الكتاب : كافل الطبري

كتاب
شفاء غليل السائل عَمّا تحمله الكافِل
تأليف
سيدنا الفقيه الفاضل العلم العلامة الكامل صدر الأواخر والأوائل جمال الهدى والدين علي بن صلاح بن علي بن محمد الطبري بل الله ثراه وأحسن مثواه ونفع به المسلمين ويسّره على الطلبة الراغبين وقد وشِّي الكتاب ببعض حواشي للشارح موجودة في الأصل المنقول منه إن كانت من المؤلف قلنا في آخرها تمت منه وإن كانت من غيره قلنا تمت

تحقيق
عبد الكريم عبد الله الضوء
حسين أحمد العشيري
خطبة الكتاب

(1/1)


أحمد من شرح (1) صدورنا لمعرفة الفروع بالأصول ، وتلقانا بالإِصلاح والقبول ، وفتح لنا أبوب الهداية ، وأشعل لنا أنوار جوهرة الدراية ، وأوضح لنا متن منهاج النجاة ، والوصول إلى منتهى كل أمنية وغاية ، وتفضل علينا بتوضيح العلم والتنقيح ، وتمييز سقيم الدليل من الصحيح ، هو الكافل بنجاتنا من بحور الغرق ، بركوب سفينة أشرف الفرق ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحدة لا شريك له شهادة من علم أن الأحكام منحصرة في الحلال والحرام ، وأن السنة والكتاب من الحكمة (2)وفصل الخطاب (3) أمرنا بالإجماع عند حقيقتهما ، وشرع القياس ، ونهانا عن مجاز غير مجازهما ، ومجمل الإِلباس ، وميزنا بفهم منطوقهما (4)والترجيح ، وحبانا باستنباط جواهر نصهما والتلميح ، وخصنا بعموم الألاء ، ونبهنا على تقييد مطلقها بشكره تعالى ، فنسخ عنا رذيلة رداء التقليد بجمال لباس محكم الكتاب المجيد ، وأشهد أن سيدنا محمَّدا الأمين عبده ورسوله ، بما فيه نجاتنا يوم الدين صلى الله [وسلم] عليه وعلى آله الطاهرين .
__________
(1) ـ فيه براعة الاستهلال وإشارة مع التورية إلى أمهات الكتاب وأبواب الفن المذكورة في المختصر والله أعلم إهـ تمت منه
(2) ـ لأن الحكمة علم الشريعة ، وكل كلام وافق الحق ، وقال ابن عباس علم القرآن ناسخه ومنسوخه ، ومحكمه ومتشابهه ، ومقدمه ومؤخره ، وحلاله وحرامه ، وأمثاله وعبره
(3) ـ فصل الخطاب الخطاب المفصول الذي يتبينه من يخاطب به ، أو الفاصل بين الحق والباطل ، وفي القاموس : هو الحكم بالبينة ، أو اليمين ، أو الفقه في القضاء ، أو النطق بأما بعد ، والله أعلم.تمت منه
(4) ـ في نسخة الأم منطقهما

(1/2)


(أما بعد) فإني لما رأيت الناس عالة (1)على الأصول لجمعها المنقول والمعقول ، وإقبالهم على الكافل بنيل السول لاختصاره وإيجازه وجمعه نفيس درر المسائل وإحرازه ، أحببت أن أعلق عليه ما به ينحل معقوده ومعانيه ، ويتضح منضوده ومبانيه ، وتحيى رسومه ومغانيه ، ليس بالطويل الممل ، ولا بالقصير المخل ، واضعاً كل شيءٍ إن شاء الله تعالى في محله ، مقتصراً على ما قصد غالباً من بيان المختار ودليله ، مشيراً إلى دفع شبهة الخصم وتعويله ، فالله أسأل أن يصلي ويسلم على نبينا محمَّد وآله ، وأن ينفع به الطالب ، ويسهله على الراغب ، وأن يجعله لنا من السعي المشكور ، الموجب للأجر الموفور ، ومن التجارة الرابحة التي لن تبور ، فإنه هو القدير الشكور ، العزيز الغفور ، ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم
وهذا أوان الابتداء ، والله المستعان في الابتداء والانتهاء .
__________
(1) ـ العالة في الأصل الإفتقار ولكن لما عديت بعلى صار معناها الاعتماد

(1/3)


قال :(بسم الله الرحمن الرحيم) وجه البداية بالتسمية التأسي بقوله تعالى ?بسم الله الرحمن الرحيم * الحمد لله ربِّ العالمين?[ الفاتحة ] وقوله :((كل أمر ذي بال لم يذكر اسم الله عليه فهو أبتر))(1) الخبر المشهور ومعنى ((ذي بال)) مقصود فعله ، لا أن لم يكن مقصوداً كطرف العين ، والحركة اليسيرة . والإِجماع فإنه لا خلاف بين المسلمين في شرعية البداية باسم الله تعالى ، والأنسب تقدير متعلق الظرف من جنس ما جعلت التسمية مبدأ له من القراءة والتأليف لدلالته على تلبس كل الشروع فيه ابتدائه وانتهائه بالتسمية ولذا قال تعالى ? إقرأ بسم ربِّك الذي خلق?[العلق 1] وقال :((باسمك (2)ربِّي وضعت جنبي ، وباسمك ربِّي أرفعه))(3) وقال :((باسمك أحيا ، وباسمك أموت))
__________
(1) ـ قال في الغاية أخرجه الحافظ عبد القادر بن عبد الله الرهاوي في الأربعين عن أبي هريرة عنه : أنه قال كل أمر ذي بال لا يبدأ فيه ببسم الله الرحمن الرحيم أقطع
(2) ـ والأنسب تقدير المتعلق متأخراً ليفيد مع الاهتمام الحصر ، لأن المشركين كانوا يبدؤون بأسماء آلهتهم فيقولون : بسم اللات ، باسم العزى . فقصد الموحد تخصيص اسم الله تعالى بالابتداء للاهتمام والرد عليهم ، وأمَّا قوله تعالى :?إقرأ بسم ربِّك الذي خلق? فإمَّا لأن الأهم فيه القراءة ، وإمَّا لأنه متعلق باقرأ الثاني ، واقرأ الأول منزل منزلة اللازم - أي أوجد القراءة - ، وإمَّا أن يتعلق بسم الله باقرأ الأول ، وباسم ربِّك باقرأ الثاني على الصحيح من كون البسملة آية من السورة .تمت منه
(3) ـ في الأم باسمك إني ولم أعثر عليها بهذا بل الموجود باسمك ربي وقد أصلحناها

(1/4)


(الحمد لله) الحمد هو الوصف بالجميل على الجميل الاختياري ، فالوصف إشارة إلى المحمود به ، وهو ما وقع به الحمد ، وبه تخرج سائر شعب الشكر من فعل الجنان والأركان ، وبالجميل يخرج الاستهزاء ، وعلى الجميل إشارة إلى المحمود عليه الباحث على الحمد ، والجميل أعم مما في نفس الأمر أو في نظر الحامد والمحمود ، فلا نقض بمدح السلاطين بما هو ظلم في الحقيقة ، والمراد من الاختياري هو الصادر بالاختيار ، وما وقع على غير الاختياري كحمد الله على صفاته الذاتية ، فلتنزيله منزلة الاختياري إما لاستقلال الذات فيه أي لما كان ذاته تعالى كافياً فيهاكانت بمنزلة الاختيارية التي يستقل بها فاعلها ، فأطلق الاختياري على ما يعمها تغليباً ، أو باعتبار كونها مبادئ أفعال اختيارية ، والجلالة اسم للذات الواجب الوجود المستجمع لصفات الكمال (1)ولذا لم يقل للخالق ، أو الرازق ، أو نحوه مما يوهم اختصاصه بوصف دون وصف ، وأردف
__________
(1) ـ لكنه عند النحاة علم ، والعلم مختصر الصفات ، بمعنى أنك إذا ذكرته فكأنك ذكرت جميع صفاته المختصة به ، وعند أهل البيت (عليهم السلام) وسائر المحققين اسم بازاء مدح كذلك غير علم ، وهو الحق ، ووجهه أن العلم موضوع لتمييز ذات من جنسها ، والله تعالى لا جنس له ، ولأنه موضوع للغائب ليفيد تمييزه عن مشاركة وتشخيصه في نفسه ، وهو كالإشارة الحسية إلى الحاضر ، فإذا كان الشيءحاضراً كان تمييزه عن سائر أنواعه بالإشارة الحسية ، وإذا غاب تعذرت فوضع له اللقب ليميزه عن سائر أنواعه ، فيكون ذلك اللقب عوضاً عن الإشارة الحسية حال الحضور ، وقد ثبت استحالة الإشارة الحسية في حقه تعالى ، فيستحيل عليه تعالى عوضها ، كذا قيل ، ويؤيده حكم صاحب الكشاف في تفسير ?ذلكم الله ربِّي? بأنه صفة مع إجماعهم أن العلم لا يوصف به وإن نقض كلامه في أوله بأن هذا الآسم الجليل لا يوصف به واستدل به على علميته، والذي أرى أنه في الآية خبر ?ذلكم?تمت منه

(1/5)


التسمية بالحمد لله لنحو ما تقدم في التسمية واختار فيهما هذا اللفظ الشريف ، والترتيب اقتداءاً بالكتاب العزيز لأنه فاتحته ، وخاتمة دعاء أهل الجَنَّة ، وأبلغ صيغ الحمد ، فيتعين في بر من حلف ليحمدن الله بأجل المحامد ، وجمعاً بين روايات الابتداء ، فإنه روي ببسم الله الرحمن الرحيم ، وبسم الله ، وبالحمد لله - برفع الحمد وجره - كما لا يخفى على المتأمل ، ولأن المناسب لمقام التعظيم التصريح بالحمد ، وحصره عليه تعالى ، ولا ينتقض ذلك بوجوب شكر المنعم من عباد الله تعالى لرجوع الحمد إلى الكمال ، حتى كأنه لا حمد إلاَّ الكامل ، وهو حمد الله تعالى .
فإن قيل : ما افتتح ببسم الله غير مفتتح بالحمد لله والعكس ، فلا يمكن العمل بأحاديث الابتداء أجيب : بأن الافتتاح إمَّا أمر عرفي يعتبر من حال الأخذ في التأليف إلى الشروع في البحث أو منقسم إلى حقيقي وإضافي فيمكن الجمع بتقديم أحدهما على الآخر ، فيكون الأول حقيقياً ، والآخر إضافياً . (على سوابغ نعمائه) إشعار بأنه حمد لله وشكر واجب وعليه قوله :((الحمد رأس الشكر ، ما شكر الله عبد لم يحمده)) (1).
فإن قيل : أداء حق الشكر يحصل بمجرد الحمد ولو في آخر الكتاب . أجيب : بأن الغرض الأصلي من الافتتاح بالحمد ربط الحاضر - الذي هو سوابغ النعماء - وجلب المزيد المشار إليه بقوله تعالى ? لئن شكرتم لأزيدنكم?[إبراهيم 7] ومنه (2)التأليف ، فتقديم الحمد على المجلوب - الذي هو التأليف أولى .
__________
(1) ـ وفي هذا دليل على أن الحمد من الشكر .
(2) ـ أي من جلب المزيد والله أعلم

(1/6)


فإن قيل (1): قوله الحمد لله إخبار بثبوت الحمد لله والإخبار عن ثبوت الشيء ليس إياه . أجيب : بأن الإخبار بثبوت جميع المحامد لله تعالى عين الحمد ، كما أن قول القائل :(الله واحد) عين التوحيد ، وبأن مثل هذا القول المذكور إخبار واقع موقع الإنشاء ؛ إذ الظاهر أن المتكلم به ليس بصدد الإخبار والإعلام ، لأن المخاطب به هو الله تعالى ،ففيه وضع الظاهر موضع المضمر (2)
__________
(1) ـ في تفسير الرازي ما لفظه : الفائدة السابعة عشر : يجب علينا أن نبحث عن حقيقة الحمد وماهيته فنقول : تحميد الله ليس عبارة عن قولنا :(الحمد لله) لأن قولنا :(الحمد لله) إخبار عن حصول الحمد ، والإخبار عن الشيء مغاير للمخبر عنه ، فوجب أن يكون تحميد الله تعالى مغايراً لقولنا :(الحمد لله) ، فنقول : حمد المنعم عبارة عن كل فعل يشعر بتعظيم المنعم بسبب كونه منعماً ، وذلك الفعل إمَّا أن يكون فعل القلب ، أو فعل اللسان ، أو فعل الجوارح ، أمَّا فعل القلب : فهو أن يعتقد فيه كونه موصوفاً بصفات الكمال والجلال ، وأمَّا فعل اللسان : فهو أن نذكر أوصاف دالة على كونه موصوفاً بصفات الكمال ، وأمَّا فعل الجوارح : فهو أن يؤتى بأفعال دالة على كون ذلك المنعم موصوفاً بصفات الكمال والجلال ، فهذا هو المراد من الحمد أهـ بلفظه .
(2) ـ الظاهر لفظ الجلالة والمضمر الكاف قال الحمد لله ولم يقل الحمد لك .

(1/7)


ومعنى الحمد لله الحمد لك يا ربّ ، فقصد المتلفظ به إنشاء تعظيم الله بوصفه بالجميل ، وإيجاده بهذا اللفظ ، والسوابغ جمع سابغة ، والسبوغ الشمول ، والسابغ الكامل الوافي ، ومنه إسباغ الوضوء ، والسوابغ الدروع الواقية ، والنعماء ما قصد به الإِحسان والنفع جمع نعمة (1) وهي أصول وفروع ، فالأصول (2): خلق الحي ، وخلق شهوته ، وإكمال عقله ، وتمكينه من المشتهى ، أوما في حكمه - وهو الأعواض كذا قيل ، والفروع: لا تحصى ، قال الله تعالى ?وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها ?[ النحل 18] .وأصله نعماؤه السوابغ ، كقطيفة ، جرد فحذف الموصوف وهو نعماؤه ، وأقيمت الصفة مقامه ، فقيل على السوابغ ، فالتبس بكل سابغ فرد الموصوف ، وأضيفت الصفة إليه ، وفيه استعارة بالكناية ، لأنه شبه النعمة بالثوب فأثبت لها ما هو من لوازمه - وهو السبوغ - تخييلاً ، وإضافته إليها قرينة ذلك . (وبوالغ آلائه) جمع ألى - بالفتح والقصر ، وقد تكسر الهمزة - بمعنى النعمة ، قال تعالى ?فبأي آلاء ربِّكما تكذبان?[ الرحمن ] والكلام فيه كما في سوابغ نعمائه . (وصلواته) جمع صلاة ، والمراد منها هنا المعنى المجازي وهو الاعتناء بشأن المصلى عليه وإرادة الخيرله (3) أو المراد بها الرأفة ، وهي أشد الرحمة ، واجتماع الرحمة معها في قوله تعالى ? أولئك عليهم صلوات من ربِّهم ورحمة?[البقرة 157] على حد اجتماع الرحمة والرأفة في قوله تعالى ? إنَّه بهم رؤوف رحيم?[التوبة 117] (4)
__________
(1) ـ كذا في القاموس
(2) ـ وسميت أصولاً لأن الانتفاع لا يحصل إلا بمجموعها ، ومع اختلال واحد منها لا يتهيأ الانتفاع ، وأمَّا كمال العقل ، وإن كانت تتهيأ اللذة الدنيوية فهو لنعمة الآخرة التي هي الثواب ؛ إذ لا يوصل إلى تلك إلا بكمال العقل ، وأمَّا ما عداه فهو أصل لنعمة الدنيا ، ذكره المتكلمون إهـ منه
(3) ـ من باب إطلاق الملزوم وإرادة اللازم تمت منه .
(4) ـ وآيات كثيرة غيرها ، قال الشلبي : الأنسب بنظم القرآن ما ذكره الإمام الرازي عن القفال من أن الرأفة مبالغة في الرحمة المخصوصة ، وفي دفع المكروه وإزالة الضر ، فذكر الرحمة بعدها لتكون أعم وأشمل تمت منه

(1/8)


والضمير(1)لله تعالى . (على سيدنا) (2) لما كان أجل النعم الواصلة إلينا هو دين الإِسلام ، وبه توسلنا إلى النعيم الدائم في دار السلام ، وذلك بواسطة الرسول ، أردف (3)الحمد لله بالصلاة على نبيئه ، و(السيد) من ساد قومه سيادة فهو سيد ، وزنه فيعل ، فيكون أصله سَيْوِداً قلبت الواو ياء ، وأدغمت فيها الأولى ، والإِضافة هنا لتشريف المضاف إليه (محمَّد) عطف بيان من سيدنا ، أو بدل ، لأن نعت المعرفة (4)إذا تقدمها أعرب بحسب العوامل ، وأعربت المعرفة بدلاً ، أو عطف بيان ، وصار المتبوع تابعاً كقوله تعالى ? إلى صراط العزيز الحميد* الله?[إبراهيم 1ـ 2] في قراءة الجر(5) (خاتم أنبيائه) صفة محمَّد إشارة إلى قوله تعالى? وخاتم النبيين ? [الأحزاب 40] فلا نبي بعده ، و(أنبياء) جمع نبي ، والنبي إنسان بعثه الله بشريعة ، والرسول أخص منه ، فهو إنسان كذلك يكون له كتاب وشريعة جديدة ، كذا عند القاسم وحفيده الهادي ، وقرره الإِمام المنصور بالله القاسم بن محمَّد (عليهم السلام) ، وقاضي القضاة ،(6) لقوله تعالى ?وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي?[ الحج 52] بالعطف المقتضي للتغاير
__________
(1) ـ في ( وصلواته )
(2) ـ أطلق المصنف لفظ سيد عليه ، وفي جواز إطلاقه على غير الباري أقوال ، أصحها الجواز لقوله تعالى ?وسيدا? وقوله تعالى :?وألفيا سيدها? وقوله :((أنا سيد ولد آدم ولا فخر)) ، وقوله :((قوموا إلى سيدكم)) والله أعلم تمت منه
(3) ـ جواب لما
(4) ـ وهي سيد المضاف للضمير أصلها على هذا التقدير على محمد سيدنا فيكون سيدنا نعت فلما تقدم جر بعلى ومحمد بدل أوعطف بيان منه واما نعت النكرة إذا تقدم عليها إعرب حالا نحو : لمية موحشا طلل
(5) ـ أما في قراءة الرفع فمبتدأ وهذا واضح وأما في قراءة الجر فالتقدير إلى صراط الله العزيز الحميد فقدم النعت وهو العزيز على لفظ الجلالة فأعرب لفظ الجلالة عطف بيان اوبدل والله اعلم
(6) ـ والزمخشري وغيره

(1/9)


وقوله وقد سئل عن الأنبياء ((مائة ألف وأربعة وعشرون ألفاً)) ، قيل : فكم الرسل منهم ؟ قال :((ثلاث مائة وثلاثة عشر)) (1) وقال الإمام المهدي (عليه السلام) وأبو القاسم (2)وغيرهما : بل هما سواء .
قلت : ويضعف احتجاج الأول بالآية صدرها(3)وعلى الأول يكون بينهما عموم مطلق ، فكل رسول نبي ، ولا عكس ، وعلى الثاني مترادفان ، ولو قيل أن بينهما عموم من وجه لوجود الرسول بدون النبي كما في جبريل (عليه السلام)(4)والنبي بدون الرسول كما في من بعث إلى نفسه ، أو لتقرير شريعة غيره فقط ، واجتماعهما كما في نبينا لم يبعد ؛ اللَّهُمَّ إلاَّ أن يقال الكلام مختص بالبشر ، فالأول هو الصواب
__________
(1) ـ ذكره سيدي المولى الحجة مجد الدين المؤيدي في التحف والعلامة الشرفي في الأساس وذكرفي كثير من كتب أهل البيت عليهم السلا م وقد ذكره ابن حجر في فتحه والهيثمي في زوائده وأحمد في مسنده والطبراني في معجمه عن أبي ذر إلا أن في بعضها وخمسة عشر مكان ثلاثة عشر
(2) ـ البلخي وغيرهما من المتأخرين
(3) - وقد رد بأنه من عطف العام على الخاص
(4) ـ وعلى هذا يقال في تعريف الرسول مكلف ...إلخ والله أعلم تمت منه .

(1/10)


فإن قلت : قوله تعالى ? ولقد أرسلنا رسلاً من قبلك منهم من قصصنا عليك ومنهم من لم نقصص عليك? [غافر 78] يقضي بعدم الحصر فيما ذكر(1) . قلت : يحتمل أن الخبر بيان للمقصوص عليه في الآية فقط ، وأن يكون تعالى قد أخبره بالرسل كافة بعد هذه الآية الكريمة ، والله أعلم . والإضافة (2) لتعظيم المضاف إذ ضمير الغائب لله تعالى فيها أجمع ، ويجوز إعادته إلى الحمد بمعنى المحمود على طريق الاستخدام (3) كقول البحتري :
شبوه بين جوانحي وقلوب(4)

فسقى الغضا والساكنيه وإن همو
__________
(1) ـ من العدد تمت منه
(2) ـ في أنبيائه وصلواته ونعمائه إلخ ....
(3) ـ الاستخدام هو أن يراد بلفظ له معنيان احدهما ثم بضميره الآخر ، أو يراد بأحد ضميريه أحدهما ثم بالآخر الآخر فالأول كقوله : *إذا نزل السماء بأرض قوم * رعيناه وإن كانوا غضابا والثاني نحو : أتينا غيثا فرعيناه وشربناه أو كمثال الشارح والظاهر والله أعلم إن أقيم على طريق الاستخدام أن يكون من النوع الأول وهو أن يراد بلفظ له معنيان احدهما ثم بضميره الآخر ، فيكون المراد بالحمد الأمر المصدري وبضميره في أنبيائه المحمود
(4) ـ إذ قد أطلق الحمد أولاً مراداً به المعنى المصدري ، وبضميره الحمد بمعنى المحمود ، وفي البيت وأريد بالضمير المجرور في الساكنية المكان ، وبالمنصوب في (شبوه النار) أي أوقدوا نار ا لغضا أي نار الهوى المشبهة نار (الغضا) ، وهو من قصيدة طويلة في ديوانه قبله
وقوام غصن في الثياب رطيب

كم بالكثيب من اعتراض كثيب

فسقى البيت فما في نسخ التلخيص وغيره بين جوانجي وضلوعي غلط ، ذكر معناه في معاهد التنصيص تمت منه.

(1/11)


(وعلى آل سيدنا محمَّد) أكثرُ العلماء على إدخال على على الآل رداً على الإِمامية فإنهم منعوا ذكر على بين النبي وآله ، وينقلون في ذلك حديثاً :((من فصل بيني وبين آلي بعلى لم تنله شفاعتي)) وأصل آل أهل لمجيء تصغيره أهيلاً ، وقيل : أول من آل إليه الأمر ، وأهل الرجل آله ؛ لأنه يؤول إليه خص استعماله بأولي الشرف والخطر ، وإضافته إلى المظهر كما فعل المصنف أكثر(1)
والمذهب الصحيح في الآل ما ذهب إليه أهل سفينة النجاة وأتباعهم أنهم علي وفاطمة والحسنان ومن انتسب إلى الحسنين في كل عصر من مؤمنيهم (عليهم السلام) لقيام الأدلة التي صارت لاشتهارها كالأهلة مما لا يسعه هذا المقام (2) وسيأتي شطر صالح إن شاء الله تعالى في حجية إجماعهم
__________
(1) ـ قال عبد المطلب شعرا : وانصر على آل الصليب وعابديه اليوم آلك . وفي هذا دليل على إضافته إليهما معا وليس فيه شاهد على أكثرية احدهما والله أعلم
(2) ـ فما سيأتي من الأدلة في الاستدلال على حجية إجماعهم يدل على أن المراد بعترته أهل بيته ، وأن عليّاً (عليه السلام) منهم ، ويدفع ما يقال أن أهل اللغة ذكروا أن العترة نسل الرجل ورهطه وعشريته الأدنون ، وهو لا يقتضي تخصيص عترة رسول الله بمن ذكر ، والله أعلم .

(1/12)


من ذلك ما رواه الحاكم النيسابوري بإسناده إلى عبد الله بن جعفر قال : لما نظر رسول الله إلى الرحمة هابطة قال :((ادعوا آلي ، ادعوا آلي ادعوا آلي)) فقالت صفية : من يا رسول الله ؟ فقال :((أهل بيتي علي وفاطمة والحسن والحسين)) ، فلما جاؤوا إليه ألقى عليهم كساءه ، ثم رفع يديه ، ثم قال :((اللَّهُمَّ هؤلاء آلي ، فصلِّ على محمَّد وعلى آل محمد)) وأنزل الله تعالى :?إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت?...الآية [الأحزاب 35] . وفي هذا الخبر رد على الكسائي وغيره في المنع من إضافة الآل إلى الضمير ، وعلى الإِمامية في المنع من الفصل بين النبي والآل بعلى(1) - كما سبق - .
(وأوليائه) جمع ولي خلاف العدو ، والمراد من والاه وناصره في الدين من الصحابة والتابعين وتابعيهم إلى يوم الدين ، والضمير للنبي أردف الصلاة على النبي بالصلاة على الآل ؛ لأن حكم الصلاة عليهم حكم الصلاة (عليه السلام) ، لقوله :((لا تصلوا عليّ الصلاة البتراء )) (2)الخبر وفي حديث آخر :((من صلى صلاة لم يصلِّ عليَّ وعلى أهل بيتي لم تقبل منه)) وعن أبي جعفر الباقر (عليه السلام) :((لو صليت صلاة لم أصل فيها على النبي وعلى أهل بيته لعلمت أنها لا تتم))
__________
(1) ـ وإشارة إلى أن أصل (آل) أهل ، وإلى قصر الآل على من ذكر ، ودخول الذرية لما سيأتي إن شاء الله تعالى إهـ
(2) ـ في الحدائق الناضرة - المحقق البحراني ج 8 ص 465 : ( صلى الله عليه وآله ) : " لا تصلوا علي الصلاة البتراء فقالوا وما الصلاة البتراء ؟ قال تقولون " اللهم صل على محمد " وتمسكون بل قولوا اللهم صل على محمد وآل محمد " رواه ابن حجر المتأخر في صواعقه احرقه الله بها ، وهو من انصب النصاب المعاندين إهـ

(1/13)


(وبعد:) أي بعد زمن الفراغ من الحمد والصلاة حذف المضاف إليه لكونه معلوماً ، وبني على الضم ، ومحله النصب بأَمَّا المقدرة في نظم الكلام المحذوفة لتعويض الواو عنها اختصاراً مع الربط الصوري (1)فالفاء في (فهذا) لأجلها (2)أوغير مقدرة والعامل ما يفهم من السياق مثل : أقول كذا (3)ذكره الجم الغفير من شراح مثل هذا المحل ، وفيه أنه ذكر الرضي أن حذف أما لا يطرد إلاَّ إذا كان ما بعد الفاء أمراً ، أو نهياً ، وما قبلها منصوباً به ، أو بمفسر به ، فلا يقال : زيداً فضربت ، ولا زيداً فضربته بتقدير أما ، فيجوز أن تكون (4)لإجراء الظرف مجرى الشرط كما ذكر في نحو ?وإذ اعتزلتموهم?[ الكهف 16] وسيبويه في قولهم : زيد حين لقيته فأنا أكرمه ،
__________
(1) ـ أي مع أنه قد حصل بالواو الربط الصوري الحاصل باما في قوله أما بعد فإنه كان كذا وكذا وذلك أنه يشبه التخلص لأن فيه شيئا من المناسبة من حيث انه لم يؤت بالكلام الآخر الواقع بعد الحمد والثناء فجأة من غير قصد إلى ارتباط بما قبله حقيقة لأنه انتقال من الحمد والثناء إلى كلام آخر من غير مناسبة وكذا الواو ليس القصد بها العطف لأن ما قبلها وما بعدها لا مقتضى للتعاطف بينهما بل إنما أتى بها للنكتة التي ذكرت في أما تمت والله أعلم
(2) ـ يحتمل إعادة الضمير وهو ا لهاء على أما أوعلى الواو التي هي عوض عن أما واله أعلم
(3) ـ والفاء على توهم أما
(4) ـ أي الفاء

(1/14)


والإشارة (1)إلى المرتب الحاضر في الذهب من المعاني المخصوصة ، أو ألفاظها (2)، أو نقوش ألفاظها ، أو المركب من اثنين منها ، أو من ثلاثتها (3)سواء كان وضع الديباجة قبل التأليف أو بعده ؛ إذ لا وجود لواحد منها في الخارج .
فإن قيل : نفي وجود النقوش في الخارج خلاف المحسوس . أجيب : بأن الخارج من النقوش لا يكون إلاَّ شخصياً ، وليس المراد وصف ذلك الشخص بتلك الأوصاف ، وإنما الغرض وصف نوعه - وهو النقش الكتابي - أعم من أن يكون ذلك الشخص أو غيره مما يشاركه في ذلك المفهوم ، ولا شك في أنه لا حضور لهذا الكلي في الخارج ، فاستعمال لفظ الإِشارة على سبيل المجاز تنزيلاً للمعقول منزلة المحسوس تنبيهاً على ظهروه ، وترغيباً ، وتنشيطاً
وهذا مبتدأ خبره (مختصر) أي قليل اللفظ كثير المعنى ( في علم (4) أصول الفقه) أي في بيان أو تبيين ، أوتحصيل ما به تحصل ملكته.
__________
(1) ـ أي لفظة هذا
(2) ـ وتسميتها ألفاظاً مجاز باعتبار ما تؤل إليه تمت منه
(3) ـ هذا تمام احتمالات سبعة وهي : المعاني ، ألفاظها ، نقوش ألفاظها ، المعاني وألفاظها معا ، المعاني ونقوش ألفاظها معا ، الفاظ المعاني ونقوشها معا ، مجموع الثلاثة : المعاني ، وألفاظها ، ونقوشها تمت
(4) ـ قال في الغاية فإن قيل : ليس المشار إليه إلا مسائل علم أصول الفقه والظرفية تقتضي تغاير الظرف والمظروف قلنا : قد أشرنا إلى أن الإشارة إلى أحد معاني سبعة فيكون المراد بعلم الأصول أحد خمسة معان وهي الملكة ، والعلم بجميع المسائل ، وبالقدر المعتد به الذي يحصل به الاستنباط ونفس المسائل جميعا ، ونفس القدر المعتد به فإذا لوحظت تلك مع هذه حصل خمسة وثلاثون احتمالا يقر فيها مضاف وهو إما البيان أو الحصول أو التحصيل تمت

(1/15)


فإن قيل : ما معنى ظرفية نحو البيان للألفاظ ؟ . أجيب : بأنها مجازية إقامة للشمول العمومي مقام الشمول الظرفي ، ووجه الشمول وجود البيان بوجود الألفاظ ، ولا عكس (1)
والأصول جمع أصل ، وهو لغة : ما يبتنى عليه غيره من حيث يبتني عليه ، فبقيد الحيثية خرج أدلة الفقه مثلاً من حيث تبتني على علم التوحيد فإنها بهذا الاعتبار فروع لا أصول ، وهذا القيد لا بد منه في تعريف الإِضافيات إلاَّ أنه كثيراً ما يحذف لشهرة أمره ،
__________
(1) ـ قوله للشمول العمومي وذلك أن الألفاظ مسوقة لبيان المعنى فلم يخرج شيء من الألفاظ عن البيان فكأن البيان محيط بالألفاظ فكان كالعام الشامل لأفراده وقوله مقام الشمول الظرفي إذ لا يخرج عن الظرف شيء من مظروفه فهو شامل له وقوله على العكس أي لا نوجد الألفاظ بوجود البيان إذ قد يكون البيان بغير الألفاظ كالإشارة ونحوها تمت

(1/16)


ثم نقل الأصل في عرف الفقهاء والأصوليين إلى معانٍ : مثل الراجح يقال الأصل الحقيقة والمستصحب يقال تعارض الأصل والظاهر كمدعي دين(1)،فالأصل عدمه ؛ إذ خلق برياً عنه،والظاهر صدق المدعي لإِسلامه وديانته والقاعدة الكلية يقال لنا أصل وهو أن الأمر للوجوب والدليل يقال : الأصل في هذه المسئلة الكتاب والسنة ، وقد قامت القرينة هنا على أنه المراد ، لأن الإِضافة (2)إلى الفقه تدل عرفاً على أن المراد الدليل ، والابتناء يشمل الحسي كابتناء السقف على الجدران ، وأعالي الجدار على أساسه ، وأغصان الشجر على دوحته ، والعقلي كابتناء الحكم على دليله ، وبالإِضافة إلى الفقه الذي هو معنى عقلي يعلم أن الابتناء ههنا عقلي ، فيكون أصول الفقه ما يبتني الفقه عليه ، ويستند إليه ، ولا معنى لمستند العلم ومبتناه إِلاَّ دليله
والفقه لغة : فهم المعنى الخفي . واصطلاحاً (3) : اعتقاد الأحكام الشرعية الفرعية عن أدلتها التفصيلية (4)وسيأتي بيانها إن شاء الله تعالى .
__________
(1) ـ في نسخة كدعوى مسلم على ذمي ديناً
(2) ـ أي إضافة الأصول إلى الفقه والفقه في الاصطلاح: أخص من العلم ، لأن الفقه في العرف إنما يقال لمعرفة الأحكام الشرعية ، والعلم يقال لما هو أعم من ذلك لصدق العلم بالنحو وغيره ، فالفقه نوع من العلم ، فكل فقه علم ، وليس كل علم فقهاً ، ذكر معناه في شرح الورقات تمت منه
(3) ـ وسيأتي بيان الإصطلاح في الباب الرابع إنشاء الله تعالى تمت منه
(4) ـ وإنما عرف بذلك لأن متعلق الاعتقاد إما حكم أو غيره ، والحكم إما مأخوذ من الشرع أو لا ، والمأخوذ من الشرع إما أن يتعلق بكيفية عمل أو لا ، والعمل إما أن يكون العلم به حاصلاً من دليله التفصيلي الذي أنيط به الحكم أو لا ، فالاعتقاد المتعلق بجمع الأحكام الشرعية العملية الحاصل من أدلتها التفصيلية هو الفقه ، ذكر معناه في التلويح .تمت منه

(1/17)


(قريب المنال) خبر بعد خبر - أي مناله قريب - يظفر الطالب بفهم القواعد منه بسهولة في زمن قريب ، (غريب المنوال) (المنوال) في الأصل الخشبة التي يطوي عليها الحائك ما ينسجه ، فإذا أريد وصف شيءٍ بالجودة وعدم النظير قيل هذا الشيء لم ينسج غيره على منواله من الثياب لانحطاطها عنه في الجودة ، والمراد هنا أنه مخالف لأساليب سائر كتب الفن (1) في ترتيبه وتهذيبه ، واختصاره وتقريبه (كافل لمن اعتمده إن شاء الله ببلوغ الآمال) أي متحمل ضامن من باب المجاز العقلي (2)والآمال جمع أمل ، وهو الترقب لأمر مرجو(3)(وارتقاء ذروة الكمال) (الارتقاء) هو الارتفاع ، والذروة: بضم الذال المعجمة وكسرها ، وقد تفتح - رأس كل شيءٍ .
__________
(1) ـ الفن نوع ، وفن الأصول من إضافة المسمى إلى الاسم كشهر رمضان ويوم الخميس تمت منه
(2) ـ والمجاز العقلي هو : إسناد الفعل أو شبهه إلى ملاَبس له غير ما هو له بتاويل تمت
(3) ـ في القاموس أمله رجاه ، فلا يستقيم إطلاق بعض الشراح والله أعلم تمت منه

(1/18)


وقبل الشروع في مقاصد العلم أشار إلى تعريفه وضبط أبوابه إجمالاً ليكون للطالب زيادة بصيرة ، لأن كل علم مسائل كثيرة تضبطها جهة واحدة باعتبارها يعد (1) علماً واحداً يفرد بالتدوين ، ومن حاول تحصيل كثرة تضبطها جهة واحدة فالأولى أن يعرفها بتلك الجهة لتعذر معرفتها بغيرها ، أو تعسرها ، لأن الكثرة إن لم تكن محصورة لزم أن يستغرق أوقاته في تحصيل شرط الطلب - أعني تصور المطلوب - فيفوته ما يعنيه ، ويضيع وقته فيما لا يعنيه ، وإن كانت محصورة لزم أن يستغرق كثيراً من أوقاته في تحصيل شرط الطلب ، فربما لا يسع باقي الوقت لتحصيل المطلوب ، أو يمل عن تحصيل الشرط ، فيتقاعد عن الطلب ، ويلزمه الأمران ، فحده اللقبي - وهو العلم - الذي إذا لوحظ معناه الأصلي أشعر بمدح أو ذم ، وهذا يشعر بابتناء الفقه في الدين على مسماه ، فهو صفة مدح ، وخصه بالذكر دون الإِضافي لأنه المقصود الأهم هنا
فقال (هو) أي علم أصول الفقه ، يطلق تارة على المعلومات - أي القواعد المذكورة - وهو اصطلاح أكثر أصحابنا وأبي الحسين ، وتارة على العلم بها ، وهو اصطلاح أكثر الأشعرية والمصنف (علم) جنس يشمل كل علم بمعنى الملكة
__________
(1) ـ يعد خبر إن واسمها كل وهو مضاف وعلم مضاف إليه وعلم مضاف ومسائل مضاف إليه ومسائل مضاف وكثيرة مضاف إليه

(1/19)


(بقواعد) أي بسبب معرفة قواعد (1) إن كانت الباء سببية أو علم القواعد نفسها إن كانت للتعدية وجمعها تنبيهاً على أنه لا يحصل بمعرفة بعضها فقط
__________
(1) ـ فالباء سبيية على حذف مضاف ، قال في جواهر التحقيق : ذهب جمهور الشارحين إلى أن المراد بالعلم المذكور في حد أصول الفقه الاعتقاد الجازم المطابق للقواعد لظهور أن الظن لا يكفي في القواعد الكلية الأصلية ، وفيه نظر ، وذلك لأن اشترط المطابقة في العلم بالقواعد الأصولية يستلزم أن لا يكون كل مجتهد أصولياً ، واللازم باطل بالاتفاق بيان الملازمة أنه لا شك في أن كثيراً من القواعد الكلية الأصولية بعضه متناقض مع البعض ؛ لأنها قد وقع فيها الخلاف بين المجتهدين على طرفي النقيض ، وإلى هذا أشار المحقق بقوله : ووقع فيها الخلاف فتشيعوا فيها شيعاً ، وتحزبوا أحزاباً ، ولأن كثيراً من الأحكام الشرعية الفرعية متناقض بعضها مع البعض فيلزم أن تكون المقدمات الأصلية المقتضية لها متناقضة ؛ إذ لو كانت الأصول متفقة لكانت الفروع متفقة لوجوب اتحاد اللوازم عند اتحاد ملزوماتها ، فلو كان علم كل مجتهد بقواعده الكلية الأصلية مطابقاً للواقع للزم اجتماع الأصول الكلية المتناقضة في الصدق ، وأنه محال ، فلا يكون كل مجتهد أصولياً ؛ اللَّهُمَّ إلا أن يراد تصويب كل مجتهد في قواعده الكلية كما أريد تصويبهم في الفرعيات ، لكن سيجيء في آخر الكتاب - يعني المنتهى - إن شاء الله تعالى أن المختار عند المصنف وسائر المحققين تصويب الواحد لا تصويب الكل إهـ .

(1/20)


والقاعدة : حكم كلي ينطبق على جزئياته ليتعرف أحكامها منه كما يقال : الأمر للوجوب ، فهذا ينطبق على نحو :? أقيموا الصلاة ، وآتوا الزكاة ?[ البقرة 43] و? أتموا الصيام?[ البقرة 187]? ثم ليقضوا تفثهم وليوفوا نذورهم? [ الحج 29] من صيغ الأمر ، وكما يقال في القياس مثلاً : كل فرع شارك أصلاً في علة حكمه وجب إلحاقه به ، وكل حكم دل عليه القياس فهو ثابت (يتوصل بها) فيه إشارة إلى أن هذا العلم وصلة إلى غيره ، وليس مقصوداً بالذات ، والمراد من التوصل هو التوصل القريب المستفاد من باء السببية الظاهرة في السبب القريب ، فلا يرد ما قاله [الإِمام] المهدي عليه السلام من دخول كل علوم الاجتهاد فيه ، فإنه ما من فن إِلاَّ ويتوصل به إلى الاستنباط المذكور ، لأن التوصل بسائر العلوم غيره إليه (1)ليس بقريب ؛ إذ يتوصل بالعربية مثلاً إلى معرفة كيفية دلالة الألفاظ على مدلولاتها الوضعية ، وبواسطة ذلك يقتدر على استنباط الأحكام من الكتاب والسنة وكذا فإنه يتوصل بقواعد الكلام إلى ثبوت الكتاب والسنة ووجوب صدقهما
__________
(1) ـ الضمير في إليه يعود إلى الإستنباط أو إلى قوله غير المذكور أولا في قوله وصلة إلى غيره

(1/21)


(إلى استنباط) أي استخراج (الأحكام) جمع حكم ، وستأتي إن شاء الله تعالى (الشرعية) احتراز عن الحسية كالعلم بأن النار محرقة ، والاصطلاحية كالعلم بأن الفاعل مرفوع ، والعقلية كالعلم بأن المثلين والضدين لا يجتمعان (الفرعية) أي التي يتعلق بها كيفية عمل (1)واحترز بها من الأصولية . (عن أدلتها) متعلق باستنباط ، وبه يخرج علم المقلد ، وما علم من ضرورة الدين كالصلاة والصوم ، ومنه علم جبريل والرسول (2) (التفصيلية) احترز به عن الإجمالية كمطلق الكتاب والسنة فلا يستند في إباحة البيع مثلاً إلى كون الكتاب قاطعاً يجب العمل به ؛ بل إلى قوله ?وأحل الله البيع وحرم الربا?[ البقرة 275] فالحكم إنما يستخرج من الدليل التفصيلي لا الإجمالي - كما بينّا - ، وفي هذا الحد نظر لاستلزامه الدور لتوقفه على الفرعية التي لا تعرف إِلاَّ به ، والأخصر ما ذكرته في المغني تأمل
وغايته العلم (3)بأحكام الله تعالى ، وهي سبب الفوز بالسعادة الدينية والدنيوية
__________
(1) ـ قلبيا كان كالنية أو غيره تمت
(2) ـ إذ الحاصل بطريق الضرورة يكون معها لا عنها ، لأن معنى الدليل ما يمكن التوصل بصحيح النظر فيه إلى العلم ، فعلى هذا يكون هذا القيد للدلالة مطابقة على ما دل عليه الكلام التزاماً ، فإنه قد فهم من قوله استنباط ، لأنه استخراج - أي طلب خروج الحكم - ، وذلك يستلزم مخرجاً منه ، أو لدفع وهم من يغفل عن هذا اللزوم ، ويظن أن علم الرسول عن الأدلة إهـ .
(3) ـ وينبغي أن يراد بالعلم هنا ما يشمل العلم والظن ليوافق حد الفقه السابق كما لا يخفى ، والله أعلم تمت منه . والفائدة اسم للغاية من حيث حصولها من العلم ، والغرض اسم لها من حيث كونه مقصودة للفاعل ، فربما لا يتوافقان ، كما إذا حاول الاحتراز عن الخطأ في الفكر واشتغل بعلم النحو تمت منه

(1/22)


وموضوعه الذي يبحث عنه في الدليل (1)
واستمداده من الكلام لتوقف الأدلة على معرفة الصانع ، وصدق المبلغ ، إذ هو كلام في خطاب الله تعالى ، وخطاب رسوله (صلى الله عليه وعلى آله وسلم) ومن العربية (2)فيما تمس الحاجة إليه من الحقيقة والمجاز ونحوهما ، لأن الأدلة من الكتاب والسنة عربية ومن الأحكام (3)والمراد علمها بالحد ليمكن إثباتها أو نفيها بعد ذلك في أفراد المسائل ، كما إذا قيل الأمر للوجوب فإنه يستحيل القول بذلك مع جهل ماهيته
__________
(1) ـ يشمل الأدلة وحذف الأدلة لإيهام أن الموضوع هو الدليل بشرط كليته ، ولا وجود له بهذا الاعتبار إلا في الذهن ، والأصولي إنما يبحث عن الدليل لا بشرط كليته ولا جزئيته كما هو معنى الماهية الصادقة على ما في الخارج من جزئياته وحذف السمعية ليدخل فيه نحو التخصيص بالعقل ، وقياس تخريج المناط فإنهم نصوا في الترجيح أنه عقلي تمت منه
(2) ـ معطوف على الكلام
(3) ـ معطوف على الكلام

(1/23)


وحكمه الوجوب على الكفاية ، لأن من نزلت به حادثة شرعية لا يخلوا إما أن يكون عالماً أو عامياً إن كان عالما فلن يمكنه معرفة الحكم إِلاَّ بدلالة شرعية مفصلة ، وهي فرع على العلم بها على الجملة ، وإن كان عامياً ففرضه سؤال العالم ، والعالم لا بد له مما ذكرنا (1)
(وينحصر) العلم ، أوالمختصر ، أو المقصود منه ، أو المبحوث عنه ، فلا يضر خروج الخطبة عن الأبواب (في عشرة أبواب) والظرفية على تقدير عود الضمير إلى ما عدا المختصر ظاهرة ، وعلى تقدير عوده إليه يكون من انحصار الكل في الأجزاء ، مثل انحصار البيت في الجدران الأربعة والسقف ،
__________
(1) ـ أي من دلالة شرعية إهـ وإنما احتيج إلى بيان هذه المبادئ ، أمَّا الحد فلما ذكرنا ، وأمَّا الغاية فليخرج عن العبث ، ويزداد جد طالبه فيه إذا كانت مهمة ، ولئلا يصرف فيه وقته إن لم يوافق الغرض ، وأمَّا الموضوع فلأن تمايز العلوم في ذواتها بحسب تمايز الموضوعات حتى لو لم يكن لهذا العلم موضوع ولذلك موضوع مغاير له لم يكونا علمين ، ولم يصح تعريفهما بوجهين مختلفين ، فلو أقدم على الشروع قبل معرفة الموضوع لم يكن له من البصيرة ما له بعد معرفة المميز الذاتي ، وأما مستمده فليرجع الناظر إليه عند طلب التحقيق ، وأمَّا حكمه فليعرف مرتبته بين العلوم ليقدمه على ما ينبغي تقديمه عليه ويؤخر عما ينبغي تأخيره عنه ؛ مثلاً إذا عرف أن حكم هذا العلم الوجوب على الكفاية كان حقه التقديم على ما ليس بواجب ، والتأخير عن الواجب على الأعيان ، وإنما وجب على الكفاية لأنه لا يجب على الناس كافة طلب الأحكام لاستنباطها بالدليل ، والله أعلم تمت منه

(1/24)


فإن قلت : حصر الكل في الأجزاء لا يتصور ؛ لأن الحصر هو جعل الشيء في محل محيط به ، فالمحيط حاصر ، والمحاط به محصور مظروف ، وشأن الكل مع أجزائه على العكس ، فإن الكل يحيط بالأجزاء ، فكيف يكون محصوراً فيها ؟ . أجيب : بأن المراد من المختصر هو المفهومات ، ومن الأبواب العشرة هو العبارات بناءً على أن الألفاظ قوالب المعاني وظروفها (1)ويجوز أن يكون المراد من الانحصار المذكور ههنا هو انحلال الكل إلى ما منه تركيبه (2)
ثم لما ذكر الأبواب أولاً أراد أن يعيدها على سبيل التعريف العهدي فقال:
[الباب الأول ]
(الباب) في الأصل بوب ، تحرك حرف العلة ، وانفتح ما قبله ، فقلت ألفاً بدليل تصغيره على بويب ، وتكسيره على أبواب ، وهو لغة : معروف ، واصطلاحاً : اسم لجملة من الكتاب مشتملة على عبارات معينة محدودة دالة على معانٍ مخصوصة بفصول غالباً .
__________
(1) ـ عطف تفسيري
(2) ـ قلت : وأمَّا ما يقال من أنه يجوز أن يراد من الانحصار هنا انحصاره باعتبار أجزائه منها ، ففيه أنه يلزم حينئذٍ اتحاد الظرف والمظروف ، فتأمل ، والله أعلم إهـ .

(1/25)


(الأول) من أبوب الكتاب . قال الزجاج : الأول لغة ابتداء الشيء ، ثم يجوز أن يكون له ثانٍ ، وأن لا يكون نقله عنه جماعة منهم الواحدي في التفسير ، والله أعلم . (في) بيان (الأحكام) وإنما قدمها على الأدلة ، لأن الدليل من حيث هو دليل يتعذر إثباتها به مع جهل ماهيتها (الشرعية) المنسوبة إلى الشرع المستفادة منه ، إمَّا بنقله لها عن حكم العقل ، كإباحة ذبح بعض الحيوانات ، فإن قضية العقل فيه التحريم (1) أو بالإمساك عنه ، كتحريم ذبح الخنزير ، فإنه مقرر لحكم العقل (2)مع صحة النقل (3)
__________
(1) ـ ووجه قبحه عقلاً كونه إضراراً به ؛ لكن بشرط كون ذلك الإضرار خالصاً عن جلب نفع لها حتى لو زال الشرط حسن زوال القبح لزوال الوجه بزوال شرطه ، فنقول : لما أذن الشارع بذبحها علمنا أنه قد جعل لها عوضاً في مقابلة هذا الإضرار ، بحيث يختاره العقلاء في مقابلته ، فلم يكن الضرر خالصاً عن جلب نفع لها راجح ، فحسن ذبحها لزوال وجه قبحه ، وكذا العقل يستحسن تحميل البهائم وركوبها المعتادين في مقابلة منافع إطعامها ، وسقيها ، وحفظها عن السباع ، ونحو ذلك ، ما ذلك إلا لزوال وجه القبح بزوال شرطه ، والله أعلم تمت منه
(2) ـ الكلي
(3) ـ الخاص وهو قوله تعالى ? أو لحم خنزير فإنه رجس ?

(1/26)


والشرع : ما ورد عن الله تعالى ، أوعن رسول الله حكمه (1) نصاً أو كان وصلة إلى العلم به (2)أو ظنه كالقياس ممَّا لم يكن للعقل فيه قضية مطلقة (3)وهي المبتوتة الضرورية ، وهي ما كان الحكم ووجهه فيها مقترنين ذكره في حواشي الفصول من باب النسخ عن الفقيه : قاسم(4) كشكر المنعم ، أو الاستدلالية (5)كمعرفة الله تعالى ، فهذا عقلي وإن طابقه السمع ، وهذا لا يجوز نسخه (و) في بيان (توابعها) من الصحة ونحوها ، وإنما سميت هذه توابع ولم تسم أحكاماً ، لأنها صفات للأحكام ، ولذا يقال : واجب صحيح ومؤدى
[الأحكام الشرعية]
__________
(1) ـ قال ض عبد الله الدواري : الشرع ما دلت عليه النصوص وظاهر عبارة المؤلف أن الشرع هو الأدلة سواء كانت نصا اوقياسا و لو أر اد الأحكام لقال الشرع : هو الحكم الوارد عن الله تعالى أو عن الرسول نصا أو قياسا تمت والله أعلم
(2) ـ إي الحكم
(3) ـ قوله مما .. حال من قوله ما ورد حكمه إهـ
(4) ـ ابن أحمد بن حميد المحلي ، ومعنى الاقتران هنا : ملازمة الوجه للحكم بحيث لا ينفك أحدهما عن الآخر كالصفة الذاتية الملازمة لموصوفها نحو السوادية للأسود ، فإن وجه قبح الظلم كونه ظلماً - أي ضرراً - عارياً عن جلب نفع ، ودفع واستحقاق ، وهذا الوجه قائم بالظلم ، ملازم له لا ينفك عنه ، ولا يتغير ، ووجه قبح العبث كونه عارياً عن غرض ، ووجه قبح الكذب كونه كذباً ، وقبح الجهل كونه جهلاً - أي كون متعلقهما لا على ما هو به - ، وهذه القبائح الأربع هي القبائح العقلية المبتوتة التي لا تتغير أحكامها لمقارنة وجوهها لها دائماً ، وهكذا الكلام في الواجبات العقلية المبتوتة ، كقضاء الدَّيْن ، ورد الوديعة ، وشكر المنعم والله أعلم تمت منه
(5) ـ معطوف على الضرورية

(1/27)


فالأحكام (1)خمسة (هي : الوجوب ، والحرمة ، والندب ، والكراهة ، والإباحة) لأن دليل الحكم إمَّا أن يقتضي الفعل ، أو لا ، والأول إمَّا أن يمنع من الترك أو لا ، الأول الوجوب (2)والثاني الندب ، وإن لم يقتض الفعل ، فأمَّا أن يقتضي الترك أو لا إن اقتضى الترك ، فإما أن يمنع من الفعل أو لا ، فإن منع منه فحظر وإلاَّ فالكراهة وإن لم يقتض الترك ، والمفروض أنه لم يقتض الفعل فلا محالة يكون مخيراً فيه - وهو الإباحة(3)
__________
(1) ـ وينقسم الحكم إلى تكليفي ووضعي ، فهذه الأحكام الخمسة عبارة عن التكليفي ، وهو خطاب الشارع المعرف لغير السبب ، والشرط ، والمانع بالاقتضاء ، أو التخيير ، فالأول الوجوب ، والندب ، والتحريم ، والكراهة ، والثاني الإباحة ، وسمي تكليفياً لكون بعض أقسامه كذلك ، وإن كان بعضها غير تكليفي فلا مشاحة في الاصطلاح ، ويشترط فيه ما لا يشترط في الوضعي من التكليف وعلم المكلف ، والوضعي مدلول خطاب الشرع المعرف للسبب ، والشرط ، والمانع لا بالاقتضاء ، والتخيير ، وانقسامه إلى الثلاثة بالاستقراء ، لأنه إمَّا أن يؤثر وجوده في وجود الحكم وعدمه في عدمه فالسبب ، وإلا فإن أثر عدمه في عدمه ، ولم يلزم من وجوده وجود ولا عدم ، فالشرط كالوضوء للصلوة ، وأن أثر وجوده في العدم ، فالمانع كالأبوة للقصاص ، والسبب يسمى معنوياً كالإسكار للتحريم ، ووقتياً كالزوال لوجوب الصلاة ، والله أعلم تمت منه
(2) ـ فيه تسامح فإن دليل الحكم غير الحكم بل الحكم ماأخذ من الدليل
(3) ـ والمحكوم عليه المكلف . قال في التلويح : فإن قلت : إذا قال الشارع الصلاة واجبة ، فالمحكوم عليه هو الصلاة لا المكلف ، والمحكوم به هو الوجوب لا فعل المكلف . قلت : ليس المراد بالمحكوم عليه ، والمحكوم به طرفي الحكم على ما هو مصطلح المنطق ؛ بل المراد بالمحكوم عليه من وقع الخطاب له ، وبالمحكوم به ما يعلق به الخطاب كما يقال : حكم الأمير على زيد بكذا إهـ

(1/28)


(وتُعرَّف) أي تحد (1)الأحكام وتوابعها (بمتعلقاتها) أي بحدود متعلقاتها - بفتح اللام - وهي الأفعال الاختيارية الشرعية
[الواجب]
(فا) لوجوب قد عرفته (2)ومتعلقه هو ا ( لواجب) فهو فعل اقتضاه الدليل ، ومنع من تركه ، وكذا سائر الأقسام قد أفاد التقسيم السابق حدودها وحدود متعلقاتها ولها حدود غير ما أفاده التقسيم ، ذكر منها ما سيأتي ،
فالواجب لغة: الساقط قال تعالى ? فإذا وجبت جنوبها?[ الحج 36] ومنه وجبت الشمس ، والثابت ومنه الإلزام ، يقال : وجب الشيء إذا لزم ، وأوجبه الله واستوجبه - أي استحقه - وغير ذلك (3)
واصطلاحاً :(ما يستحق الثواب بفعله ، والعقاب بتركه) أي فعل يستحق المكلف به الثواب بفعله ، وبتركه العقاب ، فتخرج سائر متعلقات أقسام الحكم كلها ؛ إذ ليست كذلك ، ولا حاجة إلى زيادة قيد بوجه ما حتى يدخل الموسع ، والمخير ، والكفاية ؛ إذ لا يتصور ترك الموسع إِلاَّ بتركه في جميع وقته ، لأنه واجب في جزءٍ ما من الوقت مطلقاً ، ولا ترك المخير إِلاَّ بترك جميع آحاده المعينة ، لأن وجوبها على البدل ، وكذا الكفاية فإنه واجب على الكل مع سقوطه بفعل البعض أو واجب على البعض لا بشرط التعيين وعلى كلا التقديرين فلا يتصور تركه إلا بترك جميع الأشخاص وأيضا فإنه بزيادته ترد صلاة الساهي والنائم ، وصوم المسافر ، لأن تاركهما يستحق العقاب على تقدير انتفاء العذر ، والتفضي عنه تعسف ، والله أعلم .
__________
(1) ـ اصطلاح الأصوليين على ترادف الحد والتعريف بخلاف اصطلاح أهل المنطق ، فإن التعريف يعم الحد والرسم ، والحد يختص بالذاتي ، والله أعلم .
(2) ـ في التقسيم السابق وفيه تسامح
(3) ـ المضطرب يقال وجب القلب وجبا أي اضطرب تمت منه

(1/29)


تنبيه: وإنما امتنع تكليف الغافل الذي لا يدري كالنائم والساهي ، لأن مقتضى التكليف بالشيء الإِتيان به امتثالاً ، وذلك يتوقف على العلم بالتكليف ، والغافل لا يعلم ذلك فامتنع تكليفه وإن وجب عليه بعد يقظته ضمان ما أتلفه من المال ، وقضاء ما فاته من الصلاة في زمن غفلته لدليله وكذا الملجى وهو من يدري ولا مندوحة له عن الوقوع عليه كالملقى من شاهق على شخص لعدم قدرته على ذلك ، لأن الملجى إليه واجب الوقوع ، ونقيضه ممتنع ، ولا قدرة على واحد من الواجب والممتنع .
[ الحرام]
(والحرام) يرادفه (1) القبيح والمحظور (بالعكس) اللغوي ، فهو ما يستحق المكلف به العقاب بفعله ، والثواب بتركه .
[ المندوب]
(والمندوب) لغة : هو المدعو إليه . قال الجوهري :يقال : ندبه لأمر ، فانتدب - أي دعاه له فأجاب - سمي الفعل به لدعاء الشرع إليه ، وأصله المندوب إليه ، فتوسع بحذف حرف الجر فاستكن الضمير . واصطلاحاً :(ما يستحق الثواب) أي فعل يستحق المكلف الثواب (بفعله) ، فيخرج الحرام ، والمكروه ، والمباح ، (ولا عقاب في تركه) ، خرج الواجب ، ولا حاجة إلى زيادة مطلقاً لإِخراج المخير والكفاية ، لأن العقاب عام لوروده في سياق النفي ، أو لأن الإِطلاق يفهم من الإِطلاق (2)والخلاف في كونه تكليفاً أو لا لفظي ، لأن مبنى الثاني (3) على أن معنى التكليف إلزام ما فيه كلفة ، والأول (4) على أن معناه طلب ما فيه كلفة ، ولا شك أن المكلف إذا فعل المندوب رغبة في الثواب شق عليه ذلك كفعل الواجب ، فكان الخلاف عائداً إلى تفسير معنى التكليف ، ولم يتوارد النفي والإِثبات على معنى واحد ، والله أعلم .
[ المكروه]
__________
(1) ـ قيل بأحد معنييه ، وهو الممنوع لا الممتنع كما في ? وحرام على قرية أهلكناها أنهم لا يرجعون ? تمت منه
(2) ـ أي إطلاق العبارة
(3) ـ وهو غير التكليفي
(4) ـ وهو التكليفي

(1/30)


(والمكروه) لغة : خلاف المحبوب . واصطلاحاً :(بالعكس) اللغوي من المندوب ، فهو ما يثاب على تركه ، ولا يعاقب على فعله ، فتخرج الأحكام الأربعة
إن قيل المباح قد يثاب تاركه ، ولا يعاقب فاعله ، أما انتفاء العقاب عن فاعله فظاهر ، وإمَّا إثابة تاركه فباعتبار فعله واجباً أو مندوباً .
أجيب : بأن قيد الحيثية معتبر في التعريفات ، فالمراد أنه يثاب تاركه من حيث أنه تاركه ، وإثابته فيما ذكر من حيث أنه فعل واجباً أو مندوباً ، لا من حيث أنه ترك مباحاً وهو ظاهر ، وبقيد الحيثية أيضاً لا يرد أن الفاسق لا يستحق الثواب بفعل الواجب والمندوب ، ولا بترك المحظور والمكروه ، لأن عدم استحقاقه الثواب بذلك إنما كان لانحباطه بملابسة المعاصي لا من حيث أنه فعل أو ترك ، والله أعلم وقد يطلق على الحرام كقول بعض أصحابنا : يكره النفل في الثلاثة الأوقات .
[ المباح ]
(والمباح) لغة : الموسع فيه . واصطلاحاً :(ما لا ثواب ولا عقاب في فعله ولا تركه) (1)فتخرج الأحكام الأربعة ، ولو قال ما لا ثواب في فعله ولا تركه لكفى ، فتأمل . والإباحة حكم غير مكلف به ، إذ التكليف إلزام أو طلب ما فيه مشقة وكلفة ، ولا طلب في المباح ، وغير مأمور به ، لأن الأمر طلب ، والطلب ينافي الإِباحة للزوم ترجيح المطلوب على مقابله ، واستلزام الإباحة تساوي الطرفين ومنع التساوي خلاف الضرورة والإجماع .
(والفرض والواجب مترادفان) لا فرق بينهما عند الجمهور (خلافاً) للناصر والدَّاعِي عليهما السلام و( للحنفية) ففرقوا بينهما ، بأن الفرض قطعي دليله قطعي الدلالة والسند ، والواجب ظني دليله ظني الدلالة أو السند أو كليهما.
__________
(1) ـ قلت : كذا ذكره بعض المحققين ، ولو اعتبر فيه ترك الترك لكان داخلاً في النوع الأول ، أعني ما يثاب على تركه ، ولا يعاقب على فعله ، فلعله بناءً على أن الترك ليس بفعل ، والله أعلم تمت منه

(1/31)


واعلم أنه لا نزاع في تفاوت مفهوميهما لغة ، ولا في تفاوت ما يثبت بدليل قطعي كمحكم الكتاب ، وما يثبت بدليل ظني كخبر الواحد ، فإن جاحد الأول كافر ، لا الثاني ، وتارك العمل بالأول فاسق ، لا الثاني ، وإنما النزاع فيهما هل هما لفظان مترادفان منقولان من معنييهما اللغويين إلى معنى واحد هو ما يثاب على فاعله ، ويعاقب تاركه ، سواءً ثبت ذلك بدليل قطعي ، أو ظني ، أو نقل كل منهما من معناه إلى معنى مخصوص ، فالفرض ما يثاب فاعله ويعاقب تاركه إذا ثبت بدليل قطعي ، والواجب كذلك إذا ثبت بدليل ظني ، وهذا مجرد اصطلاح فلا معنى لاحتجاج أبي حنيفة بأن التفاوت بين الكتاب وخبر الواحد يوجب التفاوت بين مدلوليهما ، أو بأن الفرض في اللغة التقدير ، والوجوب هو السقوط ، فالفرض ما علم قطعاً أنه مقدر علينا ، والواجب ما سقط علينا بطريق الظن ، فلا يكون المظنون مقدراً ، ولا المعلوم قطعي ساقطاً علينا ، على أنه يقال : لو سلم ملاحظة المفهوم اللغوي فلا يسلم امتناع كون الشيء مقدراً علينا بدليل ظني ، وكونه ساقطاً علينا بدليل قطعي . ألا ترى إلى قولهم : الفرض - أي المفروض المقدر علينا - في المسح هو الربع ، والله أعلم .
[ تقسيم الواجب]

(1/32)


(و) لترادفهما قال :و(ينقسم الواجب) بالنظر إلى فاعله (إلى : فرض عين) وهو ما لا يسقط عن مكلف به (1)بفعل آخر ، ويكون عقلياً ، كشكر المنعم ، ومعرفة الله تعالى ، وشرعياً كصلاة الظهر ، ومنه خواصه الواجبة عليه ، ثم هو على ضربين ؛ أحدهما : ما يكون فعل بعض المكلفين شرطاً في صحة فعل البعض كصلاة الجمعة ، والثاني ما لا يكون كذلك وهو الأكثر . (وفرض كفاية) وهو بخلافه ، ويكون أيضاً عقلياً ، كرد الوديعة عن جماعة ، وشرعياً كصلاة الجنازة والجهاد ، ويتعلق وجوبه بالجميع حتى يفعله البعض ، فيأثم من عرف الإخلال به متمكناً من فعله ، وقد يتعين ، ويكون بعضه من فروض العلماء كحل الشبهة (2)وفي تعيينه بالشروع خلاف ، رجح الغزالي عدمه
[ تقسيم آخر]
__________
(1) ـ بهذا التعريف يندفع الإشكال بالواجب عليه الوارد على قولهم فرض العين ما يعم وجوبه جميع المكلفين كما أشير إليه بقوله : ومنه خواصه . والله أعلم تمت منه
(2) ـ هذا قول أبي العباس ، والإمام يحيى ، وقال الإمام المهدي وبعض الفقهاء : بل عام . وجهل الوجوب ليس بعذر ؛ إذ يلزمهم البحث . قلنا : لكن مع عدم الإمكان لا وجوب عليهم لقوله تعالى :? لا يكلف الله نفساً إلا وسعها? ، و? إلا ما أتاها? ، وقوله :((إذا أمرتم بأمر فأتوا منه ما استطعتم)) . والله أعلم تمت منه

(1/33)


(و) بالنظر إلى ذاته (إلى معين) وهو ما لا يقوم غيره مقامه ، ويكون عقلياً أيضاً ضرورياً ، كشكر المنعم ، وقضاء الدَّيْن ، ورد الوديعة ، واستدلالياً كشكر الله تعالى ، ورسوله ، والوالدين ، وشرعياً كالصلاة والزكاة . (ومخير) فيه كذلك ، كأن يكون بالمكلف علة ويغلب بظنه برؤها بالحجامة ، أو شرب الدواء ، فإنه يجب عليه فعلهما وجوباً مخيراً فيه وكالكفارات الثلاث (1)فيتعلق الوجوب بالجميع على جهة البدل ، بمعنى أنه لا يجوز للمكلف الإخلال بجميعها ، ولا يلزمه الجمع بينها ، ويكون فعل كل منها موكولاً إلى اختياره لتساويها في الوجوب ، هذا قول أصحابنا ، والمعتزلة ، وبعض الفقهاء ، لأن الشارع قد شرك بين هذه الأشياء في الخطاب المفيد للإِيجاب ، ولفظ أو موضوع للتخيير ، فبان أن لكل منها حظاً في الوجوب عليه ؛ لأن الصرف عن المدلول إنما يكون عند امتناعه ، ولا امتناع قطعاً .
__________
(1) ـ أي مثلها في قوله تعالى :?فكفارته إطعام عشرة مساكين من أوسط ما تطعمون أهليكم أو كسوتهم أو تحرير رقبة? مما ورد النص بالتخييرفيه بأو أوما في معناها ، أو في أصل مشروعيته ، وأما ما شرع من غير تنصيص على التخيير كالتخيير في الحج بين الإفراد ، والقران ، والتمتع ، فلا مدخل له هنا ، فيندفع ما يورد من التخيير بين واجب ومسنون كالتخيير بين فعل التشهد الأوسط - مثلاً - ولا سجود للسهو بين تركه ، ويجب السجود ؛ إذ لا صيغة تخيير ، والله أعلم إهـ

(1/34)


وقال الأشاعرة : وأكثر الفقهاء : بل الواجب منها واحد لا بعينه . وفسره المتأخرون بالقدر المشترك بين الخصال كلها الصادق (1)على كل واحد منها ، وحينئذٍ فلا تعدد فيه ، وإنما التعدد في محاله ، لأن المتواطي موضوع لمعنى واحد صادق على إفراده كالإِنسان ، وليس موضوعاً لمعان متعددة ، وإذا كان أحد الخصال هو متعلق الوجوب كما تقدم استحال فيه (2)التخيير ، وإنما التخيير في الخصوصيات ، وهي خصوص الإطعام مثلاً أو الكسوة ، أو الإِعتاق ، فالذي هو متعلق الوجوب لا تخيير فيه ، والذي هو متعلق التخيير لا وجوب فيه .
قيل : والمسألة عريضة الدعوى ، قليلة الجدوى ، والخلاف في العبارة (3)وفيه أن ثمرة الخلاف فيمن حلف بعد حنثه ، وقبل تكفيره بالطلاق ما عليه عتق فيقع على الأول لا الثاني ؛ إذ الأصل براءة الذمة .
__________
(1) ـ في نسخة يصدق
(2) ـ الضمير يعود إلى الوجوب
(3) ـ أي راجع إلى التسمية والعبارة ، فعند الأولين أن المسمى بالواجب الخير كل واحد . وعند الآخرين أن المسمى به الأحد المبهم الموجود في ضمن كل واحد لا معنوي لاتفاقهم على عدم وجوب جميعها ، وعدم جواز الاخلال بجميعها ، وعلى أنه بأيها كفَّر أجزاه ، وعلى أنه لو كفَّر بغير ما كفّر به أجزاه تمت منه

(1/35)


واعلم أن الجمع بين أشياء الواجب المخير قد يكون مندوباً كالكفارات ، ومحظوراً كتزويج الكفوين معاً ، وإذا فعلت جميعاً دفعة (1) أثيب على أشقها ومترتبة ، فالواجب هو الأول ، وثوابه واجب ، وثواب ما بعده ثواب مندوب ، نظير ما قيل أنه إذا نسخ الوجوب بقي الجواز ، وفيه أن فعل ما لم يشرع مع اعتقاد شرعيته بدعة ، وإن تركت معاً استحق العقاب على أخفها (2)والله أعلم كان الأنسب تقديم هذا القسم على ما قبله ، لأنه بالذت ، وما قبله وما بعده بالمتعلق ، والله أعلم .
[ تقسيم آخر]
(و) بالنظر إلى وقته (إلى المطلق) لم يذكر وقت كمعرفة الله في العقلي ، والزكاة (3) في الشرعي (وموقت) بخلافه كالصلوات الخمس ، وكالحج فإن وقته العمر ،
(والموقت) أي ما ضرب له وقت من الواجبات مضيقها وموسعها ويختص الشرعية لا العقلية الواجبة بقضية العقل فلا يدخلها التأقيت علمية كانت أو عملية ، وإن كان فيها ما يجري مجرى المضيق ، كالمعارف الإلهية ، ورد الوديعة والدَّيْن عند المطالبة ، وفيها ما يجري مجرى الموسع كردهما إذا وكل صاحبها الرد إلى اختيار من توجه ذلك عليه ،
__________
(1) ـ قال الشيخ لطف الله - رحمه الله تعالى - : هذا في الكفارات خاصة ، وذلك يمكن ؛ حيث وكل بها أوباثنين منها ، وتولى واحداً تمت منه
(2) ـ لأنه لو فعل الأيسر لأسقط عنه الذم على الواجب ، فاستيفاء العقاب على الأيسر يقوم مقام فعله ، ولقوله تعالى :?يريد الله بكم اليسر? ، ولأنه تعالى أسمح الغرماء تمت منه
(3) ـ كزكاة الزراعة ?وآتوا حقه يوم حصاده? تمت

(1/36)


فالموقت الشرعي ينقسم (إلى : مضيق) وقته وهو ما كان بمقدار العمل كالصيام فإن وقته من الفجر على الغروب ( وموسع ) وهو ما يتسع لأكثر منه كالصلاة(1). والجمهور : إن فعله واجب في جميع الوقت موسع في أوله ، مضيق في آخره ، لأن الأمر مقيد بجميعه ؛ إذ الكلام فيما هو كذلك ، وليس المراد تطبيق أجزاء الفعل على أجزاء الوقت بأن يكون الجزء الأول من الظهر - مثلا ً- منطبقاً على الجزء الأول من الوقت ، والجزء الآخر على الآخر ، ولا تكراره في أجزائه بأن يأتي بالظهر في كل جزء يسعه من أجزآء الوقت ، فإن ذلك باطل إجماعاً .
__________
(1) ـ واعلم ؛ أن وقت الحج مشكل في الزيادة والمساواة ، وبيانه من وجهين ؛ أحدهما : بالنسبة إلى سنة الحج ، وذلك أن وقته يشبه الموسع من جهة أن أركان الحج لا تستغرق جميع أجزاء وقت الحج ، كوقت الصلاة ، ويشبه المضيق من جهة أنه لا يصح في عام واحد إلا حج واحد كالنهار للصوم . وثانيهما : بالنسبة إلى سني العمر ، وذلك أن وقته العمر ، وهو فاضل على الواجب حتى لو أتي به في العام الثاني كان أداء بالاتفاق لوقوعه في الوقت ؛ إلا أنه عند أبي يوسف يجب مضيقاً لا يجوز تأخيره عن العام الأول ، وهو لا يسع إلا حجاً واحداً ، فأشبه المضيق من جهة أنه لا يسع واجبين من جنس واحد . وعند محمَّد يجوز تأخيره عن العام الأول بشرط أن لا يفوته * فإن عاش أدى فكان أشهر الحج من كل عام صالحاً لأداء كأجزاء الوقت في الصلاة ، وإن مات تعينت الأشعر من العام الأول كالنهار للصوم ، فثبت الإشكال ، ذكره في التلويح تمت منه
*أي يجوز فوته تمت منه

(1/37)


ولا يجب العزم في أوله لفعله بخصوصه - كما قيل - إذ ليس في الأمر تعرض له ولا لتخصيصه بأول الوقت أو آخره ، ولا بجزء من أجزائه المعينة ضرورة دلالته على وجوب الفعل بعينه فقط ، وعلى تساوي نسبته إلى أجزاء الوقت ، فثبت أن جميع وقته الموسع وقت أداء له ، وأول الوقت لتأدية الواجب الموسع ما يسعه مع شرطه ، والله أعلم . أمَّا العزم على أداء الواجبات جملة فذلك من أحكام الأيمان .
وتحرم الأجرة على الواجب بأقسامه خلافا للقاسم وبعض الشراح في الكفاية إن لم يتعين[*] والله أعلم .
(والمندوب والمستحب مترادفان) أي معناهما متحد ، ويرادفهما أيضاً التطوع ، والمرغب فيه والنفل (1)
(والمسنون أخص منهما) ، لأنه ما أمر به ندباً ، وواظب عليه كالرواتب ، والمندوب ومرادفه بخلافه (2) ، فهو ما أمر به ندباً فكل مسنون مندوب ، ولا عكس ، ولهذا استغني بحد المندوب عن حده ،
ولا يجب إتمامه بالشروع فيه ، فكما يجوز تركه يجوز ترك إتمامه ، خلافاً لأبي حنيفة فأوجب إتمامه لقوله تعالى ? ولا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ ? [(33) محمد ]فأوجب بترك إتمام الصلاة والصوم قضاؤهما ،
__________
(1) ـ قيل والحسن ، وفيه أن الحسن يعم الواجب والمكروه والمباح تمت منه
(2) ـ قوله بخلافه يقتضي تباينهما ، وقوله كل مسنون مندوب يقضي بأعمية المندوب ، ولو قيل في حد المندوب : ما أمر به الرسول ندبا سواء أواضب عليه أم لا حتى تثبت الأعمية للمندوب لكان أولى تمت

(1/38)


وعورض في الصوم بحديث :((الصائم المتطوع أمير نفسه إن شاء صام وإن شاء أفطر)) روي بالمعنى في كتب أصحابنا وفي الترمذي وغيره قال الحاكم صحيح الاسناد وتقاس عليه الصلاة ، فلا تتناولهما الأعمال في الآية جمعاً بين الأدلة ، وإنما وجب إتمام الحج المندوب لقوله تعالى ? وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ ? [ البقرة196]ولأن نفلهما كفرضهما في الكفّارة فإنها تجب فيهما بارتكاب محظور فيه ، وفي أنه لا يحصل الخروج منهما بالفساد ؛ بل يجب المضي فيهما بعد فسادهما ، بخلاف غيرهما ، فليس فرضه كنفله فيما ذكر ، ولما فرغ من بيان الأحكام الخمسة أخذ يبين توابعها فقال
(والصحيح) عطف على قوله فالواجب وهو في المعاملات (ما وافق الشارع) بأن كملت فيه الشروط التي أعتبرها وفاقاً ، وكذا في العبادات عند جمهور المتكلمين ، وعند بعضهم (1) والفقهاء : هو فيها الفعل المسقط للقضاء والصحة مطلقاً (2)ترتب الآثار جميعاً
(والباطل نقيضه) بكل من الحدين ، والبطلان نقيض الصحة ، وفيه أن نقيض الشيء ما به يرتفع ، وهو يرتفع بالفاسد كما يرتفع بالصحيح ، فلا يكون مانعاً
__________
(1) ـ أشار إلى معناه في شرحي الجمع إهـ
(2) ـ أي اتفاقاً ، سواءً كان في العبادات أو المعاملات ، فتأمل تمت منه

(1/39)


(والفاسد) عند جمهور أئمتنا (عليهم السلام) : ما حصل فيه خلل في المعاملات يوجب عدم ترتب بعض الآثار عليه مثلاً : البيع الفاسد يوجب جواز الفسخ وعدم الملك إِلاَّ بالقبض بالإذن والقيمة لا الثمن . وتلك ليست الآثار المقصودة من البيع ، فإن المقصود منه الملك باللفظ ، ووجوب الثمن ، وعدم جواز الفسخ ، بخلاف الباطل فإنه لا يترتب عليه شيءٌ من الآثار ، وما ذكره أصحابنا في باطل البيع (1)والنكاح أثر لتسليط المالك ، وللوطء مع الجهل لا للعقد
__________
(1) ـ من أنه في البيع يطيب ربحه ، ويبرأ من رد إليه ، ولا أجرة إن لم يستعمل ، وفي النكاح [أنهما] إن كانا جاهلين لزم الزوج بالدخول ولو في الدبر الأقل من المسمى ومهر المثل ، ويلحق النسب بالرجل الجاهل وإن علمت ، ولا حد عليه ولا مهر والله أعلم تمت منه .

(1/40)


وعند الحنفية والمصنف هو :(المشروع بأصله ، الممنوع بوصفه) ، الباء الأولى ظرفية ، والثانية سببية ، كالبيع المشتمل على زيادة في أحد الطرفين في الربويات ، والمشروط بما لايقتضي العبد عدمه فإنه ليس باطلاً لانعقاده ، ولا صحيحاً لكونه غير مفيد إباحة الانتفاع ، ولو أسقط الزيادة والشرط لصح مطلقاً (1)عندهم ، فكان واسطه بين الصحيح والباطل في المعاملات بخلاف العبادات ، ولو كان شيءٌ منها مشروعاً [*] بأصله لا وصفه فلا يكون واسطه كنذر صوم يوم العيد فإنه وإن كان مشروعاً عند هم بأصله وهو الصوم (2)لأنه إمساك عن المفطرات الثلاثة نهاراً مع النية ، وهو حسن لذاته ، ومشروع وغير مشروع لوصفه ، وهو كونه اعتراضاً عن ضيافة الله تعالى ذلك اليوم ، فليس واسطة بين الصحيح والباطل ؛ بل هو صحيح عندهم (3)مسقط لقضائه . (وقيل : مرادف الباطل) في العبادات اتفاقاً في غير الحج ، وفي المعاملات عند النَّاصِر .
__________
(1) ـ وعندنا هو باطل ، ولا يصح ؛ إلا مع تجديد العقد كما قرر في مظانه ، ومستند الجميع قوله تعالى :?وحرم الربا? ، فالحنفية اعتبروا الإضمار وجعلوه أولى من النقل - أي أخذ الربا – أي الزيادة ، وغيرهم اعتبروا النقل الشرعي - أي العقد الذي هو الربا تمت منه .
(2) ـ أي مطلق الصوم تمت منه
(3) ـ أي فإذا بطل كونه باطلاً فلا أقل من دخول فاسد العبادات في الصحيح والله أعلم فيصح نذره لأن المعصية في فعل الصوم دون نذره ، ويؤمر بفطره وقضائه ليتخلص عن المعصية ويفي بالنذر ، ولو صامه خرج عن عهدته لأنه أدى الصوم كما التزمه ، ذكر معناه في شر ح الجمع تمت منه

(1/41)


(والجائز يطلق على) معانٍ :[*] : على (المباح) ، وقد تقدم ، يقال :التزين بثياب الزينة جائز أي مباح (وعلى الممكن عقلاً) نحو أن يقال كون جبريل (عليه السلام) في الأرض ، جائز - أي لا يمنع منه العقل - فيشمل الواجب والراجح ، ومتساوي الطرفين ، أو شرعاً يقال هذا جائز - أي لا يمتنع من جهة الشرع - فيشمل الواجب والمندوب ، والمكروه والمباح(وعلى ما استوى فعله وتركه) عقلاً ، كفعل الصبي ، أو شرعاً كالمباح ، فهذا أعم منه .(وعلى المشكوك فيه) وهو الذي تعارضت فيه أمارتا الثبوت والانتفاء ، أمارة تقتضي ثبوته ، وأخرى تقضتي نفيه في العقل أو الشرع ، مثاله في العقلي ما يقوله المتوقفون في أصل الأشياء هل على الحظر أو على الإباحة ؟ فإن المتوقف يصفه بأنه جائز الأمرين لاستوائهما عند تعارض دليلهمها ، ومثاله في الشرعين ما يقوله المتوقف في حكم لحم الأرنب ، ووجوب صلاة العيدين لتعارض أمارتي الأمرين جميعاً ، فذلك كله صحيح ، فهذه هي المعاني التي يعبر عنها في لسان العلماء بالجائز .
(والأداء) لغة : هو الإيصال والقضاء . واصطلاحاً :(ما) موصوفة ، أو موصولة ، لا مصدرية لعود الضمير إليها ، لأنه إنما يعود على الأسماء لا الحروف أي شيء أو الذي ، فالمحدود فيه وفيما بعده (1) بمعنى المفعول الذي (فعل في وقته المقدر له أولاً شرعاً) لم يقل واجب فعل ليتناول النوافل الموقتة ، ولعله تجوز كما في القضاء فخرج بقيد وقته المقدر له القضاء ، وما لم يضرب له وقت ، وقوله :أولاً تخرج الإعادة ، وقوله :شرعاً منتصب على الظرفية من المقدر ، وهو لإخراج قضاء الدَّيْن حين المطالبة ، فإنه فعل في وقته المقدر له ، وهو ما يتسع له بعدها ، وليس ذلك التقدير إلا بالعقل .
__________
(1) ـ القضاء والإعادة تمت

(1/42)


فإن قيل : إذا وقعت ركعة من الصلاة بواجبها (1)في وقتها وباقيها خارجة فهل هي أداء أو قضاء ؟ .
قلنا : بل أداء ، أما ما وقع في الوقت فظاهر ، وأما ما وقع بعده فبالتبع ، ولقوله :((من أدرك ركعة من الصبح قبل أن تطلع الشمس فقد أدركها ، ومن أدرك ركعة من العصر قبل أن تغرب الشمس فقد أدركها)) رواه في الأنوار للمهدي (عليه السلام) ، وأصول الأحكام ، وفي البخاري ، ومسلم .
قال في شرح الجمع للمحلي ما لفظه : وبعض الفقهاء حقق فوصف ما في الوقت منها بالأداء ، وما بعده بالقضاء ، ولم يبال بتبعيض العبادة في الوصف بذلك الذي فر منه غيره . انتهى .
(والقضاء) لغة : قضاء الدَّيْن ، والصنع ، والحكم ، والحتم ، وغيرها (2). واصطلاحاً :(ما فعل بعد وقت الأداء) خرج الأداء والإعادة ، (استدراكاً) (3)خرج ما ليس كذلك ، كإعادة الفرض بعد وقته (4) (لما سبق له وجوب) تخرج النوافل الموقته إذا فعلت بعد وقتها ، فإن فعلها لا يسمى قضاء إلا تجوزاً ؛ إذ لم يسبق لها وجوب .
__________
(1) ـ لاشتمالها على معظم أفعال الصلاة ، إذ معظم الباقي كالتكرار لها فجعل ما بعد الوقت تابعاً لها بخلاف ما دونها
(2) ـ كالخلق قال تعالى ? فقضاهن سبع سماوات ? والأمر قال تعالى ?وقضى ربك أن لا تعبدواإلا إياه ? والعلم والاخبارقال تعالى ? وقضينا إلى بني إسرائيل لتفسدن في الأرض مرتين ?
(3) ـ قال بعض المحققين : لا حاجة إلى استدراكا ، لأنه ليس من مفهوم القضاء وإن كان عارضاً ، لأن العرض من الشيء خارج عن ذاته ، ولأنه ينبني على وجوب نية القضاء والأداء ، ولا دليل عليه تمت منه .
(4) ـ أشار إليه العضد تمت منه

(1/43)


وقوله:(مطلقاً) قيد للوجوب ، أي سواء سبق الوجوب على القاضي (1) أوعلى غيره ، فيدخل قضاء الحائض للصوم ، فإنه وإن لم يسبق له وجوب عليها وجب على غيرها ، وقيل لما سيق له وجوب على المستدرك فليس من الحائض بقضاء حقيقة ، لأنه لم يفتها بعد وجوبه ، والله أعلم .
(والإعادة) لغة : الإرجاع . واصطلاحاً :(ما فعل في وقت الأداء) خرج القضاء والنوافل المطلقة (ثانياً) خرج الأداء إذا كان الفعل (لخلل في الأول) خرج ما يفعل لا لخلل كإعادة ما صلاة منفرداً لفضيلة الجماعة ، وقيل : بل هي ما فعل فيه ثانياً لعذر أعم من أن يكون ذلك العذر خللاً ، أو لا فيدخل ما أعيد لفضيلة الجماعة ،
والحاصل أن الفعل لا يقدم على وقته ، فإن فعل فيه فأداء أو إعادة وبعده قضاء . أما الزكاة المعجلة فإنما قدمت على وقتها ؛ لأنه قد جعل النصاب - الذي هو سببها - قائماً مقامه ، وجعل وقتها بذلك موسعاً .
فإن قيل : قد تقدم أن الزكاة لا وقت لها ، وأنها من الواجب المطلق .أجيب : بأن إطلاق التأقيت عليها تجوز بقرينة أنهم لا يسمون ما أدي بعد الحول والحصاد قضاء ، والله أعلم .
__________
(1) ـ لأن شهود الشهر المستفاد من قوله تعالى ?فمن شهد منكم الشهر فليصمه?موجب عند انتفاء العذر لا مطلقاً ، ووجوب القضاء إنما يتوقف على سبب الوجوب ، وهو ههنا شهود الشهر وقد تحقق ، لا على وجوب الأداء ، وإلا لم يجب قضاء الظهر - مثلاً - على من نام جميع وقتها لعدم تحقق وجوب الأداء عليه لغفلته إهـ .

(1/44)


واعلم أن من العبادات ما يوصف بالأداء ، والقضاء ، والإعادة ، كالصلوات الخمس ، وما يوصف بالأداء والقضاء كصوم شهر رمضان ، والنذر المعين ، وما يوصف بالأداء فقط (1) كالحج (2) وما يوصف بالأداء مرتين كصلاة المتيمم لعدم الماء ثم وجده وفي الوقت بقية تسعها ، أو ركعة منها ، وما يوصف بالقضاء فقط كصوم الحائض ، وما يجب قضاؤه ولو أدي كفاسد الحج ، وإن كان إطلاق القضاء عليه تجوزاً(3)من حيث المشابهة للمقضي في الاستدراك . وذكر بعض الشراح أن من أوصى فحجج عنه وصيه بعد الموت أنه يكوّن قضاء ، لأنه بعد وقته وهو قوي ، وما لا يوصف بشيءٍ كالواجبات ، والنوافل المطلقة ، فعلم أن حصر بعض العلماء للعبادات في الثلاثة ليس بصحيح (4) ، والله أعلم .
__________
(1) ـ يعني لا بالقضاء إذ سياق الكلام يفيده ، وأما الإعادة فيوصف بعض أركان الحج وأبعاضه بها وكذا صلاة الجمعة توصف بالإعادة ، وقد يقال : أما في نفل الحج إذا فسد فقضاء حقيقة كما ذكره أصحابنا ، وكذا إذا كان نذرا معينا ففسد فإنه قضاء حقيقة والله أعلم تمت حاشية غاية
(2) ـ وأما تمثيل ما يوصف بالأداء فقط بالجمعة ففيه أنه يمكن أن تفسد ووقتها باقٍ فتعاد ، فتوصف بالإعادة... إلخ ، وقد أطلق أهل الفروع الإعادة و القضاء على الحج في قوله : وقضاء زوجه... إلخ ، ويعيده من ارتد فأسلم... إلخ ،. وكذا تمثيل ما يوضف بالأداء دون القضاء بصلوة العيد والجمعة غير مستقيم أيضاً في العيد ، إذ تقضى في ثانيه فقط إن تركت لليس فقط والله أعلم تمت منه
(3) ـ أي من حيث أنه فعل في وقته المقدر له تمت
(4) ـ كذا ذكره في الهداية . قلت : وفي التنظير نظر فإن حصره للعبادة في الثلاثة صحيح ؛ لأن المراد أن العبادة تتصف بالثلاثة وإن كان بعضها لا يتصف إلا بالأداء وبعضها بها أجمع فتامل والله أعلم تمت منه

(1/45)


(والرخصة) لغة : التسهيل والتيسير . قال الجوهري : الرخصة في الأمر خلاف التشديد فيه ، ومن ذلك رخص السعر إذا تيسر وسهل . واصطلاحاً :(ما شرع) فعل أو ترك شرعه الله للمكلف إشارة إلى أن الترخيص لا بد له من دليل وإلا لم يكن مشروعاً ؛ بل المشروع غيره ، وهو ما دل عليه الدليل (لعذر) يطرأ عليه ، فيخرج الحكم ابتداءً ؛ لأنه مشروع لا لعذر ، ووجوب الإطعام في كفارة الظهار عند عدم إمكان الرقبة والصوم فإنه الواجب ابتداءً (مع بقاء مقتضي التحريم) للفعل أو الترك - أي مع بقاء دليله - معمولاً به ، فيخرج ما نسخ وجوبه أو تحريمه ، لأن مقتضيه غير باقٍ معمولاً به ، وكذا ما خص من عموم دليل الوجوب أو التحريم ؛ لأن التخصيص مبين أن العام لم يتناوله حقيقة ؛ بل ظاهراً ، فهو كالحكم ابتداءً .
واعترض بتحريم الصلاة والصوم على الحائض ، فإنه يصدق عليه تعريف الرخصة وليس منها فلا يكون مانعاً .
وأجيب : بأن الحيض لا يسمى عذراً ، فإن العذر الذي شرعت لأجله الرخصة إمَّا دفع تلف ، أو مشقة ، أو حاجة ، وترك الحائض للصلاة لا يدفع شيئاً من ذلك ، ولأن الرخصة عبارة عن الحكم المبني على أعذار العباد ، والحيض مانع شرعي وليس بعذر ،

(1/46)


والرخصة قد تكون واجبة كأكل الميتة للمضطر ، ومندوبة كصوم المسافر إن لم يضره الصوم ، ومكروهة كإفطار المسافر (1)إن استوى عند الأمران ، ومباحة كالعرايا والسلم ، وسببها قد يكون كذلك (2)ومحظوراً وفعلاً لله تعالى وللعبد كسفر حج الفرض ، أو النفل (3) ، أو التجارة ، أو حرب الإمام ، وتسويغ (4) من غص بطحال الخمر ؛ حيث لم يجد غيره ، وكالمرض (5) .
(والعزيمة) لغة : الجد في الأمر والقطع عليه . واصطلاحاً :(بخلافها) أي الرخصة فهي ما شرع من الفعل أو الترك لا لعذر مع بقاء مقتضى التحريم للفعل أو الترك ، وذلك ظاهر ، ولا ينحصر الحكم في الرخصة والعزيمة (6) ؛ إذ لا يدخل المندوب والمباح والمكروه في العزيمة ، لأن العزيمة هي الفريضة ، ولذا قال في القاموس عزائم الله فرائضه التي أوجبها . انتهى .
(الباب الثاني)
من أبواب الكتاب يتضمن القول (في الأدلة) والأمارات وشروطهما ، وكيفية الأخذ بهما ،
وإنما قدمها على ما بعدها ، لأن ما بعدها نظر فيما يتعلق بها ، ويتعذر النظر في المتعلق بالشيء مع الجهل به .
__________
(1) ـ و مثل به للمباح منها ، ذكره الشيخ لطف الله ، وفيه ما لا يخفى والله أعلم تمت منه .
(2) ـ أي واجباً ، ومندوباً ، ومكروهاً ، ومباحاً تمت منه
(3) ـ أي وكسفر النفل وسفر التجارة ، وسفر حرب الإمام تمت
(4) ـ أي التسويغ في الخمر سببه مكروه وهو أكل الطحال تمت
(5) ـ هذا مثال ما كان فعلا لله تمت
(6) ـ خلافاً للقرشي والسبكي ، وتقرر أن الخلاف لفظي ، وأن من قال بانحصاره فيها أراد المجموع من حيث هو ، ومن قال بعدمه نظر إلى عدم دخول المندوب والمباح والمكروه في العزيمة ،. إلا أن ما نقله أبو زرعة في شرح الجمع عن البيضاوي والسبكي يأبى ما قلنا من التلفيق والله أعلم تمت منه

(1/47)


(الدليل) لغة : فعيل ، بمعنى فاعل من الدلالة ، ويطلق على المرشد - وهو الناصب - لما يرشد به ، والذاكر له ، وعلى ما به الإِرشاد . وفي اصطلاح الأصوليين : (ما يمكن التوصل بصحيح النظر فيه) وهو الفكر المطلوب به علم أو ظن ، لكن المراد هنا الموصل (إلى العلم) بالغير وهو المدلول ، ذكر الإمكان لإدخال مالم ينظر فيه فإن الدليل لا يخرج عن كونه دليلا بأن لا ينظر فيه أصلاً وذكر الصحيح - وهو المشتمل - على شرائطه مادة وصورة لإِخراج الفاسد ؛ لأنه لا يمكن التوصل به إلى العلم ، إذ ليس هو في نفسه سبباً للتوصل ، ولا آلة له ، وإن أفضى إليه نادراً فاتفاقي بواسطة اعتقاد كما إذا نظر في العالم من حيث البساطة ، وفي النار من حيث التسخين ، فإن البساطة والتسخين ليس من شأنهما أن ينتقل بهما إلى وجود الصانع والدخان ، ولكن يؤدي إلى وجودهما هذا النظر ممَّن اعتقد أن العلم بسيط ، وكل بسيط له صانع وممَّن اعتقد أن كل مسخن له دخان (1)
(وأمَّا ما يحصل عنده الظن) بالغير (فأمارة) أي فهو المسمى بالإمارة لا بالدليل ، وإنما قال : يحصل دون يلزم تنبيهاً على أنه ليس بين الظن وبين شيءٍ ربط عقلي لانتفائه مع بقاء سببه ، كما إذا رئي سحاب فظن حصول المطر فلم يمطر فزال الظن مع بقاء السحاب .
(ويسمى) ما يحصل عنده الظن (دليلاً توسعاً) اي تجوزاً ، ومنهم من لم يفرق بينهما ويقول في حقيقتهما ما يمكن التوصل بصحيح النظر فيه إلى مطلوب خبري
__________
(1) ـ هذا مثال ما مادته فاسدة ، وأمَّا فساد الصورة فبأن لا تكمل فيه شرائط المقدمتين ، مثلاً : يشترط في الشكل الأول بحسب الكيف - إيجاب الصغرى - ، وبحسب الكم - كلية الكبرى - ، فاختلال أحدهما فساد صوري إهـ

(1/48)


(والعلم )المذكور في حد الدليل ، فاللام للعهد الذكري ، فيكون المراد به علم المكلف ، لأنه المتصف بكونه بواسطة دون علم الباري تعالى فإنه واجب لذاته لا يتصف بواسطة ، ولقرينة اقترانه بما لا يجوز إطلاقه على الباري تعالى من قسمته إلى ضروري واستدلالي ، ومن نحو الظن ، ثم إن أخذ قيد مجهول في حد ثم تعريفه بعد قاعدة جرى عليها الجمهور كالمصنف ، وابن الحاجب في كافيته ،
والقياس : تعريف العلم - مثلاً - ثم الدليل لئلا يكون تعريفاً بالمجهول ، والله أعلم . (هو المعنى) يشمل المعاني اعتقاداً كانت أو غيره (المقتضي لسكون النفس إلى أن متعلقه كما اعتقده) مع تطابقهما في نفس الأمر ، فيخرج الجهل [*] والتبخيت ، والتقليد ؛ حيث يطابقان معتقديهما ، وحيث لا يطابقانه ، والتبخيت : اعتقاد الشيء هجوماً وخبطاً لا لأمر . وسيأتي حقيقة التقليد إن شاء الله تعالى
[ تقسيم العلم ]
(وهو نوعان) تصوري وتصديقي ، وكل منهما إمَّا (ضروي) منسوب إلى ضرورة العقل يحصل بلا نظر (و) إمَّا (استدلالي) منسوب إلى الاستدلال (1)لا يحصل إِلاَّ به ، وهذه القسمة بديهية لا يحتاج فيها إلى تجشم الاستدلال كما ارتكبه بعض ، وذلك أنَّا إذا رجعنا إلى وجداننا وجدنا من التصورات ما هو حاصل لنا بلا نظر ، كتصور الحرارة والبرودة ، وما هو حاصل به كتصور جقيقة الملك والجن ومن التصديقات ما هو حاصل لنا بلا نظر كالتصديق بأن الشمس مشرقة والنار محرقة ، وما هو حاصل بالنظر كالتصديق بأن العالم حادث ، والصانع موجود ،
__________
(1) ـ قلت : قال بعض الشراح : وغيره إن الأول من فعل الله ، والثاني من فعلنا ، وفيه أنه لا يخلوا إمَّا أن يريد نفس العلم أي الكيفية الحاصلة عند العقل منهما جميعا من فعلنا ، وإما أن يريد أسبابهما وكثير من أسباب الضروري متو قف على فعلنا واختيارنا ألا ترى ان الاستدلالي قد ينتهي إلى الضرورة تمت منه

(1/49)


(فالضروري) منه (ما لا ينتفي) عن النفس (بشك) إذلا يمكن طروه عليه ، ولا مزاحمته له ، (ولا) بسببه - أي (شبهة) - وهو الواقع لا بواسطة نظر كالعلم الواقع بإحدى الحواس ، والواقع بالتواتر كعلمنا ببغداد والبصرة ، فإنَّا نقطع بوجودهما وإن لم نشاهدهما ، ومنه الوجداني وهو ما لا يفتقر إلى عقل كالمتعلق بالجوع والألم ، ولهذا تدركهما البهائم ،ومنه ما هو أولي يحكم العقل بمجرد تصور طرفيه كقولنا الواحد نصف الاثنين ، والكل أعظم من الجزء ، والسواد والبياض لا يجتمعان ، ومنه التجربي وهو ما يحصل في العادة بتكرر الترتيب من غير علاقة عقلية كالعلم بإسكار المسكر ، وإسهال الصفراء بالسقمونيا (1) .
(والاستدلالي مقابله) فهو الذي ينتفي بالشك أو سببه لضرورة زوال الضد عند طرو ضده (2) ولما ذكر العلم أخذ يُبِيِّن لواحقه ، فقال :
__________
(1) ـ هو السنا والعسل تمت
(2) ـ وما يكثر في لسان الفقهاء من أن اليقين لا يرفع بالظن ، ولا يرفعان بالشك ، وهو فرع اجتماع أنواع الاعتقاد ، فمعناه : أن حكم الأول الأقوى لا يزول بحكم الثاني الأضعف بجعل الشارع حكم الضد الزائل باقياً ، مثل صحة الصلاة مع زوال ظن الطهارة بالشك في الحديث تمت منه

(1/50)


(والظن تجويز)(1) مصدر يحتزر به عن العلم فيها أجمع ، وفيه أنه عبارة عن مجموع المتقابلين الراجح والمرجوح ، أو المتساويين ، فلا يصح وصفه من حيث مجموعهما بما لأحدهما ، وإن جعل بمعنى المُجوز كان هو المظنون والموهوم والمشكوك ، لا الظن والوهم والشك . (راجح) يحترز به عن الشك والوهم (والوهم) مقابله ، فهو (تجويز مرجوح والشك تعادل التجويزين) ،
والفرق بين الشك والتجويز : أن الشك ما تعارض أمارتان فيه . والتجويز ليس لأجل تعارض الأمارتين ؛ بل لتيقن أن بديهة العقل لا تحيل ثبوت المجوز ، ولا نفيه ، ولا أمارة ترجح أحد الجانبين ، ولا أمارتين متعارضتين .
(والاعتقاد هو الجزم بالشيء) خرج الظن والوهم والشك (من دون سكون النفس) ، وبه خرج العلم .
وافهم أن العلم لا يطلق عليه الاعتقاد ، وقد سبق في حده ما يخالفه ، حيث قال كما اعقتده ، وأن اعتقاد الجاهل بدون(2)سكون النفس لاضطرابه بمعارضة المشكوك . وذهب الجاحظ ، والسيد حميدان ، والإِمام المنصور بالله (عليه السلام) في الأساس إلى أنه قد يسكن خاطره بحيث لا يخطر بباله أن أحداً أعلم منه ،
__________
(1) ـ واعلم أن الظن حقيقته الاعتقاد الراجح ولكن التجويز لازمه فيكون المصنف قد عرفه باللازم فيكون رسما لا حدا فلا اعتراض عليه ووصفه بالراجح والمرجوح لا من حيث هو مجموع المتقابلين بل من حيث متعلقه وهو الاعتقاد والتجويز عبارة عن الحكم بإمكان ثبوت الشيء ونفيه من دون نظر إلى الترجيح تمت والله أعلم
(2) ـ خبرأن

(1/51)


(فإن طابق) ذلك ما في نفس الأمر (فصحيح) سواءً كان عن نظر ، أو تقليد ، أو تبخيت ، (وإِلاَّ) يطابق ذلك الاعتقاد ما في نفس الأمر (ففاسد) كذلك ، (وهو) أي الاعتقاد الفاسد (الجهل) المركب ، لأنه جهل بما في الواقع مع الجهل بأنه جاهل ، (وقد يطلق) أي (الجهل على عدم العلم) بالشيء ، وهو البسيط والسهو ، ويرادفه الذهول زوال الصورة الحاصلة للنفس عنها بحيث يتمكن من ملاحظتها من غير تجشم إدراك جديد ، لكونها محفوظة في خزانتها ، والنسيان زوال الصورة عنها بحيث لا يتمكن من ملاحظتها إلا بتجشم إدراك جديد لزوالها عن خزانتها
ولما فرغ من بيان الأحكام وتوابعها ، والعلم وتوابعه ، أخذ في بيان ما يفيهدهما ، فقال:
(فصل)
هو لغة : الحاجز . وعرفاً : اسم لجملة من مسائل الباب بينهما مناسبة ، ثم هو بالرفع خبر مبتدأ محذوف - أي هذا فصل - ، أو مبتدأ حذفت صفته عند موجب التخصيص للنكرة وخبره - أي فصل - معقود كائن في باقي الباب .
قيل : ويجوز أن يقرأ بالنصب على أنه مفعول لمحذوف ، وعدم رسم الألف ؛ حينئذٍ جار على لغة من يقف على المنصوب المنوَّن بالسكون ، والله أعلم .
[ الأدلة الشرعية]
(والأدلة) قد عرفت أنها موضوع الفن الذي لا يبحث الأصولي إِلاَّ عن أحوالها من إثبات كونها أدلةً ، وكون معناها موجباً أو محرماً ، أو أمراً أو نيهاً ، منطوقاً أو مفهوماً ، أو نحو ذلك ، وتقسيمه إلى أنواعه .و (الشرعية) عند الأكثر أربعة :
(الكتاب) العزيز
(والسنَّة) النبوية على صاحبها أفضل الصلاة والسلام وعلى آله
(والإجماع) من أهل البيت (عليهم السلام) أو من الأُمَّة

(1/52)


(والقياس) ووجه الانحصار أن يقال الدليل إمَّا متلو أو لا الأول الكتاب ، والثاني إمَّا أن يصدر من النبي أو لا الأول السنَّة ، والثاني إمَّا أن يصدر عن جميع الأُمَّة أو العترة أو لا الأول الأجماع ، والثاني إن كان إلحاق فرع بأصل لمشاركته في علته فالقياس ، والمراد بالمذكورات ما جمع شروط صحة الاستدلال من عدم الإجمال والنسخ ، والتخصيص والمعارض ، ونحو ذلك من شروط الأخبار ، والإجماع ، والقياس ، فاللام في كل منها للجنس لا للاستغراق ، وهذا الحصر يهدم ما بناه فيهما يأتي إن شاء الله تعالى من أنه يجب علينا الأخذ بشرع من قبلنا إلخ [*]
(فالكتاب : هو) في الأصل مصدر ، والمراد به هنا المكتوب كاللفظ بمعنى الملفوظ ، واشتقاقه من الكتب - وهو الضم والجمع - ؛ إذ هو حروف وكلمات ، ومسائل مضمومة مجموعة ، ومن ثَمَّ سُميت الجماعة كتيبة لاجتماعها ، قال :
بهن فلول من قراع الكتائب

ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم

غلب على كتاب الله تعالى من بين الكتب في عرف أهل الشرع ، كما غلب على كتاب سيبويه في عرف أهل العربية
و(القرآن) يطلق على الحكاية والمحكي ، وسُمي قرآناً إمَّا لجمعه سوراً وآيات من قولهم : قرأتُ الماء في الحوض إذا جمعتَه فيه ، وقرأت الناقة لنبها إذا جمعته . وإمَّا من القِرى ، لأنه مائدة الله تعالى التي يدعوا عباده إليها ، ومن أسمائه الفُرقان ؛ لأنه يفرق بين الحق والباطل ، والحلال والحرام ، وأحكام الشريعة ، وبين ثبوت نبوة محمَّد ونبوة غيره من الأنبياء (عليهم السلام) ومنها الذكر(1)والنور(2) والرُّوح(3) والهُدى (4)والبُرهان (5)
__________
(1) ـ ? إنا نحن نزلنا الذكر ?
(2) ـ ?نورا يهدي به الله من اتبع رضوانه?
(3) ـ ?روحا من أمرنا?
(4) ـ ? وبينات من الهدى والفرقان?
(5) ـ ?قد جاءكم برهان من ربكم?

(1/53)


وحقيقته : هو الكلام (المنزل على نبيئنا محمَّد للإعجاز) أي لإرادة ظهور عجز الأُمَّة عن الإتيان بمثله ، أو الحكم به فيؤمنوا به فتخبت له قلوبهم ، خرج الكلام الذي لم ينزل كالمكتوب في اللوح المحفوظ على القول بأنه حقيقة ، وما نزل على غير نبيئنا محمَّد ، وما نزل لا للإعجاز مطلقاً (بسورة) أي بقدرها ، وفائدته دفع إيهام العبارة بدونه أن الإعجاز بكل القرآن فقط ،
والمراد بالسورة بعض من الكلام المنزل ، مترجم أوله وآخره توقيفا ً (1)مُسمى باسم خاص يتضمن آيات قرآناً كان أو غيره ، فيندفع ما قيل أن معرفة السورة موقوفة على معرفته فيدور .
قال في الكشاف : ومن سور الإِنجيل سورة الأمثال . ولذا وصفها المصنف بقوله :(منه) أي من مثله في البلاغة بحذف مضاف لقرينة [*] ?فليأتوا بحديث مثله? ، وظهور أن ليس المراد بسورة من سوره المعروفة وإِلاَّ لزم أن لا يكون معجزاً ، أمَّا على تقدير حكايتها فظاهر ، وأمَّا على تقدير المعارضة بعينها فلاستحالة قيامها من حيث هي كلامه تعالى بغيره ، ولزوم أن يكون كل فعل معجزاً لغير فاعله ، ولو قال :(ما نزل للإِعجاز) لكان أخصر وأفيد وهو (2) أمر من جنس البلاغة كما يجده أرباب الذوق في الأصح ، وهو إمَّا ذاتي لحقيقة القرآن ، أو لازم بَيِّن لها ؛ لأن من تعقل القرآن وعرف حقيقته مع الإِعجاز علم لزوم الإِعجاز له قطعاً ؛ بل من تعقله على ما ينبغي علم أنه معجز ، فأقل أحوال الإعجاز أن يكون لازماً بيناً له إمَّا بالمعنى الأخص : وهو أن يكون مجرد تعقل الملزوم كافياً في تعقل اللازم . أو بالمعنى الأعم : وهو أن يكون تعقل الملزوم واللازم كافياً في الجزم باللزوم .
__________
(1) ـ أي إعلاماً من الله تعالى ، وقوله :(مُسمى باسم خاص) لإخراج الآية غير آية الكرسي فما بعده لإخراجها فيندفع الاعتراض بها تمت منه
(2) ـ أي الاعجاز تمت

(1/54)


وعدم تعقل الإعجاز بعد تعقل حقيقة القرآن ، كما هو شأن عوام المؤمنين ، لا يقتضي أن لا يكون بيناً فاندفع ما قيل أن كونه للإعجاز ليس لازماً بيناً فضلاً عن أن يكون ذاتياً ، وقدمه لأنه أصل سائرها ، والسنة على الإجماع لأنها أصل له ، والإجماع على القياس لسلامته عن الخطأ .
[شرط القرآن]
(وشرطه) أي ألفاظ القرآن وهيئته كالمد والإمالة . (التواتر) وقد تواتر هذا الموجود بأيدي الأُمَّة من غير زيادة ولا نقصان عما في العرضة الأخيرة إجماعاً (1)(فما نقل) حال كونه (آحاداً فليس بقرآن) قطعاً (للقطع بأن العادة تقضي بالتواتر في تفاصيل مثله) لأنه ممَّا تتوفر الدواعي على نقله لما تضمن من التحدي والإعجاز ، وبهذا الطريق علم أن القرآن لم يعارض ، وأنه محفوظ من الزيادة والنقصان والتحريف - أي تبديل - حرف لفظ بلفظ آخر ، ولا يجوز فيه شيءٌ من ذلك ؛ إذ في تجويزه هدم للدِّيْن ، ويلزم أن لا نثق بشيءٍ منه لجواز التبديل والزيادة ، ونقصان الناسخ ، وبقاء المنسوخ ، وأيضاً قال تعالى ?إنَّا نحن نزلنا الذكر وإنَّا له لحافظون?[9الحجر] فتولى تعالى حفظه ، وما تولى تعالى حفظه حقيق بأن لا يغير .
__________
(1) ـ قال في الاتقان : أخرج ابن أبي شيبة عن ابن سيرين قال : كان جبريل يعارض النبي كل سنة في شهر رمضان ، فلما كان العام الذي قبض فيه عارضه مرتين ، فيرون أن تكون قرائتنا هذه على العرضة الأخيرة . قال البغوي في شرح السنَّة : يقال أن زيد بن ثابت شهد العرضة الأخيرة التي بَيَّن فيها ما نسخ ، وما بقي ، وكتبها لرسول الله ، وكان يقري الناس بها حتى مات تمت منه

(1/55)


وجه الاستدلال بالآية أن المراد إمَّا حفظه عن النسيان ، أو عن الزيادة والنقصان والتبديل ، والأول باطل ؛ إذ المعلوم أنه قد ينساه بعض من حفظه فتعين الثاني ؛ إذ لو جوزنا شيئاً من تلك الأمور لكان غير محفوظ ، وهو خلاف صريح الآية الكريمة ، وبما ذكرنا(1)علم بطلان قول الإمامة أن فيه زيادة ونقصاناً ، وأن سورة الأحزاب كانت وقر بعير ، وإنما تعرف زيادته ونقصانه من أئمتهم ،
(و) متى قيل فما حكم هذا المنقول آحاداً في التلاوة والعمل ؟ قلنا : أمَّا التلاوة فإنها (تحرم القراءة بالشواذ) الآحادية مع اعتقادها قرآنا ، لأنها ليست قرآناً لما عرفت (وهي) أي الشواذ (ما عدا القرآت السبع) التي هي : قراءة نافع ، وأبي عمرو ، والكسائي ، وحمزة ، وابن عامر ، وابن كثير ، وعاصم ، فهذه متواترة من النبي إليهم ، ومنهم إلينا ، فإن من بحث وجد رواتها بالغة حد التواتر جوهراً وهيئة
__________
(1) ـ من الإجماع على أنه لا نقصان عمَّا في العرضة الأخيرة ، وأنه محفوظوالله أعلم تمت منه

(1/56)


ومعتمد أئمتنا(عليهم السلام) قراءة نافع قال الهادي (عليه السلام) : القراءة قراءة أهل المدينة ، ولم يتواتر غيرها . وقال (عليه السلام) في المجموع (1) : وفي ذلك ما حدثني به أبي عن أبيه أنه قال : قرأت مصحف أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه عند عجوز مُسنَّة من ولد الحسين بن زيد بن الحسن بن علي بن أبي طالب (عليهم السلام) فوجدته مكتوباً أجزاء بخطوط مختلفة ، في أسفل جزء منها وكتب علي بن أبي طالب ، وفي أسفل آخر وكتب سلمان الفارسي ، وفي آخر وكتب أبو ذر ، وفي آخر وكتب عمَّار بن ياسر ، وفي آخر وكتب المقداد ، كأنهم تعاونوا على كتابته . قال جدي القسم بن إبراهيم [*] : فقرأته فإذا هو هذا القرآن الذي في أيدي الناس حرفاً حرفاً ، لا يزيد حرفاً ، ولا ينقص حرفا ، غير أن مكان ?قاتلوا الذين يلونكم من الكفار? ?اقتلوا الذين يلونكم? [ التوبة 123]، وقرأت فيه المعوذتين . انتهى .
ذكر ابن خلكان ما معناه : أن هذه الشريفة(2) تقية بنت الحسين المذكور ، وهي مشهورة بالفضل والعبادة والزهد ، والكرامات المشهورة ، ومشهدها بمصر ، مشهور مزور .
ولزيد بن علي عليهما السلام قراءة مفردة (3)
[حكم العمل بالشواذ ]
__________
(1) ـ هكذا في الأم والأصوب أن يقول : في المجموعة الفاخرة تمت
(2) ـ أي العجوز المسنة آنفا تمت
(3) ـ قال في حاشية الفصول : قد صنف فيها أبو حيان كتاباً جمعها فيه ، سمَّاه التبر الجلي في قراءة زيد بن علي . ذكره ابن الجندي ، وحكى نشوان في شرح الرسالة عن السيد ط أنه قال في كتاب الدعامة في فضل زيد بن علي عليهما السلام ما لفظه : ومنها اختصاصه بعلم القرآن ووجوه القرآت تمت منه .

(1/57)


(و) أمَّا العمل بها فعند أئمتنا (عليهم السلام) ، والحنفية ، والمزني ، وأحد قولي الشافعي (هي كأخبار الآحاد في وجوب العمل بها) أي بمقتضاها ، أو ندبه ، أو تحريمه ، أو إباحته ، أو كراهته في الفروع ، وتحريمه في الأصول ، وما تعم به البلوى علماً كقراءة ابن مسعود : ? فصيام ثلاثة أيام متتابعات ? [ 196 البقرة](?والسارق والسارقة فاقطعوا أيمانهما ?[83 المائدة] فيتعين التتابع وقطع اليمين ، لأن عدالة الرواي توجب القبول فيتعين كونها قرآناً ، أو خبراً آحادياً ، وقد بطل لما مر كونها قرآناً فتعين كونها خبراً آحادياً ، ولا يلزم من انتفاء خصوص قرآنيتها انتفاء عموم خبريتها ووقوع الخطأ من الرواي ، إنما هو في الوصف بالقرآنية ، وإنما يبطل العمل إذا كان في المتن لا في الوصف .
فإن قيل : فقد روي في الكشاف عن علي (عليه السلام) ، وابن عباس ، وزيد ، وابن عمرو وابن الزبير أنهم قرؤا ?أمهات نسائكم اللاتي دخلتم بهن?[23النساء] ، وكان ابن عباس يقول : والله ما نزلت إلا هكذا ، ولم يعمل بموجبها .
قلنا : إنما لم يعمل بموجبها لقوله :((من نكح امرأة ثم طلقها قبل الدخول حرمت عليه أمها ولم تحرم عليه ابنتها)) .(1)
فإن قيل : فكان ينبغي ترجيح ما روى علي (عليه السلام) وإن كثر رواي معارضه لعصمته وحجيَّة قوله عندكم .
قلت : الأمر كذلك إلا أنه رجح معارضه بكونه نصاً في المقصود ، وباحتمال أن يكون الوصف خارجاً مخرج الغالب ، أو جواب سؤال ، أو حادثة متجددة ، وقرينة ذلك ترجيح أكثر أهل البيت (عليهم السلام) وهم أعرف مراده ، والله أعلم .
__________
(1) ـ أخرجه بلفظه الأمير الحسين في الشفاء . مطبوع ج2/ص158تمت وأخرجه الترمذي في سننه ج 3/ص 425/ح 1117و البيهقي في سننه الكبرى ج7/ص160/ح13689 إهـ

(1/58)


(و) من القرآن الفاتحة والمعوذتان ، وخلاف ابن مسعود في إثباتهما في المصحف لا في كونهما قرآنا فأمَّا (البسملة) فليست آية في التوبة اتفاقاً ، وهي بعض آية من سورة النمل اتفاقاً ، و(آية من أول كل سورة على الصحيح) من المذاهب ، وهو مذهب جمهور السلف ، والشافعية ، وابن كثير قاري مكَّة ، وقالون اثبت قراءة المدينة ، وعاصم والكسائي من قرآء الكوفة لإجماع العترة من آل محمَّد ، والاتفاق على إثباتها في أوائل السور غير التوبة خطًّا في المصحف(1)ولما روي في الأحكام عنه أنه قال :((كل صلاة لا يجهر فيها بـ?بسم الله الرحمن الرحيم?فهي آية اختلسها الشيطان)) والآيات تخص بالقرآن
وهي في أمالي أحمد بن عيسى عليهما السلام بإسناده إلى جعفر بن محمَّد عن آبائه (عليهم السلام) عن علي عليه السلام أنه قال : آية من كتاب الله تركها الناس ?بسم الله الرحمن الرحيم?
وأخرج ابن خزيمة والبيهقي في المعرفة بسند صحيح من طريق سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : استرق الشيطان من الناس أعظم آية من القرآن ?بسم الله الرحمن الرحيم?
والبيهقي في الشعب ، وابن مردويه بسند حسن من طريق مجاهد عن ابن عباس قال : أغفل الناس آية من كتاب الله عز وجل لم تنزل على أحد سوى النبي إلا أن يكون سليمان بن داود ?بسم الله الرحمن الرحيم?
والدار قطني والطبراني في الأوسط عن بريدة قال : قال رسول الله :((لا أخرج من المسجد حتى أخبرك بآية لم تنزل على نبي بعد سليمان غيري ، ثم قال : بأي شيءٍ تفتتح القرآن إذا افتتحت الصلاة ؟ قلت : ?بسم الله الرحمن الرحيم?قال : هي ، هي)) .
__________
(1) ـ وأمَّا كتابة أسماء السور وأعداد الآي ، والكلمات ، والحروف ، فلم يكن في زمن جمع القرآن وكتابة المصاحف ، وإنما هي حادثة ابتدعها المتأخرون ، ووقفت على مصحف في مسجد الشهيدين بصنعاء بخط كوفي يروى أنه من عهد الصحابة غير مرسوم فيه ذلك إهـ

(1/59)


وأخرج الواحدي بالإسناد إلى عكرمة والحسن قال : أول ما نزل من القرآن ?بسم الله الرحمن الرحيم? أول سورة اقرأ باسم ربَّك الذي خلق . والواحدي عن نافع عن ابن عمر قال : نزلت ?بسم الله الرحمن الرحيم? في كل سورة .
وروى عن عبد الله ابن المبارك أنه قال : من تركها فقد ترك مائة وثلاثة عشرة آية . وغير ذلك من الأخبار (1)الصحيحة الصريحة .
فإن قيل : فما وجه ما روي عن أبي هريرة أن النبي قال في سورة الملك أنها ثلاثون آية ، وفي سورة الكوثر أنها ثلاث آيات ، مع أن العدد الحاصل بدونها ؟
فقد أجيب : بأنه أراد ما هو خاصة السورتين ، فإن البسملة كالشيء المشترك فيه بين السور ، ثم إن سلم رجحت أخبارنا بما تقدم ، والله سبحانه أعلم
[ المحكم والمتشابه ]
(وا) علم أن في القرآن محكماً ومتشابهاً قال تعالى ?منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات?[ آل عمران آية 7] أي المحكمات أصل الكتاب ، بمعنى أن المتشابه يرد إليها ،
__________
(1) ـ نحو ما رواه الشافعي عن أم سلمة أنها قالت : قرأ رسول الله فاتحة الكتاب فعد ?بسم الله الرحمن الرحيم? آية ، ?الحمد لله ربِّ العالمين? آية ، ?الرحمن الرحيم?ؤ آية ، ?ملك يوم الدِّيْن?ؤ آية ، ?إيَّاك نعبد وإيَّاك نستعين? آية ، ?اهدنا الصراط المستقيم? آية ، ?صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين آية تمت منه

(1/60)


فا(لمحكم) لغة : المتقن ؛ لأن الإحكام الإتقان فالقرآن بهذا المعنى كله محكم لإتقانه في حسن نظمه وترتيبه وفي البلاغة ،قال تعالى ?كتاب أحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خيبر?[هود آية 1] ، وعليه يحمل القول بأنه محكم كله . واصطلاحاً :(ما اتضح معناه) فلم يخف سواءً كان نصاً جلياًكقوله تعالى ?ولا تقربوا الزنى?[الإسرى 32]، أو ظاهراً كدلالة العموم في رأي ، أو مفهوماً كدلالة ?فلا تقل لهما أف?[ الإسرى23] على تحريم الضرب ، ومنه في الأظهر ما قرينته ضرورية مستندة إلى العقل بلا واسطة نحو ?تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا?[الأحقاف25] أو جليه نحو ?واسأل القرية ?[الأعراف/163 ]
(والمتشابهة) لغة : ما يشبه بعضه بعضاً ، وبهذا المعنى يكون القرآن كله متشابهاً ، لأنه يشبه بعضه بعضاً في البلاغة والإتقان ، وفي تصديق بعضه بعضاً ، قال تعالى ?اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا?[ الزمر23] ، وعليه يحمل القول بأنه متشابه كله . واصطلاحاً : (مقابلة) أي المحكم ، فهو ما خفي معناه ، وذلك لأنه تعالى أوقع المتشابه مقابلاً للمحكم ، فيجب أن يفسر بما يقابله كالآيات التي يخالف ظاهرها مقتضى العقل ويطابق القول بالجبر والتشبيه نحو قوله تعالى : ?أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا?[الإسرى16]? وَمَكَرَ اللَّهُ?[آل عمران54]? اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ?[البقرة15] ويعلم تأويله الراسخ الثابت العقيدة لظهور واو الآية في العطف ، ولا يلزم منه أن يقول تعالى: ?آمنا به? [آل عمران 7] لقرينة العقل وعدم لزوم اشتراك المتعاطفين في جميع الأحكام كما في ?ويعقوب نافلة?[الأنبياء72] فنافلة حال من يعقوب فقط ، [*] .

(1/61)


وفائدة وروده (1) في الكتاب العزيز الحث(2)على النظر وترك التقليد ؛ إذ لو ورد كله محكماً لما احتاج إلى كلفة وزيادة الثواب بمشقته ، إذ هو على قدرها مع اعتبار الموقع ، وزيادة الحيطة والضبط ، فإن الحاصل بعد الطلب أعز من المنساق بلا تعب ، وإرادة إصغاء الكفار إلى سماعه حتى يحصل لهم البيان ، وتلزمهم الحُجَّة لله تعالى ، لأنهم لما سمعوا المحكم أعرضوا عن سماعه كما حكى الله تعالى عنهم بقوله ?وقال الذين كفروا لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه? [فصلت 26]فأنزل الله تعالى المتشابه فأصغوا إلى سماعه طلباً للطعن فيه فلم يجدوا ، فلزمتهم الحُجَّة عند ذلك .
[شروط الإستدلال بالكتاب]
واعلم ؛ أن للاستدلال بالكتاب العزيز في الجملة شروطاً :(3)
أحدهما : أن يعلم المستدل أن الخطاب له لا يقع على وجه يقبح كالإخبار بالكذب ، والأمر بالقبيح ، والنهي عن الحسن ، لأن تجويز ذلك يسد باب الثقة بخطابة .
__________
(1) ـ أي المتشابه تمت
(2) ـ إشارة إلى جواب سؤال أورده الملاحدة والمجبرة ، وهو : أن قالوا: كتاب الله عندكم مشتمل على المحكم والمتشابه فلو كان صانعا العالم عدلا لما أورد فيه المتشابه لأنه كالتعمية على العباد ، ثم افترقوا ، فقالت الملحدة : ليس ليس إلا أته لا صانع للعالم ، وقالت المجبرة ليس إلا أنه يصدر منه القبيح ، ولا يقبح منه ! والجواب على الفريقين أن الدلالة قد قامت على ثبوته تعالى ، وعلى أنه عدل حكيم فقطعنا أنه لا يصدر ذلك إلا لمصلحة علمها ، وأيضا فإن في إيراده زيادة الحث .. إلخ ذكرمعناه الشيخ لطف الله رحمه الله تعالى في حواشي الفصول . تمت منه
(3) ـ أمَّا شروطها التفصيلية فقد تقدم إشارة إلى شيءٍ منها ، وستأتي بقيتها في محالها إن شاء الله تعالى .

(1/62)


(و) ثانيها : أن يعلم أنه (ليس في القرآن ما لا معنى له) ؛ بل كل لفظ من ألفاظه له معنى ، ومعانيه إمَّا حقيقية ، أو مجازية لغوية ، أو شرعية ، أو عرفية ، وتصح معرفتها لكل أحد من المكلفين ، وإلا كان هذياناً وانتقض الغرض بالخطاب - أعني فهم المعنى - وصار كخطاب العربي بالعجمية التي لا يمكنه تفهمها ، وذلك لا يليق بالحكيم تعالى (خلافاً للحشوية) - بفتح الشين - نسبة إلى الحشا ؛ لأنهم كانوا يجلسون أمام الحسن البصري في حلقته فوجد كلامهم ردياً ، فقال : ردوا هؤلاء إلى حشا الحلقة - أي جانبها - ، والجانب يسمى حشا ، ومنه الأحشاء لجوانب البطن ، وقيل بإسكانها ، لأن منهم المجسمة ، والجسم محشو ، وقيل لكثر روايتهم الأخبار وقبولهم لما ورد عليهم من غير إنكار ، فكأنهم منسوبون إلى حشو الكلام
فقالوا إن فيه المهمل ، محتجين بما ورد في أوائل السور من الحروف المقطعة نحو ?ألم? ?طه? ?طسم? ،
قلنا : لها معانٍ يعرفها أولوا العلم ، ولذا اختلف المفسرون فيها على أقوال قريبة من سبعين قولاً ، ذكره البارزي : منها : أنها أسماء للسور لتعرف كل سورة بما افتتحت به . وقيل : سر بين الله تعالى وبين نبيئه . وقيل حروف مأخوذة من صفات الله تعالى كقول ابن عباس رضي الله عنهما في ?كهيعص? أن الكاف من كافٍ ، والهاء من هادٍ ، والياء من حكيم ، والعين من عليم ، والصاد من صادق . وقيل: أقسام أقسم الله بها لشرفها وفضلها ، واختاره الإمام المهدي الحسين بن القاسم عليهما السلام في تفسيره الغريب والإمام المنصور بالله القاسم بن محمد عليهم السلام ، قال : بدليل العطف عليها بمقسم بها .

(1/63)


وجوابها : إمَّا مذكور نحو ? يس والقرآن الحكيم إنَّك من المرسلين? ، وإمَّا مقدر نحو ?ق * والقرآن المجيد? ، وأيضاً فإنه خطاب أحكم الحاكمين ، فإمَّا يريد به الحفظ والتفهم ، وإمَّا أن يريد به إفهامنا ، والأول باطل فتعين الثاني ، وذلك لا يكون إلا بما له معنى يعقل فثبت أن خطاب الحكيم لا بد وأن يكون له معنى ، فلذا قال تعالى :?أفلا يتدبرون القرآن?[ النساء 82 محمد 24]
(و) ثالثها : أن يعلم أنه (لا) يوجد فيه (ما المراد به خلاف ظاهره من دون دليل) يدل عليه وقت حاجة المكلف (1)فأما مع الدليل فذلك كثير كما في فصيام ثلاثة أيام ، فالمراد غير ظاهره من الإطلاق - وهو التتابع - لقراءة ابن مسعود : متتابعات ، وما بمعنى شيءٍ ، والمراد بدل أو نعت على الرأيين لا موصولة أي ما لعدم دخول الموصول على مثله في العربية ، ذكره ابن السراج ، وجوزه الرضي تاكيدا لفظيا (خلافاً (2) لبعض المرجئة) فيقولون في آي الوعيد أن المراد بها خلاف ظاهرها من دون دليل كذلك يجوزون شرطاً أو استثناءً مضمراً لا دلالة عليه ، كقوله تعالى ?وإن الفجار لفي جحيم?[ الانفطار ]
__________
(1) ـ إشارة إلى أن هذا مطلق مقيد بما سيأتي من أنه يجوز تأخير البيان إلى وقت الحاجة ، والله أعلم تمت منه .
(2) ـ وذكر في الشرح الصغير خلافاً للباطنية فإنهم يقولون : أنه له معنى باطناً خلاف ظاهره من دون دليل ، وأن المراد بالبقرة عائشة ، وبالجبت والطاغوت أبو بكر وعمر ، بالأمهات العلماء . وتحريم مخالفتهم فيه ، وفيه أنه سيأتي أن هذا من التأويل المتعسف ، والتأويل يلزمه الدليل على أنا لو فرضنا ذلك قولاً لهم هنا فيما علم أنما ذكروه هو المراد فيحقق ، والله أعلم تمت منه

(1/64)


قالوا إن أراد الله تعذيبهم أو إلا أن يعفو عنهم ، أو إن كانوا كفاراً ، أو نحو ذلك . قلنا :يلزم مثل ذلك في الأمر والنهي والوعد ، فيلزمكم في قوله تعالى ?وأقيموا الصلاة?[ البقرة 43 ،83 ، 110] إن شئتم ، أو إن لم يشغلكم عنها إرب (1) وذلك انسلاخ من الدِّيْن ، وتلعب بكلام أحكم الحاكمين ، تعالى عن مقالة الظالمين .
[وجه تسمية المرجئة]
قال الجوهري والمرجئة مشتقة من الإرجاء وهو التأخير قال تعالى حاكياً : ?أرجه وأخاه?[ الأعراف 111] أي أخره ، فسُمّوا بذلك لأنهم لم يجعلوا الأعمال سبباً لوقوع العذاب ، ولا لسقوطه ؛ بل أَرْجُوْهَا - أي أخروها وأدحضوها –
__________
(1) ـ لسان العرب ج: 1 ص: 208 الإِرْبَةُ و الإِرْبُ: الحاجةُ. وفيه لغات: إِرْبٌ و إِرْبَةٌ و أَرَبٌ و مَأْرُبةٌ و مَأْرَبَة تمت

(1/65)


وأمَّا وقوع المُعَرَّب في الكتاب العزيز ، وهو ما وضعه غير العرب لمعنى ثم استعمله العرب فيه بناءً على ذلك الوضع فيخرج عنه الأعلام كإبراهيم ، وإسمعيل ، فعن ابن عباس وعكرمة ، واختاره ابن الحاجب ، وبعض الشافعية وقوعه فيه لنص علماء العربية على تعريب ، نحو ? إِسْتَبْرَقٍ ?[ الرحمن(54) ] أخرج ابن أبي حاتم عن الضحاك أنه الديباج الغليظ بلغة العجم . وأخرج ابن مردويه من طريق أبي الجوزاء عن ابن عباس قال : السجل - بلغة الحبشة - الرجل . وذهب المبرد وثعلب إلى أن الرحمن عبراني ، وأصله بالخاء المعجمة . وعن مجاهد المشكاة الكوة غير النافذة بغلة الحبشة ، والقسطاس العدل بالرومية . وعن سعيد ابن جبير أنه الميزان بلغة الروم . وذكر الجواليقي أن كافوراً فارسي . وعن ابن عباس ?هيت لك?[يوسف] هلم لك بالنبطية ، وقال الحسن هي بالسريانية كذلك ، وقال أبو زيد الأنصاري هي بالعبرانية ، وأصلها هيتلج - أي تعاله (1) وعن وهب ابن منبه قال : ما من لغة إلا ولها في القرآن شيءٌ ، قيل : وما فيه من الرومية ?قال فصرهن?[البقرة 260] يقول قطعهن . وعن أبي ميسرة التابعي قال : في القرآن من كل لسان . ومثله عن سعيد بن جبير ،
والأكثر أنه غير واقع فيه ، ولا يسلمون أن ذلك من المعرب لجواز كونه ممَّا اتفق فيه اللغتان ، ولزوم إلا يكون القرآن عربياً ، وقد قال تعالى ?قرآناً عربياً غير ذي عوج?[ الزمر 28]
وقد جمع أبو عبيد القاسم بن سلام بين القولين ، فقال : الصواب عندي مذهب فيه تصديق القولين جميعاً ، وذلك أن هذه الأحرف أصولها أعجمية كما قال الفقهاء ، لكنها وقعت للعرب فعربتها بألسنتها وحولتها عن ألفاظ العجم إلى ألفاظها فصارت عربيّة ، ثم نزل القرآن وقد اختلطت هذه الحروف بكلام العرب ، فمن قال أنها عربية فهو صادق ، ومن قال أنها عجمية فهو صادق وكلامه حسن .
__________
(1) ـ والهاء للسكت

(1/66)


نعم : أما الأعلام فإنها بحسب وضعها العلمي لا تنسب إلى لغة دون لغة ومنع صرفها(1)لموافقتها العجمية ،وليست من المعرب لأنه كلام العجم الذي استعملته العرب بتغيير أو غيره (2)وبهذا يظهر الفرق1 بين العجمية والتعريب .
(فصل)
(والدليل الثاني من الأدلة الشرعية السنَّة)(3) هي لغة الطريقة والعادة ، سواءً كان حميداً أو لا ، قال تعالى ?قد خلت من قبلكم سنن?[ آل عمران 137] قال الهذلي :
فأول راضٍ سنَّة من يسيرها
فلا تجزعن من سنَّة أنت سرتها
__________
(1) ـ جواب سؤال ، وهو أن يقال : فإنها ممنوعة للعجمية ، فأجاب : بأن منع الصرف... إلخ . ً فإن علماء العربية - وإن أجمعوا على منع نحو إبراهيم للعجمية - والتعريف وإجماع أهل كل فن حُجَّة فيما أجمعوا عليه ، فإنما حكموا بالعجمية لموافقته العجمية . ذكره في حاشية الفصول نقلاً عن صاحب الغايات والحاكم في تفسير ?طوبى لهم? تمت منه .
(2) ـ ولا يخفى الفرق بين تجديد الوضع والاستعمال إهـ
(3) ـ قال في الغاية : وأما في الشرع فتستعمل في العبادات ، وفي الأدلة الشرعية فهي في العبادات تطلق على ما تقدم بيانه في بحث الحكم ، وقال في حاشية الغاية على قوله : ما تقدم بيانه وهو ما واضب عليه الرسول مما أمر به ندبا كرواتب الفرائض إهـ ثم قال في الشرح وهي في الأدلة الشرعية ما صدر عن الرسول منسوبا نفسه إليه من قول أو فعل أو تقرير تمت

(1/67)


واصطلاحاً : ما تقدم في الحكم (وهي قول النبي )غير القرآن ، (وفعله) ، وتركه ، ولم يذكره المصنف بناءً على دخوله في الفعل كما هو مذهب البعض ، ولكنه يخالف ما سيأتي له في التأسي ، فإنه صرح به مع الفعل فلعله بنى هنا على قول وفيما يأتي على آخر والله أعلم . (وتقريره) والاحتجاج بها يتوقف على معرفة عصمته والحق أنه لا بد من عصمة الأنبياء (عليهم السلام) عن الكفر وسائر الكبائر والصغائر المنفرة (1)والكذب عمداً مطلقاً أو سهواً بعد البعثة عقلاً وسمعاً لما فيه من النقص والتنفير عن اتباعهم والاقتداء بهم . قلت ودليله ما نشاهده فإن من نشأ على الصلاح والتقوى ولم يعلم منه معصية أعظم تأثيراً من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فيمن تلبس بشيءٍ من المعاصي وعرف بها ثم تاب وأمر ونهى كذلك بل ربما كان ادعى إلى سبه وهتك عرضه سيما من لا شوكة له ولا هيبة والعصمة عند أئمتنا (عليهم السلام) من فعل الله تعالى بمعنى أنه تعالى يسبل عليهم ألطافاً خفية يمتنعون بها عن المعصية وثبوتها قبل وقت التكليف وقال الإمام أحمد بن سليمان (عليه السلام) (وقت النبوة) محتجاً بالأسباط وبالإجماع على نبوتهم
__________
(1) ـ كالخسة وهي ما يلحق فاعله بالأرذال والسفل ويحكم عليه بدناءة الهمة وسقوط المروة كسرقة لقمة إهـ تمت منه .

(1/68)


(فالقول) حكمه (ظاهر) ومباحثه الأمر والنهي والعموم والخصوص ونحوها وينظر في وجه ظهوره فإنه الذي يحتاج إلى شدة البحث كما لا يخفى إذ ليس المراد مجرد ماهيته كما توهم بل الحكم - كما أشرنا إليه - وإلا فالفعل باعتبار ماهيته كذلك فتأمل . وحذف أمَّا هنا لا يليق مع ذكرها في القسمين الأخيرين (وهو أقواها) (1) أي أقوى أقسام السنة لاستقلاله في الدلالة على تعدي(2) حكمه إلينا فلا يحتاج فيها إلى غيره ولعمومه لدلالته على الموجود والمعدوم و المعقول والمحسوس ولأن العمل به يبطل مقتضى معنى الفعل في حق الأُمَّة فقط دون النبي فيمكن الجمع بينهما بأن الفعل خاص به دوننا فنكون قد أخذنا بهما معاً والجمع بين الدليلين لا ولو بوجه واجب ما أمكن ولاتفاق (3)من يحتج بالقول والفعل على دلالته بخلاف الفعل فيها أجمع وشروط الاستدلال به [*] شروط الاستدلال بالكتاب العزيز وعلم المستدل بأنه لا يكتم ما أمر بتبليغه بأن يكتم من الكلام مخصصا متصلا أو
__________
(1) ـ قال في الغاية في أن القول أقوى : لاستقلاله في الدلالة وعمومه والاتفاق على دلالته وإبطاله بالكلية لو عمل بالفعل وذلك لأن القول مختص بالأمة فلو عمل بالفعل لبطل مقتضاه البتة بخلاف العكس لأن العمل بالقول يبطل مقتضى الفعل في حق الأمة دون النبي تمت
(2) ـ إنما قال ولاتفاق... إلخ . ولم يقل وللاتفاق ويطلق كما قال غيره لأنه حكى في حاشية الفصول عن الكوفيين أنهم يمنعون الاحتجاج بالحديث لأنها قد كثرت روايته بالمعنى وكأنه أريد بالاتفاق بين من يحتج بالقول والفعل والله أعلم تمت منه قال في حاشية على الغاية : لأن القول وضع لذلك بخلاف الفعل فإن له محامل ، ولا ظاهر له وإنما يفهم منه في بعض الأحوال ذلك لقرينة خارجية فيقع الخطا فيه كثيرا إهـ
(3) ـ قال في الغاية والاتفاق على دلالته بخلاف الفعل فإن من الناس من يقول : إن من الأفعال لا يستدل بها ولا يكون بيانا والمتفق عليه أولى بالاعتبار .تمت

(1/69)


منفصلا أو كلاما مستقلا ولا يحرفه بان يزيد فيه قيداً يخرجه عن ظاهره ولا يبدله بغيره لأن تجويز ذلك يسد علينا باب الثقة بخطابه وذلك محال ? إن هو إلا وحي يوحى ?[ النجم] ?قل ما يكون لي أن أبدله من تلقاء نفسي?[يونس 15] ? إن أتبع إلا ما يوحى إلي ?[الأنعام50]
وأمَّا حكم أقواله المتعلقة بالغير فإذا قضى على الغير بحق أو مال دل على لزومه للمقضي عليه ظاهراً فقط ولذا قال :(إنكم تختصمون إليَّ ولعل بعضكم ألحن بحجته من بعض فمن قضيت له بشيءٍ من مال أخيه فلا يأخذنه فإنما أقطع له قطعة من النار) أخرجه في أصول الأحكام وغيره من كتبنا والشيخان
وإذا ملَّك أحدا مؤمناً كان أو كافراً فيفيد الملك ظاهراً وباطناً عند الحفيد (1) وغيره
وقال الدواري إن ملكه من غيره ثم ملكه الغير فظاهراً فقط وإن ملكه من الغنائم ونحوها كفدك فظاهراً وباطناً .
ودعاؤه يقتضي إيمان المدعو له ظاهرا وباطنا عند الحفيد وغيره ، وقال ابن أبي الخير إن انظم إلى دعائه قرينة تدل على الباطن قطعاً فإرادته معلومة أو ظناً فإرادته مظنونة وإلا فالوقف وهو الأولى لجواز كونه مشروطاً وإن لم ينطق به كما في دعاء أحدنا لغيره لأن دلالة العقل مشترطة لذلك ومهما اعتقدنا جهلاً فقد أتينا من جهة أنفسنا والله أعلم.
__________
(1) ـ الحسن بن محمد الرصاص تمت

(1/70)


(وأما الفعل) أي فعل الرسول هل هو دليل شرعي على ثبوت مثل ذلك الفعل في حقنا أو لا ؟ (فالمختار) عند أئمتنا (عليهم السلام) والجمهور (وجوب التأسي به في جميع أفعاله) وتروكه لكن إن أراد بالجميع ما علم وجهه فمع مناقضته لما سيأتي من قوله فما علمنا وجوبه... إلخ يلزم وجوب ندبه وإباحته علينا اللَّهُمَّ إلا أن يقال المراد أنا متى أدرنا فعلهما لم يجز إلا على جهة كونه مندوباً أو مباحاً وإن أراد به ما يشمل معلوم الوجه ومجهوله كما ذهب إليه المنصور بالله (عليه السلام) وبعض المعتزلة والشافعية والحنابلة ففيه أن الحكم بوجوبه مع جهل الوجه الذي هو جزؤ ماهيته تكليف بالمحال مع مناقضته لما سيأتي أيضاً
وإنما يجب التأسي به سمعاً لا عقلاً إذ لم نعلم وجوب اتباعه إلا لعلمنا بأنه امتثال لأمر الشارع بما شاء أن يستأدى شكره منا فإذا لم يرد أمره به فمن أين يجب . وأيضاً فإنا نجوز اختلاف حكمنا وحكمه كما قد وقع فلا بد من دليل سمعي به حينئذٍ وهو نحو قوله تعالى ? لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجوا الله واليوم الآخر? [الأحزاب 21]لأن معناها من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فله في رسول الله حسنة فدلت على لزوم التأسي للإيمان ويلزمه بحكم عكس النقيض عدم الإيمان لعدم التأسي والإيمان واجب فكذا لزمه - الذي هو التأسي- وعدم الإيمان حرام فكذا ملزومه - الذي هو عدم التأسي - وإلا ارتفع اللزوم [*] وقوله تعالى ?قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني?[آل عمران 31 ]لا يقال ظاهرهما يفيد وجوب الاتباع وإن لم يعلم الوجه لأنا نقول المتابعة هي الإتيان بمثل فعله على الوجه الذي أتى به من وجوب أو غيره حتى لو فعله على قصد الندب مثلاً ففعلنا على قصد الإباحة أو الوجوب لم تحصل المتابعة وحينئذٍ فيلزم أن يكون الأمر بالمتابعة موقوفاً على معرفة الجهة فإذا لم تعلم لم نكن مأمورين بها والله أعلم .

