الكتاب : شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد

وَ اعْلَمْ أَنَّ الرَّعِيَّةَ طَبَقَاتٌ لَا يَصْلُحُ بَعْضُهَا إِلَّا بِبَعْضٍ وَ لَا غِنَى بِبَعْضِهَا عَنْ بَعْضٍ فَمِنْهَا جُنُودُ اللَّهِ وَ مِنْهَا كُتَّابُ الْعَامَّةِ وَ الْخَاصَّةِ وَ مِنْهَا قُضَاةُ الْعَدْلِ وَ مِنْهَا عُمَّالُ الْإِنْصَافِ وَ الرِّفْقِ وَ مِنْهَا أَهْلُ الْجِزْيَةِ وَ الْخَرَاجِ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ وَ مُسْلِمَةِ النَّاسِ وَ مِنْهَا التُّجَّارُ وَ أَهْلُ الصِّنَاعَاتِ وَ مِنْهَا الطَّبَقَةُ السُّفْلَى مِنْ ذَوِي الْحَاجَاتِ وَ الْمَسْكَنَةِ وَ كُلٌّ قَدْ سَمَّى اللَّهُ لَهُ سَهْمَهُ وَ وَضَعَ عَلَى حَدِّهِ وَ فَرِيضَتِهِ فِي كِتَابِهِ أَوْ سُنَّةِ نَبِيِّهِ ص عَهْداً مِنْهُ عِنْدَنَا مَحْفُوظاً فَالْجُنُودُ بِإِذْنِ اللَّهِ حُصُونُ الرَّعِيَّةِ وَ زَيْنُ الْوُلَاةِ وَ عِزُّ الدِّينِ وَ سُبُلُ الْأَمْنِ وَ لَيْسَ تَقُومُ الرَّعِيَّةُ إِلَّا بِهِمْ ثُمَّ لَا قِوَامَ لِلْجُنُودِ إِلَّا بِمَا يُخْرِجُ اللَّهُ لَهُمْ مِنَ الْخَرَاجِ الَّذِي يَقْوَوْنَ بِهِ عَلَى جِهَادِ عَدُوِّهِمْ وَ يَعْتَمِدُونَ عَلَيْهِ فِيمَا يُصْلِحُهُمْ وَ يَكُونُ مِنْ وَرَاءِ حَاجَتِهِمْ ثُمَّ لَا قِوَامَ لِهَذَيْنِ الصِّنْفَيْنِ إِلَّا بِالصِّنْفِ الثَّالِثِ مِنَ الْقُضَاةِ وَ الْعُمَّالِ شرح نهج البلاغة ج : 17 ص : 49وَ الْكُتَّابِ لِمَا يُحْكِمُونَ مِنَ الْمَعَاقِدِ وَ يَجْمَعُونَ مِنَ الْمَنَافِعِ وَ يُؤْتَمَنُونَ عَلَيْهِ مِنْ خَوَاصِّ الْأُمُورِ وَ عَوَاِهَا وَ لَا قِوَامَ لَهُمْ جَمِيعاً إِلَّا بِالتُّجَّارِ وَ ذَوِي الصِّنَاعَاتِ فِيمَا يَجْتَمِعُونَ عَلَيْهِ مِنْ مَرَافِقِهِمْ وَ يُقِيمُونَهُ مِنْ أَسْوَاقِهِمْ وَ يَكْفُونَهُمْ مِنَ التَّرَفُّقِ بِأَيْدِيهِمْ مِمَّا لَا يَبْلُغُهُ رِفْقُ غَيْرِهِمْ ثُمَّ الطَّبَقَةُ السُّفْلَى مِنْ أَهْلِ الْحَاجَةِ وَ الْمَسْكَنَةِ

(18/38)


الَّذِينَ يَحِقُّ رِفْدُهُمْ وَ مَعُونَتُهُمْ وَ فِي اللَّهِ لِكُلٍّ سَعَةٌ وَ لِكُلٍّ عَلَى الْوَالِي حَقٌّ بِقَدْرِ مَا يُصْلِحُهُ وَ لَيْسَ يَخْرُجُ الْوَالِي مِنْ حَقِيقَةِ مَا أَلْزَمَهُ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ ذَلِكَ إِلَّا بِالِاهْتِمَامِ وَ الِاسْتِعَانَةِ بِاللَّهِ وَ تَوْطِينِ نَفْسِهِ عَلَى لُزُومِ الْحَقِّ وَ الصَّبْرِ عَلَيْهِ فِيمَا خَفَّ عَلَيْهِ أَوْ ثَقُلَ
قالت الحكماء الإنسان مدني بالطبع و معناه أنه خلق خلقة لا بد معها من أن يكون منضما إلى أشخاص من بني جنسه و متمدنا في مكان بعينه و ليس المراد بالمتمدن ساكن المدينة ذات السور و السوق بل لا بد أن يقيم في موضع ما مع قوم من البشر و ذلك لأن الإنسان مضطر إلى ما يأكله و يشربه ليقيم صورته و مضطر إلى ما يلبسه ليدفع عنه أذى الحر و البرد و إلى مسكن يسكنه ليرد عنه عادية غيره من الحيوانات و ليكون منزلا له ليتمكن من التصرف و الحركة عليه و معلوم أن الإنسان وحده لا يستقل بالأمور التي عددناها بل لا بد من جماعة يحرث بعضهم لغيره الحرث و ذلك الغير يحوك للحراث الثوب و ذلك الحائك يبني له غيره المسكن و ذلك البناء يحمل له شرح نهج البلاغة ج : 17 ص : 50غيره الماء و ذلك السقاء يكفيه غيره أمر تحصيل الآلة التي يطحن بها الحب و يعجن بها الدقيق و يخبز بها العجين و ذلك المحصل لهذه الأشياء ييه غيره الاهتمام بتحصيل الزوجة التي تدعو إليها داعية الشبق فيحصل مساعدة بعض الناس لبعض لو لا ذلك لما قامت الدنيا فلهذا معنى قوله ع إنهم طبقات لا يصلح بعضها إلا ببعض و لا غناء ببعضها عن بعض. ثم فصلهم و قسمهم فقال منهم الجند و منهم الكتاب و منهم القضاة و منهم العمال و منهم أرباب الجزية من أهل الذمة و منهم أرباب الخراج من المسلمين و منهم التجار و منهم أرباب الصناعات و منهم ذوو الحاجات و المسكنة و هم أدون الطبقات. ثم ذكر أعمال هذه الطبقات فقال الجند للحماية

(18/39)


و الخراج يصرف إلى الجند و القضاة و العمال و الكتاب لما يحكمونه من المعاقد و يجمعونه من المنافع و لا بد لهؤلاء جميعا من التجار لأجل البيع و الشراء الذي لا غناء عنه و لا بد لكل من أرباب الصناعات كالحداد و النجار و البناء و أمثالهم ثم تلي هؤلاء الطبقة السفلى و هم أهل الفقر و الحاجة الذين تجب معونتهم و الإحسان إليهم. و إنما قسمهم في هذا الفصل هذا التقسيم تمهيدا لما يذكره فيما بعد فإنه قد شرع بعد هذا الفصل فذكر طبقة طبقة و صنفا صنفا و أوصاه في كل طبقة و في كل صنف منهم بما يليق بحاله و كأنه مهد هذا التمهيد كالفهرست لما يأتي بعده من التفصيل شرح نهج البلاغة ج : 17 ص 51

(18/40)


فَوَلِّ مِنْ جُنُودِكَ أَنْصَحَهُمْ فِي نَفْسِكَ لِلَّهِ وَ لِرَسُولِهِ وَ لِإِمَامِكَ وَ أَطْهَرَهُمْ جَيْباً وَ أَفْضَلَهُمْ حِلْماً مِمَّنْ يُبْطِئُ عَنِ الْغَضَبِ وَ يَسْتَرِيحُ إِلَى الْعُذْرِ وَ يَرْأَفُ بِالضُّعَفَاءِ وَ يَنْبُو عَلَى الْأَقْوِيَاءِ وَ مِمَّنْ لَا يُثِيرُهُ الْعُنْفُ وَ لَا يَقْعُدُ بِهِ الضَّعْفُ ثُمَّ الْصَقْ بِذَوِي الْمُرُوءَاتِ وَ الْأَحْسَابِ وَ أَهْلِ الْبُيُوتَاتِ الصَّالِحَةِ وَ السَّوَابِقِ الْحَسَنَةِ ثُمَّ أَهْلِ النَّجْدَةِ وَ الشَّجَاعَةِ وَ السَّخَاءِ وَ السَّمَاحَةِ فَإِنَّهُمْ جِمَاعٌ مِنَ الْكَرَمِ وَ شُعَبٌ مِنَ الْعُرْفِ ثُمَّ تَفَقَّدْ مِنْ أُمُورِهِمْ مَا يَتَفَقَّدُ الْوَالِدَانِ مِنْ وَلَدِهِمَا وَ لَا يَتَفَاقَمَنَّ فِي نَفْسِكَ شَيْ ءٌ قَوَّيْتَهُمْ بِهِ وَ لَا تَحْقِرَنَّ لُطْفاً تَعَاهَدْتَهُمْ بِهِ وَ إِن قَلَّ فَإِنَّهُ دَاعِيَةٌ لَهُمْ إِلَى بَذْلِ النَّصِيحَةِ لَكَ وَ حُسْنِ الظَّنِّ بِكَ وَ لَا تَدَعْ تَفَقُّدَ لَطِيفِ أُمُورِهِمُ اتِّكَالًا عَلَى جَسِيمِهَا فَإِنَّ لِلْيَسِيرِ مِنْ لُطْفِكَ مَوْضِعاً يَنْتَفِعُونَ بِهِ وَ لِلْجَسِيمِ مَوْقِعاً لَا يَسْتَغْنُونَ عَنْهُ وَ لْيَكُنْ آثَرُ رُءُوسِ جُنْدِكَ عِنْدَكَ مَنْ وَاسَاهُمْ فِي مَعُونَتِهِ وَ أَفْضَلَ عَلَيْهِمْ مِنْ جِدَتِهِ بِمَا يَسَعُهُمْ وَ يَسَعُ مَنْ وَرَاءَهُمْ مِنْ خُلُوفِ أَهْلِيهِمْ حَتَّى يَكُونَ هَمُّهُمْ هَمّاً وَاحِداً فِي جِهَادِ الْعَدُوِّ فَإِنَّ عَطْفَكَ عَلَيْهِمْ يَعْطِفُ قُلُوبَهُمْ عَلَيْكَ وَ لَا تَصِحُّ نَصِيحَتُهُمْ إِلَّا بِحِيطَتِهِمْ عَلَى وُلَاةِ أُمُورِهِمْ وَ قِلَّةِ اسْتَثْقَالِ دُوَلِهِمْ وَ تَرْكِ اسْتِبْطَاءِ انْقِطَاعِ مُدَّتِهِمْ فَافْسَحْ فِي آمَالِهِمْ وَ وَاصِلْ مِنْ حُسْنِ الثَّنَاءِ عَلَيْهِمْ وَ تَعْدِيدِ مَا أَبْلَى

(18/41)


ذَوُو الْبَلَاءِ شرح نهج البلاغة ج : 17 ص : 52مِنْهُمْ فَإِنَّ كَثْرَةَ الذِّكْرِ لِحُسْنِ فِعَالِهِمْ تَهُزُّ الشُّجَاعَ وَ تُحَرِّضُ النَّاكِلَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ اعْرِفْ لِكُلِّ امْرِ مِنْهُمْ مَا أَبْلَى وَ لَا تَضُمَّنَّ بَلَاءَ امْرِئٍ إِلَى غَيْرِهِ وَ لَا تُقَصِّرَنَّ بِهِ دُونَ غَايَةِ بَلَائِهِ وَ لَا يَدْعُوَنَّكَ شَرَفُ امْرِئٍ إِلَى أَنْ تُعْظِمَ مِنْ بَلَائِهِ مَا كَانَ صَغِيراً وَ لَا ضَعَةُ امْرِئٍ إِلَى أَنْ تَسْتَصْغِرَ مِنْ بَلَائِهِ مَا كَانَ عَظِيماً وَ ارْدُدْ إِلَى اللَّهِ وَ رَسُولِهِ مَا يُضْلِعُكَ مِنَ الْخُطُوبِ وَ يَشْتَبِهُ عَلَيْكَ مِنَ الْأُمُورِ فَقَدْ قَالَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ لِقَوْمٍ أَحَبَّ إِرْشَادَهُمْ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَ أَطِيعُوا الرَّسُولَ وَ أُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْ ءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَ الرَّسُولِ فَالرَّدُّ إِلَى اللَّهِ الْأَخْذُ بِمُحْكَمِ كِتَابِهِ وَ الرَّدُّ إِلَى الرَّسُولِ الْأَخْذُ بِسُنَّتِهِ الْجَامِعَةِ غَيْرِ الْمُفرِّقَةِ

(18/42)


هذا الفصل مختص بالوصاة فيما يتعلق بأمراء الجيش أمره أن يولى أمر الجيش من جنوده من كان أنصحهم لله في ظنه و أطهرهم جيبا أي عفيفا أمينا و يكنى عن العفة و الأمانة بطهارة الجيب لأن الذي يسرق يجعل المسروق في جيبه. فإن قلت و أي تعلق لهذا بولاة الجيش إنما ينبغي أن تكون هذه الوصية في ولاة الخراج قلت لا بد منها في أمراء الجيش لأجل الغنائم. ثم وصف ذلك الأمير فقال ممن يبطئ عن الغضب و يستريح إلى العذر أي يقبل شرح نهج البلاغة ج : 17 ص : 53أدنى عذر و يستريح إليه و يسكن عنده و يرؤف على الضعفاء يرفق بهم و يرحمهم و الرأفة رحمة و ينبو عن الأقوياء يتجافى عنهم و يبعد أي لا يمكنهم من الظلم و التعدي على الضعفاء و لا يثيره العنف لا يهيج غضبه عنف و قسوة و لا يقعد به الضعف أي ليس عاجزا. ثم أمره أن يلصق بذوي الأحساب و أهل البيوتات أي يكرمهم و يجعل معوله في ذلك عليهم و لا يتعداهم إلى غيرهم و كان يقال عليكم بذوي الأحساب فإن هم لم يتكرموا استحيوا. ثم ذكر بعدهم أهل الشجاعة و السخاء ثم قال إنها جماع من الكرم و شعب من العرف من هاهنا زائدة و إن كانت في الإيجاب على مذهب أبي الحسن الأخفش أي جماع الكرم أي يجمعه
كقول النبي ص الخمر جماع الإثم

(18/43)


و العرف المعروف. و كذلك من في قوله و شعب من العرف أي شعب العرف أي هي أقسامه و أجزاؤه و يجوز أن تكون من على حقيقتها للتبعيض أي هذه الخلال جملة من الكرم و أقسام المعروف و ذلك لأن غيرها أيضا من الكرم و المعروف و نحو العدل و العفة. قوله ثم تفقد من أمورهم الضمير هاهنا يرجع إلى الأجناد لا إلى الأمراء لما سنذكره مما يدل الكلام عليه. فإن قلت إنه لم يجر للأجناد ذكر فيما سبق و إنما المذكور الأمراء قلت كلا بل سبق ذكر الأجناد و هو قوله الضعفاء و الأقوياء. شرح نهج البلاغة ج : 17 ص : 54و أمره ع أن يتفقد من أمور الجيش ميتفقد الوالدان من حال الولد و أمره ألا يعظم عنده ما يقويهم به و إن عظم و ألا يستحقر شيئا تعهدهم به و إن قل و ألا يمنعه تفقد جسيم أمورهم عن تفقد صغيرها و أمره أن يكون آثر رءوس جنوده عنده و أحظاهم عنده و أقربهم إليه من واساهم في معونته هذا هو الضمير الدال على أن الضمير المذكور أولا للجند لا لأمراء الجند لو لا ذلك لما انتظم الكلام. قوله من خلوف أهليهم أي ممن يخلفونه من أولادهم و أهليهم. ثم قال لا يصح نصيحة الجند لك إلا بحيطتهم على ولاتهم أي بتعطفهم عليهم و تحننهم و هي الحيطة على وزن الشيمة مصدر حاطه يحوطه حوطا و حياطا و حيطة أي كلأه و رعاه و أكثر الناس يروونها إلا بحيطتهم بتشديد الياء و كسرها و الصحيح ما ذكرناه. قوله و قلة استثقال دولهم أي لا تصح نصيحة الجند لك إلا إذا أحبوا أمراءهم ثم لم يستثقلوا دولهم و لم يتمنوا زوالها. ثم أمره أن يذكر في المجالس و المحافل بلاء ذوي البلاء منهم فإن ذلك مما يرهف عزم الشجاع و يحرك الجبان. قوله و لا تضمن بلاء امرئ إلى غيره أي اذكر كل من أبلى منهم مفردا غير مضموم ذكر بلائه إلى غيره كي لا يكون مغمورا في جنب ذكر غيره. ثم قال له لا تعظم بلاء ذوي الشرف لأجل شرفهم و لا تحقر بلاء ذوي الضعة لضعة أنسابهم بل اذكر الأمور على حقائقها. ثم أمره أن يرد إلى

(18/44)


الله و رسوله ما يضلعه من الخطوب أي ما يئوده و يميله
شرح نهج البلاغة ج : 17 ص : 55لثقله و هذه الرواية أصح من رواية من رواها بالظاء و إن كان لتلك وجهرسالة الإسكندر إلى أرسطو و رد أرسطو عليه
و ينبغي أن نذكر في هذا الموضع رسالة أرسطو إلى الإسكندر في معنى المحافظة على أهل البيوتات و ذوي الأحساب و أن يخصهم بالرئاسة و الإمرة و لا يعدل عنهم إلى العامة و السفلة فإن في ذلك تشييدا لكلام أمير المؤمنين ع و وصيته. لما ملك الإسكندر ايرانشهر و هو العراق مملكة الأكاسرة و قتل دارا بن دارا كتب إلى أرسطو و هو ببلاد اليونان عليك أيها الحكيم منا السلام أما بعد فإن الأفلاك الدائرة و العلل السمائية و إن كانت أسعدتنا بالأمور التي أصبح الناس لنا بها دائبين فإنا جد واجدين لمس الاضطرار إلى حكمتك غير جاحدين لفضلك و الإقرار بمنزلتك و الاستنامة إلى مشورتك و الاقتداء برأيك و الاعتماد لأمرك و نهيك لما بلونا من جدا ذلك علينا و ذقنا من جنا منفعته حتى صار ذلك بنجوعه فينا و ترسخه في أذهاننا و عقولنا كالغذاء لنا فما ننفك نعول عليه و نستمد منه استمداد الجداول من البحور و تعويل الفروع على الأصول و قوة الأشكال بالأشكال و قد كان مما سيق إلينا من النصر و الفلج و أتيح لنا من الظفر و بلغنا في العدو من النكاية و البطش ما يعجز القول عن وصفه و يقصر شكر المنعم عن موقع الإنعام به و كان من ذلك أنا جاوزنا أرض سورية و الجزيرة إلى بابل و أرض فارس فلما حللنا بعقوة أهلها و ساحة بلادهم لم يكن إلا ريثما تلقانا نفر منهم برأس ملكهم هدية إلينا و طلبا للحظوة عندنا فأمرنا بصلب من شرح نهج البلاغة ج : 17 ص : 56جاء به و شهرته لسوء بلائه و قلة ارعوائه و وفائه ثم أمرنا بجمع من كان هناك من أولاد ملوكهم و أحرار و ذي الشرف منهم فرأينا رجالا عظيمة أجسامهم و أحلامهم حاضرة ألبابهم و أذهانهم رائعة مناظرهم و مناطقهم دليلا على أن ما يظهر من

(18/45)


روائهم و منطقهم أن وراءه من قوة أيديهم و شدة نجدتهم و بأسهم ما لم يكن ليكون لنا سبيل إلى غلبتهم و إعطائهم بأيديهم لو لا أن القضاء أدالنا منهم و أظفرنا بهم و أظهرنا عليهم و لم نر بعيدا من الرأي في أمرهم أن نستأصل شأفتهم و نجتث أصلهم و نلحقهم بمن مضى من أسلافهم لتسكن القلوب بذلك الأمن إلى جرائرهم و بوائقهم فرأينا ألا نجعل بإسعاف بادئ الرأي في قتلهم دون الاستظهار عليهم بمشورتك فيهم فارفع إلينا رأيك فيما استشرناك فيه بعد صحته عندك و تقليبك إياه بجلي نظرك و سلام أهل السلام فليكن علينا و عليك. فكتب إليه أرسطو لملك الملوك و عظيم العظماء الإسكندر المؤيد بالنصر على الأعداء المهدي له الظفر بالملوك من أصغر عبيده و أقل خوله أرسطوطاليس البخوع بالسجود و التذلل في السلام و الإذعان في الطاعة أما بعد فإنه لا قوة بالمنطق و إن احتشد الناطق فيه و اجتهد في تثقيف معانيه و تأليف حروفه و مبانيه على الإحاطة بأقل ما تناله القدرة من بسطة علو الملك و سمو ارتفاعه عن كل قول و إبرازه على كل وصف و اغترافه بكل إطناب و قد كان تقرر عندي من مقدمات إعلام فضل الملك في صهلة سبقه و بروز شأوه و يمن نقيبته مذ أدت إلي حاسة بصري صورة شخصه و اضطرب في حس سمعي صوت لفظه و وقع وهمي

(18/46)


شرح نهج البلاغة ج : 17 ص : 57على تعقيب نجاح رأيه أيام كنت أؤدي إليه من تكلف تعليمي إياه ما أصبحت قاضيا على نفسي بالحاجة إلى تعلمه منه و مهما يكن مني إليه في ذلك فإنما هو عقل مردود إلى عقله مستنبطة أواليه و تواليه من علمه و حكمته و قد جلا إلى كتاب الملك مخاطبته إياي و مسألته لي عما لا يتخالجني الشك في لقاح ذلك و إنتاجه من عنده فعنه صدر و عليه ورد و أنا فيما أشير به على الملك و إن اجتهدت فيه و احتشدت له و تجاوزت حد الوسع و الطاقة مني في استنظافه و استقصائه كالعدم مع الوجود بل كما لا يتجزأ في جنب معظم الأشياء و لكني غير ممتنع من إجابة الملك إلى ما سأل مع علمي و يقيني بعظيم غناه عني و شدة فاقتي إليه و أنا راد إلى الملك ما اكتسبته منه و مشير عليه بما أخذته منه فقائل له إن لكل تربة لا محالة قسما من الفضائل و إن لفارس قسمها من النجدة و القوة و إنك إن تقتل أشرافهم تخلف الوضعاء علي أعقابهم و تورث سفلتهم على منازل عليتهم و تغلب أدنياءهم على مراتب ذوي أخطارهم و لم يبتل الملوك قط ببلاء هو أعظم عليهم و أشد توهينا لسلطانهم من غلبة السفلة و ذل الوجوه فاحذر الحذر كله أن تمكن تلك الطبقة من الغلبة و الحركة فإنه إن نجم منهم بعد اليوم على جندك و أهل بلادك ناجم دهمهم منه ما لا روية فيه و لا بقية معه فانصرف عن هذا الرأي إلى غيره و اعمد إلى من قبلك من أولئك العظماء و الأحرار فوزع بينهم مملكتهم و ألزم اسم الملك كل من وليته منهم ناحيته و اعقد التاج على رأسه و إن صغر ملكه فإن المتسمي بالملك لازم لاسمه و المعقود التاج على رأسه لا يخضع لغيره فليس ينشب ذلك أن يوقع كل ملك منهم بينه و بين صاحبه تدابرا و تقاطعا و تغالبا على الملك و تفاخرا بالمال و الجند حتى ينسوا بذلك أضغانهم عليك و أوتارهم فيك و يعود حربهم لك حربا شرح نهج البلاغة ج : 17 : 58بينهم و حنقهم عليك حنقا منهم على أنفسهم ثم لا يزدادون في ذلك

(18/47)


بصيرة إلا أحدثوا لك بها استقامة إن دنوت منهم دانوا لك و إن نأيت عنهم تعززوا بك حتى يثب من ملك منهم على جاره باسمك و يسترهبه بجندك و في ذلك شاغل لهم عنك و أمان لأحداثهم بعدك و إن كان لا أمان للدهر و لا ثقة بالأيام. قد أديت إلى الملك ما رأيته لي حظا و علي حقا من إجابتي إياه إلى ما سألني عنه و محضته النصيحة فيه و الملك أعلى عينا و أنفذ روية و أفضل رأيا و أبعد همة فيما استعان بي عليه و كلفني بتبيينه و المشورة عليه فيه لا زال الملك متعرفا من عوائد النعم و عواقب الصنع و توطيد الملك و تنفيس الأجل و درك الأمل ما تأتي فيه قدرته على غاية قصوى ما تناله قدرة البشر. و السلام الذي لا انقضاء له و لا انتهاء و لا غاية و لا فناء فليكن على الملك. قالوا فعمل الملك برأيه و استخلف على ايرانشهر أبناء الملوك و العظماء من أهل فارس فهم ملوك الطوائف الذين بقوا بعده و المملكة موزعة بينهم إلى أن جاء أردشير بن بابك فانتزع الملك منهم

(18/48)


ثُمَّ اخْتَرْ لِلْحُكْمِ بَيْنَ النَّاسِ أَفْضَلَ رَعِيَّتِكَ فِي نَفْسِكَ مِمَّنْ لَا تَضِيقُ بِهِ الْأُمُورُ وَ لَا تُمَحِّكُهُ الْخُصُومُ وَ لَا يَتَمَادَى فِي الزَّلَّةِ وَ لَا يَحْصَرُ مِنَ الْفَيْ ءِ إِلَى الْحَقِّ إِذَا عَرَفَهُ وَ لَا تُشْرِفُ نَفسُهُ عَلَى طَمَعٍ وَ لَا يَكْتَفِي بِأَدْنَى فَهْمٍ دُونَ أَقْصَاهُ وَ أَوْقَفَهُمْ فِي الشُّبُهَاتِ وَ آخَذَهُمْ بِالْحُجَجِ وَ أَقَلَّهُمْ تَبَرُّماً بِمُرَاجَعَةِ الْخَصْمِ وَ أَصْبَرَهُمْ شرح نهج البلاغة ج : 17 ص : 59عَلَى تَكَشُّفِ الْأُمُورِ وَ أَصَمَهُمْ عِنْدَ اتِّضَاحِ الْحُكْمِ مِمَّنْ لَا يَزْدَهِيهِ إِطْرَاءٌ وَ لَا يَسْتَمِيلُهُ إِغْرَاءٌ وَ أُولَئِكَ قَلِيلٌ ثُمَّ أَكْثِرْ تَعَاهُدَ قَضَائِهِ وَ أَفْسِحْ لَهُ فِي الْبَذْلِ مَا يُزِيحُ عِلَّتَهُ وَ تَقِلُّ مَعَهُ حَاجَتُهُ إِلَى النَّاسِ وَ أَعْطِهِ مِنَ الْمَنْزِلَةِ لَدَيْكَ مَا لَا يَطْمَعُ فِيهِ غَيْرُهُ مِنْ خَاصَّتِكَ لِيَأْمَنَ بِذَلِكَ اغْتِيَالَ الرِّجَالِ لَهُ عِنْدَكَ فَانْظُرْ فِي ذَلِكَ نَظَراً بَلِيغاً فَإِنَّ هَذَا الدِّينَ قَدْ كَانَ أَسِيراً فِي أَيْدِي الْأَشْرَارِ يُعْمَلُ فِيهِ بِالْهَوَى وَ تُطْلَبُ بِهِ الدُّنْيَا
تمحكه الخصوم تجعله ما حكا أي لجوجا محك الرجل أي لج و ماحك زيد عمرا أي لاجه. قوله و لا يتمادى في الزلة أي إن زل رجع و أناب و الرجوع إلى الحق خير من التمادي في الباطل. قوله و لا يحصر من الفي ء هو المعنى الأول بعينه و الفي ء الرجوع إلا أن هاهنا زيادة و هو أ لا يحصر أي لا يعيا في المنطق لأن من الناس من إذا زل حصر عن أن يرجع و أصابه كالفهاهة و العي خجلا. قوله و لا تشرف نفسه أي لا تشفق و الإشراف الإشفاق و الخوف و أنشد الليث
و من مضر الحمراء إسراف أنفس علينا و حياها علينا تمضرا

(18/49)


شرح نهج البلاغة ج : 17 ص : 60و قال عروة بن أذينةلقد علمت و ما الإشراف من خلقي أن الذي هو رزقي سوف يأتيني
و المعنى و لا تشفق نفسه و تخاف من فوت المنافع و المرافق. ثم قال و لا يكتفى بأدنى فهم أي لا يكون قانعا بما يخطر له بادئ الرأي من أمر الخصوم بل يستقصي و يبحث أشد البحث. قوله و أقلهم تبرما بمراجعة الخصم أي تضجرا و هذه الخصلة من محاسن ما شرطه ع فإن القلق و الضجر و التبرم قبيح و أقبح ما يكون من القاضي. قوله و أصرمهم أي أقطعهم و أمضاهم و ازدهاه كذا أي استخفه و الإطراء المدح و الإغراء التحريض. ثم أمره أن يتطلع على أحكامه و أقضيته و أن يفرض له عطاء واسعا يملأ عينه و يتعفف به عن المرافق و الرشوات و أن يكون قريب المكان منه كثير الاختصاص به ليمنع قربه من سعاية الرجال به و تقبيحهم ذكره عنده. ثم قال إن هذا الدين قد كان أسيرا هذه إشارة إلى قضاة عثمان و حكامه و أنهم لم يكونوا يقضون بالحق عنده بل بالهوى لطلب الدنيا. و أما أصحابنا فيقولون رحم الله عثمان فإنه كان ضعيفا و استولى عليه أهله قطعوا الأمور دونه فإثمهم عليهم و عثمان بري ء منهم شرح نهج البلاغة ج : 17 ص : فصل في القضاة و ما يلزمهم و ذكر بعض نوادرهم
قد جاء في الحديث المرفوع لا يقضي القاضي و هو غضبان
و جاء في الحديث المرفوع أيضا من ابتلي بالقضاء بين المسلمين فليعدل بينهم في لحظه و إشارته و مجلسه و مقعده

(18/50)


دخل ابن شهاب على الوليد أو سليمان فقال له يا ابن شهاب ما حديث يرويه أهل الشام قال ما هو يا أمير المؤمنين قال إنهم يروون أن الله تعالى إذا استرعى عبدا رعية كتب له الحسنات و لم يكتب عليه السيئات فقال كذبوا يا أمير المؤمنين أيما أقرب إلى الله نبي أم خليفة قال بل نبي قال فإنه تعالى يقول لنبيه داود يا داوُدُ إِنَّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَ لا تَتَّبِعِ الْهَوى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ فقال سليمان إن الناس ليغروننا عن ديننا. و قال بكر بن عبد الله العدوي لابن أرطاة و أراد أن يستقضيه و الله ما أحسن القضاء فإن كنت صادقا لم يحل لك أن تستقضي من لا يحسن و إن كنت كاذبا فقد فسقت و الله لا يحل أن تستقضي الفاسق. و قال الزهري ثلاث إذا كن في القاضي فليس بقاض أن يكره اللائمة و يحب المحمدة و يخاف العزل. و قال محارب بن زياد للأعمش وليت القضاء فبكى أهلي فلما عزلت بكى أهلي فما أدري مم ذلك قال لأنك وليت القضاء و أنت تكرهه و تجزع منه شرح نهج البلاغة ج : 17 ص : 62فبكى أهلك لجزعك و عزلت عنه فكرهت العزل و جزعفبكى أهلك لجزعك قال صدقت. أتي ابن شبرمة بقوم يشهدون على قراح نخل فشهدوا و كانوا عدولا فامتحنهم فقال كم في القراح من نخلة قالوا لا نعلم فرد شهادتهم فقال له أحدهم أنت أيها القاضي تقضي في هذا المسجد منذ ثلاثين سنة فأعلمنا كم فيه من أسطوانة فسكت و أجازهم. خرج شريك و هو على قضاء الكوفة يتلقى الخيزران و قد أقبلت تريد الحج و قد كان استقضي و هو كاره فأتي شاهي فأقام بها ثلاثا فلم تواف فخف زاده و ما كان معه فجعل يبله بالماء و يأكله بالملح فقال العلاء بن المنهال الغنوي

(18/51)


فإن كان الذي قد قلت حقا بأن قد أكرهوك على القضاءفما لك موضعا في كل يوم تلقى من يحج من النساءمقيما في قرى شاهي ثلاثا بلا زاد سوى كسر و ماء
و تقدمت كلثم بنت سريع مولى عمرو بن حريث و كانت جميلة و أخوها الوليد بن سريع إلى عبد الملك بن عمير و هو قاض بالكوفة فقضى لها على أخيها فقال هذيل الأشجعي
أتاه وليد بالشهود يسوقهم على ما ادعى من صامت المال و الخول و جاءت إليه كلثم و كلامها شفاء من الداء المخامر و الخبل فأدلى وليد عند ذاك بحقه و كان وليد ذا مراء و ذا جدل فدلهت القبطي حتى قضى لها بغير قضاء الله في محكم الط شرح نهج البلاغة ج : 17 ص : 63فلو كان من في القصر يعلم علمه لما استعمل القبطي فينا على عمل له حين يقضي للنساء تخاوص و كان و ما فيه التخاوص و الحول إذا ذات دل كلمته لحاجة فهم بأن يقضي تنحنح أو سعل و برق عينيه و لاك لسانه يرى كل شي ء ما خلا وصلهو كان عبد الملك بن عمير يقول لعن الله الأشجعي و الله لربما جاءتني السعلة و النحنحة و أنا في المتوضإ فأردهما لما شاع من شعره. كتب عمر بن الخطاب إلى معاوية أما بعد فقد كتبت إليك في القضاء بكتاب لم آلك و نفسي فيه خيرا الزم خمس خصال يسلم لك دينك و تأخذ بأفضل حظك إذا تقدم إليك الخصمان فعليك بالبينة العادلة أو اليمين القاطعة و ادن الضعيف حتى يشتد قلبه و ينبسط لسانه و تعهد الغريب فإنك إن لم تتعهده ترك حقه و رجع إلى أهله و إنما ضيع حقه من لم يرفق به و آس بين الخصوم في لحظك و لفظك و عليك بالصلح بين الناس ما لم يستبن لك فصل القضاء. و كتب عمر إلى شريح لا تسارر و لا تضارر و لا تبع و لا تبتع في مجلس القضاء و لا تقض و أنت غضبان و لا شديد الجوع و لا مشغول القلب. شهد رجل عند سوار القاضي فقال ما صناعتك فقال مؤدب قال أنا لا أجيز شهادتك قال و لم قال لأنك تأخذ على تعليم القرآن أجرا قال و أنت أيضا تأخذ على القضاء بين المسلمين أجرا قال إنهم أكرهوني قال نعم

(18/52)


أكرهوك على القضاء فهل أكرهوك على أخذ الأجر قال هلم شهادتك. و دخل أبو دلامة ليشهد عند أبي ليلى فقال حين جلس بين يديه
إذا الناس غطوني تغطيت عنهم و إن بحثوا عني ففيهم مباحث
شرح نهج البلاغة ج : 17 ص : 64و إن حفروا بئري حفرت بئارهم ليعلم ما تخفيه تلك النبائفقال بل نغطيك يا أبا دلامة و لا نبحثك و صرفه راضيا و أعطى المشهود عليه من عنده قيمة ذلك الشي ء. كان عامر بن الظرب العدواني حاكم العرب و قاضيها فنزل به قوم يستفتونه في الخنثى و ميراثه فلم يدر ما يقضي فيه و كان له جارية اسمها خصيلة ربما لامها في الإبطاء عن لرعي و في الشي ء يجده عليها فقال لها يا خصيلة لقد أسرع هؤلاء القوم في غنمي و أطالوا المكث قالت و ما يكبر عليك من ذلك اتبعه مباله و خلاك ذم فقال لها مسي خصيل بعدها أو روحي. و قال أعرابي لقوم يتنازعون هل لكم في الحق أو ما هو خير من الحق قيل و ما الذي هو خيرمن الحق قال التحاط و الهضم فإن أخذ الحق كله مر. و عزل عمر بن عبد العزيز بعض قضاته فقال لم عزلتني فقال بلغني أن كلامك أكثر من كلام الخصمين إذا تحاكما إليك. و دخل إياس بن معاوية الشام و هو غلام فقدم خصما إلى باب القاضي في أيام عبد الملك فقال القاضي أ ما تستحيي تخاصم و أنت غلام شيخا كبيرا فقال الحق أكبر منه فقال اسكت ويحك قال فمن ينطق بحجتي إذا قال ما أظنك تقول اليوم حقا حتى تقوم فقال لا إله إلا الله فقام القاضي و دخل على عبد الملك و أخبره فقال اقض حاجته و أخرجه من الشام كي لا يفسد علينا الناس. و اختصم أعرابي و حضري إلى قاض فقال الأعرابي أيها القاضي إنه و إن هملج إلى الباطل فإنه عن الحق لعطوف. و رد رجل جارية على رجل اشتراها منه بالحمق فترافعا إلى إياس بن معاوية شرح نهج البلاغة ج : 17 ص : 65فقال لها إياس أي رجليك أطول فقالت هذه فقال أ تذكرين ليلة ولدتك أمك قالنعم فقال إياس رد رد. و

(18/53)


جاء في الخبر المرفوع من رواية عبد الله بن عمر لا قدست أمة لا يقضى فيها بالحق
و من الحديث المرفوع من رواية أبي هريرة ليس أحد يحكم بين الناس إلا جي ء به يوم القيامة مغلولة يداه إلى عنقه فكه العدل و أسلمه الجور واستعدى رجل على علي بن أبي طالب ع عمر بن الخطاب رضي الله عنه و علي جالس فالتفت عمر إليه فقال قم يا أبا الحسن فاجلس مع خصمك فقام فجلس معه و تناظرا ثم انصرف الرجل و رجع علي ع إلى محله فتبين عمر التغير في وجهه فقال يا أبا الحسن ما لي أراك متغيرا أ كرهت ما كان قال نعم قال و ما ذاك قال كنيتني بحضرة خصمي هلا قلت قم يا علي فاجلس مع خصمك فاعتنق عمر عليا و جعل يقبل وجهه و قال بأبي أنتم بكم هدانا الله و بكم أخرجنا من الظلمة إلى النور
أبان بن عبد الحميد اللاحقي في سوار بن عبد الله القاضي
لا تقدح الظنة في حكمه شيمته عدل و إنصاف يمضي إذا لم تلقه شبهة و في اعتراض الشك وقافكان ببغداد رجل يذكر بالصلاح و الزهد يقال له رويم فولي القضاء فقال الجنيد من أراد أن يستودع سره من لا يفشيه فعليه برويم فإنه كتم حب الدنيا أربعين سنة إلى أن قدر عليها. الأشهب الكوفي

(18/54)


يا أهل بغداد قد قامت قيامتكم مذ صار قاضيكم نوح بن دراج لو كان حيا له الحجاج ما سلمت صحيحة يده من وسم حجاج شرح نهج البلاغة ج : 17 ص : 66و كان الحجاج يسم أيدي النبط بالمشراط و النيل. لما وقعت فتنة ابن الزبير اعتزل شريح القضاء و قال لا أقضي في الفتنة فبقي لا يقضي تسع سنين ثم عاد إلى القضاء و قد كبرت سنه فاعترضه رجل و قد انصرف من مجلس القضاء فقال له أ ما حان لكن تخاف الله كبرت سنك و فسد ذهنك و صارت الأمور تجوز عليك فقال و الله لا يقولها بعدك لي أحد فلزم بيته حتى مات. قيل لأبي قلابة و قد هرب من القضاء لو أجبت قال أخاف الهلاك قيل لو اجتهدت لم يكن عليك بأس قال ويحكم إذا وقع السابح في البحر كم عسى أن يسبح. دعا رجل لسليمان الشاذكوني فقال أرانيك الله يا أبا أيوب على قضاء أصبهان قال ويحك إن كان و لا بد فعلى خراجها فإن أخذ أموال الأغنياء أسهل من أخذ أموال الأيتام. ارتفعت جميلة بنت عيسى بن جراد و كانت جميلة كاسمها مع خصم لها إلى الشعبي و هو قاضي عبد الملك فقضى لها فقال هذيل الأشجعي
فتن الشعبي لما رفع الطرف إليهافتنته بثنايا ها و قوسي حاجبيهاو مشت مشيا رويدا ثم هزت منكبيهافقضى جورا على الخصم و لم يقض عليها
فقبض الشعبي عليه و ضربه ثلاثين سوطا. قال ابن أبي ليلى ثم انصرف الشعبي يوما من مجلس القضاء و قد شاعت الأبيات شرح نهج البلاغة ج : 17 ص : 67و تناشدها الناس و نحن معه فمررنا بخادم تغسل الثياب و تقولفتن الشعبي لما
و لا تحفظ تتمة البيت فوقف عليها و لقنها و قال
رفع الطرف إليها

(18/55)


ثم ضحك و قال أبعده الله و الله ما قضينا لها إلا بالحق. جاءت امرأة إلى قاض فقالت مات بعلي و ترك أبوين و ابنا و بني عم فقال القاضي لأبويه الثكل و لابنه اليتم و لك اللائمة و لبني عمه الذلة و احملي المال إلينا إلى أن ترتفع الخصوم. لقي سفيان الثوري شريكا بعد ما استقضي فقال له يا أبا عبد الله بعد الإسلام و الفقه و الصلاح تلي القضاء قال يا أبا عبد الله فهل للناس بد من قاض قال و لا بد يا أبا عبد الله للناس من شرطي. و كان الحسن بن صالح بن حي يقول لما ولي شريك القضاء أي شيخ أفسدوا.
قال أبو ذر رضي الله عنه قال لي رسول الله ص يا أبا ذر اعقل ما أقول لك جعل يرددها على ستة أيام ثم قال لي في اليوم السابع أوصيك بتقوى الله في سريرتك و علانيتك و إذا أسأت فأحسن و لا تسألن أحدا شيئا و لو سقط سوطك و لا تتقلدن أمانة و لا تلين ولاية و لا تكفلن يتيما و لا تقضين بين اثنين
أراد عثمان بن عفان أن يستقضي عبد الله بن عمر فقال له أ لست قد
سمعت النبي ص يقول من استعاذ بالله فقد عاذ بمعاذ

(18/56)


قال بلى قال فإني أعوذ بالله منك أن تستقضيني. شرح نهج البلاغة ج : 17 ص : 68و قد ذكر الفقهاء في آداب القاضي أمورا قالوا لا يجوز أن يقبل هدية في أيام القضاء إلا ممن كانت له عادة يهدي إليه قبل أيام القضاء و لا يجوز قبولها في أيام القضاء ممن له حكومة و خصومة إن كان ممن له عادة قديمة و كذلك إن كانت الهدية أنفس و أرفع مما كانت قبل أيام القضاء لا يجوز قبولها و يجوز أن يحضر القاضي الولائم و لا يحضر عند قوم دون قوم لأن التخصيص يشعر بالميل و يجوز أن يعود المرضى و يشهد الجنائز و يأتي مقدم الغائب و يكره له مباشرة البيع و الشراء و لا يجوز أن يقضي و هو غضبان و لا جائع و لا عطشان و لا في حال الحزن الشديد و لا الفرح الشديد و لا يقضي و النعاس يغلبه و المرض يقلقه و لا و هو يدافع الأخبثين و لا في حر مزعج و لا في برد مزعج و ينبغي أن يجلس للحكم في موضع بارز يصل إليه كل أحد و لا يحتجب إلا لعذر و يستحب أن يكون مجلسه فسيحا لا يتأذى بذلك هو أيضا و يكره الجلوس في المساجد للقضاء فإن احتاج إلى وكلاء جاز أن يتخذهم و يوصيهم بالرفق بالخصوم و يستحب أن يكون له حبس و أن يتخذ كاتبا إن احتاج إليه و من شرط كاتبه أن يكون عارفا بما يكتب به عن القضاء. و اختلف في جواز كونه ذميا و الأظهر أنه لا يجوز و لا يجوز أن يكون كاتبه فاسقا و لا يجوز أن يكون الشهود عنده قوما معينين بل الشهادة عامة فيمن استكمل شروطها

(18/57)


ثُمَّ انْظُرْ فِي أُمُورِ عُمَّالِكَ فَاسْتَعْمِلْهُمُ اخْتِيَاراً وَ لَا تُوَلِّهِمْ مُحَابَاةً وَ أَثَرَةً فَإِنَّهُمَا جِمَاعٌ مِنْ شُعَبِ الْجَوْرِ وَ الْخِيَانَةِ وَ تَوَخَّ مِنْهُمْ أَهْلَ التَّجْرِبَةِ وَ الْحَيَاءِ مِنْ أَهْلِ الْبُيُوتَاتِ الصَّالِحَةِ وَ الْقَدَمِ فِي الْإِسْلَامِ الْمُتَقَدِّمَةِ فَإِنَّهُمْ أَكْرَمُ أَخْلَاقاً وَ أَصَحُّ أَعْرَاضاً وَ أَقَلُّ فِي الْمَطَامِعِ إِشْرَافاً وَ أَبْلَغُ فِي عَوَاقِبِ الْأُمُورِ نَظَراً شرح نهج البلاغة ج : 17 ص : 69ثُمَّ أَسْبِغْ عَلَيْهِمُ الْأَرْزقَ فَإِنَّ ذَلِكَ قُوَّةٌ لَهُمْ عَلَى اسْتِصْلَاحِ أَنْفُسِهِمْ وَ غِنًى لَهُمْ عَنْ تَنَاوُلِ مَا تَحْتَ أَيْدِيهِمْ وَ حُجَّةٌ عَلَيْهِمْ إِنْ خَالَفُوا أَمْرَكَ أَوْ ثَلَمُوا أَمَانَتَكَ ثُمَّ تَفَقَّدْ أَعْمَالَهُمْ وَ ابْعَثِ الْعُيُونَ مِنْ أَهْلِ الصِّدْقِ وَ الْوَفَاءِ عَلَيْهِمْ فَإِنَّ تَعَاهُدَكَ فِي السِّرِّ لِأُمُورِهِمْ حَدْوَةٌ لَهُمْ عَلَى اسْتِعْمَالِ الْأَمَانَةِ وَ الرِّفْقِ بِالرَّعِيَّةِ وَ تَحَفَّظْ مِنَ الْأَعْوَانِ فَإِنْ أَحَدٌ مِنْهُمْ بَسَطَ يَدَهُ إِلَى خِيَانَةٍ اجْتَمَعَتْ بِهَا عَلَيْهِ عِنْدَكَ أَخْبَارُ عُيُونِكَ اكْتَفَيْتَ بِذَلِكَ شَاهِداً فَبَسَطْتَ عَلَيْهِ الْعُقُوبَةَ فِي بَدَنِهِ وَ أَخَذْتَهُ بِمَا أَصَابَ مِنْ عَمَلِهِ ثُمَّ نَصَبْتَهُ بِمَقَامِ الْمَذَلَّةِ وَ وَسَمْتَهُ بِالْخِيَانَةِ وَ قَلَّدْتَهُ عَارَ التُّهَمَةِ

(18/58)


لما فرغ ع من أمر القضاء شرع في أمر العمال و هم عمال السواد و الصدقات و الوقوف و المصالح و غيرها فأمره أن يستعملهم بعد اختبارهم و تجربتهم و ألا يوليهم محاباة لهم و لمن يشفع فيهم و لا أثرة و لا إنعاما عليهم. كان أبو الحسن بن الفرات يقول الأعمال للكفاة من أصحابنا و قضاء الحقوق على خواص أموالنا. و كان يحيى بن خالد يقول من تسبب إلينا بشفاعة في عمل فقد حل عندنا محل من ينهض بغيره و من لم ينهض بنفسه لم يكن للعمل أهلا. و وقع جعفر بن يحيى في رقعة متحرم به هذا فتى له حرمة الأمل فامتحنه بالعمل فإن كان كافيا فالسلطان له دوننا و إن لم يكن كافيا فنحن له دون السلطان. ثم قال ع فإنهما يعني استعمالهم للمحاباة و الأثرة جماع من شعب الجور و الخيانة و قد تقدم شرح مثل هذه اللفظة و المعنى أن ذلك يجمع ضروبا من الجور و الخيانة أما الجور فإنه يكون قد عدل عن المستحق إلى غير المستحق ففي ذلك جور على المستحق. شرح نهج البلاغة ج : 17 ص : 70و أما الخيانة فلأن الأمانة تقتضي تقليد الأعمال الأكفاء فمن لم يعتمد ذلك فقد خان من ولاه. ثم أمره بتخير من قد جرب و من هو من أهل البيوتات و الأشراف لشدة الحرص على الشي ء و الخوف من فواته. ثم أمره بإسباغ ازاق عليهم فإن الجائع لا أمانة له و لأن الحجة تكون لازمة لهم إن خانوا لأنهم قد كفوا مئونة أنفسهم و أهليهم بما فرض لهم من الأرزاق. ثم أمره بالتطلع عليهم و إذكاء العيون و الأرصاد على حركاتهم. و حدوة باعث يقال حداني هذا الأمر حدوة على كذا و أصله سوق الإبل و يقال للشمال حدواء لأنها تسوق السحاب. ثم أمره بمؤاخذة من ثبتت خيانته و استعادة المال منه و قد صنع عمر كثيرا من ذلك و ذكرناه فيما تقدم. قال بعض الأكاسرة لعامل من عماله كيف نومك بالليل قال أنامه كله قال أحسنت لو سرقت ما نمت هذا النوم

(18/59)


وَ تَفَقَّدْ أَمْرَ الْخَرَاجِ بِمَا يُصْلِحُ أَهْلَهُ فَإِنَّ فِي صَلَاحِهِ وَ صَلَاحِهِمْ صَلَاحاً لِمَنْ سِوَاهُمْ وَ لَا صَلَاحَ لِمَنْ سِوَاهُمْ إِلَّا بِهِمْ لِأَنَّ النَّاسَ كُلَّهُمْ عِيَالٌ عَلَى الْخَرَاجِ وَ أَهْلِهِ وَ لْيَكُنْ نَظَرُكَ فِي عِمَارَةِ الْأَرْضِ أَبْلَغَ مِنْ نَظَرِكَ فِي اسْتِجْلَابِ الْخَرَاجِ لِأَنَّ ذَلِكَ لَا يُدْرَكُ إِلَّا بِالْعِمَارَةِ وَ مَنْ طَلَبَ الْخَرَاجَ بِغَيْرِ عِمَارَةٍ أَخْرَبَ الْبِلَادَ وَ أَهْلَكَ شرح نهج البلاغة ج : 17 ص : 71الْعِبَادَ وَ لَمْ يَسْتَقِمْ مْرُهُ إِلَّا قَلِيلًا فَإِنْ شَكَوْا ثِقَلًا أَوْ عِلَّةً أَوِ انْقِطَاعَ شِرْبٍ أَوْ بَالَّةٍ أَوْ إِحَالَةَ أَرْضٍ اغْتَمَرَهَا غَرَقٌ أَوْ أَجْحَفَ بِهَا عَطَشٌ خَفَّفْتَ عَنْهُمْ بِمَا تَرْجُو أَنْ يَصْلُحَ بِهِ أَمْرُهُمْ وَ لَا يَثْقُلَنَّ عَلَيْكَ شَيْ ءٌ خَفَّفْتَ بِهِ الْمَئُونَةَ عَنْهُمْ فَإِنَّهُ ذُخْرٌ يَعُودُونَ بِهِ عَلَيْكَ فِي عِمَارَةِ بِلَادِكَ وَ تَزْيِينِ وِلَايَتِكَ مَعَ اسْتِجْلَابِكَ حُسْنَ ثَنَائِهِمْ وَ تَبَجُّحِكَ بِاسْتِفَاضَةِ الْعَدْلِ فِيهِمْ مُعْتَمِداً فَضْلَ قُوَّتِهِمْ بمَا ذَخَرْتَ عِنْدَهُمْ مِنْ إِجْمَامِكَ لَهُمْ وَ الثِّقَةَ مِنْهُمْ بِمَا عَوَّدْتَهُمْ مِنْ عَدْلِكَ عَلَيْهِمْ وَ رِفْقِكَ بِهِمْ فَرُبَّمَا حَدَثَ مِنَ الْأُمُورِ مَا إِذَا عَوَّلْتَ فِيهِ عَلَيْهِمْ مِنْ بَعْدُ احْتَمَلُوهُ طَيِّبَةً أَنْفُسُهُمْ بِهِ فَإِنَّ الْعُمْرَانَ مُحْتَمِلٌ مَا حَمَّلْتَهُ وَ إِنَّمَا يُؤْتَى خَرَابُ الْأَرْضِ مِنْ إِعْوَازِ أَهْلِهَا وَ إِنَّمَا يُعْوِزُ أَهْلُهَا لِإِشْرَافِ أَنْفُسِ الْوُلَاةِ عَلَى الْجَمْعِ وَ سُوءِ ظَنِّهِمْ بِالْبَقَاءِ وَ قِلَّةِ انْتِفَاعِهِمْ بِالْعِبَرِ

(18/60)


انتقل ع من ذكر العمال إلى ذكر أرباب الخراج و دهاقين السواد فقال تفقد أمرهم فإن الناس عيال عليهم و كان يقال استوصوا بأهل الخراج فإنكم لا تزالون سمانا ما سمنوا. و رفع إلى أنوشروان أن عامل الأهواز قد حمل من مال الخراج ما يزيد على العادة و ربما يكون ذلك قد أجحف بالرعية فوقع يرد هذا المال على من قد استوفى منه فإن تكثير الملك ماله بأموال رعيته بمنزلة من يحصن سطوحه بما يقتلعه من قواعد بنيانه. شرح نهج البلاغة ج : 17 ص : 72و كان على خاتم أنوشروان لا يكون عمران حيث يجور السلطان. و روي استحلاب الخراج بالحاء. ثم قال ن شكوا ثقلا أي ثقل طسق الخراج المضروب عليهم أو ثقل وطأة العامل. قال أو علة نحو أن يصيب الغلة آفة كالجراد و البرق أو البرد. قال أو انقطاع شرب بأن ينقص الماء في النهر أو تتعلق أرض الشرب عنه لفقد الحفر. قال أو بالة يعني المطر. قال أو إحالة أرض اغتمرها غرق يعني أو كون الأرض قد حالت و لم يحصل منها ارتفاع لأن الغرق غمرها و أفسد زرعها. قال أو أجحف بها عطش أي أتلفها. فإن قلت فهذا هو انقطاع الشرب قلت لا قد يكون الشرب غير منقطع و مع ذلك يجحف بها العطش بأن لا يكفيها الماء الموجود في الشرب. ثم أمره أن يخفف عنهم متى لحقهم شي ء من ذلك فإن التخفيف يصلح أمورهم و هو و إن كان يدخل على المال نقصا في العاجل إلا أنه يقتضي توفير زيادة في الآجل فهو بمنزلة التجارة التي لا بد فيها من إخراج رأس المال و انتظار عوده و عود ربحه. شرح نهج البلاغة ج : 17 ص : 73قال و مع ذلك فإنه يفضي إلىين بلادك بعمارتها و إلى أنك تبجح بين الولاة بإفاضة العدل في رعيتك معتمدا فضل قوتهم و معتمدا منصوب على الحال من الضمير في خففت الأولى أي خففت عنهم معتمدا بالتخفيف فضل قوتهم. و الإجمام الترفيه. ثم قال له و ربما احتجت فيما بعد إلى تكلفهم بحادث يحدث عندك المساعدة بمال يقسطونه عليهم قرضا أو معونة محضة فإذا كانت لهم ثروة نهضوا

(18/61)


بمثل ذلك طيبة قلوبهم به. ثم قال ع فإن العمران محتمل ما حملته. سمعت أبا محمد بن خليد و كان صاحب ديوان الخراج في أيام الناصر لدين الله يقول لمن قال له قد قيل عنك إن واسط و البصرة قد خربت لشدة العنف بأهلها في تحصيل الأموال فقال أبو محمد ما دام هذا الشط بحاله و النخل نابتا في منابته بحاله ما تخرب واسط و البصرة أبدا. ثم قال ع إنما تؤتى الأرض أي إنما تدهى من إعواز أهلها أي من فقرهم. قال و الموجب لإعوازهم طمع ولاتهم في الجباية و جمع الأموال لأنفسهم و لسلطانهم و سوء ظنهم بالبقاء يحتمل أن يريد به أنهم يظنون طول البقاء و ينسون الموت و الزوال. و يحتمل أن يريد به أنهم يتخيلون العزل و الصرف فينتهزون الفرص و يقتطعون الأموال و لا ينظرون في عمارة البلاد شرح نهج البلاغة ج : 17 ص : 7عهد سابور بن أردشير لابنه

(18/62)


و قد وجدت في عهد سابور بن أردشير إلى ابنه كلاما يشابه كلام أمير المؤمنين ع في هذا العهد و هو قوله و اعلم أن قوام أمرك بدرور الخراج و درور الخراج بعمارة البلاد و بلوغ الغاية في ذلك استصلاح أهله بالعدل عليهم و المعونة لهم فإن بعض الأمور لبعض سبب و عوام الناس لخواصهم عدة و بكل صنف منهم إلى الآخر حاجة فاختر لذلك أفضل من تقدر عليه من كتابك و ليكونوا من أهل البصر و العفاف و الكفاية و استرسل إلى كل امرئ منهم شخصا يضطلع به و يمكنه تعجيل الفراغ منه فإن اطلعت على أن أحدا منهم خان أو تعدى فنكل به و بالغ في عقوبته و احذر أن تستعمل على الأرض الكثير خراجها إلا البعيد الصوت العظيم شرف المنزلة. و لا تولين أحدا من قواد جندك الذين هم عدة للحرب و جنة من الأعداء شيئا من أمر الخراج فلعلك تهجم من بعضهم على خيانة في المال أو تضييع للعمل فإن سوغته المال و أغضيت له على التضييع كان ذلك هلاكا و إضرارا بك و برعيتك و داعية إلى فساد غيره و إن أنت كافأته فقد استفسدته و أضقت صدره و هذا أمر توقيه حزم و الإقدام عليه خرق و التقصير فيه عجز. و اعلم أن من أهل الخراج من يلجئ بعض أرضه و ضياعه إلى خاصة الملك و بطانته لأحد أمرين أنت حري بكراهتهما إما لامتناع من جور العمال و ظلم الولاة و تلك منزلة يظهر بها سوء أثر العمال و ضعف الملك و إخلاله بما تحت يده و إما للدفع عما يلزمهم شرح نهج البلاغة ج : 17 ص : 75من الحق و التيسر له و هذه خلة تفسد بها آداب الرعية و تنتقص بها أموال الملك فاحذر ذلك و عاقب الملتين و الملجأ إليهم

(18/63)


ركب زياد يوما بالسوس يطوف بالضياع و الزروع فرأى عمارة حسنة فتعجب منها فخاف أهلها أن يزيد في خراجهم فلما نزل دعا وجوه البلد و قال بارك الله عليكم فقد أحسنتم العمارة و قد وضعت عنكم مائة ألف درهم ثم قال ما توفر علي من تهالك غيرهم على العمارة و أمنهم جوري أضعاف ما وضعت عن هؤلاء الآن و الذي وضعته بقدر ما يحصل من ذاك و ثواب عموم العمارة و أمن الرعية أفضل ربح
ثُمَّ انْظُرْ فِي حَالِ كُتَّابِكَ فَوَلِّ عَلَى أُمُورِكَ خَيْرَهُمْ وَ اخْصُصْ رَسَائِلَكَ الَّتِي تُدْخِلُ فِيهَا مَكَايِدَكَ وَ أَسْرَارَكَ بِأَجْمَعِهِمْ لِوُجُودِ صَالِحِ الْأَخْلَاقِ مِمَّنْ لَا تُبْطِرُهُ الْكَرَامَةُ فَيَجْتَرِئَ بِهَا عَلَيْكَ فِي خِلَافٍ لَكَ بِحَضْرَةِ مَلٍا وَ لَا تُقَصِّرُ بِهِ الْغَفْلَةُ عَنْ إِيرَادِ مُكَاتَبَاتِ عُمِّالِكَ عَلَيْكَ وَ إِصْدَارِ جَوَابَاتِهَا عَلَى الصَّوَابِ عَنْكَ وَ فِيمَا يَأْخُذُ لَكَ وَ يُعْطِي مِنْكَ وَ لَا يُضْعِفُ عَقْداً اعْتَقَدَهُ لَكَ وَ لَا يَعْجِزُ عَنْ إِطْلَاقِ مَا عُقِدَ عَلَيْكَ وَ لَا يَجْهَلُ مَبْلَغَ قَدْرِ نَفْسِهِ فِي الْأُمُورِ فَإِنَّ الْجَاهِلَ بِقَدْرِ نَفْسِهِ يَكُونُ بِقَدْرِ غَيْرِهِ أَجْهَلَ ثُمَّ لَا يَكُنِ اخْتِيَارُكَ إِيَّاهُمْ عَلَى فِرَاسَتِكَ وَ اسْتِنَامَتِكَ وَ حُسْنِ الظَّنِّ مِنْكَ شرح نهج البلاغة ج : 17 ص : 76فَإِنَّ الرِّجَالَ يَتَعَرَّضُونَ لِفِرَاسَاتِ الْوُلَاةِ بِتَصَنُّعِهِمْ وَ حُسْنِ حَدِيثِهِمْ وَ لَيْسَ وَرَاءَ ذَلِكَ مِنَ النَّصِيحَةِ وَ الْأَمَانَةِ شَيْ ءٌ وَ لَكِنِ اخْتَبِرْهُمْ بِمَا وُلُّوا لِلصَّحِينَ قَبْلَكَ فَاعْمِدْ لِأَحْسَنِهِمْ كَانَ فِي الْعَامَّةِ أَثَراً وَ أَعْرَفِهِمْ بِالْأَمَانَةِ وَجْهاً فَإِنَّ ذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى نَصِيحَتِكَ لِلَّهِ وَ لِمَنْ وُلِّيتَ أَمْرَهُ وَ اجْعَلْ لِرَأْسِ كُلِّ أَمْرٍ

(18/64)


مِنْ أُمُورِكَ رَأْساً مِنْهُمْ لَا يَقْهَرُهُ كَبِيرُهَا وَ لَا يَتَشَتَّتُ عَلَيْهِ كَثِيرُهَا وَ مَهْمَا كَانَ فِي كُتَّابِكَ مِنْ عَيْبٍ فَتَغَابَيْتَ عَنْهُ أُلْزِمْتَهُ
فصل فيما يجب على مصاحب الملك
لما فرغ من أمر الخراج شرع في أمر الكتاب الذين يلون أمر الحضرة و يترسلون عنه إلى عماله و أمرائه و إليهم معاقد التدبير و أمر الديوان فأمره أن يتخير الصالح منهم و من يوثق على الاطلاع على الأسرار و المكايد و الحيل و التدبيرات و من لا يبطره الإكرام و التقريب فيطمع فيجترئ على مخالفته في ملإ من الناس و الرد عليه ففي ذلك من الوهن للأمير و سوء الأدب الذي انكشف الكاتب عنه ما لا خفاء به. قال الرشيد للكسائي يا علي بن حمزة قد أحللناك المحل الذي لم تكن تبلغه همتك فرونا من الأشعار أعفها و من الأحاديث أجمعها لمحاسن الأخلاق و ذاكرنا بآداب الفرس و الهند و لا تسرع علينا الرد في ملإ و لا تترك تثقيفنا في خلإ. و في آداب ابن المقفع لا تكونن صحبتك للسلطان إلا بعد رياضة منك لنفسك على شرح نهج البلاغة ج : 17 ص : 77طاعتهم في المكروه عندك و موافقتهم فيما خالفك و تقدير الأمور على أهوائ دون هواك فإن كنت حافظا إذا ولوك حذرا إذا قربوك أمينا إذا ائتمنوك تعلمهم و كأنك تتعلم منهم و تأدبهم و كأنك تتأدب بهم و تشكر لهم و لا تكلفهم الشكر ذليلا إن صرموك راضيا إن أسخطوك و إلا فالبعد منهم كل البعد و الحذر منهم كل الحذر و إن وجدت عن السلطان و صحبته غنى فاستغن عنه فإنه من يخدم السلطان حق خدمته يخلى بينه و بين لذة الدنيا و عمل الأخرى و من يخدمه غير حق الخدمة فقد احتمل وزر الآخرة و عرض نفسه للهلكة و الفضيحة في الدنيا فإذا صحبت السلطان فعليك بطول الملازمة من غير إملال و إذا نزلت منه بمنزلة الثقة فاعزل عنه كلام الملق و لا تكثر له من الدعاء و لا تردن عليه كلاما في حفل و إن أخطأ فإذا خلوت به فبصره في رفق و لا يكونن طلبك

(18/65)


ما عنده بالمسألة و لا تستبطئه و إن أبطأ و لا تخبرنه أن لك عليه حقا و أنك تعتمد عليه ببلاء و إن استطعت ألا تنسى حقك و بلاءك بتجديد النصح و الاجتهاد فافعل و لا تعطينه المجهود كله من نفسك في أول صحبتك له و أعد موضعا للمزيد و إذا سأل غيرك عن شي ء فلا تكن المجيب. و اعلم أن استلابك الكلام خفة فيك و استخفاف منك بالسائل و المسئول فما أنت قائل إن قال لك السائل ما إياك سألت أو قال المسئول أجب بمجالسته ومحادثته أيها المعجب بنفسه و المستخف بسلطانه. و قال عبد الملك بن صالح لمؤدب ولده بعد أن اختصه بمجالسته و محادثته يا عبد الله كن على التماس الحظ فيك بالسكوت أحرص منك على التماسه بالكلام فإنهم قالوا إذا أعجبك الكلام فاصمت و إذا أعجبك الصمت فتكلم و اعلم أن أصعب الملوك معاملة الجبار الفطن المتفقد فإن ابتليت بصحبته فاحترس و إن عوفيت فاشكر الله على السلامة فإن السلامة أصل كل نعمة لا تساعدني على ما يقبح بي و لا تردن علي
شرح نهج البلاغة ج : 17 ص : 78خطأ في مجلس و لا تكلفني جواب التشميت و التهنئة و دع عنك كيف أصبح الأمير و كيف أمسى و كلمني بقدر ما أستنطقك و اجعل بدل التقريظ لي صواب الاستماع مني و اعلم أن صواب الاستماع أحسن من صواب القول فإذا سمعتني أتحدث فلا يفوتنك منه ء و أرني فهمك إياه في طرفك و وجهك فما ظنك بالملك و قد أحلك محل المعجب بما يسمعك إياه و أحللته محل من لا يسمع منه و كل من هذا يحبط إحسانك و يسقط حق حرمتك و لا تستدع الزيادة من كلامي بما تظهر من استحسان ما يكون مني فمن أسوأ حالا ممن يستكد الملوك بالباطل و ذلك يدل على تهاونه بقدر ما أوجب الله تعالى من حقهم و اعلم أني جعلتك مؤدبا بعد أن كنت معلما و جعلتك جليسا مقربا بعد أن كنت مع الصبيان مباعدا فمتى لم تعرف نقصان ما خرجت منه لم تعرف رجحان ما دخلت فيه و قد قالوا من لم يعرف سوء ما أولى لم يعرف حسن ما أبلى

(18/66)


ثم قال ع و ليكن كاتبك غير مقصر عن عرض مكتوبات عمالك عليك و الإجابة عنها حسن الوكالة و النيابة عنك فيما يحتج به لك عليهم من مكتوباتهم و ما يصدره عنك إليهم من الأجوبة فإن عقد لك عقدا قواه و أحكمه و إن عقد عليك عقدا اجتهد في نقضه و حله قال و أن يكون عارفا بنفسه فمن لم يعرف قدر نفسه لم يعرف قدر غيره. ثم نهاه أن يكون مستند اختياره لهؤلاء فراسته فيهم و غلبة ظنه بأحوالهم فإن التدليس ينم في ذلك كثيرا و ما زال الكتاب يتصنعون للأمراء بحسن الظاهر و ليس وراء ذلك كثير طائل في النصيحة و المعرفة و لكن ينبغي أن يرجع في ذلك إلى ما حكمت شرح نهج البلاغة ج : 17 ص : 79به التجربة لهم و ما ولوه من قبل فإن كانت ولايتهم و كتابتهم حسنة مشكورة فهم هم و إلا فلا و يتعرفون لفراسات الولاة يجعلون أنفسهم بحيث يعرف بضروب من التصنع و روي يتعرضون. ثم أمره أن يقسم فنون الكتابة و ضروبها بينهم و أن يكون أحدهم للرسائل إلى الأطراف و الأعداء و الآخر لأجوبة عمال السواد و الآخرة بحضرة الأمير في خاصته و داره و حاشيته و ثقاته. ثم ذكر له أنه مأخوذ مع الله تعالى بما يتغابى عنه و يتغافل من عيوب كتابه فإن الدين لا يبيح الإغضاء و الغفلة عن الأعوان و الخول و يوجب التطلع عليهم
فصل في الكتاب و ما يلزمهم من الآداب

(18/67)


و اعلم أن الكاتب الذي يشير أمير المؤمنين ع إليه هو الذي يسمى الآن في الاصطلاح العرفي وزيرا لأنه صاحب تدبير حضرة الأمير و النائب عنه في أموره و إليه تصل مكتوبات العمال و عنه تصدر الأجوبة و إليه العرض على الأمير و هو المستدرك على العمال و المهيمن عليهم و هو على الحقيقة كاتب الكتاب و لهذا يسمونه الكاتب المطلق. و كان يقال للكاتب على الملك ثلاث رفع الحجاب عنه و اتهام الوشاة عليه و إفشاء السر إليه. و كان يقال صاحب السلطان نصفه و كاتبه كله و ينبغي لصاحب الشرطة أن يطيل الجلوس و يديم العبوس و يستخف بالشفاعات. شرح نج البلاغة ج : 17 ص : 80و كان يقال إذا كان الملك ضعيفا و الوزير شرها و القاضي جائرا فرقوا الملك شعاعا. و كان يقال لا تخف صولة الأمير مع رضا الكاتب و لا تثقن برضا الأمير مع سخط الكاتب و أخذ هذا المعنى أبو الفضل بن العميد فقال و زعمت أنك لست تفكر بعد ما علقت يداك بذمة الأمراءهيهات قد كذبتك فكرتك التي قد أوهمتك غنى عن الوزراءلم تغن عن أحد سماء لم تجد أرضا و لا أرض بغير سماء
و كان يقال إذا لم يشرف الملك على أموره صار أغش الناس إليه وزيره. و كان يقال ليس الحرب الغشوم بأسرع في اجتياح الملك من تضييع مراتب الكتاب حتى يصيبها أهل النذالة و يزهد فيها أولو الفضل
فصل في ذكر ما نصحت به الأوائل الوزراء

(18/68)


و كان يقال لا شي ء أذهب بالدول من استكفاء الملك الأسرار. و كان يقال من سعادة جد المرء ألا يكون في الزمان المختلط وزيرا للسلطان. و كان يقال كما أن أشجع الرجال يحتاج إلى السلاح و أسبق الخيل يحتاج إلى السوط و أحد الشفار يحتاج إلى المسن كذلك أحزم الملوك و أعقهم يحتاج إلى الوزير الصالح. و كان يقال صلاح الدنيا بصلاح الملوك و صلاح الملوك بصلاح الوزراء شرح نهج البلاغة ج : 17 ص : 81و كما لا يصلح الملك إلا بمن يستحق الملك كذلك لا تصلح الوزارة إلا بمن يستحق الوزارة. و كان يقال الوزير الصالح لا يرى أن صلاحه في نفسه كائن صلاحا حتى يتصل بصلاح الملك و صلاح رعيته و أن تكون عنايته فيما عطف الملك على رعيته و في استعطف قلوب الرعية و العامة على الطاعة للملك و فيما فيه قوام أمر الملك من التدبير الحسن حتى يجمع إلى أخذ الحق تقديم عموم الأمن و إذا طرقت الحوادث كان للملك عدة و عتادا و للرعية كافيا محتاطا و من ورائها محاميا ذابا يعنيه من صلاحها ما لا يعنيه من صلاح نفسه دونها. و كان يقال مثل الملك الصالح إذا كان وزيره فاسدا مثل الماء العذب الصافي و فيه التمساح لا يستطيع الإنسان و إن كان سابحا و إلى الماء ظامئا دخوله حذرا على نفسه. قال عمر بن عبد العزيز لمحمد بن كعب القرظي حين استخلف لو كنت كاتبي و ردءا لي على ما دفعت إليه قال لا أفعل و لكني سأرشدك أسرع الاستماع و أبطئ في التصديق حتى يأتيك واضح البرهان و لا تعملن ثبجتك فيما تكتفي فيه بلسانك و لا سوطك فيما تكتفي فيه بثبجتك و لا سيفك فيما تكتفي فيه بسوطك. و كان يقال التقاط الكاتب للرشا و ضبط الملك لا يجتمعان. و قال أبرويز لكاتبه اكتم السر و اصدق الحديث و اجتهد في النصيحة و عليك بالحذر فإن لك علي ألا أعجل عليك حتى أستأني لك و لا أقبل فيك قولا حتى أستيقن و لا أطمع فيك أحدا فتغتال و اعلم أنك بمنجاة رفعة فلا تحطنها و في شرح نهج البلاغة ج : 17 ص : 82ظل

(18/69)


مملكة فلا تستزيلنه قارب الن مجاملة من نفسك و باعدهم مسامحة عن عدوك و اقصد إلى الجميل ازدراعا لغدك و تنزه بالعفاف صونا لمروءتك و تحسن عندي بما قدرت عليه احذر لا تسرعن الألسنة عليك و لا تقبحن الأحدوثة عنك و صن نفسك صون الدرة الصافية و أخلصها إخلاص الفضة البيضاء و عاتبها معاتبة الحذر المشفق و حصنها تحصين المدينة المنيعة لا تدعن أن ترفع إلى الصغير فإنه يدل على الكبير و لا تكتمن عني الكبير فإنه ليس بشاغل عن الصغير هذب أمورك ثم القني بها و احكم أمرك ثم راجعني فيه و لا تجترئن علي فأمتعض و لا تنقبضن مني فأتهم و لا تمرضن ما تلقاني به و لا تخدجنه و إذا أفكرت فلا تجعل و إذا كتبت فلا تعذر و لا تستعن بالفضول فإنها علاوة على الكفاية و لا تقصرن عن التحقيق فإنها هجنة بالمقالة و لا تلبس كلاما بكلام و لا تبعدن معنى عن معنى و أكرم لي كتابك عن ثلاث خضوع يستخفه و انتشار يهجنه و معان تعقد به و اجمع الكثير مما تريد في القليل مما تقول و ليكن بسطة كلامك على كلام السوقة كبسطة الملك الذي تحدثه على الملوك لا يكن ما نلته عظيما و ما تتكلم به صغيرا فإنما كلام الكاتب على مقدار الملك فاجعله عاليا كعلوه و فائقا كتفوقه فإنما جماع الكلام كله خصال أربع سؤالك الشي ء و سؤاك عن الشي ء و أمرك بالشي ء و خبرك عن الشي ء فهذه الخصال دعائم المقالات إن التمس إليها خامس لم يوجد و إن نقص منها واحد لم يتم فإذا أمرت فاحكم و إذا سألت فأوضح و إذا طلبت فأسمح و إذا أخبرت فحقق فإنك إذا فعلت ذلك أخذت بجراثيم القول كله فلم يشتبه عليك واردةلم تعجزك صادرة أثبت في دواوينك ما أخذت و أحص فيها ما أخرجت و تيقظ لما تعطي و تجرد لما تأخذ و لا يغلبنك النسيان عن الإحصاء و لا الأناة عن التقدم و لا تخرجن

(18/70)


شرح نهج البلاغة ج : 17 ص : 83وزن قيراط في غير حق و لا تعظمن إخراج الألوف الكثيرة في الحق و ليكن ذلك كله عن مؤامرتيثُمَّ اسْتَوْصِ بِالتُّجَّارِ وَ ذَوِي الصِّنَاعَاتِ وَ أَوْصِ بِهِمْ خَيْراً الْمُقِيمِ مِنْهُمْ وَ الْمُضْطَرِبِ بِمَالِهِ وَ الْمُتَرَفِّقِ بِبَدَنِهِ فَإِنَّهُمْ مَوَادُّ الْمَنَافِعِ وَ أَسْبَابُ الْمَرَافِقِ وَ جُلَّابُهَا مِنَ الْمَبَاعِدِ وَ الْمَطَارِحِ فِي بَرِّكَ وَ بَحْرِكَ وَ سَهْلِكَ وَ جَبَلِكَ وَ حَيْثُ لَا يَلْتَئِمُ النَّاسُ لِمَوَاضِعِهَا وَ لَا يَجْتَرِءُونَ عَلَيْهَا فَإِنَّهُمْ سِلْمٌ لَا تُخَافُ بَائِقَتُهُ وَ صُلْحٌ لَا تُخْشَى غَائِلَتُهُ وَ تَفَقَّدْ أُمُورَهُمْ بِحَضْرَتِكَ وَ فِي حَوَاشِي بِلَادِكَ وَ اعْلَمْ مَعَ ذَلِكَ أَنَّ فِي كَثِيرٍ مِنْهُمْ ضِيقاً فَاحِشاً وَ شُحّاً قَبِيحاً وَ احْتِكَاراً لِلْمَنَافِعِ وَ تَحَكُّماً فِي الْبِيَاعَاتِ وَ ذَلِكَ بَابُ مَضَرَّةٍ لِلْعَامَّةِ وَ عَيْبٌ عَلَى الْوُلَاةِ فَامْنَعْ مِنَ الِاحْتِكَارِ فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ ص مَنَعَ مِنْهُ وَ لْيَكُنِ الْبَيْعُ بَيْعاً سَمْحاً بِمَوَازِينِ عَدْلٍ وَ أَسْعَارٍ لَا تُجْحِفُ بِالْفَرِيقَيْنِ مِنَ الْبَائِعِ وَ الْمُبْتَاعِ فَمَنْ قَارَفَ حُكْرَةً بَعْدَ نَهْيِكَ إِيَّاهُ فَنَكِّلْ بِهِ وَ عَاقِبْهُ مِنْ غَيْرِ إِسْرَافٍ
خرج ع الآن إلى ذكر التجار و ذوي الصناعات و أمره بأن يعمل معهم الخير و أن يوصى غيره من أمرائه و عماله أن يعملوا معهم الخير و استوص بمعنى أوص شرح نهج البلاغة ج : 17 ص : 84نحو قر في المكان و استقر و علا قرنه و استعلاه. و قوله استوص بالتجار خيرا أي أوص نفسك لك و منه
قول النبي ص استوصوا بالنساء خيرا

(18/71)


و مفعولا استوص و أوص هاهنا محذوفان للعلم بهما و يجوز أن يكون استوص أي اقبل الوصية مني بهم و أوص بهم أنت غيرك. ثم قسم ع الموصى بهم ثلاثة أقسام اثنان منها للتجار و هما المقيم و المضطرب يعني المسافر و الضرب السير في الأرض قال تعالى إِذا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ و واحد لأرباب الصناعات و هو قوله و المترفق ببدنه و روي بيديه تثنية يد. و المطارح الأماكن البعيدة. و حيث لا يلتئم الناس لا يجتمعون و روي حيث لا يلتئم بحذف الواو ثم قال فإنهم أولو سلم يعني التجار و الصناع استعطفه عليهم و استماله إليهم. و قال ليسوا كعمال الخراج و أمراء الأجناد فجانبهم ينبغي أن يراعى و حالهم يجب أن يحاط و يحمى إذ لا يتخوف منهم بائقة لا في مال يخونون فيه و لا في دولة يفسدونها و حواشي البلاد أطرافها. ثم قال له قد يكون في كثير منهم نوع من الشح و البخل فيدعوهم ذلك إلى الاحتكار في الأقوات و الحيف في البياعات و الاحتكار ابتياع الغلات في أيام شرح نهج البلاغة ج : 17 ص : 85رخصها و ادخارها في المخازن إلى أيام الغلاء و القحط و الحيف تطفيف في الوزن و الكيل و زيادة في السعر و هو الذي عبر عنه بالتحكم و قد نهى رسول الله ص عن الاحتكار و أما التطفيف و زياد تسعير فمنهي عنهما في نص الكتاب. و قارف حكرة واقعها و الحاء مضمومة و أمره أن يؤدب فاعل ذلك من غير إسراف و ذلك أنه دون المعاصي التي توجب الحدود فغاية أمره من التعزير الإهانة و المنع

(18/72)


ثُمَّ اللَّهَ اللَّهَ فِي الطَّبَقَةِ السُّفْلَى مِنَ الَّذِينَ لَا حِيلَةَ لَهُمْ مِنَ الْمَسَاكِينِ وَ الْمُحْتَاجِينَ وَ أَهْلِ الْبُؤْسَى وَ الزَّمْنَى فَإِنَّ فِي هَذِهِ الطَّبَقَةِ قَانِعاً وَ مُعْتَرّاً وَ احْفَظِ اللَّهَ مَا اسْتَحْفَظَكَ مِنْ حَقِّهِ فِيهِمْ وَ اجْعَلْ لَهُمْ قِسْماً مِنْ بَيْتِ مَالِكِ وَ قِسْماً مِنْ غَلَّاتِ صَوَافِي الْإِسْلَامِ فِي كُلِّ بَلَدٍ فَإِنَّ لِلْأَقْصَى مِنْهُمْ مِثْلَ الَّذِي لِلْأَدْنَى وَ كُلٌّ قَدِ اسْتُرْعِيتَ حَقَّهُ وَ لَا يَشْغَلَنَّكَ عَنْهُمْ بَطَرٌ فَإِنَّكَ لَا تُعْذَرُ بِتَضْيِيعِ التَّافِهِ لِإِحْكَامِكَ الْكَثِيرَ الْمُهِمَّ فَلَا تُشْخِصْ هَمَّكَ عَنْهُمْ وَ لَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لَهُمْ وَ تَفَقَّدْ أُمُورَ مَنْ لَا يَصِلُ إِلَيْكَ مِنْهُمْ مِمَّنْ تَقْتَحِمُهُ الْعُيُونُ وَ تَحْقِرُهُ الرِّجَالُ فَفَرِّغْ لِأُولَئِكَ ثِقَتَكَ مِنْ أَهْلِ الْخَشْيَةِ وَ التَّوَاضُعِ فَلْيَرْفَعْ إِلَيْكَ أُمُورَهُمْ ثُمَّ اعْمَلْ فِيهِمْ بِالْإِعْذَارِ إِلَى اللَّهِ سُبْحَانَهُ يَوْمَ تَلْقَاهُ فَإِنَّ هَؤُلَاءِ مِنْ بَيْنِ الرَّعِيَّةِ أَحْوَجُ إِلَى الْإِنْصَافِ مِنْ غَيْرِهِمْ وَ كُلٌّ فَأَعْذِرْ إِلَى اللَّهِ فِي تَأْدِيَةِ حَقِّهِ إِلَيْهِ شرح نهج البلاغة ج : 17 ص : 86وَ تَعَهَّدْ أَهْلَ الْيُتْمِ وَ ذَوِي الرِّقَّةِ فِي السِّنِّ مِمَّنْ لَا حِيلَةَ لَهُ وَ لَا يَنْصِبُ لِلْمَسْأَلَةِ نَفْسَهُ وَ ذَلِكَ عَلَى الْلَاةِ ثَقِيلٌ وَ الْحَقُّ كُلُّهُ ثَقِيلٌ وَ قَدْ يُخَفِّفُهُ اللَّهُ عَلَى أَقْوَامٍ طَلَبُوا الْعَاقِبَةَ فَصَبَّرُوا أَنْفُسَهُمْ وَ وَثِقُوا بِصِدْقِ مَوْعُودِ اللَّهِ لَهُمْ

(18/73)


انتقل من التجار و أرباب الصناعات إلى ذكر فقراء الرعية و مغموريها فقال و أهل البؤسى و هي البؤس كالنعمى للنعيم و الزمنى أولو الزمانة. و القانع السائل و المعتر الذي يعرض لك و لا يسألك و هما من ألفاظ الكتاب العزيز. و أمره أن يعطيهم من بيت مال المسلمين لأنهم من الأصناف المذكورين في قوله تعالى وَ اعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْ ءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَ لِلرَّسُولِ وَ لِذِي الْقُرْبى وَ الْيَتامى وَ الْمَساكِينِ وَ ابْنِ السَّبِيلِ و أن يعطيهم من غلات صوافي الإسلام و هي الأرضون التي لم يوجف عليها بخي و لا ركاب و كانت صافية لرسول الله ص فلما قبض صارت لفقراء المسلمين و لما يراه الإمام من مصالح الإسلام. ثم قال له فإن للأقصى منهم مثل الذي للأدنى أي كل فقراء المسلمين سواء في سهامهم ليس فيها أقصى و أدنى أي لا تؤثر من هو قريب إليك أو إلى أحد من خاصتك على من هو بعيد ليس له سبب إليك و لا علقة بينه و بينك و يمكن أن يريد به لا تصرف غلات ما كان من الصوافي في بعض البلاد إلى مساكين ذلك شرح نهج البلاغة ج : 17 ص : 87البلد خاصة فإن حق البعيد عن ذلك البلد فيها كمثل حق المقيم في ذلك البلد. و التافه الحقير و أشخصت زيدا موضع كذا أخرجته عنه و فلان يصعر خده للناس أي يتكبر عليهم. و تقتحمه العيون تزدريه و تحتقره و الإعذار إلى الله الاجتهاد و المبالغة في تأدية حقه و القيام بفرائضه. كان بعض الأكاسرة يجلس للمظالم بنفسه و لا يثق إلى غيره و يقعد بحيث يسمع الصوت فإذا سمعه أدخل المتظلم فأصيب بصمم في سمعه فنادى مناديه أن الملك يقول أيها الرعية إني إن أصبت بصمم في سمعي فلم أصب في بصري كل ذي ظلامة فليلبس ثوبا أحمر ثم جلس لهم في مستشرف له. و كان لأمير المؤمنين ع بيت سماه بيت القصص يلقي الناس فيه رقاعهم و كذلك كان فعل المهدي محمد بن هارون الواثق من خلفاء بني العباس

(18/74)


وَ اجْعَلْ لِذَوِي الْحَاجَاتِ مِنْكَ قِسْماً تُفَرِّغُ لَهُمْ فِيهِ شَخْصَكَ وَ تَجْلِسُ لَهُمْ مَجْلِساً عَامّاً فَتَتَوَاضَعُ فِيهِ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَكَ وَ تُقْعِدُ عَنْهُمْ جُنْدَكَ وَ أَعْوَانَكَ مِنْ أَحْرَاسِكَ وَ شُرَطِكَ حَتَّى يُكَلِّمَكَ مُتَكَلِّمُهُمْ غَيْرَ مُتَتَعْتِعٍ فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ ص يَقُولُ فِي غَيْرِ مَوْطِنٍ لَنْ تُقَدَّسَ أُمَّةٌ لَا يُؤْخَذُ لِلضَّعِيفِ فِيهَا حَقُّهُ مِنَ الْقَوِيِّ غَيْرَ مُتَتَعْتِعٍ شرح نهج البلاغة ج : 17 ص : 88ثُمَّ احْتَمِلِ الْخُرْقَ مِنُمْ وَ الْعِيَّ وَ نَحِّ عَنْهُمُ الضِّيقَ وَ الْأَنَفَ يَبْسُطِ اللَّهُ عَلَيْكَ بِذَلِكَ أَكْنَافَ رَحْمَتِهِ وَ يُوجِبُ لَكَ ثَوَابَ طَاعَتِهِ وَ أَعْطِ مَا أَعْطَيْتَ هَنِيئاً وَ امْنَعْ فِي إِجْمَالٍ وَ إِعْذَارٍ ثُمَّ أُمُورٌ مِنْ أُمُورِكَ لَا بُدَّ لَكَ مِنْ مُبَاشَرَتِهَا مِنْهَا إِجَابَةُ عُمَّالِكَ بِمَا يَعْيَا عَنْهُ كُتَّابُكَ وَ مِنْهَا إِصْدَارُ حَاجَاتِ النَّاسِ عِنْدَ وُرُودِهَا عَلَيْكَ بِمَا تَحْرَجُ بِهِ صُدُورُ أَعْوَانِكَ وَ أَمْضِ لِكُلِّ يَوْمٍ عَمَلَهُ فَإِنَّ لِكُلِّ يَوْمٍ مَا فِيهِ

(18/75)


هذا الفصل من تتمة ما قبله و قد روي حتى يكلمك مكلمهم فاعل من كلم و الرواية الأولى الأحسن. و غير متتعتع غير مزعج و لا مقلق و المتتعتع في الخبر النبوي المتردد المضطرب في كلامه عيا من خوف لحقه و هو راجع إلى المعنى الأول. و الخرق الجهل و روي ثم احتمل الخرق منهم و الغي و الغي و هو الجهل أيضا و الرواية الأولى أحسن. ثم بين له ع أنه لا بد له من هذا المجلس لأمر آخر غير ما قدمه ع و ذلك لأنه لا بد من أن يكون في حاجات الناس ما يضيق به صدور أعوانه و النواب عنه فيتعين عليه أن يباشرها بنفسه و لا بد من أن يكون في كتب عماله الواردة عليه شرح نهج البلاغة ج : 17 ص : 89ما يعيا كتابه عن جوابه فيجيب عنه بعلمه و يدخل في ذلك أن يكون فيها ما لا يجوز في حكم السياسة و مصلحة الولاية أن يطلع الكتاب عليه فيجيب أيضا عن ذلك بعلمه. ثم قال له لا تدخل عمل يوم في عمل يوم آخر فيتعبك و يكدرك فإنكل يوم ما فيه من العمل

(18/76)


وَ اجْعَلْ لِنَفْسِكَ فِيمَا بَيْنَكَ وَ بَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى أَفْضَلَ تِلْكَ الْمَوَاقِيتِ وَ أَجْزَلَ تِلْكَ الْأَقْسَامِ وَ إِنْ كَانَتْ كُلُّهَا لِلَّهِ إِذَا صَلَحَتْ فِيهَا النِّيَّةُ وَ سَلِمَتْ مِنْهَا الرَّعِيَّةُ وَ لْيَكُنْ فِي خَاصَّةِ مَا تُخْلِصُ بِهِ لِلَّهِ دِينَكَ إِقَامَةُ فَرَائِضِهِ الَّتِي هِيَ لَهُ خَاصَّةً فَأَعْطِ اللَّهَ مِنْ بَدَنِكَ فِي لَيْلِكَ وَ نَهَارِكَ وَ وَفِّ مَا تَقَرَّبْتَ بِهِ إِلَى اللَّهِ سُبْحَانَهُ مِنْ ذَلِكَ كَامِلًا غَيْرَ مَثْلُومٍ وَ لَا مَنْقُوصٍ بَالِغاً مِنْ بَدَنِكَ مَا بَلَغَ وَ إِذَا قُمْتَ فِي صَلَاتِكَ لِلنَّاسِ فَلَا تَكُونَنَّ مُنَفِّراً وَ لَا مُضَيِّعاً فَإِنَّ فِي النَّاسِ مَنْ بِهِ الْعِلَّةُ وَ لَهُ الْحَاجَةُ وَ قَدْ سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ ص حِينَ وَجَّهَنِي إِلَى الْيَمَنِ كَيْفَ أُصَلِّي بِهِمْ فَقَالَ صَلِّ بِهِمْ كَصَلَاةِ أَضْعَفِهِمْ وَ كُنْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً

(18/77)


لما فرغ ع من وصيته بأمور رعيته شرع في وصيته بأداء الفرائض التي شرح نهج البلاغة ج : 17 ص : 90افترضها الله عليه من عبادته و لقد أحسن ع في قوله و إن كانت كلها لله أي أن النظر في أمور الرعية مع صحة النية و سلامة الناس من الظلم من جملة العبادات و الفرائض أيضاثم قال له كاملا غير مثلوم أي لا يحملنك شغل السلطان على أن تختصر الصلاة اختصارا بل صلها بفرائضها و سننها و شعائرها في نهارك و ليلك و إن أتعبك ذلك و نال من بدنك و قوتك. ثم أمره إذا صلى بالناس جماعة ألا يطيل فينفرهم عنها و ألا يخدج الصلاة و ينقصها فيضيعها. ثم روى خبرا عن النبي ص و هو قوله ع له صل بهم كصلاة أضعفهم و قوله و كن بالمؤمنين رحيما يحتمل أن يكون من تتمة الخبر النبوي و يحتمل أن يكون من كلام أمير المؤمنين ع و الظاهر أنه من كلام أمير المؤمنين من الوصية للأشتر لأن اللفظة الأولى عند أرباب الحديث هي المشهور في الخبر

(18/78)


وَ أَمَّا بَعْدَ هَذَا فَلَا تُطَوِّلَنَّ احْتِجَابَكَ عَنْ رَعِيَّتِكَ فَإِنَّ احْتِجَابَ الْوُلَاةِ عَنِ الرَّعِيَّةِ شُعْبَةٌ مِنَ الضِّيقِ وَ قِلَّةُ عِلْمٍ بِالْأُمُورِ وَ الِاحْتِجَابُ مِنْهُمْ يَقْطَعُ عَنْهُمْ عِلْمَ مَا احْتَجَبُوا دُونَهُ فَيَصْغُرُ عِنْدَهُمُ الْكَبِيرُ وَ يَعْظُمُ الصَّغِيرُ وَ يَقْبُحُ الْحَسَنُ وَ يَحْسُنُ الْقَبِيحُ وَ يُشَابُ الْحَقُّ بِالْبَاطِلِ وَ إِنَّمَا الْوَالِي بَشَرٌ لَا يَعْرِفُ مَا تَوَارَى عَنْهُ النَّاسُ بِهِ مِنَ الْأُمُورِ وَ لَيْسَتْ عَلَى الْحَقِّ سِمَاتٌ تُعْرَفُ بِهَا ضُرُوبُ الصِّدْقِ مِنَ شرح نهج البلاغة ج : 17 ص : 91الْكَذِبِ وَ إِنَّمَا أَنْتَ أَحَدُ رَجُلَيْنِ إِمَّا امْرُؤٌ سَخَتْ نَفْسُكَ بِالْبَذْلِ فِي الْحَقِّ فَفِيمَ احْتِجَابُكَ مِنْ وَاجِبِ حَقٍّ تُعْطِيهِ أَوْ فِعْلٍ كَرِيمٍ تُسْدِيهِ أَوْ مْتَلًى بِالْمَنْعِ فَمَا أَسْرَعَ كَفَّ النَّاسِ عَنْ مَسْأَلَتِكَ إِذَا أَيِسُوا مِنْ بَذْلِكَ مَعَ أَنَّ أَكْثَرَ حَاجَاتِ النَّاسِ إِلَيْكَ مَا لَا مَئُونَةَ فِيهِ عَلَيْكَ مِنْ شَكَاةِ مَظْلِمَةٍ أَوْ طَلَبِ إِنْصَافٍ فِي مُعَامَلَةٍ
نهاه عن الاحتجاب فإنه مظنة انطواء الأمور عنه و إذا رفع الحجاب دخل عليه كل أحد فعرف الأخبار و لم يخف عليه شي ء من أحوال عمله. ثم قال لم تحتجب فإن أكثر الناس يحتجبون كيلا يطلب منهم الرفد. و أنت فإن كنت جوادا سمحا لم يكن لك إلى الحجاب داع و إن كنت ممسكا فسيعم الناس ذلك منك فلا يسألك أحد شيئا. ثم قال على أن أكثر ما يسأل منك ما لا مئونة عليه في ماله كرد ظلامة أو إنصاف من خصم
ذكر الحجاب و ما ورد فيه من الخبر و الشعر

(18/79)


و القول في الحجاب كثير حضر باب عمر جماعة من الأشراف منهم سهيل بن عمرو و عيينة بن حصن و الأقرع بن حابس فحجبوا ثم خرج الآذن فنادى أين عمار أين سلمان أين صهيب شرح نهج البلاغة ج : 17 ص : 92فأدخلهم فتمعرت وجوه القوم فقال سهيل بن عمرو لم تتمعر وجوهكم دعوا و دعا فأسرعوا و أبطأنا و لئن حسدتموهم على باب عمر اليوم لأنتم غدا لهم أحسد. و استأذن أبو سفيان على عثمان فحجبه فقيل له حجبك فقال لا عدمت من أهلي من إذا شاء حجبني. و حجب معاوية أبا الدرداء فقيل لأبي الدرداء حجبك معاوية فقال من يغش أبواب الملوك يهن و يكرم و من صادف بابا مغلقا عليه وجد إلى جانبه بابا مفتوحا إن سأل أعطي و إن دعا أجيب و إن يكن معاوية قد احتجب فرب معاوية لم يحتجب. و قال أبرويز لحاجبه لا تضعن شريفا بصعوبة حجاب و لا ترفعن وضيعا بسهولته ضع الرجال مواضع أخطارهم فمن كان قديما شرفه ثم ازدرعه و لم يهدمه بعد آبائه فقدمه على شرفه الأول و حسن رأيه الآخر و من كان له شرف متقدم و لم يصن ذلك حياطة له و لم يزدرعه تثمير المغارسة فألحق بآبائه من رفعة حاله ما يقتضيه سابق شرفهم و ألحق به في خاصته ما ألحق بنفسه و لا تأذن له إلا دبريا و إلا سرارا و لا تلحقه بطبقة الأولين و إذا ورد كتاب عامل من عمالي فلا تحبسه عني طرفة عين إلا أن أكون على حال لا تستطيع الوصول إلي فيها و إذا أتاك من يدعي النصيحة لنا فلتكتبها سرا ثم أدخله بعد أن تستأذن له حتى إذا كان مني بحيث أراه فادفع إلي كتابه فإن أحمدت قبلت و إن كرهت رفضت و إن أتاك عالم مشتهر بالعلم و الفضل يستأذن فأذن له فإن العلم شريف و شريف صاحبه و لا تحجبن عني أحدا من أفناء الناس إذا أخذت مجلسي مجلس العامة فإن الملك لا يحجب إلا عن ثلاث عي يكره أن يطلع عليه منه أو بخل يكره أن يدخل عليه من يسأله أو ريبة هو مصر عليها فيشفق من إبدائها شرحنهج البلاغة ج : 17 ص : 93و وقوف الناس عليها و لا بد أن يحيطوا بها

(18/80)


علما و إن اجتهد في سترها و قد أخذ هذا المعنى الأخير محمود الوراق فقال إذا اعتصم الوالي بإغلاق بابه و رد ذوي الحاجات دون حجابه ظننت به إحدى ثلاث و ربما رجمت بظن واقع بصوابه أقول به مس من العي ظاهر ففي إذنه للناس إظهار ما به فإن لم يكن عي اللسان فغالب من البخل يحمى ماله عن طلابه و إن لم يكن لا ذا و لا ذا فريبة يكتمها مستوريابه
أقام عبد العزيز بن زرارة الكلابي على باب معاوية سنة في شملة من صوف لا يأذن له ثم أذن له و قربه و أدناه و لطف محله عنده حتى ولاه مصر فكان يقال استأذن أقوام لعبد العزيز بن زرارة ثم صار يستأذن لهم و قال في ذلك
دخلت على معاوية بن حرب و لكن بعد يأس من دخول و ما نلت الدخول عليه حتى حللت محلة الرجل الذليل و أغضيت الجفون على قذاها و لم أنظر إلى قال و قيل و أدركت الذي أملت منه و حرمان المنى زاد العجو يقال إنه قال له لما دخل عليه أمير المؤمنين دخلت إليك بالأمل و احتملت جفوتك بالصبر و رأيت ببابك أقواما قدمهم الحظ و آخرين أخرهم الحرمان فليس ينبغي للمقدم أن يأمن عواقب الأيام و لا للمؤخر أن ييأس من عطف الزمان. و أول المعرفة الاختبار فابل و اختبر إن رأيت و كان يقال لم يلزم باب السلطان أحد فصبر على ذل الحجاب و كلام البواب و ألقى الأنف و حمل الضيم و أدام الملازمة إلا وصل إلى حاجته أو إلى معظمها. شرح نهج البلاغة ج : 17 ص : 94قال عبد الملك لحاجبه إنك عين أنظر بها و جنة أستلئم بها و قد وليتك ما وراء بابي فما ذتراك صانعا برعيتي قال أنظر إليهم بعينك و أحملهم على قدر منازلهم عندك و أضعهم في إبطائهم عن بابك و لزوم خدمتك مواضع استحقاقهم و أرتبهم حيث وضعهم ترتيبك و أحسن إبلاغهم عنك و إبلاغك عنهم قال لقد وفيت بما عليك و لكن إن صدقت ذلك بفعلك و قال دعبل و قد حجب عن باب مالك بن طوق

(18/81)


لعمري لئن حجبتني العبيد لما حجبت دونك القافيه سأرمي بها من وراء الحجاب شنعاء تأتيك بالداهيه تصم السميع و تعمي البصير و يسأل من مثلها العافيو قال آخر
سأترك هذا الباب ما دام إذنه على ما أرى حتى يلين قليلافما خاب من لم يأته مترفعا و لا فاز من قد رام فيه دخولاإذا لم نجد للإذن عندك موضعا وجدنا إلى ترك المجي ء سبيلاو كتب أبو العتاهية إلى أحمد بن يوسف الكاتب و قد حجبه
و إن عدت بعد اليوم إني لظالم سأصرف وجهي حيث تبغي المكارم متى يفلح الغادي إليك لحاجة و نصفك محجوب و نصفك نائميعني ليله و نهاره. استأذن رجلان على معاوية فأذن لأحدهما و كان أشرف منزلة من الآخر ثم أذن للآخر فدخل فجلس فوق الأول فقال معاوية إن الله قد ألزمنا تأديبكم شرح نهج البلاغة ج : 17 ص : 95كما ألزمنا رعايتكم و أنا لم نأذن له قبلك و نحن نريد أن يكون مجلسه دونك ف لا أقام الله لك وزنا و قال بشار
تأبى خلائق خالد و فعاله إلا تجنب كل أمر عائب و إذا أتينا الباب وقت غدائه أدنى الغداء لنا برغم الحاجبو قال آخر يهجو
يا أميرا على جريب من الأر ض له تسعة من الحجاب قاعد في الخراب يحجب عنا ما سمعنا بحاجب في خرابو كتب بعضهم إلى جعفر بن محمد بن القاسم بن عبيد الله بن سليمان بن وهب
أبا جعفر إن الولاية إن تكن منبلة قوسا فأنت لها نبل فلا ترتفع عنا لأمر وليته كما لم يصغر عندنا شأنك العزلو من جيد ما مدح به بشر بن مروان قول القائل
بعيد مراد الطرف ما رد طرفه حذار الغواشي باب دار و لا سترو لو شاء بشر كان من دون بابه طماطم سود أو صقالبة حمرو لكن بشرا يستر الباب للتي يكون لها في غبها الحمد و الأجر
و قال بشار

(18/82)


خليلي من كعب أعينا أخاكما على دهره إن الكريم يعين و لا تبخلا بخل ابن قرعة إنه مخافة أن يرجى نداه حزين إذا جئته للعرف أغلق بابه فلم تلقه إلا و أنت كمين فقل لأبي يحيى متى تدرك العلا و في كل معروف عليك يم شرح نهج البلاغة ج : 17 ص : 96و قال إبراهيم بن هرمةهش إذا نزل الوفود ببابه سهل الحجاب مؤدب الخدام و إذا رأيت صديقه و شقيقه لم تدر أيهما ذوي الأرحامو قال آخر
و إني لأستحيي الكريم إذا أتى على طمع عند اللئيم يطالبه و أرثي له من مجلس عند بابه كمرثيتي للطرف و العلج راكبهو قال عبد الله بن محمد بن عيينة
أتيتك زائرا لقضاء حق فحال الستر دونك و الحجاب و رأيي مذهب عن كل ناء يجانبه إذا عز الذهاب و لست بساقط في قدر قوم و إن كرهوا كما يقع الذباو قال آخر

(18/83)


ما ضاقت الأرض على راغب تطلب الرزق و لا راهب بل ضاقت الأرض على شاعر أصبح يشكو جفوة الحاجب قد شتم الحاجب في شعره و إنما يقصد للصاحثُمَّ إِنَّ لِلْوَالِي خَاصَّةً وَ بِطَانَةً فِيهِمُ اسْتِئْثَارٌ وَ تَطَاوُلٌ وَ قِلَّةُ إِنْصَافٍ فِي مُعَامَلَةٍ فَاحْسِمْ مَئُونَةَ أُولَئِكَ بِقَطْعِ أَسْبَابِ تِلْكَ الْأَحْوَالِ وَ لَا تُقْطِعَنَّ لِأَحَدٍ مِنْ حَاشِيَتِكَ وَ حَامَّتِكَ قَطِيعَةً وَ لَا يَطْمَعَنَّ مِنْكَ فِي اعْتِقَادِ عُقْدَةٍ تَضُرُّ بِمَنْ يَلِيهَا مِنَ النَّاسِ فِي شرح نهج البلاغة ج : 17 ص : 97شِرْبٍ أَوْ عَمَلٍ مُشْتَرَكٍ يَحْمِلُونَ مَئُونَتَهُ عَلَى غَيْرِهِمْ فَيَكُونَ مَهْنَأُ ذَلِكَ لَهُمْ دُونَكَ وَ عَيْبُهُ عَلَيْكَ فِالدُّنْيَا وَ الآْخِرَةِ وَ أَلْزِمِ الْحَقَّ مَنْ لَزِمَهُ مِنَ الْقَرِيبِ وَ الْبَعِيدِ وَ كُنْ فِي ذَلِكَ صَابِراً مُحْتَسِباً وَاقِعاً ذَلِكَ مِنْ قَرَابَتِكَ وَ خَوَاصِّكَ حَيْثُ وَقَعَ وَ ابْتَغِ عَاقِبَتَهُ بِمَا يَثْقُلُ عَلَيْكَ مِنْهُ فَإِنَّ مَغَبَّةَ ذَلِكَ مَحْمُودَةٌ وَ إِنْ ظَنَّتِ الرَّعِيَّةُ بِكَ حَيْفاً فَأَصْحِرْ لَهُمْ بِعُذْرِكَ وَ اعْدِلْ عَنْكَ ظُنُونَهُمْ بِإِصْحَارِكَ فَإِنَّ فِي ذَلِكَ إِعْذَاراً تَبْلُغُ بِهِ حَاجَتَكَ مِنْ تَقْوِيمِهِمْ عَلَى الْحَقِّ

(18/84)


نهاه ع عن أن يحمل أقاربه و حاشيته و خواصه على رقاب الناس و أن يمكنهم من الاستئثار عليهم و التطاول و الإذلال و نهاه من أن يقطع أحدا منهم قطيعة أو يملكه ضيعة تضر بمن يجاورها من السادة و الدهاقين في شرب يتغلبون على الماء منه أو ضياع يضيفونها إلى ما ملكهم إياه و إعفاء لهم من مئونة أو حفر و غيره فيعفيهم الولاة منه مراقبة لهم فيكون مئونة ذلك الواجب عليهم قد أسقطت عنهم و حمل ثقلها على غيرهم. ثم قال ع لأن منفعة ذلك في الدنيا تكون لهم دونك و الوزر في الآخرة عليك و العيب و الذم في الدنيا أيضا لاحقان بك. ثم قال له إن اتهمتك الرعية بحيف عليهم أو ظنت بك جورا فاذكر لهم عذرك شرح نهج البلاغة ج : 17 ص : 98في ذلك و ما عندك ظاهرا غير مستور فإنه الأولى و الأقرب إلى استقامتهم لك على الحق. و أصحرت بكذا أي كشفته مأخوذ من الإصحار و هو الخروج إلى الصحراء. و حامة الرجل أقاربه و بطاه و اعتقدت عقدة أي ادخرت ذخيرة و المهنأ مصدر هنأه كذا و مغبة الشي ء عاقبته. و اعدل عنك ظنونهم نحها و الإعذار إقامة العذر طرف من أخبار عمر بن عبد العزيز و نزاهته في خلافته

(18/85)


رد عمر بن عبد العزيز المظالم التي احتقبها بنو مروان فأبغضوه و ذموه و قيل إنهم سموه فمات. و روى الزبير بن بكار في الموفقيات أن عبد الملك بن عمر بن عبد العزيز دخل على أبيه يوما و هو في قائلته فأيقظه و قال له ما يؤمنك أن تؤتى في منامك و قد رفعت إليك مظالم لم تقض حق الله فيها فقال يا بني إن نفسي مطيتي إن لم أرفق بها لم تبلغني إني لو أتعبت نفسي و أعواني لم يكن ذلك إلا قليلا حتى أسقط و يسقطوا و إني لأحتسب في نومتي من الأجر مثل الذي أحتسب في يقظتي إن الله جل ثناؤه لو أراد أن ينزل القرآن جملة لأنزله و لكنه أنزل الآية و الآيتين حتى استكثر الإيمان في قلوبهم. ثم قال يا بني مما أنا فيه آمر هو أهم إلى أهل بيتك هم أهل العدة و العدد و قبلهم ما قبلهم فلو جمعت ذلك في يوم واحد خشيت انتشارهم علي و لكني أنصف من الرجل شرح نهج البلاغة ج : 17 ص : 99و الاثنين فيبلغ ذلك من وراءهمايكون أنجع له فإن يرد الله إتمام هذا الأمر أتمه و إن تكن الأخرى فحسب عبد أن يعلم الله منه أنه يحب أن ينصف جميع رعيته. و روى جويرية بن أسماء عن إسماعيل بن أبي حكيم قال كنا عند عمر بن عبد العزيز فلما تفرقنا نادى مناديه الصلاة جامعة فجئت المسجد فإذا عمر على المنبر فحمد الله و أثنى عليه ثم قال أما بعد فإن هؤلاء يعني خلفاء بني أمية قبله قد كانوا أعطونا عطايا ما كان ينبغي لنا أن نأخذها منهم و ما كان ينبغي لهم أن يعطوناها و إني قد رأيت الآن أنه ليس علي في ذلك دون الله حسيب و قد بدأت بنفسي و الأقربين من أهل بيتي اقرأ يا مزاحم فجعل مزاحم يقرأ كتابا فيه الإقطاعات بالضياع و النواحي ثم يأخذه عمر بيده فيقصه بالجلم لم يزل كذلك حتى نودي بالظهر. و روى الفرات بن السائب قال كان عند فاطمة بنت عبد الملك بن مروان جوهر جليل وهبها أبوها و لم يكن لأحد مثله و كانت تحت عمر بن عبد العزيز فلما ولي الخلافة قال لها اختاري إما أن تردي جوهرك و حليك إلى

(18/86)


بيت مال المسلمين و إما أن تأذني لي في فراقك فإني أكره أن اجتمع أنا و أنت و هو في بيت واحد فقالت بل أختارك عليه و على أضعافه لو كان لي و أمرت به فحمل إلى بيت المال فلما هلك عمر و استخلف يزيد بن عبد الملك قال لفاطمة أخته إن شئت رددته عليك قالت فإني لا أشاء ذلك طبت عنه نفسا في حياة عمر و أرجع فيه بعد موته لا و الله أبدا فلما رأى يزيد ذلك قسمه بين ولده و أهله. و روى سهيل بن يحيى المروزي عن أبيه عن عبد العزيز عن عمر بن عبد العزيز قال لما دفن سليمان صعد عمر على المنبر فقال إني قد خلعت ما في رقبتي من بيعتكم فصاح الناس صيحة واحدة قد اخترناك فنزل و دخل و أمر بالستور فهتكت

(18/87)


شرح نهج البلاغة ج : 17 ص : 100و الثياب التي كانت تبسط للخلفاء فحملت إلى بيت المال ثم خرج و نادى مناديه من كانت له مظلمة من بعيد أو قريب من أمير المؤمنين فليحضر فقام رجل ذمي من أهل حمص أبيض الرأس و اللحية فقال أسألك كتاب الله قال ما شأنك قال العباس بن اليد بن عبد الملك اغتصبني ضيعتي و العباس جالس فقال عمر ما تقول يا عباس قال أقطعنيها أمير المؤمنين الوليد و كتب لي بها سجلا فقال عمر ما تقول أنت أيها الذمي قال يا أمير المؤمنين أسألك كتاب الله فقال عمر إيها لعمري إن كتاب الله لأحق أن يتبع من كتاب الوليد اردد عليه يا عباس ضيعته فجعل لا يدع شيئا مما كان في أيدي أهل بيته من المظالم إلا ردها مظلمة مظلمة. و روى ميمون بن مهران قال بعث إلي عمر بن عبد العزيز و إلى مكحول و أبي قلابة فقال ما ترون في هذه الأموال التي أخذها أهلي من الناس ظلما فقال مكحول قولا ضعيفا كرهه عمر فقال أرى أن تستأنف و تدع ما مضى فنظر إلي عمر كالمستغيث بي فقلت يا أمير المؤمنين أحضر ولدك عبد الملك لننظر ما يقول فحضر فقال ما تقول يا عبد الملك فقال ما ذا أقول أ لست تعرف مواضعها قال بلى و الله قال فارددها فإن لم تفعل كنت شريكا لمن أخذها. و روى ابن درستويه عن يعقوب بن سفيان عن جويرية بن أسماء قال كان بيد عمر بن عبد العزيز قبل الخلافة ضيعته المعروفة بالسهلة و كانت باليمامة و كانت أمرا عظيما لها غلة عظيمة كثيرة إنما عيشه و عيش أهله منها فلما ولي الخلافة قال لمزاحم مولاه و كان فاضلا إني قد عزمت أن أرد السهلة إلى بيت مال المسلمين فقال مزاحم أ تدري كم ولدك إنهم كذا و كذا قال فذرفت عيناه فجعل يستدمع و يمسح الدمعة بإصبعه الوسطى و يقول أكلهم إلى الله أكلهم إلى الله فمضى مزاحم فدخل على عبد الملك بن عمر فقال له أ لا تعلم ما قد عزم عليه أبوك إنه يريد أن يرد السهلة قال فما قلت شرح نهج البلاغة ج : 17 ص : 101له قال ذكرت له ولده فجعل

(18/88)


يستدمع و يقول أكلهم إلى الله فقال عبد الملك بئس وزير الدين أنت ثم وثب و انطلق إلى أبيه فقال للآذن استأذن لي عليه فقال إنه قد وضع رأسه الساعة للقائلة فقال استأذن لي عليه فقال أ ما ترحمونه ل له من الليل و النهار إلا هذه الساعة قال استأذن لي عليه لا أم لك فسمع عمر كلامهما فقال ائذن لعبد الملك فدخل فقال على ما ذا عزمت قال أرد السهلة قال فلا تؤخر ذلك قم الآن قال فجعل عمر يرفع يديه و يقول الحمد لله الذي جعل لي من ذريتي من يعينني على أمر ديني قال نعم يا بني أصلي الظهر ثم أصعد المنبر فأردها علانية على رءوس الناس قال و من لك أن تعيش إلى الظهر ثم من لك أن تسلم نيتك إلى الظهر إن عشت إليها فقام عمر فصعد المنبر فخطب الناس و رد السهلة. قال و كتب عمر بن الوليد بن عبد الملك إلى عمر بن عبد العزيز لما أخذ بني مروان برد المظالم كتابا أغلظ له فيه من جملته أنك أزريت على كل من كان قبلك من الخلفاء و عبتهم و سرت بغير سيرتهم بغضا لهم و شنآنا لمن بعدهم من أولادهم و قطعت ما أمر الله به أن يوصل و عمدت إلى أموال قريش و مواريثهم فأدخلتها بيت المال جورا و عدوانا فاتق الله يا ابن عبد العزيز و راقبه فإنك خصصت أهل بيتك بالظلم و الجور و و الذي خص محمد ص بما خصه به لقد ازددت من الله بعدا بولايتك هذه التي زعمت أنها عليك بلاء فأقصر عن بعض ما صنعت و اعلم أنك بعين جبار عزيز و في قبضته و لن يتركك على ما أنت عليه. قالوا فكتب عمر جوابه أما بعد فقد قرأت كتابك و سوف أجيبك بنحو منه أما أول أمرك يا ابن الوليد فإن أمك نباتة أمة السكون كانت تطوف في أسواق حمص و تدخل حوانيتها ثم الله أعلم بها اشتراها ذبيان بن ذبيان من في ء المسلمين فأهداها شرح نهج البلاغة ج : 17 ص : 102لأبيك فحملت بك فبئس الحامل و بئس المحمول ثم نشأت فكنت جبارا عنيدا و تزعم أني من الظالمين لأني حرمتك و أهل بيتك في ء الله الذي هو حق القرابة و المساكين و

(18/89)


الأرامل و إن أظلم مني و أترك لعهد الله من استعملك صبيا سفيها على جند سلمين تحكم فيهم برأيك و لم يكن له في ذاك نية إلا حب الوالد ولده فويل لك و ويل لأبيك ما أكثر خصماءكما يوم القيامة و إن أظلم مني و أترك لعهد الله من استعمل الحجاج بن يوسف على خمسي العرب يسفك الدم الحرام و يأخذ المال الحرام و إن أظلم مني و أترك لعهد الله من استعمل قرة بن شريك أعرابيا جافيا على مصر و أذن له في المعازف و الخمر و الشرب و اللهو و إن أظلم مني و أترك لعهد الله من استعمل عثمان بن حيان على الحجاز فينشد الأشعار على منبر رسول الله ص و من جعل للعالية البربرية سهما في الخمس فرويدا يا ابن نباتة و لو التقت حلقتا البطان و رد الفي ء إلى أهله لتفرغت لك و لأهل بيتك فوضعتكم على المحجة البيضاء فطالما تركتم الحق و أخذتم في بنيات الطريق و من وراء هذا من الفضل ما أرجو أن أعمله بيع رقبتك و قسم ثمنك بين الأرامل و اليتامى و المساكين فإن لكل فيك حقا و السلام علينا و لا نال سلام الله الظالمين. و روى الأوزاعي قال لما قطع عمر بن عبد العزيز عن أهل بيته ما كان من قبله يجرونه عليهم من أرزاق الخاصة فتكلم في ذلك عنبسة بن سعيد فقال يا أمير المؤمنين إن لنا قرابة فقال مالي إن يتسع لكم و أما هذا المال فحقكم فيه كحق رجل بأقصى برك الغماد و لا يمنعه من أخذه إلا بعد مكانه و الله إني لأرى أن الأمور شرح نهج البلاغة ج : 17 ص : 103لو استحالت حتى يصبح أهل الأرض يرون مثل رأيكم لنزلت بهم بائقة من عذاب الله. و روى الأوزاعي أيضا قال قال عمر بن عبد العزيز يوما و قد بلغه عن بني أمية كلام أغضبه إنله في بني أمية يوما أو قال ذبحا و ايم الله لئن كان ذلك الذبح أو قال ذلك اليوم على يدي لأعذرن الله فيهم قال فلما بلغهم ذلك كفوا و كانوا يعلمون صرامته و إنه إذا وقع في أمر مضى فيه. و روى إسماعيل بن أبي حكيم قال قال عمر بن عبد العزيز يوما لحاجبه لا تدخلن

(18/90)


علي اليوم إلا مروانيا فلما اجتمعوا قال يا بني مروان إنكم قد أعطيتم حظا و شرفا و أموالا إني لأحسب شطر أموال هذه الأمة أو ثلثيها في أيديكم فسكتوا فقال أ لا تجيبوني فقال رجل منهم فما بالك قال إني أريد أن أنتزعها منكم فأردها إلى بيت مال المسلمين فقال رجل منهم و الله لا يكون ذلك حتى يحال بين رءوسنا و أجسادنا و الله لا نكفر أسلافنا و لا نفقر أولادنا فقال عمر و الله لو لا أن تستعينوا علي بمن أطلب هذا الحق له لأضرعت خدودكم قوموا عني. و روى مالك بن أنس قال ذكر عمر بن عبد العزيز من كان قبله من المروانية فعابهم و عنده هشام بن عبد الملك فقال يا أمير المؤمنين إنا و الله نكره أن تعيب آباءنا و تضع شرفنا فقال عمر و أي عيب أعيب مما عابه القرآن. و روى نوفل بن الفرات قال شكا بنو مروان إلى عاتكة بنت مروان بن الحكم عمر فقالوا إنه يعيب أسلافنا و يأخذ أموالنا فذكرت ذلك له و كانت عظيمة عند بني مروان فقال لها يا عمة إن رسول الله ص قبض و ترك

(18/91)


شرح نهج البلاغة ج : 17 ص : 104الناس على نهر مورود فولي ذلك النهر بعده رجلان لم يستخصا أنفسهما و أهلهما منه بشي ء ثم وليه ثالث فكرى منه ساقية ثم لم تزل الناس يكرون منه السواقي حتى تركوه يابسا لا قطرة فيه و ايم الله لئن أبقاني الله لأسكرن تلك السواقي حتىيد النهر إلى مجراه الأول قالت فلا يسبون إذا عندك قال و من يسبهم إنما يرفع الرجل مظلمته فأردها عليه. و روى عبد الله بن محمد التيمي قال كان بنو أمية ينزلون عاتكة بنت مروان بن الحكم على أبواب قصورهم و كانت جليلة الموضع عندهم فلما ولي عمر قال لا يلي إنزالها أحد غيري فأدخلوها على دابتها إلى باب قبته فأنزلها ثم طبق لها وسادتين إحداهما على الأخرى ثم أنشأ يمازحها و لم يكن من شأنه و لا من شأنها المزاح فقال أ ما رأيت الحرس الذين على الباب فقالت بلى و ربما رأيتهم عند من هو خير منك فلما رأى الغضب لا يتحلل عنها ترك المزاح و سألها أن تذكر حاجتها فقالت إن قرابتك يشكونك و يزعمون أنك أخذت منهم خير غيرك قال ما منعتهم شيئا هو لهم و لا أخذت منهم حقا يستحقونه قالت إني أخاف أن يهيجوا عليك يوما عصيبا و قال كل يوم أخافه دون يوم القيامة فلا وقاني الله شره ثم دعا بدينار و مجمرة و جلد فألقى الدينار في النار و جعل ينفخ حتى احمر ثم تناوله بشي ء فأخرجه فوضعه على الجلد فنش و فتر فقال يا عمة أ ما تأوين لابن أخيك من مثل هذا فقامت فخرجت إلى بني مروان فقالت تزوجون في آل عمر بن الخطاب فإذا نزعوا إلى الشبه جزعتم اصبروا له. و روى وهيب بن الورد قل اجتمع بنو مروان على باب عمر بن عبد العزيز فقالوا لولد له قل لأبيك يأذن لنا فإن لم يأذن فأبلغ إليه عنا و سأله فلم يأذن لهم و قال شرح نهج البلاغة ج : 17 ص : 105فليقولوا فقالوا قل له إن من كان قبلك من الخلفاء كان يعطينا و يعرف لنا مواضعنا و إن أباك قد حرم ما في يديه فدخل إلى أبيه فأبلغه عنهم فقال اخرج فقل لهم إني أخاف إن

(18/92)


عصيت ربي عذاب يوم عظيم و روى سعيد بن عمار عن أسماء بنت عبيد قال دخل عنبسة بن سعيد بن العاص على عمر بن عبد العزيز فقال يا أمير المؤمنين إن من كان قبلك من الخلفاء كانوا يعطوننا عطايا منعتناها و لي عيال و ضيعة فأذن لي أخرج إلى ضيعتي و ما يصلح عيالي فقال عمر إن أحبكم إلينا من كفانا مئونته فخرج عنبسة فلما صار إلى الباب ناداه أبا خالد أبا خالد فرجع فقال أكثر ذكر الموت فإن كنت في ضيق من العيش وسعه عليك و إن كنت في سعة من العيش ضيقه عليك. و روى عمر بن علي بن مقدم قال قال ابن صغير لسليمان بن عبد الملك لمزاحم إن لي حاجة إلى أمير المؤمنين عمر قال فاستأذنت له فأدخله فقال يا أمير المؤمنين لم أخذت قطيعتي قال معاذ الله إن آخذ قطيعة ثبتت في الإسلام قال فهذا كتابي بها و أخرج كتابا من كمه فقرأه عمر و قال لمن كانت هذه الأرض قال كانت للمسلمين قال فالمسلمون أولى بها قال فاردد علي كتابي قال إنك لو لم تأتني به لم أسألكه فأما إذ جئتني به فلست أدعك تطلب به ما ليس لك بحق فبكى ابن سليمان فقال مزاحم يا أمير المؤمنين ابن سليمان تصنع به هذا قال و ذلك لأن سليمان عهد إلى عمر و قدمه على إخوته فقال عمر ويحك يا مزاحم إني لأجد له من اللوط ما أجد لولدي و لكنها نفسي أجادل عنها. و روى الأوزاعي قال قال هشام بن عبد الملك و سعيد بن خالد بن عمر بن عثمان

(18/93)


شرح نهج البلاغة ج : 17 ص : 106بن عفان لعمر بن عبد العزيز يا أمير المؤمنين استأنف العمل برأيك فيما تحت يدك و خل بين من سبقك و بين ما ولوه عليهم كان أو لهم فإنك مستكف أن تدخل في خير ذلك و شره قال أنشدكما الله الذي إليه تعودان لو أن رجلا هلك و ترك بنين أصا و أكابر فغر الأكابر الأصاغر بقوتهم فأكلوا أموالهم ثم بلغ الأصاغر الحلم فجاءوكما بهم و بما صنعوا في أموالهم ما كنتما صانعين قالا كنا نرد عليهم حقوقهم حتى يستوفوها قال فإني وجدت كثيرا ممن كان قبلي من الولاة غر الناس بسلطانه و قوته و آثر بأموالهم أتباعه و أهله و رهطه و خاصته فلما وليت أتوني بذلك فلم يسعني إلا الرد على الضعيف من القوي و على الدني ء من الشريف فقالا يوفق الله أمير المؤمنين وَ لَا تَدْفَعَنَّ صُلْحاً دَعَاكَ إِلَيْهِ عَدُوُّكَ لِلَّهِ فِيهِ رِضًا فَإِنَّ فِي الصُّلْحِ دَعَةً لِجُنُودِكَ وَ رَاحَةً مِنْ هُمُومِكَ وَ أَمْناً لِبِلَادِكَ وَ لَكِنِ الْحَذَرَ كُلَّ الْحَذَرِ مِنْ عَدُوِّكَ بَعْدَ صُلْحِهِ فَإِنَّ الْعَدُوَّ رُبَّمَا قَارَبَ لِيَتَغَفَّلَ فَخُذْ بِالْحَزْمِ وَ اتَّهِمْ فِي ذَلِكَ حُسْنَ الظَّنِّ وَ إِنْ عَقَدْتَ بَيْنَكَ وَ بَيْنَ عَدُوٍّ لَكَ عُقْدَةً أَوْ أَلْبَسْتَهُ مِنْكَ ذِمَّةً فَحُطْ عَهْدَكَ بِالْوَفَاءِ وَ ارْعَ ذِمَّتَكَ بِالْأَمَانَةِ وَ اجْعَلْ نَفْسَكَ جُنَّةً دُونَ مَا أَعْطَيْتَ فَإِنَّهُ لَيْسَ مِنْ فَرَائِضِ اللَّهِ شَيْ ءٌ النَّاسُ أَشَدُّ عَلَيْهِ اجْتِمَاعاً مَعَ تَفَرُّقِ أَهْوَائِهِمْ وَ تَشَتُّتِ آرَائِهِمْ مِنْ تَعْظِيمِ الْوَفَاءِ بِالْعُهُودِ وَ قَدْ لَزِمَ ذَلِكَ الْمُشْرِكُونَ فِيمَا بَينَهُمْ دُونَ الْمُسْلِمِينَ لِمَا اسْتَوْبَلُوا مِنْ عَوَاقِبِ الْغَدْرِ فَلَا تَغْدِرَنَّ بِذِمَّتِكَ وَ لَا تَخِيسَنَّ بِعَهْدِكَ وَ لَا تَخْتِلَنَّ عَدُوَّكَ فَإِنَّهُ لَا يَجْتَرِئُ

(18/94)


عَلَى اللَّهِ إِلَّا جَاهِلٌ شَقِيٌّ وَ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ عَهْدَهُ وَ ذِمَّتَهُ أَمْناً أَفْضَاهُ بَيْنَ الْعِبَادِ بِرَحْمَتِهِ شرح نهج البلاغة ج : 17 ص : 107وَ حَرِيماً يَسْكُنُونَ إِلَى مَنَعَتِهِ وَ يَسْتَفِيضُونَ إِلَى جِوَارِهِ فَلَا إِدْغَالَ وَ لَا مُدَالَسَةَ وَ لَا خِدَاعَ فِيهِ وَ لَا تَعْقِدْهُ عَقْداً تُجَوُّ فِيهِ الْعِلَلَ وَ لَا تُعَوِّلَنَّ عَلَى لَحْنِ الْقَوْلِ بَعْدَ التَّأْكِيدِ وَ التَّوْثِقَةِ وَ لَا يَدْعُوَنَّكَ ضِيقُ أَمْرٍ لَزِمَكَ فِيهِ عَهْدُ اللَّهِ إِلَى طَلَبِ انْفِسَاخِهِ بِغَيْرِ الْحَقِّ فَإِنَّ صَبْرَكَ عَلَى ضِيقِ أَمْرٍ تَرْجُو انْفِرَاجَهُ وَ فَضْلَ عَاقِبَتِهِ خَيْرٌ مِنْ غَدْرٍ تَخَافُ تَبِعَتَهُ وَ أَنْ تُحِيطَ بِكَ مِنَ اللَّهِ طِلْبَةٌ لَا تَسْتَقِيلُ فِيهَا دُنْيَاكَ وَ لَا آخِرَتَكَ

(18/95)


أمره أن يقبل السلم و الصلح إذا دعي إليه لما فيه من دعة الجنود و الراحة من الهم و الأمن للبلاد و لكن ينبغي أن يحذر بعد الصلح من غائلة العدو و كيده فإنه ربما قارب بالصلح ليتغفل أي يطلب غفلتك فخذ بالحزم و اتهم حسن ظنك لا تثق و لا تسكن إلى حسن ظنك بالعدو و كن كالطائر الحذر. ثم أمره بالوفاء بالعهود قال و اجعل نفسك جنة دون ما أعطيت أي و لو ذهبت نفسك فلا تغدر. و قال الراوندي الناس مبتدأ و أشد مبتدأ ثان و من تعظيم الوفاء خبره و هذا المبتدأ الثاني مع خبره خبر المبتدإ الأول و محل الجملة نصب لأنها خبر ليس و محل ليس مع اسمه و خبره رفع لأنه خبر فإنه و شي ء اسم ليس و من فرائض الله حال و لو تأخر لكان صفة لشي ء و الصواب أن شي ء اسم ليس و جاز ذلك و إن كان نكرة لاعتماده على النفي و لأن الجار و المجرور قبله في موضع الحال كالصفة فتخصص بذلك و قرب من المعرفة و الناس مبتدأ و أشبره و هذه الجملة المركبة من مبتدإ شرح نهج البلاغة ج : 17 ص : 108و خبر في موضع رفع لأنها صفة شي ء و أما خبر المبتدإ الذي هو شي ء فمحذوف و تقديره في الوجود كما حذف الخبر في قولنا لا إله إلا الله أي في الوجود و ليس يصح ما قال الراوندي من أن أشد مبتدأ ثان تعظيم الوفاء خبره لأن حرف الجر إذا كان خبرا لمبتدإ تعلق بمحذوف و هاهنا هو متعلق بأشد نفسه فكيف يكون خبرا عنه و أيضا فإنه لا يجوز أن يكون أشد من تعظيم الوفاء خبرا عن الناس كما زعم الراوندي لأن ذلك كلام غير مفيد أ لا ترى أنك إذا أردت أن تخبر بهذا الكلام عن المبتدإ الذي هو الناس لم يقم من ذلك صورة محصلة تفيدك شيئا بل يكون كلاما مضطربا. و يمكن أيضا أن يكون من فرائض الله في موضع رفع لأنه خبر المبتدإ و قد قدم عليه و يكون موضع الناس و ما بعده رفع لأنه خبر المبتدإ الذي هو شي ء كما قلناه أولا و ليس يمتنع أيضا أن يون من فرائض الله منصوب الموضع لأنه حال و يكون موضع الناس أشد رفعا لأنه

(18/96)


خبر المبتدإ الذي هو شي ء. ثم قال له ع و قد لزم المشركون مع شركهم الوفاء بالعهود و صار ذلك لهم شريعة و بينهم سنة فالإسلام أولى باللزوم و الوفاء. و استوبلوا وجدوه وبيلا أي ثقيلا استوبلت لبلد أي استوخمته و استثقلته و لم يوافق مزاجك. و لا تخيسن بعهدك أي لا تغدرن خاس فلان بذمته أي غدر و نكث. قوله و لا تختلن عدوك أي لا تمكرن به ختلته أي خدعته. و قوله أفضاه بين عباده جعله مشتركا بينهم لا يختص به فريق دون فريق.
شرح نهج البلاغة ج : 17 ص : 109قال و يستفيضون إلى جواره أي ينتشرون في طلب حاجاتهم و مآربهم ساكنين إلى جواره فإلى هاهنا متعلقة بمحذوف مقدر كقوله تعالى فِي تِسْعِ آياتٍ إِلى فِرْعَوْنَ أي مرسلا قال فلا إدغال أي لا إفساد و الدغل الفساد و لا مدالسة أي لا خدي يقال فلان لا يوالس و لا يدالس أي لا يخادع و لا يخون و أصل الدلس الظلمة و التدليس في البيع كتمان عيب السلعة عن المشتري. ثم نهاه عن أن يعقد عقدا يمكن فيه التأويلات و العلل و طلب المخارج و نهاه إذا عقد العقد بينه و بين العدو أن ينقضه معولا على تأويل خفي أو فحوى قول أو يقول إنما عنيت كذا و لم أعن ظاهر اللفظة فإن العقود إنما تعقد على ما هو ظاهر في الاستعمال متداول في الاصطلاح و العرف لا على ما في الباطن. و روي انفساحه بالحاء المهملة أي سعته
فصل فيما جاء في الحذر من كيد العدو

(18/97)


قد جاء في الحذر من كيد العدو و النهي عن التفريط في الرأي السكون إلى ظاهر السلم أشياء كثيرة و كذا في النهي عن الغدر و النهي عن طلب تأويلات العهود و فسخها بغير الحق. فرط عبد الله بن طاهر في أيام أبيه في أمر أشرف فيه على العطب و نجا بعد لأي فكتب إليه أبوه أتاني يا بني من خبر تفريطك ما كان أكبر عندي من نعيك لو ورد لأني لم أرج قط ألا تموت و قد كنت أرجو ألا تفتضح بترك الحزم و التيقظ. و روى ابن الكلبي أن قيس بن زهير لما قتل حذيفة بن بدر و من معه بجفر الهباءة شرح نهج البلاغة ج : 17 ص : 110خرج حتى لحق بالنمر بن قا و قال لا تنظر في وجهي غطفانية بعد اليوم فقال يا معاشر النمر أنا قيس بن زهير غريب حريب طريد شريد موتور فانظروا لي امرأة قد أدبها الغني و أذلها الفقر فزوجوه بامرأة منهم فقال لهم إني لا أقيم فيكم حتى أخبركم بأخلاقي أنا فخور غيور أنف و لست أفخر حتى أبتلى و لا أغار حتى أرى و لا آنف حتى أظلم فرضوا أخلاقه فأقام فيهم حتى ولد له ثم أراد أن يتحول عنهم فقال يا معشر النمر إن لكم حقا علي في مصاهرتي فيكم و مقامي بين أظهركم و إني موصيكم بخصال آمركم بها و أنهاكم عن خصال عليكم بالأناة فإن بها تدرك الحاجة و تنال الفرصة و تسويد من لا تعابون بتسويده و الوفاء بالعهود فإن به يعيش الناس و إعطاء ما تريدون إعطاءه قبل المسألة و منع ما تريدون منعه قبل الإنعام و إجارة الجار على الدهر و تنفيس البيوت عن منازل الأيامى و خلط الضيف بالعيال و أنهاكم عن الغدر فإنه عار الدهر و عن الرهان فإن به ثكلت مالكا أخي و عن البغي فإن به صرع زهير أبي و عن السرف في الدماء فإن قتلي أهل الهباءة أورثني العار و لا تعطوا في الفضول فتعجزوا عن الحقوق و أنكحوا الأيامى الأكفاء فإن لم تصيبوا بهن الأكفاء فخير بيوتهن القبور و اعلموا أني أصبحت ظالما و مظلوما ظلمني بنو بدر بقتلهم مالكا و ظلمتهم بقتلي من لا ذنب له ثم رحل عنهم إلى غمار

(18/98)


فتنصر بها و عف عن المآكل حتى أكل الحنظل إلى أن مات
إِيَّاكَ وَ الدِّمَاءَ وَ سَفْكَهَا بِغَيْرِ حِلِّهَا فَإِنَّهُ لَيْسَ شَيْ ءٌ أَدْعَى لِنِقْمَةٍ وَ لَا أَعْظَمَ شرح نهج البلاغة ج : 17 ص : 111لِتَبِعَةٍ وَ لَا أَحْرَى بِزَوَالِ نِعْمَةٍ وَ انْقِطَاعِ مُدَّةٍ مِنْ سَفْكِ الدِّمَاءِ بِغَيْرِ حَقِّهَا وللَّهُ سُبْحَانَهُ مُبْتَدِئٌ بِالْحُكْمِ بَيْنَ الْعِبَادِ فِيمَا تَسَافَكُوا مِنَ الدِّمَاءِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَلَا تُقَوِّيَنَّ سُلْطَانَكَ بِسَفْكِ دَمٍ حَرَامٍ فَإِنَّ ذَلِكَ مِمَّا يُضْعِفُهُ وَ يُوهِنُهُ بَلْ يُزِيلُهُ وَ يَنْقُلُهُ وَ لَا عُذْرَ لَكَ عِنْدَ اللَّهِ وَ لَا عِنْدِي فِي قَتْلِ الْعَمْدِ لِأَنَّ فِيهِ قَوَدَ الْبَدَنِ وَ إِنِ ابْتُلِيتَ بِخَطَإٍ وَ أَفْرَطَ عَلَيْكَ سَوْطُكَ أَوْ يَدُكَ بِالْعُقُوبَةِ فَإِنَّ فِي الْوَكْزَةِ فَمَا فَوْقَهَا مَقْتَلَةً فَلَا تَطْمَحَنَّ بِكَ نَخْوَةُ سُلْطَانِكَ عَنْ أَنْ تُؤَدِّيَ إِلَى أَوْلِيَاءِ الْمَقْتُولِ حَقَّهُمْ
قد ذكرنا في وصية قيس بن زهير آنفا النهي عن الإسراف في الدماء و تلك وصية مبنية على شريعة الجاهلية مع حميتها و تهالكها على القتل و القتال و وصية أمير المؤمنين ع مبنية على الشريعة الإسلامية و النهي عن القتل و العدوان الذي لا يسيغه الدين و
قد ورد في الخبر المرفوع أن أول ما يقضي الله به يوم القيامة بين العباد أمر الدماء

(18/99)


قال إنه ليس شي ء أدعى إلى حلول النقم و زوال النعم و انتقال الدول من سفك الدم الحرام و إنك إن ظننت أنك تقوي سلطانك بذلك فليس الأمر كما ظننت بل تضعفه بل تعدمه بالكلية. ثم عرفه أن قتل العمد يوجب القود و قال له قود البدن أي يجب عليك هدم صورتك كما هدمت صورة القتول و المراد إرهابه بهذه اللفظة أنها أبلغ من أن يقول له فإن فيه القود. ثم قال إن قتلت خطأ أو شبه عمد كالضرب بالسوط فعليك الدية و قد اختلف شرح نهج البلاغة ج : 17 ص : 112الفقهاء في هذه المسألة فقال أبو حنيفة و أصحابه القتل على خمسة أوجه عمد و شبه عمد و خطو ما أجري مجرى الخطإ و قتل بسبب. فالعمد ما تعمد به ضرب الإنسان بسلاح أو ما يجري مجرى السلاح كالمحدد من الخشب و ليطة القصب و المروءة المحددة و النار و موجب ذلك المأثم و القود إلا أن يعفو الأولياء و لا كفارة فيه. و شبه العمد أن يتعمد الضرب بما ليس بسلاح و لا أجري مجرى السلاح كالحجر العظيم و الخشبة العظيمة و موجب ذلك المأثم و الكفارة و لا قود فيه و فيه الدية مغلظة على العاقلة. و الخطأ على وجهين خطأ في القصد و هو أن يرمي شخصا يظنه صيدا فإذا هو آدمي و خطأ في الفعل و هو أن يرمي غرضا فيصيب آدميا و موجب النوعين جميعا الكفارة و الدية على العاقلة و لا مأثم فيه. و ما أجري مجرى الخطإ مثل النائم يتقلب على رجل فيقتله فحكمه حكم الخطإ و أما القتل بسبب فحافر البئر و واضع الحجر في غير ملكه و موجبه إذا تلف فيه إنسان الدية على العاقلة و لا كفارة فيه. فهذا قول أبي حنيفة و من تابعه و قد خالفه صاحباه أبو يوسف و محمد في شبه العمد و قالا إذا ضربه بحجر عظيم أو خشبة غليظة فهو عمد قال و شبه العمد أن يتعمد ضربه بما لا يقتل به غالبا كالعصا الصغيرة و السوط و بهذا القول قال الشافعي. و كلام أمير المؤمنين ع يدل على أن المؤدب من الولاة إذا تلف تحت شرح نهج البلاغة ج : 17 ص : 113يده إنسان في التأديب فعليه

(18/100)


الدية و قال لي قوم من فقهاء الإمامية أن مذهبنا أن لا دية عليه و هو خلاف ما يقتضيه كلام أمير المؤمنين عوَ إِيَّاكَ وَ الْإِعْجَابَ بِنَفْسِكَ وَ الثِّقَةَ بِمَا يُعْجِبُكَ مِنْهَا وَ حُبَّ الْإِطْرَاءِ فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ أَوْثَقِ فُرَصِ الشَّيْطَانِ فِي نَفْسِهِ لِيَمْحَقَ مَا يَكُونُ مِنْ إِحْسَانِ الْمُحْسِنِينَ وَ إِيَّاكَ وَ الْمَنَّ عَلَى رَعِيَّتِكَ بِإِحْسَانِكَ أَوِ التَّزَيُّدَ فِيمَا كَانَ مِنْ فِعْلِكَ أَوْ أَنْ تَعِدَهُمْ فَتُتْبِعَ مَوْعِدَكَ بِخُلْفِكَ فَإِنَّ الْمَنَّ يُبْطِلُ الْإِحْسَانَ وَ التَّزَيُّدَ يَذْهَبُ بِنُورِ الْحَقِّ وَ الْخُلْفَ يُوجِبُ الْمَقْتَ عِنْدَ اللَّهِ وَ النَّاسِ قَالَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَ تَعَالَى كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا ما لا تَفْعَلُونَ وَ إِيَّاكَ وَ الْعَجَلَةَ بِالْأُمُورِ قَبْلَ أَوَانِهَا أَوِ التَّسَاقُطَ فِيهَا عِنْدَ إِمْكَانِهَا أَوِ اللَّجَاجَةَ فِيهَا إِذَا تَنَكَّرَتْ أَوِ الْوَهْنَ عَنْهَا إِذَا اسْتَوْضَحَتْ فَضَعْ كُلَّ أَمْرٍ مَوْضِعَهُ وَ أَوْقِعْ كُلَّ عَمَلٍ مَوْقِعَهُ وَ إِيَّاكَ وَ الِاسْتِئْثَارَ بِمَا النَّاسُ فِيهِ أُسْوَةٌ وَ التَّغَابِيَ عَمَّا تُعْنَى بِهِ مِمَّا قَدْ وَضَحَ لِلْعُيُونِ فَإِنَّهُ مَأْخُوذٌ مِنْكَ لِغَيْرِكَ وَ عَمَّا قَلِيلٍ تَنْكَشِفُ عَنْكَ أَغْطِيَةُ الْأُمُورِ وَ يُنْتَصَفُ مِنْكَ لِلْمَظْلُومِ امْلِكْ حَمِيَّةَ أَنْفِكَ وَ سَوْرَةَ حَدِّكَ وَ سَطْوَةَ يَدِكَ وَ غَرْبَ لِسَانِكَ وَ احْتَرِسْ مِنْ كُلِّ ذَلِكَ بِكَفِّ الْبَادِرَةِ وَ تَأْخِيرِ السَّطْوَةِ حَتَّى يَسْكُنَ غَضَبُكَ فَتَمْلِكَ الِاخْتِيَارَ وَ لَنْ تَحْكُمَ ذَلِكَ مِنْ نَفْسِكَ حَتَّى تُكْثِرَ هُمُومَكَ بِذِكْرِ الْمَعَادِ إِلَى رَبِّكَ شرح نهج البلاغة ج : 17 ص : 114وَ الْوَاجِبُ عَلَيْكَ أَنْ

(18/101)


تَتَذَكَّرَ مَا مَضَى لِمَنْ تَقَدَّمَكَ نْ حُكُومَةٍ عَادِلَةٍ أَوْ سُنَّةٍ فَاضِلَةٍ أَوْ أَثَرٍ عَنْ نَبِيِّنَا ص أَوْ فَرِيضَةٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ فَتَقْتَدِيَ بِمَا شَاهَدْتَ مِمَّا عَمِلْنَا بِهِ فِيهَا وَ تَجْتَهِدَ لِنَفْسِكَ فِي اتِّبَاعِ مَا عَهِدْتُ إِلَيْكَ فِي عَهْدِي هَذَا وَ اسْتَوْثَقْتُ بِهِ مِنَ الْحُجَّةِ لِنَفْسِي عَلَيْكَ لِكَيْلَا تَكُونَ لَكَ عِلَّةٌ عِنْدَ تَسَرُّعِ نَفْسِكَ إِلَى هَوَاهَا
قد اشتمل هذا الفصل على وصايا نحن شارحوها منها قوله ع إياك و ما يعجبك من نفسك و الثقة بما يعجبك منها
قد ورد في الخبر ثلاث مهلكات شح مطاع و هوى متبع و إعجاب المرء بنفسه
و في الخبر أيضا لا وحشة أشد من العجب
و في الخبر الناس لآدم و آدم من تراب فما لابن آدم و الفخر و العجب
و في الخبر الجار ثوبه خيلاء لا ينظر الله إليه يوم القيامة
و في الخبر و قد رأى أبا دجانة يتبختر إنها لمشية يبغضها الله إلا بين الصفين

(18/102)


و منها قوله و حب الإطراء ناظر المأمون محمد بن القاسم النوشجاني المتكلم فجعل يصدقه و يطريه و يستحسن قوله فقال المأمون يا محمد أراك تنقاد إلى ما تظن أنه يسرني قبل وجوب الحجة لي عليك و تطريني بما لست أحب أن أطري به و تستخذي لي في المقام الذي ينبغي أن تكون فيه مقاوما لي و محتجا علي و لو شئت أن أقسر الأمور بفضل بيان و طول لسان و أغتصب الحجة بقوة الخلافة و أبهة الرئاسة لصدقت و إن كنت كاذبا و عدلت و إن كنت جائرا و صوبت و إن كنت مخطئا شرح نهج البلاغة ج : 17 ص : 115لكني لا أرضى إلا بغلبة الحجة و دفع الشبهة و إن أن الملوك عقلا و أسخفهم رأيا من رضي بقولهم صدق الأمير. و أثنى رجل على رجل فقال الحمد لله الذي سترني عنك و كان بعض الصالحين يقول إذا أطراه إنسان ليسألك الله عن حسن ظنك. و منها قوله و إياك و المن قال الله تعالى يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُبْطِلُوا صَدَقاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَ الْأَذى و كان يقال المن محبة للنفس مفسدة للصنع. و منها نهيه إياه عن التزيد في فعله قال ع إنه يذهب بنور الحق و ذلك لأنه محض الكذب مثل أن يسدي ثلاثة أجزاء من الجميل فيدعي في المجالس و المحافل أنه أسدى عشرة و إذا خالط الحق الكذب أذهب نوره. و منها نهيه إياه عن خلف الوعد قد مدح الله نبيا من الأنبياء و هو إسماعيل بن إبراهيم ع بصدق الوعد و كان يقال وعد الكريم نقد و تعجيل و وعد اللئيم مطل و تعطيل و كتب بعض الكتاب و حق لمن أزهر بقول أن يثمر بفعل و قال أبو مقاتل الضرير قلت لأعرابي قد أكثر الناس في المواعيد فما قولك فيها فقال بئس الشي ء الوعد مشغلة للقلب الفارغ متعبة للبدن الخافض خيره غائب و شره حاضر و في الحديث المرفوع عدة المؤمن كأخذ باليد

(18/103)


فأما أمير المؤمنين ع فقال إنه يوجب المقت و استشهد عليه بالآية و المقت البغض. و منها نهيه عن العجلة و كان يقال أصاب متثبت أو كاد و أخطأ عجل أو كاد و في المثل رب عجلة تهب ريثا و ذمها الله تعالى فقال خُلِقَ الْإِنْسانُ مِنْ عَجَلٍ. شرح نهج البلاغة ج : 17 ص 116و منها نهيه عن التساقط في الشي ء الممكن عند حضوره و هذا عبارة عن النهي عن الحرص و الجشع قال الشنفري و إن مدت الأيدي إلى الزاد لم أكن بأعجلهم إذ أجشع القوم أعجل
و منها نهيه عن اللجاجة في الحاجة إذا تعذرت كان يقال من لاج الله فقد جعله خصما و من كان الله خصمه فهو مخصوم قال الغزي
دعها سماوية تجري على قدر لا تفسدنها برأي منك معكوس
و منها نهيه له عن الوهن فيها إذا استوضحت أي وضحت و انكشفت و يروى و استوضحت فعل ما لم يسم فاعله و الوهن فيها إهمالها و ترك انتهاز الفرصة فيها قال الشاعر
فإذا أمكنت فبادر إليها حذرا من تعذر الإمكان
و منها نهيه عن الاستئثار و هذا هو الخلق النبوي غنم رسول الله ص غنائم خيبر و كانت مل ء الأرض نعما فلما ركب راحلته و سار تبعه الناس يطلبون الغنائم و قسمها و هو ساكت لا يكلمهم و قد أكثروا عليه إلحاحا و سؤالا فمر بشجرة فخطفت رداءه فالتفت فقال ردوا علي ردائي فو ملكت بعدد رمل تهامة مغنما لقسمته بينكم عن آخره ثم لا تجدونني بخيلا و لا جبانا و نزل و قسم ذلك المال عن آخره عليهم كله لم يأخذ لنفسه منه وبرة. و منها نهيه له عن التغابي و صورة ذلك أن الأمير يومئ إليه أن فلانا من خاصته يفعل كذا و يفعل كذا من الأمور المنكرة و يرتكبها سرا فيتغابى عنه و يتغافل نهاه ع عن ذلك و قال إنك مأخوذ منك لغيرك أي معاقب تقول اللهم خذ لي من فلان بحقي أي اللهم انتقم لي منه. شرح نهج البلاغة ج : 17 ص : 117و منها نهيه إياه عن الغضب و عن الحكم بما تقتضيه قوته الغضبية حتى يسكن غضبه قد جاء في الخبر المرفوع لا يقضي القاضي و هو غضبان

(18/104)


فإذا كان قد نهي أن يقضي القاضي و هو غضبان على غير صاحب الخصومة فبالأولى أن ينهى الأمير عن أن يسطو على إنسان و هو غضبان عليه. و كان لكسرى أنوشروان صاحب قد رتبه و نصبه لهذا المعنى يقف على رأس الملك يوم جلوسه فإذا غضب على إنسان و أمر به قرع سلسلة تاجه بقضيب في يده و قال له إنما أنت بشر فارحم من في الأرض يرحمك من في السماء
وَ مِنْ هَذَا الْعَهْدِ وَ هُوَ آخِرُهُ وَ أَنَا أَسْأَلُ اللَّهَ بِسَعَةِ رَحْمَتِهِ وَ عَظِيمِ قُدْرَتِهِ عَلَى إِعْطَاءِ كُلِّ رَغْبَةٍ أَنْ يُوَفِّقَنِي وَ إِيَّاكَ لِمَا فِيهِ رِضَاهُ مِنَ الْإِقَامَةِ عَلَى الْعُذْرِ الْوَاضِحِ إِلَيْهِ وَ إِلَى خَلْقِهِ مِنْ حُسْنِ الثَّنَاءِ فِي الْعِبَادِ وَ جَمِيلِ الْأَثَرِ فِي الْبِلَادِ وَ تَمَامِ النِّعْمَةِ وَ تَضْعِيفِ الْكَرَامَةِ وَ أَنْ يَخْتِمَ لِي وَ لَكَ بِالسَّعَادَةِ وَ الشَّهَادَةِ إِنَّا إِلَى اللَّهِ رَاغِبُونَ وَ السَّلَامُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهِ عَلَيْهِ وَ عَلَى آلِهِ الطَّيِّبِينَ الطَّاهِرِينَ
روي كل رغيبة و الرغيبة ما يرغب فيه فأما الرغبة فمصدر رغب في كذا كأنه قال القادر على إعطاء كل سؤال أي إعطاء كل سائل ما سأله. شرح نهج البلاغة ج : 17 ص : 118و معنى قوله من الإقامة على العذر أي أسأل الله أن يوفقني للإقامة على الاجتهاد و بذل الوسع في الطاعة ولك لأنه إذا بذل جهده فقد أعذر ثم فسر اجتهاده في ذلك في رضا الخلق و لم يفسر اجتهاده في رضا الخالق لأنه معلوم فقال هو حسن الثناء في العباد و جميل الأثر في البلاد. فإن قلت فقوله و تمام النعمة على ما ذا تعطفه قلت هو معطوف على ما من قوله لما فيه كأنه قال أسأل الله توفيقي لذا و لتمام النعمة أي و لتمام نعمته علي و تضاعف كرامته لدي و توفيقه لهما هو توفيقه للأعمال الصالحة التي يستوجبهما بها
فصل في ذكر بعض وصايا العرب

(18/105)


و ينبغي أن يذكر في هذا الموضع وصايا من كلام قوم من رؤساء العرب أوصوا بها أولادهم و رهطهم فيها آداب حسان و كلام فصيح و هي مناسبة لعهد أمير المؤمنين ع هذا و وصاياه المودعة فيه و إن كان كلام أمير المؤمنين ع أجل و أعلى من أن يناسبه كلام لأنه قبس من نور الكلام الإلهي و فرع من دوحة المنطق النبوي. روى ابن الكلبي قال لما حضرت الوفاة أوس بن حارثة أخا الخزرج لم يكن له ولد غير مالك بن الأوس و كان لأخيه الخزرج خمسة قيل له كنا نأمرك بأن تتزوج في شبابك فلم تفعل حتى حضرك الموت و لا ولد لك إلا مالك فقال لم يهلك هالك ترك مثل مالك و إن كان الخزرج ذا عدد و ليس لمالك ولد فلعل الذي استخرج شرح نهج البلاغة ج : 17 ص : 119العذق من الجريمة و النار من الوثيمة أن يجعل لمالك نسلا و رجالا بسلا و كلنا إلى الموت يا مالك المنية و لا الدنية و العتاب قبل العقاب و التجلد لا التبلد و اعلم أن قبر خير من الفقر و من لم يعط قاعدا حرم قائما و شر الشرب الاشتفاف و شر الطعم الاقتفاف و ذهاب البصر خير من كثير من النظر و من كرم الكريم الدفع عن الحريم و من قل ذل و خير الغنى القناعة و شر الفقر الخضوع الدهر صرفان صرف رخاء و صرف بلاء و اليوم يومان يوم لك و يوم عليك فإذا كان لك فلا تبطر و إذا كان عليك فاصطبر و كلاهما سينحسر و كيف بالسلامة لمن ليست له إقامة و حياك ربك. و أوصى الحارث بن كعب بنيه فقال يا بني قد أتت علي مائة و ستون سنة ما صافحت يميني يمين غادر و لا قنعت لنفسي بخلة فاجر و لا صبوت بابنة عم و لا كنة و لا بحت لصديق بسر و لا طرحت عن مومسة قناعا و لا بقي على دين عيسى ابن مريم و قد روي على دين شعيب من العرب غيري و غير تميم بن مر بن أسد بن خزيمة فموتوا على شريعتي و احفظوا علي وصيتي و إلهكم فاتقوا يكفكم ما أهمكم و يصلح لكم حالكم و إياكم و معصيته فيحل بكم الدمار و يوحش منكم الديار كونوا جميعا و لا تفرقوا فتكنوا شيعا و

(18/106)


بزوا قبل أن تبزوا فموت شرح نهج البلاغة ج : 17 ص : 120في عز خير من حياة في ذل و عجز و كل ما هو كائن كائن و كل جمع إلى تباين و الدهر صرفان صرف بلاء و صرف رخاء و اليوم يومان يوم حبرة و يوم عبرة و الناس رجلان رجل لك و رجل عليك زوجوا النساء الأكفاء و إلا فانتظروا بهن القضاء و ليكن يب طيبهم الماء و إياكم و الورهاء فإنها أدوأ الداء و إن ولدها إلى أفن يكون لا راحة لقاطع القرابة و إذا اختلف القوم أمكنوا عدوهم و آفة العدد اختلاف الكلمة و التفضل بالحسنة يقي السيئة و المكافأة بالسيئة دخول فيها و عمل السوء يزيل النعماء و قطيعة الرحم تورث الهم و انتهاك الحرمة يزيل النعمة و عقوق الوالدين يعقب النكد و يخرب البلد و يمحق العدد و الإسراف في النصيحة هو الفضيحة و الحقد منع الرفد و لزوم الخطيئة يعقب البلية و سوء الدعة يقطع أسباب المنفعة و الضغائن تدعو إلى التباين يا بني إني قد أكلت مع أقوام و شربت فذهبوا و غبرت و كأني بهم قد لحقت ثم قال
أكلت شبابي فأفنيته و أبليت بعد دهور دهوراثلاثة أهلين صاحبتهم فبادروا و أصبحت شيخا كبيراقليل الطعام عسير القيام قد ترك الدهر خطوي قصيراأبيت أراعي نجوم السماء أقلب أمري بطونا ظهورا

(18/107)


وصى أكثم بن صيفي بنيه و رهطه فقال يا بني تميم لا يفوتنكم وعظي إن فاتكم الدهر بنفسي إن بين حيزومي و صدري لكلاما لا أجد له مواقع إلا أسماعكم و لا مقار إلا قلوبكم فتلقوه بأسماع مصغية و قلوب دواعية تحمدوا مغبته الهوى شرح نهج البلاغة ج : 17 ص : 121يقظان و الع راقد و الشهوات مطلقة و الحزم معقول و النفس مهملة و الروية مقيدة و من جهة التواني و ترك الروية يتلف الحزم و لن يعدم المشاور مرشدا و المستبد برأيه موقوف على مداحض الزلل و من سمع سمع به و مصارع الرجال تحت بروق الطمع و لو اعتبرت مواقع المحن ما وجدت إلا في مقاتل الكرام و على الاعتبار طريق الرشاد و من سلك الجدد أمن العثار و لن يعدم الحسود أن يتعب قلبه و يشغل فكره و يورث غيظه و لا تجاوز مضرته نفسه يا بني تميم الصبر على جرع الحلم أعذب من جنا ثمر الندامة و من جعل عرضه دون ماله استهدف للذم و كلم اللسان أنكى من كلم السنان و الكلمة مرهونة ما لم تنجم من الفم فإذا نجمت مزجت فهي أسد محرب أو نار تلهب و رأي الناصح اللبيب دليل لا يجوز و نفاذ الرأي في الحرب أجدى من الطعن و الضرب. و أوصى يزيد بن المهلب ابنه مخلدا حين استخلفه على جرجان فقال له يا بني قد استخلفتك على هذه البلاد فانظر هذا الحي من اليمن فكن لهم كما قال الشاعر
إذا كنت مرتاد الرجال لنفعهم فرش و اصطنع عند الذين بهم ترمي

(18/108)


و انظر هذا الحي من ربيعة فإنهم شيعتك و أنصارك فاقض حقوقهم و انظر هذا الحي من تميم فأمطرهم و لا تزه لهم و لا تدنهم فيطمعوا و لا تقصهم فيقطعوا و انظر هذا الحي من قيس فإنهم أكفاء قومك في الجاهلية و مناصفوهم المآثر في الإسلام و رضاهم منك البشر يا بني إن لأبيك صنائع فلا تفسدها فإنه كفى بالمرء نقصا أن يهدم ما بنى أبوه و إياك و الدماء فإنه لا تقية معها و إياك و شتم الأعراض فإن الحر شرح نهج البلاغة ج : 17 ص : 122لا يرضيه عن عرضه عوض و إياك و ضرب الأبشار فإنه عار باق و وتر مطلوب و استعمل على النجدة و الفضل دون اله و لا تعزل إلا عن عجز أو خيانة و لا يمنعك من اصطناع الرجل أن يكون غيرك قد سبقك إليه فإنك إنما تصطنع الرجال لفضلها و ليكن صنيعك عند من يكافئك عنه العشائر احمل الناس على أحسن أدبك يكفوك أنفسهم و إذا كتبت كتابا فأكثر النظر فيه و ليكن رسولك فيما بيني و بينك من يفقه عني و عنك فإن كتاب الرجل موضع عقله و رسوله موضع سره و أستودعك الله فلا بد للمودع أن يسكت و للمشيع أن يرجع و ما عف من المنطق و قل من الخطيئة أحب إلى أبيك. و أوصى قيس بن عاصم المنقري بنيه فقال يا بني خذوا عني فلا أحد أنصح لكم مني إذا دفنتموني فانصرفوا إلى رحالكم فسودوا أكبركم فإن القوم إذا سودوا أكبرهم خلفوا أباهم و إذا سودوا أصغرهم أزرى ذلك بهم في أكفائهم و إياكم و معصية الله و قطيعة الرحم و تمسكوا بطاعة أمرائكم فإنهم من رفعوا ارتفع و من وضعوا اتضع و عليكم بهذا المال فأصلحوه فإنه منبهة للكريم و جنة لعرض اللئيم و إياكم و المسألة فإنها آخر كسب الرجل و إن أحدا لم يسأل إلا ترك الكسب و إياكم و النياحة فإني سمعت رسول الله ص ينهى عنها و ادفنوني في ثيابي التي كنت أصلي فيها و أصوم و لا يعلم بكر بن وائل بمدفني فقد كانت بيني و بينهم مشاحنات في الجاهلية و الإسلام و أخاف أن يدخلوا عليكم بي عارا و خذوا عني ثلاث خصال إياكم و كل عرق

(18/109)


لئيم أن تلابسوه فإنه إن يسرركم اليوم يسؤكم غدا و اكظموا الغيظ و احذروا بني أعداء آبائكم فإنهم على منهاج آبائهم ثم قال شرح نهج البلاغة ج : 17 ص : 12أحيا الضغائن آباء لنا سلفوا فلن تبيد و للآباء أبناء
قال ابن الكلبي فيحكي الناس هذا البيت سابقا للزبير و ما هو إلا لقيس بن عاصم. و أوصى عمرو بن كلثوم التغلبي بنيه فقال يا بني إني قد بلغت من العمر ما لم يبلغ أحد من آبائي و أجدادي و لا بد من أمر مقتبل و أن ينزل بي ما نزل بالآباء و الأجداد و الأمهات و الأولاد فاحفظوا عني ما أوصيكم به إني و الله ما عيرت رجلا قط أمرا إلا عيرني مثله إن حقا فحق و إن باطلا فباطل و من سب سب فكفوا عن الشتم فإنه أسلم لأعراضكم و صلوا أرحامكم تعمر داركم و أكرموا جاركم بحسن ثنائكم و زوجوا بنات العم بني العم فإن تعديتم بهن إلى الغرباء فلا تألوا بهن عن الأكفاء و أبعدوا بيوت النساء من بيوت الرجال فإنه أغض للبصر و أعف للذكر و متى كانت المعاينة و اللقاء ففي ذلك داء من الأدواء و لا خير فيمن لا يغار لغيره كما يغار لنفسه و قل من انتهك حرمة لغيره إلا انتهكت حرمته و امنعوا القريب من ظلم الغريب فإنك تدل على قريبك و لا يجمل بك ذل غريبك و إذا تنازعتم في الدماء فلا يكن حقكم الكفاء فرب رجل خير من ألف و ود خير من خلف و إذا حدثتم فعوا و إذا حدثتم فأوجزوا فإن مع الإكثار يكون الإهذار و موت عاجل خير من ضنى آجل و ما بكيت من زمان إلا دهاني بعده زمان و ربما شجاني من لم يكن أمره شرح نهج البلاغة ج : 17 ص : 124عناني و ما عجبت من أحدوثة إلا رأيت بعدها أعجوبة و اعلموا أن أشجع القوم العطوف و خير الموت تحت ظلال السيوف و لا خير فيمن لا روية له عند الغضب و لا فيمن إذا عوتب لم يعتب و من الناس من لا يرجى خيره و لا يخاف شره كوؤه خير من دره و عقوقه خير من بره و لا تبرحوا في حبكم فإن من أبرح في حب آل ذلك إلى قبيح بغض و كم قد زارني إنسان و زرته

(18/110)


فانقلب الدهر بنا فقبرته و اعلموا أن الحليم سليم و أن السفيه كليم أني لم أمت و لكن هرمت و دخلتني ذلة فسكت و ضعف قلبي فأهترت سلمكم ربكم و حياكم. و من كتاب أردشير بن بابك إلى بنيه و الملوك من بعده رشاد الوالي خير للرعية من خصب الزمان الملك و الدين توأمان لا قوام لأحدهما إلا بصاحبه فالدين أس الملك و عماده ثم صار الملك حارس الدين فلا بد للملك من أسه و لا بد للدين من حارسه فأما ما لا حارس له فضائع و ما لا أس له فمهدوم إن رأس ما أخاف عليكم مبادرة السفلة إياكم إلى دراسة الدين و تأويله و التفقه فيه فتحملكم الثقة بقوة الملك على التهاون بهم فتحدث في الدين رئاسات منتشرات سرا فيمن قد وترتم و جفوتم و حرمتم و أخفتم و صغرتم من سفلة الناس و الرعية و حشو العامة ثم لا تنشب تلك الرئاسات أن تحدث خرقا في الملك و وهنا في الدولة و اعلموا أن سلطانكم إنما هو على أجسادكم الرعية لا على قلوبها و إن غلبتم الناس على ما في أيديهم فلن تغلبوهم على ما في عقولهم و آرائهم و مكايدهم و اعلموا أن العاقل المحروم سال عليكم لسانه و هو أقطع سيفيه و إن أشد ما يضر بكم من لسانه ما صرف الحيلة فيه إلى الدين فكان للدنيا يحتج و للدين فيما يظهر يتعصب فيكون

(18/111)


شرح نهج البلاغة ج : 17 ص : 125للدين بكاؤه و إليه دعاؤه ثم هو أوحد للتابعين و المصدقين و المناصحين و المؤازرين لأن تعصب الناس موكل بالملوك و رحمتهم و محبتهم موكلة بالضعفاء المغلوبين فاحذروا هذا المعنى كل الحذر و اعلموا أنه ليس ينبغي للملك أن يعرف للعباد النساك بأن يكونوا أولى بالدين منه و لا أحدب عليه و لا أغضب له و لا ينبغي له أن يخلي النساك و العباد من الأمر و النهي في نسكهم و دينهم فإن خروج النساك و غيرهم من الأمر و النهي عيب على الملوك و على المملكة و ثلمة بينة الضرر على الملك و على من بعده. و اعلموا أنه قد مضى قبلنا من أسلافنا ملوك كان الملك منهم يتعهد الحماية بالتفتيش و الجماعة بالتفضيل و الفراغ بالاشتغال كتعهده جسده بقص فضول الشعر و الظفر و غسل الدرن و الغمر و مداواة ما ظهر من الأدواء و ما بطن و قد كان من أولئك الملوك من صحة ملكه أحب إليه من صحة جسده فتتابعت تلك الأملاك بذلك كأنهم ملك واحد و كان أرواحهم روح واحدة يمكن أولهم لآخرهم و يصدق آخرهم أولهم يجتمع أبناء أسلافهم و مواريث آرائهم و ثمرات عقولهم عند الباقي منهم بعدهم و كأنهم جلوس معه يحدثونه و يشاورونه حتى كأن على رأس دارا بن دارا ما كان من غلبة الإسكندر الرومي على ما غلب عليه من ملكه و كان إفساده أمرنا و تفرقته جماعتنا و تخريبه عمران مملكتنا أبلغ له فيما أراد من سفك دمائنا فلما أذن الله عز و جل في جمع مملكتنا و إعادة أمرنا كان من بعثه إيانا ما كان و بالاعتبار يتقى العثار و التجارب الماضية دستور يرجع إليه من الحوادث الآتية. و اعلموا أن طباع الملوك على غير طباع الرعية و السوقة فإن الملك يطيف به العز و الأمن و السرور و القدرة على ما يريد و الأنفة و الجرأة و العبث و البطر و كلما ازداد شرح نهج البلاغة ج : 17 ص : 126في العمر تنفسا و في الملك سلامة ازد من هذه الطبائع و الأخلاق حتى يسلمه ذلك إلى سكر السلطان الذي هو أشد

(18/112)


من سكر الشراب فينسى النكبات و العثرات و الغير و الدوائر و فحش تسلط الأيام و لؤم غلبة الدهر فيرسل يده بالفعل و لسانه بالقول و عند حسن الظن بالأيام تحدث الغير و تزول النعم و قد كان من أسلافنا و قدماء ملوكنا من يذكره عزه الذل و أمنه الخوف و سروره الكآبة و قدرته المعجزة و ذلك هو الرجل الكامل قد جمع بهجة الملوك و فكرة السوقة و لا كمال إلا في جمعها. و اعلموا أنكم ستبلون على الملك بالأزواج و الأولاد و القرباء و الوزراء و الأخدان و الأنصار و الأعوان و المتقربين و الندماء و المضحكين و كل هؤلاء إلا قليلا أن يأخذ لنفسه أحب إليه من أن يعطي منها عمله و إنما عمله سوق ليومه و ذخيرة لغده فنصيحته للملوك فضل نصيحته لنفسه و غاية الصلاح عنده صلاح نفسه و غاية الفساد عنده فسادها يقيم للسلطان سوق المودة ما أقام له سوق الأرباح و المنافع إذا استوحش الملك من ثقاته أطبقت عليه ظلم الجهالة أخوف ما يكون العامة آمن ما يكون الوزراء و آمن ما يكون العامة أخوف ما يكون الوزراء. و اعلموا أن كثيرا من وزراء الملوك من يحاول استبقاء دولته و أيامه بإيقاع الاضطراب و الخبط في أطراف مملكة الملك ليحتاج الملك إلى رأيه و تدبيره فإذا عرفتم هذا من وزير من وزرائكم فاعزلوه فإنه يدخل الوهن و النقص على الملك و الرعية لصلاح حال نفسه و لا تقوم نفسه بهذه النفوس كلها. و اعلموا أن بدء ذهاب الدولة ينشأ من قبل إهمال الرعية بغير أشغال معروفة و لا أعمال معلومة فإذا نشأ الفراغ تولد منه النظر في الأمور و الفكر في الفروع و الأصول. فإذا نظروا في ذلك نظروا فيه بطبائع مختلفة فتختلف بهم المذاهب و يتولد من اختلاف مذاهبهم تعاديهم و تضاغنهم و هم مع اختلافهم هذا متفقون و مجتمعون على بغض الملوك فكل صنف منهم إنما يجري إلى فجيعة الملك بملكه و لكنهم لا يجدون سلما إلى

(18/113)


شرح نهج البلاغة ج : 17 ص : 127ذلك أوثق من الدين و الناموس ثم يتولد من تعاديهم أن الملك لا يستطيع جمعهم على هوى واحد فإن انفرد باختصاص بعضهم صار عدو بقيتهم ولى طباع العامة استثقال الولاة و ملالهم و النفاسة عليهم و الحسد لهم و في الرعية المحروم و المضروب المقام عليه الحدود و يتولد من كثرتهم مع عداوتهم أن يجبن الملك عن الإقدام عليهم فإن في إقدام الملك على الرعية كلها كافة تغريرا بملكه و يتولد من جبن الملك عن الرعية استعجالهم عليه و هم أقوى عدو له و أخلقه بالظفر لأنه حاضر مع الملك في دار ملكه فمن أفضى إليه الملك بعدي فلا يكونن بإصلاح جسده أشد اهتماما منه بهذه الحال و لا تكونن لشي ء من الأشياء أكره و أنكر لرأس صار ذنبا و ذنب صار رأسا و يد مشغولة صارت فارغة أو غني صار فقيرا أو عامل مصروف أو أمير معزول. و اعلموا أن سياسة الملك و حراسته ألا يكون ابن الكاتب إلا كتبا و ابن الجندي إلا جنديا و ابن التاجر إلا تاجرا و هكذا في جميع الطبقات فإنه يتولد من تنقل الناس عن حالاتهم أن يلتمس كل امرئ منهم فوق مرتبته فإذا انتقل أوشك أن يرى شيئا أرفع مما انتقل إليه فيحسد أو ينافس و في ذلك من الضرر المتولد ما لا خفاء به فإن عجز ملك منكم عن إصلاح رعيته كما أوصيناه فلا يكون للقميص القمل أصرع خلعا منه لما لبس من قميص ذلك الملك. و اعلموا أنه ليس ملك إلا و هو كثير الذكر لمن يلي الأمر بعده و من فساد أمر الملك نشر ذكره ولاة العهود فإن في ذلك ضروبا من الضرر و أن ذلك دخول عداوة بين الملك و ولي عهده لأنه تطمح عينه إلى الملك و يصير له أحباب و أخدان يمنونه ذلك و يستبطئون موت الملك ثم إن الملك يستوحش منه و تنساق الأمور إلى هلاك أحدهما و لكن لينظر الوالي منكم لله تعالى ثم لنفسه ثم للرعية و لينتخب وليا للعهد من بعده شرح نهج البلاغة ج : 17 ص : 128لا يعلمه ذلك و لا أحد من الخلق قريبا كان منه أو بعيدا ثم يكتب اسمه

(18/114)


في أربع صحائف و يختمها بخاتمه و يضعها عند أربعة نفر من أعيان أهل المملكة ثم لا يكون منه في سره و علانيته أمر يستدل به على ولي عهده من هؤلاء في إدناء و تقريب يعرف به و لا في إقصاء و أعراض يستراب له و ليتق ذلك في اللحظة و الكلمة فإذا هلك الملك جمعت تلك الصحائف إلى النسخة التي تكون في خزانة الملك فتفض جميعا ثم ينوه حينئذ باسم ذلك الرجل فيلقي الملك إذا لنية بحداثة عهده بحال السوقة و يلبسه إذا لبسه ببصر السوقة و سمعها فإن في معرفته بحاله قبل إفضاء الملك إليه سكرا تحدثه عنده ولاية العهد ثم يلقاه الملك فيزيده سكرا إلى سكره فيعمي و يصم هذا مع ما لا بد أن يلقاه أيام ولاية العهد من حيل العتاة و بغي الكذابين و ترقية النمامين و إيغار صدره و إفساد قلبه على كثير من رعيته و خواص دولته و ليس ذلك بمحمود و لا صالح. و اعلموا أنه ليس للملك أن يحلف لأنه لا يقدر أحد استكراهه و ليس له أن يغضب لأنه قادر و الغضب لقاح الشر و الندامة و ليس له أن يعبث و يلعب لأن اللعب و العبث من عمل الفراغ و ليس له أن يفرغ لأن الفراغ من أمر السوقة و ليس للملك أن يحسد أحدا إلا على حسن التدبير و ليس له أن يخاف لأنه لا يد فوق يده. و اعلموا أنكم لن تقدروا على أن تختموا أفواه الناس من الطعن و الإزراء عليكم و لا قدرة لكم على أن تجعلوا القبيح من أفعالكم حسنا فاجتهدوا في أن تحسن أفعالكم كلها و إلا تجعلوا للعامة إلى الطعن عليكم سبيلا. و اعلموا أن لباس الملك و مطعمه و مشربه مقارب للباس السوقة و مطعمهم و ليس

(18/115)


شرح نهج البلاغة ج : 17 ص : 129فضل الملك على السوقة إلا بقدرته على اقتناء المحامد و استفادة المكارم فإن الملك إذا شاء أحسن و ليس كذلك السوقة. و اعلموا أن لكل ملك بطانة و لكل رجل من بطانته بطانة ثم إن لكل امرئ من بطانة البطانة بطانة حتى يجتمع من ذلك أهل املكة فإذا أقام الملك بطانته على حال الصواب فيهم أقام كل امرئ منهم بطانته على مثل ذلك حتى يجتمع على الصلاح عامة الرعية. احذروا بابا واحدا طالما أمنته فضرني و حذرته فنفعني احذروا إفشاء السر بحضرة الصغار من أهليكم و خدمكم فإنه ليس يصغر واحد منهم عن حمل ذلك السر كاملا لا يترك منه شيئا حتى يضعه حيث تكرهون إما سقطا أو غشا. و اعلموا أن في الرعية صنفا أتوا الملك من قبل النصائح له و التمسوا إصلاح منازلهم بإفساد منازل الناس فأولئك أعداء الناس و أعداء الملوك و من عادى الملوك و الناس كلهم فقد عادى نفسه. و اعلموا أن الدهر حاملكم على طبقات فمنها حال السخاء حتى يدنو أحدكم من السرف و منها حال التبذير حتى يدنو من البخل و منها حال الأناة حتى يدنو من البلادة و منها حال انتهاز الفرصة حتى يدنو من الخفة و منها حال الطلاقة في اللسان حتى يدنو من الهذر و منها حال الأخذ بحكمة الصمت حتى يدنو من العي فالملك منكم جدير أن يبلغ من كل طبقة في محاسنها حدها فإذا وقف عليه ألجم نفسه عما وراءها. و اعلموا أن ابن الملك و أخاه و ابن عمه يقول كدت أن أكون ملكا و بالحري ألا أموت حتى أكون ملكا فإذا قال ذلك قال ما لا يسر الملك و إن كتمه فالداء شرح نهجلبلاغة ج : 17 ص : 130في كل مكتوم و إذا تمنى ذلك جعل الفساد سلما إلى الصلاح و لم يكن الفساد سلما إلى صلاح قط و قد رسمت لكم في ذلك مثالا اجعلوا الملك لا ينبغي إلا لأبناء الملوك من بنات عمومتهم و لا يصلح من أولاد بنات العم إلا كامل غير سخيف العقل و لا عازب الرأي و لا ناقص الجوارح و لا مطعون عليه في الدين فإنكم إذا فعلتم ذلك

(18/116)


قل طلاب الملك و إذا قل طلابه استراح كل امرئ إلى ما يليه و نزع إلى حد يليه و عرف حاله و رضي معيشته و استطاب زمانه. فقد ذكرنا وصايا قوم من العرب و وصايا أكثر ملوك الفرس و أعظمهم حكمة لتضم إلى وصايا أمير المؤمنين فيحصل منها وصايا الدين و الدنيا فإن وصايا أمير المؤمنين ع الدين عليها أغلب و وصايا هؤلاء الدنيا عليها أغلب فإذا أخذ من أخذ التوفيق بيده بمجموع ذلك فقد سعد و لا سعيد إلا من أسعده الله
شرح نهج البلاغة ج : 17 ص : 54131- و من كتاب له ع إلى طلحة و الزبيرمع عمران بن الحصين الخزاعي و ذكر هذا الكتاب أبو جعفر الإسكافي في كتاب المقامات

(18/117)


أَمَّا بَعْدُ فَقَدْ عَلِمْتُمَا وَ إِنْ كَتَمْتُمَا أَنِّي لَمْ أُرِدِ النَّاسَ حَتَّى أَرَادُونِي وَ لَمْ أُبَايِعْهُمْ حَتَّى بَايَعُونِي وَ إِنَّكُمَا مِمَّنْ أَرَادَنِي وَ بَايَعَنِي وَ إِنَّ الْعَامَّةَ لَمْ تُبَايِعْنِي لِسُلْطَانٍ غَالِبٍ وَ لَا لِحِرْصٍ حَاضِرٍ فَإِنْ كُنْتُمَا بَايَعْتُمَانِي طَائِعَيْنِ فَارْجِعَا وَ تُوبَا إِلَى اللَّهِ مِنْ قَرِيبٍ وَ إِنْ كُنْتُمَا بَايَعْتُمَانِي كَارِهَيْنِ فَقَدْ جَعَلْتُمَا لِي عَلَيْكُمَا السَّبِيلَ بِإِظْهَارِكُمَا الطَّاعَةَ وَ إِسْرَارِكُمَا الْمَعْصِيَةَ وَ لَعَمْرِي مَا كُنْتُمَا بِأَحَقَّ الْمُهَاجِرِينَ بِالتَّقِيَّةِ وَ الْكِتْمَانِ وَ إِنَّ دَفْعَكُمَا هَذَا الْأَمْرَ قَبْلَ أَنْ تَدْخُلَا فِيهِ كَانَ أَوْسَعَ عَلَيْكُمَا مِنْ خُرُوجِكُمَا مِنْهُ بَعْدَ إِقْرَارِكُمَا بِهِ وَ قَدْ زَعَمْتُمَا أَنِّي قَتَلْتُ عُثْمَانَ فَبَيْنِي وَ بَيْنَكُمَا مَنْ تَخَلَّفَ عَنِّي وَ عَنْكُمَا مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ ثُمَّ يُلْزَمُ كُلُّ امْرِئٍ بِقَدْرِ مَا احْتَمَلَ فَارْجِعَا أَيُّهَا الشَّيْخَانِ عَنْ رَأْيِكُمَا فَإِنَّ الآْنَ أَعْظَمَ أَمْرِكُمَا الْعَارُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَجْتَمِعَ الْعَارُ وَ النَّارُ وَ السَّلَامُ

(18/118)


شرح نهج البلاغة ج : 17 ص : 132عمران بن الحصينهو عمران بن الحصين بن عبيد بن خلف بن عبد بن نهم بن سالم بن غاضرة بن سلول بن حبشية بن سلول بن كعب بن عمرو الخزاعي يكنى أبا بجيد بابنه بجيد بن عمران أسلم هو و أبو هريرة عام خيبر و كان من فضلاء الصحابة و فقهائهم يقول أهل البصرة عنه إنه كان يرى الحفظة و كانت تكلمه حتى اكتوى. و قال محمد بن سيرين أفضل من نزل البصرة من أصحاب رسول الله ص عمران بن الحصين و أبو بكرة و استقضاه عبد الله بن عامر بن كريز على البصرة فعمل له أياما ثم استعفاه فأعفاه و مات بالبصرة سنة اثنتين و خمسين في أيام معاوية
أبو جعفر الإسكافي
و أما أبو جعفر الإسكافي و هو شيخنا محمد بن عبد الله الإسكافي عده قاضي القضاة في الطبقة السابعة من طبقات المعتزلة مع عباد بن سليمان الصيمري و مع زرقان و مع عيسى بن الهيثم الصوفي و جعل أول الطبقة ثمامة بن أشرس أبا معن ثم أبا عثمان الجاحظ ثم أبا موسى عيسى بن صبيح المردار ثم أبا عمران يونس بن عمران ثم محمد بن شبيب ثم محمد بن إسماعيل بن العسكري ثم عبد الكريم بن روح العسكري ثم أبا يعقوب يوسف بن عبد الله الشحام ثم أبا الحسين الصالحي شرح نهج البلاغة ج : 17 ص : 133ثم الجعفران جعفر بن جرير و جعفر بن ميسر ثم أبا عمر بن النقاش ثم أبا سعيد أحمد بن سعيد الأسدي ثم عباد بن سليمان ثم أبا جعفر الإسكافي هذا و قال كان أبو جعفر فاضلا عالما و صنف سبعين كتابا في علم الكلام. و هو الذي نقض كتاب العثمانية على أبي عثمان الجاحظ في حياته و دخل الجاحظ الوراقين ببغداد فقال من هذا الغلام السوادي الذي بلغني أنه تعرض لنقض كتابي و أبو جعفر جالس فاختفى منه حتى لم يره. و كان أبو جعفر يقول بالتفضيل على قاعدة معتزلة بغداد و يبالغ في ذلك و كان علوي الرأي محققا منصفا قليل العصبية

(18/119)


ثم نعود إلى شرح ألفاظ الفصل و معانيه قوله ع لم أرد الناس أي لم أرد الولاية عليهم حتى أرادوا هم مني ذلك. قال و لم أبايعهم حتى بايعوني أي لم أمدد يدي إليهم مد الطلب و الحرص على الأمر و لم أمددها إلا بعد أن خاطبوني بالإمرة و الخلافة و قالوا بألسنتهم قد بايعناك فحينئذ مددت يدي إليهم. قال و لم يبايعني العامة و المسلمون لسلطان غصبهم و قهرهم على ذلك و لا لحرص حاضر أي مال موجود فرقته عليهم. ثم قسم عليهما الكلام فقال إن كنتما بايعتماني طوعا عن رضا فقد وجب عليكما الرجوع لأنه لا وجه لانتقاض تلك البيعة و إن كنتما بايعتماني مكرهين عليها فالإكراه شرح نهج البلاغة ج : 17 ص : 134له صورة و هي أن يجرد السيف و يمد العنق و لم يكن قد وقع ذلك و لا يمكنكما أن تدعياه و إن كنتما بايعتماني لا عن رضا و لا مكرهين بل كارهين و بين المكره و الكاره فرق بين فالأمور الشرعية إنما تبني على الهر و قد جعلتما لي على أنفسكما السبيل بإظهاركما الطاعة و الدخول فيما دخل فيه الناس و لا اعتبار بما أسررتما من كراهية ذلك على أنه لو كان عندي ما يكرهه المسلمون لكان المهاجرون في كراهية ذلك سواء فما الذي جعلكما أحق المهاجرين كلهم بالكتمان و التقية. ثم قال و قد كان امتناعكما عن البيعة في مبدإ الأمر أجمل من دخولكما فيها ثم نكثها. قال و قد زعمتما أن الشبهة التي دخلت عليكما في أمري أني قتلت عثمان و قد جعلت الحكم بيني و بينكما من تخلف عني و عنكما من أهل المدينة أي الجماعة التي لم تنصر عليا و لا طلحة كمحمد بن مسلمة و أسامة بن زيد و عبد الله بن عمر و غيرهم يعني أنهم غير متهمين عليه و لا على طلحة و الزبير فإذا حكموا لزم كل امرئ منا بقدر ما تقتضيه الشهادات و لا شبهة أنهم لو حكموا و شهدوا بصورة الحال لحكموا ببراءة علي ع من دم عثمان و بأن طلحة كان هو الجملة و التفصيل في أمره و حصره و قتله و كان الزبير مساعدا له على ذلك و إن لم يكن

(18/120)


مكاشفا مكاشفة طلحة. ثم نهاهما عن الإصرار على الخطيئة و قال لهما إنكما إنما تخافان العار في رجوعكما و انصرافكما عن الحرب فإن لم ترجعا اجتمع عليكما العار و النار أما العار فلأنكما تهزمان و تفران عند اللقاء فتعيران بذلك و أيضا سيكشف للناس أنكما كنتما على باطل فتعيران بذلك و أما النار فإليها مصير العصاة إذا ماتوا على غير توبة و احتمال العار وحده أهون من احتماله و احتمال النار معه
شرح نهج البلاغة ج : 17 ص : 55135- و من كتاب له ع إلى معاويةأَمَّا بَعْدُ فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ جَعَلَ الدُّنْيَا لِمَا بَعْدَهَا وَ ابْتَلَى فِيهَا أَهْلَهَا لِيَعْلَمَ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَ لَسْنَا لِلدُّنْيَا خُلِقْنَا وَ لَا بِالسَّعْيِ فِيهَا أُمِرْنَا وَ إِنَّمَا وُضِعْنَا فِيهَا لِنُبْتَلَي بِهَا وَ قَدِ ابْتَلَانِي اللَّهُ بِكَ وَ ابْتَلَاكَ بِي فَجَعَلَ أَحَدُنَا حُجَّةً عَلَى الآْخَرِ فَعَدَوْتَ عَلَى طَلَبِ الدُّنْيَا بِتَأْوِيلِ الْقُرْآنِ وَ طَلَبْتَنِي بِمَا لَمْ تَجْنِ يَدِي وَ لَا لِسَانِي وَ عَصَبْتَهُ أَنْتَ وَ أَهْلُ الشَّامِ بِي وَ أَلَّبَ عَالِمُكُمْ جَاهِلَكُمْ وَ قَائِمُكُمْ قَاعِدَكُمْ فَاتَّقِ اللَّهَ فِي نَفْسِكَ وَ نَازِعِ الشَّيْطَانَ قِيَادَكَ وَ اصْرِفْ إِلَى الآْخِرَةِ وَجْهَكَ فَهِيَ طَرِيقُنَا وَ طَرِيقُكَ وَ احْذَرْ أَنْ يُصِيبَكَ اللَّهُ مِنْهُ بِعَاجِلِ قَارِعَةٍ تَمَسُّ الْأَصْلَ وَ تَقْطَعُ الدَّابِرَ فَإِنِّي أُولِي لَكَ بِاللَّهِ أَلِيَّهً غَيْرَ فَاجِرَةٍ لَئِنْ جَمَعَتْنِي وَ إِيَّاكَ جَوَامِعُ الْأَقْدَارِ لَا أَزَالُ بِبَاحَتِكَ حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ بَيْنَنَا وَ هُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ

(18/121)


قال ع إن الله قد جعل الدنيا لما بعدها أي جعلها طريقا إلى الآخرة. و من الكلمات الحكمية الدنيا قنطرة فاعبروها و لا تعمروها و ابتلي فيها أهلها أي اختبرهم ليعلم أيهم أحسن عملا و هذا من ألفاظ القرآن العزيز و المراد ليعلم خلقه شرح نهج البلاغة ج : 17 ص : 136أو علم ملائكته و رسله فحذف المضاف و قد سبق ذكر شي ء يناسب ذلك فيما تقدم قال و لسنا للدنيا خلقنا أي لم نخلق للدنيا فقط. قال و لا بالسعي فيها أمرنا أي لم نؤمر بالسعي فيها لها بل أمرنا بالسعي فيها لغيرها. ثم ذكر أن كل واحد منه و من معاوية مبتلى بصاحبه و ذلك كابلاء آدم بإبليس و إبليس بآدم. قال فغدوت على طلب الدنيا بتأويل القرآن أي تعديت و ظلمت و على هاهنا متعلقة بمحذوف دل عليه الكلام تقديره مثابرا على طلب الدنيا أو مصرا على طلب الدنيا و تأويل القرآن ما كان معاوية يموه به على أهل الشام فيقول لهم أنا ولي عثمان و قد قال الله تعالى وَ مَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنا لِوَلِيِّهِ سُلْطاناً. ثم يعدهم الظفر و الدولة على أهل العراق بقوله تعالى فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كانَ مَنْصُوراً. قوله و عصبته أنت و أهل الشام أي ألزمتنيه كما تلزم العصابة الرأس و ألب عالمكم جاهلكم أي حرض. و القياد حبل تقاد به الدابة. قوله و احذر أن يصيبك الله منه بعاجل قارعة الضمير في منه راجع إلى الله تعالى و من لابتداء الغاية. شرح نهج البلاغة ج : 17 ص : 137و قال الراوندي منه أي من البهتان الذي أتيته أي من أجله و من للتعليل و هذا بعيو خلاف الظاهر. قوله تمس الأصل أي تقطعه و منه ماء ممسوس أي يقطع الغلة و يقطع الدابر أي العقب و النسل. و الألية اليمين و باحة الدار وسطها و كذلك ساحتها و روي بناحيتك. قوله بعاجل قارعة و جوامع الأقدار من باب إضافة الصفة إلى الموصوف للتأكيد كقوله تعالى وَ إِنَّهُ لَحَقُّ الْيَقِينِ

(18/122)


شرح نهج البلاغة ج : 17 ص : 56138- و من كلام له ع وصى به شريح بن هانئ لما جعله على مقدمته إلى الشاماتَّقِ اللَّهَ فِي كُلِّ مَسَاءٍ وَ صَبَاحٍ وَ خَفْ عَلَى نَفْسِكَ الدُّنْيَا الْغَرُورَ وَ لَا تَأْمَنْهَا عَلَى حَالٍ وَ اعْلَمْ أَنَّكَ إِنْ لَمْ تَرْدَعْ نَفْسَكَ عَنْ كَثِيرٍ مِمَّا تُحِبُّ مَخَافَةَ مَكْرُوهِهِ سَمَتْ بِكَ الْأَهْوَاءُ إِلَى كَثِيرٍ مِنَ الضَّرَرِ فَكُنْ لِنَفْسِكَ مَانِعاً رَادِعاً وَ لِنَزَوَاتِكَ عِنْدَ الْحَفِيظَةِ وَاقِماً قَامِعاً
شريح بن هانئ
هو شريح بن هانئ بن يزيد بن نهيك بن دريد بن سفيان بن الضباب و هو سلمة بن الحارث بن ربيعة بن الحارث بن كعب المذحجي كان هانئ يكنى في الجاهلية أبا الحكم لأنه كان يحكم بينهم فكناه رسول الله ص بأبي شريح إذ وفد عليه و ابنه شريح هذا من جلة أصحاب علي ع شهد معه المشاهد كلها و عاش حتى قتل بسجستان في زمن الحجاج و شريح جاهلي إسلامي يكنى أبا المقدام شرح نهج البلاغة ج : 17 ص : 139ذكر ذلك كله أبو عمر بن عبد البر في كتاب الإستيعابقوله ع و خف على نفسك الغرور يعني الشيطان فأما الغرور بالضم فمصدر و الرادع الكاف المانع و النزوات الوثبات و الحفيظة الغضب و الواقم فاعل من وقمته أي رددته أقبح الرد و قهرته يقول ع إن لم تردع نفسك عن كثير من شهواتك أفضت بك إلى كثير من الضرر و مثل هذا قول الشاعر
فإنك إن أعطيت بطنك سؤلها و فرجك نالا منتهى الذم أجمعا
شرح نهج البلاغة ج : 17 ص : 57140- و من كتاب له ع إلى أهل الكوفة عند مسيره من المدينة إلى البصرةأَمَّا بَعْدُ فَإِنِّي خَرَجْتُ عَنْ حَيِّي هَذَا إِمَّا ظَالِماً وَ إِمَّا مَظْلُوماً وَ إِمَّا بَاغِياً وَ إِمَّا مَبْغِيّاً عَلَيْهِ وَ أَنَا أُذَكِّرُ اللَّهَ مَنْ بَلَغَهُ كِتَابِي هَذَا لَمَّا نَفَرَ إِلَيَّ فَإِنْ كُنْتُ مُحْسِناً أَعَانَنِي وَ إِنْ كُنْتُ مُسِيئاً اسْتَعْتَبَنِي

(18/123)


ما أحسن هذا التقسيم و ما أبلغه في عطف القلوب عليه و استمالة النفوس إليه. قال لا يخلو حالي في خروجي من أحد أمرين إما أن أكون ظالما أو مظلوما و بدأ بالظالم هضما لنفسه و لئلا يقول عدوه بدأ بدعوى كونه مظلوما فأعطى عدوه من نفسه ما أراد. قال فلينفر المسلمون إلي فإن وجدوني مظلوما أعانوني و إن وجدوني ظالما نهوني عن ظلمي لأعتب و أنيب إلى الحق و هذا كلام حسن و مراده ع يحصل على كلا الوجهين لأنه إنما أراد أن يستنفرهم و هذان الوجهان يقتضيان نفيرهم إليه على كل حال و الحي المنزل و لما هاهنا بمعنى إلا كقوله تعالى إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْها حافِظٌ في قراءة من قرأها بالتشديد

(18/124)


شرح نهج البلاغة ج : 17 ص : 58141- و من كتاب له ع كتبه إلى أهل الأمصار يقص فيه ما جرى بينه و بين أهل صفينوَ كَانَ بَدْءُ أَمْرِنَا أَنَّا الْتَقَيْنَا بِالْقَوْمِ مِنْ أَهْلِ الشَّامِ وَ الظَّاهِرُ أَنَّ رَبَّنَا وَاحِدٌ وَ نَبِيَّنَا وَاحِدٌ وَ دَعْوَتَنَا فِي الْإِسْلَامِ وَاحِدَةٌ وَ لَا نَسْتَزِيدُهُمْ فِي الْإِيمَانِ بِاللَّهِ وَ التَّصْدِيقِ بِرَسُولِهِ وَ لَا يَسْتَزِيدُونَنَا وَ الْأَمْرُ وَاحِدٌ إِلَّا مَا اخْتَلَفْنَا فِيهِ مِنْ دَمِ عُثْمَانَ وَ نَحْنُ مِنْهُ بَرَاءٌ فَقُلْنَا تَعَالَوْا نُدَاوِي مَا لَا يُدْرَكُ الْيَوْمَ بِإِطْفَاءِ النَّائِرَةِ وَ تَسْكِينِ الْعَامَّةِ حَتَّى يَشْتَدَّ الْأَمْرُ وَ يَسْتَجْمِعَ فَنَقْوَى عَلَى وَضْعِ الْحَقِّ فِي مَوَاضِعِهِ فَقَالُوا بَلْ نُدَاوِيهِ بِالْمُكَابَرَةِ فَأَبَوْا حَتَّى جَنَحَتِ الْحَرْبُ وَ رَكَدَتْ وَ وَقَدَتْ نِيرَانُهَا وَ حَمِشَتْ فَلَمَّا ضَرَّسَتْنَا وَ إِيَّاهُمْ وَ وَضَعَتْ مَخَالِبَهَا فِينَا وَ فِيهِمْ أَجَابُوا عِنْدَ ذَلِكَ إِلَى الَّذِي دَعَوْنَاهُمْ إِلَيْهِ فَأَجَبْنَاهُمْ إِلَى مَا دَعَوْا وَ سَارَعْنَاهُمْ إِلَى مَا طَلَبُوا حَتَّى اسْتَبَانَتْ عَلَيْهِمُ الْحُجَّةُ وَ انْقَطَعَتْ مِنْهُمُ الْمَعْذِرَةُ فَمَنْ تَمَّ عَلَى ذَلِكَ مِنْهُمْ فَهُوَ الَّذِي أَنْقَذَهُ اللَّهُ مِنَ الْهَلَكَةِ وَ مَنْ لَجَّ وَ تَمَادَى فَهُوَ الرَّاكِسُ الَّذِي رَانَ اللَّهُ عَلَى قَلْبِهِ وَ صَارَتْ دَائِرَةُ السَّوْءِ عَلَى رَأْسِهِ
شرح نهج البلاغة ج : 17 ص : 142روي التقينا و القوم بالواو كما قالقلت إذ أقبلت و زهر تهادى

(18/125)


و من لم يروها بالواو فقد استراح من التكلف. قوله و الظاهر أن ربنا واحد كلام من لم يحكم لأهل صفين من جانب معاوية حكما قاطعا بالإسلام بل قال ظاهرهم الإسلام و لا خلف بيننا و بينهم فيه بل الخلف في دم عثمان. قال ع قلنا لهم تعالوا فلنطفئ هذه النائرة الآن يوضع الحرب إلى أن تتمهد قاعدتي في الخلافة و تزول هذه الشوائب التي تكدر علي الأمر و يكون للناس جماعة ترجع إليها و بعد ذلك أتمكن من قتلة عثمان بأعيانهم فأقتص منهم فأبوا إلا المكابرة و المغالبة و الحرب. قوله حتى جنحت الحرب و ركدت جنحت أقبلت و منه قد جنح الليل أي أقبل و ركدت دامت و ثبتت. قوله و وقدت نيرانها أي التهبت. قوله و حمشت أي استعرت و شبت و روي و استحشمت و هو أصح و من رواها حمست بالسين المهملة أراد اشتدت و صلبت. قوله فلما ضرستنا و إياهم أي عضتنا بأضراسها و يقال ضرسهم الدهر أي اشتد عليهم. شرح نهج البلاغة ج : 17 : 143قال لما اشتدت الحرب علينا و عليهم و أكلت منا و منهم عادوا إلى ما كنا سألناهم ابتداء و ضرعوا إلينا في رفع الحرب و رفعوا المصاحف يسألون النزول على حكمها و إغماد السيف فأجبناهم إلى ذلك. قوله و سارعناهم إلى ما طلبوا كلمة فصيحة و هي تعدية الفعل اللازم كأنها لما كانت في معنى المسابقة و المسابقة متعدية عدي المسارعة. قوله حتى استبانت يقول استمررنا على كف الحرب و وضعها إجابة لسؤالهم إلى أن استبانت عليهم حجتنا و بطلت معاذيرهم و شبهتهم في الحرب و شق العصا فمن تم منهم على ذلك أي على انقياده إلى الحق بعد ظهوره له فذاك الذي خلصه الله من الهلاك و عذاب الآخرة و من لج منهم على ذلك و تمادى في ضلاله فهو الراكس قال قوم الراكس هنا بمعنى المركوس فهو مقلوب فاعل بمعنى مفعول كقوله تعالى فَهُوَ فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ أي مرضية و عندي أن اللفظة على بابها يعني أن من لج فقد ركس نفسه فهو الراكس و هو المركوس يقال ركسه و أركسه بمعنى و الكتاب العزيز

(18/126)


