الكتاب : شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد |
شرح نهج البلاغة ج : 14 ص : 93زعم حتى يضيف إلى ذلك القول بالخبر الصراح فيقول إن الله تعالى لم يكن أراد منه الإسلام يومئذ. قال الواقدي قالوا و لم يدخل دارا و لا بيتا من دور بني هاشم و لا بني زهرة من تلك الصخرة شي ء قال فقال العباس إن هذه لرؤيا فخرج مغتماى لقي الوليد بن عتبة بن ربيعة و كان له صديقا فذكرها له و استكتمه ففشا الحديث في الناس قال العباس فغدوت أطوف بالبيت و أبو جهل في رهط من قريش يتحدثون برؤيا عاتكة فقال أبو جهل ما رأت عاتكة هذه فقلت و ما ذاك فقال يا بني عبد المطلب أ ما رضيتم بأن تتنبأ رجالكم حتى تتنبأ نساءكم زعمت عاتكة أنها رأت في المنام كذا و كذا للذي رأت فسنتربص بكم ثلاثا فإن يكن ما قالت حقا فسيكون و إن مضت الثلاث و لم يكن نكتب عليكم أنكم أكذب أهل بيت في العرب فقال له العباس يا مصفر استه أنت أولى بالكذب و اللؤم منا فقال أبو جهل إنا استبقنا المجد و أنتم فقلتم فينا السقاية فقلنا لا نبالي تسقون الحجاج ثم قلتم فينا الحجابة فقلنا لا نبالي تحجبون البيت ثم قلتم فينا الندوة قلنا لا نبالي يكون الطعام فتطعمون الناس ثم قلتم فينا الرفادة فقلنا لا نبالي تجمعون عندكم ما ترفدون به الضعيف فلما أطعمنا الناس و أطعمتم و ازدحمت الركب و استبقنا المجد فكنا كفرسي رهان قلتم منا نبي ثم قلتم منا نبية فلا و اللات و العزى لا كان هذا أبدا. قلت لا أرى كلام أبي جهل منتظما لأنه إذا سلم للعباس أن هذه الخصال كلها فيهم و هي الخصال التي تشرف بها القبائل بعضها على بعض فكيف يقول لا نبالي لا نبالي و كيف يقول فلما أطعمنا للناس و أطعمتم و قد كان الكلام منتظما لو قال و لنا بإزاء هذه المفاخر كذا و كذا ثم يقول بعد ذلك استبقنا المجد فكنا كفرسي رهان و ازدحمت الركب و لم يقل شيئا و لا عد مآثره و لعل أبا جهل قد قال ما لم ينقل شرح نهج البلاغة : 14 ص : 94قال الواقدي قال العباس فو الله ما كان مني غير أني جحدت (15/76)
ذلك و أنكرت أن تكون عاتكة رأت شيئا فلما أمسيت لم تبق امرأة أصابتها ولادة عبد المطلب إلا جاءت فقلن لي أ رضيتم بهذا الفاسق الخبيث يقع في رجالكم ثم قد تناول نساءكم و لم تكن لك عند ذلك غيرة فقلت و الله ما قلت إلا لأني لا أبالي به و لايم الله لأعرضن له غدا فإن عاد كفيتكن إياه فلما أصبحوا من ذلك اليوم الذي رأت فيه عاتكة ما رأت قال أبو جهل هذه ثلاثة أيام ما بقي قال العباس و غدوت في اليوم الثالث و أنا حديد مغضب أرى أن قد فاتني منه أمر أحب أن أدركه و أذكر ما أحفظني به النساء من مقالتهن فو الله إني لأمشي نحوه و كان رجلا خفيفا حديد الوجه حديد اللسان حديد النظر إذ خرج نحو باب بني سهم يشتد فقلت ما باله لعنه الله أ كل هذا فرقا من أن أشاتمه فإذا هو قد سمع صوت ضمضم بن عمرو و هو يقول يا معشر قريش يا آل لؤي بن غالب اللطيمة قد عرض لها محمد في أصحابه الغوث الغوث و الله ما أرى أن تدركوها و ضمضم ينادي بذلك في بطن الوادي و قد جدع أذني بعيره و شق قميصه قبلا و دبرا و حول رحله و كان يقول لقد رأيتني قبل أن أدخل مكة و إني لأرى في النوم و أنا على راحلتي كأن وادي مكة يسيل من أسفله إلى أعلاه دما فاستيقظت فزعا مذعورا فكرهتها لقريش و وقع في نفسي أنها مصيبة في أنفسهم. قال الواقدي و كان عمير بن وهب الجمحي يقول ما رأيت أعجب من أمر ضمضم قط و ما صرح على لسانه إلا شيطان كأنه لم يملكنا من أمورنا شيئا حتى نفرنا على الصعب و الذلول و كان حكيم بن حزام يقول ما كان الذي جاءنا فاستنفرنا إلى العير إنسانا إن هو إلا شيطان قيل كيف يا أبا خالد قال إني لأعجب منه ما ملكنا من أمرنا شيئا. قال الواقدي فجهز الناس و شغل بعضهم عن بعض و كان الناس بين رجلين إما خارج و إما باعث مكانه رجلا و أشفقت قريش لرؤيا عاتكة و سر بنو هاشم (15/77)
شرح نهج البلاغة ج : 14 ص : 95و قال قائلهم كلا زعمتم أنا كذبنا و كذبت عاتكة فأقامت قريش ثلاثا تتجهز و يقال يومين و أخرجت أسلحتها و اشتروا سلاحا و أعان قويهم ضعيفهم و قام سهيل بن عمرو في رجال من قريش فقال يا معشر قريش هذا محمد و الصباة معه من شبانكم و أهلثرب قد عرضوا لعيركم و لطيمتكم فمن أراد ظهرا فهذا ظهر و من أراد قوة فهذه قوة و قام زمعة بن الأسود فقال إنه و اللات و العزى ما نزل بكم أمر أعظم من أن طمع محمد و أهل يثرب أن يعرضوا لعيركم فيها خزائنكم فأوعبوا و لا يتخلف منكم أحد و من كان لا قوة له فهذه قوة و الله لئن أصابها محمد و أصحابه لا يروعكم منهم إلا و قد دخلوا عليكم بيوتكم و قال طعيمة بن عدي يا معشر قريش و الله ما نزل بكم أمر أجل من هذه أن يستباح عيركم و لطيمة قريش فيها أموالكم و خزائنكم و الله ما أعرف رجلا و لا امرأة من بني عبد مناف له نش فصاعدا إلا و هو في هذه العير فمن كان لا قوة به فعندنا قوة نحمله و نقويه فحمل على عشرين بعيرا و قوي بهم و خلفهم في أهلهم بمعونة و قام حنظلة بن أبي سفيان و عمرو بن أبي سفيان فحضا الناس على الخروج و لم يدعوا إلى قوة و لا حملان فقيل لهما أ لا تدعوان إلى ما دعا إليه قومكما من الحملان قالا و الله ما لنا مال و ما المال إلا لأبي سفيان و مشى نوفل بن معاوية الديلمي إلى أهل القوة من قريش و كلمهم في بذل النفقة و الحملان لمن خرج فكلم عبد الله بن أبي ربيعة فقال هذه خمسمائة دينار تضعها حيث رأيت و كلم حويطب بن عبد العزى فأخذ منه مائتي دينار أو ثلاثمائة ثم قوي بها في السلاح و الظهر. قال الواقدي و ذكروا أنه كان لا يتخلف أحد من قريش إلا بعث مكانه بعثا فمشت قريش إلى أبي لهب فقالوا له إنك سيد من سادات قريش و إنك إن تخلفت عن شرح نهج البلاغة ج : 14 ص : 96النفير يعتبر بك غيرك من قومك فاخرج أوبعث رجلا فقال و اللات و العزى لا أخرج و لا أبعث أحدا فجاءه أبو جهل (15/78)
فقال أقم يا أبا عتبة فو الله ما خرجنا إلا غضبا لدينك و دين آبائك و خاف أبو جهل أن يسلم أبو لهب فسكت أبو لهب و لم يخرج و لم يبعث و ما منع أبا لهب أن يخرج إلا الإشفاق من رؤيا عاتكة كان يقول إنما رؤيا عاتكة أخذ باليد و يقال إنه بعث مكانه العاص بن هشام بن المغيرة و كان له عليه دين فقال اخرج و ديني عليك لك فخرج عنه. و قال محمد بن إسحاق في المغازي كان دين أبي لهب على العاص بن هشام أربعة آلاف درهم فمطله بها و أفلس فتركها له على أن يكون مكانه فخرج مكانه. قال الواقدي و أخرج عتبة و شيبة دروعا لهما فنظر إليهما مولاهما عداس و هما يصلحان دروعهما و آلة حربهما فقال ما تريدان فقالا أ لم تر إلى الرجل الذي أرسلناك إليه بالعنب في كرمنا بالطائف قال نعم قالا نخرج فنقاتله فبكى و قال لا تخرجا فو الله إنه لنبي فأبيا فخرجا و خرج معهما فقتل ببدر معهما. قلت حديث العنب في كرم ابني ربيعة بالطائف قد ذكره أرباب السيرة و شرحه الطبري في التاريخ قال لما مات أبو طالب بمكة طمعت قريش في رسول الله ص و نالت منه ما لم تكن تناله في حياة أبي طالب فخرج من مكة خائفا على نفسه مهاجرا إلى ربه يؤم الطائف راجيا أن يدعو أهلها إلى الإسلام فيجيبوه و ذلك في شوال من سنة عشر من النبوة فأقام بالطائف عشرة أيام و قيل شهرا لا يدع أحدا من أشراف ثقيف إلا جاءه و كلمه فلم يجيبوه و أشاروا عليه أن يخرج عن أرضهم و يلحق بمجاهل الأرض و بحيث لا يعرف و أغروا به سفهاءهم فرموه بالحجارة حتى إن رجليه لتدميان فكان معه زيد بن حارثة فكان يقيه بنفسه حتى لقد شج في رأسه. (15/79)
شرح نهج البلاغة ج : 14 ص : 97و الشيعة تروي أن علي بن أبي طالب كان معه أيضا في هجرة الطائف فانصرف رسول الله ص عن ثقيف و هو محزون بعد أن مشى إلى عبد ياليل و مسعود و حبيب ابني عمرو بن عمير و هم يومئذ سادة ثقيف فجلس إليهم و دعاهم إلى الله و إلى نصرته و القي معه على قومه فقال له أحدهم أنا أمرط بباب الكعبة إن كان الله أرسلك و قال الآخر أ ما وجد الله أحدا أرسله غيرك و قال الثالث و الله لا أكلمك كلمة أبدا لئن كنت رسولا من الله كما تقول لأنت أعظم خطرا من أن أرد عليك الكلام و لئن كنت كاذبا على الله ما ينبغي أن أكلمك فقام رسول الله ص من عندهم و قد يئس من خير ثقيف و اجتمع عليه صبيانهم و سفهاؤهم و صاحوا به و سبوه و طردوه حتى اجتمع عليه الناس يعجبون منه و ألجئوه بالحجارة و الطرد و الشتم إلى حائط لعتبة بن ربيعة و شيبة بن ربيعة و هما يومئذ في الحائط فلما دخل الحائط رجع عنه سفهاء ثقيف فعمد إلى ظل حبلة منه فجلس فيه و ابنا ربيعة ينظران و يريان ما لقي من سفهاء ثقيف (15/80)
قال الطبري فلما اطمأن به قال فيما ذكر لي اللهم إليك أشكو ضعف قوتي و قلة حيلتي و هواني على الناس يا أرحم الراحمين أنت رب المستضعفين و أنت ربي إلى من تكلني إلى بعيد فيتجهمني أم إلى عدو ملكته أمري فإن لم يكن منك غضب علي فلا أبالي و لكن عافيتك هي أوسع لي أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت به الظلمات و صلح عليه أمر الدنيا و الآخرة من أن ينزل بي غضبك أو يحل علي سخطك لك العتبى حتى ترضى لا حول و لا قوة إلا بك
فلما رأى عتبة و شيبة ما لقي تحركت له رحمهما فدعوا غلاما نصرانيا لهما يقال له شرح نهج البلاغة ج : 14 ص : 98عداس فقالا له خذ قطفا من هذا العنب و ضعه في ذلك الطبق ثم اذهب به إلى ذلك الرجل و قل له فليأكل منه ففعل و أقبل به حتى وضعه بين يديه فوضع يده فيه فقالسم الله و أكل فقال عداس و الله إن هذه الكلمة لا يقولها أهل هذه البلدة فقال له رسول الله ص من أي البلاد أنت و ما دينك قال أنا نصراني من أهل نينوى قال أ من قرية الرجل الصالح يونس بن متى قال و ما يدريك من يونس بن متى قال ذاك أخي كان نبيا و أنا نبي فأكب عداس على يديه و رجليه و رأسه يقبلها قال يقول ابنا ربيعة أحدهما لصاحبه أما غلامك فقد أفسده عليك فلما جاءهما قالا ويلك ويلك يا عداس ما لك تقبل رأس هذا الرجل و يديه و قدميه قال يا سيدي ما في الأرض خير من هذا فقد أخبرني بأمر لا يعلمه إلا نبي. قال الواقدي و استقسمت قريش بالأزلام عند هبل للخروج و استقسم أمية بن خلف و عتبة و شيبة بالآمر و الناهي فخرج القدح الناهي فأجمعوا المقام حتى أزعجهم أبو جهل فقال ما استقسمت و لا نتخلف عن عيرنا. قال الواقدي لما توجه زمعة بن الأسود خارجا فكان بذي طوى أخرج قداحه و استقسم بها فخرج الناهي عن الخروج فلقي غيظا ثم أعادها الثانية فخرج مثل ذلك فكسرها و قال ما رأيت كاليوم قدحا أكذب و مر به سهيل بن عمرو و هو على تلك الحال فقال ما لي أراك غضبان يا أبا حكيمة فأخبره زمعة فقال امض عنك أيها الرجل قد أخبرني عمير بن وهب أنه لقيه مثل الذي أخبرتني فمضوا على هذا الحديث. شرح نهج البلاغة ج : 14 ص : 99قال الواقدي و حدثني موسى بن ضمرة بن سعيد عن أبيه قال قال أبو سفيان بن حرب لضمضم إذا قدمت على قريش فقل لها لا تستقسم بالأزلام. قال الواقدي و حدثني محمد بن عبد الله عن الزهري عن أبي بكر بن سليم بن أبي خيثمة قالمعت حكيم بن حزام يقول ما توجهت وجها قط كان أكره إلي من مسيري إلى (15/81)
بدر و لا بان لي في وجه قط ما بان لي قبل أن أخرج ثم قال قدم ضمضم فصاح بالنفير فاستقسمت بالأزلام كل ذلك يخرج الذي أكره ثم خرجت على ذلك حتى نزلنا مر الظهران فنحر ابن الحنظلية جزورا منها بها حياة فما بقي خباء من أخبية العسكر إلا أصابه من دمها فكان هذا بين ثم هممت بالرجوع ثم أذكر ابن الحنظلية و شؤمه فيردني حتى مضيت لوجهي و كان حكيم يقول لقد رأينا حين بلغنا الثنية البيضاء و هي الثنية التي تهبطك على فخ و أنت مقبل من المدينة إذا عداس جالس عليها و الناس يمرون إذ مر علينا ابنا ربيعة فوثب إليهما فأخذ بأرجلهما في غرزهما و هو يقول بأبي أنتما و أمي و الله إنه لرسول الله ص و ما تساقان إلا إلى مصارعكما و إن عينيه لتسيل دمعا على خديه فأردت أن أرجع أيضا ثم مضيت و مر به العاص بن منبه بن الحجاج فوقف عليه حين ولى عتبة و شيبة فقال ما يبكيك قال يبكيني سيدي أو سيدا أهل الوادي يخرجان إلى مصارعهما و يقاتلان رسول الله ص فقال العاص و إن محمدا لرسول الله فانتفض عداس انتفاضة و اقشعر جلده ثم بكى و قال إي و الله إنه لرسول الله إلى الناس كافة قال فأسلم العاص بن منبه و مضى و هو على الشك حتى قتل مع المشركين على شك و ارتياب و يقال رجع عداس و لم يشهد بدرا و يقال شهد بدرا و قتل. قال الواقدي و القول الأول أثبت عندنا. (15/82)
شرح نهج البلاغة ج : 14 ص : 100قال الواقدي و خرج سعد بن معاذ معتمرا قبل بدر فنزل على أمية بن خلف فأتاه أبو جهل و قال أ تترك هذا و قد آوى محمدا و آذننا بالحرب فقال سعد بن معاذ قل ما شئت أما إن طريق عيركم علينا قال أمية بن خلف مه لا تقل هذا لأبي الحكم فإنهيد أهل الوادي قال سعد بن معاذ و أنت تقول ذلك يا أمية أما و الله لسمعت محمدا يقول لأقتلن أمية بن خلف قال أمية أنت سمعته قال سعد بن معاذ فقلت نعم قال فوقع في نفسه فلما جاء النفير أبى أمية أن يخرج معهم إلى بدر فأتاه عقبة بن أبي معيط و أبو جهل و مع عقبة مجمرة فيها بخور و مع أبي جهل مكحلة و مرود فأدخلها عقبة تحته فقال تبخر فإنما أنت امرأة و قال أبو جهل اكتحل فإنما أنت امرأة فقال أمية ابتاعوا لي أفضل بعير في الوادي فابتاعوا له جملا بثلاثمائة دينار من نعم بني قشير فغنمه المسلمون يوم بدر فصار في سهم خبيب بن يساف. قال الواقدي و قالوا ما كان أحد ممن خرج إلى العير أكره للخروج من الحارث بن عامر و قال ليت قريشا تعزم على القعود و أن مالي في العير تلف و مال بني عبد مناف أيضا فيقال له إنك سيد من ساداتها أ فلا تردعها عن الخروج قال إني أرى قريشا قد أزمعت على الخروج و لا أرى أحدا به طرق تخلف إلا من علة و أنا أكره خلافها و ما أحب أن تعلم قريش ما أقول على أن ابن الحنظلية رجل مشئوم على قومه ما أعلمه إلا يحرز قومه أهل يثرب و لقد قسم الحارث مالا من ماله بين ولده و وقع في نفسه أنه لا يرجع إلى مكة و جاءه ضمضم بن عمرو و كانت للحارث عنده أياد فقال أبا عامر إني رأيت رؤيا كرهتها و إني لكاليقظان على راحلتي و أراكم أن واديكم يسيل دما من أسفله إلى أعلاه فقال الحارث ما خرج أحد وجها من الوجوه أكره له من وجهي هذا قال يقول ضمضم و الله إني لأرى لك أن تجلس فقال لو سمعت شرح نهج البلاغة ج : 14 ص : 1هذا منك قبل أن أخرج ما سرت خطوة فاطو هذا الخبر أن تعلمه قريش فإنها (15/83)
تتهم كل من عوقها عن المسير و كان ضمضم قد ذكر هذا الحديث للحارث ببطن يأجج قالوا و كرهت قريش أهل الرأي منهم المسير و مشى بعضهم إلى بعض و كان ممن أبطأ بهم عن ذلك الحارث بن عامر و أمية بن خلف و عتبة و شيبة ابنا ربيعة و حكيم بن حزام و أبو البختري و علي بن أمية بن خلف و العاص بن منبه حتى بكتهم أبو جهل بالجبن و أعانه عقبة بن أبي معيط و النضر بن الحارث بن كلدة و حضوهم على الخروج و قالوا هذا فعل النساء فأجمعوا المسير و قالت قريش لا تدعوا أحدا من عدوكم خلفكم. قال الواقدي و مما استدل به على كراهة الحارث بن عامر للخروج و عتبة و شيبة أنه ما عرض رجل منهم حملانا و لا حملوا أحدا من الناس و إن كان الرجل ليأتيهم حليفا أو عديدا و لا قوة له فيطلب الحملان منهم فيقولون إن كان لك مال و أحببت أن تخرج فافعل و إلا فأقم حتى كانت قريش تعرف ذلك منهم. قال الواقدي فلما اجتمعت قريش إلى الخروج و المسير ذكروا الذي بينهم و بين بني بكر من العداوة و خافوهم على من يخلفونه و كان أشدهم خوفا عتبة بن ربيعة و كان يقول يا معشر قريش إنكم و إن ظفرتم بالذي تريدون فإنا لا نأمن على من نخلف إنما نخلف نساء و لا ذرية و من لا طعم به فارتئوا آراءكم فتصور لهم إبليس في صورة سراقة بن جعشم المدلجي فقال يا معشر قريش قد عرفتم شرفي و مكاني في قومي أنا لكم جار أن تأتيكم كنانة بشي ء تكرهونه فطابت نفس عتبة و قال له أبو جهل شرح نهج البلاغة ج : 14 ص : 102فما تريد هذا سيد كنانة هو لنا جار على من نخلف فقال عتبة لا شي ء أنا خارج قال الواقدي و كان الذي بين بني كنانة و قريش أن ابنا لحفص بن الأحنف أحد بني معيط بن عامر بن لؤي خرج يبغي ضالة و هو غلام في رأسه ذؤابة و عليه حلة و كاناما وضيئا فمر بعامر بن يزيد بن عامر بن الملوح بن يعمر أحد رؤساء بني كنانة و كان بضجنان فقال من أنت يا غلام قال ابن لحفص بن الأحنف فقال يا بني بكر أ لكم في قريش دم (15/84)
قالوا نعم قال ما كان رجل يقتل هذا برجله إلا استوفى فاتبعه رجل من بني بكر فقتله بدم له في قريش فتكلمت فيه قريش فقال عامر بن يزيد قد كانت لنا فيكم دماء فإن شئتم فأدوا ما لنا قبلكم و نؤدي إليكم ما كان فينا و إن شئتم فإنما هو الدم رجل برجل و إن شئتم فتجافوا عنا فيما قبلنا و نتجافى عنكم فيما قبلكم فهان ذلك الغلام على قريش و قالوا صدق رجل برجل فلهوا عنه أن يطلبوا بدمه فبينا أخوه مكرز بن حفص بمر الظهران إذ نظر عامر بن يزيد و هو سيد بني بكر على جمل له فلما رآه قال ما أطلب أثرا بعد عين و أناخ بعيره و هو متوشح سيفه فعلاه به حتى قتله ثم أتى مكة من الليل فعلق سيف عامر بن يزيد بأستار الكعبة فلما أصبحت قريش رأوا سيف عامر بن يزيد فعرفوا أن مكرز بن حفص قتله و قد كانت تسمع من مكرز في ذلك قولا و جزعت بنو بكر من قتل سيدها فكانت معدة لقتل رجلين من قريش سيدين أو ثلاثة من ساداتها فجاء النفير و هم على هذا الأمر فخافوهم على من تخلف بمكة من ذراريهم فلما قال سراقة ما قال و هو ينطق بلسان إبليس شجع القوم. شرح نهج البلاغة ج : 14 ص : 103قال الواقدي و خرجت قريش سراعا و خرجوا بالقيان و الدفوف سارة مولاة عمرو بن هاشم بن عبد المطلب و عزة مولاة أسود بن المطلب و فلانة مولاة أمية بن خلف يغنين في كل منهل و ينحرون الجزر و خرجوا بالجيش ياذفون بالحراب و خرجوا بتسعمائة و خمسين مقاتلا و قادوا مائة فرس بطرا و رئاء الناس كما ذكر الله تعالى في كتابه و أبو جهل يقول أ يظن محمد أن يصيب منا ما أصاب بنخلة و أصحابه سيعلم أ نمنع عيرنا أم لا. قلت سرية نخلة سرية قبل بدر و كان أميرها عبد الله بن جحش قتل فيها عمرو بن الحضرمي حليف بني عبد شمس قتله واقد بن عبد الله التميمي رماه بسهم فقتله و أسر الحكم بن كيسان و عثمان بن عبد الله بن المغيرة و استاق المسلمون العير و كانت خمسمائة بعير فخمسها رسول الله ص و قسم أربعمائة فيمن شهدها من (15/85)
المسلمين و هم مائتا رجل فأصاب كل رجل بعيران. قال الواقدي و كانت الخيل لأهل القوة منهم و كان في بني مخزوم منها ثلاثون فرسا و كانت الإبل سبعمائة بعير و كان أهل الخيل كلهم دارع و كانوا مائة و كان في الرجالة دروع سوى ذلك. قال الواقدي و أقبل أبو سفيان بالعير و خاف هو و أصحابه خوفا شديدا حين دنوا من المدينة و استبطئوا ضمضما و النفير فلما كانت الليلة التي يصبحون فيها على ماء بدر جعلت العير تقبل بوجوهها إلى ماء بدر و كانوا باتوا من وراء بدر آخر ليلتهم و هم على شرح نهج البلاغة ج : 14 ص : 104أن يصبحوا بدرا إن لم يعترض لهم فما أقرتهم العير حتى بوها بالعقل على أن بعضها ليثنى بعقالين و هي ترجع الحنين تواردا إلى ماء بدر و ما إن بها إلى الماء من حاجة لقد شربت بالأمس و جعل أهل العير يقولون إن هذا شي ء ما صنعته الإبل منذ خرجنا قالوا و غشينا تلك الليلة ظلمة شديدة حتى ما نبصر شيئا. قال الواقدي و كان بسس بن عمرو و عدي بن أبي الزغباء وردا على مجدي بدرا يتجسسان الخبر فلما نزلا ماء بدر أناخا راحلتيهما إلى قريب من الماء ثم أخذ أسقيتهما يسقيان من الماء فسمعا جاريتين من جواري جهينة يقال لإحداهما برزة و هي تلزم صاحبتها في درهم كان لها عليها و صاحبتها تقول إنما العير غدا أو بعد غد قد نزلت و مجدي بن عمر يسمعها فقال صدقت فلما سمع ذلك بسبس و عدي انطلقا راجعين إلى النبي ص حتى أتياه بعرق الظبية فأخبراه الخبر. (15/86)
قال الواقدي و حدثني كثير بن عبد الله بن عمرو بن عوف المزني عن أبيه عن جده و كان أحد البكاءين قال قال رسول الله ص لقد سلك فج الروحاء موسى النبي ع في سبعين ألفا من بني إسرائيل و صلوا في المسجد الذي بعرق الظبية
قال الواقدي و هي من الروحاء على ميلين مما يلي المدينة إذا خرجت على يسارك. قال الواقدي و أصبح أبو سفيان ببدر قد تقدم العير و هو خائف من الرصد فقال يا مجدي هل أحسست أحدا تعلم و الله ما بمكة قرشي و لا قرشية له نش شرح نهج البلاغة ج : 14 ص : 105فصاعدا و النش ف أوقية وزن عشرين درهما إلا و قد بعث به معنا و لئن كتمتنا شأن عدونا لا يصالحك رجل من قريش ما بل بحر صوفة فقال مجدي و الله ما رأيت أحدا أنكره و لا بينك و بين يثرب من عدو و لو كان بينك و بينها عدو لم يخف علينا و ما كنت لأخفيه عنك إلا أني قد رأيت راكبين أتيا إلى هذا المكان و أشار إلى مناخ عدي و بسبس فأناخا به ثم استقيا بأسقيتهما ثم انصرفا فجاء أبو سفيان مناخهما فأخذ أبعارا من أبعار بعيريهما ففتها فإذا فيها نوى فقال هذه و الله علائف يثرب هذه و الله عيون محمد و أصحابه ما أرى القوم إلا قريبا فضرب وجه عيره فساحل بها و ترك بدرا يسارا و انطلق سريعا و أقبلت قريش من مكة ينزلون كل منهل يطعمون الطعام من أتاهم و ينحرون الجزور فبينا هم كذلك في مسيرهم إذ تخلف عتبة و شيبة و هما يترددان قال أحدهما لصاحبه أ لم تر إلى رؤيا عاتكة بنت عبد المطلب لقد خشيت منها قال الآخر فاذكرها و ذكرها فأدركهما أبو جهل فقال ما تتحادثون به قالا نذكر رؤيا عاتكة قال يا عجبا من بني عبد المطلب لم يرضوا أن تتنبأ علينا رجالهم حتى تنبأت علينا النساء أما و الله لئن رجعنا إلى مكة لنفعلن بهم و لنفعلن قال عتبة إن لهم أرحاما و قرابة قريبة ثم قال أحدهما لصاحبه هل لك أن ترجع قال أبو جهل أ ترجعان بعد ما سرنا فتخذلان قومكما و تقطعان بهم بعد أن رأيتم ثأركم بأعينكم أ تظنان أن محمدا و أصحابه يلاقونكما كلا و الله إن معي من قومي مائة و ثمانين كلهم من أهل بيتي يحلون إذا أحللت و يرحلون إذا رحلت فارجعا إن شئتما قالا و الله لقد هلكت و أهلكت قومك. ثم قال عتبة لأخيه شيبة إن هذا رجل مشئوم (15/87)
يعني أبا جهل و إنه لا يمسه من قرابة محمد ما يمسنا مع أن محمدا معه الولد فارجع بنا و دع قوله. (15/88)
شرح نهج البلاغة ج : 14 ص : 106قلت مراده بقوله مع أن محمدا معه الولد أبو حذيفة بن عتبة بن ربيعة كان أسلم و شهد بدرا مع رسول الله ص قال الواقدي فقال شيبة و الله تكون علينا سبة يا أبا الوليد أن نرجع الآن بعد ما سرنا فمضينا ثم انتهى إلى الجحفة عشاء فنام جهيبن الصلت بن مخرمة بن عبد المطلب بن عبد مناف فقال إني لأرى بين النائم و اليقظان أنظر إلى رجل أقبل على فرس معه بعير له حتى وقف علي فقال قتل عتبة بن ربيعة و شيبة بن ربيعة و زمعة بن الأسود و أمية بن خلف و أبو البختري و أبو الحكم و نوفل بن خويلد في رجال سماهم من أشراف قريش و أسر سهيل بن عمرو و فر الحارث بن هشام عن أخيه قال و كأن قائلا يقول و الله إني لأظنهم الذين يخرجون إلى مصارعهم ثم قال أراه ضرب في لبة بعيره فأرسله في العسكر فقال أبو جهل و هذا نبي آخر من بني عبد مناف ستعلم غدا من المقتول نحن أو محمد و أصحابه و قالت قريش لجهيم إنما يلعب بك الشيطان في منامك فسترى غدا خلاف ما رأيت يقتل أشراف محمد و يؤسرون قال فخلا عتبة بأخيه شيبة فقال له هل لك في الرجوع فهذه الرؤيا مثل رؤيا عاتكة و مثل قول عداس و الله ما كذبنا عداس و لعمري لئن كان محمد كاذبا إن في العرب لمن يكفيناه و لئن كان صادقا إنا لأسعد العرب به للحمته فقال شيبة هو على ما تقول أ فنرجع من بين أهل العسكر فجاء أبو جهل و هما على ذلك فقال ما تريدان قالا الرجوع أ لا ترى إلى رؤيا عاتكة و إلى رؤيا جهيم بن الصلت مع قول عداس لنا فقال لا تخذلان و الله قومكما و تقطعان بهم قالا هلكت و الله و أهلكت قومك فمضيا على ذلك. قال الواقدي فلما أفلت أبو سفيان بالعير و رأى أن قد أحرزها و أمن عليها أرسل إلى قريش قيس بن إمرئ القيس و كان مع أصحاب العير خرج معهم من مكة فأرسله أبو سفيان يأمرهم بالرجوع و يقول قد
نجت عيركم و أموالكم فلا تحرزوا أنفسكم شرح نهج البلاغة ج : 14 ص : 107أهل يثرب فلا حاجة لكم فيما وراء ذلك إنما خرجتم لتمنعوا عيركم و أموالكم و قد نجاها الله فإن أبوا عليك فلا يأبون خصلة واحدة يردون القيان فعالج قيس بن إمرئ القيس قريشا فأبت الرجوع قالوا أما القيان فسنردهن فردوهن من الجح. قلت لا أعلم مراد أبي سفيان برد القيان و هو الذي أخرجهن مع الجيش يوم أحد يحرضن قريشا على إدراك الثأر و يغنين و يضربن الدفوف فكيف نهى عن ذلك في بدر و فعله في أحد و أقول من تأمل الحال علم أن قريشا لم يمكن أن تنتصر يوم بدر لأن الذي خالطها من التخاذل و التواكل و كراهية الحرب و حب الرجوع و خوف اللقاء و خفوق الهمم و فتور العزائم و رجوع بني زهرة و غيرهم من الطريق و اختلاف آرائهم في القتال يكفي بعضه في هلاكهم و عدم فلاحهم لو كانوا قد لقوا قوما جبناء فكيف و إنما لقوا الأوس و الخزرج و هم أشجع العرب و فيهم علي بن أبي طالب ع و حمزة بن عبد المطلب و هما أشجع البشر و جماعة من المهاجرين أنجاد أبطال و رئيسهم محمد بن عبد الله رسول الله الداعي إلى الحق و العدل و التوحيد المؤيد بالقوة الإلهية دع ما أضيف إلى ذلك من ملائكة السماء كما نطق به الكتاب. قال الواقدي و لحق الرسول أبا سفيان بالهدة و الهدة على سبعة أميال من عقبة عسفان على تسعة و ثلاثين ميلا من مكة فأخبره بمضي قريش فقال وا قوماه هذا عمل عمرو بن هشام يكره أن يرجع لأنه قد ترأس على الناس و بغى و البغي منقصة و شؤم و الله لئن أصاب أصحاب محمد النفير ذللنا إلى أن يدخل مكة علينا. قال الواقدي و قال أبو جهل و الله لا نرجع حتى نرد بدرا و كانت بدر موسما (15/89)
شرح نهج البلاغة ج : 14 ص : 108من مواسم العرب في الجاهلية يجتمعون بها و فيها سوق تسمع بنا العرب و بمسيرنا فنقيم على بدر ثلاثا ننحر الجزر و نطعم الطعام و نشرب الخمر و تعزف علينا القيان فلن تزال العرب تهابنا أبدا. قال الواقدي و كان الفرات بن حيان العجلي أرته قريش حين فصلت من مكة إلى أبي سفيان بن حرب يخبره بمسيرها و فصولها و ما قد حشدت فحالف أبا سفيان في الطريق و ذلك أن أبا سفيان لصق بالبحر و لزم الفرات بن حيان المحجة فوافى المشركين بالجحفة فسمع كلام أبي جهل و هو يقول لا نرجع فقال ما بأنفسهم عن نفسك رغبة و إن الذي يرجع بعد أن رأى ثأره من كثب لضعيف فمضى مع قريش فترك أبا سفيان و جرح يوم بدر جراحات كثيرة و هرب على قدميه و هو يقول ما رأيت كاليوم أمرا أنكد إن ابن الحنظلية لغير مبارك الأمر. قال الواقدي و قال الأخنس بن شريق و اسمه أبي و كان حليفا لبني زهرة يا بني زهرة قد نجى الله عيركم و خلص أموالكم و نجى صاحبكم مخرمة بن نوفل و إنما خرجتم لتمنعوه و ماله و إنما محمد رجل منكم ابن أختكم فإن يك نبيا فأنتم أسعد به و إن يك كاذبا يلي قتله غيركم خير من أن تلوا قتل ابن أختكم فارجعوا و اجعلوا خبثها لي فلا حاجة لكم أن تخرجوا في غير ما يهمكم و دعوا ما يقوله هذا الرجل يعني أبا جهل فإنه مهلك قومه سريع في فسادهم فأطاعته بنو زهرة و كان فيهم مطاعا و كانوا يتيمنون به فقالوا فكيف نصنع بالرجوع حتى نرجع فقال الأخنس نسير مع القوم فإذا أمسيت سقطت عن بعيري فيقولون نحل الأخنس فإذا أصبحوا فقالوا سيروا فقولوا لا نفارق صاحبنا حتى نعلم أ حي هو أم ميت شرح نهج البلاغة ج : 14 ص : 109فندفنه فإذا مضوا رجعنا إلى مكة ففعلت بنو زهرة ذلك فلما أصبحوا بالأبواء راجعين تبين للناس أن بني زهرة رجعوا فلم يشهدها زهري البتة و كانوا مائة و قيل أقل من مائة و هو أثبو قال قوم كانوا ثلاثمائة و لم يثبت ذلك. قال الواقدي و قال عدي بن (15/90)
أبي الزغباء منحدره من بدر إلى المدينة و انتشرت الركاب عليه فجعل عدي يقول (15/91)
أقم لها صدورها يا بسبس إن مطايا القوم لا تحبس و حملها على الطريق أكيس قد نصر الله و فر الأخنسقال الواقدي و ذكر أبو بكر بن عمر بن عبد الرحمن بن عبد الله بن عمر بن الخطاب إن بني عدي خرجوا من النفير حتى كانوا بثنية لفت فلما كان في السحر عدلوا في الساحل منصرفين إلى مكة فصادفهم أبو سفيان فقال كيف رجعتم يا بني عدي و لا في العير و لا في النفير قالوا أنت أرسلت إلى قريش أن ترجع فرجع من رجع و مضى من مضى فلم يشهدها أحد من بني عدي و يقال إنه لاقاهم بمر الظهران فقال تلك المقالة لهم. قال الواقدي و أما رسول الله ص فكان صبيحة أربع عشرة من شهر رمضان بعرق الظبية فجاء أعرابي قد أقبل من تهامة فقال له أصحاب النبي ص هل لك علم بأبي سفيان بن حرب قال ما لي بأبي سفيان علم قالوا تعال فسلم على رسول الله ص قال أ و فيكم رسول الله قالوا نعم قال فأيكم رسول الله قالوا هذا فقال أنت رسول الله قال نعم قال فما في شرح نهج البلاغة ج : 14 ص : 110بطن ناقتي هذه إن كنت صادقا فقال سلمة بن سمة بن وقش نكحتها و هي حبلى منك فكره رسول الله ص مقالته و أعرض عنه. قال الواقدي و سار رسول الله ص حتى أتى الروحاء ليلة الأربعاء للنصف من شهر رمضان فقال لأصحابه هذا سجاسج يعني وادي الروحاء هذا أفضل أودية العرب.
قال الواقدي و صلى رسول الله ص بالروحاء فلما رفع رأسه من الركعة الأخيرة من وتره لعن الكفرة و دعا عليهم فقال اللهم لا تفلتن أبا جهل بن هشام فرعون هذه الأمة اللهم لا تفلتن زمعة بن الأسود اللهم أسخن عين أبي زمعة اللهم أعم بصر أبي دبيلة اللهم لا تفلتن سهيل بن عمرو ثم دعا لقوم من قريش فقال اللهم أنج سلمة بن هشام و عياش بن أبي ربيعة و المستضعفين من المؤمنين
و لم يدع للوليد بن المغيرة يومئذ و أسر ببدر و لكنه لما رجع إلى مكة بعد بدر أسلم و أراد أن يخرج إلى المدينة فحبس فدعا له النبي ص بعد ذلك قال الواقدي و كان خبيب بن يساف رجلا شجاعا و كان يأبى الإسلام فلما خرج النبي ص إلى بدر خرج هو و قيس بن محرث و يقال ابن الحارث و هما على دين قومهما فأدركا رسول الله ص بالعقيق و خبيب مقنع في الحديد فعرفه رسول الله ص من تحت المغفر فالتفت إلى سعد بن معاذ و هو يسير إلى جنبه فقال أ ليس بخبيب بن يساف قال بلى فأقبل خبيب حتى أخذ شرح نهج البلاغة ج : 14 ص : 111ببطان ناقة رسول الله ص ال له و لقيس بن محرث ما أخرجكما قال كنت ابن أختنا و جارنا و خرجنا مع قومنا للغنيمة فقال ص لا يخرجن معنا رجل ليس على ديننا فقال خبيب لقد علم قومي أني عظيم الغناء في الحرب شديد النكاية فأقاتل معك للغنيمة و لا أسلم فقال رسول الله ص لا و لكن أسلم ثم قاتل فلما كان بالروحاء جاء فقال يا رسول الله أسلمت لرب العالمين و شهدت أنك رسول الله فسر بذلك و قال امضه فكان عظيم الغناء في بدر و في غير بدر و أما قيس بن الحارث فأبى أن يسلم فرجع إلى المدينة فلما قدم النبي ص من بدر أسلم و شهد أحدا فقتل. قال الواقدي و لما خرج رسول الله ص صام يوما أو يومين ثم نادى مناديه يا معشر العصاة إني مفطر فأفطروا و ذلك أنه قد كان قال لهم قبل ذلك أفطروا فلم يفعلوا. قلت هذا هو سر النبوة و خاصيتها إذا تأمل المتأملون ذلك و هو أن يبلغ بهم حبه و طاعته و قبول قوله على أن يكلفهم ما يشق عليهم فيمتثلوه امتثالا صادرا عن حب شديد و حرص عظيم على الطاعة حتى إنه لينسخه عنهم و يسقط وجوبه عليهم فيكرهون ذلك و لا يسقطونه عن أنفسهم إلا بعد الإنكار التام و هذا أحسن من المعجزات الخارقة للعادات بل هذا بعينه معجزة خارقة للعادة أقوى و آكد من شق البحر و قلب العصا حية. قال الواقدي و مضى رسول الله ص حتى إذا كان دوين بدر أتاه الخبر بمسير (15/92)
قريش فأخبر رسول الله ص بمسيرهم و استشار الناس شرح نهج البلاغة ج : 14 ص : 112فقام أبو بكر فقال فأحسن ثم قام عمر فقال فأحسن ثم قال يا رسول الله إنها قريش و عزها و الله ما ذلت منذ عزت و لا آمنتنذ كفرت و الله لا تسلم عزها أبدا و لتقاتلنك فاتهب لذلك أهبته و أعد عدته ثم قام المقداد بن عمرو فقال يا رسول الله لأمر الله فنحن معك و الله لا نقول لك كما قالت بنو إسرائيل لنبيها فَاذْهَبْ أَنْتَ وَ رَبُّكَ فَقاتِلا إِنَّا هاهُنا قاعِدُونَ و لكن اذهب أنت و ربك فقاتلا إنا معكم مقاتلون و الذي بعثك بالحق لو سرت بنا إلى برك الغماد لسرنا. قال الواقدي برك الغماد من وراء مكة بخمس ليال من وراء الساحل مما يلي البحر و هو على ثمان ليال من مكة إلى اليمن. فقال له رسول الله ص خيرا و دعا له بخير ثم قال ص أشيروا علي أيها الناس و إنما يريد الأنصار و كان يظن أن الأنصار لا تنصره إلا في الدار و ذلك أنهم شرطوا أن يمنعوه مما يمنعون منه أنفسهم و أولادهم فقال رسول الله ص أشيروا علي فقام سعد بن معاذ فقال أنا أجيب عن الأنصار كأنك يا رسول الله تريدنا قال أجل قال إنك عسى أن تكون خرجت عن أمر قد أوحي إليك و إنا قد آمنا بك و صدقناك و شهدنا أن ما جئت به حق و أعطيناك مواثيقنا و عهودنا على السمع و الطاعة فامض يا نبي الله لما أردت فو الذي بعثك بالحق لو استعرضت بنا هذا البحر فخضته لخضناه معك ما بقي منا رجل و صل من شئت و خذ من أموالنا ما أردت فما أخذته من أموالنا أحب إلينا مما تركت و الذي نفسي بيده ما سلكت هذه الطريق قط و ما لي بها من علم و إنا لا نكره أن نلقى عدونا غدا إنا لصبر عند الحرب صدق عند اللقاء لعل الله يريك منا بعض ما تقر به عينك. (15/93)
شرح نهج البلاغة ج : 14 ص : 113قال الواقدي و حدثني محمد بن صالح عن عاصم بن عمر بن قتادة عن محمود بن لبيد قال قال سعد بن معاذ يومئذ يا رسول الله إنا قد خلفنا من قومنا قوما ما نحن بأشد حبا لك منهم و لا أطوع لهم رغبة و نية في الجهاد و لو ظنوا أنك يا رسول ال ملاق عدوا ما تخلفوا عنك و لكن إنما ظنوا أنها العير نبني لك عريشا فتكون فيه و نعد عندك رواحلك ثم نلقى عدونا فإن أعزنا الله و أظهرنا على عدونا كان ذلك ما أحببنا و إن تكن الأخرى جلست على رواحلك فلحقت من وراءنا فقال له النبي ص خيرا ثم قال أ و يقضي الله خيرا يا سعد. قال الواقدي فلما فرغ سعد من المشورة قال رسول الله ص سيروا على بركة الله فإن الله قد وعدني إحدى الطائفتين و الله لكأني أنظر إلى مصارع القوم. قال الواقدي و قالوا لقد أرانا رسول الله ص مصارعهم يومئذ هذا مصرع فلان و هذا مصرع فلان فما عدا كل رجل منهم مصرعه قال فعلم القوم أنهم يلاقون القتال و أن العير تفلت و رجا القوم النصر لقول النبي ص. قال الواقدي فمن يومئذ عقد رسول الله ص الألوية و كانت ثلاثة و أظهر السلاح و كان خرج من المدينة على غير لواء معقود و سار فلقي سفيان الضمري و مع رسول الله ص قتادة بن النعمان و معاذ بن جبل فقال رسول الله ص من الرجل فقال الضمري بل و من أنتم فقال رسول الله ص تخبرنا و نخبرك فقال الضمري و ذاك بذاك قال نعم قال الضمري فاسألوا عما شئتم فقال له ص أخبرنا عن قريش قال الضمري بلغني أنهم خرجوا يوم كذا من مكة فإن كان الخبر صادقا فإنهم بجنب هذا الوادي ثم قال شرح نهج البلاغة ج : 14 ص : 114الضمري فمن أنتم فقال النبي ص نحن من ماء و أشار بيده نحو العراق فجعل الضمري يقول من ماء من أي ماء من العراق أم من غيره ثم انصرف رسول الله ص إلى أصحابه. قال الواقدي فبات الفريقان كل منهم لا يعلم بمنزل صاحبه إن بينهم قوز من رمل. قال الواقدي و مر رسول الله ص بجبلين فسأل عنهما (15/94)
فقالوا هذا مسلح و مخرئ فقال من ساكنهما فقيل بنو النار و بنو حراق فانصرف عنهما و جعلهما يسارا و لقيه بسبس بن عمرو و عدي بن أبي الزغباء فأخبراه خبر قريش و نزل رسول الله ص وادي بدر عشاء ليلة الجمعة لسبع عشرة مضت من رمضان فبعث عليا ع و الزبير و سعد بن أبي وقاص و بسبس بن عمرو يتحسسون على الماء و أشار لهم إلى ظريب و قال أرجو أن تجدوا الخير عند القليب الذي يلي هذا الظريب فاندفعوا تلقاءه فوجدوا على تلك القليب روايا قريش فيها سقاؤهم فأسروهم و أفلت بعضهم فكان ممن عرف أنه أفلت عجير فكان أول من جاء قريشا بخبر النبي ص و أصحابه فنادى يا آل غالب هذا ابن أبي كبشة و أصحابه و قد أخذوا سقاءكم فماج العسكر و كرهوا ما جاء به. (15/95)
شرح نهج البلاغة ج : 14 ص : 115قال الواقدي فكان حكيم بن حزام يحدث قال كنا يومئذ في خباء لنا على جزور نشوي من لحمها فما هو إلا أن سمعنا الخبر فامتنع الطعام منا و لقي بعضنا بعضا و لقيني عتبة بن ربيعة فقال يا أبا خالد ما أعلم أحدا يسير أعجب من مسيرنا إن عير قد نجت و إنا جئنا إلى قوم في بلادهم بغيا عليهم فقلت أراه لأمر حم و لا رأي لمن لا يطاع هذا شؤم ابن الحنظلية فقال عتبة أبا خالد أ تخاف أن تبيتنا القوم قلت لأنت آمن من ذلك قال فما الرأي يا أبا خالد قلت نتحارس حتى نصبح و ترون رأيكم قال عتبة هذا الرأي قال فتحارسنا حتى أصبحنا فقال أبو جهل هذا عن أمر عتبة كره قتال محمد و أصحابه إن هذا لهو العجب أ تظنون أن محمدا و أصحابه يعترضون لجمعكم و الله لأنتحين ناحية بقومي فلا يحرسنا أحد فتنحى ناحية و إن السماء لتمطر عليه قال يقول عتبة إن هذا لهو النكد قال الواقدي أخذ من السقاء من على القليب يسار غلام سعيد بن العاص و أسلم غلام منبه بن الحجاج و أبو رافع غلام أمية بن خلف فأتي بهم النبي ص و هو قائم يصلي فسألهم المسلمون فقالوا نحن سقاء قريش بعثونا نسقيهم من الماء فكره القوم خبرهم و رجوا أن يكونوا لأبي سفيان و أصحاب العير فضربوهم فلما أذلقوهم بالضرب قالوا نحن لأبي سفيان و نحن في العير و هذا العير بهذا القوز فكانوا إذا قالوا ذلك يمسكون عن ضربهم فسلم رسول الله ص من صلاته ثم قال إن صدقوكم ضربتموهم و إن كذبوكم تركتموهم فقال أصحابه ع إنهم يا رسول الله يقولون إن قريشا قد جاءت فقال لقد صدقوكم خرجت قريش تمنع عيرها و خافوكم عليها ثم أقبل ص على السقاء فقال أين شرح نهج البلاغة ج : 14 ص : 116قريش فقالوا خلف هذا الكثيب الذي ترى قال كم هم قالوا كثير قال كم عددهم قالوا لا ندري قال كم ينحرون قالوا يوما عشرة و يوما تسعة فقال القوم ما بين الألف و اسعمائة ثم قال للسقاء كم خرج من أهل مكة قالوا لم يبق أحد به طعم إلا (15/96)
خرج فأقبل رسول الله ص على الناس فقال هذه مكة قد ألقت إليكم أفلاذ كبدها ثم سألهم رسول الله ص هل رجع منهم أحد قالوا نعم رجع ابن أبي شريق ببني زهرة فقال ص راشدهم و ما كان برشيد و إن كان ما علمت لمعاديا لله و لكتابه ثم قال فأحد غيرهم قالوا نعم بنو عدي بن كعب فتركهم رسول الله ص ثم قال لأصحابه أشيروا علي في المنزل فقال الحباب بن المنذر يا رسول الله أ رأيت منزلك هذا أ هو منزل أنزلكه الله فليس لنا أن نتقدمه و لا نتأخر عنه أم هو الرأي و الحرب و المكيدة قال بل هو الرأي و الحرب و المكيدة قال فإن هذا ليس بمنزل انطلق بنا إلى أدنى مياه القوم فإني عالم بها و بقلبها فإن بها قليبا قد عرفت عذوبة مائها و ماؤها كثير لا ينزح نبني عليها حوضا و نقذف فيها بالآنية فنشرب و نقاتل و نعور ما سواها من القلب. قال الواقدي فكان ابن عباس يقول نزل جبريل على النبي ص فقال الرأي ما أشار به الحباب فقال يا حباب أشرت بالرأي و نهض و فعل كل ذلك. قال الواقدي و بعث الله السماء و كان الوادي دهسا أي كثير الرمل فأصاب المسلمين ما لبد الأرض و لم يمنعهم من المسير و أصاب قريشا ما لم يقدروا معه أن يرتحلوا منه و إنما بين الطائفتين قوز من رمل. قال الواقدي و أصاب المسلمين تلك الليلة النعاس ألقي عليهم فناموا و لم يصبهم من المطر ما يؤذيهم. (15/97)
شرح نهج البلاغة ج : 14 ص : 117قال الزبير بن العوام لقد سلط الله عليهم النعاس تلك الليلة حتى إني كنت لأتشدد و النعاس يجلد بي الأرض فما أطيق إلا ذلك فكان رسول الله ص و أصحابه على مثل ذلك الحال و قال سعد بن أبي وقاص لقد رأيتني و إن ذقني بين ثديي فما أشعر ح أقع على جنبي. و قال رفاعة بن رافع بن مالك لقد غلبني النوم فاحتلمت حتى اغتسلت آخر الليل. قال الواقدي فلما تحول رسول الله ص إلى المنزل بعد أن أخذ السقاء أرسل عمار بن ياسر و عبد الله بن مسعود فأطافا بالقوم ثم رجعا إليه فقالا له يا رسول الله القوم مذعورون فزعون إن الفرس ليريد أن يصهل فيضرب وجهه مع أن السماء تسح عليهم. قال الواقدي فلما أصبحوا قال منبه بن الحجاج و كان رجلا يبصر الأثر هذا و الله أثر ابن سمية و ابن أم عبد أعرفهما لقد جاءنا محمد بسفهائنا و سفهاء أهل يثرب ثم قال (15/98)
لم يترك الجوع لنا مبيتا لا بد أن نموت أو نميتا
يا معشر قريش انظروا غدا إن لقينا محمد و أصحابه فاتقوا على شبانكم و فتيانكم شرح نهج البلاغة ج : 14 ص : 118بأهل يثرب فإنا إن نرجع بهم إلى مكة يبصروا من ضلالتهم ما فارقوا من دين آبائهم. قال الواقدي و لما نزل رسول الله ص على القليب بني له عريش من جريد فقام س بن معاذ على باب العريش متوشحا سيفه فدخل النبي ص و أبو بكر. قلت لأعجب من أمر العريش من أين كان لهم أو معهم من سعف النخل ما يبنون به عريشا و ليس تلك الأرض أعني أرض بدر أرض نخل و الذي كان معهم من سعف النخل يجري مجرى السلاح كان يسيرا جدا قيل إنه كان بأيدي سبعة منهم سعاف عوض السيوف و الباقون كانوا بالسيوف و القسي و هذا قول شاذ و الصحيح أنه ما خلا أحد منهم عن سلاح اللهم إلا أن يكون معهم سعافات يسيرة و ظلل عليها بثوب أو ستر و إلا فلا أرى لبناء عريش من جريد النخل هناك وجها. قال الواقدي و صف رسول الله ص أصحابه قبل أن تنزل قريش فطلعت قريش و رسول الله ص يصف أصحابه و قد أترعوا حوضا يفرطون فيه من السحر و قذفت فيه الآنية و دفع رسول الله ص رايته إلى مصعب بن عمير فتقدم بها إلى الموضع الذي أمره أن يضعها و وقف رسول الله ص ينظر إلى الصفوف فاستقبل المغارب و جعل الشمس خلفه و أقبل المشركون فاستقبلوا الشمس و نزل بالعدوة الدنيا من الوادي و نزلوا بالعدوة اليمانية و هي القصوى و جاءه رجل من أصحابه فقال يا رسول الله إن كان هذا عن وحي فامض له و إلا فإني شرح نهج البلاغة ج : 14 ص : 119أرى أن تعلوا الوادي فإني أرى ريحا قد هاجت من أعلاها أراها بعثت بنصرك فقال رسول الله ص قد صففت صفوفي و وضعت رايتي فلا أغير ذلك ثم دعا رسول الله ص فأمده الله بالملائكة. قال الواقدي و روى عروة بن الزبير قال عدل رسول الله ص الصفوف يومئذ فتقدم سواد بن غزية أمام الصف فدفع النبي ص بقدح في بطنه و قال استو يا سواد فقال أوجعتني و الذي بعثك بالحق أقدني فكشف ص عن بطنه و قال استقد (15/99)
فاعتنقه و قبله فقال ما حملك على ما صنعت قال حضر يا رسول الله من أمر الله ما قد ترى و خشيت القتل فأردت أن يكون آخر عهدي بك و أن أعتنقك. (15/100)
قال الواقدي فحدثني موسى بن يعقوب عن أبي الحويرث عن محمد بن جبير بن مطعم عن رجل من بني أود قال سمعت عليا ع يخطب على منبر الكوفة و يقول بينا أنا أميح في قليب بدر جاءت ريح لم أر مثلها قط شدة ثم ذهبت فجاءت أخرى لم أر مثلها إلا التي كانت قبلها ثم جاءت ريح أخرى لم أر مثلها إلا الأوليين فكانت الأولى جبريل في ألف مع رسول الله ص و الثانية ميكائيل في ألف عن ميمنته و الثالثة إسرافيل في ألف عن ميسرته فلما هزم الله أعداءه حملني رسول الله ص على فرس فجرت بي فلما جرت بي خررت على عنقها فدعوت ربي فأمسكني حتى استويت و ما لي و للخيل و إنما كنت صاحب الحشم فلما استويت طعنت فيهم بيدي هذه حتى اختضبت مني ذي يعني إبطه
شرح نهج البلاغة ج : 14 ص : 120قلت أكثر الرواة يروونه فحملني رسول الله على فرسه و الصحيح ما ذكرناه لأنه لم يكن لرسول الله ص فرس يوم بدر و إنما حضرها راكب بعير و لكنه لما اصطدم الصفان و قتل قوم من فرسان المشركين حمل رسول الله ص عليا ع على بعض الخيل المأخو منهم. قال الواقدي قالوا كان على ميمنة رسول الله ص أبو بكر و كان على ميسرته علي بن أبي طالب ع و كان على ميمنة قريش هبيرة بن أبي وهب المخزومي و على ميسرتهم عمرو بن عبد ود قيل كان زمعة بن الأسود على ميسرتهم و قيل بل كان على خيل المشركين و قيل الذي على الخيل الحارث بن هشام و قال قوم لم يكن هبيرة على الميمنة بل كان عليها الحارث بن عامر بن نوفل. قال الواقدي و حدثني محمد بن صالح عن يزيد بن رومان و ابن أبي حبيبة قالا ما كان على ميمنة النبي ص يوم بدر و لا على ميسرته أحد يسمى و كذلك ميمنة المشركين و ميسرتهم ما سمعنا فيها بأحد قال الواقدي و هذا هو الثبت عندنا قال و كان لواء رسول الله ص يومئذ الأعظم لواء المهاجرين مع مصعب بن عمير و لواء الخزرج مع الحباب بن المنذر و لواء الأوس مع سعد بن معاذ و كان مع قريش ثلاثة ألوية لواء مع أبي عزيز و لواء مع المنذر بن الحارث و لواء مع طلحة بن أبي طلحة. (15/101)
قال الواقدي و خطب رسول الله ص المسلمين يومئذ فحمد الله و أثنى عليه ثم قال أما بعد فإني أحثكم على ما حثكم الله عليه و أنهاكم عما نهاكم الله عنه فإن الله عظيم شأنه يأمر بالحق و يحب الصدق و يعطي على الخير أهله على منازلهم عنده شرح نهج البلاغة ج : 14 ص : 12ه يذكرون و به يتفاضلون و إنكم أصبحتم بمنزل من منازل الحق لا يقبل الله فيه من أحد إلا ما ابتغى به وجهه و إن الصبر في البأس مما يفرج الله به الهم و ينجي به من الغم تدركون به النجاة في الآخرة فيكم نبي الله يحذركم و يأمركم فاستحيوا اليوم أن يطلع الله على شي ءمن أمركم يمقتكم عليه فإنه تعالى يقول لَمَقْتُ اللَّهِ أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ انظروا إلى الذي أمركم به من كتابه و أراكم من آياته و ما أعزكم به بعد الذلة فاستمسكوا به يرض ربكم عنكم و ابلوا ربكم في هذه المواطن أمرا تستوجبون به الذي وعدكم من رحمته و مغفرته فإن وعده حق و قوله صدق و عقابه شديد و إنما أنا و أنتم بالله الحي القيوم إليه ألجأنا ظهورنا و به اعتصمنا و عليه توكلنا و إليه المصير و يغفر الله لي و للمسلمين (15/102)
قال الواقدي و لما رأى رسول الله ص قريشا تصوب من الوادي و كان أول من طلع زمعة بن الأسود على فرس له يتبعه ابنه فاستجال بفرسه يريد أن يبنوا للقوم منزلا
فقال رسول الله ص اللهم إنك أنزلت علي الكتاب و أمرتني بالقتال و وعدتني إحدى الطائفتين و أنت لا تخلف الميعاد اللهم هذه قريش قد أقبلت بخيلائها و فخرها تخاذل و تكذب رسولك اللهم نصرك الذي وعدتني اللهم أحنهم الغداة
و طلع عتبة بن ربيعة على جمل أحمر فقال رسول الله ص إن يك في أحد من القوم خير ففي صاحب الجمل الأحمر إن يطيعوه يرشدوا. قال الواقدي و كان إيماء بن رحضة قد بعث إلى قريش ابنا له بعشر جزائر حين مروا به أهداها لهم و قال إن أحببتم أن يمدكم بسلاح و رجال فإنا معدون لذلك مؤدون فعلنا فأرسلوا أن وصلتك رحم قد قضيت الذي عليك و لعمري لئن شرح نهج البلاغة ج : 14 ص : 122كنا إنما نقاتل الناس ما بنا ضعف عنهم و لئن كنا نقاتل الله بزعم محمد فما لأحد بالله طاقة. قال الواقدي فروى خفاف بن إيماء بن رحضة قال كان أبي ليس شي ء أحب إلين إصلاح بين الناس موكلا بذلك فلما مرت به قريش أرسلني بجزائر عشر هدية لها فأقبلت أسوقها و تبعني أبي فدفعتها إلى قريش فقبلوها و وزعوها في القبائل فمر أبي على عتبة بن ربيعة و هو سيد الناس يومئذ فقال يا أبا الوليد ما هذا المسير قال لا أدري و الله غلبت قال فأنت سيد العشيرة فما يمنعك أن ترجع بالناس و تحمل دم حليفك و تحمل العير التي أصابوا بنخلة فتوزعها على قومك فو الله ما يطلبون قبل محمد إلا هذا و الله يا أبا الوليد ما تقتلون بمحمد و أصحابه إلا أنفسكم. قال الواقدي و حدثني ابن أبي الزناد عن أبيه قال ما سمعنا بأحد سار بغير مال إلا عتبة بن ربيعة. قال الواقدي و روى محمد بن جبير بن مطعم قال لما نزل القوم أرسل رسول الله ص عمر بن الخطاب إلى قريش فقال ارجعوا فلأن يلي هذا الأمر مني غيركم أحب إلي من أن تلوه مني و أن أليه من غيركم أحب إلى من أن أليه منكم فقال حكيم بن حزام قد عرض نصفا فلبوه و الله لا تنصرون عليه بعد أن عرض عليكم من النصف ما عرض و قال أبو جهل لا نرجع بعد أن أمكننا الله منهم و لا نطلب أثرا بعد عين و لا يعرض لعيرنا بعد هذا أبدا. قال الواقدي و أقبل نفر من قريش حتى وردوا الحوض منهم حكيم بن حزام فأراد المسلمون تنحيتهم عنه فقال النبي ص دعوهم فوردوا الماء شرح نهج البلاغة ج : 14 ص : (15/103)
123فشربوا فلم يشرب منهم أحد إلا قتل إلا ما كان من حكيم بن حزام. قال الواقدي فكان سعيد بن المسيب يقول نجا حكيم من الدهر مرتين لما أراد الله تعالى به من الخير خرج رسول الله ص على نفر من المشين و هم جلوس يريدونه فقرأ يس و نثر على رءوسهم التراب فما أفلت منهم أحد إلا قتل ما عدا حكيم بن حزام و ورد الحوض يوم بدر مع من ورده مع المشركين فما ورده إلا من قتل إلا حكيم بن حزام. قال الواقدي فلما اطمأن القوم بعثوا عمير بن وهب الجمحي و كان صاحب قداح فقالوا احزر لنا محمدا و أصحابه فاستجال بفرسه حول العسكر و صوب في الوادي و صعد يقول عسى أن يكون لهم مدد أو كمين ثم رجع فقال لا مدد و لا كمين و القوم ثلاثمائة إن زادوا قليلا و معهم سبعون بعيرا و معهم فرسان ثم قال يا معشر قريش البلايا تحمل المنايا نواضح يثرب تحمل الموت الناقع قوم ليس لهم منعة و لا ملجأ إلا سيوفهم أ لا ترونهم خرسا لا يتكلمون يتلمظون تلمظ الأفاعي و الله ما أرى أن يقتل منهم رجل حتى يقتل رجلا فإذا أصابوا منكم عددهم فما خير في العيش بعد ذلك فروا رأيكم. قال الواقدي و حدثني يونس بن محمد الظفري عن أبيه أنه قال لما قال لهم عمير بن وهب هذه المقالة أرسلوا أبا أسامة الجشمي و كان فارسا فأطاف بالنبي ص و أصحابه ثم رجع إليهم فقالوا له ما رأيت قال و الله ما رأيت جلدا و لا عددا و لا حلقة و لا كراعا و لكني و الله رأيت قوما لا يريدون أن يردوا إلى أهليهم رأيت قوما مستميتين ليست معهم منعة و لا ملجأ إلا سيوفهم زرق العيون (15/104)
شرح نهج البلاغة ج : 14 ص : 124كأنهم الحصا تحت الحجف ثم قال أخشى أن يكون لهم كمين أو مدد فصوب في الوادي ثم صعد ثم رجع إليهم فقال لا كمين و لا مدد فروا رأيكم. قال الواقدي و لما سمع حكيم بن حزام ما قال عمير بن وهب مشى في الناس فأتى عتبة بن ربيعة فقال يا أبالوليد أنت كبير قريش و سيدها و المطاع فيها فهل لك ألا تزال تذكر فيها بخير آخر الدهر مع ما فعلت يوم عكاظ و عتبة يومئذ رئيس الناس فقال و ما ذاك يا أبا خالد قال ترجع بالناس و تحمل دم حليفك و ما أصابه محمد من تلك العير ببطن نخلة إنكم لا تطلبون من محمد شيئا غير هذا الدم و العير فقال عتبة قد فعلت و أنت علي بذلك ثم جلس عتبة على جمله فسار في المشركين من قريش يقول يا قوم أطيعوني و لا تقاتلوا هذا الرجل و أصحابه و اعصبوا هذا الأمر برأسي و اجعلوا جبنها في فإن منهم رجالا قرابتهم قريبة و لا يزال الرجل منكم ينظر إلى قاتل أبيه و أخيه فيورث ذلك بينكم شحناء و أضغانا و لن تخلصوا إلى قتلهم حتى يصيبوا منكم عددهم مع أنه لا آمن أن تكون الدائرة عليكم و أنتم لا تطلبون إلا دم القتيل منكم و العير التي أصيبت و أنا أحتمل ذلك و هو علي يا قوم إن يك محمد كاذبا يكفيكموه ذؤبان العرب و إن يك ملكا كنتم في ملك ابن أخيكم و إن يك نبيا كنتم أسعد الناس به يا قوم لا تردوا نصيحتي و لا تسفهوا رأيي فحسده أبو جهل حين سمع خطبته و قال إن يرجع الناس عن خطبة عتبة يكن سيد الجماعة و كان عتبة أنطق الناس و أطولهم لسانا و أجملهم جمالا ثم قال عتبة لهم أنشدكم الله في هذه الوجوه التي كأنها المصابيح أن تجعلوها أندادا لهذه الوجوه التي كأنها وجوه الحيات فلما فرغ عتبة من كلامه قال أبو جهل إن عتبة يشير عليكم بهذا شرح نهج البلاغة ج : 14 ص : 125لأن محمدا ابن عمه و هو يكره أن يقتل ابنه و ابن عمه امتلأ و الله سحرك يا عتبة وبنت حين التقت حلقتا البطان الآن تخذل بيننا و تأمرنا بالرجوع لا و (15/105)
الله لا نرجع حتى يحكم الله بيننا و بين محمد فغضب عتبة فقال يا مصفرا استه ستعلم أينا أجبن و ألأم و ستعلم قريش من الجبان المفسد لقومه و أنشد (15/106)
هذاي و أمرت أمري فبشري بالثكل أم عمرو
قال الواقدي و ذهب أبو جهل إلى عامر بن الحضرمي أخي عمرو بن الحضرمي المقتول بنخلة فقال له هذا حليفك يعني عتبة يريد أن يرجع بالناس و قد رأيت ثأرك بعينك و تخذل بين الناس أ قد تحمل دم أخيك و زعم أنك قابل الدية أ لا تستحي تقبل الدية و قد قدرت على قاتل أخيك قم فانشد خفرتك فقام عامر بن الحضرمي فاكتشف ثم حثا على استه التراب و صرخ وا عمراه يخزي بذلك عتبة لأنه حليفه من بين قريش فأفسد على الناس الرأي الذي دعاهم إليه عتبة و حلف عامر لا يرجع حتى يقتل من أصحاب محمد و قال أبو جهل لعمير بن وهب حرش بين الناس فحمل عمير فناوش المسلمين لأن ينفض الصف فثبت المسلمون على صفهم و لم يزولوا و تقدم ابن الحضرمي فشد على القوم فنشبت الحرب. قال الواقدي فروى نافع بن جبير عن حكيم بن حزام قال لما أفسد الرأي أبو جهل على الناس و حرش بينهم عامر بن الحضرمي فأقحم فرسه كان أول من خرج إليه من المسلمين مهجع مولى عمر بن الخطاب فقتله عامر و كان أول قتيل قتل من الأنصار حارثة بن سراقة قتله حيان بن العرقة. قال الواقدي و قال عمر بن الخطاب في مجلس ولايته يا عمير بن وهب أنت شرح نهج البلاغة ج : 14 ص : 126حاذرنا للمشركين يوم بدر تصعد في الوادي و تصوب كأني أنظرلى فرسك تحتك تخبر المشركين أنه لا كمين لنا و لا مدد قال إي و الله يا أمير المؤمنين و أخرى أنا و الله الذي حرشت بين الناس يومئذ و لكن الله جاءنا بالإسلام و هدانا له و ما كان فينا من الشرك أعظم من ذلك قال عمر صدقت. قال الواقدي و كان عتبة بن ربيعة كلم حكيم بن حزام و قال ليس عند أحد خلاف إلا عند ابن الحنظلية فاذهب إليه فقل له إن عتبة يحمل دم حليفه و يضمن العير قال حكيم فدخلت على أبي جهل و هو يتخلق
بخلوق طيب و درعه موضوعة بين يديه فقلت إن عتبة بن ربيعة بعثني إليك فأقبل علي مغضبا فقال ما وجد عتبة أحدا يرسله غيرك فقلت و الله لو كان غيره أرسلني ما مشيت في ذلك و لكني مشيت في إصلاح بين الناس و كان أبو الوليد سيد العشيرة فغضب غضبة أخرى قال و تقول أيضا سيد العشيرة فقلت أنا أقوله و قريش كلها تقوله فأمر عامرا أن يصيح بخفرته و اكتشف و قال إن عتبة جاع فاسقوه سويقا و جعل المشركين يقولون عتبة جاع فاسقوه سويقا و جعل أبو جهل يسر بما صنع المشركون بعتبة قال حكيم فجئت إلى منبه بن الحجاج فقلت له مثل ما قلت لأبي جهل فوجدته خيرا من أبي جهل قال نعما مشيت فيه و ما دعا إليه عتبة فرجعت إلى عتبة فوجدته قد غضب من كلام قريش فنزل عن جمله و قد كان طاف عليهم في عسكرهم يأمرهم بالكف عن القتال فيأبون فحمي فنزل فلبس درعه و طلبوا له بيضة فلم يوجد في الجيش بيضة تسع رأسه من عظم هامته فلما رأى ذلك اعتجر ثم برز راجلا بين أخيه شيبة و بين ابنه الوليد بن عتبة فبينا أبو جهل في الصف على فرس أنثى حاذاه عتبة و سل سيفه فقيل هو و الله يقتله فضرب بالسيف عرقوب فرس أبي جهل فاكتسعت الفرس شرح نهج البلاغة ج : 14 ص : 127و قال انزل فإن هذا اليوم ليس بيوم ركوب ليس كل قومك راكبا فنزل أبو جهل و عتبة يقول سيعلم أينا شؤم عشيرته الغداة قال حكيم فقلت تالله ما رأيت كاليوم. قال واقدي ثم دعا عتبة إلى المبارزة و رسول الله ص في العريش و أصحابه على صفوفهم فاضطجع فغشيه النوم و قال لا تقاتلوا حتى أوذنكم و إن كثبوكم فارموهم و لا تسلوا السيوف حتى يغشوكم فقال أبو بكر يا رسول الله قد دنا القوم و قد نالوا منا فاستيقظ و قد أراه الله إياهم في منامه قليلا و قلل بعضهم في أعين بعض (15/107)
ففزع رسول الله ص و هو رافع يديه يناشد ربه ما وعده من النصر و يقول اللهم إن تظهر علي هذه العصابة يظهر الشرك و لا يقم لك دين
و أبو بكر يقول و الله لينصرنك الله و ليبيضن وجهك قال عبد الله بن رواحة يا رسول الله إني أشير عليك و أنت أعظم و أعلم بالله من أن يشار عليك إن الله أجل و أعظم من أن ينشد وعده فقال ع يا ابن رواحة أ لا أنشد الله وعده إن الله لا يخلف الميعاد و أقبل عتبة يعمد إلى القتال فقال له حكيم بن حزام مهلا مهلا يا أبا الوليد لا تنه عن شي ء و تكون أوله. قال الواقدي قال خفاف بن إيماء فرأيت أصحاب النبي ص يوم بدر و قد تصاف الناس و تزاحفوا و هم لا يسلون السيوف و لكنهم قد انتضوا القسي و قد تترس بعضهم عن بعض بصفوف متقاربة لا فرج ينها و الآخرون قد سلوا السيوف حين طلعوا فعجبت من ذلك فسألت بعد ذلك رجلا من المهاجرين فقال أمرنا رسول الله ص ألا نسل السيوف حتى يغشونا. قال الواقدي فلما تزاحف الناس قال الأسود بن عبد الأسد المخزومي حين دنا من شرح نهج البلاغة ج : 14 ص : 128الحوض أعاهد اللهأشربن من حوضهم أو لأهدمنه أو لأموتن دونه فشد حتى دنا من الحوض و استقبله حمزة بن عبد المطلب فضربه فأطن قدمه فزحف الأسود ليبر قسمه زعم حتى وقف في الحوض فهدمه برجله الصحيحة و شرب منه و أتبعه حمزة فضربه في الحوض فقتله و المشركون ينظرون ذلك على صفوفهم. قال الواقدي و دنا الناس بعضهم من بعض فخرج عتبة و شيبة و الوليد حتى فصلوا من الصف ثم دعوا إلى المبارزة فخرج إليهم فتيان ثلاثة من الأنصار و هم بنو عفراء معاذ و معوذ و عوف بنو الحارث و يقال إن ثالثهم عبد الله بن رواحة و الثابت عندنا أنهم بنو عفراء فاستحى رسول الله ص من ذلك و كره أن يكون أول قتال لقي المسلمون فيه المشركين في الأنصار و أحب أن تكون الشوكة لبني عمه و قومه فأمرهم فرجعوا إلى مصافهم و قال لهم خيرا ثم نادى منادي المشركين يا محمد أخرج إلينا الأكفاء من قومنا فقال لهم رسول الله ص يا بني هاشم قوموا فقاتلوا بحقكم الذي بعث الله به نبيكم إذ جاءوا بباطلهم ليطفئوا نور الله فقام حمزة (15/108)
بن عبد المطلب و علي بن أبي طالب و عبيدة بن الحارث بن المطلب بن عبد مناف فمشوا إليهم فقال عتبة تكلموا نعرفكم و كان عليهم البيض فأنكروهم فإن كنتم أكفاءنا قاتلناكم و روى محمد بن إسحاق في كتاب المغازي خلاف هذه الرواية قال إن بني عفراء و عبد الله بن رواحة برزوا إلى عتبة و شيبة و الوليد فقالوا لهم من أنتم قالوا رهط من الأنصار فقالوا ارجعوا فما لنا بكم من حاجة ثم نادى مناديهم يا محمد شرح نهج البلاغة ج : 14 ص : 129أخرج إلينا أكفاءنا من قومنا فقال ول الله ص قم يا فلان قم يا فلان قم يا فلان. قلت و هذه الرواية أشهر من رواية الواقدي و في رواية الواقدي ما يؤكد صحة رواية محمد بن إسحاق و هو قوله إن منادي المشركين نادى يا محمد أخرج إلينا الأكفاء من قومنا فلو لم يكن قد كلمهم بنو عفراء و كلموهم و ردوهم لما نادى مناديهم بذلك و يدل على ذلك قول بعض القرشيين لبعض الأنصار في فخر فخر به عليه أنا من قوم لم يرض مشركوهم أن يقتلوا مؤمني قومك. قال الواقدي فقال حمزة أنا حمزة بن عبد المطلب أسد الله و أسد رسوله فقال عتبة كف ء كريم و أنا أسد الحلفاء من هذان معك قال علي بن بي طالب و عبيدة بن الحارث بن المطلب فقال كفآن كريمان. قال الواقدي قال ابن أبي الزناد حدثني أبي قال لم أسمع لعتبة كلمة قط أوهن من قوله أنا أسد الحلفاء يعني بالحلفاء الأجمة. قلت قد روي هذه الكلمة على صيغة أخرى و أنا أسد الحلفاء و روي أنا أسد الأحلاف. قالوا في تفسيرهما أراد أنا سيد أهل الحلف المطيبين و كان الذين حضروه بني عبد مناف و بني أسد بن عبد العزى و بني تيم و بني زهرة و بني الحارث بن فهر خمس قبائل و رد قوم هذا التأويل فقالوا إن المطيبين لم يكن يقال لهم الحلفاء و لا الأحلاف و إنما ذلك لقب خصومهم و أعدائهم الذين وقع التحالف لأجلهم و هم بنو عبد الدار و بنو مخزوم و بنو سهم و بنو جمح و بنو عدي بن كعب خمس (15/109)
شرح نهج البلاغة ج : 14 ص : 130قبائل و قال قوم في تفسيرهما إنما عنى حلف الفضول و كان بعد حلف المطيبين بزمان و شهد حلف الفضول رسول الله ص و هو صغير في دار ابن جدعان و كان سببه أن رجلا من اليمن قدم مكة بمتاع فاشتراه العاص بن وائل السهمي و مطله بالثمن حتى أبه فقام بالحجر و ناشد قريشا ظلامته فاجتمع بنو هاشم و بنو أسد بن عبد العزى و بنو زهرة و بنو تميم في دار ابن جدعان فتحالفوا غمسوا أيديهم في ماء زمزم بعد أن غسلوا به أركان البيت أن ينصروا كل مظلوم بمكة و يردوا عليه ظلامته و يأخذوا على يد الظالم و ينهوا عن كل منكر ما بل بحر صوفة فسمي حلف الفضول لفضله و (15/110)
قد ذكره رسول الله ص فقال شهدته و ما أحب أن لي به حمر النعم و لا يزيده الإسلام إلا شدة
و هذا التفسير أيضا غير صحيح لأن بني عبد الشمس لم يكونوا في حلف الفضول فقد بان أن ما ذكره الواقدي أصح و أثبت. قال الواقدي ثم قال عتبة لابنه قم يا وليد فقام الوليد و قام إليه علي و كانا أصغر النفر فاختلفا ضربتين فقتله علي بن أبي طالب ع ثم قام عتبة و قام إليه حمزة فاختلفا ضربتين فقتله حمزة رضي الله عنه ثم قام شيبة و قام إليه عبيدة و هو يومئذ أسن أصحاب رسول الله ص فضرب شيبة رجل عبيدة بذباب السيف فأصاب عضلة ساقه فقطعها و كر حمزة و علي على شيبة فقتلاه و احتملا عبيدة فحازاه إلى الصف و مخ ساقه يسيل فقال عبيدة يا رسول الله أ لست شهيدا قال بلى قال أما و الله لو كان أبو طالب حيا لعلم أني أحق بما قال حين يقول
كذبتم و بيت الله نخلي محمدا و لما نطاعن دونه و نناضل و ننصره حتى نصرع حوله و نذهل عن أبنائنا و الحلائلو نزلت فيهم هذه الآية هذانِ خَصْمانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ. شرح نهج البلاغة ج : 14 ص : 131و روى محمد بن إسحاق أن عتبة بارز عبيدة بن الحارث و أن شيبة بارز حمزة بن عبد المطلب فقتل حمزة شيبة لم يمهله أن قتله و لم يمهل علي الوليد أن قتله و اختلف عبيدة و بة بينهما ضربتين كلاهما أثبت صاحبه و كر حمزة و علي ع على عتبة بأسيافهما حتى وقعا عليه و احتملا صاحبهما فحازاه إلى الصف. قلت و هذه الرواية توافق ما يذكره أمير المؤمنين ع في كلامه إذ يقول لمعاوية و عندي السيف الذي أعضضت به أخاك و خالك و جدك يوم بدر و يقول في موضع آخر قد عرفت مواقع نصالها في أخيك و خالك و جدك و ما هي من الظالمين ببعيد. و اختار البلاذري رواية الواقدي و قال إن حمزة قتل عتبة و إن عليا ع قتل الوليد و شرك في قتل شيبة. و هذا هو المناسب لأحوالهم من طريق السن لأن شيبة أسن الثلاثة فجعل بإزاء عبيدة و هو أسن الثلاثة و الوليد أصغر الثلاثة سنا فجعل بإزاء علي ع و هو أصغر الثلاثة سنا و عتبة أوسطهم سنا فجعل بإزاء حمزة و هو أوسطهم سنا و أيضا فإن عتبة كان أمثل الثلاثة فمقتضى القياس أن يكون قرنه أمثل الثلاثة و هو حمزة إذ ذاك لأن عليا ع لم يكن قد اشتهر أمره جدا و إنما اشتهر الشهرة التامة بعد بدر و لمن روى أن حمزة بارز شيبة و هي رواية ابن إسحاق أن ينتصر بشعر هند بنت عتبة ترثي أباها (15/111)
أ عيني جودا بدمع سرب على خير خندف لم ينقلب تداعى له رهطه قصرة بنو هاشم و بنو المطلب يذيقونه حر أسيافهم يعلونه بعد ما قد عط شرح نهج البلاغة ج : 14 ص : 132فإذا كانت قد قالت إن عتبة أباها أذاقه بنو هاشم و بنو المطلب حر أسيافهم فقد ثبت أن المبارز لعتبة إنما هو عبيدة لأنه من بني المطلب جرح عتبة فأثبته ثم ذفف عليه حمزة و علي ع فأما الشيعة فإنها تروي أن حمزة بادر عتبة فقتله و أن اراك علي و حمزة إنما هو في دم شيبة بعد أن جرحه عبيدة بن الحارث هكذا ذكر محمد بن النعمان في كتاب الإرشاد و هو خلاف ما تنطق به كتب أمير المؤمنين ع إلى معاوية و الأمر عندي مشتبه في هذا الموضع. و (15/112)
روى محمد بن النعمان عن أمير المؤمنين ع أنه كان يذكر يوم بدر و يقول أختلف أنا و الوليد بن عتبة ضربتين فأخطأتني ضربته و أضربه فاتقاني بيده اليسرى فأبانها السيف فكأني أنظر إلى وميض خاتم في شماله ثم ضربته أخرى فصرعته و سلبته فرأيت به الردع من خلوق فعلمت أنه قريب عهد بعرس
قال الواقدي و قد روي أن عتبة بن ربيعة حين دعا إلى البراز قام إليه ابنه أبو حذيفة بن عتبة يبارزه فقال له النبي ص اجلس فلما قام إليه النفر أعان أبو حذيفة على أبيه عتبة بضربة. قال الواقدي و أخبرني ابن أبي الزناد عن أبيه قال شيبة أكبر من عتبة بثلاث سنين و حمزة أسن من النبي ص بأربع سنين و العباس أسن من النبي ص بثلاث سنين. قال الواقدي و استفتح أبو جهل يوم بدر فقال اللهم أقطعنا للرحم و آتانا بما لا يعلم فأحنه الغداة فأنزل الله تعالى إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جاءَكُمُ الْفَتْحُ الآية. شرح نهج البلاغة ج : 14 ص : 3قال الواقدي و روى عروة عن عائشة أن النبي ص جعل شعار المهاجرين يوم بدر يا بني عبد الرحمن و شعار الخزرج يا بني عبد الله و شعار الأوس يا بني عبد الله. قال و روى زيد بن علي بن الحسين ع أن شعار رسول الله ص يوم بدر يا منصور أمت. قال الواقدي و نهى رسول الله ص عن قتل أبي البختري و كان قد لبس السلاح بمكة يوما قبل الهجرة في بعض ما كان ينال النبي ص من الأذى و قال لا يعرض اليوم أحد لمحمد بأذى إلا وضعت فيه السلاح فشكر ذلك له النبي ص قال أبو داود المازني فلحقته يوم بدر فقلت له إن رسول الله ص قد نهى عن قتلك إن أعطيت بيدك قال و ما تريد إلي إن كان قد نهى عن قتلي فقد كنت أبليته ذلك فأما أن أعطي بيدي فو اللات و العزى لقد علمت نسوة بمكة أني لا أعطي بيدي و قد عرفت أنك لا تدعني فافعل الذي تريد فرماه أبو داود بسهم و قال اللهم سهمك و أبو البختري عبدك فضعه في مقتله و أبو البختري دارع ففتق السهم الدرع فقتله. قال الواقدي و يقال إن المجذر بن ذياد قتل أبا البختري و لا يعرفه و قال المجذر في ذلك شعرا عرف منه أنه قاتله. و في رواية محمد بن إسحاق أن رسول الله ص نهى يوم بدر عن قتل أبي البختري و اسمه الوليد بن هشام بن الحارث بن أسد بن عبد العزى لأنه كان أكف شرح نهج البلاغة ج : 14 ص : 134الناس عن رسول الله ص (15/113)
بمكة كان لا يؤذيه و لا يبلغه عنه شي ء يكرهه و كان فيمن قام في نقض الصحيفة التي كتبتها قريش على بني هاشم فلقيه المجذر بن ذياد البلوي حليف الأنصار فقال له إن رسول الله ص نهانا عن قتلك و مع البختري زميل له خرج معه من مكة يقال له جنادة بن مليحة فقال البختري و زميلي قال المجذر و الله ما نحن بتاركي زميلك ما نهانا رسول الله ص إلا عنك وحدك قال إذا و الله لأموتن أنا و هو جميعا لا تتحدث عني نساء أهل مكة أني تركت زميلي حرصا على الحياة فنازله المجذر و ارتجز أبو البختري فقال (15/114)
لن يسلم ابن حرة زميله حتى يموت أو يرى سبيله
ثم اقتتلا فقتله المجذر و جاء إلى رسول الله ص فأخبره و قال و الذي بعثك بالحق لقد جهدت أن يستأسر فآتيك به فأبى إلا القتال فقاتلته فقتلته. قال الواقدي و نهى النبي ص عن قتل الحارث بن عامر بن نوفل و قال ائسروه و لا تقتلوه و كان كارها للخروج إلى بدر فلقيه خبيب بن يساف فقتله و لا يعرفه فبلغ النبي ص ذلك فقال لو وجدته قبل أن يقتل لتركته لنسائه و نهى عن قتل زمعة بن الأسود فقتله ثابت بن الجذع و لا يعرفه. قال الواقدي و ارتجز عدي بن أبي الزغباء يوم بدر فقال
أنا عدي و السحل أمشي بها مشي الفحل
يعني درعه فقال النبي ص من عدي فقال رجل من القوم أنا يا رسول الله قال و ما ذا قال ابن فلان قال لست أنت عديا فقال عدي بن أبي شرح نهج البلاغة ج : 14 ص : 135الزغباء أنا يا رسول الله عدي قال و ما ذا قال و السحل أمشي بها مشي الفحل قال النبي ص و ما السحل قال درعي فقال ص نعم العدي عدي بن أبي الزغباء. قال الواقدي و كان عقبة بن أبي معيط قال بمكة حين هاجر رسول الله ص إلى المدينةيا راكب الناقة القصواء هاجرنا عما قليل تراني راكب الفرس أعل رمحي فيكم ثم أنهله و السيف يأخذ منكم كل ملتبسفبلغ قوله النبي ص فقال اللهم أكبه لمنخره و اصرعه فجمح به فرسه يوم بدر بعد أن ولى الناس فأخذه عبد الله بن سلمة العجلاني أسيرا و أمر النبي ص عاصم بن أبي الأقلح فضرب عنقه صبرا. قال الواقدي و كان عبد الرحمن يحدث يقول إني لأجمع أدراعا يوم بدر بعد أن ولى الناس فإذا أمية بن خلف و كان لي صديقا في الجاهلية و كان اسمي عبد عمرو فلما جاء الإسلام تسميت عبد الرحمن فكان يلقاني بمكة فيقول يا عبد عمرو فلا أجيبه فيقول إني لا أقول لك عبد الرحمن إن مسيلمة باليمامة تسمى بالرحمن فأنا لا أدعوك إليه فكان يدعوني عبد الإله فلما كان يوم بدر رأيته و كأنه جمل يساق و معه ابنه علي فناداني يا عبد عمرو فأبيت أن أجيبه فناداني يا عبد الإله فأجبته فقال أ ما لكم حاجة في اللبن نحن خير لك من أدرعك هذه فقلت امضيا فجعلت أسوقهما أمامي و قد رأى أمية أنه قد أمن بعض الأمن فقال لي أمية رأيت رجلا فيكم اليوم معلما في صدره بريشة نعامة من هو فقلت حمزة بن عبد المطلب شرح نهج البلاغة ج : 14 ص : 136فقال ذاك الذي فعل بنا الأفاعيل ثم قال فمن رجل دحداح قصير معلم بعصابة حمراء قلت ذاك رجل من الأنصار يقال له سماك بن خرشة قال و بذاك أيضا يا عبد الإله صرنا اليوم جزرا م قال فبينا هو معي أزجيه أمامي و معه ابنه إذ بصر به بلال و هو يعجن عجينا له فترك العجين و جعل يفتل (15/115)
يديه منه فتلا ذريعا و هو ينادي يا معشر الأنصار أمية بن خلف رأس الكفر لا نجوت إن نجوت قال لأنه كان يعذبه بمكة فأقبلت الأنصار كأنهم عوذ حنت إلى أولادها حتى طرحوا أمية على ظهره و اضطجعت عليه أحميه منهم فأقبل الخباب بن المنذر فأدخل سيفه فاقتطع أرنبة أنفه فلما فقد أمية أنفه قال لي إيها عنك أي خل بيني و بينهم قال عبد الرحمن فذكرت قول حسان (15/116)
أو عن ذلك الأنف جادع
قال و يقبل إليه خبيب بن يساف فضربه حتى قتله و قد كان أمية ضرب خبيب بن يساف حتى قطع يده من المنكب فأعادها النبي ص فالتحمت و استوت فتزوج خبيب بن يساف بعد ذلك ابنة أمية بن خلف فرأت تلك الضربة فقالت لا يشل الله يد رجل فعل هذا فقال خبيب و أنا و الله قد أوردته شعوب فكان خبيب يحدث يقول فأضربه فوق العاتق فأقطع عاتقه حتى بلغت مؤتزره و عليه الدرع و أنا أقول خذها و أنا ابن يساف و أخذت سلاحه و درعه و أقبل علي بن أمية فتعرض له الخباب فقطع رجله فصاح صيحة ما سمع مثلها قط و لقيه عمار فضربه ضربة فقتله و يقال إن عمارا لاقاه قبل ضربة الخباب فاختلفا ضربات فقتله عمار و الأولى أثبت أنه ضربه بعد أن قطعت رجله. قال الواقدي و قد سمعنا في قتل أمية غير ذلك حدثني عبيد بن يحيى عن معاذ بن شرح نهج البلاغة ج : 14 ص : 137رفاعة عن أبيه قال لما كان يوم بدر و أحدقنا بأمية بن خلف و كان له فيهمأن و معي رمحي و معه رمحه فتطاعنا حتى سقطت أزجتها ثم صرنا إلى السيفين فتضاربنا بهما حتى انثلما ثم بصرت بفتق في درعه تحت إبطه فحششت السيف فيه حتى قتلته و خرج السيف عليه الودك قال الواقدي و قد سمعنا وجها آخر حدثني محمد بن قدامة بن موسى عن أبيه عن عائشة بنت قدامة قالت قال صفوان بن أمية بن خلف يوما يا قدام لقدامة بن مظعون أنت المشلي بأبي يوم بدر الناس فقال قدامة لا و الله ما فعلت و لو فعلت ما اعتذرت من قتل مشرك قال صفوان فمن يا قدام المشلي به يوم بدر قال رأيت فتية من الأنصار
أقبلوا إليه فيهم معمر بن خبيب بن عبيد الحارث يرفع سيفه و يضعه فيه فقال صفوان أبو قرد و كان معمر رجلا دميما فسمع بذلك الحارث بن حاطب فغضب له فدخل على أم صفوان فقال ما يدعنا صفوان من الأذى في الجاهلية و الإسلام قالت و ما ذاك فأخبرها بمقالة صفوان لمعمر حين قال أبو قرد فقالت أم صفوان يا صفوان أ تنتقص معمر بن خبيب من أهل بدر و الله لا أقبل لك كرامة سنة قال صفوان يا أمة لا أعود و الله أبدا تكلمت بكلمة لم ألق لها بالا. قال الواقدي و حدثني محمد بن قدامة عن أبيه عن عائشة بنت قدامة قالت قيل لأم صفوان بن أمية و نظرت إلى الخباب بن المنذر بمكة هذا الذي قطع رجل علي بن أمية يوم بدر قالت دعونا عن ذكر من قتل على الشرك قد أهان الله عليا بضربة الخباب بن المنذر و أكرم الله الخباب بضربته عليا و لقد كان على الإسلام حين خرج من هاهنا فقتل على غير ذلك. شرح نهج البلاغة ج : 14 ص : 138فأما محمد بن إسحاق فإنه قال قال عبدلرحمن بن عوف أخذت بيد أمية بن خلف و يد ابنه علي بن أمية أسيرين يوم بدر فبينا أنا أمشي بينهما رآنا بلال و كان أمية هو الذي يعذب بلالا بمكة يخرجه إلى رمضاء مكة إذا حميت فيضجعه على ظهره ثم يأمره بالصخرة العظيمة فتوضع بحرارتها على صدره و يقول له لا تزال هكذا أو تفارق دين محمد فيقول بلال أحد أحد لا يزيده على ذلك فلما رآه صاح رأس الكفر أمية بن خلف لا نجوت إن نجوت قال عبد الرحمن فقلت أي بلال أسيري فقال لا نجوت إن نجا فقلت استمع يا ابن السوداء قال لا نجوت إن نجا ثم صرخ بأعلى صوته يا أنصار الله أمية بن خلف رأس الكفر لا نجوت إن نجا فأحاطوا بنا حتى جعلونا في مثل المسكة و أنا أذب عنه و يحذف عمار بن ياسر عليا ابنه بالسيف فأصاب رجله فوقع و صاح أمية صيحة ما سمعت مثلها قط فخليت عنه و قلت انج بنفسك و لا نجاء به فو الله ما أغني عنك شيئا قال فهبروهما بأسيافهم حتى فرغوا منهما قال فكان عبد الرحمن بن عوف (15/117)
يقول رحم الله بلالا أذهب أدرعي و فجعني بأسيري. قال الواقدي و كان الزبير بن العوام يحدث فيقول لما كان يومئذ لقيت عبيدة بن سعد بن العاص على فرس عليه لأمة كاملة لا يرى منه إلا عيناه و هو يقول و كانت له صبية صغيرة يحملها و كان لها بطين و كانت مقسمة أنا أبو ذات الكرش أنا أبو ذات (15/118)
شرح نهج البلاغة ج : 14 ص : 139الكرش قال و في يدي عنزة فأطعن بها في عينه و وقع و أطؤه برجلي على خده حتى أخرجت العنزة متعقفة و أخرجت حدقته و أخذ رسول الله ص تلك العنزة فكانت تحمل بين يديه ثم صارت تحمل بين يدي أبي بكر و عمر و عثمان. قال الواقدي و أقبل عاصمن أبي عوف بن صبيرة السهمي لما جال الناس و اختلطوا و كأنه ذئب و هو يقول يا معشر قريش عليكم بالقاطع مفرق الجماعة الآتي بما لا يعرف محمد لا نجوت إن نجا و يعترضه أبو دجانة فاختلفا ضربتين و يضربه أبو دجانة فقتله و وقف على سلبه يسلبه فمر به عمر بن الخطاب فقال دع سلبه حتى يجهض العدو و أنا أشهد لك به قال الواقدي و يقبل معبد بن وهب أحد بني عامر بن لؤي فضرب أبا دجانة ضربة برك منها أبو دجانة كما يبرك الجمل ثم انتهض و أقبل على معبد فضربه ضربات لم يصنع سيفه شيئا حتى يقع معبد بحفرة أمامه لا يراها و نزل أبو دجانة عليه فذبحه ذبحا و أخذ سلبه. قال الواقدي و لما كان يومئذ و رأت بنو مخزوم مقتل من قتل قالت أبو الحكم لا يخلص إليه فإن ابني ربيعة عجلا و بطرا و لم تحام عنهما عشيرتهما فاجتمعت بنو مخزوم فأحدقوا به فجعلوه في مثل الحرجة و أجمعوا أن يلبسوا لأمة أبي جهل رجلا منهم فألبسوها عبد الله بن المنذر بن أبي رفاعة فصمد له علي ع فقتله و هو يراه أبا جهل و مضى عنه و هو يقول أنا ابن عبد المطلب ثم ألبسوها أبا قيس بن شرح نهج البلاغة ج : 14 ص : 140الفاكه بن المغيرة فصمد له حمزة و هو يراه أبا جهل فضربه فقتله و هو يقول خذها و أنا ابن عبد اللب ثم ألبسوها حرملة بن عمرو فصمد له علي ع فقتله
ثم أرادوا أن يلبسوها خالد بن الأعلم فأبى أن يلبسها قال معاذ بن عمرو بن الجموح فنظرت يومئذ إلى أبي جهل في مثل الحرجة و هم يقولون أبو الحكم لا يخلص إليه فعرفت أنه هو فقلت و الله لأموتن دونه اليوم أو لأخلصن إليه فصمدت له حتى إذا أمكنتني منه غرة حملت عليه فضربته ضربة طرحت رجله من الساق فشبهتها النواة تنزو من تحت المراضخ فأقبل ابنه عكرمة علي فضربني على عاتقي فطرح يدي من العاتق إلا أنه بقيت جلدة فذهبت أسحب يدي بتلك الجلدة خلفي فلما آذتني وضعت عليها رجلي ثم تمطيت عليها فقطعتها ثم لاقيت عكرمة و هو يلوذ كل ملاذ و لو كانت يدي معي لرجوت يومئذ أن أصيبه و مات معاذ في زمن عثمان. قال الواقدي فروي أن رسول الله ص نفل معاذ بن عمرو بن الجموح سيف أبي جهل و أنه عند آل معاذ بن عمرو اليوم و به فل بعد أن أرسل النبي ص إلى عكرمة بن أبي جهل يسأله من قتل أباك قال الذي قطعت يده فدفع رسول الله ص سيفه إلى معاذ بن عمرو لأن عكرمة بن أبي جهل قطع يده يوم بدر. قال الواقدي و ما كان بنو المغيرة يشكون أن سيف أبي الحكم صار إلى معاذ بن عمرو بن الجموح و أنه قاتله يوم بدر. قال الواقدي و قد سمعت في قتله و أخذ سلبه غير هذا حدثني عبد الحميد بن جعفر عن عمر بن الحكم بن ثوبان عن عبد الرحمن بن عوف قال عبأنا رسول الله ص بليل فأصبحنا و نحن على صفوفنا فإذا بغلامين ليس منهما واحد إلا قد (15/119)
شرح نهج البلاغة ج : 14 ص : 141ربطت حمائل سيفه في عنقه لصغره فالتفت إلي أحدهما فقال يا عم أيهم أبو جهل قال قلت و ما تصنع به يا ابن أخي قال بلغني أنه يسب رسول الله ص فحلفت لئن رأيته لأقتلنه أو لأموتن دونه فأشرت إليه فالتفت إلي الآخر و قال لي مثل ذلك فأشرته إليه و قلت له من أنتما قالا ابنا الحارث قال فجعلا لا يطرفان عن أبي جهل حتى إذا كان القتال خلصا إليه فقتلاه و قتلهما. قال الواقدي فحدثني محمد بن عوف عن إبراهيم بن يحيى بن زيد بن ثابت قال لما كان يومئذ قال عبد الرحمن و نظر إليهما عن يمينه و عن شماله ليته كان إلى جنبي من هو أبدن من هذين الصبيين فلم أنشب أن التفت إلى عوف فقال أيهم أبو جهل فقلت ذاك حيث ترى فخرج يعدو إليه كأنه سبع و لحقه أخوه فأنا أنظر إليهم يضطربون بالسيوف ثم نظرت إلى رسول الله ص يمر بهم في القتلى و هما إلى جانب أبي جهل. قال الواقدي و حدثني محمد بن رفاعة بن ثعلبة قال سمعت أبي ينكر ما يقول الناس في ابني عفراء من صغرهما و يقول كانا يوم بدر أصغرهما ابن خمس و ثلاثين سنة فهذا يربط حمائل سيفه قال الواقدي و القول الأول أثبت. و روى محمد بن عمار بن ياسر عن ربيع بنت معوذ قالت دخلت في نسوة من الأنصار على أسماء أم أبي جهل في زمن عمر بن الخطاب و كان ابنها عبد الله بن أبي ربيعة يبعث إليها بعطر من اليمن فكانت تبيعه إلى الأعطية فكنا نشتري منها فلما جعلت لي في قواريري و وزنت لي كما وزنت لصواحبي قال اكتبن لي عليكن حقي قلت نعم اكتب لها على الربيع بنت معوذ فقالت أسماء خلفي و إنك شرح نهج البلاغة ج : 14 ص : 142لابنة قاتل سيده فقلت لا و لكن ابنة قاتل عبده فقالت و الله لا أبيعك شيئا أبدا فقلت أنا و الله لا أشتري منك أبدا فو الله ما هو بطيب و لا عرف و الله يا بني ما شممت عطرا قط كان أطيب منه و لكني يا بني غضبت قال الواي فلما وضعت الحرب أوزارها أمر رسول الله ص أن يلتمس أبو جهل قال ابن (15/120)
مسعود فوجدته في آخر رمق فوضعت رجلي على عنقه فقلت الحمد لله الذي أخزاك قال إنما أخزى الله العبد ابن أم عبد لقد ارتقيت يا رويعي الغنم مرتقى صعبا لمن الدبرة قلت لله و لرسوله قال ابن مسعود فأقلع بيضته عن قفاه و قلت إني قاتلك قال لست بأول عبد قتل سيده أما إن أشد ما لقيته اليوم لقتلك إياي ألا يكون ولي قتلي رجل من الأحلاف أو من المطيبين قال فضربه عبد الله ضربة وقع رأسه بين يديه ثم سلبه و أقبل بسلاحه و درعه و بيضته فوضعها بين يدي رسول الله ص فقال أبشر يا نبي الله بقتل عدو الله أبي جهل فقال رسول الله أ حقا يا عبد الله فو الذي نفسي بيده لهو أحب إلي من حمر النعم أو كما قال ثم قال إنه أصابه جحش من دفع دفعته في مأدبة ابن جدعان فجحشت ركبته فالتمسوه فوجدوا ذلك الأثر. قال الواقدي و روي أن أبا سلمة بن عبد الأسد المخزومي كان عند النبي ص تلك الساعة فوجد في نفسه و أقبل على ابن مسعود و قال أنت قتلته قال نعم الله قتله قال أبو سلمة أنت وليت قتله قال نعم قال لو شاء لجعلك في كمه فقال ابن مسعود فقد و الله قتلته و جردته فقال أبو سلمة فما علامته قال شامة سوداء ببطن فخذه اليمنى فعرف أبو سلمة النعت فقال أ جردته و لم يجرد قرشي غيره فقال شرح نهج البلاغة ج : 14 ص : 143ابن مسعود إنه و الله لم يكن في قريش و لا في حلفائها أحد أعدى لله و لا لرسوله منه و ما أعتذر من شي ء صنعته به فأمسك أبو سلمة. قال الواقدي سمع أبو سلمة بعد ذلك غفر الله من كلامه في أبي جهل و قال اللهم إنك قد أنجزت ما وعدتني فتمم علي نعمتك قال و كان عبد الله بن عتبة بن مسعود يقول سيف أبي جهل عندنا محلى بفضة غنمه عبد الله بن مسعود يومئذ. قال الواقدي اجتمع قول أصحابنا أن معاذ بن عمرو و ابني عفراء أثبتوه و ضرب ابن مسعود عنقه في آخر رمق فكل شرك في قتله. قال الواقدي و (15/121)
قد روي أن رسول الله ص وقف على مصرع ابني عفراء فقال يرحم الله ابني عفراء فإنهما قد شركا في قتل فرعون هذه الأمة و رأس أئمة الكفر فقيل يا رسول الله و من قتله معهما قال الملائكة و ذفف عليه ابن مسعود فكان قد شرك في قتله (15/122)
قال الواقدي و حدثني معمر عن الزهري قال قال رسول الله ص يوم بدر اللهم اكفني نوفل بن العدوية و هو نوفل بن خويلد من بني أسد بن عبد العزى و أقبل نوفل يومئذ يصيح و هو مرعوب قد رأى قتل أصحابه و كان في أول ما التقوا هم و المسلمون يصيح بصوت له زجل رافعا عقيرته يا معشر قريش إن هذا اليوم يوم العلاء و الرفعة فلما رأى قريشا قد انكشفت جعل يصيح بالأنصار ما حاجتكم إلى دمائنا أ ما ترون من تقتلون أ ما لكم في اللبن من حاجة فأسره جبار بن صخر فهو يسوقه أمامه فجعل نوفل يقول لجبار و رأى عليا ع مقبلا نحوه يا أخا الأنصار من هذا و اللات و العزى إني لأرى رجلا إنه ليريدني قال شرح نهج البلاغة ج : 14 ص : 144جبار هذا علي بن أبي طالب قال نوفل تالله ما رأيت كاليوم رجلا أسرع في قومه فصمد له علي ع فيضربه فينشب سيف علي في حجفته ساعة ثم ينزعه فيضرب به ساقيه و درعه مشتمرة فيقطعها ثم أجهز عليفقتله فقال رسول الله ص من له علم بنوفل بن خويلد قال علي ع أنا قتلته فكبر رسول الله ص و قال الحمد لله الذي أجاب دعوتي فيه
قال الواقدي و أقبل العاص بن سعيد بن العاص يبحث للقتال فالتقى هو و علي ع و قتله علي فكان عمر بن الخطاب يقول لابنه سعيد بن العاص بن سعيد بن العاص ما لي أراك معرضا تظن أني قتلت أباك فقال سعيد لو قتلته لكان على الباطل و كنت على الحق قال فقال عمر إن قريشا أعظم الناس أحلاما و أكثرها أمانة لا يبغيهم أحد الغوائل إلا كبه الله لفيه. قال الواقدي و روي أن عمر قال لسعيد بن العاص ما لي أراك معرضا كأني قتلت أباك يوم بدر و إن كنت لا أعتذر من قتل مشرك لقد قتلت خالي بيدي العاص بن هاشم بن المغيرة. و نقلت من غير كتاب الواقدي أن عثمان بن عفان و سعيد بن العاص حضرا عند عمر في أيام خلافته فجلس سعيد بن العاص حجرة فنظر إليه عمر فقال ما لي أراك معرضا كأني قتلت أباك إني لم أقتله و لكنه قتله أبو حسن و كان علي ع حاضرا فقال اللهم غفرا ذهب الشرك بما فيه و محا الإسلام ما قبله فلما ذا تهاج شرح نهج البلاغة ج : 14 ص : 145القلوب فسكت عمر و قال سعيد لقد قتله كف ء كريم و هو أحب إلي من أن يقتله من ليس من بني عبد مناف قال الواقدي و كان علي ع يحدث فيقول إني يومئذ بعد ما متع النهار و نحن و المشركون قد اختلطت صفوفنا و صفوفهم خرجت في إثر رجل منهم فإذا رجل من المشركين على كثيب رمل و سعد بن خيثمة و هما يقتتلان حتى قتل المشرك سعد بن خيثمة و المشرك مقنع في الحديد و كان فارسا فاقتحم عن فرسه فعرفني و هو معلم فناداني هلم يا ابن أبي طالب إلى البراز فعطفت إلى البراز فعطفت عليه فانحط إلي مقبلا و كنت رجلا قصيرا فانحططت راجعا لكي ينزل إلي كرهت أن يعلوني فقال يا ابن أبي طالب فررت فقلت قريبا مفر ابن الشتراء فلما استقرت قدماي و ثبت أقبل فاتقيت فلما دنا مني ضربني بالدرقة فوقع سيفه فلحج فأضربه على عاتقه و هو دارع فارتعش و لقد قط سيفي درعه فظننت أن سيفي سيقتله فإذا بريق سيف من ورائي فطأطأت رأسي و يقع السيف فأطن قحف رأسه بالبيضة و هو (15/123)
يقول خذها و أنا ابن عبد المطلب فالتفت من ورائي فإذا هو حمزة عمي و المقتول طعيمة بن عدي (15/124)
قلت في رواية محمد بن إسحاق بن يسار أن طعيمة بن عدي قتله علي بن أبي طالب ع ثم قال و قيل قتله حمزة. و في رواية الشيعة قتله علي بن أبي طالب شجره بالرمح فقال له و الله لا تخاصمنا في الله بعد اليوم أبدا و هكذا روى محمد بن إسحاق. شرح نهج البلاغة ج : 14 ص : 146
روى محمد بن إسحاق قال و خرج النبي ص من العريش إلى الناس ينظر القتال فحرض المسلمين و قال كل امرئ بما أصاب و قال و الذي نفس محمد بيده لا يقاتلهم اليوم رجل في جملة فيقتل صابرا محتسبا مقبلا غير مدبر إلا أدخله الله الجنة
فقال عمير بن الحمام أخو بني سلمة و في يده تمرات يأكلهن بخ بخ فما بيني و بين أن أدخل الجنة إلا أن يقتلني هؤلاء ثم قذف التمرات من يده و أخذ سيفه فقاتل القوم حتى قتل قال محمد بن إسحاق و حدثني عاصم بن عمرو بن قتادة أن عوف بن الحارث و هو ابن عفراء قال لرسول الله ص يوم بدر يا رسول الله ص ما يضحك الرب من عبده قال غمسه يده في العدو حاسرا فنزع عوف درعا كانت عليه و قذفها ثم أخذ سيفه فقاتل القوم حتى قتل.
