة يجوز اختلافه، فكنا نجوز وقوعها وانتفاؤها ولا صارف بأن تختلف العادة كما في الصحة والسقم وغيرها، وبعد فلو كان كلك لكنا نجد أنفسنا مدفوعة إليها وخلافه معلوم، وبعد فلو جوزنا أن يكون من فعل غيرنا وإن وجدت بحسب أحوالنا لجوزنا أن تكون من فعل غير الله وإن وجدت بحسب أحواله.
فإن قالوا: الساهي والنائم لا داع لهما ولا قصد، فيجب أن لا تكون أفعالهما منهما.
قلنا: أما أبو الحسين فلا يتوجه إليه هذا، وأما الجمهور فلهما عندهم داع مقدر وقصد، ولا يمتنع قيام التقدير مقام التحقيق في هذه الصور، ألا ترى أنه لا يمكن تقدير وقوف أفعال غيره على أحواله، وبعد فما ذكره عكس وهو غير واجب في الأدلة اتفاقاً، فأكثر ما فيه أن هذه الطريقة لا يتنا ولهما، فنحن نستدل بغيرها فنقول: فعلهما يقف على قدرهما فيقل بقلتها ويكثر بكثرتها، وعلى الأسباب الصادرة منما، ولهذا فإن النائمين يتجاذبان الثوب، فيستبد به أكثرهما قدراً.
طريقة أخرى في هذه المسألة قد ثبت أن العقلاء يستحسنون ويعلمون حسن الأمر والنهي بهذه الأفعال، ويعلقون بها المدح والذم ويعلمون بكمال عقولهم قبح تعليق ذلك بالصور والألوان والطول والقصر ونحوها، فلولا أنها من فعلنا لما تعلق بها شيء ولما وقع فصل بينها وبين الصور.
واعترضوه بأن قالوا: ألستم تحمدون الله على الإيمان وهو من فعلكم.
والجواب: أنا نحمده تعالى على مقدمات الإيمان من الأقدار والتمكين والتوفيق وهو تعالى يحمدنا على فعله كما صرح به في قوله: {فأولئك كان سعيهم مشكوراً}، وقوله: {وما يفعلوا من خير فلن يكفروه}، وصار الحال في حمدنا له تعالى على الإيمان كالحال في الوالد إذا اجتهد في تخريج ولده وحسن تأديبه حتى يبدو صلاحه، فإنه يقال: هذا من أبيه والمراد أنه تقدم من أبيه من العناية والرعاية ما كان سبباً في ذلك.
ومثل هذا يقع الكلام في ذم من وضع غيره في النار محرق ونحو ذلك، فإن الذم لا يقع على الإماتة بل على سببها.
طريقة أخرى، سمعية: وإنما استدللنا بالسمع هنا وإن كان العلم بصحته يقف على العلم بهذه المسألة استظهاراً على الخصوم وإلزاماً لهم لموافقتهم في أنه دلالة، ولأنهم تمسكوا بالمتشابه فتمسكنا بالمحكم ولأنهم كانوا يزعمون /190/ أنه لا دليل لنا في السمع فأريناهم أن لنا في السمعيات أكثر مما لهم، ولا أحسب آية من كتاب الله تكاد تخلو عن الأدلة على صحة مذهبنا في هذه المسألة من أمر أو نهي أو مدح أو ذم أو وعد أو وعيد أو خبر يتضمن إضافة فعل إلى فاعل ونحن نذكر من تفصيل ذلك ما سنح من الآيات. فمنها: قوله تعالى: {ما ترى في خلق الرحمن من تفاوت}، ونحوها مما يقتضي نفي الاضطراب والاختلاف من جهة الحكمة؛ لأنه إما أن ينتفي أن التفاوت من جهة الخلقة وهو باطل لحصوله أو من جهة الحكمة وهو المطلوب. ومنها: قوله: {صنع الله الذي أتقن كل شيء}، فإنه ليس المراد بالإتقان الإحكام؛ لأن في أفعاله ما ليس بمحكم بقي أن يكون المراد من جهة الحسن والحكمة. ومنها قوله: {الذي أحسن كل شيء خلقه} ونحوها مما يقتضي حسن خلقه، فإما أن يريد أن كله إحسان وهو باطل اتفاقاً لأن العقاب ليس بإحسان، وكذلك خلق الكافر على أصولهم ليس بإحسان أو أن كله حسن وهو المطلوب.
قال القاضي: معنى {أحسن كل شيء} في اللغة كمعنى أحسن في كل شيء، وقولهم: مراده بقوله: أحسن، أي علم باطل لأنه لم يرد أحسن في اللغة بمعنى علم، وإن ورد مضارعها كما في وذر ودع فرد مضارعها دون ماضيها. على أنا قد قدمنا أنه لا يجوز إجراؤه على الله لإيهامه الخطأ. ومنها: قوله: {وما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما باطلاً} ونحوها مما يقتضي نفي العبث، وعلى أصلهم أن كل باطل يقع في العالم فهو خلقه. ومنها: قوله: {فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر} ونحوها مما يقتضي أنا مختارون في أفعالنا. ومنها قوله: {وتخلقون إفكاً}، ونحوها مما يدل على أنهم المقدرون لأفعالهم. ومنها قوله: {بما تعملون} {بما تصنعون} {هل تجزون إلا ما كنتم تعملون}، {لنا أعمالنا ولكم أعمالكم}، {يوم تجد كل نفس ما عملت}، {وقدمنا إلى ما عملوا}، {ومن يعمل سوءاً يجز به} ونحو ذلك مما يصرح بأن لنا أعمالاً نجازى عليها، والقرآن مشحون بذلك، ومذهبهم يقتضي صرف أكثر القرآن عن ظواهره ويدخله في قالب الهذيان؛ لأنه يكون التقدير بما يعمل فيكم بما يصنع فيكم. ومنها ما يرد فيه لام العرض نحو: {ولقد صرفنا في هذا القرآن} {ليذكروا} و{لعلهم يذكرون} {لعلكم تعقلون}، ونحو ذلك، وتقديره عند الخصم، ولقد صرفنا في هذا القرآن لتخلق فيهم الذكر وأشباه ذلك. ومنها ما يتضمن النهي عن الاستهزاء بآيات الله نحو: {ولا تتخذوا آيات الله هزؤاً} {أن إذا سمعتم آيات الله يُكفَر بها ويُستهزأ بها} ولا استهزأ أبلغ من القول بأنه لا فائدة فيها ولا قدرة على امتثالها ولا معنى لأوامرها ونواهيها، يقول الله تعالى: {فمن اضطر غير باغ ولا عادٍ /191/ فلا إثم عليه}، ويقول الخصوم لا إثم إلا على ما اضطررنا إليه، ويقول الله: {لا إكراه في الدين} ويقولون: لاختيار فيه، ويقول الله: {قد تبين الرشد من الغي} ويقولون: لا فائدة في التبين لأنه إن خلق فينا الرشد رشدنا وإن خلق فينا الغي غوينا، ويقول الله: {قد
جاءكم الرسول بالحق فآمنوا} ويقولون: لا سبيل للكفار إلى الإيمان و إلى الانتفاع بما جاء به. وعلى كلّ فلا يكاد تخلو آية من كتاب الله إلاَّ ومذهبهم يقتضي صرفها عن ظاهرها وإبطال معناها.
فصل في ذكر بعض ما ألزمهم أصحابنا على القول بأن أفعال العباد من الله
فمن ذلك أنه يلزمهم ارتفاع معرفة الصانع تعالى؛ لأن العلم بمعنى المحدث في الغائب ينبني على العلم بمعناه في الشاهد، ولسنا نعقل من معنى المحدث في الشاهد إلا أن أفعاله توجد بحسب أحواله، وذلك ينبني على أن لنا أفعالاً لأنها لو وجدت بحسب أحوالنا وهي من فعل غيرنا لجاز مثله في كل شيء يفرضونه صانعاً للعالم، ومن ذلك أنه يلزمهم أن لا يصح معرفة شيء باكتساب قط؛ لأن علومنا إذا كانت من فعل الله تعالى فهي ضرورية، وهذا مع كونه محالاً للزوم اشتراك العقلاء فيه، فإنه يلزم الخصوم عليه أن لا يصنفوا الكتب ولا ينصبوا الأدلة، بل كان سبيلهم في كل مسألة أن يقولوا: نحن نعلم ما ذهبنا إليه ضرورة وأن لا يطلبوا من خصومهم الرجوع إلى مذهبهم لأنهم كيف يعلمون ما لم يخلق الله فيهم العلم به.
ومن ذلك يلزمهم أن لا تكون فائدة في إرسال الرسل وإنزال الكتب والأمر والنهي؛ لأن الله تعالى إن خلق الكفر والإيمان وجد أو إن لم يخلقهما فلا سبيل إليهما، وكذلك يلزم قبح مجاهدة الكفار؛ لأن لهم أ نيقولوا أتجاهدوننا لأجل أن الله خلق فينا الكفر أو لأجل أنه لم يخلق فينا الإيمان وكل ذلك بمنزلة مجاهدتنا على صورنا وألواننا، وكذلك يلزم قبح الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ومجادلة الخصوم، وطلب العلوم ونحو ذلك.
إلزام يقال لهم: أليس في أفعال العباد ما هو ظلم فلا بد من قولهم بلى فيقال: فيجب أن يسمى الله بفعله لذلك الظلم ظالماً كما يسمى بفعله للعدل عادلاً وبفعله للرزق رازقاً ونحو ذلك؛ لأنه لا فرق عند أهل اللغة في المعنى بين قولهم فاعل للظلم وبين قولهم ظالم بدليل أنه يمتنع إثبات أحدهما ونفي الآخر، قالوا: كيف يتفق معناهما وأحدهما مشتق من ظلم، والثاني مشتق من فعل. قلنا: اختلاف الاشتقاق /192/ لا يدل على اختلاف المعنى كالقعود والجلوس. على أنا نلزمهم المساواة بين قولهم ظلم وقولهم فعل الظلم، فإذا لزمهم ظلم لزمهم ظالم، ونرد عليهم السؤال في العادل.
قالوا: كيف يصح ما قلتم ولفظ الظالم قد أطلق على الشاهد، وهو غير فاعل للظلم عندنا، قلنا: إن أهل اللغة أطلقوا هذا الاسم على الشاهد لما اعتقدوه فاعلاً للظلم، وبعد فهب أنهم أخطأوا في الاعتقاد، أليسوا مصيبين بالتسمية، فعلى هذا يصير هذا الاسم حقيقة في الله؛ لأنه فاعل للظلم على الحقيقة كلفظ الإله فإنهم وضعوه على الأصنام، فجعل لله حقيقة لأنه الذي يستحق العبادة، وهذا الاسم موضوع بإزاء استحقاق العبادة، قالوا: الظالم اسم لمن حله الظلم.
قلنا: يلزم مثله في العادل والرازق ويلزم إذا انفرد بفعل الظلم أن لا يكون ظالماً، ويلزم أن يكون الظالم هو المظلوم؛ لأنه الذي حله الظلم، ولو سلمنا أن محله الظالم للزم أن توجه أحكام الظلم من ذم وعقاب إلى نفس المحل كاللسان واليد دون الجملة. قالوا: الظالم اسم لمن جعل الظلم ظلماً له.
قلنا: يلزم مثله في العادل والرازق وأن لا يكون ظلماً له لو انفرد ويلزم لو وقف على الاختيار أن يجعله ظلماً لزيد دون عمر ومع حصول حقيقة الظلم في الحالين كما يصح أن يجعل الكلام أمراً لزيد دون عمرو مع كونه كلاماً في الحالين. وبعد فيعلمه ظالماً من لا يعلم أن الظلم جعل ظلماً له، وبعد فإن أردتم بقولكم جعل الظلم ظلماً له أنه حصله، فذلك عين ما نوزعتم فيه فكيف يدفعون الإلزام بنفس مذهبكم الذي لا يتم إلا بعد اندفاع الإلزام وإن أرتم أنه جعل كسباً له فسيبطل الكسب.
قالوا: الظالم اسم لمن تفرد بالظلم.
قلنا: يلزم مثله في العادل ويلزم أن لا يوجد ظالم قط، ويلزم في الظلم المتولد أن يقتضي كون الله تعالى ظالماً؛ لأنه تفرد به، وبعد فلو تفرد الله بالظلم هل كان تزيد حاله على كونه محدثاً له، قالوا: الظالم اسم لمن لم يجعل الظلم كسباً لغيره.
قلنا: إن أوردتموه بفتح الياء في يجعل لزم أن يكون كل شيءٍ سوى الله تعالى ظالماً؛ لأنه لا شيء يقدر أن يجعل الظلم كسباً لغيره إلا الله، وإن أوردتموه بضم اليا لزم أن لا يوجد ظالم في الدنيا لأنه ما من أحد يجعل هذا الظلم كسباً له إلا وقد جعل ظلم آخر كسباً لغيره، وعلى أي وجه أورتموه فهو احتراز بنفس المذهب الذي وقع الإلزام عليه فكأنكم قلتم اسم الظالم لا يطلق على الله ويلزم أيضاً مثله في العادل والرازق على أنا سنبطل كسبكم هذا.
قالوا: أليس قد فعل الحركة ولم يسم متحركاً وفعل الولد ولم يسم والداً.
قلنا: قد اشتق له من فعل الحركة اسم وهو المحرك /193/ ومن فعل الولد مولداً، ولكن لا يطلق عليه هذا لإيهامه الخطأ فأما المتحرك فهو اسم لمن حلته الحركة فأوجبت له المتحركية والوالد اسم لمن خلق من مائة آخر من جنسه.
واعلم أن أصحابنا ألزموهم هذا الإلزام من حيث العبارة، فأما من جهة المعنى والقوم يلتزمونه إلا أنهم يدعون أنهم لا يكونون مظلمين إلا بإطلاق العبارة وأصحابنا يلزمونهم التظليم باعتقاد المعنى؛ لأنه المعتبر في ذلك بدليل أن معتقداً لو اعتقد أن مع الله ثانياً لم ينجه من التثنية الامتناع من إطلاق العبارة.
يوضحهه أن بعض العجم لو ظن أن لفظ الظالم موضوع للعادل ثم دعا الله به فقال يا ظالم اغفر لي لما كان عليه حرج في إطلاق العبارة لما لم يعتقد معناها، وكذلك لو تواضع أهل إقليم على أن يجعلوا لفظ الظالم اسماً للعادل والعكس لصح ذلك؛ لأن العمدة على المعاني دون العبارات.
إلزام يقال لهم ألستم تحبون أن تحمدوا على الإيمان وفعل الطاعات فلا بد من بلى فيقال إن الله تعالى يقول: {ولا تحسبن الذين يفرحون بما أتوا ويحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا فلا تحسبنهم بمفازة من العذاب}.
ويقال: أليس الله خلق الكفر في الكافر وأمره بالإيمان، فكأن الله أمره بتغيير ما خلق وعاقبه لأجل أنه وقع ما خلق ولم لا يغبر خلقه.
ويقال لهم: إذا كان الله نفى عن نفسه الظلم والكذب وعندكم أنه لم يدخل شيء من ذلك في الوجود إلا وهو فاعله فأي شيء نفى عن نفسه أمعقول فكيف كان يكون حاله وهل يريد على ما قد أثبتموه أو غير معقول فأي مدح في نفيه وكيف يخاطب بما لا يعقل، وأي معنى لقوله {وما كان ربك ليهلك القرى بظلم وأهلها مصلحون}، وما معنى قوله: ونضع الموازين القسط ليوم القيامة، فلا يظلم نفس شيئاً، ونحو ذلك.
ويقال: أليس بعث الله الرسل إلى الكفار ليتركوا الكفر فلا بد من بلى فيقال فكأنه بعثهم لتغيير خلقه ولتجهيله وليقع خلاف ما أراد.
ويقال: إذا قال الكفار للرسل أي فائدة في إرسالكم إلينا بأي شيء كان يجيب الرسل. ويقال: أليس العبد متعبداً يطلب المعونة من الله تعالى فلا بد من بلى. فيقال: فإذا كان الإيمان من فعل الله تعالى فما معنى المعونة وكيف يحتاج الله في فعله إلى معين، ويقال: أليس يستحق أحدنا الشكر بالإحسان إلى غيره فلا بد من بلى؛ لأن ذلك ضروري فيقال: وكيف يشكر على ما لم يفعل ويقال: قد ثبت أن مسيلمة ادعى النبوة وقال له أصحابه صدقت /194/ في أنك نبي أليس كلامهم هذا تصديقاً له، فلا بد من بلى فيقال إذا كان هذا التصديق فعل الله فلم لا يقولون بصدقه وقد صدقه الله وما الفرق بينه وبني من يدعي النبوءة فتنطق الأشجار والأحجار بتصديقه بأن يفعل الله فيها ذلك التصديق.
فإن قالوا: إن محمداً عليه السلام قال: (لا نبي بعدي).
قيل لهم: وما أنكرتم أن هذا من جملة الأكاذيب التي يفعلها في العباد ولم كان محمداً بالتصديق أولى من مسيلمة وقد صدقهما الله على سواء. ويقال: إذا كان الله خلق الكفر في الكافر وقدرته وإرادته الموجبتين له ومنعه من الإيمان فأي نعمة له تعالى عليه وقد التزموا ذلك في نعمة الدين وخلافة معلوم ضرورة من الدين.
قالوا: فأما نعمة الدنيا فلله عليه نعم كثيرة ولا تستقيم لهم الفرق؛ لأن الله إذا كان خلقه لنار وأحياه لها وفعل فيه ما يؤدي إليها فهو بمنزلة من يقرب إليه الطعام المسموم، فأي نعمة عليه والحال هذه ويقال: ليس يخلو إما أن يتفرد الله بالفعل فيتوجه المدح والذم إليه أو يتفرد به العبد فيتوجه إليه أو يشتركان فيه فيتوجه إليهما.
ويقال: إذا ألقي الصائم على قفاه وسكب الماء في حلقه كرهاً أليس لا يأثم فلا بد من بلى. فيقال: إذا تناول الكوز وشرب منه أليس يأثم، فما الفرق بين الموضعين، وما معنى قوله عليه السلام: (رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه). ويقال: أليس يصح الإكراه على الفعل وكل فعل فالله تعالى فاعله، فكيف يتصور الإكراه ويقال: أليس يصح الندم على الفعل والتوبة عنه، ولهذا قال تعالى: {يا حسرتا على ما فرطت في جنب الله} فلا بد من بلى، فيقال: كيف يصح الندم على ما يفعل فيه، وهل يصح أن يقول أحدنا يا ندمي على كوني أسود أو قصير القامة. ويقال: قال تعالى: {فألقوا السلم ما كنا نعلم من سوء} أليسوا صادقين في ذلك، فلا بد من بلى، فيقال: ما معنى تكذيب الله لهم بقوله: {بلى}، ولا بد من أن يكون هذا التكذيب كذباً على أصلكم، ويقال: وجدنا كتاب الله تعالى مشحوناً بذكر شهادة الجوارح على العباد بأنهم فعلوا أفصادقة هي في هذه الشهادة أم كاذبة، ولا بد من أحدهما. ويقال: هل في الشاهد قادر أم لا، إن قالوا لا، قيل: فقد كلف الله تعالى العاجز وليس من مذهبكم. وإن قالوا: نعم، قيل: وما طريقكم إلى ذلك، وقد جعلتم الفعل لغيره، فإن قالوا: وقع باختياره. قلنا: إذا كان الاختيار الموجب مخلوقاً فيه كالفعل فأي دلالة لذلك على كونه قادراً، وهل يدل الهويّ /195/ على كون الحجر قادراً لوجوده بحسب الثقل المخلوق فيه.
فصل في ذكر بعض ما جرى من المناظرات
اجتمع أبو العتاهية وثمامة عند المأمون فرفع أبو العتايهة يده مناظراً لثمامة قال: من رفع يدي فقال ثمامة من أمه زانية. قال: شتمني يا أمير المؤمنين. قال ثمامة: تركت مذهبك، فانقطع.
اجتمع عدلي ومجبر فقال العدلي: أليس بعث الله موسى وهارون إلى فرعون، وقال: {وقولا له قولاً ليناً لعله يتذكر أو يخشى}، قال: بلى قال: أبعثه ليغير خلق الله أو فعل فرعون إن قلت بالأول فكيف يقدر موسى على التغيير ويقدر فرعون على الإجابة وما معنى قوله: {لعله يتذكر أو يخشى}، وإن قلت بالثاني تركت مذهبك. وقال عدلي لمجبر: أليس الله يقول: {الشيطان يعدكم الفقر ويأمركم بالفحشاء والله يعدكم مغفرة منه وفضلاً}، فأخبرني هل الوعد أن كلاهما من الله أو أحدهما من الشيطان فانقطع المجبر.
وناظر مجبرٌ عدلياً، فقال العدلي: لا أدري ما يقول، غير أن الله يقول: {كلما أوقدوا ناراً للحرب أطفأها الله} فلا بد أن يكون الذي أوقدها غير الذي أطفأها.
وقيل لأبي الهذيل من جمع بني الزاني والزانية؟ فقال: أما أهل البصر فيسمونه قواداً وأظن أهل بغداد لا يخالفونهم، فسكت السائل. وقال أبو الهذيل لحفص: هل شيء غير الله وغير ما خلق، فقال: لا، فقال: فعذب الله الكافر على أنه الله أو على أنه خلق، فقال: لا على واحد منهما، فقال: فعلام؟ قال: على أنه عصى، قال: فكونه عصى قسم ثالث، قال: لا، فأعاد السؤال، فانقطع وكان النظام حاضراً فلقن حفصاً حجته فقال: قل لأنه اكتسبها، فقال ذلك فقال: هل الكسب شيء غير الله وغير ما خلق؟ قال: لا، فأعاد السؤال، فانقطع.
وقيل لأبي يعقوب المجبر: من خلق المعاصي؟ قال: الله، قيل: فلم عذب عليها؟ قال: لا أدري.
وروي أنه أتى بعض الولاة بطرَّاز أحول العين وعنده عدلي ومجبر، فقال للمجبر: ما ترى يفعل فيه؟ فقال: يضربه خمسة عشر سوطاً، فقال للعدلي: ما تشير؟ فقال: نضربه ثلاثين سوطاً، خمسة عشر لكونه طرّازاً، وخمسة عشر لكونه أحول العين، فقال المجبر: أتضربه على الحول ولا صنع له فيه، قال: نعم، إذا كانا جميعاً من فعل الله تعالى فالحول والطرّ سواء، فانقطع المجبر.
وقال عدلي لمجبر: هل تملك من مالك وأهلك شيئاً؟ قال: لا، فقال كل الذي تملكه قد جعلته في يدي /196/ قال: نعم، قال: أشهدوا أن نساؤه طوالق وأن عبيده أحرار وماله صدقة للمساكين، فتحولت امرأته عنه، وسألت العلماء فأفتوا بوقوع جميع ذلك عنه فصارت قصته أضحوكة.
وقال أبو محمد المزيّن وكان ظريفاً: إذا أعطيت كتابي يوم القيامة قلت: قد عرفت ما فيه، ولكن هل أسأل عن شيء أثبته باختياري أم عن شيء خلق في أن قالوا عن شيء أثبته باختيارك، قلت: يا رب عبدك الضعيف أخطأ وأساء وعلى عفوك وفضلك توكل، فإن عفوت فبرحمتك، وإن عذبت فبعدلك، وإن قالوا: خلق فيك وقضى عليك، قلت: يا معشر الخلائق العدل الذي كنا نسمع به في الدنيا ليس هاهنا منه قليل ولا كثير.
وقال مجبر لعدلي: أرأيت لو كان لي قطعة من الطين هل لي أن أعمل فيها ما أحببت حتى أعمل فيها جرة صحيحة وأخرى معوجة مكسورة، قال: نعم، ولكن بشرط أن لا تقول: لِم كانت هذه صحيحة وهذه معوجة؛ لأن ذلك فعلك، ثم قال العدلي: إني أسألك، ما تقول في رجل غرس في بستانه خوخاً فقط، ثم قال لغلامه: اذهب فائتني بكل فاكهة، فجاء الغلام وقال: ليس فيه إلا الخوخ، فقال: اذهب فأحرقه، لِم لم يكن فيه سوى الخوخ، أهذا فعل حكيم، فانقطع؟
فصل في إبطال قولهم بالكسب
اعلم أن الكسب والإكساب هو إيقاع الفعل لجلب نفع أو دفع ضرر، ومنه سميت الحِرَف مكاسب والطيور المحضوضة كواسب، وعلى هذا يحمل ما ورد في القرآن؛ لأنه المعقول من الكسب وأما كسب المجبرة فهو من الأسماء التي لا مسمى لها، والحيالات التي ليس لها حقيقة، وإنما التجؤا إلى القول به عند ضيق الخناق ولزوم الأمور الشنيعة من قبح الأمر والنهي والوعد والوعيد وإرسال الرسل وإنزال الكتب ونحو ذلك.
وسبيلنا أن نبين أولاً أنه غير معقول في نفسه فضلاً عن أن نشتغل بإبطاله فنقول: لم يزل علماء الحق وفرسان الحجاج يطالبونهم بإظهار معنى الكسب، فما حصلوا منه على محصول ونحن نقدم في ذلك طريقة قاطعة فنقول: أخبرونا عن الكسب، أشيء هو أم لا شيء، إن قلتم: لا شيء فهو الذي نريد بأنه غير معقول، وإن قلتم هو شيء؟ قلنا: أقديم هو فما وجه إضافته إلى العبد حتى يمدح ويذم عليه ويثاب ويعاقب، أو محدث، فهل تفرد الله بإحداثه، فما معنى إضافته إلى العبد وأي فرجٍ في ذكره أم تفرد به العبد فقد تركتم مذهبكم، وأثبتم العبد محدثاً لفعل أم أحدثه الله واكتسبه العبد، فيعود السؤال، فإما أن يحتاج إلى كسب آخر فتسلسل، وإما أن يقتصر على الفعل ويبقى الكسب من أول وهلة أنهم قد حققوه بحقائق لا صحة لشيء منها.
فقال الأشعري: الكسب هو وجود الفعل بقدرة الله مقارناً لقدرة العبد لا تأثير لها في ذلك الفعل.
ولنا أن نقول: أول ما في هذا /197/ أنه إذا كان الفعل وقدرة العبد كلاهما من فعل الله ولا تأثير لأحدهما في الآخر فلم كان أحدهما بأن يكون مكتسباً لأجل مقارنته للآخر أولى من العكس، وبعد فإذا كان لا تأثير للقدرة المحدثة في الفعل فما الحكمة في خلقها وجعلها مقارنة له، وهلا كان وجودها كعدمها ومقارنتها كلا مقارنة. وبعد فجميع الأعراض عنده غير نافية، فلم جعل الفعل كسباً لمقارنته للقدرة، ولم يجعله كسباً لمقارنته للكون، وبعد فإذا كان الكسب هو وجود الفعل على هذه الكيفية فهو متعلق بالله، فما وجه إضافته إلى العبد وأي اختيار له فيه. وبعد فكأنه يقول يذم العبد وبلعن على الفعل؛ لأنه خلق فيه مع غيره ولا يذم على اللون لأنه خلق فيه وحده، وهذا في غاية الركة. وقال: الباقلاني: المرجع بالكسب إلى صفة للفعل هي كونه طاعة أو معصية فوجود السجدة مثلاً هو من الله وكونها طاعة أو معصية هو من العبد، وهذا أيضاً ظاهر السقوط لأنا نسأله عن هذه الصفة التي هي كون السجدة طاعة هل هي وجود السجدة فهو الذي نهرب منه أو كونها كسباً، فعنه وقع السؤال، وبعد فإذا صح من أحدنا أن يجعل فعل الله على صفة بها تصير طاعة أو معصية فما الفرق في ذلك بين السجدة واللون، فهلا صح أن يكون اللون طاعة أو معصية بأن يكسبه أحدنا تلك الصفة، وبعد فالذي يعقل ويصح من معنى كون الفعل طاعة هو أن العبد فصد به وجه الله تعالى، وهذا لا يثبت إلا إذا كان فاعل السجدة، وفاعل القصد واحداً حتى لو قصد أحدنا بسجدة عابد الوثن وجه الله لما كانت طاعة، ولو قصد عابد الوثن بسجدة أحدنا التقرب إلى الوثن ما كانت معصية.
والحاصل أن القصد لا يكون قصد إلا إذا كان فاعله وفاعل الفعل واحداً، ولهذا لا يقال أن أحدنا يقصد أن يكون لونه أبيض وإن جاز أن يقال أراد ذلك.
إذا ثبت هذا قلنا: أخبرنا عن القصد الذي صار الفعل طاعة أو معصية هل هو فعل الله فقد أبطلت مذهبك ولم يبق لذكر الكسب فائدة أو هو فعل العبد فقد أثبت العبد فاعلاً لفعل لم يفعله الله أو هو كسب للعبد، وفاعله الله، فيحتاج إلى كسب آخر، ويتسلسل، وبعد فأخبرنا عن هذه الصفة هل تقف على اختيار العبد، فكان يصح أن يوجد الله الفعل ولا يكتسبه العبد بأن لا يختار الكسب ولا يقف على اختياره، فما الفرق بينها وبين الإيجاد، ولم كان إحدى الصفتين بأن يكون كسباً أولى من الأخرى، وبعد فمن أصلنا أنه لا يقدر على صفة للذات من دون معنى، إلا موجد تلك الذات كالكلام، فإنه لا يجعله خبراً إلا الذي أوجده، فكذلك لا يجعل الفعل طاعة إلا الذي أوجده، وبعد، فلو سمى أحدنا مكتسباً لأجل أنه صير /198/ الفعل على صفة لكان أحدنا مكتسباً للجسم إذا صيره على صفة المتحركية، وبعد فكثير من مخققيهم كأبي إسحاق والغزالي والجويني والرازي لا يثبتون الصفات، فما معنى الكسب عند هؤلاء، وقال بعض مشائخهم: الكسب هو ما وقع بقدرة محدثه، فقال لهم أصحابنا: أتريدون بقولكم وقع حدث فهو الذي يقوله أو يريدون الكسب، فعن الكسب سألناكم، وقال بعضهم: الكسب هو ما حله مع القدرة عليه، وهذا متهافت؛ لأن الفعل إنما يخل بعض الفاعل، ولأن إثبات القدرة فرع على إثبات أحدنا قادراً، وذلك فرع على كونه فاعلاً، وإذا كان الله أحدث الفعل فما معنى القدرة عليه، ولأن قولهم عليه يفيد أن القدرة مؤثرة فيه، فيقال: ما تأثير القدرة، هل في الإيجاد، فهو المطلوب أو في الكسب، فعنه وقع السؤال. على أنهم احترزوا بمحل القدرة عن المتولد، وهو جهالة؛ لأن في المتولدات ما يوجد في محل القدرة عليه كالعلم المتولد عن النظر وكالتأليف.
طريقة آخرى في إبطال الكسب على تقدير كونه مفعولاً، يقال لهم: أليس الله هو الذي أوجد الفعل وجعله كسباً للعبد فلا بد من بلى، فيقال: ما وجه تعليقه بالعبد وكلا الوجهين من قبله تعالى، ويقال لهم: هل الفعل الذي قبح من العبد كالظلم، هل قبح من جهة كونه خلقاً فقط فيلزم أن يقبح من الباري لو تفرد به الكسب في حقه تعالى أو يقبح من الجهتين جميعاً، فيلزم أن لا يقبح فعل قط؛ لأنه لم يجتمع لفاعل كونه خالقاً مكتسباً، ويقال لهم: هل يصح أن يتفرد الله بعفل الكفر والإيمان، فإن قالوا: لا، قيل لهم: فهل يصح أن يتفرد بهما العبد، فإن قالوا: لا، قيل: فإذا كان من فعل الله ومن فعل العبد بحيث لا يصح أن يتفرد أحدهما عن الآخر بالفعل فقد أثبتوا معنى الشركة وأحوجوا الله في فعل الإيمان إلى أن يكتسبه العبد كما أحوجوا العبد في أن يكتسبه إلى أن يخلقه الله، ويقال لهم: أليس إذا خلق الله الفعل وجب أن يصير العبد مكتسباً حتى لا يقف كونه مكتسباً له على اختياره فلا بد من بلى، فيقال: فأذن الله الذي أدخله في كونه مكتسباً جبراً كما أدخله في كونه طويل القامة جبراً، فعلام يتوجه المدح والذم، وما الثمرة في ذكر الكسب، ويقال: أليس أمر الله ناجح بشرط الاستطاعة حتى إذا لم يكن استطاعه لم يتوجه على تاركه ذم، فلا بد من بلى، فيقال: أليس معنى الاستطاعة عندكم أن يخلق فيه الحجج وقدرته وإرادته، فلا بد من بلى، فيقال: فيجب أن يكون أمراً بالإيمان بشرط خلق الإيمان، فلا يتوجه على الكافر لوم. ويقال: أليس يحتاجون إلى الله في كسب الإيمان فلا بد من بلى، فيال: أليس وجه الحاجة هو أنه لو لم يخلقه /199/ لاستحال أن يكتسبوه، فلا بد من بلى، فيقال: قد أحوجتم الله إلى أنفسكم في خلق الإيمان لهذا الوجه بعينه؛ لأن عندكم أنكم لو لم تكتسبوه لاستحال أن يخلقه فيكم.
فصل في شبههم في أن الله خالق لأفعال العباد
أشفها ما تقوّل عليه الرازي في مصنفاته.
وحاصله أن العبد حال إيقاع الفعل لما أن لا يصح منه الترك فهو المطلوب بالخبر، وأما أن يصح منه الترك فلا يكون الفعل أولى بالووقع من الترك، إلا لمرجح وداع وإلا كان قد وقع أحد الجائرين لا لمرجح، وذلك يقدح في حدوث العالم، قال: وذلك المرجح لا يصح ان يكون من فعل العبد وإلا احتاج في وقوعه إلى مرجح آخر، وإذا كان من فعل الله فوقوع الفعل عنده إما على سبيل الوجوب وهو المطلوب؛ لأن ذلك الداعي حينئذ يكون شيئاً، وفاعل السبب والمسبب واحد، وأما على سبيل الجوار بمعنى أنه يصح أن يقع، وأن لا يقع مع وجود الداعي، فيحتاج في وجوده إلى مرجح آخر ويتسلسل.
والجواب: أول ما في هذا أنه لازم له في فعل الباري تعالى، فيقال: حال ما أوجد الله الفعل هل كان يصح الترك أم لا، إن قال: لا، لزم أن يكون تعالى مجبوراً على فعله، وإن قال: يصح، قيل: فليس الفعل أولى من الترك، إلا لداع، وإذا كان كذلك فوقوع الفعل عند ذلك الداعي إما على سبيل الوجوب فيلزم حصول العالم لم يزل، وأن لا يكون مختاراً في وجوده؛ لأن الداعي قد صار موجباً له، والداعي ليس بفعل الله تعالى حتى يقول فاعل السبب والمسبب واحد، وإن كان على سبيل الجواز إحتاج إلى داع آخر وتسلسل، فما أجاب فهو جوابنا.
واعلم أن هذا شيء أورده الفلاسفة في حدوث العالم، وتحقيق الجواب عليه وعليهم أن يقول أما أفعال الساهي والنائم فلا تتوجه فيها هذه الشبهة على أصل الجمهور؛ لأنها لا تحتاج إلى داع، ومتى قيل فما المخصص للفعل على الترك مع أن نسبة القادرية إليهما على سواء. قلنا: يجوز أن يكون المخصص هو القادر به، وإن كانت معهما على سواء كما سيتضح، ويجوز أن يكون المخصص هو القصد؛ لأن الصحيح خلاف ما يقوله أصحابنا في إحتياجه إلى العلم، بل إنما يحتاج إلى الاعتقاد أو الظن، وذلك صحيح في حق الساهي والنائم، وأما أفعال العالم المميز لفعله، فمسلم أنها لا توجد إلاَّ لداع، لكن من سلم له أن الداعي هو المؤثر في الفعل وأن وقوع الفعل عنده على جهة الإيجاب أو ليس صريح مذهب خصومه أن المؤثر في الفعل هو القادر وأن وقوع الفعل عند الداعي على جهة الجواز، ولو أطلقوا لفظ الوجوب فإنما هو وجوب /200/ استمرار لا وجوب تأثير، وكيف والدواعي من قبيل الاعتقادات والظنون التي لا تأثير لها في الإيجاد، وقوله: أنه إذا كان على سبيل الجواز افتقر إلى مرجح آخر غير مسلم، ولا صحيح؛ لأن أحدنا متى دعاه الداعي إلى الأكل وعنده رغيفان مستويان، وليس له إلا أحد أحدهما، فإنه يأخذ أحدهما لا لمرجح مع استواء الداعي إليهما ومع جواز أن يأخذ الآخر، وكذلك الملجأ إلى الهرب إذا عنّ له طريقان، وكذلك العطشان إذا حصل له كوزان على سواء، وكذلك من بين يديه طبق تمر فإنه يأخذ واحدة واحدة من دون مرجح لها على ما يساويها.
وقد أجاب الرازي بهذا على الفلاسفة في أول كتاب الأربعين، فما باله صادر عليه هنا وحرره شبهة لو صحت لبطل الصانع.
ومتى قيل فقد يرجح الفعل على الترك لا لأمر. قلنا: بل يرجح الأمر وهو الداعي، ومتى استوى الداعي إليهما كان المخصص هو القادر بقصده، واختاره بدليل أنه لو سئل عن ذلك فقيل: لم خصصت هذا الرغيف مع مساواته للآخر لقال: اخترت ذلك ، ولسنا نعني بأن يكون تأثير القادر على جهة الاختيار إلا هذا، وبهذا تقع التفرقة بين المختار والموجب، فالمطالب لنا بمخصص وراء القادر مطالب لنا بإبطال معنى القادر، وإدخاله في حد الموجب، ولسنا نسلمه، ولا بد للرازي من النزول على مثل هذا الجواب، وإلا بطل عليه كون الباري مختاراً، وهو قد يزل عليه، ولكنه كثير التخلبط.
شبهة: قالوا: لو كان العبد محدثاً لأفعاله لوجب أن يعلم تفاصيل ما أحدثه ليصح منه إيجاد قدر دون قدر كالقديم تعالى.
والجواب: لم قلتم أنه يحتاج في إيجاب قدر وأن قدر إلى أن يعلم تفاصيل ما أحدث، وهلا كفى أن يقصد إلى إيجاد جملة أفعال لغرض من الأغراض، ثم يأخذ في تلك الأفعال حتى يتم غرضه، ثم يقتصر على ذلك القدر من ذلك الجنس، وإن لم يعلم كميته، فإذا قصد أن يصلي ركعتين مثلاً فقد قصد أن يوجد من الحركات والسكنات والأقوال ونحو ذلك القدر الذي تكون الصلاة معه ركعتين، وكذلك إذا كان غرضه الحج قصد إلى أن يوجد من الخطا القدر الذي به يصل إليها(1)، ولا يحتاج أن يعلم كمية تلك الخطا، وكذلك الباني يقصد أن يوجد من التأليفات ما به يصير المبني بيتاً وجميع الأفعال تجري على هذا المنوال، وهذا يعلمه كل عاقل، بل الصبي إذا تناول الكوز، فإنما يقصد أن يشرب القدر الذي معه يحصل الري ولا يتعرض للعلم بكمية حركات الفم، ولا يمكنه ما يأخذ من قطرة ولا بد للخصوم من الاعتراف بهذا.
__________
(1) . في نسخة: إليه.
يوضحه أنهم أجمعوا على أن من استأجر غيره على حياطة قميض بأجرة معلومة، فإن الإجارة صحيحة والعمل معلوم، ولو كان كما ذكروه لكان العمل غير معلوم، والإجارة فاسدة. وبعد، فالسؤال لازم لهم في الكسب /201/ فيقال يلزم أن يكون أحدنا عالماً بتفاصيل ما كسبه وجوابهم جوابنا، وبعد فقد قال بعض أصحابنا: إن أحدنا يعلم تفاصيل ما أحدثه أي يعلم أعيانها وإن لم يعلم كميتها؛ لأن العلم بكميتها أمر زائد على ذلك، ألا ترى أن الرجل يدخل نادي قومه وجامع بلده فيعرف أعيان من فيه وإن لم يعلم كميتهم، وكذلك في من يضيف قوماً ومن يبصر أساطين المسجد.
وأما قياسهم للواحد منا على القديم تعالى فغير صحيح؛ لأنه عكس الصواب من حيث لا يعلم معنى المحدث في الغائب إلا من علم في الشاهد ولا يعلمه في الشاهد إلا من علم أن لنا أفعالاً، ولأنه لم تكن العلة في علمه تعالى بتفاصيل ما أحدث هي كونه أحدث بل كونه عالماً لذاته، ألا ترى أنه تعالى يعلم تفاصيل المعدومات، وليست بمحدثة، ويعلم تفاصيل المعاني القائمة بذاته عندهم، وليست محدثة.
شبهة: قالوا: نحن نفرق بالضرورة ين الحركة الاختيارية والاضطرارية في تعلق الأولى بناء دون الثانية، فلو تعلقت إحداهما بنا من جهة الحدوث لوجب مثله في الثانية، بل كان يجب أن تحدث الأجسام لأن الحدوث متماثل، بقي أن يتعلق من جهة الكسب والمحدث هو والله تعالى، والجواب أنهم كانوا أولاً يجعلون الكسب هو بنفس هذه التفرقة، وهم الآن جعلوها دليلاً على الكسب، وهذه مناقضة، وبعد فإنما تدل هذه التفرقة على تعلق الكسب بناء من حيث يقف على قصودنا، فيجب أن تدل على تعلق الحدوث بنا كذلك. وبعد فهذه التفرقة ثابتة في المتعديات، فلجعلوها كسباً لنا. وبعد فقد أبطلنا الكسب بما لا مزيد عليه، فليكن هذا دليلاً لنا؛ لأنه لم يبق للتفرقة معنى إلا أنها تتعلق بنا من جهة الحدوث، وأما قولهم إن الحدوث متماثل، فكان يجب أن يتعلق بنا جميع المقدورات، فهو باطل؛ لأن الأشياء وإن اشتركت في الحدوث لم تشترك في الحاجة إلى محدث معين، وكيف يصح لهم هذا وهو محل النزاع، وبعد فكان يلزم مثله في المعلولات المتماثلة أن يستند إلى علة واحدة ولا يحتاج كل معلول إلى علة للوجه الذي ذكروه، وبعد فعند كثير منهم ومنا أن الوجود هو ذات الموجود، فلا يكون تماثلاً لاختلاف الذوات، وبعد فالتماثل الحقيقي إنما يعقل بين الذوات وليس يلزم من القدرة على إيجاد ذات القدرة على إيجاد سائر الذوات، ولا من القدرة على إيجاد الذات على وجه القدرة على إيجادها على وجه آخر. وبعد فالذي يعلم به كون المقدور مقدوراً هو وقوفه على القصد والداعي، فما حصل فيه هذا الوجه علمنا أنه مقدور لنا، وإلا كان مقدوراً للباري.
شبهة: قالوا: لو قدر أحدنا /202/ على إحداث أفعاله لقدر على إعادتها كالقديم تعالى.
والجواب يقال: أثبتوا أن العلة في قدرته تعالى على الإعادة هي قدرته على الإحداث ولا سبيل إلى ذلك، والفرق عندنا أنه قادر لذاته، وأحدنا قادر بقدرة والقدرة لا تتعلق على التفصيل إلا بمقدور واحد، وبعد فالسؤال لهم في الكسب، وبعد فهم قاسوا الشاهد على الغائب، وهو عكس الصواب، وبعد فليس من قدر على إيجاد شيء قدر على إعادته، فإن في أفاعال الباري تعالى ما يستحيل إعادته وهو ما لا يبقى في المتولدات، أما ما لا يبقى فلأنه لو صحت إعادته لانقلب باقياً لأنه يصير له في الوجود وقتان، وإذا صحا مع تحلل وقت عدم صحا على جهة التوالي من حيث أنه إذا تعدى في الوجود الوقت الأول إلى الثالث والرابع وما بعدهما صح تعديه إلى الوقت الثاني، ولا تصح الإشارة إلى أمر يحيل ذلك إلا وجوده في الأول، والوجود لا يحيل الوجود، ولو سلمنا أنه يحيل لما كان بأن يحيله في الوقت الثاني أولى من الثالث، وما بعده، فيلزم أن يستحيل أبداً، وفي ذلك ما نريد من استحالة إعادته، وأما المسبب فلأنه لو أعيد لكان إما أن يعاد مبتدأ أو مسبباً، والأول باطل؛ لأنه يكون له في الوجود وجهان، والوجهان في الفعل كالفعلين في صحة تعلق أحدهما بقادر، والآخر بقادر آخر، وفي ذلك صحة مقدور بين قادرين، وهو محال، والثاني باطل لأنه إن أعيد بسببه الأول لم يصح لأن من حق السبب أن يكون له في كل وقت مسبب آخر، واما إن يقاد بسبب آخر فيؤدي صحة حصوله سببين إلى صحة تعلقه بقادرين لجواز أن يتعلق أحد السببين بقادر والآخر بقادر آخر، هذا ما ذكره مشائخنا رحمهم الله تعالى في المبتدأ أو المسبب، وهو يمكن أن يعترض، أما المبتدأ فلقائل أن يقول: إن الذي أحال وجوده في الوقت الثاني هو لزوم أن يتغلب باقياً، وهذا المحيل غير حاصل في الوقت الثالث، وما بعده، فلذلك صح من القادر إعادته في الوقت الثالث، أو ما بعده، واستحال في الوقت الثاني، وكلما يتعلق بالقادر إنما يتبع ما يصح دون ما يستحيل.
وأما المسبب فلقائل أن يقول أيضاً يصح إعادته مبتدأ، ويصح إعادته لسبب آخر، ولا يلزم من صحة حصوله على وجهين أو عن سببين صحة تعلقه بقادرين، بل يكون الوجهان والسببان متعلقان بقادر واحد وما يتعلق بالقادر لا يصح أن يتعلق بغيره وصار الحال فيه كالكلام فإنه يصح أن يقع أمراً ويقع خبراً وإنما يتعلق الوجهان بقادر واحد، ولم يلزم من ذلك صحة تعلقه بقادرين /203/ كذلك هذا، وليس وقوعه على وجهين أو عن شيئين بأبلغ من الفعلين المتغائرين فإذا كانا مما يتعلق بقادر استحال تعلقهما بغيره.
شبهة قالوا: لو تعلقت بنا هذه لأفعال على الحدوث لتعلقت بناء على سائر الصفات من نحو كونها شيئاً وعرضاً وحسناً وقبيحاً.
والجواب: منع الجامع ولزوم مثله في أفعال القديم تعالى وفي الفرق بأن وجودها ليس مما إذا صح وجب فلذلك احتاج إلى مؤثر وليس كذلك سائر ما ذكروه، فإنه مما إذا صح وجب فلم يحتج إلى الفاعل ولهذا لا يؤثر الفاعل إلا في الحدوث وتوابعه(1) على أنه ليس للشيء بكونه شيئاً حال ولا بكونه جسماً وعرضاً بخلاف كونه موجوداً.
شبهة قالوا: لو صح أن يحدث أحدنا فعله لصح منه في الثاني مثل ما فعله في الأول، ومعلوم أن من كتب حرفاً لا يمكنه أن يكتب مثله في كل وجه.
والجواب: لم وجب ذلك فإن قاسوه على القديم تعالى منعنا الجامع على أن احدنا إذا قال يا أمكنه أن يأتي بمثلها في الثاني، وكذلك يفعل مثل الإرادة والاعتقاد والحركة، وكذلك الكاتب الماهر يساوي حروفه حتى يلتبس على الناظر، وإن امتنع ذلك لجواز أن يتغير حال العلم أو يحمل من المداد أقل أو أكثر مما حمله أوّلاً أو لفقد العلم بكمية أجزاء ما أوجده من التأليفات أولاً وثانياً. على أن السؤال وارد عليهم في الكسب.
شبهة، قالوا: لو أحدث أحدنا لسمي خالقاً كالقديم.
__________
(1) . توابع الحدوث: صفات الأفعال.
والجواب: منع الجامع، وبعد فالخلق هو التقدير بحسب المصلحة، فما لم تكن أفعالنا كذلك فالسؤال ساقط فيه، وما كان كذلك فإنما لم يوصف أحدنا بأنه خالق على الإطلاق لوقوع الإجماع على أن هذا اللفظ لا يطلق إلا على الله تعالى من حيث قد صار بالعرف اسماً لمن يوجد أفعاله بحسب المصلحة من غير زيادة ولا نقصان، وليس ذلك إلا القديم تعالى، فأما مع التنفيذ فيصح، ولهذا قال تعالى: {وتخلقون إفكاً}، و{إذ تخلق من الطين} ونحو ذلك مما ورد في اللغة، وأما قوله تعالى: {هل من خالق غير الله يرزقكم فهو على ظاهره؛ لأنا لا نثبت خالقاً يرزق غير الله، فأما الخالق الذي يقدر فعله بحسب الغرض فالقرآن واللغة مشحونان به.
فصل في شبههم السمعية
قد تعلقوا بالمتشابه الذي ذم الله تعالى متبعيه. ولنا في بيان كونه متشابهاً وجوه جملية ووجوه تختص كل آية الأول من الجملية أن يقول وقع الإجماع على أن أكثر القرآن محكم وأقله المتشابه ونحن قد بينا أنه ما يكاد توجد آية من كتاب الله تعالى ألا ومذهبهم يقتضي صرفها عن ظاهرها حتى الآيات /204/ التي يتمسكون بها فإذا أورد التسير المحتمل للتأويل يخالف بظاهره الكثير الذي لا يحتمل التأويل حكمنا بكون المتشابه هو القليل ولا بد لهم من الاعتراف بهذا، ولكنهم يدعون أن الكثير معهم.
الوجه الثاني:أن يقول عدواً أن جميع السمعيات تدل بظواهرها على قولكم وأنه لا دليل لنا إلا من جهة السمع لعقل فقد أجمعنا نحن وأنتم على أنه إذا تعارض السمع والعقل عمل على العقل لأنه لا يحتمل التأويل، وقد ذكره الرازي في الأربعين والمحصول والنهاية، وعللة بأنهما إذا تعارضا لم يخل إما أن يعمل عليهما جميعاً وهو محال لأن فيه اعتقاد المتناقصات، وإما أن يطرحهما جميعاً وهو محال؛ لأن فيه إلغاء الأدلة وأما أن يعمل على السمع ويطرح العقل وهو محال؛ لأن السمع يحتمل التأويل والعقل لا يحتمله فلا يعترض بما يحتمل على ما لا يحتمل وأما أن تعمل على العقل ويتأول السمع وهو المطلوب.
وهذا الذي ذكره صحيح، ولولا ذلك لوجب أن يقضى بأن الله تعالى جسم للآيات التي تدل بظواهرها على ذلك ويترك دليل العقل وهو محال وإذا كان كذلك وجب أن يتأوّل ما يقتضي ظاهره أن يكون الله تعالى ظالماً كاذباً غائباً كما تأولنا ما يقتضي أن يكون جسماً.
الوجه الثالث: أن يقول عدو أنه ليس لمخالفكم دليل قط فإن له أن يمنعكم من الاستدلال بالسمعيات رأسا فيقول إذا كان إذا كان القول ما قلتم من أن الله الفاعل لكل شيء ولا يقبح منه قبيح فما أنكرتم أن هذه السمعيات من الأكاذيب التي فعلها في الأنبياء وأنه لم يصدق نبي قط، وأن كل معجز يظهر عليه فإنما يظهر على كاذب وأكثر ما في ذلك أن يكون قبيحاً في الشاهد وتلبيساً، فهو لا يقبح من الباري تعالى عندكم، وإذا كان كذلك فكيف وثقتم بالسمعيات، وكيف تسكن نفس المسترشد المستفيد لا سيما وقد اصلتم في كتب المنطق أن السمعيات إنما تفيد الظن، وهذه وجوه عامة في كل ما يوردونه من السمعيات في هذه المسألة وغيرها. إذا ثبت هذا فقد تعلقوا بآيات منها قوله تعالى: {خالق كل شيء}.
والجواب عنها أن ظاهرها متروك بالإجماع لأنه تعالى شيء، ولم يخلق نفسه، وكذلك علمه وقدرته وسائر المعاني القديمة، وإذا سقط تعلقهم بالظاهر فليسوا بالتأويل أحق منا وهو معارض بقوله تعالى: {وإذ تخلق من الطين كهيئة الطير}، وقوله: {وتخلقون إفكاً وقوله أحسن الخالقين}. ومنها قوله: {أم جعلوا لله شركاء} /205/ خلقوا كخلقه.
والجواب لا يعلق بظاهرها لوجوه أما أولاً فلأنه إنما نفى أن يخلق غيره مثل خلقه وهو متفق عليه، وأما ثانياً فلو كان إثبات الخلق لغيره يقتضي الشركة لكان قد أثبت لنفسه شريكاً بقوله أحسن الخالفين ونحوها مما تقدم، وبعد فهي تعارضه بقوله: {أحسن كل شيء خلقه} فإن ظاهر هذه تدل على أنه لا يفعل القبيح ولا يحتمل التاويل، على أن ذلك وارد عليهم في الكسب. ومنها قوله تعالى: {أفمن يخلق كمن لا يخلق} وقوله: {والذين تدعون من دونه لا يخلقون شيئاً وهم يخلقون أموات غير أحياء}.
والجواب: لا يعلق لهم بظاهرها؛ لأن ظاهرها إنما ينفي المساوة بين من يخلق ومن لا يخلق وأن الأصنام التي تعبدونها غير حية، ولا خالقه بل هي مخلوقة، وكل ذلك مجاب إليه، وليس في الآية دليل على أن غير الله تعالى لا يفعل، وأما الخلق فقد بينا أنه لا يصح إطلاقه إلاَّ على الله تعالى، فنحن قائلون بمقتضى الآية.
ومنها قوله تعالى: {وخلق كل شيء فقدره تقديراً} وأفعاله العباد من الأشياء.
والجواب: أنه لا تعلق لهم في ظاهرها كما تقدم، وبعد فأصل الخلق هو التقدير، ونحن نقول إن الله تعالى قدر أفعال العباد، وليس يجب أن يكون المقدر من فعل المقدر، الا ترى أنهم يقولون خلقت الأديم أي قدرته، والأديم ليس من فعلهم، وبعد فإذا كان الخلق هو التقدير بحسب المصلحة من غير زيادة ولا نقصان، فقد اقتضى ظاهر الآية على أصلهم أن تكون أفعال العباد كذلك، ومعلوم أن فيها من التفاوت والقبح ما لا يصح معه إطلاق كونها مقدرة بحسب المصلحة. إذا ثبت هذا فالمعنى خلق كل شيء مما يختص بالقدرة عليه لتمكن الجمع بينها وبين ما تقدم ذكره.
ومنها قوله تعالى: {والله خلقكم وما تعملون}. والجواب: أنه لا تعلق لهم بظاهرها من وجوه، أحدها أنه أضاف العبادة والنحت والعمل إليهم فلو أراد ما ذكروه، لكان قد ناقض، وثانيها أن الآية وردت مورد الإنكار والاحتجاج والتوبيخ ولو لم يكونوا هم الفاعلين للنحث والعبادة لكان لا معنى لتوبيخهم، ولا حجة عليهم بل كانت الحجة لهم فيقولون إذا كنت خلقت فينا العبادة والنحث فأي معنى للإنكار وهلا تركت فعلها والإنكار فيها.
يوضحه أنه لو لم يكن لهم عمل لكان عمل(1) إبراهيم عليه السلام ممهداً لعذرهم بمنزلة من يقول لفاعل القبيح أنت لم تفعله، وإنما فعله غيرك، وثالثها: أن الله تعالى جعل العلة في توبيخهم أن الأصنام مخلوقة فلو كانت أفعالهم مخلوقة لزال معنى هذا التعليل وصار الكلام كله /206/ لا معنى له، إذا ثبت هذا فالمعنى يعبدون أصناماً ينحتونها والله خلقكم وخلق تلك الأصنام التي تعملونها فكيف تعبدون مخلوقاً مثلكم لا يضر ولا ينفع، وقوله: {وما تعملون} أي وما تعملون فيه كما يقال عمل النجار باباً أي عمل في الباب، وكما يقال فلان يعمل الثياب أي يعمل فيها، وقال تعالى: {يعملون له ما يشاء من محاريب وتماثيل والمراد يعملون في المحاريب لأن المحاريب أجسام وهي غير مقدورة، ولا مكتسبة وبهذا يستقيم المعنى ويزول التناقض ويوافق العقل ومحكم الكتاب واللغة وتظهر فائدة الكلام وتقوم الحجة على الكفار، يزيده وضوحاً أنهم عبدوا المنحوت لا النحت فدل على أن المراد بقوله ينحتون أي ينحتون فيه وإلا كان التقدير تعبدون نحتكم وهاهنا إلزام لا يجدون عنه انفصالاً فيقال لهم: هل جعل الله آلهة تعبد من دونه، فإن قالوا: نعم، جعلها، قيل فما معنى قوله: {أجعلنا من دون الرحمن آلهة يعبدون} وإن قالوا: لم يجعلها، قلنا: إذا كان خلق الأصنام وخلق نحتها حتى صيرها أصناماً وخلق فيهم عبادتها وتسميتها آلهة واعتقاد استحقاقها للعبادة فكيف يقال لم تجعل آلهة تعبد وهل الجعل أكثر من ذلك ثم إذا لم يجعلها فمن جعلها؟ وأي معنى لهذا الإنكار وكيف يكون جعلها.
ومنها قوله تعالى: {خلق الإنسان من عجل} قالوا: والعجل فعل العجلان.
__________
(1) . قول. ط
والجواب: أن ظاهرها متروك؛ لأنه يقتضي أن الإنسان مخلوق من العجل، وليس كذلك؛ لأن العجل عرض والأجسام جسم؛ ولأن الخصم يتأولها على القلب فيزعم أن التقدير خلق العجل من الإنسان، وهذا مع كونه عدولاً عن الظاهر فهو لا مقتضى له ولا دليل عليه. وللآية عندنا معنيان، أحدهما أن العجل هو الطين الرطب وعليه قول الشاعر:
والنخل تثبت بين الماء والعجل
ومنه قوله تعالى: {من حماءٍ مسنون}، وثانيهما أن عادت العرب إذا أرادت المبالغة في الوصف ذماً كان أو مدحاً قالوا خلق فلان من كذا، أي لكثرة ولعه به واعتياده به كأنه خلق منه، وكأنه لا يعرف شيئاً سواه، فيقولون: فلان مخلوق من الحياء وفلان مخلوق من الكرم مبالغة في الوصف، فأراد الله المبالغة في ذم الإنسان بالعجل كما قال في خلق الإنسان: {عجولاً}.
ويدل على هذا من بعد قوله: {سأريكم آياتي فلا تستعجلون}. ومنها قوله: {وجعلناهم أئمة يهدون بأمرنا}، وقوله: {وجعلناهم أئمة يدعون إلى النار}، وفي ذلك /207/ كونه خلق الهدى والضلال.
والجواب يجوز أن يكون المراد بالجعل الوصف والتسمية كما قال تعالى: {وجعلوا الملائكة الذين هم عند الرحمن إناثاً، وكقوله: {وجعلوا لله شركاء الجن}، ويجوز أن يكون المراد: جعلناهم كذلك في الآخرة، ويريد بالهدى الثواب، وبالضلال العقاب، ويؤيده قوله: {لما صبروا وكانوا بآياتنا يوقنون}، فإن الهداية بعد الصبر والتقوى هي الثواب، وكذلك في قوله: {أئمة يدعون إلى النار}، يدل عليه سياق الآية، قال تعالى: {فأخذناه وجنوده فنبذناهم في اليم..} إلى قوله: {وجعلناهم}، والجعل بعد أن نبذهم في اليم إنما هو في الآخرة، ويصير بمنزلة قوله: يقدم قومه يوم القيامة، فأوردهم النار، وكذلك دعاؤهم إلى النار، ولو كان كما ذكروه من أن المعنى نصبنا هؤلاء للدعاء إلى الهداية وهؤلاء للدعاء إلى الضلال لكان المجيب للكل مطيعاً، وهو باطل.
ومنها قوله: {ثم صرفكم عنهم ليبتليكم..} الآية.
والجواب: ليس في الآية أن الصرف هو الهزيمة التي ذمهم عليها، ويجوز أن يكون المراد بالصرف التخلية بينهم وبين الكفار وإزالة النصر لأجل الفشل والتنازع، ويجوز أن يكون المراد بالصرف النهي عن قتالهم بعد انهزام المنهزمين، فمعلوم أن النبي عليه وعلى آله السلام وجماعة لم ينهزموا وأنهم إنما كفوا عن القتال بأمر من الله، ويجوز أن يكون المراد بالصرف الأسباب المقتضية للهرب من الخواطر والرهبة ويجوز أن يكون المراد بالصرف إباحة الهرب للذين كانوا أمعنوا في طلب العدو، فإنهم كانوا معذورين بالاتفاق، والضمير وإن كان ظاهر العود إلى الجميع، فلا يمتنع قيام دليل على رجوعه إلى البعض المعذورين في الانهزام وبالجملة فالذم لم يكن على الصرف الذي فعله الله، وإنما هو على سببه وهو الفشل، والتنازع والعصيان وإرادة الدنيا، ونحو ذلك، كما يشهد به قوله: {قل هو من عند أنفسكم}. يزيده وضحوحاً قوله: {ليبتليكم} والابتلاء لا يكون بالمعاصي.
ومنها قوله تعالى: {وهو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعاً} وفي الأرض الظلم والفساد.
والجواب: إنه قال: {خلق لكم} ولم يقل عليكم، والظلم والفساد علينا لا لنا، فلا تعلق بظاهرها، والمراد خلق لنا ما ننتفع به من الأرزاق وغيرها بدليل أنها وردت مورد المن علينا ولا منّة له بأن يخلق فينا القبيح ويعاقبنا عليه.
ومنها قوله تعالى: {واجعلنا مسلمين لك} فبين أن الإسلام من جهته.
والجواب: لا بد من ترك ظاهرها لاقتضائه على تأويلهم أن يكونا وقت السؤال غير مسلمين لاستحالة طلب الحاصل، وإلا كان بمنزلة من يقول: اجعلنا إنسانين، وهو محال /208/ إذا ثبت هذا فلأنه عندنا معان صحيحة فيجوز أن يكون المراد الحكم والتسمية، أي احكم لنا بذلك، وسمنا به وأظهره من حالنا، ويجوز أن يكون المعنى ألطف بنا في الإسلام، ووقفنا للثبات عليه، ويجوز أن يكون المعنى واجعلنا مسلمين بريادة الأمر بذلك والحث عليه كما قال تعالى: {وجعلناهم أئمة يهدون بأمرنا} أي جعلنا بأمرنا أئمة يهتدى بهم ويقتدى، ومثله: {إني جاعلك للناس إماماً} ويجوز أن يكون المراد بالجعل التعليم كقول المعلم المؤدب جعلت فلاناً شاعراً كاتباً، أي علمته ذلك، ويجوز أن يكون المعنى الدلالة والبيان، كما يقال: جعلت كلام فلان باطلاً أي دللت على ذلك. ومنه {جعل كلمة الذين كفروا السفلى وكلمة الله هي العليا}، ويجوز أن يكون المعنى أحلنا محل المسلمين كما يقال جعلت فلاناً أخاً، أي حللته محل الأخ.
ومنها قوله تعالى: {وقهم السيئات ومن يق السيئات يومئذ فقد رحمته}.
والجواب: المراد بيومئذ يوم القيامة والسيئات يوم القيامة ليست هي المعاصي، وإنما هي العذاب كما تقرر أن السيئة في اللغة تطلق على كل الشرور.
ومنها قوله: {ربنا افرغ علينا صبراً وثبت أقدامنا} فتبين أن الصبر والثبات فعله.
والجواب: لا بد من ترك ظاهرها؛ لأن الإفراغ لا يعقل في الصبر والثبات أيضاً في الاقدام، ليس على ظاهره، والمراد آتنا من المعونة والإلطاف ما نصير معه ونثبت، على أنه سؤال، والسؤال لا يد على أن المسئول يفعل.
ومنها قوله تعالى: {ولله يسجد من في السماوات والأرض طوعاً وكرهاً} فصرح بأنه مكره على السجود.
والجواب: لا بد من ترك ظاهرها عندهم؛ لأن السجود كله كرهاً فلا معنى لقوله: طوعاً، وأيضاً فليس المراد السجود الاسطلاحي؛ لأن أكثر الخلق لا يفعله كالشياطين والكفرة والفسقة والمجانين المعنى الانقياد لما يحدثه ويفعله فيهم، وعبر عنه بالسجود كما قال الشاعر:
ترى الأكم فيها سجداً للحوافر
ومنها قوله: {رب اشرح لي صدري ويسر لي أمري}.
والجواب: أن شرح الصدر في الحقيقة اتساعه، فالظاهر متروك، وهو في العرف أن تسكن النفس إلى الشيء وتهس(1)، وضيق الصدر بالشيء عكسه، والمراد اشرح لي صدري بالثواب والمعونة والإلطاف.
ومنها: قوله تعالى: {وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى}.
والجواب: لا بد من ترك ظاهرها لاقتضائه التناقض، فكأنه قال: رميت وما رميت، والمعنى: وما أصبت إذ رميت، ولكن الله أصاب، وذلك كقولهم: رمت رمتةً من غير رام، أي رب أصابه من غير بصير بالرمي. والقصة أنه عليه السلام أخذ حفنة /209/ من التراب، وكان هو المتولي لرميها إلى الهوى، والله تعالى هو المتولي لتفريقها في أعيان المشركين، وإيصالها إليهم. وقرئت من هذه قوله: {فلم تقتلوهم ولكن الله قتلهم}، فإن المراد لم تقتلوهم بحولكم، ولكن الله قتلهم بما خلق لكم من القدرة على ذلك، وأعانكم وأمدكم بملائكته، وألقى الرعب في قلوبهم، ونحو ذلك من الأسباب التي تقتضي حسن إضافة القتل إليه، ولهذا إذا كان من بعض الناس أعانه على قتل غيره من دلالة عليه أو إمساك أو تثبيط قيل ما قتله إلا فلان.
ومنها قوله: {هو الذي يسيركم في البر والبحر}.
والجواب: أما السير في البحر فلا كلام فيه؛ لأن السفن تسير باعتماد الريح، وهو من فعله تعالى، وأما سيرهم في البر فإنما أضافه إلى نفسه لأنه الذي أقدر عليه وأمكن منه بخلق الآلة وزوال الموانع.
ومنها قوله: {ولولا فضل الله عليكم ورحمته لاتبعتم الشيطان إلا قليلا}.
__________
(1) . وتهس: أي وتقبل.
والجواب: لم يبين ما ذلك الفعل وهو عندنا بالإرسال والبعث على الطاعة والترغيب فيها والترهيب من طاعة الشيطان واللطف في جميع ذلك. على أن ظاهرها يبطل مذهب القوم؛ لأن الله جعل فضله سبباً في كونهم لا يتبعون الشيطان، وعند الخصم أن اتباع الشيطان من فعله تعالى.
ومنها: قوله: {كذلك يضرب الله الحق والباطل}.
والجواب: ليس الضرب بمعنى الخلق في اللغة قط، وإنما يستعمل في معانٍ، أحلها: الضرب المؤلم وهو غير مراد بالاتفاق.
وثانيهما الضرب الذي هو أخص من النوع، وليس مراداً أيضاً.
وثالثها ضرب المثل، وهو المراد هنا تقديره: كذلك يضرب الله المثل للحق والباطل.
ومنها قوله: {فأقم وجهلك للدين حنيفاً فطرة الله التي فطر الناس عليها}، قالوا: فالله فطر الناس على الدين، فدل على أنه من فعله.
والجواب: ليس في الظاهر أن الدين فطرته ، ولو كان كذلك لكان يقتضي أن يكون كل الناس فطروا على الدين، وعند الخصوم أن أكثر الخلق فطروا على الكفر، ولأنه لو كان كما قالوا لكان قد بدل خلق الله؛ لأن المبدلين لدين أكثر من أن يحصوا، ولأنه لو كان كما قالوا لكان التقدير: فأقم وجهك للدين، وقد خلقتك كذلك، وهو بمنزلة أن يقول: كن طويلاً، وقد خلقتك كذلك، وإذا سقط تعلقهم بالآية، فالمعنى فطرة الله التي فطر الناس عليها؛ لأنه تعالى ما أنشأهم وابتدعهم إلا لعبادته، كما قال: {وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون}، ونظيره قوله عليه السلام: (كل نسمة تولد على الفطر..) الخبر، وقوله عليه السلام: (كل مولود يولد على الفطرة، وإنما أبواه يهوّدانه ويمجسانه).
وللآية وهذه الأخبار معنى آخر، وهو أن الله /210/ فطر الناس على الخلقة التي يهتدى بها إلى الدين القيم، ويقتضي الإقرار بالربوبية ويشهد له بالوحدانية، فإذا تدبر فيها الإنسان حال كمال عقله اهتدى بذلك إلى الدين القيم، وإذا اتبع الهوى ودين الآباء ووساوس الشيطان ضل عما تشهد به الفطرة من إقامة الدين، وعلى هذا يروى عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن الله تعالى يقول: (إني خلقت عبادي حنفاء فاغتالهم الشيطان عن دينهم)، وفي ذلك وجه آخر وهو أن معنى قوله فطرة الله التي فطر الناس عليها}، أي أمرهم بها من عبادته كما تشهد به الخلقة على أنه تعالى واحد لا ثاني له، وقوله: {لا تبديل لخلق الله} أي لا دليل يدل على خلاف ما تدل عليه الفطرة.
وقريب من هذا قول من جهل الآية على أن المراد بالفطرة الدين، ومعنى أن الله فطره أي ابتدأ شرعه بالأمر به.
ومنها: قوله: {ليجعل ما يلقي الشيطان فتنة}.
والجواب: لا بد للخصم من ترك ظاهرها؛ لأن الشيطان ليس هو الملقى عندهم، والمراد بالجعل هنا الدلالة والبيان كما سلف تمثيله، ومنه قول الشاعر:
جعلنا لهم نهج السبيل فأصبحوا .... على ثنت من أمرهم حيث يمموا
فالله تعالى جعل نسخ ما ألقاه الشيطان فتنة للكفرين، أي امتحاناً وتكذيباً لما توهموه وفرقاً بينهم وبين المؤمنين.
والآية تحتمل وجهاً آخر، وهو أن الله تعالى جعل ذلك فتنة لهم بمعنى أنه خذلهم وخلى بينهم وبين الشيطان، فصار ما ألقاه فتنة لهم حيث لم ينظروا في الحق، ولو نظروا لبطلت فتنة الشيطان وإضلاله.
ومنها: {وإن تصبهم حسنة يقولوا هذه من عند الله..} إلى قوله: {قل كل من عند الله}.
والجواب: إنها معارضة بقوله: {ويقولون هو من عند الله وما هو من عند الله، ويقولون على الله الكذب}. وبعد فلا بد من ترك ظاهرها؛ لأنه متناقض حيث قال تعالى: {ما أصابك من حسنة فمن الله، وما أصابك من سيئة فمن نفسك}، فكأنه قال: الكل من عند الله والبعض ليس من عنده. وبعد فليس المراد بالحسنة والسيئة الطاعة والمعصية؛ لأن الإصابة لا تقال في فعل الإنسان، وإنما تقال فيما يناله من فعل غيره، فيقال: إصابته نعمة أو نقمة، ولا يقال إصابة صلاة أو زنا. وبعد، فالله تعالى حكى الكلام عن الكفار، ومعلوم من أنهم لم يريدوا الطاعة والمعصية؛ لأنه لم يكن أحد منهم إذا زنا أو شرب الخمر يقول هذا من محمد، وكيف وهو حسن عنده، وكذلك لم يكونوا يطيعون فضلاً عن أن يضيفوا تلك الطاعة إلى الله تعالى. وإذا ثبت هذا فالمراد بالحسنة النعمة والرخاء، وبالسيئة الشدة والمحنة، بالقحط والأمراض والنقص ويصير كقوله: {وبلوناهم بالحسنات والسيئات لعلهم يرجعون}. وقال: {إن تمسسكم حسنة تسؤهم وإن تصبك سيئة يفرحوا بها، وقال تعالى: {إن تصبك حسنة تسؤهم وإن تصبك مصيبة يقولوا قد أخذنا أمرنا}، وهذا كان حال الكفار مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم يتطيرون به إذا أصابهم ما يكرهون، فبين الله أن الكل من عنده، وإنما سماه سيئة على جهة المجاز تشبيهاً للشيء بما يقابله كما قال تعالى: {وجزاء سيئة سيئة مثلها}، وقال: {ومن جاء بالسيئة فلا يجزى إلاَّ مثلها}. ومنها قوله: {فأغرينا بينهم العداوة والبغضاء}، فتبين أنه الباعث على القتال بالبغضاء، ولا بد أن يكون الحق مع أحد الفريقين.
والجواب: أنه لا فرج لكم في ذلك؛ لأنه لم يقل أن تلك المعاداة معصية وجائز أن يكون الله تعالى أمر اليهود أن تعادي النصارى لأجل التثليث وغير ذلك من أنواع الكفر والمعاصي، وأمر النصارى بمعاداة اليهود لأجل تكذيب عيسى وغيره من الأنبياء، فتكون المعاداة طاعة في الطرفين.
ومنها: قوله: {وليزيدن كثيراً منهم ما أنزل إليك من ربك طغياناً}.
والجواب: لا بد من ترك ظاهرها لاقتضائه أن يكون القرآن هو الفاعل لذلك، وعند الخصم أن المتولي لذلك هو الله، ولا فائدة في القرآن والمعنى أنه كثر طغيانهم عند سماعه وازدادوا عتواً وكفراً وتكبراً عن اتباع الحق، لا يقال ما زادتك موعظتي إلا إصراراً، وكقوله تعالى: {فلم يزدهم دعائي إلا فراراً}، أي ما أرادوا عنده إلا فراراً ونحوه، {فما زادهم إلا نفوراً}، وكقوله تعالى: {رب إنهن أظللن كثيراً من الناس} أي ضل عندهن، وأشباه ذلك.
ومنها قوله: {فلما أتاهم من فضله بخلوا به وتولوا وهم معرضون فأعقبهم نفاقاً في قلوبهم إلى يوم}
والجواب: من أين لهم أن الله الذي أعقبهم نفاقاً وهو المتنازع، وعندنا أن الضمير في قوله: {فاعقبهم} عائد إلى التولي والإعراض والبخل؛ لأنه أقرب المذكورين؛ ولأن في إضافته إلى الله نقضاً لمحكم الكتاب وأدلة العقل.
ومنها: قوله: {أضحك وأبكي} والضحك والبكاء قد يقعان معصية.
والجواب: أما البكاء فهو من فعل الله، ولا يصح كونه معصية، ولهذا لا يذم العقلاء، ولا أهل الشرع من بدرة البكاء، وكذلك الضحك حيث يقع من دون اختيار، وحيث يقع بالاختيار، فقد تكون طاعة، وقد يكون معصية، والمراد بقوله: {أضحك وأبكى} أنه فعل ما عنده يقع الضحك كما يقول أضحكني زيد /212/ أي فعل ما لأجله ضحكت، وليس في الآية أنه خلق الضحك، ويجوز أن يكون المراد خلقه خلقه يتمكن معها من الضحك، ولهذا يختص بذلك من بين سائر الحيوانات.
ومنها قوله: {صراط الذين أنعمت عليهم} لأن المراد أنعمت عليهم بالإيمان.
والجواب: هب أنه كذلك، فلسنا نمنع القول بأن الله أنعم بالإيمان، ولكن بمعنى أن الله قدر عليه ولطف فيه، ووفق فيه، ويجوز أن يكون المراد: الذين أنعمت عليهم بالنصر الذي آتيتهم وحسن الثناء عليهم وإنجاز ما وعدتهم ونحو ذلك.
القول في المتولدات
المتولد، هو الفعل الموجود بواسطة موجبة، كالعلم الحاصل بواسطة النظر والألم الحاصل بواسطة التفريق والمبتدأ، يقابله وهما يرفان، فإن المسبب والسبب في اغلب الأحوال ويفارقان المباشر والمتعدي مفارقة الأعم للأخص؛ لأن المباشر هو الموجود في محل القدرة عليه والمتعدي، هو الموجود في غير محلها بواسطة فعل في محلها، فكل متعد متولد ولا عكس، وكل مباشر مبتدأ بحسب الخلاف بين الشيوخ، ولا عكس، والحاصل أنه يعتبر في المباشر والمتعدي محل القدرة، فلا يصح إطلاقهما على أفعاله تعالى؛ لأنها كلها مخترعة.
فصل
والأسباب المولدة ثلاثة، وهي الاعتماد والكون والنظر، والمسببات ستة، فالاعتماد يولد ثلاثة اعتماداً مثله، وكوناً وصوتاً، والكون يولد الألم وما هو من جنسه، والتأليف والنظر يولد العلم، وكلما كان سبباً صح أن يكون مسبباً إلاَّ النظر، وكلما يصح من الله تعالى متولداً يصح منه مبتدأ، وكذلك من الواحد منا إلاَّ في الألم والتأليف والصوت فإنا لا نفعلها إلاَّ متولدة.
فصل
وقد ذهب أبو علي إلى أن الله تعالى لا يفعل بسبب، ويبطله ما نعلم أن كثيراً من أفعاله تعالى واقع بحسب غيره كسير السفينة وحركة الرحى عند قوة الريح، والماء ونحو ذلك.
وبالجملة فالأسباب تولد لما هي عليه، إلا لأحوال الفاعلين فلا يختلف باختلافهم، ألا ترى أن الاعتماد يولد لاختصاصه بالجهة، فمتى وجد ولد لا محالة إذا لم يكن مانع، ولا يقف توليده على اختيار مختار، وكذلك التفريق يولد الألم في بدن الحي لا محالة إذا انتفت الصحة، فإذا ولدت هذه الأسباب وهي من فعلنا ولدت وهي من فعل الله أيضاً لولا ذلك لجاز أن يولد إذا فعلها زيد، ولا يولد إذا فعلها عمرو، ويولد في المشرق دون المغرب، وخلافه معلوم.
شبهة: إنه كان يلزم أن يكون الله تعالى محتاجاً إلى السبب.
والجواب: لا نسلمه؛ لأن كل جنس يصح منه تعالى متولداً يصح منه ابتداء، فأما عين ما يوجد متولداً فهو وإن كان لا يصح عند أصحابنا إيجاده مبتدأ، فلذلك لا تقتضى الحاجة إلى السبب؛ لأنه أمر يرجع إلى الفعل نفسه، وهو أنه كأن يكون له في الوجود وجهان، فيؤدي إلى صحة مقدور بين قادرين، وصار الحال في احتياج الفعل المعين عندهم إلى سبب واستحالته من دونه كالحال في احتياج الغرض المعين إلى محل معين، واستحالة وجوده من دونه في أن ذلك لا يقتضي وصف الباري تعالى بالحاجة في الموضعين.
فصل
كل شيء يتولد عن فعل العبد فهو فعله عند جمهور أصحابنا. وقال الجاحظ: ما عدا الإرادة واقع بطبع المحل، وبه قال النظام ومعمر في ما يتعدى محل القدرة، إلا أن النظام يجعله بواسطة محل الطبع.
وقال ثمامة: ما عدا الإرادة حدث لا محدث له، وقال أهل الجبر: جميع المتولدات مما يتفرد الله به.
لنا: ما تقدم من وقوع أسبابها على قصودنا، ودواعينا، وحصولها بحسب قدرنا وآلاتنا وبحسب ما نفعله من الأسباب في الكمية والمطابقة، ويتعلق الأمر بها والنهي عنها والمدح والذم عليها ونحو ذلك مما تقدم ذكره، وليس خروجها عن الاختيار عند وقوع أسبابها يخرجها عن كونها فعلاً لنا كما أن خروج المبتدآت بوقوعها عن الاختيار لا يخرجها عن كونها فعّلا لنا.
ويبطل قول من علقها بالطبع أن الطبع غير معقول، إلا أن يريدوا به السبب فيقع الخلاف في غاية، وبعد فيلزمهم في المعجزات أن تكون بطبع المحل فلا تقع ثقة بالنبوة، وكذلك كان يلزم مثله في أصول النعم.
شبهتهم: إن المراد والمسبب يجبان عند حصول الإرادة والسبب ولا يتعلقان بالاختيار كالمعلولات.
والجواب: لا نسلم وجوب(1) المراد عند الإرادة؛ لأنه إن جعل إيجابها إيجاب العلل لم يصح؛ لأن العلل إنما توجب الصفات والأحكام دون الذوات، ولأنه كان إذا تزايدت الإرادة تزايد وجود المراد، ولأنه كان يلزم إذا قارنت أول حروف الخبر أن لا يقع الكلام بها خبراً لأن ما يقضى ن العلل فلأنا ننزله، ولأنه كان يجب اختصاصها بما هي علة فيه، وذلك لا يصح إلا بعد وجوده، فكيف يجعل علة فيه، ووجوده سابق لاختصاصها به، ولأن محل الإرادة غير محل المراد، فكيف يؤثر في غير محلها، ولأنه كان يجب وجود المعزوم عليه عند وجود العزم؛ لأنه أراده، وكان لا يصح النهي عن المراد بعد حصول الإرادة، ولا أن يرجع المريد عما أراده. وأن جعل إيجاب الأسباب فباطل أيضاً لأنه يصح تعلق الإرادة بفعل الغير، ولا يكون سبباً فيه، ولأنه كان إذا اشترك جماعة في إرادة شيء كان معذوراً لكلهم، ولأنه كان يلزم في الضعيف إذا أراد المشي أن يقع لأن قدرة السبب كافية في وقوع /214/ المسبب وإلا بطل كونه مسبباً؛ ولأنه كان يلزم إذا خلق الله في أحدنا إرادة دخول النار مع علمه بما فيها من المضرة أن يدخلها، ولأنه قد يريد أحدنا ما هو متولد عن أحد الأسباب المذكورة، والشيء لا يكون مسبباً عن سببين؛ ولأنه إذا وجب وجود المراد عند وجود الإرادة لم يكن أحدهما بأن يكون سبباً في الآخر أولى من العكس، ولأنه كان يجب إذا أراد أحدنا الكتابة وسائر الأفعال المحكمة أن يقع وإن لم يكن عالماً وكله باطل.
وأما قولهم: يجب المسبب عند السبب فغير مسلم أيضاً على الإطلاق؛ لأنه يجوز أن يعرض عارض يمنع من وقوع المسبب وإن وقع السبب، وأما قياسهم ذلك على العلل فغير صحيح؛ لأن الأدلة فصلت بين المعلول والمسبب، فإن المسبب ذات موجودة كوجود السبب وحادثة كحدوثه، فأمكن تعليقها بالقادر بخلاف المعلول، فإنه ليس بذات، وأيضاً فالعلل لا تقف في الإيجاب على شرط بخلاف الأسباب.
فصل
__________
(1) . في نسخة: وجود.
وأما الكلام على المجبرة فجميع ما تقدم في خلق الأفعال متوجه عليهم هاهنا؛ لأن أكثر ما كلفناه فعلاً وتركاً من المتولدات كالصلوات والزكوات والحج وقضاء الدين ورد الوديعة والظلم والكذب والجلب والدفع والأدعية والصناعات والكتابات ونحو ذلك، ويلزمهم أن يكون الله هو المتفرد بسب نفسه وقتل الأنبياء وجميع الأكاذيب؛ لأن كل فعل ذلك متولد عن الاعتمادات.
والذي يختص هذا المكان من شبههم أن قالوا: كان يلزم أن يكون العاجز فاعلاً بل الميت، بل المعدوم بأن يرمي ثم يعدم قبل الإصابة.
والجواب: أتريدون بكونه فاعلاً أنه حال الموت والعجز مستعمل قدرته في الأحداث فغير لازم، أم تريدون أنه وجد من جهته بعض ما كان قادراً عليه فهو صحيح فما يلزم منه. يزيده وضحوحاً: أنه يستحق الذم على الإصابة الحاصلة حال الموت أو العجز، ويصح أن يتوب من الإصابة قبل وقوعها لكونها كالواقعة بوقوع سببها وكل ذلك لا يصح في ما ليس بفعل الإنسان.
قالوا: فهذا يقتضي أن يكون قد استحق العقاب في حال موته وإن لم يستحقه في حال حياته، وهذا شنيع من القول.
قلنا: أما على قول شيخنا أبي هاشم ـ وهو الصحيح ـ فاستحقاق الذم على المسبب هو في حال وقوع السبب؛ لأن المسبب حينئذ يكون في حكم الواقع، ولهذا صحت التوبة عنه، ومتى منع من وقوعه مانع زال استحقاق الذم /215/ لأن استمرار استحقاق الذم مشروط بوقوعه، وأما على قول شيخنا أبو علي قيل وهو أحد قولي أبي هاشم فالذم يستحق حال وقوع المسبب، وإن كان مثبتاً لأنه فعله وقد كان يمكنه أن يحترز منه بأن لا يوجد سببه وليس في ذلك إلا الشنيع وهو متروك للأدلة وهاهنا وجه قوي وهو أن المسبب إن كان صغيراً لم يستحق عليه الذم رأساً وإن كبيراً فسببه كبير.
فصل في ما يجري عليه تعالى من الأسماء بمعنى كونه فاعلاً
منها الموجد والمحدث والمكون والمثيب، كلها سواء. ومنها: المخترع والمبتدع والمنشي والمبدئ والمديء، كلها تفيد الإيقاع لا بمثال ولا احتذاء. ومنها: الصانع، ولا يستعمل إلاَّ مضافاً، نحو: صانع العالم؛ لأن إطلاقه يوهم الاحتراف والتكسب.
ومنها: الخالق؛ لأنه يفيد إيقاع الفعل مقدراً بحسب المصلحة من غير زيادة ولا نقص، ومثله الباري والمقدر والمدبر، وقيل: المدبر مجاز في حقه تعالى؛ لأنه يفيد النظر في عواقب الأمور.
ومنها: المجمل والمنعم والمفضل، أي فاعل الجميل والنعمة والإحسان، ومثله الموسع والمنان، ومنع شيوخنا من الحنّان؛ لأنه يفيد رقة القلب من حنين الناقة على ولدها، وأجازوا حنَان ـ بالتخفيف ـ بمعنى الرحمة كما قال تعالى: {وحناناً من لدنا} أي ورحمة منا.
ومنها: الجواد معناه المكثر من فعل العطايا، وأما السخي فمنعه شيوخنا؛ لأنه مأخوذ من اللين، يقال: أرض سخاويّة، أي ليّنة ولم يحصل عرف ينقله عن أصله إلى من أكثر العطاء، ولهذا لو أعطى الرجل عطاء جزلاً لا على سهولة لم يوصف بالسخاء.
ومنها: العدل والعادل والحكيم والمحكم معناه فاعل العدل والحكمة. ومنها: المبديء والمعيد، معناه الذي أنشأ الخلق أولاً وثانياً، والفاطر كالمبتدئ.
وأما الأسماء الجارية عليه تعالى من طريق الاشتقاق فمنها: المحيي المميت، أي فاعل الموت والحياة عند من يجعله معنى، أو سببه عند من لا يجعله معنى. ومنها: المقدر والمقوي والمعلم والمكلِّف والدال والدليل عند من يجيز إطلاقه. ومنها: المنور، أي فاعل النور، وقد يراد به ناصب الأدلة.
وأما وصفه تعالى بأنه نور في قوله: {الله نور السماوات} فمجاز، ومعناه: المنور أو الهادي لأهل السماوات والأرض، ومنها الهادي والمرشد، وأما المضل فإطلاقه يوهم الخطأ فلا بد من تقييده فيقال: أضل الكفار، بمعنى أهلكهم أو عذبهم أو /216/ سماهم كذلك. ومنها: اللطيف واللاطف والعاصم والموفق والمصلح والمسدد كله بمعنى فاعل اللطف وبالعكس الخاذل والمسلط ونحو ذلك.
ومنها الخيّر أي فاعل الخير، نقيض الشريرن وقد أجاز إطلاقه أبو علي ومنعه أبو هاشم. قال: لأنه صار بالعرف اسماً لمن يستحق الثواب كقولنا: فاضل وصالح، وقد امتنعا بالإجماع، فلذلك خير.
ومنها: الكريم، أي فاعل الكرم، وإن استعمل بمعنى المتنزه عمَّا لا تنبغي الصفات، ومنها: البر الرحيم الراحم الرحمن الرؤوف، أي فاعل الرحمة، وهي النعمة، وليس المراد رقة القلب؛ لأن الأصل هو النعمة، ولهذا لو حصلت رقة القلب في الشاهد ولا نعمة لم تسم رحمة.
ومنها: الرازق والرازق والوهاب، فإذا أكثر من ذلك فهو الباسط، وإن قدره بمعنى بحسب المصلحة فهو القابض، فإذا أخبر عن نفسه بإيصاله فهو الكفيل والكافل والمتكفل.
ومنها الغياث، أي فاعل الغوث. ومنها: المؤمن، أي فاعل الأمان من العقاب، أو مصدق أنبيائه بالمعجزات، ومثله المهيمن أي المصدّق والشاهد كما قال تعالى ومهيمناً عليه أي شاهداً، قال الشاعر:
إن الكتاب مهيمن لنبيئنا .... والحق يعرفه ذوو الألباب
وأما السلام فمعناه المسلم من الآفات والعقاب والمحن، وهو مجاز من باب تسمية الفاعل باسم فعله.
ومنها: الطالب والمدرك، معناه يطلب الحق من الظالم فلا يفوته ما طلب، والمراد بالطّلب هنا والإدراك فعل ما معه يصل المظلوم إلى حقه، ومنها: المثيب والمعاقب، أي فاعل الثواب والعقوبة والدال على أنه يفعلهما، ومنها المجيد والماجد، قال الزجاج: معناه الفعّال، وقيل: هو مثل جواد.
ومنها: الحميد، قيل: كثير الحمد لعباده على فعل الخير مثل شكور، وقيل: حميد بمعنى محمود، وأما قولنا أبٍ فصحيح بمعنى المانع بمعنى الممتنع وعلى الأول حُمل قوله تعالى: {ويأبى الله إلا أن يتم نوره} أي يمنع من إطفائه، ومنها: الحفيظ والحافظ والراعي والحارس والكافي والوديع كله يفيد دفع المكاره عن عباده، وإن كان لا بد من تقييد فمما يوهم الخطأ منها كالحارس والداعي، فإنه يفيد نوع احتراف.
ومنها: المتكلم أي فاعل الكلام والمبين فاعل البيان، ولا يجري عليه في هذا القبيل ما يفيد التكلم بآلة نحو الفصيح والناطق والصائح والخطيب والقاض، ونحو ذلك.
وأما العامل فلا يجوز إجراؤه عليه تعالى، وما ورد منها فمجاز يقر حيث ورد؛ لأنها إنما تستعمل في من يجهل عواقب الأمور، وكذلك الشاكر والشكور /217/ لا يجري عليه تعالى؛ لأنه إنما يستعمل في مقابلة نعمه واستعماله حيث ورد مجاز من باب تسمية الشيء باسم مقابله، فسمى الجزاء على الشكر شكر، كما سمى الجزاء على السيئة سيئة.
القول في أن الله تعالى لا يعذب أحداً إلا بذنبه ولا يثيبه إلا بعلمه
اعلم أولاً أن الثواب هو المنافع المستحقة المفعولة على وجه الإجلال والتعظيم.
وقلنا: المستحقة احترازاً من التفضل، وقلنا على وجه الإجلال والتعظيم احترازاً من العوض فإنَّه يستحق لا على هذا الوجه، ولهذا يصل إلى المثاب والمعاقب والمكلف وغيره.
والعقاب هو المضار المستحقة على وجه الاستخفاف والإهانة.
قلنا: المستحقة احترازاً من الظلم وما ينزل بالمرء لطفاً أو لجلب نفعٍ أو دفع ضرر.
وقلنا: على وجه الاستحقاق والإهانة احترازاً من حد التأنيب.
فصل
ذهب أهل العدل إلى أن الله تعالى لا يثيت أحداً إلا بعمله ولا يعاقب أحداً إلا بذنبه.
وقال أهل الجبر: يجوز أن يعذب الأنبياء بذنوب الفراعنة ويثيب الفراعنة بطاعة الأنبياء.
ومنهم من قال: إذا كان يوم القيامة حملت ذنوب المسلمين على اليهود والنصارى وأعطوا طاعات الملائكة.
لنا: أن إثابة من لا يستحق تضمن تعظيم من لا يستحق التعظيم لما تقدم من أن الثواب لا يتميز عن العوض إلا بذلك وتعظم من لا يستحق التعظيم قبيح بالضرورة، ولهذا فإن العقلاء يستقبحون قيام الملك في وجه الرجل الدني الوضيع لما كان لا يستحق ذلك ويستقبحون تعظيم الأجانب كتعظيم الأبوين وتعظيم الأبوين كتعظيم الخالق جل ذكره.
ومن هنا: قبحت العبادة للأصنام من حيث كان تعظيم من لا يستحق.
وبعد، فلو حسن الثواب لا بعمل لقبح التكليف وصار عبثاً.
وأما عقاب من لا يستحق فلأنه محض الظلم وكل ظلم قبيح إما أنه ظلم؛ فلأن الظلم هو الضرر الصادر عن عالم أو متمكن من العلم بصفته عارياً عن استحقاق وجلب نفع ودفع ضرر، والظن لهما وعن كونه كالواقع من جهة المضرور، وعن كونه كالواقع من جهته غير فاعل الضرر.
قلنا: الضرر جنس، وقلنا: الصادر عن عالم أو متمكن من العلم بصفته احترازاً من الضرر الصادر من غير المكلفين والساهي والنائم، فإنه لا يوصف بأنه ظلم وإن وصف بالقبح.
قلنا: عارياً عن استحقاق احترازاً من عقاب العصاة.
قلنا: وجلب نفع احترازاً من تحمل مشاق الأسفار ونحوها طلباً للربح والرئاسة ويدخل فيه أنواع التاديبات والالطاف ونحو ذلك.
قلنا: دفع ضرر احترازاً من الفصد والحجامة، قلنا: وعن الظن لهما؛ لأنه لا فرق في حسن إنزال الضرر بين العلم بجلب النفع ودفع الضرر وبين /218/ الظن لذلك ولا يكفي ظن الاستحقاق في حسن الضرر كما ستعرف.
قلنا: وعن كونه كالواقع من جهة المضرور احترازاً من عدوان الظالم والسبع إذا عدا علينا فقتلناه دفعاً عن أنفسنا، فالضرر كالواقع من جهة نفسه.
قلنا: وعن كونه كالواقع من جهة غير فاعل الضرر احترازاً ممن يلقي صبياً في النار أو البرد فيميته الله، فضرر الإماتة هو كالواقع من جهة الملقى حيث قد علم أن الله يفعل ذلك بمجرى العادة.
وأما إن كل ظلم قبيح فذلك ضروري في الشاهد، ولا علة لقبحه، إلا كونه ظلماً بدليل أن من علم ذلك علم قبحه ومن جهله جهل قبحه.
فصل
ومحكم السمع يطابق ما ذهبنا إليه، قال تعالى :{ولا تزر وازرة وزر أخرى} {وأن ليس للإنسان إلا ما سعى}، {فكلاً أخذنا بذنبه}، {فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره ومن يعمل مثقال ذرة شراً يره} {ونضع الموازين القسط ليوم القيامة} الآية: {والوزن يومئذٍ الحق} {إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا} {إن الله لا يظلم الناس شيئاً} {وما كان ربك ليهلك القرى بظلم وأهلها مصلحون} {يوم تجد كل نفس ما علمت من خير محضراً} الآية {وتوفى كل نفس ما عملت} {هل تجزون إلا ما كنتم تعملون} {هل جزاء الإحسان إلا الإحسان} {بما عملوا} {بما ظلموا} {بما كانوا يفسقون} بما قدمت أيديهم بما قدمت يداك وإن الله ليس بظلام للعبيد} والقرآن مشحون بأمثال هذا مما لا يحتمل التأويل.
فصل في شبههم
أما من جهة العقل فلا شبهة لهم، وأما من جهة السع فتمسكوا بشيء من المتشابه، والأصل فيه على الجملة ما تقدم من أن مذهبهم يقتضي أن لا يوثق بالسمع لا سيما وهذه المسألة لا يؤخذ فيها بالسمع إلاَّ مؤكداً كلنا يجيب تبرعاً عن الآيات التي ذكروها.
فمنها قوله تعالى: {ليحملوا أوزارهم كاملة يوم القيامة ومن أوزار الذين يضلونهم بغير علم} {وليحملن أثقالهم وأثقالاً مع أثقالهم}.
والجواب: لا بد من ترك ظاهرها؛ لأن الحمل المعقول إنما يكون في ماله نقل، وذلك لا يصح إلا في الأجسام؛ ولأن الظاهر يقتضي التخفيف عن المحمول من أوزارهم؛ لأن من حمل ثقل غيره فقد خفف عنه والإجماع على خلافه.
وبعد، يقتضي ظاهرها مخالفة الإجماع فهو يقتضي مخالفة العقل والكتاب والسنة، أما العقل فلا شك أنه يقبح أخذ الغير بجرم غيره أو من غير جرم.
وأما الكتاب فقوله: {وماهم بحاملين من خطاياهم من شيء} /218/ وقوله: {ولا تكسب كل نفس إلا عليها و{لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت} وسائر ما تقدم ذكره.
وأما السنة فهي في ذلك أكثر من أن تحصى، ولو ادعى في ذلك الضرورة من الدين لأمكن.
إذا ثبت هذا فالمعنى يحملون أوزارهم، ومثل أوزار الذين يضلونهم لأجل إضلالهم إياهم، وذلك لأنهم فعلوا، وتبين ضلالهم وإضلالهم لغيرهم، فأضف أحدها إليهم والثاني إلى الأتباع ليقع التمييز بين ما حملوه لضلالهم وبين ما حملوه لإضلالهم وإضافة المصدر إلى المفعول أكثر من أن يحصى، وعلى مثل هذا حمل قوله: {بإثمي وإثمك} أي بإثمك الذي اختصصت به وبإثمك الذي اكتسبته بقتلي، فأضافه إلى نفسه ليقع التمييز، وهذا في ألسنة الناس كثير يقال حمل إثم هذه البهيمة بقتله لها، أي حمل إثمهما بقتلها، وعلى هذا حمل قوله عليه السلام: (من سن سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة، ومن سن سنة سيئة فله وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة)) أي ومثل وزر من عمل بها؛ لأجل الإغواء، ولولا هذا لسقط وزر الذي عملها؛ لأن الذي قد سنها قد حمله.
ومنها قوله تعالى: {واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة} قالوا: فبين أنه يصيب الظالم وغيره.
والجواب: هذا التفسير فاسد من جهة اللفظ ومن جهة محكم الكتاب والسنة، ومن جهة العقل.
أما من جهة اللفظ فإنهم بنوا على أن قوله: {لا تصيبن} نعت للفتنة وليس كذلك ولا هو خبر لها أيضاً؛ لأن نون التأكيد لا تدخل في النعت ولا في الخبر، وإنما تدخل عند النحاة في ستة مواضع في الأمر نحو: اضربن والنهي نحو لا تضربن، وفي المستقبل مع الأمر نحو: {لتركبن طبقاً عن طبق}. وفي الاستفهام نحو: {هل يذهبن كيده ما يغيظ} وفي جواب القسم نحو: {وتالله لأكيدن أصنامكم}. وفي أما للفرق بينها وبين التخيير نحو: {فإما يذهبن}
وأما من جهة المعنى فهو أن الآية تحذير ولا معنى للتحذير إلا إذا أمكن الاحتراز مما حذر منه، وإذا كانت الفتنة تصيب الظالم وغيره والمتقي وغيره كان الأمر بالإبقاء لا معنى له؛ لأنه يكون التقدير: اتقوا فتنة تصيبكم سواء اتقيتم أم لا.
وأما من جهة العقل فهو ما تقدم، وكذلك من جهة الكتاب والسنة، وقد قال تعالى: {قل أرأيتكم إن آتاكم عذاب الله بغتة أو جهرة هل يهلك إلا القوم الظالمون}.
إذا ثبت هذا فالمعنى على ما قاله بعض النحاة أنها جزاء فيه طرف من النهي أو القسم كما يقول: انزل من الدابة لا نطرحنك ولا يطرحك، فهو جواب /220/ الأمر بلفظ النهي، أي انزل فإن تنزل لا يطرحنك وعلى مثل هذا حمل قوله تعالى: {يا أيها النمل ادخلوا مساكنكم لا يحطمنكم سليمان وجنوده} ويجوز أن يكون الكلام متضمناً معنى كي، أي اتقوا فتنة كي لا تصيبن الذين ظلموا وادخلوا مساكنكم كي لا يحطمنكم، فتكون الآية دليلاً لنا عليهم.
ومنها قوله: {وإذا الموءودة سئلت بأي ذنب قتلت} فوبخها بذنب غيرها.
والجواب: لا تعلق بظاهرها؛ لأن أصل السؤال للإستفهام وهو مستحيل في حقه تعالى؛ ولأن الظاهر يقتضي أن لها ذنباً، والمعنى أنه تعالى وبخ الظالم لها ووجه السؤال إلى المظلوم للقطع على أنه ليس له جرم ومبالغة في تأنيب الظالم، كما يقول العرب للمظلوم: لماذا ضربك زيد ولأي جرم شتمك إذا كانوا لا يعرفون له ذنباً، أي لا ذنب لك يقتضي ما فعل بك.
ومثل هذا قوله تعالى: {وإذ قال الله يا عيسى بن مريم أنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين} وأورده تعالى تقريعاً للقائل بهذه المقالة.
ومنها قوله تعالى: {أتهلكنا بما فعل السفهاء منا}.
والجواب: أن الظاهر متروك؛ لأنه لو تيقن موسى أن الله يفعل ذلك لما كان للإستخبار معنى، فدل على أنه غير متيقن لما يدعى المخالف بيقينه والاستفهام عندنا استهفام استنكار وتبعيد، كأنه قال: لست تهلكنا بما فعل السفهاء منا كما قال تعالى: {أنطعم من لو يشاء الله أطعمه} أي لسنا نطعم، وقوله: {أنؤمن لبشرين مثلنا} ونحوه.
ومنها قوله تعالى: {كلما نضجت جلودهم بدلناهم جلوداً غيرها} فبين أنه يعذب الجلود التي لم تعص.
والجواب: أن المعذب هو الجملة التي عصت لأنفس الجلد والجلود بمنزلة ما نزيده فيهم من تعظيم الخلقة وتشويهها والمعذب هو الجملة لا هذه الزوائد.
وقيل: إن المراد بالتبديل إعادة الجلود، وسمى الإعادة تبديلاً كما قال تعالى: {وبدلناهم بجنتيهم جنيتن} ولم يرد أنه بدل أصلهما وإنما المراد أنه أعاد من جناتهم التي كانت قبل خراب السد هاتين الجنتين.
ومنها قوله: {يا نساء النبي} إلى قوله: {يضاعف لها العذاب ضعفين}.
والجواب: يقال: ومن أين لكم أنهن لا يستحققن ضعفي ما يستحق غيرهن وجائز اختلاف الحدود باختلاف المصالح واختلاف العذاب باختلاف أحوال العصاة، ولهذا كان حد الحر ضعف حد العيد، ولا يمتنع أن تكون المفسدة في إتيانهن الفاحشة أعظم من غيرهنَّ، ولئن خيانة النبي ليس كخيانة غيره، ولهذا قال تعالى لنبيه /221/: {إذاً لأذقناك ضعف الحياة وضعف الممات} أي وضعف عذاب الحياة.
تنبيه
اعلم أن الظاهر أن الخصوم يستدلون بهذه الشبهة على وقوع التعذيب من غير ذنب، وليس ذلك مذهبهم وإنما مذهبهم الجواز ويوافقون في أنه لا يقع فإذاً لا شبهة لهم.
فصل
قطع أهل الحشو على أن أطفال المشركين يعذبون بذنوب آبائهم، والكلام عليهم ما تقدم.
وشبهتهم من جهة العقل هي أن حكمهم كحكم آبائهم في الدنيا في السبي والاسترقاق والمنع من الدفن في مقابر المسلمين، فكذلك في الآخرة.
والجواب: يمنع الجامع وبالمعارضة بكونهم لا يقطعون بسرقة آبائهم ولا يجلدون بزناهم ولا يقادون بقتلهم، والتحقيق أنه إنما فعل بهم ذلك في الدنيا على طريق المحنة كالأمراض التي تصيبهم عبرة لآبائهم وزجزاً لهم عن الكفر، ولهم في مقابلة ذلك من الأعواض ما يوفى عليه.
قالوا: يجب أن يكون العقاب على أبلغ الوجوه وأبلغ الوجوه أن يرى قرة عينه تعذب.
والجواب: لا نسلم أنه يقع على أبلغ الوجوه؛ لأن المعاقب يستحق قدراً من العقاب في كل وقت، ولا يصح الزيادة عليه، ولهذا يكن عذاب الجاحد للربوبية أعظم من عذاب الجاحد للنبوة.
وبعد، فيجب أن يعذب الأنبياء والمؤمنون بذنوب آبائهم؛ لأن ذلك أبلغ في غم آبائهم.
وبعد، فكل في الآخرة مشغول بنفسه كما حكى الله تعالى.
وشبهتهم من جهة السمع ما رووه عن خديجة أنها سألت النبي عليه السلام عن أطفال كانوا لها في الجاهليَّة، فقال: لو شئت لأسمعتك صغارهم في النار.
والجواب: لا نسلم صحة هذا الخبر عنه عليه السلام وإن صح فأحادي.
وبعد، فهو معارض بدلالة العقل ومحكم القرآن، وبقوله عليه السلام: ((رفع القلم عن ثلاثة: عن النائم حتى يستقض، وعن المجنون حتى يفيق، وعن الصبي حتى يحتلم)).
وفي الحديث أنه عليه السلام سئل عن أولاد المشركين، فقال: هم خدم أهل الجنة، والمروي أنه عليه السلام نهى في بعض الغزوات عن قتل الأطفال، فقيل: أو ليسوا أولاد المشركين؟ قال: أوليس أحباركم أولاد المشركين ـ يعي نفسه ـ كل نسمة تولد على الفطرة حتى يعرب عنها لسانها إما شاكراً وإما كفوراً.
وبعد، فالطفل قد يستعمل في البالغ لقريب عهده بالطفولة كما قال:
عرضت لعامرٍ والخيل تردي .... بأطفال الحروب مشمرات
/222/
فصل [في ذكر بعض ما يلزمهم]
يقال: إذا كان الثواب والعقل إنما هو لأجل اختيار الله ابتدأ لا لأجل طاعة ولا معصية فما معنى الأمر بالطاعة والنهي عن المعصية؟، وما معنى الجزاء والحساب ونصب المووازين ونشر الصحف وإرسال الرسل.
حكي أن مجبراً قص فقال: يغفر الله يوم القيامة لجميع مذنبي أمة محمد ثم ينادي يا عبادي أبمثل هذا يؤتى إن كان لكم عنا في الطاعة فما بالكم لم تأتوني بالمعاصي لأغفر لكم. فقال: معتزلي هذا أغر بالمعاصي، فقال: نعم رغماً لكم.
واحتضر مجبر وعليه دين فجمع أولاده وقال: قد علمت أني من إحدى القبضتين فاحتفظوا بمالكم ولا تقضوا شيئاً من ديوني، فإن كنت من أهل الجنة لم يضرني وإن كنت ن أهل النار لم ينفعني شيء.
وقال عدلي لمجبر: ما تقول في مشرك مات طفله حال الشرك ثم أسلم هو؟ فقال المجبر: المشرك الذي أسلم في الجنة، وولده في النار.
وقال عدلي لمجبر: إذا كانت ذنوب المسلمين تحمل على الكفار فهي إذاً أول ما يُفعل لأنه يزداد بها غم الكفار.
القول في القضاء والقدر
القضاء يستعمل في اللغة بمعنى الخلق نحو: {قضاهن سبع سماوات} وبمعنى الأمر نحو: {وقضا ربك ألا تبعدوا إلا إياه} وبمعنى الإعلام نحو: {وقضينا إلى بني إسرائيل في الكتاب لتفسدن} ونحو: {وقضينا إليه ذلك الأمر أن دابر هؤلاء مقطوع} وبمعنى الفراغ نحو: {فلما قضى موسى الأجل} ونحو: {فلما قضى ولوا إلى قومهم}، وأما القدر فلم يرد إلاَّ بمعنى الكتابة والعلم نحو قوله:
واعلم بأن ذا الجلال قد قدر.. في الصحف الأولى التي كان شطر.. أمرك هذا فاجتنب منه النتر، أي علم وكتب. وكقوله: {إنا كل شيء خلقناه بقدر} أي بعلم فإذا أرادوا به التقدير فق دورد بمعنى الخلق نحو: {وقدر فيها أقواتها} وبمعنى الكتابة أيضاً والعلم نحو: {قدرناها من الغابرين}.
فصل
واتفق أهل القبلة على إثبات القضاء والقدر في جميع أفعال العباد بمعنى العلم والكتابة، واتفقوا على بقية بمعنى الأمر، واختلفوا في هل قضا أفعال العباد وقدرها بمعنى خلقها فأنكره أهل العدل.
وقال به أهل الجبر.
لنا: ما تقدم في مسألة خلق الأفعال.
وبعد، فقد وقع الإجماع على وجوب الرضى بقضاء الله، ووقع الإجماع على قبح الرضى بالمعاصي، وأخبر الله عن نفسه أنه لا يرضى الكفر، وجاء في الحديث: ((من لم يشكر نعمائي ويصبر على بلائي ويرضى بقضائي فليتخذ رباً سواي)).
وبعد، فوقع الإجماع أيضاً على أن قضاء الله حق لقوله تعالى /223/: {والله يقضي بالحق} ووقع الإجماع على أن الكفر باطل كما قال تعالى: {وزهق الباطل} فلو كانت المعاصي بقضائه لكانت حقاً.
وبعد، فإذا جاز القضى بالمعاصي بمعنى الخلق جاز أيضاً القضاء بها، بمعنى الأمر؛ لأنه ليس الأمر بالكفر بأبلغ من فعله في الكافر ومنعه من الإيمان.
وبعد، فقد قال تعالى: {وكان أمر الله قدراً مقدوراً}، فلو كانت المعاصي من القدر لكانت أمر الله، والمخالف لا يقول بذلك.
فصل [في بيان من القدرية]
اتفق الناس على أنه اسم ذم لما ورد الأثر بذمهم ولعنهم والنهي عن مجالستهم وتشبيههم بالمجوس، وعندنا أنهم المعنيون به وعندهم أنا المعنيون به.
ودليلنا اللغة، والمعنى والآثار.
أما اللغة فهو أن الاسم إنما يشتقه أهل اللغة لمن أثبت الشيء لا لمن نفاه، والخصوم أثبتوا القدر بالمعنى المختلف فيه، ونحن ننفيه وهم أحق بهذا الاسم، كما أن الموحد من أثبت الواحد، والثنوي من أثبت الثاني، والمجسم من أثبت التجسيم، والمجبر من أثبت الجبر، والعدلي من أثبت العدل، وأشباه هذا كثير، فكذلك القدري لمن اثبت القدر، ولو كان اسماً لمن نفاه لكان المسلمون ثنوية؛ لأنهم ينفون الثاني.
فإن قالوا: أنتم القدريّة لأنكم تثبتون القدر على أفعالكم، فالاسم من القدرة.
قلنا: لو كان كذلك لكنتم أيضاً قدرية؛ لأنكم تثبتون القدرة لله تعالى، وأكثرهم يثبت القدرة للعباد، وإن زعم أنها موجبة، وكان يلزم أن يكون الله قدرياً؛ لأنه اثبت القدرة لنفسه.
على أن اسم المشتق من إثبات القدرة قُدَري ـ بضم القاف ـ والخبر ورد بفتحها.
وبعد، فهم يلهجون بالقدر في كل قضية، وقد جرت عادت أهل اللغة بأن من أكثر اللهج بشيء سمي به كما يقال تمري لبني لمن أكثر اللهج بذلك.
وأما من جهة المعنى فهو أن النبي عليه السلام ذمهم ونهى عن مجالستهم وحكم بأنهم شهود إبليس وخصماء الرحمن وشبههم بالمجوس فسبيلنا أن ينظر في معاني هذه الأطراف، أما الذم فوجدناهم أحق به؛ لأنهم أضافوا إلى الله تعالى كل قبيح من ظلم وعبث وسفهٍ وتكليف ما لا يطاق والإضلال عن الدين ونحو ذلك مما لو نسبته لأحدهم لأنف منه ونفاه عن نفسه.
ونحن نقول: إن الله عدل حكيم متنزه عن كل نقص في الذات والفعل منعم على كل الخلق، له الحجة على المكلفين.
على أنا قد بينا فساد مذهبهم ولا ذم في المذهب أبلغ من فساده.
وأما النهي عن المجالسة فنظرنا فوجدنا في مجالستهم من المفسدة ما لا يخفى، أما أولاً فلأنهم يغرون بالمعاصي ويسهلونها بقولهم ما قدره الله كان وما لم يقدره لم يكن، فلا وجه للصبر عن المعصية والتحفظ /224/ منها.
وأما ثانياً فلأنهم يؤيسون من رحمة الله وعدله لتجويزهم أنه يعذب من غير ذنب، وأنه خلق خلقاً للنار، فلا تنفعهم الطاعة، وآخرين للجنة فلا تضرهم المعصية، فلا تسكن نفس مطيع بطاعة ولا تخاف نفس عاصٍ من معصية.
وأما ثالثاً فلأنهم أساءوا الثناء على الله تعالى بقولهم: كل قبيح وفساد من قبله وأحسنوا الثناء على العصاة بقولهم: لا حيلة لهم.
وأما كونهم شهود إبليس وخصماء الرحمن فلأن الله تعالى إذا قال لإبليس ما منعك أن تسجد ولم كفرت فتقول: أنت: يا رب منعتني من السجود، وقضيت علي بالكفر، فهو منسوب إليك ونسبته إليّ كذب لا صحة له ولاحجة لك عليّ.
فإذا قال الله تعالى: {من شاهدك على هذا فلا يجد غير أهل هذه المقالة}.
حكى الحاكم رحمه الله أنه كان في البصرة نصراني فكتب كتاباً قال فيه شهود أهل هذا الكتاب المسمون يشهدون أن فلاناً النصراني فعل الله فيه الكفر وقضاه عليه ومنعه من الإيمان، وأنه أتى في ما أتى من قبل الله تعالى، ثم كان يأتي المجبرة فيأخذ خطوطهم بذلك ويقول: اكتبوا حتى تشهدوا لي يوم القيامة، فكانوا يكتبون وأهل العدل يسخرون منهم
ويحكى أيضاً أن مجبراً سمع قارئاً يقرأ: {فقال ما منعك أن تسجد} فقال: هو والله منعه، ولو قال إبليس منعه لكان صادقاً، وقد أخطأ إبليس الحجَّة، ولو كنت حاضراً لقلت منعته.
وأما شبهتهم بالمجوس فمن وجوه: منها أن المجوس يقولون: أحد الإلهين يقدر على الخير ولا يقدر على الشر، والآخر بالعكس، والمجبرة يقولون: الكافر يقدر على الكفر ولا يقدر على الإيمان والمؤمن بالعكس.
ومنها أن المجوس يعلقون المدح والذم بما لا اختيار في فعله ولا تركه.
يحكى أنهم يرمون بالبقرة من شاهق ويقولون: انزلي لا تنزلين فإذا وقعت على الأرض قالوا: عصت فأكلوا لحمها، وكذلك مذهب الخصوم في الكافر والمؤمن.
ومنها أن المجوس علقوا هذه الأحكام من مدح وذم وأمر ونهي بما لا يعقل وهو الطبع، والمخالفون علقوا ذلك بما لا يعقل وهو الكسب.
ومنها أن المجوس علقوا ينكحون أمهاتهم وأخواتهم ويفعلون القبائح ويقولون كل ذلك إرادة الله منا، وهو من الله، وكذلك قول المخالفين في المعاصي.
قالوا: بل أنتم المجوس لأنكم تضيفون الشرور إلى الشيطان وتنفونها عن الله، فكذلك مذهب المجوس.
قلنا: الشرور التي أضافتها المجوس إلى الشيطان هي الأمراض والمصائب والصور التي تنفر عنها النفوس وكل هذا نحن نضيفه إلى الله.
وأما الشرور التي هي الإغواء والصد عن الدين وسائر المعاصي فإن إضافتها إلى الشيطان /225/ ليس مما يختص به المجوس، بل قد قال به اليهود والنصارى والنبي عليه السلام إنما شبه القدرية بالمجوس في مذهب يختصون به دون سائر فرق الكفر.
على أن الذي أضفناه إلى إبليس من الإغواء والوسوسة والصد عن الدين ونحو ذلك، قد أضافه الله إليه ورسوله والسلف الصالح، ولو ادعى كونه ضرورة من الدين لصح، ولهذا قال أبو بكر رضي الله عنه في مسألة: هذا ما رآه أبو بكر فإن يكن صواباً فمن الله وإن يكن خطأ فمني ومن الشيطان والله تعالى ورسوله منه بريئان.
ومثله قال عمرو وابن مسعود: وهذا شيء لا ينكره إلا جائر عن الحق، وأيضاً فالشرور التي هي المعاصي مما تستلذه النفس، والظاهر من مذهب المجوس أنهم لا يضيفونه إلى الشيطان؛ لأنه من الخير عندهم.
وأما الآثار فقد روى في الفائق أنه قال: ((لعنت القدرية والمرجئة على لسان سبعين نبياً قيل: ومن القدرية يا رسول الله؟ قال: قوم يزعمون أن الله تعالى قدر المعاصي عيهم وعذبهم عليها، قيل: ومن المرجئة؟ قال: قوم يقولون الإيمان قول بلى عمل)).
وروى أبو الحسن عن محمد بن علي المكي بإسناده أن رجلاً قدم على النبي عليه السلام من فارس فقال النبي: ((أخبرني بأعجب ما رأيت))، قال: رأيت قوماً ينكحون أمهاتهم وبناتهم وأخواتهم، فإذا قيل لهم: لم تفعلون؟ قالوا: قضاه الله وقدره، فقال عليه السلام: ((أما إنه سيكون في آخر هذه الأمة قوم يعملون المعاصي ويقولون الله قدرها عليهم، الراد عليهم كالشاهر سيفه في سبيل الله)).
وعن الأصمع ابن نباتة، قال: قام شيخ إلى علي بعد انصرافه من صفين فقال: أخبرنا عن مسيرنا إلى الشام أكان بقضاء الله وقدرة؟ فقال رضي الله عنه: (والذي فلق الحبة وبرأ النسمة ما وطئنا موطئاً ولا هبطنا وادياً ولا علونا تَلْعةً إلاَّ بضاء وقدر) فقال الشيخ: عند الله أحتسب عنائي ما أرى لي من الأجر شيئاً، فقال له: (مه أيها الشيخ بل أعظم الله أجركم في مسيركم وأنتم سائرون وفي منصرفكم وأنتم منصرفون ولم تكونوا في شيء من حالاتكم مكرهين ولا إليها مضطرين)، فقال الشيخ: كيف والقضا والقدر ساقانا؟ قال: (ويحك لعلك ظننت قضاء لازماً وقدراً حتماً لو كان ذلك كذلك لبطل الثواب والعقاب والوعد والوعيد والأمر والنهي ولم يأت من الله لائمة لمذنب ولا محمدة لمحسن ولم يكن المحسن أولى بالمدح من المسيء تلك مقالة عبدة الأوثان وجنود الشيطان وشهود الزور وأهل العمى عن الصواب وهم قدرية هذه الأمة ومجوسها إن الله تعالى أمر تخييراً ونهى تحذيراً وكلف يسيراً ولم يعص مغلوباً ولم يطع مكروهاً ولم يرسل الرسل /226/ إلى خلقه عبثاً ولم يخلق السموات والأرض وما بينهما باطلاً، ذلك ظن الذين كفروا فويل للذين كفروا من النار) فقال الشيخ: فما القضا والقدر اللذان ما سرنا إلاَّ بهما؟ قال: (هو الأمر من الله والحكم، ثم تلا {وقضا ربك ألا تعبدوا إلاَّ إياه} فنهض الشيخ مسروراً وهو يقول:
أنت الإمام الذي نرجوا بطاعته .... يوم الحساب من الرحمن رضوانا
أوضحت من ديننا ما كان ملتبساً .... جزاك ربك عنا فيه إحسانا
وعن الحسن البصري أن الله بعث محمد والعرب قدرية مجبرة يحملون ذنوبهم على الله تعالى مصداقة في قوله تعالى: {وإذا فعلوا فاحشة قالوا: وجدنا عليها آباءنا والله أمرنا بها..}الآية، وفي قوله تعالى: {سيقول الذين أشركوا لو شاء الله ما أشركنا} ونحوها.
وعنه أيضاً أن من المخالفين قوماً يقصرن في أمر دينهم ويعملون فيه بزعمهم على القدر، ثم لا يرضون في دنياهم إلا بالجد والاجتهاد في الطلب والأخذ بالحزم فإذا أمرت أحدهم بشيءٍ من أمر الآخرة قال: لا أستطيع قد جفت الأقلام وقضى الأمر، ولو قلت له: لا تتعب نفسك في طلب الدنيا وفيها مشاق الأسفار والحر والبرد والمخاطرة، فإنه سيأتيك ما قدر لك، وكذلك لا تسق زرعك ولا تحرسه ولا تعقل بغيرك ولا تغلق باب دارك ولا تلتمس لغنمك راعياً فإنه لا يأتيك في جميع ذلك إلا ما قدر لك لأنكر ذلك عليك ولما رضي به في أمر دنياه، وقد كان وقد كان أمر الدين بالاحتياط أولى.
وسئل جعفر بن محمد عليه السلام عن القدر فقال: ما استطعت أن تلوم العبد عليه فهو فعله ومالم تستطع أن تلومه عليه فهو فعل الله يقول الله: لم كفرت ولا يقول: لم مرضت.