(1/71)


(إلا ما وضح) أي ظهر (فيه أمر الجبلة) فإذا كان جبلياً لا يخلوا عنه جبلة ذي روح وطبيعته كالأكل والشرف فإنا نعلم من دينه أنه لم يلزمنا اتباعه فيهما إذا كانا مجردين عما يتعلق بهما من وجوب عند الضرورة إليهما أو ندب عند الحاجة أو كراهة عند الشبع والري أو حرمة عند الضرر وإلا شرع التأسي به فيهما كما يشرع في هيئتهما إذ ليست مما تقضتيه الجبلة (أو) لم يكن كذلك لكنه (علم) العلم بالمعنى الأعم إلا أنه (من خصائصه) واجباً كان (كالتهجد والأضحية) والضحى والوتر والمشاورة والسواك وتخيير نسائه فيه ومصابرة العدو وإن كثر وأنه يجب على من رغب في نكاحها من النساء وهي خالية أجابته وإذا كانت مزوجة وجب على زوجها طلاقها امتحاناً لإيمان الزوج أو مباحاً كالوصال في الصوم والنكاح بلا مهر وولي وشهود والزيادة على أربع وصلاته متنفلاً بغيره مفترضاً وبكل طائفة في صلاة الخوف مستقلة أو محرماً كأكل البقول ذوات الروائح الكريهة ونزع لامته حتى يقاتل ومد عينه إلى زينة السماء فكان [*] إذا رأى شيئاً يعجبه قال ((لبيك اللَّهُمَّ لا عيش إلا عيش الآخرة)) . وخائنة الأعين - وهو الإيماء بالعين في مآربه - وكان يقول ((ما كان لنبي أن تكون له خائنة الأعين وتحريم زوجاته على غيره)) . فالأول مباح له ولأمته على سواء والثاني لا يشاركه أحد منهم بلا خلاف فيهما .
(والتأسي هو إيقاع الفعل) ومنه القول كالقراءة والتسبيح والدعاء (بصورة فعل الغير) في زمنه ومكانه وطوله وقصره كصوم شهر رمضان ووقوف عرفة وطمأنينة الصلاة إن اعتبرها المتأسي به وإلا فمجرد الفعل كالتصدق قائماً أو قاعداً ليلاً أو نهاراً وإن التبس هل اعتبرها أو لا ؟ اعتبرت مع الفعل عند أبي طالب لا عند أبي الحسين . وبهذا القيد تخرج المخالفة وقد تسامح المؤلفون بإدخال أل على غير

(1/72)


(ووجه) من وجوب أو نحوه فإنه لو صلَّى الظهر فرضاً وصليناه نفلاً لم نكن متأسين به وكذا لو اتبع المسلم نصرانياً إلى بيعة ليرد وديعة لم يكن متأسياً به لاختلاف فعلهما حسناً وقبحاً وكذا من سجد لصنم فسجد غيره لله فلا تأسي وبه يخرج الائتمام فإنه اتباع في الصورة والوجه معاً أو في الصورة فقط (اتباعاً له) أي لقصد اتباعه فيخرج مجرد الموافقة وهي أن يفعل أو يقول أو يعتقد مثل الغير لا لأنه صدر من الغير (أو تركه كذلك) أي بصورة ترك الغير ووجهه اتباعاً له فإذا عرفت حقيقة التأسي وكون الوجه جزءاً منها ولا يمكن بدون معرفته فلنأخذ في تفصيل ذلك
(فما علمنا) أو ظننا وجهه أي (وجوبه) أو ندبه أو إباحته (من أفعاله) إمَّا بالضرورة وإما بنصه عليه وإمَّا بكونه بياناً لخطاب دال على إيها وإمَّا بامتثاله لدال على أيها كإقامة الحد على نحو الزاني في الوجوب وكالتصدق في المندوب وكالاصطياد بعد حل الحرام في المباح ولم يقم دليل اختصاصه به (فظاهر وما علمنا) أو ظننا (حسنة) بمجرد فعله (دون وجوبه) إذ الوجوب صفة زائدة على الحسن (فندب) إذ لا محرم في فعله كبير للعصمة ولا صغيرة ولا مكروه لخفائهما وقد أمرنا بالتأسي به فإذا لم يكن واجباً تعين الندب وهذا (إن ظهر فيه قصد القربة) إذ به يعرف أن هناك صفة زائدة على الحسن (وإلا) يظهر ذلك (فإباحه) أي يحمل على أن فعله مباح وعلى هذا لا مجهول في فعله لانحصاره فيما ذكر [*].
(وتركه) (لماكان) قد فعله أو (أمر به) مطلقاً لا لعذر ولا لسهو (ينفي الوجوب) أي يكشف أن الفعل أو الأمر غير واجب نحو ما روي أنه لم يقسم أراضي خيبر بين الغانمين فتكون قرينة صارفة للأمر عن الوجوب وكذلك تركه الواجب أو المندوب يدل على ارتفاع الوجوب أو الندب أيضاً فلو ترك القنوت في الفجر لا لسهو ولا لكونه نفلاً علمنا أن الأمر به على جهة النفل قد ارتفع [*]

(1/73)


(وفعله لما نهى عنه) نهياً مطلقاً كذلك (يقتضي الإباحة) إذ لو كان محظوراً لما فعله لعدم جوازه في حقه كما تقدم فلو نهانا عن قتل القمل في الصلاة أو إلقاء النخامة في المسجد ثم فعل لا لعذر اقتضى فعله الإباحة وكان قرينة صارفة للنهي عن الحظر وفي كل ذلك إن قام دليل الخصوصية فذاك وإلا كان حكمنا حكمه فيه .
ولما فرغ من بيان نوعي السنة الأولين وقدمهما لقوتهما أخذ يبين الثالث فقال
(وأما التقرير) أي تقرير الرسول لغيره (فإ)نما يكون دليلاً بشروط :
أحدها : (إذا علم بفعل) ، أو قول ، أو ترك (من) مكلف (غيره) غير معذور ، سواءً كان بين يديه أو لا ، ثم سكت (ولم ينكره) على فاعله .
والثاني : أن يقع (وهو قادر على إنكاره) أي الحكم بكونه منكراً لو كان منكراً لا إن لم يكن قادراً فلا تأثير لسكوته وعدم إنكاره اتفاقاً لجواز إنكاره مع حصول القدرة
والثالث : أن لا يكون مما عُلم أنه منكِر له وتَرَك إنكارَه في الحال لعمله أنه علم منه ذلك وبأن الإنكار لا ينفع في الحال ، ولذا قال :(وليس كمضي إلىكافر كنيسة) إذ لو كان كذلك لم يكون لسكوته أثر في الجواز اتفاقاً .

(1/74)


(و) الرابع أن (لا) يكون قد (أنكره) أي ذلك الفعل (غيره) ، إذ لو أنكره أحد وعلمه كان سكوته تقريراً للإنكار لا للمنكر (دل ذلك) التقرير (على جوازه) أي كونه مشروعاً وجوباً ، أو ندباً ، أو كراهةً ، أو إباحةً للمقرر مطلقاً ولغيره إما لمشاركته في علته وإمَّا لأن حكمه على الواحد حكمه على الجماعة ، فإن سبق التقرير حكمٌ مخالفٌ كان نسخاً أو تخصيصاً ، لأن صمته لسان ولا يسكت على منكر مع ذلك وإلا لزم ارتكابه المحرم ، وهو تقريره على المحرم ، إذ التقرير على المحرم محرم (1)واللازم باطل ، وإن فرض كونه من الصغائر لعصمته عما يتعلق بالأحكام من المعاصي مطلقاً - كما سبق - فإن استبشر به فأوضح دلالة على الجواز من مجرد السكوت اتفاقاص كما روي أن مُجَزِّزاً المدلجي مر بزيد بن حارثة وأسامة وقد ناما في قطيفة ، وغطيا رؤوسهما ، وبدت أقدامهما ، فلما رأى ذلك قال : هذه الأقدام بعضها من بعض . فلما ذكرت القصة للنبي سر بذلك سروراً عظيماً ، وسببه أن أسامة كان أسود ، وزيداً كان أبيض ، وكان المنافقون يتعرضون للطعن في نسب أسامة ، فلما ألحقه المُجَزِّزْ المدلجي بزيد سر ، ودخل على عائشة وأسارير وجهه تبرق من الفرح ، فقالت عائشة : يا رسول الله أنت أحق بقول الهذلي :
برقت كبرق العارض المتهلل

فإذا نظرت إلى أسرة وجهه
__________
(1) ـ ومن ثم قال علي - عليه السلام - في بعض خطب النهج في ذكر النبي : وصمته لسان . قال السيد صلاح في شرحه : يعني أنه إذا صمت في حادثة ولم ينكرها حكم بأنه ارتضاها واستحسنها ، ومن ثم قيل السكوت أخو الرضى ، وقلت في نظم هذا المعنى :
ولم تغد عنهم عند ذلك معرضاً

إذا اغتاب أقوام وأنت لديهم

لأن سكوت السامعين أخو الرضا

فإنك مغتاب وإن كنت صامتاً

تمت منه

(1/75)


فقال لها : ألم تري إلى مجزز كيف مر على أسامة وزيد ؟ ، وقص لها القصة ، وحكم مُجَزِّزْ كحكم كافر في مضيه إلى كنيسة مما علم أن الرسول منكر له على الإجمال لما اشتهر من سعية في إماتة طرق المشركين ، وبُعده من متابعتهم ، وعلو شأنه عن سلوك طريقهم ، فاستبشاره بها لموافقتها الحق مع إلزام الخصم بما يعتقده لا لحقيتها وإلا لم يسكت عنها مع الحاجة إليها .
نعم (القيافة) الاهتداء إلى الشيء ، يقال : قاف الأثرقيافة إذا اهتدى له . والقافة جمع القائف - وهو من يعرف الآثار - وجعلها مصدراً كالقيافة غلط مشهور ، ومجزز - بضم الميم (1) وفتح الجيم ، وتشديد الزاي - الأولى . قال في شمس العلوم : إنما سمي مجززاً لأنه كان يجز ناصية الأسير ويطلقه ، ولم يكن علماً ، والله أعلم .
[التعارض]
واعلم أن التعارض بين الشيئين هو تقابلهما على وجه يمنع كل منهما مقتضى صاحبه من جميع الوجوه ، أو بعضها ، (ولا تعارض في أفعاله) أصلاً ، لأنه إمَّا أن تتناقض أحكامها أولاً إن لم تتناقض كان يكونا متماثلين كصلاة الظهر في وقتين أو مختلفين يتصور اجتماعهما في وقت كالصوم والصلاة أولا يتصور كصلاة الظهر والعصر فلا خفاء في عدم التعارض لإمكان الجمع بين أحكامهما ، وإن تناقضت كصوم يوم معين وأكل في آخر مثله فلا تعارض أيضاً لجواز أن يكون الفعل واجبا في وقت وجائزاً في آخر ، مع أنه لا يكون رافعاً ولا مبطلاً حكم الآخر ؛ إذ لا عموم للفعلين ، ولا لأحدهما ،
__________
(1) ـ كذا نقله السيد صلاح رحمه الله في شرح الفصول عن شرح المشارق وجامع الأصول وابن ماكولا وغيرهم ، قال : وذكر الدار قطني وعبد الغني عن ابن جريح أنه بالحاء المهملة ساكنة ثم زاي مكسورة تمت منه

(1/76)


وإنما يتصور التعارض بين القولين ، أو بين قولين وفعل ، ولذا قال : (ومتى تعارض قولان) وتعارضهما ظاهر (أو قول وفعل) علم وجهه وقام الدليل على تكرره بأن ينقل إلينا أنه نهي عن استقبال القبلة لقضاء الحاجة ، وأنه استقبلها له ، فإن ترتبا وعلم المتأخر (فالمتأخر ناسخ) للمتقدم منهما إن تأخر بقدر إمكان الامتثال ، وتعذر الجمع بينهما من كل وجه ، (أو مخصص) ، أو مقيد لعموم الأول ، أو إطلاقه إن لم يتأخر كذلك وامن الجمع بذلك
(فإن جهل التاريخ) فإما أن يمكن ترجيح أيهما بأحد وجوهه أولاً إن لم يكن أطرحا ورجع إلى غيرهما - كما سيأتي إن شاء الله تعالى - ، وإن أمكن (فالترجيح) لازم للمجتهد ، وسيأتي بيانه بين القولين . وأما بين القول والفعل فالمختار ترجيح القول لما سبق ؛ إلا أنه قد تقرر أن الفعل لا يكون دليلاً إلا مع القول ، وحينئذٍ يعود من تعارض القولين وما صحب الفعل أرجح لاعتضاده به ، وطريق من سمعه يقول أو شاهده يفعل الضرورة . وأما من نأت به دراه عنه فطريقه
(وطريقنا) الموصل (إلى العلم) بالمعنى الأعم الشامل للظن (بالسنة) بأقسامها المذكورة . (الأخبار) جمع خبر ، وسيأتي تحقيقه إن شاء الله تعالى
[تقسيم الأخبار]
(وهي) الأخبار (متواترة وآحاد) لأنها إنما تفيد بنفسها العلم بالمعنى الأخص ، فالمتواتر أولاً فالآحاد ، ثم الآحاد أيضاً نوعان لأنها إما تفيد العلم بقرينة كتلقي الأمة أو العترة لها بالقبول بأن أخذ بها بعض وتأولها الآخر أولا
[المتواتر]

(1/77)


(فالمتواتر) لغة : ما تتابع من الأمور شيئاً بعد شيءٍ بفترة من الوتر ، ومنه ?ثم أرسلنا رسلنا تترا?[المؤمنون 44]. واصطلاحاً :(خبر جماعة) ، خرج خبر الواحد والاثنين مطلقاً (يفيد) كل سامع له عاقل إن تساوت أحوالهم من جميع الوجوه (بنفسه العلم) أي بذاته من دون قرينة ، فيخرج مفيده بها و مفيد الظن مطلقاً ، وما لم يفد إلا بعض العقلاء لدلالته على أن إفادته لا بذاته لأن ما بالذات لا يتخلف . وقوله :(بصدقه) مستدرك ، أو للاحتراز عن ما أفاد العلم بمجرد وجود قائله .
واختلف في أقل عدد التواتر فقيل اثنا عشر بعدد نقباء بني إسرائيل في قوله تعالى ?وبعثنا منهم انثي عشر نقيباً?[ المائدة12] وقال أبو الهذيل : عشرون لقوله تعالى ?إن يكن منكم عشرون صابرون? [الأنفال 65]الآية ، فتوقف بعث عشرين لمائتين على أخبارهم بصبرهم وكنهم على هذا ليس إلا لأنه أقل ما يفيد العلم المطلوب في مثل ذلك وليفيد خبرهم العلم بإسلام الذي يجاهدونهم ويقاتلونهم . وقيل أربعون لقوله تعالى ?حسبك الله ومن اتبعك من المؤمنين?[الأنفال 64]وكانوا أربعين ، فلو لم يفد قولهم العلم لم يكونوا حسب النبي لاحتياجه إلى من يتواتر به أمره . وقيل سبعون لقوله تعالى ?واختار موسى قومه سبعين رجلاً?[الأعراف 155] . وقيل ثلثمائة وبضع عشرة عدد أهل غزة بدر ؛ لأن الغزوة تواترت عنهم . وقيل غير ذلك ، وما ذكروه من التمسكات مع تعارضه وعدم مناسبته لا يدل على اشتراط تلك الأعداد ، والصحيح أن أقله خمسة لخروجها عن دائرة الشهادة (و) أنه (لا حصر لعدده) كثره ؛ (بل هو)(1)شرطه تكثر المخبرين وبلوغهم حداً تمنع العادة من اتفاقهم وتواطؤهم على الكذب ، واستنادهم في ذلك الخبر إلى الحس(2)لا إلى غيره ، كالعقل كأخبار الفلاسفة بقدم العلم ، فإنه لا يفيد قطعاً .
__________
(1) ـ أي المخبر عنه تمت
(2) ـ وإن اختلف الحس بأن تكون الدرجة العليا مستندة إلى المشاهدة ، والسفلى إلى السماع من العليا تمت منه

(1/78)


[ضابط شرط التواتر]
وضابط شروط التواتر (1) (ما أفاد العلم) ، فإذا أفاده علم وجود الشرط واختلف هل يفيد العلم (الضروري) الذي لا ينتفي بشط ولا شبهة أو لا ؟ فعند أئمتنا - عليهم السلام - وجمهور المعتزلة ، والأشعرية ، وبعض الفقهاء المحدثين أنه يفيده لوقوعه لمن لم ينظر كالصبيان والبله والعوام الذين لا يتأتى منهم النظر بالضرورة ، ولو كان نظرياً لما حصل لغير الناظرين ، ولأنه يمتنع علينا النظر في وجود مكَّة وبغداد ، كما يمتنع في وجود ما نشاهده سواء وذلك علامة الضروري . وقال البغداديون ، وأبو الحسين البصري ، وابن الملاحمي من المعتزلة ، والجويني ، وبعض الفقهاء : إنما يفيد النظري ،لأن العلم لا يحصل إلا بعد العلم بانتفاء اللبس في مخبره بأن يكون محسوساً لا اشتباه فيه ، وبعد العلم بانتفاء داعي الكذب وذلك بأن يكون المخبرون جماعة لا داعي لهم إليه ، وكلما كان كذلك فليس بكذب ، وما ليس بكذب فهو صدق لعدم الواسطة ورد بمنع احتياجه إلى سبق العلم بذلك ؛ بل يحصل العلم أولاً ثم يلتفت الذهن إلى الأمور المذكورة ، وقد لا يلتفت إليها على التفصيل ، وإمكان الترتيب لا يوجب الاحتياج وإلا لزم في كل ضروري ، لأنك إذا قلت أربعة زوج فلك أن تقول لأنه منقسم بمتساويين ، وكل منقسم بمتساويين زوج ، وإذا قلت الكل أعظم من الجزء فلك أن تقول لأن الكل مركب منه ومن غيره ، والمركب من الجزء ، ومن غيره أعظم من الجزء ، فالكل أعظم من الجزء . وتوقف المرتضى الموسوي والآمدي لتعارض الأدلة وعدم التمييز الصحيح منها عن غيره ،
__________
(1) ـ ولا حاجة إلى اشتراط استواء مراتبه في الشرطين المذكورين أولا لإغناء الأول عنه ، ولا إلى اشتراط عدم سبق العلم بالمخبر عنه ضرورة لأن الشرط إنما هو لما يفيد العلم لا لإفادة العلم ، ولا يخرج الدليل عن كونه دليلاً بالعلم بمدلوله ، كما لا يخرج عن كونه دليلاً بالجهل به والله أعلم تمت منه

(1/79)


(و) أمَّا اشتراط الإسلام ، والعدالة ، والمعصوم ، وأهل الذلة ، واختلاف النسب والدِّين والوطن ، والذكورة ، وألا يحويهم بلد فلا وجه له ، لأنا قد نطناه بحصول العلم وهو (يحصل بخبر) من ليس كذلك من (الفساق والكفار) ، والصبيان ، والنساء ، ونحوهم .
واعلم أن المتواتر قد يتواتر لفظاً ومعنى كنصوص السنة المتواترة (وقد يتواتر المعنى دون اللفظ) بأن يبلغ المخبرون حد التواتر ولكن اختلفت أخبارهم بالوقائع التي أخبروا بها مع اشتراك جميع أخبارهم في معنى مشترك بين مخبراتهم كحديث الغدير (1)
__________
(1) ـ قال الإمام شرف الدِّين - عليه السلام - في قصيدته القصص الحق في حديث الغدير :
**وهو الحديث اليقين الكون قد قطعت *** بكونه فرقة كانت توهيه **

يعني بالفرقة الحافظ الذهبي وغيره قال في تذكرته : أعتنى بحديث الغدير محمَّد بن جرير الطبري فجمع فيه مجلدين أورد فيهما طرقه وألفاظه قال الذهبي : بهرني كثرة طرقه فقطعت بوقوعه . وقال في بعض كتبه : صدر الحديث متواتر متيقن أن رسول الله ، قاله قال ابن كثير ، يعني ((من كنت مولاه فعليٌّ مولاه)) ، قال الذهبي وأما ((وال من والاه ، وعاد من عاداه)) فزيادة قوية فيه الإسناد ، وصححها أبو زرعة ، وأصحابنا الزيدية فريقان ؛ فريق يدعى تواتره كالمنصور بالله - عليه السلام - وهو الظاهر من كلام أهل البيت - عليهم السلام - ، وفريق يدعي أنه متلقى بالقبول مجمع على صحته فصحته معلومة والله أعلم تمت منه

(1/80)


، والمنزلة(1)والمحبَّة في أمير المؤمنين - عليه السلام - ، فإن من بحث كتب السنة النبوية ، وأطلق نفسه عن وثاق العصبية علم تواترها كذلك كلما يكون ذلك المشترك خارجاً لازماً لكل واقعة فإنه يفيد تواتر القدر المشترك ضرورة لاتحاد أخبارهم فيه (كما في شجاعة علي عليه السلام ) فإن الأخبار بوقائعه في حروبه من أنه فعل في بدر كذا ، وقتل يوم أحد كذا ، وهزم يوم حنين كذا ، ونحو ذلك ، تدل بالالتزام على شجاعته - عليه السلام - ، ذلك لأن الشجاعة من الملكات النفسانية ، فيمتنع أن تكون نفس الهزم أو جزءه ، وإنما هي لازمة لجزئيات الهزم والقتل في الوقائع الكثيرة ، فيكون دلالة نحو الهزم في الوقائع الكثيرة على الشجاعة بطربق الالتزام ، (و) كما في (جود حاتم) الطائي ، فإن ما يحكى من إعطائه نحو الخيل ، والإبل ، والشاء ، والثياب ، يدل بالالتزام على جوده الذي هو ملكة نفسانية كالشجاعة ، والله أعلم .
[الآحادي]
__________
(1) ـ نص الحديث :- على ما أخرجه مسلم في صحيحه ج 4/ص 1871/ح عن عامر بن سعد بن أبي وقاص عن أبيه قال أمر معاوية بن أبي سفيان سعدا فقال ما منعك ان تسب أبا التراب فقال أما ما ذكرت ثلاثا قالهن له رسول الله فلن اسبه لان تكون لي واحدة منهن أحب الي من حمر النعم سمعت رسول الله ( ) يقول له خلفه في بعض مغازيه فقال له علي يا رسول الله خلفتني مع النساء والصبيان فقال له رسول الله ( ) أما ترضى ان تكون مني بمنزلة هارون من موسى الا انه لا نبوة بعدي وسمعته يقول يوم خيبر لأعطين الراية رجلا يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله قال فتطاولنا لها فقال ادعوا لي عليا فأتي به ارمد فبصق في عينه ودفع الراية إليه ففتح الله عليه ولما نزلت هذه الآية فقل تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم دعا رسول الله ( ) عليا وفاطمة وحسنا وحسينا فقال اللهم هؤلاء أهلي

(1/81)


(والآحادي) ما لا يفيد بنفسه العلم كما عرفت ، سواءً نقله واحد أو جماعة وهو أقسام :
(مسند) وهو ما اتصل إسناده من راويه إلى النبي
(ومرسل) وهو عند أئمتنا - عليهم السلام - والجمهور : ما سقط من رواته راوٍ فصاعداً من أي موضع ، فيدخل فيه :
المعلق : وهو ما سقط منه راوٍ من مبادئ السند .
والمنقطع : وهو ـ على ما ذهب إليه طوائف من الفقهاء وغيرهم ، وابن عبد البر من المحدثين ـ ما لم يتصل إسناده على أي وجه كان . حكاه السخاوي عن النووي في إرشاده ، فهو أعم من المعلق والمعضل مطلقاً .
والمعضل - بفتح الضاد - : وهو أن يرسل الرواي وبينه وبين رسول الله أكثر من راوٍ ، وقال جمهور المحدثين ؛ بل قول التابعي : قال رسول الله وهو (1) مقبول عند أئمتنا - عليهم السلام ، والمعتزلة ، والحنفية ، والمالكية ؛
[ حجة القائلين بقبول الارسال]
لاجماع الصحابة على رجوعهم إليه كالمسند علم ذلك من أئمة النقل كما روي عن ابن عباس عن النبي :(إنما الربا في النسيئة)(2)لما سُئِل عن ذلك قال : أخبرني به أسامة بن زيد . ولم ينكره عليه إرساله ما سمعه من أسامة ، وإنما بينوا أنه منسوخ (3)
وقال البرا بحضرة الجماعة : ليس كل ما أخبركم به سمعته من رسول الله غير أنا لا نكذب .
ولأن إرسال الثقة الذي عرف بأنه لا يرسل إلا عن عدل جار مجرى تعديله لمن روى عنه ، لأنه متى أرسل ما يرويه وقال : قال رسول الله : كذا وكذا فقد أظهر من نفسه أنه قد وثق أن النبي قال ذلك .
__________
(1) ـ أي المرسل بكل أقسامه تمت
(2) ـ أخرج بهذا الفظ وبألفاظ أخرى مثل لا ربا إلا في النسيئة الطبراني في معجمه الكبير و مسلم في صحيحه وابن حنبل في مسنده و مالك في الموطأ .و الطيالسي في مسنده و الدارقطني في سننه
(3) ـ باعتبار مفهومه لا منطوقه تمت منه

(1/82)


نعم ، فإن أسند تارة وأرسل أخرى ، أو رفع تارة ووقف أخرى ، أو وصل تارة وقطع أخرى ، فالحكم للإسناد والرفع والوصل على الأصح ، وقيل للأكثر من أحواله وإن أسند ما أرسل غيره ، أو رفع ما وقف ، أو وصل ما قطع ، فالحكم كذلك عند أئمتها - عليهم السلام - ، والجمهور ، وعند أكثر المحدثين للمرسل ، والواقف ، والقاطع ، وقيل للأكثر ، وقيل للأحفظ ،
(ولا يفيد) من سمعه عند حصول شرط الرواية وانتفاء قرينة العلم (إلا الظن) بصدقه ويجوز التعبد به ، وقد وقع ، فيندب ، ويكره ، ويباح ، ويحرم ،
ويجب العمل به أي بمقتضاه (في) ما يكفي فيه الظن من (الفروع) أي فروع الفقه ولو حداً ، أو قصاصاً ، أو مقداراً عقلاً ونقلاً ،
أما العقل فإنه يستحسن جلب النفع ودفع الضرر المظنونين .
وأما النقل فإنَّا قد علمنا من دينه أن الحاكم إذا قامت له الشهادة المشروعة لزمه العمل بمقتضاها وعرفنا ذلك عن أمر الله تعالى وهو عدل حكيم فلو لا أن العمل بالظن في بعض الأحوال مصلحة لما حسن منه أن يوجب ذلك ، ولفعله ؛ (إذ) تواتر أنه (كان يبعث الآحاد) من السعادة (إلى النواحي) النازحة عنه النازحة عنه (لتبليغ الأحكام) الشرعية ليعمل الناس على أخبارهم فإنه كان يبعثهم لقبض الزكاة ونحوها وتعريف سائر الأحكام ، كبعثه معاذاً إلى اليمن وغيره من عماله ، وذلك ظاهر من صنعه ، (ولعمل الصحابة) به في الوقائع المختلفة التي لا تكاد تحصى ، وتكرر ذلك منهم ، وشاع وذاع بينهم ، ولم ينكر عليهم أحد ؛ إذ لم ينقل ، وذلك يوجب العلم باتفاقهم كالقول الصريح .

(1/83)


فمن ذلك ما اشتهر عن أمير المؤمنين علي (عليه السلام) أنه كان يعمل في أخبار الآحاد ويحتاط فيها ، لأنه روي عنه أنه قال :(إذا سمعت حديثاً من رسول الله نفعني الله به ما شاء منه ، فإذا سمعته من غيره استحلفته ، وحدثني أبو بكر وصدق)(1)قيل أن الخبر الذي رواه هو قوله :(من أذنب ذنباً فذكره فأفزعه ثم عمد إلى بيت من بيوت الله فتوضى وصلى ركعتين واستغفر الله تعالى غفر الله له) أو كما قال فدل على أنه كان يعمل على أخبار الآحاد ، وإنما كان يحتاط في ذلك بان يستحلف بعضهم ، فإذا كان الراوي ممن لا يحتاج إلى الاحتياط عليه أخذه بخبره من دون يمين .
ومنه عمل أبي بكر بالخبر الآحادي في ميراث الجَدَّة ، وكان يرى حرمانها ، حتى روى المغيرة بن شعبة ومحمَّد بن مسلمة أن النبي أعطاها السدس (2)وخبر الاثنين آحادي
__________
(1) ـ أخرجه الطيالسي في مسنده و أبوداود في سننه و ابن حنبل في مسنده و الطيالسي في مسنده و الحميدي في مسنده و النسائي في سننه الكبرى و ابن حنبل في فضائل الصحابة و أبو يعلى في مسنده و عبد الرزاق في مصنفه
(2) ـ في سنن الترمذي ج: 4 ص: 419حدثنا بن أبي عمر حدثنا سفيان حدثنا الزهري قال مرة قال قبيصة وقال مرة رجل عن قبيصة بن ذؤيب قال ثم جاءت الجدة أم الأم وأم الأب إلى أبي بكر فقالت إن بن ابني أو بن بنتي مات وقد أخبرت أن لي في كتاب الله حقا فقال أبو بكر ما أجد لك في الكتاب من حق وما سمعت رسول الله قضى لك بشيء وسأسأل الناس قال فسأل فشهد المغيرة بن شعبة أن رسول الله أعطاها السدس قال ومن سمع ذلك معك قال محمد بن مسلمة قال فأعطاها السدس ثم جاءت الجدة الأخرى التي تخالفها إلى عمر قال سفيان وزادني فيه معمر عن الزهري ولم أحفظه عن الزهري ولكن حفظته من معمر أن عمر قال أن اجتمعتما فهو لكما وأيتكما انفردت به فهو لها إهـ

(1/84)


وعمل عمر بخبر عبد الرحمن بن عوف لما اشتبه عليه حكم المجوس ، وقال : ما أدري كيف أصنع بهم ، وأنشد الله امرأً سمع من النبي قولاً أن يذكر ذلك ما روي عبد الرحمن بن عوف (سنوا بهم سنة أهل الكتاب) أخذ بذلك وعمل به .
ورجع في توريث المرأة من دية زوجها إلى خبر الضحاك بن سفيان الكلابي(1)أن النبي ورث امرأة أشيم الضبابي من دية زوجها أشيم ، وترك ما كان يذهب إليه في ذلك من طريق الرأي في ذلك،
وأخذ بخبر حمل بن مالك في دية الجنين ، فإنه لما روي أنه كان عند امرأتان أحدهما تسمى مليكة والأخرى أم عفيف رمت إحداهما الأخرى بحجر مسطح ، أو عمود فسطاط فأصابت بطنها فألقت جنينا فقضى فيه رسول الله بغرةٍ عبد أو أَمَة وقال كدنا أن نقضي فيه .
وحَمَل بفتحتين ذكره في القاموس والضياء والمسطح بكسر الميم نوع من الملاعق وقيل عود يرقق به الخبز .
ورجع عما كان يذهب إليه من طريق المفاضلة في دية الأصابع فإنه كان يرى أن في الإبهام خمس عشرة من الإبل وفي الخنصر ستاً وفي البنصر تسعاً وفي كل واحدة من الآخريين عشراً عشراً فلما أخبر عن كتاب عمرو بن حزم أن النبي أوجب في كل واحدة منها عشراً من الإبل أخذ بذلك ورجع عن رأيه .
وروي العمل بأخبار الآحاد عن سائر الصحابة كعثمان وابن عباس وعلم من سياقها أن العمل بها لا بغيرها لظهورها وإفادتها الظن كظاهر الكتاب والمتواتر والنهي عن اتباع الظن ظاهر قابل لتأويل العلم بما يعم الظن وتأويل الظن بالشك والوهم والمدعى أصل لا يمنعه إلا قاطع .
__________
(1) ـ كذا في جامع الأصول وغيره ، وقال الإمام الحسن وسعد الدِّين الضحَّاك هو الأحنف بن قيس اليمني ، أسلم على عهد رسول الله ولم يره كتب إليه النبي أن يؤرث زوجة الضبابي من دية زوجها تمت منه

(1/85)


فإن قيل ما ذكرتموه معارض بأن علياً عليه السلام رد خبر ابن سنان الأشجعي في قضية بروع بنت واشق وعمر رد خبر فاطمة بنت قيس في أن النبي لم يجعل لها سكنى ولا نفقة وأبو بكر وعمر خبر عثمان حين أخبر كلاً منهما في خلافته أن النبي أذن له في رد حكم المدينة ورد عمر حديث أبي موسى الأشعري في الاستئذان وذلك أنه وصل إلى باب عمر فقال السلام عليكم آدخل ؟ ثم سكت ساعة وقال السلام عليكم آدخل ؟ ثم سكت ساعة و قال مثل ذلك فلم يجبه أحد ثم انصرف وقال هكذا السنة وعمر يسمعه فقال عمر للبواب ما صنع ؟ فقال رجع وقال كذا . فقال عليَّ به فلما جاءه قال ما هذا الذي صنعت ؟ فقال السنة . فقال عمر والله لتأتيني ببرهان أو لأفعلن بك . قال أبو سعيد فأتانا ونحن رفقة من الأنصار فقال يا معشر الأنصار ألم يقل رسول الله الاستئذان ثلاث فإن أذن لك وإلا فارجع ؟ فأخبر أبو سعيد بمثل ذلك .
أجيب بأنهم إنما أنكروا ما أنكروا للارتياب فيه وقصوره عن إفادة الظن وذلك مما لا نزاع فيه
ولما كان عدم العمل بها في غير فروع الفقه من مفاهيم اللقب مع إيهام الجواز صرح به فقال :
(ولا يؤخذ بأخبار الآحاد) الخالية عن قرائن العلم (في الأصول) مطلقاً سواءً كانت من أصول الدين أو أصول الفقه أو أصول الشريعة لأنها إنما تفيد بمجردها الظن كما سبق وهذه الأشياء يجب اليقين فيها لتوفر الدواعي إلى نقلها ولعملنا برد الصحابة له كما روي عن عائشة أنها ردت خبر أبي عثمان (1)
__________
(1) ـ في شرح الغاية : وأنكرت عائشة خبر ابن عمر في تعذيب الميت ببكاء أهله عليه تمت
وهو الأصح فقد بحثت في كتب الحديث خبر أبي عثمان ففي خلاصة البدر المنير ج: 1 ص: 278 حديث إن الميت ليعذب ببكاء أهله عليه متفق عليه من رواية ابن أبي مليكة عن ابن عمر وفي آخره قالت عائشة والله ما حدث رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم أن الله ليعذب المؤمن ببكاء أهله عليه ولكن رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم قال إن الله ليزيد الكافر عذابا ببكاء أهله عليه . وفيها أيضا حديث عائشة أنه ذكر لها قول ابن عمر إن الميت يعذب ببكاء أهله عليه يرفعه إلى رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم فقالت يغفر الله لأبي عبد الرحمن إنه لم يكذب ولكن نسي أو أخطأ إنما مر رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم على يهودية يبكى عليها فقال إنهم ليبكون عليها وإنها لتعذب في قبرها متفق عليه وفي رواية لفظ لهما يرحم الله ابن عمر لا والله ما حدث رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم إن الله ليعذب المؤمن ببكاء أهله إلى آخره

(1/86)


في تعذيب الميت ببكاء أهله وتلت قوله تعالى ?وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى?[الأنعام 64 /الاسرا 15/فاطر18/الزمر7/ النجم 38] ووافقها ابن عباس وفي ذلك رد للأخبار الواردة في تعذب أطفال المشركين وكذلك فإنها لما سألها سائل هل رأى محمَّد ربَّه قال يا هذا لقد قَفّ شعري مما قلت (1) وتلت قوله تعالى ?لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصال وهو اللطيف الخبير? [ الأنعام 103]وفي ذلك رد للأخبار التي نقلت في إثبات الرؤية ونحو ذلك كثير .
نعم فما ورد منها موافقاً لدلالة العقل ومحكم الكتاب كان مؤكداً ولم يكذب ناقله ولا يعتمد عليه في الدلالة وسيأتي إن شاء الله تعالى ما خالف أصلاً قطعياً [*] .
__________
(1) ـ في صحيح البخاري ج: 4 ص: 1840 ما لفظه : حدثنا يحيى حدثنا وكيع عن إسماعيل بن أبي خالد عن عامر عن مسروق قال ثم قلت لعائشة رضي الله عنها يا أمتاه هل رأى محمد ربه فقالت لقد قف شعري مما قلت أين أنت من ثلاث من حدثكهن فقد كذب من حدثك أن محمدا رأى ربه فقد كذب ثم قرأت لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار وهو اللطيف الخبير وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا أو من وراء حجاب ومن حدثك أنه يعلم ما في غد فقد كذب ثم قرأت وما تدري نفس ماذا تكسب غدا ومن حدثك أنه كتم فقد كذب ثم قرأت يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك الآية ولكنه رأى جبريل عليه السلام في صورته مرتين إهـ وقد أخرجه مسلم ، وأحمد ،وأبو عوانة ، وأبو يعلى

(1/87)


(و) كذا (لا) يؤخذ بأخبار الآحاد أيضاً (فيما تعم به البلوى علماً) أي يلزم كل مكلف اعتقاده والعلم بما فيه لو ثبت عن الشارع فيجب أن يرد أن لم يعلم صحته ويقطع بكذب ناقله إن لم يوافق قاطعاً إلا بتعسف (كخبري الأمامية) فإنها روت أن النبي نص على الإمامة في اثني عشر إماماً معينين بأسمائهم وأنسابهم ولم ينقل نقلاً متواتراً مع كثرة سامعيه وتوفر الدواعي على نقله فحكموا بأن الانفراد في ما هذا شأنه يدل على التكذيب (1) (والبكرية) وهم فرقة من المجبرة منسوبون إلى بكر بن عبد الواحد روت أن النبي نص نصاً جلياً على إمامة أبي بكر ولم ينقل كذلك .
قلنا يجب استفاضة مثل ذلك لأنا نعلم ضرورة مما جرت به العادة فينا أنه لا يجوز أن ينفرد واحد بنقل ما توفر الدواعي إلى نقله وقد شاركه فيه جماعة وافرة فينقله ولا ينقله غيره منهم لن ذلك يكون بمنزلة إخبار واحد من جماعة كثيرة حضروا الجمعة بأن خطيبهم قتل على المنبر ولا ينقله غيره فكما أنا نقطع بكذبه حيث لم ينقله غيره لأن دواعي غيره إلى نقله كدواعيه إلى نقله نقطع بكذب ما أشبهه ولا شك أن دعوى النص المذكور على الاثني عشر وعلى أبي بكر مثل أخبار المخبر بقتل الخطيب لاشتراكهما في توفر داعي السامع إلى نقله لعظم حاله ولذلك يقطع بكذب من ادعى أن القرآن عورض بمثله ولم تنقل تلك المعارضة ولأن مثل ذلك يؤدي إلى تجويز أن الرسول قد أمرنا بغير هذه الصلوات وأنه قد نهانا عنها وأمر بشرب الخمر بعد تحريمه لكن لم ينقل ذلك إلينا وإن بين مكَّة والمدينة مدينة أعظم منهما ولم ينقل إلينا وذلك ظاهر الفساد ؛ لتأديته إلى هدم الدين .
__________
(1) ـ في نسخة المؤلف بدل ما تحته خط : لا يدل على الكذب و الصواب ما أثبتناه والله أعلم تمت

(1/88)


قالوا إن لم يعلم انتفاء الحامل على كتمان الخبر لم يحصل الجزم بكذبه فإن الأغراض الحاملة عليه كثيرة كالخوف والحسد ولذا لم تنقل النصارى كلام المسيح في المهد متواتراً مع توفر الدواعي إلى نقله وغرابته ونحو انشقاق القمر من المعجزات الآحادية كذلك وإفراد الإقامة وتثنيتها وإفراد الحج عن العمرة وقرانه بها كذلك
قلنا : انتفاء الحامل يعلم عادة كالحامل على أكل طعام واحد فإنه معلوم الانتفاء وكلام المسيح متواتر ولو سلم فقد أغنى عن تواتره القرآن لإفادته العلم بكلامه عليه السلام والآحادي من المعجزات أغنى عن تواتره القرآنُ ؛ لأنه لما اشتهر مع كونه أعظمها ضعف الداعي إلى تواتر غيره
وأمَّا الفروع فليست مما ذكرناه لعدم الأصالة فيها والغرابة ولم سلم فالاستمرار والتكرار أغنى عن النقل وذلك أنها إنما تنقل لتعلم من لا يعلم والاستمرار كافٍ في ذلك والله سبحانه أعلم .
وذكر هذه المسألة من باب عطف الخاص على العام لاشتمال ما قبلها عليها كما لا يخفى
(و) أما قبول خبر الآحاد (في ما تعم به البلوى عملاً) لا علماً واعتقاداً أي ما كان حكمه عاماً للمكلفين أو أكثرهم لو صح وكانت الحاجة ماسة إليه في عموم الأحوال بأن يتكرر على المكلف في اليوم أو الاسبوع أو الشهر أو السنة (كحديث مس الذَّكَر) فإنه روي عن بسرة بنت صفوان أن النبي قال:( من مس ذكره فليتوضأ) . أخرجه مالك وأحمد وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجة والحاكم

(1/89)


قيل والسَنَةُ أدنى ما يوصف بعوم البلوى . وقال الدواري الأصح أنه لا يشترط التكرار لعموم البلوى بل يكفي في عموم البلوى شمول تكليف ذلك لجميع المكلفين أو لأكثرهم فإنا لو تعبدنا بحج بيت آخر في أعمارنا كان تكليف ذلك ممَّا تعم به البلوى مع أن ذلك لا يلزم في العمر إلا مرة ففيه (خلاف) بين العلماء والصحيح ما عليه الأكثر من وجوب العمل به لعموم الدليل الدال على وجوب العمل بأخبار الآحاد وقبول الأُمَّة له في تفاصيل الصلاة وغيرها من سائر التكاليف
وقال أبو الحسن الكرخي وأبو عبد الله البصري لا يجب العمل به . ذهاباً منهما إلى أن العادة في مثله تقضي بالتواتر لتوفر الدواعي على نقله ولما لم يتواتر علم كذبه .
والجوب أنا لا نسلم قضاء العادة بتواتره لما علم من عمل الأمَّة بها في جميع الأحكام الشرعية
قالوا : لو صح العمل بها لوجب عليه أن يلقيها إلى عدد التواتر لئلا يؤدي إلى بطلان صلاة أكثر الناس .
قلنا : لا نسلم الوجوب وإبطال الصلاة تكون فيمن بلغه خاصة وأمَّا وجوب التبليغ المستفاد من قوله تعالى ?يا أيها الرسول بلغ ما أُنزل إليك من ربِّك? [ المائدة67]فليس المراد أن يبلغ كل حكم إلى كل أحد بل عدم الإخفاء ولذا قال تعالى ?فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون?[النحل 43/الأنبياء 7] .
فإن قيل : ما صدكم عن العمل بموجب الخبر وهو الوضوء من مس الذَّكر ؟

(1/90)


قلت : لأنه معارض بخبر رواه في أصول الأحكام وغيره عن قيس بن طلق عن أبيه أنه سأل النبي أفي مس الذكر وضوء ؟ قال : لا وعنه مثله هل هو إلا بضعة منك (1) وعنه مثله هل هو إلا حذوة منك وعن علي عليه السلام أنه قال ما أبالي أنفي مسست أو أذني أو ذكري (2)
وقوله عليه السلام عندنا حُجَّة لما سيأتي إن شاء الله تعالى وهو إجماع أهل البيت عليهم السلام لا أعلم قائلاً بخلافه وإجماع الصحابة أيضاً إلا ما يروى عن ابن عمر فإنه كان شديد التفحص في الطهارة وكان يغسل باطن عينيه ويتوضأ لكل صلاة مع أن راوي الأول الزهري وقد روى أنه أحد حرسة خشبة زيد بن علي عليهما السلام وأنه خالط الظلمة وظاهرهم وكتب إليه أخ له في الدِّين كتاباً يعظه فيه ويخوفه من مخالطتهم ومن اراد الاطلاع عليه فهو في شرح الأساس الصغير حكاية عن الكشاف الحذوة بالحاء المهملة المثلثة القطعة وهي المراد هنا وبالجيم النار والله أعلم

[شروط قبول الأخبار]
(وشروط قبولها) أي جواز قبول المكلف لها فيما يتعلق بها حكم شرعي أمور
منها يرجع إلى المُخْبِر ومنها ما يرجع إلى مدلول الخبر
__________
(1) ـ أخرجه البيهقي في سننه الكبرى و النسائي في سننه وابن حبان في صحيحه و الترمذي في سننه و أبوداود في سننه و الطبراني في معجمه الكبير و النسائي في سننه الكبرى و الدارقطني في سننه و عبد الرزاق في مصنفه
(2) ـ أخرج نحوه الطبراني في معجمه الكبير و الطحاوي في شرح معاني الآثار و أبو يعلى في مسنده

(1/91)


فالأول : هو (العدالة) وهي لغة عبارة عن التوسط في الأمر من غير إفراط إلى طريق الزيادة والنقصان . واصطلاحاً ملكة في النفس تمنعها عن ارتكاب الكبيرة والرذيلة والكلام في الكبيرة منتشر يؤخذ من مظانه وقد دخل فيها التكليف والإسلام فلا يقبل الكافر والفاسق والمجنون والصبي فنشترط عند الأداء وإن لم يكن عند التحمل كذلك قياساً على الشهادة (1)وللإجماع على قبول رواية الحسنين عليهما السلام ويسمى ما يرويانه عند أهل النقل بسلسلة الذهب وابن عباس وابن الزبير وسهل ابن أبي خيثمة فيما سمعوه قبل التكليف ورووه بعده تدل عليه كتب الحديث .
فإن قيل :إن ابن عمر أخبر أهل قباء بتحويل القبلة فاستداروا .
__________
(1) ـ وكذا في حال الكفر والفسق إذا أدي في حال الإيمان كما روي أن جبير بن مطعم قال سمعت رسول الله يعني حين قدم عليه في أسارى بدر فقرأ في المغرب بالطور وفي رواية فلما بلغ هذه الآية ?أم خلقوا من غير شيءٍ أم هم الخالقون * أم خلقوا السماوات والأرض بل لا يوقنون * أم عندهم خزائن ربِّك أم هم المصيطرون? كاد قلبي أن يطير . وفي رواية البخاري وذلك أول ما وقر الإيمان في قلبي أنه أسلم بعد ذلك قبل الفتح وأداه ووقع في زمن ابن تيمية أن صبياً من اليهود سمع شيئاً من الحديث فكتب بعض الطلبة اسمه في الطبقة فأنكر عليه وسُئِل عنه ابن تيمية فأجازة ولم يخالفه أحد من أهل عصره واتفق أن ذلك الصبي أسلم بعد بلوغه وأداء فسمعوا منه فينبغي حضور الصبيان مجلس الحديث تبركاً وللفائدة ذكر معناه في الغاية شرح الهداية للجزري والله أعلم تمت منه

(1/92)


قلنا :لو سلم كونه صبياً فقد روي أنه أخبرهم بذلك أنس فيحتمل أنهما جاءا معاً فأخبراهم على أنه قد قيل إنه أفاد العلم بالقرائن ولذا نسخ به المعلوم كما يأتي في النسخ إن شاء الله تعالى ولا يقبل مجهول العدالة أيضاً إذ لا يؤمن فسقه ؛ لأن الفسق مانع كالصغر والكفر فلا بد من ترجيح انتفائه ولقوله تعالى ?ولا تركنوا إلى الذين ظلموا? [هود 113]وقوله تعالى ?إن يتبعون إلا الظن? [النجم23]?ولا تقف ما ليس لك به علم?[الإسرا 26]ونحوها فاقتضت تحريم العمل بالظن في الشرعيات فالعمل بخبر الواحد خلاف الأصل للنهي عن اتباع الظن إلا ماخصه دليل ولا دليل يدل على جواز العمل بالظن إلا في خبر العدل وهو إجماع الصحابة على قبوله كما قدمنا فبقى ما عداة على أصل التحريم وخبر المجهول مما عداه وقال أبو حنيفة (1)ومحمَّد بن منصور وابن زيد والقاضي في العمد وابن فورك يقبل محتجين بقوله :( نحن نحكم بالظاهر )(2)
__________
(1) ـ كذا في كتب الأصول الإطلاق عن أبي حنيفة في الرواية والقبول والترجيح من أنه يقبل المجهول وفي الحكاية عنه نظر فإنه حكى في الهداية عنه في شرح قوله (والمختار قبول من لا يرسل إلا عن عدل) أن أبا حنيفة لم يقل بقبول المجهول بل إلى تابعي التابعين لقوله خير القرون قرني الحديث ولذا اختلف هو وصاحباه فقضى بظاهر العدالة للحوقه لتابعي التابعين لا هما لعدم لحوقهمالهم إهـ والله أعلم تمت منه
(2) ـ في خلاصة البدر المنير ج: 2 ص: 432حديث إنمانحكم بالظاهر والله يتولى السرائر غريب قال الحافظ جمال الدين المزي لا نعرف إهـ وفي تحفة الطالب ج: 1 ص: 174قوله وايضا نحن نحكم بالظاهرهذا الحديث كثيرا ما يلهج به اهل الاصول ولم اقف له على سند وسألت عنه الحافظ ابا الحجاج المزي لكن له معنى في الصحيح وهو قوله إنما اقضي بنحو مما أسمع وقال البخاري في كتاب الشهادات قال عمر إن ناسا كانوا يؤخذون بالوحي على عهد رسول الله وإن الوحي قد انقطع وإنما ناخذكم الآن بما ظهر لنا من أعمالكم فمن أظهر لنا خيرا أمناه وقربناه وليس لنا من سريرته شيء الله يحاسبه في سريرته ومن أظهر لنا سوءا لم نأمنه ولم نصدققه وإن قال إن سريرته حسنة ورواه الإمام أحمد في منسده مطولا وابو داود محتصرا والله أعلم

(1/93)


وقبوله خبر الأعرابي (1)
قلت : أما الأول فقد قال المزَّي والذهبي لا أصل له . نعم الذي في البخاري عن عمر إنما نؤاخذكم الآن بما ظهر لنا من أعمالكم .
وأما الثاني فيحتمل أن يكون قد عرفه أو قد كان صح له برؤيته أو رؤية غيره وأكده خبر الأعرابي وأيضاً فإن صدق المجهول وكذبه مستويان فيه فلم يكن صدقه ظاهراً وقياسه لقبوله في الرواية على قبوله في الأخبار بكون اللحم مذكى وبرق جاريته التي يبيعها ونحوهما غير صحيح لاشتراط عدم الفسق في محل النزاع وما ذكروه مقبول مع الفسق اتفاقاً على أن الرواية أعلى مرتبة من هذه الأمور الجزئية لأنها تثبت شرعاً عاماً فلا يلزم من القبول هنا القبول هناك
__________
(1) ـ في رؤية الهلال تمت

(1/94)


أما وقت الأدا فالتكليف والعدالة معتبران (والضبط) من الراوي أي قوة الحفظ بحيث لا يزول لفظ ما سمعه ومعناه عن خاطره أو معناه فقط على القول بجوازها بالمعنى وذلك ليحصل الظن الذي هو شرط العمل فلو كان سهوه أكثر من ضبطه أو مساوياً له لم يحصل وهذا فيمن لم يعلم حاله فيما روى وأما ما علم ضبطه أو سهوه في عمل فيه عليه مطلقاً كأبي هريرة (1)
__________
(1) ـ في عبارة المؤلف إجمال لم تتضح ولم تتبين فقد اجمل في عده من ذكر هل هم ممن علم ضبطهم أو ممن علم نسيانهم تمت وذكر في لوامع الأنوارلسيدي المولى الحجة مجد الدين المؤيدي حفظه الله ما لفظه : اختلف في اسمه واسم أبيه اختلافا كثيرا لم يختلف في اسم أحد مثله ، أكثر الصحابة رواية على الإطلاق ضربه عمر بالدرة ، وفي إملاء أبي جعفر النقيب عن علي عليه السلام ( لا أجد أحدا أكذب على رسول الله من هذا الدوسي ... وروى البخاري له حديثا عنه فلما قيل له : أنت سمعته من رسول الله ؟ قال : لا بل من كيسي ، ووصفه المنصور بالله عليه السلام بالغفلة ، لحق بمعاوية ودخل الكوفة ، وأساء القول في أمير المؤمنين عليه السلام فقال له بعض الحاضرين : يا أبا هريرة أما سمعت رسول الله يقول : ( اللهم وال من والاه وعاد من عاداه )؟ قال : بلى ، قال فأشهد لقد واليت من عاداه وعاديت من والاه قال في الجداول : وقد اكثرت في تقريظه الحشوية كالشوكاني وغيره إهـ ولقد ألفت فيه المؤلفات منها على سبيل المثال أبو هريرة شيخ المضيرة تأليف محمود أبو رية ، وأضواء على السنة المحمدية للمؤلف نفسه قال فيه : ـ نقلا عن الكاتب الإسلامي الكبير مصطفى صادق الرافعي ـ أول راوية اتهم في الإسلام وممن اتهمه بالكذب عمر وعثمان وعلي وغيرهم ، وقال ايضا : وكان علي رضي الله عنه : سيء الراي فيه ن وقال عنه : ألا إنه أكذب الناس أو قال أكذب الأحياء على رسول الله لأبو هريرة ، ولما سمع أنه يقول حدثني خليلي ! قال له متى كان النبي خليلك؟إهـ بتصرف

(1/95)


ووابصة بن معبد الأسدي (1) ومعقل بن سنان (2)
__________
(1) ـ في لوامع الأنوار لسيدي المولى الحجة مجد الدين المؤيدي حفظه الله وابصة بكسر الموحدة ابن معبد الأسدي أبو شداد وفد سنة تسع أخرج له محمد بن منصور والمرشد بالله والأربعة إلا النسائي
(2) ـ شهد فتح مكة مع النبي وكان حامل لواء قومه يومئذ سكن الكوفة ثم تحول إلى المدينة وقدم دمشق على يزيد بن معاوية ثم رجع إلى المدينة ساخطا على يزيد وخلعه وكان مع أهل الحرة وقتل يومئذ وذلك في آخر سنة ثلاث وستين قتله مسلم بن عقبة المري الذي يقال له مسرف بن عقبة صبرا ، روى له الأربعة

(1/96)


(و) الثاني (عدم مصادمتها) أي أخبار الآحاد دليلاً (قاطعاً) فإن صادمته بحيث لا يمكن تأويله معها لم تقبل سواء كان نقلياً أو عقلياً وذلك كصرائح الكتاب والسنة المتواترة والإجماع القطعي وما علم بضرورة العقل فيقطع بوضعها لأن الظني لا يقوى على مقاومة القطعي أمَّا إذا أمكن تأويله بلا تعسف على وجه لا يصادم القطعي فهو الواجب صيانة لمن ظاهره العدالة عن التكذيب فإن لم يكن تأويله إلا بتعسف أطرج وقطع بكذب ناقله في الأصح . وقال محمَّد بن شجاع (1)بل يتأول ولو تعسفاً إيثاراً لحمل الرواي على السلامة . وبهذا يظهر أن اشتراط العدالة لا يغني عن الاشتراط فإنه أعم من أن يمكن تأويله أو سهوه أو غلطه أو لا يمكن (وفقد استلزام متعلقها الشهرة) أيضابأن لا يكون مما تتوفر الدواعي على نقله لغرابته كقتل خطيب على منبر المسجد الجامع يوم الجمعة أو لعموم البلوى به علماً كمسألة الإمامة التي تقدمت فإن كان كذلك لم تقبل الآحاد فيه لما تقدم .
قلت وهذا الشرط يغني عن قوله ولا فيما تعم به البلوى علماإلخ .
__________
(1) ـ ذكره في سير أعلام النبلاء فقال محمد بن شجاع الفقيه أحد الأعلام أبو عبد الله البغدادي الحنفي ويعرف بابن الثلجي سمع من ابن علية ووكيع وأبي أسامة وطبقتهم وتلا على اليزيدي وأخذ الحروف عن يحيى بن آدم والفقه عن الحسن بن زياد وبرع وكان من بحور العلم روى عنه يعقوب بن شيبة وحفيده وعبد الله بن أحمد بن ثابت وعدة وكان صاحب تعبد وتهجد وتلاوة مات ساجدا له كتاب المناسك في نيف وستين جزءا إلا أنه كان يقف في مسألة القرآن وينال من الكبار عاش خمسا وثمانين سنة ومات سنة ست وستين ومئتين

(1/97)


وإنما اشترطت هذه الشروط لينتفي ظن الكذب إذ الكذب على الرسول معلوم الوقوع إمَّا في الماضي وإما في المستقبل لقوله فيما يروى عنه (سيكذب عليَّ كما كُذب على الأنبياء من قبلي فما روي عني فاعرضوه على كتاب الله فما وافقه فهو مني وأنا قلته وما لم يوافقه فليس مني ولم أقله )(1)فإن كان هذه الحديث كذباً فقد كذب عليه وإن كان صدقاً لزم أن يقع الكذب
[أسباب وقوع الأحاديث المكذوبة]
وسبب الوقوع :إما النسيان من الراوي بأن سمع خبراً وطال عهده به فزاد وظنه من كلامه فإنهم كانوا يسمعون الحديث في الخطب والمقامات المشهورة ثم يغفل الإنسان مدة ثم يروي ذلك الحديث ولم يكن قيده بالكتابة
ومن هذا النوع الذين امتحنوا بأولادهم أو بوراقين لهم فوضعوا لهم أحاديث ودسوها عليهم فحدثوا بها من غير أن يشعروا كعبد الله بن محمد ابن ربيعة القدامي (2)
أو الغلط بأن يريد أن ينطق بلفظ فيسبق لسانه إلى غيره ولم يشعر
__________
(1) ـ في مسند الربيع ج: 1 ص: 36 أبو عبيدة عن جابر بن زيد عن ابن عباس عن النبي قال إنكم ستختلفون من بعدي فما جاءكم عني فاعرضوه على كتاب الله فما وافقه فعني وما خالفه فليس عني / وفي ص: 365جابر بن زيد عن النبي قال ما من نبي إلا وقد كذب عليه من بعده ألا وسيكذب علي من بعدي كما كذب علي من كان قبلي فما أتاكم عني فاعرضوه على كتاب الله فما وافقه فهو عني وما خالفه فليس عني .
(2) ـ عبدالله بن محمد بن ربيعة القدامي عن مالك ضعفه ابن عدي. قال ابن حبان كانت تقلب له الأخبار فتجنب فيها وكانت آفته أنه لا يحل ذكره في الكتب . قال في لسان الميزان اتى عن مالك بمصائب منها عن جعفر بن محمد عن أبيه عن جده قال توفيت فاطمة رضي الله عنها ليلا فجاء أبو بكر وعمر رضي الله عنهما وجماعة كثيرة فقال أبو بكر لعلي تقدم فصل قال لا والله لا تقدمت وأنت خليفة رسول الله ( ) فتقدم أبو بكر وكبر أربعا

(1/98)


أو يريد النقل بالمعنى فيبدل مكان ما سمعه ما لم يطابقه ظناً منه أو يطابقه
أو الافتراء كوضع المنافقين المتقربين إلى أئمة الضلال بالزور والبهتان كغياث بن إبراهيم النخعي (1) قال فيه ابن الجوزي ذكر فيه ابن خثيمة أنه حدث المهدي الخليفة العباسي وهو يلعب بالحمام بحديث (لا سبق إلا في نصل أو خف)(2)فزاد فيه أو جناح . فقال المهدي أشهد أن قفاك قفا كذاب . وتركها بعد ذلك وأمر بذبحها وقال أنا حملته على ذلك ، وكدسيس الملحدة إنها لأحاديث مخالفة للعقل ونسبوها إلى الرسول تنفيراً للعقلاء عن اتباع شريعته
وري أن بعضهم لما قدم للقتل في أيام أبي جعفر العباسي (3) قال افعلوا ما شئتم فقد دسست في أحاديثكم أكثر من أربعة آلاف حديث .
__________
(1) ـ في لسان الميزان غياث بن إبراهيم النخعي الأعمش قال احمد ترك الناس حديثه ، وهو الذي ذكر أبو خيثمة انه حدث المهدي بخبر لا سبق الا في نصل أو حافر زاد فيه أو جناح فوصله ولما قام قال اشهد ان قفاك قفا كذاب انتهى وقال الآجري سألت أبا داود فقال كذاب وقال مرة ليس بثقة ولا مأمون وقال يحيى بن معين مرة كذاب خبيث وقال الساجي تركوه وقال صالح جزرة كان يضع الحديث ،وقال النسائي في الجرح والتعديل ليس بثقة ولا يكتب حديثه وقال ابن عدي بين الأمر في الضعف وأحاديثه كلها شبه الموضوع
(2) ـ (لا سبق إلا في نصل أو خف أو حافر ) أخرجه الترمذي في سننه والنسائي في سننه و ابن حبان في صحيحه و ابن ماجه في سننه و أبوداود في سننه و ابن حنبل في مسنده و الطبراني في معجمه الكبير و النسائي في سننه الكبرى و الطبراني في معجمه الصغير والبيهقي في سننه الكبرى
(3) ـ هو الذي فعل الأفاعيل بآل بيت النبوة سلام الله عليهم وسيلقى مصيره لا محالة . وهو أبو جعفر المنصور

(1/99)


وحكي عن المؤيد بالله عليه السلام أنه قال روي أن أحمد بن حنبل ويحيى بن معين قعدا إلى جنب رجل فأخذ يكيل الأحاديث كيلاً وهو يروي عن أحمد بن حنبل ويحيى بن معين فنظر كل منهما إلى صاحبه ثم قالا له يا هذا إنك تروي عنا ما لم نقله ولم نسمعه وهذا يحيى بن معين وأحمد حنبل فغضب ونفض كمه في وجههما وقال سفهت أحلامكما أتحسبان أنه ليس في الأرض من اسمه أحمد بن حنبل ويحيى بن معين إلا أنتما لقد رويت عن ثمانية عشر ممن سمي باسميكما .

(1/100)


وكالكرامية (1) والخطابية (2) والرافضية (3) وبعض السالمية (4) فإن مذهبهم تجويز وضع أحاديث ونسبتها إلى الرسول نصرة لمذهبهم وكبعض الإمامية فإنهم يتعتقدون أن الذي يسمعونه من أئمتهم قاله الرسول وإن لم يكن قاله ومذهب بعض الكرامية أيضاً جواز الوضع فيما لا يتعلق به حكم من الثواب والعقاب ترغيباً للناس في الطاعة وزجراً لهم عن المعصية .
__________
(1) ـ الكرامية نسبة إلى محمد بن كرام السجستاني المتوفي (255)هـ لهم مقالات في التجسيم شنيعة ، وذكر السمعاني أنهم يقولون بجواز وضع الأحاديث على رسول الله
(2) ـ الخطابية أتباع أبي خطاب الأسدي ، قالوا : الأئمة أنبياء ، وأبو الخطاب نبي ،وهؤلاء يستحلون شهادة الزور لموافقيهم على مخالفيهم ، وقالوا : الجنة نعيم الدنيا( التعريفات316)
(3) ـ في مقدمة مسند الإمام زيد بن علي- ص 11 : قال فيها وفي تاريخ اليافعي لما خرج زيد ، أتته طائفة كبيرة قالوا له : تبرأ من ابي بكر وعمر حتى نبايعك . فقال : لاأتبرأ منهما . فقالوا : اذن نرفضك . قال : اذهبوا فأنتم الرافضة . فمن ذلك الوقت سموا رافضة . وتبعته التي تولت ابا بكر وعمر وسميت الزيدية . ومثل هذا مع تطويل ذكره ابن الاثير في الجزء الثاني والحافظ بن عساكر في حرف الزاي والذهبي في تهذيب التهذيب في الجزء الرابع في حرف الزاي . وفي ص 46 : قيل لجعفر الصادق بن محمد الباقر : ان الرافضة يتبرأون من عمك زيد ، فقال : برئ الله ممن تبرأ من عمي ، كان والله أقرانا لكتاب الله وأفقهنا في دين الله وأوصلنا للرحم ، ما ترك فينا لدنيا ولا لآخره مثله
(4) ـ السالمية جماعة من متكلمي البصرة ، ينسبون إلى أبي الحسن بن سالم صاحب سهل بن عبد الله التستري ، أثنى عليهم ابن تيمية ، وقال غيره إنهم جماعة الحشوية تمت

(1/101)


وحمل بعضهم قوله (من كذب علي متعمداً) (1)الخبر المتواتر على أن يقول ساحر أو مجنون .
وقد استفيد من العبارة عدم اشتراط غير هذه الشروط من الحرية والذكورة والبصر والعدد [*] وعلم العربية ومعنى الحديث والإكثار منه وعدم القرابة والعداوة لما اشتهر عن الصحابة من قبول من ليس كذلك ولقوله فيما أخرجه أحمد والترمذي (فربّ حامل فقه غير فقيه) والله أعلم .
ولما فرغ من بيان شروط الرواية ومن جملتها العدالة أخذ يبيَّن ما تثبت به فقال
[طرق التعديل ]
(وتثبت عدالة الشخص) الراوي أو الشاهد رجلاً كان أو امرأة حُراً كان أو عبداً بأحد أمور
إمَّا بتصريح معروف العدالة بعدالته فإن كان مجهولاً احتيج إلى تعديله وإن تسلسل
وإما (بأن يحكم بشهادته) أو روايته أي بسببها في شيءٍ (حاكم) عدل سواءً كان محكماً من جهة الإمام أو المحتسب أو الصلاحية أو الخصمين إذا كان (يشترط العدالة) المحققة في الشاهد أو الراوي حيث لا يحتمل أن يكون الحكم بسبب غيرها من علم الحاكم وكون الشهود ثلاثة
(و) إمَّا (بعمل العالم) العدل الذي لا يقبل المجهول (بروايته) أي بسببها كذلك
(قيل و) إما (برواية العدل عنه) مطلقاً وقيل ليس بتعديل مطلقاً والصحيح أنه إن كان لا يروى إلا عن عدل قُبل وإلا فلا .
وهي مرتبة في القوة كما ذكر أمَّا التصريح بها فلأنه أقوى من فهمها بالالتزام وأما الحكم فلأن الحاكم لا يحكم إلا مع قوة ظنه بالعدالة وأما العمل المذكور فكونه أقوى من الرواية ظاهر فهذه طرق التعديل .
[ طرق الجرح ]
وأمَّا طرق الجرح فأعلاها التصريح به مع ذكر السبب
__________
(1) ـ قال في الغاية شرح الهداية في علم الرواية للجزري وقد نقل النووي أنه جاء عن مائتين من الصحابة والله أعلم تمت منه

(1/102)


ثم التصريح من دونه وليس منها ترك الحاكم الحكم بشهادته ولا ترك العالم العمل بروايته لجواز معارض فلم يرجح أيهما ولا الشهادة في الزنا مع انخرام نصابها مع جهل المنع ولا فقد شرط غير العدالة كعدم ضبط أو غلبة نسيان ولا التدليس من الراوي إن لم يتضمن غشاً ويلحق بذلك ما إذا روى أحد عن شيخ حديثاً وأنكره الشيخ وقال لم أرو له هذا الحديث فالاتفاق على أنه لا يُعمل به لأن أحدهما كاذب قطعاً من غير تعيين ولا يقدح في عدالتهما لأنَّا لم نعلم كذب أحدهما معيناً والمفروض أنها قد علمت عدالته فلا يرتفع بالشك وإن لم ينكره بل قال لا أدري أرويته أم لا فالأكثر أنه يُعمل به لأن الراوي عدل غير مكذب وغاية عدم تذكر الأصل لما رواه أن يكون كموته وجنونه مثاله إنكار الزهري ما رواه ابن جريج عن مسلم عن أبي موسى عن الزهري عن عروة عن النبي : (أيما امرأة نكحت بغير إذن وليها فنكاحها باطل باطل باطل )(1) قال ابن جريح سألت الزهري فأنكره ولم يعرفه وقد رواه مسلم .
__________
(1) ـ في سنن الدارمي ج: 2 ص: 185حدّثنا أبو عاصمٍ عنْ ابنِ جريجٍ, عنْ سليمانَ بنِ موسىَ, عنِ الزهريّ عن عروةَ, عن عائشةَ عنِ النبيّ ( )قالَ: «أيما إمرأة نُكِحَتْ بغيرِ إذنِ ولِيّهَا فنكاحُهَا باطلٌ فنكاحُهَا باطلٌ, فنكاحُهَا باطلٌ, فإنِ اشتجروا» قالَ أبو عاصمٍ وقالَ مرةُ: «فإنْ تشاجَرُوا فالسلطانُ وليّ منْ لاَ وليّ لَهُ, فإن أصابَهَا فلها المهرُ بِمَا استحلّ منْ فرجِهَا» قالَ أبو عاصمٍ أملاهُ عليّ سنةَ ستٍ وأربعينَ ومائةٍ

(1/103)


وكإنكار سهيل إبن أبي صالح حديث القضاء بالشاهد واليمين (1)وقد رواه عنه ربيعة ثم كان يرويه سهيل عن ربيعة ويقول حدثني ربيعة عني والله سبحانه أعلم
(ويكفي) عدل (واحد) ولو إمرأة أو عبداً (في الجرح والتعديل) للراوي أو الشاهد المجهول حاله فيهما إذ المعتبر الظن بهما وهو يحصل بخبر العدل ولا سبيل إلى اليقين أمَّا من اشتهر بالعدالة كعلي بن الحسين عليهما السلام أو بعدمها كالحجاج لعنه الله فلا يقبل القائل بخلافه
[تعارض الجرح والتعديل ]
__________
(1) ـ في تحفة الطالب ج: 1 ص: 215ربيعة روى عن سهيل بن أبي صالح عن ابيه عن ابي هريرة أن رسول الله قضي باليمين مع الشاهد ثم قال لربيعة لا أدري فكان يقول حدثني ربيعة هذا الحديث رواه ابو داود هكذا سواء ورواه الترمذي وابن ماجه ولم يذكرا قول سهيل لربيعة لا أدري وقال الترمذي حسن غريب قال عبد العزيز بن محمد الدراوردي وقد كان أصاب سهيلا علة أذهبت بعض عقله ونسي بعض حديثه فكان بعد يحدثه عن ربيعة عنه عن أبيه قلت وربيعة هذا هو ربيعة بن ابي عبد الرحمن شيخ مالكي

(1/104)


وإذا تعارض الجرح والتعديل فقيل لا يرجح أحدهما إلا بمرجح وهو مذهب الإمام المنصور بالله القاسم بن محمَّد عليه السلام لقوله تعالى ?فَبَشِّرْ عِبَاد ِ الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ? [الزمر18 /17] وقيل التعديل أولى من الجرح إن كثر المعدل (و) قيل بل (الجارح أولى وإن كثر المعدل) لأن في الجرح زيادة لم يطلع عليها المعدل فيجب العمل به لأنه لا ينفي مقتضى التعديل في غير صورة التعيين جمعاً بينهما إذ غاية قول المعدل أنه لم يعلم فسقاً ولم يظنه فيظن عدالته إذ العلم بالعدم في مثل هذه الصورة لا يتصور والجارح يقول أنا علمت فسقه فالحكم بعدم الجرح حكم بتكذيب الجارح والحكم بالجرح حكم بتصديقهما والجمع أولى ما أمكن هذا إن أطلقا أو عين الجارح السبب ولم ينفه المعدل بيقين أما أن عين الجارح السبب ونفاه المعدل يقيناً كأن يقول الجارح هو قتل زيداً يوم كذا ويقول المعدل هو حي ورأيته بعد ذلك اليوم فيقع بينهما التعارض لعدم إمكان الجمع المذكور وحينئذٍ يرجع إلى الترجيح بينهما بأمر خارج إن أمكن وإلا تساقطاً
(و) هل يجب ذكر سبب الجرح والتعديل ؟ فذهب أئمتنا عليهم السلام والجويني والباقلاني والرازي والغزالي إلى أنه (يكفي الإجمال فيهما من) عدل موافق اعتقاده فإن المخالفة في الاعتقاد من موجبات العداوة والتهمة خصوصاً في حق القدماء وحدُّهم رأس ثلاثمائة سنة (عارف) بأسبابهما لأن الجاهل لا يؤمن أن يعتقد في شيءٍ أنه جرح وليس به أو يعتقد أن العدالة لا تسقط بأمر وهو يسقطها فلا بد من التفصيل

(1/105)


(و) متى تعارض الخبر والقياس فإن لم يمكن الجمع بينهما بوجه فقال أئمتنا عليهم السلام وأحمد والشافعي وأكثر الصحابة وأكثر الحنفية وأبو عبد الله البصري أنه (يقبل الخبر المخالف للقياس) من كل وجه (فيبطله) ويقدم عليه لحديث معاذ المتلقى بالقبول ولإجماع الصحابة على تقديمه كما روي عن عمر أنه لما جاءه قاضي دمشق قال له كيف تقضي ؟ قال أقضي بكتاب الله . قال فإذا جاء ما ليس في كتاب الله تعالى ؟ قال أقضي بسنة رسول الله . قال فإذا جاء ما ليس في سنة رسول الله ؟ قال أجتهد رأيي وأوامر جلسائي . فقال له عمر أحسنت.
وعنه أنه لما بعث شريحاً على قضاء الكوفة قال انظر فما تبيَّن لك في كتاب الله فلا تسأل عنه أحداً وما لم يتبيَّن لك في كتاب الله فاتبع فيه السنة وما لم يتبيَّن لك في السنة فاجتهد فيه رأيك (1)
__________
(1) ـ أخرجه النسائي في سننه الكبرى و البيهقي في سننه الكبرى

(1/106)


وعن ابن مسعود أنه قال : (من عرض له قضاء فليقض بما في كتاب الله تعالى فإذا أتاه أمر ليس في كتاب الله تعالى فليقض فيه بما قضى رسول الله فإن أتاه أمر ليس في كتاب الله ولم يقض فيه رسول الله فليقض بما قضى الصالحون فإن أتاه أمر ليس في كتاب الله ولم يقض فيه رسول الله ولم يقض فيه الصالحون فليجتهد رأيه.والآثار في هذه كثيرة(1)تشهد بها كتب السير وشاع بين الصحابة التصريح بتقديم الخبر على القياس من غير نكير أحد منهم فكان إجماعاً ولأن خبر الواحد (2)أصل للقياس ومستقل بنفسه في إفادة الحكم كنص الكتاب والسنة المقطوع بها والقياس فرع له كما هو فرع للكتاب والسنة المتواترة غير مستقل بنفسه في إفادة حكم فلو قدم القياس عليه لكان تقديماً للفرع على الأصل وهو باطل ، وأيضاً فإن مقدماته أقل لأنه يجتهد فيه في أمرين : عدالة الراوي ودلالة الخبر والقياس يجتهد فيه في ستة أمور حكم الأصل وتعليله في الجملة وتعيين ظ الوصف المعلل به ووجوده في الفرع ونفي المعارض في الأصل ونفيه في الفرع وهذا إن لم يكن الأصل خبراً آحادياً وإلا وجب الاجتهاد في الأمور الستة مع الأمرين المذكورين في الخبر فلو قدم القياس على الخبر لقدم الأضعف وهو باطل إجماعاً وذلك لأن ما يجتهد فيه في مواضع أكثر فاحتمال الخطأ فهي أقوى والظن الحاصل به أضعف .
__________
(1) ـ أخرجه النسائي في سننه الكبرى
(2) ـ وإنما رد ابن عباس خبر أبي هريرة (توضؤا مما مست النار) بالقياس وقال ألا يتوضا بالماء الحميم ؟ فكيف يتوضا بما عن نتوضا ونحوذلك لارتياب في الراوي لعدم ضبطه ولعل ابن عباس علم أنه منسوخ بحديث ما رواه جابر كان آخر الأمرين من رسول الله ترك الوضوء ممَّا مست النار والله أعلم تمت منه .

(1/107)


فإن قيل : احتمال القياس أقل لأن الخبر يحتمل باعتبار العدالة كذب الراوي وفسقه وكفره وخطأه وباعتبار الدلالة التجوز والإضمار والاشتراك والتخصيص وباعتبار حكمه النسخ والقياس لا يحتمل شيئاً من ذلك .
أجيب : بأن تلك الاحتمالات بعيدة فلا تمنع الظهور وأيضاً فإنه يأتي مثلها في القياس إذا كان أصله خبراً آحادياً .
فإن قيل : ظاهر المتن يقضي بوجوب تقديم الخبر مطلقاً فكيف حكمت بأنه إنما يجب تقديمه عند تعذر الجمع بينهما ؟ .
قلت : لأنه قد تقرر أنه يجب التأويل والجمع بين الدليلين ما أمكن وسيأتي له أنه يصح تخصيص كل من الكتاب والسنة بمثله وبسائرها فكان هذا مطلقاً مقيداً بما سيأتي إن شاء الله تعالى والله أعلم .

(1/108)


(و) هذا إن كان القياس ظنياً فإن كان قطعياً وسيأتي فإنه (يرد ما خالف الأصول المقررة) وهي الكتاب والسنة والإجماع المعلومة ومنها القياس(1)المذكور فإذا قضى الخبر الآحادي في عين ما حكمت به الأصول المذكورة بخلافه كتحليل وتحريم على جهة النسخ فإنه يرد إذ لا يقوى الظني على مقاومة القطعي خلافاً للظاهرية .
قلت : وينظر في وجه ذكرها هنا على حدة فإنه قد تقدم ما يدل عليها في قوله وعدم مصادمتها قاطعاً فمع تفسير الأصول بما ذكر هي عين ما تقدم لا غيره والله سبحانه وتعالى أعلم .
(و) أمَّا إن خالفها ظاهر و أمكن الجمع بينه وبينها إمَّا بتخصيص أو تقييد أو تأويل فإنه لا يرد بل (يقبل المخالف لقياس الأصول) أي مقتضاها ظاهراً جمعاً بين الدليلين إذ هو الواجب مع إمكانه
__________
(1) ـ كذا فسر الأصول بما ذكرنا الإمام المهدي عليه السلام في المنهاج حيث قال وهي صرائح الكتاب والسنة والإجماع التي لم تنسخ . فإن قلت فإنه لم يذكر القياس كما ذكرته . قلت بل ذكره ضمناً في سياق ذلك حيث قال فإن قلت إذا كان الأصول النقلية هي الكتاب والسنة فالخبر الآحادي من الأصول فكيف يوصف بأنه مخالف للأصول ؟ قلت أرادوا بالأصول ما أفاده العلم اليقين من الأدلة العقلية والصرائح النقلية فما أفاد الظن فليس بأصل لكن إن وافق الأصول قُبِل وإلا وجب إطراحه عندناإلخ ما ذكره عليه السلام وكذا فإن صاحب الجوهرة قال : المراد بالأصول الكتاب ،والسنة المتواترة والإجماع القاطع ونحو ذلك ولا معنى لنحو ذلك إلا ما كان قاطعاً كالقياس القطعي والخبر المتلقى بالقبول . قال الدواري وهو مستند في كلامه إلى كلام الإمام المنصور بالله وكلام الشيخ الحسن والله أعلم إهـ .

(1/109)


وذلك كخبر القرعة فإنه روي من طريق عمران بن الحصين (1) أن رجلاً أعتق ستة مماليك وهو مريض ولم يكن له غيرهم فجزأهم النبي ثلاثة أجزاء ثم قرع فأعتق رسول الله اثنين وأرق أربعة ذكره في سنن أبي داود ومسلم والنسائي والبخاري والترمذي فإنه نقل للحرية وقد وقع الإجماع على أنها لا تنقل وكل واحد من العبيد يعتق ثُلُثه فلما أمر بالقرعة في حريتهم نقل الثلث الحر من الأربعة إلى الاثنين اللذين خرجت القرعة بحريتهما لأن الإجماع المذكور إنما وقع على من قد عرفت حريته بعينه وإسلامه والخبر لم يوجب رق من عرفت حريته بعينه بل حيث التبس تعيينها فمنع قياس الحرية المعلومة جملة على الحرية المتعينة في منع طرق الرق عليها
__________
(1) ـ في لوامع لسيدي المولى الحجة مجد الدين المؤيدي حفظه الله ما لفظه : عمرا ن بن حصين أبو نجيد بضم النون وفتح الجيم الخزاعي البصري أسلم عام خيبر وشهد ما بعد ذلك ، وكان من فضلاء الصحابة ، قلت ـ والكلام لسيدي مجد الدين ـ وقد نزهه في شرح النهج عن الانحراف وروي أنه كان ممن يفضل الوصي عليه السلام وهو الظن به لمكانه في الاسلام ، قال : وكان مجاب الدعوة ، مات بالبصرة سنة اثنتين وخمسين ، أخرج له الجماعة وأئمتنا الخمسة إلا الجرجاني ، عنه أبو رجاء العطاردي ، وعبد الله بن بردة ، وأبو نضرة ، والحسن البصري إهـ

(1/110)


وكخبر المصراة فإنه روي عنه أنه قال لمن اشترى المصراة (لك خير النظرين إن شئت فخذها وإن شئت فارددها وأردد معها صاعاً من تمر )(1)ذكره في أصول الأحكام وغيره (2)فإنه وقع الإجماع على وجوب ضمان مثل المثلي وقيمته القيمي عند فوات العين فضمان اللبن بالصاع خلاف قياس الأصل الذي هو الإجماع لأنه إنما انعقد على ضمان المثلي بمثله حيث حصل اليقين بتماثلهما جنساً وصفة ولبن المصراة يجوز أن يخالف لبن غيرها في صفة وخاصية فالخبر الوارد فيها لم يمنع ما أجمع عليه بعينه بل منع من قياس ما ظن فيه المماثلة على ما علمت فيه . والمصراة من صريته إذا جمعته والمراد الشاة أو نحوها جُمع اللبن في ضرعها وترك حلبه ليظنها المشتري كثيرة اللبن فتأمل فإن هذا المقام من مظان مزال الأقدام والله وليُّ الفضل والإنعام
__________
(1) ـ أخرجه مسلم في صحيحه و البخاري في صحيحه و النسائي في سننه و ابن حبان في صحيحه و الترمذي في سننه و ابن ماجه في سننه و أبوداود في سننه و ابن حنبل في مسنده و الطحاوي في شرح معاني الآثار و الحميدي في مسنده و الطبراني في معجمه الكبير و النسائي في سننه الكبرى و الدارقطني في سننه و ابن راهويه في مسنده و البيهقي في سننه الكبرى
(2) ـ فيه خلاف بين المحدثين ففي بداية المجتهد ج: 2 ص: 132والتصرية عند مالك والشافعي عيب وهو حقن اللبن في الثدي أياما حتى يوهم ذلك أن الحيوان ذو لبن غزير وحجتهم حديث المصراة المشهور وهو قوله لا تصروا الإبل والبقر فمن فعل ذلك فهو بخير النظرين إن شاء أمسكها وإن شاء ردها وصاعا من تمر قالوا فأثبت له الخيار بالرد مع التصرية وذلك دال على كونه عيبا مؤثرا قالوا وأيضا فإنه مدلس فأشبه التدليس بسائر العيوب وقال أبو حنيفة وأصحابه ليست التصرية عيبا للاتفاق على أن الإنسان إذا اشترى شاة فخرج لبنها قليلا أن ذلك ليس بعيب

(1/111)


(و) اعلم أنه لا خلاف في تعين رواية ما تعبدنا باللفظ كالأذان وفي أولوية رواية غيره باللفظ واختلفوا في جوازها بالمعنى فقط فالصحيح أنها (تجوز[*]الرواية) بحذف مضاف أي قبولها بقرينة ما قبله وبعده [*]ويلزم تكريره لدخوله في شرط قبولهاإلخ أو بدونه فيدل على أن العصيان عنده سلب أهلية وضعف ما ذكره الشرَّاح من تكرير عدل لتقدمه وإلا لزم تكرير ضابط لتقدمه أيضاً (بالمعنى) أي معنى لفظ الرسول الذي أراده وعناه سواءً كانت الباء للإلصاق أو المصاحبة [*] لا ما من شأنه أن يعني باللفظ وإلا لزم جواز القبول أو الرواية [*] ولا بغير ما عناه كمن سمعه يقول في ولد زنية معين (ولد الزنا شر الثلاثة)(1)فرواه بلفظ عام وفي تاجر معيَّن باع جملاً معيباً وحلف ما به عيب (التاجر فاجر)(2)فرواه بلفظ عام وحديث عائشة (من صام رمضان وأتبعه ستاً من شوال) فصحفه شيئاً بمعجمة فتحتية وحديث زيد بن ثابت أنه (احتجر في المسجد بخص (3)
__________
(1) ـ نص الحديث في معجم الطبراني الكبير قال رسول الله ولد الزنا شر الثلاثة إذا عمل بعمل أبويه وأخرجه ابن ماجه و أبوداود في سننه وابن حنبل في مسنده و الحاكم في مستدركه و الطبراني في معجمه الكبير و النسائي في سننه الكبرى
(2) ـ في شأن هذا الحديث قال في السنة للخلال ج: 2 ص: 352أخبرنا محمد بن إسماعيل قال ثنا جعفر بن عون عن مسعر عن ابن جحادة عن أبي سعيد قال كان علي أتى السوق فيقول يا اهل السوق اتقوا الله إياكم والحلف فإن الحلف ينفق السلعة ويمحو البركة وإن التاجر فاجر إلا من أخذ الحق وأعطى الحق والسلام عليكم ثم ينصرف ثم يعود إليهم فيقول لهم مثل مقالته قال فإذا جاء إليهم يقولون قد جاء البوذشكم إيش يعنون بذاك قال فجاء إلى سريته فقال إني إذا جئت أهل السوق يقولون قد جاء بوذشكم أيش يعنون بذاك قالت يقولون عظيم البطن قال أسفله طعام وأعلاه علم في إسناده أبو سعيد لم أتوصل إلى معرفته
(3) ـ هكذا في الأم بخص والصواب والله أعلم على ما في التخريج في الحاشية التالية تمت

(1/112)


أو حصير ) (1) أي اتخذ حجره يصلي فيها فصحفه احتجم وحديث أنه (كان يصلي إلى عنزة ) (2)
__________
(1) ـ الذي في صحيح مسلم ج: 1 ص: 539 وحدّثنا مُحَمّدُ بْنُ الْمُثَنّى. حَدّثَنَا مُحمّدُ بْنُ جَعْفَرٍ. حَدّثَنَا عَبْدُ اللّهِ بْنُ سَعِيدٍ. حَدّثَنَا سَالِمٌ أَبُو النّضْرِ, مَوْلَىَ عُمَرَ بْنِ عُبَيْدِ اللّهِ عَنْ بُسْرِ بْنِ سَعِيدٍ, عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ. قَالَ: احْتَجَرَ رَسُولُ اللّهِ ( )حُجَيْرَةً بِخَصَفَةٍ أَوْ حَصِيرٍ. فَخَرَجَ رَسُولُ اللّهِ ( )يُصَلّي فِيهَا. قَالَ فَتَتَبّعَ إِلَيْهِ رِجَالٌ وَجَاءُوا يُصَلّونَ بِصَلاَتِهِ. قَالَ ثُمّ جَاؤُوا لَيْلَةً فَحَضَرُوا. وَأَبْطَأَ رَسُولُ اللّهِ ( )عَنْهُمْ. قَالَ فَلَمْ يَخْرُجْ إِلَيْهِمْ. فَرَفَعُوا أَصْوَاتَهُمْ وَحَصَبُوا الْبَابَ. فَخَرَجَ إِلَيْهِمْ رَسُولُ اللّهِ ( )مُغْضَباً. فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللّهِ ( ): «مَا زَالَ بِكُمْ صَنِيعُكُمْ حَتّى ظَنَنْتُ أَنّهُ سَيُكْتَبُ علَيْكُمْ. فَعَلَيْكُمْ بِالصّلاَةِ فِي بُيُوتِكُمْ. فَإِنّ خَيْرَ صَلاَةِ الْمَرْءِ فِي بَيْتِهِ. إِلاّ الصّلاَةَ الْمَكْتُوبَةَ». وفي تدريب الراوي ج: 2 ص: 193 معرفة المصحف : هو فن جليل مهم وإنما يحققه الحذاق من الحفاظ ، والتصحيف ويكون تصحيف لفظ ويقابله تصحيف المعنى وبصر ومقابله ويكون في الإسناد والمتن فمن التصحيف في الإسناد العوام بن مراجم بالراء والجيم صحفه ابن معين فقاله مزاحم بالزاي والحاء وعتبة ابن الندر بالنون المضمومة والمهملة المشددة المفتوحة صحفه ابن جرير الطبري بالموحدة والمعجمة ومن الثاني أي التصحيف في المتن حديث زيد بن ثابت أن النبي ( ) احتجر في المسجد وهو بالراء اي اتخذ حجرة من حصير أو نحوه يصلي فيها صحفه ابن لهيعة بفتح اللام وكسر الهاء فقال احتجم بالميم
(2) ـ مسند الإمامزيد بن علي عليهما السلام ص 138 : ما يقطع الصلاة والمواطن التي يصلى فيها وما يجزي من الثياب للصلاة : حدثني زيد بن علي عن ابيه عن جده عن علي عليه السلام قال : كانت لرسول الله صلى الله عليه وآله عنزة يتوكأ عليها ويغرزها بين يديه إذا صلى فصلى ذات يوم فمر بين يديه كلب ثم حمار ثم مرت امرأة فلما انصرف صلى الله عليه وآله قال قد رأيت الذي رأيتم ليس يقطع صلاة المسلم شئ ولكن ادرأوا ما استطعتم . وفي الأحكام للامام الهادي يحيى بن الحسين ج 1 ص 118 : قال يحيى بن الحسين صلوات الله عليه : ولا أرى أن شيئا يقطع الصلوة على المسلم وليدرأ المسلم عن نفسه ما استطاع ، ولا يصلي إن قدر إلا إلى ستره فقد روي عن رسول الله صلى الله عليه وآله أنه كان يغرز عنزة له وهي الحربة ثم يصلي إليها ، وبلغنا عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رحمة الله عليه أنه قال : ( صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وآله وقد غرز عنزته بين يديه فمر بين يديه كلب ثم مر حمار ثم مرت امرأة فلما انصرف قال : قد رأيت الذي رأيتم وليس يقطع الصلوة على المسلم شئ ولكن ادرأوا ما استطعتم )

(1/113)


بفتحات وهي حربة تركز أمامه فرواه شاة لاعتقاده تسكين النون ذكر الدار قطني أن أبا موسى العَنْزِي المعروف بالزمن شيخ البخاري قال يوماً نحن قوم لنا شرف نحن من عنزه قد صلى إليه
[ شرط جواز الرواية بالمعنى]
وإنما يجوز بشرط أن يقع (من عدل عارف) بمعاني الألفاظ (ضابط) لمقتضاها بحيث لا يزيد ولا ينقص سواء كان بلفظ مرادف أو لا وسواء نسي اللفظ أو لا لقوله وقد سُئِل عن ذلك: ( إذا أصبت المعنى فلا بأس ) (1).
ولإجماع الصحابة فإن المعلوم أنهم كانوا يروون الخبر الواحد بعبارات مختلفة مع اتحاد مجلس السَّماع ولا ينكر بعضهم على بعض واشتهر أن ابن مسعود كان إذا حدث بحديث قال هكذا قال رسول الله أو نحوه بمحضر من أهل الحديث ولأنه لا خلاف في جواز شرح الخبر للعجم بلسانهم وهو غير لفظ النبي فروايته بالمعنى(2)أولى لأن الكلام عربي ولأن من روى الأحاديث من الصحابة لم يكتبوها في مجلس السَّماع وربما لم يكرروا دراستها بل قد يغفلون عنها ثم يروونها بعد الأعصار التي يعلم من جهة العادة تعذر ضبط لفظها بعينه ولذا حكمنا بأن ما رواه النسائي في البيوع عن جابر أنه (قضى بالشفعة للجوار)يعم جميع أفراد الجوار لصدور صيغة العموم من عدل عارف باللغة فالظاهر أنه لم ينقلها إلا وقد سمع صيغة لا يتشكك في عمومها أوغلب على ظنه عمومها إذ العدالة تمنعه عن إيقاع الناس في ورطة الالتباس واتباع ما لا يجوز اتباعه .
__________
(1) ـ لم نجد حديثا مرفوعا فيما لدينا من مصادر بل وجدت أثرا عن الحسن أورده صاحب كتاب علل الترمذي ج: 1 ص: 746 عن الحسن قال إذا أصبت المعنى أجزاء
(2) ـ قلت ويمكن أن يستدل على الجواز بالكتاب العزيز فإن كثيراً من قصص الأنبياء عليهم السلام مكررة مع اختلاف اللفظ واتحاد المعنى كقصة موسى وشعيب وهود وصالح صلوات الله عليهم وعلى آلهم والله أعلم تمت منه

(1/114)


وقال ابن سيرين(1)وجماعة من السلف وأبو بكر الرازي(2)لا يجوز إلا باللفظ مطلقا لقوله : (نضر الله امرءاً وروي رحم الله امرءاً سمع مقالتي فوعاها ثم أداها كما سمعها فربّ حامل فقه إلى من هو أفقه منه ) (3)وهذا بعث على النقل كما سمع ولوجوب نقل ما تعبدنا بلفظه اتفاقاً كالأذان والإقامة والتشهد فكذلك يكون حكم جميع الآثار ولأنه لو جاز النقل بالمعنى وتبديل اللفظ لجاز ذلك للراوي ثم
__________
(1) ـ كان ابن سيرين فقيها عالما ورعا أديبا كثير الحديث صدوقا شهد له أهل العلم والفضل بذلك وكان ابن سيرين مولى لأنس بن مالك فكاتبه على ألوف فعتق بالكتابة وعن مورق العجلي قال ما رأيت رجلا أفقه في ورعه ولا اورع في فقهه من محمد بن سيرين توفي بالبصرة سنة عشر ومائة بعد الحسن بمائة يوم قال حماد بن زيد مات الحسن أول رجب سنة عشر ومائة وصليت عليه ومات ابن سيرين لتسع مضين من شوال سنة عشر قال على بن المديني وعمرو بن علي القلاس وغيرهما أصح الأسانيد محمد بن سيرين عن عبيدة عن علي رضي الله عنهم
(2) ـ ذكر في تذكرة الحفاظ ج: 3 ص: 788أبو بكر الرازي الحافظ الامام محدث نيسابور احمد بن علي بن الحسين بن شهريار صاحب التصانيف سكن أبوه مدينة نيسابور فولد بها أبو بكر وسمع السري بن خزيمة وأبا حاتم الرازي وعثمان بن سعيد الدارمي وأبا قلابة عبد الملك بن محمد الرقاشي وعبد الله بن احمد بن أبي مسرة والحسن بن سلام وطبقتهم واكبر شيخ لحقه صاحب وكيع إبراهيم بن عبد الله العبسي القصار روى عنه رفيقة أبو عبد الله بن الأخرم وأبو علي الحافظ وأبو عمرو بن حمدان وأبو أحمد الحاكم وآخرون قال بن عقدة هذا كان من الحفاظ قد سمعت منه قلت عاش أربعا وخمسين سنة ومات بالطابران قصبة طوس في سنة خمس عشرة وثلاث مائة رحمه الله تعالى إهـ
(3) ـ أخرجه ابن ماجه في سننه وأخرجه ابن حبان في صحيحه و الترمذي في سننه و الدارمي في سننه و الطبراني في معجمه الأوسط

(1/115)


للراوي عنه ثم كذلك حتى يؤدي إلى خروج الخبر عن معناه لأن كل ناقل قد ينقص القليل ثم كذلك أبداً فيصير الحال في ذلك كالحال فيمن أخذ حصاةً ثم طرحها وأخذ مثلها ثم طرحها وأخذ مثلها فإن آخر حصاة يلقطها لو قيست بالأولى لكان بينهما تفاوت كثير .
قلنا :أمَّا الحديث فإنما دل على الدعاء لمن حفظه إلى أن يبلغه إلى غيره فهو حث له على الأولى ولم يمنع تأديته بالمعنى مع أنه في نفسه مروي بالمعنى فإنه روي نضر مخففاً ومشدداً وأنضر ورحم وأيضاً فإن ناقل معنى اللفظ الذي سمعه يصدق عليه أنه مؤد له كما سمع ولذلك يقول المترجم أديته كما سمعته
وأما ما تعبدنا بلفظه فإنما هو لقيام الدلالة على تأديته بلفظه وهو غير محل النزاع كما تقدم وعليه يحمل قوله تعالى : ?فبدل الذين ظلموا قولاً غير الذي قيل لهم?[ البقرة 59/ الأعراف162]أو على ما (1)غير المعنى
وأمَّا التجويز الذي ذكروه فغير محل النزاع أيضا فإن المفروض أن المنقول معنى لفظ النبي لا قول الراوي بحيث لا يتطرق إليه لبس ولا تغيير والله سبحانه أعلم
واعلم أن رواية كافر التصريح وفاسقه غير مقبولة بلا خلاف أعلمه وأما قبول شهادة الكفار بعضهم على بعض فللضرورة صيانة للحقوق إذ أكثر معاملاتهم فيما لا يحضره مسلمان
(واختلف في قبول رواية فاسق التأويل) وهو من أتى من أهل القبلة بما يوجب الفسق غير متعمد كالباغي على إمام الحق وهو من يظهر أنه محق والإمام مبطل وحاربه أو عزم على حربه وله منعة أو منعه واجباً (وكافره) وهو من أتى من أهل القبلة بما يوجب الكفر غير متعمد كالمشبه والمجبر
__________
(1) ـ في نسخة المؤلف من

(1/116)


فقال جمهور أئمتنا عليهم السلام وغيرهم لا يقبل لأنه قد ثبت أن الكفر والفسق مانعان من قبول الحديث والشهادة فلا يقبل المتأول فيهما إذ لا أحد من أهل العلم يقطع علىكفر غيره أو فسقه ثم يقبل حديثه وشهادته وإنما يقبل منه من يعتقد أن تأويله قد أخرجه عن الكفر والفسق فثبت أنهما مدار الحكم ولقوله تعالى?إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا أن تصيبوا قوماً بجهالة?[ الحجرات 6]والمتأول فاسق فلا يقبل ولقوله تعالى ?ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم النار?[هود113]وقبول شهادتهم وروايتهم من أعظم الركون .

(1/117)


وقال بعض أئمتنا عليهم السلام وجمهور الفقهاء والغزالي يقبلان فيهما إن كان من مذهبهما تحريم الكذب لا كالخطابية (1) والرافضية (2) وبعض السالمية (3) احتجاجاً بإجماع الصدر الأول من الصحابة والتابعين على ذلك للقطع بحدوث الكفر والفسق تأويلاً في آخر أيام الصحابة والله أعلم [*].ووفي أيام الخوارج والبغاة [*] والمعلوم من أحوالهم أن شهادتهم كانت تقبل وأخبارهم لا ترد ولو رد شيءٌ من ذلك لنقل كما نقل سائر الأحوال المتعلقة بمنازعة بعضهم لبعض فلما لم ينقل رد شهادتهم وأخبارهم كان إجماعاً على قبولهما منهم
__________
(1) ـ هم صنف من الرافضة يشهد بعضهم لبعض بما ادعى تمت
(2) ـ هم من رفض الجهاد مع أهل البيت النبوي بقيادة إمام الجهاد والاجتهاد الإمام زيد بن علي عليه السلام متعللين بأعذار ضعيفة وحجج واهية ، وهو الذي أطلق عليهم التسمية . التعاريف ج: 1 ص: 369 الرفض الترك ومنه الرافضة تركوا زيد بن علي حين نهاهم عن سب الصحابة فلما عرفوا مقالته وأنه لا يبرأ من الشيخين رفضوه ثم استعمل هذا اللقب في كل من غلا في هذا المذهب . وفي تاريخ دمشق لابن عساكرالجزء : 19الصفحة : 463 أخبرنا أبو القاسم هبة الله بن أحمد بن عمر أنبأ أبو طالب محمد بن علي العشاري نا أبو الحسين محمد بن إسماعيل بن سمعون نا عمر بن علي بن مالك أخبرني محمد بن سليمان بن الحارث نا عمرو بن حماد نا أسباط بن نصر عن السدي قال قال زيد بن علي :( الرافضة حربي وحرب أبي في الدنيا والآخرة)
(3) ـ فرقة من الصوفية ينتمون ابن سالم أبو عبد الله محمد بن ابي الحسن احمد بن محمد بن سالم البصري تمت

(1/118)


قلنا : أداء متأول شهادةً عند مخالفه ممنوع لأنه لم يثبت أن أحداً من هؤلاء المتأولين أقام شهادة أو روى خبراً عند من يعتقد كفره أو فسقه وظهر ذلك ظهوراً يقتضي أن ينقل ما وقع فيه من رد أو قبول فقولهم لو رد شيءٌ من ذلك لنقل غير صحيح لأن وجوب نقله مترتب على وقوعه فما لم يقع كيف يجب نقل قبوله أو رده ولو سلم وقوعه فلا نسلِّم أن رده لم ينقل كيف وقد روى مسلم في صدر صحيحه عن ابن سيرين قال لم يكونوا يسألون عن الإسناد فلما وقعت الفتنة قالوا سموا لنا رجالكم فينظر في أهل السنة فيؤخذ حديثهم وينظر إلى أهل البدع فلا يؤخذ حديثهم ولو سلِّم أداؤه عند بعض وقبوله فلا نسلِّم قبول الكل لمن هذه حاله وهذا الخلاف يتنزل على الخلاف في كونهما سلب أهلية بمعنى أنهما نقصان منصب أهلية قبول الرواية والشهادة أو مظنة تهمة (1)
فائدة يقال هذا عدل تصريح وتأويل وعدل تصريح فقط . ولا يقال عدل تأويل فقط ؛ لأنه مهما لم يكن عدل تصريح لم يكن عدل تأويل ويقال لكافر التصريح كافر تصريح وتأويل ولمن كفر من جهة التأويل كافر تأويل فقط ذكر معناه في المنار على مقدمة الأزهار .
قلت : وكان الأنسب ذكر هذه المسئلة عقيب بيان طرق التعديل والجرح ولعله ذكرها هنا ليرتب عليها القول في الصحابي ولأن أو ل حدوث كافر التأويل وفاسقه في زمن الصحابة كما سبق فكان ينبغي أيضاً تقديم هذه المسئلة ومسألة الاختلاف في الصحابة هنالك كما لا يخفى على اللبيب
[الصحابة وعدالتهم ]
__________
(1) ـ قال الغزالي وهذا هو الأغلب على الظن عندنا ولا شك أن الحكمة في وجوب رد الشهادة والرواية هي التهمة والقائلون بأن الكفر والفسق سلب للأهلية لا ينفون ذلك وإنما يريدون أن التهمة لَمَّا كانت خفية منتشرة نيط الحكم بوصف ظاهر منضبط كالكفر والفسق والغرابة سواءً وجدت التهمة معه أو لا كما في شهادة الوالد لأحد ولديه على الآخر فإنها لا تقبل عند المخالف وإن لم يتهم إهـ .

(1/119)


(و) اختلف أيضاً فيمن يطلق عليه لفظ الصحابي وهو واحد الصحابة و(الصحابة) في الأصل مصدر يقال صحبه صحابةً وصحبةً أطلق على أصحاب رسول الله كالعلم لهم ولذا نسب إليه على لفظه فقال أئمتنا عليهم السلام والمعتزلة وجمهور الأصوليين (الصحابي من طالت مجالسته للنبي ) وفيه أنه رد إلى الجهالة لجهالة مقدار الطول (متبعاً لشرعه) أمَّا في حياته وهو قول أكثرهم لأن الصحبة اللغوية إنما تفيد الاتباع في حال الحيوة فقط بناءً على الأغلب أن من صحب غيره يتبعه فيما يحب وإلا ففي التحقيق أن الصاحب من كثرت ملازمته لغيره بحيث يريد الخير به ودفع المضار عنه وإن لم يتبعه في عقائده ودينه وأمَّا في حيوته وبعد مماته كما هو رأي أقلهم لأن هذا الاسم يفيد التعظيم ولا يستحقه إلا من لم يغير بعده وظاهر المتن مع القول الأول من حيث أن متبعاً حال من المجالسة وهي قيد في عاملها وهو طول المجالسة كما لا يخفى فمن هذه حاله سُمِّي صحابياً وإن لم يرو لأنه لا يتبادر من قولك صحب فلان فلاناً إلا طول المكث معه والمجالسة والاستكثار من موافقته . ألا ترى أنه لا يُسمَّى من اختص ببعض العلماء صحابياً له إلا إذا فعل ذلك .
قال الناطق بالحق عليه السلام (1) ويبيِّن صحة هذا أن الوافدين على النبي لم يعدوا في جملة الصحابة لما لم يلازموه .
__________
(1) ـ الأمام الناطق بالحق أبو طالب يحيى بن الحسين بن هارون (عليهم السلام) :ولد عام 340ه، وقام بالأمر بعد وفاة الإمام المؤيد بالله أحمد بن الحسين بن هارون عام 411هـ في زمن القادر العباسي ، وقبضه الله إليه عام 424هوعمره 84 سنة ، ودفن بجرجان من طبرستان .

(1/120)


وقال ابن الصلاح روينا عن شعبة عن موسى السيلاني قال أتيت أنس بن مالك فقلت هل بقي من أصحاب رسول الله أحد غيرك ؟ قال قد بقي ناس من الأعراب قد رأوه أما من صحبه فلا ؛ لأن أنس بن مالك آخر من مات من الصحابة قيل أنه بقي إلى زمن عبد الملك (1) وقيل : أبو الطفيل بن عامر بن واثلة الليثي (2).
وقيل هو من طالت مجالسته للنبي مع روايته الحديث عنه ذكره القاضي عبد الله بن زيد .
وقال ابن المسيب هو من أقام معه سنة أو سنتين أو غزا معه غزوة أو غزوتين لحصول الملازمة والمكث مع ذلك .
__________
(1) ـ هو ابن مروان بن الحكم أنى له العدالة وقد سفك الدماء وفعل الأفاعيل
(2) ـ وفي الهداية للجزري وشرحها للسخاوي أن آخرهما موتاً أبو الطفيل عامر بن واثلة الليثي فإنه على الصحيح مات بمكَّة سنة مائة وقيل سنة اثنتين وقيل سبع وقيل عشرين وهو الذي صححه الذهبي وحينئذٍ فيكون آخر المائة التي أشار إليها النبي بقوله أرايتكم ليلتكم هذه فإنه ليس من نفس منفوسة يأتي عليها مائة سنة وهو حديث صحيح رواه مسلم ثم ذكر الخلاف في جماعة لم يذكر معه أنساً والله أعلم تمت منه

(1/121)


وقال أهل الحديث وبعض الفقهاء هو من رآه ومات مؤمناً على دين الإسلام طالت صحبته أم لا . والمراد بالرؤية أعم من أن يكون حقيقة أو حكما ليشمل مثل ابن مكتوم من عميان الصحابة (1)
[ الطريق إلى معرفة الصحابي ]
__________
(1) ـ وأبدل بعضهم الرؤية باللقاء تحرزاً عن استعمال المجاز في التعريف ونظِّر بأنه مجاز مشهور والتقيد بحاله الإيمان يخرج من رآه قبل الإيمان سواءً آمن في حياته ولم يره أو بعد وفاته واختلفوا فيمن رآه مؤمناً بأنه سيبعث ولم يدرك البعثة كورقه بن نوفل وبقيد الموت خرج من ارتد ومات على ارتداده كابن أخطل فإن آمن بعد الارتداد وصحبه فالحد صادق عليه كأشعث بن قيس فإنه ارتد كما روى واسر إلى أبي بكر فعاد إلى الإسلام وزوجه أخته واعتبروا الرؤية من قبل الصحابي دون النبي ليخرج من كشف له ليلة الأسرى فإنه رأى النبي من لم يره ذكر معناه في شرح النخبة لابن حجر تمت منه

(1/122)


وطريق معرفته :أمَّا التواتر كالعشرة (1) فإن من بحث عن حاله وحالهم علم بالتواتر أنهم صحابيون وأمَّا الآحاد كأسامة بن احدري (2) وحكيم بن معاوية النميري (3) ومطربن عكامش(4) من غير المشهود له بالصحبة اتفاقاً ومنه بأن يخبر عن نفسه بأنه صحابي فيقبل عند بعض لأن عدالته مستند القبول فإخباره بما يخصه وما لا يخصه سواءً ومنع أهل الظاهر من قبوله لأنه يثبت لنفسه منزلة فلا يقبل كالشاهد لنفسه وفرق بأن الشاهد يثبت لنفسه حقاً على غيره بخلاف المخبر بأنه صحابي ولا يرد لزوم قبول أنه عدل لانتفاء التساوي بينه وبين ما ذكرنا لأنها لا تقبل روايته عن نفسه ولا عن غيره إلا بعد معرفة عدالته (5)
__________
(1) ـ علي ، أبو بكر ، عمر ، عثمان ، عبد الرحمن بن عوف ،أبو عبيدة ، سعيد بن زيد ، طلحة ، الزبير ، سعد
(2) ـ في الأم أجدري وفي تهذيب التهذيب أُسَامَةُ بن أَخْدَرِيّ التّمِيمِيّ, ثم الشّقَرِي (د).له صحبة, نزل البصرة, له حديث واحد في ذكر أصرم وأن النبي قال له: «أنت زرعة». وعنه: ابن أخيه بشير بن ميمون. وقيل: عن أسامة عن أصرم. قلت: ذكر الأزدي أنه لم يرو عنه غير بشير بن ميمون. .
(3) ـ في تهذب الكمال :حَكِيْمُ بنُ مُعَاوِيَةَ النّمَيْرِيّ. مُخْتَلِفٌ فِي صُحْبَتِهِ. .
(4) ـ في الأم عكامش بالمعجمة وفي تهذيب التهذيب : مَطَرُ بنُ عُكَامِس السّلَمِيّ, له صحبة . يعدّ في الكوفيين.روى عن: النبي حديث: «إذا قضى الله تعالى لعبد أن يموت بأرض جعل الله تعالى له إليها حاجة». وعنه: أبو إسحاق السبيعي. قال عثمان الدارمي: سألت ابن معين هل له صحبة؟ قال: لا. وعن عبد اللّه بن أحمد: سألت أبي عنه أله صحبة؟ قال: لا يعرف له صحبة. وقال الطبراني: اختلف في صحبته. وقال ابن حبان: له صحبة.
(5) ـ فمتى عرفت عدالته قبل قوله بأنه أو غيره صحابي ومتى كان مجهول العدالة لم يقبل قوله أنه صحابي كما لا يقبل قوله أنه عدل والله أعلم تمت منه

(1/123)


فلو قبلنا قوله : إنه عدل استلزم الدور
وفائدة بيانه تتعلق بما نحن فيه :
منها الفصل بين المتصل والمنقطع من الأخبار وقد تقدما [*](1)
ومنها معرفة انقراض العصر المشترط في الإجماع عند بعضهم فإذا انقرض آخر الصحابة من غير ظهور مخالف لهم فيما اتفقوا عليه انعقد إجماعهم وحرمت مخالفتهم .
ومنها معرفة التاريخ ولمعرفته فوائد تظهر في الترجيح الآتي إن شاء الله تعالى .
(و) منها الخلاف فيما يرد من أقواله وأفعاله لأن من الناس من يرى أنها حُجَّة ومنهم من يرى أنه إذا عمل الصحابي بخلاف ما روى [كان] (2)الاعتماد على عمله دون روايته .
ومنها الخلاف في عدالته بمعنى هل كونه صحابياً يغني عن تعديله أو لا ؟
__________
(1) ـ فإذا قال الصحابي قال رسول الله - فالظاهر الاتصال لنصهم على أن أحداث الصحابة الذين لم يسمعوا النبي إذا رووا عنه كان منقطعاً والله أعلم تمت منه
(2) ـ لفظة كان غير ثابتة في نسخة المؤلف والظاهر كما في الطبعة الأولى تمت

(1/124)


فقال الأكثر (كل الصحابة عدول) لقوله تعالى ?محمَّد رسول الله والذين معه? [ الفتح 48]فوصفهم تعالى بأوصاف من لازمها العدالة وقوله :(طوبى لمن رآني )(1)ونحو ذلك فاقتضى ذلك أنهم عدول كلهم (إلا من أبى) أي عصا اقتباس(2)من الحديث الذي أخرجه البخاري من رواية أبي هريرة من قوله : (كل أمتي يدخلون الجَنَّة إلا من أبى .فقالوا ومن يأبى ؟ فقال من أطاعني دخل الجَنَّة ومن عصاني فقد أبى )(3) انتهى وذلك كمن منع الوصي عليه السلام حقه أو قاتله أو ثبط عنه .
وقال جمهور الفقهاء والمحدثين بل عدول مطلقاً إلى وقت الفتنة وهو آخر أيام عثمان .
__________
(1) ـ أخرج الطيالسي في مسنده عن أبي امامة قال سمعت النبي ( ) يقول طوبى لمن رآني وآمن بي وطوبى سبعا لمن لم يرنى وآمن بي وأخرجه ابن حبان في و ابن حنبل في و الطيالسي في مسنده و الطبراني في معجمه الكبير و أبو يعلى في مسنده و الطبراني في معجمه الأوسط
(2) ـ هو أن يضمن الكلام نظماً كان أو نثراً من القرآن أو الحديث لا على طريقة أن ذلك الشيء من القرآن أو الحديث يعني على وجه لا يكون فيه إشعار بأنه منه كما يقال في أثناء الكلام قال الله تعالى كذا أو قال النبي كذا فإنه يكون اقتباساً ذكره في التلخيص وشرحه تمت منه
(3) ـ أخرج البخاري في صحيحه عن أبي هريرة أن رسولَ اللّه قال: «كلّ أمتي يَدخلونَ الجنة إلا من أبى. قالوا: يا رسولَ اللّه ومن يأبى؟ قال: من أطاعني دخلَ الجنة, ومن عصاني فقد أبى». وأخرجه ابن حبان في صحيحه و ابن حنبل في مسنده و الحاكم في مستدركه و الطبراني في معجمه الكبير و الطبراني في مسند الشاميين و الطبراني في معجمه الأوسط

(1/125)


وقال أبو بكر الباقلاني (1) بل هم كغيرهم فيهم العدول وغيرهم فيحتاج إلى التعديل والبحث عن أحوالهم .
__________
(1) ـ لسان الميزان أبو بكر الباقلاني المقري هو عبد الله بن منصور وهو ممن روى تهنئة عمر لأمير المؤمنين علي عليه السلام بالولاية ففي تاريخ دمشق لابن عساكرالجزء : 4الصفحة : 220 أخبرنا أبو عبد الله الحسين بن عبد الملك أنا أبو طاهر أحمد بن محمود نا أبو بكر بن المقرىء نا أبو العباس بن قتيبة نا ابن أبي السري نا عبد الرزاق أنا معمر عن علي بن زيد بن جدعان عن عدي بن أبي ثابت عن البراء بن عازب قال خرجنا مع رسول الله حتى نزلنا غدير خم بعث مناديا ينادي فلما اجتمعنا قال ألست أولى بكم من أنفسكم قلنا بلى يا رسول الله قال ألست أولى بكم من أمهاتكم قلنا بلى يا رسول الله قال ألست أولى بكم من ابائكم قلنا بلى يا رسول الله قال ألست أولى بكم ألست ألست ألست قلنا بلى يا رسول الله قال فمن كنت مولاه فإن عليا بعدي مولاه اللهم وال من والاه وعاد من عاداه فقال عمر بن الخطاب هنيئا لك يا ابن أبي طالب أصبحت اليوم ولي كل مؤمن إهـ

(1/126)


قلت وهو الأظهر لأن منهم المطيع والعاصي قطعاً ومنهم المجهول حاله فإذا احتيج إلى تعديل مجهول من بعدهم لما تقدم من إيمانهم بالغيب طوعاً ورغبة والتزامهم طريق السنة مع فساد الزمان وانقضاء زمن مشاهدة آثار الوحي وظهور المعجزات المشار إلى بقوله تعالى ?الذين يؤمنون بالغيب...? الآية ولذا قال وقد قالوا يا رسول الله أحد خير مِنَّا آمنا بك وقاتلنا معك ؟ قال : (نعم قوم من بعدكم يؤمنون بي ولم يروني )(1)وقال : (واشوقاه إلى إخواني) فقالوا أولسنا إخوانك يا رسول الله ؟ فقال : (أنتم أصحابي وإخواني قوم يأتون بعدكم يؤمنون بي ولم يروني ) أو كما قال. وقال (كيف تعجبون من إيمان الملائكة وهم عند ربِّهم ؟ وكيف تعجبون من إيمانكم وأنا بين أظهركم ؟ إنما العجب من قوم يأتون بعدكم يؤمنون بي ولم يروني ) أو كما قال (2).
وروي أن أصحاب عبد الله ذكروا أصحاب رسول الله وأيمانهم فقال ابن مسعود إن أمر محمَّد كان بيِّناً لمن رآه والذي لا إله غيره ما آمن أحد أفضل من إيمان بغيب .
__________
(1) ـ أخرجه الحاكم في مستدركه وابن حنبل في مسنده و الطبراني في معجمه الكبير و ابن عمرو الشيباني في الآحاد والمثاني و أبو يعلى في مسنده و الدارمي في سننه
(2) ـ وفي معناه ما رواه محمَّد بن عبد الرحمن السخاوي المصري في شرحه لهداية الجزري في علم الرواية عن ابن كثير مستدلاً للعمل بالوجادة بحديث أي الخلق أعجب إليكم إيماناً ؟ قالوا الملائكة . قال وكيف لا يؤمنون وهم عند ربِّهم . وذكروا الأنبياء فقال وكيف لا يؤمنون والوحي ينزل عليهم ؟ قالوا فنحن . قال وكيف لا تؤمنون وأنا بين أظهركم ؟ قالوا فمن يا رسول الله ؟ قال قوم يأتون بعدكم يجدون صحفاً يؤمنون بما فيها أهـ والله أعلم تمت منه

(1/127)


احتيج إلى تعديل غيرهم (1)والله أعلم .[*] فهذا الذي ذكرنا إنما هو (على) المذهب (المختار في جميع ذلك) المتقدم ذكره من قوله ولا يفيد إلا الظن ما عدا ما أحاله على الاختلاف نحو قوله وفيما تعم به البلوى عملا ً ..إلخ ، واختلف في قبول رواية فاسق التأويل ..إلخ وإلا لزم أن يكون المعنى على المختار من وقوع الخلاف في هاتين المسألتين وذلك فاسد وما كان ينبغي هل هذا الإطلاق سيما مع قوله في جميع ذلك والله أعلم
[طرق الرواية ]
(وطرق الرواية) أي مستند جوازها الموصل للحديث إلى رسول الله (أربع) : تتفاوت قوتها، فأعلاها عند الجمهور (قراءة الشيخ) والتلميذ يسمع لأنه كثيراً ما يذهل الشيخ عمَّا يعرض عليه بخلاف ما يمليه فإن قصد إسماعه وحده أو مع غيره فله أن يقول حدثني وأخبرني وحدثنا وأخبرنا وقال لي وسمعته . وإن لم يقصد إسماعه لم يجز إلا أن يقول حدث أو أخبر أو سمعته لا نحو قال لي فراراً من الكذب والأصل في ذلك أنه كان يقرأ القرآن على الناس ويعلمهم السنن
(ثم قراءة التلميذ أو غيره بمحضره) أي الراوي قائلاً لشيخه هل سمعت ويقول الشيخ سمعتُ ما قرأت عليّ أو الأمر كما قري عليّ أو نحوه ممَّا يفهم التقرير فله أن يروي عند عامة المحدثين والفقهاء فيقول حدثنا وأخبرنا مقيداً بلفظ قراءة عليه . وأجود العبارات وأشملها أن يقول قرأت على فلان . وفي الإطلاق خلاف فأجازه الجمهور
(ثم) يتبع ما تقدم في القوة (المناولة) وصورتها أن يقول قد سمعت ما في هذا الكتاب أو هو من سماعي أو من روايتي عن فلان . أو يطلقه ولا يسند فاروه عني وسُمّيت مناولة لأن الغالب مناولة الشيخ للتلميذ الكتاب المروي ويكفي التعيين بالإشارة مع أمن التحريف والله أعلم . فيقول الراوي بها حدثني وأخبرني وحدثنا وأخبرنا مقيداً بقوله مناولة أو إذناً أو نحو ذلك
__________
(1) ـ قوله احتيج هو جواب لإذا المتقدمة وهي قوله فإذا احتيج إلى تعديل مجهول من بعدهم .. إلخ

(1/128)


(ثم) يتبع ما تقدم في القوة أيضاً (الإجازة) من الاستاذ المعين أو عام في معين أو عام لا لمعدوم سواء قلنا أنها أخبار أو إذن إذ لا يصح إخباره ولا الإذن له والذي عليه جمهور المحدثين وغيرهم إباحة الرواية بها لأنه قد أخبره بما أجازه له جمله فهو كما لو أخبره به تفصيلاً ولأن الغرض حصول الإفهام وهو يحصل بها ومنعها أبو حنيفة وأبو يوسف والشافعي وجماعة من المحدثين والأصوليين حتى قال بعضهم : إن قول المحدث أجزت لك أن تروي عني تقديره قد أجزت لك ما لا يجوز في الشرع لأن الشرع لا يجيز رواية ما لم يسمع ويجوز أن يقول في الرواية بها أنبأني باتفاق متأخري المحدثين لأن العرف إطلاق الأنباء على مطلق الإذن بالشيء والإعلام به يقال هذا الفعل ينبي عن المحبة أوالعداوة
وزاد بعضهم طريقاً خامساً تسمى الوجادة (1)وهي أن يقف على كتاب بخط شيخ فيه أحاديث يرويها ولم يلقه أو لقيه ولم يسمع منه فيقول وجدت أوقرأت بخط فلان ويسوق الإسناد والمتن وقد اشتهر عليه العمل قديماً وحديثاً وهو من باب المنقطع والمرسل غير أنه أخذ شوباً من الاتصال بقوله وجدت بخط فلان فيجوز العمل والرواية بغير ما يوهم السماع نحو وجدت بخط فلان أو بخط ظننته خط فلان والله سبحانه أعلم.
(فرع)
__________
(1) ـ بكسر الواو مصدر يجد مولد لم يرد عن العرب . ذكر معناه في الغيث الهامع

(1/129)


على طرق الرواية (و) هو أنه (من) علم ألفاظ القراءة جميعها و(تيقن) ذلك و(أنه قد سمع جملة كتاب معين) كالشفاء بأحد طرق الرواية المتقدمة (جازت له روايته) إن كان عدلاً وإلا فلا على القول بأن عدم العدالة سلب أهلية (والعمل بما فيه ) (1) مطلقاً إذ ذلك ثمرة العلم والمراد من الجواز ما يعم أنواعه الشرعية (وإن لم يذكر) سماعه (كل حديث بعينه) حيث كانت النسخة مأمونة التحريف والتصحيف في ضبطها وإلا فلا وأمَّا إن ظن سماعه جملة كذلك فكذلك يجوزان عند المنصور بالله عبد الله بن حمزة عليه السلام والقاضي جعفر والشافعي وأبي يوسف ومحمَّد وهو في نسخة من نسخ المتن لعمل الصحابة بحسب كتب النبي رواية وفعلاً . وقال أبو طالب عليه السلام وأبو حنيفة لا يجوزان . وجوَّز الإمام يحيى بن حمزة عليه السلام العمل دون الرواية والله سبحانه أعلم .
تنبيه
هو لغةً الإيقاظ . واصطلاحاً عنوان البحث الآتي بحيث يعلم من البحث السابق إجمالاً ووسمه بالتبنيه لسبق ذكره في الأخبار ضمناً (2) الكلام : إمَّا إنشاء أو خبر فالإنشاء : لفظ مركب تام لا يحتمل الصدق ولا الكذب ، ومنه ألفاظ العقود نحو بعت شريت إن قصد بها الحدوث إذ يحسن مع عدم المخاطب ولا خارج لها ولا تحتمل الصدق والكذب بخلاف الخبر
__________
(1) ـ فيستعمل ما يمكنه استعماله من الحديث في أي أنواع العبادات والآداب فذلك زكاته ولذا قال بشر الحافي لأصحاب الحديث أدوا زكوة هذا الحديث إعملوا من كل مائتي حديث بخمسة أحاديث . وقال عمرو بن قيس الملاي إذا بلغك شيءٌ من الخبر فاعمل به ولو مرة تكون من أهله بل ويكون العمل به سبباً لحفظه كما قال وكيع إذا أردت حفظ الحديث فاعمل به إهـ .
(2) ـ إشارة إلى أن التنبيه إنما يستعمل فيما تعلق به ضرب من العلم سابقاً أو كان في حكمه كالبديهيات .