قال الواقدي و ابن إسحاق و أخذ رسول الله ص كفا من البطحاء فرماهم بها و قال شاهت الوجوه اللهم أرعب قلوبهم و زلزل أقدامهم
فانهزم المشركون لا يلوون على شي ء و المسلمون يتبعونهم يقتلون و يأسرون. قال الواقدي و كان هبيرة بن أبي وهب المخزومي لما رأى الهزيمة انخزل ظهره فعقر فلم يستطع أن يقوم فأتاه أبو أسامة الجشمي حليفه ففتق درعه و احتمله و يقال ضربه أبو داود المازني بالسيف فقطع دعه و وقع لوجهه و أخلد إلى الأرض و جاوزه أبو داود و بصر به ابنا زهير الجشميان مالك و أبو أسامة و هما حليفاه فذبا عنه حتى نجوا به و احتمله أبو أسامة و مالك يذب عنه حتى خلصاه فقال رسول الله ص حماه كلباه الحليفان. شرح نهج البلاغة ج : 14 ص : 147قال الواقدي و ثني عمر بن عثمان عن عكاشة بن محصن قال انقطع سيفي يوم بدر فأعطاني رسول الله ص عودا فإذا هو سيف أبيض طويل فقاتلت به حتى هزم الله المشركين و لم يزل ذلك السيف عند عكاشة حتى هلك. قال و قد روى رجال من بني عبد الأشهل عدة قالوا انكسر سيف سلمة بن أسلم بن حريش يوم بدر فبقي أعزل لا سلاح معه فأعطاه رسول الله ص قضيبا كان في يده من عراجين ابن طاب فقال اضرب به فإذا هو سيف جيد فلم يزل عنده حتى قتل يوم جسر أبي عبيد. قال الواقدي و أصاب حارثة بن سراقة و هو يكرع في الحوض سهم غرب من المشركين فوقع في نحره فمات فلقد شرب القوم آخر النهار من دمه و بلغ أمه و أخته و هما بالمدينة مقتله فقالت أمه و الله لا أبكي عليه حتى يقدم رسول الله ص فأسأله فإن كان في الجنة لم أبك عليه و إن كان في النار بكيته لعمر الله فأعولته فلما قدم رسول الله ص من بدر جاءت أمه إليه فقالت يا رسول الله قد عرفت موضع حارثة في قلبي فأردت أن أبكي عليه ثم قلت لا أفعل حتى أسأل رسول الله ص عنه فإن كان في الجنة لم أبكه و إن كان في النار بكيته فأعولته فقال النبي ص هبلت أ جنة واحدة إنها جنان كثيرة و الذي نفسي بيده إنه لفي الفردوس الأعلى قالت فلا أبكي عليه أبدا. قال الواقدي و دعا رسول الله ص حينئذ بماء في إناء فغمس يده فيه و مضمض فاه ثم ناول (15/125)
أم حارثة بن سراقة فشربت ثم ناولت ابنتها فشربت شرح نهج البلاغة ج : 14 ص : 148ثم أمرهما فنضحتا في جيوبهما ثم رجعتا من عند النبي ص و ما بالمدينة امرأتان أقر عينا منهما و لا أسر. قال الواقدي وان حكيم بن حزام يقول انهزمنا يوم بدر فجعلت أسعى و أقول قاتل الله ابن الحنظلية يزعم أن النهار قد ذهب و الله إن النهار لكما هو قال حكيم و ما ذا بي إلا حبا أن يأتي الليل فيقصر عنا طلب القوم فيدرك حكيم عبيد الله و عبد الرحمن بني العوام على جمل لهما فقال عبد الرحمن لأخيه انزل فاحمل أبا خالد و كان عبيد الله رجلا أعرج لا رجلة به فقال عبيد الله إنه لا رجلة بي كما ترى و قال عبد الرحمن و الله أن منه لا بد ألا نحمل رجلا إن متنا كفانا ما خلفنا من عيالنا و إن عشنا حملنا كلنا فنزل عبد الرحمن و أخوه الأعرج فحملاه فكانوا يتعاقبون الجمل فلما دنا من مكة و كان بمر الظهران قال و الله لقد رأيت هاهنا أمرا ما كان يخرج على مثله أحد له رأي و لكنه شؤم ابن الحنظلية إن جزورا نحرت هاهنا فلم يبق خباء إلا أصابه من دمها فقالا قد رأينا ذلك و لكن رأيناك و قومك قد مضيتم فمضينا معكم و لم يكن لنا معكم أمر. قال الواقدي فحدثني عبد الرحمن بن الحارث عن مخلد بن خفاف عن أبيه قال كانت الدروع في قريش كثيرة يومئذ فلما انهزموا جعلوا يلقونها و جعل المسلمون يتبعونهم و يلقطون ما طرحوا و لقد رأيتني يومئذ التقطت ثلاث أدرع جئت بها أهلي فكانت عندنا بعد فزعم لي رجل من قريش و رأى درعا منها عندنا فعرفها قال هذه درع الحارث بن هشام. قال الواقدي و حدثني محمد بن حميد عن عبد الله بن عمرو بن أمية قال أخبرني من انكشف من قريش يومئذ منهزما و إنه ليقول في نفسه ما رأيت مثل هذا فر منه إلا النساء. (15/126)
شرح نهج البلاغة ج : 14 ص : 149قال الواقدي كان قباث بن أشيم الكناني يقول شهدت مع المشركين بدرا و إني لأنظر إلى قلة أصحاب محمد في عيني و كثرة من معنا من الخيل و الرجل فانهزمت فيمن انهزم فلقد رأيتني و إني لأنظر إلى المشركين في كل وجه و إني لأقول في نفسي ماأيت مثل هذا الأمر فر منه إلا النساء و صاحبني رجل فبينا هو يسير معي إذ لحقنا من خلفنا فقلت لصاحبي أ بك نهوض قال لا و الله ما بي قال و عقر و ترفعت فلقد صبحت غيقة قال و غيقة عن يسار السقيا بينها و بين الفرع ليلة و بين الفرع و المدينة ثمانية برد قبل الشمس كنت هاديا بالطريق و لم أسلك المحاج و خفت من الطلب فتنكبت عنها فلقيني رجل من قومي بغيقة فقال ما وراءك قلت لا شي ء قتلنا و أسرنا و انهزمنا فهل عندك من حملان قال فحملني على بعير و زودني زادا حتى لقيت الطريق بالجحفة ثم مضيت حتى دخلت مكة و إني لأنظر إلى الحيسمان ب حابس الخزاعي بالغميم فعرفت أنه تقدم ينعى قريشا بمكة فلو أردت أن أسبقه لسبقته فتنكبت عنه حتى سبقني ببعض النهار فقدمت و قد انتهى إلى مكة خبر قتلاهم و هم يلعنون الخزاعي و يقولون ما جاءنا بخير فمكثت بمكة فلما كان بعد الخندق قلت لو قدمت المدينة فنظرت ما يقول محمد و قد وقع في قلبي الإسلام فقدمت المدينة فسألت عن رسول الله ص فقالوا هو ذاك في ظل المسجد مع ملأ من أصحابه فأتيته و أنا لا أعرفه من بينهم فسلمت فقال يا قباث بن أشيم أنت القائل يوم بدر ما رأيت مثل هذا الأمر فر منه إلا النساء قلت أشهد أنك رسول الله و أن هذا الأمر ما خرج مني إلى أحد قط و ما ترمرمت به إلا شيئا حدثت به نفسي فلو لا أنك نبي ما أطلعك الله عليه هلم حتى أبايعك فأسلمت شرح نهج البلاغة ج : 14 ص : 150قال الواقدي و قد روي أنه لما توجه المشركون إلى بدر كان فتيان ممن تخلف عنهم بمكة سمارا يسمرون بذي طوى فالقمر حتى يذهب الليل يتناشدون الأشعار و يتحدثون فبينا هم كذلك إذ (15/127)
سمعوا صوتا قريبا منهم و لا يرون القائل رافعا صوته يتغنى (15/128)
أزاد الحنيفيون بدرا مصيبة سينقض منها ركن كسرى و قيصراأرنت لها صم الجبال و أفزعت قبائل ما بين الوتير فخيبراأجازت جبال الأخشبين و جردت حرائر يضربن الترائب حسرا
قال الواقدي أنشدنيه و رواه لي عبد الله بن أبي عبيدة عن محمد بن عمار بن ياسر قال فاستمعوا الصوت فلا يرون أحدا فخرجوا في طلبه فلم يروا أحدا فخرجوا فزعين حتى جازوا الحجر فوجدوا مشيخة منهم جلة سمارا فأخبروهم الخبر فقالوا لهم إن كان ما تقولون فإن محمدا و أصحابه يسمون الحنيفية قال فلم يبق أحد من الفتيان الذين كانوا بذي طوى إلا وعك فما مكثوا إلا ليلتين أو ثلاثا حتى قدم الحيسمان الخزاعي بخبر أهل بدر و من قتل منهم فجعل يخبرهم فيقول قتل عتبة و شيبة ابنا ربيعة و قتل ابنا الحجاج و أبو البختري و زمعة بن الأسود قال و صفوان بن أمية في الحجر جالس يقول لا يعقل هذا شيئا مما يتكلم به سلوه عني فقالوا صفوان بن أمية لك به علم قال نعم هو ذاك في الحجر و لقد رأيت أباه و أخاه مقتولين و رأيت سهيل بن عمرو و النضر بن الحارث أسيرين رأيتهما مقرونين في الحبال. شرح نهج البلاغة ج : 14 ص : 1قال الواقدي و بلغ النجاشي مقتل قريش و ما ظفر الله به رسوله فخرج في ثوبين أبيضين ثم جلس على الأرض و دعا جعفر بن أبي طالب و أصحابه فقال أيكم يعرف بدرا فأخبروه فقال أنا عارف بها قد رعيت الغنم في جوانبها هي من الساحل على بعض نهار و لكني أردت أن أتثبت منكم قد نصر الله رسوله ببدر فاحمدوا الله على ذلك فقال بطارقته أصلح الله الملك إن هذا شي ء لم تكن تصنعه يريدون لبس البياض و الجلوس على الأرض فقال إن عيسى ابن مريم كان إذا حدثت له نعمة ازداد بها تواضعا. قال الواقدي فلما رجعت قريش إلى مكة قام فيهم أبو سفيان بن حرب فال يا معشر قريش لا تبكوا على قتلاكم و لا تنح عليهم نائحة و لا يندبهم شاعر و أظهروا الجلد و العزاء فإنكم إذا
نحتم عليهم و بكيتموهم بالشعر أذهب ذلك غيظكم فأكلكم ذلك عن عداوة محمد و أصحابه مع أن محمدا إن بلغه و أصحابه ذلك شمتوا بكم فتكون أعظم المصيبتين و لعلكم تدركون ثأركم فالدهن و النساء علي حرام حتى أغزو محمدا فمكثت قريش شهرا لا يبكيهم شاعر و لا تنوح عليهم نائحة. قال الواقدي و كان الأسود بن المطلب قد ذهب بصره و قد كمد على من قتل من ولده و كان يحب أن يبكي عليهم فتأبى عليه قريش ذلك فكان يقول لغلامه بين اليومين ويلك احمل معي خمرا و اسلك بي الفج الذي سلكه أبو حكيمة يعني زمعة ولده المقتول ببدر فيأتي به غلامه على الطريق عند ذلك الفج فيجلس فيسقيه الخمر شرح نهج البلاغة ج : 14 ص : 152حتى ينتشي ثم يبكي على أبي حكيمة و إخوته ثم يحثي التراب على رأسه و يقول لغلامه ويحك تم علي فإني أكره أن تعلم بي قريش إني أراها لم تجمع البكاء على قتلاها. قال الواقدي حدثني مصعب بن ثابت عن عيسى بن معمر عن عباد بن عبد الله بن الزبير عن عائشة قالت قالت قريش حين رجعوا إلى مكة لا تبكوا على قتلاكم فيبلغ محمدا و أصحابه فيشمتوا بكم و لا تبعثوا في أسراكم فيأرب بكم القوم ألا فأمسكوا عن البكاء. قال و كان الأسود بن المطلب أصيب له ثلاثة من ولده زمعة و عقيل و الحارث بن زمعة فكان يحب أن يبكي على قتلاه فبينا هو كذلك إذ سمع نائحة من الليل فقال لغلامه و قد ذهب بصره انظر هل بكت قريش على قتلاها لعلي أبكي على أبي حكيمة يعني زمعة فإن جوفي قد احترق فذهب الغلام و رجع إليه فقال إنما هي امرأة تبكي على بعيرها قد أضلته فقال الأسود (15/129)
تبكي أن يضل لها بعير و يمنعها من النوم السهودفلا تبكي على بكر و لكن على بكر تصاغرت الخدودفبكى إن بكيت على عقيل و بكى حارثا أسد الأسودو بكيهم و لا تسمي جميعا فما لأبي حكيمة من نديد
شرح نهج البلاغة ج : 14 ص : 153على بدر سراة بني هصيص و مخزوم و رهط أبي الوليدألا قد ساد بعدهم رجال و لو لا يوم بدر لم يسودوقال الواقدي و مشت نساء من قريش إلى هند بنت عتبة فقلن أ لا تبكين على أبيك و أخيك و عمك و أهل بيتك فقالت حلأني أن أبكيهم فيبلغ محمدا و أصحابه فيشمتوا بنا و نساء بني الخزرج لا و الله حتى أثأر محمدا و أصحابه و الدهن علي حرام إن دخل رأسي حتى نغزو محمدا و الله لو أعلم أن الحزن يذهب عن قلبي لبكيت و لكن لا يذهبه إلا أن أرى ثأري بعيني من قتلة الأحبة فمكثت على حالها لا تقرب الدهن و لا قربت فراش أبي سفيان من يوم حلفت حتى كانت وقعة أحد. قال الواقدي و بلغ نوفل بن معاوية الديلي و هو في أهله و قد كان شهد معهم بدرا أن قريشا بكت على قتلاها فقدم مكة فقال يا معشر قريش لقد خفت أحلامكم و سفه رأيكم و أطعتم نساءكم أ مثل قتلاكم يبكى عليهم هم أجل من البكاء مع أن ذلك يذهب غيظكم عن عداوة محمد و أصحابه فلا ينبغي أن يذهب الغيظ عنكم إلا أن تدركوا ثأركم من عدوكم فسمع أبو سفيان بن حرب كلامه فقال يا أبا معاوية غلبت و الله ما ناحت امرأة من بني عبد شمس على قتيل لها إلى اليوم و لا بكاهم شاعر إلا نهيته حتى ندرك ثأرنا من محمد و أصحابه و إني لأنا الموتور الثائر قتل ابني حنظلة و سادة أهل هذا الوادي أصبح هذا الوادي مقشعرا لفقدهم. قال الواقدي و حدثني معاذ بن محمد الأنصاري عن عاصم بن عمر بن قتادة قال لما رجع المشركون إلى مكة و قد قتل صناديدهم و أشرافهم أقبل عمير بن وهب بن عمير الجمحي حتى جلس إلى صفوان بن أمية في الحجر فقال صفوان بن أمية قبح العيش شرح نهج البلاغة ج : 14 ص : 154بعد قتلى بدر قال عمير بنهب أجل و الله ما في العيش بعدهم خير و لو لا دين علي لا أجد له قضاء و عيال لا أدع لهم شيئا لرحلت إلى محمد حتى أقتله إن ملأت عيني منه فإنه بلغني أنه يطوف في الأسواق فإن لي عندهم علة أقول قدمت على ابني (15/130)
هذا الأسير ففرح صفوان بقوله و قال يا أبا أمية و هل نراك فاعلا قال إي و رب هذه البنية قال صفوان فعلي دينك و عيالك أسوة عيالي فأنت تعلم أنه ليس بمكة رجل أشد توسعا على عياله مني قال عمير قد عرفت ذلك يا أبا وهب قال صفوان فإن عيالك مع عيالي لا يسعني شي ء و نعجز عنهم و دينك علي فحمله صفوان على بعيره و جهزه و أجرى علىعياله مثل ما يجري على عيال نفسه و أمر عمير بسيفه فشحذ و سم ثم خرج إلى المدينة و قال لصفوان اكتم علي أياما حتى أقدمها و خرج فلم يذكره صفوان و قدم عمير فنزل على باب المسجد و عقل راحلته و أخذ السيف فتقلده ثم عمد نحو رسول الله ص و عمر بن الخطاب في نفر من المسلمين يتحدثون و يذكرون نعمة الله عليهم في بدر فرأى عميرا و عليه السيف ففزع عمر منه و قال لأصحابه دونكم الكلب هذا عمير بن وهب عدو الله الذي حرش بيننا يوم بدر و حزرنا للقوم و صعد فينا و صوب يخبر قريشا أنه لا عدد لنا و لا كمين فقاموا إليه فأخذوه فانطلق عمر إلى رسول الله ص فقال يا رسول الله هذا عمير بن وهب قد دخل المسجد و معه السلاح و هو الغادر الخبيث الذي لا يؤمن على شي ء فقال النبي ص أدخله علي فخرج عمر فأخذ بحمائل سيفه فقبض بيده عليها و أخذ بيده الأخرى قائم السيف ثم أدخله على رسول الله ص فلما رآه قال يا عمر تأر عنه فلما دنا عمير إلى النبي ص قال أنعم صباحا فقال له النبي ص قد أكرمنا الله عن تحيتك و جعل تحيتنا السلام و هي تحية أهل الجنة قال عمير إن عهدك بها لحديث فقال النبي ص قد أبدلنا (15/131)
شرح نهج البلاغة ج : 14 ص : 155الله خيرا فما أقدمك يا عمير قال قدمت في أسيري عندكم تفادونه و تقاربوننا فيه فإنكم العشيرة و الأصل قال النبي ص فما بال السيف قال عمير قبحها الله من سيوف و هل أغنت من شي ء إنما نسيته حين نزلت و هو في رقبتي و لعمري إن لي لهماره فقال رسول الله ص اصدق يا عمير ما الذي أقدمك قال ما قدمت إلا في أسيري قال ص فما شرطت لصفوان بن أمية في الحجر ففزع عمير و قال ما ذا شرطت له قال تحملت بقتلي على أن يقضي دينك و يعول عيالك و الله حائل بينك و بين ذلك قال عمير أشهد أنك صادق و أشهد أن لا إله إلا الله كنا يا رسول الله نكذبك بالوحي و بما يأتيك من السماء و إن هذا الحديث كان بيني و بين صفوان كما قلت لم يطلع عليه غيره و غيري و قد أمرته أن يكتمه ليالي فأطلعك الله عليه فآمنت بالله و رسوله و شهدت أن ما جئت به حق الحمد لله الذي ساقني هذا المساق و فرح المسلمون حين هداه الله و قال عمر بن الخطاب لخنزير كان أحب إلي منه حين طلع و هو الساعة أحب إلي من بعض ولدي و قال النبي ص علموا أخاكم القرآن و أطلقوا له أسيره فقال عمير يا رسول الله إني كنت جاهدا على إطفاء نور الله فله الحمد أن هداني فأذن لي فألحق قريشا فأدعوهم إلى الله و إلى الإسلام فلعل الله يهديهم و يستنقذهم من الهلكة فأذن له فخرج فلحق بمكة و كان صفوان يسأل عن عمير بن وهب كل راكب يقدم من المدينة يقول هل حدث بالمدينة من حدث و يقول لقريش أبشروا بوقعة تنسيكم وقعة بدر فقدم رجل من المدينة فسأله صفوان عن عمير فقال أسلم فلعنه صفوان و لعنه المشركون بمكة و قالوا صبأ عمير و حلف صفوان ألا يكلمه أبدا و لا ينفعه و طرح عياله و قدم عمير فنزل في أهله و لم يأت صفوان و أظهر الإسلام فبلغ صفوان فقال قد عرفت حين لم يبدأ بي قبل منزله و قد كان رجل شرح نهج البلاغة ج : 14 ص : 156أخبي أنه ارتكس لا أكلمه من رأسي أبدا و لا أنفعه و لا عياله بنافعة أبدا (15/132)
فوقع عليه عمير و هو في الحجر فقال يا أبا وهب فأعرض صفوان عنه فقال عمير أنت سيد من ساداتنا أ رأيت الذي كنا عليه من عبادة حجر و الذبح له أ هذا دين أشهد أن لا إله إلا الله و أن محمدا عبده و رسوله فلم يجبه صفوان بكلمة و أسلم مع عمير بشر كثير. قال الواقدي و كان فتية من قريش خمسة قد أسلموا فاحتبسهم آباؤهم فخرجوا مع أهلهم و قومهم إلى بدر و هم على الشك و الارتياب لم يخلصوا إسلامهم و هم قيس بن الوليد بن المغيرة و أبو قيس بن الفاكه بن المغيرة و الحارث بن زمعة بن الأسود و علي بن أمية بن خلف و العاص بن منبه بن الحجاج فلما قدموا بدرا و رأوا قلة أصحاب النبي ص قالوا غر هؤلاء دينهم ففيهم أنزل إِذْ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ غَرَّ هؤُلاءِ دِينُهُمْ ثم أنزل فيهم إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ قالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قالُوا أَ لَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ واسِعَةً فَتُهاجِرُوا فِيها إلى تمام ثلاث آيات. قال فكتب بها المهاجرون بالمدينة إلى من أقام بمكة مسلما فقال جندب بن ضمرة الخزاعي لا عذر لي و لا حجة في مقامي بمكة و كان مريضا فقال لأهله أخرجوني لعلي أجد روحا قالوا أي وجه أحب إليك قال نعم التنعيم فخرجوا به إلى التنعيم و بين التنعيم و مكة أربعة أميال من طريق المدينة فقال اللهم إني خرجت إليك مهاجرا فأنزل الله تعالى وَ مَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهاجِراً إِلَى اللَّهِ وَ رَسُولِهِ الآية فلما رأى ذلك من كان بمكة ممن يطيق الخروج خرجوا فطلبهم أبو سفيان في رجال من المشركين (15/133)
شرح نهج البلاغة ج : 14 ص : 157فردوهم و سجنوهم فافتتن منهم ناس و كان الذين افتتنوا إنما افتتنوا حين أصابهم البلاء فأنزل الله تعالى فيهم وَ مِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذابِ اللَّهِ اية و ما بعدها فكتب بها المهاجرون بالمدينة إلى من كان بمكة مسلما فلما جاءهم الكتاب بما أنزل فيهم قالوا اللهم إن لك علينا إن أفلتنا ألا نعدل بك أحدا فخرجوا الثانية فطلبهم أبو سفيان و المشركون فأعجزوهم هربا في الجبال حتى قدموا المدينة و اشتد البلاء على من ردوا من المسلمين فضربوهم و آذوهم و أكرهوهم على ترك الإسلام و رجع ابن أبي سرح مشركا فقال لقريش ما كان يعلم محمدا إلا ابن قمطة عبد نصراني لقد كنت أكتب له فأحول ما أردت فأنزل الله تعالى وَ لَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّما يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ الآية (15/134)
القول في نزول الملائكة يوم بدر و محاربتها المشركين
اختلف المسلمون في ذلك فقال الجمهور منهم نزلت الملائكة حقيقة كما ينزل الحيوان و الحجر من الموضع العالي إلى الموضع السافل. و قال قوم من أصحاب المعاني غير ذلك. و اختلف أرباب القول الأول فقال الأكثرون نزلت و حاربت و قال قوم منهم نزلت و لم تحارب و روى كل قوم في نصرة قولهم روايات. فقال الواقدي في كتاب المغازي حدثني عمر بن عقبة عن شعبة مولى ابن عباس قال سمعت ابن عباس يقول لما تواقف الناس أغمي على رسول الله شرح نهج البلاغة ج : 14 ص : 158ص ساعة ثم كشف عنه فبشر المؤمنين بجبرائيل في جند من الملائكة في ميمنة الناس و كائيل في جند آخر في ميسرة الناس و إسرافيل في جند آخر في ألف و كان إبليس قد تصور للمشركين في صورة سراقة بن جعشم المدلجي يذمر المشركين و يخبرهم أنه لا غالب لهم من الناس فلما أبصر عدو الله الملائكة نكص على عقبيه و قال إِنِّي بَرِي ءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرى ما ا تَرَوْنَ فتشبث به الحارث بن هشام و هو يرى أنه سراقة لما سمع من كلامه فضرب في صدر الحارث فسقط الحارث و انطلق إبليس لا يرى حتى وقع في البحر و رفع يديه قائلا يا رب موعدك الذي وعدتني و أقبل أبو جهل على أصحابه يحضهم على القتال و قال لا يغرنكم خذلان سراقة بن جعشم إياكم فإنما كان على ميعاد من محمد و أصحابه سيعلم إذا رجعنا إلى قديد ما نصنع بقومه و لا يهولنكم مقتل عتبة و شيبة و الوليد فإنهم عجلوا و بطروا حين قاتلوا و ايم الله لا نرجع اليوم حتى نقرن محمدا و أصحابه في الجبال فلا ألفين أحدا منكم قتل منهم أحدا و لكن خذوهم أخذا نعرفهم بالذي صنعوا لمفارقتهم دينكم و رغبتهم عما كان يعبد آباؤهم. قال الواقدي و حدثني عتبة بن يحيى عن معاذ بن رفاعة بن رافع عن أبيه قال إن كنا لنسمع لإبليس يومئذ خوارا و دعاء بالثبور و الويل و تصور في صورة سراقة بن جعشم حتى هرب فاقتحم البحر و رفع يديه مادا لهما يقول يا رب ما وعدتني و لقد كانت قريش بعد ذلك تعير (15/135)
سراقة بما صنع يومئذ فيقول و الله ما صنعت شيئا. قال الواقدي فحدثني أبو إسحاق الأسلمي عن الحسن بن عبيد الله مولى بني العباس عن عمارة الليثي قال حدثني شيخ صياد من الحي و كان يومئذ على ساحل البحر قال سمعت صياحا يا ويلاه يا ويلاه قد ملأ الوادي يا حرباه يا حرباه فنظرت فإذا سراقة بن جعشم فدنوت منه فقلت ما لك فداك أبي و أمي فلم يرجع إلي شيئا ثم أراه اقتحم البحر و رفع يديه مادا يقول يا رب ما وعدتني فقلت (15/136)
شرح نهج البلاغة ج : 14 ص : 159في نفسي جن و بيت الله سراقة و ذلك حين زاغت الشمس و ذلك عند انهزامهم يوم بدر. قال الواقدي قالوا كانت سيماء الملائكة عمائم قد أرخوها بين أكتافهم خضراء و صفراء و حمراء من نور و الصوف في نواصي خيلهم. قال الواقدي حدثني محمد بن صح عن عاصم بن عمر عن محمود بن لبيد قال قال رسول الله ص يوم بدر إن الملائكة قد سومت فسوموا فأعلم المسلمون بالصوف في مغافرهم و قلانسهم قال الواقدي حدثني محمد بن صالح قال كان أربعة من أصحاب محمد ص يعلمون في الزحوف حمزة بن عبد المطلب كان يوم بدر معلما بريشة نعامة و كان علي ع معلما بصوفة بيضاء و كان الزبير معلما بعصابة صفراء و كان أبو دجانة يعلم بعصابة حمراء و كان الزبير يحدث أن الملائكة نزلت يوم بدر على خيل بلق عليها عمائم صفر فكانت على صورة الزبير. قال الواقدي فروي عن سهيل بن عمرو قال لقد رأيت يوم بدر رجالا بيضا على خيل بلق بين السماء و الأرض معلمين يقبلون و يأسرون. قال الواقدي و كان أبو أسد الساعدي يحدث بعد أن ذهب بصره و يقول لو كنت معكم الآن ببدر و معي بصري لأريتكم الشعب الذي خرجت منه الملائكة لا أشك فيه و لا أمتري قال و كان أسيد يحدث عن رجل من بني غفار حدثه قال أقبلت أنا و ابن عم لي يوم بدر حتى صعدنا على جبل و نحن يومئذ على الشرك ننظر الوقعة و على من تكون الدبرة فننتهب مع من ينتهب إذ رأيت سحابة دنت منا فسمعت منها شرح نهج البلاغة ج :
14 ص : 160همهمة الخيل و قعقعة الحديد و سمعت قائلا يقول أقدم حيزوم فأما ابن ع فانكشف قناع قلبه فمات و أما أنا فكدت أهلك فتماسكت و أتبعت بصري حيث تذهب السحابة فجاءت إلى النبي ص و أصحابه ثم رجعت و ليس فيها شي ء مما كنت أسمع. قال الواقدي و حدثني خارجة بن إبراهيم بن محمد بن ثابت بن قيس بن شماس عن أبيه قال سأل رسول الله ص جبرائيل من القائل يوم بدر أقبل حيزوم فقال جبرائيل يا محمد ما كل أهل السماء أعرف (15/137)
قال الواقدي و حدثني عبد الرحمن بن الحارث عن أبيه عن جده عبيدة بن أبي عبيدة عن أبي رهم الغفاري عن ابن عم له قال بينا أنا و ابن عم لي على ماء بدر فلما رأينا قلة من مع محمد و كثرة قريش قلنا إذا التقت الفئتان عمدنا إلى عسكر محمد و أصحابه فانتهبناه فانطلقنا نحو المجنبة اليسرى من أصحاب محمد و نحن نقول هؤلاء ربع قريش فبينا نحن نمشي في الميسرة إذ جاءت سحابة فغشيتنا فرفعنا أبصارنا لها فسمعنا أصوات الرجال و السلاح و سمعنا قائلا يقول لفرسه أقدم حيزوم و سمعناهم يقولون رويدا تتاءم أخراكم فنزلوا على ميمنة رسول الله ص ثم جاءت أخرى مثل تلك فكانت مع النبي ص فنظرنا إلى أصحاب محمد و إذا هم على الضعف من قريش فمات ابن عمي و أما أنا فتماسكت و أخبرت النبي ص بذلك و أسلمت.
قال الواقدي و قد روي عن رسول الله ص أنه قال ما رئي الشيطان يوما هو فيه أصغر و لا أحقر و لا أدحر و لا أغضب منه في يوم عرفة و ما ذاك إلا لما رأى من نزول الرحمة و تجاوز الله تعالى عن الذنوب العظام إلا ما رأى يوم بدر قيل و ما رأى شرح نهج البلاغة ج : 14 ص : 1يا رسول الله يوم بدر قال أما إنه رأى جبريل يوزع الملائكة
قال و قد روي عن رسول الله ص أنه قال يومئذ هذا جبرائيل يسوق بريح كأنه دحية الكلبي إني نصرت بالصبا و أهلكت عاد بالدبور
قال الواقدي و كان عبد الرحمن بن عوف يقول رأيت يوم بدر رجلين أحدهما عن يمين النبي ص و الآخر عن يساره يقاتلان أشد القتال ثم ثلثهما ثالث من خلفه ثم ربعهما رابع أمامه. قال و قد روى سعد بن أبي وقاص مثل ذلك قال رأيت رجلين يوم بدر يقاتلان عن النبي ص أحدهما عن يمينه و الآخر عن يساره و إني لأراه ينظر إلى ذا مرة و إلى ذا مرة سرورا بما فتحه الله تعالى. قال الواقدي و حدثني إسحاق بن يحيى عن حمزة بن صهيب عن أبيه قال ما أدري كم يد مقطوعة و ضربة جائفة لم يدم كلمها يوم بدر قد رأيتها. قال الواقدي و روى أبو بردة بن نيار قال جئت يوم بدر بثلاثة رءوس فوضعتها بين يدي رسول الله ص فقلت يا رسول الله أما اثنان فقتلتهما و أما الثالث فإني رأيت رجلا طويلا أبيض ضربه فتدهده أمامه فأخذت رأسه فقال رسول الله ص ذاك فلان من الملائكة. (15/138)
قال الواقدي و كان ابن عباس رحمه الله يقول لم تقاتل الملائكة إلا يوم بدر
شرح نهج البلاغة ج : 14 ص : 162 قال و حدثني ابن أبي حبيبة عن داود بن الحصين عن عكرمة عن ابن عباس قال كان الملك يتصور في صورة من يعرفه المسلمون من الناس ليثبتهم فيقول إني قد دنوت من المشركين فسمعتهم يقولون لو حملوا علينا ما ثبتنا لهم و ليسوا بشي ء فاحملوليهم و ذلك قول الله عز و جل إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا الآية
قال الواقدي و حدثني موسى بن محمد عن أبيه قال كان السائب بن أبي حبيش الأسدي يحدث في زمن عمر بن الخطاب فيقول و الله ما أسرني يوم بدر أحد من الناس فيقال فمن فيقول لما انهزمت قريش انهزمت معها فيدركني رجل أبيض طويل على فرس أبلق بين السماء و الأرض فأوثقني رباطا و جاء عبد الرحمن بن عوف فوجدني مربوطا و كان عبد الرحمن ينادي في العسكر من أسر هذا فليس أحد يزعم أنه أسرني حتى انتهى بي إلى رسول الله ص فقال لي رسول الله يا ابن أبي حبيش من أسرك قلت لا أعرفه و كرهت أن أخبره بالذي رأيت فقال رسول الله ص أسره ملك من الملائكة كريم اذهب يا ابن عوف بأسيرك فذهب بي عبد الرحمن قال السائب و ما زالت تلك الكلمة أحفظها و تأخر إسلامي حتى كان من إسلامي ما كان. قال الواقدي و كان حكيم بن حزام يقول لقد رأيتنا يوم بدر و قد وقع بوادي خلص بجاد من السماء قد سد الأفق قال و وادي خلص ناحية الرويثة قال فإذا الوادي يسيل نملا فوقع في نفسي أن هذا شي ء من السماء أيد به محمد فما كانت إلا الهزيمة و هي الملائكة. شرح نهج البلاغة ج : 14 ص : 163قال الواقدي و قد قالوا إنه لما التحم القتال و رسول الله ص رافع يديه يسأل الله النصر و ما وعده و يقول اللهم إن ظهرت هذه العصابة ظهر الشرك و لا يقوم لك دين و أبو بكر يقول و الله لينصرنك الله و ليبيضن وجهك فأنزل الله تعالى ألفا من الملائكة مردفين عند أكتاف العدو فقال رسول الله ص يا أبا بكر أبشر هذا جبرائيل معتجر بعمامة صفراء آخذ بعنان فرسه بين السماء و الأرض ثم قال إنه لما نزل الأرض تغيب عني ساعة ثم طلع على ثناياه النقع يقول أتاك النصر من الله إذ دعوته. قال الواقدي و حدثني موسى بن يعقوب عن عمه قال سمعت أبا بكر بن سليمان بن أبي خيثمة يقول سمعت مروان بن الحكم يسأل حكيم بن حزام عن يوم بدر فجعل الشيخ يكره ذلك حتى ألح عليه فقال حكيم التقينا فاقتتلنا فسمعت صوتا وقع من السماء إلى الأرض مثل وقع (15/139)
الحصاة في الطست و قبض النبي ص القبضة فرمى بها فانهزمنا. قال الواقدي و قد روى عبد الله بن ثعلبة بن صغير قال سمعت نوفل بن معاوية الدؤلي يقول انهزمنا يوم بدر و نحن نسمع كوقع الحصى في الطساس بين أيدينا و من خلفنا فكان ذلك أشد الرعب علينا فأما الذين قالوا نزلت الملائكة و لم تقاتل فذكر الزمخشري في كتابه في تفسير القرآن المعروف بالكشاف أن قوما أنكروا قتال الملائكة يوم بدر و قالوا لو قاتل واحد من الملائكة جميع البشر لم يثبتوا له و لاستأصلهم بأجمعهم ببعض قوته فإن جبرائيل ع رفع مدائن قوم لوط كما جاء في الخبر على خافقة من جناحه شرح نهج البلاغة ج : 14 ص : 164حتى بلغ بها إلى السماء ثم قلبها فجعل عاليها سافلها فما عسى أن يبلغ قوة ألف رجل من قريش ليحتاج في مقاومتها و حربها إلى ألف ملك من ملائكة السماء مضان إلى ثلاثمائة و ثلاثة عشر رجلا من بني آدم و جعل هؤلاء قوله تعالى فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْناقِ أمرا للمسلمين لا أمرا للملائكة. و رووا في نصرة قولهم روايات قالوا و إنما كان نزول الملائكة ليكثروا سواد المسلمين في أعين المشركين فإنهم كانوا يرونهم في مبدأ الحال قليلين في أعينهم كما قال تعالى وَ يُقَلِّلُكُمْ ليطمع المشركون فيهم و يجترءوا على حربهم فلما نشبت الحرب كثرهم الله تعالى بالملائكة في أعين المشركين ليفروا و لا يثبتوا و أيضا فإن الملائكة نزلت و تصورت بصور البشر الذين يعرفهم المسلمون و قالوا لهم ما جرت العادة أن يقال مثله من تثبيت القلوب يوم الحرب نحو قولهم ليس المشركون بشي ء لا قوة عندهم لا قلوب لهم لو حملتم عليهم لهزمتموهم و أمثال ذلك. و لقائل أن يقول إذا كان قادرا على أن يقلل ثلاثمائة إنسان في أعين قريش حتى يظنوهم مائة فهو قادر على أن يكثرهم في أعين ريش بعد التقاء حلقتي البطان فيظنوهم ألفين و أكثر من غير حاجة إلى إنزال الملائكة. فإن قلت لعل في إنزالهم لطفا للمكلفين قلت و لعل في (15/140)
محاربتهم لطفا للمكلفين و أما أصحاب المعاني فإنهم لم يحملوا الكلام على ظاهره و لهم في تأويله قول ليس هذا موضع ذكره (15/141)
شرح نهج البلاغة ج : 14 ص : 165القول فيما جرى في الغنيمة و الأسارى بعد هزيمة قريش و رجوعها إلى مكةقال الواقدي لما تصاف المشركون و المسلمون قال النبي ص من قتل قتيلا فله كذا و كذا و من أسر أسيرا فله كذا و كذا فلما انهزم المشركون كان الناس ثلاث فرق فرقة قامت عند خيمة رسول الله ص و كان أبو بكر معه في الخيمة و فرقة أغارت على النهب تنتهب و فرقة طلبت العدو فأسروا و غنموا فتكلم سعد بن معاذ و كان ممن أقام على خيمة رسول الله ص فقال يا رسول الله ما منعنا أن نطلب العدو زهادة في الأجر و لا جبن عن العدو و لكنا خفنا أن نعري موضعك فيميل عليك خيل من خيل المشركين و رجال من رجالهم و قد أقام عند خيمتك وجوه الناس من المهاجرين و الأنصار و الناس كثير و متى تعط هؤلاء لا يبقى لأصحابك شي ء و القتلى و الأسرى كثير و الغنيمة قليلة فاختلفوا فأنزل الله عز و جل يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفالِ قُلِ الْأَنْفالُ لِلَّهِ وَ الرَّسُولِ الآية فرجع المسلمون و ليس لهم من الغنيمة شي ء ثم أنزل له فيما بعد وَ اعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْ ءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَ لِلرَّسُولِ فقسمه عليهم بينهم. قال الواقدي و قد روى عبادة بن الوليد بن عبادة عن جده عبادة بن الصامت قال سلمنا الأنفال يوم بدر لله و للرسول و لم يخمس رسول الله ص بدرا و نزت بعد وَ اعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْ ءٍ فاستقبل رسول الله ص بالمسلمين شرح نهج البلاغة ج : 14 ص : 166الخمس فيما كان من أول غنيمة بعد بدر. قال الواقدي و قد روي عن أبي أسيد الساعدي مثله. و روى عكرمة قال اختلف الناس في الغنائم يوم بدر فأمر رسول ا ص بالغنائم أن ترد في المقسم فلم يبق منها شي ء إلا رد و ظن أهل الشجاعة أنه ص يخصهم بها دون غيرهم من أهل الضعف ثم
أمر رسول الله ص أن تقسم بينهم على سواء فقال سعد بن أبي وقاص يا رسول الله تعطي فارس القوم الذي يحميهم مثل ما تعطي الضعيف فقال ص ثكلتك أمك و هل نصرون إلا بضعفائكم. قال الواقدي فروى محمد بن سهل بن خيثمة قال أمر رسول الله ص أن ترد الأسرى و الأسلاب و ما أخذوا من المغنم ثم أقرع بينهم في الأسرى و قسم أسلاب المقتولين الذين يعرف قاتلوهم بين قاتليهم و قسم ما وجده في العسكر بين جميع المسلمين عن فراق. قال الواقدي و حدثني عبد الحميد بن جعفر قال سألت موسى بن سعد بن زيد بن ثابت كيف فعل النبي ص يوم بدر في الأسرى و الأسلاب و الأنفال فقال نادى مناديه يومئذ من قتل قتيلا فله سلبه و من أسر أسيرا فهو له و أمر بما وجد في العسكر و ما أخذ بغير قتال فقسمه بينهم عن فراق فقلت لعبد الحميد فلمن أعطى سلب أبي جهل فقال قد قيل إنه أعطاه معاذ بن عمرو بن الجموح و قيل أعطاه ابن مسعود. قال و أخذ علي ع درع الوليد بن عتبة و بيضته و مغفره و أخذ حمزة سلاح عتبة و أخذ عبيدة بن الحارث سلاح شيبة ثم صار إلى ورثته. (15/142)
شرح نهج البلاغة ج : 14 ص : 167قال الواقدي فكانت القسمة على ثلاثمائة و سبعة عشر سهما لأن الرجال كانت ثلاثمائة و ثلاثة عشر رجلا و كان معهم فرسان لهما أربعة أسهم و قسم أيضا فوق ذلك لثمانية أسهم لم يحضروا ضرب لهم بسهامهم و أجورهم ثلاثة من المهاجرين لا خلاف هم و هم عثمان بن عفان خلفه رسول الله ص على ابنته رقية و ماتت يوم قدم زيد بن حارثة بالبشارة إلى المدينة و طلحة بن عبيد الله و سعد بن زيد بن عمرو بن نفيل بعثهما رسول الله ص يتجسسان خبر العير و خمسة من الأنصار هم أبو لبابة بن عبد المنذر خلفه على المدينة و عاصم بن عدي خلفه على قباء و أهل العالية و الحارث بن حاطب أمره بأمر في بني عمرو بن عوف و خوات بن جبير كسر بالروحاء و الحارث بن الصمة مثله فلا اختلاف في هؤلاء و اختلف في أربعة غيرهم فروي أنه ضرب لسعد بن عبادة بسهمه و أجره و قال لئن لم يشهدها لقد كان فيها راغبا و ذلك أنه كان يحض الناس على الخروج إلى بدر فنهش فمنعه ذلك من الخروج. و روي أنه ضرب لسعد بن مالك الساعدي بسهمه و أجره و كان تجهز إلى بدر فمرض بالمدينة فمات خلاف رسول الله ص و أوصى إليه ع. و روي أنه ضرب لرجلين آخرين من الأنصار و لم يسمهما الواقدي و قال هؤلاء الأربعة غير مجمع عليهم كإجماعهم على الثمانية. قال و قد اختلف هل ضرب بسهم في الغنيمة لقتلى بدر فقال الأكثرون لم يضرب لهم و قال بعضهم بل ضرب لهم حدثني ابن أبي سبرة عن يعقوب بن زيد عن أبيه أن رسول الله ص ضرب لشهداء بدر أربعة عشر رجلا قال و قد قال عبد الله ابن سعد بن خيثمة أخذنا سهم أبي الذي ضرب له رسول الله ص حين شرح نهج البلاغة ج : 14 ص : 168قسم الغنائم و حمله إلينا عويمر بن ساعدة قال و قد روى السائب بن أبي لبابة أن رسول الله ص أسهم لمبشر بن عبد المنذر قال و قد قدم بسهمه علينا معن بن عدي. قال الواقدي و كانالإبل التي أصابوا يومئذ مائة و خمسين بعيرا و كان معه أدم كثير حملوه (15/143)
للتجارة فمنعه المسلمون يومئذ و كان فيما أصابوا قطيفة حمراء فقال بعضهم ما لنا لا نرى القطيفة ما نرى رسول الله ص إلا أخذها فأنزل الله تعالى وَ ما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ و جاء رجل إلى رسول الله ص و قال يا رسول الله إن فلانا غل قطيفة فسأل رسول الله ص الرجل فقال لم أفعل فقال الدال يا رسول الله احفروا هاهنا فحفرنا فاستخرجت القطيفة فقال قائل يا رسول الله استغفر لفلان مرتين أو مرارا فقال ع دعونا من أبي حر. قال الواقدي و أصاب المسلمون من خيولهم عشرة أفراس و كان جمل أبي جهل فيما غنموه فأخذه النبي ص فلم يزل عنده يضرب في إبله و يغزو عليه حتى ساقه في هدي الحديبية فسأله يومئذ المشركون الجمل بمائة بعير فقال لو لا أنا سميناه في الهدي لفعلنا قال الواقدي و كان لرسول الله ص صفي من الغنيمة قبل القسمة فتنفل سيفه ذا الفقار يومئذ كان لمنبه بن الحجاج و كان رسول الله ص قد غزا إلى بدر بسيف وهبه له سعد بن عبادة يقال له العضب. قال و سمعت ابن أبي سبرة يقول سمعت صالح بن كيسان يقول خرج رسول (15/144)
شرح نهج البلاغة ج : 14 ص : 169الله ص يوم بدر و ما معه سيف و كان أول سيف قلده سيف منبه بن الحجاج غنمه يوم بدر. و قال البلاذري كان ذو الفقار للعاص بن منبه بن الحجاج و يقال لمنبه و يقال لشيبة و الثبت عندنا أنه كان للعاص بن منبه. قال الواقدي و كان أبو أسيد ساعدي إذا ذكر الأرقم بن أبي الأرقم يقول ما يومي منه بواحد فيقال ما هذا هو فيقول أمر رسول الله ص المسلمين أن يردوا يوم بدر ما في أيديهم من المغنم فرددت سيف أبي عائذ المخزومي و اسم السيف المرزبان و كان له قيمة و قدر و أنا أطمع أن يرد إلي فكلم الأرقم رسول الله ص فيه و كان رسول الله ص لا يمنع شيئا يسأله فأعطاه السيف و خرج بني له يفعة فاحتمله الغول فذهبت به متوركة ظهرا فقيل لأبي أسيد و كانت الغيلان في ذلك الزمان فقال نعم و لكنها قد هلكت فلقي بني الأرقم بن أبي الأرقم فبهش إليه باكيا مستجيرا به فقال من أنت فأخبره فقالت الغول أنا حاضنته فلها عنه و الصبي يكذبها فلم يعرج عليه حتى الساعة فخرج من داري فرس لي فقطع رسنه فلقيه الأرقم بالغابة فركبه حتى إذا دنا من المدينة أفلت منه فتعذر إلي أنه أفلت مني فلم أقدر عليه حتى الساعة. قال و روى عامر بن سعد بن أبي وقاص عن أبيه أنه سأل رسول الله ص يوم بدر سيف العاص بن منبه فأعطاه قال و أخذ ع مماليك حضروا بدرا و لم يسهم لهم و هم ثلاثة أعبد غلام لحاطب بن أبي بلتعة و غلام لعبد الرحمن شرح نهج البلاغة ج : 14 ص : 170بن عوف و غلام لسعد بن معاذ و استعمل ص شقران غلامه على الأسرى فأخذوا من كأسير ما لو كان حرا ما أصابه في المقسم. و روى عامر بن سعد بن أبي وقاص عن أبيه قال رميت سهيل بن عمرو يوم بدر فقطعت نساءه فاتبعت أثر الدم حتى وجدته قد أخذه مالك بن الدخشم و هو ممسك بناصيته فقلت أسيري رميته فقال أسيري أخذته فأتينا رسول الله فأخذه منا جميعا و أفلت سهل الروحاء فصاح ع بالناس فخرجوا في طلبه فقال ص من وجده فليقتله (15/145)
فوجده هو ص فلم يقتله. قال الواقدي و أصاب أبو بردة بن نيار أسيرا من المشركين يقال له معبد بن وهب من بني سعد بن ليث فلقيه عمر بن الخطاب و كان عمر يحض على قتل الأسرى لا يرى أحدا في يديه أسيرا إلا أمر بقتله و ذلك قبل أن يتفرق الناس فلقيه معبد و هو أسير مع أبي بردة فقال أ ترون يا عمر أنكم قد غلبتم كلا و اللات و العزى فقال عمر عباد الله المسلمين أ تتكلم و أنت أسير في أيدينا ثم أخذه من أبي بردة فضرب عنقه و يقال إن أبا بردة قتله. قال الواقدي و روى أبو بكر بن إسماعيل عن أبيه عن عامر بن سعد قال قال النبي ص يومئذ لا تخبروا سعدا بقتل أخيه فيقتل كل أسير في أيديكم. قال الواقدي و لما جي ء بالأسرى كره ذلك سعد بن معاذ فقال له رسول الله ص كأنه شق عليك أن يؤسروا قال نعم يا رسول الله كانت أول شرح نهج البلاغة: 14 ص : 171وقعة التقينا فيها بالمشركين فأحببت أن يذلهم الله و أن يثخن فيهم القتل. قال الواقدي و كان النضر بن الحارث أسره المقداد يومئذ فلما خرج رسول الله ص من بدر فكان الأثيل عرض عليه الأسرى فنظر إلى النضر بن الحارث فأبده البصر فقال لرجل إلى جنبه محمد و الله قاتلي لقد نظر إلي بعينين فيهما الموت فقال الذي إلى جنبه و الله ما هذا منك إلا رعب فقال النضر لمصعب بن عمير يا مصعب أنت أقرب من هاهنا بي رحما كلم صاحبك أن يجعلني كرجل من أصحابي هو و الله قاتلي إن لم تفعل قال مصعب إنك كنت تقول في كتاب الله كذا و كذا و تقول في نبيه كذا و كذا قال يا مصعب فليجعلني كأحد أصحابي إن قتلوا قتلت و إن من عليهم من علي قال مصعب إنك كنت تعذب أصحابه قال أما و الله لو أسرتك قريش ما قتلت أبدا و أنا حي قال مصعب و الله إني لأراك صادقا و لكن لست مثلك قطع الإسلام العهود. قال الواقدي و عرضت الأسرى على رسول الله ص فرأى النضر بن الحارث فقال اضربوا عنقه فقال المقداد أسيري يا رسول الله فقال اللهم أغن المقداد من فضلك قم يا علي (15/146)
فاضرب عنقه فقام علي فضرب عنقه بالسيف صبرا و ذلك بالأثيل فقالت أخته (15/147)
يا راكبا إن الأثيل مظنة من صبح خامسة و أنت موفق بلغ به ميتا فإن تحية ما إن تزال بها الركائب تخفق مني إليه و عبرة مسفوحة جادت لمائحها و أخرى تخن شرح نهج البلاغة ج : 14 ص : 172فليسمعن النضر إن ناديته إن كان يسمع ميت أو ينطق ظلت سيوف بني أبيه تنوشه لله أرحام هناك تمزق صبرا يقاد إلى المدينة راغما رسف المقيد و هو عان موثق أ محمد و لأنت نجل نجيبة في قومها و الفحل فحل معرق ما كان ضرك لو مننت و ربملفتى و هو المغيظ المحنق و النضر أقرب من قتلت وسيلة و أحقهم إن كان عتق يعتققال الواقدي و روي أن النبي ص لما وصل إليه شعرها رق له و قال لو كنت سمعت شعرها قبل أن أقتله لما قتلته. قال الواقدي و لما أسر سهيل بن عمرو قال عمر بن الخطاب يا رسول الله انزع ثنيتيه يدلع لسانه فلا يقوم عليك خطيبا أبدا فقال رسول الله ص لا أمثل به فيمثل الله بي و إن كنت نبيا و لعله يقوم مقاما لا تكرهه فقام سهيل بن عمرو بمكة حين جاءه وفاة النبي ص بخطبة أبي بكر بالمدينة كأنه كان يسمعها فقال عمر حين بلغه كلام سهيل أشهد أنك رسول الله يريد قوله ص لعله يقوم مقاما لا تكرهه. قال الواقدي و كان علي ع يحدث فيقول أتى جبريل النبي ص يوم بدر فخيره في الأسرى أن يضرب أعناقهم أو يأخذ منهم الفداء و يستشهد من المسلمين في قابل عدتهم فدعا رسول الله ص أصحابه و قال هذا جبريل يخيركم في الأسرى بين أن تضرب أعناقهم أو تؤخذ منهم الفدية و يستشهد شرح نهج البلاغة ج : 14 ص : 173منكم قابلا عدت قالوا بل نأخذ الفدية و نستعين بها و يستشهد منا من يدخل الجنة فقبل منهم الفداء و قتل من المسلمين قابلا عدتهم بأحد. قلت لو كان هذا الحديث صحيحا لما عوتبوا فقيل لهم ما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيا وَ اللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ ثم
قال لَوْ لا كِتابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيما أَخَذْتُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ لأنه إذا كان خيرهم فقد أباحهم أخذ الفداء و أخبرهم أنه حسن فلا يجوز فيما بعد أن ينكره عليهم و يقول إنه قبيح قال الواقدي لما حبس الأسرى و جعل عليهم شقران مولى رسول الله ص طمعوا في الحياة فقالوا لو بعثنا إلى أبي بكر فإنه أوصل قريش لأرحامنا فبعثوا إلى أبي بكر فأتاهم فقالوا يا أبا بكر إن فينا الآباء و الأبناء و الإخوان و العمومة و بني العم و أبعدنا قريب كلم صاحبك فليمن علينا و يفادنا فقال نعم إن شاء الله لا آلوكم خيرا ثم انصرف إلى رسول الله ص قالوا و ابعثوا إلى عمر بن الخطاب فإنه من قد علمتم و لا يؤمن أن يفسد عليكم لعله يكف عنكم فأرسلوا إليه فجاءهم فقالوا له مثل ما قالوا لأبي بكر فقال لا آلوكم شرا ثم انصرف إلى النبي ص فوجد أبا بكر عنده و الناس حوله و أبو بكر يلينه و يغشاه و يقول يا رسول الله بأبي أنت و أمي قومك فيهم الآباء و الأبناء و العمومة و الإخوان و بنو العم و أبعدهم عنك قريب فامنن عليهم من الله عليك أو فادهم قوة للمسلمين فلعل الله يقبل بقلوبهم إليك ثم قام فتنحى ناحية و سكت رسول الله ص فلم يجبه فجاء عمر فجلس مجلس أبي بكر فقال يا رسول الله هم أعداء الله كذبوك (15/148)
شرح نهج البلاغة ج : 14 ص : 174و قاتلوك و أخرجوك اضرب رقابهم فهم رءوس الكفر و أئمة الضلالة يوطئ الله بهم الإسلام و يذل بهم الشرك فسكت رسول الله ص و لم يجبه و عاد أبو بكر إلى مقعده الأول فقال بأبي أنت و أمي قومك فيهم الآباء و الأبناء و العمومة و الإخوان ونو العم و أبعدهم منك قريب فامنن عليهم أو فادهم هم عشيرتك و قومك لا تكن أول من يستأصلهم و أن يهديهم الله خير من أن يهلكهم فسكت ص عنه فلم يرد عليه شيئا و قام ناحية فقام عمر فجلس مجلسه فقال يا رسول الله ما تنتظر بهم اضرب أعناقهم يوطئ الله بهم الإسلام و يذل أهل الشرك هم أعداء الله كذبوك و أخرجوك يا رسول الله اشف صدور المؤمنين لو قدروا منا على مثل هذا ما أقالونا أبدا فسكت رسول الله ص فلم يجبه فقام ناحية فجلس و عاد أبو بكر فكلمه مثل كلامه الأول فلم يجبه ثم تنحى فجاء عمر فكلمه بمثل كلامه الأول فلم يجبه ثم قام رسول الله ص فدخل قبته فمكث فيها ساعة ثم خرج و الناس يخوضون في شأنهم يقول بعضهم القول ما قال أبو بكر و آخرون يقولون القول ما قال عمر فلما خرج قال للناس ما تقولون في صاحبيكم هذين دعوهما فإن لهما مثلا مثل أبي بكر في الملائكة كميكائيل ينزل برضا الله و عفوه على عباده و مثله في الأنبياء كمثل إبراهيم كان ألين على قومه من العسل أوقد له قومه النار فطرحوه فيها فما زاد على أن قال أُفٍّ لَكُمْ وَ لِما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَ فَلا تَعْقِلُونَ و قال فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَ مَنْ عَصانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ و كعيسى إذ يقول إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ وَ إِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ و مثل عمر في الملائكة كمثل جبريل ينزل بالسخط من الله و النقمة على أعداء الله و مثله في الأنبياء كمثل نوح كان أشد على قومه من الحجارة إذ يقول رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى شرح نهج البلاغة ج : 14 ص : (15/149)
175الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً فدعا عليهم دعوة أغرق الله بها الأرض جميعا و مثل موسى إذ يقول رَبَّنَا اطْمِسْ عَلى أَمْوالِهِمْ وَ اشْدُدْ عَلى قُلُوبِهِمْ فَلا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ و إن بكم عيلة فلا يفوتنكم رجل من هؤلاء إلا بفداء أو ضربة عنق فقال عبد الله بن مسعود يا رسول الله إلا سهيل بن بيضاء. قال الواقدي هكذا روى ابن أبي حبيبة و هذا وهم سهيل بن بيضاء مسلم من مهاجرة الحبشة و شهد بدرا و إنما هو أخ له و يقال له سهيل قال قال عبد الله بن مسعود فإني رأيته يظهر الإسلام بمكة قال فسكت النبي ص قال عبد الله فما مرت علي ساعة قط كانت أشد علي من تلك الساعة جعلت أنظر إلى السماء أتخوف أن تسقط علي الحجارة لتقدمي بين يدي الله و رسوله بالكلام فرفع رسول الله ص رأسه فقال إلا سهيل بن بيضاء قال فما مرت علي ساعة أقر لعيني منها إذ قالها رسول الله ص ثم (15/150)
قال إن الله عز و جل ليشدد القلب حتى يكون أشد من الحجارة و إنه ليلين القلب حتى يكون ألين من الزبد
فقبل الفداء ثم قال بعد لو نزل عذاب يوم بدر لما نجا منه إلا عمر كان يقول اقتل و لا تأخذ الفداء و كان سعد بن معاذ يقول اقتل و لا تأخذ الفداء. قلت عندي في هذا كلام أما في أصل الحديث فلأن فيه أن رسول الله ص قال و مثله كعيسى إذ قال إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ وَ إِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ و هذه الآية من المائدة و المائدة أنزلت في آخر عمره و لم ينزل بعدها إلا سورة براءة و بدر كانت في السنة الثانية من الهجرة فكيف هذا اللهم إلا أن يكون قوله تعالى وَ إِذْ قالَ اللَّهُ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَ أَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَ أُمِّي إِلهَيْنِ الآيات قد كانت أنزلت أما بمكة أو بالمدينة قبل بدر شرح نهج البلاغة ج : 14 ص : 176فلما جمع عثمان القرآن ضمها إلى سورة المائدة فلعله قد كان ذلك فينبغي أن ننظر في هذا فهو مشكل. أما حديث سهيل بن بيضاء فإنه يوهم مذهب موسى بن عمران في أن النبي ص كان يحكم في الوقائع بما يشاء لأنه قيل له احكم بما تشاء فإنك لا تحكم إلا بالحق و هو مذهب متروك إلا أنه يمكن أن يقال لعله لما سكت ص عند ما قال ابن مسعود ذلك القول نزل عليه في تلك السكتة الوحي و قيل له إلا سهيل بن بيضاء فقال حينئذ إلا سهيل بن بيضاء كما أوحي إليه. و أما الحديث الذي فيه لو نزل عذاب لما نجا منه إلا عمر فالواقدي و غيره من المحدثين اتفقوا على أن سعد بن معاذ كان يقول مثل ما قاله عمر بل هو المتبدئ بذلك الرأي و رسول الله ص بعد في العريش و المشركون لم ينفض جمعهم كل ذلك الانفضاض فكيف خص عمر بالنجاة وحده دون سعد و يمكن أن يقال إنه كان شديد التأليب و التحريض عليهم و كثير الإلحاح على رسول الله ص في أمرهم فنسب ذلك الرأي إليه لاشتهاره به و إن شركه فيه غيره. (15/151)
قال الواقدي و حدثني معمر عن الزهري عن محمد بن جبير بن مطعم عن أبيه قال قال رسول الله ص يوم بدر لو كان مطعم بن عدي حيا لوهبت له هؤلاء النتنى (15/152)
قال و كانت لمطعم بن عدي عند النبي ص يد أجاره حين رجع من الطائف. شرح نهج البلاغة ج : 14 ص : 177قال الواقدي و حدثني محمد بن عبد الله عن الزهري عن سعيد بن المسيب قال أمن رسول الله ص من الأسرى يوم بدر أبا عزة عمرو بن عبد الله بن عمير الجمحي و كان شاعرا فأعتقرسول الله ص و قال له إن لي خمس بنات ليس لهن شي ء فتصدق بي عليهن يا محمد ففعل رسول الله ص ذلك و قال أبو عزة أعطيك موثقا ألا أقاتلك و لا أكثر عليك أبدا فأرسله رسول الله ص فلما خرجت قريش إلى أحد جاء صفوان بن أمية فقال اخرج معنا قال إني قد أعطيت محمدا موثقا أا أقاتله و لا أكثر عليه أبدا و قد من علي و لم يمن على غيري حتى قتله أو أخذ منه الفداء فضمن له صفوان أن يجعل بناته مع بناته إن قتل و إن عاش أعطاه مالا كثيرا لا يأكله عياله فخرج أبو عزة يدعو العرب و يحشرها ثم خرج مع قريش يوم أحد فأسر و لم يؤسر غيره من قريش فقال يا محمد إنما خرجت كرها و لي بنات فامنن علي فقال رسول الله ص أين ما أعطيتني من العهد و الميثاق لا و الله لا تمسح عارضيك بمكة تقول سخرت بمحمد مرتين فقتله. قال و روى سعيد بن المسيب أن رسول الله ص قال يومئذ إن المؤمن لا يلدغ من جحر مرتين يا عاصم بن ثابت قدمه فاضرب عنقه فقدمه عاصم فضرب عنقه. قال الواقدي و أمر رسول الله ص يوم بدر بالقلب أن تغور ثم أمر بالقتلى فطرحوا فيها كلهم إلا أمية بن خلف فإنه كان مسمنا انتفخ من يومه فلما أرادوا أن يلقوه تزايل لحمه فقال النبي ص اتركوه شرح نهج البلاغة ج : 14 ص : 178و قال ن إسحاق انتفخ أمية بن خلف في درعه حتى ملأها فلما ذهبوا يحركونه تزايل فأقروه و ألقوا عليه التراب و الحجارة ما غيبه. قال الواقدي و نظر رسول الله ص إلى عتبة بن ربيعة يجر إلى القليب و
كان رجلا جسيما و في وجهه أثر الجدري فتغير وجه ابنه أبي حذيفة بن عتبة فقال له النبي ص ما لك كأنك ساءك ما أصاب أباك قال لا و الله يا رسول الله و لكني رأيت لأبي عقلا و شرفا كنت أرجو أن يهديه ذلك إلى الإسلام فلما أخطأه ذلك و رأيت ما أصابه غاظني فقال أبو بكر كان و الله يا رسول الله أبقى في العشيرة من غيره و لقد كان كارها لوجهه و لكن الحين و مصارع السوء فقال رسول الله ص الحمد لله الذي جعل خد أبي جهل الأسفل و صرعه و شفانا منه فلما توافوا في القليب و (15/153)
قد كان رسول الله ص يطوف عليهم و هم مصرعون جعل أبو بكر يخبره بهم رجلا رجلا و رسول الله ص يحمد الله و يشكره و يقول الحمد لله الذي أنجز لي ما وعدني فقد وعدني إحدى الطائفتين ثم وقف على أهل القليب فناداهم رجلا رجلا يا عتبة بن ربيعة و يا شيبة بن ربيعة و يا أمية بن خلف و يا أبا جهل بن هشام هل وجدتم ما وعد ربكم حقا فإني وجدت ما وعدني ربي حقا بئس القوم كنتم لنبيكم كذبتموني و صدقني الناس و أخرجتموني و آواني الناس و قاتلتموني و نصرني الناس فقالوا يا رسول الله أ تنادي قوما قد ماتوا فقال لقد علموا أن ما وعدهم ربهم حق
و قال ابن إسحاق في كتاب المغازي إن عائشة كانت تروي هذا الخبر و تقول فالناس يقولون إن رسول الله ص قال لقد سمعوا ما قلت لهم و ليس كذلك إنما قال لقد علموا أن ما وعدهم ربهم حق. شرح نهج البلاغة ج : 14 ص : 17 قال محمد بن إسحاق و حدثني حميد الطويل عن أنس بن مالك قال لما ناداهم رسول الله ص قال له المسلمون يا رسول الله أ تنادي قوما قد أنتنوا فقال ما أنتم بأسمع لما أقول منهم و لكنهم لا يستطيعون أن يجيبوني
قلت لقائل أن يقول لعائشة إذا جاز أن يعلموا و هم موتى جاز أن يسمعوا و هم موتى فإن قالت ما أخبرت أن يعلموا و هم موتى و لكن تعود الأرواح إلى أبدانهم و هي في القليب و يرون العذاب فيعلمون أن ما وعدهم به الرسول حق قيل لها و لا مانع من أن تعود الأرواح إلى أبدانهم و هي في القليب فيسمعوا صوت رسول الله ص فإذن لا وجه لإنكارها ما يقوله الناس. و يمكن أن ينتصر لقول عائشة على وجه حكمي و هو أن الأنفس بعد المفارقة تعلم و لا تسمع لأن الإحساس إنما يكون بواسطة الآلة و بعد الموت تفسد الآلة فأما العلم فإنه لا يحتاج إلى الآلة لأن النفس تعلم بجوهرها فقط. قال الواقدي و كان انهزام قريش و توليها حين زالت الشمس فأقام رسول الله ص ببدر و أمر عبد الله بن كعب بقبض الغنائم و حملها و أمر نفرا من أصحابه أن يعينوه فصلى العصر ببدر ثم راح فمر بالأثيل قبل غروب الشمس فنزل به و بات به و بأصحابه جراح و ليست بالكثيرة و قال من رجل يحفظنا الليلة فأسكت القوم فقام رجل فقال من أنت قال ذكوان بن عبد قيس قال اجلس ثم أعاد القول الثانية فقام رجل فقال من أنت قال ابن عبد القيس فقال اجلس ثم مكث ساعة و أعاد القول فقام رجل فقال من أنت قال أبو سبع فسكت. شرح نهج البلاغة ج : 14 ص : 180ثم مكث ساعة و قال قوموا ثلاثتكم فقام ذكوان بن عبد قيس وحده فقال له و أين صاحباك قال يا رسول الله أنا الذي كنت أجيبك الليلة فقال رسول الله ص فحفظك الله فبات ذكوان يحرس المسلمين تلك الليلة حتى كان آخر الليل فارتحل. قال الواقدي روي أن رسول الله ص صلى العصر بالأثيل فلما صلى ركعة تبسم فلما سلم سئل عن تبسمه فقال مر بي ميكائيل و على جناحه النقع فتبسم إلي و قال إني كنت في طلب القوم و أتاني جبريل على فرس أنثى معقود الناصية قد عم ثنيتيه الغبار فقال يا محمد إن ربي بعثني إليك و أمرني ألا أفارقك حتى ترضى فهل رضيت فقلت نعم. قال الواقدي و أقبل رسول الله ص بالأسرى حتى (15/154)
إذا كان بعرق الظبية أمر عاصم بن ثابت بن أبي الأقلح أن يضرب عنق عقبة بن أبي معيط بن أبي عمرو بن أمية بن عبد شمس و كان أسره عبد الله بن سلمة العجلاني فجعل عقبة يقول يا ويلي علام أقتل يا معشر قريش من بين من هاهنا فقال رسول الله ص لعداوتك لله و لرسوله فقال يا محمد منك أفضل فاجعلني كرجل من قومي إن قتلتهم قتلتني و إن مننت عليهم مننت علي و إن أخذت منهم الفداء كنت كأحدهم يا محمد من للصبية فقال النار قدمه يا عاصم فاضرب عنقه فقدمه عاصم فضرب عنقه فقال النبي ص بئس الرجل كنت و الله ما علمت كافرا بالله و برسوله و بكتابه مؤذيا لنبيه فأحمد الله الذي قتلك و أقر عيني منك. قال محمد بن إسحاق و روى عكرمة مولى ابن عباس عن أبي رافع قال كنت غلاما للعباس بن عبد المطلب و كان الإسلام قد فشا فينا أهل البيت فأسلم العباس (15/155)
شرح نهج البلاغة ج : 14 ص : 181و أسلمت أم الفضل زوجته و كان العباس يهاب قومه و يكره خلافهم فكان يكتم إسلامه و كان ذا مال كثير متفرق في قومه و كان عدو الله أبو لهب قد تخلف عن بدر و بعث مكانه العاص بن هشام بن المغيرة و كذلك كانوا صنعوا لم يتخلف رجل إلا بعثكانه رجلا فلما جاء الخبر عن مصاب أصحاب بدر من قريش كبته الله و أخزاه و وجدنا في أنفسنا قوة و عزا. قال و كنت رجلا ضعيفا و كنت أعمل القداح أنحتها في حجرة زمزم فو الله إني لجالس أنحت قداحي و عندي أم الفضل جالسة و قد سرنا ما جاءنا من الخبر إذ أقبل الفاسق أبو لهب يجر رجليه بشر حتى جلس إلى طنب الحجرة فكان ظهره إلى ظهري فبينا هو جالس إذ قال للناس هذا أبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب قد قدم و كان شهد مع المشركين بدرا فقال أبو لهب هلم يا ابن أخي فعندك و الله الخبر قال فجلس إليه و الناس قيام حوله فقال يا ابن أخي أخبرني كيف كان أمر الناس قال لا شي ء و الله إن هو إلا أن لقيناهم فمنحناهم أكتافنا فقتلونا كيف شاءوا و أسرونا كيف شاءوا و ايم الله مع ذلك ما لمت الناس لقينا رجالا بيضا على خيل بلق بين السماء و الأرض لا و الله ما تبقي شيئا و لا يقوم لها شي ء قال أبو رافع فرفعطنب الحجرة ثم قلت تلك و الله الملائكة قال فرفع أبو لهب يده فضرب بي الأرض ثم برك علي يضربني و كنت رجلا ضعيفا فقامت أم الفضل إلى عمود من عمد الحجرة فأخذته فضربته على رأسه فشجته شجة منكرة و قالت استضعفته إذ غاب شرح نهج البلاغة ج : 14 ص : 182سيده فقام موليا يلا فو الله ما عاش إلا سبع ليال حتى رماه الله بالعدسة فقتلته. و لقد تركه ابناه ليلتين أو ثلاثا و ما يدفنانه حتى أنتن في بيته و كانت قريش تتقي العدسة و عدواها كما يتقي الناس الطاعون حتى قال لهما رجل من قريش ويحكما أ لا تستحيان أن أباكما قد أنتن في بيته لا تغيبانه قالا إنا نخشى هذه القرحة قال فانطلقا و أنا معكما فو الله ما (15/156)
غسلوه إلا قذفا عليه بالماء من بعيد ما يمسونه و أخرجوه فألقوه بأعلى مكة إلى كنان هناك و قذفوا عليه بالحجارة حتى واروه. قال محمد بن إسحاق فحضر العباس بدرا فأسر فيمن أسر و كان الذي أسره أبو اليسر كعب بن عمرو أحد بني سلمة فلما أمسى القوم و الأسارى محبوسون في الوثاق و بات رسول الله ص تلك الليلة ساهرا فقال له أصحابه ما لك لا تنام يا رسول الله قال سمعت أنين العباس من وثاقه فقاموا إليه فأطلقوه فنام رسول الله ص. قال و روى ابن عباس رحمه الله قال كان أبو اليسر رجلا مجموعا و كان العباس طويلا جسيما فقال رسول الله ص يا أبا اليسر كيف أسرت العباس قال يا رسول الله لقد أعانني عليه رجل ما رأيته من قبل من هيئته كذا قال ص لقد أعانك عليه ملك كريم (15/157)
قال محمد بن إسحاق قد كان رسول الله ص في أول الوقعة فنهى أن يقتل أحد من بني هاشم قال حدثني بذلك الزهري عن عبد الله بن ثعلبة حليف بني زهرة قال و حدثني العباس بن عبد الله بن معبد بن العباس عن بعض أهله عن عبد الله بن عباس رحمه الله شرح نهج البلاغة ج : 14 ص 183قال و قال النبي ص لأصحابه إني قد عرفت أن رجالا من بني هاشم و غيرهم قد أخرجوا كرها لا حاجة لنا بقتلهم فمن لقي منكم أحدا من بني هاشم فلا يقتله و من لقي أبا البختري فلا يقتله و من لقي العباس بن عبد المطلب عم رسول الله ص فلا يقتله فإنه إنما خرج مستكرها فقال أبو حذيفة بن عتبة بن ربيعة أ نقتل آباءنا و إخواننا و عشائرنا و نترك العباس و الله لئن لقيته لألحمنه السيف فسمعها رسول الله ص فقال لعمر بن الخطاب يا أبا حفص يقول عمر و الله إنه لأول يوم كناني فيه رسول الله ص بأبي حفص أ يضرب وجه عم رسول الله ص بالسيف فقال عمر يا رسول الله دعني أضرب عنقه بالسيف فو الله لقد نافق قال فكان أبو حذيفة يقول و الله ما أنا بآمن من تلك الكلمة التي قلت يومئذ و لا أزال منها خائفا أبدا إلا أن يكفرها الله عني بشهادة فقتل يوم اليمامة شهيدا (15/158)
قال محمد بن إسحاق و كان رسول الله ص لما استشار أبا بكر و عمر و سعد بن معاذ في أمر الأسارى غلظ عمر عليهم غلظة شديدة فقال يا رسول الله أطعني فيما أشير به عليك فإني لا آلوك نصحا قدم عمك العباس فاضرب عنقه بيدك و قدم عقيلا إلى علي أخيه يضرب عنقه و قدم كل أسير منهم إلى أقرب الناس إليه يقتله قال فكره رسول الله ص ذلك و لم يعجبه.