وسئل محمد بن واسع عن القدر فقال: إذا جمع الله الخلائق يوم القيامة يسألهم عما أمرهم ولم يسألهم عما قضا عليهم.
فصل [في بعض ما جرى من المناظرات]
قال عدلي لمجبر: ما تقول في علي رضي الله عنه هل قاتل معاوية لعنه الله على شيء جعله الله لمعاوية وقضاه له أم على شيء جعله لعلي وقضاه له؟ فقال: بل على شيء جعله لمعاوية وقضاه له، قال: فمعاوية إذن أحسن حالاً من علي حيث رضي بما قضى له ولم يرض علي بذلك فانقطع المجبر.
وقال عدلي لمجبر: أكان قتل يحيى بن زكريا وسائر الأنبياء بقضاء الله وقدره؟ قال: نعم، قال: أفترضون به؟ فسكت.
وقال عدلي لمجبر: أنتم إذا ناظرتم المعتزلة قلتم بالقدر وإذا دخل أحدكم منزله ترك ذلك لأجل فلس، قال: وكيف قال: إذا كسرت جاريته كوزاً يساوي فلساً /227/ ضربها وشتمها ونسي مذهبه.
وقيل لمجبر: أيقضي الله بالفساد ويخلقه؟ فاستلقى وقال: لي خمس بنات لا أخاف على إفسادهن غير الله.
وصعد سلام الفارسي المئذنة فأشرف على بيته فرأى غلامه يفجر بجاريته فبادر ليضربها فقال الغلام: القضا والقدر ساقانا، فقال: لعلمك بالقضا والقدر أحب إليّ من كل شيء أنت حر لوجه الله.
ورأى شيخ بأصفهان رجلاً يفجر بأهله، فجعل يضرب امرأته وهي تقول: القضا والقدر فقال: يا عدوة الله أتزنين وتعتذرين بمثل هذا؟ فقالت: أوه تركت السنَّة وأخذت مذهب ابن عباد، فتنبه وألقى السوط وقبَّل بين عينيها واعتذر إليها، وقال: أنت سنيّة حقاً، وجعل كرامة على ذلك.
ورأى مجبر رجلاً يفجر بامرأته فقال: ما هذا؟ قالا: القضا والقدر، فقال: الخيار ما قضا الله، فلقب بالخيار فيما قضى الله فكان إذا دعي به غضب.
وقال مجبر لعدلي: ما تقول في مناظرة آدم لموسى حيث قال: ذلك شيء قضي علي وقدر فانقطع موسى، فقال العدلي: لو كان ذلك عذراً لآدم لكان عذراً لجميع العصاة، ولما كان لله على الناس حجة، فقال المجبر: هو عذر للجميع، لكن ليس لهم أن يقولوا بمثل مقالة آدم، فقال العدلي: أذن مثلنا كما قال الشاعر:
إذا مرضنا آتيناكم نعودكم .... وتذنبون فنأتيكم فنعتذر
فقال المجبر: نعم هو كذلك.
ناظر عمرو بن عبيد أبا عمرو بن العلى فقال عمرو: هل تجد في كلام العرب أن أحداً فرط في ما لا يقدر عليه فقال أبو عمرو: لا فقال عمرو، فما معنى قوله يا حسرتا على ما فرّطت في جنب الله فسكت أبو عمرو.
وتشاجر عدليّ ومجبر في من القدرية فجاءوا إلى مجوسي فقالوا: يا مجوسي: ممن المجوسية؟ قال: من الله، فقال العدلي للمجبر أينا يوافقه؟
وقال تلميذ لسلام الفارسي: مررت الليلة بآية تدل على أن يوسف كان قدرياً وهي قوله: {من بعد أن نزغ الشيطان بيني وبين إخوتي} فقال سلام وانا مررت في قصة موسى بآية توهمني فيه ذلك وهي قوله: {هذا من عمل الشيطان}. فقال آخر: ولقد رأيت أعجب من هذا قوله: {لا أملك إلا نفسي وأخي} فلم يرض أن يقول: أملك نفسي حتى قال: أملك أخي، فقام معتزلي وقال: أما رضيتم بمذهب موسى ويوسف حتى تردون عليهما فسكتوا.
وحكى الحاكم عن بعض المجبرة أنه قال: لزنية أزنيها أحب إلي من عبادة الملائكة، قيل له: لم قال لعلمي بأن الله قضاها علي ولا يقضي إلا ما هو خير لي.
وسأل جماعة عمرو بن قايد عن القدر فقال: أقيموا ربكم مقام رجل صالح إن كان ما قيل حقاً فلا تعاتبوه، وإن كان كذباً فلا تبهتوه.
ودخل معتزلي على محمد بن سليمان فأمر بضرب عنقه فضحك فقال: كيف تضحك في هذه الحال؟ قال: أرأيت لو قام رجل في /228/ السوق وقال: إن محمد بن سليمان يقضي بالجور ويفعل الظلم ويجمع بين الزانيين ويريد كل فساد فاعترضه رجل آخر، فقال: كذبت، بل يقضي بالحق ولا يفعل الفواحش ولا يريدها أيهما أحب إليك فقال: من دفع عني وأحسن الثناء عليَّ فقال المعتزلي: لا أبالي إذا أحسنت الثناء على رب العالمين، فانقطع ومن حوله من المجبرة وخلَّى سبيلهم.
فصل في شبههم
في هذه المسألة تعلقوا بأخبار أحادية لا تقبل في مثل هذه المسائل إلا مؤكدة، ولكنا نجيب على تقدير صحتها.
فمنها القدر كله من الله خيره وشره.
والجواب: أراد بخيره النعم والعافية والخصب وكثرة الأموال والبنين وبشره الأمراض والقحط والموت، فإن هذا هو السابق إلى الأفهام، والمعلوم من قصده عليه السلام وسمى شراً جرياً على عادة اللغة، ألا ترى أنهم يقولون: فلان بشر إذا اشتد مرضه وأهل البلد الفلانية بشرٍ إذا كانوا في قحط وغلا.
ومنها القدر سر الله في أرضه فلا تفشوه.
والجواب: ما تقدم، بل هذا آكد؛ لأن المشهور عنه عليه السلام الحث على الصبر على المصائب، وكتمانها كالأمراض ونحوها، ولو كان المراد ما ذكروه لما جاز لشهود الزنا أن يشهدوا به ولا جاز ذم العصاة ولا حكاية المعاصي ولا الاعتراف بالذنوب؛ لأن كل هذا أفشا للقدر.
على أن المخالفين لم يمتثلوا هذا الخبر؛ لأنهم أشد الناس إفشاء للقدر فلا يقع واقعة من خير أو شر إلا أعلنوا فيها بالقدر، فهلاَّ كفوا عن ذلك لئلا يفشوه.
ومنها مناظرة آدم عليه السلام لموسى عليه السلام وسلف ما هو جواب عنها.
وتعلقوا من الكتاب العزيز بآيات ليس في ظاهرها تعلق، منها قوله: {وإذ يريكموهم إذ التقيتم في أعينكم قليلاً ويقللكم في أعينهم ليقضي الله أمراً كان مفعولاً}، فبين أنه بعث المؤمنين على محاربة الكفار وجرأهم عليهم، وكذلك بعث الكفار على المؤمنين وجرَّأهم عليهم ليقضي ذلك
والجواب: ليس في ظاهرها من هذه الدعوى شيء، والمراد بالقضاء التمام، فقلل الكفار في أعين المؤمنين ليجتروا عليهم تثبيتاً لهم ونصراً وقللّ المؤمنين في أعينهم لئلا يجتروا منهم خذلاناً لهم ليتم ما وعد من نصر المؤمنين وخذلان عدوهم وهلاكهم بأيدي المؤمنين. ومنها قوله: {قضي الأمر الذي فيه تستفيان}.
والجواب: أن لفظ الأمر ليس فيه تصريح بما يدعيه الخصم، وهو من الألفاظ المشتركة.
وبعد، فلو أراد يقضي خلق لاقتضى ذلك أن يكون قد وجد في تلك الحلال وهو لم يقع إلا بعد مدَّة، والمراد بالقضا هنا الحكم أي حكم به وعلم. ومنها قوله: {إنا كل شيء خلقناه بقدر}.
والجواب: إنما يقتضي ظاهرها أن كل ما خلفه تعالى فهو بقدر وذلك مسلم، فأما إن كان كل شيء فقد خلقه بقدر فلا لأنه تعالى شيء ولم يخلق نفسه بقدر، وكذلك قدرته وعلمه ومتى قالوا: هذا خصه الدليل.
/229/ قيل: وكذلك أفعال العباد خصها الدليل، لو سلمنا أن ظاهرها يقتضي ما قالوه.
قال بعض المفسرين إنه تعالى خلق جميع ما يجاري به من العقاب والثواب بمقدار، ولهذا ذكره بعد قوله {ذوقوا مس سقر}. ومنها قوله: {وكل شيء عنده بمقدار}.
والجواب: المراد بالعند هنا الحكم والعلم كما يقال: المسألة عند أبي حنيفة كذا أي في حكمه وعلمه وكل الأشياء في علمه تعالى وحكه بمقدار لا يزيد ولا ينقص، وليس المراد بالمقدار القدر؛ لأن ذلك لم يرد. ومنها قوله: {لبرز الذين كتب عليهم القتل إلى مضاجعهم}.
والجواب: أن ذلك لم يستعمل بمعنى القضا والقدر في شيء من اللغة، وإنما يستعمل في معانٍ:
أحدها: بمعنى الإيجاب نحو: {كتب عليكم الصيام}ز
وثانيها: الإخبار: نحو: {ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر}.
وثالثها: الحكم والعلم نحو: {كتب الله لأغلبن أنا ورسلي} ونحو: {كتب عليه أنه من تولاه فإنه يضله} وليس في شيء من هذه المعاني للخصم فرج. ومنها قوله تعالى: {قل لن يصيبنا إلاَّ ما كتب الله لنا}.
والجواب مع ما تقدم أنه قال لنا ولم يقل علينا، والمراد الثواب؛ لأنه تعالى قال: {قل هل تربصون بنا إلا إحدى الحسنيين ونحن نتربص بكم أن يصيبكم الله بعذاب من عنده أو بأيدينا} ثم أمرهم الله بأنه لن يصيبهم إلا ما كتب الله لهم من الثواب أو النصر لا ما يتربصه به الكفار. ومنها قوله: {وفي ذلكم بلاء من ربكم عظيم} فأخبر أن ذبحهم بلاء منه.
والجواب: أنه لا تعلق في ظاهرها؛ لأن البلاء كما يطلق على المحنة يطلق على النعمة، كما قال: {وليبلي المؤمنين منه بلاء حسناً} وهو هاهنا مصروف إلى النعمة؛ لأنه ابتداء بذكر الإنعام، فقال: {وإذ نجيناكم} إلى قوله: {وفي ذلكم} أي وفي ذلكم الإنجاء نعمة عظيمة، ولو سلمنا أن المراد المحنة، فإنما هي بالتخلية بينهم وبين فرعون وخذلانهم، وكونه لم يدفعه عنهم كما خليّ بين الكفار وبين أنبيائه حتى قتلوهم على جهة الامتحان ليصبروا فيعظم ثوابهم ولغير ذلك من المصالح. ومنها قوله: {وأشربوا في قلوبهم العجل} فبين أنه يقضي بالمعصية والفساد.
والجواب: ليس في الآية ذكر أن الله أشربهم، ومن الجائز أن يكون الشيطان.
وبعد، فقد قال بكفرهم ففسر معنى الإشراب بأنه هو الكفر والعبادة لغير الله، وأيضاً فكيف يعاقب الله على معصية بمعصية، والمعنى أن قوله: {وأشربوا} ليس له فاعل غيرهم، لكن لا يرد شربوا بهذا المعنى في اللغة، وقد يرد الفعل على هذه الصيغة، ولا فاعل له سواء المعفول به مع جواز أن يرد على خلاف هذه الصيغة كقوله: {ولما سقط في أيديهم} ونحو: {فألقى السحرة ساجدين} وقد يرد بمثل هذه الصيغة ولا فاعل له سوى المفعول به، ولا يجوز وروده على غيرها نحو: أعجب فلان بكذا، أو سر بكذا، وهذه الآية من هذا الباب يقال: أشرب قلب فلان مودة فلان، ولا يقال /230/ شربها وإن كان ذلك هو المراد.
تنبيه
قد ثبت أن القضاء والقدر يستعملان في معان بعضها صحيح وبعضها فاسد في حقه تعالى، وكل لفظة هذا حالها فإنه لا يجوز عندنا إطلاقها بالنفي ولا بالإثبات لإيهام الخطأ، فلا يجوز إطلاق القول بأن أفعال العباد بقضاء الله وقدره لإيهامه معنى الخلق والأمر، ولا إطلاق القول بأنها ليست من قضائه وقدره لإيهام زوال العلم والكتابة والأخبار ونحو ذلك مما هو صحيح في حقه تعالى، وكذلك الكلام في كل لفظة هذا سبيلها من المشتركات لا بد فيها من التقييد بما يزيل الإيهام.
القول في الهدى والضلال
الهدى يستعمل في اللغة بمعنى الدلالة والإرشاد نحو: {إن علينا للهدى} وبمعنى التوفيق نحو: {والذين اهتدوا زادهم هدى}، وبمعنى الثواب: نحو {سيهديهم ويصلح بالهم} في قصة المقتولين، ونحو: {إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات يهديهم ربهم بإيمانهم تجري من تحتهم الأنهار} وبمعنى الفوز والنجاة نحو: {لو هدانا الله لهديناكم} أي نحو لو أنجانا الله لأنجيناكم لأنكم أتباع لنا، فلو نجينا لنجيتم، ونحو: {والله لا يهدي القوم الظالمين} الكافرين أي لا ينجيهم، وبمعنى الحكم والتسمية نحو: {فمالكم في المنافقين فئتين} إلى قوله: {أتريدون أن تهدوا من أضل الله} المعنى مالكم مختلفين فيهم فبعضكم يسميهم مهتدين، وبعضكم يسميهم بخلاف ذلك، أتريدون أن تسموا مهتدياً من سماه الله ضالاً وحكم بذلك عليه، ومنه قول الشاعر:
ما زال يهدي قومه ويضلنا .... جهلاً وينسبنا إلى الكفار
وأما الضلال ففيه لفظتان: ضل وأضل.
أما لفظة ضل فقد تكون لازمة نحو: ضل الشيء أي ضاع وهلك، ومنه قوله تعالى: {قالوا: ضلوا عنا} أي ضاعوا، وقوله: {ضل من يدعوا إلا إياه} أي ضاع وبطل، وقد تكون متعدية نحو: ضل فلان الطريق والدار، وضل عنهما إذا جهل مكانهما، ومنه قوله تعالى: {فقد ضل سواء السبيل}.
وأما لفظة أَضلَّ فتأتي على وجوه:
أحدها أن تكون بمعنى ضلّ المتعدية، وتكون الهمزة للفرق بين ما يفارق مكانه وبين ما لا يفارق.
قال أبو زيد: يقال ضل الطريق ولا يقال أضلها لما كانت لا تفارق مكانها، ويقال أضلّ بعيره، ولا يقال: ضل عن بعيره، لما كان البعير يفارق مكانه. اللهم إلا أن يكون البعير لم يفارق مكانه بأن يكون مربوطاً أو محبوساً كان كالطريق يقال فيه ضلّ عن بعيره ولا يقال أضله.
وثانيها: أن يكن من ضل اللازمة التي بمعنى ضاع وبطل فترد الهمزة للتعدية إلى واحد، فيقال: أضله أي أضاعه وأبطله، ومنه /231/ قوله تعالى: {أضل أعمالهم} أي أبطلها.
وثالثها: بمعنى الحكم والتسمية، يقال: أضل فلان فلاناً أي حكم عليه بذلك وسماه به كقوله: (ما زال يهدي قومه ويضلنا) البيت. وكقول الكميت:
فطائفة قد أكفروني بحبكم .... وطائفة قالوا مسيء ومذنب
ومنه قوله تعالى: {أتريدون أن تهدوا من أضل الله}.
ورابعها: بمعنى الوجدان والمصادقة، يقال: أصللت فلاناً، أي وجدته ضالاً كما يقال: أجبنته وأنجلته، أي وجدته كذلك، وعليه قوله تعالى: {وأضله الله على علم} أي وجده وقد حمل أيضاً على معنى الحكم والتسمية، وعلى معنى العذاب.
وخامسها: أن يفعل ما عنده ويضل ويضيفه إلى نفسه مجازاً لأجل ذلك كقوله تعالى: {يضل به كثيراً} أي يضل عبده كثير وإن جاز أن تحمل هذه الآية على معنى يحكم فيه بضلال كثير.
وسادسها: أن يكون من ضل المتعدية وتزاد الهمزة للتعدية إلى مفعول ثان، فتصير متعدية إلى اثنين نحو: أضله الطريق، ومنه قوله تعالى: {وأضلونا السبيلا}، وقوله تعالى: {ليضل عن سبيله} بالضم، وإن كاد ليضلنا عن آلهتنا ونحو ذلك، وهذا هو الإضلال بمعنى الأعق أو هو محل الخلاف بيننا وبين المجبرة، وليس في القرآن ولا في السنة شيء مضاف إلى الله تعالى بهذا المعنى، فلا يكون للخصوم في السمع شبهة قط.
فصل
ذهب أهل العدل إلى أن الله تعالى لم يضل عباده عن الدين ولا خلق فيهم الضلال.
وقالت المجبرة: إن الله هو المغوي عن الدين، المضل عن الرشد المانع عن سواء السبيل، وإن كل ضلال هو فاعله.
ودليلنا: اللغة والمعنى والعقل والسمع، أما اللغة فلم ترد لفظة أضل بمعنى خلق الضلال ولا لفظة هدى بمعنى خلق الهدى، وبعد فمن حمل غيره على سلوك طريق خيراً لا يقال هداه إليها، وكذلك من صرف غيره عن طريق خيراً لا يقال أضله عنها.
وأما المعنى فهو أنه لا خلاف بيننا وبينهم أن التكليف لا يصح إلا مع البيان.
والإضلال والإغواء هو التلبيس، فلا يصح أن يجامع التكليف. وبعد فلو كان الله أضلهم عن الهدى لما أمكن الاحتجاج عليهم بالكتب والرسل، ولكان لا معنى للترغيب والترهيب والوعد الوعيد والتوبيخ في نحو: {فما لهم لا يؤمنون فما لهم عن التذكرة معرضين}، و{ما منع الناس أن يؤمنوا إذ جاءهم الهدى}، ونحو ذلك.
وبعد، فالإضلال والإغواء الوارد على سبيل التلبيس إنما يصدر ممن يعجز عن المنع بالقهر كالشيطان.
وأما العقل فهو ما ثبت من أن الله تعالى عدل حكيم لا يكلف العباد ما لا يطيقون ولا يؤاخذهم بما لا يذنبون، وأن ذلك يؤدي إلى إبطال التكليف /232/ والكتب والرسل، ويرفع معنى الأمر والنهر ونحو ذلك، وبعد فكيف ينهى عن الإضلال والإغواء ويفعله والطارف من العقلاء ينزه نفسه من أن يفعل ما نهى عنه، ولهذا ولهذا قال شعيب عليه السلام: وما أريد أن أخالفكم إلى ما أنهاكم عنه إن أريد إلا الإصلاح. وقال تعالى: {أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم}، وفي الأخبار أنه نزل بقوم موسى بلاء، فسأل ربه عن سبب ذلك فقال: فيكم رجل نمام، فقال موسى: أخبرنا به يا رب لنقتله، فقال: كيف أعيب خصلة ثم أفعلها، وقال الشاعر:
لا تنه عن خلق وتأتي مثله .... عار عليك إذا فعلت عظيم
وبالجملة فلو نسبت إلى بعض المخالفين مثل ذلك فقلت كل ضلال وفساد منك وأنت أغويت على عبيدي وأضللتهم عن الرشد لواثبك مواثبة مضطر إلى أنك نسبت إليه صفات النقص فكيف يضاف إلى أحكم الحاكمين وأرحم الراحمين.
وأما السمع قلنا: فيه طريقان: إحداهما في أنه فعل هذا جميع الخلق وأرشدهم. والثانية: أنه لم يضل أحداً بالمعنى المختلف فيه.
أما الطريقة الأولى، فقال تعالى: {إن علينا للهدى} فبين أن عليه أن يهدي الناس. وقال: {هدى للناس وبينات}، وقال: {وأما ثمود فهديناهم فاستحبوا العمى على الهدى}، وقال: {فإما يأتينكم مني هدى}، وقال: {قد جاءكم بصائر من ربكم}، وقال: {وعلى الله قصد السبيل، وقال: {أفمن يهدي إلى الحق أحق أن يتبع} ، وقال: {أويقول لو أن الله هداني}، وقال: {وما منع الناس أن يؤمنوا إذ جاءهم}، وأمثال هذا كثير.
وأما الطريقة الثانية: فدليلها أنه تعالى أضاف الإضلال بالمعنى المختلف فيه إلى غيره، فقال: {وأضل فرعون قومه وما هدى}، {إن الذين يضلون عن سبيل الله} {ولأضلنهم ولأمنينهم}، {ليضل عن سبيل الله}، {قد ضلوا وأضلوا كثيراً}، {وأضلونا السبيلا}، {فأزلهما الشيطان}، واتبعوا ما تتلوا الشياطين}، {وزين لهم الشيطان}، {لا يفتننكم الشيطان كما أخرج أبويكم}، {ربنا هؤلاء أضلونا}، {ربنا أرنا اللذين أضلانا من الجن والإنس} {وما كان الله ليضل قوماً بعد إذ هداهم} وأمثال هذا كثير}.
فصل في شبههم
لا شبهة لهم من جهة العقل، ولكن لا تعلقوا بشبه سمعية، وقد قدمنا أنه لا يصح لهم الاستدلال بسمع قط، ويختص هذا المكان أن نقول: ما أنكرتم أن الله أنزل القرآن إضلالاً لخلقه وأن الحق في خلاف ما جاء به، ونحن نجيب على تقدير صحة استدلالهم بالسمع فمن الآيات قوله تعالى: {يضل من يشاء ويهدي من يشاء} ونحوها.
والجواب: أن هذه الآية وجميع ما يذكرونه هنا، فما ورد فيه الإضلال /233/ مطلقاً ليس بصريح بمحل النزاع الذي هو خلق الإضلال فلا تعلق لهم فيها، والمعنى هنا: يهلك من يشاء وينجي من يشاء، فقد تقدم أن معنى ضل هلك وضاع، وكذلك معنى أضل أهلك، إذا وردت مطلقة، ويجوز أن يكون المراد الثواب والعقاب أو الحكم والتسمية أو خلق ما عنده يظهر الضلال والهدَى كل هذه معانٍ ظاهرة في اللغة مطابقة للعقل، وما ادّعوه غير ظاهر في اللغة، ولا مطابق للعقل، ويحتاج إلى حذف وإضمار.
ومنها: قوله: {يضل به كثيراً ويهدي به كثيراً}.
والجواب: لا بد من ترك ظاهرها عند الخصم؛ لأن الله لا يضل بالقرآن بل يخلق الضلال، وكذلك الهدى، وأيضاً فلم يصرح بمحل النزاع، فيقول: خلق الهدى والضلال، والمراد يعذب بالكفر به كثيراً، ويثيب بالإيمان به كثيراً، والباء ترد في اللغة بهذا المعنى كما قال تعالى: {بما كفروا} أي لأجل كفرهم ويجوز أن يكون المراد الحكم والتسمية أي يحكم فيه بضلال كثير ويهدي به كثير، وأن يكون المراد يكفر عند إنزاله، ويهتدي كثير كل ذلك صحيح، بدليل قوله: {وما يضل به إلا الفاسقين} فبين أن هذا الإضلال بعد فسقهم ولأجله وما كان كذلك فهو عقاب أو جارٍ مجراه.
ومنها قوله: {أتريدون أن تهدوا من أضل الله}.
والجواب: ما تقدّم من أن المراد التسمية والنهي عن الاختلاف في ضلالهم، فقد سماهم الله بذلك، ويجوز أن يكون المراد أتريدون أن تنجوا من أهلك الله. ويوضح هذا: أن الله تعالى فسر الإركاس بالإضلال، وجعله جزاء بما كسبوا، والجزاء على الكفر هو الإهلاك والعقوبة، ومنها قوله تعالى: {فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقاً حرجاً}.
والجواب: لا تعلق في ظاهرها لأنه لم يقل: يضله عن الدين؛ ولأن الجعل مشترك بين معان، ولم يذكر على أي معنى يجعل صدره ضيقاً، ولأنه إما أن يكون الهداية والإضلال هو نفس الشرح والتضييق، وهذا باطل بالاتفاق؛ لأن الكفر والإيمان ليس من السعة والضيق في شيء، إما أن يكون موجباً عن السعة والضيق، وهو أيضاً باطل؛ لأنه لا تأثير لذلك في الهداية والضلال، وإلاّ وجب في الرجل الضخم وسيع الصدر أن يكون إيمانه أكثر من غيره؛ ولأن الهدى والضلال عند الخصم بخلق الله لا بالشرح والتضييق، والمراد عندنا بالهداية والضلال الثواب والعقاب.
وفيه ثلاث تقديرات: أحدها أن يكون التقدير فمن يرد الله أن يثبته في الآخرة بإيمانه يشرح صدره للإسلام بأن يسهله عليه ويثبته بالألطاف وزيادة التوفيق، وليس الشرح الحقيقي الذي هو فكل بعضه من بعض، ومن يرد أن يعاقبه في الآخرة بكفره أو فسقه يجعل صدره /234/ ضيقاً بالخذلان وسلب الألطاف والتوفيق، كما قال: {فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم}.
وثانيها: أن يكون التقدير فمن يرد الله أن يثيبه يشرح صدره بما يورده عليه من البشارة ومن يرد أن يعاقبه يجعل صدره ضيقاً حرجاً بما يورده عليه من الغموم والبشارة بالنار ويكون ورود جميع ذلك حالة الموت، ويؤيّد هذا ما نعلمه من أن الكافر في الدنيا غير ضيق الصدر وإنما هو منشرح الصدر بكفره.
وثالثها: أن يكون التقدير: فمن يرد الله أن يثيبه يشرح صدره في الآخرة بما يوصله إليه من الثواب للإسلام، أي لأجل الإسلام، ويدل على صحة هذه المعاني قوله بعد ذلك: {كذلك يجعل والرجس على الذين لا يؤمنون}، فبين أن هذا التضييق والإضلال جزاء على الكفر وترك الإيمان، الرجس هو العذاب، وأيضاً فالظاهر أنه بعد وقوع الكفر، ومذهب الخصم أن الضلال هو بخلق الكفر، وذلك يتأتى في كونه جزاءً على الكفر، وكذلك الكلام في كون شرح الصدر جزاء على الإيمان.
ومنها: قوله تعالى: {فريقاً هدى وفريقاً حق عليهم الضلالة}.
والجواب: أن المراد فريقاً أنجى وفريقاً حق عليهم الهلاك بدليل أنه في قصة المعادين بعد الموت حيث قال: كما بدأكم تعودون}، وعلل قوله: {حق عليهم الضلالة} بقوله: {أنهم اتخذوا الشياطين أولياء.
ومنها: قوله حكاية عن موسى: {إن هي إلا فتنتك تضل بها من تشاء}.
والجواب: لم يقل يضل بها عن الدين، والمراد تهلك بها من تشاء؛ لأن لفظة هي عائد إلى الرجفة، وبالاتفاق أن الرجفة لا يضل بها أحد عن الدين، ولأن قوله: {أتهلكنا بما فعل السفهاء} قرينة في أن المراد بالإضلال الهلاك، وأما الفتنة في الأصل فهي مأخوذة من فتنت الذهب إذا طَبَخْتَه في الكَانُون لاستخراج خبثه، ثم استعير للعذاب لما كان عرضاً عن النار كما يعرض الذهب عليها، قال تعالى: {يوم هم على النار يفتنون} أي يعذبون، ثم استعمل في كل عذاب، قال تعالى: {إن الذين فتنوا المؤمنين المؤمنات}، أي عذبوهم، وقال: {والفتنة أشد من القتل}، ثم يقل إلى الامتحان والابتلاء لما كان بالمحنة والبلاء يظهر المخلص من المرتاب يشبهها بالفتنة الذي يظهر بها خالص الذهب من خبثه، قال تعالى: {ألم، أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون}، أي يمتحنون، بما يظهر عنده المخلص من المرتاب، وقال: أولا يرون أنهم يفتنون في كل عام، أي يمتحنون، ومنه قوله: {وفتناك فتوناً} أي امتحناك بمحن هذبتك وخرجتك، ثم استعير للإغواء عن الدين لما كان عند الغواية يستحق العذاب المشبه بالفتنة الحقيقية. قال تعالى: {واحذرهم أن يفتنوك} ونحوه.
ومنها: قوله: {ربنا إنك آتيت فرعون..} إلى قوله: {ليضلوا عن سبيلك}.
والجواب: هذا معارض بقوله: {لعله يتذكر /235/ أو يخشى} وبقوله: {ولقد أخذنا آل فرعون} إلى قوله: {لعلهم يتذكرون}.
وبعد، فلا تعلق لهم في ظاهرها؛ لأنه لم يقل ليضلهم؛ ولأن الضلال عند الخصم لا يكون بإيتاء الزينة بل بخلق الكفر فيهم؛ ,لأنه لو كان كما قال الخصم لم يستحقوا أن يطمس على أموالهم لأنهم قد فعلوا ما لأجله أعطوا إياها، والمعنى أن موسى عليه السلام قال ذلك على وجه التبعيد أي ما آتيتهم لأجل ذلك كما يقول الرجل بعبده: أكرمتك وربيتك لتعصيني وتخالف أمري، أي ما أكرمتك لذلك، بل لضده، ويدل على صحة هذا المعنى أن موسى إما أن يقول ذلك إخباراً لله تعالى به، وهو محال؛ لأنه كيف يخبره بما يعلمه وعلى جهة الاستفهام، وهو أيضاً محال، إذ لا صيغة للاستفهام، ولأنه كان لا يجوز أن يقول ربنا اطمس على، وهو مستفهم عما لأجله أتاهم، ويجوز أن تكون لام العاقبة أي وعاقبتهم ذلك.
ومنها: قوله: {وأضله الله على علم}.
والجواب: لم يقل وأضله عن الدين، وجائز أن يريد الهلاك أو العذاب أو الحكم أو التسمية أو الوجدان كما تقدم، ويدل على صحة هذه المعاني أن الله جعل ذلك جزاء على كونه اتخذ إلهه هواه.
ومنها قوله: {يثبت الله الذين آمنوا..} إلى قوله: {ويضل الله الظالمين}.
والجواب: لم يقل يثبتهم، بخلق الثبات فيهم، ويضل بخلق الضلال، وهو المتنازع.
والمعنى: يثبت الله الذين آمنوا في الحياة الدنيا بالإلطاف والإعانة، وفي الآخرة بالثواب لأجل القول الثابت، كما قال: يهديهم بإيمانهم، لأجل إيمانهم، ويهلك الضالمين، يدل على صحة هذا أنه جعل ذلك جزاء.
ومنها: قوله: {قل من كان في الضلالة فليمدد له الرحمن مدّاً}.
والجواب: لم يقل يمدهم في الضلالة، والمعنى يمد له في العمر، أخباراً بذلك عن حلمه، وأنه لا يعاجل بالعقوبة، وليرتدع من يرتدع، ولتتأكد الحجة على المصر، ويجوز أن يكون المعنى يمد له من العذاب كما قاله في آية آخرى.
ومنها قوله: {إن الذين آمنوا ثم كفروا..} إلى قوله: {لم يكن الله ليغفر لهم ولا ليهديهم سبيلاً}.
والجواب: لا خلاف أن الله هدى جميع المكلفين بمعنى الدلالة، وقد قال تعالى: {إنا هديناه السبيل إما شاكراً وإما كفورا}، والمعنى لم يكن الله ليغفر لهم في الآخرة ولا ليهديهم سبيلاً إلى الجنة، بل إلى النار. كما قال في آية أخرى: {ولا ليهديهم طريقاً إلا طريق جهنم}.
يؤيد هذا أنه جعله جزاء على كفرهم، ومذهب الخصم يقتضي أن عدم الهداية هو بخلق الكفر، وذلك يبطل ظاهر الآية.
ومنها: قوله: {اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم} قالوا: فلولا أنه يجوز أن يضل لما صح أن يسألوه الهداية.
والجواب: هذا لا يستقيم على أصل الخصوم /236/ لأنه لم يقع هذا السؤال إلا من المؤمنين، فكيف يسألون ما قد أعطوا، وهل هو إلا بمثابة قولهم: اجعلنا، واجعلنا من بني آدم، وذلك طلب الحاصل.
وبعد فلا فائدة في السؤال على مذهب الخصم؛ لأنه إن كان يريد الهداية وقعت، وإن كان لا يريد استحال أن تقع سواء سألوا أم لا.
وفي الآية عندنا معنيين: أحدهما: أن المعنى أرشدنا إلى الحق ودلنا عليه ووفقنا له، وهذا وإن كان قد فعله تعالى فالدعاء به جائز كما في سائر الأدعية التي تُعبّدنا به لمصلحة.
المعنى الثاني: أن يكون التقدير ارشدنا الصراط المستقيم في الآخرة، وثبتنا عليه يوم تزل الأقدام.
ومنها: قوله: {ليس عليك هداهم ولكن الله يهدي من يشاء}.
والجواب: المراد ليس عليك ثوابهم، وليس عليك أن تحكم عليهم وتسميهم، ولكن الله يثبت ويسمي من يشاء وهم المطيعون.
ومنها: قوله: {فأما الذين آمنوا فزادتهم إيماناً وهم يستبشرون وأما الذين في قلوبهم مرض فزادتهم رجساً إلى رجسهم}، فأضاف الزيادة إلى الآيات والله هو فاعل الآيات وفاعل السبب فاعل المسبب.
والجواب: إن أرادوا أن الآيات هي التي زادت فمحال؛ لأنه لا فعل لها، وإن أرادوا أن الله زاد عندها فهو خلاف الظاهر، والمعنى إزدادوا عندها، وأضيف إلى الآيات تجوّزاً لما كان عندها كقوله: {فلم يزد
هم دعائي إلا فراراً}، وكما يقول الواعظ: ما زادتك موعظتي إلا شرّاً، وما زدت غلامي بإحساني إلا مخالفة.
ومنها: قوله: {وإن أدري لعله فتنة لكم ومتاع إلى حين}.
والجواب: المراد بالفتنة الامتحان والبلوى بما يظهر عنده إيمان المؤمن وكفر الكافر، وتمييز الخبيث من الطيب كما سلف في نظائره، وعلى هذا يحمل قوله تعالى: {لأسقيناهم ماءً غدقاً لنفتنهم فيه} ولم يرد ما ذهب إليه الخصم وإلا كان التقدير وإن لو استقاموا على الطريقة لأسقيناهم ماءً لنغويهم به، ومن هذا القبيل قوله: {لنبولكم بالشر والخير فتنة}، وقوله: {إنا قد فتنا قومك من بعدك}، وقوله: {وما جعلنا أصحاب النار إلا ملائكة وما جعلنا عدتهم إلا فتنة للذين كفروا} أي اختياراً وامتحاناً، فإن الكافر المرتاب يقول: ولم كانت تسعة عشر ولم تكن أقل أو أكثر، هلا كانت عشرين تكميلاً للعقد ونحو ذلك مما يظهر به ريبة المرتاب، ومثله قوله تعالى: {وكذلك فتنا بعضهم ببعض ليقولوا أهؤلاء من الله عليهم من بيننا}، فأخبر أنه امتحنهم بما تظهر به ريبتهم، ثم رد عليهم بقوله: {أليس الله بأعلم بالشاكرين} واللام في قوله: {ليقولوا} لام العاقبة، ومثله قوله: فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة، أي امتحان وعذاب في الدنيا بالمصائب والشدائد أو عذاب أليم يتعجل لهم كسائر الأمم، ولو كان كما قاله الخصم لكان التقدير: فليحذر الذين أضللتهم عن أن أضلهم.
ومنها: قوله تعالى: {ومن يرد الله فتنته فلن تملك له من الله شيئاً أولئك الذين لم يرد الله أن يطهّر قلوبهم..} الآية.
والجواب: ما تقدم من أن التقدير /237/ من يرد الله عذابه، ومعنى لم يرد الله أن يطهر قلوبهم، أي يحكم بطهارتها في الدنيا وينجيها في الآخرة.
ومنها قوله: {ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا}.
والجواب: أنه دعاء تعبّدنا به كما سلف في نظائره، ويجوز أن يكون المراد لا يعذبنا؛ لأن الزيغ قد ورد بمعنى العذاب في قوله: {فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم} بدليل أنه جعله جزاء على زيغهم، ولو كان كما قالوه لكان تقديره: فلما أزاغ الله قلوبهم أزاغ الله قلوبهم، ويجوز أن يكون المعنى أزاغ الله قلوبهم عن رحمته، بأن سلبها التوفيق والإلطاف.
ومنها: قوله: {وكذلك نصرّف الآيات وليقولوا درست} فبين أن غرضه أن يقولوا ما هو كفر.
والجواب: أن الغرض بالتصريف ضد ما قالوه، وهو التذكرة والتكرار، ولو كان كما قالوه لكان كمن يقول ذكرت لفلان حاجتي وكررتها لينساها، والمعنى لئلا يقولوا درست كما قال تعالى: {يبين الله لكم أن تضلوا} أي لئلا تضلوا، وحذف لا في مثل هذا كثير، قالت الخنساء:
فآليت آسى على هالكٍ .... وأسأل نائحة ما لها
وقال أبو حنبل الطائي:
لَقَدْ آلَيْتُ أَغْدُرُ في جِداعِ .... وَإِنْ مُنِّيتُ أُمَّاتِ الرّبَاعِ
لأَنَّ الغَدْرَ في الأَقْوَامِ عَارٌ .... وأنَّ الحُرَّ يَجْزَأُ بِالكُرَاعِ
فكيف يقول: آليت أغدر، ثم يقول: لأن الغدر في الأقام عارٌ، فولا أن التقدير لقد آليت لا أغدر، ويجوز أن تكون لام العاقبة كأنه قال: يصرف الآيات ويكررها، وعاقبتهم أن يقولوا درست، ويجوز أن يكون المعنى بقوله: وليقولوا درست، التهديد الوارد في صورة الأمر كقوله: {وليوفوا نذورهم}.
ومنها قوله حكاية عن إبليس: {رب بما أغويتني} وأشباهها، وذلك تصريح بأنه أغواه.
الجواب: إنما حكى الله قول إبليس فمن أين لكم أن إبليس صادق، وما أنكرتم أن يكون كحكايته عن المشركين قولهم لو شاء الله ما أشركنا، ولا بد للخصوم من الاعتراف بأنه كاذب؛ لأنه أقسم ليغوينهم أجمعين، وهو كاذب من وجهين، من حيث لا يقدر على الإغواء إلا الله عندهم، ومن حيث لم يغوِ جميع الناس، وبعد فالظاهر يقتضي أن الإغواء آلة لإبليس في الإضلال، وهو باطل بالاتفاق منا ومنهم.
وبعد فلم يقل بما أغويتني عن الحق وهو محل النزاع، والمعنى بما أغويتني أي خيّبتني عن رحمتك؛ لأن الغي والغواية في أصل اللغة هو الخيبة والحرمان، قال تعالى: {فسوف يلقون غياً} وقال الشاعر:
ومَنْ يَلْقَ خيراً يَحْمَدِ الناسُ أمرَه .... وَمَن يَغْوِ لا يَعْدَمْ على الغَيِّ لائما
ويجوز أن يكون التقدير بما أغويتني أي حكمت علي بالغواية وسميتني غاوياً.
ومنها: قوله: حكاية عن نوح {ولا ينفعكم نصحي إن أردت أن أنصح لكم إن كان الله يريد أن يغويكم} /238/.
والجواب: إنما أخبر أن نصحة لا ينفع أن أراد الله أغواهم، فمن أين للخصم أن الله قد أراده وفعله وهو المتنازع.
وبعد فلم يقل إن كان الله يريد أن يغويكم عن الدين.
وبعد فعند الخصم أن النصح فعل الله فيكون التقدير ولا ينفعكم نصح الله إن أراد الغواية. وبعد فما باله عليه السلام يشتغل بنصحهم وقد علم أنه لا ينفع، وأن الله منعهم عن القبول، والمعنى لا ينفعكم نصحي أن كان الله يريد أن يخيبكم من رحمته وعفوه لأجل إصراركم، وهذا واضح لأن النصح لا ينفع إلا من قبله، وقد قال بعض العلماء أن نوحاً أوردها على طريق الإلزام والتوبيخ لهم؛ لأنهم كانوا يرون أن الله الذي أغواهم وأراد غوايتهم، فقال: إن كان الأمر كما زعمتم فلا ينفعكم نصحي، وهذا كما نقوله نحن للخصوم، وإذا كان كما قلتم فلا ينفع الأمر والنهي والرسل والجهاد والوعظ.
ومنها، قوله: {ربنا غلبت علينا شقوتنا}.
والجواب: لا بد من ترك ظاهرها لأن الغلبة لا تصح إلا من الحيّ القادر، وأما فهي في الأصل العَنَاء والتعب، يقال: شقي شقاوةً وشقاءً، ويقال للفقير المحروم: شقيّ، أي تاعب في دنياه، ومعنى الآية: ربنا غلبت علينا شقوتنا، أي تعبنا وعناؤنا وعذابُنا، ويجوز أن يريد غلبت علينا معاصينا وظلمنا، وزادت على حسناتنا وسميّ ذلك شقوة لما كان يؤدي إليها.
ومنها: قوله: {كذلك زيّنا لكلّ أمةٍ عملهم} وأشباهها.
والجواب: لا بد من ترك ظاهرها عند الخصوم؛ لأنه لا عمل للأمة.
والمعنى: زينا لكل أمة عملهم الذي كلفوه، فإن الله زين الحق بالأمر به والحث والترغيب فيه كما قال تعالى: {وحبّب إليكم الإيمان وزينه في قلوبكم} أي بالأمر والحث والترغيب، {وكره إليكم الكفر} بالنهي والزجر ونحو ذلك.
يوضحه: إما أن يريد عملهم الذي قد فعلوه، وهو باطل لأن ما قد مضى لا يحتاج إلى تزيين، بقي أن يريد المستقبل وهو إما أن يريد عملهم الذي نهو عنه، وهذا باطل لتأديته إلى ما سلف ذكره من إبطال التكاليف والكتب والرسل ولزوم كون فاعله مطيعاً أو يريد عملهم الذي كلفوه وهو المطلوب.
القول في أن الله تعالى يريد الطاعات ولا يريد القبائح
وقد ذهب أهل الجبر إلى أنه تعالى يريد الواقعات وإن كانت كفراً وظلماً وسباً لنفسه، وقبلاً لإنشائه، ونحو ذلك، ويكره ما لا يقع وإن كان عدلاً وإيماناً وشكراً له، ونحو ذلك وسبيلنا أن نتكلم معهم في هذين الطرفين.
أما الطرف الأول: وهو أنه تعالى يرد الطاعات، فدليله أنه أمر بها والأمر /239/ لا يكون أمراً إلا بالإرادة على ما تقدم تفصيله، وكما يريدها، فلا يصح أن يكرها؛ لأن كراهة الحسن قبيحة؛ ولأن الكراهة إنما تعرف بالنهي، وهو تعالى لم ينه عنها بل أمر بها.
وأما الطرف الثاني: وهو أنه لا يريد القبائح، فدليله العقل والسمع.
أما العقل، فهو أن إرادة القبيح قبيحة، والعلم بذلك ضروري في الشاهد عند زوال اللبس وجوه الشبه، ولهذا لو قلت لبعض العقلاء بل لبعض الصبيان: إنك تريد كل ظلم وقبيح وفساد لأنكر ذلك ونفاه عن نفسه نفي مضطر إلى أنه صفة نقص، وأنه قبيح، ولا وجه لقبحه إلا كونه إرادة للقبيح؛ لأنا عند العلم به نعلم قبحه، وأن جهلنا كل أمر وعند الجهل بذلك لا يعلم قبحه، فيجب فيما شارك إرادة القبيح في كونه إرادة للقبيح أن يقبح.
فإن قيل: العلم بالإرادة نفسها استدلاليٌّ، فكيف يعلم قبحها ضرورة؟
قلنا: العلم بالإرادة على الجملة ضروري كسائر الأفعال؛ لأنا نعلم ضرورة تعلق أفعالنا بقصودنا ودواعينا، وذلك فرع على العلم بأن لنا قصود ودواعي على الجملة، بل قد نضطر إلى قصد غيرنا.
دليل كل عاقل يعلم بكمال عقله أن الحكيم لا يريد سب نفسه، وقتل: رسله وعبادة غيره، ولا يكره ما أمر به من طاعته وعبادته والعدل والإحسان.
دليل، لو كان تعالى مريداً للمعاصي لكان الفاعل لها مطيعاً؛ لأن من فعل ما أراد المطاع وصفة أهل اللغة بأنه مطيع، وقولهم: بل المطيع من فعل ما أمر به المطاع غير مسلم، وإن سلمناه فلا ينجيهم؛ لأن الأمر لا يكون أمراً إلا بالإرادة.
يوضحه أن العبد متى علم من سيده أنه يكره الفعل ثم أمره به على لسان رسول يعلم صدقه كان له أن يقول: إني علمت أنك تكرهه ويعذره العقلاء بذلك إذا لم يفعله.
دليل: قد ثبت أن الأمر بالقبيح قبيح، والذي أوجب كونه أمراً هو الإرادة، فيجب أن تكون قبيحه؛ لأن تأثيرها في ذلك على طريق الإيجاب، فبهذا يفارق القدرة على القبيح وصار الحال فيه كالحال في المسبب، فإن قبحه يقتضي قبح السبب، فإذا قبح الأمر القبيح قبح ما يؤثر في كونه أمراً بالقبيح.
دليل: قد ثبت أن الله تعالى قد نهى عن القبائح والنهي إنما يكون نهياً بالكراهة، وإلا لم ينفصل عن التهديد كما تقدم في كون الأمر أمراً بالإرادة، وإذا كان كارهاً لها وجب أن لا يكون مريداً لها.
وأما السمع فنحو قوله تعالى: {يريد الله بكم اليسر} إلى ما يؤدي إلى اليسر وهو الطاعة، {ولا يريد بكم العسر}، وعندهم أن كل عسر فقد أراده الله.
/240/ وقوله: {إنما يريد الله أن يبين لكم ويهديكم سنن الذين من قبلكم} إلى قوله: {ويريد الذين يبتغون الشهوات أن تميلوا ميلاً عظيماً} ولا خلاف أن الخطاب للجميع وعندهم أنه لا يريد هداية الكفار، بل يكرهها وأن كل ميل فهو الذي أراده.
وقوله: {وما خلقت الجن والإنس إلاَّ ليعبدون}، وهذا لام الغرض بلا شبهة، وقوله: {وما أرسلنا من رسول إلا ليطاع فبين أن غرضه بالإرسال الطاعة والعرض والإرادة واحد بلا خلاف، وقوله: {تريدون عرض الدنيا والله يريد الآخرة}، وقوله: {ليذكروا}، {ولقد يسرنا القرآن للذكر}، {ولعلهم يتقون} وأشباه ذلك مما بين فيه أن غرضه الطاعة.
ومن قوي ما نعتمده قوله تعالى: {سيقول الذين أشركوا لو شاء الله ما أشركنا} وأشباهها فإنه تعالى حكى عن المشركين نفس مذهب الخصوم ثم أكذبهم بقوله: {كذلك كذب الذين من قبلهم} ثم قال: {حتى ذاقوا بأسنا} والبأس هو العذاب، والله لا يعذبهم على الصدق ثم تحداهم في إقامة البرهان على ما قالوه بقوله: {قل هل عندكم من علمٍ فتخرجوه لنا} وهذا لا يقال إلا للمبطل، ثم بين أنهم يتبعون الظن، وأنهم يخرصون والخرص هو الكذب، وهذا لا يقال للصادق، فإن كانوا كاذبين كما أخبر الله تعالى، فهو المطلوب، وإن كانوا صادقين كان تكذيبهم كذباً.
وما يهذى به الخصوم من أن المشركين صادقون فيما قالوه، لكنهم أوردوه على سبيل الاستهزاء فهو تجاهل، وليس التكذيب بأكثر مما في الآية، ولو صح هذا لما صح في القرآن تكذيب قط، وليس إيراده على طريق الاستهزاء يقتضي وصفهم بالكذب كما لو قال اليهودي محمد نبي.
على أن الله الذي خلق فيهم الاستهزاء على مذهب الخصم، ولو شاء لما أوردوا هذا الاستهزاء فأين موضع التكذيب حينئذٍ.
وأما استدلالهم على تأويلهم هذا بقوله في آخر الآية: {قل فلله الحجَّة البالغة فلو شاء لهداكم أجمعين} فهو أعجب من تأويلهم، فإنا إنما نجتهد في أن يكون الحجة البالغة لله، وإنما يكون كذلك إذا كان الكلام على ظاهره، وكما قلناه، وأما إذا كان الله خلق فيهم الشرك وأراده منهم وكره إيمانهم ومنعهم منه وكذبهم وهم صادقون، فأي حجة له ليهم فضلاً عن أن تكون بالغة.
ومما يدل على قولنا قوله: {وماالله يريد ظلماً للعباد} والنكرة في سياق النفي للاستغراق، وعندهم لا ظلم إلا وقد أراده، وقوله بعد عده المعاصي {كل ذلك كان سيئه عند ربك مكروهاً} ومع كونه مكروهاً كيف يكون مراداً، وقوله: /241/ {والله لا يحب الفساد} وأشباهها، وقوله: {ولا يرضى لعباده الكفر وإن تشكروا يرضه لكم} ومعلوم أن الرضى والمحبة والإرادة واحد، بدليل أنه لا يصح إثبات بعضها ونفي البعض كالجلوس والقعود.
وأما قولهم: أحب جاريتي ولا يقال أريدها، فمعناه أحب الاستمتاع بها؛ لأن المحبة لا تعلق بنفس الذات من حيث هي حاصلة باقية، فلا جزم جاز أن يقال أريد الاستمتاع بها، وليس إذا تجوز بلفظ المحبة مع حذف المضاف أو بمعنى العشق لزم مثله في لفظ الإرادة، وإن كانا بمعنى واحد.
فصل
في بعض ما ألزمهم أصحابنا على القول بأنه تعالى يريد المعاصي، يقال لهم: أليس الله تعالى أراد من الكافر الكفر، فماذا تريدون أنتم منه، فإن قالوا: الكفر كفروا، وإن قالوا: الإيمان قيل لهم: أي شيء خير له هل ما ذا أردتم له أو ما أراده الله؟ فإن قالوا: ما أراده الله، قيل: فكان الكفر خيراً له من الإيمان، وإن قالوا: ما أردناه، قيل: فكأنكم أحسن اختياراً له من الله فأنتم إذاً أحق بالحمد والشكر.
ويقال: إذا كان الله أراد من أبي جهل الكفر وكذلك أراده منه إبليس وأراد منه النبي الإيمان كان إبليس موافقاً لله في الإرادة والنبي مخالفاً له، فهل خير له أن يفعل ما أراده الخالق أو ما أراده المخلوق.
ويقال: إذا أمر الله الكافر بالإيمان وأراد منه الكفر فأيهما أولى بالوقوع، هل ما أراده الله فيكون الكفر أولى من الإيمان؟ أو ما أمر به فيكون ما فيه تعجيزه عندهم أولى بالوقوع؟
ويقال: أليس أراد الله الشرك وسب نفسه وقتل أنبيائه ومحاربة أوليائه وكل قبيح فلا بد من بلى.
فيقال: أتريدون ذلك فإن قالوا نعم، خرجوا من الدين، وإن قالوا:: لا، قيل: فكيف تنزهون أنفسكم عما وصفتم به أحكم الحاكمين.
ويقال لهم: هل الله أهل لوقوع ما أراده؟ أم أهل لوقوع ما لم يرده؟ إن قلتم بالأول فكأنكم قلتم هو أهل؛ لأن يشرك به ولسوء الثناء عليه، وقتل أنبيائه وتكذيب آياته، وإن قلتم بالثاني فكأنكم قلتم هو أهل لوقوع ما يدل على عجزه وضعفه.
ويقال: أليس لله على الكفار حق وهو أن يعبدوه فلا بد من بلى.
فيقال: هل أراد منهم أداء حقه أم كرهه إن قالوا: أراده تركوا مذهبهم، وإن قالوا: كرهه، قيل: فيجب أن يسقط عنهم؛ لأن صاحب الحق إذا كرهه ولم يرده فقد أسقطه لا سيما وهو غير محتاج إليه، ولا هو عندهم ممن يكلف للمصلحة.
ويقال: لو كان أحدكم /242/ ملكاً وأراد من رعيته شيئاً يفعلوه، هل يستحقون المثوبة أو العقوبة؟ إن قالوا بالأول تركوا مذهبهم، وإن قالوا بالثاني أحالوا.
فصل [في بعض ما جرى من المناظرات]
قال الجاحظ لأبي عبد الله الجدلي: هل أمر الله المشركين بالإيمان؟ قال: إي والله، قال: فهل أراده منهم؟ قال: لا والله، قال: فهل عذبهم على ذلك؟ قال: إي والله، قال: فهل هذا حسن؟ قال: لا والله.
وقال عدلي لمجبر: ما تقول في رجل زعم أن ما كان في وقت النبي عليه السلام من الكفر والفجور وعبادة الأوثان والفتن فهو من النبي وبفعله وإرادته؟ قال: أقول أنه كافر زنديق، قال: لم قال لسوء ثنائه على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؟ قال: فلو قال ذلك في أبي بكر وعمر، قال: أقول يقتل ويرجم لطعنه في الصحابة، قال: فلو قال ذلك في الله فسكت.
وجاء مجبر إلى نصراني فداوى عينه من مرض كان فيها، فقال للنصراني: قد وجب على حقك، فأريد نصحك، قال: وما ذاك؟ قال: أسلم، قال: أتريد نصيحتي وإسلامي؟ قال: نعم، قال: فهل الله يريد نصيحتي وإسلامي، قال: لا، قال: فأيكما أحق أن أعبده؟ فسكت.
فصل [في شبههم]
قد تعلقوا من جهة العقل بشبهتين:
أحدهما: أن قالوا، الإرادة مطابقة للعلم، فما لا يعلم الله وقوعه لا يصح أن يريده.
والجواب يقال: هذا محض الدعوى ومحل النزاع، وبعد فكيف يصح ذلك وعندهم أن كونه مريداً ككونه عالماً في أنها تستحق للذات أو لمعنى قديم، فلم كانت أحدها بأن يطابق الأخرى أولى من العكس، وهلاَّ كانت الإرادة مطابقة للقدرة كما هي مطابقة للعلم أو دون العلم أو هلاَّ كان العلم والقدرة مطابقين للإرادة وما وجه هذه التحكمات من غير دليل.
قالوا: إرادة ما لا يكون تمني.
قيل لهم: هذا من أساطيركم الباطلة وغلطاتكم الظاهرة؛ لأن التمني من قبيل الكلام لا من قبيل الإرادة، فإذا قال أحد: يا ليت كان كذا فيما له فيه نفع أو دفع ضرر، قيل: تمنَّى.
قالوا: خلاف المعلوم مستحيل والله لا يريد المستحيل.
قيل لهم: ومن سلم لكم استحالة خلاف المعلوم، ولو كان مستحيلاً لما صح وصف الله تعالى بالقدرة على إقامة القيامة الآن، ولا أن يزيد في خلقه ولا ينقص؛ لأنه يعلم أن ذلك لا نفع.
وأيضاً فكان لا يصح من النبي عليه السلام أن يريد من أبي جهل الإيمان، وقد علم أنه لا يقع؛ لأنه كيف يريد المستحيل، وهل هو إلا بمنزلة إرادة الجمع بين الضدين.
وأيضاً: فلو وجب وقوع المعلوم واستحال خلافه لبطل معنى الاختيار والإرادة، فلا يكون إليها طريق ولا لها فائدة.
الشبهة الثانية، قالوا: لو وقع في ملك الله ما لا يريد لدل على عجزه قياساً على الشاهد.
والجواب: أوَّل ما في هذا أنهم /243/ يمنعون من قياس الغائب على الشاهد، ويقولون: لا يقاس بالناس، فكيف قاسوا هاهنا.
وبعد فهو معارض بالأمر فيقول: لو وقع في ملك الله خلاف ما أمر به وما نهى عنه لدل على عجزه قياساً على الشاهد، بل مخالفة أمر الملك في الشاهد أدل على عجزه من مخالفة إرادته.
وبعد فإذا أراد الملك من الرعية أمراً فإنما يدل مخالفتهم على عجزه إذا كان له في ذلك الأمر جلب نفع أو دفع ضرر، فحينئذٍ يدل على عجزه؛ لأنه لو قدر لقهرهم لتوفّر دواعيه، وأمَّا إذا أراد منهم ما يعود نفعه إليهم لم يدل على عجزه.
يوضحه أن النبي عليه السلام والمسلمون يعلمون اختلاف اليهود والنصارى إلى كنائسهم، ولم يدل ذلك على إرادتهم له، ولا عجزهم عن المنع منه، وكذلك فإن الملك إذا أمر رعيته بأمر يصلحهم لم يدل فقده على عجزه.
وبعد فلو كان كما ذكروه لكان الله قد أمر بما يدل على عجزه وبعث الرسل لذلك وعاقب لم لا يقع وهذا شيء بعيد لا يلتزمه مميز.
شبهة ثالثة، قالوا: أخبر الله بأن الكفر يقع وأمر بمجاهدة الكفار، فلا بد أن يريد الكفر الذي لا يكون خبره صدقاً إلا به، ولا تتم المجاهدة إلا به، وإلا كان قد أراد تكذيب نفسه.
والجواب، يقال: وكذلك أخبر النبي عليه السلام أن الحسين يقتل، وكذلك أمر بالاغتسال من الزنا، فكان يجب أن يريد قتل الحسين والزنا؛ لأنه لا يكون خبره صدقاً ولا لأمره فائدة إلا به والتزام ذلك جهالة شنيعة.
فصل
وأما السمعيات فقد قدمنا منعهم من الاستدلال بالسمع لكنا نتكلم على تقدير صحة استدلالهم، فمنها قوله: {وما يشاءون إلا أن يشاء الله}.
والجواب: إما أن يريد أن جميع ما يشاءون لا بد أن يشأه أو يريد، وما يشاءون هذا الشيء المخصوص إلا وقد شاءه الله تعالى، فالأول باطل؛ لأنه تعالى قد أخبر أنه يشاء خلاف ما يشاءون بقوله: {تريدون عرض الدنيا والله يريد الآخرة} وبقوله: {يريدون أن يطفئوا نور الله بأفواههم} وبقوله: {والله يريد أن يتوب عليكم ويريد الذين يتبعون الشهوات أن تميلوا ميلاً عظيماً}.
وأيضاً فمعلوم أن أكثر ما يريده المخالفون لا يوجد، ولو أراده الله لوجد.
والثاني: لا فرج لهم فيه؛ لأن هذه الآية قد وردت في ثلاثة مواضع كلها عقيب ذكر الطاعة، فتقديره وما يشاءون الطاعة إلا وقد شاءها الله، وكذلك نقول نحن؛ لأنه تعالى قد أمر بها، قال تعالى: {فمن شاء ذكره} {وما تشاءون إلا أن يشاء الله} أي الذكر، وقال: {فمن شاء اتخذ إلى ربه سبيلا} {وما تشاءون إلا أن يشاء الله} أي اتخاذ السبيل، وقال: {فمن شاء منكم أن يستقيم وما تشاءون إلا أن يشاء الله} أي الاستقامة، وهذا غاية الترغيب في هذه الأمور، كما إذا قال السيد العلامة /244/: اعلم أنك لا تفعل إلى زيد مكرمة إلا وقد أردتها فإن هذا غاية الحث على إكرامه.
ومنها قوله تعالى: {ولو شاء الله ما فعلوه} {ولو شاء الله ما اقتتلوا} وأشباه ذلك.
والجواب: المراد لو شاء الله لمنعهم قهراً، وهذا مسلم وفائدته نفي العجز عن نفسه، على أنه ليس في ذلك أكثر من أنه لو شاء ما اقتتلوا، وما فعلوا، ومن أين أنه قد شاء أن يقتتلوا ويفعلوا وهو محل النزاع، ألا ترى أن المسلمين لو شاءوا لمنعوا اليهود عن المضي إلى كنائسهم ولم يدل على أنهم قد شاءوا المضي إليها.
ومنها قوله تعالى: {ولو شاء الله لجمعهم على الهدى} {ولو شئنا لآتينا كل نفس هداها}، وأشباه ذلك.
والجواب: ما تقدم من أن المراد مشيئة القهر ونفي العجز عن نفسه.
يوضحه أنه قال: لجمعهم ولم يقل: لاجتمعوا، فهو إنما نفى فعل نفسه، وهو الإكراه لا مشية فعلهم الذي هو الإيمان.
يزيده وضوحاً أن الله تعالى أورد ذلك تسلية لنبيه عليه السلام لما اشتد أسفه على فقد إيمانهم فقال: {فإن استطعت أن تبتغي نفقاً في الأرض أو سلماً في السماء فتأتيهم بآية} يصيروا عندها ملجئين ولو شاء الله أن يلجئهم لفعل فلا تكونن من الجاهلين، فإنه لا يريد منهم الإيمان كرهاً وإنما يريده اختياراً ليصح بقاء التكليف واستحقاق الجزاء، ويجوز أن يكون المراد لجمعهم على الهدى الذي هو الثواب، فلم يصرح بآي معاني الهدى أراد ونحن قد بينا أن الهدى لم يرد بمعنى خلق الإيمان في اللغة.
ومنها قوله: {ولو أننا نزلنا إليهم الملائكة..} إلى قوله: {ما كانوا ليؤمنوا إلا أن يشاء الله}.
والجواب: قد قدمنا أنه لا يقع الإيمان ولا غيره من الطاعات إلا بمشيَّة الله، ويجوز أن يكون المراد إلا أن يشاء الله يكرههم، ولو لا هذا لما كان ليورد الآية ذماً لهم وإخباراً من شدة عتوهم؛ لأنهم والحال هذه معذورون.
نعم، لما كانوا يقترحون على النبي ويتعنتون في طلب الآيات أخبر الله تعالى أنه ماترك شيئاً يؤمنون به عنده مختارين، وأنه لو فعل ما فعل ما آمنوا إلا مضطرين.
ومنها قوله: {وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها} فأخبر أنه يستدرجهم بالفسق لإتمام مشيّئته.
والجواب: أن ظاهرها يقتضي أنه تعالى أمرهم بالفسق، وهو باطل بالاتفاق، والمعنى قيل أمرناهم من الميزة ففسقوا وبطروا فاستحقوا العذاب، وقيل: أمرناهم بالطاعة على ألسنة الرسل ففسقوا بمخالفة الأمر فاستحقوا العذاب، وعلى كل حال فالله تعالى فعل بهم ذلك على وجه العقوبة على عصيانهم، بدليل قوله: مترفيها، فإن هذا لا يقال إلا للعاصي، وقد قرنت الآية بالتشديد أي جعلناهم أمراء وكبراء بالإمهال والإنعام فيخالفون ما يجب لنا من الشكر والطاعة بالكفر والفسق فنهلكهم عند ذلك.
ومنها قوله: {وما هم بضارين به من أحد إلا بإذن الله}.
والجواب: لم ترد الإذن بمعنى المشيَّة والإرادة في حقيقة اللغة ولا في مجازها، وإنما تستعمل بمعنى الأمر نحو {فإنه نزله على قلبك بإذن الله}وقوله {لتخرج الناس من الظلمات إلى النور بإذن ربهم} ونحو {وما كان لنفس أن تؤمن إلا بإذن الله} أي بأمره وإيحائه بنصب الأدلة.
وحكى عن عمر بن عبيد أنه قال: أمر إلي محمد بن سليمان فجئته وعنده مصحف منشور وسيف مسلول، فقال: اخرج من هذه الآية وإلا ضربت عنقك، فقلت: ما هي، فقال: قوله: {وما كان لنفس أن تؤمن إلا بإذن الله} فقلت: {بسم الله الرحمن الرحيم، يا أيها الناس قد جاءكم الرسول بالحق من ربكم فآمنوا خيراً لكم} فقد أذن الله لك في الإيمان، فقال: ما أسرع جوابك كأنه في كمّك، وكذلك يستعمل الأذن بمعنى الإباحة والإطلاق كقوله تعالى: {فأنكحوهنَّ بإذن أهلهن} ونحو {ليستأذنكم الذين ملكت أيمانكم} ونحو {فأذن لمن شئت منهم} وتستعمل بمعنى العلم، كقوله: {فقل أذنتكم على سواء} وكقول الشاعر:
آذَنَتْنَا بِبَينِهَا أَسْماءُ .... رُبَّ ثاوٍ يُمَلُّ مِنْهُ الثَّوَاءُ
وعلى هذا تحمل هذه الآية، ويكون في تعليقه بالعلم فائدة، وهي تهديد لفاعل السحر، ويجري مجرى قوله: {إن الله بما تعملون بصير} ونحوها، فإن المراد في جميع ذلك التهديد على أن الضر الحاصل عند السحر هو من فعل الله تعالى بمجرى العادة، ولهذا نفع تأثيره في الأماكن المتباعدة، ومن دون مماسة.
ومنها قوله: {ولكن كره الله انبعاثهم فثبطهم} الآية، فبين أنه كره خروجهم مع النبي عليه السلام، وهو طاعة.
والجواب: بل هو معصية؛ لأنه تعالى نهى عنه بقوله: {اقعدوا} وعلل وجه النهي والكراهة بكونه مفسدة، فقال: {لو خرجوا فيكم ما زادوكم إلا خبالاً ولأوضعوا خلالكم..} الآية. وقال: {قل لن تخرجوا معي أبداً ولن تقاتلوا معي عدواً} ومع التصريح بالنهي عن الخروج وكراهته وأنه مفسدة كيف يقال أنه طاعة.
ومنها: قوله تعالى: {ولقد ذرنا لجهنم كثيرا..} الآية، فبين أنه خلق لجهنم فيجب أن يريد منهم ما لأجله يدخلونها.
والجواب: إنما يقتضي الظاهر أنه خلقهم لها لا أنه يريد مالأجله يدخلونها، وجائز أن يريد العقاب، وإن لم يرد سببه كما يريد منهم التوبة، وإن لم يرد سببها وهو المعصية، ويريد إقامة الحد على الزاني، وإن لم يرد ما لأجله وجب.
وبعد فهي معارضة بقوله: {وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون}، وبعد فلام كي لا تدخل على الأسماء.
والمعنى، ولقد خلقنا خلقاً وعاقبته دخول جهنم، فهي لام العاقبة مثلها في قوله: {فالتقطه آل فرعون ليكون لهم عدواً وحزناً}/246/ والمعلوم أنهم ما التقطوه إلا ليكون لهم قرَّة عين، وقال الشاعر:
ولِلموتِ تَغْذو الوالداتُ سِخالَها .... كما لِخَراب الدَّهرِ تُبنى المساكِنُ
وقال آخر:
أَمْوَالُنا لِذَوِي المِيرَاثِ نَجْمَعُها ... وَدُورُنَا لِخَرَابِ الدَّهْرِ نَبْنِيها
وقال آخر:
وقد سمنوا كلباً ليأكل لحمهم .... وما فعلوا بالحزم إذا سمنوا الكلب
ومثل هذا الجواب في قوله تعالى: {إنما نملي لهم ليزدادوا إثماً}، وقوله: {وكذلك فتنا بعضهم ببعض ليقولوا أهؤلاء من الله عليهم من بيننا} وأشباه ذلك.
واعلم أن جميع ما ذكروه في هذا الباب معارض بقوله تعالى: {فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر} ونحوها مما يدل على أن العباد مختارون في أفعالهم.
شبهة، قالوا: أجمعت الأمة على قولها ماشاء الله كان وما لم يشأ لم يكن.
والجواب: لا نسلمه وإن سلمناه فمعارض بإجماعها على قولها لا مرد لأمر الله، وعلى قولها: استغفر الله من جميع ما ذكره الله فجوابهم جوابنا.
والتحقيق في الموضعين أن مراد الأمة ما شاء الله كان من أفعاله، ومالم يشأ منها لم يكن بدليل أن مراد الأمة بذلك وصف اقتدار الله تعالى ولا يتم هذا إلا إذا قصدوا أفعال نفسه.
وأما قولهم: إن شاء الله فإنما ترد لاتفاق الكلام وإرجائه لا على جهة الشرط.
فصل
ومن المتشابهات نوع يستدلون به على أن الله تعالى يمنع العباد مما أمرهم به لأجل أنه كرهه ولم يرده. منها قوله تعالى: {ختم الله على قلوبهم..} الآية.
والجواب: لا تعلق بظاهرها ؛لأن الختم لا يمنع من الإيمان من حيث يفعل في داخل القلب، ولا يأتيه من خارج، ولو أتاه من خارج لما منعه الختم كما لا يمنع ختم الكتاب والكيس من فضهما.
وبعد فالمنع إنما يعقل في حق القادر والكافر عندهم لا يقدر على الإيمان.
وبعد فلا معنى للختم على أصلهم؛ لأن الله تعالى إن فعل الإيمان في القلب لم يضر الختم، وإن لم يفعله لم ينفع عدم الختم.
وبعد فهذه الآية وشبهها معارضة بقوله: {أم على قلوب أقفالها} وقوله: {فأنى تؤفكون} {فآنى تصرفون} ونحوها مما يدل على أنهم غير ممنوعين.
وبعد.. فلم نقل ختم على قلوبهم من الإيمان، وهو محل النزاع.
إذا ثبت هذا، فالمعنى بالختم هنا السمة والعلامة، كما هو في أصل اللغة، وهي علامة توسم بها قلب العاصي لتعرفه الملائكة، فلا بإيراد الخواطر والألطاف وليتميز لهم الكافر من المؤمن كما قال تعالى: {أولئك كتب في قلوبهم الإيمان} وفي الحديث: ((أن الرجل إذا عصى نكتت في قلبه نكتة سوداء)).
ويجوز أن يكون المراد الحكم والتسمية والإخبار بأنهم لا يؤمنون، يقال: ختمت عليك أنك لا تفلح كما يقال: حكمت فأخبر تعالى بأنهم سواء /247/ أنذروا أم لا، لا يؤمنون، وذكر الختم والغشاوة مبالغة في الأخبار، ويجوز أن يكون المراد التشبيه لما لم ينتفعوا بقلوبهم وحواسهم في سماع المواعظ والاعتبار بالمخلوقات تشبيهاً بالمختوم عليها كما قال تعالى: {صم بكم عمي} فإنه لم يرد ذلك على جهة الحقيقة فإن المعلوم خلافه بدليل، ولو شاء الله لذهب بسمعهم وأبصارهم، ولكن لما كان لهم قلوب لا يعقلون بها أي لا يستعملونها وأعين لا يبصرون بها، كذلك شبَّههم بمن لا قلب ولا بصر له، فلما لم يستعملوا هذه الآلات فيما لأجله خلقت، وعلى هذا قال الشاعر:
أَصَمُّ عَمَّا سَاءَهُ سَمِيعُ
فلو لا ما قلناه لتناقض كلامه
وقال آخر:
كيف الرشاد وقد صرنا إلى ملاءٍ .... لهم عن الرشد أغلال وأقياد
وقال آخر:
لقد أسمعت لو ناديت حياً .... ولكن لا حياة لمن تنادي
ومثله قوله تعالى: {فإنك لا تسمع الموتى..} الآية وأشباهها. ومثل هذا يقع الكلام في قوله: {وطبع الله على قلوبهم}، وقوله: {كذلك يطبع الله على كل قلب متكبر جبار} أي بعلم وسم أو على جهة التشبيه أو على جهة الخذلان.
ومنها قوله: {وإذا قرأت القرآن جعلنا بينك وبين الذين لا يؤمنون بالآخرة حجاباً} إلى قوله: {وجعلنا على قلوبهم أكنةً أن يفقهوه} فبين أنه يمنعهم سماع القرآن وفهمه.
والجواب: هذا الظاهر لم تقل به أحد لوقوع الإجماع على أنه يجب البيان، وأن الله لا يكلف مالا يُعلم، ولا يمنع المكلفين من فهم ما كلفهم، وقد قال تعالى: {ليهلك من هلك عن بينة ويحيى من حي عن بينة}، وقال: {لتبيين للناس} وذمهم على عدم التدبير، والمشهور أنهم كانوا يفهمونه، وقد قال كذلك: {نسلكه في قلوب المجرمين}.
وبعد فلا بد من العدول عن الظاهر إلى التقدير؛ لأنه قال: {أن يفقهوه} ولم يقل: لئلا يفقهوه، وللآية معان صحيحة:ـ
أولها: أن يكون المراد بالجعل الحكم والتسمية كما سلف بيانه، وعليه قول الشاعر:
جعلتني باخلاً كلا ورب منى .... إني لأسمح كفا منك في الكرب
وثانيها: أن يكون المضير في يفقهوه عائد إلى الحجاب وتقديره مستوراً لا يفقهوه أي لا يعلموه في حال ما أنت مستوراً به، كما يقضي به سبب نزول هذه الآية.
وثالثها: أنا ذكرنا أنه لا بد من التقدير فتقديره لأن يفقهوه، فيكون قد بين أن غرضه أن يفقهوه وتقدير حرف واحد خير من تقدير ثلاثة حروف، ولأن تقديرنا موافق لدلالة /248/ العقل ومحكم الكتاب.
فإن قيل: كيف يكون الكن والوقر مفعولين للفهم؟
قلنا: صار القرآن لكثرة تكراره وتصريف آياته كالغطاء على قلوبهم، وكالوقر في آذانهم لكي يفقهوه، وتعذر إليهم ويصير الحال فيه كالحال، فيمن ترفع له صوتك وتكرر كلامك وتدور إلى جهة وجهه، كلما صرفه عنك لتقرر عليه أنه قد سمع وفهم وتزيح علته في ذلك.
ورابعها: أن المروي أنهم لما سمعوه وفهموه كفروا به، وكانوا عند تكراره يسبون النبي عليه السلام ويزدادون كفراً وعتواً فمنعثهم الله من فهمه وسماعه عند التكرار لما صار سماعهم له عند التكرار كالمفسدة.
ومنها قوله: {ونقلب أفئدتهم وأبصارهم..} الآية.
والجواب: المراد نقلب في الآخرة؛ لأنه لم يذكر الوقت؛ ولأنه جعله عقوبة لكونهم لم يؤمنوا به أول مرَّة، ولا يجوز أن يعاقب على الكفر بخلق الكفر، فهو بمنزلة قوله: {يوم نقلب وجوههم في النار}.
وبعد، فلم يقل نقلب أفئدتهم عن الإيمان، وهو محلّ النزاع؛ ولأنه يقتضي أنهم كانوا آمنوا بقلوبهم ثم قلبها أو يجوز أن يكون المراد بسلب الألطاف والتوفيق وبالخذلان.
ومنها قوله تعالى: {سأصرف عن آياتي الذين يتكبرون..} الآية.
والجواب: لم يقل سأصرفهم عن فهمها أو عن الإيمان، ولأن الصرف إنما يكون عما يقدر عليه وهو لا يقول به الخصوم.
والمعنى: سأصرفهم عن إبطالها والقدح فيها والزيادة فيها والنقص منها، ونحو ذلك كما قال تعالى: {إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون}.
وأما قوله تعالى: {ثم انصرفوا صرف الله قلوبهم} فهو على جهة الدعاء.
ومنها قوله تعالى: {اعلموا أن الله يحول بين المرء وقلبه}.
والجواب: لم يقل يحول بينه وبين الإيمان. وأيضاً فإنما أخبر بأنه يقدر على ذلك، فمن أين قد فعله.
والمعنى: أنه تعالى عبَّر بذلك عن الموت؛ لأن الحيلولة بينهما توجب الموت، ومن أعلا درجات الفصاحة أن يخبر عن الشيء بسببه أو بما يقع عنده، كما قال طرفة:
فلولا ثلاث هن من عيشة الفتى .... وجدك لم أحفل متى قام عوّدي
فأخبر عن الموت بما يكون عنده من قيام العوَّاد، والله تعالى حثهم على التوبة قبل الإماتة.
يوضحه أن اللام في المرء لام الجنس، وليس الحيلولة الشاملة إلا الموت.
ومنها قوله تعالى: {ولا تطع من أغفلنا /249/ قلبه عن ذكرنا}.
والجواب: هذا لا يتم على مذهبهم؛ لأن الغفلة لا تمنع من الذكر إن فعله الله تعالى، وزوالها توجبه إن لم يفعله، والفعل يستعمل في اللغة في الطريق الذي لا منار له، وفي القدح الذي لا يصيب له، يقال في الأقداح ثلاثة غُفْل، أي لا يصيب له، وفي الشيء الذي لا سِمَة له يقال: أغفَل إبله إذا لم يسمها. قال الشاعر:
أنحن وهن أغفال عليها .... وقد ترك الصلا بهنَّ نارا
أي ترك الصلا عليهن سمة.
ومعنى الآية: {ولا تطع من أغفلنا قلبه} عن سمة الخير، فلم يسمه بها كما وسمنا بها قلوب المؤمنين في قولنا: {أولئك كتب في قلوبهم الإيمان} ويجوز أن يكون لمعنى أغفلنا أي وجدنا قلبه غافلاً أو بمعنى لم أسمه.
فصل
ومن المتشابهات نوع يستدلون به على أنه تعالى يحمل العباد على نواهيه، ويوقعهم في معاصيهم لأجل أنه أرادها.
فمنها قوله تعالى: {إنا أرسلنا الشياطين على الكافرين تأزهم أزاً}.
والجواب: هذا لا يصح على مذهب القوم؛ لأنه لا تأثير للشياطين في الأزّ، والفاعل له هو الله تعالى.
والمعنى بالإرسال هنا هو: التخلية والتسليط على جهة العقوبة والخذلان لما لم يطيعوا كما يقال: أرسل فلان كلبه على الناس، وأرسل غنمه على الزرع ونحو ذلك، وكما قال تعالى: {وأرسلنا عليهم الطوفان والجراد..} الآية. هذا إ ن لم يكن المراد بالإرسال في الآخرة.
يوضح هذا كله أنه جعل الإرسال عقوبة على كفرهم.
ومنها قوله {الله يستهزئ بهم ويمدهم في طغيانهم يعمهون}، قالوا: تدل على أنه قد أراد منهم الطغيان.
والجواب: أن المد في الطغيان بالمعنى الذي ذهب إليه الخصوم غير معقول في اللغة، ولا يستعمل، وإنما المد هو الإنشاء في الأجل، وقوله: {في طغيانهم يعمهون} كلام مستأنف، أي في حال عمهم في الطغيان، ولولا هذا لوجب أن يكون قوله: {يعمهون} جواباً ليمدهم محروماً، والرفع دليل الاستئناف، ومعنى الاستهزاء أنه أمهلهم ليتأكد الحجَّة عليهم، وهم يحسبون أنه لا يعذبهم حيث اغتروا بالإهمال، فهو كالمستهزئ بهم بالإمهال، ولو كان كما قالوه من أنه فعل بهم الطغيان وأراده، لكان قوله: {أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى} لا معنى له؛ لأنهم لا يتمكنون من الهدى.
ومنها قوله: {في قلوبهم مرض فزادهم الله مرضاً} فقد صرح بأنه يفعل الشك فيهم.
والجواب: لم يستعمل المرض بمعنى الشك في اللغة قط، وإلا كان يجب أن يسمى الشاك مريضاً، والمريض شاكاً، وإنما يستعمل المرض في الألم حقيقة، وفي الغم مجازاً، يقال: /250/ أنا مريض القلب من كذا، أي مغتم، ولما كان في قلوب الكفار غم شديد من أمر النبي عليه السلام والمؤمنين لأجل ما أعطاهم الله من العزة والنصر، فأورد الله هذا إما على الدعاء عليهم، كأنه قال: زادهم الله غمى، وهو يتضمن الدعاء للمؤمنين، أي بما يزدادون من النصر والعزة، أو يكون على جهة التحقيق بأن الله زادهم غمى بما زاد به المسلمين مما لأجله يغتم عدوهم.
ومنها قوله: {وقيضنا لهم قرناء فزينوا لهم} وقوله: {فمن يعش عن ذكر الرحمن نقيض له شيطاناً}.
والجواب: أنه قال: فزينوا ولم يقل ليزينوا، والفاء كما ترد للإخبار بوقوع الغرض المقصود بالفعل المتقدم، نحو شربت الماء فرويت، فقد يقع لنفي الغرض المقصود والإخبار بوقوع عكسه نحو: أنعمت عليك فكفرتني وأمنتك فخنتني، وقد يرد بمطلق الإخبار بوقوع فعل عقيب فعل، ومعنى الآية أن النقيض هنا بمعنى التخلية والتسليط والخذلان، ولا خلاف في أن الله تعالى مكن الشيطان من الوسوسة والخديعة والدعاء إلى الضلال، لكنه ليس له عليهم سبيل إلا باختيارهم، كما قال تعالى: {وما كان لي عليكم من سلطان إلاَّ أن دعوتكم فاستجبتم لي} وقال: {وما أنتم عليه بفاتنين إلاَّ من هو صال الجحيم}.
وبعد، فلا خلاف أن خلق الشيطان ووسوسته غير موجبين لضلال أحد، أما عند أهل العدل فلأن الله تعالى لا يخلق ما هو مفسدة، وامَّا عند أهل الجبر فلأن الموجب للضلال هو أن يخلقه الله فيه، ولا تأثير للشيطان ولا غيره.
ومنها قوله تعالى: {سنستدرجهم من حيث لا يعلمون} {وأملي لهم إن كيدي متين}.
والجواب: لا فرج لهم في هذه الآية؛ لأنه لم يقل سأحملهم على الكفر؛ ولأن الآية وردت مورد الوعيد، فكيف يتوعد على الكفر بكفر، ولأنهم كانوا كفاراً قبل هذا الاستدراج الذي جعله عقوبة على الكفر.
والمعنى: سنهلكهم من حيث لا يعلمون؛ لأن الاستدراج مأخوذ من الدَرج، وهو الهلاك، يقال: درج فلان صبياً أي هلك، ودرج الناس قرناً بعد قرن، وفي حديث أن خديجة سألت عن أطفال درجوا في الجاهلية، أي هلكوا، وقال الأعشى متهدداً:
لنستدرجنك القول حتى تهزَّه .... وتعلم أني لست عنك بملجم
وقوله: {وأملي لهم أن كيدي متين} أي وأمهلهم في الأعمار لتتأكد الحجة.
ومنها قوله: {فزادهم رجساً إلى رجسهم} فأضاف الزيادة إلى الآيات وهو فاعلها.
والجواب: ما تقدم من أن المراد وازدادوا عندها نحو {فلم يزدهم دعائي إلا فراراً}.
فإن أهم التكليف علم العقائد، وإن الظفر بالحق فيه مراحل الفوائد، وأنه قد كثرت فيه الأهواء وعدل أكثر الناس فيه عن التحقيق، وشكلوا بنيات الطريق، فمن شق قسطاً ولى بجحد المشاهدات، ويحاول دفع الضرورات ويحاول دفع الضرورات، وملحد يبكي الصانع ويضيف التأثير إلى الطبائع، وفلسفي ينفي عن الله الاختيار ويعول على العقل والفلك الدوار وباطني يقول بالسابق والتالي، ويعمد غير الله، ولا يبالي، ومطرفي بقصر تأثير الصانع على الأصول، وهو لم يحصل من إثباته تعالى على محصول، وثنوي يقول بالقديم الثاني /2/، وآخر يتلوه في قديم المعاني، وبرهمي ينفي النبوة رأساً، وذمي لا يرى في تكذيب الرسل بأساً، ومجس يشبه الله تعالى بالمجدثات، ويثبت له الخوارج والآلات، ومخير يعتذر للسباطين والعصاة، ويحمل مساوي العباد على الله، ومزح يتعلل بالإخلاص والأمالي، ويبني دينه على حرف التواني، ورافض يبغض شيوخ الإسلام، ويحبط من الغلو والتعصب في ظلام. فهذه أصول فرق الصلالة، والذين تفرعت عنهم كل جهالة، كل منهم بمذهبه فرح مسرور، ورجاهم الكل على قطب الغواية تذور، ليس على غير الباطل يعولون، ويوم تقوم الساعة يومئذ يحسر المبطلون، لقد صدق الله عليهم إبليس ظنه فاتبعوه، وصاح بهم إلى مخالفة الحق فاستمعوه، واستفز بمكره منهم من استطاع وصار له من علماء السوء أتباع، يدعون له إلى كل بدعة وضلال، ويبالغون في نصرته بالأقوال والأعمال، قد انتصب منهم في كل فرقة أمير يجادل في الله بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير، ويسلك منهم في كل بدعة منهجاً، اقتداء بالذين يصدون عن سبيل الله ويبغونها عوجاً، شرعوا للناس من الدين ما لم يأذن به الله، وشقفوا لهم بالتمويه على كل مهواة، فاستمالوا بشبههم أفئدة الطغام، وأنزلوا على قضيتهم جمهور العلوام، إلى أن صارت الطائفة المحقة فرقة من نيف وسبعين فرقة، فلست تكاد ترى للحق محباً، إلا من يصغي لسماع الحجة قلباً، ولا يظفر بمنصف
القول في الاستطاعة
هي المعنى الذي يوجب لمن اختص به كونه قادراً، وهي ترادف القدرة والقوة والطاقة، بدليل أنه لا يثبت بعضها مع نفي البعض /251/ وإنما لا يقال في الله تعالى: مطيق؛ لأن العرف قد خص استعمال الطاقة بما يتوصل إليه بمشقة.
فصل
المقصود في هذا الباب بيان أن الكافر قادر على الإيمان والمؤمن قادر على الكفر، وقد خالف في ذلك أهل الكفر بأمرهم.
والكلام في هذه المسألة يدور على ثلاثة أركان:
أحدها: أن القدرة غير موجبة لمقدورها. وثانيها: أنها متقدمة عليه. وثالثها: أنها متعلقة بالضدين وبتمامها يتم الغرض، وقد عرفت أن الكلام هنا هو مع من يثبت القدرة منهم، فأما من ينفيها كالجهميَّة فالكلام معهم في هذه المسألة لغو.
أما الركن الأوَّل: فعندنا أن القدرة غير موجبة لمقدورها، وخالفت المجبرة.
لنا: أنها لو كانت موجبة لم يحل إما أن توجب إيجاب الأسباب، فيكون مقدورها فعلاً لله؛ لأن فاعل السبب فاعل المسبب، وتقدم فساده، ويلزم أن لا توجب إلا في محلها؛ لأنه لا جهة لها بخلاف الاعتماد، ويلزم صحة وجودها، ولا مقدور بأن يفقد شرط توليد أو يمنع مانع منه، وعندهم أنه يستحيل تخلفه عنها؛ لأن فيه إبطال المقارنة، وإما أن يكون إيجاب العلل، وهو باطل؛ لأن العلل لا توجب الذوات، ولأن ما صدر عن العلة لا يضاف إلى فاعل قط، ولأن المعلول لا بد أن يختص بمن اختصت به العلة، ومعلوم أن أكثر المقدورات منفصلة من القادر؛ ولأن القدرة مشروطة بالبنية والحياة، فيجب أن يكون معلولها كذلك؛ لأن ما كان شرطاً في العلة كان شرطاً في معلولها كالعلم، فإنه لما كان مشروطاً بالبنية والحياة كان كونه عالماً كذلك، ولولا هذا لصح حصول العلة مع استحالة المعلول.
وبعد، فلو كانت موجبة لمقدورها لكان تكليف الكافر بالإيمان تكليفاً لما لا يطاق؛ إذ لو أطاقه لوقع.
وبعد، فسيبين أنها صالحة للضدين، فبطل كونها موجبة، وإلا وجب حصولهما.
وبعد، فكان لا يصح وصف أحدنا بأنه قادر كما لا يصح وصف المرمى به من شاهق بأنه قادر على الهوي والجامع زوال الاختيار وحصول ما يوجب الفعل في الموضعين.
وبعد فكان يلزم مثله في قدرة الباري تعالى.
فإن قالوا: إن قدرته تعالى قديمة فيخالف قدرنا.
قلنا: هذا لا يصح على أصلكم؛ لأن عندكم أن القدم لا يقتضي التماثل والاختلاف، وغلا وجب كونها مثلاً لله تعالى.
على أن اختلافهما لا يمنع اتفاقهما في هذا الحكم، ألا ترى أنهما يتفقان في التعلق وفي /252/ كونهما قدرتين ونحو ذلك، فهلا اتفقا في إيجابهما للمقدور وفي أنهما لا يصلحان للضدين.
وبعد، فالذي دل على أن قدرة الباري تعالى غير موجبة من وقوع الفعل وانتفائه بحسب أحواله قائم في قدرتنا، فإن مقدورها يقف على أحوالا ثبوتاً وانتفاءً.
فصل
وأما الركن الثاني: فقد ذهب أهل العدل إلى أنها متعلقة بالضدين وأن البدل إنما هو في الوقوع لا في التعلق، وذهب جمهور المجبرة إلى أنها لا تتعلق إلا بمقدور واحد، ولا يتعلق بما يضاده ولا بما يخالفه ولا بما يماثله، وقال ابن الزوندي: يتعلق بالضدين، ويقارن مقدورها وصار إليه القليل من المجبرة هرباً من لزوم تكليف ما لا يطاق.
لنا: أنها لو لم تتعلق بالضدين لكان تكليف الكافر بالإيمان تكليفاً لما لا يطاق؛ لأنه ليس فيه إلا قدرة الكفر لا سيما إذا علم من حاله أنه لا يؤمن.
دليل، نحن نعلم بالضرورة في من يصح أن يحترك يمنة أنه يصح أن يحترك يسره بدلاً من الحركة يمنة في حالة واحدة.
فإن قيل: كيف يصح دعوى الضرورة في هذا والعلم بالقدرة والحركة، وكون أحدنا فاعلاً استدلالي.
قلنا: بل يعلم الكل على الجملة ضرورة الضرورة، والذي ادعينا الضرورة فيه هنا أن كل عاقل يعمل بكمال عقله أنه لا فصل بين نسبة الحركة يمنة والحركة يسره إلى القادر الواحد في الوقت الواحد، بل الصبي يعلم ذلك.
فإن قال: إن في القادر قدرتين، قدرة على الحركة يمنة، وأخرى على الحركة يسرة.
قيل له: لا يستقيم هذا على أصل الخصوم، فإن قدرتي الضدين تتضادان؛ ولأنه كان يجب حصول الحركتين جميعاً؛ لأن القدرة عندهم موجبة مقارنة.
دليل، لا شك أن القدرة على الحركة في المكان الأيمن في المسجد يصح أن يوجدها الله في أحدنا، وهو في المكان الأيسر، وإذا قدرنا وجودها وهو في المكان الأيسر لم يحل إما أن يتعلق بالحركة في المكانين، وهو المطلوب أو يخرج عن التعلق رأساً، وفي ذلك خروجها عما هي عليه في ذاتها؛ لأن تعلقها لذلك، وإما أن يتعلق بأحدهما وهو باطل؛ لأن انتقال محلها لو اقتضى اختلاف تعلقها لقدح ذلك في أن تعلقها لما هي عليه.
فإن قيل: لا يصح وجود القدرة في المكانين؛ لأنها توجب الحركة في أحدهما.
قيل: وهل توزعت إلا في ذلك، فكيف يعترض بنفس مذهبك على دليل قد نصبت لإفساده، لو أمكن هذا لما أمكن إبطال مذهب قط، ثم لم لا يصح والمصحح لوجودها /253/ هو كونه حياً، وهو في الموضعين على سواء.
فإن قال: كما لا يصح ذلك في نفس الكونين لا يصح في القدرة عليهما.
قيل له: ما الجامع أن أحد الكونين لو وجد في المكان الآخر لخرج عما هو عليه في ذاته، واتصف بصفة عنه؛ لأن الكون لما هو عليه في ذاته يوجب حصول الجوهر في جهة معينة، وليس كذلك القدرة، فإنها إنما توجب كونه قادراً وهو حاصل في الموضعين على سواء.
دليل، لو لم يكن أحدنا قادراً على الضدين لما كان لذلك وجه إلا تضاد القدرتين؛ إذ لو كانا مثلين أو مختلفين لصح اجتماعهما وتضادهما محال، وإلا وجب تضاد موجبهما وهو كون أحدنا قادراً على الضدين فيلزم إذا قدر الباري تعالى على الضدين أن يكون حاصلاً على صفتين ضدين؛ لأن تضاد الصفتين لا يختلف باختلاف الموصوفين بهما، ولا باختلاف كيفيَّة استحقاقهما.
ألا ترى أن كونه عالماً بالشيء تضاد كونه جاهلاً به في حالة واحدة، وكذلك كونه مريداً وكارهاً، ولا يختلف ذلك باختلاف الموصوفين، وجهة الاستحقاق؛ لأن تضاد الشيئين لما هما عليه، وبهذا يفارق الاختلاف، فإنه قد يكون لما هما عليه كالقدرة والعلم، وقد يكون لاختلاف المتعلق كالعلمين إذا تغاير متعلقهما.
وبعد، فلو تضاد قدرتا الضدين لتضادتا على الجملة كالعلم والإرادة ونحو ذلك، فكان لا يصح أن يوجد في إحدى بدنه قدرة على الحركة في جهة في حال يوجد في اليد الأخرى قدرة على الحركة في جهة أخرى.
دليل، إنما يعلم كون أحدنا قادراً بكونه فاعلاً، وإنما يعلم كونه فاعلاً بوقوع تصرفه بحسب قصده وداعيه وانتفائه بحسب كراهته وصوارفه، فلو لم تكن القدرة صالحة للفعل والترك لكان أحدنا محمولاً على الفعل مجبوراً عليه، فلا يقع بحسب أحواله، فلا يكون فاعلاً فيبطل كونه قادراً، فثبت أن الذي دلَّ على القدرة دل على أنها صالحة للضدين، وهذا سديد على أصل الخصوم في أن الترك ضد للفعل، فأمّا على أصلنا فلا يستمر إلا في الفعل الذي له ضد، ولا يمكن الإنفكاك عنه، ومن ضده كالحركة والسكون، وهو كاف في الغرض المقصود، فإنه لم يفرق واحد بين ماله ضد وبين ما لا ضد له.
وقد حاول بعض أعمارهم الإنفصال عن هذا بأن قال: أن المجبور على الفعل غير اقدر عليه، ونحن فرضنا الكلام في القادر على فعل معيّن، وصار كحركة المرتعش، فإنه غير قادر عليها بخلاف حركة الماشي، فيقال: هذا عين التخليط والجهالة، وهل ألزمناك إلا زوال الفرق فإن الماشي إذا كان إنما بقدرة على الحركة دون السكون كانت حركته بمثابة حركة المرتعش.
على أن من أصلهم أن كل فاعل في الشاهد مجبور فلا وجه لهذا التفصيل.
فصل
وأما الركن الثالث: وهو أن القدرة متقدمة على مقدورها، فقد خالف فيه أهل الجبر.
لنا /254/: ما قد ثبت أنها صالحة للضدين، فلو كانت مقارنة لوجب وقوعهما.
فإن قيل: إنما يتعلق بهما في وقتين فيتعلق بأحدهما في الوقت الأول، وبالثاني في الوقت الثاني.
قلنا: هذا يقتضي أن تعلقهما يتحدد فتصير متعلقة بالضد الثاني بعد أن لم تكن متعلقة به، وهذا بقدح في أن تعلقها لما هي عليه فليس إلا أن تعلقها بما تعلقت به ثابت في كل حال ما دام مقدوراً.
وبعد، فإنما وجب تعلقها بالضدين لكن يصح من القادر إبتار أحدهما على الآخر وإيقاعه بدلاً منه، وذلك يقتضي أن التعلق بهما ثابت في حالة واحدة.
فإن قال: هي بقدم أحد الضدين وتقارن أحدهما.
قيل له: قد بركت مذهبك في وجوب مقارنتها لمقدورها، والأمر الذي لأجله تقدمت على أحدهما حاصل في الآخر.
على أنه لا بد من أمر لأجله وقع أحدهما دون الآخر، وذلك الأمر هو الاختيار عند أهل هذه المقالة، أعني ابن الروندي وبعض المجبرة.
فنقول: أخبرونا عن هذا الاختيار، هل يجوز أن لا يحصل الفعل عنده فقد بطل قولكم بوجوب مقارنة القدرة لهذا الفعل المعيّن عند اختياره دون ضده أو هما مما يجب حصول الفعل عنده، فيعود الإلزام الذي هربتم له منه وهو تكليف ما لا يطاق؛ لأن الكفر قد صار واجب الوقوع عند الاختيار، فيكون التكليف بالإيمان تكليفاً لما لا يطاق.
دليل، لا شك أن العقل إنما يحتاج إلى القدرة ليخرج بها من العدم إلى الوجود، وذلك يقتضي تقدمها عليه.
وتحقيقه أنه إما أن يحتاج إليها وهو معدوم، فهو الذي يقول أو يحتاج غليها، وقد وجد وهو محال؛ لأنه قد استغنى بوجوده عن القدرة، ولأنه لو احتاج إليها حالة الوجود لاحتاج إليها حالة البقاء والمحيل لاحتياجه غليها حالة البقاء هو الوجود فيه، يخرج عن تعلقه بالقدرة، وبهذا تفارق الإرادة، فإن تأثيرها هو في أن يقع الفعل بها على وجهٍ، فوجب أن يقارن أو أن يكون في حكم المقارن، وكذلك يفارق العلم، فإنه يحتاج إليه في الأحكام، فما يجب تقدمه يجب أيضاً مقارنته.
دليل، قدمنا أنه لا وجه من وجوه التعليق يقتضي استحالة انفكاك القدرة من المقدور إذ ليس يمكن الإشارة إلا إلى تعلق العلة بالمعلول والسبب المسبب، وقد أبطلناه، وأما تعلق التضمين فهو محال أيضاً؛ لأن ما يضمن بالشيء فهو مضمن بضده بدلاً منه، وذلك يقتضي تعلقها بالضدين، فيلزم وقوعهما.
دليل، وقع الاتفاق على أن كون الباري تعالى قادراً لا بد من تقدمه وإلا بطل حدوث العالم، وإذا كانت صفة الباري تعالى متعلقة على هذا الحد، فكذلك صفة أحدنا لما قدمنا من أن اختلاف كيفيَّة استحقاق الصفة لا تقتضي /255/ اختلاف تعلقها، وإذا وجب تقدم كون أحدنا قادراً فكذلك القدرة؛ لأنها علة في هذه الصفة فلا يتأخر عنها.
دليل، القول بوجوب مقارنتها يقدح في ثبوتها؛ لأنه متى وجب وقوعه عند وقوعها بطل طريقة الاختيار فيبطل كون أحدنا فاعلاً، فتبطل القدرة؛ لأن الطريق إليها هو كونه فاعلاً.
دليل، لو وجب مقارنتها لما احتاج العقل إلى آلة، ولا إلى العلم إذا كان محكماً، ولا إلى الإرادة، إذا كان جبراً ونحوه؛ لوجوب وقوعه عند وقوع القدرة، وذلك يقتضي زوال الفرق بين العالم والجاهل والبصير والضرير وبين الأمر والتهديد.
دليل، لو وجب مقارنتها لما كانت بأن يؤثر في الفعل أولى من أن يؤثر فيها لاستحالة انفكاك أحدهما عن الآخر، وليس له أن يقول: أن القدرة من فعل الله، والفعل من جهتنا؛ لأنا قد ذكرنا أن وجوب المقارنة تزيل كونه فعلاً لنا.
على أنه إذا جاز أن يكون من فعلنا مع أن حصوله واجب عند حصول القدرة جاز أيضاً في القدرة أن يكون من فعلنا، وإن وجب حصولها عند حصول المقدور.
وأيضاً، فعند الخصوم أن الأفعال كلها لله، ولهذا كان كلام أصحابنا معهم في هذه المسألة إنما هو على جهة الملاطفة والتوسع وجرياً على منهاج الحجاج، وغلا فيقيس إثباتها ينبي على كون أحدنا فاعلاً وقد منعوه.
دليل، لو وجب مقارنتها لجاز أن يقدر أحدنا على حمل مائة رطل، ولا يقدر على حمل ريشة؛ لأن الذي وقع هو حمل المائة الرطل، وخلاف هذا معلوم بالضرورة.
دليل، قد ثبت أن القدرة باقية، فيجب أن تكون متقدمة على بعض مقدوراتها، فكذلك البعض الآخر؛ لأنه لا قائل بالفرق، وقد خالفت المجبرة في بقائها
لنا: أن أحدنا لا يخرج عن كونه قادراً إلا إلى ضد أو ما يجري مجراه على وجهٍ لو لاه لاستمر قادراً، وذلك علامة البقاء في الألوان وغيرها.
وبعد، فيجب استمرار قدرة الباري تعالى ليصح منه أن يفعل في العاشر، فكذلك في الواحد منا؛ لأن الوجه الذي لأجله وجب استمراره هناك حاصل هنا؛ ولأن ما كان من حكم الصفة لا يختلف باختلاف كيفيَّة استحقاقها، فأما صحة الاختراع منه دوننا وتعلق قادريته بالأجناس كلها، فليس من حكم مجرد هذه الصفة حتى يلزم الاشتراك فيه، بل هو من أحكام كونه قادرا للذات، فاختلف.
وبعد، فقد ثبت تعلقها بالضدين، فإذا لم يصح وقوع أحدهما بها إلا بعد وقوع الآخر دل على صحة نفائها.
وبعد، فإذا طولب أحدنا برد الوديعة وبينه وبينها مسافة ثم مضى من الوقت ما يمكنه معه قطع تلك المسافة، ولم يردها حسن ذمه عند /256/ العقلاء، وهم لا يذمونه عل ىترك ما لا يقدر عليه.
ولا ينقلب عليا في العلم بالكتابة إذا أمر بها ومضى من الوقت ما يمكنه فيه فعلها؛ لأن الغلو مر وإن كانت لا تنفى فهي لا تختلف باختلاف الوقت إذا اتحد المتعلق، فالعلم بالكتابة لا يختلف سواء كان أحدنا بالمكان الأول أو العاشر، فمتجدد العلم كباقيه، فمتى أمرنا بالكتابة في المكان العاشر، فهو مأمورٌ بما هو عالم به، بخلاف القدرة فإن تأثيرها هو تأثير حقيقي.
والحاصل أن العلم إنما يتعلق بأحكام الفعل سواء كان الفعل في الوقت الأول أو لاعاشر والقدرة لا تتعلق إلا بفعل معين.
دليل، لو وجب مقارنتها لكان تكليف الكافر بالإيمان تكليفاً لما لا يطاق كما مر في نظائره؛ لأنه لو وجدت فيه قدرة الإيمان لوقع.
دليل، قال الله تعالى: {وستحلفون بالله لو استطعنا لخرجنا معكم يهلكون أنفسهم والله يعلم أنهم لكاذبون} فلا يخلو إما أن يكونوا مستطيعين فلم يخرجوا أو كان في معلوم الله أنهم لو استطاعوا لما خرجوا، وفي كلامه الوجهين، أكذبهم الله تعالى، وفي ذلك إبطال مذهبهم، وقال الله تعالى: {لا يكلف الله نفساً إلا وسعها} ومعلوم أن قد كلف الكافر بالإيمان، فيجب أن يكون في وسعه، وقال تعالى: {وعلى الذين يطيقونه فدية طعام فصرَّح أن الذي يقدر على الصوم ولا يفعله عليه فدية، وهذا يدل على أنها غير موجبة ولا مقارنة.
وقد زعم بعض الجهال أن الضمير في يطيقونه عائد إلى الفدى لا إلى الصوم تقديره: وعلى الذين يطيقونه الفداء، وهذا مباهتة، ويلزم عليه في من لا يفعل الفداء أن لا يجب عليه وأن يكون معذور إلا به يعذره عليه.
فصل
إذا ثبت وجب تقدم القدرة فحال المعذورات تختلف، فما كان منها مبتدأ كالإرادة أو مسبباً غير متراخ وجب كالتأليف والألم فإنما يجب تقدم القدرة عليه بوقت واحد، وما كان مسبباً متراخياً وجب تقدمها عليه كمدة التراخي مع الوقتين المذكورين.
وهل يجوز تقدمها على المبتدأ بأكثر ممن وقت واحد أم لا ظاهر كلام شيوخنا وهو الذي صرح به في التذكرة إلا أنه لا يجوز.
والأقرب جوازه؛ لأنا إذا حكمنا بصحة بقاء القدرة من الوقت الأول إلى العاشر على مثل ما فرضنا في رد الوديعة فلا بد من أن يكون قد تقدمت على مقدورها العاشر بعشرة أوقات، وهذا واضح.
وأيضاً فقد قال أصحابنا أن القدرة الواحدة لا تتعلق من الجنس الواحد على الوجه الواحد في الوقت الواحد إلا بمقدور واحد.
قالوا: واحترز بالوقت الواحد من الوقتين، فإنها يصح بها مقدوران في وقتين، وهذا يقتضي بها قد تقدمت على الثاني منهما بوقتين.
وقد استدل في التذكرة للمنع من ذلك بأنها لو تقدمت على المبتدأ بأزيد من وقت واحد لجاز تقدمها بأوقات /257/ كثيرة، فكان يصح من المريض أن يفعل الأفعال بقدرة موجودة.
وهذا يمكن اعتراضه بأنه كما يلزم ذلك في القدرة المتقدمة بزمان طويل يلزم أيضاً في القدرة المتقدمةبوقت واحد.
فيقال: هلا صح من المريض الفعل بالقدرة المتقدمة عن حال المرض بوقت واحد.
ولعل الوجه في الموضعين أن أعضاء المريض قد خرجت بالمرض عن أن تكون آلة، فلذلك لم يصح الفعل بها حال المرض، سواء تقدمت القدرة بوقت واحد أو أكثر.
فصل
في ذكر بعض ما يلزمهم في هذه المسألة.
يقال: أليس الكافر مأمور بالإيمان، وهو لا يقدر عليه فلا بد من بلى، فيقال: هذا غير تكليف مالا يطاق، وأكثركم يمنع من وقوعه وإن أجاز صحته.
ويقال: إذا كان لا يمكنه الانفكاك من الكفر فما الفرق بين كفره وطول قامته.
ويقال: أليس تأكيد القدرة في الفعل آكد من تأثير الآلة، فلا بد من بلى.
فيقال: إذا كان فاقد الإله عندكم معذوراً في الترك وجب مثله في فاقد القدرة، فيكون الكافر معذوراً في ترك الإيمان.
ويقال: متى يقدر أحدنا على الانتقال من الشمس إلى الظل؟ إن قلتم يقدر وهو في الشمس تركتم مذهبكم، وإن قلتم يقدر وهو في الظل فأي حاجة إلى القدرة حينئذٍ.
فإن قالوا: يقدره حال الانتقال.
قيل: ليس بين كونه في الشمس وكونه في الظل حالة تسمى حالة الانتقال.
وكذلك يقال في رجل طلق امرأته وأعتق عبده هل يقدر على ذلك قبل وقوع الطلاق والعتق فهو الذي يقول أو بعده، فكيف يطلق أجنبية ويعتق حراً.
ويقال: ما عندكم في رجلين أحدهما زمن والآخر صحيح، أليس لا يقدران على القيام فلا بد من بلى.
فيقال: فلم كان الزمن معذوراً دون الصحيح في الصلاة من قعود.
ويقال: ما عندكم في رجل قائم على شاطئ دخله وهو صحيح الجوارح غير ممنوع من التوضي فتيمم وصلى وحلف بطلاق امرأته أنه لا يقدر على التوضي، هل تصح صلاته أو تطلق امرأته.
ويقال: ما عندكم في ذرة حملت خردلة أليس لا يقدر جبريل على حملها فلا بد من بلى.
فيقال: كيف يقدر على قلب المدن ونتق الجبال ولا يقدر على حمل خردلة.
ويقال: ما عندكم في رجل قتل نفسه أقدر على قتلها وهي حي، فهو الذي يقول أو هو ميت فكيف يقدر الميت على أن يقتل.
ثم إذا قد حصل القتل فعلى أي شيء قدر؟
ويقال: أليس الملائكة والأنبياء ما تركوا الكفر وسائر المعاصي رجاء لثواب الله ولا خوفاً من عقابه، بل لأنهم لا يقدرون على ذلك، ولو قدروا على ذلك لكانوا أكفر من خلق الله وأظلمهم، وكذلك في الشياطين ما تركوا الإيمان وسائر الطاعات إلا لعجزهم، ولو قدروا على ذلك لكانوا أفضل عباد الله وأتقاهم وأطوعهم، فلا بد من بلى.
/258/ فيقال: هذا من أسوأ الثناء على الله وأحسن الثناء على أعدائه، ولو قيل لرجل من المخالفين: إنك لا تترك المعاصي إلا عجزاً، ولو قدرت لكنت أعصى خلق الله، لأنكر ذلك ونفاه عن نفسه نفي مضطر إلى مجه.
ويقال لهم: ما عندكم لو قدرتم على قتل الأنبياء وهدم المساجد وتحريق المصاحف أليس كنتم تفعلونه، ولا تتركونه خوفاً من الله ولا رجاء له، ولا بد من بلى.
فيقال: فأي نقص أعظم عليكم من هذا؟
ويقال: هل عفا ملك عن جانٍ وهو يقدر على عقوبته أم لا؟ إن قالوا: لا، كابروا ولزم صحة العفو عمَّا لا يقدر عليه حتى يكون ملك الروم قد عفا عن أهل الإسلام، وإن قالوا: نعم، تركوا أصلهم.
ويقال: أخبرونا عن الزهاد في الدنيا كالنبي عليه السلام والصحابة والصالحين، هل زهدوا فيما لم يقدروا عليه، فيلزم أن يكون كل فقير زاهد حتى يزهد أحدنا في قصر السلطان ومملكته أو في ما يقدرون عليه، فهو الذي يقول.
ويقال: إذا قال الله للعبد: مالك لا تؤمن ولإبليس مالك لم تسجد؟ فقال: لأني لم أقدر على ذلك، وإنما قدرت على الكفر أليس صادقاً، فلا بد من بلى.
فيقال: فما معنى قوله تعالى: {هذا يوم ينفع الصادقين صدقهم}.
ويقال: ما عندكم في من لم يحج مع أنه آمن صحيح البدن، هل يستطيع الحج أم لا؟ إن قالوا لا قيل: فإذاً الحج لا يجب عليه بنص الكتاب؛ لأن الله إنما أوجب على من يستطيع، وإن قالوا: يستطيع تركوا مذهبهم.
فصل [في مناظرات جرت في هذا الباب]
قال عدلي لمجبر: ما معنى قوله: {لو استطعنا لخرجنا معكم}؟ قال: صدقوا لو استطاعوا يخرجوا، قال: فما معنى التكذيب؟ قال: لا أدري.
قال الواثق ليحيى بن كامل: ما التوبة؟ قال : الندم على ما فات والعزم في المستقبل، قال: أفتقدر عليهما؟ قال: لا، قال: إذاً كنت لا تقدر عليهما، فما التوبة فانقطع، وقرى قارئ: {فاتقوا الله ا استطعتم} فقال مجبر: هذا بكسر قولا في الاستطاعة، قال معتزلي: كسرَه الله سبحان من يسرّ ولم يعسر، كيف وقد قال: {وما جعل علكيم في الدين من حرج}.
وقيل: لصقر المجبر: أكان فرعون يقدر على الإيمان؟ قال: لا، قيل: أفعلم موسى أنه لا يقدر؟ قال: نعم، قيل: فلم نعته الله؟ قال: سخرية.
اجتمع النظام والنجار للمناظر فقال له النجار: لم يدفع أن الله يكلف عباده ما لا يطيقون، فسكت النظام فقيل له: لم سكت؟ قال: كنت أريد بمناظرته أن ألزمه القول بتكليف مالا يطاق، فإذا التزمه ولم يستحي فماذا ألزمه.
ومر أبو الهذيل راكباً والحسين النجار على باب دار المهالبة، فقال النجار: انزل /259/ حتى أسألك، فقال أبو الهذيل: أتقدر أن تسألني؟ قال: لا، قال: أفأقدر أن أنزل؟ قال: لا.
وقال للنجار يوماً: أخبرني عن موسى حين أمر بإلقاء العصا، هل أعطي قدرة الإلقاء وهي في يده أو وقد ألقاها؟ إن قلت بالأول تركت مذهبك، وغن قلت بالثاني فقد ألقى من غير استطاعة، فما ثمرة الاستطاعة؟ قال: أعطى مع إلقائها، قال: هل في كفه أم لا ولا واسطة، فانقطع.
وقال مخبر لأبي الهذيل: هل تقدر على شيء؟ قال: نعم أقدر على أشياء أقدرني الله عليها، قال: فخذ تلك الصعوة على ذلك الحائط؟ قال: ذلك من استطاعة الناشق.
وقال زَبَالَوَيه المجبر لعبدان وكان ظريفاً: ما دليلك على أن الاستطاعة قبل الفعل، قال: الهرَّة والفأرة، قال: أتهزأ بي؟ قال: ما قلت إلا الحق، لو لا أن الفأرة تعلم أن السنور يقدر على أخذها لما هربت.
وقال عدلي: سايرت مجبراً إلى باب داره فقلت: أتقدر بابك وهو على هذه الهيئة أن يأخذ ثيابي؟ قال: لا، قال: أفتقدر أنت وأنت على هذه الهيئة أن تأخذ ثيابي؟ قال: لا، فقلت: ما الفرق بينك وبين هذا الباب، فانقطع.
وقال عدلي لمجبر: ما تقول لو قدرت على قتل الأنبياء والأئمة وخراب الكعبة: أكنت تفعله، قال: نعم، قال: فمن أسوأ ممن هذه حاله.
وقال عدلي لسلام الفارسي: ما تقول في رجل قائم في الماء حلف بطلاق امرأته أنه لا يقدر أن يتوضأ للصلاة، قال: يا ابن أخي طلقت امرأته قال: تركت مذهبك.
وسال عدلي مجبراً عن قوله: {وما منع الناس أن يؤمنوا} قال هذا لا معنى له؛ لأنه المانع لهم، قال: فما معنى قوله: {فماذا عليهم لو آمنوا بالله} وما منعهم؟ قال: استهزأ بهم، قال: فما معنى قوله: {ما يفعل الله بكم إن شكرتم وآمنتم} قال: قد فعل ذلك هم وعدهم من غير ذنب ولا معنى لهذه الآيات، قال: هذا رد للكتاب، قال: إيش اصنع إذا كان هذا هو المذهب.
فصل [في شبههم في هذا الباب]
قالوا: قد ثبت أن افعال العباد من الله تعالى، وفي ذلك كون القدرة موجبة.
قلنا: قد أبطلنا هذه الدعوى، فلو كانت من الله لا كان إلى القدرة طريق.
على أنه كان يمكنهم إضافتها إلى الله من دون قدرة كالجهميَّة.
قالوا: قد ثبت أن عدم القدرة يختل المقدور، فليكن وجودها موجباً له؛ لأنهما طرفا نقيض.
قلنا: إنما يلزم أن يكون وجودها مصححاً للمقدور إذا كان عدمها محيلاً له، وكذلك يقول: لأن نقيض الإحالة التصحيح بم تعارضهم بالحياة، فإن عند عدمها يستحيل وجود القدرة، ولا يكون وجودها موجباً للقدرة.
قالوا: لو كانت صالحة للضدين لما كان أحدها بالوقوع أو لأمر الآخر إلا لمعنى، كما أن الجوهر لا يختص أحد الجهتين دون الأخرى /260/ إلا لمعنى.
قلنا: يكفي في تخصيص أحد الضدين القادر واختياره؛ لأنه يؤثر على جهته التصحيح، ولو لم يقع أحد مقدور به إلا لمعنى لزالت طريقة الاختيار ولصار مؤثراً على طريق الإيجاب.
يوضحه أن ذلك المعنى المقدر لا بد أن يكون فعلاً فيحتاج في وقوعه دون غيره إلى معنى آخر ويتسلسل بخلاف الكائنيَّة، فإن الجوهر يحب حصوله في جهة ما، فاحتاج إلى مؤثر على سبيل الإيجاب.
ثم نقلت عليهم السؤال في قدرة الباري، فإنها متعلقة بالضدين، وليس لهم أن يقولوا: هناك معنى مخصص وهو إرادته تعالى؛ لأنا نقول: ولما كانت إرادته القديمة بأن تتعلق بهذا المراد دون غيره إلا لمخصص آخر، ويتسلسل.
وقد أجاب الغزَّالي بأن الإرادة القديمة لذاتها تختَّص بمراد دون مراد، وفي وقت دون وقت، وهذا كما هو مجرد الدعوى، فإنه يمكن أن يقال فيه: هلا كانت القدرة كذلك لمشاركتها للإرادة في القدم؛ لأنه إذا جاز في الإرادة أن تتعلق بمراد دون مراد، جاز في القدرة القديمة أن تتعلق بمقدور دون مقدور.
فإن قال: ذلك يقتضي انحصار مقدورات الباري تعالى حتى لا يصح أن يزيد عليها.
له قيل: وهو يقتضي أن ينحصر مراد به حتى لا يصح أن يريد أزيد منها، وليس بعد أحد الأمرين إلا كبعد الآخر.
وأيضاً فكأن يكون تعلق الإرادة بالمرادات واجب لا يجوز خلافه، وكذلك القدرة، وفي ذلك كون فعله تعالى واقعاً على جهة الإيجاب.
وأيضاً فكان يلزم ما قدمنا من أنه كان لا يصح وصف الله تعالى بأنه إن شاء فعل مما لم تتعلق به الإرادة الازليَّة.
قالوا: القدرة إنما تتعلق بما يصح دخوله في الوجود، وليس ذلك حال الضدين.
قلنا: إنما لم يجتمعا في الوجود لمانع، وهو التضاد لا لأجل تعلق القدرة بهما، وصار الحال في التضاد كالحال في سائر الموانع، فكما يصح تعلق القدرة بما لا يدخل في الوجود لأجل المانع، كذلك تعلق بما لا يدخل فيه للتضاد على أنه يصح وجودهما على البدل، فقد تعلقت بما يصح دخوله في الوجود.
ثم تقلت عليهم السؤال في قدرة الباري تعالى.
قالوا: تضاد الضدين يقتضي تصادماً يتعلق بهما فكيف تتعلق قدرة واحدة بضدين؟
قلنا: هذه جهالة؛ لأن مع تغاير المتعلق يزول التضاد فضلاً عن أن يقتضي التضاد، والشرط عند أهل الحق في التضاد الحقيقي اتخاذ المتعلق في ما يتعلق كالعلم والجهل، فإنهما يتضادَّان على الشيء الواحد.
ثم نقلت عليهم السؤال في قدرة الباري تعالى وفي العجز؛ لأنه عندهم يتعلق بالضدين.
قالوا: لو تعلقت بالضدين لانقطعت الرَّغبة عن الله تعالى، وفي أنن نفوسنا على الطاعة؛ لأن قدرة المعصيَة قدرة على الطاعة.
قلنا: الرغبة مصروفة إلى تنقية القدرة /261/ وإزالة الموانع وتيسير الطاعة وتكثير الألطاف ونحو ذلك.
ثم يقال لهم: قولكم الذي يقتضي الإياس من رحمة الله؛ لأن الكافر خلق فيه الكفر وإرادته وقدرته وقضي عليه وعلم منه ومنع من الإيمان وصار وقوعه منه مستحيلاً عبدك فأي رغبة، والحال هذه.
قالوا: لو قدر المؤمن على الكفر لكان الله قد أعانه على الكفر.
قلنا: ليس بمجرد التمكين والإقدار يكون قد أعانه، بل لا بد من الإرادة.
ولهذا لا يقال في من أعطى غيره سكيناً ليذبح بها شاه فذبح بها نفسه انه قد أعانه لما لم يرد منه ذلك.
ولهذا ألا يقال: أعان الله الصبي على اللعب.
ثم يقال لهم: إذا كان الله قد أعان الكافر على الكفر بأن أقدره عليه وأراده منه ومنعه من الإيمان، فلم منعتم من أن يعين المؤمن عليه، فإن القبح في الموضعين واحد.
قالوا: لو تقدمت القدرة حتى يصح وجودها، ولا فعل وقتاً واحداً لجاز أوقاتاً كثيرة حتى يكون الإنسان الزمان الطويل خالياً عن الفعل والترك، وفي ذلك خلوة عن الطاعة والمعصية.
لأن أن لا يفعل عندنا جهة كافية في استحقاق المدح والثواب والذم والعقاب.
وأما أبو علي فهو وإن منع خلوها من الأخذ والترك فهو يخبره عند حصول مانع، فقد خالف حاله حال المجبرة، وعند سلامة الحال لا بد من كونه فاعلاً عند أبي علي.
وبعد فإن أراد واستمر خلوه من الأفعال عند فقد الدواعي، فذلك جائز، لكن قد حصلت الدواعي والصوارف على أبلغ الوجوه، فلا يخلو من الطاعة والمعصية وإن أرادوا مع الدواعي فلا يلزم؛ لأنا قد قدمنا أن عند توف الدواعي يقع الفعل لا محالة إذا لم يكن منع.
على أن عند توفر الدواعي لا يختص قدرتنا بعين دون غير، وإنما يراعي فعل له صفة، وعندهم أن كل قدرة متعلقة بمقدور معين لا يتعداه.
ثم أنا نقلب عليهم السؤال في قدرة الباري تعالى.
قالوا: لو استحال الفعل بها في الأول لكان المحيل إما أن يرجع إلى ذاتها أو إلى ذات المقدور، وأي ذلك كان لزم استمراره.
قلنا: استحالة الفعل بها في الأول لا يعلل كما تقولونه أنتم في قدرة الباري وفي استحالة تعلقها بعين المقدور المعين.
ولنا أن نعلله بأن تأثيرها هو على جهة الصحة، والصحة إنما تكون في المنتظر لا في الحاصل.