(1/130)


(والخبر هو) قد يقال بمعنى الإخبار كما في قولهم الصدق هو الخبر عن الشيء على ما هو به بدليل تعديته بعن ويطلق ويراد به (الكلام) وهو أخص من اللفظ وبه تخرج الإشارة والكتابة المفيدة فائدة الخبر فإنها لا تسمى خبراً حقيقة لأن الخبر إذا أطلق فقيل أخبر فلان بكذا لم يسبق إلى الفهم إلا الكلام دونهما وقد يطلق على غيره مجازاً قال سويد بن الصامت:
من الغل والبغضاء بالنظر الشزر

تخبرني العينان ما القلب كاتم

والمعري
يخبرنا أن الشعوب إلى صدع

نبيءٌ من الغر بان ليس بذي شرع

والمتنبي
تخبر أن المانوية (1)تكذب

وكم لظلام الليل عندك من يد

(الذي لنسبته خارج) متحقق في أحد الأزمنة الثلاثة فيخرج الإنشاء فكل خبر لا بد فيه من دلالته على حكم ونسبة في الخارج والمراد بالحكم الإيقاع أو الانتزاع أي التصديق والجزم بثبوت نبسته التي اشتمل عليها أو انتفائها ولسنا نريد بالدلالة عليه وجوده بحيث لا يختلف عنها بل يجوز تخلفه والدلالة بحالها كما في خبر المجنون والساهي والنائم والشَّاك من عدم الجزم وسواء كانت كذلك في نفس الأمر أو لا لأن الدلالة اللفظية يجوز تخلف مدلولها عنها بيان ذلك أنك إذا قلت قام زيد فقد دل هذا الخبر على ثبوت القيام لزيد في نفس الأمر
__________
(1) ـ المانوية فرقة على دين ماني ابن ماينو الثنوي تزعم أن صانع العالم اثنان فاعل الخير نور وفاعل الشر ظلمة وهما قديمان لا يزالان ولن يزالا حساسان سميعان بصيران متضادان في الأفعال فجوهر النور حسن نير ونفسه خيرة حليمة نفاعة منها السرور والصلاح وجوهر الظلمة بضد ذلك إهـ

(1/131)


(فإن تطابقا) أي النسبة التي هي مدلول الخبر والخارج الواقع في نفس الأمر بأن كان زيد قائماً (فصدق) أي فالخبر حينئذٍ صدق (وإلا) يتطابقا بأن لا يكون زيد قائماً (فكذب) أي فالخبر حينئذٍ كذب (1)ولا عبرة بالاعتقاد للإجماع على تصديق الكافر إذا قال الإسلام حق مع مخالفته اعتقاده وتكذيبه إذا قال الإسلام باطل مع مطابقته لاعتقاده فلو كان للاعتقاد أو عدمه مدخل في تحقق الصدق والكذب لم يصح ذلك (2) وأمَّا قول عائشة وقد سمعت بخبر رواه بعض الصحابة والله ما صدق ولا كذب فمعارض بما روي عنها أيضاً أنها قالت فلان يكذب ولا يعلم أنه يكذب على أنه يحتمل أنها أرادت ولا كذب تعمداً تحسيناً للظن بالراوي جمعاً بين الأدلة.
__________
(1) ـ ولا يرد الدور المشهور على حد الصدق والكذب بأنه مطابقة الخبر وعدمها وجه الدور أن الخبر هو الكلام المحتمل للصدق والكذب وقد تقصىَّ عنه سعد الدِّين بما حاصله أن الخبر بمعنى الكلام المخبر به وبمعنى الإخبار . قال وأيضاً فإن الصدق والكذب يوصف بهما الكلام والمتكلم والمذكور في تعريف الخبر صفة الكلام بمعنى مطابقة نسبته ورد بما حاصله أيضاً أن الخبر وإن كان بمعنى المفعول أي الكلام المخبر به وبمعنى الإخبار أيضاً فتعدد الاستعمال توسيع لدائرة الدور لا غير تمت منه
(2) ـ وهذا ظاهر في مثل ضربت وأمَّا في مثل عملت ففيه إشكال لأن حصول العلم في النفس هو نفس اعتقادها حصوله ضرورة عدم امتناعها عن قبول ما اكتسبه العقل أو الحس أو الوهم فقبوها هو نفس الاعتقاد والاعتقاد هو نفس حصول العلم فالاعتقاد هو نفس ما في الواقع . والجواب أنا لا نحكم بصدق الخبر باعتبار مطابقته لما في النفس من حيث أنه اعتقاد بل من حيث أنه الواقع وكذا لو قال علمت وليس في نفسه علم لا يحكم بكذبه من حيث كونه مخالفة لاعتقاد بل من حيث كونه مخالفة لما في الواقع كما ذكره بعض المحققين تمت منه

(1/132)


والخلاف في هذه المسألة والاحتجاج واسع مبسوط في المطولات قال العضد وهذه المسألة لفظية لا يجدي الإطناب فيها كثير نفع . انتهى . وفيه أنه يترتب عليه أحكام للصدق والكذب متباينة كالحسن والقبح والتعليق لنكاح أو طلاق أو بيع أو غيرها على أحدهما
(ويسمى الخبر) عند النحاة (جملة) اسمية إن صدرت باسم وفعلية إن صدرت بفعل
(وقضية) عند المناطقة ؛ لأنه يقضي فيها بنفي أو إثبات ، فإن كان الحكم فيها بثبوت شيءٌ لشيءٍ أو نفيه عنه فالقضية حملية ، الأولى (1) موجبة والثانية سالبة (2) وسميت حملية لتحقق معنى الحمل في الموجبة وأمَّا السالبة فمحمولة عليها إمَّا لمشابهتها إيَّاها في الطرفين وأما لمقابلتها إيَّاها أو لأن لأجزائها استعداد قبول الحمل
وأجزاؤها ثلاثة : محكوم عليه ويسمى موضوعاً لأنه وضع لأن يحكم عليه بشيءٍ ، ومحكوم به ويسمى محمولاً لحمله على الموضوع ، ونسبة بينهما بها تربط المحمول بالموضوع وهي الحكم بثبوته له أو نفيه عنه وتسمى رابطة ويدل عليها بنحو هو وتسميته رابطة من تسمية الدال باسم المدلول
والموضوع إن كان شخصاً معيناً كزيد والمسلمين بلام العهد سميت القضية شخصية ومخصوصة لأن موضوعها شخص مخصوص ، وإلا يكن الموضوع شخصاً معينا فإن بين كمية أفراده بسور يحصر القضية عن الإهمال ويبيِّن المقصود منها كلاً فمحصورة كلية موجبة أو سالبة وسور الموجبة نحو كل ما يفيد الاستغراق
وصورة السالبة : لا شيء ولا واحد وكلٌّ ليس وما أفاد معناه ، وإن بين المقصود منها بعضاً فجزئية موجبة وسورها بعض وشبهه أو سالبة وسورها ليس كل وبعض ليس وما أفاد معناه ،وإلا يبيِّين كمية أفراد الموضوع فالقضية تسمى مهملة لإهمال السور وتلازم الجزئية فكل جزئية تصدق مهملة وكل مهملة تصدق جزئية
__________
(1) ـ أي ثبوت شيء لشيء
(2) ـ أي نفي شيء عن شيء

(1/133)


(وإذا ركبت الجملة) أي ما يسمى بالجملة المرادفة للكلام المفيد ، لا مطلق الجملة فإنه يصدق بغير المفيد في اصطلاح النحاة أو بالقضية في اصطلاح المناطقة مع مثلها مجعولة (في دليل) وهو القياس المنطقي (سُميَّت) عند المناطقة (مقدمة) مثل قولنا العالم متغير وكل متغير حادث ينتج العالم حادث .
والمقدمات إن كانت قطعية أنتجت قطعياً لأن النتيجة لازمة لمقدمات حقة قطعاً ولازم الحق حق قطعاً . وإن كانت ظنية أنتجت ظنياً ،
ثم المكرر بين المقدمتين فصاعداً يسمى حداً أوسط كمتغير في المثال لأنه وسيلة لنسبة الأكبر إلى الأصغر فيكون المعنى وسطاً (1)
وموضوع المطلوب يسمى حدًّا أصغر كالعالم فيه مثلاً لأنه يكون أخص من المحمول في أكثر المواد ولا شك أن أفراد الأخص أقل من أفراد الأعم لأن كل أفراد الأخص أفراد للأعم من غير عكس
ومحمول المطلوب يسمى حداً أكبر لأنه يكون أعم من موضوعه في الأغلب والأعم أكثر أفراداً وكل ما هو أكثر أفراداً يكون أكبر .
والمقدمة التي تشمل الأصغر تسمى صغرى لأن معناها ذات الأصغر
والمقدمة التي فيها الأكبر تسمى الكبرى لأن معناها ذات الأكبر
والهيئة العارضة عند وضع الحد الأوسط عند الأصغر والأكبر تسمى شكلاً وهو مراد المصنف بالتركيب وإنما لزمت المقدمتين الدلالة لأن الصغرى باعتبار موضوعها خصوص والكبرى باعتبار موضوعها عموم واندراج الخصوص في العموم واجب فيندرج موضوع الصغرى في موضوع الكبرى فيثبت له ما يثبت له وهو محمول الكبرى نفياً وإثباتاً فيلتقي بموضوع الصغرى ومحمول الكبرى وهو النتيجة كما تقدم
__________
(1) ـ هذا التعليل للتسمية أوفق من التعليل بكونه متوسطاً بين موضوع النتيجة ومحمولها لشموله الإشكال وتعلقه بالمعنى واختصاص ما ذكره الجمهور بالشكل الأول وتعلقه باللفظ والله أعلم تمت منه

(1/134)


فالكلام من حيث كونه مطابقاً أو لا خبر زمن ومن حيث كونه مشتملاً على الحكم قضية ومن حيث كونه جزءاً للدليل مقدمة ومن حيث كونه حاصلاً منه نتيجة ومن حيث كونه مسؤولاً عنه مسألة
قلت : ولما كان العكسان من لوازم القضية ، ومما يستدل به على صحتها وصدقها احتيج إلى بيانهما وبيان التناقض ، وإنما قدم العكس المستوي على عكس النقيض مع اشتراكهما في اللزوم لأن المستوي لازم لها بلا واسطة ، وعكس النقيض بواسطة ، وكان الأولى تقديمهما على التناقض ؛ لأنه إثبات للمطلوب بإبطال نقيضه ، وهما إثبات له بثبوتهما [*] فقال (والتناقض اختلاف الجملتين) أي القضيتين يخرج ما لا اختلاف فيه مطلقاً والتناقض بين المفردين (1)فإنه يقع بين المفردات مثله بين الجمل (بالنفي والإثبات) بأن تكون إحداهما مثبتة والأخرى منفية لا بغيرهما من الحمل والاتصال والانفصال مثلاً (بحيث يستلزم لذاته صدق كل منهما كذب الأخرى) خرج الاختلاف الذي يلزم معه من صدق كل كذب الأخرى من غير نظر إلى ذاته لواسطة مثل زيد إنسان زيد ليس بناطق فإن صدق إحداهما وكذب الأخرى بواسطة أن كل ناطق إنسان أو لخصوص مادة نحو كل إنسان حيوان ولا شيء من الإنسان بحيوان ونحو بعض الإنسان حيوان وبعض الإنسان ليس بحيوان (2)
__________
(1) ـ فإن قيل الحد حينئذٍ غير جامع لخروج نحو الإنسان واللاإنسان وقواعد الفن يجب أن تكون عاماً منطقياً على جميع الجزئيات غير مختصة ببعض المواد . أجيب بأن تعميم قواعد الفن بالنسبة إلى الأغراض والمقاصد فلما لم يكن له غرض يعتد به في التناقض الواقع بين المفردين بالمرة لم تعرضوا له بل غرضهم إنما هو التناقض الجاري بين القضايا والله أعلم تمت منه
(2) ـ مما وقع بين كليتين أو جزئيتين يكون الموضوع فيهما أخص فإن صدق إحداهما وكذب الأخرى لا لذات كونهما كليتين أو جزئيتين بل لأن سلب الأعم عن الأخص كاذب ولأنهما قد يختلفان بالإيجاب والسلب مع كذبهما معاً كالأمثلة والله أعلم تمت منه

(1/135)


فإن الكليتين قد تكذبان (1)نحو كل حيوان إنسان ولا شيء من الحيوان بإنسان والجزئيتين قد يصدقان (2) نحو بعض الحيوان إنسان وبعض الحيوان ليس بإنسان وقيد لذاته موجود في التهذيب والغاية وبعض نسخ الكتاب للاحتراز المذكور ومفقود في بعض نسخه وفي المنتهى قال العضد ولا حاجة إلى تقييد اللزوم بكونه بالذات دفعاً لورود هذا الإنسان ليس بناطق لأن كذب كل منهما لا يلزم من صدق الآخر بل من صدقه واستلزامه نقيض الآخر جميعاً (3) (والعكس) مزيد في التهذيب والغاية أيضاً وهو احتراز عن الاختلاف الواقع يبن الموجبة والسالبة الكليتين لانتفاء لزوم الصدق فيهما لكذبهما في بعض المواد كما عرفت ولايخفى أنه مستدرك لما عرفت من خروجه بقيد لذاته فتأمل
__________
(1) ـ لصدق نقيضهما و نقيض الأولى بعض الحيوان ليس بإنسان ونقيض الثانية بعض الحيوان إنسان وقد يصدقان نحو كل إنسان حيوان ولا شيء من الإنسان بجماد لكذب نقيضهما أيضاً تأمل تمت منه
(2) ـ لكذب نقيضهما أيضاً إذ الأولى لا شيء من الحيوان بإنسان ن ونقيض الثانية كل حيوان إنسان تمت منه
(3) ـ يعني لا يلزم من صدق هذا إنسان مثلاً كذب هذا ليس بناطق بل كذبه لازم من صدق هذا إنسان مع استلزامه لصدق هذا ناطق ولا يلزم من كون الشيء لازماً من آخر مع غيره كونه لازما من آخر ومن الواجب أن يعلم أن ليس المراد من قوله بل من صدقه إلخ أن الملزوم هو المجموع من حيث هو المجموع بل المراد أن الملزوم ملزوم له باعتبار شيء آخر نقلته من جواهر التحقيق والله أعلم

(1/136)


وإنما يتحقق التناقض مع الاختلاف إيجاباً وسلباً كما ذكر في الحد ومع الاتحاد في النسبة الحكمية فلو اختلفت لاختلاف في ذات الموضوع أو المحمول أو في شرط أو كل و جزء أو زمان أو مكان أو إضافة أو قوة وفعل لم يتحقق لأن نسبة المحمول إلى أحد الأمرين مغايرة لنسبته إلى الآخر ونسبة أحد الأمرين إلى شيءٍ مغايرة لنسبة الآخر إليه ونسبة أحد الأمرين إلى الآخر بشرط مغايرة لنسبة الآخر إليه بشرط آخر وعلى هذا فمتى اتحدت النسبة اتحد الكل وبشرط الاختلاف في الكم وهو الكلية والجزئية فيشترط اختلافهما فيه إن كانتا محصورتين ، فنقيض الموجبة الكلية سالبة جزئية والعكس نحو كل إنسان حيوان بعض الإنسان ليس حيواناً ، ونقيض السالبة الكلية موجبة جزئية والعكس نحو لا شيء من الإنسان بشجر بعض الإنسان شجر.وإنما اشترط ذلك لجواز كذب الكليتين نحو بعض إنسان كاتب بالفعل لا شيء من الإنسان بكاتب بالفعل .وصدق الجزئيتين نحو بعض الإنسان كاتب بعضه ليس بكاتب كذلك
(و) العكس يطلق ويراد به أحد معنيين :
إمَّا القضية الحاصلة من التبديل كالخلق والنسخ كما يقال مثلاً عكس الموجبة الكلية موجبة جزئية ،

(1/137)


وإما نفس التبديل فهو (العكس المستوي) ويسمى المستقيم أي (تحويل جزئي الجملة) أي طرفيها الذكريين بأن يجعل الجزء الأول ثانياً والثاني أولاً فلا يرد ما يقال من أن المراد من طرف الموضوع الذات ومن طرف المحمول المفهوم فإذا قلت كل فرس حيوان يكون المراد من طرف الفرس أفرادها المتكثرة ومن طرف الحيوان مفهومه أعني الجسم النامي الحساس (على وجه يصدق) أي لو كان الأصل صادقاً كان العكس صادقاً لأنه لازم للقضية فإذا صدق الملزوم صدق اللازم إذ قد يكذب هو وأصله نحو كل إنسان فرس وبعض الفرس إنسان فهما كاذبان لكن لو صدق الأصل لصدق فلا بد من بقاء الصدق لزوماً فيخرج ما صدق مع الأصل بحسب الاتفاق دون اللزوم كقولنا كل ناطق إنسان بالنسبة إلى قولنا كل إنسان ناطق ولم يعتبر بقاء الكذب لجواز كذب الملزوم دون اللازم فإن نحو كل حيوان إنسان كاذب مع صدق عكسه وهو بعض الإنسان حيوان .
ولا بد أيضاً من بقاء الكيف أي إن كان الأصل موجباً كان العكس موجباً وإن كان سالباً كان سالباً وذلك لأن قولنا كل إنسان ناطق لا يلزمه السلب وقولنا لا شيء من الإنسان بحجر لا يلزمه الإيجاب ،
فعكس الموجبة كلية كانت أو جزئية موجبة جزئية ولا تنعكس الكلية كنفسها لجواز أن يكون المحمول أعم من الموضوع ولا يجوز حمل الأخص على كل أفراد الأعم نحو كل إنسان حيوان فلا ينعكس إلى كل حيوان إنسان وينعكس إلى بعض الحيوان إنسان وإلاصدق نقيضه وهو لا شيء من الحيوان بإنسان . وتضمه إلى الأصل وهو كل إنسان حيوان فتجعله كبرى والأصل صغرى ينتج لا شيء من الإنسان بإنسان وهو سلب الشيء عن نفسه

(1/138)


وعكس السالبة الكلية كنفسها سالبة كلية لأنه إذا صدق سلب المحمول عن كل فرد من أفراد الموضوع صدق سلب الموضوع عن كل فرد من أفراد المحمول إذا لو ثبت الموضوع لفرد من أفراد المحمول حصل الملاقاة بين الموضوع والمحمول في ذلك الفرد فينعكس لا شيء من الإنسان بفرس إلى لا شيء من الفرس بإنسان وإلا فبعض الفرس إنسان . وينعكس إلى بعض الإنسان فرس هذا خلف أو يجعلها صغرى للأصل ينتج بعض الفرس ليس بفرس وهو سلب الشيء عن نفسه ولا عكس للجزئية السالبة إذ لو صح لصدق كلما صدق الأصل وليس كذلك فإنها تصدق السالبة الجزئية في قضية موضوعها أعم من محمولها ، ولا يصدق عكسها وغن صدق في قضية بين موضوعها ومحمولها تباين كلي أو عموم من وجه (1)
(وعكس النقيض) يطلق أيضاً ويراد به القضية نفسها ويراد به (جعل نقيض كل منهما) أي من الجزئين (مكان الآخر) (2)مع بقاء الصدق والكيف أيضاً والمراد منهما ما عرفت في تعريف العكس المستوي وحكم الموجبات كلية كانت أو جزئية حكم السوالب في العكس المستوي
فالموجبة الكلية تنعكس كنفسها مثلاً ينعكس كل إنسان حيون إلى كل لا حيوان لا إنسان وإلا فبعض لا حيوان ليس لا إنسان ويستلزم بعض لا حيوان إنسان وينعكس بالعكس المستوي إلى بعض الإنسان لا حيوان وقد كان كل إنسان حيوان هذا خلف . أو يضم إلى الأصل هكذا بعض لا حيوان إنسان وكل إنسان حيوان ينتج بعض لا حيوان حيوان وهو محال ولا عكس للموجبة الجزئية لصدق بعض الحيوان لا إنسان وكذب بعض الإنسان لا حيوان .
__________
(1) ـ مثال الأول بعض الإنسان ليس بحجر بعض الحجر ليس بإنسان ومثال الثاني بعض الحيوان ليس بأبيض وبعض الأبيض ليس بحيوان والله أعلم تمت منه
(2) ـ وهذا الحد أولى من حد السعد له في التهذيب بأنه تبديل نقيض الطرفين مع بقاء الصدق والكيف لما فيه من القصور إذ لا يكفي مجرد التبديل بل لا بد من الجعل المذكور تمت منه

(1/139)


والسالبة كلية كانت أو جزئية تنعكس إلى السالبة الجزئية مثلاً إذا صدق ليس بعض الحيوان بإنسان فليصدق ليس بعض لا إنسان لا حيوان وإلا فكل لا إنسان لا حيوان وتنعكس بعكس النقيض إلى كل حيوان إنسان وقد كان الأصل ليس بعض الحيوان بإنسان
والسالبة الكلية لا تنعكس كنفسها لصدق لا شيء من الإنسان بفرس وكذب لا شيء من الاَّ فرس لا إنسان لأن من أفراد الَّلا فرس إنساناً وهو يلزم أن يصدق سلب الإنسان عنه وهو باطل والله سبحانه أعلم .
(فصل)
(و) الدليل الثالث هو (الإجماع) وهو لغة العزم قال تعالى حكاية ?فأجمعوا أمركم وشركاءكم?[ يونس/71] أي اعزموا وقال :(لا صيام لمن لم يُجْمِع الصيام من الليل )(1)أي لم يعزم ويقطع بالنيَّة والاتفاق والانضمام أيضاً ومنه قولهم أجمع الرجل إذا انظم إليه غيره فصار ذا جمع كأتمر وألبن إ ذا صار ذا تمر ولبن ومنه أجمع القوم على كذا أي اتفقوا عليه
وأمَّا في اصطلاح أهل الشرع فإنه عام وخاص فالعام (هو اتفاق) جميع (المجتهدين) فيما أجمعوا عليه قولاً أو فعلاً أو اعتقاداً أو غيره سكوتا أو تقريرا ولو عبيداً أو نساء إذ لم يفصل الدليل فلا ينعقد مع خلاف أحد ممن ذكر
__________
(1) ـ : أخرجه النسائي في سننه و ابن خزيمة في صحيحه و الترمذي في سننه و ابن ماجه في سننه و أبوداود في سننه و ابن حنبل في مسنده و الطبراني في معجمه الكبير و النسائي في سننه الكبرى و الدارقطني في سننه والبيهقي في سننه الكبرى

(1/140)


ويشمل مجتهد التابعين لذلك ولاشتهار انتصابهم للفُتيا واقتعادهم دست العلماء كما روي أن أنس بن مالك رجع إلى الحسن وابن عمر سئل عن فريضة فقالوا سلوا سعيد بن جبر فإنه أعلم بها وسئل بن عباس عن النذر بذبح الولد فقال مشيراً إلى سؤال مسروق (1)ثم أتاه السائل بجوابه فتابعه وأمير المؤمنين عليه السلام جعل شريحاً على ولاية القضاء وكان يحكم باجتهاده في زمانه وكذلك عمر فإنه بعثه للقضاء في الكوفة ولم يعترضاه فيما خالفهما فيه باجتهاده إلى غير ذلك من الوقائع التي لا تحصى كثرة فتسويغ الصحابة اجتهاد غيرهم دليل اعتباره
__________
(1) ـ ذكره الآمدي في إحكامه ج: 1 ص: 299 في المسألة التاسعة تمت

(1/141)


وظاهر العبارة يشمل مجتهدي الجن وهو خلاف الصحيح لتعذر عرفان ما عندهم وقد كلفنا العمل به فيؤدي اعتبارهم إلى التكليف بما لا يطاق ولا يجوز وأمَّا في حقهم فيعتبر مجتهدونا لا مكان الاطلاع منهم وقول بعض الشرّاح أن ظاهره يقضي بأنه لا ينعقد بدون أقل الجمع فيه إن أل جنسية مبطلة لمعنى الجمعية كما ذكروا في ?والله يحب المحسنين? [آل عمران/134]إلا أن لفظ اتفاق مشعر بأنه لا ينعقد إلا باثنين فصاعداً لكنه يكون حُجَّة حيث لم يبق إلا مجتهد لمضمون دليل الإجماع وهو أنه لا يخرج الحق عن هذه الأُمَّة فلو لم يكن حقاً لخولف مضمون السمعي (العدول) فلا يعتبر كافر التصريح وفاسقه . قال في الفصول : إجماعاً وكذا المتأول عند جمهور أئمتنا عليهم السلام ولذا إن الأُمَّة إذا اختلفت على قولين ثم فسق إحدى الطائفتين صار إجماعاً في الأصح والله أعلم . ولعل تردد المصنف في قبول روايته يأتي هنا والله أعلم.(من أُمَّة محمَّد ) فيخرج المجتهدون من أرباب الشرائع السالفة فهو من خواص هذه الأمة (في) أي (عصر) فيندرج فيه اتفاق مجتهدي كل عصر ولو لم يذكر في أي عصر لأوهم أنه لا ينعقد إلا باتفاق مجتهدي جميع الأعصار إلى يوم القيمة لعموم لفظ المجتهدين (على) أي (أمر) فيشمل الديني كالصلاة والزكاة والدنيوي كتدبير الجيوش والحروب وأمر الرعية وظاهر العبارة جواز انعقاده في زمنه كما نقل القُرافي (1)
__________
(1) ـ أحمد بن ادريس القرافي هو شهاب الدين أبو العباس أحمد بن أبي الامام العلامة وحيد دهره وفريد آلاف أحد الاعلام المشهورين والائمة المذكرين انتهت اليه رئاسة الفقه على مذهب مالك رحمه الله تعالى وجد في طلب العلوم فبلغ الغاية القصوى دلت مصنفاته على غزارة فوائده وأعربت عن حسن مقاصده جمع فأوعى وفاق أضرابه جنسا ونوعا كان اماما بارعا في الفقه والاصول والعلوم العقلية وله معرفة بالتفسير وتخرج به جمع من الفضلاء توفى رحمه الله بدير الطين في جمادى الأخيرة عام أربعة وثمانين وستمائة ودفن بالقرافة ويلين بياء مثناة من تحت مفتوحة ولام مشددة مكسورة وياء ساكنة مثناة من تحت ونون ساكنة تمت

(1/142)


عن ابن اسحاق وابن بَرهان (1) لأن عموم أدلته متناول لما في زمنه وبعده والمشهور أنه لا بد وأن يكون بعده لأنه لو كان في عصره [*] فإن وافقهم فالحُجَّة قوله أو فعله أو تقريره وإن خالفهم فلا اعتبار بقولهم دونه مع امتناعه منهم وفيه بحث . والخاص هو اتفاق مجتهدي عترة الرسول بعده في عصر على أمر وقد تقدم بيانهم
(و) قد فهم من الحد ما هو (المختار) عند أئمتنا عليهم السلام والجمهور من (أنه لا يشترط في انعقاده) وصيرورته حُجَّة عدد التواتر ولا (انقراض العصر) أي عصر المجمعين فإذا انعقد ولو حيناً يسيراً لم يجز لهم ولا لغيرهم مخالفته .
وقال ابن حنبل وابن فَورك :بل يشترط . قلنا :لم تفصل أدلته بين ما انقرض عصره وما لم ينقرض ولأنه يلزم ألا ينعقد إجماع لتداخل القرون (ولا لكونه لم يسبقه) أي الإجماع (خلاف) مستقر من المجمعين أو من غيرهم فإجماعهم وإجماع غيرهم على أحد قولين أو أقوال أو على غيرها صحيح ما لم يجمع أهل الخلاف على عدم جواز القول بغيرها وإلا امتنع لما سيأتي إن شاء الله تعالى من امتناع الإجماع بعد الإجماع على خلافه .
__________
(1) ـ أحمد بن علي بن محمد بن برهان بفتح الباء أبو الفتح ولد ببغداد في شوال سنة تسع وسبعين وأربعمائة وتفقه على الغزالي والشاشي وبرع في المذهب وفي الأصول وكان هو الغالب عليه وله فيه التصانيف المشهورة البسيط والوسيط والوجيز وغيرها درس بالنظامية شهرا واحدا وكان ذكيا يضرب به المثل في حل الإشكال توفي سنة عشرين وخمسمائة كذا قاله ابن خلكان تمت

(1/143)


وقال الأشعري وابن حنبل (1)والجويني (2) والغزالي والصيرفي(3): أنه يمنع لأن الخلاف السابق يتضمن الإجماع على حقية كل من أقواله فلا تنقلب هي أو بعضها خطأ إذ يعود ذلك على كون الإجماع حُجَّة قطعية بالنقض .
__________
(1) ـ قلت الظاهر أن هذا من ابن حنبل على جهة الفرض فقط لقوله بامتناعه عادة ولذا نقل عنه أنه قال من ادعى وجود الإجماع فهو كاذب لانتشار أهله في أقطار الأرض أو خفاء بعضهم أو رجوعه قبل فتوى الآخر فبطل انعقاد الإجماع والله أعلم تمت منه
(2) ـ هو عبد الملك بن عبد الله بن يوسف بن محمد العلامة إمام الحرمين ضياء الدبن أبو المعالي بن الشيخ أبي محمد الجويني رئيس الشافعية بنيسابور مولده في المحرم سنة عشرة وأربعمائة وتفقه والده وأتى على جميع مصنفاته وتوفي أبوه وله عشرون سنة فأقعد مكانه للتدريس فكان يدرس ويخرج إلى مدرسة البيهقي حتى حصل أصول الدين وأصول الفقه على أبي القاسم الإسفراييني الاسكاف
(3) ـ أبو بكر محمد بن عبد الله الصيرفي مات سنة ثلاث وثلاثين وثلاثمائة وله مصنفات في أصول الفقه وغيرها

(1/144)


قلنا : لا نسلم تضمنه الإجماع بل مسكوت عنه وكل فرقة تجوز ما نقول وتنفي الآخر ولو سلم فمشروط ألا يقع إجماع على خلافه وأيضاً فإنه قد وقع والوقوع فرع الجواز فإنه ذكر في صحيح البخاري أن سعيد بن المسيب قال اختلف علي وعثمان وهما بعسفان في المتعة فقال عليه السلام ما تريد ؟ أتنهى عن أمر فعله رسول الله . فلما رأى ذلك علي عليه السلام أهل بهما جميعاً (1) .
قال البغوي في شرح السنة هذا خلاف محكي وأكثر الصحابة على جوازها واتفقت الأُمَّة عليه وقال أيضاً اتفقت الأُمَّة على جواز الإفراد والتمتع والقران .
(و) المختار عند أئمتنا عليهم السلام والجمهور أيضاً (أنه) لا يصح أن يجمعوا جزافاً لا عن مستند بل (لا بد له) أي للإجماع (من مستند) دليل أو أمارة ، خلافاً لبعضهم (2)محتجاً بأنه لو احتيج إلى مستند لاستغنى عنه بالمستند فيعرى عن الفائدة
__________
(1) ـ قال التحقيق في أحاديث الخلاف ج: 2 ص: 124أخبرنا عبد الأول قال أنبأ ابن المظفر الداودي قال أنبأ ابن أعين ثنا الفربري قال ثنا البخاري ثنا قتيبة بن سعيد ثنا حجاج بن محمد الأعور عن عمرو بن ميسرة عن سعيد بن المسيب قال اختلف علي وعثمان وهم بعسفان فقال له علي ما تريد أن ننهى عن أمر فعله رسول الله فقال له عثمان دعنا عنك فلما رأى ذلك علي أهل بهما جميعا أخرجاه في الصحيحين
(2) ـ وهي مسألة التفويض والخلاف فيها على خمسة أقوال ذكرها في الفصول ومن حُجج القائلين بالوقوع قوله تعالى :?إلا ما حرم إسرائيل على نفسه? وقوله ألا الأذخر ولولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك وقوله بل للأبد الخير . قلت وممَّا يدل عليه قوله تعالى ?هذا عطاؤنا فامنن أو امسك بغير حساب? والله أعلم تمت منه

(1/145)


قلنا : ينتفي علم أصابة الحق مع فقده ولأن الإجماع بلا سند محال عادة لأن اتفاق الكل لا لداعٍ يستحيل عادة كالإجماع على أكل طعام واحد في وقت واحد ، والعراء عن الفائدة مع المستند ممنوع إذ فائدته حرمة المخالفة وسقوط البحث عن المستند (وإن لم ينقل إلينا) وبهذا يظهر فساد ما ذكر صاحب الفصول من أن شرط الاستدلال به معرفة السند ومعرفة كيفية نقله من تواتر أو تلق بالقبول في القطعي أو آحاد في الظني لأن اشتراط معرفة الكيفية فرع ثبوت اشتراط نقله في الجملة فمهما لم يثبت لم تثبت ثم إذا أجمعوا على موجب دليل فإن كان قطعياً عندهم فهو سند الإجماع قطعاً لامتناع ألا يتفقوا على القطعي مع طلبهم لما يدل على الحكم ولو فرض ظني لهم مفيد لذلك لم يجز أن يكون صارفاً لدعاء القطعي إياهم إلى الحكم والاتفاق عليه وأيضاً الاتفاق على الظني دون القطعي محال عادة [*]وإلا يكن قطعياً فيحتمل أن يكون هو السند وأن يكون غيره لسعة الظنيات ولا يجوز جهل الأُمَّة بدليل راجح إن لم يعمل أحد منهم على وفقه لأنه إجماع على الخطأ وإن عملت أو بعضها على وفقه جاز إذ ليس إجماعاً منهم على عدمه فإنَّ عدَمَ العلمِ ليس علماً بالعدم وإلا لزم عدم ما لم يتفقوا على العلم به وهو باطل بالضرورة

(1/146)


(وأنه يصح أن يكون مستنده قياساً) جلياً كان أو خفياً لأنه لو فرض وقوعه عنه لم يلزم منه محال كخبر الواحد والمتواتر الظني الدلالة إذ لا مانع يقدر إلا كونه مظنوناً ولإجماعهم على حد الشارب فإن عليًّا عليه السلام أثبته بالقياس وأجمعوا على رأيه حيث قال :(إذا شرب سكر ، وإذا سكر هَذَى ، وإذا هذى افترى ، فأرى عليه حد المفتري) (1)أخرجه مالك والشافعي عن ثور بن زيد الديلمي وهو منقطع لكن وصلَه الحاكم من وجه آخر عن ثور عن عكرمة عن ابن عباس وقد روى أئمتنا عليهم السلام والفقهاء ذلك عن رسول الله (2)
وفي الصحيحين عن أنس أنه جلد في الخمر بالجريد والنخل والنعال وجلد أبو بكر أربعين فلما كان عمر استشار الناس فقال عبد الرحمن أخف الحدود ثمانون فأمر به عمر .
(أو اجتهاداً) وهو مرادف القياس عند الشافعي ومباين له عند الكَرخي لأنه عنده ما لا أصل له
__________
(1) ـ أخرجه البيهقي في سننه الكبرى وأخرجه البخاري في صحيحه و ابن حنبل في مسنده و الحاكم في مستدركه و الطبراني في معجمه الكبير و النسائي في سننه الكبرى و البيهقي في سننه الكبرى
(2) ـ ينظر في الجمع بين هذا وما رواه في مجموع زيد بن علي عنه عليهما السلام منه عليه السلام أنه قال من مات في جلد الزنا والقذف فإنه لا دية له كتاب الله قتله ومن مات في حد الخمر فديته في بيت مال المسلمين فإنه شيء رأيناه إنتهى منه . وقد رجح الإمام الهادي عليه السلام في الأحكام - بعد تضعيف ماروي أن أمير المؤمنين عليه السلام جلد الشارب برأي ارتآه - أن رسول الله جلد في الخمر

(1/147)


والحق أنه أعم مطلقاً لاجتماعهما في ما له أصل يرد إليه ، ووجوده بدون القياس فيما لا أصل له يرد إليه كأروش الجنايات ، فحيث كان مذهب المصنف الأول كان ذكره الاجتهاد بعد القياس عطفاً تفسيرياً وإن كان الثاني فظاهر لتباينهما . وإن كان الثالث كان من عطف العام على الخاص فكان الأنسب العطف (1) بالواو إذ هي المختصة بجواز عطف المرادف والعام على الخاص كما هو مقرر في موضعه .
وإنما صح كون مستنده الاجتهاد أمَّا على القول بأنه هو القياس فلما تقدم في القياس وأما على غيره فلان الأحكام الحاصلة باجتهاد كلها حاصلة عن طرق الشرع الجملية من الكتاب العزيز وسنة الرسول قولاً أو فعلاً أو تركاً أو تقريراً والإجماعين كذلك وليس الاجتهاد إلا في تفاصيل ما جاءت به الطرق . ألا ترى أنَّا إذا اجتهدنا في أرش الجناية فإن لنا في ذلك أصلاً وهو الإجماع أنه لا بد في ذلك من غرامة لكن الإجماع لم يعين قدر تلك الغرامة فيتوصل إلى معرفتها بالاجتهاد بأن ينظر إلى ما يلحق المجني عليه من الألم وما يشغله عن الحرفة إن كان ذا حرفة أو يقرب من ذلك إلى ما ورد النص بأنه له أرشاً ونحو ذلك والله أعلم .
(و) اعلم أن أهل العصر الأول إذا أجمعوا على حكم من الأحكام فلا شبهة عند القائلين بأن الإجماع حُجَّة في جواز إجماع من بعدهم من أهل الأعصار على قولهم . وفي أنه لا يجوز لبعض الأمة بعدهم الخلاف لهم وفي أنهم إذا أجمعوا على أنه لا يجوز لمن بعدهم الإجماع على خلاف قولهم أنه لا يجوز لهم ذلك
__________
(1) ـ إنما قلت الأنسب ولم أقل الناسب لصلاحية ذلك أجمع ، وعدم صلاحية أو على تقديرين دون الثالث تأمل والله أعلم تمت منه

(1/148)


وإنما اختلفوا في أنه هل يصح إجماع أهل العصر الثاني على خلاف ما أجمع عليه أهل العصر الأول ولم ينصوا على منعه ؟ فقال أبو الحسين أحمد بن موسى الطبري رحمه الله تعالى (1) من أصحاب الهادي عليه السلام وأبو عبد الله البصري شيخ أبي طالب عليه السلام أنه يصح ويكون الثاني كالناسخ للأول
__________
(1) ـ قال في مطلع البدور : علامة الشيعة ، الفقيه الرباني ، الراجح أبو الحسين أحمد بن موسى الطبري رحمه الله ، حافظ السنن ، الماضي على أقوم سنن ، شيخ الاسلام رضي الله عنه ، كان له من العناية بإحياء الملة بعد موت ابني الهادي إلى الحق عليهما السلام أضعاف ما كان في حياتهم ، وكان أحمد بن موسى من الطبريين القادمين إلى اليمن . وقال في طبقات الزيدية : احمد بن موسى الطبري أبوالحسين ، يؤوي عن محمد بن يحيى عن أبيه الهادي أصول الدين إهـ

(1/149)


ومختار أئمتنا عليهم السلام وجمهور غيرهم (أنه لا يصح) ولا يقع (إجماع بعد الاجماع على خلافه) بحيث لا يمكن الجمع بينهما إذ الدليل لم يفصل بين أن يكونوا أجمعوا على أن لا إجماع بعد إجماعهم وبين غيره ولأن خلافهم إذا كان ذنباً مهجوراً وحجراً محجوراً فكيف يصير حُجَّة من حُجج الله تعالى وهذا ممَّا لا خلاف في فساده ولأن النسخ إنما يكون لتغير المصلحة وذلك مما استأثر الله بعلمه ولا هداية للخلق إلى معرفته ولأنه لا يخلو الاجماعان إمَّا أن يكونا باطلين أو أحدهما أو صحيحين ليس الأول ولا الثاني لأن الأُمَّة لا تجمع على باطل ولا الثالث لاقتضائه ثبوت الحكم وضده أو ثبوته ونفيه وهو محال أو يكون آخرهما ناسخاً للأول وذلك باطل بما سبق وسيأتي إن شاء الله تعالى ولهما أن يجيبا عن الأول بأن الدلالة إنما قضت بتحريم مخالفة الإجماع وهذا إجماع حكمه حكم الأول وعن الثاني بأنه إنما كان ذنباً إذا كان خلافاً للأُمَّة لا لبعضها فالذنب خلاف قولهما لا قولهما وعن الثالث بأنه يجوز أن ينتهي مدة الحكم الثابت بالإجماع بتوفيق الله أهل الإجماع للإجماع على خلافه
(وأنه لا ينعقد بالشيخين) أبي بكر وعمر ولا يكون حُجَّة وقال قوم أنه حُجَّة لقوله : (اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر ) رواه الترمذي وغيره (1) والأمر بالاقتداء بهما يقتضي نفي الخطأ عنهما .
__________
(1) ـ ابن حزم فوهاه إهـ و ضعفه أيضا الذهبي كما في الأصل تمت

(1/150)


قلنا: الحديث ضعفه الذهبي كما يأتي ولو سُلِّم فليس أمراً لكل أحد حتى المجتهدين بل للمقلدين خاصة فالحديث بيان لأهلية التقليد ؛ لأن قوله :( أصحابي كالنجوم بأيهم اقديتم اهتديتهم)(1)
__________
(1) ـ ( خلاصة البدر المنير لعمر بن علي بن الملقن الأنصاري) ج: 2 ص: 431حديث أصحابي كالنجوم أيهم اقتديتم اهتديتم رواه عبد بن حميد من رواية ابن عمر وغيره من رواية عمر وأبي هريرة وأسانيدها كلها كمال قال البزار لا يصح هذا الكلام عن رسول الله وقال ابن حزم خبر مكذوب موضوع وفي ( تلخيص الحبير لأحمد بن علي بن حجر العسقلاني ) لأحمد بن علي بن حجر العسقلاني ) ج: 4 ص: 190حديث أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم عبد بن حميد في مسنده من طريق حمزة النصيبي عن نافع عن بن عمر وحمزة ضعيف جدا ورواه الدارقطني في غرائب مالك من طريق جميل بن زيد عن مالك عن جعفر بن محمد عن أبيه عن جابر وجميل لا يعرف ولا أصل له في حديث مالك ولا من فوقه وذكره البزار من رواية عبد الرحيم بن زيد العمى عن أبيه عن سعيد بن المسيب عن عمر وعبد الرحيم كذاب ومن حديث أنس أيضا وإسناده واهي ورواه القضاعي في مسند الشهاب له من حديث الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة وفي إسناده جعفر بن عبد الواحد الهاشمي وهو كذاب ورواه أبو ذر الهروي في كتاب السنة من حديث مندل عن جويبر عن الضحاك بن مزاحم منقطعا وهو في غاية الضعف قال أبو بكر البزار هذا الكلام لم يصح عن النبي ( ) وقال ابن حزم هذا خبر مكذوب موضوع باطل وقال البيهقي في الاعتقاد عقب حديث أبي موسى الأشعري الذي أخرجه مسلم بلفظ النجوم أمنة أهل السماء فإذا ذهبت النجوم أتى أهل السماء ما يوعدون وأصحابي أمنة لأمتي فإذا ذهب أصحابي أتى أمتي ما يوعدون قال البيهقي روي في حديث موصول قوي يعني حديث عبد الرحيم العمى وفي حديث منقطع يعني حديث الضحاك بن مزاحم مثل أصحابي كمثل النجوم في السماء من أخذ بنجم منها اهتدى قال والذي رويناه ههنا من الحديث الصحيح يؤدي بعض معناه قلت صدق البيهقي هو يؤدي صحة التشبيه للصحابة بالنجوم خاصة أما في الاقتداء فلا يظهر في حديث أبي موسى نعم يمكن أن يتلمح ذلك من معنى الاهتداء بالنجوم وظاهر الحديث إنما هو إشارة إلى الفتن الحادثة بعد انقراض عصر الصحابة من طمس السنن وظهور البدع وفشو الفجور في أقطار الأرض والله المستعان

(1/151)


يدل على جواز الأخذ بقول كل صحابي وإن خالف قولهما فوجب الحمل على ما ذكرناه جمعاً بين الخبرين
(ولا) ينعقد (بالأربعة الخلفاء) فيكون حُجَّة بسبب إجماعهم خلافاً لأحمد (1) وأبي خازم(2) بخاء وزاي معجمتين من الحنفية قاضي المعتضد لقوله عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين رواه أبو داود . ويجاب بأن ابن القطان (3) ضعفه
[حجية قول أمير المؤمنين عليه السلام ]
إلا أن قول الوصي أمير المؤمنين عليه السلام حُجَّة لقيام الدلالة القاطعة بالآثار المتواترة معنى
ولنتبرك بذكر بعض ما ورد فيه صلوات الله عليه وعلى أولاده الطاهرين فنقول
من ذلك قوله : (علي عيبة علمي) أخرجه ابن عدي عن بن عباس
وقوله : (علي مع القرآن والقرآن مع علي ولن يفترقا حتى يردا عليَّ الحوض) أخرجه الحاكم والطبراني في الأوسط عن أم سلمة [رضي الله عنها] .
__________
(1) ـ يقال لأحمد : كيف أحال الاجماع مع قوله هذا فكأنه يحيله في غيرهم تمت منه
(2) ـ القاضي أبو خازم الفقيه العلامة قاضي القضاة أبو خازم عبد الحميد بن عبد العزيز السكوني البصري ثم البغدادي الحنفي حدث عن محمد بن بشار ومحمد بن المثنى وشعيب بن أيوب وطائفة روى عنه مكرم بن أحمد وأبو محمد بن زبر وكان ثقة دينا ورعا عالما أحذق الناس بعمل المحاضر والسجلات بصيرا بالجبر والقابلة فارضا ذكيا كامل العقل ،ولي قضاء دمشق أبو خازم سنة أربع وستين ومئتين إلى أن قدم قال الطحاوي مات ببغداد في جمادى الأولى سنة اثنتين وتسعين ومئتين تمت سير أعلام النبلاء
(3) ـ طبقات الشافعية ج: 2 ص: 124أحمد بن محمد بن أحمد أبو الحسين ابن القطان البغدادي آخر أصحاب ابن سريج وفاة على ما قاله الشيخ أبو إسحاق قال ودرس ببغداد وأخذ عنه العلماء وقال الخطيب البغدادي هو من كبراء الشافعيين وله مصنفات في أصول الفقه وفروعه مات في جمادى الأولى سنة تسع وخمسين

(1/152)


وقوله : (علي يعسوب المؤمنين والمال يعسوب المنافقين) أخرجه ابن عدي عن علي عليه السلام .
وقوله ( علي يقضي دِيني ) بكسر الدال ، أخرجه البزار عن أنس
وقوله : (علي ابن أبي طالب ينجز عدتي ويقضي ديني) أخرجه ابن مردويه والديلمي عن سلمان الفارسي [رضي الله عنه] .(1)
وقوله : (من أحبَّ أن يحيى حياتي ويموت موتي ويسكن جَنَّة الخُلد التي وعدني ربِّي فإن ربِّي غرس قصبانها بيده فليتول علي بن أبي طالب فإنه لن يخرجكم من هدى ولن يدخلكم في ضلال) أخرجه الطبراني والحاكم وأبو نعيم عن زيد بن أرقم .
وقوله : ( من أحبَّ أن يحيى حياتي ويموت موتي ويدخل الجَنَّة التي وعدني ربِّي قصباناً من قصبانها غرسه بيده وهي جَنَّة الخُلد فليتول عليّاً وذريته من بعده فإنهم لن يخرجوكم من باب هدى ولن يدخلوكم من باب ضلالة) أخرجه مطين وابن شاهين وابن مندة عن زياد بن مطرف
وقوله : ( إن تولوا عليّاً تجدوه هادياً مهدياً يسلك بكم الطريق المستقيم) أخرجه أبو النعيم في الحلية عن حذيفة .وقوله :(يا علي ستقاتلك الفئة الباغية وأنت على الحق فمن لم ينصرك فليس مني )أخرجه ابن عساكر عن عَمَّار بن ياسر [رضي الله عنه] .
وقوله : ( يا عَمَّار إن رأيت عليّاً قد سلك وادياً ،وسلك الناس وادياً غيره فاسلك مع علي ودع الناس إنَّه لن يدلك على ردى ولن يخرجك عن الهدى) أخرجه الديلمي عن عَمَّار بن ياسر رضي الله عنه .
وقوله : (من فارق عليّاً فارقني ومن فارقني فقد فارق الله) أخرجه الحاكم عن أبي ذر [رضي الله عنه] .
__________
(1) ـ في فضائل الصحابة لابن حنبل ج: 2 ص: 615حدثنا هيثم بن خلف قثنا محمد بن أبي عمر الدوري قثنا شاذان قثنا جعفر بن زياد عن مطر عن أنس يعني بن مالك قال قلنا لسلمان سل النبي ( )من وصيه فقال له سلمان يا رسول الله من وصيك قال يا سلمان من كان وصي موسى قال يوشع بن نون قال ثم فإن وصيي ووارثي يقضي ديني وينجز موعودي علي بن أبي طالب

(1/153)


وقوله : ( إن هذا أول من آمن بي وأول من يصافحني يوم القيامة وهذا الصِّدِيق الأكبر وهذا فاروق هذه الأُمَّة يفرق بين الحق والباطل وهذا يعسوب المؤمنين والمال يعسوب الظالمين ) قاله لعلي بن أبي طالب عليه السلام أخرجه الطبراني عن سلمان وأبي ذر معاً وابن عدي والعقيلي عن ابن عباس .
وقوله : ( أنا دار الحكمة وعلي بابها)أخرجه الترمذي عن علي عليه السلام .
وقوله : (أنا مدينة العلم وعلي بابها فمن أراد العلم فليأت الباب) أخرجه الطبراني والحاكم في مستدركه وابن عدي والعقيلي عن ابن عباس [رضي الله عنهما]
فثبت بذلك كون قوله حُجَّة يجب اتباعها سيما مع قوله تعالى ?وليس البِّربأن تأتوا البيوت من ظهورها ولكن البِّر من اتقى وأتوا البيوت من أبوابها?[ البقرة 188] وقوله عليه السلام كذب من زعم أنه يصل المدينة إلا من الباب وغير ذلك ممَّا يستوعب كبار الأسفار .
(واختلفوا) فيما اتفق عليه أهل المدينة : فنقل عن مالك أنه كان يرى اتفاقهم حُجَّة ولَمّا كانت هذه المقالة ضعيفة اعتذر عنه بعض أصحابه بأنه محمول على أن روايتهم مقدمة على رواية غيرهم لكونهم أقرب إلى رسول الله وأولى بالحفظ وأعرف من غيرهم بمواقع الأخبار وتواريخها . وآخرون بأنه حُجَّة في المنقولات المستمرة كالأذان والإقامة والصاع والمد دون غيرها حتى أنهم لو أجمعوا على أن الإقامة فرادى وجب اتباعهم على الكل .

(1/154)


وقال ابن الحاجب ومن وافقه إنه على ظاهره وأنه حُجَّة في جميع الأحكام لقضاء العادة بأن اتفاق مثلهم من العلماء المجمعين الأحقين بالاجتهاد لا يكون إلا عن دليل راجح على غيره يقتضي أن يكون إجماعهم حُجَّة ظنية ولقوله : (إنما المدينة كالكير تنقي خبثها وتصنع طبيها ) أخرجه البخاري ومسلم وأحمد والترمذي عن جابر بن عبد الله . وقوله ( المدينة قبة الإسلام ودار الإيمان وأرض الهجرة ومبؤ الحلال والحرام ) أخرجه الطبراني في الأوسط عن أبي هريرة . قال في النهاية (تنقي) بالقاف والمشهور بالفاء فإن كانت القاف مخففة فهو من إخراج المخ تستخرج خبثها وإن كانت مشددة فهي من التنقية وهو إخراج الجيد من الحديد من الردي .

(1/155)


والصحيح أنه (لا) ينعقد (بأهل المدينة وحدهم) وقضاء العادة المذكورة ممنوع لجواز أن يكون متمسك غيرهم أرجح فربّ راجحٍ لم يطلع عليه البعض ،وإن سُلِّم لزم في كل جمع كجمع المدينة إذ لا أثر للاطلال ومالك يقول به وإن قال به غيره كما حكى أبو اسحق في اللمع عن بعض القول بأن إجماع أهل الحرمين مَكَّة والمدينة والمصرين البصرة والكوفة حُجَّة على غيرهم . وقيل إجماع الكوفة وحدها كما نقل عن حكاية ابن حزم ويلزم أيضاً أن لا يعتد بخلاف على عليه السلام وأكابر علماء الصحابة الذين كانوا خارجين عنها كمن كان منهم بالكوفة معه عليه السلام وفي البصرة والشام وفي المدائن وغيرها وبطلانه معلوم وما ذكره من الأحاديث غير مفيد للمطلوب لأنه إنما يدل على فضلها لما علم من وجود الباطل فيها كالفسوق والمعاصي ولا دلالة على انتفاء الخطأ عَمَّا اتفق عليه أهلها بخصوصه وإلا لزم في غيرها من سائر البقاع التي رويت في فضلها أخبار كالمدينة مثل قوله في مَكَّة : (ماأطيبك من بلد وأحبَّك إليَّ ولولا أن قومي أخرجوني منك ما سكنت غيرك ) أخرجه الترمذي وابن حبان في صحيحه والحاكم في مستدركه عن ابن عباس . وقوله : (إنَّك لخير أرض الله وأحبُّ أرض الله إلى الله ولولا أنِّي أُخرجت منك ما خرجت ) أخرجه أحمد في مسنده والترمذي وابن ماجة وابن حبان في صحيحه والحاكم في مستدركه عن عبد الله بن عدي بن الحمرآ .وقوله : (الشام صفوة الله من بلاده إليها يجتبي صفوته من عباده من خرج من الشام إلى غيرها فبسخطة ومن دخلها من غيرها فبرحمته )أخرجه الطبراني والحاكم عن أبي أمامة
فهذا ما يخص كل نوع ممَّا تقدم من رد الشبه ويعمها جميعاً قوله (إذ هم) أي من ذكر (بعض الأُمَّة) ولم يقم الدليل على حُجيَّة قول البعض إلا أن يكون عليا عليه السلام أو أهل البيت عليهم السلام كما سيأتي إن شاء الله تعالى .

(1/156)


(قال الأكثر) أي أكثر المعتزلة وغيرهم (ولا) ينعقد (بأهل البيت [عليهم السلام] ) حال كونهم (وحدهم) عليهم السلام أي منفردين عن سائر مجتهدي الأُمَّة (لذلك) أي لكونهم بعض الأُمَّة وعدم قيام الدليل على حُجيَّة قول البعض .
قلنا: و(قال أصحابنا) الذي هم الزيدية كافة وأبو علي(1)وأبو هاشم(2)وأبو عبد الله البصري(3)ورواية عن القاضي عبد الجَبَّار(4)
__________
(1) ـ هو محمد بن عبد الوهاب بن سلام الجبائي ،المولود سنة 235 المتوفي سنة 302 المتكلم ، أخذ العلم عن أبي يوسف يعقوب بن عبد الله الشحام البصري ، له مقالات مشهورة في الأولين ، قال الحاكم الجشمي صاحب التهذيب في التفسير : هو الذي سهل علم الكلام ، وله شرح على مسند ابن أبي شيبة ، وتفسير القرآن مائة جزء ، قيل : جملة مصنفاته : مائة الف ورقة وخمسين ألف ورقة ، الورقة : نصف كراس ، وقرا عليه أبو الحسن الأشعري وخالفه ن وجرت بينهما مناظرات طويلة تمت
(2) ـ هو عبد السلام بن محمد الجبائي ، قدم مدينة السلام سنة 314هـ ن وكان ذكيا حسن الفهم ثاقب الفطنة صانعا للكلام مقتدراعليه قيما به توفي 321هـ وله من الكتب كتاب الجامع الكبير وكتاب الأبواب الكبير ، وكتاب الجامع الصغير ، وكتاب الإنسان ، وكتاب العوض ، وكتاب المسائل العسكريات ، وكتاب النقض على أرستطاطليس في الكون والفساد ، وكتاب الطبائع والنقض على القائلين بها ، وكتاب الاجتهاد تمت
(3) ـ هو الحسين بن علي البصري أخذ الاعتزال عن أبي هاشم الجبائي ، قال الجنداري : الشيخ أبو عبد الله المرشد المتكلم من المعتزلة البهشمية من المفضلين لعلي عليه السلام ، وله كتاب في تفضيل أمير المؤمنين علي على غيره ، أخذ عنه العلم : قاضي القضاة والسيد أبوطالب ، وأبو عبد الله الداعي ، وكان زاهدا ن متقدما على اقرانه وله مؤلفات كثيرة ، توفي سنة 367هـ
(4) ـ القاضي عبد الجبار بن أحمد بن عبد الجبار الهمذاني الإستراباذي المعتزلي الزيدي ( م 325ت415هـ )له تثبيت دلائل نبوة سيدنا محمد (خ) تنزيه القرآن عن المطاعن (طبع) الخلاف بين الشيخين ابي علي وابي هاشم (خ)شرح الأصول الخمسة (طبع)متشابه القرآن (طبع) تمت

(1/157)


وغيرهم ينعقد بهم عليهم السلام لأنهم (جماعة معصومة) عن الخطأ إذ العصمة هي التي لا يفعل معها المعصية لا محالة مع بقاء التكليف وقد دخل فيها التوفيق إذ هو ما يفعل عنده الطاعة لأن تركها معصية ومعناها حاصل فيهم (بدليل) أي مع (1)دليل الكتاب والسنة المتواترة أمَّا الكتاب فقوله تعالى ?إنما يريد الله (ليذهب عنكم الرِّجس أهل البيت ويطهركم تطيراً?[الأحزاب33]
وجه الدلالة أنه تعالى أخبر خبراً مؤكداً بالحصر بإرادته إذهاب الرجس عنهم وطهارتهم عنه الطهارة الكاملة والرجس المطهرون عنه ليس إلا ما يستخبث من الأقوال والأفعال ويستحق عليه الذم والعقاب لأن معناه الحقيقي لا يخلو عنه أحد منهم وليس المراد إذهابه عن كل فرد لأن المعلوم خلافه فتعين أن المراد إذهابه عن جماعتهم وهو المطلوب .
[من هم أهل البيت]
وليس المراد بأهل البيت عليهم السلام أزواجه لأنه قد بيَّن المراد به في أحاديث كثيرة بالغة حد التواتر .
فإن قيل قد جاء في بعض الأحاديث ما يقتضي دخول نسائه في أهل بيته مثل قوله ـ جواباً لأم سلمة أما أنا من أهل البيت ؟ قال إن شاء الله تعالى وقوله بلى فادخلي في الكساء قالت فدخلت الكساء بعد ما قضى دعاه لابن عمِّه ولابنته ولابنيه .
__________
(1) ـ جعل الباء بمعنى مع يدفع ما يقال أن الدليل على العصمة لا يستلزم الدليل على حُجيَّة الإجماع لذا قيل أن قول الواحد من الحسنين وأمهما عليهم السلام ليس بحُجَّة مع أنهم معصومون وإنما كان قول علي عليه السلام حُجَّة لقيام الدليل غير العصمة ففي ما ذكرنا دفع لذلك وللاعتراض على المصنف حيث جعل الدليل دليلاً على العصمة لا على حُجيَّة الإجماع والحاصل أن الدليل حُجيَّة الإجماع العصمة والدليل معاً إهـ .

(1/158)


قلنا :روايات دفعها عن الدخول معهم بقوله في رواية إنَّك على خير(1)وفي رواية إنَّك إلى خير(2) وفي رواية على مكانك(3)وأنت على خير وفي رواية أنت إلى خير(4)وفي رواية أنت إلى خير أنت من أزواج النبي (5)وفي رواية فإنَّك على خير(6)وغير ذلك أكثر ولو سُلِّم التساوي وجب الجمع وقولها بعدما قضى دعاه صريح في خروجها عن قوله اللَّهُمَّ هؤلاء أهل بيتي الخبر على اختلاف الروايات وبه يحصل الجمع ويؤيد ذلك أن سؤالها وقولها وأنا معهم ونحوه لم يقع إلا بعد تقضي الدعاء في جميع الأخبار فلا تعارض لأن دفعها لكونها ليست من أهل البيت عليهم السلام وإدخالها بعد بيانهم لا يضر وكون أول الكلام وآخره يقتضي كونهن المراد ممنوع بتذكير الضمير ولو سُلِّم لزم حُجيَّة إجماعهن ولا قائل به فعلم أن المراد غيرهن لئلا تخلو الآية عن الفائدة ولا يلزم من ذلك تنافر الآي وكون التقدير ?وأطعن الله ورسوله? فإجماع العترة حُجَّة إذ لا شك في حسن ذكرهن بما يرفع قدرهن لقربهن من رسول الله وأولاده عليهم السلام
يوضح ما ذكرناه أن أكثر المفسرين على أن الآية لم تنزل في نساء النبي ولم يردن بها ولو كان متنافراً لما أطبقوا عليه
فمن ذلك ما رواه أبو طالب عليه السلام في أماليه بإسناده إلى أم سلمة أن النبي أخذ ثوباً فجلَّلَه على علي عليه السلام وفاطمة والحسن والحسين عليهم السلام ثم قرأ هذه الآية ?إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيراً? [الأحزاب33]فجئت لأدخل معهم فقال مكانك إنَّك على خير
وفي جامع الترمذي بالإسناد إلى ابن عباس قال ?إنما يريد الله? نزلت في رسول الله وعلي وفاطمة والحسن والحسين . و?الرجس? الشك .
__________
(1) ـ المعجم الكبير ج: 3 ص: 53
(2) ـ سنن الترمذي ج: 5 ص: 699
(3) ـ سنن الترمذي ج: 5 ص: 663
(4) ـ المعجم الكبير ج: 3 ص: 52
(5) ـ تفسير الطبري ج: 22 ص: 7
(6) ـ تفسير ابن كثير ج: 3 ص: 486

(1/159)


وفيه بالإسناد إلى واثلة بن الأسقع قال أتيت فاطمة [عليها السلام] أسألها عن علي عليه السلام فقالت توجَّه إلى رسول الله . فجلست أنتظره حتى جاء رسول الله ومعه علي والحسن والحسين آخذ كل واحد منهما بيده حتى دخل فأدنا عليّاً وفاطمة فأجلسهما بين يديه وأجلس حسناً وحسيناً كل واحد منهما على فخذه ثم لف عليهما بثوبه أو قال كساه ثم تلا هذه الآية ?إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيراً? [الأحزاب33]ثم قال اللَّهُمَّ هؤلاء أهل بيتي وأهل بيتي أحق أخرجه من ثلاث طرق وفي أحدها أحمد بن حنبل واللفظ له (1)ورواه أبو بكر بن أبي شيبة عن الأوزاعي .
وفيه بالإسناد إلى واثلة بن الأسقع وفيه زيادة قلنا لواثلة ما الرجس ؟ قال الشك في دين الله تعالى
وغير ذلك في تفسير الآية الكريمة مما لا يسعه إلا كبار الأسفار والمراد بالإشارة إلى ما ذكر إخراج من يتوهم دخوله من الأزواج والقرابة لا أولادهم فشمول أهل البيت لمن سيوجد منهم كشمول الأُمَّة بدليل قوله إنِّي تارك فيكم الخبر واختلاف روايات هذا الخبر لتكرره منه لاختلاف هيئة اجتماعهم وما جلَّلَهم به ودعائه لهم وجواب أم سلمة كما ذكره محب الدِّين الطبري في ذخائر العقبى .
وأمَّا السنة فقوله :(أهل بيتي كسفينة نوح) من ركبها نجا ومن تخلَّف عنها غرق وهوى كذا في رواية الإمام عبد الله الجرجاني وروي بلفظ مثل أهل بيتي فيكم مثل سفينة نوح من ركبها نجا ومن تخلَّف عنها هلك أخرجه الحاكم في مستدركه عن أبي ذر الغفاري
وهذا الحديث وأمثاله صريح في نجاة المتبع لهم وهلكة المخالف لهم فلوا لم تكن جماعتهم معصومة عن الخطأ لما كان كذلك .
__________
(1) ـ يستحب أن يقال (واللفظ له إذا تعدد الرواة واختلفت روايتهم معنى ولفظاً) للخروج من خلاف من لا يجيز الرواية بالمعنى والله أعلم تمت منه

(1/160)


وقوله (إنِّي تاريك فيكم) ما إِنْ تمسكتم به لن تضلوا من بعدي أبداً كتاب الله وعترتي أهل بيتي إنَّ اللطيف الخبير نبأني أنهما لن يفترقا حتى يردا عليَّ الحوض رواه الهادي عليه السلام في الأحكام (1)
وفي الجامع الكافي إنِّي تارك فيكم ما إِنْ تمسكتم به لن تضلوا كتاب الله وعترتي أهل بيتي ألا وإنها لن يفترقا حتى يردا علىَّ الحوض ألا وهما الخليفتان بعدي وفي وراية الإمام أبي عبد الله الجرجاني إنِّي تارك فيكم ما إِنْ تمسكتم به لن تضلوا كتاب الله وعترتي أهل بيتي
وهذا الخبر ممَّا ظهر بين الأُمَّة وتلقته بالقبول ورواه أصحاب الصحاح فجرى مجرى الأخبار المتعلقة بأمور الدِّين المهمة كالصلاة والصوم والزكاة والحج .
قال الإمام المهدي عليه السلام وبلغني أن حي الإمام المطهر بن يحيى أو ولده كتب إلى السلطان المظفر كتاباً ذكر فيه هذا الحديث فرجع جواب السلطان بأن سماع الحديث كتاب الله وسنتي فليراجع المجلس السامي أشياخه .
قال عليه السلام ولم ينقل إلينا ما أجاب به الإمام عليه السلام في ذلك قال ونحن نجيب بأن في الصحاح خبرين صحيحين عنه هذا الذي ذكره السلطان أحدهما والآخر كما ذكره الإمام عليه السلام ولعلَّ السلطان لم يطلع على هذا الحديث الثاني انتهى .
__________
(1) ـ أخرجه الطبراني في معجمه الكبير والترمذي في سننه و ابن حنبل في مسنده و الحاكم في مستدركه والطبراني في معجمه الكبير و النسائي في سننه الكبرى و الطبراني في معجمه الصغير و الدارقطني في سننه وابن حنبل في فضائل الصحابة و البيهقي في سننه الكبرى و أبو يعلى في مسنده و عبد بن حميد في مسنده وعبد الرزاق في مصنفه و الطبراني في معجمه الأوسط .

(1/161)


قال بعضهم ولفظ أهل بيتي في أكثر الروايات وإنما جاءت تلك الروايات في غير الصحيحين ممَّن لا يعتد به وهو الذي ذكره الذهبي في الميزان وهو من تحريف الناصبة إذ قيل أنه ونسبي بنون ثم سين ثم باء موحدة من أسفل ثم ياء فوقع التصحيف بتأخير النون على السين وجعل الباء الموحدة تاء مثناة من فوق مع أنه لو قيل وسببي بباءين موحدتين من أسفل لم يبعد لأن السبب يصح تفسيره بالنسب كما ذلك معروف (الخبرين) بتمامهما وقد ذكر . والخبرين منصوب على أنه مفعول أي تمم أو اقرأ أو اذكر الخبرين ويجوز في مثله الرفع على أنه مبتدأ محذوف الخبر أي معروفان . قيل ويجوز الجر على تقدير إلى آخر الخبرين وفيه أن حذف الجار وإبقاء عامله ليس بقياسي في مثله (1) (ونحوهما) من الأحاديث النبويَّة
فنحو الأول ما رواه الهادي عليه السلام في الأحكام عن النبي أنه قال مثل أهل بيتي فيكم مثل سفينة نوح من ركبها نجا ومن تخلَّف عنها غرق وهوى
وفيه أيضاً عنه أهل بيتي أمان لأهل الأرض والنجوم أمان لأهل السماء فإذا ذهب أهل بيتي من الأرض أتى أهل الأرض ما يوعدون وإذا ذهب النجوم من السماء أتى أهل السماء ما يوعدون (2)
وفي صحيفة علي بن موسى الرضى عليهما السلام عن آبائه إسناداً متصلاً إلى علي عليه السلام قال قال رسول الله مثل أهل بيتي فيكم مثل سفينة نوح من ركبها نجا ومن تخلَّف عنها زج في النار قال أخرجه السري .
ونحو الخبر الثاني قوله إنِّي مخلف فيكم ما إِنْ تمسكتم به لن تضلوا وهما كتاب الله وعترتي أهل بيتي وقد أخبرني الخبير أنهما لن يفترقا حتى يردا عليَّ الحوض رواه الإمام أبو عبد الله الجرجاني
__________
(1) ـ إنما قال (في مثله) لأن ذلك قياسي في أن وأن مفتوحة أو مشددةكما ذلك معروف في موضعه والله أعلم تمت منه
(2) ـ المستدرك على الصحيحين فضائل الصحابة لابن حنبل كشف الخفاء الفردوس بمأثور الخطاب نوادر الأصول في أحاديث الرسول المستدرك على الصحيحين

(1/162)


وقوله إنِّي أوشك أن أُدعى فأجيب وإنِّي تارك فيكم الثقلين كتاب الله حبل ممدود من السماء إلى الأرض وعترتي أهل بيتي إنهما لن يفترقا حتى يردا عليَّ الحوض رواه أيضاً الإمام أبو عبد الله الجرجاني عن أبي سعيد الخدري .
قال في جامع الأصول سماهما النبي ثقلين لأن الأخذ بهما والعمل بما يجب لهما ثقيل وقيل العرب تقول لكل خطير نفيس ثقيل . فجعلهما ثقلين إعظاماً لقدرهما وتفخيماً لشأنهما انتهى .
وقوله إنِّي تارك فيكم كتاب الله وعترتي وهما لا يختلفان بعدي رواه أيضاالإمام أبو عبد الله .
ووجه الدلالة في هذه الأحاديث وما في معناها أنها أفادت أن حكم التمسك بالعترة كالتمسك بالكتاب فإذا كان التمسك به واجباً لا يجوز مخالفتها فكذلك التمسك بجماعتهم وأيضاً فإنه يفهم من قوله تارك ومخلف وخليفتين حُجيَّة إجماعهم وذلك لأن المستخلف يكون بلا ريب قائماً مقام من استخلفه وهو الحُجَّة في حياته فيكون خليفته الحُجَّة من بعده وليس لأحد أن يقول بأن الحُجَّة هي مجموع الكتاب والعترة لإجماع الأُمَّة على أن الكتاب حُجَّة مستقلة فلو لم تكن العترة حُجَّة كالكتاب لكان ذكرها معه عبثاً واللازم ظاهر البطلان ولو أمعن الناظر نظرة في أدلة حُجيَّة إجماع أهل البيت عليهم السلام لوجدها أكثر وأصح من أدلة إجماع الأُمَّة لكن لله القائل .
كم حار فيه عاقل متكلم

لِهوى النفوس سريرةٌ لا تعلم

(1/163)


(وإذا اختلفت الأُمَّة) أي كل الأُمَّة في مسئلة (على قولين) أو أقوال كالمذبوح بلا تسمية قيل يحل سواء تركها عمداً أو سهواً . وقيل لا يحل مطلقاً (جاز إحداث قول ثالث) بأن يقال يحرم مع العمد ويحل مع السهو عند المنصور بالله عليه السلام وأبي الحسين البصري والرازي وأتباعه والأمدي وابن الحاجب والشيخ الحسن والمتأخرين لوقوعه فإن الصحابة اختلفوا في زوج وأبوين وزوجة (1)وأبوين فقال ابن عباس رضي الله عنهما للأم ثلث جميع المال مع الزوج والزوجة . وقال الباقون للأم ثلث الباقي مع كل منهما . فأخذ ابن سيرين بقول ابن عباس في زوجة وأبوين دون زوج وأبوين ولم ينكر عليه أحد إذ لم ينقل واتفاقهم على عدم التفصيل ممنوع غايته أنهم لم يقولوا به وعدم القول به ليس قولاً بعدمه وإنما يمتنع القول بما قالوا بنفيه لا بما لم يقولوا فيه بنفي ولا إثبات وإلا لزم امتناع فيما تجدد من الوقائع إن لم يقولوا فيها بحكم
فإن قيل في ذلك لزوم تخطئة الأولين إذ كل فئة مخطئة بالتعميم وفيه تخطئة كل الأُمَّة والأدلة تنفيها .
__________
(1) ـ الأكثر أن يقال في المرأة زوج . قال تعالى ?ولكم نصف ما ترك أزواجكم? وجاء زوجة وهو الأنسب عند خشية اللبس كأمثلة الميراث والله أعلم تمت منه

(1/164)


قلنا ذلك ممنوع فيما ذكرنا من التفصيل لأن ما تنفيه الأدلة تخطئه كل الأُمَّة فيما اتفقوا عليه وأمَّا فيما لم يتفقوا عليه بأن يخطي بعض في مسئلة وبعض في أخرى فلا وإلا لزم أن يمتنع تجويز الخطأ على كل فرد في مجتهدي كل الأُمَّة في أحكام متعددة ولا خلاف فيه لغير الإمامية وهذا (ما لم يرفع) القولين (الأولين) أو الأقوال الأولى بأن ينصوا على عدم جواز إحداثه أو رفع مقتضاهما مثاله أن يطأ المشتري الجارية البكر ثم يجد بها عيباً فقيل الوطء يمنع الرد وقيل بل يردها مع أرش النقصان وهو تفاوت قيمتها بكراً وثيباً فالقول بردها مجانا قول ثالث رافع للأولين (1). [*] والله أعلم .
(وكذلك) أي كإحداث قول ثالث لم يرفع الأولين يجوز لهم أو لبعضهم أو لغيرهم (إحداث دليل وتعليل وتأويل ثالث) أو رابع أو أكثر ما لم ينصوا على عدمه ولم يرفع مقتضى أقوالهم إذ لم تزل العلماء يستخرجون الأدلة والعلل والتأويلات المغايرة لأدلة من تقدمهم وعللهم وتأويلاتهم من غير نكير من أحد بل يمدحون به ويعدلهم فضلاً فكان إجماعاً على جوزاه أمَّا لو غير مقتضى قولهم من الحكم فلا كالقول الثالث الرافع للقولين ومثاله لو علل بعضهم تحريم بيع البُّر بالبُّر متفاضلاً بالكيل وآخر بالطعم فجاء من بعدهم علله بالاقتيات فإنه لا يجوز لرفعه القولين الأولين المتضمنين للإجماع على تحريم بيع الملح بمثله كذلك وتجويز علته ذلك
واعلم أن الإجماع ينعقد إمَّا بالقول أو الفعل أو الترك أو السكوت مع الرضى أو ما أمكن تركيبه منها وأنه ممكن لوقوعه وكذا العلم به ونقله إلينا .
__________
(1) ـ أما التمثيل بمسألة الجد والأخ حيث قيل بحرمان الأخ وقيل يرث نصف المال فالقول بحرمان الجد رافع للقولين فلا يليق فإنه قال الاسنوي وحكى ابن حزم في المحلي عن بعضهم أن المال كله للأخ لا توجد هذه الحاشية في الأم

(1/165)


وقولُ النظام وبعض الرافضة بامتناعه لانتشار أهله في مشارق الأرض ومغاربها فيمتنع نقل الحكم إليهم عادة وإذا امتنع الأصل امتنع الفرع لأن الموقوف على المحال محال
ممنوعٌ إذ الانتشار إنما يمنع النقل عادة فيمن قعد في قعر بيته لا يبحث ولا يطلب وليسوا كذلك لجدهم في الطلب وقوة في بحثهم عن الأدلة والأحكام وأيضاً لا نسلم أن الاتفاق في نفس الأمر فرع لتساويهم في نقل الحكم إليهم لا مكان الاتفاق بدون النقل المذكور .
نعم علمهم باتفاقهم فرع النقل المذكور وهو غير النزاع (1)وشروط الاستدلال به شروط الاستدلال بالسنة
[الطريق إلى العلم بالإجماع]
(و) لما لم يعلم ببديهة العقل ولا باستدلال عقلي قطعاً فإذاكان (طريقنا) الموصل (إلى العلم بانعقاد الإجماع) أحد أمور : إمَّا السماع لأقوالهم و (إمَّا المشاهدة) لكل واحد منهم بفعل فعلاً شرعياً أو ترك شيئاً ويعرف من كل منهم أنه فعله لشرعيته أوتركه لتحريمه هذا حق في الحاضر (وإما النقل) المفيد للعم أو الظن (عن كل واحد من المجمعين) المعتبرين في ذلك (أو عن بعضهم) فيما علينا فيه تكليف وإلا فلا إجماع ولا حُجَّة كالقول بأن عماراً أفضل من حذيفة إذ ليس يمتنع أن يتطابقوا على ترك إنكار ما لم يلزمهم إنكاره (مع نقل رضاء الساكتين) بحيث لو حكموا أو أفتوا لما كان إلا به وهذا في حق الغائب .
__________
(1) ـ إذا النزاع في إمكان اتفاقهم في نفس الأمر تمت

(1/166)


(و) متى قيل : بم يعرف رضاء الساكتين ؟ . قلنا (يعرف رضاهم) لما قاله بعضهم أو فعله أو تركه (بعدم الإنكار) لذلك القول أو نحوه (مع الاشتهار) بينهم حتى لا يخفى على أحد منهم فلو لم ينتشر كذلك لم يكن السكوت رضاً لجواز إنكاره لو علموه (و) مع (عدم ظهور) سبب (حامل لهم على السكوت) كالتقية وإلا لم يكن سكوتهم رضاً كإمامة الثلاثة إذ سكوت الصحابة عنها إن سلِّم لخشية الفرقة التي تعود على الإسلام بالضرر وكالسكوت عن النكير في بيعة معاوية لعنه الله تعالى إذ هو للتقية فلا يكون رضاً فلا إجماع ولا حُجَّة مع ذلك
(و) لا بد مع ذلك من (كونه ممَّا ألحق فيه مع واحد) بأن يكون من المسائل القطعية كالقياس حيث عمل به بعض الصحابة وسكت الباقون . والمسائل الاجتهادية عند من يقول الحق فيها مع واحد فمثل ذلك يكون إجماعاً
(ويسمى هذا) الإجماع المنقول عن البعض مع نقل رضاء الساكتين (إجماعاً سكوتياً) ولا يخفى وجه التسمية (وهو حُجَّة ظنية) فلا يستدل به في قطعي (وإن) علم وقوعه كذلك بأن شوهد أو (نقل تواتراً) لم يؤثر نقله كذلك في خروجه من حيز الظن إلى القطع كذا في حواشي الفصول لأن غايته أن السكوت يدل على الموافقة ظاهراً والظهور لا يكفي في كونه إجماعاً قطعياً بل في كونه حُجَّة ظنية والذي يشعر به الفصول والجوهرة والقسطاس للإمام الحسن (عليه السلام) أنا إذا علمنا رضاهم علماً يقيناً كان حُجَّة قطعية وقد ثبت أن أهل المذهب في غير موضع يستدلون بذلك على المسائل القطعية كمسألة كون القياس حُجَّة شرعية وقد صرح به المصنف في القياس فيناقض ما سيأتي له فيه والله أعلم [*]

(1/167)


(وكذلك) أي مثل ما ذكرناه في السكوت من أنه حُجَّة ظنية على حسب الخلاف (القولي) أي الإجماع المنسوب إلى القول وكذا الفعلي والتركي إن علم الوجه الذي وقعا عليه كما في فعله لكن لا مطلقاً بل (إن) لم يعلم وإنما ظن بأن (نقل آحاداً) ولم يتلق بالقبول فيكون حُجَّة عند أئمتنا عليهم السلام والجمهور خلافاً لأبي عبد الله وأبي رشيد والغزالي فقالوا ليس بحُجَّة وتوقف قوم . قلنا لا وجه للفرق
(فإن) علم بأن سمع أو شوهد أو (نقل) الإجماع المذكور في جميع الأُمَّة أو العترة (تواتراً) أو تلقي بالقبول (فحجة قاطعة) وحينئذٍ تحرم مخالفة المجمع عليه كلبس الحرير مثلاً إذا أجمعوا على تحريمه فإنه معصية وكذا يحرم أيضاً مخالفة الإجماع نفسه بأن يعتقد كونه مباحاً (ويفسق مخالفه) ومخالف المجمع عليه . ولا تهمل الفرق (1) بينهما .
أمَّا عند من يقول كل عمد كبيرة فظاهر وأما عند من جعلها ما ورد الوعيد عليها فذلك (بدليل) قوله عز من قائل ?ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى (ويتبع غير سبيل المؤمنين) نوله ما تولى ونصله جهنم وساءت مصيراً?[النساء/115]
__________
(1) ـ فإن قال قائل : ما الفرق بين الإجماع والمجمع عليه ؟ قلنا: له فرق فمخالفة الإجماع نفسة أن يجمعوا مثلا على تحريم الحرير ، ثم يقول قائل : هو مباح فيفسق بمخالفة الإجماع وإن لم يلبس ، ومخالفة المجمع عليه : ان يلبسه مع اعتقاد تحريمه ، وقد وقع في هذه لبس نحارير العلماء ، ولعل أن تفهم هذا وتستفيد بهذا عن شاء الله ، والله يوفقنا لرضاه آمين تمت من غير الأم

(1/168)


وجه الدلالة أن الله تعالى جمع بين مشاقة الرسول واتباع غير سبيل المؤمنين في الوعيد حيث قال ?نوله ما تولى ونصله جهنم? فيلزم أن يكون غير سيل المؤمنين محرماً وإلا لم يجمع بينه وبين المحرم الذي هو المشاقة في الوعيد إذ لا يحسن الجمع بين حرام وحلال في وعيد بأن يقول مثلاً إن زنيت وشربت الماء عاقتبك . وإذا حرم اتباع غير سبيلهم وجب اتباع سبيلهم إذ لا واسطة ويلزم من وجوب اتباع سبيلهم كون الإجماع حُجَّة لأن سبيل الشخص هو ما يختار من القول أو الفعل أو الاعتقاد .
فإن قيل يجوز أن يراد سبيل المؤمنين في متابعة الرسول ومناصرته والاقتداء به وفيما صاروا به مؤمنين وهو الإيمان به وقد نزلت الآية في طعمة بن ابيرق حين سرق درعاً وارتد ولحق بالمشركين
أجيب بأن العبرة بالعمومات والإطلاقات دون خصوصيات الأسباب والاحتمالات والثابت بالنصوص ما دلت عليه ظواهرها ولم يصرف عنه قرينة .
فإن قيل:إن فيه دوراً لأنه إثبات لحجية الإجماع بما لا يثبت حجيته إلا به .

(1/169)


قلنا :لا نسِّلم أن التمسك بالظواهر إنما يثبت بالإجماع فإن التمسك بها كان في عهد النبي قبل كون الإجماع حُجَّة . هذا وأول من احتج بالآية الكريمة :ابن أبان و الشافعي وقوله تعالى?وكذلك جعلناكم أُمَّة وسطاً (لتكونوا شهداء على الناس)? [البقرة/143]وتقريره أن الله سبحانه وتعالى عدل هذه الأُمَّة لأنه تعالى جعلهم وسطاً ، قال الجوهري الوسط كل شيءٍ أعدله ولأنه تعالى علل ذلك بكونهم شهداء والشاهد لا بد وأن يكون عدلاً وهذا التعديل للأمة وإن لزم منه تعديل كل فرد منها لكون نفيه عن واحد مستَلزَماً لنفيه عن الكل فنحن نعلم بالضرورة خلافه (1) ؛لأن العدالة الحقيقة الثابتة بتعديل الله تعالى تنافي الكذب والميل إلى جانب الباطل (2) فتعين تعديلهم فيما يجتمعون عليه وحينئذٍ تجب عصمتهم عن الخطأ قولاً وفعلاً واعتقاداً . وأيضاً فالشاهد حقيقة هو المخبر بالصدق واللفظ مطلق يتناول الشهادة في الدنيا والآخرة فيجب أن يكون قوله الأمة حقاً وصدقاً ليختارهم الحكيم الخبير للشهادة على الناس .
(ولقوله لن تجتمع أمتي على ضلالة) أخرجه الترمذي بلفظ لاتجمع أمتي على ضلالة ويد الله على الجماعة من شذ شذ إلى النار ، والطبراني في الكبير عن ابن عمر بلفظ (لن تجتمع أمتي على الضلالة أبداً فعليكم بالجماعة فإن يد الله على الجماعة (ونحوه) من الأخبار (كثير) مثل : (لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خذلهم وفارقهم حتى يأتي أمر الله) رواه الروياني وابن عساكر عن عمران بن حصين . والروياني بضم الراء وسكون الواو بعده ياء ثم نون بعدها ياء النسبة إلى رويان بلد من طبرستان ذكره في طبقات ابن حجر .
__________
(1) ـ للعلم بان بعضا منها غير عدل ، وقوله لأن العدالة ..إلخ علة لقوله : فنحن إلخ فتعين إلخ تأمل تمت منه
(2) ـ ومعلوم أن بعضها يكذب ويميل إلى الباطل فتعين إلخ تمت منه

(1/170)


وقوله (يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله ينفون عنه تحريف الغالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين) رواه زيد بن علي عليهما السلام في مجموعه عن آبائه عن علي (عليه السلام) عنه .
وقوله من فارق الجماعة شبراً فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه أخرجه ابن حنبل وأبو داود والحاكم في مستدركه عن ذر رحمه الله تعالى .
وعنه إن الله أجاركم من ثلاث خلال أن لا يدعو عليكم نبيكم فتهلكوا جميعاً وألا يظهر أهل الباطل على أهل الحق وألا تجتمعوا على ضلالة أخرجه أبو داود عن أبي مالك الأشعري .
وأخرج ابن أبي عاصم عن أنس أنه قال إن الله تعالى قد أجار أمتي أن تجتمع على ضلالة.
والبخاري ومسلم عن المغيرة أنه قال لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين حتى يأتيهم أمر الله تعالى وهم ظاهرون .
والنسائي عن حذيفة عنه أنه قال من فارق الجماعة شبراً فارق الإسلام.
والنسائي وابن حبان في صحيحه عنه (سيكون بعدي هنات وهنات فمن رأيتموه فارق الجماعة أو يريد أن يفرق أمر أمة محمَّد كائناً من كان فاقتلوه فإن يد الله على الجماعة وإن الشيطان مع من فارق الجماعة يركض) .
وغير ذلك مما بلغ في الكثرة مبلغاً عظيماً تركته اختصاراً ومن أراد الاطلاع على ذلك فعليه بالمطولات (ففيه) أي ما ذكر من الأحاديث وغيره (تواتر معنوي) أي معناه متواتر وإن اختلف اللفظ فهو يفيد القطع كما في شجاعة علي (عليه السلام) وجود حاتم .
وأمَّا قوله (ولإجماعهم) على القطع (على تخطئة من خالف الإجماع و) ذلك يدل على أنه حجة إذ (مثلهم) كثرة وفضلاً وعلماً (لا تجمع) على القطع (على تخطئة أحد في أمر شرعي) هو المخالفة هنا (إلا عن دليل قاطع) لا لمجرد تواطؤ وظن فوجب الحكم بوجود 1نص قاطع بلغهم في ذلك فيكون مقتضاه وهو خطأ المخالف حقاً وهو يقتضي حقية ما عليه الإجماع فإثبات له بنفسه ولو سلم بإثبات للأخص وهو التفسيق بالأعم وهو التخطئة

(1/171)


واعلم أن على أدلة الإجماع اعتراضات وجوابات غير ما ذكر لا تليق بالمقصود من الاختصار فالحق أن إجماع الأمة إنما كان حجة لتضمنه إجماع العترة كما ذكر الإمام شرف الدِّين فإن أدلة إجماع الأمة مع ذلك إنما يدل على أفضليتها وكونه حقاً وهو لا يستلزم عدم حقية غيره بخلاف أدلة إجماع العترة من السنة فإنها ناصة على وجوب التمسك بهم وبهذه الأدلة الدالة على عصمة الأمة عن الخطأ يمتنع وقوع الردة منهم جميعاً لأنها أعظم الخطأ وكذا الفسق وشذ المجوز لذلك .
[ القياس]
( فصل )
(و) آخر الأدلة الشرعية التي اتفق عليها المحققون (القياس) لغة مصدر قايس تقول قايسته وقياساً إذا قدرته وحذوته بشيءٍ آخر وسويته عليه وهو يتعدى بالباء كما مثل بخلاف المستعمل في الشرع فإنه يتعدى بعلى لتضمنه معنى البناء والحمل وهو في اصطلاح أهل الأصول والفقهاء (حمل معلوم على معلوم) أي حكم الذهن قطعا أو ظنا فالمراد بالمعلوم ما يشمل المظنون (بإجراء) مثل (حكمه) الثابت له نفياً كان أو إثباتاً لا عينه لأن المعنى الشخصي لا يقوم بمحلين والوصف لا يتصور انتقاله من محل إلى آخر (عليه) أي على المحمول الذي هو الفرع (بجامع) أي جامع كان بينهما من صفة أو حكم أو شرط مثبت أو منفي كما سيأتي إن شاء الله تعالى (1) . واحترز به (2) عن حمله (3) عليه (4) فيه (5) لدلالة نص أو إجماع فإنه ليس بقياس فحمل كالجنس (6) يدخل فيه المحدود وغيره وما بعده كالفصل وقد علم من هذا التعريف أركان القياس وستأتي إن شاء الله تعالى .
__________
(1) ـ في بيان خواص العلة تمت منه
(2) ـ أي الجامع تمت
(3) ـ أي الفرع تمت
(4) ـ أي الأصل تمت
(5) ـ أي الحكم تمت
(6) ـ إنما قال كالجنس لأن هذا حد باعتبار المفهوم إذ ليس الجنس والفصل هنا بمقومين لماهية كما في الحيوان الناطق في حد الإنسان . تمت

(1/172)


وعبر بمعلوم لكون القياس يجري في الموجود والمعدوم ولم يعبر بالفرع والأصل لما في التعبير بهما من إيهام الدور وإن كان قد دفعه بعضهم بأن المراد بهما ذات الأصل والفرع أعني محل الحكم المطلوب ومحل الحكم المعلوم والموقوف على القياس إنما هو وصفا الفرعية والأصلية .
[تقسيم القياس]
(وينقسم) القياس باعتبار مَدْرَكِهِ :إلى عقلي لا مدخل للشرع في إثبات شيء من أركانه كقولنا العالم حادث لأنه مؤلف كالبيت ويسمى عند المتكلمين استدلالاً بالشاهد على الغائب وعند المنطقيين تمثيلاً .
وشرعي يكون للشرع دخل في إثبات شيءٌ منها وهو المراد هنا وباعتبار قوته إلى قطعي وهو ما علم حكم أصله وعلته ووجودها في الفرع من دون معارض كما في قياس العبد على الأَمَة في تنصيف الحد وهو نادر وظني وهو ما فقد فيه أحد العلوم ولعل المصنف لم يذكر القطعي والظني على حدة بناء على ما ذهب عليه الإمام المهدي (عليه السلام) من تفسير الجلي والخفي بهما
و(إلى جلي) وهو ما قطع فيه بنفي الفارق كقياس الأَمَة على العبد في سراية العتق في قوله (من أعتق شركاً له في عبد وكان له مال يبلغ ثمن العبد قوم عليه قيمة عدل)(1) الحديث فإنَّا نقطع بعدم اعتبار الشارع الذكورة والأنوثة فيهما وأن لا فارق بينهما سوى ذلك .
(وخفي) وهو ما لم يقطع بنفي الفارق فيه بل قامت عليه أمارة ظنية
__________
(1) ـ أخرجه ابن ماجه في سننه وأخرجه مسلم في صحيحه و البخاري في صحيحه و النسائي في سننه و ابن حبان في صحيحه و ابن خزيمة في صحيحه و الترمذي في سننه و أبو داود في سننه و ابن حنبل في مسنده ومالك في الموطأ و الطحاوي في شرح معاني الآثار و الطيالسي في مسنده والحميدي في مسنده و الطبراني في معجمه الكبير وغيرهم كثير

(1/173)


قيل وهو ما تجاذبته أصول مختلفة الحكم يجوز رده إلى كل منها ولكنه أقوى شبهاً بأحدها مثاله ما نقول في الوضوء عبادة فتجب فيه النيَّة كالصلاة فيقول الحنفي طهارة بالماء فلا تجب النيَّة كإزالة النجاسة فقد تجاذبه أصلان كما ترى الصلاة وإزالة النجاسة . وسمى خفياً ؛ لافتقاره إلى النظر في ترجيح أي الشبهين .
[ تقسيم آخرللقياس]
(و) باعتبار المعنى الجامع فيه (إلى) ثلاثة أقسام (قياس علَّة وقياس دلالة) بفتح الدال وكسرها وضمها وقياس في معنى الأصل ؛
[وجه التقسيم]
لأنه إمَّا أن يكون بذكر الجامع أو بالغاء الفارق
فإن كان بذكر الجامع فإمَّا أن يكون المذكور المصرح به هو العلة نفسها فهو قياس العلة سواء ثبت بنص أو بغيره وأمثلته كثيرة كقياس النبيذ على الخمر بجامع الإسكار
وإما أن يكون المذكور وصفاً ملازماً مساويا لها كقياس قطع [يد]الجماعة بواحد على قتلها به بجامع الاشتراك في وجوب الدية عليهم فإن وجوب الدية حكم لجناية العمد العدوان التي هي العلة فوجوده دليل على وجودها فسمي لذلك قياس دلالة
وحاصله إثبات حكم في الفرع لوجود حكم آخر يوجبهما في الأصل علة واحدة فيقال ثبت هذا الحكم في الفرع لثبوت الآخر فيه وهو ملازم له . فيكون قد جمع بأحد موجبي العلة في الأصل لوجوده في الفرع بين الأصل والفرع في الموجب الآخر لملازمتهما ومرجعه إلى الاستدلال بأحد الموجبين على العلة وبالعلة على الموجب الآخر لكنه اكتفى بذكر موجب العلة عن التصريح بها ففي ما مثلناه الدية والقصاص موجبان للعلة التي هي الجناية العمد العدوان لحكمة الزجر في الأصل وقد وجد في الفرع أحدهما وهو الدية فيوجد الآخر وهو القصاص عليهم لأنهما متلازمان نظراً إلى اتحاد علتهما وحكمتهما فهو قياس الدلالة
وفي تصريحه بكونه من أقسام القياس دفع لما عسى أن يتوهم من كون الحد لا يشمله لعدم التصريح فيه بالعلة وإنما صرح بوصف ملازم لها فإنه وإن لم يصرح بها فيه فهي متضمنة .

(1/174)


وإن كان بالغاء الفارق كالجمع بين الأصل والفرع بنفي الفارق من غير تعرض لوصف هو العلة كقصة المواقع أهله في نهار رمضان فهو الذي في معنى الأصل وهو قريب (1) من تنقيح المناط الذي سيأتي إن شاء الله تعالى . وبعضهم يطلقه على الجلي وكأن المصنف منهم لما لم يفرده بالذكر والله أعلم .
[تقسيم آخر]
(و) باعتبار المشاركة في العلة (إلى قياس طرد) وهو إلحاق فرع بأصل لاشتراكهما في العلة وأكثر القياس طردي (وقياس عكس) وهو عكس حكم شيءٍ لمثله لتعاكسهما في العلة كما في حديث مسلم وهو قوله لبعض أصحابه :(أرأيتم لو وضعها في حرام أكان عليه وزر ؟ فكأنهم قالوا نعم . فقال (فكذلك لو وضعها في حلال لكان له أجر) في جواب قولهم أيأتي أحدنا شهوته وله فيها أجر فاستنتج من ثبوت الحكم أي الوزر في الوطء الحرام انتفاءه في الوطء الحلال الصادق بحصول الأجر حيث عدل بوضع الشهوة عن الحرام إلى الحلال
ومن أمثلته (2) لما صح الوتر (3) على الراحلة كان نفلاً كصلاة الفجر لما لم تصح عليها لم تكن نفلاً فالأصل صلاة الفجر والفرع صلاة الوتر وحكم الأصل كونه غير نفل وعلته عدم صحته على الراحلة وحكم الفرع كونه نفلاً وعلته صحته على الراحلة .
ومنها لما جاز لذي الحدث الأصغر قراءة القرآن جاز مسه قياساً على ذي الأكبر فإنه لم تجز له القراءة لم يجز له المس فالأصل ذو الأكبر والفرع ذو الأصغر وحكم الأصل التحريم وعلته عدم جواز القراءة وحكم الفرع جواز المس وعلته جواز القراءة.
وهو (4) عند الأكثر دليل معمول به في المسائل العقليات كمسائل العدل والتوحيد والشرعيات .
(وقد شذ المخالف في يكونه دليلاً) شرعياً وهم :
__________
(1) ـ فكان قريباً منه لالغاء الفارق بينهما فيهما ولم يكن إيَّاه لعدم تعيين الجامع بعد إلغاء الفارق تمت منه
(2) ـ أي قياس العكس
(3) ـ الوتر بالكسر وقد يفتح ذكرها في القاموس تمت منه
(4) ـ أي القياس تمت

(1/175)


الإمامية والنظام (1) والجاحظ (2) وجماعة من معتزلة بغداد كيحيى الاسكافي (3) وجعفر بن مبشر (4)
__________
(1) ـ تاريخ بغداد ج: 6 ص: 97براهيم بن سيار أبو إسحاق النظام ورد بغداد وكان أحد فرسان أهل النظر والكلام على مذهب المعتزلة وله في ذلك تصانيف عدة وكان أيضا متأدبا وله شعر دقيق المعاني على طريقة المتكلمين
(2) ـ قال في لسان الميزان ج: 4 ص: 355عمرو بن بحر الجاحظ صاحب التصانيف روى عنه أبو بكر بن أبو داود فيما قيل قال ثعلب ليس بثقة ولا مأمون قال المسعودي توفي سنة خمس وخمسين وقيل سنة ست وخمسين مات الجاحظ بالبصرة ولا يعلم أحد من الرواة وأهل العلم أكثر كتبا منه إهـ وقال السيد العلامة عبد السلام الوجية في تراجم رجال الإعتبار ص314عمرو بن بحر بن محبوب الكناني بالولاء الليثي أبو عثمان الشهير بالجاحظ من أئمة الأدب العربي ورئيس الفرقة الجاحظية المعتزلية من اهل البصرة مولدا ووفاة ..فلج آخر عمره ومات والكتب على صدره قتلته مجلدات من كتب وقعت عليه إهـ بتصرف
(3) ـ ينظر في يحيى الإسكافي بحثت عنه فلم أجده ولعله محمد بن عبدالله كما في إرشاد الفحول ج: 1 ص: 340 حيث قال مالفظه: واما المنكرون للقياس فأول من باح بإنكاره النظام وتابعه قوم من المعتزلة كجعفر بن حرب وجعفر بن حبشة ومحمد بن عبدالله الاسكافي وتابعهم على نفيه في الاحكام داود الظاهري إهـ أولعله أبو يحيى الاسكافي كما في المسودة ج: 1 ص: 329 حيث قال ومنعه مثل أبى يحيى الاسكافي وجعفر ابن مبشر وجعفر بن حرب والنظام وحكاه القاضي والحلواني إهـ
(4) ـ سير أعلام النبلاء ج: 10 ص: 549 جعفر بن مبشرالثقفي المتكلم أبو محمد البغدادي الفقيه البليغ له تصانيف جمة وتبحر في العلوم صنف كتاب الأشربة وكتابا في السنن وكتاب الاجتهاد وكتاب تنزيه الأنبياء وكتاب الحجة على أهل البدع وكتاب الإجماع وكتاب الرد على المشبهة والجهمية والرافضة والرد على أرباب القياس وكتاب الاثار الكبير توفي سنة أربع وثلاثين ومئتين وله أخ متكلم معتزلي يقال له حبيش بن مبشر دون جعفر في العلم

(1/176)


وجعفر بن حرب (1) والظاهرية والقاساني والنهرواني فمنعوا كونه متعبداً به من جهة السمع فليس دليلاً ثم اختلفوا فقيل لأنه لم يوجد في السمع ما يدل على عليه . وقالت الإمامية بل لوروده بإبطاله .
(وهو) أي من منع التعبد به سمعاً (محجوج) أي قائم عليه الحجة [*]بالسنة كخبر القبلة والخثعمية وتفريق قضاء شهر رمضان والصوم عن الأم الآتي إن شاء الله تعالى .
وما روي أن عليّاً (عليه السلام) قال لعمر لَمّا شك في قود القتيل الذي اشترك في قتله سبعة أرأيت لو اشترك نفر في سرقة أكنت تقطعهم ؟ (2) قال نعم . قال وذلك. وهو قياس للقتل على السرقة
وقوله (عليه السلام) لَمّا استشار عمر الناس في حد شارب الخمر أرى أن تجعلها بمنزلة حد الفرية إن الرجل إذا شرب هذى وإذا هذى افترى وقد تقدم تخريجه في الإجماع عن القياس فقاس (عليه السلام) الشارب على القاذف وقوله (عليه السلام) عندنا حُجَّة لما تقدم .
__________
(1) ـ سير أعلام النبلاء ج: 10 ص: 549 أبو الفضل جعفر بن حرب الهمذاني المعتزلي العابد كان من نساك القوم وله تصانيف توفي سنة ست وثلاثين ومئتين عن نحو ستين سنة وله كتاب متشابه القران وكتاب الاستقصاء وكتاب الرد على أصحاب الطبائع وكتاب الأصول وله من التلامذة الإسكافي وهو العلامة أبو جعفر محمد بن عبد الله السمرقندي ثم الإسكافي المتكلم وكان أعجوبة في الذكاء وسعة المعرفة مع الدين والتصون والنزاهة وكان في صباه خياطا وكان يحب الفضيلة فيأمره أبواه بلزوم المعيشة فضمه جعفر بن حرب إليه
(2) ـ عبد الرزاق في مصنفه ج9ص476

(1/177)


وأما الاستدلال بأدلة الاجتهاد كحديث معاذ وشريح فقد عرفت في مستند الإجماع أن في النسبة بينه وبين القياس ثلاثة مذاهب الترادف والتباين والعموم المطلق من جانب الاجتهاد ولا يستقيم إلا على الأول(1) لا الآخرين (2) أمَّا على التباين فظاهر وإمَّا على العموم كما هو الحق فلأنه لا دلالة للأعم على الأخص (وبإجماع الصحابة) والتابعين (إذ) تواتر عنهم أنهم (كانوا بين قائس) عامل بالقياس راجع إليه عند عدم النص والإجماع متكررٌ أ(وساكت) عنه (سكوت رضا) لم ينكره عليهم والعادة تقضي بأن إجماع مثلهم في مثله لا يكون إلا عن قاطع فيوجد قاطع على حجيَّته قطعاً
من ذلك ما جاء في الصحيح أنه قيل لعمر أن سمرة قد أخذ الخمر من تجار اليهود في العشور وخللها وباعها قال قاتل الله سمرة ! أما علم أن رسول الله قال لعن الله اليهود حرمت عليهم الشحوم فجملوها وباعوها وأكلوا أثمانها!؟ (3)قاس الخمر على الشحم في تحريمها تحريم لثمنها .
__________
(1) ـ أي الترادف تمت
(2) ـ أي التباين والعموم تمت
(3) ـ أخرجه مسلم في صحيحه و البخاري في صحيحه و ابن حبان في صحيحه و ابن ماجه في سننه و ابن حنبل في مسنده و الحاكم في مستدركه و الطيالسي في مسنده

(1/178)


ومنه قياس بعض الصحابة تحريم الزوجة الآتي في شرح ألا يرد فيه نص . ومن كتاب لعمر إلى أبي موسى الأشعري ثم الفهم الفهم فيما أدى إليك ممَّا ليس في كتاب ولا سنة . ثم قايس الأمور عند ذلك وأعرف الأمثال والأشباه رواه الدار قطني والبيهقي وابن عساكر [*] وما يقال في كون هذه الأخبار آحادية لا يثبت بها مثل هذا الأصل ولو سلم فالإجماع سكوتي ظني كذلك فمردود بأن بين تلك الآحاد قدراً مشتركاً هو العمل بالقياس وذلك متواتر ولا يلزم تواتر الجزئيات كشجاعة علي عليه السلام والإجماع السكوتي في مثله ليس بظني إذ السكوتي الظني محله المسائل الظنية (و) مثل هذا السكوتي قطعي لا ظني إذا (المسئلة القطعية) لأن العادة تقضي بأن السكوت في مثله من الأصول العامة الدائمة الأثر وفاق ووفقاهم حُجَّة قاطعة لن إثابته دليلاً كالكتاب والسنة أصل من أصول الشريعة وأصول الشريعة لا تثبت إلا بدليل قاطع . قال في الفصول ولا يفسق منكره خلافاً للباقلاني وإن قطع بخطئه .
وما روي عن بعضهم من التهجين في استعماله محمول على ما كان صادراً عن الجهال ومن ليس له رتبة الاجتهاد وما كان مخالفاً للنص والقواعد الشرعية أو لم يكن له أصل يشهد له بالاعتبار أو مستعملاً فيما تعبدنا فيه بالعلم دون الظن أو كان وصفه طردياً جمعاً بين النقلين .
واعلم أن مختار أئمتنا عليهم السلام والجمهور أنه يجري في الأسباب لعموم الدليل وللوقوع كالقياس المثقل إذا قتل به في كونه سبباً للقصاص على المحدد إذا قتل به بجامع القتل العمد العدوان وكقياس اللواطة على الزنا في كونها سبباً للحد بجامع الإيلاج المحرم المشتهى

(1/179)


(و) أنه يجوز التعبد في جميع الأحكام بالنصوص لأنه يجوز أن ينص الله تعالى على صفات المسائل في الجملة فيدخل تفصيلها فيها ويجوز أن يكون في ذلك مصلحة كأن ينص تعالى على أن الربا في كل موزون وأنه يجوز أكل ما تنبت من الأرض وأن كل مائع مطهر وأن كل حيّ لا يجوز ذبحه ولا أكله ونحو ذلك من معاقد التحليل والتحريم العامة بقيد يشملها
فأمَّا التعبد بالقياس في جميعها فالصحيح أنه (لا يجري القياس في جميع الأحكام) لا باعتبار الجموع من حيث هو مجموع ولا باعتبار كل فرد فرد أمَّا الأول فلأنها إمَّا أن تقاس على أمور شرعية وهو خلاف الفرض . [*]
وإما على أمور عقلية باعتبار وجه حسنها أو قبحها ولزم كونها عقلية لا شرعية وأيضاً فإنَّا لم نجد في العقل أصلاً لوجوب الصلاة وأعداد ركعاتها وسجداتها وشروطها وأوقاتها ولم يعلم وجه وجوبها كذلك من جهة العقل حتى يقع القياس لها على غيرها .
وإمَّا على الثاني (1) فلا يصح (إذ فيها ما لا يعقل معناه) كما ذكرنا في الصلاة وكضرب الدية على العاقلة والقسامة ومعظم التقديرات (والقياس فرع تعقل المعنى) أي العلة الجامعة فلا يصح مع عدم معرفتها
(ويكفي) في القياس (إثبات حكم الأصل) المقيس عليه (بالدليل) من الكتاب والسنة قولاً أو فعلاً أو تركاً أو تقريراً قطعياً كان أو أمارة فإنه يطلق على ما هو أعم منهما ولا يشترط في إثباته اتفاق الأُمَّة أو العترة أو الخصمين بل للقائس أن يثبته بما تقدم ثم يثبت العلة بمسلك من مسالكها الآتية إن شاء الله تعالى. (وإن لم يكن مجمعاً عليه) كذلك (ولا اتفق عليه الخصمان) .
__________
(1) ـ أي الأمور العقلية تمت

(1/180)


وقوله (على) القول (المختار) عائد إلى المسألتين فإن بعضهم أجاز التعبد بالقياس في كل فرد فرد بمعنى أن كلاً من الأحكام صالح لأن يثبت بالقياس بأن يدرك معناه . ومعنى ضرب الدية على العاقلة مدرك وهو إعانة الجاني فيما هو معذور فيه كما يعان الغارم لإصلاح ذات البين بقسط من الزكاة . وبعضهم يشترط الإجماع على حكم الأصل أو الاتفاق بين الخصمين . قلنا أدلة القياس لم تعتبر ذلك وقاس الصحابة على أصول ليست كذلك
[أركان القياس ]
(و) لما فرغ من بيان ماهية القياس وأقسامه وكونه أحد الأدلة الشرعية عقبه ببيان أركانه التي لا يتم إلا بها وشرائطها فقال : (أركانه ) المشار إليها في الحد (أربعة ) :
(أصل) وهو المشبه به الذي هو محل الحكم وهو في الأصل ما يبتني عليه غيره فلذا لم يستبعد (1) جعله الدليل أو الحكم أو العلة الثابتة في محل الوفاق إلا أنه الذي عليه اصطلاح الأصوليين والفقهاء
(وفرع) هو المشبه الذي هو محل الحكم المراد إثباته وكان الأنسب أن يجعل عبارة عن حكمه كما قال البعض لأنه الذي يبتني على الغير ويفتقر إليه دون المحل ولكنهم لما سمّوا محل الحكم المشبة به أصلاً سموا المحل الآخر فرعاً لكونه مقابلة على طريق المجاز وقدم على الحكم والعلة لمقابلته الأصل فمناسب ذكره عقيبه لما بين المتقابلين من اللزوم في الذهن
__________
(1) ـ أي لم يستبعده أبو الحسين كما في الفصول تمت منه

(1/181)


(وحكم) وهو ما دل عليه الدليل من التحريم ونحوه في الأصل المطلوب إثبات مثله في الفرع وهذا المثل هو ثمرة القياس التي يتناولها تكليف القياس وإلا فإن ثمرة القياس وغيره من التكاليف رضا ربِّ الأرباب فلا يصح أن يعد من أركانه لأن عده منها يقتضي توقف القياس عليه والمفروض توقفه على القياس فيكون دوراً وهو مبني على أن الدليل يقتضي نفس الحكم لا العلم بالحكم وهما قولان صحح ثانيهما (1).
فإن قيل : إذا رجح الثاني كانت ثمرة القياس العلم بالحكم لا نفسه فعد حكم الفرع من أركان القياس لا يقتضي الدور فهلا قيل بأنها خمسة ؟ .
أجيب : بأن الحكم في الأصل والفرع واحد باعتبار نوعه وإن تعدد شخصا لتعدد المحال ولعل هذا وجه إطلاقه وعدم تقييده بإضافته إلى الأصل كما في غير هذا الكتاب وإضافته في غيره لسبقه في الاعتقاد .
(وعلة) وهو الوصف الجامع بين الأصل والفرع . فإذا قيل حرمت الخمر لإسكارها ثم قيس عليها النبيذ فالأصل الخمر والفرع النبيذ لتشبيهه والحكم التحريم والجامع الإسكار .
ولما كان للقياس شروط لا تخرج عن شروط أركانه فمنها ما يعود إلى الأصل ومنها ما يعود إلى الفرع ثم ما يعود إلى الأصل منه ما يعود إلى حكمه ومنه ما يعود إلى علته عدد ذلك مفصلاً فقال :
[شروط الأصل ]
__________
(1) ـ كذا ذكره في الهداية وهو ينقض ما ذكره في باب النسخ من كون القياس كاشفاً لا مثبتاً باتفاق إلا أنه يكون المراد من التصحيح هنا هو الاتفاق وهو بعيد تمت منه

(1/182)


(فشروط الأصل) ثلاثة سلبية عائدة إلى حكمه : الأول منها (ألا يكون حكمه منسوخاً) فإن كان منسوخاً غير ثابت لم يثبت القياس لأنه إنما يتعدى الحكم من الأصل إلى الفرع باعتبار الشارع للوصف الجامع فإذا أزال الحكم بالنسخ لم يبق الوصف معتبراً للشارع فلا يتعدى الحكم به إلى الفرع (1).
فإن قيل :فإنكم قد أقستم عدم وجوب تبييت النية في صيام شهر رمضان على عدم وجوبه في صوم عاشوراء حيث كان واجباً في صدر الإسلام ثم نسخ فالنسخ قد رفع حكم ذلك الأصل وما يصحبه وما يتفرع عليه من الأحكام والأحوال .
قلنا :إنما صح ذلك لبقاء شرعية صوم عاشوراء وإن كان ندباً فذلك من باب اختلافهما تغليظاً وتخفيفاً ولا يضر على ماحكاه صاحب الفصول عن أئمتنا عليهم السلام وجمهور غيرهم لعدم دليل اشتراطه مع حصول العلة
(و) الشرط الثاني أن يعقل مثل علته المعتبرة في محل آخر بأن (4) يكون حكمه (معدولاً به عن سنن القياس) أي طريقه المعهود في الشرع والباء للتعدية أي جعل عادلاً ومجاوزاً عنه فلم يبق على منهاجه فلا يقاس عليه حينئذٍ وهو قسمان :
__________
(1) - قلت لكن يقال قد تقرر أن القياس كاشف لا مثبت فكأن الشارع نص على حكم الفرع مع حكم الأصل فإذا رفع حكم الأصل لم يرتفع حكم الفرع كما لو نص على حكم لأمرين متغايرين ثم نسخ الحكم لأحدهما بقي الأخر إلا أن يقال إن الأمر الذي لأجله اعتبر الحكم في الفرع وقد ارتفع فارتفع لارتفاعه تمت منه

(1/183)


أحدهما لا يعقل معناه وهو إما غير مخرج من قاعدة مقررة كمقادير العبادات وإما مخرج عنها بأن قصر حكمه على الأصل كما روي أن ابا بردة بن نيار بكسر النون وتخفيف المثناة من تحت خال البراء قال يا رسول الله إني نسكت شاتي قبل الصلاة وعرفت أن هذا اليوم يوم اكل وشرب فأحببت أن تكون شاتي أول ما يذبح فذبحت شاتي وتغذيت قبل أن آتي الصلاة !! فقال شاتك شاة لحم . قال يا رسول الله فإن عندي عناقاً جذعة هي أحب إليّ من شاتين أفتجزي عني ؟ قال نعم ولا تجزي عن أحد بعدك (1).
والثاني ما يعقل ولم يعتبر في محل آخر كترخيص المسافر لما فيه من المشقة المناسبة للترخص لكنها لم تعتبر في غيره كالحدادة في القيظ في قطر حار والله سبحانه أعلم .
__________
(1) ـ هذا هو حديث البراء بن عازب خطبنا رسول الله يوم النحر بعد الصلاة فقال من صلى صلاتنا ونسك نسكنا فقد أصاب النسك ومن نسك قبل الصلاة فلا نسك له فقام أبو بردة بن نيار خال البراء بن عازب فقال يا رسول الله لقد نسكت قبل أن أخرج إلى الصلاة فقال تلك شاة لحم قال فإن عندي عناقا جذعة هي خير من شاتي لحم فهل تجزئ عني فقال نعم ولن تجزئ عن أحد بعدك متفق عليه واللفظ هنا لرواية أبو داود إلا أنه قال بدل فلا نسك له فتلك شاة لحم
وغيره ممَّن خص بذبح الجذع وقد جمعهم الديبع فقال
بذبح عناق في الضحية يقبل

لقد خصص الرحمن حقاً جماعة

كذا عقبة نجل لعامر ينقل

أبو بردة منهم وزيد بن خالد

يقال خص زيد بالذكر إذا ذكر دون غيره . وفي الكشاف ?إيَّاك نعبد? معناه نخصك بالعبادة لا نعبد غيرك . وأما استعمال الباء في المقصور عليه فقليل كما في قولهم ما زيد إلا قائم . أنه لتخصيص زيد بالقيام لكنه مما يتبادر إليه الوهم كثيراً حتى أنه يحمل الاستعمال الشائع على القلب . ذكره في التلويح تمت منه

(1/184)


(و) الشرط الثالث أن (لا) يكون متفرعاً عن أصل (ثابتاً بقياس) آخر عند الجمهور لأنه إن اتحدت العلة الجامعة بين القياسين اللذين أحدهما لإثبات المطلوب والآخر لإثبات أصله انتفت الفائدة لأن ذكر الوسط أعني ما هو أصل في قياس وفرع في آخر ضائع لإمكان طرحه من الوسط وقياس المطلوب على ما جعل أصلاً له .
مثاله قياس الشافعي السفرجل على التفاح في الربوية بجامع الطعم فتمنع ربوية التفاح فيلحقه بالبُّر بالطعم أيضاً فإنه حينئذٍ يضيع ذكر التفاح لإمكان إلحاق السفرجل بالبُّر من دونه وإن كانت غير علة الأصل المطلق فسد القياس لأنها هي المعتبرة فلا توجد في الفرع المطلق والموجود فيه علة غير معتبرة فلا مساواة بين الفرع المطلق وأصله في العلة المعتبرة ولا اعتبار بمساواة في غيرها فلا تعدية كما لو قيس الجذام على الرتق فسخ النكاح به بجامع كونهما عيباً يفسخ به البيع فيمنع أن النكاح يفسخ بالرتق فيثبت بقياسه على الجب بجامع فوات الاستمتاع ففوات الاستمتاع هو الذي يثبت لأجله الحكم على الرتق وهو غير موجود في الجذام والوصف الثابت في الجذام لم يثبت باعتباره .
وأجازت الحنابلة القياس على المقيس ومنعوا لزوم المساواة في العلة لجواز أن يثبت الحكم في الأصل بعلة وفي الفرع بأخرى كما يجوز أن يعلم ثبوته في الفرع بدليل هو القياس وفي الأصل بدليل آخر من نص أو إجماع .

(1/185)


ورد بالفرق بين العلة والدليل بأنه يلزم من عدم المساواة في العلة امتناع التعدية وانتفاء القياس بخلاف اختلاف الدليل(1)ولا حاجة إلى اشتراط موافقة الخصم على علية الأصل ووجودها فيه المشهورين بمركب الأصل ومركب الوصف إذ قد ثبتا بدليلهما في الأصح ولا إلى اشتراط عدم مصادمته النص في الفرع لدخوله في شروط الفرع فإن منها أن لا يرد نص كما سيأتي إن شاء الله تعالى والله سبحانه أعلم
(و) لما فرغ من بيان شروط الأصل أخذ شروط الفرع وقدَّمها على شروط العلة لما تقدم فقال :
(شروط الفرع) ثلاثة :
الأول منها وجودي وهو (مساواة أصله في) ثلاثة أشياء :
في (علته) كالخيانة في وجوب قصاص الأطراف المشتركة بين القطع والقتل لأن القياس إنما هو تعدية حكم الأصل إلى الفرع بواسطة علة الأصل فإذا لم تكن علة الفرع مشاركة لها في صفة عمومها ولا خصوصها لم تكن علة الأصل في الفرع فلا يتعدى حكم الأصل إليه
(و) في (حكمه) فيجب أن يكون حكم الفرع مماثلاً لحكم الأصل كما قيس القصاص في القتل بالمثقل عليه في القتل بالمحدد فحكم الفرع بعينه حكم الأصل وهو وجوب القصاص وإنما اشترط ذلك لأن الأحكام إنما شرعت لما تقضي إليه من مصالح العباد فإذا كان حكم الفرع مماثلاً لحكم الأصل علمنا إنما يحصل به من المصلحة مثل ما يحصل به من حكم الأصل لتماثل الوسيلة فوجب إثباته
__________
(1) ـ فإن احتجوا بأنه لا مانع من اعتبار الشارع للوصفين في حكم واحد لجواز تعدد العلل كما سيأتي إن شاء الله تعالى ووجود أحدهما في محل النص غير مانع من اعتبار الآخر فيفرد كل من الأصل والفرع المطلقين بوصف ويجتمع الوصفان فيما هو أصل وفرع باعتبارين أجيب بلزوم التسلسل وأن يكون الفرع الأخير بعيد الشبه إذ ما من فرع إلا وفيه بعض تفاوت عن شبه ما هو أصل له ومع تعدد التفاوت يكون الفرع الأخير بعيد الشبه فيكون ذلك إلحاقاً لفرع بأصل بلا شبه وفي الجواب ما لا يخفى فليتأمل والله أعلم تمت منه

(1/186)


فإن اختلف الحكم لم يصح . مثاله إلحاق الشافعي الذمي بالمسلم في أن ظهاره يوجب الحرمة في حقه فإن الحرمة في الأصل مقيدة لأن غايتها الكفارة وفي الفرع مطلقة لأن الذمي ليس من أهل الكفارة التي فيها معنى العبادة فاختلف الحكمان فلو قبل مثل هذا القياس لم يعجز مخالف ولا موالف من قياس المسائل المتنافية في الأحكام بعضها على بعض بأمر يجمعها إذ المسائل المتنافية الحكام لن تخلو عن أمر يجمعها ويقاس فيها حكم جملي على حكم جملي ومثل هذا مهازلة في الدِّين مثاله لو قال قائل البيع الشرعي فاعتبر فيه شرائط لصحته قياساً على الصلاة والعلة كونهما شرعيين والله أعلم
قيل وهذا الشرط يختص قياس الطرد لأن الثابت بقياس العكس خلاف حكم الأصل كما تقدم
(وفي) شرعيتهما على نحو واحد من (التغليظ والتخفيف) والعزيمة والرخصة لأن مبنى القياس على اعتبار الشبه ومع الاختلاف في ذلك لا شبه بينهما معتبر فليس قياس أحدهما على الآخر للجامع أولى من الفصل بينهما فلا يقاس التيمم على الوضوء في كون التثليث مسنونا فيه بجامع كونهما شرطا للصلاة ، ولا مسح الرأس على ما ييمم في عدم التثليث بجامع كون كل منهما ممسوحاً لأن التيمم مبني على التخفيف إذ شرع تيسيراً وبدلاً عمَّا هو أشق منه (1)والوضوء مبني على التغليظ إذ شرع ابتداءً لا بدلاً عمَّا هو أشق منه وقد تقدم (2) رواية الفصول عن أئمتنا والجمهور (3) والله أعلم .
__________
(1) ـ وقد يتوهم أن باب قياس الأولى من هذا القبيل الممنوع وليس كذلك لأن قياس الأولى قد يكونان فيه أعني الأصل والفرع مغلظين مبنيين على التغليظ كالضرب على التأفيف وليس أحدهما مبنياً على التخفيف دون الآخر
(2) ـ في الشرط الأول من شروط الأصل تمت
(3) ـ من أنه لا يضر اختلافهما تغليظا وتخفيفا تمت منه

(1/187)


(و) الشرط الثاني سلبي وهو (ألا تتقدم شرعية حكمه) أي الفرع (على حكم الأصل) لامتناع أن يكون شرع ما تقدم وجوبه مستفاداً ممَّا تأخر وجوبه لأن الدليل الذي الأصل من أركانه تأخر من المدلول الذي هو حكم الفرع بسبب تأخر أحد أركانه كما عرف وقد كلفنا العلم بالمدلول عليه قبل حصول الدليل فيمتنع لأن ذلك يكون تكليفاً بما لا يمكن ومن جوّز تكليف ما لا يطاق جوّزه . ومثاله الوضوء شرط في الصلاة فتجب فيه النيَّة كالتيمم فإن شرعيته بعد الهجرة وشرعية الوضوء بمكَّة .
(و) الشرط الثالث سلبي أيضاً وهو (ألا يرد فيه نص) (1) أي دليل من باب إطلاق الملزوم وإرادة اللزم فيكون المراد [*] أعم من أن يكون ذلك الدليل من الكتاب أوالسنة أو الإجماع قطعياً أو ظنياً خاصاً مصادماً أو موافقاً أو شاملاً له مع حكم الأصل أمَّا الخاص المصادم فقد سبق في الأخبار وأمَّا الموافق فللاستغناء عنه به وأمَّا الشامل فيكون جعل أحدهما أصلاً والآخر فرعاً تحكماً والقياس تطويلاً من غير طائل كقياس الذرة على الشعير في كونه ربوياً فيمنع في الأصل فيثبته المستدل بحديث معمر بن عبد الله (الطعام بالطعام مثلاً بمثل) (2) وكان طعامنا يؤمئذٍ الشعير أخرجه مسلم . فيجاب بأن الطعام يتناولهما جميعاً فيضيع القياس فإن كان العام مخصوصاً أو مختلفاً فيه والمستدل أو المعترض لا يراه حُجَّة مطلقاً أو إلا في أقل ما يتناوله كان القياس مفيداً نحو أن يكون أحد الخصمين يخصص بالعادة فيكون قياس الذرة على الشعير مع إثباته بحديث مسلم مفيداً لكون العادة يومئذٍ تناول الشعير كما دل عليه آخر الحديث
__________
(1) ـ غير القياس لقرين المقام فتأمل تمت منه
(2) ـ أخرجه مسلم في صحيحه و ابن حبان في صحيحه و ابن حنبل في مسنده و الطحاوي في شرح معاني الآثار و الطبراني في معجمه الكبير و الدارقطني في سننه و ابن عمرو الشيباني في الآحاد والمثاني و البيهقي في سننه الكبرى

(1/188)


وقد كثر في كتب الفقه إثبات الحكم الواحد بأنواع من الأدلة وقد فهم من عبارة المتن المفيدة للحصر أنه لا يشترط غير المذكور من ثبوت الحكم جملة وعلم العلة في الفرع وعدم مخالفة [*] صحابي لعموم الدليل الدال على وجوب اتباع القياس ما لم يخالف النص ولفعل علي عليه السلام والصحابة فإنهم قاسوا أنتِ عليَّ حرام على الطلاق إن نواه إما الثلاث كما روي عن علي عليه السلام لتحريم الزوجة العام فلا تحل إلا بعد زوج وإما الباين كما روي عن زيد وتارة على اليمين بجامع المنع من المباح كما روي عن أبي بكر وعمر وابن عباس وابن مسعود وزيد بن ثابت وإمَّا الرجعي كما روي عن عمر أيضاً وتارة على الظهار كما روي عن عثمان فيجب كفارة للتحريم الذي لا يمكن تلافيه من جهة الزوج ولم يوجد نص في الفرع جملة بل كانت واقعة متجددة ولا علمت العلة الجامعة بل اكتفى كل بظنه وقد خالف قياس كل مذهب الآخر فبطل اشتراط ذلك
[شرط الحكم ]
(وشرط الحكم) الذي هو أحد أركان القياس (هنا) أي فيما نحن فيه من القياس الشرعي وفيه إشارة إلى أنه قد يجري في غير الشرعيات كما سبق ولكنه هنا أعني في أصول الفقه يشترط في حكم الأصل (أن يكون شرعياً) أي ثابتاً بدليل شرعي لأن المراد بالقياس فيه القياس الشرعي لكون الغرض منه إثبات حكم شرعي في الفرع وأن يكون عملياً قطعياً أو ظنياً اتفاقاً أو علمياً قطعياً عند القاسم والهادي والنَّاصر عليهم السلام وقدماء المعتزلة والأشاعرة بناءً على أنه حينئذٍ قطعي ولذا أثبتوا التكفير والتفسيق بالقياس فكفّروا من قال أن الله رابع أربعة قياساً على من قال أن الله ثالث ثلاثة تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً . وفسّقوا من سرق عشرين درهما قياساً على من سرق عشرة من حرز وقد فهم من العبارة ذلك .

(1/189)


وأنه (لا) يصح أن يكون الحكم (عقلياً) لخروج الأحكام العقلية عمَّا نحن فيه وإن كان القياس يدخل فيها قطعياً كان أو ظنياً كالأمور المستدفع بها الضرر والمستجلب بها النفع فإن بعض ذلك يقاس على بعض فيمتنع إثبات الحكم العقلي بالقياس الشرعي اتفاقاً نحو أن يقال في نقل العين المغصوبة استيلاء حرمة الشرع فوجب كونه ظلماً كالغاصب الأول فهذا لا يصح لن الظلم إنما يثبت حيث يثبت وجهه وهو كونه ضرراً عارياً عن نفع ودفع واستحقاق
(و) أنه (لا) يصح أن يكون الحكم (لُغوياً) نحو أن يقال في اللواط وطء وجب فيه الحد فيسمى فاعله زانياً كوطيء المرأة فهذا لا يصح لأن الأسماء اللغوية إنما تثبت بوضع أهل اللغة لا بالقياس الشرعي أمَّا إثبات الأسماء اللغوية بالقياس اللغوي فيسمى لغةً المسكوت عنه باسم غيره بجامع بينهما كالنبيذ خمراً للتخمير وكتسمية النباش سارقاً للأخذ بخفية واللائط زانياً للإيلاج المحرم ففيه خلاف فمذهب الجويني والغزالي والآمدي وابن حاجب منعه .

(1/190)


وقال المنصور بالله تعالى والباقلاني وابن سريج وابن أبي هريرة وجمهور أئمة العربية والرازي أن ذلك جائز ويجعلون ما ثبت من الأحكام بالقياس ثابتاً بالنص الوارد على الأصل ولا يثبت بالقياس إلا مجرد التسمية . مثلاً (1)الخمر لكل نيٍّ مسكر من عصير العنب قيل أو الرطب وما سوى ذلك من المائعات إنما يسميه أهل اللغة نبيذاً والإجماع منعقد على تحريم النبيذ كالخمر لكن اختلف في مستند الإجماع على تحريم النبيذ فعند الأولين أنه القياس الشرعي في الحكم لا لأنه يسمى خمراً وعند الآخرين أنه الوارد بتحريم الخمر لأنَّ النبيذ: الخمر بالقياس اللغوي فإنهم إنما يثبتون بالقياس مجرد التسمية.
[ العلة]
(و) الركن الرابع من أركان القياس الذي عليه مدار لولبه هو العلة وهي لغة المرض والعذر قال عاصم بن ثابت الأنصاري:
والقوس فيها وَتَرٌ عُنَابِل (2)ُ

ذلك
ما علتي وأنا صحيح نابل
والآخر :
وكنت إذا ما جئت جئت بعلة
فأفنيت عَلاَتي فكيفَ أقول

وعرفاً الدّاعي والصارف . واصطلاحاً الوصف المنوط به حكم شرعي ويُسمى باعثاً وحاملاً وداعيًا ومستدعياً ومناطًا ودليلا ً ومقتضياً وموجباً ومؤثراً ومسبباً وأمارة وجامعاً ومحلاً ومؤذناً ومشعراً ومصلحة وحكمة ووصفاً ومضافاً إليه . ولها شروط وخوّاص وطرق .
[شروط العلة]
__________
(1) ـ إنما قال مثلاً لأن الصحيح ما ذهب إليه الهادي وأبو طالب عليهما السلام من أن النبيذ خمر لغوي لا بالقياس لأنه يخامر العقل ويغطيه ومنه خمر الأرض لما يغطيها وخمار المرأة لما يغطي رأسها وقد روي عنه كل مسكر خمر وكل مسكر حرام أخرجه مسلم عن ابن عمر وعن عمر عن النبي قال: نزل تحريم الخمر وهو من خمسة من العنب والتمر والعسل والحنطة والشعير والخمر ما خامر العقل متفق عليه والله أعلم تمت منه
(2) ـ العنابل : بالضم الصلب المتين وجمعه عنابل بالفتح مثل جوالق تمت

(1/191)


أمَّا (شروط العلَّة) الصحيحة فهي خمسة والمراد بها ما يعلل به حكم الأصل
الأول منها (ألا تصادم نصاً) من الشارع أي دليلاً فالمراد بالنص ما يقابل القياس والاجتهاد فيشمل ما دلالته قطعية أو ظنية إمَّا بأن يرد في الفرع بخلاف ما يقتضيه القياس وإمَّا بأن يرد ببطلان التعليل بها وإما بأن يرد بإثبات علَّة أخرى تقتضي عكس ما يقتضيه
(ولا إجماعاً) من الأُمَّة أو العترة عليهم السلام مثاله أن يقول الشارع أو يقع الإجماع على أن كل سبع طاهر فيقول القائس الكلب نجس لأنه سبع . فهذا مخالف لما اقتضاه النص أو الإجماع المفروض(1)وذلك لأن الجامع الذي يثبت به الحكم قد ثبت اعتباره بنص أو إجماع في نقيض الحكم والوصف الواحد لا يثبت به النقيضان وحكم هذا أن طريق العلة إن كان النص أو الإجماع رجع إلى الترجيح بين النص أو الإجماع الذي علق على الجامع حكماًًً والنص أو الإجماع الذي علق عليه نقيض ذلك الحكم وإن كان طريقها الاستنباط فهي فاسدة لا يصح التعليل بها لأنه إذا ورد الأثر بطل النظر .
__________
(1) ـ وهذا التفسير لهذا الشرط أنسب ممَّا ذكره سعد الدِّين من أن معناه أنه يشترط في العلة أن لا يكون ما تثبته في الفرع حكماً بخلاف النص أو الإجماع كأن يعلل الشارع امتناع أمر بكونه سهلاً فيقاس عليه أن الملك لا تجوز له الكفارة بالإعتاق في الظهار لكونه سهلاً عليه بل يتعيَّن عليه الصوم فإن هذا الحكم يخالف الكتاب والسنة والإجماع وإنما كان ما ذكرناه أنسب لأنه بتفسير السعد يلزم استدراكه ورجوعه إلى شروط الفرع ومن شروطه ألا يرد فيه نص يقضي بخلافه فهو من باب مخالفة مقتضى القياس وحكمه عند الأكثر أن النص مقدم عليه ولا عبرة بالقياس لأن الصحابة كانت تترك القياس والاجتهاد عند النص المخالف لذلك وتكررذلك منهم وشاع ولم ينكره أحد والله أعلم تمت منه

(1/192)


(و) الشرط الثاني (أن لا يكون في أوصافها) المتعددة حيث قلنا بجواز تركيبها وهو الصحيح والذي بنى عليه المصنف فيما سيأتي إن شاء الله تعالى في قوله ويصح أن تكون مفردة ومركبة (ما) أي وصف (لا تأثير له) أي لذلك الوصف (في الحكم) المعلل فلا بد في كل منها أن يكون باعثاً على الحكم حيث هي باعثة أو يدل عليه حيث هي أمارة كما يقال في الاستدلال على وجوب القصاص في القتل بالمثقل بالقياس على القتل بالمحدد قتل عمد عدوان فإن لكل واحد من هذه الأوصاف تأثيراً في اقتضاء الحكم وهو وجوب القصاص فإن لم يكن كذلك لم يصح التعليل به ولو كان تركه ممَّا يورث النقض للعلة
مثاله أن يقال في تحريم التفاضل في النورة مثلاً مثلي ليس بلبن المصراة فيضمن بمثله ويجعل قوله ليس بلبن المصراة جزءاً من العله وهو ليس بباعث على الحكم ولا أمارة عليه ولو أسقط لانتقض القياس به فمثل ذلك لا يصح أن يكون علَّة والمرجع في تفسير تأثيرها إلى غالب الظن بأنها تثمر ذلك الحكم في الجملة
فيندرج تحت هذا الشرط اشتراط أن لا تكون جملة أوصاف الأصل إذ يؤدي إلى أن لا تتعدى العلة لعدم وجود جملة أوصاف الأصل في الفرع بيان ذلك أن من أوصاف الأصل في الخمر مثلاً كونها معتصرة من العنت وهذا الوصف لا يوجد في المسكر من غيره وأيضاً فإن من أوصافها كونها جسماً مائعاً وأحمر فمثل ذلك لا يظن أن الحكم منوط به
(و) الشرط الثالث (ألا تخالفه) أي الحكم (في التغليظ والتخفيف) لعدم الملائمة حينئذ إذ التغليظ إنما يقتضي تغليظا وبالعكس في التخفيف فيرتفع ظن عليه أحدهما في الآخر مثاله في التيمم مسح يراد به الصلاة فيسن فيه التكرار كالوضوء فيعترض بأن العلة وهي كونه مسحاً تخفيف والحكم الموجب عنها وهو التكرار تغليظ فلا ملائمة بين العلَّة وحكمها فلا تكون باعثة ولا أمارة له .

(1/193)


(و) الشرط الرابع (ألا تكون) أي العلَّة (مجرد الاسم) كما لو علل تحريم الخمر بكونها تسمى خمراً (إذ) مجرد الاسم (لا تأثير له) في الحكم الذي هو التحريم لتوقفه على المواضعة. والمصلحة والمفسدة لا يتبعانها فهي طردية ولا حاجة إلى هذا الاشتراط مع اشتراط أن لا يكون في أوصافها ما لا تأثير له فإنه إذا قد ألغي غير المؤثر مع ما له تأثير فبالأولى إلغاؤه منفرداً والله سبحانه أعلم . ولو قال بدل هذه الشروط الثلاثة وأن يكون لها تأثير لأغْنَى عنها أجمع أمَّا إغناؤه عن الثاني والرابع فظاهر وأما إغناؤه عن الثالث فمن حق التعليل أن يكون بما له أثر في الظن واختلاف موضع العلة والحكم يباعد الظن لكون المغلظ علة لحكم المخفف أو العكس (1).
(و) الشرط الخامس (أن تطرد) أي كلما وجدت وجد الحكم فلا يتخلف عنها إلا لخلل شرط أو حصول مانع (على الصحيح) المختار عند المصنف وهو مذهب القاضي وأبي الحسين وبعض الشافعية وجمهور الحنفية وقوَّاه المهدي عليه السلام منصوصة كانت أو مستنبطة فلا تثبت في محل مع تخلف حكمها وإلا فهو المعبر عنه بنقض العلة وفسادها وتخصيصها .
__________
(1) ـ ويغني أيضاً عن قول صاحب الفصول الثالث كونها بعض أوصاف الأصل لا كلها السادس تعدى المقيس عليها فلا تكون المحل ولا جزءاً منه إذ لا تأثير لذلك لا يقال إنما ذكر من كل من الشروط على حدة إشارة إلى الخلافات الواقعة فيها وهي أربعة: إطلاقان ،وتفصيلان لا يقال أيضاً أن قولكم وأن يكون لها تأثير يستلزم أن يوجد علة مركبة من أوصاف لا تأثير لكل منها منفرداً والتأثير إنما هو للمجموع من حيث هو المجموع مع أنه لا بد وأن يكون لكل جزء تأثير لأنَّا نقول أنه لا يمتنع أن تكون الهيئة الاجتماعية من متعددة الأوصاف ممَّا يظن علّيّته بالدليل وإن لم يكن لكل من تلك الأوصاف تأثير متحداً على أنَّا لا نعلم قائلاً بمنع ذلك ممَّن يقول بجواز المركَّبَة والله سبحانه أعلم تمت منه

(1/194)


(و) من شروطها (أن تنعكس) ومعنى انعكاسها انعدام الحكم عند انعدامها وإلا لم يصح التعليل بها (على رأي) ثابت لبعض العلماء وهو المانع من جواز تعليل الحكم بعلتين مختلفتين كل منهما مستقل باقتضاء الحكم فصاعداً .
وعند أئمتنا عليهم السلام والجمهور أنه يصح لوقوعه كما سيأتي إن شاء الله تعالى . وتبعهم المصنف حيث قال هنا على رأي وفيما سيأتي إن شاء الله تعالى ويصح تقارن العلل وقد اشترط غير هذه الشروط ممَّا هو داخل في ضمن ما ذكر أوغير معتبر فلا نطول بذكره .
[ خواص العلة]
(و) أمَّا خواصها فكثيرة : وخاصة الشيء ما يدخله دون غيره سواء شمل أفراده أو لا فإطلاقهم خواص العلة على بعض ما ذكر فيه ضعف
فمنها أنه (يصح أن تكون نفيا )مخصصاً بأمر يضاف هو إليه وأمَّا العدم المطلق فلا كلام في أنه لا يعلل به لعدم اختصاصه بمحل وحكم واستواء نسبته إلى الكل إما في حكم عدمي نحو غير عاقل . فلم يصح بيعه أو ثبوتي نحو لم يمتثل . فحسنت عقوبته عند الجمهور وذهب بعض الفقهاء وابن حاجب أن تعليل الثبوتي بالعدمي لا يصح لنا معرفة كون المعجز معجزاً أمر وجودي وهو معلل بالتحدي بالمعجز مع انتفاء المعارض وهذه علة جزؤها عدم وما جزؤه عدم فهو عدم وقد علل به وجودي فبطل سلبهم الكلي وكذلك الدوران علة لمعرفة كون المدار علة فهي وجودية والدوران عدمي لأنه عبارة عن الوجود مع الوجود والعدم مع العدم فأحد جزئيه عدم فهو عدم
(و) منها يصح (أن تكون إثباتاً) في حكم ثبوتي كالزنا في وجوب الحد أو عدمي كالإسراف في عدم نفاذ التصرف عارضاً كالشدة لأنها تعرض في العصير بعد أن لم تكن ونعني بالشدة كونه مسكراً أو لازماً كالثمنية في النقدين فإنهما ثمن لما قابلهما أبداً

(1/195)


(و) منها انه يصح أن تكون (مفردة) أي ذات وصف واحد وهو كثير كالإسكار وكالكيل في ربا النسية . (ومركبة) إمَّا من وصفين كالكيل والجنس في ربا الفضل والإيجاب والقبول في إيجاب ملك البيع والنكاح أو أوصاف كقولنا قتل عمداً عدوان .
(و) منها أنها (قد تكون خلقاً) لله تعالى (في محل الحكم) المعلل إمَّا باقياً كالطعم في الربويات عند من يعلل به فإنه من الأعراض الباقية في الأصح وإما مفارقاً كالصغر إذا علل به فساد البيع فإنه يزول بعد وجوده وفعلا للمكلف كقتل وسرق
(و) منها أنها (قد تكون حكماً) عقلياً كالإسكار أو (شرعياً) كتعليل عدم صحة بيع الكلب بكونه نجساً
(و) منها أنه (قد تجيء عن علَّة) واحدة (حكمان) فصاعداً إمَّا بمطلقها كالجنابة في عدم جواز دخول المسجد ومس المصحف أو أحدهما بمطلقها والآخر بشرط كالزنا في الجلد والرجم أو هما بشرط واحد كالدية والكفارة في قتل الخطأ في محل واحد ،كالزنا فإنه علة في الجلد والفسق مطلقاً وفي الرجم بشرط الإحصان ومحلها الشخص الزاني أو محلين كالحيض فإنه علة في ترك المرأة قراءة القرآن وغشيان الرجل لها وهما محلان مختلفان وقد تجيء أحكام متماثلة عن علل مختلفة كالزنا والردة والقتل في أشخاص ثلاثة فإن كل واحد منهم يستحق القتل . ونعني بالتماثل هنا الاتفاق في الصورة

(1/196)


(و) منها أنه (يصح تقارن العلل) المتعددة كقوله في دُرة بضم المهملة بنت أم سلمة وقد بلغه تحدث النساء أنه يريد أن ينكحها (إنها لو لم تكن ربيبتي في حجري لما حلَّت لي إنهالإبنة أخي من الرضاعة) رواه الشيخان فإنه رتب عدم حلها على تقدير عدم كونها ربيبة على كونها ابنة أخيه من الرضاع والمعنى أنها لا تحل لي أصلاً لأن بها وصفين لو انفرد كل واحد منهما حرمت عليه كونها ربيبة وكونها ابنة أخي من الرضاع وقوله في حجري على وفق الآية الكريمة والجمع بين ما تقدم في اسمها من أنها درة وبين ما في مسلم عنها كان اسمي برة فسماني رسول الله زينب وقال لا تزكوا أنفسكم الله أعلم بأهل البِّر منكم بأن لها اسمين قبل التغيير . وكتحريم الوطء لعدم النكاح والملك أو للإحرام والحيض أو الصوم وكأن يزني رجل ويرتد ويقتل نفساً بغير حق فإنه يقتل لمجموع ذلك عند الجمهور وكالوطء والبول والغائط والرعاف في حالة واحدة فإنها أمور مختلفة الحقيقة وهي علل مستقلة للحدث لثبوته بكل منها وهو معنى الاستقلال (1) .
(و) منها أنه يصح (تعاقبها) وهو أن تقتضي علة حكماً ثم تقتضي علَّة أخرى ذلك الحكم كتحريم الوطء بالحيض فإذا انتهت مدته تعقبها عدم الغسل فتقتضي تحريم الوطء أيضاً .
ومنها أن تكون طاعة كالطهارة في النيَّة ومعصية كالزنا ودافعة كالعدة ورافعة كالطلاق وصالحة للأمرين كالرضاع وحقيقية كما ذكر وإضافية كالأبوة في تعليل الولاية .
ولما كان قوله ويصح تقارن العلل مظنة أن يقال فإذا اقترنت فتعارضت فما حكمها ؟
__________
(1) ـ وأما التمسك بأنه لو لم يجز تعدد العلل وتقارنها لم يجزي تعدد الأدلة ففيه أن العلة دليل باعث فهو أخص ولا يلزم من امتناع الأخص امتناع الأعم والله أعلم تمت منه

(1/197)


أجاب بقوله (ومتى تعارضت) العلل بأن اقتضى بعضها خلاف ما يقتضيه الآخر في الفرع (فالترجيح) حينئذٍ واجب على صاحب الاجتهاد الصحيح بلا خلاف وإنما الخلاف حيث لا يحصل ترجيح وسيأتي هو وبيان وجوهه في بابه إن شاء الله تعالى بمعونته وكرمه
[طرق العلة ]
(و) أمَّا (طرق العلَّة) ومسالكها الدالة على عليتها لأن كون الوصف الجامع علةً حكم غير ضروري فلا بد في إثباته من الدليل فهي (أربع على المختار) عند المصنف تبعاً لابن الحاجب
(أولها) أي الطرق الأربع (الإجماع) وإنما قدمه على النص الذي هو أصله لأن الإجماع أقوى قطعياً كان أو ظنياً ولذا يقدم على النص عند التعارض ولأن النص تفاصيله كثيرة (وذلك أن ينعقد) أي الإجماع (على تعليل الحكم بعلة معينة) كإجماعهم في حديث مسلم والترمذي والنسائي لا يحكم أحد بين اثنين وهو غضبان على أن علته شغل القلب وتشويش الغضب للفكر .
(وثانيها) أي الطرق الأربع (النص) من الكتاب والسنة
(وهو) نوعان لأنه إمَّا (صريح) وهو ما دل بوضعه (وغير صريح) وهو ما لزم مدلول اللفظ (فالصريح ما) صرح فيه بالعلة أو(أتى فيه بأحد حروف العلة مثل لعلة كذا أو لأجل كونه كذا أو لأنه أو فإنه أو بأنه ونحو ذلك) كإذاً وكي وإن الداخلة على ما لم يبق للمسبب ما يتوقف عليه سواه وأن بالفتح مخففاً ومثقلاً بتقدير اللام فإن تقديره كالتصريح .
[ مراتب الصريح]
ومراتبه أربع :
[1] أقواها النص في التعليل حيث لا يحتمل غير العلية كالتصريح بلفظ العلة وكقوله تعالى ?من أجل ذلك كتبنا على بني إسرائيل?[ المائدة 32]و?كي تقر عينها? [طه 40] و?إذاً لأذقناك? [الأعراف 75]
[2] ثم ما هو ظاهر فيه محتمل غيره كلام التعليل وباء السببية وأن الداخلة على ما لم يبق للمسبب علة سواه لمجيء اللام لنحو العاقبة والباء لنحو المصاحبة وإن للزوم من دون سببية ولثبوت أمر على تقدير آخر على طريق الاتفاق

(1/198)


[3] ثم ما دخلت عليه الفاء إما على العلة الغائية المتأخرة عن الحكم كقوله في المحرم الذي وقصته ناقته لاتمسوه طيباً ولا تخمروا رأسه فإنه يحشر ملبياً متفق عليه
وقوله في الشهداء فإنهم يحشرون وأوداجهم تشخب دماً (1)
__________
(1) ـ لم أجده فيما لدي من مصادر كتب أهل السنة بهذا اللفظ وإنما وجدته في الإحكام للآمدي ج: 2 ص: 275 حيث قال :المسألة الثالثة عشرة مذهب الشافعي رضي الله عنه أنه إذا حكم النبي ( )بحكم في واقعة خاصة وذكر علته أنه يعم من وجدت في حقه تلك العلة خلافا للقاضي أبي بكر وذلك كقوله ( )في حق أعرابي محرم وقصت به ناقته لا تخمروا رأسه ولا تقربوه طيبا فإنه يحشر يوم القيامة ملبيا وكقوله ( )في قتلى أحد زملوهم بكلومهم ودمائهم فإنهم يحشرون يوم القيامة وأوداجهم تشخب دما إهـ
وقد تكلم صاحب كتاب التقرير والتحبير ج: 3 ص: 253 على الحديث في معرض حديثه حول الموضوع حيث قال ودونه أي هذا القسم ـ الذي هو بعد إن المكسورة المشددة ـ الفاء في الوصف الصالح علة لحكم تقدمه مثل ما واحد عن النبي أنه قال في قتلى أحد زملوهم بكلومهم ودمائهم فإنه يحشرون يوم القيامة وأوداجهم تشخب دما اللون لون الدم والريح ريح المسك لكن قال السبكي وأنا لا أحفظ هذا اللفظ في رواية ويؤدي الغرض ما في مسند أحمد من حديث جابر أن النبي ( ) قال في قتلى أحد لا تغسلوهم فإن كل جرح أو كلم دم أو كل دم يفوح مسكا يوم القيامة وفي إسناده رجل مجهول يسمى بعبد رب انتهى بالإجماع شيخنا الحافظ بأن الحديث حسن وعبد رب معروف وهو الأنصاري أخو يحيى بن سعيد راوي حديث الأعمال وكل منهما من رجال الصحيح لكن الحديث عن ابن جابر عن جابر ولجابر ثلاثة أولاد ممن روى الحديث عبد الرحمن وعقيل بفتح أوله ومحمد وأشهرهم عبد الرحمن وحديثه في الصحيحين في لكن أبيه وحديث عقيل عن أبيه ثم أبو داود

(1/199)


وإمَّا على الحكم المعلل نحو ?فاقطعوا أيديهما?[المائدة 38] لأن الفاء للترتيب والباعث المقدم عقلاًُ متأخر خارجاً فجوز ملاحظة الأمرين ودخول الفاء على كل منهما والفاء لم توضع للعلية بل للترتيب ثم يفهم منه بالاستدلال فمن جهة كونها للترتيب بالوضع جعلت من أقسام ما يدل بوضعه من جهة احتياج ثبوت العلة إلى النظر جعلت استدلالية لا وضعية صرفة فكان ما دخله الفاء مرتبة دون ما تقدما هذا إذا كان وارداً على لسانه من الكتاب والسنة
[4] ثم ما دخلت عليه الفاء في لفظ الراوي نحو سهي فسجد فإنه يزيد هنا احتمال غلط الراوي في الفهم ولكنه لا ينفي الظهور فكان مرتبته دون ما قبله
(و) القسم الثاني من النص وهو (غير الصريح ما) لزم مدلول اللفظ و(فهم منه التعليل لا على وجه التصريح ويسمى تنبيه النص) بالعلة وإيماؤه إليها وجعله بعضهم مسلكاً مستقلاً نظراً إلى أن دلالته ليست بحسب الوضع وهو أنواع :
منها أن يقترن حكم بوصف لو لم يكن هو أو نظيره للتعليل كان ذلك الاقتران بعيداً وقوعه من الشارع لفصاحته وإتيانه بالألفاظ على مواقعها ولتنزه كلامه عمَّا لا فائدة فيه مثل قوله (اعتق رقبة جواباً لمن) أي لأعرابي (قال) له هلكت وأهلكت (1) فقال (جامعت أهلي) أو واقعت . أخرجه الستة بالمعنى
__________
(1) ـ وقد دل الخبر على جواز إظهار الجزع عند المصيبة وشرعية استفصال مجمل السؤال ووجوب الكفارة على الرجل دون المرأة وكونها مرتبة ومؤخرة عن نفقة العيال وجواز إعانة الغارم في معصية بعد التوبة والعمل بالظن في حقوق الله تعالى وعدم صحة البيوع فيها وكونها ثلاثين صاعا لستين مسكينا والله أعلم تمت منه

(1/200)


وهذا مثال كون الوصف بعينه للتعليل فيستفاد منه كون الوقاع علة للاعتاق لأن إيراد الأمر به في معرض الجواب يجعله في معنى واقعت فكفر وإن كان دونه في الظهور لتقدير الفاء وإلا لزم إخلاء السؤال عن الجواب وتأخير البيان عن وقت الحاجة ولذا كان احتمال أن يكون ابتداء كلام أو زجراً للسائل عن سؤاله بعيداً جداً
ومن ذلك قوله لابن مسعود وقد توضأ بماء نبذت فيه تمرات لتجتذب ملوحته : (تمرة طيبة وماء طهور )أخرجه الترمذي وأبو داود فلم يرد بيان عين التمرة والماء وإنما أراد أن ذلك علة جواز التوضي به .
واعلم أنه لا تنافي في مسلك النص بين مراتب الصريح ومراتب الإيماء فقد يجتمعان كما في قوله وقد سُئل عن بيع الرطب بالتمر أينقص الرطب إذا يبس ؟ قالوا نعم قال : (فلا إذاً ) فالنص في الخبر من وجوه ثلاثة الإستنطاق بالوصف وترتيب الحكم على الفاء ولفظ إذاً كأنه قال إذا كان الأمر كذلك حرم فلو لم يكن نقصان الرطب باليبس لأجل التعليل لانتفت الفائدة من ذكره إذا الجواب يتم من دونه [*]وهذا الخبر رواه كثير من أئمتنا - عليهم السلام - وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجة . قال الترمذي حسن صحيح وصححه ابن خزيمة والحاكم فلا تعويل على ما روي عن أبي حنيفة من أنه لما أورد عليه هذا الحديث أجاب بأنه دار على زيد بن أبي العباس وهو ممَّن لا يقبل حديثه واستحسن أهل الحديث هذا الطعن حتى قال ابن المبارك كيف يقال أبو حنيفة لا يعرف الحديث وهو يقول زيد بن أبي العباس ممَّن لا يقبل حديثه ؟

(1/201)


(و) مثال النظير وهو دون الأول لأن المذكور فيه حكم المسؤول عنه والمذكور في هذا حكم نظيره ليثبت فيه ما يثبت في نظيره إلا أنه (قريب منه) قوله لَمّا سألته الخثعمية إن أبي أدركته الوفاء وعليه فريضة الحج أينفعه إن حججت عنه (أرأيت لو كان على أبيكِ دين الخبر) تمامه فقضيته أكان ينفعه ؟ قالت نعم . رواه أصحابنا والستة وإنما كان مثالاً للنظير لأنها سألت عن حجها عن أبيها فذكر نظيره وهو قضاؤه دينه ورتب عليه الحكم وهو النفع فكان علة له(1)وإلا لزم أن يكون ذكره عبثاً ففهم منه أن نظيره في المسؤل عنه عله لمثل ذلك الحكم وهذا يسمى عند الأصوليين تنبيهاً على أصل القياس لما فيه من ذكر الأصل الذي هو دين الآدمي على الميت والفرع هو الحج الواجب عليه والعلة هو قضاء فرض الميت فقد جمع فيه بين أركان القياس كلها
ونحو مافي الصحيحين جاءت امرأة إلى رسول الله فقالت يا رسول الله إن أمي ماتت وعليها صوم نذر أفأصوم عنها ؟ . فقال أرأيت لو كان على أمكِ دين فقضيته أكان يؤدي ذلك عنها ؟ . قالت نعم . قال (فصومي عن أمكِ) وقوله وقد سُئل عمن يُقَطِّعُ قضاء شهر رمضان ذلك إليك (لو كان على أحدكم دين فقضى الدرهم والدرهمين ألم يكن قد قضى فالله أحق أن يعفو ويغفر) .
__________
(1) ـ إذ حاصله ينفعه الحج لأن قضاء الدين ينفع تمت منه

(1/202)


(و) منها الفرق بين حكمين بوصفين إمَّا بصيغة الصفة مع ذكر الوصفين (مثل للراجل سهم وللفارس سهمين) أو أحدهما فقط كقوله (القاتل عمداً لا يرث)(1)وإمَّا بصيغة استثناء مثل ?فنصف ما فرضتم إلا أن يعفون?[البقرة 237] وإمَّا بصيغة غاية مثل ?ولاتقربوهن حتى يطهرن?[ البقرة222]وإمَّا بصيغة شرط مثل إذا اختلفت هذه الأجناس فبيعوا كيف شئتم إذا كان يداً بيد . وإمَّا بصيغة الاستدراك مثل ?لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان?[البقرة225] .
ووجه استفادة العلة من ذلك كله أن التفرقة لا بد لها من فائدة والأصل عدم غير المدعي وهو إفادة عليه ذلك الوصف .
__________
(1) ـ أخرجه ابن حنبل في مسنده و النسائي في سننه الكبرى و الدارقطني في سننه و البيهقي في سننه الكبرى و الطبراني في معجمه الأوسط وقال في سبل السلام ج: 3 ص: ذهب الشافعي وأبو حنيفة وأصحابه وأكثر العلماء قالوا لا يرث من الدية ولا من المال وذهبت الهادوية ومالك إلى أنه إن كان القتل خطأ ورث من المال دون الدية

(1/203)


(و) منها ذكر وصف مناسب مع الحكم (مثل) قوله (لا يقضي القاضي وهو غضبان) (1) نبَّه على علّيّة الغضب لشغله القلب و تشويشه للنظر لعدم جواز القضاء مثل أكرم العلماء وأهن الجهّال وذلك لأنه يغلب من المقارنة مع المناسبة ظن الاعتبار (ونحو ذلك) من أنواع الإيماء كالنهي عن فعل في وقت معين قد أوجب علينا فيه ما ينافي ذلك الفعل إذ يشعر بأن علة تحريمه كونه مانعاً من الواجب كقوله تعالى ?إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله وذروا البيع?[الجمعة] فالنهي عن البيع بعد الأمر بالسعي منبه على أن العلة في تحريم البيع حينئذٍ كونه مانعاً من الواجب .
(وثالثها) أي طرق العلة الأربع (السبر والتقسيم ويُسمى) في الاصطلاح (حُجَّة الاجماع) لأنه يرجع في تعيين ما ادعي عليته إلى الاحتجاج بالاجماع على أنه لا بد لذلك الحكم من علة (وهو) أي هذا الطريق إذ يجوز تذكيره قال تعالى ?يهدي إلى الحق وإلى طريق مستقم ? [الأحقاف30]أو باعتبار (حصر الأوصاف) الموجودة (في الأصل) الصالحة للعلية في بادي الرأي ومعرفتها بأعيانها وهذا هو التقسيم (ثم إبطال التعليل بها) أي بتلك الأوصاف جميعها وهو السبر وإنما قدمه على التقسيم لتقدمه في الاعتبار لأنه يسبر المحل أولاً هل فيه أوصاف أو لا ثم يقسم ثم يسبر [ثانياً] بأن يبطلها (إلا) ما ادُّعي عليته منها (واحداً) كان أو أكثر (فيتعين) حينئذٍ كونه العلة للحكم .
__________
(1) ـ أخرجه النسائي في سننه الكبرى ومسلم في صحيحه و النسائي في سننه و ابن حبان في صحيحه و الترمذي في سننه و أبو داود في سننه و ابن حنبل في مسنده و الطيالسي في مسنده و الحميدي في مسنده و النسائي في سننه الكبرى و الطبراني في معجمه الصغير و البيهقي في سننه الكبرى وقال في تلخيص الحبير ج: 4 ص: 189قوله روي أنه ( ) قال لا يقضي القاضي بين اثنين وهو غضبان متفق عليه من حديث أبي ورواه بن ماجة باللفظ المذكور

(1/204)


مثاله (1) أن يقول في قياس الذُرة على البُّر في تحريم التفاضل بحثت عن أوصاف البُّر فما وجدت ثمة ما يصلح علة للربوية في بادي الرأي إلا الطعم أو القوت أو الكيل لكن كل من الطعم والقوت لا يصلح لذلك عند التأمل لجريان تحريم التفاضل في النورة والملح مثلاً ثم إن كان الحصر والإبطال قطعيين فالتعليل بالباقي قطعي وإلاّ فظني فهذا الطريق عبارة عن النظر والإجتهاد في تعين ما دل الإجماع أو النص على كونه علة من دون تعيين ويكفي المستدل في بيان الحصر بحثت فلم أجد سوى هذه الأوصاف ويصدق لعدالته وتدينه فلا يتهم بأنه لم يبحث أو بحث ووجد ولم يذكره ترويجاً لكلامه وذلك ممَّا يُغلّب ظن العدم لأن الأوصاف العقلية والشرعية ممَّا لو كانت لما خفيت على الباحث عنها فلا يقال عدم الوجدان لا يدل على عدم الوجود أو يقول الأصل عدم غيرها فإن ذلك يحصل الظن المقصود فإن أبدى المعترض وصفاً كأن يقول فيما سبق من المثال هنا وصف آخر وهو كونه خير قوت فعلى المستدل أن يبطله وإلا أحصر ولا ينقطع إذ غايته منع مقدمة وهو لا يقتضي إلا لزوم الدلالة عليها .
فائدة : الطعم بالضم الطعام وبالفتح ما يؤديه الذوق يقال طعم مر . والطعم أيضاً ما يشتهى يقال له طعم وما فلان بذي طعم - إذا كان غنياً –
__________
(1) ـ قد توهم الأصفهاني في شارح المنهاج وغيره أن خبر المجامع منه لسبب حذف كونه أعرابياً لاستواء أصناف الناس في ذلك وأهلية المحل لأولوية الزنا به وكونه رمضان ذلك العام وكونه وقاعاً إذ لا مدخل لخصوصيته نفي كون ذلك إفساداً للصوم وليس كذلك إذ لا حصر للأوصاف فيه ولا يشترط فيه الإجماع على تلعليل الحكم في الجملة والظاهر أن مثل خبر الأعرابي المسمى بتنقيح المناط أعم مطلقاً من السبر فتأمل تمت منه

(1/205)


(وإبطال ما عداه) أي الوصف المعلل به يكون (إمَّا ببيان ثبوت الحكم) المعلل في الصورة الفلانية (من دونه) فيعلم أن المحذوف لا أثر له وهذه الطريق تسمى الإلغاء مثاله القوت باطل لأن الملح ربوي (أو ببيان كونه) أي الوصف المحذوف (وصفاً طردياً) بأن يكون من جنس ما علم من الشارع الغاؤه إما مطلقاً في جميع الأحوال كالسواد (1)والبياض وإما في ذلك الحكم وإن اعتبر في غيره كالذكورة والأنوثة في أحكام العتق دون الشهادة وولاية النكاح والإرث وهذا القسم مغنٍ عما قبله لعمومه (أو بعدم ظهور مناسبته) أي الوصف المحذوف ولا يجب ظهور عدم مناسبة المحذوف فإن قال المعترض بحثت فلم أجد لوصفك مناسبة والمناسب الوصف الفلاني صدق لعدالته ولزم المستدل الترجيح حينئذٍ للتعارض بين الوصفين الحاصلين من السبرين كالترجيح بالتعدية وغيرها من وجوه الترجيح الآتية في بابه إن شاء الله تعالى وليس للمستدل أن يبين مناسبة وصفه لأن بيان مناسبته خروج من مسلك السبر إلى مسلك الإخالة
(وشرط هذا الطريق) المسمى بحُجَّة الاجماع (وما بعده) من الطرق المستنبطة النص من الشارع أو (الاجماع) من العلماء (على تعليل الحكم في الجملة من دون تعيين علة) في محل من محالها إذ لو وقع على التعيين لكان هو الطريق وليس ممَّا نحن بصدده والله سبحانه أعلم .
__________
(1) ـ وأما التمثيل لما لم يعتبره أصلاً بالطول والقصر ففيه أنه قد اعتبره في المسافة التي بين الإمام والمؤتم في الفضاء فقيل كل بقامته الطويل بحسب طوله والقصير كذلك وفي كسوة الكفارة حيث قيل ما يستر أكثر بدنه والله أعلم تمت منه

(1/206)


(ورابعها) أي طرق العلة (المناسبة وتسمى) أيضاً (الإخالة) لأنها بالنظر إليها يخال - أي يظن - أنها علة (وتخريج المناط) أي استخراج العلة المناط(1)بها الحكم لأنها يناط بها الحكم - أي يعلق - (وهي) أي المناسبة حاصلها في الاصطلاح (تعيين العلة) في الأصل المقيس عليه الذي ثبت بالنص أو الإجماع حكمه دون علته (بمجرد ابداء مناسبة) بينها وبين الحكم (ذاتية) منسوبة إلى ذات الوصف لا بنص ولا بغيره ولذلك سميت مناسبة كذا في غيره وفيه أن التعيين فعل القائس والمناسبة معنى قائم بالوصف والحكم فلا يصح حمله عليها إلا باعتبار كونها سبباً له على أن ذكر المناسبة في حدها تعريف للشيء بنفسه وذلك (كا) لنظر والاجتهاد في كون (الإسكار) علة (في تحريم الخمر) فإن من نظر في حكم الخمر وهو التحريم ووصفها وهو الإسكار يعلم منه كون ذلك الوصف بالنظر إلى ذاته مناسباً لشرع التحريم لأجل حفظ العقل ويقاس عليها ما ساواها في ذلك (وكا) لنظر والاجتهاد في كون (الجناية العمد العدوان) علة (في) وجوب (القصاص) فإن من نظر في الجناية ووصفها وهو كونه عمداً عدواناً يجد ذلك الوصف بالنظر إلى ذاته مناسباً لشرع القصاص لأجل حفظ النفوس كما نبَّه
__________
(1) ـ إعلم أن المضاف إلى المناط ثلاثة الأول تخريج المناط وهو ما ذكر هنا والثاني تحقيق المناط وهو عبارة عن النظر والاجتهاد في معرفة وجود العلة في آحاد الصور بعد معرفتها في نفسها سواءٌ عرفت بالنص أو بالإجماع أو بالاستنباط نحو أن يعرف أن الشدة المطربة مناط تحريم شرب الخمر بالاستنباط فالنظر في كون النبيذ ذا شدة مطربة المظنون بالاجتهاد تحقيق المناط والثالث تنقيح المناط وهو الذي تعددت أوصافه واحتمل أن تكون العلة مجموعها أو بعضها ثم حذف بعض واعتبر آخر فهذا هو المسمى بتنقيح المناط وتهذيبه وتجريده كما في خبر الأعرابي بحذف كونه أعرابياً وكونه في رمضان تلك السنة وكونه وقاعاً فبقي كونه إفساداً للصوم مثلاً تمت منه

(1/207)


على عليته تعالى بقوله ?ولكم في القصاص حيوة?[البقرة 179] وإنما قال الجناية ولم يقل القتل كما قال غيره لأنه أشمل
[وجه تقسيم طرق العلة إلى أربع]
وإنما كانت هذه الأربع طرق العلة أما النص وتنبيه النص فلأن الشارع إذا نص على العلة أو نبَّه عليها فلا يحتاج إلى سؤاله عن دليل على ذلك كما لا يحتاج في سائر الأحكام لأن قوله دليل إذ قد علمنا صدقه بظهور المعجر وأما الإجماع فلأن قول أهله كقول الشارع لما ثبت من الدليل على ان قولهم حُجَّة وأما حُجَّة الإجماع والمناسبة فللإجماع على أنه لا بد للحكم من علة في الجملة وقد تعينت العلة بهما فيجب اعتبارها كما سبق .
(و) اعلم أن المصلحة التي كان الوصف لأجلها مناسباً إذا لزم من وجود حكمها وجود مفسدة مرجوحة لا تنخرم اتفاقاً لشدة اهتمام الشارع برعاية المصالح وابتناء الأحكام عليها واختار الجمهور أنها (تنخرم المناسبة) بين العلة والحكم (بلزوم مفسدة) من إثبات الحكم بها (راجحة) تلك المفسدة على المصلحة (أو مساوية لها) لقضاء العقل بانتفاء المصلحة حينئذٍ بالضرورة ولذا لا يعد العقلاء تحصيل درهم واحد على وجه يستلزم فوات مثله أو أكثر مناسباً بل يعدون المتصرف بذلك خارجاً بتصرفه عن تصرف العقلاء كمن قال لعاقل بع هذا تربح مثل ما تخسر أو أقل منه ومن أمثلته ما يقال فيمن غٌص بلقمة مثلاً وخشي التلف ولم يجد ما يسوغها به إلا الخمر فإن في تحريمها مناسبة لحفظ العقل كما تبين ولكن يلزم من المناسبة حصول مفسدة وهي هلاكه لو لم يشربها وهذه مفسدة أرجح من المصلحة إذ حفظ النفس أولى من حفظ العقل.