قال محمد بن إسحاق فلما قدم بالأسرى إلى المدينة قال رسول الله ص شرح نهج البلاغة ج : 14 ص : 184افد نفسك يا عباس و ابني أخويك عقيل بن أبي طالب و نوفل بن الحارث بن عبد المطلب و حليفك عقبة بن عمرو فإنك ذو مال فقال العباس يا رسول الله إني كنت مسلما و لكن القواستكرهوني فقال ص الله أعلم بإسلامك إن يكن ما قلت حقا فإن الله يجزيك به و أما ظاهر أمرك فقد كان علينا فافتد نفسك و قد كان رسول الله ص أخذ منه عشرين أوقية من ذهب أصابها معه حين أسر فقال العباس يا رسول الله احسبها لي من فدائي فقال ص ذاك شي ء أعطانا الله منك قال يا رسول الله فإنه ليس لي مال قال فأين المال الذي وضعته بمكة حين خرجت عند أم الفضل بنت الحارث و ليس معكما أحد ثم قلت إن أصبت في سفري هذا فللفضل كذا و كذا و لعبد الله كذا و كذا و لقثم كذا و كذا فقال العباس و الذي بعثك بالحق يا رسول الله ما علم بهذا أحد غيري و غيرها و إني لأعلم أنك رسول الله ثم فدى نفسه و ابني أخويه و حليفه (15/159)
قال الواقدي قدم رسول الله ص من الأثيل زيد بن حارثة و عبد الله بن رواحة يبشران الناس بالمدينة فجاء يوم الأحد في الضحى و فارق عبد الله زيدا بالعقيق فجعل عبد الله ينادي عوالي المدينة يا معشر الأنصار أبشروا بسلامة رسول الله و قتل المشركين و أسرهم قتل ابنا ربيعة و ابنا الحجاج و أبو جهل و زمعة بن الأسود و أمية بن خلف و أسر سهيل بن عمرو ذو الأنياب في أسرى كثير قال عاصم بن عدي فقمت إليه فنحوته فقلت أ حقا ما تقول يا ابن رواحة قال إي و الله و غدا يقدم رسول الله إن شاء الله و معه الأسرى مقرنين ثم تتبع دور الأنصار بالعالية يبشرهم دارا دارا و الصبيان يشتدون معه و يقولون قتل أبو جهل الفاسق حتى انتهوا إلى شرح نهج البلاغة ج : 14 ص : 185دور بني أمية بن زيد و قدم زيد بن حارثة على ناقة النبي ص القصواء يبشر أهل المدينة فلما جاء المصلى صاح على راحلته قتل عتبة و شيبة ابنا ربيعة ابنا الحجاج و أبو جهل و أبو البختري و زمعة بن الأسود و أمية بن خلف و أسر سهيل بن عمرو ذو الأنياب في أسرى كثيرة فجعل الناس لا يصدقون زيد بن حارثة و يقولون ما جاء زيد إلا فلا حتى غاظ المسلمين ذلك و خافوا قال و كان قدوم زيد حين سووا على رقية بنت رسول الله ص التراب بالبقيع فقال رجل من المنافقين لأسامة بن زيد قتل صاحبكم و من معه و قال رجل من المنافقين لأبي لبابة بن عبد المنذر قد تفرق أصحابكم تفرقا لا يجتمعون معه أبدا و قد قتل علية أصحابكم و قتل محمد و هذه ناقته نعرفها و هذا زيد بن حارثة لا يدري ما يقول من الرعب و قد جاء فلا فقال أبو لبابة كذب الله قولك و قالت يهود ما جاء زيد إلا فلا قال أسامة بن زيد فجئت حتى خلوت بأبي فقلت يا أبت أ حق ما تقول فقال إي و الله حقا يا بني فقويت نفسي فرجعت إلى ذلك المنافق فقلت أنت المرجف برسول الله و بالمسلمين لنقدمنك إلى رسول الله ص إذا قدم فليضربن عنقك فقال يا أبا محمد إنما هو شي ء سمعت الناس (15/160)
يقولونه. قال الواقدي فقدم بالأسرى و عليهم شقران و هم تسعة و أربعون رجلا الذين أحصوا و هم سبعون في الأصل مجمع عليه لا شك فيه إلا أنهم لم يحص سائرهم و لقي الناس رسول الله ص بالروحاء يهنئونه بفتحالله عليه فلقيه وجوه الخزرج فقال سلمة بن سلامة بن وقش ما الذي تهنئونه فو الله ما قتلنا إلا عجائز صلعا فتبسم النبي ص فقال يا ابن أخي أولئك الملأ لو رأيتهم لهبتهم و لو أمروك لأطعتهم و لو رأيت فعالك مع فعالهم لاحتقرتها و بئس القوم كانوا على ذلك لنبيهم فقال سلمة أعوذ بالله من غضبه و غضب رسوله إنك يا رسول الله لم تزل عني معرضا منذ كنا بالروحاء (15/161)
شرح نهج البلاغة ج : 14 ص : 186في بدأتنا فقال ص أما ما قلت للأعرابي وقعت على ناقتك فهي حبلى منك ففحشت و قلت ما لا علم لك به و أما ما قلت في القوم فإنك عمدت إلى نعمة من نعم الله تزهدها فقبل رسول الله ص معذرته و كان من علية أصحابه. قال الواقدي فروى الزهري ل لقي أبو هند البياضي مولى فروة بن عمرو رسول الله و معه حميت مملوء حيسا أهداه له فقال رسول الله ص إنما أبو هند رجل من الأنصار فأنكحوه و أنكحوا إليه. قال الواقدي و لقيه أسيد بن حضير فقال يا رسول الله الحمد لله الذي ظفرك و أقر عينك و الله يا رسول الله ما كان تخلفي عن بدر و أنا أظن بك أنك تلقى عدوا و لكني ظننت أنها العير و لو ظننت أنه عدو لما تخلفت فقال رسول الله صدقت. قال و لقيه عبد الله بن قيس بتربان فقال يا رسول الله الحمد لله على سلامتك و ظفرك كنت يا رسول الله ليالي خرجت مورودا أي محموما فلم تفارقني حتى كان بالأمس فأقبلت إليك فقال آجرك الله. قال الواقدي و كان سهيل بن عمرو لما كان بتنوكة بين السقيا و ملل كان مع مالك بن الدخشم الذي أسره فقال له خل سبيلي للغائط فقام معه فقال سهيل إني أحتشم فاستأخر عنى فاستأخر عنه فمضى سهيل على وجهه انتزع يده من القرآن و مضى فلما أبطأ سهيل على مالك بن الدخشم أقبل فصاح في الناس فخرجوا في طلبه و خرج النبي ص في طلبه بنفسه و قال من وجده فليقتله فوجده رسول الله شرح نهج البلاغة ج : 14 ص : 187ص بنفسه أخفى نفسه بين شجرات فأمر به فربطت يداه إلى عنقه ثم قرنه إلى راحلته فلم يركب سهيل خطوحتى قدم المدينة. قال الواقدي فحدثني إسحاق بن حازم بن عبد الله بن مقسم عن جابر بن عبد الله الأنصاري قال لقي رسول الله ص أسامة بن زيد و رسول الله ص على ناقته القصوى فأجلسه بين يديه و سهيل بن عمرو مجبوب و يداه إلى عنقه فلما نظر إلى سهيل قالوا يا رسول الله أبو يزيد قال نعم هذا الذي كان يطعم الخبز بمكة و قال البلاذري قال أسامة (15/162)
و هو يومئذ غلام يا رسول الله هذا الذي كان يطعم الناس بمكة السريد يعني الثريد. قلت هذه لثغة مقلوبة لأن الألثغ يبدل السين ثاء و هذا أبدل الثاء سينا و من الناس من يرويها هذا الذي كان يطعم الناس بمكة الشريد بالشين المعجمة. قال البلاذري و حدثني مصعب بن عبد الله الزبيري عن أشياخه أن أسامة رأى سهيلا يومئذ فقال يا رسول الله هذا الذي كان يطعم السريد بمكة فقال رسول الله ص هذا أبو يزيد الذي يطعم الطعام و لكنه سعى في إطفاء نور الله فأمكن الله منه. قال و فيه يقول أمية بن أبي الصلت الثقفي (15/163)
يا با يزيد رأيت سيبك واسعا و سماء جودك تستهل فتمطر
شرح نهج البلاغة ج : 14 ص : 188قال و فيه يقول مالك بن الدخشم و هو الذي أسره يوم بدرأسرت سهيلا فلا أبتغي به غيره من جميع الأمم و خندف تعلم أن الفتى سهيلا فتاها إذا تظلم ضربت بذي الشفر حتى انثنى و أكرهت نفسي على ذي العلأي على ذي العلم بسكون اللام و لكنه حركه للضرورة. و كان سهيل أعلم مشقوق الشفة العليا فكانت أنيابه بادية فلذلك قالوا ذو الأنياب. قال الواقدي و لما قدم بالأسرى كانت سودة بنت زمعة زوج النبي ص عند آل عفراء في مناحتهم على عوف و معوذ و ذلك قبل أن يضرب الحجاب قالت سودة فأتينا فقيل لنا هؤلاء الأسرى قد أتي بهم فخرجت إلى بيتي و رسول الله ص فيه و إذا أبو يزيد مجموعة يداه إلى عنقه في ناحية البيت فو الله ما ملكت نفسي حين رأيته مجموعة يداه إلى عنقه أن قلت أبا يزيد أعطيتم بأيديكم ألا متم كراما فو الله ما راعني إلا قول رسول الله ص من البيت يا سودة أ على الله و على رسوله فقلت يا نبي الله و الذي بعثك بالحق إني ما ملكت نفسي حين رأيت أبا يزيد مجموعة يداه إلى عنقه أن قلت ما قلت. قال الواقدي و حدثني خالد بن إلياس قال حدثني أبو بكر بن عبد الله بن أبي جهم قال دخل يومئذ خالد بن هشام بن المغيرة و أمية بن أبي حذيفة منزل أم سلمة و أم سلمة في مناحة آل عفراء فقيل لها أتي بالأسرى فخرجت فدخلت عليهم فلم تكلمهم حتى شرح نهج البلاغة ج : 14 ص : 189رجعت فتجد رسول الله ص في بيت عائشة فقالت يا رسول الله إن بني عمي طلبوا أن يدخل بهم علي فأضيفهم و أن رءوسهم و ألم من شعثهم و لم أحب أن أفعل شيئا من ذلك حتى أستأمرك فقال ص لست أكره شيئا من ذلك فافعلي من هذا ما بدا لك قال الواقدي و حدثني محمد بن عبد الله عن الزهري قال قال أبو العاص بن الربيع كنت مستأسرا مع رهط من الأنصار جزاهم الله خيرا كنا إذا تعشينا أو تغدينا آثروني بالخبز و أكلوا التمر و الخبز عندهم قليل و التمر زادهم حتى إن الرجل لتقع في يده الكسرة (15/164)
فيدفعها إلي و كان الوليد بن الوليد بن المغيرة يقول مثل ذلك و يزيد قال و كانوا يحملوننا و يمشون. و قال محمد بن إسحاق في كتابه كان أبو العاص بن الربيع بن عبد العزى بن عبد شمس ختن رسول الله ص زوج ابنته زينب و كان أبو العاص من رجال مكة المعدودين مالا و أمانة و تجارة و كان ابنا لهالة بنت خويلد أخت خديجة بنت خويلد و كان الربيع بن عبد العزى بعل هذه فكانت خديجة خالته فسألت خديجة رسول الله ص أن يزوجه زينب و كان رسول الله ص لا يخالف خديجة و ذلك قبل أن ينزل عليه الوحي فزوجه إياها فكان أبو العاص من خديجة بمنزلة ولدها فلما أكرم الله رسوله بنبوته آمنت به خديجة و بناته كلهن و صدقته و شهدن أن ما جاء به حق و دن بدينه و ثبت أبو العاص على شركه و كان رسول الله ص قد زوج عتبة بن أبي إحدى ابنتيه رقية أو أم كلثوم و ذلك من قبل أن ينزل عليه فلما أنزل عليه الوحي و نادى قومه بأمر الله باعدوه فقال بعضهم لبعض إنكم قد فرغتم محمد من همه أخذتم عنه بناته و أخرجتموهن من عياله فردوا عليه بناته فاشغلوه بهن فمشوا إلى أبي العاص بن الربيع فقالوا فارق صاحبتك بنت محمد و نحن نزوجك أي (15/165)
شرح نهج البلاغة ج : 14 ص : 190امرأة شئت من قريش فقال لا ها الله إذن لا أفارق صاحبتي و ما أحب أن لي بها امرأة من قريش فكان رسول الله ص إذا ذكره يثني عليه خيرا في صهره ثم مشوا إلى الفاسق عتبة بن أبي لهب فقالوا له طلق بنت محمد و نحن ننكحك أي امرأة شئت من قش فقال إن أنتم زوجتموني ابنة أبان بن سعيد بن العاص أو ابنة سعيد بن العاص فارقتها فزوجوه ابنة سعيد بن العاص ففارقها و لم يكن دخل بها فأخرجها الله من يده كرامة لها و هوانا له ثم خلف عليها عثمان بن عفان بعده و كان رسول الله ص مغلوبا على أمره بمكة لا يحل و لا يحرم و كان الإسلام قد فرق بين زينب و أبي العاص إلا أن رسول الله ص كان لا يقدر و هو بمكة أن يفرق بينهما فأقامت معه على إسلامها و هو على شركه حتى هاجر رسول الله ص إلى المدينة و بقيت زينب بمكة مع أبي العاص فلما سارت قريش إلى بدر سار أبو العاص معهم فأصيب في الأسرى يوم بدر فأتي به النبي ص فكان عنده مع الأسارى فلما بعث أهل مكة في فداء أساراهم بعثت زينب في فداء أبي العاص بعلها بمال و كان فيما بعثت به قلادة كانت خديجة أمها أدخلتها بها على أبي العاص ليلة زفافها عليه فلما رآها رسول الله ص رق لها رقة شديدة و قال للمسلمين إن رأيتم أن تطلقوا لها أسيرها و تردوا عليها ما بعثت به من الفداء فافعلوا فقالوا نعم يا رسول الله نفديك بأنفسنا و أموالنا فردوا عليها ما بعثت به و أطلقوا لها أبا العاص بغير فداء. قلت قرأت على النقيب أبي جعفر يحيى بن أبي زيد البصري العلوي رحمه الله هذا الخبر فقال أ ترى أبا بكر و عمر لم يشهدا هذا المشهد أ ما كان يقتضي التكريم و الإحسان شرح نهج البلاغة ج : 14 ص : 191أن يطيب قلب فاطمة بفدك و يستوهب لها من المسلمين أ تقصر منزلتها عند رسول الله ص عن منزله زينب أختها و هي سيدة نساء العالمين هذا إذا لم يثبت لهحق لا بالنحلة و لا بالإرث فقلت له فدك بموجب الخبر الذي رواه أبو بكر (15/166)
قد صار حقا من حقوق المسلمين فلم يجز له أن يأخذه منهم فقال و فداء أبي العاص بن الربيع قد صار حقا من حقوق المسلمين و قد أخذه رسول الله ص منهم فقلت رسول الله ص صاحب الشريعة و الحكم حكمه و ليس أبو بكر كذلك فقال ما قلت هلا أخذه أبو بكر من المسلمين قهرا فدفعه إلى فاطمة و إنما قلت هلا استنزل المسلمين عنه و استوهبه منهم لها كما استوهب رسول الله ص المسلمين فداء أبي العاص أ تراه لو قال هذه بنت نبيكم قد حضرت تطلب هذه النخلات أ فتطيبون عنها نفسا أ كانوا منعوها ذلك فقلت له قد قال قاضي القضاة أبو الحسن عبد الجبار بن أحمد نحو هذا قال إنهما لم يأتيا بحسن في شرع التكرم و إن كان ما أتياه حسنا في الدين. قال محمد بن إسحاق و كان رسول الله ص لما أطلق سبيل أبي العاص أخذ عليه فيما نرى أو شرط عليه في إطلاقه أو أن أبا العاص وعد رسول الله ص ابتداء بأن يحمل زينب إليه إلى المدينة و لم يظهر ذلك من أبي العاص و لا من رسول الله ص إلا أنه لما خلي سبيله و خرج إلى مكة بعث رسول الله ص بعده زيد بن حارثة و رجلا من الأنصار فقال لهما كونا بمكان كذا حتى تمر بكما زينب فتصحبانها حتى تأتياني بها فخرجا نحو مكة و ذلك بعد بدر بشهر (15/167)
شرح نهج البلاغة ج : 14 ص : 192أو شيعه فلما قدم أبو العاص مكة أمرها باللحوق بأبيها فأخذت تتجهز قال محمد بن إسحاق فحدثت عن زينب أنها قالت بينا أنا أتجهز للحوق بأبي لقيتني هند بنت عتبة فقالت أ لم يبلغني يا بنت محمد أنك تريدين اللحوق بأبيك فقلت ما أردت ذلك الت أي بنت عم لا تفعلي إن كانت لك حاجة في متاع أو فيما يرفق بك في سفرك أو مال تبلغين به إلى أبيك فإن عندي حاجتك فلا تضطني مني فإنه لا يدخل بين النساء ما يدخل بين الرجال قالت و ايم الله إني لأظنها حينئذ صادقة ما أظنها قالت حينئذ إلا لتفعل و لكن خفتها فأنكرت أن أكون أريد ذلك قالت و تجهزت حتى فرغت من جهازي فحملني أخو بعلي و هو كنانة بن الربيع. قال محمد بن إسحاق قدم لها كنانة بن الربيع بعيرا فركبته و أخذ قوسه و كنانته و خرج بها نهارا يقود بعيرها و هي في هودج لها و تحدث بذلك الرجال من قريش و النساء و تلاومت في ذلك و أشفقت أن تخرج ابنة محمد من بينهم على تلك الحال فخرجوا في طلبها سراعا حتى أدركوها بذي طوى فكان أول من سبق إليها هبار بن الأسود بن عبد المطلب بن أسد بن عبد العزى بن قصي و نافع بن عبد القيس الفهري فروعها هبار بالرمح و هي في الهودج و كانت حاملا فلما رجعت طرحت ما في بطنها و قد كانت من خوفها رأت دما و هي في الهودج فلذلك أباح رسول الله ص يوم فتح مكة دم هبار بن الأسود. شرح نهج البلاغة ج : 14 ص : 193قلت و هذا الخبر أيضا قرأته على النقيب أبي جعفر رحمه الله فقال إذا كان رسول الله ص أباح دم هبار بن الأسود لأنه ر زينب فألقت ذا بطنها فظهر الحال أنه لو كان حيا لأباح دم من روع فاطمة حتى ألقت ذا بطنها فقلت أروي عنك ما يقوله قوم إن فاطمة روعت فألقت المحسن فقال لا تروه عني و لا ترو عني بطلانه فإني متوقف في هذا الموضع لتعارض الأخبار عندي فيه. قال الواقدي فبرك حموها كنانة بن الربيع و نثل كنانته بين يديه ثم أخذ منها سهما فوضعه في كبد قوسه (15/168)
و قال أحلف بالله لا يدنو اليوم منها رجل إلا وضعت فيه سهما فتكر الناس عنه. قال و جاء أبو سفيان بن حرب في جلة من قريش فقال أيها الرجل اكفف عنا نبلك حتى نكلمك فكف فأقبل أبو سفيان حتى وقف عليه فقال إنك لم تحسن و لم تصب خرجت بالمرأة على رءوس الناس علانية جهارا و قد عرفت مصيبتنا و نكبتنا و ما دخل علينا من محمد أبيها فيظن الناس إذا أنت خرجت بابنته إليه جهارا أن ذلك عن ذل أصابنا و أن ذلك منا وهن و لعمري ما لنا في حبسها عن أبيها من حاجة و ما فيها من ثأر و لكن ارجع بالمرأة حتى إذا هدأت الأصوات و تحدث الناس بردها سلها سلا خفيا فألحقها بأبيها فردها كنانة بن الربيع إلى مكة فأقامت بها ليالي حتى إذا هدأ الصوت عنها حملها على بعيرها و خرج بها ليلا حتى سلمها إلى زيد بن حارثة و صاحبه فقدما بها على رسول الله ص. (15/169)
قال محمد بن إسحاق فروى سليمان بن يسار عن أبي إسحاق الدوسي عن شرح نهج البلاغة ج : 14 ص : 194أبي هريرة قال بعث رسول الله ص سرية أنا فيها إلى عير لقريش فيها متاع لهم و ناس منهم فقال إن ظفرتم بهبار بن الأسود و نافع بن عبد قيس فحرقوهما بالنار حتى إذا كان الغبعث فقال لنا إني كنت قد أمرتكم بتحريق الرجلين إن أخذتموهما ثم رأيت أنه لا ينبغي لأحد أن يعذب بالنار إلا الله تعالى فإن ظفرتم بهما فاقتلوهما و لا تحرقوهما
قلت لقائل من المجبرة أن يقول أ ليس هذا نسخ الشي ء قبل تقضي وقت فعله و أهل العدل لا يجيزون ذلك و هذا السؤال مشكل و لا جواب عنه إلا بدفع الخبر أما بتضعيف أحد من رواته أو إبطال الاحتجاج به لكونه خبر واحد أو بوجه آخر و هو أن نجيز للنبي الاجتهاد في الأحكام الشعية كما يذهب إليه كثير من شيوخنا و هو مذهب القاضي أبي يوسف صاحب أبي حنيفة و مثل هذا الخبر حديث براءة و إنفاذها مع أبي بكر و بعث علي ع فأخذها منه في الطريق و قرأها على أهل مكة بعد أن كان أبو بكر هو المأمور بقراءتها عليهم. فأما البلاذري فإنه روى أن هبار بن الأسود كان ممن عرض لزينب بنت رسول الله ص حين حملت من مكة إلى المدينة فكان رسول الله ص يأمر سراياه إن ظفروا به أن يحرقوه بالنار ثم قال لا يعذب بالنار إلا رب النار و أمرهم إن ظفروا به أن يقطعوا يديه و رجليه و يقتلوه فلم يظفروا به حتى إذا كان يوم الفتح هرب هبار ثم قدم على رسول الله ص بالمدينة و يقال أتاه بالجعرانة حين فرغ من أمر حنين فمثل بين يديه و هو يقول أشهد أن لا إله إلا الله و أنك رسول الله فقبل إسلامه و أمر ألا يعرض له و خرجت سلمى مولاة رسول الله ص شرح نهج البلاغة ج : 14 ص : 195فقالت لا أنعم الله بك عي فقال رسول الله ص مهلا فقد محا الإسلام ما قبله. قال البلاذري فقال الزبير بن العوام لقد رأيت رسول الله ص بعد غلظته على هبار بن الأسود يطأطئ رأسه استحياء منه و هبار يعتذر إليه و هو يعتذر إلى هبار أيضا. قال محمد بن إسحاق فأقام أبو العاص بمكة على شركه و أقامت زينب عند أبيها ص بالمدينة قد فرق بينهما الإسلام حتى إذا كان قبل الفتح خرج أبو العاص تاجرا إلى الشام بمال له و أموال لقريش أبضعوا بها معه و كان رجلا مأمونا فلما فرغ من تجارته و أقبل قافلا لقيته سرية لرسول الله ص فأصابوا ما معه و أعجزهم هو هاربا فخرجت السرية بما أصابت من ماله حتى قدمت به على رسول الله ص و خرج أبو العاص تحت (15/170)
الليل حتى دخل على زينب ابنة رسول الله ص منزلها فاستجار بها فأجارته و إنما جاء في طلب ماله الذي أصابته تلك السرية فلما كبر رسول الله ص في صلاة الصبح و كبر الناس معه صرخت زينب من صفة النساء أيها الناس إني قد أجرت أبا العاص بن الربيع فصلى رسول الله ص بالناس الصبح فلما سلم من الصلاة أقبل عليهم فقال أيها الناس هل سمعتم ما سمعت قالوا نعم قال أما و الذي نفس محمد بيده ما علمت بشي ء مما كان حتى سمعتم إنه يجير على الناس أدناهم ثم انصرف و دخل على ابنت زينب فقال أي بنية أكرمي مثواه و أحسني قراه و لا يصلن إليك فإنك (15/171)
شرح نهج البلاغة ج : 14 ص : 196لا تحلين له ثم بعث إلى تلك السرية الذين كانوا أصابوا مال أبي العاص فقال لهم إن هذا الرجل منا بحيث علمتم و قد أصبتم له مالا فإن تحسنوا و تردوا عليه الذي له فإنا نحب ذلك و إن أبيتم فهو في ء الله الذي أفاء عليكم و أنتم أحق بهالوا يا رسول الله بل نرده عليه فردوا عليه ماله و متاعه حتى إن الرجل كان يأتي بالحبل و يأتي الآخر بالشنة و يأتي الآخر بالإداوة و الآخر بالشظاظ حتى ردوا ماله و متاعه بأسره من عند آخره و لم يفقد منه شيئا ثم احتمل إلى مكة فلما قدمها أدى إلى كل ذي مال من قريش ماله ممن كان أبضع معه بشي ء حتى إذا فرغ من ذلك قال لهم يا معشر قريش هل بقي لأحد منكم عندي مال لم يأخذه قالوا لا فجزاك الله خيرا لقد وجدناك وفيا كريما قال فإني أشهد أن لا إله إلا الله و أن محمدا رسول الله و الله ما منعني من الإسلام إلا تخوف أن تظنوا أني أرد أن آكل أموالكم و أذهب بها فإذ سلمها الله لكم و أداها إليكم فإني أشهدكم أني قد أسلمت و اتبعت دين محمد ثم خرج سريعا حتى قدم على رسول الله المدينة. قال محمد بن إسحاق فحدثني داود بن الحصين عن عكرمة عن ابن عباس أن رسول الله ص رد زينب بعد ست سنين على أبي العاص بالنكاح الأول لم يحدث شيئا قال الواقدي فلما فرغ رسول الله ص من أمر الأسارى و فرق الله عز و جل ببدر بين الكفر و الإيمان أذل رقاب المشركين و المنافقين و اليهود و لم يبق بالمدينة يهودي و لا منافق إلا خضعت عنقه. شرح نهج البلاغة ج : 14 ص : 197و قال قوم من المفقين ليتنا خرجنا معه حتى نصيب غنيمة و قالت يهود فيما بينها هو الذي نجد نعته في كتبنا و الله لا ترفع له راية بعد اليوم إلا ظهرت. و قال كعب بن الأشرف بطن الأرض اليوم خير من ظهرها هؤلاء أشراف الناس و ساداتهم و ملوك العرب و أهل الحرم و الأمن قد أصيبوا و خرج إلى مكة فنزل على أبي وداعة بن ضبيرة و جعله يرسل هجاء المسلمين و رثى (15/172)
قتلى بدر من المشركين فقال (15/173)
طحنت رحى بدر لمهلك أهله و لمثل بدر يستهل و يدمع قتلت سراة الناس حول حياضه لا تبعدوا إن الملوك تصرع و يقول أقوام أذل بعزهم إن ابن أشرف ظل كعبا يجزع صدقوا فليت الأرض ساعة قتلوا ظلت تسيخ بأهلها و تصدع نبئت أن الحارث بن هشامهم في الناس يبني الصالحات و يجمور يثرب بالجموع و إنما يسعى على الحسب القديم الأروع
قال الواقدي أملاها علي عبد الله بن جعفر و محمد بن صالح و ابن أبي الزناد فلما أرسل كعب هذه الأبيات أخذها الناس بمكة عنه و أظهروا المراثي و قد كانوا حرموها كيلا يشمت المسلمون بهم و جعل الصبيان و الجواري ينشدونها بمكة فناحت بها قريش شرح نهج البلاغة ج : 14 ص 198على قتلاها شهرا و لم تبق دار بمكة إلا فيها النوح و جز النساء شعورهن و كان يؤتى براحلة الرجل منهم أو بفرسه فتوقف بين أظهرهم فينوحون حولها و خرجن إلى السكك و ضربن الستور في الأزقة و قطعن فخرجن إليها ينحن و صدق أهل مكة رؤيا عاتكة و جهيم بن الصلت. قال الواقدي و كان الذين قدموا من قريش في فداء الأسرى أربعة عشر رجلا و قيل خمسة عشر رجلا و كان أول من قدم المطلب بن أبي وداعة ثم قدم الباقون بعده بثلاث ليال. قال فحدثني إسحاق بن يحيى قال سألت نافع بن جبير كيف كان الفداء قال أرفعهم أربعة آلاف إلى ثلاثة آلاف إلى ألفين إلى ألف إلا قوما لا مال لهم من عليهم رسول الله ص. قال الواقدي و قال رسول الله ص في أبي وداعة إن له بمكة ابنا كيسا له مال و هو مغل فداءه فلما قدم افتداه بأربعة آلاف و كان أول أسير افتدي و ذلك أن قريشا قالت لابنه المطلب بن أبي وداعة و رأته يتجهز يخرج إليه لا تعجل فإنا نخاف أن تفسد علينا في أسارانا و يرى محمد تهالكنا فيغلي علينا الفدية فإن كنت تجد فإن كل قومك لا يجدون من السعة ما تجد فقال لا أخرج حتى تخرجوا فخادعهم حتى إذا غفلوا خرج من الليل على راحلته فسار أربعة ليال إلى المدينة فافتدى أباه بأربعة
آلاف فلامه قريش في ذلك فقال ما كنت لأترك أبي أسيرا في أيدي القوم و أنتم مضجعون فقال أبو سفيان بن حرب إن هذا غلام حدث يعجب بنفسه و برأيه و هو مفسد عليكم إني و الله غير مفتد عمرو بن أبي سفيان و لو مكث سنة شرح نهج البلاغة ج : 14 ص : 199أو يرسله محمد و الله ما أنا بأذكم و لكني أكره أن أدخل عليكم ما يشق عليكم و لكن يكون عمرو كأسوتكم. قال الواقدي فأما أسماء القوم الذين قدموا في الأسرى فإنه قدم من بني عبد شمس الوليد بن عقبة بن أبي معيط و عمرو بن الربيع أخو أبي العاص بن الربيع و من بني نوفل بن عبد مناف جبير بن مطعم و من بني عبد الدار بن قصي طلحة بن أبي طلحة و من بني أسد بن عبد العزى بن قصي عثمان بن أبي حبيش و من بني مخزوم عبد الله بن أبي ربيعة و خالد بن الوليد و هشام بن الوليد بن المغيرة و فروة بن السائب و عكرمة بن أبي جهل و من بني جمح أبي بن خلف و عمير بن وهب و من بني سهم المطلب بن أبي وداعة و عمرو بن قيس و من بني مالك بن حسل مكرز بن حفص بن الأحنف كل هؤلاء قدموا المدينة في فداء أهلهم و عشائرهم و كان جبير بن مطعم يقول دخل الإسلام في قلبي منذ قدمت المدينة في الفداء سمعت رسول الله ص يقرأ في صلاة المغرب وَ الطُّورِ وَ كِتابٍ مَسْطُورٍ فاستمعت قراءته فدخل الإسلام في قلبي منذ ذلك اليوم (15/174)
القول في تفصيل أسماء أسارى بدر و من أسرهم
قال الواقدي أسر من بني هاشم العباس بن عبد المطلب أسره أبو اليسر كعب بن عمرو و عقيل بن أبي طالب أسره عبيد بن أوس الظفري و نوفل بن الحارث شرح نهج البلاغة ج : 14 ص : 200بن عبد المطلب أسره جبار بن صخر و أسر حليف لبني هاشم من بني فهر اسمه عتبة فهؤلاء أربعة. ون بني المطلب بن عبد مناف السائب بن عبيد و عبيد بن عمرو بن علقمة رجلان أسرهما سلمة بن أسلم بن حريش الأشهلي. قال الواقدي حدثني بذلك ابن أبي حبيبة قال و لم يقدم لهما أحد و كانا لا مال لهما ففك رسول الله ص عنهما بغير فدية. و من بني عبد شمس بن عبد مناف عقبة بن أبي معيط المقتول صبرا على يد عاصم بن ثابت بن أبي الأقلح بأمر رسول الله أسره عبد الله بن أبي سلمة العجلاني و الحارث بن أبي وحرة بن أبي عمرو بن أمية أسره سعد بن أبي وقاص فقدم في فدائه الوليد بن عقبة بن أبي معيط فافتداه بأربعة آلاف. قال الواقدي و قد كان الحارث هذا لما أمر النبي ص برد الأسارى ثم أقرع بين أصحابه عليهم وقع في سهم سعد بن أبي وقاص الذي كان أسره أول مرة و عمرو بن أبي سفيان أسره علي بن أبي طالب ع و صار بالقرعة في سهم رسول الله ص فأطلقه بغير فدية أطلقه بسعد بن النعمان بن أكال من بني معاوية خرج معتمرا فحبس بمكة فلم يطلقه المشركون حتى أطلق رسول الله ص عمرو بن أبي سفيان. و روى محمد بن إسحاق في كتاب المغازي أن عمرو بن أبي سفيان أسره علي ع يوم بدر و كانت أمه ابنة عقبة بن أبي معيط فمكث في يد رسول الله ص فقيل لأبي سفيان أ لا تفتدي ابنك عمرا قال أ يجمع علي دمي و مالي قتلوا حنظلة و أفتدي عمرا دعوه في أيديهم فليمسكوه ما بدا لهم فبينا هو محبوس بالمدينة خرج شرح نهج البلاغة ج : 14 ص : 201سعد بن النعمان بن أكال أخو بني عمرو بن عوف معتمرا و معه امرأة له و كان شيخا كبيرا لا يخشى ما صنع به أبو سفيان و قد عهد قريشا ألاعرض لحاج و لا معتمر فعدا عليه أبو سفيان فحبسه بمكة بابنه عمرو بن (15/175)
أبي سفيان و أرسل إلى قوم بالمدينة هذا الشعر (15/176)
أ رهط ابن أكال أجيبوا دعاءه تعاقدتم لا تسلموا السيد الكهلافإن بني عمرو لئام أذلة لئن لم يفكوا عن أسيرهم الكبلا
فمشى بنو عمرو بن عوف حين بلغهم الخبر إلى رسول الله ص فأخبروه بذلك و سألوه أن يعطيهم عمرو بن أبي سفيان ليفكوا به صاحبهم فأعطاهم إياه فبعثوا به إلى أبي سفيان فخلى سبيل سعد و قال حسان بن ثابت يجيب أبا سفيان
و لو كان سعد يوم مكة مطلقا لأكثر فيكم قبل أن يؤسر القتلى بعضب حسام أو بصفراء نبعة تحن إذا ما أنبضت تحفز التبلاو أبو العاص بن الربيع أسره خراش بن الصمة فقدم في فدائه عمرو بن أبي الربيع أخوه و حليف لهم يقال له أبو ريشة افتداه عمرو بن الربيع أيضا و عمرو بن الأزرق افتكه عمرو بن الربيع أيضا و كان قد صار في سهم تميم مولى خراش بن الصمة و عقبة بن الحارث الحضرمي أسره عمارة بن حزم فصار في القرعة لأبي بن كعب افتداه عمرو بن أبي سفيان بن أمية و أبو العاص بن نوفل بن عبد شمس أسره عمار بن ياسر قدم في فدائه ابن عمه فهؤلاء ثمانية. شرح نهج البلاغة ج : 14 ص : 202و من بني نوفل بن عبد مناف عدي بن الخيار أسره خراش بن الصمة و عثمان بن ع شمس ابن أخي عتبة بن غزوان حليفهم أسره حارثة بن النعمان و أبو ثور أسره أبو مرثد الغنوي فهؤلاء ثلاثة افتداهم جبير بن مطعم. و من بني عبد الدار بن قصي أبو عزيز بن عمير أسره أبو اليسر ثم صار بالقرعة لمحرز بن نضلة قال الواقدي أبو عزيز هذا هو أخو مصعب بن عمير لأبيه و أمه و قال مصعب لمحرز بن نضلة اشدد يديك به فإن له أما بمكة كثيرة المال فقال له أبو عزيز هذه وصاتك بي يا أخي فقال مصعب إنه أخي دونك فبعثت فيه أمه أربعة آلاف و ذلك بعد أن سألت ما أغلى ما تفادي به قريش فقيل لها أربعة آلاف و الأسود بن عامر بن الحارث بن السباق أسره حمزة بن عبد المطلب فهذان اثنان قدم في فدائهما طلحة بن أبي طلحة و من بني أسد بن عبد العزى بن قصي
السائب بن أبي حبيش بن المطلب بن أسد بن عبد العزى أسره عبد الرحمن بن عوف و عثمان بن الحويرث بن عثمان بن أسد بن عبد العزى أسره حاطب بن أبي بلتعة و سالم بن شماخ أسره سعد بن أبي وقاص فهؤلاء ثلاثة قدم في فدائهم عثمان بن أبي حبيش بأربعة آلاف لكل رجل منهم. و من بني تميم بن مرة مالك بن عبد الله بن عثمان أسره قطبة بن عامر بن حديدة فمات في المدينة أسيرا. و من بني مخزوم خالد بن هشام بن المغيرة أسره سواد بن غزية و أمية بن أبي حذيفة بن المغيرة أسره بلال و عثمان بن عبد الله بن المغيرة و كان أفلت يوم نخلة أسره واقد بن عبد الله التميمي يوم بدر فقال له الحمد لله الذي أمكنني منك فقد كنت أفلت يوم نخلة و قدم في فداء هؤلاء الثلاثة عبد الله بن أبي ربيعة افتدى كل واحد منهم بأربعة آلاف و الوليد بن الوليد بن المغيرة أسره عبد الله بن جحش شرح نهج البلاغة ج : 14 ص : 203فقدم في فدائه أخواه خالد بن الوليد و هشام بن الوليد فتمنع عبد الله بن جحش حتى افتكاه بأربعة آلاف فجعل هشام بن الوليد يريد ألا يبلغ ذلك يريد ثلاثة آلاف فقال خالد لهش إنه ليس بابن أمك و الله لو أبى فيه إلا كذا و كذا لفعلت فلما افتدياه خرجا به حتى بلغا به ذا الحليفة فأفلت فأتى النبي ص فأسلم فقيل أ لا أسلمت قبل أن تفتدى قال كرهت أن أسلم حتى أكون أسوة بقومي. قال الواقدي و يقال إن الذي أسر الوليد بن الوليد سليط بن قيس المازني و قيس بن السائب أسره عبدة بن الحسحاس فحبسه عنده حينا و هو يظن أن له مالا ثم قدم في فدائه أخوه فروة بن السائب فأقام أيضا حينا ثم افتداه بأربعة آلاف فيها عروض. و من بني أبي رفاعة صيفي بن أبي رفاعة بن عائذ بن عبد الله بن عمير بن مخزوم و كان لا مال له أسره رجل من المسلمين فمكث عندهم ثم أرسله و أبو المنذر بن أبي رفاعة بن عائذ افتدي بألفين و لم يذكر الواقدي من أسره و عبد الله و هو أبو عطاء بن السائب بن عائذ بن عبد الله افتدي (15/177)
بألف درهم أسره سعد بن أبي وقاص و المطلب بن حنظلة بن الحارث بن عبيد بن عمير بن مخزوم أسره أبو أيوب الأنصاري و لم يكن له مال فأرسله بعد حين و خالد بن الأعلم العقيلي حليف لبني مخزوم و هو الذي يقول (15/178)
و لسنا على الأعقاب تدمى كلومنا و لكن على أقدامنا تقطر الدما
شرح نهج البلاغة ج : 14 ص : 204و قال محمد بن إسحاق روي أنه كان أول المنهزمين أسره الخباب بن المنذر بن الجموح و قدم في فدائه عكرمة بن أبي جهل فهؤلاء عشرة. و من بني جمح عبد الله بن أبي بن خلف أسره فروة بن أبي عمرو البياضي قدم في فدائه أبوه أبي بن خلف فتمنعه فروة حينا و أبو غزة عمرو بن عبد الله بن وهب أطلقه رسول الله ص بغير فدية و كان شاعرا خبيث اللسان ثم قتله يوم أحد بعد أن أسره و لم يذكر الواقدي الذي أسره يوم بدر و وهب بن عمير بن وهب أسره رفاعة بن رافع الزرقي و قدم أبوه عمير بن وهب في فدائه فأسلم فأرسل النبي ص له ابنه بغير فداء و ربيعة بن دراج بن العنبس بن وهبان بن وهب بن حذافة بن جمح و كان لا مال له فأخذ منه بشي ء يسير و أرسل به و لم يذكر الواقدي من أسره و الفاكه مولى أمية بن خلف أسره سعد بن أبي وقاص فهؤلاء خمسة. و من بني سهم بن عمرو أبو وداعة بن ضبيرة و ان أول أسير افتدي قدم في فدائه ابنه المطلب فافتداه بأربعة آلاف و لم يذكر الواقدي من أسره و فروة بن قيس بن عدي بن حذافة بن سعيد بن سهم أسره ثابت بن أقزم و قدم في فدائه عمرو بن قيس افتداه بأربعة آلاف و حنظلة بن قبيصة بن حذاقة بن سعد أسره عثمان بن مظعون و الحجاج بن الحارث بن قيس بن سعد بن سهم أسره عبد الرحمن بن عوف فأفلت فأخذه أبو داود المازني فهؤلاء أربعة. و من بني مالك بن حسل سهيل بن عمرو بن عبد شمس بن عبد ود بن نصر بن مالك أسره مالك بن الدخشم و قدم في فدائه مكرز بن حفص بن الأحنف و انتهى في فدائه إلى إرضائهم بأربعة آلاف فقالوا هات المال فقال نعم اجعلوا رجلا مكان رجل
شرح نهج البلاغة ج : 14 ص : 205و قوم يروونها رجلا مكان رجل فخلوا سبيل سهيل و حبسوا مكرز بن حفص عندهم حتى بعث سهيل بالمال من مكة و عبد الله بن زمعة بن قيس بن نصر بن مالك أسره عمير بن عوف مولى سهيلن عمرو و عبد العزى بن مشنوء بن وقدان بن قيس بن عبد شمس بن عبد ود سماه رسول الله ص بعد إسلامه عبد الرحمن أسره النعمان بن مالك فهؤلاء ثلاثة. و من بني فهر الطفيل بن أبي قنيع فهؤلاء ستة و أربعون أسيرا. و في كتاب الواقدي أنه كان الأسارى الذين أحصوا و عرفوا تسعة و أربعين و لم نجد التفصيل يلحق هذه الجملة. و روى الواقدي عن سعيد بن المسيب قال كانت الأسارى سبعين و أن القتلى كانت زيادة على سبعين إلا أن المعروفين من الأسرى هم الذين ذكرناهم و الباقون لم يذكر المؤرخون أسماءهم (15/179)
القول في المطعمين في بدر من المشركين
قال الواقدي المتفق عليه و لا خلاف بينهم فيه تسعة فمن بني عبد مناف الحارث بن عامر بن نوفل بن عبد مناف و عتبة و شيبة ابنا ربيعة بن عبد شمس. و من بني أسد بن عبد العزى زمعة بن الأسود بن المطلب بن أسد و نوفل بن خويلد المعروف بابن العدوية. و من بني مخزوم أبو جهل عمرو بن هشام بن المغيرة. و من بني جمح أمية بن خلف. شرح نهج البلاغة ج : 14 ص : 206و من بني سهم نبيه و منبه ابنا الحجاج. فهؤلاء تسعة. قال الواقدي و كان سعيد بن المسيب يقول ما أطعم أحد ببدر إلا قتل. قال الواقدي قد ذكروا عدة من المطعمين اختلف فيهم كسهيل بن رو و أبي البختري و غيرهما. قال حدثني إسماعيل بن إبراهيم عن موسى بن عتبة قال أول من نحر لهم أبو جهل بمر الظهران عشرا ثم أمية بن خلف بعسفان تسعا ثم سهيل بن عمرو بقديد عشرا ثم مالوا إلى مياه من نحو البحر ضلوا الطريق فأقاموا بها يوما فنحر لهم شيبة بن ربيعة تسعا ثم أصبحوا بالأبواء فنحر لهم قيس الجمحي تسعا ثم نحر عتبة عشرا و نحر لهم الحارث بن عمرو تسعا ثم نحر لهم أبو البختري على ماء بدر عشرا و نحر لهم مقيس بن ضبابة على ماء بدر تسعا ثم شغلتهم الحرب. قال الواقدي و قد كان ابن أبي الزناد يقول و الله ما أظن مقيسا كان يقدر على قلوص واحدة. قال الواقدي و أما أنا فلا أعرف قيسا الجمحي قال و قد روت أم بكر عن المسور بن مخرمة ابنها قال كان النفر يشتركون في الإطعام فينسب إلى الرجل الواحد و يسكت عن سائرهم. و روى محمد بن إسحاق أن العباس بن عبد المطلب كان من المطعمين في بدر و كذلك طعيمة بن عدي بن نوفل كان يعتقب هو و حكيم و الحارث بن عامر بن نوفل و كان أبو البختري يعتقب هو و حكيم بن حزام في الإطعام و كان النضر بن الحارث بن كلدة بن علقمة بن عبد مناف بن عبد الدار من المطعمين قال و كان النبي ص يكره قتل شرح نهج البلاغة ج : 14 ص : 207الحارث بن عامر قال يوم بدر من ظفر به منكم فليتركه لأيتام بني نوفل (15/180)
فقتل في المعركةالقول فيمن استشهد من المسلمين ببدر (15/181)
قال الواقدي حدثني عبد الله بن جعفر قال سألت الزهري كم استشهد من المسلمين ببدر قال أربعة عشر ستة من المهاجرين و ثمانية من الأنصار. قال فمن بني المطلب بن عبد مناف عبيدة بن الحارث قتله شيبة بن ربيعة. و في رواية الواقدي قتله عتبة فدفنه النبي ص بالصفراء. و من بني زهرة عمير بن أبي وقاص قتله عمرو بن عبد ود فارس الأحزاب و عمير بن عبد ود ذو الشمالين حليف لبني زهرة بن خزاعة قتله أبو أسامة الجشمي. و من بني عدي بن كعب عاقل بن أبي البكير حليف لهم من بني سعد بن بكر قتله مالك بن زهير الجشمي و مهجع مولى عمر بن الخطاب قتله عامر بن الحضرمي و يقال إن مهجعا أول من قتل من المهاجرين. و من بني الحارث بن فهر صفوان بن بيضاء قتله طعيمة بن عدي. و هؤلاء الستة من المهاجرين. و من الأنصار ثم من بني عمرو بن عوف مبشر بن عبد المنذر قتله أبو ثور و سعد بن خيثمة قتله عمرو بن عبد ود و يقال طعيمة بن عدي و من بني عدي بن النجار حارثة بن سراقة رماه حبان بن العرقة بسهم فأصاب حنجرته فقتله. و من بني مالك بن النجار عوف و معوذ ابنا عفراء قتلهما أبو جهل. شرح نهج البلاغة ج : 14 ص : 208و من بني سلمة بن حرام عمير بن الحمام بن الجموح قتله خالد بن الأعلم العقي و يقال إن عمير بن الحمام أول قتيل قتل من الأنصار و قد روي أن أول قتيل منهم حارث بن سراقة. و من بني زريق رافع بن المعلى قتله عكرمة بن أبي جهل. و من بني الحارث بن الخزرج يزيد بن الحارث بن قسحم قتله نوفل بن معاوية الديلي. فهؤلاء الثمانية من الأنصار. قال الواقدي و قد روي عن عكرمة عن ابن عباس أن أنسة مولى النبي ص قتل ببدر. و روي أن معاذ بن ماعص جرح ببدر فمات من جراحته بالمدينة و أن عبيد بن السكن جرح فاشتكى جرحه فمات منه حين قدم
القول فيمن قتل ببدر من المشركين و أسماء قاتليهم
قال الواقدي فمن بني عبد شمس بن عبد مناف حنظلة بن أبي سفيان بن حرب قتله علي بن أبي طالب ع و الحارث بن الحضرمي قتله عمار بن ياسر و عامر بن الحضرمي قتله عاصم بن ثابت بن أبي الأقلح و عمير بن أبي عمير و ابنه موليان لهم قتل سالم مولى أبي حذيفة منهم عمير بن أبي عمير و لم يذكر الواقدي من قتل ابنه و عبيدة بن سعيد بن العاص قتله الزبير بن العوام و العاص بن سعيد بن العاص قتله علي بن أبي طالب ع و عقبة بن أبي معيط قتله عاصم بن ثابت صبرا بالسيف بأمر رسول الله ص. شرح نهج البلاغة ج : 14 ص : 209و روى البلاذري أن رسول الله صلبه بعد قتله فكان أول مصلوب في الإسلام قال و فيه يقول ضرار بن الخطاب (15/182)
عين بكي لعقبة بن أبان فرع فهر و فارس الفرسان
و عتبة بن ربيعة قتله حمزة بن عبد المطلب و شيبة بن ربيعة قتله عبيدة بن الحارث و حمزة و علي الثلاثة اشتركوا في قتله و الوليد بن عتبة بن ربيعة قتله علي بن أبي طالب ع و عامر بن عبد الله حليف لهم من أنمار قتله علي بن أبي طالب ع و قيل قتله سعد بن معاذ فهؤلاء اثنا عشر. و من بني نوفل بن عبد مناف الحارث بن نوفل قتله خبيب بن يساف و طعيمة بن عدي و يكنى أبا الريان قتله حمزة بن عبد المطلب في رواية الواقدي و قتله علي بن أبي طالب ع في رواية محمد بن إسحاق و روى البلاذري رواية غريبة أن طعيمة بن عدي أسر يوم بدر فقتله النبي ص صبرا على يد حمزة فهؤلاء اثنان. و من بني أسد بن عبد العزى زمعة بن الأسود قتله أبو دجانة و قيل قتله ثابت بن الجذع و الحارث بن زمعة بن الأسود قتله علي بن أبي طالب ع و عقيل بن الأسود بن المطلب قتله علي و حمزة شركا في قتله. قال الواقدي و حدثني أبو معشر قال قتله علي بن أبي طالب ع وحده و قيل قتله أبو داود المازني وحده و أبو البختري و هو العاص بن هشام قتله المجذر بن شرح نهج البلاغة ج : 14 ص : 210زياد و قيل قتله أبو اليسر و نوفل بن خويلد بن أسد بن عبد العزى و هو ابن العدوية قتله علي ع فهؤلاء خمسة. و من بني عبد الر بن قصي النضر بن الحارث بن كلدة قتله علي بن أبي طالب ع صبرا بالسيف بأمر رسول الله ص و كان الذي أسره المقداد بن عمرو فوعد المقداد إن استنقذه بفداء جليل فلما قدم ليقتل قال المقداد يا رسول الله إني ذو عيال و أحب الدين فقال اللهم أغن المقداد من فضلك يا علي قم فاضرب عنقه و زيد بن مليص مولى عمرو بن هاشم بن عبد مناف من عبد الدار قتله علي بن أبي طالب ع و قيل قتله بلال فهؤلاء اثنان. و من بني تيم بن مرة عمير بن عثمان بن عمرو بن كعب بن سعد بن تيم بن مرة قتله علي بن أبي طالب ع و عثمان بن مالك بن عبيد الله بن عثمان قتله صهيب فهؤلاء اثنان و لم يذكر البلاذري عثمان بن مالك. و من بني (15/183)
مخزوم بن يقظة ثم من بني المغيرة بن عبد الله بن عمير بن مخزوم أبو جهل عمرو بن هشام بن المغيرة ضربه معاذ بن عمرو بن الجموح و معوذ و عوف ابنا عفراء و ذفف عليه عبد الله بن مسعود و العاص بن هاشم بن المغيرة خال عمر بن الخطاب قتله عمرو بن يزيد بن تميم التميمي حليف لهم قتله عمار بن ياسر و قيل قتله علي ع. و من بني الوليد بن المغيرة أبو قيس بن الوليد بن الوليد أخو خالد بن الوليد قتله علي بن أبي طالب ع. و من بني الفاكه بن المغيرة أبو قيس بن الفاكه بن المغيرة قتله حمزة بن عبد المطلب و قيل قتله الحباب بن المنذر. (15/184)
شرح نهج البلاغة ج : 14 ص : 211و من بني أمية بن المغيرة مسعود بن أبي أمية قتله علي بن أبي طالب ع. و من بني عائذ بن عبد الله بن عمير بن مخزوم ثم من بني رفاعة أمية بن عائذ بن رفاعة بن أبي رفاعة قتله سعد بن الربيع و أبو المنذر بن أبي رفاعة قتله معن بن عدي اجلاني و عبد الله بن أبي رفاعة قتله علي بن أبي طالب ع و زهير بن أبي رفاعة قتله أبو أسيد الساعدي و السائب بن أبي رفاعة قتله عبد الرحمن بن عوف. و من بني أبي السائب المخزومي و هو صيفي بن عائذ بن عبد الله بن عمر بن مخزوم السائب بن السائب قتله الزبير بن العوام و الأسود بن عبد الأسد بن هلال بن عبد الله بن عمر بن مخزوم قتله حمزة بن عبد المطلب و حليف لهم من طيئ و هو عمرو بن شيبان قتله يزيد بن قيس و حليف آخر و هو جبار بن سفيان أخو عمرو بن سفيان المقدم ذكره قتله أبو بردة بن نيار. و من بني عمران بن مخزوم حاجز بن السائب بن عويمر بن عائذ قتله علي ع. و روى البلاذري أن حاجزا هذا و أخاه عويمر بن السائب بن عويمر قتلهما علي بن أبي طالب ع و عويمر بن عمرو بن عائذ بن عمران بن مخزوم قتله النعمان بن أبي مالك فهؤلاء تسعة عشر. و من بني جمح بن عمرو بن هصيص أمية بن خلف قتله خبيب بن يساف و بلال شركا فيه. قال الواقدي و كان معاذ بن رفاعة بن رافع يقول بل قتله أبو رفاعة بن رافع. شرح نهج البلاغة ج : 14 ص : 212و علي بن أمية بن خلف قتله عمار بن ياسر و أوس بن المغيرة بن لوذان قتله علي ع و عثمان بن مظعون شركا فيه فهؤلاء ثلاثة. و من بني سهم منبهن الحجاج قتله علي بن أبي طالب ع و قيل قتله أبو أسيد الساعدي و نبيه بن الحجاج قتله علي بن أبي طالب ع و العاص بن منبه بن الحجاج قتله علي ع و أبو العاص بن قيس بن عدي بن سعد بن سهم قتله أبو دجانة قال الواقدي و حدثني أبو معشر عن أصحابه قالوا قتله علي ع و عاص بن أبي عوف بن صبيرة بن سعيد بن سعد قتله أبو دجانة فهؤلاء خمسة و من (15/185)
بني عامر بن لؤي ثم من بني مالك بن حسل معاوية بن عبد قيس حليف لهم قتله عكاشة بن محصن و معبد بن وهب حليف لهم من كلب قتله أبو دجانة فهؤلاء اثنان. فجميع من قتل ببدر في رواية الواقدي من المشركين في الحرب صبرا اثنان و خمسون رجلا قتل علي ع منهم مع الذين شرك في قتلهم أربعة و عشرين رجلا و قد كثرت الرواية أن المقتولين ببدر كانوا سبعين و لكن الذين عرفوا و حفظت أسماؤهم من ذكرناه و في رواية الشيعة أن زمعة بن الأسود بن المطلب قتله علي و الأشهر في الرواية أنه قتله الحارث بن زمعة و أن زمعة قتله أبو دجانة (15/186)
القول فيمن شهد بدرا من المسلمين
قال الواقدي كانوا ثلاثمائة و ثلاثة عشر رجلا مع القوم الذين ضرب لهم رسول الله ص بسهامهم و هم غائبون و عدتهم ثمانية قال و هذا هو الأغلب في الرواية شرح نهج البلاغة ج : 14 ص : 213قال و لم يشهد بدرا من المسلمين إلا قرشي أو حليف لقرشي أو أنصاري أو حليف لأنصاريو مولى واحد منهما و هكذا من جانب المشركين فإنه لم يشهدها إلا قرشي أو حليف لقرشي أو مولى لهم. قال فكانت قريش و مواليها و حلفاؤها ستة و ثمانين رجلا و كانت الأنصار و مواليها و حلفاؤها مائتين و سبعة و عشرين رجلا. فأما تفصيل أسماء من شهدها من المسلمين فله موضع في كتب المحدثين أملك به من هذا الموضع
قصة غزوة أحد
الفصل الرابع في شرح قصة غزاة أحد و نحن نذكر ذلك من كتاب الواقدي رحمه الله على عاداتنا في ذكر غزاة بدر و نضيف إليه من الزيادات التي ذكرها ابن إسحاق و البلاذري ما يقتضي الحال ذكره. قال الواقدي لما رجع من حضر بدرا من المشركين إلى مكة وجدوا العير التي قدم بها أبو سفيان بن حرب من الشام موقوفة في دار الندوة و كذلك كانوا يصنعون فلم يحركها أبو سفيان و لم يفرقها لغيبة أهل العير و مشت أشراف قريش إلى أبي سفيان الأسود بن عبد المطلب بن أسد و جبير بن مطعم و صفوان بن أمية و عكرمة بن أبي جهل و الحارث بن هشام و عبد الله بن أبي ربيعة و حويطب بن عبد العزى فقالوا يا أبا سفيان انظر هذه العير التي قدمت بها فاحتبستها فقد عرفت أنها أموال أهل مكة و لطيمة قريش و هم طيبوا الأنفس يجهزون بهذه العير جيشا كثيفا إلى محمد فقد شرح نهج البلاغة ج : 14 ص : 214ترى من قتل من آبائنا و أبنائنا و ائرنا فقال أبو سفيان و قد طابت أنفس قريش بذلك قالوا نعم قال فأنا أول من أجاب إلى ذلك و بنو عبد مناف معي فأنا و الله الموتور و الثائر و قد قتل ابني حنظلة ببدر و أشراف قومي فلم تزل العير موقوفة حتى تجهزوا للخروج فباعوها فصارت ذهبا عينا و يقال إنما قالوا يا أبا سفيان بع العير ثم اعزل أرباحها فكانت العير ألف بعير و كان المال خمسين ألف دينار و كانوا يربحون في تجاراتهم للدينار دينارا و كان متجرهم من الشام غزة لا يعدونها إلى غيرها و كان أبو سفيان قد حبس عير بني زهرة لأنهم رجعوا من طريق بدر و سلم ما كان لمخرمة بن نوفل و لبني أبيه و بني عبد مناف بن زهرة فأبى مخرمة أن يقبل عيره حتى يسلم إلى بني زهرة جميعا و تكلم الأخنس فقال و ما لعير بني زهرة من بين عيرات قريش قال أبو سفيان لأنهم رجعوا عن قريش قال الأخنس أنت أرسلت إلى قريش أن ارجعوا فقد أحرزنا العير لا تخرجوا في غير شي ء فرجعنا فأخذت بنو زهرة عيرها و أخذ أقوام من أهل مكة أهل ضعف لا (15/187)
عشائر لهم و لا منعة كل ما كان لهم في العير. قال الواقدي و هذا يبين أنه إنما أخرج القوم أرباح العير قال و فيهم أنزل إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِاللَّهِ الآية. قال فلما أجمعوا على المسير قالوا نسير في العرب فنستنصرهم فإن عبد مناة غير متخلفين عنا هم أوصل العرب لأرحامنا و من اتبعنا من الأحابيش فأجمعوا على أن يبعثوا أربعة من قريش يسيرون في العرب يدعونهم إلى نصرهم فبعثوا عمرو بن العاص و هبيرة بن وهب و ابن الزبعرى و أبا عزة الجمحي فأبى أبو عزة أن يسير و قال من شرح نهج البلاغة ج : 14 ص : 215علي محمد يوم بدر و حلفت ألا أظاهر عليه عدوا أبدا فمشى إليه صفوان بن أمية فقال اخرج فأبى و قال عاهدت محمدا يوم بدر ألا أظاهر عليه عدوا أبدا و أنا أفي له بما عاهدته عل من علي و لم يمن على غيري حتى قتله أو أخذ منه الفداء فقال صفوان اخرج معنا فإن تسلم أعطك من المال ما شئت و إن تقتل تكن عيالك مع عيالي فأبى أبو عزة حتى كان الغد و انصرف عنه صفوان بن أمية آيسا منه فلما كان الغد جاءه صفوان و جبير بن مطعم فقال له صفوان الكلام الأول فأبى فقال جبير ما كنت أظن أني أعيش حتى يمشي إليك أبو وهب في أمر تأبى عليه فأحفظه فقال أنا أخرج قال فخرج إلى العرب يجمعها و يقول (15/188)
إيه بني عبد مناة الرزام أنتم حماة و أبوكم حام لا تسلموني لا يحل إسلام لا يعدوني نصركم بعد العامو خرج النفر مع أبي عزة فألبوا العرب و جمعوا و بلغوا ثقيفا فأوعبوا فلما أجمعوا المسير و تألب من كان معهم من العرب و حضروا و اختلفت قريش في إخراج الظعن معهم قال صفوان بن أمية اخرجوا بالظعن فأنا أول من فعل فإنه أقمن أن يحفظنكم و يذكرنكم قتلى بدر فإن العهد حديث و نحن قوم موتورون مستميتون لا نريد أن نرجع إلى ديارنا حتى ندرك ثأرنا أو نموت دونه فقال عكرمة بن أبي جهل أنا أول من أجاب إلى ما دعوت إليه و قال عمرو بن العاص مثل ذلك فمشى في ذلك شرح نهج البلاغة ج : 14 ص : 216نوفل بن معاوية الديلي فقال يا معشر قريش هذا ل برأي أن تعرضوا حرمكم لعدوكم و لا آمن أن تكون الدبرة لهم فتفتضحوا في نسائكم فقال صفوان لا كان غير هذا أبدا فجاء نوفل إلى أبي سفيان بن حرب فقال له تلك المقالة فصاحت هند بنت عتبة إنك و الله سلمت يوم بدر فرجعت إلى نسائك نعم نخرج فنشهد القتال فقد ردت القيان من الجحفة في سفرهم إلى بدر فقتلت الأحبة يومئذ فقال أبو سفيان لست أخالف قريشا أنا رجل منها ما فعلت فعلت فخرجوا بالظعن فخرج أبو سفيان بن حرب بامرأتين هند بنت عتبة بن ربيعة و أميمة بنت سعد بن وهب بن أشيم بن كنانة و خرج صفوان بن أمية بامرأتين برزة بنت مسعود الثقفي و هي أم عبد الله الأكبر و البغوم بنت المعذل من كنانة و هي أم عبد الله الأصغر و خرج طلحة بن أبي طلحة بامرأته سلافة بنت سعد بن شهيد و هي من الأوس و هي أم بنيه مسافع و الحارث و كلاب و الجلاس بني طلحة بن أبي طلحة و خرج عكرمة بن أبي جهل بامرأته أم حكيم بنت الحارث بن هشام و خرج الحارث بن هشام بامرأته فاطمة بنت الوليد بن المغيرة و خرج عمرو بن العاص بامرأته هند بنت منبه بن الحجاج و هي أم عبد الله بن عمرو بن العاص و قال محمد بن إسحاق اسمها ريطة و خرجت خناس بنت مالك بن المضرب إحدى (15/189)
نساء بني مالك بن حسل مع ابنها أبي عزيز بن عمير أخي مصعب بن عمير من بني عبد الدار و خرج الحارث بن سفيان بن عبد الأسد بامرأته رملة بنت طارق بن علقمة الكنانية و خرج كنانة بن علي بن ربيعة بن عبد العزى بن عبد شمس بن عبد مناف بامرأته أم حكيم بنت طارق و خرج سفيان بن عويف بامرأته قتيلة بنت عمرو بن هلال و خرج النعمان بن عمرو و جابر مسك الذئب أخوه بأمهما شرح نهج البلاغة ج : 14 ص : 217الدغينة و خرج غراب بن سفيان بن عويف بامرأته عمرة بنت الحارث بن علقمة الكنانية و هي التي رفعت لواء قريش حين سقطت حتى تراجعت قريش إلى لوائها و فيها يقول حسانو لو لا لواء الحارثية أصبحوا يباعون في الأسواق بالثمن البخس (15/190)
قالوا و خرج سفيان بن عويف بعشرة من ولده و حشدت بنو كنانة و كانت الألوية يوم خرجوا من مكة ثلاثة عقدوها في دار الندوة لواء يحمله سفيان بن عويف لبني كنانة و لواء الأحابيش يحمله رجل منهم و لواء لقريش يحمله طلحة بن أبي طلحة. قال الواقدي و يقال خرجت قريش و لفها كلهم من كنانة و الأحابيش و غيرهم على لواء واحد يحمله طلحة بن أبي طلحة و هو الأثبت عندنا. قال و خرجت قريش و هم ثلاثة آلاف بمن ضوى إليها و كان فيهم من ثقيف مائة رجل و خرجوا بعدة و سلاح كثير و قادوا مائتي فرس و كان فيهم سبعمائة دراع و ثلاثة آلاف بعير فلما أجمعوا على المسير كتب العباس بن عبد المطلب كتابا و ختمه و استأجر رجلا من بني غفار و شرط عليه أن يسير ثلاثا إلى رسول الله ص يخبره أن قريشا قد اجتمعت للمسير إليك فما كنت صانعا إذا حلوا بك فاصنعه و قد وجهوا و هم ثلاثة آلاف و قادوا مائتي فرس و فيهم سبعمائة دراع و ثلاثة آلاف بعير و قد أوعبوا من السلاح فقدم الغفاري فلم يجد رسول الله ص بالمدينة وجده بقباء فخرج حتى وجد رسول الله ص على باب مسجد قباء يركب شرح نهج البلاغة ج : 14 ص : 218حماره فدفع إليه الكتاب فقرأه عليه أبي بن كعب و استكتم أبيا ما فيه و دخل منزل سعد بن ربيع فقال أ في البيت أحد فقال سعد لا فتكلم بحاجتك فأخبره بكتاب العباس بن عبد المطلب فجعل سعد يقول يا رسول الله و الله إني لأرجو أن يكون في ذلك خير و أرجعت يهود المدينة و المنافقون و قالوا ما جاء محمدا شي ء يحبه و انصرف رسول الله ص إلى المدينة و قد استكتم عد بن الربيع الخبر فلما خرج رسول الله ص من منزله خرجت امرأة سعد بن الربيع إليه فقالت ما قال لك رسول الله ص قال ما لك و لذاك لا أم لك قالت كنت أستمع عليكم و أخبرت سعدا الخبر فاسترجع سعد و قال لا أراك تستمعين علينا و أنا أقول لرسول الله ص تكلم بحاجتك ثم أخذ بجمع لمتها ثم خرج يعدو بها حتى أدرك رسول الله ص بالجسر و قد بلحت (15/191)
فقال يا رسول الله إن امرأتي سألتني عما قلت فكتمتها فقالت قد سمعت قول رسول الله ص ثم جاءت بالحديث كله فخشيت يا رسول الله أن يظهر من ذلك شي ء فتظن أني أفشيت سرك فقال ص خل سبيلها و شاع الخبر بي الناس بمسير قريش و قدم عمرو بن سالم الخزاعي في نفر من خزاعة ساروا من مكة أربعا فوافوا قريشا و قد عسكروا بذي طوى فأخبروا رسول الله ص الخبر ثم انصرفوا و لقوا قريشا ببطن رابغ و هو أربع ليال من المدينة فنكبوا عن قريش. قال الواقدي فلما أصبح أبو سفيان بالأبواء أخبر أن عمرو بن سالم و أصحابه راحوا أمس ممسين إلى مكة فقال أبو سفيان أحلف بالله أنهم جاءوا محمدا فخبروه بمسيرنا و عددنا و حذروه منا فهم الآن يلزمون صياصيهم فما أرانا نصيب منهم شيئا في وجهنا فقال صفوان بن أمية إن لم يصحروا لنا عمدنا إلى نخل الأوس و الخزرج فقطعناه (15/192)
شرح نهج البلاغة ج : 14 ص : 219فتركناهم و لا أموال لهم فلا يختارونها أبدا و إن أصحروا لنا فعددنا أكثر من عددهم و سلاحنا أكثر من سلاحهم و لنا خيل و لا خيل معهم و نحن نقاتل على وتر عندهم و لا وتر لهم عندنا قال الواقدي و كان أبو عامر الفاسق قد خرج في خمسين لا من الأوس حتى قدم بهم مكة حين قدم النبي ص يحرضها و يعلمها أنها على الحق و ما جاء به محمد باطل فسارت قريش إلى بدر و لم يسر معها فلما خرجت قريش إلى أحد سار معها و كان يقول لقريش إني لو قدمت على قومي لم يختلف عليكم منهم اثنان و هؤلاء معي نفر منهم خمسون رجلا فصدقوه بما قال و طمعوا في نصره. قال الواقدي و خرج النساء معهن الدفوف يحرضن الرجال و يذكرنهم قتلى بدر في كل منزل و جعلت قريش تنزل كل منهل ينحرون ما نحروا من الجزر مما كانوا جمعوا من العين و يتقوون به في مسيرهم و يأكلون من أزوادهم مما جمعوا من الأموال. قال الواقدي و كانت قريش لما مرت بالأبواء قالت إنكم قد خرجتم بالظعن معكم و نحن نخاف على نسائنا فتعالوا ننبش قبر أم محمد فإن النساء عورة فإن يصب من نسائكم أحدا قلتم هذه رمة أمك فإن كان برا بأمه كما يزعم فلعمري لنفادينكم برمة أمه و إن لم يظفر بأحد من نسائكم فلعمري ليفدين رمة أمه بمال كثير إن كان بها برا فاستشار أبو سفيان بن حرب أهل الرأي من قريش في ذلك فقالوا لا تذكر من هذا شيئا فلو فعلنا نبشت بنو بكر و خزاعة موتانا. قال الواقدي و كانت قريش بذي الحليفة يوم الخميس صبيحة عشر من مخرجهم من مكة و ذلك لخمس ليال مضين من شوال على رأس اثنين و ثلاثين شهرا من الهجرة فلما شرح نهج البلاغة ج : 14 ص : 220أصبحوا بذي الحليفة خرج فرسان منهم فأنزلوهم الوطاء و بعث النبي ص عينين له آنسا و مؤنسا ابني فضالة ليلة الخميس فاعترضا لقريش بالعقيق فسارا معهم حتى نزلوا الوطاء و أتيا رسول الله فأخبراه و كان المسلمون قد ازدرعوا العرض و العرض ما بين الوطاء بأحد (15/193)
إلى الجرف إلى العرصة عرصة البقل اليوم و كان أهله بنو سلمة و حارثة و ظفر و عبد الأشهل و كان الماء يومئذ بالجرف نشطة لا يرمم سابق الناضح مجلسا واحدا ينفتل الجمل في ساعته حتى ذهبت بمياهه عيون الغابة التي حفرها معاوية بن أبي سفيان و كان المسلمون قد أدخلوا آلة زرعهم ليلة الخميس المدينة فقدم المشركون على زرعهم فخلوا فيه إبلهم و خيولهم و كان لأسيد بن حضير في العرض عشرون ناضحا تسقي شعيرا و كان المسلمون قد حذروا على جمالهم و عمالهم و آلة حرثهم و كان المشركون يرعون يوم الخميس فلما أمسوا جمعوا الإبل و قصلوا عليها القصيل و قصلوا على خيولهم ليلة الجمعة فلما أصبحوا يوم الجمعة خلوا ظهرهم في الزرع و خيلهم حتى تركوا العرض ليس به خضراء. (15/194)
قال الواقدي فلما نزلوا و حلوا العقد و اطمأنوا بعث رسول الله ص الحباب بن المنذر بن الجموح إلى القوم فدخل فيهم و حزر و نظر إلى جميع ما يريد و كان قد بعثه سرا و قال له إذا رجعت فلا تخبرني بين أحد من المسلمين إلا أن ترى في القوم قلة فرجع إليه فأخبره خاليا و قال له رأيت عددا حزرتهم ثلاث آلاف يزيدون قليلا أو ينقصون قليلا و الخيل مائتا فرس و رأيت دروعا ظاهرة حزرتها سبعمائة درع قال هل رأيت ظعنا قال نعم رأيت النساء معهن الدفاف و الأكبار و هي الطبول فقال رسول الله ص أردن أن يحرضن القوم و يذكرنهم قتلى بدر هكذا شرح نج البلاغة ج : 14 ص : 221جاءني خبرهم لا تذكر من شأنهم حرفا حسبنا الله و نعم الوكيل اللهم بك أحول و بك أصول قال الواقدي و خرج سلمة بن سلامة بن وقش يوم الجمعة حتى إذا كان بأدنى العرض إذا طليعة خيل المشركين عشرة أفراس ركضوا في أثره فوقف لهم على نشز من الحرة فرشقهم بالنبل مرة و بالحجارة أخرى حتى انكشفوا عنه فلما ولوا جاء إلى مزرعته بأدنى العرض فاستخرج سيفا كان له و درع حديد كان له دفنا في ناحية المزرعة و خرج بهما يعدو حتى أتى بني عبد الأشهل فخبر قومه بما لقي. قال الواقدي و كان مقدم قريش يوم الخميس لخمس خلون من شوال و كانت الوقعة يوم السبت لسبع خلون من شوال و باتت وجوه الأوس و الخزرج سعد بن معاذ و أسيد بن حضير و سعد بن عبادة في عدة منهم ليلة الجمعة عليهم السلاح في المسجد بباب النبي ص خوفا من تبييت المشركين و حرست المدينة تلك الليلة حتى أصبحوا و رأى رسول الله ص رؤيا ليلة الجمعة فلما أصبح و اجتمع المسلمون خطبهم. (15/195)
قال الواقدي فحدثني محمد بن صالح عن عاصم بن عمر بن قتادة عن محمود بن لبيد قال ظهر النبي ص المنبر فحمد الله و أثنى عليه ثم قال أيها الناس إني رأيت في منامي رؤيا رأيت كأني في درع حصينة و رأيت كأن سيفي ذا الفقار انفصم من عند ظبته و رأيت بقرا تذبح و رأيت كأني مردف كبشا فقال الناس يا رسول الله فما أولتها قال أما الدرع الحصينة فالمدينة فامكثوا فيها و أما شرح نهج البلاغة ج : 14 ص : 222انفصام سيفي عند ظبته فمصيبة في نفسي و أما البقر المذبح فقتلى في أصحابي و أما أني مردف كبشا فكبش الكتيبة نقتله إن شاء الله قال الواقدي و روي عن ابن عباس أن رسول الله ص قال أما انفصام سيفي فقتل رجل من أهل بيتي (15/196)
قال الواقدي و روى المسور بن مخرمة قال قال النبي ص و رأيت في سيفي فلا فكرهته هو الذي أصاب وجهه ع قال الواقدي و قال النبي ص أشيروا علي و رأى ص ألا يخرج من المدينة لهذه الرؤيا و رسول الله ص يحب أن يوافق على مثل ما رأى و على ما عبر عليه الرؤيا فقام عبد الله بن أبي فقال يا رسول الله كنا نقاتل في الجاهلية في هذه المدينة و نجعل النساء و الذراري في هذه الصياصي و نجعل معهم الحجارة و الله لربما مكث الولدان شهرا ينقلون الحجارة إعدادا لعدونا و نشبك المدينة بالبنيان فتكون كالحصن من كل ناحية و ترمى المرأة و الصبي من فوق الصياصي و الآطام و نقاتل بأسيافنا في السكك يا رسول الله إن مدينتنا عذراء ما فضت علينا قط و ما خرجنا إلى عدو قط منها إلا أصاب منا و ما دخل علينا قط إلا أصبناه فدعهم يا رسول الله فإنهم إن أقاموا أقاموا بشر محبس و إن رجعوا رجعوا خاسرين مغلوبين لم ينالوا خيرا يا رسول الله أطعني في هذا الأمر و اعلم أني ورثت هذا الرأي من أكابر قومي و أهل الرأي منهم فهم كانوا أهل الحرب و التجربة. قال الواقدي فكان رأي رسول الله ص مع رأي ابن أبي و كان ذلك رأي الأكابر من أصحاب رسول الله ص من المهاجرين و الأنصار شرح نهج البلاغة ج : 14 ص : 223فقال رسول الله ص امكثوا في المدينة و اجعلوا النساء و الذراري في الآطام فإن دخل علينا قلناهم في الأزقة فنحن أعلم بها منهم و رموا من فوق الصياصي و الآطام و كانوا قد شبكوا المدينة بالبنيان من كل ناحية فهي كالحصن فقال فتيان أحداث لم يشهدوا بدرا و طلبوا من رسول الله الخروج إلى عدوهم و رغبوا في الشهادة و أحبوا لقاء العدو و قالوا اخرج بنا إلى عدونا و قال رجال من أهل النبه و أهل السن منهم حمزة بن عبد المطلب و سعد بن عبادة و النعمان بن مالك بن ثعلبة و غيرهم من الأوس و الخزرج إنا نخشى يا رسول الله أن يظن عدونا أنا كرهنا الخروج إليهم جبنا عن لقائهم فيكون هذا جرأة منهم (15/197)
علينا و قد كنت يوم بدر في ثلاثمائة رجل فظفرك الله بهم و نحن اليوم بشر كثير و كنا نتمنى هذا اليوم و ندعو الله به فقد ساقه الله إلينا في ساحتنا هذه و رسول الله ص لما رأى من إلحاحهم كاره و قد لبسوا السلاح يخطرون بسيوفهم يتساومون كأنهم الفحول و قال مالك بن سنان أبو أبي سعيد الخدري يا رسول الله نحن و الله بين إحدى الحسنيين إما يظفرنا الله بهم فهذا الذي نريد فيذلهم الله لنا فتكون هذه وقعة مع وقعة بدر فلا يبقى منهم إلا الشريد و الأخرى يا رسول الله يرزقنا الله الشهادة و الله يا رسول الله ما نبالي أيهما كان إن كلا لفيه الخير فلم يبلغنا أن النبي ص رجع إليه قولا و سكت و قال حمزة بن عبد المطلب و الذي أنزل عليه الكتاب لا أطعم اليوم طعاما حتى أجالدهم بسيفي خارجا من المدينة و كان يقال كان حمزة يوم الجمعة صائما و يوم السبت فلاقاهم و هو صائم و قال النعمان بن مالك بن ثعلبة أخو بني سالم يا رسول الله أنا أشهد أن البقر المذبح قتلى من أصحابك و أني منهم فلم تحرمنا الجنة فو الله الذي لا إله إلا هو (15/198)
شرح نهج البلاغة ج : 14 ص : 224لأدخلنها قال رسول الله بم قال إني أحب الله و رسوله و لا أفر يوم الزحف فقال صدقت فاستشهد يومئذ. و قال إياس بن أوس بن عتيك يا رسول الله نحن بنو عبد الأشهل من البقر المذبح نرجو يا رسول الله أن نذبح في القوم و يذبح فينا فنصير إ الجنة و يصيرون إلى النار مع أني يا رسول الله لا أحب أن ترجع قريش إلى قومها فتقول حصرنا محمد في صياصي يثرب و آطامها فتكون هذه جرأة لقريش و قد وطئوا سعفنا فإذا لم نذب عن عرضنا فلم ندرع و قد كنا يا رسول في جاهليتنا و العرب يأتوننا فلا يطمعون بهذا منا حتى نخرج إليهم بأسيافنا فنذبهم عنا فنحن اليوم أحق إذ أمدنا الله بك و عرفنا مصيرنا لا نحصر أنفسنا في بيوتنا. و قام خيثمة أبو سعد بن خيثمة فقال يا رسول الله إن قريشا مكثت حولا تجمع الجموع و تستجلب العرب في بواديها و من اتبعها من أحابيشها ثم جاءونا قد قادوا الخيل و اعتلوا الإبل حتى نزلوا بساحتنا فيحصروننا في بيوتنا و صياصينا ثم يرجعون وافرين لم يكلموا فيجرئهم ذلك علينا حتى يشنوا الغارات علينا و يصيبوا أطلالنا و يضعوا العيون و الأرصاد علينا مع ما قد صنعوا بحروثنا و يجترئ علينا العرب حولنا حتى يطمعوا فينا إذا رأونا لم نخرج إليهم فنذبهم عن حريمنا و عسى الله أن يظفرنا بهم فتلك عادة الله عندنا أو تكون الأخرى فهي الشهادة لقد أخطأتني وقعة بدر و قد كنت عليها حريصا لقد بلغ من حرصي أن ساهمت ابني في الخروج فخرج سهمه فرزق الشهادة و قد كنت حريصا على الشهادة و قد رأيت ابني البارحة في النوم في أحسن صوره يسرح في ثمار الجنة و أنهارها و هو يقول الحق بنا ترافقنا في الجنة فقد وجدت ما وعدني ربي حقا و قد و الله يا رسول الله أصبحت مشتاقا إلى مرافقته في الجنة و قد كبرت سني و دق عظمي و أحببت شرح نهج البلاغة ج : 14 ص : 225لقاء ربي فادع الله يرسول الله أن يرزقني الشهادة و مرافقة سعد في الجنة فدعا له رسول الله (15/199)
بذلك فقتل بأحد شهيدا. قال أنس بن قتادة يا رسول الله هي إحدى الحسنيين إما الشهادة و إما الغنيمة و الظفر بقتلهم فقال رسول الله ص إني أخاف عليكم الهزيمة. فلما أبوا إلا الخروج و الجهاد صلى رسول الله يوم الجمعة بالناس ثم وعظهم و أمرهم بالجد و الاجتهاد و أخبرهم أن لهم الصبر ما صبروا ففرح الناس حيث أعلمهم رسول الله ص بالشخوص إلى عدوهم و كره ذلك المخرج بشر كثير من أصحاب رسول الله و أمرهم بالتهيؤ لعدوهم ثم صلى العصر بالناس و قد حشد الناس و حضر أهل العوالي و رفعوا النساء إلى الآطام فحضرت بنو عمرو بن عوف بلفها و النبيت و لفها و تلبسوا السلاح فدخل رسول الله ص بيته و دخل معه أبو بكر و عمر فعمماه و لبساه و صف الناس له ما بين حجرته إلى منبره ينتظرون خروجه فجاءهم سعد بن معاذ و أسيد بن حضير فقالا لهم قلتم لرسول الله ما قلتم و استكرهتموه على الخروج و الأمر ينزل عليه من السماء فردوا الأمر إليه فما أمركم فافعلوه و ما رأيتم فيه له هوى أو أدبا فأطيعوه فبينا القوم على ذلك من الأمر و بعض القوم يقول القول ما قال سعد و بعضهم على البصيرة على الشخوص و بعضهم للخروج كاره إذ خرج رسول الله ص قد لبس لأمته و قد لبس الدرع فأظهرها و حزم وسطها بمنطقة من حمائل سيف من أدم كانت بعد عند آل أبي رافع مولى رسول الله ص و اعتم و تقلد السيف فلما خرج رسول الله ص ندموا جميعا (15/200)
شرح نهج البلاغة ج : 14 ص : 226على ما صنعوا و قال الذين يلحون على رسول الله ص ما كان لنا أن نخالفك فاصنع ما بدا لك و ما كان لنا أن نستكرهك و الأمر إلى الله ثم إليك فقال قد دعوتكم إلى هذا الحديث فأبيتم و لا ينبغي لنبي إذا لبس لأمته أن يضعها حتى يحكم الله نه و بين أعدائه قال و كانت الأنبياء قبله إذا لبس النبي لأمته لم يضعها حتى يحكم الله بينه و بين أعدائه ثم قال لهم انظروا ما أمرتكم به فاتبعوه امضوا على اسم الله فلكم النصر ما صبرتم. قلت فمن تأمل أحوال المسلمين في هذه الغزاة من فشلهم و خورهم و اختلافهم في الخروج من المدينة و المقام بها و كراهة النبي ص للخروج ثم خروجه على مضض ثم ندم القوم الذين أشاروا بالخروج ثم انخزال طائفة كثيرة من الجيش عن الحرب و رجوعهم إلى المدينة علم أنه لا انتصار لهم على العدو أصلا فإن النصر معروف بالعزم و الجد و البصيرة في الحرب و اتفاق الكلمة و من تأمل أيضا هذه الأحوال علم أنها ضد الأحوال التي كانت في غزاة بدر و أن أحوال قريش لما خرجت إلى بدر كانت مماثلة لأحوال المسلمين لما خرجوا إلى أحد و لذلك كانت الدبرة في بدر على قريش. قال الواقدي و كان مالك بن عمرو النجاري مات يوم الجمعة فلما دخل رسول الله ص فلبس لأمته و خرج و هو موضوع عند موضع الجنائز صلى عليه ثم دعا بدابته فركب إلى أحد. قال الواقدي و جاء جعيل بن سراقة إلى النبي ص و هو متوجه إلى أحد فقال يا رسول الله قيل لي إنك تقتل غدا و هو يتنفس مكروبا فضرب النبي ص بيده إلى صدره و قال أ ليس الدهر كله غدا قال ثم دعا بثلاثة أرماح فعقد ثلاثة ألوية فدفع لواء الأوس إلى أسيد بن حضير و دفع لواء الخزرج إلى الحباب بن المنذر بن الجموح و يقال إلى سعد بن عبادة و دفع لواء المهاجرين شرح نهج البلاغة ج : 14 ص : 227إلى علي بن أبي طالب ع و يقال إلى مصعب بن عمير دعا بفرسه فركبه و تقلد القوس و أخذ بيده قناة زج الرمح يومئذ من شبه (15/201)
و المسلمون متلبسون السلاح قد أظهروا الدروع فهم مائة دارع فلما ركب ص خرج السعدان أمامه يعدوان سعد بن معاذ و سعد بن عبادة كل واحد منهما دارع و الناس عن يمينه و شماله حتى سلك على البدائع ثم زقاق الحسى حتى أتى الشيخين و هما أطمان كانا في الجاهلية فيهما شيخ أعمى و عجوز عمياء يتحدثان فسمي الأطمان الشيخين فلما انتهى إلى رأس الثنية التفت فنظر إلى كتيبة خشناء لها زجل خلفه فقال ما هذه قال هذه حلفاء ابن أبي من اليهود (15/202)
فقال رسول الله ص لا نستنصر بأهل الشرك على أهل الشرك
و مضى رسول الله ص و عرض عسكره بالشيخين فعرض عليه غلمان منهم عبد الله بن عمر بن الخطاب و زيد بن ثابت و أسامة بن زيد و النعمان بن بشير و زيد بن أرقم و البراء بن عازب و أسيد بن ظهير و عرابة بن أوس و أبو سعيد الخدري و سمرة بن جندب و رافع بن خديج. قال الواقدي فردهم رسول الله ص قال رافع بن خديج فقال ظهير بن رافع يا رسول الله إنه رام يعينني قال و جعلت أتطاول و علي خفان لي فأجازني رسول الله ص فلما أجازني قال سمرة بن جندب لمري بن سنان الحارثي و هو زوج أمه يا أبيه أجاز رسول الله ص رافع بن خديج و ردني و أنا أصرع رافعا فقال مري يا رسول الله رددت ابني و أجزت رافع بن خديج و ابني يصرعه فقال رسول الله ص تصارعا فصرع سمرة رافعا فأجازه رسول الله ص قال الواقدي و أقبل ابن أبي فنزل ناحية العسكر فجعل حلفاؤه و من معه من المنافقين يقولون لابن أبي أشرت عليه بالرأي و نصحته و أخبرته أن هذا رأي من شرح نهج البلاغة ج : 14 ص : 228مضى من آبائك و كان ذلك رأيه مع رأيك فأبى أن يقبله و أطاع هؤلاء الغلمان الذين معه قال فصادفوا من ابن أبي نفاقا و غشا فبات رسول الله ص بالشيخين و بات ابن أبي في أصحابه و فرغ رسول الله ص من عرض من عرض و غابت الشمس فن بلال بالمغرب فصلى رسول الله ص بأصحابه ثم أذن بالعشاء فصلى رسول الله ص بأصحابه و رسول الله ص نازل في بني النجار و استعمل على الحرس محمد بن مسلمة في خمسين رجلا يطيفون بالعسكر حتى ادلج رسول الله ص و كان المشركون قد رأوا رسول الله ص حيث ادلج و نزل بالشيخين فجمعوا خيلهم و ظهرهم و استعملوا على حرسهم عكرمة بن أبي جهل في خيل من المشركين و باتت صاهلة خيلهم لا تهدأ تدنو طلائعهم حتى تلصق بالحرة فلا تصعد فيها حتى ترجع خيلهم و يهابون موضع الحرة و محمد بن مسلمة. قال الواقدي و قد كان رسول الله ص قال حين صلى العشاء من يحفظنا الليلة فقال رجل أنا يا رسول الله فقال من أنت قال ذكوان بن (15/203)
عبد القيس فقال اجلس ثم قال ثانية من رجل يحفظنا الليلة فقام رجل فقال من أنت قال أبو سبع قال اجلس ثم قال ثالثة مثل ذلك فقام رجل فقال من أنت فقال أنا ابن عبد قيس فمكث رسول الله ص ساعة ثم قال قوموا ثلاثتكم فقام ذكوان بن عبد قيس فقال رسول الله و أين صاحباك فقال ذكوان أنا الذي كنت أجيبك الليلة قال فاذهب حفظك الله. قلت قد تقدم هذا الحديث بذاته في غزوة بدر و ظاهر الحال أنه مكرر شرح نهج البلاغة ج : 14 ص : 229و أنه إنما كان في غزاة واحدة و يجوز أن يكون وقع في الغزاتين و لكن على بعد. قال الواقدي فلبس ذكوان درعه و أخذ درقته فكان يطوف على العسكر تلك الليلة و يقال كان يحرس رسول الله ص لم يفارقه. قال و نام رسول الله ص حتى ادلج فلما كان في السحر قال رسول الله أين الأدلاء من رجل يدلنا على الطريق و يخرجنا على القوم من كثب فقام أبو خثيمة الحارثي فقال أنا يا رسول الله و يقال أوس بن قيظي و يقال محيصة. قال الواقدي و أثبت ذلك عندنا أبو خثيمة خرج برسول الله ص و ركب فرسه فسلك به في بني حارثة ثم أخذ في الأموال حتى مر بحائط مربع بن قيظي و كان أعمى البصر منافقا فلما دخل رسول الله ص حائطه قام يحثي التراب في وجوه المسلمين و يقول إن كنت رسول الله فلا تدخل حائطي فلا أحله لك. قال محمد بن إسحاق و قذ ذكر أنه أخذ حفنة من تراب و قال و الله لو أعلم أني لا أصيب غيرك يا محمد لضربت بها وجهك. قال الواقدي فضربه سعد بن زيد الأشهلي بقوس في يده فشجه في رأسه فنزل الدم فغضب له بعض بني حارثة ممن هو على مثل رأيه فقال هي على عداوتكم يا بني عبد الأشهل لا تدعونها أبدا لنا فقال أسيد بن حضير لا و الله و لكن نفاقكم و الله لو لا أني لا أدري ما يوافق النبي ص لضربت عنقه و عنق من هو على مثل رأيه. قال و نهاهم النبي ص عن الكلام فأسكتوا. شرح نهج البلاغة ج : 14 ص : 230و قال محمد بن إسحاق قال رسول الله ص دعوه فإنه أعمى البصر أعمى القلب (15/204)
يعني مربع بن قيظي. قال الواقدي و مضى رسول الله ص فبينا هو في مسيره إذ ذب فرس أبي بردة بن نيار بذنبه فأصاب كلاب سيفه فسل سيفه فقال رسول الله ص يا صاحب السيفم سيفك فإني أخال السيوف ستسل اليوم فيكثر سلها. قال و كان رسول الله ص يحب الفأل و يكره الطيرة قال و لبس رسول الله ص من الشيخين درعا واحدة حتى انتهى إلى أحد فلبس درعا أخرى و مغفرا و بيضة فوق المغفر فلما نهض رسول الله ص من الشيخين زحف المشركين على تعبئة حتى انتهوا إلى موضع أرض ابن عامر اليوم فلما انتهى رسول الله ص إلى موضع القنطرة اليوم جاءه و قد حانت الصلاة و هو يرى المشركين فأمر بلالا فأذن و أقام و صلى بأصحابه الصبح صفوفا و انخزل عبد الله بن أبي من ذلك المكان في كتيبته كأنه هيقه تقدمهم فأتبعهم عبد الله بن عمرو بن حرام فقال أذكركم الله و دينكم و نبيكم و ما شرطتم له أن تمنعوه مما تمنعون منه أنفسكم و أولادكم و نساءكم فقال ابن أبي ما أرى أنه يكون بينهم قتال و إن أطعتني يا أبا جابر لترجعن فإن أهل الرأي و الحجى قد رجعوا و نحن ناصروه في مدينتنا و قد خالفنا و أشرت عليه بالرأي فأبى إلا طواعية الغلمان فلما أبى على عبد الله بن عمرو أن يرجع و دخل هو و أصحابه أزقة المدينة قال لهم أبو جابر أبعدكم الله إن الله سيغني النبي و المؤمنين عن نصركم فانصرف ابن أبي و هو يقول أ يعصيني و يطيع الولدان و انصرف عبد الله بن عمرو يعدو حتى لحق رسول الله و هو يسوي الصفوف فلما أصيب أصحاب شرح نهج البلاغة ج : 14 ص : 231رسول الله ص سر ابن أبي و أظهر الشماتة و قال عصاني و أطاع من لا رأي له. قال الواقدي و جعل رسول الله ص يصف أصحابه و جعل الرماة خمسين رجلا على عينين عليهم عبد الله بن جبير و يقال سعبن أبي وقاص و الثبت أنه عبد الله بن جبير قال و جعل أحدا خلف ظهره و استقبل المدينة و جعل عينين عن يساره و أقبل المشركون و استدبروا المدينة في الوادي و استقبلوا أحدا و (15/205)
يقال جعل عينين خلف ظهره و استدبر الشمس و استقبلها المشركون. قال و القول الأول أثبت عندنا أن أحدا كان خلف ظهره و هو ع مستقبل المدينة قال و نهى أن يقاتل أحد حتى يأمرهم بالقتال فقال عمارة بن يزيد بن السكن أنى نغير على زرع بني قيلة و لما نضارب و أقبل المشركون قد صفوا صفوفهم و استعملوا على الميمنة خالد بن الوليد و على الميسرة عكرمة بن أبي جهل و لهم مجنبتان مائتا فرس و جعلوا على الخيل صفوان بن أمية و يقال عمرو بن العاص و على الرماة عبد الله بن أبي ربيعة و كانوا مائة رام و دفعوا اللواء إلى طلحة بن أبي طلحة و اسم أبي طلحة عبد الله بن عبد العزى بن عثمان بن عبد الدار بن قصي و صاح أبو سفيان يومئذ يا بني عبد الدار نحن نعرف أنكم أحق باللواء منا و أنا إنما أتينا يوم بدر من اللواء و إنما يؤتى القوم من قبل لوائهم فالزموا لواءكم و حافظوا عليه و خلوا بيننا و بينه فإنا قوم مستميتون موتورون نطلب ثأرا حديث العهد و جعل يقول إذا زالت الألوية فما قوام الناس و بقاؤهم بعدها فغضبت بنو عبد الدار و قالوا نحن نسلم لواءنا لا كان هذا أبدا و أما المحافظة عليه فسترى ثم أسندوا الرماح إليه و أحدقت به بنو عبد الدار شرح نهج البلاغة ج : 14 ص : 232و أغلظوا لأبي سفيان بعض الإغلاظ فقال أبو سفيان فنجعل لواء آخر قالوا نعم و لا يحمله إلا ر من بني عبد الدار لا كان غير ذلك أبدا. قال الواقدي و جعل رسول الله ص يمشي على رجليه يسوي تلك الصفوف و يبوئ أصحابه مقاعد للقتال يقول تقدم يا فلان و تأخر يا فلان حتى إنه ليرى منكب الرجل خارجا فيؤخره فهو يقومهم كأنما يقوم القداح حتى إذا استوت الصفوف سأل من يحمل لواء المشركين قيل عبد الدار قال نحن أحق بالوفاء منهم أين مصعب بن عمير قال ها أنا ذا قال خذ اللواء فأخذه مصعب فتقدم به بين يدي رسول الله ص. قال البلاذري أخذه من علي ع فدفعه إلى مصعب بن عمير لأنه من بني عبد الدار. قال الواقدي ثم (15/206)
قام ع فخطب الناس (15/207)
فقال ص أيها الناس أوصيكم بما أوصاني به الله في كتابه من العمل بطاعته و التناهي عن محارمه ثم إنكم اليوم بمنزل أجر و ذخر لمن ذكر الذي عليه ثم وطن نفسه على الصبر و اليقين و الجد و النشاط فإن جهاد العدو شديد كريه قليل من يصبر عليه إلا من عزم له على رشده إن الله مع من أطاعه و إن الشيطان مع من عصاه فاستفتحوا أعمالكم بالصبر على الجهاد و التمسوا بذلك ما وعدكم الله و عليكم بالذي آمركم به فإني حريص على رشدكم إن الاختلاف و التنازع و التثبيط من أمر العجز و الضعف و هو مما لا يحبه الله و لا يعطي عليه النصر و الظفر أيها الناس إنه قذف في قلبي أن من كان على حرام فرغب عنه ابتغاء ما عند الله غفر الله له ذنبه و من صلى على محمد صلى الله عليه و ملائكته شرح نهج البلاغة ج : 14 ص : 233عشرا و من أحسن من مسلم أو كافر وقع أجره على الله في عاجل دنياه أو في آجل آخرته و من كان يؤمن بال و اليوم الآخر فعليه الجمعة يوم الجمعة إلا صبيا أو امرأة أو مريضا أو عبدا مملوكا و من استغنى عنها استغنى الله عنه و الله غني حميد ما أعلم من عمل يقربكم إلى الله إلا و قد أمرتكم به و لا أعلم من عمل يقربكم إلى النار إلا و قد نهيتكم عنه و إنه قد نفث الروح الأمين في روعي أنه لن تموت نفس حتى تستوفي أقصى رزقها لا ينقص منه شي ء و إن أبطأ عنها فاتقوا الله ربكم و أجملوا في طلب الرزق و لا يحملنكم استبطاؤه على أن تطلبوه بمعصية ربكم فإنه لا يقدر على ما عنده إلا بطاعته قد بين لكم الحلال و الحرام غير أن بينهما شبها من اأمر لم يعلمها كثير من الناس إلا من عصم فمن تركها حفظ عرضه و دينه و من وقع فيها كان كالراعي إلى جنب الحمى أوشك أن يقع فيه و يفعله و ليس ملك إلا و له حمى ألا و إن حمى الله محارمه و المؤمن من المؤمنين كالرأس من الجسد إذا اشتكى تداعى إليه سائر جسده و السلام عليكم
قال الواقدي فحدثني ابن أبي سبرة عن خالد بن رباح عن المطلب بن عبد الله قال أول من أنشب الحرب بينهم أبو عامر طلع في خمسين من قومه معه عبيد قريش فنادى أبو عامر و اسمه عبد عمرو يا للأوس أنا أبو عامر قالوا لا مرحبا بك و لا أهلا يا فاسق فقال لقد أصاب قومي بعدي شر قال و معه عبيد أهل مكة فتراموا بالحجارة هم و المسلمون حتى تراضخوا بها ساعة إلى أن ولى أبو عامر و أصحابه و يقال إن العبيد لم يقاتلوا و إنهم أمروهم بحفظ عسكرهم. قال الواقدي و جعل نساء المشركين قبل أن يلتقي الجمعان أمام صفوف المشركين يضربن بالأكبار و الدفاف و الغرابيل ثم يرجعن فيكن إلى مؤخر الصف حتى شرح نهج البلاغة ج : 14 ص : 234إذا دنوا من المسلمين تأخر النساء فقمن خلف الصفوف و جعلن كلما ولى رجل حرضنه و ذكرنه قتلى بدر. و قال الواقدي و كان قزمان من المنافقين و كان قد تخلف عن أحد فلما أصبح عيره نساء بني ظفرقلن يا قزمان قد خرج الرجال و بقيت استحي يا قزمان أ لا تستحيي مما صنعت ما أنت إلا امرأة خرج قومك و بقيت في الدار فأحفظنه فدخل بيته فأخرج قوسه و جعبته و سيفه و كان يعرف بالشجاعة و خرج يعدو حتى انتهى إلى رسول الله ص و هو يسوي صفوف المسلمين فجاء من خلف الصف حتى انتهى إلى الصف الأول فكان فيه و كان أول من رمى بسهم من المسلمين جعل يرسل نبلا كأنها الرماح و إنه ليكت كتيت الجمل ثم صار إلى السيف ففعل الأفاعيل حتى إذا كان آخر ذلك قتل نفسه و كان رسول الله ص إذا ذكره قال من أهل النار قال فلما انكشف المسلمون كسر جفن سيفه و جعل يقول الموت أحسن من الفرار يا للأوس قاتلوا على الأحساب و اصنعوا مثل ما أصنع قال فيدخل بالسيف وسط المشركين حتى يقال قد قتل ثم يطلع فيقول أنا الغلام الظفري حتى قتل منهم سبعة و أصابته الجراحة و كثرت فيه فوقع فمر به قتادة بن النعمان فقال له أبا الغيداق قال قزمان لبيك قال هنيئا لك الشهادة قال قزمان إني و الله ما قاتلت (15/208)
يا أبا عمرو على دين ما قاتلت إلا على الحفاظ أن تسير قريش إلينا فتطأ سعفنا قال فآذته الجراحة فقتل نفسه (15/209)
فقال النبي ص إن الله يؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر
شرح نهج البلاغة ج : 14 ص : 235 قال الواقدي و تقدم رسول الله ص إلى الرماة فقال احموا لنا ظهورنا فإنا نخاف أن نؤتى من ورائنا و الزموا مكانكم لا تبرحوا منه و إن رأيتمونا نهزمهم حتى ندخل عسكرهم فلا تفارقوا مكانكم و إن رأيتمونا نقتل فلا تعينونا و لا تدفعوا ع اللهم إني أشهدك عليهم ارشقوا خيلهم بالنبل فإن الخيل لا تقدم على النبل و كان للمشركين مجنبتان ميمنة عليها خالد بن الوليد و ميسرة عليها عكرمة بن أبي جهل
قال الواقدي و عمل رسول الله ص لنفسه ميمنة و ميسرة و دفع اللواء الأعظم إلى مصعب بن عمير و دفع لواء الأوس إلى أسيد بن حضير و لواء الخزرج إلى سعد بن عبادة و قيل إلى الحباب بن المنذر فجعلت الرماة تحمي ظهور المسلمين و ترشق خيل المشركين بالنبل فولت هاربه قال بعض المسلمين و الله لقد رمقت نبلنا يومئذ ما رأيت سهما واحدا مما يرمى به خيلهم يقع في الأرض إما في فرس أو في رجل و دنا القوم بعضهم من بعض و قدموا طلحة بن أبي طلحة صاحب لوائهم و صفوا صفوفهم و أقاموا النساء خلف الرجال يضربن بين أكتافهم بالأكبار و الدفوف و هند و صواحبها يحرضن و يذمرن الرجال و يذكرن من أصيب ببدر و يقلن
نحن بنات طارق نمشي على النمارق إن تقبلوا نعانق أو تدبروا نفارق فراق غير وامقال الواقدي و برز طلحة فصاح من يبارز فقال علي ع له هل لك في مبارزتي قال نعم فبرزا بين الصفين و رسول الله ص جالس تحت شرح نهج البلاغة ج : 14 ص : 236الراية عليه درعان و مغفر و بيضته فالتقيا فبدره علي ع بضربة على رأسه فمضى السيف حتى فلق هامته إلى أن انتهى إللحيته فوقع و انصرف علي ع فقيل له هلا ذففت عليه قال إنه لما صرع استقبلني بعورته فعطفتني عليه الرحم و قد علمت أن الله سيقتله هو كبش الكتيبة. قال الواقدي و روي أن طلحة حمل على علي ع فضربه بالسيف فاتقاه بالدرقة فلم يصنع شيئا و حمل علي ع و على طلحة درع و مغفر فضربه بالسيف فقطع ساقيه ثم أراد أن يذفف عليه فسأله طلحة بالرحم ألا يفعل فتركه و لم يذفف عليه. قال الواقدي و يقال إن عليا ع دفف عليه و يقال إن بعض المسلمين مر به في المعركة فذفف عليه قال فلما قتل طلحة سر رسول الله ص و كبر تكبيرا عاليا و كبر المسلمون ثم شد أصحاب رسول الله ص على كتائب المشركين فجعلوا يضربون وجوههم حتى انتقضت صفوفهم و لم يقتل إلا طلحة بن أبي طلحة وحده. قال الواقدي ثم حمل لواء المشركين بعد طلحة أخوه عثمان بن أبي طلحة و هو أبو شيبة فارتجز و قال (15/210)
إن علي رب اللواء حقا أن تخصب الصعدة أو تندقا
فتقدم باللواء و النسوة خلفه يحرضن و يضربن بالدفوف فحمل عليه حمزة بن عبد المطلب رحمه الله فضربه بالسيف على كاهله فقطع يده و كتفه حتى انتهى إلى شرح نهج البلاغة ج : 14 ص : 237مؤتزره فبدا سحره و رجع فقال أنا ابن ساقي الحجيج ثم حمل اللواء أخوهما أبو سعد بن أبطلحة فرماه سعد بن أبي وقاص فأصاب حنجرته و كان دراعا و عليه مغفر لا رفرف عليه و على رأسه بيضته فأدلع لسانه إدلاع الكلب. قال الواقدي و قد روي أن أبا سعد لما حمل اللواء قام النساء خلفه يقلن
ضربا بني عبد الدار ضربا حماة الأدبارضربا بكل بتار
قال سعد بن أبي وقاص فأحمل عليه فأقطع يده اليمنى فأخذ اللواء باليد اليسرى فأضربه على يده اليسرى فقطعتها فأخذ اللواء بذراعيه جميعا و ضمه إلى صدره و حنى عليه ظهره قال سعد فأدخل سية القوس بين الدرع و المغفر فأقلع المغفر فأرمي به وراء ظهره ثم ضربته حتى قتلته و أخذت أسلبه درعه فنهض إلي سبيع بن عبد عوف و نفر معه فمنعوني سلبه و كان سلبه أجود سلب رجل من المشركين درع فضفاضة و مغفر و سيف جيد و لكن حيل بيني و بينه. قال الواقدي و هذا أثبت القولين. قلت شتان بين علي و سعد هذا يجاحش على السلب و يتأسف على فواته و ذلك يقتل عمرو بن عبد ود يوم الخندق و هو فارس قريش و صنديدها و مبارزه فيعرض عن سلبه فيقال له كيف تركت سلبه و هو أنفس سلب فيقول كرهت أن أبز السبي ثيابه فكأن حبيبا عناه بقوله شرح نهج البلاغة ج : 14 ص : 23إن الأسود أسود الغاب همتها يوم الكريهة في المسلوب لا السلب (15/211)
قال الواقدي ثم حمل لواء المشركين بعد أبي سعد بن أبي طلحة مسافع بن أبي طلحة فرماه عاصم بن ثابت بن أبي الأقلح فقتله فحمل إلى أمه سلافة بنت سعد بن الشهيد و هي مع النساء بأحد فقالت من أصابك قال لا أدري سمعته يقول خذها و أنا ابن الأقلح فقالت أقلحي و الله أي هو من رهطي و كانت من الأوس. قال الواقدي و روي أن عاصما لما رماه قال له خذها و أنا ابن كسرة و كانوا يقال لهم في الجاهلية بنو كسر الذهب فقال لأمه لا أدري إلا أني سمعته يقول خذها و أنا ابن كسرة فقالت سلافة أوسي و الله كسري أي أنه منا فيومئذ نذرت سلافة أن تشرب في قحف رأس عاصم بن ثابت الخمر و جعلت لمن جاءها به مائة من الإبل. قلت فلما قتله المشركون في يوم الرجيع أرادوا أن يأخذوا رأسه فيحملوه إلى سلافة فحمته الدبر يومه ذلك فلما جاء الليل فظنوا أن الدبر لا تحميه ليلا جاء الوادي بسيل عظيم فذهب برأسه و بدنه اتفق المؤرخون على ذلك. قال الواقدي ثم حمل اللواء بعد الحارث أخوه كلاب بن طلحة بن أبي طلحة فقتله الزبير بن العوام ثم حمله أخوه الجلاس بن طلحة بن أبي طلحة فقتله طلحة بن عبيد الله ثم حمله أرطاة بن عبد شرحبيل فقتله علي بن أبي طالب ع ثم حمله شريح بن شرح نهج البلاغة ج : 1ص : 239قانط فقتل لا يدرى من قتله ثم حمله صواب غلام بني عبد الدار فاختلف في قاتله فقيل قتله علي بن أبي طالب ع و قيل سعد بن أبي وقاص و قيل قزمان و هو أثبت الأقوال. قال الواقدي انتهى قزمان إلى صواب فحمل عليه فقطع يده اليمنى فاحتمل اللواء باليسرى فقطع اليسرى فاحتضن اللواء بذراعيه و عضديه و حنى عليه ظهره و قال يا بني عبد الدار هل أعذرت فحمل عليه قزمان فقتله. قال الواقدي و قالوا ما ظفر الله تعالى نبيه في موطن قط ما ظفره و أصحابه يوم أحد حتى عصوا الرسول و تنازعوا في الأمر لقد قتل أصحاب اللواء و انكشف المشركون منهم لا يلوون و نساؤهم يدعون بالويل بعد ضرب الدفاف و الفرح. قال (15/212)