جاء بالهمز فقال وَ اللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِما كَسَبُوا أي ردهم إلى كفرهم و يقول ارتكس فلان في أمر كان نجا منه و ران على قلبه أي ران هو على قلبه كما قلنا في الراكس و لا يجوز أن يكون الفاعل و هو الله محذوفا لأن الفاعل لا يحذف بل يجوز أن يكون الفاعل كالمحذوف و ليس بمحذوف و يكون المصدر و هو الرين و دل الفعل عليه كقوله تعالى ثُمَّ بَدا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ ما رَأَوُا الْآياتِ أي بدا لهم البداء و ران بمعنى غلب و غطى و روي فهو الراكس الذي رين على قلبه. شرح نهج البلاغة ج : 17 ص : 144قال و صارت دائرة السوء على رأسه من ألفاظ القرآن العزيز قال الله تعالى عَلَيْهِمْ دائِرَةُ السَّوْءِ و الدوائر الدول.و إن على الباغي تدور الدوائر
و الدائرة أيضا الهزيمة يقال على من الدائرة منهما و الدوائر أيضا الدواهي
شرح نهج البلاغة ج : 17 ص : 59145- و من كتاب له ع إلى الأسود بن قطبة صاحب جند حلوانأَمَّا بَعْدُ فَإِنَّ الْوَالِيَ إِذَا اخْتَلَفَ هَوَاهُ مَنَعَهُ ذَلِكَ كَثِيراً مِنَ الْعَدْلِ فَلْيَكُنْ أَمْرُ النَّاسِ عِنْدَكَ فِي الْحَقِّ سَوَاءً فَإِنَّهُ لَيْسَ فِي الْجَوْرِ عِوَضٌ مِنَ الْعَدْلِ فَاجْتَنِبْ مَا تُنْكِرُ أَمْثَالَهُ وَ ابْتَذِلْ نَفْسَكَ فِيمَا افْتَرَضَ اللَّهُ عَلَيْكَ رَاجِياً ثَوَابَهُ وَ مُتَخَوِّفاً عِقَابَهُ وَ اعْلَمْ أَنَّ الدُّنْيَا دَارُ بَلِيَّةٍ لَمْ يَفْرُغْ صَاحِبُهَا فِيهَا قَطُّ سَاعَةً إِلَّا كَانَتْ فَرْغَتُهُ عَلَيْهِ حَسْرَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَ أَنَّهُ لَنْ يُغْنِيَكَ عَنِ الْحَقِّ شَيْ ءٌ أَبَداً وَ مِنَ الْحَقِّ عَلَيْكَ حِفْظُ نَفْسِكَ وَ الِاحْتِسَابُ عَلَى الرَّعِيَّةِ بِجُهْدِكَ فَإِنَّ الَّذِي يَصِلُ إِلَيْكَ مِنْ ذَلِكَ أَفْضَلُ مِنَ الَّذِي يَصِلُ بِكَ وَ السَّلَامُ الأسود بن قطبة

(18/127)


لم أقف إلى الآن على نسب الأسود بن قطبة و قرأت في كثير من النسخ أنه حارثي من بني الحارث بن كعب و لم أتحقق ذلك و الذي يغلب على ظني أنه الأسود بن زيد بن قطبة بن غنم الأنصاري من بني عبيد بن عدي ذكره أبو عمر بن عبد البر في كتاب الإستيعاب و قال إن موسى بن عقبة عده فيمن شهد بدرا
شرح نهج البلاغة ج : 17 ص : 146قوله ع إذا اختلف هوى الوالي منعه كثيرا من الحق قول صدق لأنه متى لم يكن الخصمان عند الوالي سواء في الحق جار و ظلم. ثم قال له فإنه ليس في الجور عوض من العدل و هذا أيضا حق و في العدل كل العوض من الجور. ثم أمره باجتناب ما ينكر له من غيره و قد تقدم نحو هذا. و قوله إلا كانت فرغته كلمة فصيحة و هي المرة الواحدة من الفراغ و
قد روي عن النبي ص أن الله يبغض الصحيح الفارغ لا في شغل الدنيا و لا في شغل الآخرة
و مراد أمير المؤمنين ع هاهنا الفراغ من عمل الآخرة خاصة. قوله فإن الذي يصل إليك من ذلك أفضل من الذي يصل بك معناه فإن الذي يصل إليك من ثواب الاحتساب على الرعية و حفظ نفسك من مظالمهم و الحيف عليهم أفضل من الذي يصل بك من حراسة دمائهم و أعراضهم و أموالهم و لا شبهة في ذلك لأن إحدى المنفعتين دائمة و الأخرى منقطعة و النفع الدائم أفضل من المنقطع

(18/128)


شرح نهج البلاغة ج : 17 ص : 60147- و من كتاب له ع إلى العمال الذين يطأ عملهم الجيوشمِنْ عَبْدِ اللَّهِ عَلِيٍّ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ إِلَى مَنْ مَرَّ بِهِ الْجَيْشُ مِنْ جُبَاةِ الْخَرَاجِ وَ عُمَّالِ الْبِلَادِ أَمَّا بَعْدُ فَإِنِّي قَدْ سَيَّرْتُ جُنُوداً هِيَ مَارَّةٌ بِكُمْ إِنْ شَاءَ اللَّهُ وَ قَدْ أَوْصَيْتُهُمْ بِمَا يَجِبُ لِلَّهِ عَلَيْهِمْ مِنْ كَفِّ الْأَذَى وَ صَرْفِ الشَّذَا وَ أَنَا أَبْرَأُ إِلَيْكُمْ وَ إِلَى ذِمَّتِكُمْ مِنْ مَعَرَّةِ الْجَيْشِ إِلَّا مِنْ جَوْعَةِ الْمُضْطَرِّ لَا يَجِدُ عَنْهَا مَذْهَباً إِلَى شِبَعِهِ فَنَكِّلُوا مَنْ تَنَاوَلَ مِنْهُمْ ظُلْماً عَنْ ظُلْمِهِمْ وَ كُفُّوا أَيْدِيَ سُفَهَائِكُمْ عَنْ مُضَادَّتِهِمْ وَ التَّعَرُّضِ لَهُمْ فِيمَا اسْتَثْنَيْنَاهُ مِنْهُمْ وَ أَنَا بَيْنَ أَظْهُرِ الْجَيْشِ فَارْفَعُوا إِلَيَّ مَظَالِمَكُمْ وَ مَا عَرَاكُمْ مِمَّا يَغْلِبُكُمْ مِنْ أَمْرِهِمْ وَ لَا تُطِيقُونَ دَفَعَهُ إِلَّا بِاللَّهِ وَ بِي أُغَيِّرُهُ بِمَعُونَةِ اللَّهِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ
روي عن مضارتهم بالراء المشددة و جباة الخراج الذين يجمعونه جبيت الماء في الحوض أي جمعته و الشذا و الضر الشر تقول لقد أشذيت و آذيت و إلى ذمتكم أي إلى اليهود و النصارى الذين بينكم
قال ع من آذى ذميا فكأنما آذاني

(18/129)


شرح نهج البلاغة ج : 17 ص : 148و قال إنما بذلوا الجزية لتكون دماؤهم كدمائنا و أموالهم كأموالنا و يسمى هؤلاء ذمة أي أهل ذمة بحذف المضاف و المعرة المضرة قال الجيش ممنوع من أذى من يمر به من المسلمين و أهل الذمة إلا من سد جوعة المضطر منهم خاصة لأن المضطر تباله الميتة فضلا عن غيرها. ثم قال فنكلوا من تناول و روي بمن تناول بالباء أي عاقبوه و عن في قوله عن ظلمهم يتعلق بنكلوا لأنها في معنى اردعوا لأن النكال يوجب الردع. ثم أمرهم أن يكفوا أيدي أحداثهم و سفهائهم عن منازعة الجيش و مصادمته و التعرض لمنعه عما استثناه و هو سد الجوعة عند الاضطرار فإن ذلك لا يجوز في الشرع و أيضا فإنه يفضي إلى فتنة و هرج. ثم قال و أنا بين أظهر الجيش أي أنا قريب منكم و سائر على أثر الجيش فارفعوا إلي مظالمكم و ما عراكم منهم على وجه الغلبة و القهر فإني مغير ذلك و منتصف لكم منهم
شرح نهج البلاغة ج : 17 ص : 61149- و من كتاب له ع إلى كميل بن زياد النخعيو هو عامله على هيت ينكر عليه تركه دفع من يجتاز به من جيش العدو طالبا للغارة
أَمَّا بَعْدُ فَإِنَّ تَضْيِيعَ الْمَرْءِ مَا وُلِّيَ وَ تَكَلُّفَهُ مَا كُفِيَ لَعَجْزٌ حَاضِرٌ وَ رَأْيٌ مُتَبَّرٌ وَ إِنَّ تَعَاطِيَكَ الْغَارَةَ عَلَى أَهْلِ قِرْقِيسِيَا وَ تَعْطِيلَكَ مَسَالِحَكَ الَّتِي وَلَّيْنَاكَ لَيْسَ لَهَا مَنْ يَمْنَعُهَا وَ لَا يَرُدُّ الْجَيْشَ عَنْهَا لَرَأْيٌ شَعَاعٌ فَقَدْ صِرْتَ جِسْراً لِمَنْ أَرَادَ الْغَارَةَ مِنْ أَعْدَائِكَ عَلَى أَوْلِيَائِكَ غَيْرَ شَدِيدِ الْمَنْكِبِ وَ لَا مَهِيبِ الْجَانِبِ وَ لَا سَادٍّ ثُغْرَةً وَ لَا كَاسِرٍ لِعَدُوٍّ شَوْكَةً وَ لَا مُغْنٍ عَنْ أَهْلِ مِصْرِهِ وَ لَا مُجْزٍ عَنْ أَمِيرِهِ
كميل بن زياد و نسبه

(18/130)


هو كميل بن زياد بن سهيل بن هيثم بن سعد بن مالك بن الحارث بن صهبان بن سعد بن مالك بن النخع بن عمرو بن وعلة بن خالد بن مالك بن أدد كان من أصحاب علي ع و شيعته و خاصته و قتله الحجاج على المذهب فيمن قتل من الشيعة و كان كميل بن زياد عامل علي ع على هيت و كان ضعيفا يمر عليه سرايا معاوية تنهب أطراف العراق و لا يردها و يحاول أن يجبر ما عنده من الضعف بأن يغير شرح نهج البلاغة ج : 17 ص : 150على أطراف أعمال معاوية مثل قرقيسيا و ما يجري مجراها من القرى التي على الفرات فأنكر ع ذلك من فعله و قال إن من العجز الحاضر أن يهمللوالي ما وليه و يتكلف ما ليس من تكليفه
و المتبر الهالك قال تعالى إِنَّ هؤُلاءِ مُتَبَّرٌ ما هُمْ فِيهِ. و المسالح جمع مسلحة و هي المواضع التي يقام فيها طائفة من الجند لحمايتها. و رأي شعاع بالفتح أي متفرق. ثم قال له قد صرت جسرا أي يعبر عليك العدو كما يعبر الناس على الجسور و كما أن الجسر لا يمنع من يعبر به و يمر عليه فكذاك أنت. و الثغرة الثلمة و مجز كاف و مغن و الأصل مجزئ بالهمز فخفف

(18/131)


شرح نهج البلاغة ج : 17 ص : 62151- و من كتاب له ع إلى أهل مصر مع مالك الأشتر رحمه الله لما ولاه إمارتهاأَمَّا بَعْدُ فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ بَعَثَ مُحَمَّداً ص نَذِيراً لِلْعَالَمِينَ وَ مُهَيْمِناً عَلَى الْمُرْسَلِينَ فَلَمَّا مَضَى ص تَنَازَعَ الْمُسْلِمُونَ الْأَمْرَ مِنْ بَعْدِهِ فَوَاللَّهِ مَا كَانَ يُلْقَى فِي رُوعِي وَ لَا يَخْطُرُ بِبَالِي أَنَّ الْعَرَبَ تُزْعِجُ هَذَا الْأَمْرَ مِنْ بَعْدِهِ ص عَنْ أَهْلِ بَيْتِهِ وَ لَا أَنَّهُمْ مُنَحُّوهُ عَنِّي مِنْ بَعْدِهِ فَمَا رَاعَنِي إِلَّا انْثِيَالُ النَّاسِ عَلَى فُلَانٍ يُبَايِعُونَهُ فَأَمْسَكْتُ بِيَدِي حَتَّى رَأَيْتُ رَاجِعَةَ النَّاسِ قَدْ رَجَعَتْ عَنِ الْإِسْلَامِ يَدْعُونَ إِلَى مَحْقِ دَيْنِ مُحَمَّدٍ ص فَخَشِيتُ إِنْ لَمْ أَنْصُرِ الْإِسْلَامَ وَ أَهْلَهُ أَنْ أَرَى فِيهِ ثَلْماً أَوْ هَدْماً تَكُونُ الْمُصِيبَةُ بِهِ عَلَيَّ أَعْظَمَ مِنْ فَوْتِ وِلَايَتِكُمُ الَّتِي إِنَّمَا هِيَ مَتَاعُ أَيَّامٍ قَلَائِلَ يَزُولُ مِنْهَا مَا كَانَ كَمَا يَزُولُ السَّرَابُ وَ كَمَا يَتَقَشَّعُ السَّحَابُ فَنَهَضْتُ فِي تِلْكَ الْأَحْدَاثِ حَتَّى زَاحَ الْبَاطِلُ وَ زَهَقَ وَ اطْمَأَنَّ الدِّينُ وَ تَنَهْنَهَ
المهيمن الشاهد قال الله تعالى إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَ مُبَشِّراً أي تشهد بإيمان من آمن و كفر من كفر و قيل تشهد بصحة نبوة الأنبياء قبلك شرح نهج البلاغة ج : 17 ص : 152و قوله على المرسلين يؤكد صحة هذا التفسير الثاني و أصل اللفظة من آمن غيره من الخوف ن الشاهد يؤمن غيره من الخوف بشهادته ثم تصرفوا فيها فابدلوا إحدى همزتي مؤامن ياء فصار مؤيمن ثم قلبوا الهمزة هاء كأرقت و هرقت فصار مهيمن. و الروع الخلد و
في الحديث أن روح القدس نفث في روعي

(18/132)


قال ما يخطر لي ببال أن العرب تعدل بالأمر بعد وفاة محمد ص عن بني هاشم ثم من بني هاشم عني لأنه كان المتيقن بحكم الحال الحاضرة و هذا الكلام يدل على بطلان دعوى الإمامية النص و خصوصا الجلي. قال فما راعني إلا انثيال الناس تقول للشي ء يفجؤك بغتة ما راعني إلا كذاو الروع بالفتح الفزع كأنه يقول ما أفزعني شي ء بعد ذلك السكون الذي كان عندي و تلك الثقة التي اطمأننت إليها إلا وقوع ما وقع من انثيال الناس أي انصبابهم من كل وجه كما ينثاب التراب على أبي بكر و هكذا لفظ الكتاب الذي كتبه للأشتر و إنما الناس يكتبونه الآن إلى فان تذمما من ذكر الاسم كما يكتبون في أول الشقشقية أما و الله لقد تقمصها فلان و اللفظ أما و الله لقد تقمصها ابن أبي قحافة. قوله فأمسكت يدي أي امتنعت عن بيعته حتى رأيت راجعة الناس يعني أهل الردة كمسيلمة و سجاح و طليحة بن خويلد و مانعي الزكاة و إن كان مانعو الزكاة قد اختلف في أنهم أهل ردة أم لا. و محق الدين إبطاله. و زهق خرج و زال تنهنه سكن و أصله الكف تقول نهنهت السبع فتنهنه شرح نهج البلاغة ج : 17 ص : 153أي كف عن حركته و إقدامه فكان الدين كان متحركا مضطربا فسكن و كف عن ذلك الاضطراب. روى أبو جعفر محمد بن جريرلطبري في التاريخ الكبير أن رسول الله ص لما مات اجتمعت أسد و غطفان و طي ء على طليحة بن خويلد إلا ما كان من خواص أقوام في الطوائف الثلاث فاجتمعت أسد بسميراء و غطفان بجنوب طيبة و طي ء في حدود أرضهم و اجتمعت ثعلبة بن أسد و من يليهم من قيس بالأبرق من الربذة وأشب إليهم ناس من بني كنانة و لم تحملهم البلاد فافترقوا فرقتين أقامت إحداهما بالأبرق و سارت الأخرى إلى ذي القصة و بعثوا وفودا إلى أبي بكر يسألونه أن يقارهم على إقامة الصلاة و منع الزكاة فعزم الله لأبي بكر على الحق فقال لو منعوني عقالا لجاهدتهم عليه و رجع الوفود إلى قومهم فأخبروهم بقلة من أهل المدينة فأطمعوهم فيها و علم أبو

(18/133)


بكر و المسلمون بذلك و قال لهم أبو بكر أيها المسلمون إن الأرض كافرة و قد رأى وفدهم منكم قلة و إنكم لا تدرون أ ليلا تؤتون أم نهارا و أدناهم منكم على بريد و قد كان القوم يأملون أن نقبل منهم و نوادعهم و قد أبينا عليهم و نبذنا إليهم فأعدوا و استعدوا فخرج علي ع بنفسه و كان على نقب من أنقاب المدينة و خرج الزبير و طلحة و عبد الله بن مسعود و غيرهم فكانوا على الأنقاب الثلاثة فلم يلبثوا إلا قليلا حتى طرق القوم المدينة غارة مع الليل و خلفوا بعضهم بذي حسى
شرح نهج البلاغة ج : 17 ص : 154ليكونوا ردءا لهم فوافوا الأنقاب و عليها المسلمون فأرسلوا إلى أبي بكر بالخبر فأرسل إليهم أن الزموا مكانكم ففعلوا و خرج أبو بكر في جمع من أهل المدينة على النواضح فانتشر العدو بين أيديهم و اتبعهم المسلمون على النواضح حتى بلغواا حسى فخرج عليهم الكمين بأنحاء قد نفخوها و جعلوا فيها الحبال ثم دهدهوها بأرجلهم في وجوه الإبل فتدهده كل نحي منها في طوله فنفرت إبل المسلمين و هم عليها و لا تنفر الإبل من شي ء نفارها من الأنحاء فعاجت بهم لا يملكونها حتى دخلت بهم المدينة و لم يصرع منهم أحد لم يصب فبات المسلمون تلك الليلة يتهيئون ثم خرجوا على تعبئة فما طلع الفجر إلا و هم و القوم على صعيد واحد فلم يسمعوا للمسلمين حسا و لا همسا حتى وضعوا فيهم السيف فاقتتلوا أعجاز ليلتهم فما ذر قرن الشمس إلا و قد ولوا الأدبار و غلبوهم على عامة ظهرهم و رجعوا إلى المدينة ظافرين. قلت هذا هو الحديث الذي أشار ع إلى أنه نهض فيه أيام أبي بكر و كأنه جواب عن قول قائل إنه عمل لأبي بكر و جاهد بين يدي أبي بكر فبين ع عذره في ذلك و قال إنه لم يكن كما ظنه القائل و لكنه من باب دفع الضرر عن النفس و الدين فإنه واجب سواء كان للناس إمام أو لم يكن
ذكر ما طعن به الشيعة في إمامة أبي بكر و الجواب عنها

(18/134)


و ينبغي حيث جرى ذكر أبي بكر في كلام أمير المؤمنين ع أن نذكر ما أورده قاضي القضاة في المغني من المطاعن التي طعن بها فيه و جواب قاضي القضاة شرح نهج البلاغة ج : 17 ص : 155عنها و اعتراض المرتضى في الشافي على قاضي القضاة و نذكر ما عندنا في ذلك ثم نذكر مطاعن أى لم يذكرها قاضي القضاة.
الطعن الأول
قال قاضي القضاة بعد أن ذكر ما طعن به فيه في أمر فدك و قد سبق القول فيه و مما طعن به عليه قولهم كيف يصلح للإمامة من يخبر عن نفسه أن له شيطانا يعتريه و من يحذر الناس نفسه و من يقول أقيلوني بعد دخوله في الإمامة مع أنه لا يحل للإمام أن يقول أقيلوني البيعة. أجاب قاضي القضاة فقال إن شيخنا أبا علي قال لو كان ذلك نقصا فيه لكان قول الله في آدم و حواء فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطانُ و قوله فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطانُ و قوله وَ ما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَ لا نَبِيٍّ إِلَّا إِذا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ يوجب النقص في الأنبياء و إذا لم يجب ذلك فكذلك ما وصف به أبو بكر نفسه و إنما أراد أنه عند الغضب يشفق من المعصية و يحذر منها و يخاف أن يكون الشيطان يعتريه في تلك الحال فيوسوس إليه و ذلك منه على طريقة الزجر لنفسه عن المعاصي و قد روي عن أمير المؤمنين ع أنه ترك مخاصمة الناس في حقوقه إشفاقا من المعصية و كان يولي ذلك عقيلا فلما أسن عقيل كان يوليها عبد الله بن جعفر فأما ما روي في إقالة البيعة فهو خبر ضعيف و إن صح فالمراد به التنبيه على أنه لا يبالي لأمر يرجع إليه أن يقيله الناس البيعة و إنما يضرون بذلك أنفسهم و كأنه نبه بذلك شرح نهج البلاغة ج : 17 ص : 156على أنه غير مكره لهم و أنه قد خلاهم و ما يريدون إلا أن يعرض ما يوجب خلافه و قد روي أن أمير المؤمنين ع أقال عبد الله بن عمر البيعة حين استقاله و المراد بذلك أنه تركه و ما يختار. اعترض المرتضى ر الله عنه فقال أما قول أبي

(18/135)


بكر وليتكم و لست بخيركم فإن استقمت فاتبعوني و إن اعوججت فقوموني فإن لي شيطانا يعتريني عند غضبي فإذا رأيتموني مغضبا فاجتنبوني لا أؤثر في أشعاركم و أبشاركم فإنه يدل على أنه لا يصلح للإمامة من وجهين أحدهما أن هذا صفة من ليس بمعصوم و لا يأمن الغلط على نفسه من يحتاج إلى تقويم رعيته له إذا وقع في المعصية و قد بينا أن الإمام لا بد أن يكون معصوما موفقا مسددا و الوجه الآخر أن هذه صفة من لا يملك نفسه و لا يضبط غضبه و من هو في نهاية الطيش و الحدة و الخرق و العجلة و لا خلاف أن الإمام يجب أن يكون منزها عن هذه الأوصاف غير حاصل عليها و ليس يشبه قول أبي بكر ما تلاه من الآيات كلها لأن أبا بكر خبر عن نفسه بطاعة الشيطان عند الغضب و أن عادته بذلك جارية و ليس هذا بمنزلة من يوسوس إليه الشيطان و لا يطيعه و يزين له القبيح فلا يأتيه و ليس وسوسة الشيطان بعيب على الموسوس له إذا لم يستزله ذلك عن الصواب بل هو زيادة في التكليف و وجه يتضاعف معه الثواب و قوله تعالى أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ قيل معناه في تلاوته و قيل في فكرته على سبيل الخاطر و أي الأمرين كان فلا عار في ذلك على النبي ص و لا نقص و إنما العار و النقص على من يطيع الشيطان و يتبع ما يدعو إليه و ليس لأحد أن يقول هذا إن سلم لكم في جميع الآيات لم يسلم في قوله تعالى فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطانُ لأنه قد خبر عن تأثير غوايته و وسوسته بما كان منهما من الفعل و ذلك أن المعنى الصحيح في هذه الآية أن آدم و حواء كانا مندوبين إلى اجتناب الشجرة و ترك التناول منها و لم يكن ذلك عليهما واجبا لازما

(18/136)


شرح نهج البلاغة ج : 17 ص : 157لأن الأنبياء لا يخلون بالواجب فوسوس لهما الشيطان حتى تناولا من الشجرة فتركا مندوبا إليه و حرما بذلك أنفسهما الثواب و سماه إزلالا لأنه حط لهما عن درجة الثواب و فعل الأفضل و قوله تعالى في موضع آخر وَ عَصى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوىا ينافي هذا المعنى لأن المعصية قد يسمى بها من أخل بالواجب و الندب معا قوله فغوى أي خاب من حيث لم يستحق الثواب على ما ندب إليه على أن صاحب الكتاب يقول إن هذه المعصية من آدم كانت صغيرة لا يستحق بها عقابا و لا ذما فعلى مذهبه أيضا تكون المفارقة بينه و بين أبي بكر ظاهرة لأن أبا بكر خبر عن نفسه أن الشيطان يعتريه حتى يؤثر في الأشعار و الأبشار و يأتي ما يستحق به التقويم فأين هذا من ذنب صغير لا ذم و لا عقاب عليه و هو يجري من وجه من الوجوه مجرى المباح لأنه لا يؤثر في أحوال فاعله و حط رتبته و ليس يجوز أن يكون ذلك منه على سبيل الخشية و الإشفاق على ما ظن لأن مفهوم خطابه يقتضي خلاف ذلك أ لا ترى أنه قال إن لي شيطانا يعتريني و هذا قول من قد عرف عادته و لو كان على سبيل الإشفاق و الخوف لخرج عن هذا المخرج و لكان يقول فإني آمن من كذا و إني لمشفق منه فأما ترك أمير المؤمنين ع مخاصمة الناس في حقوقه فكأنه إنما كان تنزها و تكرما و أي نسبة بين ذلك و بين من صرح و شهد على نفسه بما لا يليق بالأئمة و أما خبر استقالة البيعة و تضعيف صاحب الكتاب له فهو أبدا يضعف ما لا يوافقه من غير حجة يعتمدها في تضعيفه و قوله إنه ما استقال على التحقيق و إنما نبه على أنه لا يبالي بخروج الأمر عنه و أنه غير مكره لهم عليه فبعيد من الصواب لأن ظاهر قوله أقيلوني أمر بالإقالة و أقل أحواله أن يكون عرضا لها و بذلا و كلا الأمرين قبيح و لو أراد ما ظنه لكان له شرح نهج البلاغة ج : 17 ص : 158في غير هذا القول مندوحة و لكايقول إني ما أكرهتكم و لا حملتكم على مبايعتي و ما كنت أبالي ألا يكون

(18/137)


هذا الأمر في و لا إلي و إن مفارقته لتسرني لو لا ما ألزمنيه الدخول فيه من التمسك به و متى عدلنا عن ظواهر الكلام بلا دليل جر ذلك علينا ما لا قبل لنا به و أما أمير المؤمنين ع فإنه لم يقل ابن عمر البيعة بعد دخولها فيها و إنما استعفاه من أن يلزمه البيعة ابتداء فأعفاه قلة فكر فيه و علما بأن إمامته لا تثبت بمبايعة من يبايعه عليها فأين هذا من استقالة بيعة قد تقدمت و استقرت. قلت أما قول أبي بكر وليتكم و لست بخيركم فقد صدق عند كثير من أصحابنا لأن خيرهم علي بن أبي طالب ع و من لا يقول بذلك يقول بما قاله الحسن البصري و الله إنه ليعلم أنه خيرهم و لكن المؤمن يهضم نفسه و لم يطعن المرتضى فيه بهذه اللفظة لنطيل القول فيها و أما قول المرتضى عنه أنه قال فإن لي شيطانا يعتريني عند غضبى فالمشهور في الرواية فإن لي شيطانا يعتريني قال المفسرون أراد بالشيطان الغضب و سماه شيطانا على طريق الاستعارة و كذا ذكره شيخنا أبو الحسين في الغرر قال معاوية لإنسان غضب في حضرته فتكلم بما لا يتكلم بمثله في حضرة الخلفاء اربع على ظلعك أيها الإنسان فإنما الغضب شيطان و أنا لم نقل إلا خيرا. و قد ذكر أبو جعفر محمد بن جرير الطبري في كتاب التاريخ الكبير خطبتي أبي بكر عقيب بيعته بالسقيفة و نحن نذكرهما نقلا من كتابه أما الخطبة الأولى فهي

(18/138)


شرح نهج البلاغة ج : 17 ص : 159أما بعد أيها الناس فإني وليتكم و لست بخيركم فإن أحسنت فأعينوني و إن أسأت فقوموني لأن الصدق أمانة و الكذب خيانة الضعيف منكم قوي عندي حتى أريح عليه حقه و القوي منكم ضعيف عندي حتى آخذ الحق منه لا يدع قوم الجهاد في سبيل الله إلضربهم الله بالذل و لا تشيع الفاحشة في قوم إلا عمهم الله بالبلاء أطيعوني ما أطعت الله و رسوله فإذا عصيت الله و رسوله فلا طاعة لي عليكم قوموا إلى صلاتكم رحمكم الله و أما الخطبة الثانية فهي أيها الناس إنما أنا مثلكم و إني لا أدري لعلكم ستكلفونني ما كان رسول الله ص يطيقه إن الله اصطفى محمدا ص على العالمين و عصمه من الآفات و إنما أنا متبع و لست بمتبوع فإن استقمت فاتبعوني و إن زغت فقوموني و إن رسول الله ص قبض و ليس أحد من هذه الأمة يطلبه بمظلمة ضربة سوط فما دونها ألا و إن لي شيطانا يعتريني فإذا غضبت فاجتنبوني لا أؤثر في أشعاركم و أبشاركم ألا و إنكم تغدون و تروحون في أجل قد غيب عنكم علمه فإن استطعتم ألا يمضي هذا الأجل إلا و أنتم في عمل صالح فافعلوا و لن تستطيعوا ذلك إلا بالله فسابقوا في مهل آجالكم من قبل أن تسلمكم آجالكم إلى انقطاع الأعمال فإن قوما نسوا آجالهم و جعلوا أعمالهم لغيرهم فأنهاكم أن تكونوا أمثالهم الجد الجد الوحا الوحا فإن وراءكم طالبا حثيثا أجل مره سريع احذروا الموت و اعتبروا بالآباء و الأبناء و الإخوان و لا تغبطوا الأحياء إلا بما يغبط به الأموات. إن الله لا يقبل من الأعمال إلا ما يراد به وجهه فأريدوا وجه الله بأعمالكم و اعلموا شرح نهج البلاغة ج : 17 ص : 160أن ما أخلصتم لله من أعمالكم فلطاعة أتيتموها و حظ ظفرتم به و ضرائب أديتموها و سلف قدمتموه من أيام فانية لأخرى باقية لحين فقركم و حاجتكم فاعتبروا عباد الله بمن مات منكم و تفكروا فيمن كان قبلكم أين كانوا أمس و أين هم اليوم أين جبارون أين الذين كان لهم ذكر القتال و

(18/139)


الغلبة في مواطن الحرب قد تضعضع بهم الدهر و صاروا رميما قد تركت عليهم القالات الخبيثات و إنما الخبيثات للخبيثين و الخبيثون للخبيثات و أين الملوك الذين أثاروا الأرض و عمروها قد بعدوا بسيئ ذكرهم و بقي ذكرهم و صاروا كلا شي ء ألا إن الله قد أبقى عليهم التبعات و قطع عنهم الشهوات و مضوا و الأعمال أعمالهم و الدنيا دنيا غيرهم و بقينا خلفا من بعدهم فإن نحن اعتبرنا بهم نجونا و إن اغتررنا كنا مثلهم أين الوضاء الحسنة وجوههم المعجبون بشبابهم صاروا ترابا و صار ما فرطوا فيه حسرة عليهمأين الذين بنوا المدائن و حصنوها بالحوائط و جعلوا فيها العجائب و تركوها لمن خلفهم فتلك مساكنهم خاوية و هم في ظلم القبور هل تحس منهم من أحد أو تسمع لهم ركزا أين من تعرفون من آبائكم و إخوانكم قد انتهت بهم آجالهم فوردوا على ما قدموا عليه و أقاموا للشقوة و للسعادة إلا إن الله لا شريك له ليس بينه و بين أحد من خلقه سبب يعطيه به خيرا و لا يصرف عنه به شرا إلا بطاعته و اتباع أمره و اعلموا أنكم عباد مدينون و أن ما عنده لا يدرك إلا بتقواه و عبادته ألا و إنه لا خير بخير بعده النار و لا شر بشر بعد الجنة. فهذه خطبتا أبي بكر يوم السقيفة و اليوم الذي يليه إنما قال إن لي شيطانا يعتريني و أراد بالشيطان الغضب و لم يرد أن له شيطانا من مردة الجن يعتريه إذا

(18/140)


شرح نهج البلاغة ج : 17 ص : 161غضب فالزيادة فيما ذكره المرتضى في قوله إن لي شيطانا يعتريني عند غضبي تحريف لا محالة و لو كان له شيطان من الجن يعتاده و ينوبه لكان في عداد المصروعين من المجانين و ما ادعى أحد على أبي بكر هذا لا من أوليائه و لا من أعدائه و إن ذكرنا خطبته على طولها و المراد منها كلمة واحدة لما فيها من الفصاحة و الموعظة على عادتنا في الاعتناء بإيداع هذا الكتاب ما كان ذاهبا هذا المذهب و سالكا هذا السبيل. فأما قول المرتضى فهذه صفة من ليس بمعصوم فالأمر كذلك و العصمة عندنا ليست شرطا في الإمامة و لو لم يدل على عدم اشتراطها إلا أنه قال على المنبر بحضور الصحابة هذا القول و أقروه على الإمامة لكفى في عدم كون العصمة شرطا لأنه قد حصل الإجماع على عدم اشتراط ذلك إذ لو كان شرطا لأنكر منكر إمامته كما لو قال إني لا أصبر عن شرب الخمر و عن الزنا. فأما قوله هذه صفة طائش لا يملك نفسه فلعمري إن أبا بكر كان حديدا و قد ذكره عمر بذلك و ذكره غيره من الصحابة بالحدة و السرعة و لكن لا بحيث أن تبطل به أهليته للإمامة لأن الذي يبطل الإمامة من ذلك و ما يخرج الإنسان عن العقل و أما ما هو دون ذلك فلا و ليس قوله فاجتنبوني لا أؤثر في أشعاركم و أبشاركم محمول على ظاهره و إنما أراد به المبالغة في وصف القوة الغضبية عنده و إلا فما سمعنا و لا نقل ناقل من الشيعة و لا من غير الشيعة أن أبا بكر في أيام رسول الله ص و لا في الجاهلية و لا في أيام خلافته احتد على إنسان فقام إليه فضربه بيده و مزق شعره. فأما ما حكاه قاضي القضاة عن الشيخ أبي علي من تشبيه هذه اللفظة بما ورد في القرآن فهو على تقدير أن يكون أبو بكر عنى الشيطان حقيقة و ما اعترض به المرتضى ثانية عليه غير لازم لأن الله تعالى قال فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطانُ و تعقب ذلك قبولهما شرح نهج البغة ج : 17 ص : 162وسوسته و أكلهما من الشجرة فكيف يقول المرتضى ليس

(18/141)


قول أبي بكر بمنزلة من وسوس له الشيطان فلم يطعه و كذلك قوله تعالى في قصة موسى لما قتل القبطي هذا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ و كذلك قوله فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطانُ عَنْها و قوله أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ و ما ذهب إليه المرتضى من التأويلات مبني على مذهبه في العصمة الكلية و هو مذهب يحتاج في نصرته إلى تكلف شديد و تعسف عظيم في تأويل الآيات على أنه إذا سلم أن الشيطان ألقى في تلاوة الرسول ص ما ليس من القرآن حتى ظنه السامعون كلاما من كلام الرسول فقد نقض دلالة التنفير المقتضية عنده في العصمة لأنه لا تنفير عنده أبلغ من تمكين الله الشيطان أن يخلط كلامه بكلامه و رسوله يؤديه إلى المكلفين حتى يعتقد السامعون كلهم أن الكلامين كلام واحد. و أما قوله إن آدم كان مندوبا إلى ألا يأكل من الشجرة لا محرم عليه أكلها و لفظة عصى إنما المراد بها خالف المندوب و لفظه غوى إنما المراد خاب من حيث لم يستحق الثواب على اعتماد ما ندب إليه فقول يدفعه ظاهر الآية لأن الصيغة صيغة النهي و هي قوله وَ لا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ و النهي عند المرتضى يقتضي التحريم لا محالة و ليس الأمر الذي قد يراد به الندب و قد يراد به الوجوب. و أما قول شيخنا أبي علي إن كلام أبي بكر خرج مخرج الإشفاق و الحذر من المعصية عند الغضب فجيد. و اعتراض المرتضى عليه بأنه ليس ظاهر اللفظ ذاك غير لازم لأن هذه عادة العرب يعبرون عن الأمر بما هو منه بسبب و سبيل كقولهم لا تدن من الأسد فيأكلك فليس أنهم قطعوا على الأكل عند الدنو و إنما المراد الحذر و الخوف و التوقع للأكل عند الدنو. شرح نهج البلاغة ج : 17 ص : 163و أما الكلام في قوله أقيلوني فلو صح الخبر لم يكن فيه مطعن عليه لأنه إنما أرافي اليوم الثاني اختبار حالهم في البيعة التي وقعت في اليوم الأول ليعلم وليه من عدوه منهم و

(18/142)


قد روى جميع أصحاب السير أن أمير المؤمنين خطب في اليوم الثاني من بيعته فقال أيها الناس إنكم بايعتموني على السمع و الطاعة و أنا أعرض اليوم عليكم ما دعوتموني إليه أمس فإن أجبتم قعدت لكم و إلا فلا أجد على أحد
و ليس بجيد قول المرتضى إنه لو كان يريد العرض و البذل لكان قد قال كذا و كذا فإن هذه مضايقة منه شديدة للألفاظ و لو شرعنا في مثل هذا لفسد أكثر ما يتكلم به الناس على أنا لو سلمنا أنه استقالهم البيعة حقيقة فلم قال المرتضى إن ذلك لا يجوز أ ليس يجوز للقاضي أن يستقيل من القضاء بعد توليته إياه و دخوله فيه فكذلك يجوز للإمام أن يستقيل من الإمامة إذا أنس من نفسه ضعفا عنها أو أنس من رعيته نبوة عنه أو أحس بفساد ينشأ في الأرض من جهة ولايته على الناس و من يذهب إلى أن الإمامة تكون بالاختيار كيف يمنع من جواز استقالة الإمام و طلبه إلى الأمة أن يختاروا غيره لعذر يعلمه من حال نفسه و إنما يمنع من ذلك المرتضى و أصحابه القائلون بأن الإمامة بالنص و إن الإمام محرم عليه ألا يقوم بالإمامة لأنه مأمور بالقيام بها لتعينه خاصة دون كل أحد من المكلفين و أصحاب الاختيار يقولون إذا لم يكن زيد إماما كان عمرو إماما عوضه لأنهم لا يعتبرون الشروط التي يعتبرها الإمامية من العصمة و أنه أفضل أهل عصره و أكثرهم ثوابا و أعلمهم و أشجعهم و غير ذلك من الشروط التي تقتضي تفرده و توحده بالأمر على أنه إذا جاز عندهم أن يترك الإمام الإمامة في الظاهر كما فعله الحسن و كما فعله غيره من الأئمة بعد الحسين ع للتقية جاز للإمام شرح نهج البلاغة ج : 17 ص : 164على مذهب أصحاب الاختيار أن يترك الإمامة ظاهرا و باطنا لعذر يعلمه من حال نفسه أو حال رعيتهالطعن الثاني

(18/143)


قال قاضي القضاة بعد أن ذكر قول عمر كانت بيعة أبي بكر فلتة و قد تقدم منا القول في ذلك في أول هذا الكتاب و مما طعنوا به على أبي بكر أنه قال عند موته ليتني كنت سألت رسول الله ص عن ثلاثة فذكر في أحدها ليتني كنت سألته هل للأنصار في هذا الأمر حق قالوا و ذلك يدل على شكه في صحة بيعته و ربما قالوا قد روي أنه قال في مرضه ليتني كنت تركت بيت فاطمة لم أكشفه و ليتني في ظلة بني ساعدة كنت ضربت على يد أحد الرجلين فكان هو الأمير و كنت الوزير قالوا و ذلك يدل على ما روي من إقدامه على بيت فاطمة ع عند اجتماع علي ع و الزبير و غيرهما فيه و يدل على أنه كان يرى الفضل لغيره لا لنفسه. قال قاضي القضاة و الجواب أن قوله ليتني لا يدل على الشك فيما تمناه و قول إبراهيم ع رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى قالَ أَ وَ لَمْ تُؤْمِنْ قالَ بَلى وَ لكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي أقوى من ذلك في الشبهة ثم حمل تمنيه على أنه أراد سماع شي ء مفصل أو أراد ليتني سألته عند الموت لقرب العهد لأن ما قرب عهده لا ينسى و يكون أردع للأنصار على ما حاولوه ثم قال على أنه ليس في ظاهره أنه تمنى أن شرح نهج البلاغة ج : 17 ص : 165يسأل هل لهم حق في الإمامة أم لا لأن الإة قد يتعلق بها حقوق سواها ثم دفع الرواية المتعلقة ببيت فاطمة ع و قال فأما تمنيه أن يبايع غيره فلو ثبت لم يكن ذما لأن من اشتد التكليف عليه فهو يتمنى خلافه. اعترض المرتضى رحمه الله هذا الكلام فقال ليس يجوز أن يقول أبو بكر ليتني كنت سألت عن كذا إلا مع الشك و الشبهة لأن مع العلم و اليقين لا يجوز مثل هذا القول هكذا يقتضي الظاهر فأما قول إبراهيم ع فإنما ساغ أن يعدل عن ظاهره لأن الشك لا يجوز على الأنبياء و يجوز على غيرهم على أنه ع قد نفى عن نفسه الشك بقوله بَلى وَ لكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي و قد قيل إن نمرود قال له إذا كنت تزعم أن لك ربا يحيي الموتى فاسأله أن يحيي لنا ميتا إن

(18/144)


كان على ذلك قادرا فإن لم تفعل ذلك قتلتك فأراد بقوله وَ لكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي أي لآمن توعد عدوك لي بالقتل و قد يجوز أن يكون طلب ذلك لقومه و قد سألوه أن يرغب إلى الله تعالى فيه فقال ليطمئن قلبي إلى إجابتك لي و إلى إزاحة علة قومي و لم يرد ليطمئن قلبي إلى أنك تقدر على أن تحيي الموتى لأن قلبه قد كان بذلك مطمئنا و أي شي ء يريد أبو بكر من التفضيل أكثر من قوله إن هذا الأمر لا يصلح إلا لهذا الحي من قريش و أي فرق بين ما يقال عند الموت و بين ما يقل قبله إذا كان محفوظا معلوما لم ترفع كلمة و لم تنسخ. و بعد فظاهر الكلام لا يقتضي هذا التخصيص و نحن مع الإطلاق و الظاهر و أي حق يجوز أن يكون للأنصار في الإمامة غير أن يتولاها رجل منهم حتى يجوز أن يكون الحق الذي تمنى أن يسأل عنه غير الإمامة و هل هذا إلا تعسف و تكلف

(18/145)


شرح نهج البلاغة ج : 17 ص : 166و أي شبهة تبقى بعد قول أبي بكر ليتني كنت سألته هل للأنصار في هذا الأمر حق فكنا لا ننازعه أهله و معلوم أن التنازع لم يقع بينهم إلا في الإمامة نفسها لا في حق آخر من حقوقها. فأما قوله إنا قد بينا أنه لم يكن منه في بيت فاطمة ماوجب أن يتمنى أنه لم يفعله فقد بينا فساد ما ظنه فيما تقدم. فأما قوله إن من اشتد التكليف عليه قد يتمنى خلافه فليس بصحيح لأن ولاية أبي بكر إذا كانت هي التي اقتضاها الدين و النظر للمسلمين في تلك الحال و ما عداها كان مفسدة و مؤديا إلى الفتنة فالتمني لخلافها لا يكون إلا قبيحا. قلت أما قول قاضي القضاة إن هذا التمني لا يقتضي الشك في أن الإمامة لا تكون إلا في قريش كما أن قول إبراهيم وَ لكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي لا يقتضي الشك في أنه تعالى قادر على ذلك فجيد. فأما قول المرتضى إنما ساغ أن يعدل عن الظاهر في حق إبراهيم لأنه نبي معصوم لا يجوز عليه الشك فيقال له و كذلك ينبغي أن يعدل عن ظاهر كلام أبي بكر لأنه رجل مسلم عاقل فحسن الظن به يقتضي صيانة أفعاله و أقواله عن التناقض قوله إن إبراهيم قد نفى عن نفسه الشك بقوله بَلى وَ لكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قلنا إن أبا بكر قد نفى عن نفسه الشك بدفع الأنصار عن الإمامة و إثباتها في قريش خاصة فإن كانت لفظة بلى دافعة لشك إبراهيم الذي يقتضيه قوله وَ لكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي ففعل أبي بكر و قوله يوم السقيفة شرح نهج البلاغة ج : 17 ص : 167يدفع الشك الذي يقتضيه قوله ليتني سألته و لا فرق دفع الشك بين أن يتقدم الدافع أو يتأخر أو يقارن. ثم يقال للمرتضى أ لست في هذا الكتاب و هو الشافي بينت أن قصة السقيفة لم يجر فيها ذكر نص عن رسول الله ص بأن الأئمة من قريش و أنه لم يكن هناك إلا احتجاج أبي بكر و عمر بأن قريشا أهل النبي ص و عشيرته و أن العرب لا تطيع غير قريش و ذكرت عن الزهري و غيره أن القول الصادر عن أبي بكر

(18/146)


إن هذا الأمر لا يصلح إلا لهذا الحي من قريش ليس نصا مرويا عن رسول الله ص و إنما هو قول قاله أبو بكر من تلقاء نفسه و رويت في ذلك الروايات و نقلت من الكتب من تاريخ الطبري و غيره صورة الكلام و الجدال الدائر بينه و بين الأنصار فإذا كان هذا قولك فلم تنكر على أبي بكر قوله ليتني كنت سألت رسول الله ص هل للأنصار في هذا الأمر حق لأنه لم يسمع النص و لا رواه و لا روي له و إنما دفع الأنصار بنوع من الجدل فلا جرم بقي في نفسه شي ء من ذلك و قال عند موته ليتن كنت سألت رسول الله ص و ليس ذلك مما يقتضي شكه في بيعته كما زعم الطاعن لأنه إنما يشك في بيعته لو كان قال قائل أو ذهب ذاهب إلى أن الإمامة ليست إلا في الأنصار و لم يقل أحد ذلك بل النزاع كان في هل الإمامة مقصورة على قريش خاصة أم هي فوضى بين الناس كلهم و إذا كانت الحال هذه لم يكن شاكا في إمامته و بيعته بقوله ليتني سألت رسول الله ص هل للأنصار في هذا حق لأن بيعته على كلا التقديرين تكون صحيحة.

(18/147)


شرح نهج البلاغة ج : 17 ص : 168فأما قول قاضي القضاة لعله أراد حقا للأنصار غير الإمامة نفسها فليس بجيد و الذي اعترضه به المرتضى جيد فإن الكلام لا يدل إلا على الإمامة نفسها و لفظة المنازعة تؤكد ذلك. و أما حديث الهجوم على بيت فاطمة ع فقد تقدم الكلام فيه و ااهر عندي صحة ما يرويه المرتضى و الشيعة و لكن لا كل ما يزعمونه بل كان بعض ذلك و حق لأبي بكر أن يندم و يتأسف على ذلك و هذا يدل على قوة دينه و خوفه من الله تعالى فهو بأن يكون منقبة له أولى من كونه طعنا عليه. فأما قول قاضي القضاة إن من اشتد التكليف عليه فقد يتمنى خلافه و اعتراض المرتضى عليه فكلام قاضي القضاة أصح و أصوب لأن أبا بكر و إن كانت ولايته مصلحة و ولاية غير مفسدة فإنه ما يتمنى أن يكون الإمام غيره مع استلزام ذلك للمفسدة بل تمنى أن يلي الأمر غيره و تكون المصلحة بحالها أ لا ترى أن خصال الكفارة في اليمين كل واحدة منها مصلحة و ما عداها لا يقوم مقامها في المصلحة و أحدها يقوم مقام الأخرى في المصلحة فأبو بكر تمنى أن يلي الأمر عمر أو أبو عبيدة بشرط أن تكون المصلحة الدينية التي تحصل من بيعته حاصلة من بيعة كل واحد من الآخرين
الطعن الثالث

(18/148)


قالوا إنه ولي عمر الخلافة و لم يوله رسول الله ص شيئا شرح نهج البلاغة ج : 17 ص : 169من أعماله البتة إلا ما ولاه يوم خيبر فرجع منهزما و ولاه الصدقة فلما شكاه العباس عزله. أجاب قاضي القضاة بأن تركه ع أن يوليه لا يدل على أنه لا يصلح لذلك و توليته إياه لا يدللى صلاحيته للإمامة فإنه ص قد ولى خالد بن الوليد و عمرو بن العاص و لم يدل ذلك على صلاحيتهما للإمامة و كذلك تركه أن يولي لا يدل على أنه غير صالح بل المعتبر بالصفات التي تصلح للإمامة فإذا كملت صلح لذلك ولي من قبل أو لم يول و قد ثبت أن النبي ص ترك أن يولي أمير المؤمنين ع أمورا كثيرة و لم يجب إلا من يصلح لها و ثبت أن أمير المؤمنين ع لم يول الحسين ع ابنه و لم يمنع ذلك من أن يصلح للإمامة و حكي عن أبي علي أن ذلك إنما كان يصح أن يتعلق به لو ظفروا بتقصير من عمر فيما تولاه فأما و أحواله معروفة في قيامه بالأمر حين يعجز غيره فكيف يصح ما قالوه و بعد فهلا دل ما روي من قوله و إن تولوا عمر تجدوه قويا في أمر الله قويا في بدنه على جواز ذلك و إن ترك النبي ص توليته لأن هذا القول أقوى من الفعل. اعترض المرتضى رحمه الله فقال قد علمنا بالعادة أن من ترشح لكبار الأمور لا بد من أن يدرج إليها بصغارها لأن من يريد بعض الملوك تأهيله للأمر من بعده لا بد من أن ينبه عليه بكل قول و فعل يدل على ترشيحه لهذه المنزلة و يستكفيه من أمور ولاياته ما يعلم عنده أو يغلب على ظنه صلاحه لما يريده له و إن من يرى الملك مع حضوره و امتداد الزمان و تطاوله لا يستكفيه شيئا من الولايات و متى ولاه عزله و إنما يولي غيره و يستكفي سواه لا بد أن يغلب في الظن أنه ليس بأهل للولاية و إن جوزنا أنه لم يوله لأسباب كثيرة سوى أنه لا يصلح للولاية إلا أن مع هذا التجويز لا بد أن شرح نهج البلاغة ج : 17 ص : 170يغلب على الظن بما ذكرن فأما خالد و عمرو فإنما لم يصلحا للإمامة لفقد شروط الإمامة فيهما و

(18/149)


إن كانا يصلحان لما ولياه من الإمارة فترك الولاية مع امتداد الزمان و تطاول الأيام و جميع الشروط التي ذكرناها تقتضي غلبه الظن لفقد الصلاح و الولاية لشي ء لا تدل على الصلاح لغيره إذا كانت الشائط في القيام بذلك الغير معلوما فقدها و قد نجد الملك يولي بعض أموره من لا يصلح للملك بعده لظهور فقد الشرائط فيه و لا يجوز أن يكون بحضرته من يرشحه للملك بعده ثم لا يوليه على تطاول الزمان شيئا من الولايات فبان الفرق بين الولاية و تركها فيما ذكرناه. فأما أمير المؤمنين ع و إن يتول جميع أمور النبي ص في حياته فقد تولى أكثرها و أعظمها و خلفه في المدينة و كان الأمير على الجيش المبعوث إلى خيبر و جرى الفتح على يديه بعد انهزام من انهزم منها و كان المؤدي عنه سورة براءة بعد عزل من عزل عنها و ارتجاعها منه إلى غير ذلك من عظيم الولايات و المقامات بما يطول شرحه و لو لم يكن إلا أنه لم يول عليه واليا قط لكفى. فأما اعتراضه بأن أمير المؤمنين ع لم يول الحسين فبعيد عن الصواب لأن أيام أمير المؤمنين ع لم تطل فيتمكن فيها من مراداته و كانت على قصرها منقسمة بين قتال الأعداء لأنه ع لما بويع لم يلبث أن خرج عليه أهل البصرة فاحتاج إلى قتالهم ثم انكفأ من قتالهم إلى قتال أهل الشام و تعقب ذلك قتال أهل النهروان و لم تستقر به الدار و لا امتد به الزمان و هذا بخلاف أيام النبي ص التي تطاولت و امتدت على أنه قد نص عليه بالإمامة بعد أخيه الحسن و إنما تطلب الولايات لغلبة الظن بالصلاح للإمامة. فإن كان هناك وجه يقتضي العلم بالصلاح لها كان أولى من طريق الظن على أنه

(18/150)


شرح نهج البلاغة ج : 17 ص : 171لا خلاف بين المسلمين أن الحسين ع كان يصلح للإمامة و إن لم يوله أبوه الولايات و في مثل ذلك خلاف من حال عمر فافترق الأمران فأما قوله إنه لم يعثر على عمر بتقصير في الولاية فمن سلم بذلك أ و ليس يعلم أن مخالفته تعد تقصيرا كثيرا لو لم يكن إلا ما اتفق عليه من خطئه في الأحكام و رجوعه من قول إلى غيره و استفتائه الناس في الصغير و الكبير و قوله كل الناس أفقه من عمر لكان فيه كفاية و ليس كل النهوض بالإمامة يرجع إلى حسن التدبير و السياسة الدنياوية و رم الأعمال و الاستظهار في جباية الأموال و تمصير الأمصار و وضع الأعشار بل حظ الإمامة من العلم بالأحكام و الفتيا بالحلال و الحرام و الناسخ و المنسوخ و المحكم و المتشابه أقوى فمن قصر في هذا لم ينفعه أن يكون كاملا في ذلك. فأما قوله فهلا دل ما روي من
قوله ع فإن وليتم عمر وجدتموه قويا في أمر الله قويا في بدنه

(18/151)


فهذا لو ثبت لدل و قد تقدم القول عليه و أقوى ما يبطله عدول أبي بكر عن ذكره و الاحتجاج به لما أراد النص على عمر فعوتب على ذلك و قيل له ما تقول لربك إذ وليت علينا فظا غليظا فلو كان صحيحا لكان يحتج به و يقول وليت عليكم من شهد النبي ص بأنه قوي في أمر الله قوي في بدنه و قد قيل في الطعن على صحة هذا الخبر إن ظاهره يقتضي تفضيل عمر على أبي بكر و الإجماع بخلاف ذلك لأن القوة في الجسم فضل قال الله تعالى إِنَّ اللَّهَ اصْطَفاهُ عَلَيْكُمْ وَ زادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَ الْجِسْمِ و بعد فكيف يعارض ما اعتمدناه من عدوله ع عن ولايته و هو أمر معلوم بهذا الخبر المردود المدفوع. قلت أما ما ادعاه من عادة الملوك فالأمر بخلافه فإنا قد وقفنا على سير الأكاسرة و ملوك الروم و غيرهم فما سمعنا أن أحدا منهم رشح ولده شرح نهج البلاغة ج : 17 ص : 172للملك بعده باستعماله على طرف من الأطراو لا جيش من الجيوش و إنما كانوا يثقفونهم بالآداب و الفروسية في مقار ملكهم لا غير و الحال في ملوك الإسلام كذلك فقد سمعنا بالدولة الأموية و رأينا الدولة العباسية فلم نعرف الدولة التي ادعاها المرتضى و إنما قد يقع في الأقل النادر شي ء مما أشار إليه و الأغلب اأكثر خلاف ذلك على أن أصحابنا لا يقولون إن عمر كان مرشحا للخلافة بعد رسول الله ص ليقال لهم فلو كان قد رشحه للخلافة بعده لاستكفاه كثيرا من أموره و إنما عمر مرشح عندهم في أيام أبي بكر للخلافة بعد أبي بكر و قد كان أبو بكر استعمله على القضاء مدة خلافته بل كان هو الخليفة في المعنى لأنه فوض إليه أكثر التدبير فعلى هذا يكون قد سلمنا أن ترك استعمال النبي ص لعمر يدل على أنه غير مرشح في نظره للخلافة بعده و كذلك نقول و لا يلزم من ذلك ألا يكون خليفة بعد أبي بكر على أنا لا نسلم أنه ما استعمله فقد ذكر الواقدي و ابن إسحاق أنه بعثه في سرية في سنة سبع من الهجرة إلى الوادي المعروف ببرمة بضم

(18/152)


الباء و فتح الراء و بها جمع من هوازن فخرج و معه دليل من بني هلال و كانوا يسيرون الليل و يكمنون النهار و أتى الخبر هوازن فهربوا و جاء عمر محالهم فلم يلق منهم أحدا فانصرف إلى المدينة. ثم يعارض المرتضى بما ذكره قاضي القضاة من ترك تولية علي ابنه الحسين ع و قوله في العذر عن ذلك إن عليا ع كان ممنوا بحرب البغاة و الخوارج لا يدفع المعارضة لأن تلك الأيام التي هي أيام حروبه مع هؤلاء هي الأيام التي كان ينبغي أن يولي الحسين ع بعض الأمور فيها كاستعماله على جيش ينفذه سرية إلى بعض الجهات و استعماله على الكوفة بعد خروجه منها إلى حرب صفين أو استعماله على القضاء
شرح نهج البلاغة ج : 17 ص : 173و ليس اشتغاله بالحرب بمانع له عن ولاية ولده و قد كان مشتغلا بالحرب و هو يولي بني عمه العباس الولايات و البلاد الجليلة فأما قوله على أنه قد نص عليه بالإمامة بعد أخيه الحسن فهذا يغني عن توليته شيئا من الأعمال فلقائل أن يمنع مذكره من حديث النص فإنه أمر تنفرد به الشيعة و أكثر أرباب السير و التواريخ لا يذكرون أن أمير المؤمنين ع نص على أحد ثم إن ساغ له ذلك ساغ لقاضي القضاة أن يقول إن
قول النبي ص اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر و عمر

(18/153)


يغني عن تولية عمر شيئا من الولايات لأن هذا القول آكد من الولاية في ترشحه للخلافة. فأما قوله على أنه لا خلاف بين المسلمين في صلاحية الحسين للخلافة و إن لم يوله أبوه الولايات و في عمر خلاف ظاهر بين المسلمين فلقائل أن يقول له إجماع المسلمين على صلاحية الحسين للخلافة لا يدفع المعارضة بل يؤكدها لأنه إذا كان المسلمون قد أجمعوا على صلاحيته للخلافة و لم يكن ترك تولية أبيه إياه الولايات قادحا في صلاحيته لها بعده جاز أيضا أن يكون ترك تولية رسول الله ص عمر الولايات في حياته غير قادح في صلاحيته للخلافة بعده. ثم ما ذكره من تقصير عمر في الخلافة بطريق اختلاف أحكامه و رجوعه إلى فتاوى العلماء فقد ذكرنا ذلك فيما تقدم لما تكلمنا في مطاعن الشيعة على عمر و أجبنا عنه. و أما قوله لا يغني حسن التدبير و السياسة و رم الأمور مر القصور في الفقه فأصحابنا يذهبون إلى أنه إذا تساوى اثنان في خصال الإمامة إلا أنه كان أحدهما أعلم و الآخر شرح نهج البلاغة ج : 17 ص : 174أسوس فإن الأسوس أولى بالإمامة لأن حاجة الإمامة إلى السياسة و حسن التدبير آكد من حاجتها إلى العلم و الفقه. و أما الخبر المروي في عمر و هو قوله و إن تولوها عمر فيجوز ألا يكون أبو ر سمعه من رسول الله ص و يكون الراوي له غيره و يجوز أن يكون سمعه و شذ عنه أن يحتج به على طلحة لما أنكر استخلاف عمر و يجوز ألا يكون شذ عنه و ترك الاحتجاج به استغناء عنه لعلمه أن طلحة لا يعتد بقوله عند الناس إذا عارض قوله و لعله كنى عن هذا النص بقوله إذا سألني ربي قلت له استخلفت عليهم خير أهلك على أنا متى فتحنا باب هلا احتج فلان بكذا جر علينا ما لا قبل لنا به و قيل هلا احتج علي ع على طلحة و عائشة و الزبير
بقول رسول الله ص من كنت مولاه فهذا علي مولاه
و هلا احتج عليهم بقوله أنت مني بمنزله هارون من موسى

(18/154)


و لا يمكن الشيعة أن يعتذروا هاهنا بالتقية لأن السيوف كانت قد سلت من الفريقين و لم يكن مقام تقية. و أما قوله هذا الخبر لو صح لاقتضى أن يكون عمر أفضل من أبي بكر و هو خلاف إجماع المسلمين فلقائل أن يقول لم قلت إن المسلمين أجمعوا على أن أبا بكر أفضل من عمر مع أن كتب الكلام و التصانيف المصنفة في المقالات مشحونة بذكر الفرقة العمرية و هم القائلون إن عمر أفضل من أبي بكر و هي طائفة عظيمة من المسلمين يقال إن عبد الله بن مسعود منهم و قد رأيت أن جماعة من الفقهاء يذهبون إلى هذا و يناظرون عليه على أنه لا يدل الخبر على ما ذكره المرتضى لأنه و إن كان عمر أفضل منه باعتبار قوة البدن فلا يدل على أنه أفضل منه مطلقا فمن الجائز أن يكون بإزاء هذه الخصلة خصال كثيرة في أبي بكر من خصال الخير يفضل بها على عمر شرح نهج البلاغة ج : 17 ص : 175أ لا ترى أنا نقول أبو دجانة أفضل من أبي بكر بجده بالسيف في مقام الحرب و لا يلزم من ذلك أن يكون أفضل منه مطلقا لأن في أبي بكر من خصال الفضل ما إذا قيس بهذه الخصلة أربى عليها أضعافا مضاعفة
الطعن الرابع

(18/155)


قالوا إن أبا بكر كان في جيش أسامة و إن رسول الله ص كرر حين موته الأمر بتنفيذ جيش أسامة فتأخره يقتضي مخالفة الرسول ص فإن قلتم إنه لم يكن في الجيش قيل لكم لا شك أن عمر بن الخطاب كان في الجيش و أنه حبسه و منعه من النفوذ مع القوم و هذا كالأول في أنه معصية و ربما قالوا إنه ص جعل هؤلاء القوم في جيش أسامة ليبعدوا بعد وفاته عن المدينة فلا يقع منهم توثب على الإمامة و لذلك لم يجعل أمير المؤمنين ع في ذلك الجيش و جعل فيه أبا بكر و عمر و عثمان و غيرهم و ذلك من أوكد الدلالة على أنه لم يرد أن يختاروا للإمامة. أجاب قاضي القضاة بأن أنكر أولا أن يكون أبو بكر في جيش أسامة و أحال على كتب المغازي ثم سلم ذلك و قال إن الأمر لا يقتضي الفور فلا يلزم من تأخر أبي بكر عن النفوذ أن يكون عاصيا ثم قال إن خطابه ص بتنفيذ الجيش يجب أن يكون متوجها إلى القائم بعده لأنه من خطاب الأئمة و هذا يقتضي ألا يدخل المخاطب بالتنفيذ في الجملة ثم قال و هذا يدل على أنه لم يكن هناك إمام منصوص عليه لأنه لو كان لأقبل بالخطاب عليه و خصه بالأمر بالتنفيذ دون الجميع شرح نهج البلاغة ج : 17 ص : 176ثم ذكر أن أمر رسول الله ص لا بد أن يكون مشروطا بالمصلحة و بأن لا يعرما هو أهم منه لأنه لا يجوز أن يأمرهم بالنفوذ و إن أعقب ضررا في الدين ثم قوى ذلك بأنه لم ينكر على أسامة تأخره و قوله لم أكن لأسأل عنك الركب ثم قال لو كان الإمام منصوصا عليه لجاز أن يسترد جيش أسامة أو بعضه لنصرته و كذلك إذا كان بالاختيار ثم حكى عن الشيخ أبي علي استدلاله على أن أبا بكر لم يكن في جيش أسامة بأنه ولاه الصلاة في مرضه مع تكريره أمر الجيش بالنفوذ و الخروج. ثم ذكر أن الرسول ص إنما يأمر بما يتعلق بمصالح الدنيا من الحروب و نحوها عن اجتهاده و ليس بواجب أن يكون ذلك عن وحي كما يجب في الأحكام الشرعية و أن اجتهاده يجوز أن يخالف بعد وفاته و إن لم يجز في حياته لأن اجتهاده

(18/156)


في الحياة أولى من اجتهاد غيره ثم ذكر أن العلة في احتباس عمر عن الجيش حاجة أبي بكر إليه و قيامه بما لا يقوم به غيره و أن ذلك أحوط للدين من نفوذه. ثم ذكر أن أمير المؤمنين ع حارب معاوية بأمر الله تعالى و أمر رسوله و مع هذا فقد ترك محاربته في بعض الأوقات و لم يجب بذلك ألا يكون متمثلا للأمر و ذكر توليته ع أبا موسى و تولية الرسول ص خالد بن الوليد مع ما جرى منهما و أن ذلك يقتضي الشرط. ثم ذكر أن من يصلح للإمامة ممن ضمه جيش أسامة يجب تأخيره ليختار للإمامة أحدهم فإن ذلك أهم من نفوذهم فإذا جاز لهذه العلة التأخير قبل العقد جاز التأخير بعده للمعاضدة و غيرها و طعن في قول من جعل أن إخراجهم في الجيش على جهة الإبعاد لهم عن المدينة بأن قال إن بعدهم عن المدينة لا يمنع من أن يختاروا للإمامة شرح نهج البلاغة ج : 1ص : 177و لأنه ع لم يكن قاطعا على موته لا محالة لأنه لم يرد
نفذوا جيش أسامة في حياتي

(18/157)


ثم ذكر أن ولاية أسامة عليهما لا تقتضي فضله و أنهما دونه و ذكر ولاية عمرو بن العاص عليهما و إن لم يكونا دونه في الفضل و أن أحدا لم يفضل أسامة عليهما ثم ذكر أن السبب في كون عمر من جملة جيش أسامة أن عبد الله بن أبي ربيعة المخزومي قال عند ولاية أسامة تولى علينا شاب حدث و نحن مشيخة قريش فقال عمر يا رسول الله مرني حتى أضرب عنقه فقد طعن في تأميرك إياه ثم قال أنا أخرج في جيش أسامة تواضعا و تعظيما لأمره ع. اعترض المرتضى هذه الأجوبة فقال أما كون أبي بكر في جملة جيش أسامة فظاهر قد ذكره أصحاب السير و التواريخ و قد روى البلاذري في تاريخه و هو معروف بالثقة و الضبط و بري ء من ممالاة الشيعة و مقاربتها أن أبا بكر و عمر معا كانا في جيش أسامة و الإنكار لما يجري هذا المجرى لا يغني شيئا و قد كان يجب على من أحال بذلك على كتب المغازي في الجملة أن يومئ إلى الكتاب المتضمن لذلك بعين ليرجع إليه فأما خطابه ع بالتنفيذ للجيش فالمقصود به الفور دون التراخي إما من حيث مقتضى الأمر على مذهب من يرى ذلك لغة و إما شرعا من حيث وجدنا جميع الأمة من لدن الصحابة إلى هذا الوقت يحملون أوامره على الفور و يطلبون في تراخيها الأدلة ثم لو لم يثبت كل ذلك لكان قول أسامة لم أكن لأسأل عنك الركب أوضح دليل على أنه عقل من الأمر الفور لأن سؤال الركب عنه ع بعد وفاته لا معنى له. شرح نهج البلاغة ج : 17 ص : 178و أما قول صاحب الكتاب إنه لم ينكر على أسامة تأخره فليس بشي ء و أي إنكار أبلغ من تكراره الأمر و ترداده القول حال يشغل عن المهم و يقطع الفكر إلا فيها و قد كرر الأمر على المأمور تارة بتكرار الأمر و أخرى بغيره و إذا سلمنا أن أمره ع كان متوجها إلى القائم بعده بالأمر لتنفيذ الجيش بعد الوفاة لم يلزم ما ذكره من خروج المخاطب بالتنفيذ عن الجملة و كيف يصح ذلك و هو من جملة الجيش و الأمر متضمن تنفيذ الجيش فلا بد من نفوذ كل من كان في جملته

(18/158)


لأن تأخر بعضهم يسلب النافذين اسم الجيش على الإطلاق أ و ليس من مذهب صاحب الكتاب أن الأمر بالشي ء أمر بما لا يتم إلا معه و قد اعتمد على هذا في مواضع كثيرة فإن كان خروج الجيش و نفوذه لا يتم إل بخروج أبي بكر فالأمر بخروج الجيش أمر لأبي بكر بالنفوذ و الخروج و كذلك لو أقبل عليه على سبيل التخصيص و
قال نفذوا جيش أسامة و كان هو من جملة الجيش فلا بد أن يكون ذلك أمرا له بالخروج و استدلاله على أنه لم يكن هناك إمام منصوص عليه بعموم الأمر بالتنفيذ ليس بصحيح لأنا قد بينا أن الخطاب إنما توجه إلى الحاضرين و لم يتوجه إلى الإمام بعده على أن هذا لازم له لأن الإمام بعده لا يكون إلا واحدا فلم عمم الخطاب و لم يفرد به الواحد فيقول لينفذ القائم من بعدي بالأمر جيش أسامة فإن الحال لا يختلف في كون الإمام بعده واحدا بين أن يكون منصوصا عليه أو مختارا. و أما ما ادعاه أن الشرط في أمره ع لهم بالنفوذ فباطل لأن إطلاق الأمر يمنع من إثبات الشرط و إنما يثبت من الشروط ما يقتضي الدليل إثباته من التمكن و القدرة لأن ذلك شرط ثابت في كل أمر ورد من حكيم و المصلحة بخلاف ذلك لأن الحكيم لا يأمر بشرط المصلحة بل إطلاق الأمر منه يقتضي ثبوت المصلحة و انتفاء المفسدة و ليس كذلك التمكن و ما يجري مجراه و لهذا لا يشترط شرح نهج البلاغة ج : 17 ص : 179أحد في أوامر الله تعالى و رسوله ص بالشرائع المصلحة و انتفاء المفسدة و شرطوا في ذلك التمكن و رفع التعذر و لو كان الإمام منصوصا عليه بعينه و اسمه لما جاز أن يسترد جيش أسامة بخلاف ما ظنه و لا يعزل من ولاه ع لا يولي من عزله للعلة التي ذكرناها. فأما استدلال أبي علي على أن أبا بكر لم يكن في الجيش بحديث الصلاة فأول ما فيه أنه اعتراف بأن الأمر بتنفيذ الجيش كان في الحياة دون بعد الوفاة و هذا ناقض لما بنى صاحب الكتاب عليه أمره ع. ثم إنا قد بينا أنه ع لم يوله الصلاة و ذكرنا ما في ذلك ثم ما

(18/159)


المانع من أن يوليه تلك الصلاة إن كان ولاه إياها ثم يأمره بالنفوذ من بعد مع الجيش فإن الأمر بالصلاة في تلك الحال لا يقتضي أمره بها على التأبيد. و أما ادعاؤه أن النبي ص يأمر بالحروب و ما يتصل بها عن اجتهاد دون الوحي فمعاذ الله أن يكون صحيحا لأن حروبه ع لم تكن مما يختص بمصالح أمور الدنيا بل للدين فيها أقوى تعلق لما يعود على الإسلام و أهله بفتوحه من العز و القوة و علو الكلمة و ليس يجري ذلك مجرى أكله و شربه و نومه لأن ذلك لا تعلق له بالدين فيجوز أن يكون عن رأيه و لو جاز أن تكون مغازيه و بعوثه مع التعلق القوي لها بالدين عن اجتهاد لجاز ذلك في الأحكام. ثم لو كان ذلك عن اجتهاد لما ساغت مخالفته فيه بعد وفاته كما لا تسوغ في حياته فكل علة تمنع من أحد الأمرين هي مانعة من الآخر فأما الاعتذار له عن حبس عمر عن الجيش بما ذكره فباطل لأنا قد قلنا إن ما يأمر به ع لا يسوغ مخالفته مع الإمكان و لا مراعاة لما عساه يعرض فيه من رأي غيره و أي حاجة إلى عمر بعد تمام العقد و استقراره و رضا الأمة به على طريق المخالف و إجماعها عليه و لم يكن

(18/160)


شرح نهج البلاغة ج : 17 ص : 180هناك فتنة و لا تنازع و لا اختلاف يحتاج فيه إلى مشاورته و تدبيره و كل هذا تعلل باطل. فأما محاربة أمير المؤمنين ع معاوية فإنما كان مأمورا بها مع التمكن و وجود الأنصار و قد فعل ع من ذلك ما وجب عليه لما تمكن منه فأما مع التعذر فقد الأنصار فما كان مأمورا بها و ليس كذلك القول في جيش أسامة لأن تأخر من تأخر عنه كان مع القدرة و التمكن فأما تولية أبي موسى فلا ندري كيف يشبه ما نحن فيه لأنه إنما ولاه بأن يرجع إلى كتاب الله تعالى فيحكم فيه و في خصمه بما يقتضيه و أبو موسى فعل خلاف ما جعل إليه فلم يكن ممتثلا لأمر من ولاه و كذلك خالد بن الوليد إنما خالف ما أمره به الرسول ص فتبرأ من فعله و كل هذا لا يشبه أمره ع بتنفيذ جيش أسامة أمرا مطلقا و تأكيده ذلك و تكراره له فأما جيش أسامة فإنه لم يضم من يصلح للإمامة فيجوز تأخرهم ليختار أحدهم على ما ظنه صاحب الكتاب على أن ذلك لو صح أيضا لم يكن عذرا في التأخر لأن من خرج في الجيش يمكن أن يختار و إن كان بعيدا و لا يمنع بعده من صحة الاختيار و قد صرح صاحب الكتاب بذلك ثم لو صح هذا العذر لكان عذرا في التأخر قبل العقد فأما بعد إبرامه فلا عذر فيه و المعاضدة التي ادعاها قد بينا ما فيها. فأما ادعاء صاحب الكتاب رادا على من جعل إخراج القوم في الجيش ليتم أمر النص أن من أبعدهم لا يمنع أن يختاروا للإمامة فيدل على أنه لم يتبين معنى هذا الطعن على حقيقته لأن الطاعن به لا يقول إنه أبعدهم لئلا يختاروا للإمامة و إنما يقول إنه أبعدهم حتى ينتصب بعده في الأرض من نص عليه و لا يكون هناك من ينازعه و يخالفه شرح نهج البلاغة ج : 17 ص : 181و أما قوله لم يكن قاطعا علي موته فلا يضر تسليمه أ ليس كان مشفقا و خائفا و على الخائف أن يتحرز ممن يخاف منه فأما قوله فإنه لم يرد نفذوا الجيش في حياتيقد بينا ما فيه فأما ولاية أسامة على من ولي عليه فلا بد من اقتضائها

(18/161)


لفضله على الجماعة فيما كان واليا فيه و قد دللنا فيما تقدم من الكتاب على أن ولاية المفضول على الفاضل فيما كان أفضل منه فيه قبيحة فكذلك القول في ولاية عمرو بن العاص عليها فيما تقدم و القول في الأمرين واحد. و قوله إن أحدا لم يدع فضل أسامة على أبي بكر و عمر فليس الأمر علي ما ظنه لأن من ذهب إلى فساد إمامة المفضول لا بد من أن يفضل أسامة عليهما فيما كان واليا فيه فأما ادعاؤه ما ذكره من السبب في دخول عمر في الجيش فما نعرفه و لا وقفنا عليه إلا من كتابه ثم لو صح لم يغن شيئا لأن عمر لو كان أفضل من أسامة لمنعه الرسول ص من الدخول في إمارته و المسير تحت لوائه و التواضع لا يقتضي فعل القبيح. قلت إن الكلام في هذا الفصل قد تشعب شعبا كثيرة و المرتضى رحمه الله لا يورد كلام قاضي القضاة بنصه و إنما يختصره و يورده مبتورا و يومئ إلى المعاني إيماء لطيفا و غرضه الإيجاز و لو أورد كلام قاضي القضاة بنصه لكان أليق و كان أبعد عن الظنة و أدفع لقول قائل من خصومه إنه يحرف كلام قاضي القضاة و يذكر على غير وجه أ لا ترى أن من نصب نفسه لاختصار كلام فقد ضمن على نفسه أنه قد فهم معاني ذلك الكلام حتى يصح منه اختصاره و من الجائز أن يظن أنه قد فهم

(18/162)


شرح نهج البلاغة ج : 17 ص : 182بعض المواضع و لم يكن قد فهمه على الحقيقة فيختصر ما في نفسه لا ما في تصنيف ذلك الشخص و أما من يورد كلام الناس بنصه فقد استراح من هذه التبعة و عرض عقل غيره و عقل نفسه على الناظرين و السامعين. ثم نقول إن هذا الفصل ينقسم أقسامانها قول قاضي القضاة لا نسلم أن أبا بكر كان في جيش أسامة. و أما قول المرتضى إنه قد ذكره أرباب السير و التواريخ و قوله إن البلاذري ذكره في تاريخه و قوله هلا عين قاضي القضاة الكتاب الذي ذكر أنه يتضمن عدم كون أبي بكر في ذلك الجيش فإن الأمر عندي في هذا الموضع مشتبه و التواريخ مختلفة في هذه القضية فمنهم من يقول إن أبا بكر كان في جملة الجيش و منهم من يقول إنه لم يكن و ما أشار إليه قاضي القضاة بقوله في كتب المغازي لا ينتهي إلى أمر صحيح و لم يكن ممن يستحل القول بالباطل في دينه و لا في رئاسته ذكر الواقدي في كتاب المغازي أن أبا بكر لم يكن في جيش أسامة و إنما كان عمر و أبو عبيدة و سعد بن أبي وقاص و سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل و قتادة بن النعمان و سلمة بن أسلم و رجال كثير من المهاجرين و الأنصار قال و كان المنكر لإمارة أسامة عياش بن أبي ربيعة و غير الواقدي يقول عبد الله بن عياش و قد قيل عبد الله بن أبي ربيعة أخو عياش. و قال الواقدي و جاء عمر بن الخطاب فودع رسول الله ص ليسير مع أسامة و قال و جاء أبو بكر فقال يا رسول الله أصبحت مفيقا بحمد الله و اليوم يوم ابنة خارجة فأذن لي فأذن له فذهب إلى منزله بالسنح و سار أسامة في العسكر و هذا تصريح بأن أبا بكر لم يكن في جيش أسامة. شرح نهج البلاغة ج : 17 ص : 183و ذكر موسى بن عقبة في كتاب المغازي أن أبا بكر لم يكن في جيش أسامة و كثير من المحدثين يقولون بل كان في جيشه. فأما أبو جعفر محمد بن جرير الطبري فلم يذكر أنه كان في جيش أسامة إلا عمو قال أبو جعفر حدثني السدي بإسناد ذكره أن رسول الله ص ضرب قبل وفاته

(18/163)


بعثا على أهل المدينة و من حولهم و فيهم عمر بن الخطاب و أمر عليهم أسامة بن زيد فلم يجاوز آخرهم الخندق حتى قبض رسول الله ص فوقف أسامة بالناس ثم قال لعمر ارجع إلى خليفة رسول الله ص فاستأذنه يأذن لي أرجع بالناس فإن معي وجوه الصحابة و لا آمن على خليفة رسول الله ص و ثقل رسول الله ص و أثقال المسلمين أن يتخطفهم المشركون حول المدينة و قالت الأنصار لعمر سرا فإن أبى إلا أن يمضي فأبلغه عنا و اطلب إليه أن يولي أمرنا رجلا أقدم سنا من أسامة فخرج عمر بأمر أسامة فأتى أبا بكر فأخبره بما قال أسامة فقال أبو بكر لو تخطفتني الكلاب و الذئاب لم أرد قضاء قضى به رسول الله ص قال فإن الأنصار أمروني أن أبلغك أنهم يطلبون إليك أن تولي أمرهم رجلا أقدم سنا من أسامة فوثب أبو بكر و كان جالسا فأخذ بلحية عمر و قال ثكلتك أمك يا ابن الخطاب أ يستعمله رسول الله ص و تأمرني أن أنزعه فخرج عمر إلى الناس فقالوا له ما صنعت فقال امضوا ثكلتكم أمهاتكم ما لقيت في سبيلكم اليوم من خليفة رسول الله ص ثم خرج أبو بكر حتى أتاهم فأشخصهم و شيعهم و هو ماش و أسامة راكب و عبد الرحمن بن عوف يقود دابة أبي بكر فقال له أسامة بن زيد يا خليفة رسول الله لتركبن أو لأنزلن فقال و الله لا تنزل و لا أركب و ما علي أن أغبر قدمي في سبيل الله ساعة شرح نهج البلاغة ج : 17 ص : 184فإن للغازي بكل خطوة يخطوها سبعمائة حسنة تكتب له و سبعمائة درجة ترفع له و سبعمائة خطيئة تمحى ع حتى إذا انتهى قال لأسامة إن رأيت أن تعينني بعمر فافعل فأذن له ثم

(18/164)


قال أيها الناس قفوا حتى أوصيكم بعشر فاحفظوها عني لا تخونوا و لا تغدروا و لا تغلوا و لا تمثلوا و لا تقتلوا طفلا صغيرا و لا شيخا كبيرا و لا امرأة و لا تعقروا نخلا و لا تحرقوه و لا تقطعوا شجرة مثمرة و لا تذبحوا شاة و لا بعيرا و لا بقرة إلا لمأكلة و سوف تمرون بأقوام قد فرغوا أنفسهم للعبادة في الصوامع فدعوهم فيما فرغوا أنفسهم له و سوف تقدمون على أقوام يأتونكم بصحاف فيها ألوان الطعام فلا تأكلوا من شي ء حتى تذكروا اسم الله عليه و سوف تلقون أقواما قد حصوا أوساط رءوسهم و تركوا حولها مثل العصائب فاخفقوهم بالسيوف خفا أفناهم الله بالطعن و الطاعون سيروا على اسم الله

(18/165)


و أما قول الشيخ أبي علي فإنه يدل على أنه لم يكن في جيش أسامة أمره إياه بالصلاة و قول المرتضى هذا اعتراف بأن الأمر بتنفيذ الجيش كان في الحال دون ما بعد الوفاة و هذا ينقض ما بنى عليه قاضي القضاة أمره فلقائل أن يقول إنه لا ينقض ما بناه لأن قاضي القضاة ما قال إن الأمر بتنفيذ الجيش ما كان إلا بعد الوفاة بل قال إنه أمر و الأمر على التراخي فلو نفذ الجيش في الحال لجاز و لو تأخر إلى بعد الوفاة لجاز. فأما إنكار المرتضى أن تكون صلاة أبي بكر بالناس كانت عن أمر رسول الله ص فقد ذكرنا ما عندنا في هذا فيما تقدم. و أما قوله يجوز أن يكون أمر بصلاة واحدة أو صلاتين ثم أمره بالنفوذ بعد شرح نهج البلاغة ج : 17 ص : 185ذلك فهذا لعمري جائز و قد يمكن أن يقال إنه لما خرج متحاملا من شدة المرض فتأخر أبو بكر عن مقامه و صلى رسول الله ص بالناس أمره بالنفوذ مع الجيش و أسكت رسول الله ص في أاء ذلك اليوم و استمر أبو بكر على الصلاة بالناس إلى أن توفي ع فقد جاء في الحديث أنه أسكت و أن أسامة دخل عليه فلم يستطع كلامه لكنه كان يرفع يديه و يضعهما عليه كالداعي له و يمكن أن يكون زمان هذه السكتة قد امتد يوما أو يومين و هذا الموضع من المواضع المشتبهة عندي و منها قول قاضي القضاة إن الأمر على التراخي فلا يلزم من تأخر أبي بكر عن النفوذ أن يكون عاصيا. فأما قول المرتضى الأمر على الفور إما لغة عند من قال به أو شرعا لإجماع الكل على أن الأوامر الشرعية على الفور إلا ما خرج بالدليل فالظاهر في هذا الموضع صحة ما قاله المرتضى لأن قرائن الأحوال عند من يقرأ السير و يعرف التواريخ تدل على أن الرسول ص كان يحثهم على الخروج و المسير و هذا هو الفور. و أما قول المرتضى و قول أسامة لم أكن لأسأل عنك الركب فهو أوضح دليل على أنه عقل من الأمر الفور لأن سؤال الركب عنه بعد الوفاة لا معنى له فلقائل أن يقول إن ذلك لا يدل على الفور بل يدل على أنه

(18/166)


مأمور في الجملة بالنفوذ و المسير فإن التعجيل و التأخير مفوضان إلى رأيه فلما قال له النبي ص لم تأخرت عن المسير قال لم أكن لأسير و أسأل عنك الركب إني انتظرت عافيتك فإني إذا سرت و أنت على هذه الحال لم يكن لي قلب للجهاد بل أكون قلقا شديد الجزع أسأل شرح نهج البلاغة ج : 17 ص : 186عنك الركبان و هذا الكلام لا يدل على أنه عقل من الأمر الفور لا محالة بل هو على أن يدل على التراخي أظهر و قول النبي ص لم تأخرت عن المسير لا يدل على الفور لأنه قد يقال مثل ذلك ل يؤمر بالشي ء على جهة التراخي إذا لم يكن سؤال إنكار. و قول المرتضى لأن سؤال الركب عنه بعد الوفاة لا معنى له قول من قد توهم على قاضي القضاة أنه يقول إن النبي ص ما أمرهم بالنفوذ إلا بعد وفاته و لم يقل قاضي القضاة ذلك و إنما ادعى أن الأمر على التراخي لا غير كيف يظن بقاضي القضاة أنه حمل كلام أسامة على سؤال الركب بعد الموت و هل كان أسامة يعلم الغيب فيقول ذاك و هل سأل أحد عن حال أحد من المرضى بعد موته. فأما قول المرتضى عقيب هذا الكلام لا معنى لقول قاضي القضاة إنه لم ينكر على أسامة تأخره فإن الإنكار قد وقع بتكرار الأمر حالا بعد حال فلقائل أن يقول إن قاضي القضاة لم يجعل عدم الإنكار على أسامة حجة على كون الأمر على التراخي و إنما جعل ذلك دليلا على أن الأمر كان مشروطا بالمصلحة و من تأمل كلام قاضي القضاة الذي حكاه عنه المرتضى تحقق ذلك فلا يجوز للمرتضى أن ينتزعه من الوضع الذي أورده فيه فيجعله في موضع آخر. و منها قول قاضي القضاة الأمر بتنفيذ الجيش يجب أن يكون متوجها إلى الخليفة بعده و المخاطب لا يدخل تحت الخطاب و اعتراض المرتضى عليه بأن لفظة الجيش يدخل تحتها أبو بكر فلا بد من وجوب النفوذ عليه لأن عدم نفوذه يسلب الجماعة اسم الجيش فليس بجيد لأن لفظة الجيش لفظة موضوعة لجماعة من الناس قد أعدت للحرب فإذا خرج منها واحد أو اثنان لم يزل مسمى الجيش عن

(18/167)


الباقين و المرتضى
شرح نهج البلاغة ج : 17 ص : 187اعتقد أن ذلك مثل الماهيات المركبة نحو العشرة إذا عدم منها واحد زال مسمى العشرة و ليس الأمر كذلك يبين ذلك أنه لو قال بعض الملوك لمائة إنسان أنتم جيشي ثم قال لواحد منهم إذا مت فأعط كل واحد من جيشي درهما من خزانتي فقد جعلتك أما عليهم لم يكن له أن يأخذ لنفسه درهما و يقول أنا من جملة الجماعة الذين أطلق عليهم لفظة الجيش. و منها قول قاضي القضاة هذه القضية تدل على أنه لم يكن هناك إمام منصوص عليه و أما قول المرتضى فقد بينا أن الخطاب إنما توجه إلى الحاضرين لا إلى القائم بالأمر بعده فلم نجد في كلامه في هذا الفصل بطوله ما بين فيه ذلك و لا أعلم على ما ذا أحال و لو كان قد بين على ما زعم أن الخطاب متوجه إلى الحاضرين لكان الإشكال قائما لأنه يقال له إذا كان الإمام المنصوص عليه حاضرا عنده فلم وجه الخطاب إلى الحاضرين أ لا ترى أنه لا يجوز أن يقول الملك للرعية اقضوا بين هذين الشخصين و القاضي حاضر عنده إلا إذا كان قد عزله عن القضاء في تلك الواقعة عن الرعية. فأما قول المرتضى هذا ينقلب عليكم فليس ينقلب و إنما ينقلب لو كان يريد تنفيذ الجيش بعد موته فقط و لا يريده و هو حي فكان يجي ء ما قاله المرتضى ليفذ القائم بالأمر بعدي جيش أسامة فأما إذا كان يريد نفوذ الجيش من حين ما أمر بنفوذه فقد سقط القلب لأن الخليفة حينئذ لم يكن قد تعين لأن الاختيار ما وقع بعد و على مذهب المرتضى الإمام متعين حاضر عنده نصب عينه فافترق الوصفان. و منها قول قاضي القضاة إن مخالفة أمره ص في النفوذ مع الجيش أو في إنفاذ الجيش لا يكون معصية و بين ذلك من وجوه شرح نهج البلاغة ج : 17 ص : 188أحدها أن أمره ع بذلك لا بد أن يكون مشروطا بالمصلحة و ألا يعرض ما هو أهم من نفوذ الجيش لأنه لا يجوز أن يأمرهم بالنفوذ و إن أعقب ضررا في الدين فأما قول ارتضى الأمر المطلق يدل على ثبوت المصلحة و لا يجوز

(18/168)


أن يجعل الأمر المطلق فقول جيد إذا اعترض به على الوجه الذي أورده قاضي القضاة فأما إذا أورده أصحابنا على وجه آخر فإنه يندفع كلام المرتضى و ذلك أنه يجوز تخصيص عمومات النصوص بالقياس الجلي عند كثير من أصحابنا على ما هو مذكور في أصول الفقه فلم لا يجوز لأبي بكر أن يخص عموم قوله انفذوا بعث أسامة لمصلحة غلبت على ظنه في عدم نفوذه نفسه و لمفسدة غلبت على نفسه في نفوذه نفسه مع البعث. و ثانيها أنه ع كان يبعث السرايا عن اجتهاد لا عن وحي يحرم مخالفته فأما قول المرتضى إن للدين تعلقا قويا بأمثال ذلك و إنها ليست من الأمور الدنياوية المحضة نحو أكله و شربه و نومه فإنه يعود على الإسلام بفتوحه عز و قوة و علو كلمة فيقال له و إذا أكل اللحم و قوي مزاجه بذلك و نام نوما طبيعيا يزول عنه به المرض و الإعياء اقتضى ذلك أيضا عز الإسلام و قوته فقل إن ذلك أيضا عن وحي. ثم إن الذي يقتضيه فتوحه و غزواته و حروبه من العز و علو الكلمة لا ينافي كون تلك الغزوات و الحروب باجتهاده لأنه لا منافاة بين اجتهاده و بين عز الدين و علو كلمته بحروبه و إن الذي ينافي اجتهاده بالرأي هو مثل فرائض الصلوات و مقادير الزكوات و مناسك الحج و نحو ذلك من الأحكام التي تشعر بأنها متلقاة من محض الوحي و ليس للرأي و الاجتهاد فيها مدخل و قد خرج بهذا الكلام الجواب عن قوله

(18/169)


شرح نهج البلاغة ج : 17 ص : 189لو جاز أن تكون السرايا و الحروب عن اجتهاده لجاز أن تكون الأحكام كلها عن اجتهاده و أيضا فإن الصحابة كانوا يراجعونه في الحروب و آراءه التي يدبرها بها و يرجع ع إليهم في كثير منها بعد أن قد رأى غيره و أما الأحكام فلم يكن يراجع ها أصلا فكيف يحمل أحد البابين على الآخر. فأما قوله لو كانت عن اجتهاد لوجب أن يحرم مخالفته فيها و هو حي لا فرق بين الحالين فلقائل أن يقول القياس يقتضي ما ذكرت إلا أنه وقع الإجماع على أنه لو كان في الأحكام أو في الحروب و الجهاد ما هو باجتهاده لما جازت مخالفته و العدول عن مذهبه و هو حي لم يختلف أحد من المسلمين في ذلك و أجازوا مخالفته بعد وفاته بتقدير أن يكون ما صار إليه عن اجتهاد و الإجماع حجة. فأما قول قاضي القضاة لأن اجتهاده و هو حي أولى من اجتهاد غيره فليس يكاد يظهر لأن اجتهاده و هو ميت أولى أيضا من اجتهاد غيره و يغلب على ظني أنهم فرقوا بين حالتي الحياة و الموت فإن في مخالفته و هو حي نوعا من أذى له و أذاه محرم لقوله تعالى وَ ما كانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ و الأذى بعد الموت لا يكون فافترق الحالان. و ثالثها أنه لو كان الإمام منصوصا عليه لجاز أن يسترد جيش أسامة أو بعضه لنصرته فكذلك إذا كان بالاختيار و هذا قد منع منه المرتضى و قال إنه لا يجوز للمنصوص عليه ذلك و لا أن يولي من عزله رسول الله ص و لا أن يعزل من ولاه رسول الله ص شرح نهج البلاغة ج : 17 ص : 190و رابعها أنه ع ترك حرب معاوية في بعض الحالات لم يوجب ذلك أن يكون عاصيا فكذلك أبو بكر في ترك النفوذ في جيش أسامة. فأما قول المرتضى إن عليا ع كان مأمورا بحرب معاوية مع التمكن و وجود الأنصار فإذا عدما لم يكن مأمورا بحربه فلقائل أن يقول و أبو بكر كان مأمورا بالنفوذ في جيش أسامة مع التمكن و وجود الأنصار و قد عدم التمكن لما استخلف فإنه قد تحمل أعباء الإمامة و تعذر عليه

(18/170)


الخروج عن المدينة التي هي دار الإمامة فلم يكن مأمورا و الحال هذه بالنفوذ في جيش أسامة. فإن قلت الإشكال عليكم إنما هو من قبل الاستخلاف كيف جاز لأبي بكر أن يتأخر عن المسير و كيف جاز له أن يرجع إلى المدينة و هو مأمور بالمسير و هلا نفذ لوجهه و لم يرجع و إن بلغه موت رسول الله ص. قلت لعل أسامة أذن له فهو مأمور بطاعته و لأنه رأى أسامة و قد عاد باللواء فعاد هو لأنه لم يكن يمكنه أن يسير إلى الروم وحده و أيضا فإن أصحابنا قالوا إن ولاية أسامة بطلت بموت النبي ص و عاد الأمر إلى رأي من ينصب للأمر قالوا لأن تصرف أسامة إنما كان من جهة النبي ص ثم زال تصرف النبي ص بموته فوجب أن يزول تصرف أسامة لأن تصرفه تبع لتصرف الرسول ص قالوا و ذلك كالوكيل تبطل وكالته بموت الموكل قالوا و يفارق الوصي لأن ولايته لا تثبت إلا بعد موت الموصي فهو كعهد الإمام إلى غيره لا يثبت إلا بعد موت الإمام ثم فرع أصحابنا على هذا الأصل مسألة و هي الحاكم هل ينعزل بموت الإمام أم لا قال قوم من أصحابنا لا ينعزل و بنوه على أن التولي من غير جهة الإمام يجوز فجعلوا الحاكم نائبا عن المسلمين أجمعين لا عن الإمام

(18/171)


شرح نهج البلاغة ج : 17 ص : 191و إن وقف تصرفه على اختياره و صار ذلك عندهم بمنزلة أن يختار المسلمون واحدا يحكم بينهم ثم يموت من رضي بذلك فإن تصرفه يبقى على ما كان عليه و قال قوم من أصحابنا ينعزل و إن هذا النوع من التصرف لا يستفاد إلا من جهة الإمام و لا يق به غيره و إذا ثبت أن أسامة قد بطلت ولايته لم تبق تبعة على أبي بكر في الرجوع من بعض الطريق إلى المدينة. و خامسها أن أمير المؤمنين ولى أبا موسى الحكم و ولى رسول الله ص خالد بن الوليد السرية إلى الغميصاء و هذا الكلام إنما ذكره قاضي القضاة تتمة لقوله إن أمره ع بنفوذ بعث أسامة كان مشروطا بالمصلحة قال كما أن توليته ع أبا موسى كانت مشروطة باتباع القرآن و كما أن تولية رسول الله ص خالد بن الوليد كانت مشروطة بأن يعمل بما أوصاه به فخالفا و لم يعملا الحق فإذا كانت هذه الأوامر مشروطة فكذلك أمره جيش أسامة بالنفوذ كان مشروطا بالمصلحة و ألا يعرض ما يقتضي رجوع الجيش أو بعضه إلى المدينة و قد سبق القول في كون الأمر مشروطا. و سادسها أن أبا بكر كان محتاجا إلى مقام عمر عنده ليعاضده و يقوم في تمهيد أمر الإمامة ما لا يقوم به غيره فكان ذلك أصلح في باب الدين من مسيره مع الجيش فجاز أن يحبسه عنده لذلك و هذا الوجه مختص بمن قال إن أبا بكر لم يكن في الجيش و إيضاح عذره في حبس عمر عن النفوذ مع الجيش. شرح نهج البلاغة ج : 17 ص : 192فأما قول المرتضى فإن ذلك غير جائز لأن مخالفة النص حرام فقد قلنا إن هذا مبني على مسألة تخصيص العمومات الواردة فالقرآن بالقياس. و أما قوله أي حاجة كانت لأبي بكر إلى عمر بعد وقوع البيعة و لم يكن هناك تنازع و لا اختلاف فعجيب و هل كان لو لا مقام عمر و حضوره في تلك المقامات يتم لأبي بكر أمر أو ينتظم له حال و لو لا عمر لما بايع علي و لا الزبير و لا أكثر الأنصار و الأمر في هذا أظهر من كل ظاهر. و سابعها أن من يصلح للإمامة ممن ضمه جيش

(18/172)


أسامة يجب تأخرهم ليختار للإمامة أحدهم فإن ذلك أهم من نفوذهم فإذا جاز لهذه العلة التأخر قبل العقد جاز التأخر بعده للمعاضدة و غيرها. فأما قول المرتضى إن ذلك الجيش لم يضم من يصلح للإمامة فبناء على مذهبه في أن كل من ليس بمعصوم لا يصلح للإمامة فأما قوله و لو صح ذلك لم يكن عذرا في التأخر لأن من خرج في الجيش يمكن أن يختار و لو كان بعيدا و لا يمكن بعده من صحة الاختيار فلقائل أن يقول دار الهجرة هي التي فيها أهل الحل و العقد و أقارب رسول الله ص و القراء و أصحاب السقيفة فلا يجوز العدول عن الاجتماع و المشاورة فيها إلى الاختيار على البعد و على جناح السفر من غير مشاركة من ذكرنا من أعيان المسلمين. فأما قوله و لو صح هذا العقد لكان عذرا في التأخر قبل العقد فأما بعد إبرامه فلا عذر فيه فلقائل أن يقول إذا أجزت التأخر قبل العقد لنوع من المصلحة فأجز التأخر بعد العقد لنوع آخر من المصلحة و هو المعاضدة و المساعدة.

(18/173)


شرح نهج البلاغة ج : 17 ص : 193هذه الوجوه السبعة كلها لبيان قوله تأخر أبي بكر أو عمر عن النفوذ في جيش أسامة و إن كان مأمورا بالنفوذ. ثم نعود إلى تمام أقسام الفصل و منها قول قاضي القضاة لا معنى لقول من قال إن رسول الله ص قصد إبعادهم عن المدينة لأن بعدهم عا لا يمنعهم من أن يختاروا واحدا منهم للإمامة و لأنه ع لم يكن قاطعا على موته لا محالة لأنه لم يرد نفذوا جيش أسامة في حياته. و قد اعترض المرتضى هذا فقال إنه لم يتبين معنى الطعن لأن الطاعن لا يقول إنهم أبعدوا عن المدينة كي لا يختاروا واحدا للإمامة بل يقول إنما أبعدوا لينتصب بعد موته ص في المدينة الشخص الذي نص عليه و لا يكون حاضرا بالمدينة من يخالفه و ينازعه و ليس يضرنا ألا يكون ص قاطعا على موته لأنه و إن لم يكن قاطعا فهو لا محالة يشفق و يخاف من الموت و على الخائف أن يتحرز مما يخاف منه و كلام المرتضى في هذا الموضع أظهر من كلام قاضي القضاة. و منها قول قاضي القضاة إن ولاية أسامة عليهما لا تقتضي كونهما دونه في الفضل كما أن عمرو بن العاص لما ولي عليهما لم يقتض كونه أفضل منهما و قد اعترض المرتضى هذا بأنه يقبح تقديم المفضول على الفاضل فيما هو أفضل منه و إن تقديم عمرو بن العاص عليهما في الإمرة يقتضي أن يكون أفضل منهما فيما يرجع إلى الإمرة و السياسة و لا يقتضي أفضليته عليهما في غير ذلك و كذلك القول في أسامة. شرح نهج البلاغة ج : 17 ص : 194و لقائل أن يقول إن الملوك قد يؤمرون الأمراء على الجيوش لوجهين أحدهما أن يقصد الملكتأمير ذلك الشخص أن يسوس الجيش و يدبره بفضل رأيه و شيخوخته و قديم تجربته و ما عرف من يمن نقيبته في الحرب و قود العساكر و الثاني أن يؤمر على الجيش غلاما حدثا من غلمانه أو من ولده أو من أهله و يأمر الأكابر من الجيش أن يثقفوه و يعلموه و يأمره أن يتدبر بتدبيرهم و يرجع إلى رأيهم و يكون قصد الملك من ذلك تخريج ذلك الغلام و تمرينه

(18/174)


على الإمارة و أن يثبت له في نفوس الناس منزلة و أن يرشحه لجلائل الأمور و معاظم الشئون ففي الوجه الأول يقبح تقديم المفضول على الفاضل و في الوجه الثاني لا يقبح فلم لا يجوز أن يكون تأمير أسامة عليهما من قبيل الوجه الثاني و الحال يشهد لذلك لأن أسامة كان غلاما لم يبلغ ثماني عشرة سنة حين قبض النبي ص فمن أين حصل له من تجربة الحرب و ممارسة الوقائع و قود الجيش ما يكون به أعرف بالإمرة من أبي بكر و عمر و أبي عبيدة و سعد بن أبي وقاص و غيرهم. و منها قول قاضي القضاة إن السبب في كون عمر في الجيش أنه أنكر على عبد الله بن عياش بن أبي ربيعة تسخطه إمرة أسامة و قال أنا أخرج في جيش أسامة فخرج من تلقاء نفسه تعظيما لأمر رسول الله ص و قد اعترضه المرتضى فقال هذا شي ء لم نسمعه من راو و لا قرأناه في كتاب و صدق المرتضىفيما قال فإن هذا حديث غريب لا يعرف. و أما قول عمر دعني أضرب عنقه فقد نافق فمنقول مشهور لا محالة و إنما الغريب الذي لم يعرف كون عمر خرج من تلقاء نفسه في الجيش مراغمة لعبد الله بن عياش بن أبي ربيعة حيث أنكر ما أنكر و لعل قاضي القضاة سمعه من راو أو نقله من كتاب إلا أنا نحن ما وقفنا على ذلك
شرح نهج البلاغة ج : 17 ص : 195الطعن الخامسقالوا إنه ص لم يول أبا بكر الأعمال و ولى غيره و لما ولاه الحج بالناس و قراءة سورة براءة على الناس عزله عن ذلك كله و جعل الأمر إلى أمير المؤمنين ع و
قال لا يؤدي عني إلا أنا أو رجل مني

(18/175)


حتى يرجع أبو بكر إلى النبي ص. أجاب قاضي القضاة فقال لو سلمنا أنه لم يوله لما دل ذلك على نقص و لا على أنه لم يصلح للإمارة و الإمامة بل لو قيل إنه لم يوله لحاجته إليه بحضرته و إن ذلك رفعة له لكان أقرب لا سيما و قد روي عنه ما يدل على أنهما وزيراه و أنه كان ص محتاجا إليهما و إلى رأيهما فلذلك لم يولهما و لو كان للعمل على تركه فضل لكان عمرو بن العاص و خالد بن الوليد و غيرهما أفضل من أكابر الصحابة لأنه ع ولاهما و قدمهما و قد قدمنا أن توليته هي بحسب الصلاح و قد يولى المفضول على الفاضل تارة و الفاضل أخرى و ربما ولى الواحد لاستغنائه عنه بحضرته و ربما ولاه لاتصال بينه و بين من يولى عليه إلى غير ذلك ثم ادعى أنه ولى أبا بكر على الموسم و الحج قد ثبتت بلا خلاف بين أهل الأخبار و لم يصح أنه عزله و لا يدل رجوع أبي بكر إلى النبي ص مستفهما عن القصة على العزل ثم جعل إنكار من أنكر حج أبي بكر في تلك السنة بالناس كإنكار عباد و طبقته أخذ أمير المؤمنين ع سورة براءة من أبي بكر و حكي عن أبي علي أن المعنى كان في أخذ السورة من أبي بكر أن من عادة العرب أن سيدا من سادات قبائلهم إذا عقد عقد القوم فإن ذلك العقد لا ينحل إلا أن يحله هو أو بعض سادات قومه فلما كان هذا عادتهم و أراد النبي ص أن ينبذ إليهم عقدهم و ينقض ما كان بينه و بينهم علم شرح نهج البلاغة ج : 17 ص : 196أنه لا ينحل ذلك إلا به أو بسيد من سادات رهطه فعدل عن أبي بكر إلى أمير المؤمنين المقرب في النسب ثم ادعى أنه ص ولى أبا بكر في مرضهلصلاة و ذلك أشرف الولايات و قال في ذلك يأبى الله و رسوله و المسلمون إلا أبا بكر. ثم اعترض نفسه بصلاته ع خلف عبد الرحمن بن عوف و أجاب بأنه ص إنما صلى خلفه لا أنه ولاه الصلاة و قدمه فيها قال و إنما قدم عبد الرحمن عند غيبة النبي ص فصلى بغير أمره و قد ضاق الوقت فجاء النبي ص فصلى خلفه. اعترض المرتضى فقال قد بينا أن تركه ص

(18/176)


الولاية لبعض أصحابه مع حضوره و إمكان ولايته و العدول عنه إلى غيره مع تطاول الزمان و امتداده لا بد من أن تقتضي غلبة الظن بأنه لا يصلح للولاية فأما ادعاؤه أنه لم يوله لافتقاره إليه بحضرته و حاجته إلى تدبيره و رأيه فقد بينا أنه ع ما كان يفتقر إلى رأي أحد لكماله و رجحانه على كل أحد و إنما كان يشاور أصحابه على سبيل التعليم لهم و التأديب أو لغير ذلك مما قد ذكر و بعد فكيف استمرت هذه الحاجة و اتصلت منه إليهما حتى لم يستغن في زمان من الأزمان عن حضورهما فيوليهما و هل هذا إلا قدح في رأي رسول الله ص و نسبته إلى أنه كان ممن يحتاج إلى أن يلقن و يوقف على كل شي ء و قد نزهه الله تعالى عن ذلك فأما ادعاؤه أن الرواية قد وردت بأنهما وزيراه فقد كان يجب أن يصحح ذلك قبل أن يعتمده و يحتج به فإنا ندفعه عنه أشد دفع فأما واية عمرو بن العاص و خالد بن الوليد فقد تكلمنا عليها من قبل و بينا أن ولايتهما تدل على صلاحهما لما ولياه و لا تدل على صلاحهما للإمامة لأن شرائط الإمامة لم تتكامل فيهما و بينا أيضا لأن ولاية المفضول على الفاضل لا تجوز فأما تعظيمه

(18/177)


شرح نهج البلاغة ج : 17 ص : 197و إكباره قول من يذهب إلى أن أبا بكر عزل عن أداء السورة و الموسم جميعا و جمعه بين ذلك في البعد و بين إنكار عباد أن يكون أمير المؤمنين ع ارتجع سورة براءة من أبي بكر فأول ما فيه أنا لا ننكر أن يكون أكثر الأخبار واردة بأن أبا ب حج بالناس في تلك السنة إلا أنه قد روى قوم من أصحابنا خلاف ذلك و أن أمير المؤمنين ع كان أمير الموسم في تلك السنة و أن عزل الرجل كان عن الأمرين معا و استكبار ذلك و فيه خلاف لا معنى له فأما ما حكاه عن عباد فإنا لا نعرفه و ما نظن أحدا يذهب إلى مثله و ليس يمكنه بإزاء ذلك جحد مذهب أصحابنا الذي حكيناه و ليس عباد لو صحت الرواية عنه بإزاء من ذكرناه فهو ملي ء بالجهالات و دفع الضرورات و بعد فلو سلمنا أن ولاية الموسم لم تفسخ لكان الكلام باقيا لأنه إذا كان ما ولي مع تطاول الزمان إلا هذه الولاية ثم سلب شطرها و الأفخم اأعظم منها فليس ذلك إلا تنبيها على ما ذكرناه. فأما ما حكاه عن أبي علي من أن عادة العرب ألا يحل ما عقده الرئيس منهم إلا هو أو المتقدم من رهطه فمعاذ الله أن يجري النبي ص سنته و أحكامه على عادات الجاهلية و قد بين ع لما رجع إليه أبو بكر يسأله عن أخذ السورة منه الحال
فقال إنه أوحي إلي ألا يؤدي عني إلا أنا أو رجل مني

(18/178)


و لم يذكر ما ادعاه أبو علي على أن هذه العادة قد كان يعرفها النبي ص قبل بعثه أبا بكر بسورة براءة فما باله لم يعتمدها في الابتداء و يبعث من يجوز أن يحل عقده من قومه. فأما ادعاؤه ولاية أبي بكر الصلاة فقد ذكرنا فيما تقدم أنه لم يوله إياها فأما فصله بين صلاته خلف عبد الرحمن و بين صلاة أبي بكر بالناس فليس بشي ء لأنا إذا كنا قد دللنا على أن الرسول ص ما قدم أبا بكر إلى الصلاة فقد شرح نهج البلاغة ج : 17 ص : 198استوى الأمران و بعد فأي فرق بين أن يصلي خلفه و بين أن يوليه و يقدمه و نحن نعلم أن صلاته خلفه إقرار لولايو رضا بها فقد عاد الأمر إلى أن عبد الرحمن كأنه قد صلى بأمره و إذنه على أن قصة عبد الرحمن أوكد لأنه قد اعترف بأن الرسول صلى خلفه و لم يصل خلف أبي بكر و إن ذهب كثير من الناس إلى أنه قدمه و أمر بالصلاة قبل خروجه إلى المسجد و تحامله. ثم سأل المرتضى رحمه الله نفسه فقال إن قيل ليس يخلو النبي ص من أن يكون سلم في الابتداء سورة براءة إلى أبي بكر بأمر الله أو باجتهاده و رأيه فإن كان بأمر الله تعالى فكيف يجوز أن يرتجع منه السورة قبل وقت الأداء و عندكم أنه لا يجوز نسخ الشي ء قبل تقضي وقت فعله و إن كان باجتهاده ص فعندك أنه لا يجوز أن يجتهد فيما يجري هذا المجرى. و أجاب فقال إنه ما سلم السورة إلى أبي بكر إلا بإذنه تعالى إلا أنه لم يأمره بأدائها و لا كلفه قراءتها على أهل الموسم لأن أحدا لم يمكنه أن ينقل ع في ذلك لفظ الأمر و التكليف فكأنه سلم سورة براءة إليه لتقرأ على أهل الموسم و لم يصرح بذكر القارئ المبلغ لها في الحال و لو نقل عنه تصريح لجاز أن يكون مشروطا بشرط لم يظهر. فإن قيل فأي فائدة في دفع السورة إلى أبي بكر و هو لا يريد أن يؤديها ثم ارتجاعها منه و هلا دفعت في الابتداء إلى أمير المؤمنين ع. قيل الفائدة في ذلك ظهور فضل أمير المؤمنين ع و مرتبته و أن الرجل الذي نزعت السورة عنه لا يصلح

(18/179)


لما يصلح له و هذا غرض قوي في وقوع الأمر على ما وقع عليه شرح نهج البلاغة ج : 17 ص : 199قلت قد ذكرنا فيما تقدم القول في تولية الملك بعض أصحابه و ترك تولية بعضهم و كيفية الحال في ذلك على أنه قروى أصحاب المغازي أنه أمر أبا بكر في شعبان من سنة سبع على سرية بعثها إلى نجد فلقوا جمعا من هوازن فبيتوهم فروى إياس بن سلمة عن أبيه قال كنت في ذلك البعث فقتلت بيدي سبعة منهم و كان شعارنا أمت أمت و قتل من أصحاب النبي ص قوم و جرح أبو بكر و ارتث و عاد إلى المدينة على أن أمراء السرايا الذين كان يبعثهم ص كانوا قوما مشهورين بالشجاعة و لقاء الحروب كمحمد بن مسلمة و أبي دجانة و زيد بن حارثة و نحوهم و لم يكن أبو بكر مشهورا بالشجاعة و لقاء الحروب و لم يكن جبانا و لا خوارا و إنما كان رجلا مجتمع القلب عاقلا ذا رأي و حسن تدبير و كان رسول الله ص يترك بعثه في السرايا لأن غيره أنفع منه فيها و لا يدل ذلك على أنه لا يصلح للإمامة و أن الإمامة لا تحتاج أن يكون صاحبها من المشهورين بالشجاعة و إنما يحتاج إلى ثبات القلب و إلا يكون هلعا طائر الجنان و كيف يقول المرتضى إنه ص لم يكن محتاجا إلى رأي أحد و قد نقل الناس كلهم رجوعه من رأي إلى رأي عند المشورة نحو ما جرى يوم بدر من تغير المنزل لما أشار عليه الحباب بن المنذر و نحو ما جرى يوم الخندق من فسخ رأيه في دفع ثلث تمر المدينة إلى عيينة بن حصن ليرجع بالأحزاب عنهم لأجل ما رآه سعد بن معاذ و سعد بن عبادة من الحرب و العدول عن الصلح و نحو ما جرى في تلقيح النخل بالمدينة و غير ذلك فأما ولاية أبي بكر الموسم فأكثر الأخبار على ذلك و لم يرو عزله عن الموسم إلا قوم من الشيعة. شرح نهج البلاغة ج : 17 ص : 200و أما ما أنكره المرتضى من حال عباد بن سليمان و دفعه أن يكون علي أخذ براءة من أبي بكر و استغرابه ذلك عجب فإن قول عباد قد ذهب إليه كثير من الناس و رووا أن رسول الله ص لم يدفع براءة

(18/180)


إلى أبي بكر و أنه بعد أن نفذ أبو بكر بالحجيج بعه عليا و معه تسع آيات من براءة و قد أمره أن يقرأها على الناس و يؤذنهم بنقض العهد و قطع الدنية فانصرف أبو بكر إلى رسول الله ص فأعاده على الحجيج و قال له أنت الأمير و علي المبلغ فإنه لا يبلغ عني إلا أنا أو رجل مني و لم ينكر عباد أمر براءة بالكلية و إنما أنكر أن يكون النبي ص دفعها إلى أبي بكر ثم انتزعها منه و طائفة عظيمة من المحدثين يروون ما ذكرناه و إن كان الأكثر الأظهر أنه دفعها إليه ثم أتبعه بعلي ع فانتزعها منه و المقصود أن المرتضى قد تعجب مما لا يتعجب من مثله فظن أن عبادا أنكر حديث براءة بالكلية و قد وقفت أنا على ما ذكره عباد في هذه القضية في كتابه المعروف بكتاب الأبواب و هو الكتاب الذي نقضه شيخنا أبو هاشم فأما عذر شيخنا أبي علي و قوله إن عادة العرب ذلك و اعتراض المرتضى عليه فالذي قاله المرتضى أصح و أظهر و ما نسب إلى عادة العرب غير معروف و إنما هو تأويل تأول به متعصبو أبي بكر لانتزاع براءة منه و ليس بشي ء و لست أقول ما قاله المرتضى من أن غرض رسول الله ص إظهار أن أبا بكر لا يصلح للأداء عنه بل أقول فعل ذلك لمصلحة رآها و لعل السبب في ذلك أن عليا ع من بني عبد مناف و هم جمرة قريش بمكة و علي أيضا شجاع لا يقام ل و قد حصل في صدور قريش منه الهيبة الشديدة و المخافة العظيمة فإذا حصل مثل هذا الشجاع البطل و حوله من بني عمه و هم أهل العزة و القوة و الحمية شرح نهج البلاغة ج : 17 ص : 201كان أدعى إلى نجاته من قريش و سلامة نفسه و بلوغ الغرض من نبذ العهد على يده أ لا ترى أرسول الله ص في عمرة الحديبية بعث عثمان بن عفان إلى مكة يطلب منهم الإذن له في الدخول و إنما بعثه لأنه من بني عبد مناف و لم يكن بنو عبد مناف و خصوصا بني عبد شمس ليمكنوا من قتله و لذلك حمله بنو سعيد بن العاص على بعير يوم دخل مكة و أحدقوا به مستلئمين بالسلاح و قالوا له أقبل و أدبر

(18/181)


و لا تخف أحدا بنو سعيد أعزة الحرم و أما القول في تولية رسول الله ص أبا بكر الصلاة فقد تقدم و ما رامه قاضي القضاة من الفرق بين صلاة أبي بكر بالناس و صلاة عبد الرحمن بهم مع كون رسول الله ص صلى خلفه ضعيف و كلام المرتضى أقوى منه فأما السؤال الذي سأله المرتضى من نفسه فقوي و الجواب الصحيح أن بعث براءة مع أبي بكر كان باجتهاد من الرسول ص و لم يكن عن وحي و لا من جملة الشرائع التي تتلقى عن جبرائيل ع فلم يقبح نسخ ذلك قبل تقضي وقت فعله و جواب المرتضى ليس بقوي لأنه من البعيد أن يسلم سورة براءة إلى أبي بكر و لا يقال له ما ذا تصنع بها بل يقال خذ هذه معك لا غير و القول بأن الكلام مشروط بشرط لم يظهر خلاف الظاهر و فتح هذا الباب يفسد كثيرا من القواعد.
الطعن السادس

(18/182)


أن أبا بكر لم يكن يعرف الفقه و أحكام الشريعة فقد قال في الكلالة أقول شرح نهج البلاغة ج : 17 ص : 202فيها برأيي فإن يكن صوابا فمن الله و إن يكن خطأ فمني و لم يعرف ميراث الجد و من حاله هذه لا يصلح للإمامة. أجاب قاضي القضاة بأن الإمام لا يجب أن يعلم جميع الأام و أن القدر الذي يحتاج إليه هو القدر الذي يحتاج إليه الحاكم و أن القول بالرأي هو الواجب فيما لا نص فيه و قد قال أمير المؤمنين ع بالرأي في مسائل كثيرة. اعترض المرتضى فقال قد دللنا على أن الإمام لا بد أن يكون عالما بجميع الشرعيات و فرقنا بينه و بين الحاكم و دللنا على فساد الرأي و الاجتهاد و أما أمير المؤمنين ع فلم يقل قط بالرأي و ما يروى من خبر بيع أمهات الأولاد غير صحيح و لو صح لجاز أن يكون أراد بالرأي الرجوع إلى النصوص و الأدلة و لا شبهة عندنا أن قوله كان واحدا في الحالين و إن ظهر في أحدهما خلاف مذهبه للتقية. قلت هذا الطعن مبني على أمرين أحدهما هل من شرط الإمامة أن يعلم الإمام كل الأحكام الشرعية أم لا و هذا مذكور في كتبنا الكلامية و الثاني هو القول في الاجتهاد و الرأي حق أم لا و هذا مذكور في كتبنا الأصولية.
الطعن السابع

(18/183)


قصة خالد بن الوليد و قتله مالك بن نويرة و مضاجعته امرأته من ليلته و أن أبا بكر شرح نهج البلاغة ج : 17 ص : 203ترك إقامة الحد عليه و زعم أنه سيف من سيوف الله سله الله على أعدائه مع أن الله تعالى قد أوجب القود و حد الزناء عموما و أن عمر نبهه و قال له اقتله نه قتل مسلما. أجاب قاضي القضاة فقال إن شيخنا أبا علي قال إن الردة ظهرت من مالك بن نويرة لأنه جاء في الأخبار أنه رد صدقات قومه عليهم لما بلغه موت رسول الله ص كما فعله سائر أهل الردة فاستحق القتل فإن قال قائل فقد كان يصلي قيل له و كذلك سائر أهل الردة و إنما كفروا بالامتناع من الزكاة و اعتقادهم إسقاط وجوبها دون غيره فإن قيل فلم أنكر عمر قيل كان الأمر إلى أبي بكر فلا وجه لإنكار عمر و قد يجوز أن يعلم أبو بكر من الحال ما يخفى على عمر فإن قيل فما معنى ما روي عن أبي بكر من أن خالدا تأول فأخطأ قيل أراد عجلته عليه بالقتل و قد كان الواجب عنده على خالد أن يتوقف للشبهة و استدل أبو علي على ردته بأن أخاه متمم بن نويرة لما أنشد عمر مرثيته أخاه قال له وددت أني أقول الشعر فأرثي أخي زيدا بمثل ما رثيت به أخاك فقال متمم لو قتل أخي على مثل ما قتل عليه أخوك ما رثيته فقال عمر ما عزاني أحد بمثل تعزيتك فدل هذا على أن مالكا لم يقتل على الإسلام كما قتل زيد. و أجاب عن تزويج خالد بامرأته بأنه إذا قتل على الردة في دار الكفر جاز تزويج امرأته عند كثير من أهل العلم و إن كان لا يجوز أن يطأها إلا بعد الاستبراء. و حكي عن أبي علي أنه إنما قتله لأنه ذكر رسول الله ص فقال صاحبك و أوهم بذلك أنه ليس بصاحب له و كان عنده أن ذلك رده و علم عند المشاهدة

(18/184)


شرح نهج البلاغة ج : 17 ص : 204المقصد و هو أمير القوم فجاز أن يقتله و إن كان الأولى ألا يستعجل و أن يكشف الأمر في ردته حتى يتضح فلهذا لم يقتله أبو بكر به فأما وطؤه لامرأته فلم يثبت فلا يصح أن يجعل طعنا فيه اعترض المرتضى فقال أما منع خالد في قتل مالك بن نرة و استباحة امرأته و أمواله لنسبته إياه إلى ردة لم تظهر منه بل كان الظاهر خلافها من الإسلام فعظيم و يجري مجراه في العظم تغافل من تغافل عن أمره و لم يقم فيه حكم الله تعالى و أقره على الخطإ الذي شهد هو به على نفسه و يجري مجراهما من أمكنه أن يعلم الحال فأهملها و لم يتصفح ما روي من الأخبار في هذا الباب و تعصب لأسلافه و مذهبه و كيف يجوز عند خصومنا على مالك و أصحابه جحد الزكاة مع المقام على الصلاة و هما جميعا في قرن لأن العلم الضروري بأنهما من دينه ع و شريعته على حد واحد و هل نسبة مالك إلى الردة مع ما ذكرناه إلا قدح في الأصول و نقض لما تضمنته من أن الزكاة معلومة ضرورة من دينه ع و أعجب من كل عجيب قوله و كذلك سائر أهل الردة يعني أنهم كانوا يصلون و يجحدون الزكاة لأنا قد بينا أن ذلك مستحيل غير ممكن و كيف يصح ذلك و قد روى جميع أهل النقل أن أبا بكر لما وصى الجيش الذين أنفذهم بأن يؤذنوا و يقيموا فإن أذن القوم كأذانهم و إقامتهم كفوا عنهم و إن لم يفعلوا أغاروا عليهم فجعل أمارة الإسلام و البراءة من الردة الأذان و الإقامة و كيف يطلق في سائر أهل الردة ما أطلقه من أنهم كانوا يصلون و قد علمنا أن أصحاب مسيلمة و طليحة و غيرهما ممن كان ادعى النبوة و خلع الشريعة ما كانوا يرون الصلاة و لا شيئا مما جاءت به شريعتنا و قصة مالك معروفة عند من تأمل كتب السير و النقل لأنه كان على صدقات قومه بني شرح نهج البلاغة ج : 17 ص : 205يربوع واليا من قبل رسول الله ص و لما بلغته وفاة رسول الله ص أمسك أخذ الصدقة من قومه و قال لهم تربصوا بها حتى يقوم قائم بعد النبي ص

(18/185)


و ننظر ما يكون من أمره و قد صرح بذلك في شعره حيث يقول
و قال رجال سدد اليوم مالك و قال رجال مالك لم يسددفقلت دعوني لا أبا لأبيكم فلم أخط رأيا في المقام و لا الندي و قلت خذوا أموالكم غير خائف و لا ناظر فيما يجي ء به غدي فدونكموها إنما هي مالكم مصورة أخلاقها لم تجددسأجعل نفسي دون ما تحذرونه و أرهنكم يوما بما ه يدي فإن قام بالأمر المجدد قائم أطعنا و قلنا الدين دين محمدفصرح كما ترى أنه استبقى الصدقة في أيدي قومه رفقا بهم و تقربا إليهم إلى أن يقوم بالأمر من يدفع ذلك إليه و قد روى جماعة من أهل السير و ذكره الطبري في تاريخه أن مالكا نهى قومه عن الاجتماع على منع الصدقات و فرقهم و قال يا بني يربوع إنا كنا قد عصينا أمراءنا إذ دعونا إلى هذا الدين و بطأنا الناس عنه فلم نفلح و لم ننجح و أني قد نظرت في هذا الأمر فوجدت الأمر يتأتى لهؤلاء القوم بغير سياسة و إذا أمر لا يسوسه الناس فإياكم و معاداة قوم يصنع لهم فتفرقوا على ذلك إلى أموالهم و رجع مالك إلى منزله فلما قدم خالد البطاح بث السرايا و أمرهم بداعية الإسلام و أن يأتوه بكل من لم يجب و أمرهم إن امتنع أن يقاتلوه فجاءته الخيل بمالك بن نويرة في نفر من بني يربوع و اختلف السرية في أمرهم و في السرية أبو قتادة الحارث بن ربعي فكان ممن شهد أنهم أذنوا و أقاموا و صلوا فلما اختلفوا فيهم شرح نهالبلاغة ج : 17 ص : 206أمر بهم خالد فحبسوا و كانت ليلة باردة لا يقوم لها شي ء فأمر خالد مناديا ينادي أدفئوا أسراءكم فظنوا أنهم أمروا بقتلهم لأن هذه اللفظة تستعمل في لغة كنانة للقتل فقتل ضرار بن الأزور مالكا و تزوج خالد زوجته أم تميم بنت المنهال. و في خبر آر أن السرية التي بعث بها خالد لما غشيت القوم تحت الليل راعوهم فأخذ القوم السلاح قال فقلنا إنا المسلمون فقالوا و نحن المسلمون قلنا فما بال السلاح معكم قلنا فضعوا السلاح فلما وضعوا السلاح ربطوا أسارى فأتوا بهم

(18/186)


خالدا فحدث أبو قتادة خالد بن الوليد أن القوم نادوا بالإسلام و أن لهم أمانا فلم يلتفت خالد إلى قولهم و أمر بقتلهم و قسم سبيهم و حلف أبو قتادة ألا يسير تحت لواء خالد في جيش أبدا و ركب فرسه شاذا إلى أبي بكر فأخبره الخبر و قال له إني نهيت خالدا عن قتله فلم يقبل قولي و أخذ بشهادة الأعراب الذين غرضهم الغنائم و أن عمر لما سمع ذلك تكلم فيه عند أبي بكر فأكثر و قال إن القصاص قد وجب عليه و لما أقبل خالد بن الوليد قافلا دخل المسجد و عليه قباء له عليه صدأ الحديد معتجرا بعمامة له قد غرز في عمامته أسهما فلما دخل المسجد قام إليه عمر فنزع الأسهم عن رأسه فحطمها ثم قال له يا عدو نفسه أ عدوت على امرئ مسلم فقتلته ثم نزوت على امرأته و الله لنرجمنك بأحجارك و خالد لا يكلمه و لا يظن إلا أن رأي أبي بكر مثل رأيه حتى دخل إلى أبي بكر و اعتذر إليه بعذره و تجاوز عنه فخرج خالد و عمر جالس في المسجد فقال هلم إلى يا ابن أم شملة فعرف عمر أن أبا بكر قد رضي عنه فلم يكلمه و دخل بيته. و قد روي أيضا أن عمر لما ولي جمع من عشيرة مالك بن نويرة من وجد منهم

(18/187)


شرح نهج البلاغة ج : 17 ص : 207و استرجع ما وجد عند المسلمين من أموالهم و أولادهم و نسائهم فرد ذلك عليهم جميعا مع نصيبه كان منهم و قيل إنه ارتجع بعض نسائهم من نواحي دمشق و بعضهن حوامل فردهن على أزواجهن فالأمر ظاهر في خطإ خالد و خطإ من تجاوز عنه و قول صاحبلكتاب إنه يجوز أن يخفى عن عمر ما يظهر لأبي بكر ليس بشي ء لأن الأمر في قصة خالد لم يكن مشتبها بل كان مشاهدا معلوما لكل من حضره و ما تأول به في القتل لا يعذر لأجله و ما رأينا أبا بكر حكم فيه بحكم المتأول و لا غيره و لا تلافى خطأه و زلله و كونه سيفا من سيوف لله على ما ادعاه لا يسقط عنه الأحكام و يبرئه من الآثام و أما قول متمم لو قتل أخي على ما قتل عليه أخوك لما رثيته لا يدل على أنه كان مرتدا فكيف يظن عاقل أن متمما يعترف بردة أخيه و هو يطالب أبا بكر بدمه و الاقتصاص من قاتليه و رد سبيه و أنه أراد في الجملة التقرب إلى عمر بتقريظ أخيه ثم لو كان ظاهر هذا القول كباطنه لكان إنما يقصد تفضيل قتلة زيد على قتلة مالك و الحال في ذلك أظهر لأن زيدا قتل في بعث المسلمين ذابا عن وجوههم و مالك قتل على شبهة و بين الأمرين فرق. و أما قوله في النبي ص صاحبك فقد قال أهل العلم إنه أراد القرشية لأن خالدا قرشي و بعد فليس في ظاهر إضافته إليه دلالة على نفيه له عن نفسه و لو كان علم من مقصده الاستخفاف و الإهانة على ما ادعاه صاحب الكتاب لوجب أن يعتذر خالد بذلك عند أبي بكر و عمر و يعتذر به أبو بكر لما طالبه عمر بقتله فإن عمر ما كان يمنع من قتل قادح في نبوة النبي ص و إن كان الأمر على ذلك فأي معنى لقول أبي بكر تأول فأخطأ و إنما تأول فأصاب إن كان الأمر على ما ذكر شرح نهج البلاغة ج : 17 ص : 208قلت أما تعجب المرتضى من كون قوم منعوا الزكاة و أقاموا على الصلاة و دعواه أن هذا غير ممكن و لا صحيح فالعجبنه كيف ينكر وقوع ذلك و كيف ينكر إمكانه أما الإمكان فلأنه لا ملازمة

(18/188)


بين العبادتين إلا من كونهما مقترنتين في بعض المواضع في القرآن و ذلك لا يوجب تلازمهما في الوجود أو من قوله إن الناس يعلمون كون الزكاة واجبة في دين الإسلام ضرورة كما تعلمون كون الصلاة في دين الإسلام ضرورة و هذا لا يمنع اعتقادهم سقوط وجوب الزكاة لشبهة دخلت عليهم فإنهم قالوا إن الله تعالى قال لرسوله خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَ تُزَكِّيهِمْ بِها وَ صَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ قالوا فوصف الصدقة المفروضة بأنها صدقة من شأنها أن يطهر رسول الله ص الناس و يزكيهم بأخذها منهم ثم عقب ذلك بأن فرض عليه مع أخذ الزكاة منهم أن يصلي عليهم صلاة تكون سكنا لهم قالوا و هذه الصفات لا تتحقق في غيره لأن غيره لا يطهر الناس و يزكيهم بأخذ الصدقة و لا إذا صلى على الناس كانت صلاته سكنا لهم فلم يجب علينا دفع الزكاة إلى غيره و هذه الشبهة لا تنافي كون الزكاة معلوما وجوبها ضرورة من دين محمد ص لأنهم ما جحدوا وجوبها و لكنهم قالوا إنه وجوب مشروط و ليس يعلم بالضرورة انتفاء كونها مشروطة و إنما يعلم ذلك بنظر و تأويل فقد بان أن ما ادعاه من الضرورة ليس بدال على أنه لا يمكن أحد اعتقاد نفي وجوب الزكاة بعد موت الرسول و لو عرضت مثل هذه الشبهة في صلاة لصح لذاهب أن يذهب إلى أنها قد سقطت عن الناس فأما الوقوع فهو المعلوم ضرورة بالتواتر كالعلم بأن أبا بكر ولي الخلافة بعد الرسول ص ضرورة بطريق التواتر و من أراد الوقوف على ذلك فلينظر في كتب التواريخ

(18/189)


شرح نهج البلاغة ج : 17 ص : 209فإنها تشتمل من ذلك على ما يشفي و يكفي و قال أبو جعفر محمد بن جرير الطبري في التاريخ الكبير بإسناد ذكره أن أبا بكر أقام بالمدينة بعد وفاة رسول الله ص و توجيهه أسامة في جيشه إلى حيث قتل أبوه زيد بن حارثة لم يحدث شيئا و جاءته ود العرب مرتدين يقرون بالصلاة و يمنعون الصدقة فلم يقيل منهم و ردهم و أقام حتى قدم أسامة بعد أربعين يوما من شخوصه و يقال بعد سبعين يوما. و روى أبو جعفر قال امتنعت العرب قاطبة من أداء الزكاة بعد رسول الله ص إلا قريشا و ثقيفا. و روى أبو جعفر عن السري عن شعيب عن سيف عن هشام بن عروة عن أبيه قال ارتدت العرب و منعت الزكاة إلا قريشا و ثقيفا فأما هوازن فقدمت رجلا و أخرت أخرى أمسكوا الصدقة. و روى أبو جعفر قال لما منعت العرب الزكاة كان أبو بكر ينتظر قدوم أسامة بالجيش فلم يحارب أحدا قبل قدومه إلا عبسا و ذبيان فإنه قاتلهم قبل رجوع أسامة. و روى أبو جعفر قال قدمت وفود من قبائل العرب المدينة فنزلوا على وجوه الناس بها و يحملونهم إلى أبي بكر أن يقيموا الصلاة و ألا يؤتوا الزكاة فعزم الله لأبي بكر على الحق و قال لو منعوني عقال بعير لجاهدتهم عليه. و روى أبو جعفر شعرا للخطيل بن أوس أخي الحطيئة في معنى منع الزكاة و أن شرح نهج البلاغة ج : 17 ص : 210أبا بكر رد سؤال العرب و لم يجبهم من جملتهأطعنا رسول الله إذا كان بيننا فيا لعباد الله ما لأبي بكرأ يورثها بكر إذا مات بعده و تلك لعمر الله قاصمة الظهرفهلا رددتم وفدنا بإجابة و هلا حسبتم منه راعية البكرفإن الذي سألوكم فمنعتم لكالتمر أو أحلى لحلف بني فهر

(18/190)


و روى أبو جعفر قال لما قدمت العرب المدينة على أبي بكر فكلموه في إسقاط الزكاة نزلوا على وجوه الناس بالمدينة فلم يبق أحد إلا و أنزل عليه ناسا منهم إلا العباس بن عبد المطلب ثم اجتمع إلى أبي بكر المسلمون فخوفوه بأس العرب و اجتماعها قال ضرار بن الأزور فما رأيت أحدا ليس رسول الله أملأ بحرب شعواء من أبي بكر فجعلنا نخوفه و نروعه و كأنما إنما نخبره بما له لا ما عليه و اجتمعت كلمة المسلمين على إجابة العرب إلى ما طلبت و أبى أبو بكر أن يفعل إلا ما كان يفعله رسول الله ص و أن يأخذ إلا ما كان يأخذ ثم أجلهم يوما و ليلة ثم أمرهم بالانصراف و طاروا إلى عشائرهم. و روى أبو جعفر قال كان رسول الله ص بعث عمرو بن العاص إلى عمان قبل موته فمات و هو بعمان فأقبل قافلا إلى المدينة فوجد العرب قد منعت الزكاة فنزل في بني عامر على قرة بن هبيرة و قرة يقدم رجلا و يؤخر أخرى و على ذلك بنو عامر كلهم إلا الخواص ثم قدم المدينة فأطافت به قريش فأخبرهم أن العساكر معسكرة حولهم فتفرق المسلمون و تحلقوا حلقا و أقبل عمر بن الخطاب فمر بحلقة شرح نهج البلاغة ج : 17 ص : 211و هم يتحدثون فيما سمعوا من عمرو و في تلك الحلقة علي و عثمان و طلحة و الزبير و عبد الرحمبن عوف و سعد فلما دنا عمر منهم سكتوا فقال في أي شي ء أنتم فلم يخبروه فقال ما أعلمني بالذي خلوتم عليه فغضب طلحة و قال الله يا ابن الخطاب إنك لتعلم الغيب فقال لا يعلم الغيب إلا الله و لكن أظن قلتم ما أخوفنا على قريش من العرب و أخلقهم ألا يقروا بهذا الأمر قاوا صدقت فقال فلا تخافوا هذه المنزلة أنا و الله منكم على العرب أخوف مني عليكم من العرب. قال أبو جعفر و حدثني السري قال حدثنا شعيب عن سيف عن هشام بن عروة عن أبيه قال نزل عمرو بن العاص بمنصرفه من عمان بعد وفاة رسول الله ص بقرة بن هبيرة بن سلمة بن يسير و حوله عساكر من أفنائهم فذبح له و أكرم منزلته فلما أراد الرحلة خلا به و

(18/191)


قال يا هذا إن العرب لا تطيب لكم أنفسا بالإتاوة فإن أنتم أعفيتموها من أخذ أموالها فستسمع و تطيع و إن أبيتم فإنها تجتمع عليكم فقال عمرو أ توعدنا بالعرب و تخوفنا بها موعدنا حفش أمك أما و الله لأوطئنه عليك الخيل و قدم على أبي بكر و المسلمين فأخبرهم. و روى أبو جعفر قال كان رسول الله ص قد فرق عماله في بني تميم على قبض الصدقات فجعل الزبرقان بن بدر على عوف و الرباب و قيس بن عاصم على مقاعس و البطون و صفوان بن صفوان و سبرة بن عمرو على بني عمرو و مالك بن نويرة على بني حنظلة فلما توفي رسول الله ص ضرب صفوان إلى أبي بكر حين وقع إليه الخبر بموت النبي ص بصدقات بني عمرو و بما ولي منها و ما ولي سبرة و أقام سبرة في قومه لحدث إن ناب و أطرق قيس بن عاصم ينظر ما الزبرقان صانع فكان له عدوا و قال و هو ينتظره و ينتظر ما يصنع و يلي عليه ما أدري ما أصنع إن أنا شرح نهج البلاغة ج : 17 ص : 212بايعت أبا بكر و أتيته بصدقات قومي خلفني فيهم فساءني عندهم و إن رددتها عليهم فليأتين أبا بكر فيسوءني عنده ثم عزم قيس على قسمتها في مقاعس و البطون ففعل و عزم الزبرقان على الوفاء فاتبع صفن بصدقات عوف و الرباب حتى قدم بها المدينة و قال شعرا يعرض فيه بقيس بن عاصم و من جملته
وفيت بأذواد الرسول و قد أبت سعاة فلم يردد بعيرا أميرها

(18/192)


فلما أرسل أبو بكر إلى قيس العلاء بن الحضرمي أخرج الصدقة فأتاه بها و قدم معه إلى المدينة. و في تاريخ أبي جعفر الطبري من هذا الكثير الواسع و كذلك في تاريخ غيره من التواريخ و هذا أمر معلوم باضطرار لا يجوز لأحد أن يخالف فيه فأما قوله كيف يصح ذلك و قد قال لهم أبو بكر إذا أذنوا و أقاموا كإقامتكم فكفوا عنهم فجعل أمارة الإسلام و البراءة من الردة الأذان و الإقامة فإنه قد أسقط بعض الخبر قال أبو جعفر الطبري في كتابه كانت وصيته لهم إذا نزلتم فأذنوا و أقيموا فإن أذن القوم و أقاموا فكفوا عنهم فإن لم يفعلوا فلا شي ء إلا لغارة ثم اقتلوهم كل قتلة الحرق فما سواه و إن أجابوا داعية الإسلام فاسألوهم فإن أقروا بالزكاة فاقبلوا منهم و إن أبوا فلا شي ء إلا الغارة و لا كلمة. فأما قوله و كيف يطلق قاضي القضاة في سائر أهل الردة ما أطلقه من أنهم كانوا يصلون و من جملتهم أصحاب مسيلمة و طحة فإنما أراد قاضي القضاة بأهل الردة هاهنا مانعي الزكاة لا غير و لم يرد من جحد الإسلام بالكلية. فأما قصة مالك بن نويرة و خالد بن الوليد فإنها مشتبهة عندي و لا غرو فقد اشتهت على الصحابة و ذلك أن من حضرها من العرب اختلفوا في حال القوم هل كان شرح نهج البلاغج : 17 ص : 213عليهم شعار الإسلام أو لا و اختلف أبو بكر و عمر في خالد مع شدة اتفاقهما فأما الشعر الذي رواه المرتضى لمالك بن نويرة فهو معروف إلا البيت الأخير فإنه غير معروف و عليه عمدة المرتضى في هذا المقام و ما ذكره بعد من قصة القوم صحيح كله مطابق لما في التواريخ إلا مويضعات يسيرة. منها قوله إن مالكا نهى قومه عن الاجتماع على منع الصدقات فإن ذلك غير منقول و إنما المنقول أنه نهى قومه عن الاجتماع في موضع واحد و أمرهم أن يتفرقوا في مياههم ذكر ذلك الطبري و لم يذكر نهيه إياهم عن الاجتماع على منع الصدقة و قال الطبري إن مالكا تردد في أمره هل يحمل الصدقات أم لا فجاءه خالد و هو متحير

(18/193)


سبح. و منها أن الطبري ذكر أن ضرار بن الأزور قتل مالكا عن غير أمر خالد و أن خالدا لما سمع الواعية خرج و قد فرغوا منهم فقال إذا أراد الله أمرا أصابه قال الطبري و غضب أبو قتادة لذلك و قال لخالد هذا عملك و فارقه و أتى أبا بكر فأخبره فغضب عليه أبو بكر حتى كلمه فيه عمر فلم يرض إلا أن يرجع إلى خالد فرجع إليه حتى قدم معه المدينة. و منها أن الطبري روى أن خالدا لما تزوج أم تميم بنت المنهال امرأة مالك لم يدخل بها و تركها حتى تقضي طهرها و لم يذكر المرتضى ذلك. و منها أن الطبري روى أن متمما لما قدم المدينة طلب إلى أبي بكر في سبيهم فكتب له برد السبي و المرتضى ذكر أنه لم يرد إلا في خلافة عمر. فأما قول المرتضى إن قول متمم لو قتل أخي على مثل ما قتل عليه أخوك لما رثيته شرح نهج البلاغة ج : 17 ص : 214لا يدل علردته فصحيح و لا ريب أنه قصد تقريظ زيد بن الخطاب و أن يرضي عمر أخاه بذلك و نعما قال المرتضى إن بين القتلتين فرقا ظاهرا و إليه أشار متمم لا محالة. فأما قول مالك صاحبك يعني النبي ص فقد روى هذه اللفظة الطبري في التاريخ قال كان خالد يعتذر عن قتله فيقول إنه قال له و هو يراجعه ما إخال صاحبكم إلا قال كذا و كذا فقال له خالد أ و ما تعده لك صاحبا و هذه لعمري كلمة جافية و إن كان لها مخرج في التأويل إلا أنه مستكره و قرائن الأحوال يعرفها من شاهدها و سمعها فإذا كان خالد قد كان يعتذر بذلك فقد اندفع قول المرتضى هلا اعتذر بذلك و لست أنزه خالدا عن الخطإ و أعلم أنه كان جبارا فاتكا لا يراقب الدين فيما يحمله عليه الغضب و هوى نفسه و لقد وقع منه في حياة رسول الله ص مع بني خذيمة بالغميصاء أعظم مما وقع منه في حق مالك بن نويرة و عفا عنه رسول الله ص بعد أن غضب عليه مدة و أعرض عنه و ذلك العفو هو الذي أطمعه حتى فعل ببني يربوع ما فعل بالبطاح.
الطعن الثامن

(18/194)


قولهم إن مما يؤثر في حاله و حال عمر دفنهما مع رسول الله ص في بيته و قد منع الله تعالى الكل من ذلك في حال حياته فكيف بعد الممات بقوله تعالى لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ. أجاب قاضي القضاة بأن الموضع كان ملكا لعائشة و هي حجرتها التي كانت شرح نهج البلاغة ج : 17 ص : 215معروفة بها و الحجر كلها كانت أملاكا لأزواج النبي ص و قد نطق القرآن بذلك في قوله وَ قَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ و ذكر أن عمر استأذن عائشة في أن يدفن في ذلك الموضع و حتى قال إن لم تأذن لي فادفنوني في البقيع و على هذا اله يحمل ما
روي عن الحسن ع أنه لما مات أوصى أن يدفن إلى جنب رسول الله ص و إن لم يترك ففي البقيع

(18/195)


فلما كان من مروان و سعيد بن العاص ما كان دفن بالبقيع و إنما أوصى بذلك بإذن عائشة و يجوز أن يكون علم من عائشة أنها جعلت الموضع في حكم الوقف فاستباحوا ذلك لهذا الوجه قال و في دفنه ع في ذلك الموضع ما يدل على فضل أبي بكر لأنه ع لما مات اختلفوا في موضع دفنه و كثر القول حتى روى أبو بكر عنه ص أنه قال ما يدل على أن الأنبياء إذا ماتوا دفنوا حيث ماتوا فزال الخلاف في ذلك. اعترض المرتضى فقال لا يخلو موضع قبر النبي ص من أن يكون باقيا على ملكه ع أو يكون انتقل في حياته إلى عائشة على ما ادعاه فإن كان الأول لم يخل أن يكون ميراثا بعده أو صدقة فإن كان ميراثا فما كان يحل لأبي بكر و لا لعمر من بعده أن يأمرا بدفنهما فيه إلا بعد إرضاء الورثة الذين هم على مذهبنا فاطمة و جماعة الأزواج و على مذهبهم هؤلاء و العباس و لم نجد واحدا منهما خاطب أحدا من هؤلاء الورثة على ابتياع هذا المكان و لا استنزله عنه بثمن و لا غيره و إن كان صدقة فقد كان يجب أن يرضى عنه جماعة المسلمين و يبتاعه منهم هذا إن جاز الابتياع لما يجري هذا المجرى و إن كان انتقل في حياته فقد كان يجب أن يظهر سبب انتقاله و الحجة فيه فإن فاطمة ع لم يقنع منها في انتقال فدك إلى ملكها بقولها و لا بشهادة من شرح نهج البلاغة ج : 17 ص : 216شهد لها فأما تعلقه بإضافة البيوت إليهن في قوله وَ قَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ فمن ضعيف الشبهة لأنا قد بينا فيما مضى من هذا الكتاب أن هذه الإضافة لا تقتضي الملك و إنما تقتضي السكنى و العادة في استعمال هذه اللف فيما ذكرناه ظاهرة قال تعالى لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ و لم يرد الله تعالى إلا حيث يسكن و ينزلن دون حيث يملكن و ما أشبهه و أظرف من كل شي ء تقدم قوله إن الحسن ع استأذن عائشة في أن يدفن في البيت حتى منعه مروان و سعيد بن العاص لأن هذه مكابرة منه ظارة فإن المانع للحسن ع من ذلك لم يكن إلا عائشة و لعل من ذكره من

(18/196)


مروان و سعيد و غيرهما أعانها و اتبع في ذلك أمرهما و روي أنها خرجت في ذلك اليوم على بغل حتى قال ابن عباس يوما على بغل و يوما على جمل فكيف تأذن عائشة في ذلك و هي مالكة الموضع على قولهم و يمنع منه مروان و غيره ممن لا ملك له في الموضع و لا شركة و لا يد و هذا من قبيح ما يرتكب و أي فضل لأبي بكر في روايته عن النبي ص حديث الدفن و عملهم بقوله إن صح فمن مذهب صاحب الكتاب و أصحابه العمل بخبر الواحد العدل في أحكام الدين العظيمة فكيف لا يعمل بقول أبي بكر في الدفن و هم يعملون بقول من هو دونه فيما هو أعظم من ذلك قلت أما أبو بكر فإنه لا يلحقه بدفنه مع الرسول ص ذم لأنه ما دفن نفسه و إنما دفنه الناس و هو ميت فإن كان ذلك خطأ فالإثم و الذم لاحقان بمن فعل به ذلك و لم يثبت عنه بأنه أوصى أن يدفن مع رسول الله ص و إنما قد يمكن أن يتوجه هذا الطعن إلى عمر لأنه سأل عائشة أن يدفن في الحجرة مع رسول الله ص و أبي بكر و القول عندي مشتبه في أمر حجر الأزواج

(18/197)


شرح نهج البلاغة ج : 17 ص : 217هل كانت على ملك رسول الله ص إلى أن توفي أم ملكها نساؤه و الذي تنطق به التواريخ أنه لما خرج من قباء و دخل المدينة و سكن منزل أبي أيوب اختط المسجد و اختط حجر نسائه و بناته و هذا يدل على أنه كان المالك للمواضع و أما خروجها عن كه إلى الأزواج و البنات فمما لم أقف عليه و يجوز أن تكون الصحابة قد فهمت من قرائن الأحوال و مما شاهدوه منه ع أنه قد أقر كل بيت منها في يد زوجة من الزوجات على سبيل الهبة و العطية و إن لم ينقل عنه في ذلك صيغة لفظ معين و القول في بيت فاطمة ع كذلك لأن فاطمة ع لم تكن تملك مالا و علي ع بعلها كان فقيرا في حياة رسول الله ص حتى أنه كان يستقي الماء ليهود بيده يسقي بساتينهم لقوت يدفعونه إليه فمن أين كان له ما يبتاع به حجرة يسكن فيها هو و زوجته و القول في كثير من الزوجات كذلك أنهن كن فقيرات مدقعات نحو صفية بنت حيي بن أخطب و جويرية بنت الحارث و ميمونة و غيرهن فلا وجه يمكن أن يتملك منه هؤلاء النسوة و البنت الحجر إلا أن يكون رسول الله ص وهبها لهن هذا إن ثبت أنها خرجت عن ملكيته ع و إلا فهي باقية على ملكيته باستصحاب الحال و القول في حجرة زينب بنت رسول الله ص كذلك لأنه أقدمها من مكة مفارقة لبعلها أبي العاص بن الربيع فأسكنها بالمدينة في حجرة منفردة خالية عن بعل فلا بد أن تكون تلك الحجرة بمقتضى ما يتغلب على الظن ملكا له ع فيستدام الحكم بملكه لها إلى أن نجد دليلا ينقلنا عن ذلك و أما رقية و أم كلثوم زوجتا عثمان فإن كان مثريا ذا مال فيجوز أن يكون ابتاع حجرة سكنت فيها الأولى منهما ثم الثانية بعدها. شرح نهج البلاغة ج : 17 ص : 218فأما احتجاج قاضي القضاة بقوله وَ قَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ فاعتراض المرتضى عليه قوي لأن هذه الإضافة إنما تقتضي التخصيص فقط لا التمليك كما قال لا تُخْرِجُوهُنَِّنْ بُيُوتِهِنَّ و يجوز أن يكون أبو بكر لما روى قوله نحن لا نورث

(18/198)


ترك الحجر في أيدي الزوجات و البنت على سبيل الإقطاع لهن لا التمليك أي أباحهن السكنى لا التصرف في رقاب الأرض و الأبنية و الآلات لما رأى في ذلك من المصلحة و لأنه كان من المتهجن القبيح إخراجهن من البيوت و ليس كذلك فدك فإنها قرية كبيرة ذات نخل كثير خارجة عن المدينة و لم تكن فاطمة متصرفة فيها من قبل نفسها و لا بوكيلها و لا رأتها قط فلا تشبه حالها حال الحجر و أيضا لإباحة هذه الحجر و نزارة أثمانهن فإنها كانت مبنية من طين قصيرة الجدران فلعل أبا بكر و الصحابة استحقروها فأقروا النساء فيها و عوضوا المسلمين عنها بالشي ء اليسير مما يقتضي الحساب أن يكون من سهم الأزواج و البنت عند قسمة الفي ء. و أما القول في الحسن و ما جرى من عائشة و بني أمية فقد تقدم و كذلك القول في الخبر المروي في دفن الرسول ع فكان أبو المر هبة الله بن الموسوي صدر المخزن المعمور كان في أيام الناصر لدين الله إذا حادثته حديث وفاة رسول الله ص و رواية أبي بكر ما رواه من
قوله ع الأنبياء يدفنون حيث يموتون

(18/199)


يحلف أن أبا بكر افتعل هذا الحديث في الحال و الوقت ليدفن النبي ص في حجرة ابنته ثم يدفن هو معه عند موته علما منه أنه لم يبق من عمره إلا مثل ظم ء الحمار و أنه إذا دفن النبي ص في حجرة ابنته فإن ابنته تدفنه لا محالة في حجرتها عند بعلها و إن دفن النبي ص في موضعشرح نهج البلاغة ج : 17 ص : 219آخر فربما لا يتهيأ له أن يدفن عنده فرأى أن هذا الفوز بهذا الشرف العظيم و هذا المكان الجليل مما لا يقتضي حسن التدبير فوته و إن انتهاز الفرصة فيه واجب فروى لهم الخبر فلا يمكنهم بعد روايته ألا يعملوا به لا سيما و قد صار هو الخلة و إليه السلطان و النفع و الضرر و أدرك ما كان في نفسه ثم نسج عمر على منواله فرغب إلى عائشة في مثل ذلك و قد كان يكرمها و يقدمها على سائر الزوجات في العطاء و غيره فأجابته إلى ذلك و كان مطاعا في حياته و بعد مماته و كان يقول وا عجبا للحسن و طمعه في أن يدفن في حجرة عائشة و الله لو كان أبوه الخليفة يومئذ لما تهيأ له ذلك و لا تم لبغض عائشة لهم و حسد الناس إياهم و تمالؤ بني أمية و غيرهم من قريش عليهم و لهذا قالوا يدفن عثمان في حش كوكب و يدفن الحسن في حجرة رسول الله ص فكيف و الخليفة معاوية و الأمراء بالمدينة بنو أمية و عائشة صاحبة الموضع و الناصر لبني هاشم قليل و الشانئ كثير. و أنا أستغفر الله مما كان أبو المظفر يحلف عليه و أعلم و أظن ظنا شبيها بالعلم أن أبا بكر ما روى إلا ما سمع و أنه كان أتقى لله من ذلك.
الطعن التاسع

(18/200)


قولهم إنه نص على عمر بالخلافة فخالف رسول الله ص على زعمه لأنه كان يزعم هو و من قال بقوله أن رسول الله ص لم يستخلف. شرح نهج البلاغة ج : 17 ص : 220و الجواب أن كونه لم يستخلف لا يدل على تحريم الاستخلاف كما أنه من لم يركب الفيل لا يدل على تحريم ركوب الفيل فإقالوا ركوب الفيل فيه منفعة و لا مضرة فيه و لم يرد نص بتحريمه فوجب أن يحسن قيل لهم و الاستخلاف مصلحة و لا مضرة فيه و قد أجمع المسلمون أنه طريق إلى الإمامة فوجب كونه طريقا إليها و قد روي
عن عمر أنه قال إن أستخلف فقد استخلف من هو خير مني يعني أبا بكر و إن أترك فقد ترك من هو خير مني يعني رسول الله ص
فأما الاجتماع المشار إليه فهو أن الصحابة أجمعوا على أن عمر إمام بنص أبي بكر عليه و أنفذوا أحكامه و انقادوا إليه لأجل نص أبي بكر لا لشي ء سواه فلو لم يكن ذلك طريقا إلى الإمامة لما أطبقوا عليه و قد اختلف الشيخان أبو علي و أبو هاشم في أن نص الإمام على إمام بده هل يكفي في انعقاد إمامته فقال أبو علي لا يكفي بل لا بد من أن يرضى به أربعة حتى يجري عهده إليه مجرى عقد الواحد برضا أربعة فإذا قارنه رضا أربعة صار بذلك إماما و يقول في بيعة عمر أن أبا بكر أحضر جماعة من الصحابة لما نص عليه و رجع إلى رضاهم بذلك و قال أبو هاشم بل يكفي نصه ع و لا يراعى في ذلك رضا غيره به و لو ثبت أن أبا بكر فعله لكان على طريق التبع للنص لا أنه يؤثر في إمامته مع العهد و لعل أبا بكر إن كان فعل ذلك فقد استطاب به نفوسهم و لهذا لم يؤثر فيه كراهية طلحة حين قال وليت علينا فظا غليظا و يبين ذلك أنه لم ينقل استئناف العقد من الصحابة لعمر بعد موت أبي بكر و لا اجتماع جماعة لعقد البيعة له و الرضا به فدل على أنهم اكتفوا بعهد أبي بكر إليه

(18/201)


شرح نهج البلاغة ج : 17 ص : 221الطعن العاشرقولهم إنه سمى نفسه بخليفة رسول الله ص لاستخلافه إياه بعد موته مع اعترافه أنه لم يستخلفه. و الجواب أن الصحابة سمته خليفة رسول الله ص لاستخلافه إياه على الصلاة عند موته و الاستخلاف على الصلاة عند الموت له مزية على الاستخلاف على الصلاة حال الحياة لأن حال الموت هي الحال التي تكون فيها العهود و الوصايا و ما يهتم به الإنسان من أمور الدنيا و الدين لأنها حال المفارقة و أيضا فإن رسول الله ص ما استخلف أحدا على الصلاة بالمدينة و هو حاضر و إنما كان يستخلف على الصلاة قوما أيام غيبته عن المدينة فلم يحصل الاستخلاف المطلق على الصلاة بالناس كلهم و هو ص حاضر بين الناس حي إلا لأبي بكر و هذه مزية ظاهرة على سائر الاستخلافات في أمر الصلاة فلذلك سموه خليفة رسول الله ص و بعد فإذا ثبت أن الإجماع على كون الاختيار طريقا إلى الإمامة و حجة و ثبت أن قوما من أفاضل الصحابة اختاروه للخلافة فقد ثبت أنه خليفة رسول الله ص لأنه لا فرق بين أن ينص الرسول ص على شخص معين و بين أن يشير إلى قوم فيقول من اختار هؤلاء القوم فهو الإمام في أن كل واحد منهما يصح أن يطلق عليه خليفة رسول الله ص.
شرح نهج البلاغة ج : 17 ص : 222الطعن الحادي عشرقولهم إنه حرق الفجاءة السلمي بالنار و قد نهى النبي ص أن يحرق أحد بالنار. و الجواب أن الفجاءة جاء إلى أبي بكر كما ذكر أصحاب التواريخ فطلب منه سلاحا يتقوى به على الجهاد في أهل الردة فأعطاه فلما خرج قطع الطريق و نهب أموال المسلمين و أهل الردة جميعا و قتل كل من وجد كما فعلت الخوارج حيث خرجت فلما ظفر به أبو بكر رأى حرقه بالنار إرهابا لأمثاله من أهل الفساد و يجوز للإمام أن يخص النص العام بالقياس الجلي عندنا.
الطعن الثاني عشر

(18/202)


قولهم إنه تكلم في الصلاة قبل التسليم فقال لا يفعلن خالد ما أمرته قالوا و لذلك جاز عند أبي حنيفة أن يخرج الإنسان من الصلاة بالكلام و غيره من مفسدات الصلاة من دون تسليم و بهذا احتج أبو حنيفة. و الجواب أن هذا من الأخبار التي تتفرد بها الإمامية و لم تثبت و أما أبو حنيفة فلم يذهب إلى ما ذهب إليه لأجل هذا الحديث و إنما احتج بأن التسليم خطاب آدمي و ليس هو من الصلاة و أذكارها و لا من أركانها بل هو ضدها و لذلك يبطلها قبل التمام و لذلك لا يسلم المسبوق تبعا لسلام الإمام بل يقوم من غير تسليم فدل على أنه ضد للصلاة و جميع الأضداد بالنسبة إلى رفع الضد على وتيرة واحدة و لذلك استوى الكل في شرح نهج البلاغة ج : 17 ص : 223الإبطال قبل التمام فيستوي الكل في الانتهاء بعد التمام و ما يذكره القوم من سبب كلام أبي بكر في الصلاة أمر بعيد و لو كان أبو بكر يريد ذلك لأمر خالد أن يفعل ذلالفعل بالشخص المعروف و هو نائم ليلا في بيته و لا يعلم أحد من الفاعل.
الطعن الثالث عشر
قولهم إنه كتب إلى خالد بن الوليد و هو على الشام يأمره أن يقتل سعد بن عبادة فكمن له هو و آخر معه ليلا فلما مر بهما رمياه فقتلاه و هتف صاحب خالد في ظلام الليل بعد أن ألقيا سعدا في بئر هناك فيها ماء ببيتين

(18/203)


نحن قتلنا سيد الخزرج سعد بن عباده و رميناه بسهمين فلم تخط فؤادهيوهم أن ذلك شعر الجن و أن الجن قتلت سعدا فلما أصبح الناس فقدوا سعدا و قد سمع قوم منهم ذلك الهاتف فطلبوه فوجدوه بعد ثلاثة أيام في تلك البئر و قد اخضر فقالوا هذا مسيس الجن و قال شيطان الطاق لسائل سأله ما منع عليا أن يخاصم أبا بكر في الخلافة فقال يا ابن أخي خاف أن تقتله الجن. و الجواب أما أنا فلا أعتقد أن الجن قتلت سعدا و لا أن هذا شعر الجن و لا أرتاب أن البشر قتلوه و أن هذا الشعر شعر البشر و لكن لم يثبت عندي أن أبا بكر أمر خالدا و لا أستبعد أن يكون فعله من تلقاء نفسه ليرضى بذلك أبا بكر و حاشاه فيكون الإثم على شرح نهج البلاغة ج : 17 ص : 224خالد و أبو بكر بري ء من إثمه و ما ذلك من أفعال خالد ببعيدالطعن الرابع عشر
قولهم إنه لما استخلف قطع لنفسه على بيت المال أجرة كل يوم ثلاثة دراهم قالوا و ذلك لا يجوز لأن مصارف أموال بيت المسلمين لم يذكر فيها أجرة للإمام. و الجواب أنه تعالى جعل في جملة مصرف أموال الصدقات العاملين عليها و أبو بكر من العاملين و اعلم أن الإمامية لو أنصفت لرأت أن هذا الطعن بأن يكون من مناقب أبي بكر أولى من أن يكون من مساويه و مثالبه و لكن العصبية لا حيلة فيها.
الطعن الخامس عشر

(18/204)


قولهم إنه لما استخلف صرخ مناديه في المدينة من كان عنده شي ء من كلام الله فليأتنا به فإنا عازمون على جمع القرآن و لا يأتنا بشي ء منه إلا و معه شاهدا عدل قالوا و هذا خطأ لأن القرآن قد بان بفصاحته عن فصاحة البشر فأي حاجة إلى شاهدي عدل. و الجواب أن المرتضى ون تابعه من الشيعة لا يصح لهم هذا الطعن لأن القرآن عندهم ليس معجزا بفصاحته على أن من جعل معجزته للفصاحة لم يقل إن كل آية من القرآن هي معجزة في الفصاحة و أبو بكر إنما طلب كل آية من القرآن لا السورة بتمامها و كمالها التي يتحقق الإعجاز من طريق الفصاحة فيها و أيضا فإنه لو أحضر إنسان آية أو آيتين و لم يكن معه شاهد فربما تختلف العرب هل هذه في الفصاحة بالغة شرح نهج البلاغة ج : 17 ص : 225مبلغ الإعجاز الكلي أم هي ثابتة من كلام العرب بثبوته غير بالغة إلى حد الإعجاز فكان يلتبس الأمر و يقع النزاع فاستظهر أبو بكر بطلب شهود تأكيدا لأنه إذا انضمت الشهادة إلى الفصاحة الظاهرة ثبت أن ذلك الكلام من القرآن

(18/205)


وَ مِنْ هَذَا الْكِتَابِ إِنِّي وَ اللَّهِ لَوْ لَقِيتُهُمْ وَاحِداً وَ هُمْ طِلَاعُ الْأَرْضِ كُلِّهَا مَا بَالَيْتُ وَ لَا اسْتَوْحَشْتُ وَ إِنِّي مِنْ ضَلَالِهِمُ الَّذِي هُمْ فِيهِ وَ الْهُدَى الَّذِي أَنَا عَلَيْهِ لَعَلَى بَصِيرَةٍ مِنْ نَفْسِي وَ يَقِينٍ مِنْ رَبِّي وَ إِنِّي إِلَى لِقَاءِ اللَّهِ لَمُشْتَاقٌ وَ لِحُسْنِ ثَوَابِهِ لَمُنْتَظِرٌ رَاجٍ وَ لَكِنَّنِي آسَى أَنْ يَلِيَ هَذِهِ الْأُمَّةَ سُفَهَاؤُهَا وَ فُجَّارُهَا فَيَتَّخِذُوا مَالَ اللَّهِ دُوَلًا وَ عِبَادَهُ خَوَلًا وَ الصَّالِحِينَ حَرْباً وَ الْفَاسِقِينَ حِزْباً فَإِنَّ مِنْهُمُ الَّذِي شَرِبَ فِيكُمُ الْحَرَامَ وَ جُلِدَ حَدّاً فِي الْإِسْلَامِ وَ إِنَّ مِنْهُمْ مَنْ لَمْ يُسْلِمْ حَتَّى رُضِخَتْ لَهُ عَلَى الْإِسْلَامِ الرَّضَائِخُ فَلَوْ لَا ذَلِكَ مَا أَكْثَرْتُ تَأْلِيبَكُمْ وَ تَأْنِيبَكُمْ وَ جَمْعَكُمْ وَ تَحْرِيضَكُمْ وَ لَتَرَكْتُكُمْ إِذْ أَبَيْتُمْ وَ وَنَيْتُمْ أَ لَا تَرَوْنَ إِلَى أَطْرَافِكُمْ قَدِ انْتَقَصَتْ وَ إِلَى أَمْصَارِكُمْ قَدِ افْتُتِحَتْ وَ إِلَى مَمَالِكِكُمْ تُزْوَى وَ إِلَى بِلَادِكُمْ تُغْزَى انْفِرُوا رَحِمَكُمُ اللَّهُ إِلَى قِتَالِ عَدُوِّكُمْ وَ لَا تَثَّاقَلُوا إِلَى الْأَرْضِ فَتُقِرُّوا بِالْخَسْفِ وَ تَبَوَّءُوا بِالذُّلِّ وَ يَكُونَ نَصِيبُكُمُ الْأَخَسَّ وَ إِنَّ أَخَا الْحَرْبِ الْأَرِقُ وَ مَنْ نَامَ لَمْ يُنَمْ عَنْهُ وَ السَّلَامُ

(18/206)


شرح نهج البلاغة ج : 17 ص : 226طلاع الأرض ملؤها و منه قول عمر لو أن لي طلاع الأرض ذهبا لافتديت به من هول المطلع. و آسى أحزن. و أكثرت تأليبكم تحريضكم و إغراءكم به و التأنيب أشد اللوم. و ونيتم ضعفتم و فترتم و ممالككم تزوى أي تقبض. و لا تثاقلوا بالتشديد أصلتتثاقلوا و تقروا بالخسف تعترفوا بالضيم و تصبروا له و تبوءوا بالذل ترجعوا به و الأرق الذي لا ينام و مثل قوله ع من نام لم ينم عنه قول الشاعر
لله درك ما أردت بثائر حران ليس عن الترات براقدأسهرته ثم اضطجعت و لم ينم حنقا عليك و كيف نوم الحاقد

(18/207)


فأما الذي رضخت له على الإسلام الرضائخ فمعاوية و الرضيخة شي ء قليل يعطاه الإنسان يصانع به عن شي ء يطلب منه كالأجر و ذلك لأنه من المؤلفة قلوبهم الذين رغبوا في الإسلام و الطاعة بجمال وشاء دفعت إليهم و هم قوم معروفون كمعاوية و أخيه يزيد و أبيهما أبي سفيان و يم بن حزام و سهيل بن عمرو و الحارث بن هشام بن المغيرة و حويطب بن عبد العزى و الأخنس بن شريق و صفوان بن أمية و عمير بن وهب الجمحي و عيينة بن حصن و الأقرع بن حابس و عباس بن مرداس و غيرهم و كان إسلام هؤلاء للطمع و الأغراض الدنياوية و لم يكن عن أصل و لا عن يقين و علم. شرح نهج البلاغة ج : 17 ص : 227و قال الراوندي عنى بقوله رضخت لهم الرضائخ عمرو بن العاص و ليس بصحيح لأن عمرا لم يسلم بعد الفتح و أصحاب الرضائخ كلهم أسلموا بعد الفتح صونعوا على الإسلام بغنائم حنين و لعمري إن إسلام عمرو كان مدخولا أيضا إلا أنه لم يكعن رضيخة و إنما كان لمعنى آخر فأما الذي شرب الحرام و جلد في حد الإسلام فقد قال الراوندي هو المغيرة بن شعبة و أخطأ فيما قال لأن المغيرة إنما اتهم بالزنى و لم يحد و لم يجر للمغيرة ذكر في شرب الخمر و قد تقدم خبر المغيرة مستوفى و أيضا فإن المغيرة لم يشهد صفين مع معاوية و لا مع علي ع و ما للراوندي و لهذا إنما يعرف هذا الفن أربابه و الذي عناه علي ع الوليد بن عقبة بن أبي معيط و كان أشد الناس عليه و أبلغهم تحريضا لمعاوية و أهل الشام على حربه
أخبار الوليد بن عقبة

(18/208)


و نحن نذكر خبر الوليد و شربه الخمر منقولا من كتاب الأغاني لأبي الفرج علي بن الحسين الأصفهاني قال أبو الفرج كان سبب إمارة الوليد بن عقبة الكوفة لعثمان ما حدثني به أحمد بن عبد العزيز الجوهري قال حدثنا عمر بن شبة قال حدثني عبد العزيز بن محمد بن حكيم عن خالد بن سعيد بن عمرو بن سعيد عن أبيه قال لم يكن يجلس مع عثمان على سريره إلا العباس بن عبد المطلب و أبو سفيان بن حرب و الحكم بن أبي العاص و الوليد بن عقبة و لم يكن سريره يسع إلا عثمان و واحدا منهم فأقبل الوليد يوما فجلس فجاء الحكم بن أبي العاص فأومأ عثمان إلى الوليد فرحل له عن مجلسه فلما قام الحكم قال الوليد و الله يا أمير المؤمنين لقد تلجلج في صدري بيتان قلتهما حين رأيتك آثرت ابن عمك على ابن أمك و كان الحكم عم عثمان و الوليد أخاه شرح نهج البلاغة ج : 17 ص : 228لأمه فقال عثمان إن الحكم شيخ قريش فما البيتان فقالرأيت لعم المرء زلفى قرابة دوين أخيه حادثا لم يكن قدمافأملت عمرا أن يشب و خالدا لكي يدعواني يوم نائبة عما
يعني عمرا و خالدا ابني عثمان قال فرق له عثمان و قال قد وليتك الكوفة فأخرجه إليها. قال أبو الفرج و أخبرني أحمد بن عبد العزيز قال حدثني عمر بن شبة قال حدثني بعض أصحابنا عن ابن دأب قال لما ولى عثمان الوليد بن عقبة الكوفة قدمها و عليها سعد بن أبي وقاص فأخبر بقدومه و لم يعلم أنه قد أمر فقال و ما صنع قالوا وقف في السوق فهو يحدث الناس هناك و لسنا ننكر شيئا من أمره فلم يلبث أن جاءه نصف النهار فاستأذن على سعد فأذن له فسلم عليه بالإمرة و جلس معه فقال له سعد ما أقدمك يا أبا وهب قال أحببت زيارتك قال و على ذاك أ جئت بريدا قال أنا أرزن من ذلك و لكن القوم احتاجوا إلى عملهم فسرحوني إليه و قد استعملني أمير المؤمنين على الكوفة فسكت سعد طويلا ثم قال لا و الله ما أدري أصلحت بعدنا أم فسدنا بعدك ثم قال

(18/209)


كليني و جريني ضباع و أبشري بلحم امرئ لم يشهد اليوم ناصره
فقال الوليد أما و الله لأنا أقول للشعر منك و أروى له و لو شئت لأجبتك و لكني أدع ذاك لما تعلم نعم و الله لقد أمرت بمحاسبتك و النظر في أمر عمالك ثم بعث إلى عمال سعد فحبسهم و ضيق عليهم فكتبوا إلى سعد يستغيثون به فكلمه فيهم فقال له أ و للمعروف عندك موضع قال نعم فخلى سبيلهم. شرح نهج البلاغة ج : 17 ص : 229قال أحمد و حدثني عمر عن أبي بكر الباهلي عن هشيم عن العوام بن حوشب قال لما قدم الوليد على سعد قال له سعد و الله ما أدري كست بعدنا أم حمقنا بعدك فقال لا تجزعن يا أبا إسحاق فإنه الملك يتغداه قوم و يتعشاه آخرون فق سعد أراكم و الله ستجعلونه ملكا. قال أبو الفرج و حدثنا أحمد قال حدثني عمر قال حدثني هارون بن معروف عن ضمرة بن ربيعة عن ابن شوذب قال صلى الوليد بأهل الكوفة الغداة أربع ركعات ثم التفت إليهم فقال أزيدكم فقال عبد الله بن مسعود ما زلنا معك في زيادة منذ اليوم. قال أبو الفرج و حدثني أحمد قال حدثنا عمر قال حدثنا محمد بن حميد قال حدثنا جرير عن الأجلح عن الشعبي قال قال الحطيئة يذكر الوليد
شهد الحطيئة يوم يلقى ربه إن الوليد أحق بالغدرنادى و قد تمت صلاتهم أ أزيدكم سكرا و لم يدرفأبوا أبا وهب و لو أذنوا لقرنت بين الشفع و الوتركفوا عنانك إذ جريت و لو تركوا عنانك لم تزل تجري

(18/210)


شرح نهج البلاغة ج : 17 ص : 230و قال الحطيئة أيضاتكلم في الصلاة و زاد فيها علانية و أعلن بالنفاق و مج الخمر في سنن المصلي و نادى و الجميع إلى افتراق أزيدكم على أن تحمدوني فما لكم و ما لي من خلاقال أبو الفرج و أخبرنا محمد بن خلف وكيع قال حدثنا حماد بن إسحاق قال حدثني أبي قال قال أبو عبيدة و هشام بن الكلبي و الأصمعي كان الوليد زانيا يشرب الخمر فشرب بالكوفة و قام ليصلي بهم الصبح في المسجد الجامع فصلى بهم أربع ركعات ثم التفت إليهم فقال أزيدكم و تقيأ في المحراب بعد أن قرأ بهم رافعا صوته في الصلاة
علق القلب الربابا بعد ما شابت و شابا
فشخص أهل الكوفة إلى عثمان فأخبروه بخبره و شهدوا عليه بشرب الخمر فأتي به فأمر رجلا من المسلمين أن يضربه الحد فلما دنا منه قال نشدتك الله و قرابتي من أمير المؤمنين فتركه فخاف علي بن أبي طالب ع أن يعطل الحد فقام إليه فحده بيده فقال الوليد نشدتك الله و القرابة فقال أمير المؤمنين ع اسكت أبا وهب فإنما هلك بنو إسرائيل لتعطيلهم الحدود فلما ضربه و فرغ منه قال لتدعوني قريش بعدها جلادا قال إسحاق و حدثني مصعب بن الزبير قال قال الوليد بعد ما شهدوا عليه فجلد اللهم إنهم قد شهدوا علي بزور فلا ترضهم عن أمير و لا ترض عنهم أميرا قال و قد عكس الحطيئة أبياته فجعلها مدحا للوليد
شهد الحطيئة حين يلقى ربه أن الوليد أحق بالعذر

(18/211)


شرح نهج البلاغة ج : 17 ص : 231كفوا عنانك إذ جريت و لو تركوا عنانك لم تزل تجري و رأوا شمائل ماجد أنف يعطى على الميسور و العسرفنزعت مكذوبا عليك و لم تنزع على طمع و لا ذقال أبو الفرج و نسخت من كتاب هارون بن الرباب بخطه عن عمر بن شبة قال شهد رجل عند أبي العجاج و كان على قضاء البصرة على رجل من المعيطيين بشهادة و كان الشاهد سكران فقال المشهود عليه و هو المعيطي أعزك الله أيها القاضي إنه لا يحسن من السكر أن يقرأ شيئا من القرآن فقال الشاهد بلى أحسن قال فاقرأ فقال
علق القلب الربابا بعد ما شابت و شابا

(18/212)


يمجن بذلك و يحكي ما قاله الوليد في الصلاة و كان أبو العجاج أحمق فظن أن هذا الكلام من القرآن فجعل يقول صدق الله و رسوله ويلكم كم تعلمون و لا تعملون. قال أبو الفرج و أخبرني أحمد بن عبد العزيز قال حدثنا عمر بن شبة عن المدائني عن مبارك بن سلام عن فطر بن خليفة عن أبي الضحى قال كان ناس من أهل الكوفة يتطلبون عثرة الوليد بن عقبة منهم أبو زينب الأزدي و أبو مورع فجاءا يوما و لم يحضر الوليد الصلاة فسألا عنه فتلطفا حتى علما أنه يشرب فاقتحما الدار فوجداه يقي ء فاحتملاه و هو سكران حتى وضعاه على سريره و أخذا خاتمه من يدهفأفاق فافتقد خاتمه فسأل عنه أهله فقالوا لا ندري و قد رأينا رجلين دخلا عليك شرح نهج البلاغة ج : 17 ص : 232فاحتملاك فوضعاك على سريرك فقال صفوهما لي فقالوا أحدهما آدم طوال حسن الوجه و الآخر عريض مربوع عليه خميصة فقال هذا أبو زينب و هذا أبو مورع. قال و لقي أ زينب و صاحبه عبد الله بن حبيش الأسدي و علقمة بن يزيد البكري و غيرهما فأخبروهم فقالوا أشخصوا إلى أمير المؤمنين فأعلموه و قال بعضهم إنه لا يقبل قولكم في أخيه فشخصوا إليه فقالوا إنا جئناك في أمر و نحن مخرجوه إليك من أعناقنا و قد قيل إنك لا تقبله قال و ما هو قالوا رأينا الوليد و هو سكران من خمر شربها و هذا خاتمه أخذناه من يده و هو لا يعقل
فأرسل عثمان إلى علي ع فأخبره فقال أرى أن تشخصه فإذا شهدوا عليه بمحضر منه حددته فكتب عثمان إلى الوليد فقدم عليه فشهد عليه أبو زينب و أبو مورع و جندب الأزدي و سعد بن مالك الأشعري فقال عثمان لعلي ع قم يا أبا الحسن فاجلده فقال علي ع للحسن ابنه قم فاضربه فقال الحسن ما لك و لهذا يكفيك غيرك فقال علي لعبد الله بن جعفر قم فاضربه فضربه بمخصرة فيها سير له رأسان فلما بلغ أربعين قال حسبك

(18/213)


قال أبو الفرج و حدثني أحمد قال حدثنا عمر قال حدثني المدائني عن الوقاصي عن الزهري قال خرج رهط من أهل الكوفة إلى عثمان في أمر الوليد فقال أ كلما غضب رجل على أميره رماه بالباطل لئن أصبحت لكم لأنكلن بكم فاستجاروا بعائشة و أصبح عثمان فسمع من حجرتها صوتا و كلاما فيه بعض الغلظة فقال أ ما يجد فساق العراق و مراقها ملجأ إلا بيت عائشة فسمعت فرفعت نعل رسول الله ص و قالت تركت سنة صاحب هذا النعل و تسامع الناس فجاءوا حتى ملئوا المسجد فمن قائل قد أحسنت و من قائل ما للنساء و لهذا حتى تخاصموا شرح نهج البلاغة ج : 17 ص : 233تضاربوا بالنعال و دخل رهط من أصحاب رسول الله ص على عثمان فقالوا له اتق الله و لا تعطل الحدود و اعزل أخاك عنهم ففعل قال أبو الفرج حدثنا أحمد قال حدثني عمر عن المدائني عن أبي محمد الناجي عن مطر الوراق قال قدم رجل من أهل الكوفة إلى المدينة فقال لعثمان إني صليت صلاة الغداة خلف الوليد فالتفت في الصلاة إلى الناس فقال أ أزيدكم فإني أجد اليوم نشاطا و شممنا منه رائحة الخمر فضرب عثمان الرجل فقال الناس عطلت الحدود و ضربت الشهود. قال أبو الفرج و حدثنا أحمد قال حدثنا عمر قال حدثنا أبو بكر الباهلي عن بعض من حدثه قال لما شهد على الوليد عند عثمان بشرب الخمر كتب إليه يأمره بالشخوص فخرج و خرج معه قوم يعذرونه منهم عدي بن حاتم الطائي فنزل الوليد يوما يسوق بهم فارتجز و قال

(18/214)


لا تحسبنا قد نسينا الأحقاف و النشوات من معتق صاف و عزف قينات علينا عزاففقال عدي فأين تذهب بنا إذن فأقم. قال أبو الفرج و قد روى أحمد عن عمر عن رجاله عن الشعبي عن جندب الأزدي قال كنت فيمن شهد على الوليد عند عثمان فلما استتممنا عليه الشهادة حبسه عثمان ثم ذكر باقي الخبر و ضرب علي ع إياه و قول الحسن ابنه ما لك و لهذا و زاد فيه و قال علي ع لست إذن مسلما أو قال من المسلمين. شرح نهج البلاغة ج : 17 ص : 23 قال أبو الفرج و أخبرني أحمد عن عمر عن رجاله أن الشهادة لما تمت قال عثمان لعلي ع دونك ابن عمك فأقم عليه الحد فأمر علي ع ابنه الحسن ع فلم يفعل فقال يكفيك غيرك فقال علي ع بل ضعفت و وهنت و عجزت قم يا عبد الله بن جعفر فاجلده فقام فجلده و علي ع يعد حتى بلغ أربعين فقال له علي ع أمسك حسبك جلد رسول الله ص أربعين و جلد أبو بكر أربعين و كملها عمر ثمانين و كل سنة
قال أبو الفرج و حدثني أحمد عن عمر عن عبد الله بن محمد بن حكيم عن خالد بن سعيد قال و أخبرني بذلك أيضا إبراهيم بن محمد بن أيوب عن عبد الله بن مسلم قالوا جميعا لما ضرب عثمان الوليد الحد قال إنك لتضربني اليوم بشهادة قوم ليقتلنك عاما قابلا. قال أبو الفرج و حدثني أحمد بن عبد العزيز الجوهري عن عمر بن شبة عن عبد الله بن محمد بن حكيم عن خالد بن سعيد و أخبرني أيضا إبراهيم عن عبد الله قالوا جميعا كان أبو زبيد الطائي نديما للوليد بن عقبة أيام ولايته الكوفة فلما شهدوا عليه بالسكر من الخمر خرج عن الكوفة معزولا فقال أبو زبيد يتذكر أيامه و ندامته

(18/215)


من يرى العير أن تمشي على ظهر المرورى حداتهن عجال ناعجات و البيت بيت أبي وهب خلاء تحن فيه الشمال يعرف الجاهل المضلل أن الدهر فيه النكراء و الزلزال ليت شعري كذا كم العهد أم كانوا أناسا كمن يزول فزال شرح نهج البلاغة ج : 17 ص : 235بعد ما تعلمين يا أم عمرو كان فيهم عز لنا و جمال و وجوه تودنا مشرقات و نوال إذا أريد النوال أصبح البيت قد تبدل بالحي وجوها كأنها الأقيال كل شي ء يحتال فيه الرجال غير أن ليس للمنايا احتيال و لعمر الإله لو كان للسيف مضاء مقال ما تناسيتك الصفاء و لا الود و لا حال دونك الإشغال و لحرمت لحمك المتعضي ضلة ضل حلمهم ما اغتالواقولهم شربك الحرام و قد كان شراب سوى الحرام حلال و أبي ظاهر العداوة و الشنآن إلا مقال ما لا يقال من رجال تقارضوا منكرات لينالوا الذي أرادوا فنالواغير ما ين ذحلا و لكن مال دهر على أناس فمالوامن يخنك الصفاء أو يتبدل أو يزل مثل ما يزول الظلال فاعلمن أنني أخوك أخو الود حياتي حتى تزول الجبال ليس بخلي عليك يوما بمال أبدا ما أقل نعلا قبال و لك النصر باللسان و بالكف إذا كان لليدين مصقال أبو الفرج و حدثني أحمد قال حدثني عمر قال لما قدم الوليد بن عقبة الكوفة قدم عليه أبو زبيد فأنزله دار عقيل بن أبي طالب على باب المسجد و هي التي شرح نهج البلاغة ج : 17 ص : 236تعرف بدار القبطي فكان مما احتج به عليه أهل الكوفة أن أبا زبيد كان يخرج إليه مناره و هو نصراني يخترق المسجد فيجعله طريقا. قال أبو الفرج و أخبرني محمد بن العباس اليزيدي قال حدثني عمي عبيد الله عن ابن حبيب عن ابن الأعرابي أن أبا زبيد وفد على الوليد حين استعمله عثمان على الكوفة فأنزله الوليد دار عقيل بن أبي طالب عند باب المسجد و استوهبها منه فوهبها له فكان ذلك أول الطعن عليه من أهل الكوفة لأن أبا زبيد كان يخرج من داره حتى يشق المسجد إلى الوليد فيسمر عنده و يشرب معه و يخرج فيشق المسجد و هو سكران فذاك

(18/216)


نبههم عليه قال و قد كان عثمان ولى الوليد صدقات بني تغلب فبلغه عنه شعر فيه خلاعه فعزله قال فلما ولاه الكوفة اختص أبا زبيد الطائي و قربه و مدحه أبو زبيد بشعر كثير و قد كان الوليد استعمل الربيع بن مري بن أوس بن حارثة بن لام الطائي على الحمى فيما بين الجزيرة و ظهر الحيرة فأجدبت الجزيرة و كان أبو زبيد في بني تغلب نازلا فخرج بإبلهم ليرعيهم فأبى عليهم الربيع بن مري و منعهم و قال لأبي زبيد إن شئت أرعيك وحدك فعلت فأتى أبو زبيد إلى الوليد فشكاه فأعطاه ما بين القصور الحمر من الشام إلى القصور الحمر من الحيرة و جعلها له حمى و أخذها من الربيع بن مري فقال أبو زبيد يمدح الوليد و الشعر يدل على أن الحمى كان بيد مري بن أوس لا بيد الربيع ابنه و هكذا هو في رواية عمر بن شبة
لعمر أبيك يا ابن أبي مري لغيرك من أباح لنا الدياراأباح لنا أبارق ذات قور و نرعى القف منها و القفارا
شرح نهج البلاغة ج : 17 ص : 237بحمد الله ثم فتى قريش أبي وهب غدت بدنا غزاراأباح لنا و لا نحمي عليكم إذا ما كنتم سنة جزارقال يقول إذا أجدبتم فإنا لا نحميها عليكم و إذا كنتم أسأتم و حميتموها علينا.
فتى طالت يداه إلى المعالي و طحطحت المجذمة القصارا
قال و من شعر أبي زبيد فيه يذكر نصره له على مري بن أوس بن حارثة
يا ليت شعري بأنباء أنبؤها قد كان يعنى بها صدري و تقديري عن امرئ ما يزده الله من شرف أفرح به و مري غير مسرورإن الوليد له عندي و حق له ود الخليل و نصح غير مذخورلقد دعاني و أدناني أظهرني على الأعادي بنصر غير تغريرو شذب القوم عني غير مكترث حتى تناهوا على رغم تصغيرنفسي فداء أبي وهب و قل له يا أم عمرو فحلي اليوم أو سيري
و قال أبو زبيد يمدح الوليد و يتألم لفراقه حين عزل عن الكوفة

(18/217)


لعمري لئن أمسى الوليد ببلدة سواي لقد أمسيت للدهر معوراخلا أن رزق الله غاد و رائح و إني له راج و إن سار أشهراو كان هو الحصن الذي ليس مسلمي إذا أنا بالنكراء هيجت معشراإذا صادفوا دوني الوليد فإنما يرون بوادي ذي حماس مزعفرا
شرح نهج البلاغة ج : 17 ص : 238و هي طويلة يصف فيها الأسد قال أبو الفرج و حدثنا أحمد بن عبد العزيز قال حدثنا عمر عن رجاله عن الوليد قال لما فتح رسول الله ص مكة جعل أهل مكة يأتونه بصبيانهم فيدعو لهم بالبركة و يمسح يده على رءوسهم فجي ء بي إليه و أنا مخلق فيمسني و ما منعه إلا أن أمي خلقتني بخلوق فلم يمسني من أجل الخلوق.
قال أبو الفرج و حدثني إسحاق بن بنان الأنماطي عن حنيش بن ميسر عن عبد الله بن موسى عن أبي ليلى عن الحكم عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال قال الوليد بن عقبة لعلي بن أبي طالب ع أنا أحد منك سنانا و أبسط منك لسانا و أملأ للكتيبة فقال علي ع اسكت يا فاسق فنزل القرآن فيهما أَ فَمَنْ كانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كانَ فاسِقاً لا يَسْتَوُونَ

(18/218)


قال أبو الفرج و حدثني أحمد بن عبد العزيز عن عمر بن شبة عن محمد بن حاتم عن يونس بن عمر عن شيبان عن يونس عن قتادة في قوله تعالى يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا قال هو الوليد بن عقبة بعثه النبي ص مصدقا إلى بني المصطلق فلما رأوه أقبلوا نحوه فهابهم فرجع إلى النبي ص فقال له إنهم ارتدوا عن الإسلام فبعث النبي ص خالد بن الوليد فعلم عملهم و أمره أن يتثبت و قال له انطلق و لا تعجل فانطلق حتى أتاهم ليلا و أنفذ عيونه نحوهم فلما جاءوه أخبروه أنهم متمسكون بالإسلام و سمع أذانهم و صلاتهم فلما أصبح أتاهم فرأى ما يعجبه فرجع إلى الرسول ص فأخبره فنزلت هذه الآية. شرح نهج البلاغة ج : 17 ص : 239قلت قد لمح ابن عبد البر صاحب كتاب الإستيعاب في هذا الموضع نكتة حسنة فقال في حديث الخلوق هذا حديث مضطرب منكر لا يصح و ليس يمكن أن يكون من بعثه النبي مصدقا صبيا يوم الفتح قال و يدل أيضا على فساده أن الزبير بن بكار و غيره من أهل العلم بالسير و الأخبار ذكروا أن الوليد و أخاه عمارة ابني عقبة بن أبي معيط خرجا من مكة ليردا أختهما أم كلثوم عن الهجرة و كانت هجرتها في الهدنة التي بين النبي ص و بين أهل مكة و من كان غلاما مخلقا بالخلوق يوم الفتح ليس يجي ء منه مثل هذا قال و لا خلاف بين أهل العلم بتأويل القرآن أن قوله عز و جل إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أنزلت في الوليد لما بعثه رسول الله ص مصدقا فكذب على بني المصطلق و قال إنهم ارتدوا و امتنعوا من أاء الصدقة قال أبو عمر و فيه و في علي ع نزل أَ فَمَنْ كانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كانَ فاسِقاً لا يَسْتَوُونَ في قصتهما المشهورة قال و من كان صبيا يوم الفتح لا يجي ء منه مثل هذا فوجب أن ينظر في حديث الخلوق فإنه رواية جعفر بن برقان عن ثابت عن الحجاج عن أبي موسى اهمداني و أبو موسى مجهول لا يصح حديثه. ثم نعود إلى كتاب أبي الفرج

(18/219)


الأصبهاني
قال أبو الفرج و أخبرني أحمد بن عبد العزيز عن عمر بن شبة عن عبد الله بن موسى عن نعيم بن حكيم عن أبي مريم عن علي ع أن امرأة الوليد بن عقبة جاءت إلى النبي ص تشتكي إليه الوليد و قالت إنه يضربها فقال لها ارجعي إليه و قولي له إن رسول الله قد أجارني فانطلقت فمكثت ساعة ثم رجعت فقالت إنه شرح نهج البلاغة ج : 17 ص : 240ما أقلع عني فقطع رسول الله ص هدبة من ثوبه و قال اذهبي بها إليه و قولي له إن رسول الله قد أجارني فانطلقت فمكثت ساعة ثم رجعت فقالت ما زادني إلا ضربا فرفع رسول الله ص يده ثم قال اللهم عليك بالوليد مرتينو ثلاثا
قال أبو الفرج و اختص الوليد لما كان واليا بالكوفة ساحرا كاد يفتن الناس كان يريه كتيبتين تقتتلان فتحمل إحداهما على الأخرى فتهزمها ثم يقول له أ يسرك أن أريك المنهزمة تغلب الغالبة فتهزمها فيقول نعم فجاء جندب الأزدي مشتملا على سيفه فقال أفرجوا لي فأفرجوا فضربه حتى قتله فحبسه الوليد قليلا ثم تركه. قال أبو الفرج و روى أحمد عن عمر عن رجاله أن جندبا لما قتل الساحر حبسه الوليد فقال له دينار بن دينار فيم حبست هذا و قد قتل من أعلن بالسحر في دين محمد ص ثم مضى إليه فأخرجه من الحبس فأرسل الوليد إلى دينار بن دينار فقتله. قال أبو الفرج حدثني عمي الحسن بن محمد قال حدثني الخراز عن المدائني عن علي بن مجاهد عن محمد بن إسحاق عن يزيد بن رومان عن الزهري و غيره أن رسول الله ص لما انصرف عن غزاة بني المصطلق نزل رجل من المسلمين فساق بالقوم و رجز ثم آخر فساق بهم و رجز ثم بدا لرسول الله ص أن يواسي أصحابه فنزل فساق بهم و رجز و جعل يقول فيما يقول
جندب و ما جندب و الأقطع زيد الخير

(18/220)


شرح نهج البلاغة ج : 17 ص : 241فدنا منه أصحابه فقالوا يا رسول الله ما ينفعنا سيرنا مخافة أن تنهشك دابة أو تصيبك نكبة فركب و دنوا منه و قالوا قلت قولا لا ندري ما هو قال و ما ذاك قالوا كنت تقولجندب و ما جندب و الأقطع زيد الخير
فقال رجلان يكونان في هذه الأمة يضرب أحدهما ضربة يفرق بين الحق و الباطل و تقطع يد الآخر في سبيل الله ثم يتبع الله آخر جسده بأوله و كان زيد هو زيد بن صوحان و قطعت يده في سبيل الله يوم جلولاء و قتل يوم الجمل مع علي بن أبي طالب ع و أما جندب هذا فدخل على الوليد بن عقبة و عنده ساحر يقال له أبو شيبان يأخذ أعين الناس فيخرج مصارين بطنهم ثم يردها فجاء من خلفه فضربه فقتله و قال

(18/221)


العن وليدا و أبا شيبان و ابن حبيش راكب الشيطان رسول فرعون إلى هامانقال أبو الفرج و قد روي أن هذا الساحر كان يدخل عند الوليد في جوف بقرة حية ثم يخرج منها فرآه جندب فذهب إلى بيته فاشتمل على سيف فلما دخل الساحر في البقرة قال جندب أ فتأتون السحر و أنتم تبصرون ثم ضرب وسط البقرة فقطعها و قطع الساحر معها فذعر الناس فسجنه الوليد و كتب بأمره إلى عثمان. قال أبو الفرج فروى أحمد بن عبد العزيز عن حجاج بن نصير عن قرة عن شرح نهج البلاغة ج : 17 ص : 242محمد بن سيرين قال انطلق بجندب بن كعب الأزدي قاتل الساحر بالكوفة إلى السجن و على السجن رجل نصراني من قبل الوليد و كان يرى جندب بن كعب يقومالليل و يصبح صائما فوكل بالسجن رجلا ثم خرج فسأل الناس عن أفضل أهل الكوفة فقالوا الأشعث بن قيس فاستضافه فجعل يراه ينام الليل ثم يصبح فيدعو بغدائه فخرج من عنده و سأل أي أهل الكوفة أفضل قالوا جرير بن عبد الله فذهب إليه فوجده ينام الليل ثم يصبح فيدعو بغدائه فاستقبل القبلة و قال ربي رب جندب و ديني دين جندب ثم أسلم. قال أبو الفرج فلما نزع عثمان الوليد عن الكوفة أمر عليها سعيد بن العاص فلما قدمها قال اغسلوا هذا المنبر فإن الوليد كان رجلا نجسا فلم يصعده حتى غسل قال أبو الفرج و كان الوليد أسن من سعيد بن العاص و أسخى نفسا و ألين جانبا و أرضى عندهم فقال بعض شعرائهم
و جاءنا من بعده سعيد ينقص في الصاع و لا يزيد
و قال آخر منهم
فررت من الوليد إلى سعيد كأهل الحجر إذ فزعوا فباروايلينا من قريش كل عام أمير محدث أو مستشارلنا نار تحرقنا فنخشى و ليس لهم و لا يخشون نار

(18/222)


قال أبو الفرج و حدثنا أحمد قال حدثنا عمر عن المدائني قال قدم الوليد بن شرح نهج البلاغة ج : 17 ص : 243عقبة الكوفة في أيام معاوية زائرا للمغيرة بن شعبة فأتاه أشراف الكوفة فسلموا عليه و قالوا و الله ما رأينا بعدك مثلك فقال أ خيرا أم شرا قالوا بل خيرا قال و ني ما رأيت بعدكم شرا منكم فأعادوا الثناء عليه فقال بعض ما تأتون به فو الله إن بغضكم لتلف و إن حبكم لصلف قال أبو الفرج و روى عمر بن شبة أن قبيصة بن جابر كان ممن كثر على الوليد فقال معاوية يوما و الوليد و قبيصة عنده يا قبيصة ما كان شأنك و شأن الوليد قال خير يا أمير المؤمنين إنه في أول الأمر وصل الرحم و أحسن الكلام فلا تسأل عن شكر و حسن ثناء ثم غضب على الناس و غضبوا عليه و كنا معهم فإما ظالمون فنستغفر الله و إما مظلومون فيغفر الله له فخذ في غير هذا يا أمير المؤمنين فإن الحديث ينسي القديم قال معاوية ما أعلمه إلا قد أحسن السيرة و بسط الخير و قبض الشر قال فأنت يا أمير المؤمنين اليوم أقدر على ذلك فافعله فقال اسكت لا سكت فسكت و سكت القوم فقال معاوية بعد يسير ما لك لا تتكلم يا قبيصة قال نهيتني عما كنت أحب فسكت عما لا أحب. قال أبو الفرج و مات الوليد بن عقبة فويق الرقة و مات أبو زبيد هناك فدفنا جميعا في موضع واحد فقال في ذلك أشجع السلمي و قد مر بقبريهما
مررت على عظام أبي زبيد و قد لاحت ببلقعة صلودفكان له الوليد نديم صدق فنادم قبره قبر الوليدو ما أدري بمن تبدو المنايا بحمزة أم بأشجع أم يزيد

(18/223)


قيل هم إخوته و قيل ندماؤه. قال أبو الفرج و حدثني أحمد بن عبد العزيز عن محمد بن زكريا الغلابي شرح نهج البلاغة ج : 17 ص : 244عن عبد الله بن الضحاك عن هشام بن محمد عن أبيه قال وفد الوليد بن عقبة و كان جوادا إلى معاوية فقيل له هذا الوليد بن عقبة بالباب فقال الله ليرجعن مغيظا غير معطى فإنه الآن قد أتانا يقول علي دين و علي كذا ائذن له فأذن له فسأله و تحدث معه ثم قال له معاوية أما و الله إن كنا لنحب إتيان مالك بالوادي و لقد كان يعجب أمير المؤمنين فإن رأيت أن تهبه ليزيد فافعل قال هو ليزيد ثم خرج و جعل يختلف إلى معاوية فقال له يوما انظر يا أمير المؤمنين في شأني فإن علي مئونة و قد أرهقني دين فقال له أ لا تستحيي لنفسك و حسبك تأخذ ما تأخذه فتبذره ثم لا تنفك تشكو دينا فقال الوليد أفعل ثم انطلق من مكانه فسار إلى الجزيرة و قال يخاطب معاوية
فإذا سئلت تقول لا و إذا سألت تقول هات تأبى فعال الخير لا تروي و أنت على الفرات أ فلا تميل إلى نعم أو ترك لا حتى المماو بلغ معاوية شخوصه إلى الجزيرة فخافه و كتب إليه أقبل فكتب

(18/224)


أعف و أستعفي كما قد أمرتني فأعط سواي ما بدا لك و ابخل سأحدو ركابي عنك إن عزيمتي إذا نابني أمر كسلة منصل و إني امرؤ للنأي مني تطرب و ليس شبا قفل علي بمقفثم رحل إلى الحجاز فبعث إليه معاوية بجائزة. و أما أبو عمر بن عبد البر فإنه ذكر في الإستيعاب في باب الوليد قال إن له أخبارا فيها شناعة تقطع على سوء حاله و قبح أفعاله غفر الله لنا و له فلقد كان من رجال قريش شرح نهج البلاغة ج : 17 ص : 245ظرفا و حلما و شجاعة جودا و أدبا و كان من الشعراء المطبوعين قال و كان الأصمعي و أبو عبيدة و ابن الكلبي و غيرهم يقولون إنه كان فاسقا شريب خمر و كان شاعرا كريما قال و أخباره في شربه الخمر و منادمته أبا زبيد الطائي كثيرة مشهورة و يسمج بنا ذكرها و لكنا نذكر منها طرفا ثم ذكر ما ذكره أبو الفرج في الأغاني و قال إن خبر الصلاة و هو سكران و قوله أ أزيدكم خبر مشهور روته الثقات من نقلة الحديث. قال أبو عمر بن عبد البر و قد ذكر الطبري في رواية أنه تغضب عليه قوم من أهل الكوفة حسدا و بغيا و شهدوا عليه بشرب الخمر و قال إن عثمان قال له يا أخي اصبر فإن الله يأجرك و يبوء القوم بإثمك. قال أبو عمر هذا الحديث لا يصح عند أهل الأخبار و نقلة الحديث و لا له عند أهل العلم أصل و الصحيح ثبوت الشهادة عليه عند عثمان و جلده الحد و أن عليا هو الذي جلده قال و لم يجلده بيده و إنما أمر بجلده فنسب الجلد إليه. قال أبو عمر و لم يرو الوليد من السنة ما يحتاج فيها إليه و لكن حارثة بن مضرب روى عنه أنه قال ما كانت نبوة إلا كان بعدها ملك
شرح نهج البلاغة ج : 17 ص : 246و من كتاب له ع إلى أبي موسى الأشعريو هو عامله على الكوفة و قد بلغه عنه تثبيطه الناس عن الخروج إليه لما ندبهم لحرب أصحاب الجمل

(18/225)


مِنْ عَبْدِ اللَّهِ عَلِيٍّ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ إِلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ قَيْسٍ أَمَّا بَعْدُ فَقَدْ بَلَغَنِي عَنْكَ قَوْلٌ هُوَ لَكَ وَ عَلَيْكَ فَإِذَا قَدِمَ عَلَيْكَ رَسُولِي فَارْفَعْ ذَيْلَكَ وَ اشْدُدْ مِئْزَرَكَ وَ اخْرُجْ مِنْ جُحْرِكَ وَ انْدُبْ مَنْ مَعَكَ فَإِنْ حَقَّقْتَ فَانْفُذْ وَ إِنْ تَفَشَّلْتَ فَابْعُدْ وَ ايْمُ اللَّهِ لَتُؤْتَيَنَّ مِنْ حَيْثُ أَنْتَ وَ لَا تُتْرَكُ حَتَّى يُخْلَطَ زُبْدُكَ بِخَاثِرِكَ وَ ذَائِبُكَ بِجَامِدِكَ وَ حَتَّى تُعْجَلُ عَنْ قِعْدَتِكَ وَ تَحْذَرَ مِنْ أَمَامِكَ كَحَذَرِكَ مِنْ خَلْفِكَ وَ مَا هِيَ بِالْهُوَيْنَى الَّتِي تَرْجُو وَ لَكِنَّهَا الدَّاهِيَةُ الْكُبْرَى يُرْكَبُ جَمَلُهَا وَ يُذَلُّ صَعْبُهَا وَ يُسَهَّلُ جَبَلُهَا فَاعْقِلْ عَقْلَكَ وَ امْلِكْ أَمْرَكَ وَ خُذْ نَصِيبَكَ وَ حَظَّكَ فَإِنْ كَرِهْتَ فَتَنَحَّ إِلَى غَيْرِ رَحْبٍ وَ لَا فِي نَجَاةٍ فَبِالْحَرِيِّ لَتُكْفَيَنَّ وَ أَنْتَ نَائِمٌ حَتَّى لَا يُقَالَ أَيْنَ فُلَانٌ وَ اللَّهِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مَعَ مُحِقٍّ وَ مَا يُبَالِي مَا صَنَعَ الْمُلْحِدُونَ وَ السَّلَامُ

(18/226)


المراد بقوله قول هو لك و عليك أن أبا موسى كان يقول لأهل الكوفة إن عليا إمام هدى و بيعته صحيحة ألا إنه لا يجوز القتال معه لأهل القبلة و هذا القول بعضه حق و بعضه باطل. شرح نهج البلاغة ج : 17 ص : 247و قوله فارفع ذيلك أي شمر للنهوض معي و اللحاق بي لنشهد حرب ل البصرة و كذلك قوله و اشدد مئزرك و كلتاهما كنايتان عن الجد و التشمير في الأمر. قال و اخرج من جحرك أمر له بالخروج من منزله للحاق به و هي كناية فيها غض من أبي موسى و استهانة به لأنه لو أراد إعظامه لقال و اخرج من خيسك أو من غيلك كما يقال للأسد و لكنه جعله ثعلبا أو ضبا. قال و اندب من معك أي و اندب رعيتك من أهل الكوفة إلى الخروج معي و اللحاق بي. ثم قال و إن تحققت فانفذ أي أمرك مبني على الشك و كلامك في طاعتي كالمتناقض فإن حققت لزوم طاعتي لك فانفذ أي سر حتى تقدم علي و إن أقمت على الشك فاعتزل العمل فقد عزلتك. قوله و ايم الله لتؤتين معناه إن أقمت على الشك و الاسترابة و تثبيط أهل الكوفة عن الخروج إلي و قولك لهم لا يحل لكم سل السيف لا مع علي و لا مع طلحة و الزموا بيوتكم و اكسروا سيوفكم ليأتينكم و أنتم في منازلكم بالكوفة أهل البصرة مع طلحة و نأتينكم نحن بأهل المدينة و الحجاز فيجتمع عليكم سيفان من أمامكم و من خلفكم فتكون ذلك الداهية الكبرى التي لا شواة لها. قوله و لا تترك حتى يخلط زبدك بخاثرك تقول للرجل إذا ضربته حتى أثخنته لقد ضربته حتى خلطت زبده بخاثره و كذلك حتى خلطت ذائبه بجامده و الخاثر اللبن الغيظ و الزبد خلاصة اللبن و صفوته فإذا أثخنت الإنسان ضربا كنت كأنك شرح نهج البلاغة ج : 17 ص : 248خلطت ما رق و لطف من أخلاطه بما كثف و غلظ منها و هذا مثل و معناه لتفسدن حالك و لتخلطن و ليضربن ما هو الآن منتظم من أمرك. قوله و حتى تعجل عن قعدتك القعدة بالكسر هيئة القعود كالجلسة ولركبة أي و ليعجلنك الأمر عن هيئة قعودك يصف شدة الأمر و صعوبته. قوله

(18/227)


و تحذر من أمامك كحذرك من خلفك يعني يأتيك من خلفك إن أقمت على منع الناس عن الحرب معنا و معهم أهل البصرة و أهل المدينة فتكون كما قال الله تعالى إِذْ جاؤُكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَ مِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ. قوله و ما هي بالهوينى التي ترجو الهوينى تصغير الهونى التي هي أنثى أهون أي ليست هذه الداهية و الجائحة التي أذكرها لك بالشي ء الهين الذي ترجو اندفاعه و سهولته. ثم قال بل هي الداهية الكبرى ستفعل لا محالة إن استمررت على ما أنت عليه و كنى عن قوله ستعل لا محالة بقوله يركب جملها و ما بعده و ذلك لأنها إذا ركب جملها و ذلل صعبها و سهل وعرها فقد فعلت أي لا تقل هذا أمر عظيم صعب المرام أي قصد الجيوش من كلا الجانبين الكوفة فإنه إن دام الأمر على ما أشرت إلى أهل الكوفة من التخاذل و الجلوس في البيوت و قولك لهم كن عبد الله المقتول لنقعن بموجب ما ذكرته لك و ليرتكبن أهل الحجاز و أهل البصرة هذا الأمر المستصعب لأنا نحن نطلب أن نملك الكوفة و أهل البصرة كذلك فيجتمع عليها الفريقان. ثم عاد إلى أمره بالخروج إليه فقال له فاعقل عقلك و املك أمرك و خذ نصيبك شرح نهج البلاغة ج 17 ص : 249و حظك أي من الطاعة و اتباع الإمام الذي لزمتك بيعته فإن كرهت ذلك فتنح عن العمل فقد عزلتك و ابعد عنا لا في رحب أي لا في سعة و هذا ضد قولهم مرحبا. ثم قال فجدير أن تكفى ما كلفته من حضور الحرب و أنت نائم أي لست معدودا عندنا و لا عند الناس من الرجال الذين تفتقر الحروب و التدبيرات إليهم فسيغني الله عنك و لا يقال أين فلان. ثم أقسم إنه لحق أي إني في حرب هؤلاء لعلى حق و إن من أطاعني مع إمام محق ليس يبالي ما صنع الملحدون و هذا إشارة إلى
قول النبي ص اللهم أدر الحق معه حيثما دار

(18/228)


شرح نهج البلاغة ج : 17 ص : 64250- و من كتاب له ع إلى معاوية جوابا عن كتابهأَمَّا بَعْدُ فَإِنَّا كُنَّا نَحْنُ وَ أَنْتُمْ عَلَى مَا ذَكَرْتَ مِنَ الْأُلْفَةِ وَ الْجَمَاعَةِ فَفَرَّقَ بَيْنَنَا وَ بَيْنَكُمْ أَمْسِ أَنَّا آمَنَّا وَ كَفَرْتُمْ وَ الْيَوْمَ أَنَّا اسْتَقَمْنَا وَ فُتِنْتُمْ وَ مَا أَسْلَمَ مُسْلِمُكُمْ إِلَّا كَرْهاً وَ بَعْدَ أَنْ كَانَ أَنْفُ الْإِسْلَامِ كُلُّهُ لِرَسُولِ اللَّهِ ص حَرْباً وَ ذَكَرْتَ أَنِّي قَتَلْتُ طَلْحَةَ وَ الزُّبَيْرَ وَ شَرَّدْتُ بِعَائِشَةَ وَ نَزَلْتُ بَيْنَ الْمِصْرَيْنِ وَ ذَلِكَ أَمْرٌ غِبْتَ عَنْهُ فَلَا عَلَيْكَ وَ لَا الْعُذْرُ فِيهِ إِلَيْكَ وَ ذَكَرْتَ أَنَّكَ زَائِرِي فِي جَمْعِ الْمُهَاجِرِينَ وَ الْأَنْصَارِ وَ قَدِ انْقَطَعَتِ الْهِجْرَةُ يَوْمَ أُسِرَ أَخُوكَ فَإِنْ كَانَ فِيكَ عَجَلٌ فَاسْتَرْفِهْ فَإِنِّي إِنْ أَزُرْكَ فَذَلِكَ جَدِيرٌ أَنْ يَكُونَ اللَّهُ إِنَّمَا بَعَثَنِي إِلَيْكَ لِلنِّقْمَةِ مِنْكَ وَ إِنْ تَزُرْنِي فَكَمَا قَالَ أَخُو بَنِي أَسَدٍ
مُسْتَقْبِلِينَ رِيَاحَ الصَّيْفِ تَضْرِبُهُمْ بِحَاصِبٍ بَيْنَ أَغْوَارٍ وَ جُلْمُودِ

(18/229)


وَ عِنْدِي السَّيْفُ الَّذِي أَعْضَضْتُهُ بِجَدِّكَ وَ خَالِكَ وَ أَخِيكَ فِي مَقَامٍ وَاحِدٍ فَإِنَّكَ وَ اللَّهِ مَا عَلِمْتُ الْأَغْلَفُ الْقَلْبِ الْمُقَارِبُ الْعَقْلِ وَ الْأَوْلَى أَنْ يُقَالَ لَكَ إِنَّكَ رَقِيتَ سُلَّماً أَطْلَعَكَ مَطْلَعَ سُوءٍ عَلَيْكَ لَا لَكَ لِأَنَّكَ نَشَدْتَ غَيْرَ ضَالَّتِكَ وَ رَعَيْتَ غَيْرَ سَائِمَتِكَ وَ طَلَبْتَ أَمْراً لَسْتَ مِنْ أَهْلِهِ وَ لَا فِي مَعْدِنِهِ فَمَا أَبْعَدَ قَوْلَكَ مِنْ فِعْلِكَ شرح نهج البلاغة ج : 17 ص : 251وَ قَرِيبٌ مَا أَشْبَهْتَ مِنْ أَعْمٍَ وَ أَخْوَالٍ حَمَلَتْهُمُ الشَّقَاوَةُ وَ تَمَنِّي الْبَاطِلِ عَلَى الْجُحُودِ بِمُحَمَّدٍ ص فَصُرِعُوا مَصَارِعَهُمْ حَيْثُ عَلِمْتَ لَمْ يَدْفَعُوا عَظِيماً وَ لَمْ يَمْنَعُوا حَرِيماً بِوَقْعِ سُيُوفٍ مَا خَلَا مِنْهَا الْوَغَى وَ لَمْ تُمَاشِهَا الْهُوَيْنَى وَ قَدْ أَكْثَرْتَ فِي قَتَلَةِ عُثْمَانَ فَادْخُلْ فِيمَا دَخَلَ فِيهِ النَّاسُ ثُمَّ حَاكِمِ الْقَوْمَ إِلَيَّ أَحْمِلْكَ وَ إِيَّاهُمْ عَلَى كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى وَ أَمَّا تِلْكَ الَّتِي تُرِيدُ فَإِنَّهَا خُدْعَةُ الصَّبِيِّ عَنِ اللَّبَنِ فِي أَوَّلِ الْفِصَالِ وَ السَّلَامُ لِأَهْلِهِ
كتاب معاوية إلى علي

(18/230)


أما الكتاب الذي كتبه إليه معاوية و هذا الكتاب جوابه فهو من معاوية بن أبي سفيان إلى علي بن أبي طالب أما بعد فإنا بني عبد مناف لم نزل ننزع من قليب واحد و نجري في حلبة واحدة ليس لبعضنا على بعض فضل و لا لقائمنا على قاعدنا فخر كلمتنا مؤتلفة و ألفتنا جامعة و دارنا واحدة يجمعنا كرم العرق و يحوينا شرف النجار و يحنو قوينا على ضعيفنا و يواسي غنينا فقيرنا قد خلصت قلوبنا من وغل الحسد و طهرت أنفسنا من خبث النية فلم نزل كذلك حتى كان منك ما كان من الإدهان في أمر ابن عمك و الحسد له و نصرة الناس عليه حتى قتل بمشهد منك لا تدفع عنه بلسان و لا يد فليتك شرح نهج البلاغة ج : 17 ص : 252أظهرت نصره حيث أسررت خبره فكنت كالمتعلق بين الناس بعذر و إن ضعف و المتبرئ من دمه بدفع و إن وهن و لكنك جلست في دارك تدس إليه الدواهي و ترسل إليه الأفاعي حتى إذا قضيت وطرك منه أظهرت شماتة و أبديت طلا و حسرت للأمر عن ساعدك و شمرت عن ساقك و دعوت الناس إلى نفسك و أكرهت أعيان المسلمين على بيعتك ثم كان منك بعد ما كان من قتلك شيخي المسلمين أبي محمد طلحة و أبي عبد الله الزبير و هما من الموعودين بالجنة و المبشر قاتل أحدهما بالنار في الآخرة هذا إلى تشريدك بأم المؤمنين عائشة و إحلالها محل الهون متبذلة بين أيدي الأعراب و فسقة أهل الكوفة فمن بين مشهر لها و بين شامت بها و بين ساخر منها ترى ابن عمك كان بهذه لو رآه راضيا أم كان يكون عليك ساخطا و لك عنه زاجرا أن تؤذي أهله و تشرد بحليلته و تسفك دماء أهل ملته ثم تركك دار الهجرة التي
قال رسول الله ص عنها إن المدينة لتنفي خبثها كما ينفي الكير خبث الحديد

(18/231)


فلعمري لقد صح وعده و صدق قوله و لقد نفت خبثها و طردت عنها من ليس بأهل أن يستوطنها فأقمت بين المصرين و بعدت عن بركة الحرمين و رضيت بالكوفة بدلا من المدينة و بمجاورة الخورنق و الحيرة عوضا من مجاورة خاتم النبوة و من قبل ذلك ما عبت خليفتي رسول الله ص أيام حياتهما فقعدت عنهما و ألبت عليهما و امتنعت من بيعتهما و رمت أمرا لم يرك الله تعالى له أهلا و رقيت سلما وعرا و حاولت مقاما دحضا و ادعيت ما لم تجد عليه ناصرا و لعمري لو وليتها حينئذ لما ازدادت إلا فسادا و اضطرابا و لا أعقبت ولايتكها إلا انتشارا و ارتدادا لأنك الشامخ بأنفه الذاهب بنفسه المستطيل على الناس بلسانه و يده و ها أنا سائر إليك في جمع شرح نهج البلاغة ج : 17 ص : 253من المهاجرين و الأنصار تحفهم سيوف شامية و رماح قحطانية حتى يحاكموك إلى الله فانظر لنفسك و للمسلمين و ادفع إلي قتلة عثمان فإنهم خاصتك و خلصاؤك المحدقون بك فإن أبيت إلا سلوك سبيل اللجاج و الإصرار على الغي و الضلال فاعلم أن هذه الآية إنما نزلت فيك و في أهل العراق معك وَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيها رِزْقُها رَغَداً مِنْ كُلِّ مَكانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذاقَهَا اللَّهُ لِباسَ الْجُوعِ وَ الْخَوْفِ بِما كانُوا يَصْنَعُونَ.