يوضحه أن حقيقة تأثيرها هو بأن يوجدها على جهة الصحة في ثاني وجودها، وليس إذا استحال في الأول استحال في الثاني كالنظر، فإنه يستحيل حصول العلم به في الأول، ولا يستحيل في الثاني، وكذلك الحركة في أول أحوال الحدوث.
قالوا: القول يتقدمها يقتضي صحة وجود المقدور وإن كانت قد عدمت، ولو جاز ذلك لجاز البطش بيد معدومة.
قلنا: يجوز /262/ حصول الفعل عندنا بالقدرة المعدومة كالإصابة في حال عجز الرامي، بل في حال موته، وذلك أنه إنما يحتاج إلى القدرة لنفع الفعل بها، فإذا وقع أو صار في حكم الواقع استغنى عنها سواء بقيت أو عدمت.
وقولهم: كان يصح البطش بيد معدومة كلام فارغ؛ لأن اليد آلة والآلات تنقسم، فمنها ما يكفي تقدمه كالقوس للإصابة، وما يجب مقاربته كاليد والرجل.
قالوا: صحة الفعل من القادر يحتاج إلى أمر، فيجب أن يحتاج في وقوعه إلى أمر غيره.
قلنا: الذي يحتاج إليه عند الصحة هي القدرة، والصحة متقدمة، فكذلك القدرة، وبالاتفاق أنه لا يحتاج إلى قدرة أخرى.
ثم نقلت عليهم في قدرة الباري تعالى، قالوا: المنع عن الفعل يجب أن يقارنه، فكذلك القدرة عليه.
قلنا: أما أبو علي فأوجب تقدم المنع كالقدرة، وأما سائر الشيوخ فيقولون: أن المنع إنما يكون بالضد أو ما يجري مجراه، ولا يثبت التضاد إلا حال الوقوع.
قالوا: لو لم يجب مقارنتها لكان يصح وجود العجز مع الفعل كما يصح وجوده مع الآلة.
قلنا: عن أردتم العجز عن ذلك الفعل فصحيح؛ لأن حكم العجز لو ثبت معنى حكم القدرة في وجوب تقدمه، وإن أردتم العجز عن غيره فصحيح.
قالوا: وإذا لم يصح العجز عنه حال وقوعه وجبت القدرة عليه.
قلنا: إنا نجوز خلو أحدنا عن القدرة على الشيء والعجز عنه ويوجبه في هذا المكان.
قالوا: العجز عجز عما لم يفعله، فلتكن القدرة قدرة على ما يفعله.
قلنا: ومن سلم لك هذا وليس الباري تعالى قد لا يفعل الشيء ولا يوصف بأنه عاجز عنه، ولو سلمناه فهي قدرة على ما يفعله في الثاني.
قالوا: الدليل يجب مقارنته للمدلول، فكذلك القدرة.
قلنا: وما الجامع ولسنا أيضاً نسلمه، فإن المعجز يدل على صدق النبي مع تأخره عن صدقه، وكذلك دلالة الفعل على الفاعل، وكذلك اختار الله عن قيام الساعة، دليل على قيامها مع تأخر المدلول.
قالوا: التفرقة بين الحركة الضرورية والاختياريَّة لا بد أن تكون بأمر حاصل في الحال، وهو مقارنة القدرة لأحدهما.
قلنا: بل يكون بأمر متقدم وهو أن إحداهما وقعت ممن كان قادراً لعيها دون الأخرى، ويصير كمفارقة من يستحق الذم على فعل القبيح لمن لا يستحقه في أن التفرقة حاصلة بأمر متقدم.
قالوا: القادر حال وجود القدرة، إما أن يكون فاعلاً أو ممنوعاً أو ممتنعاً، وإذا لم يكن ممنوعاً ثبت أنه فاعل أو ممتنع، والامتناع فعل، فلم يكن بد من مفارقة القدرة للفعل.
قلنا: هذا محض الدعوى وصريح الخبط، ومن أين أن القادر لا يخلو حال وجودها من هذه الأقسام، وهل توزعتم إلا في ذلك، ولو لا فساد ما قلتم للزم قدم العالم أو صحة المنع على الباري تعالى.
وبعد فهذا كلام فارغ على أصلكم؛ لأن عندكم إذا وجدت قدرة الكفر استحال على الكافر المنع والامتناع.
وبعد /263/ فهذا تقييم للشيء على نفسه وعلى ضده؛ لأن الامتناع عندكم فعل، والمنع عندكم عجز، فكأنكم قلتم: القادر إما فاعل أو عاجز أو فاعل.
قالوا: إذا صح وجود الفعل مع وجود العجز، فكذلك يصح مع وجود القدرة.
قلنا: إن أردتم أنه يصح وجود الفعل مع العجز عنه فغير صحيح، فكذلك لا يصح وجوده مع القدرة عليه، وإن أردتم مع العجز عن غيره، فكذلك يصح مع وجود القدرة على غيره.
قالوا: الفعل يدل على كونه قادراً، وحق الدليل المقارنة.
قلنا: إنما يدل على أنه كان قادراً ثم ينظر في هل استمر به هذا الوصف أم لا، ولسنا أيضاً نسلم أن الدليل تجب مقارنته كما سلف.
قالوا: الولاية لله والعداوة والمحبة، ونحو ذلك ثبت حال الفعل، فكذلك القدرة.
قلنا: وما الجامع؟ ثم لسنا نسلم ما ذكرتم وإنما يحصل حال الفعل استحقاق الولاية، ألا ترى أن الولاية والمحبة هي إرادة تعظيم المطيع، وذلك إنما يحصل ف الوقت الثاني من فعل الطاعة.
قالوا: الآلة يجب مقارنتها كاليد والعين واللسان، فكذلك القدرة لاستوائها في احتياج الفعل إليها.
قلنا: إنما يكون هذا جامعاً لو ثبت أن العلة في مقارنة الآلة هو مجرد احتياج الفعل إليها.
وبعد فليس كل آلة يجب مقارنتها، بل تنقسم، فما كان منها لمجرد الوصلة إلى الفعل وليس بمحل له ولا جار مجرى المحل فإنه يجب تقدمه فقط، وإن حازت مقارنته كالقوس للإصابة وهو هذا الذي يمكن تسببه القدرة من الآلات؛ لأنه إنما يحتاج غليها ليخرج العقل با من العدم، فإذا وجد زالت الحاجة.
ومنها ما يكون وصلة ومحلاً أو يجري مجرى المحل فيجب تقدمه من حيث هو وصلة، وتجب مقارنته من حيث هو محل كاللسان للكلام واليد للبطش والعين للإدراك عند من يجعله معنى والسكين للقطع، وبهذا شبَّه البغداديون القدرة حيث أوجبوا مقارنتها مع التقدم.
ومنها ما يجب مقارنته فقط لكونه محلاً أو جارياً مجراه كالصلابة في الأرض للمشي.
قالوا: قال تعالى: {إنك لن تسطيع مع صبراً} فنفى استطاعة الصبر لما لم يوجد.
قلنا: الطاهر يقتضي أنه لا يستطيع في المستقبل، وهذا يستوي فيه تقدم القدرة ومقارنتها.
وبعد فليس المراد نفي الاستطاعة حقيقة، وإنما المراد أنك تستثقل الصبر وتشق عليك كما يقول لا أستطيع النظر إلى عدوي، أي ينقل على ذلك، وإن كان ينظر إليه في الحال.
يوضحه أنه لو أراد نفي القدرة على الصبر في الحقيقة لم يكن لتعليق ذلك بالجهل فائدة؛ حيث قال: {وكيف تصبر على مالم تحط به خبرا}.
وبعد فقوله: {ستجدني إنشاء الله صابراً} يدل على أنه لم يرد نفي القدرة، وإلا كان تكذيباً للعالم.
وبعد فقوله: {لا تؤآخذني بما نسيت} وقوله: {قد بلغت من لدني عذراً} /264/ يدل على أن السبب في عدم الصبر هو النسيان لا فقد القدرة، وغلا كان يقول لا تؤاخذني عالم تقدر عليه؛ لأن المقام مقام اعتذار.
قالوا: قال تعالى: {انظر كيف ضربوا لك الأمثال فضلوا} فلا سبيل إلى تصحيح ما نسبوه إليك من السحر والشعر والجنون، وليس في ظاهرها للخصم متمسَّك، لو سلمنا أن الظاهر يقتضي ما قالوه فالمراد التشبيه، أي فضلوا فكأنهم لا يستطيعون سبيلاً، كما يقوله السيد متهدداً لعبده: لم تستطع أن تناولني الكوز.
بالجملة: فالآية وردت مورد التوبيخ، ولو كان كما ذكره الخصم لما كان للتوبيخ معنى.
القول في استحالة البدل
عن الموجود الحاصل لما ألزمهم أصحابنا على مذهبهم في الاستطاعة أن يكون تكليف الكافر بالإيمان تكليفاً لما لا يطاق، عظم عليهم ذلك وجعلوا يحتالون للانفصال عن هذا الإلزام، فمرة يقولون: كان يجوز الإيمان بدلاً من الكفر ،مرَّة يقولون: المأمور بالإيمان منهي عن ضده الذي هو الكفر وهو قادر على الكفر، فالعقوبة على فعل الكفر لا على ترك الإيمان، ونحو هذا من التخليط والخبط، إلى أن جاء الأشعري ومتبعوه فكشفوا القناع وصرَّحوا بتكليف مالا يطاق، وسيأتي الكلام عليهم.
وإنما نتكلم الآن على الذين أجازوا البدل عن الموجود، فنقول: أتريدون أنه يصح الإيمان من الكافر فرجال كفرة، فهذا يؤدي عندكم إلى اجتماع الضدين أو يصح بشرط أن لا يكون كان منه الكفر وكان بدله الإيمان، فهذا باطل؛ لأنه لو جاز البدل عن الموجود الحاصل لجاز مثله في صفات الأجناس وصفات الباري تعالى، فيجوز أن يكون الجوهر سواءً بشرط أن لا يكون كان جوهراً ويجوز أن يكون الباري جاهلاً بشرط أن لا يكون كان عالماً، وكان بدله جاهلاً لاستواء الجميع في الثبوت، وقد التزم بعضهم في ذلك صفات الباري تعالى، ومن لم يلتزمه لم يبرز فرقاً.
فإن قال: الفرق أن صفات الأجناس وصفات الباري واجبة بخلاف وجود الكفر.
قيل له: هذا فرق من وراء الجمع المذكور.
وبعد، فنحن نلزمه جواز البد لفي كون هذه الصفات واجبة، فنقول: يجوز أن تكون جائزة بشرط أن لا يكون كانت واجبة، فيتوجَّه الإلزام.
وبعد فتأثير القدرة عنده على جهة الإيجاب فكيف يدعي أن وجود الكفر جائز؟
دليل، لو جاز البدل عن الموجود لجاز عن الماضي بجامع أن لكل واحد منهما إحالة وجود، فيجوز أن يؤمن لأن بدلاً عن الكفر الواقع بالأمس بشرط أن لا يكون كان وقع ويكون بدلاً منه الإيمان الآن.
دليل، البدل كالشرط فلا يدخل إلا في المستقبل، وذلك لأنه لا يدخل إلا في أمرين يستحيل اجتماعهما، ولهذا فصرناه على المتضادات، فيكون معنى قولنا يصح وجود أحد الضدين بدلاً من الآخر أنه يصح أن يوجد كل واحد منهما بشرطان لا يوجد الآخر، فقد عاد البدل إلى الشرط وهو لا يدخل إلا /265/ في المستقبل، فكذلك البدل.
دليل، لا بد أن يتعلق البدل والمبدل منه بالقادر، فيقال: يصح أن يفعل هذا بدلاً من ذلك، وهذا يقتضي تقدم كونه قادراً عليهما، فأمَّا إذا وقع أحدهما فقد خرج عن تعلقه بالقادر، وصاد وجوده مختلاً لوجود ضدَّه من حيث أن الشرط في وجود أحدهما عدم الآخر كما تقدم.
دليل، القول بالبدل يقتضي أن يكون الكفر موجوداً معدوماً، فمن حيث وجدت قدرته يجب وجوده، ومن حيث يجوز وجود الإيمان، يجب عدمه لاستحالة اجتماع الضدين.
دليل تجويز البدل لا ينجي من القول بتكليف ما لا يطاق؛ لأنه إنما يجوز الإيمان عندهم بشرط أن لا يكون فيه قدرة الكفر، فتكليفه به مع وجود قدرة الكفر تكليف لما لا يطاق لعقد شرط الجواز على أصلهم.
دليل، لو صح تكليف الكافر بالإيمان بشرط أن لا يكون كان فيه الكفر يصح تكليف العاجز بشرط أن لا يكون كان فيه العجز لاستوائهما في عدم القدرة على الإيمان.
وقد فرقوا بوجوه منها إن قالوا: الكافر يصح منه الإيمان ويتوهم بخلاف العاجز.
قلنا: إن التوهم فهو ترجيح أضعف أحد المجوزين من غير ترجيح.
وعلى الجملة نقول: هل تريدون يصح منه الإيمان أو يتوهم حال كفره، فهذا تجويز لاجتماع الضدين، فقولوا مثله في العاجز أو يقولون يصح منه أو يتوهم عند بقدير زوال الكفر، فكذلك يصح من العاجز أو يتوهم عند تقدير زوال العجز.
على أنه ليس من الإيمان يفعل بالصحة أو التوهم، وإنما يفعل بالقدرة فلا فرح فيما ذكروه.
قالوا: العاجز فيه ضد الإيمان بخلاف الكافر.
قلنا: بل الكافر فيه أضداد كثيرة، وهي الكفر وقدرته وإرادته والقدرة الموجبة لإرادته.
على أنه لا بد أن يكون الكافر عاجزاً عن الإيمان لا سيما على ما يقوله في أن العجز ليس بمعنى، وإنما المرجع به إلى زوال القدرة.
وأيضاً فإذا استوى العاجز والكافر في عدم القدرة على الإيمان فقد استويا في تكليف مالا يطاق فلا تأثير للفرق الذي ذكروه.
قالوا: الكافر مطلق محلاً غير ممنوع.
وأيضاً فإذا استوى العاجز والكافر في عدم القدرة على الإيمان فقد استويا في تكليف مالا يطاق فلا تأثير للفرق الذي ذكروه.
قالوا: الكافر مطلق محلاً غير ممنوع.
قلنا: أتريدون مع حصول الكفر وقدرته وإرادته، فلا معنى حينئذٍ للتحلية، وإلا كان مخلاً بينه وبين أن يخلق لنفسه ما شاء من الأموال والبنين، وإن كان لا يصح منه أو يريدون مع تقدير زوالها، فكذلك العاجز عند تقدير زوال العجز.
وبعد فالإيمان إنما يفعل بالقدرة لا بالتحلية والإطلاق، وإلا كانت الجمادات مطلقة مخلاً.
وبعد، فالإطلاق والتخلية وعدم المنع تبع للقدرة، فلا يقال: هذا ممنوع من كذا إلا إذا كان قادراً عليه، لولا هذا لكان الباري تعالى ممنوعاً من الجمع /266/ بين الضدين.
قالوا: الكافر لو شاء لآمن بخلاف العاجز.
قلنا: لا تأثير للمشيئة مع فقد القدرة، لا سيما في أصلكم في أن القدرة موجبة سواء وجدت إرادة أم لا.
على أن هذا ليس أولى من عكسه، فيقال: لو آمن لشاء لتلازم الإيمان والمشيَّة ولأنهما من فعل الله لفعله لسببهما وهو القدرة الموجبة.
ثم يقال: أتريدون لو شاء لآمن مع وجود قدرة الكفر وإرادته، ففي ذلك اجتماع المتضادات أو مع تقدير ارتفاعهما، فكذلك العاجز.
وبعد فإنما تطلق هذه العبارة على من يقدر على الشيء، ولهذا لا يقول أحدنا: لو شئت لطرت أو لجمعت بين الضدين.
قالوا: الكافر تارك للإيمان مشغول بضده.
قلنا: التارك هو من لم يفعل الفعل مع القدرة عليه، وغلا كان أحدنا تاركاً للجمع بين الضدين وعندكم أنه غير قادر على الإيمان، وكذلك لا يقال: فلان مشغول بالكتابة عن الصناعة إلا إذا كان قادراً عليهما، والأصح وصفه بأنه مشغول عن خلق الأجسام والجمع بين الضدين.
فصل
ولهم في تجويز البدل عن الموود شبهتان:ـ
الأولى: إن قالوا: قد جاز دخول البدل في الفعلين حال عدمهما فليجز حال وجود أحدهما، والجامع تعلقهما بالقادر.
والجواب: يقال من سلم لكم تعلق الموجود بالقادر حتى تجمعوا بذلك، ولو جاز تعلقه بالقادر لجاز تعلق الماضي به.
فإن قالوا :دليل تعلقه به أنه يتعلق به المدح والذم ويشتق له الاسم حال الوجود.
قلنا: إنما يستحق المدح والذم واشتقاق الاسم حال كونه فاعلاً لا حال كونه قادراً، فما الجامع بين الأمرين.
الثانية: أنه إذا جاز أن يكلفه الله بالإيمان مع علمه بأنه لا يؤمن، فكذلك يجوز أن يكلفه به مع فقد القدرة لاستحالة الإيمان في الموضعين، وإذا جاز البدل في المعلم جاز في الموجود.
والجواب: إذا كلفه بالإيمان مع القدرة عليه وعلم أنه لا يؤمن فإنما أتي في فقد الإيمان من قبل نفسه، ولسنا نحيل القدرة على خلاف المعلوم، ولا نجعل للعلم تأثيراً فيه، وسيعود الكلام في مثل هذا.
وأما دخول البدل في المعلوم فإنما يجوزه فيما يستقبل وينتظر لا في ما وقع، فالذي منعناه في الموضعين واحد.
الكلام في التَّكليف
هو في اللغة: البعث على ما يشق من فعل أو ترك. وفي الاصطلاح: هو إعلام الله العبد بأن له في الفعل أو الترك جلب نفع أو دفع ضرر مع مشقة تلحقه فيهما أو في سببهما أو في ما يتصل بهما مع زوال الإلجاء.
قلنا: هو إعلام الله العبد؛ لأن التكليف هو من جهة الله في الحقيقة، ولهذا إذا وعظ أحدنا غيره وعرفه بماله فيه ينفع أو دفع ضرر لم يقل أنه قد كلفه، وقد دخل فيه الأعلام بخلق العلوم ونصب الأدلة والأمارات، واعتبرنا المشقة /267/ لأنها خاصية التكليف؛ ولأن الثواب لا يستحق إلا على مافيه مشقة في الفعل أو الترك نفسهما كالصلاة وشرب الخمر أو ما في سبب الفعل وما يتصل به كالعلم، فإن المشقة إنما تلحق في سببه وهو النظر وكقراءة القرآن بالصوت الحسن، فإن المشقة إنما تحلق في ما يتصل بها من حراستها عن الربا والعجب ونحو ذلك مما فيه مشقة عظيمة، وكذلك ما ورد في الحدث: ((إن الإنسان ليثاب على تقبيل امرأته ووطئها وملاعبتها)) فإنه يتصل به مشقة وهو توطين النفس على الاقتصار على حلاله، وأن لا يتعداه، وأن يقصد بذلك تطييب نفسها وحسن المعاملة معها.
واعتبرنا زوال الإلجاء؛ لأن من حق المكلف أن يفعل ويترك لأجل التكليف والملجأ ليس كذلك، ولا حاجة إلى اعتبار الإرادة في التكليف؛ لأن الأعلام المذكور يكون تكليفاً، وإن لم يكن إرادة لكن ذلك لا يحسن.
فصل في معنى أن الله حكيم.
اعلم أن الحكمة هي كل فعل حسن لفاعله فيه عرض صحيح، هذا إذا رجع بهذا الوصف إلى الفعل وهو العرض هنا، فإن رجع به إلى الذات فالحكمة بمعنى العلم، وعليه حمل قوله تعالى: {ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيراً كثيراً}.
وقد اتفق أهل الإسلام على أن الله يوصف بأنه حكيم، ثم اختلفوا في المعنى، فقال أهل العدل: ليس يفعل الله الفعل إلا لغرض.
وقال أهل الجبر: لا يجوز أن يفعل لغرض.
لنا: أن كل فعل لا يفعل لغرض فهو عبث؛ إذ لا معنى للعبث إلا ذلك وقبح العبث معلوم ضرورة والخصوم قد التزموا معنى العبث في حقّه تعالى، وامتنعوا من إطلاق العبارة وزعموا أ، ذلك لا يقبح منه تعالى على مثل كلامهم في الظلم وغيره.
وأصل هذا هو الكلام في أنا نعلم بالعقل قبح بعض الأفعال وحسن بعضها وتقدم في ذلك ما يشفي.
فصل في بيان وجه الحكمة في ابتداء الخلق.
اعلم أن للجهل بوجه الحسن ودواعي الحكمة ضل كثير من الناس، فجهلت اللملحدة أسباب التعريض للمنافع العاجلة والآجلة وحسن ذلك، واعتقدوا أن في إحداث الخلق وتعريضهم للمنافع إيلاماً وإصراراً فهو بمنزلة من تخرج غيره، ثم ناسوه، وذلك يقدح في ثبوت الصانع الحكيم، فنفوا الصانع.
وجهلت الثنوية وجه الحسن في إيراد الآلام والمصائب وحلو كثير من الحيوانات وغيرها واعتقدوا أنها ضرر وأن الحكيم لا يفل ذلك، فأداهم ذلك إلى إثبات ثان يضيفونها إليه.
وجهلت المجبرة وجه الحسن في كثير من أفعاله نحو تكليف من المعلوم أنه يكفر، ونحو الإماتة بالغرق، ونحو ذلك، فاعتقدوا قبحها، فأجازوا على الله كل قبيح، وقالوا: لا يقبح من الله قبح، وعللوا ذلك بأن الأمر أمره وأن الحسن والقبيح يتبع الأمر والنهي.
وحاصل المسألة عند أهل الحق أنه قد ثبت أن الله تعالى لا يفعل إلا لغرض، وذلك الغرض لا بد أن يعود إلى عباده وخلقه؛ لاستحالة المنافع والمضار عليه تعالى، وهو إما أن يعود إلى عباده وخلقه /268/ بالضرر المحض، وذلك محال؛ لأنه يكون ظلماً، وإما أن يعود إليهم بالنفع المحض كالثواب وكثير من النعم والملاذ، وإما أن يعود إليهم بما يجري مجرى النفع لتأديته إليه كالتكليف والمصائب والآلام، فإنها منافع دينية ومصالح في التكيف ومذكرة لعقاب الآخرة وداعية إلى التوبة وغيرها من الطاعات، وأما أن يعود إليهم بالضرر المستحق كعقاب الآخرة والدنيا يلحق بكل واحد من هذه الأقسام ما لا يتم إلا به كالإرادة.
وعلى الجملة لا تعدو أفعاله تعالى ستة أقسام: المنعم عليه، والنعمة، ومالا يتم كونها نعمة إلا به من القصد، والمنتقم منه، والنقمة، ومالا يتم كونها نقمة إلا به من القصد، والثلاثة الأول متلازمة، والثلاثة الأخيرة متلازمة، ولا يصح في ابتداء الخلق إلا الثلاثة الأول؛ لأنه لا مستحق للضر حينئذٍ.
والوجه في في حسن الطرفين جميعاً وكونها حكمة، وهو أنا نعلم بالعقل حسن الابتداء بالنفع وما يؤدي إليه وحسن استيفاء الحق ممن وجب عليه والمنازع في ذلك مكابر.
فصل
وقد حصل مما تقدم امتناع تقديم خلق الجماد على الحيوان؛ لأن اتخاذ النفع ولا متنفع يكون عبثاً في حال عدم المتنفع.
فإن قال: أليس أحدنا يفعل أفعالاً ويقصد بها وجه الإحسان إلى الغير قبل حصول ذلك الغير، كأن يضع له طعاماً أو يبني له بيتاً، ثم إذا مكنه منها لم يخرج عن كونه منعماً بتقديمها.
قلنا: إنما حسن من أحدنا تقديمها لأنه يخشى الفوت إذا أخر فعلها إلى حال حضور المتنفع، فأما الباري تعالى فهو قادر على اختراع الفعل حال حضور المتنفع، فلا يكون في تقديمه عرض، ولهذا منع أصحابا من تقديم الفناء على الجواهر ونعوا ظاهر ما يروى من أن أول ما خلق الله اللوح والقلم؛ لأنه لا بد أن يكون هناك متنفع باللوح والقلم بأن يعتبر النظر إلى مافي اللوح ومطابقته لما سيكون من الملائكة أو غيرهم، وأما قوله عليه السلام: (كان الله ولا شيء ثم خلق الذكر) فلا حجة لهم فيه؛ لأنه لم يقل ثم خلق الذكر فقط فلا بد أن يكون مع خلق الذكر من ينتفع به.
فصل
ويصح أن يبتدئ الله خلقاً في الجنة وينعم عليهم بنعم خالصة لا شائب فيها، ولا يكونوا مكلفين؛ لأن التكليف يتضمن المشقة.
فإن قال: فكيف يصح أن يخلص لهم النفع مع أنهم يجوزون انقطاع ذلك وزواله وهو يتضمن التنغيص والحسرة.
قيل له: إن كان هذا الخلق لا عقل له فالسؤال ساقط، وإن كانوا عقلاء على بعد ذلك جاز أن لا يخطر لهم الانقطاع على بال كما في كثير من المترفين في الدنيا، فإن قد لا يخطر لهم الموت على بال مع علمهم به قطعاً، فإذا جاز ذلك أوقاتاً قليلة جاز أوقاتاً كثيرة، ويجوز أيضاً أن يمنعهم من فعل هذا التجويز ويشغلهم عنه بضروب من الشواغل.
/269/ فإن قال: فهلا ابتدأ الله جميع الخلق في الجنة ولم يخلقهم في دار المحنة والتكليف فتكون النعمة عليهم أعظم من نعمة التلكيف.
قيل: بل النعمة على المكلفين أعظم؛ لأنهم يصلون بالتكليف إلى منافع عظيمة لا يحسن الابتداء بها، ومن هلك منهم فمن جهة نفسه أُتي.
على أن هذا اقتراح على الباري تعالى في فعله، وما المانع من أن يختار الإنعام عليهم بادون النعمتين، لو سلمنا أن نعمة التكليف أدون.
فصل
في المكلف الذي هو الإنسان ما هو عندنا أنه هذا الشخص المشاهد المبني بنية مخصوصة المسار إليه بقولهم: أنت فعلت.
وقال أبو سهل النيحتي وبعض الأوائل: هو أمر خارج عن هذا الشخص.
وقال النظام: هو جسم لطيف سالك هذا الجسم.
وحكي عن الأسواري: أنه روح في القلب.
وقال ابن الرواندي: شيء في القلب يسخر الجملة.
وقال الفوطي: هو جزء في القلب لا يتجزأ.
وقال ابن الأحشيذ وبعض الأوائل: هو جسم رقيق منبت في الجسد متشكل بشكله في كل عضو منه عضو منه، فإذا قطع الشخص تقلص فإذا انقطع تقلصه هلك.
وقال بشر بن المعتمر: هو الحي والروح جميعاً.
لنا العقل والسمع، أما العقل فهو أن ما عدى ما ذكرناه غير معلوم، والإنسان معلوم ضرورة، ولا يجوز العدول عن ما يعلم إلى مالا يعلم.
وبعد فنحن نجد من أنفسنا ضرورة كوننا معتقدين ومريدين ونحو ذلك، ولا يجوز أن يعلم الذات استدلالاً وصفتها ضرورة.
وبعد فلو كان الإنسان غير هذه الجملة داخلاً فيها أو خارجاً عنها لصح انفصاله عنها، فيكون أحدنا حياً قادراً عالماً، ولا يكون إنساناً، والعكس وخلافه معلوم.
وبعد، فالإنسان لا بد أن يكون هو القادر العالم، ونحن إذا نظرنا في أحوال القادر العالم التي هي صحة الفعل وصحة الأحكام وجدناها راجع إلى هذه الجملة المشاهدة.
وبعد فقد علمنا ضرورة حسن توجيه المدح والذم ونحو ذلك إلى هذه الجملة، فلو لم يكن هي الإنسان الفاعل لما صح ذلك.
وبعد، فإذا شهدنا على أن زيداً زنا أو قتلفإنما نشهد على هذه الجملة، فلو كان الإنسان غيرها لكاتب شهادة زور.
وبعد فلو كان الإنسان الحي غيرها لما صح الإدراك بهذه الأعضاء على هذا الحد، بل كنا نحده متناقضاً؛ لأن المدرك في الحقيقة مسبور بهذه الأعضاء، ولكنا إذا فعلنا أحسسنا باعتمادٍ في هذه الأعضاء؛ لأن الفاعل غيرها.
وأما من جهة السمع فقوله تعالى: {ولقد خلنا الإنسان من سلالة من طينٍ} وقوله تعالى/ 270/: {يخرج من بين الصلب والترائب} ونحن نعلم أن الذي خلق من السلالة وخرج من بين الصلب هو هذه الجملة.
شبهة النظام أن آحاد هذا الشخص لا تجوز أن تكون حية بانفرادها، فكذلك إذا انضمت؛ لأن ما ليس بحي إذا انضم إلى ما ليس بحي لا يصير حياً.
والجواب: أن من حلق الحي أن يكون مبنياً بنيَة مخصوصة، وذلك لا يتم إلا بالاجتماع كما يقوله في ما ليس بطويل إذا ضم إلى ما ليس بطويل فإنه يصير طويلاً.
قال: الإنسان قادر عالم حي لذاته وصفة النفس من حقها أن يرجع إلى الآحاد.
قيل له: لو استحقت للنفس لاستحال خروج أحدنا عنها ولشاركته جميع الجواهر في ذلك لتماثلها، لكن مذهبه اختلافها وهو ظاهر البطلان.
قال: إن الغرض يوجب لمحله، فلو كان الإنسان هو الجملة لكان قد أوجب لغير محله.
قيل له: المعتمد في كيفيَّة الإيجاب على الأدلة، وقد دلت على أن في الأعراض ما وجد في المحل ويوجب للجملة كالقدرة والعلم ونحوهما، ولو لا هذا لكان أحدنا بمنزلة أحياء قادرين ضم بعضهم إلى بعض ، فلا يحصل له فعل بداع واحد وليست الجملة غيراً للمحل، فلا يصح قوله: قد أوجب لغير محله؛ لأن المغايرة هي أن لا يكون أحدهما هو الآخر ولا جملة يدخل تحتها الآخر، ولهذا لا يكون الواحد من العشرة غيراً للعشرة.
قالت الفلاسفة: الحركات طبيعي وقَسْري، فالطبيعي يستمر على حال واحدة كحركات الفلك وليست حركات الإنسان كذلك، فيجب أن تكون قسريَّة، ولا بد من قاسر غير هذه الجملة.
قيل لهم: إنكم أخللتم تقسيم ثالث وهو مذهب خصومكم، وهو أن حركة الإنسان اختيارية وليست طبيعيَّة ولا قسريَّة.
قالوا: هذه الجملة يصح عليها الزيادة والنقصان بالسمن والعجف والصغر والكبر، فلو كانت هي الإنسان لكان لا يصح ذم من كان صغيراً، ثم كبر ولا من كان مهزولاً ثم سمن ولا عقابه؛ لأنه يدخل تحت الذم والعقاب من لم يكن موجوداً حال إيقاع الفعل.
قيل لهم: الدم متوجه إلى الجملة المبنيَّة بنية مخصوصة، ولا بد في كل حي من بنية لا يصح أن يكون حياً من دونها، فالذم ونحوه متوجه إليها وما عداها زيادات وفضلات تجري مجرى الشَعَر والظفر، لكنها تدخل في جملة الحي لحصول الحياة فيها، وليس يلزم إذا سمن الإنسان بعد عجف أن يصير غير ما كان كما أن الشجرة إذا كبرت بعد صغر لم يصر غيرها ما كانت، وعلى هذا يصح أن يعظم خلق أهل النار وإجرامهم.
فصل [في حسن التكليف وبيان وجه الحكمة فيه]
أما حسنه فلأنه فعل الله تعالى، وتقدم أن الله لا يفعل القبيح.
وأما وجه الحكمة فيه فكونه تعريضاً للمكلف إلى درجات لا تنال إلا به، وهو الثواب الدائم الذي قد تقرر أنه لا يحسن الابتداء به، ومعنى كون الله تعالى عرضنا لذلك هو أنه أعلمنا ما يستحق به الثواب فعلاً وتركاً ومكنَّا من ذلك وأزاح عللنا فيه وجعله شاقاً ليستحق الثواب، واعلم /271/ أنا إذا أتينا بما كلفناه ولم نفسده أثابنا عليه، فعند تكامل هذه نكون قد عرضنا لهذه الدرجات وأحسن إلينا بهذا التعريض.
قالت الملحدة: إنما يسحن هذا التعريض إذا عري عن وجوه القبح وهاهنا وجه قبح، وهو أن في التكليف إضراراً بنا، فهو بمنزلة من يجرح ثم يأسوا.
قلنا: إن الإضرار إما يصير جهة في القبح إذا خلص عن النفع العظيم أو دفع الضرر العظيم، وضرر التكليف يحصل به نفع عظيم، وهو الثواب الدائم، ويندفع به ضرر عظيم، وهو العقاب الدائم فمشقته كلا مشقة.
يوضحه: أن العقلاء يستحسنون تحمل المشاق في الأسفار لمنافع مظنونة يسيرة منقطعة، فكيل لا يتحمل مشقة التكليف لمنافع عظيمة معلومة دائمة، وكذلك يتحملون ضرر الفصد والحجامة لظن دفع الضرر اليسير، فكيف بالضرر العظيم الذي نعلم اندفاعه بالطاعة، ووقلهم هو بمنزلة من يجرح غيره ثم يأسوه ليس يوازن للمسألة؛ لأن الغرض هنا مجرد إنزال الضرر ومجرد إزالته، فلذلك قبح لكونه عبثاً وظلماً بخلاف التكليف، فإنه لا ينال الثواب إلا به، فوزانه ما يستحسنه العقلاء من تعريض الوالد لولده بالتعليم للمراتب السنيَّة التي لا ينال إلا بالعلوم.
قالوا: كيف يحسن الإظرار بالمكلف بإلزام المشاق من دون مرضاة وذلك قبيح في الشاهد.
قلنا: إنما عتبرنا الرضا في الشاهد فالأمور التي يشتبه الحال فيها وفي اختيار احتمال المشقة لأجلها، فإذا بلغ مبلغاً عظيماً لا يشتبه الحال في اختيار المشقة لأجله جاز إيصاله من دون مراضاة، وصار الحال فيه كالحال في تعليم الوالد لولده، فإنه يحسن من دون اعتبار مراضاة، لما كان المعلم أن الصبي عند كمال عقله يُؤثر اختيار المشقة لأجل العلم، فصار حال العباد مع الباري تعالى في تدبير مصالحهم إن لم يرد على حال الوالد مع الولد لا ينقص حتى لو قدرَّنا أن بعض المكلفين لا يجتاز احتمال المشقة لنفع الثواب؛ لكان في حكم المولى عليه في أنه لا حكم لرضاه.
قالوا: فهلا استوت المخلوقات في التكليف الذي هو نعمة عظيمة عندكم.
قلنا: الابتداء بالتكليف نعمة من الله وتفضل، وليس يجب إذا تفضَّل على مخلوق أن يتفضل على آخر، وقولهم: هذه محاباة لا يصح؛ لأن المحاباة مفاعلة، وهو أن يحسن إلى الغير ليحسن إليك، وهذا مستحيل في حقه تعالى.
فصل [في التكليف يحسن سواء قبل المكلف أو رده]
اعلم أن تكليف من المعلوم من حاله أن يكفر صار شبهة في نفي الصانع عند قوم، وفي إثبات ثان عند آخرين، وفي جواز كل قبيح عند المجبرة.
ودليل حسنه على الجملة ا قد ثبت بالأدلة القاطعة أن الله تعالى عدل حكيم، وأن أفعاله كلها حسنة، ثم لا يلزمنا العلم بوجه حسنه على التفصيل كما في كثير من الشرعيات، ولكنا نستدل على التفصيل تبرعاً، فنقول: الوجه الذي حسن تكليف من المعلوم أنه يؤمن حاصل في تكليف من المعلوم أنه يكفر وهو كونه تعريضاً للثواب ولا فرق بين التكفير إلا أن المؤمن أحسن الاختيار لنفسه، والكافر أساء الاختيار لنفسه، وإساءته إلى نفسه لا تخرج التكليف عن كونه تعريضاً وإحساناً، كما أن من قدم طعاماً إلى جائعين ليدفعانه ضرر الجوع، وعلم أو غلب على ظنه أن أحدهما يأكل دون الآخر، فإن ذلك لا يخرج تقديمه للطعام عن كونه نعمة عليهما، فهذا الوجه يدل على استواء التكليفين في وجه الحسن، ويكون جواباً عن كل ما يذكره الخصوم على الجملة.
ووجه آخر وهو أنه لو قبح تكليف الكافر لأجل رده لحسن تكليف المؤمن لأجل قبوله، فلا يتم اختيار الله تعالى ونعمته إلا بفعل أحدنا، وهو القبول، وهذا مع كونه محالاً في الشاهد، وكونه يقتضي ألا يستقل نعمة الله بالتكليف فإنه يقتضي وقوف كل واحد من الأمرين على الآخر، وأنه لو لا حسن تكليفه تعالى ما تأتى من المكلَّف القبول، ولولا قبول المكلف لما حسن تكليفه.
ووجه آخر جملي، يقال: ليس يخلو قبح هذا التكليف، إما أن يرجع إلى المكلف وهو علمه بأن المكلف لا يقبل، وسنبين أنه لا تأثير للعلم بعدم القبول في حسن التمكين من النفع.
وإما أن يرجع إلى المكلف وليس إلا كونه يختار الكفر، وهذا يتأخر عن التكليف، فلا يصح أن يكون علة في قبحه؛ لأن وجه الحسن والقبح يجب أن يقارن.
ووجه آخر جملي، لو قبح تكليف الكافر لقبح ما لولاه توجه التكليف عليه كالعقل والقدرة والآلة ونحو ذلك، ولوجب فيمن كلف أن يقطع بكونه من أهل الجنة، وفي العلم بذلك مفسدة ظاهرة، فثبت بهذه الوجوه حسن هذا التكليف، ووقع ما يوردونه على الجملة. ثم أنا نبطل شبههم على التفصيل شبهة شبهة بعون الله تعالى:ـ
قالوا: علم المكلف بعدم القبول جهة في قبح التكليف.
قلنا: إذاً يقبح كل أمر ونهي في الشاهد؛ لأن أحدنا لا يمكنه القطع على ما يكون في المستقبل، ومعلم حسن ذلك مع الشك، بل مع الظن لعدم القبول.
قالوا: إذا أمر الوالد ولده بالتجارة وطلب المنافع وهو يعلم أنه يهلك دونها ولا يصل إليها قبح منه.
قلنا: إنما قبح منه لأنه إنما أمر ولده بذلك لنفع نفسه وليحصل له زيادة مسرة بما يصل إلى ولده من المنافع، فمتى أمره مع العلم بأنه يهلك دونها كان ناقصاَ لغرضه، وكالجالب على نفسه ضرراً وغماً، والباري تعالى لا يصح فيه شيء من ذلك، فلم يقبح منه، وصار كمن يستدعي الغير إلى الدين والصلاح ليحصل له نفع عظيم، وهو يعلم أنه لا يقبل.
قالوا: تكليف من لا يقبل إضرار به لا يقع له لتأديته إلى هلاكه.
قلنا: الضرر الذي لحقه لم يكن لأجل التكليف، بل لأجل الكفر، وإن كان لا يصح إلا مع التكليف فليس يقتضي ذلك كون التكليف سبباً للمضرة، وإلا فأجب أن تكون القدرة والآلة والعلم سبباً للمضرة؛ لأن الكفر لا يصح غلا معها، بل كان يجب أن يكون حياة المقتول سبباً في قتله؛ لأنه لولاها لما صح القتل وخلافه معلوم.
والحاصل أن التكليف تمكين المكلف من نفع نفسه والإضرار بها كالقدرة والآلة والعلم، ونحو ذلك.
قالوا: لو كان غرضه تعالى بالتكليف نفع المكلف لمنعه من الكفر.
قلنا: إن أردتم تمنعه بالقهر والجبر، فذلك يبطل التكليف الذي هو تعريض للنفع، فكأنكم قلتم: لو أراد النفع لفعل ما يبطل النفع، وإن أردتم به المنع الذي معه ينفي التكليف فليس إلا النهي والوعيد، وقد فعله الله تعالى.
قالوا: وكيف عدل الباري بالمكلف عن النفع المتيقن الذي هو التفضل إلى التكليف الذي هو سبب فوات النفع، بل في حصول الضرر.
قلنا: التكليف أيضاً يفضل وليس على الله اقتراح في اختيار تفضل على تفضل.
على أن النعمة بالتكليف أفضل لتأديته ذلك إلى المنافع العظيمة، وصار كالوالد فإنه يعدل بولده عن الراحة إلى المشاق لتأديته ذلك إلى المنافع.
وقولهم: إن التفضل متيقن غير صحيح؛ لأنه غير واجب، فمن أين أنه متيقن
وقولهم: إن التكليف سبب في فوات النفع وحصول الضرر باطل بما قدمنا من أن السبب في ذلك هو المعصية.
يوضحه أنه قد كان يحسن من جهة العقل أن يعفو عن الكافر.
قالوا: إذا علم الله أنه لا يؤمن استحال أن يريد منه الإيمان.
قلنا: ومن سلم لكم أن الإرادة تطابق العلم، بل كلما يصح حدوثه يصح أن يراد، ولهذا يريد أحدنا ما يشك في وقوعه، بل ما يعلم أنه لا يقع كإرادة النبي صلى الله عليه وآله وسلم إيمان أبي لهب، وكإرادتنا من الكفار أن يؤمنوا دفعة واحدة مع أنا نعلم بالعادة أن ذلك لا يقع.
قالوا: لو كان غرضه تعالى نفع المكلف لكلفه على وجه آخر يعلم معه حصول النفع وزوال الضرر.
قلنا: هذا مبني على أن في التكليف جهة أخرى تقوم مقام هذه في الغرض، ولسنا نسلمه، كما لا يمكن الوالد إبلاغ ولده درجات الكمال من غير طريقة التعليم.
قالوا: بل هنا جهة أخرى وهي النوافل التي يثاب لى فعلها ولا يعاقب على تركها، فهذا اقتصر في التكليف عليها.
قلنا: لا يحسن التكليف بالنوافل إلا على جهة التبع للواجبات عند من جعل جهة التكليف بها كونها مسهلة للفرائض، فأما من يجعل الجهة في ذلك كونها لطفاً في مندوبات عقليَّة فتقتصر على أن النفع في الواجبات أعظم، فتكون /274/ النعمة في التكليف بها أعظم، والراد لذلك أتي من جهة نفسه.
وله أن يقول أيضاً: ليس يصح أن يكلفه بالنوافل إلا بشروط حصولها معها ومع الواجبات وترك المقبحات على سواء.
منها: أن تعذره عليها والقدرة تتعلق بالكل على سواء، ومنها: أن يكمل هل عقله ومن حمله كمال العقل العلم بوجوب الواجبات وقبح المقبحات، ومنها أن يجعلها شاقة يخلق النفرة عنها، ومتى تكاملت شرائط التكليف بالجميع وجب التكليف بالجميع.
على أن كثيراً من الناس أوجب تمام النوافل عند الدخول فيها، ومن تركها بعد الدخول استحق العقاب، فقد بطل غرض السائل من أن النوافل لا تستحق بتركها عقاب.
قالوا: كيف يحسن هذا التكليف منه تعالى وعندكم أنه أحسن نظر للمكلفين منهم لأنفسهم؟
قلنا: هو كذلك فيما يتعلق بالتعريض بالتكليف والتمكين والألطاف ونحو ذلك لا على الإطلاق، ولهذا إذا قدمنا الطعام للجائع مع علمنا أنه لا يأكل ثم ذمه العقلاء على كونه لم يأكل فلا يقال: قد أسأنا الاختيار له حين اخترنا تقديم الطعام الذي حسن ذمه لأجل رده.
قالوا: عندكم أن الله إذا علم أن عند تكليف زيد بكفرٍ عمر وقبح هذا التكليف، فكذلك يقبح التكليف في الموضعين إذا علم الله أنه يكفر لأجل التكليف، ومن المعلوم من حاله أنه يكفر لمن يكفر لأجل التكليف، بل لسوء اخيتاره، والتكليف تمكين من الكفر كالقدرة والآلة.
قالوا: يقبح من أخذنا إدلاء الحبل إلى الغريق إذا علم أنه يخنق به بنفسه، وإن كان عرضة تعريضه.
قلنا: هذا مبني على أن المكلَّف هلك نفسه بالتكليف كما خنق الغريق نفسه بالحبل، وليس كذلك وإنما أهلك نفسه بالكفر الذي لا يصح إلا مع التكليف.
على أن ما ذكروه لا يصح على الإطلاق، بل يجب أن يفصل القول فيه، فيقال: إن كان الغريق لا يقدر على تخليص نفسه إلا بإدلاء الحبل وقصد المدلي تخليصه حسن منه، ولو علم أنه يخنق به نفسه، وإن كان الغريق يمكنه أن يخلص نفسه بغير الحبل كان إدلاء الحبل، والحال هذه تجري مجرى المفسدة، فيقبح، وليس هذا حال التكليف، فإن المكلف لا يتمكن من تخليص نفسه ولا من هلاكها إلا بالتكليف وحسن هذا التمكين في الموضعين واحد؛ لأن الغرض واحد.
قالوا: إذا لم يحصل المقصود بالتكليف وهو الإيمان كان عبثاً.
قلنا: الغرض بالتكليف هو التعريض /275/ للنفع والتمكين منه لا يقيس الإيمان.
يوضحه أن التمكين من النفع يجري عند العقلاء مجرى النفع في حسنه وكونه نعمة، ولولا هذا لم يثبت في الشاهد نعمة لأحد على أحد؛ لأن أكثر ما يفعله المنعمون في الشاهد التمكين من النفع.
تنبيه
ذهب أهل الأصلح من أصحابنا البغداديين إلى أن الوجه في حسن التكليف من المعلوم أنه يكفر هو؛ كونه لطفاً للغير بأن يعلم الله أنه إذا كلف قوماً آمن آخرون أكثر منهم أو دونهم بحسب اختلاف بين أهل هذه المقالة.
وهذا عند الجمهور باطل؛ لأنه يلحق الكافر بهذا التكليف ضرر ولا يكفي في حسن هذا الإضرار أن ينتفع به الغير، بل لا بد أن يكون النفع راجعاً إلى المضرور، ويكون انتفاع غيره تبعاً لنفع، كما يقوله في إنزال الألم بغير المكلفين ليعتبر المكلّفون، فإن للمؤلَمين نفعاً واعتبار المعتبرين تبعٌ له، ولولا هذا لما قبح ظلم قط في الشاهد؛ لأنه وإن استنصر المظلوم فالظالم ينتفع.
فصل [في ما يتناوله التكليف من الأفعال والتروك]
اعلم أن التكليف إما أن يكون بأن يفعل أو بأن لا يفعل، إن كان بأن لا يفعل فإما أن يستحق الذم بفعله فهو القبيح أو لا فهو المكروه، وما عدى ذلك مما لا مدخل له في مدح ولا ذم ولا ثواب ولا عقاب، فلا يتناوله التكليف.
فصل [في شرائط حسن التكليف]
هي على أربعة أضرب:
منها: ما يرجع إلى التكليف. ومنها ما يرجع إلى الفعل المكلف به. ومنها ما يرجع إلى المكلف. ومنها ما يرجع إلى المكلِّف.
أما ما يرجع إلى التكليف فشرطان:
الأول أن يتقدم على وقت الفعل بزمان يمكن المكلف فيه أن ينظر فيعلم صفة ما كلفه ليتمكن من تأديته على الوجه الذي كلفه.
الثاني: أن لا يكون فيه مفسدة للمكلف ولا لغيره نحو أن يعلم أنه إذا كلّف زيداً كفر أو كفر مر ولا حل التكليف، ولا خلاف بين الشيوخ في قبح التكليف إذا كان فيه مفسدة، وإنما اختلفوا في أعيان مسائل هل هي بصفة التمكين فلا يقبح أو بصفة المفسدة فيقبح.
منها: تلقية إبليس لعنه الله وتمكينه من الوسوسة والإضلال.
قال أبو علي: لا بد أن يعلم الله أن المكلف كان يعصي سواء أغواه الشيطان وأضله أم لا، وإلا كان ينفيه الشيطان، وتمكينه من الوسوسة بصفة المفسدة.
وقال أبو هاشم: بل يحسن تنقية إبليس وإن علم الله أن المكلف لا يضل إلا بوسوسته؛ لأن في تنفيته زيادة مشقة على المكلف وفي مدافعته كثرة ثواب، فيصير كالتكليف المبتدأ، فمتى أطاعه المكلف فقد أتى من جهة نفسه.
يوضحه حكايته تعالى عن إبليس {وما كان لي عليكم من سلطان إلا أن دعوتكم فاستجبتم لي} ونحو ذلك مما يدل من الآيات على أن المكلف /276/ يطيع إبليس، وقد نسب الله تعالى الإغواء إلى إبليس وغيره في عي عدة مواضع.
حجَّة أبي علي أن الله تعالى أمر بقتل الغلام لما اكن في بقائه ضال والديه، كما قال تعالى: {فخشينا أن يرهقهما طغياناً وكفراً}.
ويمكن الجواب بأن أبا هاشم يريد أن يحترم الله إبليس كما احترم الغلام ويتقي الغلام كما تقى إبليس، وإنما النزاع هل تقبح التبقية أم لا؟
على أنه لا يمتنع أن يكون ثوابهما بالتكليف مع بقائه كثوابهما مع موته، فلا يكون في مشقة مدافعتها له مزيد ثواب.
ومنها أن الله تعالى لو علم أن عند زيادة الشهوة يعصي المكلف، وعند بعضها لا يعصي، هل تحسن هذه الزيادة أم لا؟
قال أبو هاشم: تحسن؛ لأن فيه مريد ثواب، والمكلف أتي من جهة نفسه.
ومنها: تبقية الكافر إذا كان المعلوم أنه يؤمن.
قال أبو علي: تنفيته لأنها لطف، وبه قال أهل الأصلح، وقال أبو هاشم: لا تجب؛ لأن التبقية في الأصل تفضل منه تعالى، وكذلك التكليف حال التنفية، ولا يصح أن تكون التنفية لطفاً؛ لأنها إن كانت لطفاً في الماضي فباطل؛ لأن حق اللطف التقدم، وإن كانت لطفاً في ما تفعله حال النفعية لم تجب؛ لأن التكليف في تلك الحال غير واجب، فكذلك ما هو لطف فيه، ولأن من حق اللطف أن يفعل المكل لأجله وهو لا يفعل لأجل التبقية.
ومنها الكلام في المؤمن والفاسق إذا علم أنه إذا أبقاه كفر.
قال الشيخان: يحسن هذه التبقية لأنها تفضل، وتعريض للثواب وهي كتكليف مبتدأ.
وقال أهل الأصلح: إن كان مؤمناً أو بمقالة الشيخين إن كان فاسقاً.
قال: لأن تبقية الفاسق والحال هذه تجري مجرى الخذلان والعقوبة كالكافر إذا علم أن مع التبقية يزداد كفر أو جمل على هذا قوله {سنستدرجهم من حيث لا يعلمون وأملي لهم} وهذا التفصيل لا وجه له؛ لأن التبقية تفضل في الموضعين، لا سيما وقد ورد الشرع بأن ناساً كانوا مؤمنين ثم كفروا ولم يحترموا حال الإيمان كإبليس لعنه الله، فإن المرويَّ أنه عبد الله تعالى سنيناً كثيرة، وقال تعالى: {إن الذين آمنوا ثم كفروا ثم آمنوا..} الآية. وقال: {كيف يهدي الله قوماً كفروا بعد إيمانهم} ونحو ذلك.
وقريب من هذا الكلام في من علمه الله من حاله أنه إن كلفه تكليفاً ثانياً كفر، وإن اقتصر به على الأول آمن، فإن هذه الزيادة تحسن لأنها تكليف مبتدأ، وليس ما يؤخر بعد مفسدة في ما مضى.
ومنها أن يعلم الله أنه إذا كلف زيداً اليوم أطاع وإن كلفه غداً عصى.
حكي عن أبي هاشم أنه يجوز أن يكلفه في أيهما شاء حرياً على قياس الباب وحكى عنه التوقف.
وقالوا /276/ أبو عبدالله: لا يجوز أن يكلفه في اليوم الثاني؛ لأنه يتنزل منزلة طبيب يعالج المريض في اليوم الذي يعلم أنه لا يقبل البقاء ويتركه في اليوم الذي يعلم أنه يقبله.
ولأبي هاشم أن يقول: إذا كان الانتفاع وعدمه متوقفاً على اختيار العليل كان له أن يعالجه في أيهما شاء.
قال القاضي: إن كان الله يعرضه بالتكليف في اليومين لعذر متساوٍ من البوات لم يحسن تكليفه في الغد، بل إن كلفه اليوم وإلا فلا؛ لأن غرضه تعالى التعريض، فتكليفه في الغد يعود على غرضه بالنقض، وإن كان في تكليف الغد مريد ثواب حسن تأخير التكليف إلى الغد.
ومثل هذا يقع الكلام في العقلين إذا علم الله أنه إن كلفه بأحدهما أطاع، وإن كلفه بالآخر عصى، وفي الفعلين إذا علم أنه يقترن بأحدهما يومه دون الآخر، ونحو ذلك.
وأما الشروط الراجعة إلى الفعل المكلف به فشرطان:
أحدها: أن لا يكون مستحيلاً في نفسه كالجمع بين الضدين ونحوه.
والثاني: أن يكون له مدخل في استحقاق المدح والثواب فعلاً أو تركاً، فيخرج م ذلك المباح والفعل اليسير.
وأما الراجعة إلى المكلف الفاعل فهي أربعة:
الأول: أن يكون قادراً على ما كلفه وإلا كان تكليفاً لما لا يطاق، وقالت المجبرة: الشرط ألا يون قادراً لعيه؛ لأن حال كونه قادراً يكون واقعاًن والتكليف بإيقاع الواقع محال م حيث أن التكليف هو طلب إيقاع الفعل وسيجيء الكلام عليهم.
الثاني: أن يكون متمكناً من امتثال ما كلفه على الوجه الذي كلفه بحصول العقل والآلة وزوال الموانع ونحو ذلك.
الثالث: أن يكون مزاج العلة بالألطاف إذا كان في المعلوم أن له لطفاً، وسيأتي الكلام في اللطف إنشاء الله.
الرابع: أن يكون متردد الدواعي، فيكون له داع إلى الفعل، وهو علمه بوجوبه أو ندبه وصارف، وهو المشقة الذي يلحقه بفعله، وكذلك يكون له إلى القبيح داع، وهو اللذة التي تحصل به، وصارف عنه وهو علمه بقبحه، فحيئنذٍ يفعل ويترك لأجل التكليف، وإنما يتم هذا بأن يخلق فيه شهوة القبيح ونفرةً الحسن، فإن هما تتم مشقة التكليف التي لأجلها يحل الثواب حتى لو كان الأمر بالعكس لم يحصل له إلى القبيح داع، ولا عن الحسن صارف، فلا يستحق ثواباً لزوال المشقة، وقد دخل في هذا ما يعلم من حال كفار الهند، فإنه إذا مات الرجل أحرقوا امرأته حيَّة، فهم مكلفون بترك إحراق أنفسهم، وإن كان في الإحراق مشقة عظيمة، وذلك لأنه طرت عليهم شبهة اعتقدوا لأجلها أن في الإحراق نفعاً عظيماً، فقد صارت دواعيهم مترددة، وصار ترك الإحراق شاقاً عليهم من هذا الوجه، وكذلك /278/ الكلام في عيادة النصارى للصليب وحفظ اليهود للسبت وسائر ما نهوا نه، مما فيه مشقة ويفارق هذا حال المسلمين فإنهم لبسوا مكلفين بترك إحراق أنفسهم وعبادة الصليب ونحو ذلك، بل هم ملجئون إلى تركه لتوفر الصوارف عنه، وفقد الدواعي.
ومن هاهنا قال أصحابنا: أن من استغنى بالحسن عن القبيح وعلم ذلك ولم يحصل عليه مشقة في فعل الحسن ولا ترك القبيح، فإنه لا يكون مكلفاً به؛ لأنه غير متردد الدواعي، بل هو في حكم الملجأ إلى فعل الحسن، وجعل ذلك أحد الوجوه في زوال التكليف عن أهل الجنة.
وأما الشروط الراجعة إلى المكلف الحكيم فهي أربعة.
الأول: أن يكون منعماً على المكلف بما معه يستحق الطاعة والعبادة، وهي أصول النعم التي هي خلق الحي وحياته وقدرته وشهوته وتمكينه من المشتهى والعقل الذي يه يميز بين الحسن والقبيح، فحينئذٍ يستحق العبادة، ويجري ذلك مجرى الشكر المطلق على النعمة في الشاهد.
فإن قال: إذا كان السبب في استحقاق العبادة كونه منعماً بأصول النعم لم نستحق نحن ثواباً على الطاعة؛ لأنها كالمستحقة.
قيل له: إذا كانت نعمته تعالى لسابقة من قبيل التعضّل بم كلفا المشاق ولم يحترزه بنفع صارت هذه العبادة في مقابلة تلك النعم، فخرجت عن كونها نعماً منفضلاً بها، وصارت كتقديم آخرة الأخير على عمله، وكان يلزم أن لا يختلف الناس في التكليف لإنفاقهم في ذه النعم التي هي في مقابلة التكليف أيضاً فمشقة التكليف المعصية إلى ضرر العقاب عند العصيان ربما يريد على هذه النعم.
وعلى الجملة فإذا جعل التكليف شاقاً لم يكن بد من أن يختره بنفع وإلا فقد كان يمكن تأدية شكره من دون مشقة بأن لا تلحق شهوة القبيح ونفرة الحسن كما في أهل الجنة.
الثاني: أن يكون عالماً باجتماع الشرائط الراجعة إلى المكلف والمكلف به.
الثالث: أن يكون عرضة بالتكليف التعريض إلى درجات لا تنال إلا به.
الرابع: أن يكون عالماً أنه سيثيبه إذا أطاع، وأنه يفعل مالا يثمر ذلك إلا به من انقطاع التكليف والإعادة ونحو ذلك.
فصل [في أن الله تعالى إذا أكمل للعبد شرائط التكليف فلا بد أن يكلفه]
والأصل في ذلك أنه لو لم يكلفه لكان إكماله لها عبثاً يتنزل منزلة من يصنع لغير طعاماً، ثم يتلفه قبل أن يمكنه منه، فإن ذلك يعود على عرضه بالنقض في الموضعين.
ووجه آخر وهو أن من جملة الشروط أن يخلق فيه شهوة القبيح ونفرة الحسن، فلو لم يكلفه فعل الحسن وترك القبيح لكان مغرياً له بترك الحسن، وفعل القبيح.
وقول أصحابنا لا بد أن يكلفه الله /279/ لا ينقض قولهم أن التكليف تفضُّل؛ لأنه قد كان يصح أن لا يكلفه الله بأن لا يكمل له شرائط التكليف، أما بعد الإكمال فيجب، وإلا عاد على غرضه بالنقض كمن يصنع للغير طعاماً.
القول في قبح تكليف مالا يطاق
واتفق أهل الجبر إلا الغزالي على جوازه عقلاً واتفقوا أيضاً إلا من لا يعبأ به على أن هممنوع سمعاً.
ثم اختلفوا في صحة تكليف من لا يعلم والعاجز، فمنعه محققوهم وأجازه الباقون مع اتفاق الجميع على منع تكليف الجماد.
واعلم أنه لا محصول لشيء م هذا الخلاف؛ لأنهم متفقون على أن الله تعالى خالق لجميع الأفعال، وأنه لا يوجد شيء إلا بقدرته، فلا بد أن يكون التكليف بالأفعال تكليفاً لما لا يطاق، ولا ينجيهم من ذلك قولهم أن للمؤمن قدرة على الإيمان والكافر قدرة على الكفر؛ لأنه لا معنى لذلك إلا أن الله أوجد الفعل عندها على ما يقولون، وأما فرقهم بين الجماد والحيوان فهو فرق بارد؛ لأنه إما امتنع تكليف الجماد لأنه غير متمكن، وهذا حاصل في كل فاعل سواء القديم.
وأعجب من هذا فرقهم بين تكليف من لا يعلم وتكليف من لا يطيق، فإن احتياج الفعل إلى القدرة أعظم من احتياجه إلى العلم.
لنا: العقل والسمع، أما العقل فهو أن تكليف ما لا يطاق يعلم قبحه في الشاهد ضرورة، وإنما قبح لكونه تكليفاً لما لا يطاق بدليل أن من علمه كذلك علم قبحه وإن جهل كل أمرٍ من سمع وغيره.
وقد قال شيخنا أبو الحسين: يعلم ضرورة شاهداً وغائباً، قال: لأنا نعلم ضرورة قبح كل تكليف ما لا يطاق، فإذا علمنا في الغائب أنه كلف مالا يطاق ألحقناه بالجملة المقررة، فيكون من باب إلحاق التفضيل بالجملة كالعلم بقبح الظلم المعيَّن، وهذا مستقيم على أصل أبي هاشم، حيث جعل العلم الحملي هو التفصيلي، وعلى أصل أبي الحسين أيضاً فإنه وإن جعله علماً ثالثاً فإنه عنده متولد عن أحد العلمين الأولين، فيكون ضرورياً إذا كان المولد له ضرورياً.
وأما على أصل سائر الشيوخ في أن الثالث مبتدأ بفعله باختياره بدعا الأولين، فهو لا يكون ضرورياً، ولا استدلالياً، وهو مشكل على ما تقدم في صدر الكتاب.
وعلى كل حال فالمطلوب هنا هو أن من علم أن كل تكليف بما لا يطاق فهو قبيح، ثم علم في تكليف معيَّن أنه تكليف لما لا يطاق، فإنه لا يتوقف في العلم بقبحه كالعلم بقبح الظلم المعين.
دليل، قد ثبت أن الله تعالى لا يكلف إلا لغرض، وهو نفع المكلف كما تقدم، وإنما يكون للمكلف نفع إذا كان متمكناً من فعل ما كلفه.
وأما السمع فقوله تعالى: {لا يكلف الله نفساً إلا وسعها} {وإلا ما آتاها} وقوله تعالى: {فاتقوا الله ما استطعتم} {ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلاً} {وما جعل عليكم في الدين من حرج} {يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر} {يريد الله أن /280/ يخفف عنكم} و {خلق الإنسان ضعيفاً} وأشباه هذا، ولو ادعينا الضرورة من الدين لأمكن.
وقد زعم بعض أعمارهم أن معنى قوله: {إلا وسعها} إلا ما يحل لها، واحتج يقول لهم فلان في سعة من كذا، أي في حلٍ، وهذا جهل باللغة؛ لأنه لا يقال: فلان في سعة من الصلاة والحد، ولا ملائمة بين الوسع الذي هو إلطافه أو دونها، وبين السعة التي هي الحل، وما أشبه هذا بما روي أن رجلاً أتى إلى بعض الولاة، وقال: اشفع لي إلى فلان يقيلني في بيع جرابيهما، فقال الوالي لذلك الرجل: أقله عافاك الله، فإن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: ((قيلوا فإن الشياطين لا تقيل))، فلم يفرق بين القيلولة والإقالة كما لم يرف هذا بين الوسع والسعة.
على أن هذا الحل لا يثبت بالتكليف؛ لأن التكليف فيه مشقَّة، والتحليل فيه إزالة للمشقة.
وأيضاً فهذا يؤدي إلى التوقف؛ لأن التحليل عندهم إنما يثبت بالأمر الذي هو التكليف، فإذا كان لا يأمر إلا بما هو حلال، ولا يكون حلالاً إلا بعد الأمر، فذلك توقف.
وأيضاً فلا معنى لأن يحل له ما لا يمكنه منه، ولو صح هذا لكان لأحدنا أن يقول: أحل الله لي حمل الجبال والجمع بين الضدين.
فصل [في شببهم]
أما من جهة العقل فما تقدم من هذيانهم من أن الله خالق لجميع الأفعال، ولو ثبت لهم ذلك لثبت أن التكليف تكليف لما لا يطاق، لكنا قد أبطلنا تلك الأحلام، قالوا: لو قدر أحدنا على الفعل لكان إما أن يقدر عليه حال وجوده وهو محال؛ لاستحالة إيجاد المجود أو قبل وجوده، وهو محال؛ لأن القدرة إن كان لها أثر لزم حصول المقدور حال حصول الأثر، وإن لم يكن لها أثر لزم أن لا تكون قدرة.
والجواب: هذا معارض بقدرة الباري تعالى، وجوابهم جوابنا، والتحقيق أن القدرة ثابتة قبل الفعل، ولها به تعلق يثبت حال ثبوتها، وهو صحة إيجاده بها.
وأما التأثير فمنعناه أنه وجد بها، وذلك لا يحصل إلا حال وجود المقدور؛ لأنه هو وجود المقدور بها.
قالوا: قد كلف الله تعالى بما يعلم أنه لا يقع، والقدرة على خلاف المعلوم، محال؛ لأن ذلك يؤدي إلى انقلاب علم الله جهلاً.
والجواب: يقال: من سلمكم استحالة القدرة على خلاف المعلوم، ولو ادعينا الضرورة في القدرة على خلاف المعلوم لأمكن فإن أحدنا يعلم من نفسه أنه قادر على لقاء خاتمة في البحر وعلى أن يسعى في السوق ويقتل نفسه.
وبعد فلا بد لهم من الإعتراف بأن الله قادر على أن يقيم القيامة ويطلع الشمس من مغربها وينزل المطر من غير سحاب ويقلب الجبال ذهباً ونحو ذلك مما قد علم تعالى أنه لا يقع فإذا لم يلزم من قدرته تعالى على ذلك انقلاب علمه جهلاً، وكذلك لا يلزم من قدرتنا عليه.
وبعد /281/ فلو كان ما علم الله أنه يقع واجب الوقوع، وما علم أنه لا يقع مستحيل الوقوع لبطل الاختيار، وزال معنى القادر في جميع الأفعال؛ لأنها بين واجب الوقوع ولا مستحيل الوقوع.
وبعد فلا خلاف بيننا وبينهم أن العلم تابع للمعلوم ومتعلق به على ما هو به، فإن العلم يكون زيد في الدار يتبع كونه فيها، وليس كونه فيها يتبع العلم، وإذا العلم تابعاً للمعلوم لم يصح أن يكون مؤثراً فيه بنفي ولا إثبات.
يوضحه أنه لا فرق بين أن يعلم وقوع الشيء وبين أن يعلم أنه لا يقع في أنه لا تأثير لعلمنا في ذلك، فكذلك في علم الباري تعالى.
والمروي عن ابن عمر رضي الله عنه أن رجلاً أتاه فقال: يا أبا عبد الرحمن، إن قوماً يربون ويشربن الخمر ويقتلون النفس ويقولون كان في علم الله ولم نجد بداً منه، فغضب ثم قال: سبحان الله العظيم قد كان ذلك في علمه أنهم يفعلونها ولم يحملهم علم الله على فعلها.
حدثني أبي عمر بن الخطاب أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: ((مثل علم الله فيكم كمثل السماء التي أصلتكم والأرض التي أقلتكم، فكما لا يستطيع الخروج من السماء والأرض، فكذلك لا يستطيع الخروج من علم الله، وكما لا تحملكم الأرض والسماء على الذنوب كذلك لا يحملكم علم الله عليه)). ثم قال: ((العبد يعمل المعصية ثم يقر بذنبه على نفسه أحب إلى الله من عبد يصوم النهار ويقوم الليل ويقول: إن الله أولى بالخطيئة منه)).
فإن قيل: لو قدرنا وقوع ما علم الله أنه لا يقع هل كان يدل على جهله.
قلنا: الصحيح في الجواب ما قاله الشيخ أبو الحسين وهو: أن تقدير وقوعه يتبعه تقدير العلم بوقوعه، كما أن تقدير اجتماع الضدين يتبعه تقدير ارتفاع التضاد بينهما.
فنقول: لو قدرنا أنه وقع لكن الله عالماً بوقوعه وإنما يلازم التقديران؛ لأن العلم تابع للمعلوم، فإن قدرناه واقعاً كان العلم متعلقا بوقوعه، وإن قدرناه غير واقع كان متعلقاً بأنه لا يقع، والذي يقدر عالماً لا يطابق علمه معلومه كالذي يقدر قادراً لا يصح منه الفعل.
فإن قيل: أليس إذا لم يصح من القادر الفعل خرج عن كونه قادراًن فكذلك إذا علم ما علم أنه لا يقع فلا بد أن يخرج عن كونه عالماً بوقوعه.
قلنا: هو كذلك، لكن الذي دل على خروجه عن كونه عالماً بعدم الوقوع هو الوقوع لا تقدير الوقوع، وإنما الذي يلزم من تقدير الوقوع هو تقدير العلم بالوقوع.
وأما سائر الشيوخ فيمتنعون من الجواب بالنفي والأبيات هنا كما تقدَّم لهم في هل تقدير وقوع الظلم يدل على الجهل به والحاجة أم لا؟
وعلى كل حال فالمطلوب هنا أن العلم تابع للمعوم /282/ غير مؤثر فيه.
شبهة
قال الرازي: كلفنا الله تعالى بالعلوم النظرية فقال: {واعلم أنه لا إله إلا الله} والعلوم النظرية إنما يمكن مع العلوم التصوريَّة؛ لأنه لا بد أن يعلم مفردات الأدلة، قال: والعلوم غير مقدرة لنا لا التصوريّة ولا التصديقية؛ لأن المطلوب إن كان معلوماً استحال طلبه لاستحالة تحصيل الحاصل، وإن كان مجهولاً فلا شعور به، فيطلب، ثم إذا طلب أحدا شيئاً مجهولاً فظفر به فمن أين يعلم أنه مطلوبه.
والجواب على ما قال: أن المطلوب ليس معلوماً من كل وجه، ولا مجهولاً من كل وجه، ولا مجهولاً من كل وجه، وإنما يشعر به ويعتبره معه ويكون المطلوب هو التعيين، فإذا طلب العلم بما هيَّة الأسد مثلاً فإنما يطلبها بعد أن علم أنه شجاع أو عريض الأعالي، لكن هذا يجوز أن يشمله وغيره من حيث أن الشجاع هو شيء مَاله شجاعة، والعريض الأعالي إنما يدل على شيء اله عرْض، فأما أن ذلك الشيء الذي له شجاعة أو عرض هو الأسد أو غيره، فلا يعلم فالمطلوب هو التعيين، وهو أن ذلك الشيء الذي هو شجاعة وعرض أعال، هو الأسد أو غيره، فلا يعلم فالمطلوب هو التعيين وهو أن ذلك الشيء الذي له شجاعة وعرض أعال هو الأسد دون غيره، وكذلك الكلام في التصديقات، فإن المطلوب منها هي النسبة التي هي متصَوَّرة مفهومة، ولكنها مترردة بين الإثبات والنفي، فالمطلوب هو تعيين أحدهما، فمتى حصل علم أنه مطلوبه.
وأما شبهتهم من جهة السمع فهي أن الله تعالى كلَّف أبا لهب أن يؤمن بما أنزل على محمد، ومن جملة ما أنزل على محمد أن أبا لهب لا يؤمن، فقد كلف بأن يؤمن بأن لا يؤمن، وهذا تكليف بالجمع بين النقيضين.
والجواب: يقال لهم: من سلم لكم أن أبا لهب كلف أن يؤمن بأن لا يؤمن وعندنا أن التكليف إنما يكون إنما يكون بما يمكن لا بما يستحيل، فكيف يكلف بأن يصدق بأن لا يصدق، وهل وقع النزاع إلا في هذا وأشباهه.
يوضحه أن أبا لهب لا يستحق ثواباً على أن يؤمن بأن لا يؤمن، وذلك دليل على أنه لم يكلفه به.
شبهة
قال تعالى: {أنبئوني بأسماء هؤلاء} قالوا: فكلف الملائكة بما لا يعلمون.
والجواب: لا تعلق في ظاهرها؛ لأنه لم يأمرهم مطلقاً، بل قال: إن كنتم صادقين، قيل: معناه إن كنتم عالمين، وقيل: إن كنتم صادقين ي أنكم أصلح للأرض.
وبعد، فجمهور القوم لا يجيوزن تكليف مالا يعلم، والمعنى أن الله تعالى تحداهم وعجزهم تأكيداً لمعجزة آدم عليه السلام، وليس يأمر على الحقيقة، فهو بمنزلة {فأتوا بسورة من مثله} ونحو ذلك.
شبهة
قال تعالى: {ولا تحملنا مالا طاقة لنا به}.
والجواب: المراد لا تحملنا ما يثقل علينا ويشتد كُلفَتُه كما فعلت في سائر الأمم من /283/ التكاليف الشاقة نحو: قتل الأنفس، وهذا ظاهر في اللغة، يقال: والله ما أستطيع النظر إلى عدوي، ولا أطيق صحبة فلان، ولا أقدر على قيام الليل ونحو ذلك.
وبعد فلم يقل ولا يكلفنا فلا دليل في ظاهره.
وبعد فقد قيل: المراد في الآخر من نقل الأوزار وشدة الحساب وألم العذاب.
وبعد، فهو دعاء تعبُّدنا به كسائر الأدعيَة، وإن كان لا يفعل كقوله تعالى حكاية عن إبراهيم عليه السلام: {ولا تخزني يوم يبعثون} ومعلوم أنه لا يخزيه، وكقوله: {رب احكم بالحق}.
شبهة
قال تعالى: {ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء ولو حرصتم} ومعلوم أنا كلفنا بالعدل بينهم.
والجواب: أن المراد أنه يثقل ويشق لسوء طرائقهنّ ونقص دينهن وكثرة غيرتهن، ويجوز أن يكون المراد بأن لا يستطيع العدل ينتهز في الشهوة؛ لأنها من فضل الله، والذي أمرنا أن نعدل بينهن فيه هو الجماع والإنفاق والحكم ولين الجناب وحسن العشرة ونحو ذلك.
شبهة
قال تعالى: {يضاعف لهم العذاب ما كانوا يستطيعون السمع}. وقال: {الذين كانت أعينهم في غطاءٍ عن ذكري وكانوا لا يستطيعون سمعاً}.
والجواب: ظاهره نفي استطاعتهم على السمع، والسمع هو من فعل الله تعالى، لا سيما على مذهبهم في أن الإدراك معنى.
وبعد فظاهرها يقتضي أنهم كانوا صماً وعمياً، والمعلوم ضرورة أنهم لم يكونوا كذلك، ولهذا قال تعالى: {أم على قلوب أقفالها}، وقال: {أفلا ينظرون} {أفلا يسمعون}، وقال: {ولو شاء الله لذهب بسمعهم وأبصارهم} ونحو ذلك.
ولو سلمنا أنهم كانوا عمياً وصماً، فالمعلوم ضرورة من الدين أنه ما على الأصم والأعمى حرج، وقد صرح به القرآن.
والمعنى أنهم كانوا يستثقلون سماع المواعظ والقرآن، وسماع الحق والانتفاع، فأورد ذلك على طريق التهديد والذم كما يقول الملك لمن يعاقبه: لم تستطيع طاعتي أو على طريق التشبيه.
الكلام في الألطاف
اللطف في اللغة هو ما قرب من نيل العرض، سواء كان المقرب والمتقرب إليه حسنين أو قبيحين.
وفي الاصطلاح: أحسن ا يقال فيه هو ا يختار المكلف عنده الطاعة لأجله بعد التمكين أو يقرب من اختيارها، كذلك والمفسدة ما يقابله.
قلنا: يختار عبده الطاعة ليدخل في لطف التوفيق، وهو الذي يختار عنده الفعل، ولطف العظمة، وهو الذي يختار المكلف عنده الترك، وكلاهما طاعة أعني الفعل والترك، وقلنا: لأجله احترازاً من أن يختار للإلجاء أو لمنفعة دنيويّة، وقلنا: بعد التمكين احترازاً من أن نختار الطاعة عند مجرد التكليف والآلة، فإن التكليف والآلة /284/ لا تكون لطفاً ولا مفسدة، بل هما تمكين، وقلنا: أو يقرب من اختيارهما ليدخل فيه اللطف المطلق، وقلنا: كذلك أي لأجله بعد التمكين.
وأما ما يقوله أصحابنا المتأخرون من أن اللطف لا بد أن يكون من قبيل الدواعي، ويقولون في حده: هو ما يدعو المكلف، فليس تسديد؛ لأن الدواعي ليس بأكثر من اعتقادنا أو ظننا بأن في الفعل جلب نفع أو دفع ضرر، وقد وجدنا هذه الدواعي تثبت سواء الألطاف أو زالت، ألا ترى أنا نعلم أن لا في الطاعة جلب نفع أو دفع ضرر سواء مرضنا أم لا، وسواء سمعنا المواعظ أم لا وسواء فعلا الشرعيات التي هي ألطاف أم لا، وكذالك معرفة الباري تعالى فإنها لطف وليست هي الداعي، وإنما الداعي هو العلم بأن هذا الفعل مما يستحق عليه الثواب والعقاب، فثبت أن اللطف هو ما يختار عنده سواء كان داعياً، أو ألماً أو كلاماً أو صلاة وغير ذلك مما لا يدعو.
ووجه آخر وهو أن الدواعي لا بد منها في جميع ما كلفنا، ولهذا اشترط أصحابنا أن يكون المكلف متردد الدواعي بخلاف اللطف، فإنه قد يختص بعض الأفعال.
فصل
ويسمى لطفاً ومصلحة وصلاحاً، وأصلح أي لا شيء يقوم مقامه في الصلاح كقولهم: الله أكبر لا على معنى المفاضلة، ويجوز أن يراد المفاضلة أي أصلح من غيره؛ لأن مصلحته دينيَّة، ويسمَّى إزاحة لعلة المكلف، ويسمَّى توقيفاً وعصمة إذا كان يختار عبده لأجله لا محالة، إلا أنه لا يقال: فلان معصوم أو موفق إلا إذا كان يستحق المدح؛ لأن هذه الأسماء قد صارت مدحاً بالعرف، وكذلك لا يقال: أصلح الله فلاناً إذا إذا كان مؤمناً؛ لإفادته المدح، فأما مع التقييد فيجوز ذلك.
فصل
ليس يجب أن يكون لكل ما كلفناه لطف، بل يجوز أن يكون في ما كلفناه ما لا لطف فيه بأن يعلم الله أن لا شيء يختار عبده المكلف الفعل ولا يقرب من اختياره، وذلك ظاهر في الشاهد، فإن أحدنا قد يعلم من حال ولده أنه يختار التعليم على كل حال سواء مع الشدة والإرخاء، والمنع والإعطاء، أو لا يختاره، وإن فعل ما فعل فإن قال: كيف يصح هذا وعندكم أن معرفة الله تعالى لطف في جميع ما كلفناه، قيل له: كلامنا في الجواز لا في الوقوع.
على أن أصحابنا ذكروا أن معرفة الله إنما هي لطف في التكاليف العقلية العملية.
وبالجملة، فلا أقل من أن تكون المعرفة نفسها قد خرجت عن أن يكون لها لطف، وبهذا يتم الغرض سواء كانت لطفاً في جميع التكاليف وفي بعضها.
فصل
اتفق الشيوخ على أنه إذا كان في المقدور لطف حسن فإنه يحسن التكليف بملطوفه، واتفقوا على أنه /285/ على أنه إذا لم يكن في المقدور لطف رأساً أنه يحسن التكليف بالفعل. واختلفوا في من كان لطفه فعلاً مستحيلاً أو قبيحاً.
فقال أبو عبد الله: لا يكلف بالمطلوب في الحالين.
وقال أبو هاشم: يكلف به في الحالين ويصير كمن لا لطف له أصلاً.
وقال القاضي وهو أحد قولي أبي هاشم: لا يحسن تكليفه بملطوف القبيح إلا إذا وجد؛ لأن لطفه في المقدور، فليس كمن لا لطف له، ويحسن تكليفه بملطوف المستحيل؛ لأن لطف ليس في المقدور فهو كمن لا لطف له.
فصل
وللطف شروط:
منها: أن يكون ثابتاً؛ لأن الزائل لا يثبت عنده حظ التقريب، ولا يقع عنده اختيار.
ومنها: أن يكون بينه وبين الملطوف فيه مناسبة، وإلا لم يكن لطفاً فيه أولى من غيره أو ن أن لا يكون ولا كان أحدهما بأن يكون لطفاً في الآخر أولى من العكس، ثم المناسبة تختلف فقد يعلمها جملة بأن يعلم أن الله تعالى لا يفعل إلا ماهو صلاح، وقد يعلمها تفضلاً كما تقوله في أن وجه المرض لطفاً هو أن يتذكر به آلام الآخرة ويعرف به قدر نعم الله بالعافية والثواب وقلة الصبر على الآلام اليسيرة، فيختار عند ذلك الطاعة، ومثله الغموم والخوف ونحو ذلك، وكذلك الصلاة فإن الله تعالى عرفنا أنها تنهى عن الفحشاء والمنكر ونحو ذلك مما يمكن الإشارة إلى كونه لطفاً.
ومنها: أن يكون المكلف معه متردد الدواعي فلا يخرجه عن كونه مختاراً ويصيره في حكم الملجأ فيصير كمن يخوف غيره بالقتل إن لم يحضر طعامه، فإن ذلك لا يكون لطفاً له في حضور طعامه؛ لأنه حينئذٍ يحضر للإلجاء لا لحسن الفعل ووجوبه.
ومنها: أن يكون المكلف عالماً أو ظاناً باللطف وبالملطوف فيه وبالنسبة بينهما، إما على جهة الجملة أو التفصيل أو مستمكناً من العلم أو الظن، ,إنما اشترطنا ذلك ليثبت له حظ الدعاء والتقريب.
ومنها: أن يتقدم اللطف على الملطوف فيه بوقتٍ واحد ليتأتى له حظ الدعاء، ويمكن عنده الاختيار، وأما تقديمه بأكثر من وقت إذا اكن من فعل الله تعالى، فقال أبو علي: لا يجوز؛ لأه في حكم المشيء حال الحاجة، ويلزم مثله في فعل القيد.
وقال أبو هاشم: يجوز شرط أن لا يكون في حكم المشيء، وأن يكون في تقديمه فائدة رافدة كما قال مثله في تقديم الأمر بأزيد من وقت واحد، وهذا الخلاف إنما هو فيما يثبت وينفي، فأما ما يستمر فالكلام في جواز تقديمه أظهر، ولا فرق على الصحيح بين أن يتقدم على التكليف أو يتأخر إذا نفى إلى حال كونه لطلفاً.
ومنها: أن يكون مدركاً أو في حكم المدرك /286/ عند أبي هاشم، وإنما يعتبر ذلك في اللطف من فعل الله تعالى؛ لأنه يعترف بكون المعرفة لطفاً وليست بمدركة، ولا في حكم المدركة.
قيل: والصحيح خلاف ما قاله رحمه الله؛ لأن المعتبر في اللطف هو علم المكلف به، واختياره عنده، سواء كان مدركاً أولا، بدليل أنه لو أدركه ولم يعلمه لم يكن لطفاً.
فصل
ليس يصح أن يكون اللطف جهة في التلكيف؛ لأنه متأخر عن التكليف ولا جهة في الطاعة؛ لأنه يتقدم عليها، ومن حق ما يكون جهة في الفعل المقارنة كالإرادة التي هي جهة في الطاعة، ونحو ذلك من وجوه الأفعال.
فإن قال: أليس النية الواقعة في الليل جهة في صوم النهار مع تقدمها.
قيل: ليست جهة في الصوم، وإنما وجب التبييت عند من يقول به، لاشتراطه أن تكون النية مع أول جزء من النهار، فعلى المكلف أن يأتي بالنية بحيث لو قدرنا استمرار النوم به إلى آخر النهار لكان صومه صحيحاً.
وأيضاً، فليس المرجع بالصوم إلى فعل يفعله الصائم وإنما هو كفّ والنية لا تتعلق إلا بالأفعال، فلا تكون هذه النية جهة في الصوم؛ إذ ليس يفعل فيؤثر فيه، ولو سلمنا أنه فعل فهو بمنزلة الفعل الواحد في أن النية الواحدة تكفي فيه كالصلاة، لكن جاز تقديمها من أول جزء من النهار، من حيث أنه أبيح للمكلف أنه ينام، وهو لا يأمن أن يستمر به النوم فتفوته النيَّة عند أول جزء من النهار، فكانت نيته في حكم المقارنة وصارت جهة في الصوم.
فصل
واللطف قد يكون من فعل الله تعالى، وقد يكون من فعل المكلف نفسه، وقد يكون من فعل غيره من صبي أو بهيمة أو مكلَّف آخر.
أمَّا ما كان م فعل الله تعالى فهو ضربان:ـ
أحدهما: أن يتقدم على التكليف أو يقاربه، وهذا لا يجب؛ لأن التكليف تفضل، فكذلك ما تقدمه أو قارنه.
والثاني: يتأخر عن التكليف، وهذا واجب عند الجمهور.
وقال بشر بن المعتمر: لا يجب بل الأقدار وإزالة الموانع والإلجاء كاف في إزاحة علة المكلف. قيل: وقد رجع عن هذا وأوجبه.
قال جعفر بن حرب: إن استوى الثواب في الحالين وجب اللطف.
قيل: ورجع عن هذا إلى قول الجمهور، وقال قوم: لا بد أن يفعله الله وليس بواجب.
لنا: إن اللطف يجري مجرى التمكين في إزاحة علة المكلف؛ لاستوائهما في أن المكلف لا يختار الفعل عنده، وصار الحال فيه كمن يصنع للغير طعاماً، ويعلم أنه لا يأتي إلا برسول، فإن الإرسال غليه يجري مجرى فتح الباب وتقديم الطعام في إزاحة علة المدعو حتى أنه لم يرسل /287/ فقد عاد على عرضه الذي لأجله صنع الطعام بالنقص.
فإن قالوا :قد يصنع للغير طعاماً ثم يبدو له في إرادة تناوله فلا يجب عليه فتح الباب ولا إرسال.
قيل له: إنا فرضنا الكلام مع استمرار الحال في إرادته لتناول الطعام كما يستمر الحال في إرادة الباري للطاعة، وإن عرضه بالتكليف باق من حيث لا يجوز عليه اليدَوات والخواطر.
فإن قال: كان يلزم إذا علم أنه لا يحضر طعامه إلا إذا شاطره على ماله أو توجه إليه بالناس، وبكتاب الله تعالى أن يجب عليه ذلك.
قيل له: إن كان غرضه بإحضار ذلك المدعوّ نفعه لم يجب عليه أن يشاطره؛ لأنه يلحقه بذلك ضرر وذلك ينقض الغرض، وليس تركه ببعض الغرض، وإن كان عرضه بإحضاره نفع نفسه من سرور أو طلب ثناء أو جزاء نظر في الضرر الذي يلحقه بمشاطرة ماله، فإن كان يساوي ذلك النفع أو يزيد عليه، فالقول ما تقدم من أن ذلك يبطل الغرض والمسألة مفروضة مع بقاء الغرض، وإن كان دون ذلك النفع الذي قصده بدعائه، كأن يكون ذلك المدعوّ ملكاً يحصل بدعائه مال عظيم أو جاه عريض أو ثناء كثير، فإنه يجب، والحال هذه أن يشاطره على ماله وإلا كان عائداً على عرضه بالنقص، لا سيما إذا كان صنع الطعام بعد العلم بأن الملك لا يأتيه إلا بهذه المشاطرة، والباري تعالى عرضه بالتكليف نفع المكلف، وذلك مستمر، وليس يلحقه في فعل اللطف ضرر، فيجب فعله.
دليل، قال أبو علي: لو لم يجب اللطف لدل فقده على أن الله لم يرد الطاعة من المكلف أو أراد منه المعصية.
واعترضه أبو هاشم بأن الإرادة متقدمة على وقت اللطف ومقارن للتكليف، ففقد اللطف لا يدل على زوال شيء قد ثبت وهو الإرادة، ولا يقدح أيضاً في حسنها، ولا يقتضي حصول ضدها بدلاً منها، وصار كما يقوله في أن الله تعالى لو لم يثيب المطيع لما توجه الذم إلى التكليف؛ لأن التكليف حسن لتكامل شرائط حسنة مما تأخر عنه لا يؤثر في حسنه ولا قبحه.
دليل، لو لم يجب اللطف لا قبحت المفسدة؛ غذ لا فرق بين أن يمنع ما يدعو إلى الواجب، وبين أن يفعل ما يدعو إلى القبيح.
فإن قال: إن مع التمكين وزوال الإلجاء والموانع يكون قد أتى في ترك الواجب من قبل نفسه، ولا تأيير للمانع من اللطف.
قيل له: وكذلك يكون قد أتى في فعل القبيح من قبل نفسه ولا تأثير لفعل المفسدة؛ لأنها غير موجبة للفعل، كما أن اللطف غير موجب للطاعة.
فإن قال: إنه بفعل المفسدة تعود على عرضه بالتكليف لنقص. قيل: وكذلك بترك اللطيف.
فإن قال: إن فعله للمفسدة يدل على أنه مريد للمعصية، قيل /288/ له: يدل على أن حاله قد تغيَّرت في إرادة الطاعة بالتكليف، وأنه قد صار مريداً للمعصية كما تقدم.
شبهة
المانعين من وجوب اللطف أن فقد الطاعة وحصول المعصية دليل على أن اللطف لا يجب؛ إذ لا تكليف إلا وفي المقدور ما هو لطف فيه.
والجواب: أنا قدمنا أنه يجوز أن يكون في الأفعال مالا لطف فيه.
على أنه يدل فقد الطاعة على فقد اللطف المطلق.
وأيضاً: فقد يكون اللطف من فعل المكلف كما سيأتي، فلا يدل فقده على أنه لا يجب.
قالوا: اللطيف يسمى أصلح، وهذه العبارة تقتضي التزايد، وإن تم ما هو دونه لم يفعله الله ؛ لأن كل شيء يفعله الله فهو أصلح.
قلنا: لسنا نسلم معنى المفاضلة كما تقدم، ولو سلمناه لا كان لهم فيه فرج؛ لأن الله إذا فعل الأعلى لم يجب الأدنى، فهو موضع وفاق. على أن هذا توصل بالعبارة.
قالوا: وقع التعبد عقلاً وشرعاً بأن نسأل الله العافية، فلو كان فعل اللطف واجباً كالمرض، لكنا قد تعبدنا بأن نسأل الله ترك الواجب الأصلح.
قلنا: الأدعية لا بد أن تكون مشروطة بالصلاح سواء لفظنا بذلك أم لا، ولولا السمع، منع أن نسأل الله المرض إذا تعلق به صلاح لسألناه.
على أنه لا يمتنع أن يكون لنا في هذا الدعاء صلاح مستقبل كغيره من الأدعية.
قالوا: يجوز من أحدنا أن يسأل الله أن يجعله أفضل من غيره، والإجماع على أن الله قادر على أن يجعل بعض عبيده أفضل من بعض، فيجب أن يقدر على مالا يتم إلا به وهو اللطف.
قلنا: إن كان المرجع بالتفصيل إلى اللطف فلسنا نسلمه على الإطلاق، بل لا بد أن يكون الدعاء مشروطاً كما سلف، وإن كان المرجع بالتفصيل إلى كثرة المدح والإعظام والثواب فجائر أن يسأل الله ذلك وأن يكون قادراً عليه، وإن كان لا يحسن إلا مستحقاً.
قالوا: إذا كان يعلم الله أن زيداً عند الفقر يسرق ويعصي وهو قادر على إغنائه ولم يفعل ذلك دل على أنه غير واجب.
قلنا: ومن سلم لكم أن الله لا يعنيه، والحال هذه وما أنكرتم أن هذا الفقير الذي فرضتم الحال فيه يعلم الله أنه عند الفقراء أقرب إلى اختيار الطاعة حتى لو أعناه لازداد طغياناً، وليس معصيته عند الفقر على أنه يطبع عند الغناء.
فصل
ظاهر كلام أصحابنا أن اللطف من فعل الله تعالى يجب أن يفعل على أبلغ الوجوه، وهذا هو الذي تقتضيه أجوبة هذه الشبَة والذي يمكن أن يعترض به على هذا الأصل هو ن يقال الذي دل على وجوب اللطف في الشاهد يدل على أنه /289/ لا يجب أن يكون على أبلغ الوجوه، فإن أحدنا إذا صنع للغير طعاماً ثم علم أنه لا تأتيه إلا إذا توجَّه إليه بالناس، ودخل عليه بكتاب الله تعالى، فإنه لا يجب عليه ذلك إذا قد أعذر إليه بالإرسال، وكان الوجه في ذلك أن الغرض إزاحة العلة، فمن أين يجب أن تكون تلك الإزاحة على أبلغ ما يكون حتى يجب في الباري مثله.
ويمكن الجواب: بأن الفرق إنما لم يجب في الشاهد أن يستشفع إليه بالناس، وبكتاب الله؛ لأن علته في ذلك مشقة وغضاضة تزيد الغرض رأساً حتى لو قدرنا بإنفاء الغرض بأن يكون الصنف عظيماً تحصل نصافته نفع عظيم لوجب عليه بخلاف الباري، فإنه لا يلحقه مشقة، فالم يلطف بالمكلف على أبلغ الوجوه فقد عاد على غرضه بالنقص.
ولقائل أن يقول: قد وقع الإجماع بين الشيوخ على أن الله تعالى يجوز أن يسلب الألطاف والتوفيق عن بعض المكلفين جزاء على العصيان، ويجري مجرى العقوبة والحد؛ لأن على ما يقال في تفسير كثير من الآيات نحو {ونقلب أفئدتهم وأبصارهم كما لم يؤمنوا به أول مرة}، ونحو {ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقاً حرجاً} ونحو ذلك، وكذلك وقع الإجماع على أنه يريد بعض المكلفين توفيقاً وتسديداً، ولو وجب على أبلغ الوجوه لفعل بغيرهم مثلهم ولما سلم أولئك الألطاف والتوفيق.
ويمكن الجواب بأن يقال: أما الذين سلبهم الألطاف فإنه قد فعله بهم على أبلغ الوجوه، فلما لم ينتفعوا بها سلبهم إياها عقوبة وخذاناً بعد أن أخذ عليهم على أبلغ الوجوه، فلا يشبه هذا مالم يفعله رأساً، وأما زيادة زيادة التوفيق فلا يمتنع كون بعض الألطاف مشروطاً ببعض الطاعات بأن يعلم الله من حاله أنه إذا أطاع صار له في المقدور ألطاف كبيرة.
ولقائل أن يقول: أصل المسألة مبني على إزاحة العلة وإزاحة العلة تحصل ببعض الألطاف، فمن أين يكون ترك البعض الآخر نقصاً للغرض؟ وما المانع أن يختص الله به من يشاء لا سيما وقد أجزتم سلب الألطاف، وإذا جاز أن لا يستمر على أبلغ الوجوه جاز أن يبتدئ بها لا على أبلغ الوجوه.
فصل
إذا ثبت أن اللطف من فعل الله تعالى واجب فسواء كان لطفاً في واجب أو مندوب أو ترك قبيح أو مكروه؛ لأنه تعالى كلفنا بالجميع، فيجب أن يزيح علتنا في الجميع؛ لأن وجه وجوبه عليه تعالى كونه إزاحة للعلة.
وأما إذا كان اللطف من فعل أحدنا فإنما يجب عليه إذا كان لطف في واجب؛ لأن جهة وجوبه كونه دفعاً للضر أو جارياً مجراه، ولا ضرر علينا في ترك المندوب، فلا يجب اللطف في المندوب؛ لأن اللطف كالفرع على الملطوف فيه، فلا يريد حالة على حالة، وكذلك /290/ إذا كان اللطف من فعل غير المكلف وغير الله تعالى بأن يعلم الله أن له لطفاً في فعل صبي وبهيمة أو مكلف آخر، فإنه لا وجه يقتضي وجوب ذلك اللطف، إلا أنه لا يحسن التكليف بالملطوف فيه حتى يعلم أن ذلك اللطف يوجد فإن كان لصاحب اللطف صلاح فيه جاز أن يكلف هبه، ويكون انتفاع الملتطف به على جهة النفع لنفع المكلف به، ولهذا جعل أصحابنا مصلحة الشيء في البعثة مقدمة على مصلحة المكلفين فيها، وكذلك مصلحة الآخر بالمعروف والناهي عن المنكر مقدمة على مصلحة المأمور المنهي، وكذلك الذي يجد الزاني له لطف في الحد كما للمحدود إذا كان تائباً، فأما إذا اكن مصراً فالحد عقوبة له ولطف للحاد فقط، وللناظرين وكذلك أفعال الحفظة عليهم السلام من كتابتهم لأفعالنا وشهادتهم علينا.
فصل
اتفق الشيوخ على أن الإحلال باللطف لا يقدح في حسن التكليف لتقدمه. واتفقوا على أنه يقدح في حسن العقاب؛ لأن المعاقب حينئذٍ غير مزاح العلة. واختلفوا في الذم.
فقال أبو هاشم: يسقط أيضاً ؛ لأن جهة استحقاقه واستحقاق العقاب واحدة.
وقال القاضي: لا يسقط؛ لأن الذي لأجله استحق الذم هو ارتكابه للقبيح مع علمه بقبحه وتمكنه من اجتنابه، ولهذا استحق الذم من العقلاء إذا علموا ذلك، وإن جهلوا ما عداه.
قال: ولأجل هذا يقال: إن الباري إذا أخل بالواجب تعالى عن ذلك استحق الذم، وإن لم يستحق عقاباً، وليس يمتنع وقوف استحقاق العقاب على شرط زائد، وهو أن لا يكون في حكم المستفيد له المسقط لحقه بذلك، وهو العقاب، وليس كذلك حال الذم؛ لأنه شائع أي حق للمكلف ولغيره.
وحاصل المسألة أن العقاب لا يحسن إلا من المكلف، فإذا أخل بشرط كان في حكم المسقط لحقه والذم بحسن من المكلف وغيره، قال: وليس كونه في حكم المغزَى على القبيح بترك اللطف يقتضي قبح الذم كالشاهد، فإن أحدنا لو أغرى غيره بقبيح وكان المغرَى عالماً لكان للمغري له أن يذمه، ويقول: أنت عالم بقبحه ومتمكن من الاحتراز منه، فلم فعلته ولا ينتقض هذا إنما يقوله أصحابنا من أن الذم تابع للعقاب؛ لأن مرادهم بذلك أنهما إذا استحقا لمن يجز ثبوت أحدهما مع زوال الآخر؛ لأن جهة استحقاقهم واحدة، وليس غرضهم أنه لا يصح استحقاق أحدهما دون الآخر كما فرضاه في الباري تعالى، لو فعل القبيح.
فإن قال: فهل إخلاله تعالى باللطف يسقط الثواب كما أسقط العقاب أم لا؟
قيل له: الثواب حق للعبد ولم يحصل منه ما يقتضي إسقاطه.
/291/
فصل [في ما يصح أن يكون لطفاً من أفعال المكلفين وما لا يصح]
اعلم أه لا بد أن يكون في ما كلفنا فعله وتركه ما يكون أصلاً في نفسه أو يكون وجه وجوبه وقبحه لأم يرجع إليه ويكون مستقلاً في ذلك كرد الوديعة وشكر المنعم ودفع الضرر، وكالظلم والكذب وجلب الضرر، فامتثال هذه يكون أصلاً، ولا يكون لطفاً في غيرها، وإلا سلسلت الألطاف وما عدا هذه يجوز أن يكون متربياً عليها كما لا تتم هي إلا به، أو يكون لطفاً فيها كمعرفة الله تعالى، وما يتصل بها وكاكثر الشرعيات من صلاة وصوم وحج ونحو ذلك، فإ ن وجه وجوبها كونها ألطافاً في تلك الأصول فعلاً وتركاً، ولا يصح أن يكون في ما كلفناه ما يكون عقاباً في غيره؛ لأن التكليف تعريض للنفع، ولا يصح أن يعاقب بما يؤدي إلى النفع، وكذلك فإنا مأمورون بأن يؤديها على جهة القربة، وذلك ينافي كونها عقوبة.
والذي يسببه الحال فيه قوله تعالى في جزاء الصيد: {ليذوق وبال أمره}، وقوله تعالى: {فبظلم من الذين هادوا حرمنا} والأصل في ذلك عندنا أنه ليس يمتنع أن يعلم الله أن عند مواقعتنا للمعصية نصير في بعض الأفعال لنا مصلحة كما في كفارة الظهار والقتل والاغتسال من الزا ونحو ذلك، وتكون هذه العبارات المشتبهة فارقة بين مما يكون سبببه معصية وبين ما يكون سببه طاعة كالنذور.
وأما النوافل الشرعية فقد قدمنا ما تقوي أن وجه ندها كونها ألطافاً في مندوبات عقليَّة؛ ولأنه لا يرد على ذلك من الإشكال ما يرد على ما يقوله الجمهور، فظاهر كلام الجمهور أن الوجه في التكليف بها كونها مسهلة للفرائض.
قالوا: فإن من المعلوم أن من اعتاد شيئاً سهل عليه، واعترضه بعضهم بأنها إذا كانت مسهلة لها كانت لطفاً فيها، وهذا يقتضي كونها واجبة؛ لأنها لطف في واجب، ويقتضي أن تكون بعض الشرعيات لطفاً في بعض.
ويمكن الجواب: بأن معنى التسهيل يخالف معنى اللطف؛ لأن اللطف إن كان من قبيل الدواعي، فالدواعي اعتقادات وظنون، وليس هذا حال النوافل، وإن كان من قبيل ما يختاره عنه، سواء كان داعياً أو غيره فجائز أن لا يختار المكلف الفعل عند ذلك التسهيل ولا يقرب من اخياره، وإن اختاره عنده جاز أن لا يكون لأجله.
تنبيه
اعلم أن الكلام في هذا الفصل إنما هو على مذهب شيخنا أبو هاشم، فأما أبو هاشم على فإنه لم يعتبر في حسن إيجاب الشرعيات كونها ألطافاً متمّمة للأطاف أو تروكاً للمفاسد، بل قال: يكفي في حسن إيجابها التعريض للثواب.
ويبطله أنه لو كان كذلك لحسن إيجاب النوافل لما فيها /292/ من الثواب، فثبت أن إيجابها هو لأنها واجبة في نفسها، ولهذا حكمنا بأن بعثة الرسل والتكليف في الشرعيات متى حسن وجب لما لم ينفصل حسنه من وجوبه.
وأما القبائح الشرعيَّة فوجه فتحها عند الجمهور كونها مفاسد في تلك الأصول.
وذهب أبو لعي إلى أن وجه قبحها كونها تروكاً للواجب فقط، ولم يجوِّز كونها مفساد بناء على أصله في أن كل مفسدة في الدين لا يصح وقوعها، وليس سديد؛ لأنها إنما تمنع وقوع المفسدة من فعل الله تعالى، فأما المفسدة من فعل المكلف جائز وقوعها ولا يقدح ذلك في جنس التكليف بما هي مفسدة فيه؛ لأن المكلف قد نهى عن فعلها وعلم كونها مفسدة، فمتى اختارها فقد أتي من جهة نفسه.
ومثل هذا خلاف أبي علي في المعرفة فإنه جعل وجه وجوبها أن تستبقي المرء بها ما أنعم الله به عليه بالشكر الذي لا يتم إلا بها، ودفع الضرر عاجل أو لوجوب شكر المنعم، أو لئلا تكون قد أبيح له الجهل الذي هو ترك لها.
وعند أبو هاشم أن وجه وجوبها كونها لطفاً كما سلف.
فصل [في الكلام على أهل الأصلح]
عند جمهور أهل الحق: أن مجرد كون الشيء نفعاً لا يكفي في وجوبه بل لا بد من أحد ثلاثة وجوه:ـ
إما أن يختص بوجه لأجله يجب نحو رب الودية وشكر المنعم ودفع الضرر والإنصاف والإثابة ونحو ذلك.
وإما أن يكون لطفاً كمعرفة الله وبعثة الأنبياء وكالشرعيات.
وإما أن لا يتم الواجب أو القبيح إلا به، كالقيام وفتح الباب والنظر في العقليات وكالطهور في الشرعيات، وكالإعادة من فعل الباري تعالى، وما خرج عن هذه الأقسام الثلاثة لا يجب، وخالفه بعض البغداديين، فقال بوجوب ما كان أصلح أي أنفع حتى حكموا بوجوب ابتداء الخلق، ووجوب التكليف مما يَعُدّه أصحابا تفضلاً، وفيهم من طرد هذه القضية في الشاهد أيضاً فحكم بوجوب الأصلح من فعل العباد.
لنا: أنه لو وجب على الله تعالى الأصلح لوجب أن يوجد من الشهوات والمشتهيات أكثر مما أوجد وأكثر؛ لأن ذلك أنفع من حيث أ، لذة من يشتهي الشيء لشهوتين أكثر من لذة من يشتهيه بشهوة واحدة، وبهذا يتفاضل أهل الجنة، وقد ألزمهم أصحابنا أن يوجد من ذلك الا يتناهى، وإلا كان محلاً بواجب واستحالته لا تخرجه عن كونه واجباً لحصول علة الوجب فيه وهي كونه أصلح وأنفع.
فإن قالوا: إن فقد هذه الزيادة تدل على أن فيها مفسدة؛ إذ لو خلصت عن المفسدة لوجدت.
قيل لهم: إنما يدل فقدها على كونها مفسدة بعد أن تثبت وجوب الأصلح، واستمر في تصحيحه بعد، فلا يصح أن يعترضوا بنفس مذهبكم على دليل قد نصب لإفساده.
وأيضاً: فنحن نفرض وجوب هذه الزيادة في /293/ احتيالاً تكليف عليهم، بل في أهل الجنَّة، بحيث لا يعلم بها المكلفون، فلا يصح كونها مفسدة في حقهم.
دليل، لو كان ما فعل الله تعالى من ابتداء الخلق والتكليف ونحو ذلك واجباً لكون أنفع لوجب أن يفعله قبل الوقت الذي فعله فيه، وقيل: وليس لهم أن يقولوا في ذلك مفسدة؛ لأن المفسدة إنما تثبت بعد التكليف، ونحن فرضنا الكلام في ابتداء الخلق والتكليف.
دليل، لو وجب على الله تعالى الأصلح لكان يقبح منه تكليف من المعلوم أنه يكفر؛ لأن عدم التكليف أنفع له ولا يتفلت علينا أن نجعل التكليف تفضلاً.
دليل، لو وجب على الله الأصلح لقبح عقاب أهل النار؛ لأن العفو أنفع، ولقبح التكليف؛ لأن الابتداء بالثواب أصلح، وقولهم أن العقاب واجب؛ لأن فيه صلاحاً من حيث لا يتم الوعيد الذي هو صلاح إلا به غير محتج؛ لأن أصحابنا يقولون: إذا كان التكليف والوعيد يقدحان في كون العفو واجباً فيحالين بهما قد فات الأنفع وهو العفو، فكان لا يجبان.
على أن هذا الأصلح الذي ذكروه لم يثبت بنفس العقاب، بل بالوعيد، فهلا وقع الوعيد والعفو؛ لأنهما أصلح، وإن كشف ذلك عن الكذب؛ لأنه إذا حصل وجه الوجوب وجب الفعل.
دليل، لو وجب الأصلح لكان ما يفعله بناء من النعم واجباً، فلا يستحق عليه شكراً؛ لأن الشكر إنما هو في مقابلة التفضل لا الواجب، ولوجب أن يبقي الله الكفار كلهم أو يميتهم كلهم، وقد صور ذلك في رجلين كافرين، أحدهما مات وهو شاب والآخر مات وهو شيخ، فإن للشيخ أن يقول: هلا أمتني يا رب قبل أن أكفر فإن ذلك كان أصلح، فإذا قال الله إني عرضتك بالتبقية لمنافع الثواب، وذلك هو الأصلح كان للشاب أن يقول: فهلا بقيتني يا رب وعرضتني للثواب؛ لأن ذلك هو الأصلح.
دليل، لو وجب الأصلح لما اختلف الفاعلين، فكان يجب علينا الأصلح أيضاً، وأكثرهم قد التزمه.
ويبطله أنه كان يلزم أن يفعل بأنفسنا سائر مفسدة وأن يجل علينا طلب المنافع من كل وجه، وخلافه معلوم، وليس لهم أن يقولوا أن ذلك مفسدة؛ لأنه لو كان كذلك لقبح منا فعله رأساً.
وبعد، فكان يجب علينا النوافل والصدقات وفعل جميع الكفارات الثلاث ،وعند هذا الإلزام افترقوا فقال بعضهم: يجب ولكن لا يعلى حد وجوب غيره، وقال بعضهم: إن في كونه مندوباً صلاح آخر، وقال بعضهم: الصلاخ في فعله كالصلاح في تركه، ومثل هذا كلامهم في سائر النعم التي يفعلها بعضنا إلى بعض في الشاهد، فإن بعضهم التزمها كما تقدم، وقال سائرهم: إنما لم يجب الصدقة العطاء الكثير؛ لأن في ذلك ضرراً على أحدنا، وهذا يبطل كون علة الوجوب هي الأصلح، ويقتضي اعتبار قيد زائد على أنه وإن كان عليه ضرر فيقع الثواب أعظم منه، فلا يقدح في وجوبه كسائر الواجبات لاستواء الجميع في كونها أصلح، فلو وجب الأصلح لوجب على أحدنا أن يعطي /294/ الغير جميع ماله؛ لأنه أصلح لذلك الغير فيصير حقاً له كسائر الحقوق.
ومتى قيل الأصلح له أن يصرفه في نفسه ومصالحه؛ لأنها أنفع له.
قلنا: بل الأصلح له أن يصرفه؛ لأن له ثواباً وحسن ثناء، على أنه ليس صرفه إلى نفسه؛ لأن أنفع له أولى من صرفه إلى الغير؛ لأنه أنفع.
فصل [في شبههم]
منها أنهم قاسوا الأصلح في الدنيا على الأصلح في الدين.
والجواب: وإنما وجب الأصلح في الدين؛ لأنه إزاحة للعلة تجري مجرى التمكين، لا بوجه غلا بعد تقدم التكليف.
شبهة
قالوا: قد ثبت أن الموسر إذا شاهد فقيراً يكابد العطش والجوع وهو قادر على رفع ذلك عنه، ثم لم يدفعه ذمه العقلاء ونسبوه إلى البخل.
قلنا: هذا الموسر إما أن للحقه غم بمشاهده هذا الفقير وبهلاكه، فيكون وجوب إغاثته كونه دفعاً للضر عن نفسه، وأما أن لا يلحقه غم فهو محل النزاع، ولسنا نسلم حسن ذمه على ذلك، بل نحمك بأن ما يفعله تفضل وإحسان هذا من جهة.
وأما الشرع فقد جاء بوجوب الزكاة، فإن كان عليه زكاة وجب عليه شرعاً وإلا لم يجب.
وأما وصفه له بالبخل فإنما يصفه بذلك من يعتقد وجوبه كالعرب، فإنه يعتقدون وجوب إضافة الضيف أو من يستدل بذلك على قلة رحمته، وعلى زهده في الخير والثناء الجميل.
وأما على جهة أنه أخل بواجب فلا ولهذا له أن يعتذر فنقول لا يجب علي.
قالوا: قد ثبت أنه يقبح من أحدنا أن يمنع صاحبه من النظر في مرآة قد نصها في حائطه، ومن الاستظلال به ومن الاستضاءة بناره، ولا وجه لقبح ذلك إلا أن صاحبه ينتفع به، ولا ضرر به عليه، وكذلك حال الباري.
قلنا: ليس هذا أوزان المسألة أن يوجبوا على أحدنا أن ينصب مرآة ليرى الناس فيها وجوههم، وأن يبني حائطاً ليستظلوا به وكله غير واجب في الشاهد، فأما إذا فعل ذلك لم يحسن منه المنع؛ لأنه يعود على عرضه بالنقض، وكذلك الباري تعالى إذا فعل الأشياء التي ينتفع بها الخلق لم يحسن أن يمنعهم منها.
القول في الآجال
الأجل هو كل حادث أو ما يجري مجراه بوقت به حدوث حادث أو ما يجري مجراه.
مثال توقيت الحادث بالحادث أن يقول: إذا طلعت الشمس /295/ سار الأمير فإن طلوعها وسير الأمير حوادث حقيقية.
ومثال ما يجري مجراه الحادث الصفات والأمور الراجعة إلى النفي، كأن يقول: إذا مات الأمير فعبدي حر، وإذا انقطع المطر زال البر ونحو ذلك، وقد كان المتقدمون يعتبرون في الأجل أكثر من الوقت.
قيل: والصحيح أنه لا بد من تقدم كلام أو إشارة أو كتابة يعلقا بها حدوث الشيء عند غيره وإلا لم يكن أجلاً.
فصل
ومعنى أن الله جعل الشيء آجلاً أنه كتبه وبينه ودلَّ الملائكة أو غيرهم عليه ليقع الاعتبار بموافقة ذلك المواقع، فلا يقال ما الفائدة في كتابته.
فصل
ولا يصح في من قيل غيره أن يقال: إنه قطع أجله؛ لأن المرجع بالأجل إلى الوقت الذي علم الله أنه يموت فيه، ولهذا قال تعالى: {فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون}.
والحاصل أنه لا يدخل في الأجل شرط وغنما الشرط يدخل في الأعمار، فلا يمتنع أن يعلم الله أن هذا إن ركب البحر فعمره كذا وإن لم يركبه فعمره كذا، وعلى ذلك يحمل ما ورد في الحديث ((أن الرجل ليصل رحمه، وقد بقي من عمره ثلاث سنين فيزده الله إلى ثلاث وثلاثين سنة)) الخبر، ولو لا هذا لما كان للاحتراز من القتل وغيره معنى، ولا كنا نحتاج إلى لبس الدروع ولا بتجنب ما يؤدي إلى التهلكة.
فصل
ذهب الجمهور من شيوخنا إلى أن المقتول لو لم يقتل لجاز أن يموت وجاز أن يعيش، ولا يمكن القطع بواحد منها لجواز أن يعلم الله من حاله أن الزيادة في عمره مشروطة بأن لا يقتل، وقال أبو الهذيل: بل لو لم يقتل لمات لا محالة، وإلا كان القاتل قد قطع أجله، وقد تقدم ما يبطل، هذا من أن المرجع بالأجل إلى الوقت الذي يموت فيه، فإذا قتل في ذلك الوقت قد مات بأجله.
وقد ألزمه الشيوخ في من ذبح مواشي غيره أن يكون محسناً إليه؛ لأنه أحلها بالتذكية، بحيث لو لم يفعل لماتت.
وقال بعض البغداديين لو لم يقتل لعاش محالة، وإلا لم يوصف القائل بأنه ظالم.
وأيضاً فلا يكاد يتفق موت الحيوانات الكثيرة دفعة واحدة كما يتفق في القتل.
ويبطله أنه لا دليل على انه كان يعيش لا محالة، وجائز أن يوافق حالة القتل آجال كثيرة من الناس، فكما يجوز مثله في إماتة الله لها بالعرق والهدم والطاعون ونحو ذلك، ولا يدل على أنهم كانوا يعيشون لا محالة.
وأما وصف القاتل بأنه ظالم فلا نقف على ما قالوه، بل يقف على حصول حقيقة الظلم، وقد حصلت لا سيما مع تجويزه أن يعيش وأن يموت.
على أنه قد فوت عليه بالقتل أعواضاً كثيرة كانت تحصل له لو كان الله هو المبتدئ بموته.
فصل
ومعنى كون الأجل لطفاً.
لنا: يختلف باختلاف المراد بالأجل فإن أريد بالأجل العمر وأوقات الحياة لم يصح كونها لطفاً، لذلك المغمَّر لأنه من قبيل التمكين /296/ ويصح أن يكون لطفاً لغيره؛ إذ لا يمتنع أن يعلم الله أن عبد بقاء زيد يختار عمرو الطاعة، وإن أريد بالأجل وقت الموت فمحال أن يكون لطفاً للميت؛ غذ لا تكليف بعد الموت، ولكن لا بد أن يكون لطفاً لغيره من المكلفين إذا حصل بالإماتة ألم، ويجوز أن يكون علم زيد بأنه يموت لطفاً له فيكون أجله لطفاً له بهذا المعنى.
القول في الأرزاق
الرزق وهو ما يصح الانتفاع به من دون حظر، وقد يكون مطلقاً، أي ليس بمضاف إلى معين كالأشياء التي خلقها الله لمصالح العباد مما أصله الإباحة، فيقال: رزق للعباد.
ومتى اختص البعض دون البعض بشيء منها فلأسباب حادثة، وقد يكون مضافاً إلى معين فيقال: رزق لفلان إذا كان أحق بالانتفاع به، ولم يكن لأحد منعه، وقد يكون فيه طريقة الملك كما المال ونحوه، وقد لا يدخله كالصحة والعقل والولد ونحو ذلك، وكذلك ما ينتفع به البهائم يقال: إنه رزقها ولا يقال: إنها بملكه.
فصل
والرزق لا بد أن يتعرى عن وجوه القبح والحظر خلافاً للمجبرة، فإنهم يجعلون المغصوب والحرام رزقاً.
لنا: أن الحرام ممنوع منه ومتوعد عليه، والرزق ليس كذلك، بل مباح، قال تعالى :{قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق}، وقال: {قل أرأيتم ما أنزل الله لكم من رزق فجعلتم منه حراماً وحلالاً..} الآية وأشباهها.
وبعد، فكيف يحسن من الحكيم أن يرزق العبد رزقاً ويمنعه من الانتفاع ويتوعد عليه بالنار ويتعبد الإمام بقطع يده والمسلم بالبراءة منه وذمَّة لأجل أنه انتفع برزقه.
وبعد، فلو كان المغصوب رزقاً للغاصب لكان لا يجب عليه ضمان عند إتلافه كالبهيمة، ولما كان للحاكم بأن يحكم به للمغصوب عليه أولى من أن يحكم به للغاصب.
وبعد، فقد أباح الله الإنفاق مما هو رزق، بل أمر به فقال: {وأنفقوا مما رزقناكم} ومدح على ذلك فقال: {ومما رزقناهم ينفقون} ونحو ذلك.
شبهتهم أن هذا يؤدي إلى أن الغاصب قد أكل رزق غيره، وأن الظالم طول عمره ما أكل رزقه
والجواب: أن هذا عين ما جوزناه، فما المانع أليس يقال: أكل مال غيره وملك غيره وأزال نعمة غيره واستخدام عبد غيره، فلم لا يقال: أكل رزق غيره لا سيما وقد فسرنا الرزق بأنه الذي هو أحق به وليس لأحد منعه.
قالوا: هذا يؤدي إلى أن الله لم يجعل للظالم رزقاً.
قلنا: إن أردتم أن الذي انتفع به لم يكن رزقاً له فصحيح، وإن أردتم أنه لم يجعل له طريقاً إلى تحصيل الحلال فغير صحيح.
فصل [في طريق الوصول إلى الرزق]
واعلم أن الرازق في الحقيقة هو الله تعالى؛ لأنه الذي خلق ما يصح الانتفاع به، ومتى صار ذلك ملكاً لنا فلأمور جعلها الله أسباباً للملوك.
يوضحه أن أحدنا قد يجتهد /297/ في طلب الرزق فلا يحصل وقد يحصل ما يسر ما يكون، وقد يدخل الشيء في ملك أحدنا من غير اختياره كالمواريث ونحوها.
إذا ثبت هذا فطريق الرزق قد يكون عقلياً وقد يكون شرعياً.
فالعقلي: هو ما يجوزه المرء ويحصله من المباحات كغرف الماء وإحياء الأرض، أو يكون من طريق المكاسب كالإجارات وعقود المعاوضات من بيوع وغيرها، أو يكون مبتدأ كالهبات والإباحات ونحوها، وليس احتياج ذلك إلى شروط شرعيَّة تخرجها عن كونها عقليَّة هنا ؛لأن المراد بذلك أن لو خلينا وقضيّة العقل لاستحسنا التصرف فيها عند أحد هذه الأسباب المذكورة.
وأما الشرعي فكالمواريث والوصايا، فإنا لو خلينا وقضية العقل لأجريناه مجرى مالا مالك له من المباحات، فيكون من سبق إليه أحق به، لكن الشرع خص به البعض دون البعض، وكذلك الغنائم فإن العقل يقضي بأن أهلها أحق بها، وكذلك الصدقات وبيوت الأموال.
فصل
زعم المتأكلة وأهل الكسل أن طلب الرزق محظور، قالوا: لأن في طلبه تركاً للتوكل وما صدقوا فإن التوكل هو طلب الرزق من وجوهه وحسن الظن بالله في جميع الأحوال، وقد جاء الشرع يحسن طلب الرزق وقال تعالى: {وابتغوا من فضل الله} وقال: {وآخرون يبتغون من فضل الله} وفي الحديث: ((من طلب مالاً حلالاً ليصل به رحمه..)) الخبر، وقال عليه السلام: (لو توكلتم على الله حق توكله لكنتم كالطير تغدوا خماصاً وتروح بطاناً)) فأخبر أنها تغدوا وتروح ولم يقل أنها تقعد في أعشاشها، ولسنا نمنع أن يرزق الله أحدنا وهو نائم على سريره، ولكن جرت العادة بخلافه، ولو جرت به عادة فهو لا يخطر طلب الرزق.
ويقال لهم: هلا توكلتم على الله إذا حظر الطعام بين أيديكم فلا تمدون إليه الأيدي ولا تفتحون إليه الأفواه حتى يأتي الله بمن يفعل بكم ذلك، وإنما تشكل هذه الطريقة من يؤثر الدعة ويسبق لي عليه العجز من الصوفية وغيرهم.