الواقدي و قد روى كثير من الصحابة ممن شهد أحدا قال كل واحد منهم و الله إني لأنظر إلى هند و صواحبها منهزمات ما دون أخذهن شي ء لمن أراده و لكن لا مرد لقضاء الله قالوا و كان خالد بن الوليد كلما أتى م قبل ميسرة النبي ص ليجوز حتى يأتيهم من قبل السفح ترده الرماة حتى فعل و فعلوا ذلك مرارا و لكن المسلمين أتوا من قبل الرماة أن رسول الله ص أوعز إليهم فقال قوموا على مصافكم هذه فاحموا ظهورنا فإن رأيتمونا قد غنمنا فلا تشركونا و إن رأيتمونا نقتل فلا تنصرونا فلما انهزم المشركون و تبعهم المسلمون يضعون السلاح فيهم حيث شاءوا حتى أجهزوهم عن المعسكر و وقعوا ينتهبونه قال بعض الرماة لبعض لم تقيمون هاهنا في غير شي ء قد هزم الله العدو و هؤلاء إخوانكم ينهبون عسكرهم فادخلوا عسكر المشركين فاغنموا مع إخوانكم فقال بعضهم أ لم تلموا أن رسول الله ص قال لكم احموا ظهورنا و إن غنمنا فلا تشركونا (15/213)
شرح نهج البلاغة ج : 14 ص : 240فقال الآخرون لم يرد رسول الله ص هذا و قد أذل الله المشركين و هزمهم فادخلوا العسكر فانتهبوا مع إخوانكم فلما اختلفوا خطبهم أميرهم عبد الله بن جبير و كان يومئذ معلما بثياب بيض فحمد الله و أمرهم بطاعة رسوله و ألا يخالف أمره فعص و انطلقوا فلم يبق معه إلا نفير ما يبلغون العشرة منهم الحارث بن أنس بن رافع يقول يا قوم اذكروا عهد نبيكم إليكم و أطيعوا أميركم فأبوا و ذهبوا إلى عسكر المشركين ينتهبون و خلوا الجبل و انتقضت صفوف المشركين و استدارت رحالهم و دارت الريح و كانت إلى أن انتقض صفهم صبا فصارت دبورا فنظر خالد بن الوليد إلى خلاء الجبل و قلة أهله فكر بالخيل و تبعه عكرمة بالخيل فانطلقا إلى موضع الرماة فحملوا عليهم فرماهم القوم حتى أصيبوا و رمى عبد الله بن جبير حتى فنيت نبله ثم طاعن بالرمح حتى انكسر ثم كسر جفن سيفه فقاتل حتى قتل و أفلت جعيل بن سراقة و أبو بردة بن نيار بعد أن شاهدا قتل عبد الله بن جبير و كان آخر من انصرف من الخيل فلحقا بالمسلمين قال الواقدي فروى رافع بن خديج قال لما قتل خالد الرماة أقبل بالخيل و عكرمة بن أبي جهل يتلوه فخالطنا و قد انتقضت صفوفنا و نادى إبليس و تصور في صورة جعيل بن سراقة أن محمدا قد قتل ثلاث صرخات فابتلي يومئذ جعيل بن سراقة ببلية عظيمة حين تصور إبليس في صورته و إن جعيلا ليقاتل مع المسلمين أشد القتال و إنه إلى جنب أبي بردة بن نيار و خوات بن جبير قال رافع بن خديج فو الله ما رأينا دولة كانت أسرع من دولة المشركين علينا و أقبل المسلمون على جعيل بن سراقة يريدون قتله يقولون هذا الذي صاح أن محمدا قد قتل فشهد له خوات بن جبير و أبو بردة أنه كان إلى جنبهما حين صاح الصائح و أن الصائح غيره. شرح نهج البلاغة ج : 14 ص : 241قال الواقدي فروى رافع قال أتينا من قبل أنفسنا و معص نبينا و اختلط المسلمون و صاروا يقتلون و يضرب بعضهم بعضا و ما (15/214)
يشعرون بما يصنعون من الدهش و العجل و قد جرح يومئذ أسيد بن حضير جرحين ضربه أحدهما أبو بردة بن نيار و ما يدري يقول خذها و أنا الغلام الأنصاري و كر أبو زعنة في حومة القتال فضرب أبا بردة ضربتين ما يشعر أنه هو يقول خذها و أنا أبو زعنة حتى عرفه بعد فكان إذا لقيه قال انظر ما صنعت بي فيقول أبو زعنة و أنت فقد ضربت أسيد بن حضير و لا تشعر و لكن هذا الجرح في سبيل الله فذكر ذلك لرسول الله ص فقال هو في سبيل الله يا أبا بردة لك أجره حتى كأنك ضربك أحد المشركين و من قتل فهو شهيد. قال الواقدي و كان الشيخان حسيل بن جابر و رفاعة بن وقش شيخين كبيرين قد رفعا في الآطام مع النساء فقال أحدهما لصاحبه لا أبا لك ما نستبقي من أنفسنا فو الله ما نحن إلا هامة اليوم أو غد و ما بقي من أجلنا قدر ظم ء دابة فلو أخذنا أسيافنا فلحقنا رسول الله ص لعل الله يرزقنا الشهادة قال فلحقا برسول الله ص فأما رفاعة فقتله المشركون و أما حسيل بن جابر فالتفت عليه سيوف المسلمين و هم لا يعرفونه حين اختلطوا و ابنه حذيفة يقول أبي أبي حتى قتل فقال حذيفة يغفر الله لكم و هو أرحم الراحمين ما صنعتم فزاد به عند رسول الله ص خيرا و أمر رسول الله بديته أن تخرج و يقال إن الذي أصابه عتبة بن مسعود فتصدق حذيفة ابنه بدمه على المسلمين. قال الواقدي و أقبل يومئذ الحباب بن المنذر بن الجموح يصيح يا آل سلمة فأقبلوا (15/215)
شرح نهج البلاغة ج : 14 ص : 242عنقا واحدا لبيك داعي الله لبيك داعي الله فيضرب يومئذ جبار بن صخر ضربة في رأسه مثقلة و ما يدري حتى أظهروا الشعار بينهم فجعلوا يصيحون أمت أمت فكف بعضهم عن بعض. قال الواقدي و كان نسطاس مولى ضرار بن أمية ممن حضر أحدا مع المشركيثم أسلم بعد و حسن إسلامه فكان يحدث قال قد كنت ممن خلف في العسكر يومئذ و لم يقاتل معهم عبد إلا وحشي و صواب غلام بني عبد الدار فكان أبو سفيان صاح فيهم يا معشر قريش خلوا غلمانكم على متاعكم يكونوا هم الذين يقومون على رحالكم فجمعنا بعضها إلى بعض و عقلنا الإبل و انطلق القوم على تعبئتهم ميمنة و ميسرة و ألبسنا الرحال الأنطاع و دنا القوم بعضهم من بعض فاقتتلوا ساعة و إذا أصحابنا منهزمون فدخل المسلمون معسكرنا و نحن في الرحال فأحدقوا بنا فكنت فيمن أسروا و انتهبوا المعسكر أقبح انتهاب حتى إن رجلا منهم قال أين مال صفوان بن أمية فقلت ما حمل إلا نفقة في الرحل فخرج يسوقني حتى أخرجتها من العيبة خمسين و مائة مثقال ذهبا و قد ولى أصحابنا و أيسنا منهم و انحاش النساء فهن في حجرهن سلم لمن أرادهن فصار النهب في أيدي المسلمين. قال نسطاس فإنا لعلى ما نحن عليه من الاستسلام و نظرت إلى الجبل فإذا خيل مقبلة تركض فدخلوا العسكر فلم يكن أحد يردهم قد ضيعت الثغور التي كان بها الرماة و جاءوا إلى النهب و الرماة ينتهبون و أنا أنظر إليهم متأبطي قسيهم و جعابهم كل واحد منهم في يديه أو حضنه شي ء قد أخذه فلما دخلت خيلنا دخلت على قوم غارين آمنين فوضعوا فهم السيوف فقتلوهم قتلا ذريعا و تفرق المسلمون في كل وجه شرح نهج البلاغة ج : 14 ص : 243و تركوا ما انتهبوا و أجلوا عن عسكرنا فارتجعنا بعد لم نفقد منه شيئا و خلوا أسرانا و وجدنا الذهب في المعركة و لقد رأيت يومئذ رجلا من المسلمين ضم صفوان بن أمية إليه ضمة ظننأنه سيموت حتى أدركته و به رمق فوجأت ذلك المسلم بخنجر معي فوقع فسألت (15/216)
عنه فقيل رجل من بني ساعدة ثم هداني الله بعد للإسلام. قال الواقدي فحدثني ابن أبي سبرة عن إسحاق بن عبد الله عن عمر بن الحكم قال ما علمنا أحدا من أصحاب رسول الله ص الذين أغاروا على النهب فأخذوا ما أخذوا من الذهب بقي معه من ذلك شي ء يرجع به حيث غشينا المشركون و اختلفوا إلا رجلين أحدهما عاصم بن ثابت بن أبي الأقلح جاء بمنطقة وجدها في العسكر فيها خمسون دينارا فشدها على حقويه من تحت ثيابه و جاء عباد بن بشر بصرة فيها ثلاثة عشر مثقالا ألقاها في جيب ميصه و فوقها الدرع و قد حزم وسطه فأتيا بذلك رسول الله ص فلم يخمسه و نفلهما إياه. قال الواقدي و روى يعقوب بن أبي صعصعة عن موسى بن ضمرة عن أبيه قال لما صاح الشيطان أزب العقبة أن محمدا قد قتل لما أراد الله عز و جل من ذلك سقط في أيدي المسلمين و تفرقوا في كل وجه و أصعدوا في الجبل فكان أول من بشرهم بكون رسول الله ص سالما كعب بن مالك قال كعب عرفته فجعلت أصيح هذا رسول الله و هو يشير إلي بإصبعه على فيه أن اسكت. قال الواقدي و روت عميرة بنت عبد الله بن كعب بن مالك عن أبيها قالت قال أبي لما انكشف الناس كنت أول من عرف رسول الله ص (15/217)
شرح نهج البلاغة ج : 14 ص : 244و بشرت به المسلمين حيا سويا عرفت عينيه من تحت المغفر فناديت يا معشر الأنصار أبشروا فهذا رسول الله ص فأشار إلي رسول الله ص أن اصمت قال و دعا رسول الله ص بكعب فلبس لأمته و ألبس كعبا لأمة نفسه و قاتل كعب قتالا شديدا جرح سبعة ع جرحا. قال الواقدي و حدثني ابن أبي سبرة عن خالد بن رباح عن الأعرج قال لما صاح الشيطان أن محمدا قد قتل قال أبو سفيان بن حرب يا معشر قريش أيكم قتل محمدا قال ابن قميئة أنا قتلته قال نسورك كما تفعل الأعاجم بأبطالها و جعل أبو سفيان يطوف بأبي عامر الفاسق في المعركة هل يرى محمدا بين القتلى فمر بخارجة بن زيد بن أبي زهير فقال يا أبا سفيان هل تدري من هذا قال لا قال هذا خارجة بن زيد هذا أسيد بني الحارث بن الخزرج و مر بعباس بن عبادة بن نضلة إلى جنبه قال أ تعرفه قال لا قال هذا ابن قوقل هذا الشريف في بيت الشرف ثم مر بذكوان بن عبد قيس فقال و هذا من ساداتهم ثم مر بابنه حنظلة بن أبي عامر فوقف عليه فقال أبو سفيان من هذا قال هذا أعز من هاهنا علي هذا ابني حنظلة قال أبو سفيان ما نرى مصرع محمد و لو كان قتل لرأيناه كذب ابن قميئة و لقي خالد بن الوليد فقال هل تبين عندك قتل محمد قال لا رأيته أقبل في نفر من أصحابه مصعدين في الجبل فقال أبو سفيان هذا حق كذب ابن قميئة زعم أنه قتله. قلت قرأت على النقيب أبي يزيد رحمه الله هذه الغزاة من كتاب الواقدي و قلت له كيف جرى لهؤلاء في هذه الوقعة فإني أستعظم ما جرى فقال و ما في ذلك مما تستعظمه حمل قلب المسلمين من بعد قتل أصحاب الألوية على قلب المشركين فكسره شرح نهج البلاغة ج : 14 ص : 245فلو ثبتت مجنبتا رسول الله اللتان فيهما أسيد بن حضير و الحباب بن المنذر بإزاء مجنبتي المشركين لم ينكسر عسكر الإسلام و لكن مجنبتا المسلمين أطبقت إطباقا واحدا على قلب الركين مضافا إلى قلب المسلمين فصار عسكر رسول الله ص قلبا واحدا و (15/218)
كتيبة واحدة فحطمه قلب قريش حطمة شديدة فلما رأت مجنبتا قريش أنه ليس بإزائها أحد استدارت المجنبتان من وراء عسكر المسلمين و صمد كثير منهم للرماة الذين كانوا يحمون ظهر المسلمين فقتلوهم عن آخرهم لأنهم لم يكونوا ممن يقومون لخالد و عكرمة و هما في ألفي رجل و إنما كانوا خمسين رجلا لا سيما و قد ترك كثير منهم مركزه و شره إلى الغنيمة فأكب على النهب قال رحمه الله و الذي كسر المسلمين يومئذ و نال كل منال خالد بن الوليد و كان فارسا شجاعا و معه خيل كثيرة و رجال أبطال موتورون و استدار خلف الجبل فدخل من الثغرة التي كان الرماة عليها فأتاه من وراء المسلمين و تراجع قلب المشركين بعد الهزيمة فصار المسلمون بينهم في مثل الحلقة المستديرة و اختلط الناس فلم يعرف المسلمون بعضهم بعضا و ضرب الرجل منهم أخاه و أباه بالسيف و هو لا يعرفه لشدة النقع و الغبار و لما اعتراهم من الدهش و العجلة و الخوف فكانت الدبرة عليهم بعد أن كانت لهم و مثل هذا يجري دائما في الحرب. فقلت له رحمه الله فلما انكشف المسلمون و فر منهم من فر ما كانت حال رسول الله ص فقال ثبت في نفر يسير من أصحابه يحامون عنه. فقلت ثم ما ذا قال ثم ثابت إليه الأنصار و ردت إليه عنقا واحدا بعد فرارهم و تفرقهم و امتاز المسلمون عن المشركين و كانوا ناحية ثم التحمت الحرب و اصطدم الفيلقان. (15/219)
شرح نهج البلاغة ج : 14 ص : 246قلت ثم ما ذا قال لم يزل المسلمون يحامون عن رسول الله ص و المشركون يتكاثرون عليهم و يقتلون فيهم حتى لم يبق من النهار إلا القليل و الدولة للمشركين. قلت ثم ما ذا قال ثم علم الذين بقوا من المسلمين أنه لا طاقة لهم بالمشركين فأصعا في الجبل فاعتصموا به. فقلت له فرسول الله ص ما الذي صنع فقال صعد في الجبال. قلت له أ فيجوز أن يقال إنه فر فقال إنما يكون الفرار ممن أمعن في الهرب في الصحراء و البيداء فأما من الجبل مطل عليه و هو في سفحه فلما رأى ما لا يعجبه أصعد في الجبل فإنه لا يسمى فارا ثم سكت رحمه الله ساعة ثم قال هكذا وقعت الحال فإن شئت أن تسمي ذلك فرارا فسمه فقد خرج من مكة يوم الهجرة فارا من المشركين و لا وصمة عليه في ذلك. فقلت له قد روى الواقدي عن بعض الصحابة قال لم يبرح رسول الله ص ذلك اليوم شبرا واحدا حتى تحاجزت الفئتان فقال دع صاحب هذه الرواية فليقل ما شاء فالصحيح ما ذكرته لك ثم قال كيف يقال لم يزل واقفا حتى تحاجزت الفئتان و إنما تحاجرا بعد أن ناداه أبو سفيان و هو في أعلى الجبل بما ناداه فلما عرف أنه حي و أنه في أعلى الجبل و أن الخيل لا تستطيع الصعود إليه و أن القوم إن صعدوا إليه رجالة لم يثقوا بالظفر به لأن معه أكثر أصحابه و هم مستميتون إن صعد القوم إليهم و أنهم لا يقتلون منهم واحدا حتى يقتلوا منهم اثنين أو ثلاثة لأنهم لا سبيل لهم إلى الهرب لكونهم محصورين في ذرو واحد فالرجل منهم يحامي عن خيط رقبته كفوا عن الصعود و قنعوا بما وصلوا إليه من قتل من قتلوه في الحرب و أملوا شرح نهج البلاغة ج : 14 ص : 247يوما ثانيا يكون لهم فيه الظفر الكلي بالنبي ص فرجعوا عنهم و طلبوا مكة. و روى الواقدي عن أبي سبرة عن إسحاق بن عبد الله بن أبي فروة عن أبي الحويرث عن نافع بن جبير قال سمعت رجلا من المهاجرين ول شهدت أحدا فنظرت إلى النبل يأتي من كل ناحية و رسول الله ص في (15/220)
وسطها كل ذلك يصرف عنه و لقد رأيت عبد الله بن شهاب الزهري يقول يومئذ دلوني على محمد فلا نجوت إن نجا و إن رسول الله ص إلى جنبه ما معه أحد ثم جاوزه و لقي عبد الله بن شهاب صفوان بن أمية فقال له صفوان ترحت هلا ضربت محمدا فقطعت هذه الشأفة فقد أمكنك الله منه قال ابن شهاب و هل رأيته قال نعم أنت إلى جنبه قال و الله ما رأيته أحلف بالله إنه منا لممنوع خرجنا أربعة تعاهدنا و تعاقدنا على قتله فلم نخلص إلى ذلك. قال الواقدي فروى نملة و اسم أبي نملة عبد الله بن معاذ و كان أبوه معاذ أخا البراء بن معرور لأمه قال لما انكشف المسلمون ذلك اليوم نظرت إلى رسول الله ص و ما معه أحد إلا نفير قد أحدقوا به من أصحابه من المهاجرين و الأنصار فانطلقوا به إلى الشعب و ما للمسلمين لواء قائم و لا فئة و لا جمع و إن كتائب المشركين لتحوشهم مقبلة و مدبرة في الوادي يلتقون و يفترقون ما يرون أحدا يردهم. قال الواقدي و حدثني إبراهيم بن محمد بن شرحبيل العبدري عن أبيه قال حمل مصعب اللواء فلما جال المسلمون ثبت به مصعب قبل ابن قميئة و هو فارس فضرب يد مصعب فقطعها فقال مصعب وَ ما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ. و أخذ اللواء بيده اليسرى و حنى عليه فضربه فقطع اليسرى فضمه بعضديه إلى صدره (15/221)
شرح نهج البلاغة ج : 14 ص : 248و هو يقول وَ ما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ ثم حمل عليه الثالثة بالرمح فأنفذه و اندق الرمح و وقع مصعب و سقط اللواء و ابتدره رجلان من بني عبد الدار سويبط بن حرملة و أبو الروم فأخذه أبو الروم م يزل بيده حتى دخل به المدينة حين انصرف المسلمون. قال الواقدي و قالوا إن رسول الله لما لحمه القتال و خلص إليه و ذب عنه مصعب بن عمير و أبو دجانة حتى كثرت به الجراحة جعل رسول الله ص يقول من رجل يشري نفسه فوثب فئة من الأنصار خمسة منهم عمارة بن زياد بن السكن فقاتل حتى أثبت و فاءت فئة من المسلمين حتى أجهضوا أعداء الله فقال رسول الله ص لعمارة بن زياد ادن مني حتى وسده رسول الله ص قدمه و إن به لأربعة عشر جرحا حتى مات و جعل رسول الله ص يذمر الناس و يحضهم على القتال و كان رجال من المشركين قد أذلقوا المسلمين بالرمي منهم حيان بن العرقة و أبو أسامة الجشمي فجعل النبي ص يقول لسعد ارم فداك أبي و أمي فرمى حيان بن العرقة بسهم فأصاب ذيل أم أيمن و كانت جاءت يومئذ تسقي الجرحى فقلبها و انكشف ذيلها عنها فاستغرب حيان بن العرقة ضحكا و شق ذلك على رسول الله ص فدفع إلى سعد بن أبي وقاص سهما لا نصل له و قال ارم به فرمى فوضع السهم في ثغرة نحر حيان فوقع مستلقيا و بدت عورته. قال سعد فرأيت النبي ص ضحك يومئذ حتى بدت نواجذه و قال استقاد لها سعد أجاب الله دعوتك و سدد رميتك و رمى يومئذ مالك بن زهير الجشمي أخو أبي أسامة الجشمي المسلمين رميا شديدا و كان هو و ريان بن العرقة قد أسرعا في أصحاب رسول الله ص و أكثرا فيهم القتل يستتران بالصخر و يرميان شرح نهج البلاغة ج : 14 ص : 249فبينا هم على ذلك أبصر سعد بن أبي وقاص مالك بن زهير يرمي من وراء صخرة قد رمى و أطلع رأسه فيرميه سعد فأصاب السهم عينه حتى خرج مقفاه فترى في السماء قامة ثم رجع فسقط فقتله الله عز و جل. قال (15/222)
الواقدي و رمى رسول الله ص عن قوسه يومئذ حتى صارت شظايا فأخذها قتادة بن النعمان و كانت عنده و أصيبت يومئذ عين قتادة حتى وقعت على وجنته قال قتادة فجئت إلى رسول الله ص فقلت يا رسول الله إن تحتي امرأة شابة جميلة أحبها و تحبني و أنا أخشى أن تقذر مكان عيني فأخذها رسول الله ص فردها و انصرف بها و عادت كما كانت فلم تضرب عليه ساعة من ليل و نهار و كان يقول بعد أن أسن هي أقوى عيني و كانت أحسنهما. قال الواقدي و باشر رسول الله ص القتال بنفسه فرمى بالنبل حتى فنيت نبله و انكسرت سية قوسه و قبل ذلك انقطع وتره و بقيت في يده قطعة تكون شبرا في سية القوس فأخذ القوس عكاشة بن محصن يوتره له فقال يا رسول الله لا يبلغ الوتر فقال مده يبلغ قال عكاشة فو الذي بعثه بالحق لمددته حتى بلغ و طويت منه ليتين أو ثلاثة على سية القوس ثم أخذه رسول الله ص فما زال يرامي القوم و أبو طلحة أمامه يستره مترسا عنه حتى نظرت إلى سية قوسه قد تحطمت فأخذها قتادة بن النعمان قال الواقدي و كان أبو طلحة يوم أحد قد نثل كنانته بين يدي النبي ص و كان راميا و كان صيتا فقال رسول الله ص لصوت أبي طلحة في الجيش خير من أربعين رجلا و كان في كنانته خمسون سهما نثلها بين يدي (15/223)
شرح نهج البلاغة ج : 14 ص : 250رسول الله ص و جعل يصيح نفسي دون نفسك يا رسول الله فلم يزل يرمي بها سهما سهما و كان رسول الله ص يطلع رأسه من خلف أبي طلحة بين أذنه و منكبه ينظر إلى مواقع النبل حتى فنيت نبله و هو يقول نحري دون نحرك جعلني الله فداك قالوا إنه ن رسول الله ص ليأخذ العود من الأرض فيقول ارم يا أبا طلحة فيرمي به سهما جيدا. قال الواقدي و كان الرماة المذكورون من أصحاب رسول الله ص جماعة منهم سعد بن أبي وقاص و أبو طلحة و عاصم بن ثابت و السائب بن عثمان بن مظعون و المقداد بن عمرو و زيد بن حارثة و حاطب بن أبي بلتعة و عتبة بن غزوان و خراش بن الصمة و قطبة بن عامر بن حديدة و بشر بن البراء بن معرور و أبو نائلة ملكان بن سلامة و قتادة بن النعمان. قال الواقدي و رمى أبو رهم الغفاري بسهم فأصاب نحره فجاء إلى رسول الله ص فبصق عليه فبرأ فكان أبو رهم بعد ذلك يسمى المنحور. و روى أبو عمر محمد بن عبد الواحد الزاهد اللغوي غلام ثعلب و رواه أيضا محمد بن حبيب في أماليه أن رسول الله ص لما فر معظم أصحابه عنه يوم أحد كثرت عليه كتائب المشركين و قصدته كتيبة من بني كنانة ثم من بني عبد مناة بن كنانة فيها بنو سفيان بن عويف و هم خالد بن سفيان و أبو الشعثاء بن سفيان و أبو الحمراء بن سفيان و غراب بن سفيان فقال رسول الله ص يا علي اكفني هذه الكتيبة فحمل عليها و إنها لتقارب خمسين فارسا و هو ع راجل فما زال يضربها بالسيف حتى تتفرق عنه ثم تجتمع عليه هكذا مرارا حتى قتل بني سفيان بن عويف الأربعة و تمام العشرة منها ممن لا يعرف بأسمائهم فقال جبرئيل شرح نهج البلاغة ج : 14 ص : 251ع لرسول الله ص يا محمد إن هذه المواساة لقد عجبت الملائكة من مواساة هذا الفتى فقال رسول الله ص و ما يمنعه و هو مني و أنا منه فقال جبرائيل ع و أنا منكما قال و سمع ذلك اليوم صومن قبل السماء لا يرى شخص الصارخ به ينادي مرارا (15/224)
لا سيف إلا ذو الفقار و لا فتى إلا علي (15/225)
فسئل رسول الله ص عنه فقال هذا جبرائيل. قلت و قد روى هذا الخبر جماعة من المحدثين و هو من الأخبار المشهورة و وقفت عليه في بعض نسخ مغازي محمد بن إسحاق و رأيت بعضها خاليا عنه و سألت شيخي عبد الوهاب بن سكينة رحمه الله عن هذا الخبر فقال خبر صحيح فقلت فما بال الصحاح لم تشتمل عليه قال أ و كلما كان صحيحا تشتمل عليه كتب الصحاح كم قد أهمل جامعوا الصحاح من الأخبار الصحيحة. قال الواقدي و أقبل عثمان بن عبد الله بن المغيرة المخزومي يحضر فرسا له أبلق يريد رسول الله ص عليه لأمة كاملة و رسول الله ص متوجه إلى الشعب و هو يصيح لا نجوت إن نجوت فيقف رسول الله ص و يعثر بعثمان فرسه في بعض تلك الحفر التي حفرها أبو عامر الفاسق للمسلمين فيقع الفرس لوجهه و سقط عثمان عنه و خرج الفرس غائرا فيأخذه بعض أصحاب رسول الله ص و يمشي إليه الحارث بن الصمة فاضطربا ساعة بالسيفين ثم يضرب الحارث رجله و كانت درعه مشمرة فبرك و ذفف عليه و أخذ الحارث شرح نهج البلاغة ج : 14 ص : 252يومئذ سلبه درعا جيدا و مغفرا و سيفا جيدا و لم يسمع بأحد من المشركين سلب يومئذ غيره و رسول الله ص ينظر إلى قتالهما فسأل عن الرجل قيل عثمان بن عبد الله بن المغيرة قال الحمد لله الذأحانه و قد كان عبد الله بن جحش أسره من قبل ببطن نخلة حتى قدم به على رسول الله ص فافتدى و رجع إلى قريش و غزا معهم أحدا فقتل هناك و يرى مصرع عثمان عبيد بن حاجز العامري أحد بني عامر بن لؤي فأقبل يعدو كأنه سبع فيضرب حارث بن الصمة ضربة على عاتقه فوقع الحارث جريحا حتى احتمله أصحابه و يقبل أبو دجانة على عبيد بن حاجز فتناوشا ساعة من نهار و كل واحد منهما يتقي بالدرقة سيف صاحبه ثم حمل عليه أبو دجانة فاحتضنه ثم جلد به الأرض و ذبحه بالسيف كما تذبح الشاة ثم انصرف فلحق برسول الله ص. قال الواقدي و يروى أن سهل بن حنيف جعل ينضح بالنبل عن رسول الله ص
فقال نبلوا سهلا فإنه سهل و نظر رسول الله ص إلى أبي الدرداء و الناس منهزمون في كل وجه فقال نعم الفارس عويمر غير أنه لم يشهد أحدا. قال الواقدي و روى الحارث بن عبيد الله بن كعب بن مالك قال حدثني من نظر إلى أبي سبرة بن الحارث بن علقمة و لقي أحد المشركين فاختلفا ضربات كل ذلك يروغ أحدهما عن الآخر قال فنظر الناس إليهما كأنهما سبعان ضاريان يقفان مرة و يقتلان أخرى ثم تعانقا فوقعا إلى الأرض جميعا فعلاه أبو سبرة فذبحه بسيفه كما تذبح الشاة و نهض عنه فيقبل خالد بن الوليد و هو على فرس أدهم أغر محجل يجر قناة طويلة فطعن أبا سبرة من خلفه فنظرت إلى سنان الرمح خرج من صدره شرح نهج البلاغة ج : 14 ص : 253و وقع أبو سبرة ميتا و انصرف خالد بن الوليد يقول أنا أبو سليمان. قال الواقدي و قاتل طلحة بن عبيد الله يومئذ عن النبي ص قتالا شديدا و كان طلحة يقول لقدأيت رسول الله ص حيث انهزم أصحابه و كثر المشركون فأحدقوا بالنبي ص من كل ناحية فما أدري أقوم من بين يديه أو من ورائه أم عن يمينه أم شماله فأذب بالسيف عنه هاهنا و هاهنا حتى انكشفوا فجعل رسول الله ص يومئذ يقول لطلحة لقد أوجب و روي لقد أنحب أي قضى نذره. قال الواقدي و روي أن سعد بن أبي وقاص ذكر طلحة فقال يرحمه الله إنه كان أعظمنا غناء عن رسول الله ص يوم أحد قيل كيف يا أبا إسحاق قال لزم النبي ص و كنا نتفرق عنه ثم نثوب إليه لقد رأيته يدور حول النبي ص يترس بنفسه. قال الواقدي و سئل طلحة يا أبا محمد ما أصاب إصبعك قال رمى مالك بن زهير الجشمي بسهم يريد رسول الله ص و كان لا تخطئ رميته فاتقيت بيدي عن وجه رسول الله ص فأصاب خنصري فشل. قال الواقدي و قالوا إن طلحة قال لما رمي حس فقال رسول الله ص لو قال بسم الله لدخل الجنة و الناس ينظرون إليه من أحب أن ينظر إلى رجل يمشي في الدنيا و هو من أهل الجنة فلينظر إلى طلحة بن عبيد الله طلحة ممن قضى نحبه. (15/226)
شرح نهج البلاغة ج : 14 ص : 254قال الواقدي و كان طلحة يحدث يقول لما جال المسلمون تلك الجولة ثم تراجعوا أقبل رجل من بني عامر بن لؤي يدعى شيبة بن مالك بن المضرب يجر رمحه و هو على فرس أغر كميت مدججا في الحديد يصيح أنا أبو ذات الوذع دلوني على محمد فأضرب عرقوفرسه فاكتسعت به ثم أتناول رمحه فو الله ما أخطأت به عن حدقته فخار كما يخور الثور فما برحت به واضعا رجلي على خده حتى أزرته شعوب. قال الواقدي و كان طلحة قد أصابته في رأسه المصلبة ضربه رجل من المشركين ضربتين ضربة و هو مقبل و ضربة و هو معرض عنه و كان نزف منها الدم قال أبو بكر جئت النبي ص يوم أحد فقال عليك بابن عمك فأتي طلحة بن عبيد الله و قد نزف الدم فجعلت أنضح في وجهه الماء و هو مغشي عليه ثم أفاق فقال ما فعل رسول الله ص فقلت خيرا هو أرسلني إليك فقال الحمد لله كل مصيبة بعده جلل. قال الواقدي و كان ضرار بن الخطاب الفهري يقول نظرت إلى طلحة بن عبيد الله قد حلق رأسه عند المروة في عمرة فنظرت إلى المصلبة في رأسه فكان ضرار يقول أنا و الله ضربته هو استقبلني فضربته ثم أكر عليه و قد أعرض فأضربه ضربة أخرى شرح نهج البلاغة ج : 14 ص : 255قال الواقدي و لما كان يوم الجمل و قتل ي ع من قتل من الناس و دخل البصرة جاءه رجل من العرب فتكلم بين يديه و نال من طلحة فزبره علي ع و قال إنك لم تشهد يوم أحد و عظم غنائه عن الإسلام مع مكانه من رسول الله ص فانكسر الرجل و سكت فقال له قائل من القوم و ما كان غناؤه و بلاؤه يرحمه الله يوم أحد فقال علي ع نعم يرحمه الله لقد رأيته و إنه ليترس بنفسه دون رسول الله ص و إن السيوف لتغشاه و النبل من كل ناحية و ما هو إلا جنة لرسول الله ص يقيه بنفسه فقال رجل لقد كان يوم أحد يوما قتل فيه أصحاب رسول الله ص و أصابت رسول الله ص فيه الجراحة فقال علي ع أشهد لسمعت رسول الله ص يقول ليت أني غودرت مع أصحابي بنحص الجبل ثم قال علي ع لقد (15/227)
رأيتني يومئذ و إني لأذبهم في ناحية و إن أبا دجانة لفي ناحية يذب طائفة منهم حتى فرج الله ذلك كله و لقد رأيتني و انفردت منهم يومئذ فرقة خشناء فيها عكرمة بن أبي جهل فدخلت وسطهم بالسيف فضربت به و اشتملوا علي حتى أفضيت إلى آخرهم ثم كررت فيهم الثانية حتى رجعت من حيث جئت و لكن الأجل استأخر و يقضي الله أمرا كان مفعولا. قال الواقدي و حدثني جابر بن سليم عن عثمان بن صفوان عن عمارة بن خزيمة قال حدثني من نظر إلى الحباب بن المنذر بن الجموح و إنه ليحوشهم يومئذ كما تحاش الغنم و لقد اشتملوا عليه حتى قيل قد قتل ثم برز و السيف في يده و افترقوا عنه و جعل يحمل على فرقة منهم و إنهم ليهربون منه إلى جمع منهم (15/228)
شرح نهج البلاغة ج : 14 ص : 256و صار الحباب إلى النبي ص و كان الحباب يومئذ معلما بعصابة خضراء في مغفره. قال الواقدي و طلع يومئذ عبد الرحمن بن أبي بكر على فرس مدججا لا يرى منه إلا عيناه فقال من يبارز أنا عبد الرحمن بن عتيق فنهض إليه أبو بكر و قال أنا أبار و جرد سيفه فقال له رسول الله ص شم سيفك و ارجع إلى مكانك و متعنا بنفسك. قال الواقدي و قال رسول الله ص ما وجدت لشماس بن عثمان شبها إلا الجنة يعني مما يقاتل عن رسول الله يومئذ و كان رسول الله ص لا يأخذ يمينا و لا شمالا إلا رأى شماس بن عثمان في ذلك الوجه يذب بسيفه عنه حتى غشي رسول الله ص فترس بنفسه دونه حتى قتل فذلك قول رسول الله ص ما وجدت لشماس شبها إلا الجنة. قال الواقدي و لما ولى المسلمون حين عطف عليهم خالد بن الوليد من خلفهم كان أول من أقبل من المسلمين بعد التولية قيس بن محرث مع طائفة من الأنصار و قد كانوا بلغوا بني حارثة فرجعوا سراعا فصادفوا المشركين في كثرتهم فدخلوا في حومتهم فما أفلت منهم رجل حتى قتلوا كلهم و لقد ضاربهم قيس بن محرث فامتنع بسيفه حتى قتل منهم نفرا فما قتلوه إلا بالرماح نظموه و لقد وجد به أربع عشرة طعنة جائفة و عشر ضربات بالسيف. قال الواقدي و كان عباس بن عبادة بن نظلة المعروف بابن قوقل و خارجة بن شرح نهج البلاغة ج : 14 ص : 257زيد بن أبي زهير و أوس بن أرقم بن زيد و عباس رافع صوته يقول يا معشر المسلمين الله و نبيكم هذا الذي أصابكم بمعصية نبيكم وعدكم النصر فما صبرتم ثم نزع مغفره عن رأسه و خلعرعه و قال لخارجة بن زيد هل لك في درعي و مغفري قال خارجة لا أنا أريد الذي تريد فخالطوا القوم جميعا و عباس يقول ما عذرنا عند ربنا إن أصيب نبينا و منا عين تطرف قال فيقول خارجة لا عذر لنا و الله عند ربنا و لا حجة فأما عباس فقتله سفيان بن عبد شمس السلمي و لقد ضربه عباس ضربتين فجرحه جرحين عظيمين فارتث يومئذ جريحا فمكث جريحا سنة (15/229)
ثم استبل و أخذت خارجة بن زيد الرماح فجرح بضعة عشر جرحا فمر به صفوان بن أمية فعرفه فقال هذا من أكابر أصحاب محمد و به رمق فأجهز عليه و قتل أوس بن أرقم و قال صفوان من رأى خبيب بن يساف و هو يطلبه فلا يقدر عليه و مثل يومئذ بخارجة و قال هذا ممن أغري بأبي يوم بدر يعني أمية بن خلف و قال الآن شفيت نفسي حين قتلت الأماثل من أصحاب محمد قتلت ابن قوقل و قتلت ابن أبي زهير و قتلت أوس بن أرقم. قال الواقدي و قال رسول الله ص يومئذ من يأخذ هذا السيف بحقه قالوا و ما حقه يا رسول الله قال يضرب به العدو فقال عمر أنا يا رسول الله فأعرض عنه ثم عرضه رسول الله ص بذلك الشرط فقام الزبير فقال أنا فأعرض عنه حتى وجد عمر و الزبير في أنفسهما ثم عرضه الثالثة فقام أبو دجانة و قال أنا يا رسول الله آخذه بحقه فدفعه إليه فصدق حين لقي به العدو و أعطى السيف حقه فقال أحد الرجلين إما عمر بن الخطاب أو الزبير و الله لأجعلن هذا الرجل الذي أعطاه السيف و منعنيه من شأني قال فاتبعته فو الله ما رأيت أحدا قاتل أفضل (15/230)
شرح نهج البلاغة ج : 14 ص : 258من قتاله لقد رأيته يضرب به حتى إذا كل عليه و خاف ألا يحيك عمد به إلى الحجارة فشحذه ثم يضرب به العدو حتى يرده كأنه منجل و كان حين أعطاه رسول الله ص السيف مشى بين الصفين و اختال في مشيته فقال رسول الله ص حين رآه يمشي تلك المش إن هذه لمشية يبغضها الله تعالى إلا في مثل هذا الموطن قال و كان أربعة من أصحاب النبي ص يعلمون في الزحوف أحدهم أبو دجانة كان يعصب رأسه بعصابة حمراء و كان قومه يعلمون أنه إذا اعتصب بها أحسن القتال و كان علي ع يعلم بصوفة بيضاء و كان الزبير يعلم بعصابة صفراء و كان حمزة يعلم بريش نعامة. قال الواقدي و كان أبو دجانة يحدث يقول إني لأنظر يومئذ إلى امرأة تقذف الناس و تحوشهم حوشا منكرا فرفعت عليها السيف و ما أحسبها إلا رجلا حتى علمت أنها امرأة و كرهت أن أضرب بسيف رسول الله ص امرأة و المرأة عمرة بنت الحارث. قال الواقدي و كان كعب بن مالك يقول أصابني الجراح يوم أحد فلما رأيت المشركين يمثلون بالمسلمين أشد المثل و أقبحها قمت فتنحيت عن القتلى فإني لفي موضعي أقبل خالد بن الأعلم العقيلي جامع اللأمة يحوش المسلمين يقول استوسقوا كما يستوسق جرب الغنم و هو مدجج في الحديد يصيح يا معشر قريش لا تقتلوا محمدا ائسروه أسرا حتى نعرفه ما صنع و يصمد له قزمان فيضربه بالسيف ضربة على عاتقه رأيت منها سحره ثم أخذ سيفه و انصرف فطلع عليه من المشركين فارس ما أرى منه إلا عينيه فحمل عليه قزمان فضربه ضربة جزله اثنين فإذا هو الوليد بن العاص بن هشام المخزومي ثم يقول كعب إني لأنظر يومئذ و أقول ما رأيت مثل هذا الرجل أشجع شرح نهج البلاغة ج : 14 ص : 259بالسيف ثم ختم له بما ختم له به فيقال له فما ختم له به فيقول من أهل النار قتل نفسه يومئذ. قال الواقدي و روى أبو النمر الكناني قال أقبلت يوم أحد و أنا من المشركين و قد انكشف المسلمون و قد حضرت في عشرة من إخوتي فقتل منهم أربعة (15/231)
كان الريح للمسلمين أول ما التقينا فلقد رأيتني و انكشفنا مولين و أقبل أصحاب النبي ص على نهب العسكر حتى بلغت الجماء ثم كرت خيلنا فقلت و الله ما كرت الخيل إلا عن أمر رأته فكررنا على أقدامنا كأننا الخيل فنجد القوم قد أخذ بعضهم بعضا يقاتلون على غير صفوف ما يدري بعضهم من يضرب و ما للمسلمين لواء قائم و مع رجل من بني عبد الدار لواء المشركين و أنا أسمع شعار أصحاب محمد بينهم أمت أمت فأقول في نفسي ما أمت و إني لأنظر إلى رسول الله ص و إن أصحابه محدقون به و إن النبل ليمر عن يمينه و يساره و يقع بين يديه و يخرج من ورائه و لقد رميت يومئذ بخمسين مرماة فأصبت منها بأسهم بعض أصحابه ثم هداني الله إلى الإسلام. قال الواقدي و كان عمرو بن ثابت بن وقش شاكا في الإسلام و كان قومه يكلمونه في الإسلام فيقول لو أعلم ما تقولون حقا ما تأخرت عنه حتى إذا كان يوم أحد بدا له الإسلام و رسول الله ص بأحد و أخذ سيفه و أسلم و خرج حتى دخل في القوم فقاتل حتى أثبت فوجد في القتلى جريحا ميتا فدنوا منه و هو بآخر رمق فقالوا ما جاء بك يا عمرو قال الإسلام آمنت بالله و برسوله و أخذت سيفي و حضرت فرزقني الله الشهادة و مات في أيديهم فقال رسول الله ص إنه لمن أهل الجنة (15/232)
شرح نهج البلاغة ج : 14 ص : 260قال الواقدي فكان أبو هريرة يقول و الناس حوله أخبروني برجل يدخل الجنة لم يصل لله تعالى سجدة فيسكت الناس فيقول أبو هريرة هو أخو بني عبد الأشهل عمرو بن ثابت بن وقش. قال الواقدي و كان مخيرق اليهودي من أحبار يهود فقال يوم السبت رسول الله ص بأحد يا معشر يهود و الله إنكم لتعلمون أن محمدا نبي و أن نصره عليكم حق فقالوا ويحك اليوم يوم السبت فقال لا سبت ثم أخذ سلاحه و حضر مع النبي ص فأصيب فقال رسول الله ص مخيرق خير يهود. قال الواقدي و كان مخيرق قال حين خرج إلى أحد إن أصبت فأموالي لمحمد يضعها حيث أراه الله فيه فهي عامة صدقات النبي ص. قال الواقدي و كان حاطب بن أمية منافقا و كان ابنه يزيد بن حاطب رجل صدق شهد أحدا مع النبي ص فارتث جريحا فرجع به قومه إلى منزله قال يقول أبوه و هو يرى أهل الدار يبكون عنده أنتم و الله صنعتم هذا به قالوا كيف قال أغررتموه من نفسه حتى خرج فقتل ثم صرتم معه إلى شي ء آخر تعدونه جنة يدخل فيها حبة من حرمل قالوا قاتلك الله قال هو ذاك و لم يقر بالإسلام. قال الواقدي و كان قزمان عسيفا من بني ظفر لا يدرى ممن هو و كان لهم محبا شرح نهج البلاغة ج : 14 ص : 261و كان مقلا و لا له و لا زوجة و كان شجاعا يعرف بذلك في حروبهم التي كانت تكون بينهم فشهد أحدا و قاتل قتالا شديدا فقتل ستة أو سبعة فأصابته الجراح فقيل للنبي ص إن قزمان قد أصابته الجراح فهو شهيد فقال بل من أهل النار فجاءوا إلى قزمان فقالوا هنيئا لك أبا الغيداق الشهادة فقال بم تبشرونني و الله ما قاتلنا إلا على الأحساب قالوا بشرناك بالجنة قال حبة و الله من حرمل إنا و الله ما قاتلنا على جنة و لا على نار إنما قاتلنا على أحسابنا ثم أخرج سهما من كنانته فجعل يتوجأ به نفسه فلما أبطأ عليه المشقص أخذ السيف فاتكأ عليه حتى خرج من ظهره فذكر ذلك للنبي ص فقال هو من أهل النار. قال الواقدي و كان عمرو بن (15/233)
الجموح رجلا أعرج فلما كان يوم أحد و كان له بنون أربعة يشهدون مع النبي ص المشاهد أمثال الأسد أراد قومه أن يحبسوه و قالوا أنت رجل أعرج و لا حرج عليك و قد ذهب بنوك مع النبي ص قال بخ يذهبون إلى الجنة و أجلس أنا عندكم فقالت هند بنت عمرو بن حزام امرأته كأني أنظر إليه موليا قد أخذ درقته و هو يقول اللهم لا تردني إلى أهلي فخرج و لحقه بعض قومه يكلمونه في القعود فأبى و جاء إلى رسول الله ص فقال يا رسول الله إن قومي يريدون أن يحبسوني عن هذا الوجه و الخروج معك و الله إني لأرجو أن أطأ بعرجتي هذه في الجنة فقال له أما أنت فقد عذرك الله و لا جهاد عليك فأبى فقال النبي ص لقومه و بنيه لا عليكم أن تمنعوه لعل الله يرزقه الشهادة فخلوا عنه فقتل يومئذ شهيدا و كان أبو طلحة يحدث يقول نظرت إلى عمرو بن الجموح حين انكشف المسلمون ثم ثابوا و هو في الرعيل الأول لكأني أنظر إلى ضلعه و هو يعرج في مشيته و هو يقول أنا و الله مشتاق إلى الجنة ثم أنظر إلى ابنه يعدو في أثره حتى قتلا جميعا. (15/234)
شرح نهج البلاغة ج : 14 ص : 262قال الواقدي و كانت عائشة خرجت في نسوة تستروح الخبر و لم يكن قد ضرب الحجاب يومئذ حتى كانت بمنقطع الحرة و هي هابطة من بني حارثة إلى الوادي لقيت هندا بنت عمرو بن حزام أخت عبد الله بن عمرو بن حزام تسوق بعيرا لها عليه زوجها عمرون الجموح و ابنها خلاد بن عمرو بن الجموح و أخوها عبد الله بن عمرو بن حزام أبو جابر بن عبد الله فقالت لها عائشة عندك الخبر فما وراءك فقالت هند خير أما رسول الله ص فصالح و كل مصيبة بعده جلل و اتخذ الله من المؤمنين شهداء وَ رَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنالُوا خَيْراً وَ كَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتالَ وَ كانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزاً. قلت هكذا وردت الرواية و عندي أنها لم تقل كل ذلك و لعلها قالت وَ رَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لا غير و إلا فكيف يواطئ كلامها آية من كلام الله تعالى أنزلت بعد الخندق و الخندق بعد أحد هذا من البعيد جدا. قال فقالت لها عائشة فمن هؤلاء قالت أخي و ابني و زوجي قتلى قالت فأين تذهبين بهم قالت إلى المدينة أقبرهم بها حل حل تزجر بعيرها فبرك البعير فقالت عائشة لثقل ما حمل قالت هند ما ذاك به لربما حمل ما يحمله البعيران و لكني أراه لغير ذلك فزجرته فقام فلما وجهت به إلى المدينة برك فوجهته راجعة إلى أحد فأسرع فرجعت إلى النبي ص فأخبرته بذلك فقال إن الجمل لمأمور هل قال عمرو شيئا قالت نعم إنه لما وجه إلى أحد استقبل القبلة ثم قال اللهم لا تردني إلى أهلي و ارزقني الشهادة فقال ص فلذلك الجمل لا يمضي إن منكم يا معشر الأنصار من لو أقسم على الله لأبره منهم عمرو بن الجموح يا هند ما زالت الملائكة مظلة على أخيك من لدن قتل إلى الساعة ينظرون أين يدفن ثم مكث رسول الله ص في قبرهم ثم قال يا هند قد ترافقوا في الجنة شرح نج البلاغة ج : 14 ص : 263جميعا عمرو بن الجموح بعلك و خلاد ابنك و (15/235)
عبد الله أخوك فقالت هند يا رسول الله فادع الله لي عسى أن يجعلني معهم. قال الواقدي و كان جابر بن عبد الله يقول اصطبح ناس يوم أحد الخمر منهم أبي فقتلوا شهداء. قال الواقدي و كان جابر يقول أول قتل من المسلمين يوم أحد أبي قتله سفيان بن عبد شمس أبو الأعور السلمي فصلى عليه رسول الله ص قبل الهزيمة. قال الواقدي و كان جابر يحدث و يقول استشهد أبي و جعلت عمتي تبكي فقال النبي ص ما يبكيها ما زالت الملائكة تظل عليه بأجنحتها حتى دفن. قال الواقدي و قال عبيد الله بن عمرو بن حزام رأيت في النوم قبل يوم أحد بأيام مبشر بن عبد المنذر أحد الشهداء ببدر يقول لي أنت قادم علينا في أيام فقلت فأين أنت قال في الجنة نسرح منها حيث نشاء فقلت له أ لم تقتل يوم بدر قال بلى ثم أحييت فذكر ذلك لرسول الله ص قال هذه الشهادة يا جابر. قال الواقدي و قال رسول الله ص يوم أحد ادفنوا عبد الله بن عمرو بن حزام و عمرو بن الجموح في قبر واحد و يقال إنهما وجدا و قد مثل بهما كل مثلة قطعت آرابهما عضوا عضوا فلا تعرف أبدانهما فقال النبي ص ادفنوهما في قبر واحد و يقال إنما أمر بدفنهما في قبر واحد لما كان بينهما (15/236)
شرح نهج البلاغة ج : 14 ص : 264من الصفاء فقال ادفنوا هذين المتحابين في الدنيا في قبر واحد. و كان عبد الله بن عمرو بن حزام رجلا أحمر أصلع ليس بالطويل و كان عمرو بن الجموح طويلا فعرفا و دخل السيل بعد عليهما و كان قبرهما مما يلي السيل فحفر عنهما و عليهما نمان و عبد الله قد أصابه جرح في وجهه فيده على وجهه فأميطت يده عن جرحه فثعب الدم فردت إلى مكانها فسكن الدم. قال الواقدي و كان جابر بن عبد الله يقول رأيت أبي في حفرته و كأنه نائم و ما تغير من حاله قليل و لا كثير فقيل له أ فرأيت أكفانه قال إنما كفن في نمرة خمر بها وجهه و على رجليه الحرمل فوجدنا النمرة كما هي و الحرمل على رجليه كهيئته و بين ذلك و بين وقت دفنه ست و أربعون سنة فشاورهم جابر في أن يطيبه بمسك فأبى ذلك أصحاب النبي ص و قالوا لا تحدثوا فيهم شيئا. قال و يقال إن معاوية لما أراد أن يجري العين التي أحدثها بالمدينة و هي كظلمة نادى مناديه بالمدينة من كان له قتيل بأحد فليشهد فخرج الناس إلى قتلاهم فوجدوهم رطابا يتثنون فأصابت المسحاة رجل رجل منهم فثعبت دما فقال أبو سعيد الخدري لا ينكر بعد هذا منكر أبدا. قال و وجد عبد الله بن عمرو بن حزام و عمرو بن الجموح في قبر واحد و وجد خارجة بن زيد بن أبي زهير و سعد بن الربيع في قبر واحد فأما قبر عبد الله و عمرو فحول و ذلك أن القناة كانت تمر على قبرها و أما قبر خارجة و سعد فترك و ذلك لأن مكانه كان معتزلا و سوي عليهما التراب و لقد كانوا يحفرون التراب فكلما حفروا قترة من تراب فاح عليهم المسك. شرح نهج البلاغة ج : 14 ص : 26 قال و قالوا إن رسول الله ص قال لجابر يا جابر أ لا أبشرك فقال بلى بأبي و أمي قال فإن الله أحيا أباك ثم كلمه كلاما فقال له تمن على ربك ما شئت فقال أتمنى أن أرجع فأقتل مع نبيك ثم أحيا فأقتل مع نبيك فقال إني قد قضيت أنهم لا يرجعون (15/237)
قال الواقدي و كانت نسيبة بنت كعب أم عمارة بن غزية بن عمرو قد شهدت أحدا و زوجها غزية و ابناها عمارة بن غزية و عبد الله بن زيد و خرجت و معها شن لها في أول النهار تريد تسقي الجرحى فقاتلت يومئذ و أبلت بلاء حسنا فجرحت اثني عشر جرحا بين طعنة برمح أو ضربة بسيف فكانت أم سعد بنت سعد بن الربيع تحدث فتقول دخلت عليها فقالت لها يا خالة حدثيني خبرك فقالت خرجت أول النهار إلى أحد و أنا أنظر ما يصنع الناس و معي سقاء فيه ماء فانتهيت إلى رسول الله ص و هو في الصحابة و الدولة و الريح للمسلمين فلما انهزم المسلمون انحزت إلى رسول الله ص فجعلت أباشر القتال و أذب عن رسول الله ص بالسيف و أرمي بالقوس حتى خلصت إلى الجراح فرأيت على عاتقها جرحا أجوف له غور فقلت يا أم عمارة من أصابك بهذا قالت أقبل ابن قميئة و قد ولى الناس عن رسول الله ص يصيح دلوني على محمد لا نجوت إن نجا فاعترض له مصعب بن عمير و ناس معه فكنت فيهم فضربني هذه الضربة و لقد ضربته على ذلك ضربات و لكن عدو الله كان عليه درعان فقالت لها يدك ما أصابها قالت أصيبت يوم اليمامة لما جعلت الأعراب تنهزم بالناس نادت الأنصار أخلصونا فأخلصت الأنصار فكنت معهم حتى انتهينا إلى حديقة الموت فاقتتلنا عليها ساعة حتى قتل أبو دجانة على باب الحديقة و دخلتها شرح نهج البلاغة ج : 14 ص : 266و أنا أريد عدو الله مسيلمة فيعرض لي رجل فضرب يدي فقطعها فو الله ما كانت ناهية و لا عرجت عليها حتى وقفت على الخبيث مقتولا و ابني عبد الله بن يزيد المازني يمسح سيفه بثيا فقلت أ قتلته قال نعم فسجدت شكرا لله عز و جل و انصرفت. قال الواقدي و كان ضمرة بن سعيد يحدث عن جدته و كانت قد شهدت أحدا تسقي الماء قال سمعت رسول الله ص يقول يومئذ لمقام نسيبة بنت كعب اليوم خير من مقام فلان و فلان و كان يراها يومئذ تقاتل أشد القتال و إنها لحاجزة ثوبها على وسطها حتى جرحت ثلاثة عشر جرحا. قلت ليت الراوي لم (15/238)
يكن هذه الكناية و كان يذكرهما باسمهما حتى لا تترامى الظنون إلى أمور مشتبهة و من أمانة المحدث أن يذكر الحديث على وجهه و لا يكتم منه شيئا فما باله كتم اسم هذين الرجلين. قال فلما حضرت نسيبة الوفاة كنت فيمن غسلها فعددت جراحها جرحا جرحا فوجدتها ثلاثة عشر و كانت تقول إني لأنظر إلى ابن قميئة و هو يضربها على عاتقها و كان أعظم جراحها لقد داوته سنة ثم نادى منادي النبي ص بعد انقضاء أحد إلى حمراء الأسد فشدت عليها ثيابها فما استطاعت من نزف الدم و لقد مكثنا ليلتنا نكمد الجراح حتى أصبحنا فلما رجع رسول الله من حمراء الأسد لم يصل إلى بيته حتى أرسل إليها عبد الله بن كعب المازني يسأل عنها فرجع إليه فأخبره بسلامتها فسر بذلك. قال الواقدي و حدثني عبد الجبار بن عمارة بن غزية قال قالت أم عمارة (15/239)
شرح نهج البلاغة ج : 14 ص : 267لقد رأيتني و انكشف الناس عن رسول الله ص فما بقي إلا نفير ما يتمون عشرة و أنا و أبنائي و زوجي بين يديه نذب عنه و الناس يمرون عنه منهزمين فرآني و لا ترس معي و رأى رجلا موليا معه ترس فقال يا صاحب الترس ألق ترسك إلى من يقاتل فأى ترسه فأخذته فجعلت أترس به على النبي ص و إنما فعل بنا الأفاعيل أصحاب الخيل و لو كانوا رجالة مثلنا أصبناهم فيقبل رجل على فرس فضربني و ترست له فلم يصنع سيفه شيئا و ولى و أضرب عرقوب فرسه فوقع على ظهره فجعل النبي ص يصيح يا ابن عمارة أمك أمك قالت فعاونني عليه حتى أوردته شعوب. قال الواقدي و حدثني ابن أبي سبرة عن عمرو بن يحيى عن أبيه عن عبد الله بن زيد المازني قال جرحت جرحا في عضدي اليسرى ضربني رجل كأنه الرقل و لم يعرج علي و مضى عني و جعل الدم لا يرقأ فقال رسول الله ص اعصب جرحك فتقبل أمي إلي و معها عصائب في حقويها قد أعدتها للجراح فربطت جرحي و النبي ص واقف ينظر ثم قالت انهض يا بني فضارب القوم فجعل رسول الله ص يقول و من يطيق ما تطيقين يا أم عمارة قالت و أقبل الرجل الذي ضربني فقال رسول الله ص هذا ضارب ابنك فاعترضت أمي له فضربت ساقه فبرك فرأيت النبي ص تبسم حتى بدت نواجذه ثم قال استقدت يا أم عمارة ثم أقبلنا نعلوه بالسلاح حتى أتينا على نفسه فقال النبي ص الحمد لله الذي ظفرك و أقر عينك من عدوك و أراك ثأرك بعينك. شرح نهج البلاغة ج : 14 ص : 268قال الواقدي و روى موسى بن ضمرة بن سعيد عن أبيه قال أتي عمر بن الخطاب في أيام خلته بمروط كان فيها مرط واسع جيد فقال بعضهم إن هذا المرط بثمن كذا فلو أرسلت به إلى زوجة عبد الله بن عمر صفية بنت أبي عبيد و ذلك حدثان ما دخلت على ابن عمر فقال بل أبعث به إلى من هو أحق منها أم عمارة نسيبة بنت كعب سمعت رسول الله ص يوم أحد يقول ما ألتفت يمينا و شمالا إلا و أنا أراها تقاتل دوني. قال الواقدي و روى مروان بن سعيد (15/240)
بن المعلى قال قيل لأم عمارة يا أم عمارة هل كن نساء قريش يومئذ يقاتلن مع أزواجهن فقالت أعوذ بالله لا و الله ما رأيت امرأة منهن رمت بسهم و لا حجر و لكن رأيت معهن الدفاف و الأكبار يضربن و يذكرن القوم قتلى بدر و معهن مكاحل و مراود فكلما ولى رجل أو تكعكع ناولته إحداهن مرودا و مكحلة و يقلن إنما أنت امرأة و لقد رأيتهن ولين منهزمات مشمرات و لها عنهن الرجال أصحاب الخيل و نجوا على متون خيلهم و جعلن يتبعن الرجال على أقدامهن فجعلن يسقطن في الطريق و لقد رأيت هندا بنت عتبة و كانت امرأة ثقيلة و لها خلق قاعدة خاشية من الخيل ما بها مشي و معها امرأة أخرى حتى كثر القوم علينا فأصابوا منا ما أصابوا فعند الله نحتسب ما أصابنا يومئذ من قبل الرماة و معصيتهم لرسول الله ص. قال الواقدي و حدثني ابن أبي سبرة عن عبد الرحمن بن عبد الله بن أبي صعصعة عن الحارث بن عبد الله قال سمعت عبد الله بن زيد بن عاصم يقول شهدت أحدا (15/241)
شرح نهج البلاغة ج : 14 ص : 269مع رسول الله ص فلما تفرق الناس عنه دنوت منه و أمي تذب عنه فقال يا ابن عمارة قلت نعم قال ارم فرميت بين يديه رجلا من المشركين بحجر و هو على فرس فأصيبت عين الفرس فاضطرب الفرس حتى وقع هو و صاحبه و جعلت أعلوه بالحجارة حتى نضدت عه منها وقرا و النبي ص ينظر إلي و يتبسم فنظر إلى جرح بأمي على عاتقها فقال أمك أمك اعصب جرحها بارك الله عليكم من أهل بيت لمقام أمك خير من مقام فلان و فلان و مقام ربيبك يعني زوج أمه خير من مقام فلان رحمكم الله من أهل بيت فقالت أمي ادع لنا الله يا رسول الله أن نرافقك في الجنة فقال اللهم اجعلهم رفقائي في الجنة قالت فما أبالي ما أصابني من الدنيا قال الواقدي و كان حنظلة بن أبي عامر تزوج جميلة بنت عبد الله بن أبي بن سلول فأدخلت عليه في الليلة التي في صبيحتها قتال أحد و كان قد استأذن رسول الله ص أن يبيت عندها فأذن له فلما صلى الصبح غدا يريد النبي ص فلزمته جميلة فعاد فكان معها فأجنب منها ثم أراد الخروج و قد أرسلت قبل ذلك إلى أربعة من قومها فأشهدتهم أنه قد دخل بها فقيل لها بعد لم أشهدت عليه قالت رأيت كأن السماء فرجت فدخل فيها ثم أطبقت فقلت هذه الشهادة فأشهدت عليه أنه قد دخل بي فعلقت منه بعبد الله بن حنظلة ثم تزوجها ثابت بن قيس بعد فولدت له محمد بن ثابت بن قيس و أخذ حنظلة بن أبي عامر سلاحه فلحق برسول الله ص بأحد و هو يسوي الصفوف فلما انكشف المشركون اعترض حنظلة لأبي سفيان بن حرب فضرب عرقوب فرسه فاكتسعت الفرس و يقع أبو سفيان إلى الأرض فجعل يصيح يا معشر قريش أنا أبو سفيان بن حرب و حنظلة يريد ذبحه بالسيف فأسمع الصوت رجالا لا يلتفتون إليه من الهزيمة حتى عاينه الأسود بن شعوب فحمل على حنظلة بالرمح شرح نهج البلاغة ج : 14 ص : 270فأنفذه و مشى حنظلة إليه في الرمح فضربه ثانية فقتله هرب أبو سفيان يعدو على قدميه فلحق ببعض قريش فنزل عن صدر فرسه و ردف (15/242)
وراءه أبا سفيان فذلك قول أبي سفيان يذكر صبره و وقوفه و أنه لم يفر و ذكره محمد بن إسحاق (15/243)
و لو شئت نجتني كميت طمرة و لم أحمل النعماء لابن شعوب و ما زال مهري مزجر الكلب فيهم لدن غدوة حتى دنت لغروب أقاتلهم و أدعي يال غالب و أدفعهم عني بركن صليب فبكي و لا ترعى مقالة عاذل و لا تسأمي من عبرة و نحيب أياك و إخوانا لنا قد تتابعوا و حق لهم من حسرة ب و سلي الذي قد كان في النفس إنني قتلت من النجار كل نجيب و من هاشم قرما كريما و مصعبا و كان لدى الهيجاء غير هيوب و لو أنني لم أشف نفسي منهم لكانت شجا في الصدر ذات ندوب فآبوا و قد أودى الجلابيب منهم بهم كمد من واجم و كئيب أصابهم من لم يكن لدمائهم كفاء وي سنخهم بضريب
قال الواقدي مر أبو عامر الراهب على حنظلة ابنه و هو مقتول إلى جنب شرح نهج البلاغة ج : 14 ص : 271حمزة بن عبد المطلب و عبد الله بن جحش فقال إن كنت لأحدرك هذا الرجل يعني رسول الله ص من قبل هذا المصرع و الله إن كنت لبرا بالوالد شريف الخلق في حياتك و إن مماتك ع سراة أصحابك و أشرافهم إن جزى الله هذا القتيل يعني حمزة خيرا أو جزى أحدا من أصحاب محمد خيرا فليجزك ثم نادى يا معشر قريش حنظلة لا يمثل به و إن كان خالفني و خالفكم فلم يأل لنفسه فيما يرى خيرا فمثل بالناس و ترك حنظلة فلم يمثل به. و كانت هند بنت عتبة أول من مثل بأصحاب النبي ص و أمرت النساء بالمثل و بجدع الأنوف و الآذان فلم تبق امرأة إلا عليها معضدان و مسكتان و خدمتان إلا حنظلة لم يمثل به و
قال رسول الله ص إني رأيت الملائكة تغسل حنظلة بن أبي عامر بين السماء و الأرض بماء المزن في صحاف الفضة
قال أبو أسيد الساعدي فذهبنا فنظرنا إليه فإذا رأسه يقطر ماء فرجعت إلى رسول الله ص فأخبرته فأرسل إلى امرأته فسألها فأخبرته أنه خرج و هو جنب. قال الواقدي و أقبل وهب بن قابوس المزني و معه ابن أخيه الحارث بن عقبة بن قابوس بغنم لهما من جبل مزينة فوجد المدينة خلوا فسألا أين الناس قالوا بأحد خرج رسول الله ص يقاتل المشركين من قريش فقال لا نبتغي أثرا بعد عين فخرجا حتى أتيا النبي ص بأحد فيجدان القوم يقتتلون و الدولة لرسول الله ص و أصحابه فأغارا مع المسلمين في النهب و جاءت الخيل من ورائهم خالد بن الوليد و عكرمة بن أبي جهل فاختلط الناس فقاتلا أشد القتال فانفرقت فرقة من المشركين فقال رسول الله ص من لهذه الفرقة فقال وهب بن قابوس أنا يا رسول الله فقام فرماهم بالنبل حتى انصرفوا ثم رجع فانفرقت فرقة شرح نهج البلاغة ج : 14 ص : 272أخرى فقال رسول الله ص من لهذه الكتيبة فقال المي أنا يا رسول الله فقام فذبها بالسيف حتى ولت ثم رجع فطلعت كتيبة أخرى فقال النبي ص من يقوم لهؤلاء فقال المزني أنا يا رسول الله فقال قم و أبشر بالجنة. فقال المزني مسرورا يقول و الله لا أقيل و لا أستقيل فجعل يدخل فيهم فيضرب بالسيف و رسول الله ص ينظر إليه و المسلمون حتى خرج من أقصى الكتيبة و رسول الله ص يقول اللهم ارحمه ثم يرجع فيهم فما زال كذلك و هم محدقون به حتى اشتملت عليه أسيافهم و رماحهم فقتلوه فوجد به يومئذ عشرون طعنة بالرماح كلها قد خلصت إلى مقتلي و مثل به أقبح المثل يومئذ ثم قام ابن أخيه فقاتل كنحو قتاله حتى قتل فكان عمر بن الخطاب يقول إن أحب ميتة أموت عليها لما مات عليها المزني. قال الواقدي و كان بلال بن الحارث المزني يحدث يقول شهدنا القادسية مع سعد بن أبي وقاص فلما فتح الله علينا و قسمت بيننا غنائمنا أسقط فتى من آل قابوس من مزينة فجئت سعدا حين فزع من نومه فقال بلال قلت بلال قال مرحبا بك من هذا معك قلت رجل من قومي (15/244)
قال ما أنت يا فتى من المزني الذي قتل يوم أحد قال ابن أخيه قال سعد مرحبا و أهلا أنعم الله بك عينا لقد شهدت من ذلك الرجل يوم أحد مشهدا ما شهدت من أحد قط لقد رأيتنا و قد أحدق المشركون بنا من كل ناحية و رسول الله ص وسطنا و الكتائب تطلع من كل ناحية و إن رسول الله ص يرمي ببصره في الناس يتوسمهم و يقول من لهذه الكتيبة كل ذلك يقول المزني أنا يا رسول الله كل ذلك يرد الكتيبة فما أنسى آخر مرة قالها فقال له رسول الله ص قم (15/245)
شرح نهج البلاغة ج : 14 ص : 273و أبشر بالجنة فقام و قمت على أثره يعلم الله أني أطلب مثل ما يطلب يومئذ من الشهادة فخضنا حومتهم حتى رجعنا فيهم الثانية فأصابوه رحمه الله و وددت و الله أني كنت أصبت يومئذ معه و لكن أجل استأخر ثم دعا من ساعته بسهمه فأعطاه و فض و قال اختر في المقام عندنا أو الرجوع إلى أهلك فقال بلال إنه يستحب الرجوع فرجع. فقال الواقدي و قال سعد بن أبي وقاص أشهد لرأيت رسول الله ص واقفا على المزني و هو مقتول و هو يقول رضي الله عنك فإني عنك راض ثم رأيت رسول الله ص قام على قدميه و قد ناله ع من ألم الجراح ما ناله و إني لأعلم أن القيام يشق عليه على قبره حتى وضع في لحده و عليه بردة لها أعلام حمر فمد رسول الله ص البردة على رأسه فخمره و أدرجه فيها طولا فبلغت نصف ساقيه فأمرنا فجمعنا الحرمل فجعلناه على رجليه و هو في لحده ثم انصرف فما حال أحب إلي من أن أموت عليها و ألقى الله عليها من حال المزني قال الواقدي و كان رسول الله ص يوم أحد قد خاصم إليه يتيم من الأنصار أبا لبابة بن عبد المنذر فطلب بينهما فقضى رسول الله ص لأبي لبابة فجزع اليتيم على العذق فطلب رسول الله ص العذق إلى أبي لبابة لليتيم فأبى أن يدفعه إليه فجعل رسول الله ص يقول لأبي لبابة ادفعه إليه و لك عذق في الجنة فأبى أبو لبابة و قال ثابت بن أبي الدحداحة يا رسول الله أ رأيت إن أعطيت اليتيم عذقه من مالي قال لك به عذق في الجنة فذهب ثابت بن الدحداحة فاشترى من أبي لبابة ذلك العذق بحديقة نخل ثم رد العذق إلى الغلام شرح نهج البلاغة ج : 14 ص : 274فقال رسول الله ص رب عذق مذلل لابن الدحداحة في الجنة فكانت ترجى له الشهادة بذلك القول فقتل يوم أحد. قال الواقدي و يقبل ضرار بن الخطاب فارسا يجر قناة له طويلة فيطعن عمرو بن معاذ فأنفذه و يمشي عمرو إليه حتى غلب فوقع لوجهه ق يقول ضرار لا تعدمن رجلا زوجك من الحور العين و كان يقول زوجت يوم (15/246)
أحد عشرة من أصحاب محمد الحور العين. قال الواقدي فسألت شيوخ الحديث هل قتل عشرة قالوا ما بلغنا أنه قتل إلا ثلاثة و لقد ضرب يومئذ عمر بن الخطاب حين جال المسلمون تلك الجولة بالقناة و قال يا ابن الخطاب إنها نعمة مشكورة ما كنت لأقتلك. قال الواقدي و كان ضرار يحدث بعد و يذكر وقعة أحد و يذكر الأنصار فيترحم عليهم و يذكر غناءهم في الإسلام و شجاعتهم و إقدامهم على الموت ثم يقول لقد قتل أشراف قومي ببدر فأقول من قتل أبا الحكم فيقال ابن عفراء من قتل أمية بن خلف فيقال خبيب بن يساف من قتل عقبة بن أبي معيط فيقال عاصم بن ثابت من قتل فلان بن فلان فيسمي لي من الأنصار من أسر سهيل بن عمرو فيقال مالك بن الدخشم فلما خرجنا إلى أحد و أنا أقول إن قاموا في صياصيهم فهي منيعة لا سبيل لنا إليهم نقيم أياما ثم ننصرف و إن خرجوا إلينا من صياصيهم أصبنا منهم فإن معنا عددا أكثر من عددهم و نحن قوم موتورون خرجنا بالظعن يذكرننا قتلى بدر و معنا كراع و لا كراع معهم و سلاحنا أكثر من سلاحهم فقضي لهم أن خرجوا فالتقينا فو الله ما قمنا لهم حتى هزمنا و انكشفنا مولين فقلت (15/247)
شرح نهج البلاغة ج : 14 ص : 275في نفسي هذه أشد من وقعة بدر و جعلت أقول لخالد بن الوليد كر على القوم فيقول و ترى وجها نكر فيه حتى نظرت إلى الجبل الذي كان عليه الرماة خاليا فقلت يا أبا سليمان انظر وراءك فعطف عنان فرسه و كررنا معه فانتهينا إلى الجبل فلم نجدليه أحدا له بال وجدنا نفيرا فأصبناهم ثم دخلنا العسكر و القوم غارون ينتبهون عسكرنا فأقحمنا الخيل عليهم فتطايروا في كل وجه و وضعنا السيوف فيهم حيث شئنا و جعلت أطلب الأكابر من الأوس و الخزرج قتلة الأحبة فلا أرى أحدا هربوا فما كان حلب ناقة حتى تداعت الأنصار بينها فأقبلت فخالطونا و نحن فرسان فصبرنا لهم و صبروا لنا و بذلوا أنفسهم حتى عقروا فرسي و ترجلت فقتلت منهم عشرة و لقيت من رجل منهم الموت الناقع حتى وجدت ريح الدم و هو معانقي ما يفارقني حتى أخذته الرماح من كل ناحية فوقع فالحمد لله الذي أكرمهم بيدي و لم يهني بأيديهم. قال الواقدي و قال رسول الله ص يوم أحد من له علم بذكوان بن عبد قيس فقال علي ع أنا رأيت يا رسول الله فارسا يركض في أثره حتى لحقه و هو يقول لا نجوت إن نجوت فحمل عليه فرسه و ذكوان راجل فضربه و هو يقول خذها و أنا ابن علاج فقتله فأهويت إلى الفارس فضربت رجله بالسيف حتى قطعتها من نصف الفخذ ثم طرحته عن فرسه فذففت عليه و إذا هو أبو الحكم بن أخنس بن شريق بن علاج بن عمرو بن وهب الثقفي. قال الواقدي و قال علي ع لما كان يوم أحد و جال الناس تلك الجولة أقبل أمية بن أبي حذيفة بن المغيرة و هو دارع مقنع في الحديد ما يرى منه إلا عيناه و هو يقول يوم بيوم بدر فيعرض له رجل من المسلمين فقتله أمية قال علي ع و أصمد له فأضربه بالسيف على هامته و عليه بيضة و تحت البيضة مغفر فنبا سيفي شرح نهج البلاغة ج : 14 ص : 276و كنت رجلا قصيرا و يضربني بسيفه فأتقي بالدرقة فلحج سيفه فأضربه و كت درعه مشمرة فأقطع رجليه فوقع و جعل يعالج سيفه حتى خلصه من الدرقة و (15/248)
جعل يناوشني و هو بارك حتى نظرت إلى فتق تحت إبطه فأحش فيه بالسيف فمال فمات و انصرفت. قال الواقدي و في يوم أحد انتمى رسول الله ص فقال أنا ابن العواتك و قال أيضا (15/249)
أنا النبي لا كذب أنا ابن عبد المطلب
قال الواقدي بينا عمر بن الخطاب يومئذ في رهط من المسلمين قعود مر بهم أنس بن النضر بن ضمضم عم أنس بن مالك فقال ما يقعدكم قالوا قتل رسول الله ص قال فما تصنعون بالحياة بعده قوموا فموتوا على ما مات عليه ثم قام فجالد بسيفه حتى قتل فقال عمر بن الخطاب إني لأرجو أن يبعثه الله أمة وحده يوم القيامة وجد به سبعون ضربة في وجهه ما عرف حتى عرفته أخته. قال الواقدي و قالوا إن مالك بن الدخشم مر على خارجة بن زيد بن زهير يومئذ و هو قاعد و في حشوته ثلاثة عشر جرحا كلها قد خلصت إلى مقتل فقال له مالك أ ما علمت أن محمدا قد قتل قال خارجة فإن كان محمد قد قتل فإن الله حي لا يقتل و لا يموت و إن محمدا قد بلغ رسالة ربه فاذهب أنت فقاتل عن دينك. قال و مر مالك بن الدخشم أيضا على سعد بن الربيع و به اثنا عشر جرحا كلها قد خلصت إلى مقتل فقال أ علمت أن محمدا قد قتل فقال سعد أشهد أن محمدا قد بلغ رسالة ربه فقاتل أنت عن دينك فإن الله حي لا يموت. شرح نهج البلاغة ج : 14 ص : 277قال محمد بن إسحاق و حدثني محمد بن عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي صعصعة المازني أخو بني النجار قال قال رسول الله ص يومئذ من رجل ينظر ما فعل سعد بن الربيع أ في الأحياء هو أم في الأات فقال رجل من الأنصار أنا أنظر يا رسول الله ما فعل فنظر فوجده جريحا في القتلى و به رمق فقال له إن رسول الله ص أمرني أن أنظر في الأحياء أنت أم في الأموات قال أنا في الأموات فأبلغ رسول الله مني السلام و قل له إن سعد بن الربيع يقول جزاك الله خيرا عنا ما جزى نبيا عن أمته و أبلغ قومك السلام عني و قل لهم إن سعد بن الربيع يقول لكم لا عذر لكم عند الله أن يخلص إلى نبيكم و منكم عين تطرف
قال فلم أبرح عنده حتى مات ثم جئت إلى رسول الله ص فأخبرته فقال اللهم ارض عن سعد بن الربيع قال الواقدي و حدثني عبد الله بن عمار عن الحارث بن الفضيل الخطمي قال أقبل ثابت بن الدحداحة يومئذ و المسلمون أوزاع قد سقط في أيديهم فجعل يصيح يا معشر الأنصار إلي إلي أنا ثابت بن الدحداحة إن كان محمد قد قتل فإن الله حي لا يموت قاتلوا عن دينكم فإن الله مظهركم و ناصركم فنهض إليه نفر من الأنصار فجعل يحمل بمن معه من المسلمين و قد وقفت لهم كتيبة خشناء فيها رؤساؤهم خالد بن الوليد و عمرو بن العاص و عكرمة بن أبي جهل و ضرار بن الخطاب و جعلوا يناوشونهم ثم حمل عليه خالد بن الوليد بالرمح فطعنه فأنفذه فوقع ميتا و قتل من كان معه من الأنصار فيقال إن هؤلاء آخر من قتل من المسلمين في ذلك اليوم و قال عبد الله بن الزبعرى يذكر يوم أحد (15/250)
ألا ذرفت من مقلتيك دموع و قد بان في حبل الشباب قطوع
شرح نهج البلاغة ج : 14 ص : 278و شط بمن تهوى المزار و فرقت نوى الحي دار بالحبيب فجوع و ليس لما ولى على ذي صبابة و إن طال تذراف الدموع رجوع فدع ذا و لكن هل أتى أم مالك أحاديث قومي و الحديث يشيع و مجنبنا جردا إلى أهل يثرب عناجيج فيها ضامر و بديع عشية س كداء يقودها ضرور الأعادي للصديق نفوع يشد علينا كل زحف كأنها غدير نضوح الجانبين نقيع فلما رأونا خالطتهم مهابة و خامرهم رعب هناك فظيع فودوا لو أن الأرض ينشق ظهرها بهم و صبور القوم ثم جزوع و قد عريت بيض كأن وميضها حريق وشيك في الآباء سريع بأيماننا نعلو ل هامة و فيها سمام للعدو ذريع فغادرن قتلى الأوس عاصبة بهم ضباع و طير فوقهن وقوع و مر بنو النجار في كل تلعة بأثوابهم من وقعهن نجيع و لو لا علو الشعب غادرن أحمدا و لكن علا و السمهري شروع كما غادرت في الكر حمزة ثاويا و في صدره ماضي الشباة وو قال ابن الزبعرى أيضا من قصيدة مشهورة و هي شرح نهج البلاغة ج : 14 ص : 27يا غراب البين أ سمعت فقل إنما تندب أمرا قد فعل إن للخير و للشر مدى و سواء قبر مثر و مقل كل خير و نعيم زائل و بنات الدهر يلعبن بكل أبلغا حسان عني آية فقريض الشعر يشفي ذا الغلل كم ترى بالجسر من جمجمة و أكفا قد أترت و رجل و سرابيل حسان شققت عن كماة غودروالمنتزل كم قتلنا من كريم سيد ماجد الجدين مقدام بطل صادق النجدة قرم بارع غير ملطاط لدى وقع الأسل فسل المهراس من ساكنه من كراديس و هام كالحجل ليت أشياخي ببدر شهدوا جزع الخزرج من وقع الأسل حين حطت بقباء بركها و استحر القتل في عبد الأشل ثم خفوا عند ذاكم قص الحفان تعدو في الجبل (15/251)
شرح نهج البلاغة ج : 14 ص : 280فقتلنا النصف من ساداتهم و عدلنا ميل بدر فاعتدل لا ألوم النفس إلا أننا لو كررنا لفعلنا المفتعل بسيوف الهند تعلو هامهم تبرد الغيظ و يشفين القلت كثير من الناس يعتقدون أن هذا البيت ليزيد بن معاوية و هو قوله ليت أشياخي و قال من أكره التصريح باسمه هذا البيت ليزيد فقلت له إنما قاله يزيد متمثلا لما حمل إليه رأس الحسين ع و هو لابن الزبعرى فلم تسكن نفسه إلى ذلك حتى أوضحته له فقلت أ لا تراه يقول جزع الخزرج من وقع الأسل و الحسين ع لم تحارب عنه الخزرج و كان يليق أن يقول جزع بني هاشم من وقع الأسل فقال بعض من كان حاضرا لعله قاله في يوم الحرة فقلت المنقول أنه أنشده لما حمل إليه رأس الحسين ع و المنقول أنه شعر ابن الزبعرى و لا يجوز أن يترك المنقول إلى ما ليس بمنقول. و على ذكر هذا الشعر فإني حضرت و أنا غلام بالنظامية ببغداد في بيت عبد القادر بن داود الواسطي المعروف بالمحب خازن دار الكتب بها و عنده في البيت باتكين الرومي الذي ولي إربل أخيرا و عنده أيضا جعفر بن مكي الحاجب فجرى ذكر يوم أحد و شعر ابن الزبعرى هذا و غيره و أن المسلمين اعتصموا بالجبل فأصعدوا فيه و أن الليل حال أيضا بين المشركين و بينهم فأنشد ابن مكي بيتين لأبي تمام متمثلا (15/252)
لو لا الظلام و قلة علقوا بها باتت رقابهم بغير قلال
شرح نهج البلاغة ج : 14 ص : 281فليشكروا جنح الظلام و دروذا فهم لدروذ و الظلام موالفقال باتكين لا تقل هذا و لكن قل وَ لَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذا فَشِلْتُمْ وَ تَنازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَ عَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ما أَراكُمْ ما تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيا وَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَ لَقَدْ عَفا عَنْكُمْ وَ اللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ و كان باتكين مسلما و كان جعفر سامحه الله مغموصا عليه في دينه (15/253)
شرح نهج البلاغة ج : 15 ص : 1الجزء الخامس عشرتتمة باب الكتب و الرسائل (16/1)
تتمة 9- و من كتاب له ع إلى معاوية
تتمة الفصل الرابع في قصة غزوة أحد
شرح نهج البلاغة ج : 15 ص : 3بسم الله الرحمن الرحيم و به ثقتي الحمد لله الواحد العدلالقول في أسماء الذين تعاقدوا من قريش على قتل رسول الله ص و ما أصابوه به في المعركة يوم الحرب
قال الواقدي تعاقد من قريش على قتل رسول الله ص عبد الله بن شهاب الزهري و ابن قميئة أحد بني الحارث بن فهر و عتبة بن أبي وقاص الزهري و أبي بن خلف الجمحي فلما أتى خالد بن الوليد من وراء المسلمين و اختلطت الصفوف و وضع المشركون السيف في المسلمين رمى عتبة بن أبي وقاص رسول الله ص بأربعة أحجار فكسر رباعيته و شجه في وجهه حتى غاب حلق المغفر في وجنتيه و أدمى شفتيه. قال الواقدي و قد روي أن عتبة أشظى باطن رباعيته السفلى قال و الثبت عندنا أن الذي رمى وجنتي رسول الله ص ابن قميئة و الذي رمى شفته و أصاب رباعيته عتبة بن أبي وقاص. قال الواقدي أقبل ابن قميئة يومئذ و هو يقول دلوني على محمد فو الذي يحلف به لئن رأيته لأقتلنه فوصل إلى رسول الله ص فعلاه بالسيف و رماه عتبة شرح نهج البلاغة ج : 15 ص : 4بن أبي وقاص في الحال التي جلله ابن قميئة فيها السيف و كان ع فارسا و هو لابس درعين مل بهما فوقع رسول الله ص عن الفرس في حفرة كانت أمامه. قال الواقدي أصيب ركبتاه جحشتا لما وقع في تلك الحفرة و كانت هناك حفر حفرها أبو عامر الفاسق كالخنادق للمسلمين و كان رسول الله ص واقفا على بعضها و هو لا يشعر فجحشت ركبتاه و لم يصنع سيف ابن قميئة شيئا إلا وهز الضربة بثقل السيف فقد وقع رسول الله ص ثم انتهض و طلحة يحمله من ورائه و علي ع آخذ بيديه حتى استوى قائما. قال الواقدي فحدثني الضحاك بن عثمان عن حمزة بن سعيد عن أبي بشر المازني قال حضرت يوم أحد و أنا غلام فرأيت ابن قميئة علا رسول الله ص بالسيف و رأيت رسول
الله ص وقع على ركبتيه في حفرة أمامه حتى توارى في الحفرة فجعلت أصيح و أنا غلام حتى رأيت الناس ثابوا إليه. قال فأنظر إلى طلحة بن عبيد الله آخذا بحضنه حتى قام. قال الواقدي و يقال إن الذي شج رسول الله ص في جبهته ابن شهاب و الذي أشظى رباعيته و أدمى شفتيه عتبة بن أبي وقاص و الذي أدمى وجنتيه حتى غاب الحلق فيهما ابن قميئة و إنه سال الدم من الشجة التي في جبهته حتى أخضل لحيته (16/2)
و كان سالم مولى أبي حذيفة يغسل الدم عن وجهه و رسول الله ص يقول كيف يفلح قوم فعلوا هذا بنبيهم و هو يدعوهم إلى الله تعالى فأنزل الله تعالى قوله لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْ ءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ الآية شرح نهج البلاغة ج : 15 ص : 5 قال الواقدي و روى سعد بن أبي وقاص قال قال رسول الله ص يومئذ اشتد غضب الله على قوم دموا فا رسول الله ص اشتد غضب الله على قوم دموا وجه رسول الله اشتد غضب الله على رجل قتله رسول الله صقال سعد فلقد شفاني من عتبة أخي دعاء رسول الله ص و لقد حرصت على قتله حرصا ما حرصت على شي ء قط و إن كان ما علمت لعاقا بالوالد سيئ الخلق و لقد تخرقت صفوف المشركين مرتين أطلب أخي لأقتله و لكنه راغ مني روغان الثعلب فلما كان الثالثة قال رسول الله ص يا عبد الله ا تريد أ تريد أن تقتل نفسك فكففت فقال رسول الله ص اللهم لا تحولن الحول على أحد منهم قال سعد فو الله ما حال الحول على أحد ممن رماه أو جرحه مات عتبة و أما ابن قميئة فاختلف فيه فقائل يقول قتل في المعرك و قائل يقول إنه رمي بسهم في ذلك اليوم فأصاب مصعب بن عمير فقتله فقال خذها و أنا ابن قميئة فقال رسول الله ص أقمأه الله فعمد إلى شاة يحتلبها فتنطحه بقرنها و هو معتلقها فقتلته فوجد ميتا بين الجبال لدعوة رسول الله ص و كان عدو الله رجع إلى أصحابه فأخبرهم أنه قتل محمدا. قال و ابن قميئة رجل من بني الأدرم من بني فهر. و زاد البلاذري في الجماعة
التي تعاهدت و تعاقدت على قتل رسول الله ص يوم أحد عبد الله بن حميد بن زهير بن الحارث بن أسد بن عبد العزى بن قصي. قال و ابن شهاب الذي شج رسول الله ص في جبهته هو عبد الله شرح نهج البلاغة ج : 15 ص : 6بن شهاب الزهري جد الفقيه المحدث محمبن مسلم بن عبيد الله بن عبد الله بن شهاب و كان ابن قميئة أدرم ناقص الذقن و لم يذكر اسمه و لا ذكره الواقدي أيضا. قلت سألت النقيب أبا جعفر عن اسمه فقال عمرو فقلت له أ هو عمرو بن قميئة الشاعر قال لا هو غيره فقلت له ما بال بني زهرة في هذا اليوم فعلوا الأفاعيل برسول الله ص و هم أخواله ابن شهاب و عتبة بن أبي وقاص فقال يا ابن أخي حركهم أبو سفيان و هاجهم على الشر لأنهم رجعوا يوم بدر من الطريق إلى مكة فلم يشهدوها فاعترض عيرهم و منعهم عنها و أغرى بها سفهاء أهل مكة فعيروهم برجوعهم و نسبوهم إلى الجبن و إلى الإدهان في أمر محمد ص و اتفق أنه كان فيهم مثل هذين الرجلين فوقع منهما يوم أحد ما وقع. قال البلاذري مات عتبة يوم أحد من وجع أليم أصابه فتعذب به و أصيب ابن قميئة في المعركة و قيل نطحته عنز فمات. قال و لم يذكر الواقدي ابن شهاب كيف مات و أحسب ذلك بالوهم منه. قال و حدثني بعض قريش أن أفعى نهشت عبد الله بن شهاب في طريقه إلى مكة فمات قال و سألت بعض بني زهرة عن خبره فأنكروا أن يكون رسول الله ص دعا عليه أو يكون شج رسول الله ص و قالوا إن الذي شجه في وجهه عبد الله بن حميد الأسدي. فأما عبد الله بن حميد الفهري فإن الواقدي و إن لم يذكره في الجماعة الذين شرح نهج البلاغة ج : 15 ص : 7تعاقدوا على قتل رسول الله ص إلا أنه قد ذكر كيفية قتله. قال الواقدي و يقبل عبد الله بن حميد بن زهير حين رأى رسول الله ص على تلك الحال يعني سقوطه من ضربة ابن قميئة يركض فرسه مقنعا في الحديد يقول أنا ابن زهيرلوني على محمد فو الله لأقتلنه أو لأموتن دونه فتعرض له أبو دجانة فقال هلم إلى من يقي نفس (16/3)
محمد ص بنفسه فضرب فرسه فعرقبها فاكتسعت ثم علاه بالسيف و هو يقول خذها و أنا ابن خرشة حتى قتله (16/4)
و رسول الله ص ينظر إليه و يقول اللهم ارض عن ابن خرشة كما أنا عنه راض
هذه رواية الواقدي و بها قال البلاذري إن عبد الله بن حميد قتله أبو دجانة. فأما محمد بن إسحاق فقال إن الذي قتل عبد الله بن حميد علي بن أبي طالب ع و به قالت الشيعة. و روى الواقدي و البلاذري أن قوما قالوا إن عبد الله بن حميد هذا قتل يوم بدر. فالأول الصحيح أنه قتل يوم أحد و قد روى كثير من المحدثين أن رسول الله ص قال لعلي ع حين سقط ثم أقيم اكفني هؤلاء لجماعة قصدت نحوه فحمل عليهم فهزمهم و قتل منهم عبد الله بن حميد من بني أسد بن عبد العزى ثم حملت عليه طائفة أخرى فقال له اكفني هؤلاء فحمل عليهم فانهزموا من بين يديه و قتل منهم أمية بن أبي حذيفة بن المغيرة المخزومي. قال فأما أبي بن خلف فروى الواقدي أنه أقبل يركض فرسه حتى إذا دنا من رسول الله ص اعترض له ناس من أصحابه ليقتلوه فقال لهم استأخروا شرح نهج البلاغة ج : 15 ص : 8عنه ثم قام إليه و حربته في يده فرماه بها بين سابغالبيضة و الدرع فطعنه هناك فوقع عن فرسه فانكسر ضلع من أضلاعه و احتمله قوم من المشركين ثقيلا حتى ولوا قافلين فمات في الطريق و قال و فيه أنزلت وَ ما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَ لكِنَّ اللَّهَ رَمى قال يعني قذفه إياه بالحربة قال الواقدي و حدثني يونس بن محمد الظفري عن عاصم بن عمر عن عبد الله بن كعب بن مالك عن أبيه قال كان أبي بن خلف قدم في فداء ابنه و كان أسر يوم بدر فقال يا محمد إن عندي فرسا لي أعلفها فرقا من ذرة كل يوم لأقتلك عليها فقال رسول الله ص بل أنا أقتلك عليها إن شاء الله تعالى. و يقال إن أبيا إنما قال ذلك بمكة فبلغ رسول الله ص بالمدينة كلمته فقال بل أنا أقتله عليها إن شاء الله قال و كان رسول الله ص في القتال لا يلتفت وراءه فكان يوم أحد يقول لأصحابه إني أخشى
أن يأتي أبي بن خلف من خلفي فإذا رأيتموه فآذنوني و إذا بأبي يركض على فرسه و قد رأى رسول الله ص فعرفه فجعل يصيح بأعلى صوته يا محمد لا نجوت إن نجوت فقال القوم يا رسول الله ما كنت صانعا حين يغشاك أبي فاصنع فقد جاءك و إن شئت عطف عليه بعضنا فأبى رسول الله ص و دنا أبي فتناول رسول الله ص الحربة من الحارث بن الصمة ثم انتفض كما ينتفض البعير قال فتطايرنا شرح نهجلبلاغة ج : 15 ص : 9عنه تطاير الشعارير و لم يكن أحد يشبه رسول الله ص إذا جد الجد ثم طعنه بالحربة في عنقه و هو على فرسه لم يسقط إلا أنه خار كما يخور الثور فقال له أصحابه أبا عامر و الله ما بك بأس و لو كان هذا الذي بك بعين أحدنا ما ضره قال و اللات و العزى لو كان الذي بي بأهل ذي المجاز لماتوا كلهم أجمعون أ ليس قال لأقتلنه فاحتملوه و شغلهم ذلك عن طلب رسول الله ص حتى التحق بعظم أصحابه في الشعب. قال الواقدي و يقال إنه تناول الحربة من الزبير بن العوام قال و يقال إنه لما تناول الحربة من الزبير حمل أبي على رسول الله ص ليضربه بالسيف فاستقبله مصعب بن عمير حائلا بنفسه بينهما و إن مصعبا ضرب بالسيف أبيا في وجهه و أبصر رسول الله ص فرجة من بين سابغة البيضة و الدرع فطعنه هناك فوقع و هو يخور. قال الواقدي و كان عبد الله بن عمر يقول مات أبي بن خلف ببطن رابغ منصرفهم إلى مكة قال فإني لأسير ببطن رابغ بعد ذلك و قد مضى هوي من الليل إذا نار تأجج فهبتها و إذا رجل يخرج منها في سلسلة يجتذبها يصيح العطش و إذا رجل يقول لا تسقه فإن هذا قتيل رسول الله ص هذا أبي بن خلف فقلت ألا سحقا و يقال إنه مات بسرف (16/5)
شرح نهج البلاغة ج : 15 ص : 10القول في الملائكة نزلت بأحد و قاتلت أم لاقال الواقدي حدثني الزبير بن سعيد عن عبد الله بن الفضل قال أعطى رسول الله ص مصعب بن عمير اللواء فقتل فأخذه ملك في صورة مصعب فجعل رسول الله ص يقول له في آخر النهار تقدم يا مصعب فالتفت إليه الملك فقال لست بمصعب فعرف رسول الله ص أنه ملك أيد به. قال الواقدي سمعت أبا معشر يقول مثل ذلك. قال و حدثتني عبيدة بنت نائل عن عائشة بنت سعد بن أبي وقاص عنه قال لقد رأيتني أرمى بالسهم يومئذ فيرده عني رجل أبيض حسن الوجه لا أعرفه حتى كان بعد فظننت أنه ملك. قال الواقدي و حدثني إبراهيم بن سعد عن أبيه عن جده سعد بن أبي وقاص قال رأيت ذلك اليوم رجلين عليهما ثياب بيض أحدهما عن يمين رسول الله ص و الآخر عن شماله يقاتلان أشد القتال ما رأيتهما قبل و لا بعد قال و حدثني عبد الملك بن سليمان عن قطن بن وهب عن عبيد بن عمير قال لما رجعت قريش من أحد جعلوا يتحدثون في أنديتهم بما ظفروا يقولون لم نر الخيل البلق و لا الرجال البيض الذين كنا نراهم يوم بدر. قال و قال عبيد بن عمير لم تقاتل الملائكة يوم أحد. قال الواقدي و حدثني ابن أبي سبرة عن عبد المجيد بن سهيل عن عمر بن الحكم قال لم يمد رسول الله ص يوم أحد بملك واحد و إنما كانوا يوم بدر قال و مثله عن عكرمة. شرح نهج البلاغة ج : 15 ص : 11قال و قال مجاهد حضرت الملائكة يوم أحد و لم تقاتل و إنما قاتلت يوم بدر. قال و روي عن أبي هريرة أنه قال وعدهم الله أن يمدهم لو صبروا فلما انكشفوا لم تقاتل الملائكة يومئذالقول في مقتل حمزة بن عبد المطلب رضي الله عنه (16/6)
قال الواقدي كان وحشي عبدا لابنة الحارث بن عامر بن نوفل بن عبد مناف و يقال كان لجبير بن مطعم بن عدي بن نوفل بن عبد مناف فقالت له ابنة الحارث إن أبي قتل يوم بدر فإن أنت قتلت أحد الثلاثة فأنت حر محمد و علي بن أبي طالب و حمزة بن عبد المطلب فإني لا أرى في القوم كفؤا لأبي غيرهم فقال وحشي أما محمد فقد علمت أني لا أقدر عليه و أن أصحابه لن يسلموه و أما حمزة فو الله لو وجدته نائما ما أيقظته من هيبته و أما علي فألتمسه قال وحشي فكنت يوم أحد ألتمسه فبينا أنا في طلبه طلع علي فطلع رجل حذر مرس كثير الالتفات فقلت ما هذا بصاحبي الذي ألتمس إذ رأيت حمزة يفري الناس فريا فكمنت له إلى صخرة و هو مكبس له كتيت فاعترض له سباع ابن أم نيار و كانت أمه ختانة بمكة مولاة لشريف بن علاج بن عمرو بن وهب الثقفي و كان سباع يكنى أبا نيار فقال له حمزة و أنت أيضا يا ابن مقطعة البظور ممن يكثر علينا هلم إلي فاحتمله حتى إذا برقت قدماه رمى به فبرك عليه فشحطه شحط الشاة ثم أقبل علي مكبا حين رآني فلما شرح نهج البلاغة ج : 15 ص : 12بلغ المسيل وطئ على جرف فزلت قدمه فهززت حربتي حتى رضيت منها فأضرب بها في خاصرته حتى خرجت من مثانته و كر عليه طائفة من أصحابه فأسهم يقولون أبا عمارة فلا يجيب فقلت قد و الله مات الرجل و ذكرت هندا و ما لقيت على أبيها و عمها و أخيها و انكشف عنه أصحابه حين أيقنوا بموته و لا يروني فأكر عليه فشققت بطنه فاستخرجت كبده فجئت بها إلى هند بنت عتبة فقلت ما ذا لي إن قتلت قاتل أبيك قالت سلني فقلت هذه كبد حمزة فمضغتها ثم لفظتها فلا أدري لم تسغها أو قذرتها فنزعت ثيابها و حليها فأعطتنيه ثم قالت إذا جئت مكة فلك عشرة دنانير ثم قالت أرني مصرعه فأريتها مصرعه فقطعت مذاكيره و جدعت أنفه و قطعت أذنيه ثم جعلت ذلك مسكتين و معضدين و خدمتين حتى قدمت بذلك مكة و قدمت بكبده أيضا معها. قال الواقدي و حدثني عبد الله بن جعفر عن ابن (16/7)
أبي عون عن الزهري عن عبيد الله بن عدي بن الخيار قال غزونا الشام في زمن عثمان بن عفان فمررنا بحمص بعد العصر فقلنا وحشي فقيل لا تقدرون عليه هو الآن يشرب الخمر حتى يصبح فبتنا من أجله و إننا لثمانون رجلا فلما صلينا الصبح جئنا إلى منزله فإذا شيخ كبير قد طرحت له زربية قدر مجلسه فقلنا له أخبرنا عن قتل حمزة و عن قتل مسيلمة فكره ذلك و أعرض عنه فقلنا ما بتنا هذه الليلة إلا من أجلك فقال إني كنت عبدا لجبير بن مطعم بن عدي فلما خرج الناس إلى أحد دعاني فقال قد رأيت مقتل طعيمة بن عدي قتله حمزة بن عبد المطلب يوم بدر فلم تزل نساؤنا في حزن شرح نهج البلاغة ج : 15 ص : 13شديد إلى يومي هذا فإن قتلت حمزة فأنت حر فخرجت مع الناس و لي مزاريق كنت أمر بهند بنت عتبة فتقول إيه أبا دسمة اشف و اشتف فلما وردنا أحدا نظرت إلى حم يقدم الناس يهدهم هدا فرآني و قد كمنت له تحت شجرة فأقبل نحوي و تعرض له سباع الخزاعي فأقبل إليه و قال و أنت أيضا يا ابن مقطعة البظور ممن يكثر علينا هلم إلي و أقبل نحوه حتى رأيت برقان رجليه ثم ضرب به الأرض و قتله و أقبل نحوي سريعا فيعترض له جرف فيقع فيه و أزرقه بمزراق فيقع في لبته حتى خرج من بين رجليه فقتله و مررت بهند بنت عتبة فآذنتها فأعطتني ثيابها و حليها و كان في ساقيها خدمتان من جزع ظفار و مسكتان من ورق و خواتيم من ورق كن في أصابع رجليها فأعطتني بكل ذلك و أما مسيلمة فإنا دخلنا حديقة الموت يوم اليمامة فلما رأيته زرقته بالمزراق و ضربه رجل من الأنصار بالسيف فربك أعلم أينا قتله إلا أني سمعت امرأة تصيح فوق جدار قتله العبد الحبشي قال عبيد الله فقلت أ تعرفني فأكر بصره علي و قال ابن عدي لعاتكة بنت العيص قلت نعم قال أما و الله ما لي بك عهد بعد أن دفعتك إلى أمك في محفتك التي كانت ترضعك فيها و نظرت إلى برقان قدميك حتى كأنه الآن. و روى محمد بن إسحاق في كتاب المغازي قال علت هند يومئذ صخرة مشرفة (16/8)
و صرخت بأعلى صوتها (16/9)
نحن جزيناكم بيوم بدر و الحرب بعد الحرب ذات سعرما كان عن عتبة لي من صبر و لا أخي و عمه و بكري شفيت نفسي و قضيت نذري شفيت وحشي غليل صدري شرح نهج البلاغة ج : 15 ص : 14فشكر وحشي على عمري حتى ترم أعظمي في قبرقال فأجابتها هند بنت أثاثة بن المطلب بن عبد مناف
خزيت في بدر و غير بدر يا بنت غدار عظيم الكفرأفحمك الله غداة الفجر بالهاشميين الطوال الزهربكل قطاع حسام يفري حمزة ليثي و علي صقري إذ رام شيب و أبوك قهري فخضبا منه ضواحي النحرقال محمد بن إسحاق و من الشعر الذي ارتجزت به هند بنت عتبة يوم أحد
شفيت من حمزة نفسي بأحد حين بقرت بطنه عن الكبدأذهب عني ذاك ما كنت أجد من لوعة الحزن الشديد المعتمدو الحرب تعلوكم بشؤبوب برد نقدم إقداما عليكم كالأسد
قال محمد بن إسحاق حدثني صالح بن كيسان قال حدثت أن عمر بن الخطاب قال لحسان يا أبا الفريعة لو سمعت ما تقول هند و لو رأيت شرها قائمة على صخرة ترتجز بنا و تذكر ما صنعت بحمزة فقال حسان و الله إني لأنظر إلى الحربة تهوي و أنا على فارع يعني أطمة فقلت و الله إن هذه لسلاح ليس بسلاح العرب و إذا بها تهوي إلى حمزة و لا أدري و لكن أسمعني بعض قولها أكفيكموها فأنشده عمر بعض ما قالت فقال حسان يهجوها
أشرت لكاع و كان عادتها لؤما إذا أشرت مع الكفر
شرح نهج البلاغة ج : 15 ص : 15أخرجت مرقصة إلى أحد في القوم مقتبة على بكربكر ثفال لا حراك به لا عن معاتبة و لا زجرأخرجت ثائرة محاربة بأبيك و ابنك بعد في بدرو بعمك المتروك منجدلا و أخيك منعفرين في الجفرفرجعت صاغرة بلا ترة منا ظفرت بها و لا وتو قال أيضا يهجوها
لمن سواقط ولدان مطرحة باتت تفحص في بطحاء أجيادباتت تمخض لم تشهد قوابلها إلا الوحوش و إلا جنة الوادي يظل يرجمه الصبيان منعفرا و خاله و أبوه سيدا الناديفي أبيات كرهت ذكرها لفحشها. قال و روى الواقدي عن صفية بنت عبد المطلب قالت كنا قد رفعنا يوم أحد في الآطام و معنا حسان بن ثابت و كان من أجبن الناس و نحن في فارع فجاء نفر من يهود يرومون الأطم فقلت دونك يا ابن الفريعة فقال لا و الله لا أستطيع القتال و يصعد يهودي إلى الأطم فقلت شد على يدي السيف ثم برئت ففعل فضربت شرح نهج البلاغة ج : 15 ص : 16عنق اليهودي و رميت برأسه إليهم فلما رأوه انكشفوا قالت و إني لفي فارع أول النهار مشرفة على الأطم فرأيت المزراق فقلت أ و من سلاحهم المزاريق أ فلا أراه هوى إلى أخي و لا أشعر خرجت آخر النهار حتى جئت رسول الله ص و قد كنت أعرف انكشاف المسلمين و أنا على الأطم برجوع حسان إلى أقصى الأطم فلما رأى الدولة للمسلمين أقبل حتى وقف على جدار الأطم قال فلما انتهيت إلى رسول الله ص و معي نسوة من الأنصار لقيته و أصحابه أوزاع فأول من لقيت علي ابن أخي فقال ارجعي يا عمة فإن في الناس تكشفا فقلت رسول الله ص قال صالح قلت ادللني عليه حتى أراه فأشار إليه إشارة خفية فانتهيت إليه و به الجراحة. (16/10)
قال الواقدي و كان رسول الله ص يقول يوم أحد ما فعل عمي ما فعل عمي فخرج الحارث بن الصمة يطلبه فأبطأ فخرج علي ع يطلبه فيقول
يا رب إن الحارث بن الصمة كان رفيقا و بنا ذا ذمةقد ضل في مهامة مهمة يلتمس الجنة فيها ثمة
حتى انتهى إلى الحارث و وجد حمزة مقتولا فجاء فأخبر النبي ص فأقبل يمشي حتى وقف عليه فقال ما وقفت موقفا قط أغيظ إلي من هذا الموقف
فطلعت صفية فقال يا زبير أغن عني أمك و حمزة يحفر له فقال الزبير يا أمه إن في الناس تكشفا فارجعي فقالت ما أنا بفاعلة حتى أرى رسول الله ص فلما رأته قالت يا رسول الله أين ابن أمي حمزة فقال هو في الناس قالت لا أرجع حتى أنظر إليه قال الزبير فجعلت أطدها إلى الأرض حتى دفن و (16/11)
قال رسول الله شرح نهج البلاغة ج : 15 ص : 17ص لو لا أن تحزن نساؤنا لذلك لتركناه للعافية يعني السباع و الطير حتى يحشر يوم القيامة من بطونها و حواصلهاقال الواقدي و روي أن صفية لما جاءت حالت الأنصار بينها و بين رسول الله ص فقال دعوها فجلست عنده فجعلت إذا بكت يبكي رسول الله ص و إذا نشجت ينشج رسول الله ص و جعلت فاطمة ع تبكي فلما بكت بكى رسول الله ص ثم قال لن أصاب بمثل حمزة أبدا
ثم قال ص لصفية و فاطمة أبشرا أتاني جبرائيل ع فأخبرني أن حمزة مكتوب في أهل السموات السبع حمزة بن عبد المطلب أسد الله و أسد رسوله