(18/232)


ثم نعود إلى تفسير ألفاظ الفصل و معانيه قال ع لعمري إنا كنا بيتا واحدا في الجاهلية لأنا بنو عبد مناف إلا أن الفرقة بيننا و بينكم حصلت منذ بعث الله محمدا ص فإنا آمنا و كفرتم ثم تأكدت الفرقة اليوم بأنا استقمنا على منهاج الحق و فتنتم. ثم قال و ما أسلم من أسلم منكم إلا كرها كأبي سفيان و أولاده يزيد و معاوية و غيرهم من بني عبد شمس. قال و بعد أن كان أنف الإسلام محاربا لرسول الله ص أي في أول الإسلام يقال كان ذلك في أنف دولة بني فلان أي في أولها و أنف كل شي ء أوله و طرفه و كان أبو سفيان و أهله من بني عبد شمس أشد الاس على رسول الله ص في أول الهجرة إلى أن فتح مكة ثم أجابه عن قوله قتلت طلحة و الزبير و شردت بعائشة و نزلت بين المصرين بكلام مختصر أعرض فيه عنه شرح نهج البلاغة ج : 17 ص : 254هوانا به فقال هذا أمر غبت عنه فليس عليك كان العدوان الذي تزعم و لا العذر إليك لو و على العذر عنه. فأما الجواب المفصل فأن يقال إن طلحة و الزبير قتلا أنفسهما ببغيهما و نكثهما و لو استقاما على الطريقة لسلما و من قتله الحق فدمه هدر و أما كونهما شيخين من شيوخ الإسلام فغير مدفوع و لكن العيب يحدث و أصحابنا يذهبون إلى أنهما تابا و فارقا الدنيا نادمين على ما صنعا و كذلك نقول نحن فإن الأخبار كثرت بذلك فهما من أهل الجنة لتوبتهما و لو لا توبتهما لكانا هالكين كما هلك غيرهما فإن الله تعالى لا يحابي أحدا في الطاعة و التقوى لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَ يَحْيى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ. و أما الوعد لهما بالجنة فمشروط بسلامة العاقبة و الكلام في سلامتهما و إذا ثبتت توبتهما فقد صح الوعد لهما و تحقق و
قوله بشر قاتل ابن صفية بالنار

(18/233)


فقد اختلف فيه فقال قوم من أرباب السير و علماء الحديث هو كلام أمير المؤمنين ع غير مرفوع و قوم منهم جعلوه مرفوعا و على كل حال فهو حق لأن ابن جرموز قلته موليا خارجا من الصف مفارقا للحرب فقد قتله على توبة و إنابة و رجوع من الباطل و قاتل من هذه حاله فاسق مستحق للنار و أما أم المؤمنين عائشة فقد صحت توبتها و الأخبار الواردة في توبتها أكثر من الأخبار الواردة في توبة طلحة و الزبير لأنها عاشت زمانا طويلا و هما لم يبقيا و الذي جرى لها كان خطأ منها فأي ذنب لأمير المؤمنين ع في ذلك و لو أقامت في منزلها لم تبتذل بين الأعراب و أهل الكوفة على أن أمير المؤمنين ع أكرمها و صانها و عظم من شأنها و من أحب أن يقف على ما فعله معها فليطالع كتب السيرة و لو كانت فعلت بعمر ما فعلت به و شقت عصا الأمة عليه ثم ظفر بها لقتلها و مزقها إربا إربا و لكن عليا كان حليما كريما. شرح نهج البلاغة ج 17 ص : 255و أما قوله لو عاش رسول الله ص فبربك هل كان يرضى لك أن تؤذي حليلته فلعلي ع أن يقلب الكلام عليه فيقول أ فتراه لو عاش أ كان يرضى لحليلته أن تؤذي أخاه و وصيه و أيضا أ تراه لو عاش أ كان يرضى لك يا ابن أبي سفيان أن تنازع عليا الخلافة و تفرق جماعة هذه الأمة و أيضا أ تراه لو عاش أ كان يرضى لطلحة و الزبير أن يبايعا ثم ينكثا لا لسبب بل قالا جئنا نطلب الدراهم فقد قيل لنا إن بالبصرة أموالا كثيرة هذا كلام يقوله مثلهما. فأما قوله تركت دار الهجرة فلا عيب عليه إذا انقضت عليه أطراف الإسلام بالبغي و الفساد أن يخرج من المدينة إليها و يهذب أهلها و ليس كل من خرج من المدينة كان خبثا فقد خرج عنها عمر مرارا إلى الشام ثم لعلي ع أن يقلب عليه الكلام فيقول له و أنت يا معاوية فقد نفتك المدينة أيضا عنها فأنت إذا خبث و كذلك طلحة و الزبير و عائشة الذين تتعصب لهم و تحتج على الناس بهم و قد خرج عن المدينة الصالحون كابن مسعود و أبي ذر و غيرهما و

(18/234)


ماتوا في بلاد نائية عنها و أما قوله بعدت عن حرمة الحرمين و مجاورة قبر رسول الله ص فكلام إقناعي ضعيف و الواجب على الإمام أن يقدم الأهم فالأهم من مصالح الإسلام و تقديم قتال أهل البغي على المقام بين الحرمين أولى فأما ما ذكره من خذلانه عثمان و شماتته به و دعائه الناس بعد قتله إلى نفسه و إكراهه طلحة و الزبير و غيرهما على بيعته فكله دعوى و الأمر بخلافها و من نظر كتب السير عرف أنه قد بهته و ادعى عليه ما لم يقع منه. و أما قوله التويت على أبي بكر و عمر و قعدت عنهما و حاولت الخلافة بعد رسول الله ص فإن عليا ع لم يكن يجحد ذلك و لا ينكره و لا ريب شرح نهج البلاغة ج : 17 ص : 256أنه كان يدعى الأمر بعد وفاة رسول الله ص لنفسه على الجملة أما لنص كما تقوله الشيعة أو لأمر آخر كما يقوله أصحابنا فأما قوله لو وليتهاينئذ لفسد الأمر و اضطرب الإسلام فهذا علم غيب لا يعلمه إلا الله و لعله لو وليها حينئذ لاستقام الأمر و صلح الإسلام و تمهد فإنه ما وقع الاضطراب عند ولايته بعد عثمان إلا لأن أمره هان عندهم بتأخره عن الخلافة و تقدم غيره عليه فصغر شأنه في النفوس و قرر من تقدمه في قلوب الناس أنه لا يصلح لها كل الصلاحية و الناس على ما يحصل في نفوسهم و لو كان وليها ابتداء و هو على تلك الحالة التي كان عليها أيام حياة رسول الله ص و تلك المنزلة الرفيعة و الاختصاص الذي كان له لكان الأمر غير الذي رأيناه عند ولايته بعد عثمان و أما قوله لأنك الشامخ بأنفه الذاهب بنفسه فقد أسرف في وصفه بما وصفه به و لا شك أن عليا ع كان عنده زهو لكن لا هكذا و كان ع مع زهوه ألطف الناس خلقا. ثم نرجع إلى تفسير ألفاظه ع قوله و ذكرت أنك زائري في جمع من المهاجرين و الأنصار و قد انقطعت الهجرة يوم أسر أخوك هذا الكلام تكذيب له في قوله في جمع من المهاجرين و الأنصار أي ليس معك مهاجر لأن أكثر من معك ممن رأى رسول الله ص هم أبناء الطلقاء و من أسلم بعد

(18/235)


الفتح و
قد قال النبي ص لا هجرة بعد الفتح
و عبر عن يوم الفتح بعبارة حسنة فيها تقريع لمعاوية و أهله بالكفر و أنهم ليسوا من ذوي السوابق فقال قد انقطعت الهجرة يوم أسر أخوك يعني يزيد بن أبي سفيان أسر يوم الفتح في باب الخندمة و كان خرج في نفر من قريش يحاربون و يمنعون شرح نهج البلاغة ج : 17 ص : 257من ول مكة فقتل منهم قوم و أسر يزيد بن أبي سفيان أسره خالد بن الوليد فخلصه أبو سفيان منه و أدخله داره فأمن
لأن رسول الله ص قال يومئذ من دخل دار أبي سفيان فهو آمن
ذكر الخبر عن فتح مكة

(18/236)


و يجب أن نذكر في هذا الموضع ملخص ما ذكره الواقدي في كتاب المغازي في فتح مكة فإن الموضع يقتضيه لقوله ع ما أسلم مسلمكم إلا كرها و قوله يوم أسر أخوك. قال محمد بن عمر الواقدي في كتاب المغازي كان رسول الله ص قد هادن قريشا في عام الحديبية عشر سنين و جعل خزاعة داخلة معه و جعلت قريش بني بكر بن عبد مناة من كنانة داخلة معهم و كان بين بني بكر و بين خزاعة تراث في الجاهلية و دماء و قد كانت خزاعة من قبل حالفت عبد المطلب بن هاشم و كان معها كتاب منه و كان رسول الله ص يعرف ذلك فلما تم صلح الحديبية و أمن الناس سمع غلام من خزاعة إنسانا من بني كنانة يقال له أنس بن زنيم الدؤلي ينشد هجاء له في رسول الله ص فضربه فشجه فخرج أنس إلى قومه فأراهم شجته فثار بينهم الشر و تذاكروا أحقادهم القديمة و القوم مجاورون بمكة فاستنجدت بكر بن عبد مناة قريشا على خزاعة فمن قريش من كره ذلك و قال لا انقض عهد محمد و منهم من خف إليه و كان أبو سفيان أحد من كره ذلك و كان صفوان بن أمية و حويطب بن عبد العزى و مكرز بن حفص شرح نهج البلاغة ج : 17 ص : 258ممن أعان بني بكر و دسوا إليهم الرجال بالسلاح سرا و بيتوا خزاعة ليلا فأوقعوا بهم فقتلوا منهم عشرين رجلا فلما أحوا عاتبوا قريشا فجحدت قريش أنها أعانت بكرا و كذبت في ذلك و تبرأ أبو سفيان و قوم من قريش مما جرى و شخص قوم من خزاعة إلى المدينة مستصرخين برسول الله ص فدخلوا عليه و هو في المسجد فقام عمرو بن سالم الخزاعي فأنشده
لا هم إني ناشد محمدا حلف أبينا و أبيه الأتلدالكنت والدا و كنا ولدا ثمت أسلمنا و لم ننزع يداإن قريشا أخلفوك الموعدا و نقضوا ميثاقك المؤكداهم بيتونا بالوتير هجدا نتلو القران ركعا و سجداو زعموا أن لست تدعو أحدا و هم أذل و أقل عددافانصر هداك الله نصرا أيدا و ادع عباد الله يأتوا مددافي فيلق كالبحر يجري مزبدا فيهم رسول الله قد تجرداقرم لقوم من قروم أصيدا

(18/237)


ثم ذكروا له ما أثار الشر و قالوا له إن أنس بن زنيم هجاك و إن صفوان بن أمية و فلانا و فلانا دسوا إلينا رجال قريش مستنصرين فبيتونا بمنزلنا بالوتير فقتلونا و جئناك مستصرخين بك فزعموا أن رسول الله ص قام مغضبا يجر رداءه و يقول لا نصرت إن لم أنصر خزاعة فيما أنصر منه نفسي. شرح نهج البلاغة ج : 17 ص : 259قلت فصادف ذلك من رسول الله ص إيثارا و حبا لنقض العهد لأنه كان يريد أن يفتح مكة و هم بها في عام الحديبية فصد ثم هم بها في عمرة القضية ثم وقف لأجل العهد و الميثاق الذي كان عقده معهم فلما جرى ما جرى على خزاعة اغتنمهاقال الواقدي فكتب إلى جميع الناس في أقطار الحجاز و غيرها يأمرهم أن يكونوا بالمدينة في رمضان من سنة ثمان للهجرة فوافته الوفود و القبائل من كل جهة فخرج من المدينة بالناس يوم الأربعاء لعشر خلون من رمضان في عشرة آلاف فكان المهاجرون سبعمائة و معهم من الخيل ثلاثمائة فرس و كانت الأنصار أربعة آلاف معهم من الخيل خمسمائة و كانت مزينة ألفا فيها من الخيل مائة فرس و كانت أسلم أربعمائة فيها من الخيل ثلاثون فرسا و كانت جهينة ثمانمائة معها خمسون فرسا و من سائر الناس تمام عشرة آلاف و هم بنو ضمرة و بنو غفار و أشجع و بنو سليم و بنو كعب بن عمرو و غيرهم و عقد للمهاجرين ثلاثة ألوية لواء مع علي و لواء مع الزبير و لواء مع سعد بن أبي وقاص و كانت الرايات في الأنصار و غيرهم و كتم عن الناس الخبر فلم يعلم به إلا خواصه و أما قريش بمكة فندمت على ما صنعت بخزاعة و عرفت أن ذلك انقضاء ما بينهم و بين النبي ص من العهد و مشى الحارث بن هشام و عبد الله بن أبي ربيعة إلى أبي سفيان فقالا له إن هذا أمر لا بد له أن يصلح و الله إن لم يصلح لا يروعكم إلا محمد في أصحابه و قال أبو سفيان قد رأت هند بنت عتبة رؤيا كرهتها و أفظعتها و خفت من شرها قالوا ما رأت قال رأت كان دما أقبل من الحجون يسيل حتى وقف بالخندمة مليا ثم كان ذلك

(18/238)


الدم لم يكن فكره القوم ذلك و قالوا هذا شر. قال الواقدي فلما رأى أبو سفيان ما رأى من الشر قال هذا و الله أمر لم أشهده
شرح نهج البلاغة ج : 17 ص : 260و لم أغب عنه لا يحمل هذا إلا علي و لا و الله ما شوورت و لا هونت حيث بلغني و الله ليغزونا محمد إن صدق ظني و هو صادق و ما لي بد أن آتي محمدا فأكلمه أن يزيد في الهدنة و يجدد العهد قبل أن يبلغه هذا الأمر قالت قريش قد و الله أصبو ندمت قريش على ما صنعت بخزاعة و عرفت أن رسول الله ص لا بد أن يغزوها فخرج أبو سفيان و خرج معه مولى له على راحلتين و أسرع السير و هو يرى أنه أول من خرج من مكة إلى رسول الله ص قال الواقدي و قد روى الخبر على وجه آخر و هو أنه لما قدم ركب خزاعة على رسول الله ص فأخبروه بمن قتل منهم قال لهم بمن تهمتكم و طلبتكم قالوا بنو بكر بن عبد مناة قال كلها قالوا لا و لكن تهمتنا بنو نفاثة قصرة و رأسهم نوفل بن معاوية النفاثي فقال هذا بطن من بكر فأنا باعث إلى أهل مكة فسائلهم عن هذا الأمر و مخيرهم في خصال فبعث إليهم ضمرة يخيرهم بين إحدى خلال ثلاث بين أن يدوا خزاعة أو يبرءوا من حلف نفاثة أو ينبذ إليهم على سواء فأتاهم ضمرة فخيرهم بين الخلال الثلاث فقال قريظة بن عبد عمرو الأعمى أما أن ندي قتلى خزاعة فإنا إن وديناهم لم يبق لنا سبد و لا لبد و أما أن نبرأ من حلف نفاثة فإنه ليس قبيلة تحج هذا البيت أشد تعظيما له من نفاثة و هم حلفاؤنا فلا نبرأ من حلفهم و لكنا ننبذ إليه على سواء فعاد ضمرة إلى رسول الله ص بذلك و ندمت قريش أن ردت ضمرة بما ردته به. قال الواقدي و قد روي غير ذلك روي أن قريشا لما ندمت على قتل خزاعة و قالت محمد غازينا قال لهم عبد الله بن سعد بن أبي سرح و هو يومئذ كافر مرتد شرح نهج البلاغة ج : 17 ص : 261عندهم أن عندي رأيا أن محمدا ليس يغزوكم حتى يعذر إليكم و يخيركم في خصال كلها أهون عليكم من غزوة قالوا ما هي قال يرسل إليكم أن تدوا

(18/239)


قتلى خزاعة أو تبرءوا من حلف من نقض العهد و هم بنو نثة أو ينبذ إليكم العهد فقال القوم أحر بما قال ابن أبي سرح أن يكون فقال سهيل بن عمرو ما خصلة أيسر علينا من أن نبرأ من حلف نفاثة فقال شيبة بن عثمان العبدري حطت أخوالك خزاعة و غضبت لهم قال سهيل و أي قريش لم تلد خزاعة قال شيبة لا و لكن ندي قتلى خزاعة فهو أهون علينا فقال قريظة بن عبد عمرو لا و الله لا نديهم و لا نبرأ عن نفاثة أبر العرب بنا و أعمرهم لبيت ربنا و لكن ننبذ إليهم على سواء فقال أبو سفيان ما هذا بشي ء و ما الرأي إلا جحد هذا الأمر أن تكون قريش دخلت في نقض العهد أو قطع مدة فإن قطعه قوم بغير هوى منا و لامشورة فما علينا قالوا هذا هو الرأي لا رأي إلا الجحد لكل ما كان من ذلك فقال أنا أقسم أني لم أشهد و لم أوامر و أنا صادق لقد كرهت ما صنعتم و عرفت أن سيكون له يوم غماس قالت قريش لأبي سفيان فاخرج أنت بذلك فخرج. قال الواقدي و حدثني عبد الله بن عامر الأسلمي عن عطاء بن أبي مروان قال قال رسول الله ص لعائشة صبيحة الليلة التي أوقعت فيها نفاثة و قريش بخزاعة بالوتير يا عائشة لقد حدث الليلة في خزاعة أمر فقالت عائشة يا رسول الله أ ترى قريشا تجترئ على نقض العهد بينك و بينهم أ ينقضون و قد أفناهم السيف فقال العهد لأمر يريده الله بهم فقالت خير أم شر يا رسول الله فقال خير.
قال الواقدي و حدثني عبد الحميد بن جعفر قال حدثني عمران بن أبي أنس عن ابن عباس قال قام رسول الله ص و هو يجر طرف ردائه و يقول شرح نهج البلاغة ج : 17 ص : 262لا نصرت إن لم أنصر بني كعب يعني خزاعة فيما أنصر منه نفسيقال الواقدي و حدثني حرام بن هشام عن أبيه قال قال رسول الله ص لكأنكم بأبي سفيان قد جاءكم يقول جدد العهد و زد في الهدنة و هو راجع بسخطه و قال لبني خزاعة عمرو بن سالم و أصحابه ارجعوا و تفرقوا في الأودية و قام فدخل على عائشة و هو مغضب فدعا بماء فدخل يغتسل

(18/240)


قالت عائشة فأسمعه يقول و هو يصب الماء على رجليه لا نصرت أن لم أنصر بني كعب
قال الواقدي فأما أبو سفيان فخرج من مكة و هو متخوف أن يكون عمرو بن سالم و رهطه من خزاعة سبقوه إلى المدينة و كان القوم لما رجعوا من المدينة و أتوا الأبواء تفرقوا كما أوصاهم رسول الله ص فذهبت طائفة إلى الساحل تعارض الطريق و لزم بديل ابن أم أصرم الطريق في نفر معه فلقيهم أبو سفيان فلما رآهم أشفق أن يكونوا لقوا محمدا ص بل كان اليقين عنده فقام للقوم منذ كم عهدكم بيثرب قالوا لا عهد لنا بها فعرف أنهم كتموه فقال أ ما معكم من تمر يثرب شي ء تطعموناه فإن لتمر يثرب فضلا على تمر تهامة قالوا لا ثم أبت نفسه أن تقر فقال يا ديل هل جئت محمدا قال لا و لكني سرت في بلاد خزاعة من هذا الساحل في قتيل كان بينهم حتى أصلحت بينهم قال يقول أبو سفيان إنك و الله ما علمت بر واصل فلما راح بديل و أصحابه جاء أبو سفيان إلى أبعار إبلهم ففتها فإذا فيها النوى و وجد في منزلهم نوى من تمر عجوة كأنه ألسنة العصافير فقال أحلف بالله لقد جاء القوم محمدا و أقبل حتى قدم المدينة فدخل على النبي ص فقال يا محمد إني كنت غائبا في صلح الحديبية فاشدد العهد و زدنا في المدة فقال رسول الله ص و لذلك قدمت يا أبا سفيان قال نعم قال فهل كان قبلكم حدث شرح نهج البلاغة ج : 1ص : 263فقال معاذ الله فقال رسول الله فنحن على موثقنا و صلحنا يوم الحديبية لا نغير و لا نبدل فقام من عنده فدخل على ابنته أم حبيبة فلما ذهب ليجلس على فراش رسول الله ص طوته دونه فقال أ رغبت بهذا الفراش عني أم رغبت بي عنه فقالت بل هو فراش رسول الله ص و أنت امرؤ نجس مشرك قال يا بنية لقد أصابك بعدي شر فقالت إن الله هداني للإسلام و أنت يا أبت سيد قريش و كبيرها كيف يخفى عنك فضل الإسلام و تعبد حجرا لا يسمع و لا يبصر فقال يا عجبا و هذا منك أيضا أ أترك ما كان يعبد آبائي و أتبع دين محمد ثم قام من عندها فلقي

(18/241)


أبا بكر فكلمه و قال تكلم أنت محمدا و تجير أنت بين الناس فقال أبو بكر جواري جوار رسول الله ص ثم لقي عمر فكلمه بمثل ما كلم به أبا بكر فقال عمر و الله لو وجدت السنور تقاتلكم لأعنتها عليكم قال أبو سفيان جزيت من ذي رحم شرا ثم دخل على عثمان بن عفان فقال له إنه ليس في القوم أحد أمس بي رحما منك فزدني الهدنة و جدد العهد فإن صاحبك لا يرد عليك أبدا و الله ما رأيت رجلا قط أشد إكراما لصاحب من محمد لأصحابه فقال عثمان جواري جوار رسول الله ص فجاء أبو سفيان حتى دخل على فاطمة بنت رسول الله ص فكلمها و قال أجيري بين الناس فقالت إنما أنا امرأة قال إن جوارك جائز و قد أجارت أختك أبا العاص بن الربيع فأجاز محمد ذلك فقالت فاطمة ذلك إلى رسول الله ص و أبت عليه فقال مري أحد هذين ابنيك يجير بين الناس قالت إنهما صبيان و ليس يجير الصبي فلما أبت عليه أتى عليا ع فقال يا أبا حسن أجر بين الناس و كلم محمدا ليزيد في المدة فقال علي ع ويحك يا أبا سفيان إن رسول الله ص قد عزم

(18/242)


شرح نهج البلاغة ج : 17 ص : 264ألا يفعل و ليس أحد يستطيع أن يكلمه في شي ء يكرهه قال أبو سفيان فما الرأي عندك فتشير لأمري فإنه قد ضاق علي فمرني بأمر ترى أنه نافعي قال علي ع و الله ما أجد لك شيئا مثل أن تقوم فتجير بين الناس فإنك سيد كنانة قال أ ترى ذلك مغ عني شيئا قال علي إني لا أظن ذلك و الله و لكني لا أجد لك غيره فقام أبو سفيان بين ظهري الناس فصاح ألا إني قد أجرت بين الناس و لا أظن محمدا يحقرني ثم دخل على رسول الله ص فقال يا محمد ما أظن أن ترد جواري فقال ع أنت تقول ذلك يا أبا سفيان و يقال إنه لما صاح لم يأت النبي ص و ركب راحلته و انطلق إلى مكة و يروى أنه أيضا أتى سعد بن عبادة فكلمه في ذلك و قال يا أبا ثابت قد عرفت الذي كان بيني و بينك و إني كنت لك في حرمنا جارا و كنت لي بيثرب مثل ذلك و أنت سيد هذه المدرة فأجر بين الناس و زدني في المدة فقال سعد جواري جوار رسول الله ص ما يجير أحد على رسول الله ص فلما انطلق أبو سفيان إلى مكة و قد كان طالت غيبته عن قريش و أبطأ فاتهموه و قالوا نراه قد صبا و اتبع محمدا سرا و كتم إسلامه فلما دخل على هند ليلا قالت قد احتبست حتى اتهمك قومك فإن كنت جئتهم بنجح فأنت الرجل و قد كان دنا منها ليغشاها فأخبرها الخبر و قال لم أجد إلا ما قال لي علي فضربت برجلها في صدوره و قالت قبحت من رسول قوم. قال الواقدي فحدثني عبد الله بن عثمان عن أبي سليمان عن أبيه قال لما أصبح أبو سفيان حلق رأسه عند الصنمين أساف و نائلة و ذبح لهما و جعل يمسح بالدم رءوسهما و يقول لا أفارق عبادتكما حتى أموت على ما مات عليه أبي قال فعل ذلك ليبرئ نفسه مما اتهمته قريش به شرح نهج البلاغة ج : 17 ص : 265قال الواقدي و قالت قريش لأبي سفيان ما صنعت و ما وراءك و هل جئتنا بكتاب من محمد و زيادة في المدة فإنا لا نأمن من أن يغزونا فقال الله لقد أبى علي و لقد كلمت عليه أصحابه فما قدرت على شي ء منهم و

(18/243)


رموني بكلمة منهم واحدة إلا أن عليا قال لما ضاقت بي الأمور أنت سيد كنانة فأجر بين الناس فناديت بالجوار ثم دخلت على محمد فقلت إني قد أجرت بين الناس و ما أظن محمدا يرد جواري فقال محمد أنت تقولذاك يا أبا سفيان لم يزد على ذلك قالوا ما زاد علي على أن يلعب بك تلعبا قال فو الله ما وجدت غير ذلك.
قال الواقدي فحدثني محمد بن عبد الله عن الزهري عن محمد بن جبير بن مطعم قال لما خرج أبو سفيان عن المدينة قال رسول الله ص لعائشة جهزينا و أخفي أمرك
و قال رسول الله ص اللهم خذ عن قريش الأخبار و العيون حتى نأتيهم بغتة
و روي أنه قال اللهم خذ على أبصارهم فلا يروني إلا بغتة و لا يسمعون بي إلا فجأة

(18/244)


قال و أخذ رسول الله ص الأنقاب و جعل عليها الرجال و منع من يخرج من المدينة فدخل أبو بكر على عائشة و هي تجهز رسول الله ص تعمل له قمحا سويقا و دقيقا و تمرا فقال لها أ هم رسول الله ص بغزو قالت لا أدري قال إن كان هم بسفر فآذنينا نتهيأ له قالت لا أدري لعله أراد بني سليم لعله أراد ثقيفا أو هوازن فاستعجمت عليه فدخل على رسول الله ص فقال يا رسول الله أردت سفرا قال نعم قال أ فأتجهز قال نعم قال و أين تريد قال قريشا و أخف ذلك يا أبا بكر و أمر رسول الله ص الناس فتجهزوا و طوى عنهم الوجه الذي يريد و قال له أبو بكر يا رسول الله أ و ليس بيننا و بينهم مدة فقال إنهم غدروا و نقضوا العهد شرح نهج البلاغة ج : 17 ص : 266فأنا غازيهم فاطو ما ذكرت لك فكان الناس بين ظان يظن أنه يريد سليما و ظان يظن أنه يريد هوازن و ظان يظن أنه يريد ثقيفا و ظان يظن أنه يريد الشام و بعث رسول الله ص أبا ادة بن ربعي في نفر إلى بطن ليظن الناس أن رسول الله ص قدم أمامه أولئك الرجال لتوجهه إلى تلك الجهة و لتذهب بذلك الأخبار. قال الواقدي حدثني المنذر بن سعد عن يزيد بن رومان قال لما أجمع رسول الله ص المسير إلى قريش و علم بذلك من علم من الناس كتب حاطب بن أبي بلتعة إلى قريش يخبرهم بالذي أجمع عليه رسول الله ص في أمرهم و أعطى الكتاب امرأة من مزينة و جعل لها على ذلك جعلا على أن تبلغه قريشا فجعلت الكتاب في رأسها ثم فتلت عليه قرونها و خرجت به و أتى الخبر إلى النبي ص من السماء بما صنع حاطب فبعث عليا ع و الزبير فقال أدركا امرأة من مزينة قد كتب معها حاطب كتابا يحذر قريشا فخرجا و أدركاها بذي الحليفة فاستنزلاها و التمسا الكتاب في رحلها فلم يجدا شيئا فقالا لها نحلف بالله ما كذب رسول الله ص و لا كذبنا و لتخرجن الكتاب أو لنكشفنك فلما رأت منهما الجد حلت قرونها و استخرجت الكتاب فدفعته إليهما فأقبلا به إلى رسول الله ص فدعا حاطبا و قال له ما حملك

(18/245)


على هذا فقال يا رسول الله و الله إني لمسلم مؤمن بالله و رسوله ما غيرت و لا بدلت و لكني كنت امرأ ليس لي في القوم أصل و لا عشيرة و كان لي بين أظهرهم أهل و ولد فصانعتهم فقال عمر قاتلك الله ترى رسول الله ص يأخذ بالأنقاب و تكتب إلى قريش تحذرهم دعني يا رسول الله أضرب عنقه فإنه قد نافق
فقال رسول الله ص شرح نهج البلاغة ج : 17 ص : 267و ما يدريك يا عمر لعل الله قد اطلع على أهل بدر فقال اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكمقال الواقدي فلما خرج رسول الله ص من المدينة بالألوية المعقودة و الرايات بعد العصر من يوم الأربعاء لعشر خلون من شهر رمضان لم يحل عقده حتى انتهى إلى الصلصل و المسلمون يقودون الخيل و قد امتطوا الإبل و قدم أمامه الزبير بن العوام في مائتين قال فلما كان بالبيداء نظر إلى عنان السماء فقال إني لأرى السحاب تستهل بنصر بني كعب يعني خزاعة. قال الواقدي و جاء كعب بن مالك ليعلم أي جهة يقصد فبرك بين يديه على ركبتيه ثم أنشده
قضينا من تهامة كل نحب و خيبر ثم أحمينا السيوفافسائلها و لو نطقت لقالت قواضبهن دوسا أو ثقيفافلست بحاضر إن لم تروها بساحة داركم منها ألوفافننتزع الخيام ببطن وج و نترك دوركم منها خلوفا

(18/246)


قال فتبسم رسول الله ص و لم يزد على ذلك فجعل الناس يقولون و الله ما بين لك رسول الله ص شيئا فلم تزل الناس كذلك حتى نزلوا بمر الظهران. قال الواقدي و خرج العباس بن عبد المطلب و مخرمة بن نوفل من مكة يطلبان رسول الله ص ظنا منهما أنه بالمدينة يريدان الإسلام فلقياه بالسقيا. شرح نهج البلاغة ج : 17 ص : 268قال الواقدي فلما كانت الليلة التي أصبح فيها بالجحفة رأى فيها أبو بكر في منامه أن النبي ص و أصحابه قد دنوا من مكة فخرجت عليهم كلبة تهر فلما دنوا منها استلقت على قفاها و إذا أطباؤها تشخب لبنا فقصها على رسول الله ص ال ذهب كلبهم و أقبل درهم و هم سائلونا بأرحامهم و أنتم لاقون بعضهم فإن لقيتم أبا سفيان فلا تقتلوه قال الواقدي و إلى أن وصل مر الظهران لم يبلغ قريشا حرف واحد من حاله فلما نزل بمر الظهران أمر أصحابه أن يوقدوا النار فأوقدوا عشرة آلاف نار و أجمعت قريش أن يبعثوا أبا سفيان يتجسس لهم الأخبار فخرج هو و حكيم بن حزام و بديل بن ورقاء قال و قد كان العباس بن عبد المطلب قال وا سوء صباح قريش و الله إن دخلها رسول الله ص عنوة إنه لهلاك قريش آخر الدهر قال العباس فأخذت بغلة رسول الله ص الشهباء فركبتها و قلت ألتمس حطابا أو إنسانا أبعثه إلى قريش فيلقوا رسول الله ص قبل أن يدخلها عليهم عنوة فو الله إني لفي الأراك ليلا أبتغي ذلك إذ سمعت كلاما يقول و الله إن رأيت كالليلة نارا قال يقول بديل بن ورقاء إنها نيران خزاعة جاشها الحرب قال يقول أبو سفيان خزاعة أذل من أن تكون هذه نيرانها و عسكرها فعرفت صوته فقلت أبا حنظلة فعرف صوتي فقال لبيك أبا الفضل فقلت ويحك هذا رسول الله ص في عشرة آلاف و هو مصبحكم فقال بأبي و أمي فهل من حيلة فقلت نعم تركب عجز هذه البغلة فأذهب بك إلى رسول الله ص فإنه إن ظفر بك دون ذلك ليقتلنك قال و الله أنا أرى ذلك فركب خلفي و رحل شرح نهج البلاغة ج : 17 ص : 269بديل و حكيم فتوجهت به فلما

(18/247)


مررت به على نار من نيران المسلمين قالوا من هذا فإذا رأوني قالوا عم رسول الله ص على بغلة رسول الله حتى مررت بنار عمر بن الخطاب فلما رآني قال من هذا قلت العباس فذهب ينظر فرأى أبا سفيان خلفي فق أبو سفيان عدو الله الحمد لله الذي أمكن منك بغير عهد و لا عقد ثم خرج يشتد نحو رسول الله ص و ركضت البغلة حتى اجتمعنا جميعا على باب قبة رسول الله ص فدخلت و دخل عمر بن الخطاب على أثري فقال عمر يا رسول الله هذا أبو سفيان عدو الله قد أمكن الله منه بغير عقد و لا عهد فدعني أضرب عنقه فقلت يا رسول الله إني قد أجرته ثم لزمت رسول الله ص فقلت و الله لا يناجيه الليلة أحد دوني فلما أكثر عمر فيه قلت مهلا يا عمر فإنه لو كان رجلا من عدي بن كعب ما قلت هذا و لكنه أحد بني عبد مناف فقال عمر مهلا يا أبا الفضل فو الله لإسلامك كان أحب إلي من إسلام الخطاب أو قال من إسلام رجل من ولد الخطاب لو أسلم فقال رسول الله ص اذهب به فقد أجرناه فليبت عندك حتى تغدو به علينا إذا أصبحت فلما أصبحت غدوت به فلما رآه رسول الله ص قال ويحك يا أبا سفيان أ لم يأن لك أن تعلم لا إله إلا الله قال بأبي أنت ما أحلمك و أكرمك و أعظم عفوك قد كان يقع في نفسي أن لو كان مع الله إله آخر لأغنى قال يا أبا سفيان أ لم يأن لك أن تعلم أني رسول الله قال بأبي أنت ما أحلمك و أكرمك و أعظم عفوك أما هذه فو الله إن في النفس منها لشيئا بعد قال العباس فقلت ويحك تشهد و قل لا إله الله محمد رسول الله قبل أن تقتل فتشهد و قال العباس يا رسول الله إنك قد عرفت أبا سفيان و فيه الشرف و الفخر فاجعل له شيئا

(18/248)


فقال من دخل دار أبي سفيان فهو آمن و من أغلق داره فهو آمن ثم قال خذه فاحبسه بمضيق الوادي إلى خطم الجبل شرح نهج البلاغة ج : 17 ص : 270حتى تمر عليه جنود الله فيراهاقال العباس فعدلت به في مضيق الوادي إلى خطم الجبل فحبسته هناك فقال أ غدرا يا بني هاشم فقلت له إن أهل النبوة لا يغدرون و إنما حبستك لحاجة قال فهلا بدأت بها أولا فأعلمتنيها فكان أفرخ لروعي ثم مرت به القبائل على قادتها و الكتائب على راياتها فكان أول من مر به خالد بن الوليد في بني سليم و هم ألف و لهم لواءان يحمل أحدهما العباس بن مرداس و الآخر خفاف بن ندبة و راية يحملها المقداد فقال أبو سفيان يا أبا الفضل من هؤلاء قال هؤلاء بنو سليم و عليهم خالد بن الوليد قال الغلام قال نعم فلما حاذى خالد العباس و أبا سفيان كبر ثلاثا و كبروا معه ثم مضوا و مر على أثره الزبير بن العوام في خمسمائة فيهم جماعة من المهاجرين و قوم من أفناء الناس و معه راية سوداء فلما حاذاهما كبر ثلاثا و كبر أصحابه فقال من هذا قال هذا الزبير قال ابن أختك قال نعم قال ثم مرت به بنو غفار في ثلاثمائة يحمل رايتهم أبو ذر و يقال إيماء بن رحضة فلما حاذوهما كبروا ثلاثا قال يا أبا الفضل من هؤلاء قال بنو غفار قال ما لي و لبني غفار ثم مرت به أسلم في أربعمائة يحمل لواءها يزيد بن الخصيب و لواء آخر مع ناجية بن الأعجم فلما حاذوه كبروا ثلاثا فسأل عنهم فقال هؤلاء أسلم فقال ما لي و لأسلم ما كان بيننا و بينهم ترة قط ثم مرت بنو كعب بن عمرو بن خزاعة في خمسمائة يحمل رايتهم بشر بن سفيان فقال من هؤلاء قال كعب بن عمرو قال نعم حلفاء محمد فلما حاذوه كبروا ثلاثا ثم مرت مزينة في ألف فيها ثلاثة ألوية مع النعمان بن مقرن و بلال بن الحارث و عبد الله بن عمرو فلما حاذوهما كبروا قال من هؤلاء قال مزينة قال يا أبا الفضل ما لي و لمزينة قد جاءتني تقعقع من شواهقها شرح نهج البلاغة ج : 17 ص : 271ثم مرت

(18/249)


جهينة في ثمانمائة فيها أربعة ألوية مع معبد بن خالد و سويد بن صخر و رافع بن مكيث و عبد الله بن بدر ما حاذوه كبروا ثلاثا فسأل عنهم فقيل جهينة ثم مرت بنو كنانة و بنو ليث و ضمرة و سعد بن أبي بكر في مائتين يحمل لواءهم أبو واقد الليثي فلما حاذوه كبروا ثلاثا قال من هؤلاء قال بنو بكر قال نعم أهل شؤم هؤلاء الذين غزانا محمد لأجلهم أما و الله ما شوورت فيهم و لا علمته و لقد كنت له كارها حيث بلغني و لكنه أمر حم قال العباس لقد خار الله لك في غزو محمد إياكم و دخلتم في الإسلام كافة ثم مرت أشجع و هم آخر من مر به قبل أن تأتي كتيبة رسول الله ص و هم ثلاثة يحمل لواءهم معقل بن سنان و لواء آخر مع نعيم بن مسعود فكبروا قال من هؤلاء قال أشجع فقال هؤلاء كانوا أشد العرب على محمد قال العباس نعم و لكن الله أدخل الإسلام قلوبهم و ذلك من فضل الله فسكت و قال أ ما مر محمد بعد قال لا و لو رأيت الكتيبة التي هو فيها لرأيت الحديد و الخيل و الرجال و ما ليس لأحد به طاقة فلما طلعت كتيبة رسول الله ص الخضراء طلع سواد شديد و غبرة من سنابك الخيل و جعل الناس يمرون كل ذلك يقول أ ما مر محمد بعد فيقول العباس لا حتى مر رسول الله ص يسير على ناقته القصوى بين أبي بكر و أسيد بن حضير و هو يحدثهما و قال له العباس هذا رسول الله ص في كتيبته الخضراء فانظر قال و كان في تلك الكتيبة وجوه المهاجرين و الأنصار و فيها الألوية و الرايات و كلهم منغمسون في الحديد لا يرى منهم إلا الحدق و لعمر بن الخطاب فيها زجل و عليه الحديد و صوته عال و هو يزعها فقال يا أبا الفضل من هذا المتكلم قال هذا شرح نهج البلاغة ج : 17 ص : 272عمر بن خطاب قال لقد أمر أمر بني عدي بعد قلة و ذلة فقال إن الله يرفع من يشاء بما يشاء و إن عمر ممن رفعه الإسلام و كان في الكتيبة ألفا دارع و راية رسول الله ص مع سعد بن عبادة و هو أمام الكتيبة فلما حاذاهما سعد نادى يا أبا سفيان

(18/250)


اليوم يوم الملحمة اليوم تسبى الحرمة
اليوم أذل الله قريشا فلما حاذاهما رسول الله ص ناداه أبو سفيان يا رسول الله أمرت بقتل قومك أن سعدا قال
اليوم يوم الملحمة اليوم تسبى الحرمة
اليوم أذل الله قريشا و إني أنشدك الله في قومك فأنت أبر الناس و أرحم الناس و أوصل الناس فقال عثمان بن عفان و عبد الرحمن بن عوف يا رسول الله إنا لا نأمن سعدا أن يكون له في قريش صولة
فوقف رسول الله ص و ناداه يا أبا سفيان بل اليوم يوم المرحمة اليوم أعز الله قريشا و أرسل إلى سعد فعزله عن اللواء

(18/251)


و اختلف فيمن دفع إليه اللواء فقيل دفعه إلى علي بن أبي طالب ع فذهب به حتى دخل مكة فغرزه عند الركن و هو قول ضرار بن الخطاب الفهري و قيل دفعه إلى قيس بن سعد بن عبادة و رأى رسول الله ص أنه لم يخرجه عن سعد حيث دفعه إلى ولده فذهب به حتى غرزه بالحجون قال و قال أبو سفيان للعباس ما رأيت مثل هذه الكتيبة قط و لا أخبرنيه مخبر سبحان الله ما لأحد بهؤلاء طاقة و لا يدان لقد أصبح ملك ابن أخيك يا عباس عظيما قال فقلت ويحك إنه ليس بملك و إنها النبوة قال نعم. قال الواقدي قال العباس فقلت له انج ويحك فأدرك قومك قبل أن يدخل شرح نج البلاغة ج : 17 ص : 273عليهم فخرج أبو سفيان حتى دخل من كداء و هو ينادي من دخل دار أبي سفيان فهو آمن و من أغلق عليه بابه فهو آمن حتى انتهى إلى هند بنت عتبة فقالت ما وراءك قال هذا محمد في عشرة آلاف عليهم الحديد و قد جعل لي أنه من دخل داري فهو آمن و من أغلقعليه بابه فهو آمن و من ألقى سلاحه فهو آمن فقالت قبحك الله من رسول قوم و جعلت تقول ويحكم اقتلوا وافدكم قبحه الله من وافد قوم فيقول أبو سفيان ويحكم لا تغرنكم هذه من أنفسكم فإني رأيت ما لم تروا الرجال و الكراع و السلاح ليس لأحد بهذا طاقة محمد في عشرة آلاف فأسلموا تسلموا و قال المبرد في الكامل أمسكت هند برأس أبي سفيان و قالت بئس طليعة القوم و الله ما خدشت خدشا يا أهل مكة عليكم الحميت الدسم فاقتلوه قال الحميت الزق المزفت. قال الواقدي و خرج أهل مكة إلى ذي طوى ينظرون إلى رسول الله ص و انضوى إلى صفوان بن أمية و عكرمة بن أبي جهل و سهيل بن عمرو ناس من أهل مكة و من بني بكر و هذيل فلبسوا السلاح و أقسموا لا يدخل محمد مكة عنوة أبدا و كان رجل من بني الدؤل يقال له حماس بن قيس بن خالد الدؤلي لما سمع برسول الله ص جلس يصلح سلاحه فقالت له امرأته لم تعد السلاح قال لمحمد و أصحابه و إني لأرجو أن أخدمك منهم خادما فإنك إليه محتاجة قالت ويحك لا

(18/252)


تفعل لا تقاتل محمدا و الله ليضلن هذا عنك لو رأيت محمدا و أصحابه قال سترين و أقبل رسول الله ص و هو على ناقته القصواء معتجرا ببرد حبرة و عليه عمامة سوداء و رايته سوداء و لواؤه أسود حتى وقف بذي طوى و توسط الناس و إن عثنونه ليمس واسطة الرحل أو يقرب منه تواضعا لله حيث رأى ما رأى من الفتح و كثرة المسلمين و
قال لا عيش إلا عيش الآخرة
شرح نهج البلاغة ج : 17 ص : 274و جعلت الخيل تعج بذي طوى في كل وجه ثم ثابت و سكنت و التفت رسول الله ص إلى أسيد بن حضير فقال كيف قال حسان بن ثابت قال فأنشدهعدمنا خيلنا إن لم تروها تثير النقع موعدها كداءتظل جيادنا متمطرات تلطمهن بالخمر النساء

(18/253)


فتبسم رسول الله ص و حمد الله و أمر الزبير بن العوام أن يدخل من كداء و أمر خالد بن الوليد أن يدخل من الليط و أمر قيس بن سعد أن يدخل من كدى و دخل هو ص من أذاخر. قال الواقدي و حدثني مروان بن محمد عن عيسى بن عميلة الفزاري قال دخل رسول الله ص مكة بين الأقرع بن حابس و عيينة بن حصن. قال الواقدي و روى عيسى بن معمر عن عباد بن عبد الله عن أسماء بنت أبي بكر قالت صعد أبو قحافة بصغرى بناته و اسمها قريبة و هو يومئذ أعمى و هي تقوده حتى ظهرت به إلى أبي قبيس فلما أشرفت به قال يا بنية ما ذا ترين قالت أرى سوادا مجتمعا مقبلا كثيرا قال يا بنية تلك الخيل فانظري ما ذا ترين قالت أرى رجلا يسعى بين ذلك السواد مقبلا و مدبرا قال ذاك الوازع فانظري ما ذا ترين قالت قد تفرق السواد قال قد تفرق الجيش البيت البيت قالت فنزلت الجارية به و هي ترعب لما ترى فقال يا بنية لا تخافي فو الله إن أخاك عتيقا لآثر أصحاب محمد عند محمد قالت و عليها طوق من فضة فاختلسه بعض من دخل شرح نهج البلاغة ج : 17 ص : 275فلما دخل رسول الله ص مكة جعل أبو بكر ينادي أنشدكم الله أيها الناس طوق أختي فلم يرد أحد عليه فقال يا أخية احتسبي طوقك فإن الأمانة في الناس قليل. قال الواي و نهى رسول الله ص عن الحرب و أمر بقتل ستة رجال و أربع نسوة عكرمة بن أبي جهل و هبار بن الأسود و عبد الله بن سعد بن أبي سرح و مقيس بن صبابة الليثي و الحويرث بن نفيل و عبد الله بن هلال بن خطل الأدرمي و هند بنت عتبة و سارة مولاة لبني هاشم و قينتين لابن خطل قريبا و قريبة و يقال قرينا و أرنب. قال الواقدي و دخلت الجنود كلها فلم تلق حربا إلا خالد بن الوليد فإنه وجد جمعا من قريش و أحابيشها قد جمعوا له فيهم صفوان بن أمية و عكرمة بن أبي جهل و سهيل بن عمرو فمنعوه الدخول و شهروا السلاح و رموه بالنبل و قالوا لا تدخلها عنوة أبدا فصاح خالد في أصحابه و قاتلهم فقتل من قريش أربعة و عشرون

(18/254)


و من هذيل أربعة و انهزموا أقبح انهزام حتى قتلوا بالحزورة و هم مولون من كل وجه و انطلقت طائفة منهم فوق رءوس الجبال و اتبعهم المسلمون و جعل أبو سفيان بن حرب و حكيم بن حزام يناديان يا معشر قريش علام تقتلون أنفسكم من دخل داره فهو آمن و من أغلق عليه بابه فهو آمن و من وضع السلاح فهو آمن فجعل الناس يقتحمون الدور و يغلقون عليهم الأبواب و يطرحون السلاح في الطرق حتى يأخذه المسلمون. قال الواقدي و أشرف رسول الله ص من على ثنية أذاخر فنظر إلى البارقة فقال ما هذه البارقة أ لم أنه عن القتال قيل يا رسول الله خالد بن الوليد شرح نهج البلاغة ج : 17 ص : 276قوتل و لو لم يقاتل ما قاتل فقال قضاء الله خير و أقبل ابن خطل مدججا في الحديد على فرس ذنوب بيده قناة يقول لا و الله لا يدخلها عنوة حتى يرى ضربا كأفواه المزاد فا انتهى إلى الخندمة و رأى القتال دخله رعب حتى ما يستمسك من الرعدة و مر هاربا حتى انتهى إلى الكعبة فدخل بين أستارها بعد أن طرح سلاحه و ترك فرسه و أقبل حماس بن خالد الدؤلي منهزما حتى أتى بيته فدقه ففتحت له امرأته فدخل و قد ذهبت روحه فقالت أين الخادم التي وعدتني ما زلت منتظرتك منذ اليوم تسخر به فقال دعي هذا و أغلقي الباب فإنه من أغلق بابه فهو آمن قالت ويحك أ لم أنهك عن قتال محمد و قلت لك إني ما رأيته يقاتلكم مرة إلا و ظهر عليكم و ما بابنا قال إنه لا يفتح على أحد بابه ثم أنشدها

(18/255)


إنك لو شهدتنا بالخندمه إذ فر صفوان و فر عكرمه و بو يزيد كالعجوز المؤتمه و ضربناهم بالسيوف المسلمه لهم زئير خلفنا و غمغمه لم تنطقي في اللوم أدنى كلمقال الواقدي و حدثني قدامة بن موسى عن بشير مولى المازنيين عن جابر بن عبد الله قال كنت ممن لزم رسول الله ص يومئذ فدخلت معه يوم الفتح من أذاخر فلما أشرف نظر إلى بيوت مكة فحمد الله و أثنى عليه و نظر إلى موضع قبة بالأبطح تجاه شعب بني هاشم حيث حصر رسول الله ص و أهله ثلاث شرح نهج البلاغة ج : 17 ص : 277سنين و قال يا جابر إن منزلنا اليوم حيث تقاسمت علينا قريش في كفرها قال جابر فذكرت كلاما كنت أسمعه في المدينة قبل ذلك كان يقول منزلنا غدا إن شاء الله إذا فتح علينا مكة في الخيف حيث تقاسموا على الكفر. قال الواقدي و كا قبته يومئذ بالأدم ضربت له بالحجون فأقبل حتى انتهى إليها و معه أم سلمة و ميمونة قال الواقدي و حدثني معاوية بن عبد الله بن عبيد الله عن أبيه عن أبي رافع قال قيل للنبي ص أ لا تنزل منزلك من الشعب قال و هل ترك لنا عقيل من منزل و كان عقيل قد باع منزل رسول الله ص و منازل إخوته من الرجال و النساء بمكة فقيل لرسول الله ص فانزل في بعض بيوت مكة من غير منازلك فأبى و قال لا أدخل البيوت فلم يزل مضطربا بالحجون لم يدخل بيتا و كان يأتي إلى المسجد من الحجون قال و كذلك فعل في عمرة القضية و في حجته. قال الواقدي و كانت أم هانئ بنت أبي طالب تحت هبيرة بن أبي وهب المخزومي فلما كان يوم الفتح دخل عليها حموان لها عبد الله بن أبي ربيعة و الحارث بن هشام المخزوميان فاستجارا بها و قالا نحن في جوارك فقالت نعم أنتما في جواري قالت أم هانئ فهما عندي إذ دخل علي فارس مدجج في الحديد و لا أعرفه فقلت له أنا بنت عم رسول الله فأسفر عن وجهه فإذا علي أخي فاعتنقته و نظر إليهما فشهر السيف عليهما فقلت أخي من بين الناس تصنع بي هذا فألقيت عليهما ثوبا فقال أ تجيرين المشركين

(18/256)


فحلت دونهما و قلت لا و الله و ابتدئ بي قبلهما قالت فخرج و لم يكد فأغلقت عليهما بيتا و قلت لا تخافا و ذهبت إلى خباء رسول الله ص شرح نهج البلاغة ج : 17 ص : 278بالبطحاء فلم أجده و وجدت فيه فاطمة فقلت لها ما لقيت من ابن أمي علي أجرت حموين لي من المشركين فتفلت عليهما ليقتلهما قالت و كانت أشد علي من زوجها و قالت لم تجيرين المشركين و طلع رسول اه ص و عليه الغبار فقال مرحبا بفاختة و هو اسم أم هانئ فقلت ما ذا لقيت من ابن أمي علي ما كدت أفلت منه أجرت حموين لي من المشركين فتفلت عليهما ليقتلهما فقال ما كان ذلك له قد أجرنا من أجرت و أمنا من أمنت ثم أمر فاطمة فسكبت له غسلا فاغتسل ثم صلى ثماني ركعات في ثوب واحد ملتحفا به وقت الضحى قالت فرجعت إليهما و أخبرتهما و قلت إن شئتما فأقيما و إن شئتما فارجعا إلى منازلكما فأقاما عندي في منزلي يومين ثم انصرفا إلى منازلهما. و أتى آت إلى النبي ص فقال إن الحارث بن هشام و عبد الله بن أبي ربيعة جالسان في ناديهما متفضلان في الملإ المزعفر فقال لا سبيل إليهما قد أجرناهما. قال الواقدي و مكث رسول الله ص في قبة ساعة من النهار ثم دعا براحلته بعد أن اغتسل و صلى فأدنيت إلى باب القبة و خرج و عليه السلاح و المغفر على رأسه و قد صف له الناس فركبها و الخيل تمعج ما بين الخندمة إلى الحجون ثم مر و أبو بكر إلى جانبه على راحلة أخرى يسير و يحادثه و إذا بنات أبي أحيحة سعيد بن العاص بالبطحاء حذاء منزل أبي أحيحة و قد نشرن شعورهن فلطمن وجوه الخيل بالخمر فنظر رسول الله ص إلى أبي بكر فتبسم و أنشده قول حسان شرح نهج البلاغة ج : 17 ص : 27تظل جيادنا متمطرات تلطمهن بالخمر النساء

(18/257)


فلما انتهى إلى الكعبة تقدم على راحلته فاستلم الركن بمحجنه و كبر فكبر المسلمون لتكبيره و عجوا بالتكبير حتى ارتجت مكة و جعل رسول الله ص يشير إليهم أن اسكتوا و المشركون فوق الجبال ينظرون ثم طاف بالبيت على راحلته و محمد بن مسلمة آخذ بزمامها و حول الكعبة ثلاثمائة و ستون صنما مرصوصة بالرصاص و كان هبل أعظمها و هو تجاه الكعبة على بابها و إساف و نائلة حيث ينحرون و يذبحون الذبائح فجعل كلما يمر بصنم منها يشير بقضيب في يده و يقول جاء الحق و زهق الباطل إن الباطل كان زهوقا فيقع الصنم لوجهه ثم أمر بهبل فكسر و هو واقف عليه فقال الزبير لأبي سفيان يا أبا سفيان قد كسر هبل أ ما إنك قد كنت منه يوم أحد في غرور حين تزعم أنه قد أنعم فقال دع هذا عنك يا ابن العوام فقد أرى أن لو كان مع إله محمد غيره لكان غير ما كان. قال الواقدي ثم انصرف رسول الله ص فجلس ناحية من المسجد و أرسل بلالا إلى عثمان بن طلحة يأتيه بالمفتاح مفتاح الكعبة فقال عثمان نعم فخرج إلى أمه و هي بنت شيبة فقال لها و المفتاح عندها يومئذ إن رسول الله ص قد طلب المفتاح فقالت أعيذك بالله أن يكون الذي يذهب مأثرة قومه على يده فقال فو الله لتأتيني به أو ليأتينك غيري فيأخذه منك فأدخلته في حجرتها و قالت أي رجل يدخل يده هاهنا فبينما هما على ذلك و هو يكلمها إذ سمعت صوت أبي بكر و عمر في الدار و عمر رافع صوته حين رأى عثمان أبطأ يا عثمان اخرج فقالت أمه خذ المفتاح فلأن تأخذه أنت أحب إلي من أن يأخذه تيم و عدي فأخذه فأتى به رسول الله ص فلما تناوله بسط العباس بن عبد المطلب يده و قال يا رسول الله بأبي أنت اجمع لنا بين السقاية و الحجابة فقال إنما أعطيكم ما ترضون فيه و لا أعطيكم ما ترزءون منه شرح نهج البلاغة ج : 17 ص : 280قالوا و كان عثمان بن طلحة قد قدم على رسول الله ص مع خالد بن الوليد و عمرو بن العاص مسلما قبل الفتح. قال الواقدي و بعث رسول الله ص عمر بن

(18/258)


الخطاب و معه عثمان بن طلحة و أمره أن يفتح البيت فلا يدع فيه صورة و لا تمثالا إلا صورة راهيم الخليل ع فلما دخل الكعبة رأى صورة إبراهيم شيخا كبيرا يستقسم بالأزلام. قال الواقدي و قد روي أنه أمره بمحو الصور كلها لم يستثن فترك عمر صورة إبراهيم فقال لعمر أ لم آمرك ألا تدع فيها صورة فقال عمر كانت صورة إبراهيم قال فامحها و قال قاتلهم الله جعلوه شيخا يستقسم بالأزلام. قال و محا صورة مريم قال و قد روي أن رسول الله ص محا الصور بيده
روى ذلك ابن أبي ذئب عن عبد الرحمن بن مهران عن عمير مولى ابن عباس عن أسامة بن زيد قال دخلت مع رسول الله ص الكعبة فرأى فيها صورا فأمرني أن آتيه في الدلو بماء فجعل يبل به الثوب و يضرب به الصور و يقول قاتل الله قوما يصورون ما لا يخلقون

(18/259)


قال الواقدي و أمر رسول الله ص بالكعبة فأغلقت عليه و معه فيها أسامة بن زيد و بلال بن رباح و عثمان بن طلحة فمكث فيها ما شاء الله و خالد بن الوليد واقف على الباب يذب الناس عنه حتى خرج رسول الله ص فوقف و أخذ بعضادتي الباب و أشرف على الناس و في يده المفتاح ثم جعله في كمه و أهل مكة قيام تحته و بعضهم جلوس قد ليط بهم فقال الحمد لله الذي شرح نهج البلاغة ج : 17 ص : 281صدق وعده و نصر عبده و هزم الأحزاب وحده ما ذا تقولون و ما ذا تظنون قالوا نقول خيرا و نظن شرا أخ كريم و ابن أخ كريم و قد قدرت فقال إني أقول كما قال أخيوسف لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَ هُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ ألا إن كل ربا في الجاهلية أو دم أو مأثرة فهو تحت قدمي هاتين إلا سدانة الكعبة و سقاية الحاج ألا و في قتيل شبه العمد قتيل العصا و السوط الدية مغلظة مائة ناقة منها أربعون في بطونها أولادها إن الله قد أذهب نخوة الجاهلية و تكبرها بآبائها كلكم لآدم و آدم من تراب و أكرمكم عند الله أتقاكم ألا إن الله حرم مكة يوم خلق السماوات و الأرض فهي حرام بحرم الله لم تحل لأحد كان قبل و لا تحل لأحد يأتي بعدي و ما أحلت لي إلا ساعة من النهار قال يقصدها رسول الله ص بيده هكذا لا ينفر صيدها و لا يعضد عضاهها و لا تحل لقطتها إلا لمنشد و لا يختلى خلاها فقال العباس إلا الإذخر يا رسول الله فإنه لا بد منه للقبور و البيوت فسكت رسول الله ص ساعة ثم قال إلا الإذخر فإنه حلال و لا وصية لوارث و الولد للفراش و للعاهر الحجر و لا يحل لامرأة أن تعطي من مالها إلا بإذن زوجها و المسلم أخو المسلم و المسلمون إخوة يد واحدة على من سواهم تتكافأ دماؤهم يسعى بذمتهم أدناهم و يرد عليهم أقصاهم و لا يقتل مسلم بكافر و لا ذو عهد في عهده و لا يتوارث أهل ملتين مختلفتين و لا تنكح المرأة على عمتها و لا على خالتها و البينة على من ادعى و اليمين

(18/260)


على من أنكر و لا تسافر امرأة مسيرة ثلاث إلا مع ذي محرم و لا صلاة بعد العصر و لا بعد الصبح و أنهاكم عن صيام يومين يوم الأضحى و يوم الفطر
ثم قال ادعوا لي عثمان بن طلحة فجاء و قد كان رسول الله ص قال له يوما بمكة قبل الهجرة و مع عثمان المفتاح لعلك سترى هذا المفتاح بيدي يوما أضعه حيث شئت فقال عثمان لقد هلكت قريش إذا و ذلت فقال ع بل عمرت و عزت قال عثمان فلما دعاني يومئذ و المفتاح بيده ذكرت قوله حين قال فاستقبلته شرح نهج البلاغة ج : 17 ص : 282ببشر فاستقبلني بمثله ثم قال خذوها يا بني أبي طلحة خالدة تالدة لا ينزعها منكم إلا ظالم يا عثمان إن الله استأمنكم على بيته فكلوا بالمعروف قال عثمان فلما وليت ناداني فرجعت فقال أ لم يكن الذي قلت لك يعني ما كاناله بمكة من قبل فقلت بلى أشهد أنك رسول الله ص قال الواقدي و أمر رسول الله ص يومئذ برفع السلاح و قال إلا خزاعة عن بني بكر إلى صلاة العصر فخبطوهم بالسيف ساعة و هي الساعة التي أحلت لرسول الله ص. قال الواقدي و قد كان نوفل بن معاوية الدؤلي من بني بكر استأمن رسول الله ص على نفسه فأمنه و كانت خزاعة تطلبه بدماء من قتلت بكر و قريش منها بالوتير و قد كانت خزاعة قالت أيضا لرسول الله ص إن أنس بن زنيم هجاك فهدر رسول الله ص دمه فلما فتح مكة هرب و التحق بالجبال و قد كان قبل أن يفتح رسول الله ص مكة قال شعرا يعتذر فيه إلى رسول الله ص من جملته

(18/261)


أنت الذي تهدى معد بأمره بك الله يهديها و قال لها ارشدي فما حملت من ناقة فوق كورها أبر و أوفى ذمة من محمدأحث على خير و أوسع نائلا إذا راح يهتز اهتزاز المهندو أكسى لبرد الخال قبل ارتدائه و أعطى لرأس السابق المتجردتعلم رسول الله أنك مدركي و إن وعيدا منك كالأذ باليدتعلم رسول الله أنك قادر على كل حي من تهام و منجدو نبي رسول الله أني هجوته فلا رفعت سوطي إلي إذن يدي سوى أنني قد قلت يا ويح فتية أصيبوا بنحس يوم طلق و أسعد شرح نهج البلاغة ج : 17 ص : 283أصابهم من لم يكن لدمائهم كفاء فعزت عبرتي و تلددي ذؤيبا و كلثوما و سلمى تتابعوا جميعا فإلا تدمع العين أكمدعلى أن سلمى ليس منهم كمثله و إخوته و هل ملوك كأعبدفإني لا عرضا خرقت و لا دما هرقت ففكر عالم الحق و اققال الواقدي و كانت كلمته هذه قد بلغت رسول الله ص قبل أن يفتح مكة فنهنهت عنه و كلمه يوم الفتح نوفل بن معاوية الدؤلي فقال يا رسول الله أنت أولى الناس بالعفو و من منا لم يعادك و لم يؤذك و نحن في جاهلية لا ندري ما نأخذ و ما ندع حتى هدانا الله بك و أنقذنا بيمنك من الهلكة و قد كذب عليه الركب و كثروا في أمره عندك فقال رسول الله ص دع الركب عنك أنا لم نجد بتهامة أحدا من ذوي رحم و لا بعيد الرحم كان أبر بنا من خزاعة فاسكت يا نوفل فلما سكت قال رسول الله ص قد عفوت عنه فقال نوفل فداك أبي و أمي. قال الواقدي و جاءت الظهر فأمر رسول الله ص بلالا أن يؤذن فوق ظهر الكعبة و قريش في رءوس الجبال و منهم من قد تغيب و ستر وجهه خوفا من أن يقتلوا و منهم من يطلب الأمان و منهم من قد أمن فلما أذن بلال و بلغ إلى قوله أشهد أن محمدا رسول الله ص رفع صوته كأشد ما يكون قال تقول جويرية بنت أبي جهل قد لعمري رفع لك ذكرك فأما الصلاة فسنصلي و لكن و الله لا نحب من قتل الأحبة أبدا و لقد كان جاء أبي الذي جاء محمدا من النبوة فردها و لم يرد خلاف قومه. و قال خالد بن سعيد بن العاص

(18/262)


الحمد لله الذي أكرم أبي فلم يدرك هذا اليوم شرح نهج البلاغة ج : 17 ص : 284و ق الحارث بن هشام وا ثكلاه ليتني مت قبل هذا اليوم قبل أن أسمع بلالا ينهق فوق الكعبة و قال الحكم بن أبي العاص هذا و الله الحدث العظيم أن يصيح عبد بني جمح يصيح بما يصيح به على بيت أبي طلحة و قال سهيل بن عمرو إن كان هذا سخطا من الله تعالى فسيغيره و إن كان لله رضا فسيقره و قال أبو سفيان أما أنا فلا أقول شيئا لو قلت شيئا لأخبرته هذه الحصباء قال فأتى جبرئيل ع رسول الله ص فأخبره مقالة القوم. قال الواقدي فكان سهيل بن عمرو يحدث فيقول لما دخل محمد مكة انقمعت فدخلت بيتي و أغلقته علي و قلت لابني عبد الله بن سهيل اذهب فاطلب لي جوارا من محمد فإني لا آمن أن أقتل و جعلت أتذكر أثري عنده و عند أصحابه فلا أرى أسوأ أثرا مني فإني لقيته يوم الحديبية بما لم يلقه أحد به و كنت الذي كاتبه مع حضوري بدرا و أحدا و كلما تحركت قريش كنت فيها فذهب عبد الله بن سهيل إلى رسول الله ص فقال يا رسول الله أبي تؤمنه قال نعم هو آمن بأمان الله فليظهر ثم التفت إلى من حوله فقال من لقي سهيل بن عمرو فلا يشدن النظر إليه ثم قال قل له فليخرج فلعمري إن سهيلا له عقل و شرف و ما مثل سهيل جهل الإسلام و لقد رأى ما كان يوضع فيه إن لم يكن له تتابع فخرج عبد الله إلى أبيه فأخبره بمقالة رسول الله ص فقال سهيل كان و الله برا صغيرا و كبيرا و كان سهيل يقبل و يدبر غير خائف و خرج إلى خيبر مع النبي ص و هو على شركه حتى أسلم بالجعرانة

(18/263)


شرح نهج البلاغة ج : 18 ص : 7الجزء الثامن عشرتتمة أبواب الكتب و الرسائل
تتمة 64- كتاب له ع إلى معاوية
ذكر بقية الخبر عن فتح مكة
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله الواحد العدل قال الواقدي و هرب هبيرة بن أبي وهب و عبد الله بن الزبعري جميعا حتى انتهيا إلى نجران فلم يأمنا الخوف حتى دخلا حصن نجران فقيل ما شأنكما قالا أما قريش فقد قتلت و دخل محمد مكة و نحن و الله نرى أن محمدا سائر إلى حصنكم هذا فجعلت بلحارث بن كعب يصلحون ما رث من حصنهم و جمعوا ماشيتهم فأرسل حسان بن ثابت إلى ابن الزبعرى
لا تعدمن رجلا أحلك بغضه نجران في عيش أجد ذميم بليت قناتك في الحروب فألفيت جوفاء ذات معايب و وصوم غضب الإله على الزبعرى و ابنه بعذاب سوء في الحياة مقيفلما جاء ابن الزبعرى شعر حسان تهيأ للخروج فقال هبيرة بن وهب أين تريد يا ابن عم قال له أريد و الله محمدا قال أ تريد أن تتبعه قال إي و الله قال هبيرة يا ليت أني كنت رافقت غيرك و الله ما ظننت أنك تتبع محمدا أبدا قال ابن الزبعرى هو ذاك فعلى أي شي ء أقيم مع بن الحارث بن كعب و أترك ابن عمى و خير الناس و أبرهم و بين قومي و داري فانحدر ابن الزبعرى حتى جاء رسول الله ص شرح نهج البلاغة ج : 18 ص : 8و هو جالس في أصحابه فلما نظر إليه قال هذا ابن الزبعرى و معه وجه فيه نور الإسلام فلما وقف على رسول الله ص قال السلام علييا رسول الله شهدت أن لا إله إلا الله و أنك عبده و رسوله و الحمد لله الذي هداني للإسلام لقد عاديتك و أجلبت عليك و ركبت الفرس و البعير و مشيت على قدمي في عداوتك ثم هربت منك إلى نجران و أنا أريد ألا أقرب الإسلام أبدا ثم أرادني الله منه بخير فألقاه في قلبي و حببه إلي و ذكرت ما كنت فيه من الضلال و اتباع ما لا ينفع ذا عقل من حجر يعبد و يذبح له لا يدرى من عبده و من لا يعبده

(19/1)


فقال رسول الله ص الحمد لله الذي هداك للإسلام احمد الله إن الإسلام يجب ما كان قبله
و أقام هبيرة بنجران و أسلمت أم هانئ فقال هبيرة حين بلغه إسلامها يوم الفتح يؤنبها شعرا من جملته
و إن كنت قد تابعت دين محمد و قطعت الأرحام منك حبالهافكوني على أعلى سحوق بهضبة ململمة غبراء يبس بلالها
فأقام بنجران حتى مات مشركا. قال الواقدي و هرب حويطب بن عبد العزى فدخل حائطا بمكة و جاء أبو ذر لحاجته فدخل الحائط فرآه فهرب حويطب فقال أبو ذر تعال فأنت آمن فرجع إليه فقال أنت آمن فاذهب حيث شئت و إن شئت أدخلتك على رسول الله ص و إن شئت فإلى منزلك قال و هل من سبيل إلى منزلي ألفى فأقتل قبل أن أصل إلى منزلي شرح نهج البلاغة ج : 18 ص : 9أو يدخل علي منزلي فأقتل قال فأنا أبلغ معك منزلك فبلغ معه منزله ثم جعل ينادي على بابه أن حويطبا آمن فلا يهيج ثم انصرف إلى رسول الله ص فأخبره فقال أ و ليس قد أمنا الناس كلهم إلا من رت بقتله. قال الواقدي و هرب عكرمة بن أبي جهل إلى اليمن حتى ركب البحر قال و جاءت زوجته أم حكيم بنت الحارث بن هشام إلى رسول الله ص في نسوة منهن هند بنت عتبة و قد كان رسول الله ص أمر بقتلها و البغوم بنت المعدل الكنانية امرأة صفوان بن أمية و فاطمة بنت الوليد بن المغيرة امرأة الحارث بن هشام و هند بنت عتبة بن الحجاج أم عبد الله بن عمرو بن العاص و رسول الله ص بالأبطح فأسلمن و لما دخلن عليه دخلن و عنده زوجتاه و ابنته فاطمة و نساء من نساء بني عبد المطلب و سألن أن يبايعهن فقال إني لا أصافح النساء و يقال إنه وضع على يده ثوبا فمسحن عليه و يقال كان يؤتى بقدح من ماء فيدخل يده فيه ثم يرفعه إليهن فيدخلن أيديهن فيه فقالت أم حكيم امرأة عكرمة يا رسول الله إن عكرمة هرب منك إلى اليمن خاف أن تقتله فأمنه فقال هو آمن فخرجت أم حكيم في طلبه و معها غلام لها رومي فراودها عن نفسها فجعلت تمنيه حتى قدمت به على حي فاستغاثت بهم

(19/2)


عليه فأوثقوه رباطا و أدركت عكرمة و قد انتهى إلى ساحل من سواحل تهامة فركب البحر فهاج بهم فجعل نوتي السفينة يقول له أن أخلص قال أي شي ء أقول قال قل لا إله إلا الله قال عكرمة ما هربت إلا من هذا فجاءت أم حكيم على هذا من لأمر فجعلت تلح عليه و تقول يا ابن عم جئتك من عند خير الناس و أوصل الناس و أبر الناس لا تهلك نفسك فوقف لها حتى أدركته فقالت إني قد استأمنت لك رسول الله ص فأمنك قال شرح نهج البلاغة ج : 18 ص : 10أنت فعلت قالت نعم أنا كلمته فأمنك فرجع معها فقالت ما لقيت من غمك الرومي و أخبرته خبره فقتله عكرمة فلما دنا من مكة
قال رسول الله ص لأصحابه يأتيكم عكرمة بن أبي جهل مؤمنا فلا تسبوا أباه فإن سب الميت يؤذي الحي و لا يبلغ الميت

(19/3)


فلما وصل عكرمة و دخل على رسول الله ص وثب إليه ص و ليس عليه رداء فرحا به ثم جلس فوق عكرمة بين يديه و معه زوجته منقبة فقال يا محمد إن هذه أخبرتني أنك أمنتني فقال صدقت أنت آمن فقال عكرمة فإلام تدعو فقال إلى أن تشهد أن لا إله إلا الله و أني رسول الله و أن تقيم الصلاة و تؤتي الزكاة و عد خصال الإسلام فقال عكرمة ما دعوت إلا إلى حق و إلى حسن جميل و لقد كنت فينا من قبل أن تدعو إلى ما دعوت إليه و أنت أصدقنا حديثا و أعظمنا برا ثم قال فإني أشهد أن لا إله إلا الله و أنك رسول الله فقال رسول الله ص لا تسألني اليوم شيئا أعطيه أحدا إلا أعطيتكه قال فإني أسألك أن تغفر لي كل عداوة عاديتكها أو مسير أوضعت فيه أو مقام لقيتك فيه أو كلام قلته في وجهك أو أنت غائب عنه فقال اللهم اغفر له كل عداوة عادانيها و كل مسير سار فيه إلي يريد بذلك إطفاء نورك و اغفر له ما نال مني و من عرضي في وجهي أو أنا غائب عنه فقال عكرمة رضيت بذلك يا رسول الله ثم قال أما و الله لا أدع نفقة كنت أنفقها في صد عن سبيل الله إلا أنفقت ضعفها في سبيل الإسلام و في سبيل الله و لأجتهدن في القتال بين يديك حتى أقتل شهيدا قال فرد عليه رسول الله ص امرأته بذلك النكاح الأول. قال الواقدي و أما صفوان بن أمية فهرب حتى أتى الشعبة و جعل يقول لغلامه شرح نهج البلاغة ج : 18 ص : 11يسار و ليس معه غيره ويحك انظر من ترى فقال هذا عمير بن وهب قال صفوان ما أصنع بعمير و الله ما جاء إلا يريد قتلي قد ظاهر محمدا علي فلحقه فقال صفوان يا عمير ما لكا كفاك ما صنعت حملتني دينك و عيالك ثم جئت تريد قتلي فقال يا أبا وهب جعلت فداك جئتك من عند خير الناس و أبر الناس و أوصل الناس و قد كان عمير قال لرسول الله ص يا رسول الله سيد قومي صفوان بن أمية خرج هاربا ليقذف نفسه في البحر خاف ألا تؤمنه فأمنه فداك أبي و أمي فقال قد أمنته فخرج في أثره فقال إن رسول الله ص قد أمنك صفوان لا

(19/4)


و الله حتى تأتيني بعلامة أعرفها فرجع إلى رسول الله ص فأخبره و قال يا رسول الله جئته و هو يريد أن يقتل نفسه فقال لا أرجع إلا بعلامة أعرفها فقال خذ عمامتي فرجع عمير إليه بعمامة رسول الله ص و هي البرد الذي دخل فيه رسول الله ص مكة معتجرا به برد حبرة أحمر فخرج عمير في طلبه الثانية حتى جاءه بالبرد فقال يا أبا وهب جئتك من عند خير الناس و أوصل الناس و أبر الناس و أحلم الناس مجده مجدك و عزه عزك و ملكه ملكك ابن أبيك و أمك أذكرك الله في نفسك فقال أخاف أن أقتل قال فإنه دعاك إلى الإسلام فإن رضيت و إلا سيرك شهرين فهو أوفى الناس و أبرهم و قد بعث إليك ببرده الذي دخل به معتجرا أ تعرفه قال نعم فأخرجه فقال نعم هو هو فرجع صفوان حتى انتهى إلى رسول الله ص فوجده يصلي العصر بالناس فقال كم يصلون قالوا خمس صلوات في اليوم و الليلة قال أ محمد يصلي بهم قالوا نعم فلما سلم من صلاته صاح صفوان يا محمد إن عمير

(19/5)


شرح نهج البلاغة ج : 18 ص : 12بن وهب جاءني ببردك و زعم أنك دعوتني إلى القدوم إليك فإن رضيت أمرا و إلا سيرتني شهرين فقال رسول الله ص انزل أبا وهب فقال لا و الله أو تبين لي قال بل سر أربعة أشهر فنزل صفوان و خرج معه إلى حنين و هو كافر و أرسل إليه يستعير أدره و كانت مائة درع فقال أ طوعا أم كرها فقال ع بل طوعا عارية مؤداة فأعاره إياها ثم أعادها إليه بعد انقضاء حنين و الطائف فلما كان رسول الله ص بالجعرانة يسير في غنائم هوازن ينظر إليها فنظر صفوان إلى شعب هناك مملوء نعما وشاء ورعاء فأدام النظر إليه و رسول الله ص يرمقه فقال أبا وهب يعجبك هذا الشعب قال نعم قال هو لك و ما فيه فقال صفوان ما طابت نفس أحد بمثل هذا إلا نفس نبي أشهد أن لا إله إلا الله و أنك رسول الله ص. قال الواقدي فأما عبد الله بن سعد بن أبي سرح فكان قد أسلم و كان يكتب لرسول الله ص الوحي فربما أملى عليه رسول الله ص سميع عليم فيكتب عزيز حكيم و نحو ذلك و يقرأ على رسول الله ص فيقول كذلك الله و يقرأ فافتتن و قال و الله ما يدري ما يقول إني لأكتب له ما شئت فلا ينكر و إنه ليوحى إلي كما يوحى إلى محمد و خرج هاربا من المدينة إلى مكة مرتدا فأهدر رسول الله دمه و أمر بقتله يوم الفتح فلما كان يومئذ جاء إلى عثمان و كان أخاه من الرضاعة فقال يا أخي إني قد أجرتك فاحتبسني هاهنا و اذهب إلى محمد فكلمه في فإن محمدا إن رآني ضرب عنقي أن جرمي أعظم الجرم و قد جئت تائبا فقال عثمان قم فاذهب معي إليه قال كلا و الله إنه إن رآني ضرب عنقي و لم يناظرني قد أهدر دمي و أصحابه يطلبونني في كل موضع فقال عثمان انطلق معي فإنه لا يقتلك إن شاء الله فلم يرع رسول الله ص إلا بعثمان شرح نهج البلاغة ج : 18 ص : 13آخذا بيد عبد الله بن سعد واقفين بين يديه فقال عثمان يا رسول الله هذا أخي من الرضاعة إن أمهانت تحملني و تمشيه و ترضعني و تفطمه و تلطفني و تتركه فهبه لي فأعرض

(19/6)


رسول الله ص عنه و جعل عثمان كلما أعرض رسول الله عنه استقبله بوجهه و أعاد عليه هذا الكلام و إنما أعرض ع عنه إرادة لأن يقوم رجل فيضرب عنقه فلما رأى ألا يقوم أحد و عثمان قد انكب عليه يقبل رأسه و يقول يا رسول الله بايعه فداك أبي و أمي على الإسلام فقال رسول الله ص نعم فبايعه. قال الواقدي قال رسول الله ص بعد ذلك للمسلمين ما منعكم أن يقوم منكم واحد إلى هذا الكلب فيقتله أو قال الفاسق فقال عباد بن بشر و الذي بعثك بالحق إني لأتبع طرفك من كل ناحية رجاء أن تشير إلي فأضرب عنقه و يقال إن أبا البشير هو الذي قال هذا و يقال بل قاله عمر بن الخطاب فقال ع إني لا أقتل بالإشارة و قيل إنه قال إن النبي لا يكون له خائنة الأعين. قال الواقدي فجعل عبد الله بن سعد يفر من رسول الله ص كلما رآه فقال له عثمان بأبي أنت و أمي لو ترى ابن أم عبد يفر منك كلما رآك فتبسم رسول الله ص فقال أ و لم أبايعه و أؤمنه قال بلى و لكنه يتذكر عظم جرمه في الإسلام
فقال إن الإسلام يجب ما قبله

(19/7)


قال الواقدي و أما الحويرث بن معبد و هو من ولد قصي بن كلاب فإنه كان يؤذي رسول الله ص بمكة فأهدر دمه فبينما هو في منزله يوم الفتح و قد أغلق عليه بابه جاء علي ع يسأل عنه فقيل له هو في البادية و أخبر الحويرث أنه جاء يطلبه و تنحى علي ع عن بابه فخرج الحويرث يريد أن شرح نهج البلاغة ج : 18 ص : 14يهرب من بيت إلى بيت آخر فتلقاه علي ع فضرب عنقه. قال الواقدي و أما هبار بن الأسود فقد كان رسول الله ص أمر أن يحرقه بالنار ثم قال إنما يعذب بالنار رب النار اقطعوا يديه و رجليه إن قدرتم عليه ثم اقتلوه و كان جرمه أن نخس زينب ت رسول الله ص لما هاجرت و ضرب ظهرها بالرمح و هي حبلى فأسقطت فلم يقدر المسلمون عليه يوم الفتح فلما رجع رسول الله ص إلى المدينة طلع هبار بن الأسود قائلا أشهد أن لا إله إلا الله و أشهد أن محمدا رسول الله فقبل النبي ص إسلامه فخرجت سلمى مولاة النبي ص فقالت لا أنعم الله بك عينا أنت الذي فعلت و فعلت فقال رسول الله ص و هبار يعتذر إليه أن الإسلام محا ذلك و نهى عن التعرض له. قال الواقدي قال ابن عباس رضي الله عنه رأيت رسول الله ص و هبار يعتذر إليه و هو يطأطئ رأسه استحياء مما يعتذر هبار و يقول له قد عفوت عنك. قال الواقدي و أما ابن خطل فإنه خرج حتى دخل بين أستار الكعبة فأخرجه أبو برزة الأسلمي منها فضرب عنقه بين الركن و المقام و يقال بل قتله عمار بن ياسر و قيل سعد بن حريث المخزومي و قيل شريك بن عبدة العجلاني و الأثبت أنه أبو برزة قال و كان جرمه أنه أسلم و هاجر إلى المدينة و بعثه رسول الله ص ساعيا و بعث معه رجلا من خزاعة فقتله و ساق ما أخذ من مال الصدقة و رجع إلى مكة فقالت له قريش ما جاء بك قال لم أجد دينا خيرا من دينكم و كانت له قينتان إحداهما قرينى و الأخرى قرينة أو أرنب و كان ابن خطل يقول شرح نهج البلاغة ج : 18 ص : 15اعر يهجو به رسول الله ص و يغنيان به و يدخل عليه المشركون بيته

(19/8)


فيشربون عنده الخمر و يسمعون الغناء بهجاء رسول الله ص. قال الواقدي و أما مقيس بن صبابة فإن أمه سهمية و كان يوم الفتح عند أخواله بني سهم فاصطبح الخمر ذلك اليوم في ندامى له و خرج ثملا يتغنى و يتمثل بأبيات منها
دعيني أصطبح يا بكر إني رأيت الموت نقب عن هشام و نقب عن أبيك أبي يزيد أخي القينات و الشرب الكرام يخبرنا ابن كبشة أن سنحيا و كيف حياة أصداء و هام إذا ما الرأس زال بمنكبيه فقد شبع الأنيس من الطعام أ تقتلني إذا ما كنت حيا و تحييني إذا رمت عظفلقيه نميلة بن عبد الله الليثي و هو من رهطه فضربه بالسيف حتى قتله فقالت أخته ترثيه

(19/9)


لعمري لقد أخزى نميلة رهطه و فجع أصناف النساء بمقيس فلله عينا من رأى مثل مقيس إذا النفساء أصبحت لم تخرسو كان جرم مقيس من قبل أن أخاه هاشم بن صبابة أسلم و شهد المريسيع مع رسول الله ص فقتله رجل من رهط عبادة بن الصامت و قيل من بني عمرو بن عوف و هو لا يعرفه فظنه من المشركين فقضى له رسول الله ص بالدية على العاقلة فقدم مقيس أخوه المدينة فأخذ ديته و أسلم ثم عدا على قاتل أخيه فقتله و هرب مرتدا كافرا يهجو رسول الله ص بالشعر فأهدر دمه. شرح نهج البلاغة ج : 18 ص : 16قال الواقدي فأما سارة مولاة بني هاشم و كانت مغنية نواحة بمكة و كانت قد قدمت على رسول الله ص المدينة تطلب أن يصلها و شكت إليه الحاجة و ذلك بعد بدر و أحد فق لها أ ما كان لك في غنائك و نياحك ما يغنيك قالت يا محمد إن قريشا منذ قتل من قتل منهم ببدر تركوا استماع الغناء فوصلها رسول الله ص و أوقر لها بعيرا طعاما فرجعت إلى قريش و هي على دينها و كانت يلقى عليها هجاء رسول الله ص فتغنى به فأمر بها رسول الله ص يوم الفتح أن تقتل فقتلت و أما قينتا ابن خطل فقتل يوم الفتح إحداهما و هي أرنب أو قرينة و أما قريني فاستؤمن لها رسول الله ص فأمنها و عاشت حتى ماتت في أيام عثمان. قال الواقدي و قد روي أن رسول الله ص أمر بقتل وحشي يوم الفتح فهرب إلى الطائف فلم يزل بها مقيما حتى قدم مع وفد الطائف على رسول الله ص فدخل عليه فقال أشهد أن لا إله إلا الله و أنك رسول الله فقال أ وحشي قال نعم قال اجلس و حدثني كيف قتلت حمزة فلما أخبره قال قم و غيب عني وجهك فكان إذا رآه توارى عنه.
قال الواقدي و حدثني ابن أبي ذئب و معمر عن الزهري عن أبي سلمة بن عبد الرحمن بن عوف عن أبي عمرو بن عدي بن أبي الحمراء قال سمعت رسول الله ص يقول بعد فراغه من أمر الفتح و هو يريد الخروج من مكة أما و الله إنك لخير أرض الله و أحب بلاد الله إلي و لو لا أن أهلك أخرجوني ما خرجت

(19/10)


و زاد محمد بن إسحاق في كتاب المغازي أن هند بنت عتبة جاءت إلى رسول الله شرح نهج البلاغة ج : 18 ص : 17ص مع نساء قريش متنكرة متنقبة لحدثها الذي كان في الإسلام و ما صنعت بحمزة حين جدعته و بقرت بطنه عن كبده فهي تخاف أن يأخذها رسول الله ص بحدثها ذلك فلما دنت م و قال حين بايعنه على ألا يشركن بالله شيئا قلن نعم قال و لا يسرقن فقالت هند و الله أنا كنت لأصيب من مال أبي سفيان الهنة و الهنيهة فما أعلم أ حلال ذلك أم لا فقال رسول الله ص و إنك لهند قالت نعم أنا هند و أنا أشهد أن لا إله إلا الله و أنك رسول الله فاعف عما سلف عفا الله عنك فقال رسول الله ص و لا يزنين فقالت هند و هل تزني الحرة فقال لا و لا يقتلن أولادهن فقالت هند قد لعمري ربيناهم صغارا و قتلتهم كبارا ببدر فأنت و هم أعرف فضحك عمر بن الخطاب من قولها حتى أسفرت نواجذه قال و لا يأتين ببهتان يفترينه فقالت هند إن إتيان البهتان لقبيح فقال و لا يعصينك في معروف فقالت ما جلسنا هذه الجلسة و نحن نريد أن نعصيك. قال محمد بن إسحاق و من جيد شعر عبد الله بن الزبعرى الذي اعتذر به إلى رسول الله ص حين قدم عليه

(19/11)


منع الرقاد بلابل و هموم فالليل ممتد الرواق بهيم مما أتاني أن أحمد لامني فيه فبت كأنني محموم يا خير من حملت على أوصالها عيرانة سرح اليدين سعو شرح نهج البلاغة ج : 18 ص : 18إني لمعتذر إليك من الذي أسديت إذ أنا في الضلال أهيم أيان تأمرني بأغوى خطة سهم و تأمرني به مخزوم و أمد أسباب الردى و يقودني أمر الغواة و أمرهم مشئوم فاليوم آمن بالنبي محمد قلبي و مخطئ هذه محروم مضت العداوة و انقضت أسبابها أواصر بيننا و حلوم فاغفر فدى لك والدي كلاهما زللي فإنك راحم مرحوم و عليك من علم المليك علامة نور أغر و خاتم مختوم أعطاك بعد محبة برهانه شرفا و برهان الإله عظيم و لقد شهدت بأن دينك صادق بر و شأنك في العباد جسيم و الله يشهد أن أحمد مصطفى متقبل في الصالريم فرع علا بنيانه من هاشم دوح تمكن في العلا و أرومقال الواقدي و في يوم الفتح سمى رسول الله ص أهل مكة الذين دخلها عليهم الطلقاء لمنه عليهم بعد أن أظفره الله بهم فصاروا أرقاء له و قد قيل له يوم الفتح قد أمكنك الله تعالى فخذ ما شئت من أقمار على غصون يعنون النساء فقال ع يأبى ذلك إطعامهم الضيف و إكرامهم البيت و وجؤهم مناحر الهدي.

(19/12)


ثم نعود إلى تفسير ما بقي من ألفاظ الفصل قوله فإن كان فيك عجل فاسترفه شرح نهج البلاغة ج : 18 ص : 19أي كن ذا رفاهية و لا ترهقن نفسك بالعجل فلا بد من لقاء بعضنا بعضا فأي حاجة بك إلى أن تعجل ثم فسر ذلك فقال إن أزرك في بلادك أي إن غزوتك في بلادك فخليق أن يكونلله بعثني للانتقام منك و إن زرتني أي إن غزوتني في بلادي و أقبلت بجموعك إلي. كنتم كما قال أخو بني أسد كنت أسمع قديما أن هذا البيت من شعر بشر بن أبي خازم الأسدي و الآن فقد تصفحت شعره فلم أجده و لا وقفت بعد على قائله و إن وقفت فيما يستقبل من الزمان عليه ألحقته. و ريح حاصب تحمل الحصباء و هي صغار الحصى و إذا كانت بين أغوار و هي ما سفل من الأرض و كانت مع ذلك ريح صيف كانت أعظم مشقة و أشد ضررا على من تلاقيه و جلمود يمكن أن يكون عطفا على حاصب و يمكن أن يكون عطفا على أغوار أي بين غور من الأرض و حرة و ذلك أشد لأذاها لما تكسبه الحرة من لفح السموم و وهجها و الوجه الأول أليق. و أعضضته أي جعلته معضوضا برءوس أهلك و أكثر ما يأتي أفعلته أن تجعله فاعلا و هي هاهنا من المقلوب أي أعضضت رءوس أهلك به كقوله قد قطع الحبل بالمرود. و جده عتبة بن ربيعة و خاله الوليد بن عتبة و أخوه حنظلة بن أبي سفيان قتلهم علي ع يوم بدر. و الأغلف القلب الذي لا بصيرة له كأن قلبه في غلاف قال تعالى وَ قالُوا قُلُوبُنا غُلْفٌ. شرح نهج البلاغة ج : 18 ص : 20و المقارب العقل بالكسر الذي ليس عقله بجيد و العامة تقول فيما هذا شأنه مقارب بفتح الراء. ثم قال الأولى أيقال هذه الكلمة لك. و نشدت الضالة طلبتها و أنشدتها عرفتها أي طلبت ما ليس لك. و السائمة المال الراعي و الكلام خارج مخرج الاستعارة. فإن قلت كل هذا الكلام يطابق بعضه بعضا إلا قوله فما أبعد قولك من فعلك و كيف استبعد ع ذلك و لا بعد بينهما لأنه يطلب الخلافة قولا و فعلا فأي بعد بين قوله و فعله. قلت لأن فعله البغي و الخروج على

(19/13)


الإمام الذي ثبتت إمامته و صحت و تفريق جماعة المسلمين و شق العصا هذا مع الأمور التي كانت تظهر عليه و تقتضي الفسق من لبس الحرير و المنسوج بالذهب و ما كان يتعاطاه في حياة عثمان من المنكرات التي لم تثبت توبته منها فهذا فعله. و أما قوله فزعمه أنه أمير المؤمنين و خليفة المسلمين و هذا القول بعيد من ذلك الفعل جدا. و ما في قوله و قريب ما أشبهت مصدرية أي و قريب شبهك بأعمام و أخوال و قد ذكرنا من قتل من بني أمية في حروب رسول الله ص فيما تقدم و إليهم الإشارة بالأعمام و الأخوال لأن أخوال معاوية من بني عبد شمس كما أن أعمامه من بني عبد شمس. قوله و لم تماشها الهوينى أي لم تصحبها يصفها بالسرعة و المضي في الرءوس الأعناق
شرح نهج البلاغة ج : 18 ص : 21و أما قوله ادخل فيما دخل فيه الناس و حاكم القوم فهي الحجة التي يحتج بها أصحابنا له في أنه لم يسلم قتلة عثمان إلى معاوية و هي حجة صحيحة لأن الإمام يجب أن يطاع ثم يتحاكم إليه أولياء الدم و المتهمون فإن حكم بالحق استديمت حكومته إلا فسق و بطلت إمامته. قوله فأما تلك التي تريدها قيل إنه يريد التعلق بهذه الشبهة و هي قتلة عثمان و قيل أراد به ما كان معاوية يكرر طلبه من أمير المؤمنين ع و هو أن يقره على الشام وحده و لا يكلفه البيعة قال إن ذلك كمخادعة الصبي في أول فطامه عن اللبن بما تصنعه النساء له مما يكره إليه الثدي و يسليه عنه و يرغبه في التعوض بغيره و كتاب معاوية الذي ذكرناه لم يتضمن حديث الشام

(19/14)


شرح نهج البلاغة ج : 18 ص : 6522- و من كتاب له ع إليه أيضاأَمَّا بَعْدُ فَقَدْ آنَ لَكَ أَنْ تَنْتَفِعَ بِاللَّمْحِ الْبَاصِرِ مِنْ عِيَانِ الْأُمُورِ فَلَقَدْ سَلَكْتَ مَدَارِجَ أَسْلَافِكَ بِادِّعَائِكَ الْأَبَاطِيلَ وَ اقْتِحَامِكَ غُرُورَ الْمَيْنِ وَ الْأَكَاذِيبِ مِنِ انْتِحَالِكَ مَا قَدْ عَلَا عَنْكَ وَ ابْتِزَازِكَ لِمَا قَدِ اخْتُزِنَ دُونَكَ فِرَاراً مِنَ الْحَقِّ وَ جُحُوداً لِمَا هُوَ أَلْزَمُ لَكَ مِنْ لَحْمِكَ وَ دَمِكَ مِمَّا قَدْ وَعَاهُ سَمْعُكَ وَ مُلِئَ بِهِ صَدْرُكَ فَمَا ذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ وَ بَعْدَ الْبَيَانِ إِلَّا اللَّبْسُ فَاحْذَرِ الشُّبْهَةَ وَ اشْتِمَالَهَا عَلَى لُبْسَتِهَا فَإِنَّ الْفِتْنَةَ طَالَمَا أَغْدَفَتْ جَلَابِيبَهَا وَ أَعْشَتِ الْأَبْصَارَ ظُلْمَتُهَا وَ قَدْ أَتَانِي كِتَابٌ مِنْكَ ذُو أَفَانِينَ مِنَ الْقَوْلِ ضَعُفَتْ قُوَاهَا عَنِ السِّلْمِ وَ أَسَاطِيرَ لَمْ يَحُكْهَا عَنْكَ عِلْمٌ وَ لَا حِلْمٌ أَصْبَحْتَ مِنْهَا كَالْخَائِضِ فِي الدَّهَاسِ وَ الْخَابِطِ فِي الدِّيمَاسِ وَ تَرَقَّيْتَ إِلَى مَرْقَبَةٍ بَعِيدَةِ الْمَرَامِ نَازِحَةِ الْأَعْلَامِ تَقْصُرُ دُونَهَا الْأَنُوقُ وَ يُحَاذَى بِهَا الْعَيُّوقُ وَ حَاشَ لِلَّهِ أَنْ تَلِيَ لِلْمُسْلِمِينَ مِنْ بَعْدِي صَدْراً أَوْ وِرْداً أَوْ أُجْرِيَ لَكَ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ عَقْداً أَوْ عَهْداً فَمِنَ الآْنَ فَتَدَارَكْ نَفْسَكَ وَ انْظُرْ لَهَا فَإِنَّكَ إِنْ فَرَّطْتَ حَتَّى يَنْهَدَ إِلَيْكَ عِبَادُ اللَّهِ أُرْتِجَتْ عَلَيْكَ الْأُمُورُ وَ مُنِعْتَ أَمْراً هُوَ مِنْكَ الْيَوْمَ مَقْبُولٌ وَ السَّلَامُ

(19/15)


شرح نهج البلاغة ج : 18 ص : 23آن لك و أنى لك بمعنى أي قرب و حان تقول آن لك أن تفعل كذا يئين أينا و قالأ لم يأن أن لي تجل عني عمايتي و أقصر عن ليلى بلى قد أنى ليا
فجمع بين اللغتين و أنى مقلوبة عن آن و مما يجري مجرى المثل قولهم لمن يرونه شيئا شديدا يبصره و لا يشك فيه قد رأيته لمحا باصرا قالوا أي نظرا بتحديق شديد و مخرجه مخرج رجل لابن و تامر أي ذو لبن و تمر فمعنى باصر ذو بصر يقول ع لمعاوية قد حان لك أن تنتفع بما تعلمه من معاينة الأمور و الأحوال و تتحققه يقينا بقلبك كما يتحقق ذو اللمح الباصر ما يبصره بحاسة بصره و أراد ببيان الأمور هاهنا معاينتها و هو ما يعرفه ضرورة من استحقاق علي ع للخلافة دونه و براءته من كل شبهة ينسبها إليه. ثم قال له فقد سلكت أي اتبعت طرائق أبي سفيان أبيك و عتبة جدك و أمثالهما من أهلك ذوي الكفر و الشقاق. و الأباطيل جمع باطل على غير قياس كأنهم جمعوا إبطيلا. و الاقتحام إلقاء النفس في الأمر من غير روية. و المين الكذب و الغرور بالضم المصدر و بالفتح الاسم. و انتحلت القصيدة أي ادعيتها كذبا. قال ما قد علا عنك أي أنت دون الخلافة و لست من أهلها و الابتزاز الاستلاب. شرح نهج البلاغة ج : 18 ص : 24قال لما قد اختزن دونك يعني التسمي بإمرة المؤمنين. ثم قال فرارا من الحق أي فعلت ذلك كله هربا من التمسك بالحق و الدين و حبا للكفر و الشقاق و التغلب. قال و جحودا لما هو أل يعني فرض طاعة علي ع لأنه قد وعاها سمعه لا ريب في ذلك إما بالنص في أيام رسول الله ص كما تذكره الشيعة فقد كان معاوية حاضرا يوم الغدير لأنه حج معهم حجة الوداع و قد كان أيضا حاضرا يوم تبوك حين قال له بمحضر من الناس كافة أنت مني بمنزلة هارون من موسى و قد سمع غير ذلك و أما بالبيعة كما نذكره نحن فإنه قد اتصل به خبرها و تواتر عنده وقوعها فصار وقوعها عنده معلوما بالضرورة كعلمه بأن في الدنيا بلدا اسمها مصر و إن كان ما

(19/16)


رآها. و الظاهر من كلام أمير المؤمنين ع أنه يريد المعنى الأول و نحن نخرجه على وجه لا يلزم منه ما تقوله الشيعة فنقول لنفرض أن النبي ص ما نص عليه بالخلافة بعده أ ليس يعلم معاوية و غيره من الصحابة أنه لو قال له في ألف مقام أنا حرب لمن حاربت و سلم لمن سالمت و نحو ذلك من قوله اللهم عاد من عاداه و وال من والاه و قوله حربك حربي و سلمك سلمي و قوله أنت مع الحق و الحق معك و قوله هذا مني و أنا منه و قوله هذا أخي و قوله يحب الله و رسوله و يحبه الله و رسوله و قوله اللهم ائتني بأحب خلقك إليك و قوله إنه ولي كل مؤمن و مؤمنة بعدي و قوله في كلام قاله خاصف النعل و قوله لا يحبه إلا مؤمن و لا يبغضه إلا منافق و قوله إن الجنة لتشتاق إلى أربعة و جعله أولهم و قوله لعمار تقتلك الفئة الباغية و قوله ستقاتل الناكثين و القاسطين شرح نهج البلاغة ج : 18 ص : 25و المارقين بعدي إلى غير ذلك مما يطول تعداده جدا و يحتاج إلى كتاب مفرد يوضع له أ فما كان ينبغي لمعاوية أن يفكر في هذا و يتأمله و يى الله و يتقيه فلعله ع إلى هذا أشار بقوله و جحودا لما هو ألزم لك من لحمك و دمك مما قد وعاه سمعك و ملئ به صدرك. قوله فما ذا بعد الحق إلا الضلال كلمة من الكلام الإلهي المقدس. قال و بعد البيان إلا اللبس يقال لبست عليه الأمر لبسا أي خلطته و المضارع يلبس بالكسر. قال فاحذر الشبهة و اشتمالها على اللبسة بالضم يقال في الأمر لبسة أي اشتباه و ليس بواضح و يجوز أن يكون اشتمال مصدرا مضافا إلى معاوية أي احذر الشبهة و احذر اشتمالك إياها على اللبسة أي ادراعك بها و تقمصك بها على ما فيها من الإبهام و الاشتباه و يجوز أن يكون مصدرا مضافا إلى ضمير الشبهة فقط أي احذر الشبهة و احتواءها على اللبسة التي فيها. و تقول أغدفت المرأة قناعها أي أرسلته على وجهها و أغدف الليل أي أرخى سدوله و أصل الكلمة التغطية. و الجلابيب جمع جلباب و هو الثوب. قال و أعشت

(19/17)


الأبصار ظلمتها أي أكسبتها العشي و هو ظلمة العين و روي و أغشت بالغين المعجمة ظلمتها بالنصب أي جعلت الفتنة ظلمتها غشاء للأبصار. و الأفانين الأساليب المختلفة. قوله ضعفت قواها عن السلم أي عن الإسلام أي لا تصدر تلك الأفانين
شرح نهج البلاغة ج : 18 ص : 26المختلطة عن مسلم و كان كتب إليه يطلب منه أن يفرده بالشام و أن يوليه العهد من بعده و ألا يكلفه الحضور عنده و قرأ أبو عمرو ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً و قال ليس المعني بهذا الصلح بل الإسلام و الإيمان لا غير و معنى ضعفت قوا أي ليس لتلك الطلبات و الدعاوي و الشبهات التي تضمنها كتابك من القوة ما يقتضي أن يكون المتمسك به مسلما لأنه كلام لا يقوله إلا من هو إما كافر منافق أو فاسق و الكافر ليس بمسلم و الفاسق أيضا ليس بمسلم على قول أصحابنا و لا كافر. ثم قال و أساطير لم يحكها منك علم و لا حلم الأساطير الأباطيل واحدها أسطورة بالضم و إسطارة بالكسر و الألف و حوك الكلام صنعته و نظمه و الحلم العقل يقول له ما صدر هذا الكلام و الهجر الفاسد عن عالم و لا عاقل. و من رواها الدهاس بالكسر فهو جمع دهس و من قرأها بالفتح فهو مفرد يقول هذا دهس و دهاس بالفتح مثل لبث و لباث للمكان السهل الذي لا يبلغ أن يكون رملا و ليس هو بتراب و لا طين. و الديماس بالكسر السرب المظلم تحت الأرض و في حديث المسيح أنه سبط الشعر كثير خيلان الوجه كأنه خرج من ديماس يعني في نضرته و كثرة ماء وجهه كأنه خرج من كن لأنه قال في وصفه كان رأسه يقطر ماء و كان للحجاج سجن اسمه الديماس لظلمته و أصله من دمس الظلام يدمس أي اشتد و ليل دامس و داموس أي مظلم و جاءنا فلان بأمور دمس أي مظلمة عظيمة يقول له أنت في كتابك هذا كالخائض في تلك الأرض الرخوة و تقوم و تقع و لا تتخلص و كالخابط في الليل المظلم يعثر و ينهض و لا يهتدى الطريق. شرح نهج البلاغة ج : 18 ص : 27و المرقبة الموضع العالي و الأعلام جمع علم

(19/18)


و هو ما يهتدى به في الطرقات من المنار يقول له سمت همتك إلى دعوى الخلافة و هي منك كالمرقبة التي لا ترام بتعد على من يطلبها و ليس فيها أعلام تهدى إلى سلوكريقها أي الطرق إليها غامضة كالجبل الأملس الذي ليس فيه درج و مراق يسلك منها إلى ذروته. و الأنوق على فعول بالفتح كأكول و شروب طائر و هو الرخمة و في المثل أعز من بيض الأنوق لأنها تحرزه و لا يكاد أحد يظفر به و ذلك لأن أوكارها في رءوس الجبال و الأماكن الصعبة البعيدة. و العيوق كوكب معروف فوق زحل في العلو و هذه أمثال ضربها في بعد معاوية عن الخلافة. ثم قال حاش لله إن أوليك شيئا من أمور المسلمين بعدي أي معاذ الله و الأصل إثبات الألف في حاشا و إنما اتبع فيها المصحف. و الورد و الصدر الدخول و الخروج و أصله في الإبل و الماء و ينهد إليك عباد الله أي ينهض و أرتجت عليك الأمور أغلقت. و هذا الكتاب هو جواب كتاب وصل من معاوية إليه ع بعد قتل علي ع الخوارج و فيه تلويح بما كان يقوله من قبل إن رسول الله وعدني بقتال طائفة أخرى غير أصحاب الجمل و صفين و إنه سماهم المارقين فلما واقعهم ع بالنهروان و قتلهم كلهم بيوم واحد و هم عشرة آلاف فارس أحب أن يذكر معاوية بما كان يقول من قبل و يعد به أصحابه و خواصه فقال له قد آن لك أن تنتفع بما عاينت و شاهدت معاينة و مشاهدة من صدق القول الذي كنت أقوله للناس و يبلغك فتستهزئ به
شرح نهج البلاغة ج : 18 ص : 6628- و من كتاب له ع كتبه إلى عبد الله بن العباسو قد تقدم ذكره بخلاف هذه الرواية

(19/19)


أَمَّا بَعْدُ فَإِنَّ الْعَبْدَ لَيَفْرَحُ بِالشَّيْ ءِ الَّذِي لَمْ يَكُنْ لِيَفُوتَهُ وَ يَحْزَنُ عَلَى الشَّيْ ءِ الَّذِي لَمْ يَكُنْ لِيُصِيبَهُ فَلَا يَكُنْ أَفْضَلَ مَا نِلْتَ فِي نَفْسِكَ مِنْ دُنْيَاكَ بُلُوغُ لَذَّةٍ أَوْ شِفَاءُ غَيْظٍ وَ لَكِنإِطْفَاءُ بَاطِلٍ وَ إِحْيَاءُ حَقٍّ وَ لْيَكُنْ سُرُورُكَ بِمَا قَدَّمْتَ وَ أَسَفُكَ عَلَى مَا خَلَّفْتَ وَ هَمُّكَ فِيمَا بَعْدَ الْمَوْتِ
هذا الفصل قد تقدم شرح نظيره و ليس في ألفاظه و لا معانيه ما يفتقر إلى تفسير و لكنا سنذكر من كلام الحكماء و الصالحين كلمات تناسبه
نبذ من كلام الحكماء
فمن كلام بعضهم ما قدر لك أتاك و ما لم يقدر لك تعداك فعلام تفرح بما لم يكن بد من وصوله إليك و علام تحزن بما لم يكن ليقدم عليك. و من كلامهم الدنيا تقبل إقبال الطالب و تدبر إدبار الهارب و تصل وصال المتهالك و تفارق فراق المبغض الفارك فخيرها يسير و عيشها قصير و إقبالها خدعة و إدبارها شرح نهج البلاغة ج : 18 ص : 29فجعة و لذاتها فانية و تبعاتها باقية فاغتنم غفلة الزمان و انتهز فرصة الإمكان و خذ من نفسك لنفسك و تزود من يومك لغدك قبل نفاذ المدة و زوال القدرة فلكل امرئ من دنياه ما ينفعه على عمارة أخراه. و من كلامهم نكد الدنيا أنها لا تبقى على حالة و لا تخلو من استحالة تصلح جانبا بإفساد جانب و تسر صاحبا بمساءة صاحب فالسكون فيها خطر و الثقة إليها غرر و الالتجاء إليها محال و الاعتماد عليها ضلال. و من كلامهم لا تبتهجن لنفسك بما أدركت من لذاتها الجسمانية و ابتهج لها بما تناله من لذاتها العقلية و من القول بالحق و العمل بالحق فإن اللذات الحسية خيال ينفد و المعارف العقلية باقية بقاء الأبد

(19/20)


شرح نهج البلاغة ج : 18 ص : 6730- و من كتاب له ع كتبه إلى قثم بن العباس و هو عامله على مكةأَمَّا بَعْدُ فَأَقِمْ لِلنَّاسِ الْحَجَّ وَ ذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ وَ اجْلِسْ لَهُمُ الْعَصْرَيْنِ فَأَفْتِ الْمُسْتَفْتِيَ وَ عَلِّمِ الْجَاهِلَ وَ ذَاكِرِ الْعَالِمَ وَ لَا يَكُنْ لَكَ إِلَى النَّاسِ سَفِيرٌ إِلَّا لِسَانُكَ وَ لَا حَاجِبٌ إِلَّا وَجْهُكَ وَ لَا تَحْجُبَنَّ ذَا حَاجَةٍ عَنْ لِقَائِكَ بِهَا فَإِنَّهَا إِنْ ذِيدَتْ عَنْ أَبْوَابِكَ فِي أَوَّلِ وِرْدِهَا لَمْ تُحْمَدْ فِيمَا بَعْدُ عَلَى قَضَائِهَا وَ انْظُرْ إِلَى مَا اجْتَمَعَ عِنْدَكَ مِنْ مَالِ اللَّهِ فَاصْرِفْهُ إِلَى مَنْ قِبَلَكَ مِنْ ذَوِي الْعِيَالِ وَ الْمَجَاعَةِ مُصِيباً بِهِ مَوَاضِعَ الْمَفَاقِرِ وَ الْخَلَّاتِ وَ مَا فَضَلَ عَنْ ذَلِكَ فَاحْمِلْهُ إِلَيْنَا لِنَقْسِمَهُ فِيمَنْ قِبَلَنَا وَ مُرْ أَهْلَ مَكَّةَ أَلَّا يَأْخُذُوا مِنْ سَاكِنٍ أَجْراً فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ يَقُولُ سَواءً الْعاكِفُ فِيهِ وَ الْبادِ فَالْعَاكِفُ الْمُقِيمُ بِهِ وَ الْبَادِي الَّذِي يَحُجُّ إِلَيْهِ مِنْ غَيْرِ أَهْلِهِ وَفَّقَنَا اللَّهُ وَ إِيَّاكُمْ لِمَحَابِّهِ وَ السَّلَامُ

(19/21)


شرح نهج البلاغة ج : 18 ص : 31قد تقدم ذكر قثم و نسبه أمره أن يقيم للناس حجهم و أن يذكرهم بأيام الله و هي أيام الإنعام و أيام الانتقام لتحصل الرغبة و الرهبة. و اجلس لهم العصرين الغداة و العشي. ثم قسم له ثمرة جلوسه لهم ثلاثة أقسام إما أن يفتي مستفتيا من المة في بعض الأحكام و إما أن يعلم متعلما يطلب الفقه و إما أن يذاكر عالما و يباحثه و يفاوضه و لم يذكر السياسة و الأمور السلطانية لأن غرضه متعلق بالحجيج و هم أضيافه يقيمون ليالي يسيرة و يقفلون و إنما يذكر السياسة و ما يتعلق بها فيما يرجع إلى أهل مكة و من يدخل تحت ولايته دائما ثم نهاه عن توسط السفراء و الحجاب بينه و بينهم بل ينبغي أن يكون سفيره لسانه و حاجبه وجهه و روي و لا يكن إلا لسانك سفيرا لك إلى الناس بجعل لسانك اسم كان مثل قوله فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قالُوا و الرواية الأولى هي المشهورة و هو أن يكون سفيرا اسم كان و لك خبرها و لا يصح ما قاله الراوندي إن خبرها إلى الناس لأن إلى هاهنا متعلقة بنفس سفير فلا يجوز أن تكون الخبر عن سفير تقول سفرت إلى بني فلان في الصلح و إذا تعلق حرف الجر بالكلمة صار كالشي ء الواحد. ثم قال فإنها إن ذيدت أي طردت و دفعت كان أبو عباد ثابت بن يحيى كاتب المأمون إذا سئل الحاجة يشتم السائل و يسطو عليه و يخجله و يبكته ساعة ثم يأمر له بها فيقوم و قد صارت إليه و هو يذمه و يلعنه قال علي بن جبلة العكوك شرح نهج البلاغة ج : 18 ص : 3لعن الله أبا عباد لعنا يتوالى يوسع السائل شتما ثم يعطيه السؤالاو كان الناس يقفون لأبي عباد وقت ركوبه فيتقدم الواحد منهم إليه بقصته ليناوله إياها فيركله برجله بالركاب و يضربه بسوطه و يطير غضبا ثم لا ينزل عن فرسه حتى يقضي حاجته و يأمر له بطلبته فينصرف الرجل بها و هو ذام له ساخط عليه فقال فيه دعبل

(19/22)


أولى الأمور بضيعة و فساد ملك يدبره أبو عبادمتعمد بدواته جلساءه فمضرج و مخضب بمدادو كأنه من دير هزقل مفلت حرب يجر سلاسل الأقيادفاشدد أمير المؤمنين صفاده بأشد منه في يد الحداد
و قال فيه بعض الشعراء
قل للخليفة يا ابن عم محمد قيد وزيرك إنه ركال فلسوطه بين الرءوس مسالك و لرجله بين الصدور مجالو المفاقر الحاجات يقال سد الله مفاقره أي أغنى الله فقره ثم أمره أن يأمر أهل مكة ألا يأخذوا من أحد من الحجيج أجرة مسكن و احتج على ذلك بالآية و أصحاب أبي حنيفة يتمسكون بها في امتناع بيع دور مكة و إجارتها و هذا بناء على أن شرح نهج البلاغة ج : 18 ص : 33المسجالحرام هو مكة كلها و الشافعي يرى خلاف ذلك و يقول إنه الكعبة و لا يمنع من بيع دور مكة و لا إجارتها و يحتج بقوله تعالى الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ و أصحاب أبي حنيفة يقولون إنها إضافة اختصاص لا إضافة تمليك كما تقول جل الدابة و قرأ سواء بالنصب على أن يكون أحد مفعولي جعلنا أي جعلناه مستويا فيه العاكف و الباد و من قرأ بالرفع جعل الجملة هي المفعول الثاني
شرح نهج البلاغة ج : 18 ص : 6834- و من كتاب له ع كتبه إلى سلمان الفارسي رحمه الله قبل أيام خلافتهأَمَّا بَعْدُ فَإِنَّمَا مَثَلُ الدُّنْيَا مَثَلُ الْحَيَّةِ لَيِّنٌ مَسُّهَا قَاتِلٌ سَمُّهَا فَأَعْرِضْ عَمَّا يُعْجِبُكَ فِيهَا لِقِلَّةِ مَا يَصْحَبُكَ مِنْهَا وَ ضَعْ عَنْكَ هُمُومَهَا لِمَا أَيْقَنْتَ بِهِ مِنْ فِرَاقِهَا وَ تَصَرُّفِ حَالَاتِهَا وَ كُنْ آنَسَ مَا تَكُونُ بِهَا أَحْذَرَ مَا تَكُونُ مِنْهَا فَإِنَّ صَاحِبَهَا كُلَّمَا اطْمَأَنَّ فِيهَا إِلَى سُرُورٍ أَشْخَصَتْهُ إِلَى مَحْذُورٍ أَوْ إِلَى إِينَاسٍ أَزَالَتْهُ عَنْهُ إِلَى إِيحَاشٍ وَ السَّلَامُ
سلمان الفارسي و خبر إسلامه

(19/23)


سلمان رجل من فارس من رامهرمز و قيل بل من أصبهان من قرية يقال لها جي و هو معدود من موالي رسول الله ص و كنيته أبو عبد الله و كان إذا قيل ابن من أنت يقول أنا سلمان ابن الإسلام أنا من بني آدم. و قد روي أنه قد تداوله أرباب كثيرة بضعة عشر ربا من واحد إلى آخر حتى أفضى إلى رسول الله ص. و روى أبو عمر بن عبد البر في كتاب الإستيعاب أن سلمان أتى رسول الله شرح نهج البلاغة ج : 18 ص : 35ص بصدقة فقال هذه صدقة عليك و على أصحابك فلم يقبلها و قال إنه لا تحل لنا الصدقة فرفعها ثم جاء من الغد بمثلها و قال هدية هذه فقال لأصحابهلوا. و اشتراه من أربابه و هم قوم يهود بدراهم و على أن يغرس لهم من النخيل كذا و كذا و يعمل فيها حتى تدرك فغرس رسول الله ص ذلك النخل كله بيده إلا نخلة واحدة غرسها عمر بن الخطاب فأطعم النخل كله إلا تلك النخلة فقال رسول الله ص من غرسها قيل عمر فقلعها و غرسها رسول الله ص بيده فأطعمت. قال أبو عمر و كان سلمان يسف الخوص و هو أمير على المدائن و يبيعه و يأكل منه و يقول لا أحب أن آكل إلا من عمل يدي و كان قد تعلم سف الخوص من المدينة. و أول مشاهده الخندق و هو الذي أشار بحفره فقال أبو سفيان و أصحابه لما رأوه هذه مكيدة ما كانت العرب تكيدها. قال أبو عمر و قد روي أن سلمان شهد بدرا و أحدا و هو عبد يومئذ و الأكثر أن أول مشاهده الخندق و لم يفته بعد ذلك مشهد. قال و كان سلمان خيرا فاضلا حبرا عالما زاهدا متقشفا. قال و ذكر هشام بن حسان عن الحسن البصري قال كان عطاء سلمان خمسة آلاف و كان إذا خرج عطاؤه تصدق به و يأكل من عمل يده و كانت له عباءة يفرش بعضها و يلبس بعضها. شرح نهج البلاغة ج : 18 ص : 36قال و قد ذكر ابن وهب و ابن نافع أن سلمان لم يكن له بيت إنما كان يستظل بالجدر و الشجر و أن رجلا قال له أ لا أبني لك بيتا تسكن فيه قال لا حاجلي في ذلك فما زال به الرجل حتى قال له أنا أعرف البيت الذي يوافقك

(19/24)


قال فصفه لي قال أبني لك بيتا إذا أنت قمت فيه أصاب رأسك سقفه و إن أنت مددت فيه رجليك أصابهما الجدار قال نعم فبنى له.
قال أبو عمر و قد روي عن رسول الله ص من وجوه أنه قال لو كان الدين في الثريا لناله سلمان
و في رواية أخرى لناله رجل من فارس
قال و قد روينا عن عائشة قالت كان لسلمان مجلس من رسول الله ص ينفرد به بالليل حتى كاد يغلبنا على رسول الله ص
قال و قد روي من حديث ابن بريدة عن أبيه أن رسول الله ص قال أمرني ربي بحب أربعة و أخبرني أنه يحبهم علي و أبو ذر و المقداد و سلمان
قال و روى قتادة عن أبي هريرة قال سلمان صاحب الكتابين
يعني الإنجيل و القرآن. و
قد روى الأعمش عن عمرو بن مرة عن أبي البختري عن علي ع أنه سئل عن سلمان فقال علم العلم الأول و العلم الآخر ذاك بحر لا ينزف و هو منا أهل البيت
قال و في رواية زاذان عن علي ع سلمان الفارسي كلقمان الحكيم
قال و قال فيه كعب الأحبار سلمان حشي علما و حكمة

(19/25)


شرح نهج البلاغة ج : 18 ص : 37قال و في الحديث المروي أن أبا سفيان مر على سلمان و صهيب و بلال في نفر من المسلمين فقالوا ما أخذت السيوف من عنق عدو الله مأخذها و أبو سفيان يسمع قولهم فقال لهم أبو بكر أ تقولون هذا لشيخ قريش و سيدها و أتى النبي ص و أخبره فقالا أبا بكر لعلك أغضبتهم لئن كنت أغضبتهم لقد أغضبت الله فأتاهم أبو بكر فقال أبو بكر يا إخوتاه لعلي أغضبتكم قالوا لا يا أبا بكر يغفر الله لك. قال و آخى رسول الله ص بينه و بين أبي الدرداء لما آخى بين المسلمين. قال و لسلمان فضائل جمة و أخبار حسان و توفي في آخر خلافة عثمان سنة خمس و ثلاثين و قيل توفي في أول سنة ست و ثلاثين و قال قوم توفي في خلافة عمر و الأول أكثر. و أما حديث إسلام سلمان فقد ذكره كثير من المحدثين و رووه عنه قال كنت ابن دهقان قرية جي من أصبهان و بلغ من حب أبي لي أن حبسني في البيت كما تحبس الجارية فاجتهدت في المجوسية حتى صرت قطن بيت النار فأرسلني أبي يوما إلى ضيعة له فمررت بكنيسة النصارى فدخلت عليهم فأعجبتني صلاتهم فقلت دين هؤلاء خير من ديني فسألتهم أين أصل هذا الدين قالوا بالشام فهربت من والدي حتى قدمت الشام فدخلت على الأسقف فجعلت أخدمه و أتعلم منه حتى حضرته الوفاة فقلت إلى من توصي بي فقال قد هلك الناس و تركوا دينهم إلا رجلا بالموصل فالحق به فلما قضى نحبه لحقت بذلك الرجل شرح نهج البلاغة ج : 18 ص : 38فلم يلبث إلا قليلا حتى حضرته الوفاة فقلت إلى من توصي بي فقال ما أعلم رجلا بقي على الطريقة المستقيمة ا رجلا بنصيبين فلحقت بصاحب نصيبين قالوا و تلك الصومعة اليوم باقية و هي التي تعبد فيها سلمان قبل الإسلام قال ثم احتضر صاحب نصيبين فبعثني إلى رجل بعمورية من أرض الروم فأتيته و أقمت عنده و اكتسبت بقيرات و غنيمات فلما نزل به الموت قلت له بمن توصي بي فقال قد ترك الناس دينهم و ما بقي أحد منهم على الحق و قد أظل زمان نبي مبعوث

(19/26)


بدين إبراهيم يخرج بأرض العرب مهاجرا إلى أرض بين حرتين لها نخل قلت فما علامته قال يأكل الهدية و لا يأكل الصدقة بين كتفيه خاتم النبوة قال و مر بي ركب من كلب فخرجت معهم فلما بلغوا بي وادي القرى ظلموني و باعوني من يهودي فكنت أعمل له في زرعه و نخله فبينا أنا عنده إذ قدم ابن عم له فابتاعني منه و حملني إلى المدينة فو الله ما هو إلا أن رأيتها فعرفتها و بعث الله محمدا بمكة و لا أعلم بشي ء من أمره فبينا أنا في رأس نخلة إذ أقبل ابن عم لسيدي فقال قاتل اله بني قيلة قد اجتمعوا على رجل بقباء قدم عليهم من مكة يزعمون أنه نبي قال فأخذني القر و الانتفاض و نزلت عن النخلة و جعلت أستقصي في السؤال فما كلمني سيدي بكلمة بل قال أقبل على شأنك و دع ما لا يعنيك فلما أمسيت أخذت شيئا كان عندي من التمر و أتيت به النبي ص فقلت له بلغني أنك رجل صالح و أن لك أصحابا غرباء ذوي حاجة و هذا شي ء عندي للصدقة فرأيتكم أحق به من غيركم فقال ع لأصحابه كلوا و أمسك فلم يأكل فقلت في نفسي هذه واحدة و انصرفت فلما كان من الغد أخذت ما كان بقي عندي و أتيته به فقلت له إني رأيتك لا تأكل الصدقة و هذههدية

(19/27)


شرح نهج البلاغة ج : 18 ص : 39فقال كلوا و أكل معهم فقلت إنه لهو فأكببت عليه أقبله و أبكي فقال ما لك فقصصت عليه القصة فأعجبه ثم قال يا سلمان كاتب صاحبك فكاتبته على ثلاثمائة نخلة و أربعين أوقية فقال رسول الله ص للأنصار أعينوا أخاكم فأعانوني بالنخل حتى جمعتلاثمائة ودية فوضعها رسول الله ص بيده فصحت كلها و أتاه مال من بعض المغازي فأعطاني منه و قال أد كتابتك فأديت و عتقت. و كان سلمان من شيعة علي ع و خاصته و تزعم الإمامية أنه أحد الأربعة الذين حلقوا رءوسهم و أتوه متقلدي سيوفهم في خبر يطول و ليس هذا موضع ذكره و أصحابنا لا يخالفونهم في أن سلمان كان من الشيعة و إنما يخالفونهم في أمر أزيد من ذلك و ما يذكره المحدثون من قوله للمسلمين يوم السقيفة كرديد و نكرديد محمول عند أصحابنا على أن المراد صنعتم شيئا و ما صنعتم أي استخلفتم خليفة و نعم ما فعلتم إلا أنكم عدلتم عن أهل البيت فلو كان الخليفة منهم كان أولى و الإمامية تقول معناه أسلمتم و ما أسلمتم و اللفظة المذكورة في الفارسية لا تعطي هذا المعنى و إنما تدل على الفعل و العمل لا غير و يدل على صحة قول أصحابنا أن سلمان عمل لعمر على المدائن فلو كان ما تنسبه الإمامية إليه حقا لم يعمل له.
فأما ألفاظ الفصل و معانيه فظاهرة و مما يناسب مضمونه قول بعض الحكماء تعز عن الشي ء إذا منعته بقلة صحبته لك إذا أعطيته. و كان يقال الهالك على الدنيا رجلان رجل نافس في عزها و رجل أنف من ذلها

(19/28)


شرح نهج البلاغة ج : 18 ص : 40و مر بعض الزهاد بباب دار و أهلها يبكون ميتا لهم فقال وا عجبا لقوم مسافرين يبكون مسافرا قد بلغ منزله. و كان يقال يا ابن آدم لا تأسف على مفقود لا يرده عليك الفوت و لا تفرح بموجود لا يتركه عليك الموت. لقي عالم من العلماء راهبا ال أيها الراهب كيف ترى الدنيا قال تخلق الأبدان و تجدد الآمال و تباعد الأمنية و تقرب المنية قال فما حال أهلها قال من ظفر بها نصب و من فاتته أسف قال فكيف الغنى عنها قال بقطع الرجاء منها قال فأي الأصحاب أبر و أوفى قال العمل الصالح قال فأيهم أضر و أنكى قال النفس و الهوى قال فكيف المخرج قال في سلوك المنهج قال و بما ذا أسلكه قال بأن تخلع لباس الشهوات الفانية و تعمل للدار الباقية

(19/29)


شرح نهج البلاغة ج : 18 ص : 6941- و من كتاب له ع كتبه إلى الحارث الهمدانيوَ تَمَسَّكْ بِحَبْلِ الْقُرْآنِ وَ انْتَصِحْهُ وَ أَحِلَّ حَلَالَهُ وَ حَرِّمْ حَرَامَهُ وَ صَدِّقْ بِمَا سَلَفَ مِنَ الْحَقِّ وَ اعْتَبِرْ بِمَا مَضَى مِنَ الدُّنْيَا لِمَا بَقِيَ مِنْهَا فَإِنَّ بَعْضَهَا يُشْبِهُ بَعْضاً وَ آخِرَهَا لَاحِقٌ بِأَوَّلِهَا وَ كُلُّهَا حَائِلٌ مُفَارِقٌ وَ عَظِّمِ اسْمَ اللَّهِ أَنْ تَذْكُرَهُ إِلَّا عَلَى حَقٍّ وَ أَكْثِرْ ذِكْرَ الْمَوْتِ وَ مَا بَعْدَ الْمَوْتِ وَ لَا تَتَمَنَّ الْمَوْتَ إِلَّا بِشَرْطٍ وَثِيقٍ وَ احْذَرْ كُلَّ عَمَلٍ يَرْضَاهُ صَاحِبُهُ لِنَفْسِهِ وَ يَكْرَهُهُ لِعَامَّةِ الْمُسْلِمِينَ وَ احْذَرْ كُلَّ عَمَلٍ يُعْمَلُ بِهِ فِي السِّرِّ وَ يُسْتَحَى مِنْهُ فِي الْعَلَانِيَةِ وَ احْذَرْ كُلَّ عَمَلٍ إِذَا سُئِلَ عَنْهُ صَاحِبُهُ أَنْكَرَهُ وَ اعْتَذَرَ مِنْهُ وَ لَا تَجْعَلْ عِرْضَكَ غَرَضاً لِنِبَالِ الْقَوْمِ وَ لَا تُحَدِّثِ النَّاسَ بِكُلِّ مَا سَمِعْتَ بِهِ فَكَفَى بِذَلِكَ كَذِباً وَ لَا تَرُدَّ عَلَى النَّاسِ كُلَّ مَا حَدَّثُوكَ بِهِ فَكَفَى بِذَلِكَ جَهْلًا وَ اكْظِمِ الْغَيْظَ وَ احْلُمْ عِنْدَ الْغَضَبِ وَ تَجَاوَزْ عِنْدَ الْمَقْدِرَةِ وَ اصْفَحْ مَعَ الدَّوْلَةِ تَكُنْ لَكَ الْعَاقِبَةُ وَ اسْتَصْلِحْ كُلَّ نِعْمَةٍ أَنْعَمَهَا اللَّهُ عَلَيْكَ وَ لَا تُضَيِّعَنَّ نِعْمَةً مِنْ نِعَمِ اللَّهِ عِنْدَكَ وَ لْيُرَ عَلَيْكَ أَثَرُ مَا أَنْعَمَ اللَّهُ بِهِ عَلَيْكَ وَ اعْلَمْ أَنَّ أَفْضَلَ الْمُؤْمِنِينَ أَفْضَلُهُمْ تَقْدِمَةً مِنْ نَفْسِهِ وَ أَهْلِهِ وَ مَالِهِ وَ إِنَّكَ مَا تُقَدِّمْ مِنْ خَيْرٍ يَبْقَ لَكَ ذُخْرُهُ وَ مَا تُؤَخِّرْهُ يَكُنْ لِغَيْرِكَ خَيْرُهُ شرح نهج البلاغة ج : 18 ص : 42وَ احْذَرْ صَحَابَةَ مَنْ يَفِيلُ رَأْيُهُ

(19/30)


وَ يُنْكَ عَمَلُهُ فَإِنَّ الصَّاحِبَ مُعْتَبَرٌ بِصَاحِبِهِ وَ اسْكُنِ الْأَمْصَارَ الْعِظَامَ فَإِنَّهَا جِمَاعُ الْمُسْلِمِينَ وَ احْذَرْ مَنَازِلَ الْغَفْلَةِ وَ الْجَفَاءِ وَ قِلَّةَ الْأَعْوَانِ عَلَى طَاعَةِ اللَّهِ وَ اقْصُرْ رَأْيَكَ عَلَى مَا يَعْنِيكَ وَ إِيَّاكَ وَ مَقَاعِدَ الْأَسْوَاقِ فَإِنَّهَا مَحَاضِرُ الشَّيْطَانِ وَ مَعَارِيضُ الْفِتَنِ وَ أَكْثِرْ أَنْ تَنْظُرَ إِلَى مَنْ فُضِّلْتَ عَلَيْهِ فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ أَبْوَابِ الشُّكْرِ وَ لَا تُسَافِرْ فِي يَوْمِ جُمُعَةٍ حَتَّى تَشْهَدَ الصَّلَاةَ إِلَّا فَاصِلًا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ فِي أَمْرٍ تُعْذَرُ بِهِ وَ أَطِعِ اللَّهَ فِي جُمَلِ أُمُورِكَ فَإِنَّ طَاعَةَ اللَّهِ فَاضِلَةٌ عَلَى مَا سِوَاهَا وَ خَادِعْ نَفْسَكَ فِي الْعِبَادَةِ وَ ارْفُقْ بِهَا وَ لَا تَقْهَرْهَا وَ خُذْ عَفْوَهَا وَ نَشَاطَهَا إِلَّا مَا كَانَ مَكْتُوباً عَلَيْكَ مِنَ الْفَرِيضَةِ فَإِنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ قَضَائِهَا وَ تَعَاهُدِهَا عِنْدَ مَحَلِّهَا وَ إِيَّاكَ أَنْ يَنْزِلَ بِكَ الْمَوْتُ وَ أَنْتَ آبِقٌ مِنْ رَبِّكَ فِي طَلَبِ الدُّنْيَا وَ إِيَّاكَ وَ مُصَاحَبَةَ الْفُسَّاقِ فَإِنَّ الشَّرَّ بِالشَّرِّ مُلْحَقٌ وَ وَقِّرِ اللَّهَ وَ أَحْبِبْ أَحِبَّاءَهُ وَ احْذَرِ الْغَضَبَ فَإِنَّهُ جُنْدٌ مِنْ جُنُودِ إِبْلِيسَ وَ السَّلَامُ
الحارث الأعور و نسبه
هو الحارث الأعور صاحب أمير المؤمنين ع و هو الحارث بن عبد الله بن كعب بن أسد بن نخلة بن حرث بن سبع بن صعب بن معاوية الهمداني كان أحد شرح نهج البلاغة ج : 18 ص : 43الفقهاء له قول في الفتيا و كان صاحب علي ع و إليه تنسب الشيعة الخطاب الذي خاطبه به في قوله ع
يا حار همدان من يمت يرني من مؤمن أو منافق قبلا
و هي أبيات مشهورة قد ذكرناها فيما تقدم
نبذ من الأقوال الحكيمة

(19/31)


و قد اشتمل هذا الفصل على وصايا جليلة الموقع منها قوله و تمسك بحبل القرآن
جاء في الخبر المرفوع لما ذكر الثقلين فقال أحدهما كتاب الله حبل ممدود من السماء إلى الأرض طرف بيد الله و طرف بأيديكم
و منها قوله انتصحه أي عده ناصحا لك فيما أمرك به و نهاك عنه. و منها قوله و أحل حلاله و حرم حرامه أي احكم بين الناس في الحلال و الحرام بما نص عليه القرآن. و منها قوله و صدق بما سلف من الحق أي صدق بما تضمنه القرآن من أيام الله و مثلاته في الأمم السالفة لما عصوا و كذبوا. و منها قوله و اعتبر بما مضى من الدنيا لما بقي منها و في المثل إذا شئت أن تنظر الدنيا بعدك فانظرها بعد غيرك و قال الشاعر
و ما نحن إلا مثلهم غير أننا أقمنا قليلا بعدهم ثم نرحل
و يناسب قوله و آخرها لاحق بأولها و كلها حائل مفارق قوله أيضا ع شرح نهج البلاغة ج : 18 ص : 44في غير هذا الفصل الماضيللمقيم عبرة و الميت للحي عظة و ليس لأمس عودة و لا المرء من غد على ثقة الأول للأوسط رائد و الأوسط للأخير قائد و كل بكل لاحق و الكل للكل مفارق

(19/32)


و منها قوله و عظم اسم الله أن تذكره إلا على حق قال الله سبحانه وَ لا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمانِكُمْ و قد نهى عن الحلف بالله في الكذب و الصدق أما في أحدهما فمحرم و أما في الآخر فمكروه و لذلك لا يجوز ذكر اسمه تعالى في لغو القول و الهزء و العبث. و منها قوله و أكثر ذكر الموت و ما بعد الموت جاء في الخبر المرفوع أكثروا ذكر هاذم اللذات و ما بعد الموت العقاب و الثواب في القبر و في الآخرة. و منها قوله و لا تتمن الموت إلا بشرط وثيق هذه كلمة شريفة عظيمة القدر أي لا تتمن الموت إلا و أنت واثق من أعمالك الصالحة أنها تؤديك إلى الجنة و تنقذك من النار و هذا هو معنى قوله تعالى لليهود إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِياءُ لِلَّهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ وَ لا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَداً بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَ اللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ. و منها قوله و احذر كل عمل يرضاه صاحبه لنفسه و يكرهه لعامة المسلمين و احذر كل عمل يعمل في السر و يستحيا منه في العلانية و احذر كل عمل إذا سئل عنه صاحبه أنكره و اعتذر منه و هذه الوصايا الثلاث متقاربة في المعنى و يشملها معنى قول الشاعر
لا تنه عن خلق و تأتي مثله عار عليك إذا فعلت عظيم
شرح نهج البلاغة ج : 18 ص : 45و قال الله تعالى حاكيا عن نبي من أنبيائه وَ ما أُرِيدُ أَنْ أُخالِفَكُمْ إِلى ما أَنْهاكُمْ عَنْهُ. و من كلام الجنيد الصوفي ليكن عملك من وراء سترك كعملك من وراء الزجاج الصافي و في المثل و هو منسوب إلى علي ع إياك و ما يعتذر م. و منها قوله و لا تجعل عرضك غرضا لنبال القوم قال الشاعر
لا تستتر أبدا ما لا تقوم له و لا تهيجن من عريسة الأسداإن الزنابير إن حركتها سفها من كورها أوجعت من لسعها الجسدا
و قال

(19/33)


مقالة السوء إلى أهلها أسرع من منحدر سائل و من دعا الناس إلى ذمه ذموه بالحق و بالباطلو منها قوله و لا تحدث الناس بكل ما سمعت فكفى بذلك كذبا قد نهى أن يحدث الإنسان بكل ما رأى من العجائب فضلا عما سمع لأن الحديث الغريب المعجب تسارع النفس إلى تكذيبه و إلى أن تقوم الدلالة على صدقه قد فرط من سوء الظن فيه ما فرط. و يقال إن بعض العلوية قال في حضرة عضد الدولة ببغداد عندنا في الكوفة نبق وزن كل نبقة مثقالان فاستطرف الملك ذلك و كاد يكذبه الحاضرون فلما قام ذكر ذلك لأبيه فأرسل حماما كان عنده في الحال إلى الكوفة يأمر وكلاءه بإرسال مائة حمامة في رجلي كل واحدة نبقتان من ذلك النبق فجاء النبق في بكرة الغد و حمل إلى عضد الدولة فاستحسنه و صدقه حينئذ ثم قال له لعمري لقد صدقت شرح نهج البلاغة ج : 18 ص : 46و لكن لا تحدث فيما بعد بكل ما رأيت من الغرائب فليس كل وقت يتهيأ لك إرسال الحمام. و كان يقال الناس يكتبون أحسن ما يسمعون و يحفظون أحسن ما يكتبون و يتحدثون بأحسن يحفظون و الأصدق نوع تحت جنس الأحسن و منها قوله و لا ترد على الناس كل ما حدثوك فكفى بذلك جهلا من الجهل المبادرة بإنكار ما يسمعه و قال ابن سينا في آخر الإشارات إياك أن يكون تكيسك و تبرؤك من العامة هو أن تنبري منكرا لكل شي ء فلذلك عجز و طيش و ليس الخرق في تذيبك ما لم يستبن لك بعد جليته دون الخرق في تصديقك بما لم تقم بين يديك بينة بل عليك الاعتصام بحبل التوقف و إن أزعجك استنكار ما يوعيه سمعك مما لم يبرهن على استحالته لك فالصواب أن تسرح أمثال ذلك إلى بقعة الإمكان ما لم يذدك عنها قائم البرهان. و منها قوله و اكظم الغيظ قد مدح الله تعالى ذلك فقال وَ الْكاظِمِينَ الْغَيْظَ و

(19/34)


روي أن عبدا لموسى بن جعفر ع قدم إليه صحفة فيها طعام حار فعجل فصبها على رأسه و وجهه فغضب فقال له وَ الْكاظِمِينَ الْغَيْظَ قال قد كظمت قال وَ الْعافِينَ عَنِ النَّاسِ قال قد عفوت قال وَ اللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ قال أنت حر لوجه الله و قد نحلتك ضيعتي الفلانية
و منها قوله و احلم عند الغضب هذه مناسبة الأولى و قد تقدم منا قول كثير في الحلم و فضله و كذلك القول في قوله ع و تجاوز عند القدرة و كان يقال القدرة تذهب الحفيظة. شرح نهج البلاغة ج : 18 ص : 47و منها قوله و اصفح مع الدولة تكن لك العاقبة هذه كانت شيمة رسول ال ص و شيمة علي ع أما شيمة رسول الله ص فظفر بمشركي مكة و عفا عنهم كما سبق القول فيه في عام الفتح و أما علي ع فظفر بأصحاب الجمل و قد شقوا عصا الإسلام عليه و طعنوا فيه و في خلافته فعفا عنهم مع علمه بأنهم يفسدون عليه أمره فيما بعد و يصيرون إلى معاوية إما بأنفسهم أو بآرائهم و مكتوباتهم و هذا أعظم من الصفح عن أهل مكة لأن أهل مكة لم يبق لهم لما فتحت فئة يتحيزون إليها و يفسدون الدين عندها. و منها قوله و استصلح كل نعمة أنعمها الله عليك معنى استصلحها استدمها لأنه إذا استدامها فقد أصلحها فإن بقاءها صلاح لها و استدامتها بالشكر. و منها قوله و لا تضيعن نعمة من نعم الله عندك أي واس الناس منها و أحسن إليهم و اجعل بعضها لنفسك و بعضها للصدقة و الإيثار فإنك إن لم تفعل ذلك تكن قد أضعتها. و منها قوله و لير عليك أثر النعمة قد أمر بأن يظهر الإنسان على نفسه آثار نعمة الله عليه و قال سبحانه وَ أَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ و قال الرشيد لجعفر قم بنا لنمضي إلى منزل الأصمعي فمضيا إليه خفية و معهما خادم معه ألف دينار ليدفع ذلك إليه فدخلا داره فوجدا كساء جرداء و بارية سملاء و حصيرا مقطوعا و خباء قديمة و أباريق من خزف و دواة من زجاج و دفاتر عليها التراب و حيطانا مملوءة من نسج العناكب فوجم

(19/35)


الرشيد و سأله مسائل غشة لم تكن من غرضه و إنما قطع بها خجله و قال الرشيد لجعفر أ لا ترى إلى نفس هذا المهين قد بررناه بأكثر شرح نهج البلاغة ج : 18 ص : 48من خمسين ألف دينار و هذه حاله لم تظهر عليه آثارعمتنا و الله لا دفعت إليه شيئا و خرج و لم يعطه. و منها قوله و اعلم أن أفضل المؤمنين أفضلهم تقدمة من نفسه و أهله و ماله أي أفضلهم إنفاقا في البر و الخير من ماله و هي التقدمة قال الله تعالى وَ ما تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ فأما النفس و الأهل فإن تقدمتهما في الجهاد و قد تكون التقدمة في النفس بأن يشفع شفاعة حسنة أو يحضر عند السلطان بكلام طيب و ثناء حسن و أن يصلح بين المتخاصمين و نحو ذلك و التقدمة في الأهل أن يحج بولده و زوجته و يكلفهما المشاق في طاعة الله و أن يؤدب ولده إن أذنب و أن يقيم عليه الحد و نحو ذلك. و منها قوله و ما تقدم من خير يبق لك زخره و ما تؤخره يكن لغيرك خيره و قد سبق مثل هذا و أن ما يتركه الإنسان بعده فقد حرم نفعه و كأنما كان يكدح لغيره و ذلك من الشقاوة و قلة التوفيق. و منها قوله و احذر صحابة من يفيل رأيه الصحابة بفتح الصاد مصدر صحبت و الصحابة بالفتح أيضا جمع صاحب و المراد هاهنا الأول و فال رأيه فسد و هذا المعنى قد تكرر و قال طرفة
عن المرء لا تسأل و سل عن قرينه فإن القرين بالمقارن يقتدي

(19/36)


و منها قوله و اسكن الأمصار العظام قد قيل لا تسكن إلا في مصر فيه سوق قائمة و نهر جار و طبيب حاذق و سلطان عادل فأما منازل الغفلة و الجفاء فمثل قرى السواد الصغار فإن أهلها لا نور فيهم و لا ضوء عليهم و إنما هم كالدواب شرح نهج البلاغة ج : 18 ص : 49و الأنعام هم الحرث و الفلاحة و لا يفقهون شيئا أصلا فمجاورتهم تعمي القلب و تظلم الحس و إذا لم يجد الإنسان من يعينه على طاعة الله و على تعلم العلم قصر فيهما. و منها قوله و اقصر رأيك على ما يعنيك كان يقال من دخل فيما لا يعنيه فاته ما يعنيه. و منها نهيه إياه عن القعود في الأسواق قد جاء في المثل السوق محل الفسوق. و
جاء في الخبر المرفوع الأسواق مواطن إبليس و جنده

(19/37)


و ذلك لأنها قلما تخلو عن الأيمان الكاذبة و البيوع الفاسدة و هي أيضا مجمع النساء المومسات و فجار الرجال و فيها اجتماع أرباب الأهواء و البدع فلا يخلو أن يتجادل اثنان منهم في المذاهب و النحل فيفضي إلى الفتن. و منها قوله و انظر إلى من فضلت عليه كان يقال انظر إلى من دونك و لا تنظر إلى من فوقك و قد بين ع السر فيه فقال إن ذلك من أبواب الشكر و صدق ع لأنك إذا رأيت جاهلا و أنت عالم أو عالما و أنت أعلم منه أو فقيرا و أنت أغنى منه أو مبتلى بسقم و أنت معافى عنه كان ذلك باعثا و داعيا لك إلى الشكر. و منها نهيه عن السفر يوم الجمعة ينبغي أن يكون هذا النهي عن السفر يوم الجمعة قبل الصلاة و أما بعد الصلاة فلا بأس به و استثنى فقال إلا فاصلا في سبيل الله أي شاخصا إلى الجهاد. قال أو في أمر تعذر به أي لضرورة دعتك إلى ذلك. شرح نهج البلاغة ج : 18 ص : 50و قد ورد نهي كثير عن السفر يوالجمعة قبل أداء الفرض على أن من الناس من كره ذلك بعد الصلاة أيضا و هو قول شاذ. و منها قوله و أطع الله في جمل أمورك أي في جملتها و فيها كلها و ليس يعني في جملتها دون تفاصيلها قال فإن طاعة الله فاضلة على غيرها و صدق ع لأنها توجب السعادة الدائمة و الخلاص من الشقاء الدائم و لا أفضل مما يؤدي إلى ذلك. و منها قوله و خادع نفسك في العبادة أمره أن يتلطف بنفسه في النوافل و أن يخادعها و لا يقهرها فتمل و تضجر و تترك بل يأخذ عفوها و يتوخى أوقات النشاط و انشراح الصدر للعبادة. قال فأما الفرائض فحكمها غير هذا الحكم عليك أن تقوم بها كرهتها النفس أو لم تكرهها ثم أمره أن يقوم بالفريضة في وقتها و لا يؤخرها عنه فتصير قضاء. و منها قوله و إياك أن ينزل بك المنون و أنت آبق من ربك في طلب الدنيا هذه وصية شريفة جدا جعل طالب الدنيا المعرض عن الله عند موته كالعبد الآبق يقدم به على مولاه أسيرا مكتوفا ناكس الرأس فما ظنك به حينئذ. و منها قوله و إياك و

(19/38)


مصاحبة الفساق فإن الشر بالشر ملحق يقول إن الطباع ينزع بعضها إلى بعض فلا تصحبن الفساق فإنه ينزع بك ما فيك من طبع الشر إلى مساعدتهم على الفسوق و المعصية و ما هو إلا كالنار تقوى بالنار فإذا لم تجاورها و تمازجها نار كانت إلى الانطفاء و الخمود أقرب. شرح نهج البلاغة ج : 18 ص : 51و روي ملحق بكسر الحاء و قد جاء ذلك في الخبر النبوي فإن عذابك بالكفار ملحق
بالكسر. و منها قوله و أحب أحباءه
قد جاء في الخبر لا يكمل إيمان امرئ حتى يحب من أحب الله و يبغض من أبغض الله
و منها قوله و احذر الغضب قد تقدم لنا كلام طويل في الغضب و
قال إنسان للنبي ص أوصني قال لا تغضب فقال زدني فقال لا تغضب قال زدني قال لا أجد لك مزيدا
و إنما جعله ع جندا عظيما من جنود إبليس لأنه أصل الظلم و القتل و إفساد كل أمر صالح و هو إحدى القوتين المشئومتين اللتين لم يخلق أضر منهما على الإنسان و هما منبع الشر الغضب و الشهوة

(19/39)


شرح نهج البلاغة ج : 18 ص : 7052- و من كتاب له ع إلى سهل بن حنيف الأنصاري و هو عامله على المدينة في معنى قوم من أهلها لحقوا بمعاويةأَمَّا بَعْدُ فَقَدْ بَلَغَنِي أَنَّ رِجَالًا مِمَّنْ قِبَلَكَ يَتَسَلَّلُونَ إِلَى مُعَاوِيَةَ فَلَا تَأْسَفْ عَلَى مَا يَفُوتُكَ مِنْ عَدَدِهِمْ وَ يَذْهَبُ عَنْكَ مِنْ مَدَدِهِمْ فَكَفَى لَهُمْ غَيّاً وَ لَكَ مِنْهُمْ شَافِياً فِرَارُهُمْ مِنَ الْهُدَى وَ الْحَقِّ وَ إِيضَاعُهُمْ إِلَى الْعَمَى وَ الْجَهْلِ فَإِنَّمَا هُمْ أَهْلُ دُنْيَا مُقْبِلُونَ عَلَيْهَا وَ مُهْطِعُونَ إِلَيْهَا قَدْ عَرَفُوا الْعَدْلَ وَ رَأَوْهُ وَ سَمِعُوهُ وَ وَعَوْهُ وَ عَلِمُوا أَنَّ النَّاسَ عِنْدَنَا فِي الْحَقِّ أُسْوَةٌ فَهَرَبُوا إِلَى الْأَثَرَةِ فَبُعْداً لَهُمْ وَ سُحْقاً إِنَّهُمْ وَ اللَّهِ لَمْ يَفِرُّوا مِنْ جَوْرٍ وَ لَمْ يَلْحَقُوا بِعَدْلٍ وَ إِنَّا لَنَطْمَعُ فِي هَذَا الْأَمْرِ أَنْ يُذَلِّلَ اللَّهُ لَنَا صَعْبَهُ وَ يُسَهِّلَ لَنَا حَزْنَهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ وَ السَّلَامُ عَلَيْكَ وَ رَحْمَةُ اللَّهِ وَ بَرَكَاتُهُ
قد تقدم نسب سهل بن حنيف و أخيه عثمان فيما مضى. و يتسللون يخرجون إلى معاوية هاربين في خفية و استتار. قال فلا تأسف أي لا تحزن و الغي الضلال. قال و لك منهم شافيا أي يكفيك في الانتقام منهم و شفاء النفس من عقوبتهم أنهم يتسللون إلى معاوية. شرح نهج البلاغة ج : ص : 53قال ارض لمن غاب عنك غيبته فذاك ذنب عقابه فيه. و الإيضاع الإسراع وضع البعير أي أسرع و أوضعه صاحبه قال
رأى برقا فأوضع فوق بكر فلا يك ما أسال و لا أعاما

(19/40)


و مهطعون مسرعون أيضا و الأثرة الاستئثار يقول قد عرفوا أني لا أقسم إلا بالسوية و أني لا أنفل قوما على قوم و لا أعطي على الأحساب و الأنساب كما فعل غيري فتركوني و هربوا إلى من يستأثر و يؤثر. قال فبعدا لهم و سحقا دعاء عليهم بالبعد و الهلاك. و روي أنهم لم ينفروا بالنون من نفر ثم ذكر أنه راج من الله أن يذلل له صعب هذا الأمر و يسهل له حزنه و الحزن ما غلظ من الأرض و ضده السهل
شرح نهج البلاغة ج : 18 ص : 7154- و من كتاب له ع إلى المنذر بن الجارود العبديو قد كان استعمله على بعض النواحي فخان الأمانة في بعض ما ولاه من أعماله
أَمَّا بَعْدُ فَإِنَّ صَلَاحَ أَبِيكَ غَرَّنِي مِنْكَ وَ ظَنَنْتُ أَنَّكَ تَتَّبِعُ هَدْيَهُ وَ تَسْلُكُ سَبِيلَهُ فَإِذَا أَنْتَ فِيمَا رُقِّيَ إِلَيَّ عَنْكَ لَا تَدَعُ لِهَوَاكَ انْقِيَاداً وَ لَا تُبْقِي لآِخِرَتِكَ عَتَاداً تَعْمُرُ دُنْيَاكَ بِخَرَابِ آخِرَتِكَ وَ تَصِلُ عَشِيرَتَكَ بِقَطِيعَةِ دِينِكَ وَ لَئِنْ كَانَ مَا بَلَغَنِي عَنْكَ حَقّاً لَجَمَلُ أَهْلِكَ وَ شِسْعُ نَعْلِكَ خَيْرٌ مِنْكَ وَ مَنْ كَانَ بِصِفَتِكَ فَلَيْسَ بِأَهْلٍ أَنْ يُسَدَّ بِهِ ثَغْرٌ أَوْ يُنْفَذَ بِهِ أَمْرٌ أَوْ يُعْلَى لَهُ قَدْرٌ أَوْ يُشْرَكَ فِي أَمَانَةٍ أَوْ يُؤْمَنَ عَلَى جِبَايَةٍ فَأَقْبِلْ إِلَيَّ حِينَ يَصِلُ إِلَيْكَ كِتَابِي هَذَا إِنْ شَاءَ اللَّهُ
قال الرضي رضي الله عنه المنذر بن الجارود هذا هو الذي قال فيه أمير المؤمنين ع إنه لنظار في عطفيه مختال في برديه تفال في شراكيه

(19/41)


شرح نهج البلاغة ج : 18 ص : 55ذكر المنذر و أبيه الجارودهو المنذر بن الجارود و اسم الجارود بشر بن خنيس بن المعلى و هو الحارث بن زيد بن حارثة بن معاوية بن ثعلبة بن جذيمة بن عوف بن أنمار بن عمرو بن وديعة بن لكيز بن أفصى بن عبد القيس بن أفصى بن دعمي بن جديلة بن أسد بن ربيعة بن نزار بن معد بن عدنان بيتهم بيت الشرف في عبد القيس و إنما سمي الجارود لبيت قاله بعض الشعراء فيه في آخره.
كما جرد الجارود بكر بن وائل
و وفد الجارود على النبي ص في سنة تسع و قيل في سنة عشر. و ذكر أبو عمر بن عبد البر في كتاب الإستيعاب أنه كان نصرانيا فأسلم و حسن إسلامه و كان قد وفد مع المنذر بن ساوى في جماعة من عبد القيس و قال
شهدت بأن الله حق و سامحت بنات فؤادي بالشهادة و النهض فأبلغ رسول الله مني رسالة بأني حنيف حيث كنت من الأرضقال و قد اختلف في نسبه اختلافا كثيرا فقيل بشر بن المعلى بن خنيس و قيل بشر بن خنيس بن المعلى و قيل بشر بن عمرو بن العلاء و قيل بشر بن عمرو بن المعلى و كنيته أبو عتاب و يكنى أيضا أبا المنذر. و سكن الجارود البصرة و قتل بأرض فارس و قيل بل قتل بنهاوند مع النعمان بن مقرن و قيل إن عثمان بن العاص بعث الجارود في بعث نحو ساحل فارس فقتل شرح نهج البلاغة ج : 18 ص : 56بموضع يعرف بعقبة الجارود و كان قبل ذلك يعرف بعقبة الطين فلما قتل الجارود فيه عرفه الناس بعقبة الجارود و ذلك في سنة إحدى و عشرين. و قد روي عن النبي ص أحاد و روي عنه و أمه دريمكة بنت رويم الشيبانية. و قال أبو عبيدة معمر بن المثنى في كتاب التاج إن رسول الله ص أكرم الجارود و عبد القيس حين وفدا إليه و قال للأنصار قوموا إلى إخوانكم و أشبه الناس بكم قال لأنهم أصحاب نخل كما أن الأوس و الخزرج أصحاب نخل و مسكنهم البحرين و اليمامة قال أبو عبيدة و قال عمر بن الخطاب لو لا أني
سمعت رسول الله ص يقول إن هذا الأمر لا يكون إلا في قريش

(19/42)


لما عدلت بالخلافة عن الجارود بن بشر بن المعلى و لا تخالجني في ذلك الأمور. قال أبو عبيدة و لعبد القيس ست خصال فاقت بها على العرب منها أسود العرب بيتا و أشرفهم رهطا الجارود هو و ولده. و منها أشجع العرب حكيم بن جبلة قطعت رجله يوم الجمل فأخذها بيده و زحف على قاتله فضربه بها حتى قتله و هو يقول
يا نفس لا تراعي إن قطعت كراعي إن معي ذراعيفلا يعرف في العرب أحد صنع صنيعه. و منها أعبد العرب هرم بن حيان صاحب أويس القرني. و منها أجود العرب عبد الله بن سواد بن همام غزا السند في أربعة آلاف ففتحها و أطعم الجيش كله ذاهبا و قافلا فبلغه أن رجلا من الجيش مرض فاشتهى خبيصا شرح نهج البلاغة ج : 18 ص : 5أمر باتخاذ الخبيص لأربعة آلاف إنسان فأطعمهم حتى فضل و تقدم إليهم ألا يوقد أحد منهم نارا لطعام في عسكره مع ناره. و منها أخطب العرب مصقلة بن رقبة به يضرب المثل فيقال أخطب من مصقلة. و منها أهدى العرب في الجاهلية و أبعدهم مغارا و أثرا في الأرض في عدوه و هو دعيميص الرمل كان يعرف بالنجوم هداية و كان أهدى من القطا يدفن بيض النعام في الرمل مملوءا ماء ثم يعود إليه فيستخرجه. فأما المنذر بن الجارود فكان شريفا و ابنه الحكم بن المنذر يتلوه في الشرف و المنذر غير معدود في الصحابة و لا رأى رسول الله ص و لا ولد له في أيامه و كان تائها معجبا بنفسه و في الحكم ابنه يقول الراجز
يا حكم بن المنذر بن الجارود أنت الجواد ابن الجواد المحمودسرادق المجد عليك ممدود
و كان يقال أطوع الناس في قومه الجارود بن بشر بن المعلى لما قبض رسول الله ص فارتدت العرب خطب قومه فقال أيها الناس إن كان محمد قد مات فإن الله حتى لا يموت فاستمسكوا بدينكم و من ذهب له في هذه الفتنة دينار أو درهم أو بقرة أو شاة فعلي مثلاه فما خالفه من عبد القيس أحد.

(19/43)


قوله ع إن صلاح أبيك غرني منك قد ذكرنا حال الجارود و صحبته و صلاحه و كثيرا ما يغتر الإنسان بحال الآباء فيظن أن الأبناء على منهاجهم فلا يكون و الأمر كذلك يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَ يُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ. قوله فيما رقي بالتشديد أي فيما رفع إلي و أصله أن يكون الإنسان في موضع عال شرح نهج البلاغة ج : 18 ص : 58فيرقى إليه شي ء و كان العلو هاهنا هو علو المرتبة بين الإمام و الأمير و نحوه قولهم تعال باعتبار علو رتبة الآمر على المأمور و اللام في لهواك متعلقة بمحذوف دل عليه انقيادا و لا يتعلق بنانقياد لأن المتعلق من حروف الجر بالمصدر لا يجوز أن يتقدم على المصدر. و العتاد العدة. قوله و تصل عشيرتك كان فيما رقي إليه عنه أنه يقتطع المال و يفيضه على رهطه و قومه و يخرج بعضه في لذاته و مآربه. قوله لجمل أهلك العرب تضرب بالجمل المثل في الهوان قال
لقد عظم البعير بغير لب و لم يستغن بالعظم البعيريصرفه الصبي بكل وجه و يحبسه على الخسف الجريرو تضربه الوليدة بالهراوى فلا غير لديه و لا نكير

(19/44)


فأما شسع النعل فضرب المثل بها في الاستهانة مشهور لابتذالها و وطئها الأقدام في التراب. ثم ذكر أنه من كان بصفته فليس بأهل لكذا و لا كذا إلى أن قال أو يشرك في أمانة و قد جعل الله تعالى البلاد و الرعايا أمانة في ذمة الإمام فإذا استعمل العمال على البلاد و الرعايا فقد شركهم في تلك الأمانة. قال أو يؤمن على جباية أي على استجباء الخراج و جمعه و هذه الرواية التي سمعناها و من الناس من يرويها على خيانة و هكذا رواها الراوندي و لم يرو الرواية الصحيحة التي ذكرناها نحن و قال يكون على متعلقة بمحذوف أو بيؤمن نفسها و هو بعيد و متكلف. شرح نهج البلاغة ج : 18 ص : 59ثم أمره أن يقبل إليه و هذه كناية عن العزل. فأما الكلمات التي ذكرها الرضي عنه ع في أمر المنذر فهي دالة على أنه نسبه إلى التيه و العجب فقال نظار في عطفيه أي جانبيه ينظر تارة هكذا و تارة هكذا ينظر لنفسه و يستحسن هيئته وبسته و ينظر هل عنده نقص في ذلك أو عيب فيستدركه بإزالته كما يفعل أرباب الزهو و من يدعي لنفسه الحسن و الملاحة. قال مختال في برديه يمشي الخيلاء عجبا قال محمد بن واسع لابن له و قد رآه يختال في برد له ادن فدنا فقال من أين جاءتك هذه الخيلاء ويلك أما أمك فأمة ابتعتها بمائتي درهم و أما أبوك فلا أكثر الله في الناس أمثاله. قوله تفال في شراكيه الشراك السير الذي يكون في النعل على ظهر القدم. و التفل بالسكون مصدر تفل أي بصق و التفل محركا البصاق نفسه و إنما يفعله المعجب و التائه في شراكيه ليذهب عنهما الغبار و الوسخ يتفل فيهما و يمسحهما ليعودا كالجديدين

(19/45)


شرح نهج البلاغة ج : 18 ص : 7260- و من كتاب له ع إلى عبد الله بن العباس رضي الله عنهأَمَّا بَعْدُ فَإِنَّكَ لَسْتُ بِسَابِقٍ أَجَلَكَ وَ لَا مَرْزُوقٍ مَا لَيْسَ لَكَ وَ اعْلَمْ بِأَنَّ الدَّهْرَ يَوْمَانِ يَوْمٌ لَكَ وَ يَوْمٌ عَلَيْكَ وَ أَنَّ الدُّنْيَا دَارُ دُوَلٍ فَمَا كَانَ مِنْهَا لَكَ أَتَاكَ عَلَى ضَعْفِكَ وَ مَا كَانَ مِنْهَا عَلَيْكَ لَمْ تَدْفَعْهُ بِقُوَّتِكَ
قد تقدم شرح مثل هذا الكلام و هذا معنى مطروق قد قال الناس فيه فأكثروا قال الشاعر
قد يرزق العاجز الضعيف و ما شد بكور رحلا و لا قتباو يحرم المرء ذو الجلادة و الرأي و من لا يزال مغتربا
و من جيد ما قيل في هذا المعنى قول أبي يعقوب الخريمي

(19/46)


هل الدهر إلا صرفه و نوائبه و سراء عيش زائل و مصائبه يقول الفتى ثمرت مالي و إنما لوارثه ما ثمر المال كاسبه شرح نهج البلاغة ج : 18 ص : 61يحاسب فيه نفسه في حياته و يتركه نهبا لمن لا يحاسبه فكله و أطعمه و خالسه وارثا شحيحا و دهرا تعتريك نوائبه أرى المال و الإنسان للدهر نهبة فلا البخل مبقية و لا الجود خاربه لكل امرئ رزق و للرزق جالب و ليس يفوت المرء ما خط كايب الفتى من حيث يرزق غيره و يعطى الفتى من حيث يحرم صاحبه يساق إلى ذا رزقه و هو وادع و يحرم هذا الرزق و هو يغالبه و إنك لا تدري أ رزقك في الذي تطالبه أم في الذي لا تطالبه تناس ذنوب الأقربين فإنه لكل حميم راكب هو راكبه له هفوات في الرخاء يشوبها بنصرة يومتوارى كواكبه تراه غدوا ما أمنت و تتقي بجبهته يوم الوغى من يحاربه لكل امرئ إخوان بؤس و نعمة و أعظمهم في النائبات أقارب شرح نهج البلاغة ج : 18 ص : 7362- و من كتاب له ع إلى معاويةأَمَّا بَعْدُ فَإِنِّي عَلَى التَّرَدُّدِ فِي جَوَابِكَ وَ الِاسْتِمَاعِ إِلَى كِتَابِكَ لَمُوَهِّنٌ رَأْيِي وَ مُخَطِّئٌ فِرَاسَتِي وَ إِنَّكَ إِذْ تُحَاوِلُنِي الْأُمُورَ وَ تُرَاجِعُنِي السُّطُورَ كَالْمُسْتَثْقِلِ النَّائِمِ تَكْذِبُهُ أَحْلَامُهُ وَ الْمُتَحَيِّرِ الْقَائِمِ يَبْهَظُهُ مَقَامُهُ لَا يَدْرِي أَ لَهُ مَا يَأْتِي أَمْ عَلَيْهِ وَ لَسْتَ بِهِ غَيْرَ أَنَّهُ بِكَ شَبِيهٌ وَ أُقْسِمُ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَوْ لَا بَعْضُ الِاسْتِبْقَاءِ لَوَصَلَتْ مِنِّي إِلَيْكَ قَوَارِعُ تَقْرَعُ الْعَظْمَ وَ تَنْهَسُ اللَّحْمَ وَ اعْلَمْ أَنَّ الشَّيْطَانَ قَدْ ثَبَّطَكَ عَنْ أَنْ تُرَاجِعَ أَحْسَنَ أُمُورِكَ وَ تَأْذَنَ لِمَقَالِ نَصِيحِكَ وَ السَّلَامُ لِأَهْلِهِ

(19/47)


روي نوازع جمع نازعة أي جاذبة قالعة و روي تهلس اللحم و تلهس بتقديم اللام و تهلس بكسر اللام تذيبه حتى يصير كبدن به الهلاس و هو السل و أما تلهس فهو بمعنى تلحس أبدلت الحاء هاء و هو عن لحست كذا بلساني بالكسر ألحسه أي تأتي على اللحم حتى تلحسه لحسا لأن الشي ء إنا يلحس إذا ذهب و بقي أثره و أما ينهس و هي الرواية المشهورة فمعناه يعترق. شرح نهج البلاغة ج : 18 ص : 63و تأذن بفتح الذال أي تسمع. قوله ع إني لموهن رأيي بالتشديد أي إني لائم نفسي و مستضعف رأيي في أن جعلتك نظيرا أكتب و تجيبني و تكتب و أجيبك و إنما كان ينبغين يكون جواب مثلك السكوت لهوانك. فإن قلت فما معنى قوله على التردد. قلت ليس معناه التوقف بل معناه الترداد و التكرار أي أنا لائم نفسي على أني أكرر تارة بعد تارة أجوبتك عما تكتبه ثم قال و إنك في مناظرتي و مقاومتي بالأمور التي تحاولها و الكتب التي تكتبها كالنائم يرى أحلاما كاذبة أو كمن قام مقاما بين يدي سلطان أو بين قوم عقلاء ليعتذر عن أمر أو ليخطب بأمر في نفسه قد بهظه مقامه ذلك أي أثقله فهو لا يدري هل ينطق بكلام هو له أم عليه فيتحير و يتبلد و يدركه العمى و الحصر. قال و إن كنت لست بذلك الرجل فإنك شبيه به أما تشبيهه بالنائم ثم ذي الأحلام فإن معاوية لو رأى في المنام في حياة رسول الله ص أنه خليفة يخاطب بإمرة المؤمنين و يحارب عليا على الخلافة و يقوم في المسلمين مقام رسول الله ص لما طلب لذلك المنام تأويلا و لا تعبيرا و لعده من وساوس الخيال و أضغاث الأحلام و كيف و أنى له أن يخطر هذا بباله و هو أبعد الخلق منه و هذا كما يخطر للنفاط أن يكون ملكا و لا تنظرن إلى نسبه في المناقب بل انظر إلى أن شرح نهج البلاغة ج : 18 ص : 64الإمامة هي نبوة مختصره و أن الطليق المعدود من المؤلفة قلوبهم المكذب بقلبه و أن أقر بلسانه الناقص المنزلعند المسلمين القاعد في أخريات الصف إذا دخل إلى مجلس فيه أهل السوابق

(19/48)


من المهاجرين كيف يخطر ببال أحد أنها تصير فيه و يملكها و يسمه الناس وسمها و يكون للمؤمنين أميرا و يصير هو الحاكم في رقاب أولئك العظماء من أهل الدين و الفضل و هذا أعجب من العجب أن يجاهد النبي ص قوما بسيفه و لسانه ثلاثا و عشرين سنة و يلعنهم و يبعدهم عنه و ينزل القرآن بذمهم و لعنهم و البراءة منهم فلما تمهدت له الدولة و غلب الدين على الدنيا و صارت شريعة دينية محكمة مات فشيد دينه الصالحون من أصحابه و أوسعوا رقعة ملته و عظم قدرها في النفوس فتسلمها منهم أولئك الأعداء الذين جاهدهم النبي ص فملكوها و حكموا فيها و قتلوا الصلحاء و الأبرار و أقارب نبيهم الذين يظهرون طاعته و آلت تلك الحركة الأولى و ذلك الاجتهاد السابق إلى أن كان ثمرته لهم فليته كان يبعث فيرى معاوية الطليق و ابنه و مروان و ابنه خلفاء في مقامه يحكمون على المسلمين فوضح أن معاوية فيما يراجعه و يكاتبه به كصاحب الأحلام. و أما تشبيهه إياه بالقائم مقاما قد بهظه فلأن الحجج و الشبه و المعاذير التي يذكرها معاوية في كتبه أوهن من نسج العنكبوت فهو حال ما يكتب كالقائم ذلك المقام يخبط خبط العشواء و يكتب ما يعلم هو و العقلاء من الناس أنه سفه و باطل. فإن قلت فما معنى قوله ع لو لا بعض الاستبقاء و هل كانت الحال تقتضي أن يستبقي و ما تلك القوارع التي أشار إليها.