وأما من يقول أن المعاملات قد فسدت والسلطنة قد جارت وقد كثر الربا وقل التحري فيحرم التكسب؛ لأن أحدنا لا يأمن أن يقع في حرام؛ ولأن فيه إعانة للظلمة بالزراعة وطلب المال، فقد أبعد أيضاً؛ لأنه وإن كان كذلك فإنما يحسن من أحدنا طلب الرزق من الوجه الذي ظاهره السلامة، ولهذا كان السلف يبيعون من الكفار ويشترون، ومن الفساق وبداينوهم، والله هو المطلع على السرائر، فإذا كان في يد أحد شيء فالظاهر أنه له، ومتى قدَّرنا أن الظاهر الحرام وفساد المعاملات ولم يجد طريقاً إلى طلب الحلال فالضرورة حينئذٍ تبيح طلب الرزق.
وأما قولهم: أنها إعانة للظلمة، فأشد بُعداً؛ لأنه إنما يكون معيناً لهم إذا أراد فعلهم، فأما إذا أخذوه منه كرهاً /298/ فلا يقال أعانهم، وإلا لزم في كل مظلوم أن يكون قد أعان الظالم، وخلافه معلوم.
فصل
اعلم أن الرزق يد يكون لطفاً وقد لا يكون، فما علم الله أن المرء قد يمتثل الطاعة لأجله منه فهو لطف ومالم يكن كذلك فطريقه التفضيل، ولا فرق فيما يكون لطفاً منه بين أن يكون لطفاً للمرزوق أو لغيره، لكنه إن كان لطفاً لغيره فهو يفضل في حقه.
القول في الأسعار
السعر هو تقدير الثمن الذي يقع عليه التراضي بين المتبايعين في هذا التقدير إن كان أكثر مما جرت به محادة ذلك الزمان فهو غلاء وإن كان أقل فهو رخص.
فصل
ومعنى إضافة الرخص والغلاء إلى الله تعالى هو أن يكثر الحب ويقوِّي دواعي الناس إلى بيعة، ويُقلل الطالبين له وينهي عن ادخاره ونحو ذلك، وأسباب الغلاء عكسها كأن يقلل الأمطار أو يسلط على الثمار آفة أو يكثر الطالبين له ويقوِّي دواعيهم إلى ذلك، فعلى مثل هذا يصح إضافته إلى الله تعالى، أما على معنى أنه الذي قدَّر الأسعار فلا يصح؛ لأن ذلك فعل العباد وحاصل بحسب تراضيهم، وكذلك قد يكون سبب الغلاء من جهة الظلمة بأن يقطعوا الطرق أو يسدوا الثمار أو يعضبوا الأشياء التي ينتفع بها أو يمنعوا من البيع ويجعلوه إلى واحد مخصوص ليحمل لهم في مقابله ذلك مالاً أو يكرهوا الناس على أن لا يبيعا إلا بالغلاء لكي تتفق سلعهم، وكذلك قد يكون سبب الرخص من جهتهم بأن يمنعوا الناس أن لا يبتغوا إلا بقدر مخصوص ليشتروا منهم أو يكرهوهم على الانتقال من بلدهم فيبيعوا أثقالهم بخفة أثمانها ونحو ذلك.
فصل
ومتى كان سبب الرخص والغلاء من جهة الله جاز أن يكون لطفاً للعباد، كأن يعلم الله أن عند ذلك يختارون ما كلفوه أو يكونون أقرب إلى اختياره، وعلى هذا حمل قوله تعالى: {ولقد أخذنا آل فرعون بالسنين..} الآية، وقد تكون على جهة العقوبة وسلب النعم، وكذلك قد يكون في كثرة الأمطار مفسدة ورخص الأسعار، ولهذا قال تعالى: {ولو بسط الله الرزق لعباده لبغوا في الأرض}.
القول في الآلام والغموم
الألم: هو المعنى المذدرك بمحل الحياة فيه مع النفرة، فإن كان مع الشهوة سمي لذَّة، وإلا فهو من جنسها.
والغمّ: هو اعتقاد الحي أو ظنه بأنه عليه أو على من يجب في فعل الغير فوت نفع أو جلب ضرر في المستقبل، ويفارق الخوف مفارقة العام للخاص في بعض صوره.
فصول في الوجوه التي شبهه في إثبات ثان لله وفي جواز كل قبيح على الله وفي التعطيل عند ابن الروندي حيث رأى أهل العلم والفضل مبتلين بمقاساة الفقر والأمراض والمصائب وأهل الجهالة والوضاعة بالعكس حتى أنشد البيتين المعروفين/ 299/:
كم عالمٍ عالم أعيت مذاهبه .... وجاهل جاهل تلقاه مرزوقاً
هذا الذي ترك الأوهام حائرة .... وصيَّر العالم النحرير زنديقاً
وكذلك أبو عيسى الوراق فإن ذبح البهائم صار شبهة له حتى صنف كتاباً سماه النوح على البهائم، وكان السبب في جميع ذلك نفار الطبع عن هذه الآلام وميله إلى الذات.
فصل
ويحسن الألم من فعلنا إذا كان يجلب نفع أو دفع ضرر أعظم منه أو استحقاق أو الظن لأحد الوجهين المتقدمين، وهذا لا شبهة فيه، فإن كل عاقل يعلم حسن تحمل المشاق في الأسفار ومعالي الأمور ومشاق التعليم طلباً للمنافع، سواء كانت معلومة أو مظنونة، وكذلك يستحسنون الفصد والحجامة وشرب الأدوية الكريهة ونحو ذلك لدفع مضار هي أعظم منها، سواءً كان اندفاعها معلوماً أو مظنوناً، وكذلك يستحسن كل عاقل إيلام من آلامه أو غيره.
وأما الظن لاستحقاق الألم فلا يكفي في حسن إنزاله؛ لأن المنزل له يكون مقدماً على مالا يأمن كونه ظلماً.
وقال أبو هاشم: يحسن، واحتج بإنزال الحدود عند الشهادة التي لا تفيد إلا الظن.
وأجيب بأن ذلك ورد به الشرع لمصلحة شرعية حتى لو تركنا، والعقل لما استحسناه، وقد دخل في هذه الجملة بطلان جميع الأقوال المتقدم ذكرها.
فصل
وإن كان الألم من فعل الله لم يحسن إلا لأحد وجهين: إما مستحقاً ولا شبهة في هذا كعقاب أهل النار ونحوه، وإما لمجموع العوض والاعتبار كالآلام النازلة بالمكلفين وغيرهم ليخرج بالعوض عن كونه ظلماً، وبالاعتبار عن كونه عبثاً، وكان أبو علي يذهب إلى أن العوض كاف في حسنه.
فإذا قيل له: قد كان يحسن الابتداء بمنافع العوض فيكون الألم عبثاً.
أجاب بأن فائدته أن يصير العوض مستحقاً، وليس المستحق كالمتفضل به، وهو أيضاً مستحق على جهة الدوام بخلاف التفضيل.
وأيضاً فلا يمتنع أن يعل الله أنه لا يوصل إليه هذه المنافع إلا إذا آلمه.
واعترضت عليه هذه الوجوه كلها بأنها لا تخرج الألم عن كونه عبثاً لصحة الابتداء بمنافع العوض وإدامتها وكونها مستحقة ككونها غير مستحقة في ما يرجع إلى النفع، فثبت أن الصحيح ما رجع غليه من أنه لا بد من الأمرين.
وقد ذهب عباد إلى أن الاعتبار كاف في حسن الألم ويلزمه في من لا يعتبر كالساهي والنائم والبهيمة والمجنون والأطفال أن يكون إنزال الألم عليهم ظلماً لفقد ما جعله وجهاً في الحسن، وكذلك الألم النازل بالمكلَّف فإنه لا يكفي في حسنه /300/ الاعتبار أن النفع الحاصل بالاعتبار هو في مقابلة الطاعة، فيبقى جانب الألم خالياً عن النفع.
شبهة
إن أحدنا إنما يستحق الثواب أو العوض على فعل نفسه والألم من فعل الله. وأيضاً فلو حسن للعوض لحسن مثاله.
والجواب: عن الأول أن الذي يستحقه على فعل نفسه هو الثواب فقط، فأما العوض، ألا ترى أنه لو قتل نفسه لم يستحق عليها عوضاً، فالأعواض وما يجري مجراها من أروش الجنايات وقيم المتلفات لا تستحق أبداً إلا على الغير.
وعن الثاني أنه معارض بالاعتبار، فيقال: لو حسن منه للإعتبار لحسن منَّا.
والتحقيق أن الباري حكيم يجعل لنا من الأعواض ما يوفي على الآلام أضعافاً مضاعفة، بحيث لو خيَّرنا بينها وبين الآلام لاخترناها بخلاف أحدنا؛ فإنه لا يضمن لغيره في مقابلة ما ينزله من العوض المقدار الذي يجعله الله ولا يعلمه ولا يسمح به نفسه لو علمه، ألا ترى أنه لا تطاوعه نفسه أن يُقَوِّم رجلاً من أمناء الناس من مكان ويعطيه في مقابله ذلك ألوف دنانير، وأيضاً فن الله لا يفعل الألم إلا إذا حصل مع العوض اعتبار، ولسنا نعلم ذلك من حال الألم الذي من فعلنا.
فإن قيل: قد ثبت أن التبقية والعافية والحياة ونحو ذلك من نعم الله، وليس المرجع بالأمراض والموت إلا إلى زوال هذه النعم، فهلاَّ كان لله أن يزيلها بهذه الأشياء، وغن لم يكن هناك عوض واعتبار.
قلنا: قد كان الله قادر على أن يزيلها من دون الإيلام بأن يميته معافصة وأن لا يحدد الشهوة المتعلقة بالفائت ولا النفرة المتعلقة بالحادث، فإذا كان الإيلام زائداً على إزالتها وجب أن يحصل فيه ما ذكرنا.
فإن قيل: فهلا حسن منه الإيلام لرفع الضرر كالشاهد، قيل له: الضرر المزال إن كان مصلحة فلا يحسن إزالته وإن لم لكن مصلحة فإن كان من فعل الله فقد كان يمكنه أن لا ينزله ولا ينزل ما يزيله، فيكون في إنزاله وإنزال ما يزيله ظلماً وإن اكن من فعل غيره فعليه تعالى أن يمنح ذلك الغير بالنهي إن كان مكلفاً، وإن كان بالقهر إن لم يكن مكلفاً وإلا أنصف المضرور من الأعواض الضار.
تنبيه لما ذهبت البكرية وأهل التناسخ إلى أن الألم لا يحسن إلا مستحقاً.
قيل لهم: فكان لا يحسن إنزاله بمن يعلم أنه لا يستحقه كالأطفال والبهائم، فعند ذلك افترقوا فقالت البكرية: إنهم لا يألمون، وهذا رد لما يعلم ضرورة، ولو لا هذا لما كان فرق بين أن يوضع الصبي في النار أو على الشوك وبين أن يوضع على الحرير.
وقال أهل التناسخ: إنهم كانوا عصوا الله في هياكل غير هذه فنقلهم الله إلى هذه وآلمهم عقوبة.
ويبطل قولهم مع ما تقدم أن يقال: هذا بناء منكم على أن الإنسان العاصي /301/ الطابع هو الروح المنتقل في الهياكل، وهو عندنا باطل.
وبعد فهو إثبات ما لا طريق إليه، ويلزم عليه أن يذكر أحدنا الحالة التي كان عصى وهو فيها لا سيما إذا كانت حالة عظيمة، كأن يكون رئيساً أو عظيماً، وليس تحلل زوال العقل يمنع التذكر للأحوال العظيمة عند عوده.
وأيضاً فإنه لا بد أن يكون المتألم كامل العقل ليعلم أن ما نزل به عقاب على ما أذنب وأن الله تعالى عدل حكيم، وليعلم عين ذلك الذنب الذي لأجله استحق هذا العقاب، وأن يكون له طريق إلى تلاقيه بالتوبة.
وبعد، فما ذكروه يؤدي إلى التباس بعض ببعض وفيه زوال الثقة وبطلان أحكام المدح والذم والشهادات والبيوع والأنكحة لجواز أن يكون الفاعل قد نقل إلى قالب غير هذا.
وبعد، فلو كانت الآلام النازلة بالأطفال والبهائم مستحقة على جهة العقوبة لحسن ذمهم ولعنهم والتبري منهم كما تقوله المجبرة في تعذيب أطفال المشركين ومعلوم أن في المؤلمين من لا يحسن ذمه، بل من يحب مدحه كالأنبياء والصالحين.
فصل [في الوجه الذي يقبح عليه الألم]
ذهب الجمهور أنه يقبح لكونه ظلماً وعبثاً، ولا ثالث لهذين الوجهين.
وقال الثنوية: لكونه ألماً.
وقال أهل التناسخ: لكونه غير مستحق، وقد تقدم إبطال قول الجميع.
وكان أبو هاشم يذهب إلى أنه يقبح ضرراً فقط ويجعل الوجوه التي تقتضي حسنه مخرجة له عن كونه ضرراً بأن يحصل فيه نفع أو دفع ضرر، ولما الزم في العقاب أن يقبح أجاب بأن التذاذ العاصي بالمعصية قد أخرجه عن كونه ضرراً.
وهذا باطل؛ لأنا نعلم أنه قد يستحق العقاب على كثيرٍ مما يلحق به ضرر ومشقة كرهبانيَّة النصارى وحفظ اليهود للسبت وعبادة الأصنام ونحو ذلك.
وشبهته أنه قد ثبت في من أخرج من ملكه ثوباً ليأخذ به ديناراً أنه لا بعد فعله ضرراً لما حصل بإزائه منفعة معجلة، فيجب في ما فيه جلب نفع أو دفع ضرر أن لا يعد ضرراً.
والجواب: أنما يستقيم ما ذكره رحمه الله تعالى لو تنزلت حاله كل ضرر حسن منزلة من يخرج ثوباً بدينار ونحو ذلك مما يتعجل به النفع أو دفع ضرر ، فأما إذا تراخى النفع أو الدفع فلا محالة أن الألم النازل به يعد ضرراً، ومهما يكن فلا يمكن أن يقال: إن لذة شبعة واحدة تخرج العقاب الدائم عن كونه ضرراً، فثبت أن الصحيح ما رجع إليه أجراً.
وقد ذهب أبو علي إلى أن الألم إنما يقبح لكونه ظلماً وما يعده الشيوخ عبثاً، فإنه يجعله بصفة الظلم نحو من يستأجر غيره على عمل لا يقع له فيه، فإنه إن لم يوفه أجرته كان ظالماً له، وإن وافاه أجرته كان ظالماً لنفسه؛ لأنه أضر بها بدفع الأجرة، وكذلك في من خلص غريقاً على أن يكسر يده مع إمكان تخليصه من غير كسره فإنه يكون ظالماً لنفسه حيث فوت عليها الشكر وإن لم يكن ظالماً للغريق؛ لأن النفع في تخليصه أعظم من الضرر /302/ في قطع يده.
والحق ما قاله الجمهور: أنه قد يقبح لكونه عبثاً، وقبح العبث معلوم ضرورة، سواء كان بصفة الظلم أو لا بدليل أن الألم يقبح من الباري تعالى لمجرد العوض ولا وجه إلا كون عبثاً لإمكان اتصال العوض من دونه.
القول في الأعواض
العوض هو المنافع المستحقة لا على وجه الإحلال.
اعلم أن المضار التي يستحق عليها الأعواض هي مالم يكن مستحقاً كعقاب أهل النار، والحدود ولا في حكم المستحق كدفع الباغي والجمل الصائل بالقتل ونحوه، ولا حاصلاً عن تراضٍ كمشقة الأخير، وقتل المرء نفسه ولا مما يستحق عليه ثواب كمشاق الطاعة.
فصل
والعوض قد يستحق على الله تعالى، وقد يستحق على المخلوقات، فهذان قسمان، وكل واحد منهما ضربان، فالألم الذي يستحق على الله تعالى قد يستحق عليه؛ لأنه الذي فعل المضرة أو سببها، وقد يستحق عليه؛ لأنه في حكم الفاعل لها بأن يأمر أو يبيح أو يلجي، والذي يستحق على المخلوقات كذلك أيضاً قد يستحق؛ لأن المخلوق فعله، وقد يستحق؛ لأنه في حكم الفاعل له.
أمَّا الضرب الأول من القسم الأول وهو في الأعواض التي تستحق على الله في المضار التي فعلها أو فعل أسبابها، فذلك على وجوه:
منها: الأمراض والمصائب التي يفعلها مصالح وهذا ظاهر.
ومنها: الغموم التي تصيب المرء لأجل تلك الآلام والمصائب سواء كان الغم من فعل الله بأن يفعل فيه العلم الضروري أو جارياً مجرى فعلن بأن ينصب له أمارة يفعل الغم عندها، لن المرء لا يستحق العوض إلا على الغم الذي جرت العادة بمثله في مثل ذلك المغتم، فإن الحال يختلف فربما يبني الله بعض الأحياء بنية يسرع معها الخوف والفزع كالجبان، فيكون غمه أكثر فيستحق بحسنه مما جرت العادة به في حق مثله والزائد لا عوض فيه، وكذلك إن فعله لا عند أمارة كالممرور، وهذا الكلام فيما إذا علم أحدنا بكل المضار التي لأجلها يغتم، فإن لم يعلمها فهل يستحق عوضاً لأجل تقدير الغم أم لا؟ والأصل فيه أن ينظر فيه، فإن كانت تلك المصائب فما يختص غيره كمموت قرينة أو أخذ ماله ونحو ذلك، فلا يستحق عوضاً وينزل منزلة الإساءة بالكلام، فإن الاعتذار عندها لا يجب إلا إذا بلغت المشاء إليه وتضرر بها، فأما إذا لم يبلغه لم يجب الاعتذار، ولا العوض، بل يكفي التوبة بحسب الإمكان، عن كانت تلك المصائب مما تختصه كأن يتلف شيء من ماله ولا يشعر فاختلف الشيوخ.
فقال أبو هاشم: لا يجب العوض على الله كالأول؛ لأنه لا غم في الموضعين.
وقال القاضي: يجب وجعل الرق أن الشيء إذا كان في نفسه ضرراً لم يصير فيه علم المضرور، وهذه حالة إتلاف ماله بعين علمه بخلاف المسألة الأولى لولا هذا لما وصف أحدنا بأنه ظالم إذا أخذ مال الغير من دون علمه؛ لأن من حقيقة الظلم أن يكون ضرراً.
ولقائل أن يقول: إن الإتلاف إذا كان في نفسه /303/ ضرراً، فلا بد فيه من عوض مستقل في الموضعين، وإنما الكلام في العوض الحاصل على الغم عليه، فلا وجه لاستحقاقه عند عدم العلم في واحد من الموضعين.
ومنها: أن يحوج الله العبد بخلق الشهوة إلى طلب المشتَهى فيلحق المرء مشقة في طلبه أو غمّ في فقده فيستق العوض مالم يكن قد تمكن، فما يزيل تلك الشهوة فلم يختر إزالتها أو حال بينه وبين ذلك ظالم فيصير العوض على ذلك الظالم.
ومنها أن يلحق المرء مشقة ف يدفع ضرر يناله من جهة الله، ولم يكن دفع ضرر الأمراض بشرب الأدوية الكريهة، فإنه يستحق العوض على تلك المشقة أن يلحقه برد شديد فيسعى في طلب كن يلحقه بالسعي مشقة أو لا يجد الكِنَّ.
ومنها: أن يلزمه الله طلب قوت لغيره من عيلة ونحوها فيلحقه غمّ بفقدها، فيكون عوض الغمّ على الله إذا اغتم على فقد ما جرت العادة بتحصيله، فأما إذا اغتم على فقد الزائد فلا عوض في ذلك الغم، وحال الناس يختلف في ذلك، فمنهم من عادته تحصيل قوت السنة، ومنهم من عادته تحصيل قوت اليوم واليومين فعوض الغم بما جرت به عادة مثله.
فإن قيل: إن الله إذا ألزمه السعي كان له فيه ثواب، فكيف يستحق عليه عوضاً؟
قلنا: الثواب على نفس السعي والعوض هو على الغم الحاصل بفقد ما سعى له.
ومنها: أن يخلقه الله تعالى على ضرب من النقص بالنسبة إلى أبناء جسنه، إما بفقد آلة أو بقبح صورة أو سواد لون أو بقصر ونحو ذلك، فإنه يحصل له عوض إذا اغتم على فقد ما قد حصل لأبناء جنسه.
ومثله إذا اغتم بفقد ما حصل لأبناء جنسه من المال والنعمة والزينة ولم يتمكن من تحصيل ذلك الذي فقده.
ومنها: أن يمنعه الله بالشريعة من التصرف في ماله فيغتم بذلك كالمريض الذي حجز لعيه ثلثا ماله وجعل للورث فإن المريض قد يغتم لذلك من حيث منع من التصرف به وتقديمه لنفسه، وربما كان يجب أن يصير إلى غير الوارث أو يخص به نقض الورثة، وكذلك من حجز عليه ماله لأجل الجنون أو الدين أو نحو ذلك.
الضرب الثاني من القاسم الأول في المضار التي يفعلها العباد بإيجابه تعالى كذبح الفدية وجد التائب أو ندبِه كذبح الأضحية وتأديب الأولاد أو إباحته كذبح ما يؤكل لحمه وتأديب الخادم أو بإلجائه كأن يلجئه بصاعقة أو سيل إلى الغد وإلى زرع الغير أو وطئ شيء من الحيوان وفي كل هذه تجب العوض على الله تعالى؛ لأنه في حكم الفاعل لهذه المضار من حيث صار كمن يقول لفاعليها افعلوها ولا ضرر عليكم /304/ ولا تبعة، وهذا لا خلاف فيه بين الشيوخ. وإنما اختلفوا في المضار التي تصدر ممن لا عقل من دون إلجاء.
فقال أبو الحسين وأصحابه: وروي عن أبي علي وأبي الهذيل أن حكمها حكم ما تقدم في أن عوضها على الله تعال؛ لأنه مكنها من ذلك ولم يجعل لها عقلاً تزجرها عن فعل هذه المضار وتميّز به بين الحسن والقبيح وخلق لها من الشهوات ما صارت لأجله في حكم الملجأة والمغراه.
وقال القاضي والجمهور: الأعواض عليها لا على الله؛ لأنه لم يلجها ولا بعثها، ولكنه مكنها وليس بمجر دالتمكين ينتقل العوض على الله، وإلا لزم إذا مكن أحدنا غيره من سيف فقتل به أن يكون العوض على دافع السيف، بل على الحداد أو الصقيل؛ لأنهما اللذان جعلا السيف بالصفة التي معها يقطع.
واعترض بأن الخصم لم يجعل العلة في انتقال العوض إلى الله مجرد التمكين، بل لأنه مكنها وخلق الشهوة فيها وألهمها لمالها في ذلك من النفع ولم يمنعها بالنهي ولا بالقهر، فصار بذلك في حكم المغري لها والملجئ بخلاف المعطي السيف والصيقل، فإنه لم يكن منهما إلا مجرد التمكين والقائل ممنوع بالنهي فالعوض عليه لا عليهما.
يوضح هذا أن عند الجمهور أنا إذا أرسلنا الجارح أو الكلب على الصيد فإن العوض على الله تعالى؛ لأن الإرسال مباح لنا، وإذا كان كذلك فهلا وجب العوض على الله تعالى إذا كان هو المرسل، وإن لم يعقل في حقه إباحة.
قال الجمهور: قد حسن منا أن نمنع من لا فلق له من إنزال هذه المضار، ولو كانت أعواضها على الله لحسنت منهم هذه المضار ولم يحسن منا منعهم منها وذلك يقتضي أن لا يحسن منا منفع السباع من مواشينا.
قيل لهم: هذا وارد عليكم فيما إذا الجئوا إليها، وكان الوجه في الجميع أن الحسن لا يدخل في أفعال البهائم ومن لا عقل له، وإن دخل القبح كما تقدم.
وعلى الجملة فلا يصح أن يقال: أنها تحسن منهم ولا تقبح منهم بالاتفاق على أن جهة حسن الفعل وقبحه غير جهة استحقاق العوض عليه، فلا يلزم إذا كان العوض على الله أن يكون الفعل حسناً كحال الإلجاء.
وأما المنع فلا يحسن منا أن يمنعهم إلا حيث يلحقنا ضرر كمنعنا للسباع من مواشينا وحيث يؤمر بمنعها كمنعنا للصبيان والمجانين عن الأضرار بالغير وما عدا ذلك لا يحسن المنع منه حتى لا يحسن منا أن نمنع الأسد من افتراس الصبي ونحو ذلك بل ربما يقبح منا.
قال الجمهور: قد ثبت أن الصبي إذا جنى جناية وجب عوضها في ماله فثبت أن العقل غير معتبر في استحقاق العوض؛ لأنه يجري مجرى أروش الجنايات وقيم المتلفات.
قيل لهم: ورد الشرع بذلك لمصلحة يعلمها الله، ومتى تألم الصبي لأجل أخذ الأروش من ماله /305/ كان له عوض على الله تعالى وصار الحال في ذلك كمنعنا إياه من شرب الخمر وأخذنا له بالصلاة، فإنا أمرنا بذلك لمصلحة شرعيّة وهي أن يسهل عليه فعل الصلاة وترك الخمر حالة الكبر، وله إذا تألم بذلك عوض على الله تعالى.
قال الجمهور: قال الله تعالى: {وإذا الوحوش حشرت} ولا وجه لحشرها إلا توفير أعواضها.
قيل لهم: وكذلك فمن أين يكون عليها أعواضاً لغيرها؟
قالوا: ورد الحديث ((أن الله لينتصف للجما من القرناء)).
قيل لهم: هذا الخبر أحادي وغن ثبت فمعناه الجمال لأجل ما فعلت القرناء، وأورد ذلك بهذه الصيغة مبالغة في الانتصاف للضعيف من القوي.
وأما الضرب الأول من القسم الثاني وهو الأعواض التي تستحق على العباد في المضار التي فعلوها أو أشياء بها وسواء كان ذلك ضرر أو تفويت نفع وذلك يجوز أن يقتل غيره ظلماً فإنه يستحق عليه عوضاً في مقابله، ألم القتل وعوضاً في تفويت تفويت منافع الحياة إن فرضنا أنه كان يعيش لا محالة، وعوضاً في مقابلة تفويت الأعواض الزائدة التي كان يستحقها لو كان ألم الموت من جهة الله تعالى وأحوال الناس تختلف في جمي عذلك، وربما اغتم آخرون بقتل هذا المقتول، وكان في جناية لهم نفع فيستحقون العوض على القاتل.
فإن قيل: أرأيتم أنه لو كان المعلوم أنه لو لم يقتل لعاش وكفر وازدادت ذنوبه، هل يقع فرق في استحقاقه للعوض على القاتل؟
قلنا: لا فرق؛ لأنه كما يتمكن بالحياة من الكفر وغيره من المعاصي فهو أيضاً يتمكن بها من الإيمان وسائر الطاعات، فنفس الحياة نعمة قد فوتها القاتل، وعلى هذا نقول: إذا منعه من الانتفاع بأملاكه وتألم بذلك استحق العوض، وغن كان في معلوم الله أنه لو لم يمنع لما انتفع بها أو تضرر، لكنه يجوز ان لا يستحق القدر الذي يستحقه، لو كان المعلوم أنه ينتفع لو لا المنع.
ومثل هذا يجري الكلام في من منع غيره من التصرف لمعاشه بحبس أو نحوه، وغن كان المعلوم أنه لو لم يحسبه لأهلك نفسه ومثله الكلام في الظالم إذا منع غيره من المباح كان يمنع الراعي من رعي مواشيه في أرض مخصوصة للراعي أن يرعى فيها.
وقد اختلف في هذه الصورة من المستحق للعوض على المظالم.
قيل: والأول أن المستحق للعوض هو من كان أخص بتلك الأرض وأقرب غليها ويجري مجرى الملك.
وقيل: يستحقه كل من المعلوم أنه كان ينتفع بتلك الأرض لو لا المنع.
وقيل: يستحقه كل من يصح انتفاعه بها؛ لأنه قد صار المعلوم أنه لو رام الرعي فيها لمنع.
ومثله الكلام إذا منع الظالم بيوت الأموال من مستحقها والزكوات والأوقاف ونحو ذلك مما لا يمكن تعيين مستحقه، ومثله إذا غصب مالاً قد اختلف في مستحق كالمال الموروث، فإنه قد قيل يستحق العوض كل من له نصيب /306/ قال به مجتهد.
وقيل: يستحقه من المعلوم أن الحاكم كان يحكم له به، فعلى مثل هذا يجري الكلام في مثل هذا الضرب.
وبالجملة: كل ألم أو غم يفعله بغيره أو يفعل سببه ولم يحصل ما يقتضي نقله عنه، فإن عوضه لعيه وعلى هذا لو اجبر رجل بموت آخر متعمداً للكذب أو على وجه قد نهى عن الأخبار عليه، فاغتم أهل ذلك الرجل فإن عوضهم عليه.
الضرب الثاني من القسم الثاني في المضار التي يتكون العباد في حكم الفاعلين لها والفاعل لها غيرهم، وذلك نحو أن يلجئ أحدنا غيره إلى الغد وعلى زرع الغير أو وطئ شيء من الحيوان، فإن العوض عليه ونحو أن يعرض أحدنا غيره لضرر قد علم أن الله تعالى يفعله بمجرى العادة، فيكون العوض على المعرِّص كأن يضع صبيا ًفي النار أو البرد أو يلقيه إلى الأسد بحسب الخلاف المتقدم، ونحو أن يشهد شهود الزور بأن زيداً قتل عمراً، فيصل زيداً وشهدوا بأنه زنى، فحدَّ ونحو ذلك، فإن الأعواض على الشهود وكذلك إذا شهدوا أن المال لزيد كان العوض عليهم؛ لأنهم السبب في جميع تلك المضار.
فصل [في المضار التي يشتبه الحال في هل أعواضها على الله أو غيره أو هل فيها من أعوام أم لا]
فمنها: إذا قتل أحدنا غيره ظلماً ثم انقاد لورثته على من يكون عوض المقتول الأول؟
عندنا أنه يكون على الله تعالى؛ لأنه يقل ما يستحقه على القائل إلى ورثته، فجعله حقاً لهم لمصلحة شرعيَّة، فبنقله له صار الحق عليه تعالى، وقيل: يكون عوضه على المنقاد وعوض المنقاد على الله تعالى.
وهذا باطل ؛ لأن المنقاد لا يستحق عوضاً من حيث أن ألمه مستحق، سواء كان تائباً أم لا؛ لأن التوبة إنما تسقط حق الله، فأما حق المقتول فهو عليه، فلما جعل استنفاء حقه إلى الورثة واستوفوه سقط الحق عن المنقاد؛ لأنه ليس عليه إلا عوض واحد وصار حق المقتول على الله لنقله إلى ورثته، فإن قدرنا أن القاتل مات ولم يَنْقذ فإن مات قبل موت الوارث الأوَّل فالحق عليه للوارث الأول يوم القيامة، ولا معنى لما ذكره بعض المتأخرين من أن الحق يكون للمقتول يوم القيامة ويبطل حق الوارث؛ لأن الله تعالى قد جعله حقاً للوارث، ولم يحصل ما ينقله عنه، فهو كالمال الذي يستحق للوارث، وغن مات في زمن الوارث الثاني وبعد موت الأول.
فقيل: يصير عليه حق للوارث الأول، وللوارث الثاني.
وقيل: إنما ألحق للوارث الثاني، وهو الصحيح؛ لأنه ليس عليه إلا حق واحد، وقد نقله الله من الوارث الأول إلى الثاني فهو حق له فقط، وحق الوارث الأول على الله لأجل أنه نقل الكلام في رجل حفر بئراً يقصد أن يتردى فيها الغير /307/ فسار ذلك الغير حتى تردى فيها أو جعل سماً في طعام ثم يناوله الأكل فقتله: قيل: لا عوض للمتردي ولا للآكل؛ لأنه الذي ردَّى نفسه، وتناول السم، وقيل: إن لم يجد طريقاً غير طريق البئر ولا طعاماً غير ذلك المسموم استحق العوض على الحافر والمسمم وإلا لم يستحق شيئاً.
وقيل: يستحقه على كل حال على الحافر والمسمَّم؛ لأنه المسبب في لحوق هذه المضرة، ولهذا يوجب الفقهاء الدية أو القود.
وإن كان حفره للبئر وحطه للسم لغرض غير هذا بل فعله في ماله لمنافعه، فجاء الغير فتردى أو تناول الطعام، فلا شبهة في أنه لا يستحق عوضاً.
وإن كان ملجأ إلى ذلك فالعوض على ذلك الملجئ أو من في حكمه، وغن أبيح له ذلك.
فإن كان المبيح هو الله تعالى فالعوض عليه، وإن كان المبيح هو صاحب الطعام وصاحب الأرض بأن يقول: قد أبحت لفلان المسير في أرضي والأكل من طعامي، احتمل أن يكون العوض عليه؛ لأنه فاعل السبب، وقد كان متمكناً من تحذيره، واحتمل أن يكون لا عوض له؛ لأنه المضر بنفسه، واحتمل أن يكون العوض على الله تعالى؛ لأنهما مغتران جميعاً، وقد أباح الله لهما ذلك وتصير إصراره بذلك كإضرار البهيمة به وبنفسها.
ومنها: الكلام في رجل خرج غيره خطأ فأخذ الأرش من ماله فاغتم، فعلى أصول الجمهور لا عوض له؛ لأنه الجاني على نفسه.
وعلى أصل أبي الحسين: يستحق العوض على الله تعالى؛ لأنه في حكم الساهي، ومن لا عقل له، وإنما لزمه الأرش لمصلحة شرعيَّة كما لزم على فعل الصبي والبهيمة.
ومنها: الكلام في رجل جرح غيره فسرت الجراحة حتى قتلته، فإنما يستحق عليه عوض الجرح دون الزائد، وغنما تجب عليه القود لمصلحة شرعيَّة، ومتى انقاد فمقدار ذلك الجرح مستحق، والزائد عوضه على الله تعالى.
فصل
ذهب الجمهور إلى أنه لا يجوز أن يتفضل الله بالأعواض التي تستحق على العباد حتى يوفيها عنهم.
وقال ابن الملاحمي وغيره: تجوز حجَّة الجمهور أنه يجب الانتصاف للمظلوم من الظالم، وإلا كانت التلخية بينهما قبيحة.
واعترض بأنه إنما يجب الانتصاف إذا لم يتفضل الله بانتفاء الحق عنه، وبكل واحد من الأمرين يخرج التخلية عن القبيح.
قال الجمهور: التفضل بما يجب على الظالم يسقط حق المظلوم ويخرجه من أن يكون له حق؛ لأن التفضل لفاعله أن يفعله وأن لا يفعله.
قيل لهم: ليس في ذلك إسقاط حق المظلوم، بل يجب أن يوصل إليه منافع العوض، فإن تفضل الله بها سقط عن الظالم، وإن لم يتفضل بها فهي على الظالم وتصير كمن يقضي الدين عن غيره تفضلاً، فكما أن هذا التفضل لا يسق حق صاحب الدين، بل أن يفضل به سقط وجوبه، وإن لم فوجوبه، فكذلك هذا.
تنبيه لما ذهب الجمهور إلى المنع من التفضل بالعوض منعوا أن يمكن الله الظالم من إيلام المظلوم إلا إذا كان في المعلوم /308/ أنه يموت، وله من الأعواض ما يوفي عنه المظلوم، والأمتعة بضرب من الموانع والشواغل.
فإذا قيل لهم: نحن نعلم أن في الناس من يشتد ظلمه ويعم جوره كالحجاج ونحوه، ويعلم أنه يعيش في رفاهيَّة ودعة، فمن البعيد أن يكون له من الأعواض ما يوفي به المظلومين.
قال: لا نسلم ذلك، بل لا بد من أن يصل إليه من الآلام والغموم في الدنيا ما يكون عوضه مؤقتاً لأهل الحقوق، فإنه لا يمتنع أن يحصل عليه من الغموم بالموت أو غيره شيء عظيم لفوات دنياه ولذته وشبابه وربما يعظم الله عليه آلام الموت بحيث يستحق عليها ما يوفي أهل الحقوق.
فأما من ذهب إلى جواز التفضيل بما يستحق على الظالم من الأعواض فإنه يجوز أن يمكنه من الظلم، وإن لم يكن له أعواض لكنه لا يمكنه من ذلك إلا وقد علم أنه يتفضل عليه ويصير من حالة التمكين كالملتزم بما يجب عليه من الأعواض كمن يلتزم ما على المفلس من الدين، فإنه إذا التزمه لزمه ولزومه لا يخرجه عن كونه تفضلاً في الأصل.
فصل
في إسقاط العوض، أما ما يعلم مقدراه كأروش الجنايات وقيم المتلفات وأنواع القصاص فلا شبهة في صحة إسقاطه من العاقل المختار، وأما ما يجهل مقداره، فإما أن يندب إلى إسقاطه كالأطعمة في الوجه وكالضرر الحاصل لأجل الغيبة والشتم ونحو ذلك، فقيل: لا يسقط؛ لأنه لا يعلم مقداره، فهو كالمحجور عليه، ولا يمتنع أن يكون لو علم مقداره لما سمحت نفسه بإسقاطه، وقيل: يسقط وهو الحق؛ لأن الشرع ندب إلى إسقاطه، وهو لا يندب إلى إسقاط ما لا يصح إسقاطه؛ ولأن له في الإسقاط ثواباً وهو أبلغ من العوض؛ ولأنه لو لم يسقط لما افترق الحال بين ما يبري ذمة غيره من مثل هذه المضار المذكورة، وبين من لا يبري، ولا كان إبراء الذمة يُعد إحساناً، فأما ما يستحق على الله من الأعواض فلا يصح إسقاطه؛ لأنه يبلغ في الكثرة مبلغاً لو علمه أحدنا لكان في حكم الملجأ إلى أن لا يسقطه؛ ولأنه لم يحصل فيه ندب يقتضي صحة إسقاطه؛ ولئن الإسقاط لا يصح إلا في حق من ينتفع بالإسقاط ويتضرر بالإيفاء ونحو ذلك.
فصل [في دوام العوض]
لا خلاف بين الشيوخ في أن الأعواض التي تستحق على العباد منفعة؛ لأن المعتبر فيها المساواة من حيث تجري مجرى أروش الجنايات وقيم المتلفات، فإيجاب الزيادة حيف.
واختلفوا في العوض يحسن من الله الإيلام لأجله، فقال الجمهور: يستحق لا على جهة الدوام.
وقال أبو الهذيل: وبعض البغدادية: يستحق دائماً، وبه قال أبو علي: أولاً ثم رجع إلى قول الجمهور.
لنا: إنما أوجبنا أن يبلغ مبلغاً عظيماً من حيث ألمنا من دون مراضاة ولا بد أن يبلغ العوض مبلغاً لا يختلف أحوال العقلاء في اختياره، وذلك حاصل مع الانقطاع، ألا ترى أنه لو قيل لأحدنا يمرض يوماً ويعطى ملك عشر سنين لاختار /309/ المرض لأجل الملك، وإن كان منقطعاً.
يوضحه أن العقلاء يستحسنون تحمل المشاق في الأسفار وإيلام الصبيان بالتعليم والتأديب لمنافع تنقطع، فلو اعتبر الدوام لما جسر ذلك؛ لأن شرط حسن الفعل لا يختلف باختلاف الفاعلين.
شبهتهم أنه لو كان منقطعاً لصح إيصاله في الدنيا، فلو علمنا تأخره إلى الآخرة، علمنا أنه دائم كالثواب؛ لأن ما كان في الآخرة فهو دائم.
والجواب عندنا: أنه يصح إيصاله في عرصة القيامة ويصح إيصاله في الدنيا، لكن بشرط أن لا يكون في ذلك مفسدة، وأن لا يكون على مستحقه عوض لغيره عند من لا يجيز أن يتفضل الله بإنفاء الحق على الظالم.
على أن في الأعواض مالم يمكن إيصاله في الدنيا كأعواض الأمانة وما يقارنها.
قالوا: لو وصلت إليه في الدنيا لعلمها.
قلنا: ليس العلم معتبراً في الأعواض، ولهذا يستحقها من لا يعلم كالبهائم، ومن لا عقل له بخلاف الثواب والعقاب، فإن من حقها الإجلال وعكسه، فلا بد من العلم.
شبهة
قالوا: لو كان منقطعاً لصح إيصاله دفعة واحدة لا في صحة انقطاعه.
شبهة
قالوا: لو انقطع التألم بانقطاعه فيستحق عوضاً آخر وأيضاً فلا تكليف في الآخرة يحسن لأجله هذا الإيلام في الآخرة.
والجواب: أنه ينقطع على وجه لا يتألم بانقطاعه كما سيتضح.
قالوا: لا بد في الألم من عوض واعتبار ومعلوم أن منافع الاعتبار دائمة، فكذلك منافع العوض.
والجواب: منع الجامع والفرق أن عند الاعتبار بمثل الطاعة، فيستحق المنافع الدائمة لأجل الطاعة، لا لأجل الاعتبار بخلاف منافع العوض فإنها تجري مجرى الإبدال.
تنبيه
القائلون بانقطاع العوض يجوزون أن يتفضل الله بأمثاله دائماً، فإن انقطع ولم يتفضل بأمثاله فلوجه حكمةٍ، وهو أن يرى صاحب الجنة ذلك وقد وثق بدوام نعيمه، فيزداد سروره ويراه صاحب النار وقد وثق بدوام عقابه فيزداد غمّه، ويتمنَّى الموت وإن تصبر جماداً كما حكى الله بقوله: {ويقول الكافر يا ليتني كنت تراباً}.
فصل
في كيفية اتصال العوض إلى مستحقه إن كان مستحقه من غير جنس المكلفين وصلت إليه أعواضه على الحد الذي أحسن معه إنزال الألم، ثم ينقطع، فإذا انقطعت جاز أن يتفضل الله بأمثالها، وجاز أن يميته معافصة، وجاز أن ينقله إلى صورة يلتذ بها أهل الجنة لو ينفر منها أهل النار، وكل هذا لا شبهة فيه.
والذي يستنبه الحال في هل يجب أن يكون العوض من جنس ما يألفه حتى يحصل للسباع افتراس في الجنة، وللخيل وللجمال حشائش وأبناء ونحو ذلك مما يُشنع به أهل الإلحاد وعندنا أنه يجوز أن يكون /310/ أعواضهم من غير جنس ما تألفونه، وإنما اعتبر ذلك في الثواب أن يكون من جنس ما يألفه المثابون لأمرٍ يرجع إلى أن الترغيب والترهيب لا تعقل إلا فيما ألغوه بخلاف العوض، وجائز أن يكون من جنس ما يألفونه، ولا يؤدي إلى افتراس ونحوه، بل يخلق الله للسباع لحوماً يعينهن على الافتراس.
وأما الحشائش فصحيح أن ينتفع البهائم بشيء من بنات الجنة.
وإن كان المعوض من جنس المكلفين فإن كان من أهل النار وصل إليه عوضه أما في عرصة القيامة أو في النار على وجه لا يقع له به اعتداد بأن يحقّق من عقابه بمقدار ما يستحقه، فإن دفع الضرر يجري مجرى النفع عنه، ولا يلزم أن يكون قد لحقه روح ولا راحَة؛ لأنه ينزل منزلة من يضرب بالسياط دائماً، فإنه إذا رفعت عنه ضربة واحدة لم يقع له بها اعتداد.
وإن كان من أهل الجنة وصل إليه عوضه على وجه يقع له به الاعتداد، واللذة مفرّقاً على الأوقات بحث لا يغتم بانقطاعه ويتنزل منزلة من بين يديه أطعمة لذيذة مختلفة الأنواع، ثم يؤتى بلقمة شهيَّة في خلال ذلك، فإنه يلتذ بها الالتذاذ اللائق ولا يغتم بفقدها، بل يمكنه الله من أن يخطر بباله انقطاعها.
الكلام في القرآن الكريم
القرآن هو كلام الله المنزل على محمد للإعجاز بسورة منه أو بعدة آياتها، ولنا: أو بعدة آياتها؛ لأن الإعجاز ليس من حقه أن يكون بسورة، بل أقل ما ثبت فيه الإعجاز ثلاث آيات.
فصل [في حقيقة الكلام والمتكلم]
أما الكلام فهو ما انتظم من الحروف المسموعة المتميزة وزاد بعضهم المتواضع عليها احترازاً من المهمل، وليس بصحيح.
وزاد ابن متوبة: الصادرة من قادر واحد احترازاً من أن يلفظ لا قط بالزاي من زيد وآخر بالدال ، وهذا غير محتاج إليه؛ لأنه لا يمكن القادر أن ينطق بالحرف الواحد.
قلنا: ما انتظم شبيهاً بالنظام الحقيقية لتواليه على السمع.
قلنا: من الحروف لأن الحرف الواحد لا يكون كلاماً.
وأما قولهم: عِ الكلام و شِ الثوب ونحوه، فأصله عي وشي من الوعي والوَشَى وإنما حذفت الياء تحقيقاً بدليل ارجوعها في التثنية وفعل المتكلم.
قلنا: المتميزة احترازاً من ضرير الباب وأصوات البهائم.
وقلنا: المسموعة احترازاً من الكتابة.
والشيخ أبو عبد الله والنحاة: يعتبرون الإفادة، فكأنهم أرادوا بذلك الكلام الاصطلاحي لا اللغوي، وذلك متفق عليه.
واعلم أن القائلين بإثبات الكلام النفسي فريقان: فريق ينكرون كون هذا المسموع كلاماً ويدعون أن تسميته كلاماً مجاز، وهذا مباهتة، وفريق يعتبرفون بأن هذا المسموع كلام ويدعون إثبات كلام آخر قائم بالنفس ويجعلون هذا الاسم مشتركاً بينهما، وهذا أيضاً بعيد عن التحصيل؛ لأن من ينفي الكلام النفسي كيف يسلم أن الاسم موضوع عليه بالاشتراك.
وأيضاً فالعرب لا يعقلون الكلام النفسي /311/ فضلاً عن أن يضعوا له عبارة أو يشركوا بينه وبين غيره فيها.
يوضحه أنه إذا أطلق الكلام فإنما يسبق أفهامهم إلى هذا المسموع.
وأما المتكلم فهو عندنا فاعل الكلام بدليل أن من علمه فاعلاً للكلام علمه متكلماً، ومن لم يعلمه فاعلاً للكلام لم يعلمه متكلماً.
ولهذا أضافت العرب كلام الممرور إلى الجن لما اعتقدوا أن الجن يفعله، فهو كسائر أسماء الفاعلين.
وقالت المجبرة: هو من قام به الكلام، وهذه إحالة لأنهم يحدون الكلام بأنه أيضاً ما قام بالمتكلم.
على أنا سنذكر الكلام النفسي ونبين أنه لو ثبت لما صح على الباري تعالى.
وأيضاً، فليس للمتكلم بكونه متكلماً حال تعلل بمعنى وإلا وجب صحة العلم بتلك الحال قبل العلم بما يؤثر فيها كسائر ما يوجب حالاً؛ ولأنه لا طريق إلى إثبات هذه الحال البتة، والذي يجده أحدنا من نفسه هو قدرته على الكلام، أو علمه بترتيب حرفه أو كيفيَّة إيرادها أو العزم عليها أو التفكر فيها أو القصد إلى إبرازها، ولأنه لو كان للمتكلم حال وقدرنا تضاد الحروف وانه خلق لأحدنا آلتان لاستحال أن ينطق بحرفين ضدين؛ لأنه كان يحصل عل حالين ضدين.
وعلى الجملة، فإذا أبطلنا الكلام النفسي صح أن حقيقة الكلام والمتكلم ما قلناه.
فإن قيل: هلا كان المتكلم من جلة الكلام أو حل بعضه أو أثر في آلته أو احتاج إليه أو قام به، أو لأنه كلام قلنا أكثر هذه باطل بالاتفاق.
ويبطل الأول والثاني أنه كان يجب أن يكون اللسان هو المتكلم والمبعوث بالرسالة والقاذف ولا مستحق للذم والمدح، وكذلك في الصدى؛ لأن الكلام قد يحله كما يحله اللسان، وكان يلزم أن تكون الشجرة هي التي كلمت موسى عليه السلام.
على أن أقل الكلام حرفان، ولا يكاد يوجد حرف إلا ومخرجه خلاف مخرج الآخر.
ويبطل الثالث أنه لا معنى لكونه أثر في آلته إلا أنه تضاد الخرس والسكوت عليها وسنبين أنه لا ضد للكلام.
ويبطل الرابع أن السائل إن أراد إباحته إليه أنه حلّة فقد أبطلناه، أو أنه الذي فعله فهو الذي يقول أوانه مضمن له لم يصح؛ لأن معنى التضمين هو أن لا تحصل الذات إلا على صفة ولا تحصل على تلك الصفة ولا تحصل على تلك الصفة إلا إذا حصلت على صفة أرى، لا تحصل على تلك الصفة إلا لمعنى، فتكون تلك الذات مضمنة بذلك المعنى كالجوهر والكون، وهذا غير ثابت في الكلام والمتكلم والألم يصح أن يحذوا أحدنا عن الكلام.
فصل
والذي يعرف إضافة الكلام إلى المتكلم في الشاهد، إما أن يشاهده بصدر منه أو يعلم وقوفه على قصده وداعيه أو يخبر بالصادق بذلك، والذي يعرف إضافة الكلام إلى الباري هو أن يقع على وجه لا يتأتى من القادرين بالقدرة إيقاعه عليه، كأن يوجد في الْحصَى والشجر أو يخبرنا فتى صادق بأنه كلام الله، وبهذا يعلم أن القرآن كلام الله؛ لأنه لولا السمع لجوزنا أن يكون من فعل غير الله تعالى، فإنه ليس من ضوررة المعجز أن يكون /312/ من فعل الله تعالى.
فصل
لا خلاف بين الناس في أن القرآن كلام الله، وإنما اختلفوا في القرآن ما هو.
فقال جمهور أهل العدل: هذا المتلو في المحاريب، المكتوب في المصاحف، المسموع من ألسنة القارئين، وبهذا قال بعض القائلين: تقدم القرآن كالكراميَّة والحنابلة وأصحاب الحديث. وقال شيخنا أبو علي وأبو الهذيل بمقالة الجمهور، لكن جعلوا الكلام من قبيل الحروف لا من قبيل الأصوات، فجعلوه جنساً غير الصوت مسموعاً مع الصوت وباقياً دون الصوت، وإنما قالوا بهذا لئلا يلزم أن يكون التالي قد فعل مثل كلام الله تعالى، وهذا غير لازم؛ لأن التالي يفعل مثل ذلك محتذياً، وليس من احتذى على فعل غيره يقال قد فعل مثله، فإن من أنشد قصيدة امرء القيس لا يقال قدحاً بمثلها، فبطل ما توهموه.
وقال جمهور المجبرة: كلام الله تعالى معنى قديم قائم بالنفس.
واختلفوا في هذا المتلو، فقالت الكلابية: هو حكاية كلام الله فألزمهم أصحابنا أن تكون الحكاية قديمة أو يكون المحكي محدثاً؛ لأن الحكاية والمحكي واحد، ولما رأت الأشاعرة وقوع هذا الإلزام قالوا: هو عبارة كلام الله لينفصلوا عن هذا الإلزام وما علموا أنه لازم لهم أيضاً؛ لأن العبارة لا بد أن يكون من جنس المعبر عنه وإنما فصل أهل اللغة في التسمية بين العبارة والحكاية من حيث أن الحكاية ترد بلفظ المحاكي والعبارة ترد بلفظ غير لفظ المعتبر عنه.
وسبيلنا أن نبين أولاً أن الكلام من جنس الحروف والأصوات، ثم نبطل الكلام النفسي، ثم يدل على أن هذا الكلام الذي بينا هو كلام الله تعالى، ثم يدل على أنه محدث وبذلك يتم الغرض في هذا الباب.
القول في إبطال الكلام النفسي شاهداً أو غائباً
أما في الشاهد فالمعقول من الكلام هو هذه الحروف والأصوات بدليل أن من علمها وصفها بأنها كلام وإن جهل المعنى النفسي، ومن جهلها لم يصفها بأنها كلام، وإن علم المعنى النفسي.
وبعد فلا بد من القول بصحة إدراك المعنى النفسي.
فيقال: أرأيتم لو خلق الله فينا إدراكه هل كنا ندركه بصفة الحروف والأصوات حتى يكون مترتباً مفيداً متواضعاً عليه، فهذا إقرار بأنه من جنسها أو كنا ندركه على صفة غير هذه فما هي وكيف يكون كلاماً دون غيره من معاني النفس وبماذا يتميز عن غيره.
وبعد فالمعنى إذا لم يكن مدركاً ولا موجوداً من النفس فالدليل عليه إما صفة توجبها أو حكم يصدر عنه وقد قررنا أنه لا صفة للمتكلم بكونه متكلماً ولا حكم، ومعلوم أن هذا المعنى النفسي غير مدرك ولا موجود من النفس، فثبت أنه لا طريق إليه.
قالوا: أوليس أحدنا يجد من نفسه أنها طالبة إذا أراد أن يأمر غيره بشيء لذلك الشيء سواء وحدت الحروف والأصوات أم لا، فلذلك /313/ الطلب هو الأمر والأمر هو أحد أنواع الكلام.
قيل لهم: الطلب الذي يحده أحدنا من نفسه هو إرادة ذلك الشيء بدليل أنه لا يصح أن يقول طلبت وما أردت ولا العكس ولا شك أن الإرادة تثبت وإن لم يوجد الحروف والأصوات، بل لا يكون الحروف والأصوات أمراً إلا بالإرادة ليفترق الحال بين الأمر والتهديد والإباحة والتحدي.
وقولهم: إن ذلك الطلب هو الأمر باطل؛ لأن أحدنا يجد نفسه طالبة لفعل من الأفعال ولا يوصف بأنه آمرٌ به مالم يقل أفضل؛ لأنه قد اتفق العقلاء من أهل اللغة على أن الأمر من قبيل الأقوال وقد ادعى أهل العناد منهم أن هذا الطلب النفسي يوصف بأنه قول، ومن بلغ في التجاهل إلى هذا الحد سهلت مكالمته، وقيل له: فهلا جعلت العلم والشهوة من قبيل الأقوال؟
وبعد فعند الخصوم أن السيد إذا أراد أن يظهر عصيان عبده له فإنه يأمره ولا يجد نفسه طالبة للفعل؛ لأن وقوع الفعل ظهور كذبه، فقد حصل الأمرين ممن دون طلب.
قالوا: الدليل على الكلام النفسي أن أحدنا إذا أراد الكلام وجد في نفسيه معنى، فذلك هو الكلام.
قيل لهم: الذي يجده في نفسه هو تصور الكلام والعزم عليه والعلم بترتب حروفه والتفكر في كيفيَّة إيراده، وكل هذه كما يجدها أحدنا من نفسه قبل الكلام بحدها أيضاً قبل الكتابة، وقبل البناء والسفر، فهلا كانت الكتابة والبناء والسفر معاني في النفس.
قالوا: العرب تقول: في نفسي كلام يقولون في نفسي الحج وبناء دار والسفر ونحو ذلك، فهلا جعلت معاني في النفس.
وأما قوله تعالى: {يقولون في أنفسهم} ونحوها، فلن يعدوا ما ذكرناه من عزمهم على إيراد هذا القول وتفكرهم في كيفيَّة إيراده واعتقاد مقتضاه، ونحو ذلك، وقد قيل أنهم يطهرون هذه للأقوال في ما بينهم على حد لا يسمعها غيرهم ويوصف ذلك بأنه سر وبأنه قول في النفس.
ألا ترى أن أحدنا إذا كلم نفسه بحيث لا يسمعه أحد وصف بأنه سر، وقيل: فلان يحدث نفسه ويقول في نفسي وأشباه ذلك.
يوضحه أنه لو كان كما زعم الخصم من أن الذي في النفسي سيما كلاماً وقولاً للزم إذا أخطر أحدنا /314/ يناله أن يطلق امرأته أو يعتق عبده أن يطلق أو يعتق؛ لأنه قد قال: أنت طالق، ولكنه قال سراً ولا فرق بين السر والجهر في ذلك كما لو لفظ به في الخلاء.
وأما بنت الأخطل فلا يوثق به؛ لأنه كان نصرانياً فلا نأمن أن يكون دس لأهل الزيغ ما يوافق مذهبهم وكيف يوثق بكلام نصراني في أن القرآن معنى قائم بذات الباري، وقال ما يتوصل بذلك إلى نفي كونه معجزاً للشيء عليه السلام ومختصاً به، وإلى الذي جاء به محمد ليس بكلام الله.
وبعد، فلو كان الذي يحده أحدنا في نفسه كلاماً لما صح منا وصفه بأنه ساكت حتى يعلم أنه ليس في نفسه كلام، ولكان إذا حلف بطلاق امرأته ما قلت شيئاً، مع أنه قد وجد في نفسه ذلك أن تطلق وإن لم يلفظ به.
قالوا: أليس السيد يسير إلى عبده فيفهم مراده ويجب امتثاله، وكذلك الأخرس يجب وقوع طلاقه وعتاقه وكفره وغيمانه، ويصح منه القذف، فدل ذلك على أن الكلام في النفس.
قيل لهم: هذا نبأ منكم على أن الفهم والطلاق والعتاق والكفر ونحو ذلك لا يقع إلا بالكلام، ونحن نختر وقوعها بغير الكلام.
قالوا: لو كان الكلام من قبيل الحروف والأصوات لكان كل صوت كلاماً.
قيل لهم: لا يلزم ذلك كما لا يلزم إذا كان المشيء من قبيل الحركات أن يكون كل حركة مشيئاً، وإذا كانت الكتابة من قبيل التأليف أن يكون كل تأليف كتابة.
قالوا: أقل ما يكون الكلام عندكم من حرفين، ولا بد أن يعدم الأول عند وجود الثاني والكلام من حقه أن يكون موجوداً دفعه واحدة.
قيل لهم: أما من سلم منكم كون الحروف والأصوات كلاماً فلا يمكنه إيراد هذا السؤال، وأما من لا يسلم فيقال له: ولم زعمت أن من حق الكلام أن يوجد دفعة واحدة، ثم يرد عليه السؤال في العبارة والحكاية.
فيقال: من حقها أن تكون موجودة دفعة واحدة، وجوابه جوابنا، قالوا: يدل على الكلام النفسي هذه العبارة.
قيل لهم: إذا كان لا علقة بينهما وبينه لم يكن بأن يدل عليه أولى من غيره من المعاني القائمة بالنفس؛ إذ لا مخصِّص لشيء دون شيء.
فصل
وأما إبطال الكلام في حق الباري تعالى، فهو أنه لا طريق إليه كما تقدَّم.
وبعد، فلو كان متكلماً بكلام قديم وكان ما يفعله من العبارة دليل على ذلك المعنى لكان إذا قال أحدنا لغيره أشرك بالله أن يكون الله تعالى قد أمر بالشرك؛ لأن هذه العبارة دليل على المعنى القائم بذات الله تعالى، وليس صدورها منَّا يمنع كونها دلالة؛ لأن الأدلة لا تختلف دلالتها باختلاف الفاعلين.
على أن عندهم أنه لا فعل لنا وإنما نفعله نحن من العبارة هو من فعل الله تعالى، فلا يفترق الحال في دلالتها على الأمر القائم بذات الله تعالى بين أن يفعلها الله في أحدنا /315/ ولأن أن يفعلها في الحصى والشجر.
وأيضاً فكيف يكون المسموع عبارة عن المعنى النفسي، وهو لا يريد جميع ما يفيده المعنى النفسي، وكيف يكون دلالة عليه والحال هذه.
وبعد، فأما أن يكون المعنى النفسي أشياء كثيرة قائمة بذات الباري بعضها أمر وبعضها نهي وبعضها خبر، وهذا ظاهر الفساد وهم لا يقولون به أيضاً.
وأما أن يكون كما يزعمون شيئاً واحداً وهو مع ذلك أمر ونهي وخبر واستخبار وثمن ودعاء، وهذا فيه من التهافت والبعد مالا يخفى، ولو ادعينا الضرورة في فساده لأمكن فإنه كيف يكون الشيء أمراً نهياً، وهل هذا إلا بمنزلة أن يكون الشيء سواداً بياضاً وكيف يصح في الشيء الواحد أن يفيد الفوائد المختلفة، ولو كان شيئاً واحداً وهو مع ذلك توراة وإنجيل وفرقان لكان القرآن الكريم قد نزل على جميع الأنبياء، فلا يكون لمحمد به اختصاص، ولكان يصح وصف القرآن بأنه توراة وإنجيل ويمتنع وصف التوراة بالنسخ، بل يجب ذلك في كل كلمة من القرآن حتى يكون قوله تعالى: {محمد رسول الله} توراة وإنجيل؛ لأن الكل شيء واحد.
وبعد، فلو كان الله متكلماً بكلام قديم لما كان ذلك المعنى ليختص بعض المخاطبين دون بعض، فلا يكون الأمر بأن يتوجه إلى …… أولى من غيره ولا أولى من النهي وسائر أنواع الكلام، حتى يكون مأموراً منهياً بشيء واحد دفعة واحدة؛ إذ لا اختصاص للمعنى القديم كالعلم والقدرة.
وبعد، فهذا الكلام القديم إما أن يوصف بأنه أمر فيما لم يزل ونهي وخبر كما يقوله جمهور الخصوم، وهذا قول ينبغي أن لا يكون لقائله تميز؛ لأنه كيف يكون الشيء خطابا ولا مخاطب وأمراً ولا مأمور، وخبراً ولا مخبره، ولو صح هذا لكان يصح أن يكون الشيء وديعة ولا وديع وديناً ولا مدين، وكان يصح وصف الباري بأنه فاعل خالق فيما لم يزل، وإن لم يكن هناك خلق ولا فعل، وأما أن لا يوصف بشيء من ذلك فيما لم يزل كما ذهب إليه عبد الله بن سعيد منهم، فهو باطل بما قاله أصحابه له من أن الأمر والنهي والخبر أنواع الكلام، فلا يصح إثباته مع نفيها.
وبعد، فلو كان الله متكلماً بكلام قديم لما صح وصفه بأنه إن شاء أمر وإن شاء نهى وإن شاء قال وإن شاء لم يقل، بل لا يوصف بالقدرة على شيء من الأقوال؛ لأنه كيف يصح ذلك، ولم يوجد فيما لم يزل، وكل مذهب أدَّى إلى أن الله تعالى غير مختار في أمره ونهيه وخطأه فهو ظاهر السقوط والفساد.
وبعد فإن الكلام لا بد أن يكون مفيداً وإنما يكون مفيداً بالمواضعة وبأن يكون بعضه متقدماً على بعض وكل ذلك لا يتأتى في المعنى القديم.
وبعد، فلو كان متكلماً في مالم يزل لكان هادياً عابثاً؛ لأنه كيف يحسن أن يقول {يا موسى اخلع نعليك إنك بالوادي المقدس طوى}، وليس هناك وادٍ ولا موسى ولا نعلان، وهل هذا إلا في غاية السفه كما في الشاهد.
وبعد فما ذكروه يقتضي أن يكون /316/ جميع القرآن مجازاً، وكذباً؛ لأنه كيف يقول فيما لم يزل كذبت قوم نوح وليس ثم تكذيب ولا مكذب، فلا بد أن يكون هذا خبراً عن الشيء لا على ما هو به أو مقدراً فيه مانع يصير مجازاً.
وبعد، فكان لا يصح وصف الله بالقدرة على أن يكلف شخصاً قط؛ لأن التكليف هو بالخطاب عندهم والخطاب إن كان موجوداً في مالم يزل فليس بمقدور، فكذلك التكليف؛ لأنه خطاب وإن كان غير موجود في الأزل فليس يصح حدوثه.
وعلى كل حال فيستحيل على أصلهم أن يكلف الله شخصاً زائداً على من كلفهم؛ لأن تكليفه لم يوجد في الأزل.
وبعد فيقال لهم: ما دليلكم على أن الله تعالى يوصف بالكلام.
فإن قالوا: الشرع دلنا على أنه أمرٌ تاهٍ قيل لهم: وكيف يعلمون صحة قول الأنبياء؟ قيل: إن تعلموا أن الله متكلم.
فإن قالوا: علمناه بالمعجز.
قيل لهم: عندكم أن وجوب تصديقهم عند ظهور المعجز إنما تعرف بالشرع، فكيف عرفتم ذلك الشرع الذي دل على وجوب تصديق الأنبياء عند المعجز.
قيل: إن تعلموا أن الله متكلم.
على أن الشرع إنما دل على أنه متكلم بالكلام الذي هو حروف وأصوات يفعلها بحيث تسمع، وأتم توافقون في أن ما هذا حاله فهو كلام فما دليلكم على المعنى النفسي.
وبعد، فإذا جاز إثبات كلام قديم يخالف الحروف والأصوات فهلا جاز إثبات لون قديم يخالف هذه الألوان وليس هذا بأبعد من ذلك.
فصل
وبأكثر هذه الوجوه يبطل كونه متكلماً لذاته كما ذهب إليه برغوث ويختص هذا المكان أنه لو كان متكلماً لذاته لكان متكلماً بجميع أنواع الكلام؛ لأنه لا اختصاص لذاته ببعض دون بعض، فكان يكون في كلامه الرفث والكذب، وسواء لنا على نفسه والهذيان والأمر بالقبيح ونحو ذلك، فلا تقع الثقة بشيء من الشرع، وقد اعتصموا من هذا بأن قالوا أنه صادق لذاته.
قيل لهم: هذا هو مجرَّد المذهب، فكيف يدفعون به الإلزام؛ ولأن الصدق كلام مخصوص، مما لم يثبت كونه متكلماً لذاته لا يثبت كونه صادقاً لذاته؛ لأن الصدق نوع الكلام.
على أن أصولهم في الجبر وغيره يسند عليهم طرق العلم بأنه تعالى صادق فضلاً عن أن يكون صادقاً لذاته.
وبعد، فلو كان متكلماً لكان أيضاً مكلماً لذاته؛ لأن المكلم أخص من المتكلم، فإذا كانت الصفة العامَّة للذات، فكذلك الخاصة ويصير ككونه عالماً بجميع الأشياء لذاته، فإنه يجب أن يكون عالماً بالشيء المعين لذاته، وغذا كان كذلك لم يتوجه كلامه إلى بعض الموجودات دون بعض ولا إلى الموجود دون المعدوم، ولم يكن بأن يتكلم بالكلام على وجه أولى من وجه حتى يلزم أن يتكلم بكلامه جهرة.
ولا ينقلب هذا علينا في كونه تعالى عالماً لذاته فيقال: يجب أن يكون تعالى معلماً لذاته؛ لأنا نقول ليس أحدهما عامَّة، والأخرى /317/ خاصة حتى يدخل الخاصَّة تحت العامة، بل كل واحد بمعزل عن الأخرى بخلاف المكلم والمتكلم.
وبعد، فلو كان متكلماً لذاته، لكان قائلاً لذاته فيما لم يزل أنا أرسلنا نوحاً إلى قومه وإن لم يكن أرسل، وهذا صريح الكذب.
فإن قالوا: أن مراده سنرسل؛ لأن هذه طريقة أهل اللغة وعلى هذا، قال تعالى: {ونادى أصحاب النار} أي سينادي.
قلنا: إنما يصح أن يقصد بالخبر عن الماضي الخبر عن المستقبل إذا كان الخبر محدثاً حتى يصح القصد إلى جعلة خبراص عن شيء دون شيء، فأما وهو قديم أو من صفات الذات، فلا يصح أن يصير كذلك بالقصد؛ لأنه بمنزلة من يقول أن العلم القديم يصير قدرة بالقصد.
ثم إن سلمنا أن المراد سنرسل، فكان يلزم أن لا يتغير فائدته إلى الآن حتى يكون قائلاً الآن أنا سنرسل وغن كان قد أرسل في الماضي فيلزم الكذب؛ لأنه كيفي تغيَّر صفة الذات بتغير الأزمان.
ولا ينقلب علينا هذا في أن العلم بأن الشيء يسوجد علم بوجوده إذا وجد؛ لأن التغيّر هناك هو في المعلوم لا في كونه عالماً.
فصل
وشبهتهم أنه تعالى لو لم يكن متكلماً في مالم يزل بكلام قديم أو لذاته، لكان أخرس أو شاكياً كالشاهد.
والجواب: منع الجامع والعرف بأن الشاهد متكلم بآلة والخرس والسكوت إنما يطلقان على المتكلم بآلة.
وبعد، فإذا اعتمد في ذلك على الشاهد، فمعلوم أن الشاهد إذا لم يكن متكلماً بهذه الحروف، والأصوات كان أخرس أو ساكتاً، فيلزم إذا لم يكن الباري متكلماً بها في مالم يزل أن يكون أخرس أو ساكتاً.
وبعد فلا شك أنه تعالى أمر بأشياء دون أشياء واختر ناسياً دون أشياء.
وبالجملة فهو متكلم في أشياء دون أشياء، فيلزم أن يكون تعالى أخرس أو ساكتاً غماً لم يرد له فيه كلام.
وقد أجاب بعضهم بأن قال: الكلام القديم يستحيل بقديره على وجه آخر.
وهذا زلل وخطل؛ لأنا إنما ألزمناهم ثبوت ضد الكلام في مالم يرد يه كلام ولم يلومهم تقديراً لكلام على وجه آخر.
على أن هذا تصريح بأنه لا يصح وصفه تعالى بأنه يصح أن يأمر بمالم يأمر به في مالم يزل.
وأجاب آخرون بما معناه أنه لم يخل شيء قط عن أن يكون لله فيه كلام فما أمر به أخبر أنه أمر به وما نهى عنه، فقد أخبر بأنه نهى عنه، ومالم يأمر به فقد أخبر بأنه لم يأمر به.
وهذا أشد تهافتاً؛ لأن من أمر بشيء لم يوصف بأنه مخبر بأنه أمر به، وكذلك من لم يأمر لا بوصف بأنه أخبر بأنه لم يأمر ولا شبهة عند أحد من أهل التمييز في أن الخبر يخالف الأشياء، ولو صح ما قاله هذا لصح دخول التصديق والتكذيب في الأمر والنهي وتركها.
وقولهم: أنه تعالى يعلم جميع الأشياء، وكل من علم شيئاً فلا بد أن يكون في نفسه خبر عنه يطابق قضيَّة علمه، فهو هدر لا حاصل له /318/ ودعوى لا دليل عليها.
أما أوَّلاً فأحدنا يجد نفسه غير مخبره عن كثيرة مما يعلمه، ولولا ذلك لصح أن يقول لمن لقينا صدقت أو كذبت؛ لأنه ما من أحد إلا ويعلم أشياء.
وأما ثانياً فيقول: لم كان الخبر مطابقاً للعلم في حقِّه تعالى دون الأمر، وهلا كان أمراً بما بعلمه وإن كان قبيحاً، وليس في ذلك أكثر من الأمر بالقبيح، فقد جوز، وأما هو أعم منه وهو إرادته وفعله.
وبعد فكلامهم هذا مبني على أن الخرس والسكوت يضادّان الكلام، ولسنا نسلمه وإنما المرجع بالخرس إلى إفساد آلة الكلام وبالسكوت إلى إمساكها وسكينها عن التكلم مع القدرة عليه فلا يصح إطلاق الخرس والسكوت إلا على المتكلم بىلة.
بوعد فكيف يضادان الكلام ومحلهما اللسان ومحله القلب وعند الخصوم أن التضاد في حقنا لا يكون إلا على المحل.
وبعد فلو ضاداه لما صح من الله إيجاد الكلام في لسان الأخرس مع بقاء الخرس ومعلوم صحة إيجاده فيه كما يوجد في الحصى والشجر.
وبعد فالجماد ليس بمتكلم ولا أخرس ولا ساكت، وكذلك الصبي والبهيمة.
وبعد فأحدنا يوصف بأنه متكلم بما في الصدى، وإن كان أخرس أو ساكتاً حال حصوله في الصدى.
وبعد فقد ثبت أن المرجع بالحرس إلى فساد آلة الكلام، وذلك بأمور لا يشتبه الحال في أنها لا تضاد الكلام كالرطوبة المفرطة والجفاف المفرط ونحو ذلك.
وبعد لو خلق لأحدنا آلتان لصح أن يكون متكلماً بأحدهما وساكتاً بالأخرى، فلو كان الخرس والسكوت يضادان الكلام لتضادى أيضاً، فكان يحصل على صفين ضدين عد الخصم.
وبعد، فليس المعقول من السكوت إلا بسكين آلة الكلام، والذي يضاده هو الحركة لا الكلام ومتى رجعنا بالسكوت إلى أن لا يعقل الكلام مع القدرة عليه، فإن لا يفعل ففي ولا يصح مضادته لغيره.
وبعد، فلو كانا ضدين للكلام لصح إدراكهما بالآلة التي يدرك بها الكلام؛ لأن هذه سبيل الأضداد.
وبعد فهم نعتمدون في مضادتها للكلام على الشاهد وهما في الشاهد إنما يضادان الكلام الذي هو الحروف والأصوات لا الكلام النفسي.
ومتى قالوا للكلام النفسي ضد غير الخرس والسكوت المعروفين بل خرس وسكوت آخران.
قيل لهم: قد أفرطتم في الهوس؛ لأنكم كنتم أولاً في إثبات كلام غير الكلام المعقول وصرتم الآن في إثبات خرس وسكوت غير المعقول.
وبعد فهب أن الخرس والسكوت تضادان الكلام، فمن أين أنه تعالى إذا لم يكن متكلماً وجب أن يكون أخرس أو ساكتاً وعندنا أنه يصح خلق الحي عن الشيء، وعن ضده، ولولا هذا القيل لهم لو لم يكن فاعلاً فيما لم يزل لكان عاجزاً.
وبعد فيقال لهم: ما تريدون بقولكم يكون أخرس أو ساكتاً؟ أتريدون ماهو المعقول /319/ من الخرس والسكوت، وهو أن يكون مأوف الآلة أو ساكنها فذلك بترتب على ثبوت الآلة أو تريدون بذلك أنه يكون غير متكلم، فذلك لغو منكم وتكرار وإلزام ا نلتزمه، لكن من أين لكم أنه يوصف بأنه أخرس أو ساكت إذا كان غير متكلم مع إيهامه للخرس والسكوت المعقولين.
على أن بعض شيوخنا جوزوا وصفه تعالى بأنه ساكت في كل مالم يفعل فيه كلام، واحتج بما روي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: ((ما سكت الله منه فهو عفو)).
وبعد فيقال لهم: ما تريدون بقولكم: لو لم يكن متكلماً في مالم يزل لكان أخرس أو ساكتاً، أتريدون مع استحالة الكلام؟ أو تريدون مع صحة الكلام؟ فدلوا على أن الباري يصح منه التكلم في مالم يزل حتى إذا لم يتكلم لزم أن يكون أخرس أو ساكتاً.
شبهة أخرى
قالوا: لو لم يكن متكلماً بكلام قديم لكان متكلماً بكلام محدث، وذلك الكلام المحدث إما أن يحل فيه وهو لا يصح أن يكون محلاً للحوادث أو يحل في غيره، فهو لا يصح؛ لأن ذلك الغير يكون الكلام أخص به، فيكون بأن يوجب له أولى من الباري تعالى.
والجواب: كلامنا في كونه متكلماً ككلامكم في كونه رازقاً ومنعماً، فإن جعلوا الرزق والنعمة معنى قديماً قائماً بذات الله، فهو ظاهر البطلان وخلاف قولهم وإن جعلوه محدثاً فجوابهم جوابنا.
والتحقيق أن المتكلم عندنا هو فاعل الكلام ، فمتى فعل الله الكلام في محل محدث من جماد أو حيوان أو شجر وصف بأنه متكلم كالضارب إذا فعل الضرب والرازق والمنعم.
ثم يقال لأهل هذه الشبهة قسمتكم قاصرة فما الكريم أن يكون متكلماً لذاته.
فإن قالوا: هذا لا شك في بطلانه؛ لأنه يلزم أن يكون متكلماً بسائر ضروب الكلام كما أنه لما كان عالماً لذا أنه كان عالماً بجميع المعلومات.
قيل لهم: هذا لازم لكم في كونه تعالى متكلماً بكلام قديم؛ لأنه لا اختصاص للمعنى القديم كالعلم، ثم أكبر ما يلزم من كونه متكلماً بسائر ضروب الكلام أن يكون متكلماً بالكذب والهذيان وسب نفسه، فكذلك مما يجوز عندكم.
ثم يقال لهم: ما أنكرتم أن يكون متكلماً بكلام محدث حال فيه كما أن القدرة والعلم والحياة حالة فيه، فإن قالوا: ليست هذه المعاني حالة فيه، وإنما هي قائمة بذاته.
قيل لهم: فهلا كان الكلام المحدث قائماً بذاته كالمعاني القديمة، فإنكم مالم تفسروا القيام بالحلول لا يمكنكم المنع من قيام المعاني المحدثة به تعالى.
شبهة أخرى
قالوا: لو كلم بكلام محدث لكان قد قبل الحوادث، ولو قبل الحوادث لم يخل منها لصحة حلولها فيه فيكون محدثاً.
والجواب: أن هذا كلام فارغ فإنه لو صح لكان لنا أن نعارضهم بمثله في النعمة والرزق وسائر الأفعال، فنقول: لو كان منعماً بنعمة محدثة لكان قد قبل الحوادث إلى آخره.
وبعد، فلو أدى ذلك إلى صحة حلول الكلام المحدث ليؤدين إلى صحة حلول الكلام القديم فيه.
والحاصل /320/ أن الكلام كغيره من الأفعال.
القول في أن القرآن الكريم هو هذا الذين نتلوه في المحاريب ونكتبه في المصاحف
وقد خالف في ذلك المثبتون للكلام النفسي.
واعلم أنه لا ينكر هذا إلا مباهت مكابر وهو معلوم من ضرورة الدين وإجماع الأمة والقرآن ناطق بذلك، قال تعالى: {فأجره حتى يسمع كلام الله} وقال: {وإذ صرفنا إليك نفراً من الجن يستمعون القرآن}، وقال: {وإذا تتلى عليهم آياتنا} وقال: {وقرآناً فرقناه لتقرأه} وقال: {وإذا قرأ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا} وقال: {وإذا قرأت القرآن} وقال: {ولقد آتيناك سبعاً من المثاني والقرآن العظيم} وقال: {إنه لقرآن كريم في كتاب مكنون} وقال: {وهذا ذكر مبارك أنزلناه}، وقال: {ق والقرآن المجيد} وقال: {بل هو قرآن مجيد في لوح محفوظ}، وقال: {قل لو كان البحر مداداً لكلمات ربي لنفد البحر قبل أن تنفد كلمات ربي}، وقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: ((لا صلاة إلا بالقرآن))، وكذلك ما ورد عنه عليه الصلاة والسلام في الحث على تلاوة القرآن وعلى تعلمه.
وبالجملة فالسمع مشحون بهذا وهو المعلوم ضرورة من الدين.
وبعد، فالإجماع على أن في القرآن الناسخ والمنسوخ، والنسخ لا يتصور في المعنى النفسي، وكذلك الإجماع أنه معجز، وأنه في أعلا طبقات الفصاحة، وأنه عربي، وأن الجنب لا يقرأه، وكل ذلك لا يتأتى في الكلام النفسي.
فإن قيل: كيف يكون هذا الذي بيننا هو القرآن مع أن الكلام مما لا يبقى والذي فعله الله من القرآن قد عدم في الوقت الثاني، وغنما الذي يقرأه مثله.
قلنا: هو كلام الله بالحقيقة العرفية، كما يقوله الآن في قصيدة امرئ القيس أنها قوله على الحقيقة، وكذلك شعر سائر الشعراء وخطب الخطباء، فإنها مضافة إليهم على الحقيقة، وغن كانت أصواتهم التي فعلوها قد عدمت في الثاني، والمعنى أنهم أول من أنشأه وقاله.
ولا يقال: فكان يلزم أن يكون قد فعل مثل كلام الله؛ ولأنه إنما يلزم ذلك إذا فعلناه مبتدأ، فأما على جهة الاحتذاء والتلقين فلا يلزم.
القول في أن القرآن محدث
أهم ما ينبغي تقديمه هنا بيان محل النزاع، ولا شك أنا إذا قلنا القرآن محدث فإنما نريد به هذه الحروف والأصوات المتلوَّة في ألسنة الناس.
فأما الكلام النفسي فلسنا نثبته فصلاً عن أن يحكم فيه بقدم أو حدوث، وأهل التمييز من المجبرة لا يكالمونا في هذا الموضوع؛ لأنهم يعترفون بحدوث هذا الذي يتلوه، ولكنهم يدعون أن القرآن معنى قائم بالنفس غير الذي يسمعه، فموضع مكالمتهم نفي هذا المعنى النفسي.
وأما أهل البلَه منهم كالكراميّة والحنابلة وبعض أهل الحديث فيعترفون بأن الكلام هو هذه الحروف والأصوات المسموعة ويدعون أنه قديم.
والكلام عليهم من جهة العقل أن يقول: إن هذا القرآن /320/ مرتب في الوجود، فبعضه يتقدم على بعض، فالألف من الحمد متقدمة على اللام، واللام على الحا، وكذلك سائرها، وكل ما تقدمه غيره، فهو محدث، وكذلك ما يتقدم على المحدث بأوقاتٍ محصورة، فهو محدث.
دليل، لا شك أن القرآن مقيد بالمواضعة من حيث نزل على لغة العرب ولغتهم إنما تفيد المعاني بالمواضعة، ولهذا تختلف دلالة الألفاظ بحسب اختياراتهم ومواضعهم.
دليل، لو كان قديماً لكانت حروفه موجودة دفعة واحدة في مالم يزل، ولو كان كذلك لبطلت فائدته، لوما كان معقولاً.
دليل، قد ثبت أنه معجز، والمعجز لا بد أن يكون محدثاً من حيث أن المعجز هو الفعل الخارق للعادة المتعلق بدعوى المدعي للنبوة.
دليل، لا شك أن الحروف والأصوات من قبيل الأعراض، وجميع الأعراض محدثة ومحتاجة إلى محال محدثة.
دليل، قد ثبت أن القرآن من أعظم نعم الله على خلقه وأجلها، وبه يتميز الحلال من الحرام، وغليه يرجع في كثير من الأحكام، ولهذا قال تعالى في معرض المنّ، {ولقد آتيناك سبعاً من المثاني والقرآن العظيم} وقال تعالى لموسى: {إني اصطفيتك على الناس برسالتي وبكلامي} ولا يعقل كونه نعم ومنّة إلا إذا كان محدثاً.
دليل، قال تعالى: {ما يأتيهم من ذكر من ربهم محدث إلا استمعوه وهم يلعبون} وهذا صريح في محل النزاع.
ومثله قوله تعالى: {وما يأتيهم من ذكر من الرحمن محدث} ولا شك أن المراد بالذكر القرآن بدليل قوله تعالى: {إلا استمعوه} وقوله: {إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون} وقوله: {وهذا ذكر مبارك أنزلناه} وقوله: {إن هو إلا ذكر وقرآن مبين} وقوله: {وإنه لذكر لك ولقومك} ونحو ذلك، والسبب شهد بهذا لأنهم كانوا يلغون ويلعبن عند نزول القرآن وتلاوته، وقال تعالى: {نزل أحسن الحديث كتاباً متشابهاً} فوصفه بأنه منزل، والقديم لا يصح عليه النزول، ووصفه بأنه حديث والحديث نقيض القديم، ووصفه بأنه كتاب، والكتاب مأخوذ من الاجتماع الكتبية، والاجتماع إنما تعقل في المحدثات، ووصفه بأنه متشابه والقديم لا يتشابه، وقال تعالى: {ومن قبله كتاب موسى} رداً على الذين قالوا: {هذا إفك قديم} وما كان قبله غيره فهو محدث، وقال تعالى: {كتاب أحكمت آياته} وما أحكم فهو محدث.
ومثله قوله: {والقرآن الحكيم} معناه المحكم، كما قال الشاعر:
وقصده تأتي الملوك حكيمة .... قد قلتها ليقال من ذا قالها
وقال تعالى: {في لوح محفوظ} {وإنا له لحافظون} والقديم لا يحتاج إلى من يحفظه، وقال تعالى: {من لدن حكيم خبير} وما كان من لدن غيره فهو محدث، وقال تعالى: {ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها} إلى قوله: {ألم تعلم أن الله على كل شيء قدير} فبين أنه قادر على مثل ما ينسخ، والقديم لا يصح كونه مقدوراً ولا منسوخاً؛ لأن النسخ هو الإزالة.
فصل [في شببهم]
قالوا: قال تعالى: {إنما أمره إذا /323/ أراد شيئاً أن يقول له كن فيكون}.
قالوا: فإن كان قوله كن قديماً فهو المطلوب وإن كان محدثاً احتاج إلى كن أخرى.
والجواب: لا شك أن لفظة كن حروف يتقدم بعضها على بعض، وبعدم تأتي وجودها، وذلك لا يتأتى في القديم.
وبعد، فكن لا تؤثر في وجود شيء، ولا في عدمه، وغلا وجب أن تؤثر إذا صدت منا؛ لأن الحروف متماثلة.
وبعد، فالآية على مذهبنا أدل لأنه تعالى أخبر بأنه إذا أراد شيئاً قال له، وغذا للشرط، والشرط إنما تدخل في المستقبل، فيجب أن تكون الإرادة حادثة، وأن تكون لفظ مقارناً لها.
وبعد، فقد عقب كن بالمكون الذي هو محدث بلا خلاف وما يعقبه المحدث فهو محدث.
وبعد، فلسنا نخبر حمل الآية على ظاهرها؛ لأن ذلك يقتضي أن يقول لمعدوم كن وذلك لا يصح؛ لأنه كيف يخاطب المعدوم، وإنما أراد المبالغة في سرعة وقوع المراد، وعند أن يريده كأنه بمنزلة ما يقال له كن فيكون، وليس هنا كقول حقيقة ويصير هذا بمنزلة قوله تعالى: {فقال لها وللأرض ائتيا طوعاً أو كرهاً قالتا أتينا طائعين} فإنه تعالى لم يقل لهما ولا قالتا له، وغنما هي لسان الحال ومبالغة في عظيم قدرته وتعريف بأنه يخترع الأشياء اختراعاً في الوقت من دون تراخٍ ولا معاناة مشقة.
شبهة
قالوا: القرآن يشتمل على أسماء الله والاسم هو المسمَّى، فيجب أن يكون القرآن قديماً، واستدلوا على أن الاسم هو المسمَّى بقوله تعالى: {سبح اسم ربك الأعلى} وكذلك فأحدنا بقوله يقول: طلقت زينب وأعتقت زينب، والطلاق إنما يقع على الشخص المسمَّى، وكذلك إذا حلف أحدنا فقال: والله وبالله ويقول: بسم الله، قوال الشاعر:
إلى الحول ثم اسم السلام عليكما .... ومن يبك حولاً كاملاً فقد اعتذر
والجواب: لو كان الاسم هو المسَّمى لكان إذا ذكر أحدنا النجابة ينجس فمه أو الحلاوة أن يحلوا أو النار أن تحرف فمه وخلافه معلوم، ولهذا قال الشاعر:
لو كان من قال ناراً أحرقت .... فمه لما تفوه باسم النار مخلوق
وبعد، فلو كان الاسم هو المسمَّى، ومعلوم أن لله أسماء كثيرة مختلفة لوجب أن يتعدد بتعدد أسمائه لاختلافها.
وبعد فالقرآن عندهم قائم بذات الله وأسماء الله من جملة القرآن، فيجب أن يكون الله من جملة القرآن حتى يكون أمراً ونهياً.
وبالجملة كلاماً، ويجب أن يكون قائماً بنفسه، وهذا واضح السقوط.
وبعد، فلا خلاف أن التسمية محدثة، ولا فرق عند أهل اللغة بين الاسم والتسمية، ولهذا يقولون سميته اسماً حسناً وسميه حسنة.
وبعد فليس بأن يستدل على /324/ قدم القرآن بما فيه من أسماء القديم أولى من أن يستدل على حدوثه بما فيه من أسماء المحدثات.
وبعد، فلا شك أن الأسماء تتبع الاختيارات والمواضعات وتختلف باختلاف الأعراض والمسمى لا يجوز عليه التغيير.
وأما ما ذكروه من الحلف بالله وأن الطلاب يقع على الشخص، فليس فيه دلالة على ما ذكروه، وإنما يريد أحدنا أن يظهر ذلك من نفسه، فلا يمكنه ذلك إلا بالعبادة التي يتميز بين الشيء وغيره، ولهذا وضعت الأسماء فإذا قال طلقت: زينب فمعناه الشخص المسمى بهذا الاسم: كإن اقتصر على الاسم للإختصار، ولهذا قد لا يختصرون ويقولون: مررت بالرجل المسمى فلاناً، وأما بسم الله الرحمن الرحيم، فإنما نقرأه لما لنا في ذلك من المصالح كسائر العبادات، وأما البيت فمجاز، ولسنا ننكر المجازات.
على أن لفظة اسم مفحمة عندنا زيدت لاستيفاء الوزن.
فصل [في كيفية حدوث القرآن وكيفية إنزاله]
قد ثبت أن القرآن الكريم وسائر أفعال الله تعالى نعمة يحدثها في أي وقت شاء وعلى أي وجه شاء بحسب المصلحة وما تقتضيه الحكمة وكيفيَّة ذلك أن يوجده الله مخترعاً لاستحالة المباشرة والتعدي في أفعاله ولا يوجده إلا في محل من حيث أن على محله يسمع وتضاد لو ثبت له ضد وتفضل بينه وبين ما يخالفه، فلو جاز وجوده لا في محل لانقلب جنسه وأيضاً لو وجد لا في محل وقدر وقوع التضاد في هذه الحروف لوجب أن يكون تضادها على مجرد الوجود، فكان لا يوجد حرفان مختلفان في العالم.
فإن قال: كيف يكون الباري متكلماً بكلام موجود في غيره.
قيل: كما يكون منعماً بنعمة موجودة في غيره، فقد بنا أن كلامه كغيره من سائر نعمه على أن أهل التحصيل منهم لا ينكرون وصف الله بأنه متكلم بالكلام الذي أسمعه موسى من الشجرة ومعلوم أنه حروف وأصوات، وإذا ثبت أنه لا يوجد إلا في محل فالعقل يجوز وجوده في كل محل، لكن لا يمتنع أن يكون في موجودة في بعض المحال صلاح كوجوده في اللوح المحفوظ والحصى والشجر، وكما لا يفعله تعالى في محل مخصوص إلا لوجه حكمة، وكذلك لا يوجده في وقت مخصوص إلا لوجه حكمة، فلا يمتنع أن يكون في تقادمه وجه حكمة وصلاح للملائكة أو غيرهم وعلى هذا يحمل ما ورد في الأحاديث من أن الله أوجده في اللوح المحفوظ من قبل أن يخلق آدم عليه السلام.
وأما كيفية إنزاله فهو أيضاً بحسب المصلحة التي يعلمها الله، وقد ورد السمع بأنه أنزل إلى سماء الدنيا دفعة واحدة، ثم كان ينزل منها شيئاً بعد شيء بحسب الحاجة والأسباب المقتضية لذلك، وقد بين الله تعالى وجه الحكمة في نزوله شيئاً بعد شيء، فقال: {لنثبت به فؤادك} وقال: {لتقرأه على الناس على مكث} /325/ وعلى الجملة فلا يقع فعله تعالى إلا على وجه حسن.
القول في صحة وصف القرآن بأنه مخلوق
اعلم أن الخلق في اللغة هو التقدير، يقال: خلقت الأديم، هل يجيء منه مظهره أم لا، ومنه قول الشاعر:
ولا يائط بأيدي الخالقين .... ولا أبدى الخوالق إلا حبذ الأدم
وقال زهير:
ولأنت تقري ما خلقت وبعض القوم يخلق لا يفر
أي إذا قدرت قطعت مبالغة في أنه إذا عزم فعل وقول الحجاج:
إني إذا وعدت وفيت ....وإذا خلقت فريت
وقال تعالى: {إذ تخل من الطين كهيئة الطير} أي تقدر، وقال: {فتبارك الله أحسن الخالقين} أي المقدرين} وقال تعالى: {ويخلقون إفكاً} أي تقدرونه، وفي الاصطلاح: قيل إيجاد الفعل مطابقاً للمصلحة من غير زيادة ولا نقصان.
وقيل: إيجاد الفعل مخترعاً وكله حسن، ولهذا لا يصح طلاق لفظ الخالق إلا على الله تعالى.
فصل
ذهب أبو هاشم وأبو عبد الله إلى أن الخلق معنى وجعله أبو هاشم من قبيل الإرادة، وجعله أبو عبد الله من قبيل الكفر، قال: ولو لا السمع ما أطلقت الاسم على الله.
والجمهور يجعلونه إيجادا ًمخصوصاً كما سلف.
ويلزم أبا هاشم وأبا عبد الله صحة مخلوق بين خالقين لصحة أن يزيدان ويتفكرا فيه.
شبهتهما بنت زهير فإنه اثبت الخلق ونفى القرى.
وأجيب بأنه لا دلالة في ذلك؛ لأن الخلق هو التقدير، وهو ثابت سواء أثبت القرى الذي هو القطع أم لا.
والمراد المبالغة في أنه إذا قدر قطع بخلاف غيره، وألزم أبو هاشم أيضاً أن يوصف بأنه مخلوق وهو معدوم لصحة إرادته حينئذٍ، وكذلك يلزم أبا عبد الله.
فصل
قال أهل الحق: يصح وصف القرآن بأنه مخلوق كما يصح وصفه بأنه محدث، وقال محمد بن شجاع وغيره من البغداديين: يوصف بأنه محدث لا بأنه مخلوق توهماً منهم أن المخلوق هو المفتعل المكذوب.
وأما أهل الخير فيمتنعون من وصفه بأنه مخلوق لامتناعهم من وصفه بأنه محدث بناء منهم على أن القرآن معنى قائم بالنفس وأنه قديم ونحن ننفي الكلام النفسي كما تقدم، وإن كان لو سلم لهم ثبوته لكان لقائل ان يقول: ما أنكرتم أنه محدث وقائم بذات الباري تعالى، فإنكم مالم تفسروا القيام بالحلول لا يمكنكم المنع من قيام المعنى المحدث بذاته تعالى.
وبعد، فمكالمتهم في الحقيقة إنما هي في الكلام النفسي وبيان أن القرآن هو هذا المسموع، فإن المحققين منهم يسلمون لنا أن القرآن لو كان هو هذا المسموع المعروف لكان محدثاً مخلوقاً، ونحن قد قررنا ذلك بالحجج الواضحة وأبطلنا أساطيرهم فيه.
ثم أنا نستظهر في هذا المكان بأدلة مفردة فيقول: لا فرق عند أهل التحصيل بين المخلوق والمحدث إلا من باب الأعم والأخص. وبعد معنى الخلق حاصل فيه إما بالمعنى اللغوي فهو أنه مقدر، وإما بالمعنى الإصطلاحي فهو أنه مطابق /326/ للمصلحة من غير زيادة ولا نقصان ومخترع.
وبعد، فكل شيء لا بد أن يكون خالقاً أو مخلوقاً، فإن لم يكن القرآن خالقاً فلابد أن يكون مخلوقاً، وبعد فقد قال تعالى: {إنا جعلناه قرآناً عربياً} والجعل هنا هو الخلق مثله في قوله تعالى: {وجعل الظلمات والنور} أي خلق.
وقد روي هذا التفسير عن ابن عباس ومجاهد وغيرهما.
وبعد ففي الحديث كان الله ولا شيء بم خلق الذكر ولا شك أن القرآن ذكر وكذلك سائر ما أنزل الله نبض الكتاب.
وبعد فقد قال الله تعالى: {وكان أمر الله مفعولاً} {وكان أمر الله قدراً مقدورا} {وكان أمراً مفعولاً} ونحو ذلك، والقرآن من أوامر الله لا سيما على أصولهم، وفي الحديث: ((ما خلق الله من سماء ولا أرض ولا سهل ولا جبل أعظم من سورة البقرة وأعظم ما فيها آية الكرسي)) والمروي عن عمر بن الخطاب: ((اعملوا بالقرآن ما اتفقتم فيه فإن اختلفتم فيه فكلوه إلى خالقه)).
فصل [في شبههم]
أما شبهة البغداديين فهي أن قالوا: المخلوق هو المكذوب المفتعل، ومنه قولهم قصيدة مخلوقة ومختلفة، وقوله تعالى: {ويخلقون إفكاً ونحو ذلك}.
والجواب: لا يسلم ذلك وإنما المخلوق حقيقة هو ما قدمنا ذكره.
وبعد، فقد وقع الإجماع على صحة وصف كلام الأنبياء والملائكة بأنه مخلوق مع أنهم منزهون عن الافتعال والكذب.
وأمَّا قول العرب قصيدة مخلوقة ومختلفة فمعناهم منسوبة إلى غير فاعلها، وكما يكنون عن ذلك بقولهم مخلوقة ومفتعلة يكنون عنه بقولهم محدث فلا فرق بين الخلق والإحداث في ذلك، وعلى هذا يحمل قوله صلى الله عليه وآله وسلم إن صح أن ((القرآن كلام الله فمن قال أنه مخلوق فقد كفر))، فإن معناه أن من قال أنه منسوب إلى غير الله فقد كفر.
وأما قوله تعالى: {ويخلقون إفكاً} فلا دلالة فيه؛ لأن المعنى يقدرونه ويزورونه.
وأما قوله: إن هذا إلا اختلاق، فمعناه افتعال لا أصل له، ولسنا نجوز وصف القرآن بأنه مختلق ولا مفتعل.
وأما شبهة المجبرة فهي ما تقدم من قوله صلى الله عليه وآله وسلم: ((القرآن كلام الله فمن قال أنه مخلوق فقد كفر))، كما تقول العرب قصيدة مخلوقة، أي منسوبة إلى غير قائلها.
على أنه أحادي، والمسألة قطعية.
ومعارض بما تقدم من قوله عليه الصلاة والسلام: ((ما خلق الله من سماء..)) الخبر وبما ورد به الكتاب من أنه محدث.
شبهة
تعلقا بقوله تعالى: {ألا له الخلق والأم} قالوا: ففصل بين الخلق والأمر.
والجواب: هذا تعلق فارغ ليس فه دلالة على أن الأمر ليس من خلقه.
وبعد، فقد صرح بأن الأمر له والقديم لغيره، وبعد، فعند كثير من الناس أن الخلق غير المخلوق وإن وضع أحدهما مكان الآخر بالعرف.
والمعنى، قيل: أفرده بالذكر للتعظيم كقوله: {وملائكته وجبريل}.
وقيل: أراد بالخلق /327/ المكلفين، وبالأمر التكليف، فكأنه قال: ألا له المكلفون والتكليف، ولا يمتنع استعمال الخلق الخلق في المكلفين فقط، فإن ذلك كثير في العرف، ولهذا يقال: اجتمع الخلق على باب الأمير، وفي البلد الفلاني خلق كثير، والراد به الناس، ويقال: يوم يجمع الله الخلق.
شبهة
قالوا: لو كان القرآن مخلوقاً لصح أن يموت.
يروى أن بعض مشيختهم ناظر عدلياً في خلق القرآن ثم جلس من الغد ليُعزيه، قيل له: ما الذي أصاب الشيخ حتى جلس هاهنا؟ فقال: إن قل هو الله أحد مات البارحة فجلست للتعزية.
وهذا هو الزيغ الشديد والضلال البعيد، وهو أهون من أن يستغل بإبطاله، وإنما هو بضيق عطنهم وظهور عواتبهم وانسداد مناهج الحجاج عليهم يشتغلون أبداً بالتشنيع الذي لا يعجز عنه أحد من الناس، ويقال لهذا المتعجرف :لا شبهة عندك في أن السماء مخلوقة والأرض والجمادات والأعراض، فهلا جلست للتعزية بها ومن بلغ في التجاهل إلى هذا الحد، طوي عنه الكلام ولم يجعل أهلاً للمناظرة.
الكلام في النبوءات
النبوءة فعولة من الإنباءن إن استعملت بالهمز، ومن الرفعة إن استعملت بالتشديد، وهي والرسالة في الاصطلاح سواء وهي ما تحملّضه الإنسا عن الله إلى الخلق من غير واسطة بشر.
قلنا: ما يتحمله الإنسان احترازاً مما تحمله الملائكة إلى الأنبياء، فلا يسمى نبوة وإن كان قد ذكر في المحيط أن الملك يسمى نبياً، وفيه بُعد؛ لأن ظاهر الاصطلاح، والعرف أن الأنبياء من الأناسي فقط.
وأيضاً فقد قال تعالى: {وملائكته ورسله} فالعطف هاهنا لا بد أن يدل على التغاير؛ إذ لا يمكن أن يقال عطف الرسل للتعظيم.
وقلنا: من غير واسطة نشر احترازاً من العلماء فإنهم وإن تحملوا عن الله إلى الخلق، لكنه بواسطة بشر هم الأنبياء.
والنبي فعيل بمعنى منبي اسم فاعل أو بمعنى مُنبَى اسم مفعول، وهو كل إنسان يتحمل الرسالة إلى آخره وفي صحة استعماله بالهمز خلاف بين الشيوخ.
والحق جوازه وإنما أنكر عليه السلام على القائل يا نبئ الله بالهمز؛ لأنه فهم من قصده الحط بهذا الاستعمال.
وقال الشيخ محمود هو المؤدي عن الله ما كلف أداءه من غير واسطة آدمي.
وقالت الفلاسفة: هو المختص بنفس هي أشرف النفوس لها قوة تقبل من العقول أكثر مما تفيضه على غيرها فتُطالع الغيوب في اليقظة كما تراه سائر النفوس في النوم، وهذا مبني على هوسهم في النفوس والعقول وقد بطل.
فصل
ولا فرق عند أصحابنا بين الرسول والنبي، وأما قوله تعالى: {وما أرسلنا من رسول ولا نبي} فقالوا: لا يدل على الفصل كقوله: وجبريل، وقوله: وفاكهة، ونخل، ورمان، فإنه لا يدل على أن جبريل ليس من الملائكة وأن النخل ليس من الفاكهة.
ويمكن اعتراضه بأنه وجد للعطف معنى وهو التعظيم في قوله: {وملائكته وجبريل} وفي قوله: {النبيين ميثاقهم ومنك ومن نوح} ومن نوح بخلاف قوله من رسول، ولا نبي فإنه /328/ لا يعقل للعطف وجه هنا إلا المغايرة.
ويمكن الجواب أن اللفظين إذا اختلفت فائدتهما من وجه صح عطف أحدهما على الآخر للتأكيد، وغن كان معناهما واحداً في الحقيقة، فإذا كان لفظ النبي يفيد الرفعة بنفسه ولفظ الرسول الرسول يفيدها بواسطة يحمله للرسالة أو صبره على المشاق فيها صح العطف كما يقال فلان قادر عالم، فإن العالم يتضمن معنى القادر، لكن خالفه من وجه آخر.
قيل ولا يبعد أن يكون الرسول هو المبعوث بشريعة وكتاب، والنبي هو من بعث بتقرير شريعة فيفترقان من باب الأعم والأخص؛ إذ لا بد من كون الرسول نبيئاً فيكون على هذا كل سول نبيئاً، وليس كل نبيء رسولاً.
ويمكن أن يجعل الفرق بينهما أن الرسول يدخل فيه الملك بخلاف لفظ النبيء.
فصل
في أنه يحسن بعثة الأنبياء عقلاً، وقد خالف في ذلك البراهمة، قيل: هم قوم ممن يعتزي إلى اليهود وهم فرقتان.
فرقة أنكرت حسن البعثة رأساً. قالوا: لأن الرسل إن جاءوا بما يوافق العقل ففي العقل عينة عنهم، وإن جاءوا بما يخالفه وجب رده.
وفرقة أجازت البعثة إذا كانت مؤكدة لما في العقول لا أن جاءوا بما لا يعلمه العقل.
ويحكى عن هؤلاء صحة بنوة آدم وإبراهيم عليهما السلام، وذهب قوم إلى أن الغرض بالبعثة هو التكليف والتكليف محال؛ لأن الله تعالى هو الخالق لأفعال العباد، فلا معنى للبعثة، وهذا إنما يلزم المجبرة فقط، وذهبت طائفة من الصوفيَّة إلى إنكار النبوة، قالوا: لأن الاستغلال بغير الله حجاب عن الله والأنبياء إنما يأتون بما شغل عن الله كالعبادات والشرائع فيجب أن يكون باطلاً، وهذا هو بين محض وجهالة مفرطة.
لنا: أنه لا يمتنع أن يكون في أفعالنا ما هو لطف في ما كلفناه من العقليات وفيها ما هو مفسدة في ذلك، ثم لا يكون في قوة عقولنا ما نعلم به تفاصيل هذه الأفعال وإن كنا نعلم بالعقل جملةً حسن المصلحة، وقبح المفسدة، ولا شبهة حينئذٍ في جواز أن يرسل الله إلينا بتعريف المصلحة من المفسدة، فإذا علمنا ذلك بالشرع على التفصيل أتحفناه بالجملة المقررة من حسن اتباع المصلحة وقبح اتباع المفسدة، فيكون الرسل قد جاءوا بما يوافق العقل على الجملة لا على التفصيل، وصار الحال فيه كالحال في الطبيب إذا عرفنا أن في كل بعض الأشياء ضرراً، وفي أكل بعضها نفعاً، وقد علمنا بالعقل على الجملة حسن أكل ما ينفع وقبح أكل يضر، فإنه يجب التحرز مما نهى عنه، ويحسن اتباع ما أمر به ولا يقال أنه أتى بما يخالف العقل.
وبهذا انبطل قولهم: إنا نعلم بالعقل قبح كثير مما جاء به الشرع كالهرولة والطواف حول البيت، ورمي الجمار ونحو ذلك؛ لأنا نقول: العقل لا يقضي بقبح هذه الأفعال /329/ على الإطلاق ألا ترى أنا نعلم بالعقل حسن الطواف بالبيت لغرض يسير، وهو أن يعلم هل استَرَم أم لا، وهل هو عامر أو خراب ونحو ذلك، فهلا جاز أن يطوف حوله لمصلحة أعظم من ذلك.
فإن قيل: هلا جاز أن يخلق الله فينا علماً ضرورياً بما يريده منا في هذه الأفعال التي جاء بها الأنبياء لا على أن يعد ذلك العلم في كمال العقل، ولهذا يختلف الناس فيه.
قلنا: الاضطرار إلى قصده تعالى لا يصح، والدار دار تكليف.
فصل
إذا ثبت أن وجه حسن البعثة كونها لطفاً لم يجب أن يكون في كل زمان نبي خلافاً لقوم أوجبوا البعثة في كل زمان؛ لأنه لا يمتنع أن يكون البعث لطفاً في بعض الأزمان دون بعض، وفي حق بعض الأشخاص دون بعض، فلا تجب البعث حيث يعلم الله أنها لا تكون لطفاً، وإذا لم تجب لم تحسن؛ لأن الحسن في البعثة ملازم للوجوب كالثواب وشكر النعمة.
شبهتهم أن الرسول يحتاج في كل زمان، إما لأمر ديني كالدعاء إلى الله والتنبيه على الأدلة العقلية أو لأمر دنيوي كمنع الظالم والزجر عن الفساد وتعريف اللعان والفصل بين الأغذية والسموم ونحو ذلك.
والجواب: لا يسلم أن يكون لبعثة الرسل وجه غير كونها لطفاً؛ لأن التنبيه على معرفة الله، والدعاء إليه لا يستقل وجهاً في حسن البعثة من حيث لا يمكن معرفة اتباع الرسل وأجابتهم إلا بعد معرفة الله.
وأيضاً فالدعاء إلى الله والتنبيه على توحيده يتم بدون الأنبياء بأن يتنبه من ذي قبل أو يقوم الصالحون به، فلا يحتاج إلى الأنبياء، وكذلك قولهم يبعث مؤكداً لما في العقول؛ لأن في العقول عيبة عنه.
وأيضاً فكان لا يفترق الحال بين نبي واحد وأنبياء كبيرة، فكان لا يجوز بعث أكثر من واحد في جميع الأزمان.
على أنه لو وجبت البعثة لما يرجع إلى التنفية وحفظ الصحَّة لما حاز من الله أن يميت المكلفين، ولما حسن بنفيه من جهل ما يبعث به الأنبياء.
فصل
وقد تقدم أن البعثة متى حسنت وجبت، والذي يختص هذا الفصل أنه إن كان الصلاح يتعلق ببعثة شخص معين وجب بعثته على التعيين أو يتعلق به وبغيره على الجمع وجب على الجمع.
أو على البدل كان الله مخبراً في بعثة أيهما شاء على البدل.
وعلى الجملة فإنه يحسن بعثة من في بعثته صلاح للمرسل إليهم وصلاح للمرسل نفسه، وقد كان يجوز أن يبعث الله إلى بني آدم بالرسالة ملائكة أو جناً، لكن لما كان كل جنس أقرب إلى القبول من جنسه جعلت رسول كل خلق من جنسهم، ولهذا قال تعالى: {قل لو كان في الأرض /330/ ملائكة يمشون مطمئنين لنزلنا عليهم من السماء ملكاً رسولاً} وهذا إذا استوت المصلحة في بعثة الجنس وغير الجنس، فأما إذا تعلقت المصلحة ببعثة غير الجنس تعين كما يرسل الملائكة إلى الأنبياء وكما أرسل الأنبياء عليهم السلام إلى الجن.
ومتى أرسل نبي إلى أمة فلا بد أن يكون لهم طريق إلى معرفة شرعية، إما بمشاهدته أو بالنقل عنه، وكذلك لا بد من تنفيته حتى يؤدي الرسالة، ثم بعد ذلك يجوز احترامه.
فصل
ذهب جمهور الشيوخ إلى أنه لا يبعث رسول إلا بشريعة، ومعنى ذلك أنه لا بد أن يستفاد من جهته مالولاه لما أمكن الوقوف عليه، وذلك قد يكون بشريع متحددة، وقد يكون ناحياً شريعة دارسة، وقد يكون بما طريقة العمل فقط، وقد يكون بما طريقة العلم فقط، كأن يبعث رسولاً يعرفنا أن الله تعالى يوقر العقاب على مستحقه، فإن العقول تجوز العفو، وقد يكون بما طريقه العلم والعمل، إما في حق كل واحد كتعريف أحكام الصلاة فإن العلم والعمل شامل لكل مكلف، وإما في حق بعض المكلفين كتعريف أحكام الحيض، فإن العلم يتناول الرحال والعمل يتناول النساء.
وعلى الجملة فلا بد أن يعرف من جهته ما لولاه لما عرف، وغلا لم يكن لبعثته فائدة.
وقد حكي عن الشيخ أبي علي جواز أن يبعث الله لتأكيد ما في العقول.
قيل: والصحيح أنه ليس بمذهب له، وغنما أخذ الحاكي من جوابه على البراهمة، حيث قال: أن الأنبياء لا يأتون بما يخالف العقول مطلقاً ومهما يكن قد أبطل الشيوخ هذا المذهب بما تقدم من أن غير الأنبياء يقوم مقامهم في ذلك.
إلا أن لقائل أن يقول: ما أنكرتم أن يعلم الله أن عند بعثة شخص بتأكيد ما في العقول يكون الناس أقرب إلى فعل العقليات وترك المقبحات كما يجوز أن يعلم أن عند المرض أو القحط يكونون أقرب؛ لأن البعثة كغيرها من سائر أفعاله تعالى في جواز كونها لطفاً في العقليات.
فصل
والطريق الذي يعرف كون الرسو رسولاً هو في الحقيقة المعجز، وأما خبر الصادق فهو وإن دل على ذلك، فإنما يعلم صدق المخبر بالمعجز، فقد عاد الأمر إلى أنه هو الدليل الحقيقي.
وأيضاً فلا بد أن يظهر المعجز عقيب دعوى من أخبرنا الصادق بنبوته لتميزه عن غيره؛ لجواز أن يكون الذي اخترنا بنبوته غير هذا الشخص، فالطريق الحقيقي هو المعجز.
فإن قال: هلا عرفنا الله نبوته بالاضطرار؟
قيل له: كيف يعلم بالاضطرار كونه مرسلاً من الله ونحن لا نعلم ذات الله ضرورة، والعلم بالله أصل للعلم بكون الرسو رسولاً.
فصل
وحقيقة المعجز هو الفعل الخارق للعادة المتعلق بدعوى المدعي للنبوة على جهة المطابقة، واعتبرنا كونه فعلاً؛ لأن ماليس بفعل لا يدخل تحت الإحسان، فلا يصح كونه معجزاً، ولا يكون للتحدي به فائدة؛ ولأنه ليس بأن يدل على صدق المدعى أولى من كذبه، أو من صدق غيره أو من أن لا يدل.
ومن هنا صعب على المجبرة تصحيح كون القرآن معجزاً لما قالوا بقدمه، وقلنا لهم: لو صح كون القرآن معجزاً مع قدمه لصح كون علم الله معجزاً /331/ وقدرته بل كان يصح أن يكون الباري معجزاً نفسه، واعتبرنا كونه خارقاً للعادة؛ لأن المعتاد ليس بأن يدل على الصدق أولى من الكذب أو من أن لا يدل ولا يختص يريدون عمرو، واعتبرنا تعلقه بدعواه؛ لأنه لو لم يتعلق بها لكان أجنبياً عنها، وفي حكم المبتدأ، فلا يكون بأن يدل على الصدق أولى من سواه لفقد الاختصاص؛ ولأنه يجري مجرى التصديق بالقول، والتصديق بالقول لا بد أن يتعلق بالدعوى.
واعتبرنا المطابقة؛ لأنه لو حصل الفعل على عكس ما تناولته الدعوى لما دل على الصدق عن لم يدل على الكذب كما حكى أن مسيلمة تفل في بئر ليفور ماؤه ويعذب كما سمع عن النبي عليه الصلاة والسلام فغار ماؤه وملح.
وقد اختلف في هذا هل يعتبر في المعجز كونه عقيب الدعوى، فأجاز أبو القاسم تقدمه وأجاز غيره تراخيه.
والحق التفصيل، وهو أنه لا بد من معجز يتعقب الدعوى على الفور ليثبت الصدق من بعد ذلك يجوز في معجز آخر أن يتراخى كما في كثير من معجزات نبينا عليه السلام.
فأما التقديم فقيل: جائز مطلقا.
وقيل :جائز إذا كان المعجز في نفس المدعي ككلام عيسى عليه السلام في المهد.
وقيل: ما تقدم على النبوة فهو إرهاص لا معجز.
فصل
ومن شروط دلالة المعجز أن يكون من فعل الله أو جارياً مجرى فعله؛ لأنه تعالى قد صدق دعواه لجواز أن يكون من فعل غيره.
وقد زعمت اليهود أنه لا بد أن يكون مما يختص الله بالقدرة عليه، ولا يدخل جنسه تحت مقدورنا، وهو باطل؛ لأن العرض بالمعجز التصديق، وذلك كما يحصل بما يختص الباري تعالى بالقدرة عليه، فقد يحصل بما يكون جارياً مجرى ما يختص بالقدرة عليه.
يوضحه أن من معجزات موسى عليه السلام فلق البحر ونتق الجبل وهو من الأجناس المقدورة للخلق.
ومن شروط دلالة المعجز: أن يصدر من حكيم لا يجوز أن يلبس ولا أن يصدق الكاذب، ولا أن يفعل القبيح، ومن هاهنا انسد على المجبرة، وطريق العلم بالنبوة.
وقيل لهم: إذا كان المعجز يجري مجرى التصديق بالقول فلا شك أن التصديق إنما يدل على الصدق إذا كان المصدق حكيماً لا يصدق الكاذب، وغلا لم يأمن أن يكون أظهره على كاذب على جهة التلبيس والنعمة، وجرى مجرى قوله لمسيلمة: صدقت ولا يقبح منه ذلك كغيره من القبائح.
فصل
والفرق بين المعجز والحيل من وجوه:
منها: ما تقدم من أن المعجز لا بد أن يكون من فعل الله أو جارياً مجراه.
ومنها: أن الحيلة يُرى في الظاهر على وجه وهي في الحقيقة على خلافه، وإنما هي من قبيل السحر والخيال، والمعجز على ظاهره.
ومنها أن الحيل لا تمضي إلا على العوام ومن ليس له صناعة، والمعجز تمضي على جميع الناس، ولهذا جعلت معجزة كل نبي من جنس ما يتعاطاه /332/ أهل زمانه ليعلم قصورهم.
ومنها: أن الحيل لا تدرك إلا بتعلم وممارسة، والمعجز يحصل لا عن طريق.
ومنها: أن الحيل لا يختص بها واحد من الناس، بل يدركها كل من مارسها.
ومنها أنه يمكن معارضتها بما شاهدها أو يزيد عليها بحسب الصناعة بخلا فالمعجز.
ومنها أن الحيل لا تدوم، ولهذا تجد أحدهم يرى الناس أنه نبت نباتاً في الحال ويثمر ويرى أنه يصير التراب دقيقاً بر، ويصير الورق دراهم ولا يدوم ذلك، وإنما هو كأحلام نيام.
ومنها: أن الحيل تحتاج إلى آلة متى فقدت لم يتم عمله.
قال شيوخنا: وكثير من المعجزات يعلم بالضرورة إعجازها ومفارقتها للسحر والحيل.
ولهذا اعترف سحرة فرعون بمعجزة موسى عليه السلام، وهم أعلم الناس بالسحر، ووصف الله قوم فرعون الجحود في قوله: {وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم..} الآية، ولا يوصف بذلك إلا منكر الضرورة، وهذا الوجه كاف في الفرق بين المعجز والحيل.
فصل
منع الجمهور من صحة ظهروه على الصالحين كرامةً لهم وفضيلة، وأجازه ابن الأخشية عقلاً لا سمعاً.
حجة الجمهور أنه لو جاز ظهور ذلك على بعض الصالحين لجاز تكرره وتتابعه حتى يصير معتاداً، واعترضه أبو الحسين بأنا إنما يجوز ظهوره على حد لا يصير معه معتاداً، ولو سلمنا جواز كونه معتاداً فإنما يكون معتاداً لأن العبرة في المعجز أن يكون خارقاً لعادة زمان ذلك الشيء فقط.
قال الجمهور: إذا ظهر على غير الأنبياء لم يدل على صدق الأنبياء.
قيل لهم: إنه ظهر على الأنبياء عقيب الدعوى ومتعلقاً بها، فلهذا دل على نبوتهم كما أن من ادعى بحضرة الملك أنه رسوله وأن علامة صدقه أنه ينزل عن سريره، فإنه إذا نزل عن سريره عقيب هذه الدعوى دل نزوله على صدقها، ثم إذا قدرنا أنه نزل عن سريره مرة أخرى لحاجة له أو معظماً لرجل دخل عليه لم يخرج النزول الأول عن كونه دليلاً على صدق ذلك المدعي، ولا وجب في النزول الثاني أن يدل على مثل ما دلَّ عليه الأول، لما لم يحصل عقيب دعوى أحد.
قال الجمهور: النبي إذا ادعى التمييز على غيره بالمعجز ثم ظهر على غيره بطلت دعواه.
قيل لهم: النبي إنما ادعى التمييز بالنبوة والمعجز إنما هو دليل عليها من حيث أن التمييز والفضل إنما يكون بالأعمال، وكما لا يحط منزلته لظهور المعجز على نبي آخر، ولا يقدح في صدقه /333/ وفضله، كذلك لا يحطها ظهوره على بعض الصالحين.
ومن قوى ما يمكن أن يقال للجمهور: إنما يظهر على الأولياء والصالحين ليس بمعجز رأساً؛ لأن من تمام ماهيَّة المعجز أن يكون متعلقاً بدعوى النبوة، والكرامات ليست كذلك، وغنما تشارك المعجز في بعض صفاته وهو كونها خارقة للعادة.
حجة ابن الأحشيد: أن الإجماع وقع على أن شهادة الواحد لا تقبل، ولو جاز ماهو بصفة المعجز على بعض الصالحين لوجب قبول شهادته.
واعترض بأن الشرع ورد بذلك لمصلحة يعلمها الله تعالى كسائر الشَّرعيات.
تنبيه
اختلف الشيوخ في هل يجب تجوز ظهور ما هو بصفة المعجز على العكس مما سأله الكاذب تكذيباً له، فمنعه القاضي والجمهور وأجازه أبو الحسين، مثاله ما حكى أنه قيل لمسيلمة الكاذب أن محمداً تَفَل في بئر فكثر ماؤه وعذب، فجاء إلى بئر فتفل فيها فغار ماؤه، وقيل له: إن محمداً مسح على أعور فبرئ فمسح على أعور فذهبت عينه الأخرى.
حجة الجمهور: أن هذا المعجز لا تعلق له بالدعوى لظهوره على العكس منها، فهو كالمبتدئ، واعترض بأن معنى تعلق المعجز بدعوى الصادق أنه لو لا صدقه لما ظهر مطابقاً لدعواه، وهذا التعلق حاصل هنا، فإنه لو لا كذبه لما ظهر على العكس من دعواه.
قال القاضي: يكفي في بيان كذبه أن لا يظهر مطابقاً لدعواه، والزيادة على ذلك عبث له، يجوز أن يكون الغرض بذلك المبالغة في كذبه ونقص منزلته والتنفير عنه، وربما يكون ذلك لطفاً في ترك اتباعه.
فصل [في الصفة التي يجب أن يكون النبي عليها وما يجب أن ينزه عنه]
اعلم أنه يجب أن يختص بما معه يكون أقرب إلى القبول من الكمال والصدق والأمانة والتواضع والفطانة وقوَّة التدبير ونحو ذلك من صفات الرؤساء.
ويجب أن يكون منزهاً عمَّا يقدح في الأداء سواء كان خلقياً كالعمى والصمم والخرس أو اكتسابياً كالكذب وكثرة الشهوة والغفلة، وكالكتمان والزيادة والنقصان.
وعما يقدح في القبول وينفي سواء كان خلقياً كالجذام والبرص ودمامة الخِلقة ونقص الأعضاء وسلس الريح والبول.
وقد دخل في هذا ما يكون صفة كمال، لكن ينفر كالعلم بالكتابة والشعر في حق نبينا عليه الصلاة والسلام، أو اكتسابياً كمواقعة الكبائر والصغائر المسخفة كسرقة عشرة دراهم وأقل منها وكالفظاظة والغلظة وكالمباحات المنفرة نحو كثرة المزاح والمخالطة والهذر والحرف الوضيعة وأشباه ذلك.