قال الواقدي و رأى رسول الله ص بحمزة مثلا شديدا فحزنه ذلك و قال إن ظفرت بقريش لأمثلن بثلاثين منهم فأنزل الله عليه وَ إِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا بِمِثْلِ ما عُوقِبْتُمْ بِهِ وَ لَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ فقال ص بل نصبر فلم يمثل بأحد من قريش
قال الواقدي و قام أبو قتادة الأنصاري فجعل ينال من قريش لما رأى من غم رسول الله ص و في كل ذلك يشير إليه أن اجلس ثلاثا فقال رسول الله ص يا أبا قتادة إن قريشا أهل أمانة من بغاهم العواثر كبه الله لفيه و عسى إن طالت بك مدة أن تحقر عملك مع أعمالهم و فعالك مع فعالهم شرح نهج البلاغة ج : 15 ص : 18لو لا أن تبطر قريش لأخبرتها بما لها عند الله تعالى فقال أبو قتادة و الله يا رسول الله ما غضبت إلا لله و رسوله حين نالوا منه ما نالوا فقال صدقت بئس القوم كانوا لنبيهمقال الواقدي و كان عبد الله بن جحش قبل أن تقع الحرب قال يا رسول الله إن هؤلاء القوم قد نزلوا بحيث ترى فقد سألت الله فقلت اللهم أقسم عليك أن نلقى العدو غدا فيقتلوني و يبقروا بطني و يمثلوا بي فتقول لي فيم صنع بك هذا فأقول فيك قال و أنا أسألك يا رسول الله أخرى أن تلي تركتي من بعدي فقال له نعم فخرج عبد الله فقتل و مثل به كل المثل و دفن هو و حمزة في قبر واحد و ولي تركته رسول الله ص فاشترى لأمه مالا بخيبر. قال الواقدي و أقبلت أخته حمنة بنت جحش فقال لها رسول الله ص يا حمن احتسبي قالت من يا رسول الله قال خالك حمزة قالت إِنَّا لِلَّهِ وَ إِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ غفر الله له و رحمه و هنيئا له الشهادة ثم قال لها احتسبي قالت من يا رسول الله قال أخوك عبد الله قالت إِنَّا لِلَّهِ وَ إِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ غفر الله له و رحمه و هنيئا له الشهادة ثم قال احتسبي قالت من يا رسول قال بعلك مصعب بن عمير فقالت وا حزناه و يقال إنها قالت وا عقراه. قال محمد بن إسحاق في كتابه فصرخت و ولولت (16/12)
قال الواقدي فقال رسول الله ص إن للزوج من المرأة مكانا ما هو لأحد
و هكذا روى ابن إسحاق أيضا. قال الواقدي ثم قال لها رسول الله ص لم قلت هذا قالت ذكرت يتم بنيه فراعني فدعا رسول الله ص لولده أن يحسن الله عليهم الخلف شرح نهج البلاغة ج : 15 ص : 19فتزوجت طلحة بن عبيد الله فولدت منه محمد بن طلحة فكان أوصل الناس لولد مصعب بن عر (16/13)
القول فيمن ثبت مع رسول الله ص يوم أحد
قال الواقدي حدثني موسى بن يعقوب عن عمته عن أمها عن المقداد قال لما تصاف القوم للقتال يوم أحد جلس رسول الله ص تحت راية مصعب بن عمير فلما قتل أصحاب اللواء و هزم المشركون الهزيمة الأولى و أغار المسلمون على معسكرهم ينهبونه ثم كر المشركون على المسلمين فأتوهم من خلفهم فتفرق الناس و نادى رسول الله ص في أصحاب الألوية فقتل مصعب بن عمير حامل لوائه ص و أخذ راية الخزرج سعد بن عبادة فقام رسول الله ص تحتها و أصحابه محدقون به و دفع لواء المهاجرين إلى أبي الردم أحد بني عبد الدار آخر نهار ذلك اليوم و نظرت إلى لواء الأوس مع أسيد بن حضير فناوشوا المشركين ساعة و اقتتلوا على اختلاط من الصفوف و نادى المشركون بشعارهم يا للعزى يا لهبل فأوجعوا و الله فينا قتلا ذريعا و نالوا من رسول الله ص ما نالوا لا و الذي بعثه بالحق ما زال شبرا واحدا إنه لفي وجه العدو و تثوب إليه طائفة من أصحابه مرة و تتفرق عنه مرة فربما رأيته قائما يرمي عن قوسه أو يرمي بالحجر حتى تحاجزوا و كانت العصابة التي ثبتت مع رسول الله ص أربعة عشر رجلا سبعة من المهاجرين و سبعة من الأنصار أما المهاجرون فعلي ع و أبو بكر و عبد الرحمن بن عوف و سعد بن أبي وقاص و طلحة بن عبيد الله و أبو عبيدة بن الجراح و الزبير بن العوام شرح نهج البلاغة ج : 15 ص : 20و أما الأنصار فالحباب بن المنذر و أبو دجانة و عاصم بن ثابت بن أبي الأقلح و الحارث بن الصمة و سهل بن حنيف و سعد بن معاذ و أسيد بن حضير. قال الواقدي و قد روي أن سعد بن عبادة و محمد بن ممة ثبتا يومئذ و لم يفرا و
من روى ذلك جعلهما مكان سعد بن معاذ و أسيد بن حضير. قال الواقدي و بايعه يومئذ على الموت ثمانية ثلاثة من المهاجرين و خمسة من الأنصار فأما المهاجرون فعلي ع و طلحة و الزبير و أما الأنصار فأبو دجانة و الحارث بن الصمة و الحباب بن المنذر و عاصم بن ثابت و سهل بن حنيف و لم يقتل منهم ذلك اليوم أحد و أما باقي المسلمين ففروا و رسول الله ص يدعوهم في أخراهم حتى انتهى منهم إلى قريب من المهراس. قال الواقدي و حدثني عتبة بن جبير عن يعقوب بن عمير بن قتادة قال ثبت يومئذ بين يديه ثلاثون رجلا كلهم يقول وجهي دون وجهك و نفسي دون نفسك و عليك السلام غير مودع. قلت قد اختلف في عمر بن الخطاب هل ثبت يومئذ أم لا مع اتفاق الرواة كافة على أن عثمان لم يثبت فالواقدي ذكر أنه لم يثبت و أما محمد بن إسحاق و البلاذري فجعلاه مع من ثبت و لم يفر و اتفقوا كلهم على أن ضرار بن الخطاب الفهري قرع رأسه بالرمح و قال إنها نعمة مشكورة يا ابن الخطاب إني آليت ألا أقتل رجلا من قريش. و روى ذلك محمد بن إسحاق و غيره و لم يختلفوا في ذلك و إنما اختلفوا هل قرعه بالرمح و هو فار هارب أم مقدم ثابت و الذين رووا أنه قرعه بالرمح و هو هارب لم يقل (16/14)
شرح نهج البلاغة ج : 15 ص : 21أحد منهم إنه هرب حين هرب عثمان و لا إلى الجهة التي فر إليها عثمان و إنما هرب معتصما بالجبل و هذا ليس بعيب و لا ذنب لأن الذين ثبتوا مع رسول الله ص اعتصموا بالجبل كلهم و أصعدوا فيه و لكن يبقى الفرق بين من أصعد في الجبل في آخر أمر و من أصعد فيه و الحرب لم تضع أوزارها فإن كان عمر أصعد فيه آخر الأمر فكل المسلمين هكذا صنعوا حتى رسول الله ص و إن كان ذلك و الحرب قائمة بعد تفرق. و لم يختلف الرواة من أهل الحديث في أن أبا بكر لم يفر يومئذ و أنه ثبت فيمن ثبت و إن لم يكن نقل عنه قتل أو قتال و الثبوت جهاد و فيه وحده كفاية. و أما رواة الشيعة فإنهم يروون أنه لم يثبت إلا علي و طلحة و الزبير و أبو دجانة و سهل بن حنيف و عاصم بن ثابت و منهم من روى أنه ثبت معه أربعة عشر رجلا من المهاجرين و الأنصار و لا يعدون أبا بكر و عمر منهم روى كثير من أصحاب الحديث أن عثمان جاء بعد ثالثة إلى رسول الله ص فسأله إلى أين انتهيت فقال إلى الأعرض فقال لقد ذهبت فيها عريضة. روى الواقدي قال كان بين عثمان أيام خلافته و بين عبد الرحمن بن عوف كلام فأرسل عبد الرحمن إلى الوليد بن عقبة فدعاه فقال اذهب إلى أخيك فأبلغه عني ما أقول لك فإني لا أعلم أحدا يبلغه غيرك قال الوليد أفعل قال قل له يقول لك عبد الرحمن شهدت بدرا و لم تشهدها و ثبت يوم أحد و وليت و شهدت بيعة الرضوان و لم تشهدها فلما أخبره قال عثمان صدق أخي تخلفت عن بدر على ابنة رسول الله ص و هي مريضة فضرب لي رسول الله ص بسهمي و أجري فكنت بمنزلة من شرح نهج البلاغة ج : 15 ص : 22حضر بدرا و وليت يوم أحد فعفا الله عني في محكم كتابه و أما بيعة الرضوان فإني خرجت إلي أهل مكة بعثني رسول الله ص و قال إن عثمان في طاعة الله و طاعة رسوله و بايع عني بإحدى يديه على الأخرى فكان شمال النبي خيران يميني فلما جاء الوليد إلى عبد الرحمن بما قال قال صدق أخي. قال (16/15)
الواقدي و نظر عمر إلى عثمان بن عفان فقال هذا ممن عفا الله عنه و هم الذين تولوا يوم التقى الجمعان و الله ما عفا الله عن شي ء فرده قال و سأل رجل عبد الله بن عمر عن عثمان فقال أذنب يوم أحد ذنبا ظيما فعفا الله عنه و أذنب فيكم ذنبا صغيرا فقتلتموه و احتج من روى أن عمر فر يوم أحد بما روى أنه جاءته في أيام خلافته امرأة تطلب بردا من برود كانت بين يديه و جاءت معها بنت لعمر تطلب بردا أيضا فأعطى المرأة و رد ابنته فقيل له في ذلك فقال إن أبا هذه ثبت يوم أحد و أبا هذه فر يوم أحد و لم يثبت. و روى الواقدي أن عمر كان يحدث فيقول لما صاح الشيطان قتل محمد قلت أرقى في الجبل كأني أروية و جعل بعضهم هذا حجة في إثبات فرار عمر و عندي أنه ليس بحجة لأن تمام الخبر فانتهيت إلى رسول الله ص و هو يقول وَ ما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ الآية و أبو سفيان في سفح الجبل في كتيبته يرومون أن يعلوا الجبل فقال رسول الله ص اللهم إنه ليس لهم أن يعلونا فانكشفوا و هذا يدل على أن رقيه في الجبل قد كان بعد إصعاد رسول الله ص فيه و هذا بأن يكون منقبة له أشبه. و روى الواقدي قال حدثني ابن أبي سبرة عن أبي بكر بن عبد الله بن أبي جهم اسم أبي جهم عبيد قال كان خالد بن الوليد يحدث و هو بالشام فيقول الحمد لله (16/16)
شرح نهج البلاغة ج : 15 ص : 23الذي هداني للإسلام لقد رأيتني و رأيت عمر بن الخطاب حين جال المسلمون و انهزموا يوم أحد و ما معه أحد و إني لفي كتيبة خشناء فما عرفه منهم أحد غيري و خشيت إن أغريت به من معي أن يصمدوا له فنظرت إليه و هو متوجه إلى الشعب قلت يجوز يكون هذا حقا و لا خلاف أنه توجه إلى الشعب تاركا للحرب لكن يجوز أن يكون ذلك في آخر الأمر لما يئس المسلمون من النصرة فكلهم توجه نحو الشعب حينئذ و أيضا فإن خالدا متهم في حق عمر بن الخطاب لما كان بينه و بينه من الشحناء و الشنئان فليس بمنكر من خالد أن ينعى عليه حركاته و يؤكد صحة هذا الخبر و كون خالد عف عن قتل عمر يومئذ ما هو معلوم من حال النسب بينهما من قبل الأم فإن أم عمر حنتمة بنت هاشم بن المغيرة و خالد هو ابن الوليد بن المغيرة فأم عمر ابنة عم خالد لحا و الرحم تعطف. حضرت عند محمد بن معد العلوي الموسوي الفقيه على رأى الشيعة الإمامية رحمه الله في داره بدرب الدواب ببغداد في سنة ثمان و ستمائة و قارئ يقرأ عنده مغازي الواقدي فقرأ حدثنا الواقدي قال حدثني ابن أبي سبرة عن خالد بن رياح عن أبي سفيان مولى ابن أبي أحمد قال سمعت محمد بن مسلمة يقول سمعت أذناي و أبصرت عيناي رسول الله ص يقول يوم أحد و قد انكشف الناس إلى الجبل و هو يدعوهم و هم لا يلوون عليه سمعته يقول إلي يا فلان إلي يا فلان أنا رسول الله فما عرج عليه واحد منهما و مضيا فأشار ابن معد إلي أن اسمع فقلت و ما في هذا قال هذه كناية عنهما فقلت و يجوز ألا يكون عنهما لعله عن غيرهما قال ليس في الصحابة من شرح نهج البلاغة ج : 15 ص : 24يحتشم و يستحيا من ذكره بالفرار و ما شابهه من العيب فيضطر القائل إلى الكناية إلا هما قلت له هذا وهم فقال دعنا من جدلك و منعك ثم حلف أنه ما عنى الواقدي غيرهما و أنه لو كان غيرهما لذكره صريحا و ب في وجهه التنكر من مخالفتي له. روى الواقدي قال لما صاح إبليس أن (16/17)
محمدا قد قتل تفرق الناس فمنهم من ورد المدينة فكان أول من وردها يخبر أن محمدا قد قتل سعد بن عثمان أبو عبادة ثم ورد بعده رجال حتى دخلوا على نسائهم حتى جعل النساء يقلن أ عن رسول الله تفرون و يقول لهم ابن أم مكتوم أ عن رسول الله تفرون يؤنب بهم و قد كان رسول الله ص خلفه بالمدينة يصلي بالناس ثم قال دلوني على الطريق يعني طريق أحد فدلوه فجعل يستخبر كل من لقي في الطريق حتى لحق القوم فعلم بسلامة النبي ص ثم رجع و كان ممن ولى عمر و عثمان و الحارث بن حاطب و ثعلبة بن حاطب و سواد بن غزية و سعد بن عثمان و عقبة بن عثمان و خارجة بن عمر بلغ ملل و أوس بن قيظى في نفر من بني حارثة بلغوا الشقرة و لقيتهم أم أيمن تحثي في وجوههم التراب و تقول لبعضهم هاك المغزل فاغزل به و هلم و احتج من قال بفرار عمر بما رواه الواقدي في كتاب المغازي في قصة الحديبية قال قال عمر يومئذ يا رسول الله أ لم تكن حدثتنا أنك ستدخل المسجد الحرام و تأخذ مفتاح الكعبة و تعرف مع المعرفين و هدينا لم يصل إلى البيت و لا نحر فقال رسول الله ص أ قلت لكم في سفركم هذا قال عمر لا قال أما إنكم ستدخلونه و آخذ مفتاح الكعبة و أحلق رأسي و رءوسكم ببطن مكة و أعرف مع المعرفين ثم أقبل على عمر و قال أ نسيتم يوم شرح نهج البلاغة ج : 15 ص : 25أحد إِذْ تُصْعِدُونَ وَ لا تَلْوُونَ عَلى أَحَدٍ و أنا أدعوكم في أخراكم أ نسيتم يوم الأحزاب إِذْ جاؤُكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَ مِنْ أَسْفَ مِنْكُمْ وَ إِذْ زاغَتِ الْأَبْصارُ وَ بَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَناجِرَ أ نسيتم يوم كذا و جعل يذكرهم أمورا أ نسيتم يوم كذا فقال المسلمون صدق الله و صدق رسوله أنت يا رسول الله أعلم بالله منا فلما دخل عام القضية و حلق رأسه قال هذا الذي كنت وعدتكم به فلما كان يوم الفتح و أخذ مفتاح الكعبة قال ادعوا إلي عمر بن الخطاب فجاء فقال هذا الذي كنت قلت لكم قالوا فلو لم يكن فر يوم أحد لما قال له (16/18)
أ نسيتم يوم أحد إذ تصعدون و لا تلوون (16/19)
القول فيما جرى للمسلمين بعد إصعادهم في الجبل
قال الواقدي حدثني موسى بن محمد بن إبراهيم عن أبيه قال لما صاح الشيطان لعنه الله أن محمدا قد قتل يحزنهم بذلك تفرقوا في كل وجه و جعل الناس يمرون على النبي ص لا يلوي عليه أحد منهم و رسول الله يدعوهم في أخراهم حتى انتهت هزيمة قوم منهم إلى المهراس فتوجه رسول الله ص يريد أصحابه في الشعب فانتهى إلى الشعب و أصحابه في الجبل أوزاع يذكرون مقتل من قتل منهم و يذكرون ما جاءهم عن رسول الله ص قال كعب بن مالك فكنت أول من عرفه و عليه المغفر فجعلت أصيح و أنا في الشعب هذا رسول الله ص حي فجعل يومئ إلي بيده على فيه أي اسكت ثم دعا بلأمتي فلبسها و نزع لأمته. قال الواقدي طلع رسول الله ص على أصحابه في الشعب بين السعدين شرح نهج البلاغة ج : 15 ص : 26سعد بن عبادة و سعد بن معاذ يتكفأ في الدرع و كان إذا مشى تكفأ تكفؤا و يقال إنه كان يتوكأ على طلحة بن عبيد الله. قال الواقدي و ما صلى يومئالظهر إلا جالسا للجرح الذي كان أصابه. قال الواقدي و قد كان طلحة قال له إن بي قوة فقم لأحملك فحمله حتى انتهى إلى الصخرة التي على فم شعب الجبل فلم يزل يحمله حتى رفعه عليها ثم مضى إلى أصحابه و معه النفر الذين ثبتوا معه فلما نظر المسلمون إليهم ظنوهم قريشا فجعلوا يولون في الشعب هاربين منهم ثم جعل أبو دجانة يليح إليهم بعمامة حمراء على رأسه فعرفوه فرجعوا أو بعضهم. قال الواقدي روي أنه لما طلع عليهم في النفر الذين ثبتوا معه و هم أربعة عشر سبعة من المهاجرين و سبعة من الأنصار جعلوا يولون في الجبل خائفين منهم يظنونهم المشركين جعل رسول الله ص يتبسم إلى أبي بكر و هو على جنبه و يقول له ألح إليهم فجعل أبو بكر يليح إليهم و هم لا يعرجون حتى نزع أبو دجانة عصابة حمراء على رأسه فأوفى على الجبل فجعل يصيح و يليح فوقفوا حتى عرفوهم و لقد وضع أبو بردة بن نيار سهما
على كبد قوسه فأراد أن يرمي به رسول الله ص و أصحابه فلما تكلموا و ناداهم رسول الله ص أمسك و فرح المسلمون برؤيته حتى كأنهم لم تصبهم في أنفسهم مصيبة و سروا لسلامته و سلامتهم من المشركين. قال الواقدي ثم إن قوما من قريش صعدوا الجبل فعلوا على المسلمين و هم في الشعب قال فكان رافع بن خديج يحدث فيقول إني يومئذ إلى جنب أبي مسعود الأنصاري و هو يذكر من قتل من قومه و يسأل عنهم فيخبر برجال منهم سعد بن (16/20)
شرح نهج البلاغة ج : 15 ص : 27الربيع و خارجة بن زهير و هو يسترجع و يترحم عليهم و بعض المسلمين يسأل بعضا عن حميمه و ذي رحمه فيهم يخبر بعضهم بعضا فبينا هم على ذلك رد الله المشركين ليذهب ذلك الحزن عنهم فإذا عدوهم فوقهم قد علوا و إذا كتائب المشركين بالجبل فنا ما كانوا يذكرون و ندبنا رسول الله ص و حضنا على القتال و الله لكأني أنظر إلى فلان و فلان في عرض الجبل يعدوان هاربين قال الواقدي فكان عمر يحدث يقول لما صاح الشيطان قتل محمد أقبلت أرقى إلى الجبل فكأني أروية فانتهيت إلى النبي ص و هو يقول وَ ما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ الآية و أبو سفيان في سفح الجبل فقال رسول الله ص يدعو ربه اللهم ليس لهم أن يعلوا فانكشفوا. قال الواقدي فكان أبو أسيد الساعدي يحدث فيقول لقد رأيتنا قبل أن يلقى النعاس علينا في الشعب و إنا لسلم لمن أرادنا لما بنا من الحزن فألقي علينا النعاس فنمنا حتى تناطح الحجف ثم فزعنا و كانا لم يصبنا قبل ذلك نكبة قال و قال الزبير بن العوام غشينا النعاس فما منا رجل إلا و ذقنه في صدره من النوم فأسمع معتب بن قشير و كان من المنافقين يقول و إني لكالحالم لَوْ كانَ لَنا مِنَ الْأَمْرِ شَيْ ءٌ ما قُتِلْنا هاهُنا فأنزل الله تعالى فيه ذلك. قال و قال أبو اليسر لقد رأيتني ذلك اليوم في رجال من قومي إلى جنب رسول الله ص و قد أنزل الله علينا النعاس أمنة منه ما منهم رجل إلا
يغط غطيطا حتى إن الحجف لتناطح و لقد رأيت سيف بشر بن البراء بن معرور سقطمن يده شرح نهج البلاغة ج : 15 ص : 28و ما يشعر به حتى أخذه بعد ما تثلم و إن المشركين لتحتنا و سقط سيف أبي طلحة أيضا و لم يصب أهل الشك و النفاق نعاس يومئذ و إنما أصاب النعاس أهل الإيمان و اليقين فكان المنافقون يتكلم كل منهم بما في نفسه و المؤمنون ناعسون. ق سألت ابن النجار المحدث عن هذا الموضع فقلت له من قصة أحد تدل على أن المسلمين كانت الدولة لهم بادئ الحال ثم صارت عليهم و صاح الشيطان قتل محمد فانهزم أكثرهم ثم ثاب أكثر المنهزمين إلى النبي ص فحاربوا دونه حربا كثيرة طالت مدتها حتى صار آخر النهار ثم أصعدوا في الجبل معتصمين به و أصعد رسول الله ص معهم فتحاجز الفريقان حينئذ و هذا هو الذي يدل عليه تأمل قصة أحد إلا أن بعض الروايات التي ذكرها الواقدي يقتضي غير ذلك نحو روايته في هذا الباب أن رسول الله ص لما صاح الشيطان إن محمدا قد قتل كان ينادي المسلمين فلا يعرجون عليه و إنما يصعدون في الجبل و إنه وجه نحو الجبل فانتهى إليهم و هم أوزاع يتذاكرون بقتل من قتل منهم و هذه الرواية تدل على أنه أصعد ص في الجبل من أول الحرب حيث صاح الشيطان و صياح الشيطان كان حال كون خالد بن الوليد بالجبل من وراء المسلمين لما غشيهم و هم مشتغلون بالنهب و اختلط الناس فكيف هذا فقال إن الشيطان صاح قتل محمد دفعتين دفعة في أول الحرب و دفعة في آخر الحرب لما تصرم النهار و غشيت الكتائب رسول الله ص و قد قتل ناصروه و أكلتهم الحرب فلم يبق معه إلا نفر يسير لا يبلغون عشرة و هذه كانت أصعب و أشد من الأولى و فيها اعتصم و ما اعتصم في صرخة الشيطان الأولى بالجبل بل ثبت و حامى عنه أصحابه و لقد لقي في الأولى مشقة عظيمة من ابن قميئة و عتبة بن أبي وقاص و غيرهما (16/21)
شرح نهج البلاغة ج : 15 ص : 29و لكنه لم يفارق عرصة الحرب و إنما فارقها و علم أنه لم يبق له وجه مقام في صرخته الثانية. قلت له فكان القوم مختلطين في الصرخة الثانية حتى يصرخ الشيطان قتل محمد قال نعم المشركون قد أحاطوا بالنبي ص و بمن بقي معه من أصحابه فاختلطلمسلمون بهم و صاروا مغمورين بينهم لقلتهم بالنسبة إليهم و ظن قوم من المشركين أنهم قد قتلوا النبي ص لأنهم فقدوا وجهه و صورته فنادى الشيطان قتل محمد و لم يكن قتل ص و لكن اشتبهت صورته عليهم و ظنوه غيره و أكثر من حامى عنه في تلك الحال علي ع و أبو دجانة و سهل بن حنيف و حامى هو عن نفسه و جرح قوما بيده تارة بالسهام و تارة بالسيف و لكن لم يعلموا بأعيانهم لاختلاط القوم و ثوران النقع و كانت قريش تظنه واحدا من المسلمين و لو عرفوه بعينه في تلك الثورة لكان الأمر صعبا جدا و لكن الله تعالى عصمه منهم بأن أزاغ أبصارهم عنه فلم يزل هؤلاء الثلاثة يجالدون دونه و هو يقرب من الجبل حتى صار في أعلى الجبل أصعد من فم الشعب إلى تدريج هناك في الجبل و رقي في ذلك التدريج صاعدا حتى صار في أعلى الجبل و تبعه النفر الثلاثة فلحقوا به. قلت له فما بال القوم الذين صعدوا الجبل من المشركين و كيف كان إصعادهم و عودهم. قال أصعدوا لحرب المسلمين لا لطلب رسول الله ص لأنهم ظنوا أنه قد قتل و هذا هو كان السبب في عودهم من الجبل لأنهم قالوا قد بلغنا الغرض شرح نهج البلاغة ج : 15 ص : 30الأصلي و قتلنا محمدا فما لنا و التصميم على الأوس و الخزرج و غيرهم من أصحابه ما في ذلك من عظم الخطر بالأنفس قلت له فإذا كان هذا قد خطر لهم فلما ذا صعدوا في الجبل. قال يخطر لك خاطر و يدعوك داع إلى بعض الحركات فإذا شرعت فيها خطر لك خاطر آخر يصرفك عنها فترجع و لا تتمها قلت نعم فما بالهم لم يقصدوا قصد المدينة و ينهبوها. قال كان فيها عبد الله بن أبي في ثلاثمائة مقاتل و فيها خلق كثير من الأوس و الخزرج (16/22)
لم يحضروا الحرب و هم مسلمون و طوائف أخر من المنافقين لم يخرجوا و طوائف أخرى من اليهود أولو بأس و قوة و لهم بالمدينة عيال و أهل و نساء و كل هؤلاء كانوا يحامون عن المدينة و لم تكن قريش تأمن مع ذلك أن يأتيها رسول الله ص من ورائها بمن يجامعه من أصحابه فيحصلوا بين الأعداء من خلفهم و من أمامهم فكان الرأي الأصوب لهم العدول عن المدينة و ترك قصدها. قال الواقدي حدثني الضحاك بن عثمان عن حمزة بن سعيد قال لما تحاجزوا و أراد أبو سفيان الانصراف أقبل يسير على فرس له حوراء فوقف على أصحاب النبي ص و هم في عرض الجبل فنادى بأعلى صوته أعل هبل ثم صاح أين ابن أبي كبشة يوم بيوم بدر ألا إن الأيام دول. و في رواية أنه نادى أبا بكر و عمر أيضا فقال أين ابن أبي قحافة أين ابن الخطاب ثم قال الحرب سجال حنظلة بحنظلة يعنى حنظلة بن أبي عامر بحنظلة بن (16/23)
شرح نهج البلاغة ج : 15 ص : 31أبي سفيان فقال عمر بن الخطاب يا رسول الله أجيبه قال نعم فأجبه فلما قال أعل هبل قال عمر الله أعلى و أجل. و يروى أن رسول الله ص قال لعمر قل له الله أعلى و أجل فقال أبو سفيان إن لنا العزى و لا عزى لكم فقال عمر أو قال رسول الله قل له الله مولانا و لا مولى لكم فقال أبو سفيان إنها قد أنعمت فقال عنها يا ابن الخطاب فقال سعيد بن أبي سفيان ألا إن الأيام دول و إن الحرب سجال فقال عمر و لا سواء قتلانا في الجنة و قتلاكم في النار فقال أبو سفيان إنكم لتقولون ذلك لقد جبنا إذا و خسرنا ثم قال يا ابن الخطاب قم إلي أكلمك فقام إليه فقال أنشدك بدينك هل قتلنا محمدا قال اللهم لا و إنه ليسمع كلامك الآن قال أنت عندي أصدق من ابن قميئة ثم صاح أبو سفيان و رفع صوته إنكم واجدون في قتلاكم عنتا و مثلا إلا أن ذلك لم يكن عن رأي سراتنا ثم أدركته حمية الجاهلية فقال و أما إذ كان ذلك فلم نكرهه ثم نادى ألا إن موعدكم بدر الصفراء على رأس الحول فوقف عمر وقفة ينتظر ما يقول رسول الله ص فقال له قل نعم فانصرف أبو سفيان إلى أصحابه و أخذوا في الرحيل فأشفق رسول الله ص و المسلمون من أن يغيروا على المدينة فيهلك الذراري و النساء فقال رسول الله ص لسعد بن أبي وقاص اذهب فأتنا بخبر القوم فإنهم إن ركبوا الإبل و جنبوا الخيل فهو الظعن إلى مكة و إن ركبوا الخيل و جنبوا الإبل فهو الغارة على المدينة و الذي نفسي بيده إن ساروا إليها لأسيرن إليهم ثم لأناجزنهم قال سعد فتوجهت أسعى و أرصدت نفسي إن أفرعني شي ء رجعت إلى النبي ص و أنا أسعى فبدأت بالسعي حين ابتدأت فخرجت في آثارهم شرح نهج البلاغة ج : 15 ص : 32حتى إذا كانوا بالعقيق و أنا بحيث أراهم و أتأملهم ركبوا الإبل و جنبوا الخيل فقلت إنه الظعن إلى بلادهم ثم وقفوا وقفة بالعقيق و تشاوروا في دخول المة فقال لهم صفوان بن أمية قد أصبتم القوم فانصرفوا و لا تدخلوا عليهم و (16/24)
أنتم كالون و لكم الظفر فإنكم لا تدرون ما يغشاكم فقد وليتم يوم بدر لا و الله ما تبعوكم و كان الظفر لهم فيقال إن رسول الله ص قال نهاهم صفوان فلما رآهم سعد على تلك الحال منطلقين و قد دخلوا في المكمن رجع إلى رسول الله ص و هو كالمنكسر فقال وجه القوم يا رسول الله إلى مكة امتطوا الإبل و جنبوا الخيل فقال ما تقول قلت ما قلت يا رسول الله فخلا بي فقال أ حقا ما تقول قلت نعم يا رسول الله قال فما بالي رأيتك منكسرا فقلت كرهت أن آتي المسلمين فرحا بقفولهم إلى بلادهم فقال ص إن سعدا لمجرب. قال الواقدي و قد روي خلاف هذا روي أن سعدا لما رجع رفع صوته بأن جنبوا الخيل و امتطوا الإبل فجعل رسول الله ص يشير إلى سعد خفض صوتك فإن الحرب خدعة فلا ترى الناس مثل هذا الفرح بانصرافهم فإنما ردهم الله تعالى. (16/25)
قال الواقدي و حدثني ابن أبي سبرة عن يحيى بن شبل عن أبي جعفر قال قال رسول الله ص لسعد بن أبي وقاص إن رأيت القوم يريدون المدينة فأخبرني فيما بيني و بينك و لا تفت في أعضاد المسلمين فذهب فرآهم قد امتطوا الإبل فرجع فما ملك أن جعل يصيح سرورا بانصرافهم
قال الواقدي و قيل لعمرو بن العاص كيف كان افتراق المسلمين و المشركين يوم شرح نهج البلاغة ج : 15 ص : 33أحد فقال ما تريدون إلى ذلك قد جاء الله بالإسلام و نفي الكفر و أهله ثم قال لما كررنا عليهم أصبنا من أصبنا منهم و تفرقوا في كل وجه و فاءت لهم فئة بعد فتشاو قريش فقالوا لنا الغلبة فلو انصرفنا فإنه بلغنا أن ابن أبي انصرف بثلث الناس و قد تخلف الناس من الأوس و الخزرج و لا نأمن أن يكروا علينا و فينا جراح و خيلنا عامتها قد عقرت من النبل فمضينا فما بلغنا الروحاء حتى قام علينا عدة منها و انصرفنا إلى مكة. قال الواقدي حدثني إسحاق بن يحيى بن طلحة عن عائشة قال سمعت أبا بكر يقول لما كان يوم أحد و رمي رسول الله ص في وجهه حتى دخلت في وجهه حلقتان من المغفر أقبلت أسعى إلى رسول الله ص و إنسان قد أقبل من قبل المشرق يطير طيرانا فقلت اللهم اجعله طلحة بن عبيد الله حتى توافينا إلى رسول الله ص فإذا أبو عبيدة بن الجراح فبدرني فقال أسألك بالله يا أبا بكر إلا تركتني فأنتزعه من وجه رسول الله ص قال أبو بكر فتركته و قال رسول الله ص عليكم صاحبكم يعني طلحة فأخذ أبو عبيدة بثنيته حلقة المغفر فنزعها و سقط على ظهره و سقطت ثنية أبي عبيدة ثم أخذ الحلقة بثنيته الأخرى فكان أبو عبيدة في الناس أثرم و يقال إن الذي نزع الحلقتين من وجه رسول الله ص عقبة بن وهب بن كلدة و يقال أبو اليسر. قال الواقدي و أثبت ذلك عندنا عقبة بن وهب بن كلدة. قال الواقدي و كان أبو سعيد الخدري يحدث أن رسول الله ص شرح نهج البلاغة : 15 ص : 34أصيب وجهه يوم أحد فدخلت الحلقتان من المغفر في وجنتيه فلما نزعتا جعل الدم يسرب كما يسرب الشن فجعل مالك بن سنان يمج الدم بفيه ثم ازدرده (16/26)
فقال رسول الله ص من أحب أن ينظر إلى من خالط دمه بدمي فلينظر إلى مالك بن سنان
فقيل لمالك تشرب الدم فقال نعم أشرب دم رسول الله ص
فقال رسول الله ص من مس دمه دمي لم تصبه النار
قال الواقدي و قال أبو سعيد كنا ممن رد من الشيخين لم نجئ مع المقاتلة فلما كان من النهار بلغنا مصاب رسول الله ص و تفرق الناس عنه جئت مع غلمان بني خدرة نعرض لرسول الله ص ننظر إلى سلامته فنرجع بذلك إلى أهلنا فلقينا الناس متفرقين ببطن قناة فلم يكن لنا همة إلا النبي ص ننظر إليه فلما رآني قال سعد بن مالك قلت نعم بأبي أنت و أمي و دنوت منه فقبلت ركبته و هو على فرسه فقال آجرك الله في أبيك ثم نظرت إلى وجهه فإذا في وجنتيه مثل موضع الدرهم في كل وجنة و إذا شجة في جبهته عند أصول الشعر و إذا شفته السفلى تدمى و إذا في رباعيته اليمنى شظية و إذا على جرحه شي ء أسود فسألت ما هذا على وجهه فقالوا حصير محرق و سألت من أدمى وجنتيه فقيل ابن قميئة فقلت فمن شجه في وجهه فقيل ابن شهاب فقلت من أصاب شفتيه قيل عتبة بن أبي وقاص فجعلت أعدو بين يديه حتى نزل ببابه ما نزل إلا محمولا و أرى ركبتيهمجحوشتين يتكئ على السعدين سعد بن معاذ و سعد بن عبادة حتى دخل بيته فلما غربت الشمس و أذن بلال بالصلاة خرج على تلك الحال شرح نهج البلاغة ج : 15 ص : 35يتوكأ على السعدين سعد بن عبادة و سعد بن معاذ ثم انصرف إلى بيته و الناس في المسجد يوقدون النيران يتمكدون بهمن الجراح ثم أذن بلال بالعشاء حين غاب الشفق فلم يخرج رسول الله ص فجلس بلال عند بابه ص حتى ذهب ثلث الليل ثم ناداه الصلاة يا رسول الله فخرج و قد كان نائما قال فرمقته فإذا هو أخف في مشيته منه حين دخل بيته فصليت معه العشاء ثم رجع إلى بيته قد صفف له الرجال ما بين بيته إلى مصلاه يمشي وحده حتى دخل و رجعت إلى أهلي فخبرتهم بسلامته فحمدوا الله و ناموا و كانت وجوه الأوس و الخزرج في المسجد على النبي ص يحرسونه فرقا من قريش أن تكر. قال الواقدي و خرجت فاطمة ع في نساء و قد رأت الذي بوجه أبيها ص فاعتنقته و جعلت تمسح الدم عن وجهه و (16/27)
رسول الله ص يقول اشتد غضب الله على قوم دموا وجه رسوله
و ذهب علي ع فأتى بماء من المهراس و قال لفاطمة أمسكي هذا السيف غير ذميم فنظر إليه رسول الله ص مختضبا بالدم فقال لئن كنت أحسنت القتال اليوم فلقد أحسن عاصم بن ثابت و الحارث بن الصمة و سهل بن حنيف و سيف أبي دجانة غير مذموم هكذا روى الواقدي. و (16/28)
روى محمد بن إسحاق أن عليا ع قال لفاطمة بيتي شعر و هما
أ فاطم هاء السيف غير ذميم فلست برعد يد و لا بلئيم لعمري لقد جاهدت في نصر أحمد و طاعة رب بالعباد رحيمفقال رسول الله ص لئن كنت صدقت القتال اليوم لقد صدق معك سماك بن خرشة و سهل بن حنيف
شرح نهج البلاغة ج : 15 ص : 36قال الواقدي فلما أحضر علي ع الماء أراد رسول الله ص أن يشرب منه فلم يستطع و قد كان عطشا و وجد ريحا من الماء كرهها فقال هذا ماء آجن فتمضمض منه للدم الذي كان بفيه ثم مجه و غسلت فاطمة به الدم عن أبيها ص فخرج محمد بن مسلمة يطب معلنساء و كن أربع عشرة امرأة قد جئن من المدينة يتلقين الناس منهن فاطمة ع يحملن الطعام و الشراب على ظهورهن و يسقين الجرحى و يداوينهم. قال الواقدي قال كعب بن مالك رأيت عائشة و أم سليم على ظهورهما القرب تحملانها يوم أحد و كانت حمنة بنت جحش تسقي العطشى و تداوي الجرحى فلم يجد محمد بن مسلمة عندهن ماء و رسول الله ص قد اشتد عطشه فذهب محمد بن مسلمة إلى قناة و معه سقاؤه حتى استقى من حسى قناة عند قصور التميميين اليوم فجاء بماء عذب فشرب منه رسول الله ص و دعا له بخير و جعل الدم لا ينقطع من وجهه ع و هو يقول لن ينالوا منا مثلها حتى نستلم الركن فلما رأت فاطمة الدم لا يرقأ و هي تغسل جراحه و علي يصب الماء عليها بالمجن أخذت قطعة حصير فأحرقته حتى صار رمادا ثم ألصقته بالجرح فاستمسك الدم و يقال إنها داوته بصوفة محرقة و كان رسول الله ص بعد يداوي الجراح الذي في وجهه بعظم بال حتى ذهب أثره و لقد مكث يجد وهن ضربة ابن قميئة على عاتقه شهرا أو أكثر من شهر و يداوي الأثر الذي في وجهه بعظم. قال الواقدي و قال رسول الله ص قبل أن ينصرف إلى المدينة من يأتينا بخبر سعد بن الربيع فإني رأيته و أشار بيده إلى ناحية من الوادي قد شرع فيه اثنا عشر سنانا فخرج محمد بن مسلمة و يقال أبي بن كعب نحو تلك الناحية قال فأنا وسط القتلى لتعرفهم إذ مررت به صريعا في الوادي فناديته فلم يجب ثم قلت إن رسول الله ص أرسلني إليك قال فتنفس كما يتنفس الطير ثم قال شرح نهج البلاغة ج : 15 ص : 37و إن رسول الله ص لحي قلت نعم و قد أخنا أنه شرع لك اثنا عشر سنانا فقال طعنت اثنتي عشرة طعنة كلها أجافتني (16/29)
أبلغ قومك الأنصار السلام و قل لهم الله الله و ما عاهدتم عليه رسول الله ص ليلة العقبة و الله ما لكم عذر عند الله إن خلص إلى نبيكم و منكم عين تطرف فلم أرم من عنده حتى مات فرجعت إلى النبي ص فأخبرته فرأيته استقبل القبلة رافعا يديه يقول اللهم الق سعد بن الربيع و أنت عنه راض. قال الواقدي و خرجت السمداء بنت قيس إحدى نساء بني دينار و قد أصيب ابناها مع النبي ص بأحد النعمان بن عبد عمر و سليم بن الحارث فلما نعيا لها قالت فما فعل رسول الله ص قالوا بخير هو بحمد الله صالح على ما تحبين فقالت أرونيه أنظر إليه فأشاروا لها إليه فقالت كل مصيبة بعدك يا رسول الله جلل و خرجت تسوق بابنيها بعيرا تردهما إلى المدينة فلقيتها عائشة فقالت ما وراءك فأخبرتها قالت فمن هؤلاء معك قالت ابناي حل حل تحملهما إلى القبر. قال الواقدي و كان حمزة بن عبد المطلب أول من جي ء به إلى النبي ص بعد انصراف قريش أو كان من أولهم فصلى عليه رسول الله ص ثم قال رأيت الملائكة تغسله قالوا لأن حمزة كان جنبا ذلك اليوم و لم يغسل رسول الله ص الشهداء يومئذ و قال لفوهم بدمائهم و جراحهم فإنه ليس أحد يجرح فيسبيل الله إلا جاء يوم القيامة لون جرحه لون الدم و ريحه ريح المسك ثم (16/30)
شرح نهج البلاغة ج : 15 ص : 38قال ضعوهم فأنا الشهيد على هؤلاء يوم القيامة و كان حمزة أول من كبر عليه أربعا ثم جمع إليه الشهداء فكان كلما أتي بشهيد وضع إلى جنب حمزة فصلى عليه و على الشهيد حتى صلى عليه سبعين مرة لأن الشهداء سبعون. قال الواقدي و يقال كان يؤ بتسعة و حمزة عاشرهم فيصلي عليهم و ترفع التسعة و يترك حمزة مكانه و يؤتى بتسعة آخرين فيوضعون إلى جنب حمزة فيصلي عليه و عليهم حتى فعل ذلك سبع مرات و يقال إنه كبر عليه خمسا و سبعا و تسعا. قال الواقدي و قد اختلفت الرواية في هذا و كان طلحة بن عبيد الله و ابن عباس و جابر بن عبد الله يقولون صلى رسول الله ص على قتلى أحد و قال أنا شهيد على هؤلاء فقال أبو بكر أ لسنا إخوانهم أسلمنا كما أسلموا و جاهدنا كما جاهدوا قال بلى و لكن هؤلاء لم يأكلوا من أجورهم شيئا و لا أدري ما تحدثون بعدي فبكى أبو بكر و قال إنا لكائنون بعدك. و قال أنس بن مالك و سعيد بن المسيب لم يصل رسول الله ص على قتلى أحد. قال الواقدي و قال لأهل القتلى احفروا و أوسعوا و أحسنوا و ادفنوا الاثنين و الثلاثة في القبر و قدموا أكثرهم قرآنا و أمر بحمزة أن تمد بردته عليه و هو في القبر و كانت قصيرة فكانوا إذا خمروا بها رأسه بدت رجلاه و إذا خمروا بها رجليه انكشف وجهه فبكى المسلمون يومئذ فقالوا يا رسول الله عم رسول الله يقتل فلا يوجد له ثوب فقال بلى إنكم بأرض جردية ذات أحجار و ستفتح يعني الأرياف و الأمصار فيخرج الناس إليها ثم يبعثون إلى أهليهم و المدينة خير لهم لو كانوا يعلمون شرح نهج البلاغة ج : 15 ص : 39و الذي نفسي بيده لا تصبر نفس على لأوائها و شدتها إلا كنت لها شفيعا أو قال شهيدا يوم القيامة. قال الواقدي و أتى عبد الرحمن بن عوف في خلافة عثمان بثياب و طعام فقال و لكن حمزة لم يوجد له كفن و مصعب بن عمير لم يوجد له كفن كانا خيرا مني. قال الواقدي و مر رسول الله ص بمصعب بن عمير و هو (16/31)
مقتول مسجى ببردة خلق فقال لقد رأيتك بمكة و ما بها أحد أرق حلة و لا أحسن لمة منك ثم أنت اليوم أشعث الرأس في هذه البردة ثم أمر به فقبر و نزل في قبره أخوه أبو الروم و عامر بن ربيعة و سويبطة بن عمرو بن حرملة و نزل في قبر حمزة علي ع و الزبير و أبو بكر و عمر و رسول الله ص جالس على حفرته. قال الواقدي ثم إن الناس أو عامتهم حملوا قتلاهم إلى المدينة فدفن بالبقيع منهم عدة عند دار زيد بن ثابت و دفن بعضهم ببني سلمة فنادى منادي رسول الله ص ردوا القتلى إلى مضاجعهم و كان الناس قد دفنوا قتلاهم فلم يرد أحد أحدا منهم إلا رجلا واحدا أدركه المنادي و لم يدفن و هو شماس بن عثمان المخزومي كان قد حمل إلى المدينة و به رمق فأدخل على عائشة فقالت أم سلمة ابن عمي يدخل إلى غيري فقال رسول الله ص احملوه إلى أم سلمة فحملوه إليها فمات عندها فأمر رسول الله ص أن يرد إلى أحد فيدفن هناك كما هو في ثيابه التي مات فيها و كان قد مكث يوما و ليلة و لم يذق شيئا فلم يصل عليه رسول الله ص و لا غسله. قال الواقدي فأما القبور المجتمعة هناك فكثير من الناس يظنها قبور قتلى أحد و كان طلحة بن عبيد الله و عباد بن تميم المازني يقولان هي قبور قوم من الأعراب كانوا (16/32)
شرح نهج البلاغة ج : 15 ص : 40عام الرمادة في عهد عمر هناك فماتوا فتلك قبورهم و كان ابن أبي ذئب و عبد العزيز بن محمد يقولان لا نعرف تلك القبور المجتمعة إنما هي قبور ناس من أهل البادية قالوا إنا نعرف قبر حمزة و قبر عبد الله بن حزام و قبر سهل بن قيس و لا نع غير ذلك. قال الواقدي و كان رسول الله ص يزور قتلى أحد في كل حول و إذا لقوه بالشعب رفع صوته يقول السلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار و كان أبو بكر يفعل مثل ذلك و كذلك عمر بن الخطاب ثم عثمان ثم معاوية حين يمر حاجا و معتمرا. قال و كانت فاطمة بنت رسول الله ص تأتيهم بين اليومين و الثلاثة فتبكي عندهم و تدعو و كان سعد بن أبي وقاص يذهب إلى ما له بالغابة فيأتي من خلف قبور الشهداء فيقول السلام عليكم ثلاثا و يقول لا يسلم عليهم أحد إلا ردوا عليه السلام إلى يوم القيامة قال و مر رسول الله ص على قبر مصعب بن عمير فوقف عليه و دعا و قرأ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضى نَحْبَهُ وَ مِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَ ما بَدَّلُوا تَبْدِيلًا ثم قال إن هؤلاء شهداء عند الله يوم القيامة فأتوهم فزوروهم و سلموا عليهم و الذي نفسي بيده لا يسلم عليهم أحد إلى يوم القيامة إلا ردوا عليه و كان أبو سعيد الخدري يقف على قبر حمزة فيدعو و يقرأ و يقول مثل ذلك و كانت أم سلمة رحمها الله تذهب فتسلم عليهم في كل شهر فتظل يومها فجاءت يوما و معها غلامها أنبهان فلم يسلم فقالت أي لكع أ لا تسلم عليهم و الله لا يسلم عليهم أحد إلا ردوا عليه إلى يوم القيامة. قال و كان أبو هريرة و عبد الله بن عمر يذهبان فيسلمان عليهم قالت فاطمة شرح نهج البلاغة ج : 15 ص : 41الخزاعية سلمت على قبر حمزة يوما و معي أخت لي فسمعنا من القبر قائلا يقول و عليكما السلام و رحمه الله قالت و يكن قربنا أحد من الناس (16/33)
قال الواقدي فلما فرغ رسول الله ص من دفنهم دعا بفرسه فركبه و خرج المسلمون حوله عامتهم جرحى و لا مثل بني سلمة و بني عبد الأشهل فلما كانوا بأصل الحرة قال اصطفوا فاصطفت الرجال صفين و خلفهم النساء و عدتهن أربع عشرة امرأة فرفع يديه فدعا فقال اللهم لك الحمد كله اللهم لا قابض لما بسطت و لا مانع لما أعطيت و لا معطي لما منعت و لا هادي لمن أضللت و لا مضل لمن هديت و لا مقرب لما باعدت و لا مباعد لما قربت اللهم إني أسألك من بركتك و رحمتك و فضلك و عافيتك اللهم إني أسألك النعيم المقيم الذي لا يحول و لا يزول اللهم إني أسألك الأمن يوم الخوف و الغناء يوم الفاقة عائذا بك اللهم من شر ما أعطيت و من شر ما منعت اللهم توفنا مسلمين اللهم حبب إلينا الإيمان و زينه في قلوبنا و كره إلينا الكفر و الفسوق و العصيان و اجعلنا من الراشدين اللهم عذب كفرة أهل الكتاب الذين يكذبون رسلك و يصدون عن سبيلك اللهم أنزل عليهم رجسك و عذابك إله الحق آمين (16/34)
قال الواقدي و أقبل حتى نزل ببني حارثة يمينا حتى طلع على بني عبد الأشهل و هم يبكون على قتلاهم فقال لكن حمزة لا بواكي له فخرج النساء ينظرن إلى سلامة رسول الله ص فخرجت إليه أم عامر الأشهلية و تركت النوح فنظرت إليه و عليه الدرع كما هي فقالت كل مصيبة بعدك جلل و خرجت كبشة بنت عتبة بن معاوية بن بلحارث بن الخزرج تعدو نحو رسول الله ص و هو واقف على فرسه و سعد بن معاذ آخذ بعنان فرسه فقال سعد يا رسول الله أمي فقال مرحبا بها فدنت حتى تأملته و قالت إذ رأيتك سالما فقد شفت المصيبة فعزاها بعمرو شرح نهج البلاغة ج : 15 ص : بن معاذ ثم قال يا أم سعد أبشري و بشري أهليهم أن قتلاهم قد ترافقوا في الجنة جميعا و هم اثنا عشر رجلا و قد شفعوا في أهليهم فقالت رضينا يا رسول الله و من يبكي عليهم بعد هذا ثم قالت يا رسول الله ادع لمن خلفوا فقال اللهم أذهب حزن قلوبهم و آجر مصيبتهم و أحسن الخلف على من خلفوا ثم قال لسعد بن معاذ حل أبا عمرو الدابة فحل الفرس و تبعه الناس فقال يا أبا عمرو إن الجراح في أهل دارك فاشية و ليس منهم مجروح إلا يأتي يوم القيامة جرحه كأغزر ما كان اللون لون دم و الريح ريح مسك فمن كان مجروحا فليقر في داره و ليداو جرحه و لا تبلغ معي بيتي عزمة مني فنادى فيهم سعد عزمة من رسول الله ص ألا يتبعه جريح من بني عبد الأشهل فتخلف كل مجروح و باتوا يوقدون النيران و يداوون الجراح و إن فيهم لثلاثين جريحا و مضى سعد بن معاذ مع رسول الله ص إلى بيته ثم رجع إلى نسائه فساقهن فلم تبق امرأة إلا جاء بها إلى بيت رسول الله ص فبكين بين المغرب و العشاء و قام رسول الله ص حين فرغ من النوم لثلث الليل فسمع البكاء فقال ما هذا قيل نساء الأنصار يبكين على حمزة فقال رضي الله تعالى عنكن و عن أولادكن و أمر النساء أن يرجعن إلى منازلهن قالت أم سعد بن معاذ فرجعنا إلى بيوتنا بعد ليل و معنا رجالنا فما بكت منا امرأة قط إلا بدأت بحمزة (16/35)
إلى يومنا هذا و يقال إن معاذ بن جبل جاء بنساء بني سلمة و جاء عبد الله بن رواحة بنساء بلحارث بن الخزرج فقال رسول الله ص ما أردت هذا و نهاهن الغد عن النوح أشد النهي. قال الواقدي و جعل ابن أبي و المنافقون معه يشمتون و يسرون بما أصاب المسلمين و يظهرون أقبح القول و رجع عبد الله بن أبي إلى ابنه و هو جريح فبات يكوي الجراحة بالنار حتى ذهب عامة الليل و أبوه يقول ما كان خروجك مع محمد إلى هذا شرح نهج البلاغة ج : 15 ص : 43الوجه برأيي عصاني محمد و أطاع الدان و الله لكأني كنت أنظر إلى هذا فقال ابنه الذي صنع الله لرسوله و للمسلمين خير إن شاء الله قال و أظهرت اليهود القول السيئ و قالوا ما محمد إلا طالب ملك ما أصيب هكذا نبي قط في بدنه و أصيب في أصحابه و جعل المنافقون يخذلون عن رسول الله ص و أصحابه و يأمرونهم بالتفرق عنه و قالوا لأصحاب النبي ص لو كان من قتل منكم عندنا ما قتل حتى سمع عمر بن الخطاب ذلك في أماكن فمشى إلى رسول الله ص يستأذنه في قتل من سمع ذلك منهم من اليهود و المنافقين فقال له يا عمر إن الله مظهر دينه و معز نبيه و لليهود ذمة فلا أقتلهم قال فهؤلاء المنافقون يا رسول الله يقولون فقال أ ليس يظهرون شهادة أن لا إله إلا الله و أني رسول الله قال بلى و إنما يفعلون تعوذا من السيف و قد بان لنا أمرهم و أبدى الله أضغانهم عند هذه النكبة فقال إني نهيت عن قتل من قال لا إله إلا الله محمد رسول الله يا ابن الخطاب إن قريشا لن ينالوا ما نالوا منا مثل هذا اليوم حتى نستلم الركن. و (16/36)
روى ابن عباس أن النبي ص قال إخوانكم لما أصيبوا بأحد جعلت أرواحهم في أجواف طير خضر ترد أنهار الجنة فتأكل من ثمارها و تأوي إلى قناديل من ذهب في ظل العرش فلما وجدوا طيب مطعمهم و مشربهم و رأوا حسن منقلبهم قالوا ليت إخواننا يعلمون بما أكرمنا الله و بما نحن فيه لئلا يزهدوا في الجهاد و يكلوا عند الحرب فقال لهم الله تعالى أنا أبلغهم عنكم فأنزل وَ لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْواتاً بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ (16/37)
شرح نهج البلاغة ج : 15 ص : 44القول فيما جرى للمشركين بعد انصرافهم إلى مكةقال الواقدي حدثني موسى بن شيبة عن قطن بن وهيب الليثي قال لما تحاجز الفريقان و وجه قريش إلى مكة و امتطوا الإبل و جنبوا الخيل سار وحشي عبد جبير بن مطعم على راحلته أربعا فقدم مكة يبشر قريشا بمصاب المسلمين فانتهى إلى الثنية التي تطلع على الحجون فنادى بأعلى صوته يا معشر قريش مرارا حتى ثاب الناس إليه و هم خائفون أن يأتيهم بما يكرهون فلما رضي منهم قال أبشروا فقد قتلنا من أصحاب محمد مقتلة لم نقتل مثلها في زحف قط و جرحنا محمدا فأثبتناه بالجراح و قتلنا رأس الكتيبة حمزة بن عبد المطلب فتفرق الناس عنه في كل وجه بالشماتة بقتل أصحاب النبي ص و إظهار السرور و خلا جبير بن مطعم بوحشي فقال أنظر ما تقول قال وحشي قد و الله صدقت قال قتلت حمزة قال إي و الله و لقد زرقته بالمزراق في بطنه فخرج من بين فخذيه ثم نودي فلم يجب فأخذت كبده و حملتها إليك لتراها فقال أذهبت حزن نسائنا و بردت حر قلوبنا فأمر يومئذ نساءه بمراجعة الطيب و الدهن. قال الواقدي و قد كان عبد الله بن أبي أمية بن المغيرة المخزومي لما انكشف المشركون بأحد في أول الأمر خرج هاربا على وجهه و كره أن يقدم مكة فقدم الطائف فأخبر ثقيفا أن أصحاب محمد قد ظفروا و انهزمنا و كنت أول من قدم عليكم ثم جاءهم الخبر بعد أن قريشا ظفرت و عادت الدولة لها. قال الواقدي فسارت قريش قافلة إلى مكة فدخلتها ظافرة فكان ما دخل على قلوبهم من السرور يومئذ نظير ما دخل عليهم من الكئابة و الحزن يوم بدر و كان ما دخل شرح نهج البلاغة ج : 15 ص : 45على قلوب المسلمينن الغيظ و الحزن يومئذ نظير ما دخل عليهم من السرور و الجذل يوم بدر كما قال الله تعالى وَ تِلْكَ الْأَيَّامُ نُداوِلُها بَيْنَ النَّاسِ و قال سبحانه أَ وَ لَمَّا أَصابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْها قُلْتُمْ أَنَّى هذا قُلْ هُوَ مِنْ (16/38)
عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ قال يعني إنكم يوم بدر قتلتم من قريش سبعين و أسرتم سبعين و أما يوم أحد فقتل منكم سبعون و لم يؤسر منكم أحد فقد أصبتم قريشا بمثلي ما أصابوكم يوم أحد و قوله أَنَّى هذا أي كيف هذا و نحن موعودون بالنصر و نزول الملائكة و فينا نبي ينزل عليه الوحي من السماء فقال لهم في الجواب هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ يعني الرماة الذين خالفوا الأمر و عصوا الرسول و إنما كان النصر و نزول الملائكة مشروطا بالطاعة و إلا يعصى أمر الرسول أ لا ترى إلى قوله بَلى إِنْ تَصْبِرُوا وَ تَتَّقُوا وَ يَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هذا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُسَوِّمِينَ فعلقه على الشرط (16/39)
القول في مقتل أبي عزة الجمحي و معاوية بن المغيرة بن أبي العاص بن أمية بن عبد شمس
قال الواقدي أما أبو عزة و اسمه عمرو بن عبد الله بن عمير بن وهب بن حذافة بن جمح فإن رسول الله ص أخذه أسيرا يوم أحد و لم يؤخذ يوم أحد أسير غيره فقال يا محمد من علي
فقال رسول الله ص إن المؤمن لا يلدغ من جحر مرتين
لا ترجع إلى مكة تمسح عارضيك فتقول سخرت بمحمد مرتين ثم أمر عاصم بن ثابت فضرب عنقه.
شرح نهج البلاغة ج : 15 ص : 46قال الواقدي و قد سمعنا في أسره غير هذا حدثني بكير بن مسمار قال لما انصرف المشركون عن أحد نزلوا بحمراء الأسد في أول الليل ساعة ثم رحلوا و تركوا أبا عزة مكانه حتى ارتفع النهار فلحقه المسلمون و هو مستنبه يتلدد و كان الذي أخذه عا بن ثابت فأمره النبي ص فضرب عنقه. قلت و هذه الرواية هي الصحيحة عندي لأن المسلمين لم تكن حالهم يوم أحد حال من يتهيأ له أسر أحد من المشركين في المعركة لما أصابهم من الوهن. فأما معاوية بن المغيرة فروى البلاذري أنه هو الذي جدع أنف حمزة و مثل به و أنه انهزم يوم أحد فمضى على وجهه فبات قريبا من المدينة فلما أصبح دخل المدينة فأتى منزل عثمان بن عفان بن أبي العاص و هو ابن عمه لحا فضرب بابه فقالت أم كلثوم زوجته و هي ابنة رسول الله ص ليس هو هاهنا فقال ابعثي إليه فإن له عندي ثمن بعير ابتعته منه عام أول و قد جئته به فإن لم يجئ ذهبت فأرسلت إليه و هو عند رسول الله ص فلما جاء قال لمعاوية أهلكتني و أهلكت نفسك ما جاء بك قال يا ابن عم لم يكن أحد أقرب إلي و لا أمس رحما بي منك فجئتك لتجيرني فادخله عثمان داره و صيره في ناحية منها ثم خرج إلى النبي ص ليأخذ له منه أمانا فسمع رسول الله ص يقول إن معاوية في المدينة و قد أصبح بها فاطلبوه فقال بعضهم ما كان ليعدو منزل عثمان فاطلبوه به فدخلوا منزل عثمان فأشارت أم كلثوم إلى الموضع الذي صيره فيه فاستخرجوه من تحت خمارة لهم فانطلقوا به إلى النبي ص فقال عثمان حين رآه و الذي بعثك بالحق ما جئت إلا لأطلب له الأمان فهبه لي فوهبه له و أجله ثلاثا شرح نهج البلاغة ج : 15 ص : 47و أقسم لئن وجده بعدها يمشي في أرض المدينة و ما حولها ليقتلنه و خرج عثمان فجهزه و اشترى له بعيرا ثم قال ارتحل و سار رسول الله ص إلى حمراء الأسد و أقام معاوية إلى اليوم الثالث ليعرفخبار النبي ص و يأتي بها قريشا فلما كان في اليوم الرابع قال رسول (16/40)
الله ص إن معاوية أصبح قريبا لم ينفذ فاطلبوه فأصابوه و قد أخطأ الطريق فأدركوه و كان اللذان أسرعا في طلبه زيد بن حارثة و عمار بن ياسر فوجداه بالجماء فضربه زيد بالسيف و قال عمار إن لي فيه حقا فرمياه بسهم فقتلاه ثم انصرفا إلى المدينة بخبره و يقال إنه أدرك على ثمانية أميال من المدينة فلم يزل زيد و عمار يرميانه بالنبل حتى مات. قال و معاوية هذا أبو عائشة بنت معاوية أم عبد الملك بن مروان. قال و ذكر الواقدي في كتابه مثل هذه الرواية سواء. قال البلاذري و قال ابن الكلبي إن معاوية بن المغيرة جدع أنف حمزة يوم أحد و هو قتيل فأخذ بقرب أحد فقتل على أحد بعد انصراف قريش بثلاث و لا عقب له إلا عائشة أم عبد الملك بن مروان قال و يقال إن عليا ع هو الذي قتل معاوية بن المغيرة. قلت و رواية ابن الكلبي عندي أصح لأن هزيمة المشركين كانت في الصدمة الأولى عقيب قتل بني عبد الدار أصحاب الألوية و كان قتل حمزة بعد ذلك لما كر خالد بن الوليد الخيل من وراء المسلمين فاختلطوا و انتقض صفهم و قتل بعضهم بعضا فكيف يصح إن يجتمع لمعاوية كونه قد جدع أنف حمزة و كونه قد انهزم مع المشركين في الصدمة الأولى هذا متناقض لأنه إذا كان قد انهزم في أول الحرب استحال أن يكون شرح نهج البلاغة ج : 15 ص : 48حاضرا عند حمزة حين قتل و الصحيح ما ذكره ابن الكلبي من أنه شهد الحرب كلها و جدع أنف حمزة ثم حصل في أيدي المسلمين بعد انصراف قريش لأنه تأخر عنهم لعارض عرض لهأدركه حينه فقتل (16/41)
القول في مقتل المجذر بن زياد البلوي و الحارث بن يزيد بن الصامت
قال الواقدي كان المجذر بن زياد البلوي حليف بني عوف بن الخزرج ممن شهد بدرا مع رسول الله ص و كانت له قصة في الجاهلية قبل قدوم النبي ص المدينة و ذلك أن حضير الكتائب والد أسيد بن حضير جاء إلى بني عمرو بن عوف فكلم سويد بن الصامت و خوات بن جبير و أبا لبابة بن عبد المنذر و يقال سهل بن حنيف فقال هل لكم إن تزوروني فأسقيكم شرابا و أنحر لكم و تقيمون عندي أياما قالوا نعم نحن نأتيك يوم كذا فلما كان ذلك اليوم جاءوه فنحر لهم جزورا و سقاهم خمرا و أقاموا عنده ثلاثة أيام حتى تغير اللحم و كان سويد بن الصامت يومئذ شيخا كبيرا فلما مضت الأيام الثلاثة قالوا ما نرانا إلا راجعين إلى أهلنا فقال حضير ما أحببتم إن أحببتم فأقيموا و إن أحببتم فانصرفوا فخرج الفتيان بسويد بن الصامت يحملانه على جمل من الثمل فمروا لاصقين بالحرة حتى كانوا قريبا من بني عيينة فجلس سويد يبول و هو ثمل سكرا فبصر به إنسان من الخزرج فخرج حتى أتى المجذر بن زياد فقال هل لك في الغنيمة الباردة قال ما هي قال سويد بن الصامت أعزل لا سلاح معه ثمل فخرج المجذر بن زياد بالسيف مصلتا فلما رآه الفتيان و هما أعزلان لا سلاح معهما وليا و العداوة بين الأوس شرح نهج البلاغة ج : 15 ص :9و الخزرج شديدة فانصرفا مسرعين و ثبت الشيخ و لا حراك به فوقف المجذر بن زياد فقال قد أمكن الله منك قال ما تريد بي قال قتلك قال فارفع عن الطعام و اخفض عن الدماغ فإذا رجعت إلى أمك فقل إني قتلت سويد بن الصامت فقتله فكان قتله هو الذي هيج وقعة بعاث فلما قدم رسول الله ص المدينة أسلم الحارث بن سويد بن الصامت و أسلم المجذر فشهدا بدرا فجعل الحارث بن سويد يطلب المجذر في المعركة ليقتله بأبيه فلا يقدر عليه يومئذ فلما كان يوم أحد و جال المسلمون تلك الجولة أتاه الحارث من خلفه فضرب عنقه فرجع رسول الله ص إلى المدينة ثم خرج إلى حمراء الأسد فلما رجع من حمراء الأسد أتاه جبرائيل ع فأخبره أن (16/42)
الحارث بن سويد قتل المجذر غيلة و أمره بقتله فركب رسول الله ص إلى قباء في اليوم الذي أخبره جبرائيل في يوم حار و كان ذلك يوما لا يركب فيه رسول الله ص إلى قباء إنما كانت الأيام التي يأتي فيها رسول الله ص قباء يوم السبت و يوم الإثنين فلما دخل رسول الله ص مسجد قباء صلى فيه ما شاء الله أن يصلي و سمعت الأنصار فجاءوا يسلمون عليه و أنكروا إتيانه تلك الساعة في ذلك اليوم فجلس ع يتحدث و يتصفح الناس حتى طلع الحارث بن سويد في ملحفة مورسة فلما رآه رسول الله ص دعا عويم بن ساعدة فقال له قدم الحارث بن سويد إلى باب المسجد فاضرب عنقه بمجذر بن زياد فإنه قتله يوم أحد فأخذه عويم فقال الحارث دعني أكلم رسول الله و رسول الله ص يريد أن يركب و دعا بحماره إلى باب المسجد فجعل الحارث يقول قد و الله قتلته يا رسول الله و ما كان قتلي إياه رجوعا عن الإسلام شرح نهج البلاغة ج : 15 ص : 50و لا ارتيابا فيه و لكنه حمية الشيطان و أمر وكلت فيه إلى نفسي و إني أتوب إلى الله و إلى رسوله مما عملت و أخرج ديته و أصوم شهرين متتابعين و أعتق رقبة و أطعم ستين مسكينا إني أتوب إلى الله يا رسول اللو جعل يمسك بركاب رسول الله ص و بنو المجذر حضور لا يقول لهم رسول الله ص شيئا حتى إذا استوعب كلامه قال قدمه يا عويم فاضرب عنقه و ركب رسول الله ص فقدمه عويم بن ساعدة على باب المسجد فضرب عنقه. قال الواقدي و يقال إن الذي أعلم رسول الله قتل الحارث المجذر يوم أحد حبيب بن يساف نظر إليه حين قتله فجاء إلى النبي ص فأخبره فركب رسول الله ص يتفحص عن هذا الأمر فبينا هو على حماره نزل جبرائيل ع فخبره بذلك فأمر رسول الله ص عويما فضرب عنقه ففي ذلك قال حسان (16/43)
يا حار في سنة من نوم أولكم أم كنت ويحك مغترا بجبريل
فأما البلاذري فإنه ذكر هذا و قال و يقال إن الجلاس بن سويد بن الصامت هو الذي قتل المجذر يوم أحد غيلة إلا أن شعر حسان يدل على أنه الحارث. قال الواقدي و البلاذري و كان سويد بن الصامت حين ضربه المجذر بقي قليلا ثم مات فقال قبل أن يموت يخاطب أولاده (16/44)
أبلغ جلاسا و عبد الله مالكه و إن دعيت فلا تخذلهما حار
شرح نهج البلاغة ج : 15 ص : 51اقتل جذارة إذ ما كنت لاقيهم و الحي عوفا على عرف و إنكاقال البلاذري جذرة و جذارة أخوان و هما ابنا عوف بن الحارث بن الخزرج. قلت هذه الروايات كما ترى و قد ذكر ابن ماكولا في الإكمال أن الحارث بن سويد قتل المجذر غيلة يوم أحد ثم التحق بمكة كافرا ذكره في حرف الميم من هذا الكتاب و هذا هو الأشبه عندي
القول فيمن مات من المسلمين بأحد جملة
قال الواقدي ذكر سعيد بن المسيب و أبو سعيد الخدري أنه قتل من الأنصار خاصة أحد و سبعون و بمثله قال مجاهد. قال فأربعة من قريش و هم حمزة بن عبد المطلب قتله وحشي و عبد الله بن جحش بن رئاب قتله أبو الحكم بن الأخنس بن شريق و شماس بن عثمان بن الشريد من بني مخزوم قتله أبي بن خلف و مصعب بن عمير قتله ابن قميئة. قال و قد زاد قوم خامسا و هو سعد مولى حاطب من بني أسد بن عبد العزى و قال قوم أيضا إن أبا سلمة بن عبد الأسد المخزومي جرح يوم أحد و مات من تلك الجراحة بعد أيام. قال الواقدي و قال قوم قتل ابنا الهبيب من بني سعد بن ليث و هما عبد الله شرح نهج البلاغة ج : 15 ص : 52و عبد الرحمن و رجلان من بني مزينة و هما وهب بن قابوس و ابن أخيه الحارث بن عتبة بن قابوس فيكون جميع من قتل من المسلمين ذلك اليوم نحو أحد و ثمانين رجلا فأما تفصيل أسماء الأنصار فمذكور في كتب المحدثين و ليس هذالموضع مكان ذكره
القول فيمن قتل من المشركين بأحد
قال الواقدي قتل من بني عبد الدار طلحة بن أبي طلحة صاحب لواء قريش قتله علي بن أبي طالب ع مبارزة و عثمان بن أبي طلحة قتله حمزة بن عبد المطلب و أبو سعيد بن أبي طلحة قتله سعد بن أبي وقاص و مسافع بن طلحة بن أبي طلحة قتله عاصم بن ثابت بن أبي الأقلح و كلاب بن طلحة بن أبي طلحة قتله الزبير بن العوام و الحارث بن طلحة بن أبي طلحة قتله عاصم بن ثابت و الجلاس بن طلحة بن أبي طلحة قتله طلحة بن عبيد الله و أرطاة بن عبد شرحبيل قتله علي بن أبي طالب ع و قارظ بن شريح بن عثمان بن عبد الدار و يروى قاسط بالسين و الطاء المهملتين قال الواقدي لا يدرى من قتله و قال البلاذري قتله علي بن أبي طالب ع و صواب مولاهم قتله علي بن أبي طالب ع و قيل قتله قزمان و أبو عزيز بن عمير أخو مصعب بن عمير قتله قزمان فهؤلاء أحد عشر. و من بني أسد بن عبد العزى عبد الله بن حميد بن زهير بن الحارث بن أسد قتله أبو دجانة في رواية الواقدي و في رواية محمد بن إسحاق قتله علي بن أبي طالب ع و قال البلاذري قال ابن الكلبي إن عبد الله بن حميد قتل يوم بدر شرح نهج البلاغة ج : 15 ص : 53و من بني زهرة أبو الحكم بن الأخنس بن شريق قتله علي بن أبي طالب ع و سباع بن عبد العزى الخزا و اسم عبد العزى عمر بن نضله بن عباس بن سليم و هو ابن أم أنمار الحجامة بمكة قتله حمزة بن عبد المطلب فهذان رجلان. و من بني مخزوم أمية بن أبي حذيفة بن المغيرة قتله علي ع و هشام بن أبي أمية بن المغيرة قتله قزمان و الوليد بن العاص بن هشام قتله قزمان و خالد بن أعلم العقيلي قتله قزمان و عثمان بن عبد الله بن المغيرة قتله الحارث بن الصمة فهؤلاء خمسة. و من بني عامر بن لؤي عبيد بن حاجز قتله أبو دجانة و شيبة بن مالك بن المضرب قتله طلحة بن عبيد الله و هذان اثنان. و من بني جمح أبي بن خلف قتله رسول الله ص بيده و أبو عزة قتله عاصم بن ثابت صبرا بأمر رسول الله ص فهذان اثنان. و من بني عبد (16/45)
مناة بن كنانة خالد بن سفيان بن عويف و أبو الشعثاء بن سفيان بن عويف و أبو الحمراء بن سفيان بن عويف و غراب بن سفيان بن عويف هؤلاء الإخوة الأربعة قتلهم علي بن أبي طالب ع في رواية محمد بن حبيب. فأما الواقدي فلم يذكر في باب من قتل من المشركين بأحد لهم قاتلا معينا و لكنه ذكر في كلام آخر قبل هذا الباب أن أبا سبرة بن الحارث بن علقمة قتل أحد بني سفيان بن عويف و أن رشيدا الفارسي مولى بني معاوية لقي آخر من بني سفيان بن عويف مقنعا في الحديد و هو يقول أنا ابن عويف فيعرض له سعد مولى حاطب فضربه ابن (16/46)
شرح نهج البلاغة ج : 15 ص : 54عويف ضربة جزله باثنتين فأقبل رشيد على ابن عويف فضربه على عاتقه فقطع الدرع حتى جزله اثنتين و قال خذها و أنا الغلام الفارسي فقال رسول الله ص و هو يراه و يسمعه أ لا قلت أنا الغلام الأنصاري قال فيعرض لرشيد أخ للمقتول أحد بني سفي بن عويف أيضا و أقبل يعدو نحوه كأنه كلب يقول أنا ابن عويف و يضربه رشيد أيضا على رأسه و عليه المغفر ففلق رأسه و قال خذها و أنا الغلام الأنصاري فتبسم رسول الله ص و قال أحسنت يا أبا عبد الله فكناه رسول الله ص يومئذ و لا ولد له. قلت فأما البلاذري فلم يذكر لهم قاتلا و لكنه عدهم في جملة من قتل من المشركين بأحد و كذلك ابن إسحاق لم يذكر من قتلهم فإن صحت رواية الواقدي فعلي ع لم يكن قد قتل منهم إلا واحدا و إن كانت رواية ابن حبيب صحيحة فالأربعة من قتلاه ع و قد رأيت في بعض كتب أبي الحسن المدائني أيضا أن عليا ع هو الذي قتل بني سفيان بن عويف يوم أحد و روى له شعرا في ذلك. و من بني عبد شمس معاوية بن المغيرة بن أبي العاص قتله علي ع في إحدى الروايات و قيل قتله زيد بن حارثة و عمار بن ياسر. فجميع من قتل من المشركين يوم أحد ثمانية و عشرون قتل علي ع منهم ما اتفق عليه و ما اختلف فيه اثني عشر و هو إلى جملة القتلى كعدة من قتل يوم بدر إلى جملة القتلى يومئذ و هو قريب من النصف (16/47)
شرح نهج البلاغة ج : 15 ص : 55القول في خروج النبي ص و بعد انصرافه من أحد إلى المشركين ليوقع بهم على ما هو به من الوهنقال الواقدي بلغ رسول الله ص أن المشركين قد عزموا أن يردوا إلى المدينة فينهبوها فأحب أن يريهم قوة فصلى الصبح يوم الأحد لثمان خلون من شوال و معه وجوه الأوس و الخزرج و كانوا باتوا تلك الليلة في بابه يحرسونه من البيات فيهم سعد بن عبادة و سعد بن معاذ و الحباب بن المنذر و أوس بن خولي و قتادة بن النعمان في عدة منهم فلما انصرف من صلاة الصبح أمر بلالا أن ينادي في الناس أن رسول الله ص يأمركم بطلب عدوكم و لا يخرج معنا إلا من شهد القتال بالأمس فخرج سعد بن معاذ راجعا إلى قومه يأمرهم بالمسير و الجراح في الناس فاشية عامة بني عبد الأشهل جريح بل كلها فجاء سعد بن معاذ فقال إن رسول الله ص يأمركم أن تطلبوا عدوكم قال يقول أسيد بن حضير و به سبع جراحات و هو يريد أن يداويها سمعا و طاعة لله و لرسوله فأخذ سلاحه و لم يعرج على دواء جراحة و لحق برسول الله ص و جاء سعد بن عبادة قومه بني ساعدة فأمرهم بالمسير فلبسوا و لحقوا و جاء أبو قتادة أهل خربا و هم يداوون الجراح فقال هذا منادي رسول الله ص يأمركم بطلب العدو فوثبوا إلى سلاحهم و لم يعرجوا على جراحاتهم فخرج من بني سلمة أربعون جريحا بالطفيل بن النعمان ثلاثة عشر جرحا و بخراش بن الصمة عشر جراحات و بكعب بن مالك بضعة عشر جرحا و بقطبة بن عامر بن خديج بيده تسع جراحات حتى وافوا النبي ص بقبر أبي عتبة و عليهم السلاح شرح نهج البلاغة ج : 15 ص : 56و قد صفوا لرسول الله ص فلما نظر إليهم و الجراح فيهم فاشية قال اللهم ارحم بني سلمة. قال الواقدي و حدثني عتببن جبيرة عن رجال من قومه أن عبد الله بن سهل و رافع بن سهل من بني عبد الأشهل رجعا من أحد و بهما جراح كثيرة و عبد الله أثقلهما جرحا فلما أصبحا و جاء سعد بن معاذ قومه يخبرهم أن رسول الله ص يأمرهم بطلب العدو (16/48)
قال أحدهما لصاحبه و الله إن تركنا غزاة مع رسول الله ص لغبن و الله ما عندنا دابة نركبها و لا ندري كيف نصنع قال عبد الله انطلق بنا قال رافع لا و الله ما بي مشي قال أخوه انطلق بنا نقصد و نجوز و خرجا يزحفان فضعف رافع فكان عبد الله يحمله على ظهره عقبه و يمشي الآخر عقبه حتى أتوا رسول الله ص عند العشاء و هم يوقدون النيران فأتي بهما رسول الله ص و على حرسه تلك الليلة عباد بن بشر فقال رسول الله ص لهما ما حبسكما فأخبراه بعلتهما فدعا لهما بخير و قال إن طالت لكما مدة كانت لكما مراكب من خيل و بغال و إبل و ليس ذلك بخير لكما. قال الواقدي و قال جابر بن عبد الله يا رسول الله إن مناديا نادى ألا يخرج معنا إلا من حضر القتال بالأمس و قد كنت حريصا بالأمس على الحضور و لكن أبي خلفني على أخوات لي و قال يا بني لا ينبغي لك أن تدعهن و لا رجل معهن و أخاف عليهن و هن نسيات ضعاف و أنا خارج مع رسول الله ص لعل الله يرزقني الشهادة فتخلفت عليهن فاستأثر علي بالشهادة و كنت رجوتها فأذن لي يا رسول الله أن أسير معك فأذن له رسول الله ص قال جابر فلم يخرج معه أحد لم يشهد القتال بالأمس غيري و استأذنه رجال لم يحضروا القتال فأبى ذلك (16/49)
شرح نهج البلاغة ج : 15 ص : 57عليهم فدعا رسول الله ص بلواءه و هو معقود لم يحل من أمس فدفعه إلى علي ع و يقال دفعه إلى أبي بكر فخرج رسول الله ص و هو مجروح في وجهه أثر الحلقتين و مشجوج في جبهته في أصول الشعر و رباعيته قد شظيت و شفته قد كلمت من باطنها و منكبالأيمن موهن بضربة ابن قميئة و ركبتاه مجحوشتان فدخل المسجد فصلى ركعتين و الناس قد حشدوا و نزل أهل العوالي حيث جاءهم الصريخ و دعا بفرسه على باب المسجد و تلقاه طلحة بن عبيد الله و قد سمع المنادي فخرج ينظر متى يسير رسول الله ص فإذا هو و عليه الدرع و المغفر لا يرى منه إلا عيناه فقال يا طلحة سلاحك قال قريبا قال طلحة فأخرج و أعدو فألبس درعي و آخذ سيفي و أطرح درقتي في صدري و إن بي لتسع جراحات و لأنا أهتم بجراح رسول الله ص مني بجراحي فأقبل رسول الله ص على طلحة فقال أين ترى القوم الآن قال هم بالسيالة فقال رسول الله ص ذلك الذي ظننت أما إنهم يا طلحة لن ينالوا منا مثل أمس حتى يفتح الله مكة علينا قال و بعث رسول الله ص ثلاثة نفر من أسلم طليعة في آثار القوم فانقطع أحدهم و انقطع قبال نعل الآخر و لحق الثالث بقريش و هم بحمراء الأسد و لهم زجل يأتمرون في الرجوع إلى المدينة و صفوان بن أمية ينهاهم عن ذلك و لحق الذي انقطع قبال نعله بصاحبه فبصرت قريش بالرجلين فعطفت عليهما فأصابوهما و انتهى المسلمون إلى مصرعهما بحمراء الأسد فقبرهما رسول الله ص في قبر واحد فهما القرينان. شرح نهج البلاغة ج : 15 ص : 58قال الواقدي اسماهما سليط و نعمان. ل الواقدي قال جابر بن عبد الله كانت عامة أزوادنا ذلك اليوم التمر و حمل سعد بن عبادة ثلاثين بعيرا تمرا حتى وافت حمراء الأسد و ساق جزرا فنحروا في يوم ثنتين و في يوم ثلاثا و أمرهم رسول الله ص بجمع الحطب فإذا أمسوا أمرهم أن يوقدوا النيران فيوقد كل رجل نارا فلقد كنا تلك الليلة نوقد خمسمائة نار حتى نرى من المكان البعيد و ذهب (16/50)
ذكر معسكرنا و نيراننا في كل وجه و كان ذلك مما كبت الله به عدونا. قال الواقدي و جاء معبد بن أبي معبد الخزاعي و هو يومئذ مشرك إلى النبي ص و كانت خزاعة سلما للنبي ص فقال يا محمد عز علينا ما أصابك في نفسك و ما أصابك في أصحابك و لوددنا أن الله تعالى أعلى كعبك و أن المصيبة كانت بغيرك ثم مضى معبد حتى يجد أبا سفيان و قريشا بالروحاء و هم يقولون لا محمدا أصبتم و لا الكواعب أردفتم فبئسما صنعتم و هم مجمعون على الرجوع إلى المدينة و يقول قائلهم فيما بينهم ما صنعنا شيئا أصبنا أشرافهم ثم رجعنا قبل أن نستأصلهم و قبل أن يكون لهم وفر و كان المتكلم بهذا عكرمة بن أبي جهل فلما جاء معبد إلى أبي سفيان قال هذا معبد و عنده الخبر ما وراءك يا معبد قال تركت محمدا و أصحابه خلفي يتحرقون عليكم بمثل النيران و قد اجتمع معه من تخلف عنه بالأمس من الأوس و الخزرج و تعاهدوا ألا يرجعوا حتى يلحقوكم فيثأروا منكم و قد غضبوا لقومهم غضبا شديدا و لمن أصبتم من أشرافهم قالوا ويحك ما تقول قال و الله ما أرى شرح نهج البلاغة ج : 15 ص : 59أن ترتحلوا حتى تروا نواصي الخيل و لقد حملني ما رأيت منهم قلت أبياتا قالوا و ما هي فأنشدهم هذا الشعر (16/51)
كادت تهد من الأصوات راحلتي إذ سألت الأرض بالجرد الأبابيل تعدو بأسد ضراء لا تنابلة عند اللقاء و لا ميل معازيل فقلت ويل ابن حرب من لقائهم إذا تغطمطت البطحاء بالجيو قد كان صفوان بن أمية رد القوم بكلامه قبل أن يطلع معبد و قال لهم صفوان يا قوم لا تفعلوا فإن القوم قد حربوا و أخشى أن يجمعوا عليكم من تخلف من الخزرج فارجعوا و الدولة لكم فإني لا آمن إن رجعتم إليهم أن تكون الدولة عليكم قال فلذلك
قال رسول الله ص أرشدهم صفوان و ما كان برشيد ثم قال و الذي نفسي بيده لقد سومت لهم الحجارة و لو رجعوا لكانوا كأمس الذاهب
قال فانصرف القوم سراعا خائفين من الطلب لهم و مر بأبي سفيان قوم من عبد القيس يريدون المدينة فقال لهم هل أنتم مبلغو محمد و أصحابه ما أرسلكم به على أن أوقر لكم أباعركم زبيبا غدا بعكاظ إن أنتم جئتموني قالوا نعم قال حيثما شرح نهج البلاغة ج : 15 ص : 60لقيتم محا و أصحابه فأخبروهم أنا قد أجمعنا الرجعة إليهم و أنا آثاركم و انطلق أبو سفيان إلى مكة و قدم الركب على النبي ص و أصحابه بالحمراء فأخبروهم بالذي أمرهم أبو سفيان فقالوا حسبنا الله و نعم الوكيل فأنزل ذلك في القرآن و أرسل معبد رجلا من خزاعة إلى رسول الله ص يعلمه أنه قد انصرف أبو سفيان و أصحابه خائفين وجلين فانصرف رسول الله ص بعد ثلاث إلى المدينة (16/52)
شرح نهج البلاغة ج : 15 ص : 61الفصل الخامس في شرح غزاة مؤتةنذكرها من كتاب الواقدي و نزيد على ذلك ما رواه محمد بن إسحاق في كتابه على عادتنا فيما تقدم قال الواقدي حدثني ربيعة بن عثمان عن عمر بن الحكم قال بعث رسول الله ص الحارث بن عمير الأزدي في سنة ثمان إلى ملك بصرى بكتاب فلما نزل مؤتة عرض له شرحبيل بن عمرو الغساني فقال أين تريد قال الشام قال لعلك من رسل محمد قال نعم فأمر به فأوثق رباطا ثم قدمه فضرب عنقه و لم يقتل لرسول الله ص رسول غيره و بلغ ذلك رسول الله ص فاشتد عليه و ندب الناس و أخبرهم بمقتل الحارث فأسرعوا و خرجوا فعسكروا بالجرف فلما صلى رسول الله ص الظهر جلس و جلس أصحابه حوله و جاء النعمان بن مهض اليهودي فوقف مع الناس
فقال رسول الله ص زيد بن حارثة أمير الناس فإن قتل زيد بن حارثة فجعفر بن أبي طالب فإن أصيب جعفر فعبد الله بن رواحة فإن أصيب ابن رواحة فليرتض المسلمون من بينهم رجلا فليجعلوه عليهم
فقال النعمان بن مهض يا أبا القاسم إن كنت نبيا فسيصاب من سميت قليلا كانوا أو كثيرا إن الأنبياء في بني إسرائيل كانوا إذا استعملوا الرجل على القوم ثم قالوا إن أصيب فلان فلو سمى مائة أصيبوا جميعا ثم جعل اليهودي يقول لزيد بن حارثة اعهد فلا ترجع إلى محمد أبدا إن كان نبيا قال زيد أشهد أنه نبي صادق فلما أجمعوا شرح نهج البلاغة ج : 15 ص : 62المسير و عقد رسول الله ص لهم اللواء بيده دفعه إلى زيد بن حارثة و هو لواء أبيض و مشى الناس إلى أمراء رسول الله ص يودعونهم و يدعون لهم و كانوا ثلاثة آلاف فلما ساروا في معسكرهم نادم المسلمون دفع الله عنكم و ردكم صالحين سالمين غانمين فقال عبد الله بن رواحة (16/53)
لكنني أسأل الرحمن مغفرة و ضربة ذات فرغ تقذف الزبداأو طعنة بيدي حران مجهزة بحربة تنفذ الأحشاء و الكبداحتى يقولوا إذا مروا على جدثي يا أرشد الله من غاز فقد رشدا
قلت اتفق المحدثون على أن زيد بن حارثة كان هو الأمير الأول و أنكرت الشيعة ذلك و قالوا كان جعفر بن أبي طالب هو الأمير الأول فإن قتل فزيد بن حارثة فإن قتل فعبد الله بن رواحة و رووا في ذلك روايات و قد وجدت في الأشعار التي ذكرها محمد بن إسحاق في كتاب المغازي ما يشهد لقولهم فمن ذلك ما رواه عن حسان بن ثابت و هو
تأوبني ليل بيثرب أعسر و هم إذا ما نوم الناس مسهرلذكرى حبيب هيجت لي عبرة سفوحا و أسباب البكاء التذكربلى إن فقدان الحبيب بلية و كم من كريم يبتلى ثم يصبرفلا يبعدن الله قتلى تتابعوا بمؤتة منهم ذو الجناحين جعفرو زيد و عبد الله حين تتابعوا جميعا و أسياف المنية تخطر
شرح نهج البلاغة ج : 15 ص : 63رأيت خيار المؤمنين تواردوا شعوب و خلق بعدهم يتأخرغداة غدوا بالمؤمنين يقودهم إلى الموت ميمون النقيبة أزهرأغر كضوء البدر من آل هاشم أبي إذا سيم الظلامة أصعرفطاعن حتى مال غير موسد بمعترك فيه القنا متكسرفصار مع المستشهدين ثوابه ان و ملتف الحدائق أخضرو كنا نرى في جعفر من محمد وقارا و أمرا حازما حين يأمرو ما زال في الإسلام من آل هاشم دعائم صدق لا ترام و مفخرهم جبل الإسلام و الناس حولهم رضام إلى طور يطول و يقهربهاليل منهم جعفر و ابن أمه علي و منهم أحمد المتخيرو حمزة و العباس منهم و منهم عقيل و ماء العود من حيث يعصربهم تفرج الغماء من كل مأزق عماس إذا ما ضاق بالناس مصدرهم أولياء الله أنزل حكمه عليهم و فيهم و الكتاب المطهر (16/54)
و منها قول كعب بن مالك الأنصاري من قصيدة أولها
نام العيون و دمع عينك يهمل سحا كما وكف الرباب المسبل وجدا على النفر الذين تتابعوا قتلى بمؤتة أسندوا لم ينقلواساروا أمام المسلمين كأنهم طود يقودهم الهزبر المشبل إذ يهتدون بجعفر و لوائه قدام أولهم و نعم الأول حتى تقوضت الصفوف و جعفر حيث التقى جمع الغواة م
شرح نهج البلاغة ج : 15 ص : 64فتغير القمر المنير لفقده و الشمس قد كسفت و كادت تأفل قوم علا بنيانهم من هاشم فرع أشم و سؤدد متأثل قوم بهم عصم الإله عباده و عليهم نزل الكتاب المنزل فضلوا المعاشر عفة و تكرما و تعمدت أخلاقهم من قال الواقدي فحدثني ابن أبي سبرة عن إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة عن رافع بن إسحاق عن زيد بن أرقم أن رسول الله ص خطبهم فأوصاهم فقال أوصيكم بتقوى الله و بمن معكم من المسلمين خيرا اغزوا باسم الله و في سبيل الله قاتلوا من كفر بالله لا تغدروا و لا تغلوا و لا تقتلوا وليدا و إذا لقيت عدوك من المشركين فادعهم إلى إحدى ثلاث فأيتهن أجابوك إليها فاقبل منهم و اكفف عنهم ادعهم إلى الدخول في الإسلام فإن فعلوا فاقبل و اكفف ثم ادعهم إلى التحول من دارهم إلى المهاجرين فإن فعلوا فأخبرهم أن لهم ما للمهاجرين و عليهم ما على المهاجرين و إن دخلوا في الإسلام و اختاروا دارهم فأخبرهم أنهم يكونون كأعراب المسلمين يجري عليهم حكم الله و لا يكون لهم في الفي ء و لا في الغنيمة شي ء إلا أن يجاهدوا مع المسلمين فإن أبوا فادعهم إلى إعطاء الجزية فإن فعلوا فاقبل منهم و اكفف عنهم فإن أبوا فاستعن بله و قاتلهم و إن أنت حاصرت أهل حصن أو مدينة فأرادوا أن تستنزلهم على حكم الله فلا تستنزلهم على حكم الله و لكن أنزلهم على حكمك فإنك لا تدري أ تصيب حكم الله فيهم أم لا و إن حاصرت أهل حصن أو مدينة و أرادوا أن تجعل لهم ذمة الله و ذمة رسول الله فلا تجعل لهم ذمة الله و ذمة رسول الله و لكن اجعل لهم ذمتك و ذمة أبيك و أصحابك فإنكم إن تخفروا ذممكم و ذمم آبائكم خير لكم من أن تخفروا ذمة الله و ذمة رسوله (16/55)
شرح نهج البلاغة ج : 15 ص : 65 قال الواقدي و حدثني أبو صفوان عن خالد بن يزيد قال خرج النبي ص مشيعا لأهل مؤتة حتى بلغ ثنية الوداع فوقف و وقفوا حوله فقال اغزوا بسم الله فقاتلوا عدو الله و عدوكم بالشام و ستجدون فيها رجالا في الصوامع معتزلين الناس فلا تعرضواهم و ستجدون آخرين للشيطان في رءوسهم مفاحص فاقلعوها بالسيوف و لا تقتلن امرأة و لا صغيرا ضرعا و لا كبيرا فانيا و لا تقطعن نخلا و لا شجرا و لا تهدمن بناء (16/56)
قال الواقدي فلما دعا ودع عبد الله بن رواحة رسول الله ص قال له مرني بشي ء أحفظه عنك قال إنك قادم غدا بلدا السجود فيه قليل فأكثروا السجود فقال عبد الله زدني يا رسول الله قال اذكر الله فإنه عون لك على ما تطلب فقام من عنده حتى إذا مضى ذاهبا رجع فقال يا رسول لله إن الله وتر يحب الوتر فقال يا ابن رواحة ما عجزت فلا تعجز إن أسأت عشرا أن تحسن واحدة فقال ابن رواحة لا أسألك عن شي ء بعدها و روى محمد بن إسحاق أن عبد الله بن رواحة ودع رسول الله ص بشعر منه
فثبت الله ما آتاك من حسن تثبيت موسى و نصرا كالذي نصرواإني تفرست فيك الخير نافلة فراسة خالفتهم في الذي نظرواأنت الرسول فمن يحرم نوافله و البشر منه فقد أودى به القدر
قال محمد بن إسحاق فلما ودع المسلمين بكى فقالوا له ما يبكيك يا عبد الله قال و الله ما بي حب الدنيا و لا صبابة إليها و لكني سمعت رسول الله ص شرح نهج البلاغة ج : 15 ص : 66يقرأ وَ إِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها فلست أدري كيف لي بالصدر بعد الورود قال الواقدي وان زيد بن أرقم يحدث قال كنت يتيما في حجر عبد الله بن رواحة فلم أر والي يتيم كان خيرا لي منه خرجت معه في وجهة إلى مؤتة و صب بي و صببت به فكان يردفني خلف رحله فقال ذات ليلة و هو على راحلته بين شعبتي رحله
إذا بلغتني و حملت رحلي مسافة أربع بعد الحساءفشأنك فانعمي و خلاك ذم و لا أرجع إلى أهلي ورائي و آب المسلمون و خلفوني بأرض الشام مشتهر الثواءو زودني الأقارب من دعاء إلى الرحمن و انقطع الإخاءهنالك لا أبالي طلع نخل و لا نخل أسافلها رواءفلما سمعت منه هذا الشعر بكيت فخفقني بالدرة و قال و ما عليك يا لكع أن يرزقني الله الشهادة فأستريح من الدنيا و نصبها و همومها و أحزانها و أحداثها و ترجع أنت بين شعبتي الرحل. قال الواقدي و مضى المسلمون فنزلوا وادي القرى فأقاموا به أياما و ساروا حتى نزلوا بمؤتة و بلغهم أن هرقل ملك الروم قد نزل ماء من مياه البلقاء في بكر و بهراء و لخم و جذام و غيرهم مائة ألف مقاتل و عليهم رجل من بلي فأقام المسلمون ليلتين ينظرون شرح نهج البلاغة ج : 15 ص : 67في أمرهم و قالوا نكتب إلى رسول الله ص فنخبره الخبر فإما أن يردنا أو يزيا رجالا فبينا الناس على ذلك من أمرهم جاءهم عبد الله بن رواحة فشجعهم و قال و الله ما كنا نقاتل الناس بكثرة عدة و لا كثرة سلاح و لا كثرة خيل إلا بهذا الدين الذي أكرمنا الله به انطلقوا فقاتلوا فقد و الله رأينا يوم بدر و ما معنا إلا فرسان إنما هي إحدى الحسنيين إما الظهور عليهم فذاك ما وعدنا الله و رسوله و ليس لوعده خلف و إما الشهادة فنلحق بالإخوان نرافقهم في الجنان فشجع الناس على قول ابن رواحة. قال الواقدي و روى أبو هريرة قال شهدت مؤتة فلما رأينا المشركين رأينا ما لا قبل لنا به من العدد و السلاح و الكراع و الديباج و الحرير و الذهب فبرق بصري فقال لي ثابت بن أرقم ما لك يا أبا هريرة كأنك ترى جموعا كثيرة قلت نعم قال لم تشهدنا ببدر إنا لم ننصر بالكثرة. قال الواقدي فالتقى القوم فأخذ اللواء زيد بن حارثة فقاتل حتى قتل طعنوه بالرماح ثم أخذه جعفر فنزل عن فرس له شقراء فعرقبها ثم قاتل حتى قتل. قال الواقدي قيل إنه ضربه رجل من الروم فقطعه نصفين فوقع أحد نصفيه في (16/57)
كرم هناك فوجد فيه ثلاثون أو بضع و ثلاثون جرحا. قال الواقدي و قد روى نافع عن ابن عمر أنه وجد في بدن جعفر بن أبي طالب اثنتان و سبعون ضربة و طعنة بالسيوف و الرماح. قال البلاذري قطعت يداه و لذلك (16/58)
قال رسول الله ص لقد أبدله الله بهما جناحين يطير بهما في الجنة
و لذلك سمي الطيار. قال الواقدي ثم أخذ الراية عبد الله بن رواحة فنكل يسيرا ثم حمل فقاتل شرح نهج البلاغة ج : 15 ص : 68حتى قتل فلما قتل انهزم المسلمون أسوأ هزيمة كانت في كل وجه ثم تراجعوا فأخذ اللواء ثابت بن أرقم و جعل يصيح بالأنصار فثاب إليه منهم قليل فقالخالد بن الوليد خذ اللواء يا أبا سليمان قال خالد لا بل خذه أنت فلك سن و قد شهدت بدرا قال ثابت خذه أيها الرجل فو الله ما أخذته إلا لك فأخذه خالد و حمل به ساعة و جعل المشركون يحملون عليه حتى دهمه منهم بشر كثير فانحاز بالمسلمين و انكشفوا راجعين. قال الواقدي و قد روى أن خالدا ثبت بالناس فلم ينهزموا و الصحيح أن خالدا انهزم بالناس. قال الواقدي حدثني محمد بن صالح عن عاصم بن عمر بن قتادة أن النبي ص لما التقى الناس بمؤتة جلس على المنبر و كشف له ما بينه و بين الشام فهو ينظر إلى معركتهم فقال أخذ الراية زيد بن حارثة فجاءه الشيطان فحبب إليه الحياة و كره إليه الموت و حبب إليه الدنيا فقال الآن حين استحكم الإيمان في قلوب المؤمنين تحبب إلي الدنيا فمضى قدما حتى استشهد ثم صلى عليه و قال استغفروا له فقد دخل الجنة و هو يسعى ثم أخذ الراية جعفر بن أبي طالب فجاءه الشيطان فمناه الحياة و كره إليه الموت و مناه الدنيا فقال الآن حين استحكم الإيمان في قلوب المؤمنين تتمنى الدنيا ثم مضى قدما حتى استشهد فصلى عليه رسول الله ص و دعا له
ثم قال استغفروا لأخيكم فإنه شهيد قد دخل الجنة فهو يطير فيها بجناحين من ياقوت حيث شاء
ثم قال أخذ الراية عبد الله بن رواحة ثم دخل معترضا فشق ذلك على الأنصار فقال رسول الله ص أصابته الجراح قيل يا رسول الله فما اعتراضه قال لما أصابته الجراح نكل فعاتب نفسه فشجع فاستشهد فدخل الجنة فسري عن قومه. شرح نهج البلاغة ج : 15 ص : 69و روى محمد بن إسحاق قال لما ذكر رسول الله ص زيدا و جعفرا سكت عن عبد الله بن رواحة حتى تغيرت وجوه الأنصار و ظنوا أنه قد كان من عبد الله بعض ما يكرهون ثم قال أخذها عبد الله بن رواحة فقاتل حتى قتل شهيدا ثم قال لقد رفعوا لي في الجنة فيما يرى النائم على سرر من ذهب فرأيت في سرير ابن رواحة ازورارا عن سريري صاحبيه فقلت لم هذا فقيل لأنهما مضيا و تردد هذا بعض التردد ثم مضى (16/59)
قال و روى محمد بن إسحاق أنه لما أخذ جعفر بن أبي طالب الراية قاتل قتالا شديدا حتى إذا لحمه القتال اقتحم عن فرس له شقراء فعقرها ثم قاتل القوم حتى قتل فكان جعفر رضي الله عنه أول رجل عقر فرسه في الإسلام. قال محمد بن إسحاق و لما أخذ ابن رواحة الراية جعل يتردد بعض التردد و يستقدم نفسه يستنزلها و قال
أقسمت يا نفس لتنزلنه طوعا و إلا سوف تكرهنه ما لي أراك تكرهين الجنة إذ أجلب الناس و شدوا الرنه قد طالما قد كنت مطمئنه هل أنت إلا نطفة في شنثم ارتجز أيضا فقال
يا نفس إلا تقتلي تموتي هذا حمام الموت قد صليت
شرح نهج البلاغة ج : 15 ص : 70و ما تمنيت فقد أعطيت إن تفعلي فعلهما هديت و إن تأخرت فقد شقثم نزل عن فرسه فقاتل فأتاه ابن عم له ببضعة من لحم فقال اشدد بهذا صلبك فأخذها من يده فانتهش منها نهشة ثم سمع الحطمة في ناحية من الناس فقال و أنت يا ابن رواحة في الدنيا ثم ألقاها من يده و أخذ سيفه فتقدم فقاتل حتى قتل. قال الواقدي حدثني داود بن سنان قال سمعت ثعلبة بن أبي مالك يقول انكشف خالد بن الوليد يومئذ بالناس حتى عيروا بالفرار و تشاءم الناس به. قال و روى أبو سعيد الخدري قال أقبل خالد بالناس منهزمين فلما سمع أهل المدينة بهم تلقوهم بالجرف فجعلوا يحثون في وجوههم التراب و يقولون يا فرار أ فررتم في سبيل الله فقال رسول الله ص ليسوا بالفرار و لكنهم كرار إن شاء الله. قال الواقدي و قال عبيد الله بن عبد الله بن عتبة ما لقي جيش بعثوا مبعثا ما لقي أصحاب مؤتة من أهل المدينة لقوهم بالشر حتى إن الرجل ينصرف إلى بيته و أهله فيدق عليهم فيأبون أن يفتحوا له يقولون ألا تقدمت مع أصحابك فقتلت و جلس الكبراء منهم في بيوتهم استحياء من الناس حتى أرسل النبي ص رجلا يقول لهم أنتم الكرار في سبيل الله فخرجوا. (16/60)
قال الواقدي فحدثني مالك بن أبي الرجال عن عبد الله بن أبي بكر بن حزم عن أم جعفر بنت محمد بن جعفر عن جدتها أسماء بنت عميس قالت أصبحت في اليوم الذي أصيب فيه جعفر و أصحابه فأتاني رسول الله ص و قد منأت أربعين منا من أدم و عجنت عجيني و أخذت بني فغسلت وجوههم و دهنتهم فدخلت على شرح نهج البلاغة ج : 15 ص : 71رسول الله ص فقال يا أسماء أين بنو جعفر فجئت بهم إليه فضمهم و شمهم ثم ذرفت عيناه فبكى فقلت يا رسول الله لعله بلغك عن جعفر شي ء قال نعم إنه قتل اليوم فقمت أصيح و اجتمع إلى النساء فجعل رسول الله ص يقول يا أسماء تقولي هجرا و لا تضربي صدرا ثم خرج حتى دخل على ابنته فاطمة رضي الله عنها و هي تقول وا عماه فقال على مثل جعفر فلتبك الباكية ثم قال اصنعوا لآل جعفر طعاما فقد شغلوا عن أنفسهم اليوم (16/61)
قال الواقدي و حدثني محمد بن مسلم عن يحيى بن أبي يعلى قال سمعت عبد الله بن جعفر يقول أنا أحفظ حين دخل النبي ص على أمي فنعى إليها أبي فأنظر إليه و هو يمسح على رأسي و رأس أخي و عيناه تهراقان بالدمع حتى قطرت لحيته ثم قال اللهم إن جعفرا قدم إلي أحسن الثواب فاخلفه في ذريته بأحسن ما خلفت أحدا من عبادك في ذريته ثم قال يا أسماء أ لا أبشرك قالت بلى بأبي و أمي قال فإن الله جعل لجعفر جناحين يطير بهما في الجنة قالت بأبي و أمي فأعلم الناس ذلك فقام رسول الله ص و أخذ بيدي يمسح بيده رأسي حتى رقي على المنبر و أجلسني أمامه على الدرجة السفلى و إن الحزن ليعرف عليه فتكلم فقال إن المرء كثير بأخيه و ابن عمه ألا إن جعفرا قد استشهد و قد جعل الله له جناحين يطير بهما في الجنة ثم نزل فدخل بيته و أدخلني و أمر بطعام فصنع لنا و أرسل إلى أخي فتغدينا عنده غداء طيبا عمدت سلمى خادمته إلى شعير فطحنته ثم نشفته ثم أنضجته و آدمته بزيت و جعلت عليه فلفلا فتغديت أنا و أخي معه و أقمنا عنده ثلاثة أيام ندور معه في بيوت نسائه ثم أرجعنا إلى بيتنا و أتاني رسول الله ص بعد ذلك و أنا أساوم في شاة فقال اللهم بارك له في صفقته فو الله ما بعت شيئا و لا اشتريت إلا بورك فيه (16/62)
شرح نهج البلاغة ج : 15 ص : 72فصل في ذكر بعض مناقب جعفر بن أبي طالبروى أبو الفرج الأصفهاني في كتاب مقاتل الطالبيين أن كنية جعفر بن أبي طالب أبو المساكين و قال و كان ثالث الإخوة من ولد أبي طالب أكبرهم طالب و بعده عقيل و بعده جعفر و بعده علي و كل واحد منهم أكبر من الآخر بعشر سنين و علي أصغرهم سنا و أمهم جميعا فاطمة بنت أسد بن هاشم بن عبد مناف و هي أول هاشمية ولدت لهاشمي و فضلها كثير و قربها من رسول الله ص و تعظيمه لها معلوم عند أهل الحديث. و روى أبو الفرج لجعفر رضي الله عنه فضل كثير و قد ورد فيه حديث كثير
من ذلك أن رسول الله ص لما فتح خيبر قدم جعفر بن أبي طالب من الحبشة فالتزمه رسول الله ص و جعل يقبل بين عينيه و يقول ما أدري بأيهما أنا أشد فرحا بقدوم جعفر أم بفتح خيبر (16/63)
قال و قد روى خالد الحذاء عن عكرمة عن أبي هريرة أنه قال ما ركب المطايا و لا ركب الكور و لا انتعل و لا احتذى النعال أحد بعد رسول الله ص أفضل من جعفر بن أبي طالب.
قال و قد روى عطية عن أبي سعيد الخدري قال قال رسول الله ص خير الناس حمزة و جعفر و علي
و قد روى جعفر بن محمد عن أبيه ع قال قال رسول الله ص خلق الناس من أشجار شتى و خلقت أنا و جعفر من شجرة واحدة أو قال من طينة واحدة
شرح نهج البلاغة ج : 15 ص : 73 قال و بالإسناد قال رسول الله ص لجعفر أنت أشبهت خلقي و خلقيو قال أبو عمر بن عبد البر في كتاب الاستيعاب كانت سن جعفر ع يوم قتل إحدى و أربعين سنة.