(19/49)


شرح نهج البلاغة ج : 18 ص : 65قلت قد قيل إن النبي ص فوض إليه أمر نسائه بعد موته و جعل إليه أن يقطع عصمة أيتهن شاء إذا رأى ذلك و له من الصحابة جماعة يشهدون له بذلك فقد كان قادرا على أن يقطع عصمة أم حبيبة و يبيح نكاحها الرجال عقوبة لها و لمعاوية أخيها فإنهكانت تبغض عليا كما يبغضه أخوها و لو فعل ذلك لانتهس لحمه و هذا قول الإمامية و قد رووا عن رجالهم أنه ع تهدد عائشة بضرب من ذلك و أما نحن فلا نصدق هذا الخبر و نفسر كلامه على معنى آخر و هو أنه قد كان معه من الصحابة قوم كثيرون سمعوا من رسول الله ص يلعن معاوية بعد إسلامه و يقول إنه منافق كافر و إنه من أهل النار و الأخبار في ذلك مشهورة فلو شاء أن يحمل إلى أهل الشام خطوطهم و شهاداتهم بذلك و يسمعهم قولهم ملافظة و مشافهة لفعل و لكنه رأى العدول عن ذلك مصلحة لأمر يعلمه هو ع و لو فعل ذلك لانتهس لحمه و إنما أبقى عليه. و قلت لأبي زيد البصري لم أبقى عليه فقال و الله ما أبقى عليه مراعاة له و لا رفقا به و لكنه خاف أن يفعل كفعله فيقول لعمرو بن العاص و حبيب بن مسلمة و بسر بن أبي أرطاة و أبي الأعور و أمثالهم ارووا أنتم عن النبي ص أن عليا ع منافق من أهل النار ثم يحمل ذلك إلى أهل العراق فلهذا السبب أبقى عليه
شرح نهج البلاغة ج : 18 ص : 7466- و من حلف له ع كتبه بين ربيعة و اليمنو نقل من خط هشام بن الكلبي

(19/50)


هَذَا مَا اجْتَمَعَ عَلَيْهِ أَهْلُ الْيَمَنِ حَاضِرُهَا وَ بَادِيهَا وَ رَبِيعَةُ حَاضِرُهَا وَ بَادِيهَا أَنَّهُمْ عَلَى كِتَابِ اللَّهِ يَدْعُونَ إِلَيْهِ وَ يَأْمُرُونَ بِهِ وَ يُجِيبُونَ مَنْ دَعَا إِلَيْهِ وَ أَمَرَ بِهِ لَا يَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَناً قَلِيلًا وَ لَا يَرْضَوْنَ بِهِ بَدَلًا وَ أَنَّهُمْ يَدٌ وَاحِدَةٌ عَلَى مَنْ خَالَفَ ذَلِكَ وَ تَرَكَهُ وَ أَنَّهُمْ أَنْصَارٌ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ دَعْوَتُهُمْ وَاحِدَةٌ لَا يَنْقُضُونَ عَهْدَهُمْ لِمَعْتَبَةِ عَاتِبٍ وَ لَا لِغَضَبِ غَاضِبٍ وَ لَا لِاسْتِذْلَالِ قَوْمٍ قَوْماً وَ لَا لِمَسَبَّةِ قَوْمٍ قَوْماً عَلَى ذَلِكَ شَاهِدُهُمْ وَ غَائِبُهُمْ وَ سَفِيهُهُمْ وَ عَالِمُهُمْ وَ حَلِيمُهُمْ وَ جَاهِلُهُمْ ثُمَّ إِنَّ عَلَيْهِمْ بِذَلِكَ عَهْدَ اللَّهِ وَ مِيثَاقَهُ إِنَّ عَهْدَ اللَّهِ كَانَ مَسْئُولًا وَ كَتَبَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ

(19/51)


الحلف العهد أي و من كتاب حلف فحذف المضاف و اليمن كل من ولده قحطان نحو حمير و عك و جذام و كندة و الأزد و غيرهم. و ربيعة هو ربيعة بن نزار بن معد بن عدنان و هم بكر و تغلب و عبد القيس. و هشام هو هشام بن محمد بن السائب الكلبي نسابة ابن نسابة عالم بأيام العرب و أخبارها و أبوه أعلم منه و هو يروى عن أبيه. شرح نهج البلاغة ج : 18 ص : 67و الحاضر ساكنو الحضر و البادي ساكنو البادية و اللفظ لفظ المفرد و المعنى الجمع. قوله إنهم على كتاب الله حرف الجر يتعلق بمحذوف أي مجتمعون. قوله لا يشترون به ثمنا قليلا أي لا يتعوضون عنبالثمن فسمى التعوض اشتراء و الأصل هو أن يشترى الشي ء بالثمن لا الثمن بالشي ء لكنه من باب اتساع العرب و هو من ألفاظ القرآن العزيز. و إنهم يد واحدة أي لا خلف بينهم. قوله لمعتبة عاتب أي لا يؤثر في هذا العهد و الحلف و لا ينقضه أن يعتب أحد منهم على بعضهم لأنهستجداه فلم يجده أو طلب منه أمرا فلم يقم به و لا لأن أحدا منهم غضب من أمر صدر من صاحبه و لا لأن عزيزا منهم استذل ذليلا منهم و لا لأن إنسانا منهم سب أو هجا بعضهم فإن أمثال هذه الأمور يتعذر ارتفاعها بين الناس و لو كانت تنقض الحلف لما كان حلف أصلا. و اعلم أنه قد ورد
في الحديث عن النبي ص كل حلف كان في الجاهلية فلا يزيده الإسلام إلا شدة
و لا حلف في الإسلام لكن فعل أمير المؤمنين ع أولى بالاتباع من خبر الواحد و قد تحالفت العرب في الإسلام مرارا و من أراد الوقوف على ذلك فليطلبه من كتب التواريخ
شرح نهج البلاغة ج : 18 ص : 7568- و من كتاب له ع إلى معاوية من المدينة في أول ما بويع له بالخلافةذكره الواقدي في كتاب الجمل

(19/52)


مِنْ عَبْدِ اللَّهِ عَلِيٍّ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ إِلَى مُعَاوِيَةَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ أَمَّا بَعْدُ فَقَدْ عَلِمْتَ إِعْذَارِي فِيكُمْ وَ إِعْرَاضِي عَنْكُمْ حَتَّى كَانَ مَا لَا بُدَّ مِنْهُ وَ لَا دَفْعَ لَهُ وَ الْحَدِيثُ طَوِيلٌ وَ الْكَلَامُ كَثِيرٌ وَ قَدْ أَدْبَرَ مَا أَدْبَرَ وَ أَقْبَلَ مَا أَقْبَلَ فَبَايِعْ مَنْ قِبَلَكَ وَ أَقْبِلْ إِلَيَّ فِي وَفْدٍ مِنْ أَصْحَابِكَ وَ السَّلَامُ
كتابه إلى معاوية و مخاطبته لبني أمية جميعا قال و قد علمت إعذاري فيكم أي كوني ذا عذر لو لمتكم أو ذممتكم يعني في أيام عثمان. ثم قال و إعراضي عنكم أي مع كوني ذا عذر لو فعلت ذلك فلم أفعله بل أعرضت عن إساءتكم إلي و ضربت عنكم صفحا حتى كان ما لا بد منه يعني قتل عثمان و ما جرى من الرجبة بالمدينة. ثم قاطعه الكلام مقاطعة و قال له و الحديث طويل و الكلام كثير و قد أدبر ذلك الزمان و أقبل زمان آخر فبايع و أقدم فلم يبايع و لا قدم و كيف يبايع شرح نهج البلاغة ج : 18 ص : 69و عينه طامحة إلى الملك و الرئاسة منذ أمره عمر على شام و كان عالي الهمة تواقا إلى معالي الأمور و كيف يطيع عليا و المحرضون له على حربه عدد الحصى و لو لم يكن إلا الوليد بن عقبة لكفى و كيف يسمع قوله
فو الله ما هند بأمك إن مضى النهار و لم يثأر بعثمان ثائرأ يقتل عبد القوم سيد أهله و لم تقتلوه ليت أمك عاقرو من عجب أن بت بالشام وادعا قريرا و قد دارت عليه الدوائر
و يطيع عليا و يبايع له و يقدم عليه و يسلم نفسه إليه و هو نازل بالشام في وسط قحطان و دونه منهم حرة لا ترام و هم أطوع له من نعله و الأمر قد أمكنه الشروع فيه و تالله لو سمع هذا التحريض أجبن الناس و أضعفهم نفسا و أنقصهم همة لحركه و شحذ من عزمه فكيف معاوية و قد أيقظ الوليد بشعره من لا ينام

(19/53)


شرح نهج البلاغة ج : 18 ص : 7670- و من وصية له ع لعبد الله بن العباس عند استخلافه إياه على البصرةسَعِ النَّاسَ بِوَجْهِكَ وَ مَجْلِسِكَ وَ حُكْمِكَ وَ إِيَّاكَ وَ الْغَضَبَ فَإِنَّهُ طَيْرَةٌ مِنَ الشَّيْطَانِ وَ اعْلَمْ أَنَّ مَا قَرَّبَكَ مِنَ اللَّهِ يُبَاعِدُكَ مِنَ النَّارِ وَ مَا بَاعَدَكَ مِنَ اللَّهِ يُقَرِّبُكَ مِنَ النَّارِ
روي و حلمك و القرب من الله هو القرب من ثوابه و لا شبهة أن ما قرب من الثواب باعد من العقاب و بالعكس لتنافيهما. فأما وصيته له أن يسع الناس بوجهه و مجلسه و حكمه فقد تقدم شرح مثله و كذلك القول في الغضب. و طيرة من الشيطان بفتح الطاء و سكون الياء أي خفة و طيش قال الكميت
و حلمك عز إذا ما حلمت و طيرتك الصاب و الحنظل
شرح نهج البلاغة ج : 18 ص : 7771- و من وصية له ع لعبد الله بن العباس أيضا لما بعثه للاحتجاج على الخوارجلَا تُخَاصِمْهُمْ بِالْقُرْآنِ فَإِنَّ الْقُرْآنَ حَمَّالٌ ذُو وُجُوهٍ تَقُولُ وَ يَقُولُونَ... وَ لَكِنْ حَاجِجْهُمْ بِالسُّنَّةِ فَإِنَّهُمْ لَنْ يَجِدُوا عَنْهَا مَحِيصاً

(19/54)


هذا الكلام لا نظير له في شرفه و علو معناه و ذلك أن القرآن كثير الاشتباه فيه مواضع يظن في الظاهر أنها متناقضة متنافية نحو قوله لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ و قوله إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ و نحو قوله وَ جَعَلْنا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَ مِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْناهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ و قوله وَ أَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْناهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمى عَلَى الْهُدى و نحو ذلك و هو كثير جدا و أما السنة فليست كذلك و ذلك لأن الصحابة كانت تسأل رسول الله ص و تستوضح منه الأحكام في الوقائع و ما عساه يشتبه عليهم من كلامهم يراجعونه فيه و لم يكونوا يراجعونه في القرآن إلا فيما قل بل كانوا يأخذونه منه تلقفا و أكثرهم لا يفهم معناه شرح نهج البلاغة ج : 18 ص : 72لا لأنه غير مفهوم بل لأنهم ما كانوا يتعاطون فهمه إما إجلالا له أو لرسول الله أن يسألوه عنه أو يجرونه مج الأسماء الشريفة التي إنما يراد منها بركتها لا الإحاطة بمعناها فلذلك كثر الاختلاف في القرآن و أيضا فإن ناسخه و منسوخه أكثر من ناسخ السنة و منسوخها و قد كان في الصحابة من يسأل الرسول عن كلمة في القرآن يفسرها له تفسيرا موجزا فلا يحصل له كل الفهم لما أنزلت آية الكلالة و قال في آخرها يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا سأله عمر عن الكلالة ما هو فقال له يكفيك آية الصيف لم يزد على ذلك فلم يراجعه عمر و انصرف عنه فلم يفهم مراده و بقي عمر على ذلك إلى أن مات و كان يقول بعد ذلك اللهم مهما بينت فإن عمر لم يتبين يشير إلى قوله يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا و كانوا في السنة و مخاطبة الرسول على خلاف هذه القاعدة فلذلك أوصاه علي ع أن يحاجهم بالسنة لا بالقرآن. فإن قلت فهل حاجهم بوصيته. قلت لا بل حاجهم بالقرآن مثل قوله فَابْعَثُوا حَكَماً مِنْ أَهْلِهِ وَ حَكَماً مِنْ أَهْلِها و مثل قوله في صيد المحرم يَحْكُمُ بِهِ ذَوا عَدْلٍ

(19/55)


مِنْكُمْ و لذلك لم يرجعوا و التحمت الحرب و إنما رجع باحتجاجه نفر منهم. فإن قلت فما هي السنة التي أمره أن يحاجهم بها. قلت كان لأمير المؤمنين ع في ذلك غرض صحيح و إليه أشار و حوله كان يطوف و يحوم و ذلك أنه أراد أن يقول لهم
قال رسول الله ص علي مع الحق و الحق مع علي يدور معه حيثما دار
و قوله اللهم وال من والاه و عاد من عاداه و انصر من نصره و اخذل من خذله
و نحو ذلك من الأخبار التي شرح نهج البلاغة ج : 18 ص : 73كانت الصحابة قد سمعتها من فلق فيه ص و قد بقي ممن سمعها جماعة تقوم الحجة و تثبت بنقلهم و لو احتج بها على الخوارج أنه لا يحل مخالفته و العدول عنه بحال لحصل من ذلك غرض أمير المؤمنين في محاجتهم و أغراض أى أرفع و أعلى منهم فلم يقع الأمر بموجب ما أراد و قضي عليهم بالحرب حتى أكلتهم عن آخرهم و كان أمر الله مفعولا
شرح نهج البلاغة ج : 18 ص : 7874- و من كتاب له ع أجاب به أبا موسى الأشعريعن كتاب كتبه إليه من المكان الذي اتعدوا فيه للحكومة و ذكر هذا الكتاب سعيد بن يحيى الأموي في كتاب المغازي

(19/56)


فَإِنَّ النَّاسَ قَدْ تَغَيَّرَ كَثِيرٌ مِنْهُمْ عَنْ كَثِيرٍ مِنْ حَظِّهِمْ فَمَالُوا مَعَ الدُّنْيَا وَ نَطَقُوا بِالْهَوَى وَ إِنِّي نَزَلْتُ مِنْ هَذَا الْأَمْرِ مَنْزِلًا مُعْجِباً اجْتَمَعَ بِهِ أَقْوَامٌ أَعْجَبَتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ وَ أَنَا أُدَاوِي مِنْهُمْ قَرْحاً أَخَافُ أَنْ يَعُودَ عَلَقاً يَعُودُ وَ لَيْسَ رَجُلٌ فَاعْلَمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى جَمَاعَةِ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ ص وَ أُلْفَتِهَا مِنِّي أَبْتَغِي بِذَلِكَ حُسْنَ الثَّوَابِ وَ كَرَمَ الْمَآبِ وَ سَأَفِي بِالَّذِي وَأَيْتُ عَلَى نَفْسِي وَ إِنْ تَغَيَّرْتَ عَنْ صَالِحِ مَا فَارَقْتَنِي عَلَيْهِ فَإِنَّ الشَّقِيَّ مَنْ حُرِمَ نَفْعَ مَا أُوتِيَ مِنَ الْعَقْلِ وَ التَّجْرِبَةِ وَ إِنِّي لَأَعْبَدُ أَنْ يَقُولَ قَائِلٌ بِبَاطِلٍ وَ أَنْ أُفْسِدَ أَمْراً قَدْ أَصْلَحَهُ اللَّهُ فَدَعْ عَنْكَ مَا لَا تَعْرِفُ فَإِنَّ شِرَارَ النَّاسِ طَائِرُونَ إِلَيْكَ بِأَقَاوِيلِ السُّوءِ وَ السَّلَامُ

(19/57)


روي و نطقوا مع الهوى أي مائلين مع الهوى. و روي و أنا أداري بالراء من المداراة و هي الملاينة و المساهلة. شرح نهج البلاغة ج : 18 ص : 75و روي نفع ما أولى باللام يقول أوليته معروفا. و روي إن قال قائل بباطل و يفسد أمرا قد أصلحه الله. و اعلم أن هذا الكتاب كتابن شك في أبي موسى و استوحش منه و من قد نقل عنه إلى أبي موسى كلاما إما صدقا و إما كذبا و قد نقل عن أبي موسى إليه كلاما إما صدقا أيضا و إما كذبا قال ع إن الناس قد تغير كثير منهم عن حظهم من الآخرة فمالوا مع الدنيا و إني نزلت من هذا الأمر منزلا معجبا بكسر الجيم أي يعجب من رآه أي يجعله متعجبا منه. و هذا الكلام شكوى من أصحابه و نصاره من أهل العراق فإنهم كان اختلافهم عليه و اضطرابهم شديدا جدا و المنزل و النزول هاهنا مجاز و استعارة و المعنى أني حصلت في هذا الأمر الذي حصلت فيه على حال معجبة لمن تأملها لأني حصلت بين قوم كل واحد منهم مستبد برأي يخالف فيه رأي صاحبه فلا تنتظم لهم كلمة و لا يستوثق لهم أمر و إن حكمت عليهم برأي أراه أنا خالفوه و عصوه و من لا يطاع فلا رأي له و أنا معهم كالطبيب الذي يداوي قرحا أي جراحة قد قاربت الاندمال و لم تندمل بعد فهو يخاف أن يعود علقا أي دما. ثم قال له ليس أحد فاعلم أحرص على ألفة الأمة و ضم نشر المسلمين. و أدخل قوله فاعلم بين اسم ليس و خبرها فصاحة و يجوز رفع أحرص بجعله صفة لاسم ليس و يكون الخبر محذوفا أي ليس في الوجود رجل. و تقول قد وأيت وأيا أي وعدت وعدا قال له أما أنا فسوف أفي بما وعدت و ما استقر بيني و بينك و إن كنت أنت قد تغيرت عن صالح ما فارقتني عليه. شرح نهج البلاغة ج : 18 ص : 76فإن قلت فهل يجوز أن يكون قوله و إن تغيرت من جملة قوله فيما بعد فإن الشقي كما تقول إن خالفتني فإن الشقي من يخالف الحق. قلت نعم و الأول أحسن لأنه أدخل في مدح ير المؤمنين ع كأنه يقول أنا أفي و إن كنت لا تفي و الإيجاب يحسنه

(19/58)


السلب الواقع في مقابلته
و الضد يظهر حسنه الضد
ثم قال و إني لأعبد أي آنف من عبد بالكسر أي أنف و فسروا قوله فَأَنَا أَوَّلُ الْعابِدِينَ بذلك يقول إني لآنف من أن يقول غيري قولا باطلا فكيف لا آنف أنا من ذلك لنفسي ثم تختلف الروايات في اللفظة بعدها كما ذكرنا. ثم قال فدع عنك ما لا تعرف أي لا تبن أمرك إلا على اليقين و العلم القطعي و لا تصغ إلى أقوال الوشاة و نقلة الحديث فإن الكذب يخالط أقوالهم كثيرا فلا تصدق ما عساه يبلغك عني شرار الناس فإنهم سراع إلى أقاويل السوء و لقد أحسن القائل فيهم
أن يسمعوا الخير يخفوه و إن سمعوا شرا أذاعوا و إن لم يسمعوا كذبوا
و نحو قول الآخر
إن يسمعوا ريبة طاروا بها فرحا و إن ذكرت بخير عندهم دفنوا
شرح نهج البلاغة ج : 18 ص : 7977- و من كتاب كتبه ع لما استخلف إلى أمراء الأجنادأَمَّا بَعْدُ فَإِنَّمَا أَهْلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ أَنَّهُمْ مَنَعُوا النَّاسَ الْحَقَّ فَاشْتَرَوْهُ وَ أَخَذُوهُمْ بِالْبَاطِلِ فَاقْتَدَوْهُ
أي منعوا الناس الحق فاشترى الناس الحق منهم بالرشى و الأموال أي لم يضعوا الأمور مواضعها و لا ولوا الولايات مستحقيها و كانت أمورهم الدينية و الدنياوية تجري على وفق الهوى و الغرض الفاسد فاشترى الناس منهم الميراث و الحقوق كما تشترى السلع بالمال. ثم قال و أخذوهم بالباطل فاقتدوه أي حملوهم على الباطل فجاء الخلف من بعد السلف فاقتدوا بآبائهم و أسلافهم في ارتكاب ذلك الباطل ظنا أنه حق لما قد ألفوه و نشئوا و ربوا عليه. و روي فاستروه بالسين المهملة أي اختاروه يقال استريت خيار المال أي اخترته و يكون الضمير عائدا إلى الظلمة لا إلى الناس أي منعوا الناس حقهم من المال و اختاروه لأنفسهم و استأثروا به
شرح نهج البلاغة ج : 18 ص : 79باب الحكم و المواعظ

(19/59)


شرح نهج البلاغة ج : 18 ص : 81 باب المختار من حكم أمير المؤمنين و مواعظه و يدخل في ذلك المختار من أجوبة مسائله و الكلام القصير الخارج من سائر أغراضه
اعلم أن هذا الباب من كتابنا كالروح من البدن و السواد من العين و هو الدرة المكنونة التي سائر الكتاب صدفها و ربما وقع فيه تكرار لبعض ما تقدم يسير جدا و سبب ذلك طول الكتاب و بعد أطرافه عن الذهن و إذا كان الرضي رحمه الله قدسها فكرر في مواضع كثيرة في نهج البلاغة على اختصاره كنا نحن في تكرار يسير في كتابنا الطويل أعذر شرح نهج البلاغة ج : 18 ص : 82
1كُنْ فِي الْفِتْنَةِ كَابْنِ اللَّبُونِ لَا ظَهْرٌ فَيُرْكَبَ وَ لَا ضَرْعٌ فَيُحْلَبَ
ابن اللبون ولد الناقة الذكر إذا استكمل السنة الثانية و دخل في الثالثة و يقال للأنثى ابنة اللبون و ذلك لأن أمهما في الأغلب ترضع غيرهما فتكون ذات لبن و اللبون من الإبل و الشاة ذات اللبن غزيرة كانت أو بكيئة فإذا أرادوا الغزيرة قالوا لبنة و يقال ابن لبون و ابن اللبون منكرا أو معرفا قال الشاعر
و ابن اللبون إذا ما لز في قرن لم يستطع صولة البزل القناعيس

(19/60)


و ابن اللبون لا يكون قد كمل و قوي ظهره على أن يركب و ليس بأنثى ذات ضرع فيحلب و هو مطرح لا ينتفع به. و أيام الفتنة هي أيام الخصومة و الحرب بين رئيسين ضالين يدعوان كلاهما إلى ضلالة كفتنة عبد الملك و ابن الزبير و فتنة مروان و الضحاك و فتنة الحجاج و ابن الأشعث و نحو ذلك فأما إذا كان أحدهما صاحب حق فليست أيام فتنة كالجمل و صفين و نحوهما بل يجب الجهاد مع صاحب الحق و سل السيف و النهي عن المنكر و بذل النفس في إعزاز الدين و إظهار الحق. شرح نهج البلاغة ج : 18 ص : 83قال ع أخمل نفسك أيام الفتنة و كن ضعيفا مغمورا بين الناس لا تصلح لهم بنفسك و لا بمالك و لا تنصر هؤلاء و هؤلاء. و قوله فيركب فيحلب منصوبان لأنهما جواب النفي و في الكلام محذوف تقديره له و هو يستحق الرفع لأنه خبر المبتدإ مثل قولك لا إله إلا الله تقديره لنا أو في الوجود
شرح نهج البلاغة ج : 18 ص : 284أَزْرَى بِنَفْسِهِ مَنِ اسْتَشْعَرَ الطَّمَعَ وَ رَضِيَ بِالذُّلِّ مَنْ كَشَفَ عَنْ ضُرِّهِ وَ هَانَتْ عَلَيْهِ نَفْسُهُ مَنْ أَمَّرَ عَلَيْهَا لِسَانَهُ
هذه ثلاثة فصول الفصل الأول في الطمع قوله ع أزرى بنفسه أي قصر بها من استشعر الطمع أي جعله شعاره أي لازمه. و
في الحديث المرفوع أن الصفا الزلزال الذي لا تثبت عليه أقدام العلماء الطمع
و في الحديث أنه قال للأنصار إنكم لتكثرون عند الفزع و تقلون عند الطمع
أي عند طمع الرزق. و كان يقال أكثر مصارع الألباب تحت ظلال الطمع. و قال بعضهم العبيد ثلاثة عبد رق و عبد شهوة و عبد طمع. و
سئل رسول الله ص عن الغنى فقال اليأس عما في أيدي الناس و من مشى منكم إلى طمع الدنيا فليمش رويدا
شرح نهج البلاغة ج : 18 ص : 85و قال أبو الأسود
البس عدوك في رفق و في دعة طوبى لذي إربة للدهر لباس و لا تغرنك أحقاد مزملة قد يركب الدبر الدامي بأحلاس و استغن عن كل ذي قربى و ذي رحم إن الغني الذي استغنى عن الناس

(19/61)


قال عمر ما الخمر صرفا بأذهب لعقول الرجال من الطمع و
في الحديث المرفوع الطمع الفقر الحاضر
قال الشاعر
رأيت مخيلة فطمعت فيها و في الطمع المذلة للرقاب
الفصل الثاني في الشكوى قال ع من كشف للناس ضره أي شكا إليهم بؤسه و فقره فقد رضي بالذل. كان يقال لا تشكون إلى أحد فإنه إن كان عدوا سره و إن كان صديقا ساءه و ليست مسرة العدو و لا مساءة الصديق بمحمودة. سمع الأحنف رجلا يقول لم أنم الليلة من وجع ضرسي فجعل يكثر فقال يا هذا لم تكثر فو الله لقد ذهبت عيني منذ ثلاثين سنة فما شكوت ذلك إلى أحد و لا أعلمت بها أحدا. الفصل الثالث في حفظ اللسان قد تقدم لنا قول شاف في ذلك و كان يقال حفظ اللسان راحة الإنسان و كان يقال رب كلمة سفكت دما و أورثت ندما. و في الأمثال العامية قال اللسان للرأس كيف أنت قال بخير لو تركتني. و في وصية المهلب لولده يا بني تباذلوا تحابوا فإن بني الأعيان يختلفون فكيف ببني العلات إن البر ينسأ في الأجل و يزيد في العدد و إن القطيعة تورث القلة و تعقب شرح نهج البلاغة ج : 18 ص : 86النار بعد الذلة اتقوا زلة اللسان فإن الرجل تزل رجله فينتعش و يزل لسانه فيهلك و عليكم في الحرب بالمكيدة فإنها أبلغ من النجدة و إن القتال إذا وقع وقع القضاء فإن ظفر الرجل ذو الكيد و الحزم سعد و إن ظفر به لم يقولوا فرط. و قال الشاعر في هذا المعنى
يموت الفتى من عثرة بلسانه و ليس يموت المرء من عثرة الرجل
شرح نهج البلاغة ج : 18 ص : 387الْبُخْلُ عَارٌ وَ الْجُبْنُ مَنْقَصَةٌ وَ الْفَقْرُ يُخْرِسُ الْفَطِنَ عَنْ حَاجَتِهِ وَ الْمُقِلُّ غَرِيبٌ فِي بَلْدَتِهِ

(19/62)


هذه ثلاثة فصول الفصل الأول في البخل و قد تقدم لنا كلام مقنع في ذلك. و من كلام بعض الحكماء في ذلك ما أقل من يحمده الطالب و تستقل به العشائر و يرضى عنه السائل و ما زالت أم الكرم نزورا و أم اللؤم ذلولا و أكثر الواجدين من لا يجود و أكثر الأجواد من لا يجد. و ما أحسن قول القائل كفى حزنا أن الجواد مقتر عليه و لا معروف عند بخيل. و كان يقال البخل مهانة و الجود مهابة. و من أحسن ما نقل من جود عبد الله المأمون أن عمر بن مسعدة كاتبه مات في سنة سبع عشرة و مائتين و خلف تركة جليلة فبعث أخاه أبا إسحاق المعتصم و جماعة معه من الكتاب ليحصروا مبلغها فجاء المعتصم إليه و هو في مجلس الخلافة و معه الكتاب فقال ما رأيتم فقال المعتصم معظما لما رآه وجدنا عينا و صامتا و ضياعا قيمة ذلك أجمع ثمانية آلاف ألف دينار و مد صوته فقال المأمون إنا لله و الله ما كنت أرضاها شرح نهج البلاغة ج : 18 ص : 88لتابع من أتباعه ليوفر هذا على مخلفيه فخجل المعتصم حتى ظهر خجله للحاضرين الفصل الثاني في الجبن و قد تقدم قولنا في فضل الشجاعة. و قال هشام بن عبد الملك لمسلمة أخيه يا أبا سعيد هل دخلك ذعر في حرب قط شهدتها قال ما سلمت في ذلك عن ذعر ينبه على حيلة و لا غشيني ذعر سلبني رأيي فقال له هشام هذه و الله البسالة قال أبو دلامة و كان جبانا
إني أعوذ بروح أن يقدمني إلى القتال فتشقى بي بنو أسدإن المهلب حب الموت أورثكم و لم أرث رغبة في الموت عن أحد
قال المنصور لأبي دلامة في حرب إبراهيم تقدم ويلك قال يا أمير المؤمنين شهدت مع مروان بن محمد أربعة عساكر كلها انهزمت و كسرت و إني أعيذك بالله أن يكون عسكرك الخامس. الفصل الثالث في الفقر و قد تقدم القول فيه أيضا. و مثل قوله الفقر يخرس الفطن عن حاجته قول الشاعر

(19/63)


سأعمل نص العيس حتى يكفني غنى المال يوما أو غنى الحدثان فللموت خير من حياة يرى لها على الحر بالإقلال وسم هوان متى يتكلم يلغ حكم كلامه و إن لم يقل قالوا عديم بيان كأن الغنى عن أهله بورك الغنى بغير لسان ناطق بلسان
و مثل قوله ع و المقل غريب في بلدته قول خلف الأحمر
لا تظني أن الغريب هو النائي و لكنما الغريب المقل
و كان يقال مالك نورك فإن أردت أن تنكسف ففرقه و أتلفه. شرح نهج البلاغة ج : 18 ص : 89قيل للإسكندر لم حفظت الفلاسفة المال مع حكمتها و معرفتها بالدنيا قال لئلا تحوجهم الدنيا إلى أن يقوموا مقاما لا يستحقونه. و قال بعض الزهاد ابدأ برغيفيك فاحرزهما ثم تعبد. و
قال الحسن ع من زعم أنه لا يحب المال فهو عندي كاذب فإن علمت صدقه فهو عندي أحمق
شرح نهج البلاغة ج : 18 ص : 490الْعَجْزُ آفَةٌ وَ الصَّبْرُ شَجَاعَةٌ وَ الزُّهْدُ ثَرْوَةٌ وَ الْوَرَعُ جُنَّةٌ وَ نِعْمَ الْقَرِينُ الرِّضَا

(19/64)


فهذه فصول خمسة الفصل الأول قوله ع العجز آفة و هذا حق لأن الآفة هي النقص أو ما أوجب النقص و العجز كذلك. و كان يقال العجز المفرط ترك التأهب للمعاد. و قالوا العجز عجزان أحدهما عجز التقصير و قد أمكن الأمر و الثاني الجد في طلبه و قد فات. و قالوا العجز نائم و الحزم يقظان. الفصل الثاني في الصبر و الشجاعة قد تقدم قولنا في الصبر. و كان يقال الصبر مر لا يتجرعه إلا حر. و كان يقال إن للأزمان المحمودة و المذمومة أعمارا و آجالا كأعمار الناس و آجالهم فاصبروا لزمان السوء حتى يفنى عمره و يأتي أجله. و كان يقال إذا تضيفتك نازلة فاقرها الصبر عليها و أكرم مثواها لديك بالتوكل شرح نهج البلاغة ج : 18 ص : 91و الاحتساب لترحل عنك و قد أبقت عليك أكثر مما سلبت منك و لا تنسها عند رخائك فإن تذكرك لها أوقات الرخاء يبعد السوء عن فعلك و ينفى القساوة عن قلبك و يوزعك حمد الله و تقواه. الفصل الثالث قوله و الزهد ثروة و هذا حق لأن الثروة ما استغنى به الإنسان عن الناس و لا غناء عنهم كالزهد في دنياهم فالزهد على الحقيقة هو الغنى الأكبر. و
روي أن عليا ع قال لعمر بن الخطاب أول ما ولي الخلافة إن سرك أن تلحق بصاحبيك فقصر الأمل و كل دون الشبع و ارقع القميص و اخصف النعل و استغن عن الناس بفقرك تلحق بهما

(19/65)


وقف ملك على سقراط و هو في المشرفة قد أسند ظهره إلى جب كان يأوي إليه فقال له سل حاجتك فقال حاجتي أن تتنحى عني فقد منعني ظلك المرفق بالشمس فسأله عن الجب قال آوي إليه قال فإن انكسر الجب لم ينكسر المكان. و كان يقال الزهد في الدنيا هو الزهد في المحمدة و الرئاسة لا في المطعم و المشرب و عند العارفين الزهد ترك كل شي ء يشغلك عن الله. و كان يقال العالم إذا لم يكن زاهدا لكان عقوبة لأهل زمانه لأنهم يقولون لو لا أن علمه لم يصوب عنده الزهد لزهد فهم يقتدون بزهده في الزهد. الفصل الرابع قوله و الورع جنة كان يقال لا عصمة كعصمة الورع و العبادة أما الورع فيعصمك من المعاصي و أما العبادة فتعصمك من خصمك فإن عدوك لو رآك قائما تصلي و قد دخل ليقتلك لصد عنك و هابك. شرح نهج البلاغة ج : 18 ص : 92و قال رجل من بني هلال لبنيه يا بني أظهروا النسك فإن الناس إن رأوا من أحد منكم بخلا قالوا مقتصد لا يحب الإسراف و إن رأوا عيا قالوا متوق يكره الكلام و إن رأوا جبنا قالوا متحرج يكره الإقدام على الشبهات. الفصل الخامس قوله و نعم القرين الرضا قد سبق منا قول مقنع في الرضا. و قال أبو عمرو بن العلاء دفعت إلى أرض مجدبة بها نفر من الأعراب فقلت لبعضهم ما أرضكم هذه قال كما ترى لا زرع و لا ضرع قلت فكيف تعيشون قالوا نحترش الضباب و نصيد الدواب قلت فكيف صبركم على ذلك قالوا يا هذا سل خالق الخلق هل سويت فقال بل رضيت. و كان يقال من سخط القضاء طاح و من رضي به استراح. و كان يقال عليك بالرضا و لو قلبت على جمر الغضا. و
في الخبر المرفوع أنه ص قال عن الله تعالى من لم يرض بقضائي فليتخذ ربا سوائي
شرح نهج البلاغة ج : 18 ص : 593الْعِلْمُ وِرَاثَةٌ كَرِيمَةٌ وَ الآْدَابُ حُلَلٌ مُجَدَّدَةٌ وَ الْفِكْرُ مِرْآةٌ صَافِيَةٌ

(19/66)


إنما قال العلم وراثة لأن كل عالم من البشر إنما يكتسب علمه من أستاذ يهذبه و موقف يعلمه فكأنه ورث العلم عنه كما يرث الابن المال عن أبيه و قد سبق منا كلام شاف في العلم و الأدب. و كان يقال عطية العالم شبيهة بمواهب الله عز و جل لأنها لا تنفد عند الجود بها و تبقى بكمالها عند مفيدها. و كان يقال الفضائل العلمية تشبه النخل بطي ء الثمرة بعيد الفساد. و كان يقال ينبغي للعالم ألا يترفع على الجاهل و أن يتطامن له بمقدار ما رفعه الله عليه و ينقله من الشك إلى اليقين و من الحيرة إلى التبيين لأن مكافحته قسوة و الصبر عليه و إرشاده سياسة. و مثاله قول بعض الحكماء الخير من العلماء من يرى الجاهل بمنزلة الطفل الذي هو بالرحمة أحق منه بالغلظة و يعذره بنقصه فيما فرط منه و لا يعذر نفسه في التأخر عن هدايته. شرح نهج البلاغة ج : 18 ص : 94و كان يقال العلم في الأرض بمنزلة الشمس في الفلك لو لا الشمس لأظلم الجو و لو لا العلم لأظلم أهل الأرض. و كان يقال لا حلة أجمل من حلة الأدب لأن حلل الثياب تبلى و حلل الأدب تبقى و حلل الثياب قد يغتصبها الغاصب و يسرقها السارق و حلل الآداب باقية مع جوهر النفس. و كان يقال الفكرة الصحيحة أصطرلاب روحاني. و قال أوس بن حجر يرثي
إن الذي جمع السماحة و النجدة و الحزم و النهي جمعاالألمعي الذي يظن بك الظن كان قد رأى و قد سمعا

(19/67)


و من كلام الحكماء النار لا ينقصها ما أخذ منها و لكن يخمدها ألا تجد حطبا و كذلك العلم لا يفنيه الاقتباس و لكن فقد الحاملين له سبب عدمه. قيل لبعضهم أي العلوم أفضل قال ما العامة فيه أزهد. و قال أفلاطون من جهل الشي ء و لم يسأل عنه جمع على نفسه فضيحتين. و كان يقال ثلاثة لا تجربة معهن أدب يزين و مجانبة الريبة و كف الأذى. و كان يقال عليكم بالأدب فإنه صاحب في السفر و مؤنس في الوحدة و جمال في المحفل و سبب إلى طلب الحاجة. و كان عبد الملك أديبا فاضلا و لا يجالس إلا أديبا. و روى الهيثم بن عدي عن مسعر بن كدام قال حدثني سعيد بن خالد الجدلي شرح نهج البلاغة ج : 18 ص : 95قال لما قدم عبد الملك الكوفة بعد قتل مصعب دعا الناس يعرضهم على فرائضهم فحضرنا بين يديه فقال من القوم قلنا جديلة فقال جديلة عدوان قلنا نعم فأنشده
عذير الحي من عدوان كانوا حية الأرض بغى بعضهم بعضا فلم يرعوا على بعض و منهم كانت السادات و الموفون بالقرض و منهم حكم يقضي فلا ينقض ما يقضي و منهم من يجيز الناس بالسنة و الفرض
ثم أقبل على رجل منا وسيم جسيم قدمناه أمامنا فقال أيكم يقول هذا الشعر قال لا أدري فقلت أنا من خلفه يقوله ذو الإصبع فتركني و أقبل على ذلك الرجل الجسيم فقال ما كان اسم ذي الإصبع قال لا أدري فقلت أنا من خلفه اسمه حرثان فتركني و أقبل عليه فقال له و لم سمي ذا الإصبع قال لا أدري فقلت أنا من خلفه نهشته حية في إصبعه فأقبل عليه و تركني فقال من أيكم كان فقال لا أدري فقلت أنا من خلفه من بني تاج الذين يقول الشاعر فيهم
فأما بنو تاج فلا تذكرنهم و لا تتبعن عيناك من كان هالكا

(19/68)


فأقبل على الجسيم فقال كم عطاؤك قال سبعمائة درهم فأقبل علي و قال و كم عطاؤك أنت قلت أربعمائة فقال يا أبا الزعيزعة حط من عطاء هذا ثلاثمائة و زدها في عطاء هذا فرحت و عطائي سبعمائة و عطاؤه أربعمائة. و أنشد منشد بحضرة الواثق هارون بن المعتصم شرح نهج البلاغة ج : 18 ص : 96
أ ظلوم إن مصابكم رجلا أهدى السلام تحية ظلم
فقال شخص رجل هو خبر إن و وافقه على ذلك قوم و خالفه آخرون فقال الواثق من بقي من علماء النحويين قالوا أبو عثمان المازني بالبصرة فأمر بإشخاصه إلى سر من رأى بعد إزاحة علته قال أبو عثمان فأشخصت فلما أدخلت عليه قال ممن الرجل قلت من مازن قال من مازن تميم أم من مازن ربيعة أم مازن قيس أم مازن اليمين قلت من مازن ربيعة قال باسمك بالباء يريد ما اسمك لأن لغة مازن ربيعة هكذا يبدلون الميم باء و الباء ميما فقلت مكر أي بكر فضحك و قال اجلس و اطمئن فجلست فسألني عن البيت فأنشدته منصوبا فقال فأين خبر إن فقلت ظلم قال كيف هذا قلت يا أمير المؤمنين ألا ترى أن البيت إن لم يجعل ظلم خبر إن يكون مقطوع المعنى معدوم الفائدة فلما كررت القول عليه فهم و قال قبح الله من لا أدب له ثم قال أ لك ولد قلت بنية قال فما قالت لك حين ودعتها قلت ما قالت بنت الأعشى
تقول ابنتي حين جد الرحيل أرانا سواء و من قد يتم أبانا فلا رمت من عندنا فإنا بخير إذا لم ترم أبانا إذا أضمرتك البلاد نجفى و تقطع منا الرحم
قال فما قلت لها قال قلت أنشدتها بيت جرير
ثقي بالله ليس له شريك و من عند الخليفة بالنجاح
فقال ثق بالنجاح إن شاء الله تعالى ثم أمر لي بألف دينار و كسوة و ردني إلى البصرة
شرح نهج البلاغة ج : 18 ص : 697وَ صَدْرُ الْعَاقِلِ صُنْدُوقُ سِرِّهِ وَ الْبَشَاشَةُ حِبَالَةُ الْمَوَدَّةِ وَ الِاحْتِمَالُ قَبْرُ الْعُيُوبِ وَ رُوِيَ أَنَّهُ قَالَ فِي الْعِبَارَةِ عَنْ هَذَا الْمَعْنَى أَيْضاً الْمُسَالَمَةُ خَبْ ءُ الْعُيُوبِ

(19/69)


هذه فصول ثلاثة الفصل الأول قوله صدر العاقل صندوق سره قد ذكرنا فيما تقدم طرفا صالحا في كتمان السر. و كان يقال لا تنكح خاطب سرك. قال معاوية للنجار العذري ابغ لي محدثا قال معي يا أمير المؤمنين قال نعم أستريح منك إليه و منه إليك و أجعله كتوما فإن الرجل إذا اتخذ جليسا ألقى إليه عجره و بجره. و قال بعض الأعراب لا تضع سرك عند من لا سر له عندك. و قالوا إذا كان سر الملك عند اثنين دخلت على الملك الشبهة و اتسعت على الرجلين المعاذير فإن عاقبهما عند شياعه عاقب اثنين بذنب واحد و إن اتهمهما اتهم بريئا شرح نهج البلاغة ج : 18 ص : 98بجناية مجرم و إن عفا عنهما كان العفو عن أحدهما و لا ذنب له و عن الآخر و لا حجة عليه. الفصل الثاني قوله البشاشة حبالة المودة قد قلنا في البشر و البشاشة فيما سبق قولا مقنعا. و كان يقال البشر دال على السخاء من ممدوحك و على الود من صديقك دلالة النور على الثمر. و كان يقال ثلاث تبين لك الود في صدر أخيك تلقاه ببشرك و تبدؤه بالسلام و توسع له في المجلس. و قال الشاعر
لا تدخلنك ضجرة من سائل فلخير دهرك أن ترى مسئولالا تجبهن بالرد وجه مؤمل قد رام غيرك أن يرى مأمولاتلقى الكريم فتستدل ببشره و ترى العبوس على اللئيم دليلاو اعلم بأنك عن قليل صائر خبرا فكن خبرا يروق جميلا
و قال البحتري
لو أن كفك لم تجد لمؤمل لكفاه عاجل بشرك المتهلل و لو أن مجدك لم يكن متقادما أغناك آخر سؤدد عن أول أدركت ما فات الكهول من الحجا من عنفوان شبابك المستقبل فإذا أمرت فما يقال لك اتئد و إذا حكمت فما يقال لك اعدل

(19/70)


الفصل الثالث قوله الاحتمال قبر العيوب أي إذا احتملت صاحبك و حلمت شرح نهج البلاغة ج : 18 ص : 99عنه ستر هذا الخلق الحسن منك عيوبك كما يستر القبر الميت و هذا مثل قولهم في الجود كل عيب فالكرم يغطيه. فأما الخب ء فمصدر خبأته أخبؤه و المعنى في الروايتين واحد و قد ذكرنا في فضل الاحتمال و المسالمة فيما تقدم أشياء صالحة. و
من كلامه ع وجدت الاحتمال أنصر لي من الرجال
و من كلامه من سالم الناس سلم منهم و من حارب الناس حاربوه فإن العثرة للكاثر
و كان يقال العاقل خادم الأحمق أبدا إن كان فوقه لم يجد من مداراته و التقرب إليه بدا و إن كان دونه لم يجد من احتماله و استكفاف شره بدا. و أسمع رجل يزيد بن عمر بن هبيرة فأعرض عنه فقال الرجل إياك أعني قال و عنك أعرض. و قال الشاعر
إذا نطق السفيه فلا تجبه فخير من إجابته السكوت سكت عن السفيه فظن أني عييت عن الجواب و ما عييت
شرح نهج البلاغة ج : 18 ص : 7100مَنْ رَضِيَ عَنْ نَفْسِهِ كَثُرَ السَّاخِطُ عَلَيْهِ وَ الصَّدَقَةُ دَوَاءٌ مُنْجِحٌ وَ أَعْمَالُ الْعِبَادِ فِي عَاجِلِهِمْ نُصْبُ أَعْيُنِهِمْ فِي آجِلِهِمْ
هذه فصول ثلاثة الفصل الأول قوله من رضي عن نفسه كثر الساخط عليه قال بعض الفضلاء لرجل كان يرضى عن نفسه و يدعي التميز على الناس بالعلم عليك بقوم تروقهم بزبرجك و تروعهم بزخرفك فإنك لا تعدم عزا و لا تفقد غمرا لا يبلغ مسبارهما غورك و لا تستغرق أقدارهما طورك. و قال الشاعر
أرى كل إنسان يرى عيب غيره و يعمى عن العيب الذي هو فيه و ما خير من تخفى عليه عيوبه و يبدو له العيب الذي بأخيه

(19/71)


و قال بعضهم دخلت على ابن منارة و بين يديه كتاب قد صنفه فقلت ما هذا قال كتاب عملته مدخلا إلى التوراة فقلت إن الناس ينكرون هذا فلو قطعت الوقت بغيره قال الناس جهال قلت و أنت ضدهم قال نعم قلت شرح نهج البلاغة ج : 18 ص : 101فينبغي أن يكون ضدهم جاهلا عندهم قال كذاك هو قلت فقد بقيت أنت جاهلا بإجماع الناس و الناس جهال بقولك وحدك و مثل هذا المعنى قول الشاعر
إذا كنت تقضي أن عقلك كامل و أن بني حواء غيرك جاهل و أن مفيض العلم صدرك كله فمن ذا الذي يدري بأنك عاقل
الفصل الثاني الصدقة دواء منجح قد جاء في الصدقة فضل كثير و ذكرنا بعض ذلك فيما تقدم و
في الحديث المرفوع تاجروا الله بالصدقة تربحوا
و قيل الصدقة صداق الجنة. و قيل للشبلي ما يجب في مائتي درهم فقال أما من جهة الشرع فخمسة دراهم و أما من جهة الإخلاص فالكل. و
روى أبو هريرة عن النبي ص أنه سئل فقيل أي الصدقة أفضل فقال أن تعطي و أنت صحيح شحيح تأمل البقاء و تخشى الفقر و لا تمهل حتى إذا بلغت الحلقوم قلت لفلان كذا و لفلان كذا
و مثل قوله ع الصدقة دواء منجح
قول النبي ص داووا مرضاكم بالصدقة
الفصل الثالث قوله أعمال العباد في عاجلهم نصب أعينهم في آجلهم هذا من قوله تعالى يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً وَ ما عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ شرح نهج البلاغة ج : 18 ص : 102لَوْ أَنَّ بَيْنَها وَ بَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً و قال تعالى فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَ مَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ. و من كلام بعضهم إنما تقدم على ما قدمت و لست تقدم على ما تركت فآثر ما تلقاه غدا على ما لا تراه أبدا. و من حكمة أفلاطون اكتم حسن صنيعك عن أعين البشر فإن له ممن بيده ملكوت السماء أعينا ترمقه فتجازي عليه

(19/72)


شرح نهج البلاغة ج : 18 ص : 8103اعْجَبُوا لِهَذَا الْإِنْسَانِ يَنْظُرُ بِشَحْمٍ وَ يَتَكَلَّمُ بِلَحْمٍ وَ يَسْمَعُ بِعَظْمٍ وَ يَتَنَفَّسُ مِنْ خَرْمٍ
هذا كلام محمول بعضه على ظاهره لما تدعو إليه الضرورة من مخاطبة العامة بما يفهمونه و العدول عما لا تقبله عقولهم و لا تعيه قلوبهم. أما الإبصار فقد اختلف فيه فقيل إنه بخروج شعاع من العين يتصل بالمرئي و قيل إن القوة المبصرة التي في العين تلاقي بذاتها المرئيات فتبصرها و قال قوم بل بتكيف الهواء بالشعاع البصري من غير خروج فيصير الهواء باعتبار تكيفه بالشعاع به آلة العين في الإدراك. و قال المحققون من الحكماء إن الإدراك البصري هو بانطباع أشباح المرئيات في الرطوبة الجلدية من العين عند توسط الهواء الشفاف المضي ء كما تنطبع الصورة في المرآة قالوا و لو كانت المرآة ذات قوة مبصرة لأدركت الصور المنطبعة فيها و على جميع الأقوال فلا بد من إثبات القوة المبصرة في الرطوبة الجلدية و إلى الرطوبة الجلدية وقعت إشارته ع بقوله ينظر بشحم. و أما الكلام فمحله اللسان عند قوم و قال قوم ليس اللسان آلة ضرورية في الكلام لأن من يقطع لسانه من أصله يتكلم و أما إذا قطع رأسه لم يتكلم قالوا و إنما الكلام شرح نهج البلاغة ج : 18 ص : 104باللهوات و على كلا القولين فلا بد أن تكون آلة الكلام لحما و إليه وقعت إشارة أمير المؤمنين ع و ليس هذه البنية المخصوصة شرطا في الكلام على الإطلاق لجواز وجوده في الشجر و الجماد عند أصحابنا و إنما هي شرط في كلام الإنسان و لذا قال أمير المؤمنين اعجبوا لهذا الإنسان. فأما السمع للصوت فليس بعظم عند التحقيق و إنما هو بالقوة المودعة في العصب المفروش في الصماخ كالغشاء فإذا حمل الهواء الصوت و دخل في ثقب الأذن المنتهي إلى الصماخ بعد تعويجات فيه جعلت لتجري مجرى اليراعة المصوتة و أفضى ذلك الصوت إلى ذلك العصب الحامل للقوة السامعة حصل الإدراك و بالجملة

(19/73)


فلا بد من عظم لأن الحامل اللحم و العصب إنما هو العظم. و أما التنفس فلا ريب أنه من خرم لأنه من الأنف و إن كان قد يمكن لو سد الأنف أن يتنفس الإنسان من الفم و هو خرم أيضا و الحاجة إلى التنفس إخراج الهواء الحار عن القلب و إدخال النسيم البارد إليه فجعلت الرئة كالمروحة تنبسط و تنقبض فيدخل الهواء بها و يخرج من قصبتها النافذة إلى المنخرين
شرح نهج البلاغة ج : 18 ص : 9105إِذَا أَقْبَلَتِ الدُّنْيَا عَلَى قَوْمٍ أَعَارَتْهُمْ مَحَاسِنَ غَيْرِهِمْ وَ إِذَا أَدْبَرَتْ عَنْهُمْ سَلَبَتْهُمْ مَحَاسِنَ أَنْفُسِهِمْ

(19/74)


كان الرشيد أيام كان حسن الرأي في جعفر بن يحيى يحلف بالله أن جعفرا أفصح من قس بن ساعدة و أشجع من عامر بن الطفيل و أكتب من عبد الحميد بن يحيى و أسوس من عمر بن الخطاب و أحسن من مصعب بن الزبير و كان جعفر ليس بحسن الصورة و كان طويل الوجه جدا و أنصح له من الحجاج لعبد الملك و أسمح من عبد الله بن جعفر و أعف من يوسف بن يعقوب فلما تغير رأيه فيه أنكر محاسنه الحقيقية التي لا يختلف اثنان أنها فيه نحو كياسته و سماحته و لم يكن أحد يجسر أن يرد على جعفر قولا و لا رأيا فيقال إن أول ما ظهر من تغير الرشيد له أنه كلم الفضل بن الربيع بشي ء فرده عليه الفضل و لم تجر عادته من قبل أن يفتح فاه في وجهه فأنكر سليمان بن أبي جعفر ذلك على الفضل فغضب الرشيد لإنكار سليمان و قال ما دخولك بين أخي و مولاي كالراضي بما كان من الفضل ثم تكلم جعفر بشي ء قاله للفضل فقال الفضل اشهد عليه يا أمير المؤمنين فقال جعفر فض الله فاك يا جاهل إذا كان أمير المؤمنين الشاهد فمن الحاكم المشهود عنده فضحك الرشيد و قال يا فضل لا تمار جعفرا فإنك لا تقع منه موقعا. شرح نهج البلاغة ج : 18 ص : 106و اعلم أنا قد وجدنا تصديق ما قاله ع في العلوم و الفضائل و الخصائص النفسانية دع حديث الدنيا و السلطان و الرئاسة فإن المحظوظ من علم أو من فضيلة تضاف إليه شوارد تلك الفضيلة و شوارد ذلك الفن مثاله حظ علي ع من الشجاعة و من الأمثال الحكمية قل أن ترى مثلا شاردا أو كلمة حكمية إلا و تضيفها الناس إليه و كذلك ما يدعي العامة له من الشجاعة و قتل الأبطال حتى يقال إنه حمل على سبعين ألفا فهزمهم و قتل الجن في البئر و فتل الطوق الحديد في عنق خالد بن الوليد و كذلك حظ عنترة بن شداد في الشجاعة يذكر له من الأخبار ما لم يكن و كذلك ما اشتهر به أبو نواس في وصف الخمر يضاف إليه من الشعر في هذا الفن ما لم يكن قاله و كذلك جود حاتم و عبد الله بن جعفر و نحو ذلك و بالعكس من لا

(19/75)


حظ له ينفى عنه ما هو حقيقة له فقد رأينا كثيرا من الشعر الجيد ينفى عن قائله استحقارا له لأنه خامل الذكر و ينسب إلى غيره بل رأينا كتبا مصنفة في فنون من العلوم خمل ذكر مصنفيها و نسبت إلى غيرهم من ذوي النباهة و الصيت و كل ذلك منسوب إلى الجد و الإقبال
شرح نهج البلاغة ج : 18 ص : 10107خَالِطُوا النَّاسَ مُخَالَطَةً إِنْ مِتُّمْ مَعَهَا بَكَوْا عَلَيْكُمْ وَ إِنْ عِشْتُمْ حَنُّوا إِلَيْكُمْ
و قد روي خنوا بالخاء المعجمة من الخنين و هو صوت يخرج من الأنف عند البكاء و إلى تتعلق بمحذوف أي حنوا شوقا إليكم. و قد ورد في الأمر بإحسان العشرة مع الناس الكثير الواسع و قد ذكرنا طرفا من ذلك فيما تقدم. و
في الخبر المرفوع إذا وسعتم الناس ببسط الوجوه و حسن الخلق و حسن الجوار فكأنما وسعتموهم بالمال
و قال أبو الدرداء إنا لنهش في وجوه أقوام و إن قلوبنا لتقليهم. و قال محمد بن الفضل الهاشمي لأبيه لم تجلس إلى فلان و قد عرفت عداوته قال أخبئ نارا و أقدح عن ود. و قال المهاجر بن عبد الله
و إني لأقصى المرء من غير بغضة و أدنى أخا البغضاء مني على عمدليحدث ودا بعد بغضاء أو أرى له مصرعا يردي به الله من يردي
و قال عقال بن شبة التميمي كنت ردف أبي فلقيه جرير بن الخطفى على بغلة شرح نهج البلاغة ج : 18 ص : 108فحياه أبي و ألطفه فلما مضى قلت له أ بعد أن قال لنا ما قال قال يا بني أ فأوسع جرحي. و
قال محمد بن الحنفية ع قد يدفع باحتمال المكروه ما هو أعظم منه
و قال الحسن ع حسن السؤال نصف العلم و مداراة الناس نصف العقل و القصد في المعيشة نصف المئونة
و مدح ابن شهاب شاعرا فأعطاه و قال إن من ابتغاء الخير اتقاء الشر. و قال الشاعر
و أنزلني طول النوى دار غربة متى شئت لاقيت أمرا لا أشاكله أخا ثقة حتى يقال سجية و لو كان ذا عقل لكنت أعاقله

(19/76)


و في الحديث المرفوع للمسلم على المسلم ست يسلم عليه إذا لقيه و يجيبه إذا دعاه و يشمته إذا عطس و يعوده إذا مرض و يحب له ما يحب لنفسه و يشيع جنازته إذا مات
ووقف ص على عجوز فجعل يسألها و يتحفاها و قال إن حسن العهد من الإيمان إنها كانت تأتينا أيام خديجة
شرح نهج البلاغة ج : 18 ص : 11109إِذَا قَدَرْتَ عَلَى عَدُوِّكَ فَاجْعَلِ الْعَفْوَ عَنْهُ شُكْراً لِلْقُدْرَةِ عَلَيْهِ
قد أخذت أنا هذا المعنى فقلت في قطعة لي
إن الأماني أكساب الجهول فلا تقنع بها و اركب الأهوال و الخطراو اجعل من العقل جهلا و اطرح نظرا في الموبقات و لا تستشعر الحذراو إن قدرت على الأعداء منتصرا فاشكر بعفوك عن أعدائك الظفرا

(19/77)


و قد تقدم لنا كلام طويل في الحلم و الصفح و العفو. و نحن نذكر هاهنا زيادة على ذلك شجر بين أبي مسلم و بين صاحب مرو كلام أربى فيه صاحب مرو عليه و أغلظ له في القول فاحتمله أبو مسلم و ندم صاحب مرو و قام بين يدي أبي مسلم معتذرا و كان قال له في جملة ما قال يا لقيط فقال أبو مسلم مه لسان سبق و وهم أخطأ و الغضب شيطان و أنا جرأتك علي باحتمالك قديما فإن كنت للذنب معتذرا فقد شاركتك فيه و إن كنت مغلوبا فالعفو يسعك فقال صاحب مرو أيها الأمير إن عظم ذنبي يمنعني من الهدوء فقال أبو مسلم يا عجبا أقابلك بإحسان و أنت مسي ء ثم أقابلك بإساءة و أنت محسن فقال الآن وثقت بعفوك. و أذنب بعض كتاب المأمون ذنبا و تقدم إليه ليحتج لنفسه فقال يا هذا قف شرح نهج البلاغة ج : 18 ص : 110مكانك فإنما هو عذر أو يمين فقد وهبتهما لك و قد تكرر منك ذلك فلا تزال تسي ء و نحسن و تذنب و نغفر حتى يكون العفو هو الذي يصلحك. و كان يقال أحسن أفعال القادر العفو و أقبحها الانتقام. و كان يقال ظفر الكريم عفو و عفو اللئيم عقوبة. و كان يقال رب ذنب مقدار العقوبة عليه إعلام المذنب به و لا يجاوز به حد الارتفاع إلى الإيقاع. و كان يقال ما عفا عن الذنب من قرع به. و من الحلم الذي يتضمن كبرا مستحسنا ما روي أن مصعب بن الزبير لما ولي العراق عرض الناس ليدفع إليهم أرزاقهم فنادى مناديه أين عمرو بن جرموز فقيل له أيها الأمير إنه أبعد في الأرض قال أ و ظن الأحمق أني أقتله بأبي عبد الله قولوا له فليظهر آمنا و ليأخذ عطاءه مسلما. و أكثر رجل من سب الأحنف و هو لا يجيبه فقال الرجل ويلي عليه و الله ما منعه من جوابي إلا هواني عنده. و قال لقيط بن زرارة
فقل لبني سعد و ما لي و ما لكم ترقون مني ما استطعتم و أعتق أ غركم أني بأحسن شيمة بصير و أني بالفواحش أخرق و أنك قد ساببتني فقهرتني هنيئا مريئا أنت بالفحش أحذق

(19/78)


و قال المأمون لإبراهيم بن المهدي لما ظفر به إني قد شاورت في أمرك فأشير علي بقتلك إلا أني وجدت قدرك فوق ذنبك فكرهت قتلك للازم حرمتك فقال إبراهيم يا أمير المؤمنين إن المشير أشار بما تقتضيه السياسة و توجيه العادة إلا أنك أبيت أن شرح نهج البلاغة ج : 18 ص : 111تطلب النصر إلا من حيث عودته من العفو فإن قتلت فلك نظراء و إن عفوت فلا نظير لك قال قد عفوت فاذهب آمنا. ضل الأعشى في طريقه فأصبح بأبيات علقمة بن علاثة فقال قائده و قد نظر إلى قباب الأدم وا سوء صباحاه يا أبا بصير هذه و الله أبيات علقمة فخرج فتيان الحي فقبضوا على الأعشى فأتوا به علقمة فمثل بين يديه فقال الحمد لله الذي أظفرني بك من غير ذمة و لا عقد قال الأعشى أ و تدري لم ذلك جعلت فداك قال نعم لانتقم اليوم منك بتقوالك علي الباطل مع إحساني إليك قال لا و الله و لكن أظفرك الله بي ليبلو قدر حلمك في فأطرق علقمة فاندفع الأعشى فقال
أ علقم قد صيرتني الأمور إليك و ما كان بي منكص كساكم علاثة أثوابه و ورثكم حلمه الأحوص فهب لي نفسي فدتك النفوس فلا زلت تنمي و لا تنقص
فقال قد فعلت أما و الله لو قلت في بعض ما قلته في عامر بن عمر لأغنيتك طول حياتك و لو قلت في عامر بعض ما قلته في ما أذاقك برد الحياة. قال معاوية لخالد بن معمر السدوسي على ما ذا أحببت عليا قال على ثلاث حلمه إذا غضب و صدقه إذا قال و وفاؤه إذا وعد
شرح نهج البلاغة ج : 18 ص : 12112أَعْجَزُ النَّاسِ مَنْ عَجَزَ عَنِ اكْتِسَابِ الْإِخْوَانِ وَ أَعْجَزُ مِنْهُ مَنْ ضَيَّعَ مَنْ ظَفِرَ بِهِ مِنْهُمْ
قد ذكرنا قطعة صالحة من الإخوانيات فيما تقدم و
في الحديث المرفوع أن النبي ص بكى لما قتل جعفر بمؤتة و قال المرء كثير بأخيه
و قال جعفر بن محمد ع لكل شي ء حلية و حلية الرجل أوداؤه
و أنشد ابن الأعرابي
لعمرك ما مال الفتى بذخيرة و لكن إخوان الصفاء الذخائر

(19/79)


و كان أبو أيوب السختياني يقول إذا بلغني موت أخ كان لي فكأنما سقط عضو مني. و كان يقال الإخوان ثلاث طبقات طبقة كالغذاء لا يستغني عنه و طبقة كالدواء يحتاج إليه عند المرض و طبقة كالداء لا يحتاج إليه أبدا. و كان يقال صاحبك كرقعة في قميصك فانظر بما ترقع قميصك. شرح نهج البلاغة ج : 18 ص : 113و كان يونس بن عبيد يقول اثنان ما في الأرض أقل منهما و لا يزدادان إلا قلة درهم يوضع في حق و أخ يسكن إليه في الله. و قال الشاعر
أخاك أخاك إن من لا أخا له كساع إلى الهيجا بغير سلاح و إن ابن عم المرء فاعلم جناحه و هل ينهض البازي بغير جناح
و قال آخر
و لن تنفك تحسد أو تعادى فأكثر ما استطعت من الصديق و بغضك للتقي أقل ضرا و أسلم من مودة ذي الفسوق
و أوصى بعضهم ابنه فقال يا بني إذا نازعتك نفسك إلى مصاحبة الرجال فاصحب من إذا صحبته زانك و إذا خدمته صانك و إذا عرضت لك مؤنة أعانك و إن قلت صدق قولك و إن صلت شد صولك و إن مددت يدك لأمر مدها و إن بدت لك عورة سدها و إن رأى منك حسنة عدها و إن سألته أعطاك و إن سكت ابتدأك و إن نزلت بك ملمة واساك من لا تأتيك منه البوائق و لا تحتار عليك منه الطرائق و لا يخذلك عند الحقائق. و
من الشعر المنسوب إلى علي ع
إن أخاك الحق من كان معك و من يضر نفسه لينفعك و من إذا ريب الزمان صدعك شتت فيك شمله ليجمعك
شرح نهج البلاغة ج : 18 ص : 114و من الشعر المنسوب إليه ع أيضا
أخوك الذي إن أجرضتك ملمة من الدهر لم يبرح لها الدهر واجماو ليس أخوك بالذي إن تشعبت عليك أمور ظل يلحاك لائما

(19/80)


. و قال بعض الحكماء ينبغي للإنسان أن يوكل بنفسه كالئين أحدهما يكلؤه من أمامه و الآخر يكلؤه من ورائه و هما عقله الصحيح و أخوه النصيح فإن عقله و إن صح فلن يبصره من عيبه إلا بمقدار ما يرى الرجل من وجهه في المرآة و يخفى عليه ما خلفه و أما أخوه النصيح فيبصره ما خلفه و ما أمامه أيضا. و كتب ظريف إلى صديق له أني غير محمود على الانقياد إليك لأني صادقتك من جوهر نفسي و النفس يتبع بعضها بعضا. و
في الحديث المرفوع إذا أحب أحدكم أخاه فليعلمه
و قال الأحنف خير الإخوان من إذا استغنيت عنه لم يزدك ودا و إن احتجت إليه لم ينقصك. و قال أعشى باهلة يرثي المنتشر بن وهب
إما سلكت سبيلا كنت سالكها فاذهب فلا يبعدنك الله منتشرمن ليس في خيره شر ينكده على الصديق و لا في صفوه كدر
و قال آخر يرثي صديقا له
أخ طالما سرني ذكره و أصبحت أشجى لدى ذكره و قد كنت أغدو إلى قصره فأصبحت أغدو إلى قبره و كنت أراني غنيا به عن الناس لو مد في عمره إذا جئته طالبا حاجة فأمري يجوز على أمره
رأى بعض الحكماء مصطحبين لا يفترقان فسأل عنهما فقيل صديقان قال فما بال أحدهما غنيا و الآخر فقيرا
شرح نهج البلاغة ج : 18 ص : 13115وَ قَالَ ع فِي الَّذِينَ اعْتَزَلُوا الْقِتَالَ مَعَهُ خَذَلُوا الْحَقَّ وَ لَمْ يَنْصُرُوا الْبَاطِلَ

(19/81)


قد سبق ذكر هؤلاء فيما تقدم و هم عبد الله بن عمر بن الخطاب و سعد بن أبي وقاص و سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل و أسامة بن زيد و محمد بن مسلمة و أنس بن مالك و جماعة غيرهم. و قد ذكر شيخنا أبو الحسين في الغرر أن أمير المؤمنين ع لما دعاهم إلى القتال معه و اعتذروا بما اعتذروا به قال لهم أ تنكرون هذه البيعة قالوا لا لكنا لا نقاتل فقال إذا بايعتم فقد قاتلتم قال فسلموا بذلك من الذم لأن إمامهم رضي عنهم. و معنى قوله خذلوا الحق و لم ينصروا الباطل أي خذلوني و لم يحاربوا معي معاوية و بعض أصحابنا البغداديين يتوقف في هؤلاء و إلى هذا القول يميل شيخنا أبو جعفر الإسكافي
شرح نهج البلاغة ج : 18 ص : 14116إِذَا وَصَلَتْ إِلَيْكُمْ أَطْرَافُ النِّعَمِ فَلَا تُنَفِّرُوا أَقْصَاهَا بِقِلَّةِ الشُّكْرِ
قد سبق القول في الشكر و نحن نذكر هاهنا زيادة على ذلك. قال بعضهم ما شيبتني السنون بل شكري من أحتاج أن أشكره. و قالوا العفاف زينة الفقر و الشكر زينة الغنى. و قالوا من سعادة المرء أن يضع معروفه عند من يشكره. و من جيد ما قيل في الشكر قول أبي نواس
قد قلت للعباس معتذرا من ضعف شكريه و معترفاأنت امرؤ حملتني نعما أوهت قوى شكري فقد ضعفافإليك مني اليوم معذرة جاءتك بالتصريح منكشفالا تسدين إلى عارفة حتى أقوم بشكر ما سلفا
و قال البحتري
فإن أنا لم أشكر لنعماك جاهدا فلا نلت نعمى بعدها توجب الشكرا
شرح نهج البلاغة ج : 18 ص : 117و قال أيضا
سأجهد في شكري لنعماك إنني أرى الكفر للنعماء ضربا من الكفر
و قال ابن أبي طاهر
شكرت عليا بره و بلاءه فقصر بي شكري و إني لجاهدو ما أنا من شكري عليا بواحد و لكنه في الفضل و الجود واحد
و قال أبو الفتح البستي
لا تظنن بي و برك حي أن شكري و شكر غيري موات أنا أرض و راحتاك سحاب و الأيادي وبل و شكري نبات
و قال أيضا
و خر لما أوليت شكري ساجدا و مثل الذي أوليت يعبده الشكر
البحتري

(19/82)


أراك بعين المكتسي ورق الغنى بآلائك اللاتي يعددها الشكرو يعجبني فقري إليك و لم يكن ليعجبني لو لا محبتك الفقر
آخر
بدأت بمعروف و ثنيت بالرضا و ثلثت بالحسنى و ربعت بالكرم و باشرت أمري و اعتنيت بحاجتي و أخرت لا عني و قدمت لي نعم و صدقت لي ظني و أنجزت موعدي و طبت به نفسا و لم تتبع الندم فإن نحن كافأنا بشكر فواجب و إن نحن قصرنا فما الود متهم
شرح نهج البلاغة ج : 18 ص : 15118مَنْ ضَيَّعَهُ الْأَقْرَبُ أُتِيحَ لَهُ الْأَبْعَدُ
إن الإنسان قد ينصره من لا يرجو نصره و إن أهمله أقربوه و خذلوه فقد تقوم به الأجانب من الناس و قد وجدنا ذلك في حق رسول الله ص ضيعه أهله و رهطه من قريش و خذلوه و تمالئوا عليه فقام بنصره الأوس و الخزرج و هم أبعد الناس نسبا منه لأنه من عدنان و هم من قحطان و كل واحد من الفريقين لا يحب الآخر حتى تحب الأرض الدم و قامت ربيعة بنصر علي ع في صفين و هم أعداء مضر الذين هم أهله و رهطه و قامت اليمن بنصر معاوية في صفين و هم أعداء مضر و قامت الخراسانية و هم عجم بنصر الدولة العباسية و هي دولة العرب و إذا تأملت السير وجدت هذا كثيرا شائعا
شرح نهج البلاغة ج : 18 ص : 16119مَا كُلُّ مَفْتُونٍ يُعَاتَبُ هذه الكلمة قالها علي ع لسعد بن أبي وقاص و محمد بن مسلمة و عبد الله بن عمر لما امتنعوا من الخروج معه لحرب أصحاب الجمل و نظيرها أو قريب منها قول أبي الطيب
فما كل فعال يجازى بفعله و لا كل قوال لدي يجاب و رب كلام مر فوق مسامعي كما طن في لفح الهجير ذباب
شرح نهج البلاغة ج : 18 ص : 79باب الحكم و المواعظ
شرح نهج البلاغة ج : 18 ص : 81 باب المختار من حكم أمير المؤمنين و مواعظه و يدخل في ذلك المختار من أجوبة مسائله و الكلام القصير الخارج من سائر أغراضه

(19/83)


اعلم أن هذا الباب من كتابنا كالروح من البدن و السواد من العين و هو الدرة المكنونة التي سائر الكتاب صدفها و ربما وقع فيه تكرار لبعض ما تقدم يسير جدا و سبب ذلك طول الكتاب و بعد أطرافه عن الذهن و إذا كان الرضي رحمه الله قدسها فكرر في مواضع كثيرة في نهج البلاغة على اختصاره كنا نحن في تكرار يسير في كتابنا الطويل أعذر شرح نهج البلاغة ج : 18 ص : 82
1كُنْ فِي الْفِتْنَةِ كَابْنِ اللَّبُونِ لَا ظَهْرٌ فَيُرْكَبَ وَ لَا ضَرْعٌ فَيُحْلَبَ
ابن اللبون ولد الناقة الذكر إذا استكمل السنة الثانية و دخل في الثالثة و يقال للأنثى ابنة اللبون و ذلك لأن أمهما في الأغلب ترضع غيرهما فتكون ذات لبن و اللبون من الإبل و الشاة ذات اللبن غزيرة كانت أو بكيئة فإذا أرادوا الغزيرة قالوا لبنة و يقال ابن لبون و ابن اللبون منكرا أو معرفا قال الشاعر
و ابن اللبون إذا ما لز في قرن لم يستطع صولة البزل القناعيس
و ابن اللبون لا يكون قد كمل و قوي ظهره على أن يركب و ليس بأنثى ذات ضرع فيحلب و هو مطرح لا ينتفع به. و أيام الفتنة هي أيام الخصومة و الحرب بين رئيسين ضالين يدعوان كلاهما إلى ضلالة كفتنة عبد الملك و ابن الزبير و فتنة مروان و الضحاك و فتنة الحجاج و ابن الأشعث و نحو ذلك فأما إذا كان أحدهما صاحب حق فليست أيام فتنة كالجمل و صفين و نحوهما بل يجب الجهاد مع صاحب الحق و سل السيف و النهي عن المنكر و بذل النفس في إعزاز الدين و إظهار الحق. شرح نهج البلاغة ج : 18 ص : 83قال ع أخمل نفسك أيام الفتنة و كن ضعيفا مغمورا بين الناس لا تصلح لهم بنفسك و لا بمالك و لا تنصر هؤلاء و هؤلاء. و قوله فيركب فيحلب منصوبان لأنهما جواب النفي و في الكلام محذوف تقديره له و هو يستحق الرفع لأنه خبر المبتدإ مثل قولك لا إله إلا الله تقديره لنا أو في الوجود

(19/84)


شرح نهج البلاغة ج : 18 ص : 284أَزْرَى بِنَفْسِهِ مَنِ اسْتَشْعَرَ الطَّمَعَ وَ رَضِيَ بِالذُّلِّ مَنْ كَشَفَ عَنْ ضُرِّهِ وَ هَانَتْ عَلَيْهِ نَفْسُهُ مَنْ أَمَّرَ عَلَيْهَا لِسَانَهُ
هذه ثلاثة فصول الفصل الأول في الطمع قوله ع أزرى بنفسه أي قصر بها من استشعر الطمع أي جعله شعاره أي لازمه. و
في الحديث المرفوع أن الصفا الزلزال الذي لا تثبت عليه أقدام العلماء الطمع
و في الحديث أنه قال للأنصار إنكم لتكثرون عند الفزع و تقلون عند الطمع
أي عند طمع الرزق. و كان يقال أكثر مصارع الألباب تحت ظلال الطمع. و قال بعضهم العبيد ثلاثة عبد رق و عبد شهوة و عبد طمع. و
سئل رسول الله ص عن الغنى فقال اليأس عما في أيدي الناس و من مشى منكم إلى طمع الدنيا فليمش رويدا
شرح نهج البلاغة ج : 18 ص : 85و قال أبو الأسود
البس عدوك في رفق و في دعة طوبى لذي إربة للدهر لباس و لا تغرنك أحقاد مزملة قد يركب الدبر الدامي بأحلاس و استغن عن كل ذي قربى و ذي رحم إن الغني الذي استغنى عن الناس
قال عمر ما الخمر صرفا بأذهب لعقول الرجال من الطمع و
في الحديث المرفوع الطمع الفقر الحاضر
قال الشاعر
رأيت مخيلة فطمعت فيها و في الطمع المذلة للرقاب

(19/85)


الفصل الثاني في الشكوى قال ع من كشف للناس ضره أي شكا إليهم بؤسه و فقره فقد رضي بالذل. كان يقال لا تشكون إلى أحد فإنه إن كان عدوا سره و إن كان صديقا ساءه و ليست مسرة العدو و لا مساءة الصديق بمحمودة. سمع الأحنف رجلا يقول لم أنم الليلة من وجع ضرسي فجعل يكثر فقال يا هذا لم تكثر فو الله لقد ذهبت عيني منذ ثلاثين سنة فما شكوت ذلك إلى أحد و لا أعلمت بها أحدا. الفصل الثالث في حفظ اللسان قد تقدم لنا قول شاف في ذلك و كان يقال حفظ اللسان راحة الإنسان و كان يقال رب كلمة سفكت دما و أورثت ندما. و في الأمثال العامية قال اللسان للرأس كيف أنت قال بخير لو تركتني. و في وصية المهلب لولده يا بني تباذلوا تحابوا فإن بني الأعيان يختلفون فكيف ببني العلات إن البر ينسأ في الأجل و يزيد في العدد و إن القطيعة تورث القلة و تعقب شرح نهج البلاغة ج : 18 ص : 86النار بعد الذلة اتقوا زلة اللسان فإن الرجل تزل رجله فينتعش و يزل لسانه فيهلك و عليكم في الحرب بالمكيدة فإنها أبلغ من النجدة و إن القتال إذا وقع وقع القضاء فإن ظفر الرجل ذو الكيد و الحزم سعد و إن ظفر به لم يقولوا فرط. و قال الشاعر في هذا المعنى
يموت الفتى من عثرة بلسانه و ليس يموت المرء من عثرة الرجل
شرح نهج البلاغة ج : 18 ص : 387الْبُخْلُ عَارٌ وَ الْجُبْنُ مَنْقَصَةٌ وَ الْفَقْرُ يُخْرِسُ الْفَطِنَ عَنْ حَاجَتِهِ وَ الْمُقِلُّ غَرِيبٌ فِي بَلْدَتِهِ

(19/86)


هذه ثلاثة فصول الفصل الأول في البخل و قد تقدم لنا كلام مقنع في ذلك. و من كلام بعض الحكماء في ذلك ما أقل من يحمده الطالب و تستقل به العشائر و يرضى عنه السائل و ما زالت أم الكرم نزورا و أم اللؤم ذلولا و أكثر الواجدين من لا يجود و أكثر الأجواد من لا يجد. و ما أحسن قول القائل كفى حزنا أن الجواد مقتر عليه و لا معروف عند بخيل. و كان يقال البخل مهانة و الجود مهابة. و من أحسن ما نقل من جود عبد الله المأمون أن عمر بن مسعدة كاتبه مات في سنة سبع عشرة و مائتين و خلف تركة جليلة فبعث أخاه أبا إسحاق المعتصم و جماعة معه من الكتاب ليحصروا مبلغها فجاء المعتصم إليه و هو في مجلس الخلافة و معه الكتاب فقال ما رأيتم فقال المعتصم معظما لما رآه وجدنا عينا و صامتا و ضياعا قيمة ذلك أجمع ثمانية آلاف ألف دينار و مد صوته فقال المأمون إنا لله و الله ما كنت أرضاها شرح نهج البلاغة ج : 18 ص : 88لتابع من أتباعه ليوفر هذا على مخلفيه فخجل المعتصم حتى ظهر خجله للحاضرين الفصل الثاني في الجبن و قد تقدم قولنا في فضل الشجاعة. و قال هشام بن عبد الملك لمسلمة أخيه يا أبا سعيد هل دخلك ذعر في حرب قط شهدتها قال ما سلمت في ذلك عن ذعر ينبه على حيلة و لا غشيني ذعر سلبني رأيي فقال له هشام هذه و الله البسالة قال أبو دلامة و كان جبانا
إني أعوذ بروح أن يقدمني إلى القتال فتشقى بي بنو أسدإن المهلب حب الموت أورثكم و لم أرث رغبة في الموت عن أحد
قال المنصور لأبي دلامة في حرب إبراهيم تقدم ويلك قال يا أمير المؤمنين شهدت مع مروان بن محمد أربعة عساكر كلها انهزمت و كسرت و إني أعيذك بالله أن يكون عسكرك الخامس. الفصل الثالث في الفقر و قد تقدم القول فيه أيضا. و مثل قوله الفقر يخرس الفطن عن حاجته قول الشاعر

(19/87)


سأعمل نص العيس حتى يكفني غنى المال يوما أو غنى الحدثان فللموت خير من حياة يرى لها على الحر بالإقلال وسم هوان متى يتكلم يلغ حكم كلامه و إن لم يقل قالوا عديم بيان كأن الغنى عن أهله بورك الغنى بغير لسان ناطق بلسان
و مثل قوله ع و المقل غريب في بلدته قول خلف الأحمر
لا تظني أن الغريب هو النائي و لكنما الغريب المقل
و كان يقال مالك نورك فإن أردت أن تنكسف ففرقه و أتلفه. شرح نهج البلاغة ج : 18 ص : 89قيل للإسكندر لم حفظت الفلاسفة المال مع حكمتها و معرفتها بالدنيا قال لئلا تحوجهم الدنيا إلى أن يقوموا مقاما لا يستحقونه. و قال بعض الزهاد ابدأ برغيفيك فاحرزهما ثم تعبد. و
قال الحسن ع من زعم أنه لا يحب المال فهو عندي كاذب فإن علمت صدقه فهو عندي أحمق
شرح نهج البلاغة ج : 18 ص : 490الْعَجْزُ آفَةٌ وَ الصَّبْرُ شَجَاعَةٌ وَ الزُّهْدُ ثَرْوَةٌ وَ الْوَرَعُ جُنَّةٌ وَ نِعْمَ الْقَرِينُ الرِّضَا

(19/88)


فهذه فصول خمسة الفصل الأول قوله ع العجز آفة و هذا حق لأن الآفة هي النقص أو ما أوجب النقص و العجز كذلك. و كان يقال العجز المفرط ترك التأهب للمعاد. و قالوا العجز عجزان أحدهما عجز التقصير و قد أمكن الأمر و الثاني الجد في طلبه و قد فات. و قالوا العجز نائم و الحزم يقظان. الفصل الثاني في الصبر و الشجاعة قد تقدم قولنا في الصبر. و كان يقال الصبر مر لا يتجرعه إلا حر. و كان يقال إن للأزمان المحمودة و المذمومة أعمارا و آجالا كأعمار الناس و آجالهم فاصبروا لزمان السوء حتى يفنى عمره و يأتي أجله. و كان يقال إذا تضيفتك نازلة فاقرها الصبر عليها و أكرم مثواها لديك بالتوكل شرح نهج البلاغة ج : 18 ص : 91و الاحتساب لترحل عنك و قد أبقت عليك أكثر مما سلبت منك و لا تنسها عند رخائك فإن تذكرك لها أوقات الرخاء يبعد السوء عن فعلك و ينفى القساوة عن قلبك و يوزعك حمد الله و تقواه. الفصل الثالث قوله و الزهد ثروة و هذا حق لأن الثروة ما استغنى به الإنسان عن الناس و لا غناء عنهم كالزهد في دنياهم فالزهد على الحقيقة هو الغنى الأكبر. و
روي أن عليا ع قال لعمر بن الخطاب أول ما ولي الخلافة إن سرك أن تلحق بصاحبيك فقصر الأمل و كل دون الشبع و ارقع القميص و اخصف النعل و استغن عن الناس بفقرك تلحق بهما

(19/89)


وقف ملك على سقراط و هو في المشرفة قد أسند ظهره إلى جب كان يأوي إليه فقال له سل حاجتك فقال حاجتي أن تتنحى عني فقد منعني ظلك المرفق بالشمس فسأله عن الجب قال آوي إليه قال فإن انكسر الجب لم ينكسر المكان. و كان يقال الزهد في الدنيا هو الزهد في المحمدة و الرئاسة لا في المطعم و المشرب و عند العارفين الزهد ترك كل شي ء يشغلك عن الله. و كان يقال العالم إذا لم يكن زاهدا لكان عقوبة لأهل زمانه لأنهم يقولون لو لا أن علمه لم يصوب عنده الزهد لزهد فهم يقتدون بزهده في الزهد. الفصل الرابع قوله و الورع جنة كان يقال لا عصمة كعصمة الورع و العبادة أما الورع فيعصمك من المعاصي و أما العبادة فتعصمك من خصمك فإن عدوك لو رآك قائما تصلي و قد دخل ليقتلك لصد عنك و هابك. شرح نهج البلاغة ج : 18 ص : 92و قال رجل من بني هلال لبنيه يا بني أظهروا النسك فإن الناس إن رأوا من أحد منكم بخلا قالوا مقتصد لا يحب الإسراف و إن رأوا عيا قالوا متوق يكره الكلام و إن رأوا جبنا قالوا متحرج يكره الإقدام على الشبهات. الفصل الخامس قوله و نعم القرين الرضا قد سبق منا قول مقنع في الرضا. و قال أبو عمرو بن العلاء دفعت إلى أرض مجدبة بها نفر من الأعراب فقلت لبعضهم ما أرضكم هذه قال كما ترى لا زرع و لا ضرع قلت فكيف تعيشون قالوا نحترش الضباب و نصيد الدواب قلت فكيف صبركم على ذلك قالوا يا هذا سل خالق الخلق هل سويت فقال بل رضيت. و كان يقال من سخط القضاء طاح و من رضي به استراح. و كان يقال عليك بالرضا و لو قلبت على جمر الغضا. و
في الخبر المرفوع أنه ص قال عن الله تعالى من لم يرض بقضائي فليتخذ ربا سوائي
شرح نهج البلاغة ج : 18 ص : 593الْعِلْمُ وِرَاثَةٌ كَرِيمَةٌ وَ الآْدَابُ حُلَلٌ مُجَدَّدَةٌ وَ الْفِكْرُ مِرْآةٌ صَافِيَةٌ

(19/90)


إنما قال العلم وراثة لأن كل عالم من البشر إنما يكتسب علمه من أستاذ يهذبه و موقف يعلمه فكأنه ورث العلم عنه كما يرث الابن المال عن أبيه و قد سبق منا كلام شاف في العلم و الأدب. و كان يقال عطية العالم شبيهة بمواهب الله عز و جل لأنها لا تنفد عند الجود بها و تبقى بكمالها عند مفيدها. و كان يقال الفضائل العلمية تشبه النخل بطي ء الثمرة بعيد الفساد. و كان يقال ينبغي للعالم ألا يترفع على الجاهل و أن يتطامن له بمقدار ما رفعه الله عليه و ينقله من الشك إلى اليقين و من الحيرة إلى التبيين لأن مكافحته قسوة و الصبر عليه و إرشاده سياسة. و مثاله قول بعض الحكماء الخير من العلماء من يرى الجاهل بمنزلة الطفل الذي هو بالرحمة أحق منه بالغلظة و يعذره بنقصه فيما فرط منه و لا يعذر نفسه في التأخر عن هدايته. شرح نهج البلاغة ج : 18 ص : 94و كان يقال العلم في الأرض بمنزلة الشمس في الفلك لو لا الشمس لأظلم الجو و لو لا العلم لأظلم أهل الأرض. و كان يقال لا حلة أجمل من حلة الأدب لأن حلل الثياب تبلى و حلل الأدب تبقى و حلل الثياب قد يغتصبها الغاصب و يسرقها السارق و حلل الآداب باقية مع جوهر النفس. و كان يقال الفكرة الصحيحة أصطرلاب روحاني. و قال أوس بن حجر يرثي
إن الذي جمع السماحة و النجدة و الحزم و النهي جمعاالألمعي الذي يظن بك الظن كان قد رأى و قد سمعا

(19/91)


و من كلام الحكماء النار لا ينقصها ما أخذ منها و لكن يخمدها ألا تجد حطبا و كذلك العلم لا يفنيه الاقتباس و لكن فقد الحاملين له سبب عدمه. قيل لبعضهم أي العلوم أفضل قال ما العامة فيه أزهد. و قال أفلاطون من جهل الشي ء و لم يسأل عنه جمع على نفسه فضيحتين. و كان يقال ثلاثة لا تجربة معهن أدب يزين و مجانبة الريبة و كف الأذى. و كان يقال عليكم بالأدب فإنه صاحب في السفر و مؤنس في الوحدة و جمال في المحفل و سبب إلى طلب الحاجة. و كان عبد الملك أديبا فاضلا و لا يجالس إلا أديبا. و روى الهيثم بن عدي عن مسعر بن كدام قال حدثني سعيد بن خالد الجدلي شرح نهج البلاغة ج : 18 ص : 95قال لما قدم عبد الملك الكوفة بعد قتل مصعب دعا الناس يعرضهم على فرائضهم فحضرنا بين يديه فقال من القوم قلنا جديلة فقال جديلة عدوان قلنا نعم فأنشده
عذير الحي من عدوان كانوا حية الأرض بغى بعضهم بعضا فلم يرعوا على بعض و منهم كانت السادات و الموفون بالقرض و منهم حكم يقضي فلا ينقض ما يقضي و منهم من يجيز الناس بالسنة و الفرض
ثم أقبل على رجل منا وسيم جسيم قدمناه أمامنا فقال أيكم يقول هذا الشعر قال لا أدري فقلت أنا من خلفه يقوله ذو الإصبع فتركني و أقبل على ذلك الرجل الجسيم فقال ما كان اسم ذي الإصبع قال لا أدري فقلت أنا من خلفه اسمه حرثان فتركني و أقبل عليه فقال له و لم سمي ذا الإصبع قال لا أدري فقلت أنا من خلفه نهشته حية في إصبعه فأقبل عليه و تركني فقال من أيكم كان فقال لا أدري فقلت أنا من خلفه من بني تاج الذين يقول الشاعر فيهم
فأما بنو تاج فلا تذكرنهم و لا تتبعن عيناك من كان هالكا

(19/92)


فأقبل على الجسيم فقال كم عطاؤك قال سبعمائة درهم فأقبل علي و قال و كم عطاؤك أنت قلت أربعمائة فقال يا أبا الزعيزعة حط من عطاء هذا ثلاثمائة و زدها في عطاء هذا فرحت و عطائي سبعمائة و عطاؤه أربعمائة. و أنشد منشد بحضرة الواثق هارون بن المعتصم شرح نهج البلاغة ج : 18 ص : 96
أ ظلوم إن مصابكم رجلا أهدى السلام تحية ظلم
فقال شخص رجل هو خبر إن و وافقه على ذلك قوم و خالفه آخرون فقال الواثق من بقي من علماء النحويين قالوا أبو عثمان المازني بالبصرة فأمر بإشخاصه إلى سر من رأى بعد إزاحة علته قال أبو عثمان فأشخصت فلما أدخلت عليه قال ممن الرجل قلت من مازن قال من مازن تميم أم من مازن ربيعة أم مازن قيس أم مازن اليمين قلت من مازن ربيعة قال باسمك بالباء يريد ما اسمك لأن لغة مازن ربيعة هكذا يبدلون الميم باء و الباء ميما فقلت مكر أي بكر فضحك و قال اجلس و اطمئن فجلست فسألني عن البيت فأنشدته منصوبا فقال فأين خبر إن فقلت ظلم قال كيف هذا قلت يا أمير المؤمنين ألا ترى أن البيت إن لم يجعل ظلم خبر إن يكون مقطوع المعنى معدوم الفائدة فلما كررت القول عليه فهم و قال قبح الله من لا أدب له ثم قال أ لك ولد قلت بنية قال فما قالت لك حين ودعتها قلت ما قالت بنت الأعشى
تقول ابنتي حين جد الرحيل أرانا سواء و من قد يتم أبانا فلا رمت من عندنا فإنا بخير إذا لم ترم أبانا إذا أضمرتك البلاد نجفى و تقطع منا الرحم
قال فما قلت لها قال قلت أنشدتها بيت جرير
ثقي بالله ليس له شريك و من عند الخليفة بالنجاح
فقال ثق بالنجاح إن شاء الله تعالى ثم أمر لي بألف دينار و كسوة و ردني إلى البصرة
شرح نهج البلاغة ج : 18 ص : 697وَ صَدْرُ الْعَاقِلِ صُنْدُوقُ سِرِّهِ وَ الْبَشَاشَةُ حِبَالَةُ الْمَوَدَّةِ وَ الِاحْتِمَالُ قَبْرُ الْعُيُوبِ وَ رُوِيَ أَنَّهُ قَالَ فِي الْعِبَارَةِ عَنْ هَذَا الْمَعْنَى أَيْضاً الْمُسَالَمَةُ خَبْ ءُ الْعُيُوبِ

(19/93)


هذه فصول ثلاثة الفصل الأول قوله صدر العاقل صندوق سره قد ذكرنا فيما تقدم طرفا صالحا في كتمان السر. و كان يقال لا تنكح خاطب سرك. قال معاوية للنجار العذري ابغ لي محدثا قال معي يا أمير المؤمنين قال نعم أستريح منك إليه و منه إليك و أجعله كتوما فإن الرجل إذا اتخذ جليسا ألقى إليه عجره و بجره. و قال بعض الأعراب لا تضع سرك عند من لا سر له عندك. و قالوا إذا كان سر الملك عند اثنين دخلت على الملك الشبهة و اتسعت على الرجلين المعاذير فإن عاقبهما عند شياعه عاقب اثنين بذنب واحد و إن اتهمهما اتهم بريئا شرح نهج البلاغة ج : 18 ص : 98بجناية مجرم و إن عفا عنهما كان العفو عن أحدهما و لا ذنب له و عن الآخر و لا حجة عليه. الفصل الثاني قوله البشاشة حبالة المودة قد قلنا في البشر و البشاشة فيما سبق قولا مقنعا. و كان يقال البشر دال على السخاء من ممدوحك و على الود من صديقك دلالة النور على الثمر. و كان يقال ثلاث تبين لك الود في صدر أخيك تلقاه ببشرك و تبدؤه بالسلام و توسع له في المجلس. و قال الشاعر
لا تدخلنك ضجرة من سائل فلخير دهرك أن ترى مسئولالا تجبهن بالرد وجه مؤمل قد رام غيرك أن يرى مأمولاتلقى الكريم فتستدل ببشره و ترى العبوس على اللئيم دليلاو اعلم بأنك عن قليل صائر خبرا فكن خبرا يروق جميلا
و قال البحتري
لو أن كفك لم تجد لمؤمل لكفاه عاجل بشرك المتهلل و لو أن مجدك لم يكن متقادما أغناك آخر سؤدد عن أول أدركت ما فات الكهول من الحجا من عنفوان شبابك المستقبل فإذا أمرت فما يقال لك اتئد و إذا حكمت فما يقال لك اعدل

(19/94)


الفصل الثالث قوله الاحتمال قبر العيوب أي إذا احتملت صاحبك و حلمت شرح نهج البلاغة ج : 18 ص : 99عنه ستر هذا الخلق الحسن منك عيوبك كما يستر القبر الميت و هذا مثل قولهم في الجود كل عيب فالكرم يغطيه. فأما الخب ء فمصدر خبأته أخبؤه و المعنى في الروايتين واحد و قد ذكرنا في فضل الاحتمال و المسالمة فيما تقدم أشياء صالحة. و
من كلامه ع وجدت الاحتمال أنصر لي من الرجال
و من كلامه من سالم الناس سلم منهم و من حارب الناس حاربوه فإن العثرة للكاثر
و كان يقال العاقل خادم الأحمق أبدا إن كان فوقه لم يجد من مداراته و التقرب إليه بدا و إن كان دونه لم يجد من احتماله و استكفاف شره بدا. و أسمع رجل يزيد بن عمر بن هبيرة فأعرض عنه فقال الرجل إياك أعني قال و عنك أعرض. و قال الشاعر
إذا نطق السفيه فلا تجبه فخير من إجابته السكوت سكت عن السفيه فظن أني عييت عن الجواب و ما عييت
شرح نهج البلاغة ج : 18 ص : 7100مَنْ رَضِيَ عَنْ نَفْسِهِ كَثُرَ السَّاخِطُ عَلَيْهِ وَ الصَّدَقَةُ دَوَاءٌ مُنْجِحٌ وَ أَعْمَالُ الْعِبَادِ فِي عَاجِلِهِمْ نُصْبُ أَعْيُنِهِمْ فِي آجِلِهِمْ
هذه فصول ثلاثة الفصل الأول قوله من رضي عن نفسه كثر الساخط عليه قال بعض الفضلاء لرجل كان يرضى عن نفسه و يدعي التميز على الناس بالعلم عليك بقوم تروقهم بزبرجك و تروعهم بزخرفك فإنك لا تعدم عزا و لا تفقد غمرا لا يبلغ مسبارهما غورك و لا تستغرق أقدارهما طورك. و قال الشاعر
أرى كل إنسان يرى عيب غيره و يعمى عن العيب الذي هو فيه و ما خير من تخفى عليه عيوبه و يبدو له العيب الذي بأخيه

(19/95)


و قال بعضهم دخلت على ابن منارة و بين يديه كتاب قد صنفه فقلت ما هذا قال كتاب عملته مدخلا إلى التوراة فقلت إن الناس ينكرون هذا فلو قطعت الوقت بغيره قال الناس جهال قلت و أنت ضدهم قال نعم قلت شرح نهج البلاغة ج : 18 ص : 101فينبغي أن يكون ضدهم جاهلا عندهم قال كذاك هو قلت فقد بقيت أنت جاهلا بإجماع الناس و الناس جهال بقولك وحدك و مثل هذا المعنى قول الشاعر
إذا كنت تقضي أن عقلك كامل و أن بني حواء غيرك جاهل و أن مفيض العلم صدرك كله فمن ذا الذي يدري بأنك عاقل
الفصل الثاني الصدقة دواء منجح قد جاء في الصدقة فضل كثير و ذكرنا بعض ذلك فيما تقدم و
في الحديث المرفوع تاجروا الله بالصدقة تربحوا
و قيل الصدقة صداق الجنة. و قيل للشبلي ما يجب في مائتي درهم فقال أما من جهة الشرع فخمسة دراهم و أما من جهة الإخلاص فالكل. و
روى أبو هريرة عن النبي ص أنه سئل فقيل أي الصدقة أفضل فقال أن تعطي و أنت صحيح شحيح تأمل البقاء و تخشى الفقر و لا تمهل حتى إذا بلغت الحلقوم قلت لفلان كذا و لفلان كذا
و مثل قوله ع الصدقة دواء منجح
قول النبي ص داووا مرضاكم بالصدقة
الفصل الثالث قوله أعمال العباد في عاجلهم نصب أعينهم في آجلهم هذا من قوله تعالى يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً وَ ما عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ شرح نهج البلاغة ج : 18 ص : 102لَوْ أَنَّ بَيْنَها وَ بَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً و قال تعالى فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَ مَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ. و من كلام بعضهم إنما تقدم على ما قدمت و لست تقدم على ما تركت فآثر ما تلقاه غدا على ما لا تراه أبدا. و من حكمة أفلاطون اكتم حسن صنيعك عن أعين البشر فإن له ممن بيده ملكوت السماء أعينا ترمقه فتجازي عليه

(19/96)


شرح نهج البلاغة ج : 18 ص : 8103اعْجَبُوا لِهَذَا الْإِنْسَانِ يَنْظُرُ بِشَحْمٍ وَ يَتَكَلَّمُ بِلَحْمٍ وَ يَسْمَعُ بِعَظْمٍ وَ يَتَنَفَّسُ مِنْ خَرْمٍ
هذا كلام محمول بعضه على ظاهره لما تدعو إليه الضرورة من مخاطبة العامة بما يفهمونه و العدول عما لا تقبله عقولهم و لا تعيه قلوبهم. أما الإبصار فقد اختلف فيه فقيل إنه بخروج شعاع من العين يتصل بالمرئي و قيل إن القوة المبصرة التي في العين تلاقي بذاتها المرئيات فتبصرها و قال قوم بل بتكيف الهواء بالشعاع البصري من غير خروج فيصير الهواء باعتبار تكيفه بالشعاع به آلة العين في الإدراك. و قال المحققون من الحكماء إن الإدراك البصري هو بانطباع أشباح المرئيات في الرطوبة الجلدية من العين عند توسط الهواء الشفاف المضي ء كما تنطبع الصورة في المرآة قالوا و لو كانت المرآة ذات قوة مبصرة لأدركت الصور المنطبعة فيها و على جميع الأقوال فلا بد من إثبات القوة المبصرة في الرطوبة الجلدية و إلى الرطوبة الجلدية وقعت إشارته ع بقوله ينظر بشحم. و أما الكلام فمحله اللسان عند قوم و قال قوم ليس اللسان آلة ضرورية في الكلام لأن من يقطع لسانه من أصله يتكلم و أما إذا قطع رأسه لم يتكلم قالوا و إنما الكلام شرح نهج البلاغة ج : 18 ص : 104باللهوات و على كلا القولين فلا بد أن تكون آلة الكلام لحما و إليه وقعت إشارة أمير المؤمنين ع و ليس هذه البنية المخصوصة شرطا في الكلام على الإطلاق لجواز وجوده في الشجر و الجماد عند أصحابنا و إنما هي شرط في كلام الإنسان و لذا قال أمير المؤمنين اعجبوا لهذا الإنسان. فأما السمع للصوت فليس بعظم عند التحقيق و إنما هو بالقوة المودعة في العصب المفروش في الصماخ كالغشاء فإذا حمل الهواء الصوت و دخل في ثقب الأذن المنتهي إلى الصماخ بعد تعويجات فيه جعلت لتجري مجرى اليراعة المصوتة و أفضى ذلك الصوت إلى ذلك العصب الحامل للقوة السامعة حصل الإدراك و بالجملة

(19/97)


فلا بد من عظم لأن الحامل اللحم و العصب إنما هو العظم. و أما التنفس فلا ريب أنه من خرم لأنه من الأنف و إن كان قد يمكن لو سد الأنف أن يتنفس الإنسان من الفم و هو خرم أيضا و الحاجة إلى التنفس إخراج الهواء الحار عن القلب و إدخال النسيم البارد إليه فجعلت الرئة كالمروحة تنبسط و تنقبض فيدخل الهواء بها و يخرج من قصبتها النافذة إلى المنخرين
شرح نهج البلاغة ج : 18 ص : 9105إِذَا أَقْبَلَتِ الدُّنْيَا عَلَى قَوْمٍ أَعَارَتْهُمْ مَحَاسِنَ غَيْرِهِمْ وَ إِذَا أَدْبَرَتْ عَنْهُمْ سَلَبَتْهُمْ مَحَاسِنَ أَنْفُسِهِمْ

(19/98)


كان الرشيد أيام كان حسن الرأي في جعفر بن يحيى يحلف بالله أن جعفرا أفصح من قس بن ساعدة و أشجع من عامر بن الطفيل و أكتب من عبد الحميد بن يحيى و أسوس من عمر بن الخطاب و أحسن من مصعب بن الزبير و كان جعفر ليس بحسن الصورة و كان طويل الوجه جدا و أنصح له من الحجاج لعبد الملك و أسمح من عبد الله بن جعفر و أعف من يوسف بن يعقوب فلما تغير رأيه فيه أنكر محاسنه الحقيقية التي لا يختلف اثنان أنها فيه نحو كياسته و سماحته و لم يكن أحد يجسر أن يرد على جعفر قولا و لا رأيا فيقال إن أول ما ظهر من تغير الرشيد له أنه كلم الفضل بن الربيع بشي ء فرده عليه الفضل و لم تجر عادته من قبل أن يفتح فاه في وجهه فأنكر سليمان بن أبي جعفر ذلك على الفضل فغضب الرشيد لإنكار سليمان و قال ما دخولك بين أخي و مولاي كالراضي بما كان من الفضل ثم تكلم جعفر بشي ء قاله للفضل فقال الفضل اشهد عليه يا أمير المؤمنين فقال جعفر فض الله فاك يا جاهل إذا كان أمير المؤمنين الشاهد فمن الحاكم المشهود عنده فضحك الرشيد و قال يا فضل لا تمار جعفرا فإنك لا تقع منه موقعا. شرح نهج البلاغة ج : 18 ص : 106و اعلم أنا قد وجدنا تصديق ما قاله ع في العلوم و الفضائل و الخصائص النفسانية دع حديث الدنيا و السلطان و الرئاسة فإن المحظوظ من علم أو من فضيلة تضاف إليه شوارد تلك الفضيلة و شوارد ذلك الفن مثاله حظ علي ع من الشجاعة و من الأمثال الحكمية قل أن ترى مثلا شاردا أو كلمة حكمية إلا و تضيفها الناس إليه و كذلك ما يدعي العامة له من الشجاعة و قتل الأبطال حتى يقال إنه حمل على سبعين ألفا فهزمهم و قتل الجن في البئر و فتل الطوق الحديد في عنق خالد بن الوليد و كذلك حظ عنترة بن شداد في الشجاعة يذكر له من الأخبار ما لم يكن و كذلك ما اشتهر به أبو نواس في وصف الخمر يضاف إليه من الشعر في هذا الفن ما لم يكن قاله و كذلك جود حاتم و عبد الله بن جعفر و نحو ذلك و بالعكس من لا

(19/99)


حظ له ينفى عنه ما هو حقيقة له فقد رأينا كثيرا من الشعر الجيد ينفى عن قائله استحقارا له لأنه خامل الذكر و ينسب إلى غيره بل رأينا كتبا مصنفة في فنون من العلوم خمل ذكر مصنفيها و نسبت إلى غيرهم من ذوي النباهة و الصيت و كل ذلك منسوب إلى الجد و الإقبال
شرح نهج البلاغة ج : 18 ص : 10107خَالِطُوا النَّاسَ مُخَالَطَةً إِنْ مِتُّمْ مَعَهَا بَكَوْا عَلَيْكُمْ وَ إِنْ عِشْتُمْ حَنُّوا إِلَيْكُمْ
و قد روي خنوا بالخاء المعجمة من الخنين و هو صوت يخرج من الأنف عند البكاء و إلى تتعلق بمحذوف أي حنوا شوقا إليكم. و قد ورد في الأمر بإحسان العشرة مع الناس الكثير الواسع و قد ذكرنا طرفا من ذلك فيما تقدم. و
في الخبر المرفوع إذا وسعتم الناس ببسط الوجوه و حسن الخلق و حسن الجوار فكأنما وسعتموهم بالمال
و قال أبو الدرداء إنا لنهش في وجوه أقوام و إن قلوبنا لتقليهم. و قال محمد بن الفضل الهاشمي لأبيه لم تجلس إلى فلان و قد عرفت عداوته قال أخبئ نارا و أقدح عن ود. و قال المهاجر بن عبد الله
و إني لأقصى المرء من غير بغضة و أدنى أخا البغضاء مني على عمدليحدث ودا بعد بغضاء أو أرى له مصرعا يردي به الله من يردي
و قال عقال بن شبة التميمي كنت ردف أبي فلقيه جرير بن الخطفى على بغلة شرح نهج البلاغة ج : 18 ص : 108فحياه أبي و ألطفه فلما مضى قلت له أ بعد أن قال لنا ما قال قال يا بني أ فأوسع جرحي. و
قال محمد بن الحنفية ع قد يدفع باحتمال المكروه ما هو أعظم منه
و قال الحسن ع حسن السؤال نصف العلم و مداراة الناس نصف العقل و القصد في المعيشة نصف المئونة
و مدح ابن شهاب شاعرا فأعطاه و قال إن من ابتغاء الخير اتقاء الشر. و قال الشاعر
و أنزلني طول النوى دار غربة متى شئت لاقيت أمرا لا أشاكله أخا ثقة حتى يقال سجية و لو كان ذا عقل لكنت أعاقله

(19/100)


و في الحديث المرفوع للمسلم على المسلم ست يسلم عليه إذا لقيه و يجيبه إذا دعاه و يشمته إذا عطس و يعوده إذا مرض و يحب له ما يحب لنفسه و يشيع جنازته إذا مات
ووقف ص على عجوز فجعل يسألها و يتحفاها و قال إن حسن العهد من الإيمان إنها كانت تأتينا أيام خديجة
شرح نهج البلاغة ج : 18 ص : 11109إِذَا قَدَرْتَ عَلَى عَدُوِّكَ فَاجْعَلِ الْعَفْوَ عَنْهُ شُكْراً لِلْقُدْرَةِ عَلَيْهِ
قد أخذت أنا هذا المعنى فقلت في قطعة لي
إن الأماني أكساب الجهول فلا تقنع بها و اركب الأهوال و الخطراو اجعل من العقل جهلا و اطرح نظرا في الموبقات و لا تستشعر الحذراو إن قدرت على الأعداء منتصرا فاشكر بعفوك عن أعدائك الظفرا

(19/101)


و قد تقدم لنا كلام طويل في الحلم و الصفح و العفو. و نحن نذكر هاهنا زيادة على ذلك شجر بين أبي مسلم و بين صاحب مرو كلام أربى فيه صاحب مرو عليه و أغلظ له في القول فاحتمله أبو مسلم و ندم صاحب مرو و قام بين يدي أبي مسلم معتذرا و كان قال له في جملة ما قال يا لقيط فقال أبو مسلم مه لسان سبق و وهم أخطأ و الغضب شيطان و أنا جرأتك علي باحتمالك قديما فإن كنت للذنب معتذرا فقد شاركتك فيه و إن كنت مغلوبا فالعفو يسعك فقال صاحب مرو أيها الأمير إن عظم ذنبي يمنعني من الهدوء فقال أبو مسلم يا عجبا أقابلك بإحسان و أنت مسي ء ثم أقابلك بإساءة و أنت محسن فقال الآن وثقت بعفوك. و أذنب بعض كتاب المأمون ذنبا و تقدم إليه ليحتج لنفسه فقال يا هذا قف شرح نهج البلاغة ج : 18 ص : 110مكانك فإنما هو عذر أو يمين فقد وهبتهما لك و قد تكرر منك ذلك فلا تزال تسي ء و نحسن و تذنب و نغفر حتى يكون العفو هو الذي يصلحك. و كان يقال أحسن أفعال القادر العفو و أقبحها الانتقام. و كان يقال ظفر الكريم عفو و عفو اللئيم عقوبة. و كان يقال رب ذنب مقدار العقوبة عليه إعلام المذنب به و لا يجاوز به حد الارتفاع إلى الإيقاع. و كان يقال ما عفا عن الذنب من قرع به. و من الحلم الذي يتضمن كبرا مستحسنا ما روي أن مصعب بن الزبير لما ولي العراق عرض الناس ليدفع إليهم أرزاقهم فنادى مناديه أين عمرو بن جرموز فقيل له أيها الأمير إنه أبعد في الأرض قال أ و ظن الأحمق أني أقتله بأبي عبد الله قولوا له فليظهر آمنا و ليأخذ عطاءه مسلما. و أكثر رجل من سب الأحنف و هو لا يجيبه فقال الرجل ويلي عليه و الله ما منعه من جوابي إلا هواني عنده. و قال لقيط بن زرارة
فقل لبني سعد و ما لي و ما لكم ترقون مني ما استطعتم و أعتق أ غركم أني بأحسن شيمة بصير و أني بالفواحش أخرق و أنك قد ساببتني فقهرتني هنيئا مريئا أنت بالفحش أحذق

(19/102)


و قال المأمون لإبراهيم بن المهدي لما ظفر به إني قد شاورت في أمرك فأشير علي بقتلك إلا أني وجدت قدرك فوق ذنبك فكرهت قتلك للازم حرمتك فقال إبراهيم يا أمير المؤمنين إن المشير أشار بما تقتضيه السياسة و توجيه العادة إلا أنك أبيت أن شرح نهج البلاغة ج : 18 ص : 111تطلب النصر إلا من حيث عودته من العفو فإن قتلت فلك نظراء و إن عفوت فلا نظير لك قال قد عفوت فاذهب آمنا. ضل الأعشى في طريقه فأصبح بأبيات علقمة بن علاثة فقال قائده و قد نظر إلى قباب الأدم وا سوء صباحاه يا أبا بصير هذه و الله أبيات علقمة فخرج فتيان الحي فقبضوا على الأعشى فأتوا به علقمة فمثل بين يديه فقال الحمد لله الذي أظفرني بك من غير ذمة و لا عقد قال الأعشى أ و تدري لم ذلك جعلت فداك قال نعم لانتقم اليوم منك بتقوالك علي الباطل مع إحساني إليك قال لا و الله و لكن أظفرك الله بي ليبلو قدر حلمك في فأطرق علقمة فاندفع الأعشى فقال
أ علقم قد صيرتني الأمور إليك و ما كان بي منكص كساكم علاثة أثوابه و ورثكم حلمه الأحوص فهب لي نفسي فدتك النفوس فلا زلت تنمي و لا تنقص
فقال قد فعلت أما و الله لو قلت في بعض ما قلته في عامر بن عمر لأغنيتك طول حياتك و لو قلت في عامر بعض ما قلته في ما أذاقك برد الحياة. قال معاوية لخالد بن معمر السدوسي على ما ذا أحببت عليا قال على ثلاث حلمه إذا غضب و صدقه إذا قال و وفاؤه إذا وعد
شرح نهج البلاغة ج : 18 ص : 12112أَعْجَزُ النَّاسِ مَنْ عَجَزَ عَنِ اكْتِسَابِ الْإِخْوَانِ وَ أَعْجَزُ مِنْهُ مَنْ ضَيَّعَ مَنْ ظَفِرَ بِهِ مِنْهُمْ
قد ذكرنا قطعة صالحة من الإخوانيات فيما تقدم و
في الحديث المرفوع أن النبي ص بكى لما قتل جعفر بمؤتة و قال المرء كثير بأخيه
و قال جعفر بن محمد ع لكل شي ء حلية و حلية الرجل أوداؤه
و أنشد ابن الأعرابي
لعمرك ما مال الفتى بذخيرة و لكن إخوان الصفاء الذخائر

(19/103)


و كان أبو أيوب السختياني يقول إذا بلغني موت أخ كان لي فكأنما سقط عضو مني. و كان يقال الإخوان ثلاث طبقات طبقة كالغذاء لا يستغني عنه و طبقة كالدواء يحتاج إليه عند المرض و طبقة كالداء لا يحتاج إليه أبدا. و كان يقال صاحبك كرقعة في قميصك فانظر بما ترقع قميصك. شرح نهج البلاغة ج : 18 ص : 113و كان يونس بن عبيد يقول اثنان ما في الأرض أقل منهما و لا يزدادان إلا قلة درهم يوضع في حق و أخ يسكن إليه في الله. و قال الشاعر
أخاك أخاك إن من لا أخا له كساع إلى الهيجا بغير سلاح و إن ابن عم المرء فاعلم جناحه و هل ينهض البازي بغير جناح
و قال آخر
و لن تنفك تحسد أو تعادى فأكثر ما استطعت من الصديق و بغضك للتقي أقل ضرا و أسلم من مودة ذي الفسوق
و أوصى بعضهم ابنه فقال يا بني إذا نازعتك نفسك إلى مصاحبة الرجال فاصحب من إذا صحبته زانك و إذا خدمته صانك و إذا عرضت لك مؤنة أعانك و إن قلت صدق قولك و إن صلت شد صولك و إن مددت يدك لأمر مدها و إن بدت لك عورة سدها و إن رأى منك حسنة عدها و إن سألته أعطاك و إن سكت ابتدأك و إن نزلت بك ملمة واساك من لا تأتيك منه البوائق و لا تحتار عليك منه الطرائق و لا يخذلك عند الحقائق. و
من الشعر المنسوب إلى علي ع
إن أخاك الحق من كان معك و من يضر نفسه لينفعك و من إذا ريب الزمان صدعك شتت فيك شمله ليجمعك
شرح نهج البلاغة ج : 18 ص : 114و من الشعر المنسوب إليه ع أيضا
أخوك الذي إن أجرضتك ملمة من الدهر لم يبرح لها الدهر واجماو ليس أخوك بالذي إن تشعبت عليك أمور ظل يلحاك لائما

(19/104)


. و قال بعض الحكماء ينبغي للإنسان أن يوكل بنفسه كالئين أحدهما يكلؤه من أمامه و الآخر يكلؤه من ورائه و هما عقله الصحيح و أخوه النصيح فإن عقله و إن صح فلن يبصره من عيبه إلا بمقدار ما يرى الرجل من وجهه في المرآة و يخفى عليه ما خلفه و أما أخوه النصيح فيبصره ما خلفه و ما أمامه أيضا. و كتب ظريف إلى صديق له أني غير محمود على الانقياد إليك لأني صادقتك من جوهر نفسي و النفس يتبع بعضها بعضا. و
في الحديث المرفوع إذا أحب أحدكم أخاه فليعلمه
و قال الأحنف خير الإخوان من إذا استغنيت عنه لم يزدك ودا و إن احتجت إليه لم ينقصك. و قال أعشى باهلة يرثي المنتشر بن وهب
إما سلكت سبيلا كنت سالكها فاذهب فلا يبعدنك الله منتشرمن ليس في خيره شر ينكده على الصديق و لا في صفوه كدر
و قال آخر يرثي صديقا له
أخ طالما سرني ذكره و أصبحت أشجى لدى ذكره و قد كنت أغدو إلى قصره فأصبحت أغدو إلى قبره و كنت أراني غنيا به عن الناس لو مد في عمره إذا جئته طالبا حاجة فأمري يجوز على أمره
رأى بعض الحكماء مصطحبين لا يفترقان فسأل عنهما فقيل صديقان قال فما بال أحدهما غنيا و الآخر فقيرا
شرح نهج البلاغة ج : 18 ص : 13115وَ قَالَ ع فِي الَّذِينَ اعْتَزَلُوا الْقِتَالَ مَعَهُ خَذَلُوا الْحَقَّ وَ لَمْ يَنْصُرُوا الْبَاطِلَ

(19/105)


قد سبق ذكر هؤلاء فيما تقدم و هم عبد الله بن عمر بن الخطاب و سعد بن أبي وقاص و سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل و أسامة بن زيد و محمد بن مسلمة و أنس بن مالك و جماعة غيرهم. و قد ذكر شيخنا أبو الحسين في الغرر أن أمير المؤمنين ع لما دعاهم إلى القتال معه و اعتذروا بما اعتذروا به قال لهم أ تنكرون هذه البيعة قالوا لا لكنا لا نقاتل فقال إذا بايعتم فقد قاتلتم قال فسلموا بذلك من الذم لأن إمامهم رضي عنهم. و معنى قوله خذلوا الحق و لم ينصروا الباطل أي خذلوني و لم يحاربوا معي معاوية و بعض أصحابنا البغداديين يتوقف في هؤلاء و إلى هذا القول يميل شيخنا أبو جعفر الإسكافي
شرح نهج البلاغة ج : 18 ص : 14116إِذَا وَصَلَتْ إِلَيْكُمْ أَطْرَافُ النِّعَمِ فَلَا تُنَفِّرُوا أَقْصَاهَا بِقِلَّةِ الشُّكْرِ
قد سبق القول في الشكر و نحن نذكر هاهنا زيادة على ذلك. قال بعضهم ما شيبتني السنون بل شكري من أحتاج أن أشكره. و قالوا العفاف زينة الفقر و الشكر زينة الغنى. و قالوا من سعادة المرء أن يضع معروفه عند من يشكره. و من جيد ما قيل في الشكر قول أبي نواس
قد قلت للعباس معتذرا من ضعف شكريه و معترفاأنت امرؤ حملتني نعما أوهت قوى شكري فقد ضعفافإليك مني اليوم معذرة جاءتك بالتصريح منكشفالا تسدين إلى عارفة حتى أقوم بشكر ما سلفا
و قال البحتري
فإن أنا لم أشكر لنعماك جاهدا فلا نلت نعمى بعدها توجب الشكرا
شرح نهج البلاغة ج : 18 ص : 117و قال أيضا
سأجهد في شكري لنعماك إنني أرى الكفر للنعماء ضربا من الكفر
و قال ابن أبي طاهر
شكرت عليا بره و بلاءه فقصر بي شكري و إني لجاهدو ما أنا من شكري عليا 1بواحد و لكنه في الفضل و الجود واحد
و قال أبو الفتح البستي
لا تظنن بي و برك حي أن شكري و شكر غيري موات أنا أرض و راحتاك سحاب و الأيادي وبل و شكري نبات
و قال أيضا
و خر لما أوليت شكري ساجدا و مثل الذي أوليت يعبده الشكر
البحتري

(19/106)


أراك بعين المكتسي ورق الغنى بآلائك اللاتي يعددها الشكرو يعجبني فقري إليك و لم يكن ليعجبني لو لا محبتك الفقر
آخر
بدأت بمعروف و ثنيت بالرضا و ثلثت بالحسنى و ربعت بالكرم و باشرت أمري و اعتنيت بحاجتي و أخرت لا عني و قدمت لي نعم و صدقت لي ظني و أنجزت موعدي و طبت به نفسا و لم تتبع الندم فإن نحن كافأنا بشكر فواجب و إن نحن قصرنا فما الود متهم
شرح نهج البلاغة ج : 18 ص : 15118مَنْ ضَيَّعَهُ الْأَقْرَبُ أُتِيحَ لَهُ الْأَبْعَدُ
إن الإنسان قد ينصره من لا يرجو نصره و إن أهمله أقربوه و خذلوه فقد تقوم به الأجانب من الناس و قد وجدنا ذلك في حق رسول الله ص ضيعه أهله و رهطه من قريش و خذلوه و تمالئوا عليه فقام بنصره الأوس و الخزرج و هم أبعد الناس نسبا منه لأنه من عدنان و هم من قحطان و كل واحد من الفريقين لا يحب الآخر حتى تحب الأرض الدم و قامت ربيعة بنصر علي ع في صفين و هم أعداء مضر الذين هم أهله و رهطه و قامت اليمن بنصر معاوية في صفين و هم أعداء مضر و قامت الخراسانية و هم عجم بنصر الدولة العباسية و هي دولة العرب و إذا تأملت السير وجدت هذا كثيرا شائعا
شرح نهج البلاغة ج : 18 ص : 16119مَا كُلُّ مَفْتُونٍ يُعَاتَبُ هذه الكلمة قالها علي ع لسعد بن أبي وقاص و محمد بن مسلمة و عبد الله بن عمر لما امتنعوا من الخروج معه لحرب أصحاب الجمل و نظيرها أو قريب منها قول أبي الطيب
فما كل فعال يجازى بفعله و لا كل قوال لدي يجاب و رب كلام مر فوق مسامعي كما طن في لفح الهجير ذباب شرح نهج البلاغة ج : 18 ص : 17120تَذِلُّ الْأُمُورُ لِلْمَقَادِيرِ حَتَّى يَكُونَ الْحَتْفُ فِي التَّدْبِيرِ

(19/107)


إذا تأملت أحوال العالم وجدت صدق هذه الكلمة ظاهرا و لو شئنا أن نذكر الكثير من ذلك لذكرنا ما يحتاج في تقييده بالكتابة إلى مثل حجم كتابنا هذا و لكنا نذكر لمحا و نكتا و أطرافا و دررا من القول. فرش مروان بن محمد و قد لقي عبد الله بن علي أنطاعا و بسط عليها المال و قال من جاءني برأس فله مائة درهم فعجزت الحفظة و الحراس عن حمايته و اشتغلت طائفة من الجند بنهبه و تهافت الجيش عليه لينتهبوه فغشيهم عبد الله بن علي بعساكره فقتل منهم ما لا يحصى و هزم الباقون. و كسر إبراهيم بن عبد الله بن الحسن بن الحسن جيش أبي جعفر المنصور بباخمرى و أمر أصحابه باتباعهم فحال بينهم و بين أصحاب أبي جعفر ماء ضحضاح فكره إبراهيم و جيشه خوض ذلك الماء و كان واسعا فأمر صاحب لوائه أن يتعرج باللواء على مسناة كانت على ذلك الماء يابسة فسلكها صاحب اللواء و هي تفضي بانعراج و انعكاس إلى الأرض اليبس فلما رأى عسكر أبي جعفر أن لواء القوم قد تراجع شرح نهج البلاغة ج : 18 ص : 121القهقرى ظنوهم منهزمين فعطفوا عليهم فقتلوا منهم مقتلة عظيمة و جاء سهم غرب فأصاب إبراهيم فقتله. و قد دبرت من قبل قريش في حماية العير بأن نفرت على الصعب و الذلول لتدفع رسول الله ص عن اللطيمة فكان هلاكها في تدبيرها. و كسرت الأنصار يوم أحد بأن أخرجت النبي ص عن المدينة ظنا منها أن الظفر و النصرة كانت بذلك و كان سبب عطبها و ظفر قريش بها و لو أقامت بين جدران المدينة لم تظفر قريش منها بشي ء. و دبر أبو مسلم الدولة الهاشمية و قام بها حتى كان حتفه في تدبيره. و كذلك جرى لأبي عبد الله المحتسب مع عبد الله المهدي بالمغرب. و دبر أبو القاسم بن المسلمة رئيس الرؤساء في إخراج البساسيري عن العراق حتى كان هلاكه على يده و كذلك أيضا انعكس عليه تدبيره في إزالة الدولة البويهية من الدولة السلجوقية ظنا منه أنه يدفع الشر بغير الشر فدفع الشر بما هو شر منه. و أمثال هذا و نظائره أكثر

(19/108)


من أن تحصى
شرح نهج البلاغة ج : 18 ص : 18122وَ سُئِلَ ع عَنْ قَوْلِ الرَّسُولِ ص غَيِّرُوا الشَّيْبَ وَ لَا تَشَبَّهُوا بِالْيَهُودِ فَقَالَ ع إِنَّمَا قَالَ ص ذَلِكَ وَ الدِّينُ قُلٌّ فَأَمَّا الآْنَ وَ قَدِ اتَّسَعَ نِطَاقُهُ وَ ضَرَبَ بِجِرَانِهِ فَامْرُؤٌ وَ مَا اخْتَارَ
اليهود لا تخضب و كان النبي ص أمر أصحابه بالخضاب ليكونوا في مرأى العين شبابا فيجبن المشركون عنهم حال الحرب فإن الشيخ مظنة الضعف. قال علي ع كان ذلك و الإسلام قل أي قليل و أما الآن و قد اتسع نطاقه و ضرب بجرانه فقد سقط ذلك الأمر و صار الخضاب مباحا غير مندوب. و النطاق ثوب تلبسه المرأة لبسة مخصوصة ليس بصدرة و لا سراويل و سميت أسماء بنت أبي بكر ذات النطاقين لأنها قطعت من ثوبها ذلك قطعة شدت بها سفرة لها حملها أبو بكر معه حين خرج من مكة مع النبي ص يوم الهجرة فقال النبي ص لقد أبدلها الله بها نطاقين في الجنة و كان نفر الشام ينادون عبد الله ابنها حين حصره الحجاج بمكة يشتمونه كما زعموا يا ابن ذات النطاقين فيضحك عبد الله منهم و قال لابن أبي عتيق أ لا تسمع يظنونه ذما ثم يقول شرح نهج البلاغة ج : 18 ص : 123
و تلك شكاة ظاهر عنك عارها
و استعار أمير المؤمنين ع هذه اللفظة لسعة رقعة الإسلام و كذلك استعار قوله و ضرب بجرانه أي أقام و ثبت و ذلك لأن البعير إذا ضرب بجرانه الأرض و جرانه مقدم عنقه فقد استناخ و برك. و امرؤ مبتدأ و إن كان نكرة كقولهم شر أهر ذا ناب لحصول الفائدة و الواو بمعنى مع و هي و ما بعدها الخبر و ما مصدرية أي امرؤ مع اختياره
نبذ مما قيل في الشيب و الخضاب

(19/109)


فأما القول في الخضاب فقد روى قوم أن رسول الله ص بدا شيب يسير في لحيته فغيره بالخضاب خضب بالحناء و الكتم و قال قوم لم يشب أصلا. و روي أن عائشة قالت ما كان الله ليشينه بالشيب فقيل أ و شين هو يا أم المؤمنين قالت كلكم يكرهه و أما أبو بكر فصح الخبر عنه بذلك و كذلك أمير المؤمنين و قيل إنه لم يخضب و قتل الحسين ع يوم الطف و هو مخضوب و
في الحديث المرفوع رواه عقبة بن عامر عليكم بالحناء فإنه خضاب الإسلام إنه يصفي البصر و يذهب بالصداع و يزيد في الباه و إياكم و السواد فإنه من سود سود الله وجهه يوم القيامة
و عنه ص عليكم بالخضاب فإنه أهيب لعدوكم و أعجب إلى نسائكم
شرح نهج البلاغة ج : 18 ص : 124و يقال في أبواب الكناية للمختضب هو يسود وجه النذير لأن النذير الشيب قيل في قوله تعالى وَ جاءَكُمُ النَّذِيرُ إنه الشيب. و كان عبد الرحمن بن الأسود أبيض الرأس و اللحية فأصبح ذات يوم و قد حمرهما و قال إن عائشة أرسلت إلى البارحة جاريتها فأقسمت علي لأغيرن و قالت إن أبا بكر كان يصبغ. و روى قيس بن أبي حازم قال كان أبو بكر يخرج إلينا و كان لحيته ضرام عرفج. و عن أبي عامر الأنصاري رأيت أبا بكر يغير بالحناء و الكتم و رأيت عمر لا يغير شيئا من شيبه و
قال إني سمعت رسول الله ص يقول من شاب شيبة في الإسلام كانت له نورا يوم القيامة
و لا أحب أن أغير نوري. و كان أنس بن مالك يخضب و ينشد
نسود أعلاها و تأبى أصولها و ليس إلى رد الشباب سبيل
و روي أن عبد المطلب وفد على سيف بن ذي يزن فقال له لو خضبت فلما عاد إلى مكة خضب فقالت له امرأته نثيلة أم العباس و ضرار ما أحسن هذا الخضاب لو دام فقال
فلو دام لي هذا الخضاب حمدته و كان بديلا من خليل قد انصرم تمتعت منه و الحياة قصيرة و لا بد من موت نثيلة أو هرم و موت جهيز عاجل لا شوى له أحب إلينا من مقالكم حكم
قال يعني إنه صار شيخا فصار حكما بين الناس من قوله

(19/110)


لا تغبط المرء أن يقال له أضحى فلان لسنه حكما
شرح نهج البلاغة ج : 18 ص : 125و قال أسماء بن خارجة لجاريته اخضبيني فقالت حتى متى أرقعك فقال
عيرتني خلقا أبليت جدته و هل رأيت جديدا لم يعد خلقا
و أما من يروى أن عليا ع ما خضب فيحتج بقوله و
قد قيل له لو غيرت شيبك يا أمير المؤمنين فقال الخضاب زينة و نحن في مصيبة
يعني برسول الله ص. و
سئل الحسن ع عن الخضاب فقال هو جزع قبيح
و قال محمود الوراق
يا خاضب الشيب الذي في كل ثالثة يعودإن الخضاب إذا مضى فكأنه شيب جديدفدع المشيب و ما يريد فلن تعود كما تريد
و قد روى قوم عن النبي ص كراهية الخضاب و أنه قال لو استقبلتم الشيب بالتواضع لكان خيرا لكم
قال الشاعر
و صبغت ما صبغ الزمان فلم يدم صبغي و دامت صبغة الأيام
و قال آخر
يا أيها الرجل المغير شيبه كيما تعد به من الشبان أقصر فلو سودت كل حمامة بيضاء ما عدت من الغربان
و يقولون في ديوان عرض الجيش ببغداد لمن يخضب إذا ذكروا حليته مستعار و هي كناية لطيفة و أنا أستحسن قول البحتري خضبت بالمقراض كناية عن قص الشعر الأبيض فجعل ذلك خضابه عوضا عن الصبغ و الأبيات هذه
لابس من شبيبة أم ناض و مليح من شيبة أم راض
شرح نهج البلاغة ج : 18 ص : 126و إذا ما امتعضت من ولع الشيب برأسي لم يثن ذاك امتعاضي ليس يرضى عن الزمان امرؤ فيه إلا عن غفلة أو تغاضي و البواقي من الليالي و إن خالفن شيئا شبيهة بالمواضي و أبت تركي الغديات و الآصال حتى خضبت بالمقراض و دواء المشيب كالبخص في عيني فقل فيه في العيون المراض طال حزني على الشباب و ما بيض من لون صبغه الفضفاض فهل الحادثات يا ابن عويف تاركاتي و لبس هذا البياض
شرح نهج البلاغة ج : 18 ص : 19127مَنْ جَرَى فِي عِنَان أَمَلِهِ عَثَرَ بِأَجلِهِ
قد تقدم لنا قول كثير في الأمل و نذكر هاهنا زيادة على ذلك.

(19/111)


قال الحسن ع لو رأيت الأجل و مسيره لنسيت الأمل و غروره و يقدر المقدرون و القضاء يضحك
و روى أبو سعيد الخدري أن أسامة بن زيد اشترى وليدة بمائة دينار إلى شهر فقال رسول الله ص أ لا تعجبون من أسامة يشتري إلى شهر إن أسامة لطويل الأمل
أبو عثمان النهدي قد بلغت نحوا من ثلاثين و مائة سنة فما من شي ء إلا قد عرفت فيه النقص إلا أملى فإنه كما كان. قال الشاعر
أراك تزيدك الأيام حرصا على الدنيا كأنك لا تموت فهل لك غاية إن صرت يوما إليها قلت حسبي قد رضيت
و قال آخر
من تمنى المنى فأغرق فيها مات من قبل أن ينال مناه ليس في مال من تتابع في اللذات فضل عن نفسه لسواه
شرح نهج البلاغة ج : 18 ص : 20128أَقِيلُوا ذَوِي الْمُرُوءَاتِ عَثَرَاتِهِمْ فَمَا يَعْثُرُ مِنْهُمْ عَاثِرٌ إِلَّا وَ يَدُهُ بِيَدِ اللَّهِ يَرْفَعُهُ
نبذ مما قيل في المروءة
قد رويت هذه الكلمة مرفوعة ذكر ذلك ابن قتيبة في عيون الأخبار و أحسن ما قيل في المروءة قولهم اللذة ترك المروءة و المروءة ترك اللذة. و
في الحديث أن رجلا قام إلى رسول الله ص فقال يا رسول الله أ لست أفضل قومي فقال إن كان لك عقل فلك فضل و إن كان لك خلق فلك مروءة و إن كان لك مال فلك حسب و إن كان لك تقى فلك دين
و سئل الحسن عن المروءة فقال
جاء في الحديث المرفوع أن الله تعالى يحب معالي الأمور و يكره سفسافها
و كان يقال من مروءة الرجل جلوسه بباب داره. و قال الحسن لا دين إلا بمروءة شرح نهج البلاغة ج : 18 ص : 129و قيل لابن هبيرة ما المروءة فقال إصلاح المال و الرزانة في المجلس و الغداء و العشاء بالفناء. و
جاء أيضا في الحديث المرفوع حسب الرجل ماله و كرمه دينه و مروءته خلقه

(19/112)


و كان يقال ليس من المروءة كثرة الالتفات في الطريق. و يقال سرعة المشي تذهب بمروءة الرجل. و قال معاوية لعمرو ما ألذ الأشياء قال مر فتيان قريش أن يقوموا فلما قاموا قال إسقاط المروءة. و كان عروة بن الزبير يقول لبنيه يا بني العبوا فإن المروءة لا تكون إلا بعد اللعب و قيل للأحنف ما المروءة قال العفة و الحرفة تعف عما حرم الله و تحترف فيما أحل الله. و قال محمد بن عمران التيمي لا أشد من المروءة و هي ألا تعمل في السر شيئا تستحيي منه في العلانية و سئل النظام عن المروءة فأنشد بيت زهير
الستر دون الفاحشات و لا يلقاك دون الخير من ستر

(19/113)


و قال عمر تعلموا العربية فإنها تزيد في المروءة و تعلموا النسب فرب رحم مجهولة قد وصلت به. و قال ميمون بن مهران أول المروءة طلاقة الوجه و الثاني التودد إلى الناس و الثالث قضاء الحوائج. و قال مسلمة بن عبد الملك مروءتان ظاهرتان الرياش و الفصاحة. و كان يقال تعرف مروءة الرجل بكثرة ديونه. و كان يقال العقل يأمرك بالأنفع و المروءة تأمرك بالأجمل. شرح نهج البلاغة ج : 18 ص : 130لام معاوية يزيد ابنه على سماع الغناء و حب القيان و قال له أسقطت مروءتك فقال يزيد أتكلم بلساني كلمة قال نعم و بلسان أبي سفيان بن حرب و هند بنت عتبة مع لسانك قال و الله لقد حدثني عمرو بن العاص و استشهد على ذلك ابنه عبد الله بصدقه أن أبا سفيان كان يخلع على المغني الفاضل و المضاعف من ثيابه و لقد حدثني أن جاريتي عبد الله بن جدعان غنتاه يوما فأطربتاه فجعل يخلع عليهما أثوابه ثوبا ثوبا حتى تجرد تجرد العير و لقد كان هو و عفان بن أبي العاص ربما حملا جارية العاص بن وائل على أعناقهما فمرا بها على الأبطح و جلة قريش ينظرون إليهما مرة على ظهر أبيك و مرة على ظهر عفان فما الذي تنكر مني فقال معاوية اسكت لحاك الله و الله ما أحد ألحق بأبيك هذا إلا ليغرك و يفضحك و إن كان أبو سفيان ما علمت لثقيل الحلم يقظان الرأي عازب الهوى طويل الأناة بعيد القعر و ما سودته قريش إلا لفضله
شرح نهج البلاغة ج : 18 ص : 21131قُرِنَتِ الْهَيْبَةُ بِالْخَيْبَةِ وَ الْحَيَاءُ بِالْحِرْمَانِ وَ الْفُرْصَةُ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ فَانْتَهِزُوا فُرَصَ الْخَيْرِ
في المثل من أقدم لم يندم و قال الشاعر
ليس للحاجات إلا من له وجه وقاح و لسان طرمذي و غدو و رواح فعليه السعي فيها و على الله النجاح

(19/114)


و كان يقال الفرصة ما إذا حاولته فأخطأك نفعه لم يصل إليك ضره. و من كلام ابن المقفع انتهز الفرصة في إحراز المآثر و اغتنم الإمكان باصطناع الخير و لا تنتظر ما تعامل فتجازى عنه بمثله فإنك إن عوملت بمكروه و اشتغلت برصد المكافأة عنه قصر العمر بك عن اكتساب فائدة و اقتناء منقبة و تصرمت أيامك بين تعد عليك و انتظار للظفر بإدراك الثأر من خصمك و لا عيشة في الحياة أكثر من ذلك. كانت العرب إذا أوفدت وافدا قالت له إياك و الهيبة فإنها خيبة و لا تبت عند ذنب الأمر و بت عند رأسه
شرح نهج البلاغة ج : 18 ص : 22132لَنَا حَقٌّ فَإِنْ أُعْطِيْنَاهُ وَ إِلَّا رَكِبْنَا أَعْجَازَ الْإِبِلِ وَ إِنْ طَالَ السُّرَى
قال الرضي رحمه الله تعالى و هذا القول من لطيف الكلام و فصيحه و معناه أنا إن لم نعط حقنا كنا أذلاء و ذلك أن الرديف يركب عجز البعير كالعبد و الأسير و من يجري مجراهما

(19/115)


هذا الفصل قد ذكره أبو عبيد الهروي في الجمع بين الغريبين و صورته أن لنا حقا إن نعطه نأخذه و إن نمنعه نركب أعجاز الإبل و إن طال السرى قال قد فسروه على وجهين أحدهما أن راكب عجز البعير يلحقه مشقة و ضرر فأراد أنا إذا منعنا حقنا صبرنا على المشقة و المضرة كما يصبر راكب عجز البعير و هذا التفسير قريب مما فسره الرضي و الوجه الثاني أن راكب عجز البعير إنما يكون إذا كان غيره قد ركب على ظهر البعير و راكب ظهر البعير متقدم على راكب عجز البعير فأراد أنا إذا منعنا حقنا تأخرنا و تقدم غيرنا علينا فكنا كالراكب رديفا لغيره و أكد المعنى على كلا التفسيرين بقوله و إن طال السرى لأنه إذا طال السرى كانت المشقة شرح نهج البلاغة ج : 18 ص : 133على راكب عجز البعير أعظم و كان الصبر على تأخر راكب عجز البعير عن الراكب على ظهره أشد و أصعب. و هذا الكلام تزعم الإمامية أنه قاله يوم السقيفة أو في تلك الأيام و يذهب أصحابنا إلى أنه قاله يوم الشورى بعد وفاة عمر و اجتماع الجماعة لاختيار واحد من الستة و أكثر أرباب السير ينقلونه على هذا الوجه
شرح نهج البلاغة ج : 18 ص : 23134مَنْ أَبْطَأَ بِهِ عَمَلُهُ لَمْ يُسْرِعْ بِهِ حَسَبُهُ
هذا الكلام حث و حض و تحريض على العبادة و قد تقدم أمثاله و سيأتي له نظائر كثيرة و هو مثل
قول النبي ص يا فاطمة بنت محمد إني لا أغني عنك من الله شيئا يا عباس بن عبد المطلب إني لا أغني عنك من الله شيئا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقاكُمْ
شرح نهج البلاغة ج : 18 ص : 24135مِنْ كَفَّارَاتِ الذُّنُوبِ الْعِظَامِ إِغَاثَةُ الْمَلْهُوفِ وَ التَّنْفِيسُ عَنِ الْمَكْرُوبِ

(19/116)


قد جاء في هذا المعنى آثار كثيرة و أخبار جميلة كان العتابي قد أملق فجاء فوقف بباب المأمون يسترزق الله على يديه فوافى يحيى بن أكثم فعرض له العتابي فقال له إن رأيت أيها القاضي أن تعلم أمير المؤمنين مكاني فافعل فقال لست بحاجب قال قد علمت و لكنك ذو فضل و ذو الفضل معوان فقال سلكت بي غير طريقي قال إن الله أتحفك منه بجاه و نعمة و هو مقبل عليك بالزيادة إن شكرت و بالتغيير إن كفرت و أنا لك اليوم خير منك لنفسك لأني أدعوك إلى ما فيه ازدياد نعمتك و أنت تأبى علي و لكل شي ء زكاة و زكاة الجاه رفد المستعين فدخل يحيى فأخبر المأمون به فأحضره و حادثه و لاطفه و وصله
شرح نهج البلاغة ج : 18 ص : 25136يَا ابْنَ آدَمَ إِذَا رَأَيْتَ رَبَّكَ سُبْحَانَهُ يُتَابِعُ عَلَيْكَ نِعَمَهُ وَ أَنْتَ تَعْصِيهِ فَاحْذَرْهُ
هذا الكلام تخويف و تحذير من الاستدراج قال سبحانه سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ و ذلك لأن العبد بغروره يعتقد أن موالاة النعم عليه و هو عاص من باب الرضا عنه و لا يعلم أنه استدراج له و نقمة عليه. فإن قلت كيف يصح القول بالاستدراج على أصولكم في العدل أ ليس معنى الاستدراج إيهام العبد أنه سبحانه غير ساخط فعله و معصيته فهل هذا الاستدراج إلا مفسدة و سبب إلى الإصرار على القبيح. قلت إذا كان المكلف عالما بقبح القبيح أو متمكنا من العلم بقبحه ثم رأى النعم تتوالى عليه و هو مصر على المعصية كان ترادف تلك النعم كالمنبه له على وجوب الحذر مثال ذلك من هو في خدمة ملك و هو عون ذلك الملك في دولته و يعلم أن الملك قد عرف حاله ثم يرى نعم الملك مترادفة إليه فإنه يجب بمقتضى الاحتياط أن يشتد حذره لأنه يقول ليست حالي مع الملك حال من يستحق هذه النعم و ما هذه إلا مكيدة و تحتها غائلة فيجب إذن عليه أن يحذر

(19/117)


شرح نهج البلاغة ج : 18 ص : 26137مَا أَضْمَرَ أَحَدٌ شَيْئاً إِلَّا ظَهَرَ فِي فَلَتَاتِ لِسَانِهِ وَ صَفَحَاتِ وَجْهِهِ
قال زهير بن أبي سلمى
و مهما تكن عند امرئ من خليقة و إن خالها تخفى على الناس تعلم
و قال آخر
تخبرني العينان ما القلب كاتم و ما جن بالبغضاء و النظر الشزر
و قال آخر
و في عينيك ترجمة أراها تدل على الضغائن و الحقودو أخلاق عهدت اللين فيها غدت و كأنها زبر الحديدو قد عاهدتني بخلاف هذا و قال الله أَوْفُوا بِالْعُقُودِ
و كان يقال العين و الوجه و اللسان أصحاب أخبار على القلب و قالوا القلوب كالمرايا المتقابلة إذا ارتسمت في إحداهن صورة ظهرت في الأخرى
شرح نهج البلاغة ج : 18 ص : 27138امْشِ بِدَائِكَ مَا مَشَى بِكَ
يقول مهما وجدت سبيلا إلى الصبر على أمر من الأمور التي قد دفعت إليها و فيها مشقة عليك و ضرر لاحق بك فاصبر و لا تلتمس طريقا إلى تغيير ما دفعت إليه أن تسلكها بالعنف و مراغمة الوقت و معاناة الأقضية و الأقدار و مثال ذلك من يعرض له مرض ما يمكنه أن يحتمله و يدافع الوقت فإنه يجب عليه ألا يطرح جانبه إلى الأرض و يخلد إلى النوم على الفراش ليعالج ذلك المرض قوة و قهرا فربما أفضى به مقاهرة ذلك المرض الصغير بالأدوية إلى أن يصير كبيرا معضلا
شرح نهج البلاغة ج : 18 ص : 28139أَفْضَلُ الزُّهْدِ إِخْفَاءُ الزُّهْدِ إنما كان كذلك لأن الجهر بالعبادة و الزهادة و الإعلان بذلك قل أن يسلم من مخالطة الرياء و قد تقدم لنا في الرياء أقوال مقنعة. رأى المنصور رجلا واقفا ببابه فقال مثل هذا الدرهم بين عينيك و أنت واقف ببابنا فقال الربيع نعم لأنه ضرب على غير السكة. شاعر
معشر أثبت الصلاة عليهم لجباه يشقها المحراب عمروا موضع التصنع منهم و مكان الإخلاص منهم خراب
شرح نهج البلاغة ج : 18 ص : 29140إِذَا كُنْتَ فِي إِدْبَارٍ وَ الْمَوْتُ فِي إِقْبَالٍ فَمَا أَسْرَعَ الْمُلْتَقَى

(19/118)


هذا ظاهر لأنه إذا كان كلما جاء ففي إدبار و الموت كلما جاء ففي إقبال فيا سرعان ما يلتقيان و ذلك لأن إدباره هو توجهه إلى الموت و إقبال الموت هو توجه الموت إلى نحوه فقد حق إذن الالتقاء سريعا و مثال ذلك سفينتان بدجلة أو غيرها تصعد إحداهما و الأخرى تنحدر نحوها فلا ريب إن الالتقاء يكون وشيكا
شرح نهج البلاغة ج : 18 ص : 30141الْحَذَرَ الْحَذَرَ فَوَاللَّهِ لَقَدْ سَتَرَ حَتَّى كَأَنَّهُ قَدْ غَفَرَ
قد تقدم هذا المعنى و هو الاستدراج الذي ذكرناه آنفا

(19/119)


شرح نهج البلاغة ج : 18 ص : 31142وَ سُئِلَ ع عَنِ الْإِيمَانِ فَقَالَ الْإِيمَانُ عَلَى أَرْبَعِ دَعَائِمَ عَلَى الصَّبْرِ وَ الْيَقِينِ وَ الْعَدْلِ وَ الْجِهَادِ وَ الصَّبْرُ مِنْهَا عَلَى أَرْبَعِ شُعَبٍ عَلَى الشَّوْقِ وَ الشَّفَقِ وَ الزُّهْدِ وَ التَّرَقُّبِ فَمَنِ اشْتَاقَ إِلَى الْجَنَّةِ سَلَا عَنِ الشَّهَوَاتِ وَ مَنْ أَشْفَقَ مِنَ النَّارِ اجْتَنَبَ الْمُحَرَّمَاتِ وَ مَنْ زَهِدَ فِي الدُّنْيَا اسْتَهَانَ بِالْمُصِيبَاتِ وَ مَنِ ارْتَقَبَ الْمَوْتَ سَارَعَ فِي الْخَيْرَاتِ وَ الْيَقِينُ مِنْهَا عَلَى أَرْبَعِ شُعَبٍ عَلَى تَبْصِرَةِ الْفِطْنَةِ وَ تَأَوُّلِ الْحِكْمَةِ وَ مَوْعِظَةِ الْعِبْرَةِ وَ سُنَّةِ الْأَوَّلِينَ فَمَنْ تَبَصَّرَ فِي الْفِطْنَةِ تَبَيَّنَتْ لَهُ الْحِكْمَةُ وَ مَنْ تَبَيَّنَتْ لَهُ الْحِكْمَةُ عَرَفَ الْعِبْرَةَ وَ مَنْ عَرَفَ الْعِبْرَةَ فَكَأَنَّمَا كَانَ فِي الْأَوَّلِينَ وَ الْعَدْلُ مِنْهَا عَلَى أَرْبَعِ شُعَبٍ عَلَى غَائِصِ الْفَهْمِ وَ غَوْرِ الْعِلْمِ وَ زُهْرَةِ الْحُكْمِ وَ رَسَاخَةِ الْحِلْمِ فَمَنْ فَهِمَ عَلِمَ غَوْرَ الْعِلْمِ وَ مَنْ عَلِمَ غَوْرَ الْعِلْمِ صَدَرَ عَنْ شَرَائِعِ الْحِلْمِ وَ مَنْ حَلُمَ لَمْ يُفَرِّطْ فِي أَمْرِهِ وَ عَاشَ فِي النَّاسِ حَمِيداً وَ الْجِهَادُ مِنْهَا عَلَى أَرْبَعِ شُعَبٍ عَلَى الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَ النَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ وَ الصِّدْقِ فِي الْمَوَاطِنِ وَ شَنَآنِ الْفَاسِقِينَ فَمَنْ أَمَرَ بِالْمَعْرُوفِ شَدَّ ظُهُورَ الْمُؤْمِنِينَ وَ مَنْ نَهَى عَنِ الْمُنْكَرِ أَرْغَمَ أُنُوفَ الْمُنَافِقِينَ وَ مَنْ صَدَقَ فِي الْمَوَاطِنِ قَضَى مَا عَلَيْهِ وَ مَنْ شَنِئَ الْفَاسِقِينَ وَ غَضِبَ لِلَّهِ غَضِبَ اللَّهُ لَهُ وَ أَرْضَاهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَ الْكُفْرُ عَلَى أَرْبَعِ دَعَائِمَ

(19/120)


عَلَى التَّعَمُّقِ وَ التَّنَازُعِ وَ الزَّيْغِ وَ الشِّقَاقِ فَمَنْ تَعَمَّقَ لَمْ يُنِبْ إِلَى الْحَقِّ وَ مَنْ كَثُرَ نِزَاعُهُ بِالْجَهْلِ دَامَ عَمَاهُ عَنِ الْحَقِّ شرح نهج البلاغة ج : 18 ص : 143وَ مَنْ زَاغَ سَاءَتْ عِنْدَهُ الْحَسَنَةُ وَ حَسُنَتْ عِنْدَهُ السَّيِّئَةُ وَ سَكِرَ سُكْرَ الضَّلَالَةِ وَ مَنْ شَاقَّ وَعُرَتْ عَلَيْهِ طُرُقُهُ وَ أَعْضَلَ عَلَيْهِ أَمْرُهُ وَ ضَاقَ عَلَيْهِ مَخْرَجُهُ وَ الشَّكُّ عَلَى أَرْبَعِ شُعَبٍ عَلَى التَّمَارِي وَ الْهَوْلِ وَ التَّرَدُّدِ وَ الِاسْتِسْلَامِ فَمَنْ جَعَلَ الْمِرَاءَ دَيْدَناً لَمْ يُصْبِحْ لَيْلُهُ وَ مَنْ هَالَهُ مَا بَيْنَ يَدَيْهِ نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ وَ مَنْ تَرَدَّدَ فِي الرَّيْبِ وَطِئَتْهُ سَنَابِكُ الشَّيَاطِينِ وَ مَنِ اسْتَسْلَمَ لِهَلَكَةِ الدُّنْيَا وَ الآْخِرَةِ هَلَكَ فِيهِمَا
قال الرضي رحمه الله تعالى و بعد هذا كلام تركنا ذكره خوف الإطالة و الخروج عن الغرض المقصود في هذا الكتاب
من هذا الفصل أخذت الصوفية و أصحاب الطريقة و الحقيقة كثيرا من فنونهم في علومهم و من تأمل كلام سهل بن عبد الله التستري و كلام الجنيد و السري و غيرهم رأى هذه الكلمات في فرش كلامهم تلوح كالكواكب الزاهرة و كل المقامات و الأحوال المذكورة في هذا الفصل قد تقدم قولنا فيها
نبذ و حكايات مما وقع بين يدي الملوك

(19/121)


و نذكر هاهنا الصدق في المواطن و بين يدي الملوك و من يغضب لله و ينهى عن المنكر و يقوم بالحق و لا يبالي بالسلطان و لا يراقبه. شرح نهج البلاغة ج : 18 ص : 144دخل عمر بن عبد العزيز على سليمان بن عبد الملك و عنده أيوب ابنه و هو يومئذ ولي عهده قد عقد له من بعده فجاء إنسان يطلب ميراثا من بعض نساء الخلفاء فقال سليمان ما إخال النساء يرثن في العقار شيئا فقال عمر بن عبد العزيز سبحان الله و أين كتاب الله فقال سليمان يا غلام اذهب فأتني بسجل عبد الملك الذي كتب في ذلك فقال له عمر لكأنك أرسلت إلى المصحف فقال أيوب بن سليمان و الله ليوشكن الرجل يتكلم بمثل هذا عند أمير المؤمنين فلا يشعر حتى يفارقه رأسه فقال عمر إذا أفضى الأمر إليك و إلى أمثالك كان ما يدخل على الإسلام أشد مما يخشى عليكم من هذا القول ثم قام فخرج. و روى إبراهيم بن هشام بن يحيى قال حدثني أبي عن جدي قال كان عمر بن عبد العزيز ينهى سليمان بن عبد الملك عن قتل الحرورية و يقول ضمنهم الحبوس حتى يحدثوا توبة فأتي سليمان بحروري مستقتل و عنده عمر بن عبد العزيز فقال سليمان للحروري ما ذا تقول قال ما أقول يا فاسق يا ابن الفاسق فقال سليمان لعمر ما ترى يا أبا حفص فسكت فقال أقسمت عليك لتخبرني ما ذا ترى عليه فقال أرى أن تشتمه كما شتمك و تشتم أباه كما شتم أباك فقال سليمان ليس إلا قال ليس إلا فلم يرجع سليمان إلى قوله و أمر بضرب عنق الحروري. و روى ابن قتيبة في كتاب عيون الأخبار قال بينما المنصور يطوف ليلا بالبيت سمع قائلا يقول اللهم إليك أشكو ظهور البغي و الفساد و ما يحول بين الحق و أهله من الطمع فخرج المنصور فجلس ناحية من المسجد و أرسل إلى الرجل يدعوه فصلى ركعتين و استلم الركن و أقبل على المنصور فسلم عليه بالخلافة فقال المنصور ما الذي سمعتك تقوله من ظهور البغي و الفساد في الأرض و ما يحول بين الحق شرح نهج البلاغة ج : 18 ص : 145و أهله من الطمع فو الله

(19/122)


لقد حشوت مسامعي ما أرمضني فقال يا أمير المؤمنين إن أمنتني على نفسي أنبأتك بالأمور من أصولها و إلا احتجزت منك و اقتصرت على نفسي فلي فيها شاغل قال أنت آمن على نفسك فقل فقال إن الذي دخله الطمع حتى حال بينه و بين إصلاح ما ظهر من البغي و الفساد لأنت قال ويحك و كيف يدخلني الطمع و الصفراء و البيضاء في قبضتي و الحلو و الحامض عندي قال و هل دخل أحد من الطمع ما دخلك إن الله عز و جل استرعاك المسلمين و أموالهم فأغفلت أمورهم و اهتممت بجمع أموالهم و جعلت بينك و بينهم حجبا من الجص و الآجر و أبوابا من الحديد و حجبة معهم السلاح ثم سجنت نفسك فيها منهم و بعثت عمالك في جباية الأموال و جمعها فقويتهم بالسلاح و الرجال و الكراع و أمرت بألا يدخل عليك إلا فلان و فلان نفر سميتهم و لم تأمر بإيصال المظلوم و الملهوف و لا الجائع و الفقير و لا الضعيف و العاري و لا أحد ممن له في هذا المال حق فما زال هؤلاء النفر الذين استخلصتهم لنفسك و آثرتهم على رعيتك و أمرت ألا يحجبوا عنك يجبون الأموال و يجمعونها و يحجبونها و قالوا هذا رجل قد خان الله فما لنا لا نخونه و قد سخرنا فائتمروا على ألا يصل إليك من أخبار الناس شي ء إلا ما أرادوا و لا يخرج لك عامل فيخالف أمرهم إلا بغضوه عندك و بغوه الغوائل حتى تسقط منزلته و يصغر قدره فلما انتشر ذلك عنك و عنهم أعظمهم الناس و هابوهم و كان أول من صانعهم عمالك بالهدايا و الأموال ليقووا بها على ظلم رعيتك ثم فعل ذلك ذوو القدرة و الثروة من رعيتك لينالوا به ظلم من دونهم فامتلأت بلاد الله بالطمع بغيا و فسادا و صار هؤلاء القوم شركاءك في سلطنتك و أنت غافل فإن جاء متظلم حيل بينه و بين دخول

(19/123)


شرح نهج البلاغة ج : 18 ص : 146دارك و إن أراد رفع قصته إليك عند ظهورك وجدك و قد نهيت عن ذلك و وقفت للناس رجلا ينظر في مظالمهم فإن جاء المتظلم إليه أرسلوا إلى صاحب المظالم ألا يرفع إليك قصته و لا يكشف لك حاله فيجيبهم خوفا منك فلا يزال المظلوم يختلف نحوه و يلوذ به و يستغيث إليه و هو يدفعه و يعتل عليه و إذا أجهد و أحرج و ظهرت أنت لبعض شأنك صرخ بين يديك فيضرب ضربا مبرحا ليكون نكالا لغيره و أنت تنظر و لا تنكر فما بقاء الإسلام على هذا. و لقد كنت أيام شبيبتي أسافر إلى الصين فقدمتها مرة و قد أصيب ملكها بسمعه فبكى بكاء شديدا فحداه جلساؤه على الصبر فقال أما إني لست أبكي للبلية النازلة و لكن أبكي للمظلوم بالباب يصرخ فلا أسمع صوته ثم قال أما إذ ذهب سمعي فإن بصري لم يذهب نادوا في الناس ألا يلبس ثوبا أحمر إلا مظلوم ثم كان يركب الفيل طرفي نهاره ينظر هل يرى مظلوما فهذا مشرك بالله غلبت رأفته بالمشركين على شح نفسه و أنت مؤمن بالله من أهل بيت نبيه لا تغلبك رأفتك بالمسلمين على شح نفسك فإن كنت إنما تجمع المال لولدك فقد أراك الله تعالى عبرا في الطفل يسقط من بطن أمه ما له على الأرض مال و ما من مال يومئذ إلا و دونه يد شحيحة تحويه فلا يزال الله يلطف بذلك الطفل حتى تعظم رغبة الناس إليه و لست بالذي تعطي و لكن الله يعطي من يشاء ما يشاء و إن قلت إنما أجمع المال لتشييد السلطان فقد أراك الله عبرا في بني أمية ما أغنى عنهم ما جمعوا من الذهب و الفضة و أعدوا من الرجال و السلاح و الكراع حين أراد الله بهم ما أراد و إن قلت أجمع المال لطلب غاية هي أجسم من الغاية التي أنا فيها فو الله ما فوق ما أنت فيه إلا منزلة لا تدرك إلا بخلاف ما أنت عليه انظر هل تعاقب من عصاك بأشد من القتل قال لا قال فإن الملك الذي خولك ما خولك شرح نهج البلاغة ج : 18 ص : 147لا يعاقب من عصاه بالقتل بالخلود في العذاب الأليم و قد رأى ما قد عقدت

(19/124)


عليه قلبك و عملته جوارحك و نظر إليه بصرك و اجترحته يداك و مشت إليه رجلاك و انظر هل يغني عنك ما شححت عليه من أمر الدنيا إذا انتزعه من يدك و دعاك إلى الحساب على ما منحك. فبكى المنصور و قال ليتني لم أخلق ويحك فكيف أحتال لنفسي قال إن للناس أعلاما يفزعون إليهم في دينهم و يرضون بقولهم فاجعلهم بطانتك يرشدوك و شاورهم في أمرك يسددوك قال قد بعثت إليهم فهربوا مني قال نعم خافوا أن تحملهم على طريقك و لكن افتح بابك و سهل حجابك و انظر المظلوم و اقمع الظالم و خذ الفي ء و الصدقات مما حل و طاب و اقسمه بالحق و العدل على أهله و أنا الضامن عنهم أن يأتوك و يسعدوك على صلاح الأمة. و جاء المؤذنون فسلموا عليه و نادوا بالصلاة فقام و صلى و عاد إلى مجلسه فطلب الرجل فلم يوجد. و روى ابن قتيبة أيضا في الكتاب المذكور أن عمرو بن عبيد قال للمنصور إن الله أعطاك الدنيا بأسرها فاشتر نفسك منه ببعضها و اذكر ليلة تتمخض لك صبيحتها عن يوم القيامة قال يعني ليلة موته فوجم المنصور فقال الربيع حسبك فقد عممت أمير المؤمنين فقال عمرو بن عبيد إن هذا صحبك عشرين سنة لم ير عليه أن ينصحك يوما واحدا و لم يعمل وراء بابك بشي ء مما في كتاب الله و لا في سنة نبيه قال أبو جعفر فما أصنع قد قلت لك خاتمي في يدك فهلم أنت و أصحابك فاكفني فقال عمرو دعنا بعدلك نسخ بأنفسنا بعونك و ببابك مظالم كثيرة فارددها نعلم أنك صادق.

(19/125)


شرح نهج البلاغة ج : 18 ص : 148و قال ابن قتيبة في الكتاب المذكور و قد قام أعرابي بين يدي سليمان بن عبد الملك بنحو هذا قال له إني مكلمك يا أمير المؤمنين بكلام فيه بعض الغلظة فاحتمله إن كرهته فإن وراءه ما تحب قال قل قال إني سأطلق لساني بما خرست عنه الألسن من عظتك تأدية لحق الله إنك قد تكنفك رجال أساءوا الاختيار لأنفسهم فابتاعوا دنياهم بدينهم فهم حرب الآخرة سلم الدنيا فلا تأمنهم على ما ائتمنك الله عليه فإنهم لم يألوا الأمانة تضييعا و الأمة خسفا و أنت مسئول عما اجترحوا و ليسوا مسئولين عما اجترحت فلا تصلح دنياهم بفساد آخرتك فإن أعظم الناس غبنا من باع آخرته بدنيا غيره قال فقال سليمان أما أنت يا أعرابي فإنك قد سللت علينا عاجلا لسانك و هو أقطع سيفيك فقال أجل لقد سللته و لكن لك لا عليك
شرح نهج البلاغة ج : 18 ص : 32149فَاعِلُ الْخَيْرِ خَيْرٌ مِنْهُ وَ فَاعِلُ الشَّرِّ شَرٌّ مِنْهُ
قد نظمت أنا هذا اللفظ و المعنى فقلت في جملة أبيات لي
خير البضائع للإنسان مكرمة تنمي و تزكو إذا بارت بضائعه فالخير خير و خير منه فاعله و الشر شر و شر منه صانعه
فإن قلت كيف يكون فاعل الخير خيرا من الخير و فاعل الشر شرا من الشر مع أن فاعل الخير إنما كان ممدوحا لأجل الخير و فاعل الشر إنما كان مذموما لأجل الشر فإذا كان الخير و الشر هما سببا المدح و الذم و هما الأصل في ذلك فكيف يكون فاعلاهما خيرا و شرا منهما. قلت لأن الخير و الشر ليسا عبارة عن ذات حية قادرة و إنما هما فعلان أو فعل و عدم فعل أو عدمان فلو قطع النظر عن الذات الحية القادرة التي يصدران عنها لما انتفع أحد بهما و لا استضر فالنفع و الضرر إنما حصلا من الحي الموصوف بهما لا منهما على انفرادهما فلذلك كان فاعل الخير خيرا من الخير و فاعل الشر شرا من الشر

(19/126)


شرح نهج البلاغة ج : 18 ص : 33150كُنْ سَمَحاً وَ لَا تَكُنْ مُبَذِّراً وَ كُنْ مُقَدِّراً وَ لَا تَكُنْ مُقَتِّراً
كل كلام جاء في هذا فهو مأخوذ من قوله سبحانه وَ لا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ وَ لا تَبْسُطْها كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَحْسُوراً. و نحو قوله إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كانُوا إِخْوانَ الشَّياطِينِ وَ كانَ الشَّيْطانُ لِرَبِّهِ كَفُوراً
شرح نهج البلاغة ج : 18 ص : 34151أَشْرَفُ الْغِنَى تَرْكُ الْمُنَى قد سبق منا قول كثير في المنى و نذكر هاهنا ما لم نذكره هناك. سئل عبيد الله بن أبي بكر أي شي ء أدوم متاعا فقال المنى. و قال بلال بن أبي بردة ما يسرني بنصيبي من المنى حمر النعم. و كان يقال الأماني للنفس كالرونق للبصر. و من كلام بعض الحكماء الأماني تعمي أعين البصائر و الحظ يأتي من لا يأتيه و ربما كان الطمع وعاء حشوه المتالف و سائقا يدعو إلى الندامة و أشقى الناس بالسلطان صاحبه كما أن أقرب الأشياء إلى النار أسرعها إحراقا و لا يدرك الغني بالسلطان إلا نفس خائفة و جسم تعب و دين منكتم و إن كان البحر كدر الماء فهو بعيد الهواء
شرح نهج البلاغة ج : 18 ص : 35152مَنْ أَسْرَعَ إِلَى النَّاسِ بِمَا يَكْرَهُونَ قَالُوا فِيهِ مَا لَا يَعْلَمُونَ

(19/127)


هذا المعنى كثير واسع و لنقتصر هاهنا فيه على حكاية ذكرها المبرد في الكامل قال لما فتح قتيبة بن مسلم سمرقند أفضى إلى أثاث لم ير مثله و إلى آلات لم ير مثلها فأراد أن يري الناس عظيم ما أنعم الله به عليه و يعرفهم أقدار القوم الذين ظهر عليهم فأمر بدار ففرشت و في صحنها قدور يرتقى إليها بالسلالم فإذا الحضين بن المنذر بن الحارث بن وعلة الرقاشي قد أقبل و الناس جلوس على مراتبهم و الحضين شيخ كبير فلما رآه عبد الله بن مسلم قال لأخيه قتيبة ائذن لي في معاتبته قال لا ترده لأنه خبيث الجواب فأبى عبد الله إلا أن يأذن له و كان عبد الله يضعف و قد كان تسور حائطا إلى امرأة قبل ذلك فأقبل على الحضين فقال أ من الباب دخلت يا أبا ساسان شرح نهج البلاغة ج : 18 ص : 153قال أجل أسن عمك عن تسور الحيطان قال أ رأيت هذه القدور قال هي أعظم من ألا ترى قال ما أحسب بكر بن وائل رأى مثلها قال أجل و لا غيلان و لو كان رآها سمي شبعان و لم يسم غيلان قال له عبد الله يا أبا ساسان أ تعرف الذي يقول
عزلنا و أمرنا و بكر بن وائل تجر خصاها تبتغي من تحالفه
قال أجل أعرفه و أعرف الذي يقول
بأدنى العزم قاد بني قشير و من كانت له أسرى كلاب و خيبة من يخيب على غني و باهلة بن يعصر و الركاب
يريد يا خيبة من يخيب قال أ فتعرف الذي يقول
كأن فقاح الأزد حول ابن مسمع إذا عرقت أفواه بكر بن وائل
قال نعم أعرفه و أعرف الذي يقول
قوم قتيبة أمهم و أبوهم لو لا قتيبة أصبحوا في مجهل

(19/128)


قال أما الشعر فأراك ترويه فهل تقرأ من القرآن شيئا قال أقرأ منه الأكثر الأطيب هَلْ أَتى عَلَى الْإِنْسانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً فأغضبه فقال و الله لقد بلغني أن امرأة الحضين حملت إليه و هي حبلى من غيره شرح نهج البلاغة ج : 18 ص : 154قال فما تحرك الشيخ عن هيئته الأولى ثم قال على رسله و ما يكون تلد غلاما على فراشي فيقال فلان بن الحضين كما يقال عبد الله بن مسلم فأقبل قتيبة على عبد الله و قال لا يبعد الله غيرك. قلت هو الحضين بالضاد المعجمة و ليس في العرب من اسمه الحضين بالضاد المعجمة غيره
شرح نهج البلاغة ج : 18 ص : 36155مَنْ أَطَالَ الْأَمَلَ أَسَاءَ الْعَمَلَ
قد تقدم منا كلام في الأمل. و قيل لبعض الصالحين أ لك حاجة إلى بغداد قال ما أحب أن أبسط أملي حتى تذهب إلى بغداد و تعود. و قال أبو عثمان النهدي قد أتت علي ثلاثون و مائة سنة ما من شي ء إلا و أجد فيه النقص إلا أملي فإني وجدته كما هو أو يزيد
شرح نهج البلاغة ج : 18 ص : 37156وَ قَالَ ع وَ قَدْ لَقِيَهُ عِنْدَ مَسِيرِهِ إِلَى الشَّامِ دَهَاقِينُ الْأَنْبَارِ فَتَرَجَّلُوا لَهُ وَ اشْتَدُّوا بَيْنَ يَدَيْهِ مَا هَذَا الَّذِي صَنَعْتُمُوهُ فَقَالُوا خُلُقٌ مِنَّا نُعَظِّمُ بِهِ أُمَرَاءَنَا فَقَالَ وَ اللَّهِ مَا يَنْتَفِعُ بِهَذَا أُمَرَاؤُكُمْ وَ إِنَّكُمْ لَتَشُقُّونَ عَلَى أَنْفُسِكُمْ فِي دُنْيَاكُمْ وَ تَشْقَوْنَ بِهِ فِي أُخْرَاكُمْ وَ مَا أَخْسَرَ الْمَشَقَّةَ وَرَاءَهَا الْعِقَابُ وَ أَرْبَحَ الدَّعَةَ مَعَهَا الْأَمَانُ مِنَ النَّارِ

(19/129)


اشتدوا بين يديه أسرعوا شيئا فنهاهم عن ذلك و قال إنكم تشقون به على أنفسكم لما فيه من تعب الأبدان و تشقون به في آخرتكم تخضعون للولاة كما زعمتم أنه خلق و عادة لكم خضوعا تطلبون به الدنيا و المنافع العاجلة فيها و كل خضوع و تذلل لغير الله فهو معصية. ثم ذكر أن الخسران المبين مشقة عاجلة يتبعها عقاب الآخرة و الربح البين دعة عاجلة يتبعها الأمان من النار
شرح نهج البلاغة ج : 18 ص : 38157قَالَ ع لِابْنِهِ الْحَسَنِ ع يَا بُنَيَّ احْفَظْ عَنِّي أَرْبَعاً وَ أَرْبَعاً لَا يَضُرُّكَ مَا عَمِلْتَ مَعَهُنَّ إِنَّ أَغْنَى الْغِنَى الْعَقْلُ وَ أَكْبَرَ الْفَقْرِ الْحُمْقُ وَ أَوْحَشَ الْوَحْشَةِ الْعُجْبُ وَ أَكْرَمَ الْحَسَبِ حُسْنُ الْخُلُقِ يَا بُنَيَّ إِيَّاكَ وَ مُصَادَقَةَ الْأَحْمَقِ فَإِنَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَنْفَعَكَ فَيَضُرُّكَ وَ إِيَّاكَ وَ مُصَادَقَةَ الْبَخِيلِ فَإِنَّهُ يَقْعُدُ عَنْكَ أَحْوَجَ مَا تَكُونُ إِلَيْهِ وَ إِيَّاكَ وَ مُصَادَقَةَ الْفَاجِرِ فَإِنَّهُ يَبِيعُكَ بِالتَّافِهِ وَ إِيَّاكَ وَ مُصَادَقَةَ الْكَذَّابِ فَإِنَّهُ كَالسَّرَابِ يُقَرِّبُ عَلَيْكَ الْبَعِيدَ وَ يُبَعِّدُ عَلَيْكَ الْقَرِيبَ
هذا الفصل يتضمن ذكر العقل و الحمق و العجب و حسن الخلق و البخل و الفجور و الكذب و قد تقدم كلامنا في هذه الخصال أجمع و قد أخذت قوله ع إياك و مصادقة الأحمق فإنه يريد أن ينفعك فيضرك فقلت في أبيات لي
حياتك لا تصحبن الجهول فلا خير في صحبة الأخرق يظن أخو الجهل أن الضلال عين الرشاد فلا يتقي و يكسب صاحبه حمقه فيسرق منه و لا يسرق و أقسم أن العدو اللبيب خير من المشفق الأحمق
شرح نهج البلاغة ج : 18 ص : 39158لَا قُرْبَةَ بِالنَّوَافِلِ إِذَا أَضَرَّتْ بِالْفَرَائِضِ

(19/130)


هذا الكلام يمكن أن يحمل على حقيقته و يمكن أن يحمل على مجازه فإن حمل على حقيقته فقد ذهب إلى هذا المذهب كثير من الفقهاء و هو مذهب الإمامية و هو أنه لا يصح التنفل ممن عليه قضاء فريضة فاتته لا في الصلاة و لا في غيرها فأما الحج فمتفق عليه بين المسلمين أنه لا يصح الابتداء بنفله و إذا نوى نية النفل و لم يكن قد حج حجة الإسلام وقع حجه فرضا فأما نوافل الزكاة فما عرفت أحدا قال إنه لا يثاب المتصدق بها و إن كان لم يؤد الزكاة الواجبة و أما إذا حمل على مجازه فإن معناه يجب الابتداء بالأهم و تقديمه على ما ليس بأهم فتدخل هذه الكلمة في الآداب السلطانية و الإخوانية نحو أن تقول لمن توصيه لا تبدأ بخدمة حاجب الملك قبل أن تبدأ بخدمة ولد الملك فإنك إنما تروم القربة للملك بالخدمة و لا قربة إليه في تأخير خدمة ولده و تقديم خدمة غلامه و حمل الكلمة على حقيقتها أولى لأن اهتمام أمير المؤمنين ع بالأمور الدينية و الشرعية في وصاياه و منثور كلامه أعظم
شرح نهج البلاغة ج : 18 ص : 40159لِسَانُ الْعَاقِلِ وَرَاءَ قَلْبِهِ وَ قَلْبُ الْأَحْمَقِ وَرَاءَ لِسَانِهِ
قال الرضي رحمه الله تعالى و هذا من المعاني العجيبة الشريفة و المراد به أن العاقل لا يطلق لسانه إلا بعد مشاورة الروية و مؤامرة الفكرة و الأحمق تسبق حذفات لسانه و فلتات كلامه مراجعة فكره و مماخضة رأيه فكان لسان العاقل تابع لقلبه و كان قلب الأحمق تابع للسانه قال و قد روي عنه ع هذا المعنى بلفظ آخر و هو قوله قلب الأحمق في فيه و لسان العاقل في قلبه و معناهما واحد
قد تقدم القول في العقل و الحمق و نذكر هاهنا زيادات أخرى
أقوال و حكايات حول الحمقى
قالوا كل شي ء يعز إذا قل و العقل كلما كان أكثر كان أعز و أغلى. و كان عبد الملك يقول أنا للعاقل المدبر أرجى مني للأحمق المقبل. قيل لبعضهم ما جماع العقل فقال ما رأيته مجتمعا في أحد فأصفه و ما لا يوجد كاملا فلا حد له.

(19/131)


شرح نهج البلاغة ج : 18 ص : 17120تَذِلُّ الْأُمُورُ لِلْمَقَادِيرِ حَتَّى يَكُونَ الْحَتْفُ فِي التَّدْبِيرِ
إذا تأملت أحوال العالم وجدت صدق هذه الكلمة ظاهرا و لو شئنا أن نذكر الكثير من ذلك لذكرنا ما يحتاج في تقييده بالكتابة إلى مثل حجم كتابنا هذا و لكنا نذكر لمحا و نكتا و أطرافا و دررا من القول. فرش مروان بن محمد و قد لقي عبد الله بن علي أنطاعا و بسط عليها المال و قال من جاءني برأس فله مائة درهم فعجزت الحفظة و الحراس عن حمايته و اشتغلت طائفة من الجند بنهبه و تهافت الجيش عليه لينتهبوه فغشيهم عبد الله بن علي بعساكره فقتل منهم ما لا يحصى و هزم الباقون. و كسر إبراهيم بن عبد الله بن الحسن بن الحسن جيش أبي جعفر المنصور بباخمرى و أمر أصحابه باتباعهم فحال بينهم و بين أصحاب أبي جعفر ماء ضحضاح فكره إبراهيم و جيشه خوض ذلك الماء و كان واسعا فأمر صاحب لوائه أن يتعرج باللواء على مسناة كانت على ذلك الماء يابسة فسلكها صاحب اللواء و هي تفضي بانعراج و انعكاس إلى الأرض اليبس فلما رأى عسكر أبي جعفر أن لواء القوم قد تراجع شرح نهج البلاغة ج : 18 ص : 121القهقرى ظنوهم منهزمين فعطفوا عليهم فقتلوا منهم مقتلة عظيمة و جاء سهم غرب فأصاب إبراهيم فقتله. و قد دبرت من قبل قريش في حماية العير بأن نفرت على الصعب و الذلول لتدفع رسول الله ص عن اللطيمة فكان هلاكها في تدبيرها. و كسرت الأنصار يوم أحد بأن أخرجت النبي ص عن المدينة ظنا منها أن الظفر و النصرة كانت بذلك و كان سبب عطبها و ظفر قريش بها و لو أقامت بين جدران المدينة لم تظفر قريش منها بشي ء. و دبر أبو مسلم الدولة الهاشمية و قام بها حتى كان حتفه في تدبيره. و كذلك جرى لأبي عبد الله المحتسب مع عبد الله المهدي بالمغرب. و دبر أبو القاسم بن المسلمة رئيس الرؤساء في إخراج البساسيري عن العراق حتى كان هلاكه على يده و كذلك أيضا انعكس عليه تدبيره في إزالة الدولة

(19/132)


البويهية من الدولة السلجوقية ظنا منه أنه يدفع الشر بغير الشر فدفع الشر بما هو شر منه. و أمثال هذا و نظائره أكثر من أن تحصى
شرح نهج البلاغة ج : 18 ص : 18122وَ سُئِلَ ع عَنْ قَوْلِ الرَّسُولِ ص غَيِّرُوا الشَّيْبَ وَ لَا تَشَبَّهُوا بِالْيَهُودِ فَقَالَ ع إِنَّمَا قَالَ ص ذَلِكَ وَ الدِّينُ قُلٌّ فَأَمَّا الآْنَ وَ قَدِ اتَّسَعَ نِطَاقُهُ وَ ضَرَبَ بِجِرَانِهِ فَامْرُؤٌ وَ مَا اخْتَارَ
اليهود لا تخضب و كان النبي ص أمر أصحابه بالخضاب ليكونوا في مرأى العين شبابا فيجبن المشركون عنهم حال الحرب فإن الشيخ مظنة الضعف. قال علي ع كان ذلك و الإسلام قل أي قليل و أما الآن و قد اتسع نطاقه و ضرب بجرانه فقد سقط ذلك الأمر و صار الخضاب مباحا غير مندوب. و النطاق ثوب تلبسه المرأة لبسة مخصوصة ليس بصدرة و لا سراويل و سميت أسماء بنت أبي بكر ذات النطاقين لأنها قطعت من ثوبها ذلك قطعة شدت بها سفرة لها حملها أبو بكر معه حين خرج من مكة مع النبي ص يوم الهجرة فقال النبي ص لقد أبدلها الله بها نطاقين في الجنة و كان نفر الشام ينادون عبد الله ابنها حين حصره الحجاج بمكة يشتمونه كما زعموا يا ابن ذات النطاقين فيضحك عبد الله منهم و قال لابن أبي عتيق أ لا تسمع يظنونه ذما ثم يقول شرح نهج البلاغة ج : 18 ص : 123
و تلك شكاة ظاهر عنك عارها
و استعار أمير المؤمنين ع هذه اللفظة لسعة رقعة الإسلام و كذلك استعار قوله و ضرب بجرانه أي أقام و ثبت و ذلك لأن البعير إذا ضرب بجرانه الأرض و جرانه مقدم عنقه فقد استناخ و برك. و امرؤ مبتدأ و إن كان نكرة كقولهم شر أهر ذا ناب لحصول الفائدة و الواو بمعنى مع و هي و ما بعدها الخبر و ما مصدرية أي امرؤ مع اختياره
نبذ مما قيل في الشيب و الخضاب

(19/133)


فأما القول في الخضاب فقد روى قوم أن رسول الله ص بدا شيب يسير في لحيته فغيره بالخضاب خضب بالحناء و الكتم و قال قوم لم يشب أصلا. و روي أن عائشة قالت ما كان الله ليشينه بالشيب فقيل أ و شين هو يا أم المؤمنين قالت كلكم يكرهه و أما أبو بكر فصح الخبر عنه بذلك و كذلك أمير المؤمنين و قيل إنه لم يخضب و قتل الحسين ع يوم الطف و هو مخضوب و
في الحديث المرفوع رواه عقبة بن عامر عليكم بالحناء فإنه خضاب الإسلام إنه يصفي البصر و يذهب بالصداع و يزيد في الباه و إياكم و السواد فإنه من سود سود الله وجهه يوم القيامة
و عنه ص عليكم بالخضاب فإنه أهيب لعدوكم و أعجب إلى نسائكم
شرح نهج البلاغة ج : 18 ص : 124و يقال في أبواب الكناية للمختضب هو يسود وجه النذير لأن النذير الشيب قيل في قوله تعالى وَ جاءَكُمُ النَّذِيرُ إنه الشيب. و كان عبد الرحمن بن الأسود أبيض الرأس و اللحية فأصبح ذات يوم و قد حمرهما و قال إن عائشة أرسلت إلى البارحة جاريتها فأقسمت علي لأغيرن و قالت إن أبا بكر كان يصبغ. و روى قيس بن أبي حازم قال كان أبو بكر يخرج إلينا و كان لحيته ضرام عرفج. و عن أبي عامر الأنصاري رأيت أبا بكر يغير بالحناء و الكتم و رأيت عمر لا يغير شيئا من شيبه و
قال إني سمعت رسول الله ص يقول من شاب شيبة في الإسلام كانت له نورا يوم القيامة
و لا أحب أن أغير نوري. و كان أنس بن مالك يخضب و ينشد
نسود أعلاها و تأبى أصولها و ليس إلى رد الشباب سبيل
و روي أن عبد المطلب وفد على سيف بن ذي يزن فقال له لو خضبت فلما عاد إلى مكة خضب فقالت له امرأته نثيلة أم العباس و ضرار ما أحسن هذا الخضاب لو دام فقال
فلو دام لي هذا الخضاب حمدته و كان بديلا من خليل قد انصرم تمتعت منه و الحياة قصيرة و لا بد من موت نثيلة أو هرم و موت جهيز عاجل لا شوى له أحب إلينا من مقالكم حكم
قال يعني إنه صار شيخا فصار حكما بين الناس من قوله

(19/134)


لا تغبط المرء أن يقال له أضحى فلان لسنه حكما
شرح نهج البلاغة ج : 18 ص : 125و قال أسماء بن خارجة لجاريته اخضبيني فقالت حتى متى أرقعك فقال
عيرتني خلقا أبليت جدته و هل رأيت جديدا لم يعد خلقا
و أما من يروى أن عليا ع ما خضب فيحتج بقوله و
قد قيل له لو غيرت شيبك يا أمير المؤمنين فقال الخضاب زينة و نحن في مصيبة
يعني برسول الله ص. و
سئل الحسن ع عن الخضاب فقال هو جزع قبيح
و قال محمود الوراق
يا خاضب الشيب الذي في كل ثالثة يعودإن الخضاب إذا مضى فكأنه شيب جديدفدع المشيب و ما يريد فلن تعود كما تريد
و قد روى قوم عن النبي ص كراهية الخضاب و أنه قال لو استقبلتم الشيب بالتواضع لكان خيرا لكم
قال الشاعر
و صبغت ما صبغ الزمان فلم يدم صبغي و دامت صبغة الأيام
و قال آخر
يا أيها الرجل المغير شيبه كيما تعد به من الشبان أقصر فلو سودت كل حمامة بيضاء ما عدت من الغربان
و يقولون في ديوان عرض الجيش ببغداد لمن يخضب إذا ذكروا حليته مستعار و هي كناية لطيفة و أنا أستحسن قول البحتري خضبت بالمقراض كناية عن قص الشعر الأبيض فجعل ذلك خضابه عوضا عن الصبغ و الأبيات هذه
لابس من شبيبة أم ناض و مليح من شيبة أم راض
شرح نهج البلاغة ج : 18 ص : 126و إذا ما امتعضت من ولع الشيب برأسي لم يثن ذاك امتعاضي ليس يرضى عن الزمان امرؤ فيه إلا عن غفلة أو تغاضي و البواقي من الليالي و إن خالفن شيئا شبيهة بالمواضي و أبت تركي الغديات و الآصال حتى خضبت بالمقراض و دواء المشيب كالبخص في عيني فقل فيه في العيون المراض طال حزني على الشباب و ما بيض من لون صبغه الفضفاض فهل الحادثات يا ابن عويف تاركاتي و لبس هذا البياض
شرح نهج البلاغة ج : 18 ص : 19127مَنْ جَرَى فِي عِنَان أَمَلِهِ عَثَرَ بِأَجلِهِ
قد تقدم لنا قول كثير في الأمل و نذكر هاهنا زيادة على ذلك.

(19/135)


قال الحسن ع لو رأيت الأجل و مسيره لنسيت الأمل و غروره و يقدر المقدرون و القضاء يضحك
و روى أبو سعيد الخدري أن أسامة بن زيد اشترى وليدة بمائة دينار إلى شهر فقال رسول الله ص أ لا تعجبون من أسامة يشتري إلى شهر إن أسامة لطويل الأمل
أبو عثمان النهدي قد بلغت نحوا من ثلاثين و مائة سنة فما من شي ء إلا قد عرفت فيه النقص إلا أملى فإنه كما كان. قال الشاعر
أراك تزيدك الأيام حرصا على الدنيا كأنك لا تموت فهل لك غاية إن صرت يوما إليها قلت حسبي قد رضيت
و قال آخر
من تمنى المنى فأغرق فيها مات من قبل أن ينال مناه ليس في مال من تتابع في اللذات فضل عن نفسه لسواه
شرح نهج البلاغة ج : 18 ص : 20128أَقِيلُوا ذَوِي الْمُرُوءَاتِ عَثَرَاتِهِمْ فَمَا يَعْثُرُ مِنْهُمْ عَاثِرٌ إِلَّا وَ يَدُهُ بِيَدِ اللَّهِ يَرْفَعُهُ
نبذ مما قيل في المروءة
قد رويت هذه الكلمة مرفوعة ذكر ذلك ابن قتيبة في عيون الأخبار و أحسن ما قيل في المروءة قولهم اللذة ترك المروءة و المروءة ترك اللذة. و
في الحديث أن رجلا قام إلى رسول الله ص فقال يا رسول الله أ لست أفضل قومي فقال إن كان لك عقل فلك فضل و إن كان لك خلق فلك مروءة و إن كان لك مال فلك حسب و إن كان لك تقى فلك دين
و سئل الحسن عن المروءة فقال
جاء في الحديث المرفوع أن الله تعالى يحب معالي الأمور و يكره سفسافها
و كان يقال من مروءة الرجل جلوسه بباب داره. و قال الحسن لا دين إلا بمروءة شرح نهج البلاغة ج : 18 ص : 129و قيل لابن هبيرة ما المروءة فقال إصلاح المال و الرزانة في المجلس و الغداء و العشاء بالفناء. و
جاء أيضا في الحديث المرفوع حسب الرجل ماله و كرمه دينه و مروءته خلقه

(19/136)


و كان يقال ليس من المروءة كثرة الالتفات في الطريق. و يقال سرعة المشي تذهب بمروءة الرجل. و قال معاوية لعمرو ما ألذ الأشياء قال مر فتيان قريش أن يقوموا فلما قاموا قال إسقاط المروءة. و كان عروة بن الزبير يقول لبنيه يا بني العبوا فإن المروءة لا تكون إلا بعد اللعب و قيل للأحنف ما المروءة قال العفة و الحرفة تعف عما حرم الله و تحترف فيما أحل الله. و قال محمد بن عمران التيمي لا أشد من المروءة و هي ألا تعمل في السر شيئا تستحيي منه في العلانية و سئل النظام عن المروءة فأنشد بيت زهير
الستر دون الفاحشات و لا يلقاك دون الخير من ستر

(19/137)


و قال عمر تعلموا العربية فإنها تزيد في المروءة و تعلموا النسب فرب رحم مجهولة قد وصلت به. و قال ميمون بن مهران أول المروءة طلاقة الوجه و الثاني التودد إلى الناس و الثالث قضاء الحوائج. و قال مسلمة بن عبد الملك مروءتان ظاهرتان الرياش و الفصاحة. و كان يقال تعرف مروءة الرجل بكثرة ديونه. و كان يقال العقل يأمرك بالأنفع و المروءة تأمرك بالأجمل. شرح نهج البلاغة ج : 18 ص : 130لام معاوية يزيد ابنه على سماع الغناء و حب القيان و قال له أسقطت مروءتك فقال يزيد أتكلم بلساني كلمة قال نعم و بلسان أبي سفيان بن حرب و هند بنت عتبة مع لسانك قال و الله لقد حدثني عمرو بن العاص و استشهد على ذلك ابنه عبد الله بصدقه أن أبا سفيان كان يخلع على المغني الفاضل و المضاعف من ثيابه و لقد حدثني أن جاريتي عبد الله بن جدعان غنتاه يوما فأطربتاه فجعل يخلع عليهما أثوابه ثوبا ثوبا حتى تجرد تجرد العير و لقد كان هو و عفان بن أبي العاص ربما حملا جارية العاص بن وائل على أعناقهما فمرا بها على الأبطح و جلة قريش ينظرون إليهما مرة على ظهر أبيك و مرة على ظهر عفان فما الذي تنكر مني فقال معاوية اسكت لحاك الله و الله ما أحد ألحق بأبيك هذا إلا ليغرك و يفضحك و إن كان أبو سفيان ما علمت لثقيل الحلم يقظان الرأي عازب الهوى طويل الأناة بعيد القعر و ما سودته قريش إلا لفضله
شرح نهج البلاغة ج : 18 ص : 21131قُرِنَتِ الْهَيْبَةُ بِالْخَيْبَةِ وَ الْحَيَاءُ بِالْحِرْمَانِ وَ الْفُرْصَةُ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ فَانْتَهِزُوا فُرَصَ الْخَيْرِ
في المثل من أقدم لم يندم و قال الشاعر
ليس للحاجات إلا من له وجه وقاح و لسان طرمذي و غدو و رواح فعليه السعي فيها و على الله النجاح

(19/138)


و كان يقال الفرصة ما إذا حاولته فأخطأك نفعه لم يصل إليك ضره. و من كلام ابن المقفع انتهز الفرصة في إحراز المآثر و اغتنم الإمكان باصطناع الخير و لا تنتظر ما تعامل فتجازى عنه بمثله فإنك إن عوملت بمكروه و اشتغلت برصد المكافأة عنه قصر العمر بك عن اكتساب فائدة و اقتناء منقبة و تصرمت أيامك بين تعد عليك و انتظار للظفر بإدراك الثأر من خصمك و لا عيشة في الحياة أكثر من ذلك. كانت العرب إذا أوفدت وافدا قالت له إياك و الهيبة فإنها خيبة و لا تبت عند ذنب الأمر و بت عند رأسه
شرح نهج البلاغة ج : 18 ص : 22132لَنَا حَقٌّ فَإِنْ أُعْطِيْنَاهُ وَ إِلَّا رَكِبْنَا أَعْجَازَ الْإِبِلِ وَ إِنْ طَالَ السُّرَى
قال الرضي رحمه الله تعالى و هذا القول من لطيف الكلام و فصيحه و معناه أنا إن لم نعط حقنا كنا أذلاء و ذلك أن الرديف يركب عجز البعير كالعبد و الأسير و من يجري مجراهما

(19/139)


هذا الفصل قد ذكره أبو عبيد الهروي في الجمع بين الغريبين و صورته أن لنا حقا إن نعطه نأخذه و إن نمنعه نركب أعجاز الإبل و إن طال السرى قال قد فسروه على وجهين أحدهما أن راكب عجز البعير يلحقه مشقة و ضرر فأراد أنا إذا منعنا حقنا صبرنا على المشقة و المضرة كما يصبر راكب عجز البعير و هذا التفسير قريب مما فسره الرضي و الوجه الثاني أن راكب عجز البعير إنما يكون إذا كان غيره قد ركب على ظهر البعير و راكب ظهر البعير متقدم على راكب عجز البعير فأراد أنا إذا منعنا حقنا تأخرنا و تقدم غيرنا علينا فكنا كالراكب رديفا لغيره و أكد المعنى على كلا التفسيرين بقوله و إن طال السرى لأنه إذا طال السرى كانت المشقة شرح نهج البلاغة ج : 18 ص : 133على راكب عجز البعير أعظم و كان الصبر على تأخر راكب عجز البعير عن الراكب على ظهره أشد و أصعب. و هذا الكلام تزعم الإمامية أنه قاله يوم السقيفة أو في تلك الأيام و يذهب أصحابنا إلى أنه قاله يوم الشورى بعد وفاة عمر و اجتماع الجماعة لاختيار واحد من الستة و أكثر أرباب السير ينقلونه على هذا الوجه
شرح نهج البلاغة ج : 18 ص : 23134مَنْ أَبْطَأَ بِهِ عَمَلُهُ لَمْ يُسْرِعْ بِهِ حَسَبُهُ
هذا الكلام حث و حض و تحريض على العبادة و قد تقدم أمثاله و سيأتي له نظائر كثيرة و هو مثل
قول النبي ص يا فاطمة بنت محمد إني لا أغني عنك من الله شيئا يا عباس بن عبد المطلب إني لا أغني عنك من الله شيئا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقاكُمْ
شرح نهج البلاغة ج : 18 ص : 24135مِنْ كَفَّارَاتِ الذُّنُوبِ الْعِظَامِ إِغَاثَةُ الْمَلْهُوفِ وَ التَّنْفِيسُ عَنِ الْمَكْرُوبِ

(19/140)


قد جاء في هذا المعنى آثار كثيرة و أخبار جميلة كان العتابي قد أملق فجاء فوقف بباب المأمون يسترزق الله على يديه فوافى يحيى بن أكثم فعرض له العتابي فقال له إن رأيت أيها القاضي أن تعلم أمير المؤمنين مكاني فافعل فقال لست بحاجب قال قد علمت و لكنك ذو فضل و ذو الفضل معوان فقال سلكت بي غير طريقي قال إن الله أتحفك منه بجاه و نعمة و هو مقبل عليك بالزيادة إن شكرت و بالتغيير إن كفرت و أنا لك اليوم خير منك لنفسك لأني أدعوك إلى ما فيه ازدياد نعمتك و أنت تأبى علي و لكل شي ء زكاة و زكاة الجاه رفد المستعين فدخل يحيى فأخبر المأمون به فأحضره و حادثه و لاطفه و وصله
شرح نهج البلاغة ج : 18 ص : 25136يَا ابْنَ آدَمَ إِذَا رَأَيْتَ رَبَّكَ سُبْحَانَهُ يُتَابِعُ عَلَيْكَ نِعَمَهُ وَ أَنْتَ تَعْصِيهِ فَاحْذَرْهُ
هذا الكلام تخويف و تحذير من الاستدراج قال سبحانه سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ و ذلك لأن العبد بغروره يعتقد أن موالاة النعم عليه و هو عاص من باب الرضا عنه و لا يعلم أنه استدراج له و نقمة عليه. فإن قلت كيف يصح القول بالاستدراج على أصولكم في العدل أ ليس معنى الاستدراج إيهام العبد أنه سبحانه غير ساخط فعله و معصيته فهل هذا الاستدراج إلا مفسدة و سبب إلى الإصرار على القبيح. قلت إذا كان المكلف عالما بقبح القبيح أو متمكنا من العلم بقبحه ثم رأى النعم تتوالى عليه و هو مصر على المعصية كان ترادف تلك النعم كالمنبه له على وجوب الحذر مثال ذلك من هو في خدمة ملك و هو عون ذلك الملك في دولته و يعلم أن الملك قد عرف حاله ثم يرى نعم الملك مترادفة إليه فإنه يجب بمقتضى الاحتياط أن يشتد حذره لأنه يقول ليست حالي مع الملك حال من يستحق هذه النعم و ما هذه إلا مكيدة و تحتها غائلة فيجب إذن عليه أن يحذر

(19/141)


شرح نهج البلاغة ج : 18 ص : 26137مَا أَضْمَرَ أَحَدٌ شَيْئاً إِلَّا ظَهَرَ فِي فَلَتَاتِ لِسَانِهِ وَ صَفَحَاتِ وَجْهِهِ
قال زهير بن أبي سلمى
و مهما تكن عند امرئ من خليقة و إن خالها تخفى على الناس تعلم
و قال آخر
تخبرني العينان ما القلب كاتم و ما جن بالبغضاء و النظر الشزر
و قال آخر
و في عينيك ترجمة أراها تدل على الضغائن و الحقودو أخلاق عهدت اللين فيها غدت و كأنها زبر الحديدو قد عاهدتني بخلاف هذا و قال الله أَوْفُوا بِالْعُقُودِ
و كان يقال العين و الوجه و اللسان أصحاب أخبار على القلب و قالوا القلوب كالمرايا المتقابلة إذا ارتسمت في إحداهن صورة ظهرت في الأخرى
شرح نهج البلاغة ج : 18 ص : 27138امْشِ بِدَائِكَ مَا مَشَى بِكَ
يقول مهما وجدت سبيلا إلى الصبر على أمر من الأمور التي قد دفعت إليها و فيها مشقة عليك و ضرر لاحق بك فاصبر و لا تلتمس طريقا إلى تغيير ما دفعت إليه أن تسلكها بالعنف و مراغمة الوقت و معاناة الأقضية و الأقدار و مثال ذلك من يعرض له مرض ما يمكنه أن يحتمله و يدافع الوقت فإنه يجب عليه ألا يطرح جانبه إلى الأرض و يخلد إلى النوم على الفراش ليعالج ذلك المرض قوة و قهرا فربما أفضى به مقاهرة ذلك المرض الصغير بالأدوية إلى أن يصير كبيرا معضلا
شرح نهج البلاغة ج : 18 ص : 28139أَفْضَلُ الزُّهْدِ إِخْفَاءُ الزُّهْدِ إنما كان كذلك لأن الجهر بالعبادة و الزهادة و الإعلان بذلك قل أن يسلم من مخالطة الرياء و قد تقدم لنا في الرياء أقوال مقنعة. رأى المنصور رجلا واقفا ببابه فقال مثل هذا الدرهم بين عينيك و أنت واقف ببابنا فقال الربيع نعم لأنه ضرب على غير السكة. شاعر
معشر أثبت الصلاة عليهم لجباه يشقها المحراب عمروا موضع التصنع منهم و مكان الإخلاص منهم خراب
شرح نهج البلاغة ج : 18 ص : 29140إِذَا كُنْتَ فِي إِدْبَارٍ وَ الْمَوْتُ فِي إِقْبَالٍ فَمَا أَسْرَعَ الْمُلْتَقَى

(19/142)


هذا ظاهر لأنه إذا كان كلما جاء ففي إدبار و الموت كلما جاء ففي إقبال فيا سرعان ما يلتقيان و ذلك لأن إدباره هو توجهه إلى الموت و إقبال الموت هو توجه الموت إلى نحوه فقد حق إذن الالتقاء سريعا و مثال ذلك سفينتان بدجلة أو غيرها تصعد إحداهما و الأخرى تنحدر نحوها فلا ريب إن الالتقاء يكون وشيكا
شرح نهج البلاغة ج : 18 ص : 30141الْحَذَرَ الْحَذَرَ فَوَاللَّهِ لَقَدْ سَتَرَ حَتَّى كَأَنَّهُ قَدْ غَفَرَ
قد تقدم هذا المعنى و هو الاستدراج الذي ذكرناه آنفا

(19/143)


شرح نهج البلاغة ج : 18 ص : 31142وَ سُئِلَ ع عَنِ الْإِيمَانِ فَقَالَ الْإِيمَانُ عَلَى أَرْبَعِ دَعَائِمَ عَلَى الصَّبْرِ وَ الْيَقِينِ وَ الْعَدْلِ وَ الْجِهَادِ وَ الصَّبْرُ مِنْهَا عَلَى أَرْبَعِ شُعَبٍ عَلَى الشَّوْقِ وَ الشَّفَقِ وَ الزُّهْدِ وَ التَّرَقُّبِ فَمَنِ اشْتَاقَ إِلَى الْجَنَّةِ سَلَا عَنِ الشَّهَوَاتِ وَ مَنْ أَشْفَقَ مِنَ النَّارِ اجْتَنَبَ الْمُحَرَّمَاتِ وَ مَنْ زَهِدَ فِي الدُّنْيَا اسْتَهَانَ بِالْمُصِيبَاتِ وَ مَنِ ارْتَقَبَ الْمَوْتَ سَارَعَ فِي الْخَيْرَاتِ وَ الْيَقِينُ مِنْهَا عَلَى أَرْبَعِ شُعَبٍ عَلَى تَبْصِرَةِ الْفِطْنَةِ وَ تَأَوُّلِ الْحِكْمَةِ وَ مَوْعِظَةِ الْعِبْرَةِ وَ سُنَّةِ الْأَوَّلِينَ فَمَنْ تَبَصَّرَ فِي الْفِطْنَةِ تَبَيَّنَتْ لَهُ الْحِكْمَةُ وَ مَنْ تَبَيَّنَتْ لَهُ الْحِكْمَةُ عَرَفَ الْعِبْرَةَ وَ مَنْ عَرَفَ الْعِبْرَةَ فَكَأَنَّمَا كَانَ فِي الْأَوَّلِينَ وَ الْعَدْلُ مِنْهَا عَلَى أَرْبَعِ شُعَبٍ عَلَى غَائِصِ الْفَهْمِ وَ غَوْرِ الْعِلْمِ وَ زُهْرَةِ الْحُكْمِ وَ رَسَاخَةِ الْحِلْمِ فَمَنْ فَهِمَ عَلِمَ غَوْرَ الْعِلْمِ وَ مَنْ عَلِمَ غَوْرَ الْعِلْمِ صَدَرَ عَنْ شَرَائِعِ الْحِلْمِ وَ مَنْ حَلُمَ لَمْ يُفَرِّطْ فِي أَمْرِهِ وَ عَاشَ فِي النَّاسِ حَمِيداً وَ الْجِهَادُ مِنْهَا عَلَى أَرْبَعِ شُعَبٍ عَلَى الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَ النَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ وَ الصِّدْقِ فِي الْمَوَاطِنِ وَ شَنَآنِ الْفَاسِقِينَ فَمَنْ أَمَرَ بِالْمَعْرُوفِ شَدَّ ظُهُورَ الْمُؤْمِنِينَ وَ مَنْ نَهَى عَنِ الْمُنْكَرِ أَرْغَمَ أُنُوفَ الْمُنَافِقِينَ وَ مَنْ صَدَقَ فِي الْمَوَاطِنِ قَضَى مَا عَلَيْهِ وَ مَنْ شَنِئَ الْفَاسِقِينَ وَ غَضِبَ لِلَّهِ غَضِبَ اللَّهُ لَهُ وَ أَرْضَاهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَ الْكُفْرُ عَلَى أَرْبَعِ دَعَائِمَ

(19/144)


عَلَى التَّعَمُّقِ وَ التَّنَازُعِ وَ الزَّيْغِ وَ الشِّقَاقِ فَمَنْ تَعَمَّقَ لَمْ يُنِبْ إِلَى الْحَقِّ وَ مَنْ كَثُرَ نِزَاعُهُ بِالْجَهْلِ دَامَ عَمَاهُ عَنِ الْحَقِّ شرح نهج البلاغة ج : 18 ص : 143وَ مَنْ زَاغَ سَاءَتْ عِنْدَهُ الْحَسَنَةُ وَ حَسُنَتْ عِنْدَهُ السَّيِّئَةُ وَ سَكِرَ سُكْرَ الضَّلَالَةِ وَ مَنْ شَاقَّ وَعُرَتْ عَلَيْهِ طُرُقُهُ وَ أَعْضَلَ عَلَيْهِ أَمْرُهُ وَ ضَاقَ عَلَيْهِ مَخْرَجُهُ وَ الشَّكُّ عَلَى أَرْبَعِ شُعَبٍ عَلَى التَّمَارِي وَ الْهَوْلِ وَ التَّرَدُّدِ وَ الِاسْتِسْلَامِ فَمَنْ جَعَلَ الْمِرَاءَ دَيْدَناً لَمْ يُصْبِحْ لَيْلُهُ وَ مَنْ هَالَهُ مَا بَيْنَ يَدَيْهِ نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ وَ مَنْ تَرَدَّدَ فِي الرَّيْبِ وَطِئَتْهُ سَنَابِكُ الشَّيَاطِينِ وَ مَنِ اسْتَسْلَمَ لِهَلَكَةِ الدُّنْيَا وَ الآْخِرَةِ هَلَكَ فِيهِمَا
قال الرضي رحمه الله تعالى و بعد هذا كلام تركنا ذكره خوف الإطالة و الخروج عن الغرض المقصود في هذا الكتاب
من هذا الفصل أخذت الصوفية و أصحاب الطريقة و الحقيقة كثيرا من فنونهم في علومهم و من تأمل كلام سهل بن عبد الله التستري و كلام الجنيد و السري و غيرهم رأى هذه الكلمات في فرش كلامهم تلوح كالكواكب الزاهرة و كل المقامات و الأحوال المذكورة في هذا الفصل قد تقدم قولنا فيها
نبذ و حكايات مما وقع بين يدي الملوك

(19/145)


و نذكر هاهنا الصدق في المواطن و بين يدي الملوك و من يغضب لله و ينهى عن المنكر و يقوم بالحق و لا يبالي بالسلطان و لا يراقبه. شرح نهج البلاغة ج : 18 ص : 144دخل عمر بن عبد العزيز على سليمان بن عبد الملك و عنده أيوب ابنه و هو يومئذ ولي عهده قد عقد له من بعده فجاء إنسان يطلب ميراثا من بعض نساء الخلفاء فقال سليمان ما إخال النساء يرثن في العقار شيئا فقال عمر بن عبد العزيز سبحان الله و أين كتاب الله فقال سليمان يا غلام اذهب فأتني بسجل عبد الملك الذي كتب في ذلك فقال له عمر لكأنك أرسلت إلى المصحف فقال أيوب بن سليمان و الله ليوشكن الرجل يتكلم بمثل هذا عند أمير المؤمنين فلا يشعر حتى يفارقه رأسه فقال عمر إذا أفضى الأمر إليك و إلى أمثالك كان ما يدخل على الإسلام أشد مما يخشى عليكم من هذا القول ثم قام فخرج. و روى إبراهيم بن هشام بن يحيى قال حدثني أبي عن جدي قال كان عمر بن عبد العزيز ينهى سليمان بن عبد الملك عن قتل الحرورية و يقول ضمنهم الحبوس حتى يحدثوا توبة فأتي سليمان بحروري مستقتل و عنده عمر بن عبد العزيز فقال سليمان للحروري ما ذا تقول قال ما أقول يا فاسق يا ابن الفاسق فقال سليمان لعمر ما ترى يا أبا حفص فسكت فقال أقسمت عليك لتخبرني ما ذا ترى عليه فقال أرى أن تشتمه كما شتمك و تشتم أباه كما شتم أباك فقال سليمان ليس إلا قال ليس إلا فلم يرجع سليمان إلى قوله و أمر بضرب عنق الحروري. و روى ابن قتيبة في كتاب عيون الأخبار قال بينما المنصور يطوف ليلا بالبيت سمع قائلا يقول اللهم إليك أشكو ظهور البغي و الفساد و ما يحول بين الحق و أهله من الطمع فخرج المنصور فجلس ناحية من المسجد و أرسل إلى الرجل يدعوه فصلى ركعتين و استلم الركن و أقبل على المنصور فسلم عليه بالخلافة فقال المنصور ما الذي سمعتك تقوله من ظهور البغي و الفساد في الأرض و ما يحول بين الحق شرح نهج البلاغة ج : 18 ص : 145و أهله من الطمع فو الله

(19/146)


لقد حشوت مسامعي ما أرمضني فقال يا أمير المؤمنين إن أمنتني على نفسي أنبأتك بالأمور من أصولها و إلا احتجزت منك و اقتصرت على نفسي فلي فيها شاغل قال أنت آمن على نفسك فقل فقال إن الذي دخله الطمع حتى حال بينه و بين إصلاح ما ظهر من البغي و الفساد لأنت قال ويحك و كيف يدخلني الطمع و الصفراء و البيضاء في قبضتي و الحلو و الحامض عندي قال و هل دخل أحد من الطمع ما دخلك إن الله عز و جل استرعاك المسلمين و أموالهم فأغفلت أمورهم و اهتممت بجمع أموالهم و جعلت بينك و بينهم حجبا من الجص و الآجر و أبوابا من الحديد و حجبة معهم السلاح ثم سجنت نفسك فيها منهم و بعثت عمالك في جباية الأموال و جمعها فقويتهم بالسلاح و الرجال و الكراع و أمرت بألا يدخل عليك إلا فلان و فلان نفر سميتهم و لم تأمر بإيصال المظلوم و الملهوف و لا الجائع و الفقير و لا الضعيف و العاري و لا أحد ممن له في هذا المال حق فما زال هؤلاء النفر الذين استخلصتهم لنفسك و آثرتهم على رعيتك و أمرت ألا يحجبوا عنك يجبون الأموال و يجمعونها و يحجبونها و قالوا هذا رجل قد خان الله فما لنا لا نخونه و قد سخرنا فائتمروا على ألا يصل إليك من أخبار الناس شي ء إلا ما أرادوا و لا يخرج لك عامل فيخالف أمرهم إلا بغضوه عندك و بغوه الغوائل حتى تسقط منزلته و يصغر قدره فلما انتشر ذلك عنك و عنهم أعظمهم الناس و هابوهم و كان أول من صانعهم عمالك بالهدايا و الأموال ليقووا بها على ظلم رعيتك ثم فعل ذلك ذوو القدرة و الثروة من رعيتك لينالوا به ظلم من دونهم فامتلأت بلاد الله بالطمع بغيا و فسادا و صار هؤلاء القوم شركاءك في سلطنتك و أنت غافل فإن جاء متظلم حيل بينه و بين دخول

(19/147)


شرح نهج البلاغة ج : 18 ص : 146دارك و إن أراد رفع قصته إليك عند ظهورك وجدك و قد نهيت عن ذلك و وقفت للناس رجلا ينظر في مظالمهم فإن جاء المتظلم إليه أرسلوا إلى صاحب المظالم ألا يرفع إليك قصته و لا يكشف لك حاله فيجيبهم خوفا منك فلا يزال المظلوم يختلف نحوه و يلوذ به و يستغيث إليه و هو يدفعه و يعتل عليه و إذا أجهد و أحرج و ظهرت أنت لبعض شأنك صرخ بين يديك فيضرب ضربا مبرحا ليكون نكالا لغيره و أنت تنظر و لا تنكر فما بقاء الإسلام على هذا. و لقد كنت أيام شبيبتي أسافر إلى الصين فقدمتها مرة و قد أصيب ملكها بسمعه فبكى بكاء شديدا فحداه جلساؤه على الصبر فقال أما إني لست أبكي للبلية النازلة و لكن أبكي للمظلوم بالباب يصرخ فلا أسمع صوته ثم قال أما إذ ذهب سمعي فإن بصري لم يذهب نادوا في الناس ألا يلبس ثوبا أحمر إلا مظلوم ثم كان يركب الفيل طرفي نهاره ينظر هل يرى مظلوما فهذا مشرك بالله غلبت رأفته بالمشركين على شح نفسه و أنت مؤمن بالله من أهل بيت نبيه لا تغلبك رأفتك بالمسلمين على شح نفسك فإن كنت إنما تجمع المال لولدك فقد أراك الله تعالى عبرا في الطفل يسقط من بطن أمه ما له على الأرض مال و ما من مال يومئذ إلا و دونه يد شحيحة تحويه فلا يزال الله يلطف بذلك الطفل حتى تعظم رغبة الناس إليه و لست بالذي تعطي و لكن الله يعطي من يشاء ما يشاء و إن قلت إنما أجمع المال لتشييد السلطان فقد أراك الله عبرا في بني أمية ما أغنى عنهم ما جمعوا من الذهب و الفضة و أعدوا من الرجال و السلاح و الكراع حين أراد الله بهم ما أراد و إن قلت أجمع المال لطلب غاية هي أجسم من الغاية التي أنا فيها فو الله ما فوق ما أنت فيه إلا منزلة لا تدرك إلا بخلاف ما أنت عليه انظر هل تعاقب من عصاك بأشد من القتل قال لا قال فإن الملك الذي خولك ما خولك شرح نهج البلاغة ج : 18 ص : 147لا يعاقب من عصاه بالقتل بالخلود في العذاب الأليم و قد رأى ما قد عقدت

(19/148)


عليه قلبك و عملته جوارحك و نظر إليه بصرك و اجترحته يداك و مشت إليه رجلاك و انظر هل يغني عنك ما شححت عليه من أمر الدنيا إذا انتزعه من يدك و دعاك إلى الحساب على ما منحك. فبكى المنصور و قال ليتني لم أخلق ويحك فكيف أحتال لنفسي قال إن للناس أعلاما يفزعون إليهم في دينهم و يرضون بقولهم فاجعلهم بطانتك يرشدوك و شاورهم في أمرك يسددوك قال قد بعثت إليهم فهربوا مني قال نعم خافوا أن تحملهم على طريقك و لكن افتح بابك و سهل حجابك و انظر المظلوم و اقمع الظالم و خذ الفي ء و الصدقات مما حل و طاب و اقسمه بالحق و العدل على أهله و أنا الضامن عنهم أن يأتوك و يسعدوك على صلاح الأمة. و جاء المؤذنون فسلموا عليه و نادوا بالصلاة فقام و صلى و عاد إلى مجلسه فطلب الرجل فلم يوجد. و روى ابن قتيبة أيضا في الكتاب المذكور أن عمرو بن عبيد قال للمنصور إن الله أعطاك الدنيا بأسرها فاشتر نفسك منه ببعضها و اذكر ليلة تتمخض لك صبيحتها عن يوم القيامة قال يعني ليلة موته فوجم المنصور فقال الربيع حسبك فقد عممت أمير المؤمنين فقال عمرو بن عبيد إن هذا صحبك عشرين سنة لم ير عليه أن ينصحك يوما واحدا و لم يعمل وراء بابك بشي ء مما في كتاب الله و لا في سنة نبيه قال أبو جعفر فما أصنع قد قلت لك خاتمي في يدك فهلم أنت و أصحابك فاكفني فقال عمرو دعنا بعدلك نسخ بأنفسنا بعونك و ببابك مظالم كثيرة فارددها نعلم أنك صادق.