والوجه في تنزيهه عن الجميع أن الغرض بالرسالة هو القبول والإقبال على الطاعة، وذلك لا يثمر إلا بالتمكين من الأداء وإزالة المستنفر.
فصل
قد اختلف الناس في جواز الكبائر على الأنبياء مع اتفاقهم على امتناع كفرهم إلا عند بعض الخوارج فعندنا لا تجوز عليهم الكبائر لا قبل البعثة ولا بعدها، وقال أهل الحشو: يجوز عليهم /334/ في الحالين.
وقالت الأشعرية يجوز قبلها لا بعدها، وحكى مثله عن أبي علي.
لنا أن ذلك من أبلغ المنفرات، فإن من علم الناس من حاله أو جوزوا مواقعته للكبائر كانوا عن القبول عنه أبعد.
وهذا فإن الخطيب إذا بات شرب الخمر ويزني وأصبح يعظ الناس لم يكن لموعظته تأثير، ولا فرق بين أن يقع ذلك قبل البعثة أو بعدها، فإن الناس إلى القبول ممن لم يتدنس بالمعاصي أقرب منهم إلى القبول ممن يتعاطاها، وإن كان قد تاب لا شك في ذلك.
وبعد فالمواقع للكبائر يجوز ذمه والاستخفاف به، والنبي يجب مدحه وتعظيمه.
وبعد، فلو واقعوا الكبائر لما قبلت شهادتهم ومعلوم أنهم الشهداء في الدنيا والآخرة.
وبعد، فكان يجب نهيهم وزجرهم عن المعصية لعموم وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في كل شريعة.
وبعد، فكنا لا نأمن أن يكتموا بعض ما أرسلوا به ويكذبوا فنزول الثقة.
فإن قيل: أليس قد قبل المخالفون عن الأنبياء مع تجويزهم الكبائر، ولم ينفرهم ذلك ووثقوا بنبوتهم.
قلنا: أما الثقة فلا نسلمها…… منعنا أهل الجبر من الثقة بالنبوءات متى جوزوا القبيح على الله تعالى.
وأما القبول فلم نمنع من وجوده رأساً، ولكن دللنا على أن الناس مع تجويز الكبائر يكونون أبعد عن القبول، وإن كان في الناس من لا ينفره ذلك، كما أن التقطيب في وجه الضيف ينفره، وغن كان في الناس من لا ينفره ذلك كأهل الدناءة.
على أنا منعنا من ذلك لأمر يرجع إلى الحكيم، قلنا: يجب أن ينزهه عما ينفر ويزيح علة الناس سواء حصل النفور أم لا.
فإن قيل: ما ذكرتم أنا نمنع من جوازها بعد البعثة.
قلنا: بل وقبل البعثة لما تقدم من أن الناس إلى القبول ممن لم يدنس نفسه بمعصية قط أقرب منهم إلى القبول ممن يتعاطاها ثم تاب، ومن حق اللطف أن يكون على أبلغ الوجوه.
شبهتهم ما يدعونه من أن داود عليه السلام عشق امرأة أوربا بن حنان وقدمه في الجهاد ليتقل وأن يوسف هم بالزنا بامرأة العزيز وأن ذا النون غاضب رية ظن أنه لا يقدر عليه، وأن لوطاً عرض بناته للفاحشة بقوله: {هؤلاء بناتي} وأن إبراهيم كذب في قوله: {إني سقيم} وفي قوله: {بل فعله كبيرهم} هذا وإن محمداً عشق امرأة أسامة بن زيد وأنه عبس وتلوى وأشباه ذلك من تأويلاتهم الفاسدة، وعندنا أن هذه التأويلات مزيَّفة باطلة.
فأما الصغائر التي ليس لها حظ إلا في تقليل الثواب دون التنفير والقدح في التبليغ فجائز قبل البعثة وبعدها إلا عند من لا يعنى به.
وعلى هذا يحمل ما حكاه الله من ذنوب الأنبياء وأكل الشجرة وعبوس النبي عليه الصلاة والسلام حين جاءه الأعمى ونحو ذلك، وقد قال تعالى /335/: {ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر} ، وقال: {واستغفر لذنبك} واختلف الشيوخ في كيفيَّة إقدام النبي على المعصية، فقال النظام وجعفر بن مبشر: على السهو وهذا ضعيف؛ لأن الساهي لا تكليف عليه فضلاً عن أن يكون مذنباً.
وقال أبو هاشم: مع العمد؛ لأنه إما أن يقدم على الفعل مع العلم بكونه في نفسه معصية، فهذا صريح التعمد، وإما أن يقدم عليه مع الإخلال بالنظر في هل هو معصية أم لا، فيكون قد أقدم على ما لا يأمن كونه قبيحاً.
وعلى الجملة فلا بد أن يتعمد ما بعد قبيحاً.
وقال أبو علي وأبو عبد الله والقاضي: لا يصح أن يقدم على المعصية مع العمد والعلم بكونها معصية؛ ووجب عليه النظر، فذلك مما يدق ويغمض وليس المقدم على الفعل مع الإخلال بالنظر فيه واعتقاد إباحته كالمقدم عليه مع العلم بقبحه لا سيما إذا كان في حكم الذاهل عن النظر ومعتقداً للإباحة في تلك الحال.
وعلى كل حال فإقدامه مع الخطأ أليق من إقدامه مع العمد وأُبْعِد عن التنفير عنه.
تبنيه
واتفق الجمهور على أن النبي إنما يعلم كون معصيته صغيرة بعد فعلهم؛ لأنه لو علم ذلك قبل فعلها لكان في حكم المغري بفعلها، وهذا سديد عند من يقول أنه يقدم لعيها ع الخطأ أو مع السهو، فتكون حالة العلم بكونها صغيرة.
فأما على أصل أبي هاشم فيصعب القول فيه؛ لأنه إذا جاز أن يقدم عليها مع العلم وقد علم أنه لا يفعل إلا صغيراً لزم أن يكون في حكم المغرى بفعلها لا محالة.
فإذن القوي ما قاله أبو علي وأبو عبد الله من أنه يقدم مع الخطأ.
القول في صحة نسخ الشرائع
النسخ في اللغة: هو الإزالة عند أبي هاشم، كقولهم: نسخت الرمح آثارهم. والنقل والتحويل عند البستي، والقفال، كقولهم: نسخت الكتاب، ومنه تناسخ الأرواح وتناسخ القرون وتناسخ المواريث وقيل مشترك بينهما.
وفي الاصطلاح: هو رفع مثل الحكم الشرعي بطريق صادر عن صاحب الشرع متراخٍ عنه على وجه لولاه لكان باقياً.
قلنا: الشرعي احترازاً من الحكم العقلي كالبراءة الأصلية، فإنها لا تسمى منسوخاً وإن كان في صورة المنسوخ.
قلنا: رفع مثل الحكم؛ لأن رفع عين الحكم يكون بدا، وبهذا يفارق النسخ البدا.
قلنا: بطريق صادر عن صاحب الشرع احترازاً من ارتفاعه بطريق علي كالإغماء والجنون والعجز والموت، ومن ارتفاعه بطريق شرعي، لكن لم يصدر عن صاحب الشرع كإجماع الأمة على أحد القولين، فإنه رفع جواز الأخذ بالثاني بعد أن كان جائزاً.
قلنا: متراخٍ عنه احترازاً من التخصيص كتقليد الحكم بغاية أو شرط أو استثناء.
قلنا: على وجه /336/ لولاه لكان باقياً احترازاً من أن يأمر الله تعالى بفعل واحد، ثم ينهى عن مثله فلا يكون نسخاً؛ لأن مثل الحكم لم يثبت وجوبه.
وقد عرفت بمثل هذه الحقيقة الرق بين النسخ والبدا، فإن البدا لا يكون بدا إلا إذا اتخذ الآمر والمأمور والمأمور به والزمان والمكان والوجه، كأن يقول زيد لعمرو: يا عمرو صل غداً وقت الزوال ركعتين عبادة لله في مقام إبراهيم، ثم ينهاه على هذا الحد فيكون قد بدا له أي ظهر له ما كان خافياً والعكس؛ لأن البدا في الأصل هو الظهور، وذلك مستحيل على الله تعالى، فأما إذا اختل أحدها بأن ينهى عن غير ما أمر به أو على غير الوجه أو الزمان لم يكن بدا.
وحاصل الفرق يرجع إلى أنه إذا اختل أحد هذه الشروط كأن النهي متعلقاً بغير الحكم الذي يناوله الأمر فلا يكون بدا.
فصل
والنسخ جائز عقلاً واقع سمعاً خلافاً للأصفهاني من المسلمين ولليهود، وهم فرق منهم من منعه عقلاً وسمعاً.
ومنهم من منعه سمعاً فقط، ومنهم من أجازه عقلاً وسمعاً، وزعم أن محمداً عليه السلام ليس بني أو أنه نبي إلى العرب فقط.
لنا: أما الجواز فلأن الشرائع مصالح فلا يمتنع اختلافها باختلاف الأزمنة والمكلفين كما في الصحة والسقم والغنى والفقر، والموت والحياة، وكما قد يكون الرفق مصلحة للصبي في وقت والعنف مصلحة له في وقت آخر أو مصلحة في وقت آخر.
وبعد، فكما يجوز في العقل كون الفعل مصلحة في جميع الأوقات يجوز كونه مصلحة في وقت، وكونه مفسدة في وقت آخر، وغلا كان لا يجوز استثناء بعض الأوقات، كأن يقول تمسكوا بالسب أبداً إلا السبب الفلاني.
وأما الوقوع فهو أن الأدلة القاطعة دلت على نبوة محمد عليه السلام وعلم من دينه ضرورة أنه ناسخ لما تقده من الشرائع، وأن بعض شرعه تنسخ بعضاً كما قال تعالى: {ما ننسخ من آية أو ننسها ..} الآية والأحكام المنسوخة في شرعه أكثر من أن تحصى.
وبعد، فقد جاء في التوارة أن الله تعالى قال لنوح عليه السلام عند خروجه من الفلك: إني جعلت لكل دابة مأكلاً ولذريتك وأطلقت لكم كنبات العشب ما خلا الدم، فلا تأكلوه، ثم حرم كثيراً من الدواب في الشرائع التي بعده، وكان الجميع بين الأختين جائزاً في شرع يعقب عليه السلام، ثم حرم بعده، وكان تزويج الأخ بالأخت جائزاً في شرع آدم عليه السلام، ثم حرم بعده وكان وجوب الختان في شر إبراهيم عليه السلام في حال الكبر، ثم هو في شرع غيره في حال الصغر.
ومن قوي ما يقال أن السارق كان يؤخذ بسرقته في شرع يعقوب عليه السلام اتفاقاً، وعليه حمل قوله تعالى: {ومن وجد في رحله فهو جزاءه} وقوله تعالى: {ما كان ليأخذ أخاه في دين الملك} ومعلوم ارتفاع ذلك في شرع موسى ليه السلام، ومن بعده، وكانت التوبة في وقت موسى بالقتل ثم ارتفع ذلك.
شبهتهم أنه كان يلزم من النسخ إما البدا أو إما الأمر بالقبيح والنهي عن الحسن.
والجواب: أما لزوم /337/ البدا فباطل كما تقدم.
وأما الأمر بالقبيح والنهي عن الحسن فإنما كان يلزم لو لم يجر في مثل الحسن أن يقبح، فأما إذا جاز ذلك صح الأمر به حال كونه مصلحة ويعاقبه حال كون العاقبة مصلحة، وكما يصح أن يكون شرب الدواء مصلحة في وقت دون وقت، وكما في السير يوم السبت عندهم فإنه مباح في الميل محرم في ما عداه.
قالوا: الحكم إما أن يكون الأمر به مطلقاً فلا يجب تكراره، لا يعقل النسخ فيه. وإما أن يفيد بوقت فارتفاعه بعد ذلك الوقت لا يكون نسخاً. وإما أن يكون مؤبداً فلا يجوز نسخ؛ لأن الأمر إن أراد فعله في كل وقت وجب فعله في كل وقت، وإن أراد فعله في بعض الأوقات كان ذلك تلبيساً، ويلزم عليه أن لا يوثق بتأبيد حكم قط، وأن لا يوثق بدوام شريعة محمد عليه السلام.
قلنا: يجوز نسخ ما ظاهره التأبيد، بل ذلك شرط في جواز النسخ؛ لأنه لا يعقل النسخ غلا فيما استعبد تكراره، وليس يلزم التلبيس، أما عند من يوجب الإشعار بالنسخ فلا كلام عليه، فإنه يقول معرفة أهل الشرائع المتقدمة بنبوَّة محمد والبشائر الواردة به إشعار تنسخ بكل الشرائع، وأما من لا يوجب الإشعار فيقول: أما قولهم أن التأبيد يقتضي دوام الفعل بكل حال فباطل لعلمنا بارتفاع التكليف وانقطاعه.
وأما قولهم: يلزم أن لا يوثق بتأبيد حكم قط ولا يداوم شرع محمد عليه السلام فباطل، بل يوثق بذلك بأن يعلم ضرورة من قصده ودينه التأبيد.
قالوا: لو جاز النسخ لكان إما قبل الفعل وهو باطل؛ لأن فيه ارتفاع الشيء قبل وجوده، وإما بعد الفعل وهو باطل؛ لأن ارتفاع الفعل الذي قد وجد وتقضَّى محال، وغما حال ثبوته وهو أيضاً باطل؛ لأنه يؤدي إلى اجتماع الثبوت والانتفاء.
قلنا: ليس النسخ رفع الفعل نفسه، وغنما هو رفع مثله من وجوب أو ندب أو إباحة أو حظر، وبهذا أيضاً تبطل الشبهة التي قبل هذه.
قالوا: روي عن موسى عليه السلام شريعتي لا تنسخ أبداً.
قلنا: هذا شيء اختلقه ابن الراوندي ليقدح في نبوة محمد عليه السلام، ولو لا ذلك لاحتج به اليهود على النبي صلى الله عليه وآله وسلم لما جرت به العادة من توفر دواعي الخصم إلى إيراد حججه، وهم كانوا أشد الناس حرصاً في بطال أمره عليه السلام.
وبعد، فهو أحادي والمسألة قطعيَّة؛ إذ لو كان متواتراً لعلمناه، ولعلمه من أجاز نسخ الشرائع منهم عقلاً وسمعاً.
ثم كيف يدعون التواتر وهم قد قلوا في زمان بخت تضرر عن عدد التواتر، أعني أهل النقل، وانقطعت الحجة بقولهم، ولهذا ما علمهم التوارة بعد ذلك إلا العزيز عليه السالم، وكان ذلك هو السبب في أنهم سموه ابن الله.
وبعد، فكلام موسى عليه السلام عِبراني وهم ترجموه بالعربية، فما الثقة بالمترجم، ولعله أخل بقرينة تشعر بالمراد من استثناء أو غيره أو جهلها أو علمها وكتمها أو علمها وجهلها غيره من أهل النقل بعد أو علموها وكتموها /338/ فالمعلوم أنهم قد عيروا في التوارة وبدلوا.
وبعد، فإن أرد شريعتي لا تنسخ أبداً ما لم يظهر صاحب معجز، فكذلك نقول نحن، وهو الذي ينبغي في حق كل نبي، وإن أراد شريعتي لا تنسخ أبداً، وإن ظهر صاحب معجز يدعي نسخا، فهذا يقدح في نبوته عليهم السلام؛ لأن لهم حيئنذٍ أن يكون الحق في غير ما جئت به.
وبعد فقد جاء في التوراة لفظ التأييد للمبالغة من دون دوام في مواضع.
منها قوله في العبد استخدم ست ستين ثم يعرض عليه العتق في السابعة فإن أبى فليثقب أذنه ويستخدم أبداً ثم رفع بخمسين سنة.
ومنها: قوله في السفر الثاني ربوا إلي خروفين خروفاً غدوةً وخروفاً عشية قرباناً دائماً لاحقاً لكم، ثم زال ندهم التعبد بذلك.
ومنها قوله في البقرة التي أمروا بذبحها يكون ذلك سنة أبداً ثم انقطع التعبد به.
ومنها قوله في قصة دم الفصح أمروا بأن يذبحوا الجمل ويأكلوا لحمه ملهوجاً ولا يكسروا منه عظماً، ويكون لهم ذلك سنة أبداً، ثم زال التعبد بذلك عندهم، ففي كل هذه الصور لم يدل التأبيد على الدوام، فكذلك الخبر لو كان صحيحاً.
القول في نبوة محمد صلى الله عليه وعلى آله وصحبه المحقين وسلم
قد خالف أهل الإلحاد ومنكروا النبوات واليهود، واختلف اليهود في وجه كونه عليه السلام ليس بنبي، فقال بعضهم: جاء بنسخ الشرائع ، وقد تقدم الكلام على هؤلاء، وقال بعضهم: لأنه ليس له معجز، وقال أهل البله منهم: هو رسول إلى العرب فقط.
لنا: إنه لعيه السلام ادعى النبوة لنفسه وجاء بالقرآن الكريم ولم يسمع قبله من غيره وجعله معجزة له وتحدى العرب أن يأتوا بمثله، وفزَّعهم بالعجز عن ذلك، فلم يأتوا بشيء مما تحداهم به، وغنما تركوا الإتيان به لعجزهم عنه، فثبت بذلك كونه معجزة له.
فهذه ثمانية أصول، أما الأربعة الأولة وهي: أنه عليه السلام ادعى النوبة وأتى بالقرآن ولم يسمع قبله من غيره وجعله معجزة له فهي معلومة ضرورة بالتواتر.
فإن قيل: ما أنكرتم أن الله بعث نبياً وأظهر عليه القرآن فقتله محمد صلى الله عليه وآله وسلم وادعى النبوة لنفسه.
قلنا: لو جاز ذلك لما وثقنا بنسبة شعر الشعراء وخطب الخطباء ولا وثقنا بنبوة نبي قط، ولا بشيء من الكتب السالفة كالتوراة والإنجيل.
ثم كيف يبعث الله نبياً ثم يمكن غيره منه قبل التبليغ. وأيضاً فقد ظهر عليه غير القرآن من المعجزات.
وأما الأصل الخامس وهو أنه تحدى العرب بالإتيان بمثله وقرعهم بالعجز عن ذلك، فذلك ضروري، لكن بعد الفحص فإن من بحث عن أحواله عليه السلام علم بالتواتر نه كان يغشى محافل العرب ويتلوا عليهم القرآن ويلتمس منهم المعارضة.
وبعد، فليس من حق التحدي النطق، وقد كان يعلم بالضرورة من قصيدة أنه كان يدعي الفصل على جميع الناس لمكان ما جاء به وهو القرآن، وإن أحداً لا يقدر على الإتيان بمثله وذلك كاف في التحدي.
وبعد /339/ فالقرآن مشحون بآيات التحدي، قال تعالى: {فليأتوا بحديث مثله إن كانوا صادقين} ثم أنزلهم مرتبةً ثانية، فقال: {فأتوا بعشر سور مثله مفتريات وادعوا من استطعتم من دون الله} ثم أنزلهم مرتبة ثالثة فقال: {وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا فأتوا بسورة من مثله} ثم أخبر أنهم لا يأتون بمثله، ولو كان بعضهم لبعض ظهيراً.
فإن قيل: ما أنكرتم أنهم كتم آيات التحدي عن المشركين لئلا يعارضوه.
قلنا: نحن نعلم أنها نقلت على حد نقل القرآن، فلو جوزنا في بعض الآيات أنها كتمت لجوزنا في سائرها.
وبعد، فالتحدي شامل للمؤمنين والمشركين، فلو علم المؤمنون أنه كتم شيئاً لنفروا عنه.
وبعد، فدواعي المؤمنين إلى المعارضة أوفر ليؤكدوا بمعرفة العجز عنها أمر دينهم.
وبعد، فالتحدي قائم على وجه الدهر، وقد ظهرت آيات التحدي والفصحاء لا يزدادون إلا كثرة، فهلا وجد فيهم من يعارض القرآن.
يوضحه أنه قد نقل من المعارضات الركيكة مالا يلتفت عليه كمعارضة مسيلمة وابن المقنع.
وبعد، فلو وجدت معارضة يشتبه الحال فيها لوجب على الله تعالى أن يوفر الدواعي إلى فعلها؛ لأنها هي الحجَّة حينئذٍ، فكيف يخفي ويظهر الشبهة.
وأما الأصل السابع وهو أنه إنما لم يعارضوا القرآن لعجزهم عن المعارضة؛ فلأن دواعي العرب كانت متوفرة إلى إبطال أمره عليه السلام، ولا صارف لهم عن ذلك، وكانوا يعلمون أن أمره يبطل بالمعارضة، فلو قدروا عليها لفعلوها إما أن دواعيهم كانت متوفرة إلى إبطال أمره عليه السلام، فذلك لا يشتبه على عاقل، فإنه عليه السلام أدعى الرئاسة عليهم في الدنيا والآخرة في ما يتصل بالنفس والحال، وانه على الحق وأنهم على الباطل وسفَّه أحلامهم وسب آلهتهم ووعدهم على طاعته بالثواب الدائم في الإجلال والعز والشرف في العاجل، وعلى مخالفته بالعقاب الدائم في الآجل وبالذل والقتل والخلاء في العاجل ولا شيء أبلغ من هذه الأشياء في تحريك طباع البشر ودعائهم إلى إبطال أمره لا سيما العرب، فإن لهم من الحميَّة والأنفعة ماليس لغيرهم من الأمم.
وأما أنه لا صارف لهم عن ذلك فإنه إن كان صارف دين فليس من الدين ترك المعارضة /340/ لأن بها يتميز الحق لهم من الباطل، لا سيما وعندهم أنهم على الحق، وإن كان صارف ديني من رغبة أو رهبة، فذلك باطل؛ لأنه عليه السلام كان فقيراً مضطهداً.
وأما أنهم كانوا يعلمون أن أمره كان يبطل بالمعارضة فلأنه عليه السلام قد كان يصرح بذلك؛ ولأن العقلاء، بل الصبيان يعلمون أن من ادعى التمييز على غيره لمكان أمر يأتي به، فإن عواه تبطل عند الإتيان بمثل ما أتى به.
وأما أنهم لو قدروا على المعارضة لفعلوها؛ فلأنا نعلم بالضرورة أن من توفرت دواعيه إلى الشيء ولا صارف لمقته وهو قادر عليه وغير ممنوع منه، فإنه يفعله لا محالة حتى إن لم يفعله علمنا أنه غير قادر عليه.
فإن قيل: إنهم استغفلوا عن المعارضة بالقتال.
قلنا: ليس أحد من العقلاء يؤثر الأمر الصعب على الأمر السهل مع استوائهما في العرض.
على أنه ليه السلام قد لبث فيهم ثلاث عشرة سنة لا قتال فيها. وأيضاً فلم يكن القتال دائماً. وأيضاً فالقتال لا يمنع من إنشاء الكلام الفصيح، بل ربما أن حالة القتال حالة نشاط إلى ذلك، ولهذا كان عادة العرب ارتجال الشعر في تلك الحال. وأيضاً فلم يكن كلهم يحضر القتال.
فإن قيل: إنما عدلوا عن المعارضة؛ لأن الناس يكونون بين متعصب لها ومتعصب عليها فلا يحصل الغرض به، لو صرف ذلك عن معارضة القرآن لصرف عن سائر المعارضات.
على أنه ليس من حق المعارضة أن تشابه المعارض من كل وجه، بل تكفي أن يكون مما يشتبه الحال فيه وتلتبس أحدها بالأخرى على بعض الوجوه.
وأما الأصل الثامن: وهو أنه ثبت بذلك كونه معجزة، فلحصول حقيقة المعجز فيه، وهو كونه ناقصاً لعادتهم في الفصاحة، ومتعلقاً بدعوى النبوة.
فإن قال: كيف يقطعون بكونه ناقضاً للعادة مع تجويزهم أن يقدر الجن والملائكة على مثله.
قلنا: أما الجن فلا نسلم قدرتهم على مثله؛ لأن التحدي شامل لهم، وأما الملائكة فنحن وإن جوزنا قدرتهم على مثله، فذلك لا يقدح في كونه ناقضاً لعادة المتحدين؛ لأن المعتبر في المعجز كونه ناقضاً لعادة من ظهر عليهم والملائكة غير مكلفين بهذه الشريعة ولا نبياً، ولهم التحدي، فلا يعتبر عادتهم، ألا ترى أن حمل الجبال وقلب المدن لا يخرج عن كونه معجزاً وإن قدر الملائكة على مثله.
وأيضاً فكيف يقف العلم بكونه معجزاً على العلم بعجز الملائكة مع أن الملائكة إنما يعلم ثبوتهم بالسمع، فكان يلزم الدور.
فإن قال: هب أن العرب عرفت عجزها من القرآن، وأنه ناقض للعادة، فما بال العجم كلفوا معرفة نبوة محمد عليه السلام وهم لا يعلمون ذلك من حال القرآن.
قيل له: علم العجم بأن العرب عجزت عنه، وأنه ناقض لعادتهم مع أنهم أرباب الفصاحة يكفي في العلم بكونها ناقضاً لعادة العجم أولى وأخرى /341/ كما أن نبياً لو جعل معجزته ثقل الجبال وعجز عن نقلها أرباب القوة والشدة من أهل زمانه، علمنا أن أهل الضعف بالعجز أحق.
فصل [في وجه إعجاز القرآن]
ذهب الجمهور إلى أن وجه إعجازه الفصاحة، فإنه بلغ فيها مبلغاً لم يعط أحد ما يتمكن معه من الإتيان بمثله حتى عجزت العرب عن معارضته، وهم الذين يضرب بهم المثل في الفصاحة والبلاغة.
واعلم أن الفصاحة تكون في مفرد الألفاظ ومركبها ويوصف بها الكلام والمتكلم، والبلاغة كالفصاحة، إلا أنها لا تستعمل في مفرد الألفاظ، فلا يقال: كلمة بليغة، ويقال: فصيحة، فالفصاحة في اللفظ المفرد خلوصه من بناء والحروف والغرابة ومخالفة القياس، وفي اللفظ المركب خلوصه من ضعف التأليف وتنافر الكلمات والتعقيد مع مطابقة المقام المقتضي لإيراد الكلام، فإن المقامات مختلفة، فمقام التعريف يباين مقام التنكير، ومقام الإطلاق يباين مقام التقييد، ومقام التقديم يباين مقام التأخير، ومقام الذكر يباين مقام الحذف، ومقام التقديم يباين مقام التأخير، ومقام الذكر يباين مقام الحذف، ومقام الإظهار يباين مقام الإضمار، ومقام الفصل يباين مقام الوصل، ومقام الإيجاز يباين مقام الإطناب.
وبالجملة، فلكل مقام ومقال، ولا بد في الكلام الفصيح من جزالة اللفظ أو حسن المعنى، فإن اختل أحدها بأن يكون اللفظ ركيكاً، والمعنى حسناً أو يكون اللفظ جزلاً، والمعنى سحيقاً لم يكن الكلام فصيحاً.
فإن قال: كيف يتفاضل الناس في الفصاحة مع علمهم باللغة.
قيل له: بأن يأتي الفصيح بالمعنى المراد في لفظ وخبر سلس سهل، ويأتي به الآخر على خلاف ذلك، أو بأن يكون فيه تقديم وتأخير يكون معه أفصح أو زيادة أو نقص بحسب المقام ويتفاضلون في العلم بذلك وكيفيَّة إيراده.
وعلى الجملة فتفاضل الناس في الفصاحة مع علمهم باللغة كتفاضلهم في حسن الخط، مع علمهم بالقلم العربي والحاصل أن العلم بكيفية إيراد الكلام على وجه يكون معه فصيحاً علم ضروري فبتفاضل الناس فيه، ولهذا يتأتى لبعضهم نظم الشعر دون بعض، وكذلك الخطب والرسائل وسائر أنواع الفصاحة والبديع.
فإن قال: فما وجه الحكمة في أن جعل الله وجه الإعجاز الفصاحة التي يتعاطاها العرب، وكذلك جعل معجزة كل نبي من جنس ما يتعاطاه أهل زمانه حتى جعل معجزة عيسى عليه السلام من جنس الطب ومعجزة موسى من جنس السحر.
قيل له: وجه الحكمة في ذلك أنه إذا أتى بما يخرق عادتهم في ما يتعاطونه ويدعون الصناعة فيه علموا عجزهم عنه، ولم يكن لأحد أن يقول: لو كنت من أهل هذه الصناعة لأثبت بمثل ما أتى به.
وقد ذهبت النظام وغيره إلى أن وجه الإعجاز الصرفة، بمعنى /342/ أن الله صرف العرب عن المعارضة، وهم إن أرادوا أن الله صرفهم عن العلم الذي معه يبلغ الكلام هذه الدرجة في الفصاحة، أي لم يؤتوا هذا العلم فصحيح وإن أرادوا أنهم منعوا من الكلام الفصيح والعلم بكيفية ترتيبه مع قدرتهم على ذلك فباطل؛ لأن المعلوم أنهم لم يمنعوا عن الكلام الفصيح، بل كان يصدر منهم حال النبوة وبعدها، وإن أرادوا أنهم سُلبوا الدواعي الداعية إلى المعارضة مع قدرتهم عليها فهي أظهر فساداً؛ لأن المعلوم ضرورة خلاف ذلك.
وغن أرادوا أنهم منعوا من المعارض مع قدرتهم عليها وحصول العلم الذي يحتاج إليه فباطل أيضاً؛ لأن ذلك يخرج القرآن عن كونه هو المعجز، والإجماع على خلافه.
وعلى أن الله تعالى تحدَّى العرب أن يأتوا بمثل القرآن وقرعهم بالعجز عن الإتيان بمثله، وذلك لا يتم إلا إذا لم يكونوا قادرين عليه.
وبعد، فكان يجب أن يجدوا من أنفسهم كونهم ممنوعين عن ذلك مع قدرتهم عليه، وإن تفرقوا بين حالهم قبل نزول القرآن وبعده.
وبعد، فكان يجب أن يوجد في كلامهم الصادر قبل نزول القرآن ما يسويه في الفصاحة أو يدانيه؛ لأن الصرفة إنما كانت حال نزول القرآن.
وقد ذهب قوم إلى أن وجه إعجازه الأسلوب أي له أسلوب يخالف أساليب الكلام لا سيما المنثور والخطب والرسائل.
واعترض بأن أكثر أسلوبه يخالف أساليب الكلام، لا سيما المنثور والخطب والرسائل، ولهذا إذا أدرجت الآية في خطبة أو سجع أو كلام كادت تشينه به في أسلوبها وقافيتها، وكذلك فيه ما يصلح أن يدخل في الشعر كقوله:
ويخزهم وينصركم عليهم .... ويشف صدور قوم مؤمنينا
ونحو ذلك كثير.
وبعد، فلو اختص بأسلوب لكان التحدث بذلك لا يقع لعدم اعتيادهم له، فلا يكون ناقضاً لعادتهم.
وقال قوم: وجه أعجازه الإخبار عن العيوب.
واعترض بأن ذلك لا يشمل القرآن والتحدي واقع بكل القرآن، ولهذا قال: {فأتوا بسورة من مثله} ولم يفصل بين ما فيه إخبار عن الغيوب، وغيره، بل قال: {فأتوا بعشر سور مثله مفتريات}.
على أن كثيراً مما أنزل الله من الكتب المتقدمة فيه الأخبار عن العيوب، وليس بمعجز.
وبهذا يبطل قول من جعل وجه الإعجاز السلامة عن التناقض والاحتلال، فإن الله إنما تحداهم بما يساويه في الفصاحة فقط، فثبت أن الأصل في الإعجاز هو الفصاحة، وإن صح أن يكون في هذه الأمور المذكورة وجهاً في الإعجاز آخر، لكن الأصل في الإعجاز هو الفصاحة، وما عداها تبع، وكذلك كونه عليه السلام أتى بالقرآن وهو أمي لا يقرأ ولا يكتب مطابقاً لصحيح اللغة وفصيحها، وللقص الصحيحة البعيدة العهد ومطابقاً للعقول في أكثر أحكامه حتى صار يرجع إليه في أكثر أدلة العقل وما يتعلق بالنحو واللغة وسائر الأحكام، وكذلك كون شرعه عليه السلام مؤبَّداً لا يزداد إلا قوة وعلواً، فإن كل هذه لا تستقبل وجهاً في الغعجاز، ولكنها مؤكدة له.
وقد ذهب /343/ قوم إلى أن وجه إعجازه كونه لا يُمل بالتكرار، ولا يزداد إلا حسناً ولذَّة، وهذا أيضاً لا يستقيم وجهاً في الإعجاز، وغنما هو مؤكد له؛ لأن للخصم أن يقولك إنما لذَّ لكم ولم تملوه على التكرار لاعتقادكم صحته والإيمان به وحصول الثواب عليه.
فإن قيل: كيف يكون القرآن معجزاً وقد وقع هذا الاختلاف الكثير في وجه إعجازه؟
قلنا: أنهم إذا اتفقوا على الحكم وهو الإعجاز لم يضر اختلافهم في علته، بل لا يضر الحهل بعلته رأساً، لا سيما وهو حكم يعلمونه من أنفسهم، أعني عجزهم عنه.
وبالجملة فكل حكم يعلم فلا يضر الجهل بعلته.
القول في أن القرآن الكريم محروس عن المطاعن
اعلم أن الطاعنين في القرآن فرق كثيرة، فرقة تزعم أن فيه تبديلاً وتغييراً وزيادة ونقصاً، وفرقة تدعي فيه اللحن والخطأ من جهة الإعراب، وفرقة تدعي التناقض والاختلاف، وفرقة تدعي التكرار الذي لا يفيد. وفرقة تدعي فيه الكذب.
أما الكلام على القائلين بالتبديل والتغيير فهو مدفوع بالضرورة، فإن القرآن متواتر جملته وتفصيله، والمدعي للتغيير فيه كالمدعي لكون مكة غير هذه البلدة المعروفة أو أنها قرى كثيرة.
وبعد، فالمعلوم أنه لم يخل زمان من حفظه يتنقلون القرآن في صدورهم لا يخفى عليهم زيادة حركة أو نقصانها أو تبديلها فضلاً عن غيرها، وقد قال تعالى: {إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون} وأشباها.
فصل
وأما الكلام على المدعين للحن والخطأ فيه فهو أن نقول: أن الله أعلم العالمين وأحكم الحاكمين، فكيف يجوز عليه الخطأ، وأما رسوله عليه السلام فهو رأس أهل اللغة والفصاحة، ولم يوضع اللغة على النحو، وإنما وضع النحو على اللغة، فإذا جاء شيء عن أهل اللغة فالنحو له تبع، ولهذا قال الفرزدق للذي اعترض عليه في قوله:
وغض زمانٍ بابن مروان لم يدع .... من المال إلا مسحتاً أو مخلف
عليَّ أن أقول وعليكم أن تحتجوا، وقال بعض العرب لمن اعترض عليه في بيت هذا: سمحت به قريحتي وعليك أن تعربه، على رغم أنفك، ثم أنا نجيب عما ادعوا فيه اللحن، فن ذلك قوله تعالى: {لنعلم أي الحزبين}، وقوله: ثم لتنزعن من كل سبعة أشدهم ترفع أي في الموضعين، قالوا: والقياس نصبها.
والجواب: وأما قوله أي للإستفهام فهو كقولهم علمت، أريد عندك، والمراد في مثل ذلك: علمت جواب هذا السؤال والتقدير في الآية: لنعلم جواب من يقول أي الحزبي.
ووجه آخر وهو أن لأي صدر اللام؛ لأن أصلها الاستفهام، والاستفهام لا يصح أن يعمل فيه بشيء قبله، وإنما يعمل فيه ما بعده كقوله: {أي منقلب ينقلون}.
وأما قوله أنهم أشد يرفع أي ملائها قد صارت مبنية الحذف صدر صلتها وذلك عادة العرب /344/ وعليه قول الشاعر:
إذا ما أتيت بني مالك .... فسلم على أيهم أفضل
يرفع أي معناه على أيهم ، هو أفضل، وكذلك تدقير الآية أيهم هو أشد.
ومن ذلك قوله تعالى: {إن هذان لساحران} قالوا: وإن تنصب الاسم وترفع الخبر.
والجواب: هذه هي لغة بني الحارث فإنهم أبداً يدخلون الألف في بنية المنصور والمجرور، قال شاعرهم:
إن أباها وأبا أبها .... قد بلغا في المجد غايتاها
وقال الآخر:
فاطرق إطراق الشجاع ولو رأى .... مصيباً لناباه الشجاع لصمما
وقد قيل: أن الباء لا تجوز في الآية؛ لأن ألف هذا القراء أصليّة، وعند غيره عماد وليست بألف تنبيه، وكان قياسه: هذا أن بألفين، ويرجع ألف التنبيه إلى الياء في المتمكن من الأسماء عند النصب والجر، ولما كان هذا الاسم مبهماً غير متمكن زيد في آخره نون تدل على التثنية وهي على حالة في الرفع والنصب والجر للفرق بين ألف التثنية في المتمكن وغيره.
ومن ذلك قوله تعالى :{ولا يؤذن لهم فيعتذرون} القياس هنا حذف النون؛ لأنه جواب النفي.
والجواب أنه ليس بجواب هنا، بل هو كلام مقطوع مستأنف أي فهم يعتذرون بكل حال، وعلى هذا قول الشاعر:
ألم تسل الربع ألقوا فينطق .... وهل يجيرك اليوم بيداء سملق
أي فهو ينطق سواء سألت أم لا.
ومنه قولهم: لا يذهب به تغلب عليه أي فأنت تغلب عليه سواء ذهبت أم لا ونحو ذلك كثير.
والمعنى أنه لا يقبل عذرهم مع اعتذارهم.
ومن ذلك قوله تعالى ك{ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم ويعلم الصابرين} قالوا: وهو معطوف على المجزوم فكان قياسه الجزم.
والجواب: أنه لو كان معطوفاً عليه لأعاب الجازم؛ لأنه لا يصح العطف عل المجزوم، إلا بإعادة الجازم، وإنما هو منصوب بتقديران، أي وإن يعلم الصابرين، وقيل: أن الواو واو مع أي مع علمه بالصابرين، فيكون نصبه بنزع الخافض والكل متقارب؛ لأنه لا بد من تقديران، ثم يقدر هي والفعل بالمصدر وحيئنذٍ يصح تقدير واو مع.
ومن ذلك قوله تعالى: {إن رحمة الله قريب من المحسنين} وكان القياس أن يقول قريبة.
والجواب: أن الرحمة مصدر، والتاء في المصادر للتوحيد لا للتأنيث.
وبعد، فالرحمة هنا بمعنى الثواب، وكل لفظ يقتضي التأنيث في لفظه والتذكير في معناه، فإنه يجوز نعته.
ومن ذلك قوله تعالى: {وذلك دين القيمة} فأثبت القيمة وهي نعت للدين.
والجواب: أن الهاء لتناسب رؤوس الآي لا للتأنيث.
وقيل: هو نعت للملة تقديره: وذلك دين الملة القيمة.
فصل
وأما الكلام على من يدعي التناقض فنقول لهم على الجملة: لا شك لا شك أن العرب كانوا أعرف منكم بالتناقض ووجوه الطعن، فلو وجدوا في القرآن شيئاً من التناقض لأظهروه واحتجوا به عليه، فقد كانوا أحرص الناس في إبطال أمره لا سيما مع قوله تعالى /345/: {ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافاً كثيراً}.
وبعد، فمن شرائط التناقض أن يتخذ المنسوب والمنسوب إليه ووجه النسبة والزمان والمكان والجزء والكل ومتى اختل شيء من هذه لم يكن الكلام متناقضاً.
ثم أنا نجيب عن تفصيل ما أوردوه من الآيات، فمنها قوله تعالى: {ولا يسأل عن ذنوبهم المجرمون} مع قوله: {ليسألنهم أجمعين}.
والجواب: أن الكناية في قوله: لا يسأل عن ذنوبهم عائدة إلى الذين ذكرهم الله تعالى بقوله: {أولم تعلم أن الله قد أهلك من قبله من القرون من هو أشد منه قوة وأكثر جمعاً ولا يسأل عن ذنوبهم} أي ذنوب هؤلاء المذكورين، بل هم الذين يسألون عنها، وكذلك قوله: {لا يسأل عن ذنبه} أي عن ذنب الذي يرسل عليه شواظ من نار، ويجوز أن يكون المنفي سؤال الاستفهام عن ذنبه، وغن كان يسأل تقريراً أو توبيخاً أو مطالبة كقوله: {إن العهد كان مسؤلاً} أي مطالباً به، ويجوز أن يكون المراد أنهم يسألون في بعض المواقف دون بعض الأوقات.
ومنها: قوله تعالى: {خالدين فيها ما دامت السموات والأرض} إلى قوله: {عطاء ير مجذوذ}.
والجواب: قيل سموات الآخرة وأرضها، وهي لا تفنى، وقيل: المراد المبالغة في التبعيد، وليس من حق المثل المضروب أن يكون كالممثل به، ألا ترى إلى قوله: {مثل نوره كمشكاة..} الآية، وإنما ضرب المثل في التبعيد بما يعتاده العرب من ذلك عند التبعيد، وغن كان خلود أهل الآخرة أدوم، وأما الاستثناء فهو من أول الوقت لا من آخره، المراد إلا أوقات الدنيا والحشر والحساب، فإنهم قد كانوا يستحقون الثواب والعقاب من حال الفعل، فاستثنى الله هذه الأوقات التي لا يقع فيها ثواب ولا عقاب.
ومنها قوله: {خلق لكم ما في الأرض جميعاً ثم استوى إلى السماء فسواهن} نقضه بقوله: {والأرض بعد ذلك دحاها} فذكر في الأولى أن خلق السماء بعد خلق الأرض وفي الثانية أن خلق الأرض بعد خلق السماء.
والجواب: إنما قال دحاها ولم يقل خلقها، وعندنا أنه خلق الأرض قبل أن يخلق السماء، ثم دحا الأرض أي بسطها بعد خلق السماء.
ومنها قوله تعالى: {يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء} وقوله: {إن الله لا يغفر أن يشرك به} نقضها بقوله: {إ ن الله يغفر الذنوب جميعاً.
والجواب: إنما أراد بقوله يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء المبالغة في وصف اقتداره على المغفرة والتعذيب، وأنه يمكنه ذلك.
وبعد فالآية مجملة لم يذكر فيها من الذي يشاء له المغفرة وبيانها /346/ في قوله تعالى: {إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه..} الآية، وقوله: {يغفر الذنوب جميعاً} معناه مع التوبة، وقوله: {إن الله لا يغفر أن يشرك به} معناه لا يغفره تفضلاً.
ومنها: أنه وصف كيد الشيطان بالضعف في آية، ووصفه في غيرها بالاستحواذ والغلبة على أكثر الناس.
والجواب: أن المراد بالضعف أنه لا يقدر إلا على الوسوسة والدعاء، وذلك يرجع إلى اختيار من يتبعه.
ومنها قوله تعالى: {إنا جعلنا على قلوبهم أكنةً أن يفقهه} ثم وصفهم بانهم ما اختلفوا إلا من بعد ما جاءهم العلم، فنفى الفقه وأثبت العلم.
والجواب: إنا قدمنا أن الله تعالى لا يصح أن يمنعهم من الفقه؛ لأن الله لا يكلف مالا يعلم، ولو سلمنا اتنفاء العلم عنهم، فالميت هو طريقه، ودلالته أي من بعد ما جاءتهم الأدلة الواضحة، وهذا هو اللائق؛ لأن الذي يأتيهم من جهة الله هو الدليل لا العلم، وقد سمي طريق الشيء باسمه كما سمي الكتابة والكلام علماً لما كانا يدلان عليه.
على أن قوله: {حتى جاءهم العلم} مجمل يبين فيه بماذا جاءهم.
ومنها قوله: {إنما الحياة الدنيا لعبٌ ولهو} مع قوله: {وما خلقنا السموات والأرض وما بينهما لاعبين}.
والجواب: يجوز أن يكون وصفها باللعب تشبيهاً بسرعة زوالها، وانقطاعها، ويجوز أن يكون المراد أن الاقتصار على الحياة الدنيا لعبٌ ولهو لا يفيد. وقوله: {وما خلقنا السموات والأرض وما بينهما لاعبين} أي ما خلقناهما للاقتصار على الدنيا ولا عبثاً.
وعلى الجملة فاللعب المثبت يضاف إلى أفعال العباد، والمنفي مضاف إلى أفعاله تعالى.
ومنها قوله: {وأخرى كافرة يرونهم مثليهم رأي العين} نقضه بقوله: {وإذ يريكموهم إذ التقيتم في أعينكم قليلاً}.
والجواب: أنه لا ينافي؛ لأن المشركين كانوا ثلاثة أمثالهم، فقللهم حتى رأوهم مثليهم وهم ثلاثة أمثالهم في الحقيقة.
ومنها قوله: {هذا يوم لا ينطقون} نقضه بقوله: {ثم أنكم يوم القيامة عند ربكم تختصمون} وقوله: {يوم تأتي كل نفس تجادل عن نفسها}.
والجواب: يجوز أن يكون المواقف متغايرة، ينطقون في بعضها دون بعض ويجوز أن يكون المراد بقوله لا ينطقون، أي لا حجة لهم ولا عذر، فأخبر عن ذلك بنفي الكلام راساً؛ لأنه لما كان الاعتذار بالنطق اقام فقد العذر مقام فقد النطق كما يقال: ليس فلان بعد هذه الحجة كلام، أي ليس يجد ما يقابلها، ويقال: فلان لا يستطيع في هذه الحادثة كلام، أي ليس له حجة، قال الشاعر:
فَلَوْ أنَّ قَوْمِي أنْطَقَتْنِي رِمَاحُهُمْ .... نَطَقْتُ وَلَكِنَّ الرِّمَاحَ أجَرَّتِ
أي لا خيرت بمدحهم وحالهم.
ومنها قوله: {فهم لا يتساءلون} نقضه بقوله: {واقبل بعضهم على بعض يتساءلون}.
والجواب: يجوز أن تختلف المواقف ويجوز أن يكون المراد فهم لا يتساءلون عما أجابوا به الرسل، أي لم يجتنبوا الرسل فيسألوا عنه كما يدل عليه سياق الكلام قوله: {وأقبل بعضهم على بعض يتساءلون} أي عن أفعالهم وليس إذا لم يتساءلوا عن شيء يجب أن لا يتساءلوا عن غيرهم.
ومنها قوله: {ولن يتمنوه أبداً}/347/ نقضه بقوله: {ليقض علينا ربك}.
والجواب: المراد لن يتمنوا الرجوع إلى الآخرة، وإنما عنه بالموت لأنه لا بد منه.
يوضحه سياق الآية في قوله: {قل إن كانت لكم الدار الآخرة إلى قوله: {فتمنوا الموت} أي فتمنوا الرجوع إلى الدار الآخرة، فيكون قولهم: ليقض علينا ربك هرباً من دار الآخرة، فيكون مؤكداً للآية لا ناقضاً لها.
على أن قوله: {قل إن الموت الذي تفرون منه} يدل على أن الموت الذي لا تتمنونه أبداً هو موت الدنيا؛ لأنه عقبة بقوله: {ثم تردون إلى عالم الغيب..} الآية.
ومنها قوله: {وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون} نقضه بقوله: {ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم}، فبين أنه خلقهم للخلاف.
والجواب: الإشارة في قوله: {لذلك} عائدة إلى قوله: {إلا من رحم} أي وللرحمة خلقهم؛ لأنه أقرب المذكورين، ولا يصح أيضاً رجوعها إلى قله مختلفين؛ لأنه جمع ولفظ ذلك مفرد.
فصل
وأما الكلام على من يدعي الطعن من جهة التكرار فهم يدعون التكرار من جهة القصص ومن جهة غيرها.
أما ما كان من جهة القصص ففيه فوائد كثيرة.
منها: أن الله أنزل قصص من تقدم تسلية للنبي ص وأصحابه رضي الله عنهم وإخبارا لهم بما كان الأنبياء يكابدون من الكفرة من الرد والتكذيب والقتل ونحو ذلك، فلم يمنعهم ذلك من المضي على الحق فينزل عليهم في كل حال ما يسليهم به، ولا يكون ذلك معيباً عند الفصحاء، ألا ترى أن الشاعر يكرر مفاخره في شعره وكلامه ويكرر المدح والهجاء، وكذلك هل الوعظ والكتاب يكررون المعنى في عبارات مختلفة.
ومنها: أنه يرد في كل قصة فائدة مستجدة وعبارة بديعة تضمن غير ما تضمنته العبارة الاولى.
ومنها: أن الله تعالى لما تحدى العرب بالإتيان بمثله جاز أن يتوهم متوهم أو يظن أن اللفظ المتحدى بمثله مقدورة وغيره ليس بقمدور، بل هو مستحيل، فلا يعقل التحدي؛ لأن التحدي إنما يصح بما هو مقدور في نفسه، ألا ترى أنه لا يمكن التحدي بالجمع بين الضدين، فالله تعالى كرر القصص بألفاظ أخر ونظم غير الأول ليعرف أن الإتيان بمثله غير مستحيل، وإنما العجز راجع إلى المتحدَّين فقط.
وأما التكرار بإعادة اللفظ بعينه نحو {كلا سوف يعلمون} فذلك يأتي على وجوه، منها: أن يرد بلفظ الأول فيكون اتساعاً وتأكيداً، وتفخيماً للشأن، وقد جرت عادة العرب بذلك ولا يعيب ذلك إلا جاهل باللغة.
ومنها: أن يكون المعنى بغير لفظ الأول نحو : آمرك بالوفاء وأنهاك عن الغدر، فالمعنى واحد، واللفظ مختلف، وهذا النوع مستحسن عند أهل الفصاحة يستعملونه ليهر بلاغة اللفظ، فإن البلاغة لا تظهر في اللفظ الواحد /348/ وإنما تظهر ببسط الكلام وتحسينه.
ومنها: أن يذكر نعماً وأسباباً ويكرر اللفظ عند ذكر كل واحد منها نحو قولك لمن أنعمت عليه، ألم أفعل لك كذا، أليس ذلك نعمة ونحو ذلك.
ومن هذا القيل قوله: {فبأي آلاء ربكما تكذبان} عند ذكر كل نعمة تأكيداً لنعم على الثقلين وبياناً لكونه لا يمكن إنكار شيء منها، ولا التكذيب.
ومنه أيضاً ما يرد على منوال الزجر نحو {ويل يومئذٍ للمكذبين} أو يرد مورد الاحتجاج نحو إله مع الله.
وبالجملة فلو وجدت العرب في ذلك طعناً لطعنوا به، فقد كانوا أعرف بالفصاحة.
فصل
وأما الكلام على الطاعنين بالكذب فيه والفساد فقد تعلقوا بآيات منها قوله تعالى: {وله أسلم من في السموات والأرض طوعاً وكرهاً} قالوا: وهذا كذب؛ لأنه ليس كل الناس مسلماً.
والجواب: الإسلام اللغوي الذي هو الانقياد والخضوع يوضحه قوله طوعاً وكرهاًن والإلسام الشرعي لا يكون كرهاً.
ومنها قوله: {وكذلك زينا لكل أمة عملهم} أخبر أن الشيطان زين لهم أعمالهم، فكيف يفعل الحكيم كفعل الشيطان؟
والجواب: المراد عملهم الذي أمرهم به زينه لهم بالوعد والتغريب كما قال: {حبب إليكم الإيمان وزينه في قلوبكم.. الآية}.
ومنها قوله تعالى: {وإن من شيء إلا يسبح بحمده} قالوا: ومعلوم أن الجاحدين والجمادات لا يسبحون بحمده والبهائم.
والجواب: أن التسبيح يستعمل في تبعيد ما لا ينبغي والتنزيه عنه كما قال امرء القيس: (سبحان من علقمة الفاجري) أي بعداً وتنزيهاً، والمعنى أنه لا شيء إلا يسبح لأجله.
وقريب من هذا الجواب عن قوله: {ولله يسجد من في السموات..} الآية، أي يخضع ولا يمتنع عما يفعل الله فيه كما قال الشاعر:
بجمعٍ تَضِلَّ البُلق في حجراته .... ترى الأكم فيها سجداً للحوافر
أي لا يمتنع الأكمام من سلوكها عليها.
ومنها قوله تعالى: {ومكروا ومكر الله} وقال: {وأملي لهم إن كيدي متين} وقال: {وهو خادعهم} وقال: {الله يستهزئ بهم} وقال: {وجزاء سيئة سيئة مثلها}، قالوا: فكيف يجوز من الحكيم أن يفعل هذه القبائح التي هي المكر والخديعة ونحوها؟
الجواب: أن هذا مجاز من باب تسمية الشيء باسم ما يقابله، كما قال تعالى: {فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه} وكما قال: {نسوا الله فنسيهم} وقال عمرو بن كلثوم:
ألا لا يجهلن أحد علينا .... فنجهل فوق جهل الجاهلينا
فسمى الجزاء على الجهل جهلاً، وقال آخر:
فإن الذي أصبحتم تحلبونها .... دم غير ان اللون ليس بأشقرا
فسمى اللبن دماً لما كان جزاء /349/ على الدم أي من إبل الدية.
ومنها قوله تعالى: {والتين والزيتون} ونحو ذلك، قالوا: فأقسم الله بالأشياء الخسيسة.
والجواب: أن القسم قد يكون لتحقيق الأمر المخلوف عليه، وقد يكون لتعظيم المخلوف به، وكلا القسمين داخل في كلام الله تعالى، وليس شيء من خلق الله تخسيس.
ومنها قوله تعالى: {ولقد خلقناكم ثم صورناكم ثم قلنا للملائكة اسجدوا لآدم} قالوا: فظاهرها أنه أسجد الملائكة لآدم بعد خلقنا وهو كذب.
والجواب: أن المراد بقوله تعالى: {خلقناكم} آدم عليه السلام، ومن عادة العرب إضافة أحوال الآباء إلى الأولاد، فيقال: أنتم فعلتم، أي آباؤكم كما يقال لمتأخري بني العباس أنتم قتلتم أهل البيت، أي آباؤكم وأشعارهم وافتخارهم مشحون بهذا، يقول قائلهم: فعلنا، أي آباؤنا.
وقد قيل: إن تم ما هنا بمعنى الواو ومثلها في قوله{: ثم الله شهيد} والواو لا يقتضي الترتيب.
ومنها أن الله جعل القرآن بعضه محكماً وبعضه متشابهاً، قالوا: وكان اللائق بالحكمة أن يجعل الكل محكماً.
والجواب: أنه تعالى جعله كذلك لوجوه: أحدها أن يكون التكليف أشق، فيكون الثواب عليه أكثر.
وثانيها: أن يكون ذلك حثاً على النظر وصارفاً عن التقليد من حيث لو جعل الكل محكماً لاكتفى الناس بظاهره فتركوا أصول التوحيد والعدل والنظر فيها.
وثالثهاك أنه تعالى أراد أن يفعله في أعلى درجات الفصاحة، ولا يتم ذلك إلا بأن يسلك فيه طريقة العرب من التجوز والاستعارة والتشبيه والكناية ليكون أدخل في الإعجاز والملاحة؛ لأنه يكون بالاشتباه يحتمل أكثر من معنى واحد، وذلك لا محالة مما يريد اللفظ حسناً.
ورابعها: أن يمتحن به عباده في باب الاعتقاد وسائر التكاليف ليتميز المخلص من المرتاب والمحقق ممن في قلبه زيغ.
القول في سائر معجزاته عليه السلام
هي أكثر من أن تحصى، وقد روى الحاكم أنه لألف معجزة.
واعلم أن أكثرها متواتر ضروري لمن عرف السير وفحص عن الأخبار، فلا يقدح في ذلك كون غير أهل السير لا يعرفونها ضرورة، ونحن نذكر من معجزاته على جهة الإجمال والإشارة.
فمنها ما يتعلق بكثرة الطعام القليل لما نزل قوله تعالى: {وأنذر عشيرتك الأقربين} دعا بني هاشم على فخذ شاه وعس من لبن وهم أربعون رجلاً فأشبعهم وأرواهم وقاموا وهو بحاله فعل ذلك ثلاثة أيام.
ودعا أهل الخندق على عناق ذبحها جابر بن عبد الله وصاغ من شعير فصدروا وهو بحاله.
وجمع الناس مرة على أقل من صاع من التمر فصدروا والثوب يفيض من أطرافه.
ومنها ما يتعلق بكثرة الماء القليل، شكى الناس إله العطش في غزوة تبوك فاستدعى عليه السلام بميضائه ووضع يده فيها فنبع الماء من بين أصابه، فكانت تفيض حتى ارتوى الجنيش ودوابهم وحملوا الماء.
ومن سواء في هذه الغزاة على ماء قليل يكفي الراكب والراكبين وقد عطشوا فأمر عليه السلام أن لا يمسه أحد حتى يصله، فلما وصله /350/ أخذ منه قليلاً وتمضمض به ومجَّه فيه، فانبعث يجري فارتوى الناس وصارت عيناً تجري.
ونضب ما البئر يوم الحديبية فأمر عليه السلام البراء بن عازب بسهم فقال: اغرزه فيه وقل: بسم الله ففعل ففار الماء حتى غرقوا من رأسها بأيديهم، وجاءه قوم من العرب فشكوا غليه قلة ماء بئرهم وملوحتها، فجاءها فمج فيها ففار ماؤها عذباً زلالاً، فأراد مسيلمة مثل ذلك فعكس الله مراده.
ومنها ما يتعلق بالإخبار عن الغيوب كإخباره بأن علياً يقاتل الناكثين والقاسطين والمارقين وأن عماراً تقتله الفئة الباغية، وأن آخر زاده ضياخ من لبن، وأن أمته تملك كنوز كسرى وقيصر.
وكإخباره بقتل الحسين وموضع قتله، وأن علياً ستخضب لحيته م رأسه، وإخباره بوفاة النجاشي في يوم توفي، وكذلك قتل جعفر يوم مؤتة في يوم قتله حتى كان يقول: قتل فلان قتل فلان ثم يسكت قليلاً يم يقول: قتل فلان.
وإخباره بقتل شيرويه لأبيه كسرى، فقال: قتل هذه الليلة، وقد مضى من الليل كذا.
وإخباره بأن عتبة بن أبي لهب يأكله الأسد ونحو ذلك كثير.
ومنها تسبي الحصى في يده، وتكلم العضو المسموم له، وكذلك الجمل والطيبة والضب والذئب والشاة وأشباه ذلك كثير.
ومنها أنه كان إذا دعا الشجرة أقبلت تحد الأرض ثم يأمرها فتعود مكانها.
ومنها قصة الحناية وقصة الصحيفة وقصة الأسرى وقصة الغار وقصة خيمة أم معبد وقصة دار الندوة وخروجه من مكة وقصة سراقة بن جعشم حيث أراد لحوقهم فساخت قوائم فرسه حتى تضرع إلى النبي عليه السلام في خلاصها.
ومنها أنه عليه السلام كان يقع تحت الشجرة فتورق ويدعو للمريض فيتعافى.
ومنها إنشقاق القمر كما حكى الله في كتابه، وهو وغن كان ينبغي أن يكون ظاهراً فهو لا يمتنع خفاؤه على كثير من الناس بأن يكون ساعة هدوءٍ من الليل وساعة غفلة، فليس كل الناس تديم النظر إلى القمر وأبلغ من هذا أن القمر قد تكسف وتنطمس، ولا يعلم ذلك كثير من الناس.
ومنها قصة الأحزاب ونزول الريح عليهم ونصرة الملائكة ورميه بالتراب في وجوه الأعداء وإظلال السحاب إياه ونحو ذلك مما يطول استقصاؤه والإشارة إليه.
القول في أنه صلى الله عليه وآله وسلم مرسل إلى الكل وأن شريعته دائمة إلى انقطاع التكليف
وذلك معلوم ضرورة من دينه عليه السلام، وقد قال تعالى: {إني رسول الله إليكم جميعاً}، وقال: و{وما أرسلناك غلا كافةً للناس} وقال عليه السلام: ((أرسلت إلى الأحمر والأسود)).
وأما كونه مرسلاً إلى الجن فهو أيضاً ظاهر من دينه لعيه السلام، وإن لم يبلغ حد الضرورة، وقد ثبت التحدي في حقهم، وقد قال: {وإذ صرفنا إليك نفراً من الجن} إلى قوله: {منذرينْ}.
فأما يأجوج وماجوج فمن الجائز أن لا يكونوا مكلفين رأساً ومن الجائز كونهم مكلفين بالعقليات فقط، وجائز أن يكونوا مكلفين بالشرعيَّات، ويكون قد أتاح لهم /351/ من يبلغهم ما تقوم به الحجة عليهم، وجائز أن لا تكون الشرعيات مصلحة في حقهم إلا بشرط أن يبلغهم كما في صدر الإسلام، فيجوز أن يبلغ وأن لا يبلغ، وعلى هذا جوز أصحابنا أن يكون في الناس وفي البلاد من لا يبلغه دعوة النبي عليه السلام، فلا يكون مكلفاً بشرعة لفقد شرطه.
وعلى مثل هذا يحمل قوله تعالى: {لأنذركم به ومن بلغ} فأما ما ورد في الخبر من نزل المسيح عليه السلام فيجوز أن يكون ذلك وقت انقطاع التكليف ويجوز أن يكون متعبداً بشريعة محمد عليه السلام حينئذٍ، ويجوز أن يكون متعبداً بشريعته هو فقط، لجواز اختلاف المصالح، وعلى كل حال فلا يجوز أن يكون بعد محمد عليه السلام نبي.
الكلام في الوعد والوعيد
الوعد هو الخبر عن إيصال النفع أو دفع ضرراً في المستقبل من المخبر إلى المخبر، والوعيد: عكسه.
والوعيد: هو كل قول يصح أن يقال لقائله صدقت أو كذبت، ولا يلزم الدور؛ لأن حددنا الخبر بصحة قولهم صدقت أو كذبت ولا يلزم الدور؛ لأنا حددنا الخبر بصحة قولهم صدقت أو كذبت لا ينفس الصدق والكذب، ولا شك ن صحة إطلاق العبادة لا تقف على تصور مفهومها.
فصل
وللوعد والوعيد جنبتان عقلية وسمعية، والعقلية تشتمل على بيان ما يستحق على الأفعال وصفة ما تستحق وشرائط الاستحقاق وما يزيل الاستحقاق وما يحسن إسقاطه وما يجب وكيفيّة الإسقاط، والسمعية تشتمل على بيان ما يفعله الله قبل إيصال الثواب والعقاب من الفناء والإعادة وأحوال القبر وأحوال القيامة والصراط والميزان والحساب ونحو ذلك، وبيان أن الله يفعل في الكفار والفساق ما يستحقونه وما يتصل بذلك من أسماء المكلفين وأحكامهم وبيان ما كلفناه في ذلك والإكفار والتسيق ونحو ذلك.
القول في الجنبة العقلية
اعلم أن الذي يستحق على الأفعال هو المدح والذم والعقاب والثواب.
والمدح: هو كل خبر ينبي عن ارتفاع حال المذكور مع القصد إلى ذلك.
قلنا: المذكور ولم يقل الغير؛ لأنه قد يمدح نفسه.
وقلنا: مع القصد إلى ذلك احترازاً من الحكاية نحو: أليس لي ملك مصر، ومن التعريف نحو: {وآتيناه من الكنوز} الآية وينقسم إلى ما يتبعه ثواب كالمدح على الطاعة وإلى مالا يتبعه كالمدح على النعمة وعلى سائر صفات الكمال في الذم، هو كل قول نبي عن إيضاح حال المذكور مع القصد إلى ذلك.
وقلنا: مع القصد احترازاً من الحكاية نحو {أم أنا خير من هذا الذين هو مهين} ومن التعريف نحو {وعصى دم ربه فغوى} وينقسم أيضاً إلى ما يتبعه عقاب كالذم على المعصية، وإلى مالا يتبعه كالذم على الإساءة، وعلى القبائح الصادرة من الباري لو صدرت عنه تعالى عن ذلك.
والثواب: هو المنافع المستحقة على جهة التعظيم.
واعتبرنا كونه نفعاً احترازاً من قول من يجوز تحمل المشاق لأجل المدح والسرور، واعتبرنا الاستحقاق لينفصل عن التفصُّل.
واعتبرنا التعظيم لينفصل عن العوض /352/ والعقاب هو المضار المستحقة على جهة الاستحقاق.
والتعظيم هو كل قول أو فعلٍ أو ترك ينبني عن ارتفاع حال من وجه إليه مع القصد. والاستحقاق عكسه.
فصل
وهذه الأمور كما يستحق على الفعل فقد يستحق على أن لا يفعل.
قال الشيخ أبو علي والمجبرة: الترك فعل فلا يقع الاستحقاق إلا على فعل.
لنا: إنَّ أن لا يفعل جهة في استحقاق المدح والذم عند جميع العقلاء على مثل ما يقول في من طولب برد الوديعة، وهو مستلفٍ فلم يفعل في نفسه فعلاً، وكذلك فإنه يمدح إذا لم يطالب غريمه بالدين، وهذا معلوم تأويل العقول، ولهذا يعرفه من ينفي الأفعال.
وبعد، فإن لا يفعل قد صح كونه معلوماً أو مخبراً عنه، والعلم لا يتعلق بالنفي.
قلنا: متعلق هذا العلم هو المقدور على انتفاء صفة الوجود، فيصير كعلمنا بذات الباري على صفات أليفي، وإذا تعلق به العلم تعلق به الخبر.
وبعد، فالعقلاء يعملون استحقاق المدح والذم على أن لا يفعل ضرورة ولا يعلم هذا الترك الذي يثبته الخصم إلا بدلالة دقيقة، ولا يصح أن يعل الاستحقاق ضرورة، وجهته استحقاقه دلالة.
وبعد، فكلامهم إنما يتأتى فيما له ضد من الأفعال، ومعلوم أن فيها مالا ضد له كالنظر والاعتماد، فلا يكون للاستحقاق جهة، غلا ما ذكرناه.
على أن المتولدات لا يصح أن يكون لها ترك لوجوب وقوعها عند وقوع أسنانها.
شبهتهم أن القادر لا يجوز أن يخلو عن الشيء وضده.
والجواب: أن هذا باطل عند الجمهور بأن من يعلم تصرفات الناس في الأسواق قد لا يريدها ولا يكرهها، والأعراض ليس بمعنى، وكذلك القادر القوي إذا وضع يده على وسادة، ثم أزيلت الوسادة يجب أن لا تهوي كما إذا سكنها، ومعلوم أنها تهوي على طريقة واحدة.
قال أبو علي: فكيف يذم ويمدح على شيء لا تعلق له به، وله هذا إلا خبر.
قيل له: إن أردت أنه يذم لا وجه أصلاً، ولم يقل به؛ لأنه عندنا يذم على كونه لم يوجد المقدور مع تمكنه من إيجاده، وتلك جهة معقولة، وإن أردت أنه يذم لا على فعل فهو محل النزاع، ولا مانع منه.
قالوا: لو كان أن لا يفعل جهة كافية في استحقاق المدح والذم لوجب إذا أخل بالواجب وبالقبيح أن يستحق المدح والذم في حالة واحدة.
قيل لهم: يستحقها وتعتبر الموازنة كما إذا فعل الطاعة والمعصية.
قالوا: إذا جاز أن يستحق الذم بعد أن لم يستحقه لا لمعنى وجب أن لا يوجد طريق إلى إثبات الأعراض.
قيل لهم: إنه يعتبر في إثبات الأعراض حصول الصفة مع الجواز، والحال واحدة والشرط واحد، وذلك مفقود هنا.
قالوا: يوصف من لم يرد الوديعة بأنه ظالم، والظلم لا بد أن يكون فعلاً.
قيل لهم: بل يوصف بذلك من حيث أضر بالغير بكونه لم يرد الوديعة.
تنبيه
ولسنا نمنع أن يكون في الواجبات ماله ترك قبيح، فإن كل فعل يستغل به عن الواجب فإنه ترك له، لكنه إن كان تركاً واحداً بأن لا يمكن الانفكاك من الواجب المضيق إلا إليه ولم يكن أيضاً هو /353/ واجباً لصيقاً، فإنه يقبح لا محالة، وغن كانت تروكاً كثيرة، فقيل: لا يقبح واحد منها؛ لأن كل واحد منها لم يمنع الواجب من وجوده من حيث يمكن الانفكاك من الواجب، ومنه جميعاً.
قيل: يفسخ كل واحد منها على الجمع. وقيل: على البدل.
وقال أبو إسحاق: يقبح مجتمعه ولا يقبح أفرادها.
تنبيه آخر
ومتى كان الواجب مما له ترك قبيح فليس ذلك هو الوجه في وجوب ذلك الواجب، ولا في استحقاق الذم على الإخلال به، بل المخل بالواجب يستحق الذم على أن لا يفعل، وغن جاز أن يستحق الذم على فعل الترك الذي هو قبيح، فليس يمتنع استحقاق الذم من جهتين.
فصل
والشرط في استحقاق المدح والذم والثواب والعقاب عليهما بصفة ما أقدم عليه أو تركه أو يمكنه من العلم، ولهذا لا يستحق الصبي شيءاً من ذلك، وغن صدر منه ماهو بصفة الحسن أو القبيح.
فصل
والدليل على استحقاق الثواب على الطاعة وترك المعصية أن الله تعالى كلفنا الشاق، فلا بد من عوض في ذلك، وليس إلا ما نعود إلى المكلف بالنفع كما تقدم.
وبعد، فقد كلفنا الشاق مع إمكان أن نجعله غير شاق بأن نزيد في وقتنا أو نزيل الشهوة والنفار ويعيننا بالحسن عن القبيح، فلو لم نخبره بنفع كان ظلماً من حيث أن إلزام المشاق تجري مجرى إنزال المشقة، وهذا النفع لا يصح أن يكون تفضلاً؛ لأن التفضل يحسن الابتداء به، فيكون التكليف لأجله عبثاً؛ ولأن التكليف وجوب نفع من جهة المكلِّف والتفضل لا يجب.
فإن قال: هلا كان له أن يلزمنا الشاق في مقابلة النعمة التي علينا له تعالى وتجري هذه العبادات مجرى الشكر لها ويكون الثواب تفضلاً؟
قيل له: مثل هذا القدر من النعم لا يقابل إلزام الشاق وإنزال العقاب على الإخلال به.
وبعد، فلا يحسن في الشاهد إلزام الشاق لأجل النعمة، ويقل للمنعم عليه أن يقول كان الأولى أن لا ينعم علي ولا يلزمني الشاق.
وبعد، فحسن التكليف مشروط بأصول النعم، فلا يصح أن يكون في مقابلتها التكليف.
وبعد، فهذا يؤدي إلى أن يسقط وجوب شكر نعمة الله علينا؛ لأنا قد فعلنا ما يقابلها، بل كان يلزم أن لا يبقى علينا له نعمة وخلافه معلوم.
وبعد، فكون التكليف نعمة مستقلة أولى من جعله في مقابلة النعمة ومسقط بها.
وبعدن فجعله للتكليف شاقاً مع إمكان أن يجعله غير شاق يكون عبئاً لولا الثواب في مقابلته.
فإن قال: هلا كفا استحقاق المح على الطاعة دون الثواب، فإنا رأينا العرب يبذلون الرغائب في طلب المدح والثناء.
قيل له: متى تجرد المدح عن نفع نضامه لم يقع به اعتداد، وإنما يبذلون الرغائب في ذلك لاعتقاد النفع على أن المدح كما يستحق من جهة الله يستحق من جهة غيره، وقد بينا أن الجزاء على الشاق يكون على من ألزم الشاق دن غيره.
وأيضاً فكما يستحق المدح على الشاق يستحق عليه لو لم يكن شاقاً فلا بد من نفع يقابل المشقة.
أما السرور فالمرجع به إلى اعتقاد النفع أو ظنه فلا يصح أن يجعله /354/ في مقابلة الشاق.
تنبيه
ولا بد من اختصاص الثواب بصفات يتميز بها عن غيره.
منها الدوام ودليله أن الثواب يظير المدح والمدح يستحق دائماً، فكذلك الثواب لاتحاد جهة استحقاقهما.
وأيضاً فلو لم يقطع المثاب بدوامه لأدى ذلك إلى التبعيض المنفى عنهم.
وأيضاً فقد حسن من الله إدامة التفضل، فلو كان الثواب منقطعاً لكان أعلى حالاً من الثواب، ولقبح التكليف لأجل الثواب، ولاختار العقلاء التفضل الدائم على الثواب المنقطع.
وأيضاً فإذا كان لا يمكن تقديره بوقت دون وقت كان حال الأوقات معه على سواء.
ومنها أن يقارنه التعظيم والألم ينفصل عن العوض الذي كان يصح الابتداء بمثله فيقبح التكليف لأجله.
ومنها أن يخلص عن كل شائب وتبعيض؛ لأن المكلف مرغب فيه، فلا بد ان يتميز حاله عن حال التكليف في الخلوص من المشاق والمضار.
ومن هنا زال التكليف عن المثابين وصاروا ملجئين.
على أنه لا وه يقتضي حسن إنزال المشاق بأهل الآخرة.
ومنها أن يكون بالغاً في القدر مبلغاً عظيماً لا يحسن الابتداء بمثله في المقدار لتفارق التفضل، وكان أبو علي يذهب إلى أنه يكفي أن يفارق التفضل بالصفة التي هي التعظيم دون المقدار، ثم رجع إلى ماقاله الجمهور من أنه لا بد أن يفارقه في القدر والصفة، والوجه في ذلك أن الصفة التي هي التعظيم لا بد أن توازي قدراً من المنافع محصوراً، فإذا صممنا منافع الأصل إلى منافع التعظيم جاز على مقتضى قوله الأول أن يكون التفضل أكثر قدراً من الجميع، فيؤدي إلى حسن الابتداء بمثل منافع الثواب، فيؤدي إلى قبح التكليف.
مثال المسالة قوله تعالى: {من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها} ولا شك أن الواحد ثواب والتسمية الثانية تفضل، فلا بد أن يكون منافع الجزء الواحد أكثر من منافع التفضل بالغة ما بلغت وإلا لزم ما تقدم.
فصل
والذي يدل على أن العاصي يستحق العقاب هو أن الله تعالى جعل الفعل شاقاً علينا بأن خلق فينا شهوة القبح ونفرة الحسن، ولولم يكن هناك ضرر يستحقه بالإقدام على القبيح والإخلال بالواجب ويكون العلم بذلك الاستحقاق زاجراً لنا لكنَّا في حكم المغرين بالمعصية، ويصار كأنه قال لنا: اعصوا ولا ضرر عليكم في ذلك.
وبعد، فقد أوجب علينا الطاعة، فلولا أنا نتخلص بها من ضرر عظيم لما حسن هذا الإيجاب.
قلنا: إذ لا يحسن الإيجاب لمجرد جلب النفع.
فإن قالوا: هلا كفى مجرد الوجوب في حسن الإيجاب؟
قلنا: لا يكفي؛ لأن في الأفعال ما يجب ولا يحسن إيجابه كمن خوفه السلطان بضرر عظيم إن لم يشاطره على ماله، فإنه يجب عليه المشاطرة، وغن كان لا يحسن من السلطان هذا ما ذكره الشيوخ.
ولقائل أن يقول: لا معنى لكون الله أوجب، إلا أنه عرّف بالوجوب، وهذا يكفي فيه وجوب الفعل ولا حرم يحسن من الله ومن غيره أن يعرفه بوجوب مشاطرة السلطان، وليس السلطان بموجب للمشاطرة فضلاً عن أن يحسن منه الإيجاب أو يقبح، وإنما فعل /355/ بسبب الوجوب، فالمعتمد ما تقدم.
فإن قال: هلا كفى استحقاق الذم أو حصول الغم في الزجر عن المعاصي.
قيل: إذا تجرد الذم عن الضرر لم يحتفل به العصاه وأثروا الإقبال على الملاذ.
وأما الغم فالمرجع به إلى اعتقاد الضرر أو ظنه، فلا يصح أن يجعل في مقابلة المعصية.
فإن قال: إنما يحسن إنزال الضرر لأجل التشفي أو لنفع المعاقب أو المعاقب، والأولان مستحيلان على الله تعالى، والثالث مفقود.
قيل له: بل يحسن أيضاً للاستحقاق، ثم يقلب السؤال في استحقاق الذم.
على أن تشفي الغيظ لا ينهض وجهاً في حسن إنزال الضرر، وكذلك يقع المنزل، وغنما يكون ذلك تبعاً في حق من يصح عليه التشفي والنفع.
تنبيه
ولا بد أن يكون العقاب دائماً؛ لأنه نظير الذم؛ ولأنه لو كان منقطعاً لسهل على كثير من الناس احتماله إيثاراً للذة العاجلة، ولا شك أنهم مع العلم بدوامه أبعد عن المعصية.
ولمثل ذلك يجب أن يبلغ مبلغاً عظيماً نكون مع العلم به أبعد عن المعصية، وأما كميَّة فطريقه السمع، وكذلك لا بد أن يقارنه الاستحقاق ليفارق الامتحانات، ولا بد أيضاً أن يكون خالصاً عن كل روح وراحة لمثل لما تقدم.؛ ولأنه تعالى عرض بالتكليف لغاية المنافع، فلا بد أن يتضمن التحذير من غاية المضار.
تنبهيه آخر
والعقاب يستحق على الكبيثرة والصغيرة، لكن كثرة الثواب والتوبة يمنعان من إيصال عاقب الصغيرة إلى مستحقه، وقال قوم: لا يستحق على الصغيرة.
لنا: أن جهة استحقاقه هو الإقدام على القبيح مع العلم بقبحه أو التمكن من العلم والإخلال بالواجب، كذلك لا يفترق في ذلك الصغير والكبير.
فصل
واستحقاق الثواب والعقاب هو من حال الطاعة والمعصية على معنى أن للمكلف الحكيم أن يوصله غليه من حيئنذٍ، إلا لمانع يقتضي تأخره إلى آخره.
واختلف القائلون بالموافاة، فقال بعضهم: لا يستحقها حتى يوافي بالطاعة والمعصية يوم القيامة.
وقال بعضهم: حتى يوافي بها الموت.
قوال بعضهم: بل من فعل الطاعة والمعصية لكن شرط من حاله سلامة ما فعل مما يسقطه، وغلا انحبط الاستحقاق رأساً.
وفائدة الخلاف في هل يوفر إليه ما كان يستحقه في الأوقات الماضية إلى حال دخول الجنة والنار أم لا.
لنا: أن جهة الاستحقاق هو فعل الطاعة والمعصية، فيجب أن يثبت الاستحقاق ثاني حال ثبوت جهته كالمدح والذم.
فصل
والذي امتنع لأجله إيصال ذلك في الدنيا وجوه.
منها أنه يعود على التكليف بالبعض من حيث يصير المكلف في حكم الملجأ إلى الطاعة لتعجيل المنافع ودفع المضار.
فإن قال: هلا أوصل الله ذلك من حيث لا يعلم، فلا يكون ملجأ.
قيل له: لا بد أن يعلم المكلف في ما وصل إليه أنه ثواب أو عقاب لأمر يرجع إلى الحكمة، ولا بد من مقاربة التعظيم والاستحقاق أو العلم بأن الحكيم قصد ذلك.
ومنها أنه لا بد أن يخلص الثواب عن كل شائب، والعقاب عن كل راحة، وذلك لا يحصل في الدنيا.
ومنها أنه لا بد من اللطف مع ثبوت التكليف، ولا شك أن مع التأخير يكون أقرب إلى أن يفعل الطاعة؛ لأنها طاعة لا لطلب النفع وبترك المعصية؛ لأنها معصية لا لدفع الضرر، وهذا هو الوجه في جنس الإفناء، فلأجل هذه الوجوه تأخر إيصال المستحق.
نعم، قد يجوز إيصال بعض العقاب في الدنيا كالحدود ونحوها لصلاح يعلمه الله، ومثل هذا القدر لا يبلغ به المكلف حد الإلجاء.
فصل
يحرر من جهة العقل سقوط الاستحقاق مع ثبوت سببه المؤثر فيه؛ لأن تأثيره ليس كتأثير العلل التي لا يجوز انفكاكها عن معلولاتها، وإنما طريقة ما يحسن من الأفعال أو يقبح من حيث أن الاستحقاق هو حسن أمر أو وجوهب لأجل أمر متقدم على وجهٍ لولاه لما حسن أو لما وجب، وإذا كان كذلك لم يمتنع أن يرد على ذلك الاستحقاق ما يزيله مع قيام سببه كالإساءة فإنها تزيل استحقاق الشكر على الإحسان مع ثبوت الإحسان، وكذلك الاعتذار يزيل الذم على الإساءة مع ثبوتها، وكذلك فإن الحقوق قد تسقط بالإبراء وبمقابلة حقوق آخر ونحو ذلك.
فصل
به يسقط استحقاق الثواب سببان:
أحدهما: الندم على فعل الطاعة؛ لأنها طاعة، فإنه يصير بذلك في حكم من لم يفعلها كالندم إلى الإحسان إلى الغير.
الثاني: أن يفعل معصية يريد عقابها على ثوابه أو يساويه عند من يخير المساواة ويصير كمن يسيء إلى غيره إساءة يزيد على إحسانه أو يساويه.
ولا يجوز إسقاطه بإسقاط الله تعالى، كما جاز في العقاب؛ لأن العقاب حق لله، فجاز منه إسقاطه، وكذلك لا يجوز إسقاطه بإسقاط العبد المستحق له؛ لأنه ليس إليه استيفاؤه حتى يكون إليه إسقاطه، بل هو في حكم المولى عليه.
وأيضاً فهو لا يعلم مقداره ولا كيفيَّة الانتفاع به، وأيضاً فهو بالغ في الكثرة مبلغاً لو علمه لكان في حكم الملجأ إلى أن لا يسقطه، فإن أسقطه كأن في حكم المحجور عليه.
على أن إسقاطه له يكون عبثاً لا عرض فيه من حيث يفوت على نفسه نفعاً عظيماً، وليس يجلب بذلك إلى الله تعالى نفعاً ولا يدفع عنه ضرراً.
فصل
وبهذين السببين يسقط العقاب إلا أنه لا بد مع الندم على المعصية من قيد زائد وهو العزم بحسب ما يأتي تفصيله ويسقط بسبب ثالث، وهو إسقاط الله له خلافاً للبغداديين، فإنهم قالوا: لا يحسن في العقل من الله إسقاط العقاب.
لنا: أنه حق لله تعالى على الخصوص وهو عالم بكميَّته وإليه استيفاؤه، فجاز إسقاطه كالدين لا كالذم، فإنه ليس يحق لله تعالى على الخصوص، بل هو أيضاً حق للمذموم، فلا يصح سقوطه غلا على جهة البيع لسقوط العقاب.
وبعد، ففي إسقاط العقاب دفع ضرر عن الغير، وذلك في الحسن يجري مجرى الإحسان إلى ذلك الغير، وليس فيه وجه /357/ قبح فيجب جوازه.
شبهتهم أن تجويز المكلف للعفو يغير حاله في الخوف ويكون في حكم المغري على المعصية.
والجواب: إن ظن بزوال العقاب المستحق يكفي في التخويف والزجر، وكما لا يقدح في ذلك تجويز سقوطه بالتوبة، كذلك لا يقدح فيه تجويز سقوطه بالعفو.
والوجه في الموضعين أنه لا يقطع بحصول التوبة ولا العفو، فالحق باق، وليس من حق الزجر أن يكون على أبلغ الوجوه وإلا وجب أن لا يسقط بالتوبة.
قالوا: إن تجويز العفو عن المعاصي يقتضي سقوط الذم عنه.
قيل لهم: لو تركنا والعقل لما ذممناه على القطع، بل كان ذمنا له مشروطاً بأن لا يقع العفو، كما أنه مشروط بأن لا يتوب، لكن ورد السمع بذمه على القطع، إلا أن يتوب.
على أن لا يذمه في الحالين لأجل نزول العقاب، بل للإستحقاق والاستخفاف ثابت مع تجويز العفو.
فصول في الإحباط والتكفير
الإحباط: هو خروج المدح والثواب المستحقين عن كونهما مستحقين لأجل التوبة أو كثرة الطاعات والتكفير هو خروج الذم والعقاب المستحقين عن كونهما مستحقين لأجل التوبة أو كثرة الطاعات.
فصل
ومتى جمع المكلف بين الطاعات والمعاصي فلا شبهة في تعذر إبطال الثواب والعقاب إليه خلافاً لما تقوله بعض المرجئة من أنه لا بد أن يصل إليه الثواب والعقاب وأنه لا معنى للإحباط والتكفير.
لنا: ما تقدم من أن الثواب يستحق على جهة الإجلال والعقاب يستحق على جهة الاستحقاق، وبين الإجلال والاستحقاق تنافٍ، وما تقدم من أنه لا بد أن يخلص الثواب عن كل شائب، والعقاب عن كل راجه، ومن أنهما يستحقان على جهة الدوام، وكل ذلك يمنع من إيصالهما، وإذا منع من وقوعهما معاً منع أيضاً من استحقاقهما؛ لأن الاستحقاق يتبع صحة الوقوع، وبهذا يفارق الثواب العوض، فإن العقاب لا يسقطه لصحة الجمع بينهما خلافاً لما يقوله أبو علي من أنه يسقط العوض أيضاً.
شبهتهم قوله تعالى: {فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره} الآية قالوا: فلا بد أن يصل إليه الخير والشر وإلا كان كذباً.
والجواب: أن ظاهرها متروك لاقتضائه أن يثاب الكافر وأن يعاقب المؤمن ولاقتضائه أن يرى الأعمال بالعين وهي أعراض لا يصح عليها الإعادة فضلاً عن الرؤية.
وبعد، فرؤية الخير والشر مشروطة بأن لا يعارضه ما يسقطه.
وبعد، فصاحب الجنة يرى معاصيته مغفورة له فيزداد سروراً، وصاحب النار يرى طاعته محبطة فيزداد غماً.
شبهة
قالوا: قال تعالى: {من جاء بالحسنة فله خير منها، وذلك عام في كل حسنة، وذلك يقتضي وصول ما هو خير منها، وفي إسقاطه الكذب.
والجواب: أنه يلزم ما تقدم من وصول الثواب إلى الكفار.
وبعد، فهب أنه عام، فهو مخصص بآيات الوعيد التي تقتضي خلود الكفار والفساق /358/ فيجب أن يكون المعنى من جاء بالحسنة خالصة.
يوضحه قوله تعالى: {وهم من فزع يومئذٍ آمنون} ومتى وجب أن يصل إليه عقاب مع الثواب لم يكن آمناً.
وبعد، فلفظ الحسنة المذكورة شامل لكل الطاعات ومستغرق لها؛ إذ ليس ثم معهود يصرف إليه الكلام، ولا شك أن من جاء بجميع الطاعات خلص ثوابه.
شبهة
قال تعالى: {فلن يضل أعمالهم}، وقال: {إنا لا نضيع أجر من أحسن عملاً} وقال: {إني لا أضيع عمل عامل} ونحو ذلك.
والجواب: أنه ليس مع الموازنة إبطال ولا إضاعة؛ لأنه إذا سقط من عقابه بمقدار طاعاته، ومن ثوابه بمقدار معاصيه فلا إبطال.
على أن الفاسق لا يوصف بأنه من أحسن عملاً لأنه اسم مدح.
شبهة
قالوا: قال تعالى: {إن الحسنات يذهبن السيئات} ولم يقل: {إن السيئات يذهبن الحسنات}.
والجواب: دليل الخطاب لا يؤخذ به في مثل هذه الصورة، فلا يدل تخصيص الشيء بالذكر هنا على نفي ما عداه.
وبعد، فالحسنات إنما تذهب السيئات إذا حصلت بعدها، فيجب إذا حصلت السيئات بعد الحسنات أن يذهبا، والجامع أنه يصير بذلك في حكم من لم يفعل ما يسقط.
وبعد، فلو ذهبت سيئات الفاسق لما حسن ذمه، ولا إنزال العقاب به.
فصل
قد ثبت استحالة استحقاق الثواب والعقاب جميعاً.
واختلف الناس في هل يصح أن لا يستحق واحد منهما بأن تستوي طاعاته ومعاصيه أم لا.
فذهب الجمهور إلى استحالة استوائهما، قالوا: لأنه إذا استويا فإما أن يدخل النار وذلك ظلم، وإما أن يدخل داراً غير الجنة والنار، وذلك باطل بالإجماع.
على أنه لا دار غيرهما إلا ما يحكى عن بعض الصوفية وبعض الشيوخ من أن الأعراف المذكورة في القرآن دار غيرها وهي عند الجمهور مواضع عالية في الجنة شبهت بعرف الديك لارتفاعها.
وأما أن يدخل الجنة وهو باطل؛ لأنه لا ثواب له فيدخلها مثاباً ولا يصح أن يدخلها متفضلاً عليه للإجماع على أنه إذا دخل الجنة مكلف، فلا بد أن يتميز حاله عن حال الصبيان والمجانين.
ولقائل أن يقول: هذا إجماع مظنون، والمسألة قطعيَّة أعني جواز أن يدخلها متفضلاً عليه.
على أنه يصح أن يتميز عن الصبيان والمجانين بكثرة التفضل، وليس في الإجماع تصريح بأن التمييز لا بد أن يقع بالثواب.
فصل
إذا ثبت استحالة استحقاقهما جميعاً واستحالة الخلو منهما لم يكن بد من أن يزيد أحدهما على للآخر، فلا يكن بد من أن يسقط الأقل بالأكثر، وذلك معنى الإحباط والتكفير ومصير من زادت طاعاته على معاصيه كمن يحسن إلى الغير إحساناً عظيماً، ويسيء غليه إساءة حقيقة فإنه لا ينبغي سقوط الإحسان العظيم بالكلية ويضير من زادت معاصيه بالعكس.
فصل
واختلف الشيوخ في ما به يقع الإحباط والتكفير، فقال أبو علي: بين الطاعة والمعصية؛ لأنهما السبب واستحقاق الثواب والعقاب.
وقال ابن الأحشيد /359/: بين الطاعة والعقاب.
وقال أبو هاشم والجمهور: بين الثواب والعقاب؛ لأن الذي أوجب القول بالإحباط والتكفير هو التنافي، والتنافي إنما هو بين الثواب والعقاب؛ لا بين الطاعة والمعصية ولا بين الطاعة والعقاب.
وبع، فلا بد أن يؤثر أحدهما في الآخر بالإسقاط، وذلك إنما يتأتى في أمر منتظر دون ما قد حصل.
يوضحه أن المرجع بذلك إلى أنه يحسن من الله ما كان قبيحاً أو يقبح منه ما كان حسياً وذلك إنما يكون فيما ينتظر.
فصل [في كيفية الإحباط والتكفير]
ذهب الشيخ أبو علي إلى أن الأقل يسقط من كل وجه حتى لا يقع به اعتداد، ولا يكون فرق بين وجوده وعدمه، فإذا فعل أحدنا طاعة يستحق عليها عشرة أجزاء من الثواب وفعل معصية يستحق عليها أحد عشر جزءاً من العقاب فإن عشرة الثواب يسقط عنده بالكليَّة ويدل النار بأحد عشر جزءاً من العقاب.
وقال أبو هاشم: بالموازنة فيسقط من الأكثر ما يوازن الأقل فيسقط عشرة أجزاء من العقاب في مقابلة عشرة الثواب ويدخل النار بجزء واحد.
وهذا هو الحق والذي يليق بالعدل.
لنا: أما من جهة العقل فهو انه لا بد لأجل الطاعة أن ينتفع بثوابه ضرباً من الانتفاع، ولما لم يمكن إيصاله جعل تحقيقاً من عقابه.
وبعد، فلو كان كما قاله لما حسن من الكافر والمصر على الكبير أن يفعل شيئاً من الطاعات؛ إذ لا فائدة له في ذلك.
وبعد، فلو لا الموازنة لم يكن فرق بين بعض الكبائر وبعض.
وأما من جهة السمع فقوله تعالى: {فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره ومن يعمل مثقال ذرة شراً يره} وقوله: {فلا تظلم نفس شيئاً وإن كان مثقال حبة من خردلٍ} ونحو ذلك من الآيات.
شبهة أبي علي
أما من جهة العقل فهو أن سقوط ا بعض عقابه بالطاعة يكون ثواباً؛ لأن دفع الضرر يجري مجرى النفع، وكذلك سقوط بعض عقابه بالطاعة يكون ثواباً؛ لأن دفع الضرر يجري مجر ى النفع، وكذلك سقوط بعض ثوابه بالمعصية يكون عقاباً؛ لأن تفويت النفع يجري مجرى الضرر فيؤدي إلى أن يكون كل واحد مثاباً معاقباً، والعقل يحيله، وهذا هو الوجه عنده في استحالة تساوي الطاعات والمعاصي، قال: لأنه يكون حينئذٍ بسقوط عقابه في حكم المثاب وبسقوط ثوابه في حكم المعاقب، وكذلك جعل الإحباط والتكفير بين الطاعة والمعصية.
والجواب: أن هذا لا يصح لوجهين:
أحدهما: أن المانع من اجتماع الثواب والعقاب هو التنافي، ولا تنافي بين سقوط بعض الثواب وإيصال بعضه.
الثاني: أن حقيقة الثواب غير حاصلة في من خفف من عقابه، ولا حقيقة العقاب حاصلة في من سقط بعض ثوابه.
وأما من جهة السمع فقول تعالى: {أن تحبط أعمالكم} وقوله: {ولا تبطلوا أعمالكم}، وقوله تعالى: {وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباءً منثوراً} ونحو ذلك.
والجواب: يحتمل أن تصرف هذه الآيات إلى الكفرة وأهل الكبائر فإنهم بفعلها /360/ قد أبطلوا أعمالهم وإن كان فعل الطاعة يقتضي تحقيقاً عنهم.
ويجوز أن يصرف إلى أهل الصغائر ويكون المبطل والهباء والمحبط ما يوازن المعصية دون ما زاد عليه، ولفظ أعمالكم وإن كان عاماً، فما تقدم من الأدلة يخصصه على أن عند كثير من الناس لا يفيد العموم.
فصول في التوبة التي تسقط بها العقاب
التوبة: هي الندم على المعصية لكونها معصية والعزم على أن لا يعود إلى مثلها في كونها معصية، وقد دخل في كونها معصية فعل القبيح والإخلال بالواجب.
فصل
لا بد من اعتبار الندم اتفاقاً والعزم خلافاً لقوم.
لنا: أن التوبة نظيراً لاعتذار من الإساءة في الشاهد؛ لأن صورتها واحدة وإن اختلفا في التسمية، وفي أن المعتذر في الشاهد لا بد أن يظهر عذره بالقول لما لم يمكن المساء إليه معرفة ما في ضميره.
وبعد، فهب أن ليست صورتهما واحدة، فالتوبة مقيسة على الاعتذار، فكما أن المسيء لا يكون معتذراً ولا يسقط عنه الذم إلا إذا عزم على أن لا يعود إلى الإساءة، فكذلك التوبة، والجامع كون كل واحد منهما بذل الجهد في تلافي ما وقع منه، ودفع ما يستحقه على ذلك من دم أو عقاب.
يوضحه أن من اعتذر إلى غيره من قتل ولده وهو عازم على قتل الولد الىخر فإنه لا يسقط عنه الذم ولا يكون معتذراً.
فصل
واختلف المعتبرون للعزم. فقال أبو هاشم: هو جزء من التوبة لما تقدم.
وقال السيد صاحب شرح الأصول: هو شرط فيها، والأصل هو الندم؛ لأن من حق التوبة أن يتعلق بالماضي والعزم لا يتعلق بالماضي.
وقال ابن الملاحمي: ليس جزءاً منها ولا شرطاً فيها، وإنما التوبة هي الندم فقط، لكن إذا خطر بباله المعاصي المستقبلة حال الندم ولم يعزم على تركها انكشف لنا أنه لم يندم على المعصية لكونها معصية، فالعزم إنما هو دليل التوبة عنده؛ لأن الداعي إلى التوبة هو الداعي إلى العزم.
قال: فأما إذا لم يخطر بباله المعاصي المستقبلة كفاه الندم.
فإن قيل: إذا وجب العزم فبماذا يتعلق.
قلنا: تتعلق بفعل الواجب لوجوبه وبكراهة فعل القبيح أو بإرادة فعل ضدِّه إذا كان له ضدٌّ، ولا يصح تعلق العزم بأن لا يفعل من حيث هو نفي، فأما الندم فلا يصرف عن ظاهره في التعلق؛ لأنه من قبيل الغم والأسف.
فصل
واعتبرنا أن يندم على المعصية لكونها معصية ويعزم على أن لا يعود إلى مثلها في كونها معصية؛ لأن وجه التوبة هو دفع ضرر العقاب والذم، والمعصية جهة استحقاقهما، فيجب أن تكون التوبة لأجل الجهة التي جاء منها الضرر؛ ولأنها نظير الاعتذار ومعلوم أنه لو اعتذر لا لأجل الإساءة، بل لأنه لحقه بالإساءة مشقة، أو لأنه ينجس ثوبه بدم المقتول أو نحو ذلك، لم يكن معتذراً /361/ فكذلك إذا تاب من شرب الخمر لأجل أنه أصابه في رأسه صداع أو جمار أو لأجل الناس أطلعوا عليه لم يكن.
وعلى الجملة لا يكون باذلاً للجهد في تلافي ما وقع إلا إذا ندم على القبيح لقبحه.
فصل
واعتبر بعضهم أن يندم على القبيح لعظمه ي القبح لا للقبح المطلق، وقال آخرون: يجب أن يندم عليه لقبحه ولجنسه حتى يندم على الزنا لقبحه؛ ولأنه زنا، وقال بعضهم: بل لقبحه ووله قبحه.
ويبطل الجميع أن العقلاء عند العلم بالقبح يستحسنون الذم عليه وإنزال العقاب لأجله، وان يجرد من جميع ما ذكروه، ولو كان كما قالوه لوجب إذا تعرَّى القبيح عن هذه الأشياء أن يكون فاعله معذوراً، فلا تجب عليه توبة.
وبعد، فقد قدمنا أن وجه وجوب التوبة كونها تدفع ضرر العقاب، فيجب أن تكون التوبة للوجه الذي جلب الضرر، وهو القبح فقط، وبهذا يبطل قول من يقول: هلا صحة التوبة من القبيح لوجه قبحه لا لنفس القبح كان يندم على الكذب؛ لأنه كذب، لا لأنه قبيح كما يصح أن يفعل الواجب لوجه الوجوب كما يؤدي الصلاة لكونها لطفاً.
فصل
واعتبر شمر بن المعتمر وأصحابه في التوبة الموافاة وخالفه الجمهور.
لنا: أنها بذل الجهد في تلافي ما وقع، فلا تحتاج إلى الموافاة كالاعتذار، فإن من اعتذر اعتذاراً صحيحاً سقط عنه الذم سواء أساء مرة أخرى أم لا.
فصل
والتوبة واجبة عقلاً وسمعاً إن كانت المعصية كبيرة، وسمعاً فقط إن كانت صغيرة.
والذي يدل على ذلك من جهة العقل أن فيها دفعاً للضرر العظيم ودفع الضرر عن النفس واجب، وبهذا يعلم أنه لا يجب من جهة العقل التوبة عن الصغيرة؛ لأنه لا ضرر فيها.
وقد ذهب أبو الحسين إلى أن العلم يوجب التوبة عن القبيح لقبحه معلوم ضرورة.
وأما من جهته للسمع فهو معلوم ضرورة من الدين.
ثم المعصية قد يعلم حمله، فتجب التوبة عنها تفصيلاً.
فصل
والتوبة تسقط العقاب عند الجمهور. وقال أبو الهذيل: بل إنما يتفضل الله بإسقاطه عندها، وبه قالت البغدادية، إلا أنهم جعلوا الوجه في ذلك كونه أصلح.
وروي عن ابن عباس والحسن البصري أن التوبة لا تسقط عقاب القتل.
لنا: أن العذر الصادق في الشاهد يسقط الذم على الإساءة، فكذلك التوبة، والجامع ما تقدم إن لم يكونا جنساً واحداً.
وبعد، فكان يجوز أن لا يتفضل الله بالإسقاط عندها وخلافه معلوم.
وبعد، فكان يقبح التكليف بعد مواقعة المعصية؛ إذ لا طريق للمكلفين حينئذٍ إلى الانتفاع بما كلفوه.
فإن قال كيف يسقط العقاب بالتوبة مع بقاء سببه وهو المعصية.
قيل له: كما يسقط /362/ بالاعتذار ذم الإساءة مع بقائها.
والتحقيق أن الطاعة والمعصية ليست تؤثر على سبيل الإيجاب، وإنما تأثيرها بمعنى أنه يحسن عندها ما كان قبيحاً، وهو المدح ويقبح ما كان حسناً وهو الذم والعقاب.
فأما ما يحكى عن ابن عباس والحسن فمتأول بأن معناهم القائل مخذول لا يوفق للتوبة لعظم ذنبه.
وحكي أن عمر بن عبيد دس إلى لحسن من سأله فقال: لا يخلوا القاتل إما أن يكون كافراً أم منافقاً أو فاسقاً، إن كان كافراً فقد قال تعالى: {قل للذين كفروا إن ينتهوا نغفر لهم ما قد سلف} وإن كان منافقاً فقد قال تعالى: {إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار} إلى قوله: {إذا الذين تابوا} وإن كان فاسقاً فقد قال تعالى: {أولئك هم الفاسقون إلا من تاب} فقال الحسن للسائل: من أين لك هذا؟ فقال: من ععمرو بن عبيد، فقال: وما أدراك ما عمرو بن عبيد، ورجع عن هذه المقالة.
فإن قال: لو أسقطت التوبة العقاب في الدنيا لأسقطته في الآخرة.
قيل له: إن من حق التوبة أن يكون ندماً على القبيح لقبحه وأهل النار يندمون لأجل الإلجاء.
فإن قال: لو وجب على الله قبول التوبة لما استحق شكراً على قبولها.
قيل له: يستحق الشكر على ولده في التربية، وإن كانت واجبة عليه، فوجوب الفعل لا يخرجه عن كونه نعمة إذا كان منفعة حسنة قصد بها وجه الإحسان.
فصل
وإذا ثبت أن التوبة تسقط العقاب فهب تسقطه بنفسها لا بكثرة ثوابها خلافاً لقوم.
لنا: أنها نظير الاعتذار، ومعلوم أنه يسقط الذم بنفسه لا بكثرة مما يستحق عليه من المدح، والافتراق الحال بين كثير الاعتذار وقليله في إسقاط الذم.
وبعد، فلو سقطت بكثرة ثوابها للزم أن يكون ثواب التائب من الشرك أعظم من ثواب الأنبياء بدليل أنه يحيط به، كما قال تعالى: {لئن أشركت ليحبطن عملك}.
شبهة المخالف أنه لو أسقطته بنفسها لوجب أن تسقط في الآخرة.
والجواب: أن هذا لازم له أيضاً؛ لأن ثواب التوبة يكون أكثر من عقابه في الآخرة، كما هو كذلك في الدنيا، والتحقيق أن أهل الآخرة قد زال عنهم التكليف للإلجاء، فليس يصح وقوع التوبة منهم فضلاً عن أن يسقط بنفسها أو بثوابها؛ لأنهم يندمون لا للقبح.
فصل
وإذا سقت التوبة عقاب المعصية فليس يعود الثواب الذي أسقطته المعصية خلافاً للكعبي.
لنا: أن الثواب قد سقط في مقابلة ما توازنه من عقاب المعصية والتوبة، إنما أسقطت الزائد، فأما ما يقابل الثواب فقد أسقطه الثواب، فلا يحتاج إلى مسقط، فلا يتصور عود الثواب بالتوبة؛ إذ ليس لها في ما تقابله تأثير.
وبعد، فلو عاد ثواب /363/ التائب لكان التائب أعلى حالاً ممن لم يعص من حيث أنه له مثل ثواب الذي لم يعص وثواب التوبة أيضاً.
شبهته أن من أساء إلى غيره بعد إحسان ثم اعتذر لم يكن كاعتذار من أساء إليه لا بعد إحسان، فلو لا أن مدح الإحسان الأول يعود عند الاعتذار لما افترق الحال، كذلك الثواب عند التوبة.
والجواب: أن الفرق على أصل الجمهور هو أن المحسن قد استحق المدح على الإحسان في وقت ما، وهو قبل وقوع الإساءة، فأما بعد وقوعها فقد سقط بما يقابله من الإساءة ونفي الزائد يسقطه الاعتذار، فيكون حاصل الفرق أن اعتذار من لم يحسن أسقط دماً كثيراً أو اعتذار من تقدم أسقط ذماً قليلاً.
وقد أجاب ابن الملاحمي بأن الإساءة إنما أسقطت المدح من حال وقوعها إلى حال وقوع الاعتذار، ومن حال وقوع الاعتذار بعود المدح في المستقبل لزوال المانع من استحقاقه وهو الإساءة.
قال: وكذلك في التائب فإنه يستحق المح والثواب من حال الطاعة، فإذا أسقطت المعصية الطاعة فإنما يسقط المدح والثواب عليها إلى حال وقوع التوبة، فإذا وقعت التوبة زالت المعصية المانعة من استحقاق المدح والثواب، فيعود استحقاقهما، وأشار إلى صحة قول أبي القاسم الكعبي إن أراد هذا المعنى وجعل أيضاً التوبة عن الصغيرة بعدي المدح والثواب المستحقين عليها من حال التوبة.
فأما عند الجمهور فإنما يكون له من التوبة على الصغرة ثواب يختص التوبة؛ لأن وجوبها شرعي، فأما أنها بعيد ثواب ما أسقطته الصغيرة فلا.
ومثل هذا يجيء الخلاف في من عصى ثم أطاع فتساقط عقاب المعصية وثواب الطاعة، ثم يذم على الطاعة، هل يعود عقاب المعصية أم لا، وغن كانت الشبهة في مثل هذا أدخل.
فصل [في كيفية التوبة]
اعلم أن الذنب إما أن يكون عليه فيه تبعة أم لا إن لم يكن كفاه الندم والعزم، سواء كان من أفعال الجوارح أو من أفعال القلوب، إلا أنه إذا كان من قبيل الاعتقادات، وكان قد ابتعه أحد فيه وجب أن يظهر توبته ليرجع متبعوه عن ذلك ويبالغ في تلافي ما وقع في مصنفاته ونقضه، وإن كان على الناس أن ينظروا ولا يقلدوا، وإن كان مما عليه فيه تبعة، فإن كان بينه وبني الله كالصلاة والزكاة فإنه يكفي الندم والعزم مع القضاء بما أمكن، وغن كان بينه وبني الناس فلا بد مع الندم والعزم من تلافي ما فرط، فإن كان قتلاً أو قصاصاً أفاد من نفسه إلا أن يعفوا أهل الحق، وإن كان مالاً سلمه إلى أهله إن كان باقياً أو مثله إن كان من ذوات الأمثال أو قيمته إن كان من ذوات القيم، وإن لم يتمكن من شيء من ذلك عزم عليه، وغن كان عِرْضاً اعتذر ما أمكنه الاعتذار إن كان أو المساء إليه قد علم كلامه وإلا كفاه الندم والعزم وإظهار ذلك /364/ عند الذين اعتابه إليهم.
واختلف في من اعتذر إلى الغير ولم يتب إلى الله.
فقال الجمهور: لا يصل اعتذاره؛ لأن من حق الاعتذار أن يكون بدلاً للجهد في تلافي ما فرَّط وما لم يتب إلى الله فلم يبذل الجهد.
وقال القاضي: يصح اعتذاره؛ لأن الاعتذار إنما لزمه في مقابله كون الفعل إساءة والتوبة تلزمه في مقابلة كنه معصية وهما أمران متغايران، ولمثل هذا يصح أن يكون معتذراً إلى زيد دون عمرو.
فصل
واختلفوا في القبيح إذا تاب عنه ثم ذكر هل يجب تحديد التوبة كلما ذكره أم لا، فقال أبو لعي: يجب بناء على أن علة وجوب التوبة القبح.
قال: وغلا كان مضراً على القبح، وفسر الإضرار بترك التوبة، وإن كان قد فسَّره مرَّة بالثبات على المعصية ومرَّة بالعزم على فعلها.
وقال أبو هاشم: لا يجب تحديد التوبة بناء على أن وجه وجوبها كونها دفعاً للضرر، وقد اندفع الضرر بأوَّ توبة، ولا يجب تحديدها وإن حسن.
فصل
عند الجمهور أنها لا تصح التوبة من ذنب دون ذنب مع العلم بأن الأخرى معصية.
وقال أبو لعي: يصح أن يتوب من معصية مع الإصرار على ما ليس من جنسها. فأما إذا كانت من جنسها كأن يندم على شرب قدح خمر مع الإصرار على شرب قدح آخر، فلا يصح بالاتفاق، وإلى هذا مال الشيخ محمود
حجَّة الجمهور أنه لا يصح أن يندم على قبيح لقبحه، ولا يندم على ما سواه في القبيح؛ لأن التوبة كالترك من حيث أنها إقلاع عن المعصية، وقد تقرر في العقول أن من ترك فعلاً لعلة فإنه يجب أن يترك ما ساواه في تلك العلة، وغلا لم يكن قد ترك لتلك العلة، ألا ترى أن من امتنع من أكل رمانة؛ لأنها حامضة، فإنه يجب أن يمتنع من كل حامض، وغلا وجب كون علة الترك غير الحموضة، فكذلك إذا تاب عن القبيح لقبحه مع الإصرار على قبيح آخر، علمنا أنه ما تركه لقبحه.
واعتبرنا أن نعلم أو نعتقد كون المعصية الأخرى معصية؛ لأنه لو اعتقدها حقاً لصح أن يتوب عن غيرها دونها، ولهذا يصح توبة الخارجي عن الربا مع إصراره على الخارجية لاعتقاده كونها حقاً إلا أن توبته تكون محبطة في جنب الإصرار على الكبيرة واعتقاد جنسها.
قال الشيخ أبو علي: إنما ذكره الجمهور يؤدي إلى وجوب التوبة عن الحسن، والواجب؛ لأنه إذا أراد اليهودي أن يتوب من الكبيرة وعنده أن اعتقاد نبوة محمد قبيح واعتقاد تكذيبه حسن كان قد أوجب عليه أن يتوب عما هو حسن عنده أو واجب.
والجواب: إنما صحت توبته عن الكبيرة من حيث جهل قبح تكذيب محمد، ووجوب اعتقاد نبوته، ونحن فرضنا الكلام في من يعلم قبح المعصية الأخرى.
قال أبو علي: وقع الإجماع على صحة التوبة من ذنب دون ذنب، له كيف يصح دعوى الإجماع وقد خالف /365/ أكثر أهل البيت عليهم السلام كأمير المؤمنين والقاسم وعلي بن موسى الرضا، وخالف أيضاً من التابعين وتابعيهم واصل بن عطاء وجعفر بن مبشر وابن المعتمر.
قال أبو علي: قد بينا أن من فعل فعلاً لغرض لم يجب أن يفعل ما سواه في ذلك الغرض كما إذا تصدق على مسكين نذرهم لا يجب أن يتصدق على كل فقير، وكما إذا أكل رمانة؛ لأنها حامضة لا تجب أن يأكل كل رمانة حامضة.
وأجاب الجمهور بأنه قد تقرر في العقل الفرق بين الفعل والترك فأوجب في من ترك فعلاً لغرض أن يترك ما سواه في ذلك الغرض، ولم يوجب في من فعل فعلاً لغرض أن يفعل ما سواه في ذلك الغرض، قالوا: ولا يضر الفرق بعلة الفرق.
والحق أنه لا فرق بين الموضعين، بل كما يجب أن يترك ما حصل فيه علة الترك يجب أيضاً أن يفعل ما فيه علة الفعل لكن شرط بقاء تلك العلة وأن لا يعرض ما يزيلها.
وما ذكره الشيخ أبو علي من أن من تصدق على فقير بدرهم لا يجب أن يتصدق على غيره، وكذلك الرمانة فهو صحيح، لكن إنما لم يجب ذلك لحصول صارف صرفه عن التصدق على غيره حتى لو خلص الداعي، وبقي الغرض الذي لأجله تصدق على الأول، لوجب أن يتصدق على غيره، وإلا بطل أن يكون تصدق لذلك الغرض.
ولهذا لو سألت المتصدق فقلت: لم تصدقت على زيد لفقره؟ ولم تصدق على عمرو لفقره؟ لقال: إني لو تصدقت على عمرو وعلى كل فقير لنفد مالي وحصل على ضرر، فثبت أنه إنما لم يتصدق على غيره لحصول صارف أزال الغرض المتقدم، ونحن فرضنا المسألة مع بقاء الغرض، وكذلك من أكل رمانة لأنها حامضة إنما لم يجب أن يأكل الرمانة الأخرى وإن حصلت الحموضة لحصول صارف أو تناقض شهوة حتى لو خلص ما لأجله أكل الأولى لوجب أن يأكل الثانية.
حجَّة الشيخ محمد على ترجيح قول أبي علي أن التائب يجوز أن ينصرف عن القبيح لقبحه ولعظمه أو لقبحه ولكثرة الزواجر عنه أو لقبحه، ولكونه مكملاً لذنوب كثيرة، وإذا كان كذلك جاز أن يندم على بعض القبائح لقبحه، ولهذه الصوارف ولا يندم على ما سواه في القبح فقط دون هذه الزوائد، وصار كمن يأكل طعاماً لشهوة شديدة، فإنه لا يجب أن يأكل طعاماً لشهوة قليلة، وإن اشتركا في الشهوة.
قال: يوضحه أن الإجماع قد وقع على أن اليهودي إذا تاب عن اليهودية مع إصراره على غصب درهم صحت توبته وتجري عليه أحكام المسلمين.
واعترضه الجمهور بأن الإجماع إنما قع على أنها تجري عليه أحكام المسلم. فإما أنه يسقط عليه عقاب اليهودية فلا.
وأجاب بأنه لولم يسقط عه عقاب اليهودية لكان كافراً في نفس الأمر، ومعلوم خلافه، ولكان لا فرق بين رجوعه عن اليهودية وبين إصراره عليها /366/ على أن أصل الجمهور يقتضي أنه مالم يتب عن غصب الدرهم فهو باق على اليهودية إذ لم يصح توبته بعد، فلا يصح أن تجري عليه أحكام المسلمين.
قال: وما حكي عن أهل البيت عليهم السلام إنما هو مصروف إلى التوبة الكاملة لا إلى التبة على الإطلاق، وهذا حسن، إلا أن للجمهور أن يقولوا: إن توبة من ندم على القبح لقبحه ولعظمه أو لقبحه ولكثرة الزواجر عنه ونحو ذلك مما عدَّه غير صحيح، ولا بد أن يندم عليه لقبحه فقط؛ لأن القبح هو سبب العقاب، والعقاب سبب التبة، فلا حاجة إلى الزيادة.
زيد إن حسب بأنه إذا ندم عليه لقبحه صحب التوبة ولا يقدح في صحتها أن يندم عليه لزيادة مع القبح، وهي كثرة العقاب بذلك الذنب أو نحو ذلك، فإنه لا يشتبه على عاقل كون عظم الذنب وكثرة الزواجر مما يصرف عنه، وإذا جاز أن يندم عليه للقبح ولزيادة لم يجب أن يندم على ما ساواه في القبح فقط، فيجب صحة التوبة عن ذنب دون ذنب بأن لا يحصل في أحد الذنبين هذه الصوارف المذكورة، وهذا أقوى كما ترى لا سيما على القول بأن العزم دليل على التوبة، وليس جزءاً منها ولا شرطاً فيها.
القول في الوعيد السمعي
قد تقدم في أول الكلام ذكر ما تشتمل عليه هذه الجنبة.
فصل [في انقطاع التلكيف]
قد دل العقل على أنه لو نفى على أهل الآخرة تكليف لكان المكلف إما من أهل الجنة فيحصل عليه بالتكليف تبعيض ومشقة، وربما يعصي فيستحق العقاب، وربمَّا تتوفر على الطاعات فيصير حاله أعلى ممن كان خيراً منه في الدنيا، وكله محال، وأما من أهل النار فيجب أن يكون له سبيل إلى الانتفاع بما كلفه، فيستحق الثواب إذا أطاع أو يتوب فيسقط عقابه أو يفعل من الطاعة ما يخف به عقابه حتى يصير الكافر أخفَّ عقاباً من الفاسق، وكله محال، وكل شيء نجعل شبهة في تكليفهم من نحو شكر النعمة ورد الوديعة وترك القبح ومعرفة الله، فإنهم ملجئون غليه إما بأن يفعله الله كالمعارف أو بأن يقوِّي دواعيهم إليه كسائرها.
فصل
كان يصح من جهة العقل أن ينقطع التكليف بالموت فقط أو الجنون أو النوم أو نحو ذلك، ولكن دل السمع على أن الخلق يفنون.
اختلف الناس في معنى الفناء، فقال الجاحظ وأبو حسين وأبو حفص: هو الإماتة وتبديد الأجزاء فقط.
وقال من عداهم: هو ما عنده تعدم الأجسام.
ثم اختلف هؤلاء في كيفيَّة إعدامها، فقال النظام: يعدمها الله بأن لا يفعل إحداثها حالاً فحالاً.
ويبطله ما تقدم من استحالة تحدد صفة الوجود، هذا إن أراد الصفة، وإن أراد أن الحدوث معنى يتحدد فأظهر فساداً؛ لأنه كان يلزم أن يحتاج الحدوث إلى حدوث.
وقال أبو الهذيل: يعدمها بأن يقول: افن كما أنه يوجد الشيء /367/ بأن يقول له كن.
ويبطله أن هذا القول يتعلق بالقادر أيضاً، فكان يحتاج إلى قول آخر ويتسلسل.
على أه لو أثر قول الله تعالى افن وكن لأثر قولنا لتماثلهما.
وقال الكعبي: ومن يجعل النفاء معنى يفنى بأن لا يوجد الله بقاءها.
ويبطله أن المرجع بالبقاء ليس إلا إلى استمرار الوجود؛ إذ لو كان للنافي صفة غيرها لصح انفصالها، وكان يلزم في الفاني أن تكون له صفة زائدة على تضاد عده تضاد صفة الباقي.
وبعد، فل كان البقاء معنى لكان إما باقياً فيحتاج إلى معنى آخر أو حادثاً، فيلزم حدوث الجوهر حادثاً باقياً، وليس له أن يقول أن هذه الضفة يستحيل عليه احل الحدوث؛ لأن استحالة الصفة تتبع استحالة المعنى المؤثر فيها.
وقال أبو الحسين الخياط والغزالي وأكثر المجبرة يعدمها الله تعالى ابتداء فجعلوا الإعدام مقدوراً في نفسه ويبطله، إن كون القادر قادراً لو تعدَّى طريقة الإحداث لتعدي ولا حاضر كالاعتقاد.
وبعد، فلو كان ما تعلق القادر إحداثه تعلق به إعدامه لوجب أن يقف عدم كل شيء على اختيار موجده ومعلوم أن في المحدثات مالا يقف عدمه على الاختيار اتفاقاً كالصوت وسائر ما لا ينفى.
وبعد، فكان يصح من الباري إعدام الباقيات من دون وجود ضدها. وبعد، فكان يلزم قدرتنا على إعدام ما نقدر على إيجاده. وبعد، فليس للمعدوم بكونه معدوماً حاله، فيعلل بالفاعل.
وقال جمهور شيوخنا: يفنيها الله بمعنى يضادها بوجده لا في محل وهو الفناء.
لنا، أما على أن الأجسام تفنى فقوله تعالى: {هو الأول والآخر} وهذا يقتضي أن يوجد الله فلا شيء معه آخراً، كما وجد ولا شيء معه أولاً، وورود الموت على الأجسام، ولا يخرجها عن كونها موجودة.
على أن أكثر الأجسام لا يصح عليها الموت.
وقال تعالى: {كل شيء هالك إلا وجهه} والهلاك في الحقيقة هو العدم؛ لأنه لو أراد الموت لما شمل جميع الأشياء؛ لأن الجمادات والأعراض لا تموت.
وقال تعالى: {ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام} وما لم يعدم الأجسام فهي باقية، على أن جميع من فيه ذكر الإعادة يدل على عدم الأجسام؛ لأنه ما لم يعدم لا يصح وصفها بالإعادة، وإنما المعاد تأليفها.
وأما على أنها تعدم بضد هو الفناء فلأنها باقية وليست تحتاج في وجودها إلى شيء حتى يجب انتفاؤها بانتفائه وكل شيء هذه حاله لا ينتفي إلا بضد؛ لأنه إذا صح عليه الوجود أكثر من وقت واحد صح في جميع الأوقات إذ لا حاضر.
يوضحه إن صحة استمرار الوجود حكم ثبت لما هو عليه في ذاته، فليس بأن يستمر وجوده في بعض الأوقات أولى من بعض فيجب أن يستمر إلا عند ضر وضده.
وبعد، فإذا انتفى في حال كان يجوز ألا ينتفي فيه لم يكن بد من أمر وليس ذلك الأمر إلا الضد؛ لأنه قد تقرر أن الإعدام لا يتعلق بالفاعل /368/ فلم يبق إلا أن يتعلق بالمعنى لا يوصف بأنه علة في انتفاء الأشياء به، وكذلك سائر الأضداد؛ لأن العلة لا تؤثر إلا في معلول واحد، وهذا قد ينفي الأضداد الكثيرة؛ ولأنه قد يحصل ولا ينفي شيئاً بأن لا يصادق ضداً والعلة لا يصح انفكاكها عن المعلول؛ ولأن شرط التضاد أن يتحد المحل والعلة لا يقف في الإيجاب على شرط متفضل وإنما قلنا أنه يوجد لا في محل؛ فلأن المحل ضد له فلا يصح أن يوجد فيه.
فصل
كأن يحسن من جهة العقل أن لا يعبد الله من يستحق العقاب؛ لأن ذلك يجري مجرى العفو عنه، فأما من له ثواب أو عوض فيجب إعادته؛ إذ لا يمكن إيصال ذلك إلا بالإعادة، وقد ورد السمع بأن الله تعالى يعيد كل مكلف.