(1/208)


(والمناسب) في الاصطلاح (وصف ظاهر منضبط) يحترز بهما عن الخفي والمضطرب لأن العلة معرفة للحكم فإذا كان الوصف خفياً أو غير منضبط لم يعرف هو في نفسه فكيف يعرف به الحكم لأن الخفي لا يعرف الخفي (يقضي العقل بأنه الباعث على الحكم) احترازاً عن الشبة وقال أبو زيد الدبوسي الحنفي (1) وهو ما لو عرض على العقول لتلقته بالقبول وهو قريب من الأول إلا أنه لا يمكن إثباته في المناظرة إذ قد يقول الخصم لا يتلقاه عقلي بالقبول وتلقي عقلك له بالقبول لا يصيره حُجَّة عليَّ وبه يقول أبو زيد (2) بخلاف الأول فإنه يمكن إثباته كالإسكار في تحريم الخمر .
فإن قيل الإسكار غير منضبط لأن منه ما يبقى معه رشد ومنه ما لا يبقى معه
أجيب بأن العلة هي الإسكار الذي لا يبقى معه رشد بالقوة التي هي وصف المسكر .
فإن قيل فعلى هذا لا يحرم قليله إذ لا قوة فيه على الإسكار كما أن سير دون البريد لا يثبت له حكم السفر .
أجيب بإنما حرم سداً للذريعة وذلك بدليل آخر (3) غيرالعلة
__________
(1) ـ قال في طبقات الحنفية ج: 1 ص: 252باب الزاي المعجمة92أبو زيد الدبوسي اسمه عبيد الله بن عمر بن عيسى القاضي صاحب كتاب الأسرار والتقويم الأدلة قال السمعاني كان من كبار فقهاء الحنفية ممن يضرب به المثل توفي ببخارى سنة ثلاثين وأربع مائة
(2) ـ يعني أنه قائل بامتناع التمسك بالمناسبة في مقام المناظرة وإن لم يمتنع في مقام النظر لأن العاقل لا يكابر نفسه فيما يقضي به عقله ذكره سعد الدِّين تمت منه
(3) ـ وهو ما رواه في مجموع زيد بن علي عن علي عليهم السلام (ما أسكر كثيره حرم قليله )تمت منه.

(1/209)


(فإن) اختل أحد القيدين الأولين بأن (كان خفياً) كالرضى في المعاملات والعمدية في الجنايات (أو غير منضبط) كالمشقة في ترخيص المسافر (اعتبر) وصف ظاهر منضبط يوجد الوصف الذي يقضي العقل ببعثه على الحكم لوجوده وهو (ملازمهُ) ملازمة عقلية أو غيرها كلية أو غالبة (و) هو (مظنته كا) لإيجاب والقبول في المعاملات واستعمال الجارح في المقتل وا(لسفر) نفسه (للمشقة) المناسبة لحكم القصر تحصيلاً لمقصود التخفيف ولا يمكن اعتبارها بعينها لأنها غير منضبطة لكونها ذات مراتب تختلف بالأشخاص والأزمان ولا يناط الحكم بالكل ولا يمتاز البعض بنفسه فنيط الحكم بما يلازمه وهو السفر .
واعلم أن المناسب معتبر عند أئمتنا عليهم السلام والجمهور إذ لا نعني بالمناسبة إلا ما يتحرك الظن لكونه وجه المصلحة فإذا ثبت أن العمل على غالب الظن هو ثمرة القياس فقد لزم العمل على المناسب وبعد فإن الرجوع إلى معهودات الشرع ومراده هو الواجب إذ لو لم يجب لعاد على المستفاد بالقياس شرعاً بالنقض وذلك لا يجوز وخالف في اعتباره المريسي وأبو زيد الدبوسي
(وهو) أي المناسب للحكم باعتبار اعتبار الشارع له (أربعة أقسام مؤثر وملائم وغريب ومرسل) لأنه إما أن يعتبره الشارع أو لا إن اعتبره فإمَّا أن يعتبر عينه في عين الحكم بنحو نص أو إجماع فمؤثر أو يعتبر بنحو النص والإجماع عين في الجنس أو العكس أو الجنس في الجنس فملائم وإلا يعتبر أي الثلاثة بنحو النص والإجماع وإنما ثبت بمجرد ترتيب الحكم على وفقه فغريب وإن لم يثبت اعتباره بشيءٍ ممَّا سبق فمرسل فلذا كان أربعة أقسام

(1/210)


(فا) لقسم الأول وهو المناسب ا(لمؤثر ما ثبت بنص أو إجماع) أو تنبيه نص أو حُجَّة إجماع (اعتبار عينه في عين الحكم) وذلك (كتعليل) ثبوت (ولاية المال بالصغر الثابت بالإجماع) لثبوت الإجماع على أن الصغير يولى عليه في ماله فإن عين الصغر معتبرة في عين ولاية المال (وتعليل الحدث بالخارج من السبيلين الثابت بالنص) في نحو قوله تعالى ?أو جاء أحد منكم من الغائط أو لامستم النساء فلم تجدوا ماءً فتيمموا صعيداً? [المائدة 6ـ النساء34]
وقوله جواباً لعلي عليه السلام لما قال له الوضوء كتبه الله علينا من الحدث فقط:( بل من سبع الخبر )(1) وسمي مؤثراً لظهور تأثيره في الحكم بالنص أو بالإجماع وهذا القسم داخل في مسلك النص إلا أنه أتى به ها هنا استتماماً لأقسام المناسب
(و) الثاني هو (الملائم) سمي ملائماً لملائمته لجنس تصرف الشارع لكنه لا يسمى ملائماً إلا (ما ثبت اعتباره بترتب الحكم على وفقه) أي وفق المناسب له بأن يثبت بالحكم مع الوصف في محل واحد وأمَّا المناسبة فهي حاصلة من جهة العقل (فقط لكنه قد ثبت بنص أو إجماع اعتبار عينه في جنس الحكم كما ثبت للأب ولاية نكاح ابنته الصغيرة قياساً على ولاية المال بجامع الصغر) فإن الوصف وهو الصغر أمر واحد ليس جنساً تحته نوعان والحكم والولاية وهي جنس تجمع ولاية النكاح وولاية المال وهما نوعان من التصرف (فقد اعتبر عين الصغر في جنس الولاية) بتنبيه الإجماع على الولاية على الصغير في المال لأن الإجماع على اعتباره في ولاية المال إجماع على اعتباره في جنس الولاية بخلاف اعتباره في عين ولاية النكاح فإنه إنما ثبت بمجرد ترتب الحكم على وفقه حيث ثبتت الولاية معه في الجملة وإن وقع الخلاف في أنها للصغر أو للبكارة أو لهما جميعاً
__________
(1) ـ رواه أئمتنا عليهم السلام تمت

(1/211)


(أو) العكس بأن (ثبت) بنص أو إجماع (اعتبار جنسه) أي الوصف (في عين الحكم) المراد إثباته بالقياس وذلك (كجواز الجمع) بين الصلاتين وكونه رخصة (في الحضر للمطر قياساً على السفر بجامع الحرج) فالحكم جواز الجمع وهو واحد والوصف الحرج وهو جنس يجمع الحاصل بالسفر وهو خوف الضلال والانقطاع وبالمطر وهو التأذي به وهما نوعان مختلفان وحينئذٍ (فقد اعتبر جنس الحرج في عين رخصة الجمع) بتنبيه كان النبي يجمع في السفر فإن ذلك إيماء إلى أن علة رخصة الجمع فيه حرج السفر فقط إذ لا نص ولا إجماع على علية نفس الحرج (أو) ثبت بذلك (اعتبار جنسه) أي الوصف حيث يكون جنساً تحته نوعان في جنس الحكم المراد إثباته بالقياس حيث يكون كذلك (كإثبات) وجوب (القصاص) في القتل مثلاً (بالمثقل قياساً على) القتل بآلة (المحدد بجامع كونهما) أي القتلين (جناية عمد عدوان فقد اعتبر) الوصف المناسب وهو (جنس الجناية) الشامل للجناية على النفس والأطراف والمال (في جنس) الحكم أي (القصاص) الشامل للقصاص في النفس والأطراف
(و) الثالث المناسب (الغريب ما ثبت اعتبارهُ) أي نيط الحكم بالوصف بسبب اجتماعهما في محل واحد ( بمجرد ترتب الحكم على وفقه و) قوله (لم يثبت بنص ولا إجماع اعتبار عينه ولا جنسه في عين الحكم ولا جنسه) تصريح بمفهوم مجرد وبه يخرج المؤثر وأقسام الملائم الثلاثة وذلك (كتعليل تحريم النبيذ بالإسكار) فإنه مناسب للتحريم حفظاً للعقل بمجرد ترتب الحكم على وفقه فلا يكون مرسلاً لكنه غريب من جهة عدم النص والإجماع كذلك (قياساً على الخمر على تقدير عدم ورود النص بأنه العلة في تحريم الخمر) وإلا فإنه مع دلالة النص بالإيماء

(1/212)


وهو قوله كل مسكر حرام (1) على اعتبار عينه في عينه لا يكون غريباً بل هو إذاً من قبيل المؤثر في التحقيق ومثاله التحقيقي البات لزوجته الآتي إن شاء الله تعالى كما في العضد والمعيار والله أعلم .
(و) الرابع المناسب (المرسل مالم يثبت اعتباره (2) كذلك بشيءٍ ممَّا سبق) أي لا بنص ولا إجماع ولا بمجرد ترتب الحكم على وفقه
__________
(1) ـ أخرجه الطيالسي في مسنده ومسلم في صحيحه و النسائي في سننه و ابن حبان في صحيحه و الترمذي في سننه و ابن ماجه في سننه و أبو داود في سننه و ابن حنبل في مسنده و الطيالسي في مسنده و الطبراني في معجمه الكبير و النسائي في سننه الكبرى و الطبراني في معجمه الصغير و الدارقطني في سننه و الطبراني في مسند الشاميين و البيهقي في سننه الكبرى و أبو يعلى في مسنده و ابن الجارود في المنتقى و الطبراني في معجمه الأوسط
(2) ـ ظاهره أي لم يثبت اعتبار عينه ولا جنسه في عين الحكم ولا جنسه في عين ونظره الإمام الحسن عليه السلام بأن ذلك عين غريب المناسب . وفسره سعد الدِّين باعتبار عينه في عين الحكم وفيه أنه يلزم منه أنه يدخل فيه مع غريب المناسب ملائم المناسب أيضاً فتأمل ولقد أحسن صاحب الفصول بإهمال هذا التقسيم والله أعلم تمت منه .

(1/213)


(وهو) أي المرسل (ثلاثة أقسام ملائم وغريب وملغى) (فا) الأول وهو (الملائم)[من] (المرسل ما لم يشهد له أصل معين بالاعتبار) بأن لا يثبت في الشرع اعتبار عينه أو جنسه في عين الحكم أو جنسه (لكنه مطابق لبعض مقاصد الشرع الجملية) وله أمثلة (كقتل المسلمين المترس بهم عند الضرورة) الكلية وهي خشية استئصال الكفار المسلمين إن لم يرم الأسارى الذين يترس بهم الكفار فيجوز حينئذٍ رميهم وإن أفضى إلى قتل الترس لما فيه من دفع المفسدة الكبيرة بفعل المفسدة اليسيرة [*] كقطع اليد المتآكلة والفصد والحِجَامة لسلامة الجسد أمَّا الضرورة الجزئية وهي نحو خشية عدم استيلاء قلعة يترس أهلها بمسلمين فلا يبيح ذلك قتل المسلمين لإن حفظ ديننا غير متوقف على الاستيلاء على تلك القلعة ومثله توهم غرق أهل السفينة في البحر فإنه لا يبيح رمي بعض أهلها .

(1/214)


ومثله وقوع جماعة في مخمصة فلا يبيح أكل أحدهم بالقرعة لكون المصلحة جزئية ذكره في حاشية الفصول عن الأسنوي (وكقتل الزنديق) بكسر الزاي هو الزندي والزند اسم كتاب مزدك الذي ظهر في زمان قياد وأباح الفروج وقتله أنو شروان وهو من يبطن الكفر ويظهر الإيمان أو من الثنوية أو القائل بالنور والظلمة أو من لا يؤمن بالآخرة أو من يقول بقدم العالم والذي ينبغي أن يراد هنا هو الأول (وإن أظهر التوبة) فإنها لا تقبل ولا يصير بذلك محقون الدم بل يسفك ويقتل إذ مذهبه ودينه جواز التقية فلو قبلنا توبته لم يمكن زجر زنديق أصلاً والشرع ملتفت إلى الزجر عن المعاصي في الجملة حكى ذلك المنصور بالله عليه السلام وصاحب الجوهرة عن كثير من أهل البيت عليهم السلام وشيعتهم ومنعوا من مصالحتهم ومخالطتهم لأن في ذلك الظفر بمطلوبهم لما هيأوا من الإشكالات والإيهامات التي إذا أوردوها على المسلمين لا يكاد ينجو منها إلا متبحر في علم الكلام كما روي عن المطرفية والباطنية فإذا كانت هذه حالهم فنطقهم بالإسلام لا يفيد الإسلام فنجريهم على كفرهم قبل التوبة وليس كذلك حال سائر فرق الكفر سيما العرب فإنهم كانوا يمتنعون من الإسلام وينكرون التدين بالكذب ويرون بذل المهج في إظهار ما يبطنونه ولذا قيل لما أسرت خيل رسول الله ثمامة بن اثال الحنفي قال أحسنوا إساره ولما رجع رسول الله إلى أهله قال أجمعوا ما كان معكم من طعام وابعثوا به إليه وأمر بلقحة يغدي عليه بها ويراح وهو يعالجه ليسلم ويأتيه ويقول أسلمت يا ثمامة فيمتنع ويصد وقال يا محمد إن تقتل تقتل ذا دم وإن ترد الفداء فاسأل ما شئت . فمكث ثمامة في الأسر مدة ثم أطلقه فلما أطلقوه خرج إلى البَقِيْع فتطهر وأحسن طهوره ثم أقبل فبايع النبي على الإسلام (1)
__________
(1) ـ وروى أيضاً أنه لما دخل المسجد فقال أشهد أن لا إله إلا الله وان محمَّداً رسول الله والله يا محمَّد ما كان على وجه الأرض أبغض إليّ من وجهك فقد أصبح وجهك أحب الوجوه إليّ ،والله ما [كان] من دين أبغض إليّ من دينك فأصبح دينك أحب الدِّين إليّ والله ما كان من بلد أبغض إليّ من بلدك فأصبح بلدك أحبّ البلاد إليّ وإن خيلك أخذتني وأنا أريد العمرة فماذا ترى ؟ فبشره النبي وأمره أن يعتمر فلما قدم مكَّة قال له قائل صبوت . فقال لا ولكن أسلمت مع رسول الله ولا والله لا يأتيكم من اليمامة حبة حنطة حتى يأذن فيها رسول الله . وكان ثمامة هذا من رؤساء بني حنيفة وهو أول من دخل مكَّة ملبياً بالتوحيد وفي ذلك يقول شاعر بني حنيفة مفتخراً .
برغم أبي سفيان في الأشهر الحرم

ومنا الذي لبى بمكَّة معلناً

ولما توفي النبي وارتدت بنو حنيفة قام فيهم مقاماً حميداً وأطاعه منهم ثلاثة آلاف فانحاز بهم إلى المسلمين وذكر أن أمير السرية التي أسرته العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه ذكر معناه في البهجة تمت منه . وذكر في السيرة النبوية لابن هشام ج: 6 ص: 51 -52عن ابي سعيد المقبري عن أبي هريرة أنه قال خرجت خيل لرسول الله فأخذت رجلا من بني حنيفة لا يشعرون من هو حتى أتوا به رسول الله ( ) فقال اتدرون من أخذتم هذا ثمامة بن أثال الحنفي أحسنوا إساره ورجع رسول الله ( ) إلى أهله فقال اجمعوا ما كان عندكم من طعام فابعثوا به إليه وأمر بلقحته أن يغدى عليه بها ويراح فجعل لا يقع من ثمامة موقعا ويأتيه رسول الله ( ) فيقول أسلم يا ثمامة فيقول إيها يا محمد إن تقتل تقتل ذا دم وإن ترد الفداء فسل ما شئت فمكث ما شاء الله أن يمكث ثم قال النبي ( ) يوما أطلقوا ثمامة فلما أطلقوه خرج حتى أتى البقيع فتطهر فأحسن طهوره ثم أقبل فبايع النبي ( ) على الإسلام فلما أمسى جاءوه بما كانوا يأتونه من الطعام فلم ينل منه إلا قليلا وباللقحة فلم يصب من حلابها إلا يسيرا فعجب المسلمون من ذلك فقال رسول الله ( ) حين بلغه ذلك مم تعجبون أمن رجل أكل أول النهار في معى كافر وأكل آخر النهار في معى مسلم إن الكافر يأكل في سبعة أمعاء وإن المسلم ياكل في معى واحدقال ابن هشام فبلغني أنه خرج معتمرا حتى إذا كان ببطن مكة لبى فكان أول من دخل مكة يلبي فأخذته قريش فقالوا لقد اخترت علينا فلما قدموه ليضربوا عنقه قال قائل منهم دعوه فإنكم تحتاجون الى اليمامة لطعامكم فخلوه فقال الحنفي في ذلك
**ومنا الذى لبى بمكة معلنا *** برغم أبي سفيان في الأشهر الحرم ** وحدثت انه قال لرسول الله ( ) حين أسلم لقد كان وجهك أبغض الوجوه إلي ولقد أصبح وهو أحب الوجوه إلي وقال في الدين والبلاد مثل ذلك ثم خرج معتمرا فلما قدم مكة قالوا أصبوت يا ثمام فقال لا ولكنى اتبعت خير الدين دين محمد ولا والله لا تصل إليكم حبة من اليمامة حتى يأذن فيها رسول الله ( ) ثم خرج الى اليمامة فمنعهم ان يحملوا الى مكة شيئا فكتبوا الى رسول الله ( ) إنك تأمر بصلة الرحم وإنك قد قطعت أرحامنا وقد قتلت الآباء بالسيف والأبناء بالجوع فكتب رسول الله ( ) إليه أن يخلي بينهم وبين الحمل

(1/215)


فهذه طريقة أولئك فلهذا قبل منهم إظهار الإسلام وجاز موادعتهم ومصالحتهم
ومن العلماء من يقبل توبة الفريق الأول أيضاً ويحيل على ما في قلبه من يعلم سريرته وهو قول الأكثر والأولى لنحو هل (شققت على سويداء قلبه)(1)وقوله (أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله وأنِّي رسول الله فإذا قالوا ذلك حقنوا عني دماءهم وأموالهم )(2)
__________
(1) ـ نص الحديث على ما أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه ج10/ص173/ح18719:-حدثنا أبو معاوية عن الأعمش عن أبي ظبيان عن أسامة بن زيد قال بعثنا رسول الله إلى الحرقات من جهينة قال فصبحنا القوم وقد تدرؤا بنا قال فخرجنا في آثارهم فأدركت رجلا منهم فجعلت إذا لحقته قال لا إله إلا الله قال فظننت إنما يقولها فرقا قال فحملت عليه فقتلته فعرض في نفسي من أمره فذكرت ذلك للنبي فقال لي رسول الله قال لا إله إلا الله ثم قتلته قلت يا رسول الله لم يقلها من قبل نفسه إنما قالها فرقا من السلاح قال فقال قال لا إله إلا الله ثم قتلته فهلا شققت عن قلبه حتى تعلم أنه إنما قالها فرقا من السلاح قال أسامة فما زال يكررها علي قال لا إله إلا الله ثم قتلته حتى وددت أني لم أكن أسلمت إلا يؤمئذ إهـ وأخرجه مسلم في صحيحه و البخاري في صحيحه و ابن حبان في صحيحه و أبو داود في سننه و ابن حنبل في مسنده و الطحاوي في شرح معاني الآثار و الطبراني في معجمه الكبير والنسائي في سننه الكبرى و البيهقي في سننه الكبرى و الشافعي في مسنده و عبد الرزاق في مصنفه
(2) ـ مجمع الزوائد ج: 6 ص: قال رسول الله لأبعثن غدا رجلا يحب الله ورسوله ويحبانه لا يولي الدبر فلما كان من الغد بعث عليا وهو أرمد شديد الرمد فقال سر فقال يا رسول الله ما أبصر موضع قدمي قال فتفل في عينيه وعقد له اللواء ودفع إليه الراية فقال علي على ما أقاتلهم يا رسول الله قال على أن يشهدوا أن لا اله إلا الله وأني رسول الله فاذا فعلوا ذلك فقد حقنوا دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله تعالى رواه الطبراني في الصغير وفيه الخليل بن مرة قال أبو زرعة شيخ صالح إهـ و عن جابر قال قال رسول الله أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله فإذا قالوا لا إله إلا الله عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله أخرجه مسلم في صحيحه و البخاري في صحيحه و النسائي في سننه و ابن حبان في صحيحه و ابن خزيمة في صحيحه و الترمذي في سننه و ابن ماجه في سننه و أبو داود في سننه و الحاكم في مستدركه و الطحاوي في شرح معاني الآثار

(1/216)


فالمثال إنما يراد للتفيهم لا للتحقيق كما سبق (وكقولنا يحرم على العاجز عن الوطء) العارف من نفسه ذلك أن يتزوج من النساء (من تعصى لتركه) إذ في ذلك تعريض لها إلى فعل القبيح والشرع ملتفت إلى المنع من تعريض الغير لفعل القبيح ألا تراه يمنع الخلوة بغير المحرم للاحتراز عن المعصية فلا أصل له معين يشهد له بالاعتبار بل مرجعه إلى مصلحة جملية اعتبرها الشرع وهي منعه من تعريض الغير لفعل القبيح
(وأشباه ذلك) من الأمثلة كأمثلة ملائم المعتبر فإنه يمكن أن يجعل في نفسها أمثلة لملائم المرسل بأن يفرض أنها لم تثبت الولاية في النكاح مع الصغر ولا رخصة الجمع مع نفس حرج المطر ولا القصاص في النفس مع القتل العمد العدوان أصلاً وإنما اعتبر الشارع عين الصغر في مطلق الولاية ومطلق الحرج في عين الرخصة ومطلق الجناية في عين القصاص
وكتقديم (1)المصلحة العامة كالجهاد على الخاصة كالقود وتناول سد الرمق عند تطبيق الحرام للأرض أو للناحية بتعذر الانتقال منها وفسخ امرأة المفقود واعتداد من انقطع حيضها لعارض معلوم بالأشهر لما في التربص من الضرر بها بتأيمها وبالزوج بإلزامه ما يتوجه عليه من مؤنتها والضرب للتهمة لاستخراج المال المسروق ونحوه عند مالك ومنعه جمهور أهل البيت عليهم السلام وغيرهم وشدّد الغزالي في إنكار ذلك ووجه المنع أن ظاهر ضرب المتهم ظلم والظلم قد منعه العقل والشرع .
__________
(1) ـ وممَّا قيل أن منها تكبير الإمام إبراهيم بن عبد الله بن الحسن عليهم السلام على بعض جنده أربعاً اجتهاداً للتأليف واجتهاده الأول أنها خمس فقيل له خالفت مذهب اسلافك فقال رأيت الإخلال بتكبيرة ولا ينقض هذا الجمع وقيل أنه يحتمل أنه عليه السلام كبرها سراً وقوله رأيت الإخلال بها إلخ يحتمل أيضاً أن المراد بجهرها والله أعلم إهـ تمت منه

(1/217)


فإن قيل في الضرب مصلحة وردع للسرُّاق ونحوهم . قلنا هذه وإن كان فيها مصلحة فهي ظلم ومصلحة المسروق مظنونة ومضرة المضروب معلومة وهذا إذا كان المتهم بنحو السرقة ليس ممَّن ظاهره الفسق والعصيان وإلا فلذي الولاية ذلك لأنه يستحق التعزير لعصيانه لله تعالى ومع التهمة التعزير أولى بالضرب والحبس وغيرهما على ما يقتضيه رأي ذي الولاية وقد نص المؤيد بالله عليه السلام على جواز حبس أهل التهمة المدة الطويلة كالسنة وإذا جاز الحبس جاز الضرب ذكره الدواري
(وهذا النوع) من الملائم المرسل (هو المعروف بالمصالح المرسلة) والقياس المرسل هو ضرب من الاجتهاد الذي لا أصل له معين وسميت مرسلة لأن نصوص الشرع لم تتناولها ولم ترد إلى أصل معين يستفاد حكمها منه وقياساً وإن كان لا أصل لها لجريها على القياس والقاعدة حيث روعي فيها جلب المصالح ودفع المفاسد
واختلف في قبول هذا النوع (والمذهب) الذي قرره أئمتنا عليهم السلام وبنى عليه الجمهور منهم القرشي ورواه عن الجويني والغزالي ومالك أن الواجب (اعتباره) وأنه ممَّا يتوصل به إلى الأحكام الشرعية لقوله تعالى ? فاعتبروا يا أولي الأبصار?[ الحشر 2] فإنه أمر بالمجاوزة وتقريره لمعاذ حيث قال أجتهد رأيي . وإجماع الصحابة فإن من تتبع أحوالهم علم بالضرورة أنهم كانوا يقنعون في الوقائع بمجرد ظهور المناسبة لتصرفات الشارع ولا يبحثون عن أمر آخر والظاهر شمول محل النزاع ما لم يرجع إلى معلوم الإلغاء بأن كان المصلحة مصادمة لنصوص الشرع كما سيأتي إن شاء الله تعالى في إفتاء الملك بالصوم

(1/218)


(و) أمَّا النوع الثاني وهو (الغريب المرسل) فهو (ما لا نظير له) معتبر (في الشرع) لا جملة ولا تفصيلاً (لكن العقل يستحسن الحكم لأجله) وذلك (كأن يقال في البات لزوجته) أي من طلقها بائناً (في مرضه المخوف لئلا ترث يعارض بنقيض قصده فتورث قياساً على القاتل عمدا حيث عورض بنقيض قصده فلم يورث بجامع كونهما فعلا فعلاً محرماً لغرض فاسد فإنه لم يثبت في الشرع أنه العلة في القاتل ولا في غيره) فلذلك وجه مناسبة وفي ترتيب الحكم عليه وهو معارضتهما بنقيض قصدهما تحصيل مصلحة وهو زجرهما عن الفعل المحرم ولكن لم يشهد لذلك أصل معيَّن في الشرع بالاعتبار إذ لم يعتبر الشارع أن عدم إرث القاتل لاستعجاله الميراث فيعارض بنقيض قصده ولم نر الشارع التفت إلى ذلك في موضع آخر فلم يكن ملائماً لجنس تصرفاته

(1/219)


(وأمَّا الملغى) من المرسل (فهو ما صادم النص وإن كان لجنسه نظير) لفظه جنس هنا لا محل لها إذ المعنى له نظير (في الشرع كإيجاب الصوم) شهرين متتابعين (ابتداءً) قبل العجز عن الإعتاق الواجب (على المظاهر ونحوه) كالمواقع أهله في نهار رمضان على القول بوجوبها ووجوب ترتيبها (ممَّن يسهل عليه العتق) ويراه أيسر من الصوم (زيادة في زجره) ما روي أن يحيى بن يحيى بن كثير الليثي صاحب مالك إمام أهل الأندلس أفتى الأمير عبد الرحمن بن الحكم الأموي حين جامع أهله في نهار رمضان بصيام شهرين متتابعين تعييناً فأنكر عليه ذلك وقيل له لِمَ لَمْ تفته بمذهب مالك وهو التخيير بن العتق والإطعام والصيام ؟ فقال لو فتحنا له هذا الباب لسهل عليه أن يطأ كل يوم ويعتق رقبة ولكن حملته على أصعب الأمور لئلا يعود وجعل ثلاث تطليقات لم يتخللهن الرجعة ثلاثاً دفعاً للتتابع في الطلاق بعد تقرر كونها واحدة وترك حيَّ على خير العمل في الأذان ترغيباً في الجهاد ووضع الحديث للترغيب والترهيب والكفر لإسقاط المظالم أو للبينونة من الزوجية وقطع أذن المؤذي ونحوها (فإن جنس الزجر) والترغيب والترهيب والسعي في براءة الذِّمَّة وحفظ العرض والمال معتبر (موجود في الشرع لكن النص) وهو نحو قوله تعالى ?فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين?[النساء 92 المجادلة 4] والإجماع (منع) كل منهما (اعتباره) أي المذكور (هنا) أي في حق من يسهل عليه العتق وكذا سائر ما ذكرنا (فألغي) ذلك المناسب (وهذان) أي الغريب والمرسل والمغلى مردودان (مطرحان) لا يؤخذ بهما في الشرع (باتفاق) بين من لا يكتفي بمجرد المناسبة كما حكاه القرشي فإن مقتضى ما روي عن مالك من قبول المرسل على الإطلاق حتى أنه جوَّز قتل الأقل لإصلاح الأكثر وقال ترك الخير الكثير للشر القليل شر كثير أنه لا يرد الغريب أو بين العلماء كما حكاه ابن الحاجب وغيره لأنه ابتداء شرع بما يستحسن عقلاً وهو لا يجوز لأن الشرائع لا تهتدي

(1/220)


إليها العقول بل هي موقوفة على إرادة الشارع فيهما من باب المناسب بمثابة الطرد المهجور من باب الشبه في أنه لا يعلل بهما كما لا يعلل به والله سبحانه وتعالى أعلم .
ولما فرع من بيان المختار عنده في طرق العلة أراد بيان ما عد منها لا على المختار
فقال (قيل) أي قال الجمهور (ومن طرق العلة) التي يرجع إليه عند تعذر سائرها (الشبه) بفتح الباء سمي به لمشابهته المناسب من وجه والطردي من آخر لأنه وصف اعتبره الشارع في بعض الأحكام ولم تعلم مناسبته بالنظر إلى ذاته فهو واسطة بينهما لأن الوصف إن علمت مناسبته لذاته فمناسب وإلا فإن التفت إليه الشارع فشبه وإلا فطردي واختلف في حده وقيل أنه الوصف المجامع لآخر إذا تردد بهما الفرع بين أصلين فالأشبه منهما هو الشبه كالنفسية والمالية في العبد المقتول فإنه يتردد بهما بين الحر والفرس وهو بالحر أشبه إذ مشاركته له في الأوصاف والأحكام أكثر وحاصله تعارض مناسبين يرجح أحدهما

(1/221)


(و) قال المصنف (هو أن يوهم الوصف المناسبة) فيخرج المناسب الذاتي لأن مناسبته عقلية وإن لم يرد الشرع كالإسكار للتحريم فإن كونه مزيلاً للعقل الضروري للإنسان وكونه مناسباً للمنع منه لا يحتاج في العلم به إلى ورود الشرع والطردي لفقد الإيهام فيه إذ وجوده كالعدم كما يقال الخل لا تبنى عليه القنطرة و لا يصاد منه السمك فلا يزيل الخبث كالمرق فإن ذلك مما ألغاه الشارع قطعاً وقد ينازع في إفادة الشبه للظن فيحتاج إلى إثباته إمَّا بشيءٍ من مسالك العلة التي هي الإجماع والنص والسبر لا بالمناسبة وإلا لزم خروجه عن كونه شبهياً إلى كونه مناسباً مع ما بينهما من التقابل ومن ثم قيل في تعريفه ما سبق وإمَّا بالدوران (بأن يدور معه الحكم وجوداً وعدماً) أي بسبب دوران الحكم مع الوصف بأن يثبت بثباته وينتفي بانتفائه (مع التفات الشارع إليه) أي يكون ممَّا اعتبره الشارع في بعض الأحكام كالذكورة والأنوثة فإنها اعتبرت في بعض الأحكام دون بعض وإنما كان طريقاً للشبه لثبوت التعليل بالعلة التي تطرد وتنعكس ولأن من دعي باسم فغضب ثم إذا زال الدعاء بذلك الاسم زال الغضب فإذا أعيد الدعاء به عاد الغضب فإنَّا نعلم أن علة الغضب الدعاء بذلك الاسم بل يفهمه من ليس أهلاً للنظر من الأطفال فيتبعونه داعين له بذلك الاسم ليغضب ومنعه من إنكار الضروريات للعلم بأن الأطفال يقطعون به من غير استدلال بأمر آخر
مثال الشبه الثابت بالدوران (كالكيل) أو الوزن مع الجنس (في تحريم التفاضل على رأي) لأئمتنا عليهم السلام وكالاقتيات معه عند مالك وكالطعم معه عند الشافعي فإن التعليل بهذه العلل لم يثبت بنص ولا إجماع وإنما ثبت بكونه دار معها الحكم وجوداً وعدماً .
فإن قيل قد نص أئمتكم وغيرهم على أن علة التحريم منبه عليها وكل على أصله وذلك يقتضي أن علة الربا ليست شبهية فيكف مثلوا بها واختاروها ؟ .

(1/222)


أجيب بأنهم أرادوا أنها شبهية بالنظر إلى مادتها لا بالنظر إلى الأمر الخارجي (و) مثال الثابت بغيره (كما يقال في تطهير النجس) عند إرادة إلحاقه بطهارة الحدث (طهارة تراد للصلاة فيتعين لها الماء كطهارة الحدث بجامع كون كل واحد منهما طهارة تراد للصلاة) فإن الجامع وصف شبهي إذ لا تظهر مناسبته للحكم المذكور لكنه يوهم المناسبة من جهة أنه قد اجتمع في إزالة النجاسة كونها طهارة للصلاة وكونها قَلْعَاً للخبث والشارع قد اعتبر الأول حيث رتب عليه حكم تعيين الماء في الصلاة والطوف ومس المصحف وقراءة القرآن ولم يعتبر الثاني في شيءٍ من الصور فظهر لنا أن إلغاء ما لم يعتبره أصلاً والحكم بخلوه عن المصلحة أقرب وأنسب من إلغاء ما اعتبره ومن الحكم بخلوه عن المصلحة فتوهمنا في ذلك أن الوصف الذي اعتبره كالطهارة للصلاة مناسب للحكم الذي هو تعيين الماء وأن فيه مصلحة وأن الشارع حيث اعتبر تلك الصفة إنما اعتبرها للاشتمال على تلك المصلحة وهذا معنى شبهية الوصف . تنبيه ما تقدم كلامٌ في القياس وأركانه وشرائطها وما يتصل بذلك

(1/223)


و(أمَّا الاعتراضات المشهورة) المتداولة في ألسنة الأصوليين الورادة على قياس العلة (فلا يليق إيرادها في هذا المختصر و) لا تكثيره بها إذ (من) تفطَّن من المجتهدين (وأتقن ما سبق) في باب القياس من تفاصيل أركانه وشرائطها وما يتصل بها (لم يحتج إلى ذكرها إذ هي راجعة إلى) المناقشة على إهمال شىء ممَّا قررناه فمرجعها عند ابن الحاجب إلى نوعين إمَّا (منع) أي منع كون العلة ما ذكره القائس أو منع وجودها في الأصل أو الفرع أو كون الحكم ما ذكره (أو معارضة) بعلة أخرى يبرزها المعترض فالكلام على القياس وما اتصل به مشتمل عليها ولذا سماه تنبيها وفي التحقيق رجوعها إلى المنع فقط لأن المعارضة منع للعلة عن جريانها وعلى التقديرين يظهر وجوبها على المجتهد لأن من لا يعرف المطاعن لا يجتنبها وضعف قوله (وإنما حررت للمناظرة) هذا ما ذكره في أكثر النسخ
ووجد في بعضها ذكر الاعتراضات صريحاً بأن قال (اعتراضات القياس خمسة وعشرون) تبعاً لابن الحاجب
فنقول :لما فرغ من القياس وأركانه شرع في بيان ما يرد عليه من طرق المجادلات الحسنة ولما كان الغرض منها إظهار الصواب كانت محمودة لقوله تعالى ?أدع إلى سبيل ربِّك بالحكمة والموعظة الحسنة?[ النحل 125] الآية وقد سلكها النبي والصحابة والتابعون وفيها سعي في إحياء الملة وتعاون على البِّر والتقوى وجهاد أنبل من جهاد الغزاة لحل المشكلات الدينية ورد الملحدين المبتدعة

(1/224)


ومن آداب الجدال ما ينبغي تقديمه على المناظرة وهو تقوى الله تعالى ، وإشعار النفس بخوفه وتوطينها على قبول الحق من أي جهة ورد ، ومنها ما يختص حال المناظرة وهو أن يكون المناظر مستجمع القلب متوقراً في جميع أحواله ولا يشتغل بشيءٍ سوى ما هو بصدده غير منزعج ولا يعتريه طيش ولا فشل ومنها أن يكون حريصاً على إيجاز كلامه فإن أكثر ما يقع الزلل فيه الإكثار ولا يفرط في رفع صوته فيسوء خلقه ولا يجدي نفعاً وعلامة انقطاع السائل عجزه عن إبانة سؤاله أو عن تقرير وجه دليله ونحو ذلك مما يجب عليه الإتيان به وعلامة عجز المسؤول أن يعجز عن الإجابة أو عن رد المعارضة أو الجواب عن النقض إمَّا بأن يسكت عمَّا هو بصدده لغير عذر أو يقطع الكلام بما لا تعلق له بالمسألة أو يظهر غضبه
ولما كان من تمام الاستدلال بالقياس وغيره بتفهيم ما يقوله وبِسِتِّ مقدمات مذكورة أو مقدرة وهي : بيان أن المدعى محل للقياس ،وأن حكم الأصل كذا ،وأن علته كذا ، وأنها ثابتة في الفرع ، وأنها تستلزم ثبوت حكم الفرع ، وأنه الحكم المطلوب دونوا لذلك سبعة أنواع من الاعتراضات تشمل على ثلاثة وعشرين صنفاً بعضها عام الورود على كل مقدمة كالاستفسار والتقسيم وبعضها على كل قياس كمنع وجود العلة أو عليتها والمعارضة في الفرع وبعضها خاص ببعض كما سيجيء إن شاء الله تعالى

(النوع الأول)
ما يتعلق بالإفهام وهو (الاستفسار) وقدمه لأنه الفهم أو كل شيءٍ ولأنه عام كما سبق (وهو طلب) التفسير و(بيان معنى اللفظ وهو نوع واحد وإنما يسمع إذا كان في اللفظ إجمال أو غرابة) فعلى المعترض بيان وجه الخفاء بنحو صحة إطلاق اللفظ على معنيين فصاعداً لأن وضع اللفظ للبيان غالباً فهو مدع عليه البينة (ومن أمثلته) أي الاستفسار للإجمال (أن يستدل بقوله تعالى ?حتى تنكح زوجاً غيره?[ البقرة 230] فيقال) له (ما المراد بالنكاح هل الوطء) كما يقال له ذلك لغة (أو العقد) كما يقال له ذلك شرعاً ؟ .

(1/225)


[الجواب]
(وجوابه) بأحد أمور إمَّا (أنه) أي لفظ النكاح (ظاهر) في مقصوده وهو الوطء لانتفاء الحقيقة الشرعية عند من ينفيها أو أنه ظاهر في عرف الشارع لظهوره (في العقد شرعاً) لهجر الحقيقة اللغوية
(أو) بأنه ظاهر فيه لقرينة (لأنه مسند إلى المرأة) فإن لفظ النكاح بمعنى الوطء لا يستد إلى المرأة وعلى هذه التقادير فقد منع الإجمال وكذا يكفي في دفعه أن يقال قرينة الإسناد إلى المرأة تعيّ أحدهما وإن لم يكن كافياً في مقصود المستدل
ومن أمثلة الاستفسار للغرابة قولهم في الكلب غير المعلم الذي يأكل صيده أيّل لم يُرض فلم تحل فريسته كالسْيد . فيسأل عن كل واحد منها وجوابه بأن المراد بالأيّل الكلب وبلم يرض لم يعلم وبالفريسة الصيد وبالسْيد الأسد ومنها أن يقال في قبلة الصائم مبدأ مجرد عن الغاية فلا تفسد كالمضمضة فيسأل عن المبدأ والغاية فإنه ليس من موضوعات اللغة ولا اصطلاح الفقهاء وإنما هو اصطلاح الفلاسفة فإنهم يسمون السبب مبدأ والمقصود غاية والفقيه إذا ادعى أنه لا يعرفه صدق وجوابه ببيان ظهور اللفظ في مقصوده ينقل أئمة اللغة أو عرف عام أو خاص حقيقة أو مجازاً ولا يجيب بكل شيءٍ لئلا يصير لعباً ولا بالطريق الإجمالي كأن يقول الإجمال خلاف الأصل وليس ظاهراً في غير ما قصدت اتفاقاً فلو لم يظهر فيه لزم الإجمال لعدم إفادة كون الأصل عدم الإجمال بعد الدلالة عليه ولأنه لا يندفع بالطريق الإجمالي دعوى عدم فهمه ولأنه لا يبقى للسؤال حينئذٍ فائدة وتفسير الإِيَّل في كتب الأصول بالكلب شائع وفي الصحاح(1) الأيل الذكر من الأوعال ولم يذكر من مسمياته الكلب
النوع الثا ني من الاعتراضات
__________
(1) ـ بفتح الصاد اسم مفرد بمعنى الصحيح يقال صححه الله فهو صحيح وصحاح بالفتح والجاري على لسان الأكثر بالكسر على أنه جمع صحيح وأنكره بعضهم بلا سند إلا أن يثبت عن مصنفه أنه سمَّاه الصحاح بالفتح لا الكسر ذكر معناه الشلبي تمت منه .

(1/226)


وهو باعتبار كون المدعى محلاً للقياس وقابلاً له فإن منع محلية تلك المسئلة لمطلق القياس فهو فساد الاعتبار وإن منع محليتها لذلك القياس فهو فساد الوضع فكان صنفين أولهما (فساد الاعتبار وهو مخالفة القياس للنص) فلا يصح الاحتجاج به حينئذٍ في المدعى أو الحكم
[الجواب]
وجوابه من وجوه إمَّا بالطعن في سنده إن لم يكن قطعياً بأنه موقوف أو مرسل أو منقطع أو في راويته قدح بضعف راويه لخلل عدالته أو ضبطه أو تكذيب شيخه أو غير ذلك أو بمنع ظهوره في المدعى كمنع عموم أو مفهوم أو كدعوى إجمال أو بأن يسلم ظهوره ويدعي أنه مؤول والمراد غير ظاهره لتخصيص أو مجاز أو إضمار بدليل يرجحه على الظاهر أو بالقول بالموجب بأن يقول أنه باقٍ على ظاهره وادعى أن ظاهره لا ينافي حكم القياس أو بترجيح للقياس على النص إمَّا بخصوصه وعموم النص أو بثبوت حكم أصله بنص أقوى مع القطع بوجود العلة في الفرع أو بالمعارضة لنص السائل بنص آخر ليسلم القياس ولا يفيد معارضة السائل بنص ثالث لأن نصاً واحداً يعارض نصين كما أن شهادة الاثنين تعارض شهادة الأربعة ولا يعارض النص النص والقياس لأن الصحابة كانوا إذا تعارضت نصوصهم يرجعون إلى القياس وإذا اعتبر ذلك في النظر والاجتهاد لزم اعتباره في البحث والمناظرة لاشتراكهما في القصد إلى إظهار الصواب وليس للمعلل أن يقول عارض نصك قياسي ويسلم نصي . لأنه انتقال وأي شيءٍ في المناظرة أقبح منه ولم يوجبوا عليه بيان مساواة نصه لنص السائل لتعسره والله سبحانه أعلم .

(1/227)


وهذه الأجوبة لا تجب كلها بل يؤتى منها بما أمكن فإن تعذرت أجمع فالدائرة على المستدل مثاله أن يقول في ذبح تارك التسمية عمداً ذبح من أهله في محله كذبح ناسي التسمية فيقول المعترض هذا فاسد الاعتبار لمخالفته قوله تعالى ?ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه?[ الأنعام 121] فيقول المستدل هذا مؤول بذبح عبدة الأوثان بدليل قوله (ذكر الله على قلب المؤمن سمى أو لم يسم) رواه ابن عدي والدار قطني من طريق مروان بن سالم الجزري وقد رمي بالوضع
(ونحو ذلك) كأن يقول هذا القياس راجح على ما ذكرت من النص لأنه قياس على الناسي المخصص عن هذا النص بالإجماع لما ذكرنا من العلة وهي موجودة في الفرع قطعاً وفرق السائل بأن العامد مقصر والناسي معذور يخرجه عن فساد الاعتبار إلى المعارضة لما سيأتي إن شاء الله تعالى من أن الفرق ابداء خصوصية أمَّا في الأصل هي شرط فيكون معارضة فيه أو في الفرع هو مانع فيكون معارضة فيه فيوقعه في فسادين الانتقال والاعتراف بصحة اعتباره لأن المعارضة بعد ذلك .
[الإعتراض الثالث]
وثانيهما هو (الثالث) من الاعتراضات (فساد الوضع وحاصله إبطال وضع القياس المخصوص في إثبات الحكم المخصوص بأنه قد ثبت بالوصف الجامع) الذي ثبت به الحكم (نقيض ذلك الحكم) المثبت أولاً بنص أو إجماع فيكون القياس فاسد الوضع إذ الوصف الواحد لا يؤثر في النقيضين وإلا لم يكن مؤثراً في أحدهما لثبوت كل من النقيضين مع الوصف بدلاً من الآخر فلو فرض ثبوتهما للزم انتفاؤهما لأن ثبوت كل يستلزم انتفاء الآخر فالجار في قوله في إثبات الحكم متعلق بوضع وفي قوله بأنه بإبطال والباء سببية
(مثاله أن يقال في التيمم مسح فيسن فيه التكرار كالاستجمار فيقول المعترض المسح لا يناسب التكرار لأنه ثبت اعتباره في كراهة التكرار في المسح على الخف) .
[الجواب]

(1/228)


والجواب على هذا الاعتراض ببيان وجود مانع في أصل المعترض ككون التكرار في مسح الخف معرضاً للتلف (فيقول المستدل إنما كره التكرار في المسح على الخف لمانع وهو التعريض لتلفه) واقتضاء المسح للتكرار باقٍ وهذا الاعتراض يعود إلى منع كون الوصف علة لانتقاضه وذلك خلل شرط وهذا الجنس ليس بنقض ولا قلب ولا قدح في المناسبة وإن كان مشبهاً لكل واحد منها من وجه فهو يفارقة من آخر فيشبه النقض من جهة كونه يبين فيه ثبوت نقيض الحكم مع الوصف ويفارقه من جهة إثبات الجامع بنفسه النقيض والنقيض لا يتعرض فيه لذلك بل يقنع فيه بثبوت نقيض الحكم مع الوصف فتغايرا عموماً وخصوصاً ويشبه القلب من جهة إثبات النقيض بعلة المستدل ويفارقه من جهة إثبات النقيض بأصل آخر وفي القلب بأصل المستدل ويشبه القدح في المناسبة من حيث تنتفي مناسبة الوصف للحكم لمناسبتة لنقيضه ويفارقه من جهة أنه لا يقصد هنا إلا بناء النقيض على الوصف في أصل آخر بلا بيان لعدم المناسبة فلو بين مناسبته لنقيض الحكم بلا أصل كان قدحاً فيها . النوع الثالث من الاعتراضات وهو الوارد على حكم الأصل ولا مجال للمعارضة فيه لأنها غصب لمنصب الاستدلال فينقلب المستدل معترضاً والمعترض مستدلاً وذلك ممَّا منعوه ضماً لنشر الجدال أو لئلا يفوت المقصود من المناظرة فتعيَّن إمَّا ابتداء أو بعد تقسيم فانحصر بحسب الوجود في صنفين أولهما هو :

[الإعتراض الرابع ]
(الرابع) وهو (منع) ثبوت (حكم الأصل) مطلقاً من غير تقسيم
(مثاله أن يقول المستدل جلد الخنزير لا يقبل الدباغ للنجاسة الغليظة كالكلب فيقول المعترض لا نسلِّم أن جلد الكلب لا يقبل الدباغ) أو لم قلت أنه لا يقبل الدباغ لأن حاصل منع حكم الأصل طلب دليله ككل منع . والمختار أنه مسموع لأن غرض المستدل لا يتم مع منعه وأنه لا قطع بمجرده وإنما ينقطع بظهور عجزه عن إقامة الدليل لأن إثبات حكم الأصل مما يتوقف عليه إثبات المطلوب
[الجواب]

(1/229)


(و) حينئذٍ (جوابه بإقامة الدليل) على ثبوت حكم الأصل فإذا أقام المعلل الدليل فإنه لا ينقطع السائل أيضاً على المختار إذ لا يلزم من صورة دليل صحته فيطالب بصحة كل مقدمة من مقدماته وهو معنى المنع . وقيل ينقطع لأن انشغاله بما أقامه المعلل دليلاً على المقدمة الممنوعة اشتغال بالخارج عن المقصود وربما يفوته . قلنا لا نسلِّم إذ المقصود لا يحصل إليه طال الزمن أو قصر

[الاعتراض الخامس]
وثانيهما هو (الخامس) من الاعتراضات (التقسيم) وقد سبق أنه مما يعم وروده على جميع المقدمات (وحقيقته أن يكون اللفظ متردداً بين أمرين) مستويين في ظاهر النظر (أحدهما ممنوع) إمَّا مع السكوت عن الآخر إذ لا يضره أو مع تسليمه وبيان أنه لا يضره . واختلف في قبوله فقال قوم لا يقبل لجواز أن يكون الممنوع غير مراده . والصحيح قبوله إذ به يتعين مراده وله مدخل في التضييق عليه بشرط أن يكون منعاً لما يلزم المستدل بيانه
(مثاله أن يقال في الصحيح الحاضر إذا فقد الماء وجد سبب التيمم وهو تعذر الماء فيجوز التيمم فيقول المعترض أتريد أن تعذر الماء مطلقاً سبب لجواز التيمم أم تعذره في السفر أو المرض فالأول ممنوع) وحاصله أنه منع بعد تقسيم والمختار أنه مسموع أيضا .
[ الجواب ]
(وجوابه) مثله (بإقامة الدليل) على إثبات الممنوع حيث يكون دالاً (على الإطلاق) ومثال ما لم يحصل فيه شرط القبول أن يقال في الملتجئ إلى الحرم القتل العمد العدوان سبب للقصاص فيقال أمع مانع الالتجاء أو دونه ؟ الأول ممنوع وإنما لم يقبل لأنه طالب المعلل ببيان عدم كونه مانعاً وذلك لا يلزم لأن دليله أفاد الظن ويكفيه أن الأصل عدم المانع فكان بيان المانعية على السائل
النوع الرابع من الاعتراضات
وهو الوارد على المقدمة القائلة : وعلته كذا .

(1/230)


وهو عشرة أصناف لأن القدح في كون الوصف علة لحكم الأصل إما في وجوده وإما في عليته وهو إما بنفي العلية صريحاً بالمنع المجرد أو ببيان عدم التأثير وإما بنفي لازمها واللازم المختص بالمناسبة أربعة الإفضاء إلى المصلحة وعدم المفسدة المعارضة والظهور والانضباط ؟ فنفي كل واحد سؤال وغير المختص إما الطرد فنفيه بعد إلغاء قيد كسر وبدونه نقض وإما عدم المعارضة بمعنى آخر فثبوتها سؤال فأولها هو
( السادس ) من الإعتراضات
(منع وجود المدعى علة في الأصل مثاله أن يقال في الكلب حيوان يغسل من ولوغه سبعاً فلا يقبل جلده الدباغ كالخنزير فيقول المعترض لا نسلِّم أن الخنزير يغسل من ولوغه سبعاً )
[الجواب ]
(وجوابه بإثبات) وجود الوصف بما هو طريق ثبوت مثله فإذا كان الوصف حسياً فبالحس أو عقلياً فبالعقل أو شرعياً فبالشرع فإثبات (ذلك في الخنزير) بالشرع . ومثال ما يجمع الثلاثة أن يقال في القتل بالمثقل قتل عمد عدوان فيوجب القصاص كالمحدد فيقال لا نسلِّم أنه في الأصل قتل أو عمد أو عدوان . فيقول المستدل هو قتل حساً وعمد عقلاً بأماراته وعدوان شرعاً لتحريمه
وثانيها هو
( السابع ) من الاعتراضات
(منع كون ذلك الوصف) المدعي علِّيّته (علة)
( مثاله أن يقال في المثال السابق أن كون الخنزير يغسل من ولوغه سبعاً هو العلة في كون جلده لا يقبل الدباغ غير مسلَّم) واختلف في قبوله فذهب بعض إلى أنه لا يقبل لتمام القياس بأركانه والمختار قبوله لأن رده يصحح كل وصف طردي ولا إلحاق إلا بجامع يظن صحته
[الجواب ]

(1/231)


(وجوابه) حينئذٍ (بإثبات العلة) أي علِّيّة ذلك الوصف (بإحدى الطرق) من الإجماع والنص ونحوهما ويرد على كل من تلك المسالك ما يليق به من الأسئلة فيرد على ظني الإجماع كقولنا أجمعوا على أنه لا يجوز رد الثيب الموطوءة مجاناً لأن علياً عليه السلام منع الرد وعمر وزيداً أوجبا نصف عشر القيمة وفي البكر عشرها من غير نكير منع وجود الإجماع لصريح المخالفة أو منع دلالة السكوت على الوفاق أو الطعن في سنده إمَّا بالمطالبة بتصحيحه أو بأن ناقله فلان وهو ضعيف لخلل عدالته أو ضبطه أو نحو ذلك أو معارضته إما بإجماع مثله أو متواتر ظني الدلالة أو آحادي قطعيها

(1/232)


ويرد ـ على ظاهر الكتاب إذا استدل بعموم البيع في قوله تعالى ?وأحل الله البيع وحرم الربا ? [البقرة275] على جواز بيع الغائب ـ الاستفسارُ كأن يقال ما معنى أحل . فإنه بمعنى الجعل في المحل وبمعنى جعل الشيء حلالاً غير حرام ومنع ظهوره في الدلالة لخروج صور لا تحصى أو منع عمومه كأن يقال لا نسلِّم أن اللام للعموم لمجيئها للعموم والخصوص . وتأويله بأنه وإن كان ظاهراً في شمول ذلك البيع لكنه يندرج تحت نهي عن بيع الغرر وهذا أقوى لعدم التخصيص فيه أو لقلته فصار به اَلْمَحْمَلْ المرجوح راجحاً وإلا فلا أقل من أن يعارض ظهوره فيبقى مجملاً والمعارضة بآية أخرى أو حديث آخر متواتر والقول بالموجب كأن يقال حل البيع مسلَّم ولكنه لا يقتضي صحته ويرد على ظاهر السنة كما إذا استدل بقوله :(أمسك أربعاً وفارق سائرهن) على أن النكاح لا ينفسخ ما ورد من الأسئلة على ظهار الكتاب الاستفسار عن معنى الإمساك والمفارقة أمَّا لو قال إن أردت بلا تجديد عقد فممنوع أو معه فغير مفيد فليس باستفسار بل سؤال تقسيم ومنع الظهور إذ ليس في الخبر صيغة العموم لأنه خطاب بإمساك غيلان (1) أربعاً من نسوته أو لأنه ورد على سبب خاص ويجوز أن يكون تزوجهن مرتباً فأمر بإمساك الأوائل ومفارقة الأواخر والمعارضة بنص آخر والقول بالموجب كأن يقال سلمنا الإمساك لكن بشرط تجديد عقد . وأين الدلالة على نفي هذا الاشتراط والطعن في السند كما سبق
__________
(1) ـ غيلان بن سلمة الثقفي أسلم يوم الفتح وتحته عشر نسوة فأمره النبي أن يختار منهن أربعا مات في آخر خلافة عمر بن الخطاب وقيل أسلم بعد فتح الطائف وكان أحد وجوه ثقيف واسلم وأولاده عامر وعمار ونافع وبادية وقيل انه أحد من نزل فيه على رجل من القريتين عظيم وقد روى عنه بن عباس شيئا من شعره قال أبو عمر هو ممن وفد على كسرى وابنه عبد الله بن عَمرو بن غَيْلان من كبار رجال مُعاوية, وكان أميراً له علىَ البَصْرة بعد موت زياد.

(1/233)


وهذا حيث أثبت العلية بما ذكر من الإجماع وظاهر الكتاب والسنة فإن أثبت بتخريج المناط ورد عليه ما سيأتي من عدم الإفضاء وعدم الظهور وعدم الإنضباط والمعارضة و أنه مرسل أو غريب أو شبه
[ الثامن من الاعتراضات]
وثالثها هو (الثامن) من الاعتراضات (عدم التأثير وهو أن يبدي المعترض في قياس المستدل) أن (وصفاً) من أوصافه أو جزءاً منه (1) (لا تأثير له في إثبات الحكم)
وأقسامه عند الجدليين أربعة (2) ؛ لأنه [1]إما أن يظهر عدم تأثير الوصف مطلقاً ويسمى عدم التأثير في الوصف وهو أقوى مما بعده نحو الصبح لا يقصر فلا يقدم أَذَانَهُ كالمغرب . فيقال عدم القصر لا تأثير له في عدم تقديم الأذان . ولذا استوى المغرب وغيره مما يقصر في ذلك
[2]وإما أن يظهر عدم تأثيره في ذلك الأصل بالاستغناء عنه بوصف آخر ويسمى عدم التأثر في الأصل نحو الغائب مبيع غير مرئي فلا يصح بيعه كالطير في الهواء فإن كونه غير مرئي وإن ناسب نفي الصحة فلا تأثير في مسألة الطير إذ العجز عن التسليم كافٍ في نفيها ضرورة استواء المرئي وغيره في نفيها
[3]وإما أن يظهر في الوصف المعلل به عدم التأثير لقيد من قيوده في الحكم ويسمى عدم التأثير في الحكم وهو المشار إليه بقوله:
(ومن أمثلته) ولم يقل مثاله إشاره إلى تعدد أقسامه كما فعل في الاستفسار وغيره (قول الحنفية في المرتدين إذا أتلفوا أموالنا مشركون أتلفوا أموالاً في دار الحرب فلا ضمان عليهم كسائر المشركين فيقول المعترض دار الحرب لا تأثير لها في عدم الضمان عندكم) لاستواء الإتلاف في دار الحرب ودار السلام في عدم وجوب الضمان
__________
(1) ـ ظاهر عبارة المصنف اشتراط إظهار المعترض وصفاً آخر لا تأثير له في الحكم وما ذكرت يدفع هذا الوهم والله أعلم تمت منه
(2) ـ في نسخة المؤلف ثلاثة وفي نسخة أخرى أربعة على ما أثبتناها وهي الأصوب

(1/234)


[4]وإما أن يظهر عدم تأثير الوصف المذكور في الفرع بأن لا يطرد في جميع صور النزاع وإن كان مناسبا ويسمى عدم التأثير في الفرع نحو زوجت المرأة نفسها من غير كفو[ بغير إذن وليها] فلا يصح كلو زوجها وليها من غير كفو فإن كونه غير كفو لا تأثير له في عدم صحة تزويج المرأة نفسها وإن ناسبه إذ النزاع في تزويجها نفسها من كفو ومن غير واقع والحكم فيهما واحد
وإنما قيد كل واحد من أقسام عدم التأثير الأربعة بما سمي به تمييزاً لبعضها عن بعض وتسهيلاً للتعبير عنها باختصار ومرجع الأول إلى المطالبة بكون عدم القصر علة والثالث إلى المطالبة بعلية كونه في دار الحرب ومرجع الثاني والرابع إلى المعارضة في الأصل فإن كونه غير مرئي عورض بإبداء علة أخرى وهي العجر عن التسلم وتزويج المرأة نفسها من غير كفو عورض بتزويجها نفسها مطلقاً والمطلق غير المقيد فجواب كل من أقسامه جواب ما رجع إليه
[ التاسع من الاعتراضات]
ورابعها هو : (التاسع) من الاعتراضات (القدح في إفضاء المناسب إلى المصلحة المقصودة) من شرع الحكم وهو محتمل لمنع الافضاء ولبيان عدمه فهو سؤالان
(مثاله أن يقال في علة تحريم مصاهرة المحارم) كأم الزوجة (على التأبيد إنها الحاجة إلى ارتفاع الحجاب ووجه المناسبة أن التحريم المؤبد يقطع الطمع في الفجور) لارتفاع الطمع المفضي إلى مقدمات الهم والنظر المفضية إليه
(فيقول المعترض لا نسلِّم ذلك) أي أن التحريم على التأبيد يفضي إلى رفع الفجور (بل) ذلك (قد يكون أفضى إلى الفجور لسده باب النكاح) لأن النفس حريصة على ما منعت عنه وقوة داعي الشهوة مع اليأس عن المحل مظنة الفجور ولذا قال :(لو منع الناس من فت البعرة لفتوها ) رواه في شرح النيسابوري على المنتهى وقال الشاعر
أحب شيءٍ إلى الإنسان ما منعا

منعت شيئاً فأكثرت الولوع به

[ الجواب]

(1/235)


(وجوابه) ببيان الإفضاء إليه فيجيب في المسئلة (بأن رفع التحريم على الدوام مع اعتقاد التحريم لا يبقى معه المحل مشتهى طبعاً كالأمهات)
[العاشر من الاعتراضات]
وخامسها :(العاشر) من الاعتراضات وجود معارض للمصلحة وهو (القدح في المناسبة ، وهو إبداء مفسدة راجحة أو مساوية ،
[الجواب]
(وجوابه بترجيح المصلحة على المفسدة) إمَّا إجمالاً بلزوم التعبد المحض لولا اعتبار المصلحة وهي معتبرة وجوباً أو تفضلاًًّ و أمَّا تفصيلاً بأن هذا ضروري ، أو قطعي ، أو أكثري ، أو معتبر نوعه في نوع الحكم وذلك حاجي ، أو ظني ، أو أقلي ، أو معتبر جنسه في نوع الحكم أو جنسه ، أو أن هذا الضروري ديني وذلك مالي
(ومن أمثلته أن يقال التخلي للعبادة أفضل لما فيه من تزكية النفس ، فيقول المعترض لكنه يفوت أضعاف تلك المصلحة كإيجاد الولد ، وكف النظر ، وكف الشهوة) وهذه أرجح من مصلحة العبادة
[الجواب]
(وجوابه بأن مصلحنة العبادة أرجح ؛ إذ هي لحفظ الدِّين ، وما ذكرت لحفظ النسل) ، أو النفس ،والحق أن فيه المصلحتين لإفضائه إلى ترك المنهي وهو أرجح من العبادة ، لأن التخلي بالمعجمة أولى بالتقديم من التحلي بالمهملة . ومنها أن يقال فسخ البيع في المجلس ما لم يفترقا لدفع ضرر المحتاج فيعارض بمفسدة ضرر الآخر فيرجح بأن الآخر يجلب نفعاً ، ودفع الضرر أهم للعاقل من جلب النفع ، ولذا يدفع كل ضرر ، ولا يجلب كل نفع
[الحادي عشر من الاعتراضات]
وسادسها هو :(الحادي عشر) من الاعتراضات (عدم ظهور الوصف المدعى علة) وادعاء كونه خفياً ، وذلك (كالرضى في العقود ، والقصد في الأفعال ،
[ الجواب]

(1/236)


( والجواب) بيان أن ذلك الوصف ظاهر في نفسه إن أمكن أو (ضبطه) إمَّا (بصفة ظاهرة تدل عليه عادة ، كصيغ العقود) فإنها دالة (على الرضى) فهو ينضبط بها ، (و) إمَّا بفعل يدل عليه عادة أيضاً مثل (استعمال الجارح في المقتل) من الأفعال الدالة على الأمور الباطنة بحسب العرف فإنه يدل (على العمد)
[ الثاني عشر من الاعتراضات]
وسابعها هو :(الثاني عشر) من الاعتراضات (عدم انضباط الوصف ، كالتعليل بالحِكَمِ والمصالح مثل المشقة ، فإنها ذوات مراتب غير محصورة ولا متميزة ، وتختلف بالأحوال ، والأشخاص ، والأزمنة ، والأمكنة ، فلا يمكن تعيين القدر المقصود منها) في جواز الإفطار والقصر (مثلاً) ، وكالزجر في شرع الكفارات والحدود ،
[ الجواب]
وجوابه بانضباطه بنفسه كما تقول في المشقة والمضرة أنه منضبط عرفاً (و) بانضباطه (بمظنته كالسفر) فإن المشقة منضبطة به ، والزجر منضبط بالحدود

[ الثالث عشر من الاعتراضات]
وثامنها هو :(الثالث عشر) من الاعتراضات (النقض (1)وهو عبارة عن ثبوت الوصف في صورة مع عدم الحكم فيها) ، ولا يجب على المستدل الاحتراز عنه بذكر قيد يخرج محل النقض على المختار لأوله إلى المعارضة لكونه دليلاً لعدم العلية فهو بالحقيقة معارضة ، والمعارضة لا يجب على المستدل نفيها قبل ورودها كما سيأتي إن شاء الله تعالى .
[الجواب]
(وجوابه) بأحد أمور ثلاثة : إمَّا (بالمنع) الجزء الأول أي (وجود الوصف في صورة النقض) ،
__________
(1) ـ والدليل على أن النقض قادح في صحة الاستدلال قوله تعالى :?إذا قالوا ما أنزل الله على بشر من شيءٍ قل من أنزل الكتاب الذي جاء به موسى نوراً وهدىً للناس? الآية ، فلو لم يكن النقض دليلاً على فساد الكلام لما كانت حُجَّة الله مفيدة لهذا المطلوب ، ذكر معناه في النهر تمت منه

(1/237)


أو بفقد قيد من قيوده المعتبرة ، والأصح أن للسائل إثباته مطلقاً بأن يستدل على وجوده بعد المنع أوقبله ليتم إبطال الدليل وقد مكن منه فليمكن من متمماته ،
(أو بمنع) الجزء الثاني أي (عدم الحكم فيها) كي لا يتحقق بأن يقول لا أسلم عدم الحكم في صورة النقض ، والأصح أيضاً أن للسائل إثبات التخلف بإقامة الدليل عليه ليحصل مطلوبه ، (وذلك) أي كونه الجواب(1) بما تقدم من منعه بالأصالة إذا كان المستدل لا يرى جواز تخصيص العلة ، فإن كان يرى جوازه وتحقق النقض فجوابه (يكون بإبداء مانع) وهو بيان وجود معارض (في محل) النقض اقتضى نقيض (الحكم) كنفي الضمان للضمان ، أو ضده كالحرمة للوجوب ، وذلك إمَّا لتحصيل مصلحة (كما في العرايا) المفسرة ببيع الرطب بخرصة تمراً فيما دون خمسة أوسق (إذا أوردت) نقضاً (في الربويات لعموم الحاجة إلى الرطب ، وقد لا يكون عندهم ثمن) آخر (غير التمر فالمصلحة في جوازها أرجح) وأولى ، ونحو ذلك كضرب الدية على العاقلة إذا أورد على أن شرع الدية للزجر الذي ينافيه عدم الوجوب على القاتل ، فجواب ذلك بأنها إنما شرعت لمصلحة أولياء المقتول مع عدم قصد القاتل ، ومع كون أوليائه يغنمون بكونه مقتولاً فيغرمون بكونه قاتلاً ، ولذا قال :(مالك غنمه فعليك غرمه)(2)
__________
(1) ـ وبما ذكرنا يندفع ما أشار إليه بعض الشارحين من أن الإشارة ليست في محلها لأنها إشارة إلى الجواب الثالث وهو مستقل بعد تحقق النقض وما تقدم لمنعه بالأصالة ، فتأمل ، والله أعلم تمت منه .
(2) ـ أخرجه الشافعي في مسنده و ابن حبان في صحيحه وابن ماجه في سننه و مالك في الموطأ و الحاكم في مستدركه و الطحاوي في شرح معاني الآثار والدارقطني في سننه و البيهقي في سننه الكبرى و ابن أبي شيبة في مصنفه

(1/238)


(و) إمَّا لدفع مفسدة (كتحريم الميتة) إذا علل بقذارتها لدفع مفسدة (إذا ورد عليه المضطر ؛ إذ مفسدة هلاك النفس أعظم من مفسدة أكل المستقذر) ، وهذا كله إن لم تثبت العلة بعام ظاهر فيها وإلاَّ خُصَّ العام بغير محل النقض ولا يحكم بالتخلف ، لأن تخصيص العام أهومن من تخصيص العلة لكثرة تخصيصه دونها
[ الرابع عشر من الاعتراضات]
وتاسعها وهو :(الرابع عشر) من الاعتراضات (الكسر) وسماه ابن حاجب النقض المكسور ،
(وحاصله وجود الحكمة المقصودة من الوصف في صورة مع عدم الحكم فيها ، كما لو قيل أن الترخيص في الإفطار في السفر لحكمه المشقة فيكسر بصنعة شاقة في الحضر) كحمل الأثقال ، والمختار أنه لا يبطل العلية ، ولا يسمع إلا إذا كان قد الحكمة في صورة التخلف مساوياً لقدر الحكمة المقتضية للحكم أو زائداً عليها ولم يثبت حكم آخر أليق بتحصيلها ، كما إذا قال المعلل إنما تقطع اليد باليد للزجر ، فيقول المعترض حكمة الزجر قائمة في القتل العمد العدوان مع أنه لا قطع ، فيجيب المعلل بأنه قد شرع في حكم أليق وأشد زجراً من القطع وهو القتل ، فمع ثبوت مثل ذلك لا تبطل العيلة
[الجواب]
(و) حينئذٍ (جوابه) إمَّا (بمنع وجود قدر الحكمة) في المثال الأول (لعسر ضبط) المشقة ، (وحينئذٍ فالكسر كالنقض في أن جوابه بمنع وجود الحكمة) إلا أن منع وجود اعلة ها هنا أظهر في النقض لما سبق أن قدر الحكمة يتفاوت ، وقد يحصل ما هو مناط الحكم منه في الأصل في الفرع ، (أو منع عدم الحكم) كيلا يتحقق ، وللمعترض أن يدل على وجود الحكمة بعد المنع أو قبله ، (أو لشرعية حكمة أرجح ، كعدم قطع يد القاتل) في المثال الثاني (لثبوت القتل) وهو أرجح وأشد زجراً كما سبق ، والله أعلم .
[الخامس عشر]

(1/239)


وعاشرها وهو :(الخامس عشر) من الاعتراضات (المعارضة في الأصل) بما يصلح في الأوصاف للعلية مستقلاً أو قيداً ، والأول يحتمل أن يكون مستقلاً بالعلية دون الأول وأن يكون جزءاً فيكون مع الأول علة مستقلة (كما إذا علل المستدل حرمة الربى بالطعم ، فيعارض المعترض بالكيل) ، أو بالقوت ، وإمَّا الصالح لأن يكون قيداً فقط ، فكأن يعلل القصاص في المحدد بالقتل العمد العدوان فيعارض بكونه بالجارح فلا يحتمل سوى أن يكون جزء علة لعدم صلاحية استقلاله ، وقد اختلفت في قبول هذا المعارضة ، والمختار قبولها وإلا لزم التحكم بيانه أن المبدى يصلح علة مستقلة وجزءاً ، كما أن المدعى عليته وقيوده كذلك قبول أحدهما دون الاخر تحكم ،
[الجواب]
وإذا عرفت أنها مقبولة فالجواب عنها من وجوه : منها منع وجود الوصف ، مثل أن يعارض الطعم بالكيل ، (فيقول المستدل لا نسلِّم أنه مكيل ، لأن العبرة بعادة زمن النبي ولم يكن مكيلاً يومئذٍ) ؛ بل كان موزوناً (أو) منع تأثيره بأن (يقول : ولم قلت أن الكيل مؤثراً ، وهذا الجواب هو المسمى بالمطالبة) من المتسدل (حيث كان ثبوت العلية بالمناسبة) حتى يحتاج المعارض في معارضته إلى بيان مناسبة (لا) إذا أثبت المستدل كون الوصف علة (بالسبر) فعارضه المعترض بوصف آخر (فلا تسمع) المطالبة بالتأثير ، لأن السبر كافٍ في الدلالة على العلية بدون التأثير ،
ومنها منع ظهوره ، ومنها منع انضباطه لما تقرر من أن الظهور والانضباط شرط في الوصف المعلل به ، فلا بد من صلوح الوصف علة من بيانهما ، وللصاد أن يطالب ببيان وجودهما وأن يبيِّن عدمهما ،
ومنها بيان أن الوصف الذي أبداه السائل عدم معارض في الفرع ، وعدمه طردي لا يصلح للتعليل ، مثاله في قياس المكره على المختار في القصاص بجامع القتل أن يقول سائل : هو معارض بالطوعية ؛ إذ العلة هو القتل معها ،

(1/240)


فيجاب : بأنها عدم الإكراه ، والإكراه مناسب لعدم القصاص ، فهو عدم معارض للقصاص ، وليس من الباعث في شيءٍ ، هذا إن سلم أن الإكراه معارض لثبوت الحكم في الفرع ومناسب لعدمه ، لأنه في حيث المنع ؛ إذ المناسب لعدم الحكم هو الإكراه السالب للاختيار بالكيلة ، وهو معدوم في الفرع ،
أو بيان إلغائه إمَّا في جنس الأحكام على الإطلاق كالطول والقصر ، أو في جنس الحكم المعلل به وإن كان مناسباً لبعض الأحكام كالذكورة في باب العتق ،
أو بيان استقلال وصف المعلل بظاهر أو إجماع ، نحو أن يقال في يهودي صار نصرانياً ، أو بالعكس (1) (بدَّل دينه فيقتل كالمرتد) فيعارض بأن العلة في المرتد الكفر بعد الإيمان ،
فيجاب : بأن التبديل معتبر في أي صورة لحديث البخاري :(من بدَّل دينه فاقتلوه) هذا إذا لم يعترض للتعميم ، فلو قال فيثبت اعتبار كل تبديل للحديث لم يسمع لكونه خروجاً من القياس إلى النص ، وعمومه لا يضر المستدل لجواز ألا يقول هو أو الخصم بالعموم ، أو غير ذلك مما يمنع التمسك بالعموم (2)
النوع الخامس ما يرد على دعوى وجود العلة في الفرع إمَّا بمنع وجودها ، أو معارضتها ، أو دفع مساواتها فباعتبار ضميمه في الأصل ، أو مانع في الفرع فرق وباعتبار نفس العلة اختلاف في الضابط أو في المصلحة فانحصرت أصنافه بحسب الوجود في خمسة : أولها وهو
(السادس عشر)
من الاعتراضات (منع وجود الوصف في الفرع )
( مثاله أني قال في أمان العبد أمان صدر من أهله كالعبد المأذون له في القتال ، فيقول المعترض لا نسلم أن العبد أهل للأمان )
__________
(1) ـ أي يهودي صار نصرانيا تمت
(2) ـ كأن يرى عدم التمسك بالعام المخصص ، أو الوارد على سبب الخاص إهـ

(1/241)


(وجوابه ببيان معنى الأهلية بأن يقول أريد) بالأهلية (أنه مظنة لرعاية المصلحة) أي مصلحة الإيمان ، ثم بيان وجوده بحسن ، أو عقل ، أو شرع كما تقدم في منع وجوده في الأصل والعبد (لإسلامه وعقله) مظنة لرعاية مصلحة الإيمان بدلالة العقل ، ثم الصحيح أن المعترض لو تعرض لتقرير معنى الأهلية بياناً لعدمها فقال الأهلية أن يكون مسلماً عاقلاً حراً ، فإن الحرية مظنة فراغ قلبه للنظر لعدم اشتغاله بخدمة السيد ، فيكون إظهار مصالح الإيمان معه أكمل لم يمكن من تفسير ذلك الوصف وتقريره بياناً لعدمه ، وإنما يكون تقريره إلى مدعيه فيتولى تعيين ما ادعاه كل ذلك لئلا ينتشر الجدال بالانتقال
وثانيها وهو :
(السابع عشر)
من الاعتراضات (المعارضة في الفرع بما يقتضي نقيض حكم الأصل) في الفرع ، أو يكون مستلزماً للنقيض (بأن يقول : ما ذكرته منا الوصف وإن اقتضى ثبوت الحكم في الفرع فعندي وصف آخر يقتضي نقيضه) فيتوقف دليلك ، ثم يثبت المعترض وصفه بأن مسلك شاء من مسالك العلة فيكون كالمعلل في وظائفه فتنقلب الوظيفتان ، (وهذا) المذكور من المعارضة في الأصل فإنها تقيد ، والمختار قبولها لئلا تبطل فائدة المناظرة وهي معرفة الصواب ، لأنه لا يتحقق ثبوته ما لم يعلم عدم المعارض ، قيل : فيه قلب للمناظرة ، وخروج عمَّا قصداه من معرفة صحة نظر المستدل في دليله .قلنا : بل مقصودها هدم دليل المعلل ، كأنه قال : عليك بإبطال دليلي ليسلم دليلك ، وإنما يكون قلباً لو قصد به إثبات ما يقتضيه دليله ، وكيف يقصد به ذلك وهو معارض بدليل المعلل
[الجواب]

(1/242)


(وجواب هذه المعارضة بجميع ما مر من الاعتراضات من قبيل المعترض على المستدل) ابتداءً ، فيقدح المستدل في كلام المعترض بكل ما كان للمعترض أن يقدح في كلامه ، والجواب : لا فرق ، وقد يجاب عنها بالترجيح ، والمختار قبوله للإجماع على وجوب العمل بالراجح ، ولا يجب الإيماء إليه ابتداءً ، لأن الترجيح خارج عن الدليل وشرط لدفع المعارض إذا ظهر لا مطلقاً فلا يجب ذكره في الدليل
وثالثها وهو:
(الثامن عشر)
من الاعتراضات (الفرق وهو إبداء خصوصية في الأصل هي شرط) ، مثاله أن يقول : النيَّة في الوضوء واجبة كالتيمم بجامع الطهارة ، فيعترض الحنفي بأن العلة في الأصل الطهارة بالتراب ، (أو إبداء خصوصية في الفرع هي مانع) ، مثاله أن يقول الحنفي : يقتل المسلم بالذمي كغير المسلم بجامع القتل العمد والعدوان ، فيعترض بأن الإسلام في الفرع مانع من القود ، (ومرجع هذا) الاعتراض (إلى) أحد المعارضتين (المعارضة في الأصل) لأن له ألا يعترض لعدم الأول في الفرع فيكون معارضة في الأصل ، لأن المعلل ادعى علية الوصف المشترك ، والمعترض ادعى عليته مع خصوصية لا توجب في الفرع ، والمعارضة في الفرع ، لأن له ألا يعترض لعدم الثاني في الأصل فيكون معارضة في الفرع ، (وقد مر) وتحقيقه أن المانع عن الشيء في قوة المقتضي لنقضيه ، فيكون المانع في الفرع وصفاً يقتضي نقيض الحكم الذي أثبته المعلل ويستند إلى أصل لا محالة وهو معنى المعارضة في الفرع ، فإن تعرض لعدمها في الآخر كما أوجبه البعض فإليها يرجع الفرق بالمعنيين حينئذٍ ،
أمَّا الأول فلأن إبداء الخصوصية - التي هي شرط في الأصل - معارضة في الأصل ، وبيان انتفائها في الفرع معارضة فيه ،

(1/243)


وأمَّا الثاني فلأن بيان وجود مانع في الفرع معارضة فيه ، وبيان انتفائه في الأصل إشعار بأن العلة هي ذلك الوصف مع عدم هذا لا ذلك وحده ، فكأن معارضة فيه حيث أبدى علة أخرى لا توجد في الفرع ، ولا بد من بيان تحققه وطريق كونه مانعاً أو شرطاً على نحو طريق إثبات المستدل عليه الوصف المعلل به من التأثير والانضباط ليتم المعارضة
ورابعها هو :
(التاسع عشر)
من الاعتراضات (اختلاف الضابط) أي مناط الحكم (في الأصل والفرع ، وهو الوصف المشتمل على الحكمة المقصودة ، مثاله أن يقول المستدل في شهود الزور على القتل إذا قتل بشهادتهم تسببوا للقتل فيجب القصاص كالمكره ، فيقول المعترض الضابط مختلف ، فإنه في الأصل الإكراه ، وفي الفرع الشهادة ، ولم يعتبر تساويهما في المصلحة ، فقد يعتبر الشارع أحدهما دون الآخر)
[الجواب]
(وجوابه) إمَّا (بأن الضابط هو القدر المشترك ، وهو التسبب ، أو بأن إفضاءه في الفرع مثل إفضائه في الأصل ، أو أرجح) منه فتثبت التعدية كما لو جعل في مسئلة القصاص من الشهود الأصل هو المغري للحيوان على القتل ، فيقول المعترض : الضابط في الأصل إغراء الحيوان ، وفي الفرع الشهادة ، فيجيب : بأن إفضاء التسبب بالشهادة إلى القتل أقوى من إفضاء التسبب بالإغراء ، فإن انبعاث أولياء المقتول على قتل من شهدوا عليه بأنه قتله طلباً للتشفي وثلج الصدر بالانتقام أغلب من انبعاث الحيوان على قتل من يغري هو عليه ، وذلك بسبب نفرته عن الآدمي ، وعدم عمله بالأغراء ، فإذا اقتضى الاغراء أن يقتص من المغري فأولى أن يقتضي هذه الشهادة الاقتصاص من الشهود لذلك ، ولا يضر اختلاف أصلي السبب ، وهو كونه شهادة وإغراء فإن حاصلة قياس التسبب بالشهادة على التسبيب بالإغراء ، والأصل لا بد من مخالفته للفرع ،

(1/244)


(ونحو ذلك) ، الواو بمعنى أو مما يجاب به سؤال اختلاف الضابط بأن يقال في المثال المذكور التفاوت ملغى في القصاص لمصلحة حفظ النفس بدليل أنه لا يفرق بين الموت بقطع الأنملة ، وبينه بضرب الرقبة ، فيجب بهمها القصاص وإن كان أحدهما أشد إفضاء إلى الموت ، وقال ابن الحاجب وغيره إنه لا يجاب هذا السؤال بإلغاء التفاوت ، لأنه لا يلزم من إلغاء فارق معين إلغاء كل فارق ، فقد ألغي علم القاتل ، وذكوريته ، وصحته ، وعقله ، لا إسلامه وحريته فيقتل العالم ، والذكر ، والصحيح ، والعاقل بمن لم يكن كذلك ، ولم يقتل الحر بالعبد ، والمسلم بالكافر ،
وخامسها هو :

(العشرون)
من الاعتراضات (اختلاف جنس المصلحة في الأصل والفرع )
(مثاله أن يقول المستدل : يحد باللواط كما يحد بالزنا لأنه إيلاج فرج في فرج ، مشتهى طبعاً ، محرم شرعاً ، فيقول المعترض اختلفت المصلحة في تحريمهما ، ففي الزنا منع اختلاط النسب) المفضي إلى عدم تعهد الأولاد ، (وفي اللواط دفع رذيلة ، وقد يتفاوتان في نظر الشارع) وحاصله كالفرق لإبداء خصوصية في الأصل ، كأنه قال : بل العلة ما ذكرت مع كونه موجباً لاختلاط النسب فيكون راجعاً إلى المعارضة في الأصل ،
[الجواب]
(وجوابه) بما أمكن من أجوبتها والأظهر أن يكون (ببيان استقلال الوصف بالعلية) بشيءٍ من مسالك العلة (من دون تفاوت)
النوع السادس وهو الوارد على قوله : فيوجد الحكم في الفرع ، ولا سبيل إلى منعه نفسه لقيام الدليل عليه ، فكان الاعتراض إمَّا بمجرد دعوى المخالفة بين الحكمين ، أو بضم أن دليلك يقتضي ذلك ويسمى القلب ، فانحصر في صنفين :
أولهما هو :
(الحادي والعشرون)
من الاعتراضات (دعوى المخالفة) بين حكم الأصل وحكم الفرع ، (مثاله أن يقاس النكاح على البيع ، أو البيع على النكاح) في عدم الصحة (بجامع في صورة) ، فالمستدل حين حاول إلحاق النكاح بالبيع أو العكس قد أثبت في الفرع حكماً مماثلاً للحكم الأصل ،

(1/245)


(فيقول المعترض) بعد تسليم علة الأصل في الفرع (الحكم مختلف ، فإن معنى عدم الصحة في البيع حرمة الانتفاع بالمبيع ، وفي النكاح حرمة المباشرة ، وهما مختلفان) حقيقة وإن تساويا بدليلك صورة فالمطلوب مساواته له حقيقة ، فما هو مطلوبك غير ما أفاده دليلك ، والدليل إذا نصب في غير محل النزاع كان فاسداً ، لأن المقصود منه إثبات محل النزاع ،
[الجواب]
(والجواب أن البطلان شيءٍ واحد ، وهو عدم ترتب المقصود من العقد عليه) وإنما اختلف المحل كونه بيعاً ونكاحاً واختلاف المحل لا يوجب اختلاف الحال فيه بل هو شرط في القياس ضرورة فكيف يجعل شرطه مانعاً عنه فيلزم امتناعه أبداً ؟
وثانيهما وهو :
(الثاني والعشرون)
من الاعتراضات (القلب وحاصله دعوى المعترض أن وجود الجامع في الفرع مستلزم حكماً مخالفاً لحكمه الذي يثبته المستدل) ويعتقده وذلك إمَّا بتصحيح المعترض مذهبه فليزم منه بطلان مذهب المستدل لتنافيها(نحو أن يقول الحنفي الاعتكاف يشترط فيه الصوم لأنه لُبْث فلا يكون بمجرده قربة كالوقوف بعرفة فيقول الشافعي فلا يشترط فيه الصوم كالوقوف بعرفة) وإمَّا بإبطاله لمذهب المستدل صريحاً مثاله أن يقول الشافعي في مسح الرأس مسح في الوضوء فلا يقدر بالربع كمسح الخف فيقول الحنفي فلا يكتفي فيه بأقل قليل أو التزاماً مثاله أن يقول الحنفي بيع غير المرئي بيع معاوضة فيصح مع الجهل بأحد العوضين كالنكاح فيقول الشافعي فلا يثبت فيه خيار الرؤية كالنكاح ووجه وروده أن من قال بصحته قال بخيار الرؤية فكان لازماً لها وإذا انتفى اللازم انتفى الملزوم وقد أجابت الحنفية عن هذا الاعتراض أن خيار الرؤية حكم آخر اجتمع مع الصحة على جهة الاتفاق فلا يكون لازماً فلا يستلزم نفيه نفيها لأن شرط الاستثنائي كون الشرطية فيه لزومية

(1/246)


(وهو) أي القلب (أقسام) ثلاثة كما بيَّنا (وكلها ترجع إلى المعارضة) فهو نوع منها إذ هي دليل يثبت به خلاف حكم المستدل والقلب كذلك فإنه يشترك فيه الأصل والجامع بين القياسين فيجيء الخلاف في قبوله ويكون القبول هو المختار بل هو أولى بالقبول من المعارضة المحضة لأنه أبعد من الانتقال بأن قصد هدم دليل المستدل بأدائة إلى التناقض ظاهر فيه ولأنه مانع للمستدل من الترجيح لأن الترجيح إنما يتصور بين شيئين وها هنا الدليل واحد (1)
النوع السابع من الاعتراضات ما يرد على قول المعلل وذلك هو المطلوب فيقول المعترض لا نسلِّم بل النزاع باقٍ لأن الدليل منصوب في غير المتنازع وهو سؤال واحد وهو :
(الثالث والعشرون)
من الاعتراضات (القول بالموجَب) بفتح الجيم أي بما أوجبه دليل المستدل واقتضاه وأمَّا الموجِب بكسرها فهو الدليل وهو غير مختص بالقياس وقد وقع في قوله تعالى ?ليخرجن الأعز منها الأذل ولله العزَّة ولرسوله وللمؤمنين?[ المنافقون 8] أي إذا أخرج الأعز الأذل فأنتم المخرجون _ بفتح الراء لأن العزة لله ولمن أعزه الله وأنتم الأذلاء وقد يسمى عدم تمام التقريب وهو من السؤالات العامة لجميع الأدلة ويرد لوجوه ثلاثة الأول أن يرد لاستنتاج المستدل ما يتوهم أنه المتنازع أو ملازمه والأمر بخلاف ذلك
(وحاصله تسلم مدلول الدليل مع بقاء النزاع ومن أمثلته أن يقول الشافعي في القتل بالمثقل قتل بما يقتل غالباً فلا ينافي القصاص كالقتل بالخارق فيرد القول بالموجب فيقول المعترض سلَّمنا عدم المنافاة بين القتل بالمثقل وبين القصاص ولكنه ليس محل النزاع لأن محل النزاع هو وجوب القصاص لا عدم المنافاة للقصاص (ونحو ذلك) الوجه و هو وجهان :
__________
(1) ـ وقيل : لا يقبل لأنه شاهد زور يشهد لك أيها القالب وعليك حيث سلمت فيه الدليل واستدللت به على خلاف دعوى المستدل تمت منه

(1/247)


الأول منهما وهو ثاني الثلاثة أن يستنتج من الدليل إبطال أمر يتوهم أنه مأخذ الخصم ومبنى مذهبه في المسئلة والخصم يمنعه فلا يلزم من إبطاله إبطال مذهبه كأن يقول في المثال التفاوت في الوسيلة لا يمنع القصاص كالمتوسل إليه وهو أنواع الجراحات القاتلة فيسلِّمه الحنفي ويقول من أين يلزم من عدم مانع ارتفاع جميع الموانع ووجود الشرائط والمقتضى وهذا غايته عدم مانع خاص ولا يستلزم انتفاء بقية الموانع ولا وجود الشرائط والمقتضى فلا يلزم ثبوت الحكم والمختار بعد قول السائل ليس هذا مأخذي تصديقه لأنه أعرف بمذهبه ومذهب إمامه .
والثاني من الوجهين وهو ثالث الثلاثة أن يسكت المستدل عن صغرى غير مشهورة كقولنا يشترط في الوضوء النيَّة لأن ما ثبت قربة فشرطه النيَّة كالصلاة ولا يذكر الصغرى وهو الوضوء ثبت قربة وهذا يسمى قياس الضمير فيقول الحنفي مسلَّم ومن أين يلزم اشتراط النيَّة في الوضوء فورد للسكوت عن الصغرى ولو ذكرت لم يرد إلا منعها بأن يقول لا نسلِّم أن الوضوء ثبت قربة فيكون حينئذٍ منعاً للصغرى لا قولاً بالموجب
[الجواب]
والجواب عن الأول بأن يبيِّن المعلل أن اللازم من الدليل محل النزاع أو مستلزم له إذ مرجعه إلى منع أحدهما وعن الثاني بأنه المأخذ باشتهاره بين النظار وبالنقل عن أئمة مذهبهم وعن الثالث أن الحذف عند العلم بالمحذوف شائع والمحذوف مراد معلوم فلا يضر حذفه والدليل هو المجموع لا المذكور وحده والله سبحانه أعلم .
[ الرابع والعشرون من الاعتراضات]
وأمَّا (الرابع والعشرون) من الاعتراضات وهو (سؤال التركيب) وهو أن يمنع الخصم كون الحكم معللاً بعلة المستدل مع موافقته فيه وذلك بمنع كونها علة أو بمنع وجودها في الأصل ، فالأول مركب الأصل ، والثاني مركب الوصف

(1/248)


مثال الأول أن يحتج على الحنفية في أن العبد لا يقتل به الحر عبد فلا يقتل به الحر كالمكاتب المقتول عن الوفاء ووارث مع السيد فيقول الحنفي العلة في عدم قتل الحر بالمكاتب جهالة المستحق للقصاص من السيد والورثة واجتماعهم على طلب القصاص لا يرفعها لاختلاف الصحابة في المكاتب المخلف للوفاء هل يموت حراً ؟ فالمستحق الوارث أو عبداً فالمستحق السيد فإن صحت هذه العلة بطل إلحاق العبد به في الحكم لعدم مشاركته له في العلة وإن بطلت فإن الخصم يمنع بحكم الأصل ويقول يقتل الحر بالمكاتب لعدم المانع فإن لم يدع وارثاً غير السيد أو ترك ولا وفاء أقاد السيد عن أبي حنفية وأبي يوسف لأنه متعين خلافاً لمحمد[ ذكره في فقههم ].
ومثال الثاني ان يقول في الاستدلال على أن تعليق الطلاق للأجنبية قبل النكاح على شرط لا يصح قياساً على عدم التعليق كأن يقول لأجنبية إن تزوجتك فأنت طالق ثم تزوجها طلاق معلق على شرط فلا يصح قبل النكاح كلو قال زينب التي أتزوجها طالق فيقول الحنفي العلة التي عللت بها وهي كونه تعليقاً مفقودة في الأصل إذقوله زينب التي أتزوجها تنجيز لا تعليق فإن صح أنها مفقودة في الأصل بطل الإلحاق للتعليق لعدم الجامع وإن لم يصح منعت حكم الأصل وهو عدم الصحة في قوله زينب التي أتزوجها طالق لأنِّي إنما منعت الوقوع لكونه تنجيزاً فلو كان تعليقاً لقلت به وعلى التقديرين فلا يصح القياس إذ لا يلخو من منع العلة في الأصل أو منع حكم الأصل المقيس عليه (1)
[الجواب]
__________
(1) ـ وقد ذكرنا في حاشية شروط الأصل وجه تسميتها بمركب الأصل والوصف والخلاف فيها فجده من هناك إنشاء الله تعالى تمت منه .

(1/249)


وجواب هذا الاعتراض أن يثبت المستدل أن العلة هي ما علل به وأنها موجودة بدليل من عقل أو حس أو شرع وإن لم يسلِّم الخصم إذ لو اشترط تسليمه لم تقبل مقدمة تقبل المنع فهذا السؤال (هو ما) عرفته فيما (تقدم من أن شرط حكم الأصل ألا يكون ذا قياس مركب) على غير الأصح وأنه قسمان مركب الأصل ومركب الوصف وإنما سمي الأول مركب الأصل لوقوع النظر في علة حكم الأصل والثاني مركب الوصف لوقوع الخلاف في وجود الوصف الجامع تمييزا لكل عن صاحبه والله أعلم وإحالته على ما تقدم فيها نظر إذ لم يذكره في متنه وقد ذكرنا هنالك أنه لا حاجة إلى اشتراطه
[ الخامس من الاعتراضات]
و(الخامس والعشرون) من الاعتراضات (سؤال التعدية وذكروا في مثاله أن يقول المستدل في البكر البالغة بكر فتجبر كالصغيرة ويقول المعترض هذا معارض بالصغر وما ذكرته وإن تعدى به الحكم إلى البكر البالغة فما ذكرته أنا قد تعدى به الحكم إلى الثيب الصغيرة) فإنه لَمّا ظهر واشتهر (هذان الاعتراضان) باسميهما أفردا بالعدد ولذا (يعدهما الجدليون في) عداد (الاعتراضات) فكان عدة الأمثلة باعتبارهما خمسة وعشرين (وليس أيهما اعتراضاً برأسه بل) هما (راجعان إلى بعض ما تقدم في) أنواع (الاعتراضات) السبعة
(فالأول راجع إلى المنع) أي منع حكم الأصل أو منع العلة في مركب الأصل أو منع الحكم أو منع وجود العلة في الفرع في مركب الوصف
(والثاني) راجع (إلى المعارضة في الأصل) بالصغر مع زيادة تعرض التساوي في التعدية دفعاً لترجيح المعيَّن بالتعدية (وقد تقدم بيان ذلك) المذكور من المنع والمعارضة وأمثلتهما فلا وجه لإعادته .

(1/250)


واعلم أنه يصح تعدد الاعتراضات إذا كانت من جنس واحد اتفاقاً كاستفسارات أو معارضات تورد على قياس واحد وإمَّا من نوعين فصاعداً كأن يورد على مسئلة واحدة استفسار ومنع ونقض مثلاً فقال ابن الحاجب بجوازه وإذا جاز فينبغي إيرادها على الترتيب المناسب للطبع فيقدم منها ما يتعلق بالأصل ثم بالعلة لأنها مستنبطة منه ثم بالفرع لابتنائه عليها ويقدم النقض على معارضة الأصل لأن النقض يذكر لإبطال العلة والمعارضة لإبطال تأثيرها بالاستقلال فالواجب أن يقول ليس بعلة وإن سلّم فليس بمستقل وبالجملة الترتيب بالوضع كما وقع الترتيب بالطبع فيجب الترتيب لقبح المنع بعد التسليم فإنه إذا قيل لا نسلِّم أن الحكم معلل بكذا فقد سلِّم ثبوت الحكم ضمناً فلو قيل بعد ذلك ولو سلِّم فلا نسلم ثبوت الحكم كان منعاً لما قد سلم وأيضاً فالقصد من المناظرة الفلج والتماسه من وجه تيسيره أولى
قلت ولقد أجاد المصنف في ترتيبها (1) فعليك فيها باقتفاء آثاره والاستضاء بمصباح أنواره فإنه المجمع عليه . وقال بعضهم لا ترتيب بينها فإنها سيوف الجدال فأيها شاء المجادل انتضاه وبتمام هذه الجملة تم الكلام في القياس والاعتراضات والحمد لله ربِّ العالمين

(فصل)[ الاستدلال]
__________
(1) ـ وذلك لأنه قدم ما يتعلق بالبيان ثم فساد الاعتبار ثم فساد الوضع ثم منع الحكم في الأصل ثم منع وجود العلة فيه ثم الأسئلة المتعلقة بالعلية كالمطالبة وعدم التأثير والقدح في المناسبة والتقسيم وكون الوصف غير ظاهر ولا منضبط وكونه غير مفض إلى المقصود ثم النقض والكسر ثم المعارضة في الأصل ثم ما يتعلق بالفرع كمنع وجود العلة فيه ومخالفة حكمه لحكم الأصل واختلاف الضابط والحكمة والمعارضة في الفرع والقلب ثم القول بالموجب والله أعلم تمت منه

(1/251)


ولما فرغ من بيان الأدلة الأربعة وما يرد عليها أخذ يبيِّن غيرها ممَّا يتمسك به بعض وينفيه آخر فقال (وبعض العلماء يذكر دليلاً خامساً وهو الاستدلال قالوا) وهو لغة طلب الدليل ويطلق على إقامة الدليل على نوع خاص وهو المراد هنا (وهو القياس ما ليس بنص ولا إجماع ولا قياس علة) فتخرج الأدلة الأربعة المعروفة فيما سبق فلا يرد أنه تعريف بالمجهول غير قياس الدلالة والقياس في معنى الأصل أي ما جمع فيه بنفي الفارق من دون تعرض لوصف وهو المسمى بتنقيح المناط كما تقدم في قصة الأعرابي (وهو) أي الاستدلال (ثلاثة أنواع) على مختار أكثر مثبتيه :
النوع (الأول تلازم بين حكمين من دون تعيين علة) وإلا كان قياس علة وسواءً كان تلازمهما نفياً وإثباتاً كالتكليف ووجوب الصلاة أو نفياً فقط كالصغر ووجوبها أو إثباتاً فقط (مثل من صح ظهاره صح طلاقه) فهو دليل مستقل عند ابن الحاجب وبعض الأصوليين (1)وعندنا راجح إلى النص أو الإجماع أو القياس لأنه تمسك بمعقول مفهوم من أيها فهو في الحقيقة تمسك بها إذ ثبوت هذه الملازمات الشرعية بدون الثلاثة محال بالإجماع
[ الاستصحاب]
__________
(1) ـ ودليل صدق التلازم وجود الوجوب بوجود التكليف وانتفاؤه بانتفائه أو لوجود الصغر وصحة طلاق الوكيل والكافر دون ظهارهما كما قرر في مظانه من الفقه وقد فسر الشرّاح كلام المصنف هنا بما يخالف مذهبه وجعلوا هذا مثالاً للثبوتي وفيه أنه تمسك بالدوران وجزؤه عدم وما جزؤه عدم فهو عدم وفيه خلاف ابن الحاجب والأمدي تمت منه .

(1/252)


النوع (الثاني) من أنواع الاستدلال هو (الاستصحاب وهو) : لغة طلب كون الشيء في صحبتك واصطلاحاً (ثبوت الحكم في وقت لثبوته قبله لفقدان ما يصلح للتغيير) فمنعه المهدي وأهل المذهب في روايته وأثبته صاحب الفصول عن جمهور أئمتنا عليهم السلام وغيرهم لأن تحقق الشيء بلا ظن معارض طار عليه يستلزم ظن البقاء لذلك الشيء المتحقق ضرورة ولولا هذا الظن لما حسن من العاقل مراسلة من فارقه ولا الاشتغال بما يقتضي زماناً كالحراثة والتجارة والقراض وإرسال الهدية والوديعة إلى بعيد والظن متبع شرعاً لما مر وأيضاً لو لم يكن طريقاً لاستوى الشك في الزوجية ابتداءً وبقاءً والتالي باطل فالمقدم مثله أمَّا الملازمة فلأنه لا فارق بينهما إلا استصحاب عدم الزوجية في الأولى واستصحابها في الثانية فلولا اعتباره لاستوت الحالان . وأمَّا بطلان اللازم فللإجماع على حرمة الاستمتاع فيمن شك في ابتداء حصول الزوجية وعلى حله فيمن شك في بقائها وكذا الكلام فيمن شك في ابتداء الوضوء وفي من علمه وشك في الحدث ولذا قال :( إن الشيطان ليأتي أحدكم يقول أحدثت أحدثت فلا ينصرفن حتى يسمع صوتاً أو ريحاً )(1)وفي ترك الاستصحاب مخالفة للخبر
__________
(1) ـ أخرجه الطبراني في معجمه الكبير و مسلم في صحيحه و البخاري في صحيحه و النسائي في سننه و ابن حبان في صحيحه و ابن خزيمة في صحيحه والترمذي في سننه و ابن ماجه في سننه و أبو داود في سننه وابن حنبل في مسنده و الحاكم في مستدركه و الطحاوي في شرح معاني الآثار و البيهقي في سننه الكبرى

(1/253)


وينقسم إلى معمول به عقلياً كان أو شرعياً كاستصحاب البراءة العقلية حتى يرد ناقل فلذا حكمنا بانتفاء صلاة سادسة وصوم غير رمضان أو شرعياً كاستصحاب الملك والنكاح والطلاق حتى يرد مغير كالعلم بالبيع والطلاق والرجعة وإلى غير معمول به كاستصحاب النص بعد نسخه (وكقول بعض الشافعية في المتيمم يرى الماء في صلاته يستمر فيها) لأن الظاهر بقاء تلك الطهارة فيستصحب الحال في بقائها فيستمر على ما هو فيه ويتم صلاته وتكون صحيحة (استصحاباً للحال) الأول (لأنه قد كان عليه المضي فيها قبل رؤية الماء) ومن رام إيجاب الطهارة بالماء وحكم بعدم صحة الصلاة بعد رؤيته وأن تيممه يبطل لذلك فعليه إقامة الدليل . قلنا الحال الثانية غير مساوية للأولى لوجود الماء في الثانية دون الأولى وليس المقتضى لصحة الصلاة بالتيمم أو لا إلا فقدان الماء وقد وجد فلم يشاركها حالة الوجدان في ذلك المقتضى للحكم وهو عدم الماء حتى يوجد الحكم لوجود ما يقتضيه فيلزم انتفاء الحكم إذ يكون ثبوته لو حكم به من غير دليل وهو لا يصح فبطل أن يكون الاستصحاب هنا حُجَّة فلا تصح الصلاة عند جمهور أصحابنا إلا بالماء مطلقاً وعند بعضهم (1) إن غلب ظنه بإدراكها مع الطهارة والوقت باقٍ .وجوَّز مالك والشافعي الخروج والاستمرار والله أعلم .
النوع (الثالث) من أنواع الاستدلال (شرع من قبلنا) من الأنباء صلوات الله عليهم أجمعين وعلى آلهم الطَّاهرين ،
قد اختلف في تعبده قبل البعثة بشرع من قبله
فقال البيضاوي وابن الحاجب وغيرهما بالثبوت
__________
(1) ـ بعض بني الهادي وأبو العباس والإمام يحي وعلي بن خليل ذكره الدواري تمت منه .

(1/254)


ثم اختلفوا أكان متعبداً بدين معين أو لا ؟ فقيل بمعين وهو شرع نوح وقيل إبراهيم وقيل موسى وقيل عيسى وقيل بما ثبت من الشرائع السالفة بطريق مفيد للعلم لتظافر الأحاديث بذلك فقد جاء في الصحيح أنه كان (يخلو بغار حرا فيتحنث فيه الليالي ذوات العدد حتى جاءه الحق وهو في غار حرا) والتحنث التعبد وتجنب الحنث وكان يحج ويقف مع الناس بعرفات ولا يقف مع الحمس (1) والحج كانت العرب تطوف فيه
وفي السيرة كان أول ما يبدأ به إذا انصرف من جواره يعني في غار حرا الكعبة قبل أن يدخل بيته فيطوف بها سبعاً أو نحوً من ذلك وكان يأكل المذكى ويركب
__________
(1) ـ الديباج ج: 3 ص: 327الحمس بضم الحاء المهملة وسكون الميم وسين مهملة سموا بذلك لأنهم تحمسوا في دينهم أي تشددوا وقيل سموا حمسا بالكعبة لأنها حمساء حجرها أبيض يضرب

(1/255)


ففي حديث جبير بن مطعم قال لقد رأيت رسول الله قبل أن ينزل عليه الوحي وإنه لواقف على بعير له بعرفات مع الناس من بين قومه حتى يدفع معهم منها فقلت هذا رجل أحمس فما باله لا يقف مع الحمس(1) حيث يقفون
__________
(1) ـ قال في النهاية في غريب الحديث : حمس هـ في حديث عرفة هذا من الحُمْسِ فما بالُه خرَج من الحَرَم ! الحُمْس جَمْع الأحْمَسِ : وهم قريش , ومن ولَدَت قريش , وكِنانه , وجَدِيلة قَيْسٍ , سُمُّوا حُمسا لأنهم تَحَمَّسُوا في دِينهم : أي تَشَدَّدُوا . والحَمَاسة الشَّجاعة , وكانوا يقفون بمُزْدَلفة ولاَ يَقِفُون بعَرفَة , ويقولون: نحن أهل الله فلا نَخْرج من الحَرم وكانوا لا يدخلون البيوت من أبوابها وهم محُرِمون . س وفي حديث عمر وذكر الأحَامِس هم جَمْع الأْحَمس : الشُّجاع وحديث على حَمِسَ الوغَى واسْتَحَرّ الموت أي إشْتَدّ الحربُ .وحديث خَيْفَان أما بَنُو فلان فَمُسَكٌ أحْماسٌ أي شُجْعَانٌ وفي لسان العرب : و الحُمْسُ: قريش لأَنهم كانوا يتشددون في دينهم وشجاعتهم فلا يطاقون، وقيل: كانوا لا يستظلون أَيام منى ولا يدخلون البيوت من أَبوابها وهم محرمون ولا يَسْلئُون السمن ولا يَلْقُطُون الجُلَّة. وفي حديث خَيْفان: أَما بنو فلان فَمُسَك أَحْماس أَي شجعان. وفي حديث عرفة: هذا من الحُمْسِ؛ هم جمع الأَحْمس.

(1/256)


وحل الركوب إنما طريقه الشرع وأيضاً فقد ثبت أن دعوة الأنبياء عليهم السلام عامة إلى جميع الخلق فيجب دخوله في ذلك وهذا يوجب كونه متعبداً بشريعتهم قلنا لم ينقل ذلك إلا بالآحاد ولا يعمل بها في مسائل الاعتقاد كما سبق وأكل المذكى يستحسنه العقلاء إذا ذكاه غيره إذ ينتفع به بلا ضرر عاجل ولا آجل واستعمال البهائم غير المجحف بها مع تحمل علفها والقيام بمصالحها يجري مجرى تدبير ولي الصبي لأمره فلا يحتاج إلى السمع وأمَّا الحج والاعتمار والطواف فلا يقبح عقلاً لأنه يجوز أن يفعله لغرض صحيح من الاسترواح وتقوية البدن ولو سلِّم قبحه لم يقطعه بكبره والنبي إنما تجب عصمته عن الكبائر قبل البعثة وبعدها وعموم دعوة الأنبياء غير مسلَّم ولو سلِّم فأين الطريق إلى ذلك ؟ ولذا قال أئمتنا وجمهور المعتزلة وبعض الفقهاء :(المختار أن النبي لم يكن قبل البعثة متعبداً بشرع) من شرع من قبله من الأنبياء عليهم السلام ولا يجوز أن يعلمه بالأخبار لعلمه باختلاف اليهود والنصارى ونفيهم الوحدانية عن الله تعالى وتحريفهم الكتابين من زمن داود وعيسى كما نطق به القرآن(1) ولعدم مخالطته وسؤاله إيَّاهم إذ لو كان لنقل كما نقل سائر أحواله ولكان من أعظم المنفرات عنه والتحريف وإن لم يكن في جميع الكتب المنزلة فجهل موضع المحرف يمنع الاستدلال بجميعه كاشتمال كتاب حديث على حديث موضوع مجهول موضعه وأيضاً قال تعالى ?وكذلك أوحينا إليك روحاً من أمرنا ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان? [الشورى 52]أي ما كنت تدري بذلك لولا ما أوحينا إليك فدل على أنه لم يكن متعبداً بشريعة قبل شريعته والمراد بالإيمان قبل الوحي التصديق بالشرعيات والكتب المتضمنه لها لا أن المراد بها التصديق بالربوبية والإقرار بالوحدانية فهو كان منطوياً على ذلك من لدن كمال عقله ولا بدّ
__________
(1) - احتج بعضهم بقوله تعالى :?لعن الذين كفروا? الآية فينظر في وجه دلالتها أو آية أصرح منها تمت منه .

(1/257)


وأن يقوم بما كُلِّفَه من ذلك بالدلالة العلقلية وفائدة هذه المسئلة علمية وهي العلم بما كان عليه من الأعمال والتكليف قبل البعثة فجرى ذلك مجرى العلم بأحواله قبل البعثة ولا يتعلق بنا من ذلك تكليف
(و) أمَّا بعد البعثة فمختار الأخوين والمنصور بالله عليهم السلام وبعض الفقهاء (أنه بعدها متعبد بما لم ينسخ من الشرائع فيجب علينا) التأسي به و(الأخذ بذلك) الشرع المتقدم (عند عدم الدليل) من الكتاب والسنة والإجماع (في شريعتنا) المطهرة على صاحبها أفضل الصلاة والسلام وعلى آله
وذهب أكثر أئمتنا عليهم السلام والجمهور إلى أنه لم يكن متعبداً بشرع من قبله وأدلة الفريقين من الكتاب متكافئة

(1/258)


ويعضد دليل المانع الإجماع على أن شريعته ناسخة لشريعة غيره وعلى عدم وجوب تعلم أحكام من قبلنا وعلى جواز الاجتهاد عند فقد حكم الحادثة في القرآن والسنة وعدم رجوعه إلى كتب غيره فيما دهمه من الحوادث كمسألة الميراث والإيلاء والظهار والتيمم القذف فإنها لما حدثت توقف حتى نزل الوحي عليه ببيانها فلو كان متعبداً بشيءٍ من الشرائع لما جاز له أن يتوقف مع تجويز أن يعرف ذلك من جهة الكتب المتقدمة وأهلها ولوجب عليه الرجوع إليه ،ولا ينتظر الوحي والمعلوم خلافه ؛ لوجهين أحدهما أن ذلك لو كان لنقل الثاني أن المأثور أنه رأى عمر يطالع في ورقة من التوراة فغضب حتى احمرت وجنتاه وأنكر عليه وقال أتريد أن تتهود يا ابن الخطاب !؟ لو كان أخي موسى حياً ما وسعه غير اتباعي (1)
[ الاستحسان]
(قيل ومنه) أي من الاستدلال (الاستحسان وهو) لغة ميل النفس إلى شيء واعتقاد حسنه
__________
(1) ـ رواه في كتاب المدخل في أصول الفقه للإمام أحمد بن سليمان (عليه السلام) والله أعلم تمت منه وفي أبجد العلوم ج: 1 ص: 228قال ( صلى الله عيه وآله وسلم) لا تصدقوا أهل الكتاب ولا تكذبوهم وقولوا آمنا بالذي أنزل إلينا وأنزل إليكم وإلهنا وإلهكم واحد ورأى النبي ( صلى الله عيه وآله وسلم) في يد عمر رضي الله عنه ورقة من التوراة فغضب حتى تبين الغضب في وجهه ثم قال ألم آتكم بها بيضاء نقية والله لو كان موسى حيا ما وسعه إلا اتباعي وفي المستصفى ج: 1 ص: 166وقال ( صلى الله عيه وآله وسلم) لو كان موسى حيا لما وسعه إلا اتباعي وفي المستصفى ج: 1 ص: 166أيضا وطالع عمر رضي الله عنه ورقة من التوراة فغضب ( صلى الله عيه وآله وسلم) حتى احمرت عيناه وقال لو كان موسى حيا ما وسعه إلا اتباعي

(1/259)


(و) اختلف في حقيقته فقال ط والمنصور بالله عليهما السلام والكرخي وأبو عبد الله هو العدول بحكم المسألة عن حكم نظائرها إلى خلاف النظير لوجه أقوى وقال المؤيد بالله عليه السلام وبعض الحنفية هو العدول من قياس إلى قياس أقوى وهو أخص مطلقاً من الأول قال سعد الدِّين والذي استقر عليه رأي المتأخرين أنه (عبارة عن دليل يقابل القياس الجلي) السابق إلى الأفهام وقيل غير ذلك
(وقد يكون ثبوته بالأثر) ينبغي أن يفسر الأثر في كلام المصنف هنا بما ورد عنه حتى يصدق قوله بعد ولا يتحقق استحسان مختلف فيه إذ من جملة الأثر بالمعنى المصطلح الذي ذكره النووي في صدر شرح مسلم قول الصحابي وسيأتي ما فيه من الخلاف ومثاله السلم والإجارة القياس يقتضي منعهما لأنهما بيع معدوم لكن ثبت بالنص
(و) قد يكون (بالإجماع) من الأُمَّة أو العترة عليهم السلام كدخول الحمام والاستصباغ القياس يقتضي منعهما لجهالة ما يستغرق من المنافع والماء وثبت بإجماع المسلمين على جوازه
(و)قد يكون (بالضرورة )كالحكم بطهارة الحياض والآبار على أصل الحنفية

(1/260)


(و) قد يكون (بالقياس الخفي) وأمثلته كثيرة كسور سباع الطير القياس الجلي يقتضي نجاسته عند الحنفية كسور سباع البهائم وهو طاهر بالقياس الخفي لأنها تشرب بمناقيرها وهي عظام طاهرة وقد اختلف فيه فأثبته أئمتنا عليهم السلام والحنفية ورواية ابن الحاجب عن الحنابلة وأنكره الشافعية والمريسي والأشعرية ورواية جمع الجوامع وشرحه عن الحنابلة وبالغوا في إنكاره حتى قال الشافعي من استحسن فقد شرَّع بتشديد الراء وقال ابن أبي شريف شارح الجمع هو بالتخفيف أي أثبت شرعاً من قبل نفسه لا من قبل الشارع (1)
(و) إذا كان ثبوته بأحد هذه الدلائل المذكورة التي هي حُجَّة إجماعاً وعرفت ما قيل في تفسيره عرفت حقية مثبتة وأنه (لا يتحقق استحسان مختلف فيه) لأن الخلاف إن عاد إلى الللفظ فلا مشاحة في العبارة بعد صحة المعنى وإن عاد إلى المعنى فمرجعه إلى الترجيح بين الأدلة الشرعية وهو أمر متفق عليه ولا حاجة بنا إلى فرض استحسان يصلح محلاً للنزاع ثم الاحتجاج على إبطاله
[حجية مذهب الصحابي]
(وأمَّا مذهب الصحابي) المتقدم تفسيره وقوله فليس بحُجَّة على مثله اتفاقاً ذكره ابن الحاجب وغيره وأمَّا على غيره من التابعين ومن بعدهم فالأكثر العلماء منهم الشافعي في الجديد وابن حنبل في رواية والكرخي (على أنه ليس بحُجَّة) لعدم الدليل وقال مالك ابن أنس وأبو علي وأبو هاشم وأبو عبد الله البصري ومحمَّد بن الحسن والبرذعي من الحنفية ورجحه الفناري من متأخريهم وقال إنه مختار متأخريهم إنه حُجَّة
__________
(1) ـ يعني فيكون كفراً أو كبيرة قال في الجمع وشرحه : أما استحسان الشافعي التحليف على المصحف والحط لبعض عوض الكتابة وكون المتعة ثلاثين درهما فليس من الاستحسان المختلف فيه أن يحقق وإنما قال ذلك لمآخذ فقهية مبينة في محالها إهـ بالمعنىتمت منه

(1/261)


(و) حجتهم :(قوله أصحابي كالنجوم الخبر) تمامه بأيهم اقتديتم اهتديتم فيكون الاقتداء بهم اهتداء (ونحوه) ما روي عنه أنه قال ما أدري ما قدر بقائي فيكم (فاقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر)(وتمسكوا بهدي عَمَّار وما حدثكم به ابن مسعود فصدقوه) أخرجه أحمد والترمذي وابن ماجة وغيرهم عن حذيفة .وعنه (عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي )وذلك أمر بالاقتداء بهم والاهتداء بهديهم وإخبار أن الاقتداء بهم اهتداء وذلك يدل على وجوب الاقتداء بمذهبهم وكونه حجة وإلا لم يكن اهتداء ولا ديناً .
قلنا أمَّا حديث أصحابي كالنجوم فمقدوح في رواته قال الإمام المنصور بالله القسم بن محمَّد عليه السلام رواية جعفر بن عبد الواحد الهاشمي القاضي قال فيه الدار قطني يضع الحديث وقال أبو زرعة روى أحاديث لا أصل لها وقال ابن عدي يسرق الحديث ويأتي بالمناكير عن الثقات وقال فيه الذهبي في ميزانه ومن بلاياه عن وهب بن جرير عن أبيه عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة عن النبي أصحابي كالنجوم من اقتدى بشيءٍ منها اقتدى وروى السيد محمَّد بن إبراهيم في تنقيحه عن ابن كثير الشافعي تضعيفه وقال رواه عبد الرحيم بن زيد العمي عن أبيه كذبه ابن معين والبزَّار ونفى السعدي والجوزجاني عنه الثقة وضعفه أبو داود وضعف أباه وقال البخاري وأبو حاتم متروك ووهاه أبو زرعة وقال ابن حجر في تلخيصه رواه عبد ابن حميد من طريق حمزة النصيبيني عن نافع عن ابن عمر قال وحمزة ضعيف وقال الذهبي قال فيه ابن معين لا يساوي فلساً وقال البخاري منكر الحديث وقال الدار قطني متروك وقال ابن عدي عامة مروياته موضوعة وروى أيضاً من طريق جميل بن زيد عن مالك عن جعفر بن محمد قال ابن حجر وجميل لا يعرف قال ولا أصل له في حديث مالك ولا من فوقه.
وأمَّا حديث اقتدوا فضعفه الذهبي.

(1/262)


وأمَّا حديث عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي فرواه أبو داود وضعفه ابن القطان وإن سلِّم فالخطاب للمقلدين لأنه خطاب للصحابة وليس بحُجَّة عليهم اتفاقا كما سبق وحينئذٍ (المراد به) أي بما ذكر من الأحاديث المفروض صحتها (المقلدون) أي الذين يجوز تقليدهم لا الاتباع في المذهب وإلا كان تقليد بعضهم بعضاً واجباً وهو خلاف الإجماع أمَّا علي عليه السلام فقد قامت الدلالة على حُجيَّة قوله كما تقدم ومتى ذكر الصحابي حكماً فإن لم يكن للاجتهاد فيه مسرح حمل على التوقيف من النبي كأن يقول من فعل كذا فله كذا ثواباً أو عقاباً فهذا لا يدرك بالاجتهاد بل طريقه النصوص السمعية كما روي عن عائشة في مسئلة العينة أنها قالت أخبر زيد بن أرقم أنه أبطل جهاده مع رسول الله ببدر وحنين (1)وكما روي عن ابن مسعود أنه قال ذو اللسانين في
__________
(1) ـ في أصول الأحكام ما لفظه : روى أن امرأة قالت لعائشة : إنِّي بعثت من زيد بن أرقم خادماً بثمان مائة درهم إلى العطاء ثم اشتريته بستمائة فقالت : بئس ما اشتريتِ أبلغي زيد بن أرقم أن الله قد أبطل جهاده مع رسول الله إن لم يتب فقالت : أرأيت إن لم آخذ إلا رأس المال ؟ فقالت عائشة :?فمن جاءه موعظه من ربِّه فانتهى فله ما سلف? إهـ وهذه المسئلة هي المشهور بمسئلة العينة وهي ما يوصل به إلى قرض ونسأ مع زيادة والله أعلم تمت منه . وفي سنن البيهقي الكبرى ج: 5 ص: 330 10580 أخبرنا أبو حازم الحافظ أنا أبو الفضل بن خميرويه ثنا أحمد بن نجدة ثنا سعيد بن منصور ثنا أبو الأحوص عن أبي إسحاق عن العالية قالت ثم كنت قاعدة ثم عائشة رضي الله عنها فأتتها أم محبة فقالت لها يا أم المؤمنين أكنت تعرفين زيد بن أرقم قالت نعم قالت فإني بعته جارية إلى عطائه بثمانمائة نسيئة وإنه أراد بيعها فاشتريتها منه بستمائة نقدا فقالت لها بئس ما اشتريت وبئس ما اشترى أبلغي زيدا أنه قد أبطل جهاده مع رسول الله ( ) إن لم يتب

(1/263)


الدنيا له لسانان من نار يوم القيامة أخرجه ابن عساكر . وإن كان للاجتهاد فيه مسرح فإنه يجوز أنه قاله لنص سمعه وأن يكون قاله باجتهاده أو اجتهاد من قلده . قلت وينبغي أن يجري هذا التفصيل في رواية غير الصحابي إذ الحكم واحد والله أعلم
خاتمة للأدلة الشرعية
الحسن والقبح من مهمات أصول الفقه لأن من معظم أبوابه باب الأمر والنهي وهو يقتضي حسن المأمور به وقبح المنهي عنه فلا بد من البحث عن ذلك ثم يتفرع عليه كونها من مهمات علم الفقه لئلا يثبت بالأمر ما ليس بحسن وبالنهي ما ليس بقبيح ومن مهمات علم الكلام من جهة البحث عن أفعال الباري تعالى هل تتصف بالحسن ؟ وهل تدخل القبائح تحت إرادته ؟ تعالى عن ذلك وهل تكون بخلقه ومشيئته تعالى عن ذلك
و(إذا عدم الدليل الشرعي) في الحادثة من الكتاب والسنة والإجماع والقياس وأنواع الاستدلال ونحوه عند من أثبتها دليلاً فإن عدم بأن لا يطلع عليه بعد البحث عنه في مظانه فرضاً (عمل) حينئذٍ (بدليل العقل) فإنه حاكم يحسن الشيء أو يقبحه إمَّا باعتبار كونه صفة كمال أو نقص كالعلم والجهل وباعتبار استلذاذه به ونفرته عنه كالمطعوم الحلو أو المر فبلا نزاع إنما النزاع في حكمه بحسنه أوقبحه كذلك مع حكمه باستحقاق فاعله الثواب أو العقاب أجلا في الشرع فعند الأشاعرة لا حكم للعقل فيه وعند غيرهم له فيه حكم فما قضى برجحان فعله فمع الذم بتركه واجب كشكر المنعم وإلا فمندوب كابتداء السلام وما قضى برجحان تركه فمع الذم بفعله حرام كالظلم وإلا فمكروه كمكافأة المسيء وما لم يقض فيه بشيءٍ من ذلك ففيه ثلاثة مذاهب للمعتزلة
(والمختار أن كل ما ينتفع )بالتصرف( من غير ضرر عاجل ولا آجل) على أحد كالتمشي في البراري والتظلل تحت أشجارها والشرب من أنهارها (فحكمه الإباحة عقلاً) حتى يرد حاظر شرعي (وقيل) بل حكمه (الحظر) لأن ذلك تصرف في ملك الله بغير إذنه لأنه المفروض فيقبح ولا يبيحه إلا الشرع

(1/264)


قلنا لا نسلِّم قبح التصرف في ملك الغير مطلقاً وإنما يقبح لو ضر المالك لكنه فيما نحن فيه منزه عن الضرر (وبعضهم توقف) عن القول بأن إدراكه حاظر أو مبيح
(لنا) على المذهب المختار أن ذلك نفع لم يشبه مضرَّة و(أنَّا نعلم) قطعاً (حسن ما ذلك حاله) من الانتفاع (كعلمنا بحسن الإنصاف) والإحسان (وقبح الظلم) فإن الناس طراً يجزمون بقبح الظلم والكذب الضار ويذمون عليه وليس ذلك بالشرع إذ يقول به المتشرع وغيره من منكري الشرائع ويعترف به قطعاً ولا بالعرف لاختلافه باختلاف الأُمم وهذا لا يختلف بل الأمم قاطبة متفقون عليه واختلاف الأبدان والأديان والأخلاق والأقطار والأزمان يمنع تجويز عرف عام يكون مبتدءاً لذلك الجزم المشترك عادة وهكذا العدل والإنصاف والصدق النافع فإن الناس طراً يجزمون بحسنها واستحقاق المدح عليها كل ذلك يدركه العقل بديهة والمنع مكابرة صريحة عند الإنصاف(1)
وأمَّا الأشاعرة فيقولون لا حكم قبل الشرع وقد روى الباقلاني عن بعض الأشاعرة مثل هذه الأقوال الثلاثة ووهمه صاحب الجمع والمحلي تأمل (والله أعلم) من كل أحد فهو المحيط بكل شيءٍ علمه وهو العليم وكل خير حكمه
[وبتمام هذا الكلام تم ولله الحمد الجزء الأول
ويليه الجزء الثاني وأوله الباب الثالث في المنطوق والمفهوم ]

الجزء الثاني

[(الباب الثالث)]
ولَمّا فرغ من الدليل وأنواعه أخذ يبيِّن ما يتعلق به من ذاتي أو عرضي [*] فقال:
__________
(1) ـ قال بعض المحققين ما معناه : ولا ثمرة للخلاف بعد الشرع لنصه على حكم كل ما يمكن القول فيه بحكم العقل وأمَّا القول بأن ثمراته هل يجزي الفاعل جزآء واجبين عقلي وشرعي أو واجب فقط أو أنه إذا حلف أن لا حكم للعقل هل يحنث أو لا ؟ فالأول فضول والثاني مبني على العرف لا الحقيقة إهـ وفيه أن ثمرة الخلاف فيمن نشأ في بادية أو جزيرة هل يخاطب بالعقلية أو لا تمت منه

(1/265)


(الباب الثالث )من أبواب الكتاب (في) ما يفهمه السامع من الخطاب سواءً كان مفهوماً بالمعنى المصطلح أو منطوقاً فهو ينقسم إلى :
(المنطوق والمفهوم) أمَّا (المنطوق) فهو (ما) أي معنى أو حكم (دل عليه اللفظ في محل النطق) بأن يكون حكماً للفظ وحالاً من أحواله, كتحريم التأفيف مثلاً فإنه معنى أو حكم دل عليه لفظ ?لا تقل لهما أف?[الإسراء آية 23] في محل النطق وهو ذلك اللفظ .لكنه يستلزم أنه أقام الظاهر مقام المضمر فإن النطق عبارة عن المنطوق الذي هو المعنى أو الحكم, ويستلزم أيضاً ذكر المحدود في الحد.
ولو جعلت ما عبارة عن لفظ ـ لشهادة قوله فإن أفاد معنى ـ لزم أيضاً اتحاد الدال والمدلول(1) والظرف والمظروف .وجعلها مصدرية يأباه ضمير عليه إذ لا يكون لغير اسم
ولو جُعِلَ(2)للحكم أو المعنى المدلول عليه التزاماً وفي محل النطق صفة أو حالاً له أو للدلالة ـ ويرد عليه نحو: الفاعلية, والمنع ,والصرف, من أحكام النحو. وذلك لا يخفى على اللبيب ـ فأولى منه ما ذكره بعض المحققين أن المنطوق ما أفاده اللفظ من أحوال(3) مذكورة.
فما أفاد اللفظ يشاركه فيه المفهوم؛ لأنه مستفاد من اللفظ قطعاً, وبيانه بقوله من أحوال مذكورة لإخراج المفهوم لأن إفادة اللفظ فيه لأحوال غير مذكورة
__________
(1) ـ الدال وهو (ما) والمدلول وهو اللفظ .
(2) ـ أي الضمير .
(3) ـ والمراد بالأحوال الأحكام الشرعية التكليفية والوضعية والإيجاب والسلب والمقدمات العقلية والعادية وغيرها .