قال أبو عمر و قد روى ابن المسيب أن رسول الله ص قال مثل لي جعفر و زيد و عبد الله في خيمة من در كل واحد منهم على سرير فرأيت زيدا و ابن رواحة في أعناقهما صدودا و رأيت جعفرا مستقيما ليس فيه صدود فسألت فقيل لي إنهما حين غشيهما الموت أعرضا و صدا بوجهيهما و أما جعفر فلم يفعل
قال أبو عمر أيضا و روي عن الشعبي قال سمعت عبد الله بن جعفر يقول كنت إذا سألت عمي عليا ع شيئا و يمنعني أقول له بحق جعفر فيعطيني. و
روى أبو عمر أيضا في حرف الزاي في باب زيد بن حارثة أن رسول الله ص لما أتاه قتل جعفر و زيد بمؤتة بكى و قال أخواي و مؤنساي و محدثاي
و اعلم أن هذه الكلمات التي ذكرها الرضي رحمة الله عليه ملتقطة من كتابه ع الذي كتبه جوابا عن كتاب معاوية النافذ إليه مع أبي مسلم الخولاني و قد ذكره أهل السيرة في كتبهم روى نصر بن مزاحم في كتاب صفين عن عمر بن سعد عن أبي ورقاء قال جاء أبو مسلم الخولاني في ناس من قراء أهل الشام إلى معاوية قبل مسير أمير المؤمنين ع إلى صفين فقالوا له يا معاوية علام تقاتل عليا و ليس لك شرح نهج البلاغة ج : 15 ص : 74مثل صحبته و لا هجرته و لا قرابته و لا سابقته فقال إني لا أدعي أن لي في الإسلام مثل صحبته و لا مثل هجرته و لا قرابته وكن خبروني عنكم أ لستم تعلمون أن عثمان قتل مظلوما قالوا بلى قال فليدفع إلينا قتلته لنقتلهم به و لا قتال بيننا و بينه قالا فاكتب إليه كتابا يأته به بعضنا فكتب مع أبي مسلم الخولاني من معاوية بن أبي سفيان إلى علي بن أبي طالب سلام عليك فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو أما بعد فإن الله اصطفى محمدا بعلمه و جعله الأمين على وحيه و الرسول إلى خلقه و اجتبى له من المسلمين أعوانا أيده الله تعالى بهم فكانوا في منازلهم عنده على قدر فضائلهم في الإسلام فكان أفضلهم في الإسلام و أنصحهم لله و رسوله الخليفة من بعده ثم خليفة خليفته من بعد خليفته ثم الثالث الخليفة المظلوم عثمان فكلهم حسدت و على كلهم بغيت عرفنا ذلك في نظرك الشزر و قولك الهجر و تنفسك الصعداء و إبطائك عن الخلفاء تقاد إلى كل منهم كما يقاد الفحل المخشوش حتى تبايع و أنت كاره ثم لم تكن لأحد منهم بأعظم حسدا منك لابن عمك عثمان و كان أحقهم ألا تفعل ذلك في قرابته و صهره فقطعت رحمه و قبحت محاسنه و ألبت الناس عليه و بطنت و ظهرت حتى ضربت إليه آباط الإبل و قيدت إليه الإبل العراب و حمل عليه السلاح في حرم رسول الله ص فقتل معك في المحلة و أنت تسمع في داره الهائعة لا تردع الظن و التهمة عن نفسك بقول و لا عمل و أقسم قسما صادقا لو قمت فيما كان (16/64)
من أمره مقاما واحدا تنهنه الناس (16/65)
شرح نهج البلاغة ج : 15 ص : 75عنه ما عدل بك من قبلنا من الناس أحدا و لمحا ذلك عندهم ما كانوا يعرفونك به من المجانبة لعثمان و البغي عليه و أخرى أنت بها عند أنصار عثمان ظنين إيواؤك قتلة عثمان فهم عضدك و أنصارك و يدك و بطانتك و قد ذكر لي أنك تتنصل من دمه فإكنت صادقا فأمكنا من قتلته نقتلهم به و نحن أسرع الناس إليك و إلا فإنه ليس لك و لأصحابك إلا السيف و الذي لا إله إلا هو لنطلبن قتلة عثمان في الجبال و الرمال و البر و البحر حتى يقتلهم الله أو لتلحقن أرواحنا بالله و السلام. قال نصر فلما قدم أبو مسلم على علي ع بهذا الكتاب قام فحمد الله و أثنى عليه ثم قال أما بعد فإنك قد قمت بأمر وليته و و الله ما أحب أنه لغيرك إن أعطيت الحق من نفسك إن عثمان قتل مسلما محرما مظلوما فادفع إلينا قتلته و أنت أميرنا فإن خالفك من الناس أحد كانت أيدينا لك ناصرة و ألسنتنا لك شاهدة و كنت ذا عذر و حجة فقال له علي ع اغد علي غدا فخذ جواب كتابك فانصرف ثم رجع من غد ليأخذ جواب كتابه فوجد الناس قد بلغهم الذي جاء فيه قبل فلبست الشيعة أسلحتها ثم غدوا فملئوا المسجد فنادوا كلنا قتلة عثمان و أكثروا من النداء بذلك و أذن لأبي مسلم فدخل فدفع علي ع جواب كتاب معاوية فقال أبو مسلم لقد رأيت قوما ما لك معهم أمر قال و ما ذاك قال بلغ القوم أنك تريد أن تدفع إلينا قتلة عثمان فضجوا و اجتمعوا و لبسوا السلاح و زعموا أنهم قتلة عثمان فقال علي ع و الله ما أردت أن أدفعهم إليكم طرفة عين قط لقد ضربت هذا الأمر أنفه و عينه فما رأيته ينبغي لي أن أدفعهم إليك و لا إلى غيرك فخرج أبو مسلم بالكتاب و هو يقول الآن طاب الضراب شرح نهج البلاغة ج : 15 ص : 76و كان جواب علي ع من عبد الله علي أمير المؤمنين إلى معاوية بن أبي سفيان أما بعد فإن أخا خولان قدم علي بكتاب منك تذكر فيه محمدا ص و ما أنعم الله به عليه من الهدى و
الوحي فالحمد لله الذي صدقه الوعد و أيده بالنصر و مكن له في البلاد و أظهره على أهل العداوة و الشنئان من قومه الذين وثبوا عليه و شنفوا له و أظهروا تكذيبه و بارزوه بالعداوة و ظاهروا على إخراجه و على إخراج أصحابه و أهله و ألبوا عليه العرب و جادلوهم على حربه و جهدوا في أمره كل الجهد و قلبوا له الأمور حتى جاء الحق و ظهر أمر الله و هم كارهون و كان أشد الناس عليه تأليبا و تحريضا أسرته و الأدنى فالأدنى من قومه إلا من عصم الله و ذكرت أن الله تعالى اجتبى له من المسلمين أعوانا أيده الله بهم فكانوا في منازلهم عنده على قدر فضائلهم في الإسلام فكان أفضلهم زعمت في الإسلام و أنصحهم لله و لرسوله الخليفة و خليفة الخليفة و لعمري إن مكانهما في الإسلام لعظيم و إن المصاب بهما لجرح في الإسلام شديد فرحمهما الله و جزاهما أحسن ما عملا و ذكرت أن عثمان كان في الفضل تاليا فإن يك عثمان محسنا فسيجزيه الله بإحسانه و إن يك مسيئا فسيلقى ربا غفورا لا يتعاظمه ذنب أن يغفره و لعمري إني لأرجو إذا أعطى الله الناس على قدر فضائلهم في الإسلام و نصيحتهم لله و لرسوله أن يكون نصيبنا في ذلك الأوفر إن محمدا ص لما دعا إلى الإيمان بالله و التوحيد له كنا أهل البيت أول من آمن به و صدقه فيما جاء فبتنا أحوالا كاملة مجرمة تامة و ما يعبد الله في ربع ساكن من شرح نهج البلاغة ج : 15 ص : 77العرب غيرنا فأراد قومنا قتل نبينا و اجتياح أصلنا و هموا بنا الهموم و فعلوا بنا الأفاعيل و منعونا الميرة و أمسكوا عنا العذب و أحلسونا الخوف و جعلوا علينا الأرصاد و العيون و اضطرونا إلى جبل وعر و أوقدوا لنا نار الحرب و كتبوا بين كتابا لا يؤاكلوننا و لا يشاربوننا و لا يناكحوننا و لا يبايعوننا و لا نأمن منهم حتى ندفع إليهم محمدا فيقتلوه و يمثلوا به فلم نكن نأمن فيهم إلا من موسم إلى موسم فعزم الله لنا على منعه و الذب عن حوزته و الرمي من وراء حرمته و (16/66)
القيام بأسيافنا دونه في ساعات الخوف بالليل و النهار فمؤمننا يرجو بذلك الثواب و كافرنا يحامي عن الأصل و أما من أسلم من قريش فإنهم مما نحن فيه خلاء منهم الحليف الممنوع و منهم ذو العشيرة التي تدافع عنه فلا يبغيه أحد مثل ما بغانا به قومنا من التلف فهم من القتل بمكان نجوة و أمن فكان ذلك ما شاء الله أن يكون ثم أمر الله تعالى رسوله بالهجرة و أذن له بعد ذلك في قتال المشركين فكان إذا احمر البأس و دعيت نزال أقام أهل بيته فاستقدموا فوقى أصحابه بهم حد الأسنة و السيوف فقتل عبيدة يوم بدر و حمزة يوم أحد و جعفر و زيد يوم مؤتة و أراد من لو شئت ذكرت اسمه مثل الذي أرادوا من الشهادة مع النبي ص غير مرة إلا أن آجالهم عجلت و منيته أخرت و الله ولى الإحسان إليهم و المنة عليهم بما أسلفوا من أمر الصالحات فما سمعت بأحد و لا رأيته هو أنصح في طاعة رسوله و لا لنبيه و لا أصبر على اللأواء و السراء و الضراء و حين البأس و مواطن المكروه مع النبي ص من هؤلاء النفر الذين سميت لك و في المهاجرين خير كثير يعرف جزاهم الله خيرا بأحسن (16/67)
شرح نهج البلاغة ج : 15 ص : 78أعمالهم و ذكرت حسدي الخلفاء و إبطائي عنهم و بغيي عليهم فأما البغي فمعاذ الله أن يكون و أما الإبطاء عنهم و الكراهية لأمرهم فلست أعتذر إلى الناس من ذلك إن الله تعالى ذكره لما قبض نبيه ص قالت قريش منا أمير و قالت الأنصار منا أم فقالت قريش منا محمد نحن أحق بالأمر فعرفت ذلك الأنصار فسلمت لهم الولاية و السلطان فإذا استحقوها بمحمد ص دون الأنصار فإن أولى الناس بمحمد أحق به منهم و إلا فإن الأنصار أعظم العرب فيها نصيبا فلا أدري أصحابي سلموا من أن يكونوا حقي أخذوا أو الأنصار ظلموا بل عرفت إن حقي هو المأخوذ و قد تركته لهم تجاوزا لله عنهم و أما ما ذكرت من أمر عثمان و قطيعتي رحمه و تأليبي عليه فإن عثمان عمل ما قد بلغك فصنع الناس به ما رأيت و إنك لتعلم أني قد كنت في عزلة عنه إلا أن تتجني فتجن ما بدا لك و أما ما ذكرت من أمر قتله عثمان فإني نظرت في هذا الأمر و ضربت أنفه و عينه فلم أر دفعهم إليك و لا إلى غيرك و لعمري لئن لم تنزع عن غيك و شقاقك لتعرفنهم عن قليل يطلبونك لا يكلفونك أن تطلبهم في بر و لا بحر و لا سهل و لا جبل و قد أتاني أبوك حين ولى الناس أبا بكر فقال أنت أحق بمقام محمد و أولى الناس بهذا الأمر و أنا زعيم لك بذلك على من خالف ابسط يدك أبايعك فلم أفعل و أنت تعلم أن أباك قد قال ذلك و أراده حتى كنت أنا الذي أبيت لقرب عهد الناس بالكفر مخافة الفرقة بين أهل الإسلام فأبوك كان أعرف بحقي منك فإن تعرف من حقي ما كان أبوك يعرف تصب رشدك و إن لم تفعل فسيغني الله عنك و السلام (16/68)
شرح نهج البلاغة ج : 15 ص : 1079- و من كتاب له ع إلى معاوية أيضاوَ كَيْفَ أَنْتَ صَانِعٌ إِذَا تَكَشَّفَتْ عَنْكَ جَلَابِيبُ مَا أَنْتَ فِيهِ مِنْ دُنْيَا قَدْ تَبَهَّجَتْ بِزِينَتِهَا وَ خَدَعَتْ بِلَذَّتِهَا دَعَتْكَ فَأَجَبْتَهَا وَ قَادَتْكَ فَاتَّبَعْتَهَا وَ أَمَرَتْكَ فَأَطَعْتَهَا وَ إِنَّهُ يُوشِكُ أَنْ يَقِفَكَ وَاقِفٌ عَلَى مَا لَا يُنْجِيكَ مِنْهُ مُنْجٍ فَاقْعَسْ عَنْ هَذَا الْأَمْرِ وَ خُذْ أُهْبَةَ الْحِسَابِ وَ شَمِّرْ لِمَا قَدْ نَزَلَ بِكَ وَ لَا تُمَكِّنِ الْغُوَاةَ مِنْ سَمْعِكَ وَ إِلَّا تَفْعَلْ أُعْلِمْكَ مَا أَغْفَلْتَ مِنْ نَفْسِكَ فَإِنَّكَ مُتْرَفٌ قَدْ أَخَذَ الشَّيْطَانُ مِنْكَ مَأْخَذَهُ وَ بَلَغَ فِيكَ أَمَلَهُ وَ جَرَى مِنْكَ مَجْرَى الرُّوحِ وَ الدَّمِ وَ مَتَى كُنْتُمْ يَا مُعَاوِيَةُ سَاسَةَ الرَّعِيَّةِ وَ وُلَاةَ أَمْرِ الْأُمَّةِ بِغَيْرِ قَدَمٍ سَابِقٍ وَ لَا شَرَفٍ بَاسِقٍ وَ نَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ لُزُومِ سَوَابِقِ الشَّقَاءِ وَ أُحَذِّرُكَ أَنْ تَكُونَ مُتَمَادِياً فِي غِرَّةِ الْأُمْنِيِّةِ مُخْتَلِفَ الْعَلَانِيَةِ وَ السَّرِيرَةِ وَ قَدْ دَعَوْتَ إِلَى الْحَرْبِ فَدَعِ النَّاسَ جَانِباً وَ اخْرُجْ إِلَيَّ وَ أَعْفِ الْفَرِيقَيْنِ مِنَ الْقِتَالِ لِتَعْلَمَ أَيُّنَا الْمَرِينُ عَلَى قَلْبِهِ وَ الْمُغَطَّى عَلَى بَصَرِهِ فَأَنَا أَبُو حَسَنٍ قَاتِلُ جَدِّكَ وَ أَخِيكَ وَ خَالِكَ شَدْخاً يَوْمَ بَدْرٍ وَ ذَلِكَ السَّيْفُ مَعِي وَ بِذَلِكَ الْقَلْبِ أَلْقَى عَدُوِّي مَا اسْتَبْدَلْتُ دِيناً وَ لَا اسْتَحْدَثْتُ نَبِيّاً وَ إِنِّي لَعَلَى الْمِنْهَاجِ الَّذِي تَرَكْتُمُوهُ طَائِعِينَ وَ دَخَلْتُمْ فِيهِ مُكْرَهِينَ وَ زَعَمْتَ أَنَّكَ جِئْتَ ثَائِراً بِدَمِ عُثْمَانَ وَ لَقَدْ عَلِمْتَ حَيْثُ وَقَعَ دَمُ عُثْمَانَ فَاطْلُبْهُ (16/69)
شرح نه البلاغة ج : 15 ص : 80مِنْ هُنَاكَ إِنْ كُنْتَ طَالِباً فَكَأَنِّي قَدْ رَأَيْتُكَ تَضِجُّ مِنَ الْحَرْبِ إِذَا عَضَّتْكَ ضَجِيجَ الْجِمَالِ بِالْأَثْقَالِ وَ كَأَنِّي بِجَمَاعَتِكَ تَدْعُونِي جَزَعاً مِنَ الضَّرْبِ الْمُتَتَابِعِ وَ الْقَضَاءِ الْوَاقِعِوَ مَصَارِعَ بَعْدَ مَصَارِعَ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ وَ هِيَ كَافِرَةٌ جَاحِدَةٌ أَوْ مُبَايِعَةٌ حَائِدَةٌ (16/70)
الجلابيب جمع جلباب و هي الملحفة في الأصل و استعير لغيرها من الثياب و تجلبب الرجل جلببة و لم تدغم لأنها ملحقة بدحرجة. قوله و تبهجت بزينتها صارت ذات بهجة أي زينة و حسن و قد بهج الرجل بالضم و يوشك يسرع. و يقفك واقف يعني الموت و يروى و لا ينحيك مجن و هو الترس و الرواية الأولى أصح. قوله فاقعس عن هذا الأمر أي تأخر عنه و الماضي قعس بالفتح و مثله تقاعس و اقعنسس. و أهبة الحساب عدته و تأهب استعد و جمع الأهبة أهب. و شمر لما قد نزل بك أي جد و اجتهد و خف و منه رجل شمري بفتح الشين و تكسر. و الغواة جمع غاو و هو الضال. قوله و إلا تفعل يقول و إن كنت لا تفعل ما قد أمرتك و وعظتك به فإني أعرفك من نفسك ما أغفلت معرفته. إنك مترف و المترف الذي قد أترفته النعمة أي أطغته شرح نهج البلاغة ج : 15 ص : 81قد أخذ الشيطان منك مأخذه و يروى مآخذه بالجمع أي تناول الشيطان منك لبك و عقلك و مأخ مصدر أي تناولك الشيطان تناوله المعروف و حذف مفعول أخذ لدلالة الكلام عليه و لأن اللفظة تجري مجرى المثل. قوله و جرى منك مجرى الروح و الدم هذه
كلمة رسول الله ص إن الشيطان ليجري من ابن آدم مجرى الدم
ثم خرج ع إلى أمر آخر فقال لمعاوية و متى كنتم ساسة الرعية و ولاة أمر الأمة ينبغي أن يحمل هذا الكلام على نفي كونهم سادة و ولاة في الإسلام و إلا ففي الجاهلية لا ينكر رئاسة بني عبد شمس و لست أقول برياستهم على بني هاشم و لكنهم كانوا رؤساء على كثير من بطون قريش أ لا ترى أن بني نوفل بن عبد مناف ما زالوا أتباعا لهم و أن بني عبد شمس كانوا في يوم بدر قادة الجيش كان رئيس الجيش عتبة بن ربيعة و كانوا في يوم أحد و يوم الخندق قادة الجيش كان الرئيس في هذين اليومين أبا سفيان بن حرب و أيضا فإن في لفظة أمير المؤمنين ع ما يشعر بما قلناه و هو قوله و ولاة أمر الأمة فإن الأمة في العرب هم المسلمون أمة محمد ص. قوله ع بغير قدم سابق يقال لفلان قدم صدق أي سابقة و أثرة حسنة. قوله ع و لا شرف باسق أي عال. و تمادى تفاعل من المدى و هو الغاية أي لم يقف بل مضى قدما. و الغرة الغفلة و الأمنية طمع النفس و مختلف السريرة و العلانية منافق. قوله ع فدع الناس جانبا منصوب على الظرف. شرح نهج البلاغة ج : 15 ص : 82و المرين على قلبه المغلوب عليه من قوله تعالى كَلَّا بَلْ رانَ عَلى قُلُوبِهِمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ و قيل الرين الذنب على القريب. و إنما قال ير المؤمنين ع لمعاوية هذه الكلمة لأن معاوية قالها في رسالة كتبها و وقفت عليها من كتاب أبي العباس يعقوب بن أبي أحمد الصيمري الذي جمعه من كلام علي ع و خطبه و أولها أما بعد فإنك المطبوع على قلبك المغطى على بصرك الشر من شيمتك و العتو من خليقتك فشمر للحرب و اصبر للضرب فو الله ليرجعن الأمر إلى ما علمت و العاقبة للمتقين هيهات هيهات أخطأك ما تمنى و هوى قلبك فيما هوى فأربع على ظلعك و قس شبرك بفترك تعلم أين حالك من حال من يزن الجبال حلمه و يفصل بين أهل الشك علمه و السلام. (16/71)
فكتب إليه أمير المؤمنين ع أما بعد يا ابن صخر يا ابن اللعين يزن الجبال فيما زعمت حلمك و يفصل بين أهل الشك علمك و أنت الجاهل القليل الفقه المتفاوت العقل الشارد عن الدين و قلت فشمر للحرب و اصبر فإن كنت صادقا فيما تزعم و يعينك عليه ابن النابغة فدع الناس جانبا و أعف الفريقين من القتال و ابرز إلي لتعلم أينا المرين على قلبه المغطى على بصره فأنا أبو الحسن حقا قاتل أخيك و خالك و جدك شدخا يوم بدر و ذلك السيف معي و بذلك القلب ألقى عدوي (16/72)
شرح نهج البلاغة ج : 15 ص : 83قوله ع شدخا الشدخ كسر الشي ء الأجوف شدخت رأسه فانشدخ و هؤلاء الثلاثة حنظلة بن أبي سفيان و الوليد بن عتبة و أبوه عتبة بن ربيعة فحنظلة أخوه و الوليد خاله و عتبة جده و قد تقدم ذكر قتلة إياهم في غزاة بدر. و الثائر طالب الثأر و ه قد علمت حيث وقع دم عثمان فاطلبه من هناك يريد به إن كنت تطلب ثأرك من عند من أجلب و حاصر فالذي فعل ذلك طلحة و الزبير فاطلب ثأرك من بني تميم و من بني أسد بن عبد العزى و إن كنت تطلبه ممن خذل فاطلبه من نفسك فإنك خذلته و كنت قادرا على أن ترفده و تمده بالرجال فخذلته و قعدت عنه بعد أن استنجدك و استغاث بك. و تضج تصوت و الجاحدة المنكرة و الحائدة العادلة عن الحق. و اعلم أن قوله و كأني بجماعتك يدعونني جزعا من السيف إلى كتاب الله تعالى إما أن يكون فراسة نبوية صادقة و هذا عظيم و إما أن يكون إخبارا عن غيب مفصل و هو أعظم و أعجب و على كلا الأمرين فهو غاية العجب و قد رأيت له ذكر هذا المعنى في كتاب غير هذا و هو أما بعد فما أعجب ما يأتيني منك و ما أعلمني بمنزلتك التي أنت إليها صائر و نحوها سائر و ليس إبطائي عنك إلا لوقت أنا به مصدق و أنت به مكذب و كأني أراك و أنت تضج من الحرب و إخوانك يدعونني خوفا من السيف إلى كتاب هم به كافرون و له جاحدون. و وقفت له ع على كتاب آخر إلى معاوية يذكر فيه هذا المعنى أوله
أما بعد فطالما دعوت أنت و أولياؤك أولياء الشيطان الحق أساطير و نبذتموه وراء شرح نهج البلاغة ج : 15 ص : 84ظهوركم و حاولتم إطفاءه بأفواهكم وَ يَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَ لَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ و لعمري لينفذن العلم فيك و ليتمن النور بصغ و قماءتك و لتخسأن طريدا مدحورا أو قتيلا مثبورا و لتجزين بعملك حيث لا ناصر لك و لا مصرخ عندك و قد أسهبت في ذكر عثمان و لعمري ما قتله غيرك و لا خذله سواك و لقد تربصت به الدوائر و تمنيت له الأماني طمعا فيما ظهر منك و دل عليه فعلك و إني لأرجو أن ألحقك به على أعظم من ذنبه و أكبر من خطيئته فأنا ابن عبد المطلب صاحب السيف و إن قائمه لفي يدي و قد علمت من قتلت به من صناديد بني عبد شمس و فراعنة بني سهم و جمح و بني مخزوم و أيتمت أبناءهم و أيمت نساءهم و أذكرك ما لست له ناسيا يوم قتلت أخاك حنظلة و جررت برجله إلى القليب و أسرت أخاك عمرا فجعلت عنقه بين ساقيه رباطا و طلبتك ففررت و لك حصاص فلو لا أني لا أتبع فارا لجعلتك ثالثهما و أنا أولي لك بالله ألية برة غير فاجرة لئن جمعتني و إياك جوامع الأقدار لأتركنك مثلا يتمثل به الناس أبدا و لأجعجعن بك في مناخك حتى يحكم الله بيني و بينك و هو خير الحاكمين و لئن أنسأ الله في أجلي قليلا لأغزينك سرايا المسلمين و لأنهدن إليك في جحفل من المهاجرين و الأنصار ثم لا أقبل لك معذرة و لا شفاعة و لا أجيبك إلى طلب و سؤال و لترجعن إلى تحيرك و ترددك و تلددك فقد شاهدت و أبصرت و رأيت شرح نهج البلاغة ج 15 ص : 85سحب الموت كيف هطلت عليك بصيبها حتى اعتصمت بكتاب أنت و أبوك أول من كفر و كذب بنزوله و لقد كنت تفرستها و آذنتك أنك فاعلها و قد مضى منها ما مضى و انقضى من كيدك فيها ما انقضى و أنا سائر نحوك على أثر هذا الكتاب فاختر لنفسك و انظر لها و تداركها فإنك إن فطرت و استمررت على غيك و غلوائك حتى ينهد إليك عباد الله أرتجت عليك (16/73)
الأمور و منعت أمرا هو اليوم منك مقبول يا ابن حرب إن لجاجك في منازعة الأمر أهله من سفاه الرأي فلا يطمعنك أهل الضلال و لا يوبقنك سفه رأي الجهال فو الذي نفس علي بيده لئن برقت في وجهك بارقة من ذي الفقار لتصعقن صعقة لا تفيق منها حتى ينفخ في الصور النفخة التي يئست منها كَما يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحابِ الْقُبُورِ (16/74)
قلت سألت النقيب أبا زيد عن معاوية هل شهد بدرا مع المشركين فقال نعم شهدها ثلاثة من أولاد أبي سفيان حنظلة و عمرو و معاوية قتل أحدهم و أسر الآخر و أفلت معاوية هاربا على رجليه فقدم مكة و قد انتفخ قدماه و ورمت ساقاه فعالج نفسه شهرين حتى برأ. قال النقيب أبو زيد و لا خلاف عند أحد أن عليا ع قتل حنظلة و أسر عمرا أخاه و لقد شهد بدرا و هرب على رجليه من هو أعظم منهما و من أخيهما عمرو بن عبد ود فارس يوم الأحزاب شهدها و نجا هاربا على قدميه و هو شيخ كبير شرح نهج البلاغة ج : 15 ص : 86و ارتث جريحا فوصل إلى مكة و هو وقيذ ف يشهد أحدا فلما برأ شهد الخندق فقتله قاتل الأبطال و الذي فاته يوم بدر استدركه يوم الخندق. ثم قال لي النقيب رحمه الله أ ما سمعت نادرة الأعمش و مناظره فقلت ما أعلم ما تريد فقال سأل رجل الأعمش و كان قد ناظر صاحبا له هل معاوية من أهل بدر أم لا فقال له أصلحك الله هل شهد معاوية بدرا فقال نعم من ذلك الجانب و اعلم أن هذه الخطبة قد ذكرها نصر بن مزاحم في كتاب صفين على وجه يقتضي أن ما ذكره الرضي رحمه الله منها قد ضم إليه بعض خطبة أخرى و هذه عادته لأن غرضه التقاط الفصيح و البليغ من كلامه و
الذي ذكره نصر بن مزاحم هذه صورته من عبد الله علي أمير المؤمنين إلى معاوية بن أبي سفيان سلام على من اتبع الهدى فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو أما بعد فإنك قد رأيت مرور الدنيا و انقضاءها و تصرمها و تصرفها بأهلها و خير ما اكتسب من الدنيا ما أصابه العباد الصالحون منها من التقوى و من يقس الدنيا بالآخرة يجد بينهما بعيدا و اعلم يا معاوية أنك قد ادعيت أمرا لست من أهله لا في القديم و لا في الحديث و لست تقول فيه بأمر بين يعرف له أثر و لا عليك منه شاهد من كتاب الله و لست متعلقا بآية من شرح نهج البلاغة ج : 1ص : 87كتاب الله و لا عهد من رسول الله ص فكيف أنت صانع إذا تقشعت عنك غيابة ما أتت فيه من دنيا قد فتنت بزينتها و ركنت إلى لذاتها و خلي بينك و بين عدوك فيها و هو عدو و كلب مضل جاهد مليح ملح مع ما قد ثبت في نفسك من جهتها دعتك فأجبتها و قادتك فاتبعتها و أمرتك فأطعتها فاقعس عن هذا الأمر و خذ أهبة الحساب فإنه يوشك أن يقفك واقف على ما لا يجنك مجن و متى كنتم يا معاوية ساسة الرعية أو ولاة لأمر هذه الأمة بلا قدم حسن و لا شرف تليد على قومكم فاستيقظ من سنتك و ارجع إلى خالقك و شمر لما سينزل بك و لا تمكن عدوك الشيطان من بغيته فيك مع أني أعرف أن الله و رسوله صادقان نعوذ بالله من لزوم سابق الشقاء و إلا تفعل فإني أعلمك ما أغفلت من نفسك إنك مترف قد أخذ منك الشيطان مأخذه فجرى منك مجرى الدم في العروق و لست من أئمة هذه الأمة و لا من رعاتها و اعلم أن هذا الأمر لو كان إلى الناس أو بأيديهم لحسدوناه و لامتنوا علينا به و لكنه قضاء ممن منحناه و اختصنا به على لسان نبيه الصادق المصدق لا أفلح من شك بعد العرفان و البينة رب احكم بيننا و بين عدونا بالحق و أنت خير الحاكمين (16/75)
قال نصر فكتب معاوية إليه الجواب من معاوية بن أبي سفيان إلى علي بن أبي طالب أما بعد فدع الحسد فإنك طالما لم تنتفع به و لا تفسد سابقة شرح نهج البلاغة ج : 15 ص : 88جهادك بشرة نخوتك فإن الأعمال بخواتيمها و لا تمحص سابقتك بقتال من لا حق لك في حقه فإنك إن تفعلا تضر بذلك إلا نفسك و لا تمحق إلا عملك و لا تبطل إلا حجتك و لعمري إن ما مضى لك من السابقات لشبيه أن يكون ممحوقا لما اجترأت عليه من سفك الدماء و خلاف أهل الحق فاقرأ السورة التي يذكر فيها الفلق و تعوذ من نفسك فإنك الحاسد إذا حسد (16/76)
شرح نهج البلاغة ج : 15 ص : 1189- و من وصية له ع وصى بها جيشا بعثه إلى العدوفَإِذَا نَزَلْتُمْ بِعَدُوٍّ أَوْ نَزَلَ بِكُمْ فَلْيَكُنْ مُعَسْكَرُكُمْ فِي قُبُلِ الْأَشْرَافِ أَوْ سِفَاحِ الْجِبَالِ أَوْ أَثْنَاءِ الْأَنْهَارِ كَيْمَا يَكُونَ لَكُمْ رِدْءاً وَ دُونَكُمْ مَرَدّاً وَ لْتَكُنْ مُقَاتَلَتُكُمْ مِنْ وَجْهٍ وَاحِدٍ أَوِ اثْنَيْنِ وَ اجْعَلُوا لَكُمْ رُقَبَاءَ فِي صَيَاصِي الْجِبَالِ وَ مَنَاكِبِ الْهِضَابِ لِئَلَّا يَأْتِيَكُمُ الْعَدُوُّ مِنْ مَكَانِ مَخَافَةٍ أَوْ أَمْنٍ وَ اعْلَمُوا أَنَّ مُقَدِّمَةَ الْقَوْمِ عُيُونُهُمْ وَ عُيُونَ الْمُقَدِّمَةِ طَلَائِعُهُمْ وَ إِيَّاكُمْ وَ التَّفَرُّقَ فَإِذَا نَزَلْتُمْ فَانْزِلُوا جَمِيعاً وَ إِذَا ارْتَحَلْتُمْ فَارْتَحِلُوا جَمِيعاً وَ إِذَا غَشِيكُمُ اللَّيْلُ فَاجْعَلُوا الرِّمَاحَ كِفَّةً وَ لَا تَذُوقُوا النَّوْمَ إِلَّا غِرَاراً أَوْ مَضْمَضَةً
المعسكر بفتح الكاف موضع العسكر و حيث ينزل. الأشراف الأماكن العالية و قبلها ما استقبلك منها و ضده الدبر. و سفاح الجبال أسافلها حيث يسفح منها الماء. و أثناء الأنهار ما انعطف منها واحدها ثني و المعنى أنه أمرهم أن ينزلوا مسندين ظهورهم إلى مكان عال كالهضاب العظيمة أو الجبال أو منعطف الأنهار التي تجري مجرى الخنادق على العسكر ليأمنوا بذلك من البيات و ليأمنوا أيضا من إتيان العدو لهم شرح نهج البلاغة ج : 15 ص : 90من خلفهم و قد فسر ذلك بقوله كيما يكون لكم ردءا و الردء العون قال الله تعالى فَأَرْسِلْهُ مَعِي رِدْءاً يُصَدِّقُنِي. و دونكم مردا أي حاجزا بينكم و بين العدو. ثم أمرهم بأن يكون مقاتلتهم بفتح التاء و هي مصدر قاتل من وجه واحد أوثنين أي لا تتفرقوا و لا يكن قتالكم العدو في جهات متشعبة فإن ذلك أدعى إلى الوهن و اجتماعكم أدعى إلى الظفر ثم أمرهم أن يجعلوا رقباء في صياصي الجبال و صياصي الجبال أعاليها و ما جرى مجرى الحصون منها و أصل الصياصي القرون ثم استعير ذلك للحصون لأنه يمتنع بها كما يمتنع ذو القرن بقرنه و مناكب الهضاب أعاليها لئلا يأتيكم العدو إما من حيث تأمنون أو من حيث تخافون. قوله ع مقدمة القوم عيونهم المقدمة بكسر الدال و هم الذين يتقدمون الجيش أصله مقدمة القوم أي الفرقة المتقدمة و الطلائع طائفة من الجيش تبعث ليعلم منها أحوال العدو و قال ع المقدمة عيون الجيش و الطلائع عيون المقدمة فالطلائع إذا عيون الجيش. ثم نهاهم عن التفرق و أمرهم أن ينزلوا جميعا و يرحلوا جميعا لئلا يفجأهم العدو بغتة على غير تعبئة و اجتماع فيستأصلهم ثم أمرهم أن يجعلوا الرماح كفة إذا غشيهم الليل و الكاف مكسورة أي اجعلوها مستديرة حولكم كالدائرة و كل ما استدار كفة بالكسر نحو كفة الميزان و كل ما استطال كفة بالضم نحو كفة الثوب و هي حاشيته و كفة الرمل و هو ما كان منه كالحبل. ثم نهاهم عن النوم إلا غرارا أو مضمضة و (16/77)
كلا اللفظتين ما قل من النوم. (16/78)
شرح نهج البلاغة ج : 15 ص : 91و قال شبيب الخارجي الليل يكفيك الجبان و يصف الشجاع. و كان إذا أمسى قال لأصحابه أتاكم المدد يعني الليل. قيل لبعض الملوك بيت عدوك قال أكره أن أجعل غلبتي سرقة. و لما فصل قحطبة من خراسان و في جملته خالد بن برمك بينا هو على سطح ب في قرية نزلاها و هم يتغدون نظر إلى الصحراء فرأى أقاطيع ظباء قد أقبلت من جهة الصحاري حتى كادت تخالط العسكر فقال خالد لقحطبة أيها الأمير ناد في الناس يا خيل الله اركبي فإن العدو قد قرب منك و عامة أصحابك لن يسرجوا و يلجموا حتى يروا سرعان الخيل فقام قحطبة مذعورا فلم ير شيئا يروعه و لم يعاين غبارا فقال لخالد ما هذا الرأي فقال أيها الأمير لا تتشاغل بي و ناد في الناس أ ما ترى أقاطيع الوحوش قد أقبلت و فارقت مواضعها حتى خالطت الناس و إن وراءها لجمعا كثيفا قال فو الله ما أسرجوا و لا ألجموا حتى رأوا النقع و ساطع الغبار فسلموا و لو لا ذلك لكان الجيش قد اصطلم
شرح نهج البلاغة ج : 15 ص : 1292- و من وصية له ع وصى بها معقل بن قيس الرياحي حين أنفذه إلى الشام في ثلاثة آلاف مقدمة لهاتَّقِ اللَّهَ الَّذِي لَا بُدَّ لَكَ مِنْ لِقَائِهِ وَ لَا مُنْتَهَى لَكَ دُونَهُ وَ لَا تُقَاتِلَنَّ إِلَّا مَنْ قَاتَلَكَ وَ سِرِ الْبَرْدَيْنِ وَ غَوِّرْ بِالنَّاسِ وَ رَفِّهْ فِي السَّيْرِ وَ لَا تَسِرْ أَوَّلَ اللَّيْلِ فَإِنَّ اللَّهَ جَعَلَهُ سَكَناً وَ قَدَّرَهُ مُقَاماً لَا ظَعْناً فَأَرِحْ فِيهِ بَدَنَكَ وَ رَوِّحْ ظَهْرَكَ فَإِذَا وَقَفْتَ حِينَ يَنْبَطِحُ السَّحَرُ أَوْ حِينَ يَنْفَجِرُ الْفَجْرُ فَسِرْ عَلَى بَرَكَةِ اللَّهِ فَإِذَا لَقِيتَ الْعَدُوَّ فَقِفْ مِنْ أَصْحَابِكَ وَسَطاً وَ لَا تَدْنُ مِنَ الْقَوْمِ دُنُوَّ مَنْ يُرِيدُ أَنْ يُنْشِبَ الْحَرْبَ وَ لَا تَبَاعَدْ عَنْهُمْ تَبَاعُدَ مَنْ يَهَابُ الْبَأْسَ حَتَّى يَأْتِيَكَ أَمْرِي وَ لَا يَحْمِلَنَّكُمُ شَنَآنُهُمْ عَلَى قِتَالِهِمْ قَبْلَ دُعَائِهِمْ وَ الْإِعْذَارِ إِلَيْهِمْ (16/79)
معقل بن قيس كان من رجال الكوفة و أبطالها و له رئاسة و قدم أوفده عمار بن ياسر إلى عمر بن الخطاب مع الهرمزان لفتح تستر و كان من شيعة علي ع وجهه إلى بني ساقة فقتل منهم و سبى و حارب المستورد بن علفة الخارجي شرح نهج البلاغة ج : 15 ص : 93من تميم الرباب فقتل كلاحد منهما صاحبه بدجلة و قد ذكرنا خبرهما فيما سبق و معقل بن قيس رياحي من ولد رياح بن يربوع بن حنظلة بن مالك بن زيد مناة بن تميم. قوله ع و لا تقاتلن إلا من قاتلك نهى عن البغي. و سر البردين هما الغداة و العشي و هما الأبردان أيضا. و وصاه أن يرفق بالناس و لا يكلفهم السير في الحر. قوله ع و غور بالناس انزل بهم القائلة و المصدر التغوير و يقال للقائلة الغائرة. قوله ع و رفه في السير أي دع الإبل ترد رفها و هو أن ترد الماء كل يوم متى شاءت و لا ترهقها و تجشمها السير و يجوز أن يكون قوله و رفه في السير من قولك رفهت عن الغريم أي نفست عنه. قوله ع و لا تسر أول الليل قد ورد في ذلك خبر مرفوع و في الخبر أنه حين تنشر الشياطين و قد علل أمير المؤمنين ع النهي بقوله فإن الله تعالى جعله سكنا و قدره مقاما لا ظعنا يقول لما امتن الله تعالى على عباده بأن جعل لهم الليل ليسكنوا فيه كره أن يخالفوا ذلك و لكن لقائل أن يقول فكيف لم يكره السير و الحركة في آخره و هو من جملة الليل أيضا و يمكن أن يكون فهم من رسول الله ص أن الليل الذي جعل سكنا للبشر إنما هو من أوله إلى وقت السحر. شرح نهج البلاغة ج : 15 ص : 94ثم أمره ع بأن يريح في الليل بدنه و ظهره هي الإبل و بنو فلان مظهرون أي لهم ظهر ينقلون عليه كما تقول منجبون أي لهم نجائب. قال الراوندي الظهر الخيول و ليس بصحيح و الصحيح ما ذكرناه. قوله ع فإذا وقفت أي فإذا وقفت ثقلك و رحلك لتسير فليكن ذلك حين ينبطح السحر. قال الراوندي فإذا وقفت ثم قال و قد روي فإذا واقفت قال يعني إذا وقفت تجارب العدو و إذا واقفته و ما ذكره ليس (16/80)
بصحيح و لا روي و إنما هو تصحيف أ لا تراه كيف قال بعده بقليل فإذا لقيت العدو و إنما مراده هاهنا الوصاة بأن يكون السير وقت السحر و وقت الفجر. قوله ع حين ينبطح السحر أي حين يتسع و يمتد أي لا يكون السحر الأول أي ما بين السحر الأول و بين الفجر الأول و أصل الانبطاح السعة و منه الأبطح بمكة و منه البطيحة و تبطح السيل أي اتسع في البطحاء و الفجر انفجر انشق. ثم أمره ع إذا لقي العدو أن يقف بين أصحابه وسطا لأنه الرئيس و الواجب أن يكون الرئيس في قلب الجيش كما أن قلب الإنسان في وسط جسده و لأنه إذا كان وسطا كانت نسبته إلى كل الجوانب واحدة و إذا كان في أحد الطرفين بعد من الطرف الآخر فربما يختل نظامه و يضطرب. ثم نهاه ع أن يدنو من العدو دنو من يريد أن ينشب الحرب و نهاه أن يبعد منهم بعد من يهاب الحرب و هي البأس قال الله تعالى وَ حِينَ الْبَأْسِ شرح نهج البلاغة ج : 15 ص : 95أي حين الحرب بل يكون على حال متوسطة بين هذين حتى يأتيه الأمر من أمير المؤمنين ع لأنه أعرف بما تقتضيه المصلحة. ثم قال له لا يحملنكم بغضكم لهم على أن تبدءوهم بالقتال قبل أن تدعوهم إلى الطاعة و تعذا إليهم أي تصيروا ذوي عذر في حربهم. و الشنئان البغض بسكون النون و تحريكها (16/81)
نبذ من الأقوال الحكيمة في الحروب
و في الحديث المرفوع لا تتمنوا العدو فعسى أن تبتلوا بهم و لكن قولوا اللهم اكفنا شرهم و كف عنا بأسهم و إذا جاءوك يعرفون أن يضجون فعليكم الأرض جلوسا و قولوا اللهم أنت ربنا و ربهم و بيدك نواصينا و نواصيهم فإذا غشوكم فثوروا في وجوههم
و كان أبو الدرداء يقول أيها الناس اعملوا عملا صالحا قبل الغزو فإنما تقاتلون بأعمالكم. و أوصى أبو بكر يزيد بن أبي سفيان حين استعمله فقال سر على بركة الله فإذا دخلت بلاد العدو فكن بعيدا من الحملة فإني لا آمن عليك الجولة و استظهر بالزاد و سر بالأدلاء و لا تقاتل بمجروح فإن بعضه ليس منه و احترس من البيات فإن في العرب غرة و أقلل من الكلام فإن ما وعي عنك هو عليك و إذا أتاك كتابي فأمضه فإنما أعمل على حسب إنفاذه و إذا قدم عليك وفود العجم فأنزلهم معظم عسكرك و أسبغ عليهم من النفقة و امنع الناس من محادثتهم ليخرجوا جاهلين كما دخلوا جاهلين و لا شرح نهج البلاغة ج : 15 ص : 96تلحن في عقوبة فإن أدناها وجيعة و لا تسرعن إليها و أنت تكتفي بغيرها و اقبل من الناس علانيتهم و كلهم إلى الله في سريرتهم و لا تعرض عسكرك فتفضحه و أستودعك الله الذي لا تضيع ودائعه. و أوصى أبو بكر أيضا عكة بن أبي جهل حين وجهه إلى عمان فقال سر على اسم الله و لا تنزلن على مستأمن و قدم النذير بين يديك و مهما قلت إني فاعل فافعله و لا تجعلن قولك لغوا في عقوبة و لا عفو فلا ترجى إذا أمنت و لا تخاف إذا خوفت و انظر متى تقول و متى تفعل و ما تقول و ما تفعل و لا تتوعدن في معصية بأكثر من عقوبتها فإنك إن فعلت أثمت و إن تركت كذبت و اتق الله و إذا لقيت فاصبر. و لما ولى يزيد بن معاوية سلم بن زياد خراسان قال له إن أباك كفى أخاه عظيما و قد استكفيتك صغيرا فلا تتكلن على عذر مني فقد اتكلت على كفاية منك و إياك مني من قبل أن أقول إياك منك و اعلم أن الظن إذا أخلف منك أخلف فيك و أنت في أدنى حظك فاطلب أقصاه و قد تبعك أبوك فلا تريحن نفسك و اذكر في يومك أحاديث غدك. و قال بعض الحكماء ينبغي للأمير أن يكون له ستة أشياء وزير يثق به و يفشي إليه سره و حصن إذا لجأ إليه عصمه يعني فرسا و سيف إذا نزل به الأقران لم يخف نبوته و ذخيرة خفيفة المحمل إذا نابته نائبة (16/82)
وجدها يعني جوهرا و طباخ إذا أقرى من الطعام صنع له ما يهيج شهوته و امرأة جميلة إذا دخل أذهبت همه (16/83)
في الحديث المرفوع خير الصحابة أربعة و خير السرايا أربعمائة و خير الجيوش أربعة آلاف شرح نهج البلاغة ج : 15 ص : 97و لن يغلب اثنا عشر ألفا من قلة إذا اجتمعت كلمتهمكان يقال ثلاثة من كن فيه لم يفلح في الحرب البغي قال الله تعالى إِنَّما بَغْيُكُمْ عَلى أَنْفُسِكُمْ و المكر السيئ قال سبحانه وَ لا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ و النكث قال تعالى فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّما يَنْكُثُ عَلى نَفْسِهِ. يقال خرجت خارجة بخراسان على قتيبة بن مسلم فأهمه ذلك فقيل ما يهمك منهم وجه إليهم وكيع بن أبي أسود يكفيك أمرهم فقال لا أوجهه و إن وكيعا رجل فيه كبر و عنده بغي يحقر أعداءه و من كان هكذا قلت مبالاته بخصمه فلم يحترس فوجد عدوه فيه غرة فأوقع به. و في بعض كتب الفرس إن بعض ملوكهم سأل أي مكايد الحرب أحزم فقال إذكاء العيون و استطلاع الأخبار و إظهار القوة و السرور و الغلبة و إماتة الفرق و الاحتراس من البطانة من غير إقصاء لمن ينصح و لا انتصاح لمن يغش و كتمان السر و إعطاء المبلغين على الصدق و معاقبة المتوصلين بالكذب و ألا تخرج هاربا فتحوجه إلى القتال و لا تضيق أمانا على مستأمن و لا تدهشنك الغنيمة عن المجاوزة. و في بعض كتب الهند ينبغي للعاقل أن يحذر عدوه المحارب له على كل حال يرهب منه المواثبة إن قرب و الغارة إن بعد و الكمين إن انكشف و الاستطراد إن ولي و المكر إن رآه وحيدا و ينبغي أن يؤخر القتال ما وجد بدا فإن النفقة عليه من الأنفس و على غيره من المال
شرح نهج البلاغة ج : 15 ص : 1398- و من كتاب له ع إلى أميرين من أمراء جيشهوَ قَدْ أَمَّرْتُ عَلَيْكُمَا وَ عَلَى مَنْ فِي حَيِّزِكُمَا مَالِكَ بْنَ الْحَارِثِ الْأَشْتَرَ فَاسْمَعَا لَهُ وَ أَطِيعَا وَ اجْعَلَاهُ دِرْعاً وَ مِجَنّاً فَإِنَّهُ مِمَّنْ لَا يُخَافُ وَهْنُهُ وَ لَا سَقْطَتُهُ وَ لَا بُطْؤُهُ عَمَّا الْإِسْرَاعُ إِلَيْهِ أَحْزَمُ وَ لَا إِسْرَاعُهُ إِلَى مَا الْبُطْءُ عَنْهُ أَمْثَلُ (16/84)
فصل في نسب الأشتر و ذكر بعض فضائله
هو مالك بن الحارث بن عبد يغوث بن مسلمة بن ربيعة بن خزيمة بن سعد بن مالك بن النخع بن عمرو بن علة بن خالد بن مالك بن أدد و كان فارسا شجاعا رئيسا من أكابر الشيعة و عظمائها شديد التحقق بولاء أمير المؤمنين ع و نصره و
قال فيه بعد موته رحم الله مالكا فلقد كان لي كما كنت لرسول الله ص
و لما قنت علي ع على خمسة و لعنهم و هم معاوية و عمرو بن العاص و أبو الأعور السلمي و حبيب بن مسلمة و بسر بن أرطاة قنت معاوية على خمسة و هم علي و الحسن و الحسين ع و عبد الله بن العباس و الأشتر و لعنهم. و قد روي أنه قال لما ولى علي ع بني العباس على الحجاز و اليمن و العراق فلما ذا قتلنا الشيخ بالأمس و إن عليا ع لما بلغته هذه الكلمة أحضره و لاطفه و اعتذر إليه و قال له فهل وليت حسنا أو حسينا أو أحدا من ولد جعفر أخي أو عقيلا شرح نهج البلاغة ج : 15 ص : 99أو واحدا من ولده و إنما وليت ولد عمي العباسلأني سمعت العباس يطلب من رسول الله ص الإمارة مرارا فقال له رسول الله ص يا عم إن الإمارة إن طلبتها وكلت إليها و إن طلبتك أعنت عليها
و رأيت بنيه في أيام عمر و عثمان يجدون في أنفسهم إذ ولى غيرهم من أبناء الطلقاء و لم يول أحدا منهم فأحببت أن أصل رحمهم و أزيل ما كان في أنفسهم و بعد فإن علمت أحدا من أبناء الطلقاء هو خير منهم فأتني به فخرج الأشتر و قد زال ما في نفسه. و قد روى المحدثون حديثا يدل على فضيلة عظيمة للأشتر رحمه الله و هي شهادة قاطعة من النبي ص بأنه مؤمن روى هذا الحديث أبو عمر بن عبد البر في كتاب الإستيعاب في حرف الجيم في باب جندب قال أبو عمر لما حضرت أبا ذر الوفاة و هو بالربذة بكت زوجته أم ذر فقال لها ما يبكيك فقالت ما لي لا أبكي و أنت تموت بفلاة من الأرض و ليس عندي ثوب يسعك كفنا و لا بد لي من القيام بجهازك فقال أبشري و لا تبكي (16/85)
فإني سمعت رسول الله ص يقول لا يموت بين امرءين مسلمين ولدان أو ثلاثة فيصبران و يحتسبان فيريان النار أبدا
و قد مات لنا ثلاثة من الولد و
سمعت أيضا رسول الله ص يقول لنفر أنا فيهم ليموتن أحدكم بفلاة من الأرض يشهده عصابة من المؤمنين
و ليس من أولئك النفر أحد إلا و قد مات في قرية و جماعة فأنا لا أشك ذلك الرجل و الله ما كذبت و لا كذبت فانظري الطريق قالت أم ذر فقلت أنى و قد ذهب الحاج و تقطعت الطرق فقال اذهبي فتبصري قالت فكنت شرح نهج البلاغة ج : 15 ص : 100أشتد إلى الكثيب فأصعد فأنظر ثم أع إليه فأمرضه فبينا أنا و هو على هذه الحال إذ أنا برجال على ركابهم كأنهم الرخم تخب بهم رواحلهم فأسرعوا إلي حتى وقفوا علي و قالوا يا أمة الله ما لك فقلت امرؤ من المسلمين يموت تكفنونه قالوا و من هو قلت أبو ذر قالوا صاحب رسول الله ص قلت نعم ففدوه بآبائهم و أمهاتهم و أسرعوا إليه حتى دخلوا عليه فقال لهم أبشروا
فأني سمعت رسول الله ص يقول لنفر أنا فيهم ليموتن رجل منكم بفلاة من الأرض تشهده عصابة من المؤمنين
و ليس من أولئك النفر إلا و قد هلك في قرية و جماعة و الله ما كذبت و لا كذبت و لو كان عندي ثوب يسعني كفنا لي أو لامرأتي لم أكفن إلا في ثوب لي أو لها و إني أنشدكم الله ألا يكفنني رجل منكم كان أميرا أو عريفا أو بريدا أو نقيبا قالت و ليس في أولئك النفر أحد إلا و قد قارف بعض ما قال إلا فتى من الأنصار قال له أنا أكفنك يا عم في ردائي هذا و في ثوبين معي في عيبتي من غزل أمي فقال أبو ذر أنت تكفنني فمات فكفنه الأنصاري و غسله النفر الذين حضروه و قاموا عليه و دفنوه في نفر كلهم يمان. روى أبو عمر بن عبد البر قبل أن يروي هذا الحديث في أول باب جندب كان النفر الذين حضروا موت أبي ذر بالربذة مصادفة جماعة منهم حجر بن الأدبر و مالك بن الحارث الأشتر. قلت حجر بن الأدبر هو حجر بن عدي الذي قتله معاوية و هو من أعلام الشيعة و عظمائها و أما الأشتر فهو أشهر في الشيعة من أبي الهذيل في المعتزلة. شرح نهج البلاغة ج : 15 ص : 101قرئ كتاب الإستيعاب على شيخنا عبد الوهاب بن سكينة المحدث و أنا حاضر فلما انتهى القارئ إلى هذا الخبر قال أستاذي عمر بن عبد الله الدباس و كنت أحضر معه سماع الحديث لتقل الشيعة بعد هذا ما شاءت فما قال المرتضى و المفيد إلا ب ما كان حجر و الأشتر يعتقدانه في عثمان و من تقدمه فأشار الشيخ إليه بالسكوت فسكت. و ذكرنا آثار الأشتر و مقاماته بصفين فيما سبق. و الأشتر هو الذي عانق عبد الله بن الزبير يوم الجمل فاصطرعا على ظهر فرسيهما حتى وقعا في الأرض فجعل عبد الله يصرخ من تحته اقتلوني و مالكا فلم يعلم من الذي يعنيه لشدة الاختلاط و ثوران النقع فلو قال اقتلوني و الأشتر لقتلا جميعا فلما افترقا قال الأشتر (16/86)
أ عائش لو لا أنني كنت طاويا ثلاثا لألفيت ابن أختك هالكاغداة ينادي و الرماح تنوشه كوقع الصياصي اقتلوني و مالكافنجاه مني شبعه و شبابه و أني شيخ لم أكن متماسكا
و يقال إن عائشة فقدت عبد الله فسألت عنه فقيل لها عهدنا به و هو معانق للأشتر فقالت وا ثكل أسماء و مات الأشتر في سنة تسع و ثلاثين متوجها إلى مصر واليا عليها لعلي ع قيل سقي سما و قيل إنه لم يصح ذلك و إنما مات حتف أنفه. فأما ثناء أمير المؤمنين ع عليه في هذا الفصل فقد بلغ مع اختصاره ما لا يبلغ بالكلام الطويل و لعمري لقد كان الأشتر أهلا لذلك كان شديد البأس جوادا شرح نهج البلاغة ج : 15 ص : 102رئيسا حليما فصيحا شاعرا و كان يجمع بين اللين و العنف فيسطو في موضع السطوة و يرفق في موضع الرفقنبذ من الأقوال الحكيمة (16/87)
و من كلام عمر إن هذا الأمر لا يصلح إلا لقوي في غير عنف و لين في غير ضعف. و كان أنو شروان إذا ولى رجلا أمر الكاتب أن يدع في العهد موضع ثلاثة أسطر ليوقع فيها بخطه فإذا أتى بالعهد وقع فيه سس خيار الناس بالمودة و سفلتهم بالإخافة و امزج العامة رهبة برغبة. و قال عمر بن عبد العزيز إني لأهم أن أخرج للناس أمرا من العدل فأخاف ألا تحتمله قلوبهم فأخرج معه طمعا من طمع الدنيا فإن نفرت القلوب من ذاك سكنت إلى هذا. و قال معاوية إني لا أضع سيفي حيث يكفيني سوطي و لا أضع سوطي حيث يكفيني لساني و لو أن بيني و بين الناس شعرة ما انقطعت فقيل له كيف قال إذا مدوها خليتها و إذا خلوها مددتها. و قال الشعبي في معاوية كان كالجمل الطب إذا سكت عنه تقدم و إذا رد تأخر. و قال ليزيد ابنه قد تبلغ بالوعيد ما لا تبلغ بالإيقاع و إياك و القتل فإن الله قاتل القتالين. و أغلظ له رجل فحلم عنه فقيل له أ تحلم عن هذا قال إنا لا نحول بين الناس و ألسنتهم ما لم يحولوا بيننا و بين سلطاننا. شرح نهج البلاغة ج : 15 ص : 103و فخر سليم مولى زياد عند معاوية بن زياد فقال معاوية اسكت ويحك فما أدرك صاحبك بسيفه شيئا قط إلا و قد أدركت أكثر منه بلساني. و قال الوليد بن عبد ملك لأبيه ما السياسة يا أبت قال هيبة الخاصة لك مع صدق مودتها و اقتيادك قلوب العامة بالإنصاف لها و احتمال هفوات الصنائع. و قد جمع أمير المؤمنين ع من أصناف الثناء و المدح ما فرقه هؤلاء في كلماتهم بكلمة واحدة قالها في الأشتر و هي (16/88)
قوله لا يخاف بطؤه عما الإسراع إليه أحزم و لا إسراعه إلى ما البطء عنه أمثل
قوله ع و على من في حيزكما أي في ناحيتكما. و المجن الترس. و الوهن الضعف. و السقطة الغلطة و الخطأ. و هذا الرأي أحزم من هذا أي أدخل في باب الحزم و الاحتياط و هذا أمثل من هذا أي أفضل
شرح نهج البلاغة ج : 15 ص : 14104- و من وصية له ع لعسكره بصفين قبل لقاء العدولَا تُقَاتِلُونَهُمْ حَتَّى يَبْدَءُوكُمْ فَإِنَّكُمْ بِحَمْدِ اللَّهِ عَلَى حُجَّةٍ وَ تَرْكُكُمْ إِيَّاهُمْ حَتَّى يَبْدَءُوكُمْ حُجَّةٌ أُخْرَى لَكُمْ عَلَيْهِمْ فَإِذَا كَانَتِ الْهَزِيمَةُ بِإِذْنِ اللَّهِ فَلَا تَقْتُلُوا مُدْبِراً وَ لَا تُصِيبُوا مُعْوِراً وَ لَا تُجْهِزُوا عَلَى جَرِيحٍ وَ لَا تَهِيجُوا النِّسَاءَ بِأَذًى وَ إِنْ شَتَمْنَ أَعْرَاضَكُمْ وَ سَبَبْنَ أُمَرَاءَكُمْ فَإِنَّهُنَّ ضَعِيفَاتُ الْقُوَى وَ الْأَنْفُسِ وَ الْعُقُولِ إِنْ كُنَّا لَنُؤْمَرُ بِالْكَفِّ عَنْهُنَّ وَ إِنَّهُنَّ لَمُشْرِكَاتٌ وَ إِنْ كَانَ الرَّجُلُ لَيَتَنَاوَلُ الْمَرْأَةَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ بِالْفَهْرِ أَوِ الْهِرَاوَةِ فَيُعَيَّرُ بِهَا وَ عَقِبُهُ مِنْ بَعْدِهِ (16/89)
نهى أصحابه عن البغي و الابتداء بالحرب و
قد روي عنه أنه قال ما نصرت على الأقران الذين قتلتهم إلا لأني ما ابتدأت بالمبارزة
و نهى إذا وقعت الهزيمة عن قتل المدبر و الإجهاز على الجريح و هو إتمام قتله. قوله ع و لا تصيبوا معورا هو من يعتصم منك في الحرب بإظهار عورته لتكف عنه و يجوز أن يكون المعور هاهنا المريب الذي يظن أنه من القوم و أنه حضر للحرب و ليس منهم لأنه حضر لأمر آخر. قوله ع و لا تهيجوا النساء بأذى أي لا تحركوهن. شرح نهج البلاغة ج : 15 ص : 105و الفهر الحجر و الهراوة العصا. و عطف و عقبه على الضمير المستكن المرفوع في فيعير و لم يؤكد للفصل بقوله بها كقوله تعالى ما أَشْرَكْنا وَ لا آباؤُنا لما فصل بلا عطف و لم يحتج إلى تأكيدنبذ من الأقوال الحكيمة
و مما ورد في الشعر في هذا المعنى قول الشاعر
إن من أعظم الكبائر عندي قتل بيضاء حرة عطبول كتب القتل و القتال علينا و على المحصنات جر الذيولو قالت امرأة عبد الله بن خلف الخزاعي بالبصرة لعلي ع بعد ظفره و قد مر ببابها يا علي يا قاتل الأحبة لا مرحبا بك أيتم الله منك ولدك كما أيتمت بني عبد الله بن خلف فلم يرد عليها و لكنه وقف و أشار إلى ناحية من دارها ففهمت إشارته فسكتت و انصرفت و كانت قد سترت عندها عبد الله بن الزبير و مروان بن الحكم فأشار إلى الموضع الذي كانا فيه أي لو شئت أخرجتهما فلما فهمت انصرفت و كان ع حليما كريما. و كان عمر بن الخطاب إذا بعث أمراء الجيوش يقول بسم الله و على عون الله شرح نهج البلاغة ج : 15 ص : 106و بركته فامضوا بتأييد الله نصره أوصيكم بتقوى الله و لزوم الحق و الصبر فقاتلوا في سبيل الله من كفر بالله و لا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين و لا تجبنوا عند اللقاء و لا تمثلوا عند الغارة و لا تسرفوا عند الظهور و لا تقتلوا هرما و لا امرأة و لا وليدا و توقوا أن تطئوا هؤلاء عند التقاء الزحفين و عند حمة النهضات و في شن الغارات و لا تغلوا عند الغنائم و نزهوا الجهاد عن غرض الدنيا و أبشروا بالأرباح في البيع الذي بايعتم به و ذلك هو الفوز العظيم. و استشار قوم أكثم بن صيفي في حرب قوم أرادوهم و سألوه أن يوصيهم فقال أقلوا الخلاف على أمرائكم و اثبتوا فإن أحزم الفريقين الركين و رب عجلة تهب ريثا. و كان قيس بن عاصم المنقري إذا غزا شهد معه الحرب ثلاثون من ولده يقول لهم إياكم و البغي فإنه ما بغى قوم قط إلا ذلوا قالوا فكان الرجل من ولده يظلم فلا ينتصف مخافة الذل. قال أبو بكر يوم حنين لن نغلب اليوم من قلة و كانوا اثني عشر ألفا فهزموا يومئذ هزيمة قبيحة و أنزل الله تعالى قوله وَ يَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئاً. و كان يقال لا ظفر مع بغي و لا صحة مع نهم و لا ثناء مع كبر و لا سؤدد مع شح (16/90)
شرح نهج البلاغة ج : 15 ص : 107قصة فيروز بن يزدجرد حين غزا ملك الهياطلةو من الكلمات المستحسنة في سوء عاقبة البغي ما ذكره ابن قتيبة في كتاب عيون الأخبار إن فيروز بن يزدجرد بن بهرام لما ملك سار بجنوده نحو بلاد الهياطلة فلما انتهى إليهم اشتد رعب ملكهم أخشنوار منه و حذره فناظر أصحابه و وزراءه في أمره فقال رجل منهم أعطني موثقا من الله و عهدا تطمئن إليه نفسي أن تكفيني الغم بأمر أهلي و ولدي و أن تحسن إليهم و تخلفني فيهم ثم اقطع يدي و رجلي و ألقني في طريق فيروز حتى يمر بي هو و أصحابه و أنا أكفيك أمرهم و أورطهم مورطا تكون فيه هلكتهم فقال له أخشنوار و ما الذي تنتفع به من سلامتنا و صلاح حالنا إذا أنت هلكت و لم تشركنا في ذلك فقال إني قد بلغت ما كنت أحب أن أبلغ من الدنيا و أنا موقن أن الموت لا بد منه و إن تأخر أياما قليلة فأحب أن أختم عملي بأفضل ما يختم به الأعمال من النصيحة بسلطاني و النكاية في عدوي فيشرف بذلك عقبي و أصيب سعادة و حظوة فيما أمامي. ففعل أخشنوار به ذلك و حمله فألقاه في الموضع الذي أشار إليه فمر به فيروز في جنوده فسأله عن حاله فأخبره أن أخشنوار فعل به ما يراه و أنه شديد الأسف كيف لا يستطيع أن يكون أمام الجيش في غزو بلاده و تخريب مدينته و لكنه سيدل الملك على طريق هو أقرب من هذا الطريق الذي يريدون سلوكه و أخفى فلا يشعر أخشنوار حتى يهجم عليه فينتقم الله منه بكم و ليس في هذا الطريق من المكروه إلا تغور يومين ثم تفضون إلى كل ما تحبون. شرح نهج البلاغة ج : 15 ص : 108فقبل فيروز قوله بعد أن أشار إليه وزراؤه بالاتهام له و الحذر منه و بغيذلك فخالفهم و سلك تلك الطريق فانتهوا بعد يومين إلى موضع من المفازة لا صدر لهم عنه و لا ماء معهم و لا بين أيديهم و تبين لهم أنهم قد خدعوا فتفرقوا في تلك المفازة يمينا و شمالا يلتمسون الماء فقتل العطش أكثرهم و لم يسلم مع فيروز إلا عدة يسيرة فانتهى (16/91)
إليهم أخشنوار بجيشه فواقعهم في تلك الحال التي هم فيها من القلة و الضر و الجهد فاستمكنوا منهم بعد أن أعظموا الكناية فيهم. و أسر فيروز فرغب أخشنوار أن يمن عليه و على من بقي من أصحابه على أن يجعل له عهد الله و ميثاقه ألا يغزوهم أبدا ما بقي و على أن يحد فيما بينه و بين مملكتهم حدا لا يتجاوزه جنوده فرضي أخشنوار بذلك فخلى سبيله و جعلا بين المملكتين حجرا لا يتجاوزه كل واحد منهما. فمكث فيروز برهة من دهره ثم حمله الأنف على أن يعود لغزو الهياطلة و دعا أصحابه إلى ذلك فنهوه عنه و قالوا إنك قد عاهدته و نحن نتخوف عليك عاقبة البغي و الغدر مع ما في ذلك من العار و سوء القالة. فقال لهم إنما اشترطت له ألا أجوز الحجر الذي جعلناه بيننا و أنا آمر بالحجر فيحمل أمامنا على عجل. فقالوا أيها الملك إن العهود و المواثيق التي يتعاطاها الناس بينهم لا تحمل على ما يسره المعطي لها و لكن على ما يعلن به المعطى إياها و إنما جعلت عهد الله و ميثاقه على الأمر الذي عرفه لا على الأمر الذي لم يخطر له ببال فأبى فيروز و مضى في غزوته حتى انتهى إلى الهياطلة و تصاف الفريقان للقتال (16/92)
شرح نهج البلاغة ج : 15 ص : 109فأرسل أخشنوار إلى فيروز يسأله أن يبرز فيما بين صفيهم فخرج إليه فقال له أخشنوار إني قد ظننت أنه لم يدعك إلى مقامك هذا إلا الأنف مما أصابك و لعمري إن كنا قد احتلنا لك بما رأيت لقد كنت التمست منا أعظم منه و ما ابتدأناك ببغي و ظلم و ما أردنا إلا دفعك عن أنفسنا و حريمنا و لقد كنت جديرا أن تكون من سوء مكافاتنا بمننا عليك و على من معك و من نقض العهد و الميثاق الذي أكدته على نفسك أعظم أنفا و أشد امتعاضا مما نالك منا فإنا أطلقناكم و أنتم أسارى و مننا عليكم و أنتم على الهلكة مشرفون و حقنا دماءكم و لنا على سفكها قدرة و إنا لم نجبرك على ما شرطت لنا بل كنت أنت الراغب إلينا فيه و المريد لنا عليه ففكر في ذلك و ميز بين هذين الأمرين فانظر أيهما أشد عارا و أقبح سماعا إن طلب رجل أمرا فلم يقدر له و لم ينجح في طلبته و سلك سبيلا فلم يظفر فيه ببغيته و استمكن منه عدوه على حال جهد و ضيعة منه و ممن هم معه. فمن عليهم و أطلقهم على شرط شرطوه و أمر اصطلحوا عليه فاصطبر بمكروه القضاء و استحيا من الغدر و النكث أن يقال نقض العهد و أخفر الميثاق مع أني قد ظننت أنه يزيدك لجاجة ما تثق به من كثرة جنودك و ما ترى من حسن عدتهم و ما أجدني أشك أنهم أو أكثرهم كارهون لما كان من شخوصك بهم عارفون بأنك قد حملتهم على غير الحق و دعوتهم إلى ما يسخط الله و أنهم في حربنا غير مستبصرين و نياتهم على مناصحتك مدخولة. فانظر ما قدر غناء من يقاتل على هذه الحال و ما عسى أن يبلغ نكايته في عدوه إذا كان عارفا بأنه إن ظفر فمع عار و إن قتل فإلى النار و أنا أذكرك الله الذي جعلته شرح نهج البلاغة ج : 15 ص : 110على نفسك كفيلا و أذكرك نعمتي عليك و على من معك بعد يأسكم من الحياة و إشفائكم على الممات و أدعوك إلى ما فيه حظك و رشدك من الوفاء بالعهد و اقتداء بآبائك و أسلافك الذين مضوا على ذلك في كل ما أحبوه و كرهوه (16/93)
فأحمدوا عواقبه و حسن عليهم أثره. و مع ذلك فإنك لست على ثقة من الظفر بنا و بلوغ نهمتك فينا و إنما تلتمس أمرا يلتمس منك مثله و تنادي عدوا لعله يمنح النصر عليك فاقبل هذه النصيحة فقد بالغت في الاحتجاج عليك و تقدمت بالإعذار إليك و نحن نستظهر بالله الذي اعتذرنا إليه و وثقنا بما جعلت لنا من عهده إذا استظهرت بكثرة جنودك و ازدهتك عدة أصحابك فدونك هذه النصيحة فبالله ما كان أحد من أصحابك يبالغ لك أكثر منها و لا يزيدك عليها و لا يحرمنك منفعتها مخرجها مني فإنه ليس يزرى بالمنافع و المصالح عند ذوي الآراء صدورها عن الأعداء كما لا تحسن المضار أن تكون على أيدي الأصدقاء. و اعلم أنه ليس يدعوني إلى ما تسمع من مخاطبتي إياك ضعف من نفسي و لا من قلة جنودي و لكني أحببت أن ازداد بذلك حجة و استظهارا فأزداد به للنصر و المعونة من الله استيجابا و لا أوثر على العافية و السلامة شيئا ما وجدت إليهما سبيلا. فقال فيروز لست ممن يردعه عن الأمر يهم به الوعيد و لا يصده التهدد و الترهيب و لو كنت أرى ما أطلب غدرا مني إذا ما كان أحد أنظر و لا أشد إبقاء مني على نفسي و قد يعلم الله أنى لم أجعل لك العهد و الميثاق إلا بما أضمرت في نفسي فلا يغرنك الحال التي كنت صادفتنا عليها من القلة و الجهد و الضعف. (16/94)
شرح نهج البلاغة ج : 15 ص : 111فقال أخشنوار لا يغرنك ما تخدع به نفسك من حملك الحجر أمامك فإن الناس لو كانوا يعطون العهود على ما تصف من إسرار أمر و إعلان آخر إذا ما كان ينبغي لأحد أن يغتر بأمان أو يثق بعهد و إذا ما قبل الناس شيئا مما كانوا يعطون من ذلك و نه وضع على العلانية و على نية من تعقد له العهود و الشروط ثم انصرف. فقال فيروز لأصحابه لقد كان أخشنوار حسن المحاورة و ما رأيت للفرس الذي كان تحته نظيرا في الدواب فإنه لم يزل قوائمه و لم يرفع حوافره عن مواضعها و لا صهل و لا أحدث شيئا يقطع به المحاورة في طول ما تواقفنا. و قال أخشنوار لأصحابه لقد وافقت فيروز كما رأيتم و عليه السلاح كله فلم يتحرك و لم ينزع رجله من ركابه و لا حنى ظهره و لا التفت يمينا و لا شمالا و لقد توركت أنا مرارا و تمطيت على فرسي و التفت إلى من خلفي و مددت بصري فيما أمامي و هو منتصب ساكن على حاله و لو لا محاورته إياي لظننت أنه لا يبصرني و إنما أراد بما وصفا من ذلك أن ينشر هذان الحديثان في أهل عسكرهما فيشتغلوا بالإفاضة فيهما عن النظر فيما تذاكرا. فلما كان في اليوم الثاني أخرج أخشنوار الصحيفة التي كتبها لهم فيروز و نصبها على رمح ليراها أهل عسكر فيروز فيعرفوا غدره و بغيه و يخرجوا من متابعته على هواه فما هو إلا أن راوها حتى انتقض عسكرهم و اختلفوا و ما تلبثوا إلا يسيرا حتى انهزموا و قتل منهم خلق كثير و هلك فيروز فقال أخشنوار لقد صدق الذي قال لا مرد لما قدر و لا شي ء أشد إحالة لمنافع الرأي من الهوى اللجاج و لا أضيع من نصيحة يمنحها من لا يوطن نفسه على قبولها و الصبر على مكروهها و لا أسرع عقوبة و أسوأ عاقبة من البغي و الغدر و لا أجلب لعظيم العار و الفضوح من الأنف و إفراط العجب (16/95)
شرح نهج البلاغة ج : 15 ص : 15112- و كان ع يقول إذا لقي العدو محاربااللَّهُمَّ إِلَيْكَ أَفْضَتِ الْقُلُوبُ وَ مُدَّتِ الْأَعْنَاقُ وَ شَخَصَتِ الْأَبْصَارُ وَ نُقِلَتِ الْأَقْدَامُ وَ أُنْضِيَتِ الْأَبْدَانُ اللَّهُمَّ قَدْ صَرَّحَ مَكْنُونُ الشَّنَآنِ وَ جَاشَتْ مَرَاجِلُ الْأَضْغَانِ اللَّهُمَّ إِنَّا نَشْكُو إِلَيْكَ غَيْبَةَ نَبِيِّنَا وَ كَثْرَةَ عَدُوِّنَا وَ تَشَتُّتَ أَهْوَائِنَا رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنا وَ بَيْنَ قَوْمِنا بِالْحَقِّ وَ أَنْتَ خَيْرُ الْفاتِحِينَ (16/96)
أفضت القلوب أي دنت و قربت و منه أفضى الرجل إلى امرأته أي غشيها و يجوز أن يكون أفضت أي بسرها فحذف المفعول. و أنضيت الأبدان هزلت و منه النضو و هو البعير المهزول. و صرح انكشف و الشنئان البغضة. و جاشت تحركت و اضطربت. و المراجل جمع مرجل و هي القدر. و الأضغان الأحقاد واحدها ضغن. و أخذ سديف مولى المنصور هذه اللفظة فكان يقول في دعائه اللهم إنا نشكو شرح نهج البلاغة ج : 15 ص : 113إليك غيبة نبينا و تشتت أهوائنا و ما شملنا من زيغ الفتن و استولى علينا من غشوة الحيرة حتى عاد فينا دولة بعد القسمة و إمارتنا غلبة بعد المشة وعدنا ميراثا بعد الاختيار للأمة و اشتريت الملاهي و المعازف بمال اليتيم و الأرملة و رعى في مال الله من لا يرعى له حرمة و حكم في أبشار المؤمنين أهل الذمة و تولى القيام بأمورهم فاسق كل محلة فلا ذائد يذودهم عن هلكة و لا راع ينظر إليهم بعين رحمة و لا ذو شفقة يشبع الكبد الحرى من مسغبة فهم أولو ضرع و فاقة و أسراء فقر و مسكنة و حلفاء كئابة و ذلة اللهم و قد استحصد زرع الباطل و بلغ نهايته و استحكم عموده و استجمع طريده و حذف وليده و ضرب بجرانه فأتح له من الحق يدا حاصدة تجذ سنامه و تهشم سوقه و تصرع قائمه ليستخفي الباطل بقبح حليته و يظهر الحق بحسن صورته. و وجدت هذه الألفاظ في دعاء منسوب إلى علي بن الحسين زين العابدين ع و لعله من كلامه و قد كان سديف يدعو به (16/97)
شرح نهج البلاغة ج : 15 ص : 16114- و كان يقول ع لأصحابه عند الحربلَا تَشْتَدَّنَّ عَلَيْكُمْ فَرَّةٌ بَعْدَهَا كَرَّةٌ وَ لَا جَوْلَةٌ بَعْدَهَا حَمْلَةٌ وَ أَعْطُوا السُّيُوفَ حُقُوقَهَا وَ وَطِّنُوا لِلْجُنُوبِ مَصَارِعَهَا وَ اذْمُرُوا أَنْفُسَكُمْ عَلَى الطَّعْنِ الدَّعْسِيِّ وَ الضَّرْبِ الطِّلَحْفِيِّ وَ أَمِيتُوا الْأَصْوَاتَ فَإِنَّهُ أَطْرَدُ لِلْفَشَلِ وَ الَّذِي فَلَقَ الْحَبَّةَ وَ بَرَأَ النَّسَمَةَ مَا أَسْلَمُوا وَ لَكِنِ اسْتَسْلَمُوا وَ أَسَرُّوا الْكُفْرَ فَلَمَّا وَجَدُوا أَعْوَاناً عَلَيْهِ أَظْهَرُوهُ (16/98)
قال لا تستصعبوا فرة تفرونها بعدها كرة تجبرون بها ما تكسر من حالكم و إنما الذي ينبغي لكم أن تستصعبوه فرة لا كرة بعدها و هذا حض لهم على أن يكروا و يعودوا إلى الحرب إن وقعت عليهم كسرة. و مثله قوله و لا جولة بعدها حملة و الجولة هزيمة قريبة ليست بالممعنة. و اذمروا أنفسكم من ذمره على كذا أي حضه عليه و الطعن الدعسي الذي يحشى به أجواف الأعداء و أصل الدعس الحشو دعست الوعاء حشوته. و ضرب طلحفي بكسر الطاء و فتح اللام أي شديد و اللام زائدة. شرح نهج البلاغة ج : 15 ص : 115ثم أمرهم بإماتة الأصوات لأن شدة الضوضاء في الحربمارة الخوف و الوجل. ثم أقسم أن معاوية و عمرا و من والاهما من قريش ما أسلموا و لكن استسلموا خوفا من السيف و نافقوا فلما قدروا على إظهار ما في أنفسهم أظهروه و هذا يدل على أنه ع جعل محاربتهم له كفرا. و قد تقدم في شرح حال معاوية و ما يذكره كثير من أصحابنا من فساد عقيدته ما فيه كفاية
نبذ من الأقوال المتشابهة في الحرب
و أوصى أكثم بن صيفي قوما نهضوا إلى الحرب فقال ابرزوا للحرب و ادرعوا الليل فإنه أخفى للويل و لا جماعة لمن اختلف و اعلموا أن كثرة الصياح من الفشل و المرء يعجز لا محالة. و سمعت عائشة يوم الجمل أصحابها يكبرون فقالت لا تكبروا هاهنا فإن كثرة التكبير عند القتال من الفشل. و قال بعض السلف قد جمع الله أدب الحرب في قوله تعالى يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا الآيتين. و قال عتبة بن ربيعة لقريش يوم بدر أ لا ترونهم يعني أصحاب النبي ص جثيا على الركب يتلمظون تلمظ الحيات. و أوصى عبد الملك بن صالح أمير سرية بعثها فقال أنت تاجر الله لعباده فكن كالمضارب الكيس الذي إن وجد ربحا تجر و إلا احتفظ برأس المال و لا تطلب شرح نهج البلاغة ج : 15 ص : 116الغنيمة حتى تحوز السلامة و كن من احتيالك على عدوك أشد حذرا من احتيال عدوك عليك. و في الحديث المرفوع إنه ص قال لزيد بن حارثة لا تشق جيشك فإن الله تعالى ينصر القوم بأضعفهم (16/99)
و قال ابن عباس و ذكر عليا ع ما رأيت رئيسا يوزن به لقد رأيته يوم صفين و كأن عينيه سراجا سليط و هو يحمس أصحابه إلى أن انتهى إلي و أنا في كنف فقال يا معشر المسلمين استشعروا الخشية و تجلببوا السكينة و أكملوا اللأمة
الفصل المذكور فيما تقدم شرح نهج البلاغة ج : 15 ص : 1117- و من كتاب له ع إلى معاوية جوابا عن كتاب منه إليه
وَ أَمَّا طَلَبُكَ إِلَى الشَّامِ فَإِنِّي لَمْ أَكُنْ لَأُعْطِيَكَ الْيَوْمَ مَا مَنَعْتُكَ أَمْسِ وَ أَمَّا قَوْلُكَ إِنَّ الْحَرْبَ قَدْ أَكَلْتِ الْعَرَبَ إِلَّا حُشَاشَاتِ أَنْفُسٍ بَقِيَتْ أَلَا وَ مَنْ أَكَلَهُ الْحَقُّ فَإِلَى الْجَنَّةِ وَ مَنْ أَكَلَهُ الْبَاطِلُ فَإِلَى النَّارِ وَ أَمَّا اسْتِوَاؤُنَا فِي الْحَرْبِ وَ الرِّجَالِ فَلَسْتَ بِأَمْضَى عَلَى الشَّكِّ مِنِّي عَلَى الْيَقِينِ وَ لَيْسَ أَهْلُ الشَّامِ بِأَحْرَصَ عَلَى الدُّنْيَا مِنْ أَهْلِ الْعِرَاقِ عَلَى الآْخِرَةِ وَ أَمَّا قَوْلُكَ إِنَّا بَنُو عَبْدِ مَنَافٍ فَكَذَلِكَ نَحْنُ وَ لَكِنْ لَيْسَ أُمَيَّةُ كَهَاشِمٍ وَ لَا حَرْبٌ كَعَبْدِ الْمُطَّلِبِ وَ لَا أَبُو سُفْيَانَ كَأَبِي طَالِبٍ وَ لَا الْمُهَاجِرُ كَالطَّلِيقِ وَ لَا الصَّرِيحُ كَاللَّصِيقِ وَ لَا الْمُحِقُّ كَالْمُبْطِلِ وَ لَا الْمُؤْمِنُ كَالْمُدْغِلِ وَ لَبِئْسَ الْخَلْفُ خَلْفٌ يَتْبَعُ سَلَفاً هَوَى فِي نَارِ جَهَنَّمَ وَ فِي أَيْدِينَا بَعْدُ فَضْلُ النُّبُوَّةِ الَّتِي أَذْلَلْنَا بِهَا الْعَزِيزَ وَ نَعَشْنَا بِهَا الذَّلِيلَ وَ لَمَّا أَدْخَلَ اللَّهُ الْعَرَبَ فِي دِينِهِ أَفْوَاجاً وَ أَسْلَمَتْ لَهُ هَذِهِ الْأُمَّةُ طَوْعاً وَ كَرْهاً كُنْتُمْ مِمَّنْ دَخَلَ فِي الدِّينِ إِمَّا رَغْبَةً وَ إِمَّا رَهْبَةً عَلَى حِينَ فَازَ أَهْلُ السَّبْقِ بِسَبْقِهِمْ وَ ذَهَبَ الْمُهَاجِرُونَ الْأَوَّلُونَ بِفَضْلِهِمْ فَلَا تَجْعَلَنَّ لِلشَّيْطَانِ فِيكَ نَصِيباً وَ لَا عَلَى نَفْسِكَ سَبِيلًا وَ السَّلَامُ (16/100)
شرح نهج البلاغة ج : 15 ص : 118يقال طلبت إلى فلان كذا و التقدير طلبت كذا راغبا إلى فلان كما قال تعالى فِي تِسْعِ آياتٍ إِلى فِرْعَوْنَ أي مرسلا. و يروى إلا حشاشة نفس بالإفراد و هو بقية الروح في بدن المريض. و روي ألا و من أكله الحق فإلى النار و هذه الروايأليق من الرواية المذكورة في أكثر الكتب لأن الحق يأكل أهل الباطل و من روى تلك الرواية أضمر مضافا تقديره أعداء الحق و مضافا آخر تقديره أعداء الباطل و يجوز أن يكون من أكله الحق فإلى الجنة أي من أفضى به الحق و نصرته و القيام دونه إلى القتل فإن مصيره إلى الجنة فيسمى الحق لما كانت نصرته كالسبب إلى القتل أكلا لذلك المقتول و كذلك القول في الجانب الآخر. و كان الترتيب يقتضي أن يجعل هاشما بإزاء عبد شمس لأنه أخوه في قعدد و كلاهما ولد عبد مناف لصلبه و أن يكون أمية بإزاء عبد المطلب و أن يكون حرب بإزاء أبي طالب و أن يكون أبو سفيان بإزاء أمير المؤمنين ع لأن كل واحد من هؤلاء في قعدد صاحبه إلا أن أمير المؤمنين ع لما كان في صفين بإزاء معاوية اضطر إلى أن جعل هاشما بإزاء أمية بن عبد شمس. فإن قلت فهلا قال و لا أنا كانت قلت قبيح أن يقال ذلك كما لا يقال السيف أمضى من العصا بل قبيح به أن يقولها مع أحد من المسلمين كافة نعم قد يقولها لا تصريحا بل تعريضا لأنه يرفع نفسه على أن يقيسها بأحد. و هاهنا قد عرض بذلك في قوله و لا المهاجر كالطليق فإن قلت فهل معاوية شرح نهج البلاغة ج : 15 ص : 119من الطلقاء قلت نعم كل من دخل عليه رسول الله ص مكة وة بالسيف فملكه ثم من عليه عن إسلام أو غير إسلام فهو من الطلقاء ممن لم يسلم كصفوان بن أمية و من أسلم كمعاوية بن أبي سفيان و كذلك كل من أسر في حرب رسول الله ص ثم امتن عليه بفداء أو بغير فداء فهو طليق فممن امتن عليه بفداء كسهيل بن عمرو و ممن امتن عليه بغير فداء أبو عزة الجمحي و ممن امتن عليه معاوضة أي أطلق لأنه بإزاء أسير (16/101)
من المسلمين عمرو بن أبي سفيان بن حرب كل هؤلاء معدودون من الطلقاء. فإن قلت فما معنى قوله و لا الصريح كاللصيق و هل كان في نسب معاوية شبهة ليقول له هذا. قلت كلا إنه لم يقصد ذلك و إنما أراد الصريح بالإسلام و اللصيق في الإسلام فالصريح فيه هو من أسلم اعتقادا و إخلاصا و اللصيق فيه من أسلم تحت السيف أو رغبة في الدنيا و قد صرح بذلك فقال كنتم ممن دخل في هذا الدين إما رغبة و إما رهبة. فإن قلت فما معنى قوله و لبئس الخلف خلفا يتبع سلفا هوى في نار جهنم و هل يعاب المسلم بأن سلفه كانوا كفارا. قلت نعم إذا تبع آثار سلفه و احتذى حذوهم و أمير المؤمنين ع ما عاب معاوية بأن سلفه كفار فقط بل بكونه متبعا لهم. قوله ع و في أيدينا بعد فضل النبوة أي إذا فرضنا تساوي الأقدام في مآثر أسلافكم كان في أيدينا بعد الفضل عليكم بالنبوة التي نعشنا بها الخامل و أخملنا بها النبيه. قوله ع على حين فاز أهل السبق قال قوم من النحاة (16/102)
شرح نهج البلاغة ج : 15 ص : 120حين مبني هاهنا على الفتح و قال قوم بل منصوب لإضافته إلى الفعل. قوله ع فلا تجعلن للشيطان فيك نصيبا أي لا تستلزم من أفعالك ما يدوم به كون الشيطان ضاربا فيك بنصيب لأنه ما كتب إليه هذه الرسالة إلا بعد أن صار للشيطان فيه أوفر نص و إنما المراد نهيه عن دوام ذلك و استمراره
ذكر بعض ما كان بين علي و معاوية يوم صفين
و ذكر نصر بن مزاحم بن بشار العقيلي في كتاب صفين أن هذا الكتاب كتبه علي ع إلى معاوية قبل ليلة الهرير بيومين أو ثلاثة قال نصر أظهر علي ع أنه مصبح معاوية و مناجز له و شاع ذلك من قوله ففزع أهل الشام لذلك و انكسروا لقوله و كان معاوية بن الضحاك بن سفيان صاحب راية بني سليم مع معاوية مبغضا لمعاوية و أهل الشام و له هوى مع أهل العراق و علي بن أبي طالب ع و كان يكتب بأخبار معاوية إلى عبد الله بن الطفيل العامري و هو مع أهل العراق فيخبر بها عليا ع فلما شاعت كلمة علي ع وجل لها أهل الشام و بعث ابن الضحاك إلى عبد الله بن الطفيل إني قائل شعرا أذعر به أهل الشام و أرغم به معاوية و كان معاوية لا يتهمه و كان له فضل و نجدة و لسان فقال ليلا ليستمع أصحابه (16/103)
ألا ليت هذا الليل أطبق سرمدا علينا و إنا لا نرى بعده غداو يا ليته إن جاءنا بصباحه وجدنا إلى مجرى الكواكب مصعداحذار علي إنه غير مخلف مدى الدهر ما لب الملبون موعداو أما قراري في البلاد فليس لي مقام و إن جاوزت جابلق مصعدا
شرح نهج البلاغة ج : 15 ص : 121كأني به في الناس كاشف رأسه على ظهر خوار الرحالة أجردايخوض غمار الموت في مرجحنة ينادون في نقع العجاج محمدافوارس بدر و النضير و خيبر و أحد يهزون الصفيح المهنداو يوم حنين جالدوا عن نبيهم فريقا من الأحزاب حتى تبدداهنالك لا تلويجوز على ابنها و إن أكثرت من قول نفسي لك الفدافقل لا بن حرب ما الذي أنت صانع أ تثبت أم ندعوك في الحرب قعددافلا رأي إلا تركنا الشام جهرة و إن أبرق الفجفاج فيها و أرعدا
فلما سمع أهل الشام شعره أتوا به معاوية فهم بقتله ثم راقب فيه قومه فطرده من الشام فلحق بمصر و ندم معاوية على تسييره إياه و قال معاوية لشعر السلمي أشد على أهل الشام من لقاء علي ما له قاتله الله لو صار خلف جابلق مصعدا لم يأمن عليا أ لا تعلمون ما جابلق يقوله لأهل الشام قالوا لا قال مدينة في أقصى المشرق ليس بعدها شي ء. قال نصر و تناقل الناس كلمة علي ع لأناجزنهم مصبحا فقال الأشتر قد دنا الفضل في الصباح و للسلم رجال و للحروب رجال (16/104)
شرح نهج البلاغة ج : 15 ص : 122فرجال الحروب كل خدب مقحم لا تهده الأهوال يضرب الفارس المدجج بالسيف إذا فر في الوغا الأكفال يا ابن هند شد الحيازيم للموت و لا تذهبن بك الآمال إن في الصبح إن بقيت لأمرا تتفادى من هوله الأبطال فيه عز العراق أو ظفر الشام بأراق و الزلزال فاصبروا للطعان بالأسل السمر و ضرب تجري به الأمثال إن تكونوا قتلتم النفر البيض و غالت أولئك الآجال فلنا مثلهم غداة التلاقي و قليل من مثلهم أبدال يخضبون الوشيج طعنا إذا جرت من الموت بينهم أذيال طلب الفوز في المعاد و فيه تستهان النفوس و الأ
قال فلما انتهى إلى معاوية شعر الأشتر قال شعر منكر من شاعر منكر رأس أهل العراق و عظيمهم و مسعر حربهم و أول الفتنة و آخرها قد رأيت أن أعاود عليا و أسأله إقراري على الشام فقد كنت كتبت إليه ذلك فلم يجب إليه و لأكتبن ثانية فألقى في نفسه الشك و الرقة فقال له عمرو بن العاص و ضحك أين أنت يا معاوية من خدعة علي قال أ لسنا بني عبد مناف قال بلى و لكن لهم النبوة دونك و إن شئت أن تكتب فاكتب فكتب معاوية إلى علي ع مع رجل من السكاسك يقال له عبد الله بن عقبة و كان من نافلة أهل العراق أما بعد فإنك لو علمت أن الحرب تبلغ بنا و بك ما بلغت لم يجنها بعضنا على شرح نهج البلاغة ج : 15 ص : 123بعض و لئن كنا قد غلبنا على عقولنا لقد بقي لنا منها ما نندم به على ما مضى و نصلح به ما بقي و قد كنت سألتك الشام على أن تلزمني لك بيعة و طاعة فأبيت ذلك علي فأعطاني الله ما منعت و أنا أدعوك اليوم إ ما دعوتك إليه أمس فإني لا أرجو من البقاء إلا ما ترجو و لا أخاف من الموت إلا ما تخاف و قد و الله فارقت الأجناد و ذهبت الرجال و نحن بنو عبد مناف ليس لبعضنا على بعض فضل إلا فضل لا يستذل به عزيز و لا يسترق به حر و السلام. (16/105)
فلما انتهى كتاب معاوية إلى علي ع قرأه ثم قال العجب لمعاوية و كتابه و دعا عبيد بن أبي رافع كاتبه فقال اكتب جوابه أما بعد فقد جاءني كتابك تذكر أنك لو علمت و علمنا أن الحرب تبلغ بنا و بك ما بلغت لم يجنها بعضنا على بعض فإني لو قتلت في ذات الله و حييت ثم قتلت ثم حييت سبعين مرة لم أرجع عن الشدة في ذات الله و الجهاد لأعداء الله و أما قولك إنه قد بقي من عقولنا ما نندم به على ما مضى فإني ما نقصت عقلي و لا ندمت على فعلي و أما طلبك الشام فإني لم أكن أعطيك اليوم ما منعتك أمس و أما استواؤنا في الخوف و الرجاء فلست أمضى على الشك مني على اليقين و ليس أهل الشام بأحرص على الدنيا من أهل العراق على الآخرة و أما قولك إنا بنو عبد مناف ليس لبعضنا فضل على بعض فلعمري إنا بنو أب واحد و لكن ليس أمية كهاشم و لا حرب كعبد المطلب و لا المهاجر كالطليق و لا المحق كالمبطل و في أيدينا بعد فضل النبوة التي أذللنا بها العزيز و أعززنا بها الذليل و السلام (16/106)
فلما أتى معاوية كتاب علي ع كتمه عن عمرو بن العاص أياما ثم دعاه شرح نهج البلاغة ج : 15 ص : 124فاقرأه إياه فشمت به عمرو و لم يكن أحد من قريش أشد إعظاما لعلي من عمرو بن العاص منذ يوم لقيه و صفح عنه فقال عمرو فيما كان أشار به على معاويةألا لله درك يا ابن هند و در الأمرين لك الشهودأ تطمع لا أبا لك في علي و قد قرع الحديد على الحديدو ترجو أن تحيره بشك و تأمل أن يهابك بالوعيدو قد كشف القناع و جر حربا يشيب لهولها رأس الوليدله جأواء مظلمة طحون فوارسها تلهب كالأسوديقول لها إذا رجعت إليه و قد ملت طعان القوم عودي فإن وردت فأولها ورودا و إن صدت فليس بذي صدودو ما هي من أبي حسن بنكر و لا هو من مسائك بالبعيدو قلت له مقالة مستكين ضعيف الركن منقطع الوريددعن لي الشام حسبك يا ابن هند من السوآة و الرأي الزهيدو لو أعطاكها ما ازددت عزا و لا لك لو أجابك من ميدفلم تكسر بذاك الرأي عودا لركته و لا ما دون عود (16/107)
فلما بلغ معاوية شعر عمرو دعاه فقال له العجب لك تفيل رأيي و تعظم عليا و قد فضحك فقال أما تفييلي رأيك فقد كان و أما إعظامي عليا فإنك بإعظامه أشد معرفة مني و لكنك تطويه و أنا أنشره و أما فضيحتي فلم يفتضح امرؤ لقي أبا حسن
شرح نهج البلاغة ج : 15 ص : 18125- و من كتاب له ع إلى عبد الله بن عباس و هو عامله على البصرةوَ اعْلَمْ أَنَّ الْبَصْرَةَ مَهْبِطُ إِبْلِيسَ وَ مَغْرِسُ الْفِتَنِ فَحَادِثْ أَهْلَهَا بِالْإِحْسَانِ إِلَيْهِمْ وَ احْلُلْ عُقْدَةَ الْخَوْفِ عَنْ قُلُوبِهِمْ وَ قَدْ بَلَغَنِي تَنَمُّرُكَ لِبَنِي تَمِيمٍ وَ غِلْظَتُك عَلَيْهِمْ وَ إِنَّ بَنِي تَمِيمٍ لَمْ يَغِبْ لَهُمْ نَجْمٌ إِلَّا طَلَعَ لَهُمْ آخَرُ وَ إِنَّهُمْ لَمْ يُسْبَقُوا بِوَغْمٍ فِي جَاهِلِيَّةٍ وَ لَا إِسْلَامٍ وَ إِنَّ لَهُمْ بِنَا رَحِماً مَاسَّةً وَ قَرَابَةً خَاصَّةً نَحْنُ مَأْجُورُونَ عَلَى صِلَتِهَا وَ مَأْزُورُونَ عَلَى قَطِيعَتِهَا فَارْبَعْ أَبَا الْعَبَّاسِ رَحِمَكَ اللَّهُ فِيمَا جَرَى عَلَى يَدِكَ وَ لِسَانِكَ مِنْ خَيْرٍ وَ شَرٍّ فَإِنَّا شَرِيكَانِ فِي ذَلِكَ وَ كُنْ عِنْدَ صَالِحِ ظَنِّي بِكَ وَ لَا يَفِيلَنَّ رَأْيِي فِيكَ وَ السَّلَامُ (16/108)
قوله ع مهبط إبليس موضع هبوطه. و مغرس الفتن موضع غرسها و يروى و مغرس الفتن و هو الموضع الذي ينزل فيه القوم آخر الليل للاستراحة يقال غرسوا و أغرسوا. و قوله ع فحادث أهلها أي تعهدهم بالإحسان من قولك حادثت السيف بالصقال. شرح نهج البلاغة ج : 15 ص : 126و التنمرلقوم الغلظة عليهم و المعاملة لهم بأخلاق النمر من الجرأة و الوثوب و سنذكر تصديق قوله ع لم يغب لهم نجم إلا طلع لهم آخر. و الوغم الترة و الأوغام الترات أي لم يهدر لهم دم في جاهلية و لا إسلام يصفهم بالشجاعة و الحمية. و مأزورون كان أصله موزورون و لكنه جاء بالألف ليحاذي به ألف مأجورون و قد قال النبي ص مثل ذلك. قوله ع فاربع أبا العباس أي قف و تثبت في جميع ما تعتمده فعلا و قولا من خير و شر و لا تعجل به فإني شريكك فيه إذ أنت عاملي و النائب عني. و يعني بالشر هاهنا الضرر فقط لا الظلم و الفعل القبيح. قوله ع و كن عند صالح ظني فيك أي كن واقفا عنده كأنك تشاهده فتمنعك مشاهدته عن فعل ما لا يجوز. فال الرأي يفيل أي ضعف و أخطأ (16/109)
فصل في بني تميم و ذكر بعض فضائلهم
و قد ذكر أبو عبيدة معمر بن المثنى في كتاب التاج أن لبني تميم مآثر لم يشركهم فيها غيرهم أما بنو سعد بن زيد مناة فلها ثلاث خصال يعرفها العرب إحداها كثرة العدد فإنه أضعف عددها على بني تميم حتى ملأت السهل و الجبل عدلت مضر كثرة و عامة العدد منها في كعب بن سعد بن زيد مناة و لذلك قال أوس بن مغراء شرح نهج البلاغة ج : 15 ص : 12كعبي من خير الكعاب كعبا من خيرها فوارسا و عقباتعدل جنبا و تميم جنبا
و قال الفرزدق أيضا فيهم هذه الأبيات
لو كنت تعلم ما برمل مويسل فقري عمان إلى ذوات حجورلعلمت أن قبائلا و قبائلا من آل سعد لم تدن لأمير
و قال أيضا
تبكي على سعد و سعد مقيمة بيبرين قد كادت على الناس تضعف
و لذلك كانت تسمى سعد الأكثرين و في المثل في كل واد بنو سعد. و الثانية الإفاضة في الجاهلية كان ذلك في بني عطارد و هم يتوارثون ذلك كابرا عن كابر حتى قام الإسلام و كانوا إذا اجتمع الناس أيام الحج بمنى لم يبرح أحد من الناس دينا و سنة حتى يجوز القائم بذلك من آل كرب بن صفوان و قال أوس بن مغراء (16/110)
و لا يريمون في التعريف موقفهم حتى يقال أجيزوا آل صفوانا
و قال الفرزدق
إذا ما التقينا بالمحصب من منى صبيحة يوم النحر من حيث عرفواترى الناس ما سرنا يسيرون حولنا و إن نحن أومأنا إلى الناس وقفوا
و الثالثة أن منهم أشرف بيت في العرب الذي شرفته ملوك لخم قال المنذر بن المنذر بن ماء السماء ذات يوم و عنده وفود العرب و دعا ببردي أبيه محرق بن المنذر فقال ليلبس هذين أعز العرب و أكرمهم حسبا فأحجم الناس فقال أحيمر بن شرح نهج البلاغة ج : 15 ص : 128خلف بن بهة بن عوف بن كعب بن سعد بن زيد مناة بن تميم أنا لهما قال الملك بما ذا قال بأن مضر أكرم العرب و أعزها و أكثرها عديدا و أن تميما كاهلها و أكثرها و أن بيتها و عددها في بني بهدلة بن عوف و هو جدي فقال هذا أنت في أصلك و عشيرتك فكيف أنت في عترتك و أدانيك. قال أنا أبو عشرة و أخو عشرة و عم عشرة فدفعهما إليه و إلى هذا أشار الزبرقان بن بدر في قوله
و بردا ابن ماء المزن عمي اكتساهما بفضل معد حيث عدت محاصله
قال أبو عبيدة و لهم في الإسلام خصلة قدم قيس بن عاصم المنقري على رسول الله ص في نفر من بني سعد فقال له رسول الله ص هذا سيد أهل الوبر فجعله سيد خندف و قيس ممن يسكن الوبر. قال و أما بنو حنظلة بن مالك بن زيد مناة بن تميم فلهم خصال كثيرة قال في بني دارم بن مالك بن حنظلة و هو بيت مضر فمن ذلك زرارة بن عدس بن زيد بن دارم يقال إنه أشرف البيوت في بني تميم و من ذلك قوس حاجب بن زرارة المرهونة عند كسرى عن مضر كلها و في ذلك قيل
و أقسم كسرى لا يصالح واحدا من الناس حتى يرهن القوس حاجب (16/111)
و من ذلك في بني مجاشع بن دارم صعصعة بن ناجية بن عقال بن محمد بن سفيان بن مجاشع و هو أول من أحيا الوئيد قام الإسلام و قد اشترى ثلاثمائة موءودة فأعتقهن و رباهن و كانت العرب تئد البنات خوف الإملاق. و من ذلك غالب بن صعصعة و هو أبو الفرزدق و غالب هو الذي قرى مائة ضيف و احتمل عشر ديات لقوم لا يعرفهم و كان من حديث ذلك أن بني كلب شرح نهج البلاغة ج : 15 ص : 129بن وبرة افتخرت بينها في أنديتها فقالت نحن لباب العرب و قلبها و نحن الذين لا ننازع حسبا و كرما فقال شيخ منهم إن العرب غير مقرة لكم بذلك إن لها أحسابا و إن من لبابا و إن لها فعالا و لكن ابعثوا مائة منكم في أحسن هيئة و بزة ينفرون من مروا به في العرب و يسألونه عشر ديات و لا ينتسبون له فمن قرأهم و بذل لهم الديات فهو الكريم الذي لا ينازع فضلا فخرجوا حتى قدموا على أرض بني تميم و أسد فنفروا الأحياء حيا فحيا و ماء فماء لا يجدون أحدا على ما يريدون حتى مروا على أكثم بن صيفي فسألوه ذلك فقال من هؤلاء القتلى و من أنتم و ما قصتكم فإن لكم لشأنا باختلافكم في كلامكم فعدلوا عنه ثم مروا بقتيبة بن الحارث بن شهاب اليربوعي فسألوه عن ذلك فقال من أنتم قالوا من كلب بن وبرة فقال إني لأبغي كلبا بدم فإن انسلخ الأشهر الحرم و أنتم بهذه الأرض و أدرككم الخيل نكلت بكم و أثكلتكم أمهاتكم فخرجوا من عنده مرعوبين فمروا بعطارد بن حاجب بن زرارة فسألوه ذلك فقال قولوا بيانا و خذوها فقالوا أما هذا فقد سألكم قبل أن يعطيكم فتركوه و مروا ببني مجاشع بن دارم فأتوا على واد قد امتلأ إبلا فيها غالب بن صعصعة يهنأ منها إبلا فسألوه القرى و الديات فقال هاكم البزل قبل النزول فابتزوها من البرك و حوزوا دياتكم ثم انزلوا فتنزلوا و أخبروه بالحال و قالوا أرشدك الله من سيد قوم لقد أرحتنا من طول النصب و لو علمنا لقصدنا إليك فذلك قول
الفرزدق (16/112)
فلله عينا من رأى مثل غالب قرى مائة ضيفا و لم يتكلم و إذ نبحت كلب على الناس إنهم أحق بتاج الماجد المتكر شرح نهج البلاغة ج : 15 ص : 130فلم يجل عن أحسابها غير غالب جرى بعناني كل أبلج خضرقال فأما بنو يربوع بن حنظلة فمنهم ثم من بني رباح بن يربوع عتاب بن هرمي بن رياح كانت له ردافة الملوك ملوك آل المنذر و ردافة الملك أن يثنى به في الشرب و إذا غاب الملك خلفه في مجلسه و ورث ذلك بنوه كابرا عن كابر حتى قام الإسلام قال لبيد بن ربيعة