واعلم أن الذي يجب إعادته هي الجملة التي أطاعت وعصت لأجنها هي التي استحقت الثواب والعقاب وما يتصل با من الفضلات وأجزاء السِمن، فهو تبع لها يجوز أن يعاد ويجوز أن لا يعاد.
وأما البنية المخصوصة فقال أبو هاشم: يجب أعادتها؛ لأن بها يتميَّز المكلف غن غيره.
قيل: والحق أن الواجب هي أو مثلها؛ لأن التأليف متماثل..
وأما الحياة فقيل: يجب إعادتها بعينها، وقيل: يجب إعادة غيرها مما كان لا يصح أن يكون حياة إلا له.
فصل [في عذاب القبر وسؤال الملكين]
لا خلاف بين الأمة أن أهل النار يعذبون قبل يوم القيامة غلا ما يحكى عن ضرار سواء كان في القبر أو لم، لكن فإن كثيراً من الناس لا يعبر بأن يصلب أو يحرق أو تأكله السباع ونحو ذلك، ولكن عبَّر عنه بعذاب القبر؛ لأنه الغالب. وقد ورد السمع بما يدل على ذلك.
قال تعالى حكاية عن أهل النار: {ربنا أمتنا اثنتين وأحييتنا اثنتين} وإنما يكونان إماتتين إذا أحياهم في القبر، ثم أماتهم، والإحياء في القبر إنما يكون لعذاب أو بشارة، ولم يذكر الحياة التي هم فيها؛ لأن ظاهره معلومة لا تحتاج إلى ذكر.
فإن قيل: الإماتة الأولى هي خلقه إياهم بعد أن كانوا أمواتاً، كما قال {وكنتم أمواتاً فأحياكم}.
قلنا: إن لفظة الإماتة لا تطلق إلى بعد حياة لا حقيقة ولا مجازاً.
وأما لفظة الموت والموات فتطلق على الجمادات مجازاً.
وأما قوله تعالى: {لا يذوقون فيها الموت إلا الموتة الأولى} فالمراد في الآخرة.
دليل، قال تعالى في آل فرعون {النار تعرضون عليها غدواً وعشياً ويوم تقوم الساعة ادخلوا آل فرعون أشد العذاب} فبين أنهم يعرضون على النار قبل يوم القيامة، وإنما يكون ذلك مع الحياة، وقد تأوَّلها بعضهم على التشبيه، أي كأنهم يعرضون وبعضهم على أن فيها تقديماً وتأخيراً تقديره ادخلوا آل فرعون أشد العذاب وكله خلاف الظاهر.
دليل، قال تعالى: {مما خطيئاتهم أغرقوا فأدخلوا ناراً} والفاء للتعقيب، وهذا جيد إن كان المراد بالإغراق الموت وقد وردت الأحاديث ف يذلك نحو قوله عليه السلام: ((القبر روضة من /369/ رياض الجنَّة أو حفرة من حفر النار))، ومر بقبرين فقال: إنهما ليعذبان وما يعذبان من كثير، أي عندهما أو بالنسبة غلى من له طاعات كان أحدهما يمشي بالنميمة والآخر لا يستنزَّ من البول.
وأما سؤال منكر ونكير فهو أيضاً من جملة عذاب القبر أو بشارته وقد ورد الأثر بأنهما يأتيان الميت فيقعدانه بعد أن أحياه الله تعالى وأكمل عقله وشاهدانه على صورة حسنة يستر بهما ويجري مجرى البشارة بالجنة إن كان من أهل الخير فقط وعلى صورة هائلة فجيعة إن كان من أهل النار، ثم يسالانه عن ربه ودينه ونبيِّه، فإن كان من أهل الثواب ثبته الله فأجاب بالصواب فأحسنا له الكلام وبشرَّاه وأدخلا عليه سروراً عظيماً، وإن كان من أهل العقاب كان بالعكس فنسأل الله العظيم أن يثبتنا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة.
فإن قيل: إن تسميتهما بمنكر ونكير تسمية ذم وذلك ممنوع في الملائكة.
قلنا: إنما تكون التسمية ذماً بالقصد غلى ذلك، ألا ترى أن العرب قد سمت بالكلب والصخر ويحق ذلك ولم يكن ذماً والغرض بهذه التسمية ما يرجع إلى فقد المعرفَة بهما وإنكارهما وما يرجع إلى نفور المعذب منهما وكراهة مشاهدتهما، ولما يرجع إلى عظم خلقهما وهائل فعلهما.
فإن قيل: متى يكون هذا السؤال وسائر عذاب القبر؟
قلنا: لم يرد على تعيين وقته دليل وجائز أن يكون في أوقات الدنيا، ولا يلزم عليه أن يسمع ويرى؛ لأن في ستره عن الناس صلاحاً يعلمه الله تعالى، وربما أن الصلاح في ذلك يرجع إلى زوال الإلجاء، فإنا لو شاهدنا شيئاً من عذاب أهل القبور لكنا ملجئين غلى فعل الطاعة وترك المعصية، ويجوز أن يكون في البرزخ بين النفختين.
قيل: وهو الأقرب لقوله تعالى: {ومن ورائهم برزخ إلى يوم يبعثون} والبرزخ هو الأمر الهائل.
فصل
وأما الميزان فقد أثبته الجمهور على الحقيقة للآيات الواردة به، ولما يروى عنه عليه السلام أنه يكون عند كل كفَّة ملك، فإذا رجحت كفَّة الخير نادى الآن فلاناً سد سعد سعادة لا شقاوة بعدها ابداً، وإذا أرجحت كفَّه اليسرى نادى الآن فلاناً قد شقي شقاوة لا سعادة بعدها أبداً.
وأما وزن الأعمال فليس على الحقيقة؛ لأنها إعراض ومما لا يجوز عليه الإعادة، ويجوز أن يجعل الله في إحدى الكفين نوراً علامة للطاعة، وفي الأخرى ظلم علامة للمعصية، ثم يرجح أحدهما، ويجوز أن يكون الأعمال مكتوبة في صحائف توضع صحائف الطاعة في كفِّه وصحائف المعصية في كفِّه، وفائدة ذلك تعجيل المسرة أو الغم فيكون ذلك جارياً مجرى الثواب أو العقاب، ويكون في العلم به لطفاً للمكلفين في الدنيا.
وقد ذهب بعض الشيوخ غلى أن المراد بالميزان في الآخرة العدل، وهو خلاف الظاهر، ولا /370/ ولا موجب للعدول عن الظاهر، ولو كان كما ذكره لما كان لذلك الثقل معنى.
فصل
وأما الحساب وبشر الصحف وإنطاق الجوارح، فمما لا يمكن إنكاره، وفائدة جميع ذلك ما يرجع غلى اللطف في العلم به، وصورة الحساب أن يخلق الله فيهم علماً ضرورياً بما لهم من الحسنات والسيئات، ولهذا صح منه تعالى بسرعة، وليس على حد المحاسبة في الشاهد.
وأما إنطاق الجوارح فهو بأن يخلق الله تعالى فيها الكلام كما يفعله في الحصى والشجر أو بأن يبنيها بنية يصح منها الكلام ولا يقف على اختياره.
فصل
وأما الصراط فهو الطريق، قيل: وهو طريقان في الآخرة طريق إلى الجنة وطريق إلى النار، وعلى هذا يحمل قوله: {فاهدوهم غلى صراط الجحيم} وقوله تعالى: {صراط الذين أنعمت عليهم} في أحد وجوهه وقيل هو جسر على جهنم يتفسح لأهل الجنة فيمرون عليها بسهولة ويتضيَّق على أهل النار ويضطرون عليه حتى إذا بلغ أحدهم إلى سمت مكانه من جهنم، يسأل الله السلامة وعلى هذا يحمل قوله تعالى: {وإن منكم إلا واردها} إن كان الضمير عائداً إلى النار فيكون ورود المؤمنين النار بهذا المعنى صحيحاً من دون فزع، ولا ألم، بل ربما يزداد سرورهم لتيقنهم السلامة منه، ويكون في العلم بذلك لطف للمكلفين في الدنيا.
فصول في بيان أن الله تعالى يفعل بالعصاة ما يستحقونه وينبغي أن يتكلم في مقدمتين لا بد من ذكرهما.
أحدهما: في بيان معنى الصغيرة والكبير.
والثانية: في بيان معنى أن في اللغة ألفاظ للعموم.
أما المقدمة الأولى فالكثيرة هي ما يستحق عليها صاحبها من العقاب في كل وقت أكثر مما يستحق من الثواب في كل وقت.
قلنا: صاحبها ولم يقل فاعلها؛ لأن الكبيرة قد تكون من باب التروك.
وقلنا في كل وقت؛ لأنه ربما يفعل طاعة يستحق عليها عشرة أجزاء من الثواب في كل وقت، ثم إذا لبث عشرة أوقات صار له مائة جزء من الثواب، فلو فعل معصية يستحق عليها أحد عشر جزءاً من العقاب في كل وقت لكانت كبيرة بالنظر غلى عشرة الثواب التي يستحقها في كل وقت ولا غيره بما اجتمع له في الأوقات الماضية؛ لأنه لا يستحقه في كل وقت.
والصغيرة هي ما يستحق صاحبها من الثواب في كل وقت أكثر من عقابها في كل وقت، والاحتراز ما تقدم.
وقد ورد السمع بأن في المعاصي صغائر وكبائر، قال تعالى: {لا يغادر صغيرة ولا كبيرة} وقال تعالى: {الذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش إلا اللمم} وقال تعالى: {وكره إليكم الكفر والفسوق والعصيان}، فجعل العصيان قسماً بالنار وليس إلا /371/ الصغائر.
وقد اختلف الشيوخ في هل من حق الصغيرة أن يكون محقَّقة بأن يكون لفاعلها ثواباً يكفر عقابها أو يجوز أن يوصف بذلك تقديراً بمعنى أنه لو كان له ثواب لكفر عقابها، فقال: بالأول بعضهم وقال بالثاني آخرون وهو خلاف في عبارة وفائدته هل للكافر صغائر أم لا، واتفق الشيوخ على أنه لا يجوز التعريف بجميع الكبائر؛ لأنا نعلم إنما عداها صغير فيكون في حكم المغربين به، فأما بعد فعلها فيجوز كصغائر الأنبياء، ولا يلزم أن يكونوا مغربين بها؛ لأنهم لا يقطعون بأن الذي نفى من ثوابهم بكفر عقابها مرَّة أخرى، وكذلك لا يكون نحن مغربين بفعل مثلها؛ لأنا لا نقطع بأن لنا ثواباً نكفر عقابها ، فأما بعض الكبائر فيجوز أن يعرفها بأعيانها نحو الزنا وشرب الخمر وقتل النفس.
وبالجملة، ما كان عليه عقاب في الدنيا وما عداه قبل لا نقطع بكون شيء منه كثيراً، وقيل: نقطع بذلك فيما يتناوله وعيد يخصه كالكذب والغيبة.
وأما المقدمة الثانية فقد ذهب الجمهور إلا أن في اللغة ألفاظها للعموم وهي من وما وأين ومتى وأي في الاستفهام والمجازاة وكل وجميع والنكرة في النفي والجمع المضاف والاس المفرد والجمع إذا دخلهما اللام بحسب خلاف بين الشيوخ.
وقالت المرجية: ليست للعموم، ثم اختلفوا فقال بعضهم: هي للخصوص، وقال بعضهم: هي مشتركة بين العموم والخصوص، وقال بعضهم: هي المقدر المشترك، أي لا يفيد إلا العموم ولا الخصوص ولا يمنع منهما، وقال بعضهم بالوقف مطلقاً، وقال بعضهم: به في الأخبار خاصة.
لنا: أن الاستغراق معنى عقله أهل اللغة ومستهم الحاجة غليه، فيجب أن يضعوا له لفظاً لقوَّة الدواعي مع القدرة.
قال الخصوم: يجوز وإن عقلوه إلا يضعوا له كفعل الحال والاستقبال، والاعتماد سفلاً وعلواً ورائحة المسك والكافور.
قلنا: كلامنا في معنى يسند الحاجة إلى العبارة عنه.
على أنهم قد وضعوا لهذه الأشياء ألفاظها لكنها مركبة، فقالوا: زيد يفعل الآن أو غداً أو اعتماد سفلي ورائحة مسك، قالوا: الاشتراك بين الكل والبعض معنى عقلوه أيضاً كمن يريد أن يشكك على غيره.
قلنا: لذلك لفظ يخصه نحو: جاءني إما كل الناس وإما بعضهم.
دليل من في الاستفهام إما حقيقة في البعض مجاز في الكل وهو باطل، وغلا لما حسن أن يجيب بذكر جميع العقلاء، وإما مشتركة بينهما وهو باطل، وغلا لما حسن أن يجيب حتى يستفهم السائل عما سأل، فيقول: أعن الرجال تسأل أو عن النساء؟ وإذا قال عن الرجال قال: أعن العرب أم العجم؟ وإذا قال: عن العرب، قال: أعن ربيعة أم مضر؟ وهلم جرَّا إذ ما من لفظ يجيب به إلا وهو مشترك عند المخالف ومعلوم /372/ استقباح هذه الأسئلة.
دليل، يصح الاستثناء في جميع ما يعدم ذكره وذلك علامة العموم؛ لأن من حقه أن يخرج من الكلام مالولاه لوجب دخوله تحته.
قالوا: يخرج ما لولاه لصح دخوله لا مالولاه لوجب.
قلنا: فكان إذا يصح الاستثناء من الجميع المنكر نحو أكرم رجالاً إلا زيداً وهم قد منعوه لكونه يخرج ما لولاه لصح دخوله لا مالولاه لوجب، وتأوَّلوه حيث ورد بأن المغني ليس بعضهم زيداً.
وبعد، فالاستثناء من الأعداد يخرج ما لولاه لوجب دخوله نحو على عشرة إلا درهماً.
وبعد، فقد قال أهل اللغة: الاستثناء إخراج بعض من كل ومالم يكن الكل مستغرقاً لهو بها بعض.
دليل، لو كانت هذه الألفاظ مشتركة بين العموم والخصوص لكان التأكيد في نحو رأيت القوم كلهم، يريد السامع التباساً، ومعلوم أنهم يقصدون به الإيضاح، ولو كانت حقيقة في الخصوص لتعد العموم بكل لفظة من ألفاظ التأكيد درجة.
دليل، قد رجع أهل اللغة في إفادة العموم إلى كل ونحوها.
دليل، إذا قال ضربت من في الدار نافاه لم أضرب من في الدار وناقضه لم أضرب بعض من في الدار، ومع الخصوص والاشتراك لا منافاة ولا تناقض.
دليل، إذا قال قائل: ما ضربت رجلاً أكذبه، قول الآخر: ضربت رجلاً، ومنه قوله تعالى: {قل من أنزل الكتاب الذي جاء به موسى} تكذيباً للذين قالوا {ما أنزل الله على بشر من شيء}.
دليل، فهم عثمان بن مظغون رضي الله عنه العموم من قول البيت: (.. وكل نعيم لا محالة زئال).
فقال: كذب فإن نعيم أهل الجنة لا يزول، وكذلك فهم ابن الزنعرى العموم من قوله تعالى: {إنكم وما تعبدون من..} الآية، فألزم النبي عليه السلام أن تكون الملائكة وعيى عليه السلام من أهل النار؛ لأنهم قد عبدوا.
دليل، إذا قال السيد لعبده: من دخل داري أكرمته، فإنه يكون عاصياً بترك إكرام بعضهم.
شبهة المخالفين أنه لا بد من طريق إلى العلم بكونها للعلوم؛ إذ لا يعلم بالبديهة والطريق، أما مشافهة أهل اللغة، وذلك مفقود؛ لأنا لم نرهم أو الخبر المتواتر عنهم وذلك مفقود، وإلا كنا نشارككم في العلم به أو الآحاد وهي لا توصل إلى العلم.
والجواب: يعلم ذلك بالأدلة المذكورة، بل الضرورة بعد استقراء اللغة، ثم يقلب السؤال عليهم سواء دعوا أنها للخصوص أو مشتركة، غلا أن وروده على أهل الاشتراك ك من حيث قد سلموا وضعها للعموم، وادعوا أنها أيضاً وضعت للخصوص.
قالوا: كما نستعمل في العموم نستعمل في الخصوص.
قلنا: على جهة المجاز.
قالوا: لو كانت للعموم لكان الاستثناء منها نقضاً.
قلنا: معارض باستثناء الدرهم من العشرة.
والتحقيق أن هذه الألفاظ تدخل بالوضع على الجميع، وبالقصد على ما عدا المستثنى، فيستثنى ليتبين بذلك من دخلت عليه بالقصد، فلم يكن المستثنى نقضاً؛ لأن المتكلم لم يرد ما تناوله الاستثناء.
قالوا: إذا قال ضربت من في الدار حسن من السامع أن يستفهم فنقول: أضربت الكل أو البعض، ونقول: هل /373/ ضربت زيداً فيهم.
قلنا: إنما يحسن الاستفهام إذا ظن السامع سهو المتكلم أو تساهله فيستثنيه بالسؤال أو يتوهم أن المتكلم لا يتحقق دخول بعض خصوص، والسائل شديد العناية أو يتوهم أن المتكلم أطلق اللفظ العام مجازاً أو حصل فيه قرينة عند السامع تقتضي خروج بعض كأن يكون في الدار أخو الضارب أو بعض أعزته، فيقول: أضربت أخاك، فلمثل هذه الوجوه بحسن الاستفهام.
ثم يقلب عليهم السؤال: إذا كان اللفظ للخصوص أو مشتركاً فنقول: لا فائدة في الاستفهام؛ لأن كل جواب أجيب به فهو خاص أو مشترك.
قالوا: لو كانت من للعلوم في نحو قوله: من عندك، لجرت مجرى أكل العقلاء عندك، وجواب هذا بلا أو بنعم لا بالتعيين.
قلنا: لا نسلمه لأنها سؤال عن كل واحد من العقلاء لا عن كلهم، فهي تجري مجرى قوله: أزيد عندك أم عمرو؟ حتى يأتي عل جميع العقلاء، وجواب هذا يكون بالتعيين لا بلا ولا بنعم.
ثم نقلب عليهم السؤال إذا كانت للخصوص أو مشتركة.
شبهة القائلين بأنها للعموم في غير الوعيد أن الغرض بالوعيد التخويف الذي يكفي فيه الظن بخلاف الأمر والنهي، فإنه تكليف، فلا بد فيه من إزاحة علة المكلَّف.
والجواب: أن المتوعد إذا سمع هذه الألفاظ فإما أن تفيد العموم من جهة اللغة عنده، فيجب حملها عليه كالأمر وهو المطلوب؛ لأن الغرض بالخبر الإفادة، فلا بد أن يقصد المتكلم باللفظ ما وضع له أو بدل قرينة على مقصوده، وإما أن يكون غير مفيد للعموم عنده، فلا يجوز له أن يحملها على العموم، فلا يحصل التخويف.
فصل [في أن وعيد الكفار مقطوع به]
بمعنى أنه يوصل إليهم ما يستحقونه، وهذا مجمع لعيه إلا ما يحكى عن مقاتل بن سليمان وبعض الخراسانيَّة وبعض الكرَّاميَّة، فذهبوا إلى أن المشترك لا يعاقب وأنه لا معنى للشرك غير أنهم يسيرون هذا المذهب وهم محجوجون بالإجماع، وبأنه معلوم ضرورة من دين النبي وصريح الكتاب.
فصل [في أن وعيد الفساق مقطوع به]
بمعنى أنه يفعل بهم ما يستحقونه من العقاب، وقد خالف في ذلك المرجئة وقطع بعضهم على أنهم غير داخلين في الوعيد، وتوقف البعض الآخر، وهذا هو الإرجاء الحقيقي.
لنا: الكتاب والسنة، أما الكتاب فآيات منها قوله تعالى: {ومن يعص الله ورسوله ويتعدَّ حدوده يدخله ناراً} قالوا: الجمع المضاف يقتضي الاستغراق، والفاسق لم يتعد جميع حدود الله.
قلنا: وكذلك الكافر، فكان يلزم بطلان فائدتها. على أن تساق الآية.
وأيضاً فقوله: {وتلك حدود الله} إشارة إلى حدود محضورة، فقوله عقيب ذلك: {ومن يتعد حدود الله} يجب أن يصرف إليها.
/374/ ومنها قوله تعالى: {ومن يعص الله ورسوله فإن له نار جهنم}، قالوا: ساقها في الكفار بدليل قوله تعالى: {حتى إذا رأوا ما يوعدون فيستعلمون من أضعف ناصراً وأقل عدداً}.
قلنا: عموم أول الآية لا يمنع من خصوص آخرها.
ومنها قوله تعالى: {ومن يقتل مؤمناً متعمداً فجزاءه جهنم خالداً..} الآية.
قالوا: المراد أنه يستحق جهنَّم، وأن التقدير، فجزاءه ن جازه.
قلنا: هذا تقدير شرط لم ينب عنه الظاهر ولا دل عليه العقل.
وبعد، فقوله: {وغضب الله عليه ولعنه وأعد له جهنم} يمنع من تقدير هذا الشرط.
وبعد، فالجزاء مصدر جاز إنجازي، فلا يصح تقديره بالاستحقاق.
وبعد، فالاستحقاق اسم، فلو فسر به الجزاء لكان قد عطف فعلاً على اسم.
قالوا: ظاهر الآية يقتضي وقوع المجازاة عقيب المعصية، وإذا بطل الظاهر فلستم بأن تحملوه على مجاز، وهو أن التقدير سيجارَى أولى من أن يحمله على مجاز آخر، وهو أن المراد الاستحقاق.
ومنها قوله تعالى: {إن المجرمين في ضلال وشعر} والفاسق مجرم، وأما قوله في آخرها: {أم يحسبون أن لا نسمع سرهم ونجواهم} فهو كلام مستقل لا يقتضي انصراف الآية إلى الكفار.
ومنها قوله تعالى: {من يعمل سوءاً يجز به} وقوله تعالى: {بلى من كسب سيئة.. الآية} وقوله تعالى: {إن الفجار لفي جحيم} وقوله تعالى: {ومن يظلم منكم نذقه عذاباً كبيراً} وأشباهها.
ومنها قوله تعالى: {إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم} فشرط التكفير باجتناب الكبائر.
ومنها قوله تعالى: {فخلف من بعدهم خلف ورثوا الكتاب يأخذون عرض هذا الأدنى ويقولون: استغفر لنا} إلى قوله: {ألم نؤخذ عليهم ميثاق الكتاب ألا يقولوا على الله إلا الحق}.
وأما السنة فالأخبار مشحونة بالوعيد العظيم على من شرب وزنا واغتاب وقتل النفس وأشباه ذلك.
ويقال: الخصوم لو جاز أن يتوقف في عمومات الوعيد لجاز أن يتوقف في عمومات الوعد.
فإن قالوا: الوعيد يتضمن ما يجب إيصاله وهو الثواب.
قيل لهم: جوزوا الحلف في الوعد بالتفضل الذي لا يجب إيصاله.
فإن قالوا: علينا في عمومات الوعد تكليف من جهة العمل، ولا يمكن الوقوف على امتثاله إلا بالوقوف على المراد.
قيل لهم: وكذلك علينا في عمومات الوعيد تكليف في باب العلم من حيث اللطف، ولا يصح اعتقاد موجباتها إلا بحملها على ظواهرها مع فقد القرينة التي تنصرف عن الظاهر.
يوضحه أن هذا هو الوجه في حمل آيات الوعد على ظاهرها.
فصل
وللمخالفين شبه عقلية وسمعيَّة، أما العقلية فهي إن قالوا: الغرض بالوعيد الزجر والتخويف، وذلك حاصل مع تجويز العفو.
والجواب أن مع القطع على لحوق العقاب يكون /375/ أبلغ في اللطف والزجر.
وبعد، فهذا يقتضي أيضاً التوقف في وعيد الكفار.
فإن قالوا: إنا نقطع على وعيد الكفار للإجماع؛ ولأنه معلوم من ضرورة الدين.
قلنا: هذا يزيد الإلزام تأكيداً؛ لأنا ألزمناكم على مقالتكم التوقف في أمر مقطوع به لحصول ما جعلتموه علة في التوقف.
على أن النبي عليه السلام يجوز مثل ما جوَّز، ثم في هذه الآيات، فمن أين علم أن وعيد الكفار مقطوع به.
فإن قالوا: اضطر إلى ذلك من قصد جبريل.
نقلنا الكلام إلى جبريل فقلنا: كيف علم ذلك وليس يصح الاضطرار إلى قصد الباري ما دامت ذاته تعلم دلالة.
وبعد، فهب أن الأمر كما ذكروه، فلم يقطع بعذاب الفساق لأجل التخويف والزجر، بل لأن بالعفو ينكشف كون هذه الأخبار كذباً إن كان أراد ظواهرها وألغازاً وتعميةً إن أراد غير ظواهرها، ولم يدل عليه وعبثاً إن لم يرد شيئاً أصلاً فلم يتم قولهم أن هناك شروطاً لم يُنب عنها الظاهر.
فإن قالوا: قد جوّزتم شروطاً لم ينب عنها الظاهر نحو التوبة وكثرة الطاعات، فقلتم تقديره: ومن يعص الله ورسوله ويتعد حدوده يدخله ناراً إلا أن يتوب أو تزيد طاعاته على معاصيه.
قلنا: هذه الشروط قد دل على اشتراطها العقل، وما اشترطه العقل فهو في حكم الملفوظ، ودل عليه السمع أيضاً نحو: {إلا من تاب} {إلا الذين تابوا} ونحوها.
شبهة
قالوا: ليس الفاسق بأن يدخل النار بآيات الوعيد أولى من أن يدخل الجنة بآيات الوعد.
والجواب: أنه بارتكاب الكبيرة قد أبطل طاعاته، فتكون النار أولى به إلا أن يتوب.
يوضحه أنه يترك به العقاب في الدنيا على جهة الجزاء والنكال.
شبهة
قالوا: قد مدح الله العفو ورغب فيه، فهو أحق بذلك، وأيضاً فمن توعد من الملوك ثم عفا عدّ ذلك مدحاً ومدح عليه.
الجواب عن الأول: أنا إنما رغَّبنا في العفو لما لنا في ذلك من النفع والثواب، فهو خير لنا من الانتقام ومدحنا عليه كما مدحنا على سائر الطاعات، وذلك مفقود ي حقه تعالى.
وعن الثاني أن الملك إذا توعد غيره فإما أن يتوعَّده بأن يظلمه أو يتوعده بماله أن يوصله إليه كالحدود ونحوها إن توعَّده بالظلم، وهو الأغلب في الشاهد؛ لأن أحدنا لا يستحق على غيره عقوبة، وغنما يستحق عليه أعواضاً والعقوبة إلى الله تعالى.
فمتى أخلف وعيده، والحال هذه لم يسم ذلك عفواً؛ لأن العفو عمَّا يستحقه، وإنما يطلق اسم العفو تطبيباً لقلوب الظلمة.
وإن توعده بماله أن يوصله إليه كالحدود ونحوها لم يسلم أن الحلف فيه عفو، ولا حسن ولا يمدح عليه.
شبهة
قالوا: سلمنا أن الوعيد يتناول الفساق، فقد ثبت عند العقلاء أن الحلف في الوعيد كرم، ولهذا قال قائلهم:
وإني إذا أوعدته أو وعدته .... لمخالف ايعادي ومنجز وعدي
/376/ وقال آخر:
إذا وعد السراء أنجز وعده .... وإن أوعد الضراء فالعفو ما نعه
والجواب: هذا يقتضي أنه تعالى يعفو عن الكفار لئلا يفوته هذا الكرم المذكور.
وبعد، فقد بينا أن الخلف يقتضي الكذب وهو ممنوع في حق الله تعالى.
وبعد، فالفرق المتوعد في الشاهد يجوز أن يضمر مالا يبنى عنه الظاهر، ولا يدل عليه، فلا يكون وعيده على القطع، وذلك الشرط الذي يضمره هو أن يبقى ما كان عليه من العزم على إنزال العقوبة، فإذا بدا له عفا، وذلك لا يصح في من ثبتت حكمته، ولم تجر عليه الآراء والبدوات، فيجب إذا كان هناك شرط أن يظهره، وإلا كان تلبيساً.
وبعد، فلا بد من التفصيل المتقدم، وهو أن المتوعد في الشاهد إنما يتوعَّد بما هو ظلم، فيكون الخلف به أولى من إتمامه، وإن كانا قبيحين، فأما إذا توعد بماله أيضاً له كالحد، فليس الخلف فيه كرم.
وبعد، فهب أن الخلف في الوعيد كرم، فإنما ذلك من جهة العقل، فأما السمع فمنع منه، قال تعالى: {ما يبدل القول لدي} وقال: {وتمت كلمات ربك صدقاً وعدلاً لا مبدل لكلماته} وأشباه ذلك من الآيات.
وبعد، فظاهر كلام الخصم صحَّة وصف الله تعالى بالحلف، وغلا بطلت الشبهة، وذلك ظاهر البطلان.
ويحكى أن أبا عمرو بن العلاء قال لعمرو بن عبيد: أصِدق ما بلغني عنك أنك تقول أن الله يفعل ما وعد وتوعَّد؟ قال عمرو: نعم، قال: فإنك أعجمي ولست أعني لسانك وإنما أعني فهمك، أو ما علمت أن العرب تمدح إذا لم يفعلوا ما يتوعدون به وأنشد:
وإني إذا أوعدته ووعدته .... لمخلف إيعادي ومنجز موعدي
فقال له عمرو: أو تسمي الله مخلفاً؟ قال: لا، قال: فقد أبطلت شاهِدك أو ما علمت أن الشاعر يمدح على الشيء وعلى خلافه ثم أنشد:
إن أبا ثابتٍ لمجتمع الرأي .... شرف الآباء والبيت
لا يخلف الوعد والوعيد ولا .... يبيت من ثاره على فوت
وقال آخر يمدح النبي:
علمت رسول الله أنك مدركي .... وأن وعيداً منك كالأخذ باليد
ثم قال لأبي عمر: وما تقول في قوله تعالى: {ونادى أصحاب الجنة أصحاب النار أن قد وجدنا ما وعدنا ربنا حقاً فهل وجدتم ما وعد ربكم حقاً قالوا نعم} فسكت عمرو.
وأما شبههم السمعية فأقواها قوله تعالى: {أن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء}.
ووجه الاستدلال بها أن المعني لا يغفر أن يشرك به تفضلاً، قالوا: فيجب أن يكون التقدير ويغفر ما دون ذلك تفضلاً وذلك عام في الصغائر والكبائر، وأيضاً فلو جعل ما دون ذلك على الصغائر والكبائر مع التوبة لكان لا وجه لتعلقه بالمشيئة؛ لأن غفرانها حينئذٍ واجب.
يوضحه أنه أضاف الغفران إلى نفسه /377/ ومع التوبة أو كون الذنب صغيراً لا يكون سقوط عقابه مضافاً إلى أحد، وأيضاً فما دون الشيء إنما يستعمل في ما قاربه، فيكون المراد الكبائر، كما أن القائل إذا قال: الألف فما دونه لم يحمل ما دونه على العشرة، وغنما يحمل على التسعمائة ونحوها.
ونحن نجيب على الجملة بما سقط تعلقهم بالآية رأساً فنقول: إنما يقتضي ظاهرها أن يغفر ما دون ذلك لمن يشاء تفضلاً، فمن أين أنه قد شاء أن يغفر الكبائر تفضلاً وهو محل النزاع لا سيما وغفراها يكشف عن الكذب في آيات الوعيد.
وبعد، فلا تعلق لواحد من فرق المرجئة.
أما من قال لا وعيد على مرتكبي الكبائر من أهل الصلاة كما ينسب إلى مقاتل وغيره.
فيقال له: إذا لم يكن عليهم وعيد يستحق فلا معنى للغفران؛ لأن الذنب ساقط.
وأما من قال أن الفاسق يعذب عذاباً منقطعاً كما يحكى عن المرء يسيء.
فيقال له: الآية عندك تقتضي الغفران، وأنت قطعت على نزول العقاب، فأين الغفران.
وأما من قال بالتوقف وهم الجمهور من المرجئة.
فيقال: ضم ظاهر الآية عندكم يقتضي القطع على المغفرة لمن عدا المشركين وأنتم تتوقفون، وقوله لمن يساء لا يقتضي الوقف؛ لأن الذي علق بالمشيئة هو تعيين المغفور له، فأما المغفرة فمطلقة، وإذا كان ظاهرها يقتضي ما لا يقول به أحد من الأمة وجب صرفها إلى الصغائر أو الكبائر مع التوبة.
فيقال لهم: هل علمتم إضمار التفضل في أوَّل الآية بلفظ الآية، وهو باطل بالاتفاق، أو بدليل متفضل، فالواجب اعتبار الدليل في آخرها، فإن قام دليل في آخرها أضمر، وإلا وجب العدول إلى ما دلَّ عليه الدليل من أن التقدير ويغفر ما دون ذلك بالتوبة وبكونه صغيراً.
وبعد، فيقال لهم: إذا كان تقدير أوَّل الآية أن الله يغفر الشرك بالتوبة ولا يغفره تفضلاً وجب أن يكون تقدير آخرها ويغفر ما دون ذلك تفضلاً ولا يغفره بالتوبة.
وبعد، فهب أن ظاهر الآية معهم فنحن نوافق أن الله يغفر جميع الذنوب من جهة العقل، وهذه الآية مطابقة للعقل، فما المانع من قيام دليل آخر سمعي يقتضي القطع بالانتقام الذي قد كان العقل يجوزه ويجوز العفو.
وبعد، فهب أن الآية عامة تقتضي غفران ما دون الشرك، فما المانع أن تخصصها آيات الوعيد.
وبعد، فالآية مجملة لم يبين الله فيها من الذي يشاء له المغفرة وبيانها في قوله تعالى: {إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه} الآية.
وبعد فقد قال بعض أصحابنا أن المراد بالمغفرة ليس إسقاط العقاب المستحق، لكن تأخيره إلى الآخرة، وترك الاستعجال به، وقد سمى الله تأخير العقاب مغفرةً، فقال تعالى: {وربك الغفور ذو الرحمة لو يؤاخذهم بما كسبوا لعجل لهم العذاب، بل لهم موعدٌ} /378/ وقال تعالى: {إن الله يمسك السموات والأرض أن تزولا} إلى قوله: {إنه كان حليماً غفوراً}.
وعلى هذا يحمل قوله: {وإن ربك لذو مغفرة للناس على ظلمهم} أي لا تعجل عليهم، وقال تعالى: {ويعذب المنافقين إن شاء أو يتوب عليهم} أي إن شاء عجل لهم العذاب وإن شاء تاب عليهم بتأخيره، فعلى هذا يكون معنى الآية أن الله لا يؤخر عقاب الشرك ويؤخِّر عقاب الفسق، وذلك هو الغالب، فإن الله تعالى عذَّب كثيراً من الكفار في الدنيا، إما بالاستئصال كما فعل بأكثر الأمم، أو بالقتل على أيدي المؤمنين وأخذ الأموال والذراري وتسليط بعضهم على بعض أو بالخذلان كالتجلبة بينهم وبين الشياطين أو سلب الألطاف ونحو ذلك على ما يفسر به قوله تعالى: {سنستدرجهم من حيث لا يعلمون}.
فإن قيل: وكذلك قد يعجل عقاب الفساق بهذا المعنى.
قلنا: هو كذلك ولكن المراد الأغلب، ولهذا قال تعالى: {لمن يشاء}.
ثم أنا نتتبع ما قالوه في الآية، أما قولهم أن التفضل لما كان مضمراً في الجملة الأولى وجب أن نضمره في الثانية، فلا نسلمه، ولا دليل عليه، بل لو كان مظهراً في الجملة الأولى لما وجب إضماره في الثانية، كما أن القائل إذا قال لا أعطى أهل الري شيئاً وأعطى العلماء من أشياء لم يجب، ويكون التقدير وأعطى العلماء من أهل الري، ولهذا لما احتجت الحنفية على أن المسلم يقاد بالذمي بقوله عليه السلام: ((ألا لا يقتل مؤمن بكافر ولا ذو عهد في عهده))، قالوا: فالتقدير ولا ذو عهد في عهده بكفر؛ لأن الكافر مطهر في الجملة الأولى، فيجب إضماره في الثانية لما كانت بالعطف في حكم الجملة الواحدة.
فقال لهم الجمهور: لا يجب أن يضمر في الثانية ما أظهر في الاولى، وغنما يجب أن تظهر في الثانية ما لا تتم الفائدة غلا به وهو القتل، فيكون التقدير، ولا يقتل ذو عهد في عهده، أي ما دام معاهداً، ويكون فائدة هذا التقييد أن لا يتوهم متوهم أنه إذا خرج من العهد لم يقتل.
وأما قولهم: لو أراد الصغيرة أو بالتوبة لكان لا وجه لتعليقه بالمشيئة؛ لأنه واجب، فغير صحيح؛ لأن الواجب قد تعلق بالمشيَّئة كما قال تعالى: {ويعذب المنافقين إن شاء أو يتوب عليهم} ، فعلق التوبة عليهم بالمشيئة، ومعلوم أنه إنما يتوب عليهم إذا تابوا، والقول حينئذٍ واجب.
على أنه ليس المراد بذكر المشيئة التردد، ولكن المراد بيان قدرته؛ ولأنه لا يعارضه معارض في سلطانه فيحمل على مشيئة الاقتدار، وجائز أيضاً أن يكون المعنى لمن يشاء، أي للتائب عن الكبيرة إذا لم يكن مع الكبيرة شرك.
وأما قولهم أنه أضاف الغفران غلى نفسه فإما جاز ذلك لأنه هو المعاقب، وهو الذي يختار أن لا يعاقب عند التوبة أو صغر الذنب، وعلى هذا قال تعالى: {وإني لغفار لمن تاب وآمن..} الآية، وقال تعالى: {فاغفر للذين تابوا واتبعوا سبيلك}.
وأما قولهم أن ما دون الشيء يستعمل في ما رب دون ما يعد فغير مسلم، بل يستعمل فيهما.
شبهة
تعلقوا بقوله تعالى: {قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم} إلى قوله: {يغفر الذنوب جميعاً}.
/379/ والجواب: أنه تعالى إنما نهى عن القنوط الذي هو الإياس من رحمة الله بإهمال التوبة واعتقاد أنها لا تقبل.
وبعد، فالظاهر يقتضي غفران الشرك فما خصصوا به غفران الشرك خصصنا بمثله غفران الفسق.
والمعنى يغفر الذنوب جميعاً بالتوبة، وسياق الآية يشهد بذلك، قال تعالى: {وأنيبوا إلى ربكم وأسلموا له من قبل أن يأتيكم العذاب} الآيات، فإن كلها حث على التوبة وعيد على الإخلال بها.
شبهة
قال تعالى: {وإن ربك لذو مغفرة للناس على ظلمهم}.
والجواب: أن المراد مع التوبة وإلا وجب تظاهرها أن يغفر الشرك، وإنما سماهم ظلمة بعد التوبة من حيث الاشتقاق لا على طريق الذم، والحكيم لا يطلق الاسم على الوجه الصحيح، ولهذا قال آدم عليه السلام: {ربنا ظلمنا أنفسنا} وإنما قاله وقد تاب، وقال موسى: {رب ني ظلمت نفسي} على أنه قد حمل الغفران هنا على خير العقوبة.
شبهة
قال تعالى: {فأنذرتكم ناراً تلظى لا يصلاها إلا الأشقى الذي كذب وتولى} قال: فبين أنه لا يصلاها إلا من هذه صفته، وليس إلا الكافر.
والجواب: لو كان ظاهرها ما ذكروه لكان أعز بالمعاصي وللذم في الكافر الذي لم يكذب، وفي الذي غيره أدخل منه في الكفران لا يصلاها.
وبعد، فقد قال تعالى في آية أخرى: {فأما الذين شقوا ففي النار} والفاسق شقي.
وبعد، فما المانع أن الفاسق يدخل ناراً غيرها.
شبهة
قال تعالى: {وآخرون يرجون لأمر الله إما يعذبهم وإما يتوب عليهم}.
والجواب: أن هذا خبر عن حالهم في الدنيا، وليس فيه أن يغفر لا محالة، بل الذي يقتضيه ظاهر الآية أنه يفعل أحد الأمرين لا محالة، فإن عذب عذب باستحقاق وإن غفر غفر باستحقاق.
شبهة
قال تعالى: {وآخرون اعترفوا بذنوبهم خلطوا عملاً صالحاً وآخر سيئاً عسى الله أن يتوب عليهم} قالوا: والإجماع على أن عسى من جهة الله للقطع لاستحالة الترجي في حقه.
والجواب: أنما ذكروه ينافي الإرجاء ويقتضي الإرجاء بالمعاصي في حق من قد عمل صالحاً حتى الكافر إذا فعل طاعة واحدة.
وبعد، فالمراد بقوله: اعترفوا بذنوبهم أي تابوا خلطوا عملاً صالحاً وهو التوبة وآخر سيئاً وهو الذي تابوا عنه واعترفوا به، ثم أنه أخبر أنه يتوب عليهم لا محالة؛ لأن عسى للقطع في حقه تعالى.
القول في خلود الفساق
قد خالف في ذلك أهل الإرجاء، فجوز بعضهم أن يخلدوا وأن لا يخلدوا، وقطع الباقون على أنهم يخرجون منها.
لنا: أما من الكتاب فقوله تعالى: {وإن الفجار لفي جحيم} إلى قوله: {وماهم عنها بغائبين} والفاسق فاجر بلى شبهة، وقوله تعالى: {ومن يعص الله ورسوله فإن له نار جهنم خالدين فيها أبداً} والفاسق عاص بلى خلاف، وقوله تعالى: {ومن يقتل مؤمناً إلى قوله خالداً فيها} وقوله تعالى: {ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق ولا يزنون} ومن يفعل ذلك يلق أثاماً يضاعف له العذاب يوم القيامة ويخلد فيه مهاناً /380/ وقوله: {لن تمسنا النار إلا أياماً معدودة} إلى قوله تعالى: {بلى من كسب سيئة وأحاطت به خطئاته فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون}.
وأما من السنة فما روي عنه عليه السلام: ((لا يدخل الجنة مدمن خمر ولا نمام ولا عاق))، وقال عليه السلام: ((من ظلم أجيراً أجرته لم يرج رائحة الجنة)). وقال: ((من تحسَّى سماً فهو يتحساه في نار جهنم خالداً مخلداً ومن تردى من جبل فهو يتردى من جبل في النار خالداً مخلداً، ومن وجأ نفسه بحديدة فحديدته في يده يجأ بها بطنه في النار خالداً فيها مخلداً))، ومعلوم أن جميع هذه الأشياء إنما تقتضي الفسق لا الكفر، ومعلوم أن الخلود المذكور في هذه الآيات والأخبار هو الدوام الذي لا ينقطع بدليل قوله تعالى: {وما جعلنا لبشر من قبلك بخلد} وإنما أراد البقاء الذي لا ينقطع، فأما الذي ينقطع فقد جعله لكل البشر، قال الشاعر:
وغنيت دهراً قبل مجرى داحس .... لو كان للنفس اللجوج خلود
دليل، لو جوزنا خروجهم من النار لم يكن بد من دخولهم الجنة؛ إذ لا دار بينهما ولا يجوز أن يدخلوا الجنة كما تقدم أنه لا يدخلها من المكلفين إلا مثاب، وفيه الإشكال المتقدم، فالعمدة على الأدلة التي قبل هذا.
شبهة
من جهة العقل أن تخليد الفساق تقتضي مساواتهم للكفار.
والجواب: لا يلزم ذلك؛ لأن عقاب الفساق أخف، ولو كان الخلود يقتضي المساواة لاستوى عقاب الكفار وخلافه معلوم، ولا يستوي ثواب أهل الجنة.
ومن الكتاب قوله تعالى: {وإن منكم إلا واردها كان على ربك حتماً مضياً} إلى قوله: {ثم ننجي الذين اتقوا}.
والجواب: يجوز أن يكون المراد القيامة أو العرصة، ويجوز أن يكون الورود هو المرور على الصراط الذي هو جسر على جهنم كما تقدم تفصيله.
وبعد، فقوله {ثم ننجي الذين اتقوا} لا يقتضي خروج الفساق؛ لأنهم ليسوا متقين، بل من الظالمين فيدخلون تحت قوله: {ونذر الظالمين فيها حثيثاً}.
قالوا: قال تعالى: {لابثين فيها أحقاباً} والحقب ثمانون سنة.
والجواب: أن سياقها في الكفار بدليل أنهم كانوا لا يرجون حساباً، فكان يلزم أن لا يخلد الكفار.
والتحقيق أن قوله: أحقاباً جمع ولا غاية لكثير الجمع ولم يحده بغاية.
على أنه لو أراد بالأحقاب جمعاً مخصوصاً لم يدل تخصيصه بالذكر على نفي ما عداه.
قالوا: قال تعالى: {فأما الذين شقوا ففي النار خالدين فيها ما دامت السموات والأرض غلا ما شاء ربك} قالوا: والسموات والأرض مما يفنى، وأيضاً فالاستثناء بدل على أنه خلود منقطع.
والجواب: أنه معارض بأهل الجنة في الآية نفسها.
والتحقيق أن المراد سموات الآخرة وأرضها وهما لا يفنيان؛ لأن سموات الدنيا وأرضها تفنى قبل دخولهم النار، فكيف يوقت بالماضي أو أن المراد السعيد كما هو طريقة أهل اللغة، وكما قال تعالى: {حتى يلج الجمل /381/ في سم الخياط} فلم يرد التوقيت، وكما يقولون: لا آتيك ما حج لله راكب وما طلعت الشمس، وكما قال الشاعر:
إذا شار الغراب أتيت أهلي .... وصار القار كاللبن الحليب
وأما الاستثناء فالمراد به أوقات الدنيا وأوقات الحساب والحشر؛ لأن المكلف يستحق الثواب والعقاب من احل الفعل، لكن اقتضت الحكمة تأخير ذلك عن أوقات الدنيا فاستثنى الله مع هذه الأوقات والاستثناء عن أول الوقت صحيح كما يقال: نحن عند فلان غداً إلا مقدارا ما نسلم على الأمير، وكما قال تعالى: {لا يذوقون فيها الموت إلا الموتة الأولى}.
وذكر الزجاج أن معنى قوله: {إلا ما شاء ربك} أي سواء ما شاء ربك كما يقال: عليَّ لفلان ألف سوى الألفين، أي غيرهما.
قالوا: قال تعالى: {وقالوا ما لنا لا نرى رجالاً كنا نعدهم من الأشرار} فدل على أنهم أخرجوا منها.
والجواب: ليس فيها أنهم لم يروهم في النار بعد أن رأوهم فيها، والمراد كنا نعدهم من الأشرار في الدنيا وهم المؤمنون، بدليل اتخذناهم سخرياً، أي كنا نسخر منهم في الدنيا، وليس أمر في أمر زاغت عنهم الأبصار مقابلة للهمزة في قوله: اتخذناهم، لأنها ليست بهمزة استفهام، وإنما قوله اتخذناهم من نعت رجالاً.
وشبهتهم من جهة السنة ما روي عنه لعيه السلام، يخرج قوم من النار، وقد امتحشوا وصاروا فحماً وحمماً، والجواب لم يصح هذا الخبر فإن صح فأحادي ومعارض بما قدمناه من الآيات والأخبار.
وبعد، فلا بد من ترك ظاهره؛ لأن أهل النار لا بد أن يكونوا أحياء والفحم لا يصح فيه الحياة.
وبعد، فالمراد يخرج من عمل أهل النار وشبههم بالفحم والحمم لعظم ذنوبهم، فكأنهم قد احترقوا، ومثل ذلك قد ورد، قال الله تعالى: {وكنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها} والمراد التشبيه، وقال عليه السلام: ما زلت آخذ بحجزكم وأنتم تهافتون فيها تهافت الفراش أي في العمل المؤدي إليها.
وقال عليه السلام حين سمع المؤذن يقول: أشهد أن لا إله إلا الله خرج من النار، أي من عمل أهل النار.
وعلى مثل هذا يحمل ما رووه أيضاً عن النبي عليه السلام يخرج رجل من النار بعد ما ذهب خبره وسبره إلى خروج من عمل أهل النار.
القول في الشفاعة
اختلف الناس في موضوعها، فقال أهل الإرجاء: إنما نستعمل في دفع الضرر فقط، وقال الجمهور: يستعمل فيه وفي جلب النفع، فإنه كما يقال: أشفع لي غلى فلان في العفو، يقال: أشفع لي في الكسوة والعطاء.
وحقيقتها على هذا هو السؤال المتضمن جلب نفع إلى الغير أو دفع ضرر عنه على وجه يكون غرض السائل حصول ما سأل لأجل سؤاله وهي مأخوذة من الشفع نقيض الوتر كأن الشفيع ينضم إلى المشفوع له.
قلنا: لأجل سؤاله احترازاً منا إذا سألنا الدرجة الوسيلة لمحمد عليه السلام فلسنا نشفع له لما اكن خصولها كالأجل /382/ سؤالنا، ويدل على أنها تستعمل في جلب النفع أيضاً قول الشاعر:
كلي شافعي زواره من ضميره .... عن البخل ناهيه وبالجود أمره
وقال آخر:
فداك فتى إن حببته لصنيعه .... إلى ماله لم تأتيه يستشفع
فصل
ذهب الجمهور إلى أن شفاعته عليه السلام للمؤمنين التائبين من أمته.
وقال أهل الإرجاء: بل للمصرين من أمته.
لنا: لو كانت شفاعته للمصرين لكان إما أن يقبل وهو باطل بما تقدم من أن الفساق في النار على جهة الدوام، وإما أن لا يقبل وهو باطل بالإجماع.
دليل، قال القاضي : العقل يقضي بقبح الشفاعة للفاسق ولم يحصل سمع ينقل عن قضية العقل، ومثله بأن من قتل ولداً لرجل وهو مصر على قتل الآخر لم يحسن من جهة الفعل أن يشفع له في العفو.
دليل، قال تعالى: {ولا يشفعون إلا لمن ارتضى}، وإذا كانت الملائكة لا يشفعون إلا للمؤمن، فكذلك الأنبياء، ومثله قوله تعالى: {الذين يحملون العرش ومن حوله} إلى قوله: {ويستغفرون للذين آمنوا ربنا وسعت كل شيء رحمةً وعلماً فاغفر للذين تابوا واتبعوا سبيلك..} الآية.
دليل، قال تعالى: {ما للظالمين من حميم ولا شفيع يطاع} لأن الله تعالى لا يطيع أحداً، فالذي نفاه شفيع يطاع، والذي أثبتناه شفيع يجاب.
قلنا: إذاً لا يكون للآية فائدة؛ لأن كل أحد يعلم أنه لا ريبة لأحد على الله تعالى، ثم يقول: لسنا نعتبر الريبة في الطاعة لما روي أن العباس قال للنبي عليه السلام حين نبع الماء من موضع عقِبه: إن ربك ليطيعك، قال: وأنت يا عم لو أطعته لأطاعك، وقال الشاعر:
رب من أنضجت غيظاً صدره .... قد تمنَّى لي موتاً لم يطع
أي لم يفعل له ما أراد.
وبعد، فالآية خرجت مخرج الزجر، ولا زجر غلا إذا حملت على ما نقوله.
يوضحه أنه لا خلاف أنها دليل على نفي الشفاعة عن الكفار، ولو كان كما ذكروه لما صح التعلق بها في نفي الشفاعة عنهم.
دليل، قال تعالى: {وما للظالمين من أنصار} ولا نصرة فوق دفع العقاب.
دليل، قال تعالى: {واتقوا يوماً لا تجزي نفس عن نفس شيئاً} غلى قوله: {ولا ينفعها شفاعة}، والنكرة في سياق النفي للاستغراق، والآية خرجت مخرج الزجر عن المعاصي، وقال تعالى: {أفأنت تنقذ من في النار} خرجت مخرج الإنكار، ولا إنفاذ أعظم من الشفاعة لهم، قوال في الذين كسبوا السيئات مالهم من الله من عاصم}.
دليل يقال: أرأيتم لو حلف رجل بطلاق امرأته ليفعلنَّ ما يستحق به شفاعة محمد صلى الله عليه وآله وسلم أيؤمر بالفسق والإصرار أو بالتوبة والإيمان.
ويقال: وقع الإجماع على قولهم: اللهم اجعلنا ممن يستحق الشفاعة.
وعلى أصل المخالفين يكون التقدير /383/ اللهم اجعلنا من الفساق المضرين.
ولا ينقلب علينا في قولهم: الله اجعلنا من التوابين؛ لأن التوبة والاستغفار بحسن، سواء كان هناك معصية أم لا، ولهذا كان عليه السلام يستغفر في مجلسه من آراء كثيرة، هذا إن لم يكن المراد اللهم اجعلنا ممَّن يفعل فعل التوابين.
شبهة المخالف أن الثابت مستغنٍ بكونه من أهل الجنة عن الشفاعة، فلا فائدة فيها.
والجواب: أن فائدتها بيان مرتبة الشافع وزيادة مسرة المشفوع له ومنافعه، ثم يعارضهم بقوله: {ويستغفرون للذين آمنوا} فيقول: لا فائدة في هذا الاستغفار وبالزيادة في قوله: ويزيدهم من فضله.
فإن قيل: أليس قد وعد الله بهذه الزيادة فما فائدة الشفاعة حينئذٍ.
قلنا: ليس فيه أنه تعالى يفعل هذه الزيادة من دون شفاعة، وكما يحسن من الملائكة الشفاعة لمن ارتضاه الله لحسن من الأنبياء.
شبهة
قالوا: قال عليه السلام: شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي.
والجواب: هذا المنادي ويقتضي الإغراء بالمعاصي، ومعارض بما قدمناه من الأدلة والأخبار نحو: لا يدخل الجنة مدمن خمر.
وبعد، فقد روى الحسن البصري: ((ليست شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي)).
وبعد، فإن صح فتقديره إذا تابوا وإنما خص أهل الكبائر بالذكر لأنهم أحوج إلى شفاعته من حيث قد صاروا في عدة الفقراء ليس لهم إلا ثواب التوبة.
فصل
واختلف الشيوخ في المطلوب بالشفاعة، فقال الجمهور: التفضل.
وقال أبو الهذيل: أن يعود الثواب الذي أسقطته المعصية.
ويبطله ما تقدم من أنه لو عاد الثواب الذي أسقطته المعصية، لكان التائب بعد ارتكاب الكبيرة أعلا حالاً منه لو لم يرتكبها من حيث يكون له ثاب التوبة مع بوابة الأول.
وله أن يقول: إن ثواب التوبة القوية هو أن يعود بها وبالشفاعة ما سقط من ثوابه، فيكون كن لا ذنب له، فيكون في ذلك مطابقاً لما روي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: ((التائب من الذنب كمن لا ذنب له)).
القول في المنزلة بين المنزلتين
وهذه هي مسألة الأسماء والأحكام؛ لأنها أسماء في أسماء الكلفين وأحكامهم.
وقد ذهب أهل الحق إلى أن مرتكب الكبيرة من أمة محمد عليه السلام يسمى فاسقاً، وأنه لا يسمى مؤمناً، كما تقوله المرجئة، ولا كافراً كما تقوله الخوارج: ولا منافقاً كما يقوله الحسن، وكذلك فليس حكمه حكم المؤمنين على الإطلاق، ولا حكم الكفار والمنافقين على الإطلاق، بل له اسم بين الاسمين وحكم بين الحكمين، وهو معنى قولنا المنزلة بين المنزلتين.
لنا: أما على أنه فاسق بالإجماع والنصوص، وأما على إبطال أقوال المخالفين فنحن نتبعها قولاً قولاً.
فصل
أما الذي يدل عل أنه لا يسمى مؤمناً فهو أن قولنا مؤمن وإن كان في الأصل هو المصدق، والإيمان هو التصديق فقد صار منقولاً /384/ بالشرع إلى من يستحق المدح والثواب، وكذلك قولنا مسلم ودين؛ لأن الإسلام في الأصل هو الانقياد والدين في الأصل هو الطاعة والعادة.
وقد افترقت المرجئة على قولين، فرقة منعت من كون هذا الاسم منقولاً.
واختلف هؤلاء فقال بعضهم: هو مأخوذ من إعانة نفسه من عذاب الله، وإنما يؤمن نفسه باجتناب الكبائر، وهذا يوافق ما يقوله، وإنما يتقى الخلاف في عبارة.
وقال بعضهم: من إعانة نفسه من العذاب بمجانبة الكفر. وقال بعضهم: من التصديق.
ثم اختلف هؤلاء فقال بعضهم: من التصديق باللسان، وقال بعضهم: بالقلب، وقال بعضهم: بهما.
والفرقة الثانية حازت نقل هذه الأسماء ثم اختلفوا فقال بعضهم: منقول إلى من فعل من الطاعة ما لا يجوز عليه تعبيرٌ ونسخ بشرط التصديق بلسانه والخضوع بقلبه والاعتراف بالخطأ في ارتكابه الكبائر.
وقال بعضهم: منقول إلى من فعل الطاعات، فإذا فعلها صار مؤمناً وإن فعل المعاصي وهو قريب من الأول.
لنا: أن هذا الاسم اسم ممدح بدليل الإجماع وصحة توسطه بين أوصاف المدح؛ ولأن الله ما ذكر المؤمن والإيمان في القرآن إلا مدحه، وكل ذلك لا يصح في الفاسق.
دليل، لو كان هذا الاسم باق على أصل الاشتقاق لوجب في الكافر إذا صدق غيره أو أمنه من خوف أن يسمى مؤمناً.
فإن قالوا: مرادنا بالإيمان تصديق مخصوص.
قيل لهم: لا فصل في إطلاق الاسم بين إيمان وإيمان من حيث الاشتقاق كما لا فرق في إطلاق السارق بين سرقة وسرقة.
على أن هذا يبطل قولهم أنه غير منقول؛ لأنهم قد قصروه على بعض مدلوله، فيقال لهم حينئذٍ إذا حان للدليل قصره على بعض مدلوله فهلا جاز للدليل أن يعتبر مع التصديق غيره في إطلاق التسمية.
وبعد، فإنما منعنا من إطلاق اسم المؤمن عليه، فأما مع التعبد فخيره فنقول مؤمن بالله أي مصدق به، إلا أن هذا يشترك فيه المسلم واليهودي.
دليل، لو كان باقياً على أصل الاشتقاق لما صح أن يطلق عليه حقيقة إلا حال فعله للتصديق؛ لأن هذه حال المشتقان عند الجمهور، وكان لا يسمى مؤمناً حال السهو والنوم والموت.
دليل، لو كان الإيمان باقياً على الاشتقاق لوجب مثله في الفسق حتى لا يقال فاسق، غلا لمن خرج مطلقاً كما يقال: فسقت الرطبة أي خرج على وجه الإضرار بالغير، كما يقال للفأرة فويسقة، وكل هذا غير حاصل في الفاسق إذا شرب الخمر أو زنا، وكان يجب في المؤمن والأنبياء إذا خرجوا للإضرار بالأعداء أن يسموا فساقاً.
دليل، قال تعالى: {إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم..} الآية، وإنما للحصر، وقال في آية /385/ أخرى: {أولئك هم المؤمنون حقاً} وقال: {قد أفلح المؤمنون..} إلى قوله: {أولئك الوارثون}، وقال: {وبشر المؤمنين بأن لهم من الله فضلاً كبيراً} {وسوف يؤتي الله المؤمنين أجراً عظيماً} {وبشر المؤمنين أن لهم قدم صدق عند ربهم} ونحو ذلك من الآيات، ولو كان الفاسق مؤمناً لدخل تحت هذه الآيات فيسقط عن نفسه عهده التحفظ من المعاصي؛ إذ قد صدق بالله تعالى.
دليل، قال الله تعالى: {بئس الاسم الفسوق بعد الإيمان} وذلك يقتضي التنافي بين الاسمين، وقال تعالى: {وكان بالمؤمنين رحيماً} مع قوله: {ولا تأخذكم بهما رأفة في دين الله} فلو كان الزاني مؤمناً لوجب أن ترحمه كما رحمه الله، وقال تعالى: {إنما المؤمنون أخوة} وقال: {إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا} وقد قال: {لا تجد قوماً يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله..} الآية، فلو كان الفساق مؤمنين لوجب موادتهم وموالاتهم.
دليل، قال النبي عليه السلام: ((لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن)). وقال عليه السلام: ((الإيمان بضع وسبعون باباً)) وقال عليه السلام: ((بني الإسلام على خمسة أركان)) ولا خلاف أن الإيمان كالإسلام هنا.
شبهتهم أن قالوا: لو كان الإيمان فعل الطاعات واجتناب المقبحات للزم في الله أن يكون مؤمناً، وأن يكون فعله إيماناً.
والجواب:
هذا ينقل عليهم في البر والتقوى، فما أجابوا به فهو جوابنا.
والتحقيق أنا لم نسمه إيماناً؛ لأنه فعل واجب وترك قبيح، بل لأنه مما يستحق به الثواب.
على أنا لم نقصر الإيمان على ذلك، بل يدخل فيه المندوبات واجتناب المكروهات، وذلك مفقود في حق الله تعالى.
شبهة
قالوا: هذه الأفعال مختلفة الآن ومختلفة باختلاف الشرائع والإيمان لا يجوز أن يكون مختلفاً، وكذلك الدين والإسلام.
والجواب: إنما امتنع وصفنا للإيمان بأنه مختلف لإيهام الخطأ، ويقلب عليهم في البر والتقوى.
شبهة
قالوا: لو كان الإيمان ما ذكرتم لصح وصفه بالزيادة والنقصان وهو باطل.
والطواب: أنا لا نسلم بطلانه، بل يصح دخول الزيادة والنقص فيه ممن كانت طاعاته أكثر كان إيمانه أكثر، وعلى هذا قال تعالى: {فزادهم إيماناً} وقال: أيكم زادته هذه إيماناً وإنما لم يقل في من لم يفعل بعض النوافل أنه ناقض الإيمان؛ لأن ذلك يوهم الخطأ، وهو الذم له والحط منه حتى لو قيد لصح، وبهذا بطل ما قاله الشيخان من أن النوافل وترك المكروهات لا تدخل تحت الإيمان، قالا: لأنها لو كانت تدخل تحت الإيمان لكان لا يصح وصف أحدنا بأنه كامل الإيمان، فقيل لهما: إنما قيل فلا كامل الإيمان وإن لم يستوف خصاله لإفادة مدحه ورفع الإيهام الحاصل /386/ من قولنا ناقض الإيمان وما ذكراه رحمهما الله تعالى من أنه يلزم أن لا ينحصر الإيمان غير مستقيم؛ لأن النوافل لا تخلوا عن الانحصار، أما بالنسبة إلى تعيينها كالنوافل المؤكدة، وأما بالنسبة إلى وقتها كسائرها.
وبالجملة فهي منحصرة بالوصف لا بالتعيين ومنحصرة أيضاً بالنسبة إلى الإمكان، فنقول: الإيمان كلما يمكن المكلف امتثاله من الطاعات وهو متناهٍ لا محالة.
شبهة
قالوا: لو كانت الصلاة من الإيمان لوجب في من يتركها أن يقال أنه ترك الملة؛ لأن الملة والإيمان والإسلام واحد عندكم.
والجواب: أن هذه الأسماء قد صارت أسماء لجميع خصال الإيمان، فلا يقال في من ترك بعضها أنه قد ترك الإيمان، ولمثل هذا إذا عرض في صلاته ما يفسدها لا يقال: فسد دينه أو بطل للإيهام، وإنما يقال: فسدت صلاته أو بطلت.
والحاصل أن العبارات الموهمة لا يجوز إطلاقها.
وضحه أن الخشية حجة الله على خلقه فإذا انكسرت أو ضعف لا يقال انكسرت حجة الله أو ضعفت.
شبهة
قالوا: وردت آيات كثيرة تعطف الأعمال الصالحة على الإيمان نحو قوله: {ومن يؤمن بالله ويعمل صالحاً} ونحوها وحق العطف المغايرة.
والجواب: لا يمتنع أن يكون المراد بالإيمان هنا التصديق على أصله أو يكون العطف للتعظيم نحو قوله {على الصلوات والصلاة الوسطى} وإن كان التعظيم هنا في المعطوف عليه فأفرد الإيمان بالذكر لعظمه وإن كانت الأعمال الصالحة قد دخلت تحته.
شبهة
قالوا: قال تعالى: {وصالح المؤمنين} فبين الله أن غير الصالح يسمى مؤمناً.
والجواب: لا يدل ذلك على ما ادعوه كما لا يدل قوله {واتبعوا أحسن ما أنزل إليكم من ربكم} على أن في ما أنزل الله ليس بحسن، وكما لا يدل قوله: {فاصبر كما صبر أولو العزم من الرسل} على أن في الرسل من لا عزم له.
شبهة
قالوا: قال تعالى: {يا أيها الذين آمنوا توبوا إلى الله توبة نصوحاً} فسمانا حال الذنب مؤمنين.
والجواب: أنه أمرنا بالتوبة عن الصغائر وأمر بالتوبة على الإطلاق وكثرة الاستغفار، فإن ذلك عبادة مستقلة أو يكون معناه إذا تبتم، وإن كانوا حال الخطاب مؤمنين أو يكون المراد بالإيمان اللغوي أو التوبة اللغوية، وهو الرجوع أي الرجوع إليه بنية خالصة في جميع الأمور.
شبهة
قالوا: قال تعالى: { يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تعقلون}.
والجواب: المراد الإيمان اللغوي أو المراد بأيها المدعون للإيمان أو المراد النهي المستأنف أي لا تقولوا فإنه لم يقل لم قلتم وصار هذا كقولك لمن تشير عليه يا أخي لم تفعل ما يضرك ولم تحمل المشقة في كذا، ونحو ذلك.
شبهة
قال تعالى: {ألم يأن للذين آمنوا أن /387/ تخشع قلوبهم لذكر الله} فسمَّاهم مؤمنين حال عدم الخشوع.
والجواب: المراد الأمر بالخشوع والحث عليه كما تقول لغيرك: ألم يأن لك أن تفعل كذا أي افعله، ويجوز أن يكون المراد تأكيد الخشوع والحث على الزيادة نحو قوله: {فما يكذبك بعد بالدين} فإن المراد تأكيد النهي عن التذكيب.
شبهة
قال تعالى: {وإن طافئتان من المؤمنين اقتتتلوا} فسماهما مؤمنين وإحداهما باغية.
والجواب: هذا نظير قوله: {يا أيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن يدنه} ولا خلاف أنهم حال الردة غير مؤمنين فيحمل على تسمية الشيء باسم ما كان عليه تقديره وإن كان طائفتان ممن كان مؤمناً.
شبهة
قال تعالى: {من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه} فسمى من لم يصدق ما عاهده الله عليه مؤمناً.
والجواب: ليس من للتبعيض هنا، فلا تدل على ما قالوه، كما لا يدل قوله: {واجتنبوا الرج من الأوثان} على أن فيها ما ليس برجس.
فصل
وأما الذي يدل على أن الفاسق لا يسمى كافراً كما تقوله الخوارج فهو أن الكافر كان في الأصل التغطية، وصار في الشرع اسماً لمن يستحق العقاب العظيم مع أجزاء أحكام بخصوصه كالمنع من المناكحة والموارثة والدفن في ما قبر المسلمين ونحو ذلك مما لا يجري على الفاسق بالإجماع، وهذا هو المعلوم من حال الصحابة، بل ربما نصوا على فساد هذه المقالة، كما روي أن أمير المؤمنين رضي الله عنه سئل عن الخوارج أكفارٌ هم؟ فقال: من الكفر فرُّوا، قيل: أفمسلمون؟ قال: لو كانوا مسلمين ما قاتلناهم، كانوا إخواننا بالأمس فبغوا علينا، فمنع من يسميهم كفاراً ومؤمنين ولم ينكر عليه، فكان إجماعاً، هذا إذا لم يكن قوله حجة.
دليل، شرع الله اللعان بين الزوجين، ومعلوم أن أحدهما فاسق، فلو كان الفسق كفراً لوقعت البينونة بنفس الفسق، فلا يصح اللعان إذ لا ملاعنة بين أجنبيين، وكان أيضاً لا يحتاج غلى أن يفرق بينهما الحاكم، وكان يلزم إذا شرب الروح أو زنا أن يفرق بينه وبين امرأته وأن يستتاب، وإلا قتل كالمرتد وهم يلتزمون هذا الأخير.
شبهتهم قوله تعالى: {فأنذرتكم ناراً تلظى لا يصلاها إلا الأشقى الذي كذب وتولى} قالوا: والفاسق ممن يصلي النار فيجب أن يكون وضعها الله تعالى، وإنما هي نار منكرة غير معيَّنة.
وبعد، فلسنا نحكم بدخوله النار لأجل هذه الآية، بل لمثل قوله تعالى: {فأما الذين شقوا ففي النار} والفاسق شقي وإن لم يكن أشقى.
وبعد، فالإجماع أن الفاسق لم يكذب ولا تولى، فكان يلزم أن لا يدخل النار رأساً.
وبعد، فالظاهر يقتضي أن لا يدخل إلا أعظم الناس كفراً؛ لأنه هو الأشقى.
شبهة
قالوا: قال الله تعالى: {ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون} والفاسق قد يكون فسقه بالحكم بغير ما أنزل الله تعالى.
والجواب: لا تعلق في ظاهرها لاقتضائه أن يكون ما أنزل الله آلة في الحكم.
والمعنى: ومن لم يحكم بصحة ما أنزل الله وبكونه حقاً ولم يترك الحكم به مستحلاً لتركه.
على أنها واردة في اليهود /388/ ودليل قصرها عليهم أنه تعالى لما قال في أول الآية: {أنزلنا التوراة فيها هدى ونورٌ يحكم بها النبيون} كان فيها صفة محمد ويبان ما نازعوا فيه محمداً عليه السلام كأن قوله: {ومن لم يحكم بما أنزل الله} عائداً إلى ما ذكره في التوارة، ولا شك في كفر اليهود؛ لأجل إنكارهم الحق ونبوة محمد وتغييرهم التوارة.
ووجه آخر وهو أن قوله: {يحكم بها النبيون} إنما ينصرف إلى حكم سبق فيه الأنبياء، وليس ذلك إلا العدل والتوحيد والنوبات، فلا جر ممن لم يحمك بما أجمع عليه النيبئون من ذلك فهو كافر.
شبهة
قال تعالى: {ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلاً ومن كفر} قالوا فبين أن تارك الحج كافر.
والجواب: أن قوله تعالى: {ومن كفر} كلام مستأنف، وإن سلمنا أنه غير مستأنف فالمراد ومن كذب بوجوبه.
قالوا: قال تعالى: {هو الذين خلقكم فمنكم مؤمن ومنكم كافر} قالوا: والفاسق ليس بمؤمن، فيجب أن يكون كافراً والحوادث ليس في إثبات صفتين دليل على نفي الثالثة، كما قال تعالى: {فمنهم من يمشي على بطنه ومنهم من يمشي على رجلين ومنهم من يمشي على أربع} ولم يدل ذلك على نفي الزائد.
ومثله هذا الجواب عن قوله تعالى: {يوم تبيض وجوه وتسود وجوه} الآية، فلسنا نسلم أن كل معذب يسود وجهه.
على أن قوله تعالى: {أكفرتم بعد إيمانكم} تسقط تعلقهم؛ لأن فيمن كفر من كفر لا يعد إيمان.
شبهة
قال تعالى: {والذين كفروا بآياتنا أولئك أصحاب المشأمة} والفاسق من أصحاب المشأمة، فليكن كافراً.
والجواب: إنما بين أن الكفار أصحاب مشأمة ولم يبين أنه ليس في أصحاب المشأمة غيرهم، نظيره قول القائل: أصحاب أبي حنيفة هم العلماء، فإنه إنما يدل على عموم العلم يهم ولا يد لعلى أن غيرهم ليس بعالم.
شبهة
قال تعالى: {ومن كفر فأولئك هم الفاسقون}.
والجواب: مسلم أن كل كافر فاسق، فمن أين أن كل فاسق كافر.
شبهة
قال تعالى: {وهل يجازي إلا الكفور}.
والجواب: لا بد من ترك ظاهرها؛ لأن المؤمن يجازى وسائر المكلفين، كما قال تعالى: {اليوم تجزى كل نفس بما كسبت} وأيضاً فالكفور مبالغة، فكان يلزم في من أتى بكفر واحد أن لا يجازى.
والمعنى: وهل يجازى بعذاب الاستئصال إلا الكفور كما نقيضه سياق الآية.
تنبيه
وأما ما يحكى عن الناصر عليه السلام وبعض الإمامية من أن الفاسق كافر نعمة، فهو باطل؛ لأن كفر النعمة يقابل شكرها وشكر نعمة الله تعالى إنما هو بإظهارها والاعتراف بها واعتقاد تعظيمه عليها والعزم على إظهار ذلك عند التهمة، فيجب أن يكون كفر النعمة ما يقابل شكر هذه الأمور من الستر لها والجحود والاستخفاف بحقه تعالى والعزم على ترك الإظهار المذكور عند التهمة، والله أعلم، ولا شبهة في كون هذا كفراً صريحاً، وليس ذلك أيضاً حال الفاسق، وأما ما ورد في الأخبار من كون هذه العبادات /389/ شكراً فإنما هي على جهة المجاز، ولولا ذلك لعرف وجوبها قبل الشرع، وعلى هذا يحمل قوله عليه السلام: ((أفلا أكون عبداً شكوراً)) فإن غرضه الاستكثار من الطاعة تعظيماً لله ولنعمة.
فصل
وأما الذي يدل على أن الفاسق لا يسمى منافقاً كما يحكى عن الحسن البصري، فهو أن المنافق وإن كان في الأصل لمن يظهر أمراً وينظر خلافه مأخوذ من النافقا أحد حجرة اليربوع حيث كان يخفي أحد نابيه ويظهر الآخر، فقد صار في الشرع اسماً لمن يبطن الكفر ويظهر الإسلام، وليس هذه حال الفاسق، فإن أحدنا يعلم من نفسه أن يقدم على المعصية مع إقراره، والله يعرف وعيده ، ومع الخوف الشديد، لكن تؤثر الشهوة ويؤمل العفو إن كان من أهل الإرجاء ويسوف التوبة إن كان من أهل الوعيد.
وبعد، فلا خلاف في أن كل منافق كافر فكان يلزم أن يكون الفاسق كافراً كما نص الله على أن المنافق كافر، فقد نص على أنه من أشد الناس عقاباً، فقال تعالى: {إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار}.
شبهة
إن المنافق يستحق الذم واللعن وكذلك الفاسق، فليجر إجراء اسم المنافق عليه.
والجواب ما تقدم من أن هذا قد صار منقولاً بالشرع غلى من يبطن الكفر، فلا يجب من مشاركته للمنافق في الذم واللعن مشاركته له في هذه التسمية، والأصح أن يسمى كافراً، وخلافه معلوم، وبهذا يبطل قوله: إذا قال إني إنما أخالف في العبارة دون المعنى، وأما قوله عليه السلام: ((المنافق إذا وعد أخلف))، فإنما يدل على أن المنافق يحلف في وعده ولا يدل على أن من أخلف في عده فهو منافق.
شبه أخرى
قالوا: لو لم يكن في اعتقاده خلل وكان مؤمناً بالله ووعده ووعيده لما ارتكب الكبيرة كما لو كان بين يديه نار مؤججة، وقال له من يقدر عليه إذا واقعت الكبيرة أوقعتك في هذه النار، وكذلك إذا علم أن في الحجر صرة دراهم وحيَّ ة تهلك لسعتها، فإنه لا يدخل يده للصرة، والحال هذه.
والجواب: ما تقدم من أنا نعلم من حال الفاسق أنه لا خلال في اعتقاده حال إقدامه على المعصية، وما ذكره من المثال ليس وزاناً للمسألة؛ لأن من وصف اعتقاده حاله يكون ملجأ إلى ترك المعصية والحال هذه، وليس هذه حال المكلف؛ لأنه يجوز العفو أو التوبة، ووزان مسألة الحية أن يكون معه تِرْياق يعلم أنه ينفع من اللسعة أو يجوز أن الحية لا تلسعه، فإنه والحال هذه يدخل يده للصرة.
الكلام في ما تعبد بآية من الأحكام في أهل الوعد والوعيد
ليس يخلو المكلف إما أن يقطع بكونه من أهل العقاب أو يظن ذلك أو يقطع بكونه من أهل الثواب أو يظن ذلك لظاهر حاله، وإن كان لا طريق إلى القطع في الطرفين غلا السمع إن قطعتا على أنه من أهل الثواب، فالذي وجه علينا السمع مدحه وتعظيمه وموالاته ونصرته والدعاء له، وكل ذلك على القطع في الحال فقط إن قطعنا على أنه يستحق الثواب في الحال فقط، وعلى الإطلاق، إن قطعنا بذلك على الإطلاق كالأنبياء /390/ بأن يعلم أن ماله إلى الجنة، وهذا المدح والتعظيم إنما يجب إظهاره باللسان بهمة كان يجري ذكره، ويكون سكون السامع موهماً أن اعتقاده فيه غير شديد، وإلا لم يجب كشكر النعمة، وأما بالقلب فيجب عند الذكر أن يعتقد عظم حاله والتمييز بينه وبين غيره ويعزم على إظهار ذلك عند التهمة، وإن لم يقطع على استحقاقه، ولكن يظن ذلك الظاهر حاله، فالمدح والتعظيم والدعاء له يكون مشروطاً بالاستحقاق وسلامة الحال، وهذا الشرط كالملفوظ وإن لم يتلفظ به، وأما نصرته وموالاته والذب عنه فيجب من غير شرط.
فإن قال: كيف يصح الشرط في المدح الواقع والشرط إنما يدخل في المستقبل من الأمور.
قيل له: ليس الشرط في المدح الواقع، وإنما هو في مقتضاه ومضمونه، وهو ما يفعله الله من الثواب والإعظام.
فإن قال: هل يجري حال أحدنا على نفسه في المدح والإعظام مجرى حاله مع غيره.
قيل له: نعم مالم يقصد بذلك المفاخرة، وهذا في ما عدا الدعاء، فأما الدعاء فيجوز أن يدعوا لنفسه ودفع الضرر عنها، ولهذا جاء في التشهد السلام على نبينا وعلى عباد الله الصلاحين، فإنه يدعو لنفسه على الإطلاق ولعباد الله تعالى شرط الصلاح.
وأما إن كان المكلف من أهل العقاب قطعاً أو تظاهر الحال فقد اقتضى السمع فيه عكس ما أوجب علينا في أهل الثواب من الذم واللعن والاستخفاف والمعاداة في الدين والخذلان والدعاء عليهم، إما على الإطلاق أو بشرط يحسب التفضيل المتقدم والوجه في جميع ذلك ما يرجع إلى الألطاف فإنه يكون عند ذم غيره له، ونحو ذلك أقرب إلى ما يقتضي إزالة ذلك والتمسك بالطريقة المثلى وهو أيضاً لطف لغيره من المكلفين.
القول في الإكفار
اتفق الناس على أنه لا يجوز إثبات الكفر إلا بدليل.
واختلفوا في هل يجوز ثبوت كفر في معلوم الله، ولا بد لنا عليه أم لا فمنعه الجمهور وأجازه أبو الحسين وأبو رشيد وابن الملاحمي والمؤيد بالله والبستي والإمام عماد الإسلام يحيى بن حمزة عليه السلام.
حجة الجمهور أنا قد تعبدنا بأحرا أحكام على الكافر لأجل كفره نحو القتل والمنع من المناكحة، ومن الدفن في مقابر المسلمين والموارثة وأكل الذبائح ونحو ذلك، فلا يخلو دليل التعبد بذلك إما أن يكون عاماً في كل كافر، فيجب أن يدلنا الله على كل كفر ليتمكن من إجراء هذه الأحكام فيه، وإما أن لا يكون لم يرد منا إجراءها فيه.
ومتى قيل أليس يجوز أن يبطن الإنسان ما هو كفر ولا بد لنا على ذلك مع أنا قد تعبدنا بإجراء هذه الأحكام فيه.
قالوا: إذا قد دلنا على ما إذا ظهره كان كفراً فذلك كاف في حصول /391/ معرفة للمراد بالخطاب حتى لو قدرنا أنه لم يقع كفر في العالم لم يكن بد من قيام الدليل على ما هو كفر ليتمكن من امتثال الخطاب بإجراء هذه الأحكام عند ظهور ما هو كفر، فإن هذا التكليف موقوف على ما يظهر لنا.
ومتى قيل لمه: أليس يجوز ثبوت فسق لا دليل عليه كن يذنب ذنباً لا يقطع بكونه كبيراً، وهو كبير في معلوم الله تعالى مع أنا قد تعبدنا بإجراء أحكام على الفسقة.
لجابوا بأن الأحكام التي تعلق على الفسق ضربان ضرب لا يمكن تعليقه بالفسق إلا بعد معرفة ذلك الفسق كالحدود، فإنه لا يمكننا حد الزاني إلا بعد معرفة الزنا، فيجب أن يدلنا الله تعالى على كل زنا، وكذلك سائر ما تعلق به الحدود.
وضرب يمكن تعليقه بالفسق على جهة الوصف لا على جهة التعيين كالذم واللعن والدعاء عليه والذي سأل عنه السائل هو من هذا القبيل، فإنا نعلق الذم واللعن بالذنب بشرط كونه كبيراً، فلا يضر الجهل بكونه كبيراً بخلاف الأحكام التي تعلق بالكفر لكونه كفراً، فإنه لا يمكن إنفاذ شيء منها مشروطاً، فلا بد من معرفة كل كفر، فأما سائر ما يجري على الفاسق نحو رد الشهادة، وعزله عن القضاء وأشباه ذلك فليس يتعلق به لأجل الفسق؛ بل لأنه منهم، ولهذا فإن العدل قد يرد شهادته للرق أو الولادة أو الشركة أو غير ذلك لا للفسق، وكذلك الفاسق قد لا يرد شهادته إذا لم يتهمه كشهادة الفاسق في النكاح وكشهادة الفاسق إذا اكن شديد التحرج كالخوارج عند من يقول به، وإذا لم يكن رد الشهادة مخصوصاً بالفسق لم يحتج في رد الشهادة إلى تعيين ما هو فسق.
حجة أبي الحسين ومن قال بقوله أنا إنما تعبدنا بإجراء هذه الأحكام على الكافر لمصلحة يعلمها الله تعالى وغير ممتنع أن يكون في الذنوب ما يبلغ عقابه عقاب الكفر ولا يكون في إجراء هذه الأحكام لأجله مصلحة، فلا يدلنا الله عليه، ويكون دليل التعبد بإجراء هذه الأحكام شاملاً لما يعلم كونه كفراً أو ينصب لنا دليل عليه، ولا يكون لنا مصلحة ي العلم بكون غيره كفراً ولا في إجراء هذه الأحكام عليه، فلا نحب أن يدل عليه.
يوضحه أن النبي عليه السلام قد علم كفر المنافقين في زمانه، ولم نؤمر بإجراء هذه الأحكام عليهم لمصلحة يعلمها الله تعالى، فإذا جاز أن لا يجري هذه الأحكام في بعض ما علمناه كفراً لمصلحة جاز أن لا يجريها إلا في ما علمناه كفراً المصلحة.
فصل
ليس يعلم بالعقل كفر قط؛ إذ لا محال له في أن الذنب يبلغ عقابه مبلغاً عظيماً مع إجراء أحكام مخصوصة وإنما يعلم الكفر بالشرع.
أما بالضرورة من دين النبي عليه السلام كاليهودية والنصرانية والمجوسية والشرك ونحو ذلك.
وأما بالدلالة وذلك قد يكون تصريح الكتاب أو الستة المتواترة أو الإجماع المتواتر أو القياس القطعي كان يعلم في ذنب أنه كفر لعله مخصوصة، ثم يعلم حصول تلك العلة أو أبلغ منها في غيره، فيعلم أن ذلك كفر؛ لأن بهذه الطريق من القياس يعلم كثيراً من الأحكام، وهذا لا شبهة فيه، وإنما الذي يصعب بيان علل الكفر لما ستعرف.
/392/
فصل [في بيان أنواع الكفر]
اعلم أن الكفر ضربان، والضرب الأول خمسة أنواع أحدها: ما يكون جهلاً بالله تعالى بذاته وصفاته اللازمة لكونه قادراً عالماً حياً موجوداً ونحو ذلك، وقد دخل في هذا كفر الدهرية والطبائعية وأهل العقول والأفلاك. وبالجملة من ينفي الصانع المختار.
وثانيها: أن يكون تشبيهاً له بخلقه كاعتقاد المجسمة وقولهم أنه جسم له أعضاء وجوارح.
وثالثها: أن يكون خروجاً من التوحيد كاعتقاد الثنوية والمجوس والنصارى وعباد الأصنام.
ورابعها: أن يكون خروجاً من التعديل كان يعتقد معتقد أن الله ظالم أو عابث أو جائر أو سفيه أو نحو ذلك.
وخامسها: أن يكون جهلاً بالنبوة إما بأن ينفي النبوة رأساً كاعتقاد البراهمة، وإما بأن يتوقف في صدق بعض الأنبياء أو يعتقد كذبه.
الضرب الثاني: أن يظهر من حاله ما يدل على أحد هذه الأنواع المتقدمة من غير إكراه ولا سهو، كأن يجحد الصانع بلسانه أو بعض صفاته المذكورة أو يجحد وحدانيته أو عدله وحكمته أو صدق رسله، فإن ذلك كفر بنفسه، وإن اعتقد خلاف ما أظهره بلسانه وكان يندم على الإقرار بالله تعالى وتوحيده وعبادته؛ لأنه حينئذ ٍيصير في حكم من لم يفعلها، وكان يستحق بحق الله أو بحق رسله بالتكذيب أو السب أو تمزيق المصاحف أو تحريق أستار الكعبة وخرب المساجد، وقد دخل في ذلك ردَّ ما هو معلوم ضرورة من الدين كإمكان وجوب الصلاة ونحو ذلك، وان يعزم على نبي من هذه الأمور، فإن هذا العزم يكون كفراً اتفاقاً بين شيوخنا لمشاركته المعزوم عليه في كونه استخفافاً، وإنما اختلفوا في العزم على الكفر إذا لم يشارك ذلك الكفر في الوجه الذي لأجله كان كفراً.
فقال أبو هاشم وأبو عبد الله والسيد المؤيد بالله: لا يكون كفراً بمجرده؛ إذ لا دليل في ذلك من حيث لا يكون كفراً، إلا لأجل مخالطته المعزوم عليه ومشاركته له في ما لأجله كان كفراً وذلك مفقود هنا.
وقال: أبو علي وأبو الهذيل والكعبي وحكى عن واصل أنه يكون كفراً؛ لأن العزم من قبيل الإرادة والإرادة تابعة للفعل غير مستقلة بنفسها فيكون حكمها حكم الفعل المراد، فإن كان كفراً فهي كفر، وإن كان فسقاً فهي فسق.
قيل: والحق هو الأول؛ لأن الظاهر من حال الصحابة رضي الله عنهم أنهم كانوا لا يعدون العزم على الزنا وشرب الخمر فسقاً ولا يمتنع أن يكون هذا من خصائص أمة محمد عليه السلام.
فصل
اعلم أنه قد تقرر بضرورة الدين حملة ولا يمكن أحد من أهل الملة إنكارها وهي أن للعالم صانعاً وإنه قادر عالم حي سميع بصير مدرك قديم لا ثاني له لا شبهة شيء ولا شبه شيئاً لا يجوز عليه الحاجة ولا صفات النقص وأنه عدل حكيم لا يظلم ولا يكذب ولا يعبث ولا يرسل كاذباً وإن محمد صلى الله عليه وآله وسلم نبي وما جاء به حق، فهذه جملة أصول الدين ولا خلاف بين المسلمين في كفر من خالف شيئاً من هذه الجملة /393/ قولاً أو اعتقاداً، ولهذا لم يقع اشتباه في كفر المتقدم ذكرها من الدهريَّة والملحدة والفلاسفة واليهود والنصارى والمشركين وإنما وقع الاشتباه في من يذهب من أهل القبلة مذهباً خطأ يعود بالنقص على شيء من هذه الجملة ويتأوله على ما يوافقها هل يكفر بذلك أو ينجيه تأويله عن الكفر.
فقال: جمهور شيوخنا المعتزلة وقليل من أهل الجبر أن التأويل لا يمتنع الإكفار.
وقال: بعض شيوخنا لا يكفر أحد من أهل القبلة لفقد الدليل وإليه ذهب جمهور المجبرة، وبه قال أبو حنيفة والشافعي من الفقهاء حكى عن أبي حنيفة أنه قال من الشبه أن لا يكفر أحداً. وحكي عن الشافعي أه قال: أنا لا أرد شهادة أهل الأهواء إلا الخطابية لاعتقادهم جواز الكذب.
وحكى عن الكرخي ما يدل على أن في بدع أهل القبلة ما يقتضي الكفر، لكن لا تجري عليهم أحكام الكفر.
حجة جمهور أصحابنا أن المخالف، أما أن يدعي أنه لا دليل على الإكفار من جهته التأويل، وهذا غير محل النزاع؛ لأنا إنما يكفره بدليل، وإما أن نقول عليه دليل، ولكنه لم يطلع عليه.
فيقال له: هذا يقتضي التوقف فلم قطعت على أن التأويل يمنع الإكفار.
وبعد، فالتأويل الذي يزعم الخصم أنه يخرج التشبيه وغيره من البدع عن كونه كفراً هو أن يعتقد في شبهته أنها دلالة، وأن الاعتقاد الحاصل عبدها علم وأن دليل خصمه شبهة واعتقاده جهل وتأويله هذا جهل ضمة غلى الجهل باعتقاد تلك البدعة، وذلك بأن يزيده دخولاً في الكفر أولى من أن يخرجه عنه.
فإن قال: أليس عقاب المقدم على المعصية مع الجهل بها واعتقاد جوازه أقل من عقاب المقدم عليها مع العلم وإن كان الأول قد ضم خطأ إلى خطأ.
قيل له: معارض بمن يستخف بالنبي عليه السلام مع اعتقاد جواز الاستخفاف به، فإن كفره يكون أعظم.
والتحقيق أن المعصية إن كانت من باب الاعتقادات ومما ألحق فيه واحد، فلا يسلم أن الجهل بها يقتضي تخفيف عقابه إذا أقدم مع إمكان العلم، وإن كانت من باب الأعمال لم يمتنع ما ذكره فإنه قد أخذ فيها بالظنون.
على أنه كان من أهل الاجتهاد فعليه أن يجتهد وإن أقدم من دون اجتهاد فقد أخطأ ولم يقتض ذلك تخفيف عقابه، وإن كان من غير أهل الاجتهاد فعليه السؤال.
وبعد، فلو كان التأويل عذراً لأهل الصلاة ومانعاً من الإكفار لكان أيضاً عذراً لسائر الملل الكفرية؛ لأنهم يعتقدون صحة مذاهبهم، ويعتمدون على شبهة عقلية يحتاج حلها إلى نظر دقيق، بل يعتمدون على متشابه القرآن ويتأولونه على ما يوافقهم، فكما لا يعصمهم ذلك عن الكفر، فكذلك أهل الصلاة.
واعلم أن هذه الوجوه التي ذكرها أصحابنا يمكن أن يعترض بوجه واحد وهو أن يقال: إن المكلف إذا كان معتقداً للجملة التي تقدم ذكرها من إثبات /394/ الصانع بتوحيده وعدله وصدق رسله لم يمتنع أن يكون عقابه على البدعة التي اعتقدها عقاب دون من لم يصدق بالله ورسله، فلا يقطع بأنها كفر ولا بأنها ليست بكفر.
حجة المخالفين أن المعتمد في الإكفار ما يظهر من جهة الرسول فعلاً وقولاً، ومعلوم أنه لم يعامل بالكفر إلا أهل المل الكفرية كاليهود والنصارى وغيرهم دون أهل القبلة، فعلمنا أن حال أهل القبلة يخالف هؤلاء.
ويمكن الجواب بأنه لم يظهر له عليه السلام شيء من البدع التي ظهرت بعده، فلو ظهرت له لحكم بكفرهم.
على أنه ليس المعتمد في الأدلة قول الرسول عليه السلام وفعله فقط، بل يستدل بصريح الكتاب والإجماع والقياس القطعي.
دليل، قالوا: قال عليه السلام: ((أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله فإذا قالوها منعا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله تعالى))، وقال صلى الله عليه وآله وسلم: ((من صلى إلى قبلتنا وأكل ذبيحتنا فله ما لنا وعليه ما علينا)).
ويمكن أن يجاب بأن هذا إنما يدل على المنع من قتالهم فمن أين أنهم لا يكفرون باعتقاد ماهو كفر.
يوضحه أن مظهر الشهادة لو كان يبطن خلاف ما يظهر أو شهد لا عن علم لكان كافراً مع أنه منهي عن قتاله.
وأيضاً فلا خلاف أنه لا بد من أن يعرف سائر المعارف من أن للعالم صانعاً وأنه قادر عالم حي ونحو ذلك، وإلا كان كافراً ولو أظهر الشهادة.
وأيضاً فقد قال عليه السلام: إلا بحقها، فما أنكرتم أن من قها ألا يعتقد ما يعود على الجملة المذكورة بالنقض.
دليل، قالوا: المعلوم من حال العلماء في كل عصر أنهم يقبلون شهادة أهل الأهواء ويروون الأخبار.
ويمكن الجواب بأنا لا نسلم هذا الإجماع، فإن أكثر أصحابنا يمنع من قبول شهادة الفاسق وخبره فضلاً عن من يعتقد كفره.
وأيضاً فإن قبول ذلك لا يمنع من الأهواء وخبرهم لشدة تخرجهم.
فصول في ذكر ما كفر به أصحابنا أهل البدع
فصل [في المشبهة الذين اعتقدوا أن الله جسم طويل عريض عميق له أعضاء وخوارج وشكل وهيئة].
قد استدل أصحابنا على كفرهم بوجوه:
الأول: إجماع الصحابة والتابعين على أن المشبه كافر، فلا يقدح في ذلك خلاف العنبري والأشعرية؛ لأن الإجماع سبق مقالتهم، ولهذا قال عليه السلام في بعض خطبه: فاشهد أن من شبهك أو ساواك بمثلك فلقد كفر بما نزلت به محكم آياتك وأيضاً فلا خلاف في أن المشبه كافر.
وإنما خلاف هؤلاء في هل المجسم مشبه أم لا.
وأيضاً فخلافهم إنما هو في من قال بالتشبيه عن تأويل، فأما من قاله به خبطاً فلا خلاف في كفره.
دليل، لا شك أن من شبه الله تعالى بغيره فقد وصفه بصفات النقص يأمن التحيز والكون وجواز الزيادة والنقصان والتفريق والمجيء والذهاب ونحو ذلك من الصفات التي تنافي صفات الإلهيَّة وكل من وصف الله تعالى بصفات النقص فهو كافر بضرورة الدين /395/ وإجماع الأمة.
دليل، لا شك أن المشبه جاهل بالله تعالى جهلاً لا يتمكن معه من العلم بصفات الكمال، وغذا جهل بالله تعالى فهو برسوله أجهل، ومن جهل الله على هذا الحد ورسوله فهو كافر بالإجماع وضرورة الدين.
واعترض بأيكم إن أردتم جهل الله جملة وتفضلاً فذلك كفر، لكن ليس هذا حال المشبه؛ لأنه اعتقد أن للعالم صانعاً وأنه مختص بصفات الكمال، وإن أردتم أنه جاهل بالله على التفضل فلا يسلم حصول الإجماع على كفر من هذه حاله.
يوضحه أن جميع علماء الأمة اختلفوا في صفات الله تعالى على أقوال لا يكاد يسلم أحدهم من الخطأ فيها، كالخلاف في إثبات الأحوال ونفيها، ولا بد أن يكون الخطأ في ذلك جهلاً بالله تعالى على التفضيل، فلا يمتنع في المشيئة إذا علم الله تعالى على الجملة وجهله على التفصيل أن يكون عقابه أخف من عقاب من جهل جملة وتفصيلاً.
ويمكن الجواب بأنا لم نجعل العلة مجرد الجهل بالله تعالى بل الجهل الذي لا يتمكن من العلم باختصاص الله تعالى بصفات الكمال والإلهيَّة واختلاف الأمة في الأحوال لا يقتضي الجهل باختصاصه تعالى بصفات الإلهية.
يوضحه أنهم اتفقوا على أن الله قادر عالم ونحو ذلك، وإنما اختلفوا في هل كونه قادراً صفة زائدة على ذاته أم لا، وذلك أمر يسير بخلاف المشيئة، فإنه لا يمكنه العلم بأنه قديم ولا بأنه قادر على كل شيء وعالم بكل شيء وغني عن كل شيء، ولو اعتقد ذلك فاعتقاده ليس بعلم.
دليل، إذا اعتقد المشبه أن صانع التعاليم جسم ووجه العبادة إليه كان قد وجه العبادة إلى غير الله وبالإجماع أن من عند غير الله فهو كافر.
واعترض بأنه قد علم الله على الجملة فهو يوجه العبادة إلى ما اعتقده على الجملة وأن اعتقد مع ذلك أنه على صفة الأجسام.
ويمكن الجواب بأنه لا حكم للاعتقاد الجملي عن كونه قد وجه البر والتعظيم إلى غير أبيه.
يوضحه ما روى أن علياً عليه السلام سمع رجلاً يتلف بالذي احتجت بسمع سموات فأنكر عليه فسأله هل يكفر عن يمينه؟ فقال: لا لأنك حلفت بغير الله تعالى.
فأما ما يلزم المشبهة فيلزمهم القول بحدوث الصانع أو قدم الأجسام ويلزمهم أن لا يكون الله قادراً على الأجسام وعلى جميع أجناس المقدورات، ولا على الاختراع وأن لا يكون عبثاً ونحو ذلك.
تنبيه
وأما من اعتقد أن الله محل للحوادث كما يحكى عن الكرامية فهو إن اعتقد فيه حقيقة الجسميَّة فالكلام ما تقدم وإن لم يعتقد حقيقتها ويفسر الحلول بغير ماهو المعقول على بعد ذلك، فإن لا يكاد يمكن القطع بكونه مشبهاً.
والذي ذكره أصحابنا في كفر من هذه حاله وجهات /396/ أحدهما: أن المشبه إنما كفر لأه وصف الله تعالى بالجسمية، وهذا أول وصفه بما هو من توابعه وهو الحلول والكون ويمكن اعتراضه بأنه لا دليل على أن المجسم المشبه إنما كفر لمجرد وصفه الله تعالى بالجسميَّة، بل يجوز ان يعتبر في كفره مع الوصف اعتقاد مقتضاه أو معناه، ومن لا يعتقد معنى الجسميَّة والحلول والكون لا يمتنع أن يكون عقابه أخف من عقاب من اعتقد المعنى، وليس ينقلب هذا في من جحد الصانع بلسانه أو وحدانيته أو بنبوة الأنبياء ونحو ذلك وإن لم يعتقد المعنى؛ لأنه قامت أدلة مقررة على كفره بمجرد القول، ولم نفهم مثلها هنا.
الوجه الثاني: أنه يلزمه القول بالتشبيه والتشبيه كفر، وهذا حسن ولكن الصحيح عند أصحابنا أن الكف لا يثبت بالإلزام مالم يلتزمه الصخم.
تنبيه آخر، وأما الذي أثبتوا لله هذه الأعضاء كاليد والوجه والجنب والساق وتأولوها على صفات قديمة كما يقوله قدماء الأشعرية أو توقفوا في معرفة المراد بها كما تقوله الكراميَّة فالقطع بكفرهم وكونهم مشبهة أبعد؛ لأن المشبه من اعتقد معنى التشبيه، وهؤلاء لم يثبتوا من الأعضاء إلا لفظها، ولا يمتنع أن يكون عقاب من أطلق التسمية أقل من عقاب من اعتقد المعنى، وكذلك الكلام في ما تقوله الكراميَّة من أنه جسم لا كالأجسام أي قائم بذاته.
نعم يلزمهم الجميع القول بالتشبيه والكفر لكن الكفر لا يثبت بالإلزام.
فصل [في ما يكفر له أصحابنا المجبرة في مسائل الخلاف]
واعلم أن أصحابنا الجماهير ذكروا في كفر المجبرة وجوهاً لا يمكن القطع في شيء منها على كفرهم؛ لأن أكثر ما يعول عليه أصحابنا في ذلك هو القياس، وإنما يكون القياس قطعياً إذا أمكن القطع على علة الكفر في مكان، والقطع على حصولها في مقالة المجبرة، وذلك متعذر في الغالب؛ لأن المرجع بالكفر إلى بلوغ العقاب قدراً عظيماً مع إجراء أحكام مخصوصة، والمجبرة متى كانت تعترف بجمل الإسلام من إثبات الصانع وعدله وصفاته وصدق رسله لم يمتنع أن يكون عقابهم في هذه الأقوال التي أخطأوا فيها أقل من عقاب من لم يعتقد الإسلام، فلا يمكن القطع بكفرهم.
نعم، يلزمهم الكفر في أكثر هذه المسائل الخلافية؛ لأن الكفر لا يثبت بالإلزام مالم يلتزم لما ذكرناه آنفاً من أنه لا يمتنع أن يكون عقاب من لا يلتزمه أقل من عقاب من التزمه.
ومن يذكرها مسألة مسألة ويذكر ما يمكن الاعتراض به على أصحابنا على أصل شيخنا أبي الحسين والسيد المؤيد بالله وسائر من لا يكفر المجبرة.
المسألة الأولى في قولهم بالمعاني القديمة كفرهم أصحابنا بذلك من وجوه:
الأول: إجماع الأمة في الصدر الأول على أن من أثبت مع الله قديماً آخر فهو كافر.
واعترفوا بأن قصد الأمة بهذا الإجماع غير مقطوع به ولعلهم إنما أجمعوا على كفر من أثبت مع الله إلهاً آخر، والمجبرة /397/ وإن لزمهم أن تكون هذه المعاني أمثالاً لله، فالكفر لا يثبت بالإلزام.
الثاني: أنه قد ثبت أن القادر بالقدرة لا بقدرة على فعل الأجسام والألوان وكثير من الأجناس، والعالم بالعلم لا يعلم جميع المعلومات، والقول بالمعاني القديمة يقتضي الجهل بكونه تعالى فاعلاً للأجسام وبكونه قادراً على جميع أجناس المقدورات وعالماً بجميع أعيان المعلومات، والجهل بالله كفر.
واعترض بأنه جهل بالله تعالى على التفصيل؛ لأنهم يعلمون على الجملة بالطرق الابتدائية أن للعالم صانعاً، وأنه قادر عالم حي ونحو ذلك، وليس يمكن القطع بكون الجهل به على التفضيل كفراً؛ لأنه ما من أحد من الشيوخ إلا وقد قال في الله تعالى بمقالة هي أجهل منها.
ويمكن الجواب هنا بأن جهل المجبرة جهل لا يتمكنون معه من العلم بصفات الله على الكمال بخلاف جهل الشيوخ.
الثالث: أن الله تعالى إنما كفر النصارى في قولهم أن الله ثالث ثلاثة لأجل أنهم أثبتوا قدماء غير الله.
يوضحه أن أكثرهم يقول: ذات وصفتين، والمجبرة أدخل منهم في ذلك.
وبهذا قيل لبعضهم: إذا كنت موافقاً للنصارى فلم كفرتهم؟ قال: لأنهم تقصوا عن الواجب واقتصروا على الثلاثة.
واعترض بأن الكفار القائلين بالمعاني القديمة إما أن يؤخذ من ظاهر الآية وهو باطل؛ لأن الله تعالى إنما كفر في الآية من يقول أن الله تعالى ثالث ثلاثة والمجبرة لا تطلق ذلك.
وأيضاً فالنصارى تعتقد كون الثلاثة آلهة، والمجبرة لا تقول به، وأما أن يؤخذ من إجماع الامة وهو باطل لما تقدم من أنه لا يمكن القطع على أن قصد الأمة إكفار من أثبت قديماً على الإطلاق، وأما أن يؤخذ من القياس فيقال: إن الله تعالى إنما كفر النصارى لإثباتهم قدماء مع الله تعالى على الإطلاق، وهذا أيضاً لا يمكن القطع فيه على أن علة كفرهم هو ذلك فقط، وجائز أن يكون الله كفرهم لإثباتهم القدماء ولاعتقادهم استحقاقها للعبادة كما هو ظاهر حالهم، فأما ما يحكى عن الأشعري من أنه إنما كفرهم لأنهم يقضوا عن الواجب واقتصروا على فإنه إن صح هذا عنه فإنه كفر بلى شبهة؛ لأن ظاهره يقتضي أنه كان الحق عنده أن يقولوا أن الله ثامن ثمانية أي ذات وسبع صفات.
الرابع: أن نعلم بضرورة الدين كفر من اعتقد أن الله مشاركاً في العبادة، ولا شك أن اعتقاد مشارك لله في القدم أعظم من اعتقاد مشارك له في العبادة من حيث أن القدم لأمر يرجع إلى الذات واستحقاق العبادة لأمر يرجع إلى الفعل وهو خلق أصول النعم فيجب أن يكون كفراً.
واعترض بعدم التسليم ودعوى أن اعتقاد مشارك في العبادة أعظم عقاباً من اعتقاد مشارك في القدم واستحقاق العبادة /398/ وإن كان لأمر يرجع إلى الفعل وهو خلق أصول النعم إنما ثبتت لأمر يرجع إلى الذات وهو كونه قادراً لذاته.
الخامس: أنه قد دلت الأدلة القاطعة على أن القدم صفة ذاتية وأن المشاركة فيها تقتضي المشاركة في سائر صفات الذات، فيلزم أن تكون المعاني أمثالاً لله تعالى والإجماع على كفر من جعل لله مثلاً وفيه أيضاً تشبيه لله بغيره، والتشبيه كفر.
واعترض بأنه وإن لزمهم أن يكون أمثالاً لله تعالى فهم لا يلتزمونه ويجتهدون في الانفصال عنه بكل ممكن، فلا يكون حكمهم حكم من اعتقد لله مثلاً.
وأما التشبيه فظاهر إصطلاح الناس على أنه لا يطلق إلا على من شبه الله بغيره لا على من شبه غير الله به وإن كان لا فرق في المعنى.
وعلى كل حال فلم يلتزموا شيئاً من ذلك.
السادس: أن القول بالإرادة القديمة يقتضي أن يكون مريداً لجميع الكائنات وفيها ما هو قبيح بالضرورة، ومن وصف الله بإرادة القبيح فقد وصفه بصفة نقص وذلك كفر.
واعترض بأن المجبرة تجعل القبائح مستندة إلى إرادة الله تعالى لا من حيث أنها قبيحة؛ لأن قبحها عبارة عن كونها منهياً عنها، وذلك مما لا يتعلق بالإرادة، بل كلما يصدر عن الله تعالى مما يكون متعلقاً للإرادة، والقدرة فهو حسن عندهم، وهذا العذر وإن كان مضمحلاً متلاشياً فقد اعتقدوه عذراً وفروا به عن الكفر فلا يمكن القطع بكفرهم مع اجتهادهم في دفعه.
السابع: أن القول بالمعاني القدرية يقتضي القول بحاجة الله إلى غيره؛ لأن عندهم أنه لولا هذه المعاني لما وجد الباري أو لكان ناقصاً، وليس الحاجة بأكثر من أن يقف الشيء في وجوه أو كماله على غيره.
واعترض بأن الذي يقولونه ي الأحوال تقوله المجبرة في المعاني.
ومتى فرقتم بأن الأحوال غير مستقلة بالمعاوميَّة بخلاف المعاني.
قيل لكم: قد اعتقدت المجبرة في المعاني أنها غير مستقلة، ولهذا قالوا: لا هي الله ولا هي غيره واعتقادهم هذا وإن لم يكن حقاً فقد اعتذروا به فلا يمكن القطع معه بكفرهم.
المسألة الثانية: في قولهم بالجبر وأن الله خالق لأفعال العباد، وقد كفرهم أصحابنا في هذه المسألة بوجوه.
الأول: أنهم سدوا على أنفسهم طريق العلم بالصانع وكونه قادراً وعالماً؛ لأن الطريق إلى إثباته تعالى يبني على أن لنا أفعالاً محتاجة إلينا في حدوثها، ثم يقيس عليها أفعال الباري في الاحتياج إلى محدث مختار، ومع إنكار احتياج أفعالنا في حدوثها إلينا لا يتم هذه الطريقة، وكذلك الطريق إلى كونه قادراً هو صحة الفعل منه وتعذره على غيره، وذلك لا بد أن يود إلى طريقة القياس في الشاهد، وكذلك كونه عالماً يبنى على صحة الفعل /399/ المحكم، وأيضاً فما لم يكن في الشاهد فاعل لا يمكننا معرفة ماهيَّة الفاعل ولا القادر ولا العالم.
واعترض بأنه يمكنهم معرفة الصانع وصفاته بطريقة ابتدائية من دون الناس، وهو أن العالم قد حصل مع الجواز بعد أن لم يكن، فلا بد من أمر أثَّر في وجوده وذلك الأمر لا يجوز أن يكون موجباً، فبقي أن يكون مختاراً، وهذا يتم من دون قياسٍ على الشاهد، وكذلك معرفة ماهيَّة القادر والفاعل لا يقف على أن في الشاهد فاعلاً، ولهذا يعرف كبيراص من الماهيَّات في الأذهان وإن لم يكن لها وجود في الخارج كالفناء ونحوه.
الثاني: أنه قد يثبت بالضرورة أن في أفعال العباد ما هو ظلم وجور وعبث، والقول بأن الله فاعل المظلم والعبث والجور قول بأنه ظالم عابث جائر؛ لأنه لا فق عند أهل اللغة بين أن يقول القائل فلأن يفعل الظلم وبين أن يقول: هو ظالم، ولا شك في كفر من أطلق هذه الأوصاف على الله تعالى، فكذلك ما في معناها.
واعترض بأن المجبرة يعتقدون أن الظالم هو من قام به الظلم واكتسبه، فهم يفسرونه بغير ما يفسره به أهل العدل وأهل اللغة والإجماع إنما وقع على من أطلق هذه الأوصاف على الله إذا اعتقد معناها عنده، فإذا لم يطلق العبارة ولا اعتقد معناها على أصله لا يمتنع أن ينقص عقابه عن عقاب من وقع عليه الإجماع.
نعم، يلزمه ذلك لكن الإلزام ليس بكافٍ في الإكفار، ولذا قال بعض شيوخنا لبعض المجبرة: أتقول بأن الله تعالى يفعل العدل والإحسان؟ قال: نعم، قال: أفتشتق له من فعله لذلك عادلاً محسناً؟ قال: نعم، قال: أفتقول أنه يفعل الظلم والكذب؟ قال: نعم، قال: أفتشتق له من ذلك ظالماً كاذباً قال: لا، قال: فما الفرق بينهما؟ فسكت المجبري.
الثالث: أنهم بتجويزهم أن يفعل ما هو قبيح في الشاهد ولا يقبح منه سدوا على أنفسهم الوثوق بالأدلَّة لجواز أن ينصب الله دلالة على الأمور الباطلة ولا يقبح منه ويضل عن أدلة الصواب ويجعلها شبهاً ويلبس الحق بالباطل، فلا يحصل ثقة بأن ما عليه المسلمون حق وأن ما عليه الكفار باطل؛ إذ لا يمتنع عكس ذلك.
واعترض بأن الأدلة العقليَّة قد دلت على أن الإسلام حق والدلالة لا تقف في دلالتها على اختيار مختار، وضع واضع حتى إن شاء دل وإن شاء لم يدل، فلا تقف ذلك على اعتبار حال فاعلها والاعتراض هذا إن ثبت فإنما يثبت في بعض الأدلة كدلالة العقل على الفاعل والمعلول على العلة ونحو ذلك، فأما نحو دلالة المعجز على النبوَّة، فلا بد من اعتبار حال فاعل تلك الدلالة كما سيتَّضح.
الرابع: قوله تعالى: {سيقول الذين أشركوا..} الآية إلى قوله: {كذلك كذب الذين من قبلهم} فبين أنهم كذبوا لأجل قولهم لو شاء ما أشركنا، وهذه هي مقالة المجبرة، فيجب أن يكونوا مكذبين، والمكذب كافر بالإجماع.
واعترض بأنه لا يمكن القطع على أن التكذيب كان لأجل هذه المقالة ويجوز أن يكونوا علموا ضرورة /400/ من قصد النبي عليه السلام أن الله أراد منهم الإيمان، فكذبوه في ذلك وزعموا أن الله لم يرده، والمجبرة لا تعلم ذلك من قصده عليه السلام، فلا يكون حكمهم حكم المشركين، وأيضاً فالمكذب في الحقيقة يقول لغيره: كذبت وهم لم يقولوا ذلك، وأيضاً فالمجبرة يعتقدون أن الله تعالى إنما وصف المشركين بأنهم كذبوا؛ لأنهم قالوا: ذلك على جهة التهكم وإلا فهم صادقون في ما قالوه، وذلك وإن لم يكن مخلصاً لهم فقد اعتقدوه عذراً، فلا يمنع أن يفارق حالهم حال أهل الشرك.
المسألة الثالثة: في النبوات قال أصحابنا القول بأنه يجوز أن يفعل الله ما هو قبيح في الشاهد، ولا يقبح منه بسد باب العلم بالنبوة؛ لجواز أن يظهر المعجز عند دعوى الكاذب، ولا يقبح منه أو يفعل فيه الكذب كما فعله في غيره، وأكثر ما فيه أن يكون تلبيساً وأصولهم لا تمنع منه.
واعترض بأن هذا وإن لزمهم لكنهم لا يلتزمونه، بل يعملون في دفعه كل حيل، ولهذا أحد النظار منهم يحتالون للانفصال عنه بما لا يخفى على مميّز ضعفه وتهافته.
فقال الجويني: العلم بكون المعجز دلالة على التصديق علم ضروري وتجويز إظهاره على الكاذبين لا يقدح في ذلك، وهذا ظاهر الاختلال، فإن المعلوم ضرورة هو كونه معجزاً فقط، فأما كونه تصديقاً فهو واقف على اختيار الفاعل له وقصده، والفاعل له إنما يعلم دلالة، فكذلك قصده.
على أن أصحابنا لم يلزموهم الجهل بالتصديق الذي يرجع إلى الله، وإنما ألزموهم الجهل بالدق الراجع إلى الرسول، وقالوا: يلزم صحَّة أن يصدق الكاذب.
وقال الغزالي: الطبع باعث والعقل هادي، والرسول معرف والمعجز ممكنه، ومهما كان كذلك توجَّه على المكلف النظر في دلالة المعجز وغن لم يوجب الرسول النظر فيها، فإذا نظر عرف، ولا يقدح في ذلك تجويز إظهار المعجز على الكاذب، وهذا كلام لا حاصل له، فإنه إذا نظر فكيف يؤديه نظره في المعجز إلى العلم مع تجويز ظهوره على كاذب، ومن أين أنه إذا نظر عرف، وهل وقع النزاع إلا في ذلك.
وقال الرازي: الكلام في صدق الرسول ينبني على مقدمتين: أن المعجز يجري مجرى التصديق بالقول.
والثانية أن من صدقه الله تعالى فهو صادق.
قال: ونحن نقطع بالمقدمة الأولى وإن جوَّزنا أن يفعل الله القبيح والمعبر له يوافق في ذلك.
وأما المقدمة الثانية فهي وإن توقفت على استحالة كونه فاعلاً للقبيح، لكن المعتزلة معارضون بمذهبهم في المقدمة الأولى، فإنها تجري مجرى قول الله: صدقت، وهذا القول يحتمل الصدق والكذب، فإذا قطعوا بالصدق مع احتمال في المقدمة الأولى قطعنا به في المقدمة الثانية أيضاً، وهذه مراوغة منه ومغالطة ظاهرة.
أما أولاً فالمقدمة الأولى التي هي التصديق لا يقف العلم بها على العلم بحال فاعلها ولا حكمه، ولهذا لو قال قائل: السماء تحتي والأرض /401/ فوقي، وقال له آخر: صدقت لعلمنا أنه قد صدَّقه، وإن كان كاذباً في تصديقه له بخلاف المقدمة الثانية، وهي أن الله لا يصدق الصادق، فإه لا يمكن العلم بها إلا بعد استحالة فعل القبيح على الله تعالى.
وبعد، فمن سلم له أن المعتزلة قطعوا بالصدق في المقدمة مع الاحتمال، وإنما قطعوا بالتصديق، فأما صدق التصديق فلأنه هو المقدمة الثانية.
وبعد، فيقال له: هب أن المعتزلة معارضون بما ذكرت، فإن المعارضة لا تكفي في العلم فبماذا تعلم أن الله لا يصدق إلا الصادق مع تجويزك أن يظهر المعجز على الكاذب، وقد صرَّحت بأن ذلك يقف على استحالة فعله للقبيح، وما جوابك لو أوردت عليك البراهمة هذا السؤال وادعوا جهلك بالنبوات، فنه ليس ينفعك وروده على المعتزلة أيضاً.
وقال ابن الحاجب: أنا لا نعلم صدق الرسول عند ظهور المعجز؛ لأجل حكمة الله وعدله، ولكن قد أجرى العادة بأنه لا يظهره إلا على صادق، وهذه هي المهازلة والتلاعب بالدين وكيف يصح له هذا والبرهمي يقول له: عندي أنه لم يصدق نبيء قط فضلاً عن أن تجري العادة بذلك.
وبعد، فيقال له: بماذا علمت نبوة أول نبي، فإنه لم يثبت هناك عادة يستدل بها على النبوَّة.
وبعد، فكل شيء طريقه العادة، فإنه يجوز اختلافه، فلا يمكن القطع بنبوَّة تنحصر معين قط؛ لجواز أن تكون العادة قد اختلفت في حقه.
واعلم أن أصحابنا قد ضايقوهم في هذه المسألة وأشباهها وألزموهم مالا يستطيعون عنه فصلاً، لكنهم بإيراد هذه الأقوال وأعمال الحيلة في التخلص من هذه الإلزامات واعتقاد جملة الذين لا يمتنع أن يكونوا قد عصموا أنفسهم عن الكفر.
المسألة الرابعة في الشرائع، قال أصحابنا للمجبرة: لا يمكنكم القطع بصحة شريعةق قط إلا به إذا جاز أن يفعل الله القبائح ولا يقبح جاز أن يدعوا إليها ويرغب فيها مع قبحها، فيجوز حينئذٍ أن تكون شريعة محمد خطأ، وأن يكون التشاغل لها قبيحاً في نفس الأمر.
وبعد، فإذا جاز أن يخلق الله في العبد الكفر والضلال ويزين له الباطل ويصده عن الحق، فهلا جاز في دين الإسلام أن يكون الكفر والضلال وإن كان الله قد زيَّنه في قلوبنا وحسَّنه إلينا وأن يكون الحق في بعض الملل المخالفة للإسلام، ويكون الله قد صدنا عن ذلك.
واعترض بأن مذهب المجرة أن الشيء يحسن لأجل الأمر ويقبح لأجل النهي، ودين الإسلام قد أمر الله ودعا إليه ونهى عن غيره، فيجب أن يكون هو الحق وغيره هو الباطل، وهذا وإن كان غير صحيح لكنه لا يمنتع أن يتخلصوا به عن الكفر.
فصل
فأما ما تفرد به بعض علماء المجبرة من المقالات المنكرة فلزوم الكفر فبها أظهر كمقالة الأشعري أنه لا نعمة لله على الكافر لا في الدين ولا في الدنيا، فإن هذا رد لما هو معلوم ضرورة من الدين وصريح الكتاب، وكما يحكى عنه من أن النصارى إنما كفروا /402/ لاقتصارهم على ثلاثة، وكما يحكى عن النجار أنه ليس لله نعمة دينية على الكافر، وكما يحكى عن العطوي أنه جوَّز الكذب على الله تعلى، قال: لأنه ليس بأبلغ من الظلم والعبث ونحو ذلك، وحققه بمثال، فقال: إن من وعد طفلاً برمانة وأخلف فيها أخف حالاً ممن قطع أوصاله ورمى به في النار، وكما يحكى عن كثير من أغمارهم من القول بوقوع تكليف مالا يطاق، فإنه رد لما علم ضرورة من الدين بخلاف الجواز.
فصل [في ذكر خيالات]
ادعى بعض المجبرة لأجلها كفر المعتزلة، ونحن قد حكينا عن جمهورهم أنهم لا يكفرون أحداً من أهل الصلاة، وأن هذا هو الأقرب في الغالب، فأمَّا هذه الفرقة فإنهم لما رأوا المعتزلة كفروهم بالوجوه المتقدمة تكلفوا مقابلتهم بمثل ذلك من غير حجة ولا سلطان.
حكي عن الإسفراييني أنه سئل عن تكفير المعتزلة، فقال: من كفرني كفرته، وهذا تصريح بأنه لا وجه لإكفاره إياهم، إلا أنهم كفروه.
وقد تعلقت هذه الفرقة بسبةٍ هي أهون من أن يشتغل بالجواب عنها، لكن لا بد من ذلك ليتمخض الحق للمبصرين.
الشبهة الأولى: في إنكاره المعاني القديمة
قالوا: فالمنكر لها يجب أن يكون جاهلاً لله؛ لأن حقيقة الإله تقتضي أن يكون ذاتاً موصوفة بالعلم والقدرة، وكذلك سائرها.
والجواب يقال لهم: مسلم أن ذات الباري يجب أن تكون ذاتاً موصوفة بالعلم والقدرة، لكن الذات إنما تكون موصوفة بالصفات، والمعتزلة قد أثبتوا هذه المزايا والصفات على أتم ما يكون، فإذا أرادت المجبرة بالمعاني ما تريده المعتزلة بالصفات كما يقوله كثير من محققيهم فقد وافقوا في المعنى، وإن أخطئوا في العبارة؛ لأن تسميتها معاني تقتضي أنها ذوات يصح العلم بها على انفرادها، وإن أرادوا بالمعاني أمراً وراء الصفات كما هو الظاهر من كلامهم، فهو أمر لا دليل عليه، فلا يجوز إثباته فضلاً عن أن يخطَّى من نفاه؛ لأن العلم بكون ذات الباري موصوفة بالعلم والقدر قد تمَّ بدونه، فالمثيب له كمن يثبت لله علمين على أصلهم.