(1/266)


(فإن أفاد) اللفظ بنفسه أو بقرينة (معنى) يحتمل أن يريد معنى واحداً فيكون ما دل على معنيين فصاعداً على جهة التساوي مجملاً ,ويحتمل ـ وهو الأظهر بقرينة قوله بعد : قيل ومنه العام حيث أتى بصيغة التمريض ـ أن يريد بالمعنى ما يُعنى باللفظ ويفهم منه متحداً كان أو متعدداً متساوياً في الدلالة غير متنافٍ وكان ( لا يحتمل غيره) أي غير المعنى المذكور أي احتمالا مرجوحاً (فنص) جلي أي: فهو المسمى بالنص الجلي هذا معناه اصطلاحاً فهو مقابل الظاهر.
وقد يطلق في مقابلة الإجماع والقياس :فهو الدليل من الكتاب والسنة سواءً كان ظاهراً أو نصاً بالمعنى الأول ومنه ما تقدم في القياس من اشتراط ألا يكون حكم الفرع منصوصاً وتقسيم مسالك العلة إلى الإجماع ,والنص, والاستنباط ,
وقد يطلق في كتب الفروع على ما يقابل التخريج فيراد به: صاحب المذهب أعم من أن يكون نصاً لا احتمال فيه أو ظاهراً .
وأمَّا في اللغة: فهو الرفع ومنه نص الحديث إذا رفعه إلى قائله (ودلالته) أي دلالة(1)ذلك اللفظ على المقصود (قطعية) ضرورية (وإلا) يفد ذلك كذلك بل أفاد راجحاً أومرجوحاً .فإن حمل اللفظ على المعنى المرجوح بما يصيره من القرائن العقلية والنقلية راجحاً عند الناظرـ سواءً كانت مرجحة له في نفس الأمر كما في التأويل الصحيح أو غير مرجحة كما في الفاسد ـ فمؤول وسيأتي إن شاء الله تعالى. وإلا يحمل على المرجوح كذلك بل حمل على الراجح (فظاهر) أي: فهو المسمى في الاصطلاح بالظاهر وسيأتي تحقيقه
__________
(1) ـ من الفرق بين دلالة اللفظ والدلالة باللفظ أن محل دلالة اللفظ القلب ومحل الدلالة به اللسان وقصبة الرئة وأن دلالة اللفظ صفة السامع والدلالة به صفة المتكلم وأن دلالة اللفظ مسبب والدلالة به سبب والله أعلم تمت منه

(1/267)


ثم إن دلالة الظاهر بالمعنى المصطلح :قد تكون بالوضع الأصلي كالأسد للحيوان المفترس.وبعرف الاستعمال كالغائط للخارج المستقذرة إذ غلب فيه بعد أن كان في الأصل للمكان المطمئن.
وقد يكون بعرف الشرع كالصلاة لذات الأذكار والأركان بعد أن كانت في الأصل للدعاء (ودلالته) حينئذٍ على المقصود (ظنية) للاحتمال استدلاليةٌ (قيل ومنه) أي من الظاهر (العام) الآتي حقيقته إن شاء الله تعالى.
(ثم) بعد أن عرفت التقسيم الأول للنص باعتبار النصوصية والظهور والتأويل (النص) أي مطلق الدليل من الكتاب والسنة سواءً كان قطعياً أو ظاهراً بقرينة الأمثلة فله تقسم آخر؛ لأنه (إمَّا صريح وهو ما) أي معنى (وضع له اللفظ) ودل عليه بنفسه (بخصوصه) مطابقة, أو تضمناً: كدلالة قوله فيما رواه في الأنوار للمهدي, وأبو داود ,(إذا كانت لك مائتا درهم وحال عليها الحول ففيها خمسة رداهم ) على وجوب الخمسة ,وما دونها, وبهذا يظهر لك أن دلالة العموم على أفراده كدلالة الخصوص .وكدلالة الإنسان على حيوان ناطق أو على أحدهما .
(وإمَّا غير صريح) لم يدل عليه بأحدهما (وهو ما) أي معنى (يلزم عنه) أي :عن اللفظ ويدل عليه بالالتزام كدلالة العشرة على الزوجية .
وغير الصريح ينقسم إلى دلالة اقتضاء وإيماء وإشارة؛ لأنه إما أن يقصد المتكلم ذلك اللازم أو لا (فإن قصد) أي: قصد المتكلم ذلك اللازم بإطلاق اللفظ ـ(و) هذا بحكم الاستقراء قسمان؛ لأنه إما أن يتوقف الصدق أو الصحة العقلية أو الشرعية عليه أولا فإن (توقف الصدق أو الصحة العقلية أو الشرعية عليه) أي على ذلك اللازم ـ (فدلالة الاقتضاء) أي :فهو المسمى بدلالة الاقتضاء ؛لأن الحاجة إلى صون الكلام عن الكذب والفساد العقلي أو الشرعي اقتضت ذلك المقدر[*] .

(1/268)


أما ما يتوقف عليه الصدق فهو (مثل )قوله :(رفع عن أمتي الخطأ والنسيان) وما استكرهوا عليه رواه الطبراني في معجمه الكبير عن ثوبان ,وله شاهد صحيح رواه ابن ماجة بسند جيد, وابن حبان في صحيحه ,والحاكم في مستدركه وقال إنه على شرط الشيخين .فإن ظاهره يقتضي نفيهما بالكلية عن جميع الأُمَّة لكنه يفضي إلى الكذب في كلام رسول الله للقطع بصدورهما من الأُمَّة فلا بد من إضمار حكم يمكن نفيه من الأحكام الدنيوية أو الأخروية كالعقوبة ,والذم, والقضاء, إلى غير ذلك إلا ما خصَّه دليل كإيجاب الكفارة والدية فيدل التخصيص على عدم قصد المخرَج كما سياتي إن شاء الله تعالى.
وأمَّا الصحة العقلية فنحو قوله تعالى حاكياً (واسأل القرية)[يوسف آية 82]أي :أهلها؛إذ لو لم يقدر أهل ونحوه لم يصح عقلاً .فإن العقل ـ مع قطع النظر عن كونه نبياً عليه السلام وإمكان السؤال والنطق بالجواب معجزة ـ قاضٍ بأنهم لم يريدوا نفس القرية ؛لأن سؤال الجماد غير معقول.
وأمَّا الصحة الشرعية فمثل قولك (اعتق عبدك عني على ألف) لاستدعائه تقرير الملك لأن عتقه عنك بلا تمليك لا يصح شرعاً فكأنك قلت اعتقه عني مملكاً لي على ألف, ويسمى هذا البيع الضمني لأن سؤاله متضمن الإيجاب وامتثال الأخر متضمن لقبول البيع والوكالة. ومثله أن يقول مالك العبد اعتق أنا عن كفارتك ويقول الآخر اعتق , أو نعم, فإنه إذا أعتقه كان بيعاً قائماً مقام قوله اعتق عبدك عن كفارتي. وقول مالك العبد اعتق قائم مقام القبول للبيع وللوكالة .وكذا لو قال مالك العبد أعتقت أنت عبدي عن كفارتك فقال أعتقت . ولا بد من ذكر العوض حتى يكون بيعاً وإلا كان تمليكاً بغير عوض فلا يكون له شيءٌ من أحكام البيع.

(1/269)


(وإن) قصد ذلك اللازم ولكن (لم يتوقف) الصدق أو الصحة العقلية والشرعية عليه (واقترن) ذلك اللفظ الملزوم للازمه المفروض كونه مقصوداً للمتكلم (بحكم) أي وصف (لو لم يكن) اقترانه به (لتعليله) أي :لأجل كون المقارِن علة للمقارَن (لكان) ذلك الاقتران (بعيداً) وقوعه من الشارع (فتنبيه نص وإيماء) يفهم منه التعليل ويدل عليه ـ وإن لم يصرح به ـ فيقال: نبَّه النص عليه وأومى إليه(1)(نحو) قوله : (عليك الكفارة جواباً لمن قال) وهو الأعرابي (جامعت أهلي في نهار رمضان) وقد تقدم تخريجه في القياس(2)فإن الأمر بالتكفير قد اقترن بوصف هي المجامعة في شهر رمضان الذي لو لم يكن لبيان أن العلة في الاعتاق هي تلك المجامعة لكان بعيداً وذلك ؛لأن غرض الأعرابي بذكر واقعته بيان حكمها وذكر الحكم جواب ليحصل غرضه لئلا يلزم إخلاء السؤال عن الجواب وتأخير البيان عن وقت الحاجة كما سبق .
وما روي أنه امتنع عن الدخول على قوم عندهم كلب فقيل له إنَّك تدخل على آل فلان وعندهم هرَّة ؟ فقال (إنها ليست بسبع) وفي رواية إنها ليست بنجس إنها من الطوافين عيلكم والطوافات جواب إنكار المنكر. رواه بالمعنى في أصول الأحكام, والشفاء, والأربعة, وصححه الترمذي, وابن خزيمة.ولو لم يكن ذكر الطواف ونفي السبعية و النجاسة للتعليل لزم إخلاء السؤال عن الجواب وتأخير البيان وذلك بعيد جداً .
وقوله لعمر حين سأله عن قبُلة الصائم (أرأيت لو تمضمضت بماءٍ) أتفطر قال لا ) قال : (فَمَه) رواه أبو داود, والنسائي.
__________
(1) ـ هذا ما أمكن في حل هذه العبارة وفي هذا المقام من هذا الكتاب وغيره اضطراب لا يخفى على من له ذوق على أن تطبيقها لكمالها على الخبر المذكور دونه خرط القتاد والله أعلم تمت منه .
(2) ـ قال في الجزء الأول : قوله (اعتق رقبة جواباً لمن) أي لأعرابي (قال) له هلكت وأهلكت فقال (جامعت أهلي) أو واقعت . أخرجه الستة بالمعنى

(1/270)


(وإن لم يقصد) ذلك اللازم (فدلالة إشارة) أي: فهو المسمى بدلالة الإشارة ، وأمثلتها كثيرة أشار إلى كثرتها بالكاف :
منها: ورود كلام الحكيم بمدة مضروبة لأمرين ثم يرد بعد ذلك بقدر من تلك المدة لأحدهما فإنه يدل على أن باقي المدة للأمر الآخر كقوله تعالى?وحمله وفصاله ثلاثون شهراً?[الأحقاف آية 15] مع قوله ?وفصاله في عامين?[لقمان آية 14] فإنه يعلم منهما أن أقل مدة الحمل ستة أشهر وليس مقصوداً في الآيتين بل المقصود في الأولى بيان حق الوالدة وما تقاسيه من التعب, والمشقة, في الحمل ,والفصال. وفي الثانية بيان مدة الفصال ولكن لزم منه ذلك كما ترى . روي أن أول من استنبط ذلك أمير المؤمنين عليه السلام ,وقيل: ابن عباس .
ومنها: وروده بحدوث شيءٍ(1)في وقت له اسم ثم يرد مرة أخرى بحدوثه مرة أخرى في وقت له اسم غير الاسم السابق(2)فيعلم أن المسمى بالاسم الثاني هو الأول أو بعضه. مثاله قوله تعالى ?شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن?[البقرة آية 185] مع قوله ?إنَّا أنزلناه في ليلة القدر?[القدر...] فيعلم أن ليلة القدر أحد ليالي رمضان إذ لا تكون كله روي هذا الاستنباط عن ابن مسعود والله أعلم .
__________
(1) ـ وهو القرآن في المثال.
(2) ـ وهو شهر رمضان .

(1/271)


ومنها: قوله تعالى ?فما لكم عليهن من عدة تعتدّونها?[الأحزاب آية 49] فإنها تدل على أن العدة حق للزوج فتسقط نفقتها بنشوزها فيها وقوله تعالى ?فالآن باشروهن?[البفرة 186] الآية فإنها تدل على جواز إصباح الصائم جُنباً وعدم إفساد الصوم ولم يقصد بذلك في الآيتين و(كقوله النساء ناقصات عقل ودِين) فلما (قيل) له (وما نقصان دينهن ؟ قال تمكث إحداهن شطر دهرها لا تصلي)(1) وأمَّا نقصان عقلهن فلأن شهادة المرأتين برجل (فإنه) (لم يقصد) بذلك (بيان أكثر الحيض ولا أقل الطهر ولكن المبالغة) في نقصان دينهن التي قصدها (تقتضي ذلك) أي كون أكثر الحيض نصف عمر المرأة وأقل الطهر كذلك, إذ لو كان زمن أيهما أقل أو أكثر لذكره, فاللفظ لا يدل على ذلك
__________
(1) ـ كذا رواية المصنف وغيره من سائر الأصوليين وفي تيسير الديبع ما لفظه عن ابن عمر قال قال رسول الله ما رأيت من ناقصات عقل ودِين أغلب لذي لب من إحداكن . قالت امرأة منهن جزلة وما نقصان العقل والدِّين ؟ قال أمَّا نقصان العقل فإن شهادة امرأتين بشهادة رجل وأمَّا نقصان الدِّين فإن أحداكن تفطر رمضان وتقيم أياماً لا تصلي أخرجه أبو داود. واللب: العقل والجزلة التامة. وقيل :ذات كلام جزل أي قوي شديد إهـ وفي نهج البلاغة ما لفظه : مَعَاشِرَ النَّاسِ إِنَّ النِّسَاءَ نَوَاقِصُ الْإِيمَانِ نَوَاقِصُ الْحُظُوظِ نَوَاقِصُ الْعُقُولِ فَأَمَّا نُقْصَانُ إِيمَانِهِنَّ فَقُعُودُهُنَّ عَنِ الصَّلَاةِ وَ الصِّيَامِ فِي أَيَّامِ حَيْضِهِنَّ وَ أَمَّا نُقْصَانُ عُقُولِهِنَّ فَشَهَادَةُ امْرَأَتَيْنِ كَشَهَادَةِ الرَّجُلِ الْوَاحِدِ وَ أَمَّا نُقْصَانُ حُظُوظِهِنَّ فَمَوَارِيثُهُنَّ عَلَى الْأَنْصَافِ مِنْ مَوَارِيثِ الرِّجَالِ فَاتَّقُوا شِرَارَ النِّسَاءِ وَ كُونُوا مِنْ خِيَارِهِنَّ عَلَى حَذَرٍ وَ لَا تُطِيعُوهُنَّ فِي الْمَعْرُوفِ حَتَّى لَا يَطْمَعْنَ فِي الْمُنْكَرِ إهـ تمت منه

(1/272)


بصريحه, ولا باقتضائه, ولا بإيمائه, وإنما يشير إليه إشارة فقط كما تبيَّن . قلت :وفي الشرحين(1)والعضد فيكون أكثره خمسة عشر يوماً وأقل الطهر كذلك
وفيه أنه لا دلالة في الخبر على ما ذكروه وإنما يدل على أن مدة تركها للصلاة مثل مدة فعلها, واستواء المدتين من دون إفادة خمسة عشر يوما بعينها فيحتمل ذلك.
ويحتمل ما ذهب إليه الأصحاب أن أكثر الحيض عشر وأقل الطهر عشر على أن الشطر يطلق على الجزء مطلقاً (2) قال تعالى : ? فول وجهك شطر المسجد الحرام ? [البقرة آية150,149,144] فتفسير الشطر بالنصف منه تسامح والنساء [اسم ]جمع المرأة نص عليه الرضي.
و في المجموع لا يطلق إلا على من جاوز حد البلوغ كما أن الرجل كذلك .
ثم القول بأن دلالة الإشارة غير مقصودة محل تأمل سيما في خطاب الباري تعالى. فالأولى إذاً أن يقال أن سوق الكلام أولا وبالذات لغيرها وإن كانت مرادة ثانياً وبالعرض والله أعلم .
والفرق بين غير الصريح من المنطوق وبين المفهوم: أن غير الصريح من الأحوال المدلول عليها بالاقتضاء, والإيماء ,والإشارة, أحوال للمذكور ولكنها غير مذكورة في العبارة وإنما هي مدلول عليها بالالتزام فخرجت عن المنطوق الصريح إلى غير الصريح .بخلاف المفهوم فليس حالاً للمذكور كتحريم الضرب مثلاً وإنما المذكور التأفيف. وكعدم وجوب الزكاة في المعلوفة فإنه حال للمعلوفة وهي غير مذكورة وإنما المذكور السائمة نحو في الغنم السائمة زكاة .
__________
(1) ـ لعلهما شرح ابن حابس وشرح ابن لقمان تمت
(2) ـ وقد نبَّه على معنى ذلك الإمام المهدي عليه السلام وبعض علمائنا ولأنَّا لو فرضنا استواء حيضها وطهرها فوقت عدم الحيض أكثر باعتبار الزمن الذي قبل مجيء الحيض لأن الغالب بلوغ النساء بغيره والله أعلم تمت منه يقال وباعتبار الزمن الذي بعد اليأس أيضا تمت .

(1/273)


بيان ذلك فيما ذكرنا أن المؤاخذة, والأهل, والتمليك,والعلية, ومساواة مدة الحيض لمدة الطهر في بعض النساء, وأقل مدة الحمل, وجواز الإصباح جُنبا, أحوال غير مذكورة لمذكورات هي :الخطأ والنسيان, والقرية, والعبد, والمعلول ,وبعض النساء ,والحمل, والصائم, فلا أشباه بينهما كما يتوهم .
قلت :وأيضا فإن المفهوم الاصطلاحي منحصر في نوعين ، ولا يصدق عليه ما هية أحدهما فتأمل.
(فصل)
(والمفهوم) ما يستفاد من اللفظ باعتبار أنه يفهم منه, وباعتبار أنه قصد منه يسمى معنى, وباعتبار أنه دال عليه يسمى مدلولاً ,وباعتبار أنه وضع له اسمٌ مسمى
وحقيقته بخلاف المنطوق فهو :(ما دل عليه اللفظ لا في محل النطق) أو ما أفاده اللفظ من أحوال لأمر غير مذكور. (وهو نوعان)؛ لأن حكم غير المذكور إمَّا موافق لحكم المذكور نفياً وإثباتاً أو لا .
(الأول متفق عليه) في كونه دليلاً شرعياً وإنما اختلفوا في وجة الدلالة على الحكم في المسكوت عنه. فقيل: إن ذلك من جهة القياس لتوقفه على معرفة الجامع وهو المسمى بالقياس الجلي واختاره صاحب الفصول ونسبه إلى الجمهور وسواءٌ فيه الأولى والمساوي.
وقال ابن الحاجب ومن وافقه إن الأولى من باب المفهوم والمساوي من باب القياس والمشهور أنهما من باب المفهوم لا القياس ونقله الرافعي وغيره عن الأكثر.

(1/274)


فمستند الحكم في المسكوت هو فحوى الدلالة اللفظية لا الدلالة القياسية؛ للقطع بأن العرب إنما يريدون بمثل هذه العبارة المبالغة في تأكيد الحكم في موضع السكوت حتى كأنها موضوعة بالوضع النوعي للمبالغة المذكورة ولذلك كانت أوضح من التصريح بحكم غير المذكور ألا ترى أنه إذا قال قائل لا تعطه مثقال ذرة كان أبلع في فهم المنع ممَّا فوق المثقال من التصريح به قطعاً وليس ذلك من القياس الذي جعله الشارع حُجَّة لأنه يعرفه كل من يعرف اللغة من غير افتقار إلى نظر واجتهاد بخلاف القياس الشرعي قال الجويني في البرهان والخلاف لفظي وقال غيره أنه معنوي لأن من فوائده أنَّا إذا قلنا ليس قياساً جاز النسخ به وإلا فلا عند من نفى النسخ به على الإطلاق.
(و) لموافقته لحكم المذكور كذلك(1)(يسمى بمفهوم الموافقة وهو أن يكون السكوت عنه موافقاً للمنطوق به في الحكم) ثم هذا نوعان لأنه إمَّا أن يكون الحكم في غير المذكور أولى منه في المذكور أو لا (فإن كان فيه) أي في المسكوت عنه (معنى الأولى) بأن كان ثبوت الحكم فيه أولى من ثبوته في المنطوق (فهو) المسمى في الاصطلاح (فحوى الخطاب نحو) قوله تعالى? إمَّا يبلغنَّ عندك الكبر أحدهما أو كلاهما فلا تقل لهما أفٍ?[ الإسراء23] فإنه) أي هذا الكلام أو تحريم التأفيف المنطوق به (يدل على تحريم الضرب) المفهوم منه (بطريق الأولى) إذ هو أشد مناسبة من تحريمه إذ الأذية فيه أبلغ والمراد المنع منها وهما متفقان في الحكم وهو التحريم .
__________
(1) ـ لعله يريد إثباتا ونفيا تمت .

(1/275)


وكالجزاء بأكثر من مثقال ذرة فإنه أولى وأشد مناسبة للجزاء منه بمثقالها المذكور في قوله تعالى ?فمن يعمل مثقال ذرةٍ خيراً يره * ومن يعمل مثقال ذرةٍ شراً يره?[ الزلزلة آية 8,7] وما دون القنطار أشد مناسبة للتأدية من القنطار المذكور في قوله تعالى ?ومن أهل الكتاب من إن تأمنه بقنطار يؤده إليك?[آل عمران آية 75] وما فوق الدينار أشد مناسبة لعدم التأدية من الدينار المذكور في قوله تعالى ?ومنهم من إن تأمنه بدينار لا يؤده إليك?[آل عمران آية 75] وما دون القنطار أشد مناسبة لعدم الأخذ منه في القنطار المذكور في قوله تعالى ?وآتيتم إحداهن قنطاراً فلا تأخذوا منه شيئاً?[النساء آية 20] والأولى أن يقال أنه كناية لإطلاق الملزوم وإرادة لازمة (وإن لم يكن فيه معنى الأولى) بأن كان مساوياً لحكم المذكور أو دونه (فهو لحن الخطاب) مثال الأول تحريم لأذى المساوي للتأفف كتقطيب الوجه ومثال الثاني (نحو قوله تعالى ? إِن يَكُن مِّنكُمْ عِشرُونَ صبرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَينِ ? [الأنفال آية65] فإنه يدل) بمفهومه (على وجوب ثبات الواحد لعشرة) إذ يعلم من حال ثبات العشرين للمأتين المنطوق به حال ثبات الواحد للعشرة المفهوم منه مع الاتفاق في الحكم وهو وجوب الثبات فيهما لكن تلك الدلالة (لا بطريق الأولى) إذ ليس أشد مناسبة في المسكوت عنه منه في المذكور بل هو في حق العشرين أشد ؛لحصول التظافر.
والفحوى ـ ممدوداً ومقصوراً ـ واللحن معناهما لغة :معنى الخطاب ذكره الجوهري ولذا أطلق بعضهم كلاً من الاسمين على كل من القسمين ومنهم من يسمى الأول بهما دون الثاني ولا مشاحة في الاصطلاح. والخطاب توجيه الكلام نحو السامع للإفهام .

(1/276)


ثم مفهوم الموافقة قد يكون قطعياً [*]كالأمثلة المذكورة وقد يكون ظنياً [*] كقول الشافعي إذا كان قتل الخطأ يوجب الكفارة فالعمد أولى وإذا كان اليمين المعقودة توجب الكفارة فالغموس أولى (1)وإنما كان ظنياً لتجويز ألا يكون المعنى في قتل الخطأ واليمين غير الغموس :الزجر الذي هو أشد مناسبة للعمد بل التدارك والتلافي . والكفارة إنما سميت كفارة لتغطيتها للمكفر وستره. والعمد والغموس عظيمان لا يستر عقابهما ثواب الكفارة.
(و) النوع (الثاني) من نوعي المفهوم (مختلف فيه) بين العلماء فمنهم من أخذ به أجمع ومنهم من نفاه أجمع والمختار التفصيل وهو الأخذ ببعض دون بعض في الإنشاء والأخبار وأن حجيته باللغة لا بالعرف العام أو الشرع.
(ويسمى) هذا النوع من المفهوم (مفهوم المخالفة) لمخالفته المنطوق في الحكم فلذا قيل في حدِّه (وهو أن يكون المسكوت عنه مخالفاً للمنطوق في الحكم) إثباتاً ونفياً (ويسمى) أيضاً (دليل الخطاب) إمَّا لأن دلالته(2)من جنس دلالات الخطاب أو لأن الخطاب دال عليه . وتسميتهم أيَّاه: اصطلاح ؛لقصدهم تمييزه عن غيره فلا يرد ما قيل أنهم إن أرادوا أنه يدل على الخطاب فالأمر بالعكس على أن الخطاب ضروري لا يفتقر إلى دليل وإن أريد المأخوذ من الخطاب فغير سديد أيضا إذ لا يقال دليل الأجسام :أي الدليل المأخوذ من الأجسام على الصانع وأيضاً فلا اختصاص له بالمفهوم فتأمل والله سبحانه أعلم .
[تقسيم مفهوم المخالفة ]
(وهو أقسام) كثيرة الأول منها:
[اللقب]
__________
(1) ـ وفيه أنه قال خمس من الكبائر لا كفارة فيهن وعدّ منها الغموس وقتل النفس بغير حق ذكره في التلويح تمت منه
(2) ـ قوله إما لأن دلالته إلح ـ إشارة إلى أن الإضافة إما أن يكون كما في خاتم فضة أو يكون لأدنىملابسة إما لدلالة الخطاب عليه أو لمخالفته له ومقابلته إياه والله أعلم .

(1/277)


(مفهوم اللقب) وهو نفي الحكم عمَّالم يتناوله الاسم مثل في الغنم زكاة,وزيد قائم, فإنه يدل عند مثبته على نفي الزكاة عن غير الغنم ونفي القيام عن غير زيد ومنه الاسم المشتق الذي غلبت عليه الإِسمية ومثّله الغزالي: بحديث لا تبيعوا الطعام بالطعام وكذلك الاسم المشتق الذي لم يلحظ فيه المعنى نحو في الماشية زكاة فإنه مثل قولك في الغنم زكاة (وهو أضعفها) أي مفهوم اللقب أضعف المفاهيم (والآخذ به قليل) منهم أبو بكر محمد بن جعفر الدقاق الشافعي قال الجويني إنه صار إلى مفهوم اللقب طوائف من الشافعية ونقله أبو الخطاب الحنبلي في التمهيد عن منصور بن أحمد ونسب إلى أحمد قال أبو الخطاب وبه قال مالك (1)وداود وحكى أيضاً عن ابن القصاروخويز ن منداد من المالكية وميمه مكسورة ومفتوحة .
والصحيح ما عليه الجمهور من أنه لا يعمل به؛ لأن المفهوم إنما يعتبر لتعينه فائدة لانتفاء غيره من الفوائد واللقب قد انتفى فيه المقتضى لاعتبار المفهوم لأنه لو طرح لاختل الكلام فذكره لاستقامة الكلام وهو أعظم فائدة وهذه الطريق أقوى ما يتمسك به في إبطاله وأمَّا ما يقال من أنه يلزم من نحو قولنا محمَّد رسول الله نفي رسالة غير نبينا فيلزم الكفر ففيه أن المفهوم إنما يحتج به عند عدم معارضة الدليل أمَّا إذا قام الدليل القطعي على الخلاف امتنع العمل به كغيره من أنواع الخطاب
قالوا يتبادر من قول القائل لمن يخاصمه ليس أمي بزانية فهم نسبة الزنى إلى أم خصمه ولذا يجب الحد عليه ولولا مفهوم اللقب لما تبادر ذلك .
__________
(1) ـ ذكر المازري أنه أخذ لمالك من استدلاله على عدم اجزاء الضحية إذا ذبحت ليلاً بقوله تعالى ?ويذكر اسم الله في أيام معدودات?[البقرة آية 203] قال فذكر الأيام ولم يذكر الليالي تمت منه

(1/278)


وأجيب بأن ذلك مفهوم من القرائن الحالية :وهي الخصام وقصد الإيذاء والتقبيح وكل ما يورد في مقام الخصام مراد به ذلك غالباً فلا يكون من المفهوم الذي يكون اللفظ ظاهراً فيه لغة . قلت ويلزم أيضاً نسبة الزنا إلى جميع من عدى أم المتكلم ولا قائل به
[الصفة]
(و) الثاني (مفهوم الصفة) والمراد بها هنا ما يشعر بمعنى في الموصوف مما ليس بشرط ولا استثناء ولا عدد ولا غاية فيدخل فيها النعت والحال والظرف مفرداً كانت أو غيره كقوله تعالى ?واللآتي يأتين الفاحشة من نسائكم فاستشهدوا عليهن أربعة منكم?[النساءآية15] فأنه يفهم منه أن النساء إذا كنَّ مؤمنات اشترط في الشهود أن يكونوا مؤمنين ، وإلا فلا وقوله تعالى : ?الذين يظاهرون منكم?[المجادلةآية 2] فإنه يدل على أن ظهار الكافر لا يصح وقوله تعالى ?فلا ترجعوهن إلى الكفار?[الممتحنة آية 10] فإنه يفهم أنهنَّ يرجعن إلى من آمن من أزواجهن .وكقوله : ( في كل إبل سائمة من كل أربعين ابنة لبون) (1)
وفي كتاب أبي بكر لأنس بن مالك حين وجهه إلى البحرين حكاية عن فرض رسول الله وفي صدقة الغنم في سائمتها إذا كانت أربعين ففيها شاه (2)
__________
(1) ـ أخرجه النسائي في سننه الكبرى و ابن خزيمة في صحيحه و أبو داود في سننه و ابن حنبل في مسنده والحاكم في مستدركه و الطحاوي في شرح معاني الآثار و الطبراني في معجمه الكبيرو النسائي في سننه الكبرى و البيهقي في سننه الكبرى و ابن الجارود في المنتقى و الدارمي في سننه
(2) ـ أخرجه البخاري في صحيحه و النسائي في سننه و ابن حبان في صحيحه و ابن خزيمة في صحيحه و ابن ماجه في سننه و أبو داود في سننه و ابن حنبل في مسنده و الطبراني في معجمه الكبير و النسائي في سننه الكبرى و الدارقطني في سننه و البيهقي في سننه الكبرى و أبو يعلى في مسنده و ابن الجعد في مسنده والشافعي في مسنده و عبد الرزاق في مصنفه

(1/279)


والسائمة صفة تدل على نفي الزكاة في المعلوفة (وهو) أي مفهوم الصفة (أقوى) مما قبله (والآخذ به أكثر) من الآخذ بمفهوم اللقب لأن من أخذ بمفهوم اللقب أخذ به من دون عكس وهو أكثر أصحابنا والشافعي ومالك وأحمد وأبو عبيدة معمر بن المثنى (1) والجويني (2) وأبو عبيد القاسم بن سلام (3) والمزني (4) والأصطخري (5)
__________
(1) ـ أبو عبيدة معمر بن المثنى التيمي ، البصري ، اللغوي ، ولد سنة 110 ه‍ ، له عدة تصانيف ، وحدث عن هشام بن عروة ، وأبي عمرو بن العلاء وطائفة ، وحدث عنه علي بن المغيرة ، وأبو عثمان المازني ، وأبو حاتم السجستاني ، مات سنة 210 ه‍ . انظر : وفيات الاعيان 5 : 235 / 731 ، العبر 1 : 359 ، تاريخ بغداد 13 : 252 / 7210 ، سير أعلام النبلاء 9 : 445 / 1500
(2) ـ الجويني هو : إمام الحرمين عبد الملك بن محمد بن عبد الله الجويني من كبار متكلمي الأشعرية ، وهو أستاذ الغزالي توفي (478هـ)طبقات الشافعية 3/249
(3) ـ أبوعبيد القاسم بن سلام - بتشديد اللام - البغدادي ، فقيه ، نحوي ولد بهرات ومات بمكة سنة ( 224 ه‍ ) . لاحظ طبقات الفقهاء ص 102 وتهذيب التهذيب : 8 / 283
(4) ـ المزني هو : أبو إبراهيم إسماعيل بن يحيى بن إسماعيل بن عمرو بن إسحاق المزني من أجل أصحاب الشافعي ، قال عنه الشافعي : المزني ناصر مذهبي ن مات بمصر سنة أربع وستين ومائتين . طبقات الفقهاء 1/109. كان من تلامذته الطحاوي صاحب شر ح معاني الآثار
(5) ـ الاصطخري هو : الحسن بن أحمد بن يزيد أبو سعيد الاصطخري ،أحد أئمة الشافعية ، كان زاهدا ناسكا عابدا ، ولي القضاء بقم ، ثم حسبة بغداد ، فكان يدور بها ويصلي على بغلته ، وهو دائر بين الازقة ، وكان متقللا جدا . وقد ذكرنا ترجمته في طبقات الشافعية ، وله كتاب القضاء لم يصنف مثله في بابه ، توفي وقد قارب التسعين وقال ابن خلكان في ترجمته 2 / 74 : كانت ولادته سنة 244 ه‍ وتوفي 12 جمادى الآخرة سنة 328 فعلى هذا يكون له عندما مات 84 سنة

(1/280)


والمروزي ، وابن خيران وأبو ثور ، والصيرفي ، والأشعري ، إذ لو لم يكن التعليق بالصفة دالاً على نفي الحكم عمَّا عداها لما فهم منه أهل اللغة ذلك والتالي باطل فالمقدم مثله
أما الأولى فلأن أبا عبيدة معمر بن المثنى وتلميذه أبا عبيد القاسم بن سلاَّم وهما من أئمة اللغة قالا في قوله :(ليّ الواجد يحل عرضه وعقوبته) (1) رواه أحمد وأبو داود والنسائي وابن ماجة والحاكم من حديث وبر بن أبي دليلة عن محمَّد بن ميمون بن مسيكة : إنه يدل على أن لي غير الواجد لا يحل عرضه وعقوبته
__________
(1) ـ أخرجه أبو داود في سننه والنسائي في سننه و ابن حبان في صحيحه و ابن ماجه في سننه و ابن حنبل في مسنده و الحاكم في مستدركه و الطبراني في معجمه الكبير و النسائي في سننه الكبرى و البيهقي في سننه الكبرى و عبد الرزاق في مصنفه و الطبراني في معجمه الأوسط

(1/281)


وقالا في قوله : (لأن يمتلي جوف أحدكم قيحاً خير له من أن يمتلي شعراً ) رواه مسلم عن سعد بن أبي وقاص والبخاري عن ابن عمر وأبو داود بإسناد على شرطهما عن أبي هريرة لما قيل أن المراد بالشعر هنا الهجاء مطلقاً أو هجاء الرسول خاصة :لو كان كذلك لم يكن لذكر الامتلاء معنى لأن قليله وكثيره سواء فجعلا الامتلاء من الشعر في قوة الشعر الكثير فهما منه أن غير الكثير ليس كذلك فألزما من تقدير الصفة المفهوم فكيف لو صرح بها ؟ !قال أبو علي اللؤلؤي بلغني عن أبي عبيد أنه قال : وجهه أن يمتلي قلبه حتى يشغله عن القرآن وذكر الله تعالى فإن كان القرآن وذكر الله تعالى هو الغالب فليس جوف هذا عندنا مملوءاً من الشعر (1)والله أعلم .
[الشرط]
(و) الثالث (مفهوم الشرط) والشرط لغة العلامة ومنه ?فَقَدْ جَاءَ أَشْرَاطُهَا?[ محمد(18)] واصطلاحاً ما استلزم عدمه عدم غيره وهو عقلي وشرعي ولغوي كالحياة للعلم والطهارة للصلاة وما يلي نحو :إن وهو المراد هنا فهو ما علق من الحكم على شيءٍ بأداة شرط نحو أكرم زيداً إن دخل الدار فمفهومه عدم الإكرام إن عدم الدخول.
(وهو) أي مفهوم الشرط (فوقهما) أي المفهومين الأولين من القوة (والآخذ به أكثر) من الأخذ بهما لذلك فإن الأخذ به هو الأخذ بهما وبعض من منعهما لأن إذا ثبت كونه شرطاً فإنه يلزم من انتفائه انتفاء المشروط لأن ذلك معنى الشرط .
[الغاية]
__________
(1) ـ وفي الصحيحين عن ابن مسعود قال قال رسول الله من مات يشرك بالله شيئاً دخل النار وقلت من مات لا يشرك بالله شيئاً دخل الجَنَّة وهذا مصير منه إلى القول بالمفهوم لأن الجملة حالية فتدل على نفي الحكم عمَّا هو صفة له في اللفظ لا عن كل ما يتصف به في المعنى مثلاً الخبر المتقدم يدل على نفي وجوب الزكوة في معلوفة الغنم دون معلوفة سائر الأنعام إلا بالقياس تمت منه

(1/282)


(و) الرابع (مفهوم الغاية ) وهو ما يستفاد من تقييد الحكم بأداة غاية :كإلى وحتى كقوله تعالى ?ثم أتموا الصيام إلى الليل ?[البقرة(187)]فمفهومه ارتفاع الحكم بالليل وقوله تعالى ?حتى تنكح زوجاً غيره?[البقرة آية 230] مفهومه أنها إذا أنكحت زوجاً غيره حلت له (وهو أقوى منها) أي من الثلاثة المتقدمة فإن من أخذ بها أخذ به بلا عكس حتى قال بعض العلماء إن دلالته انتفاء حكم ما قبلها عمَّا بعدها من قبيل المنطوق.
والحُجَّة على إثباته أن معنى قول القائل صوموا إلى الليل أن طرف المغيَّ وهو وجوب الصوم طرف النهار وهو آخر جزء منه فتقدير الوجوب بعده خلاف المنطوق لاقتضاء التقدير كون آخر جزء من النهار ليس طرفا للمغيَّ بعد أن كان معنى المنطوق كونه طرفاً .
[ العدد]
(و) الخامس (مفهوم العدد) وهو ما يستفاد من تعليق الحكم بعدد مخصوص كقوله تعالى ?فاجلدوهم ثمانين جلدة?[النور آية 4] أي لا أكثر من ذلك .
وقوله :(في أربعين شاة شاة ) أي لا في أقل من ذلك. وقول أبي الحسين (1) بدلالته على حكم الزائد بالأولى نحو من سرق عشرة قطع وعلى حكم الناقص كذلك كأن يحرم استعمال قلتين (2)وقعت فيهما نجاسة [على تحريم استعمال ما دونها ]وبعدمها نحو اجلدوا الزاني مائة على جهة الإيجاب أوالإباحة يقضي بعدم اعتباره والله أعلم .
[ الحصر]
__________
(1) ـ في المنهاج قال أبو الحسين وغيره من أصحابنا إنه لا يفيد ذلك على الإطلاق ونقل عن أبي الحسين تفصيلا طويلا منه قال :وإذا أباح لنا جلد الزاني مائة أوجبه علينا فإنه لا يدل على حكم ما زاد على ذلك لأنه ليس في اللفظ ذكر الزيادة ولا يقتضيه من جهة الأولى أهـ فأفاد المصنف أن هذا الكلام يقضي بأنه لم يعتبر مفهومه في جانب المخالفة وهو كذلك كما لا يخفى والله أعلم .
(2) ـ مثّله في الفصول بإذا بلغ الماء قلتين .ونظر بأنه مفهوم شرط وأقول والله أعلم إنه يصلح بالإعتبارين تمت منه .

(1/283)


(و) السادس (مفهوم) الحصر بالنفي والاستثناء أو ما يفيدهما نحو ?إنما إلهكم الله?[طه آية 98] ? إنما الصدقات للفقراء ? [التوبة آية 60] ?ويأبى الله إلا أن يتم نوره ?[التوبة آية 32] ?فاعلم أنه لا إله إلا الله ?[محمد آية 19]?فهل يهلك إلا القوم الفاسقون? (1) [الأحقاف آية 35]
والفصل (2) بين المبتدأ والخبر المعرف بنحو أل نحو ?فالله هو الولي? [الشورى آية 9] ? قل أن هدى الله هو الهدى ?[ البقرة آية120 , الأنعام آية 71]ونحو العالم الله والكرم في العرب والأئمة من قريش وصديقي أخي مما عرف فيه المبتدأ بحيث يكون ظاهراً في العموم سواءً كان صفة أو اسم جنس [*] ومنه قوله :(تحريمها التكبير وتحليلها التسليم )ولذا احتج به أصحابنا والشافعية على التكبير.
وعكسه كذلك عند علماء المعاني مثل الله العالم ومثل تقديم المعمول كقوله تعالى ?إيَّاك نعبد وإيَّاك نستعين?[الفاتحة آية5]?وإيَّاي فارهبون?[البقرةآية40] أثبته أئمتنا عليهم السلام والجمهور لاستقراء استعمالات الفصحاء فإن أئمة العربية أجمعوا على أن الاستثناء من النفي إثبات وعلى إفادة الحصر ولذا أطبق عليه أئمة النحو والتفسير وأطبقوا على إفادة الثالث أيضاً (3) (و) لتبادر المفهوم في العدد
__________
(1) ـ إلا أن الحصر بالنفي والاستثناء يفيد النفي منطوقاً والإثبات مفهوماً والعكس في الحكم بإنما تمت منه .
(2) ـ وذكر بعض المحققين بأن صيغة الفصل بين المبتدأ وخبره المضارع أو اسم التفضيل بمن كذلك وفيه أن صيغة الفصل فيهما لا تفيد الحصر إذ المضارع واسم التفضيل الخالي عن المعرف كالنكرة فنحو زيد هو يضرب وأفضل من عمرو بمثابة هو ضارب وفاضل فتأمل والله أعلم تمت منه .
(3) ـ وهو ضمير الفصل نحو :? فالله هو الولي ?

(1/284)


وإنما (قيل هما منطوقان) لا مفهومان أما مفهوم العدد فلم أقف على القائل بأنه منطوق(1)أما مفهوم إنما فالقائل أنه منطوق أهل المعاني [*] وهو مذهب أبي حامد أحمد بن عامر بن بشر بن حامد المَروَرَّوذي بفتح الميم والواو وبينهما راء مشددة بعدها واو ساكنة وذال معجمة كذا في نسخة الشرحين وفي نسخة ومفهوم الاستثناء وإنما وقيل هما منطوقان والخلاف فيهما ظاهر كما ترى إما إنما فكما سبق وأما النفي والاستثناء فإن أبا الحسين بن القطان والشيخ أبا إسحق الشيرازي قالا إنه منطوق ورجحه القرافي في قواعده والبرماوي في شرح الفيته وهو ظاهر مذهب ابن الحاجب قال ابن أبي شريف، وهو الذي يثلج له الصدرـ إذ كيف يقال في لا إلا الله أن دلالتها على إثبات الإلهية لله تعالى بالمفهوم !!!ـ وهو الذي أطبق عليه علماء البيان ,بل قالوا أنها تفيد الإثبات نصاً .
وإنما وجب العمل بهذه المفاهيم لأنه لو لم يدل على تخصيص محل النطق بالذكر على المخالفة لم يكن لتخصيصه بالذكر فائدة والتالي باطل فالمقدم مثله أما الشرطية فلأن المفروض عدم فائدة غير التخصيص كما سيأتي وأما الاستثنائية فلأنه لا يستقيم أن يثبت تخصيص من آحاد البلغاء لغير فائدة فكلام الله ورسوله أجدر .
[شروط الأخذ بمفهوم المخالفة ]
__________
(1) ـ وقال الدواري لا أعلم خلافاً في مفهومه إلا مع من نفي المفهوم جملة وهو قول ح وفيه أن لأبي الحسين تفصيلاً قد أشرت إليه وأنه يحكى الخلاف في جمع الجوامع عن قوم تمت منه .

(1/285)


(وشرط الأخذ بمفهوم المخالفة) على أنواعه (على القول به) أي بإثباته والعمل بمقتضاه (ألاّ) يظهر فائدة للتقييد بأيها سوى التخصيص للمذكور بالحكم بأن لا (يخرّج الكلام مخرج الأغلب) المعتاد وإلا لم يؤخذ به كقوله تعالى ?فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان?[ البقرة آية 282] فمفهومه أنه لا يعمل بشهادة الرجل والمرأتين إلا مع عدم الرجال وهذا غير معمول به اتفاقاً لخروجه مخرج العادة من أنه لا يعدل إلى النساء مع إمكان الرجال وكذا وجوب الرهن المشروط بالسفر في قوله تعالى ?وإن كنتم على سفرٍ ولم تجدوا كاتباً فرهان مقبوضة?[البقرة آية /283] فإنه خرج مخرج العادة والغالب لأنه رهن درعه من أبي سحمة اليهودي في الحضر(1)وكذا فإنه كان الرجل إذا طمحت عينه إلى استظراف امرأة بهت التي تحته ورماها بفاحشة حتى يلجيها إلى الافتداء منه بما أعطاها ليصرفه إلى تزوج غيرها فنزل قوله تعالى ?وإن أردتم استبدال زوج مكان زوج?[النساء آية 20]
__________
(1) ـ لم أجد بلفظ من أبي سحمة وإنما وجدت عند أبي الشحم وإليك نص الحديث على ما أخرجه البيهقي في سننه الكبرى ج 6/ص 37/ح 10978:-وأخبرنا أبو عبد الله الحافظ وأبو سعيد بن أبي عمرو قالا ثنا أبو العباس محمد بن يعقوب ثنا الربيع بن سليمان ثنا عبد الله بن وهب أنبأ سليمان بن بلال وغيره عن جعفر بن محمد عن أبيه أن رسول الله رهن درعا له عند أبي الشحم اليهودي رجل من بني ظفر في شعير هذا منقطع وفيما قبله كفاية وأخرجه مسلم في صحيحه و البخاري في صحيحه و النسائي في سننه و ابن حبان في صحيحه
و ابن ماجه في سننه و ابن حنبل في مسنده و النسائي في سننه الكبرى و ابن راهويه في مسنده و البيهقي في سننه الكبرى وغيرهم كثير

(1/286)


(و) أن (لا) يكون جواباً (لسؤال) متقضٍ لتعليق الحكم بالخاص مطابقة لسؤاله كأن يسأل هل في الغنم السائمة زكاة ؟ فيقول في الغنم السائمة زكاة فلا يؤخذ منه أن المعلوفة لا زكاة فيها لأن الوصف إنما أتى به لمطابقة السؤال لا للتقييد .
(و) أن (لا) يكون لسبب (حادثة متجددة) كذلك كقوله تعالى ?وحلائل أبنائكم الذين من أصلابكم?[النساء آية 23] فإنه نزل حين تزوج رسول الله زينب بنت جحش الأسدية وهي بنت عمته أميمة بنت عبد المطلب حين فارقها زيد بن حارثة وقال المشركون والمنافقون في ذلك ونزل قوله تعالى ?لكيلا يكون على المؤمنين حرج في أزواج أدعيائهم?[الأحزاب آية37] وقوله تعالى ?ما كان محمَّد أبا أحد من رجالكم?[الأحزاب آية 40]فالذين من أصلابكم لإخراج المتبنى فقط وحينئذٍ فيشمل زوجة كل ولد من نسب أو رضاع مدخولة أو غير مدخولة وكقوله تعالى ?لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين?[آل عمران آية 28]فلا يفهم منه أنه يجوز موالاة الكافرين مع المؤمنين فإنها نزلت في قوم من المؤمنين والوا اليهود دون المؤمنين.
(أو) يكون لأجل (تقدير جهالة) أي تقدير المتكلم جهالة السامع لحكم المنطوق كأن يعتقد عدم وجوب الزكاة في السائمة فيقول في السائمة زكاة (أو غير ذلك) المقدم ذكره (ممَّا يقتضى تخصيص المذكور بالذكر) [*] مثل أن يكون المسكوت عنه أولى بالحكم من المنطوق أو مساوياً له فإنه قد يستغنى بظهور الأولوية والمساواة عن ذكره كقوله تعالى ?ولا تقتلوا أولادكم خشية إملاقٍ?[الإسراء آية31] لأن تحريم قتل الأولاد حال أمان الفقر أولى منه حال خوفه فيرجع حينئذٍ إلى مفهوم الموافقة.
أو [*] للتعبير كما في قوله تعالى ?ولا تكرهوا فتياتكم? [النور آية 33] بأن من ليس بأهل للعفة قد أرادها دون أهلها .
أو معهوداً فيكون بمنزلة اللقب الذي يحتاج إليه في التعريف فلا يدل على نفي الحكم عمَّا عداه كلو اشتهر رجل بالعالم فقلت جاءني العالم.

(1/287)


أو لزيادة الامتنان كقوله تعالى ?لتأكلوا منه لحماً طرياً?[النحل آية14] فلا يؤخذ منه منع القديد.
أو للتفخيم كحديث لايحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تحد على ميت الخبر فلا يؤخذ منه الحل لمن لا تؤمن بالله واليوم الآخر.
أو لخوف من ظالم (1) أو لمجرد المدح أو الذم نحو أعوذ بالله من الشيطان الرجيم ?بسم الله الرحمن الرحيم?[آية من كل سورة إلا التوبة على الأصح وبعضها من النمل ].
أو للتوضيح فإن جاءت محتملة له وللتخصيص جاء الإجمال في المفهوم كما في قوله لَمّا استعار من صفوان بن أمية أدرعاً قال أغصباً يا محمَّد أم عارية ؟:(بل عارية مضمونة)(2) يحتمل الإيضاح وأن العارية شأنها ذلك فيكون الضمان فيها حكما للعارية مطلقاً كما ذهب إليه الشافعية ,ويحتمل التخصيص :أي مشروط فيها الضمان فلا تكون العارية مضمونة حتى يكون فيها ذلك كما ذهب إليه أصحابنا والحنفية.
ومن ذلك أن يراد بالعدد التكثير كالألف والسبعين مما يستعمل في لغة العرب للمبالغة نحو جئتك ألف مرة فلم أجدك وقد ذكر غير هذه الصور لا حاجة إلى التطويل بذكرها بعد ذكر الضابط (3) والله أعلم .
__________
(1) ـ كأن يقول في سائمة الغنم زكاة ولا يذكر المعلوفة لكونه إذا ذكرها ناله مكروه من صاحبها تمت حاشية فصول .
(2) ـ أخرجه النسائي في سننه الكبرى وأخرجه أبو داود في سننه و ابن حنبل في مسنده والحاكم في مستدركه والطبراني في معجمه الكبير و النسائي في سننه الكبرى والدارقطني في سننه والبيهقي في سننه الكبرى و عبد الرزاق في مصنفه و ابن أبي شيبة في مصنفه
(3) ـ من أن شرطه ألاّ يظهر للتقيد فائدة غيره كالتهويل في ?لا تأكلوا الربا أضعافا مضاعفة ?[البقرة ]تمت منه .

(1/288)


واعلم أن مثبت مفهوم الخطاب ونافيه متفقون على أن حكم المنطوق حكم ما ينطق به وأن الحكم المنطوق به غير ثابت في المسكوت عنه وإنما اختلفوا هل كونه غير ثابت في المسكوت عنه حكم شرعي أو عقلي فالقائلون به يجعلونه حكماً شرعياً وهو ظني إن كان أصله ظنياً اتفاقاً إذ لا يزيد عليه قيل وكذا إذا كان قطعياً والله سبحانه أعلم .
( الباب الرابع)
من أبواب الكتاب (في) تعريف (الحقيقة والمجاز) وبيان أقسامهما وأحكمامهما
[الحقيقة]
(الحقيقة) في الأصل فعيل بمعنى فاعل من حق الشيء إذا ثبت أو بمعنى مفعول من حققت الشيء إذا أثبته نقل إلى الكلمة الثابتة أو المثبتة في مكانها الأصلي ، والتاء فيها للنقل من الوصفية إلى الاسمية ، ومعنى كونها للنقل كذلك أن اللفظ إذا صار بنسفه اسماً لغلبة الاستعمال بعدما كان وصفاً كانت اسميته فرعاً لوصفيته فشبه بالمؤنث ، لأن المؤنث فرع المذكر ، فنجعل التاء علامة للفرعية كما جعل علامةً في رجل علاَّمةٍ لكثرة العلم بناءً على أن كثرة الشيء فرع لتحقق أصله ، وقيل: معنى كونها للنقل كذلك أنها علامة كون لفظ الحقيقة غالباً غير محتاج إلى الموصوف
وهي في اللغة ما يلزم الرجل حفظه من أهله وأقاربه ، ومنه الراية ، قال عبيد بن الأبرص :(1)
__________
(1) ـ لعبيد بن الأبرص بن عوف بن جشم الأسدي أبو زياد من مضر. من دهاة الجاهلية وحكمائها عاصر امرىء القيس وله معه مناقضات وفد على النعمان يوم بؤسه فقتله ـ وهو ممن تعمر طويلا ـ في (600 م)وهذا البيت من قصيدة مطلعها:
يا ذا المخوفنا بقتـ * ـل أبيه إذلالا وحينا
أزعمت أنك قد قتلـ * ـت سراتنا كذبا ومينا
هلاّ على حجر بن أ *م قطام تبكي لا علينا
إنا إذا عض الثقا * ف برأس صعدتنا لوينا
نحمي حقيقتنا وبعـ * ـــض القوم يسقط بين بينا

(1/289)


نحمي حقيقتنا وبعـ ــض القوم يسقط بين بينا
وقال عامر بن الطفيل: (1)
أنا الذائد الحامي حقيقة جعفر

لقد علمت عليا معدّ بأنني

وبمعنى ذات الشيء اللازمة له من حق إذا لزم .
__________
(1) ـ هو عامر بن الطفيل بن مالك بن جعفر العامري ,أبو علي ,من بني عامر بن صعصعة .
من شعراء العرب وفتاكهم ولد ونشأبنجد .أتى المدينة المنورة كهلا يريد الغدر برسول الله فلم يجرؤ على ذلك ودعاه رسول الله للإسلام فطلب من الرسول نصف ثمار المدينة وأن يلي الأمر بعده فرده فرجع خانقا ومات في الطريق قبل الوصول إلى قومه (554 ـــ632م)
والبيت مطلع قصيدةيقول فيها :
لقد علمت علياهوازن أنني أنا * الفارس الحامي حقيقة جعفر
وقد علم المزنوق أني أكرُّه * عشية فيفٍِِِ الريح كرَّ المشهر
إذا ازورَّ من وقع الرماح زجرته * وقلت له ارجع مقبلا غير مدبر

(1/290)


وفي الاصطلاح (هي الكلمة) جنس قريب يشمل الحقيقة وغيرها وبها يخرج المهمل إذ ليس بكلمة والمعنى إذ لا يوصف بحقيقة ولا مجاز حقيقة وقد يحترز بالجنس القريب ولو قال اللفظ يشمل المركب فإنه قد يكون حقيقة لكان أنسب (1) (المستعملة)(2) احتراز عنها قبل الاستعمال كلفظ ضارب بعد أن حكم الواضع بأن كل صيغة فاعل من كذا فهو كذا فإنها لا تسمى حقيقة كما لا تسمى مجازاً لخروجها عن حدهما فيكون فائدة الوضع قبل الاستعمال جواز التجوُّز (في ما وضعت له) متعلق بالمستعملة أي في معنى وضعت تلك الكلمة له من حيث أنها وضعت له فيخرج الغلظ أي الخطأ على سبيل السهو أو على سبيل القصد بأن يزعم [المتكلم ]أنه على سبيل قانون الوضع من القوم بلا إثبات وضع من عنده نحو خذ هذا الفرس مشيراً إلى كتاب ,ويخرج المجاز لأنه وإن كان موضوعاً بالوضع النوعي فالمراد بالوضع إذا أطلق تعيين اللفظ للدلالة على معنى بنفسه سواءً كان ذلك التعيين بأن يفرد اللفظ بعينه بالتعيين أو يدرج في القاعدة الدالة على التعيين وهو المراد بالوضع المأخوذ في تعريف الحقيقة والمجاز . (في اصطلاح التخاطب) يخرج المجاز المستعمل فيما وضع له لكن في غير اصطلاح التخاطب كالصلاة مثلاً إذا استعملها الشارع في الدعاء فإنه قد استعملها فيما وضعت له لكن في اصطلاح آخر غير اصطلاحه وهو متعلق بوضعت [*]لفساد المعنى لو علق بالمستعملة لأن الاستعمال إذا عدي بكلمة في يكون ما دخل عليه في مراداً باللفظ يقال استعمل الأسد في زيد أي أريد منه زيد فلو تعلق بالمستعملة لكان الاصطلاح مراداً بالكلمة وهو فاسد ويلزم أيضاً
__________
(1) ـ ولم يخرج المهمل إلاّبالمستعمل تمت منه .
(2) ـ الفرق بين الاستعمال والوضع أن الاستعمال إطلاق اللفظ وإرادة مسماه بالحكم وهو الحقيقة أو غير مسماه لعلاقة وهو المجاز والوضع يطلق على جعل اللفظ دالاًّ على المعنى ويطلق على غلبة استعماله فيه بحيث يصير فيه أشهر من غيره والله أعلم تمت منه .

(1/291)


على ذلك التقدير أن يتعلق حرفان لمعنى واحد بشيءٍ واحد لأن قوله فيما وضعت متعلق بالمستعملة ولا يبعد أن يتعلق بالمستعملة لا على أن يكون كلمة في صلة للاستعمال كما في قولك استعمل اللفظ في المعنى الفلاني بل يكون المعنى بحسب اصطلاح التخاطب وباعتباره وهنا بحث نفيس ذكرته في إيضاح المغني.
ولفظ الحقيقة [*] والمجاز حقيقة اصطلاحية فتأمل وهذا الحد يشمل أقسامها
[أقسام الحقيقة]
(وهي) على المختار خمسة [*] :
(لغوية) منسوبة إلى اللغة [*]و واضعها الباري تعالى عند المرتضى والبغدادية والأشعري علمها بالوحي(1)أو بخلق الأصوات (2) أو علم ضروري قال تعالى ?وعلم آدم الأسماء كلها?[البقرة آية 31] فدل على أنه تعالى واضع الأسماء ومعلمها آدمَ دون البشر وكذا الأفعال والحروف إذ لا قائل بالفصل .
واللغة هي الألفاظ الموضوعة من لغيٍ بكسر العين يلغى [*] إذا لهج بالكلام وأصلها لغو ولغي والهاء عوض والجمع لغىً مثل برة وبراً
وطريق معرفتها : التواتر كالأرض والسماء والحر والبرد ممَّا يعلم وضعه لمعناه والآحاد فيما لا يعلم وضعها لمعانيها [*]لا القياس كما سبق في بابه ولا العقل مستقلاً فلا يكون وحده طريقاً إليها لأن وضع لفظ [*] لمعنى معين من الممكنات والعقل لا يستقل بمعرفتها لأنه إنما يستقل بوجوب الواجبات وجواز الجائزات واستحالة المستحيلات وأما وقوع أحد الجائزين فلا يهتدى إليه واللغات من هذا القبيل لأنها متوقفة على الوضع
__________
(1) ـ يعني بإرسال ملك إلى واحد أو جماعة من عباده يعلمهم كون الألفاظ موضوعة للمعاني تمت س
(2) ـ خلق الأصوات في جسم وإسماعها واحدا أو جماعة بحيث يحصل له ولهم العلم بأنها وضعت بإزاء معانيها .وإما بأن يخلق الله أصواتا وحروفا لألفاظ موضعة تمت س.

(1/292)


(وعرفية)منسوبة إلى العرف وهي ما وضعه أهل العرف العام سواءً كان بوضع عرفي جديد لم يسبقه معنى لغوي أو بنقل عن معناه الأصلي إلى معنى آخر وغلب عليه وهجر الأول بحيث يدل عليه بلا قرينة وعلى الأول بها سواءاً كان لمناسبة بينه وبين المعنى اللغوي فيكون منقولاً أو لا فيكون مرتجلاً كدّابه لذات الأربع بعد أن كانت لما يدب على الأرض وكالقارورة لما يستقر فيه الشيء من الزجاج بعد أن كانت لكل ما يستقر فيه الشيء من إناء أو غيره وصفة النقل في العامة أن ينقل الاسم طائفة من الطوائف ويستفيض فيها (1) ويتعدى إلى غيرها ويشيع في الكل على طول الزمن ثم ينشأ من بعدهم مقتفياً أثرهم في استعماله ذلك المعنى لبعد تواطيء (2) أهل اللغة مع سعتهم على ذلك
ووجه حسن النقل العرفي أنه قد يحصل به غرض صحيح ولو قبح لم يقبح إلا لكونه عبثاً لا غرض فيه فإذا حصل فيه غرض زال وجه القبح فحسن مثال ذلك : ما عرفناه في الغائط لما استهجنوا النطق باللفظ الموضوع له في الأصل نقلوا إليه اللفظ الموضوع على المكان الذي يوضع فيه وهو المكان الذي يوضع فيه المكان المطمئن عدولاً عن المستسمج المستهجن وغير ذلك من الأغراض وإن جهلنا الوجه في بعض الألفاظ لم نقطع بأنه لا غرض فيه
(واصطلاحية) منسوبة إلى الإصطلاح وهي ما وضعه أناس مخصوصون بأن نقلوه من معناه الأصلي إلى معنى آخر وغلب عليه بينهم كاصطلاح النحاة في جعلهم الرفع علامة الفاعل وما أشبهه بعد أن كان في الأصل للارتفاع ضد الانخفاض وكاصطلاح علماء الكلام في جعلهم الجوهر للمتحيز بعد أن كان فيه للنفيس .
فإن قيل هذا وما أشبهه ليس بنقل عن معناه الأصلي وإنما هو قصر على بعضه
__________
(1) ـ أي في الطوائف تمت
(2) ـ أي لبعد اتفاقهم على معنى في حال واحد وإنما يمكن على التدريج والله أعلم .

(1/293)


أجيب بأنه بالنظر إلى الوضع وقصره على بعضه نقل كما لا يخفى وإنما لم يكتف بالعرفية عنها لأنها أعم من أن تكون عامة أو خاصة كما فعل غيره لغلبة العرفية عند الاطلاق في العامة وتسمية الأخرى بالاصطلاحية
(وشرعية) منسوبة إلى الشرع وهي اللفظ الذي وضعه الشارع لمعنى بحيث يدل عليه بلا قرينة كما في العرفية سواء كان اللفظ والمعنى مجهولين عند أهل اللغة كأوائل السور(1) عند من يجعلها أسماء أو كانا معلومين لهم لكن لم يضعوا لها لذلك المعنى كالرحمن لله تعالى عند من جعل الدينية داخلة في الشرعية فإن كلاً منها كان معلوماً(2) ولم يضعوا اللفظ له تعالى ولذلك قالوا حين قال تعالى ?قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن?[ الإسراء آية 110 ] إنَّا لا نعرف الرحمن إلاَّ رحمان اليمامة أو كان أحدهما معلوماً والآخر مجهولاً كالصلاة والصوم (3)
ووجه حسن النقل الشرعي أنه لا يمتنع أن يكون فيه مصلحة للمكلفين كما في غيره من المصالح الشرعية ولأن الشريعة جاءت بأحكام لم تكن معروفة من قبل فاحتيج إلى تمييزها بأسماء تخصها وكما يحسن أن يوضع لها أسماء تعرف بها مرتجلة يحسن أن ينقل إليها بعض الأسماء اللغوية
[وقوع الحقيقة الشرعية]
__________
(1) ـ فإن أوائل السور ومعانيها وهي نفس السور مجهولة عندهم تمت .
(2) ـ فإن لفظة الرحمان معلوم عندهم وكذلك الله معلوم عندهم تمت .
(3) ـ فإن لفظ الصلاة والصيام معلوم عندهم ولكن معناها الشرعي غير معلوم عندهم تمت .

(1/294)


والحق عند أئمتنا عليهم السلام والجمهور(1)وقوعها لتبادر الشرع من إطلاق الصلاة والزكاة والحج والصوم فإن المتبادر من إطلاق هذه الألفاظ معانيها الشرعية التي هي الركعات بما اشتملت عليه وأداء مال ، وإمساك ، وقصد مخصوصات على أوجه مخصوصة بعد أن كانت للدعاء والنماء والإمساك والقصد المطلقين وذلك علامة الحقيقة
والشرعية قسمان :فرعية إن نقلت إلى فروع الدِّين .(ودينية) إن نقلت إلى أصول الدِّين [*]منسوبة إلى الدِّين أي أنَّا متعبدون بإجراء نحو الرحمن والإيمان والمؤمن على مسماياتها
[وقوع الحقيقة الدينية]
والحق وقوعها أيضاً لأن المؤمن لغة :المصدق قال تعالى حاكياً ?وما أنت بمؤمن لنا?[يوسف آية 17] وشرعاً : فاعل الطاعات ومجتنب المقبحات مع التصديق .
__________
(1) ـ خلافاً للباقلاني واعلم أنه لا نزاع في أن الألفاظ المتداولة على لسان أهل الشرع المستعملة في غير معانيها اللغوية قد صارت حقائق فيها وإنما النزاع في أن ذلك بوضع الشارع وتعيينه إيَّاها بحيث يدل على تلك المعاني بلا قرينة فتكون حقائق شرعية كما هو مذهبنا أو بغلبتها في تلك المعاني في لسان أهل الشرع . والشارع إنما استعملها فيها مجازاً بمعونة القرائن فتكون حقائق عرفية خاصة لا شرعية وهو مذهب الباقلاني فإذا وقعت مجردة عن القرائن في كلام أهل الكلام والفقه والأصول ومن يخاطب باصطلاحهم تحمل على المعاني الشرعية وفاقاً وأما في كلام الشارع فتحمل عليها عندنا وعلى معانيها اللغوية عند الباقلاني تمت منه .

(1/295)


والإيمان في اللغة : التصديق وفي الشرع : فعل الطاعات واجتناب المقبحات معه لقوله تعالى ?إنما المؤمنون الذي إذا ذكر الله وجلت قلوبهم وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيماناً وعلى ربِّهم يتوكلون * الذين يقيمون الصلاة وممَّا رزقناهم ينفقون أولئك هم المؤمنون حقاً لهم درجات عند ربِّهم ومغفرة ورزق كريم?[الأنفال 3,2] فدلت الآيات على ما قلناه وأن هذا الوصف مقصور عليهم لا يتعدى إلى غيرهم وهو المطلوب ولقوله تعالى : ? وَبَشِّرْ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنْ اللَّهِ فَضْلًا كَبِيرًا ? [(47)الأحزاب] ? وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْرًا عَظِيمًا ?[(146) النساء] ?وبشر الذين آمنوا أن لهم قدم صدق عند ربِّهم?[يونس آية 2] وبشر بها كل مؤمن ولو كان الإيمان التصديق لكان الفاسق مؤمناً داخلاً في هذه البشارات فتسقط عن نفسه التحفظ عن المعاصي والإجماع مانع من ذلك وقوله تعالى ?وما كان لله ليضيع إيمانكم?[البقرة آية 143] أي صلاتكم إلى بيت المقدس وذلك لأن الآية نزلت بعد تحويل القبلة دفعاً لتوهم إضاعة الصلاة التي كانت إليه وقوله تعالى ?إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله وإذا كانوا معه على أمر جامع لم يذهبوا حتى يستأذنوه? الآية [النور آية 62] ولأن المؤمن لا يخزي في الآخرة بدليل قوله تعالى ?يوم لا يخزي الله النبي والذين آمنوا معه?[التحريم آية 8 ]والفاسق يخزى لقوله تعالى في المحاربين : ?ذلك لهم خزي في الدنيا ولهم في الآخرة عذاب عظيم?[المائدة آية 33] والمعذب يخزى لقوله تعالى ?إنَّك من تُدِخل النار فقد أخزيته?[آل عمران آية 192] فثبت أن الفاسق مخزي وكل مؤمن ليس بمخزي وهو يستلزم أن الفاسق ليس بمؤمن وهو المطلوب

(1/296)


وما روي عن علي عليه السلام عن النبي أنه قال : (الإيمان معرفة بالقلب وقول باللسان وعمل بالأركان ) (1) وما رواه مسلم وأبو داود والنسائي وابن ماجة عن أبي هريرة عن النبي أنه :قال (الإيمان بضع وسبعون شعبة فأفضلها قول لا إله إلا الله وأدناها إماطة الأذى عن الطريق والحياء شعبة من الإيمان ) وقد عدها في الأربعين النبوية للنووي وعقد لها فيها فصلاً وأكثرها أعمال
وما رواه أحمد والبخاري والنسائي عن ابن عباس عنه أنه قال لايزني العبد حين يزني وهو مؤمن ولا يسرق حين يسرق وهو مؤمن ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن ولا يقتل وهو مؤمن
وما روى البخاري ومسلم وأحمد والنسائي وابن ماجة عن أبي هريرة عنه أنه قال:( لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن ولا ينتهب نهبة ذات شرف يرفع الناس فيها أبصارهم حين ينتهبها وهو مؤمن) وزاد أحمد ومسلم : (ولا يغل أحكم حين يغل وهو مؤمن فإيَّاكم إيَّاكم ).
وما رواه أحمد وابن حبان في صحيحه عن أنس عن النبي أنه قال لا إيمان لمن لا أمانة له ولا دين لمن لا عهد له ) فهذه الأدلة صريحة فيما ذكرناه .
__________
(1) ـ أخرجه الطبراني في معجمه الأوسط ج 8/ص 262/ح 8580 ، ج6/ص226/ح6254، 0

(1/297)


قال ابن حجر في مقدمة فتح الباري عن البخاري كتبت عن ألف وثمانين نفساً ليس فيهم إلا صاحب حديث وقال أيضاً لم أكتب إلا عن من قال الإيمان قول وعمل وللقوم تأويل (1) وجواب عام وهو أنه في الأعمال مجاز والمجاز أولى من النقل وما ذكروه لازم لهم لأنهم يقولون إن الإيمان في اللغة التصديق مطلقاً وفي الشرع تصديق خاص (2) وهذا منهم إقرار بأنه لم يبق على ما كان عليه في اللغة من الإطلاق
[تقسيم ثان للحقيقة]
(ثم) الحقيقة من حيث هي لها تقسيم آخر لأنها إمَّا أن تتعدد لفظاً ومعنى أو لا (إن تعددت لفظاً ومعنى) كإنسان وفرس ودابَّة ورفع وصلاة وصوم ومؤمن وكافر (فمتباينة) أي فالحقيقة حينئذٍ متباينة
__________
(1) ـ من ذلك تأويل :ليضيع إيمانكم بأن المراد التصديق بوجوب الصلاة التي توجهتم فيها إلى بيت المقدس وما يترتب على التصديق وهو الصلوات أو يكون مجازا وهو الأولى من النقل ومن ذلك تأويل قوله تعالى ? يوم لا يخزي الله النبي ?الأية بأنه مختص بالصحابة كما يدل عليه لفظة : معه , أو أنها جملة مستأنفة ومن ذلك تأويل حديث (الإيمان بضع وسبعون شعبة )الخبر بأن المراد شعب الإيمان بتقدير مضاف لا نفس الإيمان لأن إماطة الأذى ليس داخلا في أصل الإيمان حتى يكون فاقده غير مؤمن بالإجماع فلا بد من تقدير المضاف زمن ذلك تأويل لا يزني الزاني ... الخبر بأنها مبالغة على معنى أنها ليست من شأن المؤمن فكأنها تنافي الإيمان ولا تجامعه . تمت
(2) ـ وهو التصديق للرسول فيما علم مجيئه ، تفصيلا فيما علم تفصيلا وإجمالا فيما علم إجمالا . تمت .

(1/298)


(و) إن لم تتعدد كذلك فأما أن تتحد لفظاً ومعنى أو لا (إن اتحدت لفظاً ومعنى) بأن وجد المعنى المقصود بلفظ الحقيقة المستعمل هو فيه مفهوماً واحداً حتى لو جرى فيه كثرة وتعدد لكان باعتبار الذوات التي صدق عليها ذلك المفهوم كالحيوان فإنه سواءٌ أطلق على الإنسان أو الفرس أو غيرهما لا يراد به إلا الجسم النامي الحساس (1) (فمنفردة) أي فالحقيقة حينئذٍ متحدة لاتحاد لفظها ومعناها ثم إن تشخص ذلك المعنى بحيث يمنع نفس تصوره فرض الشركة فيه فجزئي كالعلم
(وإن) لم يتحد كذلك فإن (تعددت لفظاً واتحدت معنى) كقعود وجلوس للهيئة المخصوصة وبهتر وبحتر للقصير وصلهب وشوذب للطويل وغضنفر وأسد للمفترس وفرض وواجب لنحو الظهر وذكر وعائد للضمير الرابط (فمترادفة) يقع كل منها مكان الآخر إلا فيما كنَّا متعبدين بلفظه
والترادف في الأصل التتابع ومنه الردفان لليل والنهار وهو واقع عند الأكثر وفائدته التوسعة المقصودة لكثرة الذرائع في المقصود فيكون إفضاء إليه ولتيسير النظم (2)
__________
(1) ـ والمناطقة يريدون لفظ المتحرك بالإرادة ولا حاجة إليه لإغناء الحساس عنه والله أعلم تمت منه
(2) ـ كقول الحماسي ( وهو صفي الدين الحلي : عبد العزيز بن سرايا الطائي)
:كأن ربك لم يخلق لخشيته سواهم من جميع الخلق إنسانا
فلو قال بشرا لم يستقم الروي .تمت

(1/299)


والنثر (1) والتجنيس (2) إذ قد يصلح أحدهما للقافية والفاصلة دون الآخر وغير ذلك وخالف في وقوعه ثعلب وابن فارس قالا وما نظن من المترادف فإنه متباين بالنظر إلى أصل الاشتقاق وسبب الظن إطلاقهما على ذات واحدة كالحنطة والقمح فالحنطة اسم الذات والقمح صفة لها يقال قامحت الناقة إذا رفعت رأسها سمي به هذا الحب لأنه ارفع الحبوب وكالأسد والليث فإن الأسد اسم الذات والليث صفة له بمعنى كثرة الفساد يقال لاث يلوث إذا كثر الفساد وكالإنسان والبشر فإن الإنسان موضوع له باعتبار الأنس أوالنسيان والبشر باعتبار بادي البشرة وكالخمر والرَّاح لتغطية العقل والإراحة وهما من باب صفة الذات وصفة صفتها وغير ذلك [*] وهذه تكلفات بعيدة لم يقم عليها دليل ولا يمكن إجراؤها في جميع المواضع والله أعلم .
(وإن)اشترك فيها كثير ولم يمنع نفس تصور مفهومه من فرض الشركة فيها بأن(تعددت معنى واتحدت لفظاً فإن وضع اللفظ لتلك المعاني )المتعددة (باعتبار أمر) معنوي كلي (اشتركت) تلك المعاني (فيه) أي في ذلك الأمر(فمشكك)لأنه يشكك الناظر في أنه من المشترك لتفاوت أفراده في الاستحقاق أو من المتواطيء لاتفاق أفراده في أصل المعنى وذلك (إن تفاوتت )تلك المعاني في استحقاق ذلك اللفظ بأولية أو أولوية [*]بأن يكون حصول اللفظ في بعض أفراده قبل حصوله في الآخر أو أولى منه فيه عقلاً(كالموجود للقديم والمحدث) فإنه [*]حاصل في القديم قبل حصوله في المحدث , وأولى , وأتم منه (3)
__________
(1) ـ كقولك ما أبعد ما فات وما أقرب ما هو آت فلو عبر بمضى لما حصل المطلوب .تمت
(2) ـ كقولك : شريت البر وأنفقته في الٍٍِِبٍٍٍٍٍِر فلو عبر بالقمح لفات المطلوب .تمت
(3) ـ وقد يكون بالشدة والضعف كالبياض بالنسبة إلى الثلج والعاج تمت ح ع.

(1/300)


(وإن) تعددت كذلك و(لم تتفاوت) تلك المعاني كذلك بل استوت أفرادها بأن كان صدق هذا المعنى على تلك الأفراد على السويَّة كالإنسان بالنسبة إلى أفراده فإنها كلها متفقة في الإنسانية مستوية فيها غير متفاوتة وكالحج في الإفراد والقِران والتمتع (فمتواطيء) أي فهو حينئذٍ متواطيء وهو المشترك المعنوي لأن لفظاً واحداً أفاد معنى متماثلاً غير مختلف بوجه مأخوذ من المواطاة كأن أفراده تواطأت على ذلك (وحينئذٍ) أي حين إذ تعددت كذلك ولم تتفاوت بل استوت أفرادها وعرفت المتواطيء بحقيقته وهذا من أعجب الاختصار حيث قام التنوين مقام ما ترى من الجمل
(فإن اختلفت حقائق تلك المعاني) المتعددة الدال عليها اللفظ بأن كان فصل كل حقيقة غير فصل الأخرى (فهو الجنس)
[حقيقة الجنس]
وحقيقته هو المقول على كثيرين مختلفين بالحقيقة في جواب ما هو؟ فقولنا على كثيرين يخرج الجزئيات لأن الجزئي إنما يقال ويحمل على واحد ومختلفين بالحقائق يخرج النوع فإنه مقول على كثيرين متفقين بالحقائق وفي جواب ما هو يخرج الفصل والخاصة والعرض العام إذ الأولان إنما يقالان في جواب أي شيءٍ هو ؟ والثالث لا يقال في الجواب أصلاً إذ ليس ما هية لما هو عرض له حتى يقال في جواب ما هو؟ ولا مميزاً حتى يقال في جواب أي شيءٍ هو؟
وينقسم إلى :قريب (1)وهو ما كان تمام المشترك بين الماهية وبين جميع ما يشاركها فيه (كحيوان) فإن لفظه قد دل على معاني مختلفة الحقيقة كالإنسان والفرس والجمل والحمار وهو تمام المشترك بين الإنسان وبين جميع ما يشاركه في الحيوانية فيكون أيضاً تمام الماهية [*]بينه وبين بعض المشاركات فيه
__________
(1) ـ ويسمى قريبا لقربه من النوع إذ ليس بينه وبين النوع إلا الفصل لا جنس آخر . تمت

(1/301)


وإلى بعيد (1) وهو ما لم يكن تمام المشترك بين الماهية وبين جميع المشاركات فيه بل بينها وبين بعض المشاركات فيه كالجسم النامي فإنه تمام المشترك بين الانسان وبين بعض المشاركات فيه وهو الشجر مثلا واما بعض المشاركات فيه فليس تمام المشترك بين الإنسان وبين ذلك البعض كالفرس إذ تمام المشترك الجسم النامي الحساس :
والمراد بالماهية هنا ما يجاب عن السؤال بما هو؟ فلا يدخل الشخص والصنف إذ لا يصح أن يجاب بشيءٍ منهما عن السؤال بما هو؟ إذ قد تطلق ويراد بها ما به الشيء هو هو فلا تستلزم الكلية أصلاً فضلاً عن دلالتها عليها التزماً لصدقها على الجزئيات الحقيقية فلا يخرج الشخص والصنف
والأجناس تترتب متصاعدة في العموم منتهية إلى الجسم العالي وهو الذي لا جنس فوقه ويسمى جنس الأجناس لأن جنسية الشيء باعتبار العموم بعد أن يكون مقولاً في جواب ما هو؟ فما يكون أعم من الكل يكون جنساً للكل وما بين الجنس العالي كالجوهر على القول بجنسيته والجنس السافل كالحيوان أجناس متوسطة .
(وإلا) تختلف حقائق تلك المعاني بل اتحدت (فهو النوع) ويرسم بأنه مقول على كثيرين مختلفين بالعدد دون الحقيقة في جواب ما هو فقولنا مقول على كثيرين مختلفين بالعدد أي الأفراد دون الحقيقة يخرج الجنس وفصله كالحساس والعرض العام أيضاً وفي جواب ما هو؟ يخرج الفصل والخاصة (كإنسان) فأن لفظه قد دل على معان ٍ (2)متحدة الحقيقة مختلفة بالعدد والعوارض المشخصة من الطول والقصر ونحو ذلك كزيد وعمرو وبكر وخالد
__________
(1) ـ ويسمى بعيد البعدة عن النوع إذ بينه وبين النوع جنس أو جنسان أو أجناس .تمت س
(2) ـ فإنه يحمل على أفراده وهي : . نخ

(1/302)


والأنواع تترتب متنازلة في الخصوص منتهية إلى النوع السافل وهو الذي لا نوع تحته ويسمى نوع الأنواع لأن نوعية الشيء الإضافية التي لا يجري الترتيب إلا فيها باعتبار الخصوص فأخص الكل يكون نوعاً للكل وما بين النوع العالي كالجسم المطلق والنوع السافل كالإنسان [أنواع] متوسطة .
هذا اصطلاح المنطقيين أعني أن المندرج كالإنسان نوع والمندرج فيه كالحيوان جنس (وبعضهم) وهم الأصوليون (يعكس) ذلك فيجعلون المندرج جنساً والمندرج فيه نوعا ومن ها هنا يقال للاتفاق في الحقيقة تجانس وللاختلاف فيها تنوع
(وإن وضع اللفظ الواحد للمعاني المتعددة لا باعتبار أمر) معنوي (اشتركت فيه فهو المشترك اللفظي)إمَّا لغوي فقط(كعين)فإنها موضوعة (للجارحة والجارية) والذهب والشمس وعين الركبة وعين الميزان وعين القبلة يقال جاءتنا سحاب من عين القبلة فتسمية كل منها عيناً ليس باعتبار أمر معنوي اشتركت فيه إذ الوضع الأول للعين الجارحة فقط والثاني للجارية فقط ثم كذلك فلما تعدد الوضع حصل الاشتراك بخلاف لفظ الحيوان فإنه موضوع لأنواع باعتبار أمر اشتركت فيه وهو الحيوانية كما سبق إذ الواضع وضعه لكل ما يتصف بها أو شرعي فقط كالصلاة فإنها موضوعة في الشرع لذات القيام والقعود والركوع والسجود وللصلاة التي ليس فيها ذلك كصلاة الجنازة

(1/303)


والصحيح ما عليه أئمتنا عليهم السلام والجمهور من جوازه ووقوعه في الكتاب والسنة بالاستقراء كالقرء (1)للطهر والحيض والجون للسواد والبياض وقد يطلق مراداً به أحد معانيه لا على التعيين كقوله تعالى ?فليكونوا من وارئكم?[النساء آية 102 ] فإن المراد الجهة التي فيها العدو ومراداً[*] كل واحد من معنييه أو معانية بأن تتعلق النسبة بكل واحد لا بالمجموع من حيث هو مجموع بأن يقال رأيت العين ويراد [*] الباصرة والجارية وغيرهما وفي الدار الجون أي الأسود والأبيض واقرأت المرأة أي حاضت وطهرت حقيقة لا مجازاً فيحمل المشترك إذا ورد بلا قرينة على الكل من معانيه لأنه ظاهر في الكل.ولا يحمل على أحدها خاصة إلا بقرينة وهذا معنى عموم المشترك وإنما جاز ذلك لأن المعنى الموضوع له المستعمل فيه اللفظ هو كل من المعنيين لا بشرط أن يكون وحده ولا بشرط ألا يكون وحده وهذا المعنى متحقق في حال الانفراد وفي حال الاجتماع فاستعمال اللفظ المشترك في المعنى حال الإِجتماع بالآخر استعمال له في نفس الموضوع له كحال الانفراد فالموضوع له لم يقيد بالإنفراد عن شيءٍ ولا باجتماع به ولأن الرجل إذا قال لعبده كن ولياً لفلان يحمل كلامه على المودة والنصرة له وإذا قال لامرأته أنت طالق إذا رأيت لوناً فإنها تطلق إذا رأت سواداً أو بياضاً أو لوناً غيرهما قال تعالى?وحرم عليكم صيد البَّر ?[المائدة آية 96] إذ المراد مصيده واصطياده والله أعلم .
(فصل)[ في المجاز ]
__________
(1) ـ القرء بفتح القاف في اللغة الفصيحة وقد تضم . تمت س

(1/304)


(والمجاز) وزنه مفعل مصدر ميمي بمعنى الفاعل أو المفعول من جاز المكان يجوزه إذا تعداه ولذا أعل إعلاله بأن نقلت حركة حرف العلة إلى ما قبله ثم قلب ألفاً نقل إلى الكلمة الجائرة أي المتعدية مكانها الأصلي أو المجوز بها ويرجح الأول احتياج الثاني إلى الجار والمجرور وعدم احتياجها إليهما ويرجح الثاني أن ابن الحاجب ذكر في الرد على الكوفيين في كون المصدر فرعاً للفعل أن كون المصدر الميمي بمعنى الفاعل لم يثبت ويجوز أن يكون في الأصل بمعنى مكان الجواز أو زمانه لأن معفلاً يستعمل لهذه الثلاثة المعاني وعلى هذا فاستعماله في الكلمة مجاز لغوي لاستعماله في غير ما وضع له لعلاقة الجزئية إن نقل من المصدر أو المجاوزة إن نقل من اسم الزمان

(1/305)


(وهو) في الاصطلاح مفرد ومركب قبل الاستعمال لا تسمى مجازاً كما لا تسمى حقيقة (في غير ما وضعت له) احترازاً عن الحقيقة مرتجلة كانت وهي المنقولة لا لمناسبة أو منقولة وهي ما نقلت لمناسبة أو غيرهما كالمشترك وقد فُهم من قوله المستعملة في غير ما وضعت له أنه لا يشترط أن يكون قد استعمل في ما وضع له وأن المجاز لا يستلزم الحقيقة وهو مذهب الجمهور وجعلوا مثاله لفظ ?الرحمن? فإنه مجاز في الباري تعالى إذ معناه ذو الرحمة ومعناها الحقيقي لا وجود له ،لأن معناه رقة القلب(1) ولم يستعمل في غيره تعالى وأمَّا قولهم رحمان اليمامة فليس باستعمال صحيح مع أنه لا يخفى على المتأمل أن هذا الاستعمال ليس حقيقياً لأنهم لم يريدوا رقة القلب وأمَّا الحقيقة فلا تستلزم المجاز اتفاقاً فإنه يجوز وجودها بدونه وقوله (في اصطلاح التخاطب) متعلق بوضعت فيدخل فيه المجاز المستعمل فيما وضع له في اصطلاح آخر كالصلاة إذا استعملها المخاطب بعرف الشرع في الدعاء مجازاً فإنه وإن كان مستعملاً فيها وضع له في الجملة فليس بمستعمل فيما وضع له في الاصطلاح الذي وقع به التخاطب فيكون استعمالها بعرف اللغة في ذات الأذكار والأركان مجازاً وقد شمل المجازات أجمع فيأتي فيه أقسام الحقيقة فإن كان مستعملاً في غير ما وضع له لغة فهو لغوي كأسد للشجاع أو شرعاً فشرعي كالصلاة في الدعاء أو عرفاً عاماً فعرفي عام كدّابة لكل ما يدب أو خاصاً فخاص كمصطلحات أهل الصناعات أي النحو إذا
__________
(1) ـ قال بعض المحققين وكذا عسى ونعم ونحوهما فإنها مستعملة في غير ما وضعت له لأنها أفعال ماضية فانسلخت عن الدلالة على الحدث والزمان ولم تستعمل دلالة عليهما وفيه أن الظاهر فيها كونها حقيقة عرفية وأنها مستعملة فيما وضعت له ولذا قال ابن الحاجب أفعال المدح والذم ما وضع لإنشاء مدح أو ذم ثم الظاهر أنها في الدلالة على الإنشاء كالأمر مقترنة بمستقبل واستفيد عموم المدح من المقام تمت منه .

(1/306)


استعملوا شيئاً منها فيما يناسب معناه عندهم كاستعمال الجوهر في النفيس أو دينياً فديني كاستعمال الإيمان في التصديق مطلقاً
(لعلاقة) احتراز عن الغلط نحو خذ هذا الفرس مشيراً إلى كتاب والعلاقة بالفتح علاقة الحب والخصومة ونحوهما من المعاني وبالكسر علاقة السيف والسوط ونحوهما من المحسوسات وهي هنا تعلق ما للمعنى المجازي بالمعنى الحقيقي وسيأتي تفصيلها إن شاء الله تعالى ولابد أن تكون تلك العلاقة ظاهرة لا خفية فلا يصح التجوز بالأسد عن الأبخر لعلاقة البخر فإنه في الأسد خفي لا يعرفه غلا الخواص فيصير التجويز به لذلك تجوزاً بلا علاقة ولا يكفي وجودها بل لا بد من اعتبار المتكلم إيَّاها كما يفهمه تعلق الظرف بالمستعملة وأن يكون ذلك الاستعمال
(مع قرينة) لفظية أو معنوية صارفة للفظ مستعملة في غير ما وضعت له مع جواز إرادته وقد علم بذلك أعني لزوم القرينة للمجاز وكونها صارفة عن حقيقته الفرق بينه وبين المشترك فإنه قد لا تصحبه قرينة حيث يراد الإجمال وأن قرينته معينة لا صارفة وأصل القرينة الأخِيَّة وهي حبل طرفاه تحت الأرض ويمد وسطه على الأرض وفيها حلق من ذلك الحبل أو غيره يربط في الحيوانات بأن يُدخل رؤوسها أو أكارعها ومنه الحديث (المؤمن يجول ثم يرجع إلى آخيته ) ذكره في الشهاب ومعناه أنه وإن قارف ذنباً فإنه يرجع إلى التوبة من ذنبه وقيل هي حبل يدفن طرفاه ويبقى وسطه كهيأة العروة والحبل المذكور اسمه قرن قال جرير
لم يستطع صولة البزل القناعيس

وابن اللبون إذا ما لز في قرن

(1/307)


وهذه القرينة على ضربين أحدهما تمنع من حمل الخطاب على ظاهره وتعلقه بمراد معين ولا شبهة في حمل اللفظ على ذلك المعنى والثاني تمنع من حمله على ظاهره ولا تعلقه بمراد معين وما هذا حاله لا يخلو إمَّا أن يكون له مجازاً واحداً أو أكثر إن كان واحداً حمل عليه ولا شبهة وإن كان أكثر من واحد وبعضها أقرب من بعض حمل على الأقرب وإن كانت متساوية فإما أن تنحصر أو لا إن كانت منحصرة غير متنافية حمل عليها أجمع على قول من يقول بجواز حمل اللفظة على جميع معانيها كما ثبت في استعمالهم البحر مجازاً في معان مختلفة كالعلم والكريم والشاعر والسيف وكذا السكون يستعمل تارة في سكون النفس من الغضب والجوع وطمأنينة القلب باليقين ومن منع الاشتراك في ذلك يدفع ذكرنا باستعمال البحر والسكون فيما ذكر بجمعه غرضاً واحداً ففي البحر السعة وفي السكون عدم الاضطراب وإن كانت منحصرة متنافية أو غير منحصرة فحكى عن قاضي القضاة ان الكلام يكون مع ذلك مجملاً يحتاج إلى بيان وقيل المكلف مخير في أيها شاء
[ أنواع المجاز]
(وهو) أي المجاز المفرد باعتبار العلاقة (نوعان) [النوع ] الأول [من أنواع المجاز] (مرسل) أي إن كانت علاقته غير المتشابهة سمي مرسلاً لأن الإرسال في اللغة الإطلاق والاستعارة مقيدة بادعاء أن المشية من جنس المشبه به والمرسل المطلق من هذا التقييد والمعتبر من العلاقة نقل نوها فإجماع أئمة الأدب فيكتفي بنقل العلاقة ولا يشترط نقل أفراد المجاز في الأصح لعدم توقف أهل العربية في التجوز عليه فإن من علم أحوالهم علم أنه لا توقف منهم على ما نقل بل يعدون اختراع المجازات من البلاغة ولذلك لم يدونوها تدوين الحقائق

(1/308)


وأنواعها المعتبرة كثيرة أشار إلى كثرتها بحرف التشبيه وهي تسمية الشيء باسم آلته كقوله تعالى ?وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ?[الشعرى(84)] أي ذكراً حسناً لأن اللسان اسم لآلة الذكر و(كاليد) التي هي حقيقة في الجارحة إذا استعملت (للنعمة) يقال لله تعالى على أياد لا تحصى أي نعم لا تحصى لكونها بمنزلة العلة الفاعلة للنعمة لأن النعمة منها تصدر وتصل إلى المقصود بها وهو المنعم عليه فلا بد من إشارة إلى المنعم كما ذكرنا بخلاف اتسعت اليد في البلد لئلا يخل بانتقال الذهن من الملزوم إلى اللازم ولذا استعملت في القدرة ،لأن أكثر ما يظهر سلطان القدرة في اليد وبها تكون الأفعال الدالة على القدرة من البطش والضرب والقطع والأخذ ونحو ذلك
قال النَّاصِر عليه السلام : اليد في كلام العرب يقال على ستة أوجه :
أحدها الجارحة وجمعها أيد
و[ثانيها]بمعنى النعمة ويجمع على أيادي
و[ثالثها] بمعنى القدرة
و[رابعها]بمعنى الملك يقال هذه الدار في يد فلان أي في ملكه وتصرفه
و[خامسها]بمعنى الأمر والسلطان يقال يد الأمير أعلى من يد الوزير وله على الرعية يد أي طاعة
و[سادسها] بمعنى الصلة في الكلام والزيادة كقولك هذا ا جنته يداك أي جنيته أنت وليست حقيقة إلا في الجارحة انتهى
(و) تسمية الشيء باسم جزئه الذي له مزيد اختصاص بالمعنى الذي قصد بالكل مثل (العين) وهي الجارحة المخصوصة المستعملة (للربئة) وهي الشخص الرقيب والطليعة والتاء للمبالغة يقال ربأت القوم ربا رقبتهم والجمع الربايا ولا يجوز إطلاق اليد والأصبع على الرقيب لعدم مزيد الاختصاص بخلاف ما ذكرنا فإن العين هي المقصود في كون الرجل رقيباً وإنما خص المثالين بالذكر لاشتهارهما
وعكسه تسمية الجزء باسم الكل نحو ?جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي ءَاذَانِهِمْ ? [نوح(7)] أي أناملهم والغرض منه المبالغة كأنه جعل جميع الأصبع في الأذن لئلا يسمع شيئاً

(1/309)


وإطلاق اسم الملزوم على اللازم كقوله تعالى ?أَمْ أَنْزَلْنَا عَلَيْهِمْ سُلْطَانًا ? [الروم(35)] فهو يتكلم بما كانوا به يشركون سميت الدلالة كلاماً لأنها من لوازمه ومنه قول الحكماء كل صامت ناطق أي دال بما فيه من أثر الصنعة على صانعه
وعكسه بأن يطلق الاسم اللازم على الملزوم كقول الشاعر :
عن النساء ولو باتت بأطهار

قوم إذا حاربوا شدوا مآزرهم

يريد بشد المئزر الاعتزال عن النساء لأن شد الإزار من لوازم الاعتزال
واعلم أن اللزوم أمر لازم في جميع أنواع المجاز استعارة أو مجازاً مرسلاً فاعتبار ذكر الملزوم وإرادة اللازم لا يكفي في بيان العلاقة بل لا بد من بيان أنها من أي نوع من أنواعها ذكره الشلبي في حاشية المطول
وإطلاق اسم المطلق على المقيد كقوله
من الناس قبل اليوم يجتمعان

وياليت كل اثنين بينهما هوى

أي قبل يوم القيامة
وعكسه أعني إطلاق اسم المقيد على المطلق كقول شريح أصبحت ونصف الناس علي غضبان يريد أن المحكوم عليه غضبان لا نصف الناس على التعديد والتسوية
والمجاورة بأن يسمى الشيء باسم ما له به تعلق المجاورة كالراوية للمزادة (1) وهي في اللغة لحاملها(2)
والمحلية أي كون الحقيقي محلاً للمجازي نحو أصابته عين وعكسها وهي الحالية كقول الشاعر :
كأن صخوراً منه تقذف في سمعي

كلامك فيه وحده لي كفياية
__________
(1) ـ والعلاقة كون البعير حاملاً لها و بمنزلة العلة المادية والمراد بالمزادة ظرف الماء الذي يستقى به على الدّابة كما نقله الشريف عن أرباب البلاغة لا المزود الذي يجعل فيه الطعام المتخذ للسفر كما ذكره سعد الدِّين لأن حامله لا يسمى راويه والله أعلم تمت منه
(2) ـ ومثله في الهداية بالغائط لقضاء الحاجة وفيه أنه قد تقدم أنه من الحقائق العرفية ، و الجمع بين ما ذكرنا هنالك وما ذكره في الهداية إنما ذكره باعتبار الابتداء وما ذكرنا باعتبار الانتهاء والغلبة فتأمل والله أعلم تمت منه

(1/310)


أي في الأذان التي هي محل السمع
والمظروفية أي كون الحقيقي ظرفاً للمجازي كقوله : (لا يَفضض الله فاك (1)أي أسنانك إذ الفم محل الأسنان
وعكسها هي الظرفية كقوله تعالى ?وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ ?[آل عمران(107)] أي في الجَنَّة التي هي محل الرحمة وفي التعبير عنها بالرحمة تنبيه على أن المؤمن وإن استغرق عمره في طاعة الله تعالى لا يدخل الجَنَّة إلا برحمته وفضله كما روي عن النبي : (ولا أنا إلا أن يتغمدني(2) الله برحمته (3) [*]
__________
(1) ـ أخرجه في كنز العمال ، وفي المعجم الكبيرج4ص213تمت
(2) أي إلا أن يعطيني أو يجللني الله برحمته مأخوذ من غمد السيف الذي يكون كناناً له وسباغاً عليه قال الشاعر :
كظل السماء كل أرض تغمدا

نصبنا رماحاً فوقها حد عامرٍ

أي امتدحهم على أقطار الأرض كامتداد السماء عليها من جميع جهاتها يصفهم باستطالة اليد وامتدادها وثراء المال والعد د والله أعلم تمت منه .
(3) ـ أخرج البخاري في صحيحه عن عائشة عن النبي قال سددوا وقاربوا وأبشروا فإنه لا يدخل أحدا الجنة عمله قالوا ولا أنت يا رسول الله قال ولا أنا إلا أن يتغمدني الله بمغفرة ورحمة و أخرجه مسلم في صحيحه و ابن حنبل في مسنده و القضاعي في مسند الشهاب و أبو يعلى في مسنده

(1/311)


والعموم أي كون اسم العام مستعملاً في الخاص كقوله تعالى ?أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ?[النساء(54)] والمراد رسول الله لجمعه ما في الناس من حميد الخصال (1)
وعكسها وهي الخصوص كقوله تعالى ?عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا أَحْضَرَتْ? [التكوير(14)] أي كل نفس
والكون عليه أي كون الحقيقي كان عليه المجازي كقوله تعالى ?وَءَاتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ ?[النساء(2)] أي الذين كانوا يتامى قبل ذلك إذ لا يتم بلوغ لأن اليتيم من بني آدم هو الطفل الذي لا أب له يقال يَتِمَ الصبي بالكسر يَتماً ويُتماً بالفتح والضم مع التسكين فيهما فيُتمه من قِبَل أبيه وفي البهائم من قِبَل الأم .
وكون الحقيقي آيلاً إليه المجازي قطعاً كقوله تعالى ?إِنَّكَ مَيِّتٌ ? [الزمر(30)] أو ظناً نحو ?إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا ?[يوسف 36] أي عصيراً يؤول إلى الخمر . وسببية المعنى الحقيقي للمعنى المجازي نحو : رعينا الغيث
__________
(1) ـ وقد مثل بقوله تعالى ?الذين قال لهم الناس إن الناس? قالوا المراد بالأول نعيم أو سُراقة وبالثاني أبو سفيان قال الفارسي بدليل ?إنما ذلكم الشيطان يخوف أولياءه? فوقعت الإشارة بقوله ?ذلكم? إلى واحد ولو كان المراد به جمعاً لقال إنما أولئكم الشياطين فهذه دلالة ظاهرة في اللفظ قلت بل الدليل ما ذكر في السَّير وأمَّا الشيطان فيمكن أنه للجنس لاحتمال عود الضمير من قوله ?فلا تخافوهم? إليه والله أعلم وقد يشار بما للواحد إلى الجمع كقول لبيد وسؤال هذا الناس كيف لبيد * ؟ وممَّن مثل بالآية مؤلف الهداية في الحقيقة والمجاز إلا أنه ذكر في باب العموم والخصوص أنه مثال للمعهود فيكون المراد مجرد المثال هنا أو هنالك وقوله تعالى ?من حيث أفاض الناس? المراد إبراهيم عليه السلام وفي قراءة سعيد بن جبير بكسر السين قال في المحتسب يعني آدم عليه السلام لقوله تعالى ?فنسي? تمت منه

(1/312)


وعكسه أي كون الحقيقي مسبباً عن المجازي في نحو أمطرت السماء نباتاً وقول الشاعر :
كذاك الإثم يَذهب بالعقول

شربت الإثم حتى ضل عقلي

جعل الخمر إثماً لكونه مسبباً لها ومنه تسمية العطية مناً لكونها سببه(1) أمَّا(2) قوله تعالى ?لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ ?[الشورى(11)] فالكاف فيه مستعملة في معناها والمشهور في توجيهه أن الكلام وارد على طريق الكناية فإن انتفاء مثل المثل مستلزم لانتفاء المثل عرفاً لأن الشيء إذا لم يكن له لجلالته ما يماثل مثله فبالطريق الأولى ألاَّ يكون له ما يماثه فاُطِلْقَ الملزومُ وأُرِيدَ اللاَّزِمُ مبالغة في نفي التشبيه
(و) [النوع] الثاني[ من أنواع المجاز]
__________
(1) ـ وقد عد منها إطلاق المعرف وإرادة المنكر كقوله تعالى ?ادخلوا عليهم الباب? أي باباً من أبو ابها نقلا عن أئمة التفسير وفيه أنه من باب إطلاق المقيد على المطلق وليس قسماً على حدة تمت منه .
(2) ـ جواب سؤال وهو أن يقال قد عد من أقسام المجاز المرسل مجاز الزيادة فلم لم تعده ؟ فأجاب بقوله أمَّا إلخ والله أعلم ونحو ?واسأل القرية? يحتمل أن يكون من باب إطلاق الظرف على المظروف ويحتمل أن يكون من مجاز النقصان وهو أن ينتظم الكلام بزيادة كلمة فيعلم نقصانها كالآية فإن القرية الأبنية المجتمعة وليس هذا مجازاً في الأفراد إذ هو اللفظ المستعمل في غير ما وضع له والمحذوف لم يستعمل التبة بل الحاصل هو إسناد السؤال إلى القرية وهو شأن الإسناد المجازي ويظهر أن الزيادة كذلك ومقتضى كلام المحصول أن هذين القسمين من مجاز الأفراد ذكره الاسنوي قلت والأولى في مثل ذلك أنه إن أريد بالقرية مثلاً أهلها واستعمال نفي مثل المثل في نفي المثل كان مجازاً مرسلاً داخلاً في حده وإلا كان الأول مجاز الإسناد والثاني من مجاز الزيادة والله أعلم تمت منه

(1/313)


(استعارة) إن كانت العلاقة بين المعنى الحقيقي والمجازي المشابهة أي قصد أن إطلاقه على المعنى المجازي بسبب تشبيهه بمعناه الحقيقي كالمشفَر إذا أطلقت على شفة الإنسان فإن أريد تشبيهها بمشفر الإبل في الغلظ فهو استعارة وأن أريد إطلاق المقيد على المطلق كالإطلاق المرسن على الأنف من غير قصد إلى التشبيه فمجاز مرسل فاللفظ الواحد بالنسبة إلى المعنى الواحد يجوز أن يكون استعارة ويجوز أن يكون مجازاً مرسلاً باعتبارين والمرسن بكسر السين موضع الرسن من أنف البعير ثم كثر استعماله حتى قيل مرسن الإنسان
[الاستعارة التحقيقية]
ثم إن ذكر المشبه به وأريد المشبه فهي الاستعارة التحقيقية (كالأسد للرجل الشجاع) فنقول إن اللفظ نقل عنى معناه الأصلي وجعل اسماً لهذا المعنى على سبيل الإعارة للمبالغة في تشبيهه بالمعنى الموضوع له
[الاستعارة المكنية]
وإن لم يذكر المشبه به بل ذكر ما هو من لوازمه مضافاً إلى المشبه فهي الاستعارة بالكناية كقولهم أظفار المنية نشبت بفلان شبه المنية بالسبع وذكر ما هو من لوازمه وهو الأظفار وأضافه إلى المنية
[ التشبيه]
وإن ذكر المشبه والمشبه به معاً نحو زيد أسد فهو التشبيه .
واعلم أن الأصوليين يطلقون الاستعارة على كل مجاز فلا تغفل عن مخالفة اصطلاحهم لاصطلاح أهل المعاني كيلا تقع في العنت إذا رأيت مجازاً مرسلاً أطلق عليه الاستعارة .
ولَمّا فرغ من بيان المجاز المفرد وقدمه لأصالته وكثرته بيَّن المركب ولذا قال (وقد يكون مركباً) وهو اللفظ المستعمل فيما شبه بمعناه الأصلي تشبيه التمثيل إن كان وجهه منتزعاً من متعدد أو غيره إن لم يكن كذلك فقولنا الأصلي أي المعنى الذي يدل عليه ذلك اللفظ بالمطابقة وقولنا إن كان وجهه منتزعاً من متعدد احتراز به عن الاستعارة في المفرد ويكون أيضاً إمَّا مجازاً مرسلاً حيث لم تكن العلاقة المشابهة كقوله
جنيب وجثماني بمكَّة موثق

هواي مع الركب اليمانين مصعد

(1/314)


فإن المركب موضوع للأخبار والغرض منه إظهار التحزن والتحسر ولعلّ العلاقة ههنا هي كون التحزن والتحسر سبباً للأخبار وإما استعارة (كما يقال للمتردد في أمر أراك تقدم رجلاً وتؤخر أخرى) كتب الوليد بن يزيد لما بويع إلى مروان بن محمد وقد بلغه أنه متوقف عن بيعته أما بعد فإنِّي أراك تقدم رجلاً وتؤخر أخرى فإذا أتاك كتابي هذا فاعتمد على أيتهما شئت شبه صورة تردده في المبايعة بصورة من قام ليذهب في أمر فتارة يريد الذهاب فيقدم رجلاً وتارة لا يريده فيؤخرها أخرى(1)فاستعمل الكلام الدال على هذه الصورة في تلك الصورة ووجه الشبه وهو الإقدام تارة والإحجام أخرى منتزع من عدة أمور كما ترى وهذا المجاز المركب يسمى التمثيل على سبيل الاستعارة لأنه قد ذكر المشبه به وأريد المشبه وترك ذكر المشبه بالكلية كما هو طريق الاستعارة وقد يسمى التمثيل مطلقاً من غير تقييد بقولنا على سبيل الاستعارة
__________
(1) ـ فأخرى صفة تارة مقدرة فيتحد متعلق التقديم والتأخير وأما ما ذكره سعد الدين في شرح المفتاح من أن المراد بالرجل الخطوة أي يخطو خطوة إلى قدام وخطوة إلى خلف ففيه أن المتبادر من المثل اتحاد المتعلق كما ذكرنا ، وأن المراد بالقدام قدام الشخص فيكون الخلف الواقع في مقابلته خلفه أيضا ومن البين أن هذا ليس هيئة المتردد وأيضا فاعتبار التقديم في الخطوة لا يخلو عن تكلف وتجوز ؛ لأنها إنما تحصل بتقديم الرجل لا أنها حاصلة مقدرة تقدم تارة وتؤخر أخرى ذكر معناه الشريف والشلبي والله أعلم تمت منه

(1/315)


(و) من أقسام المجاز أنه (قد يقع(1)في الإسناد) للفعل أو معناه إلى ملابس له غير ما يكون ذلك الفعل أو معناه له أي غير الفاعل في المبني للفاعل وغير المفعول في المبني للمفعول مع قرينة صارفة للإسناد عن أن يكون إلى هو له كقوله تعالى ?وأخرجت الأرض أثقالها?[الزلزلة] نسب الإخراج إلى مكانه وهو فعل الله تعالى ?يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ ?[القصص(4)] نسب التذبيح الذي هو فعل الجيش إلى فرعون لعنه الله تعالى لأنه سبب آمر وقوله تعالى ?فهو في عيشة راضية?[القارعة] في المبني للفاعل المسند إلى المفعول به إذ العيشة مرضية وسيل مفعم في عكسه إذ المفعم اسم المفعول من أفعمت الإناء ملأته وقد أُسند إلى الفاعل .وقول المؤمن أنبت الربيع البقل فيما أسند إلى ملابس له هو الزمن وإسناده إلى المصدر (مثل جد جدّه) ومنه قول الشاعر :
وفي الليلة الظلماء يفتقد البدر

سيذكرني قومي إذا جد جدهم
وذلك أن من شأن العرب على ما ذكره المرزوقي أن يشتقوا من لفظ الشيء الذي يريدون المبالغة في وصفه ما يتبعونه به تأكيداً وتنبيهاً على تناهيه من ذلك قولهم ظل ظليل وداهية دهياء وشعر شاعر انتهى
__________
(1) ـ أي المجاز العقلي على سبيل الاستخدام إذ قد أطلق المجاز أولا مرادا به اللغوي وثانيا مرادا بضميره العقلي فتأمل

(1/316)


والمراد من الإسناد أعم من أن يدل عليه الكلام بصريحه كالأمثلة أو يكون مستلزماً له كما في الإيقاعيات والإضافات كقوله تعالى : ? وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا?[النساء(35)]?بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ?[سبا(33)]?وَلَا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ?[الشعراء(151)] فإنه جعل فيها البين شاقاً والليل والنهار ماكرين والأمر مطاعاً وكذا فيما جعل الفاعل المجازي تمييزاً كقوله تعالى ?أُولَئِكَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضَلُّ سَبِيلًا?[الفرقان(34)] لأنه هنا فاعل في الأصل فهذا بحث في المجاز نفيس لطيف والإسهاب يخرجنا عن المقصود من الاختصار والغرض الإشارة
(ولاستيفاء الكلام في ذلك) وتحقيق أحواله (فن آخر) غير هذا الفن وهو البيان فاكتف بما ذكرنا هنا وقس ولا عليه تحتبس .
واعلم أنه لا مانع من إرادة المعنى الحقيقي والمجازي معاً لا من جهة العقل ولا من جهة اللغة عند القاسمية وأبي طالب والشافعي وأبي علي مثل أن يقال لا تقتل الأسد ويراد السبع والرجل الشجاع أحدهما لأنه نفس الموضوع له والآخر لمتعلقه به بنوع علاقة هي الجرأة فيصح مجازاً وهو المسمى بعموم المجاز لأن استعماله لهما يكون استعمالاً في غير ما وضع له لأن المجازي منهما لم يكن داخلاً فيه أولاً وهو داخل الآن فكان مجازاً إذ لا معنى للمجاز إلا ذلك
فإن قيل فاللفظ على المجموع مجاز والمجاز مشروط بالقرينة المانعة عن إرادة الموضوع له فيكون الموضوع له مراداً وغير مراد وهذا محال
أجيب بأن الموضوع له هو المعنى الحقيقي وحده فتجب قرينة على أنه وحده ليس المراد وهي لا تنافي كونه داخلاً تحت المراد

(1/317)


(وإذا تردد الكلام) بين النقل والاشتراك كلفظ الزكاة يحتمل أن يكون مشتركاً بين النما والقدر المخرج من النصاب وأن يكون موضوعاً للنما فقط ثم نقل إلى القدر المخرج شرعاً فالرازي ومن تبعه يحملونه على النقل لاتحاد مدلوله قبل النقل من المعنى اللغوي إلى الشرعي أو العرفي وبعده وإمكان العمل به بخلاف المشترك فإنه لا يعمل به إلا بقرينة بناء على أنه لا يحمل على معانيه غير المتنافية ولا يبعد ترجيح الاشتراك عند من يحمله عليها لعدم الإجمال

(1/318)


وإن تردد (بين المجاز والاشتراك) كالنكاح فإنه يحتمل أن يكون حقيقة في الوطء مجازاً في العقد ،وأن يكون مشتركاً بينهما ـ قال في الصحاح النكاح الوطء وقد يكون العقد ـ أو بينه وبين النقل كما أطلق الشارع الصيام على الإمساك المخصوص وترددنا في أنه هل وضعه له بحيث يطلق عليه بلا قرينة أو لا ؟ وإنما استعمله فيه مجازاً من قبيل إطلاق اسم البعض على الكل (حمل على المجاز) لغلبته في اللغة حتى قال ابن جني(1)إن أكثر اللغة مجاز والكثرة يفيد ظن الرجحان ولأنه أبلغ فإن : ? وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ?[مريم(4)]أبلغ من شبت باتفاق السلف لأنه انتقال من الملزوم إلى اللازم فهو كدعوى الشيء ببينة فإن وجود الملزوم يقتضي وجود اللازم لامتناع انفكاك الملزم من لازمه وأوجز مما يقتضيه المقام ظاهراً لأنه بيان انقراض الشباب وإلمام المشيب فينبغي أن يبسط الكلام فيه غاية البسط وقد يكون أوفق إمَّا للطبع لثقل في الحقيقة كالتعبير عن الخنفقيق للداهية(2)بنحو الحادثة أو لعذوبة في المجاز كالروضة للمقبرة أو لتعظيم أو تحقير كالشمس للشريف والكلب للخسيس ولأنه يتوصل به إلى أنواع البديع من السجع نحو حمار ثرثار والمطابقة نجو ضحك المشيب برأسه فبكى والمشاكلة نحو كلما لج في قلبي هوا ها لجت في مقتي . والجناس نحو يحيى لدى يحيى بن عبد الله والروي نحو
حتى تبدى الأقحوان الأشنب

عارضننا أصلاً فقلن الربرب

بخلاف نحو بليد ثرثار وظهر المشيب وازداد هواي ويوجد لدي يحيى وشنبهن الأبيض ولأنه لا يخل بالتفاهم إذ يحمل مع القرينة عليه ودونهما على الحقيقة بخلاف المشترك فإنه لا يفهم منه عند خفاء القرينة شيءٌ بعينه [*]
__________
(1) ـ بسكون الياء معرب كجي من اكاف والجيم تمت منه
(2) ـ ذكر معناه في شرع أبي زرعة على الجمع ، واما ما ذكره أهل المعاني ففيه ان المعبر به أثقل من المعبر عنه والله أعلم تمت منه

(1/319)


(ويتميز المجاز من الحقيقة) والكناية بنص اهل اللغة كالمبرد وأبي عبيدة على أن هذا حقيقة أو كناية وذلك مجازأو على حدهما أو وجوب استعمال أحدهما مع القرينة الصارفة دون الآخر أو توقفه على تحقق العلاقة
أو(بعدم اطراده) بأن يستعمل اللفظ لوجود معنى في محل ولا يجوز استعماله في محل آخر مع وجود ذلك المعنى فيه كالنخلة تطلق على الإنسان لطوله ولا تطلق على طويل غير إنسان كالجبل مثلاً . وفيه أن في الحقيقة ما لا يطرد (1) كالقارورة لا يطلق إلا على ما يستقر فيه من الزجاج
(و) ويتميز أيضاً بظهور (صدق نفيه) أي نفي المعنى الحقيقي عن المعنى المستعمل هو فيه عند العقل وفي نفس الأمر كقولك للبليد ليس بحمار فهذه علامة لكون اللفظ مجازاً وعدم صدق النفي علامة لكونه حقيقة وفيه أنه يستلزم الدور إذ لا يصح نفيه إلا إذا عرف أنه مجاز فيه والمفروض أنه لا يعرف كونه مجازاً إلا بصحة نفيه والتقييد بعند العقل وفي نفس الأمر يدفع نحو ما أنت بإنسان لصحته لغة وعرفاً عن الفاقد بعض الصفات الإنسانية المعتد بها كالبليد بناءً على اعتبارات خطابية والله سبحانه أعلم .
(وغير ذلك) مما يتميز به أحدهما عن الآخر مثل سبق فهم أحد من أهل اللغة إلى أحد المعنيين بدون قرينة فإنه يدل على أن اللفظ حقيقة كما روي أن رسول الله لما سمع قول العباس بن مرداس
__________
(1) ـ إشارة إلى كثرة ذلك كالفاضل يطلق على غير الله للعلم والله تعالى العليم ولا يقال له فاضل أشار إلى ذلك الشيخ لطف الله في شرح الفصول ، وقد مثل للمجاز المطرد بالأسد للشجاع في المنتهى والهداية والجمع ، وفيه أنه لا يطلق على الهر ونحوه كما في المقنع إلا أن يقال إن الشجاع من خواص الأنفس الناطقة كما أشار إليه الشلبي تمت منه

(1/320)


أيقسم نهبي نهب العبيـ ـد بين عيينة والأقرع ؟
قال: (اقطعوا لسانه)(1) فتبادر إلى فهم بعضهم أن المراد القطع الحقيقي بنحو السكين
ومثل جمع اللفظ باعتبار معناه المختلف في كونه حقيقة أو مجازاً على خلاف جمع الحقيقة المعلومة باتفاق كالأمر بمعنى الفعل فإنه يجمع على أمور ويمتنع فيه أوامر جمع أمر بمعنى القول الذي هو حقيقة فيه باتفاق وهذه العلامة لا تنعكس إذ المجاز قد لا يجمع أصلاً كالتجوز بالفعل وقد لا يجمع بخلاف جمع الحقيقة كالأسد ومثل عدم الاشتقاق منه وذلك بأن يعلم له معنى حقيقي وقد اشتق من ذلك اللفظ باعتبار ذلك المعنى ولم يشتق منه باعتبار معنى له آخر متردد في كونه فيه حقيقة أو مجازاً كأمر فإنه اشتق منه معنى القول و قيل آمر ومأمور ولم يشتق منه بمعنى الفعل وهذه العلامة أيضاً غير منعكسة إذ المجاز قد يشتق منه كما في الاستعارة التصريحية والله أعلم .

(الباب الخامس)
من أبواب الكتاب (في الأمر والنهي) وقدم الأمر على النهي لأنه يقتضي إثبات الفعل والنهي يقتضي تركه أوما في حكم الترك أعني الكف على اختلاف الرأيين وما يقتضي الإثبات أهم فقال
(الأمر) لفظه الذي هو ألف ميم راء متفق على أنه حقيقة في الصيغة لتبادرها عند الإطلاق وهو من علامة الحقيقة إلا ما يروى عن بعض المجبرة (2)ممن يثبت الكلام النفسي فإنه يجعله حقيقة في الكلام النفسي مجازاً فيما عداه من القول وغيره ذكر معناه الدواري في شرح الجوهرة
__________
(1) ـ نص الحديث :- علىماأخرجه الطبراني في معجمه الكبير ج 18/ص 264/ح عن غصيف أو أبي غصيف صاحب النبي أن رسول الله قال من أحدث هجاء في الإسلام فاقطعوا لسانه
(2) -أي الأشعرية تمت

(1/321)


والصيغة (قول القائل) جنس قريب لا يدخل فيه اللفظ المهمل ولا الطلب بالإشارة والقرائن لأنهما لا يسميان قولاً (لغيره) احتراز عن قوله لنفسه فليس بأمر حقيقة لأن من شرطه الرتبة أو ما يجري مجراها من الاستعلاء ويستحيل في الإنسان أن يكون دون نفسه أو مستعلياً عليها ولا يحسن منه أن يأمر نفسه لأنه عبث لا فائدة فيه ذكر معناه الإمام الدَّاعِي عليه السلام في المقنع والدواري عن أبي الحسين (إفعل أو نحوه) ككف وليفعل(1)ورويد (2) ونزال من القول الإنشائي الدال على طلب الفعل فتخرج الأخبار كقولك : أنا طالب منك كذا وموجب عليك كذا والمفردات لأنها تسمى قولاً عند غير المنطقيين والنهي فإنه بصيغة لا تفعل فهو دال على طلب الترك لا الفعل والترك غير فعل عند الجمهور وقد تقدم مما يدل عليه كلام المصنف فيه في السنة
__________
(1) ـ وإنما عد هذا اللفظ جمعيه أعني لام الأمر مع الفعل أمراً مع أن الموضوع للأمر إنما هو لام الأمر لا مدخوله كما أن الموضوع للتمني ليت لا مدخوله تغليباً ذكر معناه الشيخ لطف الله في الحاشية .تمت منه
(2) ـ في الأم رويد بدون ألف والصواب والله أعلم رويدا وهو من اسماء الأفعال المنقولة نقل من أروده إروادا ثم صَغَّروا المَصْدَرَ بعد حذف زَوائده، وأقامُوهُ مُقام فِعْله، واستَعْملُوه تَارَةً مُضَافاً إلى مَفعوله، فقالوا: "رُوَيْدَ محمدٍ" وتارةً منوناً ناصباً للمفعول، فقالوا: "رُوَيْداً علياً" تمت

(1/322)


(على جهة الاستعلاء) أي عد الآمر نفسه عالياً سواءً كان عالياً في نفسه أو لا عند أئمتنا عليهم السلام وأكثر المتأخرين وبه يخرج الالتماس والدعاء فإنهما لا يسميان أمراً لأن من قال لغيره : افعل على سبيل التضرع والتذلل والالتماس لا يسمى آمرا ًله وإن كان أعلى رتبة من المخاطب ومن قال لغيره : افعل على سبيل الاستعلاء عليه سمي آمراً له وإن كان أدنى رتبة منه ولهذا يصفون من هذه سبيله بالجهل والحُمق من حيث أمر من هو أعلى منه رتبة فبطل اشتراط العلو كما هو رأي جمهور المعتزلة وغيرهم واشتراطه مع الاستعلاء كما هو رأي بعضهم وعدم اشتراطهما كما هو رأي الأشعري وأكثر أتباعه ولا بد وأن يكون ذلك القول صادراً من قائله حال كونه (مريداً لِما تناو له) أي لفعل ما تناوله ذلك القول فيخرج التهديد نحو قوله تعالى ?اعملوا ما شئتم? [هود 40]إذ ليس المراد عمل ما شاؤوه وسائر أنحاء الكلام من الخبر والاستخبار والعرض للاتفاق على أنه لا بد من مميز زائد على مجرد حروفه(1)والإرادة صفة تؤثر في اختصاص أحد طرفي الممكن من وجود وعدم وطول وقصر ونحوها بالوقوع [*]
والمختار (أنه) أي الأمر أي صيغته التي هو نحو : افعل ترد (للوجوب) فقط حقيقة ولو بعد استئذان كافعل لمن قال آفعل كذا أو بعد حظر شرعي كالأمر بقتل المشركين بعد تحريمه
والاستدلال على كونه للوجوب بعد الحظر بنحو ?فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين?[التوبة5] أو للإباحة بنحو ?فإذا حللتم فاصطادوا?[المائدة2] واقع في غير المتنازع من الجانبين إذ لم يرد الأمر على محرَّم فهو كالأمر ابتداء فتأمل
__________
(1) ـ لا يقال الإرادة قد تصحب سائر أنحاء الكلام فلا يتميز عنها لأنَّا نقول نعم لكن ليست فيها شرطاً ولا جزء ماهية وأمَّا التمني خاصة فإنه وإن أريد ما تناوله فقد خرج من افعل تمت منه

(1/323)


وأنه موضوع له (لغةً وشرعاً) أي في اللغة والشرع وقال أبو طالب عليه السلام وأبو قاسم البلْخي وأبو عبد الله البصري والجويني : شرعاً فقط لنا المعقول والمنقول أمَّا المعقول ونعني به الاستفادة من موارد اللغة لا إثبات اللغة بالقياس والترجيح فلأنه مقابل النهي وقسيمه وقد ثبت أنه يقتضي وجوب الكف عن الفعل فيجب في الأمر أنه يقتضي وجوب الفعل واستحقاق الذَّم بتركه وذلك معنى الوجوب و(لمبادرة العقلاء) من أهل اللغة قبل ورود الشرع (إلى ذم عبدٍ) أوولدٍ (لم يمتثل أمر سيّده) أو والده ولا يذمون علىترك فعل إلا وهو واجب فلولا أنه حقيقة في الوجوب لما فهموا ذلك منه وتبادروا إليه وإلى وصف تاركه بالعصيان .
لا يقال : أن طاعة العبد لسيّده وذمه على عدمها لدليل الشرع لا لأجل اللغة وكذلك طاعة الولد لوالده أمر عقلي لا لغوي .
لأنَّا نقول : إنه وإن كان كذلك إلا أن أهل اللغة كانوا يؤثرون استخدام السودان وتملكهم ويذمون العبد عند المخالفة وكذلك الولد وهذا أمر لغوي وإن طابقه الشرع والعقل .
فإن قيل : ذمُ أهل اللغة لا يقضي بالوجوب إذ لا عصمة فيهم وقد يذم أحدهم غيره على ترك القبيح كما يفعلونه عند كف أحدهم عن مصاولة الأقران وإن كان ذلك قبيحاً [*]
أجيب : بأنَّا لم نقل بإصابتهم في اعتقادهم وجوب ذلك وأن ما قالوا بوجوبه فهو واجب في نفس الأمر وإنما استدللنا بأنهم وضعوا صيغة الأمر للوجوب واعتادوا ذلك فإذا خاطبنا الله تعالى بلغتهم كان قد وضع صيغة الأمر للوجوب وهو تعالى عدل حكيم لا يوجب إلا ما له وجه يخصه فأشبه ذلك تسميتهم الأصنام آلهةً لكونها عندهم مما يشتاق إليه ويعبد فإنَّا نتبعهم في العبارة ولا يسمى إلهاً إلا ما كان كذلك ونحذو على مثالهم في الوضع وإن أخطأوا في اعتقادهم في الأصنام(1)
__________
(1) ـ وأما الاستدلال على ذلك بقول معاوية لعنه الله يخاطب مملوكه :
فخدك إن لم تقبل النصح عاثر

أمرتك أمراً حازماً فعصيتني

وفي المحصول إن قائله حبان بن المنذر ليزيد بن المهلب أمير خراسان والعراق وفي حاشية الفصول والكشف إن قائله عمرو بن العاص لمعاوية لما أتى بعبد الله بن هاشم بن عتبة وكان هاشم أحد فرسان أمير المؤمنين علي عليه السلام فأشار عليه بقتله فقال معاوية لا أرى في العفو إلا خيراً فغضب وكتب إليه البيت وفي رواية الجوهرة فأصبحت مسلوب الأمارة نادماً فلا يصلح لأن قوله حازماً قرينة الوجوب فيخرج عَمَّا نحن فيه والله أعلم تمت منه
في الموسوعة الشعرية إن القائل معاوية بن أبي سفيان قاله لعبده حريث معاتبا لمخالفته نصيحته وقبل البيت :
وأنّ عَلِيّاً لم يُبارِزْهُ فَارِسٌ مِن الناسِ إلاّ أَقْصَدَتْهُ الأظافِرُ ...
أ مَرْتُكَ أَمْراً حازماً فَعَصِيتَني ... فَجَدُّك إذْ لم تَقْبَلِ النُّصْحَ عاثِرُ ...