(19/149)


شرح نهج البلاغة ج : 18 ص : 148و قال ابن قتيبة في الكتاب المذكور و قد قام أعرابي بين يدي سليمان بن عبد الملك بنحو هذا قال له إني مكلمك يا أمير المؤمنين بكلام فيه بعض الغلظة فاحتمله إن كرهته فإن وراءه ما تحب قال قل قال إني سأطلق لساني بما خرست عنه الألسن من عظتك تأدية لحق الله إنك قد تكنفك رجال أساءوا الاختيار لأنفسهم فابتاعوا دنياهم بدينهم فهم حرب الآخرة سلم الدنيا فلا تأمنهم على ما ائتمنك الله عليه فإنهم لم يألوا الأمانة تضييعا و الأمة خسفا و أنت مسئول عما اجترحوا و ليسوا مسئولين عما اجترحت فلا تصلح دنياهم بفساد آخرتك فإن أعظم الناس غبنا من باع آخرته بدنيا غيره قال فقال سليمان أما أنت يا أعرابي فإنك قد سللت علينا عاجلا لسانك و هو أقطع سيفيك فقال أجل لقد سللته و لكن لك لا عليك
شرح نهج البلاغة ج : 18 ص : 32149فَاعِلُ الْخَيْرِ خَيْرٌ مِنْهُ وَ فَاعِلُ الشَّرِّ شَرٌّ مِنْهُ
قد نظمت أنا هذا اللفظ و المعنى فقلت في جملة أبيات لي
خير البضائع للإنسان مكرمة تنمي و تزكو إذا بارت بضائعه فالخير خير و خير منه فاعله و الشر شر و شر منه صانعه
فإن قلت كيف يكون فاعل الخير خيرا من الخير و فاعل الشر شرا من الشر مع أن فاعل الخير إنما كان ممدوحا لأجل الخير و فاعل الشر إنما كان مذموما لأجل الشر فإذا كان الخير و الشر هما سببا المدح و الذم و هما الأصل في ذلك فكيف يكون فاعلاهما خيرا و شرا منهما. قلت لأن الخير و الشر ليسا عبارة عن ذات حية قادرة و إنما هما فعلان أو فعل و عدم فعل أو عدمان فلو قطع النظر عن الذات الحية القادرة التي يصدران عنها لما انتفع أحد بهما و لا استضر فالنفع و الضرر إنما حصلا من الحي الموصوف بهما لا منهما على انفرادهما فلذلك كان فاعل الخير خيرا من الخير و فاعل الشر شرا من الشر

(19/150)


شرح نهج البلاغة ج : 18 ص : 33150كُنْ سَمَحاً وَ لَا تَكُنْ مُبَذِّراً وَ كُنْ مُقَدِّراً وَ لَا تَكُنْ مُقَتِّراً
كل كلام جاء في هذا فهو مأخوذ من قوله سبحانه وَ لا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ وَ لا تَبْسُطْها كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَحْسُوراً. و نحو قوله إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كانُوا إِخْوانَ الشَّياطِينِ وَ كانَ الشَّيْطانُ لِرَبِّهِ كَفُوراً
شرح نهج البلاغة ج : 18 ص : 34151أَشْرَفُ الْغِنَى تَرْكُ الْمُنَى قد سبق منا قول كثير في المنى و نذكر هاهنا ما لم نذكره هناك. سئل عبيد الله بن أبي بكر أي شي ء أدوم متاعا فقال المنى. و قال بلال بن أبي بردة ما يسرني بنصيبي من المنى حمر النعم. و كان يقال الأماني للنفس كالرونق للبصر. و من كلام بعض الحكماء الأماني تعمي أعين البصائر و الحظ يأتي من لا يأتيه و ربما كان الطمع وعاء حشوه المتالف و سائقا يدعو إلى الندامة و أشقى الناس بالسلطان صاحبه كما أن أقرب الأشياء إلى النار أسرعها إحراقا و لا يدرك الغني بالسلطان إلا نفس خائفة و جسم تعب و دين منكتم و إن كان البحر كدر الماء فهو بعيد الهواء
شرح نهج البلاغة ج : 18 ص : 35152مَنْ أَسْرَعَ إِلَى النَّاسِ بِمَا يَكْرَهُونَ قَالُوا فِيهِ مَا لَا يَعْلَمُونَ

(19/151)


هذا المعنى كثير واسع و لنقتصر هاهنا فيه على حكاية ذكرها المبرد في الكامل قال لما فتح قتيبة بن مسلم سمرقند أفضى إلى أثاث لم ير مثله و إلى آلات لم ير مثلها فأراد أن يري الناس عظيم ما أنعم الله به عليه و يعرفهم أقدار القوم الذين ظهر عليهم فأمر بدار ففرشت و في صحنها قدور يرتقى إليها بالسلالم فإذا الحضين بن المنذر بن الحارث بن وعلة الرقاشي قد أقبل و الناس جلوس على مراتبهم و الحضين شيخ كبير فلما رآه عبد الله بن مسلم قال لأخيه قتيبة ائذن لي في معاتبته قال لا ترده لأنه خبيث الجواب فأبى عبد الله إلا أن يأذن له و كان عبد الله يضعف و قد كان تسور حائطا إلى امرأة قبل ذلك فأقبل على الحضين فقال أ من الباب دخلت يا أبا ساسان شرح نهج البلاغة ج : 18 ص : 153قال أجل أسن عمك عن تسور الحيطان قال أ رأيت هذه القدور قال هي أعظم من ألا ترى قال ما أحسب بكر بن وائل رأى مثلها قال أجل و لا غيلان و لو كان رآها سمي شبعان و لم يسم غيلان قال له عبد الله يا أبا ساسان أ تعرف الذي يقول
عزلنا و أمرنا و بكر بن وائل تجر خصاها تبتغي من تحالفه
قال أجل أعرفه و أعرف الذي يقول
بأدنى العزم قاد بني قشير و من كانت له أسرى كلاب و خيبة من يخيب على غني و باهلة بن يعصر و الركاب
يريد يا خيبة من يخيب قال أ فتعرف الذي يقول
كأن فقاح الأزد حول ابن مسمع إذا عرقت أفواه بكر بن وائل
قال نعم أعرفه و أعرف الذي يقول
قوم قتيبة أمهم و أبوهم لو لا قتيبة أصبحوا في مجهل

(19/152)


قال أما الشعر فأراك ترويه فهل تقرأ من القرآن شيئا قال أقرأ منه الأكثر الأطيب هَلْ أَتى عَلَى الْإِنْسانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً فأغضبه فقال و الله لقد بلغني أن امرأة الحضين حملت إليه و هي حبلى من غيره شرح نهج البلاغة ج : 18 ص : 154قال فما تحرك الشيخ عن هيئته الأولى ثم قال على رسله و ما يكون تلد غلاما على فراشي فيقال فلان بن الحضين كما يقال عبد الله بن مسلم فأقبل قتيبة على عبد الله و قال لا يبعد الله غيرك. قلت هو الحضين بالضاد المعجمة و ليس في العرب من اسمه الحضين بالضاد المعجمة غيره
شرح نهج البلاغة ج : 18 ص : 36155مَنْ أَطَالَ الْأَمَلَ أَسَاءَ الْعَمَلَ
قد تقدم منا كلام في الأمل. و قيل لبعض الصالحين أ لك حاجة إلى بغداد قال ما أحب أن أبسط أملي حتى تذهب إلى بغداد و تعود. و قال أبو عثمان النهدي قد أتت علي ثلاثون و مائة سنة ما من شي ء إلا و أجد فيه النقص إلا أملي فإني وجدته كما هو أو يزيد
شرح نهج البلاغة ج : 18 ص : 37156وَ قَالَ ع وَ قَدْ لَقِيَهُ عِنْدَ مَسِيرِهِ إِلَى الشَّامِ دَهَاقِينُ الْأَنْبَارِ فَتَرَجَّلُوا لَهُ وَ اشْتَدُّوا بَيْنَ يَدَيْهِ مَا هَذَا الَّذِي صَنَعْتُمُوهُ فَقَالُوا خُلُقٌ مِنَّا نُعَظِّمُ بِهِ أُمَرَاءَنَا فَقَالَ وَ اللَّهِ مَا يَنْتَفِعُ بِهَذَا أُمَرَاؤُكُمْ وَ إِنَّكُمْ لَتَشُقُّونَ عَلَى أَنْفُسِكُمْ فِي دُنْيَاكُمْ وَ تَشْقَوْنَ بِهِ فِي أُخْرَاكُمْ وَ مَا أَخْسَرَ الْمَشَقَّةَ وَرَاءَهَا الْعِقَابُ وَ أَرْبَحَ الدَّعَةَ مَعَهَا الْأَمَانُ مِنَ النَّارِ

(19/153)


اشتدوا بين يديه أسرعوا شيئا فنهاهم عن ذلك و قال إنكم تشقون به على أنفسكم لما فيه من تعب الأبدان و تشقون به في آخرتكم تخضعون للولاة كما زعمتم أنه خلق و عادة لكم خضوعا تطلبون به الدنيا و المنافع العاجلة فيها و كل خضوع و تذلل لغير الله فهو معصية. ثم ذكر أن الخسران المبين مشقة عاجلة يتبعها عقاب الآخرة و الربح البين دعة عاجلة يتبعها الأمان من النار
شرح نهج البلاغة ج : 18 ص : 38157قَالَ ع لِابْنِهِ الْحَسَنِ ع يَا بُنَيَّ احْفَظْ عَنِّي أَرْبَعاً وَ أَرْبَعاً لَا يَضُرُّكَ مَا عَمِلْتَ مَعَهُنَّ إِنَّ أَغْنَى الْغِنَى الْعَقْلُ وَ أَكْبَرَ الْفَقْرِ الْحُمْقُ وَ أَوْحَشَ الْوَحْشَةِ الْعُجْبُ وَ أَكْرَمَ الْحَسَبِ حُسْنُ الْخُلُقِ يَا بُنَيَّ إِيَّاكَ وَ مُصَادَقَةَ الْأَحْمَقِ فَإِنَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَنْفَعَكَ فَيَضُرُّكَ وَ إِيَّاكَ وَ مُصَادَقَةَ الْبَخِيلِ فَإِنَّهُ يَقْعُدُ عَنْكَ أَحْوَجَ مَا تَكُونُ إِلَيْهِ وَ إِيَّاكَ وَ مُصَادَقَةَ الْفَاجِرِ فَإِنَّهُ يَبِيعُكَ بِالتَّافِهِ وَ إِيَّاكَ وَ مُصَادَقَةَ الْكَذَّابِ فَإِنَّهُ كَالسَّرَابِ يُقَرِّبُ عَلَيْكَ الْبَعِيدَ وَ يُبَعِّدُ عَلَيْكَ الْقَرِيبَ
هذا الفصل يتضمن ذكر العقل و الحمق و العجب و حسن الخلق و البخل و الفجور و الكذب و قد تقدم كلامنا في هذه الخصال أجمع و قد أخذت قوله ع إياك و مصادقة الأحمق فإنه يريد أن ينفعك فيضرك فقلت في أبيات لي
حياتك لا تصحبن الجهول فلا خير في صحبة الأخرق يظن أخو الجهل أن الضلال عين الرشاد فلا يتقي و يكسب صاحبه حمقه فيسرق منه و لا يسرق و أقسم أن العدو اللبيب خير من المشفق الأحمق
شرح نهج البلاغة ج : 18 ص : 39158لَا قُرْبَةَ بِالنَّوَافِلِ إِذَا أَضَرَّتْ بِالْفَرَائِضِ

(19/154)


هذا الكلام يمكن أن يحمل على حقيقته و يمكن أن يحمل على مجازه فإن حمل على حقيقته فقد ذهب إلى هذا المذهب كثير من الفقهاء و هو مذهب الإمامية و هو أنه لا يصح التنفل ممن عليه قضاء فريضة فاتته لا في الصلاة و لا في غيرها فأما الحج فمتفق عليه بين المسلمين أنه لا يصح الابتداء بنفله و إذا نوى نية النفل و لم يكن قد حج حجة الإسلام وقع حجه فرضا فأما نوافل الزكاة فما عرفت أحدا قال إنه لا يثاب المتصدق بها و إن كان لم يؤد الزكاة الواجبة و أما إذا حمل على مجازه فإن معناه يجب الابتداء بالأهم و تقديمه على ما ليس بأهم فتدخل هذه الكلمة في الآداب السلطانية و الإخوانية نحو أن تقول لمن توصيه لا تبدأ بخدمة حاجب الملك قبل أن تبدأ بخدمة ولد الملك فإنك إنما تروم القربة للملك بالخدمة و لا قربة إليه في تأخير خدمة ولده و تقديم خدمة غلامه و حمل الكلمة على حقيقتها أولى لأن اهتمام أمير المؤمنين ع بالأمور الدينية و الشرعية في وصاياه و منثور كلامه أعظم
شرح نهج البلاغة ج : 18 ص : 40159لِسَانُ الْعَاقِلِ وَرَاءَ قَلْبِهِ وَ قَلْبُ الْأَحْمَقِ وَرَاءَ لِسَانِهِ
قال الرضي رحمه الله تعالى و هذا من المعاني العجيبة الشريفة و المراد به أن العاقل لا يطلق لسانه إلا بعد مشاورة الروية و مؤامرة الفكرة و الأحمق تسبق حذفات لسانه و فلتات كلامه مراجعة فكره و مماخضة رأيه فكان لسان العاقل تابع لقلبه و كان قلب الأحمق تابع للسانه قال و قد روي عنه ع هذا المعنى بلفظ آخر و هو قوله قلب الأحمق في فيه و لسان العاقل في قلبه و معناهما واحد
قد تقدم القول في العقل و الحمق و نذكر هاهنا زيادات أخرى
أقوال و حكايات حول الحمقى

(19/155)


قالوا كل شي ء يعز إذا قل و العقل كلما كان أكثر كان أعز و أغلى. و كان عبد الملك يقول أنا للعاقل المدبر أرجى مني للأحمق المقبل. قيل لبعضهم ما جماع العقل فقال ما رأيته مجتمعا في أحد فأصفه و ما لا يوجد كاملا فلا حد له. شرح نهج البلاغة ج : 18 ص : 160و قال الزهري إذا أنكرت عقلك فاقدحه بعاقل. و قيل عظمت المئونة في عاقل متجاهل و جاهل متعاقل. و قيل الأحمق يتحفظ من كل شي ء إلا من نفسه. و قيل لبعضهم العقل أفضل أم الجد فقال العقل من الجد. و خطب رجلان إلى ديماووس الحكيم ابنته ان أحدهما فقيرا و الآخر غنيا فزوجها من الفقير فسأله الإسكندر عن ذلك فقال لأن الغني كان أحمق فكنت أخاف عليه الفقر و الفقير كان عاقلا فرجوت له الغنى. و قال أرسطو العاقل يوافق العاقل و الأحمق لا يوافق العاقل و لا أحمق كالعود المستقيم الذي ينطبق على المستقيم فأما المعوج فإنه لا ينطبق على المعوج و لا على المستقيم. و قال بعضهم لأن أزاول أحمق أحب إلي من أن أزاول نصف أحمق أعني الجاهل المتعاقل. و اعلم أن أخبار الحمقى و نوادرهم كثيرة إلا أنا نذكر منها هاهنا ما يليق بكتابنا فإنه كتاب نزهناه عن الخلاعة و الفحش إجلالا لمنصب أمير المؤمنين. قال هشام بن عبد الملك يوما لأصحابه إن حمق الرجل يعرف بخصال أربع طول لحيته و بشاعة كنيته و نقش خاتمه و إفراط نهمته فدخل عليه شيخ طويل العثنون فقال هشام أما هذا فقد جاء بواحدة فانظروا أين هو من الباقي قالوا له ما كنية الشيخ قال أبو الياقوت فسألوه عن نقش خاتمه فإذا هو شرح نهج البلاغة ج : 18 ص : 161 وَ جاؤُ عَلى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ فقيل له أي الطعام تشتهي قال الدباء بالزيت فقال هشام إن صاحبكم قد كمل. و سمع عمر بن عبد العزيز رجلا ينادي آخر يا أبا العمرين فقال لو كان له عقل لكفاه أحدهما أرسل ابن لعجل بن لجيم فرسا له في حلبة فجاء سابقا فقيل له سمه باسم يعرف به فقام ففقأ عينه و قال قد سميته

(19/156)


الأعور فقال شاعر يهجوه
رمتني بنو عجل بداء أبيهم و أي عباد الله أنوك من عجل أ ليس أبوهم عار عين جواده فأضحت به الأمثال تضرب بالجهلو قال أبو كعب القاص في قصصه إن النبي ص قال في كبد حمزة ما علمتم فادعوا الله أن يطعمنا من كبد حمزة. و قال مرة في قصصه اسم الذئب الذي أكل يوسف كذا و كذا فقيل له إن يوسف لم يأكله الذئب فقال فهذا اسم الذئب الذي لم يأكل يوسف. و دخل كعب البقر الهاشمي على محمد بن عبد الله بن طاهر يعزيه في أخيه فقال له أعظم الله مصيبة الأمير فقال الأمير أما فيك فقد فعل و الله لقد هممت أن أحلق لحيتك فقال إنما هي لحية الله و لحية الأمير فليفعل ما أحب. و كان عامر بن كريز أبو عبد الله بن عامر من حمقى قريش نظر إلى عبد الله و هو يخطب و الناس يستحسنون كلامه فقال لإنسان إلى جانبه أنا أخرجته من هذا و أشار إلى متاعه. شرح نهج البلاغة ج : 18 ص : 162و من حمقى قريش العاص بن هشام المخزومي و كان أبو لهب قامره فقمره ماله ثم داره ثم قليله و كثيره و أهله و نفسه فاتخذه عبدا و أسلمه قينا فلما كان يوم ر بعث به بديلا عن نفسه فقتل ببدر قتله عمر بن الخطاب و كان ابن عم أمه. و من الحمقى الأحوص بن جعفر بن عمرو بن حريث قال له يوما مجالسوه ما بال وجهك أصفر أ تشتكي شيئا فرجع إلى أهله و قال يا بني الخيبة أنا شاك و لا تعلمونني اطرحوا علي الثياب و ابعثوا إلي الطبيب. و من حمقى بني عجل حسان بن الغضبان من أهل الكوفة ورث نصف دار أبيه فقال أريد أن أبيع حصتي من الدار و أشتري بالثمن النصف الباقي فتصير الدار كلها لي. و من حمقى قريش بكار بن عبد الملك بن مروان و كان أبوه ينهاه أن يجالس خالد بن يزيد بن معاوية لما يعرف من حمقه فجلس يوما إلى خالد فقال خالد يعبث به هذا و الله المردد في بني عبد مناف فقال بكار أجل أنا و الله كما قال الأول
مردد في بني اللخناء ترديدا

(19/157)


و طار لبكار هذا بازي فقال لصاحب الشرطة أغلق أبواب دمشق لئلا يخرج البازي. و من حمقى قريش معاوية بن مروان بن الحكم بينا هو واقف بباب دمشق ينتظر أخاه عبد الملك على باب طحان و حمار الطحان يدور بالرحى و في عنقه جلجل فقال للطحان لم جعلت في عنق هذا الحمار جلجلا فقال ربما أدركتني نعسة أو سآمة فإذا لم أسمع صوت الجلجل علمت أنه قد نام فصحت به فقال أ رأيته إن قام و حرك رأسه ما علمك به أنه قائم فقال و من لحماري بمثل عقل الأمير. شرح نهج البلاغة ج : 18 ص : 163و قال معاوية لحميه و قد دخل بابنته تلك الليلة فافتضها لقد ملأا ابنتك البارحة دما فقال إنها من نسوة يخبأن ذلك لأزواجهن. و من حمقى قريش سليمان بن يزيد بن عبد الملك قال يوما لعن الله الوليد أخي فلقد كان فاجرا أرادني على الفاحشة فقال له قائل من أهله اسكت ويحك فو الله إن كان هم لقد فعل. و خطب سعيد بن العاص عائشة ابنة عثمان فقالت هو أحمق لا أتزوجه أبدا له برذونان لونهما واحد عند الناس و يحمل مؤنة اثنين. و ممن كان يحمق من قريش عتبة بن أبي سفيان بن حرب و عبد الله بن معاوية بن أبي سفيان و عبد الله بن قيس بن مخرمة بن المطلب و سهل بن عمرو أخو سهيل بن عمرو بن العاص و كان عبد الملك بن مروان يقول أحمق بيت في قريش آل قيس بن مخرمة. و من القبائل المشهورة بالحمق الأزد كتب مسلمة بن عبد الملك إلى يزيد بن المهلب لما خرج عليهم أنك لست بصاحب هذا الأمر إن صاحبه مغمور موتور و أنت مشهور غير موتور فقام إليه رجل من الأزد فقال قدم ابنك مخلدا حتى يقتل فتصير موتورا. و قام رجل من الأزد إلى عبيد الله بن زياد فقال أصلح الله الأمير إن امرأتي هلكت و قد أردت أن أتزوج أمها و هذا عريفي فأعني في الصداق فقال في كم أنت من العطاء فقال في سبعمائة فقال حطوا من عطائه أربعمائة يكفيك ثلاثمائة. و مدح رجل منهم المهلب فقال
نعم أمير الرفقة المهلب أبيض وضاح كتيس الحلب

(19/158)


شرح نهج البلاغة ج : 18 ص : 164فقال المهلب حسبك يرحمك الله. و كان عبد الملك بن هلال عنده زنبيل مملوء حصا للتسبيح فكان يسبح بواحدة واحدة فإذا مل طرح اثنتين اثنتين ثم ثلاثا ثلاثا فإذا ازداد ملالة قبض قبضة و قال سبحان الله عددك فإذا ضجر أخذ بعرا الزنبيل و قه و قال سبحان الله بعدد هذا. و دخل قوم منزل الخريمي لبعض الأمر فجاء وقت صلاة الظهر فسألوه عن القبلة فقال إنما تركتها منذ شهر. و حكى بعضهم قال رأيت أعرابيا يبكي فسألته عن سبب بكائه فقال بلغني أن جالوت قتل مظلوما. وصف بعضهم أحمق فقال يسمع غير ما يقال و يحفظ غير ما يسمع و يكتب غير ما يحفظ و يحدث بغير ما يكتب. قال المأمون لثمامة ما جهد البلاء يا أبا معن قال عالم يجري عليه حكم جاهل قال من أين قلت هذا قال حبسني الرشيد عند مسرور الكبير فضيق علي أنفاسي فسمعته يوما يقرأ وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ بفتح الذال فقلت له لا تقل أيها الأمير هكذا قل لِلْمُكَذِّبِينَ و كسرت له الذال لأن المكذبين هم الأنبياء فقال قد كان يقال لي عنك أنك قدري فلا نجوت إن نجوت الليلة مني فعاينت منه تلك الليلة الموت من شدة ما عذبني. قال أعرابي لابنه يا بني كن سبعا خالصا أو ذئبا حائسا أو كلبا حارسا و لا تكن أحمق ناقصا. شرح نهج البلاغة ج : 18 ص : 165و كان يقال لو لا ظلمة الخطإ ما أشرق نور الصواب. و قال أبو سعيد السيرافي رأيت متكلما ببغداد بلغ به نقصه في العربية أنه قال في مجلس مشهور إن العبد مضطر بفتح الطاء و الله مضطر بكسرها و زعم أن من قاالله مضطر عبد إلى كذا بالفتح كافر فانظر أين بلغ به جهله و إلى أي رذيلة أداه نقصه. وصف بعضهم إنسانا أحمق فقال و الله للحكمة أزل عن قلبه من المداد عن الأديم الدهين. مر عمر بن الخطاب على رماة غرض فسمع بعضهم يقول أخطيت و أسبت فقال له مه فإن سوء اللحن شر من سوء الرماية. تضجر عمر بن عبد العزيز من كلام رجل بين يديه فقال له صاحب

(19/159)


شرطته قم فقد أوذيت أمير المؤمنين فقال عمر و الله إنك لأشد أذى لي بكلامك هذا منه. و من حمقى العرب و جهلائهم كلاب بن صعصعة خرج إخوته يشترون خيلا فخرج معهم فجاء بعجل يقوده فقيل له ما هذا فقال فرس اشتريته قالوا يا مائق هذه بقرة أ ما ترى قرنيها فرجع إلى منزله فقطع قرنيها ثم قادها فقال لهم قد أعدتها فرسا كما تريدون فأولاده يدعون بني فارس البقرة. و كان شذرة بن الزبرقان بن بدر من الحمقى جاء يوم الجمعة إلى المسجد الجامع فأخذ بعضادتي الباب ثم رفع صوته سلام عليكم أ يلج شذرة فقيل له هذا يوم لا يستأذن فيه فقال أ و يلج مثلي على قوم و لم يعرف له مكانه. شرح نهج البلاغة ج : 18 ص : 166و استعمل معاوية عاملا من كلب فخطب يوما فذكر المجوس فقال لعنهم الله ينكحون أمهاتهم و الله لو أعطيت عشرة آلاف درهم ما نكحت أمي لغ ذلك معاوية فقال قبحه الله أ ترونه لو زادوه فعل و عزله. و شرد بعير لهبنقة و اسمه يزيد بن شروان فجعل ينادي لمن أتى به بعيران فقيل له كيف تبذل ويلك بعيرين في بعير فقال لحلاوة الوجدان. و سرق من أعرابي حمار فقيل له أ سرق حمارك قال نعم و أحمد الله فقيل له على ما ذا تحمده قال كيف لم أكن عليه. و خطب وكيع بن أبي سود بخراسان فقال إن الله خلق السماوات و الأرض في ستة أشهر فقيل له إنها ستة أيام فقال و الله لقد قلتها و أنا أستقلها. و أجريت خيل فطلع فيها فرس سابق فجعل رجل من النظارة يكبر و يثبت من الفرح فقال له رجل إلى جانبه يا فتى أ هذا الفرس السابق لك قال لا و لكن اللجام لي. و قيل لأبي السفاح الأعرابي عند موته أوص فقال إنا الكرام يوم طخفة قالوا قل خيرا يا أبا السفاح قال إن أحبت امرأتي فأعطوها بعيرا قالوا قل خيرا قال إذا مات غلامي فهو حر. و قيل لرجل عند موته قل لا إله إلا الله فأعرض فأعادوا عليه مرارا فقال لهم أخبروني عن أبي طالب قالها عند موته قالوا و ما أنت و أبو طالب فقال أرغب بنفسي عن ذلك

(19/160)


الشريف.
شرح نهج البلاغة ج : 18 ص : 167و قيل لآخر عند موته أ لا توصي فقال أنا مغفور لي قالوا قل إن شاء الله قال قد شاء الله ذلك قالوا يا هذا لا تدع الوصية فقال لابني أخيه يا ابني حريث ارفعا وسادي و احتفظا بالحلة الجياد فإنما حولكما الأعادي. و قيل لمعلم بن معلم ملك أحمق فقال لو لم أكن أحمق لكنت ولد زنا
شرح نهج البلاغة ج : 18 ص : 41168وَ قَالَ ع لِبَعْضِ أَصْحَابِهِ فِي عِلَّةٍ اعْتَلَّهَا جَعَلَ اللَّهُ مَا كَانَ مِنْكَ مِنْ شَكْوَاكَ حَطّاً لِسَيِّئَاتِكَ فَإِنَّ الْمَرَضَ لَا أَجْرَ فِيهِ وَ لَكِنَّهُ يَحُطُّ السَّيِّئَاتِ وَ يَحُتُّهَا حَتَّ الْأَوَاقِ وَ إِنَّمَا الْأَجْرُ فِي الْقَوْلِ بِاللِّسَانِ وَ الْعَمَلِ بِالْأَيْدِي وَ الْأَقْدَامِ وَ إِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ يُدْخِلُ بِصِدْقِ النِّيَّةِ وَ السَّرِيرَةِ الصَّالِحَةِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ الْجَنَّةَ
قال الرضي رحمه الله تعالى و أقول صدق ع إن المرض لا أجر فيه لأنه من قبيل ما يستحق عليه العوض لأن العوض يستحق على ما كان في مقابلة فعل الله تعالى بالعبد من الآلام و الأمراض و ما يجري مجرى ذلك و الأجر و الثواب يستحقان على ما كان في مقابل فعل العبد فبينهما فرق قد بينه ع كما يقتضيه علمه الثاقب و رأيه الصائب

(19/161)


ينبغي أن يحمل كلام أمير المؤمنين ع في هذا الفصل على تأويل يطابق ما تدل عليه العقول و ألا يحمل على ظاهره و ذلك لأن المرض إذا استحق عليه الإنسان شرح نهج البلاغة ج : 18 ص : 169العوض لم يجز أن يقال إن العوض يحط السيئات بنفسه لا على قول أصحابنا و لا على قول امامية أما الإمامية فإنهم مرجئة لا يذهبون إلى التحابط و أما أصحابنا فإنهم لا تحابط عندهم إلا في الثواب و العقاب فأما العقاب و العوض فلا تحابط بينهما لأن التحابط بين الثواب و العقاب إنما كان باعتبار التنافي بينهما من حيث كان أحدهما يتضمن الإجلال و الإعظام و الآخر يتضمن الاستخفاف و الإهانة و محال أن يكون الإنسان الواحد مهانا معظما في حال واحدة و لما كان العوض لا يتضمن إجلالا و إعظاما و إنما هو نفع خالص فقط لم يكن منافيا للعقاب و جاز أن يجتمع للإنسان الواحد في الوقت الواحد كونه مستحقا للعقاب و العوض إما بأن يوفر العوض عليه في دار الدنيا و إما بأن يوصل إليه في الآخرة قبل عقابه إن لم يمنع الإجماع من ذلك في حق الكافر و إما أن يخفف عليه بعض عقابه و يجعل ذلك بدلا من العوض الذي كان سبيله أن يوصل إليه و إذا ثبت ذلك وجب أن يجعل كلام أمير المؤمنين ع على تأويل صحيح و هو الذي أراده ع لأنه كان أعرف الناس بهذه المعاني و منه تعلم المتكلمون علم الكلام و هو أن المرض و الألم يحط الله تعالى عن الإنسان المبتلى به ما يستحقه من العقاب على معاصيه السالفة تفضلا منه سبحانه فلما كان إسقاط العقاب متعقبا للمرض و واقعا بعده بلا فصل جاز أن يطلق اللفظ بأن المرض يحط السيئات و يحتها حت الورق كما جاز أن يطلق اللفظ بأن الجماع يحبل المرأة و بأن سقي البذر الماء ينبته إن كان الولد و الزرع عند المتكلمين وقعا من الله تعالى على سبيل الاختيار لا على الإيجاب و لكنه أجرى العادة و أن يفعل ذلك عقيب الجماع و عقيب سقي البذر الماء. فإن قلت أ يجوز أن يقال إن الله تعالى يمرض

(19/162)


الإنسان المستحق للعقاب و يكون إنما أمرضه ليسقط عنه العقاب لا غير.
شرح نهج البلاغة ج : 18 ص : 170قلت لا لأنه قادر على أن يسقط عنه العقاب ابتداء و لا يجوز إنزال الألم إلا حيث لا يمكن اقتناص العوض المجزى به إليه إلا بطريق الألم و إلا كان فعل الألم عبثا أ لا ترى أنه لا يجوز أن يستحق زيد على عمرو ألف درهم فيضربه و يقول إنمأضربه لأجعل ما يناله من ألم الضرب مسقطا لما استحقه من الدراهم عليه و تذمه العقلاء و يسفهونه و يقولون له فهلا وهبتها له و أسقطتها عنه من غير حاجة إلى أن تضربه و تؤلمه و البحث المستقصى في هذه المسائل مذكور في كتبي الكلامية فليرجع إليها و أيضا فإن الآلام قد تنزل بالأنبياء و ليسوا ذوي ذنوب و معاص ليقال إنها تحطها عنهم. فأما قوله ع و إنما الأجر في القول إلى آخر الفصل فإنه ع قسم أسباب الثواب أقساما فقال لما كان المرض لا يقتضي الثواب لأنه ليس فعل المكلف و إنما يستحق المكلف الثواب على ما كان من فعله وجب أن يبين ما الذي يستحق به المكلف الثواب و الذي يستحق المكلف به ذلك أن يفعل فعلا إما من أفعال الجوارح و إما من أفعال القلوب فأفعال الجوارح إما قول باللسان أو عمل ببعض الجوارح و عبر عن سائر الجوارح عدا اللسان بالأيدي و الأقدام لأن أكثر ما يفعل بها و إن كان قد يفعل بغيرها نحو مجامعة الرجل زوجته إذا قصد به تحصينها و تحصينه عن الزناء و نحو أن ينحي حجرا ثقيلا برأسه عن صدر إنسان قد يقتله و غير ذلك و أما أفعال القلوب فهي العزوم و الإرادات و النظر و العلوم و الظنون و الندم فعبر ع عن جميع ذلك بقوله بصدق النية و السريرة الصالحة و اكتفى بذلك عن تعديد هذه الأجناس. فإن قلت فإن الإنسان قد يستحق الثواب على ألا يفعل القبيح و هذا يخرم الحصر الذي حصره أمير المؤمنين قلت يجوز أن يكون يذهب مذهب أبي علي في أن القادر بقدرة لا يخلو عن الأخذ و الترك

(19/163)


شرح نهج البلاغة ج : 18 ص : 42171وَ قَالَ ع فِي ذِكْرِ خَبَّابٍ رَحِمَ اللَّهُ خَبَّابَ بْنَ الْأَرَتِّ فَلَقَدْ أَسْلَمَ رَاغِباً وَ هَاجَرَ طَائِعاً وَ عَاشَ مُجَاهِداً طُوبَى لِمَنْ ذَكَرَ الْمَعَادَ وَ عَمِلَ لِلْحِسَابِ وَ قَنِعَ بِالْكَفَافِ وَ رَضَ عَنِ اللَّهِ
خباب بن الأرت
هو خباب بن الأرت بن جندلة بن سعد بن خزيمة بن كعب بن سعد بن زيد مناة بن تميم يكنى أبا عبد الله و قيل أبا محمد و قيل أبا يحيى أصابه سبي فبيع بمكة. و كانت أمه ختانة و خباب من فقراء المسلمين و خيارهم و كان به مرض و كان في الجاهلية قينا حدادا يعمل السيوف و هو قديم الإسلام قيل إنه كان سادس ستة و شهد بدرا و ما بعدها من المشاهد و هو معدود في المعذبين في الله سأله عمر بن الخطاب شرح نهج البلاغة ج : 18 ص : 172أيام خلافته ما لقيت من أهل مكة فقال انظر إلى ظهري فنظر فقال ما رأيت كاليوم ظهر رجل فقال خباب أوقدوا لي نارا سحبت عليها فما أطفأها إلا ودك ظهري. و جاء خباب إلى عمر فجعل يقول ادنه ادنه ثم قال له ما أحد أحق بهذا المجلس منك إلا أن يكون عمار بن ياسر نزل خباب إلى الكوفة و مات بها في سنة سبع و ثلاثين و قيل سنة تسع و ثلاثين بعد أن شهد مع أمير المؤمنين علي ع صفين و نهروان و صلى عليه علي ع و كانت سنه يوم مات ثلاثا و سبعين سنة و دفن بظهر الكوفة. و هو أول من دفن بظهر الكوفة و عبد الله بن خباب هو الذي قتلته الخوارج فاحتج علي ع به و طلبهم بدمه و قد تقدم ذكر ذلك

(19/164)


شرح نهج البلاغة ج : 18 ص : 43173وَ قَالَ ع لَوْ ضَرَبْتُ خَيْشُومَ الْمُؤْمِنِ بِسَيْفِي هَذَا عَلَى أَنْ يُبْغِضَنِي مَا أَبْغَضَنِي وَ لَوْ صَبَبْتُ الدُّنْيَا بِجَمَّاتِهَا عَلَى الْمُنَافِقِ عَلَى أَنْ يُحِبَّنِي مَا أَحَبَّنِي وَ ذَلِكَ أَنَّهُ قُضَ فَانْقَضَى عَلَى لِسَانِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ ص أَنَّهُ قَالَ يَا عَلِيُّ لَا يُبْغِضُكَ مُؤْمِنٌ وَ لَا يُحِبُّكَ مُنَافِقٌ
جماتها بالفتح جمع جمة و هي المكان يجتمع فيه الماء و هذه استعارة و الخيشوم أقصى الأنف. و مراده ع من هذا الفصل إذكار الناس ما قاله فيه رسول الله ص و هو لا يبغضك مؤمن و لا يحبك منافق و هي كلمة حق و ذلك لأن الإيمان و بغضه ع لا يجتمعان لأن بغضه كبيرة و صاحب الكبيرة عندنا لا يسمى مؤمنا و أما المنافق فهو الذي يظهر الإسلام و يبطن الكفر و الكافر بعقيدته لا يحب عليا ع لأن المراد من الخبر المحبة الدينية و من لا يعتقد الإسلام لا يحب أحدا من أهل الإسلام لإسلامه و جهاده في الدين فقد بان أن الكلمة حق و هذا الخبر مروي في الصحاح بغير هذا اللفظ
لا يحبك إلا مؤمن و لا يبغضك إلا منافق
و قد فسرناه فيما سبق

(19/165)


شرح نهج البلاغة ج : 18 ص : 44174سَيِّئَةٌ تَسُوءُكَ خَيْرٌ عِنْدَ اللَّهِ مِنْ حَسَنَةٍ تُعْجِبُكَهذا حق لأن الإنسان إذا وقع منه القبيح ثم ساءه ذلك و ندم عليه و تاب حقيقة التوبة كفرت توبته معصيته فسقط ما كان يستحقه من العقاب و حصل له ثواب التوبة و أما من فعل واجبا و استحق به ثوابا ثم خامره الإعجاب بنفسه و الإدلال على الله تعالى بعلمه و التيه على الناس بعبادته و اجتهاده فإنه يكون قد أحبط ثواب عبادته بما شفعها من القبيح الذي أتاه و هو العجب و التيه و الإدلال على الله تعالى فيعود لا مثابا و لا معاقبا لأنه يتكافأ الاستحقاقان. و لا ريب أن من حصل له ثواب التوبة و سقط عنه عقاب المعصية خير ممن خرج من الأمرين كفافا لا عليه و لا له

(19/166)


شرح نهج البلاغة ج : 18 ص : 45175قَدْرُ الرَّجُلِ عَلَى قَدْرِ هِمَّتِهِ وَ صِدْقُهُ عَلَى قَدْرِ مُرُوءَتِهِ وَ شَجَاعَتُهُ عَلَى قَدْرِ أَنَفَتِهِ وَ عِفَّتُهُ عَلَى قَدْرِ غَيْرَتِهِقد تقدم الكلام في كل هذه الشيم و الخصال ثم نقول هاهنا إن كبر الهمة خلق مختص بالإنسان فقط و أما سائر الحيوانات فليس يوجد فيها ذلك و إنما يتجرأ كل نوع منها الفعل بقدر ما في طبعه و علو الهمة حال متوسطة محمودة بين حالتين طرفي رذيلتين و هما الندح و تسمية الحكماء التفتح و صغر الهمة و تسمية الناس الدناءة فالتفتح تأهل الإنسان لما لا يستحقه و صغر الهمة تركه لما يستحقه لضعف في نفسه فهذان مذمومان و العدالة و هي الوسط بينهما محمودة و هي علو الهمة و ينبغي أن يعلم أن المتفتح جاهل أحمق و صغير الهمة ليس بجاهل و لا أحمق و لكنه دني ء ضعيف قاصر و إذا أردت التحقيق فالكبير الهمة من لا يرضى بالهمم الحيوانية و لا يقنع لنفسه أن يكون عند رعاية بطنه و فرجه بل يجتهد في معرفة صانع العالم و مصنوعاته و في اكتساب المكارم الشرعية ليكون من خلفاء الله و أوليائه في الدنيا و مجاوريه في الآخرةو لذلك قيل من عظمت همته لم يرض بقنية مستردة و حياة مستعارة فإن أمكنك شرح نهج البلاغة ج : 18 ص : 176أن تقتني قنية مؤبدة و حياة مخلدة فافعل غير مكترث بقلة من يصحبك و يعينك على ذلك فإنه كما قيلإذا عظم المطلوب قل المساعد
و كما قيل
طرق العلاء قليلة الإيناس
و أما الكلام في الصدق و المروءة و الشجاعة و الأنفة و العفة و الغيرة فقد تقدم كثير منه و سيأتي ما هو أكثر فيما بعد إن شاء الله تعالى

(19/167)


شرح نهج البلاغة ج : 18 ص : 46177الظَّفَرُ بِالْحَزْمِ وَ الْحَزْمُ بِإِجَالَةِ الرَّأْيِ وَ الرَّأْيُ بِتَحْصِينِ الْأَسْرَارِقد تقدم القول في كتمان السر و إذاعته. و قال الحكماء السر ضربان أحدهما ما يلقى إلى الإنسان من حديث ليستكتم و ذلك إما لفظا كقول القائل اكتم ما أقوله لك و إما حالا و هو أن يجهر بالقول حال انفراد صاحبه أو يخفض صوته حيث يخاطبه أو يخفيه عن مجالسيه و لهذا قيل إذا حدثك إنسان و التفت إليه فهو أمانة. و الضرب الثاني نوعان أحدهما أن يكون حديثا في نفسك تستقبح إشاعته و الثاني أن يكون أمرا تريد أن تفعله. و إلى الأول
أشار النبي ص بقوله من أتى منكم شيئا من هذه القاذورات فليستتر بستر الله عز و جل
و إلى الثاني أشار من قال من الوهن و الضعف إعلان الأمر قبل إحكامه و كتمان الضرب الأول من الوفاء و هو مخصوص بعوام الناس و كتمان الضرب الثاني من المروءة و الحزم و النوع الثاني من نوعيه أخص بالملوك و أصحاب السياسات. قالوا و إذاعة السر من قلة الصبر و ضيق الصدر و يوصف به ضعفة الرجال شرح نهج البلاغة ج : 18 ص : 178و النساء و الصبيان و السبب في أنه يصعب كتمان السر أن للإنسان قوتين إحداهما آخذة و الأخرى معطية و كل واحدة منهما تتشوق إلى فعلها الخاص بها و لو لا أن الله تعالى وكل المعطية بإظهار ما عندها لما أتاك بالأخر من لم تزود فعلى الإنسان أن يمسك هذه القوة و لا يطلقها إلا حيث يجب إطلاقها فإنها إن لم تزم و تخطم تقحمت بصاحبها في كل مهلكة
شرح نهج البلاغة ج : 18 ص : 47179احْذَرُوا صَوْلَةَ الْكَرِيمِ إِذَا جَاعَ وَ اللَّئِيمِ إِذَا شَبِعَليس يعني بالجوع و الشبع ما يتعارفه الناس و إنما المراد احذروا صولة الكريم إذا ضيم و امتهن و احذروا صولة اللئيم إذا أكرم و مثل المعنى الأول قول الشاعر
لا يصبر الحر تحت ضيم و إنما يصبر الحمار
و مثل المعنى الثاني قول أبي الطيب

(19/168)


إذا أنت أكرمت الكريم ملكته و إن أنت أكرمت اللئيم تمردا
شرح نهج البلاغة ج : 18 ص : 48180قُلُوبُ الرِّجَالِ وَحْشِيَّةٌ فَمَنْ تَأَلَّفَهَا أَقْبَلَتْ عَلَيْهِهذا مثل قولهم من لان استمال و من قسا نفر و ما استعبد الحر بمثل الإحسان إليه و قال الشاعر
و إني لوحشي إذا ما زجرتني و إني إذا ألفتني لألوف
فأما قول عمارة بن عقيل
تبحثتم سخطي فكدر بحثكم نخيلة نفس كان صفوا ضميرهاو لم يلبث التخشين نفسا كريمة على قومها أن يستمر مريرهاو ما النفس إلا نطفة بقرارة إذا لم تكدر كان صفوا غديرها
فيكاد يخالف قول أمير المؤمنين ع في الأصل لأن أمير المؤمنين ع جعل أصل طبيعة القلوب التوحش و إنما تستمال لأمر خارج و هو التألف و الإحسان و عمارة جعل أصل طبيعة النفس الصفو و السلامة و إنما تتكدر و تجمح لأمر خارج و هو الإساءة و الإيحاش

(19/169)


شرح نهج البلاغة ج : 18 ص : 49181عَيْبُكَ مَسْتُورٌ مَا أَسْعَدَكَ جَدُّكَقد قال الناس في الجد فأكثروا و إلى الآن لم يتحقق معناه و من كلام بعضهم إذا أقبل البخت باضت الدجاجة على الوتد و إذا أدبر البخت أسعر الهاون في الشمس. و من كلام الحكماء إن السعادة لتلحظ الحجر فيدعى ربا. و قال أبو حيان نوادر ابن الجصاص الدالة على تغفله و بلهه كثيرة جدا قد صنف فيها الكتب من جملتها أنه سمع إنسانا ينشد نسيبا فيه ذكر هند فأنكر ذلك و قال لا تذكروا حماة النبي ص إلا بخير و أشياء عجيبة أظرف من هذا و كانت سعادته تضرب بها الأمثال و كثرة أمواله التي لم يجتمع لقارون مثلها قال أبو حيان فكان الناس يعجبون من ذلك حتى أن جماعة من شيوخ بغداد كانوا يقولون إن ابن الجصاص أعقل الناس و أحزم الناس و أنه هو الذي ألحم الحال بين المعتضد و بين خمارويه بن أحمد بن طولون و سفر بينهما سفارة عجيبة و بلغ من الجهتين أحسن مبلغ و خطب قطر الندى بنت خمارويه للمعتضد و جهزها من مصر شرح نهج البلاغة ج : 18 ص : 182على أجمل وجه و أعلى ترتيب و لكنه كان يقصد أن يتغافل و يتجاهل و يظهر البله و النقص يستبقي بذلك ماله و يحرس به نعمته و يدفع عنه عين الكمال و حسد الأعداء. قال أبو حيان قلت لأبي غسان البصري أظن ما قاله هؤلاء صحيحا فإن المعتضد مع حز و عقله و كماله و إصابة رأيه ما اختاره للسفارة و الصلح إلا و المرجو منه فيما يأتيه و يستقبله من أيامه نظير ما قد شوهد منه فيما مضى من زمانه و هل كان يجوز أن يصلح أمر قد تفاقم فساده و تعاظم و اشتد برسالة أحمق و سفارة أخرق فقال أبو غسان إن الجد ينسخ حال الأخرق و يستر عيب الأحمق و يذب عن عرض المتلطخ و يقرب الصواب بمنطقه و الصحة برأيه و النجاح بسعيه و الجد يستخدم العقلاء لصاحبه و يستعمل آراءهم و أفكارهم في مطالبه و ابن الجصاص على ما قيل و روي و حدث و حكي و لكن جده كفاه غائلة الحمق و حماه عواقب الخرق و

(19/170)


لو عرفت خبط العاقل و تعسفه و سوء تأتيه و انقطاعه إذا فارقه الجد لعلمت أن الجاهل قد يصيب بجهله ما لا يصيب العالم بعلمه مع حرمانه. قال أبو حيان فقلت له فما الجد و ما هذا المعنى الذي علقت عليه هذه الأحكام كلها فقال ليس لي عنه عبارة معينة و لكن لي به علم شاف استفدته بالاعتبار و التجربة و السماع العريض من الصغير و الكبير و لهذا سمع من امرأة من الأعراب ترقص ابنا لها فتقول له رزقك الله جدا يخدمك عليه ذوو العقول و لا رزقك عقلا تخدم به ذوي الجدود
شرح نهج البلاغة ج : 18 ص : 50183أَوْلَى النَّاسِ بِالْعَفْوِ أَقْدَرُهُمْ عَلَى الْعُقُوبَةِقد تقدم لنا قول مقنع في العفو و الحلم. و قال الأحنف ما شي ء أشد اتصالا بشي ء من الحلم بالعز. و قالت الحكماء ينبغي للإنسان إذا عاقب من يستحق العقوبة ألا يكون سبعا في انتقامه و ألا يعاقب حتى يزول سلطان غضبه لئلا يقدم على ما لا يجوز و لذلك جرت سنة السلطان بس المجرم حتى ينظر في جرمه و يعيد النظر فيه. و أتي الإسكندر بمذنب فصفح عنه فقال له بعض جلسائه لو كنت إياك أيها الملك لقتلته قال فإذا لم تكن إياي و لا كنت إياك لم يقتل. و انتهى إليه أن بعض أصحابه يعيبه فقيل له أيها الملك لو نهكته عقوبة فقال يكون حينئذ أبسط لسانا و عذرا في اجتنابي. و قالت الحكماء أيضا لذة العفو أطيب من لذة التشفي و الانتقام لأن لذة العفو يشفعها حميد العاقبة و لذة الانتقام يلحقها ألم الندم و قالوا العقوبة ألأم حالات ذي القدرة و أدناها و هي طرف من الجزع و من رضي ألا يكون بينه و بين الظالم إلا ستر رقيق فلينتصف
شرح نهج البلاغة ج : 18 ص : 51184السَّخَاءُ مَا كَانَ ابْتِدَاءً فَإِذَا كَانَ عَنْ مَسْأَلَةٍ فَحَيَاءٌ وَ تَذَمُّمٌيعجبني في هذا المعنى قول ابن حيوس
إني دعوت ندى الكرام فلم يجب فلأشكرن ندى أجاب و ما دعي و من العجائب و العجائب جمة شكر بطي ء عن ندى المتسرو قال آخر

(19/171)


ما اعتاض باذل وجهه بسؤاله عوضا و لو نال الغنى بسؤال و إذا النوال إلى السؤال قرنته رجح السؤال و خف كل نوال شرح نهج البلاغة ج : 18 ص : 52185لَا غِنَى كَالْعَقْلِ وَ لَا فَقْرَ كَالْجَهْلِ وَ لَا مِيرَاثَ كَالْأَدَبِ وَ لَا ظَهِيرَ كَالْمُشَاوَرَةِ روى أبو العباس في الكامل عن أبي عبد الله ع أنه قال خمس من لم يكن فيه لم يكن فيه كثير مستمتع العقل و الدين و الأدب و الحياء و حسن الخلق
و قال أيضا لم يقسم بين الناس شي ء أقل من خمس اليقين و القناعة و الصبر و الشكر و الخامسة التي يكمل بها هذا كله العقل و عنه ع أول ما خلق الله العقل قال له أقبل فأقبل ثم قال له أدبر فأدبر فقال ما خلقت خلقا أحب إلي منك لك الثواب و عليك العقاب
و عنه ع قال قال رسول الله ص إن الله ليبغض الضعيف الذي لا زبر له قال الزبر العقل
و عنه ع عن رسول الله ص ما قسم الله للعباد أفضل من العقل فنوم العاقل أفضل من سهر الجاهل و فطر العاقل أفضل من صوم الجاهل و إقامة العاقل أفضل من شخوص الجاهل و ما بعث الله رسولا حتى يستكمل العقل شرح نهج البلاغة ج : 18 ص : 186و حتى يكون عقله أفضل من عقول جميعمته و ما يضمره في نفسه أفضل من اجتهاد جميع المجتهدين و ما أدى العبد فرائض الله تعالى حتى عقل عنه و لا يبلغ جميع العابدين في عباداتهم ما يبلغه العاقل و العقلاء هم أولو الألباب الذين قال الله تعالى عنهم وَ ما يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُوا الْأَلْبابِ
قال أبو العباس و قال رجل من أصحاب أبي عبد الله ع له و قد سمعه يقول بل يروى مرفوعا إذا بلغكم عن رجل حسن الحال فانظروا في حسن عقله فإنما يجازى بعقله يا ابن رسول الله إن لي جارا كثير الصدقة كثير الصلاة كثير الحج لا بأس به فقال كيف عقله فقال ليس له عقل فقال لا يرتفع بذاك منه

(19/172)


و عنه ع ما بعث الله نبيا إلا عاقلا و بعض النبيين أرجح من بعض و ما استخلف داود سليمان ع حتى اختبر عقله و هو ابن ثلاث عشرة سنة فمكث في ملكه ثلاثين سنة
و عنه مرفوعا صديق كل امرئ عقله و عدوه جهله
و عنه مرفوعا أنا معاشر الأنبياء نكلم الناس على قدر عقولهم
قال أبو العباس و سئل أبو عبد الله ع ما العقل فقال ما عبد به الرحمن و اكتسبت به الجنان
قال و قال أبو عبد الله سئل الحسن بن علي ع عن العقل فقال التجرع للغصة و مداهنة الأعداء
قلت هذا كلام الحسن ع و أنا أقطع بذلك. شرح نهج البلاغة ج : 18 ص : 18 قال أبو العباس و قال أبو عبد الله العاقل لا يحدث من يخاف تكذيبه و لا يسأل من يخاف منعه و لا يثق بمن يخاف عذره و لا يرجو من لا يوثق برجائه
قال أبو العباس و روي عن أبي جعفر ع قال كان موسى ع يدني رجلا من بني إسرائيل لطول سجوده و طول صمته فلا يكاد يذهب إلى موضع إلا و هو معه فبينا هو يوما من الأيام إذ مر على أرض معشبة تهتز فتأوه الرجل فقال له موسى على ما ذا تأوهت قال تمنيت أن يكون لربي حمار و أرعاه هاهنا فأكب موسى طويلا ببصره إلى الأرض اغتماما بما سمع منه فانحط عليه الوحي فقال ما الذي أنكرت من مقالة عبدي إنما آخذ عبادي على قدر ما آتيتهم
قال أبو العباس و روي عن علي ع هبط جبرائيل ع على آدم ع بثلاث ليختار منها واحدة و يدع اثنتين و هي العقل و الحياء و الدين فاختار العقل فقال جبرائيل للحياء و الدين انصرفا فقالا إنا أمرنا أن نكون مع العقل حيث كان فقال فشأنكما ففاز بالثلاث

(19/173)


فأما قوله ع و لا ميراث كالأدب فإني قرأت في حكم الفرس عن بزرجمهر ما ورثت الآباء أبناءها شيئا أفضل من الأدب لأنها إذا ورثتها الأدب اكتسبت بالأدب المال فإذا ورثتها المال بلا أدب أتلفته بالجهل و قعدت صفرا من المال و الأدب. قال بعض الحكماء من أدب ولده صغيرا سر به كبيرا. و كان يقال من أدب ولده أرغم حاسده. و كان يقال ثلاثة لا غربة معهن مجانبة الريب و حسن الأدب و كف الأذى. شرح نهج البلاغة ج : 18 ص : 188و كان يقال عليكم بالأدب فإنه صاحب في السفر و مؤنس في الوحدة و جمال في المحفل و سبب إلى طلب الحاجة. و قال بزرجمهرن كثر أدبه كثر شرفه و إن كان قبل وضيعا و بعد صيته و إن كان خاملا و ساد و إن كان غريبا و كثرت الحاجة إليه و إن كان مقلا. و قال بعض الملوك لبعض وزرائه ما خير ما يرزقه العبد قال عقل يعيش به قال فإن عدمه قال أدب يتحلى به قال فإن عدمه قال مال يستتر به قال فإن عدمه قال صاعقة تحرقه فتريح منه العباد و البلاد. و قيل لبعض الحكماء متى يكون العلم شرا من عدمه قال إذا كثر الأدب و نقصت القريحة يعني بالقريحة العقل. فأما القول في المشورة فقد تقدم و ربما ذكرنا منه نبذا فيما بعد
شرح نهج البلاغة ج : 18 ص : 53189الصَّبْرُ صَبْرَانِ صَبْرٌ عَلَى مَا تَكْرَهُ وَ صَبْرٌ عَمَّا تُحِبُّالنوع الأول أشق من النوع الثاني لأن الأول صبر على مضرة نازلة و الثاني صبر على محبوب متوقع لم يحصل و قد تقدم لنا قول طويل في الصبر. سئل بزرجمهر في بليته عن حاله فقال هون علي ما أنا فيه فكري في أربعة أشياء أولها أني قلت القضاء و القدر لا بد من جريانهما و الثاني أني قلت إن لم أصبر فما أصنع و الثالث أني قلت قد كان يجوز أن تكون المحنة أشد من هذه و الرابع أني قلت لعل الفرج قريب. و قال أنو شروان جميع أمر الدنيا منقسم إلى ضربين لا ثالث لهما أما ما في دفعه حيلة فالاضطراب دواؤه و أما ما لا حيلة فيه فالصبر شفاؤه

(19/174)


شرح نهج البلاغة ج : 18 ص : 54190الْغِنَى فِي الْغُرْبَةِ وَطَنٌ وَ الْفَقْرُ فِي الْوَطَنِ غُرْبَةٌقد تقدم لنا قول مقنع في الفقر و الغنى و مدحهما و ذمهما على عادتنا في ذكر الشي ء و نقيضه و نحن نذكر هاهنا زيادة على ذلك. قال رجل لبقراط ما أشد فقرك أيها الحكيم قال لو عرفت راحة الفقر لشغلك التوجع لنفسك عن التوجع لي الفقر ملك ليس عليه محاسبة. و كان يقال أضع الناس من لا يحتمل الغنى. و قيل للكندي فلان غني فقال أنا أعلم أن له مالا و لكني لا أعلم أ غني هو أم لا لأنني لا أدري كيف يعمل في ماله. قيل لابن عمر توفي زيد بن ثابت و ترك مائة ألف درهم قال هو تركها لكنها لم تتركه. و قالوا حسبك من شرف الفقر أنك لا ترى أحدا يعصي الله ليفتقر أخذه الشاعر فقال
يا عائب الفقر ألا تزدجر عيب الغنى أكبر لو تعتبرإنك تعصي الله تبغي الغنى و ليس تعصي الله كي تفتقر
و كان يقال الحلال يقطر و الحرام يسيل شرح نهج البلاغة ج : 18 ص : 191و قال بعض الحكماء أ لا ترون ذا الغنى ما أدوم نصبه و أقل راحته و أخس من ماله حظه و أشد من الأيام حذره و أغرى الدهر بنقصه و ثلمه ثم هو بين سلطان يرعاه و حقوق تسترعيه و أكفاء ينافسونه و ولد دون موته قد بعث الغنى عليه من سلطانه العناء و من أكفائه الحسد و من أعدائه البغي و من ذوي الحقوق الذم و من الولد الملالة و تمني الفقد لا كذي البلغة قنع فدام له السرور و رفض الدنيا فسلم من الحسد و رضي بالكفاف فكفي الحقوق
شرح نهج البلاغة ج : 18 ص : 55192الْقَنَاعَةُ مَالٌ لَا يَنْفَدُ قال الرضي رحمه الله تعالى و قد روي هذا الكلام عن النبي صقد ذكرنا نكتا جليلة الموقع في القناعة فيما تقدم و نذكر هاهنا زيادة على ذلك. فمن كلام الحكماء قاوم الفقر بالقناعة و قاهر الغنى بالتعفف و طاول عناء الحاسد بحسن الصنع و غالب الموت بالذكر الجميل. و كان يقال الناس رجلان واجد لا يكتفي و طالب لا يجد أخذه الشاعر فقال

(19/175)


و ما الناس إلا واجد غير قانع بأرزاقه أو طالب غير واجد
قال رجل لبقراط و رآه يأكل العشب لو خدمت الملك لم تحتج إلى أن تأكل الحشيش فقال له و أنت إن أكلت الحشيش لم تحتج أن تخدم الملك
شرح نهج البلاغة ج : 18 ص : 56193الْمَالُ مَادَّةُ الشَّهَوَاتِ قد تقدم لنا كلام في المال مدحا و ذما. و قال أعرابي لبنيه اجمعوا الدراهم فإنها تلبس اليلمق و تطعم الجردق. و قال أعرابي و قد نظر إلى دينار قاتلك الله ما أصغر قمتك و أكبر همتك. و من كلام الحكماما اخترت أن تحيا به فمت دونه. سئل أفلاطون عن المال فقال ما أقول في شي ء يعطيه الحظ و يحفظه اللؤم و يبلعه الكرم. و كان يقال ثلاثة يؤثرون المال على أنفسهم تاجر البحر و المقاتل بالأجرة و المرتشي في الحكم و هو شرهم لأن الأولين ربما سلما و لا سلامة للثالث من اإثم. ثم قالوا و قد سمى الله تعالى المال خيرا في قوله إِنْ تَرَكَ خَيْراً و في قوله وَ إِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ. كان عبد الرحمن بن عوف يقول حبذا المال أصون به عرضي و أقرضه ربي شرح نهج البلاغة ج : 18 ص : 194فيضاعفه لي و قالوا في ذم المال المال م الماء غاد و رائح طبعه كطبع الصبي لا يوقف على سبب رضاه و لا سخطه المال لا ينفعك ما لم تفارقه. و فيه قال الشاعر
و صاحب صدق ليس ينفع قربه و لا وده حتى تفارقه عمدا
و أخذ هذا المعنى الحريري فقال
و ليس يغني عنك في المضايق إلا إذا فر فرار الآبق
و قال الشاعر
أ لم تر أن المال يهلك ربه إذا جم آتيه و سد طريقه و من جاوز البحر الغزير بقحمة و سد طريق الماء فهو غريقه شرح نهج البلاغة ج : 18 ص : 57195مَنْ حَذَّرَكَ كَمَنْ بَشَّرَكَ هذا مثل قولهم اتبع أمر مبكياتك لا أمر مضحكاتك و مثله صديقك من نهاك لا من أغراك و مثله رحم الله أمرا أهدى إلي عيوبي. و التحذير هو النصح و النصح واجب و هو تعريف الإنسان ما فيه صلاحه و دفع المة عنه و

(19/176)


قد جاء في الخبر الصحيح الدين النصيحة فقيل يا رسول الله لمن فقال لعامة المسلمين
و أول ما يجب على الإنسان أن يحذر نفسه و ينصحها فمن غش نفسه فقلما يحذر غيره و ينصحه و حق من استنصح أن يبذل غاية النصح و لو كان في أمر يضره و إلى ذلك وقعت الإشارة في الكتاب العزيز بقوله سبحانه يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَداءَ لِلَّهِ وَ لَوْ عَلى أَنْفُسِكُمْ و قال سبحانه وَ إِذا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَ لَوْ كانَ ذا قُرْبى. و معنى قوله ع كمن بشرك أي ينبغي لك أن تسر بتحذيره لك كما تسر لو بشرك بأمر تحبه و أن تشكره على ذلك كما تشكره لو بشرك بأمر تحبه لأنه لو لم يكن يريد بك الخير لما حذرك من الوقوع في الشر
شرح نهج البلاغة ج : 18 ص : 58196اللِّسَانُ سَبُعٌ إِنْ خُلِّيَ عَنْهُ عَقَرَقد تقدم لنا كلام طويل في هذا المعنى. و كان يقال إن كان في الكلام درك ففي الصمت عافية. و قالت الحكماء النطق أشرف ما خص به الإنسان لأنه صورته المعقولة التي باين بها سائر الحيوانات و لذلك قال سبحانه خَلَقَ الْإِنْسانَ عَلَّمَهُ الْبَيانَ و لم يقل و علمه بالواو لأنه سبحانه جعل قوله عَلَّمَهُ الْبَيانَ تفسيرا لقوله خَلَقَ الْإِنْسانَ لا عطفا عليه تنبيها على أن خلقه له و تخصيصه بالبيان الذي لو توهم مرتفعا لارتفعت إنسانيته و لذلك قيل ما الإنسان لو لا اللسان إلا بهيمة مهملة أو صورة ممثلة. و قال الشاعر
لسان الفتى نصف و نصف فؤاده فلم يبق إلا صورة اللحم و الدم
قالوا و الصمت من حيث هو صمت مذموم و هو من صفات الجمادات فضلا شرح نهج البلاغة ج : 18 ص : 197عن الحيوانات و كلام أمير المؤمنين ع و غيره من العلماء في مدح الصمت محمول على من يسي ء الكلام فيقع منه جنايات عظيمة في أمور الدين و الدنيا كما رو في الخبر أن الإنسان إذا أصبح قالت أعضاؤه للسانه اتق الله فينا فإنك إن استقمت نجونا و إن زغت هلكنا

(19/177)


فأما إذا اعتبر النطق و الصمت بذاتيهما فقط فمحال أن يقال في الصمت فضل فضلا عن أن يخاير و يقايس بينه و بين الكلام
شرح نهج البلاغة ج : 18 ص : 59198الْمَرْأَةُ عَقْرَبٌ حُلْوَةُ اللَّسْبَةِ اللسبة اللسعة لسبته العقرب بالفتح لسعته و لسبت العسل بالكسر أي لعقته. و قيل لسقراط أي السباع أجسر قال المرأة. و نظر حكيم إلى امرأة مصلوبة على شجرة فقال ليت كل شجرة تحمل مثل هذه الرة. مرت بسقراط امرأة و هي تتشوف فقالت يا شيخ ما أقبحك فقال لو لا أنك من المرايا الصدئة لغمني ما بان من قبح صورتي فيك. و رأى بعضهم مؤدبا يعلم جارية الكتابة فقال لا تزد الشر شرا إنما تسقى سهما سما لترمي به يوما ما. و رأى بعضهم جارية تحمل نارا فقال نار على نار و الحامل شر من المحمول. و تزوج بعضهم امرأة نحيفة فقيل له في ذلك فقال اخترت من الشر أقله. كتب فيلسوف على بابه ما دخل هذا المنزل شر قط فقال له بعضهم اكتب إلا المرأة. شرح نهج البلاغة ج : 18 ص : 199و رأى بعضهم امرأة غريقة في الماء فقال زادت الكدر كدرا و ال بالشر يهلك. و
في الحديث المرفوع استعيذوا بالله من شرار النساء و كونوا من خيارهن على حذر
و في كلام الحكماء أعص هواك و النساء و افعل ما شئت. دعا بعضهم لصاحبه فقال أمات الله عدوك فقال لو قلت زوج الله عدوك لكان أبلغ في الانتقام. و من الكنايات المشهورة عنهن سلاح إبليس. و
في الحديث المرفوع أنهن ناقصات عقل و دين
و قد تقدم من كلام أمير المؤمنين ع في هذا الكتاب ما هو شرح و إيضاح لهذا المعنى. و
جاء في الحديث أيضا شاوروهن و خالفوهن
و في الحديث أيضا النساء حبائل الشيطان
و في الحديث أيضا ما تركت بعدي فتنة أضر من النساء على الرجال
و في الحديث أيضا المرأة ضلع عوجاء إن داريتها استمتعت بها و إن رمت تقويمها كسرتها
و قال الشاعر في هذا المعنى

(19/178)


هي الضلع العوجاء لست تقيمها ألا إن تقويم الضلوع انكسارهاأ يجمعن ضعفا و اقتدارا على الفتى أ ليس عجيبا ضعفها و اقتدارها
و من كلام بعض الحكماء ليس ينبغي للعاقل أن يمدح امرأة إلا بعد موتها. و في الأمثال لا تحمدن أمة عام شرائها و لا حرة عام بنائها. شرح نهج البلاغة ج : 18 ص : 200و من كلام عبد الله المأمون أنهن شر كلهن و شر ما فيهن ألا غنى عنهن. و قال بعض السلف إن كيد النساء أم من كيد الشيطان لأن الله تعالى ذكر الشيطان فقال إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطانِ كانَ ضَعِيفاً. و ذكر النساء فقال إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ. و كان يقال من الفواقر امرأة سوء إن حضرتها لسبتك و إن غبت عنها لم تأمنها. و قال حكيم أضر الأشياء بالمال و النفس و الدين و العقل و العرض شدة الإغرام بالنساء و من أعظم ما يبتلى به المغرم بهن أنه لا يقتصر على ما عنده منهن و لو كن ألفا و يطمح إلى ما ليس له منهن. و قال بعض الحكماء من يحصي مساوئ النساء اجتمع فيهن نجاسة الحيض و الاستحاضة و دم النفاس و نقص العقل و الدين و ترك الصوم و الصلاة في كثير من أيام العمر ليست عليهن جماعة و لا جمعة و لا يسلم عليهن و لا يكون منهن إمام و لا قاض و لا أمير و لا يسافرن إلا بولي. و كان يقال ما نهيت امرأة عن أمر إلا أتته. و في هذا المعنى يقول طفيل الغنوي

(19/179)


إن النساء كأشجار نبتن معا هن المرار و بعض المر مأكول إن النساء متى ينهين عن خلق فإنه واجب لا بد مفعول شرح نهج البلاغة ج : 18 ص : 60201إِذَا حُيِّيتَ بِتَحِيَّةٍ فَحَيِّ بِأَحْسَنَ مِنْهَا وَ إِذَا أُسْدِيَتْ إِلَيْكَ يَدٌ فكَاَفِئْهَا بِمَا يُرْبِي عَلَيْهَا وَ الْفَضْلُ مَعَ ذَلِكَ لِلْبَادِئِاللفظة الأولى من القرآن العزيز و الثانية تتضمن معنى مشهورا. و قوله و الفضل مع ذلك للبادئ يقال في الكرم و الحث على فعل الخير. و روى المدائني قال قدم على أسد بن عبد الله القشيري بخراسان رجل فدخل مع الناس فقال أصلح الله الأمير إن لي عندك يدا قال و ما يدك قال أخذت بركابك يوم كذا قال صدقت حاجتك قال توليني أبيورد قال لم قال لأكسب مائة ألف درهم قال فإنا قد أمرنا لك بها الساعة فنكون قد بلغناك ما تحب و أقررنا صاحبنا على عمله قال أصلح الله الأمير إنك لم تقض ذمامي قال و لم و قد أعطيتك ما أملت قال فأين الإمارة و أين حب الأمر و النهي قال قد وليتك أبيورد و سوغت لك ما أمرت لك به و أعفيتك من المحاسبة إن صرفتك عنها قال و لم تصرفني عنها و لا يكون الصرف إلا من عجز أو خيانة شرح نهج البلاغة ج : 18 ص : 202و أنا بري ء منهما قال اذهب فأنت أميرها ما دامت لنا خراسان فلم يزل أميرا أبيورد حتى عزل أسد. قال المدائني و جاء رجل إلى نصر بن سيار يذكر قرابة قال و ما قرابتك قال ولدتني و إياك فلانة قال نصر قرابة عورة قال إن العورة كالشن البالي يرقعه أهله فينتفعون به قال حاجتك قال مائة ناقة لاقح و مائة نعجة ربى أي معها أولادها قال أما النعاج فخذها و أما النوق فنأمر لك بأثمانها. و روى الشعبي قال حضرت مجلس زياد و حضره رجل فقال أيها الأمير إن لي حرمة أ فأذكرها قال هاتها قال رأيتك بالطائف و أنت غليم ذو ذؤابة و قد أحاطت بك جماعة من الغلمان و أنت تركض هذا مرة برجلك و تنطح هذا مرة برأسك و تكدم مرة بأنيابك فكانوا مرة ينثالون

(19/180)


عليك و هذه حالهم و مرة يندون عنك و أنت تتبعهم حتى كاثروك و استقووا عليك فجئت حتى أخرجتك من بينهم و أنت سليم و كلهم جريح قال صدقت أنت ذاك الرجل قال أنا ذاك قال حاجتك قال الغنى عن الطلب قال يا غلام أعطه كل صفراء و بيضاء عندك فنظر فإذا قيمة كل ما يملك ذلك اليوم من الذهب و الفضة أربعة و خمسون ألف درهم فأخذها و انصرف فقيل له بعد ذلك أنت رأيت زيادا و هو غلام بذلك الحال قال إي و الله لقد رأيته و قد اكتنفه صبيان صغيران كأنهما من سخال المعز فلو لا أني أدركته لظننت أنهما يأتيان على نفسه. و جاء رجل إلى معاوية و هو في مجلس العامة فقال يا أمير المؤمنين إن لي حرمة قال و ما هي قال دنوت من ركابك يوم صفين و قد قربت فرسك لتفر و أهل شرح نهج البلاغة ج : 18 ص : 203العراق قد رأوا الفتح و الظفر فقلت لك و الله لو كانت هند بنت عتبة مكانك ما فرت و لا اختارتلا أن تموت كريمة أو تعيش حميدة أين تفر و قد قلدتك العرب أزمة أمورها و أعطتك قياد أعنتها فقلت لي اخفض صوتك لا أم لك ثم تماسكت و ثبت و ثابت إليك حماتك و تمثلت حينئذ بشعر أحفظ منه
و قولي كلما جشأت و جاشت مكانك تحمدي أو تستريحي
فقال معاوية صدقت وددت أنك الآن أيضا خفضت من صوتك يا غلام أعطه خمسين ألف درهم فلو كنت أحسنت في الأدب لأحسنا لك في الزيادة
شرح نهج البلاغة ج : 18 ص : 61204الشَّفِيعُ جَنَاحُ الطَّالِبِ جاء في الحديث مرفوعا اشفعوا إلي تؤجروا و يقضي الله على لسان نبيه ما شاءو قال المأمون لإبراهيم بن المهدي لما عفا عنه إن أعظم يدا عندك من عفوي عنك أني لم أجرعك مرارة امتنان الشافعين. و من كلام قابوس بن وشمكير بزند الشفيع تورى نار النجاح و من كف المفيض ينتظر فوز القداح. قال المبرد أتاني رجل يستشفع بي في حاجة فأنشدني لنفسه

(19/181)


إني قصدتك لا أدلى بمعرفة و لا بقربى و لكن قد فشت نعمك فبت حيران مكروبا يؤرقني ذل الغريب و يغشيني الكرى كرمك و لو هممت بغير العرف ما علقت به يداك و لا انقادت له شيمك ما زلت أنكب حتى زلزلت قدمي فاحتل لتثبيتها لا زلزلت قدقال فشفعت له و قمت بأمره حتى بلغت له ما أحب. بزرجمهر من لم يستغن بنفسه عن شفيعه و وسائله وهت قوى أسبابه و كان إلى شرح نهج البلاغة ج : 18 ص : 205الحرمان أقرب منه إلى بلوغ المراد و مثله من لم يرغب أوداؤه في اجتنابه لم يحظ بمدح شفعائه و مثله إذا زرت الملوك ن حسبي شفيعا عندهم أن يعرفوني. كلم الأحنف مصعب بن الزبير في قوم حبسهم فقال أصلح الله الأمير إن كان هؤلاء حبسوا في باطل فالحق يخرجهم و إن كانوا حبسوا في حق فالعفو يسعهم فأمر بإخراجهم. آخر
إذا أنت لم تعطفك إلا شفاعة فلا خير في ود يكون بشافع
خرج العطاء في أيام المنصور و أقام الشقراني من ولد شقران مولى رسول الله ص ببابه أياما لا يصل إليه عطاؤه فخرج جعفر بن محمد من عند المنصور فقام الشقراني إليه فذكر له حاجته فرحب به ثم دخل ثانيا إلى المنصور و خرج و عطاء الشقراني في كمه فصبه في كمه ثم
قال يا شقران إن الحسن من كل أحد حسن و إنه منك أحسن لمكانك منا و إن القبيح من كل أحد قبيح و هو منك أقبح لمكانك منا
فاستحسن الناس ما قاله و ذلك لأن الشقراني كان صاحب شراب قالوا فانظر كيف أحسن السعي في استنجاز طلبته و كيف رحب به و أكرمه مع معرفته بحاله و كيف وعظه و نهاه عن المنكر على وجه التعريض قال الزمخشري و ما هو إلا من أخلاق الأنبياء. كتب سعيد بن حميد شفاعة لرجل كتابي هذا كتاب معتن بمن كتب له واثق بمن كتب إليه و لن يضيع حامله بين الثقة و العناية إن شاء الله. أبو الطيب
إذا عرضت حاج إليه فنفسه إلى نفسه فيها شفيع مشفع

(19/182)


شرح نهج البلاغة ج : 18 ص : 206محمد بن جعفر و المنصوركان المنصور معجبا بمحادثة محمد بن جعفر بن عبيد الله بن العباس و كان الناس لعظم قدره عند المنصور يفزعون إليه في الشفاعات و قضاء الحاجات فثقل ذلك على المنصور فحجبه مدة ثم تتبعته نفسه فحادث الربيع فيه و قال إنه لا صبر لي عنه لكني قد ذكرت شفاعاته فقال الربيع أنا أشترط ألا يعود فكلمه الربيع فقال نعم فمكث أياما لا يشفع ثم وقف له قوم من قريش و غيرهم برقاع و هو يريد دار المنصور فسألوه أن يأخذ رقاعهم فقص عليهم القصة فضرعوا إليه و سألوه فقال أما إذ أبيتم قبول العذر فإني لا أقبضها منكم و لكن هلموا فاجعلوها في كمي فقذفوها في كمه و دخل على المنصور و هو في الخضراء يشرف على مدينة السلام و ما حولها بين البساتين و الضياع فقال له أ ما ترى إلى حسنها قال بلى يا أمير المؤمنين فبارك الله لك فيما آتاك و هنأك بإتمام نعمته عليك فيما أعطاك فما بنت العرب في دولة الإسلام و لا العجم في سالف الأيام أحصن و لا أحسن من مدينتك و لكن سمجتها في عيني خصلة قال ما هي قال ليس لي فيها ضيعة فضحك و قال نحسنها في عينك ثلاث ضياع قد أقطعتكها فقال أنت و الله يا أمير المؤمنين شريف الموارد كريم المصادر فجعل الله باقي عمرك أكثر من ماضيه و جعلت الرقاع تبدر من كميه في أثناء كلامه و خطابه للمنصور و هو يلتفت إليها و يقول ارجعن خاسئات ثم يعود إلى حديثه فقال المنصور ما هذه بحقي عليك أ لا أعلمتني خبرها فأعلمه فضحك فقال أبيت يا ابن معلم الخير إلا كرما ثم تمثل بقول عبد الله بن معاوية بن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب شرح نهج البلاغة ج : 18 ص : 20لسنا و إن أحسابنا كملت يوما على الأحساب نتكل نبني كما كانت أوائلنا تبني و نفعل مثل ما فعلواثم أخذها و تصفحها و وقع فيها كلها بما طلب أصحابها. قال محمد بن جعفر فخرجت من عنده و قد ربحت و أربحت.

(19/183)


قال المبرد لعبد الله بن يحيى بن خاقان أنا أشفع إليك أصلحك الله في أمر فلان فقال له قد سمعت و أطعت و سأفعل في أمره كذا فما كان من نقص فعلي و ما كان من زيادة فله قال المبرد أنت أطال الله بقاءك كما قال زهير
و جار سار معتمدا إلينا أجاءته المخافة و الرجاءضمنا ماله فغدا سليما علينا نقصه و له النماء
و قال دعبل
و إن امرأ أسدى إلي بشافع إليه و يرجو الشكر مني لأحمق شفيعك يا شكر الحوائج إنه يصونك عن مكروهها و هو يخلقآخر
مضى زمنى و الناس يستشفعون بي فهل لي إلى ليلى الغداة شفيع
آخر
و نبئت ليلى أرسلت بشفاعة إلي فهلا نفس ليلى شفيعهاأ أكرم من ليلى علي فتبتغي به الجاه أم كنت امرأ لا أطيعها
شرح نهج البلاغة ج : 18 ص : 208آخرو من يكن الفضل بن يحيى بن خالد شفيعا له عند الخليفة ينجح
آخر
و إذا امرؤ أسدى إليك صنيعة من جاهه فكأنها من ماله
و هذا مثل قول الآخر
و عطاء غيرك إن بذلت عناية فيه عطاؤك
ابن الرومي
ينام الذي استسعاك في الأمر إنه إذا أيقظ الملهوف مثلك ناماكفى العود منك البدء في كل موقف و جردت للجلى فكنت حسامافما لك تنبو في يدي عن ضريبتي و لم أرث من هز و كنت كهاما
شرح نهج البلاغة ج : 18 ص : 62209أَهْلُ الدُّنْيَا كَرَكْبٍ يُسَارُ بِهِمْ وَ هُمْ نِيَامٌهذا التشبيه واقع و هو صورة الحال لا محالة. و قد أتيت بهذا المعنى في رسالة لي كتبتها إلى بعض الأصدقاء تعزية فقلت و لو تأمل الناس أحوالهم و تبينوا مآلهم لعلموا أن المقيم منهم بوطنه و الساكن إلى سكنه أخو سفر يسرى به و هو لا يسري و راكب بحر يجرى به و هو لا يدري
شرح نهج البلاغة ج : 18 ص : 63210فَقْدُ الْأَحِبَّةِ غُرْبَةٌ مثل هذا قول الشاعرفلا تحسبي أن الغريب الذي نأى و لكن من تنأين عنه غريب
و مثله قوله ع الغريب من ليس له حبيب
و قال الشاعر

(19/184)


أسرة المرء والداه و فيما بين حضنيهما الحياة تطيب و إذا وليا عن المرء يوما فهو في الناس أجنبي غريبو قال آخر
إذا ما مضى القرن الذي كنت فيهم و خلفت في قرن فأنت غريب
شرح نهج البلاغة ج : 18 ص : 64211فَوْتُ الْحَاجَةِ أَهْوَنُ مِنْ طَلَبِهَا إِلَى غَيْرِ أَهْلِهَاقد سبق هذا المعنى و ذكرنا كثيرا مما قيل فيه. و كان يقال لا تطلبوا الحوائج إلى ثلاثة إلى عبد يقول الأمر إلى غيري و إلى رجل حديث الغنى و إلى تاجر همته أن يستربح في كل عشرين دينارا حبة واحدة
شرح نهج البلاغة ج : 18 ص : 65212لَا تَسْتَحِ مِنْ إِعْطَاءِ الْقَلِيلِ فَإِنَّ الْحِرْمَانَ أَقَلُّ مِنْهُهذا نوع من الحث على الإفضال و الجود لطيف و قد استعمل كثيرا في الهدية و الاعتذار لقلتها و قد تقدم منا قول شاف في مدح السخاء و الجود. و كان يقال أفضل على من شئت تكن أميره و احتج إلى من شئت تكن أسيره و استغن عمن شئت تكن نظيره. و سئل أرسطو هل من جود يستطاع أن يتناول به كل أحد قال نعم أن تنوي الخير لكل أحد
شرح نهج البلاغة ج : 18 ص : 66213الْعَفَافُ زِينَةُ الْفَقْرِ وَ الشُّكْرُ زِينَةُ الْغِنَىمن الأبيات المشهورة
فإذا افتقرت فلا تكن متخشعا و تجمل
و من أمثالهم المشهورة تجوع الحرة و لا تأكل بثدييها. و أنشد الأصمعي لبعضهم
أقسم بالله لمص النوى و شرب ماء القلب المالحه أحسن بالإنسان من ذله و من سؤال الأوجه الكالحه فاستغن بالله تكن ذا غنى مغتبطا بالصفقة الرابحه طوبى لمن تصبح ميزانه يوم يلاقي ربه راجو قال بعضهم وقفت على كنيف و في أسفله كناف و هو ينشد
و أكرم نفسي عن أمور كثيرة ألا إن إكرام النفوس من العقل

(19/185)


شرح نهج البلاغة ج : 18 ص : 214و أبخل بالفضل المبين على الألى رأيتهم لا يكرمون ذوي الفضل و ما شانني كنس الكنيف و إنما يشين الفتى أن يجتدي نائل النذل و أقبح مما بي وقوفي مؤملا نوال فتى مثلي و أي فتى مو أما كون الشكر زينة الغنى فقد تقدم من القول ما هو كاف. و كان يقال العلم بغير عمل قول باطل و النعمة بغير شكر جيد عاطل
شرح نهج البلاغة ج : 18 ص : 67215إِذَا لَمْ يَكُنْ مَا تُرِيدُ فَلَا تُبَلْ كَيْفَ كُنْتَقد أعجم تفسير هذه الكلمة على جماعة من الناس و قالوا المشهور في كلام الحكماء إذا لم يكن ما تريد فأرد ما يكون و لا معنى لقوله فلا تبل كيف كنت و جهلوا مراده ع. و مراده إذا لم يكن ما تريد فلا تبل بذلك أي لا تكترث بفوت مرادك و لا تبتئس بالحرمان و لو وقف على هذا لتم الكلام و كمل المعنى و صار هذا مثل
قوله فلا تكثر على ما فاتك منها أسفا
و مثل قول الله تعالى لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلى ما فاتَكُمْ لكنه تمم و أكد فقال كيف كنت أي لا تبل بفوت ما كنت أملته و لا تحمل لذلك هما كيف كنت و على أي حال كنت من حبس أو مرض أو فقر أو فقد حبيب و على الجملة لا تبال الدهر و لا تكترث بما يعكس عليك من غرضك و يحرمك من أملك و ليكن هذا الإهوان به و الاحتقار له مما تعتمده دائما على أي حال أفضى بك الدهر إليها و هذا واضح

(19/186)


شرح نهج البلاغة ج : 18 ص : 68216لَا يُرَى الْجَاهِلُ إِلَّا مُفْرِطاً أَوْ مُفَرِّطاًالعدالة هي الخلق المتوسط و هو محمود بين مذمومين فالشجاعة محفوفة بالتهور و الجبن و الذكاء بالغباوة و الجربزة و الجود بالشح و التبذير و الحلم بالجمادية و الاستشاطة و على هذا كل ضدين من الأخلاق فبينهما خلق متوسط و هو المسمى بالعدالة فلذلك لا يرى الجاهل إلا مفرطا أو مفرطا كصاحب الغيرة فهو إما أن يفرط فيها فيخرج عن القانون الصحيح فيغار لا من موجب بل بالوهم و بالخيال و بالوسواس و إما أن يفرط فلا يبحث عن حال نسائه و لا يبالي ما صنعن و كلا الأمرين مذموم و المحمود الاعتدال. و من كلام بعض الحكماء إذا صح العقل التحم بالأدب كالتحام الطعام بالجسد الصحيح و إذا مرض العقل نبا عنه ما يستمع من الأدب كما يقي ء الممعود ما أكل من الطعام فلو آثر الجاهل أن يتعلم شيئا من الأدب لتحول ذلك الأدب جهلا كما يتحول ما خالط جوف المريض من طيب الطعام داء شرح نهج البلاغة ج : 18 ص : 69217إِذَا تَمَّ الْعَقْلُ نَقَصَ الْكَلَامُقد سبق القول في هذا المعنى. و كان يقال إذا رأيتم الرجل يطيل الصمت و يهرب من الناس فاقربوا منه فإنه يلقى الحكمة
شرح نهج البلاغة ج : 18 ص : 70218الدَّهْرُ يُخْلِقُ الْأَبْدَانَ وَ يُجَدِّدُ الآْمَالَ وَ يُقَرِّبُ الْمَنِيَّةَ وَ يُبَاعِدُ الْأُمْنِيَّةَ مَنْ ظَفِرَ بِهِ نَصِبَ وَ مَنْ فَاتَهُ تَعِبَقد سبق لنا قول طويل عريض في ذكر الدهر و الدنيا و نذكر الآن شيئا آخر قال بعض الحكماء الدنيا تسر لتغر و تفيد لتكيد كم راقد في ظلها قد أيقظته و واثق بها قد خذلته بهذا الخلق عرفت و على هذا الشرط صوحبت. و كتب الإسكندر إلى أرسطوطاليس عظني فكتب إليه إذا صفت لك السلامة فجدد ذكر العطب و إذا اطمأن بك الأمن فاستشعر الخوف و إذا بلغت نهاية الأمل فاذكر الموت و إذا أحببت نفسك فلا تجعل لها نصيبا في الإساءة و قال شاعر فأحسن

(19/187)


كأنك لم تسمع بأخبار من مضى و لم تر بالباقين ما صنع الدهرفإن كنت لا تدري فتلك ديارهم عفاها محال الريح بعدك و القطرو هل أبصرت عيناك حيا بمنزل على الدهر إلا بالعراء له قبرفلا تحسبن الوفر مالا جمعته و لكن ما قدمت من صالح وفر
شرح نهج البلاغة ج : 18 ص : 219مضى جامعوا الأموال لم يتزودوا سوى الفقر يا بؤسى لمن زاده الفقرفحتام لا تصحو و قد قرب المدى و حتام لا ينجاب عن قلبك السكربلى سوف تصحو حين ينكشف الغطا و تذكر قولي حين لا ينفع الذكرو ما بين ميلاد الفتى و وفاته إذا انتصح الأقواأنفسهم عمرلأن الذي يأتيه شبه الذي مضى و ما هو إلا وقتك الضيق النزرفصبرا على الأيام حتى تجوزها فعما قليل بعدها يحمد الصبر
شرح نهج البلاغة ج : 18 ص : 71220مَنْ نَصَبَ نَفْسَهُ لِلنَّاسِ إِمَاماً فَعَلَيْهِ أَنْ يَبْدَأَ بِتَعْلِيمِ نَفْسِهِ قَبْلَ تَعْلِيمِ غَيْرِهِ وَ لْيَكُنْ تَأْدِيبُهُ بِسِيرَتِهِ قَبْلَ تَأْدِيبِهِ بِلِسَانِهِ وَ مُعَلِّمُ نَفْسِهِ وَ مُؤَدِّبُهَا أَحَُ بِالْإِجْلَالِ مِنْ مُعَلِّمِ النَّاسِ وَ مُؤَدِّبِهِمْ

(19/188)


الفروع تابعة للأصول فإذا كان الأصل معوجا استحال أن يكون الفرع مستقيما كما قال صاحب المثل و هل يستقيم الظل و العود أعوج فمن نصب نفسه للناس إماما و لم يكن قد علم نفسه ما انتصب ليعلمه الناس كان مثل من نصب نفسه ليعلم الناس الصياغة و النجارة و هو لا يحسن أن يصوغ خاتما و لا ينجر لوحا و هذا نوع من السفه بل هو السفه كله ثم قال ع و ينبغي أن يكون تأديبه لهم بفعله و سيرته قبل تأديبه لهم بلسانه و ذلك لأن الفعل أدل على حال الإنسان من القول. ثم قال و معلم نفسه و مؤدبها أحق بالإجلال من معلم الناس و مؤدبهم و هذا حق لأن من علم نفسه محاسن الأخلاق أعظم قدرا ممن تعاطى تعليم الناس ذلك و هو غير عامل بشي ء منه فأما من علم نفسه و علم الناس فهو أفضل و أجل ممن اقتصر على تعليم نفسه فقط لا شبهة في ذلك شرح نهج البلاغة ج : 18 ص : 72221نَفَسُ الْمَرْءِ خُطَاهُ إِلَى أَجَلِهِوجدت هذه الكلمة منسوبة إلى عبد الله بن المعتز في فصل أوله الناس وفد البلاء و سكان الثرى و أنفاس الحي خطاه إلى أجله و أمله خادع له عن عمله و الدنيا أكذب واعديه و النفس أقرب أعاديه و الموت ناظر إليه و منتظر فيه أمرا يمضيه فلا أدري هل هي لابن المعتز أم أخذها من أمير المؤمنين ع. و الظاهر أنها لأمير المؤمنين ع فإنها بكلامه أشبه و لأن الرضي قد رواها عنه و خبر العدل معمول به

(19/189)


شرح نهج البلاغة ج : 18 ص : 73222كُلُّ مَعْدُودٍ مُنْقَضٍ وَ كُلُّ مُتَوَقَّعٍ آتٍالكلمة الأولى تؤكد مذهب جمهور المتكلمين في أن العالم كله لا بد أن ينقضي و يفنى و لكن المتكلمين الذاهبين إلى هذا القول لا يقولون يجب أن يكون فانيا و منقضيا لأنه معدود فإن ذلك لا يلزم و من الجائز أن يكون معدودا و لا يجب فناؤه و لهذا قال أصحابنا إنما علمنا أن العالم يفنى عن طريق السمع لا من طريق العقل فيجب أن يحمل كلام أمير المؤمنين ع على ما يطابق ذلك و هو أنه ليس يعني أن العدد علة في وجوب الانقضاء كما يشعر به ظاهر لفظه و هو الذي يسميه أصحاب أصول الفقه إيماء و إنما مراده كل معدود فاعلموا أنه فان و منقض فقد حكم على كل معدود بالانقضاء حكما مجردا عن العلة كما لو قيل زيد قائم ليس يعنى أنه قائم لأنه يسمى زيدا. فأما قوله و كل متوقع آت فيماثله قول العامة في أمثالها لو انتظرت القيامة لقامت و القول في نفسه حق لأن العقلاء لا ينتظرون ما يستحيل وقوعه و إنما ينتظرون ما يمكن وقوعه و ما لا بد من وقوعه فقد صح أن كل منتظر سيأتي

(19/190)


شرح نهج البلاغة ج : 18 ص : 74223إِنَّ الْأُمُورَ إِذَا اشْتَبَهَتْ اعْتُبِرَ آخِرُهَا بِأَوَّلِهَاروي إذا استبهمت و المعنى واحد و هو حق و ذلك أن المقدمات تدل على النتائج و الأسباب تدل على المسببات و طالما كان الشيئان ليسا علة و معلولا و إنما بينهما أدنى تناسب فيستدل بحال أحدهما على حال الآخر و إذا كان كذلك و اشتبهت أمور على العاقل الفطن و لم يعلم إلى ما ذا تئول فإنه يستدل على عواقبها بأوائلها و على خواتمها بفواتحها كالرعية ذات السلطان الركيك الضعيف السياسة إذا ابتدأت أمور مملكته تضطرب و استبهم على العاقل كيف يكون الحال في المستقبل فإنه يجب عليه أن يعتبر أواخرها بأوائلها و يعلم أنه سيفضي أمر ذلك الملك إلى انتشار و انحلال في مستقبل الوقت لأن الحركات الأولى منذرة بذلك و واعدة بوقوعه و هذا واضح
شرح نهج البلاغة ج : 18 ص : 75224وَ مِنْ خَبَرِ ضِرَارِ بْنِ ضَمْرَةَ الضَّابِيِّ عِنْدَ دُخُولِهِ عَلَى مُعَاوِيَةَ وَ مَسْأَلَتِهِ لَهُ عَنْ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ ع قَالَ فَأَشْهَدُ لَقَدْ رَأَيْتُهُ فِي بَعْضِ مَوَاقِفِهِ وَ قَدْ أَرْخَى اللَّيْلُ سُولَهُ وَ هُوَ قَائِمٌ فِي مِحْرَابِهِ قَابِضٌ عَلَى لِحْيَتِهِ يَتَمَلْمَلُ تَمَلْمُلَ السَّلِيمِ وَ يَبْكِي بُكَاءَ الْحَزِينِ وَ هُوَ يَقُولُ يَا دُنْيَا يَا دُنْيَا إِلَيْكِ عَنِّي أَ بِي تَعَرَّضْتِ أَمْ إِلَيَّ تَشَوَّفْتِ لَا حَانَ حِينُكِ هَيْهَاتَ غُرِّي غَيْرِي لَا حَاجَةَ لِي فِيكِ قَدْ طَلَّقْتُكِ ثَلَاثاً لَا رَجْعَةَ فِيهَا فَعَيْشُكِ قَصِيرٌ وَ خَطَرُكِ يَسِيرٌ وَ أَمَلُكِ حَقِيرٌ آهِ مِنْ قِلَّةِ الزَّادِ وَ طُولِ الطَّرِيقِ وَ بُعْدِ السَّفَرِ وَ عَظِيمِ الْمَوْرِدِ

(19/191)


السدول جمع سديل و هو ما أسدل على الهودج و يجوز في جمعه أيضا أسدال و سدائل و هو هاهنا استعارة و التململ و التملل أيضا عدم الاستقرار من المرض كأنه على ملة و هي الرماد الحار. و السليم الملسوع. و يروى تشوقت بالقاف. و قوله لا حان حينك دعاء عليها أي لا حضر وقتك كما تقول لا كنت شرح نهج البلاغة ج : 18 ص : 225فأما ضرار بن ضمرة فإن الرياشي روى خبره و نقلته أنا من كتاب عبد الله بن إسماعيل بن أحمد الحلبي في التذييل على نهج البلاغة قال دخل ضرار على معاوية و كان ضرار من صحابة علي ع فقال له معاوية يا ضرار صف لي عليا قال و تعفيني قال لا أعفيك قال ما أصف منه كان و الله شديد القوى بعيد المدى يتفجر العلم من أنحائه و الحكمة من أرجائه حسن المعاشرة سهل المباشرة خشن المأكل قصير الملبس غزير العبرة طويل الفكرة يقلب كفه و يخاطب نفسه و كان فينا كأحدنا يجيبنا إذا سألنا و يبتدئنا إذا سكتنا و نحن مع تقريبه لنا أشد ما يكون صاحب لصاحب هيبة لا نبتدئه الكلام لعظمته يحب المساكين و يقرب أهل الدين و أشهد لقد رأيته في بعض مواقفه... و تمام الكلام مذكور في الكتاب. و

(19/192)


ذكر أبو عمر بن عبد البر في كتاب الإستيعاب هذا الخبر فقال حدثنا عبد الله بن محمد بن يوسف قال حدثنا يحيى بن مالك بن عائد قال حدثنا أبو الحسن محمد بن محمد بن مقلة البغدادي بمصر و حدثنا أبو بكر محمد بن الحسن بن دريد قال حدثنا العكلي عن الحرمازي عن رجل من همدان قال قال معاوية لضرار الضبابي يا ضرار صف لي عليا قال اعفني يا أمير المؤمنين قال لتصفنه قال أما إذ لا بد من وصفه فكان و الله بعيد المدى شديد القوى يقول فصلا و يحكم عدلا يتفجر العلم من جوانبه و تنطق الحكمة من نواحيه يستوحش من الدنيا و زهرتها و يأنس بالليل و وحشته و كان غزير العبرة طويل الفكرة يعجبه من اللباس ما قصر و من الطعام ما خشن كان فينا كأحدنا يجيبنا إذا سألناه و ينبئنا إذا استفتيناه و نحن و الله شرح نهج البلاغة ج : 18 ص : 226مع تقريبه إيانا و قربه منا لا نكاد نكلمه هيبة له يعظم أهل الدين و يقرب المسين لا يطمع القوي في باطله و لا ييئس الضعيف من عدله و أشهد لقد رأيته في بعض مواقفه و قد أرخى الليل سدوله و غارت نجومه قابضا على لحيته يتململ تململ السليم و يبكي بكاء الحزين و يقول يا دنيا غري غيري أ بي تعرضت أم إلي تشوقت هيهات هيهات قد باينتك ثلاثا لا رجعة لي فيها فعمرك قصير و خطرك حقير آه من قلة الزاد و بعد السفر و وحشة الطريق فبكى معاوية و قال رحم الله أبا حسن كان و الله كذلك فكيف حزنك عليه يا ضرار قال حزن من ذبح ولدها في حجرها

(19/193)


شرح نهج البلاغة ج : 18 ص : 76227وَ مِنْ كَلَامِهِ ع لِلسَّائِلِ الشَّامِيِّ لَمَّا سَأَلَهُ أَ كَانَ مَسِيرُنَا إِلَى الشَّامِ بِقَضَاءٍ مِنَ اللَّهِ وَ قَدَرِهِ بَعْدَ كَلَامٍ طَوِيلٍ هَذَا مُخْتَارُهُ وَيْحَكَ لَعَلَّكَ ظَنَنْتَ قَضَاءً لَازِماً وَ قَراً حَاتِماً لَوْ كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ لَبَطَلَ الثَّوَابُ وَ الْعِقَابُ وَ سَقَطَ الْوَعْدُ وَ الْوَعِيدُ إِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ أَمَرَ عِبَادَهُ تَخْيِيراً وَ نَهَاهُمْ تَحْذِيراً وَ كَلَّفَ يَسِيراً وَ لَمْ يُكَلِّفْ عَسِيراً وَ أَعْطَى عَلَى الْقَلِيلِ كَثِيراً وَ لَمْ يُعْصَ مَغْلُوباً وَ لَمْ يُطَعْ مُكْرِهاً وَ لَمْ يُرْسِلِ الْأَنْبِيَاءَ لَعِباً وَ لَمْ يُنْزِلِ الْكُتُبَ لِلْعِبَادِ عَبَثاً وَ لَا خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَ الْأَرْضَ وَ مَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا ذلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ

(19/194)


قد ذكر شيخنا أبو الحسين رحمه الله هذا الخبر في كتاب الغرر و رواه عن الأصبغ بن نباتة قال قام شيخ إلى علي ع فقال أخبرنا عن مسيرنا إلى الشام أ كان بقضاء الله و قدره فقال و الذي فلق الحبة و برأ النسمة ما وطئنا موطئا و لا هبطنا واديا إلا بقضاء الله و قدره فقال الشيخ فعند الله أحتسب عنائي ما أرى لي من الأجر شيئا فقال مه أيها الشيخ لقد عظم الله أجركم في مسيركم و أنتم سائرون و في منصرفكم و أنتم منصرفون و لم تكونوا في شي ء من حالاتكم مكرهين شرح نهج البلاغة ج : 18 ص : 228و لا إليها مضطرين فقال الشيخ و كيف القضاء لقدر ساقانا فقال ويحك لعلك ظننت قضاء لازما و قدرا حتما لو كان ذلك كذلك لبطل الثواب و العقاب و الوعد و الوعيد و الأمر و النهي و لم تأت لائمة من الله لمذنب و لا محمدة لمحسن و لم يكن المحسن أولى بالمدح من المسي ء و لا المسي ء أولى بالذم من المحسن تلك مقالة اد الأوثان و جنود الشيطان و شهود الزور و أهل العمى عن الصواب و هم قدرية هذه الأمة و مجوسها إن الله سبحانه أمر تخييرا و نهى تحذيرا و كلف يسيرا و لم يعص مغلوبا و لم يطع مكرها و لم يرسل الرسل إلى خلقه عبثا و لم يخلق السماوات و الأرض و ما بينهما باطلا ذلك ظن الذين كفروا فويل للذين كفروا من النار فقال الشيخ فما القضاء و القدر اللذان ما سرنا إلا بهما فقال هو الأمر من الله و الحكم ثم تلا قوله سبحانه وَ قَضى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ فنهض الشيخ مسرورا و هو يقول
أنت الإمام الذي نرجو بطاعته يوم النشور من الرحمن رضواناأوضحت من ديننا ما كان ملتبسا جزاك ربك عنا فيه إحسانا

(19/195)


. ذكر ذلك أبو الحسين في بيان أن القضاء و القدر قد يكون بمعنى الحكم و الأمر و أنه من الألفاظ المشتركة شرح نهج البلاغة ج : 18 ص : 77229خُذِ الْحِكْمَةَ أَنَّى كَانَتْ فَإِنَّ الْحِكْمَةَ تَكُونُ فِي صَدْرِ الْمُنَافِقِ فَتَلَجْلَجُ فِي صَدْرِهِ حَتَّى تَخْرُجَ فَتَسْكُنَ إِلَى صَوَاحِبِهَا فِي صَدْرِ الْمُؤْمِنِ قَالَ الرَّضِيُّ رَحِمَهُ اللَّهِ تَعَالَىَ قَدْ قَالَ عَلِيٌّ ع فِي مِثْلِ ذَلِكَ الْحِكْمَةُ ضَالَّةُ الْمُؤْمِنِ فَخُذِ الْحِكْمَةَ وَ لَوْ مِنْ أَهْلِ النِّفَاقِ
خطب الحجاج فقال إن الله أمرنا بطلب الآخرة و كفانا مئونة الدنيا فليتنا كفينا مئونة الآخرة و أمرنا بطلب الدنيا. فسمعها الحسن فقال هذه ضالة المؤمن خرجت من قلب المنافق. و كان سفيان الثوري يعجبه كلام أبي حمزة الخارجي و يقول ضالة المؤمن على لسان المنافق تقوى الله أكرم سريرة و أفضل ذخيرة منها ثقة الواثق و عليها مقة الوامق ليعمل كل امرئ في مكان نفسه و هو رخي اللبب طويل السبب ليعرف ممد يده و موضع قدمه و ليحذر الزلل و العلل المانعة من العمل رحم الله عبدا آثر التقوى و استشعر شعارها و اجتنى ثمارها باع دار البقاء بدار الآباد الدنيا كروضة يونق مرعاها و تعجب من رآها تمج عروقها الثرى و تنطف فروعها بالندى حتى إذا بلغ العشب إناه و انتهى الزبرج منتهاه ضعف العمود و ذوي العود و تولى من الزمان ما لا يعود فحتت الرياح الورق و فرقت ما كان اتسق فأصبحت هشيما و أمست رميما
شرح نهج البلاغة ج : 18 ص : 78230قِيمَةُ كُلِّ امْرِئٍ مَا يُحْسِنُهُ قال الرضي رحمه الله تعالى و هذه الكلمة التي لا تصاب لها قيمة و لا توزن بها حكمة و لا تقرن إليها كلمة

(19/196)


قد سلف لنا في فضل العلم أقوال شافية و نحن نذكر هاهنا نكتا أخرى. يقال إن من كلام أردشير بن بابك في رسالته إلى أبناء الملوك بحسبكم دلالة على فضل العلم أنه ممدوح بكل لسان يتزين به غير أهله و يدعيه من لا يلصق به قال و بحسبكم دلالة على عيب الجهل أن كل أحد ينتفي منه و يغضب أن يسمى به. و قيل لأنوشروان ما بالكم لا تستفيدون من العلم شيئا إلا زادكم ذلك عليه حرصا قال لأنا لا نستفيد منه شيئا إلا ازددنا به رفعة و عزا و قيل له ما بالكم لا تأنفون من التعلم من كل أحد قال لعلمنا بأن العلم نافع من حيث أخذ. و قيل لبزرجمهر بم أدركت ما أدركت من العلم قال ببكور كبكور الغراب و حرص كحرص الخنزير و صبر كصبر الحمار. و قيل له العلم أفضل أم المال فقال العلم قيل فما بالنا نرى أهل العلم على شرح نهج البلاغة ج : 18 ص : 231أبواب أهل المال أكثر مما نرى أصحاب الأموال على أبواب العلماء قال ذاأيضا عائد إلى العلم و الجهل و إنما كان كما رأيتم لعلم العلماء بالحاجة إلى المال و جهل أصحاب المال بفضيلة العلم. و قال الشاعر
تعلم فليس المرء يخلق عالما و ليس أخو علم كمن هو جاهل و إن كبير القوم لا علم عنده صغير إذا التفت عليه المحافل شرح نهج البلاغة ج : 18 ص : 79232أُوصِيكُمْ بِخَمْسٍ لَوْ ضَرَبْتُمْ إِلَيْهَا آبَاطَ الْإِبِلِ لَكَانَتْ لِذَلِكَ أَهْلًا لَا يَرْجُوَنَّ أَحَدٌ مِنْكُمْ إِلَّا رَبَّهُ وَ لَا يَخَافَنَّ إِلَّا ذَنْبَهُ وَ لَا يَسْتَحِيَنَّ أَحَدٌ مِنْكُمْ إِذَا سُئِلَ مَّا لَا يَعْلَمُ أَنْ يَقُولَ لَا أَعْلَمُ وَ لَا يَسْتَحِيَنَّ أَحَدٌ إِذَا لَمْ يَعْلَمِ الشَّيْ ءَ أَنْ يَتَعَلَّمَهُ وَ عَلَيْكُمْ بِالصَّبْرِ فَإِنَّ الصَّبْرَ مِنَ الْإِيمَانِ كَالرَّأْسِ مِنَ الْجَسَدِ وَ لَا خَيْرَ فِي جَسَدٍ لَا رَأْسَ مَعَهُ وَلَا خَيْرَ فِي إِيمَانٍ لَا صَبْرَ مَعَهُ

(19/197)


قد تقدم الكلام في جميع الحكم المنطوي عليها هذا الفصل و قال أبو العتاهية
و الله لا أرجو سواك و لا أخاف سوى ذنوبي فاغفر ذنوبي يا رحيم فأنت ستار العيوبو كان يقال من استحيا من قول لا أدري كان كمن يستحيي من كشف ركبته ثم يكشف سوءته و ذلك لأن من امتنع من قول لا أدري و أجاب بالجهل و الخطإ فقد واقع ما يجب في الحقيقة أن يستحيا منه و كف عما ليس بواجب أن يستحيا منه فكان شبيها بما ذكرناه في الركبة و العورة. و كان يقال يحسن بالإنسان التعلم ما دام يقبح منه الجهل و كما يقبح منه الجهل ما دام حيا كذلك يحسن به التعلم ما دام حيا. و أما الصبر فقد سبق فيه كلام مقنع و سيأتي فيما بعد جملة من ذلك
شرح نهج البلاغة ج : 18 ص : 80233وَ قَالَ ع لِرَجُلٍ أَفْرَطَ فِي الثَّنَاءِ عَلَيْهِ وَ كَانَ لَهُ مُتَّهِماً أَنَا دُونَ مَا تَقُولُ وَ فَوْقَ مَا فِي نَفْسِكَقد سبق منا قول مقنع في كراهية مدح الإنسان في وجهه. و كان عمر جالسا و عنده الدرة إذ أقبل الجارود العبدي فقال رجل هذا الجارود سيد ربيعة فسمعها عمر و من حوله و سمعها الجارود فلما دنا منه خفقه بالدرة فقال ما لي و لك يا أمير المؤمنين قال ما لي و لك أما لقد سمعتها قال و ما سمعتها فمه قال ليخالطن قلبك منها شي ء و أنا أحب أن أطأطئ منك. و قالت الحكماء إنه يحدث للممدوح في وجهه أمران مهلكان أحدهما الإعجاب بنفسه و الثاني إذا أثني عليه بالدين أو العلم فتر و قل اجتهاده و رضي عن نفسه و نقص تشميره و جده في طلب العلم و الدن فإنه إنما يتشمر من رأى نفسه مقصرا فأما من أطلقت الألسن بالثناء عليه فإنه يظن أنه قد وصل و أدرك فيقل اجتهاده و يتكل على ما قد حصل له عند الناس و لهذا

(19/198)


قال النبي ص لمن مدح شرح نهج البلاغة ج : 18 ص : 234إنسانا كاد يسمعه ويحك قطعت عنق صاحبك لو سمعها لما أفلحفأما قوله ع له و فوق ما في نفسك فإنه إنما أراد أن ينبهه على أنه قد عرف أنه كان يقع فيه و ينحرف عنه و إنما أراد تعريفه ذلك لما رآه من المصلحة إما لظنه أنه يقلع عما كان يذمه به أو ليعلمه بتعريفه أنه قد عرف ذلك أو ليخوفه و يزجره أو لغير ذلك
شرح نهج البلاغة ج : 18 ص : 81235بَقِيَّةُ السَّيْفِ أَنْمَى عَدَداً وَ أَكْثَرُ وَلَداًقال شيخنا أبو عثمان ليته لما ذكر الحكم ذكر العلة. ثم قال قد وجدنا مصداق قوله في أولاده و أولاد الزبير و بنى المهلب و أمثالهم ممن أسرع القتل فيهم. و أتي زياد بامرأة من الخوارج فقال لها أما و الله لأحصدنكم حصدا و لأفنينكم عدا فقالت كلا إن القتل ليزرعنا فلما هم بقتلها تسترت بثوبها فقال اهتكوا سترها لحاها الله فقالت إن الله لا يهتك ستر أوليائه و لكن التي هتك سترها على يد ابنها سمية فقال عجلوا قتلها أبعدها الله فقتلت
شرح نهج البلاغة ج : 18 ص : 82236مَنْ تَرَكَ قَوْلَ لَا أَدْرِي أُصِيبَتْ مَقَاتِلُهُجاءت امرأة إلى بزرجمهر فسألته عن مسألة فقال لا أدري فقالت أ يعطيك الملك كل سنة كذا كذا و تقول لا أدري فقال إنما يعطيني الملك على ما أدري و لو أعطاني على ما لا أدري لما كفاني بيت ماله. و كان يقول قول لا أعلم نصف العلم. و قال بعض الفضلاء إذا قال لنا إنسان لا أدري علمناه حتى يدري و إن قال أدري امتحناه حتى لا يدري
شرح نهج البلاغة ج : 18 ص : 83237رَأْيُ الشَّيْخِ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ جَلَدِ الْغُلَامِ وَ يُرْوَى مِنْ مَشْهَدِ الْغُلَامِإنما قال كذلك لأن الشيخ كثير التجربة فيبلغ من العدو برأيه ما لا يبلغ بشجاعته الغلام الحدث غير المجرب لأنه قد يغرر بنفسه فيهلك و يهلك أصحابه و لا ريب أن الرأي مقدم على الشجاعة و لذلك قال أبو الطيب

(19/199)


الرأي قبل شجاعة الشجعان هو أول و هي المحل الثاني فإذا هما اجتمعا لنفس مرة بلغت من العلياء كل مكان و لربما طعن الفتى أقرانه بالرأي قبل تطاعن الأقران لو لا العقول لكان أدنى ضيغم أدنى إلى شرف من الإنسان و لما تفاضلت الرجال و دبرت أيدي الكماة عوالي المو من وصايا أبرويز إلى ابنه شيرويه لا تستعمل على جيشك غلاما غمرا ترفا قد كثر إعجابه بنفسه و قلت تجاربه في غيره و لا هرما كبيرا مدبرا قد أخذ الدهر من عقله كما أخذت السن من جسمه و عليك بالكهول ذوي الرأي. شرح نهج البلاغة ج : 18 ص : 238و قال لقيط بن يعمر الإيي في هذا المعنى
و قلدوا أمركم لله دركم رحب الذراع بأمر الحرب مضطلعالا مترفا إن رخاء العيش ساعده و لا إذا عض مكروه به خشعاما زال يحلب هذا الدهر أشطره يكون متبعا طورا و متبعاحتى استمر على شزر مريرته مستحكم الرأي لا قحما و لا ضرعا
شرح نهج البلاغة ج : 18 ص : 84239عَجِبْتُ لِمَنْ يَقْنَطُ وَ مَعَهُ الِاسْتِغْفَارُقالوا الاستغفار حوارس الذنوب. و قال بعضهم العبد بين ذنب و نعمة لا يصلحهما إلا الشكر و الاستغفار. و قال الربيع بن خثعم لا يقولن أحدكم أستغفر الله و أتوب إليه فيكون ذنبا و كذبا إن لم يفعل و لكن ليقل اللهم اغفر لي و تب علي. و قال الفضيل الاستغفار بلا إقلاع توبة الكذابين. و قيل من قدم الاستغفار على الندم كان مستهزئا بالله و هو لا يعلم

(19/200)


شرح نهج البلاغة ج : 18 ص : 85240وَ حَكَى عَنْهُ أَبُو جَعْفَرٍ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ الْبَاقِرُ ع أَنَّهُ كَانَ ع قَالَ كَانَ فِي الْأَرْضِ أَمَانَانِ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ وَ قَدْ رُفِعَ أَحَدُهُمَا فَدُونَكُمُ الْآخَرَ فَتَمَسَّكُوا بِهِ أَمَّا الْأَمنُ الَّذِي رُفِعَ فَهُوَ رَسُولُ اللَّهِ ص وَ أَمَّا الْأَمَانُ الْبَاقِي فَالِاسْتِغْفَارُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى وَ ما كانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَ أَنْتَ فِيهِمْ وَ ما كانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ
قال الرضي رحمه الله تعالى و هذا من محاسن الاستخراج و لطائف الاستنباط
قال قوم من المفسرين وَ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ في موضع الحال و المراد نفي الاستغفار عنهم أي لو كانوا ممن يستغفرون لما عذبهم و هذا مثل قوله تعالى وَ ما كانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرى بِظُلْمٍ وَ أَهْلُها مُصْلِحُونَ فكأنه قال لكنهم لا يستغفرون فلا انتفاء للعذاب عنهم. و قال قوم معناه و ما كان الله معذبهم و فيهم من يستغفروهم المسلمون بين أظهرهم ممن تخلف عن رسول الله ص من المستضعفين. شرح نهج البلاغة ج : 18 ص : 241ثم قال وَ ما لَهُمْ أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ أي و لأي سبب لا يعذبهم الله مع وجود ما يقتضي العذاو هو صدهم المسلمين و الرسول عن البيت في عام الحديبية و هذا يدل على أن ترتيب القرآن ليس على ترتيب الوقائع و الحوادث لأن سورة الأنفال نزلت عقيب وقعة بدر في السنة الثانية من الهجرة و صد الرسول ص عن البيت كان في السنة السادسة فكيف يجعل آية نزلت في السنة السادسة في سورة نزلت في السنة الثانية. و في القرآن كثير من ذلك و إنما رتبه قوم من الصحابة في أيام عثمان

(19/201)


شرح نهج البلاغة ج : 18 ص : 86242مَنْ أَصْلَحَ مَا بَيْنَهُ وَ بَيْنَ اللَّهِ أَصْلَحَ اللَّهُ مَا بَيْنَهُ وَ بَيْنَ النَّاسِ وَ مَنْ أَصْلَحَ أَمْرَ آخِرَتِهِ أَصْلَحَ اللَّهُ أَمْرَ دُنْيَاهُ وَ مَنْ كَانَ لَهُ مِنْ نَفْسِهِ وَاعِظٌ كَانَ عَلَيْهِ مِناللَّهِ حَافِظٌ
مثل الكلمة الأولى قولهم رضا المخلوقين عنوان رضا الخالق و
جاء في الحديث المرفوع ما من وال رضي الله عنه إلا أرضى عنه رعيته
و مثل الكلمة الثانية دعاء بعضهم في قوله
أنا شاكر أنا مادح أنا حامد أنا خائف أنا جائع أنا عارهي ستة و أنا الضمين بنصفها فكن الضمين بنصفها يا باري
و مثل الكلمة الثالثة قوله تعالى إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَ الَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ

(19/202)


شرح نهج البلاغة ج : 18 ص : 87243الْفَقِيهُ كُلُّ الْفَقِيهِ مَنْ لَمْ يُقَنِّطِ النَّاسَ مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ وَ لَمْ يُؤْيِسْهُمْ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ وَ لَمْ يُؤْمِنْهُمْ مِنْ مَكْرِ اللَّهِقل موضع من الكتاب العزيز يذكر فيه الوعيد إلا و يمزجه بالوعد مثل أن يقول إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقابِ ثم يقول وَ إِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ و الحكمة تقتضي هذا ليكون المكلف مترددا بين الرغبة و الرهبة. و يقولون في الأمثال المرموزة لقي موسى و هو ضاحك مستبشر عيسى و هو كالح قاطب فقال عيسى ما لك كأنك آمن من عذاب الله فقال موسى ع ما لك كأنك آيس من روح الله فأوحى الله إليهما موسى أحبكما إلي شعارا فإني عند حسن ظن عبدي بي. و اعلم أن أصحابنا و إن قالوا بالوعيد فإنهم لا يؤيسون أحدا و لا يقنطونه من رحمة الله و إنما يحثونه على التوبة و يخوفونه إن مات من غير توبة و بحق ما قال شيخنا أبو الهذيل لو لا مذهب الإرجاء لما عصي الله في الأرض و هذا لا ريب فيه فإن أكثر العصاة إنما يعولون على الرحمة و قد اشتهر شرح نهج البلاغة ج : 18 ص : 244و استفاض بين الناس أن الله تعالى يرحم المذين فإنه و إن كان هناك عقاب فأوقاتا معدودة ثم يخرجون إلى الجنة و النفوس تحب الشهوات العاجلة فتهافت الناس على المعاصي و بلوغ الشهوات و المآرب معولين على ذلك فلو لا قول المرجئة و ظهوره بين الناس لكان العصيان إما معدوما أو قليلا جدا

(19/203)


شرح نهج البلاغة ج : 18 ص : 88245أَوْضَعُ الْعِلْمِ مَا وُقِفَ عَلَى اللِّسَانِ وَ أَرْفَعُهُ مَا ظَهَرَ فِي الْجَوَارِحِ وَ الْأَرْكَانِهذا حق لأن العالم إذا لم يظهر من علمه إلا لقلقة لسانه من غير أن تظهر منه العبادات كان عالما ناقصا فأما إذا كان يفيد الناس بألفاظه و منطقه ثم يشاهده الناس على قدم عظيمة من العبادة فإن النفع يكون به عاما تاما و ذلك لأن الناس يقولون لو لم يكن يعتقد حقيقة ما يقوله لما أدأب نفسه هذا الدأب. و أما الأول فيقولون فيه كل ما يقوله نفاق و باطل لأنه لو كان يعتقد حقيقة ما يقول لأخذ به و لظهر ذلك في حركاته فيقتدون بفعله لا بقوله فلا يشتغل أحد منهم بالعبادة و لا يهتم بها
شرح نهج البلاغة ج : 18 ص : 89246إِنَّ هَذِهِ الْقُلُوبَ تَمَلُّ كَمَا تَمَلُّ الْأَبْدَانُ فَابْتَغُوا لَهَا طَرَائِفَ الْحِكْمَةِلو قال إنها تمل كما تمل الأبدان فأحمضوا كما نقل عن غيره لحمل ذلك على أنه أراد نقلها إلى الفكاهات و الأخبار و الأشعار و لكنه لم يقل ذلك و لكن قال فابتغوا لها طرائف الحكمة فوجب أن يحمل كلامه ع على أنه أراد أن القلوب تمل من الأنظار العقلية في البراهين الكلامية على التوحيد و العدل فابتغوا لها عند ملالها طرائف الحكمة أي الأمثال الحكمية الراجعة إلى الحكمة الخلقية كما نحن ذاكروه في كثير من فصول هذا الباب مثل مدح الصبر و الشجاعة و الزهد و العفة و ذم الغضب و الشهوة و الهوى و ما يرجع إلى سياسة الإنسان نفسه و ولده و منزله و صديقه و سلطانه و نحو ذلك فإن هذا علم آخر و فن آخر لا تحتاج القلوب فيه إلى فكر و استنباط فتتعب و تكل بترادف النظر و التأمل عليها و فيه أيضا لذة عظيمة للنفس. و قد جاء في إجمام النفس كثير. قال بعضهم روحوا القلوب برواتع الذكر. شرح نهج البلاغة ج : 18 ص 247و
عن سلمان الفارسي أنا أحتسب نومتي كما أحتسب قومتي

(19/204)


و قال عمر بن عبد العزيز إن نفسي راحلتي إن كلفتها فوق طاقتها انقطعت بي. و قال بعضهم روحوا الأذهان كما تروحوا الأبدان. و قال أردشير بن بابك إن للآذان مجة و للقلوب ملة ففرقوا بين الحكمتين بلهو يكن ذلك استجماما
شرح نهج البلاغة ج : 18 ص : 90248لَا يَقُولَنَّ أَحَدُكُمْ اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ الْفِتْنَةِ لِأَنَّهُ لَيْسَ أَحَدٌ إِلَّا وَ هُوَ مُشْتَمِلٌ عَلَى فِتْنَةٍ وَ لَكِنْ مَنِ اسْتَعَاذَ فَلْيَسْتَعِذْ مِنْ مُضِلَّاتِ ]مَضَلَّاتِ[ الْفِتَنِ فَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ يَقُولُ وَ اعْلَمُوا أَنَّما أَمْوالُكُمْ وَ أَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ وَ مَعْنَى ذَلِكَ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ يَخْتَبِرُ عِبَادَهُ بِالْأَمْوَالِ وَ الْأَوْلَادِ لِيَتَبَيَّنَ السَّاخِطَ لِرِزْقِهِ وَ الرَّاضِيَ بِقِسْمِهِ وَ إِنْ كَانَ سُبْحَانَهُ أَعْلَمَ بِهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَ لَكِنْ لِتَظْهَرَ الْأَفْعَالُ الَّتِي بِهَا يُسْتَحَقُّ الثَّوَابُ وَ الْعِقَابُ لِأَنَّ بَعْضَهُمْ يُحِبُّ الذُّكُورَ وَ يَكْرَهُ الْإِنَاثَ وَ بَعْضَهُمْ يُحِبُّ تَثْمِيَر الْمَالِ وَ يَكْرَهُ انْثِلَامَ الْحَالِ
قال الرضي رحمه الله تعالى و هذا من غريب ما سمع منه ع في التفسير

(19/205)


الفتنة لفظ مشترك فتارة تطلق على الجائحة و البلية تصيب الإنسان تقول قد افتتن زيد و فتن فهو مفتون إذا أصابته مصيبة فذهب ماله أو عقله أو نحو ذلك قال تعالى إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَ الْمُؤْمِناتِ يعني الذين عذبوهم بمكة ليرتدوا عن الإسلام و تارة تطلق على الاختبار و الامتحان يقال فتنت الذهب إذا أدخلته النار لتنظر ما جودته و دينار مفتون و تارة تطلق على الإحراق قال تعالى شرح نهج البلاغة ج : 18 ص : 249 يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ و ورق مفتون أي فضة محرقة و يقال للحرة فتين كأن حجارتها محة و تارة تطلق على الضلال يقال رجل فاتن و مفتن أي مضل عن الحق جاء ثلاثيا و رباعيا قال تعالى ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِفاتِنِينَ إِلَّا مَنْ هُوَ صالِ الْجَحِيمِ أي بمضلين و قرأ قوم مفتنين فمن قال إني أعوذ بك من الفتنة و أراد الجائحة أو الإحراق أو الضلال فلا بأس بذلك و إن أراد الاختبار و الامتحان فغير جائز لأن الله تعالى أعلم بالمصلحة و له أن يختبر عباده لا ليعلم حالهم بل ليعلم بعض عباده حال بعض و عندي أن أصل اللفظة هو الاختبار و الامتحان و أن الاعتبارات الأخرى راجعة إليها و إذا تأملت علمت صحة ما ذكرناه
شرح نهج البلاغة ج : 18 ص : 91250وَ سُئِلَ عَنِ الْخَيْرِ مَا هُوَ فَقَالَ لَيْسَ الْخَيْرُ ]الْخَيْرَ[ أَنْ يَكْثُرَ مَالُكَ وَ وَلَدُكَ وَ لَكِنَّ الْخَيْرَ أَنْ يَكْثُرَ عِلْمُكَ وَ أَنْ يَعْظُمَ حِلْمُكَ وَ أَنْ تُبَاهِيَ النَّاسَ بِعِبَادَةِ رَبِّكََإِنْ أَحْسَنْتَ حَمِدْتَ اللَّهَ وَ إِنْ أَسَأْتَ اسْتَغْفَرْتَ اللَّهَ وَ لَا خَيْرَ فِي الدُّنْيَا إِلَّا لِرَجُلَيْنِ رَجُلٍ أَذْنَبَ ذُنُوباً فَهُوَ يَتَدَارَكُهَا بِالتَّوْبَةِ وَ رَجُلٍ يُسَارِعُ فِي الْخَيْرَاتِ وَ لَا يَقِلُّ عَمَلٌ مَعَ التَّقْوَى وَ كَيْفَ يَقِلُّ مَا يُتَقَبَّلُ
قد قال الشاعر لهذا المعنى

(19/206)


ليس السعيد الذي دنياه تسعده بل السعيد الذي ينجو من النار
قوله ع و لا يقل عمل مع التقوى أي مع اجتناب الكبائر لأنه لو كان موقعا لكبيرة لما تقبل منه عمل أصلا على قول أصحابنا فوجب أن يكون المراد بالتقوى اجتناب الكبائر فأما مذهب المرجئة فإنهم يحملون التقوى هاهنا على الإسلام لأن المسلم عندهم تتقبل أعماله و إن كان مواقعا للكبائر. فإن قلت فهل يجوز حمل لفظة التقوى على حقيقتها و هي الخوف قلت لا أما على مذهبنا فلأن من يخاف الله و يواقع الكبائر لا تتقبل أعماله شرح نهج البلاغة ج : 18 ص : 251و أما مذهب المرجئة فلأن من يخاف الله من مخالفي ملة الإسلام لا تتقبل أعماله فثبت أنه يجوز حمل التقوى هاهنا على الخوف. فإن قلت من هو مخالف لملة الإسلام لا يخاف الله لأنه لا يعرفه. قلت لا نسلم بل يجوز أن يعرف الله بذاته و صفاته كما نعرفه نحن و يجحد النبوة لشبهة وقعت له فيها فلا يلزم من جحد النبوة عدم معرفة الله تعالى
شرح نهج البلاغة ج : 18 ص : 92252إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِالْأَنْبِيَاءِ أَعْلَمُهُمْ بِمَا جَاءُوا بِهِ ثُمَّ تَلَا ع إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْراهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَ هذَا النَّبِيُّ وَ الَّذِينَ آمَنُوا الآْيَةَ ثُمَّ قَالَ ع إِنَّ وَلِيّمُحَمَّدٍ مَنْ أَطَاعَ اللَّهَ وَ إِنْ بَعُدَتْ لُحْمَتُهُ وَ إِنَّ عَدُوَّ مُحَمَّدٍ مَنْ عَصَى اللَّهَ وَ إِنْ قَرُبَتْ قَرَابَتُهُ
هكذا الرواية أعلمهم و الصحيح أعملهم لأن استدلاله بالآية يقتضي ذلك و كذا قوله فيما بعد إن ولي محمد من أطاع الله... إلى آخر الفصل فلم يذكر العلم و إنما ذكر العمل و اللحمة بالضم النسب و القرابة و هذا مثل
الحديث المرفوع ايتوني بأعمالكم و لا تأتوني بأنسابكم إن أكرمكم عند الله أتقاكم
و في الحديث الصحيح يا فاطمة بنت محمد إني لا أغني عنك من الله شيئا

(19/207)


وقال رجل لجعفر بن محمد ع أ رأيت قوله ص إن فاطمة أحصنت فرجها فحرم الله ذريتها على النار أ ليس هذا أمانا لكل فاطمي في الدنيا فقال إنك لأحمق إنما أراد حسنا و حسينا لأنهما من لحمة أهل البيت فأما من عداهما فمن قعد به عمله لم ينهض به نسبه
شرح نهج البلاغة ج : 18 ص : 93253وَ سَمِعَ ع رَجُلًا مِنَ الْحَرُورِيَّةِ يَتَهَجَّدُ وَ يَقْرَأُ فَقَالَ نَوْمٌ عَلَى يَقِينٍ خَيْرٌ مِنْ صَلَاةٍ عَلَى شَكٍّهذا نهي عن التعرض للعبادة مع الجهل بالمعبود كما يصنع اليوم كثير من الناس و يظنون أنهم خير الناس و العقلاء الألباء من الناس يضحكون منهم و يستهزءون بهم و الحرورية الخوارج و قد سبق القول فيهم و في نسبتهم إلى حروراء. يقول ع ترك التنفل بالعبادات مع سلامة العقيدة الأصلية خير من الاشتغال بالنوافل و أوراد الصلاة مع عدم العلم و هو المعني بقوله في شك فإذا كان عدم التنفل خيرا من التنفل مع الشك فهو مع الجهل المحض و هو الاعتقاد الفاسد أولى بأن يكون
شرح نهج البلاغة ج : 18 ص : 94254اعْقِلُوا الْخَبَرَ إِذَا سَمِعْتُمُوهُ عَقْلَ رِعَايَةٍ لَا عَقْلَ رِوَايَةٍ فَإِنَّ رُوَاةَ الْعِلْمِ كَثِيرٌ وَ رُعَاتَهُ قَلِيلٌنهاهم ع عن أن يقتصروا إذا سمعوا منه أو من غيره أطرافا من العلم و الحكمة على أن يرووا ذلك رواية كما يفعله اليوم المحدثون و كما يقرأ أكثر الناس القرآن دراسة و لا يدري من معانيه إلا اليسير. و أمرهم أن يعقلوا ما يسمعونه عقل رعاية أي معرفة و فهم. ثم قال لهم إن رواة العلم كثير و رعاته قليل أي من يراعيه و يتدبره و صدق ع
شرح نهج البلاغة ج : 18 ص : 95255وَ قَالَ ع وَ قَدْ سَمِعَ رَجُلًا يَقُولُ إِنَّا لِلَّهِ وَ إِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ فَقَالَ إِنَّ قَوْلَنَا إِنَّا لِلَّهِ إِقْرَارٌ عَلَى أَنْفُسِنَا بِالْمُلْكِ وَ قَوْلَنَا وَ إِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ إِقْرَارٌ عَل أَنْفُسِنَا بِالْهُلْكِ

(19/208)


قوله إنا لله اعتراف بأنا مملوكون لله و عبيد له لأن هذه اللام لام التمليك كما تقول الدار لزيد فأما قوله و إنا إليه راجعون فهو إقرار و اعتراف بالنشور و القيامة لأن هذا هو معنى الرجوع إليه سبحانه و اقتنع أمير المؤمنين عن التصريح بذلك فذكر الهلك فقال إنه إقرار على أنفسنا بالهلك لأن هلكنا مفض إلى رجوعنا يوم القيامة إليه سبحانه فعبر بمقدمة الشي ء عن الشي ء نفسه كما يقال الفقر الموت و الحمى الموت و نحو ذلك. و يمكن أن يفسر ذلك على قول مثبتي النفس الناطقة بتفسير آخر فيقال إن النفس ما دامت في أسر تدابير البدن فهي بزل عن مبادئها لأنها مشتغلة مستغرقة بغير ذلك فإذا مات البدن رجعت النفس إلى مبادئها فقوله و إنا إليه راجعون إقرار بما لا يصح الرجوع بهذا التفسير إلا معه و هو الموت المعبر عنه بالهلك
شرح نهج البلاغة ج : 18 ص : 96256وَ قَالَ ع وَ مَدَحَهُ قَوْمٌ فِي وَجْهِهِ اللَّهُمَّ إِنَّكَ أَعْلَمُ بِي مِنْ نَفْسِي وَ أَنَا أَعْلَمُ بِنَفْسِي مِنْهُمْ اللَّهُمَّ اجْعَلْنِي خَيْراً مِمَّا يَظُنُّونَ وَ اغْفِرْ لِي مَا لَا يَعْلَمُونَقد تقدم القول في كراهية مدح الإنسان في وجهه و
في الحديث المرفوع إذا مدحت أخاك في وجهه فكأنما أمررت على حلقه موسى وميضة
وقال أيضا لرجل مدح رجلا في وجهه عقرت الرجل عقرك الله
و قال أيضا لو مشى رجل إلى رجل بسيف مرهف كان خيرا له من أن يثني عليه في وجهه

(19/209)


و من كلام عمر المدح هو الذبح قالوا لأن المذبوح ينقطع عن الحركة و الأعمال و كذلك الممدوح يفتر عن العمل. و يقول قد حصل في القلوب و النفوس ما استغنى به عن الحركة و الجد. و من أمثال الفلاحين إذا طار لك صيت بين الحصادة فاكسر منجلك. شرح نهج البلاغة ج : 18 ص : 7و قال مطرف بن الشخير ما سمعت من ثناء أحد علي أو مدحة أحد لي إلا و تصاغرت إلي نفسي و قال زياد بن أبي مسلم ليس أحد سمع ثناء أحد عليه إلا و تراءى له شيطان و لكن المؤمن يراجع. فلما ذكر كلامهما لابن المبارك قال صدقا أما قول زياد فتلك قلوب العوام و أما قول مطرف فتلك قلوب الخواص
شرح نهج البلاغة ج : 18 ص : 97258وَ قَالَ ع لَا يَسْتَقِيمُ قَضَاءُ الْحَوَائِجِ إِلَّا بِثَلَاثٍ بِاسْتِصْغَارِهَا لِتَعْظُمَ وَ بِاسْتِكْتَامِهَا لِتَظْهَرَ وَ بِتَعْجِيلِهَا لِتَهْنُؤَقد تقدم لنا قول مستقصى في هذا النحو و في الحوائج و قضائها و استنجاحها. و
قد جاء في الحديث المرفوع استعينوا على حاجاتكم بالكتمان فإن كل ذي نعمة محسود
و قال خالد بن صفوان لا تطلبوا الحوائج في غير حينها و لا تطلبوها إلى غير أهلها و لا تطلبوا ما لستم له بأهل فتكونوا للمنع خلقاء. و كان يقال لكل شي ء أس و أس الحاجة تعجيل أروح من التأخير. و قال رجل لمحمد بن الحنفية جئتك في حويجة قال فاطلب لها رجيلا. و قال شبب بن شبة بن عقال أمران لا يجتمعان إلا وجب النجح و هما العاقل لا يسأل إلا ما يجوز و العاقل لا يرد سائله عما يمكن. و كان يقال من استعظم حاجة أخيه إليه بعد قضائها امتنانا بها فقد استصغر نفسه. شرح نهج البلاغة ج : 18 ص : 259و قال أبو تمام في المطلو كان المطل في بدء و عود دخانا للصنيعة و هي نارنسيب البخل مذ كانا و إلا يكن نسب فبينهما جوارلذلك قيل بعض المنع أدنى إلى جود و بعض الجود عار

(19/210)


شرح نهج البلاغة ج : 18 ص : 98260يَأْتِي عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ لَا يُقَرَّبُ فِيهِ إِلَّا الْمَاحِلُ وَ لَا يُظَرَّفُ فِيهِ إِلَّا الْفَاجِرُ وَ لَا يُضَعَّفُ فِيهِ إِلَّا الْمُنْصِفُ يَعُدُّونَ الصَّدَقَةَ فِيهِ غُرْماً وَ صِلَةَ الرَّحِمِ مَنّاً وَ الِبَادَةَ اسْتِطَالَةً عَلَى النَّاسِ فَعِنْدَ ذَلِكَ يَكُونُ السُّلْطَانُ بِمَشُورَةِ الْإِمَاءِ وَ إِمَارَةِ الصِّبْيَانِ وَ تَدْبِيرِ الْخِصْيَانِ
المحل المكر و الكيد يقال محل به إذا سعى به إلى السلطان فهو ماحل و محول و المماحلة المماكرة و المكايدة. قوله و لا يظرف فيه إلا الفاجر لا يعد الناس الإنسان ظريفا إلا إذا كان خليعا ماجنا متظاهرا بالفسق. و قوله و لا يضعف فيه إلا المنصف أي إذا رأوا إنسانا عنده ورع و إنصاف في معاملته الناس عدوه ضعيفا و نسبوه إلى الركة و الرخاوة و ليس الشهم عندهم إلا الظالم. ثم قال يعدون الصدقة غرما أي خسارة و يمنون إذا وصلوا الرحم شرح نهج البلاغة ج : 18 ص : 261و إذا كانوا ذوي عبادة استطالوا بها على الناس و تبجحوا بها و أعجبتهم فسهم و احتقروا غيرهم. قال فعند ذلك يكون السلطان و الحكم بين الرعايا بمشورة الإماء إلى آخر الفصل و هو من باب الإخبار عن الغيوب و هي إحدى آياته و المعجزات المختص بها دون الصحابة

(19/211)


شرح نهج البلاغة ج : 18 ص : 99262وَ قَالَ ع وَ قَدْ رُئِيَ عَلَيْهِ إِزَارٌ خَلَقٌ مَرْقُوعٌ فَقِيلَ لَهُ فِي ذَلِكَ فَقَالَ يَخْشَعُ لَهُ الْقَلْبُ وَ تَذِلُّ بِهِ النَّفْسُ وَ يَقْتَدِي بِهِ الْمُؤْمِنُونَقد تقدم القول في هذا الباب و ذكرنا أن الحكماء و العارفين فيه على قسمين منهم من آثر لبس الأدنى على الأعلى و منهم من عكس الحال و كان عمر بن الخطاب من أصحاب المذهب الأول و كذلك أمير المؤمنين و هو شعار عيسى ابن مريم ع كان يلبس الصوف و غليظ الثياب و كان رسول الله ص يلبس النوعين جميعا و أكثر لبسه كان الجيد من الثياب مثل أبراد اليمن و ما شاكل ذلك و كانت ملحفته مورسة حتى أنها لتردع على جلده كما جاء في الحديث. و رئي محمد بن الحنفية ع واقفا بعرفات على برذون أصفر و عليه مطرف خز أصفر و
جاء فرقد السبخي إلى الحسن و على الحسن مطرف خز فجعل ينظر إليه و على فرقد ثياب صوف فقال الحسن ما بالك تنظر إلي و علي ثياب أهل الجنة شرح نهج البلاغة ج : 18 ص : 263و عليك ثياب أهل النار إن أحدكم ليجعل الزهد في ثيابه و الكبر في صدره فلهو أشد عجبا بصوفه من صاحالمطرف

(19/212)


و قال ابن السماك لأصحاب الصوف إن كان لباسكم هذا موافقا لسرائركم فلقد أحببتم أن يطلع الناس عليها و لئن كان مخالفا لها لقد هلكتم. و كان عمر بن عبد العزيز على قاعدة عمر بن الخطاب في ملبوسه و كان قبل الخلافة يلبس الثياب المثمنة جدا كان يقول لقد خفت أن يعجز ما قسم الله لي من الرزق عما أريده من الكسوة و ما لبست ثوبا جديدا قط إلا و خيل لي حين يراه الناس أنه سمل أو بال فلما ولي الخلافة ترك ذلك كله. و روى سعيد بن سويد قال صلى بنا عمر بن عبد العزيز الجمعة ثم جلس و عليه قميص مرقوع الجيب من بين يديه و من خلفه فقال له رجل إن الله أعطاك يا أمير المؤمنين فلو لبست فنكس مليا ثم رفع رأسه فقال إن أفضل القصد ما كان عند الجدة و أفضل العفو ما كان عند المقدرة. و روى عاصم بن معدلة كنت أرى عمر بن عبد العزيز قبل الخلافة فأعجب من حسن لونه و جودة ثيابه و بزته ثم دخلت عليه بعد أن ولي و إذا هو قد احترق و اسود و لصق جلده بعظمه حتى ليس بين الجلد و العظم لحم و إذا عليه قلنسوة بيضاء قد اجتمع قطنها و يعلم أنها قد غسلت و عليه سحق أنبجانية قد خرج سداها و هو على شاذكونة قد لصقت بالأرض تحت الشاذكونة عباءة قطوانية من مشاقة الصوف و عنده رجل يتكلم فرفع صوته فقال له عمر اخفض قليلا من صوتك فإنما يكفي الرجل من الكلام قدر ما يسمع صاحبه. و روى عبيد بن يعقوب أن عمر بن عبد العزيز كان يلبس الفرو الغليظ من الثياب و كان سراجه على ثلاث قصبات فوقهن طين
شرح نهج البلاغة ج : 18 ص : 100264إِنَّ الدُّنْيَا وَ الآْخِرَةَ عَدُوَّانِ مُتَفَاوِتَانِ وَ سَبِيلَانِ مُخْتَلِفَانِ فَمَنْ أَحَبَّ الدُّنْيَا وَ تَوَلَّاهَا أَبْغَضَ الآْخِرَةَ وَ عَادَاهَا وَ هُمَا بِمَنْزِلَةِ الْمَشْرِقِ وَ الْمَغْرِبِ وَ مَاشٍ بَيَهُمَا كُلَّمَا قَرُبَ مِنْ وَاحِدٍ بَعُدَ مِنَ الآْخَرِ وَ هُمَا بَعْدُ ضَرَّتَانِ

(19/213)


هذا الفصل بين في نفسه لا يحتاج إلى شرح و ذلك لأن عمل كل واحد من الدارين مضاد لعمل الأخرى فعمل هذه الاكتساب و الاضطراب في الرزق و الاهتمام بأمر المعاش و الولد و الزوجة و ما ناسب ذلك و عمل هذه قطع العلائق و رفض الشهوات و الانتصاب للعبادة و صرف الوجه عن كل ما يصد عن ذكر الله تعالى و معلوم أن هذين العملين متضادان فلا جرم كانت الدنيا و الآخرة ضرتين لا يجتمعان
شرح نهج البلاغة ج : 18 ص : 101265وَ عَنْ نَوْفٍ الْبَكَّائِيِّ وَ قِيلَ الْبَكَالِيِّ بِاللَّامِ وَ هُوَ الْأَصَحُّ قَالَ رَأَيْتُ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ ع ذَاتَ لَيْلَةٍ وَ قَدْ خَرَجَ مِنْ فِرَاشِهِ فَنَظَرَ إِلَى النُّجُومِ فَقَالَ يَا نَوْفُ أَ رَاقٌ أَنْتَ أَمْ رَامِقٌ قُلْتُ بَلْ رَامِقٌ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ فَقَالَ يَا نَوْفُ طُوبَى لِلزَّاهِدِينَ فِي الدُّنْيَا الرَّاغِبِينَ فِي الآْخِرَةِ أُولَئِكَ قَوْمٌ اتَّخَذُوا الْأَرْضَ بِسَاطاً وَ تُرَابَهَا فِرَاشاً وَ مَاءَهَا طِيباً وَ الْقُرْآنَ شِعَاراً وَ الدُّعَاءَ دِثَاراً ثُمَّ قَرَضُوا الدُّنْيَا قَرْضاً عَلَى مِنْهَاجِ الْمَسِيحِ يَا نَوْفُ إِنَّ دَاوُدَ ع قَامَ فِي مِثْلِ هَذِهِ السَّاعَةِ مِنَ اللَّيْلِ فَقَالَ إِنَّهَا لَسَاعَةٌ لَا يَدْعُو فِيهَا عَبْدٌ إِلَّا اسْتُجِيبَ لَهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ عَشَّاراً أَوْ عَرِيفاً أَوْ شُرْطِيّاً أَوْ صَاحِبَ عَرْطَبَةٍ وَ هِيَ الطُّنْبُورُ أَوْ صَاحِبَ كُوبَةٍ وَ هِيَ الطَّبْلُ وَ قَدْ قِيلَ أَيْضاً إِنَّ الْعَرْطَبَةَ الطَّبْلُ وَ الْكُوبَةَ الطُّنْبُورُ
قال صاحب الصحاح نوف البكالي كان صاحب علي ع. و قال ثعلب هو منسوب إلى قبيلة تدعى بكالة و لم يذكر من أي العرب هي و الظاهر أنها من اليمن و أما بكيل فحي من همدان و إليهم أشار الكميت بقوله
فقد شركت فيه بكيل و أرحب

(19/214)


شرح نهج البلاغة ج : 18 ص : 266فأما البكالي في نسب نوف فلا أعرفه. قوله أم رامق أي أم مستيقظ ترمق السماء و النجوم ببصرك. قوله قرضوا الدنيا أي تركوها و خلفوها وراء ظهورهم قال تعالى وَ إِذا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ ذاتَ الشِّمالِ أي تتركهم و تخلفهم شمالا و يقوالرجل لصاحبه هل مررت بمكان كذا يقول نعم قرضته ليلا ذات اليمين و أنشد لذي الرمة
إلى ظعن يقرضن أجواز مشرف شمالا و عن أيمانهن الفوارس
قالوا مشرف و الفوارس موضعان يقول نظرت إلى ظعن يجزن بين هذين الموضعين
شرح نهج البلاغة ج : 18 ص : 102267إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى افْتَرَضَ عَلَيْكُمْ فَرَائِضَ فَلَا تُضَيِّعُوهَا وَ حَدَّ لَكُمْ حُدُوداً فَلَا تَعْتَدُوهَا وَ نَهَاكُمْ عَنْ أَشْيَاءَ فَلَا تَنْتَهِكُوهَا وَ سَكَتَ لَكُمْ عَنْ أَشْيَاءَ وَ لَمْ يَدَعْهَا نِسَاناً فَلَا تَتَكَلَّفُوهَا
قال الله تعالى لا تَسْئَلُوا عَنْ أَشْياءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ و
جاء في الأثر أبهموا ما أبهم الله
و قال بعض الصالحين لبعض الفقهاء لم تفرض مسائل لم تقع و أتعبت فيها فكرك حسبك بالمتداول بين الناس. قالوا هذا مثل قولهم في باب المسح على الخفين فإن مسح على خف من زجاج و نحو ذلك من النوادر الغريبة. و قال شريك في أبي حنيفة أجهل الناس بما كان و أعلمهم بما لم يكن. و قال عمر لا تتنازعوا فيما لم يكن فتختلفوا فإن الأمر إذا كان أعان الله عليه. و انتهاك الحرمة تناولها بما لا يحل إما بارتكاب ما نهى عنه أو بالإخلال بما أمر به

(19/215)


شرح نهج البلاغة ج : 18 ص : 103268لَا يَتْرُكُ النَّاسُ شَيْئاً مِنْ أَمْرِ دِينِهِمْ لِاسْتِصْلَاحِ دُنْيَاهُمْ إِلَّا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مَا هُوَ أَضَرُّ مِنْهُمثال ذلك إنسان يضيع وقت صلاة الفريضة عليه و هو مشتغل بمحاسبة وكيله و مخافته على ماله خوفا أن يكون خانه في شي ء منه فهو يحرص على مناقشته عليه فتفوته الصلاة. قال ع من فعل مثل هذا فتح الله عليه في أمر دنياه و ماله ما هو أضر عليه مما رام أن يستدركه بإهماله الفريضة شرح نهج البلاغة ج : 18 ص : 104269رُبَّ عَالِمٍ قَدْ قَتَلَهُ جَهْلُهُ وَ عِلْمُهُ مَعَهُ لَمْ يَنْفَعْهُقد وقع مثل هذا كثيرا كما جرى لعبد الله بن المقفع و فضله مشهور و حكمته أشهر من أن تذكر و لو لم يكن له إلا كتاب اليتيمة لكفى
محنة المقفع

(19/216)


و اجتمع ابن المقفع بالخليل بن أحمد و سمع كل منهما كلام الآخر فسئل الخليل عنه فقال وجدت علمه أكثر من عقله و هكذا كان فإنه كان مع حكمته متهورا لا جرم تهوره قتله كتب كتاب أمان لعبد الله بن علي عم المنصور و يوجد فيه خطه فكان من جملته و متى غدر أمير المؤمنين بعمه عبد الله أو أبطن غير ما أظهر أو تأول في شي ء من شروط هذا الأمان فنساؤه طوالق و دوابه حبس و عبيده و إماؤه أحرار و المسلمون في حل من بيعته فاشتد ذلك على المنصور لما وقف عليه و سأل من الذي كتب له الأمان فقيل له عبد الله بن المقفع كاتب عميك عيسى و سليمان اني علي بالبصرة فكتب المنصور إلى عامله بالبصرة سفيان بن معاوية يأمره بقتله و قيل بل قال أ ما أحد يكفيني ابن المقفع فكتب أبو الخصيب بها إلى شرح نهج البلاغة ج : 18 ص : 270سفيان بن معاوية المهلبي أمير البصرة يومئذ و كان سفيان واجدا على ابن المقفع لأنه كان يع به و يضحك منه دائما فغضب سفيان يوما من كلامه و افترى عليه فرد ابن المقفع عليه ردا فاحشا و قال له يا ابن المغتلمة و كان يمتنع و يعتصم بعيسى و سليمان ابني علي بن عبد الله بن العباس فحقدها سفيان عليه فلما كوتب في أمره بما كوتب اعتزم قتله فاستأذن عليه جماعة من أهل البصرة منهم ابن المقفع فأدخل ابن المقفع قبلهم و عدل به إلى حجرة في دهليزه و جلس غلامه بدابته ينتظره على باب سفيان فصادف ابن المقفع في تلك الحجرة سفيان بن معاوية و عنده غلمانه و تنور نار يسجر فقال له سفيان أ تذكر يوم قلت لي كذا أمي مغتلمة إن لم أقتلك قتله لم يقتل بها أحد ثم قطع أعضاءه عضوا عضوا و ألقاها في النار و هو ينظر إليها حتى أتى على جميع جسده ثم أطبق التنور عليه و خرج إلى الناس فكلمهم فلما خرجوا من عنده تخلف غلام ابن المقفع ينتظره فلم يخرج فمضى و أخبر عيسى بن علي و أخاه سليمان بحاله فخاصما سفيان بن معاوية في أمره فجحد دخوله إليه فأشخصاه إلى المنصور و قامت

(19/217)


البينة العادلة أن ابن المقفع دخل دار سفيان حيا سليما و لم يخرج منها فقال المنصور أنا أنظر في هذا الأمر إن شاء الله غدا فجاء سفيان ليلا إلى المنصور فقال يا أمير المؤمنين اتق الله في صنيعتك و متبع أمرك قال لا ترع و أحضرهم في غد و قامت الشهادة و طلب سليمان و عيسى القصاص فقال المنصور أ رأيتم إن قتلت سفيان بابن المقفع ثم خرج ابن المقفع عليكم من هذا الباب و أومأ إلى باب خلفه من ينصب لي نفسه حتى أقتله بسفيان فسكتوا و اندفع الأمر و أضرب عيسى و سليمان عن ذكر ابن المقفع بعدها و ذهب دمه هدرا. قيل للأصمعي أيما كان أعظم ذكاء و فطنة الخليل أم ابن المقفع فقال كان ابن المقفع أفصح و أحكم و الخليل آدب و أعقل ثم قال شتان ما بين فطنة أفضت بصاحبها إلى القتل و فطنة أفضت بصاحبها إلى النسك و الزهد في الدنيا و كان الخليل قد نسك قبل أن يموت
شرح نهج البلاغة ج : 18 ص : 105271لَقَدْ عُلِّقَ بِنِيَاطِ هَذَا الْإِنْسَانِ بَضْعَةٌ هِيَ أَعْجَبُ مَا فِيهِ وَ هُوَ الْقَلْبُ وَ ذَلِكَ أَنَّ لَهُ مَوَادَّ مِنَ الْحِكْمَةِ وَ أَضْدَاداً مِنْ خِلَافِهَا فَإِنْ سَنَحَ لَهُ الرَّجَاءُ أَذَلَّهُ الطَّمَعوَ إِنْ هَاجَ بِهِ الطَّمَعُ أَهْلَكَهُ الْحِرْصُ وَ إِنْ مَلَكَهُ الْيَأْسُ قَتَلَهُ الْأَسَفُ وَ إِنْ عَرَضَ لَهُ الْغَضَبُ اشْتَدَّ بِهِ الْغَيْظُ وَ إِنْ أَسْعَدَهُ الرِّضَا نَسِيَ التَّحَفُّظَ وَ إِنْ غَالَهُ الْخَوْفُ شَغَلَهُ الْحَذَرُ وَ إِنِ اتَّسَعَ لَهُ الْأَمْرُ اسْتَلَبَتْهُ الْغِرَّةُ وَ إِنْ أَصَابَتْهُ مُصِيبَةٌ فَضَحَهُ الْجَزَعُ وَ إِنْ أَفَادَ مَالًا أَطْغَاهُ الْغِنَى وَ إِنْ عَضَّتْهُ الْفَاقَةُ شَغَلَهُ الْبَلَاءُ وَ إِنْ جَهَدَهُ الْجُوعُ قَعَدَتْ بِهِ الضَّعَةُ وَ إِنْ أَفْرَطَ بِهِ الشِّبَعُ كَظَّتْهُ الْبِطْنَةُ فَكُلُّ تَقْصِيرٍ بِهِ مُضِرٌّ وَ كُلُّ إِفْرَاطٍ لَهُ مُفْسِدٌ

(19/218)


روي قعد به الضعف و النياط عرق علق به القلب من الوتين فإذا قطع مات صاحبه و يقال له النيط أيضا و البضعة بفتح الباء القطعة من اللحم و المراد بها هاهنا القلب و قال يعتور القلب حالات مختلفات متضادات فبعضها من الحكمة و بعضها و هو المضاد لها مناف للحكمة و لم يذكرها ع و ليست الأمور التي عددها شرحا لما قدمه من هذا الكلام المجمل و إن ظن قوم أنه أراد ذلك أ لا ترى أن الأمور التي عددها ليس فيها شي ء من باب الحكمة و خلافها. شرح نهج البلاغة ج : 18 ص : 272فإن قلت فما مثال الحكمة و خلافها و إن لم يذكر ع مثاله. قلت كالشجافي القلب و ضدها الجبن و كالجود و ضده البخل و كالعفة و ضدها الفجور و نحو ذلك. فأما الأمور التي عددها ع فكلام مستأنف إنما هو بيان أن كل شي ء مما يتعلق بالقلب يلزمه لازم آخر نحو الرجاء فإن الإنسان إذا اشتد رجاؤه أذله الطمع و الطمع يتبع الرجاء و الفرق بين الطع و الرجاء أن الرجاء توقع منفعة ممن سبيله أن تصدر تلك المنفعة عنه و الطمع توقع منفعة ممن يستبعد وقوع تلك المنفعة منه ثم قال و إن هاج به الطمع قتله الحرص و ذلك لأن الحرص يتبع الطمع إذا لم يعلم الطامع أنه طامع و إنما يظن أنه راج. ثم قال و إن ملكه اليأس قتله الأسف أكثر الناس إذا يئسوا أسفوا. ثم عدد الأخلاق و غيرها من الأمور الواردة في الفصل إلى آخره ثم ختمه بأن قال فكل تقصير به مضر و كل إفراط له مفسد و قد سبق كلامنا في العدالة و أنها الدرجة الوسطى بين طرفين هما رذيلتان و العدالة هي الفضيلة كالجود الذي يكتنفه التبذير و الإمساك و الذكاء الذي يكتنفه الغباوة و الجربزة و الشجاعة التي يكتنفها الهوج و الجبن و شرحنا ما قاله الحكماء في ذلك شرحا كافيا فلا معنى لإعادته

(19/219)


شرح نهج البلاغة ج : 18 ص : 106273نَحْنُ النُّمْرُقَةُ الْوُسْطَى الَّتِي يَلْحَقُ بِهَا التَّالِي وَ إِلَيْهَا يَرْجِعُ الْغَالِيالنمرق و النمرقة بالضم فيهما وسادة صغيرة و يجوز النمرقة بالكسر فيهما و يقال للطنفسة فوق الرحل نمرقة و المعنى أن كل فضيلة فإنها مجنحة بطرفين معدودين من الرذائل كما أوضحناه آنفا و المراد أن آل محمد ع هم الأمر المتوسط بين الطرفين المذمومين فكل من جاوزهم فالواجب أن يرجع إليهم و كل من قصر عنهم فالواجب أن يلحق بهم. فإن قلت فلم استعار لفظ النمرقة لهذا المعنى قلت لما كانوا يقولون قد ركب فلان من الأمر منكرا و قد ارتكب الرأي الفلاني و كانت الطنفسة فوق الرحل مما يركب استعار لفظ النمرقة لما يراه الإنسان مذهبا يرجع إليه و يكون كالراكب له و الجالس عليه و المتورك فوقه. و يجوز أيضا أن تكون لفظة الوسطى يراد بها الفضلى يقال هذه هي الطريقة الوسطى و الخليقة الوسطى أي الفضلى و منه قوله تعالى قالَ أَوْسَطُهُمْ أي أفضلهم و منه جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً
شرح نهج البلاغة ج : 18 ص : 107274لَا يُقِيمُ أَمْرَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ إِلَّا مَنْ لَا يُصَانِعُ وَ لَا يُضَارِعُ وَ لَا يَتَّبِعُ الْمَطَامِعَقد سبق من كلام عمر شي ء يناسب هذا إن لم يكن هو بعينه و المصانعة بذل الرشوة و في المثل من صانع بالمال لم يحتشم من طلب الحاجة. فإن قلت كان ينبغي أن يقول من لا يصانع بالفتح قلت المفاعلة تدل على كون الفعل بين الاثنين كالمضاربة و المقاتلة. و يضارع يتعرض لطلب احاجة و يجوز أن يكون من الضراعة و هي الخضوع أي يخضع لزيد ليخضع زيد له و يجوز أن يكون من المضارعة بمعنى المشابهة أي لا يتشبه بأئمة الحق أو ولاة الحق و ليس منهم. و أما اتباع المطامع فمعروف

(19/220)


شرح نهج البلاغة ج : 18 ص : 108275وَ قَالَ ع وَ قَدْ تُوُفِّيَ سَهْلُ بْنُ حُنَيْفٍ الْأَنْصَارِيُّ بِالْكُوفَةِ بَعْدَ مَرْجِعِهِ مِنْ صِفِّينَ مَعَهُ وَ كَانَ مِنْ أَحَبِّ النَّاسِ إِلَيْهِ لَوْ أَحَبَّنِي جَبَلٌ لَتَهَافَتَ قال الرضي رحمه الله تعالى و معنى ذلك أن المحنة تغلظ عليه فتسرع المصائب إليه و لا يفعل ذلك إلا بالأتقياء الأبرار المصطفين الأخيار و هذا مثل قوله ع من أحبنا أهل البيت فليستعد للفقر جلبابا و قد يؤول ذلك على معنى آخر ليس هذا موضع ذكره
قد ثبت أن النبي ص قال له لا يحبك إلا مؤمن و لا يبغضك إلا منافق
و قد ثبت أن النبي ص قال إن البلوى أسرع إلى المؤمن من الماء إلى الحدور
و في حديث آخر المؤمن ملقى و الكافي موقى
و في حديث آخر خيركم عند الله أعظمكم مصائب في نفسه و ماله و ولده
و هاتان المقدمتان يلزمهما نتيجة صادقة و هي أنه ع لو أحبه جبل لتهافت و لعل هذا هو مراد الرضي بقوله و قد يئول ذلك على معنى آخر ليس هذا موضع ذكره
شرح نهج البلاغة ج : 18 ص : 109276لَا مَالَ أَعْوَدُ مِنَ الْعَقْلِ وَ لَا وَحْدَةَ أَوْحَشُ مِنَ الْعُجْبِ وَ لَا عَقْلَ كَالتَّدْبِيرِ وَ لَا كَرَمَ كَالتَّقْوَى وَ لَا قَرِينَ كَحُسْنِ الْخُلْقِ وَ لَا مِيرَاثَ كَالْأَدَبِ وَ لَا قَائِدَ كَالتَّوْفِيقوَ لَا تِجَارَةَ كَالْعَمَلِ الصَّالِحِ وَ لَا زَرْعَ كَالثَّوَابِ وَ لَا وَرَعَ كَالْوُقُوفِ عِنْدَ الشُّبْهَةِ وَ لَا زُهْدَ كَالزُّهْدِ فِي الْحَرَامِ وَ لَا عِلْمَ كَالتَّفَكُّرِ وَ لَا عِبَادَةَ كَأَدَاءِ الْفَرَائِضِ وَ لَا إِيمَانَ كَالْحَيَاءِ وَ الصَّبْرِ وَ لَا حَسَبَ كَالتَّوَاضُعِ وَ لَا شَرَفَ كَالْعِلْمِ وَ لَا عِزَّ كَالْحِلْمِ وَ لَا مُظَاهَرَةَ أَوْثَقُ مِنَ الْمُشَاوَرَةِ

(19/221)


قد تقدم الكلام في جميع هذه الحكم. أما المال فإن العقل أعود منه لأن الأحمق ذا المال طالما ذهب ماله بحمقه فعاد أحمق فقيرا و العاقل الذي لا مال له طالما اكتسب المال بعقله و بقي عقله عليه. و أما العجب فيوجب المقت و من مقت أفرد عن المخالطة و استوحش منه و لا ريب أن التدبير هو أفضل العقل لأن العيش كله في التدبير. و أما التقوى فقد قال الله إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقاكُمْ. شرح نهج البلاغة ج : 18 ص : 277و أما الأدب فقالت الحكماء ما ورثت الآباء أبناءها كالأدب. و أما التوفيق فمن لم يكن قائده ضل. و أما الل الصالح فإنه أشرف التجارات فقد قال الله تعالى هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى تِجارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ. ثم عد الأعمال الصالحة. و أما الثواب فهو الربح الحقيقي و أما ربح الدنيا فشبيه بحلم النائم. و أما الوقوف عند الشبهات فهو حقيقة الورع و لا ريب أن من يزهد في الحرام أفضل ممن يزهد في المباحات كالمآكل اللذيذة و الملابس الناعمة و قد وصف الله تعالى أرباب التفكر فقال وَ يَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ و قال أَ وَ لَمْ يَنْظُرُوا و لا ريب أن العبادة بأداء الفرائض فوق العبادة بالنوافل و الحياء مخ الإيمان و كذلك الصبر و التواضع مصيدة الشرف و ذلك هو الحسب و أشرف الأشياء العلم لأنه خاصة الإنسان و به يقع الفضل بينه و بين سائر الحيوان. و المشورة من الحزم فإن عقل غيرك تستضيفه إلى عقلك و من كلام بعض الحكماء إذا استشارك عدوك في الأمر فامحضه النصيحة في الرأي فإنه إن عمل برأيك و انتفع ندم على إفراطه في مناواتك و أفضت عداوته إلى المودة و إن خالفك و استضر عرف قدر أمانتك بنصحه و بلغت مناك في مكروهه

(19/222)


شرح نهج البلاغة ج : 18 ص : 110278إِذَا اسْتَوْلَى الصَّلَاحُ عَلَى الزَّمَانِ وَ أَهْلِهِ ثُمَّ أَسَاءَ رَجُلٌ الظَّنَّ بِرَجُلٍ لَمْ تَظْهَرْ مِنْهُ حَوْبَةٌ فَقَدْ ظَلَمَ وَ إِذَا اسْتَوْلَى الْفَسَادُ عَلَى الزَّمَانِ وَ أَهْلِهِ فَأَحْسَنَ رَجُلٌ الَنَّ بِرَجُلٍ فَقَدْ غَرَّرَ
يريد أن يتعين على العاقل سوء الظن حيث الزمان فاسد و لا ينبغي له سوء الظن حيث الزمان صالح و قد جاء في الخبر المرفوع النهي عن أن يظن المسلم بالمسلم ظن السوء و ذلك محمول على المسلم الذي لم تظهر منه حوبة كما أشار إليه علي ع و الحوبة المعصية و
الخبر هو ما رواه جابر قال نظر رسول الله ص إلى الكعبة فقال مرحبا بك من بيت ما أعظمك و أعظم حرمتك و الله إن المؤمن أعظم حرمة منك عند الله عز و جل لأن الله حرم منك واحدة و من المؤمن ثلاثة دمه و ماله و أن يظن به ظن السوء
و من كلام عمر ضع أمر أخيك على أحسنه حتى يجي ء ما يغلبك منه و لا تظنن بكلمة خرجت من في أخيك المسلم سوءا و أنت تجد لها في الخير محملا و من عرض نفسه للتهم فلا يلومن من أساء به الظن. شاعر أسأت إذ أحسنت ظني بكم و الحزم سوء الظن بالناس
شرح نهج البلاغة ج : 18 ص : 279قيل لعالم من أسوأ الناس حالا قال من لا يثق بأحد لسوء ظنه و لا يثق به أحد لسوء فعله. شاعرو قد كان حسن الظن بعض مذاهبي فأدبني هذا الزمان و أهله
قيل لصوفي ما صناعتك قال حسن الظن بالله و سوء الظن بالناس. و كان يقال ما أحسن حسن الظن إلا أن فيه العجز و ما أقبح سوء الظن إلا أن فيه الحزم. ابن المعتز

(19/223)


تفقد مساقط لحظ المريب فإن العيون وجوه القلوب و طالع بوادره في الكلام فإنك تجني ثمار العيوب شرح نهج البلاغة ج : 18 ص : 111280وَ قِيلَ لَهُ ع كَيْفَ تَجِدُكَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ فَقَالَ كَيْفَ يَكُونُ حَالُ مَنْ يَفْنَى بِبَقَائِهِ وَ يَسْقَمُ بِصِحَّتِهِ وَ يُؤْتَى مِنْ مَأْمَنِهِهذا مثل قول عبدة بن الطبيب
أرى بصري قد رابني بعد صحة و حسبك داء أن تصح و تسلماو لن يلبث العصران يوم و ليلة إذا طلبا أن يدركا من تيمما
و قال آخر
كانت قناتي لا تلين لغامز فألانها الإصباح و الإمساءو دعوت ربي بالسلامة جاهدا ليصحني فإذا السلامة داء
شرح نهج البلاغة ج : 18 ص : 112281كَمْ مِنْ مُسْتَدْرَجٍ بِالْإِحْسَانِ إِلَيْهِ وَ مَغْرُورٍ بِالسَّتْرِ عَلَيْهِ وَ مَفْتُونٍ بِحُسْنِ الْقَوْلِ فِيهِ وَ مَا ابْتَلَى اللَّهُ أَحَداً بِمِثْلِ الْإِمْلَاءِ لَهُقد تقدم القول في الاستدراج و الإملاء. فأما القول في فتنة الإنسان بحسن القول فيه فقد ذكرنا أيضا طرفا صالحا يتعلق بها.
و قال رسول الله ص لرجل مدح رجلا و قد مر بمجلس رسول الله ص فلم يسمع و لكن قال ويحك لكدت تضرب عنقه لو سمعها لما أفلح
شرح نهج البلاغة ج : 18 ص : 113282هَلَكَ فِيَّ رَجُلَانِ مُحِبٌّ غَالٍ وَ مُبْغِضٌ قَالٍقد تقدم القول في مثل هذا و
قد قال رسول الله ص و الله لو لا أني أشفق أن تقول طوائف من أمتي فيك ما قالت النصارى في ابن مريم لقلت فيك اليوم مقالا لا تمر بأحد من الناس إلا أخذوا التراب من تحت قدميك للبركة

(19/224)


و مع كونه ص لم يقل فيه ذلك المقال فقد غلت فيه غلاة كثيرة العدد منتشرة في الدنيا يعتقدون فيه ما يعتقد النصارى في ابن مريم و أشنع من ذلك الاعتقاد. فأما المبغض القالي فقد رأينا من يبغضه و لكن ما رأينا من يلعنه و يصرح بالبراءة منه و يقال إن في عمان و ما والاها من صحار و ما يجري مجراها قوما يعتقدون فيه ما كانت الخوارج تعتقده فيه و أنا أبرأ إلى الله منهما
شرح نهج البلاغة ج : 18 ص : 114283إِضَاعَةُ الْفُرْصَةِ غُصَّةٌ في المثل انتهزوا الفرص فإنها تمر مر السحاب. و قال الشاعرو إن أمكنت فرصة في العدو فلا يك همك إلا بهافإن تك لم تأت من بابها أتاك عدوك من بابهاو إياك من ندم بعدها و تأميل أخرى و أنى بها
شرح نهج البلاغة ج : 18 ص : 115284مَثَلُ الدُّنْيَا كَمَثَلِ الْحَيَّةِ لَيِّنٌ مَسُّهَا وَ السَّمُّ النَّاقِعُ فِي جَوْفِهَا يَهْوِي إِلَيْهَا الْغِرُّ الْجَاهِلُ وَ يَحْذَرُهَا ذُو اللُّبِّ الْعَاقِلُقد تقدم القول في الدنيا مرارا و قد أخذ أبو العتاهية هذا المعنى فقال إنما الدهر أرقم لين المس و في نابه السقام العقام
شرح نهج البلاغة ج : 18 ص : 116285وَ قَالَ ع وَ قَدْ سُئِلَ عَنْ قُرَيْشٍ فَقَالَ أَمَّا بَنُو مَخْزُومٍ فَرَيْحَانَةُ قُرَيْشٍ تُحِبُّ حَدِيثَ رِجَالِهِمْ وَ النِّكَاحَ فِي نِسَائِهِمْ وَ أَمَّا بَنُو عَبْدِ شَمْسٍ فَأَبْعَدُهَا رَأْياً وَ أَمْنَعُهَا لَا وَرَاءَ ظُهُورِهَا وَ أَمَّا نَحْنُ فَأَبْذَلُ لِمَا فِي أَيْدِينَا وَ أَسْمَحُ عِنْدَ الْمَوْتِ بِنُفُوسِنَا وَ هُمْ أَكْثَرُ وَ أَمْكَرُ وَ أَنْكَرُ وَ نَحْنُ أَفْصَحُ وَ أَنْصَحُ وَ أَصْبَحُ
فصل في نسب بني مخزوم و طرف من أخبارهم

(19/225)


قد تقدم القول في مفاخرة هاشم و عبد شمس فأما بنو مخزوم فإنهم بعد هذين البيتين أفخر قريش و أعظمها شرفا. قال شيخنا أبو عثمان حظيت مخزوم بالأشعار فانتشر لهم صيت عظيم بها و اتفق لهم فيها ما لم يتفق لأحد و ذلك أنه يضرب بهم المثل في العز و المنعة و الجود و الشرف و أوضعوا في كل غاية فمن ذلك قول سيحان الجسري حليف بني أمية في كلمة له
و حين يناغي الركب موت هشام
فدل ذلك على أن ما تقوله مخزوم في التاريخ حق و ذلك أنهم قالوا كانت قريش و كنانة و من والاهم من الناس يؤرخون بثلاثة أشياء كانوا يقولون كان ذلك زمن شرح نهج البلاغة ج : 18 ص : 286مبنى الكعبة و كان ذلك من مجي ء الفيل و كان ذلك عام مات هشام بن المغيرة كما كانلعرب تؤرخ فتقول كان ذلك زمن الفطحل و كان ذلك زمن الحيان و كان ذلك زمن الحجارة و كان ذلك عام الحجاف و الرواة تجعل ضرب المثل من أعظم المفاخر و أظهر الدلائل و الشعر كما علمت كما يرفع يضع كما رفع من بني أنف الناقة قول الحطيئة
قوم هم الأنف و الأذناب غيرهم و من يسوي بأنف الناقة الذنبا
و كما وضع من بني نمير قول جرير
فعض الطرف إنك من نمير فلا كعبا بلغت و لا كلابا
فلقيت نمير من هذا البيت ما لقيت. و جعلهم الشاعر مثلا فيمن وضعه الهجاء و هو يهجو قوما من العرب
و سوف يزيدكم ضعة هجائي كما وضع الهجاء بني نمير
و نمير قبيل شريف و قد ثلم في شرفهم هذا البيت. و قال ابن غزالة الكندي و هو يمدح بني شيبان و لم يكن في موضع رغبة إلى بني مخزوم و لا في موضع رهبة
كأني إذ حططت الرحل فيهم بمكة حين حل بها هشام
فضرب بهشام المثل. و قال رجل من بني حزم أحد بني سلمى و هو يمدح حرب بن معاوية الخفاجي و خفاجة من بني عقيل

(19/226)


إلى حزن الحزون سمت ركابي بوابل خلفها عسلان جيش شرح نهج البلاغة ج : 18 ص : 287فلما أن أنخت إلى ذراه أمنت فراشني منه بريش توسط بيته في آل كعب كبيت بني مغيرة في قرفضرب المثل ببيتهم في قريش. و قال عبد الرحمن بن حسان لعبد الرحمن بن الحكم
ما رست أكيس من بني قحطان صعب الذرا متمنع الأركان إني طمعت بفخر من لو رامه آل المغيرة أو بنو ذكوان لملأتها خيلا تضب لثاتها مثل الدبا و كواسر العقبان منهم هشام و الوليد و عدلهم و أبو أمية مفزع الركبفضرب المثل بآل المغيرة. و أما بنو ذكوان فبنو بدر بن عمرو بن حوية بن ذكوان أحد بني عدي بن فزارة منهم حذيفة و حمل و رهطهما و قال مالك بن نويرة
أ لم ينه عنا فخر بكر بن وائل هزيمتهم في كل يوم لزام فمنهن يوم الشر أو يوم منعج و بالجزع إذ قسمن حي عصام أحاديث شاعت في معد و غيرها و خبرها الركبان حي هشافجعل قريشا كلها حيا لهشام. و قال عبد الله بن ثور الخفاجي
و أصبح بطن مكة مقشعرا كأن الأرض ليس بها هشام
و هذا مثل و فوق المثل. قالوا و قال الخروف الكلبي و قد مر به ناس من تجار قريش يريدون الشام بادين شرح نهج البلاغة ج : 18 ص : 288قشفين ما لكم معاشر قريش هكذا أجدبتم أم مات هشام فجعل موت هشام بإزاء الجدب و المحل و في هذا المعنى قال مسافر بن أبي عمروتقول لنا الركبان في كل منزل أ مات هشام أم أصابكم جدب
فجعل موت هشام و فقد الغيث سواء. و قال عبد الله بن سلمة بن قشير
دعيني أصطبح يا بكر إني رأيت الموت نقب عن هشام
و قال أبو الطمحان القيني أو أخوه
و كانت قريش لا تخون حريمها من الخوف حتى ناهضت بهشام
و قال أبو بكر بن شعوب لقومه كنانة
يا قومنا لا تهلكوا إخفاتا إن هشام القرشي ماتا
و قال خداش بن زهير
و قد كنت هجاء لهم ثم كفكفوا نوافذ قولي بالهمام هشام
و قال علي بن هرمة عم إبراهيم بن هرمة

(19/227)


و من يرتئي مدحي فإن مدائحي نوافق عند الأكرمين سوام نوافق عند المشتري الحمد بالندى نفاق بنات الحارث بن هشامو قال الشاعر و هو يهجو رجلا
أ حسبت أن أباك يوم نسبتني في المجد كان الحارث بن هشام أولى قريش بالمكارم كلها في الجاهلية كان و الإسلام شرح نهج البلاغة ج : 18 ص : 289و قال الأسود بن يعفر النهشليإن الأكارم من قريش كلها شهدوا فراموا الأمر كل مرام حتى إذا كثر التجادل بينهم حزم الأمور الحارث بن هشامو قال ثابت قطنة أو كعب الأشقري لمحمد بن الأشعث بن قيس
أ توعدني بالأشعثي و مالك و تفخر جهلا بالوسيط الطماطم كأنك بالبطحاء تذمر حارثا و خالد سيف الدين بين الملاحمو قال الخزاعي في كلمته التي يذكر فيها أبا أحيحة
له سرة البطحاء و العد و الثرى و لا كهاشم الخير و القلب مردف
و سأل معاوية صعصعة بن صوحان العبدي عن قبائل قريش فقال إن قلنا غضبتم و إن سكتنا غضبتم فقال أقسمت عليك قال فيمن يقول شاعركم
و عشرة كلهم سيد آباء سادات و أبناؤهاإن يسألوا يعطوا و إن يعدموا يبيض من مكة بطحاؤها
و قال عبد الرحمن بن سيحان الجسري حليف بني أمية و هو يهجو عبد الله بن مطيع من بني عدي
حرام كنتي مني بسوء و أذكر صاحبي أبدا بذام لقد أصرمت ود بني مطيع حرام الدهر للرجل الحرام و إن خيف الزمان مددت حبلا متينا من حبال بني هاشم وريق عودهم أبدا رطيب إذا ما اهتز عيدان الكر شرح نهج البلاغة ج : 18 ص : 290و قال أبو طالب بن عبد المطلب و هو يفخر بخاليه هشام و الوليد على أبي سفيان بن حربو خالي هشام بن المغيرة ثاقب إذا هم يوما كالحسام المهندو خالي الوليد العدل عال مكانه و خال أبي سفيان عمرو بن مرثد
و قال ابن الزبعرى فيهم
لهم مشية ليست تليق بغيرهم إذا احدودب المثرون في السنة الجدب
و قال شاعر من بني هوازن أحد بني أنف الناقة حين سقى إبله عبد الله بن أبي أمية المخزومي بعد أن منعه الزبرقان بن بدر

(19/228)


أ تدري من منعت سيال حوض سليل خضارم منعوا البطاحاأ زاد الركب تمنع أم هشاما و ذا الرمحين أمنعهم سلاحاهم منعوا الأباطح دون فهر و من بالخيف و البلد الكفاحابضرب دون بيضهم طلخف إذا الملهوف لاذ بهم و صاحاو ما تدري بأيهم تلاقي صدور المشرفية و الرماحا
فقال عبد الله بن أبي أمية مجيبا له
لعمري لأنت المرء يحسن باديا و تحسن عودا شيمة و تصنعاعرفت لقوم مجدهم و قديمهم و كنت لما أسديت أهلا و موضعا
قالوا و كان الوليد بن المغيرة يجلس بذي المجاز فيحكم بين العرب أيام عكاظ و قد كان رجل من بني عامر بن لؤي رافق رجلا من بني عبد مناف بن قصي فجرى بينهما كلام في حبل فعلاه بالعصا حتى قتله فكاد دمه يطل فقام دونه أبو طالب شرح نهج البلاغة ج : 18 ص : 291بن عبد اللب و قدمه إلى الوليد فاستحلفه خمسين يمينا أنه ما قتله ففي ذلك يقول أبو طالب
أ من أجل حبل ذي رمام علوته بمنسأة قد جاء حبل و أحبل هلم إلى حكم ابن صخرة إنه سيحكم فيما بيننا ثم يعدلو قال أبو طالب أيضا في كلمة له
و حكمك يبقي الخير إن عز أمره تخمط و استعلى على الأضعف الفرد
و قال أبو طالب أيضا يرثي أبا أمية زاد الركب و هو خاله
كأن على رضراض قص و جندل من اليبس أو تحت الفراش المجامرعلى خير حاف من معد و ناعل إذا الخير يرجي أو إذا الشر حاسرألا إن زاد الركب غير مدافع بسرو سحيم غيبته المقابرتنادوا بأن لا سيد اليوم فيهم و قد فجع الحيان كعب و عامرو كان إذا يأتي من الشام قافلا تقدمه قبل الدنو البشائرفيصبح آل الله بيضا ثيابهم و قدما حباهم و العيون كواسرأخو جفنة لا تبرح الدهر عندنا مجعجعة تدمي وشاء و باقرضروب بنصل السيف سوق سمانها إذا أرسلوا يوما فإنك عاقرفيا لك من راع رميت بآلة شراعية تخضر منه الأظافر

(19/229)


و قال أبو طالب أيضا يرثي خاله هشام بن المغيرة شرح نهج البلاغة ج : 18 ص : 29فقدنا عميد الحي و الركن خاشع كفقد أبي عثمان و البيت و الحجرو كان هشام بن المغيرة عصمة إذا عرك الناس المخاوف و الفقربأبياته كانت أرامل قومه تلوذ و أيتام العشيرة و السفرفودت قريش لو فدته بشطرها و قل لعمري لو فدوه له الشطرنقول لعمرو أنت منه و إننا لنرجوك في جل الملمات يا عمرو
عمرو هذا هو أبو جهل بن هشام و أبو عثمان هو هشام. و قالت ضباعة بنت عامر بن سلمة بن قرط ترثيه
إن أبا عثمان لم أنسه و إن صبرا عن بكاه لحوب تفاقدوا من معشر ما لهم أي ذنوب صوبوا في القليبو قال حسان بن ثابت و هو يهجو أبا جهل و كان يكنى أبا الحكم
الناس كنوه أبا حكم و الله كناه أبا جهل أبقت رئاسته لأسرته لؤم الفروع و دقة الأصلفاعترف له بالرئاسة و التقدم. و قال أبو عبيد معمر بن المثنى لما تنافر عامر بن الطفيل و علقمة بن علاثة إلى هرم بن قطبة و توارى عنهما أرسل إليهما عليكما بالفتى الحديث السن الحديد الذهن فصارا إلى أبي جهل فقال له ابن الزبعرى
فلا تحكم فداك أبي و خالي و كن كالمرء حاكم آل عمرو
شرح نهج البلاغة ج : 18 ص : 293فأبى أن يحكم فرجعا إلى هرم. و قال عبد الله بن ثورهريقا من دموعكما سجاما ضباع و حاربي نوحا قيامافمن للركب إذ جاءوا طروقا و غلقت البيوت فلا هشاما
و قال أيضا في كلمة له
و ما ولدت نساء بني نزار و لا رشحن أكرم من هشام هشام بن المغيرة خير فهر و أفضل من سقى صوب الغمامو قال عمارة بن أبي طرفة الهذلي سمعت ابن جريح يقول في كلام له هلك سيد البطحاء بالرعاف قلت و من سيد البطحاء قال هشام بن المغيرة. و
قال النبي ص لو دخل أحد من مشركي قريش الجنة لدخلها هشام بن المغيرة كان أبذلهم للمعروف و أحملهم للكل

(19/230)


و قال عمر بن الخطاب لا قليل في الله و لا كثير في غير الله و لو بالخلق الجزل و الفعال الدثر تنال المثوبة لنالها هشام بن المغيرة و لكن بتوحيد الله و الجهاد في سبيله. و قال خداش بن زهير في يوم شمطة و هو أحد أيام الفجار و هو عدو قريش و خصمها
و بلغ أن بلغت بنا هشاما و ذا الرمحين بلغ و الوليداأولئك إن يكن في الناس جود فإن لديهم حسبا و جوداهم خير المعاشر من قريش و أوراها إذا قدحوا زنودا
شرح نهج البلاغة ج : 18 ص : 294و قال أيضا و ذكرهما في تلك الحروبيا شدة ما شددنا غير كاذبة على سخينة لو لا الليل و الحرم إذا ثقفنا هشاما بالوليد و لو أنا ثقفنا هشاما شالت الجذمو ذكرهم ابن الزبعرى في تلك الحروب فقال
ألا لله قوم ولدت أخت بني سهم هشام و أبو عبد مناف مدره الخصم و ذو الرمحين أشباك من القوة و الحزم فهذان يذودان و ذا عن كثب يرمي و هم يوم عكاظ منعوا الناس من الهزم بجأواء طحون فخمة القونس كالنجم أسود تزدهى الأقران مناعون للهضم فإن أحلف و بيت الله لا أحإثم و ما من إخوة بين دروب الشام و الردم بأزكى من بني ريطة أو أرزن من حلريطة هي أم ولد المغيرة و هي ريطة بنت سعيد بن سهم بن عمرو بن هصيص بن كعب و أبو عبد مناف هو أبو أمية بن المغيرة و يعرف بزاد الركب و اسمه حذيفة و إنما قيل له زاد الركب لأنه كان إذا خرج مسافرا لم يتزود معه أحد و كانت شرح نهج البلاغة ج : 18 ص : 295عنده عاتكة ت عبد المطلب بن هشام و أما ذو الرمحين فهو أبو ربيعة بن المغيرة و اسمه عمرو و كان المغيرة يكنى باسم ابنه الأكبر و هو هاشم و لم يعقب إلا من حنتمة ابنته و هي أم عمر بن الخطاب. و قال ابن الزبعرى يمدح أبا جهل
رب نديم ماجد الأصل مهذب الأعراق و النجل منهم أبو عبد مناف و كم سربت بالضخم على العدل عمرو الندى ذاك و أشياعه ما شئت من قول و من فعو قال الورد بن خلاس السهمي سهم بأهله يمدح الوليد

(19/231)


إذا كنت في حيي جذيمة ثاويا فعند عظيم القريتين وليدفذاك وحيد الرأي مشترك الندى و عصمة ملهوف الجنان عميد
و قال أيضا
إن الوليدين و الأبناء ضاحية ربا تهامة في الميسور و العسرهم الغياث و بعض القوم قرقمة عز الذليل و غيظ الحاسد الوغر
و قال
و رهطك يا ابن الغيث أكرم محتد و امنع للجار اللهيف المهضم
قالوا الغيث لقب المغيرة و جعل الوليد و أخاه هشاما ربي تهامة كما قال لبيد بن ربيعة في حذيفة بن بدر
و أهلكن يوما رب كندة و ابنه و رب معد بين خبت و عرعر

(19/232)


فجعله رب معد. شرح نهج البلاغة ج : 18 ص : 296قالوا يدل على قدر مخزوم ما رأينا من تعظيم القرآن لشأنهم دون غيرهم من سائر قريش قال الله تعالى مخبرا عن العرب إنهم قالوا لَوْ لا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ فأحد الرجلين العظين بلا شك الوليد بن المغيرة و الآخر مختلف فيه أ هو عروة بن مسعود أم جد المختار بن أبي عبيد. و قال سبحانه في الوليد ذَرْنِي وَ مَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً وَ جَعَلْتُ لَهُ مالًا مَمْدُوداً وَ بَنِينَ شُهُوداً الآيات. قالوا و في الوليد نزلت أَمَّا مَنِ اسْتَغْنى فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى. و في أبي جهل نزلت ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ. و فيه نزلت فَلْيَدْعُ نادِيَهُ. و في مخزوم وَ ذَرْنِي وَ الْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ. و فيهم نزلت ما خَوَّلْناكُمْ وَراءَ ظُهُورِكُمْ. و زعم اليقطري أبو اليقظان و أبو الحسن أن الحجاج سأل أعشى همدان عن بيوتات قريش في الجاهلية فقال إني قد آليت ألا أنفر أحدا على أحد و لكن أقول و تسمعون قالوا فقل قال من أيهم المحبب في أهله المؤرخ بذكره محلي الكعبة و ضارب القبة و الملقب بالخير و صاحب الخير و المير قالوا من بني مخزوم قال فمن أيهم ضجيع بسباسة و المنحور عنه ألف ناقة و زاد الركب و مبيض البطحاء قالوا من بني مخزوم قال فمن أيهم كان المقنع في حكمه و المنفذ وصيته على تهكمه و عدل الجميع في الرفادة و أول من وضع أساس الكعبة قالوا من بني مخزوم قال فمن شرح نهج البلاغة ج : 18 ص : 297أي صاحب الأريكة و مطعم الخزيرة قالوا من بني مخزوم قال فمن أيهم الإخوة العشرة الكرام البررة قالوا من بني مخزوم قال فهو ذاك فقال رجل من بني أمية أيها الأمير لو كان لهم مع قديمهم حديث إسلام فقال الحجاج أ و ما علمت بأن منهم رداد الردة و قاتل مسيلمة و آسر طليحة و المدرك بالطائلة مع الفتوح العظام و الأيادي الجسام فهذا آخر ما ذكره

(19/233)


أبو عثمان. و يمكن أن يزاد عليه فيقال قالت مخزوم ما أنصفنا من اقتصر في ذكرنا على أن قال مخزوم ريحانة قريش تحب حديث رجالهم و النكاح في نسائهم و لنا في الجاهلية و الإسلام أثر عظيم و رجال كثيرة و رؤساء شهيرة فمنا المغيرة بن عبد الله بن عمرو بن مخزوم كان سيد قريش في الجاهلية و هو الذي منع فزارة من الحج لما عير خشين بن لأي الفزاري ثم الشمخي قوما من قريش إنهم يأخذون ما ينحره العرب من الإبل في الموسم فقال خشين لما منع من الحج
يا رب هل عندك من عقيره أصلح مالي و أدع تنحيره فإن منا مانع المغيره و مانعا بعد منى بثيره و مانعا بيتك أن أزورمنا بنو المغيرة العشرة أمهم ريطة و قد تقدم ذكر نسبها و أمها عاتكة بنت عبد العزى بن قصي و أمها الحظيا بنت كعب بن سعد بن تيم بن مرة أول امرأة من قريش ضربت قباب الأدم بذي المجاز و لها يقول الشاعر
مضى بالصالحات بنو الحظيا و كان بسيفهم يغنى الفقير
فمن هؤلاء أعني الحظيا الوليد بن المغيرة أمه صخرة بنت الحارث بن عبد الله شرح نهج البلاغة ج : 18 ص : 298بن عبد شمس القشيري كان أبو طالب بن عبد المطلب يفتخر بأنه خاله و كفاك من رجل يفتخر أبو طالب بخئولته أ لا ترى إلى قول أبي طالبو خالي الوليد قد عرفتم مكانه و خالي أبو العاصي إياس بن معبد
و منهم حفص بن المغيرة و كان شريفا و عثمان بن المغيرة و كان شريفا و منهم السيد المطاع هشام بن المغيرة و كان سيد قريش غير مدافع له يقول أبو بكر بن الأسود بن شعوب يرثيه
ذريني أصطبح يا بكر إني رأيت الموت نقب عن هشام تخيره و لم يعدل سواه و نعم المرء بالبلد الحرام و كنت إذا ألاقيه كأني إلى حرم و في شهر حرام فود بنو المغيرة لو فدوه بألف مقاتل و بألف رام و ود بنو المغيرة لو فدوه بألف من رجال أو سوام فبكيه ضباع و لا تملي هإنه غيث الأنام
و يقول له الحارث بن أمية الضمري

(19/234)


ألا هلك القناص و الحامل الثقلا و من لا يضن عن عشيرته فضلاو حرب أبا عثمان أطفأت نارها و لو لا هشام أوقدت حطبا جزلاو عان تريك يستكين لعلة فككت أبا عثمان عن يده الغلاألا لست كالهلكى فتبكى بكاءهم و لكن أرى الهلاك في جنبه و غلاغداة غدت تبكي ضباعة غيثنا هشاما و قد أعلت بمهلكه ضحلاأ لم تريا أن الأمانة أصعدت مع النعش إذ ولى و كان لها أهلا
شرح نهج البلاغة ج : 18 ص : 299و قال أيضا يبكيه و يرثيهو أصبح بطن مكة مقشعرا شديد المحل ليس به هشام يروح كأنه أشلاء سوط و فوق جفانه شحم ركام فللكبراء أكل كيف شاءوا و للولدان لقم و اغتنام فبكيه ضباع و لا تملي ثمال الناس إن قحط الغمام و إن بني المغيرة من قريش هم الرأس المقدم و السو ضباعة التي تذكرها الشعراء زوجة هشام و هي من بني قشير. قال الزبير بن بكار فلما قال الحارث ألا لست كالهلكى البيت عظم ذلك على بني عبد مناف فأغروا به حكيم بن أمية بن حارثة بن الأوقص السلمي حليف بني عبد شمس و كانت قريش رضيت به و استعملته على سقائها ففر منه الحارث و قال
أفر من الأباطح كل يوم مخافة أن ينكل بي حكيم
فهدم حكيم داره فأعطاه بنو هشام داره التي بأجياد عوضا منها. و قال عبد الله بن ثور البكائي يرثيه
هريقي من دموعهما سجاما ضباع و جاوبى نوحا قياماعلى خير البرية لن تراه و لن تلقى مواهبه العظاماجواد مثل سيل الغيث يوما إذا علجانه يعلو الإكاماإذا ما كان عام ذو عرام حسبت قدوره جبلا صياما

(19/235)


شرح نهج البلاغة ج : 18 ص : 300فمن للركب إذا مسوا طروقا و غلقت البيوت فلا هشاماو أوحش بطن مكة بعد أنس و مجد كان فيها قد أقامافلم أر مثله في أهل نجد و لا فيمن بغورك يا تهامقال الزبير و كان فارس قريش في الجاهلية هشام بن المغيرة و أبو لبيد بن عبدة بن حجرة بن عبد بن معيص بن عامر بن لؤي و كان يقال لهشام فارس البطحاء فلما هلكا كان فارسي قريش بعدهما عمرو بن عبد العامري المقتول يوم الخندق و ضرار بن الخطاب المحاربي الفهري ثم هبيرة بن أبي وهب و عكرمة بن أبي جهل المخزوميان قالوا و كان عام مات هشام تاريخا كعام الفيل و عام الفجار و عام بنيان الكعبة و كان هشام رئيس بني مخزوم يوم الفجار. قالوا و منا أبو جهل بن هشام و اسمه عمرو و كنيته أبو الحكم و إنما كناه أبا جهل رسول الله ص كان سيدا أدخلته قريش دار الندوة فسودته و أجلسته فوق الجلة من شيوخ قريش و هو غلام لم يطر شاربه و هو أحد من ساد على الصبا و الحارث بن هشام أخو أبي جهل كان شريفا مذكورا و له يقول كعب بن الأشرف اليهودي الطائي

(19/236)


نبئت أن الحارث بن هشام في الناس يبني المكرمات و يجمع ليزور يثرب بالجموع و إنما يبني على الحسب القديم الأروعو هو الذي هاجر من مكة إلى الشام بأهله و ماله في خلافة عمر بن الخطاب فتبعه أهل مكة يبكون فرق و بكى و قال إنا لو كنا نستبدل دارا بدار و جارا شرح نهج البلاغة ج : 18 ص : 301بجار ما أردنا بكم بدلا و لكنها النقلة إلى الله عز و جل فلم يزل حابسا نفسه و من معه باام مجاهدا حتى مات. قال الزبير جاء الحارث بن هشام و سهيل بن عمرو إلى عمر بن الخطاب فجلسا عنده و هو بينهما فجعل المهاجرون الأولون و الأنصار يأتون عمر فينحيهما و يقول هاهنا يا سهيل هاهنا يا حارث حتى صارا في آخر الناس فقال الحارث لسهيل أ لم تر ما صنع بناء عمر اليوم فقال سهيل أيها الرجل إنه لا لوم عليه ينبغي أن نرجع باللوم على أنفسنا دعي القوم و دعينا فأسرعوا و أبطأنا فلما قاما من عند عمر أتياه في غد فقالا له قد رأينا ما صنعت بالأمس و علمنا أنا أتينا من أنفسنا فهل من شي ء نستدرك به فقال لا أعلم إلا هذا الوجه و شار لهما إلى ثغر الروم فخرجا إلى الشام فجاهدا بها حتى ماتا. قالوا و منا عبد الرحمن بن الحارث بن هشام أمه فاطمة بنت الوليد بن المغيرة و كان شريفا سيدا و هو الذي قال لمعاوية لما قتل حجر بن عدي و أصحابه أين عزب منك حلم أبي سفيان أ لا حبستهم في السجون و عرضتهم للطاعون فقال حين غاب عني مثلك من قومي و عبد الرحمن بن الحارث بن هشام هو الذي رغب فيه عثمان بن عفان و هو خليفة فزوجه ابنته. قالوا و منا أبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام كان سيدا جوادا و فقيها عالما و هو الذي قدم عليه بنو أسد بن خزيمة يسألونه في دماء كانت بينهم فاحتمل عنهم أربعمائة بعير دية أربعة من القتلى و لم يكن بيده مال فقال لابنه عبد الله بن أبي بكر اذهب إلى عمك المغيرة بن عبد الرحمن فاسأله المعونة فذهب عبد الله إلى عمه فذكر له ذلك فقال المغيرة لقد أكبر

(19/237)


علينا أبوك فانصرف عنه عبد الله و أقام أياما شرح نهج البلاغة ج : 18 ص : 302لا يذكر لأبيه شيئا و كان يقود أباه إلى المسجد و قد ذهب بصره فقال له أبوه يوما أ ذهبت إلى عمك قال نعم و سكت فعرف حين سكت أنه لن يجد عند عمه ما يحب فقال له يا بني أ لا تخبرني ما قال لك قال أ يفعل أبو هاشم و كانت كنية المغيرة بما فعل و لكن اغد غدا إلى السوق فخذ لي عينة فغدا عبد الله فتعين عينة من السوق لأبيه و باعها فأقام أيام لا يبيع أحد في السوق طعاما و لا زيتا غير عبد الله بن أبي بكر من تلك العينة فلما فرغ أمره أبوه أن يدفعها إلى الأسديين فدفعها إليهم. و كان أبو بكر خصيصا بعبد الملك بن مروان و قال عبد الملك لابنه الوليد لما حضرته الوفاة إن لي بالمدينة صديقين فاحفظني فيهما عبد الله بن جعفر بن أبي طالب و أبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام. و كان يقال ثلاثة أبيات من قريش توالت بالشرف خمسة خمسة و عدوا منها أبا بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام بن المغيرة. قالوا و منا المغيرة بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام كان أجود الناس بالمال و أطعمهم للطعام و كانت عينه أصيبت مع مسلمة بن عبد الملك في غزوة الروم و كان المغيرة ينحر الجزور و يطعم الطعام حيث نزل و لا يرد أحدا فجاء قوم من الأعراب فجلسوا على طعامه فجعل أحدهم يحد النظر إليه فقال له المغيرة ما لك تحد النظر إلي قال إني ليريبني عينك و سماحك بالطعام قال و مم ارتبت قال أظنك الدجال لأنا روينا أنه أعور و أنه أطعم الناس للطعام فقال المغيرة ويحك إن الدجال لا تصاب عينه في سبيل الله و للمغيرة يقول الأقيشر الأسدي لما قدم الكوفة فنحر الجزر و بسط الأنطاع و أطعم الناس و صار صيته في العرب شرح نهج البلاغة ج : 18 ص : 30أتاك البحر طم على قريش معيرتي فقد راع ابن بشرو راع الجدي جدي التيم لما رأى المعروف منه غير نزرو من أوتار عقبة قد شفاني و رهط الحاطبي و رهط صخرفلا يغررك

(19/238)


حسن الزي منهم و لا سرح ببزيون و نمر
فابن بشر عبد الله بن بشر بن مروان بن الحكم و جدي التيم حماد بن عمران بن موسى بن طلحة بن عبيد الله و أوتار عقبة يعني أولاد عقبة بن أبي معيط و الحاطبي لقمان بن محمد بن حاطب الجمحي و رهط صخر بنو أبي سفيان بن حرب بن أمية و كل هؤلاء كانوا مشهورين بالكوفة فلما قدمها المغيرة أخمل ذكرهم و المغيرة هذا هو الذي بلغه أن سليم بن أفلح مولى أبي أيوب الأنصاري أراد أن يبيع المنزل الذي نزل فيه رسول الله ص مقدمه المدينة على أبي أيوب بخمسمائة دينار فأرسل إليه ألف دينار و سأله أن يبيعه إياه فباعه فلما ملكه جعله صدقة في يومه. قال الزبير و كان يزيد بن المغيرة بن عبد الرحمن يطاف به بالكوفة على العجل و كان ينحر في كل يوم جزورا و في كل جمعة جزورين و رأى يوما إحدى جفناته مكللة بالسنام تكليلا حسنا فأعجبه فسأل فقال من كللها قيل اليسع ابنك فسر و أعطاه ستين دينارا. و مر إبراهيم بن هشام على بردة المغيرة و قد أشرقت على الجفنة فقال لعبد من عبيد المغيرة يا غلام على أي شي ء نصبتم هذا الثريد على العمد قال لا و لكن على أعضاد الإبل فبلغ ذلك المغيرة فأعتق ذلك الغلام. و المغيرة هو الذي مر بحرة الأعراب فقاموا إليه فقالوا يا أبا هاشم قد فاض شرح نهجبلاغة ج : 18 ص : 304معروفك على الناس فما بالنا أشقى الخلق بك قال إنه لا مال معي و لكن خذوا هذا الغلام فهو لكم فأخذوه فبكى الغلام فقال يا مولاي خدمتي و حرمتي فقال أ تبيعوني إياه قالوا نعم فاشتراه منهم بمال ثم أعتقه و قال له و الله لا أعرضك لمثلها أبدا اذهب فأنت حر فلما عاد إلى الكوفة حمل ذلك المال إليهم. و كان المغيرة يأمر بالسكر و الجوز فيدقان و يطعمهما أصحاب الصفة المساكين و يقول إنهم يشتهون كما يشتهي غيرهم و لا يمكنهم فخرج المغيرة في سفر و معه جماعة فوردوا غديرا ليس لهم ماء غيره و كان ملحا فأمر بقرب العسل فشقت في الغدير و خيضت بمائه

(19/239)


فما شرب أحد منهم حتى راحوا إلا من قرب المغيرة. و ذكر الزبير أن ابنا لهشام بن عبد الملك كان يسوم المغيرة ماله بالمكان المسمى بديعا فلا يبيعه فغزا ابن هشام أرض الروم و معه المغيرة فأصابت الناس مجاعة في غزاتهم فجاء المغيرة إلى ابن هشام فقال إنك كنت تسومني مالي ببديع فآبى أن أبيعكه فاشتر الآن مني نصفه بعشرين ألف دينار فأطعم المغيرة بها الناس فلما رجع ابن هشام بالناس من غزوته تلك و قد بلغ هشاما الخبر قال لابنه قبح الله رأيك أنت أمير الجيش و ابن أمير المؤمنين يصيب الناس معك مجاعة فلا تطعمهم حتى يبيعك رجل سوقة ماله و يطعم به الناس ويحك أ خشيت أن تفتقر إن أطعمت الناس. قالوا و لنا عكرمة بن أبي جهل الذي قام له رسول الله ص قائما و هو بعد مشرك لم يسلم و لم يقم رسول الله ص لرجل داخل عليه من الناس شريف و لا مشرف إلا عكرمة و عكرمة هو الذي اجتهد في نصرة الإسلام بعد أن كان شديد العداوة و هو الذي سأله أبو بكر أن يقبل منه معونة على الجهاد فأبى شرح نهج البلاغة ج : 18 ص : 305و قال لا آخذ على الجهاد أجرا و لا معونة و هو الشهيد يوم أجنادين و هو الذي قال رسول الله ص لا تسألني اليوم شيئا إلا أعطيتك فقالإني أسألك أن تستغفر لي و لم يسأل غير ذلك و كل قريش غيره سألوا المال كسهيل بن عمرو و صفوان بن أمية و غيرهما. قالوا و لنا الحارث بن خالد بن العاص بن هشام بن المغيرة كان شاعرا مجيدا مكثرا و كان أمير مكة استعمله عليها يزيد بن معاوية و من شعره
من كان يسأل عنا أين منزلنا فالأقحوانة منا منزل قمن إذ نلبس العيش غضا لا يكدره قرب الوشاة و لا ينبو بنا الزمنو أخوه عكرمة بن خالد كان من وجوه قريش و روى الحديث و روى عنه. و من ولد خالد بن العاص بن هاشم بن المغيرة خالد بن إسماعيل بن عبد الرحمن كان جوادا متلافا و فيه قال الشاعر

(19/240)


لعمرك إن المجد ما عاش خالد على العمر من ذي كبدة لمقيم و تندى البطاح البيض من جود خالد و يخصبن حتى نبتهن عميمقالوا و لنا الأوقص و هو محمد بن عبد الرحمن بن هشام بن المغيرة كان قاضي مكة و كان فقيها. قالوا و من قدماء المسلمين عبد الله بن أمية بن المغيرة أخو أم سلمة زوج رسول الله شرح نهج البلاغة ج : 18 ص : 306ص كان شديد الخلاف على المسلمين ثم خرج مهاجرا و شهد فتح م و حنين و قتل يوم الطائف شهيدا. و الوليد بن أمية غير رسول الله ص اسمه فسماه المهاجر و كان من صلحاء المسلمين. قالوا و منا زهير بن أبي أمية بن المغيرة و بجير بن أبي ربيعة بن المغيرة غير رسول الله ص اسمه فسماه عبد الله كانا من أشراف قريش و عباس بن أبي ربيعة كان شريفا قالوا و منا الحارث القباع و هو الحارث بن عبد الله بن أبي ربيعة كان أمير البصرة و عمر بن عبد الله بن أبي ربيعة الشاعر المشهور ذي الغزل و التشبيب. قالوا و من ولد الحارث بن عبد الله بن أبي ربيعة الفقيه المشهور و هو المغيرة بن عبد الرحمن بن الحارث كان فقيه المدينة بعد مالك بن أنس و عرض عليه الرشيد جائزة أربعة آلاف دينار فامتنع و لم يتقلد له القضاء. قالوا و من يعد ما تعده مخزوم و لها خالد بن الوليد بن المغيرة سيف الله كان مباركا ميمون النقيبة شجاعا و كان إليه أعنة الخيل على عهد رسول الله ص و شهد معه فتح مكة و جرح يوم حنين فنفث رسول الله ص على جرحه فبرأ و هو الذي قتل مسيلمة و أسر طليحة و مهد خلافة أبي بكر و قال يوم موته لقد شهدت كذا و كذا زحفا و ما في جسدي موضع إصبع إلا و فيه طعنة أو ضربه و ها أنا ذا أموت على فراشي كما يموت العير فلا نامت أعين الجبناء و مر عمر بن الخطاب على دور بني مخزوم و النساء يندبن خالدا و قد وصل خبره إليهم شرح نهج البلاغة ج : 18 ص : 307و كان مات بحمص فوقف و قال ما على النساء أن يندبن أبا سليمان و هل تقوم حرة عن مثله ثم أنشدأ تبكي ما وصلت به

(19/241)


الندامى و لا تبكي فوارس كالجبال أولئك إن بكيت أشد فقدا من الأنعام و العكر الحلال تمنى بعدهم قوم مداهم فما بلغوا لغايات الكماو كان عمرو مبغضا لخالد و منحرفا عنه و لم يمنعه ذلك من أن صدق فيه. قالوا و منا الوليد بن الوليد بن المغيرة كان رجل صدق من صلحاء المسلمين. و منا عبد الرحمن بن خالد بن الوليد و كان عظيم القدر في أهل الشام و خاف معاوية منه أن يثب على الخلافة بعدهم فسمه أمر طبيبا له يدعى ابن أثال فسقاه فقتله. و خالد بن المهاجر بن خالد بن الوليد قاتل ابن أثال بعمه عبد الرحمن و المخالف على بني أمية و المنقطع إلى بني هاشم و إسماعيل بن هشام بن الوليد كان أمير المدينة و إبراهيم و محمد ابنا هشام بن عبد الملك و أيوب بن سلمة بن عبد الله بن الوليد بن الوليد و كان من رجال قريش و من ولده هشام بن إسماعيل بن أيوب و سلمة بن عبد الله بن الوليد بن الوليد ولي شرطة المدينة. قالوا و من ولد حفص بن المغيرة عبد الله بن أبي عمر بن حفص بن المغيرة هو أول خلق الله حاج يزيد بن معاوية. قالوا و لنا الأزرق و هو عبد الله بن عبد الرحمن بن الوليد بن عبد شمس بن المغيرة والي اليمن لابن الزبير و كان من أجود العرب و هو ممدوح أبي دهبل الجمحي. شرح نهج البلاغة ج : 18 ص : 308قالوا و لنا شريك رسول الله ص و هو عبد الله بن السائب بن أبي السائب و اسم أبي السائب صيفي بن عائبن عبد الله بن عمر بن مخزوم كان شريك النبي ص في الجاهلية فجاءه يوم الفتح فقال له أ تعرفني قال أ لست شريكي قال بلى قال لقد كنت خير شريك لا تشاري و لا تماري. قالوا و منا الأرقم بن أبي الأرقم الذي استتر رسول الله في داره بمكة في أول الدعوة و اسم أبي الأرقم عبد مناف بن أسد بن عبد الله بن عمر بن مخزوم. و منا أبو سلمة بن عبد الأسد و اسمه عبد الله و هو زوج أم سلمة بنت أبي أمية بن المغيرة قبل رسول الله ص شهد أبو سلمة بدرا و كان من صلحاء المسلمين. قالوا لنا