وبعد، فهذه المعاني متى لم يريدوا بها ما أراده أصحابنا من الصفات وجب أن يكون أعباراً لله فيكون الجهل بها جهلاً بغير الله فتسقط الشبهة من أصلها.
وبعد، فكيف يكفر المعتزلة لأجل قولها لا ثاني لله في القدم وقد علموه ووصفوه بصفات الكمال ونزَّهوه عن صفات النقص، ولو صح هذا لكان للنصارى أن يكفروا المسلمين بنفي الإلهين الثانيين، ويدَّعوا أن ذلك جهل بالله.
وبعد فدون إثبات معانيهم هذه خرط القتاد، فكيف تكفرنا فيها لا سيما وقد أوضحنا أنه يلزم الكفر على إثباتها لزوماً لا انفصال عنه.
وبعد، فإن أرادوا أن النافي لها جاهل بالله من كل وجه فهو ظاهر البطلان، وإن أرادوا أنه يجهله على التفصيل فقد ينفا أن ذلك لا يقتضي الكفر، وإلا وجب في كل من أخطأ في مسألة في الأصول أن يكفر.
/403/ الشبهة الثانية في أن العباد محدثون لأفعالهم
قالوا: زعمت المعتزلة أن الله لا يقدر على فعل العبد، وغن العبد لا يقدر على فعل الله، وذلك يضاهي مذهب المجوس، وأيضاً فالإجماع لى أنه يجب أن نشكر الله على ما رزقنا من الإيمان ومذهب المعتزلة يقتضي أن الله هو الذي يشكرنا وذلك كفر.
والجواب عن الأول على أصل من يحيل مقدورين قادرين هو أن المستحيل غير مقدور، فلا يلزم الكفر من قولنا أن الله غير قادر عليه، وإلا لزمهم الكفر من قولهم أن الله غير قادر على الجميع بين الضدين.
وأما تشبييهم بالمجوس فلم يكن كفر المجوس لأجل قولهم أن الله غير قادر على فعل الشيطان، بل لأجل أنهم أثبتوا قديماً مع الله.
وبعد، فإن الله تعالى وإن لم يقدر على غير فعل العبد، فإنه يقدر على حبسنه، ومن كل حبس وليس هذه مقالة المجوس.
وبعد، فعندهم أن الله تعالى لا يقدر على أن يكتسب فعل العبد، فما أجابوا به فهو جوابنا.
وبعد، فمذهب المجبرة أشبه بمذهب المجوس كما سلف بيانه.
وأما قولهم: أجمع الناس على شكر الله على الإيمان والمعتزلة ترد هذا الإجماع فه من جنس الخراريف، فإن المعتزلة تقول بموجب هذا الإجماع، ويشكرون الله على الإيمان؛ لأنه أقدرهم عليه ومكنهم منه ولطف بهم فيه وحببه إليهم ونحو ذلك، والله تعالى يشكرهم على فعله بمعنى أنه يرضاه لهم ويثنيهم عليه، وقد قال تعالى: {فأولئك كان سعيهم مشكوراْ، وما أرادت المعتزلة على القول بأن الإيمان سعي المؤمن وأنه مشكور عليه.
وبعد، فهب أن المعتزلة خالفوا الإجماع، فمن أين أن مخالفة الإجماع كفر هذا ما لا يقول به مميز.
الشبهة الثالثة في المعدوم
قالوا: زعمت المعتزلة أن المعدوم شيء وذات، وهذا موافقة لأهل الهيولا.
والجواب: معنى كون المعدوم شيئاً وذاتاً عند المعتزلة هو أنه يقبح العلم به على انفراده، وهذا لا يمكن إنكاره، وقد تقدم من الأدلة عليه ما لا وجه له لإعادته.
وأما قولهم فيه موافقة لأهل الهيولا فظاهر السقوط، وكيف وأهل الهيولا يثبتوا بها موجودة قديمة ولا يجعلون للقادر فيها تأثيرا ويمتنعون من كون العالم وجد بعد أن لم يكن، والمعتزلة أثبتوا التأثير في المعدوم على أتم ما يكون، بل لا يكون الشيء مقدوراً للقادر إلا في حالة العدم.
الشبهة الرابعة في أن القرآن مخلوق
قالوا: فكفرت المعتزلة بذلك لقوله عليه السلام: ((القرآن كلام الله فمن قال أنه مخلوق فقد كفر)).
والجواب: هذا الخبر أحادي والتكفير إنما يكون بالقطع من الأدلة، ونحن قد أوضحنا في ما سلف الأدلة على أنه مخلوق وإبطال قول الخصم في ذلك؛ ولأن معنى هذا الخبر إن صح فمن قال أنه منسوب إلى غير قائله كما يقال قصيدة مخلوقة إلى منسوبة إلى غير قائلها.
وبعد، فيلزمهم أن يكفروا عمر رضي الله عنه لقوله: فإذا اختلفتم فيه فكلوه إلى خالقه، وقد وضعه النبي عليه السلام بذلك في قوله: ((كان ولا شيء ثم خلق الذكر)) ونحو ذلك مما تقدم.
/404/ الشبهة الخامسة في مسألة الرؤية
قالوا: أنكرت المعتزلة الرؤية، وفي ذلك إنكار لقاء الله؛ لأنه لا يمكن لقاء الله إلا على الرؤية.
والجواب: أنا قد أوضحنا فساد أقوالهم في هذه المسألة وأن اللقاء لا يقيد الرؤية وإلا وجب أن يراه جميع الخلق؛ لأنهم يلقونه، بدليل قوله تعالى: {يا أيها الإنسان إنك كادح إلى ربك كدحاً فملاقيه} ثم قسمهم فقال: {فأما من أوتي كتابه بيمينه} الآية، وقال تعالى: {فأعقبهم نفاقاً في قلوبهم غلى يوم يلقونه}، وقال: {واعلموا أنكم ملاقوه}.
وبعد، فالملاقاة حقيقة في المماسة وهي مستحيل في حقه تعالى.
وبعد، فيقال لهم: ما أردتم أن المعتزلة أنكروا لقاء الله، هل بالمعنى الذي تريدونه أنتم؟ وهو الرؤية فهو محل النزاع، فمن أين أن من أنكره كفر وإن أردتم أنهم أنكروا لقاء ثوابه وعقابه وما وعد أو توعد فلا وأبيكم ما أنكروه وأنهم لأشد معرفة منكم وأثبت قولاً.
فصل [في المرجئة]
لا يخلو القائل بالإرجاء، إما أن يقول أن الله تعالى ما توعد العصاة بالعقاب أصلاً، وهذا كفر بلى شبهة؛ لأنه رد لما هو معلوم ضرورة من الدين، وإما أن الله تعالى توعد العصاة ولكنه يجوز عليه الخلف والكذب، وهذا أيضاً كفر؛ لأن فيه تصريحاً بجواز الكذب على الله تعالى، ففارق حاله حال الإلزام، وأما أن يقول ان الفساق من أهل الصلاة ليسوا مزجورين عن المعاصي.
قيل: وهذا لا يكون كفراً، وإن كان في كونه فسقاً خلاف، وأما أن يقول أنهم داخلون تحت هذه العمومات، لكن يقطع أن الله يعفو عنهم بمخصص إخراجهم أو يجوز عنهم أو عن بعضهم أو قال في هذه العمومات شرطاً واستثناء لم ينب عنه الظاهر ونحو ذلك من أقوال المرجئة، فإن هذا لا دليل على كونه كفراً ولا فسقاً، والذي يشتبه أن يقال أنه يلزمهم عليه أنهم قد جوَّزوا على الله الألغاز والتعمية، وقد تقدم أن الكفر لا يثبت بالإلزام.
فصل [في الخوارج]
ذهب أهل العدل إلى أنه لا يقطع بكفرهم لفقد الدليل عليه لكنهم فسقوهم بتنزيهم من أمير المؤمنين عليه السلام وغيره من أئمة الحق وتكفيرهم إياهم؛ لأن ذلك يقتضي الاستخفاف بهم والاستخفاف بأئمة الحق فسق.
وذهب أكثر الأشاعرة إلى أنهم يكفرون، ولهم في ذلك شبهة:
الأولى: أن الخوارج يعتقدون إباحة قتل من خالفهم من الأئمة وغيرهم واستباحة أموالهم ويفعلون ذلك.
والجواب: إنما يكون فسقاً فقط، وأما الكفر فلا دليل لهم عليه؛ لأنهم يعتقدون حسن ذلك وأن الله أباحه، فلا يمتنع أن يكون اعتقادهم لحسنه وإباحته عاصماً لهم من الكفر.
الثانية: أنهم حكموا بأن المعاصي كفر، وهذا رد للمنصوص، وأيضاً ففيه نسبة الأنبياء غلى الكفر؛ لأنهم قد عصوا.
والجواب: إنما يكون القول بمخالفة النصوص كفر إذا كان مقتضاها /405/ معلوماً ضرورة من الدين، فأما ولشبهة فيه مدخل فإنما يكون جهلاً فقط.
وإما نسبة الأنبياء إلى الكفر فمن قال به كفر، لكن الظاهر من حال الخوارج أنهم يمنعون وقوع المعاصي من الأنبياء.
الثالثة: أنهم كفروا أمير المؤمنين وتبرّوا منه، وهذا استخفاف بالدين وهو كفر.
والجواب: بل إنما يكون فسقاً فقط لتضمنه الاستخفاف بإمام الحق، فأما أنه استخفاف بالدين فلا دليل عليه، وكيف وعندهم أنهم أشد الناس إعزازاً للدين.
وأما قوله صلى الله عليه وآله وسلم: ((يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية )) فهو أحادي.
فصل [في الرافضية]
حكى الأصمعي أن سبب تلقيبهم بالرفض أن زيد بن علي لما خرج لله جاءه قوم وسألوه البراءة من الشيخين، فأبى ذلك فرفضوه وعزلوا إمامته، وقيل: سموا بذلك لرفضهم أبا بكر وعمر.
قال زيد بن علي: حدثني أبي، عن أبيه، أنه قال: يا علي يكون في آخر الزمان قوم يدعون حباً لنا لهم نبر يعرفون به يقال لهم الرافضة يرفضون الإسلام، فإذا لقيتموهم فاقتلوهم قتلهم الله. قلنا: ما علاماتهم؟ قال: ليس لهم جمعة ولا جماعة، يسبون أبا بكر وعمر. وقد اختلف الناس في تكفيرهم، فذهب العدلية والرازي من المجبرة أنه لا ليل على إكفارهم، وكفرهم أكثر الأشعرية لمثل ما تقدم في الخوارج.
فصل [في المقلدين والعوام]
لا خلاف بين الجمهور أن المقلد مخطئ وإنما اختلفوا في كفره، فقال أبو القاسم وغيره من الشيوخ: لا يكفر؛ لأن المعلوم من حال النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه كان يحكم بإسلام من تكلم بالشهادتين من الأعراب، والظاهر من حالهم أنهم لم ينظروا في هذه الأدلة، وإنما كانوا معتقدين لصحة ما جاء به من غير نظر، وهذا هو معنى التقليد، وكذلك فالصحابة والتابعين إلى وقتنا هذا يحكمون بإسلام من علموا من حاله اعتقاد إثبات الصانع وصفاته وما يجب له وأقرَّ بذلك وإن علموا من حاله إهمال النظر والميل إلى التقليد.
وقال الشيخان وغيرهما: يكفر المقلد، واحتجوا بأن الإجماع منعقد في كل عصر على أن التارك لمعرفة الله تعالى والعادل عنها مع التمكن منها كافر المقلد عادم للمعرفة تارك لها، فيجب أن يكفر.
واعترض بأنه إن كان المدعي إجماع الصحابة فالمعلوم أنهم لم يتكلموا في هذه المسائل ولا يحثوا بحث المتأخرين عن أدلة حدوث العالم وتقرير النبوَّة، وإن كان المدعى إجماع الأعصار المتأخرة عن المسلم فغير صحيح.
ويمكن الجواب بأن المدعي إجماع كل عصر إلى وقت الخلاف على أن الجاهل بالله جملة وتفصيلاً كافر، فأما الصحابة وغيرهم فإنهم وإن لم يبحثوا بحث المتأخرين عن أدلة الصانع /406/ والنبوات فقد بحثوا عنها على الجملة، ونحن إنما أجبنا العلم الحمليّ، وقد ظهر في كلاماتهم في توحيد الله وعدله وحكمته ما يدل على علمهم، لا سيما أمير المؤمنين فإن العلماء أبداً مستمدون من خطبه قواعد أصول الدين، على أن أكثر ما وقع الخلاف فيه بعدهم كان ظاهراً في عصرهم لا مجال للاشتباه فيه نحو عدل الله وحكمته وصدق رسله وأشباه ذلك، وإنما أحوج إلى دقيق الكلام أهل البدع ومتبعوا الشبهات.
دليل ، قد ثبت أن الشاك في الله كافر، ولا علة في كفره غلا انتفاء المعرفة، وهذا ثابت في المقلد؛ لأنه فاقد لها.
واعترض بأنه لا يمكن القطع بأن علة الشاك انتفاء المعرفة فقط، ومن الجائز أن تكون العلة انتفاء المعرفة أو ما يقوم مقامها، والمقلد قد فعل ما يقوم مقامها، وهو أنه اعتقد الحلق لكنه اعتقاد تقليد وغير ممتنع أن يقوم اعتقاد التقليد مقام المعرفة في اللفظ، لكن لا يتناوله التكليف لقبحه، وهذا العذر وإن كان غير صحيح، فلا تمتنع معه السلامة من الكفر لجواز أن يكون عقاب المقلد أخف من عقاب المقلد أخف من عقاب الشاك.
وقد ذهب بعض الناس إلى أن العوام من أمة محمد عليه السلام والنساء غير جاهلين بالله ولا مقلدين، بل هم عالمون به على الجملة لأجل ما يشاهدونه من الأدلة الإلهيَّة في ملكوت السموات والأرض ويعلمون وجه دلالة ذلك، وهو أنها محدثة، ولا بد لها من محدث قادر عالم ونحو ذلك، لكنهم يعلمون ذلك على الجملة ولا يعلمون تفاصيل الأدلة ولا تعيينها، فلو قلت لأحدهم: ما الدليل على إثبات الصانع لما درى ما يقول لك، فإذا قلت له الدليل على ذل ملكوت السموات والأرض، قال لك: إني قد شاهدت ذلك وعلمته، ولكن لم أعلم أنه هو الدليل، وصار الحال فيه كالحال فيالعاقل، فإنك تقول لكثير من الناس ما علوم العقل فيقول: لا أدري، فإذا قلت له: هي العلم بأحوال النفس وبالبداية والمحسوسات وأخذت تعددها له، قال لك: فأنا أعلم هذه الأشياء، ولكني لم أعلم أنها هي علوم العقل، وهكذا حال العوام من أهل الإسلام، ولهذا تجد في قلب كثير من العوام من الخشوع والخوف والطاعة له والتوكل عليه ما لا تجد في قلب كثير من العلماء، وهذا القول أحسن ما يقال في أمة محمد عليه السلام العوام قائل لا يكاد تجد أحد منهم يظهر له شيء من ملكوت السموات والأرض وعجائبها إلا وهلل ووحد وظهر من حاله ما يدل على أنه لاح له وجه يقتضي ذلك التهليل والتوحيد.
وأيضاً فإن القرآن مشحون بالأدلة والتنبيه عليها نحو قوله: {قل يحييها الذي أنشأها أول مرَّة} وقوله: {إن في خلق السموات والأرض} ونحو ذلك من الأحاديث والمواعظ، ولا شك أن أكثر العوام ينتبهون لها ويعقلون معناها، ولكن إذا سألت أحدهم فربما لا يحسن /407/ العبارة عما في نفسه، وربما يخجل لأجل السؤال خوفاً من أن ينزل في العبارة وسيعظم الخطر في ذلك، وربما يذهب عنه ما عنده للخجل والهيبة، ولو بهته لاستحضره قلبه وربما لا يتميَّز له ما يدل على الذات مما يدل على الصفات ولا صورة ترتيب الدلالة وإيرادها، وربما يرد في لفظ السؤال ألفاظ لا يعقل هو معناها على التفصيل نحو قولنا: ذات وصفة وجوهر وتحيّز ونحو ذلك مما لأجله يضطرب جوابه ويلتبس عليه كيفيّة القول.
يزيده وضوحاً أنك لا تكاد تورد للمتعلم دليلاً في إثبات الصانع أو صفاته إلا ووجده موافقاً لما في قلبه ولما يعلمه من جملة الدين ما إذا قلت له الدليل على أن الله تعالى عالم هو أنه قد صح منه الفعل المحكم، فإنه يجد نفسه عالمه بأن في أفعال الله من الأحكام شيئاً عظيماً، لكنه لم يكن يعلم أن هذا هو الدليل ولا أن الدليل يورد على هذه الصورة.
القول في التفسيق
اعلم أن الفسق كالكفر في أنه لا يجوز إثباته إلا دليل قاطع، وهو إن جاز ثبوته في نفس الأمر من غير دليل كمن يعصي معصية يكون في معلوم الله كبيرة ولا نقطع نحن بكونها كبيرة، بل لا يصح كما تقدم أن يدلنا الله على كل فسق؛ لأن في ذلك العلم بأن يكون ما عداه صغيراً.
فصل
وذلك الدليل هو السمع فقط من صريح كتاب الله أو سنة متواترة أو إجماع معلوم أو قياس قطعي.
أما الكتاب فنحو قوله تعالى في أكل مال اليتامى: {إنه كان حوباً كبيراً}، وقوله في الإفك: {ويحسبونه هيناً وعو عند الله عظيم} وقوله في الربا: {الذين يأكلون الربا} إلى قوله: {ومن عاد ينتقم الله من}. وباجملة كلما فيه وعيد يخصه.
وأما السنة فكعقوق الوالدين والرياء والفرار من الزحف.
وأما الإجماع فكإجماعهم على فسق من خرج على إمام الحق واستخف به، وكإجماعهم على أن ترك الصلاة من غير عذر فسق.
وأما القياس فكأن يعلم العلة في كون بعض الأفعال فسقاً فيحكم بالفسق في ما حصلت فيه تلك العلة أو هي وزيادة، كأن يعلم أن سرقة عشرة دراهم إن كانت فسقاً لكونها مضرة بهذا القدر، فيعلم كون غصب عشرة دراهم فسقاً لحصول العلة فيه، لكن الأغلب أنه لا يمكن القطع بعلة فسق قط، ألا ترى أنه لا يمتنع أن تكون العلة في كون السرقة فسقاً إنما هي سرقة ومضرة، فلا يمكن قياس الغصب عليها؛ لجواز أن تكون المفسدة في السرقة أكثر، فيكون الذنب بها أعظم.
القول في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
الأمر هو: قول القائل لغيره افعل أو ما يقوم مقامه على جهة الاستعلاء مع إرادته /408/ لحصول ما تناولته الصيغة.
والنهي: قول القائل لغيره لا تفعل أو ما يقوم مقامها على جهة الاستعلاء مع كراهتة لحدوث ما تناولته الصيغة.
والمعروف: هو كل فعل يستحق به الثواب، لهذا لا يوصف فعل الله تعالى بأنه معروف. والمنكر: هو كل فعل يستحق به العقاب، ولا حاجة غلى ذكر ما يدل على الاشتقاق، فيقال: هو ما عرف فاعله حسنه أو قبحه؛ لأنه ليس كل حد اصطلاحي يذكر فيه وجه الاشتقاق؛ ولأنه إن أكن ذكر الاشتقاق في المعروف فلا يمكن ذكره في المنكر.
فصل
لا خلاف في وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وإن اختلف في كيفية هل يجب بالقول والفعل أو بأحدهما كما سيتضح، ويدل على وجوبه من الكتاب: {لعن الذين كفروا من بني إسرائيل} إلى قوله: {كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه..} الآية، وقال تعالى: {ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر} فأمر الله أن يكون فينا من يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، وأوجبه على الكفاية، قال تعالى: {والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر} وقال تعالى: {كنتم خير أمة..} الآية.
وأما السنة فقوله عليه السلام: ((ليس لعين ترى الله يعصى فيطرق حتى يغيروا وينتقل فيه عن البلد)) وقيل عن المكان والمراد وينتقل إن لم يمكن التغيير، وليست أو هاهنا للتخيير، وعنه عليه السلام: ((لتأمرن بالمعروف ولتنهونَّ عن المنكر أو ليسلطن الله عليكم شراركم فيدعوا خياركم فلا يستجاب لهم)) وأشباه هذا من الأحاديث أكثر من أن تحصى، ولو ادعى كونه ضرورة من الدين لأمكن.
فصل
كان المتقدمون من شيوخنا يطلقون القول بوجوب ذلك إطلاقاً حتى جاء المتأخرون ففصلوا، فجعلوا الأمر بالواجب واجباً، والأمر بالمندوب مندوباً، قالوا: لأنه لا يريد حال الأمر على حال المأمور به، فإذا جاز للمأمور أن يترك المندوب جاز للآمر أن يترك الأمر به، فأما المنكر فلا ينقسم، فلذلك وجب النهي على الإطلاق إذا تكاملت الشرائط التي يأتي ذكرها.
فصل
واختلف الشيخان في هل يدل العقل مع السمع على وجوب ذلك، فقال أبو علي: يدل على وجوب ذلك.
وقال أبو هاشم: لا يدل إلا في صورة واحدة وهي أن يلحق أحدنا برية المنكر اغتمام وغيظ فيقضي العقل بوجوب الإنكار دفعاً للضرر عن نفسه، وما عدا ذلك لا يقضي العقل بوجوبه؛ لأنه من باب الإحسان إلى الغير ودفع الضرر عنه، فهو حسن فقط.
وبعد، فلو وجب عقلاً لم يكن بد من وجه وجوب يعلمه العقل؛ غذ لا يقضي بالوجوب من غير وجه، ولا وجه في العقل يقضي بوجوب ذلك، والذي يشتبه الحال فيه أن يقال: أن العلم يقبح الفعل يتبعه وجوب المنع منه حبراً أو يقال: أن العقل يقضي بوجوب كراهة القبيح يتبع وجوب المنع من فعله /209/ أوي قال: يجب ذلك لئلا يوهم أنه يريد المنكر أو يكره المعروف، وكل هذه الوجوه يقتضي أن يجب على الباري أن يمنع من المنكر بطريق القهر، ويقتضي أيضاً قبح إقرار أهل الذمة على القبائح وأخذ الجزية.
ولأبي علي أن يقول: أما الأول فلا يصح؛ لأن الباري تعالى مكلِّف، فلا يدفع أحدنا بطريق القهر بخلاف أحدنا، فإنه يحسن منه المنع بطريق الإكراه والحمل على الواجبات.
وأما الثاني: فمسلم أن العقل قد كان يقضي بقبح إقرار أهل الذم بعد العلم بخطئهم، لكن السمع قضا بإقرارهم، فأما دعوى أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لطفٌ والعقل يقضي بوجوب اللطف، فلا يصح؛ لأنه لا يمكن القطع من جهة العقل على أن ذلك لطف.
فصل
وكيفية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أن تبدأ بالقول اللين، فإن حصل به المقصود من الامتثال وإلا تعداه إلى القول الخشن والوعيد، فإن نفع وإلا العصا ثم السيف، والوجه في هذا الترتيب أن الغرض بالأمر بالمعروف والنهي هو أن يقع المعروف وأن لا يقع المنكر، فإذا تم الغرض بالأمر السهل فلا وجه للتعدي إلى الأمر الصعب، وقد ورد النص بذلك، قال تعالى: {وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا..} الآية، فأمر بإصلاح ذات البين أولاً، وهو يتضمن الكلام الليّن والخشن ثم القتال، وبهذا يبطل ما حكي عن بعض الإمامية من أنه لا يجب الضرب ولا القتل، إلا إذا كان هناك إمام، ويبطل أيضاً ما يحكى عن بعض المرجئة من أنه لا يجب إنكار المنكر إلا بالقلب فقط؛ لأن الآية لم تفصل بين الإنكار بالقلب والإنكار بالجوارح.
فصل
وللأمر بالمعروف والنهي عن المنكر شروط.
الأول: أن يعلم أن الذي يأمر به معروف والذي ينهى عنه منكر، وغلا لم يأمن أن يأمر بالمنكر وينهى عن المعروف؛ ولأن ذلك يتضمن الخير بكون المعروف معروفاً والمنكر منكراً، والخير لا يكون إلا عن علمٍ، وغلا لم يحسن؛ ولأن وجوب الأمر والنهي يترتب على وجوب الفعل والكف عنه، فكما لا يجب فعله إلا عند العلم بوجوبه أو التمكن من ذلك، ولا يجب الكف إلا عند العلم بقبحه أو التمكن، كذلك الأمر والنهي.
فإن قيل: أليس قد يدخل النكير في مسائل الاجتهاد، وليس بمقطوع بها.
قلنا: إنما ينكر ما تعلمه منكراً وهو أن يفعل المجتهد ما يخالف اجتهاده أو يفعل المقلد خلاف مذهب إمامه، وكل ذلك مقطوع بكونه منكراً.
وأما الإنكار على من يكلم امرأة في السوق مع عدم القطع بكونها أجنبيه، فإنما هو من جنب وقف موقف تهمة، وذلك مقطوع بكونه منكراً.
الثاني: أن يعلم أن يغلب على ظنه أن لأمره ونهيه تأثيراً، فإن علم أو غلب على ظنه العكس فاتفقوا على أنه لا يجب، وإن اختلفوا في الحسن فقيل: يحسن ويتنزل منزلة استدعاء الغير إلى الدين وإقامة الحجَّة عليه وإزاحة علته، وقيل: يصير عبثاً فيقبح، وفرق هؤلاء بينه وبين الاستدعاء إلى الدين وتكليف من المعلوم أنه يكفر أن الغرض بهذا الاستدعاء والتكليف بقوة إلى التمكين /410/ والإعلام وأزحة العلة، وذلك حاصل، وإن علم أنه لا يقبل والغرض بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أن يقع المعروف ولا يقع المنكر، فإذا علم أو غلب عل ظنه زوال الغرض صار الأمر والنهي عبثاً، فيزول الحسن مع زوال الوجوب كالشرط الأوَّل، فأما إن لم يعلم ولا غلب على ظنه أحد الأمرين، بل يجوِّز أن يكون لأمره ونهيه تأثيراً وأن لا يكون، فهاهنا يجب. وقيل: يحسن فقط.
الثالث: أن يعلم أو يغلب في ظنه أن المعروف الذي يريد الأمر به لم يفت والمنكر الذي نهى عنه لم يقع؛ لأن الغرض وقوع المعروف وأن لا يقع المنكر، فمتى علم أو غلب على ظنه زوال هذا الغرض لم يجب ولا حسن.
نعم، يحسن الوعظ والتذكير والزجر عن مثله والامر بالتوبة ونحو ذلك.
فإن قال: ما المانع أن يجب أو يحسن للتعريف بكونه منكراً أو معروفاً كما يجب أو يحسن لغرض الإيقاع أو الامتناع.
قيل له: المعرفة حاصلة من قبل.
فإن قال: ألستم قد جوَّزتم أن ينهى الله تعالى الشرع عن الظلم من يعلم أنه لا يفعله وأنه عالم بقبحه، فما فائدة هذا النهي.
قيل له: فائدته تأكيد قبحه، وأن السمع مطابق للعقل في ذلك.
فإن تردد فلم يعلم ولا غلب على ظنه فوات المعروف ووقوع المنكر ولا عكسه، فالكلام ما تقدم من أنهم اتفقوا على الحسن واختلفوا في الوجوب.
الرابع: أن لا يخاف تلفاً ينزل به تلفاً ينزل به أو بأطرافه أو بماله المجحف، فإن خاف ذلك لم يجب عليه اتفاقاً؛ لأن عند هذا الخوف قد أباح له الشرع فعل ما هو منكر كأكل الميتة وشرب الخمر والأخذ من مال الغير والتلفظ بكلمة الكفر ونحو ذلك، فبالأولى أن يبيح له ترك الأمر والنهي عند هذا الخوف.
واختلفوا في الحسن إذا زال الوجوب، فقال القاضي: لا يحسن، وفرق بينه وبين ظهار الإسلام عند الضرورة، والامتناع من التلفظ بكلمة الكفر بأن في الثبات على الإسلام إعزاز للدين، وهذا غير حاصل في الأمر النهي والحال هذه.
وذكر السيد في شرح الأصول أنه قد يكون في الأمر والنهي والحال هذه إعزاز للدين، فيحسن كما فعله الحسين في خروجه.
والأقرب أنه لا فرق بينما فعله الحسين وبين ما يفعله غيره في كونه إعزازاً للدين، فيحسن من غير تفصيل؛ لأنه لا معنى لكونه إعزاز الدين إلا أنه إظهار للمعروف ورفع لشعار الإسلام، واحتمال المشاق في ذلك، وهذا حاصل فيكل أمر بمعروف ونهي عن منكر كحصوله في ما فعله الحسين عليه السلام كحصوله في الثبات على كلمة الإسلام، فلا وجه للتفصيل.
يؤيد هذا أن الله تعالى أمر بالصبر على ما يلحق الإنسان في ذلك، فقال تعالى: {حاكياً عن لقمان يا بني أقم الصلاة وأمر بالمعروف وانه عن المنكر واصبر على ما أصابك}، وقال صلى الله عليه وآله وسلم /411/: ((أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر)) ولا شك أن الوجه في جميع ذلك كونه إعزازاً للدين وصبراً على ما يلحق من المضار بسببه، وإن اختلف هذا الإعزاز باختلاف الناس فبعضهم يكون إعزازه عظيماً كما فعله الحسين وأهل بيت النبوة عليهم السلام وبعضهم يكون إعزازه دون ذلك، فثبت أن ما هذا حاله يحسن على كل حال ممن غير تفصيل.
اللهم إلا أن يعلم أو يغلب على ظنه أن المعروف لا يقع والمنكر لا يزول مع حصول هذا الخوف من حصول ضرر، فربما يصير ذلك مؤكداً لزوال الحسن، فأما إذا علم أو غلب على ظنه حصول الغرض بالأمر والنهي، لكن المنكر في الضرر الذي يصل غليه أعظم من المنكر الذي يزيله، فالكلام فيه سيأتي.
الخامس: أن لا يعلم ولا يغلب على ظنه أن أمره ونهيه يؤدي إلى تضييع معروف آخر وفعل منكر آخر فإن علم أو غلب على ظنه ذلك فقيل: لا يجب، ولا يحسن؛ لأن فيه مفسدة؛ ولأنه يكون في حكم المعين على المنكر الآخر.
وقيل: بل لا يسقط الوجوب، ولا الحسن؛ لأنه يكون بذلك مقيماً للحجة ومعزاً للدين، ومتى فعل المأمور المنهي منكراً آخراً وضيع معروفاً فإنما أتي في ذلك من قبل نفسه عناداً ومكابرة، ولا يوصف الأمر الناهي أنه معين له؛ لأن الإعانة تحتاج إلى الإرادة.
وقيل: إذا كان ما يقع من المنكر أو يضع من المعروف أعظم مما نهي عنه أو أمر به لم يحسن؛ لأن الغرض بالأمر والنهي تقليل المنكر وتكثير المعروف، والأحسن ووجب.
وقيل: إن كان المنكر الذي يحصل عند الأمر والنهي ضرراً يرجع إلى الأمر الناهي لم يزل الحسن وإن زال الوجوب لقوله تعالى: {وأمر بالمعروف وانه عن المنكر واصبر على ما أصابك} ومعلوم أن الذي يصيبه منكر آخر.
وأيضاً: فمعلوم من حال الأنبياء والصالحين أنهم كانوا يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر مع علمهم أنه يلحقهم من المضار في ذلك ما يقتضي كفر فاعله أو فسقه.
فصل
اعلم أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ضربان: أحدهما يكون ضرورياً ظاهراً، فهذا يجب الأمر فيه والنهي من دون تعريف، والثاني لا يكون ظاهراً، بل يجوز خفاءه، فهذا لا يحسن الأمر فيه ولا النهي إلا بعد التعريف، وهذا لا شبهة فيه، وإنما يقع الاشتباه في كيفية الإكراه على الفعل إن كان معروفاً، وعلى المنع منه إن كان منكراً.
وهذا ينبغي التفصيل فيه، فنقول: إما أن يكون ذلك المعروف والمنكر من أفعال القلوب أو من أفعال الجوارح إن كان من أفعال القلوب لم يمكن الإكراه فيه ولا المنع عنه، فلا يكون ذلك تكليف علينا؛ إذ لا نطيقه نحو الاعتقادات الصحيحة والفاسدة وغير ذلك من أفعال القلوب، وإنما يكون الأمر والنهي مما /412/ هذا حاله بإقامة الدلالة وحل الشبه وإبطال التقليد وإيضاح الحجج في جميع ذلك، فمن اهتدى فلنسفه ومن ضل فعليها، ولا يكلف أكثر من ذلك، وإن كان من أفعال الجوارح فأما أن يقف على أفعال القلوب كالشهادتين فإنهما يقفان على الاعتقاد كالصلاة فإنها تحتاج إلى النيّة ونحو ذلك، وما هذا حاله فقد اختلف فيه أئمتنا عليهم السلام.
فقال بعضهم: لا يتصور الإكراه في ذلك، ويكون كالذي قبله في الأمر والنهي، وإنما يكون بإقامة الأدلة وتكرار ما ورد من الوعد والوعيد في ذلك.
وقال بعضهم: يتصور الإكراه في ذلك.
وهذا هو الحق، والمراد بذلك أنه يجب علينا أن يكرهه على فعل ماله تلك الصورة، وأن يظهر من نفسه أنه أتى بها على الوجه الصيح فيكرهه مثلاً على فعل ما هو بصورة الصلاة حتى يفعلها ويظهر من نفسه فعلها على تقويم نيّة الغير مقام نيته، فأما إذا كان كذلك فلا شبهة في تصور الإكراه في ذلك ويكون مؤيداً لما ذكرناه كالزكاة وعلى الذي أكرهه أن ينوي عنه كالإمام ومن تلا من قبله، وغن كان مما لا يحتاج إلى أفعال القلوب فهو ضربان أيضاً: أحدهما: لا يكون للاجتهاد فيه مجال، وهذا يجب الأمر فيه والنهي بغير التعريف، ولا يحتاج إلى معرفة حال فاعله في هل هو مقلد أو مجتهد.
والثاني: أن يكون للاجتهاد فيه مجال فلا يحسن الأمر والنهي إلا بعد أن يعلم هل مذهبه أو مذهب إمامه جواز ما فعل أو ترك أو لا، فإن كان الأول لم يحسن أمره ولا نهيه، وإن كان الثاني حسن، ولهذا ليس لأحد أن ينهى الحنفي عن شرب المثلث، وعلى الحنفي أن ينهى الشفعوي عن شربه.
نعم، يتصور الإنكار هنا من طريقة أخرى، وهي أن يسلك المجتهد في اجتهاده في ذلك طرقاً ظاهرة البطلان مع ظهور ما هو أقوى منها، فيعلم أن ما وفى الاجتهاد حقه فيكون لنا أن ننكر عليه ذلك الفعل وإن ادعى أن اجتهاده ساقه إليه، وكذلك ينكر على المقلد في المسألة الاجتهادية إذا قلد من ليس بأهل لأن يقلد، أما لفقد العقل أو لتساهل في النظر.
وعلى الجملة فإذا عدل المجتهد أو المقلد عن ما كلفاه في المسألة صح الإنكار عليهما وإلا لم يصح.
فإن قلت: كيف لا أنكر على الحنفي شرب المثلث وهو عندي حرام، وإنما هو حلال عنده فقط، فأما أنا فمحرم عندي.
قلنا: بل هو حلال عندك وعنده، أما عنده فظاهر؛ لأنه مذهبه، وأما الذي أداه إليه اجتهاده أو اجتهاد إمامه، وأما عندك فلأنك تذهب إلى أن كل مجتهد مصيب، فأصلك يقتضي تحليل المثلث في حق من أداه إليه اجتهاده، وإن كان حراماً في حق غيره.
الكلام في أحوال الأئمة في حق الصحابة رضي الله عنهم أجمعين
اعلم أن في من يدعي حب أهل البيت عليهم السلام قوماً يركنون في حق الصحابة رضي الله عنهم خطراً عظيماً وضلالاً بعيداً، فتارة يكفرون وتارة يفسقون ولعلَّ المزري عليهم /413/ لو نظر في حال نفسه بغير الإنصاف لوجدها لا تساوي أثر نعالهم، ولرأى فيها قصوراً عن مراتبهم في العلم والعمل، وكيف وقد أثنى الله عليهم ورسوله وبشرهم بالجنة مع ما لهم من السابقة في الإسلام والجهاد في سبيل الله والصبر على الشدائد وإحياء معالم الدين.
ونحن نرتب الكلام في أربعة أبواب بمن يتكلم في الإمامات:
الأولة في شبهة المفسقين لهم على الجملة. والثاني في الرد على الطاعنين في كل واحد على انفراده. والثالث في ما ورد في النهي عن سبهم. والرابع في تزكيتهم والترضية عليهم.
أما الباب الأول وهو في الجواب عما ذكروه في فسق الصحابة رضي الله عنهم.
فاعلم أنا قد أوضحنا أنه لا يجوز إثبات كفر ولا فسق إلا بدليل قاطع، وكل شيء يذكرونه من الشبه في ذلك أكثر ما يقتضي إن صح أنهم اخطئوا، ومهما لم يقم دليل على كون الخطأ كفراً أو فسقاً لا يمكن القطع بواحد منهما.
وبد، فنحن نعلم بالضرورة ظهور إسلامهم وقوَّة أديانهم وعدل سيرتهم وطريقتهم وحرصهم على إظهار كلمة الحق ومحبة الرسول إياهم وموالاته لهم وانتصاره بهم في المواطن وحسن الثناء عليهم وبشارتهم بالجنة، فيجب أن يقطع بصحة إسلامهم وقوَّة إيمانهم مالم ينقل عن ذلك دليل قاطع.
وبعد، فأهل هذه المقالة من الإمامية وغيرهم يثبتون هو سبهم على أن على الأئمة نصوصاً جلية يعلم قصد النبي بها ضرورة وأن الصحابة خالفوا في ذلك وسنوضح فساد هذه المقالة.
إذا ثبت هذا فقد تعلقا في فسق الصحابة رضي الله عنهم بشبه كلها مبنية على أنهم أخطئوا في التقديم على أمير المؤمنين، فكل من لا يعتقد خطأهم في ذلك لا يتوجه لعيه شيء من هذه السبة، إنما موضع مكالمته إثبات خطأهم، وغنما يقع الجواب عن هذه الشبه على رأي من يعتقد خطأهم بالتقدم وهو المذهب.
الشبهة الأولى قالوا: أن حق علي رضي الله عنه في الإمامة والنفع بها أعظم من شرقة عشرة دراهم، فإذا وجب الفسق بأخذ عشرة ومضرتها يسيرة وجب الفسق بأخذ الإمامة؛ لأنها أعظم.
والجواب: هذا يبنيى على أن العلة في فسق سارق العشر كونها مضرة بهذا القدر، وهذا باطل، وإلا لزم القطع في المختلس والغاصب والسارق من غير حرز، وقد تقدم أنه يجوز أن يكون في السرقة على هذه الصفة من المفسد ما ليس في غيرها.
وعلى الجملة فالتفسيق لا يثبت بقياس ظني.
يوضحه أن في العلماء من ينكر القياس رأساً، وخبر الواحد والضرر في هذا الإنكار أعظم الضرر في سرقة عشرة دراهم وهو لا يفسق به.
وبعد، فالضرر الذي ادعوا أنه لحق علياً عليه السلام، أما أن يكون في أمر دنياه وهو باطل؛ لأن الإمامة لا يقصد بها أمر الدنيا وشهواتها أو في أمر دينه، وذلك لا دليل عليه لجواز أن يكون صبره عل جنايتهم والعفو عنهم والإعراض عن طلب الرئاسة والكف عن ذلك أعظم ثواباً مما كان يحصل له، وأما /414/ أن يدعو الضرر على الأمة، فذلك إنما يثبت لو كان خير؛ ولأن الأمر ظلموا وتعدوا وعطلوا الحدود، فأما وقد شادوا منار الدين وأحيوا سنن المرسلين فلا ضرر على الأمة من قبلهم.
الشبهة الثانية أن قالوا: التصرف في الإمامة بالأمر والنهي والحل والعقد وإقامة الحدود وأخذ الأموال يصرف في حق غيرهم على وجهٍ يتضرر به، فيجب أن يكون فسقاً.
والجواب: أنهم قد اعتقدوا أنهم أهل لذلك وفعلوا مثل الذي يفعله الإمام المنصوص عليه، فما المانع أن يكون تصرفهم على وجه الصواب مع اعتقادهم الأهليَّة لذلك بعضهم على الفسق وعلى الخصم أن يورد دليلاً قاطعاً على الفسق.
الشبهة الثالثة: قوله تعالى: {ومن يعص الله ورسوله ويتعد حدوده يدخله ناراً} ونحوه من الآيات، قالوا: ولا شك أن من جلس مجلس الإمام وهو لا يستحق ذلك فهو عاص لله ورسوله، فيجب فسقه.
والجواب: أن ظاهرها متروك بإجماع المحققين، فإن صاحب الصغيرة والتائب غير داخل في الوعيد، وإن وصفا بأنهما عاصيان لله ورسوله كما قال تعالى: {وعصى آدم ربه} فبقي أن الداخل في الوعيد هو صاحب الكبير فعلى الخصوم بيان أن الصحابة قد فعلوا كبيرة.
الشبهة الرابعة: في قوله تعالى: {ألا لعنة الله على الظالمين} قالوا: ومن جلس مجلس الإمام فقد ظلمه، فيكون ملعوناً ولا يستحق اللعنة إلا فاسق.
والجواب: ما تقدم من أن ظاهرها متروك بالتائب وصاحب الصغيرة فإنهما يوصفان بأنهما ظالمان كما قال تعالى: {ربنا ظلمنا أنفسنا}.
وبعد، فأما أن يجعلوا اسم الظالم على كل من فعل معصية صغيرة كانت أو كبيرة فلا يمكن القطع على أن كل ظالم ملعون، وأما أن لا يطلق هذا الاسم إلا من فعل الكبيرة، فليدلوا على أن الصحابة فعلوا كبيرة بالتقدم.
الشبهة الخامسة: قوله عليه السلام في علي رضي الله عنه: ((اللهم وال من والاه وعاد من عاداه..)) الخبر، قالوا: ومن أخذ الإمامة عليه فقد عاداه.
والجواب: أن هذا الخبر وإن كان متلقى بالقبول فهو أحادي، والتفسيق لا يثبت إلا بقاطع.
وبعد، فليس يقال في من جهل إمامة غيره وجلس مجلسه معتقداً أه أحق من فقد عاداه، وإنما المعاداة هي أن يخرج لعيه ويحاربه أو يبغضه أو يسلب عنه ما يتحقق أنه حق له، وكذلك الحد؛ لأنه ضد النصرة، فلا يكون خاذلاً إلا من استنصره الإمام، فلم ينصره فلا يكون الصحابة خاذلين له رضي الله عنه إلا بعد أن تثبت لهم إمامته ويستنصرونه فلا ينصرونه ولم يثبت لهم شيء من ذلك إلا بعد قتل عثمان رضي الله عنه. وبعد فقد سأل أمير المؤمنين /415/ عن الذين تخلفوا عنه بأيام صفين كسعد بن أبي وقاص وابن عمر أفسَّاق؟ فقال: لا بل خذلوا الحق ولم ينصرا الباطل.
الشبهة السادسة: قوله عليه السلام: ((من مات ولم يعرف إمام زمانه مات ميتة جاهلية)) قالوا: وقد جهلت الصحابة إمامة علي رضي الله عنه.
والجواب: أنه أحادي وقد أجمع أهل التحقيق أن معناه: من مات ولم يعرف الشروط التي يختص بها الإمام ليتمكن من اختاره ومعرفة إمامته بدليل أنه يجوز خلوّ الزمان عن إمام.
وبعد، فالصحابة رضي الله عنهم يعتقدون أنهم يعرفون إمام زمانهم ويعتقدون أن علياً رضي الله عنه لم يكن إمام حتى مات عثمان رضي الله عنه، وأكثر ما فيه أنه يكون اعتقادهم خطأ، فغير ممتنع أن يخرجوا به عن الفسق كما مر ي نظائره.
بوعد، فظاهر الخبر بما يقتضي من مات على هذه الصفة فمات على نوع من الجهل وليس فيه أنه يموت كافراً أو فاسقاً، ولهذا لا يقطع أهل التحقيق على فسق من لم يعرف شروط الإمامة.
الشبهة السابعة قوله عليه السلام: ((من آذى علياً فقد آذاني ومن آذاني فقد آذى الله ومن آذى الله يوشك أن ينتقم الله منه)) قالوا: وقد آذاه من أخذ الإمامة عليه.
والجواب: ما تقدم من التفسيق لا يثبت إلا بالأخبار الأحادية، وإنما يثبت بدليل قاطع.
وبعد فاسم الأذية إنما يتناول الآلام والغموم النازلة لأجل أخذ المال أو الغرض وسائر المضار، فأما ما يتعلق بالديانة والجهل بالإمامة والخطأ فيها فلا يوصف بأنه أذية، لا سيما وسنوضح من حال أمير المؤمنين ما يدل على أنه لم يكن يفسقهم ولا يذمهم، وأنه كان يواليهم ويمدحهم ويشير عليهم ويصلي خلفهم ونحو ذلك مما يدل على أنهم لم يكونوا عنده بهذه المنزلة.
الباب الثاني في الجواب عما طعنوا على كل واحد من الصحابة رضي الله عنهم، وعما يطعن به أهل الضلال في إمامة أمير المؤمنين رضي الله عنه.
أما أبو بكر فقد استدلوا على فسقه بوجوه منها: قصته مع فاطمة رضي الله عنها في فدك، قالوا: فإنه ظلمها حقها وردها خائبة واستخف بها.
والجواب: أما كون استخف بها فذلك فسق لا محالة لو ثبت، لكن من البعيد أن يستخف بابنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأن يقصد ظلمها في أول حكم حكم به في الإسلام لا سيما مع معرفته بعزة بني هاشم وحرمة رسول صلى الله عليه وآله وسلم وكون معه ما يغنيه عن ظلمها والاستخفاف بها، فهذا شيء لا يظن صدقه ولو حصل الظن به لم يثبت به فسق لاحتياج التفسيق إلى دليل قاطع، وأما كونه لم يحكم لها في فدك فنهاية الأمر أن يكون مخطئاً كما في مسألة الإمامة، فلا دليل على أن ذلك الخطأ فسق.
قالت المعتزلة: المروي أنها رضي الله عنها ادعت أولا أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم نحلها فدك، وجاءت بعلي شاهداً وبأم أيمن /416/ فقال لها أبو بكر: يا ابنة الصفوة ائتيني برجل مع الرجل أو بامرأة مع الامرأة فلم تجد ذلك، ولم تكن فدك تحت يدها فتكن معها ظاهر اليد فعدلنا إلى دعوى الإرث، فروى أبو بكر الخبر: ((نحن معاشر الأنبياء لا نورث ما تركناه صدقة)) واستشهد على ذلك جماعة من الصحابة فشهدوا أنهم سمعوه من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، قال: ولا شك أنا إذا فرضنا أن أبا بكر سمع هذا الخبر من رسول الله صلى الله عليه وآله ولم روى له فإنه لا يجوز له أن يحكم لها والحال هذه سواء كان الخبر ناسخاً أو مخصصاً، وعلى كل حال فإن كان عذره في دفعها صحيحاً فإنه يخرج به عن الخطأ وغلا فلا أقل من أن يخرج به عن الفسق.
فإن قيل: كيف يصح تقدير صحة عذره مع أن فاطمة رضي الله عنها معصومة لا تدعي إلا الحق.
قلنا: غير ممتنع أن يكون الواجب أن يحكم بظاهر الشرع في حق المعصوم وغيره.
وبعد، فلعله كان لا يعتقد عصمتها وليس خطأه في هذا الاعتقاد بأعظم من خطأه في اعتقاد أنه هو الإمام، وربما أن يكون قد اعتقد عصمتها، لكن عن الكبائر كعصمة الأنبياء وجوّز أن يكون في أفعالها ما هو صغير، وبالجملة فإن كان سمع الخبر من النبي عليه السلام أو غلب على ظنه صدقه فإنه ليس له أن يحكم بخلافه.
فإن قيل: أليس قال تعالى: {وورث سليمان داود} وقال: {فهب لي من لدنك ولياً يرثني ويرث من آل يعقوب} فكيف يغلب على ظن أبي بكر رضي الله عنه صدق الخبر والحال هذه؟
قلنا: لتجويزه أن يكون المراد يرث النبوة بدليل أنه خص سليمان بالإرث دون سائر أولاد داود، بدليل قوله تعالى في الآية الثانية: {ويرث من آل يعقوب} وكما قال تعالى: {وأورثنا الذين اصطفينا من عبادنا} وقال: {وأورثنا بني إسرائيل الكتاب ونحو ذلك} وكذلك فإنه ترك السيف والبغلة والعمامة في يد علي رضي الله عنه ولم يكن له وراثة، وكذلك فلم يطالب العباس في الإرث.
على أن أبا بكر لو اعتقد أن المراد في هذه الآيات إرث المال لم يمنعه ذلك من جواز العمل على الخبر الذي سمعه أو روي له في ما عدا ذلك ويجعله مخصصاً، فكأنه قال: نحن معاشر الأنبياء لا نورث إلا داود وزكريا، وعلى الجملة فالخطأ في الاجتهاديات بعيد فضلاً عن الفسق، ولهذا عمل لكل على ظاهر هذا الخبر وقرره أمير المؤمنين ولم ينقض حكم أبي بكر يه، ولو كان العمل عليه فسقاً أو خطأ لما قرره علي رضي الله عنه حسين انتهى الأمر إليه وزالت النفيّة، بل كان يرد فدك إلى أولاد فاطمة رضي الله عنهما والعباس.
فإن قيل: فما وجه المصلحة والحكمة في أن الأنبياء لا يورثون لو صح الخبر.
قلنا: وجهان: أحدهما أن المال إذا صار إلى الورثة انتفعت منفعة الميت عنه، وإذا كان صدقة دام ثوابه إلى يوم القيامة، فيكون ذلك /417/ خاصاً للأنبياء عليهم السلام لجلالتهم عند الله، ويكون من عداهم ممنوعاً من ماله إلا الثلث.
الثاني: أنه لا يمتنع أن يكون علم النبي عليه السلام بأن ماله لا يصير إلى أولاده لطفاً له في الزهد في الدنيا وصارفاً له عن الاستكثار منها والجمع، فيستغنى منها باليسير ويقتصر على الكفاية فيكون ذلك زيادة في ثوابه ورافعاً لمنزلته في الآخرة.
وبالجملة فلا يلزم وجه الحكمة على التفضيل، بل الواجب على من سمع الخبر أو غلب على ظنه صدقه أن يحكم به في باب الأعمال، فإن ثبت مثل ذلك لأبي بكر خرج عن الخطأ وإلا فلا أقل أن يخرج به عن الفسق، ولهذا فإن الجمهور من أئمة أهل البيت عليهم السلام لا يفسقون أبا بكر.
ومنها: أن النبي عليه السلام مات وهو يقول: نفذوا جيش أسامة وأبو بكر من جملتهم تحت أمر غيره فعصى أمر النبي صلى فينفسه وفي عمر.
والجواب: قالت المعتزلة: الصحيح أنهما لم يكونا في جيش أسامة.
يوضحه أنه عليه السلام قدم أبا بكر للصلاة وأيضاً فلم ينكر أحد من الصحابة على أبي بكر تخلفه عن الجيش، وأيضاً فقوله نفذوا إنما هو خطاب لمن يلي الأمر بعده، وندهم أنه أبا بكر ولي الأمر بعده، وذلك يقتضي خروجه عنهم.
وعندهم أيضاً أن فيه دلالة على أنه لم يكن هناك إمام منصوص عليه، وغلا فكان يوجه الخطاب إليه.
فإن قيل: فما باله لم ينفذ جيش أسامة بعد موت النبي عليه السلام.
قيل: من الجائز أن يرى الصواب في تأخيره لنصرة الإسلام، ولئلا يعترف المسلمون كما لو رأى ذلك الإمام المنصوص عليه لا سيما بعد اختلاف الأنصار وطلبهم للأمر، وقد جهزه من بعد لما استقر الأمر، وعلى كل حال فإن كان هذه الأعذار صحيحة وإلا فقد نجا بها عن الفسق.
ومنها ما روي أن عمر لما بويع لأبي بكر أتى منزل فاطمة وفيه بنو هاشم وغيرهم فأحرق الباب وأخرج علياً كارهاً يقاد إلى البيعة وكسر سلف الزبير وضرب فاطمة حتى ألقت جنيناً في بطنها، وأن أبا بكر قال لعلي حين وصل إليه: لئن لم تبايع لأضربن الذي فيه عيناك، قالوا: وهذا كله يدل على فسقه وفسق عمر ومن والاهما.
والجواب: قالت المعتزلة كل هذه أحاديث افتعلها الروافض لا صحة لها، وكيف يظن بالصحابة هذا على علو مكانتهم في الدين ومعرفتهم بقدر أهل بيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ولو وقع شيء من ذلك لأنف أكثر المسلمين لأهل بيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ولما صبر بنو هاشم على هذه الذلة.
وبعد، فلو وقع ذلك لكان نقله ظاهراً متواتراً لعظمه وغرابته، قال المعتزلة: والمروي خلاف هذا كله، هو أن علياً رضي الله عنه حضر المسجد طائعاً وبايع ورضي البيعة وإن كان المعلوم من قصده أنه كان أولى بها.
قالوا: والمعلوم /418/ أن أبا بكر لما قال بحضرة الجماعة: أقيلوني يريد بذلك اختبار ما في قلوبهم، قال عند ذلك أمير المؤمنين لا يقبلك ولا يستقيلك وأظهر الرضى ببيعته لجميع المسلين، وقال لأبي سفيان حين أمره بالمشاقة إنك ما نصحت في الإسلام قط، وكان يغشى مجالس أبي بكر ويصلي خلفه ويدعوه بالخليفة ويشاور في الأمر ويمدحه غائباً وحاضراً.
وبالجملة فقد خالطه مخالطة الراضي.
قالوا: وذلك هو اللائق بمناصبهم الشريفة، لا سيما ومطلوبهم الجميع إحياء منار الإسلام وعدم الإلتفات إلى الدنيا والمنافسة في الرياسة، قالوا: ولو كان سكوته نفيَّة لكان ذلك يظهر من حاله وأخلاقه، ولكان يسر به خواصه، ولكان يظهره بعد موت أبي بكر وبعد موت الثلاثة، لوما كان يستجيز الصلاة خلفه ولا يشاوره ولا يمدحه، ولكان أقل الأحوال أن يظن أنه بايع كارهاً فلم يكن يمكن الصحابة تكذيبه في شيء هو صادق فيه، ولما كان يصح ذمهم وأخذ الأموال أيام الفتوح، ولا اكن يأخذ نصيبه من الفيء، قالوا: ولو ظهر ذلك من حاله لما خاف مكروهاً إذا سلك مسلك المناظرة والمحاجاة وإقامة الدليل، فلم يكن الصحابة حينئذٍ يستحسنون الإضرار به إذا أورد حجّةً قالوا: وذلك لا يمنع من اعتقاد أنه الأولى الأفضل، بل ربما يزيده ذلك فضلاً؛ لأنه يكون قد عفا عنهم وسمح بحقه وآثر ترك المنافسة.
ومنها أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يُولِّ أبا بكر عملاً قط، وذلك دليل على فسقه وكونه ليس بأهل للإمامة.
يوضحه أنه لم يكن محيطاً بالعلم بأحكام الشريعة، ولهذا قع سارقاً من يساره، وسألته جدة عن ميراثها فقال: لا أجد لك شيئاً في كتاب الله فاسألي الناس حتى أخبره المغيرة بأن لها السدس، فكان يراجع الصحابة فيما ورد ويتردد في كثير من الأحكام.
والجواب: قالت المعتزلة: المشهور أنه كان من أعلم الصحابة ومن أهل الاجتهاد ، ولهذا يروى له في الاجتهاديات أقوال وفي التفسير، وأما تردد في المسائل فهو إما لورعه وشدة تثبته، وأما لاستحسانه مسلك الاستشارة للصحابة والاحتياط بقولهم، وربما يحفظ غيره ما لا يحفظ أو ما ينسخه أو ما يخصصه أو يضيق عليه وقت الاجتهاد لكثرة شغله بأمور المسلمين.
وأما قطع يد السارق فالخطأ فيه وقع من القاطع ومن البغية أن يجهل أن الذي يقطع يمينه قالوا: ولا شك أن علياً كان أعلم منه لكن ذلك لا يقتضي نفي العلم عنه.
ومنها: ما رووا أنه قال أن لي شيطاناً يعتريني، وقال: أقيلوني فإن وليتكم ولست بخيركم، قالوا: فإن كان صادقاً في كلامه فقد أقر على نفسه بالخطأ، وإن كان كاذباً فقد أقدم بالكذب على الكبيرة.
والجواب: قالت: المعتزلة إنما قال ذلك هضماً لنفسه وتواضعاً ولتخيير رضاهم، وأنه لم يكن فيه إكراه لهم فلا يثبت خطؤه فضلاً عن فسقه.
/419/ وأما قوله: إن لي شيطاناً فهو إخبار بأن الشيطان قد يستزله ويوسوس له وأنه مشفق منه خائف أن يغويه وهو في ذلك كغيره من الناس؛ لأنه ما من أحد إلا وقد يمكن الشيطان من إغوائه والوسوسة له، وقد قال تعالى في قصة آدم {فوسوس لهما الشيطان}.
وأما قوله: وليتكم ولست بخيركم فقد يريد به هضم نفسه، وقد يريد به لست بخيركم، قيل: الولاية وجائز أن يكون ذلك اعترافاً بأن علياً أفضل منه، لكن كان ممن يرى إمامة المفضول لضرب من الصلاح كالقضاء.
ومنها قول عمر رضي الله عنه كانت بيعة أبي فكر فلتة وقى الله شرها، فمن عاد إلى مثلها فاقتلوه، والجواب: قالت المعتزلة: المعلوم أن عمر كان أشد الناس حرصاً في إمامة أبي بكر فلا يترك المعلوم من حاله للمظنون، وكيف يصح أن يكون أراد بذلك الطعن على إمامة أبي بكر وهو قد بنا إمامة نفسه على إمامة أبي بكر.
وبعد، فقوله عند الخصوم: ليس بحجَّة، وبعد فقوله وقى الله شرها يدل على أنه لم يكن يعتقدها خطية، وبعد، فمعناه بهذا الكلام إن صح أنها وقعت لا عن إجماع في تلك الحال لأنهم بادروا بها خشية الفرقة والاختلاف بخلاف وغيرها، فإن ساير الإمامات تأتي وقد تقرر الإسلام وبأن المزيد من غيره لا وجه يضطر إلى أن يبايعوا لأحد فلتة أبداً.
فصل
وأما ما طعنوا به على عمر رضي الله عنه فوجوه: منها أنه اعترف لعلي عليه السلام بالفضل وبكونه أولى بالإمامة، ثم عدل عنه حتى قال: لولا علي لهلك عمر، وقال: لا أبقاني الله لسوء لا أرى فيه أبا الحسن، وقال: ما من معظلة إلا ولها علي، وأنكر بعضهم حكماً لعلي فعلاه بالدرة، قوال: أبدري من هذا هذا مولاي ومولاك ومولى كل مؤمن ومؤمنة، قال: في بعض خطئه وقد مدح علياً، علي أقضانا، وقا للابن عباس ما أظن صاحبك إلا مظلوماً، وقال: ما أظن القوم إلا استضعفوه.
والجواب عن الجميع كل هذه إنما يدل على أن علياً رضي الله عنه أفضل وغير ممتنع أن يعتقد عمر رضي الله عنه صحة إمامة المقصود، وانه كان أهلاً للإمامة وليس خطؤه في ذلك بأبلغ من خطئة في نفس لا يدل شيء من ذلك على الفسق، وكل هذا يدل على أن بعضهم كان يتولى بعضاً، وأنه لم يكن بينهم عداوة.
ومنها ما روي أنه قال عام الحديبية: ألسنا قد وعدنا دخول مكة آمنين محلقين ومقصرين، فلأن قد منعنا قالوا: وهذا تكذيب لله ورسوله.
والجواب: قالت المعتزلة له هذا من دسيس الإمامية، فلم نسلم صحته، فإن كل عاقل لا شك في صحة إسلامهم.
قالوا: والرواية الصحيحة أنه قال للنبي عليه السلام: ألسنا قد وعدنا /420/ دخول مكة آمنين كالحث للنبي عليه السلام على الحرب وأن لا يمتنع خوفاً منهم، ووثوقاً منه بما وعد الله سبحانه، فلما قال له النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فقلت لكم من عامكم هذا فسكت.
ومنها ما رووا أنه إذا علياً حتى زوجه أم كلثوم ويهدد بني هاشم وأكرههم على ذلك، وهذا منه جرأة على الدين، ودليل على الفسق.
والجواب: قالت المعتزلة: هذا مما لا يلتفت إليه ولا يشتبه كذبه وبنو هاشم أجل من أن يكرهوا علي بن ويح امرأة، وأيضاً فالنكاح مع الإكراه لا ينعقد.
قالوا: ولو استدل بترويج على اثبته من عمر على أنه ليس يفاسق الاستقام لأنه لو كان فاسقاً لم يكن كفؤاً لها، وكذلك لو كان بينهما معاداة، ووحشه لما زوجه إياها وإنما شدد عمر في تزويجها رغبة في ابنتها ومنصبها، ولقوله عليه السلام: ((كل نسب وسبب ينقطع غلا سببي ونسبي)) فأحب التزويج من أهل البيت.
ومنها ما رووا عنه أنه قال: إذا اختلف أهل الشورى فاقتلوا من خالف عبد الرحمن بن عوف، وذلك يقتضي أنه أمر بقتل أمير المؤمنين إذا خالف عبد الرحمن وذلك فسق.
والجواب: قالت المعتزلة لا يسلم صحة هذا الخبر، وهو أجل قدر آمن أن يأمر بقتل قرابة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه مع فضلهم العظيم الذي يعترف به لا سيما علياً وإنما شدد في عدم الاختلاف.
ومنها ما رووا أن علياً لما تخلف عن البيعة والزبير جاء إلى باب فاطمة فأحرقه وفعل وفعل، وأن فاطمة ماتت بسبب ضرب بطنها وأنها أوصت أن تدفن ليلاً ,أن لا يصلي عليها أبو بكر ونحو ذلك من الأخبار.
الجواب: ما تقدم عن المعتزلة من أنه لا يظن العاقل بالصحابة مثل هذا لا سيما مع شرف بني هاشم وعزة نفوسهم، وقد كانت العرب كلها تقوم معهم لى مثل هذا، وقد روي أن أبا بكر رضي الله عنه صلى عليها وكبَّر أربعاً حتى كان هذا أحد حجج الفقهاء أن التكبير أربع، وأما دفنها ليلاً فكذلك كان يدفن أهل الفضل ليلاً، فإن النبي صلى الله عليه وآله وسلم دفن ليلاً وعلياً دفن ليلاً وعمر وكثيراً من الصحابة، وكانت تلك عادة فيهم.
ومنها ما رووا أنه لما بايعه الناس فقال ابن علي فقالوا: غاب في حاجة فقال: ليأتين أو لأضربن عنقه، وهذا استخفاف بأمير المؤمنين وهو فسق.
والجواب: ما تقدم من أن هذه روايات أحادية غير مقطوع بها لا سيما والظاهر من حالهم المعرفة بقدر أمير المؤمنين واستمدادهم من علمه ورجوعهم إليه في المشكلات.
ومنها ما رووا أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لما احتضر، قال: هلم أكتب لكم كتاباً لن تضلوا من بعده أبداً، فقال عمر رضي الله عنه حسبنا كتاب الله، فهذه مخالفة لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فهذه مخالفة لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو فسق.
والجواب ما تقدم مرة أن هذه الأخبار لا يظن صدقها فضلاً عن أن يفسق بها.
قال شيخنا أبو الحسين أكبر هذا الأخبار /421/ وضعها بنو أمية وأسندوها إلى علي لينفروا الناس منه لعلمهم بحب الناس في الصحابة.
ومنها ما رووا أن عمر لم يكن يعلم أن رسول الله ممن يجوز عليه الموت لما قال الناس توفي رسول الله أنكر ذلك، وقال: والله ما مات محمد حتى نبهه أبو بكر بقوله: {إنك ميت وإنهم ميتون}.
والجواب: ن صح ذلك عنه فإنما ظن أن المنافقين أظهروا موته ليوهنا به الإسلام ,انهم كاذبون كما صرح الشيطان يوم أحد إلا أن محمداً قد قيل: فظن أن المنافقين أشاعا ذلك من غير حقيقة، فلما أخبره أبو بكر بفاته صدَّقه وعمر رضي الله عنه أجل من أن يجهل جوار الموت على النبي وربما توهم انه لا يموت حتى يظهره الله على الدين كله، ولم يكن قد ظهر فأخبره أبو بكر أن الضمير في قوله ليظهره عائد إلى الدين لا إلى لرسول صلى الله عليه وآله وسلم.
فصل
وأما استدل به على فسق عثمان رضي الله عنه فوجوه منها أنه ولَّى أمور المسلمين من لا يصح للولاية حتى ظهر من بعضهم الفسق ومن بعضهم الخيانة وأنه قصر الولايات على قرائنه، قالوا: وهذا يوجب سقوط عدالته وفسقه.
والجواب قالت المعتزلة: أما توليته للخونة والفسقة فإنه لم يعلم ذلك من حالهم حتى ظهر، فلما ظهر عزلهم وقد كان يحسن الظن بهم كغيرهم من المسلمين ولن يجب في الإمام أن يكون عالماً بالسرائر وقد ولَّى أمير المؤمنين عليه السلام قوماً ظهر منهم الخيانة كالقعقاع بن شور فإنه ولاه نيسان وأخذ مالها ولحق بمعاوية وولاَّ الأشعث اذربيجان، ففعل في مالها ما فعل، وولا أبو موسى الحكم فخان فيه وولاَّ ابن عباس البصرة فخان في مالها.
وأما كون عثمان ولاَّ أقاربه فلا عتب في ذلك، ولعله رأى ذلك أثبت لأمره وأشد لشوكته وأهيب له ليكون أشد تمكناً من عزلهم وقد ولاَّ أمير المؤمنين أقاربه، فولاَّ عبد الله بن العباس البصرة وولا قثم مكة وعبيد الله اليمن حتى نقم عليه الأشتر وقال: على ماذا قتلنا الشيخ بالأمس.
وبالجملة: فطريق هذا الاجتهاد الاجتهاد فلا يكون له مدخل في التخطية عليه فضلاً عن الفسق.
ومنها أنه أوَى الحكم بن أبي العاص وهو طريد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وولا مروان بن الحكم أمر نفسه ودفع إليه خاتمه حتى أمر بقتل محمد بن أبي بكر وغيره، وكان هو السبب في الحصار، وفي أكثر الفتنى، فلم يقتله عثمان ولا عزره، وذلك فسق منه.
والجواب: أما إيواءه للحكم فلأنه روي أنه استأذن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في رده فأذن له فلم يقبل قوله أبوب كر وعمر حتى أفضى إليه الأمر فعمل بما علم.
وأما توليته مروان فلأنه أحسن به الظن كغيره ممن تقدم ذكره، وأما أنه الذي كتب في قتل محمد بن أبي بكر وغيره فلعله لم يتوضح لعثمان ذلك من حاله /422/ وإنما وجد خط وعليه خاتم عثمان فخلف عثمان ما كتب ولا أمر فصدقه الصحابة وعذروه وطلب أهل الحصار أن يدفع إليهم مروان لغلبة ظنهم أنه الذي كتب لأنه يشبه خطه والخاتم كان معه، فلم ير عثمان تسليمه إليهم؛ لأنه لم يتيقن ذلك من حال مروان وإن غلب في ظنه، وذلك هو الواجب؛ لأنه كيف يدفع إليهم رجلاً يقتلونه لأجل ظنهم ظنه.
ومنها ما روي أنه أحرق المصاحف وجمع الناس على قراءة زيد، قالوا: واحرق المصاحف فسق بل كفر.
والجواب: إنما يكون كفراً إذا قصد الاستخفاف، وأما إذا قصد تحصينه من الاختلاف وجمع الناس على قراءة واحدة للمصلحة فلا عتب فيه.
يوضحه أنه لم ينكر عليه أحد من الصحابة إلا ابن مسعود، وأيضاً فإذا جاز لأحدنا تخريب المسجد ليبنيه بناء حسناً جاز إحراق المصاحف للمصلحة وإن كان غير الإحراق أولى منه كالبل والتمزيق لبشاعة الإحراق وإيهامه الخطأ.
ومنها أنه ضرب ابن مسعود بالدرة وهو من أكابر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حتى روي أن ابن مسعود كان يكفره ويسبه.
والجواب: قال أبو علي: لم يصح أنه ضرب ابن مسعود ولا أنه كان يسبه وإنما هي رايات من يريد التنفير عن الصحابة.
قال: وقد روي أن ابن مسعود كان يغلظ الكلام على عثمان لأجل أنه عزله ونقص من عطائه.
قال: وقد روي أن بعض غلمان عثمان لما سمع كلام ابن مسعود ضربه فأنكر عثمان رضي الله عنه فعل غلامه واعتذر إلى ابن مسعود فلم يقبل عذره وكان يسلم فلا يرد ابن مسعود السلام، وهذا كله إن ثبت فالخطأ فيه من ابن مسعود؛ لأن عثمان إن كان الإمام فهو أفضل من ابن مسعود، وكان الواجب أن يقبل عذره.
وعلى الجملة، فمع هذه الاحتمالات وحسن الظن بالصحاب لا يمكن القطع على فسق عثمان.
ومثل هذا الجواب عن قولهم أنه ضرب عماراً فإنه لم يصح ذلك، قال الحاكم وأبو لعي: وقد روي أنه لما حوصر عثمان ذكر له قصة عمار فاعتذر وقال: السبب في ذلك أنه أتاني سعيد وعمار وأرسلا إلي من باب الدار أن ابرز إلينا نذاكرك في أشياء فعلتها فأرسلت إليهما أني مشغول فانصرفا إلى الغد، فانصرف سعيد وأنا عمار فأعدت الرسول مراراً فلم يذهب فيناوله الغلام بغير أمر أمري والله ما أمرت وها أنا ذا فليقتص مني عمار، وهذا غاية الاعتذار من عثمان رضي الله عنه، لا يثبت بذلك خطؤه فضلاً من فسقه.
ومنها ما روي في قصة أبي ذر أن عثمان أشخصه من الشام لهوى معاوية ونفاه إلى الربذة.
والجواب: قال أبو علي: ليس بصحيح والرواية الصحيحة أن معاوية كتب من الشام يشكوا أبا ذر فبعث إليه عثمان /423/ يسأله أن يصير غلى المدينة، فلما وصل المدينة قال له عثمان ما أخرجك إلى الشام؟ قال: لأني سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: إذا بلغت عمارة المدينة موضع كذا فاخرج عنها، فلذلك خرجت، قال: فأي البلاد أحب إليك بعد الشام قال: الربذة، قال: فصر غليها إن شئت، وقد روي أنه قيل لأبي ذر، أعثمان أنزلك الربذة؟ قال: لا بل اخترت ذلك، وروي أنه قال: أخبرني عثمان أن أنزل حيث أشاء فاخترت الربذة، قال: ولو قدّرنا صحّة ما رووه من جميع ذلك فللإمام أن يفعله إذا رآه مصلحة وأن يؤدب من أغلظ له الكلام، وربما أنه رأى إخراجه صلاحاً لئلا ينفر الناس من طاعته ويصغر هيبته وقدره عند الناس.
ومنها: ما رووا أنه عطل الحدود فعطل الحد في عبيد الله بن عمر حين قتل الهرمزان بعد إسلامه، فلم يقده منه، وكان أمير المؤمنين يطلبه للقصاص فلحق بمعاوية وأراد أن يطل الحد في الوليد بن عقبة حتى حدَّه أمير المؤمنين.
والجواب: قال أبو لعي: لم يكن للهرمزان ولي يطلب بدمه، والإمام ولي من لا ولي له، وحينئذٍ فللإمام أن يقتل وله أن يعفوا.
وقد روي أنه استشار الصحابة في العفو عنه ورأى العفو وعلّل ذلك بأن قال: يبلغ العدو أن الملمين قتلوا إمامهم وابنه إمامهم وابنه فيشمت أهل الكفر واستحسنت الصحابة ذلك فعفا عنه وأخذ منه الدية إلى بيت المال، قال: ولم يثبت أن أميراً المؤمنين كان يطلبه ليقتله؛ لأنه لا يجوز قتل من قد عفا عنه ولَّى المقتول، وإنما روي أن أمير المؤمنين ، قال: لو كنت مكان عثمان لقتلته، وذلك كان أقوى في الاجتهاد عند أمير المؤمنين رضي الله عنه.
وقال: وأما الوليد بن عقبة فإنما حده علي بأمر عثمان.
ومنها أنه كان يؤثر أهل بيته بالأموال العظيمة وأنه دفع إلى أربعة نفر أزواج بناته أربعمائة ألف دينار والتبذير في بيوت الأموال فسق.
والجواب: أنه ثبت أنه أعطاهم، فلم يثبت أنه أعطاهم من بيت المال، وجائز أن يعطي من ماله، فقد كان له مال عظيم كغيره من الأكابر.
على أنه لا يمتنع أن يراه مصلحة أن يعطى من بيت المال أو لعله استقرض ذلك من بيت المال وأكثر ما فيه أنه أخطأ فلا دليل على الفسق.
ومنها ما رووا أنه منع الناس من الرعى في أرض مخصوصة، وقد قال صلى الله عليه وآله وسلم: ((الناس سواء في الماء والكلا)).
والجواب: إن ثبت ذلك فقد روي أنه قال: (منعتها لإبل الصدقة) وذلك جائز إذا رآه صواباً وأكثر مافيه الخطأ.
وقد روي أنه لما أنكر عليه ذلك استغفر الله وتركها بعد أن اعتذر أنه منعها لإبل الصدقة.
ومنها أن أكابر الصحابة كانوا بين قاتل له وراض بقتله وخاذل له، وذلك دليل على فسقه ومخالفته.
والجواب: قالت المعتزلة: المشهور أن الصحابة لم يقتلوه ولا أمروا بقتله وإنما لم يقاتلوا معه لأنه أمرهم بترك القتال خشية انتشار الفتنة، ولم يعلم ولا علموا /424/ أن الأمر ينتهي إلى القتل، والمروي أن الحسن والحسين كانا يقاتلان معه في الدار، فلما تضايق الأمر أرسل عثمان الحسن إلى أبيه أن قل له يأتيني فحين نهض ليأتيه أتاه العلم بقتله فقاتل القتلة وقال: اللهم إني أبرأ إليك، وروى أنه رضي الله عنه سأل عن سبب خذلانه لعثمان، قال: إن عثمان قال: من سل سيفاً في هذه الوقعة فليس مني، فلذلك تركناه ولم نعلم أن الأمر ينتهي إلى القتل، ثم قال: اللهم العن قتلة عثمان في البر والبحر.
فإن قيل: لماذا نسب إلى علي القتل؟
قلنا: نسبه إليه أهل الغواية ليجدوا سبيلاً إلى مخالفته وطلب الدنيا كمعوية وأشباهه.
فإن قيل: فما باله لم يعد من قتلة عثمان.
قلنا: لوجهين: أحدهما أنه لم يتعين قالته وإنما دخل عليه أعلاج لم يدر أيهم قاتله.
الثاني: أن علياً كان الإمام وليس للإمام أن يعيد من قتله إلا بعد أن يخاصم أولياؤهم ويقيموا الشهادة على قاتله ولم يكن شيء من ذلك، ولهذا روي أنه رضي الله عنه قال لبني أمية: إن كان لكم دمٌ عند أحد فخاصموه إلي حتى أقضي فيه بحكم الله تعالى.
فصل [فيما يطعن به أهل الزيغ على أمير المؤمنين رضي الله عنه]
اعلم أنه أجل قدراً وأشهر فضلاً من أن يطعن عليه أو يدعي كفره أو فسقه، لكنا نجيب عما قالوه ليظهر بطلانه وضعفه، وقد نقموا لعيه وجوهاً منها قتاله لأهل الصلاة من أمة محمد عليه السلام.
والجواب: قد قامت الأدلة على صحة إمامته وعظم سابقته ، بل على عصمته فالخطأ على من قاتله لا عليه.
وبعد، فقد قال تعالى: {وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا..} إلى قوله: {فقاتلوا التي تبغي} ولا بغي أعظم من الخروج على إمام المسلمين.
وبعد، فقد قال النبي عليه السلام: ((سيقاتل الناكثين والقاسطين والمارقين)) وقال عليه السلام: ((سيكون هنات وهنات بعدي فمن أراد أن يفرق بين هذه الأمة وهم جمع فاضربوه بالسيف كائناً نم كان)) ولا فرقة أعظ من الخروج على الإمام.
وبعد، فقد قال أبو بكر رضي الله عنه: إنكم تقرؤون هذه الآية {يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم} وتضعونها في غير موضعها، وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: ((ما من قوم يعلمون بالمعاصي ثم لا يغيرون إلا ويوشك أن يعمهم الله بعقاب)) وأمير المؤمنين إنما قام في تغيير المنكر حتى قال الفقهاء: لو لا سيرة أمير المؤمنين في البغاة ما علمنا كيف يحكم فيهم.
وبعد، وقع الإجماع على صحة مقاتلة اللصوص وهم من أهل الصلاة، فكذلك أهل البغي أولى وأحرى، ولهذا قال عليه السلام: (ليس إلا مقاتلتهم أو الكفر بما أنزل على محمد) وقال: (والله ما لمن فارق الحق إلا ضرب العنق).
وبعد، فقد تابعه على فعله أكابر المهاجرين والأنصار أهل بدر وغيرهم، وروي أنه قال لأصحابه: (أتروني عدلاً؟ قالوا: نعم ولو كنت غيرة لك لقومناك /425/ بأسيافنا، فقال: الحمد لله الذي جعلني بين قوم لو أردت غير الحق لقوموني بأسيافهم).
ومنها أنه أراد أن يتزوج من بني المغيرة ومعه فاطمة فاستأذن النبي صلى الله عليه وآله ولسم فغضب فصعد المنبر وقال: ((إن ابن أبي طالب يستأذنني أن يتزوج من بني المغيرة ولا آذن بم لا آذن وغنما فاطمة مني يزينني ما زانها ويؤذيني ما آذاها اللهم إلا أن يريد ابن أبي طالب أن يطلق ابنتي وينكح ابنتهم)).
والجواب: أنه لا يصح شيء من هذه الروايات وإن صح فإنما أراد أن يستأذن النبي فإن أذن فعل وإلا فلا، ومن البعيد أن ينكر النبي هذا الإنكار في أمر هو له حلال من الله وأكثر مافيه أنه هفوة من لعي أن يجمع بين فاطمة وبين بنت أبي جهل أو يرضى بها بدلاً منها، ولهذا رووا أنه قال النبي في آخر كلامه: ويأبى الله أن يجمع بين بنت وليه وبنت عدوه.
ومنها قصة التحكيم قالوا: فحكم وهو يعلم أنه على الحق وأيضاً فإنه رضي بأبي موسى وعمر وهو يعلم قصورهما عن هذه المرتبة، قالوا: وهذا يقتضي أنه شك في نفسه وهذا خطأ.
والجواب: أنه رضي الله عنه لما غلب على رأيه في التحكيم حكم خشية المضرة على المسلمين إن أبا ذلك فقد روي أنهم أرادوا قتله وكادت الفتنة تظهر بين أصحابه وظن أنهما لا يحكمان إلا بالحق.
وبعد، فقد علم أن كتاب الله يؤكد إمامته ووجوب طاعته فعدل إليه لأنه أسهل من القتال لا سيما في دفع الفتنة بين أصحابه، وبعد، ففي الحكم بكتاب الله إزالة لشبهة المخالفين من أهل الشام فهو يجري مجرى المناظرة وهو إنما رضي يحكم الله تعالى.
وبعد، فقد أجاز الله التحكيم في كتابه فقال: {فابعثوا حكماً من أهله..} الآية، وقال: {يحكم به ذوي عدل منكم} وأما أنه رضي بمحو اسم أمير المؤمنين من صحيفة الصلح، فإنما فعله لأنه رآه أصلح، وقد صالح رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يوم صلح الحديبية على مثل ذلك ولم يدل على أنه شك في نبوته وأخبر علياً يوم الحديبية بأنه يجري لك مثل ذلكن فجرى يوم صحيفة التحكيم، وأما قولهم كيف رضي بتحكيم الفسقة كعمرو وأبي موسى فلم يرض به، ولكنه أكره عليه، ولهذا كان هواه في أن يحكم ابن عباس أو الأشتر فأبا أصحابه إلا أبا موسى.
وأما الباب الثالث وهو في الآثار الواردة في النبي عن سب الصحابة رضي الله عنهم
فهي أكثر من أن تحصى، ولكنا نذكر قلياً.
منها ما روى أبو سعيد عنه صلى الله عليه وآله وسلم: ((لا تسبوا أصحابي فوالذي نفسي بيده لو أن أحدكم أنفق مثل أحد ذهباً ما أدرك مدائحهم ولا نصيفه)).
ونه صلى الله عليه وآله وسلم: ((إن الله اختارني واختار لي أصحابي وجعل لي وزراء وأظهاراً مفن سبهم فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين /426/ لا يقبل الله منهم يوم القيامة صرفاً ولا عدلاً)).
عبدالله بن المغفل عنه صلى الله عليه وآله وسلم: ((الله الله في أصحابي لا تتخذوهم عرضاً بعدي فمن أحبهم فبحبي أحبهم ومن أبغضهم فبغضي أبغضهم)).
أنس عه صلى الله عليه وآله وسلم: ((لا تسبوا أصحابي فإنه يجيء في آخر الزمان قوم يسبون أصحابي فإن مرضوا فلا تعودهم وإن ماتوا فلا تشهدوهم)).
عبد الله بن سلام، عن أبي سعيد: ((لا تسبوا أصحاب محمد فوالله لئن سلكتم طريقتهم لقد سبقتم سبقاً بعيداً؛ ولئن أخذتم يميناً أو شمالاً لقد ضللتم ضلالاً بعيداً)).
هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة عنه عليه السلام: ((شرار أمتي أسبهم لأصحابي)).
جابر عنه عليه السلام: ((من سب أصحابي فعليه لعنة الله ومن حفظني فيهم فأنا أحفظه يوم القيامة)).
أبان بن عباس، قال: أشهد أني سمعت أنس بن مالك يقول: أشهد أني سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول وقد غضب من شيء جرى بين أبي بكر وبين رجل فقال وقد ظهر الدم في وجهه: ((ويحكم ذروا أصحابي وأصهاري واحفظوني فيهم فإنه من حفظني فيهم كان من الله عليه حافظاً)).
ابن عمر، عنه عليه السلام: ((لا تذكروا مساوئ أصحابي فيختلف قلوبهم واذكروا محاسن أصحابي تأتلف قلوبكم)).
وابن عباس عنه عليه السلام: ((كفا بالمرء نفاقاً أن يسب البدريين)).
وبالجملة فعلى المرء أن ينظر في مكانهم عند رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وفضائلهم ثم ينظر في حال نفسه فإن وجدها خيراً منهم فليحمد الله على أن عصمه وجعله خيراً من أصحاب نبيه وإن وجدهم خيراً منها فليعرف لهم قدرهم ويترك الحسد والبغي والغي يعوذ بالله منه)).
وأما الباب الرابع وهو في إقامة الدلالة على تزكيتهم والترضية عليهم
فإنه إذا تظاهرت الأدلة في تزكيتهم جملة وتفصيلاً ولم يرد دليل ينقل عن ذلك بطل قول من يفسقهم، ووجب على كل مسلم يعظمهم وموالاتهم كغيرهم من سائر المؤمنين، وإنما نورد في هذا الباب اليسير من ذلك على الجملة دون ما يختص كل واحد منهم من الفضائل حسنة التطويل ونحن نذكر من ذلك ما ورد ي الكتاب والسنة والقياس وما ورد عن أفاضل أهل البيت عليهم السلام.
فصل
وأما ما ورد من الكتاب في ذلك فنحو قوله: {والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان رضي الله عنهم ورضوا عنه} ونحو قوله: {لقد رضي الله عن المؤمنين إذا يبايعونك تحت الشجرة}، وقوله: ورضوا عنه، ونحو قوله: {كنتم خير أمة أخرجت للناس} وهو خطاب مواجهة يدخل في الصحابة لا محالة، ونحو قوله: {والسابقون أولئك /427/ المقربون} ولا سبق فوق سبق المهاجرين الأولين ونحو قوله: {هو الذي أيدكم بنصره وبالمؤمنين..} الآية ونحو قوله: {رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا}.
فصل
وأما السنة فنحو قوله صلى الله عليه وآله وسلم: ((أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم)) وقوله: ((احفظواني في أصحابي فلو أنفق أحدكم ملئ الأرض ذهباً ما بلغ مدا أحدهم ولا نصيفه)) وقوله: خياركم القرن الذين بعثت فيهم ثم الذين يلونهم..)) الخبر، وقوله: ((لن تجتمع أمتي على ضلالة)) ونحوه مما يدل على أن الإجماع حجَّة ومعلوم أنه لا ينعقد في عصرهم إلا بقولهم، ولو كانوا فساقاً لا يعقد وإن خالف أحدهم، وقوله: لعل الله اطلع على أهل بدر فقال: اعلوا ما شئتم فقد غفرت لكم، وعنه صلى الله عليه وآله وسلم: ((رحم الله أبا بكر زوجني ابنته وحملني إلى دار الهجرة وأعتق بلالاً من ماله رحم الله عمراً يقول الحق وإن كان مراً رحم الله عثمان تستحي منه الملائكة، رحم الله علياً يدور مع الحق حيث دار)). وعنه صلى الله عليه وآله وسلم: ((احفظوني في أصحابي وأصهاري لا يظلمنكم أحد منهم بمظلمة فإنها مظلمة لا توهب يوم القيامة))، وعنه عليه السلام في خطبته: ((أيها الناس إني راض عن أبي بكر وعمر وعلي وعثمان وطلحة والزبير وسعد وعبد الرحمن والمهاجرين فاعرفوا ذلك لهم)).
فصل
وأما طريقة الاعتبار فهو أن من فحص عن أحوالهم وجدهم قد اتصفوا بصفات ليست إلا لأهل الفضل.
منها صحبة الرسول لهم ومحبتهم له لا شك في ذلك وإلا لم يكونوا يبذلوا مهجهم بين يديه ويهون عليه قتل الإباء والأولاد والأخوة ي نصرته وهذا غاية المحبة والطاعة.
ومنها السعي في إظهار دين الله وإقامة عمود الدين خاضوا غمرات الموت في ذلك حتى أحيا الله بهم الحق وأمات الباطل.
ومنها الجهاد في سبيل الله وقتل الأقارب على الحق.
ومنها المواساة بالأموال والأنفس والإنفاق في سبيل الله حتى كانوا يتنافسون في ذلك وأنزل الله: {لا يستوي منكم من أنفق قبل الفتح..} الآية.
ومنها ما يختصون به في أنفسهم من العلم والزهد والصبر والسخاء والنجدة والورع والتواضع كما هو مشهور في سيرهم.
فصل
وأما ما ورد عن أمير المؤمنين فيهم فهو ضربان: جملي وتفصيلي.
أما الجملي فهو أن الظاهر من حاله رضي الله عنه المناصرة لهم والمعاضدة لهم والمشاورة والمدح والصلاة خلفهم والدعاء لهم باسم الخلافة، وخرج مع أبي بكر في قتال أهل الردة وأخذ نصيبه من الفي حتى كانت الحنفيَّة أم ولده محمد من سبايا أهل الردة والمشهور من حال عمر رضي الله عنه التعويل عليه ومشاورته والتعويل عليه في المهمات والرجوع إليه في المعضلات.
وعلى الجملة فمعاملته لهم /428/ تخالف معاملته لمعاوية وعمرو بن العاص ونحوهم ممن كان يعتقد فسقهم.
وأما التفصيلي فمن ذلك ما رواه سويد بن أبي غفلة، قال: مررت بقوم ينتقصون بأبي بكر وعمر فدخلت على أمير المؤمنين فحكيت له وقلت له: لولا أنهم يرون أنك تضمر لهم أمثل ما أظهروا ما اجتروا على ذلك، فقال رضي الله عنه: أعوذ بالله أعوذ بالله أن أضمر لهما إلا الحسن الجميل أخوا رسول الله وصاحباه ووزيراه، ثم نهض باكياً وصعد المنبر فخطب وقال: ما بال أقوام يذكرون سيدي قريش بما أنا منه متنزه، والذي فلق الحبة وبرأ النسمة لا يحبهما إلا مؤمن ولا يبغضهما إلا منافق فاجر، صحبا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على الصدق والوفاء، ثم أطال في مدحهما وتهدد من يعود إلى الوقوع فيهما.
ومنه ما روي عن جعفر بن محمد عن أبيه، عن جده أن رجلاً من قريش أتى أمير المؤمنين رضي الله عنه فقال: سمعتك تقول: اللهم أصحلنا بما أصلحت به الخلفاء الراشدين، قال: من هم الخلفاء الراشدون؟ قال: حبيباي أبو بكر وعمر إماما الهدى وشيخا الإسلام ورجلا قريش والمقتدى بهما بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من اقتدى بهما فقد هدي إلى صراطٍ مستقيم.
ومن÷ ما روي أنه عليه السلام سئل عن عمر، فقال: ناصح الله فنصحه، وسئل عن أبي بكر فقال: كان أوَّاهاً منيباً، وسئل عن عثمان فقال: إني لأرجو أن أكون أنا وهو وطلحة والزبير من الذين قال الله فيهم: {ونزعنا مافي صدورهم من غل إخواناً على سر متقابلين}.
ومنه ما روي أن عمر أمسك على يد أمير المؤمنين فقال: أرسلني يا قفل الفتنة فقال: وما ذاك يا أبا الحسن؟ قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: لا يصبكم فتنة وهذا فيكم)).
ومنه ما روي أن الحسن والحسين أتيا مرة إلى أبيهما فرحين بعطاء أعطاهما إياه عمر، ففرح لفرحهما، وقال: أما إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: عمر سراج أهل الجنة، فرجعا إلى عمر فبشراه بما رواه أبوهما، ففرح واستدعى بقرطاس ودواه وكتب، حدثني سيدي شباب أهل الجنة عن أبيهما عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ((عمر سراج أهل الجنة)) ثم أوصى أن يدفن معه ذلك القرطاس إذا مات، فهذا طرف مما روي عن أمير المؤمنين في أحوالهم، ولكن لا يشتبه على عاقل أنه قد كان في قلبه نوع وحشة وتجرم لأجل استبدادهم بالأمر دونه مع كونه أحق به، لكن ذلك لم يمنعه عن سع الأخلاق والمعاملة الجميلة والأخذ بالعفو والصبر كما هو مطابق لفضله ومحله.
وروى الحاكم بإسناده إلى أبي أيوب العتكي عن علي رضي الله عنه انه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ((إن الله أمر بي أن اتخذ أبا بكر والداً وعمر مشيراً وعثمان سنداً وأنت يا علي أخاً وصهراً قد أخذ الله ميثاقكم /429/ في أم الكتاب لا يبغضكم إلا منافق أنتم خلائف نبوتي وعقدة ذمتي وحجة على أمتي فلا تقاطعوا ولا تدابروا وتظاهروا)).
فصل
وأما ما ورد عن ذرية أمير المؤمنين الطاهرة الزكية، فمن ذلك ما روي عن الحسن والحسين من الموالاة للخلفاء والمناصرة لهم والمدح وإظهار القول الجميل ولم يرو أحد من أهل النقل أنهما لعنا الصحابة ولا فسقاهم ولا أساءا القول فيهم وهما سيدا شباب أهل الجنة وأعرف الناس بأحوال الصحابة وأحوال نبيهم.
ومنه ما رواه الإمام عماد الإسلام عن الحسن عليه السلام أنه قال: لقد أمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أبا بكر أن يصلي بالناس وإني لشاهد فرضينا لدنيانا من رضيه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لديننا.
وروي أيضاً أن عمر لما وضع الديوان وفرض العطايا للصحابة والمهاجرين والأنصار وفرض للحسن والحسين نصيباً جزلاً وفرض لولده عبد الله أقل من أحدهما، فقال لأبيه: لم رضت حقي دون حقهما، فقال له عمر رضي الله عنه: أتيتني بأبٍ من أبيهما وجد مثل جدهما وأم مثل أمهما، وهذه مقالة من ليس بينه ويبنهم عداوة ولا بغضاً.
وروى أيضاص أن الحسن كتب إلى أهل البصرة كتاب الدعوة وترحم فيه على أبي بكر وعمر، ثم قال: إن الله بعث محمداً وكان الناس على ضلالة، فهدى به الخلق ثم قبضه ونحن أحق الناس بمكانه غير أن قوماً تقدمونا واجتهدوا في طلب الحق فكففنا عنهم تحرياً لإطفاء نار الفتنة حتى جدث قوم غبّروا وبدلوا.
ومنه ما روي عن علي بن الحسين عليه السلام من الثناء الحسن والوصف الجميل.
وحكى أن زيد بن علي عليه السلام سمع من يروي عن أبيه التبري منهما فأكذبه فقال: لا تكذب على أبي إن أبي كان يجنبني عن كل شر حتى اللقمة الحارة، أفتراه يخبرك بأن دينك وإسلامك لا يتم إلا بالتبري منهما ويهملني عن التعريف بذلك.
ومنه ما روي أن زيد بن علي كان كثير الثناء عليهم والترحم، وينهى عن سبهما ويعاقب على ذلك، والمشهود أن سبب تلقيب الرافضة بهذا الاسم أنهم قالوا: لا نبايعك حتى تبرأ من الشيخين فقال: كيف أتبرأ منهما وهما صهرا جدي وصاحباه ووزيراه وجعل يثني عليهما فرفضوه، وروي عنه أنه قال: كان منزلة علي بن أبي طالب من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم منزلة هارون من موسى إذا قال له أصلح ولا تتبع سبيل المفسدين فألصق كلكلة ما رأى صلاحاً، فلا رأى الفساد بسط يده وشهر سيفه ودعا إلى ربه وبين أنه خليفة محمد كما كان هارون خليفة موسى وإنما توقف لأن ما كان من القوم من الخلافة والاستبداد بالأمر كان شرعاً وصلاحاً وإنما لما رأى الفساد لما يتلبث في إظهار دين الله بالسيف.
قال الإمام عماد الإسلام: هذا كله كلام زيد بن علي بألفاظه /230/ على ما رواه الشيخ أحمد بن الحسن الكنّي.
ومنه ما روي عن عبد الله بن الحسن بن الحسن وأولاده فإنهم كانوا جميعاً على موالاة الشيخين وإظهار المحبة لهما والتظاهر بسيرة آبائهم فيهما ولم يظهر من جهتهم إكفار ولا تفسيق ولا طعن إلا ما اتفق عليه أولهم وآخرهم من أن الصحابة استبدوا بالأمر على علي وهو أحق به منهم، وقد قدمنا أن ذلك لا يكون طعناً فيهم.
يوضحه أن أكثر المعتزلة قائلون بإمامة هؤلاء المذكورين كلهم والمشهور أنهم خرجوا معهم وجاهدوا وباشروا كعمر بن عبيد وبشير الرحال والجاحظ وغيرهم، ولو ظهر لهم منهم طعن في الصحابة أو تكفير أو تفسيق لما قالوا بإمامتهم لاعتقادهم أن الصحابة كانوا أئمة حق.
ومنه ا روي أن القاسم سئل عن الصحابة فقال: {تلك أمة قد خلت} الآية، وهذا دليل على أنه يكن يسب ولا يرتضي السب.
ومنه ما روى الصاحب بن عباد، قال: عندي بخط الناصر الترحم عليهما، وقال بعض فقهاء المؤيد بالله: سمعت عمي الصوفي يقول: سمعت نيفاً وسبعين شخصاً ممن حضر مجلس الناصر للحق يقولون: أملا الناصر شيئاً عن الشخصين، ثم قال: رضي الله عنهما كفَّ المستملي أن يكتب الترضية، وكان الناصر ينظر إليه فزجره وقال: لم لا تكتب الترضية فإن مثل هذا العلم لا يؤثر إلا عنهما وعن أمثالهما.
وعن الكني قال: قال الناصر في آخر أبواب كتاب الإمامة ولم أصف ما وصفت من اعتراضهم هذا أراده مني لدفع فضل أبي بكر رضي الله عنه ولحقه وصحبته من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وإني لمحب له والحمد لله تعالى، هذا كلام الناصر عليه السلام بلفظه.
ومنه ما روى في الشيخ أبو سعيد قال: سمعت القاضي يوسف قال: سمعت المؤيد بالله يقول: الحمد لله الذي ازداد كل وقت لهم حباً، قيل: وكان في آخر عمره يجتهد في الدعاء إلى فضلهما ويظهر ذلك من نفسه.
ونمه قول الإمام أبي عبد الله الحسن بن إبراهيم: الجرجاني حين سأل نفسه فقال: إن قيل ما حكم من خالف هذه النصوص الدالة على إمامة أمير المؤمنين؟ فإن قيل: إنه يكون مخطئاً غير كافر ولا فاسق ومن أجل ذلك أن أمير المؤمنين كأن يوليهم الذكر الجميل ويثني عليهم الثناء الحسن.
ومنه ما رواه الثقات من أهل زماننا عن الإمام عماد الإسلام يحيى بن حمزة من الترضية والتزكية وكتبه مشحونة بذلك، وكذلك ما رووه وهو مشهور عن الإمام المهدي لدين الله علي بن محمد قدس الله روحه.
ومنه ما سمعه الناس وسمعناه من لسان إمام زمانا وحجَّة دهرنا الإمام الناصر لدين الله أمير المؤمنين محمد بن أمير المؤمنين عمر الله أركان الإسلام بطول عمره.
فهذه جملة عن أئمة أهل البيت عليهم السلام فيها لمن أنصف بلاغ وبدونها تصل لجانب الترضية مساع.
وأما ما روي عن الهادي عليه السلام في الأحكام من أن أنكر /431/ على أمير المؤمنين فقد كذب الله ورسوله، ومن كذب الله ورسوله فقد كفر، فمعناه من أنكر ورود هذه النصوص وهي قوله: {إنما وليكم الله ورسوله..} الآية، وقوله صلى الله عليه وآله وسلم: ((من كنت مولاه..)) الخبر، وكذلك خبر المنزلة، فمن زعم أن هذا لم يرد فهو مكذب وليس المراد من أنكر دلالتها على الإمامة؛ لأن المعلوم من حاله عليه السلام أنه ما كان يكفر الصحابة ولا يفسقهم وكيف يقطع عليهم بالإكفار لمجرد الخطأ في مسألة قطعية.
وأما ما روي عن أبي طالب أن الخروج على إمام الحق فسق، فصحيح، وليس فيه أن الصحابة قد خرجوا على أمير المؤمنين عنده.
وأما توقف كثير من متأخري أهل البيت عن السب والترضية فقد قال الإمام عماد الإسلام: التوقف وإن كان أسلم حالاً من السب لكنه لا معنى للتوقف؛ لأنه إذا كان إسلامهم قبل الخلاف مقطوعاً به، وكذلك الترضية والتزكية من جهة الله تعالى ورسوله ولم يحصل دليل قاطع ينقل عن ذلك فلا وه للتوقف وترك المعلوم للمظنون. قال: ولو حسن التوقف لمجرد الخطأ لحسن التوقف في جميع المؤمنين الصالحين؛ لأنه ما من أحد إلا ويلابس في اليوم والليلة كثيراً من المعاصي لا يقطع بكونها كفراً أو فسقاً، وهذا القول الفصل.
يوضحه أنه ما من أحد من العلماء والمشائخ المعتزلة إلا وقد أخطأ في مسألة قطعية في مسائل كثيرة، ومع هذا فنحن نتولاهم ونرضي عليهم فلا أقل من أن يكون حال الصحالة كحال العلماء في الترضة عنهم.
وأعجب من هذا أن الرجل من علماء زماننا وغيرهم يقعد للإقراء والتدريس فيرضي عنه تلامذته في الموقف الواحد مراراً كثيرة وهو يعلم من نفسه مواقعة كثير من الذنوب ويعلم أن الصحابة رضي الله عنهم خير منه عند الله وعند رسوله ومع هذا سمع الترضية عن نفسه وعن غيره من أهل زمانه فلا ينكر، ثم يأبى قلبه الترضية على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، هذا هو الميل الواضح.
وقيل لبعض الناس: لم لا تسب الصحابة؟ قال: وما فعلوا؟ قيل: تقدموا على أمير المؤمنين واستبدوا بالأمر عليه، قال: فماذا قال أمير المؤمنين؟ قيل: سكت، قال: فلا أقل من أن نسكت نحن.
وعلى كل حال فالواجب حسن الظن بالمؤمنين وتعظيمهم وموالاتهم وإن علمنا خطأهم في بعض المسائل القطعية مالم يقطع بكون ذلك الخطأ كفراً أو فسقاً لا سيما أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أهل السابقة والفضل والجهاد في سبيل الله، فلا أقل مما يعاملهم بمثل ما يعامل به بعضنا بعضاً من حسن الظن والقول الجميل، ولقد أحسن القائل حيث قال:
إني أحب أبا حفص وشيعته .... كما أحب عتيقاً صاحب الدار
/432/
وقد رضيت علياً قدوة علماً .... وما رضيت بقتل الشيخ في الدار
كل الصحابة عندي قدوة علم .... فهل علي بهذا القول من عار
إن كنت تعلم أني لا أحبهم .... إلا لوجهك فاعتقني من النار
القول في التفضيل
اختلف الناس في الأفضل بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال أهل البيت وأبو عبد الله وقاضي القضاه وأكثر معتزلة بغداد: أفضل الأمة علي رضي الله عنه.
وروى هذا عن ابن عباس والزبير والمقداد وسلمان وجابر وحذيفة وعمَّار، ومن التابعين عن عطاء ومجاهد وسلمة بن كفيل.
قوال النظام والجاحظ: أبو بكر أفضل، وروي هذا عن عمر وعثمان وأبي هريرة من الصحابة.
ومن التابعين عن الحسن وعمرو بن عبد وغيرهما، وقال أبو هاشم وابو علي بالوقف، وقال بعض الناس: إن كان الخلاف في الأفضل أي أكثر ثواباً فالوقف كما قال الشيخان؛ لأن طريق معرفة كثرة الثواب هو الشرع ولم يرد دليل قاطع على كثرة ثواب شخص معين.
وأما إجماع أهل البيت على أن علياً هو الأفضل فهو وإن كان متواتراً فليس فيه تصريح بأن معناهم بذلك أنه أكثر ثواباً أو أكثر فضلاً لقال بالثاني ولما أمكنه دعوى كونه أكثر ثواباً وإن كان الخلاف في الأفضل بمعنى الأكثر فضائل فالحق ما قاله أهل البيت وغيرهم من أن علياً عليه السلام أفضل الأمة؛ لأنه لا يشتبه على اقل أنه أكثر الناس فضائل وأعلاهم درجة وأقدمهم إسلاماً وأغزرهم علماً وأكثرهم زهداً وأشجهم ورعاً وأعظمهم سابقة وأفصحهم لساناً وأقواهم بصيرة وأكثرهم شجاعةً وأحسنهم بلاء وجهاداً.
والمروي أن المأمون لما نظر أبا العتاهية فقال: أخبرني أي الأعمال أفضل عند قيام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، قال أبو العتاهية: الإسلام فأوضح المأمون أن علياً أول الناس إسلاماً وليس لأبي العتاهية أن يقول أنه أسلم صغيراً؛ لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم دعاه إلى الإسلام وهو لا يدعوا إلا من يصح إسلامه؛ لأن المرجع بالإسلام حينئذٍ إلى التصديق بما جاء به رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأنه نبي، وذلك من التكاليف العقلية، والمعلوم أن التكاليف بالعقليات إنما يقف على كمال العقل وإن كان الرجل ابن خمس سنين أو خمسين سنة فالعبرة بكمال عقله حين أسلم، والبلوغ إنما هو شرط في التكاليف الشرعية كالصلاة ونحوها.
/433/ على أنه لا يمتنع أن يكون من خصائص أمير المؤمنين صحة إسلامه صغيراً وأيضاً فمن الجائز أن يكون قد بلغ فإنه لا يمكن القطع بأنه أسلم قبل البلوغ.
ثم قال المأمون لأبي العتاهية: وأي الأعمال أفضل بعد الإسلام؟ قال: الهجرة، فأوضح المأمون أن هجرة علي كانت أفضل من هجرة أبي بكر؛ لأنه نام على فراش رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ووقاه بنفسه حتى باهى الله به الملائكة فلا يساوى من صحبه في طريقه وهو يعلم أن الله يمنعه من كل شر.
ثم قال المأمون: وأي الأعمال أفضل بعد الهجرة، قال: الجهاد: فبين المأمون أن علياً كان أعظم الناس جهاداً في سبيل الله فإنه الذي كشف الكرب عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم واصطلا نار الحرب حين هرب الناس عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وكان من الذين أنزل الله عليهم السكينة وألزمهم كلمة التقوى وكانوا أحق بها وأهلها.
يزيده وضوحاً أن أول جهاد كان يوم بدر، فكان علي أول من بارز حتى أجمع المفسرون على أن قوله تعالى: {هذان خصمان..} الآية نزلت في المبارزة يوم بدر، وكان أبو بكر حينئذ في بارد ظل العريش مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ثم كان يوم أحد ابتلى بلاء عظيماً حتى جاء النداء من السماء: ((لا سيف إلا ذو الفقار ولا فتى إلا علي)) وسائر الصحابة يصعدون ولا يلون على أحد.
وعلى الجملة فهو رضي الله عنه المقدم في كل فضيلة وسابقة وهو الذي اجتمع يه ما افترق في الصحابة، وروى بعضهم السابقون ثلاثة علي وأبو بكر وزيد وعلماء الصاحبة ثلاثة علي ومعاذ وابن مسعود والزهاد ثلاثة علي وعمر وأبو ذر، والمجاهدون ثلاثة علي والزبير وأبو دحانة، والقراء ثلاثة علي وعثمان وأبيّ والمفسرون ثلاثة علي وابن عباس وابن مسعود والأسخياء ثلاثة علي وأبو بكر وعثمان والصديقون ثلاثة حزبيل مؤمن آل فرعون وحبيب النجار مؤمن آل ياسين وعلي بن أبي طالب مؤمن آل محمد والأفضل من قرابات رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ثلاثة علي وجعفر والعباس، ورجال أهل البيت الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً ثلاثة علي والحسن والحسين، فانظر إلى هذه الخصال، هل اجتمعت ي أحد غيره ولله القائل:
من فيه ما في جميع الناس كلهم .... وليس في الناس مافيه من الحسن
والمشهور عنه عليه السلام يوم الشورى أنه احتج عليهم ف المناشدة المعروفة حتى عد بضعاً وعشرين فضيلة لم يشاركه فيها أحد، فكيف يشتبه على أحد كونه أفضل الناس بهذا المعنى، ولو لم يكن إلا خبر الغدير وخبر المنزلة وخبر الطائر وخبر المؤآخاة وخبر سد الأبواب وفضيلة فتح خيبر وفضيلة حمل اللواء يوم القيامة وفضيلة الوصاية وفضيلة إذهاب الرجس وأشباه هذا مما لم يوجد لأحد وقد صرح الصدر الأول بهذا.
قال عمر رضي الله عنه: لولا علي لهلك عمر، وقال أبو الدرداء /434/: العلماء ثلاثة، رجل بالشام ـ يعني نفسه ـ ورجل بالكوفة ـ يعني ابن مسعود ـ ورجل بالمدينة ـ يعني علياً عليه السلام ـ قال: والذي بالشام يسأل الذي بالكوفة والذي بالكوفة يسأل الذي بالمدينة.
عائشة رضي الله عنها: أقضاكم علي، والقضاء جامع لعلوم الاجتهاد.
وسئل جابر عن علي رضي الله عنه فقال: ذلك من خير البشر.
سالم بن أبي الجعد: دخلنا على جابر فقلنا: من خير الأمة؟ فقال: علي، ومن لم يقل فقد كذب.
الشافعي بإسناده عن الحسن عليه السلام يوم مات علي لقد فقد اليوم رجل ما كان على وجه الأرض بعد النبيين أفضل منه، ولم ينكر عليه أحد، وقد قالها على المنبر يحيى بن آدم: ما أدركت أحداً بالكوفة إلا يفضل علياً عليه السلام غير سفيان الثوري.
عائشة: علي أعلم الناس بالسنة.
وفضائله عليه السلام أجل من أن تحصى وللصحابة عليهم السلام فضل كثير لكنه لا يدانيه.
الكلام في الإمامة
الإمامة في اللغة: هي التقدم سواء كان عن استحقاق أم لا، وسواء كان في خير أو شر كما قال تعالى: {يوم يدعو كل أناسٍ بإمامهم}.
وفي الاصطلاح: هي رياسة عامة لشخص واحد في أمور مخصوصة على وجه لا يكون فوق يده يد أخرى.
قلنا: رياسة عامة احتراز من الخاصة كرئاسة الرجل على أهل بيته.
وقلنا: لشخص واحد احترازاً من النبوة فإنها قد تثبت لاثنين وأكثر، والفارق بينهما هو الإجماع.
قيل: ووجهه أن مع كثرة الأئمة يحصل التشاجر والمنازعة، ولهذا قال عمر: سيفان في غمد إذن لا يصلحان بخلاف النبوة، فلا يحصل فيها شيء من ذلك لعصمة؛ ولأن النبوة لطف والألطاف تختلف بخلاف الإمامة.
قلنا: في أمور مخصوصة نحو أخذ الزكوات طوعاً وكرهاً وتجييش الجيوش وإقامة الجمعات وحفظ بيض الإسلام وإقامة الحدود ونحو ذلك.
قلنا: على وجه لا يكون فوق يده يد أخرى احترازاً ممن يتولى من جهته الإمام فإنه ينفذ هذه الأحكام، لكن يد الإمام فوق يده.
فصل
والظاهر من كلام العلماء أن الإمامة واجبة، ويحتجون لذلك بإجماع الصحابة حيث فزعوا إلى نصب إمام بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من دون تناكر وفيه إشكال من وجهين:
أحدهما: أن إجماع الصحابة أو غيرهم على الفعل لا يدل على وجوبه، بل لا بد أن يعلم أنهم فعلوه على وجه الوجوب، فأما مالم يعلم الوجه الذي أقوعوا عليه الفعل لا يمكن دعوى الوجوب لجواز أن يفعلوه على وجه الندب، ولهذا أجمعوا على فعل صلاة الوتر ولم يدل ذلك على وجوبها، فإن ثبت بالتواتر أنهم أجمعوا على /435/ على جهة الوجوب فذاك وإلا لم يكن القطع بمجرد فعلهم على أنها للوجوب.
الوجه الثاني: أنه قد أجمع المحققون على جواز خلو الزمان من إمام، فلو كانت الإمامة واجبة في عصر الصحابة لوجبت في كل عصر كسائر ما أجمعوا عليه لو وجبت في كل عصر لما جاز خلو الزمان من إمامٍ؛ لأنه يكون فيه إجماع الأمة على الخطأ وهو الإخلال بالواجب.
ووجه ثالث وهو أن يقول المعتزلي للزيدي: إذا جاز عندك أن يسكت الناس عن إنكار إمامة أبي بكر للتقية فهلا جاز أن يسكتوا عن إنكار اعتقاد وجوب الإمامة للتقيّة.
وقد استدل على وجوبها بوجهٍ آخر وهو قوله تعالى: {فاقطعوا أيديها}.
وأجمعت الأمة على أن الحدود لا يقيمها إلا الإمام أو من يلي من قبله، فيجب نصب الإمام؛ لأنه لا يتم الواجب إلا به، وهو مشكل بما تقدم من تجويز خلو الزمان عن إمامٍ، وبوجهٍ آخر وهو أن يقال: ما أنكرتم أن الأمر بإقامة الحدود مشروط بوجود الإمام.
فصل
وطريق وجوب الإمامة عند جمهور المعتزلة: السمع فقط وهو ما تقدم وبنوا ذلك على أنه إنما يحتاج إلى الإمام في أمور شرعية، فلذلك يكون طريق وجوبها الشرع فقط.
وقال الإمامية: العقل والسمع، وربما قالوا: العقل فقط وزعموا أن الإمام لطف للمكلفين في القيام بجميع ما كلفوه وإليه يحتاج في أمور الدين والدنيا حتى أن من جهته يعرف الأغذية والسموم والطب واللغات والصنائع وسائر أمور الدين والدنيا.
وقال الجاحظ وأبو القاسم وأبو الحسين: كما يدل السمع على الإمامة يدل عليها العقل لا من حيث كون الإمام لطفاً ولا من حيث أن من جهته يعرف أمر الدين والدنيا، لكن من حيث أن في الإمام دفع ضرر عن النفس، وذلك واجب؛ لأن الناس مع كثرتهم واختلاف هممهم وقوة دواعيهم إلى العدوان وميل أنفسهم إلى الظلم لا يكادون يتزجرون ويكف بعضهم شره عن البعض إلا إذا كان هناك رئيس له قوة وسطوة وأعوان، فيمنعهم خوفه عن التوثب والعدوان.
قالوا: ولهذا إذا ضعف السلطان أو تشاغل عن النظر في أمور العامة كثر في الناس الظلم والفساد وخافت الطرق وتغلب القوي على الضعيف وعضب الأعراب، فكيف إذا لم يكن سلطان رأساً؟
قالوا: ومعلوم أن في وجود السلطان واستقامته وقوة شوكته دفع هذا الضرر في الغالب.
يوضحه أنك لا تكاد تجد قبيلة في كل زمان إلا ولهم رئيس يمنع القوي من الضعيف وينتصف للمظلوم من الظالم ويدفع بعضهم عن ضرر بعض.
قالوا: والذي يقضي به العقل من ذلك هو رئيس مَّا، فإما أن يكون من حقه أن يكون على الصفات المعتبرة فذلك لا يعلم إلا شرعاً.
واعترض الجمهور هذا بأنه قد يظهر أيضاً عند نصب الرؤساء فتن وحروب وتنازع بأن يأنف بعض الناس على رئاسته /436/ ولا يقتاد له ويجد كثيراً من الناس إذا ترك وراءه كان أقرب إلى الحق.
وأجاب أبو الحسين بأنه وإن كان كذلك إلا أن الضرر الذي يندفع بالرؤساء من التظالم والعدوان والمنع من الضعفاء أكثر من الضرر الذي يحصل بنصيبهم.
وأيضاً فهذا الذي ذكره الجمهور نادر، ونحن إنما نبني على الغالب، قالوا: حب دفع أكثر الضررين بأقلهما.
وأما ما ذكرته الإمامية فهو ظاهر الفساد، أما قولهم: أنه لطف فباطل؛ لأنه لا طريق إلى ذلك عقلاً، بل كثير من الناس لا يزجره الإمام.
وبعد، فأما أن يستغني الإمام عن لطف فيجوز أن يستغني غيره فلا يحتاج إليه، وإما أن لا يستغني فيحتاج إلى إمامٍ آخر، والإمام إلى إمام.
وبعد، فإن لم يرد حال النبي في اللطف على حال الإمام فلا ينقص عنه، وقد جاء خلو الزمان من نبي، فيجوز خلوه عن إمام أولى وأحق.
وبعد، فعندهم أنه يجوز أن يكون هناك إمام ولا يظهر، وإذا كان كذلك فوجوده كعدمه؛ لأنه إنما يثبت له حط الدعاء إذا ظهر وأمر ونهى.
وبعد، فكان يجب أن لا يكلف بالملطوف فيه الأمر رأى هذا الإمام.
وبعد، فأكثر الألطاف تختلف فمرَّة تكون مصلحة ومرة تكون مفسدة، فهلا جاز أن يكون الإمام مفسدة في بعض الأوقات.
وبعد، فكان يلزم أن يكون في كل محله إمام؛ لأن الناس يكونون معه أقرب إلى الطاعات.
وبعد، فمن حق اللطف أن يفعل المكلف لأجله ومع فقد الإمام وعدم اطلاعه على الأفعال لا سيما أفعال القلوب كيف يفعل لأجله وأما قولهم يحتاج ليعرف من جهته الأحكام، فجهالة؛ لأن الأحكام إنما تعرف من جهة العقل والسمع، والله تعالى قد أكمل العقول ونصب الأدلة العقلية والسمعية، ولا يحتاج في ذلك إلى إمام.
يوضحه أنه يعرف الأحكام من لا يعرف الإمام، ومتى وجد الإمام ولم يوجد أدلة من جهة العقل والسمع لم يمكن معرفة الأحكام.
وبعد، فإذا جاز في الإمام أن يعرفها من دون إمام جاز في غيره.
وبعد، فقد كان الإمام أن يزيل الخلاف الواقع بين المكلفين ويحل الشبهة.
قيل لهم: إ أردتم الخلاف في العقليات وفي ما أحلق فيه واحد فقد بينه الله وأزاح العلة فيه مما نصبه من الأدلة العقليَّة والسمعية، فلا حاجة إلى الإمام، وإن أردتم الخلاف في الاجتهاديات فليس المصلحة في إزالته، بل المصلحة في ثبوته لما ثبت من التعبد في الاجتهاديات، والمصلحة مبنيَّة على الظن، وأي الوجهين أراد فهو باطل بوقع الخلاف، فلو كان هناك إمام كما زعموا لما وقع الخلاف.
وأما قولهم إنه يحتاج إليه في أمور الدنيا كالفصل بين الأغذية والسموم ومعرفة الفلاحة والنجوم واللغات فهو باطل؛ لأن العلم بهذه الأمور ليس بواجب.
وبعد /437/ فتأثير الأغذية والسموم والنجوم بمجرى العادة من الله تعالى، وليس لها تأثير في أنفسها.
وبعد، فقد صح مع الجهل بالفرق بين الأغذية والسموم أن يستمر الحال في اختيار أحدنا ما ينفعه واجتناب ما يضره، فلا يحتاج إلى الإمام؛ لأن الشهوة لا تصدق تعلقها إلا بما ينفعه والنفرة بالعكس، ولهذا يعيش كثير من الناس العمر الطويل مع الجهل بهذا الفضل الذي ذكروه وتعاجل الموت كثيراً ممن يدعي الطب وإلى هذا أشار المتنبي بقوله:
يموت راعي الضأن في جهله .... ميتة جالينوس في طبه
وبعد، فكان الإمام الواحد يكفي لجميع الأزمان.
وبعد، فنهاية الأمر أن يهلك المرء بالجهل بهذه الأشياء، فكل شيء سوى الله معرض للهلاك، وليس يجب على الله تبقية أحد.
وأما اللغات فهي تؤخذ عن الآباء بالسماع إن أمكن وإلا فبالتواضع فلا يحتاج إلى الإمام.
فصل [فيما يحتاج له الإمام]
اعلم أن الغرض بالإمام هو أن يسوس أمر الدين والدنيا من إرشاد الظالين وفتوى المستفتين ومنع الظالم ونصرة المظلوم وإقامة الحدود والجمعات وحماية بيضة الإسلام وقبض الحقوق ووضعها في مواضعها وحفظ الأوقاف ونصب القضاة وتجيش الجيوش ونحو ذلك.
وأجمع الناس على أنه يحتاج لهذه الأمور وإن اختلفت فبعضها لا يقوم به إلا الأئمة وبعضها يقوم به غيرهم، وزادت الإمامية أنه يحتاج لسائر أمور الدين والدنيا وبطل.
فصل [في شروط الإمامة]
هي عشرة صحيحة واثنان باطلة أو ثلاثة.
الأول: أن يكون عاقلاً بالغاً لأن الصغير لا ولاية لهما في أنفسهما فضلاً عن غيرهما.
الثاني: أن يكون ذكراً؛ لأن الأنثى يتعذر عليها التصرف في هذه الأمور ويتعسر فإنها كيف يتمكن من تجييش الجيوش والوقوف في مواقف الحروب ومباشرة أحوال الناس؛ ولأنها لا هيبة لها.
الثالث: أن يكون حراً؛ لأن العبد مملوك في التصرف؛ ولأنه لا بد من اعتبار المنصب في الإمامة.
الرابع: أن يكون من منصب مخصوص اتفاقاً وعلله في المحيط بأن مع المنصب يكون أقرب إلى التمكن من القيام بالأمر.
واختلف في ذلك المنصب فحكى ابن الملاحمي عن الجاحظ عن كثير من المعتزلة والجوارح أنه يكفي أن يكون عربياً، وبه قال نشوان بن سعيد الحميري رحمه الله تعالى، وقال جمهور المعتزلة والصالحيَّة من الزيدية: يكفي أن يكون قرشياً، وقال جمهور أهل البيت: والجاروديَّة من الزيدية لا بد أن يكون فاطمياًن وقالت الإمامية: لا بد أن يكون من أولاد الحسين، وقالت العباسية: لا بد أن يكون عباسياً، وسيأتي بيان الصحيح من هذه الأقوال.
والخامس: أن يكون عالماً؛ لأن الغرض الذي نصب له الإمام لا يتم إلا بالعلم ثم لا يكفي /438/ أن يكون عالماً، بل لا بد أن يكون مجتهداً إلا ما يحكى عن الإمام الغزالي من جواز كونه مقلداً.