(1/324)


أنها تعبد وأمَّا المنقول وهو حُجَّة من يقول بأنها حقيقة في الوجوب شرعاً فقط فذلك لقو له تعالى مخاطباً لإبليس لعنه الله تعالى ?ما منعك أن لا تسجد إذ أمرتك?[الأعراف 12] والمراد من الأمر قوله تعالى ?اسجدوا?(1) ?وإذا قيل لهم اركعوا لا يركعون ?[المرسلات 48] ?فليحذر الذين يخالفون عن أمره?[النور63] وقو له لولا أن أشق على أمَّتي لأمرتهم بالسواك عند كل صلاة)(2) فلولا أن الأمر يقتضي الوجوب لم يكن في الخبر مزيد فائدة إذ السواك قد كان مندوباً إليه قبل ذلك
__________
(1) ـ تكررت في: [البقرة34 /الأعراف11 /الإسراء 61/الكهف50 /طه 116/ الفرقان60/ ]
(2) ـ أخرجه مسلم في صحيحه و البخاري في صحيحه و النسائي في سننه و ابن حبان في صحيحه و ابن خزيمة في صحيحه و الترمذي في سننه و ابن ماجه في و أبو داود في سننه و ابن حنبل في مسنده و مالك في الموطأ و الحاكم في مستدركه و الحميدي في مسنده و الطبراني في معجمه الكبير و النسائي في سننه والبيهقي في سننه الكبرى و أبو يعلى في مسنده و الشافعي في مسنده و عبد الرزاق في مصنفه و الدارمي في سننه

(1/325)


وما روي أن أبا سعيد الخدري دعاه النبي وهو في الصلاة فلم يجبه فقال ما منعك أن تجيب وقد سمعت قول الله ? يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم?[الأنفال 24] فلامه على ترك الإجابة من حيث أن الله قد أمر بها فدل على أن الأمر للوجوب (ولاستدلال السلف) الماضين من الصحابة والتابعين ومن بعدهم (بظواهر) صيغ (الأوامر) المطلقة المجردة عن القرائن (على الوجوب) فإنَّا نعلم من أحوالهم أنهم كانوا يرجعون في إيجاب العبادات وغيرها إلى الأوامر المطلقة كما استدلوا بالأمر في قوله (سنوا بهم سنة أهل الكتاب)(1)وقوله (فليصلها إذا ذكرها)(2) على الوجوب من غير توقف ولم يحك عن أحد من الصحابة ومن بعدهم أنه دفع احتجاج مخالفه بالأمر من حيث أنه لا يقتضي الوجوب وإنما كانوا يفزعون عند الاختلاف إلى التأويل لمعارض أو قرينة وتكرر شائعاً بلا نكير فكان إجماعاً قطعياً على ظهوره في الوجوب والله أعلم
[صيغة الأمر قد تفيد غير الوجوب]
(و) إذا عرفت أنه حقيقة في الوجوب فاعلم أنها (قد ترد صيغته) التي هي مسماه وهي إفعل وما يقوم مقامها (للندب والإباحة والتهديد وغيرها) من الإنذار والامتنان والإكرام والتسخير والتكوين والتعجيز والإهانة والاحتقار والتسوية والتمني والخبر والدعاء (مجازاً) لعلاقة
__________
(1) ـ أخرجه عبد الرزاق في مصنفه والشافعي في مسنده و ابن أبي شيبة في مصنفه
(2) ـ أخرجه مالك في الموطأ ومسلم في صحيحه و البخاري في صحيحه و النسائي في سننه و ابن حبان في صحيحه و ابن خزيمة في صحيحه و الترمذي في سننه و ابن ماجه في سننه و أبو داود في سننه و ابن حنبل في مسنده و مالك في الموطأ و الحاكم في مستدركه و الطحاوي في شرح معاني الآثار و الطبراني في معجمه الكبير و النسائي في سننه الكبرى و الدارقطني في سننه

(1/326)


أمَّا الندب فكقوله تعالى ?فكاتبوهم إن علمتم فيهم خيراً?[النور33] ويقرب منه التأديب كقو له لعُمر ابن أبي سلمة المخزومي (سم الله وكل بيمينك وكل ممَّا يليك) أخرجه البخاري ومسلم من حديث عمر المذكور .
والإرشاد كقوله تعالى : ?واستشهدوا شهيدين من رجالكم? [البقرة282]وقوله تعالى? فاكتبوه? [البقرة 282] والعلاقة (1) بين الوجوب والندب إطلاق اسم المقيد على المطلق ؛ لأن المعنى الحقيقي للصيغة هو طلب الفعل مع المنع من الترك فاستعمل في مطلق الطلب .
وأمَّا الإباحة فكقوله تعالى ?كلوا من الطَّيبات?[المؤمنون 51]ومنها الإذن كقوله تعالى ?وإذاحللتم فاصطادوا?[المائدة2]والعلاقة هنا أيضاً إطلاقُ اسمِ المقيد على المطلق ؛لأن طلب الفعل يتضمن الإذن فيه مع الرجحان فاستعمل الصيغة في مطلق الإذن
وأمَّا التهديد فكقو له تعالى ?اعملوا ما شئتم?[هود40] فليس المراد الأمر بكل عمل شاؤوه كما سبق وفصله عن الإنذار بأنه هو التخويف ، والإنذار : إبلاغُ المخوف كما فسره الجوهري والعلاقة فيهما التضاد لأن الشيء المهدد عليه إمَّا حرام أو مكروه بخلاف الواجب .
وأمَّا الامتنان فكقو له تعالى ?فكلوا ممَّا رزقكم الله?[النحل 114] وعلاقته كما في الإباحة وفصله عنها بأنها: الإذن المجرد والامتنان : لا بد معه من اقتران حاجة الخلق لذلك الذي وقع به الامتنان والإنعام أو عدم قدرتهم عليه أو نحو ذلك كالتعرض في هذه الآية إلى أن الله هو الذي رزقه
وأمَّا الإكرام فكقوله تعالى ?ادخلوها بسلام آمنين?[الحجر46] فإن قرينة بـ?سلام آمنين? يدل عليه لأن دخول الجَنَّة مع السلامة من جميع آفات الآخرة والأمان منها : غاية في الإكرام والعلاقة فيه كما في الإباحة
وأما التسخير فكقوله تعالى ?كونوا قردةً خاسئين?[البقرة65/الأعراف166] والمراد به الذلّة والامتهان
__________
(1) ـ والنسبة بينها وبين المندوب : العموم من وجه تمت منه

(1/327)


وأمَّا التكوين فكقوله تعالى?كُن فيكُون? (1) وسمّاه بعض بكمال القدرة وفصله عن التسخير بأنه سرعة الوجود عن العدم ولسي فيه انتقال من حالة إلى أخرى بخلاف التسخير فإن فيه الانتقال إلى حالة الذلّة والامتهان والعلاقة فيهما إمَّا مجرد الطلب وإما مشابهتهما للواجب في التحتم
وأمَّا التعجيز فكقوله تعالى ?فأتوا بسورة?[البقرة23/يونس38]وعلاقته المضادة لأنه إنما يكون في الممتنعات والواجب في الممكنات
وأمَّا الإهانة فكقو له تعالى ?ذق إنَّك أنت العزيز الكريم?[الدخان49] ومنهم من يسميه التَّهكم . وضابطه أن يؤتى بلفظ ظاهره الخير والكرامة والمراد ضده وعلاقتة المضادة أيضاً
وأمَّا الاحتقار فكقو له تعالى ? أَلقوا ما أنتم ملقون?[يونس 80/الشعراء43] فإنه مستعمل في معرض احتقار سحر السحرة في مقابلة المعجزة وعلاقته : مجرد الطلب وفصله عن الإهانة بأنها إنما تكون بالقول والفعل أو بتركهما كترك إجابته والقيام له ممن يعتاد القيام دون مجرد الاعتقاد .والاحتقار : إما مختص بمجرد الاعتقاد أو لا بد فيه منه بدليل أن من اعتقد في شيءٍ أنه لا يعبأ به ولا يلتفت إليه يقال : إنه احتقره ولا يقال : أهانه ما لم يصدر منه قول أوفعل ينبئ عن ذلك
وأمَّا التسوية بن الأمرين فكقوله تعالى ?فاصبروا أو لا تصبروا سواءٌ عليكم?[ الطور16]فإنه أراد به التسوية في عدم النفع بين الصبر وعدمه والعلاقة :المضادة لأن التسوية بين الفعل والترك مضادة لوجوب الفعل . وفصلها عن الإباحة بأن المخاطب في الإباحة كأنه توهم كون الفعل محظوراً عليه فأُذن له فيه مع عدم الحرج في تركه . وفي التسوية كأنه توهم أن أحد الطرفين من الفعل أو الترك أرجح له فرفع هذا الوهم بالتسوية بينهما
وأمَّا التمني فكقول امرء القيس :
بصبحٍ وما الإِصباح منك بأمثل
__________
(1) ـ تكرت في القرآن في : [البقرة117 /آل عمران 47 /59 /الأنعام73/ النحل40/ مريم35/ يس82/ غافر68]

(1/328)


ألا أيها الليل الطويل ألا انجلي

وإنما حُمل على التمني دون الترجي لأنه أبلغ وذلك لأنه نزل ليله لطوله عليه منزلة المستحيل انجلاؤه كما قال الآخر : وليلُ المحبِ بلا آخِر (1)
وأمَّا الخبر فكقوله تعالى ?فاليضحكوا قليلا وليبكوا كثيراً? [التوبة82] وعلاقته:كما في الدعاء ذكر معناه في الهداية
وأما الدعاء فكقوله تعالى ? ربنا اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين ?[آل عمران 147] وعلا قته : مجرد الطلب ، فهذه خمسة عشر معنى غير الإيجاب يطلق عليها صيغة الأمر ، وقد أبلغها في جمع الجوامع إلى ستة وعشرين (2)
واعلم أن الأمر إذا ورد مطلقا عما يقيد به من مرة أو تكرار ، أو علة ، أو شرط ، أو صفة ، أو غير ذلك فقد اختلف فيه هل يفيد تكرارا أولا ، فقال أبو طالب عليه السلام وأبو علي الجبائي ، وأبوهاشم ، وأبو عبد الله البصري ، وكثير من الشافعية ، وقدماء الحنفية إنه موضوع للمرة ولا يستفاد منه التكرار إلا بقرينة وقال أبو إسحاق الأسفراييني وجماعة من الفقهاء والمتكلمين واختاره الإمام المنصور بالله القاسم بن محمَّد عليه السَّلام : إنه موضوع للتكرار مدة العمر فيما يمكن فتخرج أوقات ضروريات الإنسان
[الخلاف في دلالة الأمر على المرة الواحدة أو التكرار]
__________
(1) ـ بعني وقت هجره تمت منه
(2) ـ والذي زاده على ما ذكرناه تذكير النعمة نحو ?كلوا من الطيبات ? والتفويض نحو ? فاقض ما أنت قاض ? والتعجب نحو ? انظر كيف ضربوا لك الأمثال ? والتكذيب نحو ? فأتوا بالتوراة? والمشورة نحو ? فانظر ماذا ترى?والاعتبار نحو ? انظروا إلى ثمره إذا أثمر?وإرادة الأمثال كقولك لآخر : اسقني ماء ، والإذن كقولك لمن طرق الباب : أدخل ، وزاد بعضهم التلهيف نحو ? قل موتوا بغيظكم ? والتصبير نحو ? فمهل الكافرين ? والالتماس كقولك لمن يساويك : افعل كذا والله أعلم تمت منه

(1/329)


(والمختار) عند الجمهور :(أنه لا يدل) بوضعه وصيغته (على المرة والتكرار) لأن مدلول صيغته طلب ماهيَّة الفعل وهما خارجان عنها للجزم بأنهما من صفات المصدر كالقليل والكثير ولا دلالة للموصوف على الصفة المعينة فلا يتقيد بأحدهما دون الآخر بل يحصل الامتثال مع أيهما حصلت إلا أنه لا يمكن إدخال تلك الماهيَّة في الوجود بأقل من مرة فصارت المرة من ضروريات الإتيان بالمأمور فيدل عليها من هذه الحيثية لا أن الأمر يدل عليها بذاته
[الخلاف في دلالة الأمر على الفور أو على التراخي]
(و) واختلف فيه أيضاً إذا ورد كذلك هل يفيد الفور أو التراخي أو لا فالقائلون بأنه للتكرار وبعض(1)غيرهم كالهادي والنَّاصِر والمؤيَّد بالله عليهم السلام وأبي حنيفة ومالك : إنه للفور والمروي عن القاسم واختيار أبي طالب والمنصور بالله عليهم السلام وأبي علي وأبي هاشم وأبي الحسين البصري والشيخ الحسن ورواية عن الشافعي : إنه للتراخي والمبادر ممتثل وقال الإمام يحيى والمهدي أحمد بن يحيى عليهما السلام والقرشي والغزالي والرَّازي والآمدي وابن الحاجب ورواية عن الشافعي : إنه لا يفيد أيهما (لا الفور) بخصوصه وهو مصدر من فارت القِدْر إذا غلت فاستعير للسرعة ثم سميت به الحالة التي لا ريث فيها ولا تعريج على شيءٍ من صاحبها فقيل خرج من فوره كما يقول من ساعته لم يلبث (ولا التراخي) بخصوصه لعدم انتهاض أدلتهما فلا يفيد غير مطلق الفعل لما سبق من أن مدلول صيغته : طلب ماهية الفعل وهما خارجان عنها فمع أيهما حصلت أجزت .
قيل وعلى القول بأنه للفور يجوز التأخير إذا كان يأتي بالواجب على وجه أكمل كما أن رسول الله لما نام في الوادي ولم يوقظهم إلا حر الشمس أمر بالارتحال وصلَّى بعد ذلك
__________
(1) ـ معطوف على قوله القائلون بالتكرار تمت

(1/330)


(و) إذا عرفت ذلك عرفت أنه (إنما يرجع في ذلك) أي في دلالته على أحد الأمور المذكورة (إلى القرائن) الدالة على أي ذلك فإذا قامت قرينة معنية للمراد من ذلك وجب حمله عليه اتفاقاً أمَّا عند من يقول بإفادته ذلك بصيغته ووضعه فظاهر وأمَّا عند غيره فللقرينة ومن القرائن الدالة على التكرار التعليق بعلة نحو ?الزانية والزاني فاجلدوا?[النور] ?وإن كنتم جنباً فاطَّهروا?[المائدة6] فإنه يتكرر بتكررها اتفاقاً للإجماع على وجوب اتباع العلة وإثبات الحكم بثبوتها فإذا تكررت تكرر وإنما لم يتكرر في نحو إن دخلت السوق فاشترِ لحماً سميناً وإن دخلت المرأة الدار فطلقها لقرينة إرادة المرة حتى لو تجرد عنها لاقتضاه فتأمل .
وأما التعليق بوقت مضيق أو موسع فقد تقدم حكمه في صدر الكتاب
[الخلاف في وجوب القضاء بنفس الأمر الأول
أم بغيره]
ثم إن لم يفعل المأمور به في وقته المعين فهل يلزمه القضاء بالمر الأول أو لا يلزمه إلا بأمر جديد ؟
فالمختار ما ذهب إليه أئمتنا عليهم السلام والجمهور أن القضاء إنما يجب بأمر جديد (وأنه) أي أمر الأداء (لا يستلزم) الأداء له ولا (القضاء) له في غيره وقد عرفت حقيقتهما أي لا يدل عليهما بالالتزام لأنه أقرب ما يقدر فيه بعد القطع بانتفاء دلالته عليهما صريحاً
بيان ذلك أن قول القائل صم يوم الخميس لا يدل على صوم يوم الجمعة بوجه من وجوه الدلالة (وإنما) يستفاد وجوب فعله في غير الوقت و(يعلم ذلك بدليل آخر) كقوله تعالى ?فعدة من أيام أخر?[البقرة184]
وقوله (من نسي صلاة أو نام عنها فكفارتها أن يصليها إذا ذكرها) رواه البخاري ومسلم عن أنس .ولا نسلم أن الزمن غير داخل لأن الكلام ليس في الفعل المطلق بل في المقيّد بوقته فالوقت المقدر صفة للفعل الواجب ومن وجب عليه فعل بصفة لا يكون مؤدياً له من دون تلك الصفة ولا أن وقته كأجل الدِّين في عدم سقوطه بفواته للاعتداد بتقديم الدين في الجملة على أجله دونه

(1/331)


(وتكريره) بصيغة نحو افعل عبارة عن ذكره ثانياً فصاعداً إمَّا أن يكون (بحرف العطف) والمراد منه ما يقتضي الجمع من الواو والفاء وثم وحتى لا غيرها لوضعه لواحد معيّن أو غير معيّن أو بغيره إن كان بحرف العطف المذكور فإنه (يقتضي تكرر المأمور به) على المأمور بحسب تكرر الأمر إذ الشيء لا يعطف على نفسه ولأنه لو لم يقتضه لكان الثاني تأكيداً للأول والتأكيد مع حرف العطف قليل(1) سواءً كانا من جنس أومن جنسين متفقين أو مختلفين حكماً أو جهةً أو هيئةً أو مكاناً أو زماناً كصم يوماً وصم يوماً ومثل صم يوماً وصلِّ ركعتين ومثل صلِّ ركعتين فرضاً وصلِّ ركعتين نفلاً ، ومثل صلِّ ركعتين إلى الكعبة وصلِّ ركعتين أو ثلاثاً إلى بيت المقدس ،ومثل صلِّ قاعداً وصلّ قائماً ، ومثل صلّ ركعتين في المسجد وصلّ ركعتين في الجبانة ، أو صم يوم الجمعة وصم يوم السبت (اتفاقاً) بين العلماء وظاهره أن الاتفاق حاصل في نحو صم سنة وصم شهراً واعط زيداً مائة درهم واعطه خمسين
وفيه أن في المقنع للإمام يحيى بن المحسن الدَّاعِي عليه السلام ما معناه وذهب بعض العلماء إلى أن الأمر الثاني يحمل على أنه أريد به البعض الذي دخل تحت الأول
__________
(1) ـ يعني التأكيد اللفظي نحو قوله تعالى ?فلا تحسبنهم? بعد قوله ?لاتحسبن? ونحو والله ثم والله بخلاف المعنوي فلا تعطف ولا بعض ألفاظه على بعض فلا يقال جاني القوم وكلهم ولا جاني القوم كلهم وأجمعون لعدم استقلاله واستغنائه عَمَّا قبله فلو عطف لكان كعطف الشيء على نفسه ذكر معناه أهل المعاني تمت منه

(1/332)


(وكذا) الحكم إذا تكرر (بغير) حرف (عطف) من الحروف المتقدمة كصلّ ركعتين صلّ ركعتين (على) القول (المختار) وهو مذهب الحاكم وقاضي القضاة وكثير من المتكلمين لأن الأمر جارٍ مجرى الخبر ولا شك أن تغاير الخبرين يوجب تغاير المخبرين(1) لما نعلمه في الشاهد فإن من قال علي لفلان درهم ثلاث مرات ولا قرينة حكم عليه بثلاثة دراهم ونحو ذلك فإذا ثبت ذلك في الخبرين وجب ثبوته في الأمرين ، وأيضاً فإن الأمر الثاني لو انفرد لاقتضى مأموراً به غير ما اقتضاه الأمر الأول بلا خلاف ألا ترى أن القائل إذا قال لغيره : صم يوماً ثم قال بعد مدة صم يوماً وجب عليه يومان وكذا لو قال اعط زيداً درهما ثم قال بعد ذلك اعط زيداً درهما إلى غير ذلك فانضمامه إلى الأمر الأول يجري مجرى انفراده في اقتضائه مأمورا آخر لأن اقتضائه مأموراً على حدة عند انفراده إنما كان بظاهر وضعه وصيغته فاقترانه إلى الأول لا يغيرهما فلا يغير مقتضاه .
لا يقال كل من الأمرين لو انفرد لكان دليلاً على وجوب إيقاع الفعل فإذا اجتمعا كان كأنه قد دل على وجوبه دليلان ومعلوم أن الأدلة قد تترادف على مدلول واحد فكما لا يجب أن يكون لكل دليل مدلول على حدة فكذلك لا يجب أن يكون لكل امر مأمور به على حدة ؛
__________
(1) ـ سواءً كانا غير متداخلين كما ذكر أو متداخلين نحو علي لفلان مائة وعلي له خمسون فإنه لو قال أردت بالخمسين البعض الداخل في المائة عُد كلامه لغواً لغةً وشرعاً والله أعلم تمت منه

(1/333)


لأنا نقول لا نسلِّم أن كل واحد منهما دليل على وجوب إيقاع الفعل الذي دل صاحبه عليه بل لكل منهما مدلول غير مدلول الآخر فإذا اجتمعا لم يكن قد دل على مدلول أحدهما إلا دليل واحد وإلا فلا شبهة أن الأدلة قد تترادف على مدلول واحد كمعجزات الأنبياء عليهم السلام ورحمة الله ورضوانه (إلا لقرينة) تمنع من اقتضائه التكرير (من تعريف) بنحو اللام نحو صلّ ركعتين صلى الركعتين فإن اللام ظاهرة في العهد ولا معهود إلا ما تقدم ولذا قال : (والذي نفسي بيده لو كان العسر في جحر ضب لدخل عليه اليسر(1)إنه لن يغلب عسر يسرين ) (2) وعلى هذا حمل ابن عبّاس وابن مسعود الآية أو الإشارة نحو صم يوماً صم هذا اليوم فإعادة المنكر معرفة تقتضي الاتحاد فتكون من باب وضع الظاهر موضع المضمر فكأنه قال صلّهما وصمه (أو غيره) من كونه غير قابل للتكرار بحسب الذات نحو اقتل زيداً اقتل زيداً ن أو بحسب العادة نحو اسقني ماءً اسقني ماءً فإن العادة قاضية بأن مراده أن يسقيه ماءً يزيل به عطشه وذلك يحصل بمرة فإنه حينئذٍ لا خلاف في هذه الصورة أن الثاني تأكيد محض لا تأسيس فإن حصل في الأمرين المتماثلين قرينتا التغاير والاتحاد نحو صلّ ركعتين وصلّ الركعتين وكذا اسقني ماءً واسقني ماءً لأن اللام والعادة يعارضان العطف فالترجيح هو الواجب إن أمكن
__________
(1) ـ أخرجه الطبراني في معجمه الكبيرو الحاكم في مستدركه و ابن الجعد في مسنده و الطبراني في معجمه الأوسط
(2) ـ أخرجه ابن أبي الدنيا في المرض والكفارات و مسلم في صحيحه و البخاري في صحيحه و النسائي في سننه وابن حبان في صحيحه والترمذي في سننه وابن ماجه في سننه و أبو داود في سننه و ابن حنبل في مسنده و الحاكم في مستدركه و الطحاوي في شرح معاني الآثار و الحميدي في مسنده و النسائي في سننه الكبرى و الدارقطني في سننه و ابن راهويه في مسنده و البيهقي في سننه الكبرى و أبو يعلى في مسنده و ابن أبي شيبة في مصنفه

(1/334)


وإلا فالوقف وجزم بعضهم بالتأسيس لأن الواو واللام إذا تعارضا بقي كون التأسيس هو الأصل مرجحاً سالماً من المعارضة واعترض بأن هذا الوجه أيضاً تعارضه براءة الذِّمة .
(و) اعلم أنه (إذا ورد الأمر) بواجب مقيداً بمقدمة لم تكن تلك المقدمة واجبة كأن يقول إن ملكت النصاب فزَّكِ وإن استطعت فحج فهذا لا يكون إيجاباً لتحصيل النصاب وما به الاستطاعة فلا يجب عليه تحصيل المأمور به إلا عند حصول ذلك القيد ؛ إذ وجوبه موقوف على حصول ذلك القيد فيكيف يكون وجوب ذلك القيد تبعاً لوجوب ذلك الأمر ؟ فهذا لا يجب تحصيله اتفاقاً (1) لأن الوجوب مقيد بذلك الشرط فإذا انتفى الشرط انتفى المشروط وهذا ما يقال في الفروع تحصيل شرط الواجب ليجب لا يجب
وأمَّا إذا ورد به (مطلقاً) أي (غير) مقيد بقيد ولا (مشروط) بشرط (وجب تحصيل المأمور به وتحصيل ما لا يتم إلا به) بالأمر الذي وجب به الواجب إذ لا يمكن الإتيان بالمأمور به من دونه سواءً كان سبباً [*]وهو ما يلزم من وجوده الوجود ، شرعياً كان كالصيغة بالنسبة إلى العتق الواجب أو عقلياً كالنظر المحصل للعمل أو عادياً كحز الرقبة بالنسبة إلى واجب القتل أو شرطاً وهو ما يلزم من عدمه العدم شرعاً كان أيضاً كالوضوء ، أو عقلياً كترك أضداد المأمور ولذا قبح كل ضد للواجب منع وجوده أو عادياً كغسل جزء من الرأس في غسل الوجه إذ لا يمكن تأدية الواجب على وجهه الذي وقع التكليف عليه بدون ما يتوقف حصوله عليه
__________
(1) ـ ذكره الشيخ لطف الله تمت منه

(1/335)


وتحقيقه أن إيجاب الشيء يقتضي المنع من تركه وعدم إيجاب مقدمته التي لا يحصل على الوجه المطلوب منه إلا بها يقتضي جواز تركها وهو يستلزم عدم المنع من تركه فيجتمع النقيضان وهو محال وأيضاً فإنه لا فرق عند العقلاء بين أن يقول اشتر(1)اللحم وبين أن يقول اشتر من هذا اللحم وهو حاضر في أن العبد يستحق الذم على الإخلال بالمشي إلى السوق لشراء اللحم كما يستحقه على الإخلال بالشراء لو كان اللحم حاضراً ولو توقف العبد وقال إنِّي لم أفهم من قوله اشتر اللحم وجوب المشي لم يكن ذلك مسقطاً للذم عنه وعلى هذا وردت مسائل الشرع فإن المأمور بالوضوء مأمور بما لا يتم إلا به من المشي في طلب الماء وتناوله وكذلك المأمور بستر الركبة مأمور بستر علو الساق لأن سترها لا يتم بدونه
وإنما يجب تحصيل ما لا يتم المأمور إلا به (حيث كان مقدوراً للمأ مور) نفسه كما مثلنا لا إذا لم يدخل تحت قدرة المكلف به كتحصيل القدم للقيام والقدرة وكالوقت من الأسباب والتكليف من الشروط فإنه لا يجب تحصيل ذلك وإن لم يتم إلا به ـ والقدرة صفة تؤثر في وجود الممكن وإعدمه ـ وكان عالماً بأنه لا يتم إلا به أما في الأمور العقلية والعادية فظاهر لأن معرفتها لا تتوقف على تعريف من جهة الشرع فكان وجوبها مستفاداً من وجوب ما يتوقف عليها بالتبعية ، وأمّا الشرعية فإنما تعرف كونها شرعية يتم المأمور بها بدليل منفصل متقدم فحسب لكن لا وجه لذكر وجب تحصيل المامور به لتقدمه وفعل المكلف المأمور به يفيد الإجزاء وهو وقوع الفعل على وجه يخرج عن عهدة الأمر
__________
(1) ـ في تمثيل بعض الأصوليين اشترِ اللحم من السوق وفيه أنه يخرج عما نحن فيه من الإطلاق والله أعلم تمت منه

(1/336)


( والصحيح أن الأمر) بالأمر (بالشيء) ليس أمراً به فقوله في حق الصبيان مروهم بالصلاة وهم أبناء سبع رواه أبو داود وغيره (1) أمرٌ للولي لا للصبي إذ لو كان الآمر بالأمر بالشيء آمرا بذلك الشيء لكان قول القائل لغيره مر عبدك بأن يتجر في مالك مثلاً تعدياً وقوله للعبد بعد ذلك لا تتجر في مال سيدك مناقضاً والتالي فيهما باطل(2)قطعاً واتفاقاً فالمقدم مثله بيان الملازمة أن أمر غلام غيره بأن يتجر في مال سيده من غير إجازة من السيد تعد وأنه بمنزلة قولك للعبد أوجبت عليك طاعتي ولا تطعني ، أوأنت مأمور بهذا ولست مأمورا به
فإن قيل فهم ذلك من أمر الله تعالى لرسوله أن يأمرنا ومن أمر الملك وزيره بأن يأمر أهل مملكته .
__________
(1) ـ نص الحديث في أبي داود في سننه ج 1/ص 133/ح 495:-عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال قال رسول الله مروا أولادكم بالصلاة وهم أبناء سبع سنين واضربوهم عليها وهم أبناء عشر وفرقوا بينهم في المضاجع وقد أخرجه ابن خزيمة في صحيحه و الترمذي في سننه و أبو داود في سننه و الحاكم في مستدركه و الطبراني في معجمه الكبير و الدارقطني في سننه و ابن عمرو الشيباني في الآحاد والمثاني و الحارث / الهيثمي في مسنده (الزوائد) والبيهقي في سننه الكبرى
(2) ـ ورد بمنع بطلان اللازمين : أما الثاني فظاهر في نحو : مروهم بالصلاة لسبع فإنه لو قال للصبيان : لا تصلوا لكان مناقضة ، وأي مناقضة . وأما الأول فلأن التعدي إنما يلزم على تقدير عدم رضاء السيد فمع توليه أمر العبد مختارا تحقق الرضاء وانتفى التعدي ، ومع عدم بلوغ الأمر إلى العبد لم يتحقق الأمر ، فإن أريد من الترجمة نفي المشافهة فمسلم وهي أخص من الأمر وانتفاء الأخص لا يوجب انتفاء الأعم إهـ من عصام المتورعين للجلال قدس سره والله أعلم تمت حاشية الهداية ج 2/ص 171

(1/337)


أجيب بمنع كونه مفهوماً من مجرد الصيغة وإنما فهم بقرينة التبليغ من الرسول لأمر الله تعالى ومن الوزير لأمر الملك ولا نزاع فيه
[الخلاف في الأمر بالشيء هل هو نهي عن ضده]
واختلف هل الأمر بالشيء المعيّن نهي عن ضده أو لا ؟ وليس الخلاف في هذين المفهومين لاختلافهما باختلاف الإضافة فإن الأمر مضاف إلى الشيء والنهي مضاف إلى ضده ولا في اللفظ لأن صيغة الأمر نحو افعل وصيغة النهي نحو لا تفعل وإنما الخلاف في الشيء المعيّن إذا أمر به فهل ذلك الأمر نهي عن الشيء المعيّن المضاد له أو لا ؟ فإذا قال تحرك فهل هو في المعنى بمثابة لا تسكن فقال الأشعري والباقلاني في قديم قوله هو بمثابته وأنه نهي عن الضد ، واتصافه بكونه أمراً أو نهياً باعتبارين كاتصاف الذّات الواحدة بالقرب والبعد بالنسبة إلى شيئين سواءً كان أيجاباً أو ندباً محتجين بأن فعل السكون مثلاً عين ترك الحركة إذ البقاء في الحيز الأول هو بعينه عدم الانتقال إلى الحيز الثاني وإنما الاختلاف في التعبير فطلب فعل السكون هو طلب ترك الحركة لاتحاد المطلوب فيهما ورد برجوع النزاع لفظياً في تسمية فعل السكون تركاً للضد الذي هو الحركة وطلبه نهياً عنه وكان طريق ثبوته النقل لغة
واختار المؤيّد بالله وصاحب الفصول والقاضي عبد الجبَّار وأبو الحسين البصري والرازي والآمدي أنه (ليس نهياً عن ضده) فلا يكون عينه إذ ليس مدلول الأمر مدلوله ولا يتضمنه إذ ليس بعض مدلوله ولكنه يستلزمه محتجين بأنه لا يتم الواجب والمندوب إلا بترك ضده لأن الضد الذي فيه النزاع هو ما يمنع عن فعل المأمور فلو لم يستلزم الأمر بالشيء النهي عما يمنع من فعله فلا أقل من التخيير في فعل المانع وتركه على السواء وأنه يرفع تحتم المأمور به أو رجحانه وهو باطل وما أدى إلى الباطل باطل فثبت أن الأمر بالشيء يستلزم النهي عن ضده وهو المطلوب

(1/338)


وبهذا يظهر دخول هذه المسألة في مسألة ما لا يتم المأمور به إلا به(1)
والخلاف في النهي هل هو عين الأمر بضده أو لا كالخلاف في الأمر ، والصحيح عند أئمتنا عليهم السلام والمعتزلة ما أشار إليه بقوله (ولا العكس) لاستلزامه أن يكون الزنى واجباً من حيث هو ترك لواطه لأنه ضده(2)وبالعكس فتكون اللواطة واجبة من حيث ترك الزنى وبطلان ذلك معلوم ضرورة
ومن فوائد الخلاف في هذه المسئلة أنه هل يستحق العقاب بترك المأمور به فقط في الأمر وبفعل المنهي عنه (3) فقط في النهي أو بهما مع عقاب ارتكاب فعل الضد في الأول وتركه في الثاني
__________
(1) ـ لا يقال أن الكلام هناك في الأمر بالمقدمات وهنا في النهي عن الموانع لأنا نقول عدم المانع وإن لم يكن جزءاً من المقتضى بالكسر فهو جزء من المقتضى بالفتح مقدور وتحقيقه أن الكف عن الفعل المأمور به ضد للفعل ومانع منه فلا يتم الفعل إلا بإزالة هذا المانع وإزالته إنما تحصل بالكف عنه فيكون الكف عن هذا الكلف مقدمة للفعل مطلوبة لا يتم إلا بها والكف المطلوب لا يكون إلا مطلوب نهي في الأغلب وإن جاز طلبه بأمر من لفظه نحو أكفف وهذا هو المطلوب من أن الأمر بالفعل مستلزم للنهي عن ضده الذي هو الكف عنه وإن شئنا قلنا مستلزم للأمر بالكف عن الكف لأنه مقدمة لا يتم الواجب إلا بها ذكره في شرح الفصول بحروفه تمت منه
(2) ـ لأن المراد بالضد هنا مامنع من فعل الآخر سواءً كان ضداً بالمصطلح أو لا والله أعلم تمت منه
(3) ـ قلت وكذا في جانب الامتثال فإنه إذا فعل المأمور به أثيب ثوابين على فعل المأمور به وترك ضده وإذا ترك المنهي عنه أثيب ثوابين على ترك المنهي عنه وفعل ضده على القول بأن الأمر بالشيء نهي عن ضده والعكس ، وثواباً واحداً على غيره والله أعلم تمت منه

(1/339)


ومنها إذا قال الرجل لامرأته إن خالفتي أمري أو نهيي فأنت طالق ثم قال لها لا تقومي فقامت في الأول أو قومي فقعدت في الثاني فإنها تطلق عند من يقول بأن الأمر بالشيء نهي عن ضده والعكس لأنها خالفت أمره المفهوم من النهي ونهيه المفهوم من الأمر وعلى ظاهر المتن لا تطلق في المثالين وكذا حكم العتق والنذر والإقرار .
(فصل)[في النهي]
(والنهي) لغة المنع ومنه النهية للعقل واصطلاحاً (قول القائل لغيره لا تفعل) كلا تضرب ولا تكفف (أو نحوه) مما يدل على طلب الترك من نهيتك وحرمت عليك وإيَّاك أن تفعل وصه ومه (على جهة الاستعلاء كارهاً لما تناوله) وفوائد القيود قد ظهرت مما تقدم في تعريف الأمر .
واعلم أن قوله كارهاً لما تناوله كما يفيد الاحتراز عن التهديد يفيد أن النهي يصير نهياً بالكراهة للمنهي عنه لأن مسماه وهو الصيغة ترد لمعان كثيرة : منها ما هو حقيقة ، ومنها :ما هو مجاز وهي :

(1/340)


التحريم كقوله تعالى ?ولا تقتلوا أنفسكم?[النساء29]والكراهة كقوله : (لا تصلّوا في مبارك الإبل فإنها من الشياطين وصلّوا في مرابض الغنم فإنها بركة ) رواه أحمد وأبو داود عن البراء بن عازب والدعاء كقوله تعالى ?ربَّنا لا تُزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا?[ آل عمران 8]والإرشاد كقوله : (لا تأكل البصل النَّيءِّ ) رواه ابن ماجة عن عقبة بن عامر ، والتهديد كقولك لعبد لا يمتثل أمرك لا تمتثل أمري ، والتحقير كقوله تعالى ?لَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا ?[الحج(88)] الآية ،وكون المخاطب النبي [*]لا يمنع إفادة التحقير(1)فيكون عاماً له ولغيره وإن كان بالنسبة إليه حراماً (2) وبيان العاقبة : كقو له تعالى ? وَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ ? [إبراهيم(42)] الآية واليأس كقوله تعالى ?لَا تَعْتَذِرُوا الْيَوْمَ ?[التحريم(7)]
وزاد بعضهم أنواعاً ترجع إلى ما ذكرنا .
__________
(1) ـ والتحقير للمنهي عنه والمعنى فهو قليل حقير بخلاف ما عند الله كذا في شرح الجمع تمت
(2) ـ قال في الغاية : ج2/ص178 وقيل لا يصح التمثيل بهذه الآية لأن النهي فيها للتحريم لأن المخاطب بها النبي وتحريم مد الأعين معدود من خصائصه ، وأجيب بأنه لم يخرج عن إفادة التحقير فيكون عاما للنبي ولغيره وإن كان بالنسبة إليه حراما فيكون مشتملا على التحريم باعتبار الخصوص والتحقير باعتبار العموم فليتأمل تمت

(1/341)


إذا عرفت ذلك فلا يتميز النهي عن سائر هذه المعاني إلا بكراهة الناهي للمنهي عنه (و) يخالف الأمر بأنه (يقتضي مطلقه الدوام) أي دوام وجوب الانتهاء عن المنهي عنه وانسحاب حكمه على جميع الأزمان وباقتضائه الدوام يتحقق اقتضاؤه الفور أي تعجيل الانتهاء عن المنهي عنه وذلك لأنه المتبارد عند التجرد عن القرائن ولأنه لو لم يكن كذلك لجاز إيقاع الفعل المنهي عنه ولو مرة واحدة وهو باطل لأن النهي مطلقاً يفيد المنع من المنهي عنه مطلقاً ووقوعه يرفع مطلق الامتناع ولأن العلماء لم يزالوا يستدلون به على الترك مع اختلال الأوقات لا يخصصونه بوقت دون وقت فلو لا أنه لما ذكرناه لما صح ذلك وأيضاً فإنه مقابل الأمر والأمر يقتضي تحصل ماهية المأمور به في الوجود كما سبق فيجب في النهي أن يكون حكمه على العكس من ذلك وهو المنع من حصول ماهية المنهي عنه في الوجود وذلك لا يتم إلا بتكرار الانتهاء
قال أئمتنا عليهم السلام والجمهور وكذا مقيده بشرط أو نحوه نحو العالِم لا تهنه ونحو إن كان فاسقاً فلا تكرمه ولا تدخل الحمام إلا مستتراً لأنه قد ثبت اقتضاؤه مع الإطلاق ، والتقييد لا يخرجه عن موضعه بل التكرار مع التقييد أظهر ولذا قال بالتكرار في الأمر المقيد بمثل ذلك من لم يقل به في المطلق فيقتضي الدوام والفور إلا لقرينة

(1/342)


وقال أبو عبد الله والحاكم وبنى عليه المصنف أنه (لا يقتضي مقيده) الدوام ووجوب التكرار بل الانتهاء مرة إلا لقرينة تقتضي الاستمرار وهذا تصريح بمفهوم الصفة من قوله مطلقة ويكون عن شيءٍ واحد وهو ظاهر أوأشياء متعدده إمَّا جمعاً كالحرام المخير نحو لا تناول السمك واللبن ، ومنه تحريم الجمع بين الأختين فعليه ترك أحداهما فقط فالمحرم جمعهما لا فعل أحدهما وهذه المسئلة كالواجب المخير والخلاف في متعلق التحريم كالخلاف في متعلق الوجوب ولا بد في حسن هذا من إمكان الجمع لئلا يكون النهي عبثاً وإمكان الفرق لئلا يكون تكليفاً بالمحال وإما فرقاً نحو قوله (لايمشين أحدكم في نعل واحدة لينتعلهما معاً أو ليختلعهما معاً) (1)رواه البخاري ومسلم فإنه يصدق أنه منهي عنهما جميعاً لبساً أو نزعاً من جهة الفرق بينهما في اللبس أو النزع لا الجمع بينهما فيه ولا بد في حسنه من إمكان الجمع لئلا يكون تكليفاً بالمحال وإمكان الفرق لئلا يكون عبثاً (2)وإما جمعاً وفرقاً كالنهي عن الزنا والسرقة فكل واحد منهما منهي عنه فيصدق بالنظر إليهما معا أن النهي عن شيء واحد . ولا بد في حسنه من إمكان الخلو عنهما فلا يجوز النهي عن الحركة والسكون معاً لامتناعه فيهما
__________
(1) ـ نص الحديث على ما أخرجه مسلم في صحيحه ج 3/ص 1660/ح أبي هريرة أن رسول الله قال لا يمش أحدكم في نعل واحدة لينعلهما جميعا أو ليخلعهما جميعا وأخرجه البخاري في صحيحه و ابن حبان في صحيحه و الترمذي في سننه و ابن ماجه في سننه و أبو داود في سننه و ابن حنبل في مسنده
(2) ـ كالنهي عن الجمع بين القيام والقعود ، وإنما كان عبثا لأنه يجري مجرى نهي الهاوي من شاهق عن الاستقرار تمت ح غايةج2/ص182

(1/343)


واعلم أنه إن اقترن بوعيد دل على قبح المنهي عنه اتفاقاً وإن صحبته قرينة تدل على عدم قبحه فلمدلولها اتفاقاً وإن تجرد عن ذلك فعند أئمتنا عليهم السلام والجمهور حقيقة في التحريم (و) حينئذٍ (يدل بوضعه) وصيغته (على قبح المنهي عنه) ولا أثر لتقدم الإيجاب في حمله على خلاف ذلك لمثل ما تقدم في الأمر من مبادرة العقلاء إلى ذم عبد لم يترك ما نهاه عنه سيده واستدلال السلف بصيغة النهي المجردة عن القرائن على التحريم وشيوع ذلك من غير إنكار ولكراهة الناهي لما نهى عنه كما سبق في الحد وكراهة الحكيم للشيء تدل على قبحه وإلا لزم كراهية الحسَن وهو محال فكان قبيحاً لعدم الواسطة بين الحسن والقبيح
ثم اختلفوا هل هو بمعناه الحقيقي وهو التحريم يدل على فساد المنهي عنه لغة وشرعاً أو لا ؟ فذهب أبو طالب والمنصور بالله عليهما السلام وبعض الفقهاء والمتكلمين والظاهرية إلى أنه يدل على الفساد (1)شرعاً لا لغة في العبادات والمعاملات سواء رجع إلى نفس المنهي عنه كصلاة الحايض وصومها أو إلى جزئه كالنهي عن بيع الملاقيج أي ما في البطون من الأجنة لجهالة المبيع وهو ركن من البيع والله أعلم ،أو إلى صفته الملازمة كبيوع الربى لاشتمالها على الزيادة اللازمة بالشرط
__________
(1) ـ في الهداية أنه يدل على الفساد المرادف للبطلان والظاهر دلالته على مطلقه على المرادف للبطلان والله أعلم تمت منه

(1/344)


أما دلالته عليه شرعاً فبدلالة الإجماع فإن السلف من علماء الأمصار بالأعصار لم يزالوا يستدلون على الفساد لا على مجرد التحريم بالنهي مجرداً عن القرائن في الربويات مثل : ?لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا? [البقرة(130)] ?وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا? [البقرة(278)] وفي الأنكحة مثل: ?وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ? [البقرةَ(221)] وغيرهما من سائر ماينهى عنه من جنس العبادت والمعاملات من ذلك حكمهم بفساد بيع درهم بدرهمين وبيع الغرر وما دخلته جهالة في المبيع كبعت منك ما أكسبه هذا اليوم أو في الخيار أو الأجل أو في الثمن .
وأما عدم دلالته عليه لغة فلأن فساد الشيء عبارة عن سلب الأحكام له أي عدم ترتب ثمراته وآثاره عليه وليس في لفظ النهي ما يدل على الفساد من جهة اللغة أصلاً يُعلم ذلك قطعاً .
وذهب المصنف إلى ما ذهب إليه بعض أصحابنا وأبو عبد الله البصري وأبو الحسن الكرخي والقاضي عبد الجبَّار وكثير من الشافعية من أنه (لا) يدل على (فساده) أي المنهي عنه أصلاً لا لغة ولا شرعاً لا في العبادات ولا في المعاملات لأنه لو دل عليه لغةً أو شرعاً لناقض التصريح بالصحة لغةً أو شرعاً واللازم باطل ، أمَّا الملازمة فظاهرة ، وأما بطلان اللازم فلأن الشارع لو قال نهيتك عن الربى نهي تحريم ولو فعلت لكان البيع المنهي عنه سبباً للملك لصح من غير تناقض بحسب اللغة والشرع .
وأجيب بمنع الملازمة إذ قد يصرح بخلاف الظاهر ونحن لم ندع إلا أن النهي ظاهر في الفساد والتصريح بخلافه قرينة صارفة عن الحمل على الظاهر الذي يجب الحمل عليه عند التجرد عن القرائن
وللإمام المنصور بالله القاسم ابن محمَّد عليه السلام والد إمامنا المتوكل على الله أيده الله تعالى تحصيل عجيب وهو مذكور في شرح مرقاته لحفيده عز الدِّين محمَّد بن الحسن أيده الله تعالى

(1/345)


وقوله (على المختار فيهما) يحتمل أن يريد بضمير المثنى دلالته على القبح وعدم دلالته على الفساد وأن يريد مسألة ويقتضي مطلقه الدوام لا مقيده ومسألة يدل على قبح المنهي عنه لا فساده فإن الخلاف في كل ثابت كما أشرنا إلى بعضه والله أعلم
ولما فرغ من الأمر والنهي عقبهما بالكلام في العموم والخصوص وقدمهما على المجمل والمبيّن لأنهما يفيدان الحكم بظاهرهما بخلاف المجمل والمبيّن فإنه ولو أفاده المبين بظاهره لم يفده المجمل به كما سيتضح إن شاء الله تعالى فقال
[ العموم والخصوص]( الباب السادس)
من أبواب الكتاب (في العموم والخصوص و) ما يلحق بهما من (الإطلاق والتقييد) ولما كان العموم صفة العام والخصوص صفة الخاص عرف العام والخاص وتكلم في أحكامهما إذ لا بحث عن العموم والخصوص من حيث هما اعني غير معتبر كونها صفة لشيء ،إنما ذكرا من حيث أنهما صفتان للعام والخاص وبمعرفتهما [*] يعرف معنى العموم والخصوص مثلاً إذا عرف أن العام هو اللفظ المستغرق لما يصلح له إلخ علم أن العموم استغراق اللفظ إلخ وقس عليه الخاص والخصوص
وقدم ذكر العام لأن فائدته أشمل فقال (العام هو اللفظ) جنس الحد وإشارة إلى أن العموم من عوارض الألفاظ فيوصف به حقيقة بمعنى أن كل لفظ ـ يصح شركة الكثيرين في معناه لا فيه ـ يسمى عاماً حقيقة أمَّا لو كانت الشركة فيه نفسه لا في مفهومه فهو مشترك لا عام فعلم أن عروض العموم للألفاظ باعتبار معانيها وعلى هذا فلا عموم للمفهوم إذ ليس بلفظ

(1/346)


(المستغرق) احترازاً عما لا يستغرق كالنكرة في الإثبات كرجل ورجلين فإنها لا تستغرق أما في الخبر كجاءني رجل فلا يستغرق ، وأما في الأمر نحو اضرب رجلاً فإنها تعم عموم البدل أي يصدق على كل واحد بدلاً عن الآخر ، وكذا إذا كانت النكرة عدداً كعشرة فإنها لا تستغرق جميع العشرات واللام في (لما يصلح له) زائدة للتقوية كما في قوله تعالى ?فعَّال لما يريد?[البروج] وإنما جاز دخولها هنا ولم يجز في معمول الفعل إلا إذا تقدم عليه لضعف عمل الصفة واحترز به عما لا يصلح له فإن عدم استغراق اللفظ له لا يمنع كونه عاماً وذلك كمن فإنها لا تستغرق حقيقة إلا العقلاء وعدم استغراقها لغيرهم لا يمنع من عمومها
والمراد بالصلاحية أن يصدق عليه لغة مطابقة أو استلزاماً فعموم الأشخاص يستلزم عموم الأحوال والأزمنة والأمكنة إلا لمخصص كقوله تعالى ?كتب عليكم الصيام?[البقرة183] فإن وجوبه عام لأشخاص المكلفين ويستلزم عموم الأحوال كحال الحيض والأزمنة كزمن السفر وكقوله تعالى ?نساؤكم حرث لكم ? فإنه عام لإباحة الزوجات في كل حال حتى حال الحيض وكل زمن حتى نهار رمضان وكل مكان حتى المساجد لولا مخصصها (من دون تعيين مدلوله و عدده) يخرج الرجال المعهودين ونحو عشرة فإنهما وإن استغرقا ما يصلحان له لكن مع تعيين المدلول والعدد فليسا بعامين
(والخاص بخلافه) فهو اللفظ الذي لا يستغرق ما يصلح له وما تعين مدلوله بعهد أو عدد كالرجال لمعهودين وعشرة وزيد وبهذا يظهر ضعف اقتصار الشراح(1) في تفسيره على اللفظ الذي لا يستغرق ما يصلح له
__________
(1) ـ ومنهم القاضي العلامة أحمد بن يحيى حابس رحمه الله تعالى ولعله لترجيحه لحد أبي الحسين للعام من أنه اللفظ المستغرق لما يصلح له وأنه في شرحه أجاب من اعتراض المهدي عليه السَّلام له والله أعلم تمت منه

(1/347)


( والتخصيص إخراج بعض ما يتناوله العام ) على تقدير عدم المخصص فهوكقولهم خصص العام وهذا العام مخصوص ولا شك أن المخصص ليس بعام(1) وإنما المراد انه عام لولا تخصيصه أي إخراجه عما يقتضيه ظاهر اللفظ من الإرادة والحكم لا عن الحكم نفسه ولا عن الإرادة نفسها فإن ذلك الفرد لا يدخل فيهما حتى يخرج ولا عن الدلالة فإن الدلالة هي كون اللفظ بحيث إذا أطلق فهم منه المعنى وهذا حاصل مع التخصيص وقوله إخراج بعض إشارة إلى أنه يمنع تخصيص العام حتى لا يبقى شيء وأنه يجوز تخصيص الأكثر فإنه يسمى بعضاً ويؤيده ما سيأتي إن شاء الله تعالى من أنه يصح استثناء الأكثر
(وألفاظ العموم)
الموضوعة له (كل وجميع) وسواء كانا مثبتين أو منفيين ومدخولهما عاقلاً أو غيره إلا أن دخول السلب عليهما يفيد سلب العموم المستفاد منهما
(وأسماء الاستفهام والشرط) نحو من للعماء وما لغيرهم غالباً وأي لهما وأين وأيا للمكان استفهاما وشرطا [*]وفي عد أسماء الاستفهام منها نظر ؛لأن عمومها بدلي لا استغراقي كما أوضحته في إيضاح المغني
__________
(1) ـ والفرق بين العام المخصوص والعام المراد به الخصوص أن الثاني مجاز قطعاً بخلاف الأول فإن فيه خمسة عشر مذهباً المختار منها أنه حقيقة كما سيأتي إن شاء الله تعالى وأن قرينة الأول تكون عقلية ولفظية والثاني لا تكون إلا عقلية وأن قرينة الأول قد تنفك عنه بخلاف الثاني وأنه يصح أن يراد بالثاني واحدكما تقدمت أمثلته في المجاز شرحاً وتحشية بخلاف الأول ففيه خلاف قال الزركشي في شرح الجمع عقيب ذكر الوجه الأول وهذا إذا قلنا أن العام لا يدل على أفراده مطابقة وإلا كان كاستعمال المشترك في أحد معنييه فيكون استعمالاً حقيقياً إهـ . بالمعنى تمت منه

(1/348)


(والنكرة المنفية) أي الواقعة في سياق النفي بما أو لا أو نحوهما أو ما في معناه من الاستفهام والنهي إذا كانت غير مصدرة بلفظ كل لأن ما يفيد العموم في النفي إنما هو النكرة التي تفيد الوحدة في الإثبات وأما التي تفيد العموم في الإثبات كالمصدرة بلفظ كل فعند ورودها في سياق النفي لا تفيد في الأغلب إلا نفي العموم لا عموم النفي لأن رفع الإيجاب الكلي سلب جزئي وقلنا في الأغلب للاحتراز عن نحو ?والله لا يحب كل مختال فخور?[لقمان 18] ?ولا تطع كل حلاف مهين?[ن 10] مثال ذلك ?ما من إله غير الله ?[الأنعام46]?ولا يظلم ربُّك أحداً?[الكهف 49] ونحو? هل من خالق غير الله ?[فاطر3]?ولا تطع منهم آثماً أو كفوراً? [الإنسان 24]
وأما النكرة المثبتة فلا تفيد العموم أمَّا المفرد فظاهر وأما الجمع فلأنه كالمفرد في الوحدان ولا شك أن رجالاً صالح لكل جماعة على سبيل البدل كما أن رجلاً صالح لكل واحد على سبيل البدل ورجل ليس للعموم فيما يتناوله من الوحدان فيجب أن لا يكون رجال للعموم فيما يتناوله من الجماعات ولصحة تفسير له عندي عبيد بثلاثة ؛ لأنها أقل الجمع في الأصح ولو كان ظاهراً في العموم لما صح تفسيره بأقل الجمع لأنه بعض المقر به ظاهراً لا كله ،
لا يقال العدول عن الظاهر لقيام القرينة العقلية وهي استحالة أن يكون له عند المتكلم جميع عبيد الدنيا ؛ لأنا نقول معنى العموم جميع عبيده فالمراد بالعموم هنا عند القائل به العموم العرفي ولا قرينة تنفي ذلك كما في جمع الأمير الصاغة والله أعلم .
(والجمع المضاف) إلى معرفة سواءً كان له مفرد من جنسه نحو قوله تعالى : ? يوصيكم الله في أولادكم? [النساء11] ?خذ من أموالهم صدقة تطهرهم? [التوبة 103] أولا كقوله تعالى : ?يا قومنا أجيبوا داعي الله? [الأحقاف 31] وأمَّا المضاف إلى النكرة فكالنكرة

(1/349)


(والموصول) كمن وما نحو : ? وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ ? [النحل 94](1)(الجنسي) احتراز عن العهدي فإنه لا يفيد العموم نحو أكرم الذي كان عندك بالأمس إذا كان المراد معيناً
(والمعرف بلام الجنس) أي الاسم الذي دخلت عليه اللام مشارا بها إلى الجنس نفسه من حيث الوجود على الإطلاق
فيخرج المعرف بلام العهد الخارجي لأن الإشارة بها إلى حصة معينة من الجنس والمعرف بلام الحقيقة والطبيعة فإن الإشارة بها إلى الجنس نفسه لا من حيث وجوده في ضمن الأفراد بل من حيث هو كما في التعريفات ونحو قولنا الرجل خير من المرأة نريد أن جنس الرجل خير من جنس المرأة ولا يلزم منه ألا تكون امرأة خيراً من رجل لجواز أن يكون جنس الرجل الحاصل في ضمن كل فرد منه خيراً من جنس المراة الحاصل في ضمن كل فرد منها مع كون خصوصية أفراد منها خيرا من خصوصيات أفراد منه كفاطمة بنت رسول الله
__________
(1) ـ في الأم ?ولله يسجد من في السموات ومن في الأرض? وهوخطأ والصواب ما أثبتناه وهذه الآيات الواردة فيها يسجد : ?وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَظِلَالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ?(15)الرعد ?وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ دَابَّةٍ وَالْمَلَائِكَةُ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ? (49)النحل ?أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ ? (18)الحج

(1/350)


والمعرف بلام العهد الذهني فإنها فيه مشار بها إلى الجنس نفسه من حيث وجوده لا في ضمن أي فرد على الإطلاق بل في ضمن فرد غير معين وذلك الفرد المندرج تحته باعتبار مطابقته للماهية معلوم عند المتكلم والسامع له فله عهدية بهذا الاعتبار فسمي معهوداً ذهنياً واتفقوا على أن العهد الذهني يتوقف على قرينة البعضية ومع انتفائها يجب الحمل على الاستغراق وهو ما أردناه من العموم وعليه جمهور الأصوليين من غير فرق بين ما مَيَّز واحده بالوحدة أو بالتاء وما لم يكن كذلك (مفرداً كان) ذلك الموصول والمعرف بهذه اللام كالضارب والإنسان (أوجمعاً) له مفرد من جنسه نحو: ? وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ? [المائدة (93)] أو لا كالقوم وإنما كانت هذه الألفاظ موضوعة للعموم لتبادره عند الاطلاق من ذات الصيغة قطعاً والتبادر دليل الحقيقة فثبت أن للعموم صيغة وهي ما ذكرنا بالاستقراء ولاستدلال العلماء بلا نكير فإنا نقطع بأنهم لم يزالوا يستدلون بمثل ?وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا? [ المائدة (38)] ?الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ? [النور(2)] وكاحتجاجهم بحديث مسلم وأبي داود وغيرهما: (الذهب بالذهب والفضة بالفضة والبُّر بالبُّر والشعير بالشعير والتمر بالتمر والملح بالملح مثلاً بمثل سواءً بسواء يداً بيد فإذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم إذا كان يداً بيد ) وشاع وذاع ولم ينكره أحد وللقطع بأن العموم في مثل قوله تعالى حكاية عن اليهود ?مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ?[الأنعام91] إنما فهم من الصيغة لا من أمر خارجي ،

(1/351)


وأيضاً قال تعالى ?وَنَادَى نُوحٌ رَبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَق? [هود(45)] فهم عليه الصلاة والسلام من قوله تعالى? وَأَهْلَكَ ? [هود(40)/ المؤمنون27 /العنكبوت33] أن ابنه داخل حتى أجابه تعالى بـ? إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ? [هود(46)] وقال تعالى ? إِنَّا مُهْلِكُو أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ ?[ العنكبوت(31)]لما فهم إبراهيم عليه الصلاة والسلام العموم فقال إن فيها لوطاً فأجابته الملائكة صلوات الله عليهم بتخصيص لوط عليه الصلاة والسلام? وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ? [العنكبوت(32)] من العموم وقال : (من قال السَّلام علينا وعلى عباد الله الصالحين قد أصاب كل عبد صالح في السماوات والأرض) (1) وغير ذلك كثير
[دخول المتكلم في عموم خطاب نفسه]
ولا شبهة في أن المتكلم بالعموم إن قامت قرينة على دخوله في مقتضى العموم نحو أن يقول الله يأمرنا بالصلاة فهو داخل في عموم خطابه وإن قامت على عدم دخوله في ذلك نحو أن يقول إن الله يأمركم بالصلاة فهو غير داخل
__________
(1) ـ نص الحديث :- على ما أخرجه البخاري في صحيحه حدثني شقيق عن عبد الله قال كنا إذا صلينا مع النبي ( )قلنا السلام على الله قبل عباده السلام على جبريل السلام على ميكائيل السلام على فلان وفلان فلما انصرف النبي ( )أقبل علينا بوجهه فقال إن الله هو السلام فإذا جلس أحدكم في الصلاة فليقل التحيات لله والصلوات والطيبات السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين فإنه إذا قال ذلك أصاب كل عبد صالح في السماء والأرض أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا عبده ورسوله ثم يتخير بعد من الكلام ما شاء

(1/352)


وإن تجرد خطابه عنها فالذي عليه الأكثر وهو (المختار أن المتكلم) بالعموم (يدخل في عموم خطابه) ولو حكاية كـ? يَاأَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ? [البقرة(21)][*] لوجود المقتضى وهو التناول اللغوي فوجب تناوله له في التركيب ، وكونه متكلماً أو حاكياً لا يصلح مانعاً لذلك سواء كان خبراً نحو ?وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ?[الحديد(3)] أو إنشاء نحو من أكرمك أكرمه أو فلا تهنه ومنه قو له : (بَشِّر المشائين إلى المساجد في الظلم بالنور التام يوم القيامة) (1) فيدخل (صلى الله عليه وآله وسلم) ولا يلزم أن يكون آمراً مأموراً أو مبلغاً مبلغاً إذ الآمر الله عزّ وجلّ والمبلغ جبريل عليه السَّلام والنبي حاكٍ لتبليغ جبريل ما هو داخل فيه من أوامر الله تعالى
__________
(1) ـ أخرجه الحاكم في مستدركه وابن خزيمة في صحيحه و الترمذي في سننه وابن ماجه في سننه و أبو داود في سننه و الطيالسي في مسنده و الطبراني في معجمه الكبير و القضاعي في مسند الشهاب و البيهقي في سننه الكبرى

(1/353)


(و) اختلف في اللفظ العام إذا قصد به المدح أو الذم هل يبقى على عمومه أو لا ؟ فالمختار (أن مجيء) اللفظ (العام للمدح) كقوله تعالى ?إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ? [الإنفطار(13)] (أو الذم) نحو ?وإن الفجَّار لفي جحيم?[الانفطار14]? وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ? [التوبة(34)] ( لا يبطل عمومه) ولا يقدح فيه لأن قصد المبالغة في مقام الحث على الفعل والزجر عنه لا ينافي العموم واللفظ عام بصيغته وضعاً فوجب التعميم عملاً بالمقتضي السالم عن المعارض ونقل الشافعي المنع من عمومه حتى أنه منع التمسك بقوله تعالى ?والذين يكنزون الذهب والفضة? الآية في وجوب زكاة الحلي مصيراً منه إلى أن العموم لا يقع مقصوداً في الكلام وإنما سيق الكلام للمدح أو الذم لا لإيجاب الزكاة في كل ذهب وفضة
(و) اعلم أن مذهب جمهور أصحابنا أن المقتضي بصيغة الفاعل وهو ما لا يستقيم في العقل والشرع كلاماً إلا بتقدير وثم أمور صالحة لاستقامة الكلام تعم المقتضيات فنقدر كلها إلا ما خصه دليل كما تقدم في قوله : (رفع عن أُمَّتِي الخطأ والنسيان ...الخبر)(1) في الباب الثالث وسيأتي في الباب السابع
__________
(1) ـ نص الحديث ما أخرجه الطبراني في معجمه الكبير عن ثوبان عن رسول الله ( )قال إن الله تجاوز عن أمتي ثلاثة الخطأ والنسيان وما أكرهوا عليه أخرجه ابن حبان في صحيحه وابن ماجه في سننه و الطبراني في معجمه الكبير و الصغير و الدارقطني في سننه

(1/354)


وذهب أبو طالب والإمام يحيى عليهما السَّلام وكثير من الأصوليين إلى أنه لا عموم له لأن العموم من عوارض الألفاظ والمقدر ليس بلفظ ورد بمعنى المقدمتين أما الأولى فلأن العموم في الحقيقة إنما يعرض للفظ باعتبار مدلوله بأن يراد جميع أفراده كما سبق وأما الثانية فلأن المقدر لفظ حكماً (1)
و(أن) الفعل الواقع بعد نفي أو معناه إن ذكر متعلقه فالأمر على ما يقتضيه من عموم أو خصوص بلا خلاف يعلم وأما إذا حذف فإن أكد الفعل بمصدره نحو والله لا أكلت أكلاً ، أوإن أكلت أكلاً فأنت حُر فإنه يقبل التخصيص بالنيَّة واللفظ اتفاقاً وإن لم يؤكد (نحو)والله (لا أكلت) أوإن أكلت فأنت حُر فالمختار عند الشافعية وأبي يوسف وأكثر أصحابنا أنه(2) (عام في المأكولات) وسائر متعلقاته ولو كان الغرض نفي نفس الفعل وتنزيله منزلة اللازم لاستلزامه نفي جميع متعلقاته (فيصح تخصيصه) باللفظ اتفاقاً وبالنيَّة في الأصح فإذا قال أردت إلا العنب مثلاً قبل منه وقال المؤيّد بالله عليه السلام وأكثر الحنفية أنه غير عام في مفعولاته فلا يقبل تخصيصاً فلو خصصها بمأكول لم يقبل منه(3) لأن التخصيص من توابع العموم
[الخلاف في الوقت الجائز للمجتهد العمل
بالعموم فيه ]
__________
(1) ـ المقدر اسم أن ولفظ خبرها وحكما حال تمت
(2) ـ هذا الذي ذكر معناه صاحب الفصول وعبد الجبَّار أعني أن الخلاف في المتعدي والقاصر والذي ذكر ابن الحاجب والرازي والغزالي والآمدي أن الخلاف إنما هو في المتعدي فقط وادعى ابن الحاجب الوفاق وفيه أن بعض الشافعية ذكر صحة التخصيص بالأزمنة والأمكنة ونقل في ذلك نصاً عن الشافعي تمت منه .
(3) ـ والمراد أن الحاكم يحكم عليه بالحنث إذا تعلق به حق لمخلوق كطلاق أو عتاق لأن نحو اليمين وقعت على جنس الفعل المتحقق في كل فرد منه تمت منه

(1/355)


(و) اختلف في الوقت الذي يجوز للمجتهد العمل بحكم العموم فيه فمختار أئمتنا عليهم السلام والجمهور (أنه يحرم) عليه (العمل بالعام قبل البحث عن مخصصه) المنفصل وظاهره من غير فرق بين أن يضيق الوقت عن البحث أو لا وبين أن يكون وجود العام في عصره أو بعد وفاته لتوقف ظن عدم المخصص عليه لكثرته حتى قيل لا عام إلا مخصص إلا قوله تعالى ?وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ?[التغابن(11)] ? وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا ?[هود(6)]
ونظر هذا القولَ إمامُنا أمير المؤمنين المتوكل على الله إسماعيل بن الإمام المنصور بالله القاسم بن محمَّد عليهم السلام بأن المخصوص في غاية القلة وسرد عليه آيات كثيرة
وقال الصيرفي والبيضاوي وإليه ميل الرازي إنه يجوز العمل بالعام إلى أن يظهر الخاص ولا يجب البحث ذهاباً منهم إلى أن العموم حقيقة في الاستغراق ، والحقائق يلزم التمسك بظواهرها من دون طلب للمجازات لأن الحقائق هي الأصل والتخصيص مجاز طار والأصل عدمه .
وأجيب بأن كون الأصل الحقيقة وعدم المخصص لا يفيد ظن عدم التخصيص بل لا يبعد ظن وجوده قبل الطلب وذلك لسعة التخصيص خصوصاً في أحكام الشرع والعمل فيها مع الشك والوهم لا يجوز اتفاقاً
(و) إذا ثبت وجوب البحث فاعلم أنه قد اختلف في قدره فقال الباقلاني ومتابعوه إنه لا بد من القطع بانتفاء المخصص مصيراً إلى أن الجزم بعمومه والعمل به مع احتمال وجود المعارض للعموم ممتنع فإذا لم يحصل القطع بعدمه يمتنع الجزم بعمومه والعمل به
قالوا ويحصل ذلك بتكرر النظر والبحث واشتهار كلام العلماء من غير أن يذكر أحدهم مخصصاً

(1/356)


ومختار أئمتنا عليهم السلام والجمهور أنه (يكفي) الباحث (المُطَّلِع) على مظانه من كتب السنة المدونة والجامعة لأبواب الفقه مع أدلتها وإن لم يحط بها أجمع لتعذرها (ظن عدمه) أي المخصص فمتى بحث مظانه ولم يجده وغلب في ظنه فقده جاز له العمل حينئذٍ بمقتضاه لأن الواجب في الأحكام العمل فيها بالعمل إن أمكن وإلا فبالظن إن تعذر والعلم طرقه منسدة لاتساع نطاق الإسلام وانتشار الأحاديث النبوية في الأقطار فلا سبيل لأحد إلى الوقوف منها على اليقين وإذا أعوز اليقين وجب الرجوع إلى غالب الظن وكذلك الحكم في كل دليل مع معارضه كالنص مع ناسخه والمطلق مع مقيده فهذه المسألة راجعة إلى مسألة أنه يجب على المجتهد البحث عن الناسخ والمخصص الآتية في باب الاجتهاد فلا حاجة إلى ذكرها وإن اختلف الاعتبار فتأمل ، وإنما ساغ له الوقوف على غالب ظنه مع تجويزه حصول ما لم يحصل لو أعاد النظر لتأديته إلى ما لا ينقطع من التجويزات وعدم امتثال ظاهر الدليل وقد استفيد من الحد أن الخطاب الخاص لمعيّّن لا يدخل فيه غيره إلا بدليل وأن الخطاب لنحو الناس والمؤمنين يشمل العبيد إلاّ لمخصص كما في الحج والجهاد والجمعة
واختلف في الخطاب الوارد في زمن الرسول بما هو من أوضاع المشافهة فقالت الحنابلة وبعض الحنفية واختاره المنصور بالله القاسم بن محمَّد والد إمامنا المتوكل على الله سلام الله عليهم إنه يعم الحاضرين والموجودين ومن بعدهم إلى انقطاع التكليف وإلا لم يكن مرسلاً إليهم واللازم باطل فالمقدم مثله أما الملازمة فلأنه لا معنى لإرساله إلا أن يقال له بلغهم أحكامي ولا تبليغ إلا بهذه العمومات وهي لا تتناولهم وأما بطلان اللازم فبالإجماع

(1/357)


واجيب بمنع الأولى وهي الشرطية بمعنى أنه لا يلزم من عدم الخطاب عدم الإرسال وما ذكر في بيان الملازمة لا يصح ،لأن التبليغ لا ينحصر في خطاب الشفاه بل يحصل للبعض شفاهاً وللبعض بنصب الدلائل والأمارات على أن حكمهم حكم المشافهين
ومختار أكثر أصحابنا والحنفية والشافعية والمعتزلة (أن) ذلك أعني خطاب المشافهة مثل: (?يا أيها الناس?) ? يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا? [التغابن(14)] ?يَاعِبَادِيَ? [العنكبوت(56)] (لا يدخل فيه) أي في ذلك الخطاب (من سيوجد) من المكلفين بعد الحاضرين أو الموجودين من جهة اللفظ إذ لا يقال ?يَاأَيُّهَا النَّاسُ?[الزخرف(13)]ونحوه للمعدومين علم ذلك قطعاً
وأيضاً فإنه يمتنع خطاب الصبي والمجنون بمثله فإذا لم يوجه إليهم مع وجودهم لقصورهم عن الخطاب فالمعدوم أولى فلا يثبت حكمه لمن سيوجد (إلا بدليل آخر) وهو ما علم من عموم دينه إلى يوم القيامة بالضرورة وقوله تعالى ? هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُم ? [الجمعة(2)]إلى قو له ?وَءَاخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ ?[الجمعة(3)] وقو له تعالى ?لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ?[الأنعام(19)] (1)أي وأنذر من بلغه القرآن من العرب والعجم أو من الثقلين أو من بلغ أوان التكليف وقوله (وبُعثت إلى الناس عامة )(2) .
__________
(1) ـ ففي الآية دليل على عموم رسالته إلى الثقلين والملائكة أيضا عليهم السلام كما أن قوله تعالى ? وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين ? كذلك وهذه أظهر والله أعلم تمت منه
(2) ـ هذا من حديث طويل نصه على ما أخرجه البخاري في صحيحه ج 1/ص 128/ح 328 أعطيت خمسا لم يعطهن أحد قبلي نصرت بالرعب مسيرة شهر وجعلت لي الأرض مسجدا وطهورا فأيما رجل من أمتي أدركته الصلاة فليصل وأحلت لي المغانم ولم تحل لأحد قبلي وأعطيت الشفاعة وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة وبعثت إلى الناس عامة

(1/358)


واعلم أن الصيغة التي يصح إطلاقها على الذكور خاصة قد تكون موضوعة بحسب المادة للذكور خاصة مثل الرجال ولا نزاع في أنها لا تتناول النساء وقد تكون بحسب المادة موضوعة لما هو أعم مثل الناس ومن وما ولا نزاع في أنها تتناول النساء إن لم يكن العائد مذكراً وقد تكون بحسب المادة موضوعة لهما وبحسب الصيغة للذكور خاصة وهو محل النزاع
فاختار الأكثر (أن دخول النساء في عموم الذين آمنوا ونحوه) مما كان كذلك غير ظاهر فيحتاج فيه إلى القرينة لإجمال أهل العربية على أنه جمع المذكر وهو بتضعيف المفرد بالإجماع ، والمفرد مذكر ولما روي أنه قال : (ويل للذين يلمسون فروجهم ولا يتوضون فقالت عائشة رض الله عنها : فالنساء يا رسول الله فقال : (ذلك النساء )(1)فلو كنّ داخلات في جمع الرجال لقال لها قد دخلن في الكلام وأنكر عليها سؤالها عما قد تناوله الخطاب ذكره في شرح الجوهرة للدواري
__________
(1) ـ ذكره في كنز العمال بلفظ يمسون وعزاه إلى الدارقطني ولفظ سنن الدارقطني ج: 1 ص: 147 9 عن عائشة أن رسول الله قال ثم ويل للذين يمسون فروجهم ثم يصلون ولا يتوضؤون قالت عائشة بأبي وأمي هذا للرجال أفرأيت النساء قال إذا مست إحداكن فرجها فلتتوضأ للصلاة عبد الرحمن العمري ضعيف إهـ وقد احتج به الآمدي في الاحكام على نفس المسألة تمت

(1/359)


ولقصة أم سلمة(1)فإن المأثور أن جمعاً من النساء كنّ عند أم سلمة فتذاكرن القرآن وما ورد فيه من مدح الرجال وتعظيم شأنهم فقلن إن الله تعالى ما ذكر النساء فيه بخير(2) فذكرت أم سلمة ذلك لرسول الله فأنزل الله تعالى ?إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ? [الأحزاب(35)] فنفت ذكرهن مطلقاً فلو كنّ داخلات لما صدق نفيهن فلم يجز تقريره للنفي
فإن قيل :يجوز أن يكون تقريره لفهمه من سؤال أم سلمة أن مرادها من عدم الذكر عدم ذكرهنّ بصيغة ظاهرة فيهن لا عدم الذكر مطلقاً .
قلنا : سؤال أم سلمة صريح في عدم الذكر مطلقاً فلو ذكرن ولو تضمناً لما صح هذا الإخبار على الإطلاق
فإن قيل : لو لم تدخل النساء في هذه الصيغ لما شاركن الرجال في الأحكام لثبوت أكثرها بهذه الصيغ ك?وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَءَاتُوا الزَّكَاةَ? [النور(56)/البقرة43] واللازم منتفٍ بالاتفاق .
__________
(1) ـ أورد القصة أحمد ابن حنبل في مسنده ج 6/ص 301/ح 26617 ولفظه : ثنا عبد الرحمن بن شيبة قال سمعت أم سلمة قالت قلت يا رسول الله ما لنا لا نذكر في القرآن كما يذكر الرجال قالت فلم يرعنى منه يوما الا ونداؤه على المنبر يا أيها الناس قالت وأنا أسرح رأسي فلففت شعرى ثم دنوت من الباب فجعلت سمعي عند الجرير فسمعته يقول ان الله عز وجل يقول ?إن المسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات هذه الآية قال عفان أعد الله لهم مغفرة وأجرا عظيما?
(2) ـ وكأن قوله عزّ من قائل ?فاستجاب لهم ربُّهم أنِّي لا أضيع عمل عامل منكم من ذكر أو أونثى? وقوله تعالى ?من عمل صالحاً من ذكر أو أنثى وهو مؤمن? وقوله تعالى ?عسى ربُّه إن طلقكن أن يبدله أزواجاً خيراً منكنَّ مسلمات مؤمنات قانتات تائبات عابدات سائحات ثيبات وأبكاراً? متأخر عن هذه الآية تمت منه

(1/360)


قلنا إن أردتم بقولكم لما شاركن الرجال لما شاركنهم في الأحكام بذلك الخطاب فالملازمة مسلمة ولكن لا نسلِّم بطلان التالي لأن المتفق عليه بطلان القول بعدم مشاركتهم [على الإطلاق](1)لا القول بعدم مشاركتهم بذلك الخطاب فإنه محل النزاع وإن أردتم به لماشاركنهم في الأحكام على الإطلاق فالملازمة ممنوعة لجواز أن تكون المشاركة (بنقل الشرع) أي بدليل خارج عن ذلك الخطاب من نص أو إجماع أو قياس (أو بالتغليب) من أهل اللسان العربي للمذكر على المؤنث وإطلاق ما هو للمذكرين على جمع فيه ذكور وإناث صحيح ولكنه مجاز ولا يلزم أن يكون ظاهراً
فإن قيل الأصل في الإطلاق الحقيقة ولا يصار إلى المجاز إلا بدليل .
قلنا لا إشكال ولا نزاع في أن نحو ?ادخلوا?(2)و?اهبطوا?(3) للرجال وحدهم حقيقة فلو كان لهم وللنساء حقيقة لزم الاشتراك والمجاز أولى منه كما سبق
(و) المختار عند أكثر الأصوليين (أن ذكر حكم لجملة لا يخصصه) أي ذلك الحكم (ذكره) مرة أخرى (لبعضها) فتحمل الجملة على عمومها ولا يخصص بذكر حكم ذلك البعض بشرط ألا يكون للخاص مفهوم مخالفة يقتضي نفي الحكم عن غيره من أفراد العام كما إذا قيل في الغنم زكاة في الغنم السائمة زكاة وإنما ترك التقييد بهذا الشرط اعتماداً على ما سبق
ومن أمثلته الظاهرة [*]حديث (الطعام بالطعام مثلاً بمثل) وفي حديث آخر (البُّر بالبُّر ) وإنما لم يخصص به لأنه كأن الخاص ورد فيه دليلان دليل يشمله وغيره ودليل يخصه
__________
(1) ـ على الإطلق عير ثابتة في الأم وقد أثبتناها كما في شر ح الغاية تمت
(2) ـ تكرت في القرآن وإليك حصرها: البقرة(58/ 208) النساء(154) المائدة(21) الأعراف38الأعراف49يوسف99النحل(32)النمل(18)الزمر(72) غافر(76) الزخرف(70)
(3) ـ البقرة 26/38/61 الأعراف24

(1/361)


(وكذا) أي مثل ما سبق في عدم التخصيص به تعقيب العام بما لا يصلح إلا لبعضه إما (عود الضمير إلى بعض أفراده )أي العام[*] أو استثناء كقوله تعالى ?لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ ? [البقرة(236)] إلى قوله ?إلا أن يعفون? فإن لفظ النساء يشمل المجنونة(1)، والعفو يختص المالكات لأمرهن فالآية مثال للإضمار والاستثناء أو غير ذلك كالمتعة المختصة بغير الممسوسة والمفروض لها في قوله تعالى ?وَمَتِّعُوهُنَّ ? [البقرة(236)] مع قوله ?وَلِلْمُطَلَّقَاتِ? [البقرة(241)] الآية وعطف العام على الخاص وعكسه (إذ لا تنافي) ولا تعارض (بين ذلك) المذكور (في) هاتين (الصورتين) المذكورتين أي ذكر حكم لجملة مع ذكره لبعضها بذلك الشرط وبين العام وتعقيبه بما لا يصلح إلا لبعضه والموجب للتخصيص هو التنافي أو ما يجري مجراه لأنهما إذا تعارضا تعذر العمل بهما من كل وجه فيصار إلى التخصيص والعمل بهما من وجه ومثال التنافي اقتلوا المشركين لا تقتلوا أهل الذمة ومثال ما يجري مجراه اقتلوا المشركين أكرموا أهل الذمة وإذا لم يتعارضا وجب العمل بهما من كل وجه من غير تخصيص عملاً بالمقتضى السالم من المعارض كما نحن فيه فإنه لا تنافي ولا ما يجري مجراره [*] نعم أما التمثيل بذلك بنحو قوله عز قائلا ?[يَاأَيُّهَا النَّبِيّ]ُ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاء? [الطلاق(1)] الآية مع ? لا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا?[الطلاق(1)] وقوله تعالى ? وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ ? [البقرة(228)] مع قوله ? وَبُعُولَتُهُنَّ ?[البقرة 228] فلا
__________
(1) ـ في كتب الأصول يشمل الصغيرة والمجنونة ، وفيه أن النساء جمع المرأة كما نص عليه الرضي في باب المجموع ، وقد نقلته عنه في الباب الثالث ، والمرأة عبارة عمن جاوز حد البلوغ من إناث بني آدم فلا يشمل الصغيرة إلا تغليبا فكان تناولها بالشرع والله أعلم تمت منه

(1/362)


يصلح ؛ لأنه روي عن سنن أبي داود وجامع البيان والسيد محمد بن إبراهيم الوزير أن الطلاق كان كله في صدر الإسلام رجعيا والله أعلم قلت والمناسب لذكر هاتين المسئلتين إنما هو عقيب ذكر المخصص مع ما لا يصح التخصيص به من مذهب الراوي ونحوه
[الخصوص]
(و) لما فرغ من بيان العموم وألفاظه وما لا يخرج به عن كونه عاماً أخذ يبيِّن طرق التخصيص فقال (المخصص) بكسر الصاد حقيقة هو إرادة المتكلم لأنه لما جاز أن يريد بالخطاب خاصاً وعاماً لم يترجح أحدهما على الآخر إلا بالإرادة ويطلق أيضاً على الدَّال عليها مجازاً سواء كان ذلك الدال عليها لفظياً أو عقلياً تسمية للدال باسم المدلول إلا أنه مجاز قد أخرجته الشهرة إلى حيز الحقيقة
وطرقه التي يعرف بها قسمان: لأنه إمَّا (متصل) لا يستقل بنفسه (و) إمَّا (منفصل) يستقل
(فالمتصل) كان القياس ذكر أما هنا أو حذفها من المنفصل وهو قسمان ؛ لأنه إما أن يخرج المذكور ومنه (الاستثناء) المتصل وهو المخرج من متعدد بنحو إلا لا المنقطع فلا يخصص به إذ ليس للإخراج وهو مأخوذ من الثني يقال ثنا عنان الفرس إذا رده من جريه ونحو أكرم الناس إلا الجهال أخرج الجهال وهو مذكور في الكلام

(1/363)


وإما أن يخرج غير المذكور (و) هو (الشرط) اللغوي وهو تعليق أمر على أمر بإن أو إحدى أخواتها كما سبق وقد يتحد كل واحد من الشرط والجزاء ويتعدد جمعاً وبدلاً فهذه تسعة أقسام نحو إن دخل زيد الدار أو الدار والسوق أو الدار أو السوق فاعطه درهماً ، أو ديناراً و درهما ، أو ديناراً أو درهما والحكم في ذلك ظاهر فإنه رتب جزآه على شرطين على الجمع لم يحصل إلا عند حصولهما وإن كان على البدل حصل عند أحدهما وإن رتب جزآن على شرط حصلا عند حصوله إن كان على الجمع وإلا حصل أحدهما عنده فعلى هذا إذا قال لزوجتيه إن دخلتما الدار فأنتما طالقان فدخلت إحداهما لا تطلق واحدة منهما وهو مذهب أصحابنا والحنفية لأن مدخول كلمة الشرط بجميع أجزائه شرط واحد وكل من أجزاء الجزاء الصالح للجزائية جزاء واحد ، وقيل أن الداخلة تطلق إذ المراد عرفا طلاق كل واحدة بدخولهما والعرف متبع(1)ولكنه غير مسلم وقيل أنهما يطلقان لأن الشرط دخولهما بدلاً ، واللفظ(2)لا دلالة فيه على البدلية
(والصفة) والمراد منها هنا ما تقدم في المفهوم(3)نحو ? لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ ?[المائدة 95]أو في الحرم أو غير الضار فالتقييد بها يقتضي تعليق الحكم بما اختص بها دون غيره فكانت الصفة مخرجة لبعض ما كان داخلاً تحت العام وهي والشرط يخرجان غير المذكور
__________
(1) ـ هذا رد على قوله وقيل إن الداخلة إلخ تمت
(2) ـ هذا رد منه على وقيل إنهما يطلقان تمت
(3) ـ الذي تقدم قوله : ما يشعر بمعنى في الموصوف مما ليس بشرط ولا استثناء ولا عدد ولا غاية فيدخل فيها النعت والحال والظرف مفردا كانت أوغيره تمت

(1/364)


( والغاية) طرف الشيء ومنتهاه وصيغتها إلى وحتى وهي كالاستثناء في أنها تخرج المذكور فكان الصواب أن يذكرها المصنف عقيبه حتى يتصل المخرج للمذكور بمماثله والمخرج لغيره بمماثله كما لا يخفى فلا بد وان يكون ما بعد صيغتها مخالفاً لما قبلها وإلا كانت الغاية وسطاً وخرجت عن كونها غاية وذلك كقوله تعالى : ? ثم أتموا الصيام إلى الليل?[البقرة 187]و ?حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ? [التوبة (29) ] فإن الليل غير محصل للصوم ومعطي الجزية خارج عن الأمر بقتله(1)
وقد يتحد كل من الغاية والمغيا المقيد بها وقد يتعدد كل منهما إما جمعاً وإما بدلاً فهذه تسعة أقسام: لأن المغيا إما أن يكون متحداً نحو اقتلوا أهل الكتاب أو متعدداً على جهة الجمع نحو اقتلوا اليهود والنصارى أو متعدداً على جهة البدل نحو اقتلوا اليهود أو النصارى فهذه ثلاثة أقسام يجيء مثلها في الغاية نحو ?حتى يعطوا الجزية عن يد? حتى يذلوا ويعطوا الجزية حتى يسلموا أو يعطوا الجزية فإذا جعل كل واحد من أقسام الغاية مع كل واحد من أقسام المغيا حصلت من ذلك تسعة أقسام كالشرط ، والحكم في ذلك واضح فإن مقتضى ما مثلناه وجوب استمرار القتل للطائفة أو للطائفتين أو لإحداهما إلى أن تحصل الغاية أو الغايتان أو إحداهما
(و) من أنواع المخصص المتصل (بدل البعض) ذكره تبعاً لجماعة من العلماء منهم ابن الحاجب وأنكره آخرون بناءً على أن المبدل منه في حكم التنحية فلا يتحقق فيه معنى الإخراج ، والتخصيص لا بد فيه من الإخراج
__________
(1) ـ ووجوب غسل المرافق والكعبين في الآية لدليل خالف الظاهر وهو فعل النبي أو لأن إلى فيها بمعنى مع كما قيل في ?ولا تأكلوا اموالهم إلى أموالكم? وفعله قرينة ذلك أو لأنه لا يتم الواجب إلا به فيجب تبعاً لا أصالة كغسل جزء من الرأس استتماماً لغسل الوجه والله أعلم تمت منه

(1/365)


قلنا معنى تنحية المبدل منه أنه غير مقصود باعتبار الاستقلال بمقتضى العامل لا الإهدار والإطراح بالكلية وهل يمكن أن يقال أن شركا في قوله تعالى ?وَجَعَلُوا لِلَّهِ شِرْكاً الْجِنَّ ?[الأنعام(100)] والألف من قولهم بالألف الدينار مطرحان !؟ والله أعلم .
(والمختار) أن دخول المستثنى في المستثنى منه ثم إخراجه بإلا وأخواتها إنما كان قبل إسناد الفعل أو شبهه إليه فلا يلزم التناقض في نحو جاءني القوم إلا زيداً لأنه بمنزلة قولك القوم المخرج منهم زيد جاؤني وذلك لأن المنسوب إليه الفعل وإن تأخر عنه لفظاً لكن لا بد له من التقديم وجوداً على النسبة التي يدل عليها الفعل إذ المنسوب إليه والمنسوب سابقان على النسبة بينهما ضرورة ففي الاستثناء لما كان المنسوب إليه هو المستثنى منه مع إلا والمستثنى ولا بد من وجود هذه الثلاثة قبل النسبة وحينئذٍ فلا بد من حصول الدخول والإخراج قبل النسبة فلا تناقض

(1/366)


(وأنه) أي الشأن (لا يصح تراخي الاستثناء) بل شرطه الاتصال بالمستثنى منه كما أنه يشترط اتصال سائر المخصصات المتصلة فلا وجه لتخصيصه [*]لما ذكر (إلا) أن يتراخى (قدر تنفس أو بلع ريق) أو سعال أو نحو ذلك مما لا يعد مانعاً من الاتصال الحقيقي عرفاً عند أهل البيت عليهم السلام والأكثر وذلك لأنه لو صح الانفصال ولم يشترط الاتصال لم يستقر عقد من العقود كالبيع والنكاح ولا شيء من الإيقاعات كالعتق والطلاق والتالي باطل أما الملازمة فللقطع بأن تجويز الاستثناء يقضي بعد الجزم بثبوتها واستقرارها وأما بطلان اللازم فلما فيه من التلعب وإبطال التصرفات الشرعية ولأن المعلوم من أهل اللغة العربية أنهم يشترطون الاتصال ولا يسوغون الانفصال وأنهم يعدون قول من قال علي عشرة وقال بعد شهر إلا ثلاثة لغواً ، وعن ابن عباس أنه يجوز تراخيه إلى شهر ومنهم من نقل عنه إلى سنة والأشهر من النقل الإطلاق من غير تقييد محتجاً بأنه لو لم يصح لما صدر عن النبي والتالي باطل فالمقدم مثله
أمَّا الشرطية فلأنه روي أنه قال : (والله لأغزون قريشاً .ثم سكت . ثم قال إن شاء الله تعالى )رواه أبو داود
وروي أن أهل مَكَّة بعثوا رهطاً منهم إلى اليهود يسألونهم عن أشياء يمتحنون بها رسول الله فقالوا سلوه عن ثلاث فإن عرفها فهو نبي سلوه عن أقوام ذهبوا في الأرض ما يدري ما صنعوا وسلوه عن رجل بلغ مشارق الأرض ومغاربها وسلوه عن الروح فلما رجعوا سألوا النبي عن ذلك فقال غداً أجيبكم .وتأخر الوحي بضعة عشر يوماً ثم نزل ?وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا إلا أن يشاء الله? [الكهف23/24] . فقال إن شاء الله رواه ابن إسحاق في السيرة وأبو بكر البيهقي في دلائل النبوة

(1/367)


قلنا لا نسلِّم صدروه من النبي ، وسكوته في الرواية الأولى يحتمل أن يكون من السكوت الذي لا يخل بالاتصال الحكمي كما سبق ويحتمل أن يكون غيره وحينئذٍ يصار إلى الترجيح والراجح هو الأول لما تقدم من الدليل جمعاً بين الأدلة
وأما الرواية الثانية فلا نسلِّم أنه قال ذلك بطرق الإلحاق لخبره الأول ؛ لجواز أن يكون المراد أقول إن شاء الله عند قول أفعل كذا وهذا كما إذا قال قائل لغيره :افعل كذا فقال : إن شاء الله تعالى أي أفعله إن شاء الله تعالى ، وأيضاً لو صح انفصاله لما قال : (من حلف على شيءٍ ثم رأى غيره خيراً منه فليعمل وليكفر عن يمينه ) معيناً (1) بل كان يقول أو ليستثن فيوجب أحدهما لا بعينه لأنه حنث بالاستثناء مع كونه أسهل فكان ذكره أولى وإذا لم يكن معيناً فلا أقل مما يخير بينهما لعدم وجوب شيء منهما معيناً وكذلك جميع العقود والإيقاعات كان ينبغي أن يستثني منها نفياً لأحكامها بأسهل الطرق لنحو ? يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ ? [البقرة185] (بعثت بالشريعة السمحة ) (2)والإجماع بخلافه
__________
(1) ـ لم أعثر على لفظة (شيء) فيما لدي من مصادر أهل السنة وإنما وجدت ( من حلف على يمين فرأى غيرها خيرا منها فليأت الذي هو خير وليكفر عن يمينه )أخرجه الطيالسي في مسنده وأخرجه مسلم في صحيحه و البخاري في صحيحه و النسائي في سننه و ابن حبان في صحيحه و الترمذي في سننه و ابن ماجه في سننه و أبو داود في سننه و ابن حنبل في مسنده و مالك في الموطأ و الحاكم في مستدركه
(2) ـ أخرج نحوه الطبراني في معجمه الكبير ج 8/ص 170/ح 7715 بلفظ ( إنما بعثت بالحنيفية السمحة ولم أبعث بالرهبانية البدعة ألا وإن أقواما إبتدعوا الرهبانية فكتبت عليهم فما رعوها حق رعايتها ألا فكلوا اللحم وائتوا النساء وصوموا وأفطروا وصلوا وناموا فإني بذلك أمرت) وأخرجه ابن حنبل في مسنده ج6/ص106/ح24797.

(1/368)


روي أنه بلغ المنصور أن أبا حنيفة لا يقول بمقالة ابن عباس في الاستثناء وجواز تراخيه فأمر بإحضاره وأنكر عليه خلافه فقال أبو حنيفة : إن هذا يعود عليك ضعف الرأي فيه لأنك تأخذ البيعة من الناس على الطاعة فإن صح جواز تأخر الاستثناء فلهم أن يستثنوا بعد بعيتك والخروج من عندك متى شاءوا فوقع في نفس المنصور كلامه ولم يعترضه بعد ذلك في رأيه
(و) اعلم أنه لا خلاف في امتناع الاستثناء المستغرق وأنه باطل سواء كان مثل المستثنى منه أو أكثر إلا ما روى السبكي في شرح الجمع عن أبي طلحة فيمن قال لامرأته أنت طالق ثلاثاً إلا ثلاثاً أنه لا يقع عليها الطلاق والجواب عنه أنه يكون [*] نقضاً وبدا ، ولا خلاف أيضاً في جواز استثناء الأقل أي دون النصف ويبقى أكثر من النصف

(1/369)


واختلف في استثناء الأكثر حتى يبقى أقل من النصف وفي استثناء المساوي حتى يبقى نصف المستثنى منه فاختار أئمتنا عليهم السلام والجمهور (أنه يصح استثناء) المساوي حتى يبقى نصف المستثنى منه واستثناء (الأكثر) حتى يبقى أقل من النصف لوقوع ذلك وأنه دليل الجواز وذلك في قوله تعالى ? إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ?[الحجر(42)] وهم أكثر من غيرهم بدليل ?وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِين ? [يوسفَ(103)] (1) ?وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ? [الأعراف17] ?وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ? [الأنعامَ116] وفي قوله تعالى :? وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا إِلَّا مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا أَوِ الْحَوَايَا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ? [الأنعام146]
يريد ما كان على الظهر والجُنُوب وشحم الإلية وما اشتملت عليه الحوايا من الشحم وهي المباعر من الأمعاء فهذه مستثناة من الشحوم وهي أكثر الشحوم كما ترى
وفي قو له ـ فيما رواه عن ربِّ العِزَّة واسع العطاء تبارك وتعالى رواه مسلم وغيره عن أبي ذر رحمه الله تعالى ـ : ( يا عبادي كلكم جائع إلا من أطعمته فاستطعموني أطعمكم ) [*]
__________
(1) ـ إذ معناه الحكم على أكثر الناس بعدم الإيمان على أنها موجبة معدولة المحمول أو سالبة المحمول إذ لو أريد سلب الحكم بإيمان الأكثر بحيث يحتمل التساوي لم يكن لذكر الأكثر فائدة ذكره سعد الدِّين تمت منه.

(1/370)


(و) مختار أصحابنا والشافعية والجم الغفير من غيرهم (أنه) أي الاستثناء (من النفي إثبات) لما استثنى نحو لسي عندي عشرة إلا درهماً فهو إثبات للدرهم ، خلافاً للحنفية فإنه عندهم مخرج مما قبله غير محكوم عليه بالثبوت لا لفظاً ولا معنى أما اللفظ فلعدم ما يدل عليه على هذا التقدير وأما المعنى فلأن الأصل عدمه
قلنا :المعتمد في دلالات الألفاظ هو النقل عن أهل اللغة والمنقول عنهم أنه كذلك وأيضاً لو لم يكن كذلك لم يكن لا إله إلا الله توحيداً واللازم باطل بالإجماع بيان الملازمة أنه إنما يتم التوحيد بإثبات الإلهية لله تعالى ونفيها عما سواه فلو لم يكن من النفي إثباتاً وتكلم بها منكر الصانع جل وعلا لما نافت معتقده ولا تم بها إسلامه
وأجيب : بمنع الدليل الأول والثاني بأن ثبوت التوحيد بكلمته إنما ثبت بعرف الشرع وبه يندفع تشكيك الرازي من أن المقدر في كلمة التوحيد لو كان الموجود لم يلزم عدم إمكان الثاني ولو كان الممكن لم يلزم منه وجود ذاته تعالى بل اللازم إمكانه وكذا دلالة ليس علي إلا سبعة في المفرغ بالعرف لا باللغة (1)
فإن قيل لو كان كما ذكرتم للزم من قوله ـ فيما رواه الطبراني في المعجم الكبير والأوسط من حديث عيسى بن سبرة عن أبيه عن جده مرفوعاً ـ : ( لا صلاة إلا بوضوء) ثبوت الصلاة بمجرد الوضوء وأنه باطل بالاتفاق
__________
(1) ـ إرشاد الفحول للشوكاني ج: 1 ص: 257 ص: 256 قال ابن دقيق العيد في شرح الالمام وكل هذا عندي تشغيب ومراغات جدلية والشرع خاطب الناس بهذه الكلمة يعني كلمة الشهادة وامرهم بها لاثبات مقصود التوحيد وحصل الفهم منهم بذلك والقبول له زيادة ولا احتياج الى امر اخر ولو كان وضع اللفظ لا يفيد التوحيد لكان اهم المهمات تعليم اللفظ الذي يقتضيه لأنه المقصود الأعظم

(1/371)


أجيب بأن ذلك مبالغة فلا يصح أن يكون الحصر فيه حقيقياً تحقيقياً وإنما يكون من الحقيقي الادعائي وذلك لأن الوضوء لما كان أمره متأكداً جعلت سائر الشروط بمنزلة العدم كأنه لا شرط لها غيره
وعموم الموسع(1) في قوله تعالى ?لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا ? [البقرة286] منتفٍ بالإجماع وأصل الإثبات باقٍ في الباقي على أن ابن أبي النجم حكى عن هبة الله المفسر القول بموجب الآية ولكنها نسخت بقوله تعالى ?يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر? [البقرة185]
(و) كذا (العكس) وهو أنه من الإثبات نفي والمشهور من كلام غير الحنفية موافقتهم للجمهور هنا والمذكور في كتبهم أنه ليس من النفي إثباتاً ولا من الإثبات نفياً وإنما هو تكلم بالباقي بعد الاستثناء والاستثناء لمجرد الإعلام لعدم التعرض للمستثنى والسكوت عنه ففي مثل : علي عشرة إلا ثلاثة إنما لم تثبت الثلاثة بحكم البراءة الأصلية لا بدلالة الكلام وفي مثل : ليس لي إلا السبعة بحسب العرف لا بحسب دلالة الكلام وكلمة التوحيد يحصل بها التوحيد والإيمان من المشرك ومن القائل بنفي الصانع بحسب عرف الشارع
[تعدد الاستثناء]
(و) اعلم أنه إذا تعدد الاستثناء بغير عطف وأمكن استثناء كل تالٍ من متلوه مثل : جاءني المكيون إلا قريشاً إلا هاشماً إلا عقيلاً وعلي عشرة إلا خمسة إلا ثلاثة إلا واحداً تعين عند البصريين والكسائي
__________
(1) جواب سؤال مقدر تقديره لو كان كما ذكرتم للزم من قوله تعالى ?لا يكلف الله ? الآية أن يكلف كل نفس جميع وسعها لأنه جنس مضاف فيعم أجيب بعموم إلخ والله أعلم تمت منه

(1/372)


وكل وتر من المستثنيات كالأول والثالث والخامس منفي خارج ، وكل شفع منها كالثاني والرابع والسادس مثبت داخل إن كان الاستثناء من الموجب كما مثلنا فيكون قد جاءك المَكِّيُّون غير قريش مع بني هاشم إلا عقيلاً ويلزمك بالإقرار سبعة لأنك أخرجت خمسة من العشرة فبقي خمسة فأدخلت معها ثلاثة صارت ثمانية ثم أخرجت منها واحداً فيكون الباقي سبعة
وإن كان من غير الموجب فبالعكس أي فكل وتر مثبت داخل وكل شفع منفي خارج فإذا قلت ما جاءني المَكِّيُّون إلا قريشاً إلا هاشمياً إلا عقيلاً فقد جاءك من المكيين جميع قريش مع عقيلا إلا هاشماً فإذا قلت ماله علي عشرة إلا خمسة إلا ثلاثة إلا واحداً لزمك بالإقرار ثلاثة لأنك أثبت بالاستثناء الأول خمسة وأخرجت منها ثلاثة وبقي اثنان وضممت إليهما واحداً فيكون الباقي ثلاثة
فإن كانت الاستثناءآت متعاطفة أو لم يمكن الاستثناء من المتلو بأن يستغرقه تعين الاستثناء من الأول وهو المذكور قبلها مع إمكان رجوع الجميع إليه بأن لا تكون مستغرقة له وإلا بطل ما وقع به الاستغراق ، أما المتعاطفة فلأن العطف يقتضي التشريك ولما كان الاستثناء الأول راجعاً إلى المذكور قبله كان ما بعده كذلك لتحصل فائدة العطف وأما غيرالمتعاطفة التي لا يمكن فيها إرجاع كل تالٍ إلى متلوه فلأنه يجب حمل الكلام على الصحة ما أمكن فإذا تعذر من المتلو وأمكن من المذكور أولا وجب فإذا قلت علي عشرة إلا اثنين إلا ثلاثة كان اللازم خمسة
وأما إذا تعدد ما قبله فإن كان المتعدد مفردات نحو تصدق على الفقراء والمساكين وأبناء السبيل إلا الفسقة منهم فلا خلاف في عوده إلى الجميع لعدم استقلال المفردات

(1/373)


وإن كان جملاً غير متعاطفة فإن كان ترك العطف لكمال الانقطاع فهو قرينة على أنه [*]إنما يعود إلى الأخيرة كأن تختلف الجملتان بأن تكون إحداهما خبراً لفظاً ومعنى والأخرى إنشاء لفظاً ومعنى نحو اضرب بني تميم الفقهاء أصحاب الشافعي إلا الطوال وإن كان لكمال الاتصال كأن تكون الثانية بمثابة البدل أو عطف البيان نحو اعطه ما في بيتك اعطه الثياب إلا البيض فهو قرينة على عوده إلى الجميع(1)
وإن كان جملاً متعاطفة فلا خلاف في إمكان عوده إلى الجميع والأخيرة لكن اختلفوا في الظهور فمختار أئمتنا عليهم السلام والشافعية (أنه بعد الجمل المتعاطفة) أي المعطوف بعضها على بعض بأحد حروف العطف من باب ضاعفت عطاءه (يعود إلى جميعها) وأنه ظاهر فيه ولو اختلفت حكماً فقط إن جمع الحكم المتعدد غرض نحو سلم على ربيعة وأكرم ربيعة إلا الطوال فإن الحكمين يجمعهما الإعظام أو أضمر الإسم نحو أكرم ربيعة واستأجرهم إلا من قام أو اختلفت اسماً فقط مع إضمار الحكم نحو أكرم بني تميم وربيعة إلا من قام فإن الاشتراك والإضمار لا دلالة معهما على استيفاء الغرض من الكلام الأول فيعود الاستثناء إلى الجميع
__________
(1) ـ قلت لكنه يقال لمكان الاتصال لا تعدد في الجمل في المعنى فالعود إلى الأخيرة عود إلى الجميع وبالعكس إلا في نحو بدل البعض فتأمل والله أعلم تمت منه

(1/374)


وقالت الحنفية إنه يعود إلى الأخيرة محتجين بقو له تعالى :?وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ(4)إلا الذين تابوا? [النور4ـ5] وتقريره أن الاستثناء لو وجب رجوعه إلى جميع الجمل المجموع منها بحرف العطف لرجع ?إلا الذين تابوا?إلى الجميع لكنه لا يرجع إلى الجميع بالاتفاق على عدم سقوط الجلد بالتوبة قلنا العاطف يصيِّر الكلامين كالواحد فكما أن الاستثناء في قولك جائني الزيدون من ربيعة ومضر إلا الطوال يعود إلى الجميع فكذلك في أكرم ربيعة واستأجرهم إلا الطوال وأما الآية فلا نسلم الاتفاق على عدم رجوع الاستثناء فيها إلى الجمل الثلاث جميعاً لأن المستثنى هو ? الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا ? (1)[النور5]ومن جملة الإصلاح الاستحلال وطلب عفو المقذوف وعند وقوع ذلك يسقط الجلد فيصح صرف الاستثناء إلى الكل ولو سلم أن المستثنى هو ?الذين تابوا? خاصة فلا يلزم من ظهوره للجميع العود دائماً بل قد يصرف عنه لدليل وها هنا كذلك فإن الجلد حق لآدمي فلا يسقط بالتوبة وإنما يسقط بإسقاط المستحق قبل الرفع لقو له : (تعافوا الحدود فيما بينكم فما رفع إليَّ وجب ) أو كما قال
ولذا قلنا (إلا لقرينة) تصرفه عن الظاهر وتقتضي عوده إلى البعض متعينا كما في الآية وكما في العطف بلا أو بل أو لكن أو غير متعين كأو وأما وأم لأنها لأحد الشيئين أو الأشياء مبهماً كما قرر في موضعه من النحو
__________
(1) ـ في الأصل الذين تابو وأصلحوا وهو خطأ والصواب ?الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وأصلحوا?(5)

(1/375)


ومن قرائن عوده إلى الأخيرة أن تختلف الجملتان نوعاً وقصة نحو اضرب نبي تميم والفقهاء هم أصحاب أبي حنيفة إلا أهل البلد الفلاني إذ لا شيء أدل على استيفاء الغرض بالكلام من العدول عنه إلى قصة أخرى ونوع آخر وفي رجوع الاستثناء إليه نقض للقول بأن المتكلم قد استوفى غرضه منه
ومنها أن يتحدا نوعاً ويختلفا اسماً وحكماً نحو اضرب بني تميم وأكرم ربيعة إلا الطوال فإن استقلال كل واحد من الكلامين ومباينته للآخر مفيد للإضراب
ومنها أن يختلفا حكماً فقط (1)فظهر مما ذكرنا أن بل ولكن ولا متعينة لأنه تكون قرينة العود إلى الأخيرة ، وأن أو وأما وأم قرينة العود إلى واحد غير متعين فيصير مجملاً ،وأن الواو والفاء وثم ظاهرة في العود إلى الجميع إلا لقرينة من غيرها . وأما حتى فلا تأتي في عطف الجمل .
ولا يخفى عليك أن حكم الشرط والصفة والغاية حكم الاستثناء فيما ذكرنا وأنه قد سبق أن الاستثناء عند الحنفية لمجرد الإعلام بعدم التعرض لحكم المستثنى فقولهم بعوده إلى الأخيرة لا ينقض ذلك إذ غايته أن الأخيرة مختصة بالإعلام بعدم التعرض لحكمه وأما عدم التعرض فمشترك بينها وبين ما قبلها وبهذا يظهر ضعف القول بأن محل النزاع كون نحو إلا لمطلق الإخراج أو للإخراج من شيء واحد فتأمل
[المخصص المنفصل ]
__________
(1) ـ ( من غير إضمار للاسم والحكمان لا يشتركان في غرض من الأغراض نحو سلم على بني تميم واستأجر بني تميم إلا الطوال ) مابين القوسين مخدوش في نسخة المؤلف فأثبتناها في الحاشية للتمثيل تمت

(1/376)


ولما فرغ من بيان المخصص المتصل أخذ يبيِّن المنفصل فقال : (وأما المنفصل) وهو المستقل بنفسه الذي لا يحتاج في ثبوته إلى ذكر العام معه [*]فلا يرد دخول المتصل حيث لا يكون إلا من لفظ هذه وينقسم إلى حسي وعقلي [أما الحسي ](فهو الكتاب) العزيز (والسنة) النبوية بأقسامها من القول والفعل والترك والتقرير (والإجماع) من الأُمَّة أو العترة عليهم السلام ومعنى تخصصه تعريفه أن ثم مخصصاً معرفاً كما سيأتي إن شاء الله تعالى (والقياس والعقل ) وهو قوة للنفس بها تدك الكليات وسئل بعضهم عن الفرق بينه وبين المروءة فقال العقل يأمرك بالأنفع والمروءة تأمرك بالأرفع (والمفهوم على القول به) أي بتخصيصه أو بدليليته وهو الصحيح للجمع بين الدليلين لأنه دليل شرعي عرض مثله فلا يعدل إلى إطراح أحدهما مع إمكان العمل بهما ولو كانا مختلفين قوة وضعفاً وسواء فيه مفهوم الموافقة والمخالفة ولا وجه لتخصيصه بهذا القيد أما على الأول فلأن الخلاف فيها أجمع وأما على الثاني فلأن الخلاف في الثلاثة الأخيرة كذلك
(والمختار أنه يصح تخصيص كل من الكتاب والسنة) منطوقاً ومفهوماً موافقة أومخالفة (بمثله) كذلك
أما منطوق الكتاب بمنطوقه فكآيتي عدتي الحامل والمطلقة فإن قوله تعالى ?وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ?[الطلاق 4] مخصص لعموم قوله تعالى ?وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ ?البقرة228](1)
__________
(1) وكان مقتضى الظاهر أن يكون مخصصه لقوله تعالى ?والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجاً يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشراً? لكن ورد الدليل عن علي عليه السلام فيها عدة الحامل آخر الأجلين والله أعلم تمت منه

(1/377)


وأما منطوقه بمنطوقه ومفهومه فكقوله تعالى : ? وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا ? [الشورى 40] ? فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ ?[البقرة194] فإنه مخصوص بقوله تعالى : ?فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا ?[الإسراء23] لأن الظاهر أن التخصيص بالآية لا بغيرها ولقوله تعالى : ? تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ?[النحل 89]
فإن عورض بقوله تعالى ? لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ ?[النحل 44] قلنا: الحق أنه المبين بالكتاب والسنة لأن الكل ورد على لسانه فكان هو المُبيِّن تارة بالكتاب وتارة بالسنة فلا معارضة ولا مخالفة
وأمَّا السنة بالسنة سواء كانتاً متواترتين أو آحاديتين أو مختلفتين لأن المراد من المماثلة مطلقها وهو يحصل بكونها سنة وإن اختلفتا تواتراً وآحاداً فللوقوع أيضاً فإن قوله : (فيما سقت السماء العشر ) رواه أبو دواد والسنائي عن ابن عمر مخصوص بقوله : (ليس فيمادون خمسة أوسق صدقة) متفق عليه من حديث أبي سعيد الخدري وهو في السنة أكثر من أن يحصى ولئلا يبطل الأقوى وهو الخاص بالأضعف وهو العام (1)
(و) كما يجوز تخصيص الكتاب والسنة بمثله يجوز أيضاً التخصيص لهما (بسائرها) أي سائر الأدلة
أما الكتاب بالسنة المعلومة بالتواتر أو بغيره فلا خلاف فيه كما قال ابن السمعاني أن محل الخلاف في خبر الآحاد إذا لم يجمعوا على العمل به أما إذا أجمعوا عليه فيجوز التخصيص به بلا خلاف
__________
(1) ـ وقوله تعالى ?تبياناً لكل شيءٍ? معارض بـ?لتبين للناس ما أنزل إليهم? مع أن الحق أنه المبين بالكتاب والسنة كما سبق على أنه يمكن الجمع بين الآيتين بتخصيص الثانية للأولى وقد يمنع استحالة اجتماع المبينات لأنها معرفات لا مؤثرات تمت منه

(1/378)


وأما بالظنية فحكى أبو الخطاب عن بعض الحنابلة ونقله الغزالي في المنخول عن المعتزلة ونقله ابن برهان أنه ممتنع واختيار أئمتنا عليهم السلام والجمهور جوازه مطلقاً لإجماع السلف من الصحابة والتابعين على تخصيص الكتاب بالآحاد فمن ذلك قوله تعالى ?وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ ? [النساء 24] يدخل فيه نكاح المرأة على عمتها وعلى خالتها فخص بما رواه البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجة عن أبي هريرة قال : (نهى رسول الله أن تنكح المرأة على عمتها و خالتها) وللبخاري مثله عن جابر وقوله تعالى ?وَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا?[النساء 89] فإنه مخصوص باستعانته بالمشركين والمنافقين وقوله تعالى ?وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ ءَامِنًا?[آل عمران 79] خص بقوله في مقيس بن ضُبابة لما قتل قيس بن هلال الفِهري: (لا أؤمنه في حل ولا حرم ) وقتله يوم الفتح (1)
__________
(1) ـ لم نعثر على لفظه بل عثرنا على ما يلي : نص الحديث على أخرجه الطبراني في معجمه الكبير ج 6/ص 66/ح 5529:-حدثنا معاذ بن المثنى ثنا علي بن المديني ح وحدثنا موسى بن هارون ثنا علي بن حرب الموصلي قالا ثنا زيد بن الحباب حدثني عمرو بن عثمان بن عبد الرحمن بن سعيد المخزومي حدثني جدي عن أبيه سعيد وكان يسمى الصرم أن رسول الله قال يوم فتح مكة أربعة لا أومنهم في حل ولا حرم الحويرث بن نفيل ومقيس بن ضبابة وهلال بن خطل وعبد الله بن سعد بن أبي سرح فأما حويرث فقتله علي رضي الله عنه وأما مقيس بن ضبابة فقتله بن عم له لحاء وأما هلال بن خطل فقتله الزبير وأما عبد الله بن سعد بن أبي سرح فاستأمن له عثمان بن عفان وكان أخاه من الرضاعة وقينتين كانتا لمقيس تغنيان بهجاء رسول الله قتلت إحداهما وأفلتت الأخرى فأسلمت وأخرجه أبو داود في سننه و الطبراني في معجمه الكبير و الدارقطني في سننه و البيهقي في سننه الكبرى

(1/379)


ومن ذلك آيات المواريث فإنها مخصوصة بما جاء في السنة من موانع الإرث نحو ما رواه النسائي والترمذي وابن ماجة والدا قطني والبيهقي عن أبي هريرة مرفوعاً : (لا يرث القاتل شيئاً )وفي رواية (ليس لقاتل ميراث ) ومن ذلك ( لا يرث الكافر المسلم ، ولا المسلم الكافر )رواه البخاري ومسلم
واعترض بأنهم إن كانوا أجمعوا فالمخصص هو الإجماع لا خبر الواحد وإن لم يجمعوا فلا دليل إذ الدليل إنما كان الإجماع والفرض عدمه .
وأجيب بأن إجماعهم لم يكن على تخصيص تلك العمومات مطلقاً ليكون المخصص هو الإجماع بل كان على تخصيص الآيات بالأخبار والإجماع دليل عليه
وأما تخصيصه بالإجماع فكإجماعهم على أن القريب إذا كان مملوكاً لا يرث فإنه مخصص لعموم آية المواريث وقوله تعالى ?وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ?[البقرة233] فإنه خص منه المعسر والزوجة والمعتق بالإجماع على عدم الوجوب
وأما بالقياس فجائز أيضاً سواء كان جلياً كقياس العبد على الأَمَة في تصنيف الجلد على تقدير عدم الإجماع على ذلك فإنه مخصص لعموم آية الزنا أو خفياً مثل أن يعم قوله تعالى ?خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً ? [التوبة103]المديون وغيره ثم يخصص المديون بالقياس على الفقير .
وأما تخصيصه بالعقل ضرورة فكقوله تعالى ?اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ?[الزمر 62] فعموم لفظه متناول لكل شيءٍ فيتناول أفعال العباد وذاته الأقدس لكونه شيئاً لا كالأشياء مع أنه تعالى ليس خالقاً له لقضاء ضرورة العقل باستحالة كون القديم سبحانه خالقاً لفعل غيره أو مخلوقاً وهذا بناء على ما هو الصحيح من أن المتكلم يدخل في عموم خطابه وعلى أن الشيء يطلق على الله سبحانه لقوله تعالى ?قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قل الله?[الأنعام 19] و?كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ?[القصص 88]

(1/380)


وأما تخصيصه به استدلالاً فكقوله تعالى ?وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا?[آل عمران97] وقو له تعالى ?وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ?[الذاريات 56] فإنه يتناول بعموم لفظه مَنْ هو إنسان حقيقة لغة والعقل قاضٍ بإخراج الصبي والمجنون لكن لا بالضرورة بل بالنظر وذلك للدليل الدال على امتناع تكليفهما .
وأما تخصيص السنة بالكتاب فذلك أيضاً جائز كقوله : (جعلت لي الأرض مسجداً طهوراً فإنه مخصوص بقوله تعالى ?فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ ما يريد الله?[المائدة 6] الآية (1)
وأما بالمفهوم الموافق فمثل قوله تعالى ?فلا تقل لهما أفٍ?[الإسراء23] فإن مفهومه هو ألا تؤذيهما بحبس ولا غيره مخصص لعموم قوله : (ليُّ الواجد يُحِل عرضَه وعقوبَته )المتقدم تخريجه في مفهوم الصفة ولذلك ذهب أصحابنا ونقل عن الرافعي والبغوي والنووي أن الوالد لا يحبس في دين ولده .
وأما بالقياس فمثاله قوله :(الثيب بالثيب جلد مائة) مع قوله تعالى ?فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَات?[النساء25] ثم يقاس عليهن العبيد
__________
(1) ـ لأن الصعيد هو التراب ولذا قال التراب كافيك ولو إلى عشر حجج وروي جعلت الأرض لنا مسجداً وجعل ترابها لنا طهوراً ومن حق الطيب أن يكون منبتاً والسبخَة لا تنبت ولا يجوز بالرمل لأن الله تعالى قال ?منه? فأفاد التبعيض والإلصاق ولا بتراب البرذعة والثياب لعدم تحقق كونه تراباً خالصاً لاجتماعه من التراب وغيره ذكر معناه بعض محققي أصحابنا تمت منه

(1/381)


وأما بالعقل فمثاله قوله : (أيما عبد حج ثم أعتق فعليه حجة أخرى ) رواه ابن أبي شيبة والبيهقي ورجاله ثقات واختلف في رفعه ووقفه(1)فعموم لفظه يتناول الصبي والمجنون وخصا بالعقل لاستحالة إرادتهما
__________
(1) ـ في تلخيص الحبير ج: 2 ص: 220 لابن حجر ما لفظه : حديث أيما صبي حج ثم بلغ فعليه حجة الإسلام وأيما عبد حج ثم عتق فعليه حجة الإسلام بن خزيمة والإسماعيلي في مسند الأعمش والحاكم والبيهقي وابن حزم وصححه والخطيب في التاريخ من حديث محمد بن المنهال عن يزيد بن زريع عن شعبة عن الأعمش عن أبي ظبيان عنه قال بن خزيمة الصحيح موقوف وأخرجه كذلك من رواية بن أبي عدي عن شعبة وقال البيهقي تفرد برفعه محمد بن المنهال ورواه الثوري عن شعبة موقوفا قلت لكن هو ثم الإسماعيلي والخطيب عن الحارث بن سريج عن يزيد بن زريع متابعة لمحمد بن المنهال ويؤيد صحة رفعه ما رواه بن أبي شيبة في مصنفه نا أبو معاوية عن الأعمش عن أبي ظبيان عن بن عباس قال احفظوا عني ولا تقولوا قال بن عباس فذكره وهذا ظاهره أنه أراد أنه تزوجها طاعة نهاهم عن نسبته إليه وفي الباب عن جابر أخرجه بن عدي بلفظ لو حج صغير حجة لكان عليه حجة أخرى الحديث

(1/382)


(و) يجوز تخصيص (المتواتر) أي المعلوم من باب إطلاق الملزوم وإرادة اللازم (بالآحادي) أي بالظني كذلك كما سبق من حديثي الزكاة(1)وإنما جاز تخصيص الأقوى بالأضعف لأنه بيان لا إبطال واستيفاء الأقسام وأمثلتها يحتاج إلى مزيد بسط فإن المخصوص : الكتاب والقول من السنة والإجماع والقياس معلوماً كان أو مظنوناً ، والمخصص من الكتاب : منطوق ومفهوم موافقة أو مخالفة ومن السنة كذلك والإجماع مع جواز أن يكون المخصص منها فعلاً أو تركاً أو تقريراً لكن اللبيب الحاذق لا يعزب عنه اعتبار ذلك وشمول عبارة المصنف لذلك ظاهر إلا كون المخصوص الإجماع والقياس فلعل مذهبه أنهما لا يخصصان
(و) اعلم أن الخطاب الوارد على سبب إما أن يكون سببه السؤال أو غيره إن كان سببه السؤال فإما أن يكون مستقلاً بنفسه بحيث لو ابتدي به لكان كلاماً تاماً مفيداً أو لا ، إن كان غير مستقل كان تابعاً للسؤال في عمومه اتفاقاً وفي خصوصه على المختار .
أما العموم فكما روي عن النبي : (أنه سُئِل عن بيع الرطب بالتمر فقال أينقص الرطب إذا يبس ؟ . قالوا نعم . قال : (فلا إذاً )فإن السؤال لما كان غير مختص تبعه الجواب في العموم .
وأما الخصوص فكما لو سأله سائل فقال توضأت بماء البحر أيجزيني ذلك ؟ فقال له يجزيك فهذا وأمثاله لا يدل على التعميم .
وإن كان الجواب مستقلاً بنفسه فلا يخلوا ما إن يكون مساوياً أو أخص أو أعم فإن كان مساوياً فالحكم في خصوصه وعمومه كالحكم فيما لو لم يكن مستقلاً
مثال الأول : (2) أن يسأل سائل فيقول جامعت في نهار رمضان فماذا علي ؟ فيقال له : عليك كفارة كالظهار
ومثال الثاني : (3) أن يقال ما على من جامع في نهار رمضان ؟ فيقال: من جامع في نهار رمضان فعليه كفارة كالظهار
__________
(1) ـ هما قوله : ( فيما سقت السماء العشر ) وقوله : ( ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة )
(2) ـ هذا مثال للخصوص
(3) ـ هذا مثال للعموم

(1/383)


وإن كان الجواب أخص فالحكم فيه كالحكم فيما لو لم يكن الجواب مستقلاً مع كون السؤال خاصاً فلا يتعدى محل التنصيص إلى غيره إلا بدليل خارج عن اللفظ كما مر بل الخصوص هنا أولى منه هناك لأنه عدل هنا بالجواب عن مطابقة سؤال السائل مع دعاء الحاجة إلى المطابقة بخلافه هناك لتطابق السؤال والجواب
وإن كان الجواب أعم أو كان السبب غير سؤال فمختار أئمتنا عليهم السلام والجمهور أنه (لا يقصر العموم على سببه) الخاص إن لم يظهر مقتضٍ لتخصيصه كما سبق في المفهوم [*]
مثال الأول: ما رواه النسائي عن أبي سعيد قال مررت بالنبي وهو يتوضى من بير بُضاعة فقلت أتتوضأ منها وهو يطرح فيها ما يكره من النتن ؟ فقال : (الماء لا ينجسه شيءٍ ) ونحوه في سنن أبي داود والترمذي .

(1/384)


ومثال الثاني ما رواه البيهقي عن ابن عباس وعائشة أن شاة لميمونة ماتت فقال النبي : (هلا استمتعتم باهابها ) فقالوا إنها ميتة . فقال : (إن دباغ الأديم طهوره ) ورواه البزار في مسنده من حديث يعقوب عن عطاء عن أبيه عن ابن عباس وقال لا نعلم رواه عن يعقوب إلا شعبة انتهى لأن السبب (1)لا يغير وصفه فلا يغير فائدته ولاعتبار السلف من الصحابة ومن بعدهم العموم مع انبنائه على أسباب خاصة من غير نكير من أحد ولو كان السبب الخاص مسقطاً للعموم لكان إجماع الأُمَّة على التعميم على خلاف الدليل وهو باطل وذلك كما في آية السرقة فإنه روى الكلبي أنها نزلت في طعمة بن ابيرق سارق الدرع ذكره الواحدي أو في سارق المجن أو رداء صفوان.وكما في آية الظهار فإنها نزلت في خولة أو خويلة بنت ثعلبة حين ظاهر منها زوجها أوس بن الصامت(2)
__________
(1) ـ قوله لأن السبب ..إلخ تعليل لقوله لا يقصر العام على سببه تمت
(2) ـ نص الحديث على ما أخرجه الطبراني في معجمه الكبير ج 11/ص 265/ح 11689 عن أبي حمزة الثمالي عن عكرمة عن بن عباس قال كان الظهار في الجاهلية يحرم النساء فكان أول من ظاهر في الإسلام أوس بن الصلت وكانت امرأته خويلة بنت خويلد وكان الرجل ضعيفا وكانت المرأة جلدة فلما أن تكلم بالظهار قال لاأراك إلا قد حرمت علي فانطلقي إلى رسول الله لعلك تبتغي شيئا يردك علي فانطلقت وجلس ينتظرها عند قرني البئر فأتت النبي وماشطة تمشط رأسه فقالت يا رسول الله إن أوس بن الصامت من قد علمت في ضعف رأيه وعجز مقدرته وقد ظاهر مني يا رسول الله وأحق من عطف عليه بخير إن كان أنا أو عطف علي بخير إن كان عنده هو فقد ظاهر مني يا رسول الله فابتغي شيئا يردني إليه بأبي أنت وأمي قال يا خويلة ما أمرنا بشيء من أمرك وإن نؤمر فسأخبرك فبينا ماشطته قد فرغت من شق رأسه وأخذت الشق الآخر أنزل الله عز وجل وكان إذا نزل عليه الوحي يربد لذلك وجهه حتى يجد برده فإذا سري عنه عاد وجهه أبيض كالقلب ثم تكلم بما أمر به فقالت لها ماشطته يا خويلة إنني لأظنه الآن في شأنك فأخذها أفكل استقلتها رعدة ثم قالت اللهم بك أعوذ إن تنزل في إلا خيرا فإني لي لم أبغ من رسولك إلا خيرا فلما سري عنه قال يا خويلة قد أنزل الله فيك وفي صاحبك قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها إلى قوله ثم يعودون لما قالوا فتحرير رقبة من قبل ان يتماسا فقالت يا رسول الله والله ما له خادم غيري ولا لي خادم غيره قال فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين فقالت والله إنه إذا لم يأكل في اليوم مرتين يسدر بصره قال فمن لم يستطع فإطعام ستين مسكينا فقالت والله ما لنا في اليوم إلا وقية قال فمريه فلينطلق إلى فلان وليأخذ منه شطر وسق تمر فليتصدق به على ستين مسكينا وليراجعك قالت فجئت فلما رآني قال ما وراءك قالت خير وأنت ذميم أمرت أن تأتي فلانا فتأخذ منه شطر وسق تمر فتتصدق به على ستين مسكينا وتراجعني فانطلق يسعى حتى جاء به قالت وعهدي به قبل ذلك ما يستطيع أن يحمل على ظهره خمسة آصع من الضعف .

(1/385)


.وكما في آية اللعان فإنها نزلت في هلال بن أمية وقصته مشهورة (1).وكما في آية الزنى ?الزَّانِي لَا يَنْكِحُ إلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً ? [النور3] الآية فإنها نزلت في عناق وأبي مرثد الغنوي(2)
__________
(1) ـ نص الحديث على ما أخرجه النسائي في سننه ج6/ص173/ح3469.عن أنس بن مالك قال إن أول لعان كان في الإسلام أن هلال بن أمية قذف شريك بن السحماء بامرأته فأتى النبي فأخبره بذلك فقال له النبي أربعة شهداء وإلا فحد في ظهرك يردد ذلك عليه مرارا فقال له هلال والله يا رسول الله إن الله عز وجل ليعلم أني صادق ولينزلن الله عز وجل عليك ما يبرىء ظهري من الحد فبينما هم كذلك إذ نزلت عليه آية اللعان والذين يرمون أزواجهم إلى آخر الآية فدعا هلالا فشهد أربع شهادات بالله إنه لمن الصادقين والخامسة أن لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين ثم دعيت المرأة فشهدت أربع شهادات بالله إنه لمن الكاذبين فلما أن كان في الرابعة أو الخامسة قال رسول الله وقفوها فإنها موجبة فتلكأت حتى ما شككنا أنها ستعترف ثم قالت لا أفضح قومي سائر اليوم فمضت على اليمين فقال رسول الله انظروها فإن جاءت به أبيض سبطا قضيء العينين فهو لهلال بن أمية وإن جاءت به آدم جعدا ربعا حمش الساقين فهو لشريك بن السحماء فجاءت به آدم جعدا ربعا حمش الساقين فقال رسول الله لولا ما سبق فيها من كتاب الله لكان لي ولها شأن قال الشيخ والقضيء طويل شعر العينين ليس بمفتوح العين ولا جاحظهما والله سبحانه وتعالى أعلم
(2) ـ نص الحديث على ما أخرجه الحاكم في مستدركه ج 2/ص 180/ح 2701:عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن مرثد بن أبي مرثد الغنوي رضي الله عنه كان يحمل الأسارى بمكة وكان بمكة بغي يقال لها عناق وكانت صديقته قال فجئت إلى النبي فقلت يا رسول الله أنكح عناقا قال فسكت عني فنزلت الزاني لا ينكح إلا زانية أو مشركة والزانية لا ينكحها إلا زان أو مشرك وحرم ذلك على المؤمنين فقرأ علي رسول الله وقال لا تنكحها هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه

(1/386)


لما استأذن رسول الله في نكاح عناق وكانت خليلة له في الجاهلية رواه أبو داود والترمذي والنسائي من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده إلا أنه نص في السبب لا يجوز تخصيصه ظاهر في غيره فيخصص بدليله فنقل السبب(1)، واشتغال العلماء بضبطه وتدوينه في الكتب لذلك لا لقصر الخطاب عليه وأيضاً فإن عرفان السبب والدِرية به مستروح إليه وله في النفس نوع تمكن
(و) لما فرغ من بيان المخصصات المتصلة والمنفصلة أراد أن يبيِّن ما أدخل في المخصص المنفصل وليس منه فمنها مذهب الصحابي نحو حديث: ( لا يحتكر إلا خاطئ ) رواه مسلم من حديث سعيد بن المسيب عن المسيب عن معمر بن عبد الله عن النبي ، وكان سعيد يحتكر الزيت فقيل له فقال إن معمراً راوي الحديث كان يحتكر
فقال أئمتنا عليهم السلام والجمهور (إنه لا يخصص العام) من الحديث بمذهب الصحابي مطلقاً ولا (بمذهب راويه) مطلقاً لأن مذهبه ليس بحجة والعموم حجة فلا يجوز تخصيص هذا بذاك وإلا كان تركاً للدليل لغير دليل وأنه غير جائز
__________
(1) وتحرير محل النزاع لا يعرف إلا بالفرق بين عبارات ثلاث وهي التخصيص بالسبب والتخصيص مع السبب والتخصيص للسبب أما الأول فمعناه قصر الحكم على سببه وهو محل النزاع وقد أفادها متن الكتاب وأما الثانية فمعناها تخصيص العموم مع وروده على سبب ولا نزاع فيه وأما الثالثة فمعناها إما إخراج السبب من الحكم ولا نزاع في عدم جوازه وإما الإخراج منه بأن كان عاماً وخص نحو أن يقال هل يتطهر بالماء الذي يلقى فيه القذر ؟ فيقال : خلق الماء طهورا لا ينجسه إلا ما غير ريحه أو لونه أو طعمه فلا شك أن السبب أعني الماء الذي يلقى فيه القذر قد أخرج منه بعضه وهو المتغير ولا نزاع فيه أيضاً والله أعلم تمت منه

(1/387)


وقالت الحنفية والحنابلة يجوز التخصيص بمذهب الصحابي مطلقاً وقال في فصول البدائع وصححه لمذهب الحنفية أنه يجوز التخصيص به إن كان العامل بخلاف العام هو الراوي لأن مخالفة الصحابي للعام تستلزم دليلاً وإلا وجب تفسيقه بالمخالفة وهو خلاف الإجماع فيعتبر ذلك الدليل وإن لم يكن معروفاً
والجواب أن استلزام مخالفة الصحابي للعام دليلاً إنما هو في ظنه وما ظنه المجتهد لا يكون دليلاً على مجتهد آخر ما لم يعلمه الآخر بعينه مع وجه دلالته فلا يجوز أن يتبع ذلك المجتهد فيما اعتبره وخصص به لأنه تقليد من مجتهد إلا الوصي عليه السلام فإنه يجب التخصيص بقوله ومذهبه لقيام الدلالة الواضحة على أن الحق معه وإلا ما ليس للاجتهاد فيه مسرح والله أعلم .
(و) منها أنه إذا ورد عام وعادة المخاطبين به بعض ما تناوله نحو : لا تبيعوا الطعام بالطعام إلا مثلاً بمثل يداً بيد فإن كانت بإطلاق اللفظ على بعض أفراد العام الدال عليها لغةً نحو أن يكون عرفهم إطلاق الطعام على البر مثلاً ثم يأتي النهي عن بيع الطعام بالطعام فلا نزاع في أنه يعمل فيه بالعادة لأنه في الحقيقة من تقديم الحقيقة العرفية على اللغوية وإن كانت باستمرار فعل شيءٍ نحو أن يستمر منهم تناول البُّر دون سائر المطعومات ثم يأتي النهي المذكور فهو عند الجمهور على عمومه فيه وفي غيره
و(لا) يخصص (بالعادة) وهي ما انتفى خلافه أو ندر لعدم حجيتها إذ لا تصلح دليلاً على نقل اللفظ من العموم إلى الخصوص وما لا يصلح دليلاً لا يبطل به الدليل غايته أن تتفاوت دلالة العام في المعتاد وغيره كما تتفاوت دلالة ما ورد على سبب خاص في السبب وغيره
وعند الحنفية يتخصص بالعادة كما يتخصص بالعرف فإن لفظ دابة تختص بذات الأربع مما يركب بعد كونه في اللغة لما يدب وكما يخصص النقد بالنقد الغالب في البلد بعد كونه فيها لكل نقد ، قلنا المخصص إنما هو غلبة الاسم لا غلبة العادة فافترقا

(1/388)


(و) منها أنه إذا ورد الخطاب مركباً من شيئين أحدهما معطوف على الآخر هل يجب إذا ظهر في الأول شيءٌ أن يضمر في الثاني إذا لم يظهر أولاً ؟ ثم إذا وجب ذلك وكان المضمر في الثاني مخصصاً بشيءٍ فهل يجب أن يكون المظهر في الأول مخصصاً بذلك الشيء أو لا مثل ما رواه أحمد(1)وأبو داود (2)
__________
(1) ـ الذي في مسند أحمد ج: 1 ص: 962 « أن علياً رضي الله عنه كان يأمر بالأمر فيؤتى فيقال : قد فعلنا كذا وكذا فيقول : صدق الله ورسوله , قال : فقال له الأشتر : إن هذا الذي تقول : قد تفشغ فيه الناس أفشىء عهده إليك رسول الله , قال عليّ رضي الله عنه ما عهد إليّ رسول الله شيئاً خاصة دون الناس إلا شيء سمعته منه فهو في صحيفة في قراب سيفي , قال : فلم يزالوا به حتى أخرج الصحيفة , قال : فإذا فيها : من أحدث حدثاً أو آوى محدثاً فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين لا يقبل منه صرف ولا عدل , قال : وإذا فيها : إن إبراهيم حرم مكة وإني أحرم المدينة حرام ما بين حريتها وحماها كله لا يختلي خلاها , ولا ينفر صيدها ولا تلتقط لقطتها إلا لمن أشار بها , ولا تقطع منها شجرة إلا أن يعلف رجل بعيره , ولا يحمل فيها السلاح لقتال , قال : وإذا فيها : المؤمنون تتكافأ دماؤهم , ويسعى بذمتهم أدناهم , وهم يد على من سواهم , ألا لا يقتل مؤمن بكافر ولا ذو عهد في عهده »
(2) ـ والذي في سنن أبو داود ج: 4 ص: 180 عن قَيْسِ بنِ عُبَادٍ قالَ: انْطَلَقْتُ أنَا وَالأشْتَرُ إلَى عَلِيَ فَقُلْنَا: هَلْ عَهِدَ إلَيْكَ رَسُولُ الله شَيْئاً لَمْ يَعْهَدْهُ إلَى النّاسِ عَامّةً؟ فقالَ: لاَ, إلاّ مَا فِي كِتَابِي هَذَا. قالَ مُسَدّدٌ قالَ: فأَخْرَجَ كِتَاباً, وقالَ أحْمَدُ: كِتَاباً مِنْ قِرَابِ سَيْفِهِ فإذَا فِيهِ: المُؤْمِنُونَ تَكَافَأُ دِمَاؤُهُمْ وَهُمْ يَدٌ عَلَى مَنْ سِوَاهُمْ وَيَسْعَى بِذِمّتِهِمْ أدْنَاهُمْ. ألاَ لاَ يُقْتَلُ مُؤْمِنٌ بِكَافِرٍ وَلاَ ذُو عَهْدٍ في عَهْدِهِ, مَنْ أحْدَثَ حَدَثاً فَعَلَى نَفْسِهِ, وَمَنْ أحْدَثَ حَدَثاً أوْ آوَى مُحْدِثاً فَعَلَيْهِ لَعْنَة الله وَالْمَلاَئِكَةِ وَالنّاسِ أجْمَعِينَ». قال مُسَدّدٌ عن ابنِ أبي عَرُوبَةَ: فأَخْرَجَ كِتَاباً

(1/389)


والنسائي(1)عن قيس بن عبادة(2)قال انطلقت أنا والأشتر إلى علي فقلنا هل عهد إليك نبي الله شيئاً لم يعهده إلى الناس عامة ؟ فقال لا إلا ما كان في كتابي هذا ، فأخرج إلينا كتاباً من قراب سيفه فإذا فيه : (المؤمنون تتكافى دماؤهم وهم يد على من سواهم ويسعى بذمتهم أدناهم ألا لا يقتل مؤمن بكافر ولا ذو عهد في عهده)(3) فذهب أصحابنا والشافعية إلى أنه (لا) يخصص العام (بتقدير ما أضمر في المعطوف مع العام المعطوف عليه) فاستدلوا بقوله : (لا يقتل مؤمن بكافر على أن المسلم لا يقتل بالذمي ) ؛ لأن لفظ الكافر وقع منكراً في سياق النفي ،وقالت الحنفية : يجب المساواة بين المعطوف والمعطوف عليه فيجب ان يقدر في المعطوف
__________
(1) ـ والذي سنن النسائي (المجتبى) ج: 8 ص: عَنْ قَيْسِ بْنِ عُبَادٍ قَالَ: انْطَلَقْتُ أَنَا وَالأَشْتَرُ إلَى عَلِيّ (رَضِيَ الله عَنْهُ) فَقُلْنَا هَلْ عَهِدَ إلَيْكَ نَبِيّ الله شَيْئاً لَمْ يَعْهَدْهُ إلَى النّاسِ عَامّةً قَالَ: «لا إلاّ مَا كَانَ فِي كِتَابِي هَذَا» فَأَخْرَجَ كِتَاباً مِنْ قِرَابِ سَيْفِهِ فَإذَا فِيهِ: «الْمُؤْمِنُونَ تَكَافَاُ دِمَاؤُهُمْ وَهُمْ يَدٌ عَلَى مَنْ سِوَاهُمْ وَيَسْعَى بِذِمّتِهِمْ أَدْنَاهُمْ أَلاَ لا يُقْتَلُ مُؤْمِنٌ بِكَافِرٍ وَلا ذُو عَهْدٍ فِي عَهْدِهِ مِنْ أَحْدَثَ حَدَثاً فَعَلَى نَفْسِهِ أَوْ آوَى مُحْدِثاً فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ الله وَالْمَلائِكَةِ وَالنّاسِ أَجْمَعِينَ».
(2) ـ.. في الأم قيس بن عبادة كما في المستدرك على الصحيحين ولعله قيس بن سعد بن عبادة صاحب علي عليه السلام وفي مسند أحمد وسنن أبي داود والنسائي وكثير من كتب أهل الحديث قيس بن عباد تمت
(3) ـ ومعنى تتكافأ دماؤهم : تتماثل في القصاص من الكفؤ وهو المثل ، لا فضل لشريف على وضيع ، والذمة : العهد ، والمراد بأدناهم : أحقرهم ، وقيل : العبد والمرأة إذا أعطى أمانا فليس للنافين نقضه تمت منه

(1/390)


بكافر كالمعطوف عليه فيكون على التقدير ولا ذو عهد في عهده بكافر
قالوا ومما يقوي أن المراد عدم قتله بالكافر أن تحريم قتل المعاهد معلوم لا يحتاج إلى بيان وإلا لم يكن للعهد فائدة ثم إن الكافر الذي لا يقتل به المعاهد هوالحربي لأن الإجماع قائم على قتله بمثله وبالذمي(1)فوجب أن يكون الكافر الذي لا يقتل به المسلم أيضاً الأول هو الحربي تسوية ين المعطوف والمعطوف عليه
قلنا المقدر كالملفوظ فإن النبي لو قال : (لا يقتل مؤمن بكافر ولا ذو عهد في عهده بكافر ) ثم علمنا بدلالة أن الآخر مخصوص بالحربي لم يجب أن يكون الأول كذلك ولا نسلِّم أن في الحديث تقديراً لأن قوله ولا ذو عهد في عهده كلام تام فلا يحتاج إلى إضمار لأن الإضمار خلاف الأصل فلا يصار إليه لغير ضرورة فيكون نهياً عن قتل المعاهد ولا نسلم أن تحريم قتل المعاهد معلوم لا يحتاج إلى بيان لأنه إنما يعلم من جهة الشرع وإلا فإن ظاهر العمومات يتقضي جوازه وفائدة قوله في عهده دفع ما عسى أن يتوهم من أن المعاهد لا يقتل وإن خرج من عهده ولو سلم تقدير الكافر في الثاني فلا نسلم استلزام تخصيصه بالحربي تخصيص الأول به فإن مقتضى العطف مطلق الاشتراك لا الاشتراك من كل الوجوه وبما ذكرنا يظهر أن عبارة المصنف ليس كما ينبغي لأن ظاهرها يقضي بوقوع الإضمار والتقدير لكن لا يخصص به وليس كذلك فإنا لا نسلم أن هناك تقديراً فلا إضمار فلا تخصيص إلا أن يجعل من باب لم تتأمل لتعلم ومثل عبارته في المنهاج
[مجازية مابقي من العام بعد التخصيص ]
__________
(1) ـ في نسخة زيادة : (فيجب أن يضمر في المعطوف قيد حربي قالوا و إذا أضمر وجب) ... إلخ

(1/391)


(و) المختار من أربعة عشر قولاً مذكورة في المطولات في العام المخصوص (أن العام بعد تخصيصه لا يصير مجازاً فيما بقي بل) هو باقٍ على ما كان عليه (حقيقة) فيه على أي وجه وقع التخصيص وهو مذهب بعض أئمتنا عليهم السلام والحنابلة وكثير من الحنفية والشافعية والمعتزلة(1)وذلك لأن اللفظ كان متناولاً للباقي حقيقة قبله باتفاق وذلك التناول باقٍ على ما كان لم يتغير وإنما طرأ عدم تناول الغير
ثم إذا كان التخصيص بمجمل صار العام مجملاً كما سيأتي إن شاء الله تعالى وإن كان بمبيّن فعند الجمهور أنه حُجَّة في الباقي خص بمتصل أولا ؛ لاستدلال الصدر الأول به مع التخصيص وتكرر وشاع ولم ينكر فكان إجماعاً .
من ذلك احتجاج فاطمة بنت رسول الله على أبي بكر في ميراثها بعموم قوله تعالى ?يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ ?[النساء 11]الآية مع أنه مخصص بالكافر والقاتل ولم ينكر أحد من الصحابة احتجاجها مع ظهوره وشهرته بل عدل أبو بكر في حرمانها إلى الاحتجاج بما تفرد هو به عن رسول الله :(نحن معاشر الأنبياء لا نورث ما تركناه صدقة )(2)
__________
(1) ـ وقيل مجاز مطلقاً وقيل حقيقة إن كان غير منحصر وقيل إن كان المخصص غير مستقل وقيل إن كان شرطاً أو صفة وقيل إن كان شرطاً أو استثناء ، وقيل إن كان استثناء وقيل إن كان لفظا وقيل إن كان بغير مستقل أو بمستقل متراخ وقيل في التناول لا في الاقتصار، وقيل كذلك في المستقل وقيل إن سبق الباقي إلى الذهن عند الإطلاق وقيل إن كان جمعاً وقيل إن كان بمستقل فمجاز وإلا فالحقيقة مجموع العام ومخصصه غير المستقل وتوجيه الجميع وأدلته وجوابها مذكور في المطولات تمت منه
(2) ـ قال في نظام الفصول نحن معاشر الأنبياء لا نورث اتهم مالك بن أوس بن الحدبان بوضعه اتهمه الحافظ الناقد عبد الرحمن بن حراش وغيره إهـ تمت منه لم نجد لفظة معاشر الأنبياء إلا في كنز العمال والمعجم الأوسط ج5ص26 والسنن الكبرى ج4ص64
وتأمل أيها القاري فضائل بنت الرسول المغصوب حقها حسب ما رورد في كتب أهل السنة فقد أخرج النسائي في سننه الكبرى ج 5/ص 97/ح 8371الحارث بن مسكين قراءة عليه عن سفيان عن عمرو بن أبي مليكة عن المسور بن مخرمة أن النبي قال (إن فاطمة بضعة مني من أغضبها أغضبني) وأخرجه مسلم في صحيحه و البخاري في صحيحه و ابن حبان في صحيحه و الترمذي في سننه و ابن ماجه في سننه و أبو داود في سننه و ابن حنبل في مسنده و الحاكم في مستدركه و الطبراني في معجميه ه الكبير والصغيروالنسائي في سننه الكبرى
ثم انظر أيها المنصف صنع أبي بكر في من حكم الرسول بأن غضبها من غضبه ورضاها من رضاه من أرضا فاطمة أرضا الرسول ومن أغضبها أغضبه فقد أخرج البخاري في صحيحه ج 3/ص 1126/ح 2926 حدثنا عبد العزيز بن عبد الله حدثنا إبراهيم بن سعد عن صالح عن بن شهاب قال أخبرني عروة بن الزبير أن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها أخبرته أن فاطمة عليها السلام ابنة رسول الله سألت أبا بكر الصديق بعد وفاة رسول الله أن يقسم لها ميراثها ما ترك رسول الله مما أفاء الله عليه فقال أبو بكر إن رسول الله قال لا نورث ما تركنا صدقة فغضبت فاطمة بنت رسول الله فهجرت أبا بكر فلم تزل مهاجرته حتى توفيت وعاشت بعد رسول الله ستة أشهر قالت وكانت فاطمة تسأل أبا بكر نصيبها مما ترك رسول الله من خيبر وفدك وصدقته بالمدينة فأبى أبو بكر عليها ذلك وقال لست تاركا شيئا كان رسول الله يعمل به إلا عملت به فإني أخشى إن تركت شيئا من أمره أن أزيغ فأما صدقته بالمدينة فدفعها عمر إلى علي وعباس وأما خيبر وفدك فأمسكها عمر وقال هما صدقة رسول الله كانتا لحقوقه التي تعروه ونوائبه وأمرهما إلى من ولي الأمر قال فهما على ذلك إلى اليوم .
وأخرجه مسلم في صحيحه والبخاري في صحيحه و النسائي في سننه و ابن حبان في صحيحه و ابن خزيمة في صحيحه و الترمذي في سننه و أبو داود في سننه وغيرهم

(1/392)


وغير ذلك كثير حتى قال بعض المحققين :إنه لا يكاد يوجد في أدلة الأحكام عموم غير مخصص فإبطال حجية العام المخصوص إبطال لحجية كل عام وأيضاً فإنا نقطع بأنه إذا قيل أكرم بني تميم ثم قيل بكلام منفصل لا تكر م منهم زيداً فترك إكرام سائر بني تميم عد عاصياً. ولولا أنه ظاهر في ما عدا صورة التخصيص وحجة فيه لما عُدَّ عاصيا بالترك
وأيضاً العام قبل التخصيص كان حُجَّة في كل واحد من أفراده إجماعاً والأصل بقاء ما كان على ما كان حتى يوجد معارض والأصل عدمه فمن ادعاه يحتاج إلى الدليل وعدم الحكم في بعض الأفراد لا يصلح معارضاً لأن عدم الحكم في فرد لا ينافي ثبوته في الآخر
[صحة تخصيص الخبر والإنشاء ]
(و) مختار الأكثر (أنه) أي الشان (يصح تخصيص ) نوعي الكلام من (الخبر) والإنشاء لكثرة وقوعه كقو له تعالى ?اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ ? [الزمر62] ونحو ?وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ?[الروم50] ?مَا تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلَّا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ?[الروم42]?وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ?[النمل 23] فإنه تعالى ليس خالقاً لذاته ولا قادراً عليها والريح أتت على الجبال والأرض ولم تجعلها كالرميم ولأنها لم تؤت السماوات وكقوله تعالى ? فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ ?(1)[التوبة5] ?وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا ? [المائدة 38] ? الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا ? [النور2] مع تخصيصها . لعدم قتل أهل الذمة وقطع كل سارق وجلد كل زانٍ والعام المخصوص مطلقا أكثر من أن يحصى
__________
(1) ـ في الأم ?اقتلوا المشركين? وهو خطأ لم يرد في القرآن إلا ?فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ? التوبة 5 ?وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ ? التوبة36

(1/393)


ومنعه شذوذ مطلقا أما في الخبر فلأنه كذب لأنه ينفي فيصدق نفيه فلا يصدق هو وإلا صدق النفي والإثبات معاً وهو محال فقولك جاءني كل من في البلد ـ وقد يختلف بعضهم ـ كذب لصدق ما جاءني كل من في البلد وأما في الإنشاء فللزوم ظهور المصلحة بعد خفائها .
قلنا :صدق النفي إنما هو بقيد العموم لا مطلقاً والإثبات إنما هو بقيد الخصوص فلم يتوارد الإثبات والنفي على شيءٍ واحد فكانا جميعاً صادقين وإنما يلزم البدا لو أريد العموم ابتداءً لكنه لم يرد من أول الأمر وإنما أريد به الباقي بعد التخصيص
[التعارض بين عمومين ]
(ولا يصح تعارض العمومين) قطعي المتن والدلالة (في) حكم (قطعي) اتفاقاً بين العقلاء كما لا يصح تعارض غيرهما فيه فلا وجه لتخصيصهما ولا لذكره هنا فلا يصح لأنهما لو تعارضا لزم حقية مقتضاهما فيلزم وقوع المتنافيين وهو محال ولا يمكن الرجوع إلى الترجيح لأنه فرع التفاوت في احتمال النقيضين وذلك لا يتصور في القطعي .
وأما إذا تعارضا في ظني فيصح ويرجع إلى الترجيح فيعمل بالحاصل فيه أحد وجوهه الآتية إن شاء الله تعالى
(و) إذا ورد دليلان أحدهما أعم من الآخر مطلقاً أو من وجه فإنه (يصح) بينهما أي (بين العام والخاص) كذلك ظاهره ولو في قطعي وهو ممنوع بما سبق وسيأتي في الترجيح
فأما أن يقع المتأخر منهما قبل إمكان العمل بالأول وجب العمل بالخاص اتفاقاً إلا ما يروى عن ابن القاص من وجوب الترجيح بينهما أو الوقف
وأما أن يكون بعد إمكانه فإما ألا يجهل التاريخ (فيعمل بالمتأخر منهما) عند الجمهور لأنه ناسخ للمتقدم ما لم يستلزم نسخ المعلوم بالمظنون كما سيأتي إن شاء الله تعالى سواءً كان المتأخر العام أو الخاص لوجوه :
منها : ما روي عن ابن عباس أنه قال : كنا نأخذ بالأحدث فالأحدث وهو ظاهر في فعل الجماعة فكان إجماعاً والعام المتأخر أحدث فوجب العمل به

(1/394)


ومنها : أنهما لفظان تعارضا وعلم تأخر أحدهما فوجب تسليط المتأخر على السابق
ومنها :أن اللفظ العام يجري في تناوله لآحاد ما دخل تحته مجرى ألفاظ خاصة كل واحد منه يتناول واحدا من تلك الآحاد فإن قوله اقتلوا المشركين قائم مقام قوله اقتلوا زيداً المشرك وعمراً وبكراً وخالداً ولو قال ذلك بعد أن قال لا تقتلوا زيد كان ناسخاً
(فإن جهل التاريخ) [*]فإن أمكن الجمع بينهما أو ترجيح أحدهما بأحد وجوهه وجب وإلا تساقطا و(أطرحا) في محل التعارض ورجع فيه إلى حكم الأصل إن لم يوجد ناقل شرعي عند جمهور أصحابنا والحنفية والقاضي عبد الجَبّار والباقلاني . وإنما وجب الإطراح لأنه يحتمل بطلان الخاص لجواز تأخر العام وعدم بطلانه لجواز تقدم العام فيجب الوقف إلى أن يظهر مرجح
(وقال) محمَّد بن إدريس بن العباس بن عثمان بن شافع بن السائب بن عبيد بن عبد يزيد بن هاشم بن المطلب بن عبد مناف (الشافعي) وغيره بوجوب بناء العام على الخاص و(يعمل بالخاص فيما تناوله وبالعام فيما عداه تقدم الخاص أم تأخر) بمدة تتسع للعمل أولا (أم جهل التاريخ) (1)
ثم إن تأخر الخاص مدة تتسع للعمل فهو ناسخ للعام فيما تناوله وإن تأخر العام لم يكن ناسخاً للخاص المتقدم بل يكون العام المتأخر مخصصاً بالخاص المتقدم
ولما كان العام والمطلق يشتركان في العموم إلا أن عموم الأول شمولي وعموم الآخر بدلي والمقيد بالنسبة إلى المطلق كالخاص بالنسبة إلى العام وكان تعارض المطلق والمقيد من باب تعارض العام والخاص حسن أن يذكرا في باب العموم والخصوص ويترجم لهما بالفصل فقال
[المطلق ]
( فصل )
__________
(1) ـ وبنى عليه في الفصول وحواشيه إذا كان في الاعتقادات والله أعلم تمت منه

(1/395)


( والمطلق ما دل على شائع في جنسه )فما كالجنس ويحترز بدل عن الألفاظ المهملة ومعنى شائع في جنسه أن يكون مدلول ذلك اللفظ حصة محتملة لحصص كثيرة مما يندرج تحت أمر مشترك من غير تعيين فيخرج المعارف كلها لما فيها من التعيين إما شخصياً نحو زيد وأنت وهذا وإما حقيقة نحو الرجل وأسامة وإما حصة نحو ?فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ ?[المزمل 16] وإما استغراقاً نحو ?إن الإنسان لفي خسر?[العصر] والرجال وكذا كل عام ولو نكرة نحو كل رجل ولا رجل لأنه بما انظم إليه من كل والنفي صار للاستغراق وهو مناف للشيوع المذكور
[ المقيد]
(والمقيد بخلافه) فهو ما دل على معين كزيد وأنت وهذا والرجل وقد يطلق على ما أخرج من شائع في جنسه بوجه من الوجوه هذا هو المصطلح لاالأول كـ?رقبة مؤمنة?[النساء92] فإنها وإن كانت شائعة بين الرقاب المؤمنات فقد أخرجت من الشياع بوجه ما من حيث كانت شائعة بين المؤمنة وغيرها فأزيل ذلك الشياع وقيد بالمؤمنة فكان مطلقاً باعتبار مقيداً باعتبار آخر وقوله تعالى ?فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ?[المائدة89] مع قراءة ابن مسعود متتابعات
(وهما) بعد أن عرفت معناهما (كالعام والخاص) فيما ذكر فيهما من متفق عليه(1)ومختلف فيه ومختار ومزيف فما جاز تخصيص العام به جاز تقييد المطلق به وما لا فلا . فيجوز تقييد الكتاب بالكتاب وبالسنة قولاً أو فعلاً أو تركاً أو تقريراً والسنة بالسنة كذلك وبالكتاب وتقييدهما بالقياس وبالمفهومين وبالعقل لا بمذهب الراوي والعادة ونحوهما
وأما كونه متصلاً ومنفصلاً فقد ذكر بعض المحققين أنه كذلك وهو ظاهر المتن
(وإذا وردا) أي المطلق والمقيد في كلام الشارع فهما على أربعة وجوه :لأنهما إما أن يتحد حكمهما أو لا يتحد وعلى التقديرين إما أن يتحد سببهما أو يختلف
__________
(1) ـ بين من يقول بجواز تخصيص العام لا مطلقاً فإن منهم من لا يجيز تخصيصه رأساً تمت منه

(1/396)


إن اتحد السبب الموجب للحكم ووردا (في حكم واحد) نحو أن يقول :إن ظاهرت فاعتق رقبه ويقول في موضع آخر فاعتق رقبة مؤمنة حمل المطلق على المقيد و(حكم بالتقييد اتفاقاً) حكاه الإمام المهدي عليه السلام والآمدي سيما إذا وقع المطلق بعد المقيد مع ضمير أو عطف نحو اعتق عبداً مؤمناً اعتق أخاً له ونحو ?وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ? [الأحزاب 35] وفي دعوى الإجماع (1)نظر والأقرب أن الكلام هنا كالكلام في بناء العام على الخاص فيبنى المطلق على المقيد مع المقارنة ومع المفارقة وقتا يتسع للعمل أو جهل التاريخ الخلاف كالخلاف والاحتجاج كالاحتجاج
ويشترط في حمل المطلق على المقيد ألا يكون مقيداً بقيدين متضادين وإلا طلب الترجيح إن أمكن وإلا تساقطا وبقي المطلق على إطلاقه .
__________
(1) ـ أي الإتفاق لأنه ورد في النسخة المطبوعة حكم بالتقييد إجماعا وكذا ما شرح كافل لقمان وقد أثبتناها على نسخة المؤلف تمت

(1/397)