(19/242)


هبيرة بن أبي وهب كان من الفرسان المذكورين و ابنه جعدة بن هبيرة و هو ابن أخت علي بن أبي طالب ع أمه أم هانئ بنت أبي طالب و ابنه عبد الله بن جعدة بن هبيرة هو الذي فتح القهندر و كثيرا من خراسان فقال فيه الشاعر
لو لا ابن جعدة لم تفتح قهندركم و لا خراسان حتى ينفخ الصور
قالوا و لنا سعيد بن المسيب الفقيه المشهور و أما الجواد المشهور فهو الحكم بن المطلب بن حنطب بن الحارث بن عبيد بن عمر بن مخزوم. و قد اختصرنا و اقتصرنا على من ذكرنا و تركنا كثيرا من رجال مخزوم خوف الإسهاب. و ينبغي أن يقال في الجواب إن أمير المؤمنين ع لم يقل هذا الكلام احتقارا لهم و لا استصغارا لشأنهم و لكن أمير المؤمنين ع كان أكثر همة يوم المفاخرة أن يفاخر بني عبد شمس لما بينه و بينهم فلما ذكر مخزوما بالعرض قال فيهم ما قال و لو كان يريد مفاخرتهم لما اقتصر لهم على ما ذكره عنهم على أن أكثر هؤلاء الرجال إسلاميون بعد عصر علي ع و علي ع إنما يذكر من قبله لا من يجي ء بعده. شرح نهج البلاغة ج : 18 ص : 309فإن قلت إذا كان قد قال في بني عبد شمس إنهم أمنع لما وراء ظهورهم ثم قال في بني هاشم إنهم أسمح عند الموت بنفوسهم فقد تناقض الوصفان. قلت لا مناقضة بينهما لأنه أراد كثرةي عبد شمس فبالكثرة تمنع ما وراء ظهورها و كان بنو هاشم أقل عددا من بني عبد شمس إلا أن كل واحد منهم على انفراده أشجع و أسمح بنفسه عند الموت من كل واحد على انفراده من بني عبد شمس فقد بان أنه لا مناقضة بين القولين
شرح نهج البلاغة ج : 18 ص : 117310شَتَّانَ مَا بَيْنَ عَمَلَيْنِ عَمَلٍ تَذْهَبُ لَذَّتُهُ وَ تَبْقَى تَبِعَتُهُ وَ عَمَلٍ تَذْهَبُ مَئُونَتُهُ وَ يَبْقَى أَجْرُهُأخذ هذا المعنى بعض الشعراء فقال
تفنى اللذاذة ممن نال بغيته من الحرام و يبقى الإثم و العارتبقي عواقب سوء في مغبتها لا خير في لذة من بعدها النار

(19/243)


شرح نهج البلاغة ج : 18 ص : 118311وَ قَالَ ع وَ قَدْ تَبِعَ جِنَازَةً فَسَمِعَ رَجُلًا يَضْحَكُ فَقَالَ كَأَنَّ الْمَوْتَ فِيهَا عَلَى غَيْرِنَا كُتِبَ وَ كَأَنَّ الْحَقَّ فِيهَا عَلَى غَيْرِنَا وَجَبَ وَ كَأَنَّ الَّذِي نَرَى مِنَ الْأَمْوَاتِ سَفْرٌ عََا قَلِيلٍ إِلَيْنَا رَاجِعُونَ نُبَوِّئُهُمْ أَجْدَاثَهُمْ وَ نَأْكُلُ تُرَاثَهُمْ كَأَنَّا مُخَلَّدُونَ بَعْدَهُمْ قَدْ نَسِينَا كُلَّ وَاعِظٍ وَ وَاعِظَةٍ وَ رُمِينَا بِكُلِّ جَائِحَةٍ طُوبَى لِمَنْ ذَلَّ فِي نَفْسِهِ وَ طَابَ كَسْبُهُ وَ صَلَحَتْ سَرِيرَتُهُ وَ حَسُنَتْ خَلِيقَتُهُ وَ أَنْفَقَ الْفَضْلَ مِنْ مَالِهِ وَ أَمْسَكَ الْفَضْلَ مِنْ لِسَانِهِ وَ عَزَلَ عَنِ النَّاسِ شَرَّهُ وَ وَسِعَتْهُ السُّنَّةُ وَ لَمْ يُنْسَبْ إِلَى بِدْعَةٍ
قال الرضي رحمه الله تعالى أقول و من الناس من ينسب هذا الكلام إلى رسول الله ص
الأشهر الأكثر في الرواية أن هذا الكلام من كلام رسول الله ص و مثل قوله كأن الموت فيها على غيرنا كتب
قول الحسن ع ما رأيت حقا لا باطل فيه أشبه بباطل لا حق فيه من الموت
و الألفاظ التي بعده واضحة ليس فيها ما يشرح و قد تقدم ذكر نظائرها

(19/244)


شرح نهج البلاغة ج : 18 ص : 119312غَيْرَةُ الْمَرْأَةِ كُفْرٌ وَ غَيْرَةُ الرَّجُلِ إِيمَانٌالمرجع في هذا إلى العقل و التماسك فلما كان الرجل أعقل و أشد تماسكا كانت غيرته في موضعها و كانت واجبة عليه لأن النهي عن المنكر واجب و فعل الواجبات من الإيمان و أما المرأة فلما كانت انقص عقلا و أقل صبرا كانت غيرتها على الوهم الباطل و الخيال غير المحقق فكانت قبيحة لوقوعها غير موقعها و سماها ع كفرا لمشاركتها الكفر في القبح فأجرى عليها اسمه. و أيضا فإن المرأة قد تؤدي بها الغيرة إلى ما يكون كفرا على الحقيقة كالسحر فقد ورد في الحديث المرفوع أنه كفر و قد يفضي بها الضجر و القلق إلى أن تتسخط و تشتم و تتلفظ بألفاظ تكون كفرا لا محالة
شرح نهج البلاغة ج : 18 ص : 120313لَأَنْسُبَنَّ الْإِسْلَامَ نِسْبَةً لَمْ يَنْسُبْهَا أَحَدٌ قَبْلِي الْإِسْلَامُ هُوَ التَّسْلِيمُ وَ التَّسْلِيمُ هُوَ الْيَقِينُ وَ الْيَقِينُ هُوَ التَّصْدِيقُ وَ التَّصْدِيقُ هُوَ الْإِقْرَارُ وَ الْإِقْرَارُ هُوَ الَدَاءُ وَ الْأَدَاءُ هُوَ الْعَمَلُ

(19/245)


خلاصة هذا الفصل تقتضي صحة مذهب أصحابنا المعتزلة في أن الإسلام و الإيمان عبارتان عن معبر واحد و أن العمل داخل في مفهوم هذه اللفظة أ لا تراه جعل كل واحدة من اللفظات قائمة مقام الأخرى في إفادة المفهوم كما تقول الليث هو الأسد و الأسد هو السبع و السبع هو أبو الحارث فلا شبهة أن الليث يكون أبا الحارث أي أن الأسماء مترادفة فإذا كان أول اللفظات الإسلام و آخرها العمل دل على أن العمل هو الإسلام و هكذا يقول أصحابنا إن تارك العمل و تارك الواجب لا يسمى مسلما. فإن قلت هب أن كلامه ع يدل على ما قلت كيف يدل على أن الإسلام هو الإيمان قلت لأنه إذا دل على أن العمل هو الإسلام وجب أن يكون الإيمان هو الإسلام لأن كل من قال إن العمل داخل في مسمى الإسلام قال إن الإسلام هو الإيمان شرح نهج البلاغة ج : 18 ص : 314فالقول بأن العمل داخل في مسمى الإسلام و ليس الإسلام هو الإيمان قول لم يقل أحد فيكون الإجماع واقعا على بطلانه. فإن قلت إن أمير المؤمنين ع لم يقل كما تقوله المعتزلة لأن المعتزلة تقول الإسلام اسم واقع على العمل و غيره من الاعتقاد و النطق باللسان و أمير المؤمنين ع جعل الإسلام هو العمل فقط فكيف ادعيت أن قول أمير المؤمنين ع يطابق مذهبهم قلت لا يجوز أن يريد غيره لأن لفظ العمل يشمل الاعتقاد و النطق باللسان و حركات الأركان بالعبادات إذ كل ذلك عمل و فعل و إن كان بعضه من أفعال القلوب و بعضه من أفعال الجوارح و لو لم يرد أمير المؤمنين ع ما شرحناه لكان قد قال الإسلام هو العمل بالأركان خاصة و لم يعتبر فيه الاعتقاد القلبي و لا النطق اللفظي و ذلك مما لا يقوله أحد

(19/246)


شرح نهج البلاغة ج : 18 ص : 121315عَجِبْتُ لِلْبَخِيلِ يَسْتَعْجِلُ الْفَقْرَ الَّذِي مِنْهُ هَرَبَ وَ يَفُوتُهُ الْغِنَى الَّذِي إِيَّاهُ طَلَبَ فَيَعِيشُ فِي الدُّنْيَا عَيْشَ الْفُقَرَاءِ وَ يُحَاسَبُ فِي الآْخِرَةِ حِسَابَ الْأَغْنِيَاءِ وَ عَجِبْتُ لْمُتَكَبِّرِ الَّذِي كَانَ بِالْأَمْسِ نُطْفَةً وَ يَكُونُ غَداً جِيفَةً وَ عَجِبْتُ لِمَنْ شَكَّ فِي اللَّهِ وَ هُوَ يَرَى خَلْقَ اللَّهِ وَ عَجِبْتُ لِمَنْ نَسِيَ الْمَوْتَ وَ هُوَ يَرَى مَنْ يَمُوتُ وَ عَجِبْتُ لِمَنْ أَنْكَرَ النَّشْأَةَ الْأُخْرَى وَ هُوَ يَرَى النَّشْأَةَ الْأُولَى وَ عَجِبْتُ لِعَامِرٍ دَارَ الْفَنَاءِ وَ تَارِكٍ دَارَ الْبَقَاءِ
قال أعرابي الرزق الواسع لمن لا يستمتع به بمنزلة الطعام الموضوع على قبر و رأى حكيم رجلا مثريا يأكل خبزا و ملحا فقال لم تفعل هذا قال أخاف الفقر قال فقد تعجلته فأما القول في الكبر و التيه فقد تقدم منه ما فيه كفاية و قال ابن الأعرابي ما تاه على أحد قط أكثر من مرة واحدة أخذ هذا المعنى شاعر فقال و أحسن
هذه منك فإن عدت إلى الباب فمني
و قد تقدم من كلامنا في نظائر هذه الألفاظ المذكورة ما يغني عن الإطالة هاهنا
شرح نهج البلاغة ج : 18 ص : 122316مَنْ قَصَّرَ فِي الْعَمَلِ ابْتُلِيَ بِالْهَمِّهذا مخصوص بأصحاب اليقين و الاعتقاد الصحيح فإنهم الذين إذا قصروا في العمل ابتلوا بالهم فأما غيرهم من المسرفين على أنفسهم و ذوي النقص في اليقين و الاعتقاد فإنه لا هم يعروهم و إن قصروا في العمل و هذه الكلمة قد جربناها من أنفسنا فوجدنا مصداقها واضحا و ذلك أن الواحد منا إذا أخل بفريضة الظهر مثلا حتى تغيب الشمس و إن كان أخل بها لعذر وجد ثقلا في نفسه و كسلا و قلة نشاط و كأنه مشكول بشكال أو مقيد بقيد حتى يقضي تلك الفريضة فكأنما أنشط من عقال

(19/247)


شرح نهج البلاغة ج : 18 ص : 123317لَا حَاجَةَ لِلَّهِ فِيمَنْ لَيْسَ لِلَّهِ فِي مَالِهِ وَ نَفْسِهِ نَصِيبٌ قد جاء في الخبر المرفوع إذا أحب الله عبدا ابتلاه في ماله أو في نفسه
و جاء في الحديث المرفوع اللهم أني أعوذ بك من جسد لا يمرض و من مال لا يصاب
و روى عبد الله بن أنس عنه ص أنه قال أيكم يحب أن يصح فلا يسقم قالوا كلنا يا رسول الله قال أ تحبون أن تكونوا كالحمر الصائلة ألا تحبون أن تكونوا أصحاب بلايا و أصحاب كفارات و الذي بعثني بالحق إن الرجل لتكون له الدرجة في الجنة فلا يبلغها بشي ء من عمله فيبتليه لله ليبلغه الله درجة لا يبلغها بعمله
و في الحديث أيضا ما من مسلم يمرض مرضا إلا حت الله به خطاياه كما تحت الشجرة ورقها
و روى أبو عثمان النهدي قال دخل رجل أعرابي على رسول الله ص ذو جسمان عظيم فقال له متى عهدك بالحمى قال ما أعرفها قال بالصداع شرح نهج البلاغة ج : 18 ص : 318قال ما أدري ما هو قال فأصبت بمالك قال لا قال فرزئت بولدك قال لا فقال ع إن الله ليكره العفريت النفريت اي لا يرزأ في ولده و لا يصاب في ماله
و جاء في بعض الآثار أشد الناس حسابا الصحيح الفارغ
و في حديث حذيفة رضي الله عنه إن أقر يوم لعيني ليوم لا أجد فيه طعاما سمعت رسول الله ص يقول إن الله ليتعاهد عبده المؤمن بالبلاء كما يتعاهد الوالد ولده بالطعام و إن الله يحمي عبده المؤمن كما يحمي أحدكم المريض من الطعام
و في الحديث المرفوع أيضا إذا أحب الله عبدا ابتلاه فإذا أحبه الحب البالغ اقتناه قالوا و ما اقتناؤه قال ألا يترك له مالا و لا ولدا
مر موسى ع برجل كان يعرفه مطيعا لله قد مزقت السباع لحمه و أضلاعه و كبده ملقاة فوقف متعجبا فقال أي رب عبدك المطيع لك ابتليته بما أرى فأوحى الله إليه أنه سألني درجة لم يبلغها بعمله فجعلت له بما ترى سبيلا إلى تلك الدرجة

(19/248)


و جاء في الحديث أن زكريا لم يزل يرى ولده يحيى مغموما باكيا مشغولا بنفسه فقال يا رب طلبت منك ولدا أنتفع به فرزقتنيه لا نفع لي فيه فقال له إنك طلبته وليا و الولي لا يكون إلا هكذا مسقاما فقيرا مهموما
و قال سفيان الثوري كانوا لا يعدون الفقيه فقيها من لا يعد البلاء نعمة و الرخاء مصيبة.
جابر بن عبد الله يرفعه يود أهل العافية يوم القيامة أن لحومهم كانت تقرض بالمقاريض لما يرون من ثواب أهل البلاء
شرح نهج البلاغة ج : 18 ص : 124319تَوَقَّوُا الْبَرْدَ فِي أَوَّلِهِ وَ تَلَقَّوْهُ فِي آخِرِهِ فَإِنَّهُ يَفْعَلُ فِي الْأَبْدَانِ كَفِعْلِهِ فِي الْأَشْجَارِ أَوَّلُهُ يُحْرِقُ وَ آخِرُهُ يُوِرُقهذه مسألة طبيعية قد ذكرها الحكماء قالوا لما كان تأثير الخريف في الأبدان و توليده الأمراض كالزكام و السعال و غيرهما أكثر من تأثير الربيع مع أنهما جميعا فصلا اعتدال و أجابوا بأن برد الخريف يفجأ الإنسان و هو معتاد لحر الصيف فينكأ فيه و يسد مسام دماغه لأن البرد يكثف و يسد المسام فيكون كمن دخل من موضع شديد الحرارة إلى خيش بارد. فأما المنتقل من الشتاء إلى فصل الربيع فإنه لا يكاد برد الربيع يؤذيه ذلك الأذى لأنه قد اعتاد جسمه برد الشتاء فلا يصادف من برد الربيع إلا ما قد اعتاد ما هو أكثر منه فلا يظهر لبرد الربيع تأثير في مزاجه فأما لم أورقت الأشجار و أزهرت في الربيع دون الخريف فلما في الربيع من الكيفيتين اللتين هما منبع النمو و النفس النباتية و هما الحرارة و الرطوبة و أما الخريف فخال من هاتين الكيفيتين و مستبدل بهما ضدهما شرح نهج البلاغة ج : 18 ص : 320و هما البرودة اليبس المنافيان للنشوء و حياة الحيوان و النبات فأما لم كان الخريف باردا يابسا و الربيع حارا رطبا مع أن نسبة كل واحد منهما إلى الفصلين الخارجين عن الاعتدال و هما الشتاء و الصيف نسبة واحدة فإن تعليل ذلك مذكور في الأصول الطبية و الكتب الطبيعية

(19/249)


و ليس هذا الموضع مما يحسن أن يشرح فيه مثل ذلك
شرح نهج البلاغة ج : 18 ص : 125321عِظَمُ الْخَالِقِ عِنْدَكَ يُصَغِّرُ الْمَخْلُوقَ فِي عَيْنِكَلا نسبة للمخلوق إلى الخالق أصلا و خصوصا البشر لأنهم بالنسبة إلى فلك القمر كالذرة و نسبة فلك القمر كالذرة بالنسبة إلى قرص الشمس بل هم دون هذه النسبة مما يعجز الحاسب الحاذق عن حساب ذلك و فلك القمر بالنسبة إلى الفلك المحيط دون هذه النسبة و نسبة الفلك المحيط إلى الباري سبحانه كنسبة العدم المحض و النفي الصرف إلى الموجود البائن بل هذا القياس أيضا غير صحيح لأن المعدوم يمكن أن يصير موجودا بائنا و الفلك لا يتصور أن يكون صانع العالم الواجب الوجود لذاته. و على الجملة فالأمر أعظم من كل عظيم و أجل من كل جليل و لا طاقة للعقول و الأذهان أن تعبر عن جلالة ذلك الجناب و عظمته بل لو قيل إنها لا طاقة لها أن تعبر عن جلال مصنوعاته الأولى المتقدمة علينا بالرتبة العقلية و الزمانية لكان ذلك القول حقا و صدقا فمن هو المخلوق ليقال إن عظم الخالق يصغره في العين و لكن كلامه ع محمول على مخاطبة العامة الذين تضيق أفهامهم عما ذكرناه

(19/250)


شرح نهج البلاغة ج : 18 ص : 126322وَ قَالَ ع وَ قَدْ رَجَعَ مِنْ صِفِّينَ فَأَشْرَفَ عَلَى الْقُبُورِ بِظَاهِرِ الْكُوفَةِ يَا أَهْلَ الدِّيَارِ الْمُوحِشَةِ وَ الْمَحَالِّ الْمُقْفِرَةِ وَ الْقُبُورِ الْمُظْلِمَةِ يَا أَهْلَ التُّرْبَةِ يَا أَهْلَ الْغُبَةِ يَا أَهْلَ الْوَحْدَةِ يَا أَهْلَ الْوَحْشَةِ أَنْتُمْ لَنَا فَرَطٌ سَابِقٌ وَ نَحْنُ لَكُمْ تَبَعٌ لَاحِقٌ أَمَّا الدُّورُ فَقَدْ سُكِنَتْ وَ أَمَّا الْأَزْوَاجُ فَقَدْ نُكِحَتْ وَ أَمَّا الْأَمْوَالُ فَقَدْ قُسِمَتْ هَذَا خَبَرُ مَا عِنْدَنَا فَمَا خَبَرُ مَا عِنْدَكُمْ ثُمَّ الْتَفَتَ إِلَى أَصْحَابِهِ فَقَالَ أَمَا وَ اللَّهِ لَوْ أُذِنَ لَهُمْ فِي الْكَلَامِ لَأَخْبَرُوكُمْ أَنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى
الفرط المتقدمون و قد ذكرنا من كلام عمر ما يناسب هذا الكلام لما ظعن في القبور و عاد إلى أصحابه أحمر الوجه ظاهر العروق قال قد وقفت على قبور الأحبة فناديتها الحديث إلى آخره فقيل له فهل أجابتك قال نعم قالت إن خير الزاد التقوى. و قد جاء في حديث القبور و مخاطبتها و حديث الأموات و ما يتعلق بذلك شي ء كثير يتجاوز الإحصاء. شرح نهج البلاغة ج : 18 ص : 323 في وصية النبي ص أبا ذر رضي الله عنه زر القبور تذكر بها الآخرة و لا تزرها ليلا و غسل الموتى يتحرك قلبك فإن الجسد الخاوي عظة بليغة و صل على الموتى فإن ذلك يحزنك فإن الحزين في ظل الله
وجد على قبر مكتوبا
مقيم إلى أن يبعث الله خلقه لقاؤك لا يرجى و أنت رقيب تزيد بلى في كل يوم و ليلة و تنسى كما تبلى و أنت حبيبو قال الحسن ع مات صديق لنا صالح فدفناه و مددنا على القبر ثوبا فجاء صلة بن أشيم فرفع طرف الثوب و نادى يا فلان
إن تنج منها تنج من ذي عظيمة و إلا فإني لا إخالك ناجيا
و في الحديث المرفوع أنه ع كان إذا تبع الجنازة أكثر الصمات و رئي عليه كآبة ظاهرة و أكثر حديث النفس

(19/251)


سمع أبو الدرداء رجلا يقول في جنازة من هذا فقال أنت فإن كرهت فأنا.
سمع الحسن ع امرأة تبكي خلف جنازة و تقول يا أبتاه مثل يومك لم أره فقال بل أبوك مثل يومه لم يره
و كان مكحول إذا رأى جنازة قال اغد فإنا رائحون. و قال ابن شوذب اطلعت امرأة صالحة في لحد فقالت لامرأة معها هذا كندوج العمل يعني خزانته و كانت تعطيها الشي ء بعد الشي ء تأمرها أن تتصدق به فتقول اذهبي فضعي هذا في كندوج العمل. شرح نهج البلاغة ج : 18 ص : 324ش
أ جازعة ردينة أن أتاها نعيي أم يكون لها اصطبارإذا ما أهل قبري ودعوني و راحوا و الأكف بها غبارو غودر أعظمي في لحد قبر تراوحه الجنائب و القطارتهب الريح فوق محط قبري و يرعى حوله اللهق النوارمقيم لا يكلمني صديق بقفر لا أزور و لا أزارفذاك النأي لا الهجران حولا و حولا ثم تجتمع الديار
و قال آخر
كأني بإخواني على حافتي قبري يهيلونه فوقي و أدمعهم تجري فيا أيها المذري علي دموعه ستعرض في يومين عني و عن ذكري عفا الله عني يوم أترك ثاويا أزار فلا أدري و أجفي فلا أدرو جاء في الحديث المرفوع ما رأيت منظرا إلا و القبر أفظع منه

(19/252)


و في الحديث أيضا القبر أول منزل من منازل الآخرة فمن نجا منه فما بعده أيسر و من لم ينج منه فما بعده شر منه شرح نهج البلاغة ج : 18 ص : 127325وَ قَالَ ع وَ قَدْ سَمِعَ رَجُلًا يَذُمُّ الدُّنْيَا أَيُّهَا الذَّامُّ لِلدُّنْيَا الْمُغْتَرُّ بِغُرُورِهَا الْمُنْخَدِعُ بِأَبَاطِيلِهَا أَ تَفْتَتِنُ بِهَا ثُمَّ تَذُمُّهَا أَنْتَ الْمُتَجَرِّمُ عَلَيْهَا أَمْ هِيَ امُتَجَرِّمَةُ عَلَيْكَ مَتَى اسْتَهْوَتْكَ أَمْ مَتَى غَرَّتْكَ أَ بِمَصَارِعِ آبَائِكَ مِنَ الْبِلَى أَمْ بِمَضَاجِعِ أُمَّهَاتِكَ تَحْتَ الثَّرَى كَمْ عَلَّلْتَ بِكَفَّيْكَ وَ كَمْ مَرَّضْتَ بِيَدَيْكَ تَبْتَغِي لَهُمُ الشِّفَاءَ وَ تَسْتَوْصِفُ لَهُمُ الْأَطِبَّاءَ غَدَاةَ لَا يُغْنِي عَنْهُمْ دَوَاؤُكَ وَ لَا يُجْدِي عَلَيْهِمْ بُكَاؤُكَ لَمْ يَنْفَعْ أَحَدَهُمْ إِشْفَاقُكَ وَ لَمْ تُسْعَفْ فِيهِ بِطَلِبَتِكَ وَ لَمْ تَدْفَعْ عَنْهُ بِقُوَّتِكَ وَ قَدْ مَثَّلَتْ لَكَ بِهِ الدُّنْيَا نَفْسَكَ وَ بِمَصْرَعِهِ مَصْرَعَكَ إِنَّ الدُّنْيَا دَارُ صِدْقٍ لِمَنْ صَدَقَهَا وَ دَارُ عَافِيَةٍ لِمَنْ فَهِمَ عَنْهَا وَ دَارُ غِنًى لِمَنْ تَزَوَّدَ مِنْهَا وَ دَارُ مَوْعِظَةٍ لِمَنِ اتَّعَظَ بِهَا مَسْجِدُ أَحِبَّاءِ اللَّهِ وَ مُصَلَّى مَلَائِكَةِ اللَّهِ وَ مَهْبِطُ وَحْيِ اللَّهِ وَ مَتْجَرُ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ اكْتَسَبُوا فِيهَا الرَّحْمَةَ وَ رَبِحُوا فِيهَا الْجَنَّةَ فَمَنْ ذَا يَذُمُّهَا وَ قَدْ آذَنَتْ بِبَيْنِهَا وَ نَادَتْ بِفِرَاقِهَا وَ نَعَتْ نَفْسَهَا وَ أَهْلَهَا فَمَثَّلَتْ لَهُمْ بِبَلَائِهَا الْبَلَاءَ وَ شَوَّقَتْهُمْ بِسُرُورِهَا إِلَى السُّرُورِ رَاحَتْ بِعَافِيَةٍ وَ ابْتَكَرَتْ بِفَجِيعَةٍ تَرْغِيباً وَ تَرْهِيباً وَ تَخْوِيفاً وَ تَحْذِيراً شرح نهج البلاغة ج : 18 ص : 326فَذَمَّهَا رِجَالٌ غَدَاةَ

(19/253)


النَّدَامَةِ وَ حَمِدَهَا آخَرُونَ يَوْمَ الْقَامَةِ ذَكَّرَتْهُمُ الدُّنْيَا فَذَكَّرُوا وَ حَدَّثَتْهُمْ فَصَدَّقُوا وَ وَعَظَتْهُمْ فَاتَّعَظُوا
تجرمت على فلان ادعيت عليه جرما و ذنبا و استهواه كذا استزله. و قوله ع فمثلت لهم ببلائها البلاء أي بلاء الآخرة و عذاب جهنم و شوقتهم بسرورها إلى السرور أي إلى سرور الآخرة و نعيم الجنة. و هذا الفصل كله لمدح الدنيا و هو ينبئ عن اقتداره ع على ما يريد من المعاني لأن كلامه كله في ذم الدنيا و هو الآن يمدحها و هو صادق في ذاك و في هذا و قد جاء عن النبي ص كلام يتضمن مدح الدنيا أو قريبا من المدح و هو
قوله ع الدنيا حلوة خضرة فمن أخذها بحقها بورك له فيها
و احتذى عبد الله بن المعتز حذو أمير المؤمنين ع في مدح الدنيا فقال في كلام له الدنيا دار التأديب و التعريف التي بمكروهها توصل إلى محبوب الآخرة و مضمار الأعمال السابقة بأصحابها إلى الجنان و درجة الفوز التي يرتقى عليها المتقون إلى دار الخلد و هي الواعظة لمن عقل و الناصحة لمن قبل و بساط المهل و ميدان العمل و قاصمة الجبارين و ملحقة الرغم معاطس المتكبرين و كاسية التراب أبدان المختالين و صارعة المغترين و مفرقة أموال الباخلين و قاتلة القاتلين و العادلة بالموت على جميع العالمين و ناصرة المؤمنين و مبيرة الكافرين الحسنات فيها مضاعفة و السيئات بآلامها ممحوة و مع عسرها يسران و الله تعالى قد ضمن أرزاق أهلها و أقسم في كتابه بما فيها و رب طيبة شرح نهج البلاغة ج : 18 ص : 327من نعيمها قد حمد الله عليها فتلقتها أيدي الكتبة و وجبت بها الجنة و كم نائبة من نوائبها و حادثة من حوثها قد راضت الفهم و نبهت الفطنة و أذكت القريحة و أفادت فضيلة الصبر و كثرت ذخائر الأجر. و
من الكلام المنسوب إلى علي ع الناس أبناء الدنيا و لا يلام المرء على حب أمه
أخذه محمد بن وهب الحميري فقال

(19/254)


و نحن بنو الدنيا خلقنا لغيرها و ما كنت منه فهو شي ء محبب شرح نهج البلاغة ج : 18 ص : 128328إِنَّ لِلَّهِ مَلَكاً يُنَادِي فِي كُلِّ يَوْمٍ لِدُوا لِلْمَوْتِ وَ اجْمَعُوا لِلْفَنَاءِ وَ ابْنُوا لِلْخَرَابِهذه اللام عند أهل العربية تسمى لام العاقبة و مثل هذا قوله تعالى فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَ حَزَناً ليس أنهم التقطوه لهذه العلة بل التقطوه فكان عاقبة التقاطهم إياه العداوة و الحزن و مثله
فللموت ما تلد الوالدة
و مثله قوله تعالى وَ لَقَدْ ذَرَأْنا لِجَهَنَّمَ ليس أنه ذرأهم ليعذبهم في جهنم بل ذرأهم و كان عاقبة ذرئهم أن صاروا فيها و بهذا الحرف يحصل الجواب عن كثير من الآيات المتشابهة التي تتعلق بها المجبرة. و أما فحوى هذا القول و خلاصته فهو التنبيه على أن الدنيا دار فناء و عطب لا دار بقاء و سلامة و أن الولد يموت و الدور تخرب و ما يجمع من الأموال يفنى
شرح نهج البلاغة ج : 18 ص : 129329الدُّنْيَا دَارُ مَمَرٍّ لَا دَارُ مَقَرٍّ وَ النَّاسُ فِيهَا رَجُلَانِ رَجُلٌ بَاعَ نَفْسَهُ فَأَوْبَقَهَا وَ رَجُلٌ ابْتَاعَ نَفْسَهُ فَأَعْتَقَهَاقال عمر بن عبد العزيز يوما لجلسائه أخبروني من أحمق الناس قالوا رجل باع آخرته بدنياه فقال أ لا أنبئكم بأحمق منه قالوا بلى قال رجل باع آخرته بدنيا غيره. قلت لقائل أن يقول له ذاك باع آخرته بدنياه أيضا لأنه لو لم يكن له لذة في بيع آخرته بدنيا غيره لما باعها و إذا كان له في ذلك لذة فإذن إنما باع آخرته بدنياه لأن دنياه هي لذته

(19/255)


شرح نهج البلاغة ج : 18 ص : 130330لَا يَكُونُ الصَّدِيقُ صَدِيقاً حَتَّى يَحْفَظَ أَخَاهُ فِي ثَلَاثٍ فِي نَكْبَتِهِ وَ غَيْبَتِهِ وَ وَفَاتِهِقد تقدم لنا كلام في الصديق و الصداقة و أما النكبة و حفظ الصديق فيها فإنه يقال في الحبوس مقابر الأحياء و شماتة الأعداء و تجربة الأصدقاء. و أما الغيبة فإنه قد قال الشاعر
و إذا الفتى حسنت مودته في القرب ضاعفها على البعد
و أما الموت فقد قال الشاعر
و إني لأستحييه و الترب بيننا كما كنت أستحييه و هو يراني
و من كلام علي ع الصديق من صدق في غيبته
قيل لحكيم من أبعد الناس سفرا قال من سافر في ابتغاء الأخ الصالح. أبو العلاء المعري
أزرت بكم يا ذوي الألباب أربعة يتركن أحلامكم نهب الجهالات ود الصديق و علم الكيمياء و أحكام النجوم و تفسير المناماتقيل للثوري دلني على جليس أجلس إليه قال تلك ضالة لا توجد
شرح نهج البلاغة ج : 18 ص : 131331مَنْ أُعْطِيَ أَرْبَعاً لَمْ يُحْرَمْ أَرْبَعاً مَنْ أُعْطِيَ الدُّعَاءَ لَمْ يُحْرَمِ الْإِجَابَةَ وَ مَنْ أُعْطِيَ التَّوْبَةَ لَمْ يُحْرَمِ الْقَبُولَ وَ مَنْ أُعْطِيَ الِاسْتِغْفَارَ لَمْ يُحْرَمِ الْمَغْفِرَةَ وَ مَ أُعْطِيَ الشُّكْرَ لَمْ يُحْرَمِ الزِّيَادَةَ
قال الرضي رحمه الله تعالى و تصديق ذلك في كتاب الله تعالى قال في الدعاء ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ و قال في الاستغفار وَ مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُوراً رَحِيماً و قال في الشكر لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ و قال في التوبة إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَ كانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً

(19/256)


في بعض الروايات أن ما نسب إلى الرضي رحمه الله من استنباط هذه المعاني من الكتاب العزيز من متن كلام أمير المؤمنين ع و قد سبق القول في كل واحدة من هذه الأربع مستقصى
شرح نهج البلاغة ج : 18 ص : 132332الصَّلَاةُ قُرْبَانُ كُلِّ تَقِيٍّ وَ الْحَجُّ جِهَادُ كُلِّ ضَعِيفٍ وَ لِكُلِّ شَيْ ءٍ زَكَاةٌ وَ زَكَاةُ الْبَدَنِ الصَّوْمُ وَ جِهَادُ الْمَرْأَةِ حُسْنُ التَّبَعُّلقد تقدم القول في الصلاة و الحج و الصيام فأما أن جهاد المرأة حسن التبعل فمعناه حسن معاشرة بعلها و حفظ ماله و عرضه و إطاعته فيما يأمر به و ترك الغيرة فإنها باب الطلاق
نبذ من الوصايا الحكيمة

(19/257)


و أوصت امرأة من نساء العرب بنتها ليلة إهدائها فقالت لها لو تركت الوصية لأحد لحسن أدب و كرم حسب لتركتها لك و لكنها تذكرة للغافل و مئونة للعاقل إنك قد خلفت العش الذي فيه درجت و الوكر الذي منه خرجت إلى منزل لم تعرفيه و قرين لم تألفيه فكوني له أمة يكن لك عبدا و احفظي عني خصالا عشرا. شرح نهج البلاغة ج : 18 ص : 333أما الأولى و الثانية فحسن الصحابة بالقناعة و جميل المعاشرة بالسمع و الطاعة ففي حسن الصحابة راحة القلب و في جميل المعاشرة رضا الرب. و الثالثة و الرابعة التفقد لمواقع عينه و التعهد لمواضع أنفه فلا تقع عه منك على قبيح و لا يجد أنفه منك خبيث ريح و اعلمي أن الكحل أحسن الحسن المفقود و أن الماء أطيب الطيب الموجود و الخامسة و السادسة الحفظ لماله و الإرعاء على حشمه و عياله و اعلمي أن أصل الاحتفاظ بالمال حسن التقدير و أصل الإرعاء على الحشم و العيال حسن التدبير و السابعة و الثامنة التعهد لوقت طعامه و الهدو و السكون عند منامه فحرارة الجوع ملهبة و تنغيص النوم مغضبة و التاسعة و العاشرة لا تفشين له سرا و لا تعصين له أمرا فإنك إن أفشيت سره لم تأمني غدره و إن عصيت أمره أوغرت صدره. و أوصت امرأة ابنتها و قد أهدتها إلى بعلها فقالت كوني له فراشا يكن لك معاشا و كوني له وطاء يكن لك غطاء و إياك و الاكتئاب إذا كان فرحا و الفرح إذا كان كئيبا و لا يطلعن منك على قبيح و لا يشمن منك إلا طيب ريح. و زوج عامر بن الظرب ابنته من ابن أخيه فلما أراد تحويلها قال لأمها مري ابنتك ألا تنزل مفازة إلا و معها ماء فإنه للأعلى جلاء و للأسفل نقاء و لا تكثر مضاجعته فإذا مل البدن مل القلب و لا تمنعه شهوته فإن الحظوة في المواقعة فلم يلبث إلا شهرا حتى جاءته مشجوجة فقال لابن أخيه يا بني ارفع عصاك عن بكرتك شرح نهج البلاغة ج : 18 ص : 334فإن كان من غير أن تر بك فهو الداء الذي ليس له دواء و إن لم يكن بينكما وفاق ففراق الخلع

(19/258)


أحسن من الطلاق و أن تترك أهلك و مالك. فرد عليه صداقها و خلعها منه فهو أول خلع كان في العرب. و أوصى الفرافصة الكلبي ابنته نائلة حين أهداها إلى عثمان فقال يا بنية إنك تقدمين على نساء من نساء قريش هن أقدر على الطيب منك و لا تغلبين على خصلتين الكحل و الماء تطهري حتى يكون ريح جلدك ريح شن أصابه مطر و إياك و الغيرة على بعلك فإنها مفتاح الطلاق. و روى أبو عمرو بن العلاء قال أنكح ضرار بن عمرو الضبي ابنته من معبد بن زرارة فلما أخرجها إليه قال يا بنية أمسكي عليك الفضلين فضل الغلمة و فضل الكلام. قال أبو عمرو و ضرار هذا هو الذي رفع عقيرته بعكاظ و قال ألا إن شر حائل أم فزوجوا الأمهات قال و ذلك أنه صرع بين الرماح فأشبل عليه إخوته لأمه حتى استنقذوه. و أوصت أعرابية ابنتها عند إهدائها فقالت لها اقلعي زج رمحه فإن أقر فاقلعي سنانه فإن أقر فاكسري العظام بسيفه فإن أقر فاقطعي اللحم على ترسه فإن أقر فضعي الإكاف على ظهره فإنما هو حمار. و هذا هو قبح التبعل و ذكرناه نحن في باب حسن التبعل لأن الضد يذكر بضده
شرح نهج البلاغة ج : 18 ص : 133335اسْتَنْزِلُوا الرِّزْقَ بِالصَّدَقَةِ جاء في الحديث المرفوع و قيل إنه موقوف على عثمان تاجروا الله بالصدقة تربحواو كان يقال الصدقة صداق الجنة. و
في الحديث المرفوع ما أحسن عبد الصدقة إلا أحسن الله الخلافة على مخلفيه
و عنه ص ما من مسلم يكسو مسلما ثوبا إلا كان في حفظ الله ما دام منه رقعة
و قال عمر بن عبد العزيز الصلاة تبلغك نصف الطريق و الصوم يبلغك باب الملك و الصدقة تدخلك عليه

(19/259)


شرح نهج البلاغة ج : 18 ص : 134336وَ مَنْ أَيْقَنَ بِالْخَلَفِ جَادَ بِالْعَطِيَّةِهذا حق لأن من لم يوقن بالخلف و يتخوف الفقر يضن بالعطية و يعلم أنه إذا أعطى ثم أعطى استنفد ماله و احتاج إلى الناس لانقطاع مادته و أما من يوقن بالخلف فإنه يعلم أن الجود شرف لصاحبه و أن الجواد ممدوح عند الناس فقد وجد الداعي إلى السماح و لا صارف له عنه لأنه يعلم أن مادته دائمة غير منقطعة فالصارف الذي يخافه من قدمناه ذكره مفقود في حقه فلا جرم أنه يجود بالعطية
شرح نهج البلاغة ج : 18 ص : 135337تَنْزِلُ الْمَعُونَةُ عَلَى قَدْرِ الْمَئُونَةِ جاء في الحديث المرفوع من وسع وسع عليه و كلما كثر العيال كثر الرزق
و كان على بعض الموسرين رسوم لجماعة من الفقراء يدفعها إليهم كل سنة فاستكثرها فأمر كاتبه بقطعها فرأى في المنام كأن له أهواء كثيرة في داره و كأنها تصعدها أقوام من الأرض إلى السماء و هو يجزع من ذلك فيقول يا رب رزقي رزقي فقيل له إنما رزقناك هذه لتصرفها فيما كنت تصرفها فيه فإذ قطعت ذلك رفعناها منك و جعلناها لغيرك فلما أصبح أمر كاتبه بإعادة تلك الرسوم أجمع
شرح نهج البلاغة ج : 18 ص : 136338مَا عَالَ مَنِ اقْتَصَدَ ما عال أي ما افتقر و قد تقدم لنا قول مقنع في مدح الاقتصاد. و قال أبو العلاءو إن كنت تهوى العيش فابغ توسطا فعند التناهي يقصر المتطاول توقي البدور النقص و هي أهلة و يدركها النقصان و هي كواملو هذا الشعر و إن كان في الاقتصاد في المراتب و الولايات إلا أنه مدح للاقتصاد في الجملة فهو من هذا الباب. و سمع بعض الفضلاء قول الحكماء التدبير نصف العيش فقال بل العيش كله

(19/260)


شرح نهج البلاغة ج : 18 ص : 137339قِلَّةُ الْعِيَالِ أَحَدُ الْيَسَارَيْنِ اليسار الثاني كثرة المال يقول إن قلة العيال مع الفقر كاليسار الحقيقي مع كثرتهم. و من أمثال الحكماء العيال أرضة المال شرح نهج البلاغة ج : 18 ص : 138340التَّوَدُّدُ نِصْفُ الْعَقْلِ دخل حبيب بن شوذب على جعفر بن سليمان بالبصرة فقال نعم المرء حبيب بن شوذب حسن التودد طيب الثناء يكره الزيارة المتصلة و القعدة المنسية. و كان يقال التودد ظاهر حسن و المعاملة بين الناس على الظاهفأما البواطن فإلى عالم الخفيات. و كان يقال قل من تودد إلا صار محبوبا و المحبوب مستور العيوب
شرح نهج البلاغة ج : 18 ص : 139341وَ الْهَمُّ نِصْفُ الْهَرَمِ من كلام بعض الحكماء الهم يشيب القلب و يعقم العقل فلا يتولد معه رأى و لا تصدق معه روية. و قال الشاعرهموم قد أبت إلا التباسا تبت الشيب في رأس الوليدو تقعد قائما بشجا حشاه و تطلق للقيام حبا القعودو أضحت خشعا منها نزار مركبة الرواجب في الخدود
و قال سفيان بن عيينة الدنيا كلها هموم و غموم فما كان منها سرور فهو ربح. و من أمثالهم الهم كافور الغلمة. و قال أبو تمام
شاب رأسي و ما رأيت مشيب الرأس إلا من فضل شيب الفؤادو كذاك القلوب في كل بؤس و نعيم طلائع الأجسادطال إنكاري البياض و لو عمرت شيئا أنكرت لون السواد
شرح نهج البلاغة ج : 18 ص : 140342يَنْزِلُ الصَّبْرُ عَلَى قَدْرِ الْمُصِيبَةِ وَ مَنْ ضَرَبَ يَدَهُ عَلَى فَخِذِهِ عِنْدَ مُصِيبَتِهِ حَبِطَ أَجْرُهُقد مضى لنا كلام شاف في الصبر و كان الحسن يقول في قصصه الحمد لله الذي كلفنا ما لو كلفنا غيره لصرنا فيه إلى معصيته و آجرنا على ما لا بد لنا منه يقول كلفنا الصبر و لو كلفنا الجزع لم يمكنا أن نقيم عليه و آجرنا على الصبر و لا بد لنا من الرجوع إليه. و
من كلام أمير المؤمنين ع كان يقول عند التعزية عليكم بالصبر فإن به يأخذ الحازم و يعود إليه الجازع

(19/261)


و قال أبو خراش الهذلي يذكر أخاه عروة
تقول أراه بعد عروة لاهيا و ذلك رزء لو علمت جليل فلا تحسبي أني تناسيت عهده و لكن صبري يا أميم جميلو قال عمرو بن معديكرب
كم من أخ لي صالح بوأته بيدي لحدا
شرح نهج البلاغة ج : 18 ص : 343ألبسته أكفانه و خلقت يوم خلقت جلدو كان يقال من حدث نفسه بالبقاء و لم يوطنها على المصائب فهو عاجز الرأي. و كان يقال كفى باليأس معزيا و بانقطاع الطمع زاجرا. و قال الشاعر
أيا عمرو لم أصبر و لي فيك حيلة و لكن دعاني اليأس منك إلى الصبرتصبرت مغلوبا و إني لموجع كما صبر القطان في البلد القفر
شرح نهج البلاغة ج : 18 ص : 141344كَمْ مِنْ صَائِمٍ لَيْسَ لَهُ مِنْ صِيَامِهِ إِلَّا الْجُوعُ وَ الظَّمَأُ وَ كَمْ مِنْ قَائِمٍ لَيْسَ لَهُ مِنْ قِيَامِهِ إِلَّا السَّهَرُ وَ الْعَنَاءُ حَبَّذَا نَوْمُ الْأَكْيَاسِ وَ إِفْطَارُهُمْالأكياس هاهنا العلماء العارفون و ذلك لأن عباداتهم تقع مطابقة لعقائدهم الصحيحة فتكون فروعا راجعة إلى أصل ثابت و ليس كذلك الجاهلون بالله تعالى لأنهم إذا لم يعرفوه و لم تكن عباداتهم متوجهة إليه فلم تكن مقبولة و لذلك فسدت عبادة النصارى و اليهود. و فيهم ورد قوله تعالى عامِلَةٌ ناصِبَةٌ تَصْلى ناراً حامِيَةً
شرح نهج البلاغة ج : 18 ص : 142345سُوسُوا إِيمَانَكُمْ بِالصَّدَقَةِ وَ حَصِّنُوا أَمْوَالَكُمْ بِالزَّكَاةِ وَ ادْفَعُوا أَمْوَاجَ الْبَلَاءِ بِالدُّعَاءِقد تقدم الكلام في الصدقة و الزكاة و الدعاء فلا معنى لإعادة القول في ذلك

(19/262)


شرح نهج البلاغة ج : 18 ص : 143346وَ مِنْ كَلَامٍ لَهُ ع لِكُمَيْلِ بْنِ زِيَادٍ النَّخَعِيِّ قَالَ كُمَيْلُ بْنُ زِيَادٍ أَخَذَ بِيَدِي أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ ع فَأَخْرَجَنِي إِلَى الْجَبَّانِ فَلَمَّا أَصْحَرَ تَنَفَّسَ الصُّدَاءَ ثُمَّ قَالَ يَا كُمَيْلَ بْنَ زِيَادٍ إِنَّ هَذِهِ الْقُلُوبَ أَوْعِيَةٌ فَخَيْرُهَا أَوْعَاهَا فَاحْفَظْ عَنِّي مَا أَقُولُ لَكَ النَّاسُ ثَلَاثَةٌ فَعَالِمٌ رَبَّانِيٌّ وَ مُتَعَلِّمٌ عَلَى سَبِيلِ نَجَاةٍ وَ هَمَجٌ رَعَاعٌ أَتْبَاعُ كُلِّ نَاعِقٍ يَمِيلُونَ مَعَ كُلِّ رِيحٍ لَمْ يَسْتَضِيئُوا بِنُورِ الْعِلْمِ وَ لَمْ يَلْجَئُوا إِلَى رُكْنٍ وَثِيقٍ يَا كُمَيْلُ الْعِلْمُ خَيْرٌ مِنَ الْمَالِ الْعِلْمُ يَحْرُسُكَ وَ أَنْتَ تَحْرُسُ الْمَالَ وَ الْمَالُ تَنْقُصُهُ النَّفَقَةُ وَ الْعِلْمُ يَزْكُوا عَلَى الْإِنْفَاقِ وَ صَنِيعُ الْمَالِ يَزُولُ بِزَوَالِهِ يَا كُمَيْلَ بْنَ زِيَادٍ مَعْرِفَةُ الْعِلْمِ دِينٌ يُدَانُ بِهِ بِهِ يَكْسِبُ الْإِنْسَانُ الطَّاعَةَ فِي حَيَاتِهِ وَ جَمِيلَ الْأُحْدُوثَةِ بَعْدَ وَفَاتِهِ وَ الْعِلْمُ حَاكِمٌ وَ الْمَالُ مَحْكُومٌ عَلَيْهِ يَا كُمَيْلَ بْنَ زِيَادٍ هَلَكَ خُزَّانُ الْأَمْوَالِ وَ هُمْ أَحْيَاءٌ وَ الْعُلَمَاءُ بَاقُونَ مَا بَقِيَ الدَّهْرُ أَعْيَانُهُمْ مَفْقُودَةٌ وَ أَمْثَالُهُمْ فِي الْقُلُوبِ مَوْجُودَةٌ هَا إِنَّ هَاهُنَا لَعِلْماً جَمّاً وَ أَشَارَ إِلَى صَدْرِهِ لَوْ أَصَبْتُ لَهُ حَمَلَةً بَلَى أُصِيبُ لَقِناً غَيْرَ مَأْمُونٍ عَلَيْهِ مُسْتَعْمِلًا آلَةَ الدِّينِ لِلدُّنْيَا وَ مُسْتَظْهِراً بِنِعَمِ اللَّهِ عَلَى عِبَادِهِ وَ بِحُجَجِهِ عَلَى أَوْلِيَائِهِ شرح نهج البلاغة ج : 18 ص : 347أَوْ مُنْقَاد لِحَمَلَةِ الْحَقِّ لَا بَصِيرَةَ لَهُ فِي أَحْنَائِهِ يَنْقَدِحُ

(19/263)


الشَّكُّ فِي قَلْبِهِ لِأَوَّلِ عَارِضٍ مِنْ شُبْهَةٍ أَلَا لَا ذَا وَ لَا ذَاكَ أَوْ مَنْهُوماً بِاللَّذَّةِ سَلِسَ الْقِيَادِ لِلشَّهْوَةِ أَوْ مُغْرَماً بِالْجَمْعِ وَ الِادِّخَارِ لَيْسَا مِنْ رُعَاةِ الدِّينِ فِي شَيْ ءٍ أَقْرَبُ شَيْ ءٍ شَبَهاً بِهِمَا الْأَنْعَامُ السَّائِمَةُ كَذَلِكَ يَمُوتُ الْعِلْمُ بِمَوْتِ حَامِلِيهِ اللَّهُمَّ بَلَى لَا تَخْلُو الْأَرْضُ مِنْ قَائِمٍ لِلَّهِ بِحُجَّةٍ إِمَّا ظَاهِراً مَشْهُوراً وَ إِمَّا خَائاً مَغْمُوراً لِئَلَّا تَبْطُلَ حُجَجُ اللَّهِ وَ بَيِّنَاتُهُ وَ كَمْ ذَا وَ أَيْنَ أُولَئِكَ وَ اللَّهِ الْأَقَلُّونَ عَدَداً وَ الْأَعْظَمُونَ عِنْدَ اللَّهِ قَدْراً يَحْفَظُ اللَّهُ بِهِمْ حُجَجَهُ وَ بَيِّنَاتِهِ حَتَّى يُودِعُوهَا نُظَرَاءَهُمْ وَ يَزْرَعُوهَا فِي قُلُوبِ أَشْبَاهِهِمْ هَجَمَ بِهِمُ الْعِلْمُ عَلَى حَقِيقَةِ الْبَصِيرَةِ وَ بَاشَرُوا رُوحَ الْيَقِينِ وَ اسْتَلَانُوا مَا اسْتَوْعَرَهُ الْمُتْرَفُونَ وَ أَنِسُوا بِمَا اسْتَوْحَشَ مِنْهُ الْجَاهِلُونَ وَ صَحِبُوا الدُّنْيَا بِأَبْدَانٍ أَرْوَاحُهَا مُعَلَّقَةٌ بِالْمَحَلِّ الْأَعْلَى أُولَئِكَ خُلَفَاءُ اللَّهِ فِي أَرْضِهِ وَ الدُّعَاةُ إِلَى دِينِهِ آهِ آهِ شَوْقاً إِلَى رُؤْيَتِهِمْ انْصَرِفْ يَا كُمَيْلُ إِذَا شِئْتَ

(19/264)


الجبان و الجبانة الصحراء. و تنفس الصعداء أي تنفس تنفسا ممدودا طويلا. قوله ع ثلاثة قسمة صحيحة و ذلك لأن البشر باعتبار الأمور الإلهية إما عالم على الحقيقة يعرف الله تعالى و إما شارع في ذلك فهو بعد في السفر إلى الله يطلبه بالتعلم و الاستفادة من العالم و إما لا ذا و لا ذاك و هو العامي الساقط الذي شرح نهج البلاغة ج : 18 ص : 348لا يعبأ الله و صدق ع في أنهم همج رعاع أتباع كل ناعق أ لا تراهم ينتقلون من التقليد لشخص إلى تقليد الآخر لأدنى خيال و أضعف وهم. ثم شرع ع في ذكر العلم و تفضيله على المال فقال العلم يحرسك و ت تحرس المال و هذا أحد وجوه التفضيل. ثم ابتدأ فذكر وجها ثانيا فقال المال ينقص بالإنفاق منه و العلم لا ينقص بالإنفاق بل يزكو و ذلك لأن إفاضة العلم على التلامذة تفيد المعلم زيادة استعداد و تقرر في نفسه تلك العلوم التي أفاضها على تلامذته و تثبتها و تزيدها رسوخا. فأما قوله و صنيع المال يزول بزواله فتحته سر دقيق حكمي و ذلك لأن المال إنما يظهر أثره و نفعه في الأمور الجسمانية و الملاذ الشهوانية كالنساء و الخيل و الأبنية و المأكل و المشرب و الملابس و نحو ذلك و هذه الآثار كلها تزول بزوال المال أو بزوال رب المال أ لا ترى أنه إذا زال المال اضطر صاحبه إلى بيع الأبنية و الخيل و الإماء و رفض تلك العادة من المآكل الشهية و الملابس البهية و كذلك إذا زال رب المال بالموت فإنه تزول آثار المال عنده فإنه لا يبقى بعد الموت آكلا شاربا لابسا و أما آثار العلم فلا يمكن أن تزول أبدا و الإنسان في الدنيا و لا بعد خروجه عن الدنيا أما في الدنيا فلأن العالم بالله تعالى لا يعود جاهلا به لأن انتفاء العلوم البديهية عن الذهن و ما يلزمها من اللوازم بعد حصولها محال فإذا قد صدق قوله ع في الفرق بين المال و العلم أن صنيع المال يزول بزواله أي و صنيع المال لا يزول و لا يحتاج إلى أن يقول بزواله لأن تقدير الكلام و

(19/265)


صنيع المال يزول لأن المال يزول و أما بعد خروج الإنسان من الدنيا فإن صنيع العلم لا يزول و ذلك لأن صنيع العلم في النفس الناطقة اللذة العقلية الدائمة لدوام سببها و هو حصول العلم في جوهر النفس الذي هو ممشوق شرح نهج البلاغة ج : 18 ص : 349النفس مع انتفاء ما يشغلها عن التمتع به و التلذذ بمصاحبته و الذي كان يشغلها عنه في الدنيا استغراقها في تدبير البدن و ما تورده عليها الحواس من الأمور الخارجية و لا ريب أن العاشق إذا خلا بمعشوقه و انتفت عنه أسباب الكدران في لذة عظيمة فهذا هو سر قوله و صنيع المال يزول بزواله. فإن قلت ما معنى قوله ع معرفة العلم دين يدان به و هل هذا إلا بمنزلة قولك معرفة المعرفة أو علم العلم و هذا كلام مضطرب قلت تقديره معرفة فضل العلم أو شرف العلم أو وجوب العلم دين يدان به أي المعرفة بذلك من أمر الدين أي ركن من أركان الدين واجب مفروض. ثم شرح ع حال العلم الذي ذكر أن معرفة وجوبه أو شرفه دين يدان به فقال العلم يكسب الإنسان الطاعة في حياته أي من كان عالما كان لله تعالى مطيعا كما قال سبحانه إِنَّما يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ. ثم قال و جميل الأحدوثة بعد وفاته أي الذكر الجميل بعد موته. ثم شرع في تفضيل العلم على المال من وجه آخر فقال العلم حاكم و المال محكوم عليه و ذلك لعلمك أن مصلحتك في إنفاق هذا المال تنفقه و لعلمك بأن المصلحة في إمساكه تمسكه فالعلم بالمصلحة داع و بالمضرة صارف و هما الأمران الحاكمان بالحركات و التصرفات إقداما و إحجاما و لا يكون القادر قادرا مختارا إلا باعتبارهما و ليسا إلا عبارة عن العلم أو ما يجرى مجرى العلم من الاعتقاد و الظن فإذن قد بان و ظهر أن العلم من حيث هو علم حاكم و أن المال ليس بحاكم بل محكوم عليه.

(19/266)


شرح نهج البلاغة ج : 18 ص : 350ثم قال ع هلك خزان المال و هم أحياء و ذلك لأن المال المخزون لا فرق بينه و بين الصخرة المدفونة تحت الأرض فخازنه هالك لا محالة لأنه لم يلتذ بإنفاقه و لم يصرفه في الوجوه التي ندب الله تعالى إليها و هذا هو الهلاك المعنوي و هو أع من الهلاك الحسي. ثم قال و العلماء باقون ما بقي الدهر هذا الكلام له ظاهر و باطن فظاهره قوله أعيانهم مفقودة و أمثالهم في القلوب موجودة أي آثارهم و ما دونوه من العلوم فكأنهم موجودون و باطنه أنهم موجودون حقيقة لا مجازا على قول من قال ببقاء الأنفس و أمثالهم في القلوب كناية و لغز و معناه ذواتهم في حظيرة القدوس و المشاركة بينها و بين القلوب ظاهرة لأن الأمر العام الذي يشملها هو الشرف فكما أن تلك أشرف عالمها كذا القلب أشرف عالمه فاستعير لفظ أحدهما و عبر به عن الآخر. قوله ع ها إن هاهنا لعلما جما و أشار بيده إلى صدره هذا عندي إشارة إلى العرفان و الوصول إلى المقام الأشرف الذي لا يصل إليه إلا الواحد الفذ من العالم ممن لله تعالى فيه سر و له به اتصال ثم قال لو أصبت له حملة و من الذي يطيق حملة بل من الذي يطيق فهمه فضلا عن حمله. ثم قال بلى أصيب. ثم قسم الذي يصيبهم خمسة أقسام أحدهم أهل الرياء و السمعة الذين يظهرون الدين و العلم و مقصودهم الدنيا فيجعلون الناموس الديني شبكة لاقتناص الدنيا. و ثانيها قوم من أهل الخير و الصلاح ليسوا بذوي بصيرة في الأمور الإلهية الغامضة

(19/267)


شرح نهج البلاغة ج : 18 ص : 351فيخاف من إفشاء السر إليهم أن تنقدح في قلوبهم شبهة بأدنى خاطر فإن مقام المعرفة مقام خطر صعب لا يثبت تحته إلا الأفراد من الرجال الذين أيدوا بالتوفيق و العصمة. و ثالثها رجل صاحب لذات و طرب مشتهر بقضاء الشهوة فليس من رجال هذا ااب. و رابعها رجل عرف بجمع المال و ادخاره لا ينفقه في شهواته و لا في غير شهواته فحكمه حكم القسم الثالث. ثم قال ع كذلك يموت العلم بموت حامليه أي إذا مت مات العلم الذي في صدري لأني لم أجد أحدا أدفعه إليه و أورثه إياه ثم استدرك فقال اللهم بلى لا تخلو الأرض من قائم بحجة الله تعالى كيلا يخلو الزمان ممن هو مهيمن لله تعالى على عباده و مسيطر عليهم و هذا يكاد يكون تصريحا بمذهب الإمامية إلا أن أصحابنا يحملونه على أن المراد به الأبدال الذين وردت الأخبار النبوية عنهم أنهم في الأرض سائحون فمنهم من يعرف و منهم من لا يعرف و أنهم لا يموتون حتى يودعوا السر و هو العرفان عند قوم آخرين يقومون مقامهم. ثم استنزر عددهم فقال و كم ذا أي كم ذا القبيل و كم ذا الفريق. ثم قال و أين أولئك استبهم مكانهم و محلهم. ثم قال هم الأقلون عددا الأعظمون قدرا. ثم ذكر أن العلم هجم بهم على حقيقة الأمر و انكشف لهم المستور المغطى و باشروا راحة اليقين و برد القلب و ثلج العلم و استلانوا ما شق على المترفين من الناس و وعر عليهم نحو التوحد و رفض الشهوات و خشونة العيشة. شرح نهج البلاغة ج : 18 ص : 352قال و أنسوا بما استوحش منه الجاهلون يعني العزلة و مجانبة الن و طول الصمت و ملازمة الخلوة و نحو ذلك مما هو شعار القوم. قال و صحبوا الدنيا بأرواح أبدانها معلقة بالمحل الأعلى هذا مما يقوله أصحاب الحكمة من تعلق النفوس المجردة بمبادئها من العقول المفارقة فمن كان أزكى كان تعلقه بها أتم. ثم قال أولئك خلفاء الله في أرضه و الدعاة إلى دينه لا شبهة أن بالوصول يستحق الإنسان أن يسمى خليفة

(19/268)


الله في أرضه و هو المعنى بقوله سبحانه للملائكة إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً و بقوله هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ فِي الْأَرْضِ. ثم قال آه آه شوقا إلى رؤيتهم هو ع أحق الناس بأن يشتاق إلى رؤيتهم لأن الجنسية علة الضم و الشي ء يشتاق إلى ما هو من سنخه و سوسته و طبيعته و لما كان هو ع شيخ العارفين و سيدهم لا جرم اشتاقت نفسه الشريفة إلى مشاهدة أبناء جنسه و إن كان كل واحد من الناس دون طبقته. ثم قال لكميل انصرف إذا شئت و هذه الكلمة من محاسن لآداب و من لطائف الكلم لأنه لم يقتصر على أن قال انصرف كيلا يكون أمرا و حكما بالانصراف لا محالة فيكون فيه نوع علو عليه فاتبع ذلك بقوله إذا شئت ليخرجه من ذل الحكم و قهر الأمر إلى عزة المشيئة و الاختيار
شرح نهج البلاغة ج : 18 ص : 144353الْمَرْءُ مَخْبُوءٌ تَحْتَ لِسَانِهِ قد تكرر هذا المعنى مرارا فأما هذه اللفظة فلا نظير لها في الإيجاز و الدلالة على المعنى و هي من ألفاظه ع المعدودة. و قال الشاعرو كائن ترى من صامت لك معجب زيادته أو نقصه في التكلم لسان الفتى نصف و نصف فؤاده فلم يبق إلا صورة اللحم و الدمو تكلم عبد الملك بن عمير و أعرابي حاضر فقيل له كيف ترى هذا فقال لو كان كلام يؤتدم به لكان هذا الكلام مما يؤتدم به. و تكلم جماعة من الخطباء عند مسلمة بن عبد الملك فأسهبوا في القول و لم يصنعوا شيئا ثم أفرغ النطق رجل من أخرياتهم فجعل لا يخرج من فن إلا إلى أحسن منه فقال مسلمة ما شبهت كلام هذا بعقب كلام هؤلاء إلا بسحابة لبدت عجاجة. و سمع رجل منشدا ينشد
و كان أخلائي يقولون مرحبا فلما رأوني مقترا مات مرحب

(19/269)


شرح نهج البلاغة ج : 18 ص : 354فقال أخطأ الشاعر إن مرحبا لم يمت و إنما قتله علي بن أبي طالب ع و قال رجل لأعرابي كيف أهلك قال صلبا إن شاء الله. و كان مسلمة بن عبد الملك يعرض الجند فقال لرجل ما اسمك فقال عبد الله و خفض فقال ابن من فقال ابن عبد الله و فتح فر بضربه فجعل يقول سبحان الله و يضم فقال مسلمة ويحكم دعوه فإنه مجبول على اللحن و الخطإ لو كان تاركا للحن في وقت لتركه و هو تحت السياط
شرح نهج البلاغة ج : 18 ص : 145355هَلَكَ امْرُؤٌ لَمْ يَعْرِفْ قَدْرَهُهذه الكلمة من كلماته المعدودة و كتب النعمان بن عبد الله إلى القاسم بن عبيد الله كتابا يدل فيه بخدمته و يستزيد في رزقه فوقع على ظهره رحم الله امرأ عرف قدره أنت رجل قد أعجبتك نفسك فلست تعرفها فإن أحببت أن أعرفكها عرفتك فكتب إليه النعمان كنت كتبت إلى الوزير أعزه الله كتابا أستزيده في رزقي فوقع على ظهره توقيع ضجر لم يخرج فيه مع ضجره عما ألفته من حياطته و حسن نظره فقال إنه قد حدث لعبده عجب بنفسه و قد صدق أعلى الله قدره لقد شرفني الوزير بخدمته و أعلى ذكري بجميل ذكره و نبه على كفايتي باستكفائه و رفعني و كثرني عند نفسي فإن أعجبت فبنعمته عندي و جميل تطوله علي و لا عجب و هل خلا الوزير من قوم يصطنعهم بعد ملة و يرفعهم بعد خمول و يحدث لهم همما رفيعة و أنفسا عليه و فيهم شاكر و كفور و أرجو أن أكون أشكرهم للنعمة و أقومهم بحقها و قد أطال الله بقاءه إن عرف نفسه و إلا عرفناه إياها فما أنكرها و هي نفس أنشأتها نعمة الوزير و أحدثت فيها ما لم تزل تحدثه في نظرائها من سائر عبيده و خدمه و الله يعلم ما يأخذ به نفسه من خدمة مولاه و ولي نعمته إما عادة و دربة و إما تأدبا و هيبة و إما شكرا و استدامة للنعمة. فلما قرأ القاسم بن عبيد الله كتابه استحسنه و زاد في رزقه

(19/270)


شرح نهج البلاغة ج : 18 ص : 146356وَ قَالَ ع لِرَجُلٍ سَأَلَهُ أَنْ يَعِظَهُ لَا تَكُنْ مِمَّنْ يَرْجُو الآْخِرَةَ بِغَيْرِ عَمَلٍ وَ يَرْجُو التَّوْبَةَ بِطُولِ الْأَمَلِ يَقُولُ فِي الدُّنْيَا بِقَوْلِ الزَّاهِدِينَ وَ يَعْمَلُ فِيهَا بِعَمَلِ الرَّاغِينَ إِنْ أُعْطِيَ مِنْهَا لَمْ يَشْبَعْ وَ إِنْ مُنِعَ مِنْهَا لَمْ يَقْنَعْ يَعْجِزُ عَنْ شُكْرِ مَا أُوتِيَ وَ يَبْتَغِي الزِّيَادَةَ فِيمَا بَقِيَ يَنْهَى وَ لَا يَنْتَهِي وَ يَأْمُرُ النَّاسَ بِمَا لَمْ يَأْتِ يُحِبُّ الصَّالِحِينَ وَ لَا يَعْمَلُ عَمَلَهُمْ وَ يُبْغِضُ الْمُذْنِبِينَ وَ هُوَ أَحَدُهُمْ يَكْرَهُ الْمَوْتَ لِكَثْرَةِ ذُنُوبِهِ وَ يُقِيمُ عَلَى مَا يَكْرَهُ الْمَوْتَ مِنْ أَجَلِهِ إِنْ سَقِمَ ظَلَّ نَادِماً وَ إِنْ صَحَّ أَمِنَ لَاهِياً يُعْجَبُ بِنَفْسِهِ إِذَا عُوفِيَ وَ يَقْنَطُ إِذَا ابْتُلِيَ وَ إِنْ أَصَابَهُ بَلَاءٌ دَعَا مُضْطَرّاً وَ إِنْ نَالَهُ رَخَاءٌ أَعْرَضَ مُغْتَرّاً تَغْلِبُهُ نَفْسُهُ عَلَى مَا يَظُنُّ وَ لَا يَغْلِبُهَا عَلَى مَا يَسْتَيْقِنُ يَخَافُ عَلَى غَيْرِهِ بِأَدْنَى مِنْ ذَنْبِهِ وَ يَرْجُو لِنَفْسِهِ بِأَكْثَرَ مِنْ عَمَلِهِ إِنِ اسْتَغْنَى بَطِرَ وَ فُتِنَ وَ إِنِ افْتَقَرَ قَنِطَ وَ وَهَنَ يُقَصِّرُ إِذَا عَمِلَ وَ يُبَالِغُ إِذَا سَأَلَ إِنْ عَرَضَتْ لَهُ شَهْوَةٌ أَسْلَفَ الْمَعْصِيَةَ وَ سَوَّفَ التَّوْبَةَ وَ إِنْ عَرَتْهُ مِحْنَةٌ انْفَرَجَ عَنْ شَرَائِطِ الْمِلَّةِ يَصِفُ الْعِبْرَةَ وَ لَا يَعْتَبِرُ وَ يُبَالِغُ فِي الْمَوْعِظَةِ وَ لَا يَتَّعِظُ فَهُوَ بِالْقَوْلِ مُدِلٌّ وَ مِنَ الْعَمَلِ مُقِلٌّ يُنَافِسُ فِيمَا يَفْنَى وَ يُسَامِحُ فِيمَا يَبْقَى يَرَى الْغُنْمَ مَغْرَماً وَ الْغُرْمَ مَغْنَماً يَخْشَى الْمَوْتَ وَ لَا يُبَادِرُ الْفَوْتَ يَسْتَعْظِمُ مِنْ

(19/271)


مَعْصِيَةِ غَيْرِهِ مَا يَسْتَقِلُّ أَكْثَرَ مِنْهُ شرح نهج البلاغة ج : 18 ص : 357مِنْ نَفْسِهِ وَ يَسْتَكْثِرُ مِنْ طَاعَتِهِ مَا يَحْقِرُهُ مِنْ طَاعَةِ غَيْرِهِ فَهُوَ عَلَى النَّاسِ طَاعِنٌ ولِنَفْسِهِ مُدَاهِنٌ اللَّغْوُ مَعَ الْأَغْنِيَاءِ أَحَبُّ إِلَيْهِ مِنَ الذِّكْرِ مَعَ الْفُقَرَاءِ يَحْكُمُ عَلَى غَيْرِهِ لِنَفْسِهِ وَ لَا يَحْكُمُ عَلَيْهَا لِغَيْرِهِ يُرْشِدُ نَفْسَهُ وَ يُغْوِي غَيْرَهُ فَهُوَ يُطَاعُ وَ يَعْصِي وَ يَسْتَوْفِي وَ لَا يُوفِي وَ يَخْشَى الْخَلْقَ فِي غَيْرِ رَبِّهِ وَ لَا يَخْشَى رَبَّهُ فِي خَلْقِهِ
قال الرضي رحمه الله تعالى و لو لم يكن في هذا الكتاب إلا هذا الكلام لكفى به موعظة ناجعة و حكمة بالغة و بصيرة لمبصر و عبرة لناظر مفكر

(19/272)


كثير من الناس يرجون الآخرة بغير عمل و يقولون رحمة الله واسعة و منهم من يظن أن التلفظ بكلمتي الشهادة كاف في دخول الجنة و منهم من يسوف نفسه بالتوبة و يرجئ الأوقات من اليوم إلى غد و قد يخترم على غرة فيفوته ما كان أمله و أكثر هذا الفصل للنهي عن أن يقول الإنسان واعظا لغيره ما لم يعلم هو من نفسه كقوله تعالى أَ تَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَ تَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ. فأول كلمة قالها ع في هذا المعنى من هذا الفصل قوله يقول في الدنيا بقول الزاهدين و يعمل فيها بعمل الراغبين. شرح نهج البلاغة ج : 18 ص : 358ثم وصف صب هذا المذهب و هذه الطريقة فقال إنه إن أعطي من الدنيا لم يشبع لأن الطبيعة البشرية مجبولة على حب الازدياد و إنما يقهرها أهل التوفيق و أرباب العزم القوي. قال و إن منع منها لم يقنع بما كان وصل إليه قبل المنع. ثم قال يعجز عن شكر ما كان أنعم به عليه ليس يعني العجز الحقيقي بل المراد ترك الشكر فسمى ترك الشكر عجزا و يجوز أن يحمل على حقيقته أي أن الشكر على ما أولى من النعم لا تنتهي قدرته إليه أي نعم الله عليه أجل و أعظم من أن يقام بواجب شكرها. قال و يبتغي الزيادة فيما بقي هذا راجع إلى النحو الأول. قال ينهى و لا ينتهي و يأمر الناس بما لا يأتي هذا كما تقدم. قال يحب الصالحين و لا يعمل عملهم إلى قوله و هو أحدهم و هو المعنى الأول بعينه. قال يكره الموت لكثرة ذنوبه و يقيم على الذنوب و هذا من العجائب أن يكره إنسان شيئا ثم يقيم عليه و لكنه الغرور و تسويف النفس بالأماني. ثم قال إن سقم ظل نادما و إن صح أمن لاهيا فَإِذا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ الآيات. قال يعجب بنفسه إذا عوفي و يقنط إذا ابتلي فَأَمَّا الْإِنْسانُ إِذا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَ نَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ وَ أَمَّا إِذا مَا ابْتَلاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ

(19/273)


فَيَقُولُ رَبِّي أَهانَنِ و مثل الكلمة الأخرى إن أصابه بلاء و إن ناله رخاء. شرح نهج البلاغة ج : 18 ص : 359ثم قال تغلبه نفسه على ما يظن و لا يغلبها على ما يستيقن هذه كلمة جليلة عظيمة يقول هو يستيقالحساب و الثواب و العقاب و لا يغلب نفسه على مجانبة و متاركة ما يفضي به إلى ذلك الخطر العظيم و تغلبه نفسه على السعي إلى ما يظن أن فيه لذة عاجلة فوا عجبا ممن يترجح عنده جانب الظن على جانب العلم و ما ذاك إلا لضعف يقين الناس و حب العاجل. ثم قال يخاف على غيره بأدنى من ذنبه و يرجو لنفسه أكثر من عمله ما يزال يرى الواحد منا كذلك يقول إني لخائف على فلان من الذنب الفلاني و هو مقيم على أفحش من ذلك الذنب و يرجو لنفسه النجاة بما لا تقوم أعماله الصالحة بالمصير إلى النجاة به نحو أن يكون يصلي ركعات في الليل أو يصوم أياما يسيرة في الشهر و نحو ذلك. قال إن استغنى بطر و فتن و إن افتقر قنط و وهن قنط بالفتح يقنط بالكسر قنوطا مثل جلس يجلس جلوسا و يجوز قنط يقنط بالضم مثل قعد يقعد و فيه لغة ثالثة قنط يقنط قنطا مثل تعب يتعب تعبا و قناطة فهو قنط و به قرئ فَلا تَكُنْ مِنَ الْقانِطِينَ و القنوط اليأس و وهن الرجل يهن أي ضعف و هذا المعنى قد تكرر. قال يقصر إذا عمل و يبالغ إذا سئل هذا مثل ما
مدح به النبي ص الأنصار إنكم لتكثرون عند الفزع و تقلون عند الطمع

(19/274)


قال إن عرضت له شهوة أسلف المعصية و سوف التوبة و إن عرته محنة انفرج عن شرائط الملة هذا كما قيل أمدحه نقدا و يثيبني نسيئة و انفرج عن شرائط الملة قال أو فعل ما يقتضي الخروج عن الدين و هذا موجود في كثير من الناس إذا عرته المحن كفروا أو قال ما يقارب الكفر من التسخط و التبرم و التأفف. شرح نهج البلاغة ج : 18 ص : 360قال يصف العبرة و لا يعتبر و يبالغ في الموعظة و لا يتعظ هذا هو المعنى الأول. قال فهو بالقول مدل و من العمل مقل هذا هو المعنى أيضا. قال ينافس فيما يفنى أي في شهوات الدنيا و لذاتها و يسامح فيما يبقى أي فالثواب. قال يرى الغنم مغرما و الغرم مغنما هذا هو المعنى الذي ذكرناه آنفا. قال يخشى الموت و لا يبادر الفوت قد تكرر هذا المعنى في هذا الفصل. و كذلك قوله يستعظم من معصية غيره ما يستقل أكثر منه من نفسه... و إلى آخر الفصل كل مكرر المعنى و إن اختلفت الألفاظ و ذلك لاقتداره ع على العبارة و سعة مادة النطق عنده
شرح نهج البلاغة ج : 18 ص : 147361لِكُلِّ امْرِئٍ عَاقِبَةٌ حُلْوَةٌ أَوْ مُرَّةٌهكذا قرأناه و وجدناه في كثير من النسخ و وجدناه في كثير منها لكل أمر عاقبة و هو الأليق و مثل هذا المعنى قولهم في المثل لكل سائل قرار و قد أخذه الطائي فقال
فكانت لوعة ثم استقرت كذلك لكل سائلة قرار
و قال الكميت في مثل هذا
فالآن صرت إلى أمية و الأمور إلى مصاير
فأما الرواية الأولى و هي لكل امرئ فنظائرها في القرآن كثيرة نحو قوله تعالى يَوْمَ يَأْتِ لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَ سَعِيدٌ و قوله يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسانُ ما سَعى وَ بُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَنْ يَرى فَأَمَّا مَنْ طَغى وَ آثَرَ الْحَياةَ الدُّنْيا فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوى وَ أَمَّا مَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ وَ نَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوى فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوى و غير ذلك من الآيات

(19/275)


شرح نهج البلاغة ج : 18 ص : 148362الرَّاضِي بِفِعْلِ قَوْمٍ كَالدَّاخِلِ فِيهِ مَعَهُمْ وَ عَلَى كُلِّ دَاخِلٍ فِي بَاطِلٍ إِثْمَانِ إِثْمُ الْعَمَلِ بِهِ وَ إِثْمُ الرِّضَا بِهِلا فرق بين الرضا بالفعل و بين المشاركة فيه أ لا ترى أنه إذا كان ذلك الفعل قبيحا استحق الراضي به الذم كما يستحقه الفاعل له و الرضا يفسر على وجهين الإرادة و ترك الاعتراض فإن كان الإرادة فلا ريب أنه يستحق الذم لأن مريد القبيح فاعل للقبيح و إن كان ترك الاعتراض مع القدرة على الاعتراض فلا ريب أنه يستحق الذم أيضا لأن تارك النهي عن المنكر مع ارتفاع الموانع يستحق الذم. فأما قوله ع و على كل داخل في باطل إثمان فإن أراد الداخل فيه بأن يفعله حقيقة فلا شبهة في أنه يأثم من جهتين إحداهما من حيث إنه أراد القبيح. و الأخرى من حيث إنه فعله و إن كان قوم من أصحابنا قالوا إن عقاب المراد هو عقاب الإرادة. و إن أراد أن الراضي بالقبيح فقط يستحق إثمين أحدهما لأنه رضي به و الآخر لأنه كالفاعل فليس الأمر على ذلك لأنه ليس بفاعل للقبيح حقيقة ليستحق الإثم من جهة الإرادة و من جهة الفعلية جميعا فوجب إذن أن يحمل كلامه ع على الوجه الأول
شرح نهج البلاغة ج : 18 ص : 149363لِكُلِّ مُقْبِلٍ إِدْبَارٌ وَ مَا أَدْبَرَ فَكَأَنْ لَمْ يَكُنْهذا معنى قد استعمل كثيرا جدا فمنه المثل
ما طار طير و ارتفع إلا كما طار وقع
و قول الشاعر
بقدر العلو يكون الهبوط و إياك و الرتب العالية
و قال بعض الحكماء حركة الإقبال بطيئة و حركة الإدبار سريعة لأن المقبل كالصاعد إلى مرقاة و مرقاة المدبر كالمقذوف به من علو إلى أسفل قال الشاعر
في هذه الدار في هذا الرواق على هذي الوسادة كان العز فانقرضا
آخر
إن الأمور إذا دنت لزوالها فعلامة الإدبار فيها تظهر

(19/276)


و في الخبر المرفوع كانت ناقة رسول الله ص العضباء لا تسبق فجاء أعرابي على قعود له فسبقها فاشتد على الصحابة ذلك فقال رسول الله ص إن حقا على الله ألا يرفع شيئا من هذه الدنيا إلا وضعه
و قال شيخ من همدان بعثني أهلي في الجاهلية إلى ذي الكلاع بهدايا فمكثت شرح نهج البلاغة ج : 18 ص : 364تحت قصره حولا لا أصل إليه ثم أشرف إشرافة من كوة له فخر له من حول العرش سجدا ثم رأيته بعد ذلك بحمص فقيرا يشتري اللحم و يسمطه خلف دابته و هو القائلأف لدنيا إذا كانت كذا أنا منها في هموم و أذى إن صفا عيش امرئ في صبحها جرعته ممسيا كأس القذى و لقد كنت إذا ما قيل من أنعم العالم عيشا قيل ذو قال بعض الأدباء في كلام له بينا هذه الدنيا ترضع بدرتها و تصرح بزبدتها و تلحف فضل جناحها و تغر بركود رياحها إذ عطفت عطف الضروس و صرخت صراخ الشموس و شنت غارة الهموم و أراقت ما حلبت من النعيم فالسعيد من لم يغتر بنكاحها و استعد لو شك طلاقها شاعر هو إهاب بن همام بن صعصعة المجاشعي و كان عثمانيا
لعمر أبيك فلا تكذبن لقد ذهب الخير إلا قليلاو قد فتن الناس في دينهم و خلى ابن عفان شرا طويلا
و قال أبو العتاهية
يعمر بيت بخراب بيت يعيش حي بتراث ميت
و قال أنس بن مالك ما من يوم و لا ليلة و لا شهر و لا سنة إلا و الذي قبله خير منه سمعت ذلك من نبيكم ع
فقال شاعر
رب يوم بكيت منه فلما صرت في غيره بكيت عليه

(19/277)


شرح نهج البلاغة ج : 18 ص : 365قيل لبعض عظماء الكتاب بعد ما صودر ما تفكر في زوال نعمتك فقال لا بد من الزوال فلان تزول و أبقى خير من أن أزول و تبقى. و من كلام الجاهلية الأولى كل مقيم شاخص و كل زائد ناقص. شاعرإنما الدنيا دول فراحل قيل نزل إذ نازل قيل رحللما فتح خالد بن الوليد عين التمر سأل عن الحرقة بنت النعمان بن المنذر فأتاها و سألها عن حالها فقالت لقد طلعت علينا الشمس و ما من شي ء يدب تحت الخورنق إلا و هو تحت أيدينا ثم غربت و قد رحمنا كل من نلم به و ما بيت دخلته حبرة إلا ستدخله عبرة ثم قالت فبينا نسوس الناس و الأمر أمرنا إذا نحن فيهم سوقة نتنصف فأف لدنيا لا يدوم نعيمها تقلب تارات بنا و تصرفو جاءها سعد بن أبي وقاص مرة فلما رآها قال قاتل الله عدي بن زيد كأنه كان ينظر إليها حيث قال لأبيها
إن للدهر صرعة فاحذرنها لا تبيتن قد أمنت الدهوراقد يبيت الفتى معافى فيردى و لقد كان آمنا مسرورا
و قال مطرف بن الشخير لا تنظروا إلى خفض عيش الملوك و لين رياشهم و لكن انظروا إلى سرعة ظعنهم و سوء منقلبهم و إن عمرا قصيرا يستوجب به صاحبه النار لعمر مشئوم على صاحبه. لما قتل عامر بن إسماعيل مروان بن محمد و قعد على فراشه قالت ابنة مروان له يا عامر إن دهرا أنزل مروان عن فرشه و أقعدك عليها لمبلغ في عظتك إن عقلت
شرح نهج البلاغة ج : 18 ص : 150366لَا يَعْدَمُ الصَّبُورُ الظَّفَرَ وَ إِنْ طَالَ بِهِ الزَّمَانُقد تقدم كلامنا في الصبر. و قالت الحكماء الصبر ضربان جسمي و نفسي فالجسمي تحمل المشاق بقدر القوة البدنية و ليس ذلك بفضيلة تامة و لذلك قال الشاعر
و الصبر بالأرواح يعرف فضله صبر الملوك و ليس بالأجسام

(19/278)


و هذا النوع إما في الفعل كالمشي و رفع الحجر أو في رفع الانفعال كالصبر على المرض و احتمال الضرب المفظع و إما النفسي ففيه تتعلق الفضيلة و هو ضربان صبر عن مشتهى و يقال له عفة و صبر على تحمل مكروه أو محبوب و تختلف أسماؤه بحسب اختلاف مواقعة فإن كان في نزول مصيبة لم يتعد به اسم الصبر و يضاده الجزع و الهلع و الحزن و إن كان في احتمال الغنى سمي ضبط النفس و يضاده البطر و الأشر و الرفغ و إن كان في محاربة سمي شجاعة و يضاده الجبن و إن كان في إمساك النفس عن قضاء وطر الغضب سمي حلما و يضاده التذمر و الاستشاطة و إن كان في نائبة مضجرة سمي سعة صدر و يضاده الضجر و ضيق العطن و التبرم و إن كان في إمساك كلام في الضمير سمي كتمان السر و يضاده الإفشاء و إن كان عن فضول العيش سمي قناعة و زهدا و يضاده الحرص و الشره فهذه كلها أنواع الصبر و لكن اللفظ العرفي واقع على الصبر الجسماني و على ما يكون في نزول المصائب و تنفرد باقي الأنواع بأسماء تخصها
شرح نهج البلاغة ج : 18 ص : 151367مَا اخْتَلَفَتْ دَعْوَتَانِ إِلَّا كَانَتْ إِحْدَاهُمَا ضَلَالَةًهذا عند أصحابنا مختص باختلاف الدعوة في أصول الدين و يدخل في ذلك الإمامة لأنها من أصول الدين و لا يجوز أن يختلف قولان متضادان في أصول الدين فيكونا صوابا لأنه إن عني بالصواب مطابقة الاعتقاد للخارج فمستحيل أن يكون الشي ء في نفسه ثابتا منفيا و إن أراد بالصوابسقوط الإثم كما يحكى عن عبيد بن الحسن العنبري فإنه جعل اجتهاد المجتهدين في الأصول عذرا فهو قول مسبوق بالإجماع. و لا يحمل أصحابنا كلام أمير المؤمنين ع على عمومه لأن المجتهدين في فروع الشريعة و إن اختلفوا و تضادت أقوالهم ليسوا و لا واحد منهم على ضلال و هذا مشروح في كتبنا الكلامية في أصول الفقه

(19/279)


شرح نهج البلاغة ج : 18 ص : 152368مَا كَذَبْتُ وَ لَا كُذِبْتُ وَ لَا ضَلَلْتُ وَ لَا ضُلَّ بِيهذه كلمة قد قالها مرارا إحداهن في وقعة النهروان. و كذبت بالضم أخبرت بخبر كاذب أي لم يخبرني رسول الله ص عن المخدج خبرا كاذبا لأن أخباره ص كلها صادقة. و ضل بي بالضم نحو ذلك أي لم يضللني مضلل عن الصدق و الحق لأنه كان يستند في أخباره عن الغيوب إلى رسول الله ص و هو منزه عن إضلاله و إضلال أحد من المكلفين. فكأنه قال لما أخبرهم عن المخدج و إبطاء ظهوره لهم أنا لم أكذب على رسول الله ص و رسول الله ص لا يكذب فيما أخبرني بوقوعه فإذا لا بد من ظفركم بالمخدج فاطلبوه
شرح نهج البلاغة ج : 18 ص : 153369لِلظَّالِمِ الْبَادِي غَداً بِكَفِّهِ عَضَّةٌهذا من قوله تعالى وَ يَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلى يَدَيْهِ و إنما قال للبادي لأن من انتصر بعد ظلمه فلا سبيل عليه و من أمثالهم البادي أظلم. فإن قلت فإذا لم يكن باديا لم يكن ظالما فأي حاجة له إلى الاحتراز بقوله البادي قلت لأن العرب تطلق على ما يقع في مقابلة الظلم اسم الظلم أيضا كقوله تعالى وَ جَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها
شرح نهج البلاغة ج : 18 ص : 154370الرَّحِيلُ وَشِيكٌ الوشيك السريع و أراد بالرحيل هاهنا الرحيل عن الدنيا و هو الموت. و قال بعض الحكماء قبل وجود الإنسان عدم لا أول له و بعده عدم لا آخر له و ما شبهت وجوده القليل المتناهي بين العدمين غير المتناهيين إلا ببرقخطف خطفة خفيفة في ظلام معتكر ثم يخمد و يعود الظلام كما كان
شرح نهج البلاغة ج : 18 ص : 155371مَنْ أَبْدَى صَفْحَتَهُ لِلْحَقِّ هَلَكَقد تقدم تفسيرنا لهذه الكلمة في أول الكتاب و معناها من نابذ الله و حاربه هلك يقال لمن خالف و كاشف قد أبدى صفحته

(19/280)


شرح نهج البلاغة ج : 18 ص : 156372اعْتَصِمُوا بِالذِّمَمِ فِي أَوْتَارِهَا أي في مظانها و في مركزها أي لا تستندوا إلى ذمام الكافرين و المارقين فإنهم ليسوا أهلا للاستعصام بذممهم كما قال الله تعالى لا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلًّا وَ لا ذِمَّةً و قال إِنهُمْ لا أَيْمانَ لَهُمْ. و هذه كلمة قالها بعد انقضاء أمر الجمل و حضور قوم من الطلقاء بين يديه ليبايعوه منهم مروان بن الحكم فقال و ما ذا أصنع ببيعتك أ لم تبايعني بالأمس يعني بعد قتل عثمان ثم أمر بإخراجهم و رفع نفسه عن مبايعة أمثالهم و تكلم بكلام ذكر فيه ذمام العربية و ذمام الإسلام و ذكر أن لا دين له فلا ذمام له. ثم قال في أثناء الكلام فاستعصموا بالذمم في أوتارها أي إذا صدرت عن ذوي الدين فمن لا دين له لا عهد له
شرح نهج البلاغة ج : 18 ص : 157373عَلَيْكُمْ بِطَاعَةِ مَنْ لَا تُعْذَرُونَ فِي جَهَالَتِهِيعني نفسه ع و هو حق على المذهبين جميعا أما نحن فعندنا أنه إمام واجب الطاعة بالاختبار فلا يعذر أحد من المكلفين في الجهل بوجوب طاعته و أما على مذهب الشيعة فلأنه إمام واجب الطاعة بالنص فلا يعذر أحد من المكلفين في جهالة إمامته و عندهم أن معرفة إمامته تجري مجرى معرفة محمد ص و مجرى معرفة البارئ سبحانه و يقولون لا تصح لأحد صلاة و لا صوم و لا عبادة إلا بمعرفة الله و النبي و الإمام. و على التحقيق فلا فرق بيننا و بينهم في هذا المعنى لأن من جهل إمامة علي ع و أنكر صحتها و لزومها فهو عند أصحابنا مخلد في النار لا ينفعه صوم و لا صلاة لأن المعرفة بذلك من الأصول الكلية التي هي أركان الدين و لكنا لا نسمي منكر إمامته كافرا بل نسميه فاسقا و خارجيا و مارقا و نحو ذلك و الشيعة تسميه كافرا فهذا هو الفرق بيننا و بينهم و هو في اللفظ لا في المعنى

(19/281)


شرح نهج البلاغة ج : 18 ص : 158374مَا شَكَكْتُ فِي الْحَقِّ مُنْذُ أُرِيتُهُأي منذ أعلمته و يجب أن يقدر هاهنا مفعول محذوف أي منذ أريته حقا لأن أرى يتعدى إلى ثلاثة مفاعيل تقول أرى الله زيدا عمرا خير الناس فإذا بنيته للمفعول به قام واحد من الثلاثة مقام الفاعل و وجب أن يؤتى بمفعولين غيره تقول أريت زيدا خير الناس و إن كان أشار بالحق إلى أمر مشاهد بالبصر لم يحتج إلى ذلك و يجوز أن يعني بالحق الله سبحانه و تعالى لأن الحق من أسمائه عز و جل فيقول منذ عرفت الله لم أشك فيه و تكون الرؤية بمعنى المعرفة فلا يحتاج إلى تقدير مفعول آخر و ذلك مثل قوله تعالى وَ آخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ أي لا تعرفونهم الله يعرفهم و المراد من هذا الكلام ذكر نعمة الله عليه في أنه منذ عرف الله سبحانه لم يشك فيه أو منذ عرف الحق في العقائد الكلامية و الأصولية و الفقهية لم يشك في شي ء منها و هذه مزية له ظاهرة على غيره من الناس فإن أكثرم أو كلهم يشك في الشي ء بعد أن عرفه و تعتوره الشبه و الوساوس و يران على قلبه و تختلجه الشياطين عما أدى إليه نظره. شرح نهج البلاغة ج : 18 ص : 375 قد روي أن النبي ص لما بعثه إلى اليمن قاضيا ضرب على صدره و قال اللهم اهد قلبه و ثبت لسانه فكان يقول ما شككت بعدها في قضاء بين اثنين
و روي أن رسول الله ص لما قرأ وَ تَعِيَها أُذُنٌ واعِيَةٌ قال اللهم اجعلها أذن علي و قيل له قد أجيبت دعوتك

(19/282)


شرح نهج البلاغة ج : 18 ص : 159376وَ قَدْ بُصِّرْتُمْ إِنْ أَبْصَرْتُمْ وَ قَدْ هُدِيتُمْ إِنِ اهْتَدَيْتُمْقال الله تعالى وَ أَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْناهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمى عَلَى الْهُدى. و قال سبحانه وَ هَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ. و قال بعض الصالحين ألا إنهما نجدا الخير و الشر فجعل نجد الشر أحب إليكم من نجد الخير. قلت النجد الطريق. و اعلم أن الله تعالى قد نصب الأدلة و مكن المكلف بما أكمل له من العقل من الهداية فإذا ضل فمن قبل نفسه أتى. و قال بعض الحكماء الذي لا يقبل الحكمة هو الذي ضل عنها ليست هي الضالة عنه. و قال متى أحسست بأنك قد أخطأت و أردت ألا تعود أيضا فتخطئ فانظر إلى أصل في نفسك حدث عنه ذلك الخطأ فاحتل في قلعه و ذلك أنك إن لم تفعل ذلك عاد فثبت خطأ آخر و كان يقال كما أن البدن الخالي من النفس تفوح منه رائحة النتن كذلك النفس الخالية من الحكمة و كما أن البدن الخالي من النفس ليس يحس ذلك بالبدن شرح نهج البلاغة ج : 18 ص : 377بل الذين لهم حس يحسونه به كذلك افس العديمة للحكمة ليس تحس به تلك النفس بل يحس به الحكماء و قيل لبعض الحكماء ما بال الناس ضلوا عن الحق أ تقول إنهم لم تخلق فيهم قوة معرفة فقال لا بل خلق لهم ذلك و لكنهم استعملوا تلك القوة على غير وجهها و في غير ما خلقت له كالسم تدفعه إلى إنسان ليقتل به عدوه فيقتل به نفسه

(19/283)


شرح نهج البلاغة ج : 18 ص : 160378عَاتِبْ أَخَاكَ بِالْإِحْسَانِ إِلَيْهِ وَ ارْدُدْ شَرَّهُ بِالْإِنْعَامِ عَلَيْهِالأصل في هذا قول الله تعالى ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَ بَيْنَهُ عَداوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ و روى المبرد في الكامل عن ابن عائشة عن رجل من أهل الشام قال دخلت المدينة فرأيت رجلا راكبا على بغلة لم أر أحسن وجها و لا ثوبا و لا سمتا و لا دابة منه فمال قلبي إليه فسألت عنه فقيل هذا الحسن بن الحسن بن علي فامتلأ قلبي له بغضا و حسدت عليا أن يكون له ابن مثله فصرت إليه و قلت له أنت ابن أبي طالب فقال أنا ابن ابنه قلت فبك و بأبيك فلما انقضى كلامي قال أحسبك غريبا قلت أجل قال فمل بنا فإن احتجت إلى منزل أنزلناك أو إلى مال واسيناك أو إلى حاجة عاوناك. فانصرفت عنه و ما على الأرض أحد أحب إلي منه. و قال محمود الوراق
إني شكرت لظالمي ظلمي و غفرت ذاك له على علم و رأيته أهدى إلي يدا لما أبان بجهله حلمي رجعت إساءته عليه و إحساني فعاد مضاعف الجر شرح نهج البلاغة ج : 18 ص : 379و غدوت ذا أجر و محمدة و غدا بكسب الظلم و الإثم فكأنما الإحسان كان له و أنا المسي ء إليه في الحكم ما زال يظلمني و أرحمه حتى بكيت له من اقال المبرد أخذ هذا المعنى من قول رجل من قريش قال له رجل منهم إني مررت بآل فلان و هم يشتمونك شتما رحمتك منه قال أ فسمعتني أقول إلا خيرا قال لا قال إياهم فارحم. و قال رجل لأبي بكر لأشتمنك شتما يدخل معك قبرك فقال معك و الله يدخل لا معي
شرح نهج البلاغة ج : 18 ص : 161380مَنْ وَضَعَ نَفْسَهُ مَوَاضِعَ التُّهَمَةِ فَلَا يَلُومَنَّ مَنْ أَسَاءَ بِهِ الظَّنَّرأى بعض الصحابة رسول الله ص واقفا في درب من دروب المدينة و معه امرأة فسلم عليه فرد عليه فلما جاوزه ناداه فقال هذه زوجتي فلانة قال يا رسول الله أ و فيك يظن فقال إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم

(19/284)


و جاء في الحديث المرفوع دع ما يريبك إلى ما لا يريبك
و قال أيضا لا يكمل إيمان عبد حتى يترك ما لا بأس به
و قد أخذ هذا المعنى شاعر فقال
و زعمت أنك لا تلوط فقل لنا هذا المقرطق واقفا ما يصنع شهدت ملاحته عليك بريبة و على المريب شواهد لا تدفع شرح نهج البلاغة ج : 18 ص : 162381مَنْ مَلَكَ اسْتَأْثَرَ المعنى أن الأغلب في كل ملك يستأثر على الرعية بالمال و العز و الجاه. و نحو هذا المعنى قولهم من غلب سلب و من عز بز. و نحوه قول أبي الطيبو الظلم من شيم النفوس فإن تجد ذا عفة فلعلة لا يظلم
شرح نهج البلاغة ج : 18 ص : 163382مَنِ اسْتَبَدَّ بِرَأْيِهِ هَلَكَ وَ مَنْ شَاوَرَ الرِّجَالَ شَارَكَهَا فِي عُقُولِهَاقد تقدم لنا قول كاف في المشورة مدحا و ذما و كان عبد الملك بن صالح الهاشمي يذمها و يقول ما استشرت واحدا قط إلا تكبر علي و تصاغرت له و دخلته العزة و دخلتني الذلة فإياك و المشورة و إن ضاقت عليك المذاهب و اشتبهت عليك المسائل و أداك الاستبداد إلى الخطإ الفادح. و كان عبد الله بن طاهر يذهب إلى هذا المذهب و يقول ما حك جلدك مثل ظفرك و لأن أخطئ مع الاستبداد ألف خطإ أحب إلي من أن أستشير و أرى بعين النقص و الحاجة. و كان يقال الاستشارة إذاعة السر و مخاطرة بالأمر الذي ترومه بالمشاورة فرب مستشار أذاع عنك ما كان فيه فساد تدبيرك. و أما المادحون للمشورة فكثير جدا و قالوا خاطر من استبد برأيه. و قالوا المشورة راحة لك و تعب على غيرك. و قالوا من أكثر من المشورة لم يعدم عند الصواب مادحا و عند الخطإ عاذرا. شرح نهج البلاغة ج : 18 ص : 383و قالوا المستشير على طرف النجاح و الاستشارة عزم الأمور. و قالوا المشورة لقاح العقول و رائد الصواب. و من ألفاظهم البديعة ثمرة رأي المشير أحلى من الأري المشور. و قال بشار

(19/285)


إذا بلغ الرأي النصيحة فاستعن بعزم نصيح أو مشورة حازم و لا تجعل الشورى عليك غضاضة فإن الخوافي عدة للقوادم شرح نهج البلاغة ج : 18 ص : 164384مَنْ كَتَمَ سِرَّهُ كَانَتِ الْخِيَرَةُ فِي يَدِهِقد تقدم القول في السر و الأمر بكتمانه و نذكر هاهنا أشياء أخر. من أمثالهم مقتل الرجل بين لحييه. دنا رجل من آخر فساره فقال إن من حق السر التداني. كان مالك بن مسمع إذا ساره إنسان قال له أظهره فلو كان فيه خير لما كان مكتوما. حكيم يوصي ابنه يا بني كن جوادا بالمال في موضع الحق ضنينا بالإسرار عن جميع الخلق فإن أحمد جود المرء الإنفاق في وجه البر. و من كلامهم سرك من دمك فإذا تكلمت به فقد أرقته. و قال الشاعر
فلا تفش سرك إلا إليك فإن لكل نصيح نصيحاأ لم تر أن غواة الرجال لا يتركون أديما صحيحا
و قال عمر بن عبد العزيز القلوب أوعية الأسرار و الشفاه أقفالها و الألسن مفاتيحها فليحفظ كل امرئ مفتاح سره. شرح نهج البلاغة ج : 18 ص : 385و قال بعض الحكماء من أفشى سره كثر عليه المتآمرون. أسر رجل إلى صديق سرا ثم قال له أ فهمت قال له بل جهلت قال أ حفظت قال نسيت. و قيل لرجل كيف كتمانك السر قال أجحد المخبر و أحلف للمستخبر. أنشد الأصمعي قول الشاعر
إذا جاوز الاثنين سر فإنه بنث و تكثير الوشاة قمين
فقال و الله ما أراد بالاثنين إلا الشفتين
شرح نهج البلاغة ج : 18 ص : 165386الْفَقْرُ الْمَوْتُ الْأَكْبَرُ في الحديث المرفوع أشقى الأشقياء من جمع عليه فقر الدنيا و عذاب الآخرةو أتى بزرجمهر فقير جاهل فقال بئسما اجتمع على هذا البائس فقر ينقص دنياه و جهل يفسد آخرته. شاعر
خلق المال و اليسار لقوم و أراني خلقت للإملاق أنا فيما أرى بقية قوم خلقوا بعد قسمة الأرزاقأخذ السيواسي هذا المعنى فقال في قصيدته الطويلة المعروفة بالساسانية
ليت شعري لما بدا يقسم الأرزاق في أي مطبق كنت
قرئ على أحد جانبي دينار

(19/286)


قرنت بالنجح و بي كل ما يراد من ممتنع يوجد
و على الجانب الآخر
و كل من كنت له آلفا فالإنس و الجن له أعبد
شرح نهج البلاغة ج : 18 ص : 387و قال أبو الدرداء من حفظ ماله فقد حفظ الأكثر من دينه و عرضه. بعضهمو إذا رأيت صعوبة في مطلب فاحمل صعوبته على الدينارتردده كالظهر الذلول فإنه حجر يلين قوة الأحجار
و من دعاء السلف اللهم إني أعوذ بك من ذل الفقر و بطر الغنى
شرح نهج البلاغة ج : 18 ص : 166388مَنْ قَضَى حَقَّ مَنْ لَا يَقْضِي حَقَّهُ فَقَدْ عَبَّدَهُعبده بالتشديد أي اتخذه عبدا يقال عبده و استعبده بمعنى واحد و المعني بهذا الكلام مدح من لا يقضي حقه أي من فعل ذلك بإنسان فقد استعبد ذلك الإنسان لأنه لم يفعل معه ذلك مكافاة له عن حق قضاه إياه بل فعل ذلك إنعاما مبتدأ فقد استعبده بذلك. و قال الشاعر في نقيض هذه الحال يخاطب صاحبا له
كن كأن لم تلاقني قط في الناس و لا تجعلن ذكراي شوقاو تيقن بأنني غير راء لك حقا حتى ترى لي حقاو بأني مفوق ألف سهم لك إن فوقت يمينك فوقا
شرح نهج البلاغة ج : 18 ص : 167389لَا طَاعَةَ لِمَخْلُوقٍ فِي مَعْصِيَةِ الْخَالِقِهذه الكلمة قد رويت مرفوعة و
قد جاء في كلام أبي بكر أطيعوني ما أطعت الله فإذا عصيته فلا طاعة لي عليكم

(19/287)


و قال معاوية لشداد بن أوس قم فاذكر عليا فانتقصه فقام شداد فقال الحمد لله الذي افترض طاعته على عباده و جعل رضاه عند أهل التقوى آثر من رضا غيره على ذلك مضى أولهم و عليه مضى آخرهم أيها الناس إن الآخرة وعد صادق يحكم فيها ملك قاهر و إن الدنيا أكل حاضر يأكل منها البر و الفاجر و إن السامع المطيع لله لا حجة عليه و إن السامع العاصي لله لا حجة له و إنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق و إذا أراد الله بالناس خيرا استعمل عليهم صلحاءهم و قضى بينهم فقهاؤهم و جعل المال في سمحائهم و إذا أراد بالعباد شرا عمل عليهم سفهاؤهم و قضى بينهم جهلاؤهم و جعل المال عند بخلائهم و إن من إصلاح الولاة أن تصلح قرناءها ثم التفت إلى معاوية فقال نصحك يا معاوية من أسخطك بالحق و غشك من أرضاك بالباطل فقطع معاوية عليه كلامه و أمر بإنزاله ثم لاطفه و أمر له بمال فلما قبضه قال أ لست من السمحاء الذين ذكرت فقال إن كان لك مال غير مال المسلمين أصبته حلالا و أنفقته إفضالا فنعم و إن كان مال المسلمين احتجبته دونهم أصبته اقترافا و أنفقته إسرافا فإن الله يقول إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كانُوا إِخْوانَ الشَّياطِينِ

(19/288)


شرح نهج البلاغة ج : 18 ص : 168390لَا يُعَابُ الْمَرْءُ بِتَأْخِيرِ حَقِّهِ إِنَّمَا يُعَابُ مَنْ أَخَذَ مَا لَيْسَ لَهُلعل هذه الكلمة قالها في جواب سائل سأله لم أخرت المطالبة بحقك من الإمامة و لا بد من إضمار شي ء في الكلام على قولنا و قول الإمامية لأنا نحن نقول الأمر حقه بالأفضلية و هم يقولون إنه حقه بالنص و على كلا التقديرين فلا بد من إضمار شي ء في الكلام لأن لقائل أن يل له ع لو كان حقك من غير أن يكون للمكلفين فيه نصيب لجاز ذلك أن يؤخر كالدين الذي يستحق على زيد يجوز لك أن تؤخره لأنه خالص لك وحدك فأما إذا كان للمكلفين فيه حاجة ماسة لم يكن حقك وحدك لأن مصالح المكلفين منوطة بإمامتك دون إمامة غيرك فكيف يجوز لك تأخير ما فيه مصلحة المكلفين فإذن لا بد من إضمار شي ء في الكلام و تقديره لا يعاب المرء بتأخير حقه إذا كان هناك مانع عن طلبه و يستقيم المعنى حينئذ على المذهبين جميعا لأنه إذا كان هناك مانع جاز تقديم غيره عليه و جاز له أن يؤخر طلب حقه خوف الفتنة و الكلام في هذا الموضع مستصى في تصانيفنا في علم الكلام
شرح نهج البلاغة ج : 18 ص : 169391الْإِعْجَابُ يَمْنَعُ مِنَ الِازْدِيَادِ قد تقدم لنا قول مقنع في العجب و إنما قال ع يمنع من الازدياد لأن المعجب بنفسه ظان أنه قد بلغ الغرض و إنما يطلب الزيادة من يستشعر التقصير لا من يتخيل الكمال و حقيقة العجب ظن الإنساننفسه استحقاق منزلة هو غير مستحق لها و لهذا قال بعضهم لرجل رآه معجبا بنفسه يسرني أن أكون عند الناس مثلك في نفسك و أن أكون عند نفسي مثلك عند الناس فتمنى حقيقة ما يقدره ذلك الرجل ثم تمنى أن يكون عارفا بعيوب نفسه كما يعرف الناس عيوب ذلك الرجل المعجب بنفسه. و
قيل للحسن من شر الناس قال من يرى أنه خيرهم

(19/289)


و قال بعض الحكماء الكاذب في نهاية البعد من الفضل و المرائي أسوأ حالا من الكاذب لأنه يكذب فعلا و ذاك يكذب قولا و الفعل آكد من القول فأما المعجب بنفسه فأسوأ حالا منهما لأنهما يريان نقص أنفسهما و يريدان إخفاءه و المعجب بنفسه قد عمي عن عيوب نفسه فيراها محاسن و يبديها. و قال هذا الحكيم أيضا ثم إن المرائي و الكاذب قد ينتفع بهما كملاح خاف شرح نهج البلاغة ج : 18 ص : 392ركابه الغرق من مكان مخوف من البحر فبشرهم بتجاوزه قبل أن يتجاوزه لئلا يضطربوا فيتعجل غرقهم. و قد يحمد رياء الرئيس إذا قصد أن يقتدى به في فعل الخير المعجب لا حظ له في سبب من أسباب المحمدة بحال. و أيضا فلأنك إذا وعظت الكاذب و المرائي فنفسهما تصدقك و تثلبهما لمعرفتهما بنفسهما و المعجب فلجهله بنفسه يظنك في وعظه لاغيا فلا ينتع بمقالك و إلى هذا المعنى أشار سبحانه بقوله أَ فَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً ثم قال سبحانه فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَراتٍ تنبيها على أنهم لا يعقلون لإعجابهم. و
قال ع ثلاث مهلكات شح مطاع و هوى متبع و إعجاب المرء بنفسه
و في المثل إن إبليس قال إذا ظفرت من ابن آدم بثلاث لم أطالبه بغيرها إذا أعجب بنفسه و استكثر عمله و نسي ذنوبه. و قالت الحكماء كما أن المعجب بفرسه لا يروم أن يستبدل به غيره كذلك المعجب بنفسه لا يريد بحاله بدلا و إن كانت رديئة. و أصل الإعجاب من حب الإنسان لنفسه و
قد قال ع حبك الشي ء يعمي و يصم و من عمي و صم تعذر عليه رؤية عيوبه و سماعها فلذلك وجب على الإنسان أن يجعل على نفسه عيونا تعرفه عيوبه نحو ما قال عمر أحب الناس إلي امرؤ أهدى إلي عيوبي. و يجب على الإنسان إذا رأى من غيره سيئة أن يرجع إلى نفسه فإن رأى ذلك شرح نهج البلاغة ج : 18 ص : 393موجودفيها نزعها و لم يغفل عنها فما أحسن ما قال المتنبي
و من جهلت نفسه قدره رأى غيره منه ما لا يرى

(19/290)


و أما التيه و ماهيته فهو قريب من العجب لكن المعجب يصدق نفسه و هما فيما يظن بها و التياه يصدقها قطعا كأنه متحير في تيه و يمكن أن يفرق بينهما بأمر آخر و يقول إن المعجب قد يعجب بنفسه و لا يؤذي أحدا بذلك الإعجاب و التياه يضم إلى الإعجاب الغض من الناس و الترفع عليهم فيستلزم ذلك الأذى لهم فكل تائه معجب و ليس كل معجب تائها
شرح نهج البلاغة ج : 18 ص : 170394الْأَمْرُ قَرِيبٌ وَ الِاصْطِحَابُ قَلِيلٌهذه الكلمة تذكر بالموت و سرعة زوال الدنيا و قال أبو العلاء
نفسي و جسمي لما استجمعا صنعا شرا إلى فجل الواحد الصمدفالجسم يعذل فيه النفس مجتهدا و تلك تزعم أن الظالم الجسدإذا هما بعد طول الصحبة افترقا فإن ذاك لأحداث الزمان يدو أصبح الجوهر الحساس في محن موصولة و استراح الآخر الجمد
شرح نهج البلاغة ج : 18 ص : 171395قَدْ أَضَاءَ الصُّبْحُ لِذِي عَيْنَيْنِهذا الكلام جار مجرى المثل و مثله
و الشمس لا تخفى عن الأبصار
و مثله
إن الغزالة لا تخفى عن البصر
و قال ابن هانئ يمدح المعتز
فاستيقظوا من رقدة و تنبهوا ما بالصباح عن العيون خفاءليست سماء الله ما ترونها لكن أرضا تحتويه سماء

(19/291)


شرح نهج البلاغة ج : 18 ص : 172396تَرْكُ الذَّنْبِ أَهْوَنُ مِنْ طَلَبِ التَّوْبَةِهذا حق لأن ترك الذنب هو الإحجام عنه و هذا سهل على من يعرف أثر الذنب على ما ذا يكون و هو أسهل من أن يواقع الإنسان الذنب ثم يطلب التوبة فقد لا يخلص داعيه إليها ثم لو خلص فكيف له بحصوله على شروطها و هي أن يندم على القبيح لأنه قبيح لا لخوف العقاب و لا لرجاء الثواب ثم لا يكفيه أن يتوب من الزنا وحده و لا من شرب الخمر وحده بل لا تصح توبته حتى تكون عامة شاملة لكل القبائح فيندم على ما قال و يود أنه لم يفعل و يعزم على ألا يعاود معصية أصلا و إن نقض التوبة عادت عليه الآثام القديمة و العقاب المستحق و لا الذي كان سقط بالتوبة على رأي كثير من أرباب علم الكلام و لا ريب أن ترك الذنب من الابتداء أسهل من طلب توبة هذه صفتها. و هذا الكلام جار مجرى المثل يضرب لمن يشرع في أمر يخاطر فيه و يرجو أن يتخلص منه فيما بعد بوجه من الوجوه
شرح نهج البلاغة ج : 18 ص : 173397كَمْ مِنْ أَكْلَةٍ تَمْنَعُ أَكَلَاتٍأخذ هذا المعنى بلفظه الحريري فقال في المقامات رب أكلة هاضت الآكل و منعته مآكل و أخذه أبو العلاف الشاعر فقال في سنوره الذي يرثيه
أردت أن تأكل الفراخ و لا يأكلك الدهر أكل مضطهديا من لذيذ الفراخ أوقعه ويحك هلا قنعت بالقددكم أكلة خامرت حشا شره فأخرجت روحه من الجسد
نوادر المكثرين من الأكل

(19/292)


و كان ابن عياش المنتوف يمازح المنصور أبا جعفر فيحتمله على أنه كان جدا كله فقدم المنصور لجلسائه يوما بطة كثيرة الدهن فأكلوا و جعل يأمرهم بالازدياد من الأكل لطيبها فقال ابن عياش قد علمت غرضك يا أمير المؤمنين إنما تريد أن ترميهم منها بالحجاب يعني الهيضة فلا يأكلوا إلى عشرة أيام شيئا. و في المثل أكلة أبي خارجة و قال أعرابي و هو يدعو الله بباب الكعبة اللهم شرح نهج البلاغة ج : 18 ص : 398ميتة كميتة أبي خارجة فسألوه فقال أكل بذجا و هو الحمل و شرب وطبا من اللبن و يروى من النبيذ و هو كالحوض من جلود ينبذ فيه و نام فالشمس فمات فلقي الله تعالى شبعان ريان دفيئا. و العرب تعير بكثرة الأكل و تعيب بالجشع و الشره و النهم و قد كان فيهم قوم موصوفون بكثرة الأكل منهم معاوية قال أبو الحسن المدائني في كتاب الأكلة كان يأكل في اليوم أربع أكلات أخراهن عظماهن ثم يتعشى بعدها بثريدة عليها بصل كثير و دهن كثير قد شغلها و كان أكله فاحشا يأكل فيلطخ منديلين أو ثلاثة قبل أن يفرغ و كان يأكل حتى يستلقي و يقول يا غلام ارفع فلأني و الله ما شبعت و لكن مللت. و كان عبيد الله بن زياد يأكل في اليوم خمس أكلات أخراهن خبية بعسل و يوضع بين يديه بعد أن يفرغ الطعام عناق أو جدي فيأتي عليه وحده. و كان سليمان بن عبد الملك المصيبة العظمى في الأكل دخل إلى الرافقة فقال لصاحب طعامه أطعمنا اليوم من خرفان الرافقة و دخل الحمام فأطال ثم خرج فأكل ثلاثين خروفا بثمانين رغيفا ثم قعد على المائدة فأكل مع الناس كأنه لم يأكل شيئا. و قال الشمردل وكيل آل عمرو بن العاص قدم سليمان الطائف و قد عرفت استجاعته فدخل هو و عمر بن عبد العزيز و أيوب ابنه إلى بستان لي هناك يعرف بالرهط فقال ناهيك بمالك هذا لو لا جرار فيه قلت يا أمير المؤمنين إنها ليست بجرار و لكنها جرار الزبيب فضحك ثم جاء حتى ألقى صدره على غصن شجرة هناك و قال يا شمردل أ ما عندك شي ء تطعمني

(19/293)


و قد كنت استعددت له فقلت بلى و الله عندي جدي كانت تغدو عليه حافلة و تروح عليه أخرى فقال عجل به فجئته شرح نهج البلاغة ج : 18 ص : 399به مشويا كأنه عكة سمن فأكله لا يدعو عليه عمر و لا ابنه حتى إذا بقي فخذ قال يا عمر هلم قال إني صائم ثم قال يا شمردل أ ما عندك شي ء قلت بلى دجاجات خمس كأنهن رئلان النعام فقال هات فأتيته بهن فكان يأخذ برجل الدجاجة حتى يعري عظا ثم يلقيها حتى أتى عليهن ثم قال ويحك يا شمردل أ ما عندك شي ء قلت بلى سويق كأنه قراضة الذهب ملتوت بعسل و سمن قال هلم فجئته بعس تغيب فيه الرأس فأخذه فلطم به جبهته حتى أتى عليه فلما فرغ تجشأ كأنه صارخ في جب ثم التفت إلى طباخه فقال ويحك أ فرغت من طبيخك قال نم قال و ما هو قال نيف و ثمانون قدرا قال فأتني بها قدرا قدرا فعرضها عليه و كان يأكل من كل قدر لقمتين أو ثلاثا ثم مسح يده و استلقى على قفاه و أذن للناس و وضعت الموائد فقعد فأكل مع الناس كأنه لم يطعم شيئا. قالوا و كان الطعام الذي مات منه سليمان أنه قال لديراني كان صديقه قبل الخلافة ويحك لا تقطعني ألطافك التي كنت تلطفني بها على عهد الوليد أخي قال فأتيته يوما بزنبيلين كبيرين أحدهما بيض مسلوق و الآخر تين فقال لقمنيه فكنت أقشر البيضة و أقرنها بالتينة و ألقمه حتى أتى على الزنبيلين فأصابته تخمة عظيمة و مات و يحكى أن عمرو بن معديكرب أكل عنزا رباعية و فرقا من ذرة و الفرق ثلاثة آصع و قال لامرأته عالجي لنا هذا الكبش حتى أرجع فجعلت توقد تحته و تأخذ عضوا عضوا فتأكله فاطلعت فإذا ليس في القدر إلا المرق فقامت إلى كبش آخر فذبحته و طبخته ثم أقبل عمرو فثردت له في جفنة العجين و كفأت القدر عليها فمد يده و قال يا أم ثور دونك الغداء قالت قد أكلت فأكل الكبش كله ثم اضطجع و دعاها إلى الفراش فلم يستطع الفعل فقالت له كيف تستطيع و بيني و بينك كبشان. شرح نهج البلاغة ج : 18 ص : 400و قد روي هذا الخبر عن بعض

(19/294)


العرب و قيل إنه أكل حوارا و أكلت رأته حائلا فلما أراد أن يدنو منها و عجز قالت له كيف تصل إلي و بيني و بينك بعيران. و كان الحجاج عظيم الأكل قال مسلم بن قتيبة كنت في دار الحجاج مع ولده و أنا غلام فقيل قد جاء الأمير فدخل الحجاج فأمر بتنور فنصب و أمر رجلا أن يخبز له خبز الماء و دعا بسمك فأتوه به فجعل يأكل حتى أكل ثمانين جاما من السمك بثمانين رغيفا من خبز الملة. و كان هلال بن أشعر المازني موصوفا بكثرة الأكل أكل ثلاث جفان ثريد و استسقى فجاءوه بقربة مملوءة نبيذا فوضعوا فمها في فمه حتى شربها بأسرها. و كان هلال بن أبي بردة أكولا قال قصابه جاءني رسوله سحرة فأتيته و بين يديه كانون فيه جمر و تيس ضخم فقال دونك هذا التيس فاذبحه فذبحته و سلخته فقال أخرج هذا الكانون إلى الرواق و شرح اللحم و كبه على النار فجعلت كلما استوى شي ء قدمته إليه حتى لم يبق من التيس إلا العظام و قطعة لحم على الجمر فقال لي كلها فأكلها ثم شرب خمسة أقداح و ناولني قدحا فشربته فهزني و جاءته جارية ببرمة فيها ناهضان و دجاجتان و أرغفة فأكل ذلك كله ثم جاءته جارية أخرى بقصعة مغطاة لا أدري ما فيها فضحك إلى الجارية فقال ويحك لم يبق في بطني موضع لهذا فضحكت الجارية و انصرفت فقال لي الحق بأهلك.

(19/295)


شرح نهج البلاغة ج : 18 ص : 401و كان عنبسة بن زياد أكولا نهما فحدث رجل من ثقيف قال دعاني عبيد الله الأحمر فقلت لعنبسة هل لك يا ذبحة و كان هذا لقبة في إتيان الأحمر فمضينا إليه فلما رآه عبيد الله رحب به و قال للخباز ضع بين يدي هذا مثل ما تضع بين يدي أهل الئدة كلهم فجعل يأتيه بقصعة و أهل المائدة بقصعة و هو يأتي عليها ثم أتاه بجدي فأكله كله و نهض القوم فأكل كل ما تخلف على المائدة و خرجنا فلقينا خلف بن عبد الله القطامي فقال له يا خلف أ ما تغديني يوما فقلت لخلف ويحك لا تجده مثل اليوم فقال له ما تشتهي قال تمرا و سمنا فانطلق به إلى منزله فجاء بخمس جلال تمرا و جرة سمنا فأكل الجميع و خرج فمر برجل يبني داره و معه مائة رجل و قد قدم لهم سمنا و تمرا فدعاه إلى الأكل معهم فأكل حتى شكوه إلى صاحب الدار ثم خرج فمر برجل بين يديه زنبيل فيه خبز أرز يابس بسمسم و هو يبيعه فجعل يساومه و يأكل حتى أتى على الزنبيل فأعطيت صاحب الزنبيل ثمن خبزة. و كان ميسرة الرأس أكولا حكي عنه عند المهدي محمد بن المنصور أنه يأكل كثيرا فاستدعاه و أحضر فيلا و جعل يرمي لكل واحد منهما رغيفا حتى أكل كل واحد منهما تسعة و تسعين رغيفا و امتنع الفيل من تمام المائة و أكل ميسرة تمام المائة و زاد عليها. و كان أبو الحسن العلاف والد أبي بكر بن العلاف الشاعر المحدث أكولا دخل يوما على الوزير أبي بكر محمد المهلبي فأمر الوزير أن يؤخذ حماره فيذبح و يطبخ بماء و ملح ثم قدم له على مائدة الوزير فأكل و هو يظنه لحم شرح نهج البغة ج : 18 ص : 402البقر و يستطيبه حتى أتى عليه فلما خرج ليركب طلب الحمار فقيل له في جوفك. و كان أبو العالية أكولا نذرت امرأة حامل إن أتت بذكر تشبع أبا العالية خبيصا فولدت غلاما فأحضرته فأكل سبع جفان خبيصا ثم أمسك و خرج فقيل له إنها كانت نذرت أن تشبعك فقال و الله لو علمت ما شبعت إلى الليل

(19/296)


شرح نهج البلاغة ج : 18 ص : 174403النَّاسُ أَعْدَاءُ مَا جَهِلُوا هذه الكلمة قد تقدمت و تقدم منا ذكر نظائرها و العلة في أن الإنسان عدو ما يجهله أنه يخاف من تقريعه بالنقص و بعدم العلم بذلك الشي ء خصوصا إذا ضمه ناد أو جمع من الناس فإنه تتصاغر نفسه عنده إذاضوا فيما لا يعرفه و ينقص في أعين الحاضرين و كل شي ء آذاك و نال منك فهو عدوك شرح نهج البلاغة ج : 18 ص : 175404مَنِ اسْتَقْبَلَ وُجُوهَ الآْرَاءِ عَرَفَ مَوَاقِعَ الْخَطَإِقد قالوا في المثل شر الرأي الدبري. و قال الشاعر
و خير الرأي ما استقبلت منه و ليس بأن تتبعه اتباعا
و ليس المراد بهذا الأمر سرعة فضل الحال لأول خاطر و لأول رأي إن ذلك خطأ و قديما قيل دع الرأي يغب. و قيل كل رأي لم يخمر و يبيت فلا خير فيه. و إنما المنهي عنه تضييع الفرصة في الرأي ثم محاولة الاستدراك بعد أن فات وجه الرأي فذاك هو الرأي الدبري
شرح نهج البلاغة ج : 18 ص : 176405مَنْ أَحَدَّ سِنَانَ الْغَضَبِ لِلَّهِ قَوِيَ عَلَى قَتْلِ أَشِدَّاءِ الْبَاطِلِهذا من باب الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر و الكلمة تتضمن استعارة تدل على الفصاحة و المعنى أن من أرهف عزمه على إنكار المنكر و قوي غضبه في ذات الله و لم يخف و لم يراقب مخلوقا أعانه الله على إزالة المنكر و إن كان قويا صادرا من جهة عزيزة الجانب و عنها وقعت الكناية بأشداء الباطل
شرح نهج البلاغة ج : 18 ص : 177406إِذَا هِبْتَ أَمْراً فَقَعْ فِيهِ فَإِنَّ شِدَّةَ تَوَقِّيهِ أَعْظَمُ مِمَّا تَخَافُ مِنْهُما أحسن ما قال المتنبي في هذا المعنى
و إذا لم يكن من الموت بد فمن العجز أن تكون جباناكل ما لم يكن من الصعب في الأنفس سهل فيها إذا هو كانا
و قال آخر
لعمرك ما المكروه إلا ارتقابه و أعظم مما حل ما يتوقع
و قال آخر
صعوبة الرزء تلقى في توقعه مستقبلا و انقضاء الرزء أن يقعا

(19/297)


و كان يقال توسط الخوف تأمن. و من الأمثال العامية أم المقتول تنام و أم المهدد لا تنام. و كان يقال كل أمر من خير أو شر فسماعه أعظم من عيانه. و قال قوم من أهل الملة و ليسوا عند أصحابنا مصيبين إن عذاب الآخرة المتوعد به إذا حل بمستحقيه وجدوه أهون مما كانوا يسمعونه في الدنيا و الله أعلم بحقيقة ذلك
شرح نهج البلاغة ج : 18 ص : 178407آلَةُ الرِّئَاسَةِ سَعَةُ الصَّدْرِ الرئيس محتاج إلى أمور منها الجود و منها الشجاعة و منها و هو الأهم سعة الصدر فإنه لا تتم الرئاسة إلا بذلك. و كان معاوية واسع الصدر كثير الاحتمال و بذلك بلغ ما بلغسعة الصدر و ما ورد في ذلك من حكايات

(19/298)


و نحن نذكر من سعة الصدر حكايتين دالتين على عظم محله في الرئاسة و إن كان مذموما في باب الدين و ما أحسن قول الحسن فيه و قد ذكر عنده عقيب ذكر أبي بكر و عمر فقال كانا و الله خيرا منه و كان أسود منهما. الحكاية الأولى وفد أهل الكوفة على معاوية حين خطب لابنه يزيد بالعهد بعده و في أهل الكوفة هانئ بن عروة المرادي و كان سيدا في قومه فقال يوما في مسجد دمشق و الناس حوله العجب لمعاوية يريد أن يقسرنا على بيعة يزيد و حاله حاله و ما ذاك و الله بكائن و كان شرح نهج البلاغة ج : 18 ص : 408في القوم غلام من قريش جالسا فتحمل المة إلى معاوية فقال معاوية أنت سمعت هانئا يقولها قال نعم قال فاخرج فأت حلقته فإذا خف الناس عنه فقل له أيها الشيخ قد وصلت كلمتك إلى معاوية و لست في زمن أبي بكر و عمر و لا أحب أن تتكلم بهذا الكلام فإنهم بنو أمية و قد عرفت جرأتهم و إقدامهم و لم يدعني إلى هذا القول لك إلا النصيحة و الإشفاق عليك فانظر ما يقول فأتني به. فأقبل الفتى إلى مجلس هانئ فلما خف من عنده دنا منه فقص عليه الكلام و أخرجه مخرج النصيحة له فقال هانئ و الله يا ابن أخي ما بلغت نصيحتك كل ما أسمع و إن هذا الكلام لكلام معاوية أعرفه فقال الفتى و ما أنا و معاوية و الله ما يعرفني قال فلا عليك إذا لقيته فقل له يقول لك هانئ و الله ما إلى ذلك من سبيل انهض يا ابن أخي راشدا. فقام الفتى فدخل على معاوية فأعلمه فقال نستعين بالله عليه. ثم قال معاوية بعد أيام للوفد ارفعوا حوائجكم و هانئ فيهم فعرض عليه كتابه فيه ذكر حوائجه فقال يا هانئ ما أراك صنعت شيئا زد فقام هانئ فلم يدع حاجة عرضت له إلا و ذكرها ثم عرض عليه الكتاب فقال أراك قصرت فيما طلبت زد فقام هانئ فلم يدع حاجة لقومه و لا لأهل مصره إلا ذكرها ثم عرض عليه الكتاب فقال ما صنعت شيئا زد فقال يا أمير المؤمنين حاجة بقيت قال ما هي قال أن أتولى أخذ البيعة ليزيد ابن أمير المؤمنين

(19/299)


بالعراق قال افعل فما زلت لمثل ذلك أهلا فلما قدم هانئ العراق قام بأمر البيعة ليزيد بمعونة من المغيرة بن شعبة و هو الوالي بالعراق يومئذ. شرح نهج البلاغة ج : 18 ص : 409و أما الحكاية الثانيةكان مال حمل من اليمن إلى معاوية فلما مر بالمدينة وثب عليه الحسين بن علي ع فأخذه و قسمه في أهل بيته و مواليه و كتب إلى معاوية من الحسين بن علي إلى معاوية بن أبي سفيان أما بعد فإن عيرا مرت بنا من اليمن تحمل مالا و حللا و عنبرا و طيبا إليك لتودعها خزائن دمشق و تعل بها بعد النهل بني أبيك و إني احتجت إليها فأخذتها و السلام
فكتب إليه معاوية من عند عبد الله معاوية أمير المؤمنين إلى الحسين بن علي سلام عليك أما بعد فإن كتابك ورد علي تذكر أن عيرا مرت بك من اليمن تحمل مالا و حللا و عنبرا و طيبا إلي لأودعها خزائن دمشق و أعل بها بعد النهل بني أبي و أنك احتجت إليها فأخذتها و لم تكن جديرا بأخذها إذ نسبتها إلي لأن الوالي أحق بالمال ثم عليه المخرج منه و ايم الله لو ترك ذلك حتى صار إلي لم أبخسك حظك منه و لكني قد ظننت يا ابن أخي أن في رأسك نزوة و بودي أن يكون ذلك في زماني فأعرف لك قدرك و أتجاوز عن ذلك و لكني و الله أتخوف أن تبتلي بمن لا ينظرك فواق ناقة و كتب في أسفل كتابه
يا حسين بن علي ليس ما جئت بالسائغ يوما في العلل أخذك المال و لم تؤمر به إن هذا من حسين لعجل قد أجزناها و لم نغضب لها و احتملنا من حسين ما فعل يا حسين بن علي ذا الأمل لك بعدي وثبة لا تحتمل و بودي أنني شاهدها فإليها منك بالخلق الأجل إنني أرهب أن تصلى بمه قد سبق السيف العذل
و هذه سعة صدر و فراسة صادقة
شرح نهج البلاغة ج : 18 ص : 179410ازْجُرِ الْمُسِي ءَ بِثَوَابِ الْمُحْسِنِ قد قال ابن هانئ المغربي في هذا المعنلو لا انبعاث السيف و هو مسلط في قتلهم قتلتهم النعماء
فأفصح به أبو العتاهية في قوله

(19/300)


إذا جازيت بالإحسان قوما زجرت المذنبين عن الذنوب فما لك و التناول من بعيد و يمكنك التناول من قريب شرح نهج البلاغة ج : 18 ص : 180411احْصُدِ الشَّرَّ مِنْ صَدْرِ غَيْرِكَ بِقَلْعِهِ مِنْ صَدْرِكَهذا يفسر على وجهين أحدهما أنه يريد لا تضمر لأخيك سوءا فإنك لا تضمر ذاك إلا يضمر هو لك سوءا لأن القلوب يشعر بعضها ببعض فإذا صفوت لواحد صفا لك. و الوجه الثاني أن يريد لا تعظ الناس و لا تنههم عن منكر إلا و أنت مقلع عنه فإن الواعظ الذي ليس بزكي لا ينجع وعظه و لا يؤثر نهيه. و قد سبق الكلام في كلا المعنيين
شرح نهج البلاغة ج : 18 ص : 181412اللَّجَاجَةُ تَسُلُّ الرَّأْيَ هذا مشتق من قوله ع لا رأي لمن لا يطاع
و ذلك لأن عدم الطاعة هو اللجاجة و هو خلق يتركب من خلقين أحدهما الكبر و الآخر الجهل بعواقب الأمور و أكثر ما يعتري الولاة لما يأخذهم من العزة بالإثم. و من كلام بعض الحكماء إذا اضطررت إلى مصاحبة السلطان فابدأ بالفحص عن معتاد طبعه و مألوف خلقه ثم استحدث لنفسك طبعا ففرغه في قالب إرادته و خلقا تركبه مع موضع وفاقه حتى تسلم معه و إن رأيته يهوى فنا من فنون المحبوبات فأظهر هواك لضد ذلك الفن ليبعد عنك إرهابه بل و يكثر سكونه إليك و إذا بدا لك منه فعل ذميم فإياك أن تبدأه فيه بقول ما لم يستبذل فيه نصحك و يستدعي رأيك و إن استدعى ذاك فليكن ما تفاوضه فيه بالرفق و الاستعطاف لا بالخشونة و الاستنكاف فيحمله اللجاج المركب في طبع الولاة على ارتكابه فكل وال لجوج و إن علم ما يتعقبه لجاجه من الضرر و أن اجتنابه هو الحسن
شرح نهج البلاغة ج : 18 ص : 182413الطَّمَعُ رِقٌّ مُؤَبَّدٌ هذا المعنى مطروق جدا و قد سبق لنا فيه قول شاف. و قال الشاعرتعفف و عش حرا و لا تك طامعا فما قطع الأعناق إلا المطامع

(19/301)


و في المثل أطمع من أشعب رأي سلالا يصنع سلة فقال له أوسعها قال ما لك و ذاك قال لعل صاحبها يهدي لي فيها شيئا. و مر بمكتب و غلام يقرأ على الأستاذ إن أبي يدعوك فقال قم بين يدي حفظك الله و حفظ أباك فقال إنما كنت أقرأ وردي فقال أنكرت أن تفلح أو يفلح أبوك. و قيل لم يكن أطمع من أشعب إلا كلبه رأى صورة القمر في البئر فظنه رغيفا فألقى نفسه في البئر يطلبه فمات
شرح نهج البلاغة ج : 18 ص : 183414ثَمَرَةُ التَّفْرِيطِ النَّدَامَةُ وَ ثَمَرَةُ الْحَزْمِ السَّلَامَةُقد سبق من الكلام في الحزم و التفريط ما فيه كفاية و كان يقال الحزم ملكة يوجبها كثرة التجارب و أصله قوة العقل فإن العاقل خائف أبدا و الأحمق لا يخاف و إن خاف كان قليل الخوف و من خاف أمرا توقاه فهذا هو الحزم. و كان أبو الأسود الدؤلي من عقلاء الرجال و ذوي الحزم و الرأي و حكى أبو العباس المبرد قال قال زياد لأبي الأسود و قد أسن لو لا ضعفك لاستعملناك على بعض أعمالنا فقال أ للصراع يريدني الأمير قال زياد إن للعمل مئونة و لا أراك إلا تضعف عنه فقال أبو الأسود
زعم الأمير أبو المغيرة إنني شيخ كبير قد دنوت من البلى صدق الأمير لقد كبرت و إنما نال المكارم من يدب على العصايا با المغيرة رب أمر مبهم فرجته بالحزم مني و الدهاو كان يقال من الحزم و التوقي ترك الإفراط في التوقي. لما نزل بمعاوية الموت و قدم عليه يزيد ابنه فرآه مسكتا لا يتكلم بكى و أنشد
لو فات شي ء يرى لفات أبو حيان لا عاجز و لا وكل الحول القلب الأريب و لا تدفع يوم المنية الحي شرح نهج البلاغة ج : 18 ص : 184415مَنْ لَمْ يُنْجِهِ الصَّبْرُ أَهْلَكَهُ الْجَزَعُقد تقدم لنا قول شاف في الصبر و الجزع. و كان يقال ما أحسن الصبر لو لا أن النفقة عليه من العمر أخذه شاعر فقال
و إني لأدري أن في الصبر راحة و لكن إنفاقي على الصبر من عمري
و قال ابن أبي العلاء يستبطئ بعض الرؤساء

(19/302)


فإن قيل لي صبرا فلا صبر للذي غدا بيد الأيام تقتله صبراو إن قيل لي عذرا فو الله ما أرى لمن ملك الدنيا إذا لم يجد عذرا
فإن قلت أي فائدة في قوله ع من لم ينجه الصبر أهلكه الجزع و هل هذا إلا كقول من قال من لم يجد ما يأكل ضرة الجوع. قلت لو كانت الجهة واحدة لكان الكلام عبثا إلا أن الجهة مختلفة لأن معنى كلامه ع من لم يخلصه الصبر من هموم الدنيا و غمومها هلك من الله تعالى في الآخرة بما يستبدله من الصبر بالجزع و ذلك لأنه إذا لم يصبر فلا شك أنه يجزع و كل جازع آثم و الإثم مهلكة فلما اختلفت الجهة و كانت تارة للدنيا و تارة للآخرة لم يكن الكلام عبثا بل كان مفيدا
شرح نهج البلاغة ج : 18 ص : 185416وَا عَجَبَا أَنْ تَكُونَ الْخِلَافَةُ بِالصَّحَابَةِ وَ لَا تَكُونَ بِالصَّحَابَةِ وَ الْقَرَابَةِ قال الرضي رحمه الله تعالى و قد روي له شعر قريب من هذا المعنى و هو
فإن كنت بالشورى ملكت أمورهم فكيف بهذا و المشيرون غيب و إن كنت بالقربى حججت خصيمهم فغيرك أولى بالنبي و أقرب حديثه ع في النثر و النظم المذكورين مع أبي بكر و عمر أما النثر فإلى عمر توجيهه لأن أبا بكر لما قال لعمر امدد يدك قال له عمر أنت صاحب رسول الله في المواطن كلها شدتها و رخائها فامدد أنت يدك
فقال علي ع إذا احتججت لاستحقاقه الأمر بصحبته إياه في المواطن كلها فهلا سلمت الأمر إلى من قد شركه في ذلك و زاد عليه بالقرابة
و أما النظم فموجه إلى أبي بكر لأن أبا بكر حاج الأنصار في السقيفة
فقال نحن عترة رسول الله ص و بيضته التي تفقأت عنه
فلما بويع احتج على الناس بالبيعة و أنها صدرت عن أهل الحل و العقد
فقال علي ع أما احتجاجك على الأنصار بأنك من بيضة رسول الله ص و من قومه فغيرك أقرب نسبا منك إليه و أما احتجاجك بالاختيار و رضا الجماعة بك فقد كان قوم من جملة الصحابة غائبين لم يحضروا العقد فكيف يثبت

(19/303)


و اعلم أن الكلام في هذا تتضمنه كتب أصحابنا في الإمامة و لهم عن هذا القول أجوبة ليس هذا موضع ذكرها

(19/304)


شرح نهج ج 19
شرح نهج البلاغة ج : 19 ص : 7الجزء التاسع عشرتتمة باب الحكم و المواعظ
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله الواحد العدل
186إِنَّمَا الْمَرْءُ فِي الدُّنْيَا غَرَضٌ تَنْتَضِلُ فِيهِ الْمَنَايَا وَ نَهْبٌ تُبَادِرُهُ الْمَصَائِبُ وَ مَعَ كُلِّ جُرْعَةٍ شَرَقٌ وَ فِي كُلِّ أَكْلَةٍ غَصَصٌ وَ لَا يَنَالُ الْعَبْدُ نِعْمَةً إِلَّا بِفِرَاقِ أُخْرَى وَ لَا يَسْتَقْبِلُ يَوْماً مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا بِفِرَاقِ آخَرَ مِنْ أَجَلِهِ فَنَحْنُ أَعْوَانُ الْمَنُونِ وَ أَنْفُسُنَا نَصْبُ الْحُتُوفِ فَمِنْ أَيْنَ نَرْجُو الْبَقَاءَ وَ هَذَا اللَّيْلُ وَ النَّهَارُ لَمْ يَرْفَعَا منْ شَيْ ءٍ شَرَفاً إِلَّا أَسْرَعَا الْكَرَّةَ فِي هَدْمِ مَابَنَيَا وَ تَفْرِيقِ مَا جَمَعَا

(20/1)


قد سبق ذرء من هذا الكلام في أثناء خطبته ع و قد ذكرنا نحن أشياء كثيرة في الدنيا و تقلبها بأهلها. و من كلام بعض الحكماء طوبى للهارب من زخارف الدنيا و الصاد عن زهرة دمنتها و الخائف عند أمانها و المتهم لضمانها و الباكي عند ضحكها إليه و المتواضع عند إعزازها له و الناظر بعين عقله إلى فضائحها و المتأمل لقبح مصارعها و التارك شرح نهج البلاغة ج : 19 ص : 8لكلابها على جيفها و المكذب لمواعيدها و المتيقظ لخدعها و المعرض عن لمعها و العامل في إمهالها و المتزود قبل إعجالها. قوله تنتضل النضل شي ء يرمى و يروى تبادره أي تتبه و الغرض الهدف. و النهب المال المنهوب غنيمة و جمعه نهاب. و قد سبق تفسير قوله لا ينال العبد نعمة إلا بفراق أخرى و قلنا إن الذي حصلت له لذة الجماع حال ما هي حاصلة له لا بد أن يكون مفارقا لذة الأكل و الشرب و كذلك من يأكل و يشرب يكون مفارقا حال أكله و شربه لذة الركض على الخيل في طلب الصيد و نحو ذلك. قوله فنحن أعوان المنون لأنا نأكل و نشرب و نجامع و نركب الخيل و الإبل و نتصرف في الحاجات و المآرب و الموت إنما يكون بأحد هذه الأسباب إما من أخلاط تحدثها المآكل و المشارب أو من سقطة يسقط الإنسان من دابة هو راكبها أو من ضعف يلحقه من الجماع المفرط أو لمصادمات و اصطكاكات تصيبه عند تصرفه في مآربه و حركته و سعيه و نحو ذلك فكأنا نحن أعنا الموت على أنفسنا. قوله نصب الحتوف يروى بالرفع و النصب فمن رفع فهو خبر المبتدإ و من نصبه جعله ظرفا
شرح نهج البلاغة ج : 19 ص : 1879لَا خَيْرَ فِي الصَّمْتِ عَنِ الْحُكْمِ كَمَا أَنَّهُ لَا خَيْرَ فِي الْقَوْلِ بِالْجَهْلِقد تكرر ذكر هذا القول و تكرر منا شرحه و شرح نظائره و كان يقال ما الإنسان لو لا اللسان إلا بهيمة مهملة أو صورة ممثلة. و كان يقال اللسان عضو إن مرنته مرن و إن تركته خزن

(20/2)


شرح نهج البلاغة ج : 19 ص : 18810يَا ابْنَ آدَمَ مَا كَسَبْتَ فَوْقَ قُوتِكَ فَأَنْتَ فِيهِ خَازِنٌ لِغَيْرِكَأخذ هذا المعنى بعضهم فقال
ما لي أراك الدهر تجمع دائبا أ لبعل عرسك لا أبا لك تجمع
و عاد الحسن البصري عبد الله بن الأهتم في مرضه الذي مات فيه فأقبل عبد الله يصرف بصره إلى صندوق في جانب البيت ثم قال للحسن يا أبا سعيد فيه مائة ألف لم يؤد منها زكاة و لم توصل بها رحم قال الحسن ثكلتك أمك فلم أعددتها قال لروعة الزمان و مكاثرة الإخوان و جفوة السلطان ثم مات فحضر الحسن جنازته فلما دفن صفق بإحدى راحتيه الأخرى و قال إن هذا تاه شيطانه فحذره روعة زمانه و جفوة سلطانه و مكاثرة إخوانه فيما استودعه الله إياه فادخره ثم خرج منه كئيبا حزينا لم يؤد زكاة و لم يصل رحما ثم التفت فقال أيها الوارث كل هنيئا فقد أتاك هذا المال حلالا فلا يكن عليك وبالا أتاك ممن كان له جموعا منوعا يركب فيه لجج البحار و مفاوز القفار من باطل جمعه و من حق منعه لم ينتفع به في حياته و ضره بعد وفاته جمعه فأوعاه و شده فأوكاه إلى يوم القيامة يوم ذي حسرات و إن أعظم الحسرات أن ترى مالك في ميزان غيرك بخلت بمال أوتيته من رزق الله أن تنفقه في طاعة الله فخزنته لغيرك فأنفقه في مرضاة ربه يا لها حسرة لا تقال و رحمة لا تنال إنا لله و إنا إليه راجعون

(20/3)


شرح نهج البلاغة ج : 19 ص : 18911إِنَّ لِلْقُلُوبِ شَهْوَةً وَ إِقْبَالًا وَ إِدْبَاراً فَأْتُوهَا مِنْ قِبَلِ شَهْوَتِهَا وَ إِقْبَالِهَا فَإِنَّ الْقَلْبَ إِذَا أُكْرِهَ عَمِيَقد تقدم القول في هذا المعنى. و العلة في كون القلب يعمى إذا أكره على ما لا يحبه أن القلب عضو من الأعضاء يتعب و يستريح كما تتعب الجثة عند استعمالها و أحمالها و تستريح عند ترك العمل كما يتعب اللسان عند الكلام الطويل و يستريح عند الإمساك و إذا تواصل إكراه القلب على أمر لا يحبه و لا يؤثره تعب لأن فعل غير المحبوب متعب أ لا ترى أن جماع غير المحبوب يحدث من الضعف أضعاف ما يحدثه جماع المحبوب و الركوب إلى مكان غير محبوب متعب و لا يشتهى يتعب البدن أضعاف ما يتعبه الركوب إلى تلك المسافة إذا كان المكان محبوبا و إذا أتعب القلب و أعيا عجز عن إدراك ما نكلفه إدراكه لأن فعله هو الإدراك و كل عضو يتعب فإنه يعجز عن فعله الخاص به فإذا عجز القلب عن فعله الخاص به و هو العلم و الإدراك فذاك هو عماه
شرح نهج البلاغة ج : 19 ص : 19012وَ كَانَ ع يَقُولُ مَتَى أَشْفِي غَيْظِي إِذَا غَضِبْتُ أَ حِينَ أَعْجِزُ عَنِ الِانْتِقَامِ فَيُقَالُ لِي لَوْ صَبَرْتَ أَمْ حِينَ أَقْدِرُ عَلَيْهِ فَيُقَالُ لِي لَوْ عَفَوْتَقد تقدم القول في الغضب مرارا. و هذا الفصل فصيح لطيف المعنى قال لا سبيل لي إلى شفاء غيظي عند غضبي لأني إما أن أكون قادرا على الانتقام فيصدني عن تعجيله قول القائل لو غفرت لكان أولى و إما ألا أكون قادرا على الانتقام فيصدني عنه كوني غير قادر عليه فإذن لا سبيل لي إلى الانتقام عند الغضب. و كان يقال العقل كالمرآة المجلوة يصدئه الغضب كما تصدأ المرآة بالخل فلا يثبت فيها صورة القبح و الحسن. و اجتمع سفيان الثوري و فضيل بن عياض فتذاكرا الزهد فأجمعا على أن أفضل الأعمال الحلم عند الغضب و الصبر عند الطمع

(20/4)


شرح نهج البلاغة ج : 19 ص : 19113وَ قَالَ ع وَ قَدْ مَرَّ بِقَذَرٍ عَلَى مَزْبَلَةٍ هَذَا مَا بَخِلَ بِهِ الْبَاخِلُونَ وَ فِي خَبَرٍ آخَرَ أَنَّهُ قَالَ هَذَا مَا كُنْتُمْ تَتَنَافَسُونَ فِيهِ بِالْأَمْسِقد سبق القول في مثل هذا و أن الحسن البصري مر على مزبلة فقال انظروا إلى بطهم و دجاجهم و حلوائهم و عسلهم و سمنهم و الحسن إنما أخذه من كلام أمير المؤمنين ع و قال ابن وكيع في قول المتنبي
لو أفكر العاشق في منتهى حسن الذي يسبيه لم يسبه
إنه أراد لو أفكر في حاله و هو في القبر و قد تغيرت محاسنه و سالت عيناه قال و هذا مثل قولهم لو أفكر الإنسان فيما يئول إليه الطعام لعافته نفسه. و قد ضرب العلماء مثلا للدنيا و مخالفة آخرها أولها و مضادة مباديها عواقبها فقالوا إن شهوات الدنيا في القلب لذيذة كشهوات الأطعمة في المعدة و سيجد الإنسان عند الموت لشهوات الدنيا في قلبه من الكراهة و النتن و القبح ما يجده للأطعمة اللذيذة إذا طبختها المعدة و بلغت غاية نضجها و كما أن الطعام كلما كان ألذ طعما و أظهر حلاوة كان رجيعه أقذر و أشد نتنا فكذلك كل شهوة في القلب أشهى و ألذ و أقوى شرح نهج البلاغة ج : 19 ص : 14فإن نتنها و كراهتها و التأذي بها عند الموت أشد بل هذه الحال في الدنيا مشاهدة فإن من نهبت داره و أخذ أهله و ولده و ماله تكون مصيبته و ألمه و تفجعه في الذي فقد بمقدار لذته به و حبه له و حرصه عليه فكل ما كان في الود أشهى و ألذ فهو عند الفقد أدهى و أمر و لا معنى للموت إلا فقد ما في الدنيا. و
قد روي أن النبي ص قال للضحاك بن سفيان الكلابي أ لست تؤتى بطعامك و قد قزح و ملح ثم تشرب عليه اللبن و الماء قال بلى قال فإلى ما ذا يصير قال إلى ما قد علمت يا رسول الله قال فإن الله عز و جل ضرب مثل الدنيا بما يصير إليه طعام ابن آدم

(20/5)


و روى أبي بن كعب أن رسول الله ص قال إن أنت ضربت مثلا لابن آدم فانظر ما يخرج من ابن آدم و إن كان قزحه و ملحه إلى ما ذا صار
و قال الحسن رحمه الله قد رأيتهم يطيبونه بالطيب و الأفاويه ثم يرمونه حيث رأيتم قال الله عز و جل فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ إِلى طَعامِهِ قال ابن عباس إلى رجيعه. و قال رجل لابن عمر إني أريد أن أسألك و أستحيي فقال لا تستحي و سل قال إذا قضى أحدنا حاجته فقام هل ينظر إلى ذلك منه فقال نعم إن الملك يقول له انظر هذا ما بخلت به انظر إلى ما ذا صار
شرح نهج البلاغة ج : 19 ص : 19215لَمْ يَذْهَبْ مِنْ مَالِكَ مَا وَعَظَكَمثل هذا قولهم إن المصائب أثمان التجارب. و قيل لعالم فقير بعد أن كان غنيا أين مالك قال تجرت فيه فابتعت به تجربة الناس و الوقت فاستفدت أشرف العوضين
شرح نهج البلاغة ج : 19 ص : 19316إِنَّ هَذِهِ الْقُلُوبَ تَمَلُّ كَمَا تَمَلُّ الْأَبْدَانُ فَابْتَغُوا لَهَا طَرَائِفَ الْحِكْمَةِهذا قد تكرر و تكرر منا ذكر ما قيل في إجمام النفس و التنفيس عنها من كرب الجد و الإحماض و فسرنا معنى قوله ع فابتغوا لها طرائف الحكمة و قلنا المراد ألا يجعل الإنسان وقته كله مصروفا إلى الأنظار العقلية في البراهين الكلامية و الحكمية بل ينقلها من ذلك أحيانا إلى النظر في الحكمة الخلقية فإنها حكمة لا تحتاج إلى إتعاب النفس و الخاطر. فأما القول في الدعابة فقد ذكرناه أيضا فيما تقدم و أوضحنا أن كثيرا من أعيان الحكماء و العلماء كانوا ذوي دعابة مقتصدة لا مسرفة فإن الإسراف فيها يخرج صاحبه إلى الخلاعة و لقد أحسن من قال

(20/6)


أفد طبعك المكدود بالجد راحة تجم و علله بشي ء من المزح و لكن إذا أعطيته ذاك فليكن بمقدار ما يعطى الطعام من المل شرح نهج البلاغة ج : 19 ص : 19417وَ قَالَ ع لَمَّا سَمِعَ قَوْلَ الْخَوَارِجِ لَا حُكْمَ إِلَّا لِلَّهِ كَلِمَةُ حَقٍّ يُرَادُ بِهَا بَاطِلٌمعنى قوله سبحانه إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أي إذا أراد شيئا من أفعال نفسه فلا بد من وقوعه بخلاف غيره من القادرين بالقدرة فإنه لا يجب حصول مرادهم إذا أرادوه أ لا ترى ما قبل هذه الكلمة يا بَنِيَّ لا تَدْخُلُوا مِنْ بابٍ واحِدٍ وَ ادْخُلُوا مِنْ أَبْوابٍ مُتَفَرِّقَةٍ وَ ما أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْ ءٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ خاف عليهم من الإصابة بالعين إذا دخلوا من باب واحد فأمرهم أن يدخلوا من أبواب متفرقة ثم قال لهم وَ ما أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْ ءٍ أي إذا أراد الله ب سوءا لم يدفع عنكم ذلك السوء ما أشرت به عليكم من التفرق ثم قال إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أي ليس حي من الأحياء ينفذ حكمه لا محالة و مراده لما هو من أفعاله إلا الحي القديم وحده فهذا هو معنى هذه الكلمة و ضلت الخوارج عندها فأنكروا على أمير المؤمنين ع موافقته على التحكيم و قالوا كيف يحكم و قد قال الله سبحانه إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ فغلطوا لموضع اللفظ المشترك و ليس هذا الحكم هو ذلك الحكم فإذن هي كلمة حق يراد بها باطل لأنها حق على المفهوم الأول و يريد بها الخوارج نفي كل ما يسمى حكما إذا صدر عن غير الله تعالى و ذلك باطل لأن الله تعالى قد أمضى حكم المخلوقين في كثير من الشرائع

(20/7)


شرح نهج البلاغة ج : 19 ص : 19518وَ قَالَ ع فِي صِفَةِ الْغَوْغَاءِ هُمُ الَّذِينَ إِذَا اجْتَمَعُوا غَلَبُوا وَ إِذَا تَفَرَّقُوا لَمْ يُعْرَفُوا وَ قِيلَ بَلْ قَالَ ع هُمُ الَّذِينَ إِذَا اجْتَمَعُوا ضَرُّوا وَ إِذَا تَفَرَّقُوا نَفَعُوا فَقِيلَ قَدْ عِمْنَا مَضَرَّةَ اجْتِمَاعِهِمْ فَمَا مَنْفَعَةُ افْتِرَاقِهِمْ فَقَالَ ع يَرْجِعُ أَهْلُ الْمِهَنِ إِلَى مِهَنِهِمْ فَيَنْتَفِعُ النَّاسُ بِهِمْ كَرُجُوعِ الْبَنَّاءِ إِلَى بِنَائِهِ وَ النَّسَّاجِ إِلَى مَنْسَجِهِ وَ الْخَبَّازِ إِلَى مَخْبَزِهِ
كان الحسن إذا ذكر الغوغاء و أهل السوق قال قتلة الأنبياء و كان يقال العامة كالبحر إذا هاج أهلك راكبه و قال بعضهم لا تسبوا الغوغاء فإنهم يطفئون الحريق و ينقذون الغريق و يسدون البثوق. و قال شيخنا أبو عثمان الغاغة و الباغة و الحاكة كأنهم أعذار عام واحد أ لا ترى أنك لا تجد أبدا في كل بلدة و في كل عصر هؤلاء بمقدار واحد و جهة واحدة من السخف و النقص و الخمول و الغباوة و كان المأمون يقول كل شر و ظلم في العالم شرح نهج البلاغة ج : 19 ص : 19فهو صادر عن العامة و الغوغاء لأنهم قتلة الأنبياء و المغرون بين العلماء و النمون بين الأوداء و منهم اللصوص و قطاع الطريق و الطرارون و المحتالون و الساعون إلى السلطان فإذا كان يوم القيامة حشروا على عادتهم في السعاية فقالوا رَبَّنا إِنَّا أَطَعْنا سادَتَنا وَ كُبَراءَنا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا رَبَّنا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذابِ وَ الْعَنْهُمْ لَعْناً كَبِيراً

(20/8)


شرح نهج البلاغة ج : 19 ص : 19620وَ قَالَ ع وَ قَدْ أُتِيَ بِجَانٍ وَ مَعَهُ غَوْغَاءُ فَقَالَ لَا مَرْحَباً بِوُجُوهٍ لَا تُرَى إِلَّا عِنْدَ كُلِّ سَوْأَةٍأخذ هذا اللفظ المستعين بالله و قد أدخل عليه ابن أبي الشوارب القاضي و معه الشهود ليشهدوا عليه أنه قد خلع نفسه من الخلافة و بايع للمعتز بالله فقال لا مرحبا بهذه الوجوه التي لا ترى إلا يوم سوء. و قال من مدح الغوغاء و العامة إن
في الحديث المرفوع أن الله ينصر هذا الدين بقوم لا خلاق لهم
و كان الأحنف يقول أكرموا سفهاءكم فإنهم يكفونكم النار و العار. و قال الشاعر
و إني لأستبقي امرأ السوء عدة لعدوة عريض من الناس جائب أخاف كلاب الأبعدين و هرشها إذا لم تجاوبها كلاب الأقارب شرح نهج البلاغة ج : 19 ص : 19721إِنَّ مَعَ كُلِّ إِنْسَانٍ مَلَكَيْنِ يَحْفَظَانِهِ فَإِذَا جَاءَ الْقَدَرُ خَلَّيَا بَيْنَهُ وَ بَيْنَهُ وَ إِنَّ الْأَجَلَ جُنَّةٌ حَصِينَةٌقد تقدم هذا و قلنا إنه ذهب كثير من الحكماء هذا المذهب و إن لله تعالى ملائكة موكلة تحفظ البشر من التردي في بئر و من إصابة سهم معترض في طريق و من رفس دابة و من نهش حية أو لسع عقرب و نحو ذلك و الشرائع أيضا قد وردت بمثله و إن الأجل جنة أي درع و لهذا في علم الكلام مخرج صحيح و ذلك لأن أصحابنا يقولون إن الله تعالى إذا علم أن في بقاء زيد إلى وقت كذا لطفا له أو لغيره من المكلفين صد من يهم بقتله عن قتله بألطاف يفعلها تصده عنه أو تصرفه عنه بصارف أو يمنعه عنه بمانع كي لا يقطع ذلك الإنسان بقتل زيد الألطاف التي يعلم الله أنها مقربة من الطاعة و مبعدة من المعصية لزيد أو لغيره فقد بان أن الأجل على هذا التقدير جنة حصينة لزيد من حيث كان الله تعالى باعتبار ذلك الأجل مانعا من قتله و إبطال حياته و لا جنة أحصن من ذلك

(20/9)


شرح نهج البلاغة ج : 19 ص : 19822وَ قَالَ ع وَ قَدْ قَالَ لَهُ طَلْحَةُ وَ الزُّبَيْرُ نُبَايِعُكَ عَلَى أَنَّا شُرَكَاؤُكَ فِي هَذَا الْأَمْرِ فَقَالَ لَا وَ لَكِنَّكُمَا شَرِيكَانِ فِي الْقُوَّةِ وَ الِاسْتِعَانَةِ وَ عَوْنَانِ عَلَى الْعَجْرِ وَ الْأَدِ قد ذكرنا هذا فيما تقدم حيث شرحنا بيعة المسلمين لعلي ع كيف وقعت بعد مقتل عثمان و لقد أحسن فيما قال لهما لما سألاه أن يشركاه في الأمر فقال أما المشاركة في الخلافة فكيف يكون ذلك و هل يصح أن يدبر أمر الرعية إمامان
و هل يجمع السيفان ويحك في غمد
و إنما تشركاني في القوة و الاستعانة أي إذا قوي أمري و أمر الإسلام بي قويتما أنتما أيضا و إذا عجزت عن أمر أو تأود علي أمر أي اعوج كنتما عونين لي و مساعدين على إصلاحه. فإن قلت فما معنى قوله و الاستعانة قلت الاستعانة هاهنا الفوز و الظفر كانوا يقولون للقامر يفوز قدحه قد جرى ابنا عنان و هما خطان يخطان في الأرض يزجر بهما الطير و استعان الإنسان إذا قال وقت الظفر و الغلبة هذه الكلمة
شرح نهج البلاغة ج : 19 ص : 19923أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِنْ قُلْتُمْ سَمِعَ وَ إِنْ أَضْمَرْتُمْ عَلِمَ وَ بَادِرُوا الْمَوْتَ الَّذِي إِنْ هَرَبْتُمْ مِنْهُ أَدْرَكَكُمْ وَ إِنْ أَقَمْتُمْ أَخَذَكُمْ وَ إِنْ نَسِيتُمُوهُ ذَكَرَكُمْقد تقدم منا كلام كثير في ذكر الموت و رأى الحسن البصري رجلا يجود بنفسه فقال إن أمرا هذا آخره لجدير أن يزهد في أوله و إن أمرا هذا أوله لجدير أن يخاف من آخره. و من كلامه فضح الموت الدنيا. و قال خالد بن صفوان لو قال قائل الحسن أفصح الناس لهذه الكلمة لما كان مخطئا و قال لرجل في جنازة أ ترى هذا الميت لو عاد إلى الدنيا لكان يعمل عملا صالحا قال نعم قال فإن لم يكن ذلك فكن أنت ذاك

(20/10)


شرح نهج البلاغة ج : 19 ص : 20024لَا يُزَهِّدَنَّكَ فِي الْمَعْرُوفِ مَنْ لَا يَشْكُرُهُ لَكَ فَقَدْ يَشْكُرُكَ عَلَيْهِ مَنْ لَا يَسْتَمْتِعُ بِشَيْ ءٍ مِنْهُ وَ قَدْ يُدْرَكُ مِنْ شُكْرِ الشَّاكِرِ أَكْثَرَ مِمَّا أَضَاعَ الْكَافِرُ وَ اللَّهُ يُحِبُّْمُحْسِنِينَ
قد أخذت أنا هذا المعنى فقلت من جملة قصيدة لي حكمية
لا تسدين إلى ذي اللؤم مكرمة فإنه سبخ لا ينبت الشجرافإن زرعت فمحفوظ بمضيعة و أكل زرعك شكر الغير إن كفرا
و قد سبق منا كلام طويل في الشكر. و رأى العباس بن المأمون يوما بحضرة المعتصم خاتما في يد إبراهيم بن المهدي فاستحسنه فقال له ما فص هذا الخاتم و من أين حصلته فقال إبراهيم هذا خاتم رهنته في دولة أبيك و افتككته في دولة أمير المؤمنين فقال العباس فإن لم تشكر أبي على حقنه دمك فأنت لا تشكر أمير المؤمنين على فكه خاتمك. و قال الشاعر

(20/11)


لعمرك ما المعروف في غير أهله و في أهله إلا كبعض الودائع فمستودع ضاع الذي كان عنده و مستودع ما عنده غير ضائع و ما الناس في شكر الصنيعة عندهم و في كفرها إلا كبعض المزارع فمزرعة طابت و أضعف نبتها و مزرعة أكدت على كل زا شرح نهج البلاغة ج : 19 ص : 20125كُلُّ وِعَاءٍ يَضِيقُ بِمَا جُعِلَ فِيهِ إِلَّا وِعَاءَ الْعِلْمِ فَإِنَّهُ يَتَّسِعُ بِهِهذا الكلام تحته سر عظيم و رمز إلى معنى شريف غامض و منه أخذ مثبتو النفس الناطقة الحجة على قولهم و محصول ذلك أن القوى الجسمانية يكلها و يتعبها تكرار أفاعيلها عليها كقوة البصر يتعبها تكرار إدراك المرئيات حتى ربما أذهبها و أبطلها أصلا و كذلك قوة السمع يتعبها تكرار الأصوات عليها و كذلك غيرها من القوى الجسمانية و لكنا وجدنا القوة العاقلة بالعكس من ذلك فإن الإنسان كلما تكررت عليه المعقولات ازدادت قوته العقلية سعة و انبساطا و استعدادا لإدراك أمور أخرى غير ما أدركته من قبل حتى كان تكرار المعقولات عليها يشحذها و يصقلها فهي إذن مخالفة في هذا الحكم للقوى الجسمانية فليست منها لأنها لو كانت منها لكان حكمها حكم واحد من أخواتها و إذا لم تكن جسمانية فهي مجردة و هي التي نسميها بالنفس الناطقة
شرح نهج البلاغة ج : 19 ص : 20226أَوَّلُ عِوَضِ الْحَلِيمِ مِنْ حِلْمِهِ أَنَّ النَّاسَ أَنْصَارُهُ عَلَى الْجَاهِلِقد تقدم من أقوالنا في الحلم ما في بعضه كفاية. و في الحكم القديمة لا تشن حسن الظفر بقبح الانتقام. و كان يقال اعف عمن أبطأ عن الذنب و أسرع إلى الندم. و كان يقال شاور الأناة و التثبت و ذاكر الحفيظة عند هيجانها ما في عواقب العقوبة من الندم و خاصمها بما يؤدى إليه الحلم من الاغتباط. و كان يقال ينبغي للحازم أن يقدم على عذابه و صفحه تعريف المذنب بما جناه و إلا نسب حلمه إلى الغفلة و كلال حد الفطنة و

(20/12)


قالت الأنصار للنبي ص يوم فتح مكة إنهم فعلوا بك ثم فعلوا يغرونه بقريش فقال إنما سميت محمدا لأحمد
شرح نهج البلاغة ج : 19 ص : 20327إِنْ لَمْ تَكُنْ حَلِيماً فَتَحَلَّمْ فَإِنَّهُ قَلَّ مَنْ تَشَبَّهَ بِقَوْمٍ إِلَّا أَوْشَكَ أَنْ يَكُونَ مِنْهُمْالتحلم تكلف الحلم و الذي قاله ع صحيح في مناهج الحكمة و ذلك لأن من تشبه بقوم و تكلف التخلق بأخلاقهم و التأدب بآدابهم و استمر على ذلك و مرن عليه الزمان الطويل اكتسب رياضة قوية و ملكة تامة و صار ذلك التكلف كالطبع له و انتقل عن الخلق الأول أ لا ترى أن الأعرابي الجلف الجافي إذا دخل المدن و القرى و خالط أهلها و طال مكثه فيهم انتقل عن خلق الأعراب الذي نشأ عليه و تلطف طبعه و صار شبيها بساكني المدن و كالأجنبي عن ساكني الوبر و هذا قد وجدناه في حيوانات أخرى غير البشر كالبازي و الصقر و الفهد التي تراض حتى تذل و تأنس و تترك طبعها القديم بل قد شاهدناه في الأسد و هو أبعد الحيوان من الإنس. و ذكر ابن الصابي أن عضد الدولة بن بويه كانت له أسود يصطاد بها كالفهود فتمسكه عليه حتى يدركه فيذكيه و هذا من العجائب الطريفة
شرح نهج البلاغة ج : 19 ص : 20428مَنْ حَاسَبَ نَفْسَهُ رَبِحَ وَ مَنْ غَفَلَ عَنْهَا خَسِرَ وَ مَنْ خَافَ أَمِنَ وَ مَنِ اعْتَبَرَ أَبْصَرَ وَ مَنْ أَبْصَرَ فَهِمَ وَ مَنْ فَهِمَ عَلِمَ قد جاء في الحديث المرفوع حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا

(20/13)


قوله و من خاف أمن أي من اتقى الله أمن من عذابه يوم القيامة. ثم قال و من اعتبر أبصر أي من قاس الأمور بعضها ببعض و اتعظ بآيات الله و أيامه أضاءت بصيرته و من أضاءت بصيرته فهم و من فهم علم. فإن قلت الفهم هو العلم فأي حاجة له إلى أن يقول و من فهم علم قلت الفهم هاهنا هو معرفة المقدمات و لا بد أن يستعقب معرفة المقدمات معرفة النتيجة فمعرفة النتيجة هو العلم فكأنه قال من اعتبر تنور قلبه بنور الله تعالى و من تنور قلبه عقل المقدمات البرهانية و من عقل المقدمات البرهانية علم النتيجة الواجبة عنها و تلك هي الثمرة الشريفة التي في مثلها يتنافس المتنافسون
شرح نهج البلاغة ج : 19 ص : 20529وَ قَالَ ع لَتَعْطِفَنَّ الدُّنْيَا عَلَيْنَا بَعْدَ شِمَاسِهَا عَطْفَ الضَّرُوسِ عَلَى وَلَدِهَا وَ تَلَا عَقِيبَ ذَلِكَ وَ نُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَ نَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَ نَعَلَهُمُ الْوارِثِينَ
الشماس مصدر شمس الفرس إذا منع من ظهره. و الضروس الناقة السيئة الخلق تعض حالبها و الإمامية تزعم أن ذلك وعد منه بالإمام الغائب الذي يملك الأرض في آخر الزمان و أصحابنا يقولون إنه وعد بإمام يملك الأرض و يستولي على الممالك و لا يلزم من ذلك أنه لا بد أن يكون موجودا و إن كان غائبا إلى أن يظهر بل يكفي في صحة هذا الكلام أن يخلق في آخر الوقت. و بعض أصحابنا يقول إنه إشارة إلى ملك السفاح و المنصور و ابني المنصور بعده فإنهم الذين أزالوا ملك بني أمية و هم بنو هاشم و بطريقهم عطفت الدنيا على بني عبد المطلب عطف الضروس. و تقول الزيدية إنه لا بد من أن يملك الأرض فاطمي يتلوه جماعة من الفاطميين على مذهب زيد و إن لم يكن أحد منهم الآن موجودا

(20/14)


شرح نهج البلاغة ج : 19 ص : 20630اتَّقُوا اللَّهَ تُقَاةَ مَنْ شَمَّرَ تَجْرِيداً وَ جَدَّ تَشْمِيراً وَ أَكْمَشَ فِي مَهَلٍ وَ بَادَرَ عَنْ وَجَلٍ وَ نَظَرَ فِي كَرَّةِ الْمَوْئِلِ وَ عَاقِبَةِ الْمَصْدَرِ وَ مَغَبَّةِ الْمَرْجِعِلو قال و جرد تشميرا لكان قد أتى بنوع مشهور من أنواع البديع لكنه لم يحفل بذلك و جرى على مقتضي طبعه من البلاغة الخالية من التكلف و التصنع على أن ذلك قد روي و المشهور الرواية الأولى. و أكمش جد و أسرع و رجل كميش أي جاد و في مهل أي في مهلة العمل قبل أن يضيق عليه وقته بدنو الأجل
شرح نهج البلاغة ج : 19 ص : 20731الْجُودُ حَارِسُ الْأَعْرَاضِ وَ الْحِلْمُ فِدَامُ السَّفِيهِ وَ الْعَفْوُ زَكَاةُ الظَّفَرِ وَ السُّلُوُّ عِوَضُكَ مِمَّنْ غَدَرَ وَ الِاسْتِشَارَةُ عَيْنُ الْهِدَايَةِ وَ قَدْ خَاطَرَ مَنِ اسْتَغْنَى بِرَأْيِهِ وَ الصَّرُ يُنَاضِلُ الْحِدْثَانَ وَ الْجَزَعُ مِنْ أَعْوَانِ الزَّمَانِ وَ أَشْرَفُ الْغِنَى تَرْكُ الْمُنَى وَ كَمْ مِنْ عَقْلٍ أَسِيرٍ عِنْدَ هَوَى أَمِيرٍ وَ مِنَ التَّوْفِيقِ حِفْظُ التَّجْرِبَةِ وَ الْمَوَدَّةُ قَرَابَةٌ مُسْتَفَادَةٌ وَ لَا تَأْمَنَنَّ مَلُولًا

(20/15)


مثل قوله الجود حارس الأعراض قولهم كل عيب فالكرم يغطيه و الفدام خرقة تجعل على فم الإبريق فشبه الحلم بها فإنه يرد السفيه عن السفه كما يرد الفدام الخمر عن خروج القذى منها إلى الكأس. فأما و العفو زكاة الظفر فقد تقدم أن لكل شي ء زكاة و زكاة الجاه رفد المستعين زكاة الظفر العفو. و أما السلو عوضك ممن غدر فمعناه أن من غدر بك من أحبائك و أصدقائك فاسل عنه و تناسه و اذكر ما عاملك به من الغدر فإنك تسلو عنه و يكون ما استفدته من السلو عوضا عن وصاله الأول قال الشاعر شرح نهج البلاغة ج : 19 ص : 3أعتقني سوء ما صنعت من الرق فيا بردها على كبدي فصرت عبدا للسوء فيك و ما أحسن سوء قبلي إلى أحدو قد سبق القول في الاستشارة و إن المستغني برأيه مخاطر و كذلك القول في الصبر و المناضلة المراماة. و كذلك القول في الجزع و أن الإنسان إذا جزع عند المصيبة فقد أعان الزمان على نفسه و أضاف إلى نفسه مصيبة أخرى. و سبق أيضا القول في المنى و أنها من بضائع النوكى. و كذلك القول في الهوى و أنه يغلب الرأي و يأسره. و كذلك القول في التجربة و قولهم من حارب المجرب حلت به الندامة و إن من أضاع التجربة فقد أضاع عقله و رأيه. و قد سبق القول في المودة و ذكرنا قولهم الصديق نسيب الروح و الأخ نسيب الجسم و سبق القول في الملال. و قال العباس بن الأحنف

(20/16)


لو كنت عاتبة لسكن عبرتي أملي رضاك وزرت غير مراقب لكن مللت فلم يكن لي حيلة صد الملول خلاف صد العاتب شرح نهج البلاغة ج : 19 ص : 20833عُجْبُ الْمَرْءِ بِنَفْسِهِ أَحَدُ حُسَّادِ عَقْلِهِقد تقدم القول في العجب و معنى هذه الكلمة أن الحاسد لا يزال مجتهدا في إظهار معايب المحسود و إخفاء محاسنه فلما كان عجب الإنسان بنفسه كاشفا عن نقص عقله كان كالحاسد الذي دأبه إظهار عيب المحسود و نقصه. و كان يقال من رضي عن نفسه كثر الساخط عليه. و قال مطرف بن الشخير لأن أبيت نائما و أصبح نادما أحب إلي من أن أبيت قائما و أصبح نادما
شرح نهج البلاغة ج : 19 ص : 20934أَغْضِ عَلَى الْقَذَى وَ الْأَلَمِ تَرْضَ أَبَداًنظير هذا قول الشاعر
و من لم يغمض عينه عن صديقه و عن بعض ما فيه يمت و هو عاتب و من يتتبع جاهدا كل عثرة يجدها و لا يسلم له الدهر صاحبو قال الشاعر
إذا أنت لم تشرب مرارا على القذى ظمئت و أي الناس تصفو مشاربه
و كان يقال أغض عن الدهر و إلا صرعك و كان يقال لا تحارب الأيام و إن جنحت دون مطلوبك منها و اصحبها بسلاسة القياد فإنك إن تصحبها بذلك تعطك بعد المنع و تلن لك بعد القساوة و إن أبيت عليها قادتك إلى مكروه صروفها

(20/17)


شرح نهج البلاغة ج : 19 ص : 21035مَنْ لَانَ عُودُهُ كَثُفَتْ أَغْصَانُهُتكاد هذه الكلمة أن تكون إيماء إلى قوله تعالى وَ الْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَباتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ و معنى هذه الكلمة أن من حسن خلقه و لانت كلمته كثر محبوه و أعوانه و أتباعه. و نحوه قوله من لانت كلمته وجبت محبته. و قال تعالى وَ لَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ و أصل هذه الكلمة مطابق للقواعد الحكمية أعني الشجرة ذات الأغصان حقيقة و ذلك لأن النبات كالحيوان في القوى النفسانية أعني الغاذية و المنمية و ما يخدم الغاذية من القوى الأربع و هي الجاذبة و الماسكة و الدافعة و الهاضمة فإذا كان اليبس غالبا على شجرة كانت أغصانها أخف و كان عودها أدق و إذا كانت الرطوبة غالبة كانت أغصانها أكثر و عودها أغلظ و ذلك لاقتضاء اليبس الذبول و اقتضاء الرطوبة الغلظ و العبالة و الضخامة أ لا ترى أن الإنسان الذي غلب اليبس على مزاجه لا يزال مهلوسا نحيفا و الذي غلبت الرطوبة عليه لا يزال ضخما عبلا
شرح نهج البلاغة ج : 19 ص : 21136الْخِلَافُ يَهْدِمُ الرَّأْيَ هذا مثل قوله ع في موضع آخر لا رأي لمن لا يطاع
و يروى لا إمرة لمن لا يطاع
و في أخبار قصير و جذيمة لو كان يطاع لقصير أمر. و كان يقال اللجاج يشحذ الزجاج و يثير العجاج. و قال دريد بن الصمة
أمرتهم أمري بمنعرج اللوى فلم يستبينوا النصح إلا ضحى الغدفلما عصوني كنت منهم و قد أرى غوايتهم و أنني غير مهتدي
و كان يقال أهدى رأي الرجل ما نفذ حكمه فإذا خولف فسد. و من كلام أفلاطون اللجاج عسر انطباع المعقولات في النفس و ذلك إما لفرط حدة تكون في الإنسان و إما لغلظ طبع فلا ينقاد للرأي

(20/18)


شرح نهج البلاغة ج : 19 ص : 21237مَنْ نَالَ اسْتَطَالَ يجوز أن يريد به من أثرى و نال من الدنيا حظا استطال على الناس. و يجوز أن يريد به من جاد استطال بجوده. يقال نالني فلان بكذا أي جاد به علي و رجل نال أي جواد ذو نائل و مثله رجل طان أي ذو طين و رجل مال أيو مال
شرح نهج البلاغة ج : 19 ص : 21338فِي تَقَلُّبِ الْأَحْوَالِ عِلْمُ جَوَاهِرِ الرِّجَالِمعناه لا تعلم أخلاق الإنسان إلا بالتجربة و اختلاف الأحوال عليه و قديما قيل ترى الفتيان كالنخل و ما يدريك ما الدخل. و قال الشاعر
لا تحمدن امرأ حتى تجربه و لا تذمنه إلا بتجريب
و قالوا التجربة محك و قالوا مثل الإنسان مثل البطيخة ظاهرها مونق و قد يكون في باطنها العيب و الدود و قد يكون طعمها حامضا و تفها. و قالوا للرجل المجرب يمدحونه قد آل وائل عليه. و قال الشاعر يمدح
ما زال يحلب هذا الدهر أشطره يكون متبعا طورا و متبعاحتى استمرت على شزر مريرته مستحكم الرأي لا قحما و لا ضرعا
شرح نهج البلاغة ج : 19 ص : 21439حَسَدُ الصَّدِيقِ مِنْ سُقْمِ الْمَوَدَّةِإذا حسدك صديقك على نعمة أعطيتها لم تكن صداقته صحيحة فإن الصديق حقا من يجري مجرى نفسك و الإنسان لم يحسد نفسه. و قيل لحكيم ما الصديق فقال إنسان هو أنت إلا أنه غيرك. و أخذ هذا المعنى أبو الطيب فقال
ما الخل إلا من أود بقلبه و أرى بطرف لا يرى بسوائه
و من أدعية الحكماء اللهم اكفني بوائق الثقات و احفظني من كيد الأصدقاء و قال الشاعر
احذر عدوك مرة و احذر صديقك ألف مره فلربما انقلب الصديق فكان أعرف بالمضرهو قال آخر
احذر مودة ماذق شاب المرارة بالحلاوة
شرح نهج البلاغة ج : 19 ص : 40يحصي الذنوب عليك أيام الصداقة للعداوو ذكر خالد بن صفوان شبيب بن شيبة فقال ذاك رجل ليس له صديق في السر و لا عدو في العلانية. و قال الشاعر

(20/19)


إذا كان دواما أخوك مصارما موجهة في كل أوب ركائبه فخل له ظهر الطريق و لا تكن مطية رحال كثير مذاهبه
شرح نهج البلاغة ج : 19 ص : 21541أَكْثَرُ مَصَارِعِ الْعُقُولِ تَحْتَ بُرُوقِ الْمَطَامِعِقد تقدم منا قول في هذا المعنى و منه قول الشاعر
طمعت بليلى أن تريع و إنما تقطع أعناق الرجال المطامع
و قال آخر
إذا حدثتك النفس أنك قادر على ما حوت أيدي الرجال فكذب و إياك و الأطماع إن وعودها رقارق آل أو بوارق خلب شرح نهج البلاغة ج : 19 ص : 21642لَيْسَ مِنَ الْعَدْلِ الْقَضَاءُ عَلَى الثِّقَةِ بِالظَّنِّهذا مثل قول أصحاب أصول الفقه لا يجوز نسخ القرآن و السنة المتواترة بخبر الواحد لأن المظنون لا يرفع المعلوم. و لفظ الثقة هاهنا مرادف للفظ العلم فكأنه قال لا يجوز أن يزال ما علم بطريق قطعية لأمر ظني. فإن قلت أ ليس البراءة الأصلية معلومة بالعقل و مع ذلك ترفع بالأمارات الظنية كأخبار الآحاد. قلت ليست البراءة الأصلية معلومة بالعقل مطلقا بل مشروطة بعدم ما يرفعها من طريق علمي أو ظني أ لا ترى أن أكل الفاكهة و شرب الماء معلوم بالعقل حسنه و لكن لا مطلقا بل بشرط انتفاء ما يقتضي قبحه فإنا لو أخبرنا إنسان أن هذه الفاكهة أو هذا الماء مسموم لقبح منا الإقدام على تناولهما و إن كان قول ذلك المخبر الواحد لا يفيد العلم القطعي
شرح نهج البلاغة ج : 19 ص : 21743بِئْسَ الزَّادُ إِلَى الْمَعَادِ الْعُدْوَانُ عَلَى الْعِبَادِقد تقدم من قولنا في الظلم و العدوان ما فيه كفاية. و كان يقال عجبا لمن عومل فأنصف إذا عامل كيف يظلم و أعجب منه من عومل فظلم إذا عامل كيف يظلم. و كان يقال العدو عدوان عدو ظلمته و عدو ظلمك فإن اضطرك الدهر إلى أحدهما فاستعن بالذي ظلمك فإن الآخر موتور
شرح نهج البلاغة ج : 19 ص : 21844مِنْ أَشْرَفِ أَفْعَالِ الْكَرِيمِ غَفْلَتُهُ عَمَّا يَعْلَمُكان يقال التغافل من السؤدد و قال أبو تمام

(20/20)


ليس الغبي بسيد في قومه لكن سيد قومه المتغابي
و قال طاهر بن الحسين بن مصعب
و يكفيك من قوم شواهد أمرهم فخذ صفوهم قبل امتحان الضمائرفإن امتحان القوم يوحش منهم و ما لك إلا ما ترى في الظواهرو إنك إن كشفت لم تر مخلصا و أبدى لك التجريب خبث السرائر
و كان يقال بعض التغافل فضيلة و تمام الجود الإمساك عن ذكر المواهب و من الكرم أن تصفح عن التوبيخ و أن تلتمس ستر هتك الكريم
شرح نهج البلاغة ج : 19 ص : 21945مَنْ كَسَاهُ الْحَيَاءُ ثَوْبَهُ لَمْ يَرَ النَّاسُ عَيْبَهُقد سبق منا قول كثير في الحياء
فصل في الحياء و ما قيل فيه
و كان يقال الحياء تمام الكرم و الحلم تمام العقل. و قال بعض الحكماء الحياء انقباض النفس عن القبائح و هو من خصائص الإنسان لأنه لا يوجد في الفرس و لا في الغنم و البقر و نحو ذلك من أنواع الحيوانات فهو كالضحك الذي يختص به نوع الإنسان و أول ما يظهر من قوة الفهم في الصبيان الحياء و قد جعله الله تعالى في الإنسان ليرتدع به عما تنزع إليه نفسه من القبيح فلا يكون كالبهيمة و هو خلق مركب من جبن و عفة و لذلك لا يكون المستحي فاسقا و لا الفاسق مستحيا لتنافي اجتماع العفة و الفسق و قلما يكون الشجاع مستحيا و المستحي شجاعا لتنافي اجتماع الجبن و الشجاعة و لعزة وجود ذلك ما يجمع الشعراء بين المدح بالشجاعة و المدح بالحياء نحو قول القائل
يجري الحياء الغض من قسماتهم في حين يجري من أكفهم الدم
شرح نهج البلاغة ج : 19 ص : 46و قال آخركريم يغض الطرف فضل حيائه و يدنو و أطراف الرماح دوان

(20/21)


و متى قصد به الانقباض فهو مدح للصبيان دون المشايخ و متى قصد به ترك القبيح فهو مدح لكل أحد و بالاعتبار الأول قيل الحياء بالأفاضل قبيح و بالاعتبار الثاني ورد إن الله ليستحيي من ذي شيبة في الإسلام أن يعذبه أي يترك تعذيبه و يستقبح لكرمه ذلك. فأما الخجل فحيرة تلحق النفس لفرط الحياء و يحمد في النساء و الصبيان و يذم بالاتفاق في الرجال. فأما القحة فمذمومة بكل لسان إذ هي انسلاخ من الإنسانية و حقيقتها لجاج النفس في تعاطي القبيح و اشتقاقها من حافر و قاح أي صلب و لهذه المناسبة قال الشاعر
يا ليت لي من جلد وجهك رقعة فأعد منها حافرا للأشهب
و ما أصدق قول الشاعر
صلابة الوجه لم تغلب على أحد إلا تكامل فيه الشر و اجتمعا
فأما كيف يكتسب الحياء فمن حق الإنسان إذا هم بقبيح أن يتصور أجل من نفسه أنه يراه فإن الإنسان يستحيي ممن يكبر في نفسه أن يطلع على عيبه و لذلك لا يستحيي من الحيوان غير الناطق و لا من الأطفال الذين لا يميزون و يستحيي من العالم أكثر مما يستحيي من الجاهل و من الجماعة أكثر مما يستحيي من الواحد و الذين يستحيي الإنسان منهم ثلاثة البشر و نفسه و الله تعالى أما البشر فهم أكثر شرح نهج البلاغة ج : 19 ص : 47من يستحيي منه الإنسان في غالب الناس ثم نفسه ثم خالقه و ذلك لقلة توفيقه و سوء اختياره. و اعلم أن من استحيا من الناس لم يستحي من نفسه فنفسه عنده أخس من غيره و من استحيا منهما و لم يستحي من الله تعالى فليس عارفا لأنه لو كان عارفا بالله لما استحيا من المخلوق دون الخالق أ لا ترى أن الإنسان لا بد أن يستحيي من الذي يعظمه و يعلم أنه يراه أو يستمع بخبره فيبكته و من لا يعرف الله تعالى كيف يستعظمه و كيف يعلم أنه يطلع عليه و
في قول رسول الله ص استحيوا من الله حق الحياء

(20/22)


أمر في ضمن كلامه هذا بمعرفته سبحانه و حث عليها و قال سبحانه أَ لَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرى تنبيها على أن العبد إذا علم أن ربه يراه استحيا من ارتكاب الذنب. و سئل الجنيد رحمه الله عما يتولد منه الحياء من الله تعالى فقال أن يرى العبد آلاء الله سبحانه و نعمه عليه و يرى تقصيره في شكره. فإن قال قائل فما معنى
قول النبي ص من لا حياء له فلا إيمان له
قيل له لأن الحياء أول ما يظهر من أمارة العقل في الإنسان و أما الإيمان فهو آخر المراتب و محال حصول المرتبة الآخرة لمن لم تحصل له المرتبة الأولى فالواجب إذن أن من لا حياء له فلا إيمان له. و
قال ع الحياء شعبة من الإيمان
و قال الإيمان عريان و لباسه التقوى و زينته الحياء
شرح نهج البلاغة ج : 19 ص : 22048بِكَثْرَةِ الصَّمْتِ تَكُونُ الْهَيْبَةُ وَ بِالنَّصَفَةِ يَكْثُرُ الْمُوَاصِلُونَ وَ بِالْإِفْضَالِ تَعْظُمُ الْأَقْدَارُ وَ بِالتَّوَاضُعِ تَتِمُّ النِّعْمَةُ وَ بِاحْتِمَالِ الْمُؤَنِ يَجِبُ السُّؤْدُدُ وَ بِالسِّيرَةِلْعَادِلَةِ يُقْهَرُ الْمُنَاوِئُ وَ بِالْحِلْمِ عَنِ السَّفِيهِ تَكْثُرُ الْأَنْصَارُ عَلَيْهِ
قال يحيى بن خالد ما رأيت أحدا قط صامتا إلا هبته حتى يتكلم فإما أن تزداد تلك الهيبة أو تنقص و لا ريب أن الإنصاف سبب انعطاف القلوب إلى المنصف و أن الإفضال و الجود يقتضي عظم القدر لأنه إنعام و المنعم مشكور و التواضع طريق إلى تمام النعمة و لا سؤدد إلا باحتمال المؤن كما قال أبو تمام
و الحمد شهد لا ترى مشتاره يجنيه إلا من نقيع الحنظل غل لحامله و يحسبه الذي لم يوه عاتقه خفيف المحملو السيرة العادلة سبب لقهر الملك الذي يسير بها أعداءه و من حلم عن سفيه و هو قادر على الانتقام منه نصره الناس كلهم عليه و اتفقوا كلهم على ذم ذلك السفيه و تقبيح فعله و الاستقراء و اختبار العادات تشهد بجميع ذلك

(20/23)


شرح نهج البلاغة ج : 19 ص : 22149الْعَجَبُ لِغَفْلَةِ الْحُسَّادِ عَنْ سَلَامَةِ الْأَجْسَادِإنما لم يحسد الحاسد على صحة الجسد لأنه صحيح الجسد فقد شارك في الصحة و ما يشارك الإنسان غيره فيه لا يحسده عليه و لهذا أرباب الحسد إذا مرضوا حسدوا الأصحاء على الصحة. فإن قلت فلما ذا تعجب أمير المؤمنين ع قلت لكلامه ع وجه و هو أن الحسد لما تمكن في أربابه و صار غريزة فيهم تعجب كيف لا يتعدى هذا الخلق الذميم إلى أن يحسد الإنسان غيره على ما يشاركه فيه فإن زيدا إذا أبغض عمرا بغضا شديدا ود أن تزول عنه نعمته إليه و إن كان ذا نعمة كنعمته بل ربما كان أقوى و أحسن حالا. و يجوز أن يريد معنى آخر و هو تعجبه من غفلة الحساد على أن الحسد مؤثر في سلامة أجسادهم و مقتض سقمهم و هذا أيضا واضح
شرح نهج البلاغة ج : 19 ص : 22250الطَّامِعُ فِي وِثَاقِ الذُّلِّ من أمثال البحتري قولهو اليأس إحدى الراحتين و لن ترى تعبا كظن الخائب المكدود
و كان يقال ما طمعت إلا و ذلت يعنون النفس. و في البيت المشهور
تقطع أعناق الرجال المطامع
و قالوا عز من قنع و ذل من طمع. و قد تقدم القول في الطمع مرارا
شرح نهج البلاغة ج : 19 ص : 22351وَ قَالَ ع وَ قَدْ سُئِلَ عَنِ الْإِيمَانِ الْإِيمَانُ مَعْرِفَةٌ بِالْقَلْبِ وَ إِقْرَارٌ بِاللِّسَانِ وَ عَمَلٌ بِالْأَرْكَانِقد تقدم قولنا في هذه المسألة و هذا هو مذهب أصحابنا المعتزلة بعينه لأن العمل بالأركان عندنا داخل في مسمى الإيمان أعني فعل الواجبات فمن لم يعمل لم يسم مؤمنا و إن عرف بقلبه و أقر بلسانه و هذا خلاف قول المرجئة من الأشعرية و الإمامية و الحشوية. فإن قلت فما قولك في النوافل هل هي داخلة في مسمى الإيمان أم لا قلت في هذا خلاف بين أصحابنا و هو مستقصى في كتبي الكلامية

(20/24)


شرح نهج البلاغة ج : 19 ص : 22452مَنْ أَصْبَحَ عَلَى الدُّنْيَا حَزِيناً فَقَدْ أَصْبَحَ لِقَضَاءِ اللَّهِ سَاخِطاً وَ مَنْ أَصْبَحَ يَشْكُو مُصِيبَةً نَزَلَتْ بِهِ فَإِنَّمَا يَشْكُو رَبَّهُ وَ مَنْ أَتَى غَنِيّاً فَتَوَاضَعَ لَهُ لِغِنَاهُ ذَهَبَ ثُلُث دِينِهِ وَ مَنْ قَرَأَ الْقُرْآنَ فَمَاتَ فَدَخَلَ النَّارَ فَهُوَ كَانَ مِمَّنْ يَتَّخِذُ آيَاتِ اللَّهِ هُزُواً وَ مَنْ لَهِجَ قَلْبُهُ بِحُبِّ الدُّنْيَا الْتَاطَ مِنْهَا بِثَلَاثٍ هَمٍّ لَا يُغِبُّهُ وَ حِرْصٍ لَا يَتْرُكُهُ وَ أَمَلٍ لَا يُدْرِكُهُ

(20/25)


إذا كان الرزق بقضاء الله و قدره فمن حزن لفوات شي ء منه فقد سخط قضاء الله و ذلك معصية لأن الرضا بقضاء الله واجب و كذلك من شكا مصيبة حلت به فإنما يشكو فاعلها لا هي لأنها لم تنزل به من تلقاء نفسها و فاعلها هو الله و من اشتكى الله فقد عصاه و التواضع للأغنياء عظيما لغناهم أو رجاء شي ء مما في أيديهم فسق. و كان يقال لا يحمد التيه إلا من فقير على غني فأما قوله ع و من قرأ القرآن فمات فدخل النار فهو ممن كان يتخذ آيات الله هزوا. فلقائل أن يقول قد يكون مؤمنا بالقرآن ليس بمتخذ له هزوا و يقرؤه ثم شرح نهج البلاغة ج : ص : 53يدخل النار لأنه أتى بكبيرة أخرى نحو القتل و الزنا و الفرار من الزحف و أمثال ذلك. و الجواب أن معنى كلامه ع هو أن من قرأ القرآن فمات فدخل النار لأجل قراءته القرآن فهو ممن كان يتخذ آيات الله هزوا أي يقرؤه هازئا به ساخرا منه مستهينا بمواعظه و زواجره غير معتقد أنه من عند الله. فإن قلت إنما دخل من ذكرت النار لا لأجل قراءته القرآن بل لهزئه به و جحوده إياه و أنت قلت معنى كلامه أنه من دخل النار لأجل قراءته القرآن فهو ممن كان يستهزئ بالقرآن. قلت بل إنما دخل النار لأنه قرأه على صفة الاستهزاء و السخرية أ لا ترى أن الساجد للصنم يعاقب لسجوده له على جهة العبادة و التعظيم و إن كان لو لا ما يحدثه مضافا للسجود من أفعال القلوب لما عوقب. و يمكن أن يحمل كلامه ع على تفسير آخر فيقال إنه عنى بقوله إنه كما كان ممن يتخذ آيات الله هزوا أنه يعتقد أنها من عند الله و لكنه لا يعمل بموجبها كما يفعله الآن كثير من الناس. قوله ع التاط بقلبه أي لصق و لا يغبه أي لا يأخذه غبا بل يلازمه دائما و صدق ع فإن حب الدنيا رأس كل خطيئة و حب الدنيا هو الموجب للهم و الغم و الحرص و الأمل و الخوف على ما اكتسبه أن ينفد و للشح بما حوت يده و غير ذلك من الأخلاق الذميمة

(20/26)


شرح نهج البلاغة ج : 19 ص : 22554كَفَى بِالْقَنَاعَةِ مُلْكاً وَ بِحُسْنِ الْخُلُقِ نَعِيماًقد تقدم القول في هذين و هما القناعة و حسن الخلق. و كان يقال يستحق الإنسانية من حسن خلقه و يكاد السيئ الخلق يعد من السباع. و قال بعض الحكماء حد القناعة هو الرضا بما دون الكفاية و الزهد الاقتصار على الزهيد أي القليل و هما متقاربان و في الأغلب إنما الزهد هو رفض الأمور الدنيوية مع القدرة عليها و أما القناعة فهي إلزام النفس الصبر عن المشتهيات التي لا يقدر عليها و كل زهد حصل عن قناعة فهو تزهد و ليس بزهد و كذلك قال بعض الصوفية القناعة أول الزهد تنبيها على أن الإنسان يحتاج أولا إلى قدع نفسه و تخصصه بالقناعة ليسهل عليه تعاطي الزهد و القناعة التي هي الغنى بالحقيقة لأن الناس كلهم فقراء من وجهين أحدهما لافتقارهم إلى الله تعالى كما قال يا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَراءُ إِلَى اللَّهِ وَ اللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ. و الثاني لكثرة حاجاتهم فأغناهم لا محالة أقلهم حاجة و من سد مفاقره بالمقتنيات فما في انسدادها مطمع و هو كمن يرقع الخرق بالخرق و من يسدها بالاستغناء عنها بقدر وسعه و الاقتصار على تناول ضرورياته فهو الغني المقرب من الله سبحانه كما أشار إليه في قصة طالوت إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَ مَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ قال أصحاب المعاني و الباطن هذا إشارة إلى الدنيا

(20/27)


شرح نهج البلاغة ج : 19 ص : 22655وَ سُئِلَ ع عَنْ قَوْلِ اللَّهِ عَزَّ وَ جَلَّ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَياةً طَيِّبَةً فَقَالَ هِيَ الْقَنَاعَةُلا ريب أن الحياة الطيبة هي حياة الغنى و قد بينا أن الغني هو القنوع لأنه إذا كان الغنى عدم الحاجة فأغنى الناس أقلهم حاجة إلى الناس و لذلك كان الله تعالى أغنى الأغنياء لأنه لا حاجة به إلى شي ء و على هذا دل النبي بقوله ص ليس الغنى بكثرة العرض إنما الغنى غنى النفس
و قال الشاعر
فمن أشرب اليأس كان الغني و من أشرب الحرص كان الفقيرا
و قال الشاعر
غنى النفس ما يكفيك من سد خلة فإن زاد شيئا عاد ذاك الغنى فقرا
و قال بعض الحكماء المخير بين أن يستغني عن الدنيا و بين أن يستغني بالدنيا كالمخير بين أن يكون مالكا أو مملوكا. و لهذا
قال ع تعس عبد الدينار و الدرهم تعس فلا انتعش و شيك فلا انتقش
شرح نهج البلاغة ج : 19 ص : 56و قيل لحكيم لم لا تغتم قال لأني لم أتخذ ما يغمني فقده. و قال الشاعرفمن سره ألا يرى ما يسوءه فلا يتخذ شيئا يخاف له فقدا

(20/28)


و قال أصحاب هذا الشأن القناعة من وجه صبر و من وجه جود لأن الجود ضربان جود بما في يدك منتزعا و جود عما في يد غيرك متورعا و ذلك أشرفهما و لا يحصل الزهد في الحقيقة إلا لمن يعرف الدنيا ما هي و يعرف عيوبها و آفاتها و يعرف الآخرة و افتقاره إليها و لا بد في ذلك من العلم أ لا ترى إلى قوله تعالى قالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا يا لَيْتَ لَنا مِثْلَ ما أُوتِيَ قارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ وَ قالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَ عَمِلَ صالِحاً وَ لا يُلَقَّاها إِلَّا الصَّابِرُونَ. و لأن الزاهد في الدنيا راغب في الآخرة و هو يبيعها بها كما قال الله تعالى إِنَّ اللَّهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ الآية. و الكيس لا يبيع عينا بأثر إلا إذا عرفهما و عرف فضل ما يبتاع على ما يبيع
شرح نهج البلاغة ج : 19 ص : 22757شَارِكُوا الَّذِينَ قَدْ أَقْبَلَ عَلَيْهِمُ الرِّزْقُ فَإِنَّهُ أَخْلَقُ لِلْغِنَى وَ أَجْدَرُ بِإِقْبَالِ الْحَظِّقد تقدم القول في الحظ و البخت. و كان يقال الحظ يعدي كما يعدي الجرب و هذا يطابق كلمة أمير المؤمنين ع لأن مخالطة المجدود ليست كمخالطة غير المجدود فإن الأولى تقتضي الاشتراك في الحظ و السعادة و الثانية تقتضي الاشتراك في الشقاء و الحرمان. و القول في الحظ وسيع جدا. و قال بعضهم البخت على صورة رجل أعمى أصم أخرس و بين يديه جواهر و حجارة و هو يرمي بكلتا يديه. و كان مالك بن أنس فقيه المدينة و أخذ الفقه عن الليث بن سعد و كانوا يزدحمون عليه و الليث جالس لا يلتفتون إليه فقيل لليث إن مالكا إنما أخذ عنك فما لك خاملا و هو أنبه الناس ذكرا فقال دانق بخت خير من جمل بختي حمل علما. و قال الرضي

(20/29)