قيل: وهو مسبوق بالإجماع، وليس المراد بكونه مجتهداً أن يكون حافظاً لكتب الفقهاء وترتيب أبوابها مستحضراً لأقوال العلماء ولجميع المسائل، فإن ذلك لا يتأتى، بل المراد بكون بحيث يتمكن من إرشاد الضال وحل الشبهة والفتوى وإيراد الأدلة وحمل المتشابه على المحكم وترجيح بعض الأقوال على بعض ولن يكون كذلك حتى يكون مجرداً في علم الكلام وعلم الأصول فيكون عالماً بأنواع الخطاب التي هي الأمر والنهي والخبر ونحو ذلك؛ لأنها هي الأدلة وكيفيَّة دلالتا وكيفيَّة الاستدلال بحقائقها ومجازتها وصريحاتها ومفهوماتا ومفرداتها وومشتركاتها، يعلم الخاص لئلا يلغيه والناسخ لئلا يعمل على المنسوخ أو يستدل به والإجماع لئلا يخالفه باجتهاده ويعلم القياس وأركانه وشروطه وأن يكون مجوداً فيما يحتاج غليه من علم المنطق؛ لأنه بالنسبة إلى العلوم النظريَّة كالنحو بالنسبة إلى الألفاظ، فيعلم من ذلك ما يتوصل به إلى علم التصور من الحدود والرسوم، ويدخل في ذلك معرفة الذاتيات والعرضيات واللوازم والمفارقات وما يتوصل به إلى علم التصديق من الأدلة والبراهين وكيفية التوصل إلى الطرفين، ويعرف كيفيَّة إفادة الألفاظ للمعاني من مواضعه أو توقيف وكيفيَّة دلالتها من مطابقة أو تضمن أو التزام، ويفرق بين ما يدل بمنطوقه ومفهومه وبين الجزئي منها والكلي وبين متواطئاتها ومترادفاتها ومتبايناتها ومتشابهاتها ومشككاتها ومشتركاتها، ويعرف كريفية نسبة القضايا بعضها إلى بعض من وجوب وإمكان وامتناع وإيجاب وسلب وضرورة واستدلالا وتناقض وتعاكس وعدول وتحصيل ونحو ذلك مما يحتاج إليه في الاجتهاد وأن يكون مجوداً في العلم بكتاب الله فيعلم منه ما يتعلق بالشرعيات.
قيل: وهي خمسمائة آية، وقيل: أكثر وليس من شرطه أن يحفظها، ولكن يعلم مواضعها ليطلبها عند الحاجة، وأن يكون مجوداً في العلم بالسنة فيعلم أيضاً ما يتعلق بالاجتهاديَّات، ويعلم أحوال الرواه وكيفيَّة الرواية ووجوه الترجيح وأن يكون مجوداً في علم العربية فيعلم ما يحتاج إليه من علم الإعراب والاشتقاق والإسناد والحذف والإضمار والتقديم والتأخير والفصل والوصل والأوضاف والحقائق والمجازات والكنايات والتنبيهات ونحو ذلك مما يتمكن معه من معرفة أحوال الخطاب وكيفية الاستدلال به.
وأما الفقه فلا يحتاج أن يعلم منه إلا ما كان قطعياً، فأما الاجتهادي فليس العلم به من علوم الاجتهاد؛ لأنه هو نتيجة الاجتهاد.
السادس: أن يكون ورعاً اتفاقاً؛ لأنه مالم يكن كذلك فلا يوثق به على حفظ أموال المسلمين ودمائهم وحفظ الأوقاف، فلا يؤمن أن يخل بإنفاذ ما نصب لإنفاذه، فإن الورع كما يعتبر في الترك يعتبر في الفعل وإن كان الأول أظهر.
السابع: أن يكون فاضلاً لا خلاف فيه وإن كان المرجع بالفضل في الحقيقة إلى جميع الشرائط.
واختلف في هل يجب أن يكون أفضل أهل زمانه فقالت الإمامية: لا بد من ذلك وقت الصحابة وبعدهم ولا وجه لهذا لا سيما على أصلهم أن العبرة بالنص.
وقال أكثر المعتزلة وبعض الزيدية: يكفي أن يكون من جملة أفاضلهم وقت الصحابة وبعدهم، واستدلوا بأن المرجع بالفضل إلى كثرة الثواب وذلك مجهول، وأيضاً فمعرفة الأفضل متعذر بعد وقت الصحابة لكثرة الناس وخفاء كثير من أهل الفضل، وأيضاً فقد جعل عمر الشورى في ستة متقاربين في الفضل ولم ينكر عليه، وأيضاً فقد قال أبو بكر: وليتكم ولست بخيركم ولم ينكر عليه.
وقال بعض الزيدية: يجب أن يكون أفضل الناس وقت الصحابة لانحصار أهل الفضل وإمكان معرفتهم، ولا يجب بعد ذلك لتعذر معرفة الأفضل، وهذا قد ينتقض بكونهم قد يعدلون إلى المفضول مع علمهم بوجود أفضل منه، فلم يكن عدولهم عن الفاضل للجهل به.
وقال بعض المعتزلة: يجب أن يكون أفضل أهل زمانه في كل وقت، أما في علمنا أو في ظننا بحسب الإمكان إلا أن يمنع مانع من إمامة الفاضل عدلنا إلى الذي يليه في الفضل، قالوا: ولهذا عدل الصحابة عن علي عليه السلام عن كان أفضلهم؛ لأن الناس أقرب عهداً بالكفر، وكان علي قد بكى قلوب أكثر الناس بالقتل، فمنهم من قتل أباه ومنهم من قتل ولده ومنهم من قتل أخاه، وكانت قلوب الناس نافرة عنه، فخافت الصحابة أن لا ينقاد له الناس وأن يفترق عليه الناس لشدة ميل القلوب عنه، فعدلوا إلى أبي بكر لأن قلوب الناس إليه أميل لشدة رفقه وكثرة ماله؛ ولأنه قد اهتدى على يديه كثير من كبار الصحابة.
هذا كلامهم واحتجوا لاعتبار الأفضل بأن الصحابة فزعوا يوم السقيفة إلى عد الفضائل فقالت الأنصار الدار دارنا والإسلام عز بنا.
وقالت الصحابة: نحن عترة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والبيضة التي تفقأت منه من غير تناكر.
ولقائل أن يقول: إنه وإن كان كذلك فإنما يدل على أن اعتبار الأفضل أولى، وليس يدل على أنه واجب؛ لأنا لم نعلم الواجب الذي عليه اعتبروا الأفضل أولى، وليس يدل على أنه واجب؛ لأنا لم نعلم الوجه الذي عليه اعتبروا الأفضل هل الوجوب أو الندب.
الثامن: أن يكون شجاعاً، والمراد أن يكون له من رباطة الجأش ما يتمكن معه من تجييش الجيوش والوقوف في الصفوف وتعبئة العساكر والوقوف معهم وحثهم على القتال وحسن التدبير عند فشل القلوب؛ لأنه مالم يكن كذلك لا يؤمن أن يهرب عند الصدام فيهلك الناس.
/340/ علي كل حال، فالقتال في الحقيقة إنما هو بالقلب.
التاسع: أن يكون قوياً في يديه بدنه على التمكن من إمضاء هذه الأمور ومباشرة الخطوب واحتمال أعباء الأمة، فلا يكون به آفة تمنعه من عمى ولا جذام ولا برص.
العاشر: أن يكون سخياً سخاء متوسطاً فلا يكون معه من الشح ما يمنعه من وضع الحقوق في مواضعها فتزدريه النفوس ويتقاعد النفس عه ويأثم في أهل الحقوق، ولا يكون معه من الكرم ما يضيع أموال المسلمين فيتضرر أهل الحقوق بفواتها ويطلب هو الشيء وقت الحاجة، فلا يجده وإنما يكون من أهل الاقتصاد في الإنفاق والإمساك.
الحادي عشر: للإمامية قالوا: يجب أن يكون أعلم الناس.
ويبطله فقد الدليل على اشتراطه وتعذر العلم بأعلم الناس.
على أن حصول ما معه يكون مجتهداً يغني عن الزيادة.
الثاني عشر: لهم أيضاً وهو أن يظهر عليه المعجز وأن يكون ممن يعلم العيب وهو أظهر فساداً؛ لأن المعجز لا يظهر إلا على الأنبياء، وكذلك علم الغيب استأثر الله به، فلا يطلع عليه أحد إلا من ارتضى من رسول.
الثالث عشر لهم أيضاً وهو أن يكون معصوماً، وهذا لا دليل لهم عليه؛ ولأنه مبني على أن الشرائع توجد منه، وقد تقدم فساده؛ ولأنه كان يلزم في قضائه وأمرائه أن يكونوا معصومين.
فصل [في ما يخرج به الإمام عن كونه إماماً]
وذلك ضربان أحدهما: يخرج به عن التمكن من انفذا ما نصب له كالجنون المطبق وبطلان بعض حواسه المحتاجة أو بطلان رأيه أو أحد الشروط المتقدمة، فمتى صار كذلك خرج عن كونه إماماً ولا يحتاج إلى من يخرجه.
الثاني: لا يزول معه التمكن من ذلك كالفسق وهو إما أن يكون باطناً أو ظاهراً، إن كان باطناً لم ينخل به عقد الإمامة؛ لأنه قد جاز العقد لمن باطنه الفسق، فكذلك إذا حدث ولم يعلموه وإن كان ظاهراً، فاختلف الناس، فقال الجمهور من المعتزلة والزيدية والشافعي: يخرج به عن كونه إماماً كما لا يجوز ابتداء العقد له وهو الذي رواه العراقيون عن أبي حنيفة ومنعوا أن يكون مذهب أبي حنيفة جواز إمامة الفاسق.
وحكى ابن الملاحمي عن معتزلة خراسان وأهل ما وراء النهر أنه لا ينعزل بالفسق وأنه يجوز العقد للفاسق.
ولمحمد بن الحسن قولان في هل تنعزل ولايته أم لا.
حجة الجمهور قوله تعالى: {إني جاعلك للناس إماماً قال ومن ذريتي قال لا ينال عهدي الظالمين} ووجه الاستدلال بهذه الآية أنه تعالى أخبر إبراهيم عليه السلام أنه يأمر الناس أن يجعلوه إماماً أي قدوة في دينهم وكذلك سائر الأنبياء قدوة والأئمة هم خلفاء الأنبياء في وجوب الاقتداء بهم، وكذلك القضاة والولاة والمفتون /441/، فسأل إبراهيم ربه أن يجعل من ذريته أئمة بهذا المعنى، فأخبره بامتناع ذلك في حق الظالمين، فدل على أنه لا يجوز أن يجعل من الفسقة أئمة ولا قضاة ولا أمراء ولا مفتين.
وبعد، فالإمامة إما أن يكون طريقها النص، ومعلوم أن الله لم ينص على فاسق، وإما أن يكون طريقها الاختيار فإنما أمر الناس أن يحسنوا الاختيار وينصحوا فيه للمسلمين فيختاروا من يكون الناس أقرب إلى الانقياد له؛ لأنه حينئذٍ يقوم لهم مقام أنفسهم، وكالوكيل في أمر دينهم ودنياهم، وليس هذه حال الفاسق؛ لأنه لا يأمنونه على دين ولا دنيا، فثبت أنه لا يجوز إمامة الفاسق.
وقد اختلف الجمهور في الإمام إذا فسق ثم تاب هل يحتاج إلى عقد جديد أو تعد له الإمامة من دون عقد، فقال بعضهم: لا بد من عقد جديد؛ لأن ولايته قد زالت، فلا تعود إلا بعقد كالمبتدأة.
وقال بعضهم: لا يحتاج؛ لأنه بالتوبة قد عاد إلى الحالة المرضية؛ ولأن في العقد الجديد مشقة وإظهاراً للفاحشة وتشنيعاً عليه وحطاً من منزلته وكل ذلك قد ندب إلى ستره.
واختلفوا في الفسق من جهة التأويل، قال بعضهم: هو كفسق الخوارج بجامع خروجه عن ولاية الله والتأويل ضم جهالة إلى جهالة، فلا ينجيه عن الانعزال.
وقال بعضهم: يفترق الحال؛ لأنه مع فسق الجوارح تقدم على المعصية مع العلم بكونها معصية، فلا يؤمن أن يقدم على المحضورات في أمر الأمة متعمداً لذلك بخلاف فسق التأويل، فإنه تقدم عليه مع اعتقاده لحسنه وظنه أنه طاعة وشدة تخرجه عما يعلمه معصية.
حجَّة من أجاز العقد للفاسق، هو أنه قد حصل فيه سبب الولاية وهو الاختيار ممن هو أهل له وهو متمكن من إنفاذها، فيجب أن ينفذ كولاية الفاسق ووصايته وشهادته إذا غلب على الظن صدقه.
والجواب: أما على مذهب أهل البيت عليهم السلام في أن الطريق إلى الإمامة هو النص والدعوة مع اجتماع الشرائط، فلا يتوجه السؤال، وأما عند من يجعل طريقها العقد فنقول: إن من حق الاختيار أن يتوجَّه إلى من هو أهل له باجتماع الشروط، والفاسق ليس بأهل لأن يختار،، فلن يحصل الطريق، وأما وكالته فإنما جازت لأن الموكل اختار أن يوليه على نفسه، فهو في حكم الراضي بما يلحقه من الحنابلة، والفاسق لم يرض به المسلمون.
وأما انعقاد النكاح بشهادته عند من يقول به فليس فيه ولأنه حتى يقاس عليه الإمامة، وإنما يفرق بالشهادة بن النكاح والسفاح، وكذلك قبول شهادته ليس فيها ولاية، وإنما هي شرط في حكم الحاكم والولاية هي للحاكم، فإذا حصل له شروط الحكم وهو غلبة الظن بصدق الشهادة وجب عليه امضاؤه.
القول في الطريق إلى ثبوت الإمامة
اتفق الناس على أن الإمام /442/ لا يصير إماماً بنفص الصلاحية، بل لا بد من أمر، واختلفوا في ذلك الأمر، فقالت العباسية: الإرث، وقال المصححون لإمامة معاوية الغلبة، وقالت الإمامية النص الجلي في الاثنى عشر، وقالت البكرية: الجلي في أبي بكر، وقال الحسن البصري: النص الخفي في أبي بكر، وقالت المعتزلة والصالحية من الزيدية: العقد والاختيار، وقال أهل البيت عليهم السلام: النص الخفي في أمير المؤمنين والدعوة والخروج في من صلح من أولاده، وهذا هو الحق، ومعنى كون النص جلياً أنه يعلم قصد النبي صلى الله عليه وآله وسلم فيه ضرورة، ومعنى كونه خفياً أنه لا يعل المراد به إلا بالنظر.
واعلم أن أكثر هذه الأقوال ظاهر السقوط ونحن نتتبعها بالإبطال ليتعين الحق فيما يقوله أهل البيت عليهم السلام.
فصل
أما قول العباسية فإنما افتعله ابن الراوندي تقرباً إلى خلفاء السوء.
ويبطله فقد الدليل عليه، وأنه لو كان لما عدل الصحابة عن العباس، ولكان سبيله وسبيل ابنه عبدالله أن يطلبوها وعلى كل حال فالإجماع وقت الصحابة على أنه ليس طريقها الإرث، ولهذا كانوا بين قائل بإمامة علي رضي الله عنه، وقائل بإمامة أبي بكر رضي الله عنه، وكذلك أجمعوا على أنه ليس طريقها الغلبة؛ ولأن الفسقة قد يغلبون ويقدم أنهم لا يصلحون للإمامة.
فصل
وأما قول أهل النص الجلي باطل؛ لأنه لو كان ضرورياً لعلمه الناس كلهم، ولتوفرت الدواعي إلى نقله؛ لأنه من مهمات الدين كما في الصلاة والحج ونحوها، ولو صح ا ادعوا لصح لغيرهم أن يدعي نصاً جلياً على العباس مثلاً أو على وجوب صلاة سادسة ونحو ذلك.
وبعد، فلو كان كذلك لوجب أن يكفر الصحابة برده، وفي علمنا بسلامة دينهم وثناء الله عليهم ما يدل على انهم لا ينكرون ما هذا سبيله.
وبعد، فقد روي أن أبا بكر قال بحضرة الجماعة: وددت أني سألت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن هذا الأمر في من هو فلا أنازعه، ولو كان هناك نص جلي لما قرروه على هذه المقالة.
وبعد، فلو كان هناك نص جلي لما تواطأ أهل البيت عليهم السلام على إنكاره والعدول إلى الاستدلال بالنص الخفي.
فصل
وأما قول الحسن البصري بالنص الخفي على أبي بكر وهو أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أمره أن يصلي بالناس، فهو أظهر فساداً من الأول؛ لأن الإمامة الصغرى بمعزل عن الإمامة الكبرى، بدليل أنها تجوز خلف قريش وغيرهم، والإمامة لا تصح إلا في قريش، بل عند الخصوم أنها تصح في كل بر وفاجر.
وبعد، فعند أئمتنا عليهم السلام أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يأمر بذلك، وإنما أمر به عائشة، فقالت للمؤذن: مر أبا بكر فليصل بالناس فظن أنها إنما أمرت بذلك عن أمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
وعلى الجملة فالمشهور في كل زمانٍ /443/ أن يأتم الناس في الصلاة بالمفضول.
وبعد، فليس بأن يدل تقديمه في الصلاة على إمامته أولى من أن يدل عزله عنها على عدم إمامته ومن المشهور عند أهل السير أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لما سمع الناس خرج أبا بكر ثم صلى بالناس.
وعلى الجملة: فلا يصح الاستدلال بما ذكروه.
فصل
وأما قول المعتزلة والصالحيَّة من أن طريقها العقد والاختيار فإنما يظهر بطلانه بأن تتبيع ما يحتجون به في ذلك.
قالوا: أجمعت الصحابة يوم السقيفة على الاختيار، ولم يقع إنكار في الاختيار، وإنما وقع في المختار.
قلنا: إن أردتم أنهم أجمعوا على ذلك معتقدين أنه طريق إلى الإمامة، فدلوا على ذلك ولا سبيل إلى تصححه، وإن أردتم أنهم أجمعوا على مجرَّد فعله فلا فرح لكم في ذلك.
على أنا لا نسلم حسن الاختيار حينئذٍ ولا عدم الإنكار فيه؛ لأن عندنا أن الإمام منصوص عليه، فالإجماع للاختيار يكون عبثاً لا فائدة فيه.
وقولهم: أن عدم الإنكار دليل على أنه لم يكن لا يصح لأنه إنما يحصل من عدم نقله غلبة الظن بأنه لم يكن، فلا يكفي فيه عدم نقله.
قالوا: قال العباس لعلي رضي الله عنه: امدد يدك أبايعك ولم ينكر عليه، وكذلك بايع الناس له يوم قتل عثمان رضي الله عنه، ولم ينكر البيعة، فلو كان الاختيار منكراً لأنكره، وكذلك أهل البيت ما منهم أحد يقوم إلا ويبايع له ويختار، ولو كان الاختيار منكراً لما صح في شيء من ذلك، لوما اتفقت عليه الأزمنة.
قلنا: إنما يكون الاختيار منكراً ويجب إنكاره حيث يعتقد المختارون أنه طريق إلى الإمامة؛ لأنه يكون عبثاً حينئذٍ، فأما حيث يفعل على جهة التقوية للإمام واستدعاء الناس إليه، فليس بمنكر، ولهذا فعله جميع أئمتنا عليهم السلام على جهة الاستظهار وأخذ الطاعة من الناس ومعرفة المخلص من المرتاب.
قالوا: جعل عمر الأمر شورى في ستة ولم ينكر لعيه أحد، فنقول: كيف يجعل الأمر شورى مع وجود المنصوص عليه.
قلنا: بل قد أنكر ذلك عليه السلام في نحو قوله: فبالله وللشورى متى اعترض الريب فيّ مع الأول حتى أقرب إلى هذه النظائر، والمشهور في مناشدته يوم الشورى ما يدل على إنكاره الاختيار.
والمختار قالوا: لما بويع له عليه السلام كتب إلى معاوية أن بيعتي لزمتك بالمدينة وأنت بالشام وبايعني بالمدينة الذين بايعوا أبا بكر وعمر رضي الله عنهما، فليس للشاهد أن يختار ولا للغائب أن يرد، فصرح بأن الإمامة لأجل البيعة.
قلنا: قد قدمنا أنه ليس في البيعة أكثر من إظهار الطاعة من المبايعين وقبولها من المبايع له، وذلك واجب على الجميع، فمن أين أنها هي الطريق إلى الإمامة، فإن ذلك هو ومحل النزاع.
قالوا: احتج عليٌّ على طلحة والزبير بالبيعة ولم يحتج بالنص.
/444/ قلنا: له أن يحتج بالأمرين جميعاً في وجوب طاعته، وليس عليه اقتراح إذا أورد دليلاً من دليلين لا سيما وقد تقرر أن تخصيص الشيء بالذكر لا يدل على نفي ما عداه، فليس احتجاجه بالبيعة يدل على نفي احتجاجه بالنص.
على أن أصحابنا قد ذكروا أنه إنما احتج عليهما بالبيعة ليريهما أنهما لا يثبتان على الحق.
تنبيه
اعلم أنه إذا بطل الإرث والاختيار وسائر مذاهب المخالفين فقد كفانا في ذلك في أن الطريق هو النص؛ لأنه قد تعين الحق فيه، وإلا خرج الحق عن أيدي الأمة وهو باطل.
القول في تعيين الإمام بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم
ذهب أهل البيت عليهم السلام وأكثر الزيدية إلى أنه علي عليه السلام، وذهبت المعتزلة والصالحية وسائر الفرق إلى أنه أبو بكر.
لنا: النص والوصاية والتفصيل والعصمة وإجماع أهل البيت عليهم السلام.
فصل
أما النص فنصوص كثيرة الأول قوله تعالى: {إنما وليكم الله ورسوله} إلى قوله: {وهم راكعون} ووجه الاستدلال بهذه الآية أنها نزلت في علي رضي الله عنه فقط، قد أثبت الله له الولاية فيها كما أثبتها لنفسه ولرسوله، والولاية هنا بمعنى ملك التصرف، وذلك هو معنى الإمامة.
وهذه الدلالة تبنى على ثلاثة أصول: أحدها: أنها نزلت في علي عليه السلام. والثاني: أن المراد بها ملك التصرف. والثالث أن ذلك هو معنى الإمامة.
أما الأصل الأول وهو أنها نزلت في علي عليه السلام فقط فعلى ذلك دليلان:
الأول: إجماع أهل البيت وهو حجة كما سيتضح.
فإن قيل: كيف يصح دعوى إجماع أهل البيت مع أن فيهم من يذهب مذهب الإمامية واعتبار النص الجلي دون النص الخفي.
قلنا: ليس في اعتبارهم النص الجلي ما يدل على أنهم لا يعتبرون النص الخفي، بل يعتبر الكل لكنهم اكتفوا بالجلي لظهوره عندهم.
والدليل الثاني: على أنها نزلت في علي أن الله تعالى وصفه بصفة لم يوجد في غيره وهو إيتاء الزكاة.
قال الإمام المنصور بالله: وبالاتفاق أن أحداً من لدن آدم عليه السلام لم يؤت الزكاة حال الركوع إلا علي، وقد ثبت بالنقل الظاهر المشهور في كتب أكثر المفسرين وأهل التواريخ، ومن كتب ومن طرق أهل البيت عليهم السلام، ورواياتهم أنها نزلت في أمير المؤمنين، وهو أنه تصدق بخاتمه وهو راكع.
قال الإمام الناطق بالحق أبو طالب في كتابه زيادات شرح الأصول ما هذا لفظه.
ومنها النقل المتواتر القاطع للعذر أن الآية نزلت في أمير المؤمنين، وهذا تصريح منه بأنه النقل في ذلك متواتراً في زمانا هذا القصور هممنا في البحث أو لعدم أكثر التواريخ في بلدنا، ومن /445/ محاسن الأزهار للفقيه حميد رحمه الله تعالى بإسناده، قال: قال عمر رضي الله عنه أخرجت مالي صقة يتصدق بها عني وأنا راكع أربعاً وعشرين مرَّة على أن ينزل في مثل ما نزل في علي فما نزل.
واعلم أن المخالفين قد اعترضوا هذا الفصل بوجوه قالوا: نزلت والناس بين قائم وراكع وساجد، فوصف الله حالهم ولم ينزل في رجل معين.
قلنا: شهادة نفي وما تقدم يعارضها على أن الواو في قوله تعالى: {وهم راكعون} واو حال، فكأنه قال: يؤتون الزكاة حال الركوع.
وأيضاً فلو كان كما ذكره السائل لما كان لقوله: وهم راكعون فائدة؛ لأن الركوع قد دخل تحت قوله يقيمون الصلاة.
قالوا: المراد الركوع اللغوي الذي هو الخشوع.
قلنا: جمل الألفاظ على المعنى الشرعي أولى من جمله على اللغوي؛ لأن الشرعي في حكم الطارئ، فهو كالناسخ؛ ولأن طريان العرف كالعهد الموجب صرف الخطاب إليه.
قالوا: إنه إذا حمل على المعنى اللغوي كان للفظ فائدة مستقلة، وإذا حمل على الشرع كان في حكم التأكيد؛ لأن الركوع الشرعي قد دخل تحت قوله: {يقيمون الصلاة، والتأسيس في اللفظ عند أهل المعاني خير من التأكيد.
قلنا: مسلم أن التأسيس في اللفظ خير من التأكيد، ولكن عندنا أن لهذا اللفظ فائدة مستقلة إذا حمل على المعنى الشرعي وهي الخالية، وبيان أن المختص بالولاية هو المزكى حال الركوع، يوضحه أنه لم يرد اللفظ لبيان الأخبار بوقوع الركوع، بل الأخبار بأمرٍ يحصل حال الركوع.
يوضحه أنه لم يرد اللفظ لبيان الأخبار بوقوع الركوع، بل الإخبار بأمرٍ يحصل حال الركوع.
قالوا: لسنا نسلم أن الواو للحال، بل هناك إضمار وتقديره والذين هم راكعون، قلنا: الإضمار في اللفظ خلاف الأصل، فلا يعدل إليه إلا لموجب.
قلنا: هي واو العطف لا واو الحال.
قالوا: المروي خاتم ذهب والتختم به غير جائز.
قلنا: بل جائز في صدر الإسلام ويجوز أن يكون جوازه من خصائصه عليه السلام.
قالوا: كان فقيراً لكثرة كرمه فلا يجب عليه زكاة.
قلنا: اختار الله بأنه زكى أصدق من أخباركم بأنه لا يجب عليه زكاة.
على أن أحوال الكريم تختلف في الغنى والفقر وإلا فماذا يتكرم.
قالوا: مد اليد لإخراج الخاتم فعل كثير وهو يفسد الصلاة.
قلنا: صدور هذا القدر من جهته دليل على أن مثل هذا القدر كرفع اليد للحك ولتسوية الرد أو نحو ذلك.
قالوا: لفظ الذين لفظ الجمع وحمله على الواحد خلاف الأصل، فيجب أن لا يصح حمله عليه.
قلنا: بل يصح إذا قام عليه دليل، وقد قامت الدلالة على وجوب حمله على خلاف الأصل، فيجب وفائدة وروده كذلك هو أن يكون النص حفياً لوجه حكمةٍ يعلمه الله ولتعظيم المعنى بالآية عليه السلام كما في نظائره مما يرد النون فيه /456/ للعظم نحو: {إنما نزلنا الذكر} الآية وأشباهها.
قالوا: لم يرد لفظ الذين بمعنى الواحد في اللغة، وإنما ورد نحن وأشباهها، والقياس في اللغة لا يصح خاصة في المجازات.
قلنا: هو ابتداء مجاز كغيره من نظائره.
على أن قد ورد لفظ الذين في الواحد نحو قوله تعالى: {الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم} إلى قوله: {وعلى ربهم يتوكلون} فإنها نزلت في النبي صلى الله عليه وآله وسلم حين جاءه النذير في بعض الغزوات يخبره أن المشركين قد جمعوا له، فقال: توكلنا على الله وكذلك ورد في قوله: {هم الذين يقولون لا تنفقوا على من عند رسول الله..} الآية نزلت في عبد الله بن أبي وهو الذي قال: هذه المقالة وهذا شيء صريح كما ترى، وكذلك ورد في قوله تعالى: {والذين يظهرون} وإن تركت في رجل معين فذلك لا يمنع من عمومها، فكذلك هذه الآية، وإن نزلت في علي لم يمنع ذلك من عمومها عملاً بظاهر قوله والذين آمنوا.
قلنا: نعم ورود الخطاب على سبب لا يلحقه الخصوص إلا إذا قام على ذلك دليل، وقد أقمنا الأدلة على أنه لا يصح عموم قوله: {والذين آمنوا} الآية ونحن نستظهر بالزيادة فنقول: لو عمت لكان الوليّ هو المولى عليه، فيكون تقديره إنما وليكم الله ورسوله وأنتم وذلك مستهجن، وليس للخصم أن يعارضنا بنحو قوله: {يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا الكافرين أولياء من دون المؤمنين} فنقول: كان يجب أن يكون التقدير يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا الكافرين أولياء من دون أنتم؛ لأنا نقول المراد بالولاية في الآية التي ذكرها السائل المودة والنصرة، فلم يلزم هذا التقدير خلاف هذه الآية، فإن الولاية فيها بمعنى ملك التصرف، فلا يشتبهان من حيث أن المودَّة والمناصرة مفاعلة تثبت في الجانبين، بخلاف الإمامة فإنها تثبت لشخص واحد.
قالوا: خصوص آخرها لا يمنع من عموم أولها كما في قوله: {والمطلقات يتربصن} الآية ونحوها، فيكون المراد بالذين آمنوا كل المؤمنين وبقوله: {وهم راكعون} علياً، فلا يكون مخصوصاً بالولاية.
قلنا: ليس هذا من ذاك؛ لأن قوله: {الذين يقيمون الصلاة..} إلى آخرها نعت للذين آمنوا فلا يصح أن يراد بالنعت غير المنعوت.
على أنا قد بينا أنه منع مانع من عموم أولها.
قالوا: هب أن المراد واحد، فمن أين أنه علي رضي الله عه، وما المانع من أن يكون كل واحد من المؤمنين على البدل؟
قلنا: منع منه الإجماع على أنه لم يؤت أحد الزكاة حال الركوع إلا على عليه السلام، والإجماع على أنه إن كان المراد بها واحداً فإنه علي.
وأما الأصل الثاني وهو أن المراد بالآية هنا ملك التصرف، فهذه هي عبارة أصحابنا.
واعلم أن هذه العبارة وهي قولهم ملك التصرف عبارة موهمة /447/ للملك الحقيقي الذي للإنسان بيعه وهبته، ولهذا يمكن الخصوم التشعيب فيها فيقولون: لم يرد بمعنى المالك للتصرف لا في أصل اللغة ولا في عرفها؛ لأن هذه اللفظة وإن كانت مشتركة بين المود والناصر، والأولى والرئيس الذي يلي التصرف فقد صار الغالب عليها بعرف الاستعمال الرئيس؛ لأنه متى أطلقت فقيل: فلان ولي القوم سبق إلى الأفهام أنه رئيسهم الذي يلي التصرف عليهم كما يقال: ولي الأيتام أي يلي التصرف عليهم، وولي الأوقاف والمساجد، أي يلي التصرف فيها، وعلى هذا ورد قوله: {وهم يصدون عن المسجد الحرام وما كانوا أولياءه إن أولياؤه إلا المتقون} أي وما كان لهم فيه تصرف.
وعلى الجملة فذكر الولاية بمعنى الرئاسة في اللغة أكثر من أن يحصى، وعلى ذها ورد قوله صلى الله عليه وآله وسلم للعباس حين سأله الولاية نفسٌ تنجبها خير من ولاية لا تحصيا، أي م رئاسة وليس لأحد أن يقول اسم الفاعل من الولاية والي لا ولي، والمذكور لفظ الولي لأنا نقول: لا نسلم ذلك؛ لأن فعيل مبالغة فاعل.
اللهم إلا أن يكون هذا هو المستعمل في العرف، أعني مجيء اسم الفاعل في هذا الموضع على والي لا على ولي فحينئذٍ نجيب بوجه وهو أن اسم الفاعل في هذا الموضع إن أضيف إلى المولى عليهم قيل فيه: ولي بلى شبهة، فيقال: ولي القوم ولا يقال: واليهم، وإن أضيف إلى المولِّي له أي الذي جعل له الولاية قيل: والي، ولهذا يقال: والي الأمير على البلد ولا يقال: ولي الأمي على البلد والمذكور في الآية من القبيل الأول، فقال تعالى: {إنما وليكم الله ورسوله..} الآية ولا يصح أن يقال: إنما وليكم؛ لأن عليا ًعليه السلام إنما يكون والياً للنبي صلى الله عليه وآله وسلم.
يؤكد هذا الجملة المتقدمة ما ذكره الفقيه حميد رحمه الله تعالى في محاسن الأزهار بإسناده، قال: قال حسان بن ثابت في شأن نزول الآية بمدح أمير المؤمنين:
أبا حسن تفديك نفسي ومهجتهي .... وكل بطيء في الهدى ومسارع
أيذهب مدحي والمخبر ضائعاً .... وما المدح في حب الإله بضائع
فأنت الذي أعطيت إذكنت راكعاً .... فدتك نفوس الناس يا خير راكع
فأنزل فيك الله خير ولايةٍ .... وبينها في محكمات الشرائع
ووجه الاحتجاج بقول حسان أنه فهم ذلك من معنى الآية ولم ينكر عليه، ومن كتاب الشافي للإمام المنصور بالله، قال: قرأ عبد الله مسعود إنما مولاكم الله ورسوله، وهذا أشد تصريحاً بما يذهب إليه في معنى الآية، فعلى هذا يجيء الكلام في تصحيح هذا الأصل، وقد علمت بما تقدم بطلان كثير مما يمكن أن يتشعب به الخصوم من نحو قولهم: إن الولي لم يرد بمعنى المالك للتصرف /448/ وقولهم أنه ولو ورد فلا دليل على كونه حقيقة، بل هو مجاز لعدم اطراده.
وقولهم: لا نسلم أن ذلك هو الغالب، بل الغالب هو المود والناصر.
وقولهم: إن سياق الآية وسببها يشهد أن المراد المود والناصر، فكلما يرد من نحو هذه الاعتراضات فأبطله بأمر واحد وه وأن يعدل عن قولنا الولي بمعنى المالك للتصرف إلى قولنا المولي بمعنى الرئيس الذي يلي التصرف، وحئنئّذٍ يتوضح كونه مستعملاً وأنه حقيقة وأنه الغالب في الاستعمال، والسابق إلى الأفهام.
ونحن الآن نذكر قاعدة تكون عوناً على صحة هذا الأصل وصحة كثير من مسائل الإمامة.
وهي أن نقول: سلمنا جدلاً أنه ليس الغالب عليها في الاستعمال ما ذكرناه من الرئيس الذي يلي التصرف، فإن من أصول أئمتنا وكثير من الناس أن اللفظة المشتركة إذا وردت ولم يكن بين معانيها تنافٍ ولا ورد دليل على تخصيص بعض معانيها من بعض، فإنه يحتملها على الكل ونحن نحمل الآية على ذلك، فثبتت له كونه موداً للمؤمنين وناصراً ورئيساً يلي التصرف عليهم؛ لأنه لا ينافي بين ذلك.
واعلم أنه قد اختل الناس في هل يصح أن يريد الحكيم باللفظ كلي معنية إذا تجرد عن القرينة حتى يصح أن يحمل عليها أم لا، والظاهر من كلام أهل البيت عليهم السلام وهو قول أبي علي والقاضي والشافعي والباقلاني أنه يصح من حيث القصد ومن حيث اللغة، وعند أبي الحسين الرازي أنه يجوز من حيث القصد لا من حيث اللغة، وعند أبي هاشم وأبي عبد الله والكرخي: لا يجوز لا من حيث القصد ولا من حيث اللغة.
لنا: أما من حيث القصد فهو إن قصد المعنيين مقدوره كما أن اللفظ مقدور وكما يجوز إرادتهما قبل وجود اللفظ يجوز حال وروده، ولا يمنع من ذلك إلا العلم بالتضاد أو ما يجري مجراه، وأما من حيث اللغة فهو أن يجر اللفظ عن القرينة قرينة توجب حمله على كل معانيه.
وبعد، فأما أن لا يحمل على واحد منها وذلك يخرجه عن الإفادة، وأما أن يحمل على بعضها ولا مخصص، وأمَّا أن يحمل على كلها وهو المطلوب، وبعد، فقد اختلف في قوله تعالى: {ثلاثة قروء} هل هو الطهر أو الحيض، وكلا القولين صواب وإنما يكون صواباً إذا أراده الله تعالى.
وبعد، فقوله تعالى: {إن الله وملائكته يصلون على النبي يقتضي حمله على الصلاة بمعنى الدعاء وبمعنى الرحمة، وكذلك قوله تعالى: {ألم تر أن الله يسجد له من في السموات..} الآية يقتضي حمله على السجود الشرعي وعلى السجود اللغوي؛ لأنه ليس الكل فعل السجود الشرعي.
وبعد، فإذا قال: أنت طالق إذا رأيت لوناً طلقت برؤية أي لون كان.
وبعد، فقد قال سيبويه: قول العرب الويل لك دعاء وأخبار ، وهذا تصريح بما يريده.
حجَّة أبي الحسين والرازي أنه لا يجب من وضع اللفظ على معنيين على البدل وضعه لهما على الجمع /449/ ولنا أن نجيب بأنه غير واجب كما ذكروه وإنما هو جائز وكلامنا في الجواز لا في الوجوب.
قالوا: اللفظ إما أن يوضح لإفادة الأفراد فقط أو لإفادة المجموع فقط أو لإفادة الإفراد والمجموع على الجميع أو فإفادة الإفراد والمجموع على البدل إن كان الأول فاستعماله في المجموع مجاز، وإن كان الثاني فليس بمشترك؛ لأن مفهومه يصير واحداً كالتلق وإن كان الثالث فهو محال؛ لأن معنى إفادة المجموع أنهلا يحصل الاكتفاء إلا بالمجموع، ومعنى إفادته للإفراد أنه يحصل الاكتفاء بكل واحد منها، وإن كان الرابع فاستعماله في المجموع ليس استعمالاته في جميع مفهوماته، بل تكون إفادته للمجموع بعض مفهوماته.
ولنا أن نجيب بأنا نختار القاسم الرابع ونقول: استعماله في المجموع وإن كان بعض مفهوماته، لكن كلامنا في مفهوماته التي هي إفراد المجموع، فمتى استعملناه في المجموع فقد استعملناه في جميع تلك المفهومات التي هي إفراد ذلك المجموع، وإن كان استعماله في الواحد من تلك الإفراد مفهوماً زائداً.
حجّة الشيخ أبي هاشم أن أحدنا يجد من نفسه تعذر إرادة المعنيين كتعذره الجمع بين الاستحقاق والتعظيم.
والجواب: لا يسلم أن أحدنا يجد من نفسه ذلك، بل ربما يجد من نفسه جوازه، وأما الاستحقاق والتعظيم فلأن بينهما ما يجري مجرى التضاد إذا ثبت هذا قلنا: إن لفظ الولي وإن كان مشتركاً بين معانٍ فإنا نحمله على ما ليس فيه تنافٍ منها فيحصل غرضنا من الآية اقتضت لعلي رضي الله عنه الولاية التي هي الرئاسة، وإن اقتضت غير ذلك معه.
وأما الأصل الثالث وهو أن ذلك معنى الإمامة، فالذي يدل ذلك أنا لا نعني بالإمامة إلا الرئاسة في أمور مخصوصة، وهذا واضح، والذي يمكن الخصم أن يقول: هاهناأن الآية وإن اقتضت ثبوت ولاية له عليه السلام، فإنما تقتضي ولاية مطلقة وترفاً مطلقاًن وليست تقتضي الولاية في هذه الأمور المخصوصة، وليس يلزم من ثبوت الولاية المطلقة ثبوت الولاية المقيدة كما لا يلزم من ثبوت الولاية في النكاح ثبوت الولاية التي هي الإمامة.
ولعل الجواب: هو أن نقول: إن الآية إنما تقتضي ثبوت ولاية مطلقة كما ذكره السائل، لكنه لا يلزم من ذلك أكثر من كون الآية مجملة ونحن نلتزم كون الآية مجملة ونقول: إن الإجماع قد بينها لوقوع الإجماع على أن ولاية الإمام إنما هي في أمور مخصوصة.
وبهذا تجنب ول قال القائل: إنا إنما علمنا وجوب الإمامة وأوصافها وشروطها وكونها ولاية في هذه الأمور المخصوصة بالإجماع وهو متأخر عن حال نزول الآية، ومن حق فائدة الآية أن يعلم حال نزولها فنقول: إن فائدة الآية قد علمت حال نزول الآية على الإجمال فاقتضت ثبوت رئاسة له عليه السلام مطلقة مجملة /450/ ثم جاء الإجماع بينها، ومن أصولنا جواز تأخير البيان إلى وقت الحاجة.
ويمكن الجواب عن أصل السؤالين بوجه آخر وهو أن نقول: إنها إذا اقتضت ثبوت الولاية المطلقة بشخص معين اقتضى ذلك عموم الولاية في كل شيء إلا ما خصه الدليل أو الإجماع قد أخرج ما عدا هذه الأمور المخصوصة حتى لولا الإجماع لثبتت الولاية في أمور المسلمين كلها دينيها ودنيويها، غلا أن هذا الجواب يمكن أن يعترض بأن يقال: إنه يبنى على القول بأنه لا فرق بين اللفظ المطلق واللفظ العام، والصحيح أن بينهما فرقاً.
وحاصل المسألة في الفرق بينهما هو أن يعلم أن مفهوم كون الشيء واحداً أو أكثر كالإنسان مثلاً مغاير لمفهوم حقيقة ذلك الشيء من حيث هو هو، وغنما كونه واحداً أو أكثر ملازم له بمنزلة كونه موجوداً أو معدوماً أو قصيراً أو طويلاً، والمفهومان وإن كانا متلازمين فإنهما متغايران، فمن هنا ظن كثير من الناس أنه مفهوم واحد.
وإذا عرفت هذا فاعلم أن اللفظ في دلالته على ما هذه سبيله له خمس حالات تختلف عليه التسمية باختلافها:
الأولى: أن تدل على تلك الحقيقة من حيث هي هي فقط من غير أن يكون فيه قيد من قيود تلك الحقيقة.
فهذا هو اللفظ المطلق،وبهذا يعلم بطلان قول من يجعل المطلق هو اللفظ الدال على واحد لا بعينه؛ لأن كونه واحداً لا يعينه؛ لأن كونه واحداً وغير معين قيدان زائدان على الماهية.
الثانية: أن يدل على تلك الحقيقة مع قيد فردية غير معينة، وهذا هو النكرة.
الثالثة: أن يدل على تلك الحقيقة مع قيد فردية معينة، وهذا هو المعرفة.
الرابعة: أن يدل على تلك الحقيقة مع قيد كثرة معينة، وهذا هو أسماء العدد.
الخامسة أن تدل على تلك الحقيقة مع قيد كثيرة غير معينة، وهذا هو اللفظ العام.
إذا ثبت هذا عرفت أن الآية ولو اقتضت ثبوت الولاية المطلقة لأمير المؤمنين لم يكن حملها على الولاية في جميع الأمور؛ لظهور الفرق بين المطلق والعام، فيكون المعتمد في الجواب ما تقدم.
النص الثاني: مما يدل على إمامة أمير المؤمنين قوله صلى الله عليه وآله وسلم يوم غدير خم: ((من كنت مولاه فعلي مولاه اللهم وال من والاه وعاد من عاداه)) الخبر بطوله.
ووجه الاستدلال بهذا الخبر أنه صلى الله عليه وآله وسلم أثبت لعلي كونه مولى لجميع المؤمنين كما أن الله مولاهم ورسوله والمولى هنا هو السيد الرئيس الذي يلي التصرف، وذلك هو معنى الإمامة.
وهذه الدلالة مبنية على ثلاثة أصول:
أحدها في بيان صحة الخبر.
وثانيها أن المولى هنا هو السيد الرئيس الذي يلي التصرف، وهذا أولى من أن يقول هو المالك للتصرف لما تقدم من إيهام هذه العبارة وإمكان التشعيب فيها.
/451/ وثالثها أن ذلك هو معنى الإمامة.
أما الأصل الأول وهو أن هذا الخبر صحيح، فالذي يدل على ذلك وجهان0: أحدهما إجماع العترة الطاهرة، وسيأتي بيان كونه حجة.
والثاني: النقل الظاهر المشتهر المتلقى بالقبول المخرج في الصحاح وغيرها من كتب الحديث.
وعلى الجملة: لم يرد عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أشهر من هذا الخبر؛ فلأن أمكن إنكار صحة ما هذا احله ليمكننّ في جميع الأحاديث، والمعلوم خلافه، وقد ذكر الإمام المنصور بالله عليه السلام في الشافي يزيد على مائة إسناد من صحيح البخاري ومسلم والنسائي وأبي داود ومسند ابن حنبل ومناقب ابن المغازلي وتفسير الثعلبي وغير ذلك مما يطول ذكره، ثم رفع ذلك إلى اثني عشر ممن سمع النبي صلى الله عليه بقوله.
قال عليه السلام: وهذا قد تجاوز حد التواتر، وظاهر كلامه عليه السلام دعوى الضرورة في هذا النقل وهو الظاهر من كلام أهل البيت عليهم السلام، أعني دعوى التواتر في هذا النقل، ولا أقل من أن يصدقهم في حصول ذلك لهم، فمن حصل له التواتر من أهل زماننا فحسن، ومن لم يحصل له التواتر بأن لا يجد من نفسه العلم الضروري لم يكن له نفي التواتر لجواز أن يكون فقد ذلك في حقه، إما لقصور همته في البحث، وإما لتعذر بعض الطرق التي حصلت للأولين، وهذا ممكن فإن ما طريقة النقل فالضرورة فيه مشروطة بالبحث عن التواريخ والسير، ولهذا لو سألت كثيراً من العقلاء هل حضر النبي صلى الله عليه وآله وسلم فتح مكة بنفسه أم لا لما أمكنه دعوى العلم فضلاً عن الضرورة ومعلوم أن هذا ضروري عند أهل السير والتواريخ.
وأما الأصل الثاني هو أن المولى هنا هو السيد الرئيس الذي يلي التصرف، فدليله أن هذه اللفظة وإن كانت مشتركة بين الناصر والمود وابن العم والمعتق والمعتَق والأولى ونحو ذلك، فقد صار الغالب عليها ما ذكرنا من الرئاسة وولاية التصرف بدليل سبق الفهم إلى ذلك عند قولنا فلان ولي القوم فإنه لا يفهم منه إلا أنه رئيسهم الذي يلي التصرف عليهم يسبق ذلك إلى أهل كل زمان.
وبعد، فلو سلمنا أنه لا يغلب ذلك فقد حصل في الحال واللفظ قرائن تدل على أنه …… إذا ما القرينة الحالية فهو أنه صلى الله عليه وآله وسلم نزل يوم الغدير نزل مهتم بأمر عظيم، وليس إلا الأخبار بأن علياً مولى لمن هو صلى الله عليه وآله وسلم مولاه، وذلك إنما يكون إذا كان المراد الرئاسة وولاية التصرف؛ لأن ما عدا هذا من المعاني منه ما يعلم بطلانه نحو كونه معتقاً لمن أعتق وكونه ابن عم للناس، ومنه ما هو داخل تحت ما ذكرناه من ونه ناصراً لهم وموداً؛ لأن الأخيار بمثل ذلك لا يحتمل بعظم الموقف والنزول في غير وقته وموضعه وإن احتمل أن /452/ يدخل تحت قوله رئيساً لهم يلي التصرف؛ لأن رئيس القوم أشد الناس عناية في نصرتهم ومودتهم وجلب النفع إليهم معروف عند أهل كل زمان، وأما القرينة اللفظيَّة فهو قوله صلى الله عليه وسلم: ((ألست أولى بكم من أنفسكم؟ قالوا: بلى يا رسول الله، قال: من كنت مولاه فعلي مولاه)) فإن قوله ألست أولى بكم من أنفسكم قرينة تقتضي أن علياً رضي الله عنه ألوى بهم من أنفسهم أيضاً، وغلا لم يكن في ذكر هذا فائدة.
وقول المخالفين أن سبب ذلك أن زيد بن حارثة قال لعلي في كلام وقع بينهما: لست مولاي وإنما مولاي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم باطل بأن زيد بن حارثة قتل يوم مؤتة، وخبر الغدير بعد حجة الوداع، وأيضاً فلم يكن يخفى على أحد أن مولى الرجل مولى لان عمه، ولهذا يقال: مولا بني فلا، ,عن كان الذي أعتقه واحداً منهم، وإنما الذي يمكن أن يعترض به هاهنا هو أن يقال: إنه صلى الله عليه وآله وسلم أثبت لهم ولاية في أنفسهم في قوله: ((ألست أولى بكم من أنفسكم إلا إذا كان لهم في أنفسهم ولاية معه، وإذا كان كهذا لم يصح أن يحمل على معنى الإمامة؛ لأن الأمور التي يليها الإمام ليس لأحد فيها ولاية معه.
والجواب نقول: ليس هذه سبيل أفعل التفصيل في كل بل قد يستعمل مع عدم المشاركة في مافيه التفضيل نحو قواهم الناقص والأشح أعدلا بني مروان، فإنه ليس المراد أن الكل عادل وإن هذين اختصاص بزياة وإنما المراد أنهما العادلان من بينهم، وكذلك قولهم: صهيب أشعر أهل جلدته أي هو الشاعر من بينهم لا أن فيهم شعراً قد فضلهم، وكذلك قولهم: الله أكبر فإنه ورد على جهة المفاضلة وأمثال هذا كثير، ومنه قول الشاعر:
إن الذي سمك السماء بنا لنا .... بيتاً دعائمه أعز وأطول
فإنه لم يرد المفاضلة بعلي هذا يجيء الخبر، فيكون قوله صلى الله عليه وآله وسلم: ((ألست أولى بكم)) بمعنى ألست مولاكم دون غيري.
وبعد، فهب أن الغالب ليس ما ذكرناه ولا في اللفظ قرينة تدل على ما ذكرناه ولا على غيره، فالواجب أن نحمله على ما ليس فيه تناف من هذه المعاني، فنقول: المراد أنه المد والناصر لمؤمنين والذي يلي التصرف عليهم لما تقدم من وجوب حمل اللفظ على كل معانيه إذا زال التنافي والقرينة.
وأما الأصل الثالث وهو أن ذلك هو معنى الإمامة فالذي يدل على ذلك أن لا يعني بالإمامة إلا الرئاسة في هذه الأمور المخصوصة، وهذا ظاهرن والذي يمكن أن يعترض به هاهنا هو ما تقدم من أن ثبوت الولاية المطلقة لا يقتضي ثبوت الولاية المقيدة، فإنا لا نعلم أن الإمام ولاية في هذه /453/ المخصوصة، وهذا ظاهر، والذي يمكن أن يعترض به هاهنا هو ما تقدم من أن ثبوت الولاية المطلقة لا تقتضي ثبوت الولاية المقيدة، فإنا لا نعلم أن الإمامة ولاية في هذه الأمور المخصوصة من ظاهر الآية ولا من ظاهر الخبر، وإنما علمناه بالإجماع المتأخر عن حال ورود الخبر.
والجواب: نجيء عل نحو ما تقدم من أن الخبر يكون مجملاً وبيانه وقع بالإجماع كغيره من مجملات الشرع.
على أنا ندعي أنهم فهموا من قصد النبي صلى الله عليه وسلم المعنى الذي نريده، ولهذا قال عمر لعلي: هنيئاً لك يا أبا الحسن أصبحت مولاي ومولى كل مؤمن ومؤمنة. ولو كان المراد المودة والنصرة لكان لا مزيّة له عليه ي ذلك، ولكان لا معنى للتهنئة بذلك؛ لأن المسلمين كلهم يتوادون ويتناصرون، ولولا هذا لكان عمر رضي الله عنه قد أقر بهذا القول على نفسه إنه لا يود المؤمنين ولا يناصرهم؛ لأن ظاهر كلامه التهنئة لعلي عليه السلام بشيء اختص به، وليس لأحد أن يقول: لو فهموا ذلك من قصده صلى الله عليه وآله سولم لكان النص جلياً إذا فهم ذلك من قصده صلى الله عليه وآله وسلم ضرورة، فأما إذا فهم استدلالاً بالقرائن فجائز أن يذهب بعضهم عنه، وأن يحمله بعضهم على معنى آخر، وان يخالفه بعضهم باجتهاده وأن يظن بعضهم أنه ليس فيه دلالة على الرئاسة المطلقة.
وعلى الجملة فليس الخطأ في مخالفة النص لأحد هذه الوجوه بمستحيل عليهم وفي محاس الأزهار للفقيه حميد رحمه الله تعالى بإسناده قال: قال حسان بن ثابت في شأن خبر الغدير:
يناديهم يوم الغدير نبيهم .... بخمٍ وأسمع بالرسول منادياً
وقال: فمن مولاكم ونبيكم؟ .... فقالوا ولم يبدوا هناك تعاماً:
إلهك مولانا وأنت نبينا .... ومالك منا في الولاية عاصيا
فقال له: قم يا علي فإنني .... رضيتك من بعدي إماماً وهادياً
هناك دعا اللهم وال وليَّه .... وكن للذي عادى علياً معادياً
قال رحمه الله تعالى: وهذا دليل على أن حسان فهم من لفظ المولى معنى الإمامة، وفيه بإسناده إلى جعفر بن محمد أنه سئل عن معنى الخبر، فقال: سئل عنه والله رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال: ((الله مولاي أولى بي من نفسي لا أمر لي معه، وأنا مولى المؤمنين أولى بهم من أنفسهم لا أمر لهم معي، ومن كنت مولاه أولى به من نفسه لا أمر له معي فعلي مولاه أولى به من نفسه لا أمر له معه)).
وفي الشافي للإمام المنصور بالله من تفسير الثعلبي في معنى قوله تعالى: {سأل سائل بعذابٍ واقعٍ} بإسناده إلى جعفر بن محمد، قال: بلغ الحارث بن النعمان الفهري خبر الغدير فأتى إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو في ملأ من أصحابه فقال: يا محمد، أمرتنا عن الله أن نشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله فقبلناه منك، وأمرتنا /534/ أن نصلي خمساً فقبلناه منك، وأمرتنا أن نصوم شهر رمضان فقبلناه، وأمرتنا أن نحج البيت فقبلناه، ثم لم ترض بهذا حتى رفعت بضبعي ابن عمك ففضلته علينا وقلت: ((من كنت مولاه فعلي مولاه))، هذا شيء منك أم من الله تعالى تعالى؟ فقال: ((والله الذي لا إله إلا هو إنه من أمر الله فوّل الحارث يريد راحلته وهو يقول: اللهم إن كان ما يقوله محمد حقاً فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذابٍ أليم، فما وصل الحارث راحلته حتى رماه الله بحجر فسقط على هامته وخرج من دربه، ونزلت الآية. فهذه الأمور كلها تدل على أنهم فهموا ما ذكرناه.
النص الثالث مما يدل على إمامته عليه السلام قوله صلى الله عليه وآله وسلم: ((أنت مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي)).
ووجه الاستدلال بهذا الخبر أنه صلى الله عليه وآله وسلم أثبت لعلي جميع منازل هارون من موسى إلا النبوة، ومن منازل هارون من موسى استحقاق الخلافة كما قال تعالى: {واخلفني في قومي وأصلح}.
وهذه الدلالة مبنية على أربعة أصول:ـ إحداها في أن الخبر صحيح. والثاني: أنه صلى الله عليه وآله وسلم أثبت لعلي جميع منازل هارون إلا النبوة. وثالثها: أن من جملة المنازل استحقاق الخلافة. ورابعها أن ذلك هو معنى الإمامة.
أما الأصل الأول: وهو في صحته فعليه دليلان: أحدهما إجماع العترة الطاهرة. والثاني: النقل المشهور.
قال الإمام المنصور بالله عليه السلام: فيه من الكتب المشهورة الصحيحة عند المخالفين أربعون إسناداً من غير رواية الشيعة وأهل البيت، ثم قال بعد ذلك: والخبر مما علم ضرورة وفي زيادات شرح الأصول للإمام أبي طالب، قال: أجمع المسلمون على قبوله وتلقيه، والعمل به ولم يذكر التواتر ولا لفظ الضرورة.
قال السيد صاحب شرح الأصول في ساداتنا من ادعى أن الخبر متواتر وفيهم من قال أنه متلقى بالقبول وهو الصحيح هذا كلامه.
وعلى كل حال، فمن ادعى الضرورة فيه من أئمتنا وعلمائنا صدقنا، ومن لم يحصل له الضرورة كفاه الشهرة ولم يكن له نفي التواتر فيه لجواز أن يكون أتي في فقد العلم الضروري من جهة فله البحث وفقد مثل هذا الطرق أعني طرق المدعيين للضرورة.
وأما الأصل الثاني وهو أنه صلى الله عليه وآله وسلم أثبت لعلي جميع منازل هارون من موسى إلا النبوة، فذلك ينبني على أن لفظ المنزلة يقتضي الاستغراق.
قال أبو طالب: والعادة جارية باستعمال مثل هذا الخطاب وإن كان المراد المنازل الكبيرة، ألا ترى أنهم يقولون منزلة فلان من الأمير كمنزلة فلان، وإن أشاروا إلى أحوال مختلفة ومنازل كثيرة، قال: ولا يكادون يقولون بدلاً مما ذكرناه /455/ منازل فلان من الأمير كمنازل فلان، هذا كله كلامه عليه السلام.
والذي يمكن أن يعترض به هنا هو أن يقال: أن لفظ إلا ليس للاستثناء هنا، وإنما هي للإستدارك بمعنى لكن، وهذه دعوى؛ لأنا نقول: ظاهر إلا الاستثناء وأكثر ما يرد كذلك وما ذكره الخصم خلاف الظاهر ولا دليل يقتضي العدول عن الظاهر.
وأما الأصل الثالث وهو أن من منازل هارون من موسى استحقاق الخلافة.
فاعلم أن من منازل هارون من موسى كثيرة.
منها الأخوة، ودليل ثبوتها لعلي رضي الله عنه ما هو معلوم مشهور من حال النبي صلى الله عليه وآله وسلم من أنه آخا بين كل اثنين من الصحابة وجعل علياً أخاه.
ومنها الوزارة وشد الإزر، وهذا أيضاً معلوم ضرورة، فإنه كان عليه السلام أحسن الناس بلاء في الإسلام وجهاداً بين يدي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو الذي فدى النبي بنفسه وكشف الكرب عنه صلى الله عليه وآله وسلم.
ومنها أن هارون كان أحب الناس إلى موسى، وكذلك كان علي أحب الناس إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لهذه الأخبار ولحصول أسباب المحبة من الاخوة والموازرة والنسب والمصاهرة وغير ذلك بل هو عندنا أحب الخلق إلى الله تعالى بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لما ثبت من أن الأفضل، لوما روي في خبر الطائر حيث قال صلى الله عليه وآله وسلم: ((اللهم ائتني بأحب خلقك إليك)) الخبر.
ومنها المشاركة في الأمر أي النبوة، وهذه المنزلة هي التي استثناها صلى الله عليه وآله وسلم.
ومنها الخلافة كما قال تعالى: {واخلفني في قومي} كما هو مشهور في سبب قصة هذا الخبر، فيجب ثبوت جمي هذه المنازل إلا النبوة، ومن جملتها الخلافة.
وقد اعترض المخالف هذا بأن قالوا: إنما كان ثبت ذلك لعلي من محمد صلى الله عليه وآله وسلم لو كان عاش هارون بعد موسى كما عاش علي بعد محمد.
والجواب: إن في هذا الاعتراض ركة ظاهرة، فإنه ليس من حق اشتراكهما في هذه المنازل أن يشتركا في جميع الأحوال، ولهذا لا يجب أن يشتركا في الطول والقصر ولا في اللون ولا في حسن الصورة ولا في الولادة ولا في كثير من الأمور، فكذلك لا يجب أن يشتركا في العمر، وكان الوجه في كل ذلك أن هذه الأمور خارجة عن المقصود بالمشاركة.
وبعد، فبالاتفاق أن هارون لو كان عاش لكان خليفة بعد موسى، فكذلك علي عليه السلام.
وبعد فقوله صلى الله عليه وآله وسلم: ((إلا أنه لا نبي بعدي)) إشارة إلى أن علياً يفارق هارون في هذه الخصلة /456/ التي هي كونه يعيش بعد صلى الله عليه وآله وسلم، وذلك محال.
والجواب: أن أئمتنا اختلفوا في ذلك، فقال الجمهور: الدليل قد خص وقت الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وهو الإجماع على أن ليس لأحد أن يتصرف في حياته.
وقال أبو طالب: بل يستحق التصرف في حياة النبي صلى الله عليه وآله وسلم إذا كان غائباً على الحد الذي يستحقه الخليفة من المستخلف، ولكن لا نسميه إماماً حينئّذٍ؛ لأن وقوف يه يد أخرى واتفق الكل من أئمتنا عليهم السلام على أن الاستحقاق ثابت من حال حصول الأدلة الدالة على ولايته عليه السلام، وإنما الخلاف المذكور في نفاذ التصرف.
وأما الأصل الرابع وهو أن ذلك معنى الإمامة، فالذي يدل على ذلك أنه لا فرق في عرف الشرع بين الإمامة والخلافة، وهذا الأصل الذي يمكن الخصوم أن يشعثوا فيه فيقولون: إن الذي ثبت لهارون من موسى هو الخلافة اللغويَّة، فأما هذه الخلافة الشرعية فلم تثبت لهارون من موسى، ولا لموسى ولا لمحمد وإنما الذي ثبت لهم الجميع هو النبوة والإمامة غير النبوة، فأما الخلافة اللغويَّة فقد ثبت لهارون من موسى فلا حرم يثبت لعلي م نمحمد، وغذا كان كذلك لم يصح أن يقال: إن ذلك هو معنى الإمامة؛ لأن الإمامة أمر شرعي ثبت في شرع محمد فقط، بل لم يثبت إلا بعد موت النبي صلى الله عليه وآله وسلم؛ لأن الإمامة وأوصافها وشروطها إنما علمت بالإجماع وهو متأخر عن موت النبي صلى الله عليه وسلم.
والذي يمكن أن يجاب به هنا هو أن يقول: إنه إذا ثبت الخلافة في الشر هي الولاية المخصوصة، فيجب أن يحمل الولاية المستفادة من الخبر على المعنى الشرعي؛ لأنه الطارئ كما تقدم هذا إن لم يحملها على المعنيين جميعاً، فإنه لا ينافي بينهما بل الواجب ذلك في هذا المكان؛ لأن المعنى اللغوي قد صار داخلاً تحته المعنى الشرعي.
تنبيه
اعلم أن هذه النصوص الثلاثة هي معتمد أهل البيت لظهورها وتأديتها إلى العلم، فأما ما يوصل إلى الظن من النصوص إما بأن تكون دلالته ظنية، وإما بأن تكون مثبتة ظنياً فهي كثيرة نحو خبر الطائر وخبر هويَّ النجم وخبر الأترنجة وخبر المؤاخاة والأخبار الدالة على عصمته /457/، والخبر المروي في قصة قوله تعالى: {وأنذر عشيرتك الأقربين} حيث قال صلى الله عليه وآله وسلم: ((من يضمن عني ديني ومواعيدي ويكون معي في الجنة ويكون الخليفة من بعدي))؟ فقال علي رضي الله عنه أنا، حتى قالها ثلاث مرات لا يجيبه إلا علي ونحو خبر قصة براءة وخبر فتح خيبر وكقوله صلى الله عليه وآله وسلم: ((أنت سيد العرب)) وكخبر النور وهو ما ذكره الإمام المنصور بالله إسناده إلى النبي صلى الله عليه وسلم، قال: كنت أنا وعلي نوراً بين يدي الله عز وجل قبل أن يخلق آدم بأربعة عشر ألف عام، فلما خلق الله آدم لم يزل ينتقل من الآباء إلى الأبناء حتى قسمه الله جزئين فجزأنا وجزء علي ففيّ النبوة وفي علي الخلافة)) واستيفاء مثل ذلك يطول.
فصل [في الاستدلال على إمامته عليه السلام بالوصاية]
وذلك ينبني على أصلين، أحدهما: أنه رضي الله عنه وصي رسول الله صلى الله عليه وسلم. والثاني: أن غير الوصي لا يصح أن يكون إماماً مع وجوده.
أما الأصل الأول وهو أنه وصي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فالذي يدل على ذلك إجماع العترة ومن طريق النقل قد بلغ في الشهرة حداً يقارب التواتر، ذكر المنصور بالله في الشافي ذلك من ست طرق، واستدل على ذلك من جهة الشرع بأن الله أوجب الوصية وحث عليها جميع المسلمين وكيف فيجوز أن يخل صلى الله عليه وآله وسلم بأمر أوجبه على سائر المسلمين.
والمشهور التعارف بين أهل كل زمانٍ أن علياً هو وصيّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ولهذا لو سألت المميّز من العوام: من وصي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؟ لقال: علي، والإجماع أيضاً على أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إن كان أوصى فإنما أوصى إلى علي رضي الله عنه، ولهذا لا تجد أحداً يضيف الوصية إلى غيره.
وأما الأصل الثاني: وهو أن وصي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم هو الإمام دون غيره، فالذي يدل على ذلك وجوه أربعة:
الأول: أنه صلى الله عليه وسلم بل الطارف من المسلمين إنما يوصي إلى أعدل الناس عنده وأولاهم بالقيام مقامه في جميع الأمور التي كان إليه التصرف فيها.
والثاني: أن عند الخصوم أن مال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لا يورث، وإذا كان كذلك فما الأمر الذي يكون إلى علي الوصاية فيه إذا كان لا يتصرف في أمور المسلمين.
الثالث: أنه قد ثبت في الشريعة أنه إذا كان للرجل ولاية في شيء من الأمور من وقف أو مسجد أو أيتام أو نكاح أ غير ذلك ثم أفضى إلى غيره فإن الولاية في كل شيء تنتقل إلى الوصي، وقد كان صلى الله عليه وآله وسلم يلي التصرف في أمور المسلمين فيجب أن ينتقل التصرف إلى وصيه.
الرابع: ما روي عنه عليه السالم أنه لما حكى له يوم السقيفة أن الأنصار قالوا: منا أمير ومنا أمير، قال: فهلا احتججتم عليهم أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أوصى إلى علي بن أن يحسن إلى محسنهم ويتجاوز عن مسيئهم.
قيل: وما وجه الحجة عليهم في هذا؟ فقال رضي الله عنه: لو كانت الأمارة فيهم لم تكن الوصية بهم وهو دليل على أن الإمارة /458/ إنما هي في من أوصاه النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وقد ثبت أنه رضي الله عنه.
فصل [في الاستدلال على إمامته رضي الله عنه بكونه أفضل الأمة بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم]
ووجه الاستدلال بذلك هو أنه لا يجوز إمامة المفضول لا روي أن الصحابة يوم السقيفة فزعوا إلى عد الفضائل، فقالت الأنصار: الدار دارنا والإسلام عزنا، وقال المهاجرون: نحن شجرة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والبيضة التي تفقأت عنه.
والذي يمكن أن يعترض به هذا الدليل وجهان:
أحدهما: أن يقال: إن مجرد وقوع الإجماع على الفضل إنما يدل على حسنه، فأما إنه واجب أو مندوب أو مباح فلا يعلم ذلك غلا بدليل منفصل، فالصحابة وإن فزعوا إلى عد الفضائل فلا دليل على أنهم فزعوا إلى ذلك معتقدين أنه الواجب، وأن خلافه لا يصح بل من الجائز أن يكونوا معتقدين أنه الأولى وإن جاز خلافه كإجماعهم على فعل صلاة الوتر ونحو ذلك.
ويمكن الجواب عن هذا بأن يقول: إن ظاهر الحال يشهد بأن كلام قريش ورد على جهة الإنكار على الأنصار، وأنه جرى في ذلك الموقف ما يدل على امتناع إمامة المفضول، فإنه وطئ سعد حتى كاد يهلك، وقال قائلهم: قتلتم سعداً، فقال عمر رضي الله عنه: قتله الله إنه منافق، وهذا دليل على أنهم كانوا معتقدين امتناع خلافة الأنصار؛ لأن قريشاً تفضلهم.
ويؤيد هذا أن علياً لما سأل عما احتج به المهاجرون على الأنصار فقيل: قالوا: نحن شجرة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والبيضة التي تفقأت عنه، فقال علي رضي الله عنه: احتجوا بالشجرة وأضاعوا الثمرة، وهذا دليل على تقرير احتجاجهم، وغنما أنكر عليهم أنهم لم يفعلوا بمقتضى الاحتجاج حيث احتجوا بفضلهم على من دونهم وأهملوا فضل من فوقهم عليهم.
الوجه الثاني: مما نعترض به على هذا الدليل هو أن يقال: يذهب الجمهور من أئمتكم جواز إمامة المفضول في هذه الأزمنة، فهلا جاز مثله في الصدر الأول.
والجواب: أنهم عليهم السلام إنما جوزوا ذلك في هذه الأزمان لتعذر العلم بالأفضل حتى لو تعين لهم الأفضل مع جميع الشرائط لما عدلوا عنه.
قال بعض المعتزلة: يجوز أن يكون عدول الصحابة عن علي لمانع وهو يحسبه افتراق الناس عليه لمكان القتل الذي كان يقتله مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فخاف الصحابة الانتقاد له الناس مع قرب عهدهم بالكفر، فعقدوا لغيره مع علمهم بفضله تحرياً للصلاح وتسكيناً للدهماء.
قالوا: ويجوز أيضاً أن يكون عدولهم عنه لضيق الوقت وخشية ظهور الفتنة حال مراجعته وانتظاره حتى يفرغ من تجهيز رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فخافوا أن يبايع الأنصار ويشق العصا فسارعوا بالبيعة خوفاً لذلك.
والجواب: قال أصحابنا ما ذكره المخالف من كثرة قتله في الناس ما يزيده مدحاً وفضلاً ورئاسة /459/ وليس مما يصرف عنه.
وهذا الجواب ليس بالجيد؛ لأنهم يقولون مسلم ما ذكرتم، ولكن القلوب مجبولة على النفرة، فمن قتل الأقارب من الآباء والأبناء والأخوة فلا تكاد القلوب تطاوع على محبته والانقياد له والإذعان وإن كان ذلك هو الواجب، فهذا الجواب لا يشتمل السؤالين جميعاً.
وأيضاً في الجواب أن يقول إنما كان يحسن ما فعلوه من اجتهادهم والنظر في الصلاح لو كانت المسألة اجتهاديّة، فأما والإمام عليه دليل قاطع فلا مجال لاجتهادهم ولا حكم لرأيهم؛ لأنه لو علم الله الصلاح في ما أداهم إليه رأيهم لما نصب على الإمام دليلاً، ولترك المسألة اجتهادية.
فصل [في الاستدلال على إمامته عليه السلام بكونه معصوماً]
والذي يدل على عصمته هو أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم دعا له على القطع من غير شرط في قله: ((اللهم وال من والاه..)) الخبر، وقال صلى الله عليه وآله وسلم: ((علي مع الحق والحق مع علي))، وقال صلى الله عليه وآله وسلم: ((أدر الحق مع علي حيث دار)) والذي يدل على أن غير المعصوم لا يكون إماماً مع وجود المعصوم هو أن المعصوم مأمون مقطوع على مغيبة، فالنفوس إليه أشد سكوناً، والناس له أطوع لوثوقهم به في إمضاء الأمور التي نصب لها وزوال الخطأ في الإقدام والإحجام؛ ولأن المجاهدة معه أكثر ثواباً لكثرة اليقين فيا والرغبة إليها.
وعلى كل حال فهذه الخصلة معتبرة أعني حصول ما معه يكون الثقة في جميع الأمور ونزول النفرة، ولهذا اعتبر في الإمام أن يكون خالياً عن الخصال المنفرة، ولا شك أن من يقطع بإيمانه وأصابته لا تنفر عنه النفوس كنفرتها عمن يجوز عليه كل خطأ.
فصل [في الاستدلال على إمامته عليه السلام بإجماع العترة الطاهرة]
اعلم أن الكلام في إجامع أهل البيت يقع في ثلاثة مواضع:
أحدها: في أن أهل البيت هم علي وفاطمة والحسن والحسين وأولادهما إلى يوم الدين دن غيرهم.
والثاني: في أنهم أجمعوا أن الإمام بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم علي.
والثالث: في أن إجماعهم حجَّة.
أما الموضع الأول فعندنا وهو الظاهر من كلام المعتزلة وكثير ن الناس: أن أهل البيت المرادين في الآية بقوله تعالى: {إنما يريد الله أن يذهب عنكم الرجس أهل البيت} هم علي وفاطمة وأولادهما.
وقال قوم: أزواج النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
لنا: استعمال العرف والشرع، أما العرف المتعارف بين أهل اللغة أن أهل بيت الرجل هم قرابته وعشريته، وإنما نخرج ما عدا هؤلاء المذكورين من قرابته بالإجماع، وكذلك المتعارف به بين أهل هذه الأعصار م وقت النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى وقتنا هذا أن أهل بيت النبي هم من ذكرنا، وهو المتداول في أشعارهم حتى ما يذكر أحد أهل بيت النبي صلى الله عليه وآله وسلم في شعر أو غيره /460/ إلا وأراد به من ذكرنا.
وأما الشرع فما روي عنه صلى الله عليه وآله وسلم أنه لما نزلت هذه الآية جمع علياً وفاطمة والحسن والحسين وخللهم بكساء قدكي وقال: ((اللهم إن هؤلاء أهل بيتي فأذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً)) فقالت أم سلمة: وأنا منهم يا رسول الله؟ فقال: ((لست منهم وإنك لعلى خير)) وكذلك المروي أنه لما نزل قوله: {وأمر أهلك بالصلاة..} الآية كان يأتي كل غداة إلى بيت فاطمة، فيلزم يخلفني الباب ويقول الصلاة الصلاة أهل بيت النبي.
وأما قول الخصوم أن المراد زوجاته فهو قول باطل بما تقدم، ولأنهن لو كن المعنيات لكان إجماعهن حجَّة وإلا بطلت فائدة الآية وكلاهما محال؛ ولأنهن مؤنثان، فكان القياس أن يقول بتمكن أهل البيت.
قالوا: إنما لم يقل كذلك لأنه صلى الله عليه وآله وسلم داخل فيهم وعادة العرب تغليب المذكر في الجمع.
قلنا: لا يصح دخوله فيهم؛ لأن أهل بيت الرجل غيره من حيث أن المضاف غير المضاف إليه، والتقدير عنكم أهل بيتي النبي.
وبعد، فأجمع الناس على قولهم: اللهم صل على محمد وعلى أهل بيته الطيبين الطاهرين، ولو كنَّ المغيبات لنيل الطيبات الطاهرات وليس لهم أن يقولوا هو صلى الله عليه وآله وسلم داخل يه لما تقدم؛ ولأنه يصلي عليه أولاً وعلى آله ثانياً، فلو كان داخلاً فيهم لكانت الصلاة على أهل بيته كافية لأنه ينهم وخلافه معلوم.
شبهتهم سياق الآية فإن أولها وآخرها فيهن، قالوا: فكذلك وسطها.
والجواب: وإن كون أولها وآخرها فيهن لا يمنع أن يكون وسطها في غيرهنَّ.
وبعد، فلسي هناك دليل قاطع يدل على أن هذه الآيات نزلت دفعة واحة بهذا الترتيب ومن الجائز أن يكون قوله: {إنما يريد الله..} الآية، نزلت في غير الوقت الذي نزل فيه قوله: {وأقمن الصلاة} الآية، ويكون عثمان رضي الله عنه أو غيره جعلها في ذا الموضع ظناً منه أنهنَّ المعنيات بها واجتهاداً في الترتيب، وليس يمكن إنكار هذا؛ لأن المعلوم أنه قد وقع اختلاف كبير في الترتيب حتى اصطلح الناس على مصحف عثمان رضي الله عنه.
وأما الموضع الثاني ه أنهم أجمعوا على أن الإمام بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم هو علي، فالذي يدل على ذلك أنه الظاهر من مذهبهم والمذكور في كتبهم والمتفقة عليه بمصنفاتهم والمشهور من عقيدتهم، فلا يعلم أن أحداً منهم، قال: بخلاف هذه المقالة وليس علينا في دعوى الإجماع أكثر من هذا؛ لأن مثل هذه الطريقة يعرف نسبة المذاهب إلى أهلها والأقوال إلى قائلها، وبمثل هذا يستدل على القول بأن المعتزلة مجمعون على القول بالعدل والتوحيد.
وأما الضرورة في هذا الإجماع، فمن ادعاها من أئمتنا وعلمائنا صدقناه، ومن لم يحصل له منا العلم لا يصح له نفي /461/ التواتر لجواز أن تكون الضرورة في حقه لتقصير في البحث ولتعذر الطرق التي حصلت لمدعي الضرورة والجواز حصول الضرورة بالأخبار لبعض المكلفين دون بعض، فإن ذلك غير ممتنع؛ لأن العلم الضروري من فعل الله تعالى، فجائز أن يفعله للبعض دون البعض وإن كان صاحب المحيط قد منعه.
قال: لأمر يرجع إلى التكليف.
قال: ولولا هذا لصح أن تخبرنا القافلة العظيمة بوجود مكة فيعلم البعض دون البعض، وذلك يلزم عليه صحة أن يصدق من أخبر عن نفسه أنه لا يعلم مكة ضرورة.
وهذا الذي ذكره رحمه الله تعالى ليس بالمقنع، أما قوله يلزم حصول اللم بمكة للبعض دون البعض فهو صريح ما يجوزه الخصم، وليس بمستحيل عنده؛ لأن طريقه العادة، وأما أنا لا نصدق من أخبر عن نفسه أنه لا يعلم مكة ضرورة البعض، وكذلك لو فرض الكلام في مكة في حق أهل البلدان النائية، بحيث يتصور أن لا يخبرهم بها قافلة واحدة واحدة وقافلتان.
وما ذكر رحمه الله من امتناع ذلك لأمر يرجع إلى التلكيف فهذا صيح، لكن في حق من عليه تكليف بمخبر ذلك المخبر كالعلم بمكة، فإن التكليف المترتب عليه شامل، فما المانع أن لا يكون على بعض المكلفين تكليف يترتب على العلم بوجود الرَّي مثلاً أو غيرها من البلدان، فلا يلزم أن يخلق الله العلم الضروري بها عند خبر القافلة، وإن جاز أن يفعله في غيره.
يزيده وضوحاً أنهم قد أجازوا أن يكون في أقاضي الأرض بلد لم يحصل لهم العلم بمحمد عليهم السلام ولا بدعوته ولا يكون عليهم في ذلك تكليف وليس لأحد أن يقول: كيف يصح ذلك والمعلوم ضرورة من الدين أنه مرسل إلى الثقلين؛ لأنا نقول أن تجويز ذلك لا يخرجه عن كونه مرسلاً إليهم لجواز أن يكون شرعه عليه السلام مصلحة لهم مشروطاً بأن يبلغهم ويعلموه ضرورة كما في صدر الإسلام، فإنه صلى الله عليه وآله وسلم بعث إلى الكل وإن تراخا علم أكثر الناس به صلوات الله عليه إلا بعد مدة، وكان الوجه في صحة ذلك هو أنه لا يمتنع كون شرعه مصلحة مشروطة بالعلم.
وأما الموضع الثالث وهو في أن إجماعهم حجَّة فهذا هو مذهبنا وغليه ذهب أبو علي وأبو عبد الله البصري.
قيل: وقاضي القضاة، وروي عن القاسم عليه السلام أنه ليس بحجة، وقد ضعفت هذه الرواية عنه وتأولها بعضهم على أن مراده أنه لا يحرم مخالفته لا على أنه لا يصح الاستدلال به وتصير بمنزلة الآيات والأخبار التي دلالتها ظنية، فإنه يصح الاستدلال بها ولا يحرم مخالفتها.
قيل: والفرق بينه وبين إجماع الأمة على هذه المقالة هو أن الوعيد ورد على مخالفة إجماع الأمة في قوله تعالى: {له ما تولى ونصله جهنم} حتى لو لم يرد وعيد لكان الإجماعان ظنيين.
والذي عليه أكثر الفرق أن إجماعهم ليس بحج.
لنا: قوله تعالى: {هو اجتباكم وما جعل عليكم في الدين من حرج ملة أبيكم إبراهيم..} إلى قوله /462/ {وتكونوا شهداء على الناس} والاجتباء هو الاختيار، وهو تعالى لا يختار للشهادة إلا العدول وظاهر الآية وإن تناول جميع ولد إبراهيم عليه السلام، فإنه يخرج من عدا أهل البيت بالإجماع لوقوع الاتفاق على أن قول من عداهم ليس بحجة، وإنما الخلاف في إجماعهم، فلو لم يكن حجة لبطلت فائدة الآية.
فإن قال المخالفون شهادتهم على الناس إنما هي في الآخرة وكذلك العدالة.
قلنا: الآية وردت مورد المدح لهم ولا مزيّة لهم بذلك في الآخرة؛ لأن كل أحد يومئذٍ عدل أي ملجأ إلى الصدق، فلا يحتاج إلى من يشهد عليه.
فإن قالوا: الخطاب خطاب مواجهة فلا يتناول إلا الموجودين منهم في عصر الرسول صلى الله عليه وآله وسلم.
قلنا: كان يلزم مثله في إجماع الامة؛ لأن قوله تعالى: {كنتم خير أمةٍ أخرجت للناس} الآية ونحوا من أدلة الإجماع ظاهرة المواجهة.
والتحقيق أن كل خطاب يتناول أهل العصر الأول فإنه يتناول أهل كل عصر، ولولا هذا لكان لقائل أن يقول: لا يجب علينا الصلاة ولا الزكاة؛ لأن قوله تعالى: {أقيموا الصلاة وآتوا الزكاة} خطاب مواجهة لا يتناول إلا المجودين حال نزول الآية معلوم.
فن قالوا: إما أن يكون المراد الموجودين حال نزل الآية فقط أو جميع أهل البيت إلى آخر التكليف وكلاهما يبطل غرضكم.
قلنا: لا واحد من القسمين، بل المراد أهل العصر في كل عصر وإلا لزم مثله في إجماع الأمة.
فإن قيل: ما أنكرتم أن المؤمنين كلهم من ولد إبراهيم يوم نزول الآية فيكون المراد بها جميع المؤمنين فيكون أحد الأدلة على إجماع الأمة.
قلنا: لا دليل على ذلك، بل ربما أنها نزلت وقد أسلم كثير من غير ولد إبراهيم كالنجاشي وغيره.
فإن قالوا: ما أنكرتم أن المراد كل المؤمنين ولكن غلب ولد إبراهيم كالنجاشي وغيره.
فإن قالوا: ما أنكرتم أن المراد كل المؤمنين، ولكن غلب ولد إبراهيم وخصهم بالذكر لجلالتهم ولأنهم رأس المسلمين وصار هذا كالخطأ بأن المتوجهة إلى بني إسرائيل فإن المراد بها هم ومن دخل في دينهم.
قلنا: هذا خلاف الظاهر ولا وجه يقتضي العدول عن الظاهر.
فإن قالوا: إنما يكونون معصومين عن الكبائر إذ لا يزيد حالهم عن حال الأنبياء فما أنكرتم أن يجمعوا على ذنب صغير إلا يخرجهم ذلك عن كونهم عدولاً كما أنا نحكم بعدالة كثير من الناس، وإن جوزنا عليهم الخطأ قلنا: شهادتهم أن الشيء حق وليس بحق يخرج في عدالتهم فلا يجوز أن يشهدوا إلا بالحق، ولولا هذا للزم في إجماع الأمة أن لا يكون حجَّة.
دليل، قال الله تعالى: {إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيراً} والخطأ رجس فيجب حمل الآية عليه؛ إذ لا يمكن حملها على ذهاب النجاسة.
فإن قيل: بل المراد بالرجس هنا العقاب /463/ في قوله تعالى: {كذلك يجعل الله الرجس على الذين لا يؤمنون} قالوا: نحملها عليها جميعاً؛ لأنه لا تنافي بين المعنيين ولا أحسن من أن يذهب الله عنهم الخطأ والعقاب جميعاً فهم أهل الذهاب ذلك عنهم.
دليل، لا شك أن الله تعالى أوجب وداد أهل البيت على الإطلاق في قوله تعالى: {قل لا أسألكم عليه أجراً إلا المودة في القربى}، ولو جاز إجماعهم على الخطا لما وجبت مدتهم على الإطلاق لقبح مودة العصاة كما شهد به قوله تعالى: {لا تجد قوماً يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله..} الآية، أجمع الناس على أنها نزلت في الخمسة الأشياخ رضي الله عنهم ومن البعيد في وجوه يباهل بها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن يجمع على الخطأ.
دليل، قال صلى الله عليه وآله وسلم: ((إني تارك فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا من بعدي أبداً كتاب الله وعترتي أهل بيتي إن اللطيف الخبير نبأني أنهما لن يفترقا حتى يردا علي الحوض، وهذا الخبر مروي في الصحاح متلقى بالقبول، فقد آمنا صلى الله عليه وآله وسلم من وقوع الضلال في اتباعهم والتمسك بهم.
فإنق الوا: إنما يجب التمسك بقولهم إذا وافق الكتاب.
قلنا: وكذلك يجب التمسك بقول غيرهم إذا وافق الكتاب، فلا يكون لهم مزية في ذلك، والخبر ورد مورد المدح لهم .
فإن قالوا: أدلة الإجماع لم تخص قوماً دون قوم.
قلنا: صدقتم ولكن و خص إجماع أهل البيت أدلة مفردة فما المانع من ذلك.
دليل، قال عليه السلام: ((مثل أهل بيتي فيكم كمثل سفينة نوح من ركبها نجا ومن تخلف عنها غرق وهوى)) وهذا الخبر أيضاً متلقى بالقبول، وفيه تصريح بأن النجاة في اتباعهم والهلاك في التخلف عنهم، وفيه وعيد على مخالفة إجماعهم، وذلك يقتضي أنه حجَّة قاطعة كإجماع الأمة.
دليل، قال عليه السلام: ((أقدموهم ولا تقدموهم وتعلموا منهم ولا تعلموهم)) وهذا تصريح بأن لهم حظ السبق ولغيرهم حظ التبعية، وفي ذلك دلالة على أنهم لا يجمعون على الخطأ، وغلا لم يصح الأمر بتقديمهم والتعلم منهم على الإطلاق.
وقال صلى الله عليه وآله وسلم: ((أهل بيتي أمان لأهل الأرض كما أن النجوم أمان لأهل السماء)) وقال صلى الله عليه وآله وسلم: ((أهل بيتي كالنجوم كلما أفل نجم طلع نجم)) وكذلك حكمه صلى الله عليه وآله وسلم بكونهم باب حطة ونحو ذلك مما يتعذر استيفاؤه ويطول، وهذه الأخبار ,عن كان فيها ما هو أحادي فإنما أردناها لأنها منفعة المعنى وصار الحال في ذلك كاستدلالنا بنحو: ((لا تجتمع أمتي على ضلالة من الأخبار الأحادية)).
وقلنا: إنها متفقة المعنى كما يرى من تفاصيل سخاء حاتم وحلم قيس، فبهذا تصير هذه الأخبار دلالة على أن إجماع أهل البيت حجة لو قدرنا أنه ليس هنالك دليل غيرها.
القول في ذكر ما احتجت به المعتزلة وغيرهم
على إمامة أبي بكر رضي الله عنه
اعلم أن الكلام في هذا الباب هو مع من يقول بإمامته من جهة العقد والاختيار، فأما من يقول بها من جهة نص جلي أو خفي فالكلام معه لغو لا ثمرة له؛ غذ لا يشتبه على أحد فساد ذلك
وقد أوردت المعتزلة وغيرهم ثلاث طرق.
الطريقة الأولى: أن قالوا: الأمر الذي يعلم به كون الحال فيه هو النص الخفي أو العقد والاختيار.
قالوا: وقد بطل النص الخفي فيبقى العقد والاختيار وإلا خرج الحق عن أيدي الامة.
والجواب: أن يقول دون إبطال النصوص خرط القتاد، ونحن قد ذكرنا النصوص ووجه دلالتها، فلا نعيده.
الطريقة الثانية: هي ما استدلوا به على أن العقد والاختيار هو الطريق إلى الإمامة من الإجماعات المتقدم ذكرها، ونحن قد أبطلنا ما ذكروه وقلنا: إنه وإن وقع الإجماع على الاختيار فإنه إنما يدل ذلك على حسنه، فأما أنه الطريق إلى الإمامة فلا.
الطريقة الثالثة: هي أن قالوا: قد وقع الإجماع على إمامة أبي بكر رضي الله عنه، فإنه وإن وقع اختلاف يوم البيعة فقد زال من بعد واستقر الإجماع وسكت الكل سكوت رضى وبايع علي أبا بكر وقاتل معه وصلى خلفه وأخذ نصيبه من الفي وقرر أحكامه حين صار الأمر إليه ونحو ذلك مما يدل على أن سكوته سكوت رضى.
والجواب: أنا لا نسلم وقوع الإجماع قط، فإن كثيراً من أئمتنا لعيهم السلام رووا أن علياً ما بايع أبا بكر قط، وغنما أظهر الطاعة فقط.
قالوا: والظاهر في كلامه عليه السلام ومناشدته يوم الشورى وخطبته الشقشقية ونحو ذلك استمرار الإنكار، والمشهور في السير أن سعد بن عبادة مات ولم يبايع وإلى هذا أشار شارعهم في قوله:
يقولون سعداً شقت الحر بطنه .... ألا ربما حققت فعلك بالغدر
وما ذنب سعداً إنه بال قائماً .... ولكن سعداً لم يبايع أبا بكر
وأما كونه عليه السلام يمدح أبا بكر رضي الله عنه وأرضاه ويواليه ويصلي خلفه ونحو ذلك فذلك يدل على أنه لم يعتقد فيه إلا خيراً وأننه كان يعتقد إيمانه وتعظمه، وكذلك يقول: فإن الذي عليه جمهور أئمتنا عليهم السلام مدح الصحابة والترضية عنهم، ولسنا ندعي بإقامة الدلالة على إمامة أمير المؤمنين عليه السلام أن الصاحبة مستحقون الذم والبراءة، وأنه لا يجوز الصلاة خلفهم والأمر عندان بخلاف ذلك، ونحن لا نعدوا فيه ما يظهر من حال أئمتنا عليهم السلام وهو التجرم واعتقاد أنهم ظلموا حقهم وأزيلوا عن مكانتهم التي هم بها أحق /465/ فأما غير ذلك فلا تعتقدوه، وأما كونه عليه السلام قرر أحكام الشيوخ يوم انتهى الأمر إليه فذلك لا يمنع مما ذكرناه وهو بمعزل عن محل النزاع، فإن الظاهر أنهم إنما حكموا بالحق الذي يطابق قصده رضي الله عنه بحيث لو حكم عليه السلام لحكم به، وهذا مما يعتقده وبعتقده أئمتنا، أعني كون سيرة الصحابة رضي الله عنهم سيرة عادلة لم يظهر خطؤهم في شيء منها، ولهذا كانوا يفزون إلى أمير المؤمنين في المشكلات ويصدرون عن رأيه في المهمات، وكان عليه السلام يردهم من الخطأ إذا همّوا به في الأحكام كما هو مشهور في قصة: (لولا علي لهلك عمر) ونحو ذلك مما يدل على تحريهم للحق في السيرة.
القول في إمامة الحسن والحسين عليهما السلام
لا شبهة في إمامتهما خلافاً للخوارج في إمامة الحسن عليه السلام ولليزيدية في إمامة الحسين عليه السلام.
لنا: إن طرق الإمامة قد اجتمعت في حقهما وهي العقد والاختيار على أصل المعتزلة والنص والدعو عند الزيدية، وذلك النص هو قوله صلى الله عليه وآله وسلم: ((الحسن والحسين إمامان قاما أو قعدا وابوهما خير منهما)) وهذا تصريح بإمامتهما وإشارة إلى إمامة أبيهما رضي الله عنهم، فأما المخالفون في إمامة الحسن فهم أربع فرق.
فرقة: زعمت أنه ليس بإمام؛ لأنه كفر مع أبيه بالتحكيم ولم يتب.
فرقة زعمت أنه كان إماماً ثم كفر بتسليم الأمر إلى معاوية.
وفرقة زعمت أن معاوية هو الإمام؛ لأنه غلب وطريق الإمامة الغلبة.
والكلم على الفريقين الأولين هو ما تقدم على الخوارج ويختص هذا المكان أن يقول أنه لعيه السلام لم يسلم الأمر إلى معاوية، ولكن هادن لما رأى ضعف عزيمة أهل العراق وتفرق جيشه وخديعة معاوية لعبد الله بن العباس، فرأى أن يهادن لمصلحة علمها في ذلك وليس يجب لعيه أن يلقي بيده إلى التهلكة، ولا شبهة عند كل مسلم أن فعله لعيه السلام كان حسناً من جهة التدبير، وهذا سبيل الأئمة والملوك، بل الأنبياء، فإن النبي صلى الله عليه وآله وسلم صالح يوم الحديبية وأراد أن يصالح الأحزاب على بعض أهل المدينة.
وأما الكلام على القائلين بإمامة معاوية لأجل الغلبة أو لأجل أن الحسن سلم إليه الأمر فهو أن نقول: قد كان معاوية أحقر من أن يشتبه الأمر في إمامته؛ لأنه كان ظاهر الفسق، بل ظاهر الكفر. أما فسقه فمن وجوه منها أن حارب أمير المؤمنين ولا شبهة في فسق من حارب إمام الحق ليضمنه الاستخفاف كما لو حارب أبا بكر وعمر، فإنه كان يفسق عند الخصوم.
ومنها: أنه قتل الحسن عليه السلام بالسم على يدي امرأته بنت الأشعث ولا شبهة في فسق /466/ من قتل أئمة الحق أو سبب في قتلهم لا سيما أهل بيت النبوة.
ومنها أنه كان قائد الفرقة الباغية كما يشهد به قوله صلى الله عليه وسلم: ((ستقتلك الفئة الباغي)).
ومنها أنه عادى علياً بالضرورة.
وقد قال صلى الله عليه وآله وسلم: ((اللهم وال من والاه وعاد من عاداه)) فهو معادٍ لله بنص الرسول صلى الله عليه وسلم ومن عاداه الله فهو فاسق أقل أحواله وأما كفره فلما روي عن أبي وائل، قال: كنت مع مسروق فمرت بنا سفينة فيها أصنام فسألنا عنها فقيل: بعث بنا معاوية لنباع في الهند، وعن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: ((يموت معاوية على غير ملتي ))، فروي أنه مات وفي عنقه سليب يستشفى به، وقيل للمغيرة بن شعبة: إنك كنت من معاوية بمكان، فلم تزكيه، فقال: نعم إن هذا الرجل أخبث عباد الله كنت أسايره يوماً وأحدثه حتى انبسط إليَّ، فقلت: وقد ذكر بني هاشم أعف عنهم وأرفق بهم، فإنما نلتهم ما نلتم بقرائبكم منهم، فقال: اسكت إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم توفى فصار هذا الامر إلى أبي بكر، فلما مات انقطع ذكره وذكر قومه وصار هذا الأمر إلى عمر، فلما مات انقطع ذكره وذكر قومه وإن جماعة هذا الرجل يعني النبي صلى الله عليه وآله وسلم ينادَى بهم في اليوم والليلة خمس مرات فليس لهم إلا أن يلزقوا بالتراب.
وهذا كفر صريح، وقد فعل بمقتضى كلامه هذا حتى كان يسب أمير المؤمنين وأهل بيت النبوة، واشتمال على ذلك أفئدة الطعام وجعله سنة تتلى على المنابر، وحتى سمى العام الذي ابتدع فيه سبهم عام السنة وبه سمت المجبرة أهل السنة.
والمشهور أنه الحق زياداً بأبي سفيان، وهو ولد زنا بلى خلاف، فرد ما هو معلوم ضرورة من الدين بإلحاقه به.
وعن النبي صلى الله عليه وسلم: ((معاوية في تابوت من نار))، وعنه صلى الله عليه وآله وسلم: ((إذا رأيتم معاوية يخطب على منبري فاضربوا عنقه))، قال: الحاكم: رواه الخدري وجابر وحذيفة، قال الحسن: فلم يفعلوا فأذلهم الله.
وعن محمود بن لبيد، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأشار إلى معاوية: ((إن هذا سيريد الأمر بعدي فمن أدركه منكم وهو يريده فليبقر بطنه)).
عبد الله بن عمر رضي الله عنهما عنه صلى الله عليه وآله وسلم: ((يطلع عليكم رجل من أهل النار)) فاطلع معاوية.
أبو ذر رضي الله عنه صلى الله عليه وآله وسلم: ((أول من يغير سنتي رجل من بني أمية)). وعنه أيضاً، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ((يخاطب معاوية إني وإياك لفرعون هذه الأمة)). وعنه صلى الله عليه وآله وسلم وقد مر به أبو سفيان راكباً على بعير ومعاوية يسوق وعنبه يقود، فقال صلى الله عليه وآله وسلم: ((لعن الله الراكب والسائق والقائد)). وعنه عليه السلام /467/ يخاطب علياً: ((لا يحبك إلا مؤمن ولا يبغضك إلا منافق))، وبالضرورة أن معاوية كان يبغض علياً. وعنه عليه السلام يخاطب عليا: ((ستقاتل الناكثين والقاسطين والمارقين)) ولا شك أن القاسطين معاوية وأصحابه.
والمشهور أن الحسن لعيه السلام يوم مناظرته مع معاوية وعمر وأشياعهم قرر عليهم المخزيات وقرر على معاوية أن الرسول لعنه في عشرة مواطن ولم ينكر معاوية كلام الحسن، فدل على أنه صادق فيه.
وعلى الجملة فمساويهم أجل من أن تحصى، كما أن فضائل أهل البيت عليهم السلام أجل من أن تحصى،ولهذا قال الشعبي: كان خطباء بني أمية يسبون علياً فكأنهم يرفعونه إلى السماء ويمدحون أسلافهم فكأنهم يكشفون جيفة حمار.
وأما الذين خالفوا في إمامة الحسين فهم فرقة من النواصب زعموا أن يزيد الإمام؛ لأن معاوية نص عليه وأن الحسين كان خارجياً.
والكلام عليهم هو أن نقول لهم: متى ثبت لكم أن معاوية إمام حتى يصح نصه على غيره، ولو لم يستدل على بطلان إمامة معاوية إلا بالنص على يزيد لكفى.
وبعد، فكيف يصح إمامة يزيد مع علو مكانه في الفسق ووفور حظه من الكفر، ولو لم يكن إلا قتله لأولاد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وانتهاكه لحرمه، وقد روي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: ((أنا حرب لمن حاربكما سلم لمن سالمكما))، وعنه صلى الله عليه وآله وسلم: ((قاتل الحسين في تابوت من نار لعيه نصف عذاب أهل النار))، وعنه صلى الله عليه وآله وسلم: ((يا علي، إن موسى سأل ربه فقال: يا رب إن أخي هارون مات فاغفر له فقال: يا موسى لو أنك سألتني في الأولين والآخرين لأجبتك إلا قاتل الحسين))، وعنه صلى الله عليه وآله وسلم: ((تجيء ابنتي فاطمة يوم القيامة ومعها ثياب مصبوغة، فتعلق بقائمة من قوائم العرش فتقول: يا عدل احكم بيني وبين قاتل ولدي فيحكم لابنتي ورب الكعبة))، وعنه لعيه السلام: ((يا حسين إن لي ولقاتلك يوم القيامة مقاماً وخصومة وقد طابت نفسي إذ جعلني الله خصماً لمن قاتلك)) والأحاديث الواردة في قتل الحسين ولعن قاتله أكثر من أن تصحى.
وكان صلى الله عليه وآله وسلم إذا ذكر الحسين قال: ((مالي وليزيد لا بارك الله في يزيد))، والمشهور أنه كان لا ينفك سكران، وكان يلقب بيزيد الخمور، ويلقب السكران، وكان مشهوراً بالزنا وترك الصلاة وله في السفالة صناعة جيدة.
وروي أنه كان له قرد يسمى بأبي قيس، وكان يحضره مجلس شرابه ويسقيه فضلة كأسه واتخذ له إتاناً وحشية رِبضت له وذلِّلت وصنع لها سرج ولحام من ذهب، فكان يركبه عليها ويسابق بها الجيد يوم الحلبة، فجاء يوماً سابقاً وتناول قصبة السبق ودخل فيها قبل مجيء الخيل، وعليه قنا وقلنسوة من الحرير الأحمر لعظم لذلك عند يزيد وازداد حباً له. وقال فيه بعض شعراء الشام:
تمسك أبا قيس بفضل عنانها .... فليس عليها إن سقطت ضمان
ألا من رأى القرد الذي سبقت به .... جياد أمير المؤمنين إتان
فهذا كان حال أمير المؤمنين، فأما الحسين بن رسول الله التقى بن الأتقى، فكان خارجياً لا يصلح للإمامة، هذا هو الضلال البعيد والزيغ الشديد.
والمشهشور الذي لا يمكن جحده أنه لما حمل رأس الحسين إلى يزيد جعل ينكت ثناياه بقضيب كان معه فقال أبو بردة الأسلمي اتنكت بقضيبك ثغر الحسين؟ أشهد أني سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقبل ثناياه وثنايا أخيه ويقول: ((أنتما سيدا شباب أهل الجنة فقتل الله قاتلكما ولعنه وأعد له جهنم وساءت مصيراً)) أما إنك تجيء يا يزيد يوم القيامة وشفيعك ابن زياد ويجيء هذا ومحمد شفيعه، فغضب يزيد وأمر بسجن أبي بردة وجعل ينكت ثنايا الحسين بقضيبه وهو يقول مستهلاً:ـ
ليت أشياخي ببدر شهدوا .... جزع الخزرج من وقع الأسل
فأهلوا واستهلوا فرحاً .... ثم قالوا يا يزيد لا تشل
لست من عتبة إن لم أنتقم .... من بني أحمد ما كان فعل
وهذه الأبيات لابن الزاجردي لكنه زاد فيها الخبيث، وهذا منه كفر صريح حيث جعل قتل الحسين وأهل بيت النبوة انتقاماً لما فعله صلى الله عليه وآله وسلم يوم بدر.
القول في الطريق إلى ثبوت الإمامة بعد الحسن والحسين عليما السلام
ذهب أهل البيت عليهم السلام إلى أن الطريق إلى ذلك هو الدعوة والخروج مع جميع الشرائط، فمن اختص بالشرائط المتقدمة وقام لله داعياً إلى الحق ونابذ الظلمة واحتمل أعباء الأمة فقد صار بذلك إماماً سواء بويع له أم لا.
وقالت المعتزلة والصالحيَّة: بل الطريق إلى ذلك هو العقد والاختيار على أصلهم المتقدم.
لنا: إجماع العترة على اعتبار الدعوة وعلى اعتقاد أنها هي الطريق.
أما إجماعهم على اعتبارها فذلك مما لا خلاف فيه بينهم، بل بين الأمة ما عدا أصحاب النص، ولهذا فإن كل إمام منهم لا بد أن يقوم ويشمر لاحتمال الأمر ومنابذة الظلمة والجهاد.
وأما إجماعهم على اعتقاد أن ذلك هو الطريق إلى الإمامة؛ فلأنه هو المعروف من مذهبهم والمذكور في كتبهم والمشهور في سيرهم، ولا يلزمنا في دعوى إجماعهم عليهم السلام أكثر من ذلك وفي زيادات شرح الأصول للسيد أبي طالب عن موسى بن جعفر عليه السلام أنه قال: ليس منا أهل البيت إمام معترض الطاعة وهو جالس في بيته المسبل عليه ستره، وقال عليه السلام /469/ إن الله افترض طاعة أربعة: أمير المؤمنين والحسن والحسين، والإمام القائم بالسيف يدعوا إلى كتاب الله فهذا تصريح من متقدمي أهل البيت أن الدعوة طريق إلى ثبت الإمامة.
وأما المتأخرون منهم فهو معلوم ضرورة من مذهبهم.
فإن قيل: إنه كما قد وقع إجماع أهل البيت على الدعوة والخروج فقد وقع إجماعهم أيضاً على العقد والاختيار؛ لأنه ما من إمام منهم إلا وقد اختير وعقد له.
قلنا: قد قدمنا أن وقوع الإجماع على مجرد الاختيار إنما يدل على حسنه، فأما على أنه الطريق إلى الإمامة فلا، وأهل البيت وإن فعلوا الاختيار كما فعلوا الدعوة والخروج، فإنهم يعتقدون أن الطريق هو الدعوة دون الاختيار، وإنما يفعلون الاختيار على وجه التقوية لأنفسهم وتكثير أتباعهم وليعرفوا المطيع من المخالف وليؤكدوا بذلك وجوب متابعتهم وليظهروا بالبيعة قبول طاعة المطيع ونحو ذلك من وجوه الصلاح.
فإن قيل: إن ذلك لا يصح؛ لأن أحدهم ذا دعا فإما أن يدعوا بعد أن صار إماماً ففي هذا إقرارٍ بأنه لم يكن للدعوة لأنها متأخرة عن كونه إماماً، وإما أن يدعوا قبل أن يصير إماماً فكيف يدعوا إلى نفسه وليس بإمام، وكيف يجب طاعته والحال هذه؟
قلنا: بل يكون إماماً بالدعوة، فإذا دعا الناس إلى طاعته صار بذلك إماماً في تلك الحال، ولسنا نحكم بأن الإمامة متأخرة عن الدعوة ولا متقدمة عليها، بل هي مقارنة؛ لأنها طريق إليها والطريق لا يثبت مع فقد المتطرَّق غليه ولا العكس، بل يجب اقترانها في مثل هذه الصورة.
القول في أن الإمام بعد الحسن والحسين مقصورة على أولادهما.
قد اختلف الناس في ذلك فقال به أصحابنا ومنعه أكثر الناس.
لنا: العقل والسمع.
أما العقل فالمعلوم الظاهر عند جميع العقلاء أن أهل بيت الرجل أحق الناس بمكانه وأولاهم بالرئاسة بعده، وعلى هذا كان جميع الغرب من الجالهيّضة، بل كان عليه العجم وهم عليه إلى الآن حتى كانوا ينتظرون بالملك الحنين في بطن أمه، وقد يملكون النساء ويعقدون الملك للأطفال محافظة على أن يكن الأمر في أهل بيت الرجل، وذلك مشهور ظاهر من حال جميع العقلاء، ولسنا ندعي أن العقل يحيل خلاف هذا، ولكن نعي أن العقل يقضي بأن هذا هو الأولى.
هذا ولم يكن يمنعهم من العقد لأنباء ملوكهم الحمق والجهالة والظلم ونحو ذلك، بل يجعلون الملك في أولاد الملك وإن كانوا على خلاف ما ينبغي من الصفات فكيف بأهل بيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الذي هم أشبه الناس به خلقاً وخلقاً وهياً وعدلاً وكرماً وسياسة ورأفة وورعاً لا سيما مع تظاهر الأدلة.
وأما الشرع فلنا في ذلك دليلان:
أحدهما: إجماع العترة على ذلك، وإجماعهم حجة، وإنما قلنا أنهم أجمعوا على ذلك؛ لأنه الظاهر من مذهبهم المشهور في كتبهم /470/، ولا يجب علينا في يبان إجماعهم أكثر من ذلك.
فإن قيل: كيف يصح دعوى إجماع أهل البيت مع أن كثيراً منهم يدعون صقرها في ولد الحسين.
قلنا: خلاف أصحاب أهل النص مسبوق بالإجماع، ولهذا لم يظهر من أحد من أهل البيت إنكار في إمامة محمد بن عبد الله بن الحسن بن الحسن وإبراهيم بن عبد الله وغيرهم.
على أن خلاف أهل النص لا يقع فيما ذكرنا؛ لأنهم متى ادعوا قصرها في ولد الحسين فقد وافقوا في أنها لا تجوز في غير ولد البطنين وهو المطلوب هنا، وإنما يبقى الخلاف بين أصحاب النص وبين جمهور أهل البيت، والمعلوم صحة قول الجمهور وبطلان قول أصاب النص.
الدليل الثاني: أن الأمة أجمعت بعد بطلان قول أصحاب النص على جوازها في ولد البطنين واختلفوا في من عداهم، والإجماع دليل قاطع على ما هو مقرر في مواضعه من أصول الفقه، وغنما قلنا أنهم أجمعوا عل ذلك؛ لأن من أجازها فيه ؛ لأنهم خيار الناس، ومن أجازها في قريش فقد أجازها فيهم؛ لأن خير قريش.
فإن قيل: إذا خرج أصحاب النص عن هذه المقالة فلا إجماع؛ لأنه ليس إذا بطل قول بعض الأمة وتعين الحق في الثاني يجب أن يعد ذلك إجماعاً لولا هذا النصح دعوى الإجماع في كل مسألة قطعيَّة يقع فيها الخلاف؛ لأنه لا بد أن يتعين الحق في أحد القولين.
قلنا: إنه وإن أبعد إجماعاً فقد تعين الحق فيه وصارت صحته قطعية، وغلا خرج الحق عن أيدي الأمة وسيتضح لك عن قريب أن مثل هذا القدر يكفي في حصول الغرض في هذه المسألة.
فإن قيل: أن الإجماع من عدا أصحاب النص ليس إجماعاً على محل النزاع؛ لأن محل النزاع هو جوازها فيهم، وبقي جوازها في غيرهم، ولم يجمع الناس على ذلك؛ لأن المخالف يقول بجوازها في غيرهم وفيهم، وليس لكم أن تأخذوا بعض الأقوال وتدعوا الإجماع فيه ولو صح هذا لكان لأحدنا أن يدعي أن أكثر الحيض خمسة أيام ويحتج لذلك بأن الامة قد أجمعت عليه؛ لأن القائلين أكثر الحيض خمسة عشر والقائلين أكثره عشرة أيام، فقد اتفقوا على الخمس ومعلوم أن هذا لا يصح؛ لأن القولين الأولين قد قالوا بالخمس وزيادة،وهذا قال بالخمس ونفى الزيادة، فكذلك هذه المسألة.
ولهذا لا ادعى بعض أصحاب الشافعي الإجماع في قولهم أن دية الذمي ثلث دية المسلم، واحتج على ذلك بأن الأمة افترقت فقال بعضها ديته دية المسلم، قوال البعض مثل نصف ديته، فلا بد أن يكونوا قد اتفقوا على قول الشافعي رضي الله عنه وهو وجوب الثلث، فقال العلماء: لا يصح دعوى الإجماع في قول الشافعي هذا؛ لأن القولين الأولين قد اشتملا على وجوب الثلث وزيادة، وقول الشافعي رضي الله عنه قد انطوى على وجوب الثلث ونفي الزيادة ولم يقع إجماع /471/ على هذا كذلك هذه المسألة؛ لأن قول بعض الأمَّة قد انطوى على جوازها فيهم وعلى جوازها في غيرهم وقول البعض الآخر قد انطوى على جوازها في غيرهم، وإنما وقع الإجماع على هذا القول الذي هو جوازها فيهم ونفى جوازها في غيرهم، وإنما وقع الإجماع على بعضه.
والجواب: أن يقول: إنما نلزم بهذه الأسئلة إذا حررنا الدلالة على هذا الوجه الذي ذكره السائل وهو أن يدعي الإجماع على محل النزاع، وإن كان هذا هو ظاهر احتجاج أصحابنا أعني تحريرهم للدلالة على هذا الوجه الذي يمكن التشعيب فيه، ولكنا نسلك في الاستدلال في هذا الدليل وجهاً آخر.
فنقول: لسنا نستدل بالإجماع في هذه المسألة رأساً، ولكن نقول: إن جواز الإمامة فيهم عليهم السلام وفي غيرهم حكم شري لا يثبت إلا بدليل قاطع، وقد ثبت لنا بالطريقة القاطعة جوازها فيهم عليهم السلام؛ لأنه لما افترق الناس على قولين:
أحدهما: قول أصحاب النص وهو جوازها في ولد الحسين فقط.
والثاني: قول بقي الأمة وهو جوازها في أهل البيت، وقد ثبت بالدليل القاطع البطلان قول أصحاب النص وتعين الحق في قول الباقين وصارت صحته قطعيّة، وإلا خرج الحق عن أيدي الأمة، فثبت لنا جوازها فيهم عليهم السلام بدليل قاطع ولم يحصل دليل قاطع مثل هذا على جوازها في غيرهم، والأصل عدم الجواز فيبقى هذا الجواز في حق غيره متبقياً على الأصل.
نجز فالحمد لله هذا الكتاب المبارك بعون الله سبحانه وتعالى
نسخاً ونقلاً من السواد إلى البياض وذلك بعد شروق شمس يوم الاثنين المبارك في أواخر شهر صفر من سنة تسعين وألف من الهجرة النبوية على صاحبها أفضل الصلاة والسلام
بعناية مولانا السيد المقام الأوحد الهمام علم الأعلام تركة الخاص والعاصم والصفوة من العترة الكرام الحسين بن المهدي بن الهادي اليوسفي حفظه الله وبلغه لصالح الأعمال وسدد له النيات والأقوال إنه جواد كريم. وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله أجمعين وسلم.
بخط عبد أسير في الذنوب هفا .... بدا على ما به من غلظة فجفا
له يد تسأل الرحمن مغفرة .... من ذنبه ويد قط عضها أسفا
فهرست
كتاب ... 1
منهاج المتقين ... 1
في علم الكلام ... 1
تأليف ... 1
العلامة الكبير يحيى بن الحسن القرشي ... 1
بسم الله الرحمن الرحيم رب يسر وأعن يا كريم ... 2
مقدمة: ... 4
الكلام في معرفة الصانع جل وعز ... 5
القول في ماهية العلم وقسمته وما يتصل بذلك ... 6
والعلم ضربان: تصور وتصديق. ... 7
وعلم التصور مقدم على علم التصديق؛ لأن من لا يعلم ماهية المقرين لا يمكنه ينسب أحدهما إلى الآخر بنفي ولا إثبات. ... 10
فصل ... 10وينقسم علم التصديق إلى: عقلي، كالعلم بوجوب رد الوديعة، وقبح الظلم، وحدوث العالم. ... 10
وشرعي: كالعلم بوجوب الصلاة وتحريم النبيذ. ... 10
فصل ... 186في أنه تعالى يستحق هذه الصفات الأربع ما لم يزل، وفي ما لا يزال، 186
في أنه تعالى عالم بجميع أعيان المعلومات ... 186
فصل في ما يريده الله تعالى وما لا يريده ... 202
القول في أن الله تعالى غني ... 207
القول في أن الله تعالى ليس بجسم ولا عرض ولا يجوز عليه ما يجوز عليهما ... 208
القول في استحالة الرؤية على الله تعالى ... 219
فصل في شبههم في إثبات الرؤية ... 233
القول في أن الله واحد لا ثاني له ... 247
فصل في الكلام على الثنوية في النور والظلمة ... 253
فصل في شبهة الثنوية ... 254
فصل في الكلام على الصابئين ... 255
فصل في الكلام على النصارى ... 255
فصل في شبهة النصارى ... 257
الكلام في العدل ... 258
فصل في الوجه الذي لأجله وجب الواجب وقبح القبيح وحسن الحسن ... 262
فصل في بيان ما يجري عليه تعالى من الأسماء بمعنى أنه لا يفعل ما يقدر عليه ... 273
القول في أن الله تعالى عدل حكيم ... 274
فصل فيما يلزم المجبرة في هذه المسألة ... 277
القول في خلق الأفعال ... 279
فصل في ذكر بعض ما ألزمهم أصحابنا على القول بأن أفعال العباد من الله ... 286
فصل في ذكر بعض ما جرى من المناظرات ... 291
فصل في إبطال قولهم بالكسب ... 293
فصل في شبههم في أن الله خالق لأفعال العباد ... 297
فصل في شبههم السمعية ... 303
القول في المتولدات ... 315
فصل في ما يجري عليه تعالى من الأسماء بمعنى كونه فاعلاً ... 319
القول في أن الله تعالى لا يعذب أحداً إلا بذنبه ولا يثيبه إلا بعلمه ... 322
فصل في شبههم ... 324
/222/ فصل [في ذكر بعض ما يلزمهم] ... 329
القول في القضاء والقدر ... 330
فصل [في بيان من القدرية] ... 331
فصل [في بعض ما جرى من المناظرات] ... 336
فصل في شبههم ... 338
القول في الهدى والضلال ... 342
فصل في شبههم ... 346
القول في أن الله تعالى يريد الطاعات ولا يريد القبائح ... 355
فصل [في بعض ما جرى من المناظرات] ... 360
فصل [في شبههم] ... 360
القول في الاستطاعة ... 378
فصل [في مناظرات جرت في هذا الباب] ... 390
فصل [في شبههم في هذا الباب] ... 392
القول في استحالة البدل ... 400
الكلام في التَّكليف ... 404
فصل [في حسن التكليف وبيان وجه الحكمة فيه] ... 411
فصل [في التكليف يحسن سواء قبل المكلف أو رده] ... 412
فصل [في ما يتناوله التكليف من الأفعال والتروك] ... 418
فصل [في شرائط حسن التكليف] ... 418
فصل [في أن الله تعالى إذا أكمل للعبد شرائط التكليف فلا بد أن يكلفه] ... 423
القول في قبح تكليف مالا يطاق ... 423
فصل [في شببهم] ... 426
شبهة ... 428
شبهة ... 429
شبهة ... 430
شبهة ... 430
شبهة ... 430
الكلام في الألطاف ... 431
شبهة ... 438
/291/ فصل [في ما يصح أن يكون لطفاً من أفعال المكلفين وما لا يصح] ... 442
فصل [في الكلام على أهل الأصلح] ... 444
فصل [في شبههم] ... 447
شبهة ... 447
القول في الآجال ... 448
القول في الأرزاق ... 451
فصل [في طريق الوصول إلى الرزق] ... 452
القول في الأسعار ... 454
القول في الآلام والغموم ... 455
فصل [في الوجه الذي يقبح عليه الألم] ... 459
القول في الأعواض ... 460
فصل [في المضار التي يشتبه الحال في هل أعواضها على الله أو غيره أو هل فيها من أعوام أم لا] ... 467
فصل [في دوام العوض] ... 471
الكلام في القرآن الكريم ... 474
فصل [في حقيقة الكلام والمتكلم] ... 474
القول في إبطال الكلام النفسي شاهداً أو غائباً ... 478
القول في أن القرآن الكريم هو هذا الذين نتلوه في المحاريب ونكتبه في المصاحف ... 490
القول في أن القرآن محدث ... 491
فصل [في شببهم] ... 493
فصل [في كيفية حدوث القرآن وكيفية إنزاله] ... 495
القول في صحة وصف القرآن بأنه مخلوق ... 496
فصل [في شبههم] ... 499
الكلام في النبوءات ... 501
فصل [في الصفة التي يجب أن يكون النبي عليها وما يجب أن ينزه عنه] ... 511
القول في صحة نسخ الشرائع ... 514
القول في نبوة محمد صلى الله عليه وعلى آله وصحبه المحقين وسلم ... 519
فصل [في وجه إعجاز القرآن] ... 523
القول في أن القرآن الكريم محروس عن المطاعن ... 527
القول في سائر معجزاته عليه السلام ... 538
القول في أنه صلى الله عليه وآله وسلم مرسل إلى الكل وأن شريعته دائمة إلى انقطاع التكليف ... 540
الكلام في الوعد والوعيد ... 541
فصول في الإحباط والتكفير ... 553
فصل [في كيفية الإحباط والتكفير] ... 556
فصول في التوبة التي تسقط بها العقاب ... 558
فصل [في كيفية التوبة] ... 564
القول في الوعيد السمعي ... 569
فصل [في انقطاع التلكيف] ... 569
فصل [في عذاب القبر وسؤال الملكين] ... 572
فصل [في أن وعيد الكفار مقطوع به] ... 581
فصل [في أن وعيد الفساق مقطوع به] ... 581
القول في خلود الفساق ... 592
القول في الشفاعة ... 596
القول في المنزلة بين المنزلتين ... 599
الكلام في ما تعبد بآية من الأحكام في أهل الوعد والوعيد ... 611
القول في الإكفار ... 612
/392/ فصل [في بيان أنواع الكفر] ... 614
فصول في ذكر ما كفر به أصحابنا أهل البدع ... 619
فصل [في المشبهة الذين اعتقدوا أن الله جسم طويل عريض عميق له أعضاء وخوارج وشكل وهيئة]. ... 619
فصل [في ما يكفر له أصحابنا المجبرة في مسائل الخلاف] ... 622
فصل [في ذكر خيالات] ... 631
فصل [في المرجئة] ... 635
فصل [في الخوارج] ... 635
فصل [في الرافضية] ... 636
فصل [في المقلدين والعوام] ... 637
القول في التفسيق ... 639
الكلام في أحوال الأئمة في حق الصحابة رضي الله عنهم أجمعين ... 648
فصل [فيما يطعن به أهل الزيغ على أمير المؤمنين رضي الله عنه] ... 666
الكلام في الإمامة ... 682
فصل [فيما يحتاج له الإمام] ... 687
فصل [في شروط الإمامة] ... 687
فصل [في ما يخرج به الإمام عن كونه إماماً] ... 692
القول في الطريق إلى ثبوت الإمامة ... 694
القول في تعيين الإمام بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ... 698
فصل [في الاستدلال على إمامته رضي الله عنه بكونه أفضل الأمة بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم] ... 719
فصل [في الاستدلال على إمامته عليه السلام بكنه معصوماً] ... 721
فصل [في الاستدلال على إمامته عليه السلام بإجماع العترة الطاهرة] ... 722
القول في ذكر ما احتجت به المعتزلة وغيرهم على إمامة أبي بكر رضي الله عنه ... 729
القول في إمامة الحسن والحسين عليهما السلام ... 731
القول في الطريق إلى ثبوت الإمامة بعد الحسن والحسين عليما السلام ... 736
القول في أن الإمام بعد الحسن والحسين مقصورة على أولادهما. ... 737