وإن اختلفا حكماً نحو اكس تميماً وأطعم تميماً عالماً فإنه (لا) يحمل المطلق على المقيد (في حكمين مختلفين) من جنسين كما مثلنا (اتفاقاً) بين العلماء لعدم المنافاة في الجمع بينهما سواء اختلف سببهما كتقييد صيام القتل بالتتابع وإطلاق إطعام الظهار أو لم يختلف كتقييد صوم الظهار وعتقه بما قبل المسيس وإطلاق إطعامه إلا إذا استلزم حكم المطلق بالاقتضاء أمراً ينافيه حكم المقيد نحو اعتق عني رقبة مع لا تملكني رقبة كافرة فإنه يجب تقييد المطلق بنفي الكفر(1) (إلا) إذا كان هناك علة جامعة فإنه يجب إلحاق المطلق بالمقيد (قياساً) أي لأجل القياس لأنه أحد طرق الشرع المقررة وذلك كقياس التيمم المطلق في قوله تعالى ? فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ ?[المائدة 6] على الوضوء المقيد بالمرافق في قوله تعالى ?فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ ? [المائدة 6] عند أئمتنا عليهم السلام وجمهور غيرهم كما سبق وأما عند غيرهم فهذا مجرد مثال وإلا فإنه لا يقاس الوضوء على التيمم ولا العكس لاختلافهما تغليظاً وتخفيفاً
__________
(1) ـ لأنه بقوله اعتق عني رقبة كأنه قال ملكني رقبة ثم اعتقها عني و العتق يقتضي الملك إذ لا عتق قبل ملك فلما قال لا تملكني رقبة كافرة علمنا بذلك أن الأمر بالاعتاق المقتضي للملك إنما هو للمؤمنة على أنه يرجع إلى متحد الحكم كما لا يخفى أما إذا لم يستلزم المنافاة نحو اعتق عني رقبة مؤمنة [مع] لا تملكني رقبة كافرة فظاهر في أن المراد بهما واحد لكنهما في المثال الأخير مقيدان وإنما لم يقل تقييده بالإيمان إشارة إلى أن معنى حمل المطلق على المقيد تقييده بذلك القيد بحسب مقتضى الحال إثباتاً أو نفياً والله أعلم تمت منه

(1/398)


(و) كذا (لا) يحمل المطلق على المقيد (حيث اختلف السبب واتحد الجنس) والحكم كإطلاق الرقبة في كفارة الظهار واليمين وتقييدها بالأيمان في كفارة القتل فإن السبب وهو الظهار والقتل واليمين مختلف والجنس وهو العتق متحد والحكم وهو وجوبه كذلك (على المختار) عند المصنف والحنفية مطلقاً سواءً كان بجامع أو غيره لأن إعمال الدليلين واجب ما أمكن فيجب إجراء المطلق على إطلاقه والمقيد على تقييده إذ لو حمل المطلق على المقيد للزم إبطال المطلق لأنه يدل على أجزاء المقيد وغير المقيد فيبطل الأمر الثاني من غير ضرورة بحلاف ما إذا اتحدت الحادثة كما في ?فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ?[المائدة89] مع قراءة متتابعات فإنه لو لم يحمل المطلق على المقيد لبطل حكم المقيد لاقتضائه وجوب التتابع واقتضاء المطلق جوازه فوجب جعل المقيد بياناً للمطلق
ومذهب جمهور أصحابنا والمتكلمين والأظهر من مذهب الشافعي وأصحابه أنه يحمل المطلق على المقيد إن اقتضى القياس التقييد بأن يوجد بينهما علة جامعة مقتضية للإلحاق فيكون تقييداً للمطلق بالقياس كتخصيص العام به لأنه إذا تم القياس رجع إلى متحد الحكم والسبب إذ يصير بمنزلة نص مقيد للإطلاق وإلا يقتضيه القياس بألا يوجد بينهما علة جامعة فلا لعدم الدليل على التقييد فوجب البقاء على ظاهر الإطلاق
وقد روي عن الشافعي وأصحابه أنه يجب الحمل مطلقاً لأن كلام الله تعالى في حكم الخطاب الواحد فيرتب فيه المطلق على المقيد قال الجويني وهذا من فنون الهذيان فإن قضايا الألفاظ في كتاب الله مختلفة متباينة ، لبعضها حكم التعليق والاختصاص ولبعضهما حكم الانقطاع فمن ادعى تنزيل جهات الخطاب على حكم كلام واحد مع العلم بأن في كلام الله تعالى النفي والإثبات والأمر والزجر والأحكام المتغايرة فقد ادعى أمراً عظيماً وأطال في ذلك والله أعلم .
(الباب السابع )
من أبواب الكتاب في المجمل والمبين والظاهر والمأول)

(1/399)


( المجمل )لغة المبهم من قولهم أجمل الأمر أي أبهمه والمجموع من قولهم أجمل الحساب إذا جمعه ومنه المجمل في مقابلة المفصل وأصله من الجمل بمعنى الجمع واصطلاحاً (ما لا يفهم المراد به) متعلق بالمراد أو بيفهم على سبيل التنازع (تفصيلاً) فما كالجنس واختاره على لفظ لكونه أخصر وأفيد لشموله الأفعال فإنه يكون فيها كما يكون في الألفاظ كقيام النبي من الركعة الثانية من غير جلوس للتشهد الأوسط لتردده بين التعمد الدال على ارتفاع شرعية الجلسة الوسطى وبين السهو الذي لا دلالة على ذلك وقوله المراد يخرج المهمل لأنه لم يرد به شيءٌ لا جملة ولا تفصيلاً وفيه دلالة على أن مدلوله مراد في الجملة وقوله تفصيلاً لإخراج المبين على الأكثر من توجه النفي إلى القيد أي ما لا يفهم تفصيل المراد به على نحو لم أضربه إهانة
والإجمال إما لإعلال كالمختار المتردد بين الفاعل والمفعول بسبب قلب الياء ألفاً لتحركها وانفتاح ما قبلها ولولا الإعلال لما كان مشتركاً بينهما لوجوب كسر العين في اسم الفاعل وفتحها في اسم المفعول ومنه كقوله تعالى ?وَلَا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلَا شَهِيدٌ?[البقرة282] ?لَا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا ? [البقرة233] لاحتمال الفاعل والمفعول
أو إضمار تقدمه أمران يصلح لكل واحد منهما كقو له فيما رواه الشيخان وغيرهما (لا يمنع أحدكم جاره أن يضع خُشْبَهُ في جداره)(1)لتردد ضمير جداره بين عوده إلى الجار أو إلى الأحد وتردد الشافعي في المنع لذلك والجديد المنع لحديث خطبة الوداع (لا يحل لامرئٍ من مال أخيه إلا ما أعطاه عن طيب نفس) رواه الحاكم . روى خشبة بالإفراد منوناً والأكثر بالجمع مضافاً .
__________
(1) ـ في صحيح مسلم «لاَ يَمْنَعْ أَحَدُكُمْ جَارَهُ أَنْ يَغْرِزَ خَشَبَةً فِي جِدَارِهِ»,

(1/400)


وكما يحكى عن ابن جريج أنه سئل عن علي عليه السلام وأبي بكر أيهما أفضل ؟ فقال أقربهما إليه فقيل من هو ؟ فقال من بنته في بيته فأجمل فيهما .
أو وصف كذلك نحو زيد طبيب ماهر لتردد ماهر بين عوده إلى طبيب فتلزم المهارة في الطب وإلى زيد فيكون المعنى أنه طبيب وأنه ماهر(1)
أو لتخصيص بمجهول سواءً كان متصلاً مثل قوله تعالى ?أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ?[المائدة1] أو منفصلاً نحو أن يقول اقتلوا المشركين لا تقتلوا بعضهم
(والمبين)
(مقابله) أي المجمل فهو ما يفهم المراد به تفصيلاً ويقع ابتداءً غير مسبوق بالإجمال كالسماء والأرض (2) ?وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ? (3) [التغابن11] إذا قيلت ابتداءً
وقد يقع مسبوقاً بالإجمال ولذا قال : (والبيان) من بان إذا أظهر أو انفصل يطلق على التبيين كالسلام على التسليم وعلى متعلقه وهو العلم وعلى ما حصل به وهو المراد (هنا) فهو (ما يتبين به المراد بالخطاب المجمل) فخرج من ذلك البيان ابتداءً بلا إشكال
(و) اعلم أنه (يصح البيان) للمجمل بالعقل كالتخصيص ذكره في الفصول و(بكل من الأدلة) والإمارات (السمعية) وهي الكتاب والسنة المقالية والفعل والترك والتقرير والإجماع والقياس
أما الكتاب والسنة المقالية والإجماع فلا خلاف في صحة البيان بها وكذا سائرها كالفعل إذا اقترن به ما يدل على الوجه الذي قصد منه وذلك لبيان الصلاة والحج به فإنه بينهما به لحديث الصحيحين : (صلوا كما رأيتموني اصلي) ولحديث النسائي (يا أيها الناس خذوا عني مناسككم فإنِّي لا أدري لعلي لا أحج بعد عامي هذا)
__________
(1) ـ قالوا : ومنه : جاء غلام زيد الكاتب ، قلت : إن لم تعرب الصفة أو أعربت وأعرب المخاطب عن الإعراب بالقلم رفعاً وجراً وإلا فلا إجمال وذلك ظاهر تمت منه
(2) ـ في المفرد تمت
(3) ـ في المركب تمت

(1/401)


وبالجملة فبيان الصلاة والحج بالفعل معلوم بالضرورة من دين الإسلام ولأن مشاهدة الفعل أدل كما جاء في الحديث : ( ليس الخبر كالمعاينة) رواه أحمد في مسنده بإسناد صحيح والطبراني في الأوسط والحاكم في مستدركه عن ابن عباس والطبراني في الأوسط عن أنس والخطيب في تاريخه عن أبي هريرة رفعوه تمامه في المقنع كان أخي موسى أخبر بعبادة قومه للعجل لما مضى من مناجاة ربِّه فلم يلق الألواح ولا اشتد غضبه كثيراً فلما دنى من المدينة وسمع أصوات قومه في عبادة العجل ورآهم حو له ألقى الألواح من يده فرفع أكثر ما فيها ولم يبق إلا القليل انتهى
بيانه أن الإنسان لو قال لولده اكتب النون كالهلال أول ليلة لم يتبين له بهذا القول مثل ما يتبين له إذا مثله وكتبه والله أعلم .
ويعرف كون الفعل أو الترك أو التقرير بياناً إما بنصه على ذلك أو بأن لا يوجد غيرها مع صحة كونها بياناً
وخالف في جواز التبيين بالفعل شرذمة قالوا لأن زمان الفعل أطول من زمان القول فالبيان به يوجب تأخر البيان مع إمكانه بما هو أفضى إليه وهو القول وذلك غير جائز .
قلنا لا نسلِّم أن زمن الفعل أطول من زمن القول فإن ما في الركعتين من الهيآت لو بين بالقول لاستدعى زماناً أطول مما تصلي فيه الركعتان بكثير ولو سلم فلا نسلم استلزامه التأخير لأن التأخير هو أن لا يشرع فيه عقيب الإمكان لا امتداد الفعل كمن قال لغلامه :ادخل البصرة فسار عشرة أيام حتى دخلها فإنه لا يعد بذلك مؤخراً بل مبادراً ممتثلاً بالفو ولو سلم فلا نسلم أن تأخير البيان مع إمكانه بما هو أفضى إليه غير جائز على الإطلاق إنما ذلك حيث لا غرض في التأخير أما مع وجود غرض في التأخير كسلوك أقوى البيانين كما فيما نحن فيه فلا والله أعلم . [*]

(1/402)


(و) لا بيان إلا بما هو واضح من المبين في الدلالة إذ لو ساواه فيها لافتقر إلى بيان مثله فيتسلسل لكنه (لا يلزم شهرة البيان) في النقل (كشهرة المبين) فيجوز أن يبين القطعي بالظني إذ لا يمتنع تعلق المصلحة بذلك ولأن الظن كالعلم في جلب المنافع ودفع المضار وأيضاً فقد وقع وهو دليل الجواز وذلك كتخصيص القرآن والخبر المتواتر بالآحادي كما تقدم إذ لا فرق بين التخصيص للعام والبيان للمجمل لأنهما بيان(1)
(و) المختار أنه (يصح التعليق في حسن الشيء بالمدح) عليه كما يتعلق في حسن إخراج الزكاة بقوله تعالى ?وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ?[المعارج 24](إذ هو) أي المدح على ذلك (كالحث) على فعل الشيء
(و) كذا يصح التعلق (في قبحه بالذم) عليه كما يتعلق في قبح حبس الزكاة بقوله تعالى ?وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ ?[التوبة34]الآية (إذ هو) أي الذم (آكد من النهي) عنه لأن النهي قد يكون عما هو حسن كالمكروه والذم لا يكون إلا على القبيح
واعلم أن المصنف ذكر هذا المسألة تبعاً للإمام المهدي عليه السلام واعترضه الإمام الحسن عليه السلام بأنها إعادة أن مجيء العام للمدح أو الذم لا يبطل عمومه المتقدم في باب العموم .
قلت : وفيه أن ذكرها في باب العموم لبيان أن المدح والذم لا يخرج العموم عن كونه عاماً مع قطع النظر عن أنه لا يصير مجملاً أيضاً وإن استلزمه وذكرها هنا لبيان أنهما لا يصيرانه مجملا مع قطع النظر عن كونه عاما أولا على أن المراد بما ذكر هنا أعم من أن يكون عاماً أو خاصاً وما ذكر هنالك باعتبار العموم فقط
__________
(1) ـ وروي عن الإمام الحسن عليه السلام أنه قال : وكذا الجلي بالخفي ، وفيه أن ذلك مخالف لاشتراط أو ضحية البيان ، مع أن التفاوت بين الجلي والخفي ليس من جهة شهرة النقل وعدمها تمت منه

(1/403)


وأيضاً فإنه رد لما قاله بعض الفقهاء من أنه مجمل [*] فكأنه قال (والمختار أنه لا إجمال) في الوارد للمدح أو الذم ولا (في الجمع المنكر إذ يحمل على الأقل )مما يدل عليه وهو أحد عشر في جمع الكثرة كدراهم وثلاثة في جمع القلة والمشترك كأرغفة ومسلمين إن كان المتكلم به عليما وإلافثلاثة مطلقا ؛ لأن الأصل براءة الذمة عن الزائد وأما حجب الأم بالأخوين مع قوله تعالى ?فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ ?[النساء 11]فمجاز قرينته الإجماع الذي ادعاه عثمان في رده على ابن عباس وقد قال له :قال الله تعالى ? فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ ?[النساء 11]والأخوان ليسا اخوة في لسان قومك رواه ابن خزيمة والبيهقي وابن عبد البَّر والحاكم وصححه

(1/404)


(و) المختار أيضاً أنه (لا) إجمال (في تحريم الأعيان) ولا تحليلها نحو قوله تعالى ?حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ?[النساء23]?وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ ? [المائدة96]? وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ?[النساء24]? الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ?[المائدة5](إذ) كل من التحريم والتحليل (يحمل على) جميع ما يحتمله اللفظ في الأكل والوطء وغيره ، ولذا قال : (لعن الله اليهود حرمت عليهم الشحوم فجملوها وباعوها ) إلا لدليل مخصص كالفعل العرفي (المعتاد) للمخاطبين كالوطء في الموطوء والأكل في المأكول واللبس في الملبوس والشرب في المشروب[*]لتبادره حينئذ (1)فهو متضح الدلالة فلا إجمال وأيضاً فإن الصحابة ومن بعدهم استدلوا بها على تحريم الفعل المقصود منها كما وقع منهم حين سمعوا مناديه قد حرم الخمر فلم يشكوا أن المراد تحريم شربها ولذا عمد كل منهم إلى ما عنده فأهراقه وكذا فهموا من قوله : (أحل الذهب والفضه لإناث أُمَّتِي وحرم على ذكورها ) رواه أحمد والنسائي والبيهقي عن أبي موسى
وقال الكرخي وأبو عبد الله البصري وروي عن أبي حنيفة أنه مجمل لتعذر حمله على ظاهره من إرادة كل أمر يتعلق بها ولزوم التحكم لو حمل على بعض معين منها وامتناع التبيين بالعرف . قلنا التبيين كالتخصيص وقد أجزتموه به
__________
(1) ـ إذ هو من السابق إلى الأذهان فإن من استقرأ كلام العرب ومارس ألفاظهم واطلع على أعرافهم علم أن مرادهم في مثل ذلك إذا أطلقوه إنما هو التحليل والتحريم للفعل المقصود من تلك الأعيان تمت

(1/405)


(و) أنه (لا) إجمال (في العام والمخصوص) بمبين مطلقاً سواءً كان متصلاً أو منفصلاً فيصح الاستدلال به على ما بقي لا بمجمل فيصير مجملاً كما سبق فلا يبقى حُجَّة في الباقي حتى يبين ؛ لأن كل فرد يجوز فيه أن يكون مخرجاً وألا يكون . وما نقله ابن الساعاني عن الحنفية وأبو الحسين القطان عن بعض الشافعية من العمل به في الباقي في غاية البعد لأن إخراج المجهول من المعلوم يصيره مجهولاً
(و) مختار أئمتنا عليهم السلام والجمهور أيضاً أنه (لا) إجمال (في) الفعل المنفي والمراد نفي صفته (نحو) قوله :(لا صلاة إلا بطهور)(1) ( لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب)(2) ( لا نكاح إلا بولي)(3) ( لا صيام لمن لا يعزم الصيام من الليل)(4)ونحو ما أخرجه المؤيد بالله
__________
(1) ـ أخرجه بلفظ : ( لا يقبل الله صلاة إلا بطهور ولا صدقة من غلول) وكذا (إن الله لا يقبل صلاة بغير طهور ولا صدقة من غلول) ابن ماجه والنسائي و ابن حبان في صحيحه و ابن خزيمة في صحيحه و الطبراني في معجميه الكبير والصغير و البيهقي في سننه الكبرى وكذلك عثرنا على ( لا صلاة لمن لا وضوء له ولا وضوء لمن لم يذكر اسم الله عليه )أخرجه ابن ماجه في سننه و أبو داود في سننه و ابن حنبل في مسنده و الحاكم في مستدركه و الطيالسي في مسنده والطبراني في معجمه الكبير والدارقطني في سننه .
(2) ـ أخرجه ابن راهويه في مسنده و ابن حبان في صحيحه وأبو داود في سننه و البيهقي في سننه الكبرى
(3) ـ أخرجه الحاكم في مستدركه وابن حبان في صحيحه و الترمذي في سننه و ابن ماجه في سننه وأبو داود في سننه و ابن حنبل في مسنده
(4) ـ أخرجه بلفظ : ( من لم يجمع الصيام قبل الفجر فلا صيام له) الطبراني في معجمه الكبير وأخرجه النسائي في سننه و ابن خزيمة في صحيحه و الترمذي في سننه و ابن ماجه في سننه و أبو داود في سننه و ابن حنبل في مسنده و الطبراني في معجمه الكبير و النسائي في سننه الكبرى

(1/406)


أحمد بن الحسين من طريق جعفر بن محمَّد عن أبيه عن علي عليه السلام :(لا قول إلا بعمل ولا قول ولا عمل إلا بنيَّة ولا قول ولا عمل ولا نيَّة إلا بإصابة السنة) (1) وقد روي موقوفاً عن الحسن البصري بلفظ لا يصلح قول إلا بعمل ولا يصلح قول وعمل إلا بنيَّة ولا يصلح قول وعمل ونيَّة إلا بمتابعة السنة . وروي موقوفاً عن سعيد بن جبير .
ثم اختلفوا فاختار الإمام المهدي عليه السلام حمله على نفي أقرب المجازات إلى الحقيقة وهو الصحة وصاحب الفصول حمله على نفي جميع صفاته من الإجزاء والكمال والفضيلة فيكون من المسمى بعموم المقتضى لوجوب حمل اللفظ على كل ما يحتمله إلا لتفاف(2)
__________
(1) ـ أخرجه صاحب الفردوس بمأثور الخطاب ج: 5 ص: 185 لا قول إلا بعمل ولا قول ولا عمل إلا بنية ولا قول ولا عمل ولا نية إلا بإصابة السنة
(2) ـ ولذا حكم أصحابنا بأنه لا إجمال فيما يطلق على معنى واحد تارة ، وعلى اثنتين أخرى إطلاقاً على السواء لقولهم بعموم المشترك فيكون ظاهراً في الجميع فإنما يفيد معنيين أكثر فائدة مما يفيد معنى واحداً ، فكان الأفيد أظهر تمت منه

(1/407)


(و) لا إجمال فيما قصر فيه الفعل على أمر والمعلوم أنه يوجد من دونه نحو قوله : (الأعمال بالنيَّات) رواه الحاكم في الأربعين له من طريق مالك وأخرجه ابن حبان من وجه آخر في مواضع من صحيحه كما ذكر المصنف بحذف إنما وجمع النيات ورواه البخاري أيضاً بحذف إنما وإفراد النية وأما مع ذكر إنما فلم يبق من أصحاب الكتب المعتمدة من لم يخرجه سوى مالك فإنه لم يخرجه في الموطأ ومداره على يحيى بن سعيد الأنصاري فيتمسك به عند أئمتنا عليهم السلام لما تقدم بعينه في نحو لا صلاة ... إلخ فيتعلق به من حيث أن الرسول معرف لنا بالأعمال الشرعية فإذا قال (الأعمال بالنيات أو لا عمل إلا بنيَّة ) فمراده : لا عمل شرعي إلا بنيَّة وما لم يكن كذلك فليس بعمل شرعي ولا وجود له من حيث كونه عملا شرعيا وإن كان له وجود من حيث انه عمل واسم العمل لغوي ولذا قلنا : أنه لا إجمال فيما له مسميان لغوي وشرعي مثل : ( نهيه(1) عن صيام يومين : يوم الفطر ويوم النحر )متفق عليه فإن حمل على الشرعي جاز الإمساك بغير نية وإن حمل على اللغوي لم يجز لأن بعثه لتعريف الأحكام الشرعية قرينة المراد
__________
(1) ـ أما التمثيل بقوله : إني إذا لصائم ) فليس بظاهر في ذلك ؛ لأن تقدم السؤال عن الطعام قرينة تدل على أن مراده الشرعي والله أعلم تمت منه

(1/408)


(و) لا إجمال فيما نفي به ذاته والمراد لوازمها نحو قوله : (رفع عن أمتي الخطأ والنسيان) وما استكرهوا عليه) وقد تقدم تخريجه في باب المنطوق والمفهوم وإنما لم يكن مجملاً لسبق المقصود إلى الفهم عُرفاً فإن من استقرأ كلام العرب أيضاً ومارس ألفاظهم واطلع على أعرافهم علم أن مرادهم في مثل ذلك رفع المؤاخذة والعقاب فإن السيد إذا قال لعبده رفعت عنك الخطأ كان المفهوم أني لا أؤاخذك به ولا أعاقبك عليه ولا يتبادر إلى أفهامهم غير ذلك والأصل في كلما يتبارد إلى الفهم أن يكون حقيقة ثابتة إما بالوضع الأصلي أو بعرف الاستعمال ولا إجمال على شيءٍ من التقديرين وأيضاً فإن النبي لم يقصد إلا تعريفنا بما نؤاخذ به ونثاب عليه وبما لا يكون كذلك فإذا قال رفع الخطأ فكأنه قال رفعت المؤاخذة فيشمل الجميع لأن الخطأ بذاته غير مرفوع للعلم بالضرورة بحصوله منا فلم يبق إلا أن المراد أحكام الخطأ فيرتفع عنا جميع أحكامه فيكون من المسمى بعموم المقتضى كما سبق(1)إلا ما دلت الدلالة على أنه يلزمنا من الغرامات مع الخطأ كالإجماع على عدم سقوط كفارة القتل وغرامات الأموال المتلفة ومثل وجوب الكفارة على الحانث نأسياً والقضاء على المفطر ناسياً عند جمهور أئمتنا عليهم السلام لدلالة تخصه .
__________
(1) ـ في ((رفع عن أمتي الخطأ...)) الخبر ، في الباب الثالث والسادس تمت منه.

(1/409)


(و) المختار أنه ينبغي تقدم إيقاع(1)الأمر على الوقت المطلوب فيه الفعل من المكلف بوقت يمكن فيه معرفة ما تضمنه لأن المكلف مهما لم يعرف ذلك لا يمكن امتثاله وقد قدر بعض العلماء أقل ما يجب من التقدم أربعة أوقات وقت يسمع فيه الخطاب ووقت ينظر في حكمه ووقت يحصل له فيه العلم أو الظن والوقت الرابع يأخذ في الفعل المطلوب وإلا كان تكليفاً بما لا يعلم وهو قبيح مستحيل قطعاً وإجماعاً
و(يجوز) للرسول (تأخير التبليغ) لما أوحي إليه من الأحكام كله أو بعضه عقلاً إلى وقت الحاجة (إذ) لا يلزم من فرض وقوعه محال ولو صرح به لم يمتنع
وقيل لا يجوز ذلك لقوله تعالى ?يَاأَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ?[المائدة67] والأمر للوجوب ويجب أن يكون قوله ?بلغ? للفور وإلا لم يفد فائدة جديدة لأن وجوب التبليغ في الجملة ضروري يقضي به العقل ضرورة فلا فائدة للأمر به إلا الفور .
__________
(1) ـ ذكر معنى ذلك في القسطاس وحاشية الفصول وغيرهما ؛ لكنهم يذكرونه في باب الأمر ، ورأيت أن جعله هنا أنسب كما لا يخفى والله سبحانه أعلم تمت منه

(1/410)


قلنا :لا نسلِّم أن أمر ?بلغ? للفور وما ذكرتم من عدم إفادة الفائدة ضعيف لحصولها وهي تقوية ما علم بالنقل ولو سلم فهو ظاهر في تبليغ لفظ القرآن لا في كل الأحكام وأيضاً (القصد) من التبليغ (المصلحة) ومطابقتها ولعل الفائدة في إنزاله قبل الحاجة كالواجب الموسع فكما يجوز أن تتعلق المصلحة بالتقديم يجوز أن تتعلق بالتأخير لأن العقل يجوز كل واحد منها على سواء ووجوه القبح من العبث والظلم وتكليف ما لا يطاق منتفية عن التأخير ولأنه قد وقع والوقوع فرع الجواز فإنه روي أنه أمر بالنص على ولاية أمير المؤمنين علي عليه السلام في حَجَّة الوداع فقال لجبريل عليه السلام إذا تثلغ قريش رأسي فأخَّرَ ذلك حتى انتهى إلى غدير خم فنزل عليه جبريل بهذه الأية ? يَاأَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ?[المائدة67] فقام في الحر العظيم مع التعب الشديد فأخذ بضبع أمير المؤمنين عليه السلام فقال : (يا معشر المسلمين ألست أولى بكم من أنفسكم ؟ ) قالوا بلى يا رسول الله ... الخبر

(1/411)


(ولا يجوز) ولا يقع من الباري تعالى والرسول (تأخير البيان) للمجمل (ولا التخصيص) للعام ولا التقييد للمطلق (عن وقت الحاجة)(1)إلى ذلك وهو وقت التكليف بالعمل بمقتضى الدليل المجمل والعام والمطلق فلا يجوز أن يخاطبنا الله تعالى بالصلاة مثلاً وقد علمنا أنه لم يرد بها المعنى اللغوي من غير أن يبيِّن لنا ما أراد بها مع تضيق وقتها (إجماعاً) بين عامة المسلمين (إذ يلزم) من جواز تأخيره كذلك (التكليف) من الباري تعالى لنا (بما لا يعلم) وهو تكليف ما لا يطاق وذلك قبيح لا يجوز منه تعالى إلا عند من يقول بجواز تكليف ما لا يطاق فإنه عندهم جائز غير واقع ولدناءة مذهبهم لم يعتد به قال في التلويح وما روي من أنه نزل قوله تعالى ?حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ ? [البقرة187] ولم ينزل ?من الفجر ? فكان أحدنا إذا أراد الصوم وضع عقالين أبيض وأسود وكان يأكل ويشرب حتى يتبينا فهو محمول على أن هذا الصنع كان في غير الفرض من الصوم ووقت الحاجة إنما هو الصوم الفرض انتهى وقال سراج الدين الحق أن دلالة الحال كانت قائمة في إرادة غير الظاهر وقوله ?من الفجر? نزل بعد ذلك زيادة بيان
__________
(1) ـ قيل : والتعبير بوقت الحاجة يناسب قول من يجعل الشرائع مصالح وهم المعتزلة القائلون بأن بالمؤمنين حاجة إلى التكليف ليستحقوا الثواب بالامتثال ذكره في شرح الجمع عن وافي الاسفراييني ، وأما من يجعلها شكرا وهم اهل البيت والأشاعرة فيقولون عن وقت الفعل تمت منه

(1/412)


(فأما تأخير) ذلك (عن وقت الخطاب) إلى وقت الحاجة ، فقيل لا يجوز مطلقاً لأنه يستلزم العبث في المجمل والتلبيس في الظاهر بيانه أن الخطاب بالمجمل من دون بيانٍِِ خطابٌ بما لا يستفاد منه شيءٌ أصلاً وذلك ظاهر في العبثية وأن الخطاب بالعام يستفاد منه شموله فلو أريد به بعض ما تناوله دون البعض الآخر من دون بيان للمراد لكان تلبيساً لاعتقاد المخاطب شموله وهو غير شامل وذلك قبيح لا يجوز
وأجيب بمنع العبثية فإن الأجمال كثيراً ما يقصد لغرض صحيح ولذلك وجه المفسرون (1) تقديم الإجمال في قصة أم كحة(2)
__________
(1) ـ في تفسير القرطبي ج 5 قوله تعالى : ?للرجال نصيب مما ترك الوالدان والاقربون وللنساء نصيب مما ترك الولدان والاقربون مما قل منه أو كثر نصيبا مفروضا ?فيه خمس مسائل : الاولى - لما ذكر الله تعالى أمر اليتامى وصله بذكر المواريث . ونزلت الآية في أوس ابن ثابت الانصاري ، توفي وترك امرأة يقال لها : أم كجة وثلاث بنات له منها ، فقام رجلان هما ابنا عم الميت ووصياه يقال لهما : سويد وعرفجة ، فأخذا ماله ولم يعطيا امرأته وبناته شيئا ، وكانوا في الجاهلية لا يورثون النساء ولا الصغير وإن كان ذكرا ، ويقولون : لا يعطى إلا من قاتل على ظهور الحيل ، وطاعن بالرمح ، وضارب بالسيف ، وحاز الغنيمة . فذكرت أم كجة ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فدعاهما ، فقالا : يارسول الله ، ولدها لا يركب فرسا ، ولا يحمل كلا ولا ينكأ عدوا . فقال عليه السلام : ( انصرفا حتى أنظر ما يحدث الله لي فيهن ) . فأنزل الله هذه الآية ردا عليهم ، وإبطالا لقولهم وتصرفهم بجهلهم ، فإن الورثة الصغار كان ينبغي أن يكونوا أحق بالمال من الكبار ، لعدم تصرفهم والنظر في مصالحهم ، فعكسوا الحكم ، وأبطلوا الحكمة فضلوا بأهوائهم ، وأخطئوا في آرائهم وتصرفاتهم
(2) ـ في الأم أم كحة ولعل الصواب أم كجة .قال في الإصابة وأما المرأة فلم يختلف في أنها أم كجة بضم الكاف وتشديد الجيم إلا ما حكى أبو موسى عن المستغفري أنه قال فيها أم كحلة بسكون المهملة بعدها لام

(1/413)


وتأخير التبيين بأن الفطام عن المألوف شديد والتدرج في الأمور من دأب الحكيم وبمنع التلبيس فإن العلم بجواز تأخير التخصيص إلى وقت العمل يمنع من الإقدام على اعتقاد استغراق العام عند سماعه بل الشك يمنع من ذلك فيكف إذا ظن ورود المخصص من بعدُ لإمارة وهي كثرة التخصيصات كما سبق ؟
وقيل يجوز مطلقاً للوقوع كما سيأتي إن شاء الله تعالى وأشار المصنف إلى أن المختار عنده ما حكاه في المنهاج والجوهرة وشرحها للدواري والهداية عن بعضهم من التفصيل بقوله (فا لمختار جواز ذلك) أي تأخير بيان المجمل وتخصيص العام وتقييد المطلق (في الأمر والنهي) لأنهما إنشاء فلا يحمل سامعهما على اعتقاد جهل فجاز الخطاب بهمها وإن لم يبين وأيضاً فإنه قد وقع والوقوع فرع الجواز كآية الصلاة والركوع فإن أقيموا الصلاة ظاهر في مطلق الدعاء ولم يرد باتفاق ولم يقترن به البيان بل أخر بيان أفعال الصلاة وأوقاتها إلى أن بيَّن لجبريل عليه السلام ثم بيَّنه جبريل عليه السلام للنبي ثم بيَّنه النبي لغيره من المكلفين ?وَءَاتُوا الزَّكَاةَ?(1)
__________
(1) ـ هذه المواضع من القرآن التي فيها ذكر ?وآتوا الزكاة?:? وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَءَاتُوا الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِين ? 43البقرة ?وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَءَاتُوا الزَّكَاةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُعْرِضُون َ ?(83)البقرة ?وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَءَاتُوا الزَّكَاةَ وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِير?ٌ110البقرة ?أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَءَاتُوا الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً ?77النساء ?فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَءَاتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلَاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ ?(78)الحج ?وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَءَاتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ? النور (56)?فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَءَاتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ?المجادلة (13)? وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَءَاتُوا الزَّكَاةَ وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ? المزمل 20

(1/414)


[البقرة43] لا يفهم منه مقدار الواجب وصفته في النقود والمواشي وغيرها من أموال الزكاة فبيَّن النبي ذلك شيئاً فشيئاً على التدريج ولأنه نزل قوله تعالى ?وَءَاتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ?[الأنعام 141] في مَكَّة وقدر الحق مجمل ولم يبين إلا حين بينت الزكاة في المدينة
(و) إذا تقرر ذلك وسمع المكلف دليلاً مجملاً أو عاما أو مطلقاً فإنه يجب (على) ذلك المكلف (السامع) لذلك الدليل (البحث) عن المبين والمخصص والمقيد في مظانه حتى يجده أو يظن عدمه كما سبق وسيأتي إن شاء الله تعالى
(ولا يجوز ذلك) التأخير (في الإخبار) إذ السامع إذا أخبر بعموم اعتقد شموله فيكون إغراء بالجهل فيقبح وإذا أخبر بمجمل يكون عبثاً إذ فائدة الإخبار الإفهام ولا إفهام في المجمل .

(1/415)


وأجيب بأن المخاطب بالعام ممنوع عن اعتقاد شموله حتى يقع البحث عن مخصصه كذلك فلا يجده وأما الخطاب بالمجمل ففائدته توطين النفس على الامتثال متى بين وبالوقوع كما روي عن ابن عباس أنه قال أن أوس بن ثابت الأنصاري توفي وترك امرأة يقال لها أم كحة وثلاث بنات له منها فقام ابنا عم الميت ووصياه سويد وعرفجة فأخذا ماله ولم يعطيا امرأته ولا بناته شيئاً وكانوا في الجاهلية لا يورثون النساء ولا الصغير وإن كان ذكراً وإنما يورثون الرجال وكانوا يقولون لا يعطى إلا من قاتل على ظهور الخيل وذاد عن الحوزة وحاز الغنيمة قال:فجاءت أم كحة إلى رسول الله فقالت:يا رسول الله إن أوس بن ثابت مات وترك علي بناتاً وأنا امرأته وليس عندي ما أنفق عليهن وقد ترك أبوهن مالاً حسناً وهو عند سويد وعرفجة ولم يعطياني ولا بناتي من المال شيئاً فدعاهما رسول الله فقالا يا رسول الله ولدها لا يركب فرساً ولا يحمل كلاً ولا ينكي عدواً فقال رسول الله انصرفوا حتى أنظر ما يحدث الله لي فيهن . فانصرفوا فأنزل الله تعالى ?لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ?[النساء7] الآية فبعث إليهما (لايفرقان من مال أوس شيئاً فإن الله قد جعل لهن نصيباً ولم يبيِّن حتى تبين فنزل : ?يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ ْ? [النساء11] فأعطى أم كحة الثمن والبنات الثلثين والباقي لابن العم .
ولما فرغ من بيان المجمل والمبين أخذ يبيِّن الظاهر والمأول فقال :
(فصل)

(1/416)


(والظاهر) لغة :الواضح يقال : ظهر الشيء ظهوراً إذا وضح بعد خفائه ومنه قيل : ظهر لي رأي أي علمت ما لم أكن علمته وظهر الحمل إذا تبين ويقال :ظهرت عليه أي اطلعت وظهرت على الحائط علوته ومنه ظهر على عدوه إذا غلبه واصطلاحاً (قد يطلق) تارة (على ما يقابل النص) فيكون قسيماً له فهو اللفظ السابق إلى الفهم منه معنى راجح مع احتماله لمعنى مرجوح لم يحمل عليه (و) أخرى (على ما يقابل المجمل) وحقيقته حينئذٍ ما يفهم المراد به تفصيلاً فيكون النص قسماً منه لأن ما يفهم المراد منه تفصيلاً قد يفيد معنى لا يحتمل سواه احتمالاً مرجوحاً وهو النص وقد يفيد معنى مرجوحاً ولم يحمل عليه لقرينة (وقد تقدما) يحتمل أن يعود الضمير إلى النص والمجمل وإن يعود إلى الظاهر مقابل النص والظاهر مقابل المجمل وتقدمهما على التقديرين في باب المنطوق والمفهوم وفي باب المجمل والمبين ؛ لأن الظاهر يرادف المبين وقد تقدم تفسير المبين فاللام للعهد الذكري مطلقاً (والمأول ما يراد به خلاف ظاهره) لدليل يصيره راجحاً قطعياً عقلياً كان أو شرعياً أو ظنياً فيخرج المجمل إذ لا يفهم المراد به وهذا قد فهم أن المراد به خلاف ظاهره ويخرج الظاهر لأن المراد به ظاهره ويخرج المهمل أيضاً إذ لا يراد به شيءٌ
(و) أما (التأويل) لغة فهو مصدر أول مأخوذ من آل يؤول إذا رجع ومآل الشيء :مرجعه فله شبه بالمعنى اللغوي كأنه رد اللفظ من ذهابه على الظاهر إلى ما أريد به واصطلاحاً فهو (صرف اللفظ عن حقيقته إلى مجازه أو قصره على بعض مدلوله) نبه بالعطف هنا على ما اختار سابقاً من أن العام المخصص حقيقة لا مجازاً (لقرينة) عقلية أو حالية أو مقالية (اقتضتهما) أي الصرف والقصر والصواب اقتضته لأن الضمير العائد إلى المتعاطف بأو يجب إفراده لعوده إلى واحد مبهم [*](1)
__________
(1) ـ فهو على حذف مضاف أي اقتضت أحدهما تمت

(1/417)


أما العقلية فكتأويل اليد في بعض مواقعها في القرآن بالنعمة إذ هي حقيقة في العضو لكن لَمّا قامت الدلالة العقلية القاطعة على نفي التجسيم حملناها على خلاف حقيقتها وهو النعمة لكثرة استعمالها فيها عند أهل اللغة
وأما الحالية فكما جاء في الحديث عنه :(لعن الله السارق يسرق البيضة ) (1) فإنه إذا فرض أنه قال ذلك وهو يلبس لامة الحرب عند قيام الحرب علم أنه لم يرد بلفظ البيضة بيضة الدجاجة وإنما أراد بيضة الحديد التي تجعل فوق الرأس إذ حالة الحرب مع لبس لامته وعدم بيضة الدجاجة تقتضي ذلك
وأما المقالية فكصرف ما ظاهره التجسيم من الآيات والأخبار عن الظاهر لقوله تعالى ?ليس كمثلة شيءٌ?[الشورى 14]
(و) التأويل أقسام لأنه (قد يكون قريباً فيكتفي فيه) لقربه (أدنى مرجح) كما ذكرنا في تأويل اليد بالنعمة وأنها مجاز في النعمة قريب لقوة العلاقة
وكذا تأويل سائر الآيات والأحاديث التي يخالف ظاهرها التنزيه ويوهم التشبيه فإن الدليل العقلي والشرعي قائم على عدم إرادة ظاهرها بل اتفاق السلف والخلف على منع حملها على الظاهر وهو في أدلة الأحكام الشرعية كثير جداً كتأويل : (لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك ) بأمر الإيجاب لأن مطلق الأمر قد ورد في قوله : (استاكوا)(2)هذا عند من يقول أن الأمر حقيقة في الندب أو للقدر المشترك بينهما وأما عند من يقول أنه للوجوب فيكون التأويل القريب في قوله استاكوا حيث حمل على أمر الندب وهو خلاف الظاهر بدليل لأمرتهم بالسواك .
__________
(1) ـ أخرجه البخاري في صحيحه و النسائي في سننه و ابن حبان في صحيحه و ابن ماجه في سننه و ابن حنبل في مسنده و الحاكم في مستدركه و النسائي في سننه الكبرى و البيهقي في سننه الكبرى و عبد الرزاق في مصنفه
(2) ـ أخرجه ابن حنبل في مسنده و الطبراني في معجمه الكبير و البيهقي في سننه الكبرى و أبو يعلى في مسنده

(1/418)


ومنه قصر (إنما الربى في النسيئة )على مختلفي الجنس لحديث عبادة بن الصامت (الذهب بالذهب والفضة بالفضة والبُّر بالبُّر والشعير بالشعير والتمر بالتمر والملح بالملح سواءً بسواء يداً بيد فإذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم إذا كان يداً بيد ) وقد تقدم تخريجه في العموم .
ومنه تأويل الجلد في الزاني على التصنيف في العبد قياساً على الأَمَة وقوله تعالى? إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ?[التوبة60] الآية ببيان أن كل صنف مصرف على انفراده إذ لم يقصد وجوب التشريك كما زعم الجويني وإنما كان هذا تأويلاً لأن اللفظ يقتضي التشريك بين جميعهم إذ الواو للجمع والمعنى يقتضي إيثار ذوي الحاجة إذ المقصود سد الخلة والتعداد لبيان المصرف لا للتشريك فغلب جانب المعنى على جانب اللفظ ذكر معناه في حاشية الفصول على نهاية المجتهد

(1/419)


(و) قد يكون (بعيداً) وبعده بحسب خفاء العلاقة (فيحتاج) لبعده (إلى) المرجح (الأقوى) ولا يرجح بالأدنى ، من ذلك تأويل أصحابنا والحنفية حديث أن غيلان أسلم وتحته عشر نسوة فقال له رسول الله (أمسك أربعاً وفارق سائرهن ) رواه النسائي عن الثقة عن معمر عن الزهري عن سالم عن أبيه وابن حبان والترمذي وابن ماجة كلهم من طريق معمر وفيه مقال(1)لأهل الحديث بأن المراد بالأربع الأوائل إن تزوجهن مرتباً أو بأن المراد بالإمساك ابتداء النكاح إن جمعهن عقد وإنما كان بعيداً لأن غيلان كان متجدد الإسلام لا يعرف شيئاً من أحكامه فخطاب مثله بغير ظاهر مثل هذا بعيد مع أنه لم ينقل تجديد منه ولا من غيره مع كثرة إسلام الكفار المتزوجين وتأويل الشافعية حديث الحسن عن سمرة مرفوعاً (من ملك ذا رحم محرم فهو حر ) رواه أصحابنا وأحمد والأربعة وصححه ابن حزم وعبد الحق وابن القطان وقال الترمذي العمل عليه عند أهل العلم بتخصيص عمومه بالأصول والفروع للقاعدة المقررة وهي أن لا عتق من دون إعتاق وخولفت هذه القاعدة في الأصول لحديث مسلم (لا يجزي ولد والده إلا أن يجده مملوكاً فيشتريه فيعتقه) أي بالشرء من غير حاجة إلى صيغة الإعتاق وفي الفروع لقوله تعالى ?وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ ? [الأنبياء26] دل بذلك على أن العبودية منافية للولدية فلا يصح أن يكون الولد عبداً ووجه بعده ظهوره في كل ذي رحم محرم مع الايماء إلى وجه علة العتق
__________
(1) ـ قال البزار : جوده معمر بالبصرة وأنشده باليمن وقال الترمذي قال البخاري هذا الحديث غير محفوظ والمحفوظ ما رواه شعيب عن الزهري قال وحدثت عن محمَّد بن سويد الثقفي أن غيلان أسلم الحديث وأما حديث الزهري عن سالم عن أبيه فإنما هو أن رجلاً من ثقيف طلق نساءه فقال له عمر لترجعن نساءك أو لأرجمنك وحكم مسلم على معمر بالوهم فيه وقال ابن عبد البَّر طرقه كلها معلومة تمت منه

(1/420)


الموجود في الآباء والأبناء وغيرهم فحمله مع ذلك على صورة نادرة مراعاة لقاعدة لا يوافقون عليها في غاية البعد
(و) قد يكون (متعسفاً) لا يحتمله اللفظ (فلا يقبل) بل يجب رده والحكم ببطلانه كتأويل الباطنية قوله تعالى ? وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ ? [النحلَ90] بأبي بكر وعمر وعثمان وثعبان موسى عليه السلام بحجته ونبع الماء من بين الأصابع بكثرة العلم وأمهاتكم في قوله تعالى ?حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ?[النساء 23] بالعلماء وتحريمهن بتحريهم مخالفتهم وانتهاك حرمتهم والجبت والطاغوت بأبي بكر وعمر والبقرة في قوله تعالى ?إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً?[البقرة67] بعائشة والجَنِّة بعلم الباطن والنار بعلم الظاهر وتأويل الخوارج للحيران في قوله تعالى ?كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الْأَرْضِ حَيْرَانَ لَهُ أَصْحَابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ? [الأنعام71] بأمير المؤمنين علي عليه السلام وأن المراد بالأصحاب: هم لا غيرهم لعنهم الله تعالى وتأويل المتصوفة للبيت في قوله تعالى ?إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِين ? [آل عمرانَ96] بالقلب وبكة بالصدر فجعلوه بيتاً لله فكان مباركاً على الإنسان وهدى يهتدى به فإن النور الإلهي إذا وقع في القلب انفسح له واتسع فلا يبصر ويعقل وينظر ويبطش ويمشي ويتحرك ويسكن إلا به وجعلهم مقام إبراهيم عليه السلام عبارة عن الخلة التي يوصل الخليل إلى خليله فمن وصل ذلك المقام أمن من نار القطيعة وعذاب الحجاب وهذا طرف من تأويلهم الباطل وقد تأولوا القرآن من أوله إلى آخره على هذا الأسلوب وزعموا أنه المراد وعطلوه عن الشرائع والأحكام .

( الباب الثامن ) [ من أبواب الكتاب]
[في النسخ]

(1/421)


(النسخ) مصدر نسخ (1)[*]وهو لغة يستعمل بمعنى الإزالة وبمعنى النقل [*](2) ومن الأول تناسخ الأزمنة والقرون ونسخت الشمس الظل والشيب الشباب ومن الثاني تناسخ المواريث فيكون للقدر المشترك .
ولما كان المقصود بالكلام فيه هو التوصل إلى معرفة الناسخ والمنسوخ من الآيات القرآنية والسنة النبوية ليعمل بالناسخ ويترك العمل بالمنسوخ ولا يمكن ذلك ويحسن القول بأن هذا ناسخ وهذا منسوخ إلا بعد معرفة ما يجوز نسخه وما لا يجوز وشرائط ذلك تكلم (3) في ماهيته وما يجوز نسخه وما لا يجوز فقال (هو إزالة) جنس الحد (مثل الحكم) لا عينه لأنه بدا أو عبث أو جهل محال على الله تعالى [*] (الشرعي) لا العقلي فليس بنسخ اصطلاحي بل لغوي كقضائه بقبح ذبح البهائم ورفع العجيزة ووضع الرأس في الصلاة والهرولة وكشف الرأس وتقبيل الحجر في الحج سِيمَا من ذي الرياسة قبل أن يعلم أن في ذلك نفعاً يربوا على المضرة (بطريق شرعي) لا عقلي كالموت والنوم والغفلة والجنون فليس باصطلاحي والمراد به النص من الكتاب والسنة فهو غير مانع لصدقه على الإجماع والقياس والاجتهاد الآخر فلو قال بنص لكان أولى (مع تراخٍ بينهما) أي الطريقين لإخراج جميع طرق التخصيص نحو صل عند كل زوال إلى آخر الشهر والتنبيه على امتناعه قبل التمكن كما سيأتي إن شاء الله تعالى .
__________
(1) ـ وهو مشترك بين الكتاب والسنة لا غير تمت
(2) ـ قال ابن فارس كل شيءٍ خلف شيئاً فقد نسخه يعنى سواء أزاله أو لم يزله تمت
(3) ـ جواب لما تمت

(1/422)


(والمختار جوازه) عقلاً عند جميع أهل الشرائع إلا ما يروى عن بعض كأبي مسلم محمَّد بن بحر الأصفهاني المعتزلي من أعوان الدَّاعِي محمَّد بن زيد صنو الحسن بن زيد فمنعه مطلقاً أو في القرآن فقط وهذا أشهر عنه وحكمه بمخالفة شرعنا لشرع من قبلنا وأنه كان مغيا بظهوره يرجعه (1)إلى الخطأ في التسمية للإجماع قبله على تسميته نسخاً لأنه لا يلزم منه محال لذاته سواءً اعتبرت المصالح أو لا أما إن لم تعتبر فظاهر لأن الله سبحانه يفعل ما يشاء وأما إن اعتبرت فلأنَّا نقطع بأن المصلحة تختلف باختلاف الأوقات كشرب الدواء في وقت دون وقت فلا بعد أن تكون المصلحة في وقت تقتضي شرع ذلك الحكم وفي وقت رفعه ولأن الأحكام الشرعية قد ثبت أنها مراعىً فيها المصالح إما وجوباً على رأي المعتزلي أو تفضلاً على رأي غيرهم واختلاف المصالح باختلاف الأوقات كما قرر آنفاً ووقوعه أيضاً فإنه جاء في التوراة أن آدم عليه السلام أمر بتزويج بناته من بنيه بلفظ العموم على سبيل التوزيع من غير تخصيص بزمن دون آخر ثم جاء التحريم اتفاقاً وهو النسخ وفيها أيضاً أن الله تعالى أوحى إلى نوح عليه السلام إنِّي جعلت كل دابّة مأكولة لك ولذريتك وأطلقت لك ذلك كنبات العشب إلا الدم فلا تأكلوه ولقوله تعالى : ?مَا نَنْسَخْ مِنْ ءَايَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا ?[البقرة 106]وهي ظاهرة في الوقوع فإن (2) سبب النزول يدل على الوقوع .
__________
(1) ـ خبر لحكمه المتقدم تمت
(2) ـ جواب عن سؤال مقدر تقديره ، فإن قيل : أنها جملة شرطية وصدقها لا يتوقف على صدق الطرفين ، كقوله تعالى ?قل إن كان للرحمن ولد فأنا أول العابدين? ، قلنا : بل هي ظاهرة في الوقوع ، فإن سبب النزول... إلخ تمت منه

(1/423)


قال المفسرون إن المشركين قالوا ألا ترون إلى محمَّد يأمر أصحابه بأمر ثم ينهاهم عنه ويأمرهم بخلافه ويقول اليوم قولاً ويرجع عنه غداً ما هذا القرآن إلا كلام محمَّد يقوله من تلقاء نفسه وهو كلام يناقض بعضه بعضاً ؟ فأنزل الله تعالى هذه الآية وأنزل أيضاً : ?وَإِذَا بَدَّلْنَا ءَايَة ً مكان آية ?[النحل101] الآية لأن ?إذا? لا تدخل إلا على المتحقق وقوعه وللإجماع على أن شريعتنا المطهرة ناسخة لجميع الشرائع المتقدمة إما جميع أحكامها أو في بعضها بل ذلك معلوم من دين النبي ضرورة ولنسخ وجوب التوجه إلى بيت المقدس فإنه كان ثابتاً بالإجماع فنسخ بوجوب التوجه إلى الكعبة(1)ونسخ صوم عاشوراء بصوم رمضان ووجوب تقديم الصدقة بين يدي مناجاة الرسول(2)
__________
(1) ـ قيل : ومن ذلك نسخ الوصية للأقربين فإنها كانت واجبة لقوله تعالى ?كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت إن ترك خيراً الوصية للوالدين? الآية ، ثم نسخت إجماعاً إما بآية المواريث ?يوصيكم الله في أولادكم? الآية ، وإما بقوله تعالى ?من بعد وصية يوصى بها أو دين? ، وإما بقوله :((لا وصية لوارث)) ، ويمكن أن يقال الظاهر عدم النسخ ؛ إما بالآيتين فلإمكان الجمع ، وإما بالخبر فالظاهر عدم كونه معلوماً فلا نسخ على أنه يمكن الحمل على التخصيص تمت منه
(2) ـ إشارة إلى الحديث الذي أخرجه الحاكم في مستدركه ج 2/ص 524/ح 3794حيث قال : أخبرني عبد الله بن محمد الصيدلاني حدثنا محمد بن أيوب أنبأ يحيى بن المغيرة السعدي حدثنا جرير عن منصور عن مجاهد عن عبد الرحمن بن أبي ليلى قال قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال رسول الله إن في كتاب الله لآية ما عمل بها أحد ولا يعمل بها أحد بعدي آية النجوى يا أيها الذين آمنوا إذا ناجيتم الرسول فقدموا بين يدي نجواكم صدقة الآية قال كان عندي دينار فبعته بعشرة دراهم فناجيت النبي فكنت كلما ناجيت النبي قدمت بين يدي نجواي درهما ثم نسخت فلم يعمل بها أحد فنزلت أأشفقتم أن تقدموا بين يدي نجواكم صدقات الآية هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه

(1/424)


ووجوب التربص حولاً كاملاً في حق المتوفي عنها زوجها بأربعة أشهر وعشر ووجوب ثبات الواحد للعشرة . (و)لا خلاف يعلم بين القائلين به في جوازه مع الاشعار من الشارع بالنسخ عند ابتداء التكليف بالمنسوخ .
واختلفوا في جوازه في العملي(1)بدون إشعار غير مجرد اعتياد الشارع للنسخ فقال الإمام يحيى ابن المحسن عليه السلام وابن الملاحمي والشيخ الحسن وأبو الحسين(2)وهو أول من أحدث هذا القول إنه لا يجوز بدونه والظاهر الدوام فلو لم يكن إشعار لكان قد لبس على المكلف وحمله على اعتقاد دوامه وهو جهل لا يجوز من الله تعالى الإغرآء به
ومختار أكثر أئمتنا عليهم السلام أنه يجوز و(إن لم يقع) من الشارع (الإشعار به أوّلاً) لوقوعه فإن أكثر النسخ بدونه ولا يسلمون الظهور في الدوام فإذا اعتقد دوامه فقد أتي من قبل نفسه لا من قبل الله تعالى
(و) ما كان تأبيد وجوبه نصاً نحو : (وجوب الصوم مؤبد) لم يجز نسخه اتفاقاً وإلا يكن كذلك فإن كان قيداً للفعل نحو صوموا أبداً أو ظاهرا محتملا نحو : صوم شهر رمضان يجب أبدا فإنه ظاهر في ظرفيته للوجوب ، ويحتمل ظرفيته للصيام فالمختار عند الجمهور جواز (نسخ ما قيد بالتأبيد) لأن الفعل يعمل بمادته والوجوب مستفاد من الهيئة فالتأبيد قيد فيما به العمل لا غير[*]ولأن أبدية الفعل المكلف به لا ينافيه عدم أبدية التكليف به وإنما ينافيه ويناقضه عدم أبديته والعكس
وذهب بعض المتكلمين والجصاص والماتريدي والدبوسي وغيرهم من الحنفية ـ ولعل منهم من يشترط الاشعار ـ إلى منع نسخه مطلقاً قالوا : لأن معنى التأبيد الدوام والنسخ ينافيه ويقطعه فكان مناقضاً فلا يجوز على الله تعالى .
__________
(1) ـ وفيه ما أشرنا إليه في بحث التقليد في الحاشية من أنه لا يعقل عملي بدون علمي قط تمت منه
(2) ـ وكذا مذهبه في تخصيص العام ، وتقييد المطلق ، وتبيين المجمل مت منه

(1/425)


قلنا لزوم التناقض في موضع الخلاف ممنوع لما بيناه وإنما يلزم فيما نص على تأبيد الحكم واستمراره ولا خلاف في منع نسخه
قالوا نسخ وجوب الصيام المؤبد(1) يجعله غير مؤبد لأنه إذا لم يجب جاز تركه فلم يدم فيكون مبطلاً لنصوصية تأبيد الفعل كتأبيد الحكم .
قلنا نسخ الوجوب المؤبد يستلزم اجتماع الحسن والقبح في زمن واحد ولو في بعض أزمنة الأبد بخلاف نسخ الفعل المؤبد لاحتمال أن يكون زمن الوجوب غير زمن الفعل .
فإن قيل تقييد الفعل بالأبدية لا من حيث هو بل من حيث كلف به فيستلزم أبدية التكليف به فإذا انتفت أبدية التكليف به بالنسخ انتفت أبديته . أجيب بالمنع وإن سلم فغايته الظهور ، وقوله ونسخ ما قيد بالتأبيد عطف على المضمر المجرور من غير إعادة الخافض كما أشرت إليه
__________
(1) ـ المؤبد صفة للصيام - الذي هو محل الخلاف - لا للوجوب - الذي ليس محلاً للخلاف - ، فتأمل ، والله أعلم تمت منه .

(1/426)


(و) اختلف في جوازه (إلى غير بدل) بمعنى هل يجوز النسخ للحكم الشرعي بلا حكم آخر ثان يدل الدليل على ارتفاع الحكم السابق من غير إثبات حكم آخر شرعي ؟ فجوزه الجمهور أما من يقول بمراعاة المصالح فلجواز أن تكون المصلحة في انقضاء التعبد بذلك الحكم من دون تبديل له بحكم آخر والعقل يقضي بأنه لا استحالة في ذلك قضاء قطعياً وأما من لم يقل بها فجوازه عنده أظهر وأيضاً فإنه قد وقع ومثل بآية صدقة(1) النجوى المنسوخة ب? فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا?[المجادلة 13] الآية فإنه قال عبد الرزاق أخبرنا معمر عن أيوب عن مجاهد قال علي عليه السلام ما عمل بها غيري حتى نسخت وأحسبه قال وما كان إلا ساعة من نهار وفيه أن نسخ الوجوب لا يرفع الجواز ندباً أو إباحة شرعية
وذهب بعض أهل الظاهر وغيرهم إلى منعه وبنى عليه الإمام المنصور بالله القاسم بن محمَّد عليه السلام لأن الله عزّ وَجلّ أخبر بقوله ?مَا نَنْسَخْ مِنْ ءَايَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا ?[البقرة 106] أنه لا ينسخ إلا ببدل إذ لا يتصور أن يكون خيراً أو مثلاً إلا فيه والخلف في خبر الصادق محال .
__________
(1) ـ وذهب بعضهم إلى أن البدل ما في الآية من إقامة الصلاة وما بعدها ، ولا يمتنع أن يحب الشيء لنفسه أو لغيره لجواز تعليل الحكم بعلتين غائيتين ، وبعضهم إلى أنها صريح في النسخ قبل التمكن لأنه بيد الأمر بالمناجاة ، ثم نسخ قبل الوقت في حق أكثرهم ، فهو كما قالوا : صم غداً ، ثم نسخ اليوم ، وأجيب : بأنه من العموم المراد به الخصوص ، وقد فعله أمير المؤمنين كرم الله وجهه قبل أن ينسخ إهـ .

(1/427)


وأجيب بأن المراد بالآية اللفظ فبدلها كذلك فالمراد نأت بلفظ خير لا بحكم خير والنزاع في الثاني ولا دلالة عليه سلمنا أن المراد بحكم خيرٍ منها(1) لكن لفظ الآية محتمل للتخصيص فلم لا يكون مخصصاً بما نسخ لا إلى بدل ؟
(و) أما إلى بدل فقد اتفق العلماء على جواز نسخ الأشق بالأخف كنسخ تحريم الأكل بعد النوم في ليل رمضان إلى حله ووجوب مصابرة كل طائفة من المسلمين لعشرة أمثالهم بوجوب مصابرتهم الضعف للضعف وعلى جواز نسخ المماثل بمثله كنسخ التوجه إلى بيت المقدس بالتوجه إلى الكعبة .
واختلفوا في جواز نسخ الحكم (الأخف) بالحكم (الأشق) والجمهور على جوازه (كالعكس) اللغوي(2) أي كما يجوز نسخ الأشق بالأخف لما تقدم من المصلحة عند معتبرها والوقوع كنسخ التخيير بين الصوم والفدية بتعيين الصوم وصوم عاشوراء وهو يوم بصوم شهر رمضان والصفح عن الكفار بقتال مقاتلهم ثم بقتالهم كافة
وذهب بعض الشافعية وبعض الظاهرية إلى منعه لأن النقل من الأخف إلى الأثقل أبعد في المصلحة لكونه إضراراً في حق المكلفين لأنهم إن فعلوا التزموا المشقة الزائدة وإن تركوا استضروا بالعقوبة وهو غير لائق بحكمة الشارع .
قلنا ذلك لازم لكم في ابتداء الحكم لنقل المكلف من الإباحة الأصلية والإطلاق إلى مشقة التكليف ، وأيضا لا نسلم الأبعدية لجواز أن يعلم الشارع أن الأصلح للمكلف هو النقل إلى الأثقل كما ينقلهم من الصحة إلى السقم ومن الشباب إلى الهرم .
__________
(1) ـ قال بعض المحققين : سلمنا أن المراد بحكم خيرٍ ، فلا نسلم أن المراد به هو الشرعي ؛ بل المراد أعم منه ومن الأصلي ، فلعل الخير في حكم الله تعالى عدم الحكم وهو حكم أصلي ، وفيه أن قوله : نأت بخير منها ، يناقض كون الأصل مرداً فتأمل تمت منه
(2) ـ قيده باللغوي دون الاصطلاحي ، لأنه عبارة عن المستوي وعن عكس النقيض ، ولكل منهما شروط ذكرت فيما سبق ، بخلاف اللغوي فإنه مجرد تقديم وتأخير ، والله أعلم تمت منه

(1/428)


قالوا :قال الله تعالى:?يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ?[البقرة 185]? يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُم?[النساء28] . قلنا اليسر والعسر والتخفيف في الآيتين مطلق لا عام واللام للجنس لا للاستغراق ولو سلم فالمراد في الآخرة كتخفيف الحساب وتكثير الثواب ولو سلم فمجاز باعتبار ما يؤول إليه لأن عاقبة التكليف هذان . ولو سلم كونه دنيوياً وحقيقة فمخصوص بما ذكرناه من النسخ بالأثقل كتخصيصه بالتكاليف الثقيلة الشاقة وأنواع الابتلاء في الأبدان والأموال اتفاقاً .
قالوا قال تعالى ?مَا نَنْسَخْ مِنْ ءَايَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا ?[البقرة 106] والخير هو الأخف والمثل هو المساوي والأشق ليس شيئاً منهما .
قلنا الأشق خير باعتبار الثواب بدليل قوله تعالى ?وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ ?[البقرة216] وقوله تعالى ?لَا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلَا نَصَبٌ ?[التوبة 120] الآية وبقول الطبيب للمريض الجوع خير لك
(و) لا خلاف أنه لم ينسخ مجموع القرآن وأما نسخ بعضه فمنعه أبو مسلم كما سبق لقوله تعالى ?لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ ٍ?[فصلت42] فلو نسخ بعضه لتطرق إليه البطلان .
قلنا النسخ ليس باطلاً بل هو حق قطعاً والباطل غير الحق وكذلك المنسوخ ليس باطلاً لوقوعه على وفق المصلحة وارتفاعه بارتفاعها . ولأن بيان انتهاء حكم وإزالته لا يقتضي إبطاله فإنه حق في نفسه ومأمور به في وقته

(1/429)


ومختار جمهورهم جواز نسخه بالقرآن أو السنة (التلاوة) فلا يبقى اللفظ قرآناً (والحكم) فلا يبقى حكمه معمولاً به (جميعاً) يجوز أن يكون حالاً من مفعول المصدر أي يجوز نسخهما حال كونهما مجتمعين ويرادف كلاً في العموم ولا يفيد الإجماع في الزمن بخلاف مع وأن يكون تأكيداً فإن ابن مالك قد عدها من ألفاظ التأكيد قال وأغفلها النحويون وقد نبَّه سيبويه على أنها بمنزلة كل معنى واستعمالاً ولم يذكر لها شاهداً من كلام العرب وقد ظفرت بشاهد له وهو قول امرأة من العرب ترقص ابنها
(فداك خولان ،جميعهم ،وهمدان ،وكل آل قحطان ،والأكرمون عرفان ) فعلى رأيه يعرب هنا تأكيداً للمفعول والله أعلم .
وإنما جاز نسخهما لحديث عائشة (كان فيما أنزل عشر رضعات معلومات يحرمن فنسخن بخمس معلومات فتوفى رسول الله وهي فيما يقرأ من القرآن ) رواه مسلم فإنه لم يبق لهذا اللفظ حكم القرآن لا في الاستدلال ولا في غيره
فأما قولها فتوفي عليه السلام وهي فيما يتلى من القرآن فمحمول على أن من لم يبلغه نسخ تلاوته يتلوه وهو معذور وإنما أول بذلك لإجماع الصحابة ومن بعدهم على تركها من المصحف (وأحدهما دون الآخر) أي إما التلاوة فلا يبقى اللفظ قرآنا دون الحكم فيبقى كما رواه مسلم (كان فيما أنزل الله تعالى وأنذر عشيرتك الأقربين ورهطك منهم المخلصين ثم نسخ تلاوته )
قال النووي في شرحه وكما رواه الشافعي عن سعيد بن المسيب عن عمر قال إياكم أن تهلكوا عن آية الرجم أو يقول قائل لا تجد حدين في كتاب الله عزّ وَجَلّ فلقد رجم رسول الله والذي نفسي بيده لولا أن يقول الناس زاد عمر في كتاب الله عزّ وَجلّ لأثبتها (الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة فإنا قد قرأناها )
وروى الترمذي نحوه والبخاري ومسلم عن ابن عباس عن عمر قريباً من هذا

(1/430)


وروى النسائي عن أبي أمامة أسعد بن سهل بن حنيف عن خالته قالت : (لقد أقرأناها رسول الله آية الرجم الشيخ والشيخة إذا زينا فارجموهما البتة بما قضيا لذتهما ) ورواه أحمد في مسنده وابن حبان في صحيحه من حديث أبي ذر رضي الله عنه وفي روايتهما أنها كانت في سورة الأحزاب والمراد بالشيخ والشيخة المحصنان فالحكم باقٍ واللفظ مرتفع .
وأما الحكم دون التلاوة بأن يبقى اللفظ قرآنا يتلى معجزاً ولا يبقى الحكم الدال هو عليه فذلك كثير(1) كالآيات المنسوخة بآية السيف
[آية السيف]
وهي قوله تعالى ? فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ ? الآية [التوبة 5] فإنها نسخت ما فيه الصفح والإعراض مائة وأربعاً وعشرين آيه وقيل نيفاً وثلاث مائة آية فما نسخ تلاوته وحكمه أو تلاوته فقط جاز للجنب ونحوه مسه وقراءته وما بقيت تلاوته لم يجز له ذلك
وذهب قدماء أهل البيت عليهم السلام وبعض متأخريهم كالإمام المهدي أحمد بن يحيى والإمام المنصور بالله القاسم بن محمَّد وولده إما م عصرنا المؤيد بالله محمد عليهم السلام وبعض شيعتهم رحمهم الله تعالى إلى جواز نسخ الحكم دون التلاوة وحكى الإمامان عبد الله بن الحسين في كتابه الناسخ والمنسوخ وأحمد بن سليمان في حقائق المعرفة الإجماع على ذلك والأخبار التي رويت آحادية فلا يجوز القطع بكونها قرآنا فلا تنسخ القطعي ولا ترفعه وأيضاً
__________
(1) ـ ومثل بآية الاعتداد بالحول ، وفيه أنه ليس من باب النسخ ، لأن آية الحول ظاهرة في أمر من مات بالوصية بذلك ، وأية الأربعة أشهر والعشر أمر للنسوة قبل ، وكذا في سائر ما يدعى فيه النسخ ، والله أعلم تمت منه

(1/431)


قال سيد الوصيين ووصي خير النبيين جلدتها بكتاب الله ورجمتها بسنة رسول الله رواه في مجموع زيد بن علي عليهما السلام وأصول الأحكام وغيرهما من كتب أهل البيت عليهم السلام وفي البخاري فلو كان حديث الرجم قرآناً كما زعموا لقال رجمتها بكتاب الله فثبت أن النسخ في كتاب الله إنما هو للحكم دون التلاوة
(ولا خلاف) في جواز نسخ (مفهوم الموافقه مع أصله) والنسخ به عند القائلين بأنه ليس من باب القياس
(و) المختار جواز نسخ (أصله) الثابت هو به كنسخ تحريم التأفيف (دونه) أي دون الضرب مثلاً وذلك لأنه رفع للملزوم مع بقاء لازمه ، وأنه لا يمتنع (وكذا العكس) بأن ينسخ المفهوم دون أصله (إن لم يكن فحوى) بأن يكون مساوياً كوجوب ثبات الواحد للاثنين المفهوم من وجوب ثبات المائة للمائتين فيجوز أن يقال لا يجب على الواحد أن يثبت للاثنين فينسخ مفهوم الآية فإن كان فحوى بأن كان فيه معنى الأولى كرفع تحريم الضرب مع بقاء تحريم التأفيف لم يجز إذ لم يلزم منه وجود الملزوم مع عدم اللازم وأنه محال . وأما دليل الخطاب على القول به فإنه يجوز نسخه مع أصله ونسخ أصله دونه والعكس .
قلت ومثال نسخهما أن يقال : (في سائمة الغنم زكاة) ، (لا زكاة في السائمة )ومثال ما نسخ أصله دونه أن يقول بعد ذلك كما لا تجب في المعلوفة لا تجب في السائمة . ومثال العكس أن يقول بعد ذلك تجب الزكاة في المعلوفة والسائمة ومن أمثلته قوله تعالى ? ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ ?[البقرة 187]ثم يرد دليل بإدخال جزء من الليل كان نسخاً للمفهوم والله أعلم
(و) اعلم أنه لا يثبت الحكم سواء كان مبتدأ أو ناسخاً قبل أن يبلغه جبريل عليه السلام إلى نبينا وكذا بعد تبليغه إلى النبي وقبل تبليغ النبي للمكلفين عند الجمهور لأن القول به يؤدي إلى تكليف ما لا يعلم وهو قبيح .

(1/432)


وقال بعض الشافعية بوصوله إلى النبي صار الحكم منسوخاً عنا قياساً على تكليف الكفار بالتكاليف الشرعية لما بلغت الرسول وإن لم يعلموها . قلنا هم متمكنون من العلم بها فهم مأتيون من قبل أنفسهم .
وفائدة الخلاف فيما لو كان المنسوخ عبادة واجبة فيمن يقول بنسخها لا يوجب القضاء على المخل بها قبل تمكنه من العلم بالناسخ ومن لا يجيزه يوجبه
وأما بعد تبليغ النبي إلى المكلفين فإن نسخ بعد إمكان فعله بأن يمضى وقت يمكن فعله فيه وإنما يكون ذلك في الوقت الموسع والمطلق جاز اتفاقاً ، وإن كان قبل إمكانه فعند أئمتنا عليهم السلام والمعتزلة والصيرفي وحكي عن أكثر الحنفية والحنابلة أنه (لا يجوز نسخ الشيء قبل إمكان فعله) أي إمكان المكلف أن يفعله فلا يصح ولا يجوز أن يقول صلوا ركعتين ثم يقول لا تصلُّوا ركعتين قبل مضي وقت يسعها لأنه لو صح ذلك وجاز لكان نهياً عن نفس ما أمر به أو أمراً بنفس ما نهى عنه فإن كان ذلك لأنه ظهر له من بعد القبح أو الحسن كان بدا وإن كان لأنه لم يظهر له شيءٌ من ذلك كان عبثاً أو تجهيلاً والكل على الله تعالى محال
وأجازه جمهور الأشاعرة وبعض الفقهاء محتجين بأن كل نسخ قبل وقت الفعل وهو ثابت بالاتفاق يلزم تجويزه قبل الفعل بيانه أن التكليف بالفعل بعد وقته محال لأنه إن فعل أطاع وإن ترك عصى فلا نسخ .
قلنا هذا غير النزاع لأن النزاع في وقوعه قبل الوقت الذي قدر الشارع للفعل والمذكور في شبهتكم قبل مباشرة الفعل فأين أحدهما من الآخر (1) ؟
__________
(1) ـ وأيضا قولهم وكذلك في وقت فعله ... إلخ غير مسلم فإنه بعد الشروع في المأمور به لا يعد ممتثلا حتى يفرغ منه مع الإمكان تمت منه

(1/433)


قالوا قد وقع النسخ قبل التمكن والوقوع فرع الجواز فمن ذلك قصة إبراهيم عليه السلام فإنه أمر بذبح ولده عليه السلام بدليل قوله تعالى حاكياً عنه ? افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ ?[الصافات102] ولأنه أقدم على الذبح وترويع الولد ولو لم يكن مأموراً به لكان ذلك ممتنعاً شرعاً وعادة ونسخ عنه قبل التمكن من الفعل لأنه لم يفعل فلو كان عدم الفعل عند حضور الوقت لكان عاصياً ومنه حديث المعراج فإنه يدل على نسخ الزائد من الخمسين صلاة عن الخمس قبل التمكن . قلنا: لا نسلم أن شيئاً مما ذكرتموه : من ذلك
أمَّا قصة إبراهيم (عليه السلام) فلجواز أن يكون المراد : ? افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ ? [الصافات102] في المستقبل بدليل افعل ما تؤمر لا ما أُمرت سلمنا أنه قد أمر فلا نسلم أنه أمر بالذبح بل أمر بالمقدمات من الإضجاع وتحديد المدية والانتظار لما يترتب عليها من ذبح أو غيره ومثل هذا الانتظار بلاء يحسن معه الفداء سلمنا أنه أمر بالذبح نفسه لكن الوقت موسع وقد تقضى منه ما يسعه ولا يعصى به ومثل هذا التعليق بالمستقبل لا يمنع النسخ .
وقولهم :لو كان موسعاً لأخر الإقدام والترويع رجاء أنه ينسخ أو يموت فمثله من عظائم الأمور يؤخر عادة :ممنوع الملازمة فإن الأنبياء (عليهم السلام) إنما يستبعد منهم عدم المسارعة إلى الامتثال فكثير من مثله التراخي إلى أن مضى من الوقت ما يسع الفعل ولو سلم فلا نسلم عدم التأخير لجواز أن يكون الإقدام والترويع في آخر أوقات الإمكان والتقدير غير ممنوع فالنسخ بعد التمكن وامتناعه لمانع خارجي

(1/434)


وأما حديث المعراج فإنه يستلزم النسخ قبل بلوغه المكلفين وعقد قلوبهم على الامتثال ولا قائل(1) به فيجب تأويله بأن المراد فرض الخمسين أن المفروض من الصلوات الخمس ثوابه ثواب الخمسين وبيّن ذلك الاقتصار على الخمس قبل وقت الإمكان ويتأيد هذا التأويل بأن حديث المعراج متأخر عن شرع الصلاة فإن المشهور أن رسول الله وأصحابه كانوا يصلون الخمس قبل ذلك بمدة مديدة .
فإن قيل إن ذلك يشتمل على فائدة التكليف التي هي الابتلاء فيصير مطيعاً عاصياً بالعزم على الفعل والترك فيكون أسبق الخطابين موجهاً إلى العزم والآخر إلى الفعل فلم يتواردا على محل واحد فلا يؤدي إلى ما ذكرتم .
أجيب بأن وجوب العزم فرع وجوب المعزوم عليه فإذا لم يجب لم يجب فلا يطيع ولا يعصي به سلمنا فالتعبير عن العزم بالفعل إلغاز وتعمية إذ لم يوضع له ولا قرينة تدل عليه ولو سلم لم يكن من النسخ في شيءٍ لاختلاف المتعلقين (والزيادة على العبادة) إن لم يكن لها تعلق بالمزيد عليه كصلاة سادسة فليست بنسخ اتفاقاً إلا ما يحكى عن بعض العراقيين من الحنفية لأنها تخرج الوسطى عن كونها وسطى فيبطل وجوب المحافظة عليها الثابت بقوله تعالى ?حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى ? [البقرة238].
__________
(1) ـ ويستلزم أن يكون موسى أعلم بالمصالح من الله تعالى عن ذلك حيث قال إن أمتك لا تطيق ذلك وتجويز الكبائر على الأنبياء (عليهم السلام) حيث جوزوا على الله أن يتعبد بما ليس فيه مصلحة فشفعوا في اسقاطه أو أنهم علموا أنه مصلحة فشفعوا في اسقاطها ويستلزم تجويز الجور على الله تعالى حيث أمر بما لا يطاق وأيضاً فإن حديث المعراج وإن كان قطعي الجمله فهو ظني التفصيل وهذا من الظني لا تثبت به الاعتقادات والله أعلم وقال السهيلي إنما نسخ التبليغ به عن رسول الله وأما أُمَّته فلم ينسخ عنهم حكم تمت منه

(1/435)


قلنا بناءً على أنها إنما سميّت وسطى باعتبار كونها متوسطة بين أربع وهو ممنوع ولو سلم فالزيادة إنما تبطل كونها وسطى وإبطال وصف الوسطى لا يبطل الصلاة الموصوفة بالوسطى فليس المبطل حكماً شرعياً
وإن كان لها تعلق به فإن لم يحصل شرط النسخ بأن كانت مقارنة له في خطاب واحد كغسل الأيدي بعد الوجه في آية الوضوء أو كانت الزيادة واجبة بطريق التبعية كغسل جزء من الرأس بعد الأمر بغسل الوجه أو مبينة لمجمل كإيجاب النيّة والترتيب بعد نزول آية الوضوء فكذلك اتفاقاً
وإن حصل شرط النسخ فإن كانت تغير المزيد عليه تغييراً شرعياً فاختار أبو طالب (عليه السلام) والقاضيان والغزالي أن الزيادة حينئذٍّ (نسخ لها إن لم يجز المزيد عليه من دونها) بأن غيَّرته حتى صار وجوده كالعدم شرعاً بحيث أنه لو فعل كما كان يفعل قبل الزيادة لم يجزه إما بناءً على أن الإجزاء حكم شرعي أو بمحل الوجوب كزيادة ركعة في الفجر فإن كانت مزيدة قبل التشهد فنسخ لوجوبه بعدهما بلا فصل وإن كانت مزيدة بعده فنسخ لوجوب التسليم بعده أما إن كان المزيد عليه يجزي بدون استئناف كزيادة عشرين في جلد القاذف وتغريب البكر لم يكن نسخاً وقيل إن الزيادة نسخ مطلقاً وقيل ليست بنسخ مطلقاً .
والضابط أن الناسخ رافع الحكم الشرعي والخلاف في الجزئيات فالنافون لكون الزيادة نسخاً على الإطلاق يحكمون بأن حكم المزيد عليه باقٍ وأن التعبد بنحو ركعتين ووجوبه واستحقاق الثواب عليه حاصل بعد زيادة نحو الركعة الثالثة كما كان قبلها والمثبتون على الإطلاق يحكمون بأن الزيادة قد رفعت حكماً شرعاً وهو إجزاء المزيد عليه بدون الزيادة في الصلاة والحد والطهارة بناءً على أن الإجزاء حكم شرعي أو كون المرفوع وجوب الاقتصار .

(1/436)


وفائدة الخلاف في هذه المسئلة والتي بعدها أن النافي يوجب العمل بأخبار الآحاد إذا قضت بزيادة أو نقصان فيما اقتضاه القرآن كزيادة التغريب واعتبار الشاهد واليمين على الرجلين والرجل والمرأتين والمثبت لا يجيز العمل بها
(و)أما (النقص منها) أي من العبادة فإنه (نسخ للساقط اتفاقاً) بين العلماء سواءً كان لها تعلق بالمنقوص منه بأن كان شرطاً أو شطراً أو لا كإحدى الخمس (لا) أنه يكون نسخاً (للجميع) من الساقط والباقي (على) المذهب (المختار) للجمهور منهم المنصور بالله والإمام يحيى عليهما السلام والكرخي وأبو عبد الله البصري وأبو الحسين والرازي والشيخ الحسن الرصاص سواءً كان المنقوص جزءاً أو شرطاً لأن نقص كل منهما لو استلزم نسخ الباقي لافتقر ثبوت حكمه إلى دليل ثانٍ غير الدليل الأول لأن المفروض أن الدليل الأول منسوخ والإجماع منعقد على أن الباقي لا يفتقر في وجوبه إلى دليل ثانٍ
وقال القاضي عبد الجَبَّار ومال إليه أبو طالب (عليه السلام) في المجزي إنه إذا سقط جزء من العبادة كركعة أو ركوع كان نسخاً لها وإن كان شرطاً لها كالطهارة والنيّة والاستقبال لم يكن نسخاً وقيل يكون نسخاً مطلقاً لأنه قد ثبت تحريم فعل الباقي بغير المنقوص من الشرط والجزاء ثم ارتفع ذلك الحكم بحكم آخر وهو جواز الباقي أو وجوبه بدون المنقوص ولا معنى للنسخ سوى ذلك قلنا : معنى التحريم للباقي بدون المنقوص وجوب المنقوص مع وجوب الباقي لا معنى له سوى ذلك فنقصه نسخ لوجوبه ولا نزاع فيه ولا نسلم أنه نسخ لوجوب الباقي ولا مستلزم له وإلا افتقر وجوبه إلى دليل آخر وهو باطل كما تقدم

(1/437)


(ولايصح نسخ الإجماع) برفع الحكم الثابت به لارتفاع النسخ بارتفاع الوحي بموته والإجماع لا ينعقد إلا بعده لما سبق فإذا انعقد الإجماع بعده لم يمكن نسخه بكتاب ولا سنة لعدمهما بعد وفاته ولا بإجماع لأنه إن كان لا عن دليل فخطأ ومحال وقوعه كذلك أو عن دليل فيلزم تقدمه على الإجماع المفروض كونه منسوخاً والناسخ لا يتقدم المنسوخ والقياس شرطه عدم مخالفة الإجماع مع أن التعبد به مقارن للتعبد بأصله فيلزم تقدمه وهو باطل وهذه الحُجَّة شاملة للقطعي والظني
(و) كما لا يصح نسخ الإجماع لما سبق (لا) يصح نسخ (القياس) الصادر من غير الرسول برفع الحكم الثابت به بدليل آخر مع بقاء حكم أصله أجمع العلماء على ذلك في الطرفين (إجماعاً) ومثل ما ادعاه المصنف من الإجماع ذكره الإمام المهدي (عليه السلام) والقرشي في عقده .وفيه أن في التلويح ما لفظه ذهب فخر الإسلام إلى أنه يجوز نسخ الإجماع بالإجماع وإن كان قطعياً حتى لو أجمع الصحابة على قول ثم أجمعوا على خلافه جاز
والمختار عند الجمهور هو التفصيل وهو أن الإجماع القطعي المتفق عليه لا يجوز تبديله وهو المراد بما سبق من أن الإجماع لا ينسخ ولا ينسخ به والمختلف فيه يجوز تبديله كما إذا أجمع القرن الثاني على حكم يروي فيه خلاف من الصحابة ثم أجمعوا هم بأنفسهم أو أجمع من بعدهم على خلافه فإنه يجوز لجواز أن ينتهي مدة الحكم الثابت بالإجماع بتوفيق الله أهل الإجماع للإجماع على خلافه وما يقال أن انقطاع الوحي يوجب امتناع النسخ فمختص بما يتوقف على الوحي والإجماع ليس كذلك انتهى .

(1/438)


وحكى في الفصول وغيره الخلاف في الأول عن أبي الحسين أحمد بن موسى الطبري رحمه الله تعالى وأبي عبد الله البصري وحجتهما أن الإجماع في مسألة على قولين تقول بأحدهما طائفة وبالآخر الباقون إجماع من الكل على أنها اجتهادية على المجتهد المصير إلى ما أدى اجتهاده منهما وللمقلد الأخذ بأيهما شاء ثم إنه يجوز الإجماع على أحد القولين كما سبق فالإجماع حينئذٍّ على أحدهما ناسخ للإجماع الأول لإبطاله الجواز الذي اقتضاه .
قلنا لا نسلم الإجماع الأول لأن كل فرقة تجوز ما تقول به وتنفي الآخر ولو سلم فهو مشروط بأن لا يوجد قاطع يمنع الاجتهاد للإجماع على أن الاجتهاد بخلاف القاطع لا يجوز وقد تقدم في الإجماع ماله مزيد نفع هنا وما تقدم يغني عمَّا هنا وحكى غيره في الطرف الثاني الخلاف على ستة أقوال المختار منها قول أئمتنا (عليهم السلام) والجمهور من المنع مطلقاً من غير فرق بين كونه في زمنه أو بعد وفاته وبين القطعي والظني وبأقوى أو لا لأن شرط العمل بالقياس عدم ظهور المعارض سواءً كان أقوى أو مساوياً فإذا ظهر المعارض زال شرط العمل به من أصله سواءً قيل كل مجتهد مصيب أو قيل الحق مع واحد لأن الذي يظهر للمجتهد بعد القياس لا بدوأن يكون معتبراً في عصره وإلا لم يكن شرعيا
(و) كما لا يصح نسخ الإجماع والقياس (لا) يصح (النسخ بهما) أي بالإجماع والقياس الصادر من غير الرسول (على) المذهب (المختار)
أما الإجماع فلما تقدم من ارتفاع النسخ بارتفاع الوحي بوفاته والإجماع معصوم عن مخالفة دليل شرعي من الكتاب والسنة لا معارض له منهما فما وجدناه من الإجماع مخالفا لهما حكمنا بتضمنه الناسخ إن لم يمكن الجمع بالتأويل
وحكى في الفصل الجواز عن جماعة منهم أبو الحسين الطبري رحمه الله تعالى واختار صاحب فصول البدائع من الحنفية جواز نسخ الإجماع بالإجماع وشبهتهم وجوابها ما تقدم

(1/439)


وأما القياس فذلك عند المنصور بالله وأبي طالب عليهما السلام وحكاه عن عامة الفقهاء والمتكلمين فلا ينسخ نصاً ولا قياساً أما النص فلإجماع الصحابة على رفض القياس عند وجوده ولخبر معاذ رحمه الله تعالى وأما القياس فلأن تقدمه بتقدم أصله قرينة تخصيص علة الآخر كما في بناء العام على الخاص إن لم يكن مرجوحاً عند القائل وإلا تبيّن زوال شرط العمل به كما تقدم
(و) الجمهور على أنه (لا) يصح نسخ الكتاب العزيز وخبر (متواتر) أي معلوم من باب إطلاق الملزوم وإرادة اللازم (بآحادي) أي بظني كذلك لا يفيد القطع بالقرائن إذ القاطع لا يعارضه المظنون
وذهب متأخروا الحنفية إلى جواز نسخهما بالخبر المشهور قالوا لأن النسخ بيان من وجه وتبديل من آخر فمن حيث بيانيّته يجوز بالآحاد كبيان المجمل والتخصيص ، ومن حيث تبديله يشترط التواتر فجاز التوسط بينهما عملاً بالجهتين .
وفيه أنه لا واسطة بين العلم والظن وقد صرحوا بأن المظنون لا يقابل القاطع
وذهب جمع من الظاهرية إلى جوازه ووقوعه لأنه إذا جاز تخصيص القاطع بالآحاد جاز نسخه بها لأن ذلك تخصيص في الأعيان وهذا تخصيص في الأزمان(1) وأجيب بالفرق فإن التخصيص بيان وجمع بين الدليلين والنسخ إبطال ورفع لأحدهما .
__________
(1) ـ كذا نقل عن الظاهرية وقد نقل عنهم أنه لا يجوز التعبد بخبر الواحد ونقل عنهم أيضاً أن الخبر الآحادي يفيد العلم ولا يخفى ما في ذلك من التدافع تمت منه

(1/440)


قالوا قد وقع والوقوع فرع الجواز فإنه كان يبعث الآحاد لتبليغ مطلق الأحكام حتى ما ينسخ متواتراً لو كان ونسخ الوصية للوالدين بقوله (لا وصية لوارث)(1) ونسخ قوله تعالى ?لَا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ من بعد ? [الأحزاب 52] بما روي عن عائشة ما مات رسول الله حتى أحل الله له أن يتزوج من النساء ما شاء (2) ونسخ ?قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا ?[الأنعام 145] بنهيه عن أكل كل ذي ناب وأن التوجه إلى بيت المقدس كان متواتراً فاستداروا في قبا بخبر الواحد ولم ينكره .
وأجيب عن الأول بمنع بعثته للآحاد بما نسخ قاطعاً لظهور استواء الناسخ والمنسوخ في حق البائن عنه في كونهما تبليغ الأحاد ولو سلم فلحصول العلم به بقرينة الحال
وعن الثاني بأن الخبر معلوم لتلقي الأمَّة إيَّاه بالقبول روى أبو عبيدة عن الحسن قال كانت الوصية للوالدين والأقربين فنسخ ذلك وصارت الوصية للأقربين الذين لا يرثون ثم قال أبو عبيدة وإلى هذا صارت السنة القائمة عن رسول الله وإليه انتهى قول العلماء وإجماعهم في قديم الدهر وحديثه (3)
__________
(1) ـ أخرجه ابن ماجه في سننه وأخرجه النسائي في سننه و الترمذي في سننه و ابن ماجه في سننه و أبو داود في سننه و ابن حنبل في مسنده و الطيالسي في مسنده و الطبراني في معجمه الكبيرو النسائي في سننه الكبرى و الدارقطني في سننه و ابن عمرو الشيباني في الآحاد والمثاني و البيهقي في سننه الكبرى
(2) ـ أخرجه ابن حبان في صحيحه وأخرجه النسائي في سننه و ابن حبان في صحيحه و الترمذي في سننه و ابن حنبل في مسنده و النسائي في سننه الكبرى وابن راهويه في مسنده و البيهقي في سننه الكبرى و الدارمي في سننه
(3) ـ أو بـ ?يوصيكم الله ? أو بقوله ? من بعد وصية ? على أن الظاهر عدم النسخ لإمكان الجمع تمت منه

(1/441)


وعن الثالث بأن الحديث غير صحيح ولو سلّم فالنسخ بقوله تعالى ? إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللَّاتِي ءَاتَيْتَ أُجُورَهُن?[الأحزاب50] الآية .
وعن الرابع بأن المعنى لا أجد الآن والتحريم في المستقبل لا ينافيه ولو سلّم فالحديث مخصص لا ناسخ .
وعن الخامس بأن خبر الواحد أفاد القطع بالقرائن فإن نداء مناديه بالقرب منه في مثلها قرينة صدقه عادة
(و) اعلم أنه قد عد لمعرفة الناسخ من المنسوخ طرق صحيحة يعمل بها في المعلوم والمظنون وفاسدة لا يعمل بها فيهما أما (طريقنا) الصحيح الموصل (إلى العلم) الشامل للظن (بالنسخ) الصادر من الشارع فأمور وهي :
(النص) الصار (من النبي أو من أهل الإجماع) الذين هم عترته أو جميع من ينعقد به من الأمَّة حال كون ذلك النص ممن ذكر (صريحاً) نحو أن يقول أي هؤلاء نسخ هذا بهذا أوهذا ناسخ وهذا منسوخ فقولهم : معرفٌ بالناسخ والمنسوخ لا ناسخٌ (أو غير صريح) بأن ذكر ما هو في معناه كقوله تعالى ?الآن خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ?[الأنفال 66]بعد قوله تعالى ?إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا?[ الأنفال 65] وقوله كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها ونهيتكم عن لحوم الأضاحي فوق ثلاث فامسكوا ما بدا لكم ونهيتكم عن النبيذ في الاسقا فاشبروا في الأسقية كلها ولا تشربوا مسكراً ) رواه مسلم من حديث بريدة الأسلمي وكالإجماع على ترك قتل شارب الخمر في المرة الرابعة فإنه يدل على وجود ناسخ

(1/442)


(وإما أمارة قوية) تفيد الظن وذلك (كتعارض الخبرين من كل وجه مع معرفة المتأخر بنقل) كحديث جابر رحمه الله تعالى : (كان آخر الأمرين من رسول الله ترك الوضوء مما مسته النار) (1) وكحديث علي (عليه السلام) كان أمر بالقيام في الجنازة ثم جلس بعد ذلك وأمر بالجلوس )(2) وما رواه زيد بن علي عن آبائه عن علي عليهم السلام قال لما كان في ولاية عمر جاء سعد بن أبي وقاص فقال يا أمير المؤمنين ما لقيت من عمار ؟ قال وما ذاك ؟ قال خرجت وأنا أريدك ومعي الناس فأمرت منادياً فنادى بالصلاة ثم دعوت بطهور فتطهرت ومسحت على خفي فتقدمت أصلى فاعتزلني عمار فلا هو اقتدى ولا هو تركني فجعل ينادي من خلفي يا سعد أصلاة بغير وضوء ؟ فقال عمر يا عمار اخرج مما جئت به فقال نعم كان المسح قبل المائدة فقال عمر يا أبا الحسن ما تقول ؟ . قال أقول إن المسح كان من رسول الله في بيت عائشة والمائدة نزلت في بيتها فأرسل عمر إلى عائشة فقالت كان المسح قبل المائدة فقل لعمر والله لأن تقطع قدماي بعقبهما أحب إليَّ من أمسح عليهما فقال عمر لا نأخذ بقول امرأة ثم قال أنشد الله امرءاً شهد المسح من رسول الله لما قام فقام ثمانية عشر رجلاً كلهم يقول رأى رسول الله يمسح وعليه جبة شامية ضيقة الكمين فأخرج يده من تحتها ثم مسح على خفيه فقال عمر ما تقول يا أبا الحسن ؟ . قال سلهم أقبل المائدة أم بعدها ؟ فسألهم فقالوا ما ندري فقال علي (عليه السلام) أنشد الله امرءاً مسلماً علم أن المسح قبل المائدة لما قام فقام اثنان وعشرون رجلاً فتفرق القوم وهؤلاء يقولون لا نترك ما رأينا وهؤلاء يقولون لا نترك ما رأينا ) وعنه
__________
(1) ـ أخرجه النسائي في سننه الكبرى و ابن حبان في صحيحه و أبو داود في سننه و ابن حنبل في مسنده و النسائي في سننه الكبرى و الطبراني في معجمه الصغير و البيهقي في سننه الكبرى
(2) ـ أخرجه ابن حنبل في مسنده و مسلم في صحيحه و البيهقي في سننه الكبرى

(1/443)


عليه السلام (سبق الكتاب الخفين ) (1)أي قطع
(أو قرينة قوية) عطف على نقل ( كغزاة أو حالة) نحو أن يعلم أو يظن أن هذا الآية نزلت في غزوة كذا وتلك في غزوة كذا أو هذه في خامسة الهجرة وتلك في سادستها نحو ما رواه أبي بن كعب قال قلت يا رسول الله إذا جامع أحدنا فأكسل ؟ (2) قال : ( يغسل ما لمس المرأة منه وليتوضأ ثم ليصلّ ) (3) فدل على أنه لا غسل مع الإكسال وأن موجبه الإنزال وكان ذلك في مبتدأ الإسلام فنسح بما روى عروة بن الزبير أن عائشة حدثته إن رسول الله كان يفعل ذلك ولا يغتسل وذلك بعد فتح مكَّة ثم اغتسل بعد ذلك وأمر الناس بالغسل (4)
__________
(1) ـ مسند الإمام زيد بن علي عليهما السلام ص84 وفي مصنف ابن أبي شيبة ج: 1 ص: 1691946 حدثنا حاتم بن إسماعيل عن جعفر عن أبيه قال قال على سبق الكتاب الخفين
(2) ـ في الغريب لابن قتيبة ج: 1 ص: 315 الاِكْسال هو أنْ يُجَامع الرجُل ثم يدركه فُتور فلا يُنْزِل يقال أكسل الرجل يُكْسِل اِكسالا اذا أصابه ذلك وأحسَب أصله من الكَسَل يقال كَسِل الرجُل اذا فَتَر وأكسل صار في الكَسل أو دخَل في الكَسل كما يقال يَبِسَ الشئ أو أيبس اذا صار في اليُبْس.وفي النهاية في غريب الحديث ج: 4 ص: 174أكْسل الرجُل إذا جامَع ثم أدْرَكه فُتُور فلم يُنْزِل ومعناه صارَ ذا كَسل وفي كتاب العَيْن كَسِل الفَحْلُ إذا فَتَرَ عن الضِّرَاب
(3) ـ أخرجه ابن حنبل في مسنده وأخرجه مسلم في صحيحه و البخاري في صحيحه و ابن حبان في صحيحه و ابن خزيمة في صحيحه و الطبراني في معجمه الكبير و ابن راهويه في مسنده و البيهقي في سننه الكبرى
(4) ـ ويدل على ذلك أ يضا ما أخرجه الدارقطني في سننه ج 1/ص 112/ح 6ما لفظه : حدثنا أبو بكر النيسابوري نا علي بن سهل نا عفان نا همام بن قتادة عن الحسن عن أبي رافع عن أبي هريرة أن رسول الله قال إذا جلس بين شعبها الأربع وأجهد نفسه فقد وجب الغسل أنزل أو لم ينزل وأخرجه مسلم في صحيحه و البخاري في صحيحه و النسائي في سننه وابن حبان في صحيحه و أبو داود في سننه و ابن حنبل في مسنده و النسائي في سننه الكبرى والدارقطني في سننه و ابن راهويه في مسنده و البيهقي في سننه الكبرى

(1/444)


وكما ذكر أصحابنا في حديث الوضوء من مس الذكر أنه يتعيّن كونه المنسوخ بقرينة السؤال عنه في حديث طلق الذي رواه أحمد وأصحاب السنن والدار قطني وصححه جمع من الحفاظ فلولا أنه كان بلغهم حديث الوضوء منه لما سألوا عنه لتنزل سؤالهم من دونه منزلة السؤال عن سائر الأعضاء هل في مسها أو مس شيءٍ منها وضوء ؟ وذلك مما لا معنى له (فيعمل بذلك) المذكور من القرائن (في المظنون)
ويقبل خبر الآحاد في ضبط نحو التاريخ وإن كان المتعارضان قطعيين كالكتاب والسنة المعلومة لكون الناسخ قطعياً والظن إنما هو في كونه متصفاً بالنسخ ، وذهب الإمام المهدي (عليه السلام) إلى أنه لا يعمل به إلا في الظني لئلا يؤدي إلى ترك القطع بالظني وفيه أنه متواتر السند قد أسقطه القطع ببقاء حكمه معارضة القطعي للقطع بأن أحد المعلومين المتعارضين ناسخ والآخر منسوخ فبيان الآحاد معيّن للناسخ المعلوم إجمالاً والقطع رافعه قطع مثله .
وأما الفاسدة فكقول الصحابي هذا ناسخ وهذا منسوخ لجواز أن يكون عن اجتهاد سواء صرح بعلمه أو لا وسواء كان الأول معلوماً أو مظنوناً فإن الإنسان كثيراً ما يعبر عما قوي عنده بالعلم ذكر ذلك الدواري

(1/445)


وقيل يكون ناسخاً مطلقاً لأنه لا يقوله إلا عن نقل غالباً وكحداثته وتأخر إسلامه لأن منقول متأخر الصحبة لحداثة السن وتأخر الإسلام قد يكون متقدماً ومنقول متقدم الصحبة قد يكون متأخراً فلا دلالة في ذلك على النسخ وكترتيبه في المصحف فإن الآيات لم ترتب ترتيب النزول ألا ترى أن وجوب الاعتداد حولاً المستفاد من قوله ?مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ ?[البقرة240] منسوخ بوجوب التربص أربعة أشهر وعشراً المستفاد من قوله تعالى ?وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا?[البقرة234] مع تقدم الناسخ في التلاوة وهي نظير قوله تعالى ?سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ ?[البقرة 142]الآية مع قوله تعالى ?قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ?[البقرة144] وكموافقة الأصل فلا يحكم بتقدم الموافق ولا بتأخره إذ لا يمتنع أن يكون ابتداء الشريعة جاءت بخلاف ما في الأصل أو بما يوافقه وكأخفية الحكم لأن الأحكام مراعى فيها المصالح فيجوز أن تكون المصلحة في تأخر الأشق [*] كما سبق مثاله في الصيام فإن عرف الناسخ بطريق معتبر عمل به وإلا وجب الترجيح بين المتعارضين بأحد طرقه الآتية في بابه إن شاء الله تعالى إن أمكن وإلا رجع إلى غيرهما .
ولما كان بحث الأصولي عن الأدلة من الكتاب والسنة والإجماع والقياس ،منطوقا ومفهوما ،حقيقة ومجازا ، أمرا ونهيا ، عاما وخاصا ، مطلقا ومقيدا ، مجملا ومبينا ، ظاهرا ومأولا ، ناسخا ومنسوخا ، من حيث أنه يستنبط الأحكام منها ، وطريق ذلك هو الإجتهاد ختم تلك الأبحاث بباب الإجتهاد وذكر التقليد معه للمناسبة والمناقضة فقال :
(الباب التاسع)

(1/446)


(في الاجتهاد و التقليد ، الاجتهاد) لغة تحمل الجهد والمشقة واصطلاحاً (استفراغ الفقيه الوسع في تحصيل ظن) أو علم (بحكم شرعي) أي ما أسند إلى دليل شرعي كقياس تحريم النبيذ على الخمر وقطع سارق عشرين درهماً على [*]سارق العشرة وهو المراد بقولهم بذل المجهود لنيل المقصود ومعنى استفراغ الوسع بذل تمام الطاقة بحيث يحس من نفسه العجز عن المزيد عليه فخرج استفراغ غير الفقيه وسعه مطلقاً [*]وبذل الفقيه وسعه في الظن بحكم غير شرعي فالاجتهاد أعم من القياس فيشمل أنواع الأدلة نصاً وظاهراً ومفهوماً وقياساً وغيرها وهو مذهب أئمتنا (عليهم السلام) والجمهور ويسميان عندهم دين الله
(والفقيه) لغة كثير الفقه وقد تقدم تعريف الفقه واصطلاحاً هو المجتهد فأخذه في حد الاجتهاد دور بمرتبة كما ذكرته في إيضاح المغني وهو (من يتمكن) إشارة إلى أن الاجتهاد هو التأهل وإن لم يحصل بالفعل (من استنباط الأحكام الشرعية عن أدلتها) وأماراتها (التفصيلية) ولو غير إمام خلافاً للإمامية أو من غير العترة خلافاً لظاهر قول الهادي عليه السلام والناصر عليه السلام للمشاركة في الطريق إلى الاجتهاد وقد تقدم بيان هذه القيود أول الكتاب وقد شاع اسم الفقيه على من يعلم فن الفروع وإن لم يكن مجتهداً والمجتهد فيه : الحكم الشرعي العملي (وإنما يتمكن من ذلك) الاستنباط (من حصل ما يحتاج إليه فيه) أي في فن الاجتهاد

(1/447)


والمحتاج إليه في ذلك علوم خمسة :أولها أنواع : (من علم العربية) اللغة والنحو(1) والتصريف والمعاني والبيان فيعرف معاني المفردات والمركبات وخواصها تعلماً أو سليقه لأن خطاب الشارع من اللغة العربية فيتوقف معرفة مراده على معرفتها
(و) ثانيها علم (الأصول) أي أصول الفقه لانصرافه إليه عند الاطلاق لأنه مشتمل على معرفة حكم العموم والخصوص والإطلاق والتقييد والإجمال والتبيين وشروط النسخ وما يصح منها وما يقتضيه الأمر والنهي من الوجوب والفور والتكرار وغيرها ومعرفة الإجماع والقياس وشروطهما صحيحهما وفاسدهما مع ما ضم إلى معرفة المفاهيم والترجيحات والحقيقة والمجاز .
وأما أصول الدين فقيل ليس بشرط والأولى اشتراط معرفة الله ورسوله ليتم له نسبة الأحكام إلى الله ورسوله وإن لم يتبحر في أدلته
__________
(1) ـ قال أبو داود سمعت الأصمعي يقول إن أخوف ما أخاف على طالب العلم إذا لم يعرف النحو أن يدخل في جملة قول النبي من كذب علي متعمداً فليتبوأ مقعده من النار لأنه لم يلحن فمهما روى عنه ملحون فقد كذب عليه وعن سالم بن قتيبة قال كنت عند أبي هبيرة الأكبر فجرى ذكر العربية فقال والله ما استوى رجلان دينهما واحد وحسبهما واحد ومروتهما واحدة أحدهما يلحن والآخر لا يلحن لأن أفضلهما في الدنيا والآخرة الذي لا يلحن فقلت أصلح الله الأمير هذا أفضل في الدنيا لفضل فصاحته وعربيته أفرأيت الآخر ما له أفضل فيها ؟ فقال إنه يقرأ كتاب الله على ما أنزله وأن الذي يلحن يحمله لحنه على أن يدخل فيها ما ليس منه ويخرج ما هو فيه قلت صدق الأمير وير ذكر معناه في الغاية في علم الرواية تمت منه .

(1/448)


(وثالثها) معرفة ما يتعلق بالأحكام من (الكتاب) العزيز لغة وشريعة أما لغة فبأن يعرف معاني المفردات والمركبات وخواصها في الإفادة فلذا افتقر إلى العربية تعلماً أو سليقة كما سبق . وأما شريعة فبأن يعرف المعاني المؤثرة في الأحكام مثلاً يعرف في قوله تعالى ?أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ ?[المائدة6] أن المراد بالغائط الحدث وأن علة الحكم خروج النجاسة عن بدن الإنسان وبأقسامه من الخاص والعام والمشترك والمجمل والمبين وغير ذلك فلذا احتيج إلى أصول الفقه كما سبق ولا خفاء في أن هذا مغاير لمعرفة المعاني
(و) رابعها معرفة ما يتعلق بها من (السنة) النبويَّة على صاحبها أفضل الصلاة والسلام وعلى آله الطاهرين الكرام كذلك وسندها وهو طريق وصولها إلينا من تواتر وآحاد وتتضمن معرفة حال الرواة والجرح والتعديل والصحة والسقم وغيرها وطريقه في زماننا الاكتفاء بتعديل الأئمة الموثوق بهم لتعذر معرفة أحوال الرواة على حقيقتها في وقتنا فيكفيه كتاب مصحح جامع لأكثر ما ورد في الأحكام في ظنة(1) ويعرف موضع كل باب بحيث يتمكن من الرجوع إليها ككتاب الشفاء وأصول الأحكام من كتبنا وسنن أبي داود من كتب الفقهاء ، وقد قيل أن عدد الأحاديث التي يحتاج إليها ألف ألف حديث وقيل ستمائة ألف حديث وروي في حاشية الفصول عن الإمام يحيى (عليه السلام) أنه يكفي شرح النكت (2)
__________
(1) ـ إنما قيد بظنه لأن الكثرة أمر نسبي لا يعرف إلا بمعرفة الجميع تأمل تمت منه
(2) ـ قال في العواصم : إنحصرت رواية المحدثين عن علي عليه السلام في خمسمائة حديث وستة وثمانين حديثا ، وعن ابن مسعود في ثمانمائة وثمانية وأربعين حديثا ، وعن أبي ذر في مائتين وثمانين حديثا ، وعن سلمان في ستين حديثا ،وعن أبي عبيدة الجراح في أربعة عشر حديثا إنتهى بالمعنى تمت منه

(1/449)


(و) قد دخل(1) في علم الأصول معرفة القياس كما سبق فلا وجه لعده على حده شرطاً وهو يستلزم أيضاً
خامسها وهو معرفة (مسائل الإجماع) التي وقع الإجماع عليها من العترة (عليهم السلام) أو الأُمَّة والمراد القطعي لئلا يخالفه وكذا كل قاطع شرعي وإنما اشترط معرفة هذه لأنها مأخذ الأحكام فلا يمكن الاجتهاد إلا بعد الفحص والتفتيش فيها .
قال الإمام المهدي (عليه السلام) وذلك يسير على من علت همته وأنف عن ارتداء رذائل التقليد قال والعجب كله من ذوي الأبصار يدعون أن الاجتهاد قد صار متعذراً مع اطلاعهم على نصوص كثير من العلماء ـ قديماً وأخيراًـ أن المعتبر في الاجتهاد لا يزيد على ما ذكرنا فأين التعذر ؟ بل هو على من علت همته وأنف عن رذائل التقليد أيسر من طلب نقل ما فرعته الأئمة السابقون فإن تفريعهم قد بلغ في الاتساع مبلغاً عظيماً يشق حمله ويصعب نقله ولو اشتغل طالبه بطلب الاجتهاد بلغه في مدة أقصر من مدة نقله لما فرعوه وصار بذلك غنياً عنهم رفيعاً عن وهيطة (2) التقليد انتهى .
[ويكفي في معرفة ما ذكر إمكان الاطلاع عليها بحيث يعرف السور والأبواب التي هي فيها وإن لم يحفظها غيباً ](3)
__________
(1) ـ على الصحيح من كون القياس من الأصول ومن الدِّين أما كونه من الأصول فظاهر وأما كونه من الدين فلما روي أن هذا العلم دين ...الخبر والقياس علم فهو من الدِّين تمت منه
(2) ـ الوهيط المكان المنخفض من الأرض ، وفي الأم الوهيصة والوهص شدة الوطء
(3) ـ ما بين المعكوفين غير موجود في نسخة المؤلف

(1/450)


ولا بد(1) مع ذلك من ذكاء يتمكن به من استنباط الأحكام فإنه قد شوهد من جمع هذه العلوم أو أكثرها ولا يتمكن من الاستنباط لعدم فقه نفسه ولذا قال بعضهم لما قيل له أتحب أن يكون لك نقل القاضي عبد الجَبَّار ؟ وكان القاضي في نقل العلوم وروايتها عن ظهر قلب بلغ مبلغاً عظيماً لم يبلغه سواه أو نظر أبي الحسين وكان ممن يسبق النظار في ميدان الأفكار ولذا تراه قد استبد بأقوال وآراء في العلوم وامتاز بها عمَّن قبله وبعده فاختار نظر أبي الحسين وذلك لأن صاحبه أي حادثة نزلت به يمكنه أن يستخرج حكمها بالنظر فيأتي بما يحفظه الحافظ وغيره
وقد علم من الحد وما بعده أنه لا يشترط علم الفروع لأنه نتيجة الاجتهاد وثمرته واجتهاد رجال مثله ولا يجب عليه معرفة اجتهاد غيره إذ لا يجوز له العمل به فلا يحتاجه إلا أنه معونة عليه . ولا العدالة إلا في الأخذ عنه ولا الذكورة ولا الحد والبرهان من المنطق لإمكان إقامة البرهان بدونه ولا معرفة أسباب النزول إذ لا يقصر العموم على سببه خلافاً لزاعمي ذلك . والأولى اشتراط معرفة سبب النزول إذ بها يعرف أنه قطعي الدخول فلا يخصصه
(و) اعلم أنه لا خلاف في أن النبي يجوز له الاجتهاد في الآراء الدنيوية والحروب إلا ما يروى عن الجبائي وابنه والأصح عنهما خلافه
__________
(1) ـ البد : الفراق مفتوح لأنه اسم لا لنفي الجنس ومن ذكاء خبرها ومع ذلك ظرف بد وقيل أنه في مثل هذا التركيب مشبه بالمضاف لتعلق الجار والمجرور به وإنما لم ينصبه وينونه جرياً على بعض اللغات في المشبه بالمضاف والله أعلم تمت منه

(1/451)


واختلف في تعبده بالاجتهاد فيما لا نص فيه من الأحكام الشرعية على قولين (المختار) عند المصنف منهما قول المنصور بالله وأبي طالب وحكايته عن أبي عبد الله البصري في المجزي والشيخ الحسن وغيرهم (جواز تعبده بالاجتهاد) إذ لا يمتنع تعلق المصلحة به (عقلاً) فيكون حكمه حكمنا في تعلق مصلحته بالتوصل إلى كثير من الأحكام من طريق القياس والاجتهاد فيتعبد بذلك كما تعبدنا
وحكي عن بعض أئمتنا (عليهم السلام) المنع لأنه قادر على اليقين في الحكم بانتظار الوحي فيحرم عليه الظن الذي لا يحصل من الاجتهاد سواه ورد بالمنع فإن إنزال الوحي غير مقدور له وانتظاره لا يستلزمه ولذا كان يحكم بالشهادة مع أنها لا تفيد إلا الظن وتجويز خطأه فيه ممنوع لعصمته واستلزامه عدم الثقة بقوله سلمنا ذلك كما ذهب إليه بعض القائلين بالوقوع فلا يقر عليه اتفاقاً فلا يلزم منه عدم الثقة بقوله
ثم اختلف القائلون بالجواز وهم الأكثر في وقوع تعبده بالاجتهاد في الأحكام الدينية فقال أبو طالب (عليه السلام) وأكثر المعتزلة إنه لم يقع لقوله تعالى ?وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى(3)إن هو إلا وحي يوحى?[النجم 3-4] إذ معناه أن كل ما ينطق به عن وحي وهو ينفي الاجتهاد . ورد بتخصيصه بما بلغ من القرآن لأنها لرد قولهم فيه أنه مفتر

(1/452)


وإن سلّم عمومه فتعبده بالاجتهاد ثابت بالوحي فيكون الحكم الثابت بالاجتهاد ثابتاً بالوحي وقال الشافعي والفقيه يوسف وراتضاه ابن الحاجب بوقوعه لما روي عنه من تحويله في قتل خالد بن الوليد وإيجابه في كل نصف الدية (1)
__________
(1) ـ في كتاب الفروع للمقدسي ج: 6 ص: 200وقد بعث النبي وهو مقيم بمكة عام الفتح قبل خروجه خالد لما رجع من هدم العزى وقتل المرأة السوداء العريانة الناشرة الرأس وهي العزى وكانت بنخلة لقريش وكنانة وكانت أعظم أصنامهم وبعثه إلى بني جذيمة فأسلموا ولم يحسنوا أن يقولوا أسلمنا فقالواة صبأنا صبأنا فلم يقبل منهم وقال ليس هذا بإسلام فقتلهم فأنكر عليه من معه كسالم مولى أبي حذيفة وابن عمر فلما بلغه عليه السلام رفع يديه وقال اللهم إني أبرأ إليك مما صنع خالد مرتين وبعث عليا بمال فوداهم بنصف الدية وضمن لهم ما تلف إهـ
هذا وقد روى تبري النبي من صنع خالد البخار في صحيحه و النسائي في سننه و ابن حبان في صحيحه و ابن حنبل في مسنده و النسائي في سننه الكبرى و البيهقي في سننه الكبرى و عبد بن حميد في مسنده و ابن أبي شيبة في مصنفه

(1/453)


وما روي أن سعد بن الربيع وكان نقيباً من نقباء الأنصار نشزت عليه زوجته حبيبة بنت زيد فلطمها فانطلق بها أبوها إلى رسول الله فقال أفرشته كريمتي فلطمها فقال لتقتص منه فنزل قوله تعالى ?وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ ? [النساء 34] الآية فقال : ( أردنا أمراً وأراد الله أمراً والذي أراد الله خير ورفع القصاص ) (1) ولذا قال الزهري لا قصاص بين الرجل وزوجته فيما دون النفس ولكن يجب العقل . وما روي أنه قال : (لقد هممت أن أنهى عن الغيلة حتى ذكرت أن الروم وفارس يصنعون ذلك فلا يضر أولادهم )(2)
__________
(1) ـ في فتح القدير للشوكاني الجزء :1 الصفحة :694وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن الحسن: أن رجلاً من الأنصار لطم امرأته فجاءت تلتمس القصاص، فجعل النبي بينهما القصاص، فنزل "ولا تعجل بالقرآن من قبل أن يقضى إليك وحيه" فسكت رسول الله ( ) ونزل القرآن "الرجال قوامون على النساء" الآية، فقال رسول الله : أردنا أمراً وأراد الله غيره. وأخرج ابن مردويه عن علي نحوه. وفي تفسير القرطبي ج: 5 ص: 168والآية نزلت في سعد بن الربيع نشزت عليه امرأته حبيبة بنت زيد إبن خارجة بن أبي زهير فلطمها فقال أبوها يارسول الله أفرشته كريمتي فلطمها فقال عليه السلام لتقتص من زوجها فانصرفت مع أبيها لتقتص منه فقال عليه السلام أرجعوا هذا جبريل أتاني فأنزل الله هذه الآية فقال عليه السلام أردنا أمرا وأراد الله غيره وفي رواية أخرى أردت شيئا وما أراد الله خير ونقض الحكم الأول
(2) ـ الغيلة أن يجامعها وهي ترضع تمت وأخرج الحديث الدارمي في سننه و مسلم في صحيحه و النسائي في سننه و ابن حبان في صحيحه و الترمذي في سننه و ابن ماجه في سننه و أبو داو في سننه و ابن حنبل في مسنده و مالك في الموطأ و الحاكم في مستدركه و الطحاوي في شرح معاني الآثار و الطيالسي في مسنده و الطبراني في معجمه الكبير و النسائي في سننه الكبرى

(1/454)


قال العلماء وسبب همه بالنهي عنها أنه يُخَاف منه ضرر الولد المرضع قالوا والأطباء يقولون إن ذلك اللبن داء والعرب تكرهه وهي هنا بكسر الغين ويقال له الغيل بفتح الغين وحذف الهاء والغيال بكسر الغين كما ذكره مسلم في الرواية الأخيرة . قال مالك في الموطأ والأصمعي وغيره هي أن يجامع امرأته وهي ترضع يقال أغال الرجل وأغيل إذا فعل ذلك . وقال ابن السكيت هي أن يفعل ذلك وهي حامل يقال غَالَتْ وَأغْيَلَتْ
(و) اختار المصنف ما ذهب إليه القاضي عبد الجَبَّار وأبو الحسين وارتضاه الإمام يحيى وعزاه إلى أكثر علماء الأصول من الوقف من (أنه لايقطع بوقوع ذلك ولا انتفائه) لتعارض الأدلة كما سبق
واختلف في جواز الاجتهاد من الصحابة في عصره فذهب الأقل إلى منعه مطلقاً في الحاضر والغائب مع الإذن وعدمه للتمكن من العلم بالرجوع إلى الرسول والاجتهاد إنما يحصل به الظن ولا يصار إليه إلا مع تعذر العلم ورد بالمنع فإن إخبار النبي غير مقدور لهم
فإن قيل يجب عليه الإخبار إذا سألوه ففرضهم السؤال وهو مقدور لهم قطعاً . أجيب بأنه إذا كانت المصلحة في أن يعمل المكلفون في بعض الأحكام باجتهادهم وسلكوا فيه طريق الظن لم يجب أن يبيِّن لهم الرسول تلك الأحكام من طريق النص بل لم يجز فلا تمكن من العلم .
فإن قيل تجويز ذلك يستلزم الاستغناء عنه في تلك الأحكام التي يتوصل إليها بالاجتهاد .قلنا ذلك ممنوع كيف والاجتهاد فيما لا يتم إلا بإلحاقها بالمنصوصات وإلا لزم أن تكون الصحابة بعده قد استغنت عنه في أحكام الحوادث التي اجتهدت فيها وهو ظاهر الفساد .

(1/455)


وذهب الجمهور إلى جوازه مطلقاً لما سبق من أنه لا مانع من تعلق المصحلة به عقلاً ولأنه أمر عقبة بن عامر وعمرو بن العاص أن يجتهدا في بعض الأحكام بحضرته وقال لهما : (إن أصبتما فلكما عشر حسنات وإن أخطأتما فلكما حسنة واحدة) (1) .
وروي أيضاً أنه أمر غيرهما بذلك ولخبر معاذ المتلقى بالقبول . وما روي أنه قال لأبي موسى حين وجهه إلى اليمن (اجتهد رأيك) فلو لم يكن الاجتهاد جائزاً في عصره لما أمر من أمر و دعا لمن دعا ومن جعل هذه الأخبار دليلاً على الوقوع فقد أبعد سيما الآخرين
__________
(1) ـ لم يأمرهما في حالة واحدة بل أمر كل منهما على حدة هذا ما عثرنا عليه ، أما أمره لعمرو فقد أخرجه الحاكم في مستدركه والدارقطني في سننه و عبد بن حميد في مسنده ، وأما أمره لعقبة بن عامر فقد أخرجه الطبراني في معجميه الأوسط والصغير

(1/456)


(و) اختلفوا في الوقوع فأكثرهم على (أنه وقع ممن عاصره في غيبته) عن مجلسه مسافة لا يمكن مراجعته في الحادثة لتضيقها ويحتمل أن المراد بالغيبة : الغيبة عن البلد أو مسافة القصر أو ما يشق معها الارتحال لخبر عمرو بن العاص قال كنت في غزوة ذات السلاسل (1) احتلمت في ليلة باردة فأشفقت على نفسي إن اغتسلت بالماء هلكت فتيممت وصليت بأصحابي صلاة الصبح فذكرت لرسول الله فقال يا عمرو صليت بأصحابك وأنت جنب ؟! فقلت سمعت الله تعالى يقول ? وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا?[النساء 29] فضحك رسول الله ولم يقل شيئاً (2) (وحضرته) ما ليس كذلك بإذنه كحكم سعد بن معاذ في بني قريظة وذلك أنه قال ألا ترضون أن نُحكم فيكم رجلاً منكم ؟ قالوا بلى قال فذلك إلى سعد بن معاذ وقد كان سعد جعله النبي في خيمة في جانب مسجده ليعوده من قريب فأتاه قومه فاحتملوه على حمار وأقبلوا به وهم يقولون يا أبا عمرو أحسن في مواليك فيقول لهم قد آن لسعد أن لا تأخذه في الله لومة لائم فحينئذٍ أيس قومه من بني قريظة ونعوهم إلى أهليهم قبل أن يحكم ولما أقبل إلى النبي قال لمن عنده قوموا إلى سيدكم فقيل أراد بها الأنصار خاصة وقيل عم الكل فحكم سعد بقتل الرجال وقسمة الأموال وسبي الذراري والنساء فقال النبي
__________
(1) ـ قال فتح الباري ج: 8 ص: 74 :قيل سميت ذات السلاسل لأن المشركين ارتبط بعضهم إلى بعض مخافة أن يفروا وقيل لأن بها ماء يقال له السلسل وذكر بن سعد أنها وراء وادي القرى وبينها وبين المدينة عشرة أيام قال وكانت في جمادى الآخرة سنة ثمان من الهجرة وقيل كانت سنة سبع وبه جزم بن أبي خالد في كتاب صحيح التاريخ ونقل بن عساكر الاتفاق على أنها كانت بعد غزوة مؤتة إلا بن إسحاق فقال قبلها
(2) ـ أخرجه الحاكم في مستدركه وأخرجه ابن حبان في صحيحه و أبو داو في سننه و ابن حنبل في مسنده و الدارقطني في سننه و البيهقي في سننه الكبرى

(1/457)


لقد حكمت بحكم الله تعالى من فوق سبعة أرقعة بكسر ميم من على أنها حرف جر وإثبات تاء سبعة كذا في سائر كتب الأصول وفي كتب الحديث بحكم الملك العلام (1) وروي بفتحها وفي العضد بحكم من فوق سبعة بفتح من على أنها موصولة فحبسهم النبي في بيت واحد وخدَلهم أخاديد في موضع سوق المدينة وخرج بهم أرسالاً يضرب أعناقهم ثم يلقون في الأخاديد وترك منهم من لم ينبت (2) فممن ترك لعدم الانبات عطية القرضي جد محمَّد بن كعب المفسر الذي قال النبي في حقه (يخرج من الكاهنين رجل يدرس القرآن درساً لم يدرسه أحد قبله ولا يدرسه أحد بعده )(3)
__________
(1) ـ أخرجه البيهقي في سننه الكبرى والبخاري في الأدب المفرد و مسلم في صحيحه و البخاري في صحيحه و ابن حبان في صحيحه و أبو داو في سننه وابن حنبل في مسنده و الطيالسي في مسنده و النسائي في سننه الكبرى و البيهقي في سننه الكبرى و أبو يعلى في مسنده و عبد بن حميد في مسنده و عبد الرزاق في مصنفه و الطبراني في معجمه الأوسط
(2) ـ نص الحديث :- في سنن أبو داو ج 4/ص 141/ح حدثني عطية القرظي قال كنت من سبي بني قريظة فكانوا ينظرون فمن أنبت الشعر قتل ومن لم ينبت لم يقتل فكنت فيمن لم ينبت وأخرجه النسائي في سننه و ابن حبان في صحيحه و الترمذي في سننه و ابن ماجه في سننه و ابن حنبل في مسنده و الحاكم في مستدركه و الطحاوي في شرح معاني الآثارو الطيالسي في مسنده و الحميدي في مسنده و الطبراني في معجمه الكبير و النسائي في سننه الكبرى و البيهقي في سننه الكبرى
(3) ـ لم نعثر عليه بلفظه كاملا وإنما بنقص (لم يدرسه أحد قبله)والذي عثرنا عليه بواسطة موسوعة التخريج الكبرى سيخرج من الكاهنين رجل يدرس القرآن دراسة لا يدرسها أحد بعده أخرجه الطبراني في معجمه وابن حنبل في مسنده

(1/458)


قيل وبغير إذنه وهو ظاهر المتن لما أخرج مسلم عن أبي قتادة الأنصاري ثم السلمي قال خرجت مع رسول الله عام حنين فلما التقينا كانت للمسلمين جولة قال فرأيت رجلاً من المشركين قد علا رجلاً من المسلمين فاستدرت له حتى أتيته من ورائه فضربته على حبل عاتقه ضربة قطعت الدرع قال وأقبل علي فضمني ضمة وجدت معها ريح الموت ثم أدركه الموت فأرسلني فلحقت عمر بن الخطاب فقلت له ما بال الناس ؟ فقال أمر الله قال ثم إن الناس رجعوا وجلس رسول الله فقال من قتل قتيلاً له عليه بينة فله سبله فقمت فقلت من يشهد لي ثم جلست ثم قال مثل ذلك قال فقلت من يشهد لي ثم جلست ثم قال مثل ذلك الثالثة فقمت فقال رسول الله مالك يا أبا قتادة ؟ فقصصت عليه القصة فقال رجل من القوم صدق يا رسول الله سلب ذلك القتيل عندي فارضه من حقه فقال أبو بكر لاها الله إذاً لا يعمد إلى أسد من أسد الله يقاتل عن الله ورسوله فيعطيك سبله فقال النبي صدق فأعطه إياه فأعطاني فبعت الدرع فابتعت مخرفاً (1) في بني سلمة فإنه لأول ما تأثلته في الإسلام . قلنا أبو بكر إنما عمل بالنص وهو قوله من قتل قتيلاً فله سلبه لا بالاجتهاد وهو ظاهر وأيضاً قال الله تعالى ?لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ ?[ الحجرات1] . وفاعل لا يعمد ويعطيك ضمير لرسول الله
__________
(1) ـ قال في فتح الباري (فابتعت): أي اشتريت (مخرفاً): بفتح الميم وسكون الخاء المعجمة وفتح الراء أي بستاناً (في بني سلمة): بكسر اللام (تأثلته): أي تكلفت جمعه وجعلته أصل مالي, وأثل كل شيء أصله. وفي الحديث دليل على أن السلب للقاتل وأنه لا يخمس, وللعلماء فيه اختلاف, وذهب الجمهور إلى أن القاتل يستحق السلب سواء قال أمير الجيش قبل ذلك من قتل قتيلاً فله سلبه أم لا. قال المنذري: وأخرجه البخاري ومسلم والترمذي وابن ماجه إهـ .

(1/459)


(و) اعلم (أن الحق في القطعيات) عقلية كانت وهي ما دل عليها قاطع من جهة العقل بالضرورة أو ما انتهى إليها أو سمعية كلامية أو أصولية (مع واحد و) أن (المخالف مخطيء آثم) كافر إن خالف ما علم من الدِّين ضرورة معاندة لأنه تكذيب لله تعالى ولرسوله وإن لم يعاند كان خطؤه مؤدياً إلى الجهل بالله تعالى وإنكار رسله في جميع ما بلغوه عن الله تعالى فهو آثم كافر أيضاً لأن المجسم يعبد غير الله ويعتقد أن التأثير لذلك الغير كالوثنوية والمنجمة والطبائعية ولا خلاف في كفرهم مع اجتهادهم والمتأول للشرائع بالسقوط نحو الباطنية مكذب لرسول الله فيما جاء به فهو كمن كذبه ولا خلاف في كفره مع اجتهاده ومن أخطأ في غير ذلك بعد التحري فمعفو عنه لقوله تعالى ?وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ?[ الأحزاب5] ولم يفصل وقوله : (رفع عن أمتي الخطأ والنسيان) ولم يفصل وللإجماع على أنه من نكح امرأة في العدة جهلاً غيرُ آثم مع أنه قد خالف ما علم من الدِّين ضرورة هذا حكم المجتهد في اعتقاديات الأصول وقطعيات الفروع

(1/460)


(وأمَّا الظنية) أي الأحكام الشرعية الفرعية الاجتهادية التي تعبدنا فيها بالظن ولا يحتاج فيها إلى دليل قطعي بل دليلها ظني (العملية) أي التي المطلوب منا فيها العمل دون الاعتقاد فعند السيدين وأبي عبد الله والقاضي والأشعري(1) والباقلاني وابن سريج وأبي يوسف ومحمَّد والكرخي وحكاية عن الحنفية أنه لا حكم لله فيهما معين قبل الاجتهاد وإنما المطلوب من كل ما أداه إليه نظره فمراد الله تعالى وحكمه فيها تابع للظن لا أن الظن تابع لمراد الله تعالى فما ظنه فيها كل مجتهد فهو حكم الله تعالى فيها في حقه وحق مقلده (فكل مجتهد فيها مصيب) عندهم لقوله تعالى ?لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ ?[النساء105].
أجيب باحتمال أن المراد : بما أعلمك الله قالوا العمل بغير حكم الله تعالى ضلال ليس باهتداء فلو كان بعض الصحابة المجتهد مخطئا لم تكن متابعته اهتداء وقد قال بأيهم اقتديتم اهتديتم .
وأجيب بالقدح في رواية الخبر كما سبق ولو سلم فالاهتداء ـ من حيث فعل ما يجب عليه لإيصاله إلى الثواب وإن لم يكن كذلك من حيث تعيين الحكم والصدق ببعض الاعتبارات ـ كافٍ في أصل الصدق كما إذا خالف النص مجتهد لم يطلع عليه
وقال الجمهور بوحدة الحق وتخطئة البعض وعليه متأخروا الحنفية والشافعية والمالكية وقرره المنصور بالله القاسم بن محمَّد (عليه السلام) محتجين بوجوه عقلية ونقلية :
أما العقلية فمنها أن المجتهد طالب والطالب لا بد له من مطلوب متقدم في الوجود على وجود الطلب فلا بد من ثبوت حكم قبل ثبوت الطلب فإذا كان كذلك كان مخالف ذلك الحكم مخطئاً .
ومنها أنه يلزم أن يكون من اجتهد ابتداءً أو تغير اجتهاده مبتدأ شرعاً والإجماع على أن ابتداء الشرائع إنما هو بالوحي.
__________
(1) ـ لكن هذا القول من الأشعري ينقض قوله بأن الحكم قديم إلا أن يقال حكم الله القديم عنده متعدد بحسب تعدد اختلاف المجتهدين تمت منه

(1/461)


وأما النقلية فالكتاب والسنة والإجماع أما الكتاب فقوله تعالى ?وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا ?[آل عمران103] وقوله تعالى ?وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ ?[ آل عمران 105] وقوله تعالى ?إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ ? [الأنعامَ159] ولم يفصل في تحريم الاختلاف في أصول الدِّين وفروعه [*]وقوله تعالى ?فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ?[الأنبياء79]وكان حكم داود بالاجتهاد دون الوحي وإلا لم يجز لسليمان خلافه ولا لداود الرجوع عنه فلو كان كل منهما حقاً لم يكن لتخصيص سليمان ولم يحل له الاعتراض على من لم يخطيء فكيف إذا كان أباً نبياً ؟ .
وأما السنة فمن ذلك قوله : (لا يختلف عالمان ولا يقتتل مسلمان) ولم يفصل
وما أخرجه الجماعة إلا الترمذي عن عمرو بن العاص قال قال رسول الله (إذا اجتهد أحدكم فأصاب فله أجران وإن اجتهد فأخطأ فله أجر )
وأخرج الجماعة كلهم عن أبي هريرة نحوه قال الترمذي وفي الباب عن عمرو بن العاص وعقبة بن عامر
وفي رواية للحاكم (إذا اجتهد الحاكم فأخطأ فله أجر وإن أصاب فله عشرة أجور ) ثم قال هذا حديث صحيح الإسناد
وعن عقبة بن عامر أن رسول الله قال له في قضاءٍ أَمَرَه به اجتهد فإن أصبت فلك عشر حسنات وإن أخطأت فلك حسنة وروى نحوه أحمد بن حنبل في مسنده ،وحملهم التخطئة على صورة صورة وجود القاطع أو ترك استقصاء المجتهد بعيد لا سيما من الصحابة والحاكم المقصر مأزورٌ فلا يكون مأجوراً .

(1/462)


وأما الإجماع فإن الآثار دالة على أن الصحابة كانوا يرددون الاجتهاد بين الصوا ب والخطأ ويخطيء بعضهم بعضاً بحيث تواتر القدر المشترك كما في مسألة العول فإن ابن عباس(1) خطأ من قال به وخطؤوه في تركه
وكما في مسألة الكلالة فإنه روى السيوطي عن الشعبي قال سئل أبو بكر عن الكلالة فقال إني أقول فيها برأيي فإن كانوا صواباً فمن الله وحده لا شريك له وإن كان خطأ فمني ومن الشيطان والله مني بريء رواه الدارمي والبيهقي وابن أبي شيبة وغيرهم
وروى عبد الرحمن بن مهدي عن حماد بن زيد عن سعيد ابن صدقة عن محمَّد بن سيرين قال نزلت بأبي بكر فريضة فلم يجد لها في كتاب الله أصلاً ولا في السنة أثراً قال أقول فيها برأيي فإن يكن صواباً فمن الله تعالى وإن يكن خطأ فمني وأستغفر الله
__________
(1) ـ وقد ألزم ابن عباس القول بالعول في زوج وأم وأخوين لأم لأن الأم لا يحجبها أقل من ثلاثة أخوة عنده فلا بد له من إدخال النقص على الجميع لأنهم ممن قدم الله تعالى وأجيب عنه أنه يدخل النقص على من ينتقل من فرض إلى تعصيب أو من فرض إلى إسقاط وأظنه فيما عدا الجدة فإنه قد عدها ممن قدم الله فيقول في هذه المسئلة للزوج النصف وللأم الثلث وللأخوين من الأم السدس لأنهما ينتقلان من فرض إلى إسقاط كما أشار إلى مثله في العقد والله أعلم تمت منه

(1/463)


وكما في المسقطة لولدها ناقص الخلقة قال ابن حجر في تلخيصه روى البيهقي من حديث سلام عن الحسن البصري قال أرسل عمر إلى امرأة مغيبة كان يدخل عليها فأنكر فقيل لها أجيبي عمر قالت ويلها ما لها ولعمر فبينا هي في الطريق ضربها الطلق فدخلت داراً فألقت ولدها فصاح صيحتين ومات فاستشار عمر الصحابة فأشار عليه بعضهم أن ليس عليك شيئاً إنما أنت وال ومؤدب فقال عمر ما تقول يا علي ؟ فقال علي (عليه السلام) إن كانوا قالوا برأيهم فقد أخطأوا وإن كانوا قالوا في هواك فلم ينصحوا لك أرى أن ديته عليك لأنك أنت أفزعتها فألقت ولدها من سببك فأمر عليّاً أن يقيم عقله على قريش ثم قال ورواه عبد الرزاق عن معمر عن مطر الوراق عن الحسن فذكر نحوه .
وكما روي عن ابن عباس أنه قاس الجد على ابن الابن في إسقاط الإخوة وقال : ألا يتقي الله زيد بن ثابت جعل ابن الابن ابناً ولم يجعل أبا الأب أباً ؟
وكما روي عن مسروق قال كتب كاتب لعمر بن الخطاب هذا ما أرى الله أمير المؤمنين عمر فانتهره عمر وقال اكتب هذا ما رأى عمر فإن كان صواباً فمن الله وإن كان خطأ فمني ومن الشيطان والله ورسوله بريان .

(1/464)


(و) اعلم أنها إذا تكررت الواقعة التي قد اجتهد فيها المجتهدون ووفّى الاجتهاد حقه وأداه اجتهاده إلى حكم فيها فإن لم يذكر اجتهاده الأول أصلاً أو ذكره وتجدد له ما يحتمل أنه يقتضي الرجوع وجب عليه إعادة النظر فيها قطعاً فإن ذكر اجتهاده الأول دون دليله ولم يتجدد له ما يحتمل أنه يقتضي الرجوع فالمختار ما عليه الجمهور من (أنه لا يلزم المجتهد تكرير النظر) وإعادته وتذكر طريق الاجتهاد (لتكرر الحادثة) إذ قد حصل مطلوبه والأصل عدم أمر يغيره ويؤيد ذلك أن الإجماع على أن من تحرى القبلة في مسجد أو غيره وأداه تحريه إلى جهة أنه لا يلزمه إعادة التحري لكل صلاة يؤديها في ذلك المكان بل يكفيه الأول وهونوع من الاجتهاد فلا يلزم مثله في سائر الاجتهادات ، وذهب الشهرستاني إلى وجوب الإعادة
(و) المختار عند الجمهور (أنه) اي المجتهد إذا أراد الاستدلال بدليل فإن كان نصاً في المقصود أو ظاهراً فيه لم يستدل به حتى يعلم أو يظن أنه غير منسوخ ولا متأول ، وإن كان عاماً فلا بد أيضاً أن يعلم أو يظن هل هو مخصوص أو لا ولذا قلنا إنه (يجب عليه البحث عن الناسخ والمخصص) وموجب التأويل والتقييد (حتى) يعلم أو (يظن عد مهما) أي الناسخ والمخصص وعدم موجب التأويل والتقييد إذ لا يحصل العلم أو الظن بالعدم إلا بعد البحث وقد تقدم من الكلام في باب العام في هذه المسئلة ما لو نقلته إلى هنا نفعك على أن الأنسب تقديم هذه المسألة على التي قبلها لترتبها عليها يظهر ذلك بأدنى تأمل

(1/465)


(و) من أحكام المجتهد (أنه لا يجوز له تقليد غيره) من مجتهدي العلماء في شيءٍ من الأحكام الشرعية عند أئمتنا (عليهم السلام) والجمهور لحديث : ( استفت نفسك وإن أفتاك المفتون ) (1) ونحوه مما اشتهر معناه في وجوب العمل بالظن وإن خالف ما عند الناس وكان مقتضاه أن المقلد كذلك لولا الإجماع على منعه عن العمل بظنه (مع تمكنه من الاجتهاد) فإن لم يتمكن منه لتضيق وقت الحادثة(2) بحيث يفوت لو اشتغل بالاجتهاد وإن تمكن لم يجز ولو كان في بعض المسائل على القول بتجزي الاجتهاد لأن جواز تقليده لغيره حكم شرعي فلا يثبت إلا بدليل ولا دليل إذ الأصل عدمه ولأن الاجتهاد أصل التقليد والأخذ بالفرع مع القدرة على الأصل لا يجوز كما لا يجوز التيمم إلا عند تعذر الوضوء ولقوله تعالى ?إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ ? [النساء105] وقوله تعالى ?فَاعْتَبِرُوا يَاأُولِي الْأَبْصَارِ? [الحشر2] فإنه يعم الاجتهاد وترك العمل به في العامي أوجبه العجز وللقياس على التقليد في الأصول بجامع القدرة على الاحتراز عن الضرر المحتمل ولا يفرق بأن المطلوب هو الظن وهو يحصل بالتقليد لأن المطلوب : الظن الأقوى وهو متمكن منه ولا ينقض بقضاء القاضي حيث لا يجوز خلافه لأن ذلك عمل بالدليل ـ الدال على أنه لا ينقض ـ لا بالتقليد (ولو) كان هو في نفسه فاسقاً ولو كان ذلك الغير حاكماً أو (أعلم منه) وقال الشيباني
__________
(1) ـ أخرج نحوه ابن حنبل في مسنده وابن أبي الدنيا في التواضع والخمول و البخاري في الأدب المفرد و مسلم في صحيحه و ابن حبان في صحيحه و الترمذي في سننه و ابن حنبل في مسنده و الحاكم في مستدركه و الطبراني في معجمه الكبير و البيهقي في سننه الكبرى و عبد الرزاق في مصنفه و الدارمي في سننه
(2) ـ كما لو كان في آخر وقت الصلاة مثلاً وظاهره مطلقاً وعند ابن سريج كذلك لكن فيما يخصه تمت منه

(1/466)


وإحدى الروايتين عن أبي حنيفة يجوز له تقليد من هو أعلم منه لأرجحيته عليه دون المساوي والأدنى (ولو) كان أيضاً (صحابياً)
وذهب مالك والجبائي وأحد قولي الشافعي وأحمد إلى جواز تقليد صحابي راجح في نظره على غيره من الصحابة المخالفين له وإلا خير في تقليد أيهم شاء مع الاستواء فيه محتجين بقوله تعالى ?فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ?[النحل 43] ونحو قوله ( : (أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم) أما الآية فلأنه قبل الاجتهاد لا يعلم ، والآخر : من أهل الذكر فيسألونه للعمل ، وأما الخبر فظاهره العموم وخص منه من اجتهد بالإجماع فيبقى ما عداه .
قلنا الخطاب في الآية للمقلدين وأما الخبر ففيه ما تقدم في آخر باب الأدلة
(ولو) كان أيضاً (فيما يخصه) من الأحكام دون ما يفتي به . وهذا الخلاف إنما هو قبل اجتهاده في الحكم فأما بعده فإذا أداه اجتهاده إلى حكم معين فإنه يجب عليه العمل به
(ويحرم) عليه تقليد غيره (بعد أن اجتهد) كذلك (اتفاقاً) بين العلماء (و) أما (إذا) لم يؤده اجتهاده إلى معين بأن (تعارضت عليه الأمارات رجح إلى الترجيح) بينها فيعمل بما يظهر له ترجيحه بأي وجوهه الآتية إن شاء الله تعالى إن تعذر الجمع بينها من كل وجه بأن تقتضي إحدى الأمارتين خلاف ما تقتضيه الأخرى لا إن أمكن ولو من وجه بأن يحتمل إحداهما تأويلاً يوافق الأخرىوستأتي أمثلته إن شاء الله تعالى .