و شهدت أنجبة الأكارم غالبا كعبي و أرداف الملوك شهود
و يربوع أول من قتل قتيلا من المشركين و هو واقد بن عبد الله بن ثعلبة بن يربوع حليف عمر بن الخطاب قتل عمرو بن الحضرمي في سرية نخلة فقال عمر بن الخطاب يفتخر بذلك
سقينا من ابن الحضرمي رماحنا بنخلة لما أوقد الحرب واقدو ظل ابن عبد الله عثمان بيننا ينازعه غل من القد عاند
و لها جواد العرب كلها في الإسلام بدأ العرب كلها جودا خالد بن عتاب بن ورقاء الرياحي دخل الفرزدق على سليمان بن عبد الملك و كان يشنؤه لكثرة بأوه و فخره فتهجمه و تنكر له و أغلظ في خطابه حتى قال من أنت لا أم لك قال أ و ما تعرفني يا أمير المؤمنين أنا من حي هم من أوفى العرب و أحلم العرب و أسود العرب و أجود العرب و أشجع العرب و أشعر العرب فقال سليمان و الله لتحتجن لما ذكرت أو لأوجعن ظهرك و لأبعدن دارك قال أما أوفى العرب فحاجب بن زرارة رهن قوسه عن العرب كلها و أوفى و أما أحلم العرب فالأحنف بن قيس يضرب به المثل حلما و أما أسود العرب فقيس بن عاصم قال له رسول الله ص هذا سيد أهل الوبر شرح نهج البلاغة ج : 15 ص : 131و أما أشجع العرب فالحريش بن هلال السعدي و أما أجود العرب فخالد بن عتاب بن ورقاء الرياحي و أما أشعر العرب فها أنا ذا عندك قال سليمان فما جاء بك لا شي ء لك عن فارجع على عقبك و غمه ما سمع من عزة و لم يستطع له ردا فقال الفرزدق في أبيات
أتيناك لا من حاجة عرضت لنا إليك و لا من قلة في مجاشع (16/113)
قلت و لو ذكر عتيبة بن الحارث بن شهاب اليربوعي و قال إنه أشجع العرب لكان غير مدافع قالوا كانت العرب تقول لو وقع القمر إلى الأرض لما التقفه إلا عتيبة بن الحارث لثقافته بالرمح و كان يقال له صياد الفوارس و سم الفوارس و هو الذي أسر بسطام بن قيس و هو فارس ربيعة و شجاعها و مكث عنده في القيد مدة حتى استوفى فداءه و جز ناصيته و خلى سبيله على ألا يغزو بني يربوع و عتيبة هذا هو المقدم على فرسان العرب كلها في كتاب طبقات الشجعان و مقاتل الفرسان و لكن الفرزدق لم يذكره و إن كان تميميا لأن جريرا يفتخر به لأنه من بني يربوع فحملته عداوة جرير على أن عدل عن ذكره. قال أبو عبيدة و لبني عمرو بن تميم خصال تعرفها لهم العرب و لا ينازعهم فيها أحد فمنها أكرم الناس عما و عمة و جدا و جدة و هو هند بن أبي هالة و اسم أبي هالة نباش بن زرارة أحد بني عمرو بن تميم كانت خديجة بنت خويلد قبل شرح نه البلاغة ج : 15 ص : 132النبي ص تحت أبي هالة فولدت له هندا ثم تزوجها رسول الله ص و هند بن أبي هالة غلام صغير فتبناه النبي ص ثم ولدت خديجة من رسول الله ص القاسم و الطاهر و زينب و رقية و أم كلثوم و فاطمة فكان هند بن أبي هالة أخاهم لأمهم ثم أولد هند بن أبي هاة هند بن هند فهند الثاني أكرم الناس جدا و جدة يعني رسول الله ص و خديجة و أكرم الناس عما و عمة يعني بني النبي ص و بناته. و منها أن لهم أحكم العرب في زمانه أكثم بن صيفي أحد بني أسد بن عمرو بن تميم كان أكثر أهل الجاهلية حكما و مثلا و موعظة سائرة. و منها ذو الأعواز كان له خراج على مضر كافة تؤديه إليه فشاخ حتى كان يحمل على سرير يطاف به على مياه العرب فيؤدى إليه الخراج و قال الأسود بن يعفر النهشلي و كان ضريرا
و لقد علمت خلاف ما تناشي أن السبيل سبيل ذي الأعواز
و منها هلال بن أحوز المازني الذي ساد تميما كلها في الإسلام و لم يسدها غيره. قال و دخل خالد بن عبد الرحمن بن الوليد بن المغيرة المخزومي مسجد الكوفة فانتهى إلى حلقة فيها أبو الصقعب التيمي من تيم الرباب و المخزومي لا يعرفه و كان أبو الصقعب من أعلم الناس فلما سمع علمه و حديثه حسده فقال له ممن الرجل قال من تيم الرباب فظن المخزومي أنه وجد فرصة فقال و الله ما أنت من سعد الأكثرين و لا من حنظلة الأكرمين و لا من عمرو الأشدين فقال أبو الصقعب فممن أنت قال من بني مخزوم قال و الله ما أنت من هاشم المنتخبين و لا من أمية المستخلفين شرح نهج البلاغة ج : 15 ص : 133و لا من عبد الدار المستحجبين فبم تفخر قال نحن ريحانة قريش قال أبو الصقعب قبحا لما جئت به و هل تدري لم سميت مخزوم ريحانة قريش سميت لحظوة نسائها عند الرجال فأفحمه روى أبو العباس المبرد في كتاب الكامل أن معاوية قال للأف بن قيس و جارية بن قدامة و رجال من بني سعد معهما كلاما أحفظهم فردوا عليه جوابا مقذعا و امرأته فاختة بنت قرظة في بيت يقرب منهم و هي أم عبد الله بن معاوية فسمعت ذلك فلما خرجوا قالت يا أمير المؤمنين لقد سمعت من هؤلاء الأجلاف كلاما تلقوك به فلم تنكر فكدت أن أخرج إليهم فأسطو بهم فقال معاوية إن مضر كأهل العرب و تميما كأهل مضر و سعدا كأهل تميم و هؤلاء كأهل سعد. و روى أبو العباس أيضا أن عبد الملك ذكر يوما بني دارم فقال أحد جلسائه يا أمير المؤمنين هؤلاء قوم محظوظون يعني في كثرة النسل و نماء الذرية فلذلك انتشر صيتهم فقال عبد الملك ما تقول هذا و قد مضى منهم لقيط بن زرارة و لم يخلف عقبا و مضى قعقاع بن معبد بن زرارة و لم يخلف عقبا و مضى محمد بن عمير بن عطارد بن حاجب بن زرارة و لم يخلف عقبا و الله لا تنسى العرب هذه الثلاثة أبدا. قال أبو العباس إن الأصمعي قال إن حربا كانت بالبادية ثم اتصلت بالبصرة فتفاقم الأمر فيها ثم مشي بين الناس (16/114)
بالصلح فاجتمعوا في المسجد الجامع قال فبعثت و أنا غلام إلى ضرار بن القعقاع من بني دارم فاستأذنت عليه فأذن لي فدخلت فإذا به في شملة يخلط بزرا لعنز له حلوب فخبرته بمجتمع القوم فأمهل حتى أكلت العنز ثم غسل الصحفة و صاح يا جارية غدينا فأتته بزيت و تمر فدعاني فقذرته شرح نهج البلاغة ج : 15 ص : 134أن آكل معه حتى إذا قضى من أكله و حاجته وطرا وثب إلى طين ملقى في الدار فغسل به يده ثم صاح يا جارية اسقيني ماء فأتته بماء فشربه و مسح فضله على وجهه ثم قال الحمدله ماء الفرات بتمر البصرة بزيت الشام متى نؤدي شكر هذه النعم ثم قال علي بردائي فأتته برداء عدني فارتدى به على تلك الشملة قال الأصمعي فتجافيت عنه استقباحا لزيه فلما دخل المسجد صلى ركعتين ثم مشى إلى القوم فلم تبق حبوة إلا حلت إعظاما له ثم جلس فتحمل جميع ما كان بين الأحياء في ماله ثم انصرف. قال أبو العباس و حدثني أبو عثمان المازني عن أبي عبيدة قال لما أتى زياد بن عمرو المربد في عقب قتل مسعود بن عمرو العتكي و جاء زياد بن عمرو بن الأشرف العتكي ليثأر به من بني تميم صف أصحابه فجعل في الميمنة بكر بن وائل و في الميسرة عبد القيس و هم لكيز بن أفصى بن دعمي بن جديلة بن أسد بن ربيعة و كان زياد بن عمرو العتكي في القلب فبلغ ذلك الأحنف بن قيس فقال هذا غلام حدث شأنه الشهرة و ليس يبالي أين قذف بنفسه فندب أصحابه فجاءه حارثة بن بدر الغداني و قد اجتمعت بنو تميم فلما أتى قال قوموا إلى سيدكم ثم أجلسه فناظره فجعلوا سعدا و الرباب في القلب و رئيسهم عبس بن طلق الطعان المعروف بأخي كهمس و هو أحد بني صريم بن يربوع فكانوا بحذاء زياد بن عمرو و من معه من الأزد و جعل حارثة بن بدر الغداني في بني حنظلة بحذاء بكر بن وائل و جعل عمرو بن تميم بحذاء عبد القيس فذلك حيث يقول حارثة بن بدر للأحنف (16/115)
سيكفيك عبس أخو كهمس مقارعة الأزد في المربدو يكفيك عمرو على رسلها لكيز بن أفصى و ما عددوا (16/116)
شرح نهج البلاغة ج : 15 ص : 135و نكفيك بكرا إذا أقبلت بضرب يشيب له الأمرو لكيز بن أفصى تعم عبد القيس قال فلما تواقفوا بعث إليهم الأحنف يا معشر الأزد من اليمن و ربيعة من أهل البصرة أنتم و الله أحب إلينا من تميم الكوفة و أنتم جيراننا في الدار و يدنا على العدو و أنتم بدأتمونا بالأمس و وطئتم حريمنا و حرقتم علينا فدفعنا عن أنفسنا و لا حاجة لنا في الشر ما طلبنا في الخير مسلكا فتيمموا بنا طريقة مستقيمة فوجه إليه زياد بن عمرو تخير خلة من ثلاث إن شئت فانزل أنت و قومك على حكمنا و إن شئت فخل لنا عن البصرة و ارحل أنت و قومك إلى حيث شئتم و إلا فدوا قتلانا و أهدروا دماءكم و ليود مسعود دية المشعرة. قال أبو العباس و تأويل قوله دية المشعرة يريد أمر الملوك في الجاهلية و كان الرجل إذا قتل و هو من أهل بيت المملكة ودي عشر ديات فبعث إليه الأحنف سنختار فانصرفوا في يومكم فهز القوم راياتهم و انصرفوا فلما كان الغد بعث الأحنف إليهم إنكم خيرتمونا خلالا ليس لنا فيها خيار أما النزول على حكمكم فكيف يكون و الكلم يقطر و أما ترك ديارنا فهو أخو القتل قال الله عز و جل وَ لَوْ أَنَّا كَتَبْنا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيارِكُمْ ما فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ و لكن الثالثة إنما هي حمل على المال فنحن نبطل دماءنا و ندي قتلاكم و إنما مسعود رجل من المسلمين و قد أذهب الله عز و جل أمر الجاهلية فاجتمع القوم على أن يقفوا أمر مسعود و يغمدوا السيف و تودى سائر القتلى من الأزد و ربيعة فضمن ذلك الأحنف و دفع إليهم إياس بن قتادة المجاشعي رهينة حتى يؤدي هذا المال فرضي به القوم ففخر بذلك الفرزدق فقال لجرير شرح نهج البلاغة ج : 15 ص : 13و منا الذي أعطى يديه رهينة لغاري معد يوم ضرب الجماجم عشية سال المربدان
كلاهما عجاجة موت بالسيوف الصوارم هنالك لو تبغي كليبا وجدتها أذل من القردان تحت المناسو يقال إن تميما في ذلك الوقت مع باديتها و حلفائها من الأساورة و الزط و السبابجة و غيرهم كانوا زهاء سبعين ألفا و في ذلك يقول جرير (16/117)
سائل ذوي يمن و رهط محرق و الأزد إذ ندبوا لنا مسعودافأتاهم سبعون ألف مدجج متسربلين يلامقا و حديدا
قال الأحنف بن قيس فكثرت على الديات فلم أجدها في حاضرة تميم فخرجت نحو يبرين إلى بادية تميم فسألت عن المقصود هناك فأرشدت إلى قبة فإذا شيخ جالس بفنائها مؤتزر بشملة محتب بحبل فسلمت عليه و انتسبت له فقال لي ما فعل رسول الله ص قلت توفي قال فما فعل عمر بن الخطاب الذي كان يحفظ العرب و يحوطها قلت توفي قال فأي خير في حاضرتكم بعدهما قال فذكرت له الديات التي لزمتنا للأزد و ربيعة قال فقال لي أقم فإذا راع قد أراح عليه ألف بعير فقال خذها ثم أراح علينا آخر مثلها فقال خذها فقلت لا أحتاج إليها قال فانصرفت بالألف عنه و و الله ما أدري من هو إلى الساعة
شرح نهج البلاغة ج : 15 ص : 19137- و من كتاب له ع إلى بعض عمالهأَمَّا بَعْدُ فَإِنَّ دَهَاقِينَ أَهْلِ بَلَدِكَ شَكَوْا مِنْكَ غِلْظَةً وَ قَسْوَةً وَ احْتِقَاراً وَ جَفْوَةً وَ نَظَرْتُ فَلَمْ أَرَهُمْ أَهْلًا لِأَنَّ يُدْنَوْا لِشِرْكِهِمْ وَ لَا أَنْ يُقْصَوْا وَ يُجْفَوْا لِعَهْدِهِمْ فَالْبَسْ لَهُمْ جِلْبَاباً مِنَ اللِّينِ تَشُوبُهُ بِطَرَفٍ مِنَ الشِّدَّةِ وَ دَاوِلْ لَهُمْ بَيْنَ الْقَسْوَةِ وَ الرَّأْفَةِ وَ امْزُجْ لَهُمْ بَيْنَ التَّقْرِيبِ وَ الْإِدْنَاءِ وَ الْإِبْعَادِ وَ الْإِقْصَاءِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ
الدهاقين الزعماء أرباب الأملاك بالسواد واحدهم دهقان بكسر الدال و لفظه معرب. و داول بينهم أي مرة هكذا و مرة هكذا أمره أن يسلك معهم منهجا متوسطا لا يدنيهم كل الدنو لأنهم مشركون و لا يقصيهم كل الإقصاء لأنهم معاهدون فوجب أن يعاملهم معاملة آخذة من كل واحد من القسمين بنصيب (16/118)
شرح نهج البلاغة ج : 15 ص : 20138- و من كتاب له ع إلى زياد ابن أبيه و هو خليفة عامله عبد الله بن عباس على البصرة و عبد الله عامل أمير المؤمنين ع يومئذ عليها و على كور الأهواز و فارس و كرمان و غيرهاوَ إِنِّي أُقْسِمُ بِاللَّهِ قَسَماً صَادِقاً لَئِنْ بَلَغَنِي أَنَّكَ خُنْتَ مِنْ فَيْ ءِ الْمُسْلِمِينَ شَيْئاً صَغِيراً أَوْ كَبِيراً لَأَشُدَّنَّ عَلَيْكَ شَدَّةً تَدَعُكَ قَلِيلَ الْوَفْرِ ثَقِيلَ الظَّهْرِ ضَئِيلَ الْأَمْرِ وَ السَّلَامُ سيأتي ذكر نسب زياد و كيفية استلحاق معاوية له فيما بعد إن شاء الله تعالى. قوله ع لأشدن عليك شدة مثل قوله لأحملن عليك حملة و المراد تهديده بالأخذ و استصفاء المال. ثم وصف تلك الشدة فقال إنها تتركك قليل الوفر أي أفقرك بأخذ ما احتجت من بيت مال المسلمين. و ثقيل الظهر أي مسكين لا تقدر على مئونة عيالك. و ضئيل الأمر أي حقير لأنك إنما كنت نبيها بين الناس بالغنى و الثروة فإذا افتقرت صغرت عندهم و اقتحمتك أعينهم
شرح نهج البلاغة ج : 15 ص : 21139- و من كتاب له ع إلى زياد أيضافَدَعِ الْإِسْرَافَ مُقْتَصِداً وَ اذْكُرْ فِي الْيَوْمِ غَداً وَ أَمْسِكْ مِنَ الْمَالِ بِقَدْرِ ضَرُورَتِكَ وَ قَدِّمِ الْفَضْلَ لِيَوْمِ حَاجَتِكَ أَ تَرْجُو أَنْ يُعْطِيَكَ اللَّهُ أَجْرَ الْمُتَوَاضِعِينَ وَ أَنْتَ عِنْدَهُ مِنَ الْمُتَكَبِّرِينَ وَ تَطْمَعُ وَ أَنْتَ مُتَمَرِّغٌ فِي النَّعِيمِ أَنْ تَمْنَعَهُ الضَّعِيفَ وَ الْأَرْمَلَةَ وَ أَنْ يُوجِبَ لَكَ ثَوَابَ الْمُتَصَدِّقِينَ وَ إِنَّمَا الْمَرْءُ مَجْزِيٌّ بِمَا أَسْلَفَ وَ قَادِمٌ عَلَى مَا قَدَّمَ وَ السَّلَامُ (16/119)
المتمرغ في النعيم المتقلب فيه و نهاه عن الإسراف و هو التبذير في الإنفاق و أمره أن يمسك من المال ما تدعو إليه الضرورة و أن يقدم فضول أمواله و ما ليس له إليه حاجة ضرورية في الصدقة فيدخره ليوم حاجته و هو يوم البعث و النشور. قلت قبح الله زيادا فإنه كافأ إنعام علي ع و إحسانه إليه و اصطناعه له بما لا حاجة إلى شرحه من أعماله القبيحة بشيعته و محبيه و الإسراف في لعنه و تهجين أفعاله و المبالغة في ذلك بما قد كان معاوية يرضى باليسير منه و لم يكن يفعل ذلك لطلب رضا معاوية كلا بل يفعله بطبعه و يعاديه بباطنه و ظاهره و أبى الله إلا أن يرجع إلى أمه و يصحح نسبه و كل إناء ينضح بما فيه ثم جاء ابنه بعد فختم تلك الأعمال السيئة بما ختم و إلى الله ترجع الأمور
شرح نهج البلاغة ج : 15 ص : 22140- و من كتاب له ع إلى عبد الله بن العباس رحمه الله تعالىو كان ابن عباس يقول ما انتفعت بكلام بعد كلام رسول الله ص كانتفاعي بهذا الكلام
أَمَّا بَعْدُ فَإِنَّ الْمَرْءَ قَدْ يَسُرُّهُ دَرْكُ مَا لَمْ يَكُنْ لِيَفُوتَهُ وَ يَسُوؤُهُ فَوْتُ مَا لَمْ يَكُنْ لِيُدْرِكَهُ فَلْيَكُنْ سُرُورُكَ بِمَا نِلْتَ مِنْ آخِرَتِكَ وَ لْيَكُنْ أَسَفُكَ عَلَى مَا فَاتَكَ مِنْهَا وَ مَا نِلْتَ مِنْ دُنْيَاكَ فَلَا تُكْثِرْ بِهِ فَرَحاً وَ مَا فَاتَكَ مِنْهَا فَلَا تَأْسَ عَلَيْهِ جَزَعاً وَ لْيَكُنْ هَمُّكَ فِيمَا بَعْدَ الْمَوْتِ (16/120)
يقول إن كل شي ء يصيب الإنسان في الدنيا من نفع و ضر فبقضاء من الله و قدره تعالى لكن الناس لا ينظرون حق النظر في ذلك فيسر الواحد منهم بما يصيبه من النفع و يساء بفوت ما يفوته منه غير عالم بأن ذلك النفع الذي أصابه كان لا بد أن يصيبه و أن ما فاته منه كان لا بدأن يفوته و لو عرف ذلك حق المعرفة لم يفرح و لم يحزن. و لقائل أن يقول هب أن الأمور كلها بقضاء و قدر فلم لا ينبغي للإنسان أن يفرح بالنفع و إن وقع بالقدر و يساء بفوته أو بالضرر و إن وقعا بقدر أ ليس العريان يساء شرح نهج البلاغة ج : 15 ص : 141بقدوم الشتاء و إنان لا بد من قدومه و المحموم غبا يساء بتجدد نوبة الحمى و إن كان لا بد من تجددها فليس سبب الاختيار في الأفعال مما يوجب أن لا يسر الإنسان و لا يساء بشي ء منها. و الجواب ينبغي أن يحمل هذا الكلام على أن الإنسان ينبغي أن لا يعتقد في الرزق أنه أتاه بسعيه و حركتهفيفرح معجبا بنفسه معتقدا أن ذلك الرزق ثمرة حركته و اجتهاده و كذلك ينبغي ألا يساء بفوات ما يفوته من المنافع لائما نفسه في ذلك ناسبا لها إلى التقصير و فساد الحيلة و الاجتهاد لأن الرزق هو من الله تعالى لا أثر للحركة فيه و إن وقع عندها و على هذا التأويل ينبغي أن يحمل قوله تعالى ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَ لا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَها إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلى ما فاتَكُمْ
وَ لا تَفْرَحُوا بِما آتاكُمْ وَ اللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ. من النظم الجيد الروحاني في صفة الدنيا و التحذير منها و الوصاة بترك الاغترار بها و العمل لما بعدها ما أورده أبو حيان في كتاب الإشارات الإلهية و لم يسم قائله (16/121)
دار الفجائع و الهموم و دار البث و الأحزان و البلوى مر المذاقة غب ما احتلبت منها يداك وبية المرعى بينا الفتى منها بمنزلة إذ صار تحت ترابها ملقى تقفو مساويها محاسنها لا شي ء بين النعي و البشرى و لقل يوم ذر شارقه إلا سمعت بهالك ينعى لا تعتبن على الزمان تي به فلقلما يرضى
شرح نهج البلاغة ج : 15 ص : 142للمرء رزق لا يفوت و لو جهد الخلائق دون أن يفنى يا عامر الدنيا المعد لها ما ذا عملت لدارك الأخرى و ممهد الفرش الوطيئة لا تغفل فراش الرقدة الكبرى لو قد دعيت لقد أجبت لما تدعى له فانظر متى تدعى أ تراك تحصي كم رأيت من الأحيرأيتهم موتى من أصبحت دنياه همته فمتى ينال الغاية القصوى سبحان من لا شي ء يعدله كم من بصير قلبه أعمى و الموت لا يخفى على أحد ممن أرى و كأنه يخفى و الليل يذهب و النهار بأحبابي و ليس عليهما شرح نهج البلاغة ج : 15 ص : 23143- و من كلام له ع قاله قبل موته على سبيل الوصية لما ضربه ابن ملجم لعنه اللهوَصِيَّتِي لَكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِاللَّهِ شَيْئاً وَ مُحَمَّدٌ ص فَلَا تُضَيِّعُوا سُنَّتَهُ أَقِيمُوا هَذَيْنِ الْعَمُودَيْنِ وَ أَوْقِدُوا هَذَيْنِ الْمِصْبَاحَيْنِ وَ خَلَاكُمْ ذَمٌّ أَنَا بِالْأَمْسِ صَاحِبُكُمْ وَ الْيَوْمَ عِبْرَةٌ لَكُمْ وَ غَداً مُفَارِقُكُمْ إِنْ أَبْقَ فَأَنَا وَلِيُّ دَمِي وَ إِنْ أَفْنَ فَالْفَنَاءُ مِيعَادِي وَ إِنْ أَعْفُ فَالْعَفْوُ لِي قُرْبَةٌ وَ هُوَ لَكُمْ حَسَنَةٌ فَاعْفُوا أَ لا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَ اللَّهِ مَا فَجَأَنِي مِنَ الْمَوْتِ وَارِدٌ كَرِهْتُهُ وَ لَا طَالِعٌ أَنْكَرْتُهُ وَ مَا كُنْتُ إِلَّا كَقَارِبٍ وَرَدَ وَ طَالِبٍ وَجَدَ وَ ما عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرارِ (16/122)
قال الرضي رحمه الله تعالى أقول و قد مضى بعض هذا الكلام فيما تقدم من الخطب إلا أن فيه هاهنا زيادة أوجبت تكريره
فإن قلت لقائل أن يقول إذا أوصاهم بالتوحيد و اتباع سنة النبي ص شرح نهج البلاغة ج : 15 ص : 144فلم يبق شي ء بعد ذلك يقول فيه أقيموا هذين العمودين و خلاكم ذم لأن سنة النبي ص فعل كل واجب و تجنب كل قبيح فخلاهم ذم فما ذا يقال. و الجواب أن كثيرا من الصحابة كلفونفسهم أمورا من النوافل شاقة جدا فمنهم من كان يقوم الليل كله و منهم من كان يصوم الدهر كله و منهم المرابط في الثغور و منهم المجاهد مع سقوط الجهاد عنه لقيام غيره به و منهم تارك النكاح و منهم تارك المطاعم و الملابس و كانوا يتفاخرون بذلك و يتنافسون فيه فأراد ع أن يبين لأهله و شيعته وقت الوصية أن المهم الأعظم هو التوحيد و القيام بما يعلم من دين محمد ص أنه واجب و لا عليكم بالإخلال بما عدا ذلك فليت من المائة واحدا نهض بذلك و المراد ترغيبهم بتخفيف وظائف التكاليف عنهم فإن الله تعالى يقول يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَ لا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ و (16/123)
قال ص بعثت بالحنيفية السهلة السمحة
قوله و خلاكم ذم لفظة تقال على سبيل المثل أي قد أعذرتم و سقط عنكم الذم. ثم قسم أيامه الثلاثة أقساما فقال أنا بالأمس صاحبكم أي كنت أرجى و أخاف و أنا اليوم عبرة لكم أي عظة تعتبرون بها و أنا غدا مفارقكم أكون في دار أخرى غير داركم. ثم ذكر أنه إن بقي و لم يمت من هذه الضربة فهو ولي دمه إن شاء عفا و إن شاء اقتص و إن لم يبق فالفناء الموعد الذي لا بد منه. ثم عاد فقال و إن أعف و التقسيم ليس على قاعدة تقسيم المتكلمين و المعنى منه مفهوم و هو إما أن أسلم من هذه الضربة أو لا أسلم فإن سلمت منها فأنا ولي دمي إن شئت عفوت فلم أقتص و إن شئت اقتصصت و لا يعني بالقصاص هاهنا القتل بل ضربة بضربة فإن سرت إلى النفس كانت السراية مهدرة كقطع اليد. شرح نهج البلاغة ج : 15 ص : 145ثم أومأ إلى أنه إن سلم عفا بقوله إن العفو لي إن عفوت قربة. ثم عدنا إلى القسم الثاني من القسمين الأولين و هو أنع لا يسلم من هذه فولاية الدم إلى الورثة إن شاءوا اقتصوا و إن شاءوا عفوا. ثم أومأ إلى أن العفو منهم أحسن بقوله و هو لكم حسنة بل أمرهم أمرا صريحا بالعفو فقال فاعفوا أَ لا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ و هذا لفظ الكتاب العزيز و ينبغي أن يكون أمره بالعفو في هذا الكلام محمولا على الندب. ثم أقسم ع أنه ما فجأة من الموت أمر أنكره و لا كرهه فجأني الشي ء أتاني بغتة. ثم قال ما كنت إلا كقارب ورد و القارب الذي يسير إلى الماء و قد بقي بينه و بينه ليلة واحدة و الاسم القرب فهم قاربون و لا يقال مقربون و هو حرف شا (16/124)
شرح نهج البلاغة ج : 15 ص : 24146- و من وصية له ع بما يعمل في أمواله كتبها بعد منصرفه من صفينهَذَا مَا أَمَرَ بِهِ عَبْدُ اللَّهِ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ فِي مَالِهِ ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ لِيُولِجَهُ بِهِ الْجَنَّةَ وَ يُعْطِيَهُ بِهِ الْأَمَنَةَ
قد عاتبت العثمانية و قالت إن أبا بكر مات و لم يخلف دينارا و لا درهما و إن عليا ع مات و خلف عقارا كثيرا يعنون نخلا قيل لهم قد علم كل أحد أن عليا ع استخرج عيونا بكد يده بالمدينة و ينبع و سويعة و أحيا بها مواتا كثيرا ثم أخرجها عن ملكه و تصدق بها على المسلمين و لم يمت و شي ء منها في ملكه أ لا ترى إلى ما تتضمنه كتب السير و الأخبار من منازعة زيد بن علي و عبد الله بن الحسن في صدقات علي ع و لم يورث علي ع بنيه قليلا من المال و لا كثيرا إلا عبيده و إماءه و سبعمائة درهم من عطائه تركها ليشتري بها خادما لأهله قيمتها ثمنية و عشرون دينارا على حسب المائة أربعة دنانير و هكذا كانت المعاملة بالدراهم إذ ذاك و إنما لم يترك أبو بكر قليلا و لا كثيرا لأنه ما عاش و لو عاش لترك أ لا ترى أن عمر أصدق أم كلثوم أربعين ألف درهم و دفعها إليها و ذلك لأن هؤلاء طالت أعمارهم فمنهم من درت عليه أخلاف التجارة و منهم من كان يستعمر الأرض و يزرعها و منهم من استفضل من رزقه من الفي ء. شرح نهج البلاغة ج : 15 ص : 147و فضلهم أمير المؤمنين ع بأنه كان يعمل بيده و يحرث الأرض و يستقي الماء و يغرس النخل كل ذلك يباشره بنفسه الشريفة و لم يستبق منه لوقته و لاقبه قليلا و لا كثيرا و إنما كان صدقة و قد مات رسول الله ص و له ضياع كثيرة جليلة جدا بخيبر و فدك و بني النضير و كان له وادي نخلة و ضياع أخرى كثيرة بالطائف فصارت بعد موته صدقة بالخبر الذي رواه أبو بكر فإن كان علي ع معيبا بضياعه و نخله فكذلك رسول الله ص و هذا كفر و إلحاد و إن كان رسول الله ص إنما ترك ذلك صدقة فرسول الله ص ما روى عنه الخبر في ذلك إلا واحد من المسلمين و علي ع كان في حياته قد أثبت عند جميع المسلمين بالمدينة أنها صدقة فالتهمة إليه في هذا الباب أبعد و روي و يعطيني به الأمنة و هي الأمن (16/125)
مِنْهَا فَإِنَّهُ يَقُومُ بِذَلِكَ الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ يَأْكُلُ مِنْهُ بِالْمَعْرُوفِ وَ يُنْفِقُ مِنْهُ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ حَدَثَ بِحَسَنٍ حَدَثٌ وَ حُسَيْنٌ حَيٌّ قَامَ بِالْأَمْرِ بَعْدَهُ وَ أَصْدَرَهُ مَصْدَرَهُ وَ إِنَّ لِابْنَيْ فَاطِمَةَ مِنْ صَدَقَةِ عَلِيٍّ مِثْلَ الَّذِي لِبَنِي عَلِيٍّ وَ إِنِّي إِنَّمَا جَعَلْتُ الْقِيَامَ بِذَلِكَ إِلَى ابْنَيْ فَاطِمَةَ ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ وَ قُرْبَةً إِلَى رَسُولِ اللَّهِ ص وَ تَكْرِيماً لِحُرْمَتِهِ وَ تَشْرِيفاً لِوُصْلَتِهِ وَ يَشْتَرِطُ عَلَى الَّذِي يَجْعَلُهُ إِلَيْهِ أَنْ يَتْرُكَ الْمَالَ عَلَى أُصُولِهِ وَ يُنْفِقَ مِنْ ثَمَرِهِ حَيْثُ أُمِرَ بِهِ وَ هُدِيَ لَهُ وَ أَلَّا يَبِيعَ مِنْ أَوْلَادِ نَخِيلِ هَذِهِ الْقُرَى وَدِيَّةً حَتَّى تُشْكِلَ أَرْضُهَا غِرَاساً شرح نهج البلاغة ج : 15 ص 148وَ مَنْ كَانَ مِنْ إِمَائِي اللَّاتِي أَطُوفُ عَلَيْهِنَّ لَهَا وَلَدٌ أَوْ هِيَ حَامِلٌ فَتُمْسَكُ عَلَى وَلَدِهَا وَ هِيَ مِنْ حَظِّهِ فَإِنْ مَاتَ وَلَدُهَا وَ هِيَ حَيَّةٌ فَهِيَ عَتِيقَةٌ قَدْ أَفْرَجَ عَنْهَا الرِّقُّ وَ حَرَّرَهَا الْعِتْقُ (16/126)
قال السيد الرضي رحمه الله تعالى قوله ع في هذه الوصية و ألا يبيع من نخلها ودية الودية الفسيلة و جمعها ودي. قوله ع حتى تشكل أرضها غراسا هو من أفصح الكلام و المراد به أن الأرض يكثر فيها غراس النخل حتى يراها الناظر على غير تلك الصفة التي عرفها بها فيشكل عليه أمرها و يحسبها غيرها
جعل للحسن ابنه ع ولاية صدقات أمواله و أذن له أن يأكل منه بالمعروف أي لا يسرف و إنما يتناول منه مقدار الحاجة و ما جرت بمثله عادة من يتولى الصدقات كما قال الله تعالى وَ الْعامِلِينَ عَلَيْها. ثم قال فإن مات الحسن و الحسين بعده حي فالولاية للحسين و الهاء في مصدره ترجع إلى الأمر أي يصرفه في مصارفه التي كان الحسن يصرفه فيها ثم ذكر أن لهذين الولدين حصة من صدقاته أسوة بسائر البنين و إنما قال ذلك لأنه قد يتوهم متوهم شرح نهج البلاغة ج : 15 ص : 149أنهما لكونهما قد فوض إليهما النظر في هذه الصدقات قد منعا أن يسهما في بشي ء و إن الصدقات إنما يتناولها غيرهما من بني علي ع ممن لا ولاية له مع وجودهما ثم بين لما ذا خصهما بالولاية فقال إنما فعلت ذلك لشرفهما برسول الله ص فتقربت إلى رسول الله ص بأن جعلت لسبطيه هذه الرئاسة و في هذا رمز و إزراء بمن صرف الأمر عن أهل بيت رسول الل ص مع وجود من يصلح للأمر أي كان الأليق بالمسلمين و الأولى أن يجعلوا الرئاسة بعده لأهله قربة إلى رسول الله ص و تكريما لحرمته و طاعة له و أنفة لقدره ص أن تكون ورثته سوقة يليهم الأجانب و من ليس من شجرته و أصله أ لا ترى أن هيبة الرسالة و النبوة في صدور الناس أعظم إذا كان السلطان و الحاكم في الخلق من بيت النبوة و ليس يوجد مثل هذه الهيبة و الجلال في نفوس الناس للنبوة إذا كان السلطان الأعظم بعيد النسب من صاحب الدعوة ع. ثم اشترط على من يلي هذه الأموال أن يتركها على أصولها و ينفق من ثمرتها أي لا يقطع النخل و الثمر و يبيعه خشبا و عيدانا فيفضي الأمر إلى خراب الضياع و عطلة العقار. قوله و ألا يبيع من أولاد نخيل هذه القرى أي من الفسلان الصغار سماها أولادا و في بعض النسخ ليست أولاد مذكورة و الودية الفسيلة. تشكل أرضها تمتلي بالغراس حتى لا يبقى فيه طريقة واضحة. قوله أطوف عليهن كناية لطيفة عن غشيان النساء أي من السراري و كان ع يذهب إلى حل (16/127)
بيع أمهات الأولاد فقال من كان من إمائي لها ولد مني أو هي حامل مني و قسمتم تركتي فلتكن أم ذلك الولد مبيعة على ذلك الولد و يحاسب بالثمن من حصته من التركة فإذا بيعت عليه عتقت عليه لأن الولد إذا اشترى الوالد عتق الوالد شرح نهج البلاغة ج : 15 ص : 150عنه و هذا معنى قوله فتمسك على ولدها أي تقوم عليه بقيمة الوقت الحاضر و هي من حظه أي من نصيبه و قسطه من التركة. قال فإن مات ولدها و هي حية بعد أن تقوم عليه فلا يجوز بيعها لأنها خرجت عن الرق بانتقالها إلولدها فلا يجوز بيعها. فإن قلت فلما ذا قال فإن مات ولدها و هي حية و هلا قال فإذا قومت عليه عتقت. قلت لأن موضع الاشتباه هو موت الولد و هي حية لأنه قد يظن ظان أنه إنما حرم بيعها لمكان وجود ولدها فأراد ع أن يبين أنها قد صارت حرة مطلقا سواء كان ولدها حيا أو ميتا (16/128)
شرح نهج البلاغة ج : 15 ص : 25151- و من وصية له ع كان يكتبها لمن يستعمله على الصدقاتو إنما ذكرنا هنا جملا منها ليعلم بها أنه ع كان يقيم عماد الحق و يشرع أمثلة العدل في صغير الأمور و كبيرها و دقيقها و جليلها
انْطَلِقْ عَلَى تَقْوَى اللَّهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ وَ لَا تُرَوِّعَنَّ مُسْلِماً وَ لَا تَجْتَازَنَّ عَلَيْهِ كَارِهاً وَ لَا تَأْخُذَنَّ مِنْهُ أَكْثَرَ مِنْ حَقِّ اللَّهِ فِي مَالِهِ فَإِذَا قَدِمْتَ عَلَى الْحَيِّ فَانْزِلْ بِمَائِهِمْ مِنْ غَيْرِ أَنْ تُخَالِطَ أَبْيَاتَهُمْ ثُمَّ امْضِ إِلَيْهِمْ بِالسَّكِينَةِ وَ الْوَقَارِ حَتَّى تَقُومَ بَيْنَهُمْ فَتُسَلِّمَ عَلَيْهِمْ وَ لَا تُخْدِجْ بِالتَّحِيَّةِ لَهُمْ ثُمَّ تَقُولَ عِبَادَ اللَّهِ أَرْسَلَنِي إِلَيْكُمْ وَلِيُّ اللَّهِ وَ خَلِيفَتُهُ لآِخُذَ مِنْكُمْ حَقَّ اللَّهِ فِي أَمْوَالِكُمْ فَهَلْ لِلَّهِ فِي أَمْوَالِكُمْ مِنْ حَقٍّ فَتُؤَدُّوهُ إِلَى وَلِيِّهِ فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ لَا فَلَا تُرَاجِعْهُ وَ إِنْ أَنْعَمَ لَكَ مُنْعِمٌ فَانْطَلِقْ مَعَهُ مِنْ غَيْرِ أَنْ تُخِيفَهُ أَوْ تُوعِدَهُ أَوْ تَعْسِفَهُ أَوْ تُرْهِقَهُ فَخُذْ مَا أَعْطَاكَ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ فِضَّةٍ فَإِنْ كَانَ لَهُ مَاشِيَةٌ أَوْ إِبِلٌ فَلَا تَدْخُلْهَا إِلَّا بِإِذْنِهِ فَإِنَّ أَكْثَرَهَا لَهُ فَإِذَا أَتَيْتَهَا فَلَا تَدْخُلْ عَلَيْهَا دُخُولَ مُتَسَلِّطٍ عَلَيْهِ وَ لَا عَنِيفٍ بِهِ وَ لَا تُنَفِّرَنَّ بَهِيمَةً وَ لَا تُفْزِعَنَّهَا وَ لَا تَسُوءَنَّ صَاحِبَهَا فِيهَا وَ اصْدَعِ الْمَالَ صَدْعَيْنِ ثُمَّ خَيِّرْهُ فَإِذَا اخْتَارَ فَلَا تَعْرِضَنَّ لِمَا اخْتَارَهُ ثُمَّ اصْدَعِ الْبَاقِيَ صَدْعَيْنِ ثُمَّ خَيِّرْهُ فَإِذَا اخْتَارَ فَلَا تَعْرِضَنَّ لِمَا اخْتَارَهُ فَلَا تَزَالُ كَذَلِكَ حَتَّى يَبْقَى مَا فِيهِ وَفَاءٌ لِحَقِّ اللَّهِ فِي مَالِهِ فَاقْبِضْ حَقَّ اللَّهِ مِنْهُ شرح نهج البلاغة ج : 15 ص : 152فَإِنِ اسْتَقَالَكَ فَأَقِلْهُ ثُمَّ اصْنَعْ مِثْلَ الَّذِصَنَعْتَ أَوَّلًا حَتَّى تَأْخُذَ حَقَّ اللَّهِ فِي مَالِهِ وَ (16/129)
لَا تَأْخُذَنَّ عَوْداً وَ لَا هَرِمَةً وَ لَا مَكْسُورَةً وَ لَا مَهْلُوسَةً وَ لَا ذَاتَ عَوَارٍ وَ لَا تَأْمَنَنَّ عَلَيْهَا إِلَّا مَنْ تَثِقُ بِدِينِهِ رَافِقاً بِمَالِ الْمُسْلِمِينَ حَتَّى يُوَصِّلَهُ إِلَى وَلِيِّهِمْ فَيَقْسِمَهُ بَيْنَهُمْ وَ لَا تُوَكِّلْ بِهَا إِلَّا نَاصِحاً شَفِيقاً وَ أَمِيناً حَفِيظاً غَيْرَ مُعْنِفٍ وَ لَا مُجْحِفٍ وَ لَا مُلْغِبٍ وَ لَا مُتْعِبٍ ثُمَّ احْدُرْ إِلَيْنَا مَا اجْتَمَعَ عِنْدَكَ نُصَيِّرْهُ حَيْثُ أَمَرَ اللَّهُ فَإِذَا أَخَذَهَا أَمِينُكَ فَأَوْعِزْ إِلَيْهِ أَلَّا يَحُولَ بَيْنَ نَاقَةٍ وَ بَيْنَ فَصِيلِهَا وَ لَا يَمْصُرَ لَبَنَهَا فَيَضُرَّ ]فَيُضِرَّ[ ذَلِكَ بِوَلَدِهَا وَ لَا يَجْهَدَنَّهَا رُكُوباً وَ لْيَعْدِلْ بَيْنَ صَوَاحِبَاتِهَا فِي ذَلِكَ وَ بَيْنَهَا وَ لْيُرَفِّهْ عَلَى اللَّاغِبِ وَ لْيَسْتَأْنِ بِالنَّقِبِ وَ الظَّالِعِ وَ لْيُورِدْهَا مَا تَمُرُّ بِهِ مِنَ الْغُدُرِ وَ لَا يَعْدِلْ بِهَا عَنْ نَبْتِ الْأَرْضِ إِلَى جَوَادِّ الطُّرُقِ وَ لْيُرَوِّحْهَا فِي السَّاعَاتِ وَ لْيُمْهِلْهَا عِنْدَ النِّطَافِ وَ الْأَعْشَابِ حَتَّى تَأْتِيَنَا بِإِذْنِ اللَّهِ بُدَّناً مُنْقِيَاتٍ غَيْرَ مُتْعَبَاتٍ وَ لَا مَجْهُودَاتٍ لِنَقْسِمَهَا عَلَى كِتَابِ اللَّهِ وَ سُنَّةِ نَبِيِّهِ ص فَإِنَّ ذَلِكَ أَعْظَمُ لِأَجْرِكَ وَ أَقْرَبُ لِرُشْدِكَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ (16/130)
و قد كرر ع قوله لنقسمها على كتاب الله و سنة نبيه ص في ثلاثة مواضع من هذا الفصل الأول قوله حتى يوصله إلى وليهم ليقسمه بينهم. الثاني قوله ع نصيره حيث أمر الله به. شرح نهج البلاغة ج : 15 ص : 153الثالث قوله لنقسمها على كتاب الله و البلاغة لا تقتضي ذلك و لكنيظنه أحب أن يحتاط و أن يدفع الظنة عن نفسه فإن الزمان كان في عهده قد فسد و ساءت ظنون الناس لا سيما مع ما رآه من عثمان و استئثاره بمال الفي ء. و نعود إلى الشرح قوله ع على تقوى الله على ليست متعلقة بانطلق بل بمحذوف تقديره مواظبا. قوله و لا تروعن أي لا تفزعن والروع الفزع رعته أروعه و لا تروعن بتشديد الواو و ضم حرف المضارعة من روعت للتكثير. قوله ع و لا تجتازن عليه كارها أي لا تمرن ببيوت أحد من المسلمين يكره مرورك و روي و لا تختارن عليه أي لا تقسم ماله و تختر أحد القسمين و الهاء في عليه ترجع إلى مسلما و تفسير هذا سيأتي في وصيته له أن يصدع المال ثم يصدعه فهذا هو النهي عن أن يختار على المسلم و الرواية الأولى هي المشهورة. قوله ع فانزل بمائهم و ذلك لأن الغريب يحمد منه الانقباض و يستهجن في القادم أن يخالط بيوت الحي الذي قدم عليه فقد يكون من النساء من لا تليق رؤيته و لا يحسن سماع صوته و من الأطفال من يستهجن أن يرى الغريب انبساطه على أبويه و أهله و قد يكره القوم أن يطلع الغريب على مأكلهم و مشربهم و ملبسهم و بواطن أحوالهم و قد يكونون فقراء فيكرهون أن يعرف فقرهم فيحتقرهم أو أغنياء أرباب ثروة كثيرة فيكرهون أن يعلم الغريب ثروتهم فيحسدهم ثم أمره أن يمضي إليهم غير متسرع و لا عجل و لا طائش نزق حتى يقوم بينهم فيسلم عليهم شرح نهج البلاغة ج : 15 ص : 154و يحييهم تحية كاملة غير مخدجة أي غير ناقصة أخدجت الناقة إذا جاءت بولدها ناقص الخلق و إن كانت أيامه تامة و خدجت ألقت الولد قبل تماميامه و روي و لا تحدج بالتحية و الباء زائدة. ثم أمره أن يسألهم هل في (16/131)
أموالهم حق لله تعالى يعني الزكاة فإن قالوا لا فلينصرف عنهم لأن القول قول رب المال فلعله قد أخرج الزكاة قبل وصول المصدق إليه. قوله و أنعم لك أي قال نعم. و لا تعسفه أي لا تطلب منه الصدقة عسفا و أصله الأخذ على غير الطريق. و لا ترهقه لا تكلفه العسر و المشقة. ثم أمره أن يقبض ما يدفع إليه من الذهب و الفضة و هذا يدل على أن المصدق كان يأخذ العين و الورق كما يأخذ الماشية و أن النصاب في العين و الورق تدفع زكاته إلى الإمام و نوابه و في هذه المسألة اختلاف بين الفقهاء. قوله فإن أكثرها له كلام لا مزيد عليه في الفصاحة و الرئاسة و الدين و ذلك لأن الصدقة المستحقة جزء يسير من النصاب و الشريك إذا كان له الأكثر حرم عليه أن يدخل و يتصرف إلا بإذن شريكه فكيف إذا كان له الأقل. قوله فلا تدخلها دخول متسلط عليه قد علم ع أن الظلم من طبع الولاة و خصوصا من يتولى قبض الماشية من أربابها على وجه الصدقة فإنهم يدخلونها دخول متسلط حاكم قاهر و لا يبقى لرب المال فيها تصرف فنهى ع عن مثل ذلك. (16/132)
شرح نهج البلاغة ج : 15 ص : 155قوله و لا تنفرن بهيمة و لا تفزعنها و ذلك أنهم على عادة السوء يهجهجون بالقطيع حتى تنفر الإبل و كذلك بالشاء إظهارا للقوة و القهر و ليتمكن أعوانهم من اختيار الجيد و رفض الردي ء. قوله و لا تسوءن صاحبها فيها أي لا تغموه و لا تحه يقال سؤته في كذا سوائية و مسائية. قوله و اصدع المال صدعين و خيره أي شقه نصفين ثم خيره فإذا اختار أحد النصفين فلا تعرضن لما اختار ثم اصدع النصف الذي ما ارتضاه لنفسه صدعين و خيره ثم لا تزال تفعل هكذا حتى تبقي من المال بمقدار الحق الذي عليه فأقبضه منه فإن استقالك فأقله ثم اخلط المال ثم عد لمثل ما صنعت حتى يرضى و ينبغي أن يكون المعيبات الخمس و هي المهلوسة و المكسورة و أخواتهما يخرجها المصدق من أصل المال قبل قسمته ثم يقسم و إلا فربما وقعت في سهم المصدق إذا كان يعتمد ما أمره به من صدع المال مرة بعد مرة. و العود المسن من الإبل و الهرمة المسنة أيضا و المكسورة التي أحد قوائمها مكسورة العظم أو ظهرها مكسور و المهلوسة المريضة قد هلسها المرض و أفنى لحمها و الهلاس السل و العوار بفتح العين العيب و قد جاء بالضم. و المعنف ذو العنف بالضم و هو ضد الرفق و المجحف الذي يسوق المال سوقا عنيفا فيجحف به أي يهلكه أو يذهب كثيرا من لحمه و نقية. و الملغب المتعب و اللغوب الإعياء. و حدرت السفينة و غيرها بغير ألف أحدرها بالضم. شرح نهج البلاغة ج : 15 ص : 156قوله بين ناقة و بين فصيلها الأفصح حذف بين الثانية لأن الاسمين ظاهران و إنما تكرر إ جاءت بعد المضمر كقولك المال بيني و بين زيد و بين عمرو و ذلك لأن المجرور لا يعطف عليه إلا بإعادة حرف الجر و الاسم المضاف و قد جاء المال بين زيد و عمرو و أنشدوا (16/133)
بين السحاب و بين الريح ملحمة قعاقع و ظبي في الجو تخترط
و أيضا
بين الندي و بين برقة ضاحك غيث الضريك و فارس مقدام
و من شعر الحماسة
و إن الذي بيني و بين بني أبي و بين بني عمي لمختلف جدا (16/134)
و ليس قول من يقول إنه عطف بين الثالثة على الضمير المجرور بأولى من قول من يقول بل عطف بين الثالثة على بين الثانية لأن المعنى يتم بكل واحد منها. قوله ع و لا تمصر لبنها المصر حلب ما في الضرع جميعه نهاه من أن يحلب اللبن كله فيبقى الفصيل جائعا ثم نهاه أن يجهدها ركوبا أي يتعبها و يحملها مشقة ثم أمره أن يعدل بين الركاب في ذلك لا يخص بالركوب واحدة بعينها ليكون ذلك أروح لهن ليرفه على اللاغب أي ليتركه و ليعفه عن الركوب ليستريح و الرفاهية الدعة و الراحة. و النقب ذو النقب و هو رقة خف البعير حتى تكاد الأرض تجرحه أمره أن يستأني بالبعير ذي النقب من الأناة و هي المهلة. شرح نهج البلاغة ج : 15 ص : 157و الظالع الذي ظلع أي غمز في مشيه. و الغدر جمع غدير الماء و جواد الطريق حيث لا ينبت المرعى. و النطاف جمع نطفة و هي الماء الصافي القليل. و البدن بالتشديد السمان واحدها بادن. و منات ذوات نقي و هو المخ في العظم و الشحم في العين من السمن و أنقت الإبل و غيرها سمنت و صار فيها نقي و ناقة منقية و هذه الناقة لا تنقي
شرح نهج البلاغة ج : 15 ص : 26158- و من عهد له ع إلى بعض عماله و قد بعثه على الصدقةآمُرُهُ بِتَقْوَى اللَّهِ فِي سَرَائِرِ أَمْرِهِ وَ خَفِيَّاتِ عَمَلِهِ حَيْثُ لَا شَاهِدَ غَيْرُهُ وَ لَا وَكِيلَ دُونَهُ وَ آمُرُهُ أَلَّا يَعْمَلَ بِشَيْ ءٍ مِنْ طَاعَةِ اللَّهِ فِيمَا ظَهَرَ فَيُخَالِفَ إِلَى غَيْرِهِ فِيمَا أَسَرَّ وَ مَنْ لَمْ يَخْتلِفْ سِرُّهُ وَ عَلَانِيَتُهُ وَ فِعْلُهُ وَ مَقَالَتُهُ فَقَدْ أَدَّى الْأَمَانَةَ وَ أَخْلَصَ الْعِبَادَةَ وَ آمُرُهُ أَلَّا يَجْبَهَهُمْ وَ لَا يَعْضَهَهُمْ وَ لَا يَرْغَبَ عَنْهُمْ تَفَضُّلًا بِالْإِمَارَةِ عَلَيْهِمْ فَإِنَّهُمُ الْإِخْوَانُ فِي الدِّينِ وَ الْأَعْوَانُ عَلَى اسْتِخْرَاجِ الْحُقُوقِ وَ إِنَّ لَكَ فِي هَذِهِ الصَّدَقَةِ نَصِيباً مَفْرُوضاً وَ حَقّاً مَعْلُوماً وَ شُرَكَاءَ أَهْلَ مَسْكَنَةٍ وَ ضُعَفَاءَ ذَوِي فَاقَةٍ وَ إِنَّا مُوَفُّوكَ حَقَّكَ فَوَفِّهِمْ حُقُوقَهُمْ وَ إِلَّا تَفْعَلْ فَإِنَّكَ مِنْ أَكْثَرِ النَّاسِ خُصُوماً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَ بُؤْسَى لِمَنْ خَصْمُهُ عِنْدَ اللَّهِ الْفُقَرَاءُ وَ الْمَسَاكِينُ وَ السَّائِلُونَ وَ الْمَدْفُوعُونَ وَ الْغَارِمُونَ وَ ابْنُ السَّبِيلِ وَ مَنِ اسْتَهَانَ بِالْأَمَانَةِ وَ رَتَعَ فِي الْخِيَانَةِ وَ لَمْ يُنَزِّهْ نَفْسَهُ وَ دِينَهُ عَنْهَا فَقَدْ أَحَلَّ بِنَفْسِهِ الذُّلَّ وَ الْخِزْيَ فِي الدُّنْيَا وَ هُوَ فِي الآْخِرَةِ أَذَلُّ وَ أَخْزَى وَ إِنَّ أَعْظَمَ الْخِيَانَةِ خِيَانَةُ الْأُمَّةِ وَ أَفْظَعَ الْغِشِّ غِشُّ الْأَئِمَّةِ وَ السَّلَامُ (16/135)
شرح نهج البلاغة ج : 15 ص : 159حيث لا شهيد و لا وكيل دونه يعني يوم القيامة. قوله ألا يعمل بشي ء من طاعة الله فيما ظهر أي لا ينافق فيعمل الطاعة في الظاهر و المعصية في الباطن. ثم ذكر أن الذين يتجنبون النفاق و الرياء هم المخلصون. و ألا يجبههم لا يواجههم بمكرهونه و أصل الجبه لقاء الجبهة أو ضربها فلما كان المواجه غيره بالكلام القبيح كالضارب جبهته به سمي بذلك جبها. قوله و لا يعضههم أي لا يرميهم بالبهتان و الكذب و هي العضيهة و عضهت فلانا عضها و قد عضهت يا فلان أي جئت بالبهتان قوله و لا يرغب عنهم تفضلا يقول لا يحقرهم ادعاء لفضله عليهم و تمييزه عنهم بالولاية و الإمرة يقال فلان يرغب عن القوم أي يأنف من الانتماء إليهم أو من المخالطة لهم. و كان عمر بن عبد العزيز يدخل إليه سالم مولى بني مخزوم و عمر في صدر بيته فيتنحى عن الصدر و كان سالم رجلا صالحا و كان عمر أراد شراءه و عتقه فأعتقه مواليه فكان يسميه أخي في الله فقيل له أ تتنحى لسالم فقال إذا دخل عليك من لا ترى لك عليه فضلا فلا تأخذ عليه شرف المجلس و هم السراج ليلة بأن يخمد فوثب إليه رجاء بن حيوة ليصلحه فأقسم عليه عمر بن عبد العزيز فجلس ثم قام عمر فأصلحه فقال له رجاء أ تقوم أنت يا أمير المؤمنين قال نعم قمت و أنا عمر بن عبد العزيز و رجعت و أنا عمر بن عبد العزيز شرح نهج البلاغة ج : 15 ص : 16 قال رسول الله ص لا ترفعوني فوق قدري فتقولوا في ما قالت النصارى في ابن مريم فإن الله عز و جل اتخذني عبدا قبل أن يتخذني رسولا (16/136)
ثم قال إن أرباب الأموال الذين تجب الصدقة عليهم في أموالهم إخوانك في الدين و أعوانك على استخراج الحقوق لأن الحق إنما يمكن العامل استيفاؤه بمعاونة رب المال و اعترافه به و دفعه إليه فإذا كانوا بهذه الصفة لم يجز لك عضههم و جبههم و ادعاء الفضل عليهم. ثم ذكر أن لهذا العامل نصيبا مفروضا من الصدقة و ذلك بنص الكتاب العزيز فكما نوفيك نحن حقك يجب عليك أن توفي شركاءك حقوقهم و هم الفقراء و المساكين و الغارمون و سائر الأصناف المذكورة في القرآن و هذا يدل على أنه ع قد فوضه في صرف الصدقات إلى الأصناف المعلومة و لم يأمره بأن يحمل ما اجتمع إليه ليوزعه هو ع على مستحقيه كما في الوصية الأولى و يجوز للإمام أن يتولى ذلك بنفسه و أن يكله إلى من يثق به من عماله. و انتصب أهل مسكنة لأنه صفة شركاء و في التحقيق أن شركاء صفة أيضا موصوفها محذوف فيكون صفة بعد صفة. و قال الراوندي انتصب أهل مسكنه لأنه بدل من شركاء و هذا غلط لأنه لا يعطي معناه ليكون بدلا منه. و قال أيضا بؤسى أي عذابا و شدة فظنه منونا و ليس كذلك بل هو بؤسى على وزن فعلى كفضلى و نعمى و هي لفظة مؤنثة يقال بؤسى لفلان قال الشاعر (16/137)
أرى الحلم بؤسى للفتى في حياته و لا عيش إلا ما حباك به الجهل
شرح نهج البلاغة ج : 15 ص : 161و السائلون هاهنا هم الرقاب المذكورون في الآية و هم المكاتبون يتعذر عليهم أداء مال الكتابة فيسألون الناس ليتخلصوا من ربقة الرق و قيل هم الأسارى يطلبون فكاك أنفسهم و قيل بل المراد بالرقاب في الآية الرقيق يسأل أن يبتاعه الأغني فيعتقوه و المدفوعون هاهنا هم الذين عناهم الله تعالى في الآية بقوله وَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ و هم فقراء الغزاة سماهم مدفوعين لفقرهم و المدفوع و المدفع الفقير لأن كل أحد يكرهه و يدفعه عن نفسه و قيل هم الحجيج المنقطع بهم سماهم مدفوعين لأنهم دفعوا عن إتمام حجهم أو دفعوا عن العود إلى أهلهم. فإن قلت لم حملت كلام أمير المؤمنين ع على ما فسرته به قلت لأنه ع إنما أراد أن يذكر الأصناف المذكورة في الآية فترك ذكر المؤلفة قلوبهم لأن سهمهم سقط بعد موت رسول الله ص فقد كان يدفع إليهم حين الإسلام ضعيف و قد أعزه الله سبحانه فاستغنى عن تأليف قلوب المشركين و بقيت سبعة أصناف و هم الفقراء و المساكين و العاملون عليها و الرقاب و الغارمون و في سبيل الله و ابن السبيل. فأما العاملون عليها فقد ذكرهم ع في قوله و إن لك في هذه الصدقة نصيبا مفروضا فبقيت ستة أصناف أتى ع بألفاظ القرآن في أربعة أصناف منها و هي الفقراء و المساكين و الغارم و ابن السبيل و أبدل لفظتين و هما الرقاب و في سبيل الله بلفظتين و هما السائلون و المدفوعون. فإن قلت ما يقوله الفقهاء في الصدقات هل تصرف إلى الأصناف كلها أم يجوز صرفها إلى واحد منها. شرح نهج البلاغة ج : 15 ص : 1قلت أما أبو حنيفة فإنه يقول الآية قصر لجنس الصدقات على الأصناف المعدودة فهي مختصة بها لا تتجاوزها إلى غيرها كأنه تعالى قال إنما هي لهم لا لغيرهم كقولك إنما الخلافة لقريش فيجوز أن تصرف الصدقة إلى الأصناف كلها و يجوز أن تصرف إلى بعضها و هو مذهب ابن عباس و حذيفة و جماعة من الصحابة و التابعين و أما الشافعي فلا يرى صرفها إلا (16/138)
إلى الأصناف المعدودة كلها و به قال الزهري و عكرمة. فإن قلت فمن الغارم و ابن السبيل. قلت الغارمون الذين ركبتهم الديون و لا يملكون بعدها ما يبلغ النصاب و قيل هم الذين يحملون الحمالات فدينوا فيها و غرموا و ابن السبيل المسافر المنقطع عن ماله فهو و إن كان غنيا حيث ماله موجود فقير حيث هو بعيد. و قد سبق تفسير الفقير و المسكين فيما تقدم. قوله فقد أحل بنفسه الذل و الخزي أي جعل نفسه محلا لهما و يروى فقد أخل بنفسه بالخاء المعجمة و لم يذكر الذل و الخزي أي جعل نفسه مخلا و معناه جعل نفسه فقيرا يقال خل الرجل إذا افتقر و أخل به غيره و بغيره أي جعل غيره فقيرا و روي أحل بنفسه بالحاء المهملة و لم يذكر الذل و الخزي و معنى أحل بنفسه أباح دمه و الرواية الأولى أصح لأنه قال بعدها و هو في الآخرة أذل و أخزى. و خيانة الأمة مصدر مضاف إلى المفعول به لأن الساعي إذا خان فقد خان الأمة كلها و كذلك غش الأئمة مصدر مضاف إلى المفعول أيضا لأن الساعي إذا غش في الصدقة فقد غش الإمام (16/139)
شرح نهج البلاغة ج : 15 ص : 27163- و من عهد له ع إلى محمد بن أبي بكر رضي الله عنه حين قلده مصرفَاخْفِضْ لَهُمْ جَنَاحَكَ وَ أَلِنْ لَهُمْ جَانِبَكَ وَ ابْسُطْ لَهُمْ وَجْهَكَ وَ آسِ بَيْنَهُمْ فِي اللَّحْظَةِ وَ النَّظْرَةِ حَتَّى لَا يَطْمَعَ الْعُظَمَاءُ فِي حَيْفِكَ لَهُمْ وَ لَا يَيْأَسَ الضُّعَفَاءُ مِنْ عَدْلِكَ عَلَيْهِمْ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُسَائِلُكُمْ مَعْشَرَ عِبَادِهِ عَنِ الصَّغِيرَةِ مِنْ أَعْمَالِكُمْ وَ الْكَبِيرَةِ وَ الظَّاهِرَةِ وَ الْمَسْتُورَةِ فَإِنْ يُعَذِّبْ فَأَنْتُمْ أَظْلَمُ وَ إِنْ يَعْفُ فَهُوَ أَكْرَمُ وَ اعْلَمُوا عِبَادَ اللَّهِ أَنَّ الْمُتَّقِينَ ذَهَبُوا بِعَاجِلِ الدُّنْيَا وَ آجِلِ الآْخِرَةِ فَشَارَكُوا أَهْلَ الدُّنْيَا فِي دُنْيَاهُمْ وَ لَمْ يُشَارِكْهُمْ أَهْلُ الدُّنْيَا فِي آخِرَتِهِمْ سَكَنُوا الدُّنْيَا بِأَفْضَلِ مَا سُكِنَتْ وَ أَكَلُوهَا بِأَفْضَلِ مَا أُكِلَتْ فَحَظُوا مِنَ الدُّنْيَا بِمَا حَظِيَ بِهِ الْمُتْرَفُونَ وَ أَخَذُوا مِنْهَا مَا أَخَذَهُ الْجَبَابِرَةُ الْمُتَكَبِّرُونَ ثُمَّ انْقَلَبُوا عَنْهَا بِالزَّادِ الْمُبَلِّغِ وَ الْمَتْجَرِ الرَّابِحِ أَصَابُوا لَذَّةَ زُهْدِ الدُّنْيَا فِي دُنْيَاهُمْ وَ تَيَقَّنُوا أَنَّهُمْ جِيرَانُ اللَّهِ غَداً فِي آخِرَتِهِمْ لَا تُرَدُّ لَهُمْ دَعْوَةٌ وَ لَا يَنْقُفُ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنْ لَذَّةٍ فَاحْذَرُوا عِبَادَ اللَّهِ الْمَوْتَ وَ قُرْبَهُ وَ أَعِدُّوا لَهُ عُدَّتَهُ فَإِنَّهُ يَأْتِي بِأَمْرٍ عَظِيمٍ وَ خَطْبٍ جَلِيلٍ بِخَيْرٍ لَا يَكُونُ مَعَهُ شَرٌّ أَبَداً أَوْ شَرٍّ لَا يَكُونُ مَعَهُ خَيْرٌ أَبَداً فَمَنْ أَقْرَبُ إِلَى الْجَنَّةِ مِنْ عَامِلِهَا وَ مَنْ أَقْرَبُ إِلَى النَّارِ مِنْ عَامِلِهَا وَ أَنْتُمْ طُرَدَاءُ الْمَوْتِ إِنْ أَقَمْتُمْ لَهُ أَخَذَكُمْ وَ (16/140)
إِنْ فَرَرْتُمْ مِنْهُ أَدْرَكَكُمْ وَ هُوَ أَلْزَمُ لَكُمْ مِنْ ظِلِّكُمْ الْمَوْتُ مَعْقُودٌ بِنَوَاصِيكُمْ وَ الدُّنْيَا تُطْوَى مِنْ خَلْفِكُمْ شرح نهج البلاغة ج : 15 ص : 164فَاحْذَرُوا نَاراً قَعْرُهَا بَعِيدٌ وَ حَرُّهَا شَدِيدٌ وَ عَذَابُهَا جَدِيدٌ دَارٌ لَيْسَ فِيهَا رَحْمَةٌ ولَا تَسْمَعُ فِيهَا دَعْوَةٌ وَ لَا تُفَرَّجُ فِيهَا كُرْبَةٌ وَ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ يَشْتَدَّ خَوْفُكُمْ مِنَ اللَّهِ وَ أَنْ يَحْسُنَ ظَنُّكُمْ بِهِ فَاجْمَعُوا بَيْنَهُمَا فَإِنَّ الْعَبْدَ إِنَّمَا يَكُونُ حُسْنُ ظَنِّهِ بِرَبِّهِ عَلَى قَدْرِ خَوْفِهِ مِنْ رَبِّهِ وَ إِنَّ أَحْسَنَ النَّاسِ ظَنّاً بِاللَّهِ أَشَدُّهُمْ خَوْفاً لِلَّهِ وَ اعْلَمْ يَا مُحَمَّدَ بْنَ أَبِي بَكْرٍ أَنِّي قَدْ وَلَّيْتُكَ أَعْظَمَ أَجْنَادِي فِي نَفْسِي أَهْلَ مِصْرَ فَأَنْتَ مَحْقُوقٌ أَنْ تُخَالِفَ عَلَى نَفْسِكَ وَ أَنْ تُنَافِحَ عَنْ دِينِكَ وَ لَوْ لَمْ يَكُنْ لَكَ إِلَّا سَاعَةٌ مِنَ الدَّهْرِ وَ لَا تُسْخِطِ اللَّهَ بِرِضَا أَحَدٍ مِنْ خَلْقِهِ فَإِنَّ فِي اللَّهِ خَلَفاً مِنْ غَيْرِهِ وَ لَيْسَ مِنَ اللَّهِ خَلَفٌ فِي غَيْرِهِ صَلِّ الصَّلَاةَ لِوَقْتِهَا الْمُؤَقَّتِ لَهَا وَ لَا تُعَجِّلْ وَقْتَهَا لِفَرَاغٍ وَ لَا تُؤَخِّرْهَا عَنْ وَقْتِهَا لِاشْتِغَالٍ وَ اعْلَمْ أَنَّ كُلَّ شَيْ ءٍ مِنْ عَمَلِكَ تَبَعٌ لِصَلَاتِكَ آس بينهم اجعلهم أسوة لا تفضل بعضهم على بعض في اللحظة و النظرة و نبه بذلك على وجوب أن يجعلهم أسوة في جميع ما عدا ذلك من العطاء و الإنعام و التقريب كقوله تعالى فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍّ. قوله حتى لا يطمع العظماء في حيفك لهم الضمير في لهم راجع إلى الرعية لا إلى العظماء و قد كان سبق ذكرهم في أول الخطبة أي إذا سلكت هذا المسلك لم يطمع العظماء في أن تحيف على الرعية و تظلمهم و تدفع أموالهم (16/141)
إليهم فإن ولاة الجور شرح نهج البلاغة ج : 15 ص : 165هكذا يفعلون يأخذون مال هذا فيعطونه هذا و يجوز أن يرجع الضمير إلى العظماء أيتى لا يطمع العظماء في جورك في القسم الذي إنما تفعله لهم و لأجلهم فإن ولاة الجور يطمع العظماء فيهم أن يحيفوا في القسمة في الفي ء و يخالفوا ما حده الله تعالى فيها حفظا لقلوبهم و استمالة لهم و هذا التفسير أليق بالخطابة لأن الضمير في عليهم في الفقرة الثالثة عئد إلى الضعفاء فيجب أن يكون الضمير في لهم في الفقرة الثانية عائدا إلى العظماء. قوله فإن يعذب فأنتم أظلم أفعل هاهنا بمعنى الصفة لا بمعنى التفضيل و إنما يراد فأنتم الظالمون كقوله تعالى وَ هُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ و كقولهم الله أكبر. ثم ذكر حال الزهاد فقال أخذوا من الدنيا بنصيب قوي و جعلت لهم الآخرة و يروى أن الفضيل بن عياض كان هو و رفيق له في بعض الصحاري فأكلا كسرة يابسة و اغترفا بأيديهما ماء من بعض الغدران و قام الفضيل فحط رجليه في الماء فوجد برده فالتذ به و بالحال التي هو فيها فقال لرفيقه لو علم الملوك و أبناء الملوك ما نحن فيه من العيش و اللذة لحسدونا. و روي و المتجر المربح فالرابح فاعل من ربح ربحا يقال بيع رابح أي يربح فيه و المربح اسم فاعل قد عدي ماضيه بالهمزة كقولك قام و أقمته. قوله جيران الله غدا في آخرتهم ظاهر اللفظ غير مراد لأن البارئ تعالى ليس في مكان و جهة ليكونوا جيرانه و لكن لما كان الجار يكرم جاره سماهم جيران الله لإكرامه إياهم و أيضا فإن الجنة إذا كانت في السماء و العرش هو السماء العليا كان في الكلام محذوف مقدر أي جيران عرش الله غدا. شرح نهج البلاغة ج : 15 ص : 166قوله فإنه يأتي بأمر عظيم و خطب جل بخير لا يكون معه شر أبدا و شر لا يكون معه خير أبدا نص صريح في مذهب أصحابنا في الوعيد و أن من دخل النار من جميع المكلفين فليس بخارج لأنه لو خرج منها لكان الموت قد جاءه بشر معه خير و قد نفى نفيا (16/142)
عاما أن يكون مع الشر المعقب للموت خير البتة. قوله من عاملها أي من العامل لها. قوله طرداء الموت جمع طريد أي يطردكم عن أوطانكم و يخرجكم منها لا بد من ذلك إن أقمتم أخذكم و إن هربتم أدرككم. و قال الراوندي طرداء هاهنا جمع طريدة و هي ما طردت من الصيد أو الوسيقة و ليس بصحيح لأن فعيلة بالتأنيث لا تجمع على فعلاء و قال النحويون إن قوله تعالى وَ يَجْعَلُكُمْ خُلَفاءَ الْأَرْضِ جاء على خليف لا على خليفة و أنشدوا لأوس بن حجر بيتا استعملها جميعا فيه و هو (16/143)
إن من القوم موجودا خليفته و ما خليف أبي ليلى بموجود
قوله ألزم لكم من ظلكم لأن الظل لا تصح مفارقته لذي الظل ما دام في الشمس و هذا من الأمثال المشهورة. قوله معقود بنواصيكم أي ملازم لكم كالشي ء المعقود بناصية الإنسان أين ذهب ذهب منه. و قال الراوندي أي الموت غالب عليكم قال تعالى فَيُؤْخَذُ بِالنَّواصِي وَ الْأقْدامِ فإن الإنسان إذا أخذ بناصيته لا يمكنه الخلاص و ليس بصحيح لأنه لم يقل أخذ بنواصيكم. قوله و الدنيا تطوى من خلفكم من كلام بعض الحكماء الموت و الناس كسطور شرح نهج البلاغة ج : 15 ص : 167في صحيفة يقرؤها قارئ و يطوي ما يقرأ فكلما ظهر سطر خفي سطر. ثم أمره بأن يجمع بين حسن الظن بالله و بين الخوف منه و هذا مقام جليل لا يصل إليه إلا كل ضامر مهزول و قد تقدم كلامنا فيه و
قال علي بن الحسين ع لو أنزل الله عز و جل كتابا أنه معذب رجلا واحدا لرجوت أن أكونه و أنه راحم رجلا واحدا لرجوت أن أكونه أو أنه معذبي لا محالة ما ازددت إلا اجتهادا لئلا أرجع إلى نفسي بلائمة
ثم قال وليتك أعظم أجنادي يقال للأقاليم و الأطراف أجناد تقول ولي جند الشام و ولي جند الأردن و ولي جند مصر. قوله فأنت محقوق كقولك حقيق و جدير و خليق قال الشاعر
و إني لمحقوق بألا يطولني نداه إذا طاولته بالقصائد
و تنافح تجالد نافحت بالسيف أي خاصمت به. قوله و لو لم يكن إلا ساعة من النهار المراد تأكيد الوصاة عليه أن يخالف على نفسه و ألا يتبع هواها و أن يخاصم عن دينه و أن ذلك لازم له و واجب عليه و يلزم أن يفعله دائما فإن لم يستطع فليفعله و لو ساعة من النهار و ينبغي أن يكون هذا التقييد مصروفا إلى المنافحة عن الدين لأن الخصام في الدين قد يمنعه عنه مانع فأما أمره إياه أن يخالف على نفسه فلا يجوز صرف التقييد إليه لأنه يشعر بأنه مفسوح له أن يتبع هوى نفسه في بعض الحالات و ذلك غير جائز بخلاف المخاصمة و النضال عن المعتقد. قال و لا تسخط الله برضا أحد من خلقه فإن في الله خلفا من غيره و ليس من الله خلف في غيره أخذه الحسن البصري فقال لعمر بن هبيرة شرح نهج البلاغة ج : 15 ص : 168أمير العراق إن الله مانعك من يزيد و لم يمنعك يزيد من الله يعني يزيد بن عبد الملك. ثم أمره بأن يصلي الصلالوقتها أي في وقتها و نهاه أن يحمله الفراغ من الشغل على أن يعجلها قبل وقتها فإنها تكون غير مقبولة أو أن يحمله الشغل على تأخيرها عن وقتها فيأثم. و من كلام هشام بن عقبة أخي ذي الرمة و كان من عقلاء الرجال قال المبرد في الكامل حدثني العباس بن الفرج الرياشي بإسناده قال هشام لرجل أراد سفرا اعلم أن لكل رفقة كلبا يشركهم في فضل الزاد و يهر دونهم فإن قدرت ألا تكون كلب الرفقة فافعل و إياك و تأخير الصلاة عن وقتها فإنك مصليها لا محالة فصلها و هي تقبل منك. قوله و اعلم أن كل شي ء من عملك تبع لصلاتك فيه شبه من قول رسول الله ص الصلاة عماد الإيمان و من تركها فقد هدم الإيمان (16/144)
و قال ص أول ما يحاسب به العبد صلاته فإن سهل عليه كان ما بعده أسهل و إن اشتد عليه كان ما بعده أشد
و مثل قوله و لا تسخط الله برضا أحد من خلقه ما رواه المبرد في الكامل عن عائشة قالت من أرضى الله بإسخاط الناس كفاه الله ما بينه و بين الناس و من أرضى الناس بإسخاط الله وكله الله إلى الناس. و مثل هذا ما رواه المبرد أيضا قال لما ولي الحسن بن زيد بن الحسن المدينة قال لابن هرمة إني لست كمن باع لك دينه رجاء مدحك أو خوف ذمك فقد رزقني شرح نهج البلاغة ج : 15 ص : 169الله عز و جل بولادة نبيه ص الممادح و جنبني المقابح و إن من حقه علي ألا أغضي على تقصير في حق الله و أنا أقسم بالله لئن أتيت بك سكران لأضربنك حدا للخمر و ا للسكر و لأزيدن لموضع حرمتك بي فليكن تركك لها لله عز و جل تعن عليه و لا تدعها للناس فتوكل إليهم فقال ابن هرمة (16/145)
نهاني ابن الرسول عن المدام و أدبني بآداب الكرام و قال لي اصطبر عنها و دعها لخوف الله لا خوف الأنام و كيف تصبري عنها و حبي لها حب تمكن في عظامي أرى طيب الحلال علي خبثا و طيب النفس في خبث الحرام
شرح نهج البلاغة ج : 15 ص : 170وَ مِنْ هَذَا الْعَهْدِ فَإِنَّهُ لَا سَوَاءَ إِمَامُ الْهُدَى وَ إِمَامُ الرَّدَى وَ وَلِيُّ النَّبِيِّ وَ عَدُوُّ النَّبِيِّ وَ لَقَدْ قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ ص إِنِّي لَا أَخَافُ عَلَى أُمَّتِي مُؤْمِناً وَ لَا مُشْرِك أَمَّا الْمُؤْمِنُ فَيَمْنَعُهُ اللَّهُ بِإِيمَانِهِ وَ أَمَّا الْمُشْرِكُ فَيَقْمَعُهُ اللَّهُ بِشِرْكِهِ وَ لَكِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ كُلَّ مُنَافِقِ الْجَنَانِ عَالِمِ اللِّسَانِ يَقُولُ مَا تَعْرِفُونَ وَ يَفْعَلُ مَا تُنْكِرُونَ
الإشارة بإمام الهدى إليه نفسه و بإمام الردى إلى معاوية و سماه إماما كما سمى الله تعالى أهل الضلال أئمة فقال وَ جَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ ثم وصفه بصفة أخرى و هو أنه عدو النبي ص ليس يعني بذلك أنه كان عدوا أيام حرب النبي ص لقريش بل يريد أنه الآن عدو النبي ص
لقوله ص له ع و عدوك عدوي و عدوي عدو الله و أول الخبر وليك وليي و وليي ولي الله (16/146)
و تمامه مشهور و لأن دلائل النفاق كانت ظاهرة عليه من فلتات لسانه و من أفعاله و قد قال أصحابنا في هذا المعنى أشياء كثيرة فلتطلب من كتبهم خصوصا شرح نهج البلاغة ج : 15 ص : 171من كتب شيخنا أبي عبد الله و من كتب الشيخين أبي جعفر الإسكافي و أبي القاسم البلخي و ذكرنا بعض ذلك فيما تقدم. ثم قال ع إن رسول الله ص قال إني لا أخاف على أمتي مؤمنا و لا مشركا أي و لا مشركا يظهر الشرك قال لأن المؤمن يمنعه الله بإيمانه أن يضل الناس و المشرك مظهر الشرك يقمعه الله بإظهار شركه و يخذله و يصرف قلوب الناس عن اتباعه لأنهم ينفرون منه لإظهاره كلمة الكفر فلا تطمئن قلوبهم إليه و لا تسكن نفوسهم إلى مقالته و لكني أخاف على أمتي المنافق الذي يسر الكفر و الضلال و يظهر الإيمان و الأفعال الصالحة و يكون مع ذلك ذا لسن و فصاحة يقول بلسانه ما تعرفون صوابه و يفعل سرا ما تنكرونه لو اطلعتم عليه و ذاك أن من هذه صفته تسكن نفوس الناس إليه لأن الإنسان إنما يحكم بالظاهر فيقلده الناس فيضلهم و يوقعهم في المفاسد
كتاب المعتضد بالله
و من الكتب المستحسنة الكتاب الذي كتبه المعتضد بالله أبو العباس أحمد بن الموفق أبي أحمد طلحة بن المتوكل على الله في سنة أربع و ثمانين و مائتين و وزيره حينئذ عبيد الله بن سليمان و أنا أذكره مختصرا من تاريخ أبي جعفر محمد بن جرير الطبري. قال أبو جعفر و في هذه السنة عزم المعتضد على لعن معاوية بن أبي سفيان على المنابر و أمر بإنشاء كتاب يقرأ على الناس فخوفه عبيد الله بن سليمان اضطراب العامة شرح نهج البلاغة ج : 15 ص : 172و أنه لا يأمن أن تكون فتنة فلم يلتفت إليه فكان أول شي ء بدأ به المعتضد من ذلك التقدم إلى الع بلزوم أعمالهم و ترك الاجتماع و العصبية و الشهادات عند السلطان إلا أن يسألوا و منع القصاص عن القعود على الطرقات و أنشأ هذا الكتاب و عملت به نسخ قرئت بالجانبين من مدينة السلام في الأرباع و المحال و الأسواق يوم الأربعاء لست بقين من جمادى الأولى من هذه السنة ثم منع يوم الجمعة لأربع بقين منه و منع القصاص من القعود في الجانبين و منع أهل الحلق من القعود في المسجدين و نودي في المسجد الجامع بنهي الناس عن الاجتماع و غيره و بمنع القصاص و أهل الحلق من القعود و نودي إن الذمة قد برئت ممن اجتمع من الناس في مناظرة أو جدال و تقدم إلى الشراب الذين يسقون الماء في الجامعين ألا يترحموا على معاوية و لا يذكروه بخير و كانت عادتهم جارية بالترحم عليه و تحدث الناس أن الكتاب الذي قد أمر المعتضد بإنشائه بلعن معاوية يقرأ بعد صلاة الجمعة على المنبر فلما صلى الناس بادروا إلى المقصورة ليسمعوا قراءة الكتاب فلم يقرأ و قيل إن عبيد الله بن سليمان صرفه عن قراءته و أنه أحضر يوسف بن يعقوب القاضي و أمره أن يعمل الحيلة في إبطال ما عزم المعتضد عليه فمضى يوسف فكلم المعتضد في ذلك و قال له إني أخاف أن تضطرب العامة و يكون منها عند سماعها هذا الكتاب حركة فقال إن تحركت العامة أو نطقت وضعت السيف فيها فقال يا أمير المؤمنين (16/147)
فما تصنع بالطالبيين الذين يخرجون في كل ناحية و يميل إليهم خلق كثير لقربتهم من رسول الله ص و ما في هذا الكتاب من إطرائهم أو كما قال و إذا سمع الناس هذا كانوا إليهم أميل و كانوا هم أبسط شرح هج البلاغة ج : 15 ص : 173ألسنة و أثبت حجة منهم اليوم فأمسك المعتضد فلم يرد إليه جوابا و لم يأمر بعد ذلك في الكتاب بشي ء و كان من جملة الكتاب بعد أن قدم حمد الله و الثناء عليه و الصلاة على رسول الله ص أما بعد فقد انتهى إلى أمير المؤمنين ما عليه جماعة العا من شبهة قد دخلتهم في أديانهم و فساد قد لحقهم في معتقدهم و عصبية قد غلبت عليها أهواؤهم و نطقت بها ألسنتهم على غير معرفة و لا روية قد قلدوا فيها قادة الضلالة بلا بينة و لا بصيرة و خالفوا السنن المتبعة إلى الأهواء المبتدعة قال الله تعالى وَ مَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَواهُ بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ خروجا عن الجماعة و مسارعة إلى الفتنة و إيثارا للفرقة و تشتيتا للكلمة و إظهارا لموالاة من قطع الله عنه الموالاة و بتر منه العصمة و أخرجه من الملة و أوجب عليه اللعنة و تعظيما لمن صغر الله حقه و أوهن أمره و أضعف ركنه من بني أمية الشجرة الملعونة و مخالفة لمن استنقذهم الله به من الهلكة و أسبغ عليهم به النعمة من أهل بيت البركة و الرحمة وَ اللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ وَ اللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ. فأعظم أمير المؤمنين ما انتهى إليه من ذلك و رأى ترك إنكاره حرجا عليه في الدين و فسادا لمن قلده الله أمره من المسلمين و إهمالا لما أوجبه الله عليه من تقويم المخالفين و تبصير الجاهلين و إقامة الحجة على الشاكين و بسط اليد على المعاندين و أمير المؤمنين يخبركم معاشر المسلمين أن الله جل ثناؤه لما ابتعث محمدا ص بدينه و أمره أن يصدع بأمره بدأ بأهله و عشيرته فدعاهم إلى ربه و أنذرهم و بشرهم (16/148)
شرح نهج البلاغة ج : 15 ص : 174و نصح لهم و أرشدهم فكان من استجاب له و صدق قوله و اتبع أمره نفير يسير من بني أبيه من بين مؤمن بما أتى به من ربه و ناصر لكلمته و إن لم يتبع دينه إعزازا له و إشفاقا عليه فمؤمنهم مجاهد ببصيرته و كافرهم مجاهد بنصرته و حميته يدفن من نابذه و يقهرون من عازه و عانده و يتوثقون له ممن كانفه و عاضده و يبايعون من سمح بنصرته و يتجسسون أخبار أعدائه و يكيدون له بظهر الغيب كما يكيدون له برأي العين حتى بلغ المدى و حان وقت الاهتداء فدخلوا في دين الله و طاعته و تصديق رسوله و الإيمان به بأثبت بصيرة و أحسن هدى و رغبة فجعلهم الله أهل بيت الرحمة و أهل بيت الذين أذهب عنهم الرجس و طهرهم تطهيرا معدن الحكمة و ورثة النبوة و موضع الخلافة أوجب الله لهم الفضيلة و ألزم العباد لهم الطاعة. و كان ممن عانده و كذبه و حاربه من عشيرته العدد الكثير و السواد الأعظم يتلقونه بالضرر و التثريب و يقصدونه بالأذى و التخويف و ينابذونه بالعداوة و ينصبون له المحاربة و يصدون من قصده و ينالون بالتعذيب من اتبعه و كان أشدهم في ذلك عداوة و أعظمهم له مخالفة أولهم في كل حرب و مناصبة و رأسهم في كل إجلاب و فتنة لا يرفع على الإسلام راية إلا كان صاحبها و قائدها و رئيسها أبا سفيان بن حرب صاحب أحد و الخندق و غيرهما و أشياعه من بني أمية الملعونين في كتاب الله ثم الملعونين على لسان رسول الله ص في مواطن عدة لسابق علم الله فيهم و ماضي حكمه في أمرهم و كفرهم و نفاقهم فلم يزل لعنه الله يحارب مجاهدا و يدافع مكايدا و يجلب منابذا حتى قهره السيف و علا أمر الله و هم كارهون فتعوذ بالإسلام غير منطو عليه و أسر الكفر غير مقلع عنه فقبله و قبل ولده على علم منه بحاله و حالهم ثم أنزل الله شرح نهج البلاغة ج : 15 ص : 175تعالى كتابا فيما أنزله على رسوله يذكر فيهأنهم و هو قوله تعالى وَ الشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ و (16/149)
لا خلاف بين أحد في أنه تعالى و تبارك أراد بها بني أمية. و مما ورد من ذلك في السنة و رواه ثقات الأمة (16/150)
قول رسول الله ص فيه و قد رآه مقبلا على حمار و معاوية يقوده و يزيد يسوقه لعن الله الراكب و القائد و السائق
و منه ما روته الرواة عنه من قوله يوم بيعة عثمان تلقفوها يا بني عبد شمس تلقف الكرة فو الله ما من جنة و لا نار و هذا كفر صراح يلحقه اللعنة من الله كما لحقت الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود و عيسى ابن مريم ذلك بما عصوا و كانوا يعتدون. و منه ما يروى من وقوفه على ثنية أحد من بعد ذهاب بصره و قوله لقائده هاهنا رمينا محمدا و قتلنا أصحابه. و منها الكلمة التي قالها للعباس قبل الفتح و قد عرضت عليه الجنود لقد أصبح ملك ابن أخيك عظيما فقال له العباس ويحك إنه ليس بملك إنها النبوة. و منها قوله يوم الفتح و قد رأى بلالا على ظهر الكعبة يؤذن و يقول أشهد أن محمدا رسول الله لقد أسعد الله عتبة بن ربيعة إذ لم يشهد هذا المشهد. و منه الرؤيا التي رآها رسول الله ص فوجم لها قالوا فما رئي بعدها ضاحكا رأى نفرا من بني أمية ينزون على منبره نزوة القردة. و منها طرد رسول الله ص الحكم بن أبي العاص لمحاكاته إياه في شرح نهج البلاغة ج : 15 ص : 176مشيته و ألحقه الله بدعوة رسول الله ص آفة باقية حين التفت إليه فرآه يتخلج يحكيه فقال كن كما أنت فبقي على ذلك سائر عمره. هذا إلى ما كان من مروان ابنه في افتتاحه أول فتنة كانت في الإسلام و احتقابه كحرام سفك فيها أو أريق بعدها. و منها ما أنزل الله تعالى على نبيه ص لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ قالوا ملك بني أمية. و منها
أن رسول الله ص دعا معاوية ليكتب بين يديه فدافع بأمره و اعتل بطعامه فقال ص لا أشبع الله بطنه
فبقي لا يشبع و هو يقول و الله ما أترك الطعام شبعا و لكن إعياء. و منها
أن رسول الله ص قال يطلع من هذا الفج رجل من أمتي يحشر على غير ملتي (16/151)
فطلع معاوية. و منها أن رسول الله ص قال إذا رأيتم معاوية على منبري فاقتلوه
و منها الحديث المشهور المرفوع أنه ص قال إن معاوية في تابوت من نار في أسفل درك من جهنم ينادي يا حنان يا منان فيقال له آلْآنَ وَ قَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَ كُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ
و منها افتراؤه بالمحاربة لأفضل المسلمين في الإسلام مكانا و أقدمهم إليه سبقا و أحسنهم فيه أثرا و ذكرا علي بن أبي طالب ينازعه حقه بباطله و يجاهد أنصاره بضلاله أعوانه و يحاول ما لم يزل هو و أبوه يحاولانه من إطفاء نور الله و جحود دينه شرح نهج البلاغة ج : 15 : 177 وَ يَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَ لَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ و يستهوي أهل الجهالة و يموه لأهل الغباوة بمكره و بغيه اللذين قدم رسول الله ص الخبر عنهما
فقال لعمار بن ياسر تقتلك الفئة الباغية
تدعوهم إلى الجنة و يدعونك إلى النار مؤثرا للعاجلة كافرا بالآجلة خارجا من ربقة الإسلام مستحلا للدم الحرام حتى سفك في فتنته و على سبيل غوايته و ضلالته ما لا يحصى عدده من أخيار المسلمين الذابين عن دين الله و الناصرين لحقه مجاهدا في عداوة الله مجتهدا في أن يعصى الله فلا يطاع و تبطل أحكامه فلا تقام و يخالف دينه فلا بد و أن تعلو كلمة الضلال و ترتفع دعوة الباطل و كلمة الله هي العليا و دينه المنصور و حكمه النافذ و أمره الغالب و كيد من عاداه و حاده المغلوب الداحض حتى احتمل أوزار تلك الحروب و ما تبعها و تطوق تلك الدماء و ما سفك بعدها و سن سنن الفساد التي عليه إثمها و إثم من عمل بها و أباح المحارم لمن ارتكبها و منع الحقوق أهلها و غرته الآمال و استدرجه الإمهال و كان مما أوجب الله عليه به اللعنة قتله من قتل صبرا من خيار الصحابة و التابعين و أهل الفضل و الدين مثل عمرو بن الحمق الخزاعي و حجر بن عدي الكندي فيمن قتل من أمثالهم على أن تكون له العزة و الملك و الغلبة ثم ادعاؤه زياد ابن سمية أخا و نسبته إياه إلى أبيه و الله تعالى يقول ادْعُوهُمْ لِآبائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ و (16/152)
رسول الله ص يقول ملعون من ادعى إلى غير أبيه أو انتمى إلى غير مواليه
و قال الولد للفراش و للعاهر الحجر
فخالف حكم الله تعالى و رسوله جهارا و جعل الولد لغير الفراش و الحجر لغير العاهر فأحل بهذه الدعوة من محارم الله و رسوله في أم حبيبة أم المؤمنين و في غيرها من النساء من شعور و وجوه قد شرح نهج البلاغة ج : 15 ص : 178حرمها الله و أثبت بها من قربى قد أبعدها اللما لم يدخل الدين خلل مثله و لم ينل الإسلام تبديل يشبهه. و من ذلك إيثاره لخلافة الله على عباده ابنه يزيد السكير الخمير صاحب الديكة و الفهود و القردة و أخذ البيعة له على خيار المسلمين بالقهر و السطوة و التوعد و الإخافة و التهديد و الرهبة و هو يعلم سفهه و يطلع على رهقه و خبثه و يعاين سكراته و فعلاته و فجوره و كفره فلما تمكن قاتله الله فيما تمكن منه طلب بثارات المشركين و طوائلهم عند المسلمين فأوقع بأهل المدينة في وقعة الحرة الوقعة التي لم يكن في الإسلام أشنع منها و لا أفحش فشفى عند نفسه غليله و ظن أنه قد انتقم من أولياء الله و بلغ الثأر لأعداء الله فقال مجاهرا بكفره و مظهرا لشركه (16/153)
ليت أشياخي ببدر شهدوا جزع الخزرج من وقع الأسل
قول من لا يرجع إلى الله و لا إلى دينه و لا إلى رسوله و لا إلى كتابه و لا يؤمن بالله و بما جاء من عنده. ثم أغلظ ما انتهك و أعظم ما اجترم سفكه دم الحسين بن علي ع مع موقعه من رسول الله ص و مكانه و منزلته من الدين و الفضل و الشهادة له و لأخيه بسيادة شباب أهل الجنة اجتراء على الله و كفرا بدينه و عداوة لرسوله و مجاهرة لعترته و استهانة لحرمته كأنما يقتل منه و من أهل بيته قوما من كفره الترك شرح نهج البلاغة ج : 15 ص : 179و الديلم و لا يخاف من الله نقمة و لا يراقب منه سطوة فبتر الله عمره أخبث أصله و فرعه و سلبه ما ت يده و أعد له من عذابه و عقوبته ما استحقه من الله بمعصيته. هذا إلى ما كان من بني مروان من تبديل كتاب الله و تعطيل أحكام الله و اتخاذ مال الله بينهم دولا و هدم بيت الله و استحلالهم حرمه و نصبهم المجانيق عليه و رميهم بالنيران إياه لا يألون له إحراقا و إخرابا و لما حرم الله منه استباحة و انتهاكا و لمن لجأ إليه قتلا و تنكيلا و لمن أمنه الله به إخفاقة و تشريدا حتى إذا حقت عليهم كلمة العذاب و استحقوا من الله الانتقام و ملئوا الأرض بالجور و العدوان و عموا عباد بلاد الله بالظلم و الاقتسار و حلت عليهم السخطة و نزلت بهم من الله السطوة أتاح الله لهم من عترة نبيه و أهل وراثته و من استخلصه منهم لخلافته مثل ما أتاح من أسلافهم المؤمنين و آبائهم المجاهدين لأوائلهم الكافرين فسفك الله به دماءهم و دماء آبائهم مرتدين كما سفك بآبائهم مشركين و قطع الله دابر الذين ظلموا و الحمد لله رب العالمين. أيها الناس إن الله إنما أمر ليطاع و مثل ليتمثل و حكم ليفعل قال الله سبحانه و تعالى إِنَّ اللَّهَ لَعَنَ الْكافِرِينَ وَ أَعَدَّ لَهُمْ سَعِيراً و قال أُولئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَ يَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ. فالعنوا أيها الناس من لعنه الله و رسوله و فارقوا من لا تنالون القربة من الله إلا بمفارقته (16/154)
اللهم العن أبا سفيان بن حرب بن أمية و معاوية بن أبي سفيان و يزيد بن معاوية و مروان بن الحكم و ولده و ولد ولده اللهم العن أئمة الكفر و قادة الضلال و أعداء الدين و مجاهدي الرسول و معطلي الأحكام و مبدلي الكتاب و منتهكي الدم الحرام اللهم إنا نبرأ إليك من موالاة أعدائك و من الإغماض لأهل معصيتك (16/155)
شرح نهج البلاغة ج : 15 ص : 180كما قلت لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ يُوادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَ رَسُولَهُ. أيها الناس اعرفوا الحق تعرفوا أهله و تأملوا سبل الضلالة تعرفوا سابلها فقفوا عند ما وقفكم الله عليه و انفذوا ا أمركم الله به و أمير المؤمنين يستعصم بالله لكم و يسأله توفيقكم و يرغب إليه في هدايتكم و الله حسبه و عليه توكله و لا قوة إلا بالله العلي العظيم. قلت هكذا ذكر الطبري الكتاب و عندي أنه الخطبة لأن كل ما يخطب به فهو خطبة و ليس بكتاب و الكتاب ما يكتب إلى عامل أو أمير و نحوهما و قد يقرأ الكتاب على المنبر فيكون كالخطبة و لكن ليس بخطبة و لكنه كتاب قرئ على الناس. و لعل هذا الكلام كان قد أنشئ ليكون كتابا و يكتب به إلى الآفاق و يؤمروا بقراءته على الناس و ذلك بعد قراءته على أهل بغداد و الذي يؤكد كونه كتابا و ينصر ما قاله الطبري إن في آخره كتب عبيد الله بن سليمان في سنة أربع و ثمانين و مائتين و هذا لا يكون في الخطب بل في الكتب و لكن الطبري لم يذكر أنه أمر بأن يكتب إلى الآفاق و لا قال وقع العزم على ذلك و لم يذكر إلا وقوع العزم على أن يقرأ في الجوامع ببغداد
شرح نهج البلاغة ج : 15 ص : 28181- و من كتاب له ع إلى معاوية جواباو هو من محاسن الكتب
أَمَّا بَعْدُ فَقَدْ أَتَانِي كِتَابُكَ تَذْكُرُ فِيهِ اصْطِفَاءَ اللَّهِ مُحَمَّداً ص لِدِينِهِ وَ تَأْيِيدَهُ إِيَّاهُ لِمَنْ أَيَّدَهُ مِنْ أَصْحَابِهِ فَلَقَدْ خَبَّأَ لَنَا الدَّهْرُ مِنْكَ عَجَباً إِذْ طَفِقْتَ تُخْبِرُنَا بِبَلَاءِ اللَّهِ تَعَالَى عِنْدَنَا وَ نِعْمَتِهِ عَلَيْنَا فِي نَبِيِّنَا فَكُنْتَ فِي ذَلِكَ كَنَاقِلِ التَّمْرِ إِلَى هَجَرَ أَوْ دَاعِي مُسَدِّدِهِ إِلَى النِّضَالِ وَ زَعَمْتَ أَنَّ أَفْضَلَ النَّاسِ فِي الْإِسْلَامِ فُلَانٌ وَ فُلَانٌ فَذَكَرْتَ أَمْراً إِنْ تَمَّ اعْتَزَلَكَ كُلُّهُ وَ إِنْ نَقَصَ لَمْ يَلْحَقْكَ ثَلْمُهُ وَ مَا أَنْتَ وَ الْفَاضِلَ وَ الْمَفْضُولَ وَ السَّائِسَ وَ الْمَسُوسَ وَ مَا لِلطُّلَقَاءِ وَ أَبْنَاءِ الطُّلَقَاءِ وَ التَّمْيِيزَ بَيْنَ الْمُهَاجِرِينَ الْأَوَّلِينَ وَ تَرْتِيبَ دَرَجَاتِهِمْ وَ تَعْرِيفَ طَبَقَاتِهِمْ هَيْهَاتَ لَقَدْ حَنَّ قِدْحٌ لَيْسَ مِنْهَا وَ طَفِقَ يَحْكُمُ فِيهَا مَنْ عَلَيْهِ الْحُكْمُ لَهَا أَ لَا تَرْبَعُ أَيُّهَا الْإِنْسَانُ عَلَى ظَلْعِكَ وَ تَعْرِفُ قُصُورَ ذَرْعِكَ وَ تَتَأَخَّرُ حَيْثُ أَخَّرَكَ الْقَدَرُ فَمَا عَلَيْكَ غَلَبَةُ الْمَغْلُوبِ وَ لَا ظَفَرُ الظَّافِرِ فَإِنَّكَ لَذَهَّابٌ فِي التِّيهِ رَوَّاغٌ عَنِ الْقَصْدِ أَ لَا تَرَى غَيْرَ مُخْبِرٍ لَكَ وَ لَكِنْ بِنِعْمَةِ اللَّهِ أُحَدِّثُ أَنَّ قَوْماً اسْتُشْهِدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ تَعَالَى مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَ الْأَنْصَارِ وَ لِكُلٍّ فَضْلٌ حَتَّى إِذَا اسْتُشْهِدَ شَهِيدُنَا قِيلَ سَيِّدُ الشُّهَدَاءِ وَ خَصَّهُ رَسُولُ اللَّهِ ص بِسَبْعِينَ تَكْبِيرَةً عِنْدَ صَلَاتِهِ عَلَيْهِ شرح نهج البلاغة ج : 15 ص : 182أَ وَ لَا تَرَى أَنَّ قَوْماً قُطِّعَتْ أَيْدهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَ لِكُلٍّ فَضْلٌ حَتَّى إِذَا فُعِلَ (16/156)
بِوَاحِدِنَا مَا فُعِلَ بِوَاحِدِهِمْ قِيلَ الطَّيَّارُ فِي الْجَنَّةِ وَ ذُو الْجَنَاحَيْنِ وَ لَوْ لَا مَا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ مِنْ تَزْكِيَةِ الْمَرْءِ نَفْسَهُ لَذَكَرَ ذَاكِرٌ فَضَائِلَ جَمَّةً تَعْرِفُهَا قُلُوبُ الْمُؤْمِنِينَ وَ لَا تَمُجُّهَا آذَانُ السَّامِعِينَ فَدَعْ عَنْكَ مَنْ مَالَتْ بِهِ الرَّمِيَّةُ فَإِنَّا صَنَائِعُ رَبِّنَا وَ النَّاسُ بَعْدُ صَنَائِعُ لَنَا لَمْ يَمْنَعْنَا قَدِيمُ عِزِّنَا وَ لَا عَادِيُّ طَوْلِنَا عَلَى قَوْمِكَ أَنْ خَلَطْنَاكُمْ بِأَنْفُسِنَا فَنَكَحْنَا وَ أَنْكَحْنَا فِعْلَ الْأَكْفَاءِ وَ لَسْتُمْ هُنَاكَ وَ أَنَّى يَكُونُ ذَلِكَ كَذَلِكَ وَ مِنَّا النَّبِيُّ وَ مِنْكُمُ الْمُكَذِّبُ وَ مِنَّا أَسَدُ اللَّهِ وَ مِنْكُمْ أَسَدُ الْأَحْلَافِ وَ مِنَّا سَيِّدَا شَبَابِ أَهْلِ الْجَنَّةِ وَ مِنْكُمْ صِبْيَةُ النَّارِ وَ مِنَّا خَيْرُ نِسَاءِ الْعَالَمِينَ وَ مِنْكُمْ حَمَّالَةُ الْحَطَبِ فِي كَثِيرٍ مِمَّا لَنَا وَ عَلَيْكُمْ فَإِسْلَامُنَا مَا قَدْ سُمِعَ وَ جَاهِلِيَّتُنَا لَا تُدْفَعُ وَ كِتَابُ اللَّهِ يَجْمَعُ لَنَا مَا شَذَّ عَنَّا وَ هُوَ قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ وَ تَعَالَى وَ أُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللَّهِ وَ قَوْلُهُ تَعَالَى إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْراهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَ هذَا النَّبِيُّ وَ الَّذِينَ آمَنُوا وَ اللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ فَنَحْنُ مَرَّةً أَوْلَى بِالْقَرَابَةِ وَ تَارَةً أَوْلَى بِالطَّاعَةِ وَ لَمَّا احْتَجَّ الْمُهَاجِرُونَ عَلَى الْأَنْصَارِ يَوْمَ السَّقِيفَةِ بِرَسُولِ اللَّهِ ص فَلَجُوا عَلَيْهِمْ فَإِنْ يَكُنِ الْفَلَجُ بِهِ فَالْحَقُّ لَنَا دُونَكُمْ وَ إِنْ يَكُنْ بِغَيْرِهِ فَالْأَنْصَارُ عَلَى دَعْوَاهُمْ وَ زَعَمْتَ أَنِّي لِكُلِّ الْخُلَفَاءِ (16/157)
حَسَدْتُ وَ عَلَى كُلِّهِمْ بَغَيْتُ فَإِنْ يَكُنْ ذَلِكَ كَذَلِكَ فَلَيْسَتِ الْجِنَايَةُ عَلَيْكَ فَيَكُونَ الْعُذْرُ إِلَيْكَ شرح نهج البلاغة ج : 15 ص : 183وَ تِلْكَ شَكَاةٌ ظَاهِرٌ عَنْكَ عَارُهَا (16/158)