أسيغ الغيظ من نوب الليالي و ما يحفلن بالحنق المغيظو أرجو الرزق من خرق دقيق يسد بسلك حرمان غليظو أرجع ليس في كفي منه سوى عض اليدين على الحظوظ
شرح نهج البلاغة ج : 19 ص : 22858وَ قَالَ ع فِي قَوْلِهِ عَزَّ وَ جَلَّ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَ الْإِحْسانِ الْعَدْلُ الْإِنْصَافُ وَ الْإِحْسَانُ التَّفَضُّلُهذا تفسير صحيح اتفق عليه المفسرون كافة و إنما دخل الندب تحت الأمر لأن له صفة زائدة على حسنه و ليس كالمباح الذي لا صفة له زائدة على حسنه. و قال الزمخشري العدل هو الواجب لأن الله عز و جل عدل فيه على عباده فجعل ما فرضه عليهم منه واقعا تحت طاقتهم و الإحسان الندب و إنما علق أمره بهما جميعا لأن الفرض لا بد أن يقع فيه تفريط فيجبره الندب و لذلك
قال رسول الله ص لإنسان علمه الفرائض فقال و الله لا زدت فيها و لا نقصت منها أفلح إن صدق
فعقد الفلاح بشرط الصدق و السلامة من التفريط و
قال ص استقيموا و لن تحصوا
فليس ينبغي أن يترك ما يجبر كسر التفريط من النوافل. و لقائل أن يقول إن كان إنما سمي الواجب عدلا لأنه داخل تحت طاقة المكلف فليسم الندب عدلا لأنه داخل تحت طاقة المكلف و أما قوله إنما أمر بالندب لأنه يجبر ما وقع فيه التفريط من الواجب فلا يصح على مذهبه و هو من أعيان المعتزلة لأنه لو جبرت النافلة بالتفريط في الواجب لكانت واجبة مثله و كيف يقول الزمخشري هذا و من قول مشايخنا إن تارك صلاة واحدة من الفرائض لو صلى مائة ألف ركعة من النوافل لم يكفر ثوابها عقاب ترك تلك الصلاة

(20/30)


شرح نهج البلاغة ج : 19 ص : 22959وَ قَالَ ع مَنْ يُعْطِ بِالْيَدِ الْقَصِيرَةِ يُعْطَ بِالْيَدِ الطَّوِيلَةِ قال الرضي رحمه الله تعالى و معنى ذلك أن ما ينفقه المرء من ماله في سبيل الخير و البر و إن كان يسيرا فإن الله تعالى يجعل الجزاء عليه عظيما كثيرا و اليدان هاهنا عبارة عن النعمتين ففرق ع بين نعمة العبد و نعمة الرب تعالى ذكره بالقصيرة و الطويلة فجعل تلك قصيرة و هذه طويلة لأن نعم الله أبدا تضعف على نعم المخلوقين أضعافا كثيرة إذ كانت نعم الله أصل النعم كلها فكل نعمة إليها ترجع و منها تنزع
هذا الفصل قد شرحه الرضي رحمه الله فأغنى عن التعرض بشرحه
شرح نهج البلاغة ج : 19 ص : 23060وَ قَالَ ع لِابْنِهِ الْحَسَنِ لَا تَدْعُوَنَّ إِلَى مُبَارَزَةٍ فَإِنْ دُعِيتَ إِلَيْهَا فَأَجِبْ فَإِنَّ الدَّاعِيَ إِلَيْهَا بَاغٍ وَ الْبَاغِيَ مَصْرُوعٌمثل من شجاعة علي
قد ذكر ع الحكمة ثم ذكر العلة و ما سمعنا أنه ع دعا إلى مبارزة قط و إنما كان يدعى هو بعينه أو يدعو من يبارز فيخرج إليه فيقتله دعا بنو ربيعة بن عبد بن شمس بني هاشم إلى البراز يوم بدر فخرج ع فقتل الوليد و اشترك هو و حمزة ع في قتل عتبة و دعا طلحة بن أبي طلحة إلى البراز يوم أحد فخرج إليه فقتله و دعا مرحب إلى البراز يوم خيبر فخرج إليه فقتله. فأما الخرجة التي خرجها يوم الخندق إلى عمرو بن عبد ود فإنها أجل من أن يقال جليلة و أعظم من أن يقال عظيمة و ما هي إلا كما قال شيخنا أبو الهذيل و قد سأله سائل أيما أعظم منزلة عند الله علي أم أبو بكر فقال يا ابن أخي و الله لمبارزة علي عمرا يوم الخندق تعدل أعمال المهاجرين و الأنصار و طاعاتهم كلها و تربي عليها فضلا عن أبي بكر وحده و قد روي عن حذيفة بن اليمان ما يناسب هذا بل ما هو أبلغ منه

(20/31)


روى قيس بن الربيع عن أبي هارون العبدي عن ربيعة بن مالك السعدي قال أتيت حذيفة بن اليمان فقلت يا أبا عبد الله إن الناس يتحدثون عن علي بن أبي طالب و مناقبه فيقول لهم أهل شرح نهج البلاغة ج : 19 ص : 61البصيرة إنكم لتفرطون في تقريظ هذا الرجل فهل أنت محدثي بحد عنه أذكره للناس فقال يا ربيعة و ما الذي تسألني عن علي و ما الذي أحدثك عنه و الذي نفس حذيفة بيده لو وضع جميع أعمال أمة محمد ص في كفة الميزان منذ بعث الله تعالى محمدا إلى يوم الناس هذا و وضع عمل واحد من أعمال علي في الكفة الأخرى لرجح على أعمالهم كلها فقال ربيعة هذا المدح الذي لا يقام له و لا يقعد و لا يحمل إني لأظنه إسرافا يا أبا عبد الله فقال حذيفة يا لكع و كيف لا يحمل و أين كان المسلمون يوم الخندق و قد عبر إليهم عمرو و أصحابه فملكهم الهلع و الجزع و دعا إلى المبارزة فأحجموا عنه حتى برز إليه علي فقتله و الذي نفس حذيفة بيده لعمله ذلك اليوم أعظم أجرا من أعمال أمة محمد ص إلى هذا اليوم و إلى أن تقوم القيامة
و جاء في الحديث المرفوع أن رسول الله ص قال ذلك اليوم حين برز إليه برز الإيمان كله إلى الشرك كله
و قال أبو بكر بن عياش لقد ضرب علي بن أبي طالب ع ضربة ما كان في الإسلام أيمن منها ضربته عمرا يوم الخندق و لقد ضرب علي ضربة ما كان في الإسلام أشأم منها يعني ضربة ابن ملجم لعنه الله. و
في الحديث المرفوع أن رسول الله ص لما بارز علي عمرا ما زال رافعا يديه مقمحا رأسه نحو السماء داعيا ربه قائلا اللهم إنك أخذت مني عبيدة يوم بدر و حمزة يوم أحد فاحفظ علي اليوم عليا رَبِّ لا تَذَرْنِي فَرْداً وَ أَنْتَ خَيْرُ الْوارِثِينَ

(20/32)


و قال جابر بن عبد الله الأنصاري و الله ما شبهت يوم الأحزاب قتل علي عمرا شرح نهج البلاغة ج : 19 ص : 62و تخاذل المشركين بعده إلا بما قصه الله تعالى من قصة طالوت و جالوت في قوله فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ وَ قَتَلَ داوُدُ جالُوتَو روى عمرو بن أزهر عن عمرو بن عبيد عن الحسن أن عليا ع لما قتل عمرا احتز رأسه و حمله فألقاه بين يدي رسول الله ص فقام أبو بكر و عمر فقبلا رأسه و وجه رسول الله ص يتهلل فقال هذا النصر أو قال هذا أول النصر
و في الحديث المرفوع أن رسول الله ص قال يوم قتل عمرو ذهبت ريحهم و لا يغزوننا بعد اليوم و نحن نغزوهم إن شاء الله
قصة غزوة الخندق

(20/33)


و ينبغي أن نذكر ملخص هذه القصة من مغازي الواقدي و ابن إسحاق قالا خرج عمرو بن عبد ود يوم الخندق و قد كان شهد بدرا فارتث جريحا و لم يشهد أحدا فحضر الخندق شاهرا سيفه معلما مدلا بشجاعته و بأسه و خرج معه ضرار بن الخطاب الفهري و عكرمة بن أبي جهل و هبيرة بن أبي وهب و نوفل بن عبد الله بن المغيرة المخزوميون فطافوا بخيولهم على الخندق إصعادا و انحدارا يطلبون موضعا ضيقا يعبرونه حتى وقفوا على أضيق موضع فيه في المكان المعروف بالمزار فأكرهوا خيولهم على العبور فعبرت و صاروا مع المسلمين على أرض واحدة و رسول الله ص جالس و أصحابه قيام على رأسه فتقدم عمرو بن عبد ود فدعا شرح نهج البلاغة ج : 19 ص : 63إلى البراز مرارا فلم يقم إليه أحد فلما أكثر قام علي ع فقال أنا أبارزه يا رسول الله فأمره بالجلوس و أعاد عمرو النداء و الناس سكوت كان على رءوسهم الطير فقال عمرو أيها الناس إنكم تزعم أن قتلاكم في الجنة و قتلانا في النار أ فما يحب أحدكم أن يقدم على الجنة أو يقدم عدوا له إلى النار فلم يقم إليه أحد فقام علي ع دفعة ثانية و قال أنا له يا رسول الله فأمره بالجلوس فجال عمرو بفرسه مقبلا و مدبرا و جاءت عظماء الأحزاب فوقفت من وراء الخندق و مدت أعناقها تنظر فلما رأى عمرو أن أحدا لا يجيبه قال
و لقد بححت من الندا بجمعهم هل من مبارزو وقفت مذ جبن المشيع موقف القرن المناجزإني كذلك لم أزل متسرعا قبل الهزاهزأن الشجاعة في الفتى و الجود من خير الغرائز
فقام علي ع فقال يا رسول الله ائذن لي في مبارزته فقال ادن فدنا فقلده سيفه و عممه بعمامته و قال امض لشأنك فلما انصرف قال اللهم أعنه عليه فلما قرب منه قال له مجيبا إياه عن شعره
لا تعجلن فقد أتاك مجيب صوتك غير عاجزذو نية و بصيرة يرجو بذاك نجاة فائزإني لآمل أن أقيم عليك نائحة الجنائزمن ضربة فوهاء يبقى ذكرها عند الهزاهز

(20/34)


فقال عمرو من أنت و كان عمرو شيخا كبيرا قد جاوز الثمانين و كان نديم أبي طالب بن عبد المطلب في الجاهلية فانتسب علي ع له و قال أنا علي بن أبي طالب فقال أجل لقد كان أبوك نديما لي و صديقا فارجع فإني لا أحب أن شرح نهج البلاغة ج : 19 ص : 64أقتلك كان شيخنا أبو اير مصدق بن شبيب النحوي يقول إذا مررنا في القراءة عليه بهذا الموضع و الله ما أمره بالرجوع إبقاء عليه بل خوفا منه فقد عرف قتلاه ببدر و أحد و علم أنه إن ناهضه قتله فاستحيا أن يظهر الفشل فأظهر الإبقاء و الإرعاء و إنه لكاذب فيهما قالوا فقال له علي ع لكني أحب أن أقتلك فقال يا ابن أخي إني لأكره أن أقتل الرجل الكريم مثلك فارجع وراءك خير لك فقال علي ع إن قريشا تتحدث عنك أنك قلت لا يدعوني أحد إلى ثلاث إلا أجبت و لو إلى واحدة منها قال أجل فقال علي ع فإني أدعوك إلى الإسلام قال دع عنك هذه قال فإني أدعوك إلى أن ترجع بمن تبعك من قريش إلى مكة قال إذن تتحدث نساء قريش عني أن غلاما خدعني قال فإني أدعوك إلى البراز فحمى عمرو و قال ما كنت أظن أن أحدا من العرب يرومها مني ثم نزل فعقر فرسه و قيل ضرب وجهه ففر و تجاولا فثارت لهما غبرة وارتهما عن العيون إلى أن سمع الناس التكبير عاليا من تحت الغبرة فعلموا أن عليا قتله و انجلت الغبرة عنهما و على راكب صدره يحز رأسه و فر أصحابه ليعبروا الخندق فظفرت بهم خيلهم إلا نوفل بن عبد الله فإنه قصر فرسه فوقع في الخندق فرماه المسلمون بالحجارة فقال يا معاشر الناس قتلة أكرم من هذه فنزل إليه علي ع فقتله و أدرك الزبير هبيرة بن أبي وهب فضربه فقطع ثفر فرسه و سقطت درع كان حملها من ورائه فأخذها الزبير و ألقى عكرمة رمحه و ناوش عمر بن الخطاب ضرار بن عمرو فحمل عليه ضرار حتى إذا وجد عمر مس الرمح رفعه عنه و قال إنها لنعمة مشكورة فاحفظها يا ابن الخطاب إني كنت آليت ألا تمكنني يداي من قتل قرشي فأقتله و انصرف ضرار راجعا إلى أصحابه و

(20/35)


قد كان جرى له معه مثل هذه في يوم أحد و قد ذكر هاتين القصتين معا محمد بن عمر الواقدي في كتاب المغازي
شرح نهج البلاغة ج : 19 ص : 23165خِيَارُ خِصَالِ النِّسَاءِ شِرَارُ خِصَالِ الرِّجَالِ الزَّهْوُ وَ الْجُبْنُ وَ الْبُخْلُ فَإِذَا كَانَتِ الْمَرْأَةُ مَزْهُوَّةً لَمْ تُمَكِّنْ مِنْ نَفْسِهَا وَ إِذَا كَانَتْ بَخِيلَةً حَفِظَتْ مَالَهَا وَ مَالَ بَعْلِه وَ إِذَا كَانَتْ جَبَانَةً فَرِقَتْ مِنْ كُلِّ شَيْ ءٍ يَعْرِضُ لَهَا أخذ هذا المعنى الطغرائي شاعر العجم فقال
الجود و الإقدام في فتيانهم و البخل في الفتيات و الإشفاق و الطعن في الأحداق دأب رماتهم و الراميات سهاما الأحداقو له
قد زاد طيب أحاديث الكرام بها ما بالكرائم من جبن و من بخل
و في حكمة أفلاطون من أقوى الأسباب في محبة الرجل لامرأته و اتفاق ما بينهما أن يكون صوتها دون صوته بالطبع و تميزها دون تميزه و قلبها أضعف من قلبه فإذا زاد من هذا عندها شي ء على ما عند الرجل تنافرا على مقداره. و تقول زهي الرجل علينا فهو مزهو إذا افتخر و كذلكنخي فهو منخو من النخوة و لا يجوز زها إلا في لغة ضعيفة. و فرقت خافت و الفرق الخوف
شرح نهج البلاغة ج : 19 ص : 23266وَ قِيلَ لَهُ ع صِفْ لَنَا الْعَاقِلَ فَقَالَ هُوَ الَّذِي يَضَعُ الشَّيْ ءَ مَوَاضِعَهُ فَقِيلَ فَصِفْ لَنَا الْجَاهِلَ قَالَ قَدْ قُلْت قال الرضي رحمه الله تعالى يعني أن الجاهل هو الذي لا يضع الشي ء مواضعه فكان ترك صفته صفة له إذ كان بخلاف وصف العاقل هذا مثل الكلام الذي تنسبه العرب إلى الضب قالوا اختصمت الضبع و الثعلب إلى الضب فقالت الضبع يا أبا الحسل إني التقطت تمرة قال طيبا جنيت قالت و إن هذا أخذها مني قال حظ نفسه أحرز قالت فإني لطمته قال كريم حمى حقيقته قالت فلطمني قال حر انتصر قالت اقض بيننا قال قد فعلت

(20/36)


شرح نهج البلاغة ج : 19 ص : 23367وَ اللَّهِ لَدُنْيَاكُمْ هَذِهِ أَهْوَنُ فِي عَيْنِي مِنْ عُرَاقِ خِنْزِيرٍ فِي يَدِ مَجْذُومٍالعراق جمع عرق و هو العظم عليه شي ء من اللحم و هذا من الجموع النادرة نحو رخل و رخال و توأم و تؤام و لا يكون شي ء أحقر و لا أبغض إلى الإنسان من عراق خنزير في يد مجذوم فإنه لم يرض بأن يجعله في يد مجذوم و هو غاية ما يكون من التنفير حتى جعله عراق خنزير. و لعي لقد صدق و ما زال صادقا و من تأمل سيرته في حالتي خلوه من العمل و ولايته الخلافة عرف صحة هذا القول
شرح نهج البلاغة ج : 19 ص : 23468إِنَّ قَوْماً عَبَدُوا اللَّهَ رَغْبَةً فَتِلْكَ عِبَادَةُ التُّجَّارِ وَ إِنَّ قَوْماً عَبَدُوا اللَّهَ رَهْبَةً فَتِلْكَ عِبَادَةُ الْعَبِيدِ وَ إِنَّ قَوْماً عَبَدُوا اللَّهَ شُكْراً فَتِلْكَ عِبَادَةُ الْأَحْرَارِهذا مقام جليل تتقاصر عنه قوى أكثر البشر و قد شرحناه فيما تقدم و قلنا إن العبادة لرجاء الثواب تجارة و معاوضة و إن العبادة لخوف العقاب لمنزلة من يستجدي لسلطان قاهر يخاف سطوته. و هذا معنى قوله عبادة العبيد أي خوف السوط و العصا و تلك ليس عبادة نافعة و هي كمن يعتذر إلى إنسان خوف أذاه و نقمته لا لأن ما يعتذر منه قبيح لا ينبغي له فعله فأما العبادة لله تعالى شكرا لأنعمه فهي عبادة نافعة لأن العبادة شكر مخصوص فإذا أوقعها على هذا الوجه فقد أوقعها الموقع الذي وضعت عليه. فأما أصحابنا المتكلمون فيقولون ينبغي أن يفعل الإنسان الواجب لوجه وجوبه و يترك القبيح لوجه قبحه و ربما قالوا يفعل الواجب لأنه واجب و يترك القبيح لأنه قبيح و الكلام في هذا الباب مشروح مبسوط في الكتب الكلامية

(20/37)


شرح نهج البلاغة ج : 19 ص : 23569الْمَرْأَةُ شَرٌّ كُلُّهَا وَ شَرُّ مَا فِيهَا أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْهَاحلف إنسان عند بعض الحكماء أنه ما دخل بابي شر قط فقال الحكيم فمن أين دخلت امرأتك. و كان يقال أسباب فتنة النساء ثلاثة عين ناظرة و صورة مستحسنة و شهوة قادرة فالحكيم من لا يردد النظرة حتى يعرف حقائق الصورة و لو أن رجلا رأى امرأة فأعجبته ثم طالبها فامتنعت هل كان إلا تاركها فإن تأبى عقله عليه في مطالبتها كتأبيها عليه في مساعفتها قدع نفسه عن لذته قدع الغيور إياه عن حرمة مسلم. و كان يقال من أتعب نفسه في الحلال من النساء لم يتق إلى الحرام منهن كالطليح مناه أن يستريح

(20/38)


شرح نهج البلاغة ج : 19 ص : 23670مَنْ أَطَاعَ التَّوَانِيَ ضَيَّعَ الْحُقُوقَ وَ مَنْ أَطَاعَ الْوَاشِيَ ضَيَّعَ الصَّدِيقَقد تقدم الكلام في التواني و العجز و تقدم أيضا الكلام في الوشاية و السعاية. و رفع إلى كسرى أبرويز أن النصارى الذين يحضرون باب الملك يعرفون بالتجسس إلى ملك الروم فقال من لم يظهر له ذنب لم يظهر منا عقوبة له. و رفع إليه أن بعض الناس ينكر إصغاء الملك إلى أصحاب الأخبار فوقع هؤلاء بمنزلة مداخل الضياء إلى البيت المظلم و ليس لقطع مواد النور مع الحاجة إليه وجه عند العقلاء. قال أبو حيان أما الأصل في التدبير فصحيح لأن الملك محتاج إلى الأخبار لكن الأخبار تنقسم إلى ثلاثة أوجه خبر يتصل بالدين فالواجب عليه أن يبالغ و يحتاط في حفظه و حراسته و تحقيقه و نفى القذى عن طريقه و ساحته. و خبر يتصل بالدولة و رسومها فينبغي أن يتيقظ في ذلك خوفا من كيد ينفذ و بغي يسري. و خبر يدور بين الناس في منصرفهم و شأنهم و حالهم متى زاحمتهم فيه اضطغنوا شرح نهج البلاغة ج : 19 ص : 71عليك و تمنوا زوا ملكك و ارصدوا العداوة لك و جهروا إلى عدوك و فتحوا له باب الحيلة إليك. و إنما لحق الناس من هذا الخبر هذا العارض لأن في منع الملك إياهم عن تصرفاتهم و تتبعه لهم في حركاتهم كربا على قلوبهم و لهيبا في صدورهم و لا بد لهم في الدهر الصالح و الزمان المعتدل و الخصب المتتابع و السبيل الآمن و الخير المتصل من فكاهة و طيب و استرسال و أشر و بطر و كل ذلك من آثار النعمة الدارة و القلوب القارة فإن أغضى الملك بصره على هذا القسم عاش محبوبا و إن تنكر لهم فقد استأسدهم أعداء و السلام
شرح نهج البلاغة ج : 19 ص : 23772الْحَجَرُ الْغَصْبُ فِي الدَّارِ رَهْنٌ عَلَى خَرَابِهَا قال الرضي رحمه الله تعالى و قد روي ما يناسب هذا الكلام عن النبي ص و لا عجب أن يشتبه الكلامان فإن مستقاهما من قليب و مفرغهما من ذنوب

(20/39)


الذنوب الدلو الملأى و لا يقال لها و هي فارغة ذنوب و معنى الكلمة أن الدار المبنية بالحجارة المغصوبة و لو بحجر واحد لا بد أن يتعجل خرابها و كأنما ذلك الحجر رهن على حصول التخرب أي كما أن الرهن لا بد أن يفتك كذلك لا بد لما جعل ذلك الحجر رهنا عليه أن يحصل. و قال ابن بسام لأبي علي بن مقلة لما بنى داره بالزاهر ببغداد من الغصب و ظلم الرعية
بجنبك داران مهدومتان و دارك ثالثة تهدم فليت السلامة للمنصفين دامت فكيف لمن يظلم شرح نهج البلاغة ج : 19 ص : 73و الداران دار أبي الحسن بن الفرات و دار محمد بن داود بن الجراح و قال فيه أيضاقل لابن مقلة مهلا لا تكن عجلا فإنما أنت في أضغاث أحلام تبني بأنقاض دور الناس مجتهدا دارا ستنقض أيضا بعد أيامو كان ما تفرسه ابن بسام فيه حقا فإن داره نقضت حتى سويت بالأرض في أيام الراضي بالله
شرح نهج البلاغة ج : 19 ص : 23874يَوْمُ الْمَظْلُومِ عَلَى الظَّالِمِ أَشَدُّ مِنْ يَوْمِ الظَّالِمِ عَلَى الْمَظْلُومِقد تقدم الكلام في الظلم مرارا و كان يقال اذكر عند الظلم عدل الله تعالى فيك و عند القدرة قدرة الله تعالى عليك. و إنما كان يوم المظلوم على الظالم أشد من يومه على المظلوم لأن ذلك اليوم يوم الجزاء الكلي و الانتقام الأعظم و قصارى أمر الظالم في الدنيا أن يقتل غيره فيميته ميتة واحدة ثم لا سبيل له بعد إماتته إلى أن يدخل عليه ألما آخر و أما يوم الجزاء فإنه يوم لا يموت الظالم فيه فيستريح بل عذابه دائم متجدد نعوذ بالله من سخطه و عقابه

(20/40)


شرح نهج البلاغة ج : 19 ص : 23975اتَّقِ اللَّهَ بَعْضَ التُّقَى وَ إِنْ قَلَّ وَ اجْعَلْ بَيْنَكَ وَ بَيْنَ اللَّهِ سِتْراً وَ إِنْ رَقَّيقال في المثل ما لا يدرك كله لا يترك كله. فالواجب على من عسرت عليه التقوى بأجمعها أن يتقي الله في البعض و أن يجعل بينه و بينه سترا و إن كان رقيقا. و في أمثال العامة اجعل بينك و بين الله روزنة و الروزنة لفظة صحيحة معربة أي لا تجعل ما بينك و بينه مسدودا مظلما بالكلية
شرح نهج البلاغة ج : 19 ص : 24076إِذَا ازْدَحَمَ الْجَوَابُ خَفِيَ الصَّوَابُهذا نحو أن يورد الإنسان إشكالا في بعض المسائل النظرية بحضرة جماعة من أهل النظر فيتغالب القوم و يتسابقون إلى الجواب عنه كل منهم يورد ما خطر له. فلا ريب أن الصواب يخفى حينئذ و هذه الكلمة في الحقيقة أمر للناظر البحاث أن يتحرى الإنصاف في بحثه و نظره مع رفيقه و ألا يقصد المراء و المغالبة و القهر
شرح نهج البلاغة ج : 19 ص : 24177إِنَّ لِلَّهِ تَعَالَى فِي كُلِّ نِعْمَةٍ حَقّاً فَمَنْ أَدَّاهُ زَادَهُ مِنْهَا وَ مَنْ قَصَّرَ فِيهِ خَاطَرَ بِزَوَالِ نِعْمَتِهِقد تقدم الكلام في هذا المعنى و
جاء في الخبر من أوتي نعمة فأدى حق الله منها برد اللهفة و إجابة الدعوة و كشف المظلمة كان جديرا بدوامها و من قصر قصر به
شرح نهج البلاغة ج : 19 ص : 24278إِذَا كَثُرَتِ الْمَقْدُرَةُ قَلَّتِ الشَّهْوَةُهذا مثل قولهم كل مقدور عليه مملول و مثل قول الشاعر
و كل كثير عدو الطبيعة
و مثل قول الآخر

(20/41)


و أخ كثرت عليه حتى ملني و الشي ء مملول إذا هو يرخص يا ليته إذ باع ودي باعه ممن يزيد عليه لا من ينقو لهذا الحكم علة في العلم العقلي و ذلك أن النفس عندهم غنية بذاتها مكتفية بنفسها غير محتاجة إلى شي ء خارج عنها و إنما عرضت لها الحاجة و الفقر إلى ما هو خارج عنها لمقارنتها الهيولى و ذلك أن أمر الهيولى بالضد من أمر النفس في الفقر و الحاجة و لما كان الإنسان ركبا من النفس و الهيولى عرض له الشوق إلى تحصيل العلوم و القنيات لانتفاعه بهما و التذاذه بحصولهما فأما العلوم فإنه يحصلها في شبيه بالخزانة له يرجع إليها متى شاء و يستخرج منها ما أراد أعني القوى النفسانية التي هي محل الصور و المعاني على ما هو مذكور في موضعه و أما القنيات و المحسوسات شرح نهج البلاغة ج : 19 ص : 79فإنه يروم منها مثل ما يروم من تلك و أن يودعها خزانة محسوسة خارجة عن ذاته لكنه يغلط في ذلك من حيث يستكثر منها إلى أن يتنبه بالحكمة على ما ينبغي أن يقتني منها و إنما حرص على ما منع لأن الإنسان إنما يطلما ليس عنده لأن تحصيل الحاصل محال و الطلب إنما يتوجه إلى المعدوم لا إلى الموجود فإذا حصله سكن و علم أنه قد ادخره و متى رجع إليه وحده إن كان مما يبقى بالذات خزنه و تشوق إلى شي ء آخر منه و لا يزال كذلك إلى أن يعلم أن الجزئيات لا نهاية لها و ما لا نهاية له فا مطمع في تحصيله و لا فائدة في النزوع إليه و لا وجه لطلبه سواء كان معلوما أو محسوسا فوجب أن يقصد من المعلومات إلى الأهم و من المقتنيات إلى ضرورات البدن و مقيماته و يعدل عن الاستكثار منها فإن حصولها كلها مع أنها لا نهاية لها غير ممكن و كلما فضل عن الحاجة و قدر الكفاية فهو مادة الأحزان و الهموم و ضروب المكاره و الغلط في هذا الباب كثير و سبب ذلك طمع الإنسان في الغنى من معدن الفقر لأن الفقر هو الحاجة و الغنى هو الاستقلال إلى أن يحتاج إليه و لذلك قيل إن الله تعالى غني مطلقا لأنه

(20/42)


غير محتاج البتة فأما من كثرت قنياته فإنه يستكثر حاجاته بحسب كثرة قنياته و على قدرها رغبه إلى الاستكثار بكثرة وجوه فقره و قد بين ذلك في شرائع الأنبياء و أخلاق الحكماء فأما الشي ء الرخيص الموجود كثيرا فإنما يرغب عنه لأنه معلوم أنه إذا التمس وجد و الغالي فإنما يقدر عليه في الأحيان و يصيبه اواحد بعد الواحد و كل إنسان يتمنى أن يكون ذلك الواحد ليصيبه و ليحصل له ما لا يحصل لغيره شرح نهج البلاغة ج : 19 ص : 24380احْذَرُوا نِفَارَ النِّعَمِ فَمَا كُلُّ شَارِدٍ بِمَرْدُودٍهذا أمر بالشكر على النعمة و ترك المعاصي فإن المعاصي تزيل النعم كما قيل
إذا كنت في نعمة فارعها فإن المعاصي تزيل النعم
و قال بعض السلف كفران النعمة بوار و قلما أقلعت نافرة فرجعت في نصابها فاستدع شاردها بالشكر و استدم راهنها بكرم الجوار و لا تحسب أن سبوغ ستر الله عليك غير متقلص عما قليل عنك إذا أنت لم ترج لله وقارا. و قال أبو عصمة شهدت سفيان و فضيلا فما سمعتهما يتذاكران إلا النعم يقولان أنعم الله سبحانه علينا بكذا و فعل بنا كذا. و قال الحسن إذا استوى يوماك فأنت ناقص قيل له كيف ذاك قال إن زادك الله اليوم نعما فعليك أن تزداد غدا له شكرا. و كان يقال الشكر جنة من الزوال و أمنة من الانتقال. و كان يقال إذا كانت النعمة وسيمة فاجعل الشكر لها تميمة
شرح نهج البلاغة ج : 19 ص : 24481الْكَرَمُ أَعْطَفُ مِنَ الرَّحِمِ مثل هذا المعنى قول أبي تمام لابن الجهمإلا يكن نسب يؤلف بيننا أدب أقمناه مقام الوالدأو يختلف ماء الوصال فماؤنا عذب تحدر من غمام واحد
و من قصيدة لي في بعض أغراضي
و وشائج الآداب عاطفة الفضلاء فوق وشائج النسب

(20/43)


شرح نهج البلاغة ج : 19 ص : 24582مَنْ ظَنَّ بِكَ خَيْراً فَصَدِّقْ ظَنَّهُهذا قد تقدم في وصيته ع لولده الحسن. و من كلام بعضهم إني لأستحيي أن يأتيني الرجل يحمر وجهه تارة من الخجل أو يصفر أخرى من خوف الرد قد ظن بي الخير و بات عليه و غدا علي أن أرده خائبا
شرح نهج البلاغة ج : 19 ص : 24683أَفْضَلُ الْأَعْمَالِ مَا أَكْرَهْتَ نَفْسَكَ عَلَيْهِلا ريب أن الثواب على قدر المشقة لأنه كالعوض عنها كما أن العوض الحقيقي عوض عن الألم و لهذا
قال ص أفضل العبادة أحمزها
أي أشقها شرح نهج البلاغة ج : 19 ص : 8247عَرَفْتُ اللَّهَ سُبْحَانَهُ بِفَسْخِ الْعَزَائِمِ وَ حَلِّ الْعُقُودِ وَ نَقْضِ الْهِمَمِ
هذا أحد الطرق إلى معرفة البارئ سبحانه و هو أن يعزم الإنسان على أمر و يصمم رأيه عليه ثم لا يلبث أن يخطر الله تعالى بباله خاطرا صارفا له عن ذلك الفعل و لم يكن في حسابه أي لو لا أن في الوجود ذاتا مدبرة لهذا العالم لما خطرت الخواطر التي لم تكن محتسبة و هذا فصل يتضمن كلاما دقيقا يذكره المتكلمون في الخاطر الذي يخطر من غير موجب لخطوره فإنه لا يجوز أن يكون الإنسان أخطره بباله و إلا لكان ترجيحا من غير مرجح لجانب الوجود على جانب العدم فلا بد أن يكون المخطر له بالبال شيئا خارجا عن ذات الإنسان و ذاك هو الشي ء المسمى بانع العالم. و ليس هذا الموضع مما يحتمل استقصاء القول في هذا المبحث. و يقال إن عضد الدولة وقعت في يده قصة و هو يتصفح القصص فأمر بصلب صاحبها ثم أتبع الخادم خادما آخر يقول له قل للمطهر و كان وزيره لا يصلبه و لكن أخرجه من الحبس فاقطع يده اليمنى ثم أتبعه خادما ثالثا فقال بل تقول له يقطع أعصاب رجليه ثم أتبعه خادما آخر فقال له ينقله إلى القلعة بسيراف في قيوده فيجعله هناك فاختلفت دواعيه في ساعة واحدة أربع مرات

(20/44)


شرح نهج البلاغة ج : 19 ص : 24885مَرَارَةُ الدُّنْيَا حَلَاوَةُ الآْخِرَةِ وَ حَلَاوَةُ الدُّنْيَا مَرَارَةُ الآْخِرَةِلما كانت الدنيا ضد الآخرة وجب أن يكون أحكام هذه ضد أحكام هذه كالسواد يجمع البصر و البياض يفرق البصر و الحرارة توجب الخفة و البرودة توجب الثقل فإذا كان في الدنيا أعمال هي مرة المذاق على الإنسان قد ورد الشرع بإيجابها فتلك الأفعال تقتضي و توجب لفاعلها ثوابا حلو المذاق في الآخرة. و كذاك بالعكس ما كان من المشتهيات الدنياوية التي قد نهى الشرع عنها توجب و إن كانت حلوة المذاق مرارة العقوبة في الآخرة
شرح نهج البلاغة ج : 19 ص : 24986فَرَضَ اللَّهُ الْإِيمَانَ تَطْهِيراً مِنَ الشِّرْكِ وَ الصَّلَاةَ تَنْزِيهاً عَنِ الْكِبْرِ وَ الزَّكَاةَ تَسْبِيباً لِلرِّزْقِ وَ الصِّيَامَ ابْتِلَاءً لِإِخْلَاصِ الْخَلْقِ وَ الْحَجَّ تَقْوِيَةً لِلدِّينِ وَ الْجِهَادعِزّاً لِلْإِسْلَامِ وَ الْأَمْرَ بِالْمَعْرُوفِ مَصْلَحَةً لِلْعَوَامِّ وَ النَّهْيَ عَنِ الْمُنْكَرِ رَدْعاً لِلسُّفَهَاءِ وَ صِلَةَ الرَّحِمِ مَنْمَاةً لِلْعَدَدِ وَ الْقِصَاصَ حَقْناً لِلدِّمَاءِ وَ إِقَامَةَ الْحُدُودِ إِعْظَاماً لِلْمَحَارِمِ وَ تَرْكَ شُرْبِ الْخَمْرِ تَحْصِيناً لِلْعَقْلِ وَ مُجَانَبَةَ السَّرِقَةِ إِيجَاباً لِلْعِفَّةِ وَ تَرْكَ الزِّنَا تَحْصِيناً لِلنَّسَبِ وَ تَرْكَ اللِّوَاطِ تَكْثِيراً لِلنَّسْلِ وَ الشَّهَادَاتِ اسْتِظْهَاراً عَلَى الْمُجَاحَدَاتِ وَ تَرْكَ الْكَذِبِ تَشْرِيفاً لِلصِّدْقِ وَ السَّلَامَ أَمَاناً مِنَ الْمَخَاوِفِ وَ الْإِمَامَةِ نِظَاماً لِلْأُمَّةِ وَ الطَّاعَةَ تَعْظِيماً لِلْإِمَامَةِ

(20/45)


هذا الفصل يتضمن بيان تعليل العبادات إيجابا و سلبا. قال ع فرض الله الإيمان تطهيرا من الشرك و ذلك لأن الشرك نجاسة حكمية لا عينية و أي شي ء يكون أنجس من الجهل أو أقبح فالإيمان هو تطهير القلب من نجاسة ذلك الجهل. و فرضت الصلاة تنزيها من الكبر لأن الإنسان يقوم يها قائما و القيام مناف للتكبر و طارد له ثم يرفع يديه بالتكبير وقت الإحرام بالصلاة فيصير على هيئة من يمد عنقه ليوسطه السياف ثم يستكتف كما يفعله العبيد الأذلاء بين يدي شرح نهج البلاغة ج : 19 ص : 87السادة العظماء ثم يركع على هيئة من يمد عنقه ليضربها السيافم يسجد فيضع أشرف أعضائه و هو جبهته على أدون المواضع و هو التراب ثم تتضمن الصلاة من الخضوع و الخشوع و الامتناع من الكلام و الحركة الموهمة لمن رآها أن صاحبها خارج عن الصلاة و ما في غضون الصلاة من الأذكار المتضمنة الذل و التواضع لعظمة الله تعالى. و فرضت الزكاة تسبيبا للرزق كما قال الله تعالى وَ ما أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْ ءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ و قال مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضاعِفَهُ لَهُ. و فرض الصيام ابتلاء لإخلاص الخلق قال النبي ص حاكيا عن الله تعالى الصوم لي و أنا أجزي به

(20/46)


و ذلك لأن الصوم أمر لا يطلع عليه أحد فلا يقوم به على وجهه إلا المخلصون. و فرض الحج تقوية للدين و ذلك لما يحصل للحاج في ضمنه من المتاجر و المكاسب قال الله تعالى لِيَشْهَدُوا مَنافِعَ لَهُمْ وَ يَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ... عَلى ما رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعامِ و أيضا فإن المشركين كانوا يقولون لو لا أن أصحاب محمد كثير و أولو قوة لما حجوا فإن الجيش الضعيف يعجز عن الحج من المكان البعيد. و فرض الجهاد عزا للإسلام و ذلك ظاهر قال الله تعالى وَ لَوْ لا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوامِعُ وَ بِيَعٌ وَ صَلَواتٌ وَ مَساجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً و قال سبحانه وَ أَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَ مِنْ رِباطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَ عَدُوَّكُمْ. شرح نهج البلاغة ج : 19 ص : 88و فرض امر بالمعروف مصلحة للعوام لأن الأمر بالعدل و الإنصاف و رد الودائع و أداء الأمانات إلى أهلها و قضاء الديون و الصدق في القول و إيجاز الوعد و غير ذلك من محاسن الأخلاق مصلحة للبشر عظيمة لا محالة. و فرض النهي عن المنكر ردعا للسفهاء كالنهي عن الظلم و الكذب و السفه و ما يجري مجرى ذلك. و فرضت صلة الرحم منماة للعدد
قال النبي ص صلة الرحم تزيد في العمر و تنمي العدد
و فرض القصاص حقنا للدماء قال سبحانه وَ لَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ يا أُولِي الْأَلْبابِ. و فرضت إقامة الحدود إعظاما للمحارم و ذلك لأنه إذا أقيمت الحدود امتنع كثير من الناس عن المعاصي التي تجب الحدود فيها و ظهر عظم تلك المعاصي عند العامة فكانوا إلى تركها أقرب. و حرم شرب الخمر تحصينا للعقل قال قوم لحكيم اشرب الليلة معنا فقال أنا لا أشرب ما يشرب عقلي و

(20/47)


في الحديث المرفوع أن ملكا ظالما خير إنسانا بين أن يجامع أمه أو يقتل نفسا مؤمنة أو يشرب الخمر حتى يسكر فرأى أن الخمر أهونها فشرب حتى سكر فلما غلبه قام إلى أمه فوطئها و قام إلى تلك النفس المؤمنة فقتلها ثم قال ع الخمر جماع الإثم الخمر أم المعاصي
و حرمت السرقة إيجابا للعفة و ذلك لأن العفة خلق شريف و الطمع خلق دني ء فحرمت السرقة ليتمرن الناس على ذلك الخلق الشريف و يجانبوا ذلك الخلق الذميم و أيضا حرمت لما في تحريمها من تحصين أموال الناس. شرح نهج البلاغة ج : 19 ص : 89و حرم الزنا تحصينا للنسب فإنه ي إلى اختلاط المياه و اشتباه الأنساب و ألا ينسب أحد بتقدير ألا يشرع النكاح إلى أب بل يكون نسب الناس إلى أمهاتهم و في ذلك قلب الحقيقة و عكس الواجب لأن الولد مخلوق من ماء الأب و إنما الأم وعاء و ظرف. و حرم اللواط تكثيرا للنسل و ذلك اللواط بتقدير استفاضته بين الناس و الاستغناء به عن النساء يفضي إلى انقطاع النسل و الذرية و ذلك خلاف ما يريد الله تعالى من بقاء هذا النوع الشريف الذي ليس في الأنواع مثله في الشرف لمكان النفس الناطقة التي هي نسخة و مثال للحضرة الإلهية و لذلك سمت الحكماء الإنسان العالم الصغير. و حرم الاستمناء باليد و إتيان البهائم للمعنى الذي لأجله حرم اللواط و هو تقليل النسل و من مستحسن الكلمات النبوية
قوله ع في الاستمناء باليد ذلك الوأد الخفي
لأن الجاهلية كانت تئد البنات أي تقتلهن خنقا و قد قدمنا ذكر سبب ذلك فشبه ع إتلاف النطفة التي هي ولد بالقوة بإتلاف الولد بالفعل. و أوجبت الشهادات على الحقوق استظهارا على المجاحدات
قال النبي ص لو أعطي الناس بدعاويهم لاستحل قوم من قوم دماءهم و أموالهم

(20/48)


و وجب ترك الكذب تشريفا للصدق و ذلك لأن مصلحة العامة إنما تتم و تنتظم بالصدق فإن الناس يبنون أكثر أمورهم في معاملاتهم على الأخبار فإنها أعم من العيان و المشاهدة فإذا لم تكن صادقة وقع الخطأ في التدبيرات و فسدت أحوال الخلق. و شرع رد السلام أمانا من المخاوف لأن تفسير قول القائل سلام عليكم أي لا حرب بيني و بينكم بل بيني و بينكم السلام و هو الصلح. شرح نهج البلاغة ج : 19 ص : 90و فرضت الإمامة نظاما للأمة و ذلك لأن الخلق لا يرتفع الهرج و العسف و الظلم و الغضب و السرقة عنهم إلا بوازع قوي و ليس يكفي في امتناعهم قبح قبيح و لا وعيد الآخرة بل لا بد لهم من سلطان قاهر ينظم مصالحهم فيردع ظالمهم و يأخذ على أيدي سفهائهم. و فرضت الطاعة تعظيما للإمامة و ذلك لأن أمر الإمامة لا يتم إلا بطاعة الرعية و إلا فلو عصت الرعية إمامها لم ينتفعوا بإمامته و رئاسته عليهم
شرح نهج البلاغة ج : 19 ص : 25091وَ كَانَ ع يَقُولُ أَحْلِفُوا الظَّالِمَ إِذَا أَرَدْتُمْ يَمِينَهُ بِأَنَّهُ بَرِي ءٌ مِنْ حَوْلِ اللَّهِ وَ قُوَّتِهِ فَإِنَّهُ إِذَا حَلَفَ بِهَا كَاذِباً عُوجِلَ وَ إِذَا حَلَفَ بِاللَّهِ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُلَمْ يُعَاجَلْ لِأَنَّهُ قَدْ وَحَّدَ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَ تَعَالَى
ما جرى بين يحيى بن عبد الله و بين ابن المصعب عند الرشيد

(20/49)


روى أبو الفرج علي بن الحسين الأصبهاني في كتاب مقاتل الطالبيين أن يحيى بن عبد الله بن الحسن بن علي بن أبي طالب ع لما أمنه الرشيد بعد خروجه بالديلم و صار إليه بالغ في إكرامه و بره فسعى به بعد مدة عبد الله بن مصعب الزبيري إلى الرشيد و كان يبغضه و قال له إنه قد عاد يدعو إلى نفسه سرا و حسن له نقض أمانه فأحضره و جمع بينه و بين عبد الله بن مصعب ليناظره فيما قذفه به و رفعه عليه فجبهه ابن مصعب بحضرة الرشيد و ادعى عليه الحركة في الخروج و شق العصا فقال يحيى يا أمير المؤمنين أ تصدق هذا علي و تستنصحه و هو ابن عبد الله بن الزبير الذي أدخل أباك عبد الله و ولده الشعب و أضرم عليهم النار حتى خلصه أبو عبد الله الجدلي صاحب علي بن أبي طالب ع منه عنوة و هو الذي ترك الصلاة على شرح نهج البلاغة ج : 19 ص : 92رسول الله ص و أربعين جمعة في خطبته فلما التاث عليه الناس قال إن له أهيل سوإذا صليت عليه أو ذكرته أتلعوا أعناقهم و اشرأبوا لذكره فأكره أن أسرهم أو أقر أعينهم و هو الذي كان يشتم أباك و يلصق به العيوب حتى ورم كبده و لقد ذبحت بقرة يوما لأبيك فوجدت كبدها سوداء قد نقبت فقال علي ابنه أ ما ترى كبد هذه البقرة يا أبت فقال يا بني هكذا ترك ابن الزبير كبد أبيك ثم نفاه إلى الطائف فلما حضرته الوفاة قال لابنه علي يا بني إذا مت فالحق بقومك من بني عبد مناف بالشام و لا تقم في بلد لابن الزبير فيه إمرة فاختار له صحبة يزيد بن معاوية على صحبة عبد الله بن الزبير و و الله إن عداوة هذا يا أمير المؤمنين لنا جميعا بمنزلة سواء و لكنه قوي علي بك و ضعف عنك فتقرب بي إليك ليظفر منك بي بما يريد إذا لم يقدر على مثله منك و ما ينبغي لك أن تسوغه ذلك في فإن معاوية بن أبي سفيان و هو أبعد نسبا منك إلينا ذكر الحسن بن علي يوما فسبه فساعده عبد الله بن الزبير على ذلك فزجره و انتهره فقال إنما ساعدتك يا أمير المؤمنين فقال إن الحسن لحمي آكله

(20/50)


و لا أوكله و مع هذا فهو الخارج مع أخي محمد على أبيك المنصور أبي جعفر و القائل لأخي في قصيدة طويلة أولها
إن الحمامة يوم الشعب من وثن هاجت فؤاد محب دائم الحزن
يحرض أخي فيها على الوثوب و النهوض إلى الخلافة و يمدحه و يقول له
لا عز ركنا نزار عند سطوتها إن أسلمتك و لا ركنا ذوي يمن أ لست أكرمهم عودا إذا انتسبوا يوما و أطهرهم ثوبا من الدرن شرح نهج البلاغة ج : 19 ص : 93و أعظم الناس عند الناس منزلة و أبعد الناس من عيب و من وهن قوموا ببيعتكم ننهض بطاعتها إن الخلافة فيكم يا بني حسن إنا لنأمل أن ترتد ألفتنا بعد التدابر و البغضاء و الإحن حتى يثاب على الإحسان محسننا و يأمن الخائف المأخوذ بالتنقضي دولة أحكام قادتها فينا كأحكام قوم عابدي وثن فطالما قد بروا بالجور أعظمنا بري الصناع قداح النبع بالسفنفتغير وجه الرشيد عند سماع هذا الشعر و تغيظ على ابن مصعب فابتدأ ابن مصعب يحلف بالله الذي لا إله إلا هو و بأيمان البيعة أن هذا الشعر ليس له و أنه لسديف فقال يحيى و الله يا أمير المؤمنين ما قاله غيره و ما حلفت كاذبا و لا صادقا بالله قبل هذا و إن الله عز و جل إذا مجده العبد في يمينه فقال و الله الطالب الغالب الرحمن الرحيم استحيا أن يعاقبه فدعني أن أحلفه بيمين ما حلف بها أحد قط كاذبا إلا عوجل قال فحلفه قال قل برئت من حول الله و قوته و اعتصمت بحولي و قوتي و تقلدت الحول و القوة من دون الله استكبارا على الله و استعلاء عليه و استغناء عنه إن كنت قلت هذا الشعر فامتنع عبد الله من الحلف بذلك فغضب الرشيد و قال للفضل بن الربيع يا عباسي ما له لا يحلف إن كان صادقا هذا طيلساني علي و هذه ثيابي لو حلفني بهذه اليمين أنها لي لحلفت فوكز الفضل عبد الله برجله و كان له فيه هوى و قال له احلف ويحك فجعل يحلف بهذه اليمين و وجهه متغير و هو يرعد فضرب يحيى بين كتفيه و قال يا ابن مصعب قطعت عمرك لا تفلح بعدها أبدا. قالوا فما برح

(20/51)


من موضعه حتى عرض له أعراض الجذام استدارت عيناه شرح نهج البلاغة ج : 19 ص : 94و تفقأ وجهه و قام إلى بيته فتقطع و تشقلحمه و انتثر شعره و مات بعد ثلاثة أيام و حضر الفضل بن الربيع جنازته فلما جعل في القبر انخسف اللحد به حتى خرجت منه غبرة شديدة و جعل الفضل يقول التراب التراب فطرح التراب و هو يهوي فلم يستطيعوا سده حتى سقف بخشب و طم عليه فكان الرشيد يقول بعد ذلك للفضل أ رأيت يا عباسي ما أسرع ما أديل ليحيى من ابن مصعب
شرح نهج البلاغة ج : 19 ص : 25195يَا ابْنَ آدَمَ كُنْ وَصِيَّ نَفْسِكَ وَ اعْمَلْ فِي مَالِكَ مَا تُؤْثِرُ أَنْ يَعْمَلَ فِيهِ مَنْ بَعْدَكَلا ريب أن الإنسان يؤثر أن يخرج ماله بعد موته في وجوه البر و الصدقات و القربات ليصل ثواب ذلك إليه لكنه يضن بإخراجه و هو حي في هذه الوجوه لحبه العاجلة و خوفه من الفقر و الحاجة إلى الناس في آخر العمر فيقيم وصيا يعمل ذلك في ماله بعد موته. و أوصى أمير المؤمنين ع الإنسان أن يعمل في ماله و هو حي ما يؤثر أن يجعل فيه وصية بعد موته و هذه حالة لا يقدر عليها إلا من أخذ التوفيق بيده
شرح نهج البلاغة ج : 19 ص : 25296الْحِدَّةُ ضَرْبٌ مِنَ الْجُنُونِ لِأَنَّ صَاحِبَهَا يَنْدَمُ فَإِنْ لَمْ يَنْدَمْ فَجُنُونُهُ مُسْتَحْكِمٌكان يقال الحدة كنية الجهل. و كان يقال لا يصح لحديد رأي لأن الحدة تصدئ العقل كما يصدئ الخل المرآة فلا يرى صاحبه فيه صورة حسن فيفعله و لا صورة قبيح فيجتنبه. و كان يقال أول الحدة جنون و آخرها ندم. و كان يقال لا تحملنك الحدة على اقتراف الإثم فتشفي غيظك و تسقم دينك

(20/52)


شرح نهج البلاغة ج : 19 ص : 25397صِحَّةُ الْجَسَدِ مِنْ قِلَّةِ الْحَسَدِمعناه أن القليل الحسد لا يزال معافى في بدنه و الكثير الحسد يمرضه ما يجده في نفسه من مضاضة المنافسة و ما يتجرعه من الغيظ و مزاج البدن يتبع أحوال النفس. قال المأمون ما حسدت أحدا قط إلا أبا دلف على قول الشاعر فيه
إنما الدنيا أبو دلف بين باديه و محتضره فإذا ولى أبو دلف ولت الدنيا على أثرهو روى أبو الفرج الأصبهاني عن عبدوس بن أبي دلف قال حدثني أبي قال قال لي المأمون يا قاسم أنت الذي يقول فيك علي بن جبله
إنما الدنيا أبو دلف
البيتين فقلت مسرعا و ما ينفعني ذلك يا أمير المؤمنين مع قوله في
أبا دلف يا أكذب الناس كلهم سواي فإني في مديحك أكذب
شرح نهج البلاغة ج : 19 ص : 98و مع قول بكر بن النطاح فيأبا دلف إن الفقير بعينه لمن يرتجي جدوى يديك و يأمله أرى لك بابا مغلقا متمنعا إذا فتحوه عنك فالبؤس داخله كأنك طبل هائل الصوت معجب خلي من الخيرات تعس مداخله و أعجب شي ء فيك تسليم إمرة عليك على طنز و أنك قاقال فلما انصرفت قال المأمون لمن حوله لله دره حفظ هجاء نفسه حتى انتفع به عندي و أطفأ لهيب المنافسة
شرح نهج البلاغة ج : 19 ص : 25499وَ قَالَ ع لِكُمَيْلِ بْنِ زِيَادٍ النَّخَعِيِّ يَا كُمَيْلُ مُرْ أَهْلَكَ أَنْ يَرُوحُوا فِي كَسْبِ الْمَكَارِمِ وَ يُدْلِجُوا فِي حَاجَةِ مَنْ هُوَ نَائِمٌ فَوَالَّذِي وَسِعَ سَمْعُهُ الْأَصْوَاتَ مَا مِنْ أَحَدٍ أَوْدَ قَلْباً سُرُوراً إِلَّا وَ خَلَقَ اللَّهُ لَهُ مِنْ ذَلِكَ السُّرُورِ لُطْفاً فَإِذَا نَزَلَتْ بِهِ نَائِبَةٌ جَرَى إِلَيْهَا كَالْمَاءِ فِي انْحِدَارِهِ حَتَّى يَطْرُدَهَا عَنْهُ كَمَا تُطْرَدُ غَرِيبَةُ الْإِبِلِ

(20/53)


قال عمرو بن العاص لمعاوية ما بقي من لذتك فقال ما من شي ء يصيبه الناس من اللذة إلا و قد أصبته حتى مللته فليس شي ء عندي اليوم ألذ من شربة ماء بارد في يوم صائف و نظري إلى بني و بناتي يدرجون حولي فما بقي من لذتك أنت فقال أرض أغرسها و آكل ثمرتها لم يبق لي لذةير ذلك فالتفت معاوية إلى وردان غلام عمرو فقال فما بقي من لذتك يا وريد فقال سرور أدخله قلوب الإخوان و صنائع أعتقدها في أعناق الكرام فقال معاوية لعمرو تبا لمجلسي و مجلسك لقد غلبني و غلبك هذا العبد ثم قال يا وردان أنا أحق بهذا منك قال قد أمكنتك فافعل. شرح نه البلاغة ج : 19 ص : 100فإن قلت السرور عرض فكيف يخلق الله تعالى منه لطفا قلت من هاهنا هي مثل من في قوله وَ لَوْ نَشاءُ لَجَعَلْنا مِنْكُمْ مَلائِكَةً فِي الْأَرْضِ يَخْلُفُونَ أي عوضا منكم. و مثله فليت لنا من ماء زمزم شربة مبردة باتت على طهيان
أي ليت لنا شربة مبردة باتت على طهيان و هو اسم جبل بدلا و عوضا من ماء زمزم
شرح نهج البلاغة ج : 19 ص : 255101إِذَا أَمْلَقْتُمْ فَتَاجِرُوا اللَّهَ بِالصَّدَقَةِقد تقدم القول في الصدقة. و قالت الحكماء أفضل العبادات الصدقة لأن نفعها يتعدى و نفع الصلاة و الصوم لا يتعدى. و
جاء في الأثر أن عليا ع عمل ليهودي في سقي نخل له في حياة رسول الله ص بمد من شعير فخبزه قرصا فلما هم أن يفطر عليه أتاه سائل يستطعم فدفعه إليه و بات طاويا و تاجر الله تعالى بتلك الصدقة فعد الناس هذه الفعلة من أعظم السخاء و عدوها أيضا من أعظم العبادة
و قال بعض شعراء الشيعة يذكر إعادة الشمس عليه و أحسن فيما قال

(20/54)


جاد بالقرص و الطوى مل ء جنبيه و عاف الطعام و هو سغوب فأعاد القرص المنير عليه القرص و المقرض الكرام كسو شرح نهج البلاغة ج : 19 ص : 256102الْوَفَاءُ لِأَهْلِ الْغَدْرِ غَدْرٌ عِنْدَ اللَّهِ وَ الْغَدْرُ بِأَهْلِ الْغَدْرِ وَفَاءٌ عِنْدَ اللَّهِمعناه أنه إذا اعتيد من العدو أن يغدر و لا يفي بأقواله و أيمانه و عهوده لم يجز الوفاء له و وجب أن ينقض عهوده و لا يوقف مع العهد المعقود بيننا و بينه فإن الوفاء لمن هذه حاله ليس بوفاء عند الله تعالى بل هو كالغدر في قبحه و الغدر بمن هذه حاله ليس بقبيح بل هو في الحسن كالوفاء لمن يستحق الوفاء عند الله تعالى
شرح نهج البلاغة ج : 19 ص : 257103كَمْ مِنْ مُسْتَدْرَجٍ بِالْإِحْسَانِ إِلَيْهِ وَ مَغْرُورٍ بِالسِّتْرِ عَلَيْهِ وَ مَفْتُونٍ بِحُسْنِ الْقَوْلِ فِيهِ وَ مَا ابْتَلَى اللَّهُ سُبْحَانَهُ أَحَداً بِمِثْلِ الْإِمْلَاءِ لَهُ قال الرضي رحمه الله تعالى و قد مضى هذا الكلام فيما تقدم إلا أن فيه هاهنا زيادة جيدة
قد تقدم الكلام في الاستدراج و الإملاء و قال بعض الحكماء احذر النعم المتواصلة إليك أن تكون استدراجا كما يحذر المحارب من اتباع عدوه في الحرب إذا فر من بين يديه من الكمين و كم من عدو فر مستدرجا ثم إذ هو عاطف و كم من ضارع في يديك ثم إذ هو خاطف
شرح نهج البلاغة ج : 19 ص : 258104 و من كلامه ع المتضمن ألفاظا من الغريب تحتاج إلى تفسير قوله ع في حديثهفَإِذَا كَانَ ذَلِكَ ضَرَبَ يَعْسُوبُ الدِّينِ بِذَنَبِهِ فَيَجْتَمِعُونَ إِلَيْهِ كَمَا يَجْتَمِعُ قَزَعُ الْخَرِيفِ
قال الرضي رحمه الله تعالى يعسوب الدين السيد العظيم المالك لأمور الناس يومئذ و القزع قطع الغيم التي لا ماء فيها

(20/55)


أصاب في اليعسوب فأما القزع فلا يشترط فيها أن تكون خالية من الماء بل القزع قطع من السحاب رقيقة سواء كان فيها ماء أو لم يكن الواحدة قزعة بالفتح و إنما غره قول الشاعر يصف جيشا بالقلة و الخفة
كأن رعاله قزع الجهام
و ليس يدل ذلك على ما ذكره لأن الشاعر أراد المبالغة فإن الجهام الذي لا ماء فيه إذا كان أقطاعا متفرقة خفيفة كان ذكره أبلغ فيما يريده من التشبيه و هذا الخبر من أخبار الملاحم التي كان يخبر بها ع و هو يذكر فيه المهدي الذي يوجد عند أصحابنا في آخر الزمان و معنى قوله ضرب بذنبه أقام و ثبت بعد شرح نهج البلاغة ج : 19 ص : 105اضطرابه و ذلك لأن اليعسوب فحل النحل و سيدها و هو أكثر زمانه طائر بجناحيه فإذا ضرب بذنبه الأرض فقد أقام و ترك الطيران و الحركة. فإن قلت فهذا يشبه مذهب الإمامية في أن المهدي خائف مستتر ينتقل في الأ و أنه يظهر آخر الزمان و يثبت و يقيم في دار ملكه. قلت لا يبعد على مذهبنا أن يكون الإمام المهدي الذي يظهر في آخر الزمان مضطرب الأمر منتشر الملك في أول أمره لمصلحة يعلمها الله تعالى ثم بعد ذلك يثبت ملكه و تنتظم أموره. و قد وردت لفظة اليعسوب عن أمير المؤمنين ع في غير هذا الموضع قال يوم الجمل لعبد الرحمن بن عتاب بن أسيد و قد مر به قتيلا هذا يعسوب قريش أي سيدها
شرح نهج البلاغة ج : 19 ص : 259106وَ فِي حَدِيثِهِ ع هَذَا الْخَطِيبُ الشَّحْشَحُ قال يريد الماهر بالخطبة الماضي فيها و كل ماض في كلام أو سير فهو شحشح و الشحشع في غير هذا الموضع البخيل الممسك
قد جاء الشحشح بمعنى الغيور و الشحشح بمعنى الشجاع و الشحشح بمعنى المواظب على الشي ء الملازم له و الشحشح الحاوي و مثله الشحشحان. و هذه الكلمة قالها علي ع لصعصعة بن صوحان العبدي رحمه الله و كفى صعصعة بها فخرا أن يكون مثل علي ع يثني عليه بالمهارة و فصاحة اللسن و كان صعصعة من أفصح الناس ذكر ذلك شيخنا أبو عثمان الجاحظ

(20/56)


شرح نهج البلاغة ج : 19 ص : 260107 و منه إِنَّ لِلْخُصُومَةِ قُحَما قال يريد بالقحم المهالك لأنها تقحم أصحابها في المهالك و المتالف في الأكثر فمن ذلك قحمة الأعراب و هو أن تصيبهم السنة فتتفرق أموالهم فذلك تقحمها فيهم و قيل فيه وجه آخر و هو أنها تقحمهم بلاد الريف أي تحوجهم إلى دخول الحضر عند محول البدو
أصل هذا البناء للدخول في الأمر على غير روية و لا تثبت قحم الرجل في الأمر بالفتح قحوما و أقحم فلان فرسه البحر فانقحم و اقتحمت أيضا البحر دخلته مكافحة و قحم الفرس فارسه تقحيما على وجهه إذا رماه و فحل مقحام أي يقتحم الشول من غير إرسال فيها. و هذه الكلمة قالها أمير المؤمنين حين وكل عبد الله بن جعفر في الخصومة عنه و هو شاهد. و أبو حنيفة لا يجيز الوكالة على هذه الصورة و يقول لا تجوز إلا من غائب أو مريض و أبو يوسف و محمد يجيزانها أخذا بفعل أمير المؤمنين ع

(20/57)


شرح نهج البلاغة ج : 19 ص : 261108 و منه إِذَا بَلَغَ النِّسَاءُ نَصَّ الْحِقَاقِ فَالْعَصَبَةُ أَوْلَ قال و يروى نص الحقائق و النص منتهى الأشياء و مبلغ أقصاها كالنص في السير لأنه أقصى ما تقدر عليه الدابة و يقال نصصت الرجل عن الأمر إذا استقصيت مسألته لتستخرج ما عنده فيه و نص الحقاق يريد به الإدراك لأنه منتهى الصغر و الوقت الذي يخرج منه الصغير إلى حد الكبر و هو من أفصح الكنايات عن هذا الأمر و أغربها يقول فإذا بلغ النساء ذلك فالعصبة أولى بالمرأة من أمها إذا كانوا محرما مثل الإخوة و الأعمام و بتزويجها إن أرادوا ذلك. و الحقاق محاقة الأم للعصبة في المرأة و هو الجدال و الخصومة و قول كل واحد منهما للآخر أنا أحق منك بهذا يقال منه حاققته حقاقا مثل جادلته جدالا قال و قد قيل إن نص الحقاق بلوغ العقل و هو الإدراك لأنه ع إنما أراد منتهى الأمر الذي تجب به الحقوق و الأحكام. قال و من رواه نص الحقائق فإنما أراد جمع حقيقة هذا معنى ما ذكره أبو عبيد القاسم بن سلام. قال و الذي عندي أن المراد بنص الحقاق هاهنا بلوغ المرأة إلى الحد الذي يجوز فيه تزويجها و تصرفها في حقوقها تشبيها بالحقاق من الإبل و هي جمع حقة و حق و هو الذي استكمل ثلاث سنين و دخل في الرابعة و عند ذلك يبلغ إلى الحد الذي يمكن فيه من ركوب ظهره و نصه في سيره و الحقائق أيضا جمع حقة شرح نهج البلاغة ج : 19 ص : 109فالروايتان جميعا ترجعان إلى مسمى واحد و هذا أشبه بطريقة العرب من المعنى المذكور أولاأما ما ذكره أبو عبيد فإنه لا يشفي الغليل لأنه فسر معنى النص و لم يفسر معنى نص الحقائق بل قال هو عبارة عن الإدراك لأنه منتهى الصغر و الوقت الذي يخرج منه الصغير إلى حد الكبر و لم يبين من أي وجه يدل لفظ نص الحقاق على ذلك و لا اشتقاق الحقاق و أصله ليظهر من ذلك مطابقة اللفظ للمعنى الذي أشير إليه. فأما قوله الحقاق هاهنا مصدر حاقه يحاقه فلقائل أن يقول إن

(20/58)


كان هذا هو مقصوده ع فقبل الإدراك يكون الحقاق أيضا لأن كل واحدة من القرابات تقول للأخرى أنا أحق بها منك فلا معنى لتخصيص ذلك بحال البلوغ إلا أن يزعم زاعم أن الأم قبل البلوغ لها الحضانة فلا ينازعها قبل البلوغ في البنت أحد و لكن في ذلك خلاف كثير بين الفقهاء. و أما التفسير الثاني و هو أن المراد بنص الحقاق منتهى الأمر الذي تجب به الحقوق فإن أهل اللغة لم ينقلوا عن العرب أنها استعملت الحقاق في الحقوق و لا يعرف هذا في كلامهم. فأما قوله و من رواه نص الحقائق فإنما أراد جمع حقيقة فلقائل أن يقول و ما معنى الحقائق إذا كانت جمع حقيقة هاهنا و ما معنى إضافة نص إلى الحقائق جمع حقيقة فإن أبا عبيدة لم يفسر ذلك مع شدة الحاجة إلى تفسيره. و أما تفسير الرضي رحمه الله فهو أشبه من تفسير أبي عبيدة إلا أنه قال في آخره شرح نهج البلاغة ج : 19 ص : 110و الحقائق أيضا جمع حقة فالروايتان ترجعان إلى معنى واحد و ليس الأمر على ما ذكر من أن الحقائق جمع حقة و لكن الحقائق جمع حقاق و الحقاق جمع حق و هو ما كان من الإبل ابن ثلاث سنين و قد دخل في الرابعة فاست أن يحمل عليه و ينتفع به فالحقائق إذن جمع الجمع لحق لا لحقة و مثل إفال و أفائل قال و يمكن أن يقال الحقاق هاهنا الخصومة يقال ما له فيه حق و لا حقاق أي و لا خصومة و يقال لمن ينازع في صغار الأشياء إنه لبرق الحقاق أي خصومته في الدني ء من الأمر فيكون المعنى إذ بلغت المرأة الحد الذي يستطيع الإنسان فيه الخصومة و الجدال فعصبتها أولى بها من أمها و الحد الذي تكمل فيه المرأة و الغلام للخصومة و الحكومة و الجدال و المناظرة هو سن البلوغ

(20/59)


شرح نهج البلاغة ج : 19 ص : 262111 و منه إِنَّ الْإِيمَانَ يَبْدُو لُمْظَةً فِي الْقَلْبِ كُلَّمَا ازْدَادَ الْإِيمَانُ ازْدَادَتِ اللُّمْظَة قال اللمظة مثل النكتة أو نحوها من البياض و منه قيل فرس ألمظ إذا كان بجحفلته شي ء من البياض قال أبو عبيدة هي لمظة بضم اللام و المحدثون يقولون لمظة بالفتح و المعروف من كلام العرب الضم مثل الدهمة و الشهبة و الحمرة قال و قد رواه بعضهم لمطة بالطاء المهملة و هذا لا نعرفه. قال و في هذا الحديث حجة على من أنكر أن يكون الإيمان يزيد و ينقص أ لا تراه يقول كلما ازداد الإيمان ازدادت اللمظة
شرح نهج البلاغة ج : 19 ص : 263112 و منه إِنَّ الرَّجُلَ إِذَا كَانَ لَهُ الدَّيْنُ الظَّنُونُ يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يُزَكِّيَهُ لِمَا مَضَى إِذَا قَبَضَه قال الظنون الذي لا يعلم صاحبه أ يقضيه من الذي هو عليه أم لا فكأنه الذي يظن به ذلك فمرة يرجوه و مرة لا يرجوه و هو من أفصح الكلام و كذلك كل أمر تطلبه و لا تدري على أي شي ء أنت منه فهو ظنون و على ذلك قول الأعشى من يجعل الجد الظنون الذي جنب صوب اللجب الماطرمثل الفراتي إذا ما طما يقذف بالبوصي و الماهر
و الجد البئر العادية في الصحراء و الظنون التي لا يعلم هل فيها ماء أم لا

(20/60)


قال أبو عبيدة في هذا الحديث من الفقه أن من كان له دين على الناس فليس عليه أن يزكيه حتى يقبضه فإذا قبضه زكاه لما مضى و إن كان لا يرجوه قال و هذا يرده قول من قال إنما زكاته على الذي عليه المال لأنه المنتفع به قال شرح نهج البلاغة ج : 19 ص : 113و كما يروى عنبراهيم و العمل عندنا على قول علي ع فأما ما ذكره الرضي من أن الجد هي البئر العادية في الصحراء فالمعروف عند أهل اللغة أن الجد البئر التي تكون في موضع كثير الكلإ و لا تسمى البئر العادية في الصحراء الموات جدا و شعر الأعشى لا يدل على ما فسره الرضي لأنه إنما شبه علقمة بالبئر و الكلإ يظن أن فيها ماء لمكان الكلإ و لا يكون موضع الظن هذا هو مراده و مقصوده و لهذا قال الظنون و لو كانت عادية في بيداء مقفرة لم تكن ظنونا بل كان يعلم أنه لا ماء فيها فسقط عنها اسم الظنون
شرح نهج البلاغة ج : 19 ص : 264114 و منه أَنَّهُ شَيَّعَ جَيْشاً يُغْزِيهِ فَقَالَ اعْزُبُوا عَنِ النِّسَاءِ مَا اسْتَطَعْتُم و معناه اصدفوا عن ذكر النساء و شغل القلوب بهن و امتنعوا من المقاربة لهن لأن ذلك يفت في عضد الحمية و يقدح في معاقد العزيمة و يكسر عن العدو و يلفت عن الإبعاد في الغزو فكل من امتنع من شي ء فقد أعزب عنه و العازب و العزوب الممتنع من الأكل و الشرب التفسير صحيح لكن قوله من امتنع من شي ء فقد أعزب عنه ليس بجيد و الصحيح فقد عزب عنه ثلاثي و الصواب و كل من منعته من شي ء فقد أعزبته عنه تعديه بالهمزة كما تقول أقمته و أقعدته و الفعل ثلاثي قام و قعد و الدليل على أن الماضي ثلاثي هاهنا قوله و العازب و العزوب ممتنع من الأكل و الشرب و لو كان رباعيا لكان المعزب و هو واضح و على هذا تكون الهمزة في أول الحرف همزة وصل مكسورة كما في اضربوا لأن المضارع يعزب بالكسر

(20/61)


شرح نهج البلاغة ج : 19 ص : 265115 و منه كَالْيَاسِرِ الْفَالِجِ يَنْتَظِرُ أَوَّلَ فَوْزَةٍ مِنْ قِدَاحِه قال الياسرون هم الذين يتضاربون بالقداح على الجزور و الفالج القاهر الغالب يقال قد فلج عليهم و فلجهم قال الراجز
لما رأيت فالجا قد فلجا
أول الكلام أن المرء المسلم ما لم يغش دناءة يخشع لها إذا ذكرت و يغري به لئام الناس كالياسر الفالج ينتظر أول فوزة من قداحه أو داعي الله فما عند الله خير للأبرار يقول هو بين خيرتين إما أن يصير إلى ما يحب من الدنيا فهو بمنزلة صاحب القدح المعلى و هو أوفرها نصيبا أو يموت فما عند الله خير له و أبقى و ليس يعني بقوله الفالج القامر الغالب كما فسره الرضي رحمه الله لأن الياسر الغالب القامر لا ينتظر أول فوزة من قداحه و كيف ينتظر و قد غلب و أي حاجة له إلى الانتظار و لكنه يعني بالفالج الميمون النقيبة الذي له عادة مطردة أن يغلب و قل أن يكون مقهورا
شرح نهج البلاغة ج : 19 ص : 266116 و منه كُنَّا إِذَا احْمَرَّ الْبَأْسُ اتَّقَيْنَا بِرَسُولِ اللَّهِ فَلَمْ يَكُنْ أَحَدٌ مِنَّا أَقْرَبَ إِلَى الْعَدُوِّ مِنْه قال معنى ذلك أنه إذا عظم الخوف من العدو و اشتد عضاض الحرب فزع المسلمون إلى قتال رسول الله ص بنفسه فينزل الله تعالى النصر عليهم به و يأمنون ما كانوا يخافونه بمكانه. و قوله إذا احمر البأس كناية عن اشتداد الأمر و قد قيل في ذلك أقوال أحسنها أنه شبه حمي الحرب بالنار التي تجمع الحرارة و الحمرة بفعلها و لونها و مما يقوي ذلك قول الرسول ص و قد رأى مجتلد الناس يوم حنين و هي حرب هوازن الآن حمي الوطيس و الوطيس مستوقد النار فشبه رسول الله ص ما استحر من جلاد القوم باحتدام النار و شدة التهابها

(20/62)


الجيد في تفسير هذا اللفظ أن يقال البأس الحرب نفسها قال الله تعالى وَ الصَّابِرِينَ فِي الْبَأْساءِ وَ الضَّرَّاءِ وَ حِينَ الْبَأْسِ و في الكلام حذف مضاف تقديره شرح نهج البلاغة ج : 19 ص : 117إذا احمر موضع البأس و هو الأرض التي عليها معركة القوم و احمرارهلما يسيل عليها من الدم
نبذ من غريب كلام الإمام علي و شرحه لأبي عبيد
و لما كان تفسير الرضي رحمه الله قد تعرض للغريب من كلامه ع و رأينا أنه لم يذكر من ذلك إلا اليسير آثرنا أن نذكر جملة من غريب كلامه ع مما نقله أرباب الكتب المصنفة في غريب الحديث عنه ع. فمن ذلك
ما ذكره أبو عبيد القاسم بن سلام رحمه الله في كتابه لأن أطلي بجواء قدر أحب إلي من أن أطلي بزعفران
قال أبو عبيد هكذا الرواية عنه بجواء قدر قال و سمعت الأصمعي يقول إنما هي الجئاوة و هي الوعاء الذي يجعل القدر فيه و جمعها جياء. قال و قال أبو عمرو يقال لذلك الوعاء جواء و جياء قال و يقال للخرقة التي ينزل بها الوعاء عن الأثافي جعال. و
منها قوله ع حين أقبل يريد العراق فأشار إليه الحسن بن علي ع أن يرجع و الله لا أكون مثل الضبع تسمع اللدم حتى تخرج فتصاد
قال أبو عبيد قال الأصمعي اللدم صوت الحجر أو الشي ء يقع على الأرض و ليس بالصوت الشديد يقال منه لدم ألدم بالكسر و إنما قيل ذلك للضبع لأنهم إذا أرادوا أن يصيدوها رموا في جحرها بحجر خفيف أو ضربوا بأيديهم فتحسبه شرح نهج البلاغة ج : 19 ص : 118شيئا تصيده فتخرج لتأخذه فتصاد و هي زعموا أنها من أحمق الدواب بلغ من حمقها أن يدخل عليها فيقال أم عامر نائمة أو ليست هذه و الضبع هذه أم عامر فتسكت حتى تؤخذ فأراد علي ع أني لا أخدع كما تخدع الضبع باللدم. و منها قوله ع من وجد في بطنه رزا فلينصرف و ليتوضأ

(20/63)


قال أبو عبيد قال أبو عمرو إنما هو أرزا مثل أرز الحية و هو دورانها و حركتها فشبه دوران الريح في بطنه بذلك. قال و قال الأصمعي هو الرز يعنى الصوت في البطن من القرقرة و نحوها قال الراجز
كان في ربابه الكبار رز عشار جلن في عشار
و قال أبو عبيد فقه هذا الحديث أن ينصرف فيتوضأ و يبني على صلاته ما لم يتكلم و هذا إنما هو قبل أن يحدث. قلت و الذي أعرفه من الأرز أنه الانقباض لا الدوران و الحركة يقال أرز فلان بالفتح و بالكسر إذ تضام و تقبض من بخله فهو أروز و المصدر أرزا و أروزا قال رؤبة
فذاك يخال أروز الأرز
فأضاف الاسم إلى المصدر كما يقال عمر العدل و عمرو الدهاء لما كان العدل و الدهاء أغلب أحوالهما و قال أبو الأسود الدؤلي يذم إنسانا إذا سئل أرز و إذا دعي اهتز يعني إلى الطعام و
في الحديث أن الإسلام ليأرز إلى المدينة كما تأرز الحية إلى جحرها
أي يجتمع إليها و ينضم بعضه إلى بعض فيها. شرح نهج البلاغة ج : 19 ص : 119و منها قوله لئن وليت بني أمية لأنفضنهم نفض القصاب التراب الوذمة
و قد تقدم منا شرح ذلك و الكلام فيه. و منها
قوله في ذي الثدية المقتول بالنهروان إنه مودن اليد أو مثدن اليد أو مخدع اليد
قال أبو عبيدة قال الكسائي و غيره المودن اليد القصير اليد و يقال أودنت الشي ء أي قصرته و فيه لغة أخرى ودنته فهو مودون قال حسان يذم رجلا و أملك سوداء مودونة كأن أناملها الحنظب

(20/64)


و أما مثدن اليد بالثاء فإن بعض الناس قال نراه أخذه من الثندوة و هي أصل الثدي فشبه يده في قصرها و اجتماعها بذلك فإن كان من هذا فالقياس أن يقال مثند لأن النون قبل الدال في الثندوة إلا أن يكون من المقلوب فذاك كثير في كلامهم. و أما مخدع اليد فإنه القصير اليد أيضا أخذ من أخداج الناقة ولدها و هو أن تضعه لغير تمام في خلقه قال و قال الفراء إنما قيل ذو الثدية فأدخلت الهاء فيها و إنما هي تصغير ثدي و الثدي مذكر لأنها كأنها بقية ثدي قد ذهب أكثره فقللها كما تقول لحيمة و شحيمة فأنث على هذا التأويل قال و بعضهم يقول ذو اليدية قال أبو عبيد و لا أرى الأصل كان إلا هذا و لكن الأحاديث كلها تتابعت بالثاء ذو الثدية. و منها
قوله ع لقوم و هو يعاتبهم ما لكم لا تنظفون عذراتكم
قال العذرة فناء الدار و إنما سميت تلك الحاجة عذرة لأنها بالأفنية كانت تلقى شرح نهج البلاغة ج : 19 ص : 120فكنى عنها بالعذرة كما كنى عنها بالغائط و إنما الغائط الأرض المطمئنة و قال الحطيئة يهجو قومالعمري لقد جربتكم فوجدتكم فباح الوجوه سيئ العذرات
و منها قوله ع لا جمعة و لا تشريق إلا في مصر جامع
قال أبو عبيد التشريق هاهنا صلاة العيد و سميت تشريقا لإضاءة وقتها فإن وقتها إشراق الشمس و صفاؤها و إضاءتها و
في الحديث المرفوع من ذبح قبل التشريق فليعد
أي قبل صلاة العيد. قال و كان أبو حنيفة يقول التشريق هاهنا هو التكبير في دبر الصلاة يقول لا تكبير إلا على أهل الأمصار تلك الأيام لا على المسافرين أو من هو في غير مصر. قال أبو عبيد و هذا كلام لم نجدا أحدا يعرفه إن التكبير يقال له التشريق و ليس يأخذ به أحد من أصحابه لا أبو يوسف و لا محمد كلهم يرى التكبير على المسلمين جميعا حيث كانوا في السفر و الحضر و في الأمصار و غيرها. و منها

(20/65)


قوله ع استكثروا من الطواف بهذا البيت قبل أن يحال بينكم و بينه فكأني برجل من الحبشة أصعل أصمع حمش الساقين قاعدا عليها و هي تقدم
قال أبو عبيدة هكذا يروى أصعل و كلام العرب المعروف صعل و هو الصغير الرأس و كذا رءوس الحبشة و لهذا قيل للظليم صعل و قال عنترة يصف ظليما
صعل يلوذ بذي العشيرة بيضه كالعبد ذي الفرو الطويل الأصلم
شرح نهج البلاغة ج : 19 ص : 121قال و قد أجاز بعضهم أصعل في الصعل و ذكر أنها لغة لا أدري عمن هي و الأصمع الصغير الأذن و امرأة صمعاء. و في حديث ابن عباس أنه كان لا يرى بأسا أن يضحي بالصمعاء و حمش الساقين بالتسكين دقيقها. و منهاأن قوما أتوه برجل فقالوا إن هذا يؤمنا و نحن له كارهون فقال له إنك لخروط أ تؤم قوما هم لك كارهون
قال أبو عبيد الخروط المتهور في الأمور الراكب برأسه جهلا و منه قيل انخرط علينا فلان أي اندرأ بالقول السيئ و الفعل قال و فقه هذا الحديث أنه ما أفتى ع بفساد صلاته لأنه لم يأمره بالإعادة و لكنه كره له أن يؤم قوما هم له كارهون و منها
أن رجلا أتاه و عليه ثوب من قهز فقال إن بني فلان ضربوا بني فلانة بالكناسة فقال ع صدقني سن بكره
قال أبو عبيد هذا مثل تضربه العرب للرجل يأتي بالخبر على وجهه و يصدق فيه و يقال إن أصله أن الرجل ربما باع بعيره فيسأل المشتري عن سنه فيكذبه فعرض رجل بكرا له فصدق في سنه فقال الآخر صدقني سن بكره فصار مثلا. و القهز بكسر القاف ثياب بيض يخالطها حرير و لا أراها عربية و قد استعملها العرب قال ذو الرمة يصف البزاة البيض شرح نهج البلاغة ج : 19 ص : 12من الورق أو صق كأن رءوسها من القهز و القوهي بيض المقانع
و منهاذكر ع آخر الزمان و الفتن فقال خير أهل ذلك الزمان كل نومة أولئك مصابيح الهدى ليسوا بالمسابيح و لا المذاييع البذر
و قد تقدم شرح ذلك. و منها

(20/66)


أن رجلا سافر مع أصحاب له فلم يرجع حين رجعوا فاتهم أهله أصحابه و رفعوهم إلى شريح فسألهم البينة على قتله فارتفعوا إلى علي ع فأخبروه بقول شريح فقال
أوردها سعد و سعد مشتمل يا سعد لا تروى بهذاك الإبل
ثم قال إن أهون السقي التشريع ثم فرق بينهم و سألهم فاختلفوا ثم أقروا بقتلهم فقتلهم به
قال أبو عبيد هذا مثل أصله أن رجلا أورد إبله ماء لا تصل إليه الإبل إلا بالاستقاء ثم اشتمل و نام و تركها لم يستسق لها و الكلمة الثانية مثل أيضا يقول إن أيسر ما كان ينبغي أن يفعل بالإبل أن يمكنها من الشريعة و يعرض عليها الماء يقول أقل ما كان يجب على شريح أن يستقصي في المسألة و البحث عن خبر الرجل و لا يقتصر على طلب البينة. شرح نهج البلاغة ج : 19 ص : 123و منها قوله و قد خرج على الناس و هم ينتظرونه للصلاة قياما ما لي أراكم سامدين قال أبو عبيد أي قائمين و كل رافع رأسه فهو سامد و كانوا يكرهون أن ينتظروا الإمام قياما و لكن قعودا و السامد في غير هذا الموضع اللاهي اللاعب و منه قوله تعالى وَ أَنْتُمْ سامِدُونَ و قيل السمود الغناء بلغة حمير. و منها
أنه خرج فرأى قوما يصلون قد سدلوا ثيابهم فقال كأنهم اليهود خرجوا من فهرهم
قال أبو عبيد فهرهم بضم الفاء موضع مدراسهم الذي يجتمعون فيه كالعيد يصلون فيه و يسدلون ثيابهم و هي كلمة نبطية أو عبرانية أصلها بهر بالباء فعربت بالفاء. و السدل إسبال الرجل ثوبه من غير أن يضم جانبيه بين يديه فإن ضمه فليس بسدل و قد رويت فيه الكراهة عن النبي ص. و منها
أن رجلا أتاه في فريضة و عنده شريح فقال أ تقول أنت فيها أيها العبد الأبظر

(20/67)


قال أبو عبيد هو الذي في شفته العليا طول و نتوء في وسطها محاذي الأنف قال و إنما نراه قال لشريح أيها العبد لأنه كان قد وقع عليه سبي في الجاهلية. شرح نهج البلاغة ج : 19 ص : 124و منهاأن الأشعث قال له و هو على المنبر غلبتنا عليك هذه الحمراء فقال ع من يعذرني من هؤلاء الضياطرة يتخلف أحدهم يتقلب على فراشه و حشاياه كالعير و يهجر هؤلاء للذكر أ أطردهم إني إن طردتهم لمن الظالمين و الله لقد سمعته يقول و الله ليضربنكم على الدين عودا كما ضربتموهم عليه بدءا
قال أبو عبيد الحمراء العجم و الموالي سموا بذلك لأن الغالب على ألوان العرب السمرة و الغالب على ألوان العجم البياض و الحمرة و الضياطرة الضخام الذين لا نفع عندهم و لا غناء واحدهم ضيطار. و منها
قوله ع اقتلوا الجان ذا الطفيتين و الكلب الأسود ذا الغرتين
قال أبو عبيد الجان حية بيضاء و الطفية في الأصل خوصة المقل و جمعها طفي ثم شبهت الخطتان على ظهر الحية بطفيتين و الغرة البياض في الوجه
نبذ من غريب كلام الإمام علي و شرحه لابن قتيبة
و قد ذكر ابن قتيبة في غريب الحديث له ع كلمات أخرى فمنها
قوله من أراد البقاء و لا بقاء فليباكر الغداء و ليخفف الرداء و ليقل غشيان النساء فقيل له يا أمير المؤمنين و ما خفة الرداء في البقاء فقال الدين
شرح نهج البلاغة ج : 19 ص : 125قال ابن قتيبة قوله الرداء الدين مذهب في اللغة حسن جيد و وجه صحيح لأن الدين أمانة و أنت تقول هو لك علي و في عنقي حتى أؤديه إليك فكأن الدين لازم للعنق و الرداء موضعه صفحتا العنق فسمى الدين رداء و كنى عنه به و قال الشاعرإن لي حاجة إليك فقالت بين أذني و عاتقي ما تريد

(20/68)


يريد بقوله بين أذني و عاتقي ما تريد في عنقي و المعنى أني قد ضمنته فهو علي و إنما قيل للسيف رداء لأن حمالته تقع موقع الرداء و هو في غير هذا الموضع العطاء يقال فلان غمر الرداء أي واسع العطاء قال و قد يجوز أن يكون كنى بالرداء عن الظهر لأنه يقع عليه يقول فليخفف ظهره و لا يثقله بالدين كما قال الآخر خماص الأزر يريد خماص البطون. و قال و بلغني نحو هذا الكلام عن أبي عبيد قال قال فقيه العرب من سره النساء و لا نساء فليبكر العشاء و ليباكر الغداء و ليخفف الرداء و ليقل غشيان النساء قال فالنس ء التأخير و منه إِنَّمَا النَسِي ءُ زِيادَةٌ فِي الْكُفْرِ. و قوله فليبكر العشاء أي فليؤخره قال الشاعر فأكريت العشاء إلى سهيل
و يجوز أن يريد فلينقص العشاء قال الشاعر
و الطل لم يفضل و لم يكر
شرح نهج البلاغة ج : 19 ص : 126و منهاأنه أتي ع بالمال فكوم كومة من ذهب و كومة من فضة فقال يا حمراء و يا بيضاء احمري و ابيضي و غري غيريهذا جناي و خياره فيه و كل جان يده إلى فيه
قال ابن قتيبة هذا مثل ضربه و كان الأصمعي يقوله و هجانه فيه أي خالصه و أصل المثل لعمرو بن عدي ابن أخت جذيمة الأبرش كان يجني الكمأة مع أتراب له فكان أترابه يأكلون ما يجدون و كان عمرو يأتي به خاله و يقول هذا القول. و منها
حديث أبي جأب قال جاء عمي من البصرة يذهب بي و كنت عند أمي فقالت لا أتركك تذهب به ثم أتت عليا ع فذكرت ذلك له فجاء عمي من البصرة فقال نعم و الله لأذهبن به و إن رغم أنفك فقال علي ع كذبت و الله و ولقت ثم ضرب بين يديه بالدرة
قال ولقت مثل كذبت و كذلك ولعت بالعين و كانت عائشة تقرأ إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ و قال الشاعر
و هن من الأحلاف و الولعان
يعني النساء أي من أهل الأحلاف. و منها
قوله ع إن من ورائكم أمورا متماحلة ردحا و بلاء مكلحا مبلحا

(20/69)


شرح نهج البلاغة ج : 19 ص : 127قال ابن قتيبة المتماحلة الطوال يعني فتنا يطول أمرها و يعظم و يقال رجل متماحل و سبسب متماحل و الردح جمع رداح و هي العظيمة يقال للكتيبة إذا عظمت رداح و يقال للمرأة العظيمة العجيزة رداح. قال و منه حديث أبي موسى و قيل له زمن علو معاوية أ هي أ هي فقال إنما هذه الفتنة حيضة من حيضات الفتن و بقيت الرداح المظلمة التي من أشرف أشرفت له. و مكلحا أي يكلح الناس بشدتها يقال كلح الرجل و أكلحه الكلحة الهم و المبلح من قولهم بلح الرجل إذا انقطع من الإعياء فلم يقدر على أن يتحرك و أبلحه السير و قال الأعشى
و اشتكى الأوصال منه و بلح
و منها قوله ع يوم خيبر
أنا الذي سمتن أمي حيدرة كليث غابات كريه المنظرةأفيهم بالصاع كيل السندرة
قال ابن قتيبة كانت أم علي ع سمته و أبو طالب غائب حين ولدته أسدا باسم أبيها أسد بن هاشم بن عبد مناف فلما قدم أبو طالب غير اسمه و سماه عليا و حيدرة اسم من أسماء الأسد و السندرة شجرة يعمل منها القسي و النبل قال
حنوت لهم بالسندري المؤثر
فالسندرة في الرجز يحتمل أن تكون مكيالا يتخذ من هذه الشجرة سمي باسمها كما يسمى القوس بنبعة قال و أحسب إن كان الأمر كذلك أن الكيل بها قد كان شرح نهج البلاغة ج : 19 ص : 128جزافا فيه إفراط قال و يحتمل أن تكون السندرة هاهنا امرأة كانت تكيل كيلا وافيا أو رجلا. منها
قوله ع من يطل أير أبيه يتمنطق به
قال ابن قتيبة هذا مثل ضربه يريد من كثرت إخوته عز و اشتد ظهره و ضرب المنطقة إذا كانت تشد الظهر مثلا لذلك قال الشاعر
فلو شاء ربي كان أير أبيكم طويلا كأير الحارث بن سدوس

(20/70)


قيل كان للحارث بن سدوس أحد و عشرون ذكرا و كان ضرار بن عمرو الضبي يقول ألا إن شر حائل أم فزوجوا الأمهات و ذلك أنه صرع فأخذته الرماح فاشتبك عليه إخوته لأمه حتى خلصوه. قال فأما المثل الآخر و هو قولهم من يطل ذيله يتمنطق به فليس من المثل الأول في شي ء و إنما مناه من وجد سعة وضعها في غير موضعها و أنفق في غير ما يلزمه الإنفاق فيه. و منها
قوله خير بئر في الأرض زمزم و شر بئر في الأرض برهوت
قال ابن قتيبة هي بئر بحضرموت يروى أن فيها أرواح الكفار. قال و قد ذكر أبو حاتم عن الأصمعي عن رجل من أهل حضرموت قال نجد فيها الرائحة المنتنة الفظيعة جدا ثم نمكث حينا فيأتينا الخبر بأن عظيما من عظماء الكفار قد مات فنرى أن تلك الرائحة منه قال و ربما سمع منها مثل أصوت الحاج فلا يستطيع أحد أن يمشي بها شرح نهج البلاغة ج : 19 ص : 129و منها قوله ع أيما رجل تزوج امرأة مجنونة أو جذماء أو برصاء أو بها قرن فهي امرأته إن شاء أمسك و إن شاء طلق
قال ابن قتيبة القرن بالتسكين العفلة الصغيرة و منه حديث شريح أنه اختصم إليه في قرن بجارية فقال أقعدوها فإن أصاب الأرض فهو عيب و إن لم يصب الأرض فليس بعيب. و منها
قوله ع لود معاوية أنه ما بقي من بني هاشم نافخ ضرمة إلا طعن في نيطه
قال ابن قتيبة الضرمة النار و ما بالدار نافخ ضرمة أي ما بها أحد. قال و قال أبو حاتم عن أبي زيد طعن فلان في نيطه أي في جنازته و من ابتدأ في شي ء أو دخل فيه فقد طعن فيه قال و يقال النيط الموت رماه الله بالنيط قال و قد روي إلا طعن بضم الطاء و هذا الراوي يذهب لى أن النيط نياط القلب و هي علاقته التي يتعلق بها فإذا طعن إنسان في ذلك المكان مات. و منها
قوله ع إن الله أوحى إلى إبراهيم ع أن ابن لي بيتا في الأرض فضاق بذلك ذرعا فأرسل الله إليه السكينة و هي ريح خجوج فتطوقت حول البيت كالحجفة

(20/71)


و قال ابن قتيبة الخجوج من الرياح السريعة المرور و يقال أيضا خجوجاء قال ابن أحمر شرح نهج البلاغة ج : 19 ص : 13هوجاء رعبلة الرواح خجوجاة الغدو رواحها شهر
قال و هذا مثل حديث علي ع الآخر و هو
أنه قال السكينة لها وجه كوجه الإنسان و هي بعد ريح هفافة
أي خفيفة سريعة و الحجفة الترس. و منها
أن مكاتبا لبعض بني أسد قال جئت بنقد أجلبه إلى الكوفة فانتهيت به إلى الجسر فإني لأسربه عليه إذا أقبل مولى لبكر بن وائل يتخلل الغنم ليقطعها فنفرت نقدة فقطرت الرجل في الفرات فغرق فأخذت فارتفعنا إلى علي ع فقصصنا عليه القصة فقال انطلقوا فإن عرفتم النقدة بعينها فادفعوها إليهم و إن اختلطت عليكم فادفعوا شرواها من الغنم إليهم
قال ابن قتيبة النقد غنم صغار الواحدة نقدة و منه قولهم في المثل أذل من النقد. و قوله أسربه أي أرسله قطعة قطعة و شرواها مثلها. و منها
قوله ع في ذكر المهدي من ولد الحسين ع قال إنه رجل أجلى الجبين أقنى الأنف ضخم البطن أربل الفخذين أفلج الثنايا بفخذه اليمنى شامة
قال ابن قتيبة الأجلى و الأجلح شي ء واحد و القنا في الأنف طوله و دقة أرنبته شرح نهج البلاغة ج : 19 ص : 131و حدب في وسطه و الأربل الفخذين المتباعد ما بينهما و هو كالأفحج تربل الشي ء أي انفرج و الفلج صفرة في الأسنان. و من قوله ع إن بني أمية لا يزالون يطعنون في مسجل ضلالة و لهم في الأرض أجل حتى يهريقوا الدم الحرام في الشهر الحرام و الله لكأني أنظر إلى غرنوق من قريش يتخبط في دمه فإذا فعلوا ذلك لم يبق لهم في الأرض عاذر و لم يبق لهم ملك على وجه الأرض

(20/72)


قال ابن قتيبة هو من قولك ركب فلان مسجله إذا جد في أمر هو فيه كلاما كان أو غيره و هو من السجل و هو الصب و الغرنوق الشاب. قلت و الغرنوق القرشي الذي قتلوه ثم انقضى أمرهم عقيب قتله إبراهيم الإمام و قد اختلفت الرواية في كيفية قتله فقيل قتل بالسيف و قيل خنق في جراب فيه نورة و حديث أمير المؤمنين ع يسند الرواية الأولى. و منها
ما روي أنه اشترى قميصا بثلاثة دراهم ثم قال الحمد لله الذي هذا من رياشه
قال ابن قتيبة الريش و الرياش واحد و هو الكسوة قال عز و جل قَدْ أَنْزَلْنا عَلَيْكُمْ لِباساً يُوارِي سَوْآتِكُمْ وَ رِيشاً و قرئ و رياشا. و منها
قوله ع لا قود إلا بالأسل
قال ابن قتيبة هو ما أرهف و أرق من الحديد كالسنان و السيف و السكين و منه قيل أسلة الذراع لما استدق منه قال و أكثر الناس على هذا المذهب شرح نهج البلاغة ج : 19 ص : 132و قوم من الناس يقولون قد يجوز أن القود بغير الحديد كالحجر و العصا إن كان المقتول قتل بغير ك. و منها
أنه ع رأى رجلا في الشمس فقال قم عنها فإنها مبخرة مجفرة و تثقل الريح و تبلي الثوب و تظهر الداء الدفين
قال ابن قتيبة مبخرة تورث البخر في الفم و مجفرة تقطع عن النكاح و تذهب شهوة الجماع يقال جفر الفحل عن الإبل إذا أكثر الضراب حتى يمل و ينقطع و مثله قذر و تقذر قذورا و مثله أقطع فهو مقطع. و جاء
في الحديث أن عثمان بن مظعون قال يا رسول الله إني رجل تشق علي العزبة في المغازي أ فتأذن لي في الخصاء قال لا و لكن عليك بالصوم فإنه مجفر

(20/73)


قال و قد روى عبد الرحمن عن الأصمعي عمه قال تكلم أعرابي فقال لا تنكحن واحدة فتحيض إذا حاضت و تمرض إذا مرضت و لا تنكحن اثنتين فتكون بين ضرتين و لا تنكحن ثلاثا فتكون بين أثاف و لا تنكحن أربعا فيفلسنك و يهرمنك و ينحلنك و يجفرنك فقيل له لقد حرمت ما أحل الله فقال سبحان الله كوزان و قرصان و طمران و عبادة الرحمن و قوله تثفل الريح أي تنتنها و الاسم الثفل و منه الحديث و ليخرجن ثفلات و الداء الدفين المستتر الذي قد قهرته الطبيعة فالشمس تعينه على الطبيعة و تظهره. و منها
قوله ع و هو يذكر مسجد الكوفة في زاويته فار التنور و فيه هلك يغوث و يعوق و هو الفاروق و منه يستتر جبل الأهواز و وسطه على روضة من شرح نهج البلاغة ج : 19 ص : 133رياض الجنة و فيه ثلاث أعين أنبتت بالضغث تذهب الرجس و تطهر المؤمنين عين من لبن و عين من دهن و عيمن ماء جانبه الأيمن ذكر و في جانبه الأيسر مكر و لو يعلم الناس ما فيه من الفضل لأتوه و لو حبوا
قال ابن قتيبة قوله أنبتت بالضغث أحسبه الضغث الذي ضرب أيوب أهله و العين التي ظهرت لما ركض الماء برجله قال و الباء في بالضغث زائدة تقديره أنبتت الضغث كقوله تعالى تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ و كقوله يَشْرَبُ بِها عِبادُ اللَّهِ. و أما قوله في جانبه الأيمن ذكر فإنه يعني الصلاة و في جانبه الأيسر مكر أراد به المكر به حتى قتل ع في مسجد الكوفة. و منها
أن رسول الله ص بعث أبا رافع مولاه يتلقى جعفر بن أبي طالب لما قدم من الحبشة فأعطاه علي ع حتيا و عكة سمن و قال له أنا أعلم بجعفر أنه إن علم ثراه مرة واحدة ثم أطعمه فادفع هذا السمن إلى أسماء بنت عميس تدهن به بني أخي من صمر البحر و تطعمهم من الحتي
قال ابن قتيبة الحتي سويق يتخذ من المقل قال الهذلي يذكر أضيافه
لا در دري أن أطعمت نازلكم قرف الحتي و عندي البر مكنوز

(20/74)


شرح نهج البلاغة ج : 19 ص : 134و قوله ثراه مرة أي بلة دفعة واحدة و أطعمه الناس و الثرى الندا و صمر البحر نتنه و غمقه و منه قيل للدبر الصمارى. و منها قوله ع يوم الشورى لما تكلم الحمد لله الذي اتخذ محمدا منا نبيا و ابتعثه إلينا رسولا فنحن أهل بيت النبوة و معدن الحكمة أمان لأهل الأرض و نجاة لمن طلب إن لنا حقا إن نعطه نأخذه و إن نمنعه نركب أعجاز الإبل و إن طال السرى لو عهد إلينا رسول الله ص عهدا لجالدنا عليه حتى نموت أو قال لنا قولا لأنفذنا قوله على رغمنا لن يسرع أحد قبلي إلى صلة رحم و دعوة حق و الأمر إليك يا ابن عوف على صدق النية و جهد النصح و أستغفر الله لي و لكم
قال ابن قتيبة أي أن معناه ركبنا مركب الضيم و الذل لأن راكب عجز البعير يجد مشقة لا سيما إذا تطاول به الركوب على تلك الحال و يجوز أن يكون أراد نصبر على أن نكون أتباعا لغيرنا لأن راكب عجز البعير يكون ردفا لغيره. و منها
قوله ع لما قتل ابن آدم أخاه غمص الله الخلق و نقص الأشياء
قال ابن قتيبة يقال غمصت فلانا أغمصه و اغتمصته إذا استصغرته و احتقرته قال و معنى الحديث أن الله تعالى نقص الخلق من عظم الأبدان و طولها من القوة و البطش و طول العمر و نحو ذلك و منها أن سلامة الكندي

(20/75)


قال كان علي ع يعلمنا الصلاة على شرح نهج البلاغة ج : 19 ص : 135رسول الله ص فيقول اللهم داحي المدحوات و بارئ المسموكات و جبار القلوب على فطراتها شقيها و سعيدها اجعل شرائف صلواتك و نوامي بركاتك و رأفة تحياتك على محمد عبدك و رسولك الفاتح لما أغلق و الخاتم ل سبق و المعلن الحق بالحق و الدامغ جيشات الأباطيل كما حملته فاضطلع بأمرك لطاعتك مستوفزا في مرضاتك لغير نكل في قدم و لا وهن في عزم داعيا لوحيك حافظا لعهدك ماضيا على نفاذ أمرك حتى أورى قبسا لقابس آلاء الله تصل بأهله أسبابه به هديت القلوب بعد خوضات الفتن و الإثم موضحات الأعلام و نائرات الأحكام و منيرات الإسلام فهو أمينك المأمون و خازن علمك المخزون و شهيدك يوم الدين و بعيثك نعمة و رسولك بالحق رحمة اللهم افسح له مفسحا في عدلك و اجزه مضاعفات الخير من فضلك مهنآت غير مكدرات من فوز ثوابك المحلول و جزل عطائك المعلول اللهم أعل على بناء البانين بناءه و أكرم مثواه لديك و نزله و أتمم له نوره و اجزه من ابتعاثك له مقبول الشهادة مرضي المقالة ذا منطق عدل و خطة فصل و برهان عظيم
قال ابن قتيبة داحي المدحوات أي باسط الأرضين و كان الله تعالى خلقها ربوة ثم بسطها قال سبحانه وَ الْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ دَحاها و كل شي ء بسطته فقد دحوته و منه قيل لموضع بيض النعامة أدحي لأنها تدحوه للبيض أي توسعه و وزنه أفعول و بارئ المسموكات خالق السموات وكل شي ء رفعته و أعليته فقد سمكته و سمك البيت و الحائط ارتفاعه قال الفرزدق إن الذي سمك السماء بنى لنا بيتا دعائمه أعز و أطول

(20/76)


شرح نهج البلاغة ج : 19 ص : 136و قوله جبار القلوب على فطراتها من قولك جبرت العظم فجبر إذا كان مكسورا فلأمته و أقمته كأنه أقام القلوب و أثبتها على ما فطرها عليه من معرفته و الإقرار به شقيها و سعيدها قال و لم أجعل إجبارا هاهنا من أجبرت فلانا على الأمر إذا خلته فيه كرها و قسرته لأنه لا يقال من أفعل فعال لا أعلم ذلك إلا أن بعض القراء قرأ أهديكم سبيل الرشاد بتشديد الشين و قال الرشاد الله فهذا فعال من أفعل و هي قراءة شاذة غير مستعملة فأما قول الله عز و جل وَ ما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ فإنه أراد و ما أنت عليهم بمسلط تسليط الملوك و الجبابرة الملوك و اعتبار ذلك قوله لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ أي بمتسلط تسلط الملوك فإن كان يجوز أن يقال من أجبرت فلانا على الأمر أنا جبار له و كان هذا محفوظا فقد يجوز أن يجعل قول علي ع جبار القلوب من ذلك و هو أحسن في المعنى. و قوله الدامغ جيشات الأباطيل أي مهلك ما نجم و ارتفع من الأباطيل و أصل الدمغ من الدماغ كأنه الذي يضرب وسط الرأس فيدمغه أي يصيب الدماغ منه و منه قول الله عز و جل بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْباطِلِ فَيَدْمَغُهُ أي يبطله و الدماغ مقتل فإذا أصيب هلك صاحبه. و جيشات مأخوذ من جاش الشي ء أي ارتفع و جاش الماء إذا طمى و جاشت النفس. و قوله كما حمل فاضطلع افتعل من الضلاعة و هي القوة. شرح نهج البلاغة ج : 19 ص : 137و قوله لغير نكل في قدم النكل مصدر و هو النكول يقال نكل فلان عن الأمر ينكل نكولا فهذا المشهور و نكل بار ينكل نكلا قليلة. و القدم التقدم قال أبو زيد رجل مقدام إذا كان شجاعا فالقدم يجوز أن يكون بمعنى التقدم و بمعنى المتقدم. قوله و لا وهن في عزم أي و لا ضعف في رأي. و قوله حتى أورى قبسا لقابس أي أظهر نورا من الحق يقال أوريت النار إذا قدحت ما ظهر بها قال سبحانه أَ فَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ. و قوله آلاء الله تصل

(20/77)


بأهله أسبابه يريد نعم الله تصل بأهل ذلك القبس و هو الإسلام و الحق سبحانه أسبابه و أهله المؤمنون به. قلت تقدير الكلام حتى أورى قبسا لقابس تصل أسباب ذلك القبس آلاء الله و نعمه بأهله المؤمنين به و اعلم أن اللام في لغير نكل متعلقة بقوله مستوفزا أي هو مستوفز لغير نكول بل للخوف منك و الخضوع لك. قال ابن قتيبة قوله ع به هديت القلوب بعد الكفر و الفتن موضحات الأعلام أي هديته لموضحات الأعلام يقال هديت الطريق و للطريق و إلى الطريق. و قوله نائرات الأحكام و منيرات الإسلام يريد الواضحات البينات يقال نار الشي ء و أنار إذا وضح. و قوله شهيدك يوم الدين أي الشاهد على الناس يوم القيامة و بعيثك رحمة أي مبعوثك فعيل في معنى مفعول. شرح نهج البلاغة ج : 19 ص : 138و قوله افسح له مفسحا أي أوسع له سعة و روي مفتسحا بالتاءله في عدلك أي في دار عدلك يعني يوم القيامة و من رواه عدنك بالنون أراد جنة عدن. و قوله من جزل عطائك المعلول من العلل و هو الشرب بعد الشرب فالشرب الأول نهل و الثاني علل يريد أن عطاءه عز و جل مضاعف كأنه يعل عباده أي يعطيهم عطاء بعد عطاء. و قوله أعل على بناء البانين بناءه أي ارفع فوق أعمال العاملين عمله و أكرم مثواه أي منزلته من قولك ثويت بالمكان أي نزلته و أقمت به و نزله رزقه. و نحن قد ذكرنا بعض هذه الكلمات فيما تقدم على رواية الرضي رحمه الله و هي مخالفة لهذه الرواية و شرحنا ما رواه الرضي و ذكرنا الآن ما رواه ابن قتيبة و شرحه لأنه لا يخلو من فائدة جديدة. و منها
قوله ع خذ الحكمة أنى أتتك فإن الكلمة من الحكمة تكون في صدر المنافق فتلجلج في صدره حتى تسكن إلى صاحبها
قال ابن قتيبة يريد الكلمة قد يعلمها المنافق فلا تزال تتحرك في صدره و لا تسكن حتى يسمعها منه المؤمن أو العالم فيعيها و يثقفها و يفقهها منه فتسكن في صدره إلى أخواتها من كلم الحكمة. و منها

(20/78)


قوله ع البيت المعمور نتاق الكعبة من فوقها
قال ابن قتيبة نتاق الكعبة أي مظل عليها من فوقها من قول الله سبحانه شرح نهج البلاغة ج : 19 ص : 139 وَ إِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ أي زعزع فأظل عليهم. و منها قوله ع أنا قسيم النار
قال ابن قتيبة أراد أن الناس فريقان فريق معي فهم على هدى و فريق علي فهم على ضلالة كالخوارج و لم يجسر ابن قتيبة أن يقول و كأهل الشام يتورع يزعم ثم إن الله أنطقه بما تورع عن ذكره فقال متمما للكلام بقوله فأنا قسيم النار نصف في الجنة معي و نصف في النار قال و قسيم في معنى مقاسم مثل جليس و أكيل و شريب. قلت قد ذكر أبو عبيد الهروي هذه الكلمة في الجمع بين الغريبين قال و قال قوم إنه لم يرد ما ذكره و إنما أراد هو قسيم النار و الجنة يوم القيامة حقيقة يقسم الأمة فيقول هذا للجنة و هذا للنار
شرح نهج البلاغة ج : 19 ص : 140خطبة منسوبة للإمام علي خالية من حرف الألفو أنا الآن أذكر من كلامه الغريب ما لم يورده أبو عبيد و ابن قتيبة في كلامهما و أشرحه أيضا و هي خطبة رواها كثير من الناس له ع خالية من حرف الألف

(20/79)


قالوا تذاكر قوم من أصحاب رسول الله ص أي حروف الهجاء أدخل في الكلام فأجمعوا على الألف فقال علي ع حمدت من عظمت منته و سبغت نعمته و سبقت غضبه رحمته و تمت كلمته و نفذت مشيئته و بلغت قضيته حمدته حمد مقر بربوبيته متخضع لعبوديته متنصل من خطيئته متفرد بتوحيده مؤمل منه مغفرة تنجيه يوم يشغل عن فصيلته و بنيه و نستعينه و نسترشده و نستهديه و نؤمن به و نتوكل عليه و شهدت له شهود مخلص موقن و فردته تفريد مؤمن متيقن و وحدته توحيد عبد مذعن ليس له شريك في ملكه و لم يكن له ولي في صنعه جل عن مشير و وزير و عن عون معين و نصير و نظير علم فستر و بطن فخبر و ملك فقهر و عصي فغفر و حكم فعدل لم يزل و لن يزول لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْ ءٌ و هو بعد كل شي ء رب متعزز بعزته متمكن بقوته متقدس بعلوه متكبر بسموه ليس يدركه بصر و لم يحط به نظر قوي منيع بصير سميع رءوف رحيم عجز عن وصفه من يصفه و ضل عنعته من يعرفه شرح نهج البلاغة ج : 19 ص : 141قرب فبعد و بعد فقرب يجيب دعوة من يدعوه و يرزقه و يحبوه ذو لطف خفي و بطش قوي و رحمة موسعة و عقوبة موجعة رحمته جنة عريضة مونقة و عقوبته جحيم ممدودة موبقة و شهدت ببعث محمد رسوله و عبده و صفيه و نبيه و نجيه و حبيبه خليله بعثه في خير عصر و حين فترة و كفر رحمة لعبيده و منة لمزيده ختم به نبوته و شيد به حجته فوعظ و نصح و بلغ و كدح رءوف بكل مؤمن رحيم سخي رضي ولي زكي عليه رحمة و تسليم و بركة و تكريم من رب غفور رحيم قريب مجيب وصيتكم معشر من حضرني بوصية ربك و ذكرتكم بسنة نبيكم فعليكم برهبة تسكن قلوبكم و خشية تذري دموعكم و تقية تنجيكم قبل يوم تبليكم و تذهلكم يوم يفوز فيه من ثقل وزن حسنته و خف وزن سيئته و لتكن مسألتكم و تملقكم مسألة ذل و خضوع و شكر و خشوع بتوبة و تورع و ندم و رجوع و ليغتنم كل مغتنم منكم صحته قبل سقمه و شبيبته قبل هرمه و سعته قبل فقره و فرغته قبل شغله و حضره قبل سفره قبل تكبر و

(20/80)


تهرم و تسقم يمله طبيبه و يعرض عنه حبيبه و ينقطع غمده و يتغير عقله ثم قيل هو موعوك و جسمه منهوك ثم جد في نزع شديد و حضره كل قريب و بعيد فشخص بصره و طمح نظره و رشح جبينه و عطف عرينه و سكن حنينه و حزنته نفسه و بكته عرسه و حفر رمسه و يتم منه ولده و تفرق منه عدده و قسم جمعه و ذهب بصره و سمعه و مدد و جرد و عري و غسل و نشف و سجي و بسط له و هيئ و نشر عليه كفنه و شد منه ذقنه و قمص و عمم و ودع و سلم و حمل فوق سرير و صلي عليه بتكبير و نقل من دور مزخرفة و قصور مشيدة و حجر منجدة و جعل في ضريح ملحود

(20/81)


شرح نهج البلاغة ج : 19 ص : 142و ضيق مرصود بلبن منضود مسقف بجلمود و هيل عليه حفره و حثي عليه مدره و تحقق حذره و نسي خبره و رجع عنه وليه و صفيه و نديمه و نسيبه و تبدل به قرينه و حبيبه فهو حشو قبر و رهين قفر يسعى بجسمه دود قبره و يسيل صديده من منخره يسحق ته لحمه و ينشف دمه و يرم عظمه حتى يوم حشره فنشر من قبره حين ينفخ في صور و يدعى بحشر و نشور فثم بعثرت قبور و حصلت سريرة صدور و جي ء بكل نبي و صديق و شهيد و توحد للفصل قدير بعبده خبير بصير فكم من زفرة تضنيه و حسرة تنضيه في موقف مهول و مشهد جليل بين يدي ملك عيم و بكل صغير و كبير عليم فحينئذ يلجمه عرقه و يحصره قلقه عبرته غير مرحومة و صرخته غير مسموعة و حجته غير مقولة زالت جريدته و نشرت صحيفته نظر في سوء عمله و شهدت عليه عينه بنظره و يده ببطشه و رجله بخطوه و فرجه بلمسه و جلده بمسه فسلسل جيده و غلت يده و سيق فسحب وحده فورد جهنم بكرب و شدة فظل يعذب في جحيم و يسقى شربة من حميم تشوي وجهه و تسلخ جلده و تضربه زبنية بمقمع من حديد و يعود جلده بعد نضجه كجلد جديد يستغيث فتعرض عنه خزنة جهنم و يستصرخ فيلبث حقبة يندم. نعوذ برب قدير من شر كل مصير و نسأله عفو من رضي عنه و مغفرة من قبله فهو ولي مسألتي و منجح طلبتي فمن زحزح عن تعذيب ربه جعل في جنته بقربه و خلد في قصور مشيدة و ملك بحور عين و حفدة و طيف عليه بكئوس أسكن في حظيرة قدوس و تقلب في نعيم و سقي من تسنيم و شرب من عين سلسبيل و مزج له بزنجبيل مختم بمسك و عبير مستديم للملك مستشعر للسرر يشرب من خمور في روض مغدق ليس يصدع من شربه و ليس ينزف. شرح نهج البلاغة ج : 19 ص : 143هذه منزلة من خشي ربه و حذر نفسه معصيته و تلك عقوبة من جحد مشيئته و سولت له نفسه معصيته فهو قول فصل و حكم عدل و خبر قصص قص و وعظ نص تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍزل به روح قدس مبين على قلب نبي مهتد رشيد صلت عليه رسل سفرة مكرمون

(20/82)


بررة عذت برب عليم رحيم كريم من شر كل عدو لعين رجيم فليتضرع متضرعكم و ليبتهل مبتهلكم و ليستغفر كل مربوب منكم لي و لكم و حسبي ربي وحده
فصيلة الرجل رهطه الأدنون و كدح سعى سعيا فيه تعب و فرغته الواحدة من الفراغ تقول فرغت فرغة كقولك ضربت ضربة و سجى الميت بسط عليه رداء و نشر الميت من قبره بفتح النون و الشين و أنشره الله تعالى. و بعثرت قبور انتثرت و نبشت. قوله و سيق بسحب وحده لأنه إذا كان معه غيره كان كالمتأسي بغيره فكان أخف لألمه و عذابه و إذا كان وحده كان أشد ألما و أهول و روي فسيق يسحب وحده و هذا أقرب إلى تناسب الفقرتين و ذاك أفخم معنى. و زبنية على وزن عفرية واحد الزبانية و هم عند العرب الشرط و سمي بذلك بعض الملائكة لدفعهم أهل النار إليها كما يفعل الشرط في الدنيا و من أهل اللغة من يجعل واحد الزبانية زباني و قال بعضهم زابن و منهم من قال هو جمع لا واحد له نحو أبابيل و عباديد و أصل الزبن في اللغة الدفع و منه ناقة زبون تضرب حالبها و تدفعه. شرح نهج البلاغة ج : 19 ص : 144و تقول ملك زيد بفلانة بغيألف و الباء هاهنا زائدة كما زيدت في كَفى بِاللَّهِ حَسِيباً و إنما حكمنا بزيادتها لأن العرب تقول ملكت أنا فلانة أي تزوجتها و أملكت فلانة بزيد أي زوجتها به فلما جاءت الباء هاهنا و لم يكن بد من إثبات الألف لأجل مجيئها جعلناها زائدة و صار تقديره و ملك حورا عينا. و قال المفسرون في تسنيم إنه اسم ماء في الجنة سمي بذلك لأنه يجري من فوق الغرف و القصور. و قالوا في سلسبيل إنه اسم عين في الجنة ليس ينزف و لا يخمر كما يخمر شارب الخمر في الدنيا. انقضى هذا الفصل ثم رجعنا إلى سنن الغرض الأول

(20/83)


شرح نهج البلاغة ج : 19 ص : 267145وَ قَالَ ع لَمَّا بَلَغَهُ إِغَارَةُ أَصْحَابِ مُعَاوِيَةَ عَلَى الْأَنْبَارِ فَخَرَجَ بِنَفْسِهِ مَاشِياً حَتَّى أَتَى النُّخَيْلَةَ وَ أَدْرَكَهُ النَّاسُ وَ قَالُوا يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ نَحْنُ نَكْفِيكَهُمْ فَقََ ع وَ اللَّهِ مَا تَكْفُونَنِي أَنْفُسَكُمْ فَكَيْفَ تَكْفُونَنِي غَيْرَكُمْ إِنْ كَانَتِ الرَّعَايَا قَبْلِي لَتَشْكُو حَيْفَ رُعَاتِهَا فَإِنِّي الْيَوْمَ لَأَشْكُو حَيْفَ رَعِيَّتِي كَأَنَّنِي الْمَقُودُ وَ هُمُ الْقَادَةُ أَوِ الْمَوْزُوعُ وَ هُمُ الْوَزَعَةُ
قال فلما قال هذا القول في كلام طويل قد ذكرنا مختاره في جملة الخطب تقدم إليه رجلان من أصحابه فقال أحدهما إني لا أملك إلا نفسي و أخي فمرنا بأمرك يا أمير المؤمنين ننفذ فقال و أين تقعان مما أريد
السنن الطريقة يقال تنح عن السنن أي عن وجه الطريق و النخيلة بظاهر الكوفة و روي ما تكفوني بحذف النون و الحيف الظلم و الوزعة جمع وازع و هو الدافع الكاف. و معنى قوله ما تكفونني أنفسكم أي أفعالكم رديئة قبيحة تحتاج إلى جند غيركم شرح نهج البلاغة ج : 19 ص : 146أعين بهم على تثقيفكم و تهذيبكم فمن هذه حاله كيف أثقف به غيره و أهذب به سواه. و إن كانت الرعايا إن هاهنا مخففة من الثقيلة و لذلك دخلت اللام في جوابها و قد تقدم ذكرنا هذين الرجلين و إن أحدهما قال يا أمير المؤمنين أقول لك ما قاله العبد الصالح رَبِّ إِنِّي لا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَ أَخِي فشكر لهما و قال و أين تقعان مما أريد

(20/84)


شرح نهج البلاغة ج : 19 ص : 268147وَ قِيلَ إِنَّ الْحَارِثَ بْنَ حَوْطٍ أَتَاهُ ع فَقَالَ لَهُ أَ تَرَانِي أَظُنُّ أَنَّ أَصْحَابَ الْجَمَلِ كَانُوا عَلَى ضَلَالَةٍ فَقَالَ ع يَا حَارِ إِنَّكَ نَظَرْتَ تَحْتَكَ وَ لَمْ تَنْظُرْ فَوْقَكَ فَحِرْتَ إِنَّكَ مْ تَعْرِفِ الْحَقَّ فَتَعْرِفَ أَهْلَهُ وَ لَمْ تَعْرِفِ الْبَاطِلَ فَتَعْرِفَ مَنْ أَتَاهُ فَقَالَ الْحَارِثُ فَإِنِّي أَعْتَزِلُ مَعَ سَعْدِ بْنِ مَالِكٍ وَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ فَقَالَ ع إِنَّ سَعْداً وَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ لَمْ يَنْصُرَا الْحَقَّ وَ لَمْ يَخْذُلَا الْبَاطِلَ
اللفظة التي وردت قبل أحسن من هذه اللفظة و هي أولئك قوم خذلوا الحق و لم ينصروا الباطل و تلك كانت حالهم فإنهم خذلوا عليا و لم ينصروا معاوية و لا أصحاب الجمل. فأما هذه اللفظة ففيها إشكال لأن سعدا و عبد الله لعمري إنهما لم ينصرا الحق و هو جانب علي ع لكنهما خذلا الباطل و هو جانب معاوية و أصحاب الجمل فإنهم لم ينصروهم في حرب قط لا بأنفسهم و لا بأموالهم و لا بأولادهم فينبغي شرح نهج البلاغة ج : 19 ص : 148أن نتأول كلامه فنقول إنه ليس يعني بالخذلان عدم المساعدة في الحرب بل يعني بالخذلان هاهنا كل ما أثر في محق الباطل إزالته قال الشاعر يصف فرسا
و هو كالدلو بكف المستقي خذلت عنه العراقي فانجذم

(20/85)


أي باينته العراقي فلما كان كل مؤثر في إزالة شي ء مباينا له نقل اللفظ بالاشتراك في الأمر العام إليه و لما كان سعد و عبد الله لم يقوما خطيبين في الناس يعلمانهم باطل معاوية و أصحاب الجمل و لم يكشفا اللبس و الشبهة الداخلة على الناس في حرب هذين الفريقين و لم يضحا وجوب طاعة علي ع فيرد الناس عن اتباع صاحب الجمل و أهل الشام صدق عليهما أنهما لم يخذلا الباطل و يمكن أن يتأول على وجه آخر و ذلك أنه قد جاء خذلت الوحشية إذا قامت على ولدها فيكون معنى قوله و لم يخذلا الباطل أي لم يقيما عليه و ينصراه فترجع هذه اللفظة إلى اللفظة الأولى و هي قوله أولئك قوم خذلوا الحق و لم ينصروا الباطل. و الحارث بن حوط بالحاء المهملة و يقال إن الموجود في خط الرضي ابن خوط بالخاء المعجمة المضمومة
شرح نهج البلاغة ج : 19 ص : 269149صَاحِبُ السُّلْطَانِ كَرَاكِبِ الْأَسَدِ يُغْبَطُ بِمَوْقِعِهِ وَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَوْضِعِهِنبذ مما قيل في السلطان

(20/86)


قد جاء في صحبة السلطان أمثال حكمية مستحسنة تناسب هذا المعنى أو تجري مجراه في شرح حال السلطان نحو قولهم صاحب السلطان كراكب الأسد يهابه الناس و هو لمركوبه أهيب. و كان يقال إذا صحبت السلطان فلتكن مداراتك له مداراة المرأة القبيحة لبعلها المبغض لها فإنها لا تدع التصنع له على حال. قيل للعتابي لم لا تقصد الأمير قال لأني أراه يعطي واحدا لغير حسنة و لا يد و يقتل آخر بلا سيئة و لا ذنب و لست أدري أي الرجلين أكون و لا أرجو منه مقدار ما أخاطر به. و كان يقال العاقل من طلب السلامة من عمل السلطان لأنه إن عف جنى عليه العفاف عداوة الخاصة و إن بسط يده جنى عليه البسط ألسنة الرعية. و كان سعيد بن حميد يقول عمل السلطان كالحمام الخارج يؤثر الدخول و الداخل يؤثر الخروج. ابن المقفع إقبال السلطان على أصحابه تعب و إعراضه عنهم مذلة. شرح نهج البلاغة ج : 19 ص : 150و قال آخر السلطان إن أرته أتعبك و إن أغضبته أعطبك. و كان يقال إذا كنت مع السلطان فكن حذرا منه عند تقريبه كاتما لسره إذا استسرك و أمينا على ما ائتمنك تشكر له و لا تكلفه الشكر لك و تعلمه و كأنك تتعلم منه و تؤدبه و كأنه يؤدبك بصيرا بهواه مؤثرا لمنفعته ذليلا إن ضامك راضيا إن أعطاك قانعا إن حرمك و إلا فابعد منه كل البعد. و قيل لبعض من يخدم السلطان لا تصحبهم فإن مثلهم مثل قدر التنور كلما مسه الإنسان اسود منه فقال إن كان خارج تلك القدر أسود فداخلها أبيض. و كان يقال أفضل ما عوشر به الملوك قلة الخلاف و تخفيف المئونة. و كان يقال لا يقدر على صحبة السلطان إلا من يستقل بما حملوه و لا يلحف إذا سألهم و لا يغتر بهم إذا رضوا عنه و لا يتغير لهم إذا سخطوا عليه و لا يطغى إذا سلطوه و لا يبطر إذا أكرموه. و كان يقال إذا جعلك السلطان أخا فاجعله ربا و إن زادك فزده. و قال أبو حازم للسلطان كحل يكحل به من يوليه فلا يبصر حتى يعزل. و كان يقال لا ينبغي لصاحب السلطان أن

(20/87)


يبتدئه بالمسألة عن حاله فإن ذلك من كلام النوكى و إذا أردت أن تقول كيف أصبح الأمير فقل صبح الله الأمير بالكرامة و إن أردت أن تقول كيف يجد الأمير نفسه فقل وهب الله الأمير العافية و نحو هذا فإن المسألة توجب الجواب فإن لم يجبك اشتد عليك و إن أجابك اشتد عليه. و كان يقال صحبة الملوك بغير أدب كركوب الفلاة بغير ماء. شرح نهج البلاغة ج : 19 ص : 151و كان يقال ينبغي لمن صحب السلطان أن يستعد للعذر عن ذنب لم يجنه و أن يكون آنس ما يكون به أوحش ما يكون منه. و كان يقال شدة الانقباض من السلطان تورث التهمة و سهولة الانبساط إليه تورث الملالة. و كان يقال اصحب السلطان بإعمال الحذو رفض الدالة و الاجتهاد في النصيحة و ليكن رأس مالك عنده ثلاث الرضا و الصبر و الصدق. و اعلم أن لكل شي ء حدا فما جاوزه كان سرفا و ما قصر عنه كان عجزا فلا تبلغ بك نصيحة السلطان أن تعادي حاشيته و خاصته و أهله فإن ذلك ليس من حقه عليك و ليكن أقضى لحقه عنك و أدع لاستمرار السلامة لك أن تستصلح أولئك جهدك فإنك إذا فعلت ذلك شكرت نعمته و أمنت سطوته و قللت عدوك عنده و إذا جاريت عند السلطان كفؤا من أكفائك فلتكن مجاراتك و مباراتك إياه بالحجة و إن عضهك و بالرفق و إن خرف بك و احذر أن يستحلك فتحمى فإن الغضب يعمي عن الفرصة و يقطع عن الحجة و يظهر عليك الخصم و لا تتوردن على السلطان بالدالة و إن كان أخاك و لا بالحجة و إن وثقت أنها لك و لا بالنصيحة و إن كانت له دونك فإن السلطان يعرض له ثلاث دون ثلاث القدرة دون الكرم و الحمية دون النصفة و اللجاج دون الحظ

(20/88)


شرح نهج البلاغة ج : 19 ص : 270152أَحْسِنُوا فِي عَقِبِ غَيْرِكُمْ تُحْفَظُوا فِي عَقِبِكُمْأكثر ما في هذه الدنيا يقع على سبيل القرض و المكافأة فقد رأينا عيانا من ظلم الناس فظلم عقبه و ولده و رأينا من قتل الناس فقتل عقبه و ولده و رأينا من أخرب دورا فأخربت داره و رأينا من أحسن إلى أعقاب أهل النعم فأحسن الله إلى عقبه و ولده. و قرأت في تاريخ أحمد بن طاهر أن الرشيد أرسل إلى يحيى بن خالد و هو في محبسه يقرعه بذنوبه و يقول له كيف رأيت أ لم أخرب دارك أ لم أقتل ولدك جعفرا أ لم أنهب مالك فقال يحيى للرسول قل له أما إخرابك داري فستخرب دارك و أما قتلك ولدي جعفر فسيقتل ولدك محمد و أما نهبك مالي فسينهب مالك و خزانتك فلما عاد الرسول إليه بالجواب وجم طويلا و حزن و قال و الله ليكونن ما قال فإنه لم يقل لي شيئا قط إلا و كان كما قال فأخربت داره و هي الخلد في حصار بغداد و قتل ولده محمد و نهب ماله و خزانته نهبها طاهر بن الحسين
شرح نهج البلاغة ج : 19 ص : 271153إِنَّ كَلَامَ الْحُكَمَاءِ إِذَا كَانَ صَوَاباً كَانَ دَوَاءً وَ إِذَا كَانَ خَطَأً كَانَ دَاءًكل كلام يقلد المتكلم به لحسن عقيدة الناس فيه نحو كلام الحكماء و كلام الفضلاء و العلماء من الناس إذا كان صوابا كان دواء و إذا كان خطأ كان داء لأن الناس يحذون حذو المتكلم به و يقلدونه فيما يتضمنه ذلك الكلام من الآداب و الأوامر و النواهي فإذا كان حقا أفلحوا و حصل لهم الثواب و اتباع الحق و كانوا كالدواء المبرئ للسقم و إذا كان ذلك الكلام خطأ و اتبعوه خسروا و لم يفلحوا فكان بمنزلة الداء و المرض

(20/89)


شرح نهج البلاغة ج : 19 ص : 272154وَ قَالَ ع حِينَ سَأَلَهُ رَجُلٌ أَنْ يُعَرِّفَهُ مَا الْإِيمَانُ فَقَالَ إِذَا كَانَ غَدٌ فَأْتِنِي حَتَّى أُخْبِرَكَ عَلَى أَسْمَاعِ النَّاسِ فَإِنْ نَسِيتَ مَقَالَتِي حَفِظَهَا عَلَيْكَ غَيْرُكَ فَإِنَّ الْكَلَامَ كَاَّارِدَةِ يَثْقَفُهَا هَذَا وَ يُخْطِئُهَا هَذَا
قال و قد ذكرنا ما أجابه به ع فيما تقدم من هذا الباب و هو قوله الإيمان على أربع شعب
يقول إذ كان غد فأتني فتكون كان هاهنا تامة أي إذا حدث و وجد و تقول إذا كان غدا فأتني فيكون النصب باعتبار آخر أي إذا كان الزمان غدا أي موصوفا بأنه من الغد و من النحويين من يقدره إذا كان الكون غدا لأن الفعل يدل على المصدر و الكون هو التجدد و الحدوث. و قائل هذا القول يرجحه على القول الآخر لأن الفاعل عندهم لا يحذف إلا إذا كان في الكلام دليل عليه. و يثقفها يجدها ثقفت كذا بالكسر أي وجدته و صادفته و الشاردة الضالة
شرح نهج البلاغة ج : 19 ص : 273155يَا ابْنَ آدَمَ لَا تَحْمِلْ هَمَّ يَوْمِكَ الَّذِي لَمْ يَأْتِكَ عَلَى يَوْمِكَ الَّذِي أَتَاكَ فَإِنَّهُ إِنْ يَكُنْ مِنْ عُمُرِكَ يَأْتِ اللَّهُ فِيهِ بِرِزْقِكَقد تقدم هذا الفصل بتمامه و اعلم أن كل ما ادخرته مما هو فاضل عن قوتك فإنما أنت فيه خازن لغيرك. و خلاصة هذا الفصل النهي عن الحرص على الدنيا و الاهتمام لها و إعلام الناس أن الله تعالى قد قسم الرزق لكل حي من خلقه فلو لم يتكلف الإنسان فيه لأتاه رزقه من حيث لا يحتسب. و في المثل يا رزاق البغاث في عشه و إذا نظر الإنسان إلى الدودة المكنونة داخل الصخرة كيف ترزق علم أن صانع العالم قد تكفل لكل ذي حياة بمادة تقيم حياته إلى انقضاء عمره

(20/90)


شرح نهج البلاغة ج : 19 ص : 274156أَحْبِبْ حَبِيبَكَ هَوْناً مَا عَسَى أَنْ يَكُونَ بَغِيضَكَ يَوْماً مَا وَ أَبْغِضْ بَغِيضَكَ هَوْناً مَا عَسَى أَنْ يَكُونَ حَبِيبَكَ يَوْماً مَاالهون بالفتح التأني و البغيض المبغض و خلاصة هذه الكلمة النهي عن الإسراف في المودة و البغضة فربما انقلب من تود فصار عدوا و ربما انقلب من تعاديه فصار صديقا. و قد تقدم القول في ذلك على أتم ما يكون و قال بعض الحكماء توق الإفراط في المحبة فإن الإفراط فيها داع إلى التقصير منها و لأن تكون الحال بينك و بين حبيبك نامية أولى من أن تكون متناهية. و من كلام عمر لا يكن حبك كلفا و لا بغضك تلفا. و قال الشاعر
و أحبب إذا أحببت حبا مقاربا فإنك لا تدري متى أنت نازع و أبغض إذا أبغضت غير مباين فإنك لا تدري متى أنت راجعو قال عدي بن زيد
و لا تأمنن من مبغض قرب داره و لا من محب أن يمل فيبعدا
شرح نهج البلاغة ج : 19 ص : 275157النَّاسُ فِي الدُّنْيَا عَامِلَانِ عَامِلٌ فِي الدُّنْيَا لِلدُّنْيَا قَدْ شَغَلَتْهُ دُنْيَاهُ عَنْ آخِرَتِهِ يَخْشَى عَلَى مَنْ يُخَلِّفُ الْفَقْرَ وَ يَأْمَنُهُ عَلَى نَفْسِهِ فَيُفْنِي عُمُرَهُ فِي مَنْفَعَةِ غَيْرِهوَ عَامِلٌ عَمِلَ فِي الدُّنْيَا لِمَا بَعْدَهَا فَجَاءَهُ الَّذِي لَهُ مِنَ الدُّنْيَا بِغَيْرِ عَمَلٍ فَأَحْرَزَ الْحَظَّيْنِ مَعاً وَ مَلَكَ الدَّارَيْنِ جَمِيعاً فَأَصْبَحَ وَجِيهاً عِنْدَ اللَّهِ لَا يَسْأَلُ اللَّهَ حَاجَةً فَيَمْنَعَهُ

(20/91)


معنى قوله و يأمنه على نفسه أي و لا يبالي أن يكون هو فقيرا لأنه يعيش عيش الفقراء و إن كان ذا مال لكنه يدخر المال لولده فيفني عمره في منفعة غيره. و يجوز أن يكون معناه أنه لكثرة ماله قد أمن الفقر على نفسه ما دام حيا و لكنه لا يأمن الفقر على ولده لأنه لا يثق من ولده بحسن الاكتساب كما وثق من نفسه فلا يزال في الاكتساب و الازدياد منه لمنفعة ولده الذي يخاف عليه الفقر بعد موته. فأما العامل في الدنيا لما بعدها فهم أصحاب العبادة يأتيهم رزقهم بغير اكتساب و لا كد و قد حصلت لهم الآخرة فقد حصل لهم الحظان جميعا
شرح نهج البلاغة ج : 19 ص : 276158وَ رُوِيَ أَنَّهُ ذُكِرَ عِنْدَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ فِي أَيَّامِهِ حَلْيُ الْكَعْبَةِ وَ كَثْرَتُهُ فَقَالَ قَوْمٌ لَوْ أَخَذْتَهُ فَجَهَّزْتَ بِهِ جُيُوشَ الْمُسْلِمِينَ كَانَ أَعْظَمَ لِلْأَجْرِ وَ مَا تَصْنَعُ الْعْبَةُ بِالْحَلْيِ فَهَمَّ عُمَرُ بِذَلِكَ وَ سَأَلَ عَنْهُ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ ع فَقَالَ إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ أُنْزِلَ عَلَى مُحَمَّدٍ ص وَ الْأَمْوَالُ أَرْبَعَةٌ أَمْوَالُ الْمُسْلِمِينَ فَقَسَّمَهَا بَيْنَ الْوَرَثَةِ فِي الْفَرَائِضِ وَ الْفَيْ ُ فَقَسَّمَهُ عَلَى مُسْتَحِقِّيهِ وَ الْخُمْسُ فَوَضَعَهُ اللَّهُ حَيْثُ وَضَعَهُ وَ الصَّدَقَاتُ فَجَعَلَهَا اللَّهُ حَيْثُ جَعَلَهَا وَ كَانَ حَلْيُ الْكَعْبَةِ فِيهَا يَوْمَئِذٍ فَتَرَكَهُ اللَّهُ عَلَى حَالِهِ وَ لَمْ يَتْرُكْهُ نِسْيَاناً وَ لَمْ يَخْفَ عَنْهُ مَكَاناً فَأَقِرَّهُ حَيْثُ أَقَرَّهُ اللَّهُ وَ رَسُولُهُ فَقَالَ لَهُ عُمَرُ لَوْلَاكَ لَافْتَضَحْنَا وَ تَرَكَ الْحَلْيَ بِحَالِهِ

(20/92)


هذا استدلال صحيح و يمكن أن يورد على وجهين أحدهما أن يقال أصل الأشياء الحظر و التحريم كما هو مذهب كثير من أصحابنا البغداديين فلا يجوز التصرف في شي ء من الأموال و المنافع إلا بإذن شرعي و لم يوجد إذن شرعي في حلي الكعبة فبقينا فيه على حكم الأصل. و الوجه الثان أن يقال حلي الكعبة مال مختص بالكعبة هو جار مجرى ستور الكعبة و مجرى باب الكعبة فكما لا يجوز التصرف في ستور الكعبة و بابها شرح نهج البلاغة ج : 19 ص : 159إلا بنص فكذلك حلي الكعبة و الجامع بينهما الاختصاص الجاعل كل واحد من ذلك كالجزء من الكعبة فعلى هذا الوجينبغي أن يكون الاستدلال. و يجب أن يحمل كلام أمير المؤمنين ع عليه و إلا يحمل على ظاهره لأن لمعترض أن يعترض استدلاله إذا حمل على ظاهره بأن يقول الأموال الأربعة التي عددها إنما قسمها الله تعالى حيث قسمها لأنها أموال متكررة بتكرر الأوقات على مر الزمان يذهب الموجود منها و يخلفه غيره فكان الاعتناء بها أكثر و الاهتمام بوجوه متصرفها أشد لأن حاجات الفقراء و المساكين و أمثالهم من ذوي الاستحقاق كثيرة و متجددة بتجدد الأوقات و ليس كذلك حلي الكعبة لأنه مال واحد باق غير متكرر و أيضا فهو شي ء قليل يسير ليس مثله مما يقال يبغي أن يكون الشارع قد تعرض لوجوه مصرفه حيث تعرض لوجوه مصرف الأموال فافترق الموضعان
شرح نهج البلاغة ج : 19 ص : 277160رُوِيَ أَنَّهُ رُفِعَ إِلَيْهِ رَجُلَانِ سَرَقَا مِنْ مَالِ اللَّهِ أَحَدُهُمَا عَبْدٌ مِنْ مَالِ اللَّهِ وَ الآْخَرُ مِنْ عُرْضِ النَّاسِ فَقَالَ أَمَّا هَذَا فَهُوَ مِنْ مَالِ اللَّهِ فَلَا حَدَّ عَلَيْهِ مَالُ اللَّهَِكَلَ بَعْضُهُ بَعْضاً وَ أَمَّا الآْخَرُ فَعَلَيْهِ الْحَدُّ الشَّدِيدُ فَقَطَعَ يَدَهُ

(20/93)


هذا مذهب الشيعة أن عبد المغنم إذا سرق من المغنم لم يقطع فأما العبد الغريب إذا سرق من المغنم فإنه يقطع إذا كان ما سرقه زائدا عما يستحقه من الغنيمة بمقدار النصاب الذي يجب فيه القطع و هو ربع دينار و كذلك الحر إذا سرق من المغنم حكمه هذا الحكم بعينه فوجب أن يحمل كلام أمير المؤمنين على أن العبد المقطوع قد كان سرق من المغنم ما هو أزيد من حقه من الغنيمة بمقدار النصاب المذكور أو أكثر. فأما الفقهاء فإنهم لا يوجبون القطع على من سرق من مال الغنيمة قبل قسمتها سواء كان ما سرقه أكثر من حقه أو لم يكن لأن مخالطة حقه و ممازجته للمسروق شبهة في الجملة تمنع من وجوب القطع هذا إن كان له حق في الغنيمة بأن يكون شهد القتال بإذن سيده فإن لم يكن ذلك و كان لسيده فيها حق لم يقطع أيضا لأن حصة سيده المشاعة شبهة تمنع من قطعه فإن لم يشهد القتال و لا شهده سيده و سرق من الغنيمة قبل القسمة ما يجب في مثله القطع وجب عليه القطع
شرح نهج البلاغة ج : 19 ص : 278161لَوْ قَدِ اسْتَوَتْ قَدَمَايَ مِنْ هَذِهِ الْمَدَاحِضِ لَغَيَّرْتُ أَشْيَاءَلسنا نشك أنه كان يذهب في الأحكام الشرعية و القضايا إلى أشياء يخالف فيها أقوال الصحابة نحو قطعه يد السارق من رءوس الأصابع و بيعه أمهات الأولاد و غير ذلك و إنما كان يمنعه من تغير أحكام من تقدمه اشتغاله بحرب البغاة و الخوارج و إلى ذلك يشير بالمداحض التي كان يؤمل استواء قدميه منها و لهذا
قال لقضاته اقضوا كما كنتم تقضون حتى يكون للناس جماعة

(20/94)


فلفظة حتى هاهنا مؤذنة بأنه فسح لهم في اتباع عادتهم في القضايا و الأحكام التي يعهدونها إلى أن يصير للناس جماعة و ما بعد إلى و حتى ينبغي أن يكون مخالفا لما قبلهما. فأما أصحابنا فيقولون إنه كان فيما يحاول أن يحكم بين الناس مجتهدا و يجوز لغيره من المجتهدين مخالفته. و الإمامية تقول ما كان يحكم إلا عن نص و توقيف و لا يجوز لأحد من الناس مخالفته. و القول في صحة ذلك و فساده فرع من فروع مسألة الإمامة
شرح نهج البلاغة ج : 19 ص : 279162اعْلَمُوا عِلْماً يَقِيناً أَنَّ اللَّهَ لَمْ يَجْعَلْ لِلْعَبْدِ وَ إِنْ عَظُمَتْ حِيلَتُهُ وَ اشْتَدَّتْ طَلِبَتُهُ وَ قَوِيَتْ مَكِيدَتُهُ أَكْثَرَ مِمَّا سُمِّيَ لَهُ فِي الذِّكْرِ الْحَكِيمِ وَ لَمْ يَحُلْ بَيْنَ الَبْدِ فِي ضَعْفِهِ وَ قِلَّةِ حِيلَتِهِ وَ بَيْنَ أَنْ يَبْلُغَ مَا سُمِّيَ لَهُ فِي الذِّكْرِ الْحَكِيمِ وَ الْعَارِفُ لِهَذَا الْعَامِلُ بِهِ أَعْظَمُ النَّاسِ رَحْمَةً فِي مَنْفَعَةٍ وَ التَّارِكُ لَهُ الشَّاكُّ فِيهِ أَعْظَمُ النَّاسِ شُغْلًا فِي مَضَرَّةٍ وَ رُبَّ مُنْعَمٍ عَلَيْهِ مُسْتَدْرَجٌ بِالنُّعْمَى وَ رُبَّ مُبْتَلًى مَصْنُوعٌ لَهُ بِالْبَلْوَى فَزِدْ أَيُّهَا الْمُسْتَمِعُ فِي شُكْرِكَ وَ قَصِّرْ مِنْ عَجَلَتِكَ وَ قِفْ عِنْدَ مُنْتَهَى رِزْقِكَ

(20/95)


قد تقدم القول في الحرص و الجشع و ذمهما و ذم الكادح في طلب الرزق و مدح القناعة و الاقتصار و نذكر هنا طرفا آخر من ذلك قال بعض الحكماء وجدت أطول الناس غما الحسود و أهنأهم عيشا القنوع و أصبرهم على الأذى الحريص و أخفضهم عيشا أرفضهم للدنيا و أعظمهم ندامة العالم المفرط. و قال عمر الطمع فقر و اليأس غنى و من يئس مما عند الناس استغنى عنهم. شرح نهج البلاغة ج : 19 ص : 163و قيل لبعض الحكماء ما الغنى قال قلة تمنيك و رضاك بما يكفيك و لذلك قيل العيش ساعات تمر و خطوب تكر. و قال الشاعراقنع بعيشك ترضه و اترك هواك و أنت حرفلرب حتف فوقه ذهب و ياقوت و در
و قال آخر
إلى متى أنا في حل و ترحال من طول سعي و إدبار و إقبال و نازح الدار لا أنفك مغتربا عن الأحبة لا يدرون ما حالي بمشرق الأرض طورا ثم مغربها لا يخطر الموت من حرص على بالي و لو قنعت أتاني الرزق في دعة إن القنوع الغنى لا كثرة المو جاء في الخبر المرفوع أجملوا في الطلب فإنه ليس لعبد إلا ما كتب له و لن يخرج عبد من الدنيا حتى يأتيه ما كتب له في الدنيا و هي راغمة
شرح نهج البلاغة ج : 19 ص : 280164لَا تَجْعَلُوا عِلْمَكُمْ جَهْلًا وَ يَقِينَكُمْ شَكّاً إِذَا عَلِمْتُمْ فَاعْمَلُوا وَ إِذَا تَيَقَّنْتُمْ فَأَقْدِمُواهذا نهي للعلماء عن ترك العمل يقول لا تجعلوا علمكم كالجهل فإن الجاهل قد يقول جهلت فلم أعمل و أنتم فلا عذر لكم لأنكم قد علمتم و انكشف لكم سر الأمر فوجب عليكم أن تعملوا و لا تجعلوا علمكم جهلا فإن من علم المنفعة في أمر و لا حائل بينه و بينه ثم لم يأته كان سفيها

(20/96)


شرح نهج البلاغة ج : 19 ص : 281165إِنَّ الطَّمَعَ مُورِدُ غَيْرُ مُصْدِرٍ وَ ضَامِنٌ غَيْرُ وَفِيٍّ وَ رُبَّمَا شَرِقَ شَارِبُ الْمَاءِ قَبْلَ رِيِّهِ وَ كُلَّمَا عَظُمَ قَدْرُ الشَّيْ ءِ الْمُتَنَافَسِ فِيهِ عَظُمَتِ الرَّزِيَّةُ لِفَقْدِهِ وَ الْأَمَاُّ تُعْمِي أَعْيُنَ الْبَصَائِرِ وَ الْحَظُّ يَأْتِي مَنْ لَا يَأْتِيهِ
قد تقدم القول في هذه المعاني كلها و قد ضرب الحكماء مثالا لفرط الطمع فقالوا إن رجلا صاد قبرة فقالت ما تريد أن تصنع بي قال أذبحك و آكلك قالت و الله ما أشفي من قرم و لا أشبع من جوع و لكني أعلمك ثلاث خصال هن خير لك من أكلي أما واحدة فأعلمك إياها و أنا في يدك و أما الثانية فإذا صرت على الشجرة أما الثالثة فإذا صرت على الجبل فقال هاتي الأولى قالت لا تلهفن على ما فات فخلاها فلما صارت على الشجرة قال هاتي الثانية قالت لا تصدقن بما لا يكون أنه يكون ثم طارت فصارت على الجبل فقالت يا شقي لو ذبحتني لأخرجت من حوصلتي درتين وزن كل واحدة ثلاثون مثقالا فعض على يديه و تلهف تلهفا شديدا و قال هاتي الثالثة فقالت أنت قد أنسيت الاثنتين فما تصنع بالثالثة أ لم أقل لك لا تلهفن على شرح نهج البلاغة ج : 19 ص : 166ما فات و قد تلهفت و أ لم أقل لك لا تصدقن بما لا يكون أنه يكون و أنا و لحمي دمي و ريشي لا يكون عشرين مثقالا فكيف صدقت أن في حوصلتي درتين كل واحدة منهما ثلاثون مثقالا ثم طارت و ذهبت. و قوله و ربما شرق شارب الماء قبل ريه كلام فصيح و هو مثل لمن يخترم بغتة أو تطرقه الحوادث و الخطوب و هو في تلهية من عيشه. و مثل الكلمة الأخرى قولهم على قدر العطية تكون الرزية. و القول في الأماني قد أوسعنا القول فيه من قبل و كذلك في الحظوظ

(20/97)


شرح نهج البلاغة ج : 19 ص : 282167اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ أَنْ تَحْسُنَ فِي لَامِعَةِ الْعُيُونِ عَلَانِيَتِي وَ تَقْبُحَ فِيمَا أُبْطِنُ لَكَ سَرِيرَتِي مُحَافِظاً عَلَى رِيَاءِ النَّاسِ مِنْ نَفْسِي بِجَمِيعِ مَا أَنْتَ مُطَّلِعٌ عَلَيْهِ مِّي فَأُبْدِيَ لِلنَّاسِ حُسْنَ ظَاهِرِي وَ أُفْضِيَ إِلَيْكَ بِسُوءِ عَمَلِي تَقَرُّباً إِلَى عِبَادِكَ وَ تَبَاعُداً مِنْ مَرْضَاتِكَ
قد تقدم القول في الرياء و أن يظهر الإنسان من العبادة و الفعل الجميل ما يبطن غيره و يقصد بذلك السمعة و الصيت لا وجه الله تعالى. و قد جاء
في الخبر المرفوع أخوف ما أخاف على أمتي الرياء و الشهوة الخفية
قال المفسرون و الرياء من الشهوة الخفية لأنه شهوة الصيت و الجاه بين الناس بأنه متين الدين مواظب على نوافل العبادات و هذه هي الشهوة الخفية أي ليست كشهوة الطعام و النكاح و غيرهما من الملاذ الحسية. و
في الخبر المرفوع أيضا أن اليسير من الرياء شرك و أن الله يحب الأتقياء الأخفياء الذين هم في بيوتهم إذا غابوا لم يفتقدوا و إذا حضروا لم يعرفوا قلوبهم مصابيح الهدى ينجون من كل غبراء مظلمة
شرح نهج البلاغة ج : 19 ص : 283168وَ قَالَ ع لَا وَ الَّذِي أَمْسَيْنَا مِنْهُ فِي غُبَّرِ لَيْلَةٍ دَهْمَاءَ تَكْشِرُ عَنْ يَوْمٍ أَغَرَّ مَا كَانَ كَذَا وَ كَذَا قد روي تفتر عن يوم أغر
و الغبر البقايا و كذلك الأغبار و كشر أي بسم و أصله الكشف. و هذا الكلام إما أن يكون قاله على جهة التفاؤل أو أن يكون إخبارا بغيب و الأول أوجه

(20/98)


شرح نهج البلاغة ج : 19 ص : 284169قَلِيلٌ تَدُومُ عَلَيْهِ أَرْجَى مِنْ كَثِيرٍ مَمْلُولٍ مِنْهُلا ريب أن من أراد حفظ كتاب من الكتب العلمية فحفظ منه قليلا قليلا و دام على ذلك فإن ذلك أنفع له و أرجى لفلاحه من أن يحفظ كثيرا و لا يدوم عليه لملاله إياه و ضجره منه و التجربة تشهد بذلك. و القول في غير الحفظ كالقول في الحفظ نحو الزيارة القليلة للصديق و نحو العطاء اليسير الدائم الذي هو خير من الكثير المنقطع و نحو ذلك
شرح نهج البلاغة ج : 19 ص : 285170إِذَا أَضَرَّتِ النَّوَافِلُ بِالْفَرَائِضِ فَارْفُضُوهَاقد تقدم القول في النافلة هل تصح ممن عليه فريضة لم يؤدها و ذكرنا مذاهب الفقهاء في ذلك. و لا ريب أن من استغرق الوقت بالنوافل حتى آن أوقات الفرائض لم يفعل الفرائض فيها و شغلها بالعبادة النفلية فقد أخطأ و الواجب أن يرفض النافلة حيث يتضيق وقت الفريضة لا خلاف بين المسلمين في ذلك و يصلح أن يكون هذا مثلا ظاهره ما ذكرنا و باطنه أمر آخر

(20/99)


شرح نهج البلاغة ج : 19 ص : 286171مَنْ تَذَكَّرَ بُعْدَ السَّفَرِ اسْتَعَدَّهذا مثل قولهم في المثل الليل طويل و أنت مقمر و قال أيضا عش و لا تغتر. و قال أصحاب المعاني مثل الدنيا كركب في فلاة وردوا ماء طيبا فمنهم من شرب من ذلك الماء شربا يسيرا ثم أفكر في بعد المسافة التي يقصدونها و أنه ليس بعد ذلك الماء ماء آخر فتزود منه ماء أوصله إلى مقصده و منهم من شرب من ذلك الماء شرب عظيما و لها عن التزود و الاستعداد و ظن أن ما شرب كاف له و مغن عن ادخار شي ء آخر فقطع به و أخلفه ظنه فعطش في تلك الفلاة و مات. و قد روي عن النبي ص أنه قال لأصحابه إنما مثلي و مثلكم و مثل الدنيا كقوم سلكوا مفازة غبراء حتى إذا لم يدروا ما سلكوا منها أكثر أم ما بقي أنفدوا الزاد و حسروا الظهر و بقوا بين ظهراني المفازة لا زاد و لا حمولة فأيقنوا بالهلكة فبينما هم كذلك خرج عليهم رجل في حلة يقطر رأسه ماء فقالوا هذا قريب عهد بريف و ما جاءكم هذا إلا من قريب فلما انتهى إليهم و شاهد حالهم قال أ رأيتم إن هديتكم إلى ماء رواء و رياض خضر ما تعملون قالوا لا نعصيك شيئا شرح نهج البلاغة ج : 19 ص : 172قال عهودكم و مواثيقكم بالله فأعطوه ذلك فأوردهم ماءواء و رياضا خضرا و مكث بينهم ما شاء الله ثم قال إني مفارقكم قالوا إلى أين قال إلى ماء ليس كمائكم و رياض ليست كرياضكم فقال الأكثرون منهم و الله ما وجدنا ما نحن فيه حتى ظننا أنا لا نجده و ما نصنع بمنزل خير من هذا و قال الأقلون منهم أ لم تعطوا هذا الرجل مواثيقكم و عهودكم بالله لا تعصونه شيئا و قد صدقكم في أول حديثه و الله ليصدقنكم في آخره فراح فيمن تبعه منهم و تخلف الباقون فدهمهم عدو شديد البأس عظيم الجيش فأصبحوا ما بين أسير و قتيل

(20/100)


شرح نهج البلاغة ج : 19 ص : 287173لَيْسَتِ الرُّؤْيَةُ مَعَ الْإِبْصَارِ فَقَدْ تَكْذِبُ الْعُيُونُ أَهْلَهَا وَ لَا يَغُشُّ الْعَقْلُ مَنِ اسْتَنْصَحَهُهذا مثل قوله تعالى فَإِنَّها لا تَعْمَى الْأَبْصارُ وَ لكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ أي ليس العمى عمى العين بل عمى القلب. كذلك
قول أمير المؤمنين ع ليست الرؤية مع العيون و إنما الرؤية الحقيقية مع العقول
و قد ذهب أكابر الحكماء إلى أن اليقينيات هي المعقولات لا المحسوسات قالوا لأن حكم الحس في مظنة الغلط و طال ما كذب الحس و اعتقدنا بطريقة اعتقادات باطلة كما نرى الكبير صغيرا و الصغير كبيرا و المتحرك ساكنا و الساكن متحركا فأما العقل فإذا كان المعقول به بديهيا أو مستندا إلى مقدمات بديهية فإنه لا يقع فيه غلط أصلا
شرح نهج البلاغة ج : 19 ص : 288174بَيْنَكُمْ وَ بَيْنَ الْمَوْعِظَةِ حِجَابٌ مِنَ الْغِرَّةِقد تقدم ذكر الدنيا و غرورها و أنها بشهواتها و لذاتها حجاب بين العبد و بين الموعظة لأن الإنسان يغتر بالعاجلة و يتوهم دوام ما هو فيه و إذا خطر بباله الموت و الفناء وعد نفسه رحمة الله تعالى و عفوه هذا إن كان ممن يعترف بالمعاد فإن كثيرا ممن يظهر القول بالمعاد هو في الحقيقة غير مستيقن له و الإخلاد إلى عفو الله تعالى و الاتكال على المغفرة مع الإقامة على المعصية غرور لا محالة و الحازم من عمل لما بعد الموت و لم يمن نفسه الأماني التي لا حقيقة لها
شرح نهج البلاغة ج : 19 ص : 289175جَاهِلُكُمْ مُزْدَادٌ وَ عَالِمُكُمْ مُسَوِّفٌهذا قريب مما سلف يقول إن الجاهل من الناس مزداد من جهله مصر على خطيئته مسوف من توهماته و عقيدته الباطلة بالعفو عن ذنبه و ليس الأمر كما توهمه. لَيْسَ بِأَمانِيِّكُمْ وَ لا أَمانِيِّ أَهْلِ الْكِتابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ وَ لا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَ لا نَصِيراً

(20/101)


شرح نهج البلاغة ج : 19 ص : 290176قَطَعَ الْعِلْمُ عُذْرَ الْمُتَعَلِّلِينَ هذا أيضا قريب مما تقدم يقول قطع العلم عذر الذين يعللون أنفسهم بالباطل و يقولون إن الرب كريم رحيم فلا حاجة لنا إلى إتعاب أنفسنا بالعبادة كما قال الشاعرقدمت على الكريم بغير زاد من الأعمال ذا ذنب عظيم و سوء الظن أن تعتد زادا إذا كان القدوم على الكريمو هذا هو التعليل بالباطل فإن الله تعالى و إن كان كريما رحيما عفوا غفورا إلا أنه صادق القول و قد توعد العصاة و قال وَ إِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ يَصْلَوْنَها يَوْمَ الدِّينِ وَ ما هُمْ عَنْها بِغائِبِينَ و قال لا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ وَ قَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ ما يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَ ما أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ و يكفي في رحمته و عفوه و كرمه أن يغفر للتائب أو لمن ثوابه أكثر مما يستحقه من العقاب فالقول بالوعيد معلوم بأدلة السمع المتظاهرة المتناصرة التي قد أطنب أصحابنا في تعدادها و إيضاحها و إذا كان الشي ء معلوما فقد قطع العلم به عذر أصحاب التعلل و التمني و وجب العمل بالمعلوم و رفض ما يخالفه شرح نهج البلاغة ج : 19 ص : 291177كُلُّ مُعَاجَلٍ يَسْأَلُ الْإِنْظَارَ وَ كُلُّ مُؤَجَّلٍ يَتَعَلَّلُ بِالتَّسْوِيفِقال الله سبحانه حَتَّى إِذا جاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ رَبِّ ارْجِعُونِ لَعَلِّي أَعْمَلُ صالِحاً فِيما تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّها كَلِمَةٌ هُوَ قائِلُها وَ مِنْ وَرائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ فهذا هو سؤال الإنظار لمن عوجل فأما من أجل فإنه يعلل نفسه بالتسويف و يقول سوف أتوب سوف أقلع عما أنا عليه فأكثرهم يخترم من غير أن يبلغ هذا الأمل و تأتيه المنية و هو على أقبح حال و أسوئها و منهم من تشمله السعادة فيتوب قبل الموت و أولئك الذين ختمت أعمالهم بخاتمة الخير و هم في العالم كالشعرة البيضاء في الثور الأسود

(20/102)


شرح نهج البلاغة ج : 19 ص : 292178مَا قَالَ النَّاسُ لِشَيْ ءٍ طُوبَى لَهُ إِلَّا وَ قَدْ خَبَّأَ لَهُ الدَّهْرُ يَوْمَ سَوْءقد تقدم هذا المعنى و ذكرنا فيه نكتا جيدة حميدة
نبذ من الأقوال الحكمية في تقلبات الدهر و تصرفاته
كان محمد بن عبد الله بن طاهر أمير بغداد في قصره على دجلة يوما و إذا بحشيش على وجه الماء في وسطه قصبة عليها رقعة فأمر بأخذها فإذا فيها
تاه الأعيرج و استولى به البطر فقل له خير ما استعملته الحذرأحسنت ظنك بالأيام إذ حسنت و لم تخف سوء ما يأتي به القدرو سالمتك الليالي فاغتررت بها و عند صفو الليالي يحدث الكدر
فما انتفع بنفسه مدة. و في المثل الدهر إذا أتى بسحواء سحسح يعقبها بنكباء زعزع و كذاك شرب العيش فيه تلون بيناه عذبا إذ تحول آجنا. شرح نهج البلاغة ج : 19 ص : 179يحيى بن خالد أعطانا الدهر فأسرف ثم مال علينا فأجحف. و قال الشاعرفيا لنعيم ساعدتنا رقابه و خاست بنا أكفاله و الروادف
إسحاق بن إبراهيم الموصلي
هي المقادير تجري في أعنتها فاصبر فليس لها صبر على حال يوما تريش خسيس الحال ترفعه إلى السماء و يوما تخفض العاليإذا أدبر الأمر أتى الشر من حيث كان يأتي الخير. هانئ بن مسعود
إن كسرى أبى على الملك النعمان حتى سقاه أم الرقوب كل ملك و إن تصعد يوما بأناس يعود للتصويبأحيحة بن الجلاح
و ما يدري الفقير متى غناه و ما يدري الغني متى يعيل و ما تدري إذا أضربت شولا أ تلقح بعد ذلك أم تحيل و ما تدري إذا أزمعت سيرا بأي الأرض يدركك المقيآخر
فما درن الدنيا بباق لأهله و لا شرة الدنيا بضربة لازم
آخر
رب قوم غبروا من عيشهم في سرور و نعيم و غدق
شرح نهج البلاغة ج : 19 ص : 180سكت الدهر زمانا عنهم ثم أبكاهم دما حين نطو من الشعر المنسوب إلى محمد الأمين بن زبيدة
يا نفس قد حق الحذر أين الفرار من القدركل امرئ مما يخاف و يرتجيه على خطرمن يرتشف صفو الزمان يغص يوما بالكدر

(20/103)


شرح نهج البلاغة ج : 19 ص : 293181وَ قَالَ ع وَ قَدْ سُئِلَ عَنِ الْقَدَرِ طَرِيقٌ مُظْلِمٌ فَلَا تَسْلُكُوهُ ثُمَّ سُئِلَ ثَانِياً فَقَالَ بَحْرٌ عَمِيقٌ فَلَا تَلِجُوهُ ثُمَّ سُئِلَ ثَالِثاً فَقَالَ سِرُّ اللَّهِ فَلَا تَتَكَلَّفُوهُقد جاء في الخبر المرفوع القدر سر الله في الأرض
و روي سر الله في عباده
و المراد نهي المستضعفين عن الخوض في إرادة الكائنات و في خلق أعمال العباد فإنه ربما أفضى بهم القول بالجبر لما في ذلك من الغموض و ذلك أن العامي إذا سمع قول القائل كيف يجوز أن يقع في عالمه ما يكرهه و كيف يجوز أن تغلب إرادة المخلوق إرادة الخالق. و يقول أيضا إذا علم في القدم أن زيدا يكفر فكيف لزيد أن لا يكفر و هل يمكن أن يقع خلاف ما علمه الله تعالى في القدم اشتبه عليه الأمر و صار شبهة في نفسه و قوي في ظنه مذهب المجبرة فنهى ع هؤلاء عن الخوض في هذا النحو من البحث و لم ينه غيرهم من ذوي العقول الكاملة و الرياضة القوية و الملكة التامة و من له قدرة على حل الشبه و التفصي عن المشكلات. فإن قلت فإنكم تقولون إن العامي و المستضعف يجب عليهما النظر قلت نعم إلا أنه لا بد لهما من موقف بعد أعمالها ما ينتهي إليه جهدهما من النظر بحيث يرشدهما إلى الصواب و النهي إنما هو لمن يستبد من ضعفاء العامة بنفسه في النظر و لا يبحث مع غيره ليرشده
شرح نهج البلاغة ج : 19 ص : 294182إِذَا أَرْذَلَ اللَّهُ عَبْداً حَظَرَ عَلَيْهِ الْعِلْمَأرذله جعله رذلا و كان يقال من علامة بغض الله تعالى للعبد أن يبغض إليه العلم. و قال الشاعر
شكوت إلى وكيع سوء حفظي فأرشدني إلى ترك المعاصي و قال لأن حفظ العلم فضل و فضل الله لا يؤتيه عاصيو قال رجل لحكيم ما خير الأشياء لي قال أن تكون عالما قال فإن لم أكن قال أن تكون مثريا قال فإن لم أكن قال أن تكون شاريا قال فإن لم أكن قال فأن تكون ميتا. أخذ هذا المعنى بعض المحدثين فقال

(20/104)


إذا فاتك العلم جد بالقرى و إن فاتك المال سد بالقراع فإن فات هذا و هذا و ذاك فمت فحياتك شر المتاعو قال أيضا في المعنى بعينه
و لو لا الحجا و القرى و القراع لما فضل الآخر الأولاثلاث متى يخل منها الفتى يكن كالبهيمة أو أرذلا
شرح نهج البلاغة ج : 19 ص : 295183وَ قَالَ ع كَانَ لِي فِيمَا مَضَى أَخٌ فِي اللَّهِ وَ كَانَ يُعَظِّمُهُ فِي عَيْنِي صِغَرُ الدُّنْيَا فِي عَيْنِهِ وَ كَانَ خَارِجاً مِنْ سُلْطَانِ بَطْنِهِ فَلَا يَتَشَهَّى مَا لَا يَجِدُ وَ لَا يُكْثِرُ إِذَا وَجَدَ وََانَ أَكْثَرَ دَهْرِهِ صَامِتاً فَإِنْ قَالَ بَذَّ الْقَائِلِينَ وَ نَقَعَ غَلِيلَ السَّائِلِينَ وَ كَانَ ضَعِيفاً مُسْتَضْعَفاً فَإِنْ جَاءَ الْجِدُّ فَهُوَ لَيْثٌ عَادٍ وَ صِلُّ وَادٍ لَا يُدْلِي بِحُجَّةٍ حَتَّى يَأْتِيَ قَاضِياً كَانَ لَا يَلُومُ أَحَداً عَلَى مَا لَا يَجِدُ الْعُذْرَ فِي مِثْلِهِ حَتَّى يَسْمَعَ اعْتِذَارَهُ وَ كَانَ لَا يَشْكُو وَجَعاً إِلَّا عِنْدَ بُرْئِهِ وَ كَانَ يَفْعَلُ مَا يَقُولُ وَ لَا يَقُولُ مَا لَا يَفْعَلُ وَ كَانَ إِنْ غُلِبَ عَلَى الْكَلَامِ لَمْ يُغْلَبْ عَلَى السُّكُوتِ وَ كَانَ عَلَى أَنْ يَسْمَعَ أَحْرَصَ مِنْهُ عَلَى أَنْ يَتَكَلَّمَ وَ كَانَ إِذَا بَدَهَهُ أَمْرَانِ نَظَرَ أَيُّهُمَا أَقْرَبُ إِلَى الْهَوَى فَخَالَفَهُ فَعَلَيْكُمْ بِهَذِهِ الْخَلَائِقِ فَالْزَمُوهَا وَ تَنَافَسُوا فِيهَا فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِيعُوهَا فَاعْلَمُوا أَنَّ أَخْذَ الْقَلِيلِ خَيْرٌ مِنْ تَرْكِ الْكَثِيرِ

(20/105)


قد اختلف الناس في المعني بهذا الكلام و من هو هذا الأخ المشار إليه فقال قوم هو رسول الله ص و استبعده قوم لقوله و كان ضعيفا مستضعفا فإن النبي ص لا يقال في صفاته مثل هذه الكلمة شرح نهج البلاغة ج : 19 ص : 184و إن أمكن تأويلها على لين كلامه و سماحة أخلاقه إلانها غير لائقة به ع. و قال قوم هو أبو ذر الغفاري و استبعده قوم لقوله فإن جاء الجد فهو ليث عاد و صل واد فإن أبا ذر لم يكن من الموصوفين بالشجاعة و المعروفين بالبسالة. و قال قوم هو المقداد بن عمرو المعروف بالمقداد بن الأسود و كان من شيعة علي ع المخلصين و كان شجاعا مجاهدا حسن الطريقة و قد ورد في فضله حديث صحيح مرفوع. و قال قوم أنه ليس بإشارة إلى أخ معين و لكنه كلام خارج مخرج المثل و عادة العرب جارية بمثل ذلك مثل قولهم في الشعر فقلت لصاحبي و يا صاحبي و هذا عندي أقوى الوجوه
نبذ من الأقوال الحكمية في حمد القناعة و قلة الأكل
و قد مضى القول في صغر الدنيا في عين أهل التحقيق فأما سلطان البطن و مدح الإنسان بأنه لا يكثر من الأكل إذا وجد أكلا و لا يشتهي من الأكل ما لا يجده فقد قال الناس فيه فأكثروا. قال أعشى باهلة يرثي المنتشر بن وهب
طاوي المصير على العزاء منصلت بالقوم ليلة لا ماء و لا شجرتكفيه فلذة لحم إن ألم بها من الشواء و يروي شربه الغمرو لا يباري لما في القدر يرقبه و لا تراه أمام القوم يفتقر شرح نهج البلاغة ج : 19 ص : 185لا يغمز الساق من أين و لا وصب و لا يعض على شرسوفه الصفو قال الشنفري

(20/106)


و أطوي على الخمص الحوايا كما انطوت خيوطة ماري تغار و تفتل و إن مدت الأيدي إلى الزاد لم أكن بأعجلهم إذ أجشع القوم أعجل و ما ذاك إلا بسطة عن تفضل عليهم و كان الأفضل المو قال بعضهم لابنه يا بني عود نفسك الأثرة و مجاهدة الهوى و الشهوة و لا تنهش نهش السباع و لا تقضم قضم البراذين و لا تدمن الأكل إدمان النعاج و لا تلقم لقم الجمال إن الله جعلك إنسانا فلا تجعل نفسك بهيمة و لا سبعا و احذر سرعة الكظة و داء البطنة فقد قال الحكيم إذا كنت بطنا فعد نفسك من الزمنى. و قال الأعشى
و البطنة يوما تسفه الأحلاما

(20/107)


و اعلم أن الشبع داعية البشم و البشم داعية السقم و السقم داعية الموت و من مات هذه الميتة فقد مات موتة لئيمة و هو مع هذا قاتل نفسه و قاتل نفسه ألوم من قاتل غيره يا بني و الله ما أدى حق السجود و الركوع ذو كظة و لا خشع لله ذو بطنة و الصوم مصحة و لربما طالت أعمار الهند و صحت أبدان العرب و لله در الحارث بن كلدة حيث زعم أن الدواء هو الأزم و أن الداء إدخال الطعام في أثر الطعام يا بني لم صفت أذهان الأعراب و صحت أذهان الرهبان مع طول الإقامة في الصوامع حتى لم تعرف وجع المفاصل و لا الأورام إلا لقلة الرزء و وقاحة الأكل و كيف لا ترغب في تدبير يجمع لك بين صحة البدن و ذكاء الذهن و صلاح المعاد شرح نهج البلاغة ج : 19 ص : 186و القرب و عيش الملائكة يا بني لم صار الضب أطول شي ء ذماء إلا لأنه يتبلغ بالنسيم و لم زعم رسول الله ص أن الصوم وجاء إلا ليجعله حجابا دون الشهوات فافهم تب الله و رسوله فإنهما لا يقصدان إلا مثلك يا بني إني قد بلغت تسعين عاما ما نقص لي سن و لا انتشر لي عصب و لا عرفت دنين أنف و لا سيلان عين و لا تقطير بول ما لذلك علة إلا التخفيف من الزاد فإن كنت تحب الحياة فهذه سبيل الحياة و إن كنت تريد الموت فلا يبعد الله إلا من ظلم. و كان يقال البطنة تذهب الفطنة. و قال عمرو بن العاص لأصحابه يوم حكم الحكمان أكثروا لأبي موسى من الطعام الطيب فو الله ما بطن قوم قط إلا فقدوا عقولهم أو بعضها و ما مضى عزم رجل بات بطينا. و كان يقال أقلل طعاما تحمد مناما و دعا عبد الملك بن مروان رجلا إلى الغداء فقال ما في فضل فقال إني أحب الرجل يأكل حتى لا يكون فيه فضل فقال يا أمير المؤمنين عندي مستزاد و لكني أكره أن أصير إلى الحال التي استقبحها أمير المؤمنين. و كان يقال مسكين ابن آدم أسير الجوع صريع الشبع. و سأل عبد الملك أبا الزعيرعة فقال هل أتخمت قط قال لا قال و كيف قال لأنا إذا طبخنا أنضجنا و إذا مضغنا دققنا و

(20/108)


لا نكظ المعدة و لا نخليها. و كان يقال من المروءة أن يترك الإنسان الطعام و هو بعد يشتهيه. و قال الشاعر
فإن قراب البطن يكفيك ملؤه و يكفيك سوآت الأمور اجتنابها
و قال عبد الرحمن ابن أخي الأصمعي كان عمي يقول لي لا تخرج يا بني من منزلك شرح نهج البلاغة ج : 19 ص : 187حتى تأخذ حلمك يعني تتغذى فإذا أخذت حلمك فلا تزدد إليه حلما فإن الكثرة تئول إلى قلة و في الحديث المرفوع ما ملأ ابن آدم وعاء شرا من بطن بحسب الرجل من طعامه ما أقام صلبه و أما إذا أبيت فثلث طعام و ثلث شراب و ثلث نفس
و روى حذيفة عن النبي ص من قل طعمه صح بطنه و صفا قلبه و من كثر طعمه سقم بطنه و قسا قلبه
و عنه ص لا تميتوا القلوب بكثرة الطعام و الشراب فإن القلب يموت بهما كالزرع يموت إذا أكثر عليه الماء
و روى عون بن أبي جحيفة عن أبيه قال أكلت يوما ثريدا و لحما سمينا ثم أتيت رسول الله و أنا أتجشأ فقال احبس جشأك أبا جحيفة إن أكثركم شبعا في الدنيا أكثركم جوعا في الآخرة قال فما أكل أبو جحيفة بعدها مل ء بطنه إلى أن قبضه الله وأكل علي ع قليلا من تمر دقل و شرب عليه ماء و أمر يده على بطنه و قال من أدخله بطنه النار فأبعده الله ثم تمثل
فإنك مهما تعط بطنك سؤله و فرجك نالا منتهى الذم أجمعا
و كان ع يفطر في رمضان الذي قتل فيه عند الحسن ليلة و عند الحسين ليلة و عند عبد الله بن جعفر ليلة لا يزيد على اللقمتين أو الثلاث فيقال له فيقول إنما هي ليال قلائل حتى يأتي أمر الله و أنا خميص البطن فضربه ابن ملجم لعنه الله تلك الليلة
و قال الحسن لقد أدركت أقواما ما يأكل أحدهم إلا في ناحية بطنه ما شبع رجل منهم من طعام حتى فارق الدنيا كان يأكل فإذا قارب الشبع أمسك. و أنشد المبرد شرح نهج البلاغة ج : 19 ص : 18فإن امتلاء البطن في حسب الفتى قليل الغناء و هو في الجسم صالح

(20/109)


و قال عيسى ع يا بني إسرائيل لا تكثروا الأكل فإنه من أكثر من الأكل أكثر من النوم و من أكثر النوم أقل الصلاة و من أقل الصلاة كتب من الغافلين
وقيل ليوسف ع ما لك لا تشبع و في يديك خزائن مصر قال إني إذا شبعت نسيت الجائعين
و قال الشاعر
و أكلة أوقعت في الهلك صاحبها كحبة القمح دقت عنق عصفورلكسرة بجريش الملح آكلها ألذ من تمرة تحشى بزنبور
و وصف لسابور ذي الأكتاف رجل من إصطخر للقضاء فاستقدمه فدعاه إلى الطعام فأخذ الملك دجاجة من بين يديه فنصفها و جعل نصفها بين يدي ذلك الرجل فأتى عليه قبل أن يفرغ الملك من أكل النصف الآخر فصرفه إلى بلده و قال إن سلفنا كانوا يقولون من شره إلى طعام الملك كان إلى أموال الرعية أشره. قيل لسميرة بن حبيب إن ابنك أكل طعاما فأتخم و كاد يموت فقال و الله لو مات منه ما صليت عليه
أنس يرفعه إن من السرف أن تأكل كل ما اشتهيت
دخل عمر على عاصم ابنه و هو يأكل لحما فقال ما هذا قال قرمنا إليه قال أ و كلما قرمت إلى اللحم أكلته كفى بالمرء شرها أن يأكل كل ما يشتهي.
أبو سعيد يرفعه استعينوا بالله من الرعب
قالوا هو الشره و يقال الرعب شؤم
أنس يرفعه أصل كل داء البردة
قالوا هي التخمة و قال أبو دريد العرب تعير بكثرة الأكل و أنشد
لست بأكال كأكل العبد و لا بنوام كنوم الفهد
شرح نهج البلاغة ج : 19 ص : 189و قال الشاعرإذا لم أزر إلا لآكل أكلة فلا رفعت كفي إلي طعامي فما أكلة إن نلتها بغنيمة و لا جوعة إن جعتها بغرام ابن عباس كان رسول الله ص يبيت طاويا ليالي ما له و لأهله عشاء و كان عامة طعامه الشعير
و قالت عائشة و الذي بعث محمدا بالحق ما كان لنا منخل و لا أكل رسول الله ص خبزا منخولا منذ بعثه الله إلى أن قبض قالوا فكيف كنتم تأكلون دقيق الشعير قالت كنا نقول أف أف
أنس ما أكل رسول الله ص رغيفا محورا إلى أن لقي ربه عز و جل

(20/110)


أبو هريرة ما شبع رسول الله ص و أهله ثلاثة أيام متوالية من خبز حنطة حتى فارق الدنيا
و روى مسروق قال دخلت على عائشة و هي تبكي فقلت ما يبكيك قالت ما أشاء أن أبكي إلا بكيت مات رسول الله ص و لم يشبع من خبز البر في يوم مرتين ثم انهارت علينا الدنيا. حاتم الطائي
و إني لأستحيي صحابي أن يروا مكان يدي من جانب الزاد أقرعاأقصر كفي أن تنال أكفهم إذا نحن أهوينا و حاجاتنا معاأبيت خميص البطن مضطمر الحشا حياء أخاف الضيم أن أتضلعا

(20/111)


شرح نهج البلاغة ج : 19 ص : 190فإنك إن أعطيت نفسك سؤلها و فرجك نالا منتهى الذم أجمعفأما قوله ع كان لا يتشهى ما لا يجد فإنه قد نهى أن يتشهى الإنسان ما لا يجد و قالوا إنه دليل على سقوط المروءة. و قال الأحنف جنبوا مجالسنا ذكر تشهي الأطعمة و حديث النكاح. و قال الجاحظ جلسنا في دار فجعلنا نتشهى الأطعمة فقال واحد و أنا أشتهي سكباجا كثيرة الزعفران و قال آخر أنا أشتهي طباهجة ناشفة و قال آخر أنا أشتهي هريسة كثيرة الدارصيني و إلى جانبنا امرأة بيننا و بينها بئر الدار فضربت الحائط و قالت أنا حامل فأعطوني مل ء هذه الغضارة من طبيخكم فقال ثمامة جارتنا تشم رائحة الأماني شرح نهج البلاغة ج : 19 ص : 296191لَوْ لَمْ يَتَوَعَّدِ اللَّهُ سُبْحَانَهُ عَلَى مَعْصِيَتِهِ لَكَانَ يَجِبُ أَلَّا يُعْصَى شُكْراً لِنِعَمِهِقالت المعتزلة إنا لو قدرنا أن الوعيد السمعي لم يرد لما أخل ذلك بكون الواجب واجبا في العقل نحو العدل و الصدق و العلم و رد الوديعة هذا في جانب الإثبات و أما في جانب السلب فيجب في العقل ألا يظلم و ألا يكذب و ألا يجهل و ألا يخون الأمانة ثم اختلفوا فيما بينهم فقالت معتزلة بغداد ليس الثواب واجبا على الله تعالى بالعقل لأن الواجبات إنما تجب على المكلف لأن أداءها كالشكر لله تعالى و شكر المنعم واجب لأنه شكر منعم فلم يبق وجه يقتضي وجوب الثواب على الله سبحانه و هذا قريب من قول أمير المؤمنين ع. و قال البصريون بل الثواب واجب على الله تعالى عقلا كما يجب عليه العوض عن إيلام الحي لأن التكليف إلزام بما فيه مضرة كما أن الإيلام إنزال مضرة و الإلزام كالإنزال

(20/112)


شرح نهج البلاغة ج : 19 ص : 297192وَ قَالَ ع لِلْأَشْعَثِ بْنِ قَيْسٍ وَ قَدْ عَزَّاهُ عَنِ ابْنٍ لَهُ يَا أَشْعَثُ إِنْ تَحْزَنْ عَلَى ابْنِكَ فَقَدِ اسْتَحَقَّتْ ذَلِكَ مِنْكَ الرَّحِمُ وَ إِنْ تَصْبِرْ فَفِي اللَّهِ مِنْ كُلِّ مُصِيبَةٍ خَلَفٌ يَا أَشَثُ إِنْ صَبَرْتَ جَرَى عَلَيْكَ الْقَدَرُ وَ أَنْتَ مَأْجُورٌ وَ إِنْ جَزِعْتَ جَرَى عَلَيْكَ الْقَدَرُ وَ أَنْتَ مَأْزُورٌ يَا أَشْعَثُ ابْنُكَ سَرَّكَ وَ هُوَ بَلَاءٌ وَ فِتْنَةٌ وَ حَزَنَكَ وَ هُوَ ثَوَابٌ وَ رَحْمَةٌ
قد روي هذا الكلام عنه ع على وجوه مختلفة و روايات متنوعة هذا الوجه أحدها و أخذ أبو العتاهية ألفاظه ع فقال لمن يعزيه عن ولد
و لا بد من جريان القضاء إما مثابا و إما أثيما
و من كلامهم في التعازي إذا استأثر الله بشي ء فاله عنه و تنسب هذه الكلمة إلى عمر بن عبد العزيز. و ذكر أبو العباس في الكامل أن عقبة بن عياض بن تميم أحد بني عامر بن لؤي استشهد فعزى أباه معز فقال احتسبه و لا تجزع عليه فقد مات شهيدا فقال عياض أ تراني كنت أسر ب و هو من زينة الحياة الدنيا و أساء به و هو من الباقيات الصالحات. شرح نهج البلاغة ج : 19 ص : 193و هذا الكلام مأخوذ من كلام أمير المؤمنين ع. و من التعازي الجيدة قول القائلو من لم يزل غرضا للمنون يتركه كل يوم عميدافإن هن أخطأنه مرة فيوشك مخطئها أن يعودافبينا يحيد و أخطأنه قصدن فأعجلنه أن يحيدا
و قال آخر
هو الدهر قد جربته و عرفته فصبرا على مكروهه و تجلداو ما الناس إلا سابق ثم لاحق و فائت موت سوف يلحقه غدا
و قال آخر
أينا قدمت صروف الليالي فالذي أخرت سريع اللحاق غدرات الأيام منتزعات عنقينا من أنس هذا العناقابن نباتة السعدي
نعلل بالدواء إذا مرضنا و هل يشفي من الموت الدواءو نختار الطبيب و هل طبيب يؤخر ما يقدمه القضاءو ما أنفاسنا إلا حساب و ما حركاتنا إلا فناء
البحتري

(20/113)


إن الرزية في الفقيد فإن هفا جزع بلبك فالرزية فيكاو متى وجدت الناس إلا تاركا لحميمه في الترب أو متروكالو ينجلي لك ذخرها من نكبة جلل لأضحكك الذي يبكيكا
شرح نهج البلاغة ج : 19 ص : 194و كتب بعضهم إلى صديق له مات ابنه كيف شكرك لله تعالى على ما أخذ من وديعته و عوض من مثوبته. و عزى عمر بن الخطاب أبا بكر عن طفل فقال عوضك الله منه ما عوضه منك فإن الطفل يعوض من أبويه الجنة. و في الحديث المرفوع من عزى مصابا كان له مثل أجره
و قال ع من كنوز السر كتمان المصائب و كتمان الأمراض و كتمان الصدقة
و قال شاعر في رثاء ولده
و سميته يحيى ليحيا و لم يكن إلى رد أمر الله فيه سبيل تخيرت فيه الفأل حين رزقته و لم أدر أن الفأل فيه يفيلو قال آخر
و هون وجدي بعد فقدك أنني إذا شئت لاقيت امرأ مات صاحبه
آخر
و قد كنت أرجو لو تمليت عيشة عليك الليالي مرها و انتقالهافأما و قد أصبحت في قبضة الردى فقل لليالي فلتصب من بدا لها
أخذه المتنبئ فقال
قد كنت أشفق من دمعي على بصري فاليوم كل عزيز بعدكم هانا
و مثله لغيره
فراقك كنت أخشى فافترقنا فمن فارقت بعدك لا أبالي
شرح نهج البلاغة ج : 19 ص : 298195وَ قَالَ ع عِنْدَ وقُوُفِهِ عَلَى قَبْرِ رَسُولِ اللَّهِ ص سَاعَةَ دُفِنَ رَسُولُ اللَّهِ ص إِنَّ الصَّبْرَ لَجَمِيلٌ إِلَّا عَنْكَ وَ إِنَّ الْجَزَعَ لَقَبِيحٌ إِلَّا عَلَيْكَ وَ إِنَّ الْمُصَابَ بِكَ لَجَلِيلٌ وَ إِنَّ بَعْدَكَ لَقَلِيلٌ
قد أخذت هذا المعنى الشعراء فقال بعضهم
أمست بجفني للدموع كلوم حزنا عليك و في الخدود رسوم و الصبر يحمد في المواطن كلها إلا عليك فإنه مذمومو قال أبو تمام
و قد كان يدعى لابس الصبر حازما فقد صار يدعى حازما حين يجزع
و قال أبو الطيب
أجد الجفاء على سواك مروءة و الصبر إلا في نواك جميلا
و قال أبو تمام أيضا
الصبر أجمل غير أن تلذذا في الحب أولى أن يكون جميلا

(20/114)


شرح نهج البلاغة ج : 19 ص : 196و قالت خنساء أخت عمرو بن الشريدأ لا يا صخر إن أبكيت عيني لقد أضحكتني دهرا طويلابكيتك في نساء معولات و كنت أحق من أبدى العويلادفعت بك الجليل و أنت حي فمن ذا يدفع الخطب الجليلاإذا قبح البكاء على قتيل رأيت بكاءك الحسن الجميلا
و مثل قوله ع و إنه بعدك لقليل يعني المصاب أي لا مبالاة بالمصائب بعد المصيبة بك قول بعضهم
قد قلت للموت حين نازله و الموت مقدامة على البهم اذهب بمن شئت إذ ظفرت به ما بعد يحيى للموت من ألمو قال الشمردل اليروعي يرثي أخاه
إذا ما أتى يوم من الدهر بيننا فحياك عنا شرقه و أصائله أبى الصبر أن العين بعدك لم تزل يحالف جفنيها قذى ما تزايله و كنت أعير الدمع قبلك من بكى فأنت على من مات بعدك شاغله أ عيني إذ أبكاكما الدهر فابكيا لمن نصره قد بان عنا و نائله و كنت به أغشى القتال فعزنيه من المقدار من لا أقاتله لعمرك إن الموت منا لمولع بمن كان يرجى نفعه و فواضلهقوله فأنت على من مات بعدك شاغله هو المعنى الذي نحن فيه و ذكرنا سائر الأبيات لأنها فائقة بعيدة النظير. شرح نهج البلاغة ج : 19 ص : 197و قال آخر يرثي رجلا اسمه جاريةأ جاري ما أزداد إلا صبابة عليك و ما تزداد إلا تنائياأ جاري لو نفس فدت نفس ميت فديتك مسرورا بنفسي و مالياو قد كنت أرجو أن أراك حقيقة فحال قضاء الله دون قضائياألا فليمت من شاء بعدك إنما عليك من الأقدار كان حذاريا
و من الشعر المنسوب إلى علي ع و يقال إنه قاله يوم مات رسول الله ص
كنت السواد لناظري فبكى عليك الناظرمن شاء بعدك فليمت فعليك كنت أحاذر
. و من شعر الحماسة

(20/115)


سأبكيك ما فاضت دموعي فإن تغض فحسبك مني ما تجن الجوانح كأن لم يمت حي سواك و لم تقم على أحد إلا عليك النوائح لئن حسنت فيك المراثي بوصفها لقد حسنت من قبل فيك المدائح فما أنا من رزء و إن جل جازع و لا بسرور بعد موتك فا شرح نهج البلاغة ج : 19 ص : 299198لَا تَصْحَبِ الْمَائِقَ فَإِنَّهُ يُزَيِّنُ لَكَ فِعْلَهُ وَ يَوَدُّ أَنْ تَكُونَ مِثْلَهُالمائق الشديد الحمق و الموق شدة الحمق و إنما يزين لك فعله لأنه يعتقد فعله صوابا بحمقه فيزينه لك كما يزين العاقل لصاحبه فعله لاعتقاد كونه صوابا و لكن هذا صواب في نفس الأمر و ذلك صواب في اعتقاد المائق لا في نفس الأمر و أما كونه يود أن تكون مثله فليس معناه أنه يود أن تكون أحمق مثله و كيف و هو لا يعلم من نفسه أنه أحمق و لو علم أنه أحمق لما كان أحمق و إنما معناه أنه لحبه لك و صحبته إياك يود أن تكون مثله لأن كل أحد يود أن يكون صديقه مثل نفسه في أخلاقه و أفعاله إذ كل أحد يعتقد صواب أفعاله و طهارة أخلاقه و لا يشعر بعيب نفسه لأنه يهوى نفسه فعيب نفسه مطوى مستور عن نفسه كما تخفى عن العاشق عيوب المعشوق

(20/116)


شرح نهج البلاغة ج : 19 ص : 300199وَ قَالَ ع وَ قَدْ سُئِلَ عَنْ مَسَافَةِ مَا بَيْنَ الْمَشْرِقِ وَ الْمَغْرِبِ فَقَالَ مَسِيرَةُ يَوْمٍ لِلشَّمْسِهكذا تقول العرب بينهما مسيرة يوم بالهاء و لا يقولون مسير يوم لأن المسير المصدر و المسيرة الاسم. و هذا الجواب تسميه الحكماء جوابا إقناعيا لأن السائل أراد أن يذكر له كمية المسافة مفصلة نحو أن يقول بينهما ألف فرسخ أو أكثر أو أقل فعدل ع عن ذلك و أجابه بغيره و هو جواب صحيح لا ريب فيه لكنه غير شاف لغليل السائل و تحته غرض صحيح و ذلك لأنه سأله بحضور العامة تحت المنبر فلو قال له بينهما ألف فرسخ مثلا لكان للسائل أن يطالبه بالدلالة على ذلك و الدلالة على ذلك يشق حصولها على البديهة و لو حصلت لشق عليه أن يوصلها إلى فهم السائل و لو فهمها السائل لما فهمتها العامة الحاضرون و لصار فيها قول و خلاف و كانت تكون فتنة أو شبيها بالفتنة فعدل إلى جواب صحيح إجمالي أسكت السائل به و قنع به السامعون أيضا و استحسنوه و هذا من نتائج حكمته ع

(20/117)


شرح نهج البلاغة ج : 19 ص : 301200أَصْدِقَاؤُكَ ثَلَاثَةٌ وَ أَعْدَاؤُكَ ثَلَاثَةٌ فَأَصْدِقَاؤُكَ صَدِيقُكَ وَ صَدِيقُ صَدِيقِكَ وَ عَدُوُّ عَدُوِّكَ وَ أَعْدَاؤُكَ عَدُوُّكَ وَ عَدُوُّ صَدِيقِكَ وَ صَدِيقُ عَدُوِّكَقد تقدم القول في هذا المعنى و الأصل في هذا أن صديقك جار مجرى نفسك فاحكم عليه بما تحكم به على نفسك و عدوك ضدك فاحكم عليه بما تحكم به على الضد فكما أن من عاداك عدو لك و كذلك من عادى صديقك عدو لك و كذلك من صادق صديقك فكأنما صادق نفسك فكان صديقا لك أيضا و أما عدو عدوك فضد ضدك و ضد ضدك ملائم لك لأنك أنت ضد لذلك الضد فقد اشتركتما في ضديه ذلك الشخص فكنتما متناسبين و أما من صادق عدوك فقد ماثل ضدك فكان ضدا لك أيضا و مثل ذلك بياض مخصوص يعادي سوادا مخصوصا و يضاده. و هناك بياض ثان هو مثل البياض الأول و صديقه و هناك بياض ثالث مثل البياض الثاني فيكون أيضا مثل البياض الأول و صديقه و هناك بياض شرح نهج البلاغة ج : 19 ص : 201رابع تأخذه باعتبار ضدا للسواد المخصوص المفروض فإنه يكون مماثلا و صديقا للبياض الأول لأنه عدو عدوه ثم نفرض سوادا ثانيا مضادا للبياض الثاني فهو عدو للبياالأول لأنه عدو صديقه ثم نفرض سوادا ثالثا هو مماثل السواد المخصوص المفروض فإنه يكون ضدا للبياض المفروض المخصوص لأنه مثل ضده و إن مثلت ذلك بالحروف كان أظهر و أكشف

(20/118)


شرح نهج البلاغة ج : 19 ص : 302202وَ قَالَ ع لِرَجُلٍ رَآهُ يَسْعَى عَلَى عَدُوٍّ لَهُ بِمَا فِيهِ إِضْرَارٌ بِنَفْسِهِ إِنَّمَا أَنْتَ كَالطَّاعِنِ نَفْسَهُ لِيَقْتُلَ رِدْفَهُهذا يختلف باختلاف حال الساعي فإنه إن كان يضر نفسه أولا ثم يضر عدوه تبعا لإضراره بنفسه كان كما قال أمير المؤمنين ع كالطاعن نفسه ليقتل ردفه و الردف الرجل الذي ترتدفه خلفك على فرس أو ناقة أو غيرهما و فاعل ذلك يكون أسفه الخلق و أقلهم عقلا لأنه يبدأ بقتل نفسه و إن كان يضر عدوه أولا يحصل في ضمن إضراره بعدوه إضراره بنفسه فليس يكون مثال أمير المؤمنين ع منطبقا على ذلك و لكن يكون كقولي في غزل من قصيدة لي
إن ترم قلبي تصم نفسك إنه لك موطن تأوي إليه و منزل
شرح نهج البلاغة ج : 19 ص : 303203مَا أَكْثَرَ الْعِبَرَ وَ أَقَلَّ الِاعْتِبَارَما أوجز هذه الكلمة و ما أعظم فائدتها و لا ريب أن العبر كثيرة جدا بل كل شي ء في الوجود ففيه عبرة و لا ريب أن المعتبرين بها قليلون و أن الناس قد غلب عليهم الجهل و الهوى و أرداهم حب الدنيا و أسكرهم خمرها و إن اليقين في الأصل ضعيف عندهم و لو لا ضعفه لكانت أحولهم غير هذه الأحوال
شرح نهج البلاغة ج : 19 ص : 304204مَنْ بَالَغَ فِي الْخُصُومَةِ أَثِمَ وَ مَنْ قَصَّرَ فِيهَا ظَلَمَ وَ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يَتَّقِيَ اللَّهَ مَنْ خَاصَمَهذا مثل قوله ع في موضع آخر الغالب بالشر مغلوب

(20/119)


و كان يقال ما تساب اثنان إلا غلب ألأمهما. و قد نهى العلماء عن الجدل و الخصومة في الكلام و الفقه و قالوا إنهما مظنة المباهاة و طلب الرئاسة و الغلبة و المجادل يكره أن يقهره خصمه فلا يستطيع أن يتقي الله و هذا هو كلام أمير المؤمنين ع بعينه. و أما الخصومة في غير العلم كمنازعة الناس بعضهم بعضا في أمورهم الدنياوية فقد جاء في ذمها و النهي عنها شي ء كثير و قد ذكرنا منه فيما تقدم قولا كافيا على أن منهم من مدح الجهل و الشر في موضعهما. و قال الأحنف ما قل سفهاء قوم إلا ذلوا. و قال بعض الحكماء لا يخرجن أحد من بيته إلا وقد أخذ في حجزته قيراطين من جهل فإن الجاهل لا يدفعه إلا الجهل و قالوا الجاهل من لا جاهل له. و قال الشاعر

(20/120)


إذا كنت بين الجهل و الحلم قاعدا و خيرت أنى شئت فالعلم أفضل و لكن إذا أنصفت من ليس منصفا و لم يرض منك الحلم فالجهل أمثل إذا جاءني من يطلب الجهل عامدا فإني سأعطيه الذي هو سائ شرح نهج البلاغة ج : 19 ص : 305205مَا أَهَمَّنِي أَمْرٌ أُمْهِلْتُ بَعْدَهُ حَتَّى أُصَلِّيَ رَكْعَتَيْنِ وَ أَسْأَلَ اللَّهَ الْعَافِيَةَهذا فتح لباب التوبة و تطريق إلى طريقها و تعليم للنهضة إليها و الاهتمام بها و معنى الكلام أن الذنب الذي لا يعاجل الإنسان عقيبه بالموت ينبغي للإنسان ألا يهتم به أي لا ينقطع رجاؤه عن العفو و تأميله الغفران و ذلك بأن يقوم إلى الصلاة عاجلا و يستغفر الله و يندم و يعزم على ترك المعاودة و يسأل الله العافية من الذنوب و العصمة من المعاصي و العون على الطاعة فإنه إذا فعل ذلك بنية صحيحة و استوفى شرائط التوبة سقط عنه عقاب ذلك الذنب. و في هذا الكلام تحذير عظيم من مواقعة الذنوب لأنه إذا كان هذا هو محصول الكلام فكأنه قد قال الحذر الحذر من الموت المفاجئ قبل التوبة و لا ريب أن الإنسان ليس على ثقة من الموت المفاجئ قبل التوبة إنه لا يفاجئه و لا يأخذه بغتة فالإنسان إذا كان عاقلا بصيرا يتوقى الذنوب و المعاصي التوقي

(20/121)


شرح نهج البلاغة ج : 19 ص : 306206وَ سُئِلَ ع كَيْفَ يُحَاسِبُ اللَّهُ الْخَلْقَ عَلَى كَثْرَتِهِمْ فَقَالَ كَمَا يَرْزُقُهُمْ عَلَى كَثْرَتِهِمْ فَقِيلَ كَيْفَ يُحَاسِبُهُمْ وَ لَا يَرَوْنَهُ فَقَالَ كَمَا يَرْزُقُهُمْ وَ لَا يَرَوْنَهُهذا جواب صحيح لأنه تعالى لا يرزقهم على الترتيب أعني واحدا بعد واحد و إنما يرزقهم جميعهم دفعة واحدة و كذلك تكون محاسبتهم يوم القيامة. و الجواب الثاني صحيح أيضا لأنه إذا صح أن يرزقنا و لا نرى الرازق صح أن يحاسبنا و لا نرى المحاسب. فإن قلت فقد ورد أنهم يمكثون في الحساب ألف سنة و قيل أكثر من ذلك فكيف يجمع بين ما ورد في الخبر و بين قولكم إن حسابهم يكون ضربة واحدة و لا ريب أن الأخبار تدل على أن الحساب يكون لواحد بعد واحد. قلت إن أخبار الآحاد لا يعمل عليها لا سيما الأخبار الواردة في حديث الحساب و النار و الجنة فإن المحدثين طعنوا في أكثرها و قالوا إنها موضوعة و جملة الأمر أنه ليس هناك تكليف فيقال إن ترتيب المحاسبة في زمان طويل جدا يتضمن لطفا في التكليف فيفعله الباري تعالى لذلك و إنما الغرض من المحاسبة صدق الوعد و ما سبق من القول و الكتاب العزيز لم ينطق إلا بالمحاسبة مجملة فوجب القول بالمتيقن المعلوم فيها و رفض ما لم يثبت
شرح نهج البلاغة ج : 19 ص : 307207رَسُولُكَ تَرْجُمَانُ عَقْلِكَ وَ كِتَابُكَ أَبْلَغُ مَا يَنْطِقُ عَنْكَقالوا في المثل الرسول على قدر المرسل و قيل أيضا رسولك أنت إلا أنه إنسان آخر و قال الشاعر
تخير إذا ما كنت في الأمر مرسلا فمبلغ آراء الرجال رسولهاو رو و فكر في الكتاب فإنما بأطراف أقلام الرجال عقولها

(20/122)


شرح نهج البلاغة ج : 19 ص : 308208مَا الْمُبْتَلَى الَّذِي قَدِ اشْتَدَّ بِهِ الْبَلَاءُ بِأَحْوَجَ إِلَى الدُّعَاءِ مِنَ الْمُعَافَى الَّذِي لَا يَأْمَنُ الْبَلَاءَهذا ترغيب في الدعاء و الذي قاله ع حق لأن المعافى في الصورة مبتلى في المعنى و ما دام الإنسان في قيد هذه الحياة الدنيا فهو من أهل البلاء على الحقيقة ثم لا يأمن البلاء الحسي فوجب أن يتضرع إلى الله تعالى أنه ينقذه من بلاء الدنيا المعنوي و من بلائها الحسي في كل حال و لا ريب أن الأدعية مؤثرة و أن لها أوقات إجابة و لم يختلف المليون و الحكماء في ذلك
شرح نهج البلاغة ج : 19 ص : 309209النَّاسُ أَبْنَاءُ الدُّنْيَا وَ لَا يُلَامُ الرَّجُلُ عَلَى حُبِّ أُمِّهِقد قال ع في موضع آخر الناس بزمانهم أشبه منهم بآبائهم
و قال الشاعر
و نحن بني الدنيا غذينا بدرها و ما كنت منه فهو شي ء مجيب شرح نهج البلاغة ج : 19 ص : 310210إِنَّ الْمِسْكِينَ رَسُولُ اللَّهِ فَمَنْ مَنَعَهُ فَقَدْ مَنَعَ اللَّهَ وَ مَنْ أَعْطَاهُ فَقَدْ أَعْطَى اللَّهَهذا حض على الصدقة و قد تقدم لنا قول مقنع فيها. و
في الحديث المرفوع اتقوا النار و لو بشق تمرة فإن لم تجدوا فبكلمة طيبة
و قال ص لو صدق السائل لما أفلح من رده
و قال أيضا من رد سائلا خائبا لم تغش الملائكة ذلك البيت سبعة أيام
و كان ص لا يكل خصلتين إلى غيره كان يصنع طهوره بالليل و يخمره و كان يناول المسكين بيده. و قال بعض الصالحين من لم تكن نفسه إلى ثواب الصدقة أحوج من الفقير إلى صدقته فقد أبطل صدقته و ضرب بها وجهه. و قال بعضهم الصلاة تبلغك نصف الطريق و الصوم يبلغك باب الملك و الصدقة تدخلك عليه