(1/467)


(فإن لم) يمكن الجمع بينها ولم (يظهر له رِجْحَان) لأيهما ففيه نوع آخر من الخلاف (فقيل) أي قال أبو علي وأبو هاشم (يخير) فيعمل بأيهما شاء (وقيل) أي قال أبو الحسين والحاكم والقاضي وابن سريج (يقلد الأعلم) في جميع العلوم أو في الفن التي تلك الحادثة فيه ، وفي بعض الشروح أن القائل بذلك ابن أبان وما لفظه يعني إذا روى أحد المتعارضين أعلم ممن روى الآخر فإنه يعدل إلى رواية الأعلم لأن رواية الأعلم من المرجحات لأن العلوم على اختلافها تزكي الفطن العقلية فأكثر الناس علماً أثبتهم عقلاً وأجودهم ضبطاً لما يروي انتهى ، ولا يخفاك ما فيه من الخروج عن المطلوب
(وقيل) أي قال أبو طالب (عليه السلام) وأكثر الفقهاء ورجحه المهدي (عليه السلام) أنه يجب عليه أن يطرحهما لأنهما صارا بالتعارض كأن لم يوجدا وحينئذٍ (يرجع) إما إلى غيرهما من أدلة الشرع إن وجد وإما (إلى حكم العقل) إن لم يوجد فيعمل بمقتضاه في ذلك الحكم [*]

(1/468)


قال أئمتنا (عليهم السلام) والحنفية (ولا يصح لمجتهد قولان متناقضان) ولا يتحقق تناقضهما إلا إذا صدرا من المجتهد الواحد (في) مسألة واحدة أي متحد موضوعها ومحمولها كلا أو بعضاً باعتبار شرط واحد ومكان واحد و(وقت واحد) لأن دليليهما إن تعادلا توقف وإن رجح أحدهما فهو قوله فيصح من مجتهدين فصاعداً ، ولا تناقض في نحو الزكاة محرمة على الناس أي كلهم وليست محرمة على الناس أي بعضهم ولا في تحليلها لزيد بشرط الاضطرار وتحريمها عليه بشرط الغنية ولا في تحريم الصيد عليه في الحرم أو وقت الإحرام والتحليل له في غير ذلك مثلاً واتحاد الوقت هنا اعتباري لتعذر التحقيقي إذ المراد منه ما لا يمكن فيه تغير الاجتهاد فأما إذا مضى منه ما يمكن فيه جاز ، وإذا عرف التاريخ فالثاني رجوع عن الأول واشتغال العلماء بروايته في الكتب ودراسته وحفظه لغرض التعريف بما كان منه من القول الأول وأنه مما للاجتهاد فيه مسرح وأنه إذا قال به قائل أداه اجتهاده إليه لم يقل أنه قال ما لم يقل به أحد وصار الحال في ذلك كالحال في تلاوة المنسوخ حكمه من القرآن والسنة وإن كان العمل على الحكم الذي قضى به المنسوخ لا يصح . فإن جهل حكيا عنه ولم يحكم عليه بالرجوع إلى أحدهما بعينه
(و) متى قيل قد ورد مثل ذلك عن بعض أئمتنا (عليهم السلام) والشافعي قلنا (ما يحكى عن) بعض أئمتنا (عليهم السلام) من القولين والأقوال وعن الشافعي أنه قال في سبع عشرة مسألة لي فيها قولان(1) (فمتأول) بوجوه أصحها أنه يعني أن له فيها قولين قال بأحدهما ثم قال بخلافه بعد واعتمده واستغربه المهدي (عليه السلام)
__________
(1) ـ قال الشيخ أبو حامد الاسفرايني مخالف أبي حنيفة منهما أرجح من موافقه فإن الشافعي إنما خالفه لدليل وقال القفال بل موافقه لقوته بتعدد قائله وصححه النووي واعترض بأن القوة إنما تنشأ من الدليل قال في الجمع والأصح الترجيح بالنظر فإن وقف فالوقف والله أعلم تمت منه

(1/469)


وقيل أراد احتمالين بين وجههما لينظر الناظر فيهما فيختار ما يقوي عنده . واعترض بأن ذلك ليس بقول للمستنبط إذ ليس بجازم فيهما بشيءٍ . وقيل أراد التخيير بين الحكمين . وفيه أن التخيير قول واحد لا قولان
وقيل يعني فيهما قولان لغيرنا . وفيه أنه لو كان كذلك لم يضفه إلى نفسه . وروى عنه المَرْوَرُّوْذِي أيضاً التردد في ستة عشر أو سبعة عشر موضوعاً وهو دليل علمه لأن التردد من غير ترجيح يدل على إمعان النظر الدقيق حتى لا يقف على حالة وعلى ديانته لأنه لم يبال بذكر ما تردد فيه وإن كان قد يعاب على ذلك عادة بقصور نظره كما عابه به بعضهم
(و) المذهب في الأصل موضع الذهاب وفي اصطلاح العلماء هو الاعتقاد الصادر عن دليل أو شبهة أو تقليد ومنه الرأي وأما المعلوم ضرورة فلا يعد العلم به مذهباً وكذا اعتقاد المعتقد تبخيتاً وإنما (يعرف مذهب المجتهد) ويضاف إليه ليقلد فيه ويفتي به بالعلم بذلك ضرورة أو استدلالاً (بنصه الصريح) نحو الوتر : سنة أو غير واجب وبرواية كاملة الشروط
(وبالعموم الشامل من كلامه) كأن يقول كل مسكر حرام فيعرف أن مذهبه في المثلث التحريم ولا يلزم الواقف عليهما طلب الناسخ والمخصص لندرتهما من المجتهد وجري عادة المسلمين بذلك بخلاف الأدلة الشرعية فإنهما يفها كثير واستبعد الإمام الحسن التفرقة(1)
__________
(1) ـ قال وقد يمنع عدم لزوم البحث هنا عن الخاص ووجوده في ألفاظ الكتاب والسنة وعن مذهبه في تخصيص تلك العلة فناهيك أن يكون المجتهد في المذهب بمنزلة المجتهد المطلق في الشرع على السوية ومن عكس قالب الإضافة أن يجعل لغير المعصوم على المعصوم مزية اللَّهُمَّ إلا أن يكون ذلك لقلة التخصيصات في عمومات المجتهدين وكثرتها في كلام الشارع إهـ تمت منه

(1/470)


(وبمماثلة ما نص عليه) لغيره في علته وإن لم ينص عليه كان يقول في اشتباه ثوبين أحدهما متنجس يجتهد في ذلك فيعرف أن مذهبه اشتباه طعامين كذلك مثل ذلك لعلة الإشتباه إلا أن ينص على ما نقيضه في مثلها فلا ينقل حكم أحدهما إلى الأخرى
(وبتعليله بعلة يوجد) أي يعلم وجودها بأحد طرقها (في غير ما نص عليه) وذكره مع دخوله في المماثلة إذ هي أعم منه مطلقاً ليرتب عليه قوله (وإن كان يرى جواز تخصيص العلة) وهو [*]تخلف الحكم عنها وأنه لا يقدح في عليتها كأن يعلل حرمة الربا في البُّر بكونه مكيلاً مثلاً فتلحق به سائر المكيلات والأخذ من هذه الوجوه التي يعرف بها مذهبه ما عدا صريح النص يعبر عنه بالتخريج(1)
وقد اختلف في التخريج على أصل مجتهد
فقال بعض أئمتنا (عليهم السلام) يضاف إليه واختاره في الفصول مع التقييد بأنه تخريج لئلا يوهم الكذب وليتميز عن نصوصه وعن ذلك فرعوا الفروع ويعبر عنها بالتخاريج والوجوه
__________
(1) ـ ذكر معناه المهدي والسيد أحمد بن لقمان (عليهم السلام) وابن حميد في شرح مقدمة الأزهار إهـ .

(1/471)


وعند بعضهم لا يضاف إليه ، وجواز التقليد فيها وعدمه ينبني على ذلك وقد هجن الإمام المنصور بالله القاسم بن محمَّد (عليه السلام) على القائلين بالتخريج قال لأن الأحكام الشرعية قول عن الله تعالى إجماعاً(1) لأنه إنما يسأل المفتي عما يثبت من الأحكام عن الله تعالى ولا يثبت شيءٌ من الأحكام الشرعية بعد انقطاع الوحي إلا في كتابه وفي سنة رسوله بالنص والقياس ، والمقلد إذا أفتى بشيءٍ فرعه على نصوص المجتهد لا يعلم أصولها من الكتاب والسنة لا سيما مع ما تقدم من قاعدتهم في ذلك من عدم لزوم البحث عن الناسخ والمخصص وعن مذهبه في تخصيص العلة فمن أفتى بذلك فقد قال على الله بما لا يعلم وقد قال تعالى ?وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَان إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ? [البقرة 168 ] ?إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ ? [ البقرة 169] ونحوها وقد أوسع (عليه السلام) الكلام في هذا المقام في الإرشاد فليطالع وللقاضي عبد الله الدواري (2) نحوٌ من ذلك . قلت وأيضاً قال تعالى ?الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي? [ المائدة 3]الآية و قال تعالى : ? مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ
__________
(1) ـ ونقل عن جماعة القول بإبطاله كالهادي وأبي طالب والإمام المهدي والناصر الحسن بن علي بن داود (عليهم السلام) ونقله أيضاً عن الذهبي والله أعلم تمت منه
(2) ـ عبد الله بن الحسن بن عطية المؤيد الدواري، الصعدي . عالم ، فقيه ، مجتهد مصنف ، كثير التأليف ، أخذ العلم عن مشاهير علماء عصره ، وتتلمذ عليه كبار العلماء كالهادي بن إبراهيم الوزير ، والعلامة عبد الله النجري وغيرهم ، كان مرجعا لعلماء عصره ، كان الناس يتوقفون عن مبايعة الإمام حتى يحضر من أشهر مؤلفاته شرح الأصول الخمسة للسيد ما نكديم تمت أعلام المؤلفين للسيد عبد السلام الوجيه

(1/472)


? [الأنعام 38]وقال ما علمت شيئاً يقربكم من الجَنَّة إلا ودللتكم عليه ولا شيئاً يباعدكم عن النار إلا وقد(1) حذرتكم منه أو كما قال .
(و) إذا كانت المسئلة اجتهادية واجتهد فيها المجتهد وأداه اجتهاده إلى حكم معين ثم تغير اجتهاده فأحواله في ذلك ثلاثة :
أحدها أن يتغير اجتهاده وقد عمل بحسب الاجتهاد الأول وفرغ من عمله وليس لتلك الحادثة فرع ولا حكم مستقل فما فعله بالاجتهاد الأول فهو صحيح مثل أن يكون رأيه في التيمم أنه إلى الرسغين ثم فعل ذلك وصلى به ثم أحدث وتغير اجتهاده إلى أنه إلى المرفقين فإن صلاته بذلك التيمم صحيحة ولا يلزمه إعادتها
وثانيها أن يتغير اجتهاده ولم يفعل بحسب الاجتهاد الأول فهذا يلزمه العمل بالاجتهاد الثاني ولا خلاف أعلمه كأن يرى التيمم إلى المرفقين قبل أن يتيمم إلى الرسغين
__________
(1) ـ ومن ثم قال الشافعي جميع ما تقوله الأُمَّة شرح للسنة وجميع السنة شرح للقرآن وقال بعض السلف ما سمعت حديثاً إلا التمست له آية من كتاب الله وقال سعيد بن جبير ما بلغني حديث عن رسول الله على وجهه إلا وجدت مصداقه في كتاب الله أخرجه ابن أبي حاتم وقال ابن مسعود أنزل في القرآن كل علم وبيَّن لنا فيه كل شيءٍ ولكن علمنا يقصر عن ما بُيِّن لنا في القرآن أخرجه ابن جرير وابن أبي حاتم وأخرج أبو الشيخ عن أبي هريرة قال قال رسول الله إن الله لو أغفل شيئاً لأغفل الذرة والخردلة والبعوضة وقال الشافعي أيضاً جميع ما حكم به النبي فهومما فهمه من القرآن قال السيوطي ويؤيده قوله إنِّي لا أحل إلا ما أحل الله في كتابه ولا أحرم إلا ما حرم الله في كتابه رواه باللفظ الطبراني في الأوسط من حديث عائشة وقال الشافعي أيضاً ليست تنزل بأحد في الدِّين نازلة إلا في كتاب الله الدليل على سبيل الهدى والله أعلم تمت منه

(1/473)


وثالثها أن يتغير اجتهاده بعد أن عمل بالأول إلا أن للأول أحكاماً تتبعه مستقلة أو يخل بطاعة مما تقضى وله فيها مذهب وأراد جبرها بالقضاء وقد ذهب إلى مذهب فأحد قولي المؤيد بالله والمنصور بالله عليهما السلام ومحمَّد بن الحسن وصححه فقهاء المؤيد بالله كأبي مضر وعلي بن خليل وبعض المتأخرين والحفيد أنه يعمل على الاجتهاد الأول ولا يلتفت إلى الثاني
وقال الحقيني والمهدي أحمد بن الحسين وأحد قولي المؤيد بالله (عليهم السلام) إنه يعمل على الاجتهاد الثاني وكذا الحكم فيمن قلده فإنه لا يزال العمل على الاجتهاد الأول حتى يعلم انتقاله عنه ولا يلزمه تكرير السؤال مرة بعد أخرى هل تغير اجتهادك أو لا ؟ فلذا قلنا أنه إذا اجتهد فأداه اجتهاده إلى معين وأفتى من قلده فيه ثم تغير اجتهاد إلى غيره فإنه (إذا رجع عن اجتهاد) قد أفتى به إلى اجتهاد آخر وتمكن من إخبار المستفتي ولم يكن قد عمل بالأول ولم يقلد غيره معه في تلك المسئلة ممن يوافقه(1) فيها نحو أن يتزوج امرأة مثلاً بغير ولي عند ظن إمامه صحة ذلك ثم تغير اجتهاده إلى عدم الصحة أو سافر بريداً وهو يرى وجوب القصر فيه ثم رأى بعد خروج وقت الصلاة أنه لا يوجبها (وجب عليه إيذان مقلده) ليرجع المقلد عن رأيه الأول ليعمل على القول الثاني لأن المفروض أن مستند العامي وقائده إلى العمل كون ما عمل به قولاً لذلك المجتهد وإلا كان على مراحل من العمل ومعلوم أنه بعد الرجوع لم يبق قول له فلا يصح أن يعمل به بعده لبطلان شرط العمل وانهدام أصله فيجب عليه أن يعمل بالثاني
__________
(1) ـ أما لو قلد من يوافقه فيها معه لم يلزمه إعلامه لأنه في ذلك الحكم عامل بمذهب إمام آخر والله أعلم تمت منه

(1/474)


أما لو كانت المسألة قطعية وأخطأ فيها المفتي بفتياه أو الحاكم بحكمه ، أو اجتهادية وقصَّر في الاجتهاد فلا شبهة في أنه يجب عليه الإعلام بالخطأ ولو احتاج إلى مال كثير في التوصل إلى تعريفه الخطأ ما لم يخش ضرراً أو فوات أهم منه من الواجبات وقد روي عن ابن مسعود أنه كان يخبر ما أفتاه بتغيير اجتهاده حيث يتغير وروي أن محمَّد بن الحسن أنفق عشرة آلاف درهم في تلافي فتوى أفتى بها خلاف الصواب وهو محمول على أن خطأه خلاف الإجماع أو قصَّر في الاجتهاد أو يكون ذلك منه على جهة الاستحباب
(و) قد وقع (في جواز تجزيء الاجتهاد) بجريانه في مسألة أو مسائل مخصوصة(1) (خلاف) بين العلماء ،فذهب المؤيد بالله والمنصور بالله والدَّاعِي الأمير علي بن الحسين والإمام يحيى والمهدي، والغزالي والرازي وغيرهم إلى جوازه لجواز اطلاع القاصر عن مرتبة الاجتهاد على أمارات مسألة على حد اطلاع المجتهد وتكفيه معرفة ما يتعلق بها ولا يضره جهل ما عداه
وقيل :لا يصح تجزبه لجواز تعلقها بما لا يعلمه .
قلنا :احتمال تعلق المجهول بالمسألة المجتهد فيها لا يدفع الظن الحاصل للفقيه لأن المفروض حصول جميع ما هو مادة في تلك المسألة في ظنه نفياً وإثباتاً إما بأخذه عن مجتهد وإما بعد تقرير الأئمة الأمارات وضم كل جنس إلى جنسه فيتجزأ حينئذٍ الاجتهاد .
(فصل)
__________
(1) ـ قالوا وفي فن دون آخر وفيه أن الاجتهاد يختص فن الأحكام والفروع دون سائر الفنون من النحو وغيره كما يفهم من حد الاجتهاد وإن كان الحق إمكان الاستنباط في سائر الفنون إلا أنه خلاف الاصطلاح فتأمل تمت منه

(1/475)


(و) لما كان الجهل مقابلاً للاجتهاد ويلزم التقليد لأجله شرعاً وذلك يتوقف على معرفة ماهيته ومن يقلد ومن لا وما يقلد فيه وما لا ، حسن إلحاقه به فقال (التقليد) لغةً مأخوذة من القلادة كأن المستفتي جعل الفتيا قلادة في عنق المفتي أو عنقه نفسه واصطلاحاً (اتباع قول الغير) الناشئ عن قبوله أي اعقتاده والإذعان له والمراد بالقول الرأي والمذهب فيشمل القول والفعل والترك والتقرير وإضافته إلى الغير يخرج المعلوم ضرورة لعدم اختصاصه بذلك المجتهد وما كان من أقواله وأفعاله التي ليس فيها اجتهاد إذ لا يسمى قولاً له بالمعنى الذي ذكرناه وقوله (بلا حُجَّة) دليل أوأمارة (ولا شبهة) أي ما في صورتهما يخرج المجتهد الموافق اجتهاده لاجتهاد آخر لأنه إنما قبل ذلك الحكم وأخذه من الدليل لا من المجتهد وقولهم أخذ الشافعي بمذهب مالك في كذا وأخذ أحمد بمذهب الشافعي في كذا تجوز ويخرج أيضاً الرجوع إلى قول النبي أو إلى الإجماع ورجوع القاضي إلى الشهود في شهادتهم لقيام الحُجَّة فيهما فقول النبي بالمعجزة والإجماع بما مر في حجيته والشاهد بالإجماع ولو سمي ذلك أو بعضه تقليداً أو استفتاء كما سمي في العرف أخذ العامي بقول المجتهد تقليداً فلا مشاحة في التسمية والاصطلاح

(1/476)


(ولا يجوز) أي (التقليد(1) في الأصول) سواء كانت من أصول الدِّين كمعرفة الباري تعالى وصفاته وقدمه وأسمائه والوعد والوعيد والنبوءات وما يتعلق بذلك أو من أصول الفقه أو من أصول الشريعة التي هي الصلاة والصوم والحج ونحوها لاشتراط العلم فيها وعدم حصوله بالتقليد ولثبوت أن الحق فيها مع واحد والمخالف مخطئ آثم فلا يأمن المقلد أن يكون من قلده مخطئاً فيكون على ضلالة في دينه ويكون هالكاً سيما العقلية منها كمعرفته تعالى ولذا حث تعالى على النظر والفكر فقال ?وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ ? [آل عمران191 ]الآية ?أَفَلَا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ ? [الغاشية17]الآية وغير ذلك من القرآن كثير واحتج تعالى على الكفار في القرآن وذمهم على تقليدهم الآباء في قولهم? إِنَّا وَجَدْنَا ءَابَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى ءَاثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ ?[الزخرف23 ]وأيضاً فإن معرفة الله تعالى وصفاته ونحوها واجبة بالإجماع فلو اقتضاها التقليد لزم اجتماع النقيضين فيكون كل منهما حقاً وهو محال
بيانه : أنه إذا قلد اثنان اثنين في المسائل المختلف فيها كحدوث العالم وقدمه كان المقلدان عالمين بهما فيلزم حقيقتهما وعدم إلزام الصحابة العوامَّ بالنظر ممنوع فقد ألزموهم وصدر منهم كما قال الأعرابي البعرة تدل على البعير وآثار الأقدام على المسير أفسماء ذات بروج وأرض ذات فِجَاج لا يدلان على اللطيف الخبير ؟! ونهيه عن الكلام في القدر محمول على الجدال بالباطل والله أعلم .
(ولا) يجوز أيضاً (في العلميات) أي فيما يتعلق به علم سواء كان أصلياً كما تقدم آنفاً أو فرعياً كمسألة الشفاعة وفسق من خالف الإجماع فيكون من عطف العام على الخاص ليرتب
__________
(1) ـ لا أرى لإقامة الظاهر مقام المضمر وجها والله أعلم ويندفع بأي كما ذكرنا تمت منه

(1/477)


(و) لا في (ما يترتب عليها) عليه كالموالاة وهي أن تحب لشخص ما تحب لنفسك وتكره له ما تكره لها ومن ذلك تعظيمه واحترَام عرضه فذلك وإن كان عملاً فلا يجوز التقليد فيه ولا العمل بالظن لأن ذلك لا يجوز إلا لمن علم إيمانه والأصل فيمن ظاهره الإسلام الإيمان ما لم يعلم أنه قد خرج عنه والمعاداة وهي نقيض الموالاة لا يجوز التقليد فيها أيضاً ولا يكفي في العمل بها إلا العلم لترتبها على الكفر أو الفسق وهما ممَّا لا يجوز فيه التقليد فكذا ما ترتب عليهما وأمر الأئمة بحرب نحو الباطنية أمر بالقتل لا بالاعتقاد كالأمر بالحد وإلا لزم تعذر المقصود بالإمامة من الجهاد والحدود ذكر معناه في الغيث وحكاه عن الحفيد وقال في تكملة البحر والمنصور بالله والنجري في شرح مقدمة البيان إن قول الإمام كالدليل إذ يفيد الحكم الشرعي كالحكم بالقصاص ونحوه ومن البعيد أن يفعل المأمور ذلك غير معتقد للسبب واختار الدواري وابن أبي الخير جواز التقليد فيما يترتب على علمي
(و) أمَّا ما عدا ما ذكر فقال الجمهور ومنهم المنصور بالله (عليه السلام) والحفيد إنه (يجب) إذ لا يمكن غير المجتهد العمل بغيره (في) الأحكام (العملية المحضة) أي ما لا يتعلق به إلا العمل الخالص ودون تحقيقها منفصلة عن الاعتقاد خرط القتاد (1) فغايتها ترتبها على علمي لا العلمية (2) ولا ما يترتب عليها كما سبق آنفاً سواءً كانت من (الظنية) أي التي دليلها ظني من نص آحادي أو قياس غير جامع لشروط القطع أو إجماع كذلك (والقطعية) أي التي [*] من النص المتواتر أو المتلقى بالقبول والإجماع والقياس القطعيين
__________
(1) ـ إذ لا يمكن أن تكون عملية إلا باعتقاد مدلولها فيحقق . ثم إنهم قد صرحوا بأن العملي يكون قلبيا كالعلم بأن النية في الوضوء واجبة ، وأن الوتر مندوب وغير قلبي وهو ظاهر تمت منه
(2) ـ هذا مقابل المتن العملية المحضة تمت

(1/478)


وقال أبو علي والشيرازي بجوازه في الاجتهادية دون القطعية لأن الحق فيها مع واحد .
قلنا :الفرق يقتضي أن يحصِّل العامي درجة الاجتهاد ثم يقلد إذ لا يميز بينهما بدون تقليد إلا المجتهد
وقالت البغدادية لا يجوز مطلقاً بل يجب على المفتي تبيين الوجه فيما يفتي به قالوا لأن الخطأ من المجتهد جائز الوقوع وعلى تقدير وقوعه يجب اتباعه .
قلنا :والخطأ أيضاً جائز مع ابداء المستند من المجتهد للمقلد لكون البيان ظنياً وأنتم تقولون إن المجتهد إذا أبدى مستنده لغيره وجب اتباعه وكذلك المجتهد يجب عليه مع احتماله الخطأ فما هو جوابكم فهو جوابنا
قالوا :قال تعالى ?وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُون ?[الأعراف33] .
قلنا :يختص بالعقليات جمعاً بينه وبين أدلة اتباع الظن
قالوا :قد ذم تعالى التقليد بقوله حاكياً ?إنَّا وجدنا آبائنا على أمة? [الزخرف23 ]قلنا :المذموم :التقليد الباطل الجاري على خلاف الدليل الواضح وفي العقليات
وهذا الخلاف في جوازه ووجوبه (على غير المجتهد) سواءً كان عامياً صرفاً أو عارفاً بشطر صالح من علوم الاجتهاد فأما المجتهد فيحرم عليه بعد الاجتهاد اتفاقاً وقبله على الخلاف كما سبق وإنما يقلد ويستفتى مجتهد عدل تصريحاً وتأويلاً ولذا (و) جب (على المقلد) أي من يريد التقليد وإنما أتى به ظاهراً مع كون المقام مقام الإضمار لئلا يوهم قبل التأمل عوده إلى المجتهد والله أعلم (البحث عن كمال من يقلده في علمه وعدالته) كذلك إذا جهلهما لاشتراط صلاحيته للفتوى بالعلم والعدالة وإنما ينكشف بالبحث فلا يجوز تقليد الفاسق إذ ليس أهلاً لذلك وكيف يقوم الظل والعود أعوج ؟ ولا المجهول لعدم الظن بصحة فتواه أما في مجهولهما معاً فلأنهما شرطان والأصل عدمهما ولأن الغالب على الناس التجاري على مقتضيات السمو والرفعة وعدم التحري والتثبت وأما في مجهول العلم وحده فلأن غلبة الجهالة على الناس توجب الظن بانتفاء العلم

(1/479)


وقالت الحنفية :يجوز استفتاء المجهول علمه حملاً على السلامة وأنه لا يفتي إلا بما يعلم وأن الغالب على المجتهدين العدالة.
قلنا :معارض بظهور الجهل وكون الأكثر غير عدل قال تعالى ?وَإِنْ وَجَدْنَا أَكْثَرَهُمْ لَفَاسِقِين ?[الأعرافَ102]ومعرفتهما تحصل إما بالخبر أو الشهرة
(ويكفيه) أي يكفي من يريد التقليد من البحث في تحصيل ذلك إن لم يحصل أحد الأمرين (انتصابه للفتيا) من غير قدح من يعتد به فأما إذا قدح من يعتد به في العلم والورع في ذلك المنتصب لم يحصل الظن إذ مع القدح لا يحصل الظن بعدالته فلا يجوز الأخذ بفتواه إلا أن يعارض قدح القادح خبر من مثله بعدالة المنتصب رجع إلى الترجيح .
وأما قدح من لا يعتد به فغير ضائر وإنما يكفي انتصابه للفتيا حيث كان (في بلد محق) أي شوكته منسوبة إلى محق سواء كان إماماً أو محتسباً أو ذا صلاحية أو منصوب الخمسة إذا كان ذلك المحق (لا يجيز تقليد كافر التأويل وفاسقه) وقد تقدم تحقيقهما والخلاف في قبول روايتهما أما إذا كان من تقدم يرى جواز الأخذ عنهما لم يجز الأخذ عن ذلك المجهول بل لا بد من اختباره وكأن مذهب المصنف الفرق بين روايته وتقليده حيث قال هنا لا يجيز وفيما تقدم واختلف .
ثم إن المستفتي إن لم يجد مفتياً في بلده وجب عليه الخروج في طلبه حتى يجده وإن وجده في بلده متحداً فإن كان لا غيره فيها ولا في غيرها يعلمه تعين عليه العمل بقوله ولعله اتفاق
وإن تعدد فإما أن يتفقوا أو يختلفوا إن اتفقوا وجب عليه اتباعهم لأنهم إذا كانوا كل المجتهدين من العترة أو الأُمّة فللإجماع وإن كان غيرهم مجتهداً ولم يكونوا كل أهل الإجماع فلأنه لا طريق له في الحادثة إلا قولهم

(1/480)


(و) إن اختلفوا مع التفاوت في الأفضلية فعند جمهور أئمتنا عليهم السلام وغيرهم أنه (يتحرى الأكمل) علماً وورعاً وجوباً لوجوب اتباع الظن مع تعذر اليقين ، وأقوال المجتهدين بالنسبة إلى المقلد :كالأدلة بالنسبة إلى المجتهد فإذا تعارضت لا يصار إلى أيها تحكماً بل لا بد من الترجيح وما هو إلا بكون قائله أفضل أو أعلم ولا يبعد دخوله في أحاديث الأمر بالاجتهاد لأنه يمكنه الاجتهاد في أعلم المجتهدين وأدينهم بالتسامع والشهرة ورجوع العلماء إليه وإقبال الناس عليه وذلك مما يطلع عليه بسهولة فيكون طريقاً إلى قوة ظنه فيقلده دون غيره (إن أمكنه) تحري الأكمل كذلك(1)
(و) إن لم يمكنه بأن كان لا رشد له يهديه إلى معرفته فلنبين له ذلك ووجهه إن شاء الله تعالى فنقول (الحي أولى) بتقليده (من الميت) وإن كان يصح تقليده لأن الطريق إلى معرفة كماله أقوى من الطريق إلى معرفة كمال الميت والعمل بما طريقه أقوى أرجح وأيضاً فإن تقليد الميت قد خالف فيه بعض القائلين بجواز التقليد والمتفق عليه أولى من المختلف فيه وإن كان الدليل ظاهراً في جواز تقليد الميت وهو إجماع المسلمين الآن عليه
بيان ذلك عمل الأمة في كل قطر بمذهب الأئمة كزيد بن علي والهادي والناصر (عليهم السلام) وكأبي حنيفة والشافعي متكرراً شائعاً ذائعاً من غير نكير
__________
(1) ـ وعلى هذا فلا يجوز تقليد المفضول مع وجود الأفضل وإمكانه لا نه بمثابة العمل بالدليل المرجوح مع وجود الأرجح فلا وجه لما قيل من أن الحي أولى من الميت مع صحة تقليده مع وجود الحي فتأمل وكان مقتضى ذلك أنه متى قلد مجتهداً ثم وجد من هو أعلم أو أفضل منه أن يجب عليه الانتقال فينظر ما وجه قولهم أنه يجوز ولا يجب والله أعلم تمت منه

(1/481)


وقد يكون الميت أرجح من الحي حيث كان الميت في أعلى درجات العلم والورع أو من أهل البيت (عليهم السلام) والحي ليس كذلك فما يوجد من كلام الميت المجتهد ومذهبه في كتاب معروف به يجوز لمن نظر فيه أن يقول قال فلان كذا وإن لم يسمعه من أحد نحو جامعي الإمام الهادي إلى الحق (عليه السلام) لأن وجوده على هذا الوصف بمنزلة الخبر المتواتر والاستفاضة ولا يحتاج مثله إلى إستناد
(والأعلم) أولى بتقليده من غيره أما إذا استويا في الورع فظاهر وأما إذا كان ناقص العلم زايد الورع فعند الجمهور أنه أولى من (الأورع) أيضاً لأن المسئلة بحيث لا يتسارع واحد منهما إلى الحكم قبل إيفاء النظر حقه والزيادة المفروضة وراء ذلك وذهب البعض إلى ترجيح الأورع لأن شدة الورع تبعث على الاستقصاء في البحث عن مناط الحكم وقد يكون الأورع أولى من الأعلم حيث تكون زيادة العلم يسيرة وزيادة الورع كثيرة لقوة الظن بصحة قوله لشدة احتياطه فيما يفتي به إلا أن يكون غير الأعلم من أهل البيت (عليهم السلام) أقوى للنصوص فيهم ولا علمهم أعم بركة وأنظارهم معروفه بالإصابة وهم مثبتون بخلاف غيرهم لشرف رسول الله وزاد المؤيد بالله (عليه السلام) على ذلك مما يوجب التفاوت شدة البحث وجودة الخاطر وكون أحدهما أفرغ من الآخر

(1/482)


(والأئمة المشهورون) أي المجتهدون أهل الحل والعقد من أهل البيت (عليهم السلام) وقد تقدم تفسيرهم سواءً كانوا ممن قام ودعى كالحسنين وزيد بن علي والقاسم والهادي أو لا كزين العابدين والصادق (عليهم السلام) وسمي المجتهدون بأهل الحل والعقد لأن المجتهد يعقد باجتهاده الأحكام أي يصححها من العبادات والمعاملات وسائر الإنشاآت ونحو ذلك بالحجج الصريحة والقياسات الصحيحة والتأويل للمتشابهات وينقض ما خالف ذلك بأن يحكم بفساده وتحريمه فهم (أولى من غيرهم) إذ هم الجماعة المشار إليها بآيات المودة (1)
__________
(1) ـ هي قوله تعالى ? قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْنًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ شَكُورٌ ?الشورى23 قال القرطبي في تفسيره: وقيل: القربى قرابة الرسول أي لا أسألكم أجرا إلا أن تودوا قرابتي وأهل بيتي, كما أمر بإعظامهم ذوي القربى. وهذا قول علي بن حسين وعمرو بن شعيب والسدي. وفي رواية سعيد بن جبير عن ابن عباس: لما أنزل الله عز وجل: "قل لا أسالكم عليه أجرا إلا المودة في القربي" قالوا: يا رسول الله, من هؤلاء الذين نودهم ؟ قال: (علي وفاطمة وأبناؤهما). ويدل عليه أيضا ما روي عن علي رضي الله عنه قال: شكوت إلى النبي حسد الناس لي. فقال: (أما ترضى أن تكون رابع أربعة أول من يدخل الجنة أنا وأنت والحسن والحسين وأزواجنا عن أيماننا وشمائلنا وذريتنا خلف أزواجنا). وعن النبي : (حرمت الجنة على من ظلم أهل بيتي وآذاني في عترتي ومن اصطنع صنيعة إلى أحد من ولد عبد المطلب ولم يجازه عليها فأنا أجازيه عليها غدا إذا لقيني يوم القيامة). وكفى قبحا بقول من يقول: إن التقرب إلى الله بطاعته ومودة نبيه وأهل بيته منسوخ; وقد قال النبي : (من مات على حب آل محمد مات شهيدا. ومن مات على حب آل محمد جعل الله زوار في قبره الملائكة والرحمة. ومن مات على بغض آل محمد جاء يوم القيامة مكتوبا بين عينيه أيس اليوم من رحمة الله. ومن مات على بغض آل محمد لم يرح رائحة الجنة. ومن مات على بغض آل بيتي فلا نصيب له في شفاعتي). قلت: وذكر هذا الخبر الزمخشري في تفسيره بأطول من هذا فقال: وقال رسول الله : (من مات على حب آل محمد مات شهيدا ألا ومن مات على حب آل محمد مات مؤمنا مستكمل الإيمان. ألا ومن مات على حب آل محمد بشره ملك, الموت بالجنة ثم منكر ونكير. ألا ومن مات على حب آل محمد يزف إلى الجنة كما تزف العروس إلى بيت زوجها ألا ومن مات على حب آل محمد فتح له في قبره بابان إلى الجنة. ألا ومن مات على حب آل محمد جعل الله قبره مزار ملائكة الرحمة. ألا ومن مات على حب آل محمد مات على السنة والجماعة. ألا ومن مات على بغض آل محمد جاء يوم القيامة مكتوبا بين عينيه آيس من رحمة الله. ألا ومن مات على بغض آل محمد مات كافرا. ألا ومن مات على بغض آل محمد لم يشم رائحة الجنة). إنتهى بتصرف

(1/483)


والاصطفاء (1) والتطهير (2) والمباهلة (3)
__________
(1) ـ هي قوله تعالى : ? إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى ءَادَمَ وَنُوحًا وَءَالَ إِبْرَاهِيمَ وَءَالَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ(33)? آل عمران قال الطبري في تفسيره القول في تأويل قوله تعالى: ?إن الله اصطفى أدم ونوحا وآل إبراهيم وآل عمران على العالمين? يعني بذلك جل ثناؤه: إن الله اجتبى آدم ونوحا, واختارهما لدينهما, ?وآل إبراهيم وآل عمران? لدينهم الذي كانوا عليه, لأنهم كانوا أهل الإسلام. فأخبر الله عز وجل أنه اختار دين من ذكرنا على سائر الأديان التي خالفته. وإنما عنى بآل إبراهيم وآل عمران المؤمنين. وقد دللنا على أن آل الرجل أتباعه وقومه ومن هو على دينه. وبالذي قلنا في ذلك روي القول عن ابن عباس أنه كان يقوله. حدثني المثنى, قال ثنا عبد الله بن صالح, قال: ثني معاوية, عن علي, عن ابن عباس قوله: ?إن الله اصطفى آدم ونوحا وآل إبراهيم وآل عمران على العالمين? قال: هم المؤمنون من آل إبراهيم وآل عمران وآل ياسين وآل محمد, يقول الله عز وجل: ?إن أولى الناس بإبراهيم للذين اتبعوه?[آل عمران: 68] وهم المؤمنون.إهـ
(2) ـ هي قوله تعالى : ?إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا(33)? الأحزاب / وفي سنن الترمذي عن عمر بن أبي سلمة ربيب النبي قال لما نزلت هذه الآية على النبي إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا في بيت أم سلمة فدعا فاطمة وحسنا وحسينا فجللهم بكساء وعلي خلف ظهره فجللهم بكساء ثم قال اللهم هؤلاء أهل بيتي فأذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا قالت أم سلمة وأنا معهم يا نبي الله قال أنت على مكانك وأنت على خير أخرجه الترمذي في سننه و الحاكم في مستدركه و الطبراني في معجمه الكبير و البيهقي في سننه الكبرى و الطبراني في معجمه الأوسط
(3) ـ هي قوله تعالى : ?فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ(61)? آل عمران / وفي سنن الترمذي عن عامر بن سعد بن أبي وقاص عن أبيه قال لما أنزل الله هذه الآية تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم دعا رسول الله ( ) عليا وفاطمة وحسنا وحسينا فقال اللهم هؤلاء أهلي قال أبو عيسى هذا حديث حسن غريب صحيح .وأخرجه الحاكم في مستدركه و البيهقي في سننه الكبرى و أبو يعلى في مسنده

(1/484)


والإطعام (1) ووقاية شر يوم الفصل (2) والسؤال (3) والترحم (4) والاعتصام (5) والتسليم (6) ونحوها .
وبالأخبار المنقولة بالتواتر والمتلقاة بالقبول مما لا يسعه هذا المسطور لكثرته وبنحو ( يد الله مع الجماعة (7) من فارق الجماعة قيد شبر ) (8) الخبر الطاهرة (9) بالتقوى المطهرة عن الخطأ والباطل إذ لا يجمعون على معصية ،المعصومة السفينة الناجية ، المرحومة . ولقولهم بالعدل والتوحيد و تنزههم عن الجبر والتشبيه (10) وشرع الصلاة عليهم في التشهد وغيره عند الزيدية والشافعية وأصح الروايتين عن أبي حنيفة ولذا قيل
__________
(1) ـ هي قوله تعالى? وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا(8)إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا(9)? الإنسان
(2) ـ هي قوله تعالى : ?فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا(11?الإنسان
(3) ـ هي قوله تعالى :? فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُون ? 43 النحل ـ7 الأنبياء
(4) ـ هي قوله تعالى :? رَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ(73)?هود
(5) ـ هي قوله تعالى :? وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا 130? آل عمران
(6) ـ هي قوله تعالى :? سَلَامٌ عَلَى آل يَاسِينَ(130)? الصافات
(7) ـ أخرجه الترمذي في سننه و الحاكم في مستدركه و الطبراني في معجمه الكبير و القضاعي في مسند الشهاب
(8) ـ أخرجه الطيالسي في مسنده و ابن حنبل في مسنده و الحاكم في مستدركه و الطبراني في معجمه الكبير و البيهقي في سننه الكبرى ج8/ص157/ح16390
(9) ـ هذه وقوله المطهرة عن الخطأ ، المعصومة ، السفينة ، المرحومة صفات لقوله الجماعة تمت
(10) ـ في نسخة وما يلزم منه لاستناد جل مذهبهم إلى آية محكمة أو سنة قائمة أو فريضة عادلة تمت

(1/485)


شرع الصلاة لهم بكل تشهد

وكفى لهم شرفاً ومجداً باذخاً

وقال إبراهيم بن محمد الحداد يخاطب الناصر بن الهادي عليهما السلام
فرض على كل من صلَّى ومن خطبا
حق الصلاة عليكم و الدعالكم

نكتة(1)
__________
(1) ـ النكتة : الدقيقة سميت بذلك لتأثيرها في النفوس من نكت في الأرض إذا ضرب فأثر فيها بقضيب أو نحوه أولحصولها بحالة فكرية شبيهة بالنكت أو مقارنة له غالباً ويقال لها اللطيفة إذا كان تأثيرها في النفس بحيث تورث معنى من الانبساط ذكره الشلبي والله أعلم تمت منه
روى قطب عباد زمانه صارم الدِّين إبراهيم بن أحمد الكينعي عن الفقيه شرف الدِّين الحسن بن محمَّد النحوي رحمهما الله تعالى أن ملكاً من ملوك الإسلام اختلفت عليه آراء العقائد والمذاهب فجمع علماء الإسلام فقال التبست عليَّ العقائد والمذاهب فدلوني على عقيدة ألقى الله بها وكان فيهم السيد الرضي مصنف نهج البلاغة وحضرت الصلاة فقدموه ليصلي بهم فصلَّى بهم وتشهد فقال اللَّهُمَّ صلَّ على محمَّد وأبي بكر وعمر وعثمان فصاحوا من خلفه أفسدت الصلاة أبطلت صلاتنا فتبسم الملك وقال هكذا بطلت الصلاة ؟ فقالوا نعم قد بطلت الصلاة بأجمعهم فنفض الملك ثيابه وقام وعرف أن متابعة العترة هو الأمر المجمع عليه وما زال على ذلك . وكانت هذه النكتة ثابتة في الأصل فأنزلناها في الحاشية تبعا للمؤلف حيث قال في نسخته : جعلت النكتة حاشية لأنه أنسب كما لا يخفى والله أعلم تمت منه

(1/486)


فكانت عقيدتهم أحوط لعدم الندم عليها يوم القطع بهلكة المخطيء ولا يشك عاقل مطلق نفسه من وثاق التعصب في كونهم أكمل الناس وأولاهم أيضاً فقد قال : ( إن الله اصطفى من ولد إبراهيم إسماعيل ومن ولد إسماعيل كنانة ومن كنانة قريشاً ومن قريش بني هاشم واصطفاني من بني هاشم) (1) ولا معنى لذلك إِلاَّ الأفضلية ولا معنى للأفضلية الشرعية إلا أنها أبلغ في اللطفية وأن الإلتطاف بمثل الاقتداء بهم أعظم ولقرب نسب الشافعي من رسول الله نص الشافعية في أوائل مؤلفاتهم على أن تقليده أولى فكيف بأولاده الذين لا ولد له سواهم ؟! وقد تقدم من الأدلة في الإجماع : الكثير النافع (2) ولهذا ترى كل من كان أوسع باعاً في علم الحديث من المتقدمين والمتأخرين فإنه يتشيع إما ظاهراً أو باطناً كالثوري والأعمش ووهب وطاووس وعبد الرزاق وهمام وغيرهم من المتقدمين وابن جرير والحاكم والزمخشري والدار قطني والماوردي ومن الخلفاء الأموية الأشج والناقص وتشيع الشافعي : ظاهر يشهد به أقواله وأفعاله وغير هؤلاء ولما ذكرنا يظهر أن المراد بالأولوية هنا الوجوب كما قاله عبد الله النجري في شرحه لمقدمة البيان
__________
(1) ـ أخرجه الترمذي في سننه و ابن حنبل في مسنده و عبد الرزاق في مصنفه وأخرج نحوه ابن عمرو الشيباني في الآحاد والمثاني و مسلم في صحيحه و ابن حبان في صحيحه والترمذي في سننه و الحاكم في مستدركه و الطيالسي في مسنده و الطبراني في معجمه الكبير و البيهقي في سننه الكبرى و أبو يعلى في مسنده و الدارمي في سننه
(2) ـ وإذا كان الاصطفاء هو المعنى المراد في الأمكنة كالمساجد والأزمنة كشهر رمضان فهو في العقلاء أولى تمت .

(1/487)


(والتزام مذهب إمام معين) بأن يعزم على الأخذ بمذهبه في رخصه وعزائمه كزيد بن علي والقاسم والهادي (عليهم السلام) من أهل البيت وكالشافعي وأبي حنيفة من غيرهم (أولى) من تركه والاعتماد على سؤال من عرض فميا عرض ومن التزام مذهب إمامين فصاعداً أيضاً (اتفاقاً) بين القائلين بالتقليد لكون الالتزام أقرب إلى الأخذ بما يقرب من الإجماع لأنهم بين قائل بالندب وقائل بالوجوب (1) ولذا قال (وفي وجوبه) أي الالتزام المذكور (خلاف) بينهم فقال المنصور بالله وشيخه وروي عن أبي الحسين إنه يجب وقال الجمهور لا يجب للإجماع المعنوي من الصحابة فإن العوام كانوا يسألون من صادفوا منهم عما عرض لهم من دون إلزام لهم بذلك ولا إنكار على من لم يلتزم مذهباً معيناً إذ لو كان لنقل كما نقل عنهم الإنكار في غير ذلك
(وبعد التزام مذهب مجتهد) بأي وجوه الالتزام الآتية إن شاء الله تعالى وسواء كان ذلك الالتزام لمذهب حال كونه (جملة) أي في جملة المذهب بأن ينوي اتباعه في رخصه وعزائمه جميعاً (أو في محكم معيَّن) فقط بأن ينوي اتباعه في ذلك الحكم وحده أو في حكمين أو في أحكام معينة فإنه متى حصل أي ذلك (يحرم) عليه العمل بقول غير إمامه و(الانتقال) إلى مذهب غيره (بحسب ذلك) الالتزام (على) المذهب (المختار) وهو مذهب الجمهور قياساً على المجتهد إذا اجتهد ووفى الاجتهاد حقه فأداه اجتهاده إلى حكم من الأحكام لم يجز له العمل بقول غيره لغير مرجح كما تقدم .
__________
(1) ـ هذا أولى من التعليل بأنه يؤدي إلى النهي واتباع الشهوات كما في الشرح الصغير والله أعلم تمت منه

(1/488)


وقد يفرق بأنه إنما حرم على المجتهد الانتقال لأنه متى حصل له من نظره في أمارة ظن بحكم جزم بوجوب عمله بمقتضاه لانعقاد الإجماع على أنه يجب عليه العمل بمقتضى ظنه وليس كذلك المقلد فإن ظنه لا يفضيه إلى علم إذ لم ينعقد إجماع على وجوب اتباعه لظنه بل انعقد على خلافه (إلا) أن يعمل بقول غير إمامه لمرجح ديني يغلب ظنه أنه الذي أمره الله به بأن يكون أحوط ، وإنما تتصور الحيطة في الأفعال والتروك لا في الاعتقادات لأن اعتقاد ذلك لا يؤمن كونه جهلاً فيقبح (1) أو بأن يجد من هو أعلم من إمامه أو أورع أو لكونه مقلداً لغير أهل المذهب (عليهم السلام) فينتقل من مذهبهم
أو (إلى ترجيح نفسه إن كان) أي صار (أهلاً للترجيح) حيث يصير مجتهداً مطلقاً أو في ذلك الحكم بحيث يستوفي طرق الحكم الذي يريد الانتقال فيه وهي الأدلة من الكتاب والسنة والإجماع والقياس ودليل العقل فمتى استوفاها حتى لا يغيب عنه شيءٌ مما يحتج به عليه ورجح ما رجح عنده وجب عليه ذلك كالمجتهد إذا رجح عنده خلاف الاجتهاد الأول
أو بأن يفسق المجتهد الذي كان المتلزم التزم مذهبه فإنه أيضاً يجب عليه الانتقال من مذهبه فيما تعقب الفسق من أقواله لا فيما قبله إلا أنه ينبغي له أن لا يعتزي إليه فيها بل إلى موافقه فيه إن كان ثم إن تاب قبل انتقاله لم يتعين عليه البقاء بل يخير بينه وبين غيره لبطلان تقليده إياه بفسقه ما لم تصر المسألة إجماعية كأن يقول بمذهبه أحد المجتهدين مثلاً حال الفسق وإلا لم يجز له ولا لمقلده العمل بمذهبه الأول لانعقاد الإجماع على خلافه(2)
__________
(1) ـ يقال : الحيطة في الاعتقاد ممتنعة لأن اعتقاد نقيض الاعتقاد الأول لا يتصور ما دام الاعتقاد الأول وبعد زواله لا حيطة لوجوب العمل بالثاني تمت
(2) ـ لما قلنا أن الأمة إذا اختلفت على قولين ثم فسقت أحدى الطائفتين صارت المسألة اجماعية كما سبق في الإجماع والله أعلم تمت منه

(1/489)


أو بأن ينكشف للملتزم نقصان من التزم مذهبه عن درجة الاجتهاد أو كمال العدالة المشروطة في المجتهد المقلد فإنه يجب على المقلد تقليد غيره حينئذٍ
وأجاز الإمام علي بن محمَّد (عليه السلام) التنقل في مذهب أهل البيت (عليهم السلام) لعدم الحرج على من لم يخرج من السفينة وأجازه الإمام يحيى (عليه السلام) في بعض فتاويه وأبو مضر لغير مرجح لأنا إذا قلنا كل مجتهد مصيب لم يحرم علينا في الشرع إلا الانتقال من الصواب إلى الخطأ لا من صواب إلى صواب فلا مقتضى لتحريمه لا عقلاً ولا شرعاً إذ يصير كالواجب المخير كمن شرع في أي أنواع الكفارة ثم ترجح له فعل النوع الثاني فكما لا خطر عليه في ذلك كذلك المقلد وإنما الخطر في ذلك مع القول بأن الحق مع واحد والمخالف مخطيء وكما جاز للمقلد اختيار ما شاء من المذاهب ابتدأ بلا خلاف [*]استصحبنا الحال بعد تقليده لأيهم إذا لم يتجدد له ما يحرم ذلك .
قلنا لا نسلم أنه منتقل من صواب إلى صواب بل قد صار بعد التزامه قول إمام ممنوعاً من الخروج منه كما وقع الإجماع على أن المجتهد بعد اجتهاده ليس له أن يعمل بخلافه وإن كان صواباً بالنظر إلى قائله
أما التنقل لمجرد تتبع الشهوات فقد نص العلماء على تحريمه إجماعاً وأن الإجماع على ذلك معلوم . ذكر الذهبي في تذكرته عن الأوزاعي من أخذ بنوادر العلماء خرج عن الإسلام (1). وفي تلخيص ابن حجر روى عبد الرزاق عن معمر مثل ذلك ومثله عن المنصور بالله والمهدي عليهما السلام
__________
(1) ـ في سنن البيهقي الكبرى ج: 10 ص: 211 أخبرنا أبو عبد الله الحافظ قال سمعت أبا العباس محمد بن يعقوب يقول سمعت العباس بن الوليد يقول سمعت محمد بن شعيب بن شابور يقول سمعت الأوزاعي يقول من أخذ بنوادر العلماء خرج من الإسلام وفي سير أعلام النبلاء ج: 7 ص: 125قال محمد بن شعيب سمعت الأوزاعي يقول من أخذ بنوادر العلماء خرج من الإسلام

(1/490)


بيانه أنا لو جوزناه لجاز للإنسان أن يقلد في معرفة الله تعالى وأن يتيمم بتراب البرذعة (1) أوبما صعد على الأرض حيث لم يكن الماء في حضرته جائز وأنه لمجرد المشقة جائز وأنه لا تجب أذكار الصلاة وأنه يجوز تركها حيث عزم على القضاء وأن الواجبات على التراخي فيترك الصلاة متى شاء وإذا صلى لم يطهر بدنه ولا ثيابه ولا ينوي ولا يذكر الله تعالى ولا يفعل من أركانها إلا أقل ما يمكنه ويأخذ من أموال الناس ما يسد جوعه ويستر عورته وينكح من عرض من النساء من غير ولي ولا شهود ويعاملها على يوم أو أقل أو أكثر ثم يرتفع النكاح بينهما لا بطلاق وهي تزوج من غير اعتداد حيث خالعها الزوج ثم عقد ثم طلق قبل الدخول ويجوز له بيع الربا إذ لا ربا إلا في النسية ويجوز له النظر إلى كل الأجنبيات من النساء ما عدا (2) باطن الفرج من غير الزوجة لأن صلاة الفريضة تسقطه وتقبيل الأجنبيات ولمس فروجهن عند من فسر اللم بذلك وشراب المسكرات من الأمزار والمثلثات ولا يستر من غير القبل والدبر ويجمع بين تسع زوجات ويطأهن ولا يغتسل من الجنابة ما لم ينزل ويصلي ولو كان قد أمذى في الفرج ولا يحدث وضوءً وإذا أحدث في صلاته لم يعدها فيؤدي إلى مثل ما قاله المعري (3)
__________
(1) ـ مختار الصحاح ج: 1 ص: 19ب ر ذ ع البَرذَعَةُ بالفتح الحلس الذي يلقى تحت الرحل تمت
(2) ـ في نسخة زيادة القبل والدبر ومملوكه الذكر والاستمتاع بما عدا
(3) ـ لعل الصواب ما أثبتناه بالنسبة للبيت الأخير غير مافي نسخة المؤلف والذي في نسخة المؤلف: فافسق وقامر ولط واشرب على أمن وخذ في كل مسألة بقول إمام. وبالنسبة لقائلها فقد بحثت في ديوان المعري فلم أجد هذه اللأبيات بتات

(1/491)


الشافعي من الأئمة واحد
وأبو حنيفة قال وهو مصدق
شرب المثلث والمنصف جائز
وأجاز مالك اللواط تطرفاً
وأرى أناساً قد أجازوا متعة
وأجاز داود السماع فإنه
فاشرب ولط وازن على أمن
ولديهم الشطرنج غير حرام
فيما يفسره من الأحكام
فاشرب على أمن من الآثام
وهم دعائم ملة الإسلام
بالقول لا بالعقد والإبرام
طرب النفوس وصحة الأجسام
وخذ في كل مسألة بقوم إمام
ولا شك أن من هذه حاله في صلاته وأنكحته وبيوعه فقد انخزل عن الدِّين وارتبك ظلمة الكافرين أعاذنا الله من تتبع الشهوات ووقانا حبائل الهفوات فإنه لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم
(و) اختلف بماذا يصير ملتزماً فقال الإمام المهدي وحفيده الإمام شرف الدِّين عليهما السلام وغيرهما أنه (يصير ملتزماً) لمذهب إمام معين كذلك (بالنية) للإلتزام أي العزم على العمل بمذهبه فكان الأنسب تقديم هذه المسألة على قوله والتزام وما بعده كما لا يخفى
(وقيل) أنه يصير ملتزماً كذلك بها (مع لفظ) بأن يقول قد التزمت مذهب فلان في كذا أو في جميع مسائله لأن ذلك إيجاب على النفس ألا يعدل عن قول هذا العالم والإيجاب كالنذر فكما لا ينعقد النذر بمجرد النية بل لا بد من لفظ أو عمل كذلك التزام المذهب في حكم أو مطلقاً . قلنا: لا نسلم أنه إيجاب وإنما هو اجتهاد واختيار فلا يلزم ما ذكر
(وقيل بالشروع في العمل) وإن لم يتم (وقيل باعتقاد صحة قوله) أي المجتهد وإن لم يعزم على متابعته ولا لفظ بها ولا عمل ولا شرع ولا سأل نسب هذا القول إلى ابن السمعاني

(1/492)


(وقيل بمجرد سؤاله) أي إذا سأل العامي مجتهداً عن مذهبه جملة أو في حكم معين لم يكن له أن يستفتي غيره في ذلك الحكم ولا غيرِه بل يجب عليه اتباعه في سائر الأحكام الشرعية لأن المقلد في اختيار من يقلده بمنزلة المجتهد في ترجيح الأمارات فمتى اختار عالماً بفتواه فقد صار ذلك العالم بمنزلة الأمارة الراجحة عند المقلد ينسب هذا القول إلى المنصور بالله (عليه السلام) قال في المنهاج ولقد شدد المنصور بالله في ذلك ورد بأن الإجماع على خلافة للقطع بأن الناس في كل عصر يستفتون المفتين كيف اتفق ولا يلتزمون سؤال مفتٍ بعينه وشاع وتكرر ولم ينكر
وقال الحاكم يصير ملتزماً بالنية أو الشروع في العمل وقيل بها مع الشروع في العمل وقيل بأيها (1)
وقال الجمهور بالعمل فيما عمله خاصة فإذا عمل العامي بقول مجتهد في حكم مسألة فليس له الرجوع إلى غيره وحكى في العضد الاتفاق على ذلك . قلنا لا عمل إلا بنية
(واختلف في جواز تقليد إمامين فصاعداً) مع الاستواء في كمال الاجتهاد والعلم والورع ونحو ذلك مع بعده فمن أوجب التزام إمام معين لم يجزه فقد دخلت هذه المسألة في مفهوم قوله: والتزام مذهب ..إلخ وجوزه بعضهم مطلقا والإمام المهدي علي بن محمَّد والإمام شرف الدِّين (عليه السلام) تقليد مذهب أهل البيت (عليهم السلام) جملة أما حيث يتفقون فظاهر وأما حيث يختلفون فيرجح أو يخير
(و) على القول بجوازه (لا يجمع بين قولين) فصاعداً (في حكم) واحد (على وجه لا يقول به أي القائلين) سواء وافق غيرهما أو لا أما إن لم يوافق فلخرقه الإجماع كتزوج رفيعه بغير ولي وشهود وإن وافق فلعدم عمله بمن التزمه فتأمل والله أعلم . ولا يخفى أن الأنسب جعل هذه المسألة عقيب قوله والتزام مذهب إمام معين إلى آخره فليتأمل
__________
(1) ـ أي بأي الثلاثة الأمور النية أو الشروع أو النية مع الشروع تمت

(1/493)


(و) اعلم أن المفتي إما أن يكون مجتهداً أو لا إن كان مجتهداً لم يجز له إذا سئل عما عنده أن يفتي إلا باجتهاده لا باجتهاد غيره (1) إلا أن يسأل الحكاية لم يجب تغييرها لتطابق السؤال وللمستفتي أن يسأل عن المستند استرشاداً وإذا أفتاه بمجمع عليه لم يخيره في القبول اتفاقاً وكذا إذا كان مختلفاً فيه إِلاَّ أن يعرف ذلك من قصده وعليه سؤال غيره إن لم تسكن نفسه بفتواه
فإن كان غير مجتهد فإنه (يجوز لغير المجتهد) إذا كان له رشد عارفاً بالفروع جامعاً لشروط الرواية (أن يفتي بمذهب مجتهد حكاية مطلقاً) سواء كان مطلعاً على المأخذ أهلا للنظر في الترجيح أو لا بلا خلاف كمن يفتي بما حفظ في الكتب فإنه راو يعتبر فيه شروط الرواية
(و) إن كان غير حكاية بل (تخريجاً) على أصوله الممهدة فذهب الإمام المهدي (عليه السلام) وابن الحاجب إلى جواز ذلك (إن كان مطلعاً على المأخذ) الذي يريد أخذ تلك المسألة منه (أهلاً للنظر) في الترجيح بأن يكون عارفاً بدلالة الخطاب والساقط منها والمأخوذ به المتقدمة فإذا كان كذلك قبل منه التخريج وقد تقدمت أنواعه وهذا هو المسمى بِمُجْتَهِد المذهب وألفاظه أن يقول تخريجاً أو على أصل الإمام أو على قياسه أو على مقتضى أو موجب أو ما دل
__________
(1) ـ في نسخة زيادة وإلا لزم أن يجوز من العامي الصرف أن يفتي من أي كتاب وقف عليه ولا يجوز له إجماعاً تمت

(1/494)


(وإذا اختلف المفتون) فمع التفاوت المختار وجوب العمل بقول أوقعهم في نفس المقلد علماً وورعاً ومع الاستواء في العلم والورع ونحوهما مع بعده فإن الأغلب عدم انفكاك التفاوت في المكلفين (على المستفتي) أي طالب الفتيا (غير الملتزم ) إذ لو كان ملتزماً وجب عليه اتباع من التزم مذهبه منهم واستثناؤه بناءً على أنه أخص أو أن الاستثناء منقطع (فقيل) أي قال المنصور بالله والشيخ الحسن وحفيده إنه يخير في الرجوع إلى أيهم شاء ثم بعد ذلك لا يخير بل يستلزم و(يأخذ بأول فُتْيَا) صدرت في رخص قائلها وعزائمه لأنه قد ثبت أن كل واحد لا مزية له على صاحبه في جواز الرجوع إليه وإذا لم يكن هناك مزية فانتقاله إلى مذهب آخر في حادثة أخرى اتباع للهوى والتشهي والشرع لا يقول بذلك .
قلت والجواب ما تقدم من الإجماع على عدم إلزام من استفتاهم بالأخذ بأول فتيا
(وقيل بما يظنه الأصح) من أقوالهم (وقيل يخير) فيأخذ بأي الفتاوى شاء في أي حادثة من غير حجر لأن المفروض استواؤهم في العلم والورع ونحوهما فليس بعضهم حينئذٍ أولى من بعض فله أن يسأل أولاً من شاء وأن يسأل ثانياً غير من سأل أولاً وأيضاً فإن ذلك قد وقع كما سبق من الصحابة وغيرهم واختاره في المعيار والفصول
(وقيل) بل يفصل بأن يقال (يأخذ بالأخف) من أقوالهم إذا كان ذلك (في حق الله تعالى) لقوله تعالى ?يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ? [البقرة 185 ] ?وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ ? [الحج 78] فالأخذ بالأخف في حقه تعالى يوافق الآيتين
(و) يأخذ (بالأشد في حق العباد) لأنه أحوط (وقيل) بل (يخير في حق الله تعالى) فيأخذ بأيها شاء لأنه أسمح الغرماء ولما تقدم (ويعمل في حق العباد بحكم الحاكم) لأنه أقطع للشجار ولم يشر المصنف إلى اختيار أي هذه الأقوال .

(1/495)


قلت وكان الأنسب ذكر هذه المسألة عقيب قوله ويتحرى الأكمل .إلخ فإنها من ذلك الباب وهذا في من يعقل كيفية التقليد
(و) أما (من لا يعقل التقليد) والاستفتاء من العوام (لفرط عاميته) بأن يكون صرفاً لا رشد له ولا اهتداء إلى معرفة شيء من الفروع ولا يستند فيها إلى قول مجتهد معين لا استفتاء ولا تقليداً وإنما يعقل جملة الإسلام (فالأقرب) أي أقرب المذاهب إلى الصواب (أنه يقر على ما لم يخرق الإجماع) من عبادة أو معاملة بأن يوافق اجتهاداً اعتد به لم ينعقد الإجماع قبله أو بعده إذ لو خرق الإجماع لم يصح منه ولا يقر عليه كما يقع من كثير من العوام من ترك الركوع في الصلاة رأساً فإن صلاته لا تصح لذلك (مما قد فعله معتقداً لجوازه وصحته) فحكمه في ذلك حكم المجتهد فيكون مذهباً لذلك العامي والتزاماً لمذهب من قال بصحته
(ويفتى فيما عدا ذلك) أي ما لم يكن فعله أو فعله معتقداً لفساده أو لااعتقاد له رأساً (بمذهب أهل جهته) وشيعته (ثم) إذا عدم العلماء في جهته فإنه يفتي بمذهب علماء (أقرب جهة إليها) أي إلى بلده .
ولما كان الأدلة الظنية قد تتعارض فلا يمكن إثبات الأحكام بها إلا بالترجيح وذلك إنما يمكن لمعرفة جهاته جعل لذلك باباً فقال :
(الباب العاشر)
أي من أبواب الكتاب (في) التعادل وهو لغة التساوي وشرعاً استواء الأمارتين عند المجتهد بحيث لا يثبت لإحداهما فضل على الأخرى وذلك جائز وواقع قطعاً واتفاقاً فيعمل فيما تعارضا فيه بغيرهما من شرع أو عقل عند أصحابنا وأكثر الفقهاء وفي (الترجيح)

(1/496)


(هو) لغةً فضل في أحد جانبي المعادلة وجعل شيء فاضلاً زائداً ومنه قوله للوزان حين اشترى سراويل بدرهمين : (زن وارجح فإنا معشر الأنبياء هكذا نزن )(1)فمعنى ارجح زد عليه فضلاً قليلاً يكون تابعاً له ويطلق مجازاً على اعتقاد الرجحان
__________
(1) ـ لم نجده بلفظه فيما لدينا من مصادر من كتب أهل السنة ففي معجم الطبراني الأوسط عن أبي هريرة قال دخلت يوما السوق مع رسول الله فجلس إلى البزازين فاشترى سراويل بأربعة دراهم وكان لأهل السوق وزان قال فقال له رسول الله اتزن وأرجح فقال الوزان إن هذه الكلمة ما سمعتها من أحد قال ابو هريرة فقلت له كفى بك من الجفاء في دينك أن لا تعرف نبيك فطرح الميزان ووثب إلى يد النبي يقبلها فجذب رسول الله يده منه وقال هذا إنما يفعله الأعاجم بملوكها إنما أنا رجل منكم فزن وأرجح وأخذ رسول الله السراويل قال أبو هريرة فذهبت لأحمله عنه فقال صاحب الشيء أحق بشيئه ان يحمله إلا أن يكون ضعيفا يعجز عنه فيعينه أخوه المسلم قال قلت يارسول الله وإنك لتلبس اسروايل قال نعم وبالكيسل والنهار وفي السفر والحضر فإني أمرت بالتستر فلم أجد شيئا أستر منه لم يرو هذاالحديث عن أبي هريرة إلا الأغر ولا عن الأغر إلا عبدالرحمن بن زياد . وأخرجه أبو يعلى في مسنده 0

(1/497)


وفي الاصطلاح (اقتران الأمارة) أي الدليل الظني في نظر المجتهد(1) (بما تقوى به) أي بشيءٍ زائد على ذاتها فلا يقال للنص زائد على القياس (على معارضتها) أي على أمارة أخرى معارضة لها بأن يقتضي كل منهما خلاف ما تقتضيه الأخرى إن أمكن الجمع بينهما ولو من وجه بأن تحتمل إحداهما تأويلاً يوافق الأخرى وجب وهو يكون بين آيتين كما في قوله تعالى ?لا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ ?[ البقرة (225)] وفي موضع آخر ?وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ ?[المائدة89] فالأولى توجب المؤاخذة على الغموس لأنها من كسب القلوب أي القصد والثانية توجب عدم المؤاخذة عليها لأنها من اللغو والجمع بينهما بأن يقال المؤاخذة التي توجبها الآية الأولى على الغموس هي المؤاخذة في الآخرة والتي تنفيها الثانية هي المؤاخذة في الدنيا أي لا يؤاخذكم الله بالكفارة في اللغو ويؤاخذكم بها في المعقودة ثم فسر المؤاخذة بقوله ?فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ?[المائدة89] الآية فلما تغايرت المؤاخذة اندفع التعارض أو بين قرائتين في آية واحدة كقراءتي الجر والنصب في قوله تعالى ?وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ?[المائدة6] فإن الأولى تقتضى مسح الرجل والثانية تقتضي غسلها والجر محمول على الجوار وإن كان عطفاً على المغسول توفيقاً بين القرائتين كما في قولهم جحر ضب خرب وماء شن بارد وقول الفرزدق :
__________
(1) ـ إشارة إلى دفعه ما يتبادر من أن الترجيح فعل المجتهد والاقتران فعل الأمارتين وقد حُذ الأول بالأخير على جهة التجوز من إطلاق السبب وإرادة المسبب تمت منه

(1/498)


فهل أنت إن ماتت أتانك راكب إلى آل بسطام بن قيس فخاطب
بجر خاطب على الجوار مع عطفه على راكب وعورض بأن النصب في الآية محمول على العطف على المحل جميعاً بين القرائتين كما في قوله : يذهبن في نجد وَغَوْراً غائراً (1)وهو إعراب شائع مستفيض مع ما فيه من اعتبار العطف على الأقرب وعدم وقوع الفصل بالأجنبي والوجه أنه في القراءتين معطوف على رؤوسكم إلا أن المراد بالمسخ في الرجل هو الغسل فيكون من قبيل المشاكلة كما في قوله : قلت اطبخوا لي جبة وقميصاً وفائدته التحذير عن الإسراف المنهي عنه إذ الأرجل مظنة الإسراف بصب الماء عليها فعطفت على الممسوح لا لتمسح بل للتنبيه على وجوب الاقتصاد كأنه قيل واغسلوا أرجلكم غسلاً خفيفاً شبيهاً بالمسح وإنما حمل على ذلك لما اشتهر من أن النبي وأصحابه كانوا يغسلون أرجلهم في الوضوء
__________
(1) ـ أورده الزمخشري في أساس البلاغة في باب الفاء في (فسق ) حيث قال :
قال رؤبة : ** يهوين في نجد وغورا ً غائراً **** فواسقاً عن قصدها وجائراً ** إهـ ولعله أصوب مما في الأصل تمت

(1/499)


أو بين حديثين كحديث : (فيما سقت السماء العشر) (1) مع حديث (ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة) (2)فالأول شامل لما دون خمسة الأوساق وغيره فيحمل على غيره جمعاً بين الدليلين
__________
(1) ـ أخرجه البخاري في صحيحه وأخرجه مسلم في صحيحه و النسائي في سننه و ابن حبان في صحيحه و ابن خزيمة في صحيحه و الترمذي في سننه و ابن ماجه في سننه و أبو داو في سننه و ابن حنبل في مسنده و مالك في الموطأ و الحاكم في مستدركه و الطحاوي في شرح معاني الآثارو النسائي في سننه الكبرى و الطبراني في معجمه الصغير و الدارقطني في سننه و البيهقي في سننه الكبرى
(2) ـ أخرجه الترمذي في سننه وأخرجه مسلم في صحيحهو البخاري في صحيحه و النسائي في سننه و ابن حبان في صحيحه وابن خزيمة في صحيحه والترمذي في سننه و ابن ماجه في سننه و أبو داو في سننه و ابن حنبل في مسنده و مالك في الموطأ و الحاكم في مستدركه و الطحاوي في شرح معاني الآثار و الطيالسي في مسنده والحميدي في مسنده و الطبراني في معجمه الكبير و النسائي في سننه الكبرى و الطبراني في معجمه الصغيرو الدارقطني في سننه والبيهقي في سننه الكبرى

(1/500)


أو بين الكتاب والسنة مثاله قوله تعالى ?إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً?[الأنعام 145] مع قوله في البحر : (هو الطهور ماؤه والحل ميتته) (1) فتحمل الآية على ميتة البر لتبادرها إلى الأذهان جمعاً بين الدليلين على رأي البعض
وذهب البعض إلى تقديم الكتاب محتجاً بحديث معاذ ولا حُجَّة فيه لأن معاذاً إنما أراد العمل بالكتاب حيث وجد حكم الحادثة فيه فقط وبالسنة حيث وجد الحكم فيها فقط ولو سلم فمحمول على تقديم الكتاب على السنة على فرض تعارضهما من كل وجه ،
وذهب آخرون إلى تقديم السن لقوله تعالى ? لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ?[النحل (44)]. قلنا المعارِض من كل وجه غير مبين له
__________
(1) ـ أخرج الترمذي في سننه عنرسول الله : هوَ الطهّورُ مَاؤُهُ, الْحِلّ مَيْتَتُه». قال: وفي البابِ عن جَابِرٍ, والفِراسِيّ. قال أبو عيسَى: هذا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ. وهُوَ قَوْلُ أَكْثَر الْفُقَهَاءِ مِنْ أصْحابِ النّبيّ , مِنْهُمْ: أبو بَكْرٍ, وعُمَرُ, وابن عبّاسٍ: لَمْ يَرَوْا بَأْسًا بمَاءِ الْبَحْرِ. وقَدْ كَرِهَ بَعْضُ أصْحابِ النّبيّ الوُضُوءَ بمَاءِ الْبَحْرِ, مِنْهُمْ: ابن عْمَرَ, وعَبْدُ الله بن عَمْرٍو. وقالَ عَبْدُ الله بنُ عَمْرو, هوَ نَارٌ. وأخرجه النسائي في سننه و ابن حبان في صحيحه وابن خزيمة في صحيحه و ابن ماجه في سننه و أبو داو في سننه و ابن حنبل في مسنده و الحاكم في مستدركه و الطبراني في معجمه الكبير و النسائي في سننه الكبرى و الدارقطني في سننه و البيهقي في سننه الكبرى

(2/1)


وأما إن لم يمكن الجمع بينهما بوجه من الوجوه فإما أن يقترن أحدهما بمرجح أولاً فإن لم يقترن رجع إلى غيرهما كما سبق وإن اقترنت به (فيجب تقديمها) والعمل بمقتضاها (للقطع عن السلف) الماضي الصالح من الصحابة والتابعين وسائر المجتهدين (بإيثار للأرجح) من الأدلة فإن من بحث عن وقائعهم المختلفة في الحوادث التي تتعارض فيها الأمارات وجدهم يقدمون الأرجح منها قطعاً فكان ذلك دليلاً على وجوب الترجيح لتضمنه الإجماع

(2/2)


(و) قد علم من الحد أنه (لا تعارض) بين قطعيين لامتناع وقوع المتنافيين(1) فلا يتصور الترجيح لأنه فرع التعارض في احتمال النقيض سواء كانا عقليين أو نقليين أو مختلفين ولا بين قطعي وظني كذلك لانتفاء الظن بالقطع بالنقيض(2) ولأنه لا مرتبة فوق اليقين والمراد بالقطعي عنها قطعي الثبوت والدلالة إذ لو كان قطعي الثبوت دون الدلالة كما إذا ثبت متنه بالتواتر وكانت دلالته على المراد ظنية لقيام الاحتمال الناشئ عن الدليل(3)لم تمتنع معارضته نظراً إلى كون الدلالة ظنية وكذا العكس كخبري آحاد دلالتهما على المراد قطعية فإن مناط تعارضهما وقوع الظن في طريق الثبوت والوصول إلينا إذ لولا الظن الحاصل في الطريق لامتنع ثبوتهما عن الشارع لامتناع وقوع المتنافيين منه كما سبق فحينئذٍ لا يتصور (إلا بين ظنيين) لأن الظن متفاوت وله مراتب حتى أنه يقبل التزايد إلى أن يقرب من مرتبة اليقين سواء كاناً (نقليين) (4)
__________
(1) ـ أي النقيضين والضدين لأن معنى القطع تحقق حصول كل منهما في الواقع في زمن الآخر ومحله وذلك يستلزم اجتماع المتنافيين في محل وهو محال ولذا حكمنا بأن المصيب في القطعيات واحد ومن جوز وقوعه يقول وقوعه كاشف عن التخيير بين الحكم ونقيضه كما ثبت في كل واحد من خصال الكفارة وجوب فعله وإباحة تركه بفعل غيره وغاية الفرق بين خصال الكفارة ومدلول الدليلين المتناقضين أن التخيير في خصال الكفارة بدلالة حرف التخيير وفي مدلول الدليلين بدلالة الاقتضاء وكلاهما من المنطوق ذكره في نظام الفصول تمت منه
(2) ـ في غير النقليين كما إذا ظن أن زيداً في الدار لكون مركبه وخدمه ببابها ثم شوهد خارجها فلا دلالة للعلامة المذكورة على كونه في الدار حال مشاهدته خارجها فلا تعارض بينهما بخلاف النقليين فإن الظني منهما باقٍ على دلالته حال دلالة القطعي وإنما قدم عليه لقوته ذكره في شرح الجمع تمت منه
(3) ـ يعني عن الدليل تمت
(4) ـ والكلام في النقليين حيث لا نسخ بينهما ولباحث أن يقول لا بعد في أن يجري فيهما الخلاف الآتي في الأمارتين لمجي توجيهه الآتي فيهما ذكره في شرح الجمع للمحلي تمت منه

(2/3)


معاً كنصين إما خبرين أو ظاهر آيتين أو إجماعين آحاديين (أو عقليين) معاً كقياسين ظنيين (أو مختلفين) بأن يكون أحدهما نقلياً والآخر عقلياً كخبر آحادي وقياس ظني فهذه ثلاثة أقسام .
ولما فرغ من بيان الحد وما يصح فيه التعارض وما لا يصح فيه أخذ يبين المرجح بين الأمارات الموصلة إلى التصديقات الشرعية ولما كان الغرض الأهم في هذا الفن هو الكلام على ترجيحات الأدلة لكونه أكثر في المباحثات الفقهية من الحدود وأشد حاجة قدم الكلام فيها عليه في الحدود مع أنها توصل إلى التصور والأول يوصل إلى التصديق والتصور مقدم على التصديق طبعاً فليقدم عليه وضعاً لكن أخّر الكلام في الحدود لذلك ثم الترجيح إن كان بين ظنيين نقليين من نوع واحد ففيه أربعة أقسام :
أولها الترجيح بحسب السند وهو الطريق إلى ثبوت المتن
وثانيها الترجيح بحسب المتن وهو نفس الدليل من أمر أو نهي أو عموم أو خصوص أو إجماع أو غير ذلك
وثالثها الترجيح بحسب الحكم المدلول كالإباحة والحظر
ورابعها الترجيح بحسب الخارج
أما السند (فيرجح أحد الخبرين) المتعارضين (على الآخر) بوجوه كثيرة منها قوله (بكثرة رواية) عند الجمهور لإفادة كل واحد منهم الظن وبزيادتهم يزداد الظن حتى ينتهي إلى التواتر ومثل له برواية أبي رافع وميمونة أنه نكحها وهما حلالان ، فيرجح على رواية ابن عباس أنه نكحها وهو حرام

(2/4)


وخالف فيه الكرخي فقال لو رجح بالزيادة للزم مثل ذلك في الشهادة . قلنا فرق بينهما فإن الشهادة أضيق فليس كلما ترجح به الرواية ترجح به الشهادة ولذا اعتبر لفظها حتى لو أتى العدد الكثير بلفظ الأخبار لم يقبلوا وردت شهادة النساء ولو كثرن وكانت الشهادة مستندة إلى توقيفات تعبدية(1)
(و) منها أنه يرجح أحد الخبرين على الآخر (بكونه) أي الراوي لأحد المتعارضين (أعرف بما يرويه) من راوي الآخر بأن يكون ذا بصيرة في علم الشريعة والأحكام فإن العالم إذا سمع ما لا يجوز إجراؤه على ظاهره بحث عنه ونظر في سببه فيطلع على ما يزيل الإشكال أو في علم العربية ليمكنه التحفظ من مواضع الغلط وأورد عليه أن النحوي يعتمد على لسانه فلا يبالغ في التحفظ . وفيه أن علمه ينبهه على مواضع الغلط فيتحفظ عنها ولا ترجيح لخبر الأعلم بغير ما روي إذ لا تعلق له به خلافاً لابن أبان
(و) منها أنه يرجح (بثقته) وورعه وفطنته وحسن اعتقاده فكل من زاد في صفة من هذه الصفات على خبر مقابله كأهل البيت عليهم السلام
وبكونه أشهر في هذه الصفة وإن لم يعلم رجحانه فيها لأن الرجحان سبب الشهرة غالباً وبكونه معتمداً على حفظه للحديث لا على نسخته وعلى ذكر سماعه لا على خط نفسه لاحتمال الاشتباه في النسخة والخط دون الحفظ والذكر
وبكونه مستمر العقل فإن خبر من مات كامل العقل أرجح من خبر من اختلط عقله في آخر عمره ولذا دونوا في المختلطين
(وظبطه) قيرجح رواية أكابر الصحابة على رواية أبي هريرة لظهور سهوه
__________
(1) ـ وأيضاً فإن المقصود من الشهادة فصل الخصومات فضبط بنصاب معين فاعتبار الكثرة فيها يقضي إلى نقض الغرض وتطويل الخصومات بخلاف الأمارة فإن المقصود منها الظن بالأحكام فكلما كان الظن أقوى كان بالاعتبار أولى من غير ضرورة إلى اعتبار ضبطه ذكره سعد الدِّين تمت منه

(2/5)


(وكونه المباشر) دون راوي الآخر كرواية أبي رافع مولى رسول الله أنه نكح ميمونة وهوحلال وبنى بها وهو حلال قال وكنت أنا الرسول بينهما أخرجه أحمد والترمذي وحسنه فيرجح على رواية ابن عباس أنه نكحها وهو حرام لأن المباشر أعرف بالحال ولهذا قال أبو داود وهم ابن عباس رضي عنهما في تزويج ميمونة
(أو صاحب القصة) كرواية ميمونة رضي الله عنها قالت تزوجني رصول الله ونحن حلالان بسرف أخرجه مسلم وأبو داود والترمذي وزاد الترمذي وبنى بها حلالاً وماتت بسرف ودفناها في الظلة التي بني فيها فترجح على رواية ابن عباس أيضاً لمباشرتها وكونها صاحبة القصة دونه
(أو مشافهاً) لمن يروي عنه بأن لا يكون بينهما حجاب كرواية القاسم بن محمَّد بن أبي بكر عن عمته عائشة أن بريرة عتقت وكان زوجها عبداً فيما رواه مسلم فإنها ترجح على رواية الأسود بن يزيد النخعي عن عائشة أن بريرة أعتقت وكان زوجها حراً لمشافهة القاسم لعمته دون الأسود لأنه كان لا يكلمها إلا من وراء حجاب . قال في المنهاج ولعل أصحابنا لا يخالفون في أن هذا وجه ترجيح ولكنهم جعلوا للمعتقة الخيار وإن كان حراً لكون العلة كونها ملكت أمرها فلم يفرقوا بين كون زوجها حراً أو عبداً
(أو) كون الراوي (أقرب مكاناً) من الرسول بأن يصرح بأنه كان عند التحمل قريباً دون الآخر كما تُقَدّم رواية ابن عمر أنه أفرد التلبية على رواية أنس وابن عباس أنه ثنَّاها أي قرن وعلى رواية سعد ابن أبي وقاص أنه تمتع لأن ابن عمر كان حين لبى تحت جِران ناقته فالظاهر أنه أعرف وجران الناقة مقدم عنقها من منحرها إلى مذبحها ذكره في الصحاح
(أو من أكابر الصحابة) والآخر من أصاغرهم فإن الأول أرجح لقربهم من مجلس الرسول في الأغلب فالظاهر أنه أعرف عند جمهور أصحابنا وغيرهم

(2/6)


(أو متقدم الإسلام) وقضى بعض فقهاء العامة برواية متأخر الإسلام(1) لأنه يحفظ آخر الأمرين عن رسول الله ولهذا قال إبراهيم النخعي كان يعجبهم حديث جرير البجلي في المسح على الخفين لأن إسلامه بعد نزول المائدة قالوا وفي معنى تأخر الإسلام تأخر الصحبة الصحبة ولذلك قدموا رواية ابن عباس في التشهد على رواية ابن مسعود والقول الأول أولى لأن المتقدم أعرف وأشد تحرزاً وتصوناً لزيادة أصالته في الإسلام وقول ابن عباس كنا نأخذ بالأحدث فالأحدث معناه تقدم المتأخر بقرينة على المتقدم ،و الله أعلم .
(أو) كونه (مشهور النسب) لأن اهتمام النسيب بالتصون والتحرز وحفظ الجاه أكثر وقال الإمام المهدي (عليه السلام) والأقرب أن أصحابنا لا يرجحون بذلك مع كمال العدالة
(أو) كونه (غير ملتبس بمضعف) روايته والآخر ملتبس به بأن كان اسمه كاسم ضعيف الرواية مثاله أن يروي خبر عن أبي ذر فيعارض بخبر عن وابصة ولم يذكر أبوه فيلتبس بوابصة بن معبد لأنه ممن تضعف روايته كذا ذكره الآمدي وشراح المنتهى غير العضد وقيل المراد من خالط و مازج من لا تقبل روايته لأن ذلك حط من مرتبته فإن رواية الأول أولى بذلك
__________
(1) ـ وقد عد ابن الحاجب هنا تقدم الإسلام مرجحاً وفي الترجيح بأمر خارج بآخره فقيل إنه ناقض وقد جمع بينهما بأنه هنا فيما علم اتحاد زمن روايتهما لثبات قدم الأقدم والآتي فيما علم موت المتقدم قبل إسلام المتأخر أو أن أكثر روايته قبل إسلام المتأخر والغالب كالمتحقق أو أن روايته هذه قبل رواية المتأخر تمت منه

(2/7)


(و) منها أنه يرجح (بتحمله) للرواية حال كونه (بالغاً) على من تحملها صبياً قطعاً أو احتمالاً كترجيح رواية ابن مسعود على رواية ابن عباس لأنه قبض رسول الله ولما يبلغ ابن عباس لخروجه عن الخلاف فالظن به أقوى ولأنه أكثر ضبطاً وتعقلاً للمعنى(1)
(وبكثرة المزكين) لراوي أحد المتعارضين (أو أعدليتهم) فمتى كان مزكوه أكثر أو أعدل بأن لا يكون متساهلاً في دقائق التزكية كان حديثة أرجح من حديث مقابله فإن اختلفت الصفات بأن كان مزكوا هذا أكثر ومزكوا هذا أعدل فموضع اجتهاد
ومشهور العدالة على غير مشهورها ومعروفها بالاختبار على معروفها بالإخبار
والجازم على الظان كان يقول أقطع أني سمعته والآخر أظن أني سمعته يقول كذا
وغير المبتدع على المبتدع (2) سواء كانت البدعة كفراً أو لا فرواية غير المجبرة والمشبهة أولى من روايتهم (3) إذ كفرهم حاصل من جهة التأويل لا محالة
قيل والذكر على الأنثى والحر على العبد وقال المهدي (عليه السلام) لا يرجح بذلك إذ المعتبر العدالة
__________
(1) ـ وإنما لم يعتبر ذلك في الشهادة لأنها إخبار عن معنى واحد ولا يتغير ولا تختلف معرفته باختلاف الأحوال صغيراً أو كبيراً بخلاف الرواية فإنه يراعى فيها الألفاظ والأحوال والأسباب لتطرق الوهم إليها والتغيير والتبديل ويختلف ذلك بالصغر والكبر فيبالغ في معرفتها لذلك تمت منه
(2) ـ على القول به تمت
(3) ـ فيقدم الوعيدي على المرجي لأنه يخاف العذاب على كل ذنب كذب أو كفر أو غيره بخلاف المرجي فإنما يخافه على الكفر فالأول أبعد عن الذنب تمت منه

(2/8)


(و) إذا كان الراويان للخبرين المتعارضين مُرسِلِين معاً فإنه يرجح رواية أحدهما (بكونه عرف أنه لا يرسل إلا عن عدل) عارف (في) الخبرين (المرسلين) والآخر عرف منه خلاف ذلك أو جهل حاله لقوة الظن في الأول . وكان الأنسب تقديم هذا على قوله وبكثرة المزكين لكونه مما يرجع إلى نفس المزكي وكون كثرة المزكين راجعة إلى التزكية وليتصل ما يرجع إليها بعضه ببعض فإن ما بعد ها يرجع إلى كيفيتها
(ويرجح الخبر الصريح) بتزكية الراوي (على الحكم) بشهادته كأن يقول المزكي أنه عدل ويحكم الحاكم بشهادة الآخر أو يقول المزكي أن الحاكم المشترط العدالة حكم بشهادته لأن تزكية الحكم لتضمنها القول وصريحه أولى من متضمنه
(و) إذا كانت تزكية أحد الروايين المتعارضين بالحكم بشهادته والآخر بالعمل بقوله فإنه يرجح (الحكم) أي رواية من حكم بشهادته (على العمل) أي على رواية من عمل بقوله لأن الاحتياط في الشهادة أقوى من الاحتياط في العمل بدليل قبول خبر الواحد والمرأة دون شهادتهما
(قيل) أي قال الأكثر (و) إذا كان أحد الخبرين المتعارضين مسنداً والآخر مرسلاً فإنه يرجح الخبر (المسند على المرسل) مطلقاً إذ الظن به أقوى
(وقيل) أي قال ابن أبان وحكاه في فصول البدائع عن الحنفية (العكس) فيرجح المرسل على المسند مطلقاً لأن الثقة لا يقول قال النبي إلا إذا قطع بقوله ولذا قال الحسن إذا حدثني أربعة من أصحاب رسول الله قلت : قال رسول الله
(وقيل سواء) إذ المعتبر العدالة والضبط والفرض تساويهما وقد قبل كل واحد منهما على انفراده فلا يكون لأحدهما على الآخر مزية إذا اجتمعا وهو الحق إن ثبت أن كلاً منهما لا يروي إلا عن عدل ، وقال الحفيد المسند أولى إن ادعى عدالة راويه

(2/9)


ويرجح المسند إلى النبي على المسند إلى كتاب ،وعلى المشهور لقوة إفادة المسند الظن إذا رُبَّ كلام اشتهر بكونه حديثاً وليس به ،والكتاب على المشهور لذلك أيضاً ، والرواية بقراءة الشيخ عليه ، والآخر بقرائته على الشيخ أو غيرها من الطرق لبعد الأول عن الغفلة والذهول ، والمتفق على رفعه إلى النبي على المختلف فيه ، ورواية القول على الفعل ، والرواية باللفظ عليها بالمعنى لاحتمال أن يكون الراوي سمع ما ليس بنهي فظنه نهيا أو سمع لفظ الأمر والنهي من النبي فظن أن الأمر بالشيء نهي عن ضده وأن النهي عن الشيء أمر بأحد أضداده فكان بطريق الخلل إلى الرواية بالمعنى أقرب ، وما ذكر سببه على ما لم يذكر ، وما جرى بحضرته وسكت عنه على ما جرى بغيبته فسمع وسكت عنه لأن الأول من هذه المذكورات أغلب على الظن ، والآحادي الذي لا تعم به البلوى على الذي تعم به للخلاف فيه
(ويرجح) الخبر (المشهور) أي ما ثبت بطريق الشهرة وإن لم يستند إلى كتاب
وقليل الوسائط على كثيرها لقلة احتمال الخطأ ولذا رغب الحفاظ في علوِّ السند وبالغوا في طلبه
(و) يرجح (مرسل التابعي) على مرسل غيره وكان الأنسب تأخير المشهور ليتصل الترجيح بنحو الإسناد بعضه ببعض
(و) ما اشتهر من الكتب بالصحة مثل شرح التجريد وأصول الأحكام والشفاء والبحر من كتب أهل البيت (عليهم السلام) على كتب غيرهم و(مثل البخاري ومسلم) من كتب غيرهم (علي غيرهما) من كتب غير أهل البيت (عليهم السلام)

(2/10)


(و) أما جهات الترجيح بحسب المتن فإنه (يرجح النهي على الأمر) وعلى الإباحة لأنه لدفع المفسدة والأمر لجلب المصلحة سواء أدركت الجهتان أم لم تدركا لما أن انبناء الأحكام على المصالح ظاهرة أو خفية والعقلاء بدفع المفاسد أشد اهتماماً منهم بجلب المصالح ولهذا كان شرْع العقوبات بفعل المحرم أكثر منه لترك الواجب ولأن النهي للدوام دون الأمر ولقلة محامل النهي دون الأمر لما عرفت من زيادة المعاني المجازية في الأمر عليها في النهي وزيادة ما اختلف فيه من معاني الأمر الحقيقية على معاني النهي الحقيقية
(والأمر على الإباحة) لأنه أحوط لاستواء طرفي المباح دون المأمور به وقيل بالعكس لوحدة معناها وتعدد معاني الأمر واستلزام تقديمه تعطيل الإباحة بخلاف العكس لأن في ترجيح المبيح تأويلاً للأمر بصرفه عن ظاهره والتأويل أولى من التعطيل ولاشتمالها على مقصود الفعل والترك ولا شك أن جهة الاحتياط أرجح
(والأقل احتمالاً على الأكثر) احتمالاً كما ذكرناه من أن النهي أقل احتمالاً من الأمر وأن الإباحة أقل احتمالاً منهما فالأقلية جهة ترجيح
(والحقيقة) شرعية كانت أو عرفية أو لغوية (على المجاز) مطلقاً
والحقيقة الشرعية على العرفية
والعرفية على اللغوية لشهرتها وتبادرها إلى الفهم كما إذا كان لفظ واحد له مدلول لغوي وقد استعاره الشارع في معنى آخر وصار عرفاً له فإنه إذا أطلق الشارع ذلك اللفظ وجب حمله على عرفه الشرعي دون المعنى اللغوي لأن الغالب من الشارع أنه إذا أطلق لفظاً وله موضوع في عرفه أنه لا يريد به غيره وقد سبق له في المجمل مثالان(1)
(والمجاز على المشترك) لقربه وعدم إخلاله بالتفاهم كما سبق في الباب الرابع
__________
(1) ـ وهما : (الأعمال بالنيات )فإنه يحتمل العمل اللغوي والشرعي فيحمل على الشرعي و (إني إذا لصائم) يحتمل الإمساك مطلقاً أو عن الطعام ونحوه كما سبق والله أعلم تمت منه

(2/11)


(و) إذا كان المتعارضان مجازين فللترجيح بينهما وجوه :
منها أن يكون أحدهما أقرب جهة إلى الحقيقة من الآخر فإنه يرجح (الأقرب من المجازين) أي أقربهما إلى الحقيقة (على الأبعد) عنها .
وقربه من الحقيقه بأن يكون التجوز فيه أقوى من الآخر كالتجوز بإطلاق اسم الكل على الجزء فإنه أقوى من التجوز بإطلاق اسم الجزء على الكل لأن الكل يستلزم الجزء لا العكس مثل : من سرق قطعت يده مع من سرق لم تقطع أنامله والله أعلم
أو بأن يكون مصحح أحدهما وهو العلاقة مشهوراً أو أشهر دون الآخر مثل من شرب الياقوت المذاب فعليه الحد مع من شرب الإثم فلا حد عليه
(و) يرجح (النص الصريح) وهو ما وضع له اللفظ بخصوصه (على غير الصريح) وهو ما يلزم عنه نحو ?فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ?[النساء92] مع رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وقد سبق تحقيقهما وأن أقسام غير الصريح ثلاثة : دلالة الاقتضاء والإيماء والإشارة فإذا تعارض نصان يدلان بالاقتضاء والمدلول عليه بالاقتضاء لازم غير صريح ومقصود يتوقف الصدق أو الصحة العقلية أو الشرعية عليه نحو قوله رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه (1)مع ما لو قال من قال : مُكْرَهاً لغيره أعتق عبدك عني على ألف لزمه للمعتق غرامته فإن مقتضى الأول لضرورة صدق الصادق عدم لزوم البيع بكونه مكرهاً ومقتضى الثاني لتوقف العتق على تقدير الملك لزوم البيع شرعاً فيرجح الأول (2)
__________
(1) ـ تقدم تخريجه
(2) ـ لأن مراعاة الصدق أهم تمت

(2/12)


(و) إذا تعارض خاص من كل وجه وعام كذلك فإنه يرجح (الخاص على العام) لأنه أقوى دلالة على ما يتضمنه من دلالة العام عليه لاحتماله تخصيصه منه نحو أقتلوا المشركين لا تقتلوا أهل الذمة فيرجح الخاص فيقتل من عدى أهل الذمة(1) وهذا إنما يجيء على مذهب الشافعي من حمله للعام على الخاص مطلقاً فلعله قد بنى على مذهبه كما أشار إلى قوته في باب العموم والخصوص وبنى عليه الأصحاب في كثير من المواضع
وأما على مذهب الجمهور فإنه مخصص مع المقارنة ناسخ إن علم تأخره متراخياً منسوخ إن علم تأخر العام كذلك ويطرحان إن جهل التاريخ(2) والله أعلم
فإن كان كل منهما أعم من وجه وأخص من آخر فليس بتخصيص عموم أحدهما بأولى من العكس نحو إذا بلغ الماء قلتين لم يحمل خبثاً فإنه خاص لهما عام للمتغير وغيره و(الماء لا ينجسه إلا ما غير ريحه أو لونه أو طعمه) خاص بغير المتغير عام للقلتين وغيرهما فنقول المراد بالأول مثلاً ما لم يتغير وبالآخر القلتان فيحكم بطهارة ما بلغ قلتين ولم يتغير دون غيره
__________
(1) ـ فالفرق بين الجمع بين الدليلين المتقدم في أول الباب وبين هذا هو أن ما تقدم يؤول أحدهما بما يوافق الآخر ولا يبقى له فائدة زائدة على ما رجع هو إليه كما في الحديثين السابقين وهذا يرجح الخاص مثلاً على العام باعتبار ما قابله منه ويجري العام على ما يقتضيه ظاهره كما في المثالين هنا والله سبحانه أعلم تمت منه
(2) ـ قال في الهداية وهكذا الخاص من وجه يقدم على العام من كل وجه وفيه أن هذه النسبة لا وجود لها ولعل لفظ كل فيه زائدة فإن النسب أربع ليست هذه أحدها تمت منه

(2/13)


(و) يرجح (تخصيص العام) لكثرته (على تأويل الخاص) لقلته كقوله تعالى :? و َمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ ?[الحج78] مع قوله في أربعين شاة شاة (1) فلزم تخصيص الآية بالخبر فيجب شاة بعينها ولا يؤول الخاص بتجويز دفع القيمة عنها
(و) يرجح (العام الذي لم يخص) للاتفاق على حجيته (على الذي خصص) للخلاف فيها مثاله الصبي المرتد لا يقتل بردته مع ما لو قيل كل مرتد يقتل
وكذلك الحكم في المطلق والمقيد فيقدم تقييد المطلق على تأويل المقيد والمقيد ولو من وجه على المطلق والمطلق الذي لم يقيد على المطلق المقيد
(و) إذا تعارضت صيغ العموم فإنه يرجح (العام الشرطي على النكرة المنفية) مطلقاً نحو من بدل دينه فاقتلوه مع ما لو قيل لا قتل على مرتد وقيل المراد المنفية بغير لا التي لنفي الجنس إذ المنفي بها نص في الاستغراق ولذا قال صاحب الكشاف في قوله تعالى?لا ريب فيه?[البقرة] إن قراءة الفتح توجب الاستغراق وقراءة الرفع تجوزه
(و) يُرجَج على (غيرها) من صيغ العموم حيث يفيد التعليل لإفادته التعليل بخلاف غيره وما كان للتعليل فهو أدل على المقصود وادعى إلى القبول فلو ألغي العام الشرطي لكان إلغاء للعلة ولا يلزم من إلغاء غيره إلغاء علته وأما حيث لا يفيده فلا لأنه قد يجيء لغيره نحو من فعل كذا فلا إثم عليه وقوله تعالى ?وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا?[النور33]
__________
(1) ـ أخرجه ابن ماجه في سننه وأخرجه النسائي في سننه و أبو داو في سننه و ابن حنبل في مسنده و الطحاوي في شرح معاني الآثار و الطبراني في معجمه الكبير و النسائي في سننه الكبرى و الدارقطني في سننه و البيهقي في سننه الكبرى و الشافعي في مسنده و البخاري في خلق أفعال العباد و الطبراني في الأحاديث الطوال و عبد الرزاق في مصنفه و ابن أبي شيبة في مصنفه و الطبراني في معجمه الأوسط .

(2/14)


(وما ومن) الموصولتان أو الاستفهاميتان ونحوهما (و) الجمع (المعرف بلام الجنس) أو بالإضافة (على الجنس المعرف به) أو بالإضافة لأن تلك لا تحتمل العهد أو يحتمله على بعد بخلاف الجنس المعرف فاحتمال العهد فيه قريب لكثرة استعماله في المعهود فكانت دلالته على العموم أضعف
وإذا نقل بالآحاد إجماعان متعارضان فيقدم الإجماع السابق لأن الظن يقضي ببطلان اللاحق لمخالفته
والإجماع الظني من جهة السند والمتن يقدم عليه الإجماع الظني من جهة واحدة ، وإجماع كل المجتهدين والعوام على إجماع المجتهدين خاصة ، وما انقرض فيه عصر المجمعين على ما لم ينقرض ، وما لم يسبقه خلاف مستقر على ما سبقه لما عرفت من الخلاف في اعتبار العوام وانقراض العصر وألا يسبقه خلاف مستقر وقس على ذلك
وقيل الإجماع المسبوق بالخلاف أرجح لأنهم اطلعوا على المآخذ واختاروا مأخذ ما أجمعوا عليه فكان أقوى وقيل سواء لتعارض المرجِّحين والله أعلم .
(و) أما الترجيح بحسب الحكم المدلول فمنها أنه يرجح الحظر على غيره لما تقدم في تقديم النهي على الأمر و(يرجح الوجوب على الندب) والكراهة للاحتياط والكراهة على الندب لأن الفعل حينئذٍ يكون فيه شائبة مفسدة وشائبة مصلحة وقد تقرر ان دفع المفاسد في نظر العقلاء أولى والندب على الإباحة للاحتياط لأن الفعل إن كان مندوباً ففي تركه إخلال بالطلب وإن كان مباحاً فلا إخلال إن فعله
(و) إذا كان أحد المتعارضين يقتضي إثبات أمر والآخر نفيه فإنه يرجح (الإثبات على النفي) مثاله حديث بلال أنه دخل البيت وصلى وقال أسامة دخله ولم يصلّ فإن الأول أولى لكثرة غفلة الإنسان عن الفعل فيحتمل أن يكون مبىي النافي على الغفلة ولأن المثبت يفيد زيادة علم والتأسيس والنافي يفيد التأكيد والإفادة خير من الإعادة

(2/15)


(و) كان القياس أن المثبت للحد في الإخبار والعلل أولى لأنه أثبت حكماً شرعياً صرفاً والنافي مقرر لقضية العقل إلا أنه رجح (الدارئ للحد على الموجب له) لأن الحدود تُدرأ بالشبهات ولأن الخطأ في نفي العقوبات أولى منه في إثباتها كما قال : (لأن تخطيء في العفو خير من أن تخطيء في العقوبة)(1)ولأنه إذا سقط لتعارض البينتين مع تقدم ثبوته فبالأولى أن يسقط لتعارض الخبرين مع عدم تقدم ثبوته ، وعن المتكلمين تقديم موجب الحد نظراً إلى أن فائدة العمل بالموجب التأسيس وبالدارئ التأكيد (2) (والموجب للطلاق والعتق على الآخر) وهو من باب الإثبات على النفي فلا وجه لعده على حدة
(و) أما جهات الترجيح بحسب أمر خارجي فإنه (يرجح الخبر بموافقته لدليل آخر) لأن ذلك يقوي الظن بمدلول الموافق والعمل به لا يستلزم إلا مخالفة دليل واحد والعكس يستلزم مخالفة دليلين
__________
(1) ـ أخرج معناه البيهقي في سننه الكبرى وأخرجه الترمذي في سننه و ابن ماجه في سننه و الحاكم في مستدركه والطبراني في معجمه الكبير و الدارقطني في سننه و البيهقي في سننه الكبرى و أبو يعلى في مسنده و ابن أبي شيبة في مصنفه
(2) ـ ورجحه صاحب الفصول والقاضي والله أعلم تمت منه

(2/16)


نحو أن يكون أحد الخبرين موافقاً لظاهر الكتاب دون الآخر فيكون الأول أولى بالاعتبار نحو حديث (من نام عن صلاته أو سهى فليصلها إذا ذكرها) فإن ذلك وقتها (1) يعارضه حديث النهي عن الصلاة في الأوقات المكروهة لكن الأول يعضده ظواهر من الكتاب مثل قوله تعالى?حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى?[البقرة238] ?وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ ?[آل عمران133] وما روي عنه أنه كان يصبح في رمضان جُنباً من غير حلم فيغتسل ويصوم (2) ويعارضه حديث (من أصبح جُنباً فلا صوم له) (3) لكن الأول يعضده قوله تعالى ?فالآن باشروهن?
__________
(1) ـ أخرجه مسلم في صحيحه و البخاري في صحيحه و النسائي في سننه و ابن حبان في صحيحه و ابن خزيمة في صحيحه و ابن ماجه في سننه و أبو داو في سننه و ابن حنبل في مسنده و الطحاوي في شرح معاني الآثار و الطبراني في معجمه الكبير و النسائي في سننه الكبرى و البيهقي في سننه الكبرى
(2) ـ أخرجه مالك في الموطأ ومسلم في صحيحه و البخاري في صحيحه و ابن حبان في صحيحه و ابن خزيمة في صحيحه و الترمذي في سننه و ابن ماجه في سننه و ابن حنبل في مسنده و الطحاوي في شرح معاني الآثار و الطيالسي في مسنده و الحميدي في مسنده و الطبراني في معجمه الكبير و النسائي في سننه الكبرى و الطبراني في معجمه الصغير و الطبراني في مسند الشاميين و ابن راهويه في مسنده و البيهقي في سننه الكبرى
(3) ـ أخرجه الطبراني في معجمه الكبير وابن خزيمة في صحيحه و ابن حنبل في مسنده و الطبراني في معجمه الكبيرو النسائي في سننه الكبرى و ابن راهويه و أبو يعلى في مسنده و ابن أبي شيبة في مصنفه

(2/17)


ونحو أن يكون أحد الخبرين موافقاً للآخر دون الآخر كحديث : (لا نكاح إلا بولي) مع حديث (ليس للولي مع الثيب أمر) (1) فإن الأول موافق لحديث : (أيما امرأة أنكحت نفسها بغير إذن وليها فنكاحها باطل) الخبر .
ونحو أن يكون أحدهما موافقاً للقياس أو لدليل العقل دون الآخر .
أو يكون موافقاً لفعل الوصي (عليه السلام) كتقديم رواية من روى في تكبيرات العيد سبعاً وخمساً على رواية من روى أربعاً لأن الأول وافقه عمل الوصي (عليه السلام) وقد شهد له الرسول بكون الهدى والحق معه وشهادة الرسول أبلغ في تقوية الظن مما ذكرناه
(أو لأهل المدينة) المشرفة على مشرفها أفضل الصلاة والسلام وعلى آله الغر الكرام لأن المدينة موضع الوحي وهم أعرف بأحكامه (أو الخلفاء) الأربعة الذي هم علي (عليه السلام) وأبو بكر وعمر وعثمان لقربهم بناء على أن مذهب علي (عليه السلام) ليس بحجة وأما على ما هو الحق من أن قوله (عليه السلام) دليل وأن الحق معه فقد دخل في قوله وبموافقته لدليل آخر كما سبق
ويرجح بموافقته لعمل الأكثر من العلماء لقوة الظن به لبعد غفلة الأكثرين عن الراجح وقيل لا ترجيح بذلك لأنه ليس بحجة وفي تعليله نظر لا يخفى
(أو الأعلم) لأنه أخبر بالتأويل وأعرف بمواقع الوحي والتنزيل
__________
(1) ـ أخرجه النسائي في سننه ومسلم في صحيحه و البخاري في صحيحه و النسائي في سننه و ابن حبان في صحيحه و الترمذي في سننه و ابن ماجه في سننه و أبو داود في سننه و ابن حنبل في مسنده و مالك في الموطأ و الطحاوي في شرح معاني الآثارو الحميدي في مسنده و الطبراني في معجمه الكبير و النسائي في سننه الكبرى
و الدارقطني في سننه و الطبراني في مسند الشاميين و ابن راهويه في مسنده

(2/18)


(و) يرجح الخبر على معارضه (بتفسير راويه) تفسيراً يليق باللفظ إما بقوله لا يغلق الرهن بما فيه فإن راويه فسره بأن معناه لا يصير مضموناً بالدين وإما بفعله كحديث ابن عمر (المتبايعان بالخيار في بيعهما ما لم يفترقا ) يحتمل التفرق بالبدن أوالتفرق بالقول وقد روي أن ابن عمر كان إذا أراد أن يوجب البيع مشى قليلاً ثم رجع وأصحابنا يرجحون خلافه لإطلاق الآيات مثل قوله تعالى : ? إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ?[النساء29 ]?وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ?[البقرة282 ]والتجارة هي البيع والشراء وقد حصلا بالعقد عن تراض والأمر بالشهادة للوثيقة في العقد فإثبات الخيار بعده ينافيها
(و) يرجح (بقرينة تأخره) عن معارضه قرينة لا تقوى على النسخ كأن يكون مؤرخاً بتاريخ مضيق (1) كحديث ابن عباس في شاة مولاة ميمونة ماتت فقال : (هلا انتفعتم بجلدها) مع حديث عبد الله بن عكيم أنه كتب إلى جهينة قبل موته بشهر (لا تنتفعوا من الميتة باهاب ولا عصب)
__________
(1) ـ وهذا خلاف ما قرره أهل المذهب في الفروع من أنه يحكم للمطلقة بآخر الوقت تمت منه

(2/19)


أو متضمناً للتشديد دون الآخر لتأخر التشديدات إذ لم تجئ إلا بعد ظهور الإسلام وقوة شوكته وكذا إذا كان أحدهما أمس بالمقصود وأقرب إليه من الآخر مثل قوله تعالى ?وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ? [النساء 23] مع قوله تعالى ?فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ?[النساء 3] فإن الأولى تدلى بعمومها على تحريم الجمع بينهما في الوطء أعم من أن يكون بالنكاح أو بالملك أو بهما لأنه وإن كان السياق في تحريم النكاح لا ينافي أن يعطف عليه تحريم الجمع بينهما في الوطء مطلقاً والأخرى تدل بعمومها على إباحة الجمع في الوطء بالملك لكن الأولى أمس بالمقصود لأن الكلام فيها مسوق للتحريم بخلاف الأخرى فإنها مسوقة لإيجاب العدل بين الأزواج وطريق التفصي إذا خيف أَلاَّ يقام بالعدل على أن التحريم أرجح للحيطة وقد رجحه علي (عليه السلام) وقوله حُجَّة كما تقرر وقد ادعى ابن عبد البَّر الإجماع القطعي على التحريم قال في شرح العمدة من مستندات الإجماع على التحريم ولو بالملك : ما أخرجه البخاري في صحيحه من حديث أم حبيبة (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يجمع ماءه في رحم أختين )(1)
__________
(1) ـ لم نجده في البخاري ولا في أي كتاب من كتب الصحاح قال ابن حجر في تلخيص الحبير ج: 3 ص: 166 قوله روي أنه قال من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يجمع ماءه في رحم أختين ويروى ملعون من جمع ماء في رحم أختين لا أصل له باللفظين وقد ذكر بن الجوزي اللفظ الثاني ولم يعزه إلى كتاب من كتب الحديث وقال بن عبد الهادي لم أجد له سندا بعد أن فتشت عليه في كتب كثيرة وفي الباب حديث أم حبيبة في الصحيحين أنها قالت يا رسول الله أنكح أختي قال لا تحل لي ولأبي داو من حديث فيروز الديلمي قال قلت يا رسول الله إني أسلمت وتحتي أختان قال طلق أيهما شئت وللترمذي في روايته اختر أيهما شئت

(2/20)


وأخرج ابن عبد البَّر عن علي كرم الله وجهه : (يحرم عليك مما ملكت يمينك ما يحرم من الحرائر)(1)
قال الشافعي يحرم الجمع بين من ذكر وهو قول من لقيته من المفتين لا خلاف في ذلك بينهم قال ابن المنذر وهو من أهل الاجتهاد المطلق : لا أعلم خلافاً فيه اليوم وكذا نقل الإجماع ابن عبد البَّر وابن حزم والقرضي والنووي انتهى
(و) قد دخل قوله (بموافقته القياس) في قوله سابقاً وبموافقته لدليل آخر كما أشرت إليه في شرحه إذ القياس أحد الأدلة فلعل ذكره هنا ليرتب عليه ما بعده .
ولما فرغ من الكلام في الترجيح بين المنقولين أخذ في بيان الترجيح بين المعقولين كقياسين والكلام فيه بحسب حكم الأصل أو بحسب العلة نفسها أو بحسب دليل العلة أو بحسب الفرع أما الترجيح بين القياسين بحسب حكم الأصل فإن كان حكم الأصل في أحد القياسين قطعياً والآخر ظنياً
__________
(1) ـ أخرج البيهقي في سننه الكبرى ج 7/ص 163/ح 13707عن بن سيرين عن عبد الله بن عتبة قال قال عبد الله هو بن مسعود رضي الله عنه يحرم من الإماء ما يحرم من الحرائر إلا العدد وأخرج البيهقي أيضا في سننه الكبرى ج7/ص163/ح13706عن عمار أنه كره من الإماء ما كره من الحرائر إلا العدد قال الشافعي وهذا من قول عمار إن شاء الله في معنى القرآن وبه نأخذ وأخرج ابن أبي شيبة في مصنفه ج7/ص193/ح12743عن معمر عن أيوب عن ابن سيرين يكره من الإماء ما يحرم من الحرائر إلا العدد

(2/21)


(و) جب الترجيح (بكون حكم أصله قطعياً) على ما ليس كذلك (أو) لم يكن قطعياً بأن كانا ظنيين فإنه يرجح أحدهما بكون (دليله أقوى) من دليل الآخر كأن يثبت في أحد الأصليين بالمنطوق والآخر بالمفهوم لقوة الظن بقوة الدليل أو كونه جارياً على سنن القياس كقول الحنفي في إيلاج الدبر بلا إنزال إيلاج في أحد السبيلين بلا إنزال فلا يوجب الغسل كالإيلاج في السبيل الآخر بلا إنزال وقولنا مظنة الإنزال فيوجبه كما يوجب الوضوء إيجابه بالنوم مضطجعاً وإن لم يخرج شيء فقياسنا أرجح لذلك أ(ولم ينسخ باتفاق) والآخر مختلف في كونه كذلك لبعده
(و) أما الترجيح بحسب علة حكم الأصل فإنه يرجح أحدهما (بكون علته) أي علة حكمه (أقوى) من علة حكم الآخر
وقوتها إما (لقوة طريق وجودها في الأصل) بأن يكون ظن وجودها في أحدهما دون الآخر مثاله إذا قيل في الوضوء طهارة حكمية فتفتقر إلى النية كالتيمم مع قول الآخر طهارة بمائع فلا تفتقر إليها كغسل النجاسة فإن كونه طهارة حكمية معلوم
(أو) لقوة (طريق كونها علة) بأن يكون طريق عليتها نصاً والأخرى تنبيه نص فإن الأول أرجح كما سبق في بيان طرق العلة
(أو بأن يصحبها) أي علة أحد القياسين (علة أخرى) أي غيرها (تقويها) فيكون كالمعلل بعلتين مثاله تعليل وجوب النية في الوضوء بكونه طهارة حكمية كالتيمم فإن هذه يصحبها علة أخرى وهي كونه عبادة كالصلاة بخلاف تعليله بكونه طهارة بمائع
(أو يكون حكمها حظراً أو وجوباً دون معارضتها) كتعليل حرمة التفاضل بالكيل لا الطعم فيحرم في النورة وتعليل الوضوء بأنه عبادة فتجب النيَّة
(أو بأن تشهد لها الأصول)والمراد بها ما فوق الواحد بأن توافق أصلين فصاعداً والأخرى أصلاً واحداً كتعليل الوضوء بأنه عبادة فتجب فيه النيَّة كالصلاة والزكاة والصوم والحج بخلاف تعليله بأنه طهارة بمائع إذ لا أصل له إلا إزالة النجاسة وفي شرح الجوهرة يعني بالأصول الظواهر النقلية متواترة كانت أو آحادية

(2/22)


(أو يكون أكثر اطراداً) من الأخرى أي تعدية لتعذر الكثرة في الاطراد الحقيقي بأن تتعدى إلى أكثر مما تعدى إليه الأخرى
(أو) تكون (منتزعة من أصول كثيرة) كذا ذكره المهدي (عليه السلام) ولا يقال أن هذا تكرير قوله أو بأن تشهد لها الأصول إذ المغايرة بين الموافقة والمنتزعة واضحة للمتأمل (1)
(أو يعلل بها الصحابي) وغيره بغيرها لأنه أعرف بمواقع العربية
(أو أكثر) القرابة أو (الصحابة) والوجه ظاهر ولما كان هنا مرجحات ينبغي تقديمها على ما سبق لأنها باعتبار صفة العلة أعاد لفظ يرجح ولم يكتف بحرف العطف فقال (ويرجح الوصف الحقيقي) أي الثبوتي الظاهر المنضبط المتعقل في نفسه من غير توقف على عرف أو شرع (على غيره) من الأوصاف كأن يكون حكماً شرعياً أو حكمة مجردة للاتفاق عليه والاختلاف في غيره مثاله في مسح الرأس مسح فلا يسن تثليثه كمسح الخف مع قوله فرض فيسن تثليثه كغسل الوجه والقياس الأول الوصف فيه حقيقي فهو أرحج (و) بهذه العلة يرجح الوصف (الثبوتي على العدمي) مثاله في خيار الصغيرة التي زوجها غير أبيها أو أبلغت غير عاملة متمكنه من العلم فلا تعذر بالجهل كسائر أحكام الإسلام فيرجح على قوله جاهلة بالخيار فتعذ كالأَمَة تعتق لأن وصف الجهل عدمي
(والباعثة على الأمارة المجردة) مثاله أن يقال صغيرة فَيُولّى عليها في النكاح كما لو كانت بكراً مع قول الآخر ثيب فلا يولى عليها في النكاح كما لو كانت بالغة لأن الصغر وصف باعث على التولية لظهور تأثيره في المال إجماعاً بخلاف الثيوبة
__________
(1) ـ لأن المراد بشهادة الأصول للعلة موافقتها لأصول متعددة ، ومعارضتها موافقة لأصل واحد ، والمراد بالمنتزعة أن تكون ذات أصلين ، ومعارضتها ذات أصل تمت حابس

(2/23)


(و) المطردة (المنعكسة على خلافها) وهي غير المنعكسة ،مثاله قول الشافعي مسح الرأس فرض في الوضوء فيسن تثليثه كغسل الوجه فيقول الحنفي : مسح تعبدي في الوضوء فلا يسن تثليثه كمسح الخف فعلة الشافعي غير منعكسة لأن المضمضة والاستنشاق ليسا بفرض عندهما ويسن تثليثهما وعلة الحنفي منعكسة لأن الغسل يسن تثليثه فرضاً كان أوسنة كغسل المستيقظ من نومه يده ومسح الاستنجاء (1) ليس تعبدياً حتى يبطل طرد علته
(والمطردة فقط) من غير انعكاس (على المنعكسة فقط) من غير اطراد لقوة الأولى دون الثانية مثاله قول الشافعي في من ملك عمه :ملك من يجوز صرف الزكاة إليه فلا يعتق عليه كابن العم فإن علته مطردة ولا تنعكس لأنه لو ملك كافراً أجنبياً لم يعتق عليه فيقول الحنفي مَلَكَ ذا رحم محرم عليه فيعتق عليه كالولادة فإن علته غير مطردة لأنها منقوضة بابن العم الرضيع ومنعكسة لأنه لا أحد ممن هو ليس ذا رحم إذا ملكه عتق عليه
والمفردة على المتعددة ذات الأوصاف لقربها من الضبط وبعدها عن الخلاف
وذات الوصفين على ذات الأكثر لكونها أقرب إلى الضبط وأسلم من إدخال وصف طردي .
ويرجح الوصف العام للمكلفين على الخاص ببعضهم لأن العام أكثر فائدة وكثرتها يغلب ظن الاعتبار
وعادم المعارض على ما لم يعدمه وإن كان معارضه مرجوحاً لأن العادم أغلب على الظن
(و) أما الترجيح بين القياسين بحسب دليل العلة فقد دخل في قوله سابقاً أو طريق كونها علة فتقدم العلة الثابتة بالإجماع لأن الإجماع لا يقبل النسخ ولذا قدم في نفسه على النص عند التعارض وللنص الصريح مراتب تقدم بيانها وتوجيه ترتبها فما ثبت من الأوصاف بمرتبة منه قدم على ما ثبت بالمرتبة التي بعدها
ثم الإيماء على مراتبه فيقدم ما كان الإيماء فيه إلى علية الوصف بعينه
__________
(1) ـ جواب سؤال مقدر تمت منه

(2/24)


ثم إلى النظير ثم الفرق بين حكمين ثم ذكر مناسبة الحكم لما يلزم في الأولين من العبث وتأخير البيان ورجح الأول منهما لذكر العلة بعينها
ثم (السبر) أي قياس السبر (على) قياس (المناسبة) لتضمنه انتفاء المعارض لتعرضه لعدم علية غير المذكور بخلاف المناسبة
(و) ترجح العلة (المناسبة على) علة (الشبه) مثاله الخل مائع رقيق طاهر منقٍ فيفيد الطهارة عن النجاسة كالماء فيقول الآخر طهارة تراد للصلاة فيتعين لها الماء كالوضوء فإن الثاني شبه
(و) أمَّا الترجيح بين القياسين بحسب الفرع فإنه (يرجح بالقطع بوجود العلة في الفرع) فيقدم ما قطع بوجودها فيه على ما ظن فيه . مثاله قولنا في جلد الكلب حيوان لا يجوز بيعه فلا يطهر جلده بالدباغ كالخنزير فإنه يرجح على قول الخصم حيوان يحتاج الإنسان إلى مزاولته فيطهر جلده بالدباغ كالثعلب
(و) يرجح أحدهما (بكون حكم الفرع ثابتاً بالنص في الجملة) وجيء القياس للتفصيل والآخر ليس كذلك بل يحاول إثبات الحكم في الفرع ابتداءً لأن تفصيل الشيء الثابت أهون من إثباته من أصله مثاله أن يقال قد ثبت الحد في الخمر من دون تعيين الجلدات فتعين عددها بالقياس على القذف مع مالو قيل مائع كالماء فلا يحد شاربه
(و) يرجح (لمشاركته) أي لمشاركة الفرع الأصل (في عين الحكم وعين العلة على الثلاثة الأخر) وهي المشاركة في عين الحكم وجنس العلة أو العكس أو جنس الحكم وجنس العلة
مثال الأول مع الثاني قول الشافعي في الثيب الصغيرة ثيب فلا يولى عليها في النكاح كما لا يولى على الثيب البالغة فيه مع قول الحنفي عاجزة عن إنكاح نفسها فيولى عليها في النكاح كما يولى فيه على المجنونة فإن الأول مقدم إذ العلة وهي الثيوبة في الفرع والأصل متحدة وكذا الحكم وهو الولاية في النكاح بخلاف الثاني فإنه وإن اتحد الحكم فالعلة مختلفة لأن عجز الصغر غير عجز الجنون

(2/25)


ومثال الأول مع الثالث قول الحنفي صغيرة فيولى عليها في النكاح كما يولى عليها في المال وذلك لأن ولاية المال وولاية النكاح متحدتان جنساً
ومثال الأول مع الرابع قوله عاجزة عن إنكاح نفسها فيولى عليها في النكاح كما يولى عليها في المال مع الجنون
(وعين أحدهما) أي الحكم أو العلة مع جنس الآخر (على) ما المشاركة فيه في (الجنسين) أي جنس الحكم وجنس العلة (وعين العلة) مع جنس الحكم (على العكس) أي على ما المشاركة فيه في عين الحكم مع جنس العلة لأن العلة هي العمدة في التعدية فلما كان التشابه فيها أكثر كان أقوى والترجيح بين الأجناس فيها بحسب مراتبها قرباً وبعداً
وأما الترجيح بين المختلفين أي العقلي والنقلي فإنه يرجح النقلي إن كان خاصاً منطوقاً لكونه أصلاً ولقلة تطرق الخلل إليه بالنسبة إلى القياس كما سبق وإلا لا يكن كذلك فلا محالة يكون عاماً وقد تقدم فيه الخلاف هل يخصص بالقياس أو لا ؟ أو مفهوماً فيكون محل اجتهاد لكونه درجات منها ضعيف جداً ومنها قوي جداً ومنها ما هو متوسط بين ذلك فالترجيح إنما يكون على حسب ما يقع للمجتهد من قوة الدلالة وضعفها عند مقابلة درجاته بدرجات القياس
(ووجوه الترجيح) غير ماذكرنا هنا كثيرة (لا تنحصر) بعَدٍّ فإن مركباتها تتركب مثنى وثلاث فصاعداً إلى آخر المفردات من مرجحات السند والمتن والحكم والأمر الخارجي منقولين ومعقولين ومختلفين إلى ما لا يتناها ولا بد لمن أوجب الترجيح من اعتباره وإلا لزم التحكم بسلوك طريق من الترجيح دون أخرى وقد سبق كثير منها كتقديم بعض المفاهيم على بعض والمجاز على الاشتراك
ومنها ما لم يسبق له ذكر كتقديم الفصيح والأفصح على مقابلهما فأغفل اعتماداً على نظر المجتهد فليست وجوه الترجيح المذكورة بضربة لازب وهي تتفاوت في الجلاء والظهور ففيها ما لا يلتفت معه إلى غيره لتجليه في الرجحان

(2/26)


ومنها ما هو مظنة الغموض فرُّبَّ ترجيح يرجح به الدليل عند مجتهد ولا يرجح به عند آخر ولذا ترى أنظار المجتهدين تتصارع فيقوى لبعض ما لا يقوى لغيره
وبالجملة فالاجتهاد معيار المجتهد وعموده رجحان العقل فكما أن الميزان الصناعي تنقصه وتزيده حبة الخردل كذلك الميزان العلمي يميل ليسر الأمارة
(ولن يخفى اعتبارها) أي وجوه الترجيح ما ذكر منها وما أغفل (على الفَطِن) الذّكي المتيقِّظ النقَّاد العارف بمجاري الأدلة ومظان الاجتهاد إذ فيما ذكرنا منها هداية وإرشاد إلى ما لم يذكر (مع توفيق الله عزّ وَجلّ) لعبده وتأييده له
والتوفيق تهيئة أسباب الخير وتنحية أسباب الشر من جعل الأسباب متوافقة فعند ذلك يتناول المطلوب ويصل به إلى كل محبوب ومرغوب نسأل الله تعالى توفيقه السالك بنا محجَّة الرشاد وتأييده المعين على تحصيل المراد وتزود التقوى ليوم المعاد إنه ولِيُّ ذلك القادر على ما هنالك
وهذه (خاتمة)
(في الحدود) وهي الموصلة إلى أمر مفرد (الحد) لغة طرف الشيء وشفره نحو حد السيف والمنع ومنه سمي السجان حداداً (1) و(في الاصطلاح) أي اصطلاح الأصوليين (ما يميز الشيء) المحدود (عن) دخول (غيره) فيه وخروج بعض أفراده وهذا التعريف شامل للعقلية كتعريف الماهيات والسمعية كتعريف الأحكام [*] وهذا مع ما يتبعه من الترجيح هو المراد هنا قيل لا يمكن تعريف الحد للزوم التسلسل ،وأجيب بمنع لزومه لأن حد الحد من حيث أنه حد مندرج في الحد وأن امتاز عنه بإضافته إليه
(وهو) قسمان (لفظي) منسوب إلى اللفظ وهو ما يقصد به تفسير مدلول اللفظ
__________
(1) ـ لمنعه الداخل والخارج تمت

(2/27)


(ومعنوي) منسوب إلى المعنى وهو ما يقال على الشيء لإفادة تصوره ولذا قال (فاللفظي) حقيقته (كشف لفظ بلفظ أجلى منه مرادف له) غالباً كما يقال الغضنفر هو الأسد والعقار هي الخمر وقد يكون بالأعم إذا كان المراد تمييزه عن بعض ما يشاركه كما يقال السعدان نبت فإن النبت يعم السعدان وغيره والله أعلم .
(والمعنوي) قد عرفت حقيقته (حقيقي) وهو ما أنبأ عن ذاتيات المحدود (ورسمي) ويرادفه العرضي وهو ما أنبأ عن الشيء بلازم يخصه كما يقال الخمر مائع يقذف بالزبد فإن ذلك عارض لازم بعد تمام حقيقته (وكلاهما) أي الحقيقي والرسمي (تام وناقص) فالأقسام أربعة
لأنه إما أن يكون بجميع الذاتيات فالحد التام ، أو بعضها فقط فالحد الناقص ، أو الجنس القريب والخاصة فالرسم التام ، أو بغير ذلك فالرسم الناقص
(فا) الأول ا(لحقيقي التام ما ركب من جنس الشيء وفصله القريبين) والأكثر في الترتيب تقديم الجنس على الفصل (كحيوان ناطق في تعريف الإنسان) ويجوز العكس فيقال ناطق حيوان فالحيوان جنس وقد تقدم حقيقة الجنس القريب والبعيد في الباب الرابع ، والفصل القريب ما كان مميزاً للشيء عن المشاركات في الجنس القريب كالناطق بالنسبة إلى الإنسان فإنه يميزه عن المشاركات في الحيوان الذي هو جنسه القريب ويسمى تاماً لكون الذاتيات فيه مذكورة بتمامها
(و) الثاني الحد (الحقيقي الناقص ما كان بالفصل) القريب (وحده كناطق) في تعريف الإنسان أيضاً (أو) به (مع جنسه) أي المحدود (البعيد كجسم ناطق) في تعريف الإنسان أيضاً فجسم جنس للإنسان بعيد من حيث أنه يشمل الحيوان وغيره من نام وغيره وإنما كان ناقصاً لعدم ذكر بعض الذاتيات فيه فعرفت أن مدار الحدية على كون المميز فصلاً
(والرسمي) منسوب إلى الرسم لكونه تعريفاً بالأثر مأخوذ من رسم الدار أي أثرها :ينقسم أيضاً إلى قسمين تام وناقص

(2/28)


فالأول (تام) وهو (ما كان بالجنس القريب والخاصة) وهي كلي خارج يحمل على ما تحت حقيقة واحدة سواء كانت تلك الحقيقة نوعية أو جنسية فالتحيز خاصة للجسم المطلق وعرض عام للنامي وما تحته
وقد تكون شاملة لجميع أفراد ما هي خاصة له كالكاتب والضاحك بالقوة للانسان وغيره ، وغير شاملة كالكاتب والضاحك بالفعل له وذلك (كحيوان ضاحك) وسمي تاماً للمشابهة بينه وبين الحقيقي التام من جهة أنه وضع فيه الجنس القريب وقيد بمختص به وهو الضاحك
(و) الثاني الرسمي (الناقص) وهو (ما كان بالخاصة وحدها) نحو الإنسان ضاحك (أو مع الجنس البعيد كجسم ضاحك) في تعريف الإنسان فإن أريد ضاحك بالقوة فهي خاصة شاملة وإن أريد بالفعل فغير شاملة وسمي ناقصاً لعدم ذكر بعض أجزاء الرسم التام (أو بالعرضيات التي تختص جملتها بحقيقة واحدة) لا كل واحد منفردا ويسمى الخاصة المركبة (كقولنا في تعريف الإنسان ماشٍ على قدميه عريض الأظفار بادي البشرة مستوي القامة ضاحك بالطبع) فإن جملة هذه الأوصاف مختصة بالإنسان لا كل فرد منها على انفراده فإن كثيراً من الحيوان يمشي على قدميه ومن عريض الظفر الجمل ومن بادي البشرة كثيراً من الحشرات ومن مستوي القامة والضاحك الدُّب كما يروى فقد دخل في الخاصة والله أعلم .

(2/29)


(و) يشترط في المعرف أن يكون أجلى من المعرف فلا بد أن تكون معرفة المعرف حاصلة قبل حصول معرفة المعرف بوجه من الوجوه لأن المراد التوصل إلى المجهول بالمعلوم ولذا قلنا إن (يجب الاحتراز في الحدود عن تعريف الشيء بما يساويه) في التعريف ضرورة كالمتضايفين نحو تعريف الأب بمن له ابن فإنهما بتعقلان معاً بالضرورة أو عادة كالمتضادين مثل السواد والبياض أو بالنظر إلى من يعرف له كتعريف الزرافة بحيوان يشبه جلده جلد النمر لمن لم يعرف النمر وعن تعريفه بما يساويه (في الجلاء والخفاء) وعن تعريفه بالأخفى كتعريفه (بما لا يعرف) ذلك الشيء (إلا به) بأن تكون معرفة الحد موقوفة على معرفة المحدود لأنه دور سواء كان ذلك التوقف (بمرتبة) أي بواسطة مرتبة ويسمى الدور الظاهر مثل تعريف الكيفية بما به تقع المشابهة والا مشابهة ثم تعريف المشابهة بالاتفاق بالكيفية
(أو) بواسطة (مراتب) جمع مرتبة والمراد به ما فوق الواحد ويسمى الدور الخفي مثل تعريف الاثنين بأول عدد منقسم بمتساويين ثم تعريف المتساويين بالشيئين غير المتفاضلين ثم تعريف الشيئين بالاثنين فالمتساويان يتوقفان على الاثنين بمرتبتين إحداهما توقف المتساويين على الشيئين والثانية توقف الشيئين على الاثنين

(2/30)


(و) يجب الاحتراز (عن استعمال الالفاظ) المجازية والمشتركة و(الغريبة) التي لم تعرف من غير قرينة لأن ذلك مفوت للغرض كما في تعريف النار بالخفيف المطلق وكما يقال النار اسطقص فوق الاسطقصات أو عنصر فوق العناصر ، والاسطقص والعنصر : هو الأصل فحد الشيء بما هو أخفى منه وكما قيل في حد العلم ما يقتضي سكون الجرشى وهو من أسماء النفس وهذا إنما هو (بالنظر إلى المخاطب) أما لو كان السامع المخاطب عالماً بالألفاظ الوحشية أو كان هناك قرينة دالة على المراد جاز استعمالها وبهذا يندفع ما يقال أن المجاز لا يكون قرينة لأخذها في ما هيته لأن قرينته دالة على أن اللفظ لم يستعمل فيما وضع له وهي غير القرينة الدالة على تعيين المراد فهذا كله تصريح بمفهوم المساواة في الجلاء والخفاء وتقييدها به لأن المساواة التي هي بحيث يصدق أحدهما على ما يصدق عليه الآخر فإذا وجد وجد وهو معنى الاطراد وبه يكون الحد جامعاً وإذا عدم عدم وهو معنى الانعكاس وبه يكون مانعاً معتبرة (1) والله أعلم . .فهذا بيان الحدود وأقسامها
__________
(1) ـ خبر أن في قوله لأن المساواة تمت

(2/31)


وأما الترجيح بينها فقد بينه بقوله (وترجيح بعض الحدود السمعية) وهي الموصلة إلى تصور الأحكام الشرعية كحدود الصلاة والصوم والحج والزكاة لا العقلية وهي التي يقصد بها تعريف الماهيات وإنما لم يقيدها بالظنية لما علم من الوجه في منع التعارض بين الحجج القطعية إذا عرفت ذلك فيرجح بعضها (على بعض) بأحد أمور كثيرة (يكون ألفاظه أصرح) بأن تكون ناصة على الغرض المطلوب دالة عليه بالمطابقة وألفاظ الآخر ليست كذلك بأن تكون مجازية أو مشتركة أو عرفية مع مصحح الحد بها أو مضطربة أو دالة على الغرض بالالتزام فإن الأول أرجح لكونه أقرب إلى الفهم وأبعد عن الخلل والاضطراب مثال ذلك ما يقال في الجنابة حدوث صفة شرعية في الإنسان عند خروج المني أو عند سببه يمنع من القراءة لا الصوم مع قول الآخر الجنابة : خروج المني على وجه الشهوة فقد تعارضا لأن الأول يقتضي أن الجنابة غير خروج المني والثاني يقتضي أنها نفس خروجه فإن الأول أرجح لكونه أصرح لما في الثاني من التجوز إذ يسبق إلى الفهم أن الجنابة صفة المني وإنما الجنب صاحب المني وكتعريف الشمس بأنها عين موجودة فإنه مشترك وكتعريف الخلق بالديدن فإنه غريب
(أو المعرف فيه) أي في أحدهما (أقوى) وأشهر منه في الآخر فيكون إلى التعريف أقرب مثاله الحوالة نقل الدَّين من ذمة إلى ذمة مع قول الآخر ضم ذمة إلى ذمة فالأول أشهر
(و) يرجح أيضاً (بعمومه) أي يكون مدلول أحد الحدين أعم من مدلول الآخر كثيراً للفائدة . مثاله الخمر ما أسكر مع قول الآخر هي التي من العنب إذا أسكر فإن الحدين متعارضان والأول أعم لاقتضائه أن كل مسكر يسمى خمراً فكان أرجح

(2/32)


(و) ها هنا ترجيحات بأمور خارجية أشار إليها بقوله (بموافقته النقل السمعي) أ(واللغوي) وتقريره لوضعهما على ما لم يوافقهما لبعد الخلل عن الموافق له وكونه أغلب كالمثال فإن الأول موافق لقول الشارع ما أسكر فهو خمر واللغوي أيضاً فإن معناه عند أهل اللغة ما يخامر العقل وهو معنى الإسكار والثاني لا يوافق ذلك النقل وفيه أن مخالف السمعي لا اعتبار به فلا معارضة فلا ترجيح
(وبعمل أهل المدينة والخلفاء الأربعة) بناءً على أن قول علي عليه السلام ليس بحُجَّة وإلا فقد دخل في السمعي (أو العلماء) جميعاً وهو الإجماع فقد دخل فيه أيضاً بقرينة (أو بعضهم) ولو عالماً واحداً نحو أن ينقل عن أي هؤلاء أنه يقول في الخمر هو ما أسكر وعن غيرهم هي التي من العنب إذا أسكر فإنه يرجح ما عمل به أي هؤلاء على ما لم يعملوا به إذ هو أقرب إلى الانقياد وأغلب على الظن
(وتقرير حكم الحظر أو حكم النفي) فإذا كان أحد الحدين مقرراً لأحد الأمرين والآخر بخلافه قدم المقرر أمَّا الحظر فلأنه أحوط وأما النفي فلأنه الأصل مثاله قول الشافعي الحدث انتقاض الطهارة الشرعية بخروج شيء من السبيلين أو بسبب خروجه كالنوم مضجعاً مع قول الحنفي هو انتقاض الطهارة الشرعية بخروج ما يخرج من باطن الآدمي أو بسببه الأكثري كالنوم أو القهقهة في الصلاة فالأول أرجح لتقريره حكم النفي الأصلي في الرعاف والقيء والقهقهة (1) وغيرها
__________
(1) ـ قلت : ويقال : قد تعارض في مثل هذا مرجحان عموم الأخير وتقرير الأول بحكم الأصل وأنهما أرجح تمت منه

(2/33)


وقد دخل فيه قوله : (وبدرء الحد) فإذا كان أحد الحدين يلزم من العمل به درء الحد ومن العمل بالآخر إثباته. مثاله في الزنا الموجب للحد إتيان المرأة في قبلها من غير ملك النكاح ولا شبهة مع قول الآخر إيلاج فرج في فرج محرَّم شرعاً مشتهى طبعاً فالأول يقتضي أن أتيان المرأة في دبرها وإتيان غيرها لا يسمى زنا بخلاف الثاني فيرجح الأول لدرءه الحد في إتيان المرأة في دبرها وإتيان غيرها لأنه موافق للنقل السمعي وهو قوله : (ادرأوا الحدود بالشبهات ) فقد دخل فيما وافق السمعي أيضاً (إلى غيرها) من وجوه الترجيح في الحدود الشرعية نحو موافقة المعصوم أو الأعلم لأنه أغلب على الظن (ممَّا لا يعزب على من له طبع سليم) قال في مطارح الأفكار : الطبيعة هي القوة التي يحصل منها الأفاعيل الجزئية للنفس (وفهم غير سقيم وتوفيق من الفتاح العليم والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم) اقتباس من الآية
اللَّهُمَّ صلِّ وسلِّم على سيدنا محمَّدٍ وآله واجعلنا من حفظة الحدود واكفنا كل ذي شرٍّ حسودٍّ واسلك بنا مسلك السنة والقرآن واقرن أمارة نجاتنا بالرجحان واختم لنا بالسعادة واجعلنا من الذين أحسنوا فلهم الحسنى وزيادة . ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم .
قال في الأم ـ نسخة المؤلف ـ : تم الكتاب بمن العزيز الوهاب وكان الفراغ من نقله في يوم الاثنين لعله الثالث من شهر رمضان الكريم الكريم أحد شهور سنة إحدى وسبعين وألف ختمها الله بخير آمين بعناية مالكه ومؤلفه سيدنا الفقيه العلم الكامل العلامة العامل جمال الاسلام واسطة نظام عقد الشيعة الكرام الأعلام علي بن صلاح بن علي بن محمد الطبري حفظه الله وزاده من العلوم النافعة ورزق الجميع خاتمة الخير الموصلة إلى دار النعيم بحق محمد وآله ، وكاتبه يستمد الدعاء من إخوانه كافة بحسن الخاتمة والنجاة من النار آمين

(2/34)