(20/123)


شرح نهج البلاغة ج : 19 ص : 311211مَا زَنَى غَيُورٌ قَطُّ قد جاء في الأثر من زنى زني به و لو في عقب عقبهو هذا قد جرب فوجد حقا و قل من ترى مقداما على الزنا إلا و القول في حرمه و أهله و ذوي محارمه كثير فاش. و الكلمة التي قالها ع حق لأن من اعتاد الزنا حتى صار دربته و عادته و ألفته نفسه لا بد أن يهون عليه حتى يظنه مباحا أو كالمباح لأن من تدرب بشي ء و مرن عليه زل قبحه من نفسه و إذا زال قبح الزنا من نفسه لم يعظم عليه ما يقال في أهله و إذا لم يعظم عليه ما يقال في أهله فقد سقطت غيرته
شرح نهج البلاغة ج : 19 ص : 312212كَفَى بِالْأَجَلِ حَارِساً قد تقدم القول في هذا المعنى و كان ع يقول إن علي من الله جنة حصينة فإذا جاء يومي أسلمتني فحينئذ لا يطيش السهم و لا يبرأ الكلم
و القول في الأجل و كونه حارسا شعبة من شعب القول في القضاء و القدر و له موضع هو أملك به
شرح نهج البلاغة ج : 19 ص : 313213يَنَامُ الرَّجُلُ عَلَى الثُّكْلِ وَ لَا يَنَامُ عَلَى الْحَرَبِ قال السيد و معنى ذلك أنه يصبر على قتل الأولاد و لا يصبر على سلب الأموال
كان يقال المال عدل النفس. و
في الأثر أن من قتل من دون ماله فهو شهيد
و قال الشاعر
لنا إبل غر يضيق فضاؤها و يغبر عنها أرضها و سماؤهافمن دونها أن تستباح دماؤنا و من دوننا أن تستباح دماؤهاحمى و قرى فالموت دون مرامها و أيسر أمر يوم حق فناؤها
شرح نهج البلاغة ج : 19 ص : 314214مَوَدَّةُ الآْبَاءِ قَرَابَةٌ بَيْنَ الْأَبْنَاءِ وَ الْقَرَابَةُ أَحْوَجُ إِلَى الْمَوَدَّةِ مِنَ الْمَوَدَّةِ إِلَى الْقَرَابَةِكان يقال الحب يتوارث و البغض يتوارث و قال الشاعر
أبقى الضغائن آباء لنا سلفوا فلن تبيد و للآباء أبناء

(20/124)


و لا خير في القرابة من دون مودة و قد قال القائل لما قيل له أيما أحب إليك أخوك أم صديقك فقال إنما أحب أخي إذا كان صديقا فالقربى محتاجة إلى المودة و المودة مستغنية عن القربى
شرح نهج البلاغة ج : 19 ص : 315215اتَّقُوا ظُنُونَ الْمُؤْمِنِينَ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى جَعَلَ الْحَقَّ عَلَى أَلْسِنَتِهِمْكان يقال ظن المؤمن كهانة و هو أثر جاء عن بعض السلف قال أوس بن حجر
الألمعي الذي يظن بك الظن كأن قد رأى و قد سمعا
و قال أبو الطيب
ذكي تظنيه طليعة عينه يرى قلبه في يومه ما يرى غدا
شرح نهج البلاغة ج : 19 ص : 316216لَا يَصْدُقُ إِيمَانُ عَبْدٍ حَتَّى يَكُونَ بِمَا فِي يَدِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ أَوْثَقَ مِنْهُ بِمَا فِي يَدِهِهذا كلام في التوكل و قد سبق القول فيه و قال بعض العلماء لا يشغلك المضمون لك من الرزق عن المفروض عليك من العمل فتضيع أمر آخرتك و لا تنال من الدنيا إلا ما كتب الله لك. و قال يحيى بن معاذ في جود العبد الرزق عن غير طلب دلالة على أن الرزق مأمور بطلب العبد. و قال بعضهم متى رضيت بالله وكيلا وجدت إلى كل خير سبيلا
شرح نهج البلاغة ج : 19 ص : 317217وَ قَالَ ع لِأَنَسِ بْنِ مَالِكٍ وَ قَدْ كَانَ بَعَثَهُ إِلَى طَلْحَةَ وَ الزُّبَيْرِ لَمَّا جَاءَ إِلَى الْبَصْرَةِ يُذَكِّرُهُمَا شَيْئاً قَدْ سَمِعَهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ ص فِي مَعْنَاهُمَا فَلَوَى عَنْ ذَلِكَ فَرَجَ إِلَيْهِ فَقَالَ إِنِّي أُنْسِيتُ ذَلِكَ الْأَمْرَ فَقَالَ ع إِنْ كُنْتَ كَاذِباً فَضَرَبَكَ اللَّهُ بِهَا بَيْضَاءَ لَامِعَةً لَا تُوَارِيهَا الْعِمَامَةُ
قال يعني البرص فأصاب أنسا هذا الداء فيما بعد في وجهه فكان لا يرى إلا متبرقعا

(20/125)


المشهورأن عليا ع ناشد الناس الله في الرحبة بالكوفة فقال أنشدكم الله رجلا سمع رسول الله ص يقول لي و هو منصرف من حجة الوداع من كنت مولاه فعلي مولاه اللهم وال من والاه و عاد من عاداه فقام رجال فشهدوا بذلك فقال ع لأنس بن مالك لقد حضرتها فما بالك فقال يا أمير المؤمنين كبرت سني و صار ما أنساه أكثر مما أذكره فقال له إن كنت كاذبا فضربك الله بها بيضاء لا تواريها العمامة فما مات حتى أصابه البرص
فأما ما ذكره الرضي من أنه بعث أنسا إلى طلحة و الزبير فغير معروف و لو كان قد بعثه ليذكرهما بكلام يختص بهما من رسول الله ص لما أمكنه أن شرح نهج البلاغة ج : 19 ص : 218يرجع فيقول إني أنسيته لأنه ما فارقه متوجها نحوهما إلا و قد أقر بمعرفته و ذكره فكيف يرجع بعساعة أو يوم فيقول إني أنسيته فينكر بعد الإقرار هذا مما لا يقع. و قد ذكر ابن قتيبة حديث البرص و الدعوة التي دعا بها أمير المؤمنين ع على أنس بن مالك في كتاب المعارف في باب البرص من أعيان الرجال و ابن قتيبة غير متهم في حق علي ع على المشهور من انحرافه عنه
شرح نهج البلاغة ج : 19 ص : 318219إِنَّ لِلْقُلُوبِ إِقْبَالًا وَ إِدْبَاراً فَإِذَا أَقْبَلَتْ فَاحْمِلُوهَا عَلَى النَّوَافِلِ وَ إِذَا أَدْبَرَتْ فَاقْتَصِرُوا بِهَا عَلَى الْفَرَائِضِلا ريب أن القلوب تمل كما تمل الأبدان و تقبل تارة على العلم و على العمل و تدبر تارة عنهما. قال علي ع فإذا رأيتموها مقبلة أي قد نشطت و ارتاحت للعمل فاحملوها على النوافل ليس يعني اقتصروا بها على النافلة بل أدوا الفريضة و تنفلوا بعد ذلك و إذا رأيتموها قد ملت العمل و سئمت فاقتصروا بها على الفرائض فإنه لا انتفاع بعمل لا يحضر القلب فيه

(20/126)


شرح نهج البلاغة ج : 19 ص : 319220فِي الْقُرْآنِ نَبَأُ مَا قَبْلَكُمْ وَ خَبَرُ مَا بَعْدَكُمْ وَ حُكْمُ مَا بَيْنَكُمْهذا حق لأن فيه أخبار القرون الماضية و فيه أخبار كثيرة عن أمور مستقبلة و فيه أخبار كثيرة شرعية فالأقسام الثلاثة كلها موجودة فيه
شرح نهج البلاغة ج : 19 ص : 320221رُدُّوا الْحَجَرَ مِنْ حَيْثُ جَاءَ فَإِنَّ الشَّرَّ لَا يَدْفَعُهُ إِلَّا الشَّرُّهذا مثل قولهم في المثل إن الحديد بالحديد يفلح و قال عمرو بن كلثوم
ألا لا يجهلن أحد علينا فنجهل فوق جهل الجاهلينا
و قال الفند الزماني
فلما صرح الشر فأمسى و هو عريان و لم يبق سوى العدوان دناهم كما دانواو بعض الحلم عند الجهل للذلة إذعان و في الشر نجاة حين لا ينجيك إحساو قال الأحنف
و ذي ضعن أمت القول عنه بحلمي فاستمر على المقال و من يحلم و ليس له سفيه يلاق المعضلات من الرجال شرح نهج البلاغة ج : 19 ص : 222و قال الراجزلا بد للسؤدد من أرماح و من عديد يتقي بالراح و من سفيه دائم النباحو قال آخر
و لا يلبث الجهال أن يتهضموا أخا الحلم ما لم يستعن بجهول
و قال آخر
و لا أتمنى الشر و الشر تاركي و لكن متى أحمل على الشر أركب

(20/127)


شرح نهج البلاغة ج : 19 ص : 321223وَ قَالَ ع لِكَاتِبِهِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي رَافِعٍ أَلِقْ دَوَاتَكَ وَ أَطِلْ جِلْفَةَ قَلَمِكَ وَ فَرِّجْ بَيْنَ السُّطُورِ وَ قَرْمِطْ بَيْنَ الْحُرُوفِ فَإِنَّ ذَلِكَ أَجْدَرُ بِصَبَاحَةِ الْخَطِّلاق الحبر بالكاغد يليق أي التصق و لقته أنا يتعدى و لا يتعدى و هذه دواة مليقة أي قد أصلح مدادها و جاء ألق الدواة إلاقة فهي مليقة و هي لغة قليلة و عليها وردت كلمة أمير المؤمنين ع. و يقال للمرأة إذا لم تحظ عند زوجها ما عاقت عند زوجها و لا لاقت أي ما التصقت بقلبه. و تقول هي جلفة القلم بالكسر و أصل الجلف القشر جلفت الطين من رأس الدن و الجلفة هيئة فتحة القلم التي يستمد بها المداد كما تقول هو حسن الركبة و الجلسة و نحو ذلك من الهيئات. و تقول قد قرمط فلان خطوه إذا مشى مشيا فيه ضيق و تقارب و كذلك القول في تضييق الحروف. فأما التفريج بين السطور فيكسب الخط بهاء و وضوحا
شرح نهج البلاغة ج : 19 ص : 322224أَنَا يَعْسُوبُ الْمُؤْمِنِينَ وَ الْمَالُ يَعْسُوبُ الْفُجَّارِ قال معنى ذلك أن المؤمنين يتبعونني و الفجار يتبعون المال كما تتبع النحل يعسوبها و هو رئيسها
هذه كلمة قالها رسول الله ص بلفظين مختلفين تارة أنت يعسوب الدين و تارة أنت يعسوب المؤمنين و الكل راجع إلى معنى واحد كأنه جعله رئيس المؤمنين و سيدهم أو جعل الدين يتبعه و يقفو أثره حيث سلك كما يتبع النحل اليعسوب و هذا نحو قوله و أدر الحق معه كيف دار
شرح نهج البلاغة ج : 19 ص : 323225وَ قَالَ لِبَعْضِ الْيَهُودِ حِينَ قَالَ لَهُ مَا دَفَنْتُمْ نَبِيَّكُمْ حَتَّى اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ فَقَالَ لَهُ إِنَّمَا اخْتَلَفْنَا عَنْهُ لَا فِيهِ وَ لَكِنَّكُمْ مَا جَفَّتْ أَرْجُلُكُمْ مِنَ الْبَحْرِ حَتَّى قُلْتُ لِنَبِيِّكُمْ اجْعَلْ لَنا إِلهاً كَما لَهُمْ آلِهَةٌ قالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ

(20/128)


ما أحسن قوله اختلفنا عنه لا فيه و ذلك لأن الاختلاف لم يكن في التوحيد و النبوة بل في فروع خارجة عن ذلك نحو الإمامة و الميراث و الخلاف في الزكاة هل هي واجبة أم لا و اليهود لم يختلفوا كذلك بل في التوحيد الذي هو الأصل. قال المفسرون مروا على قوم يعبدون أصناما لهم على هيئة البقر فسألوا موسى أن يجعل لهم إلها كواحد منها بعد مشاهدتهم الآيات و الأعلام و خلاصهم من رق العبودية و عبورهم البحر و مشاهدة غرق فرعون و هذه غاية الجهل و قد روي حديث اليهودي على وجه آخر
قيل قال يهودي لعلي ع اختلفتم بعد نبيكم و لم يجف ماؤه يعني غسله ص فقال ع و أنتم قلتم اجْعَلْ لَنا إِلهاً كَما لَهُمْ آلِهَةٌ و لما يجف ماؤكم
شرح نهج البلاغة ج : 19 ص : 324226وَ قِيلَ لَهُ ع بِأَيِّ شَيْ ءٍ غَلَبْتَ الْأَقْرَانَ قَالَ مَا لَقِيتُ أَحَداً إِلَّا أَعَانَنِي عَلَى نَفْسِه قال الرضي رحمه الله تعالى يومئ بذلك إلى تمكن هيبته في القلوب
قالت الحكماء الوهم مؤثر و هذا حق لأن المريض إذا تقرر في وهمه أن مرضه قاتل له ربما هلك بالوهم و كذلك من تلسبه الحية و يقع في خياله أنها قاتلته فإنه لا يكاد يسلم منها و قد ضربوا لذلك مثالا الماشي على جذع معترض على مهواة فإن وهمه و تخيله السقوط يقتضي سقوطه و إلا فمشيه عليه و هو منصوب على المهواة كمشيه عليه و هو ملقى على الأرض لا فرق بينهما إلا الوهم و الخوف و الإشفاق و الحذر فكذلك الذين بارزوا عليا ع من الأقران لما كان قد طار صيته و اجتمعت الكلمة أنه ما بارزه أحد إلا كان المقتول غلب الوهم عليهم فقصرت أنفسهم عن مقاومته و انخذلت أيديهم و جوارحهم عن مناهضته و كان هو في الغاية القصوى من الشجاعة و الإقدام فيقتحم عليهم و يقتلهم

(20/129)


شرح نهج البلاغة ج : 19 ص : 325227وَ قَالَ ع لِابنْهِ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكَ الْفَقْرَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنْهُ فَإِنَّ الْفَقْرَ مَنْقَصَةٌ لِلدِّينِ مَدْهَشَةٌ لِلْعَقْلِ دَاعِيَةٌ لِلْمَقْتِنبذ من الأقوال الحكيمة في الفقر و الغنى
هذا موضع قد اختلف الناس فيه كثيرا ففضل قوم الغنى و فضل قوم الفقر فقال أصحاب الغنى قد وصف الله تعالى المال فسماه خيرا فقال إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي و قال ممتنا على عباده واعدا لهم بالإنعام و الإحسان وَ يُمْدِدْكُمْ بِأَمْوالٍ وَ بَنِينَ و قال وَ جَعَلْتُ لَهُ مالًا مَمْدُوداً. و
قال النبي ص المال الحسب إن أحساب أهل الدنيا هذا المال
و قال ع نعم العون على تقوى الله المال
شرح نهج البلاغة ج : 19 ص : 228قالوا و لا ريب أن الأعمال الجليلة العظيمة الثواب لا يتهيأ حصولها إلا بالمال كالحج و الوقوف و الصدقات و الزكوات و الجهاد. و قد جاء في الخبر خير المال سكة مأبورة أو مهرة مأمورة
و قالت الحكماء المال يرفع صاحبه و إن كان وضيع النسب قليل الأدب و ينصره و إن كان جبانا و يبسط لسانه و إن كان عيا به توصل الأرحام و تصان الأعراض و تظهر المروءة و تتم الرئاسة و يعمر العالم و تبلغ الأغراض و تدرك المطالب و تنال المآرب يصلك إذا قطعك الناس و ينصرك إذا خذلوك و يستعبد لك الأحرار و لو لا المال لما بان كرم الكريم و لا ظهر لؤم اللئيم و لا شكر جواد و لا ذم بخيل و لا صين حريم و لا أدرك نعيم. و قال الشاعر
المال أنفع للفتى من علمه و الفقر أقتل للفتى من جهله ما ضر من رفع الدراهم قدره جهل يناط إلى دناءة أصلهو قال آخر
دعوت أخي فولى مشمئزا و لبى درهمي لما دعوت
و قال آخر
و لم أر أوفى ذمة من دراهمي و أصدق عهدا في الأمور العظائم فكم خانني خل وثقت بعهده و كان صديقا لي زمان الدراهمو قال آخر

(20/130)


أبو الأصفر المنقوش أنفع للفتى من الأصل و العلم الخطير المقدم
شرح نهج البلاغة ج : 19 ص : 229و ما مدح العلم امرؤ ظفرت به يداه و لكن كل مقو و معدو قال الشاعر
و لم أر بعد الدين خيرا من الغنى و لم أر بعد الكفر شرا من الفقر
و قال العتابي الناس لصاحب المال ألزم من الشعاع للشمس و هو عندهم أرفع من السماء و أعذب من الماء و أحلى من الشهد و أزكى من الورد خطؤه صواب و سيئته حسنة و قوله مقبول يغشى مجلسه و لا يمل حديثه و المفلس عندهم أكذب من لمعان السراب و من رؤيا الكظة و من مرآة اللقوة و من سحاب تموز لا يسأل عنه إن غاب و لا يسلم عليه إذا قدم إن غاب شتموه و إن حضر طردوه مصافحته تنقض الوضوء و قراءته تقطع الصلاة أثقل من الأمانة و أبغض من السائل المبرم. و قال بعض الشعراء الظرفاء و أحسن كل الإحسان مع خلاعته
أصون دراهمي و أذب عنها لعلمي أنها سيفي و ترسي و أذخرها و أجمعها بجهدي و يأخذ وارثي منها و عرسي فيأكلها و يشربها هنيئا على النغمات من نقر و جس و يقعد فوق قبري بعد موتي و لا يتصدقن عني بفلس أحب إلي من قصدي عظيما كبيرا أصله من عبد شمس أمد إليه كفي مستميحصبح عبد خدمته و أمسي و يتركني أجر الرجل مني و قد صارت كنفس الكلب نفسي شرح نهج البلاغة ج : 19 ص : 230و قال أصحاب الفقر الغنى سبب الطغيان قال الله تعالى كَلَّا إِنَّ الْإِنْسانَ لَيَطْغى أَنْ رَآهُ اسْتَغْنى و قال تعالى وَ إِذا أَنْعَمْنا عَلَى الْإِنْسانِ أَعْرَضَ وَ نَأى بِجانِبِهِ و كان يقال الغنى يورث البطر و غنى النفس ر من غنى المال. و قال محمود البقال
الفقر خير فاتسع و اقتصد إن من العصمة ألا تجدكم واجد أطلق وجدانه عنانه في بعض ما لم يردو مدمن للخمر غاد على سماع عود و غناء غردلو لم يجد خمرا و لا مسمعا يرد بالماء غليل الكبدكم من يد للفقر عند امرئ طأطأ منه الفقر حتى اقتصد

(20/131)


و كان يقال الفقر شعار الصالحين و الفقر لباس الأنبياء و لذلك قال البحتري
فقر كفقر الأنبياء و غربة و صبابة ليس البلاء بواحد
و كان يقال الفقر مخف و الغني مثقل. و
في الخبر نجا المخفون و ما أحسن قول أبي العتاهية
أ لم تر أن الفقر يرجى له الغنى و أن الغنى يخشى عليه من الفقر
و قد ذم الله تعالى المال فقال إِنَّما أَمْوالُكُمْ وَ أَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ. شرح نهج البلاغة ج : 19 ص : 231و كان يقال المال ملول المال ميال المال غاد و رائح طبع المال كطبع الصبي لا يوقف على وقت رضاه و لا وقت سخطه المال لا ينفعك حتى يفارقك و إلى هذا المعننظر القائل
و صاحب صدق ليس ينفع قربه و لا وده حتى تفارقه عمدا
يعني الدينار. و ما أحسن ما قاله الأول
و قد يهلك الإنسان حسن رياشه كما يذبح الطاوس من أجل ريشه
و قال آخر
رويدك إن المال يهلك ربه إذا جم و استعلى و سد طريقه و من جاوز الماء الغزير فمجه و سد طريق الماء فهو غريقه شرح نهج البلاغة ج : 19 ص : 326232وَ قَالَ لِسَائِلٍ سَأَلَهُ عَنْ مَسْأَلَةٍ سَلْ تَفَقُّهاً وَ لَا تَسْأَلْ تَعَنُّتاً فَإِنَّ الْجَاهِلَ الْمُتَعَلِّمَ شَبِيهٌ بِالْعَالِمِ وَ إِنَّ الْعَالِمَ الْمُتَعَنِّتَ شَبِيهٌ بِالْجَاهِلِقد ورد نهي كثير عن السؤال على طريق الإعنات. و
قال أمير المؤمنين ع في كلام له من حق العالم ألا تكثر عليه بالسؤال و لا تعنته في الجواب و لا تضع له غامضات المسائل و لا تلح عليه إذا كسل و لا تأخذ بثوبه إذا نهض و لا تفش له سرا و لا تغتابن عنده أحدا و لا تنقلن إليه حديثا و لا تطلبن عثرته و إن زل قبلت معذرته و عليك أن توقره و تعظمه لله ما دام حافظا أمر الله و لا تجلس أمامه و إذا كانت له حاجة فاسبق أصحابك إلى خدمته

(20/132)


و قال ابن سيرين لسائل سأله سل أخاك إبليس إنك لن تسأل و أنت طالب رشد. و قالوا اللهم إنا نعوذ بك أن تعنت كما نعوذ بك أن نعنت و نستكفيك أن تفضح كما نستكفيك أن نفضح. و قالوا إذا آنس المعلم من التلميذ سؤال التعنت حرم عليه تعليمه
شرح نهج البلاغة ج : 19 ص : 327233وَ قَالَ ع لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْعَبَّاسِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَ قَدْ أَشَارَ إِلَيْهِ فِي شَيْ ءٍ لَمْ يُوَافِقْ رَأْيَهُ لَكَ أَنْ تُشِيرَ عَلَيَّ وَ أَرَى فَإِذَا عَصَيْتُكَ فَأَطِعْنِالإمام أفضل من الرعية رأيا و تدبيرا فالواجب على من يشير عليه بأمر فلا يقبل أن يطيع و يسلم و يعلم أن الإمام قد عرف من المصلحة ما لم يعرف. و لقد أحسن الصابي في قوله في بعض رسائله و لو لا فضل الرعاة على الرعايا في بعد مطرح النظرة و استشفاف عيب العاقبة لتساوت الأقدام و تقاربت الأفهام و استغنى المأموم عن الإمام
شرح نهج البلاغة ج : 19 ص : 328234وَ رُوِيَ أَنَّهُ ع لَمَّا وَرَدَ الْكُوفَةَ قَادِماً مِنْ صِفِّينَ مَرَّ بِالشِّبَامِيِّينَ فَسَمِعَ بُكَاءَ النِّسَاءِ عَلَى قَتْلَى صِفِّينَ وَ خَرَجَ إِلَيْهِ حَرْبُ بْنُ شُرَحْبِيلَ الشِّبَامِيِّ وَ كَانَ مِنْ وُجُو قَوْمِهِ فَقَالَ لَهُ أَ يَغْلِبُكُمْ نِسَاؤُكُمْ عَلَى مَا أَسْمَعُ أَ لَا تَنْهَوْنَهُنَّ عَنْ هَذَا الرَّنِينِ وَ أَقْبَلَ حَرْبٌ يَمْشِي مَعَهُ وَ هُوَ ع رَاكِبٌ فَقَالَ لَهُ ارْجِعْ فَإِنَّ مَشْيَ مِثْلِكَ مَعَ مِثْلِي فِتْنَةٌ لِلْوَالِي وَ مَذَلَّةٌ لِلْمُؤْمِنِ
قد ذكرنا نسب الشباميين فيما اقتصصناه من أخبار صفين في أول الكتاب. و الرنين الصوت و إنما جعله فتنة للوالي لما يتداخله من العجب بنفسه و الزهو و لا ريب أيضا في أنه مذلة للمؤمن فإن الرجل الماشي إلى ركاب الفارس أذل الناس

(20/133)


شرح نهج البلاغة ج : 19 ص : 329235وَ قَالَ ع وَ قَدْ مَرَّ بِقَتْلَى الْخَوَارِجِ يَوْمَ النَّهْرَوَانِ بُؤْساً لَكُمْ لَقَدْ ضَرَّكُمْ مَنْ غَرَّكُمْ فَقِيلَ لَهُ مَنْ غَرَّهُمْ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ فَقَالَ الشَّيْطَانُ الْمُضِلُّ وَ النَّفْسُ الْمَّارَةُ بِالسُّوءِ غَرَّتْهُمْ بِالْأَمَانِيِّ وَ فَسَحَتْ لَهُمْ فِي الْمَعَاصِي وَ وَعَدَتْهُمُ الْإِظْهَارَ فَاقْتَحَمَتْ بِهِمُ النَّارَ
يقال بؤسى لزيد و بؤسا بالتنوين لزيد فبؤسى نظيره نعمى و بؤسا نظيره نعمة ينتصب على المصدر. و هذا الكلام رد على المجبرة و تصريح بأن النفس الأمارة بالسوء هي الفاعلة. و الإظهار مصدر أظهرته على زيد أي جعلته ظاهرا عليه غالبا له أي وعدتهم الانتصار و الظفر
شرح نهج البلاغة ج : 19 ص : 330236اتَّقُوا مَعَاصِيَ اللَّهِ فِي الْخَلَوَاتِ فَإِنَّ الشَّاهِدَ هُوَ الْحَاكِمُإذا كان الشاهد هو الحاكم استغنى عمن يشهد عنده فالإنسان إذن جدير أن يتقى الله حق تقاته لأنه تعالى الحاكم فيه و هو الشاهد عليه

(20/134)


شرح نهج البلاغة ج : 19 ص : 331237وَ قَالَ ع لَمَّا بَلَغَهُ قَتْلُ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إِنَّ حُزْنَنَا عَلَيْهِ عَلَى قَدْرِ سُرُورِهِمْ بِهِ إِلَّا أَنَّهُمْ نُقِصُوا بَغِيضاً وَ نُقِصْنَا حَبِيباًقد تقدم ذكر مقتل محمد بن أبي بكر رضي الله عنه و قال ع إن حزننا به في العظم على قدر فرحهم به و لكن وقع التفاوت بيننا و بينهم من وجه آخر و هو أنا نقصنا حبيبا إلينا و أما هم فنقصوا بغيضا إليهم. فإن قلت كيف نقصوا و معلوم أن أهل الشام ما نقصوا بقتل محمد شيئا لأنه ليس في عددهم. قلت لما كان أهل الشام يعدون في كل وقت أعداءهم و بغضاءهم من أهل العراق و صار ذلك العدد معلوما عندهم محصور الكمية نقصوا بقتل محمد من ذلك العدد واحدا فإن النقص ليس من عدد أصحابهم بل من عدد أعدائهم الذين كانوا يتربصون بهم الدوائر و يتمنون لهم الخطوب و الأحداث كأنه يقول استراحوا من واحد من جملة جماعة كانوا ينتظرون موتهم
شرح نهج البلاغة ج : 19 ص : 332238وَ قَالَ ع الْعُمُرُ الَّذِي أَعْذَرَ اللَّهُ فِيهِ إِلَى ابْنِ آدَمَ سِتُّونَ سَنَةًأعذر الله فيه أي سوغ لابن آدم أن يعتذر يعني أن ما قبل الستين هي أيام الصبا و الشبيبة و الكهولة و قد يمكن أن يعذر الإنسان فيه على اتباع هوى النفس لغلبة الشهوة و شرة الحداثة فإذا تجاوز الستين دخل في سن الشيخوخة و ذهبت عنه غلواء شرته فلا عذر له في الجهل. و قد قالت الشعراء نحو هذا المعنى في دون هذه السن التي عينها ع. و قال بعضهم
إذا ما المرء قصر ثم مرت عليه الأربعون عن الرجال و لم يلحق بصالحهم فدعه فليس بلاحق أخرى الليالي شرح نهج البلاغة ج : 19 ص : 333239مَا ظَفِرَ مَنْ ظَفِرَ الْإِثْمُ بِهِ وَ الْغَالِبُ بِالشَّرِّ مَغْلُوبٌقد قال ع نحو هذا و ذكرناه في هذا الكتاب
من قصر في الخصومة ظلم و من بالغ فيها أثم

(20/135)


شرح نهج البلاغة ج : 19 ص : 334240إِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ فَرَضَ فِي أَمْوَالِ الْأَغْنِيَاءِ أَقْوَاتَ الْفُقَرَاءِ فَمَا جَاعَ فَقِيرٌ إِلَّا بِمَا مُتِّعَ بِهِ غَنِيٌّ وَ اللَّهُ تَعَالَى جَدُّهُ سَائِلُهُمْ عَنْ ذَلِكَقد تقدم القول في الصدقة و فضلها و ما جاء فيها و قد ورد
في الأخبار الصحيحة أن أبا ذر قال انتهيت إلى رسول الله ص و هو جالس في ظل الكعبة فلما رآني قال هم الأخسرون و رب الكعبة فقلت من هم قال هم الأكثرون أموالا إلا من قال هكذا و هكذا من بين يديه و من خلفه و عن يمينه و عن شماله و قليل ما هم ما من صاحب إبل و لا بقر و لا غنم لا يؤدي زكاتها إلا جاءت يوم القيامة أعظم ما كانت و أسمنه تنطحه بقرونها و تطأه بأظلافها كلما نفدت أخراها عادت عليه أولاها حتى يقضي الله بين الناس...
شرح نهج البلاغة ج : 19 ص : 335241الِاسْتِغْنَاءُ عَنِ الْعُذْرِ أَعَزُّ مِنَ الصِّدْقِ بِهِروي خير من الصدق و المعنى لا تفعل شيئا تعتذر عنه و إن كنت صادقا في العذر فألا تفعل خير لك و أعز لك من أن تفعل ثم تعتذر و إن كنت صادقا. و من حكم ابن المعتز لا يقوم عز الغضب بذل الاعتذار. و كان يقال إياك أن تقوم في مقام معذرة فرب عذر أسجل بذنب صاحبه. اعتذر رجل إلى يحيى بن خالد فقال له ذنبك يستغيث من عذرك. و من كلامهم ما رأيت عذرا أشبه بذنب من هذا. و من كلامهم أضربه على ذنبه مائة و أضربه على عذره مائتين. قال شاعرهم
إذا كان وجه العذر ليس بواضح فإن اطراح العذر خير من العذر
كان النخعي يكره أن يعتذر إليه و يقول اسكت معذورا فإن المعاذير يحضرها الكذب

(20/136)


شرح نهج البلاغة ج : 19 ص : 336242أَقَلُّ مَا يَلْزَمُكُمْ لِلَّهِ سُبْحَانَهُ أَلَّا تَسْتَعِينُوا بِنِعَمِهِ عَلَى مَعَاصِيهِلا شبهة أن من القبيح الفاحش أن ينعم الملك على بعض رعيته بمال و عبيد و سلاح فيجعل ذلك المال مادة لعصيانه و الخروج عليه ثم يحاربه بأولئك العبيد و بذلك السلاح بعينه. و ما أحسن ما قال الصابي في رسالته إلى سبكتكين من عز الدولة بختيار و ليت شعري بأي قدم تواقفنا و راياتنا خافقة على رأسك و مماليكنا عن يمينك و شمالك و خيلنا موسومة بأسمائنا تحتك و ثيابنا محوكة في طرازنا على جسدك و سلاحنا المشحوذ لأعدائنا في يدك
شرح نهج البلاغة ج : 19 ص : 337243إِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ جَعَلَ الطَّاعَةَ غَنِيمَةَ الْأَكْيَاسِ عِنْدَ تَفْرِيطِ الْعَجَزَةِالأكياس العقلاء أولو الألباب قال ع جعل الله طاعته غنيمة هؤلاء إذا فرط فيها العجزة المخذلون من الناس كصيد استذف لرجلين أحدهما جلد و الآخر عاجز فقعد عنه العاجز لعجزه و حرمانه و اقتنصه الجلد لشهامته و قوة جده
شرح نهج البلاغة ج : 19 ص : 338244السُّلْطَانُ وَزَعَةُ اللَّهِ فِي أَرْضِهِالوازع عن الشي ء الكاف عنه و المانع منه و الجمع وزعة مثل قاتل و قتلة و قد قيل هذا المعنى كثيرا قالوا لا بد للناس من وزعة. و قيل ما يزع الله عن الدين بالسلطان أكثر مما يزع عنه بالقرآن و تنسب هذه اللفظة إلى عثمان بن عفان. قال الشاعر لا يصلح الناس فوضى لا سراة لهم و لا سراة إذا جهالهم سادوا
و كان يقال السلطان القاهر و إن كان ظالما خير للرعية و للملك من السلطان الضعيف و إن كان عادلا. و قال الله سبحانه وَ لَوْ لا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ قالوا في تفسيره أراد السلطان

(20/137)


شرح نهج البلاغة ج : 19 ص : 339245وَ قَالَ ع فِي صِفَةِ الْمُؤْمِنِ بِشْرُهُ فِي وَجْهِهِ وَ حُزْنُهُ فِي قَلْبِهِ أَوْسَعُ شَيْ ءٍ صَدْراً وَ أَذَلُّ شَيْ ءٍ نَفْساً يَكْرَهُ الرِّفْعَةَ وَ يَشْنَأُ السُّمْعَةَ طَوِيلٌ غَمُّهُ بَعِيدٌ هَمُّهُ كَثِيرٌ تُهُ مَشْغُولٌ وَقْتُهُ شَكُورٌ صَبُورٌ مَغْمُورٌ بِفِكْرَتِهِ ضَنِينٌ بِخَلَّتِهِ سَهْلُ الْخَلِيقَةِ لَيِّنُ الْعَرِيكَةِ نَفْسُهُ أَصْلَبُ مِنَ الصَّلْدِ وَ هُوَ أَذَلُّ مِنَ الْعَبْدِ
هذه صفات العارفين و قد تقدم كثير من القول في ذلك و كان يقال البشر عنوان النجاح و الأمر الذي يختص به العارف أن يكون بشره في وجهه و هو حزين و حزنه في قلبه و إلا فالبشر قد يوجد في كثير من الناس. ثم ذكر أنه أوسع الناس صدرا و أذلهم نفسا و أنه يكره الرفعة و الصيت و جاء في الخبر في وصفهم كل خامل نومة. و طول الغم و بعد الهم من صفاتهم و كذلك كثرة الصمت و شغل الوقت بالذكر و العبادة و كذلك الشكر و الصبر و الاستغراق في الفكر و تدبر آيات الله تعالى في خلقه و الضن بالخلة و قلة المخالطة و التوفر على العزلة و حسن الخلق و لين الجانب و أن يكون قوي النفس جدا مع ذل للناس و تواضع بينهم و هذه الأمور كلها قد أتي عليها الشرح فيما تقدم
شرح نهج البلاغة ج : 19 ص : 340246الْغِنَى الْأَكْبَرُ الْيَأْسُ عَمَّا فِي أَيْدِي النَّاسِهذه الكلمة قد رويت مرفوعة و قد تقدم القول في الطمع و ذمه و اليأس و مدحه. و
في الحديث المرفوع ازهد في الناس يحبك الله و ازهد فيما أيدي الناس يحبك الناس
و من كلام بعضهم ما أكلت طعام واحد إلا هنت عليه. و كان يقال نعوذ بالله من طمع يدني إلى طبع. و قال الشاعر
أرحت روحي من عذاب الملاح لليأس روح مثل روح النجاح

(20/138)


و قال بعض الأدباء هذا المعنى الذي قد أطنب فيه الناس ليس كما يزعمونه لعمري إن لليأس راحة و لكن لا كراحة النجاح و ما هو إلا كقول من قال لا أدري نصف العلم فقيل له و لكنه النصف الذي لا ينفع. و قال ابن الفضل
لا أمدح اليأس و لكنه أروح للقلب من المطمع
شرح نهج البلاغة ج : 19 ص : 247أفلح من أبصر روض المنى يرعى فلم يرع و لم يرتو مما يروى لعبد الله بن المبارك الزاهد
قد أرحنا و استرحنا من غدو و رواح و اتصال بأمير و وزير ذي سماح بعفاف و كفاف و قنوع و صلاح و جعلنا اليأس مفتاحا لأبواب النج شرح نهج البلاغة ج : 19 ص : 341248الْمَسْئُولُ حُرٌّ حَتَّى يَعِدَنبذ من الأقوال الحكيمة في الوعد و المطل
قد سبق القول في الوعد و المطل و نحن نذكر هاهنا نكتا أخرى.
في الحديث المرفوع من وعد وعدا فكأنما عهد عهدا
و كان يقال الوعد دين الكرام و المطل دين اللئام. و كان يقال الوعد شبكة من شباك الأحرار يتصيدون بها المحامد. و قال بعضهم الوعد مرض المعروف و الإنجاز برؤه. و قال يحيى بن خالد الوعد سحاب و الإنجاز مطره. و
في الحديث المرفوع عدة المؤمن عطية
و عنه ع لا تواعد أخاك موعدا لتخلفه
و قال يحيى بن خالد لبنيه يا بني كونوا أسدا في الأقوال نجازا في الأفعال و لا تعدوا إلا و تنجزوا فإن الحر يثق بوعد الكريم و ربما ادان عليه. و كان جعفر بن يحيى يكره الوعد و يقول الوعد من العاجز فأما القادر فالنقد. شرح نهج البلاغة ج : 19 ص : 249و في الحديث المرفوع مطل الغني ظلم
و قال ابن الفضل
أثروا و لم يقضوا ديون غريمهم و اللؤم كل اللؤم مطل الموسر
و قال الآخر
إذا أتت العطية بعد مطل فلا كانت و إن كانت سنيه

(20/139)


و كان يقال المطل يسد على صاحبه باب العذر و يوجب عليه الأحسن و الأكثر و التعجيل يحسن سيئه و يبسط عذره في التقليل. و قال يحيى بن خالد لبنيه يا بني لا تمطلوا معروفكم فإن كثير العطاء بعد المطل قليل و عجلوا فإن عذركم مقبول مع التعجيل. و من كلام الحسن بن سهل المطل يذهب رونق البر و يكدر صفو المعروف و يحبط أجر الصدقة و يعقل اللسان عن الشكر و للتعجيل حلاوة و إن قلت العارفة و لذة و إن صغرت الصنيعة و ربما عرض ما يمنع الإنجاز من تعذر الإمكان و تغير الزمان فبادر المكنة و عاجل القدرة و انتهز الفرصة. و قال الشاعر
تحيل على الفراغ قضاء شغلي و أنت إذا فرغت تكون مثلي فلا أدعى بخادمك المرجى و لا تدعى بسيدنا الأجلو قال آخر
لو علم الماطل أن المطال فقد به يذهب طعم النوال و أن أعلى البر ما ناله طالبه نقدا عقيب السؤال عجل للسائل معروفه مهنا من طول قيل و قا شرح نهج البلاغة ج : 19 ص : 342250لَوْ رَأَى الْعَبْدُ الْأَجَلَ وَ مَصِيرَهُ لَأَبْغَضَ الْأَمَلَ وَ غُرُورَهُقد تقدم من الكلام في الأمل ما فيه كفاية و كان يقال وا عجبا لصاحب الأمل الطويل و ربما يكون كفنه في يد النساج و هو لا يعلم
شرح نهج البلاغة ج : 19 ص : 343251لِكُلِّ امْرِئٍ فِي مَالِهِ شَرِيكَانِ الْوَارِثُ وَ الْحَوَادِثُأخذه الرضي فقال
خذ من تراثك ما استطعت فإنما شركاؤك الأيام و الوراث لم يقض حق المال إلا معشر نظروا الزمان يعيث فيه فعاثواو قد قال ع في موضع آخر بشر مال البخيل بحادث أو وارث
و رأيت بخط ابن الخشاب رحمه الله على ظهر كتاب لعبد الله بن أحمد بن أحمد بن أحمد ثم لحادث أو وارث كأنه يعني ضنه به أي لا أخرجه عن يدي اختيارا

(20/140)


شرح نهج البلاغة ج : 19 ص : 344252الدَّاعِي بِلَا عَمَلٍ كَالرَّامِي بِلَا وَتَرٍمن خلا من العمل فقد أخل بالواجبات و من أخل بالواجبات فقد فسق و الله تعالى لا يقبل دعاء الفاسق و شبهه ع بالرامي بلا وتر فإن سهمه لا ينفذ
شرح نهج البلاغة ج : 19 ص : 345253الْعِلْمُ عِلْمَانِ مَطْبُوعٌ وَ مَسْمُوعٌ وَ لَا يَنْفَعُ الْمَسْمُوعُ إِذَا لَمْ يَكُنِ الْمَطْبُوعُهذه قاعدة كلية مذكورة في الكتب الحكمية إن العلوم منها ما هو غريزي و منها ما هو تكليفي ثم كل واحد من القسمين يختلف بالأشد و الأضعف أما الأول فقد يكون في الناس من لا يحتاج في النظر إلى ترتيب المقدمات بل تنساق النتيجة النظرية إليه سوقا من غير احتياج منه إلى التأمل و التدبر و قد يكون فيهم من هو دون ذلك و قد يكون من هو دون الدون و أما الثاني فقد يكون في الناس من لا يجدي فيه التعليم بل يكون كالصخرة الجامدة بلادة و غباوة و منهم من يكون أقل تبلدا و جنوح ذهن من ذلك و منهم من يكون الوقفة عنده أقل فيكون ذا حال متوسطة و بالجملة فاستقراء أحوال الناس يشهد بصحة ذلك. و قال ع ليس ينفع المسموع إذا لم يكن المطبوع يقول إذا لم يكن هناك أحوال استعداد لم ينفع الدرس و التكرار و قد شاهدنا مثل هذا في حق أشخاص كثيرة اشتغلوا بالعلم الدهر الأطول فلم ينجع معهم العلاج و فارقوا الدنيا و هم على الغريزة الأولى في الساذجية و عدم الفهم

(20/141)


شرح نهج البلاغة ج : 19 ص : 346254صَوَابُ الرَّأْيِ بِالدُّوَلِ يُقْبِلُ بِإِقْبَالِهَا وَ يُدْبِرُ بِإِدْبَارِهَاقال الصولي اجتمع بنو برمك عند يحيى بن خالد في آخر دولتهم و هم يومئذ عشرة فأداروا بينهم الرأي في أمر فلم يصلح لهم فقال يحيى أنا لله ذهبت و الله دولتنا كنا في إقبالنا يبرم الواحد منا عشرة آراء مشكلة في وقت واحد و اليوم نحن عشرة في أمر غير مشكل و لا يصح لنا فيه رأي الله نسأل حسن الخاتمة. أرسل المنصور لما هاضه أمر إبراهيم إلى عمه عبد الله بن علي و هو في السجن يستشيره ما يصنع و كان إبراهيم قد ظهر بالبصرة فقال عبد الله أنا محبوس و المحبوس محبوس الرأي قال له فعلى ذاك قال يفرق الأموال كلها على الرجال و يلقاه فإن ظفر فذاك و إلا يتوجه إلى أبيه محمد بجرجان و يتركه يقدم على بيوت أموال فارغة فهو خير له من أن تكون الدبرة عليه و يقدم عدوه على بيوت أموال مملوءة. قال سليمان بن عبد الملك ليزيد بن أبي مسلم صاحب شرطة الحجاج يوما لعن الله رجلا أجرك رسنه و خرب لك آخرته قال يا أمير المؤمنين رأيتني و الأمر عني مدبر و لو رأيتني و الأمر علي مقبل لاستكبرت مني ما استصغرت و لاستعظمت مني ما استحقرت
شرح نهج البلاغة ج : 19 ص : 347255الْعَفَافُ زِينَةُ الْفَقْرِ وَ الشُّكْرُ زِينَةُ الْغِنَىقد سبق القول في أن الأجمل بالفقير أن يكون عفيفا و ألا يكون جشعا حريصا و لا جادا في الطلب متهالكا و أنه ينبغي أنه إذا افتقر أن يتيه على الوقت و أبناء الوقت فإن التيه في مثل ذلك المقام لا بأس به ليبعد جدا عن مظنة الحرص و الطمع. و قد سبق أيضا القول في الشكر عند النعمة و وجوبه و أنه سبب لاستدامتها و أن الإخلال به داعية إلى زوالها و انتقالها و ذكرنا في هذا الباب أمورا مستحسنة فلتراجع و قال عبد الصمد بن المعذل في العفاف

(20/142)


سأقنى العفاف و أرضى الكفاف و ليس غنى النفس حوز الجزيل و لا أتصدى لشكر الجواد و لا أستعد لذم البخيل و أعلم أن بنات الرجاء تحل العزيز محل الذليل و أن ليس مستغنيا بالكثير من ليس مستغنيا بالقل شرح نهج البلاغة ج : 19 ص : 348256يَوْمُ الْعَدْلِ عَلَى الظَّالِمِ أَشَدُّ مِنْ يَوْمِ الْجَوْرِ عَلَى الْمَظْلُومِشيئان مؤلمان أحدهما ينقضي سريعا و الآخر يدوم أبدا فلا جرم كان اليوم المذكور على الظالم أشد من يوم الجور على المظلوم
شرح نهج البلاغة ج : 19 ص : 349257الْأَقَاوِيلُ مَحْفُوظَةٌ وَ السَّرَائِرُ مَبْلُوَّةٌ وَ كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ وَ النَّاسُ مَنْقُوصُونَ مَدْخُولُونَ إِلَّا مَنْ عَصَمَ اللَّهُ سَائِلُهُمْ مُتَعَنِّتٌ وَ مُجِيبُهُمْ مُتَكَلِّفٌ يَكَادُ أْضَلُهُمْ رَأْياً يَرُدُّهُ عَنْ فَضْلِ رَأْيِهِ الرِّضَا وَ السُّخْطُ وَ يَكَادُ أَصْلَبُهُمْ عُوداً تَنْكَؤُهُ اللَّحْظَةُ وَ تَسْتَحِيلُهُ الْكَلِمَةُ الْوَاحِدَةُ
السرائر هاهنا ما أسر في القلوب من النيات و العقائد و غيرها و ما يخفى من أعمال الجوارح أيضا و بلاؤها تعرفها و تصفحها و التمييز بين ما طاب منها و ما خبث. و قال عمر بن عبد العزيز للأحوص لما قال
ستبلى لها في مضمر القلب و الحشا سريرة حب يوم تبلى السرائر

(20/143)


إنك يومئذ عنها لمشغول. ذكر ع الناس فقال قد عمهم النقص إلا المعصومين ثم قال سائلهم يسأل تعنتا و السؤال على هذا الوجه مذموم و مجيبهم متكلف للجواب و أفضلهم رأيا يكاد رضاه تارة و سخطه أخرى يرده عن فضل رأيه أي يتبعون الهوى شرح نهج البلاغة ج : 19 ص : 258و يكادصلبهم عودا أي أشدهم احتمالا. و تنكؤه اللحظة نكأت القرحة إذا صدمتها بشي ء فتقشرها. قال و تستحيله الكلمة الواحدة أي تحيله و تغيره عن مقتضى طبعه يصفهم بسرعة التقلب و التلون و أنهم مطيعون دواعي الشهوة و الغضب و استفعل بمعنى فعل قد جاء كثيرا استغلظ العسل أي غل
شرح نهج البلاغة ج : 19 ص : 350259قَالَ مَعَاشِرَ النَّاسِ اتَّقُوا اللَّهَ فَكَمْ مِنْ مُؤَمِّلٍ مَا لَا يَبْلُغُهُ وَ بَانٍ مَا لَا يَسْكُنُهُ وَ جَامِعٍ مَا سَوْفَ يَتْرُكُهُ وَ لَعَلَّهُ مِنْ بَاطِلٍ جَمَعَهُ وَ مِنْ حَقٍّ مَنَعَهُ أَصَابَهُ حَرَاماًَ احْتَمَلَ بِهِ آثَاماً فَبَاءَ بِوِزْرِهِ وَ قَدِمَ عَلَى رَبِّهِ آسِفاً لَاهِفاً قَدْ خَسِرَ الدُّنْيَا وَ الآْخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ
قد تقدم شرح هذه المعاني و الكلام عليها أما الآمال التي لا تبلغ فأكثر من أن تحصى بل لا نهاية لها. و ما أحسن قول القائل
وا حسرتى مات حظي من وصالكم و للحظوظ كما للناس آجال إن مت شوقا و لم أبلغ مدى أملي كم تحت هذي القبور الخرس آمالو أما بناء ما لا يسكن فنحو ذلك و قال الشاعر
أ لم تر حوشبا بالأمس يبني بناء نفعه لبني نفيله يؤمل أن يعمر عمر نوح و أمر الله يطرق كل ليلهو أما جامع ما سوف يتركه فأكثر الناس قال الشاعر

(20/144)


و ذي إبل يسعى و يحسبها له أخو تعب في رعيها و دءوب غدت و غدا رب سواه يسوقها و بدل أحجارا و جال قليب شرح نهج البلاغة ج : 19 ص : 351260مِنَ الْعِصْمَةِ تَعَذُّرُ الْمَعَاصِي قد وردت هذه الكلمة على صيغ مختلفة من العصمة ألا تقدر و أيضا من العصمة ألا تجد و قد رويت مرفوعة أيضا. و ليس المراد بالعصمة هاهنا العصمة التي ذكرها المتكلمون لأن العصمة عند المتكلمين شرطها القدرة و حقيقتها راجعة إلى لطف يمنع القادر على المعصية من المعصية و إنما المراد أن غير القادر في اندفاع العقوبة عنه كالقادر الذي لا يفعل
شرح نهج البلاغة ج : 19 ص : 352261مَاءُ وَجْهِكَ جَامِدٌ يُقْطِرُهُ السُّؤَالُ فَانْظُرْ عِنْدَ مَنْ تُقْطِرُهُهذا حسن و قد أخذه شاعر فقال
إذا أظمأتك أكف اللئام كفتك القناعة شبعا و ريافكن رجلا رجله في الثرى و هامة همته في الثريافإن إراقة ماء الحياة دون إراقة ماء المحيا
و قال آخر
رددت لي ماء وجهي في صفيحته رد الصقال بهاء الصارم الجذم و ما أبالي و خير القول أصدقه حقنت لي ماء وجهي أو حقنت دميو قال مصعب بن الزبير إني لأستحيي من رجل وجه إلي رغبته فبات ليلته يتململ و يتقلقل على فراشه ينتظر الصبح قد جعلني أهلا لأن يقطر ماء وجهه لدي إن أرده خائبا. و قال آخر
ما ماء كفيك إن أرسلت مزنته من ماء وجهي إذا استقطرته عوض

(20/145)


شرح نهج البلاغة ج : 19 ص : 353262الثَّنَاءُ بِأَكْثَرَ مِنَ الِاسْتِحْقَاقِ مَلَقٌ وَ التَّقْصِيرُ عَنِ الِاسْتِحْقَاقِ عِيٌّ أَوْ حَسَدٌكانوا يكرهون أن يثنى الشاعر في شعره على الممدوح الثناء المفرط و يقولون خير المدح ما قارب فيه الشاعر و اقتصد و هذا هو المذهب الصحيح و إن كان قوم يقولون إن خير الشعر المنظوم في المدح ما كان أشد مغالاة و أكثر تبجيلا و تعظيما و وصفا و نعتا. و ينبغي أن يكون قوله ع محمولا على الثناء في وجه الإنسان لأنه هو الموصوف بالملق إذا أفرط فأما من يثنى بظهر الغيب فلا يوصف ثناؤه بالملق سواء كان مقتصدا أو مسرفا. و قوله ع و التقصير عن الاستحقاق عي أو حسد لا مزيد عليه في الحسن لأنه إذا قصر به عن استحقاقه كان المانع إما من جانب المثني فقط من غير تعلق له بالمثنى عليه أو مع تعلق به فالأول هو العي و الحصر و الثاني هو الحسد و المنافسة
شرح نهج البلاغة ج : 19 ص : 354263أَشَدُّ الذُّنُوبِ مَا اسْتَهَانَ بِهِ صَاحِبُهَاقد ذكرنا هذا فيما تقدم و ذكرنا العلة فيه و هي أن فاعل ذلك الذنب قد جمع بين فعل الذنب و فعل ذنب آخر و هو الاستهانة بما لا يستهان به لأن المعاصي لا هين فيها و الصغير منها كبير و الحقير منها عظيم و ذلك لجلالة شأن المعصي سبحانه. فأما من يذنب و يستعظم ما أتاه فحاله أخف من حال الأول لأنه يكاد يكون نادما

(20/146)


شرح نهج البلاغة ج : 19 ص : 355264مَنْ نَظَرَ فِي عَيْبِ نَفْسِهِ اشْتَغَلَ عَنْ عَيْبِ غَيْرِهِ وَ مَنْ رَضِيَ بِرِزْقِ اللَّهِ لَمْ يَحْزَنْ عَلَى مَا فَاتَهُ وَ مَنْ سَلَّ سَيْفَ الْبَغْيِ قُتِلَ بِهِ وَ مَنْ كَابَدَ الْأُمُورَ عَطِبَ وَ مَنِ اقْتَحَماللُّجَجَ غَرِقَ وَ مَنْ دَخَلَ مَدَاخِلَ السُّوءِ اتُّهِمَ وَ مَنْ كَثُرَ كَلَامُهُ كَثُرَ خَطَؤُهُ وَ مَنْ كَثُرَ خَطَؤُهُ قَلَّ حَيَاؤُهُ وَ مَنْ قَلَّ حَيَاؤُهُ قَلَّ وَرَعُهُ وَ مَنْ قَلَّ وَرَعُهُ مَاتَ قَلْبُهُ وَ مَنْ مَاتَ قَلْبُهُ دَخَلَ النَّارَ وَ مَنْ نَظَرَ فِي عُيُوبِ غَيْرِهِ فَأَنْكَرَهَا ثُمَّ رَضِيَهَا لِنَفْسِهِ فَذَلِكَ الْأَحْمَقُ بِعَيْنِهِ وَ الْقَنَاعَةُ مَالٌ لَا يَنْفَدُ وَ مَنْ أَكْثَرَ مِنْ ذِكْرِ الْمَوْتِ رَضِيَ مِنَ الدُّنْيَا بِالْيَسِيرِ وَ مَنْ عَلِمَ أَنَّ كَلَامَهُ مِنْ عَمَلِهِ قَلَّ كَلَامُهُ إِلَّا فِيمَا يَعْنِيهِ
كل هذه الفصول قد تقدم الكلام فيها و هي عشرة أولها من نظر في عيب نفسه اشتغل عن عيب غيره كان يقال أصلح نفسك أولا ثم أصلح غيرك. و ثانيها من رضي برزق الله لم يحزن على ما فاته كان يقال الحزن على المنافع الدنيوية سم ترياقه الرضا بالقضاء شرح نهج البلاغة ج : 19 : 265و ثالثها من سل سيف البغي قتل به كان يقال الباغي مصروع و إن كثر جنوده. و رابعها من كابد الأمور عطب و من اقتحم اللجج غرق مثل هذا قول القائل
من حارب الأيام أصبح رمحه قصدا و أصبح سيفه مفلولا

(20/147)


و خامسها من دخل مداخل السوء اتهم هذا مثل قولهم من عرض نفسه للشبهات فلا يلومن من أساء به الظن. و سادسها من كثر كلامه إلى قوله دخل النار قد تقدم القول في المنطق الزائد و ما فيه من المحذور و كان يقال قلما سلم مكثار أو أمن من عثار. و سابعها من نظر في عيوب غيره فأنكرها ثم رضيها لنفسه فذاك هو الأحمق بعينه و كان يقال أجهل الناس من يرضى لنفسه بما يسخطه من غيره. و ثامنها القناعة مال لا ينفد قد سبق القول في هذا و سيأتي أيضا. و تاسعها من ذكر الموت رضي من الدنيا باليسير كان يقال إذا أحببت ألا تحسد أحدا فأكثر ذكر الموت و اعلم أنك و من تحسده عن قليل من عديد الهلكى. و عاشرها من علم أن كلامه من عمله قل كلامه إلا فيما يعنيه لا ريب أن الكلام عمل من الأعمال و فعل من الأفعال فكما يستهجن من الإنسان ألا يزال يحرك يده و إن كان عابثا كذلك يستهجن ألا يزال يحرك لسانه فيما هو عبث أو يجري مجرى العبث. و قال الشاعر

(20/148)


يخوض أناس في الكلام ليوجزوا و للصمت في بعض الأحايين أوجزإذا كنت عن أن تحسن الصمت عاجزا فأنت عن الإبلاغ في القول أعجز شرح نهج البلاغة ج : 19 ص : 356266لِلظَّالِمِ مِنَ الرِّجَالِ ثَلَاثُ عَلَامَاتٍ يَظْلِمُ مَنْ فَوْقَهُ بِالْمَعْصِيَةِ وَ مَنْ دُونَهُ بِالْغَلَبَةِ وَ يُظَاهِرُ الْقَوْمَ الظَّلَمَةَيمكن أن يفسر هذا الكلام على وجهين أحدهما أن كل من وجدت فيه إحدى هذه الثلاث فهو ظالم إما أن يكون قد وجبت عليه طاعة من فوقه فعصاه فهو بعصيانه ظالم له لأنه قد وضعه في غير موضعه و الظلم في أصل اللغة هو هذا المعنى و لذلك سموا اللبن يشرب قبل أن يبلغ الروب مظلوما لأن الشرب منه كان في غير موضعه إذا لم يرب و لم يخرج زبده فكذلك من عصى من فوقه فقد زحزحه عن مقامه إذ لم يطعه و إما أن يكون قد قهر من دونه و غلبه و إما أن يكون قد ظاهر الظلمة. و الوجه الثاني أن كل ظالم فلا بد من اجتماع هذه العلامات الثلاث فيه و هذا هو الأظهر
شرح نهج البلاغة ج : 19 ص : 357267عِنْدَ تَنَاهِي الشِّدَّةِ تَكُونُ الْفَرْجَةُ وَ عِنْدَ تَضَايُقِ حَلَقِ الْبَلَاءِ يَكُونُ الرَّخَاءُكان يقال إذا اشتد المضيق اتسعت الطريق و كان يقال توقعوا الفرج عند ارتتاج المخرج و قال الشاعر
إذا بلغ الحوادث منتهاها فرج بعيدها الفرج المطلافكم كرب تولى إذ توالى و كم خطب تجلى حين جلى
و في الأثر تضايقي تنفرجي سيجعل الله بعد العسر يسرا. و الفرجة بفتح الفاء التفصي من الهم قال الشاعر
ربما تجزع النفوس من الأمر له فرجة كحل العقال
فأما الفرجة بالضم ففرجة الحائط و ما أشبهه

(20/149)


شرح نهج البلاغة ج : 19 ص : 358268وَ قَالَ ع لِبَعْضِ أَصْحَابِهِ لَا تَجْعَلَنَّ أَكْثَرَ شُغُلِكَ بِأَهْلِكَ وَ وَلَدِكَ فَإِنْ يَكُنْ أَهْلُكَ وَ وَلَدُكَ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَوْلِيَاءَهُ وَ إِنْ يَكُونُوا أَعْدَاءَ اللَّهفَمَا هَمُّكَ وَ شُغُلُكَ بِأَعْدَاءِ اللَّهِ
قد تقدم القول نحو هذا المعنى و هو أمر بالتفويض و التوكل على الله تعالى فيمن يخلفه الإنسان من ولده و أهله فإن الله تعالى أعلم بالمصلحة و أرأف بالإنسان من أبيه و أمه ثم إن كان الولد في علم الله تعالى وليا من أولياء الله سبحانه فإن الله تعالى لا يضيعه قال سبحانه وَ مَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ و كل ولي لله فهو متوكل عليه لا محالة و إن كان عدوا لله لم يجز الاهتمام له و الاعتناء بأمره لأن أعداء الله تجب مقاطعتهم و يحرم توليهم فعلى كل حال لا ينبغي للإنسان أن يحفل بأهله و ولده بعد موته. و اعلم أن هذا كلام العارفين الصديقين لا كلام أهل هذه الطبقات التي نعرفها فإن هذه الطبقات تقصر أقدامهم عن الوصول إلى هذا المقام. و يعجبني قول الشاعر
أيا جامع المال وفرته لغيرك إذ لم تكن خالدافإن قلت أجمعه للبنين فقد يسبق الولد الوالداو إن قلت أخشى صروف الزمان فكن من تصاريفه واحدا
شرح نهج البلاغة ج : 19 ص : 359269أَكْبَرُ الْعَيْبِ أَنْ تَعِيبَ مَا فِيكَ مِثْلُهُقد تقدم هذا المعنى مرارا و قال الشاعر
إذا أنت عبت الأمر ثم أتيته فأنت و من تزري عليه سواء
شرح نهج البلاغة ج : 19 ص : 360270وَ هَنَّأَ بِحَضْرَتِهِ رَجُلٌ رَجُلًا آخَرَ بِغُلَامٍ وُلِدَ لَهُ فَقَالَ لَهُ لِيَهْنِئْكَ الْفَارِسُ فَقَالَ ع لَا تَقُلْ ذَلِكَ وَ لَكِنْ قُلْ شَكَرْتَ الْوَاهِبَ وَ بُورِكَ لَكَ فِي الْمَوْهُوبِ وَ بَلَغَ أَشُدَّهُ رُزِقْتَ بِرَّهُ

(20/150)


هذه كلمة كانت من شعار الجاهلية فنهي عنها كما نهي عن تحية الجاهلية أبيت اللعن و جعل عوضها سلام عليكم. و قال رجل للحسن البصري و قد بشره بغلام ليهنئك الفارس فقال بل الراجل ثم قال لا مرحبا بمن إن عاش كدني و إن مات هدني و إن كنت مقلا أنصبني و إن كنت غنيا أذهلني ثم لا أرضى بسعيي له سعيا و لا بكدي عليه في الحياة كدا حتى أشفق عليه بعد موتي من الفاقة و أنا في حال لا يصل إلي من فرحه سرور و لا من همه حزن
شرح نهج البلاغة ج : 19 ص : 361271وَ بَنَى رَجُلٌ مِنْ عُمَّالِهِ بِنَاءً فَخْماً فَقَالَ ع أَطْلَعَتِ الْوَرِقُ رُءُوسَهَا إِنَّ الْبِنَاءَ يَصِفُ لَكَ الْغِنَىقد رويت هذه الكلمة عن عمر رضي الله عنه ذكر ذلك ابن قتيبة في عيون الأخبار. و روي عنه أيضا لي على كل خائن أمينان الماء و الطين. قال يحيى بن خالد لابنه جعفر حين اختط داره ببغداد ليبنيها هي قميصك فإن شئت فوسعه و إن شئت فضيقه. و رآه و هو يجصص حيطان داره المبنية بالآجر فقال له إنك تغطي الذهب بالفضة فقال جعفر ليس في كل مكان يكون الذهب خيرا من الفضة و لكن هل ترى عيبا قال نعم مخالطتها دور السوقة. و قيل ليزيد بن المهلب أ لا يبني الأمير دارا فقال منزلي دار الإمارة أو الحبس. و كان يقال في الدار لتكن أول ما يبتاع و آخر ما تباع. و مر رجل من الخوارج بآخر من أصحابهم و هو يبني دارا فقال من ذا الذي يقيم كفيلا و قالوا كل ما يخرج بخروجك و يرجع برجوعك كالدار و النخل و نحوهما فهو كفيل

(20/151)


شرح نهج البلاغة ج : 19 ص : 362272وَ قِيلَ لَهُ ع لَوْ سُدَّ عَلَى رَجُلٍ بَابُ بَيْتٍ وَ تُرِكَ فِيهِ مِنْ أَيْنَ كَانَ يَأْتِيهِ رِزْقُهُ فَقَالَ ع مِنْ حَيْثُ يَأْتِيهِ أَجَلُهُليس يعني ع أن كل من يسد عليه باب بيت فإنه لا بد أن يرزقه الله تعالى لأن العيان و المشاهدة تقتضي خلاف ذلك و ما رأينا من سد عليه باب بيت مدة طويلة فعاش و لا ريب أن من شق أسطوانة و جعل فيها حيا ثم بنيت الأسطوانة عليه فإنه يموت مختنقا و لا يأتيه رزقه و لا حياته و لأن للحكماء أن يقولوا في الفرق بين الموضعين إن أجله إنما يأتيه لأن الأجل عدم الحياة و الحياة تعدم لعدم ما يوجبها و الذي يوجب استمرارها الغذاء فلما انقطع الغذاء حضر الأجل فهذا هو الوجه الذي يأتيه منه أجله و لا سبيل إلى ذكر مثله في حضور الرزق لمن يسد عليه الباب. فإذا معنى كلامه ع أن الله تعالى إذا علم فيمن يجعل في دار و يسد عليه بابها أن في بقاء حياته لطفا لبعض المكلفين فإنه يجب على الله تعالى أن يديم حياته كما يشاء سبحانه إما بغذاء يقيم به مادة حياته أو شرح نهج البلاغة ج : 19 ص : 273يديم حياته بغير سبب هذا هو الوجه الذي منه يأتيه أجله أيضا لأن إماتة الله المكلف أمر تابع للمصلحة لأنه لا بد من انقطاع التكليف على كل حال للوجه الذي يذكره أصحابنا في كتبهم فإذا كان الموت تابعا للمصلحة و كان الإحياء تابعا للمصلحة فقد أتى الإنسان رزقه يعني حياته من حيث يأتيه أجله و انتظم الكلام
شرح نهج البلاغة ج : 19 ص : 363274وَ عَزَّى قَوْماً عَنْ مَيِّتٍ مَاتَ لَهُمْ فَقَالَ ع إِنَّ هَذَا الْأَمْرَ لَيْسَ بِكُمْ بَدَأَ وَ لَا إِلَيْكُمُ انْتَهَى وَ قَدْ كَانَ صَاحِبُكُمْ هَذَا يُسَافِرُ فَقَالُوا نَعَمْ قَالَ فَعُدُّوهُ فِي بَعْضِ سَفَرَاتِ فَإِنْ قَدِمَ عَلَيْكُمْ وَ إِلَّا قَدِمْتُمْ عَلَيْهِ
قد ألم إبراهيم بن المهدي ببعض هذا في شعره الذي رثى به ولده فقال

(20/152)


يئوب إلى أوطانه كل غائب و أحمد في الغياب ليس يئوب تبدل دارا غير داري و جيرة سواي و أحداث الزمان تنوب أقام بها مستوطنا غير أنه على طول أيام المقام غريب و إني و إن قدمت قبلي لعالم بأني و إن أبطأت عنك قريب و إن صباحا نلتقي في مسائه صباح إلى قلبي الغداة ح شرح نهج البلاغة ج : 19 ص : 364275أَيُّهَا النَّاسُ لِيَرَاكُمُ اللَّهُ مِنَ النِّعْمَةِ وَجِلِينَ كَمَا يَرَاكُمْ مِنَ النِّقْمَةِ فَرِقِينَ إِنَّهُ مَنْ وُسِّعَ عَلَيْهِ فِي ذَاتِ يَدِهِ فَلَمْ يَرَ ذَلِكَ اسْتِدْرَاجاً فَقَدْ أَمِنَ مَخُوفاً وَ مَنْ ضِّقَ عَلَيْهِ فِي ذَاتِ يَدِهِ فَلَمْ يَرَ ذَلِكَ اخْتِبَاراً فَقَدْ ضَيَّعَ مَأْمُولًا
قد تقدم القول في استدراج المترف الغني و اختبار الفقير الشقي و أنه يجب على الإنسان و إن كان مشمولا بالنعمة أن يكون وجلا كما يجب عليه إذا كان فقيرا أن يكون شكورا صبورا
شرح نهج البلاغة ج : 19 ص : 365276يَا أَسْرَى الرَّغْبَةِ اقْصُرُوا فَإِنَّ الْمُعَرِّجَ عَلَى الدُّنْيَا لَا يَرُوعُهُ مِنْهَا إِلَّا صَرِيفُ أَنْيَابِ الْحِدْثَانِ أَيُّهَا النَّاسُ تَوَلَّوْا عَنْ أَنْفُسِكُمْ تَأْدِيبَهَا وَ اعْدِلُوا بِهَا عَنْ ضِرََةِ عَادَاتِهَا

(20/153)


ضرى يضري ضراية مثل رمى يرمي رماية أي جرى و سال ذكره ابن الأعرابي و عليه ينبغي أن يحمل كلام أمير المؤمنين ع أي اعدلوا بها عن عاداتها الجارية من باب إضافة الصفة إلى الموصوف و هذا خير من تفسير الراوندي و قوله إنه من ضري الكلب بالصيد لأن المصدر من ذلك الضراوة بالواو و فتح الضاد و لم يأت فيه ضراية. و قوله يا أسرى الرغبة كلمة فصيحة و كذلك قوله لا يروعه منها إلا صريف أنياب الحدثان و ذلك لأن الفهد إذا وثب و الذئب إذا حمل يصرف نابه و يقولون لكل خطب و داهية جاءت تصرف نابها و الصريف صوت الأسنان إما عند رعدة أو عند شدة الغضب و الحنق و الحرص على الانتقام أو نحو ذلك. و قد تقدم الكلام في الدنيا و الرغبة فيها و غدرها و حوادثها و وجوب العدول عنها و كسر عادية عادات السوء المكتسبة فيها
شرح نهج البلاغة ج : 19 ص : 366277لَا تَظُنَّنَّ بِكَلِمَةٍ خَرَجَتْ مِنْ أَحَدٍ سُوءاً وَ أَنْتَ تَجِدُ لَهَا فِي الْخَيْرِ مُحْتَمَلًاهذه الكلمة يرويها كثير من الناس لعمر بن الخطاب و يرويها بعضهم لأمير المؤمنين ع و كان ثمامة يحدث بسؤدد يحيى بن خالد و ابنه جعفر و يقول إن الرشيد نكب علي بن عيسى بن ماهان و ألزمه مائة ألف دينار أدى منها خمسين ألفا و يلح بالباقي فأقسم الرشيد إن لم يؤد المال في بقية هذا اليوم و إلا قتله و كان علي بن عيسى عدوا للبرامكة مكاشفا فلما علم أنه مقتول سأل أن يمكن من السعي إلى الناس يستنجدهم ففسح له في ذلك فمضى و معه وكيل الرشيد و أعوانه إلى باب يحيى و جعفر فأشبلا عليه و صححا من صلب أموالهما خمسين ألف دينار في باقي نهار ذلك اليوم بديوان الرشيد باسم علي بن عيسى و استخلصاه فنقل بعض المتنصحين لهما إليهما أن علي بن عيسى قال في آخر نهار ذلك اليوم متمثلا
فما بقيا علي تركتماني و لكن خفتما صرد النبال

(20/154)


شرح نهج البلاغة ج : 19 ص : 278فقال يحيى للناقل إليه ذلك يا هذا إن المرعوب ليسبق لسانه إلى ما لم يخطر بقلبه. و قال جعفر و من أين لنا أنه تمثل بذلك و عنانا و لعله أراد أمرا آخر فكان ثمامة يقول ما في الأرض أسود من رجل يتأول كلام عدوه فيه و يحمله على أحسن ممله. و قال الشاعر
إذا ما أتت من صاحب لك زلة فكن أنت محتالا لزلته عذرا
شرح نهج البلاغة ج : 19 ص : 367279إِذَا كَانَتْ لَكَ إِلَى اللَّهِ سُبْحَانَهُ حَاجَةٌ فَابْدَأْ بِمَسْأَلَةِ الصَّلَاةِ عَلَى رَسُولِهِ ص ثُمَّ سَلْ حَاجَتَكَ فَإِنَّ اللَّهَ أَكْرَمُ مِنْ أَنْ يُسْأَلَ حَاجَتَيْنِ فَيَقْضِيَ إِحْدَاهُمَا وَ يَمْنَعَ الُخْرَى هذا الكلام على حسب الظاهر الذي يتعارفه الناس بينهم و هو ع يسلك هذا المسلك كثيرا و يخاطب الناس على قدر عقولهم و أما باطن الأمر فإن الله تعالى لا يصلي على النبي ص لأجل دعائنا إياه أن يصلي عليه لأن معنى قولنا اللهم صل على محمد أي أكرمه و ارفع درجته و الله سبحانه قد قضى له بالإكرام التام و رفعة الدرجة من دون دعائنا و إنما تعبدنا نحن بأن نصلي عليه لأن لنا ثوابا في ذلك لا لأن إكرام الله تعالى له أمر يستعقبه و يستتبعه دعاؤنا. و أيضا فأي غضاضة على الكريم إذا سئل حاجتين فقضى إحداهما دون الأخرى إن كان عليه في ذلك غضاضة فعليه في رد الحاجة الواحدة غضاضة أيضا
شرح نهج البلاغة ج : 19 ص : 368280مَنْ ضَنَّ بِعِرْضِهِ فَلْيَدَعِ الْمِرَاءَقد تقدم من القول في المراء ما فيه كفاية و حد المراء الجدال المتصل لا يقصد به الحق. و قيل لميمون بن مهران ما لك لا تفارق أخا لك عن قلى قال لأني لا أشاريه و لا أماريه. و كان يقال ما ضل قوم بعد إذ هداهم الله تعالى إلا بالمراء و الإصرار في الجدال على نصرة الباطل. و قال سفيان الثوري إذا رأيتم الرجل لجوجا مماريا معجبا بنفسه فقد تمت خسارته

(20/155)


شرح نهج البلاغة ج : 19 ص : 369281مِنَ الْخُرْقِ الْمُعَاجَلَةُ قَبْلَ الْإِمْكَانِ وَ الْأَنَاةُ بَعْدَ الْفُرْصَةِقد تقدم القول في هذين المعنيين. و من كلام ابن المعتز إهمال الفرصة حتى تفوت عجز و العجلة قبل التمكن خرق. و قد جعل أمير المؤمنين ع كلتا الحالتين خرقا و هو صحيح لأن الخرق الحمق و قلة العقل و كلتا الحالتين دليل على الحمق و النقص
شرح نهج البلاغة ج : 19 ص : 370282لَا تَسْأَلْ عَمَّا لَمْ يَكُنْ فَفِي الَّذِي قَدْ كَانَ لَكَ شُغُلٌمن هذا الباب قول أبي الطيب في سيف الدولة
ليس المدائح تستوفي مناقبه فمن كليب و أهل الأعصر الأول خذ ما تراه و دع شيئا سمعت به في طلعة البدر ما يغنيك عن زحل شرح نهج البلاغة ج : 19 ص : 371283الْفِكْرُ مِرْآةٌ صَافِيَةٌ وَ الِاعْتِبَارُ مُنْذِرٌ نَاصِحٌ وَ كَفَى أَدَباً لِنَفْسِكَ تَجَنُّبُكَ مَا كَرِهْتَهُ لِغَيْرِكَقد تقدم القول في نحو هذا و في المثل كفى بالاعتبار منذرا و كفى بالشيب زاجرا و كفى بالموت واعظا و قد سبق القول في وجوب تجنب الإنسان ما يكرهه من غيره. و قال بعض الحكماء إذا أحببت أخلاق امرئ فكنه و إن أبغضتها فلا تكنه أخذه شاعرهم فقال

(20/156)


إذا أعجبتك خصال امرئ فكنه يكن منك ما يعجبك فليس على المجد و المكرمات إذا جئتها حاجب يحجبك شرح نهج البلاغة ج : 19 ص : 372284الْعِلْمُ مَقْرُونٌ بِالْعَمَلِ فَمَنْ عَلِمَ عَمِلَ وَ الْعِلْمُ يَهْتِفُ بِالْعَمَلِ فَإِنْ أَجَابَ وَ إِلَّا ارْتَحَلَ عَنْهُلا خير في علم بلا عمل و العلم بغير العمل حجة على صاحبه و كلام أمير المؤمنين ع يشعر بأنه لا عالم إلا و هو عامل و مراده بالعلم هاهنا العرفان و لا ريب أن العارف لا بد أن يكون عاملا. ثم استأنف فقال العلم يهتف بالعمل أي يناديه و هذه اللفظة استعارة. قال فإن أجابه و إلا ارتحل أي إن كان الإنسان عالما بالأمور الدينية ثم لم يعمل بها سلبه الله تعالى علمه و لم يمت إلا و هو معدود في زمرة الجاهلين و يمكن أن يفسر على أنه أراد بقوله ارتحل ارتحلت ثمرته و نتيجته و هي الثواب فإن الله تعالى لا يثيب المكلف على علمه بالشرائع إذا لم يعمل بها لأن إخلاله بالعمل يحبط ما يستحقه من ثواب العلم لو قدرنا أنه استحق على العلم ثوابا و أتى به على الشرائط التي معها يستحق الثواب

(20/157)


شرح نهج البلاغة ج : 19 ص : 373285أَيُّهَا النَّاسُ مَتَاعُ الدُّنْيَا حُطَامٌ مُوبِئٌ فَتَجَنَّبُوا مَرْعَاةً قُلْعَتُهَا أَحْظَى مِنْ طُمَأْنِينَتِهَا وَ بُلْغَتُهَا أَزْكَى مِنْ ثَرْوَتِهَا حُكِمَ عَلَى مُكْثِرِيهَا بِالْفَاقَةِ وَ أُغْنِيَ مَنْ غَنِيعَنْهَا بِالرَّاحَةِ مَنْ رَاقَهُ زِبْرِجُهَا أَعْقَبَتْ نَاظِرَيْهِ كَمَهاً وَ مَنِ اسْتَشْعَرَ الشَّغَفَ بِهَا مَلَأَتْ ضَمِيرَهُ أَشْجَاناً لَهُنَّ رَقْصٌ عَلَى سُوَيْدَاءِ قَلْبِهِ هَمٌّ يَشْغَلُهُ وَ غَمٌّ يَحْزُنُهُ حَتَّى يُؤْخَذَ بِكَظَمِهِ فَيُلْقَى بِالْفَضَاءِ مُنْقَطِعاً أَبْهَرَاهُ هَيِّناً عَلَى اللَّهِ فَنَاؤُهُ وَ عَلَى الْإِخْوَانِ إِلْقَاؤُهُ وَ إِنَّمَا يَنْظُرُ الْمُؤْمِنُ إِلَى الدُّنْيَا بِعَيْنِ الِاعْتِبَارِ وَ يَقْتَاتُ مِنْهَا بِبَطْنِ الِاضْطِرَارِ وَ يَسْمَعُ فِيهَا بِأُذُنِ الْمَقْتِ وَ الْإِبْغَاضِ إِنْ قِيلَ أَثْرَى قِيلَ أَكْدَى وَ إِنْ فُرِحَ لَهُ بِالْبَقَاءِ حُزِنَ لَهُ بِالْفَنَاءِ هَذَا وَ لَمْ يَأْتِهِمْ يَوْمٌ هُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ

(20/158)


متاع الدنيا أموالها و قنيانها. و الحطام ما تكسر من الحشيش و اليبس و شبه متاع الدنيا بذلك لحقارته. و موبئ محدث للوباء و هو المرض العام. و مرعاة بقعة ترعى كقولك مأسدة فيها الأسد و محياة فيها الحيات. و قلعتها بسكون اللام خير من طمأنينتها أي كون الإنسان فيها منزعجا متهيئا شرح نهج البلاغة ج : 19 ص : 286للرحيل عنها خير له من أن يكون ساكنا إليها مطمئنا بالمقام فيها. و البلغة ما يتبلغ به و الثروة اليسار و الغنى و إنما حكم على مكثريها بالفاقة و الفقر لأنهم لا ينتهون إلى حد من الثروة و المال إلا و جدوا و اجتهدوا و صوا في طلب الزيادة عليه فهم في كل أحوالهم فقراء إلى تحصيل المال كما أن من لا مال له أصلا يجد و يجتهد في تحصيل المال بل ربما كان جدهم و حرصهم على ذلك أعظم من كدح الفقير و حرصه و روي و أعين من غني عنها و من رواه أغنى أي أغنى الله من غني عنها و زهد فيها بالراحة و خلو البال و عدم الهم و الغم. و الزبرج الزينة و راقه أعجبه. و الكمه العمى الشديد و قيل هو أن يولد أعمى. و الأشجان الأحزان. و الرقص بفتح القاف الاضطراب و الغليان و الحركة. و الكظم بفتح الظاء مجرى النفس. و الأبهران عرقان متصلان بالقلب و يقال للميت قد انقطع أبهراه. قوله و إنما ينظر المؤمن إخبار في الصورة و أمر في المعنى أي لينظر المؤمن إلى الدنيا بعين الاعتبار و ليأكل منها ببطن الاضطرار أي قدر الضرورة لا احتكار أو استكثار و ليسمع حديثها بأذن المقت و البغض أي ليتخذها عدوا قد صاحبه في طريق فليأخذ حذره منه جهده و طاقته و ليسمع كلامه و حديثه لا استماع مصغ و محب وامق بل استماع مبغض محترز من غائلته. شرح نهج البلاغة ج : 19 ص : 287ثم عاد إلى وصف الدنيا و طالبها فقال إن قيل أثرى قيل أكدى و فاعل أثرى هو الضمير العائد إلى من استشعر الشغف بها يقول بينا يقال أثرى قيل تقر لأن هذه صفة الدنيا في تقلبها بأهلها و إن فرح له بالحياة و

(20/159)


دوامها قيل مات و عدم هذا و لم يأتهم يوم القيامة يوم هم فيه مبلسون أبلس الرجل يبلس إبلاسا أي قنط و يئس و اللفظ من لفظات الكتاب العزيز
نبذ من الأقوال الحكيمة في وصف حال الدنيا و صروفها
و قد ذكرنا من حال الدنيا و صروفها و غدرها بأهلها فيما تقدم أبوابا كثيرة نافعة. و نحن نذكر هاهنا زيادة على ذلك. فمن كلام بعض الحكماء ويل لصاحب الدنيا كيف يموت و يتركها و تغره و يأمنها و تخذله و يثق بها ويل للمغترين كيف أرتهم ما يكرهون و فاتهم ما يحبون و جاءهم ما يوعدون ويل لمن الدنيا همه و الخطايا عمله كيف يفتضح غدا بذنبه. و
روى أنس قال كانت ناقة رسول الله ص العضباء لا تسبق فجاء أعرابي بناقة له فسبقها فشق ذلك على المسلمين فقال رسول الله ص حق على الله ألا يرفع في الدنيا شيئا إلا وضعه
و قال بعض الحكماء من ذا الذي يبني على موج البحر دارا تلكم الدنيا فلا تتخذوها قرارا. شرح نهج البلاغة ج : 19 ص : 288و قيل لحكيم علمنا عملا واحدا إذا عملناه أحبنا الله عليه فقال أبغضوا الدنيا يحببكم الله. و قال أبو الدرداء قال رسول الله ص لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلا و لبكيتم كثيرا و لهانت عليكم الدنيا و لآثرتم الآخرة

(20/160)


ثم قال أبو الدرداء من قبل نفسه أيها الناس لو تعلمون ما أعلم لخرجتم إلى الصعدات تبكون على أنفسكم و لتركتم أموالكم لا حارس لها و لا راجع إليها إلا ما لا بد لكم منه و لكن غاب عن قلوبكم ذكر الآخرة و حضرها الأمل فصارت الدنيا أملك بأعمالكم و صرتم كالذين لا يعلمون فبعضكم شر من البهائم التي لا تدع هواها ما لكم لا تحابون و لا تناصحون في أموركم و أنتم إخوان على دين واحد ما فرق بين أهوائكم إلا خبث سرائركم و لو اجتمعتم على البر لتحاببتم ما لكم لا تناصحون في أموركم ما هذا إلا من قلة الإيمان في قلوبكم و لو كنتم توقنون بأمر الآخرة كما توقنون بالدنيا لآثرتم طلب الآخرة فإن قلت حب العاجلة غالب فإنا نراكم تدعون العاجل من الدنيا للأجل منها ما لكم تفرحون باليسير من الدنيا و تحزنون على اليسير منها بفوتكم حتى يتبين ذلك في وجوهكم و يظهر على ألسنتكم و تسمونها المصائب و تقيمون فيها المآتم و عامتكم قد تركوا كثيرا من دينهم ثم لا يتبين ذلك في وجوههم و لا تتغير حال بهم يلقى بعضهم بعضا بالمسرة و يكره كل منكم أن يستقبل صاحبه بما يكره مخافة أن يستقبله صاحبه بمثله فاصطحبتم على الغل و بنيتم مراعيكم على الدمن و تصافيتم على رفض الأجل أراحني الله منكم و ألحقني بمن أحب رؤيته. و قال حكيم لأصحابه ارضوا بدنئ الدنيا مع سلامة الدين كما رضي أهل الدنيا بدنئ الدين مع سلامة الدنيا. شرح نهج البلاغة ج : 19 ص : 289و قيل في معناهأرى رجالا بأدنى الدين قد قنعواو لا أراهم رضوا في العيش بالدون فاستغن بالدين عن دنيا الملوك كما استغنى الملوك بدنياهم عن الديو في الحديث المرفوع لتأتينكم بعدي دنيا تأكل إيمانكم كما تأكل النار الحطب

(20/161)


و قال الحسن رحمه الله أدركت أقواما كانت الدنيا عندهم وديعة فأدوها إلى من ائتمنهم عليها ثم ركضوا خفافا. و قال أيضا من نافسك في دينك فنافسه و من نافسك في دنياك فألقها في نحره. و قال الفضيل طالت فكرتي في هذه الآية إِنَّا جَعَلْنا ما عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَها لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَ إِنَّا لَجاعِلُونَ ما عَلَيْها صَعِيداً جُرُزاً. و من كلام بعض الحكماء لن تصبح في شي ء من الدنيا إلا و قد كان له أهل قبلك و يكون له أهل من بعدك و ليس لك من الدنيا إلا عشاء ليلة و غداء يوم فلا تهلك نفسك في أكة و صم عن الدنيا و أفطر على الآخرة فإن رأس مال الدنيا الهوى و ربحها النار. و قيل لبعض الرهبان كيف ترى الدهر قال يخلق الأبدان و يجدد الآمال و يقرب المنية و يباعد الأمنية قيل فما حال أهله قال من ظفر به تعب و من فاته اكتأب. و من هذا المعنى قول الشاعر
و من يحمد الدنيا لعيش يسره فسوف لعمري عن قليل يلومها

(20/162)


شرح نهج البلاغة ج : 19 ص : 290إذا أدبرت كانت على المرء حسرة و إن أقبلت كانت كثيرا همومهو قال بعض الحكماء كانت الدنيا و لم أكن فيها و تذهب الدنيا و لا أكون فيها و لست أسكن إليها فإن عيشها نكد و صفوها كدر و أهلها منها على وجل إما بنعمة زائلة أو ببلية نازلة أو ميتة قاضية. و قال بعضهم من عيب الدنيا أنها لا تعطي أحدا ما يستحق إما أن تزيد له و إما أن تنقص. و قال سفيان الثوري أ ما ترون النعم كأنها مغضوب عليها قد وضعت في غير أهلها. و قال يحيى بن معاذ الدنيا حانوت الشيطان فلا تسرق من حانوته شيئا فإنه يجي ء في طلبك حتى يأخذك. و قال الفضيل لو كانت الدنيا من ذهب يفنى و الآخرة من خزف يبقى لكان ينبغي لنا ن نختار خزفا يبقى على ذهب يفنى فكيف و قد اخترنا خزفا يفنى على ذهب يبقى. و قال بعضهم ما أصبح أحد في الدنيا إلا و هو ضيف و لا شبهة في أن الضيف مرتحل و ما أصبح ذو مال فيها إلا و ماله عارية عنده و لا ريب أن العارية مردودة. و مثل هذا قول الشاعر
و ما المال و الأهلون إلا وديعة و لا بد يوما أن ترد الودائع
و قيل لإبراهيم بن أدهم كيف أنت فأنشد
نرقع دنيانا بتمزيق ديننا فلا ديننا يبقى و لا ما نرقع
شرح نهج البلاغة ج : 19 ص : 291و زار رابعة العدوية أصحابها فذكروا الدنيا فأقبلوا على ذمها فقالت اسكتوا عن ذكرها و كفوا فلو لا موقعها في قلوبكم ما أكثرتم من ذكرها إن من أحب شيئا أكثر من ذكره. و قال مطرف بن الشخير لا تنظروا إلى خفض عيش الملوك و لين رياشهم لكن انظروا إلى سرعة ظعنهم و سوء منقلبهم. قال الشاعر
أرى طالب الدنيا و إن طال عمره و نال من الدنيا سرورا و أنعماكبان بنى بنيانه فأقامه فلما استوى ما قد بناه تهدما
و قال أبو العتاهية

(20/163)


تعالى الله يا سلم بن عمرو أذل الحرص أعناق الرجال هب الدنيا تساق إليك عفوا أ ليس مصير ذلك إلى الزوال و ما دنياك إلا مثل في ء أظلك ثم آذن بانتقو قال بعضهم الدنيا جيفة فمن أراد منها شيئا فليصبر على معاشرة الكلاب. و قال أبو أمامة الباهلي لما بعث الله محمدا ص أتت إبليس جنوده و قالوا قد بعث نبي و جدت ملة و أمة فقال كيف حالهم أ يحبون الدنيا قالوا نعم قال إن كانوا يحبونها فلا أبالي ألا يعبدوا الأصنام فإنما أغدو عليهم و أروح بثلاث أخذ المال من غير حقه و إنفاقه في غير حقه و إمساكه عن حقه و الشر كله لهذه الثلاث تبع. و كان مالك بن دينار يقول اتقوا السحارة فإنها تسحر قلوب العلماء يعني الدنيا. شرح نهج البلاغة ج : 19 ص : 292و قال أبو سليمان الرازي إذا كانت اخرة في القلب جاءت الدنيا فزاحمتها و إذا كانت الدنيا في القلب لم تزاحمها الآخرة لأن الآخرة كريمة و الدنيا لئيمة. و قال مالك بن دينار بقدر ما تحزن للدنيا يخرج هم الآخرة من قلبك و بقدر ما تحزن للآخرة يخرج هم الدنيا من قلبك و هذا مقتبس
من قول أمير المؤمنين ع الدنيا و الآخرة ضرتان فبقدر ما ترضي إحداهما تسخط الأخرى
و قال الشاعر
يا خاطب الدنيا إلى نفسها تنح عن خطبتها تسلم إن التي تخطب غدارة قريبة العرس من المأتمو قالوا لو وصفت الدنيا نفسها لما قالت أحسن من قول أبي نواس فيها
إذا امتحن الدنيا لبيب تكشفت له عن عدو في ثياب صديق

(20/164)


و من كلام الشافعي يعظ أخا له يا أخي إن الدنيا دحض مزلة و دار مذلة عمرانها إلى الخراب سائر و ساكنها إلى القبور زائر شملها على الفرقة موقوف و غناها إلى الفقر مصروف الإكثار فيها إعسار و الإعسار فيها يسار فافزع إلى الله و ارض برزق الله و لا تستسلف من دار بقائك في دار فنائك فإن عيشك في ء زائل و جدار مائل أكثر من عملك و أقصر من أملك. و قال إبراهيم بن أدهم لرجل أ درهم في المنام أحب إليك أم دينار في اليقظة فقال دينار في اليقظة فقال كذبت إن الذي تحبه في الدنيا فكأنك تحبه في المنام و الذي تحبه في الآخرة فكأنك تحبه ف اليقظة. و قال بعض الحكماء من فرح قلبه بشي ء من الدنيا فقد أخطأ الحكمة و من شرح نهج البلاغة ج : 19 ص : 293جعل شهوته تحت قدميه فرق الشيطان من ظله و من غلب علمه هواه فهو الغالب. و قال بعضهم الدنيا تبغض إلينا نفسها و نحن نحبها فكيف لو تحببت إلينا. و قال بع الدنيا دار خراب و أخرب منها قلب من يعمرها و الجنة دار عمران و أعمر منها قلب من يطلبها. و قال يحيى بن معاذ العقلاء ثلاثة من ترك الدنيا قبل أن تتركه و بنى قبره قبل أن يدخله و أرضى خالقه قبل أن يلقاه. و قال بعضهم من أراد أن يستغني عن الدنيا بالدنيا كان كمطفئ النار بالتبن. و من كلام بعض فصحاء الزهاد أيها الناس اعملوا في مهل و كونوا من الله على وجل و لا تغتروا بالأمل و نسيان الأجل و لا تركنوا إلى الدنيا فإنها غدارة غرارة خداعة قد تزخرفت لكم بغرورها و فتنتكم بأمانيها و تزينت لخطابها فأضحت كالعروس المتجلية العيون إليها ناظرة و القلوب عليها عاكفة و النفوس لها عاشقة فكم من عاشق لها قتلت و مطمئن إليها خذلت فانظروا إليها بعين الحقيقة فإنها دار كثرت بوائقها و ذمها خالقها جديدها يبلى و ملكها يفنى و عزيزها يذل و كثيرها يقل و حيها يموت و خيرها يفوت فاستيقظوا من غفلتكم و انتبهوا من رقدتكم قبل أن يقال فلان عليل و مدنف ثقيل فهل على الدواء

(20/165)


من دليل و هل إلى الطبيب من سبيل فتدعى لك الأطباء و لا يرجى لك الشفاء ثم يقال فلان أوصى و ماله أحصى ثم يقال قد ثقل لسانه فما يكلم إخوانه و لا يعرف جيرانه و عرق عند ذلك جبينك و تتابع أنينك و ثبت يقينك و طمحت جفونك و صدقت ظنونك و تلجلج لسانك و بكى إخوانك و قيل لك هذا ابنك فلان و هذا أخوك
شرح نهج البلاغة ج : 19 ص : 294فلان منعت من الكلام فلا تنطق و ختم على لسانك فلا ينطبق ثم حل بك القضاء و انتزعت روحك من الأعضاء ثم عرج بها إلى السماء فاجتمع عند ذلك إخوانك و أحضرت أكفانك فغسلوك و كفنوك ثم حملوك فدفنوك فانقطع عوادك و استراح حسادك و انصرف أك إلى مالك و بقيت مرتهنا بأعمالك. و قال بعض الزهاد لبعض الملوك إن أحق الناس بذم الدنيا و قلاها من بسط له فيها و أعطي حاجته منها لأنه يتوقع آفة تغدو على ماله فتجتاحه و على جمعه فتفرقه أو تأتي على سلطانه فتهدمه من القواعد أو تدب إلى جسمه فتسقمه أو تفجعه بشيء هو ضنين به من أحبابه فالدنيا الأحق بالذم و هي الآخذة ما تعطي الراجعة فيما تهب فبينا هي تضحك صاحبها إذ أضحكت منه غيره و بينا هي تبكي له إذ أبكت عليه و بينا هي تبسط كفه بالإعطاء إذ بسطت كفها إليه بالاسترجاع و الاسترداد تعقد التاج على رأس صاحبها اليوم و تعفره في التراب غدا سواء عليها ذهاب من ذهب و بقاء من بقي تجد في الباقي من الذاهب خلفا و ترضى بكل من كل بدلا. و كتب الحسن البصري إلى عمر بن عبد العزيز أما بعد فإن الدنيا دار ظعن ليست بدار إقامة و إنما أنزل إليها عقوبة فاحذرها فإن الزاد منها ربحها و الغنى منها فقرها لها في كل حين قتيل تذل من أعزها و تفقر من جمعها هي كالسم يأكله من لا يعرفه و هو حتفه فكن فيها كالمداوي جراحه يحمي قليلا مخافة ما يكرهه طويلا و يصبر على شدة الدواء مخافة طول البلاء فاحذر هذه الدنيا الغدارة المكارة الختالة الخداعة التي قد تزينت بخدعها و فتنت بغرورها و تحلت بآمالها و

(20/166)


تشرفت لخطابها فأصبحت بينهم كالعروس تجلى على بعلها العيون إليها ناظرة و القلوب عليها والهة و النفوس لها عاشقة و هي لأزواجها كلهم قاتلة فلا الباقي بالماضي معتبر و لا الآخر بالأول مزدجر و لا العارف بالله حين أخبره عنها مدكر فمن عاشق لها قد شرح نهج البلاغة ج : 19 ص : 295ظفر منها بحاجته فاغتر و طغي و نسي المعاد و شغل بها لبه حتى زلت عنها قدمه فعظمت ندامته و كثرت حسرته و اجتمعت عليه سكرات الموت بألمه و حسرات الفوت بغصته و من راغب فيها لم يدرك منها ما طلب و لم يرح نفسه من التعب خرمنها بغير زاد و قدم على غير مهاد فاحذرها ثم احذرها و كن أسر ما تكون فيها أحذر ما تكون لها فإن صاحبها كلما اطمأن منها إلى سرور أشخصته إلى مكروه و السار منها لأهلها غار و النافع منها في غد ضار قد وصل الرخاء منها بالبلاء و جعل البقاء فيها للفناء فسرورها مشوب بالأحزان و نعيمها مكدر بالأشجان لا يرجع ما ولى منها و أدبر و لا يدرى ما هو آت فينتظر أمانيها كاذبة و آمالها باطلة و صفوها كدر و عيشها نكد و الإنسان فيها على خطر إن عقل و نظر و هو من النعماء على غرر و من البلاء على حذر فلو كان الخالق لها لم يخبر عنها خبرا و لم يضرب لها مثلا لكانت هي نفسها قد أيقظت النائم و نبهت الغافل فكيف و قد جاء من الله عنها زاجر و بتصاريفها واعظ فما لها عند الله قدر و لا نظر إليها منذ خلقها و لقد عرضت على نبيك محمد ص بمفاتيحها و خزائنها لا ينقصه ذلك عند الله جناح بعوضة فأبى أن يقبلها كره أن يخالف على الله أمره أو يحب ما أبغضه خالقه أو يرفع ما وضعه مليكه زواها الرب سبحانه عن الصالحين اختبارا و بسطها لأعدائه اغترارا فيظن المغرور بها المقتدر عليها أنه أكرم بها و ينسى ما صنع الله تعالى بمحمد ص من شده الحجر على بطنه و

(20/167)


قد جاءت الرواية عنه عن ربه سبحانه أنه قال لموسى إذا رأيت الغنى مقبلا فقل ذنب عجلت عقوبته و إذا رأيت الفقر مقبلا فقل مرحبا بشعار الصالحين و إن شئت اقتديت بصاحب الروح و الكلمة عيسى كان يقول إدامي الجوع و شعاري الخوف و لباسي الصوف و صلائي في الشتاء مشارق الشمس و سراجي القمر و وسادي الحجر و دابتي رجلاي شرح نهج البلاغة ج : 19 ص : 296و فاكهتي و طعامي ما أنبتت الأرض أبيت و ليس لي شي ء و ليس على الأرض أحد أغنى منو في بعض الكتب القديمة أن الله تعالى لما بعث موسى و هارون ع إلى فرعون قال لا يروعنكما لباسه الذي لبس من الدنيا فإن ناصيته بيدي ليس ينطق و لا يطرف و لا يتنفس إلا بإذني و لا يعجبكما ما متع به منها فإن ذلك زهرة الحياة الدنيا و زينة المترفين و لو شئت أن أزينكما بزينة من الدنيا يعرف فرعون حين يراها أن مقدرته تعجز عما وهبتما لفعلت و لكني أرغب بكما عن ذلك و أزوي ذلك عنكما و كذلك أفعل بأوليائي إني لأذودهم عن نعيمها كما يذود الراعي الشفيق غنمه عن مراتع الهلكة و إني لأجنبهم حب المقام فيها كما يجنب الراعي الشفيق إبله عن مبارك العر و ما ذاك لهوانهم علي و لكن ليستكملوا نصيبهم من كرامتي سالما موفورا إنما يتزين لي أوليائي بالذل و الخضوع و الخوف و إن التقوى لتثبت في قلوبهم فتظهر على وجوههم فهي ثيابهم التي يلبسونها و دثارهم الذي يظهرون و ضميرهم الذي يستشعرون و نجاتهم التي بها يفوزون و رجاؤهم الذي إياه يأملون و مجدهم الذي به يفتخرون و سيماهم التي بها يعرفون فإذا لقيهم أحدكما فليخفض لهم جناحه و ليذلل لهم قلبه و لسانه و ليعلم أنه من أخاف لي وليا فقد بارزني بالمحاربة ثم أنا الثائر به يوم القيامة

(20/168)


و من كلام بعض الحكماء الأيام سهام و الناس أغراض و الدهر يرميك كل يوم بسهامه و يتخرمك بلياليه و أيامه حتى يستغرق جميع أجزائك و يصمي جميع أبعاضك فكيف بقاء سلامتك مع وقوع الأيام بك و سرعة الليالي في بدنك و لو كشف لك عما أحدثت الأيام فيك من النقص لاستوحشت من كل يوم يأتي عليك و استثقلت ممر الساعات بك و لكن تدبير الله تعالى فوق النظر و الاعتبار. شرح نهج البلاغة ج : 19 ص : 297و قال بعض الحكماء و قد استوصف الدنيا و قدر بقائها الدنيا وقتك الذي يرجع إليه طرفك لأن ما مضى عنك فقد فاتك إدراكه و ما لم يأت فلا علم لك به الدهر يوم مقبل تنعاه ليلته و تطويه ساعاته و أحداثه تتوالى على الإنسان بالتغيير و النقصان و الدهر موكل بتشتيت الجماعات و انخرام الشمل و تنقل الدول و الأمل طويل و العمر قصير و إلى الله تصير الأمور. و قال بعض الفضلاء الدنيا سريعة الفناء قريبة الانقضاء تعد بالبقاء و تخلف في الوفاء تنظر إليها فتراها ساكنة مستقرة و هي سائرة سيرا عنيفا و مرتحلة ارتحالا سريعا و لكن الناظر إليها قد لا يحس بحركتها فيطمئن إليها و إنما يحس بذلك بعد انقضائها و مثالها الظل فإنه متحرك ساكن متحرك في الحقيقة و ساكن في الظاهر لا تدرك حركته بالبصر الظاهر بل بالبصيرة الباطنة

(20/169)


شرح نهج البلاغة ج : 19 ص : 374298إِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَضَعَ الثَّوَابَ عَلَى طَاعَتِهِ وَ الْعِقَابَ عَلَى مَعْصِيَتِهِ ذِيَادَةً لِعِبَادِهِ عَنْ نِقْمَتِهِ وَ حِيَاشَةً لَهُمْ إِلَى جَنَّتِهِذيادة أي دفعا ذدته عن كذا أي دفعته و رددته و حياشة مصدر حشت الصيد بضم الحاء أحوشه إذا جئته من حواليه لتصرفه إلى الحبالة و كذلك أحشت الصيد و أحوشته و قد احتوش القوم الصيد إذا نفره بعضهم إلى بعض. و هذا هو مذهب أصحابنا إن الله تعالى لما كلف العباد التكاليف الشاقة و قد كان يمكنه أن يجعلها غير شاقة عليهم بأن يزيد في قدرهم وجب أن يكون في مقابلة تلك التكاليف ثواب لأن إلزام المشاق كإنزال المشاق فكما يتضمن ذلك عوضا وجب أن يتضمن هذا ثوابا و لا بد أن يكون في مقابلة فعل القبيح عقاب و إلا كان سبحانه ممكنا الإنسان من القبيح مغريا له بفعله إذ الطبع البشري يهوى العاجل و لا يحفل بالذم و لا يكون القبيح قبيحا حينئذ في العقل فلا بد من العقاب ليقع الانزجار
شرح نهج البلاغة ج : 19 ص : 375299يَأْتِي عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ لَا يَبْقَى فِيهِمْ مِنَ الْقُرْآنِ إِلَّا رَسْمُهُ وَ مِنَ الْإِسْلَامِ إِلَّا اسْمُهُ مَسَاجِدُهُمْ يَوْمَئِذٍ عَامِرَةٌ مِنَ الْبِنَاءِ خَرَابٌ مِنَ الْهُدَى سُكَّانُهَا وَ عُمَّارُهَا شُّ أَهْلِ الْأَرْضِ مِنْهُمْ تَخْرُجُ الْفِتْنَةُ وَ إِلَيْهِمْ تَأْوِي الْخَطِيئَةُ يَرُدُّونَ مَنْ شَذَّ عَنْهَا فِيهَا وَ يَسُوقُونَ مَنْ تَأَخَّرَ عَنْهَا إِلَيْهَا يَقُولُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ فَبِي حَلَفْتُ لَأَبْعَثَنَّ عَلَى أُولَئِكَ فِتْنَةً أَتْرُكُ الْحَلِيمَ فِيهَا حَيْرَانَ وَ قَدْ فَعَلَ وَ نَحْنُ نَسْتَقِيلُ اللَّهَ عَثْرَةَ الْغَفْلَةِ

(20/170)


هذه صفة حال أهل الضلال و الفسق و الرياء من هذه الأمة أ لا تراه يقول سكانها و عمارها يعني سكان المساجد و عمار المساجد شر أهل الأرض لأنهم أهل ضلالة كمن يسكن المساجد الآن ممن يعتقد التجسم و التشبيه و الصورة و النزول و الصعود و الأعضاء و الجوارح و من يقول بالقدر يضيف فعل الكفر و الجهل و القبيح إلى الله تعالى فكل هؤلاء أهل فتنة يردون من خرج منها إليها و يسوقون من لم يدخل فيها إليها أيضا. ثم قال حاكيا عن الله تعالى إنه حلف بنفسه ليبعثن على أولئك فتنة يعني استئصالا و سيفا حاصدا يترك الحليم أي العاقل اللبيب فيها حيران لا يعلم كيف وجه خلاصه. ثم قال ع و قد فعل و ينبغي أن يكون قد قال هذا الكلام في أيام خلافته لأنها كانت أيام السيف المسلط على أهل الضلال من المسلمين و كذلك ما بعثه الله تعالى على بني أمية و أتباعهم من سيوف بني هاشم بعد انتقاله ع َ شرح نهج البلاغة ج : 19 ص : 376300وَ رُوِيَ أَنَّهُ ع قَلَّمَا اعْتَدَلَ بِهِ الْمِنْبَرُ إِلَّا قَالَ أَمَامَ خُطْبَتِهِ أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا اللَّهَ فَمَا خُلِقَ امْرُؤٌ عَبَثاً فَيَلْهُوَ وَ لَا تُرِكَ سُدًى فَيَلْغُوَ وَ مَا دُنْيَاهُ الَّتِي تَسَّنَتْ لَهُ بِخَلَفٍ مِنَ الآْخِرَةِ الَّتِي قَبَّحَهَا سُوءُ النَّظَرِ عِنْدَهُ وَ مَا الْمَغْرُورُ الَّذِي ظَفِرَ مِنَ الدُّنْيَا بِأَعْلَى هِمَّتِهِ كَالآْخَرِ الَّذِي ظَفِرَ مِنَ الآْخِرَةِ بِأَدْنَى سُهْمَتِهِ
قال تعالى أَ فَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً وَ أَنَّكُمْ إِلَيْنا لا تُرْجَعُونَ. و
من الكلمات النبوية أن المرء لم يترك سدى و لم يخلق عبثا

(20/171)


و قال أمير المؤمنين ع إن من ظفر من الدنيا بأعلى و أعظم أمنية ليس كآخر ظفر من الآخرة بأدون درجات أهل الثواب لا مناسبة و لا قياس بين نعيم الدنيا و الآخرة. و في قوله ع التي قبحها سوء المنظر عنده تصريح بمذهب أصحابنا أهل العدل رحمهم الله و هو أن الإنسان هو الذي أضل نفسه لسوء نظره و لو كان الله تعالى هو الذي أضله لما قال قبحها سوء النظر عنده
شرح نهج البلاغة ج : 19 ص : 377301لَا شَرَفَ أَعْلَى مِنَ الْإِسْلَامِ وَ لَا عِزَّ أَعَزُّ مِنَ التَّقْوَى وَ لَا مَعْقِلَ أَحْسَنُ مِنَ الْوَرَعِ وَ لَا شَفِيعَ أَنْجَحُ مِنَ التَّوْبَةِ وَ لَا كَنْزَ أَغْنَى مِنَ الْقَنَاعَةِ وَ لَا مَالَ أَذْهَبُ لِلَاقَةِ مِنَ الرِّضَا بِالْقُوتِ وَ مَنِ اقْتَصَرَ عَلَى بُلْغَةِ الْكَفَافِ فَقَدِ انْتَظَمَ الرَّاحَةَ وَ تَبَوَّأَ خَفْضَ الدَّعَةِ وَ الدَّعَةُ مِفْتَاحُ النَّصَبِ وَ مَطِيَّةُ التَّعَبِ وَ الْحِرْصُ وَ الْكِبْرُ وَ الْحَسَدُ دَوَاعٍ إِلَى التَّقَحُّمِ فِي الذُّنُوبِ وَ الشَّرُّ جَامِعٌ لِمَسَاوِئِ الْعُيُوبِ

(20/172)


كل هذه المعاني قد سبق القول فيها مرارا شتى نأتي كل مرة بما لم نأت به فيما تقدم و إنما يكررها أمير المؤمنين ع لإقامة الحجة على المكلفين كما يكرر الله سبحانه في القرآن المواعظ و الزواجر لذلك كان أبو ذر رضي الله عنه جالسا بين الناس فأتته امرأته فقالت أنت جالس بين هؤلاء و لا و الله ما عندنا في البيت هفة و لا سفة فقال يا هذه إن بين أيدينا عقبة كئودا لا ينجو منها إلا كل مخف فرجعت و هي راضية. شرح نهج البلاغة ج : 19 ص : 302و قيل لبعض الحكماء ما مالك قال التجمل في الظاهر و القصد في الباطن و الغنى عما في أيدي الناسو قال أبو سليمان الداراني تنفس فقير دون شهوة لا يقدر عليها أفضل من عبادة غني ألف عام. و قال رجل لبشر بن الحارث ادع لي فقد أضر الفقر بي و بعيالي فقال إذا قال لك عيالك ليس عندنا دقيق و لا خبز فادع لبشر بن الحارث في ذلك الوقت فإن دعاءك أفضل من دعائه. و من دعاء بعض الصالحين اللهم إني أسألك ذل نفسي و الزهد فيما جاوز الكفاف
شرح نهج البلاغة ج : 19 ص : 378303وَ قَالَ ع لِجَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْأَنْصَارِيِّ يَا جَابِرُ قِوَامُ الدِّينِ وَ الدُّنْيَا بِأَرْبَعَةٍ عَالِمٍ يَسْتَعْمِلُ عِلْمَهُ وَ جَاهِلٍ لَا يَسْتَنْكِفُ أَنْ يَتَعَلَّمَ وَ جَوَادٍ لَا يَبْخَلُ بِمَعْرُِهِ وَ فَقِيرٍ لَا يَبِيعُ آخِرَتَهُ بِدُنْيَاهُ فَإِذَا ضَيَّعَ الْعَالِمُ عِلْمَهُ اسْتَنْكَفَ الْجَاهِلُ أَنْ يَتَعَلَّمَ وَ إِذَا بَخِلَ الْغَنِيُّ بِمَعْرُوفِهِ بَاعَ الْفَقِيرُ آخِرَتَهُ بِدُنْيَاهُ يَا جَابِرُ مَنْ كَثُرَتْ نِعْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِ كَثُرَتْ حَوَائِجُ النَّاسِ إِلَيْهِ فَمَنْ قَامَ بِمَا يَجِبُ لِلَّهِ فِيهَا عَرَّضَ نِعْمَةَ اللَّهِ لِدَوَامِهَا وَ مَنْ ضَيَّعَ مَا يَجِبُ لِلَّهِ فِيهَا عَرَّضَ نِعْمَتَهُ لِزَوَالِهَا

(20/173)


قد تقدم القول في هذه المعاني و الحاصل أنه ربط اثنتين من أربعة إحداهما بالأخرى و كذلك جعل في الاثنتين الأخريين فقال إن قوام الدين و الدنيا بأربعة عالم يستعمل علمه يعني يعمل و لا يقتصر على أن يعلم فقط و لا يعمل و جاهل لا يستنكف أن يتعلم و أضر ما على الجهلاء الاستنكاف من التعلم فإنهم يستمرون على الجهالة إلى الموت و الثالث جواد لا يبخل بالمعروف و الرابع فقير لا يبيع آخرته بدنياه أي لا يسرق و لا يقطع الطريق أو يكتسب الرزق من حيث لا يحبه الله كالقمار و المواخير و المزاجر و المآصر و نحوها. شرح نهج البلاغة ج : 19 : 304ثم قال فالثانية مرتبطة بالأولى إذا لم يستعمل العالم علمه استنكف الجاهل من التعلم و ذلك لأن الجاهل إذا رأى العالم يعصي و يجاهر الله بالفسق زهد في التعلم و قال لما ذا تعلم العلم إذا كانت ثمرته الفسق و المعصية. ثم قال و الرابعة مرتبطة بالثالثة إذا بخل الغني بمعروفه باع الفقير آخرته بدنياه و ذلك لأنه إذا عدم الفقير المواساة مع حاجته إلى القوت دعته الضرورة إلى الدخول في الحرام و الاكتساب من حيث لا يحسن و ينبغي أن يكون عوض لفظة جواد لفظة غني ليطابق أول الكلام آخره إلا أن الرواية هكذا وردت و جواد لا يبخل بمعروفه و في ضمير اللفظ كون ذلك الجواد غنيا لأنه قد جعل له معروفا و المعروف لا يكون إلا عن ظهر غنى و باقي الفصل قد سبق شرح أمثاله

(20/174)


شرح نهج البلاغة ج : 19 ص : 379305وَ رَوَى ابْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ فِي تَارِيخِهِ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى الْفَقِيهِ وَ كَانَ مِمَّنْ خَرَجَ لِقِتَالِ الْحَجَّاجِ مَعَ ابْنِ الْأَشْعَثِ أَنَّهُ قَالَ فِيمَا كَانَ يَحُضُّ بِهِ النَّا عَلَى الْجِهَادِ إِنِّي سَمِعْتُ عَلِيّاً رَفَعَ اللَّهُ دَرَجَتَهُ فِي الصَّالِحِينَ وَ أَثَابَهُ ثَوَابَ الشُّهَدَاءِ وَ الصِّدِّيقِينَ يَقُولُ يَوْمَ لَقِينَا أَهْلَ الشَّامِ أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ إِنَّهُ مَنْ رَأَى عُدْوَاناً يُعْمَلُ بِهِ وَ مُنْكَراً يُدْعَى إِلَيْهِ فَأَنْكَرَهُ بِقَلْبِهِ فَقَدْ سَلِمَ وَ بَرِئَ وَ مَنْ أَنْكَرَهُ بِلِسَانِهِ فَقَدْ أُجِرَ وَ هُوَ أَفْضَلُ مِنْ صَاحِبِهِ وَ مَنْ أَنْكَرَهُ بِالسَّيْفِ لِتَكُونَ كَلِمَةُ اللَّهِ الْعُلْيَا وَ كَلِمَةُ الظَّالِمِينَ السُّفْلَى فَذَلِكَ الَّذِي أَصَابَ سَبِيلَ الْهُدَى وَ قَامَ عَلَى الطَّرِيقِ وَ نُوِّرَ فِي قَلْبِهِ الْيَقِينُ
قد تقدم الكلام في النهي عن المنكر و كيفية ترتيبه و كلام أمير المؤمنين في هذا الفصل مطابق لما يقوله المتكلمون رحمهم الله. و قد ذكرنا فيما تقدم و سنذكر فيما بعد من هذا المعنى ما يجب و كان النهي عن المنكر معروفا في العرب في جاهليتها كان في قريش حلف الفضول تحالفت قبائل منها على أن يردعوا الظالم و ينصروا المظلوم و يردوا عليه حقه ما بل بحر صوفة و قد ذكرنا فيما تقدم

(20/175)


شرح نهج البلاغة ج : 19 ص : 380306وَ قَالَ ع فِي كَلَامٍ لَهُ غَيْرِ هَذَا يَجْرِي هَذَا الْمَجْرَى فَمِنْهُمُ الْمُنْكِرُ لِلْمُنْكَرِ بِيَدِهِ وَ لِسَانِهِ وَ قَلْبِهِ فَذَلِكَ الْمُسْتَكْمِلُ لِخِصَالِ الْخَيْرِ وَ مِنْهُمُ الْمُنْكِرُ بِلِسَانِهِ وَ لْبِهِ وَ التَّارِكُ بِيَدِهِ فَذَلِكَ مُتَمَسِّكٌ بِخَصْلَتَيْنِ مِنْ خِصَالِ الْخَيْرِ وَ مُضَيِّعٌ خَصْلَةً وَ مِنْهُمُ الْمُنْكِرُ بِقَلْبِهِ وَ التَّارِكُ بِيَدِهِ وَ لِسَانِهِ فَذَاكَ الَّذِي ضَيَّعَ أَشْرَفَ الْخَصْلَتَيْنِ مِنَ الثَّلَاثِ وَ تَمَسَّكَ بِوَاحِدَةٍ وَ مِنْهُمْ تَارِكٌ لِإِنْكَارِ الْمُنْكَرِ بِلِسَانِهِ وَ قَلْبِهِ وَ يَدِهِ فَذَلِكَ مَيِّتُ الْأَحْيَاءِ وَ مَا أَعْمَالُ الْبِرِّ كُلُّهَا وَ الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ عِنْدَ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَ النَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ إِلَّا كَنَفْثَةٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ وَ إِنَّ الْأَمْرَ بِالْمَعْرُوفِ وَ النَّهْيَ عَنِ الْمُنْكَرِ لَا يُقَرِّبَانِ مِنْ أَجَلٍ وَ لَا يَنْقُصَانِ مِنْ رِزْقٍ وَ أَفْضَلُ مِنْ ذَلِكَ كُلِّهِ كَلِمَةُ عَدْلٍ عِنْدَ إِمَامٍ جَائِرٍ

(20/176)


قد سبق قولنا في الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر و هو أحد الأصول الخمسة عند أصحابنا و لجة الماء أعظمه و بحر لجي ذو ماء عظيم و النفثة الفعلة الواحدة من نفثت الماء من فمي أي قدفته بقوة. قال ع لا يعتقدن أحد أنه إن أمر ظالما بالمعروف أو نهى ظالما عن منكر أن ذلك يكون سببا لقتل ذلك الظالم المأمور أو المنهي إياه أو يكون سببا لقطع رزقه من جهته فإن الله تعالى قدر الأجل و قضى الرزق و لا سبيل لأحد أن يقطع على أحد عمره أو رزقه. شرح نهج البلاغة ج : 19 ص : 307و هذا الكلام ينبغي أن يحمل على أنه حث و حض و تحريض على النهين المنكر و الأمر بالمعروف و لا يحمل على ظاهره لأن الإنسان لا يجوز أن يلقي بنفسه إلى التهلكة معتمدا على أن الأجل مقدر و أن الرزق مقسوم و أن الإنسان متى غلب على ظنه أن الظالم يقتله و يقيم على ذلك المنكر و يضيف إليه منكرا آخر لم يجز له الإنكار. فأما كلمة العدل عند الإمام الجائر فنحو ما روي أن زيد بن أرقم رأى عبيد الله بن زياد و يقال بل يزيد بن معاوية يضرب بقضيب في يده ثنايا الحسين ع حين حمل إليه رأسه فقال له إيها ارفع يدك فطالما رأيت رسول الله ص يقبلها
فصل في الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر

(20/177)


و نحن نذكر خلاصة ما يقوله أصحابنا في النهي عن المنكر و نترك الاستقصاء فيه للكتب الكلامية التي هي أولى ببسط القول فيها من هذا الكتاب. قال أصحابنا الكلام في ذلك يقع من وجوه منها وجوبه و منها طريق وجوبه و منها كيفية وجوبه و منها شروط حسنه و منها شروط وجوبه و منها كيفية إيقاعه و منها الكلام في الناهي عن المنكر و منها الكلام في النهي عن المنكر. أما وجوبه فلا ريب فيه لأن المنكر قبيح كله و القبيح يجب تركه فيجب النهي عنه. و أما طريق وجوبه فقد قال الشيخ أبو هاشم رحمه الله إنه لا طريق إلى وجوبه إلا السمع و قد أجمع المسلمون على ذلك و ورد به نص القرآن في غير موضع. شرح نهج البلاغة ج : 19 ص : 308قال الشيخ أبو علي رحمه الله العقل يدل على وجوبه و إلى هذا القول مال شيخنا أبو الحسين رحمه الله. و أما كيفية وجوبه فإنه واجب على الكفاية دون الأعيان لأن الغرض ألا يقع المنكر فإذاقع لأجل إنكار طائفة لم يبق وجه لوجوب الإنكار على من سواها. و أما شروط حسنه فوجوه منها أن يكون ما ينكره قبيحا لأن إنكار الحسن و تحريمه قبيح و القبيح على ضروب فمنه ما يقبح من كل مكلف و على كل حال كالظلم و منها ما يقبح من كل مكلف على وجه دون وجه كالرمي بالسهام و تصريف الحمام و العلاج بالسلاح لأن تعاطي ذلك لمعرفة الحرب و التقوى على العدو و لتعرف أحوال البلاد بالحمام حسن لا يجوز إنكاره و إن قصد بالاجتماع على ذلك الاجتماع على السخف و اللهو و معاشرة ذوي الريب و المعاصي فهو قبيح يجب إنكاره. و منه ما يقبح من مكلف و يحسن من آخر على بعض الوجوه كشرب النبيذ و التشاغل بالشطرنج فأما من يرى حظرهما أو يختار تقليد من يفتي بحظرهما فحرام عليه تعاطيهما على كل حال و متى فعلهما حسن الإنكار عليه و أما من يرى إباحتهما أو من يختار تقليد من يفتي بإباحتهما فإنه يجوز له تعاطيهما على وجه دون وجه و ذلك أنه يحسن شرب النبيذ من غير سكر و لا معاقرة و

(20/178)


الاشتغال بالشطرنج للفرجة و تخريج الرأي و العقل و يقبح ذلك إذا قصد به السخف و قصد بالشرب المعاقرة و السكر فالثاني يحسن إنكاره و يجب و الأول لا يحسن إنكاره لأنه حسن من فاعله. و منها أن يعلم المنكر أن ما ينكره قبيح لأنه إذا جوز حسنه كان بإنكاره له و تحريمه إياه محرما لما لا يأمن أن يكون حسنا فلا يأمن أن يكون ما فعله من النهي
شرح نهج البلاغة ج : 19 ص : 309نهيا عن حسن و كل فعل لا يأمن فاعله أن يكون مختصا بوجه قبيح فهو قبيح أ لا ترى أنه يقبح من الإنسان أن يخبر على القطع بأن زيدا في الدار إذا لم يأمن ألا يكون فيها لأنه لا يأمن أن يكون خبره كذبا و منها أن يكون ما ينهى عنه واقعا ن غير الواقع لا يحسن النهي عنه و إنما يحسن الذم عليه و النهي عن أمثاله. و منها ألا يغلب على ظن المنكر أنه إن أنكر المنكر فعله المنكر عليه و ضم إليه منكرا آخر و لو لم ينكر عليه لم يفعل المنكر الآخر فمتى غلب على ظنه ذلك قبح إنكاره لأنه يصير مفسدة نحو أن يغلب على ظننا أنا إن أنكرنا على شارب الخمر شربها شربها و قرن إلى شربها القتل و إن لم ننكر عليه شربها و لم يقتل أحدا. و منها ألا يغلب على ظن الناهي عن المنكر أن نهيه لا يؤثر فإن غلب على ظنه ذلك قبح نهيه عند من يقول من أصحابنا إن التكليف من المعلوم منه أنه يكفر لا يحسن إلا أن يكون فيه لطف لغير ذلك المكلف و أما من يقول من أصحابنا إن التكليف من المعلوم منه أنه يكفر حسن و إن لم يكن فيه لطف لغير المكلف فإنه لا يصح منه القول بقبح هذا الإنكار. فأما شرائط وجوب النهي عن المنكر فأمور منها أن يغلب على الظن وقوع المعصية نحو أن يضيق وقت صلاة الظهر و يرى الإنسان لا يتهيأ للصلاة أو يراه تهيأ لشرب الخمر بإعداد آلته و متى لم يكن كذلك حسن منا أن ندعوه إلى الصلاة و إن لم يجب علينا دعاؤه. و منها ألا يغلب على ظن الناهي عن المنكر أنه إن أنكر المنكر لحقته في نفسه و أعضائه مضرة

(20/179)


عظيمة فإن غلب ذلك على ظنه و أنه لا يمتنع من ينكر عليه من فعل شرح نهج البلاغة ج : 19 ص : 310ما ينكره عليه أيضا فإنه لا يجب عليه الإنكار بل و لا يحسن منه لأنه مفسدة. و إن غلب على ظنه أنه لا يفعل ما أنكره عليه و لكنه يضر به نظر فإن كان إضراره به أعظم قبحا مما يتركهذا أنكر عليه فإنه لا يحسن الإنكار عليه لأن الإنكار عليه قد صار و الحالة هذه مفسدة نحو أن ينكر الإنسان على غيره شرب الخمر فيترك شربها و يقتله و إن كان ما يتركه إذا أنكر عليه أعظم قبحا مما ينزل به من المضرة نحو أن يهم بالكفر فإذا أنكر عليه تركه و جرح المنكر عليه أو قتله فإنه لا يجب عليه الإنكار و يحسن منه الإنكار أما قولنا لا يجب عليه الإنكار فلأن الله تعالى قد أباحنا التكلم بكلمة الكفر عند الإكراه فبأن يبيحنا ترك غيرنا أن يتلفظ بذلك عند الخوف على النفس أولى و أما قولنا إنه يحسن الإنكار فلأن في الإنكار مع الظن لما ينزل بالنفس من المضرة إعزازا للدين كما أن في الامتناع من إظهار كلمة الكفر مع الصبر على قتل النفس إعزازا للدين لا فضل بينهما. فأما كيفية إنكار المنكر فهو أن يبتدئ بالسهل فإن نفع و إلا ترقى إلى الصعب لأن الغرض ألا يقع المنكر فإذا أمكن ألا يقع بالسهل فلا معنى لتكلف الصعب و لأنه تعالى أمر بالإصلاح قبل القتال في قوله فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما فَإِنْ بَغَتْ إِحْداهُما عَلَى الْأُخْرى فَقاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي. فأما الناهي عن المنكر من هو فهو كل مسلم تمكن منه و اختص بشرائطه لأن الله تعالى قال وَ لْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَ يَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ و لإجماع المسلمين على أن كل من شاهد غيره تاركا للصلاة غير محافظ عليها فله أن يأمره بها بل يجب عليه إلا أن الإمام و خلفاءه أولى بالإنكار بالقتال لأنه أعرف بسياسة الحرب و أشد استعدادا لآلاتها.

(20/180)


شرح نهج البلاغة ج : 19 ص : 311فأما المنهي من هو فهو كل مكلف اختص بما ذكرناه من الشروط و غير المكلف إذا هم بالإضرار لغيره منه و يمنع الصبيان و ينهون عن شرب الخمر حتى لا يتعودوه كما يؤاخذون بالصلاة حتى يمرنوا عليها و هذا ما ذكره أصحابنا. فأما قوله ع و منهالمنكر بلسانه و قلبه و التارك بيده فذلك متمسك بخصلتين من خصال الخير و مضيع خصلة فإنه يعني به من يعجز عن الإنكار باليد لمانع لأنه لم يخرج هذا الكلام مخرج الذم و لو كان لم يعن العاجز لوجب أن يخرج الكلام مخرج الذم لأنه ليس بمعذور في أن ينكر بقلبه و لسانه إذا أخل بالإنكار باليد مع القدرة على ذلك و ارتفاع الموانع. و أما قوله ضيع أشرف الخصلتين فاللام زائدة و أصله ضيع أشرف خصلتين من الثلاث لأنه لا وجه لتعريف المعهود هاهنا في الخصلتين بل تعريف الثلاث باللام أولى و يجوز حذفها من الثلاث و لكن إثباتها أحسن كما تقول قتلت أشرف رجلين من الرجال الثلاثة. و أما قوله فذلك ميت الأحياء فهو نهاية ما يكون من الذم. و اعلم أن النهي عن المنكر و الأمر بالمعروف عند أصحابنا أصل عظيم من أصول الدين و إليه تذهب الخوارج الذين خرجوا على السلطان متمسكين بالدين و شعار الإسلام مجتهدين في العبادة لأنهم إنما خرجوا لما غلب على ظنونهم أو علموا جور الولاة و ظلمهم و أن أحكام الشريعة قد غيرت و حكم بما لم يحكم به الله و على هذا الأصل تبنى الإسماعيلية من الشيعة قتل ولاة الجور غيلة و عليه بناء أصحاب الزهد في الدنيا الإنكار على الأمراء و الخلفاء و مواجهتهم بالكلام الغليظ لما عجزوا عن الإنكار باليد و بالجملة فهو أصل شريف أشرف من جميع أبواب البر و العبادة كما قال أمير المؤمنين ع

(20/181)


شرح نهج البلاغة ج : 19 ص : 381312وَ رَوَى أَبُو جُحَيْفَةَ قَالَ سَمِعْتُ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ ع يَقُولُ إِنَّ أَوَّلَ مَا تُغْلَبُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْجِهَادِ الْجِهَادُ بِأَيْدِيكُمْ ثُمَّ بِأَلْسِنَتِكُمْ ثُمَّ بِقُلُوبِكُمْ فَمَنْ لَمْ يَعْرِفْ بِلْبِهِ مَعْرُوفاً وَ لَمْ يُنْكِرْ مُنْكَراً قُلِبَ فَجُعِلَ أَعْلَاهُ أَسْفَلَهُ وَ أَسْفَلُهُ أَعْلَاهُ
إنما قال ذلك لأن الإنكار بالقلب آخر المراتب و هو الذي لا بد منه على كل حال فأما الإنكار باللسان و باليد فقد يكون منهما بد و عنهما عذر فمن ترك النهي عن المنكر بقلبه و الأمر بالمعروف بقلبه فقد سخط الله عليه لعصيانه فصار كالممسوخ الذي يجعل الله تعالى أعلاه أسفله و أسفله أعلاه تشويها لخلقته و من يقول بالأنفس الجسمانية و إنها بعد المفارقة يصعد بعضها إلى العالم العلوي و هي نفوس الأبرار و بعضها ينزل إلى المركز و هي نفوس الأشرار يتأول هذا الكلام على مذهبه فيقول إن من لا يعرف بقلبه معروفا أي لا يعرف من نفسه باعثا عليه و لا متقاضيا بفعله و لا ينكر بقلبه منكرا أي لا يأنف منه و لا يستقبحه و يمتعض من فعله يقلب نفسه التي قد كان سبيلها أن تصعد إلى عالمها فتجعل هاوية في حضيض الأرض و ذلك عندهم هو العذاب و العقاب

(20/182)


شرح نهج البلاغة ج : 19 ص : 382313إِنَّ الْحَقَّ ثَقِيلٌ مَرِي ءٌ وَ إِنَّ الْبَاطِلَ خَفِيفٌ وَبِي تقول مرؤ الطعام بالضم يمرؤ مراءة فهو مري ء على فعيل مثل خفيف و ثقيل و قد جاء مرئ الطعام بالكسر كما قالوا فقه الرجل و فقه و وبي ء البلد بالكسر يوبأ وباءة فهو وبي ء على فعيل أيضا و يجوز فهو وبئ على فعل مثل حذر و أشر. يقول ع الحق و إن كان ثقيلا إلا أن عاقبمحمودة و مغبته صالحة و الباطل و إن كان خفيفا إلا أن عاقبته مذمومة و مغبته غير صالحة فلا يحملن أحدكم حلاوة عاجل الباطل على فعله فلا خير في لذة قليلة عاجلة يتعقبها مضار عظيمة آجلة و لا يصرفن أحدكم عن الحق ثقله فإنه سيحمد عقبى ذلك كما يحمد شارب الدواء المر شربه فيما بعد إذا وجد لذة العافية
شرح نهج البلاغة ج : 19 ص : 383314لَا تَأْمَنَنَّ عَلَى خَيْرِ هَذِهِ الْأُمَّةِ عَذَابَ اللَّهِ لِقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ وَ تَعَالَى فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخاسِرُونَ وَ لَا تَيْأَسَنَّ لِشَرِّ هَذِهِ الْأُمَّةِ مِنْ رَوْحِ اللَّهتَعَالَى إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكافِرُونَ

(20/183)


هذا كلام ينبغي أن يحمل على أنه أراد ع النهي عن القطع على مغيب أحد من الناس و أنه لا يجوز لأحد أن يقول فلان قد نجا و وجبت له الجنة و لا فلان قد هلك و وجبت له النار و هذا القول حق لأن الأعمال الصالحة لا يحكم لصاحبها بالجنة إلا بسلامة العاقبة و كذلك الأعمال السيئة لا يحكم لصاحبها بالنار إلا أن مات عليها فأما الاحتجاج بالآية الأولى فلقائل أن يقول إنها لا تدل على ما أفتى ع به و ذلك لأن معناها أنه لا يجوز للعاصي أن يأمن مكر الله على نفسه و هو مقيم على عصيانه أ لا ترى أن أولها أَ فَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنا بَياتاً وَ هُمْ نائِمُونَ أَ وَ أَمِنَ أَهْلُ الْقُرى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنا ضُحًى وَ هُمْ يَلْعَبُونَ أَ فَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخاسِرُونَ و ليست دالة على ما نحن شرح نهج البلاغة ج :9 ص : 315فيه لأن الذي نحن فيه هل يجوز لأحد أن يأمن على الصالحين من هذه الأمة عذاب الله. فأما الآية الثانية فالاحتجاج بها جيد لا شبهة فيه لأنه يجوز أن يتوب العاصي و التوبة من روح الله. فإن قلت و كذاك يجوز أن يكفر المسلم المطيع قلت صدقت و لكن كفره ليس من مكر الله فدل على أن المراد بالآية أنه لا ينبغي للعاصي أن يأمن من عقوبة الله ما دام عاصيا و هذا غير مسألتنا
شرح نهج البلاغة ج : 19 ص : 384316الْبُخْلُ جَامِعٌ لِمَسَاوِئِ الْعُيُوبِ وَ هُوَ زِمَامٌ يُقَادُ بِهِ إِلَى كُلِّ سُوءٍقد تقدم القول في البخل و الشح و نحن نذكر هاهنا زيادات أخرى
أقوال مأثورة في الجود و البخل

(20/184)


قال بعض الحكماء السخاء هيئة للإنسان داعية إلى بذل المقتنيات حصل معه البذل لها أو لم يحصل و ذلك خلق و يقابله الشح و أما الجود فهو بذل المقتنى و يقابله البخل هذا هو الأصل و إن كان كل واحد منها قد يستعمل في موضع الآخر و الذي يدل على صحة هذا الفرق أنهم جعلوا اسم الفاعل من السخاء و الشح على بناء الأفعال الغريزية فقالوا شحيح و سخي فبنوه على فعيل كما قالوا حليم و سفيه و عفيف و قالوا جائد و باخل فبنوهما على فاعل كضارب و قاتل فأما قولهم بخيل فمصروف عن لفظ فاعل للمبالغة كقولهم في راحم رحيم و يدل أيضا على أن السخاء غريزة و خلق أنهم لم يصفوا البارئ سبحانه به فيقولوا سخي فأما الشح فقد عظم أمره و خوف منه و لهذا
قال ع ثلاث مهلكات شح مطاع و هوى متبع و إعجاب المرء بنفسه
فخص المطاع تنبيها على أن وجود الشح شرح نهج البلاغة ج : 19 ص : 317في النفس فقط ليس مما يستحق به ذم لأنه ليس من فعله و إنما يذم بالانقياد له قال سبحانه وَ مَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ و قال وَ أُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ. و قال ع لا يجتمع شح و إيمان في قلب أبدا
فأما الجود فإنه محمود على جميع ألسنة العالم و لهذا قيل كفى بالجود مدحا أن اسمه مطلقا لا يقع إلا في حمد و كفى بالبخل ذما أن اسمه مطلقا لا يقع إلا في ذم. و قيل لحكيم أي أفعال البشر أشبه بأفعال الباري سبحانه فقال الجود. و
قال النبي ص الجود شجرة من أشجار الجنة من أخذ بغصن من أغصانها أداه إلى الجنة و البخل شجرة من أشجار النار من أخذ بغصن من أغصانها أداه إلى النار

(20/185)


و من شرف الجود أن الله سبحانه قرن ذكره بالإيمان و وصف أهله بالفلاح و الفلاح اسم جامع لسعادة الدارين قال سبحانه الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَ مِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ إلى قوله وَ أُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ و قال وَ مَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ. و حق للجود بأن يقرن بالإيمان فلا شي ء أخص به و أشد مجانسة له منه فإن من صفة المؤمن انشراح الصدر كما قال تعالى فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ وَ مَنْ يُرِدْ أَنْ ُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّما يَصَّعَّدُ فِي السَّماءِ و هذا من صفات الجواد و البخيل لأن الجواد واسع الصدر منشرح مستبشر للإنفاق و البذل و البخيل قنوط ضيق الصدر حرج القلب ممسك. و
قال النبي ص و أي داء أدوأ من البخل
و البخل على ثلاثة أضرب بخل الإنسان بماله على نفسه و بخله بماله على غيره و بخله شرح نهج البلاغة ج : 19 ص : 318بمال غيره على نفسه أو على غيره و أفحشها بخله بمال غيره على نفسه و أهونها و إن كان لا هين فيها بخله بماله على غيره. و قال ع اللهم اجعل لمنفق خلفا و لممسك تلفا
و قال إن الله عز و جل ينزل المعونة على قدر المئونة
و قال أيضا من وسع وسع عليه

(20/186)


و قالت الفلاسفة الجود على أقسام فمنها الجود الأعظم و هو الجود الإلهي و هو الفيض العام المطلق و إنما يختلف لاختلاف المواد و استعداداتها و إلا فالفيض في نفسه عام غير خاص و بعده جود الملوك و هو الجود بجزء من المال على من تدعوهم الدواعي و الأغراض إلى الجود عليه و يتلوه جود السوقة و هو بذل المال للعفاة أو الندامى و الشرب و المعاشرين و الإحسان إلى الأقارب. قالوا و اسم الجود مجاز إلا الجود الإلهي العام فإنه عار عن الغرض و الداعي و أما من يعطي لغرض و داع نحو أن يحب الثناء و المحمدة فإنه مستعيض و تاجر يعطي شيئا ليأخذ شيئا قالوا قول أبي نواس
فتى يشتري حسن الثناء بماله و يعلم أن الدائرات تدور
ليس بغاية في الوصف بالجود التام بل هو وصف بتجارة محمودة و أحسن منه قول ابن الرومي
و تاجر البر لا يزال له ربحان في كل متجر تجره أجر و حمد و إنما طلب الأجر و لكن كلاهما اعتورهو أحسن منهما قول بشار
ليس يعطيك للرجاء و لا الخوف و لكن يلذ طعم العطاء
و نحن قد ذكرنا ما في هذا الموضع من البحث العقلي في كتبنا العقلية
شرح نهج البلاغة ج : 19 ص : 385319يَا ابْنَ آدَمَ الرِّزْقُ رِزْقَانِ رِزْقٌ تَطْلُبُهُ وَ رِزْقٌ يَطْلُبُكَ فَإِنْ لَمْ تَأْتِهِ أَتَاكَ فَلَا تَحْمِلْ هَمَّ سَنَتِكَ عَلَى هَمِّ يَوْمِكَ كَفَاكَ كُلَّ يَوْمٍ مَا فِيهِ فَإِنْ تَكُنِ السَّنَةُ مِنْ عُمُرَ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى سَيُؤْتِيكَ فِي كُلِّ غَدٍ جَدِيدٍ مَا قَسَمَ لَكَ وَ إِنْ لَمْ تَكُنِ السَّنَةُ مِنْ عُمُرِكَ فَمَا تَصْنَعُ بِالْهَمِّ فِيمَا لَيْسَ لَكَ وَ لَمْ يَسْبِقْكَ إِلَى رِزْقِكَ طَالِبٌ وَ لَنْ يَغْلِبَكَ عَلَيْهِ غَالِبٌ وَ لَنْ يُبْطِئَ عَنْكَ مَا قَدْ قُدِّرَ لَكَ
قال و قد مضى هذا الكلام فيما تقدم من هذا الباب إلا أنه هاهنا أوضح و أشرح فلذلك كررناه على القاعدة المقررة في أول هذا الكتاب

(20/187)


قد تقدم القول في معاني هذا الفصل و روي أن جماعة دخلوا على الجنيد فاستأذنوه في طلب الرزق فقال إن علمتم في أي موضع هو فاطلبوه قالوا فنسأل الله تعالى ذلك قال إن علمتم أنه ينساكم فذكروه قالوا فندخل البيت و نتوكل و ننتظر ما يكون فقال التوكل على التجربة شك قالوا فما الحيلة قال ترك الحيلة. و روي أن رجلا لازم باب عمر فضجر منه فقال له يا هذا هاجرت إلى الله تعالى أم إلى باب عمر اذهب فتعلم القرآن فإنه سيغنيك عن باب عمر فذهب الرجل شرح نهج البلاغة ج : 19 ص : 320و غاب مدة حتى افتقده عمر فإذا هو معتزل مشتغل بالعبادة فأت عمر فقال له إني اشتقت إليك فما الذي شغلك عنا قال إني قرأت القرآن فأغناني عن عمر و آل عمر فقال رحمك الله فما وجدت فيه قال وجدت فيه وَ فِي السَّماءِ رِزْقُكُمْ وَ ما تُوعَدُونَ فقلت رزقي في السماء و أنا أطلبه في الأرض إني لبئس الرجل فبكى عمر و قال صدقت و كان بعد ذلك ينتابه و يجلس إليه
شرح نهج البلاغة ج : 19 ص : 386321رُبَّ مُسْتَقْبِلٍ يَوْماً لَيْسَ بِمُسْتَدْبِرِهِ وَ مَغْبُوطٍ فِي أَوَّلِ لَيْلِهِ قَامَتْ بَوَاكِيهِ فِي آخِرِهِمثل هذا قول الشاعر
يا راقد الليل مسرورا بأوله إن الحوادث قد يطرقن أسحارا
و مثله
لا يغرنك عشاء ساكن قد يوافي بالمنيات السحر

(20/188)


شرح نهج البلاغة ج : 19 ص : 387322الْكَلَامُ فِي وَثَاقِكَ مَا لَمْ تَتَكَلَّمْ بِهِ فَإِذَا تَكَلَّمْتَ بِهِ صِرْتَ فِي وَثَاقِهِ فَاخْزُنْ لِسَانَكَ كَمَا تَخْزُنُ ذَهَبَكَ وَ وَرِقَكَ فَرُبَّ كَلِمَةٍ سَلَبَتْ نِعْمَةًقد تقدم القول في مدح الصمت و ذم الكلام الكثير. و كان يقال لا خير في الحياة إلا لصموت واع أو ناطق محسن. و قيل لحذيفة قد أطلت سجن لسانك فقال لأنه غير مأمون إذا أطلق. و من أمثال العرب رب كلمة تقول دعني. و قالوا أصلها أن بعض ملوك الحيرة كان قد استراب ببعض خوله فنزل يوما و هو يتصيد على تلعة و نزل أصحابه حوله فأفاضوا في حديث كثير فقال ذلك الإنسان أ ترى لو أن رجلا ذبح على رأس هذه التلعة هل كان يسيل دمه إلى أول الغائط فقال الملك هلموا فاذبحوه لننظر فذبحوه فقال الملك رب كلمة تقول دعني. و قال أكثم بن صيفي من إكرام الرجل نفسه ألا يتكلم بكل ما يعلم. و تذاكر قوم من العرب و فيهم رجل باهلي ساكت فقيل له بحق ما سميتم خرس العرب فقال أ ما علمتم أن لسان المرء لغيره و سمعه لنفسه

(20/189)


شرح نهج البلاغة ج : 19 ص : 388323لَا تَقُلْ مَا لَا تَعْلَمُ بَلْ لَا تَقُلْ كُلَّ مَا تَعْلَمُ فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ قَدْ فَرَضَ عَلَى جَوَارِحِكَ كُلِّهَا فَرَائِضَ يَحْتَجُّ بِهَا عَلَيْكَ يَوْمَ الْقِيَامَةِهذا نهي عن الكذب و أن تقول ما لا تأمن من كونه كذبا فإن الأمرين كليهما قبيحان عقلا عند أصحابنا. فإن قلت كيف يقول أصحابكم أن الخبر الذي لا يأمن كونه كذبا قبيح و الناس يستحسنون الأخبار عن المظنون قلت إذا قال الإنسان زيد في الدار و هو يظنه في الدار و لا يقطع عليه فإن الحسن منه أن يخبر عن ظنه كأن يقول أخبر عن أني أظن أن زيدا في الدار و إذا كان هذا هو تقديره فالخبر إذن خبر عن معلوم لا عن مظنون لأنه قاطع على أنه ظان أن زيدا في الدار. فأما إذا فرض الخبر لا على هذا الوجه بل على القطع بأن زيدا في الدار و هو لا يقطع على أن زيدا في الدار فقد أخبر بخبر ليس على ما أخبر به عنه لأنه أخبر عن أنه قاطع و ليس بقاطع فكان قبيحا

(20/190)


شرح نهج البلاغة ج : 19 ص : 389324احْذَرْ أَنْ يَرَاكَ اللَّهُ عِنْدَ مَعْصِيَتِهِ وَ يَفْقِدَكَ عِنْدَ طَاعَتِهِ فَتَكُونَ مِنَ الْخَاسِرِينَ وَ إِذَا قَوِيتَ فَاقْوَ عَلَى طَاعَةِ اللَّهِ وَ إِذَا ضَعُفْتَ فَاضْعُفْ عَنْ مَعْصِيَةِ اللَّهِمن علم يقينا أن الله تعالى يراه عند معصيته كان أجد الناس أن يجتنبها كما إذا علمنا يقينا أن الملك يرى الواحد منا و هو يراود جاريته عن نفسها أو يحادث ولده ليفجر به و لكن اليقين في البشر ضعيف جدا أو أنهم أحمق الحيوان و أجهله و بحق أقول إنهم إن اعتقدوا ذلك اعتقادا لا يخالطه الشك ثم واقعوا المعصية و عندهم عقيدة أخرى ثابتة أن العقاب لاحق بمن عصى فإن الإبل و البقر أقرب إلى الرشاد منهم. و أقول إن الذي جرأ الناس على المعصية الطمع في المغفرة و العفو العام و قولهم الحلم و الكرم و الصفح من أخلاق ذوي النباهة و الفضل من الناس فكيف لا يكون من الباري سبحانه عفو عن الذنوب. و ما أحسن قول شيخنا أبي علي رحمه الله لو لا القول بالإرجاء لما عصي الله في الأرض
شرح نهج البلاغة ج : 19 ص : 390325الرُّكُونُ إِلَى الدُّنْيَا مَعَ مَا تُعَايِنَ مِنْهَا جَهْلٌ وَ التَّقْصِيرُ فِي حُسْنِ الْعَمَلِ إِذَا وَثِقْتَ بِالثَّوَابِ عَلَيْهِ غَبْنٌ وَ الطُّمَأْنِينَةُ إِلَى كُلِّ أَحَدٍ قَبْلَ الِاخْتِبَارِ لَهُ عَجْزٌقد تقدم الكلام في الدنيا و حمق من يركن إليها مع معاينة غدرها و قلة وفائها و نقضها عهودها و قتلها عشاقها. و لا ريب أن الغبن و أعظم الغبن هو التقصير في الطاعة مع يقين الثواب عليها و أما الطمأنينة إلى من لم يعرف و لم يختبر فإنها عجز كما قال ع يعني عجزا في العقل و الرأي فإن الوثوق مع التجربة فيه ما فيه فكيف قبل التجربة. و قال الشاعر
و كنت أرى أن التجارب عدة فخانت ثقات الناس حين التجارب

(20/191)


شرح نهج البلاغة ج : 19 ص : 391326مِنْ هَوَانِ الدُّنْيَا عَلَى اللَّهِ أَنَّهُ لَا يُعْصَى إِلَّا فِيهَا وَ لَا يُنَالُ مَا عِنْدَهُ إِلَّا بِتَرْكِهَاهذا الكلام نسبه الغزالي في كتاب إحياء علوم الدين إلى أبي الدرداء و الصحيح أنه من كلام علي ع ذكره شيخنا أبو عثمان الجاحظ في غير موضع من كتبه و هو أعرف بكلام الرجال
نبذ مما قيل في حال الدنيا و هوانها و اغترار الناس بها
و قد تقدم من كلامنا في حال الدنيا و هوانها على الله و اغترار الناس بها و غدرها بهم و ذم العقلاء لها و تحذيرهم منها ما فيه كفاية. و نحن نذكر هاهنا زيادة على ذلك.
يقال إن في بعض كتب الله القديمة الدنيا غنيمة الأكياس و غفلة الجهال لم يعرفوها حتى خرجوا منها فسألوا الرجعة فلم يرجعوا

(20/192)


و قال بعض العارفين من سأل الله تعالى الدنيا فإنما سأله طول الوقوف بين يديه. شرح نهج البلاغة ج : 19 ص : 327و قال الحسن لا تخرج نفس ابن آدم من الدنيا إلا بحسرات ثلاث أنه لم يشبع مما جمع و لم يدرك ما أمل و لم يحسن الزاد لما يقدم عليه. و من كلامه أهينوا الدن فو الله ما هي لأحد بأهنأ منها لمن أهانها. و قال محمد بن المنكدر أ رأيت لو أن رجلا صام الدهر لا يفطر و قام الليل لا يفتر و تصدق بماله و جاهد في سبيل الله و اجتنب محارم الله تعالى غير أنه يؤتى به يوم القيامة فيقال إن هذا مع ما قد عمل كان يعظم في عينه ما صغر الله و يصغر في عينه ما عظم الله كيف ترى يكون حاله فمن منا ليس هكذا الدنيا عظيمة عنده مع ما اقترفنا من الذنوب و الخطايا. و قد ضربت الحكماء مثلا للدنيا نحن نذكره هاهنا قالوا مثل الدنيا و أهلها كقوم ركبوا سفينة فانتهت بهم إلى جزيرة فأمرهم الملاح بالخروج لقضاء الحاجة و حذرهم المقام و خوفهم مرور السفينة و استعجالها فتفرقوا في نواحي الجزيرة فقضى بعضهم حاجته و بادر إلى السفينة فصادف المكان خاليا فأخذ أوسع المواضع و ألينها و أوفقها لمراده و بعضهم توقف في الجزيرة ينظر إلى أزهارها و أنوارها العجيبة و غياضها الملتفة و نغمات طيورها الطيبة و ألحانها الموزونة الغريبة و لحظ في تزيينها أحجارها و جواهرها و معادنها المختلفة الألوان ذوات الأشكال الحسنة المنظر العجيبة النقش السالبة أعين الناظرين بحسن زبرجها و عجائب صورها ثم تنبه لخطر فوات السفينة فرجع إليها فلم يصادف إلا مكانا ضيقا حرجا فاستقر فيه و بعضهم أكب فيها على تلك الأصداف و الأحجار و قد أعجبه حسنها و لم تسمح نفسه بإهمالها و تركها فاستصحب منها جملة فجاء إلى السفينة فلم يجد إلا مكانا ضيقا و زاده ما حمله ضيقا و صار ثقلا عليه و وبالا فندم على أخذه و لم تطعه نفسه على رميه و لم يجد موضعا له فحمله على عنقه

(20/193)


شرح نهج البلاغة ج : 19 ص : 328و رأسه و جلس في المكان الضيق في السفينة و هو متأسف على أخذه و نادم و ليس ينفعه ذلك و بعضهم تولج بتلك الأنوار و الغياض و نسي السفينة و أبعد في متفرجه و متنزهه حتى أن نداء الملاح لم يبلغه لاشتغاله بأكل تلك الثمار و اشتمامه تلالأنوار و التفرج بين تلك الأشجار و هو مع ذلك خائف على نفسه من السباع و السقطات و النكبات و نهش الحيات و ليس ينفك عن شوك يتشبث بثيابه و غصن يجرح جسمه و مروة تدمي رجله و صوت هائل يفزع منه و عوسج يملأ طريقه و يمنعه عن الانصراف لو أراده و كان في جماعة ممن كان معه في السفينة حالهم حاله فلما بلغهم نداء السفينة راح بعضهم مثقلا بما معه فلم يجد في السفينة موضعا واسعا و لا ضيقا فبقي على الشط حتى مات جوعا و بعضهم بلغه النداء فلم يعرج عليه و استغرقته اللذة و سارت السفينة فمنهم من افترسته السباع و منهم من تاه و هام على وجهه حتى هلك و منهم من ارتطم في الأوحال و منهم من نهشته الحيات فتفرقوا هلكى كالجيف المنتنة فأما من وصل إلى السفينة مثقلا بما أخذه من الأزهار و الفاكهة اللذيذة و الأحجار المعجبة فإنها استرقته و شغله الحزن بحفظها و الخوف من ذهابها عن جميع أموره و ضاق عليه بطريقها مكانه فلم تلبث أن ذبلت تلك الأزهار و فسدت تلك الفاكهة الغضة و كمدت ألوان الأحجار و حالت فظهر له نتن رائحتها فصارت مع كونها مضيقة عليه مؤذية له بنتنها و وحشتها فلم يجد حيلة إلا أن ألقاها في البحر هربا منها و قد أثر في مزاجه ما أكله منها فلم ينته إلى بلده إلا بعد أن ظهرت عليه الأسقام بما أكل و ما شم من تلك الروائح فبلغ سقيما وقيذا مدبرا و أما من كان رجع عن قريب و ما فاته إلا سعة المحل فإنه تأذى بضيق المكان مدة و لكن لما وصل إلى الوطن استراح و أما من رجع أولا فإنه وجد المكان الأوسع و وصل إلى الوطن سالما طيب القلب مسرورا. شرح نهج البلاغة ج : 19 ص : 329فهذا مثال أهل

(20/194)


الدنيا في اشتغالهم بحظوظهم العاجلة و نسيانهم موردهم و مصدرهم و غفلتهم عن عاقبة أمرهم و ما أقبح حال من يزعم أنه بصير عاقل و تغره حجارة الأرض و هي الذهب و الفضة و هشيم النبت و هو زينة الدنيا و هيعلم يقينا أن شيئا من ذلك لا يصحبه عند الموت بل يصير كله وبالا عليه و هو في الحال الحاضرة شاغل له بالخوف عليه و الحزن و الهم لحفظه و هذه حال الخلق كلهم إلا من عصمه الله. و قد ضرب أيضا لها مثال آخر في عبور الإنسان عليها قالوا الأحوال ثلاثة حال لم يكن الإنسان فيها شيئا و هي ما قبل وجوده إلى الأزل و حال لا يكون فيها موجودا مشاهدا للدنيا و هي بعد موته إلى الأبد و حالة متوسطة بين الأزل و الأبد و هي أيام حياته في الدنيا فلينظر العاقل إلى الطرفين الطويلين و لينظر إلى الحالة المتوسطة هل يجد لها نسبة إليها و إذا رأى العاقل الدنيا بهذه العين لم يركن إليها و لم يبال كيف تقضت أيامه فيها في ضر و ضيق أو في سعة و رفاهة بل لا يبني لبنة على لبنة
توفي رسول الله ص و ما وضع لبنة على لبنة و لا قصبة على قصبة و رأى بعض الصحابة بنى بيتا من جص فقال أرى الأمر أعجل من هذا و أنكر ذلك
و لهذا قال النبي ص ما لي و للدنيا إنما مثلي و مثلها كراكب سار في يوم صائف فرفعت له شجرة فقام تحت ظلها ساعة ثم راح و تركها
و إلى هذا أشار عيسى ابن مريم حيث قال الدنيا قنطرة فاعبروها و لا تعمروها

(20/195)


و هو مثل صحيح فإن الحياة الدنيا قنطرة إلى الآخرة و المهد هو أحد جانبي القنطرة و اللحد الجانب الآخر و بينهما مسافة محدودة فمن الناس من قطع نصف القنطرة و منهم من قطع ثلثيها و منهم من لم يبق له إلا خطوة واحدة و هو غافل عنها و كيفما كان فلا بد من العبور و الانتهاء و لا ريب أن عمارة هذه القنطرة و تزيينها بأصناف الزينة لمن شرح نهج البلاغة ج : 19 ص : 330هو محمول قسرا و قهرا على عبورها يسوقه سائق عنيف غاية الجهل و الخذلان. و في الحديث المرفوع أن رسول الله ص مر على شاة ميتة فقال أ ترون أن هذه الشاة هينة على أهلها قالوا نعم و من هوانها ألقوها فقال و الذي نفسي بيده للدنيا أهون على الله من هذه الشاة على أهلها و لو كانت الدنيا تعدل عند الله جناح بعوضة لما سقى كافرا منها شربة ماء
و قال ص الدنيا سجن المؤمن و جنة الكافر
و قال أيضا الدنيا ملعونة ملعون ما فيها إلا ما كان لله منها
و قال أيضا من أحب دنياه أضر بآخرته و من أحب آخرته أضر بدنياه فآثروا ما يبقى على ما يفنى
و قال أيضا حب الدنيا رأس كل خطيئة
و روى زيد بن أرقم قال كنا مع أبي بكر فدعا بشراب فأتي بماء و عسل فلما أدناه من فيه بكى حتى أبكى أصحابه فسكتوا و ما سكت ثم عاد ليشرب فبكى حتى ظنوا أنهم لا يقدرون على مسألته ثم مسح عينيه فقالوا يا خليفة رسول الله ما أبكاك قال كنت مع رسول الله ص فرأيته يدفع بيده عن نفسه شيئا و لم أر معه أحدا فقلت يا رسول الله ما الذي تدفع عن نفسك قال هذه الدنيا مثلت لي فقلت لها إليك عني فرجعت و قالت إنك إن أفلت مني لم يفلت مني من بعدك و قال ص يا عجبا كل العجب للمصدق بدار الخلود و هو يسعى لدار الغرور
و من الكلام المأثور عن عيسى ع لا تتخذوا الدنيا ربا فتتخذكم الدنيا عبيدا فاكنزوا كنزكم عند من لا يضيعه فإن صاحب كنز الدنيا يخاف عليه الآفة و صاحب كنز الآخرة لا يخاف عليه

(20/196)


شرح نهج البلاغة ج : 19 ص : 392331مَنْ أَبْطَأَ بِهِ عَمَلُهُ لَمْ يُسْرِعْ بِهِ نَسَبُهُ وَ فِي رِوَايَةٍ أُخْرَى مَنْ فَاتَهُ حَسَبُ نَفْسِهِ لَمْ يَنْفَعْهُ حَسَبُ آبَائِهِقد تقدم مثل هذا و قد ذكرنا ما عندنا فيه و قال الشاعر
لئن فخرت بآباء ذوي حسب لقد صدقت و لكن بئس ما ولدوا
و كان يقال أجهل الناس من افتخر بالعظام البالية و تبجح بالقرون 0- الماضية و اتكل على الأيام الخالية. و كان يقال من طريف الأمور حي يتكل على ميت. و كان يقال ضعة الدني ء في نفسه و الرفيع في أصله أقبح من ضعة الوضيع في نفسه و أصله لأن هذا تشبه بآبائه و سلفه و اك قصر عن أصله و سلفه فهو إلى الملامة أقرب و عن العذر أبعد. افتخر شريف بأبيه فقال خصمه لو وفقت لما ذكرت أباك لأنه حجة عليك تنادي بنقصك و تقر بتخلفك. كان جعفر بن يحيى يقول ليس من الكرام من افتخر بالعظام. و قال الفضل بن الربيع كفى بالمرء عارا أن يفتخر بغيره. شرح نهج البلاغة ج : 19 ص : 332و قال الرشيد من افتخر بآبائه فقد نادى على نفسه بالعجز و أقر على همته بالدناءة. و قال ابن الروميو ما الحسب الموروث لا در دره بمحتسب إلا بآخر مكتسب إذا العود لم يثمر و إن كان شعبة من الثمرات أعتده الناس في الحطبو قال عبد الله بن جعفر
لسنا و إن أحسابنا كرمت يوما على الآباء نتكل نبني كما كانت أوائلنا تبني و نفعل مثل ما فعلواو قال آخر
و ما فخري بمجد قام غيري إليه إذا رقدت الليل عنه إلى حسب الفتى في نفسه انظر و لا تنظر هديت إلى ابن من هوو قال آخر
إذا فخرت بآبائي و أجدادي فقد حكمت على نفسي لأضدادي هل نافعي إن سعى جدي لمكرمة و نمت عن أختها في جانب الواديو قال آخر

(20/197)


أ يقنعني كوني بمن كوني ابنه أبا لي أن أرضى لفخري بمجده إذا المرء لم يحو العلاء بنفسه فليس بحاو للعلاء بجده و هل يقطع السيف الحسام بأصله إذا هو لم يقطع بصارم حدو قيل لرجل يدل بشرف آبائه لعمري لك أول و لكن ليس لأولك آخر. شرح نهج البلاغة ج : 19 ص : 333و مثله أن شريفا بآبائه فاخر شريفا بنفسه فقال الشريف بنفسه انتهى إليك شرف أهلك و مني ابتدأ شرف أهلي و شتان بين الابتداء و الانتهاء. و قيل لشريف ناقص الأدب إن شرفك بأك لغيرك و شرفك بنفسك لك فافرق بين ما لك و ما لغيرك و لا تفرح بشرف النسب فإنه دون شرف الأدب

(20/198)


شرح نهج البلاغة ج : 19 ص : 393334مَنْ طَلَبَ شَيْئاً نَالَهُ أَوْ بَعْضَهُهذا مثل قولهم من طلب و جد وجد. و قال بعض الحكماء ما لازم أحد باب الملك فاحتمل الذل و كظم الغيظ و رفق بالبواب و خالط الحاشية إلا وصل إلى حاجته من الملك شرح نهج البلاغة ج : 19 ص : 394335مَا خَيْرٌ بِخَيْرٍ بَعْدَهُ النَّارُ وَ مَا شَرٌّ بِشَرٍّ بَعْدَهُ الْجَنَّةُ وَ كُلُّ نَعِيمٍ دُونَ الْجَنَّةِ مَحْقُورٌ وَ كُلُّ بَلَاءٍ دُونَ النَّارِ عَافِيَةٌموضع بعده النار رفع لأنه صفة خير الذي بعد ما و خير يرفع لأنه اسم ما و موضع الجار و المجرور نصب لأنه خبر ما و الباء زائدة مثلها في قولك ما أنت بزيد كما تزاد في خبر ليس و التقدير ما خير تتعقبه النار بخير كما تقول ما لذة تتلوها نغصة بلذة و لا ينقدح في ما الوجهان اللذان ذكرهما أرباب الصناعة النحوية في لا في قولهم لا خير بخير بعده النار أحدهما ما ذكرناه في ما و الآخر أن يكون موضع بعده النار جرا لأنه صفة خير المجرور و يكون معنى الباء معنى في كقولك زيد بالدار و في الدار و يصير تقدير الكلام لا خير في خير تعقبه النار و ذلك أن ما تستدعي خبرا موجودا في الكلام بخلاف لا فإن خبرها محذوف في مثل قولك لا إله إلا الله و نحوه أي في الوجود أو لنا أو ما أشبه ذلك و إذا جعلت بعده صفة خير المجرور لم يبق معك ما تجعله خبر ما. و أيضا فإن معنى الكلام يفسد في ما بخلاف لا لأن لا لنفي الجنس فكأنه شرح نهج البلاغة ج : 19 ص : 336نفى جنس الخير عن خير تتعقبه النار و هذا معنى صحيح و كلام منتظم و ما هاهنا إن كانت نافية احتاجت إلى خبر ينتظم به الكلام و إن كانت استفهاما فسد المعنى لأن ما لفظ يطلب به معنى الاسم كقوله ما العنقاء أو يطلب به حقيقة الت كقولك ما الملك و لست تطيق أن تدعي أن ما للاستفهام هاهنا عن أحد القسمين مدخلا لأنك تكون كأنك قد قلت أي شي ء هو خير في خير تتعقبه النار و هذا كلام لا

(20/199)


معنى له شرح نهج البلاغة ج : 19 ص : 395337أَلَا وَ إِنَّ مِنَ الْبَلَاءِ الْفَاقَةَ وَ أَشَدُّ مِنَ الْفَاقَةِ مَرَضُ الْبَدَنِ وَ أَشَدُّ مِنْ مَرَضِ الْبَدَنِ مَرَضُ الْقَلْبِ أَلَا وَ إِنَّ مِنَ النِّعَمِ سَعَةَ الْمَالِ وَ أَفْضَلُ مِنْ سَعَةِ الْمَالِ صِحَّ الْبَدَنِ وَ أَفْضَلُ مِنْ صِحَّةِ الْبَدَنِ تَقْوَى الْقَلْبِ
قد تقدم الكلام في الفاقة و الغنى فأما المرض و العافية
ففي الحديث المرفوع إليك انتهت الأماني يا صاحب العافية
فأما مرض القلب و صحته فالمراد به التقوى و ضدها و قد سبق القول في ذلك. و قال أحمد بن يوسف الكاتب
المال للمرء في معيشته خير من الوالدين و الولدو إن تدم نعمة عليك تجد خيرا من المال صحة الجسدو ما بمن نال فضل عافية و قوت يوم فقر إلى أحد
شرح نهج البلاغة ج : 19 ص : 396338لِلْمُؤْمِنِ ثَلَاثُ سَاعَاتٍ فَسَاعَةٌ يُنَاجِي فِيهَا رَبَّهُ وَ سَاعَةٌ يَرُمُّ فِيهَا مَعَايِشَهُ وَ سَاعَةٌ يُخَلِّي فِيهَا بَيْنَ نَفْسِهِ وَ بَيْنَ لَذَّتِهَا فِيمَا يَحِلُّ وَ يَجْمُلُ وَ لَيْسَ لِلْعَاقِلِ أَنْ كُونَ شَاخِصاً إِلَّا فِي ثَلَاثٍ مَرَمَّةٍ لِمَعَاشٍ أَوْ خُطْوَةٍ فِي مَعَادٍ أَوْ لَذَّةٍ فِي غَيْرِ مُحَرَّمٍ

(20/200)


تقدير الكلام ينبغي أن يكون زمان العاقل مقسوما ثلاثة أقسام. و يرم معاشه يصلحه و شاخصا راحلا و خطوة في معاد يعني في عمل المعاد و هو العبادة و الطاعة. و كان شيخنا أبو علي رحمه الله يقسم زمانه على ما أصف لك كان يصلي الصبح و الكواكب طالعة و يجلس في محرابه للذكر و التسبيح إلى بعد طلوع الشمس بقليل ثم يتكلم مع التلامذة و طلبة العلم إلى ارتفاع النهار ثم يقوم فيصلي الضحى ثم يجلس فيتمم البحث مع التلامذة إلى أن يؤذن للظهر فيصليها بنوافلها ثم يدخل إلى أهله فيصلح شأنه و يقضي حوائجه ثم يخرج للعصر فيصليها بنوافلها و يجلس مع التلامذة إلى المغرب فيصليها و يصلي العشاء ثم يشتغل بالقرآن إلى ثلث الليل ثم ينام الثلث الأوسط ثم يقعد فيصلي الثلث الأخير كله إلى الصبح
شرح نهج البلاغة ج : 19 ص : 397339ازْهَدْ فِي الدُّنْيَا يُبَصِّرْكَ اللَّهُ عَوْرَاتِهَا وَ لَا تَغْفُلْ فَلَسْتَ بِمَغْفُولٍ عَنْكَأمره بالزهد في الدنيا و جعل جزاء الشرط تبصير الله تعالى له عورات الدنيا و هذا حق لأن الراغب في الدنيا عاشق لها و العاشق لا يرى عيب معشوقه كما قال القائل
و عين الرضا عن كل عيب كليلة و لكن عين السخط تبدي المساويا
فإذا زهد فيها فقد سخطها و إذا سخطها أبصر عيوبها مشاهدة لا رواية. ثم نهاه عن الغفلة و قال له إنك غير مغفول عنك فلا تغفل أنت عن نفسك فإن أحق الناس و أولاهم ألا يغفل عن نفسه من ليس بمغفول عنه و من عليه رقيب شهيد يناقشه على الفتيل و النقير
شرح نهج البلاغة ج : 19 ص : 398340تَكَلَّمُوا تُعْرَفُوا فَإِنَّ الْمَرْءَ مَخْبُوءٌ تَحْتَ لِسَانِهِهذه إحدى كلماته ع التي لا قيمة لها و لا يقدر قدرها و المعنى قد تداوله الناس قال

(20/201)


و كائن ترى من صامت لك معجب زيادته أو نقصه في التكلم لسان الفتى نصف و نصف فؤاده فلم يبق إلا صورة اللحم و الدمو كان يحيى بن خالد يقول ما جلس إلى أحد قط إلا هبته حتى يتكلم فإذا تكلم إما أن تزداد الهيبة أو تنقص
شرح نهج البلاغة ج : 19 ص : 399341نِعْمَ الطِّيبُ الْمِسْكُ خَفِيفٌ مَحْمِلُهُ عَطِرٌ رِيحُهُفصل فيما ورد في الطيب من الآثار
كان النبي ص كثير التطيب بالمسك و بغيره من أصناف الطيب. و
جاء الخبر الصحيح عنه حبب إلي من دنياكم ثلاث الطيب و النساء و قرة عيني في الصلاة
و قد رويت لفظة أمير المؤمنين ع عنه مرفوعة و نحوها
لا تردوا الطيب فإنه طيب الريح خفيف المحمل
سرق أعرابي نافجة مسك فقيل له و من يغلل يأت بما غل يوم القيامة قال إذن أحملها طيبة الريح خفيفة المحمل. و
في الحديث المرفوع أنه ع بايع قوما كان بيد رجل منهم ردع خلوق فبايعه بأطراف أصابعه و قال خير طيب الرجال ما ظهر ريحه و خفي لونه و خير طيب النساء ما ظهر لونه و خفي ريحه
و عنه ع في صفة أهل الجنة و مجامرهم الألوة
و هي العود الهندي. شرح نهج البلاغة ج : 19 ص : 342و روى سهل بن سعد عنه ع أن في الجنة لمراغا من مسك مثل مراغ دوابكم هذه
و روي عنه ع أيضا في صفة الكوثر جاله المسك أي جانبه و رضراضة التوم و حصباؤه اللؤلؤ
و قالت عائشة كأني أنظر إلى وبيص المسك في مفارق رسول الله ص و هو محرم
وكان ابن عمر يستجمر بعود غير مطرى و يجعل معه الكافور و يقول هكذا رأيت رسول الله ص يصنع
و روى أنس بن مالك قال دخل علينا رسول الله ص فقال عندنا و الوقت صيف فعرق فجاءت أمي بقارورة فجعلت تسلت عرقه فاستيقظ و قال يا أم سليم ما تصنعين قالت هذا عرقك نجعله في طيبنا فإنه من أطيب الطيب و نرجو به بركة صبياننا فقال أصبت
و من كلام عمر لو كنت تاجرا ما اخترت غير العطر إن فاتني ربحه لم يفتني ريحه. ناول المتوكل أحمد بن أبي فنن فأرة مسك فأنشده

(20/202)


لئن كان هذا طيبنا و هو طيب لقد طيبته من يديك الأنامل
قالوا سميت الغالية غالية لأن عبد الله بن جعفر أهدى لمعاوية قارورة منها فسأله كم أنفق عليها فذكر مالا فقال هذه غالية فسميت غالية. شم مالك بن أسماء بن خارجة الفزاري من أخته هند بنت أسماء ريح غالية و كانت تحت الحجاج فقال علميني طيبك قالت لا أفعل أ تريد أن تعلمه شرح نهج البلاغة ج : 19 ص : 343جواريك هو لك عندي ما أردته ثم ضحكت و قالت و الله ما تعلمته إلا من شعرك حيث قلتأطيب الطيب طيب أم أبان فأر مسك بعنبر مسحوق خلطته بعودها و ببان فهو أحوى على اليدين شريقو روى أبو قلابة قال كان ابن مسعود إذا خرج من بيته إلى المسجد عرف من في الطريق أنه قد مر من طيب ريحه. و روى الحسن بن زيد عن أبيه قال رأيت ابن عباس حين أحرم و الغالية على صلعته كأنها الرب. أولم المتوكل في طهر بنيه فلما كثر اللعب قال ليحيي بن أكثم انصرف أيها القاضي قال و لم قال لأنهم يريدون أن يخلطوا قال أحوج ما يكونون إلى قاض إذا خلطوا فاستظرفه و أمر أن تغلف لحيته ففعل فقال يحيى إنا لله ضاعت الغالية كانت هذه تكفيني دهرا لو دفعت إلي فأمر له بزورق لطيف من ذهب مملوء من غالية و درج بخور فأخذهما و انصرف. و روى عكرمة أن ابن عباس كان يطلي جسده بالمسك فإذا مر بالطريق قال الناس أ مر ابن عباس أم المسك و قال أبو الضحى رأيت على رأس ابن الزبير من المسك ما لو كان لي لكان رأس مالي. لما بنى عمر بن عبد العزيز على فاطمة بنت عبد الملك أسرج في مسارجه تلك الليلة الغالية إلى أن طلعت الشمس. كانت لابن عمر بندقة من مسك يبوكها بين راحتيه فتفوح رائحتها. كان عمر بن عبد العزيز في إمارته المدينة يجعل المسك بين قدميه و نعله فقال فيه الشاعر يمدحه
له نعل لا تطبي الكلب ريحها و إن وضعت في مجلس القوم شمت

(20/203)


شرح نهج البلاغة ج : 19 ص : 344سمع عمر قول سحيم عبد بني الحسحاسو هبت شمال آخر الليل قرة و لا ثوب إلا درعها و ردائيافما زال بردي طيبا من ثيابها مدى الحول حتى أنهج البرد باليا
فقال له ويحك إنك مقتول فلم تمض عليه أيام حتى قتل. قال الشعبي الرائحة الطيبة تزيد في العقل. كان عبد الله بن زيد يتخلق بالخلوق ثم يجلس في المجلس. و كانوا يستحبون إذا قاموا من الليل أن يمسحوا مقاديم لحاهم بالطيب. و اشترى تميم الداري حلة بثمانمائة درهم و هيأ طيبا فكان إذا قام من الليل تطيب و لبس حلته و قام في المحراب. و قال أنس يا جميلة هيئي لنا طيبا أمسح به يدي فإن ابن أم ثابت إذا جاء قبل يدي يعني ثابتا البناني. و قال سلم بن قتيبة لقد شممت من فلان رائحة أطيب من مشطة العروس الحسناء في أنف العاشق الشبق. و من كلام بعض الصالحين الفاسق رجس و لو تضمخ بالغالية. عرضت مدنية لكثير فقالت له أنت القائل
فما روضة بالحزن طيبة الثرى يمج الندى جثجاثها و عرارهابأطيب من أردان عزة موهنا و قد أوقدت بالمندل الرطب نارها
لو كانت هذه الصفة لزنجية تجتلي الحلة لطابت هلا قلت كما قال سيدك إمرؤ القيس شرح نهج البلاغة ج : 19 ص : 34أ لم ترياني كلما جئت طارقا وجدت بها طيبا و إن لم تطيب

(20/204)


و قال الزمخشري إن النوى المنقع بالمدينة ينتاب أشرافها المواضع التي يكون فيها التماسا لطيب ريحه و إذا وجدوا ريحه بالعراق هربوا منها لخبثها قال و من اختلف في طرقات المدينة وجد رائحة طيبة و بنة عجيبة و لذلك سميت طيبة و الزنجية بها تجعل في رأسها شيئا من بلح و ما لا قيمة له فتجد له خمرة لا يعدلها بيت عروس من ذوات الأقدار. قال و لو دخلت كل غالية و عطر قصبة الأهواز و قصبة أنطاكية لوجدتها قد تغيرت و فسدت في مدة يسيرة. أراد الرشيد المقام في أنطاكية فقال له شيخ منها إنها ليست من بلادك فإن الطيب الفاخر يتغير فيها حتى لا ينتفع منه بشي ء و السلاح يصدأ فيها. سيراف من بلاد فارس لها فغمة طيبة. فأرة المسك دويبة شبيهة بالخشف تكون في ناحية تبت تصاد لأجل سرتها فإذا صادها الصائد عصب سرتها بعصاب شديد و هي مدلاة فيجتمع فيها دمها ثم يذبحها و ما أكثر من يأكلها ثم يأخذ السرة فيدفنهافي الشعر حتى يستحيل الدم المحتقن فيها مسكا ذكيا بعد أن كان لا يرام نتنا و قد يوجد في البيوت جرذان سود يقال لها فأر المسك ليس عندها إلا رائحة لازمة لها. و ذكر شيخنا أبو عثمان الجاحظ قال سألت بعض أصحابنا المعتزلة عن شأن المسك فقال لو لا أن رسول الله ص تطيب بالمسك لما تطيبت به لأنه دم فأما شرح نهج البلاغة ج : 19 ص : 346الزباد فليس مما يقرب ثيابي فقلت له قد يرتضع الجدي من لبن خنزيرة فلا يحرم لحمه لأن ذلك اللبن استحال لحما و خرج من تلك الطبيعة و عن تلك الصورة و عن ذلك الاسم و كذا لحم الجلالة فالمسك غير الدم و خل غير الخمر و الجوهر لا يحرم لذاته و عينه و إنما يحرم للأعراض و العلل فلا تقزز منه عند ذكرك الدم فليس به بأس. قال الزمخشري و الزبادة هرة و يقال للزيلع و هم الذين يجتلبون الزباد يا زيلع الزبادة ماتت فيغضب. و قال ابن جزلة الطبيب في المنهاج الزباد طيب يؤخذ من حيوان كالسنور يقال إنه وسخ في رحمها. و قال الزمخشري العنبر يأتي

(20/205)


طفاوة على الماء لا يدري أحد معدنه يقذفه البحر إلى البر فلا يأكل منه شي ء إلا مات و لا ينقره طائر إلا بقي منقاره فيه و لا يقع عليه إلا نصلت أظفاره و البحريون و العطارون ربما وجدوا فيه المنقا و الظفر. قال و البال و هو سمكة طولها خمسون ذراعا يؤكل منه اليسير فيموت. قال و سمعت ناسا من أهل مكة يقولون هو ضفع ثور في بحر الهند و قيل هو من زبد بحر سرنديب و أجوده الأشهب ثم الأزرق و أدونه الأسود. و
في حديث ابن عباس ليس في العنبر زكاة إنما هو شي ء يدسره البحر أي يدفعه شرح نهج البلاغة ج : 19 ص : 347فأما صاحب المنهاج في الطب فقال العنبر من عين في البحر و يكون جماجم أكبرها وزنه ألف مثقال و الأسود أردأ أصنافه و كثيرا ما يوجد في أجواف السمك التي تأكله و تموت و توجد فيه سهوكة. و قال في المسك أنه سرة دابة كالظبي له نابان أبان معقفان إلى الجانب الإنسي كقرنين.
جاء في الحديث المرفوع لا تمنعوا إماء الله مساجد الله و ليخرجن إذا خرجن ثفلات
أي غير متطيبات. و في الحديث أيضا إذا شهدت إحداكن العشاء فلا تمس طيبا
و المراد من ذلك ألا تهيج عليهن شهوة الرجال. قال الشاعر
و المسك بينا تراه ممتهنا بفهر عطاره و ساحقه حتى تراه في عارضي ملك أو موضع التاج من مفارقهالصنوبري في استهداء المسك
المسك أشبه شي ء بالشباب فهب بعض الشباب لبعض العصبة الشيبيقال إن رجلا وجد قرطاسا فيه اسم الله تعالى فرفعه و كان عنده دينار فاشترى به مسكا فطيبه فرأى في المنام قائلا يقول له كما طيبت اسمي لأطيبن ذكرك. قال خالد بن صفوان ليزيد بن المهلب ما رأيت صدا المغفر و لا عبق العنبر بأحد أليق منه بك فقال حاجتك قال ابن أخ لي في حبسك فقال يسبقك إلى المنزل. شرح نهج البلاغة ج : 19 ص : 348شاعركأن دخان الند ما بين جمره بقايا ضباب في رياض شقيق

(20/206)


قالوا خير العود المندلي و هو منسوب إلى مندل قرية من قرى الهند و أجوده أصلبه و امتحان رطبة أن ينطبع فيه نقش الخاتم و اليابس تفصح عنه النار و من خاصية المندلي أن رائحته تثبت في الثواب أسبوعا و أنه لا يقمل ما دامت فيه. قال صاحب المنهاج العود عروق أشجار تقلع و تدفن في الأرض حتى تتعفن منها الخشبية و القشرية و يبقى العود الخالص و أجوده المندلي و يجلب من وسط بلاد الهند ثم العود الهندي و هو يفضل على المندلي بأنه لا يولد القمل و هو أعبق بالثياب. قال و أفضل العود أرسبه في الماء و الطافي ردي ء. قال أبو العباس الأعمى
ليت شعري من أين رائحة المسك و ما إن أخال بالخيف أنسي حين غابت بنو أمية عنه و البهاليل من بني عبد شمس خطباء على المنابر فرسان على الخيل قالة غير خرس بحلوم مثل الجبال رزان و وجوه مثل الدنانير مالمسيب بن علس
تبيت الملوك على عتبها و شيبان إن غضبت تعتب و كالشهد بالراح ألفاظهم و أخلاقهم منهما أعذب شرح نهج البلاغة ج : 19 ص : 349و كالمسك ترب مقاماتهم و ترب قبورهم أطيأخذه العباس بن الأحنف فقال
و أنت إذا ما وطئت التراب كان ترابك للناس طيبا
و هجا بعض الشعراء العمال في أيام عمر و وقع عليهم فقال في بعض شعره
نئوب إذا آبوا و نغزو إذا غزوا فأنى لهم وفر و لسنا ذوي وفرإذا التاجر الداري جاء بفأرة من المسك راحت في مفارقهم تجري

(20/207)


فقبض عمر على العمال و صادرهم. قالوا في الكافور إنه ماء في شجر مكفور فيه يغرزونه بالحديد فإذا خرج إلى ظاهر ذلك الشجر ضربه الهواء فانعقد كالصموغ الجامدة على الأشجار. و قال صاحب المنهاج هو أصناف منها الفنصوري و الرباحي و الأزاد و الإسفرك الأزرق و هو المختط بخشبه و قيل إن شجرته عظيمة تظلل أكثر من مائة فارس و هي بحرية و خشب الكافور أبيض إلى الحمرة خفيف و الرباحي يوجد في بدن شجرته قطع كالثلج فإذا شققت الشجرة تناثر منها الكافور الند هو الغالية و هو العود المطري بالمسك و العنبر و دهن البان و من الناس من لا يضيف إليه دهن البان و يجعل عوضه الكافور و منهم من لا يضيف إليه الكافور أيضا و من الناس من يركب الغالية من المسك و العنبر و الكافور و دهن النيلوفر. قال الأصمعي قلت لأبي المهدية الأعرابي كيف تقول ليس الطيب إلا المسك فلم يحفل الأعرابي و ذهب إلى مذهب آخر فقال فأين أنت عن العنبر فقلت كيف تقول ليس الطيب إلا المسك و العنبر قال فأين أنت عن البان قلت فكيف شرح نهج البلاغة ج : 19 ص : 350تقول ليس الطيب إلا المسك و العنبر و البان قال فأين أنت عن ادهان بحجر يعني اليمامة قلت فكيف تقول ليس الطيب إلا المسك و العنبر و البان و ادهابحجر قال فأين أنت عن فأرة الإبل صادرة فرأيت أني قد أكثرت عليه فتركته قال و فأرة الإبل ريحها حين تصدر عن الماء و قد أكلت العشب الطيب. و في فأرة الإبل يقول الشاعر
كأن فأرة مسك في مباءتها إذا بدا من ضياء الصبح تنتشر
كان لأبي أيوب المرزباني وزير المنصور دهن طيب يدهن به إذا ركب إلى المنصور فلما رأى الناس غلبته على المنصور و طاعته له فيما يريده حتى إنه ربما كان يستحضره ليوقع به فإذا رآه تبسم إليه و طابت نفسه قالوا دهن أبي أيوب من عمل السحرة و ضربوا به المثل فقالوا لمن يغلب على الإنسان معه دهن أبي أيوب. أعرابي فيها مدر كف و مشم أنف. و قال عيينة بن أسماء بن خارجة الفزاري

(20/208)


لو كنت أحمل خمرا حين زرتكم لم ينكر الكلب أني صاحب الدارلكن أتيت و ريح المسك يقدمني و العنبر الورد مشبوبا على النارفأنكر الكلب ريحي حين خالطني و كان يألف ريح الزق و القار
قال الأصمعي ذكر لأبي أيوب هؤلاء الذين يتقشفون فقال ما علمت أن القذر و الذفر من الدين. ريح الكلب مثل في النتن قال الشاعر
ريحها ريح كلاب هارشت في يوم طل
و قال آخر
يزداد لؤما على المديح كما يزداد نتن الكلاب في المطرشرح نهج البلاغة ج : 19 ص : 351و قالت امرأة إمرئ القيس له و كان مفركا عند النساء إذا عرقت عرقت بريح كلب قال صدقت إن أهلي أرضعوني مرة بلبن كلبة. قال سلمة بن عياش يقول لجعفر بن سليمانفما شم أنفي ريح كف رأيتها من الناس إلا ريح كفك أطيب
فأمر له بألف دينار و مائة مثقال من المسك و مائة مثقال من العنبر.
وجه عمر إلى ملك الروم بريدا فاشترت أم كلثوم امرأة عمر طيبا بدنانير و جعلته في قارورتين و أهدتهما إلى امرأة ملك الروم فرجع البريد إليها و معه مل ء القارورتين جواهر فدخل عليها عمر و قد صبت الجواهر في حجرها فقال من أين لك هذا فأخبرته فقبض عليه و قال هذا للمسمين قالت كيف و هو عوض هديتي قال بيني و بينك أبوك فقال علي ع لك منه بقيمة دينارك و الباقي للمسلمين جملة لأن بريد المسلمين حمله
قيل لخديجة بنت الرشيد رسل العباس بن محمد على الباب معهم زنبيل يحمله رجلان فقالت تراه بعث إلي باقلاء فكشف الزنبيل عن جرة مملوءة غالية فيها مسحاة من ذهب و إذا برقعة هذه جرة أصيبت هي و أختها في خزائن بني أمية فأما أختها فغلب عليها الخلفاء و أما هذه فلم أر أحدا أحق بها منك
شرح نهج البلاغة ج : 19 ص : 400352ضَعْ فَخْرَكَ وَ احْطُطْ كِبَرَكَ وَ اذْكُرْ قَبْرَكَقد تقدم القول في العجب و الكبر و الفخر
نبذ مما قيل في التيه و الفخر

(20/209)


في الحديث المرفوع أن الله قد أذهب عنكم عبية الجاهلية و فخرها بالآباء الناس لآدم و آدم من تراب مؤمن تقي و فاجر شقي لينتهين أقوام يتفاخرون برجال إنما هم فحم من فحم جهنم أو ليكونن أهون على الله من جعلات تدفع النتن بأنفها
و من وصيته ص إلى علي ع لا فقر أشد من الجهل و لا وحشة أفحش من العجب
أتى وائل بن حجر النبي ص فأقطعه أرضا و أمر معاوية أن يمضي معه فيريه الأرض و يعرضها عليه و يكتبها له فخرج مع وائل في هاجرة شرح نهج البلاغة ج : 19 ص : 353شاوية و مشى خلف ناقته فأحرقته الرمضاء فقال أردفني قال لست من أرداف الملوك قال فادفع إلي نعليك قال ما بخيمنعني يا ابن أبي سفيان و لكن أكره أن يبلغ أقيال اليمن أنك لبست نعلي و لكن امش في ظل ناقتي فحسبك بذاك شرفا و يقال إنه عاش حتى أدرك زمن معاوية فأجلسه معه على سريره. قيل لحكيم ما الشي ء الذي لا يحسن أن يقال و إن كان حقا فقال الفخر. حبس هشام بن عبد الملك الفزدق في سجن خالد بن عبد الله القسري فوفد جرير إلى خالد ليشفع فيه فقال له خالد أ لا يسرك أن الله قد أخزى الفرزدق فقال أيها الأمير و الله ما أحب أن يخزيه الله إلا بشعري و إنما قدمت لأشفع فيه قال فاشفع فيه في ملإ ليكون أخزى له فشفع فيه فدعا به فقال إني مطلقك بشفاعة جرير فقال أسير قسري و طليق كلبي فبأي وجه أفاخر العرب بعدها ردني إلى السجن. ذكر أعرابي قوما فقال ما نالوا بأناملهم شيئا إلا و قد وطئناه بأخامص أقدامنا و إن أقصى مناهم لأدنى فعالنا. نظر رجل إلى بعض ولد أبي موسى يختال في مشيته فقال أ لا ترون مشيته كأن أباه خدع عمرو بن العاص. و سمع الفرزدق أبا بردة يقول كيف لا أتبختر و أنا ابن أحد الحكمين فقال أحدهما مائق و الآخر فاسق فكن ابن أيهما شئت.
نظر رسول الله ص إلى أبي دجانة و هو يتبختر بين الصفين فقال إن هذه مشية يبغضها الله إلا في هذا الموطن

(20/210)


شرح نهج البلاغة ج : 19 ص : 354لما بلغ الحسن بن علي ع قول معاوية إذا لم يكن الهاشمي جوادا و الأموي حليما و العوامي شجاعا و المخزومي تياها لم يشبهوا آباءهم فقال إنه و الله ما أراد بها النصيحة و لكن أراد أن يفنى بنو هاشم ما في أيديهم فيحتاجوا إليه و أن يشجبنو العوام فيقتلوا و أن يتيه بنو مخزوم فيمقتوا و أن يحلم بنو أمية فيحبهم الناس
كان قاضي القضاة محمد بن أبي الشوارب الأموي تائها فهجاه عبد الأعلى البصري فقال
إني رأيت محمدا متشاوسا مستصغرا لجميع هذي الناس و يقول لما أن تنفس خاليا نفسا له يعلو على الأنفاس ويح الخلافة في جوانب لحيتي تستن دون لحى بني العبابعض الأموية
إذا تائه من عبد شمس رأيته يتيه فرشحه لكل عظيم و إن تاه تياه سواه فإنه يتيه لحمق أو يتيه للوملبعض الأموية أيضا
أ لسنا بني مروان كيف تبدلت بنا الحال أو دارت علينا الدوائرإذا ولد المولود منا تهللت له الأرض و اهتزت إليه المنابر
بعض التياهين

(20/211)


أتيه على إنس البلاد و جنها و لو لم أجد خلقا أتيه على نفسي أتيه فلا أدري من التيه من أنا سوى ما يقول الناس في و في جنسي فإن زعموا أني من الإنس مثلهم فما لي عيب غير أني من الإن شرح نهج البلاغة ج : 19 ص : 355بعض العلويةلقد نازعتنا من قريش عصابة بمط خدود و امتداد أصابع فلما تنازعنا الفخار قضى لنا عليهم بما نهوى نداء الصوامع ترانا سكوتا و الشهيد بفضلنا عليهم أذان الناس في كل جامع بأن رسول الله لا شك جدنا و أن بنيه كالنجوم الطواكان عمارة بن حمزة بن ميمون مولى بني العباس مثلا في التيه حتى قيل أتيه من عمارة و كان يتولى دواوين السفاح و المنصور و كان إذا أخطأ مضى على خطئه تكبرا عن الرجوع و يقول نقض و إبرام في حالة واحدة الإصرار على الخطإ أهون من ذلك و افتخرت أم سلمة المخزومية امرأة السفاح ذات ليلة بقومها على السفاح و بنو مخزوم يضرب بهم المثل في الكبر و التيه فقال أنا أحضرك الساعة على غير أهبة مولى من موالي ليس في أهلك مثله فأرسل إلى عمارة و أمر الرسول أن يعجله عن تغيير زيه فجاء على الحال التي وجده عليها الرسول في ثياب ممسكة مزررة بالذهب و قد غلف لحيته بالغالية حتى قامت فرمى إليه السفاح بمدهن ذهب مملوء غالية فلم يلتفت إليه و قال هل ترى لها في لحيته موضعا فأخرجت أم سلمة عقدا لها ثمينا و أمرت خادما أن يضعه بين يديه فقام و تركه فأمرت الخادم أن يتبعه به و يقول إنها تسألك قبوله فقال للخادم هو لك فانصرف بالعقد إليها فأعطت الخادم فكاكه عشرة آلاف دينار و استرجعته و عجبت من نفس عمارة و كان عمارة لا يذل للخلفاء و هم مواليه و يتيه عليهم. نظر رجل إلى المهدي و يده في يد عمارة و هما يمشيان فقال يا أمير المؤمنين شرح نهج البلاغة ج : 19 ص : 356من هذا ق هذا أخي و ابن عمي عمارة بن حمزة فلما ولى الرجل ذكر المهدي الكلمة كالممازح لعمارة فقال عمارة و الله لقد انتظرت أن تقول مولاي فأنفض يدي من يدك فتبسم

(20/212)


المهدي. و كان أبو الربيع الغنوي أعرابيا جافيا تياها شديد الكبر قال أبو العباس المبرد في الكامل فذكر الجاحظ أنه أتاه و معه رجل هاشمي قال فناديت أبو الربيع هنا فخرج إلي و هو يقول خرج إليك رجل أكرم الناس فلما رأى الهاشمي استحيا و قال أكرم الناس رديفا و أشرفهم حليفا أراد بذلك أبا مرثد الغنوي لأنه كان رديف رسول الله ص و حليف أبي بكر قال حدثنا ساعة ثم نهض الهاشمي فقلت له من خير الخلق قال الناس و الله قلت من خير الناس قال العرب و الله قلت فمن خير العرب قال مضر و الله قلت فمن خير مضر قال قيس و الله قلت فمن خير قيس قال يعصر و الله قلت فمن خير يعصر قال غني و الله قلت فمن خير غني قال المخاطب لك و الله قلت أ فأنت خير الناس قال إي و الله قلت أ يسرك أن تكون تحتك ابنة يزيد بن المهلب قال لا و الله قلت و لك ألف دينار قال لا و الله قلت فألفا دينار قال لا و الله قلت و لك الجنة قال فأطرق ثم قال على ألا تلد مني ثم أنشد
تأبى ليعصر أعراق مهذبة من أن تناسب قوما غير أكفاءفإن يكن ذاك حتما لا مرد له فاذكر حذيف فإني غير أباء
شرح نهج البلاغة ج : 19 ص : 357أراد حذيفة بن بدر الفزاري و كان سيد قيس في زمانه. رأى عمر رجلا يمشي مرخيا يديه طارحا رجليه يتبختر فقال له دع هذه المشية فقال ما أطيق فجلده ثم خلاه فترك التبختر فقال عمر إذا لم أجلد في هذا ففيم أجلد فجاءه الرجل بعد ذلك فقال اك الله يا أمير المؤمنين خيرا إن كان إلا شيطانا سلط علي فأذهبه الله بك
شرح نهج البلاغة ج : 19 ص : 401358خُذْ مِنَ الدُّنْيَا مَا أَتَاكَ وَ تَوَلَّ عَمَّا تَوَلَّى عَنْكَ فَإِنْ أَنْتَ لَمْ تَفْعَلْ فَأَجْمِلْ فِي الطَّلَبِكان يقال اجعل الدنيا كغريم السوء حصل منه ما يرضخ لك به و لا تأس على ما دفعك عنه ثم قال ع فإن لم تفعل فأجمل في الطلب و هي
من الألفاظ النبوية لن تموت نفس حتى تستكمل رزقها فأجملوا في الطلب

(20/213)


قيل لبعض الحكماء ما الغنى فقال قلة تمنيك و رضاك بما يكفيك
شرح نهج البلاغة ج : 19 ص : 402359رُبَّ قَوْلٍ أَنْفَذُ مِنْ صَوْلٍقد قيل هذا المعنى كثيرا فمنه قولهم
و القول ينفذ ما لا تنفذ الإبر
و من ذلك القول لا تملكه إذا نما كالسهم لا تملكه إذا رمى و قال الشاعر
و قافية مثل حد السنان تبقى و يذهب من قالهاتخيرتها ثم أرسلتها و لم يطق الناس إرسالها
و قال محمود الوراق
أتاني منك ما ليس على مكروهه صبرفأغضيت على عمد و كم يغضي الفتى الحرو أدبتك بالهجر فما أدبك الهجرو لا ردك عما كان منك الصفح و البرفلما اضطرني المكروه و اشتد بي الأمرتناولتك من شعري بما ليس له قدرفحركت جناح الضر لما مسك الضرإذا لم يصلح الخير امرأ أصلحه الشر
شرح نهج البلاغة ج : 19 ص : 360و قال الرضي رحمه اللهسأمضغ بالأقوال أعراض قومكم و للقول أنياب لدي حداديرى للقوافي و السماء جلية عليكم بروق جمة و رعاد
و قال أيضا
كعمت لساني أن يقول و إن يقل فقل في الجراز العضب إن فارق الغمداو إن برودا للمخازي معدة فمن شاء من ذا الحي أسحبته برداقلائد في الأعناق بالعار لا تهي على مر أيام الزمان و لا تصداإذا صلصلت بين القنا قضت القنا و إن زفرت في السر قطعت السردا

(20/214)


شرح نهج البلاغة ج : 19 ص : 403361كُلُّ مُقْتَصَرٍ عَلَيْهِ كَافٍ هذا من باب القناعة و إن من اقتصر على شي ء و قنعت به نفسه فقد كفاه و قام مقام الفضول التي يرغب فيها المترفون و قد تقدم القول في ذل شرح نهج البلاغة ج : 19 ص : 404362الْمَنِيَّةُ وَ لَا الدَّنِيَّةُ وَ التَّقَلُّلُ وَ لَا التَّوَسُّلُقد تقدم من كلامنا في هذا الباب شي ء كثير و قال الشاعر أقسم بالله لمص النوى و شرب ماء القلب المالحه أحسن بالإنسان من ذله و من سؤال الأوجه الكالحه فاستغن بالله تكن ذا غنى مغتبطا بالصفقة الرابحه فالزهد عز و التقى سؤدد و ذلة النفس لها فاضحه كم سالم صحيح به بغتة و قائل عهدي به البارحه أمسى و أمست عنده قينة و تندبه نائحه طوبى لمن كانت موازينه يوم يلاقي ربه راجحهو قال أيضا لمص الثماد و خرط القتاد و شرب الأجاج أوان الظمإعلى المرء أهون من أن يرى ذليلا لخلق إذا أعدماو خير لعينيك من منظر إلى ما بأيدي اللئام العمى
قلت لحاه الله هلا قال بأيدي الرجال
شرح نهج البلاغة ج : 19 ص : 405363مَنْ لَمْ يُعْطَ قَاعِداً لَمْ يُعْطَ قَائِماًمراده أن الرزق قد قسمه الله تعالى فمن لم يرزقه قاعدا لم يجب عليه القيام و الحركة. و قد جاء
في الحديث أنه ص ناول أعرابيا تمرة و قال له خذها فلو لم تأتها لأتتك
و قال الشاعر

(20/215)


جرى قلم القضاء بما يكون فسيان التحرك و السكون جنون منك أن تسعى لرزق و يرزق في غشاوته الجنين شرح نهج البلاغة ج : 19 ص : 406364الدَّهْرُ يَوْمَانِ يَوْمٌ لَكَ وَ يَوْمٌ عَلَيْكَ فَإِذَا كَانَ لَكَ فَلَا تَبْطَرْ وَ إِذَا كَانَ عَلَيْكَ فَاصْبِرْقديما قيل هذا المعنى الدهر يومان يوم بلاء و يوم رخاء و الدهر ضربان حبرة و عبرة و الدهر وقتان وقت سرور و وقت ثبور. و قال أبو سفيان يوم أحد يوم بيوم بدر و الدنيا دول. قال ع فإذا كان لك فلا تبطر و إذا كان عليك فاصبر. قد تقدم القول في ذم البطر و مدح الصبر و يحمل ذم البطر هاهنا على محملين أحدهما البطر بمعنى الأشر و شدة المرح بطر الرجل بالكسر يبطر و قد أبطره المال و قالوا بطر فلان معيشته كما قالوا رشد فلان أمره و الثاني البطر بمعنى الحيرة و الدهش أي إذا كان الوقت لك فلا تقطعن زمانك بالحيرة و الدهش عن شكر الله و مكافأة النعمة بالطاعة و العبادة و المحمل الأول أوضح
شرح نهج البلاغة ج : 19 ص : 407365إِنَّ لِلْوَالِدِ عَلَى الْوَلَدِ حَقّاً وَ إِنَّ لِلْوَلَدِ عَلَى الْوَالِدِ حَقّاً فَحَقُّ الْوَالِدِ عَلَى الْوَلَدِ أَنْ يُطِيعَهُ فِي كُلِّ شَيْ ءٍ إِلَّا فِي مَعْصِيَةِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَ حَقُّ الْوَلَدِ عَلَىْوَالِدِ أَنْ يُحَسِّنَ اسْمَهُ وَ يُحَسِّنَ أَدَبَهُ وَ يُعَلِّمَهُ الْقُرْآنَ
أما صدر الكلام فمن قول الله سبحانه أَنِ اشْكُرْ لِي وَ لِوالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ وَ إِنْ جاهَداكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُما
طرائف حول الأسماء و الكنى
و أما تعليم الوالد الولد القرآن و الأدب فمأمور به و كذلك القول في تسميته باسم حسن و قد جاء
في الحديث تسموا بأسماء الأنبياء و أحب الأسماء إلى الله عبد الله و عبد الرحمن و أصدقها حارث و همام و أقبحها حرب و مرة

(20/216)