وَ قُلْتَ إِنِّي كُنْتُ أُقَادُ كَمَا يُقَادُ الْجَمَلُ الْمَخْشُوشُ حَتَّى أُبَايِعَ وَ لَعَمْرُ اللَّهِ لَقَدْ أَرَدْتَ أَنْ تَذُمَّ فَمَدَحْتَ وَ أَنْ تَفْضَحَ فَافْتَضَحْتَ وَ مَا عَلَى الْمُسْلِمِ مِنْ غَضَاضَةٍ فِي أَنْ يَكُونَ مَظْلُوماً مَا لَمْ يَكُنْ شَاكّاً فِي دِينِهِ وَ لَا مُرْتَاباً بِيَقِينِهِ وَ هَذِهِ حُجَّتِي إِلَى غَيْرِكَ قَصْدُهَا وَ لَكِنِّي أَطْلَقْتُ لَكَ مِنْهَا بِقَدْرِ مَا سَنَحَ مِنْ ذِكْرِهَا ثُمَّ ذَكَرْتَ مَا كَانَ مِنْ أَمْرِي وَ أَمْرِ عُثْمَانَ فَلَكَ أَنْ تُجَابَ عَنْ هَذِهِ لِرَحِمِكَ مِنْهُ فَأَيُّنَا كَانَ أَعْدَى لَهُ وَ أَهْدَى إِلَى مَقَاتِلِهِ أَ مَنْ بَذَلَ لَهُ نُصْرَتَهُ فَاسْتَقْعَدَهُ وَ اسْتَكَفَّهُ أَمَّنِ اسْتَنْصَرَهُ فَتَرَاخَى عَنْهُ وَ بَثَّ الْمَنُونَ إِلَيْهِ حَتَّى أَتَى قَدَرُهُ عَلَيْهِ كَلَّا وَ اللَّهِ لَقَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ وَ الْقَائِلِينَ لِإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا وَ لَا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلَّا قَلِيلًا. وَ مَا كُنْتُ لِأَعْتَذِرَ مِنْ أَنِّي كُنْتُ أَنْقِمُ عَلَيْهِ أَحْدَاثاً فَإِنْ كَانَ الذَّنْبُ إِلَيْهِ إِرْشَادِي وَ هِدَايَتِي لَهُ فَرُبَّ مَلُومٍ لَا ذَنْبَ لَهُ
وَ قَدْ يَسْتَفِيدُ الظِّنَّةَ الْمُتَنَصِّحُ
وَ مَا أَرَدْتُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَ مَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَ إِلَيْهِ أُنِيْبُ وَ ذَكَرْتَ أَنَّهُ لَيْسَ لِي وَ لِأَصْحَابِي عِنْدَكَ إِلَّا السَّيْفُ فَلَقَدْ أَضْحَكْتَ بَعْدَ اسْتِعْبَارٍ مَتَى أَلْفَيْتَ بَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ عَنِ الْأَعْدَاءِ نَاكِلِينَ وَ بِالسَّيْفِ مُخَوَّفِينَ شرح نهج البلاغة ج : 15 ص : 184فَلَبِّثْ قَلِيلًا يَلْحَقِ الْهَيْجَا حَمَلْ (16/159)
فَسَيَطْلُبُكَ مَنْ تَطْلُبُ وَ يَقْرُبُ مِنْكَ مَا تَسْتَبْعِدُ وَ أَنَا مُرْقِلٌ نَحْوَكَ فِي جَحْفَلٍ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَ الْأَنْصَارِ وَ التَّابِعِينَ لَهُمْ بِإِحْسَانٍ شَدِيدٍ زِحَامُهُمْ سَاطِعٍ قَتَامُهُمْ مُتَسَرْبِلِينَ سَرَابِيلَ الْمَوْتِ أَحَبُّ اللِّقَاءِ إِلَيْهِمْ لِقَاءُ رَبِّهِمْ وَ قَدْ صَحِبَتْهُمْ ذُرِّيَّةٌ بَدْرِيَّةٌ وَ سُيُوفٌ هَاشِمِيَّةٌ قَدْ عَرَفْتَ مَوَاقِعَ نِصَالِهَا فِي أَخِيكَ وَ خَالِكَ وَ جَدِّكَ وَ أَهْلِكَ وَ مَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ
كتاب لمعاوية إلى علي
سألت النقيب أبا جعفر يحيى بن أبي زيد فقلت أرى هذا الجواب منطبقا على كتاب معاوية الذي بعثه مع أبي مسلم الخولاني إلى علي ع فإن كان هذا هو الجواب فالجواب الذي ذكره أرباب السيرة و أورده نصر بن مزاحم في كتاب صفين إذن غير صحيح و إن كان ذلك الجواب فهذا الجواب إذن غير صحيح و لا ثابت فقال لي بل كلاهما ثابت مروي و كلاهما كلام أمير المؤمنين ع و ألفاظه ثم أمرني أن أكتب ما عليه علي ع فكتبته قال رحمه الله كان معاوية يتسقط عليا و ينعى عليه ما عساه يذكره من حال أبي بكر و عمر و أنهما غصباه حقه و لا يزال يكيده بالكتاب يكتبه و الرسالة يبعثها يطلب غرته لينفث بما في صدره من حال أبي بكر و عمر إما مكاتبة أو مراسلة فيجعل ذلك حجة شرح نهج البلاغة ج : 15 ص : 185عليه عند أهل الشام و يضيفه إلى ما قرره في أنفسهم من ذنوبه كما زعم فقد كان غمصه عندهم بأنه قتل عثمان و مالأ على قتله و أنه ق طلحة و الزبير و أسر عائشة و أراق دماء أهل البصرة و بقيت خصلة واحدة و هو أن يثبت عندهم أنه يتبرأ من أبي بكر و عمر و ينسبهما إلى الظلم و مخالفة الرسول في أمر الخلافة و أنهما وثبا عليها غلبة و غصباه إياها فكانت هذه الطامة الكبرى ليست مقتصرة على فساد أهل الشام عليه بل و أهل العراق الذين هم جنده و بطانته و أنصاره لأنهم كانوا يعتقدون إمامة الشيخين إلا القليل الشاذ من خواص الشيعة فلما كتب ذلك الكتاب مع أبي مسلم الخولاني قصد أن يغضب عليا و يحرجه و يحوجه إذا قرأ ذكر أبي بكر و أنه أفضل المسلمين إلى أن يخلط خطه في الجواب بكلمة تقتضي طعنا في أبي بكر فكان الجواب مجمجما غير بين ليس فيه تصريح بالتظليم لهما و لا التصريح ببراءتهما و تارة يترحم عليهما و تارة يقول أخذا حقي و قد تركته لهما فأشار عمرو بن العاص على معاوية أن يكتب كتابا ثانيا مناسبا للكتاب الأول ليستفزا فيه عليا ع و يستخفاه و يحمله الغضب منه أن يكتب كلاما يتعلقان به في تقبيح (16/160)
حاله و تهجين مذهبه و قال له عمرو إن عليا ع رجل نزق تياه و ما استطعمت منه الكلام بمثل تقريظ أبي بكر و عمر فاكتب فكتب كتابا أنفذه إليه مع أبي أمامة الباهلي و هو من الصحابة بعد أن عزم على بعثته مع أبي الدرداء و نسخة الكتاب من عبد الله معاوية بن أبي سفيان إلى علي بن أبي طالب أما بعد فإن الله تعالى جده اصطفى محمدا ع لرسالته و اختصه بوحيه و تأدية شريعته فأنقذ به من العماية و هدى به من الغواية ثم قبضه إليه رشيدا حميدا قد بلغ الشرع و محق الشرك و أخمد نار الإفك فأحسن الله جزاءه و ضاعف عليه نعمه و آلاءه ثم إن الله سبحانه اختص محمدا ع بأصحاب أيدوه و آزروه و نصروه (16/161)
شرح نهج البلاغة ج : 15 ص : 186و كانوا كما قال الله سبحانه لهم أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَماءُ بَيْنَهُمْ فكان أفضلهم مرتبة و أعلاهم عند الله و المسلمين منزلة الخليفة الأول الذي جمع الكلمة و لم الدعوة و قاتل أهل الردة ثم الخليفة الثاني الذي فتح الفح و مصر الأمصار و أذل رقاب المشركين ثم الخليفة الثالث المظلوم الذي نشر الملة و طبق الآفاق بالكلمة الحنيفية. فلما استوثق الإسلام و ضرب بجرانه عدوت عليه فبغيته الغوائل و نصبت له المكايد و ضربت له بطن الأمر و ظهره و دسست عليه و أغريت به و قعدت حيث استنصرك عن نصره و سألك أن تدركه قبل أن يمزق فما أدركته و ما يوم المسلمين منك بواحد. لقد حسدت أبا بكر و التويت عليه و رمت إفساد أمره و قعدت في بيتك و استغويت عصابة من الناس حتى تأخروا عن بيعته ثم كرهت خلافة عمر و حسدته و استطلت مدته و سررت بقتله و أظهرت الشماتة بمصابه حتى إنك حاولت قتل ولده لأنه قتل قاتل أبيه ثم لم تكن أشد منك حسدا لابن عمك عثمان نشرت مقابحه و طويت محاسنه و طعنت في فقهه ثم في دينه ثم في سيرته ثم في عقله و أغريت به السفهاء من أصحابك و شيعتك حتى قتلوه بمحضر منك لا تدفع عنه بلسان و لا يد و ما من هؤلاء إلا من بغيت عليه و تلكأت في بيعته حتى حملت إليه قهرا تساق بخزائم الاقتسار كما يساق الفحل المخشوش ثم نهضت الآن تطلب الخلافة و قتلة عثمان خلصاؤك و سجراؤك و المحدقون بك و تلك من أماني النفوس و ضلالات الأهواء. فدع اللجاج و العبث جانبا و ادفع إلينا قتلة عثمان و أعد الأمر شورى بين المسلمين ليتفقوا على من هو لله رضا فلا بيعة لك في أعناقنا و لا طاعة لك علينا و لا عتبى لك شرح نهج البلاغة ج : 15 ص : 187عندنا و ليس لك و لأصحابك عندي إلا السيف و الذي لا إله إلا هو لأطلبن قتلة عثمان أين كانوا و حيث كانوا حتى أقتلهم أو تلق روحي بالله. فأما ما لا تزال تمن به من سابقتك و جهادك فإني وجدت (16/162)
الله سبحانه يقول يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَداكُمْ لِلْإِيمانِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ و لو نظرت في حال نفسك لوجدتها أشد الأنفس امتنانا على الله بعملها و إذا كان الامتنان على السائل يبطل أجر الصدقة فالامتنان على الله يبطل أجر الجهاد و يجعله ك صَفْوانٍ عَلَيْهِ تُرابٌ فَأَصابَهُ وابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْداً لا يَقْدِرُونَ عَلى شَيْ ءٍ مِمَّا كَسَبُوا وَ اللَّهُلا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ. قال النقيب أبو جعفر فلما وصل هذا الكتاب إلى علي ع مع أبي أمامة الباهلي كلم أبا أمامة بنحو مما كلم به أبا مسلم الخولاني و كتب معه هذا الجواب. قال النقيب و في كتاب معاوية هذا ذكر لفظ الجمل المخشوش أو الفحل المخشوش لا في الكتاب الواصل مع أبي مسلم و ليس في ذلك هذه اللفظة و إنما فيه حسدت الخلفاء و بغيت عليهم عرفنا ذلك من نظرك الشزر و قولك الهجر و تنفسك الصعداء و إبطائك عن الخلفاء. قال و إنما كثير من الناس لا يعرفون الكتابين و المشهور عندهم كتاب أبي مسلم فيجعلون هذه اللفظة فيه و الصحيح أنها في كتاب أبي أمامة أ لا تراها عادت شرح نهج البلاغة ج : 15 ص : 188في جوابه و لو كانت في كتاب أبي مسلم لعادت في جوابه. انتهى كلام النقيب أبي جعفرو نحن الآن مبتدءون في شرح ألفاظ الجواب المذكور. قوله فلقد خبأ لنا الدهر منك عجبا موضع التعجب إن معاوية يخبر عليا ع باصطفاء الله تعالى محمدا و تشريفه له و تأييده له و هذا ظريف لأنه يجري كإخبار زيد عمرا عن حال عمرو إذ كان النبي ص و علي ع كالشي ء الواحد و خب مهموز و المصدر الخب ء و منه الخابية و هي الخب ء إلا أنهم تركوا همزها و الخب ء أيضا و الخبي ء على فعيل ما خبئ. و بلاء الله تعالى إنعامه و إحسانه. و قوله ع كناقل التمر إلى هجر مثل قديم و هجر اسم مدينة لا ينصرف للتعريف و التأنيث و (16/163)
قيل هو اسم مذكر مصروف و المثل كمستبضع تمر إلى هجر و النسبة إليه هاجري على غير قياس و هي بلدة كثيرة النخل يحمل منها التمر إلى غيرها قال الشاعر في هذا المعنى (16/164)
أهدي له طرف الكلام كما يهدى لوالي البصرة التمر
قوله و داعي مسدده إلى النضال أي معلمه الرمي و هذا إشارة إلى قول القائل الأول شرح نهج البلاغة ج : 15 ص : 18أعلمه الرماية كل يوم فلما استد ساعده رماني
هكذا الرواية الصحيحة بالسين المهملة أي استقام ساعده على الرمي و سددت فلانا علمته النضال و سهم سديد مصيب و رمح سديد أي قل أن تخطئ طعنته و قد ظرف القاضي الأرجاني في قوله لسديد الدولة محمد بن عبد الكريم الأنباري كاتب الإنشاء
إلى الذي نصب المكارم للورى غرضا يلوح من المدى المتباعدنثل الأماثل من كنانته فما وجدت يداه سوى سديد واحد
و من الأمثال في هذا المعنى سمن كلبك يأكلك و منها أحشك و تروثني. قوله ع و زعمت أن أفضل الناس في الإسلام فلان و فلان أي أبو بكر و عمر. قوله ع فذكرت أمرا إن تم اعتزلك كله و إن نقص لم يلحقك ثلمه من هذا المعنى قول الفرزدق لجرير و قد كان جرير في مهاجاته إياه يفخر عليه بقيس عيلان فقد كانت لجرير في قيس خئولة يعيره بأيامهم على بني تميم فلما قتل بنو تميم قتيبة بن مسلم الباهلي بخراسان قال الفرزدق يفتخر
أتاني و أهلي بالمدينة وقعة لآل تميم أقعدت كل قائم
شرح نهج البلاغة ج : 15 ص : 190كان رءوس الناس إذ سمعوا بها مشدخة هاماتها بالأمائم و ما بين من لم يؤت سمعا و طاعة و بين تميم غير جز الحلاثم خرج إلى خطاب جرير بعد أبيات تركنا ذكرها فقال
أ تغضب إن أذنا قتيبة جزتا جهارا و لم تغضب لقتل ابن حازم و ما منهما إلا نقلنا دماغه إلى الشام فوق الشاحجات الرواسم تذبذب في المخلاة تحت بطونها محذفة الأذناب جلح المقادم و ما أنت من قيس فتنبح دونها و لا من تميم في الرءوس الأعاظم تخوفنا أيام قيس و لم تدع ان أنفا مستقيم الخياشم لقد شهدت قيس فما كان نصرها قتيبة إلا عضها بالأباهمفقوله (16/165)
و ما أنت من قيس فتنبح دونها
هو معنى قول علي ع لمعاوية فذكرت أمرا إن تم اعتزلك كله و ابن حازم المذكور في الشعر هو عبد الله بن حازم من بني سليم و سليم من قيس عيلان و قتلته تميم أيضا و كان والي خراسان. قوله ع و ما أنت و الفاضل و المفضول الرواية المشهورة بالرفع و قد رواها قوم بالنصب فمن رفع احتج بقوله و ما أنت و بيت أبيك و الفخر. و بقوله
فما القيسي بعدك و الفخار
و من نصب فعلى تأويل مالك و الفاضل و في ذلك معنى الفعل أي ما تصنع لأن شرح نهج البلاغة ج : 15 ص : 191هذا الباب لا بد أن يتضمن الكلام فيه فعلا أو معنى فعل و أنشدوافما أنت و السير في متلف
و الرفع عند النحويين أولى. ثم قال و ما للطلقاء و أبناء الطلقاء و التمييز النصب هاهنا لا غير لأجل اللام في الطلقاء. ثم قال ع بين المهاجرين الأولين و ترتيب درجاتهم و تعريف طبقاتهم هذا الكلام ينقض ما يقول من يطعن في السلف فإن أمير المؤمنين ع أنكر على معاوية تعرضه بالمفاضلة بين أعلام المهاجرين و لم يذكر معاوية إلا للمفاضلة بينه ع و بين أبي بكر و عمر فشهادة أمير المؤمنين ع بأنهما من المهاجرين الأولين و من ذوي الدرجات و الطبقات التي اشتبه الحال بينهما و بينه ع في أي الرجال منهم أفضل و أن قدر معاوية يصغر أن يدخل نفسه في مثل ذلك شهادة قاطعة على علو شأنهما و عظم منزلتهما. قوله ع هيهات لقد حن قدح ليس منها هذا مثل يضرب لمن يدخل نفسه بين قوم ليس له أن يدخل بينهم و أصله القداح من عود واحد يجعل فيها قدح من غير ذلك الخشب فيصوت بينها إذا أرادها المفيض فذلك الصوت هو حنينه. قوله و طفق يحكم فيها من عليه الحكم لها أي و طفق يحكم في هذه القصة شرح نهج البلاغة ج : 15 ص : 192أو في هذه القضية من يجب أن يكون الحكم لها عليه لا له فيها و يجوز أن يكون الضمير يرجع إلى الطبقات. ثم قال أ لا تربع أيها الإنسان على ظلعك أي أ لا ترفق بنفسك و ت و لا تحمل عليها ما لا تطيقه و الظلع مصدر ظلع البعير يظلع أي غمز في مشيه. قوله و تعرف قصور ذرعك أصل الذرع بسط اليد يقال ضقت به ذرعا أي ضاق ذرعي به فنقلوا الاسم من الفاعلية فجعلوه منصوبا على التمييز كقولهم طبت به نفسا. قوله و تتأخر حيث أخرك القدر مثل قولك ضع نفسك حيث وضعها الله يقال ذلك لمن يرفع نفسه فوق استحقاقه. ثم قال فما عليك غلبة المغلوب و لا عليك ظفر الظافر يقول و ما الذي أدخلك بيني و بين أبي بكر و عمر و أنت من بني أمية لست هاشميا و لا تيميا و لا عدويا هذا فيما يرجع إلى أنسابنا و لست مهاجرا و لا ذا قدم في الإسلام فتزاحم المهاجرين و أرباب السوابق بأعمالك و اجتهادك (16/166)
فإذن لا يضرك غلبة الغالب منا و لا يسرك ظفر الظافر و يروى أن مروان بن الحكم كان ينشد يوم مرج راهط و الرءوس تندر عن كواهلها بينه و بين الضحاك بن قيس الفهري (16/167)
و ما ضرهم غير حين النفوس أي غلامي قريش غلب
قوله ع و إنك لذهاب في التيه رواغ عن القصد يحتمل قوله ع في التيه معنيين أحدهما بمعنى الكبر و الآخر التيه من قولك تاه فلان في البيداء و منه قوله تعالى فَإِنَّها مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ و هذا الثاني أحسن شرح نهج الاغة ج : 15 ص : 193يقول إنك شديد الإيغال في الضلال و ذهاب فعال للتكثير و يقال أرض متيهة مثل معيشة أي يتاه فيها. قال ع رواغ عن القصد أي تترك ما يلزمك فعله و تعدل عما يجب عليك أن تجيب عنه إلى حديث الصحابة و ما جرى بعد موت النبي ص و نحن إلى الكلام في غير هذا أحوج إلى الكلام في البيعة و حقن الدماء و الدخول تحت طاعة الإمام. ثم قال أ لا ترى غير مخبر لك و لكن بنعمة الله أحدث أي لست عندي أهلا لأن أخبرك بذلك أيضا فإنك تعلمه و من يعلم الشي ء لا يجوز أن يخبر به و لكن أذكر ذلك لأنه تحدث بنعمة الله علينا و قد أمرنا بأن حدث بنعمته سبحانه. قوله ع إن قوما استشهدوا في سبيل الله المراد هاهنا سيد الشهداء حمزة رضي الله عنه و ينبغي أن يحمل قول النبي ص فيه إنه سيد الشهداء على أنه سيد الشهداء في حياة النبي ص لأن عليا ع مات شهيدا و لا يجوز أن يقال حمزة سيده بل هو سيد المسلمين كلهم و لا خلاف بين أصحابنا رحمهم الله أنه أفضل من حمزة و جعفر رضي الله عنهما و قد تقدم ذكر التكبير الذي كبره رسول الله ص على حمزة في قصة أحد. قوله ع و لكل فضل أي و لكل واحد من هؤلاء فضل لا يجحد. قوله أ و لا ترى أن قوما قطعت أيديهم هذا إشارة إلى جعفر و قد تقدم ذلك في قصة مؤتة. قوله و لو لا ما نهى الله عنه هذا إشارة إلى نفسه ع. شرح نهج البلاغة ج : 15 ص : 194قوله و لا تمجها آذان
السامعين أي لا تقذفها يقال مج الرجل من فيه أي قذفه قوله ع فدع عنك من مالت به الرمية يقال للصيد يرمي هذه الرمية و هي فعيلة بمعنى مفعولة ولأصل في مثلها ألا تلحقها الهاء نحو كف خضيب و عين كحيل إلا أنهم أجروها مجرى الأسماء لا النعوت كالقصيدة و القطيعة. و المعنى دع ذكر من مال إلى الدنيا و مالت به أي أمالته إليها. فإن قلت فهل هذا إشارة إلى أبي بكر و عمر قلت ينبغي أن ينزه أمير المؤمنين ع عن ذلك و أن تصرف هذه الكلمة إلى عثمان لأن معاوية ذكره في كتابه و قد أوردناه و إذا أنصف الإنسان من نفسه علم أنه ع لم يكن يذكرهما بما يذكر به عثمان فإن الحال بينه و بين عثمان كانت مضطربة جدا. قال ع فإن صنائع ربنا و الناس بعد صنائع لنا هذا كلام عظيم عال على الكلام و معناه عال على المعاني و صنيعة الملك من يصطنعه الملك و يرفع قدره. يقول ليس لأحد من البشر علينا نعمة بل الله تعالى هو الذي أنعم علينا فليس بيننا و بينه واسطة و الناس بأسرهم صنائعنا فنحن الواسطة بينهم و بين الله تعالى و هذا مقام جليل ظاهره ما سمعت و باطنه أنهم عبيد الله و أن الناس عبيدهم. ثم قال لم يمنعنا قديم عزنا و عادي طولنا الطول الفضل و عادي أي قديم بئر عادية. قوله على قومك أن خلطناهم بأنفسنا فنكحنا و أنكحنا فعل الأكفاء و لستم هناك يقول تزوجنا فيكم و تزوجتم فينا كما يفعل الأكفاء و لستم أكفاءنا و ينبغي أن يحمل قوله قديم و عادي على مجازه لا على حقيقته لأن بني هاشم و بني أمية لم يفترقا في الشرف إلا مذ نشأ هاشم بن عبد مناف و عرف بأفعاله و مكارمه و نشأ حينئذ أخوه عبد شمس و عرف بمثل ذلك و صار لهذا بنون و لهذا بنون و ادعى كل من الفريقين شرح نهج البلاغة ج : 15 ص 195أنه أشرف بالفعال من الآخر ثم لم تكن المدة بين نش ء هاشم و إظهار محمد ص الدعوة إلا نحو تسعين سنة و مثل هذه المدة القصيرة لا يقال فيها قديم عزنا و عادي طولنا فيجب أن يحمل اللفظ على (16/168)
مجازه لأن الأفعال الجميلة كما تكون عادية بطول المدة تكون بكثرة المناقب والمآثر و المفاخر و إن كانت المدة قصيرة و لفظة قديم ترد و لا يراد بها قدم الزمان بل من قولهم لفلان قدم صدق و قديم أثر أي سابقة حسنة (16/169)
مناكحات بني هاشم و بني عبد شمس
و ينبغي أن نذكرها هاهنا مناكحات بني هاشم و بني عبد شمس زوج رسول الله ص ابنتيه رقية و أم كلثوم من عثمان بن عفان بن أبي العاص و زوج ابنته زينب من أبي العاص بن الربيع بن عبد العزى بن عبد شمس في الجاهلية و تزوج أبو لهب بن عبد المطلب أم جميل بنت حرب بن أمية في الجاهلية و تزوج رسول الله ص أم حبيبة بنت أبي سفيان بن حرب و تزوج عبد الله بن عمرو بن عثمان فاطمة بنت الحسين بن علي بن أبي طالب ع. و روى شيخنا أبو عثمان عن إسحاق بن عيسى بن علي بن عبد الله بن العباس قال قلت للمنصور أبي جعفر من أكفاؤنا فقال أعداؤنا فقلت من هم فقال بنو أمية. و قال إسحاق بن سليمان بن علي قلت للعباس بن محمد إذا اتسعنا من البنات و ضقنا من البنين و خفنا بوار الأيامى فإلى من نخرجهن من قبائل قريش فأنشدني
عبد شمس كان يتلو هاشما و هما بعد لأم و لأب
شرح نهج البلاغة ج : 15 ص : 196فعرفت ما أراد و سكتت. و روى أيوب بن جعفر بن سليمان قال سألت الرشيد عن ذلك فقال زوج النبي ص بني عبد شمس فأحمد صهرهم و قال ما ذممنا من صهرنا فإنا لا نذم صهر أبي العاص بن الربيع. قال شيخنا أبو عثمان و لما ماتت الابنتان تحت عثمان قال النبي ص لأصحابه ما تنتظرون بعثمان أ لا أبو أيم أ لا أخو أيم زوجته ابنتين و لو أن عندي ثالثة لفعلت
قال و لذلك سمي ذا النورين
ثم قال ع و أنى يكون ذلك أي كيف يكون شرفكم كشرفنا و منا النبي و منكم المكذب يعني أبا سفيان بن حرب كان عدو رسول الله و المكذب له و المجلب عليه و هؤلاء ثلاثة بإزاء أبي سفيان رسول الله ص و معاوية بإزاء علي ع و يزيد بإزاء الحسين ع بينهم من العداوة ما لا تبرك عليه الإبل. قال و منا أسد الله يعني حمزة و منكم أسد الأحلاف يعني عتبة بن ربيعة و قد تقدم شرح ذلك في قصة بدر. و قال الراوندي المكذب من كان يكذب رسول الله ص عنادا من قريش و أسد الأحلاف أسد بن عبد العزى قال لأن بني أسد بن عبد العزى كانوا أحد البطون الذين اجتمعوا في حلف المطيبين و هم بنو أسد بن عبد العزى و بنو عبد مناف و بنو تميم بن مرة و بنو زهرة و بنو الحارث بن فهر و هذا كلام طريف جدا لأنه لم يلحظ أنه يجب أن يجعل بإزاء النبي ص مكذب شرح نهج البلاغة ج : 15 ص : 197من بني عبد شمس فقال المكذب من كذب النبي ص من قريعنادا و ليس كل من كذبه ع من قريش يعير معاوية به ثم قال أسد الأحلاف أسد بن عبد العزى و أي عار يلزم معاوية من ذلك ثم إن بني عبد مناف كانوا في هذا الحلف و علي و معاوية من بني عبد مناف و لكن الراوندي يظلم نفسه بتعرضه لما لا يعلمه. قوله و منا سيدا شباب أهل الجنة يعني حسنا و حسينا ع و منكم صبية النار هي الكلمة التي قالها النبي ص لعقبة بن أبي معيط حين قتله صبرا يوم بدر و قد قال كالمستعطف له ع من للصبية يا محمد قال النار. و عقبة بن أبي معيط من بني عبد شمس و لم يعلم الراوندي ما المراد بهذه الكلمة فقال صبية النار أولاد مروان بن الحكم الذين صاروا من أهل النار عند البلوغ و لما أخبر النبي ص عنهم بهذه الكلمة كانوا صبية ثم ترعرعوا و اختاروا الكفر و لا شبهة أن الراوندي قد كان يفسر من خاطره ما خطر له. قال قوله ع و منا خير نساء العالمين يعني فاطمة ع نص رسول الله ص على ذلك لا خلاف فيه. و منكم حمالة الحطب هي أم جميل بنت حرب بن أمية امرأة أبي (16/170)
لهب الذي ورد نص القرآن فيها بما ورد. قوله في كثير مما لنا و عليكم أي أنا قادر على أن أذكر من هذا شيئا كثيرا و لكني أكتفي بما ذكرت. فإن قلت فبما ذا يتعلق في في قوله في كثير قلت بمحذوف تقديره هذا الكلام داخل في جملة كلام كثير تتضمن ما لنا و عليكم. قوله ع فإسلامنا ما قد سمع و جاهليتنا لا تدفع كلام قد تعلق به شرح نهج البلاغة ج : 15 ص : 198بعض من يتعصب للأموية و قال لو كانت جاهلية بني هاشم في الشرف كإسلامهم لعد من جاهليتهم حسب ما عد من فضيلتهم فالإسلام (16/171)
فضل بني هاشم على بني عبد شمس
و ينبغي أن نذكر في هذا الموضع فضل هاشم على عبد شمس في الجاهلية و قد يمتزج بذلك بعض ما يمتازون به في الإسلام أيضا فإن استقصاءه في الإسلام كثير لأنه لا يمكن جحد ذلك و كيف و الإسلام كله عبارة عن محمد ص و هو هاشمي و يدخل في ضمن ذلك ما يحتج به الأموية أيضا فنقول إن شيخنا أبا عثمان قال إن أشرف خصال قريش في الجاهلية اللواء و الندوة و السقاية و الرفادة و زمزم و الحجابة و هذه الخصال مقسومة في الجاهلية لبني هاشم و عبد الدار و عبد العزى دون بني عبد شمس. قال على أن معظم ذلك صار شرفه في الإسلام إلى بني هاشم لأن النبي ص لما ملك مكة صار مفتاح الكعبة بيده فدفعه إلى عثمان بن طلحة فالشرف راجع إلى من ملك المفتاح لا إلى من دفع إليه و كذلك دفع ص اللواء إلى مصعب بن عمير فالذي دفع اللواء إليه و أخذه مصعب من يديه أحق بشرفه و أولى بمجده و شرفه راجع إلى رهطه من بني هاشم. قال و كان محمد بن عيسى المخزومي أميرا على اليمن فهجاه أبي بن مدلج فقال
قل لابن عيسى المستغيث من السهولة بالوعورةالناطق العوراء في جل الأمور بلا بصيرةولد المغيرة تسعة كانوا صناديد العشيرة
شرح نهج البلاغة ج : 15 ص : 199و أبوك عاشرهم كما نبتت مع النخل الشعيرةإن النبوة و الخلافة و السقاية و المشورةفي غيركم فاكفف إليك يدا مجذمة قصيرقال فانبرى له شاعر من ولد كريز بن حبيب بن عبد شمس كان مع محمد بن عيسى باليمن يهجو عنه ابن مدلج في كلمة له طويلة قال فيها (16/172)
لا لواء يعد يا ابن كريز لا و لا رفد بيته ذي السناءلا حجاب و ليس فيكم سوى الكبر و بغض النبي و الشهداءبين حاك و مخلج و طريد و قتيل يلعنه أهل السماءو لهم زمزم كذاك و جبريل و مجد السقاية الغراء
قال شيخنا أبو عثمان فالشهداء علي و حمزة و جعفر و الحاكي و المخلج هو الحكم بن أبي العاص كان يحكي مشية رسول الله ص فالتفت يوما فرآه فدعا عليه فلم يزل مخلج المشية عقوبة من الله تعالى و الطريد اثنان الحكم بن أبي العاص و معاوية بن المغيرة بن أبي العاص و هما جدا عبد الملك بن مروان من قبل أمه و أبيه. و كان النبي ص طرد معاوية بن المغيرة هذا من المدينة و أجله ثلاثا فحيره الله و لم يزل يتردد في ضلاله حتى بعث في أثره عليا ع و عمارا فقتلاه فأما القتلى فكثير نحو شيبة و عتبة ابني ربيعة و الوليد بن عتبة و حنظلة بن أبي سفيان و عقبة بن أبي معيط و العاص بن سعيد بن أمية و معاوية بن المغيرة و غيرهم قال أبو عثمان و كان اسم هاشم عمرا و هاشم لقب و كان أيضا يقال له القمر و في ذلك يقول مطرود الخزاعي شرح نهج البلاغة ج : 15 ص : 20إلى القمر الساري المنير دعوته و مطعمهم في الأزل من قمع الجزر
قال ذلك في شي ء كان بينه و بين بعض قريش فدعاه مطرود إلى المحاكمة إلى هاشم و قال ابن الزبعرى كانت قريش بيضة فتفلقت فالمخ خالصة لعبد مناف الرائشون و ليس يوجد رائش و القائلون هلم للأضياف عمرو العلي هشم الثريد لقومه و رجال مكة مسنتون عجافعم كما ترى أهل مكة بالأزل و العجف و جعله الذي هشم لهم الخبز ثريدا فغلب هذا اللقب على اسمه حتى صار لا يعرف إلا به و ليس لعبد شمس لقب كريم و لا اشتق له من صالح أعماله اسم شريف و لم يكن لعبد شمس ابن يأخذ بضبعه و يرفع من قدره و يزيد في ذكره و لهاشم عبد المطلب سيد الوادي غير مدافع أجمل الناس جمالا و أظهرهم جودا و أكملهم كمالا و هو صاحب الفيل و الطير الأبابيل و صاحب زمزم و ساقي الحجيج و ولد عبد شمس أمية بن عبد شمس و أمية في نفسه ليس هناك و إنما ذكر بأولاده و لا لقب له و لعبد المطلب لقب شهير و اسم شريف شيبة الحمد قال مطرود الخزاعي في مدحه (16/173)
يا شيبة الحمد الذي تثني له أيامه من خير ذخر الذاخرالمجد ما حجت قريش بيته و دعا هذيل فوق غصن ناضرو الله لا أنساكم و فعالكم حتى أغيب في سفاه القابر
و قال حذافة بن غانم العدوي و هو يمدح أبا لهب و يوصي ابنه خارجة بن حذافة بالانتماء إلى بني هاشم
أ خارج إما أهلكن فلا تزل لهم شاكرا حتى تغيب في القبر
شرح نهج البلاغة ج : 15 ص : 201بني شيبة الحمد الكريم فعاله يضي ء ظلام الليل كالقمر البدرلساقي الحجيج ثم للشيخ هاشم و عبد مناف ذلك السيد الغمرأبو عتبة الملقى إلي جواره أغر هجان اللون من نفر غرأبوكم قصي كان يدعى مجمعا به جمع الله القبائل من ففأبو عتبة هو أبو لهب عبد العزى بن عبد المطلب بن هاشم و ابناه عتبة و عتيبة و قال العبدي حين احتفل في الجاهلية فلم يترك
لا ترى في الناس حيا مثلنا ما خلا أولاد عبد المطلب
و إنما شرف عبد شمس بأبيه عبد مناف بن قصي و بني ابنه أمية بن عبد شمس و هاشم شرف بنفسه و بأبيه عبد مناف و بابنه عبد المطلب و الأمر في هذا بين و هو كما أوضحه الشاعر في قوله (16/174)
إنما عبد مناف جوهر زين الجوهر عبد المطلب
قال أبو عثمان و لسنا نقول إن عبد شمس لم يكن شريفا في نفسه و لكن الشرف يتفاضل و قد أعطى الله عبد المطلب في زمانه و أجرى على يديه و أظهر من كرامته ما لا يعرف مثله إلا لنبي مرسل و إن في كلامه لأبرهة صاحب الفيل و توعده إياه برب الكعبة و تحقيق قوله من الله تعالى و نصره وعيده بحبس الفيل و قتل أصحابه بالطير الأبابيل و حجارة السجيل حتى تركوا كالعصف المأكول لأعجب البرهانات و أسنى الكرامات و إنما كان ذلك إرهاصا لنبوة النبي ص و تأسيسا لما يريده الله به من الكرامة و ليجعل ذلك البهاء متقدما له و مردودا عليه و ليكون أشهر في الآفاق و أجل في صدور الفراعنة و الجبابرة و الأكاسرة و أجدر أن يقهر المعاند و يكشف غباوة الجاهل و بعد فمن يناهض و يناضل رجالا ولدوا محمدا ص و لو عزلنا شرح نهج البلاغة ج : 15 ص : 202ما أكرمه الله به من النبوة حتى نقتصر على أخلاقه و مذاهبه و شيمه لما وفبه بشر و لا عدله شي ء و لو شئنا أن نذكر ما أعطى الله به عبد المطلب من تفجر العيون و ينابيع الماء من تحت كلكل بعيره و أخفافه بالأرض القسي و بما أعطي من المساهمة و عند المقارعة من الأمور العجيبة و الخصال البائنة لقلنا و لكنا أحببنا ألا نحتج عليكم إلا بالموجد في القرآن الحكيم و المشهور في الشعر القديم الظاهر على ألسنة الخاصة و العامة و رواة الأخبار و حمال الآثار. قال و مما هو مذكور في القرآن عدا حديث الفيل قوله تعالى لِإِيلافِ قُرَيْشٍ و قد اجتمعت الرواة على أن أول من أخذ الإيلاف لقريش هاشم بن عبد مناف فلما مات قام أخوه المطلب مقامه فلما مات قام عبد شمس مقامه فلما مات قام نوفل مقامه و كان أصغرهم و الإيلاف هو أن هاشما
كان رجلا كثير السفر و التجارة فكان يسافر في الشتاء إلى اليمن و في الصيف إلى الشام و شرك في تجارته رؤساء القبائل من العرب و من ملوك اليمن و الشام نحو العباهلة باليمن و اليكسوم من بلاد الحبشة و نحو ملوك الروم بالشام فجعل لهم معه ربحا فيما يربح و ساق لهم إبلا مع إبله فكفاهم مئونة الأسفار على أن يكفوه مئونة الأعداء في طريقه و منصرفه فكان في ذلك صلاح عام للفريقين و كان المقيم رابحا و المسافر محفوظا فأخصبت قريش بذلك و حملت معه أموالها و أتاها الخير من البلاد السافلة و العالية و حسنت حالها و طاب عيشها قال و قد ذكر حديث الإيلاف الحارث بن الحنش السلمي و هو خال هاشم و المطلب و عبد شمس فقال (16/175)
إن أخي هاشما ليس أخا واحدالآخذ الإيلاف و القائم للقاعد
قال أبو عثمان و قيل إن تفسير قوله تعالى وَ آمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ هو خوف من كان هؤلاء الإخوة يمرون به من القبائل و الأعداء و هم مغتربون و معهم شرح نهج البلاغة ج : 15 ص : 203الأموال و هذا ما فسرنا به الإيلاف آنفا و قد فسره قوم بغير ذلك قالوا إن هاشما جعل ع رؤساء القبائل ضرائب يؤدونها إليه ليحمي بها أهل مكة فإن ذؤبان العرب و صعاليك الأحياء و أصحاب الغارات و طلاب الطوائل كانوا لا يؤمنون على الحرم لا سيما و ناس من العرب كانوا لا يرون للحرم حرمة و لا للشهر الحرام قدرا مثل طيئ و خثعم و قضاعة و بعض بلحارث بن كعب و كيفما كان الإيلاف فإن هاشما كان القائم به دون غيره من إخوته. قال أبو عثمان ثم حلف الفضول و جلالته و عظمته و هو أشرف حلف كان في العرب كلها و أكرم عقد عقدته قريش في قديمها و حديثها قبل الإسلام لم يكن لبني عبد شمس فيه نصيب
قال النبي ص و هو يذكر حلف الفضول لقد شهدت في دار عبد الله بن جدعان حلفا لو دعيت إلى مثله في الإسلام لأجبت
و يكفي في جلالته و شرفه أن رسول الله ص شهده و هو غلام و كان عتبة بن ربيعة يقول لو أن رجلا خرج مما عليه قومه لداخلت في حلف الفضول لما أرى من كماله و شرفه و لما أعلم من قدره و فضيلته. قال و لفضل ذلك الحلف و فضيلة أهله سمي حلف الفضول و سميت تلك القبائل الفضول فكان هذا الحلف في بني هاشم و بني المطلب و بني أسد بن عبد العزى و بني زهرة و بني تميم بن مرة تعاقدوا في دار ابن جدعان في شهر حرام قياما يتماسحون بأكفهم صعدا ليكونن مع المظلوم حتى يؤدوا إليه حقه ما بل بحر صوفة و في التأسي في المعاش و التساهم بالمال و كانت النباهة في هذا الحلف للزبير بن عبد المطلب و لعبد الله بن جدعان أما ابن جدعان فلأن الحلف عقد في داره و أما الزبير فلأنه الذي نهض فيه و دعا إليه و حث عليه و هو الذي سماه حلف الفضول و ذلك لأنه لما سمع الزبيدي المظلوم شرح نهج البلاغة ج : 15 ص : 204ثمن سلعته قأوفى على أبي قبيس قبل طلوع الشمس رافعا عقيرته و قريش في أنديتها قائلا (16/176)
يا للرجال لمظلوم بضاعته ببطن مكة نائي الحي و النفرإن الحرام لمن تمت حرامته و لا حرام لثوبي لابس الغدر
حمي و حلف ليعقدن حلفا بينه و بين بطون من قريش يمنعون القوي من ظلم الضعيف و القاطن من عنف الغريب ثم قال
حلفت لنعقدن حلفا عليهم و إن كنا جميعا أهل دارنسميه الفضول إذا عقدنا يعز به الغريب لدى الجوارو يعلم من حوالي البيت أنا أباة الضيم نهجر كل عار
فبنو هاشم هم الذين سموا ذلك الحلف حلف الفضول و هم كانوا سببه و القائمين به دون جميع القبائل العاقدة له و الشاهدة لأمره فما ظنك بمن شهده و لم يقم بأمره. قال أبو عثمان و كان الزبير بن عبد المطلب شجاعا أبيا و جميلا بهيا و كان خطيبا شاعرا و سيدا جوادا و هو الذي يقول
و لو لا الحمس لم يلبس رجال ثياب أعزة حتى يموتواثيابهم شمال أو عباء بها دنس كما دنس الحميت و لكنا خلقنا إذا خلقنا لنا الحبرات و المسك الفتيت و كأس لو تبين لهم كلاما لقالت إنما لهم سبيت تبين لنا القذى إن كان فيها رضين الحلم يشربها هب شرح نهج البلاغة ج : 15 ص : 205و يقطع نخوة المختال عنا رقيق الحد ضربته صموت بكف مجرب لا عيب فيه إذا لقي الكريهة يستمقال و الزبير هو الذي يقول (16/177)
و أسحم من راح العراق مملا محيط عليه الجيش جلد مرائره صبحت به طلقا يراح إلى الندى إذا ما انتشى لم يختصره معاقره ضعيف بجنب الكأس قبض بنانه كليل على جلد النديم أظافرقال و بنو هاشم هم الذين ردوا على الزبيدي ثمن بضاعته و كانت عند العاص بن وائل و أخذوا للبارقي ثمن سلعته من أبي بن خلف الجمحي و في ذلك يقول البارقي
و يأبى لكم حلف الفضول ظلامتي بني جمح و الحق يؤخذ بالغصب
و هم الذين انتزعوا من نبيه بن الحجاج قتول الحسناء بنت التاجر الخثعمي و كان كابره عليها حين رأى جمالها و في ذلك يقول نبيه بن الحجاج
و خشيت الفضول حين أتوني قد أراني و لا أخاف الفضولاإني و الذي يحج له شمط إياد و هللوا تهليلالبراء مني قتيلة يا للناس هل يتبعون إلا القتولا
و فيها أيضا يقول
لو لا الفضول و أنه لا أمن من عروائهالدنوت من أبياتها و لطفت حول خبائها
شرح نهج البلاغة ج : 15 ص : 206في كلمته التي يقول فيهاحي النخيلة إذ نأت منا على عدوائهالا بالفراق تنيلنا شيئا و لا بلقائهاحلت بمكة حلة في مشيها و وطائها
في رجال كثير انتزعوا منهم الظلامات و لم يكن يظلم بمكة إلا رجال أقوياء و لهم العدد و العارضة منهم من ذكرنا قصته. قال أبو عثمان و لهاشم أخرى لا يعد أحد مثلها و لا يأتي بما يتعلق بها و ذلك أن رؤساء قبائل قريش خرجوا إلى حرب بني عامر متساندين فكان حرب بن أمية على بني عبد شمس و كان الزبير بن عبد المطلب على بني هاشم و كان عبد الله بن جدعان على بني تيم و كان هشام بن المغيرة على بني مخزوم و كان على كل قبيلة رئيس منها فهم متكافئون في التساند و لم يحقق واحد منهم الرئاسة على الجميع ثم آب هاشم بما لا تبلغه يد متناول و لا يطمع فيه طامع و ذلك (16/178)
أن النبي ص قال شهدت الفجار و أنا غلام فكنت أنبل فيه على عمومتي
فنفى مقامه ع أن تكون قريش هي التي فجرت فسميت تلك الحرب حرب الفجار و ثبت أن الفجور إنما كان ممن حاربهم و صاروا بيمنه و بركته و لما يريد الله تعالى من إعزاز أمره و إعظامه الغالبين العالين و لم يكن الله ليشهده فجرة و لا غدرة فصار مشهده نصرا و موضعه فيهم حجة و دليلا. قال أبو عثمان و شرف هاشم متصل من حيث عددت كان الشرف معك كابرا عن كابر و ليس بنو عبد شمس كذلك فإن الحكم بن أبي العاص كان عاديا في الأعلام و لم يكن له سناء في الجاهلية. شرح نهج البلاغة ج : 15 ص : 207و أما أمية فلم يكن في نفسه هناك و إنما رفعه أبوه كان مضعوفا و كان صاحب عهار يدل على ذلك قول نفيل بن عدي جد عمر بن الخطاب حين تنافر إليه حرب بن أمية و عبد المطلب بن هاشم فنفر عبد المطلب و تعجب من إقدام حرب عليه و قال له
أبوك معاهر و أبوه عف و ذاد الفيل عن بلد حرام
و ذلك أن أمية كان تعرض لامرأة من بني زهرة فضربه رجل منهم بالسيف فأراد بنو أمية و من تبعهم إخراج زهرة من مكة فقام دونهم قيس بن عدي السهمي و كانوا أخواله و كان منيع الجانب شديد العارضة حمي الأنفس أبي النفس فقام دونهم و صاح أصبح ليل فذهبت مثلا و نادى الآن الظاعن مقيم و في هذه القصة يقول وهب بن عبد مناف بن زهرة جد رسول الله ص (16/179)
مهلا أمي فإن البغي مهلكة لا يكسبنك يوم شره ذكرتبدو كواكبه و الشمس طالعة يصب في الكأس منه الصبر و المقر
قال أبو عثمان و صنع أمية في الجاهلية شيئا لم يصنعه أحد من العرب زوج ابنه أبا عمرو امرأته في حياته منه فأولدها أبا معيط بن أبي عمرو بن أمية و المقيتون في الإسلام هم الذين نكحوا نساء آبائهم بعد موتهم فإما أن يتزوجها في حياة الأب و يبني عليها و هو يراه فإنه شي ء لم يكن قط. قال أبو عثمان و قد أقر معاوية على نفسه و رهطه لبني هاشم حين قيل له أيهما كان أسود في الجاهلية أنتم أم بنو هاشم فقال كانوا أسود منا واحدا و كنا شرح نهج البلاغة ج : 15 ص : 208أكثر منهم سيدا فأقر و ادعى فهو في إقراره بالنقص مخصوم و في ادعائهفضل خصيم. و قال جحش بن رئاب الأسدي حين نزل مكة بعد موت عبد المطلب و الله لأتزوجن ابنة أكرم أهل هذا الوادي و لأحالفن أعزهم فتزوج أميمة بنت عبد المطلب و حالف أبا سفيان بن حرب و قد يمكن أن يكون أعزهم ليس بأكرمهم و لا يمكن أن يكون أكرمهم ليس بأكرمهم و قد أقر أبو جهل على نفسه و رهطه من بني مخزوم حين قال تحاربنا نحن و هم حتى إذا صرنا كهاتين قالوا منا نبي فأقر بالتقصير ثم ادعى المساواة أ لا تراه كيف أقر أنه لم يزل يطلب شأوهم ثم ادعى أنه لحقهم فهو مخصوم في إقراره خصيم في دعواه و قد حكم لهاشم دغفل بن حنظلة النسابة حين سأله معاوية عن بني هاشم فقال هم أطعم للطعام و أضرب للهام و هاتان خصلتان يجمعان أكثر الشرف. قال أبو عثمان و العجب من منافرة حرب بن أمية عبد المطلب بن هاشم و قد لطم حرب جارا لخلف بن أسعد جد طلحة الطلحات فجاء جاره فشكا ذلك إليه فمشى خلف إلى حرب و هو جالس عند الحجر فلطم وجهه عنوة من غير تحاكم و لا تراض فما انتطح فيه عنزان ثم قام أبو سفيان بن حرب مقام أبيه بعد موته فحالفه أبو الأزيهر الدوسي و كان عظيم الشأن في الأزد و كانت بينه و بين بني الوليد بن المغيرة محاكمة في مصاهرة كانت بين الوليد و بينه فجاءه هشام بن الوليد و أبو الأزيهر قاعد في مقعد أبي سفيان بذي المجاز فضرب عنقه (16/180)
فلم يدرك به أبو سفيان عقلا و لا قودا في بني المغيرة و قال حسان بن ثابت يذكر ذلك شرح نهج البلاغة ج : 15 ص : 20غدا أهل حصني ذي المجاز بسحرة و جار ابن حرب لا يروح و لا يغدوكساك هشام بن الوليد ثيابه فأبل و أخلق مثلها جددا بعد (16/181)
فهذه جملة صالحة مما ذكره شيخنا أبو عثمان. و نحن نورد من كتاب أنساب قريش للزبير بن بكار ما يتضمن شرحا لما أجمله شيخنا أبو عثمان أو لبعضه فإن كلام أبي عثمان لمحة و إشارة و ليس بالمشروح. قال الزبير حدثني عمر بن أبي بكر العدوي من بني عدي بن كعب قال حدثني يزيد بن عبد الملك بن المغيرة بن نوفل عن أبيه قال اصطلحت قريش على أن ولي هاشم بعد موت أبيه عبد مناف السقاية و الرفادة و ذلك أن عبد شمس كان يسافر قل أن يقيم بمكة و كان رجلا معيلا و كان له ولد كثير و كان هاشم رجلا موسرا فكان إذا حضر الحج قام في قريش فقال يا معشر قريش إنكم جيران الله و أهل بيته و إنه يأتيكم في هذا الموسم زوار الله يعظمون حرمة بيته فهم لذلك ضيف الله و أحق ضيف بالكرامة ضيف الله و قد خصكم الله بذلك و أكرمكم به ثم حفظ منكم أفضل ما حفظ جار من جاره فأكرموا ضيفه و زواره فإنهم يأتون شعثا غبرا من كل بلد ضوامر كالقداح و قد أرجفوا و تفلوا و قملوا و أرملوا فأقروهم و أعينوهم قال فكانت قريش تترافد على ذلك حتى إن كل أهل بيت ليرسلون بالشي ء اليسير على قدر حالهم و كان هاشم يخرج في كل سنة مالا كثيرا و كان قوم من قريش يترافدون و كانوا أهل يسار فكان كل إنسان ربما أرسل مائة مثقال ذهب هرقلية شرح نهج البلاغة ج : 15 ص : 210و كان هاشم يأمر بحياض من أدم تجعل في مواضع زمزم من قبل أن تحفر يستقي فيها من البئار التي بمكة فيشرب الحاج و كان يطعمهم أول ما يطعم قبل يوم التروية بيوم بمكة و بمنى و بجمع و عرفة و كان يثرد لهم الخبز و اللحم و السمن و السويق التمر و يحمل لهم الماء فيسقون بمنى و الماء يومئذ قليل إلى أن يصدر الحاج من
منى ثم تنقطع الضيافة و تتفرق الناس إلى بلادهم. قال الزبير و إنما سمي هاشما لهشمه الثريد و كان اسمه عمرا ثم قالوا عمرو العلا لمعاليه و كان أول من سن الرحلتين رحلة إلى الحبشة و رحلة إلى الشام ثم خرج في أربعين من قريش فبلغ غزة فمرض بها فمات فدفنوه بها و رجعوا بتركته إلى ولده و يقال إن الذي رجع بتركته إلى ولده أبو رهم عبد العزى بن أبي قيس العامري من بني عامر بن لؤي. قال الزبير و كان يقال لهاشم و المطلب البدران و لعبد شمس و نوفل الأبهران. قال الزبير و قد اختلف في أي ولد عبد مناف أسن و الثبت عندنا أن أسنهم هاشم و قال آدم بن عبد العزيز بن عمر بن عمر بن عبد العزيز بن مروان (16/182)
يا أمين الله إني قائل قول ذي دين و بر و حسب عبد شمس لا تهنها إنما عبد شمس عم عبد المطلب عبد شمس كان يتلو هاشما و هما بعد لأم و لأقال الزبير و حدثني محمد بن حسن عن محمد بن طلحة عن عثمان بن عبد الرحمن قال قال عبد الله بن عباس و الله لقد علمت قريش أن أول من أخذ الإيلاف و أجاز لها العيرات لهاشم و الله ما شدت قريش رحالا و لا حبلا بسفر و لا أناخت بعيرا لحضر شرح نهج البلاغة ج : 15 ص : 21لا بهاشم و الله إنه أول من سقى بمكة ماء عذبا و جعل باب الكعبة ذهبا لعبد المطلب. قال الزبير و كانت قريش تجارا لا تعدو تجارتهم مكة إنما تقدم عليهم الأعاجم بالسلع فيشترونها منهم يتبايعون بها بينهم و يبيعون من حولهم من العرب حتى رحل هاشم بن عبد مناف إلى الشام فنزل بقيصر فكان يذبح كل يوم شاة و يصنع جفنة من ثريد و يدعو الناس فيأكلون و كان هاشم من أحسن الناس خلقا و تماما فذكر لقيصر و قيل له هاهنا شاب من قريش يهشم الخبز ثم يصب عليه المرق و يفرغ عليه اللحم و يدعو الناس قال و إنما كانت الأعاجم و الروم تصنع المرق في الصحاف ثم تأتدم عليه بالخبز فدعا به قيصر فلما رآه و كلمه أعجب به و جعل يرسل إليه فيدخل عليه فلما رأى مكانه سأله أن يأذن لقريش في القدوم عليه بالمتاجر و أن يكتب لهم كتب الأمان فيما بينهم و بينه ففعل فبذلك ارتفع هاشم من قريش قال الزبير و كان هاشم يقوم أول نهار اليوم الأول من ذي الحجة فيسند ظهره إلى الكعبة من تلقاء بابها فيخطب قريشا فيقول يا معشر قريش أنتم سادة العرب أحسنها وجوها و أعظمها أحلاما و أوسطها أنسابا و أقربها أرحاما يا معشر قريش أنتم جيران بيت الله أكرمكم بولايته و خصكم بجواره دون بني إسماعيل و حفظ منكم أحسن ما حفظ منكم جار من جاره فأكرموا ضيفه و زوار بيته فإنهم يأتونكم شعثا غبرا من كل بلد فو رب هذه البنية لو كان لي مال يحمل ذلك لكفيتموه ألا و إني مخرج من طيب مالي و حلاله ما لم تقطع فيه (16/183)
رحم و لم يؤخذ بظلم و لم يدخل فيه حرام فواضعه فمن شاء منكم أن يفعل مثل ذلك فعل و أسألكم بحرمة هذا البيت ألا يخرج منكم رجل من ماله لكرامة زوار بيت الله و معونتهم إلا طيبا لم يؤخذ ظلما و لم تقطع فيه رحم و لم يغتصب قال فكانت قريش تخرج من صفو أموالها ما تحتمله أحوالها و تأتي بها إلى هاشم فيضعه في دار الندوة لضيافة الحاج. شرح نهج البلاغة ج : 15 ص : 212قال الزبير و مما رثى به مطرود الخزاعي هاشما قولهمات الندى بالشام لما أن ثوى أودى بغزة هاشم لا يبعدفجفانه رذم لمن ينتابه و النصر أدنى باللسان و باليد (16/184)
و من مراثيه له
يا عين جودي و أذري الدمع و احتفلي و ابكي خبيئة نفسي في الملمات و ابكي على كل فياض أخي حسب ضخم الدسيعة وهاب الجزيلات ماضي الصريمة عالي الهم ذي شرف جلد النحيزة حمال العظيمات صعب المقادة لا نكس و لا وكل ماض على الهول متلاف الكريمات محض توسط من كعب إذا نسبحبوحة المجد في الشم الرفيعات فابكي على هاشم في وسط بلقعة تسقي الرياح عليه وسط غزات يا عين بكي أبا الشعث الشجيات يبكينه حسرا مثل البنيات يبكين عمرو العلا إذ حان مصرعه سمح السجية بسام العشيات يبكينه معولات في معاوزها يا طول ذلك من حزن و عولات محزمات علىطهن لما جر الزمان من أحداث المصيبات أبيت أرعى نجوم الليل من ألم أبكي و تبكي معي شجوا بنياتيقال الزبير و حدثني إبراهيم بن المنذر عن الواقدي عن عبد الرحمن بن الحارث عن عكرمة عن ابن عباس قال أول من سن دية النفس مائة من الإبل عبد المطلب فجرت في قريش و العرب سنته و أقرها رسول الله ص قال و أم عبد المطلب سلمى بنت عمرو بن زيد بن لبيد من بني النجار من الأنصار و كان سبب شرح نهج البلاغة ج : 15 ص : 213تزوج هاشم بها أنه قدم في تجارة له المدينة فنزل على عمرو بن زيد فجاءته سلمى بطعام فأعجبت هاشما فخطبها إلى أبيها فأنكحه إياها و شرط عليه أن تلد عند أهلها فبنى عليها بالمدينة و أقام معها سنتين ثم ارتحل بها إلى م فحملت و أثقلت فخرج بها إلى المدينة فوضعها عند أهلها و مضى إلى الشام فمات بغزة من وجهه ذلك و ولدت عبد المطلب فسمته شيبة الحمد لشعرة بيضاء كانت في ذوائبه حين ولد فمكث بالمدينة ست سنين أو ثمانيا ثم إن رجلا من تهامة مر بالمدينة فإذا غلمان ينتضلون و غلام منهم يقول كلما أصاب أنا ابن هاشم بن عبد مناف سيد البطحاء فقال له الرجل من أنت يا غلام قال أنا ابن هاشم بن عبد مناف قال ما اسمك قال شيبة الحمد فانصرف الرجل حتى قدم مكة فيجد المطلب بن عبد مناف جالسا في الحجر فقال قم إلي يا أبا الحارث فقام إليه (16/185)
فقال تعلم أني جئت الآن من يثرب فوجدت بها غلمانا ينتضلون... و قص عليه ما رأى من عبد المطلب و قال إنه أضرب غلام رأيته قط فقال له المطلب أغفلته و الله أما إني لا أرجع إلى أهلي و مالي حتى آتيه فخرج المطلب حتى أتى المدينة فأتاها عشاء ثم خرج براحلته حتى أتى بني عدي بن النجار فإذا الغلمان بين ظهراني المجلس فلما نظر إلى ابن أخيه قال للقوم هذا ابن هاشم قالوا نعم و عرفه القوم فقالوا هذا ابن أخيك فإن كنت تريد أخذه فالساعة لا نعلم أمه فإنها إن علمت حلنا بينك و بينه فأناخ راحلته ثم دعاه فقال يا ابن أخي أنا عمك و قد أردت الذهاب بك إلى قومك فاركب قال فو الله ما كذب أن جلس على عجز الراحلة و جلس المطلب على الراحلة ثم بعثها فانطلقت فلما علمت أمه قامت تدعو حزنها على ابنها فأخبرت أنه عمه و أنه ذهب به إلى قومه قال فانطلق به المطلب فدخل به مكة ضحوة مردفه خلفه و الناس في أسواقهم و مجالسهم فقاموا يرحبون به و يقولون من هذا الغلام معك فيقول عبد لي ابتعته بيثرب ثم خرج به شرح نهج البلاغة ج : 15 ص : 214حتى جاء إلى الحزورة فابتاع له حلة ثم أدخله على امرأته خديجة بنت سعد بن سهم فرجلت شعره ثم ألبسه الحلة عشية فجاء به فأجلسه في مجلس بني عبد مناف و أخبرهم خبرفكان الناس بعد ذلك إذا رأوه يطوف في سكك مكة و هو أحسن الناس يقولون هذا عبد المطلب لقول المطلب هذا عبدي فلج به الاسم و ترك به شيبة. و روى الزبير رواية أخرى أن سلمى أم عبد المطلب حالت بين المطلب و بين ابنها شيبة و كان بينها و بينه في أمره محاورة ثم غلبها عليه و قال (16/186)
عرفت شيبة و النجار قد حلفت أبناؤها حوله بالنبل تنتضل
فأما الشعر الذي لحذافة العذري و الذي ذكره شيخنا أبو عثمان فقد ذكره الزبير بن بكار في كتاب النسب و زاد فيه
كهولهم خير الكهول و نسلهم كنسل الملوك لا يبور و لا يجري ملوك و أبناء الملوك و سادة تفلق عنهم بيضة الطائر الصقرمتى تلق منهم طامحا في عنانه تجده على أجراء والده يجري هم ملكوا البطحاء مجدا و سؤددا و هم نكلوا عنها غواة بني بكرو هم يغفرون الذنب ينقم مثله و همركوا رأي السفاهة و الهجرأ خارج إما أهلكن فلا تزل لهم شاكرا حتى تغيب في القبر (16/187)
قال الزبير و حدثني عن سبب هذا الشعر محمد بن حسن عن محمد بن طلحة عن أبيه قال إن ركبا من جذام خرجوا صادرين عن الحج من مكة ففقدوا رجلا منهم عالية بيوت مكة فيلقون حذافة العذري فربطوه و انطلقوا به فتلقاهم عبد المطلب مقبلا من الطائف و معه ابنه أبو لهب يقود به و عبد المطلب حينئذ قد ذهب بصره فلما نظر إليه حذافة بن غانم هتف به فقال عبد المطلب لابنه شرح نهج البلاغة ج : 15 ص : 215ويلك من هذا قال هذا حذافة بن غانم مربوطا مع ركب قال فالحقهم فسلهم ما شأنهم و شأنه فلحقهم أبو لهب فأخبروه الخبر فرجع إلى أبيه فأخبره فقال وك ما معك قال لا و الله ما معي شي ء قال فالحقهم لا أم لك فأعطهم بيدك و أطلق الرجل فلحقهم أبو لهب فقال قد عرفتم تجارتي و مالي و أنا أحلف لكم لأعطينكم عشرين أوقية ذهبا و عشرا من الإبل و فرسا و هذا ردائي رهن فقبلوا ذلك منه و أطلقوا حذافة فلما أقبل به و قربا م عبد المطلب سمع عبد المطلب صوت أبي لهب و لم يسمع صوت حذافة فصاح به و أبي إنك لعاص ارجع لا أم لك قال يا أبتا هذا الرجل معي فناداه عبد المطلب يا حذافة أسمعني صوتك قال ها أنا ذا بأبي أنت و أمي يا ساقى الحجيج أردفني فأردفه حتى دخل مكة فقال حذافة هذا الشعر. قال الزبير و حدثني عبد الله بن معاذ عن معمر عن ابن شهاب قال أول ما ذكر من عبد المطلب أن قريشا خرجت فارة من الحرم خوفا من أصحاب الفيل و عبد المطلب يومئذ غلام شاب فقال و الله لا أخرج من حرم الله أبغي العز في غيره فجلس في البيت و أجلت قريش عنه فقال عبد
المطلب (16/188)
لا هم إن المرء يمنع رحله فامنع حلالك لا يغلبن صليبهم و محالهم أبدا محالكفلم يزل ثابتا في الحرم حتى أهلك الله الفيل و أصحابه فرجعت قريش و قد عظم فيهم بصبره و تعظيمه محارم الله عز و جل فبينا هو على ذلك و كان أكبر ولده و هو الحارث بن عبد المطلب قد بلغ الحلم أري عبد المطلب في المنام فقيل له احفر زمزم خبيئة الشيخ الأعظم فاستيقظ فقال اللهم بين لي الشيخ فأري في المنام مرة أخرى شرح نهج البلاغة ج : 15 ص : 216احفر تكتم بين الفرث و الدم في مبحث الغراب في قرية النمل مستقبلة الأنصاب الحمر فقام عبد المطلب فمشى حتى جلس في المسجد الحرام ينتظر ما سمي له من الآيات فنحر بقرة في الحزورة فأفلتت مجازرها بحشاشة نفسها حتى غلب عليها الموت في المسجد في موضع زمزم فاحتمل لحمها من مكانها و أقبل غراب يهوي حتى وقع في الفرث فبحث عن قرية النمل فقام عبد المطلب يحفرها فجاءته قريش فقالت له ما هذا الصنع إنا لم نكن نراك بالجهل لم تحفر في مسجدنا فقال عبد المطلب إني لحافر هذا البئر و مجاهد من صدني عنها فطفق يحفر هو و ابنه الحارث و ليس له يومئذ ولد غيره فيسفه عليهما الناس من قريش فينازعونهما و يقاتلونهما و تناهى عنه ناس من قريش لما يعلمون من زعيق نسبه و صدقه و اجتهاده في دينهم يومئذ حتى إذا أتعبه الحفر و اشتد عليه الأذى نذر إن وفى له عشرة من الولدان ينحر أحدهم ثم حفر فأدرك سيوفا دفنت في زمزم حين دفنت فلما رأت قريش أنه قد أدرك السيوف قالت يا عبد المطلب أحذنا مما وجدت فقال عبد المطلب بل هذه السيوف لبيت الله ثم حفر حتى أنبط الماء فحفرها في القرار ثم بحرها حتى لا تنزف ثم بنى عليها حوضا و طفق هو و ابنه ينزعان فيملآن ذلك الحوض فيشرب منه الحاج و يكسره قوم حسدة له من قريش بالليل فيصلحه عبد المطلب حين يصبح فلما أكثروا فساده دعا عبد المطلب ربه فأري فقيل له قل اللهم إني لا أحلها لمغتسل و هي لشارب حل و بل ثم كفيتهم
فقام عبد المطلب حين اختلف قريش في المسجد فنادى بالذي أري ثم انصرف فلم يكن يفسد حوضه عليه أحد من قريش إلا رمي في جسده بداء حتى تركوا حوضه ذلك و سقايته ثم تزوج عبد المطلب النساء فولد له عشرة رهط فقال اللهم إني شرح نهج البلاغة ج : 15 ص : 217كنت نذرت لك نحر أحدهم و إني أقرعينهم فأصيب بذلك من شئت فأقرع بينهم فطارت القرعة على عبد الله بن عبد المطلب أبي رسول الله ص و كان أحب ولده إليه فقال عبد المطلب اللهم هو أحب إليك أم مائة من الإبل فنحرها عبد المطلب مكان عبد الله و كان عبد الله أحسن رجل رئي في قريش قط. و روى الزبير أيضا قال حدثني إبراهيم بن المنذر عن عبد العزيز بن عمران عن عبد الله بن عثمان بن سليمان قال سمعت أبي يقول لما حفرت زمزم و أدرك منها عبد المطلب ما أدرك وجدت قريش في أنفسها مما أعطي عبد المطلب فلقيه خويلد بن أسد بن عبد العزى فقال يا ابن سلمى لقد سقيت ماء رغدا و نثلت عادية حسدا فقال يا ابن أسد أما إنك تشرك في فضلها و الله لا يساعدني أحد عليها ببر و لا يقوم معي بارزا إلا بذلت له خير الصهر فقال خويلد بن أسد (16/189)
أقول و ما قولي عليهم بسبة إليك ابن سلمى أنت حافر زمزم حفيرة إبراهيم يوم ابن هاجر و ركضة جبريل على عهد آدمفقال عبد المطلب ما وجدت أحدا ورث العلم الأقدم غير خويلد بن أسد. قال الزبير فأما ركضة جبريل فإن سعيد بن المسيب قال إن إبراهيم قدم بإسماعيل و أمه مكة فقال لهما كلا من الشجر و اشربا من الشعاب و فارقهما فلما ضاقت الأرض تقطعت المياه فعطشا فقالت له أمه اصعد و انصب في هذا الوادي فلا أرى موتك و لا ترى موتي ففعل فأنزل الله تعالى ملكا من السماء على أم إسماعيل فأمرها فصرحت به فاستجاب لها و طار الملك فضرب بجناحيه مكان زمزم فقال اشربا فكان سيحا يسيح و لو تركاه ما زال كذلك أبدا لكنها فرقت عليه من العطش فقرت له في السقاء و حفرت في البطحاء فلما نضب الماء طوياه ثم شرح نهج البلاغة ج : 15 ص : 218هلك الناس و دفنته السيول ثم أري عبد المطلب في المنام أن احفر زمزم لا تثرب و لا تذم تروي الحجيج الأعظم ثم أري مرة أخرى أن احفر الرواء أعطيتها على رغم الأعداء ثم أري مرة أخرى أن احفر تم بين الأنصاب الحمر في قرية النمل فأصبح يحفر حيث أري فطفقت قريش يستهزءون به حتى إذا بدا عن الطي وجد فيها غزالا من ذهب و حلية سيف فضرب عليها بالسهام فخرج سهم البيت فكان أول حلي حلى به الكعبة. قال الزبير و كان حرب بن أمية بن عبد شمس نديم عبد المطلب و كان عبيد بن الأبرص تربه و بلغ عبيد مائة و عشرين سنة و بقي عبد المطلب بعده عشرين سنة. قال و قال بعض أهل العلم توفي عبد المطلب عن خمس و تسعين سنة و يقال كان يعرف في عبد المطلب نور النبوة و هيبة الملك و فيه يقول الشاعر (16/190)
إنني و اللات و البيت الذي لز بالهبرز عبد المطلب
قال الزبير حدثني عمي مصعب بن عبد الله قال بينا عبد المطلب يطوف بالبيت بعد ما أسن و ذهب بصره إذ زحمه رجل فقال من هذا فقيل رجل من بني بكر. قال فما منعه أن ينكب عني و قد رآني لا أستطيع لأن أنكب عنه فلما رأى بنيه قد توالوا عشرة قال لا بد لي من العصا فإن اتخذتها طويلة شقت علي و إن اتخذتها قصيرة قويت عليها و لكن ينحدب لها ظهري و الحدبة ذل فقال بنوه أو غير ذلك يوافيك كل يوم منا رجل تتوكأ عليه فتطوف في حوائجك قال و لذلك قال الزبير و مكارم عبد المطلب أكثر من أن يحاط بها كان سيد قريش غير مدافع نفسا و أبا و بيتا و جمالا و بهاء و كمالا و فعالا قال أحد بني كنانة يمدحه شرح نهج البلاغة ج : 15 ص : 21إني و ما سترت قريش و الذي تعزو لآل كلهن ظباءو و حق من رفع الجبال منيفة و الأرض مدا فوقهن سماءمثن و مهد لابن سلمى مدحة فيها أداء ذمامه و وفاء (16/191)
قال الزبير فأما أبو طالب بن عبد المطلب و اسمه عبد مناف و هو كافل رسول الله ص و حاميه من قريش و ناصره و الرفيق به الشفيق عليه و وصي عبد المطلب فيه فكان سيد بني هاشم في زمانه و لم يكن أحد من قريش يسود في الجاهلية بمال إلا أبو طالب و عتبة بن ربيعة. قال الزبير أبو طالب أول من سن القسامة في الجاهلية في دم عمرو بن علقمة ثم أثبتتها السنة في الإسلام و كانت السقاية في الجاهلية بيد أبي طالب ثم سلمها إلى أخيه العباس بن عبد المطلب. قال الزبير و كان أبو طالب شاعرا مجيدا و كان نديمه في الجاهلية مسافر بن عمرو بن أمية بن عبد شمس و كان قد حبن فخرج ليتداوى بالحيرة فمات بهبالة فقال أبو طالب يرثيه
ليت شعري مسافر ابن أبي عمرو و ليث يقولها المحزون كيف كانت مذاقة الموت إذ مت و ما ذا بعد الممات يكون رحل الركب قافلين إلينا و خليلي في مرمس مدفون بورك الميت الغريب كما بورك نضر الريحان و الزيت شرح نهج البلاغة ج : 15 ص : 220رزء ميت على هبالة قد حالت فياف من دونه و حزون مدرة يدفع الخصوم بأيد و بوجه يزينه العرنين كم خليل و صاحب و ابن عم و حميم قفت عليه المنون فتعزيت بالجلادة و الصبر و إني بصاحبي لقال الزبير فلما هلك مسافر نادم أبو طالب بعده عمرو بن عبد بن أبي قيس بن عبد ود بن نصر بن مالك بن حسل بن عامر بن لؤي و لذلك قال عمرو لعلي ع يوم الخندق حين بارزه إن أباك كان لي صديقا. قال الزبير و حدثني محمد بن حسن عن نصر بن مزاحم عن معروف بن خربوذ قال كان أبو طالب يحضر أيام الفجار و يحضر معه النبي ص و هو غلام فإذا جاء أبو طالب هزمت قيس و إذا لم يجي ء هزمت كنانة فقالوا لأبي طالب لا أبا لك لا تغب عنا ففعل. قال الزبير فأما الزبير بن عبد المطلب فكان من أشراف قريش و وجوهها و هو الذي استثنته بنو قصي على بني سهم حي هجا عبد الله بن الزبعرى بن قصي فأرسلت بنو قصي عتبة بن ربيعة بن عبد شمس إلى بني سهم فقال لهم إن قومكم قد كرهوا أن يعجلوا عليكم فأرسلوني إليكم في هذا السفيه الذي هجاهم في غير ذنب اجترموا إليه فإن كان ما صنع عن رأيكم فبئس الرأي رأيكم و إن كان عن غير رأيكم فادفعوه إليهم فقال القوم نبرأ إلى الله أن يكون عن رأينا قال فأسلموه إليهم فقال بعض بني سهم إن شئتم فعلنا على أن من هجانا منكم دفعتموه إلينا فقال عتبة ما يمنعني أن أقول ما تقول إلا أن الزبير بن عبد المطلب غائب بالطائف شرح نهج البلاغة ج : 15 ص : 221و قد عرفتنه سيفرغ لهذا الأمر فيقول و لم أكن أجعل الزبير خطرا لابن الزبعرى فقال قائل منهم أيها القوم ادفعوه إليهم فلعمري أن لكم مثل الذي عليكم فكثر في ذلك الكلام و اللغط فلما رأى العاص بن وائل (16/192)
ذلك دعا برمة فأوثق بها عبد الله بن الزبعرى و دفعه إلى عتبة بن ربيعة فأقبل به مربوطا حتى أتى به قومه فأطلقه حمزة بن عبد المطلب و كساه فأغرى ابن الزبعرى أناس من قريش بقومه بني سهم و قالوا له اهجهم كما أسلموك فقال (16/193)
لعمري ما جاءت بنكر عشيرتي و إن صالحت إخوانها لا ألومهافود جناة الشر أن سيوفنا بأيماننا مسلولة لا نشيمهافيقطع ذو الصهر القريب و يتركوا غماغم منها إذ أجد يريمهافإن قصيا أهل مجد و ثروة و أهل فعال لا يرام قديمهاهم منعوا يومي عكاظ نساءنا كما منع الشول الهجان قرومهاو إن كان هيج قدموا فتقدموا و هل يمنع المخزاة إلا حميمهامحاشيد للمقرى سراع إلى الندى مرازبة غلب رزان حلومها
قال فقدم الزبير بن عبد المطلب من الطائف فقال قصيدته التي يقول فيها
فلو لا الحمس لم يلبس رجال ثياب أعزة حتى يموتوا
و قد ذكرنا قطعة منها فيما تقدم. قال الزبير و قال الزبير بن عبد المطلب أيضا في هذا المعنى شرح نهج البلاغة ج : 15 ص : 22قومي بنو عبد مناف إذا أظلم من حولي بالجندل لا أسد لن يسلموني و لا تيم و لا زهرة للنيطل و لا بنو الحارث إن مر بي يوم من الأيام لا ينجلي يا أيها الشاتم قومي و لا حق له عندهم أقبل إني لهم جار لئن أنت لم تقصر عن الباطل أو تقال الزبير و من شعر الزبير بن عبد المطلب يا ليت شعري إذا ما حمتي وقعت ما ذا تقول ابنتي في النوح تنعاني تنعى أبا كان معروف الدفاع عن المولى المضاف و فكاكا عن العاني و نعم صاحب عان كان رافده إذا تضجع عنه العاجز الوانقال الزبير و كان الزبير بن عبد المطلب ذا نظر و فكر أتى فقيل له مات فلان لرجل من قريش كان ظلوما فقال بأي عقوبة مات قالوا مات حتف أنفه فقال لئن كان ما قلتموه حقا إن للناس معادا يؤخذ فيه للمظلوم من الظالم. قال و كان الزبير يكنى بأبي الطاهر و كانت صفية بنت عبد المطلب كنت ابنها الزبير بن العوام أبا الطاهر دهرا بكنية أخيها و كان للزبير بن عبد المطلب ابن يقال له الطاهر كان من أظرف فتيان مكة مات غلاما و به سمى رسول الله ص ابنه الطاهر و باسم الزبير سمت أخته صفية ابنها الزبير و قالت صفية ترثي أخاها الزبير بن عبد المطلب (16/194)
بكي زبير الخير إذ مات إن كنت على ذي كرم باكيه
شرح نهج البلاغة ج : 15 ص : 223لو لفظته الأرض ما لمتها أو أصبحت خاشعة عاريه قد كان في نفسي أن أترك الموتى و لا أتبعهم قافيه فلم أطق صبرا على رزئه وجدته أقرب إخوانيه لو لم أقل من في قولا له لقضت العبرة أضلاعيه فهو الشآمي و اليماني إذا ما خضروا ذو الشفاميه
و قال ضرار بن الخطاب يبكيه
بكي ضباع على أبيك بكاء محزون أليم قد كنت أنشده فلا رث السلاح و لا سليم كالكوكب الدري يعلو ضوءه ضوء النجوم زخرت به أعراقه و نماه والده الكريم بين الأغر و هاشم فرعين قد فرعا القفأما القتول الخثعمية التي اغتصبها نبيه بن الحجاج السهمي من أبيها فقد ذكر الزبير بن بكار قصتها في كتاب أنساب قريش. قال الزبير إن رجلا من خثعم قدم مكة تاجرا و معه ابنة يقال لها القتول أوضأ نساء العالمين فعلقها نبيه بن الحجاج السهمي فلم يبرح حتى غلب أباها عليها و نقلها إليه فقيل لأبيها عليك بحلف الفضول فأتاهم فشكا إليهم ذلك فأتوا نبيه بن الحجاج فقالوا له أخرج ابنة هذا الرجل و هو يومئذ منتبذ بناحية مكة و هي معه و إلا فإنا من قد عرفت فقال يا قوم متعوني بها الليلة فقالوا قبحك الله شرح نهج البلاغة ج : 15 ص : 224 أجهلك لا و الله و لا شخب لقحة فأخرجها إليهم فأعطوها أباها فقال نبيه بن الحجاج في ذلك قصيدة أولها (16/195)
راح صحي و لم أحي القتولا لم أودعهم وداعا جميلاإذ أجد الفضول أن يمنعوها قد أراني و لا أخاف الفضولا
في أبيات طويلة و أما قصة البارقي فقد ذكرها الزبير أيضا. قال قدم رجل من ثمالة من الأزد مكة فباع سلعة من أبي بن خلف الجمحي فمطله بالثمن و كان سيئ المخالطة فأتى الثمالي أهل حلف الفضول فأخبرهم فقالوا اذهب فأخبره أنك قد أتيتنا فإن أعطاك حقك و إلا فارجع إلينا فأتاه فأخبره بما قال أهل حلف الفضول فأخرج إليه حقه فأعطاه فقال الثمالي
أ يفجر بي ببطن مكة ظالما أبي و لا قومي لدي و لا صحبي و ناديت قومي بارقا لتجيبني و كم دون قومي من فياف و من سهب و يأبى لكم حلف الفضول ظلامتي بني جمح و الحق يؤخذ بالغصو أما قصة حلف الفضول و شرفه فقد ذكرها الزبير في كتابه أيضا قال كان بنو سهم و بنو جمح أهل بغي و عدوان فأكثروا من ذلك فأجمع بنو هاشم و بنو المطلب و بنو أسد و بنو زهرة و بنو تيم على أن تحالفوا و تعاقدوا على رد الظلم بمكة و ألا يظلم أحد شرح نهج البلاغة ج : 1ص : 225إلا منعوه و أخذوا له بحقه و كان حلفهم في دار عبد الله بن جدعان (16/196)
قال رسول الله ص لقد شهدت في دار عبد الله بن جدعان حلفا ما أحب أن لي به حمر النعم و لو دعيت به اليوم لأجبت لا يزيده الإسلام إلا شدة
قال الزبير كان رجل من بني أسد قد قدم مكة معتمرا ببضاعة فاشتراها منه العاص بن وائل السهمي فآواها إلى بيته ثم تغيب فابتغى الأسدي متاعه فلم يقدر عليه فجاء إلى بني سهم يستعديهم عليه فأغلظوا له فعرف أن لا سبيل له إلى ماله و طوف في قبائل قريش يستنفر بهم فتخاذلت القبائل عنه فلما رأى ذلك أشرف على أبي قبيس حين أخذت قريش مجالسها و نادى بأعلى صوته
يا للرجال لمظلوم بضاعته ببطن مكة نائي الأهل و النفرو محرم أشعث لم يقض عمرته يا آل فهر و بين الحجر و الحجرهل منصف من بني سهم فمرتجع ما غيبوا أم حلال مال معتمر
فأعظمت ذلك قريش و تكلموا فيه فقال المطيبون و الله إن قمنا في هذا ليغضبن الأحلاف و قالت الأحلاف و الله إن قمنا في هذا ليغضبن المطيبون فقالت قبائل من قريش هلموا فلنحتلف حلفا جديدا لننصرن المظلوم على الظالم ما بل بحر صوفة فاجتمعت هاشم و المطلب و أسد و تيم و زهرة في دار عبد الله بن جدعان و رسول الله ص يومئذ معهم و هو شاب ابن خمس و عشرين سنة لم يوح إليه بعد فتحالفوا ألا يظلم بمكة غريب و لا قريب و لا حر و لا عبد إلا كانوا معه حتى يأخذوا له بحقه و يردوا إليه مظلمته من أنفسهم و من غيرهم ثم عمدوا إلى ماء زمزم فجعلوه في جفنة ثم بعثوا به إلى البيت فغسلوا به أركانه ثم جمعوه و أتوهم به فشربوه ثم انطلقوا إلى العاص بن وائل شرح نهج البلاغة ج : 15 ص : 226فقالوا له أد إلى هذا حقه فأدى إليه حقه فمكثوا كذلك دهرا لا يظلم أحد بمكة إلا أخذوا له حقه فكان عتبة بن ربيعة بن عبد شمس ول لو أن رجلا وحده خرج من قومه لخرجت من عبد شمس حتى أدخل في حلف الفضول. قال الزبير و حدثني محمد بن حسن عن محمد بن طلحة عن موسى بن محمد عن أبيه أن الحلف كان على ألا يدعوا بمكة كلها و لا في الأحابيش مظلوما يدعوهم إلى نصرته إلا أنجدوه حتى يردوا عليه ماله و مظلمته أو يبلوا في ذلك عذرا و على الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر و على التأسي في المعاش. قال الزبير و يقال إنه إنما سمي حلف الفضول لأن رجالا كانوا في وجوههم تحالفوا على رد المظالم يقال لهم فضيل و فضال و فضل و مفضل فسمي هذا الحلف حلف الفضول لأنه أحيا تلك السنة التي كانت ماتت. قال الزبير و قدم محمد بن جبير بن مطعم على عبد الملك بن مروان و كان من علماء قريش فقال له يا أبا سعيد أ لم نكن يعني بني عبد شمس و أنتم في حلف الفضول فقال أمير المؤمنين أعلم قال لتخبرني بالحق قال لا و الله يا أمير المؤمنين لقد خرجنا نحن و أنتم منه و ما كانت يدنا و يدكم إلا جميعا في الجاهلية و الإسلام. (16/197)
قال الزبير و حدثني محمد بن حسن عن إبراهيم بن محمد عن يزيد بن عبد الله بن الهادي الليثي أن محمد بن الحارث أخبره قال كان بين الحسين بن علي ع و بين الوليد بن عتبة بن أبي سفيان كلام في مال كان بينهما بذي المروءة و الوليد يومئذ أمير المدينة في أيام معاوية فقال الحسين ع أ يستطيل الوليد علي بسلطانه شرح نهج البلاغة ج : 15 ص : 227أقسم بالله لينصفني من حقي أو لآخذن سيفي ثم أقوم في مسجد الله فأدعو بحلف الفضول فبلغت كلمته عبد الله بن الزبير فقال أحلف باه لئن دعا به لآخذن سيفي ثم لأقومن معه حتى ينتصف أو نموت جميعا فبلغت المسور بن مخرمة بن نوفل الزهري فقال مثل ذلك فبلغت عبد الرحمن بن عثمان بن عبيد الله التيمي فقال مثل ذلك فبلغ ذلك الوليد بن عتبة فأنصف الحسين ع من نفسه حتى رضي. قال الزبير و قد كان للحسين ع مع معاوية قصة مثل هذه كان بينهما كلام في أرض للحسين ع فقال له الحسين ع اختر مني ثلاث خصال إما أن تشتري مني حقي و إما أن ترده علي أو تجعل بيني و بينك ابن عمر أو ابن الزبير حكما و إلا فالرابعة و هي الصيلم قال معاوية و ما هي قال أهتف بحلف الفضول ثم قام فخرج و هو مغضب فمر بعبد الله بن الزبير فأخبره فقال و الله لئن هتفت به و أنا مضطجع لأقعدن أو قاعد لأقومن أو قائم لأمشين أو ماش لأسعين ثم لتنفدن روحي مع روحك أو لينصفنك فبلغت معاوية فقال لا حاجة لنا بالصيلم ثم أرسل إليه أن ابعث فانتقد مالك فقد ابتعناه منك. قال الزبير و حدثني بهذه القصة علي بن صالح عن جدي عبد الله بن مصعب عن أبيه قال خرج الحسين ع من عند معاوية و هو مغضب فلقي عبد الله بن الزبير فحدثه بما دار بينهما و قال لأخيرنه في خصال فقال له ابن الزبير ما قال ثم ذهب إلى معاوية فقال لقد لقيني الحسين فخيرك في ثلاث خصال و الرابعة الصيلم قال معاوية فلا حاجة لنا بالصيلم أظنك لقيته مغضبا فهات الثلاث قال أن تجعلني (16/198)
شرح نهج البلاغة ج : 15 ص : 228أو ابن عمر بينك و بينه قال قد جعلتك بيني و بينه أو جعلت ابن عمر أو جعلتكما جميعا قال أو تقر له بحقه ثم تسأله إياه قال قد أقررت له بحقه و أنا أسأله إياه قال أو تشريه منه قال قد اشتريته منه فما الصيلم قال يهتف بحلف الفضول و أ أول من يجيبه قال فلا حاجة لنا في ذلك. و بلغ الكلام عبد الله بن أبي بكر و المسور بن مخرمة فقالا للحسين مثل ما قاله ابن الزبير. فأما تفجر الماء من تحت أخفاف بعير عبد المطلب في الأرض الجرز فقد ذكره محمد بن إسحاق بن يسار في كتاب السيرة قال لما أنبط عبد المطلب الماء في زمزم حسدته قريش فقالت له يا عبد المطلب إنها بئر أبينا إسماعيل و إن لنا فيها حقا فأشركنا معك قال ما أنا بفاعل إن هذا الأمر أمر خصصت به دونكم و أعطيته من بينكم قالوا له فإنا غير تاركيك حتى نخاصمك فيها قال فاجعلوا بيني و بينكم حكما أحاكمكم إليه قالوا كاهنة بني سعد بن هذيم قال نعم و كانت بأشراف الشام فركب عبد المطلب في نفر من بني عبد مناف و خرج من كل قبيلة من قبائل قريش قوم و الأرض إذ ذاك مفاوز حتى إذا كانوا ببعض تلك المفاوز بين الحجاز و الشام نفد ما كان مع عبد المطلب و بني أبيه من الماء فعطشوا عطشا شديدا فاستسقوا قومهم فأبوا أن يسقوهم و قالوا نحن بمفازة و نخشى على أنفسنا مثل الذي أصابكم فلما رأى عبد المطلب ما صنع القوم و خاف على نفسه و أصحابه الهلاك قال لأصحابه ما ترون قالوا ما رأينا إلا تبع لرأيك فمرنا بما أحببت قال فإني أرى أن يحفر كل رجل منا حفرة لنفسه بما معه الآن من القوة فكلما مات رجل دفنه أصحابه في حفرته حتى يكون رجل واحد فضيعة شرح نهج البلاغة ج : 15 ص : 229رجل واحد أيسر من ضيعة ركب قالوا نعم ما أشرت فقام كل رجل منهم فحفر حفيرة لنفسه و قعدوا ينتظرون الموت ثم إن عبد المطلب قال لأصحابه و الله إنلقاءنا بأيدينا كذا للموت لا نضرب في الأرض فنطلب الماء لعجز قوموا (16/199)
فعسى الله أن يرزقنا ماء ببعض الأرض ارتحلوا فارتحلوا و من معهم من قبائل قريش ينظرون إليهم ما هم صانعون فتقدم عبد المطلب إلى راحلته فركبها فلما انبعثت به انفجر من تحت خفها عين من ماء عذب فكبر عبد المطلب و كبر أصحابه ثم نزل فشرب و شرب أصحابه و استقوا حتى ملئوا أسقيتهم ثم دعا القبائل من قريش فقال لهم هلموا إلى الماء فقد أسقانا الله فاشربوا و استقوا فجاءوا فشربوا و استقوا ثم قالوا قد و الله قضى الله لك علينا و الله لا نخاصمك في زمزم أبدا إن الذي سقاك هذا الماء بهذه الفلاة هو الذي سقاك زمزم فارجع إلى سقايتك راشدا فرجع و رجعوا معه لم يصلوا إلى الكاهنة و خلوا بينه و بين زمزم. و روى صاحب كتاب الواقدي أن عبد الله بن جعفر فاخر يزيد بن معاوية بين يدي معاوية فقال له بأي آبائك تفاخرني أ بحرب الذي أجرناه أم بأمية الذي ملكناه أم بعبد شمس الذي كفلناه فقال معاوية لحرب بن أمية يقال هذا ما كنت أحسب أن أحدا في عصر حرب يزعم أنه أشرف من حرب فقال عبد الله بلى أشرف منه من كفأ عليه إناءه و جلله بردائه فقال معاوية ليزيد رويدا يا بني إن عبد الله يفخر عليك بك لأنك منه و هو منك فاستحيا عبد الله و قال يا أمير المؤمنين يدان انتشطتا و أخوان اصطرعا فلما قام عبد الله قال معاوية ليزيد يا بني إياك و منازعة شرح نهج البلاغة ج : 15 ص : 230بني هاشم فإنهم لا يجهلون ما علموا و لا يجد مبغضهم لهم سبا قال أما قوله أ بحرب الذي أجرناه فإن قرا كانت إذا سافرت فصارت على العقبة لم يتجاوزها أحد حتى تجوز قريش فخرج حرب ليلة فلما صار على العقبة لقيه رجل من بني حاجب بن زرارة تميمي فتنحنح حرب بن أمية و قال أنا حرب بن أمية فتنحنح التميمي و قال أنا ابن حاجب بن زرارة ثم بدر فجاز العقبة فقال حرب لاها الله لا تدخل بعدها مكة و أنا حي فمكث التميمي حينا لا يدخل و كان متجره بمكة فاستشار بها بمن يستجير من حرب فأشير عليه بعبد المطلب أو (16/200)
بابنه الزبير بن عبد المطلب فركب ناقته و صار إلى مكة ليلا فدخلها و أناخ ناقته بباب الزبير بن عبد المطلب فرغت الناقة فخرج إليه الزبير فقال أ مستجير فتجار أم طالب قرى فتقرى فقال (16/201)
لاقيت حربا بالثنية مقبلا و الليل أبلج نوره للساري فعلا بصوت و اكتنى ليروعني و دعا بدعوة معلن و شعارفتركته خلفي و جزت أمامه و كذاك كنت أكون في الأسفارفمضى يهددني و يمنع مكة إلا أحل بها بدار قرارفتركته كالكلب ينبح وحده و أتيت قرم مكارم و فخارليثا هزبرا يستجر بقربه رحب المباءة مكرما للجارو حلفت بالبيت العتيق و حجه و بزمزم و الحجر و الأستارإن الزبير لمانعي بمهند صافي الحديدة صارم بتار
فقال الزبير اذهب إلى المنزل فقد أجرتك فلما أصبح نادى الزبير أخاه الغيداق شرح نهج البلاغة ج : 15 ص : 231فخرجا متقلدين سيفيهما و خرج التميمي معهما فقالا له إنا إذا أجرنا رجلا لم نمش أمامه فامش أمامنا ترمقك أبصارنا كي لا تختلس من خلفنا فجعل التميمي يشق مكة ى دخل المسجد فلما بصر به حرب قال و إنك لهاهنا و سبق إليه فلطمه و صاح الزبير ثكلتك أمك أ تلطمه و قد أجرته فثنى عليه حرب فلطمه ثانية فانتضى الزبير سيفه فحمل على حرب بين يديه و سعى الزبير خلفه فلم يرجع عنه حتى هجم حرب على عبد المطلب داره فقال ما شأنك قال الزبير قال اجلس و كفأ عليه إناء كان هاشم يهشم فيه الثريد و اجتمع الناس و انضم بنو عبد المطلب إلى الزبير و وقفوا على باب أبيهم بأيديهم سيوفهم فأزر عبد المطلب حربا بإزار كان له و رداه برداء له طرفان و أخرجه إليهم فعلموا أن أباهم قد أجاره. و أما معنى قوله أم بأمية الذي ملكناه فإن عبد المطلب راهن أمية بن عبد شمس على فرسين و جعل الخطر ممن سبقت فرسه مائة من الإبل و عشرة أعبد و عشر إماء و استعباد سنة و جز الناصية فسبق فرس عبد المطلب فأخذ الخطر فقسمه في قريش و أراد جز ناصيته فقال أو أفتدي منك باستعباد عشر سنين ففعل فكان أمية بعد في حشم عبد المطلب و عضاريطه عشر سنين. و أما قوله أم بعبد شمس الذي كفلناه فإن عبد شمس كان مملقا لا مال له فكان أخوه هاشم يكفله و يمونه إلى أن مات هاشم. و في كتاب الأغاني لأبي الفرج إن معاوية قال لدغفل النسابة أ رأيت عبد المطلب قال نعم قال كيف رأيته قال رأيته رجلا نبيلا جميلا وضيئا كان على شرح نهج البلاغة ج : 15 ص : 232وجهه نور النبوة قال أ فرأيت أمية بن عبد شمس قال نعم قال كيف رأيته قال رأيته رجلا ضئيلا منحنيا أعمى يقوده عبده ذكوان فقال معاوية ذلك ابنه أبو عمرو قال أنتم تقولون ذلك فأما قريش فلم ن تعرف إلا أنه عبده. و نقلت من كتاب هاشم و عبد شمس لابن أبي رؤبة (16/202)
الدباس. قال روى هشام بن الكلبي عن أبيه أن نوفل بن عبد مناف ظلم عبد المطلب ابن هاشم أركاحا له بمكة و هي الساحات و كان بنو نوفل يدا مع عبد شمس و عبد المطلب يدا مع هاشم فاستنصر عبد المطلب قوما من قومه فقصروا عن ذلك فاستنجد أخواله من بني النجار بيثرب فأقبل معه سبعون راكبا فقالوا لنوفل لا و الله يا أبا عدي ما رأينا بهذا الغائط ناشئا أحسن وجها و لا أمد جسما و لا أعف نفسا و لا أبعد من كل سوء من هذا الفتى يعنون عبد المطلب و قد عرفت قرابته منا و قد منعته ساحات له و نحن نحب أن ترد عليه حقه فرده عليه فقال عبد المطلب (16/203)
تأبى مازن و بنو عدي و ذبيان بن تيم اللات ضيمي و زادت مالك حتى تناهت و نكب بعد نوفل عن حريميقال و يقال إن ذلك كان سبب مخالفة خزاعة عبد المطلب. قال و روى أبو اليقظان سحيم بن حفص أن عبد المطلب جمع بنيه عند وفاته و هم عشرة يومئذ فأمرهم و نهاهم و أوصاهم و قال إياكم و البغي فو الله ما خلق الله شيئا شرح نهج البلاغة ج : 15 ص : 233أعجل عقوبة من البغي وا رأيت أحدا بقي على البغي إلا إخوتكم من بني عبد شمس. و روى الوليد بن هشام بن قحذم قال قال عثمان يوما وددت أني رأيت رجلا قد أدرك الملوك يحدثني عما مضى فذكر له رجل بحضرموت فبعث إليه فحدثه حديثا طويلا تركنا ذكره إلى أن قال أ رأيت عبد المطلب بن هاشم قال نعم رأيت رجلا قعدا أبيض طويلا مقرون الحاجبين بين عينيه غرة يقال إن فيها بركة و إن فيه بركة قال أ فرأيت أمية بن عبد شمس قال نعم رأيت رجلا آدم دميما قصيرا أعمى يقال إنه نكد و إن فيه نكدا فقال عثمان يكفيك من شر سماعه و أمر بإخراج الرجل. و روى هشام بن الكلبي أن أمية بن عبد شمس لما كان غلاما كان يسرق الحاج فسمي حارسا. و روى ابن أبي رؤبة في هذا الكتاب أن أول قتيل قتله بنو هاشم من بني عبد شمس عفيف بن أبي العاص بن أمية قتله حمزة بن عبد المطلب و لم أقف على هذا الخبر إلا من كتاب ابن أبي رؤبة. قال و مما يصدق قول من روى أن أمية بن عبد شمس استعبده عبد المطلب شعر أبي طالب بن عبد المطلب حين تظاهرت عبد شمس و نوفل عليه و على رسول الله ص و حصروهما في الشعب فقال أبو طالب (16/204)
توالى علينا موليانا كلاهما إذا سئلا قالا إلى غيرنا الأمربلى لهما أمر و لكن تراجما كما ارتجمت من رأس ذي القلع الصخرأخص خصوصا عبد شمس و نوفلا هما نبذانا مثل ما تنبذ الخمرهما أغمضا للقوم في أخويهما فقد أصبحت أيديهما و هما صفر
شرح نهج البلاغة ج : 15 ص : 234قديما أبوهم كان عبدا لجدنا بني أمة شهلاء جاش بها البحرلقد سفهوا أحلامهم في محمد فكانوا كجعر بئس ما ضفطت جعثم نرجع إلى حكاية شيخنا أبي عثمان و قد نمزجه بكلام آخر لنا أو لغيرنا ممن تعاطى الموازنة بين هذين البيتين. قال أبو عثمان فإن قالت أمية لنا الوليد بن يزيد بن عبد الملك بن مروان بن الحكم بن أبي العاص بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف بن قصي أربعة خلفاء في نسق قلنا لهم و لبني هاشم هارون الواثق بن محمد المعتصم بن هارون الرشيد بن محمد المهدي بن عبد الله المنصور بن محمد الكامل بن علي السجاد كان يصلي كل يوم و ليلة ألف ركعة فكان يقال له السجاد لعبادته و فضله و كان أجمل قريش على وجه الأرض و أوسمها ولد ليلة قتل علي بن أبي طالب ع فسمي باسمه و كني بكنيته فقال عبد الملك لا و الله لا أحتمل لك الاسم و لا الكنية فغير أحدهما فغير الكنية فصيرها أبا محمد بن عبد الله و هو البحر و هو حبر قريش و هو المفقه في الدين المعلم التأويل ابن العباس ذي الرأي و حليم قريش بن شيبة الحمد و هو عبد المطلب سيد الوادي بن عمرو و هو هاشم هشم الثريد و هو القمر سمي بذلك لجماله و لأنهم كانوا يقتدون و يهتدون برأيه ابن المغيرة و هو عبد مناف بن زيد و هو قصي و هو مجمع فهؤلاء ثلاثة عشر سيدا لم يحرم منهم واحد و لا قصر عن الغاية و ليس منهم واحد إلا و هو ملقب بلقب اشتق له من فعله الكريم و من خلقه الجميل و ليس منهم إلا خليفة أو موضع للخلافة أو سيد في قديم الدهر منيع أو ناسك مقدم أو فقيه بارع أو حليم ظاهر الركانة و ليس هذا لأحد سواهم و منهم خمسة خلفاء في نسق و هم أكثر مما عدته الأموية و لم يكن شرح نهج البلاغة ج : 15 : 235مروان كالمنصور لأن المنصور ملك البلاد و دوخ الأقطار و ضبط الأطراف اثنتين و عشرين سنة و كانت خلافة مروان على خلاف ذلك كله و إنما بقي في الخلافة تسعة أشهر حتى قتلته امرأته عاتكة (16/205)
بنت يزيد بن معاوية حين قال لابنها خالد من بعلها الأول يا ابن الرطبة و لئن كان مروان مستوجبا لاسم الخلافة مع قلة الأيام و كثرة الاختلاف و اضطراب البلدان فضلا عن الأطراف فابن الزبير أولى بذلك منه فقد كان ملك الأرض إلا بعض الأردن و لكن سلطان عبد الملك و أولاده لما اتصل بسلطان مروان اتصل عند القوم ما انقطع منه و أخفى موضع الوهن عند من لا علم له و سنو المهدي كانت سني سلامة و ما زال عبد الملك في انتقاض و انتكاث و لم يكن ملك يزيد كملك هارون و لا ملك الوليد كملك المعتصم. قلت رحم الله أبا عثمان لو كان اليوم لعد من خلفاء بني هاشم تسعة في نسق المستعصم بن المستنصر بن الطاهر بن المستضي ء بن لمستنجد بن المقتفي بن المستظهر بن المقتدر و الطالبيون بمصر يعدون عشرة في نسق الآمر بن المستعلي بن المستنصر بن الطاهر بن الحاكم بن العزيز بن المعتز بن المنصور بن القائم بن المهدي. قال أبو عثمان و تفخر عليهم بنو هاشم بأن سني ملكهم أكثر و مدته أطول فإنه قد بلغت مدة ملكهم إلى اليوم أربعا و تسعين سنة و يفخرون أيضا عليهم بأنهم ملكوا بالميراث و بحق العصبة و العمومة و إن ملكهم في مغرس نبوة و إن أسبابهم غير أسباب بني مروان بل ليس لبني مروان فيها سبب و لا بينهم و بينها نسب إلا أن يقولوا إنا من قريش فيساووا في هذا الاسم قريش الظواهر لأن رواية الراوي الأئمة من قريش واقعة على كل قرشي و أسباب الخلافة معروفة و ما يدعيه كل جيل معلوم و إلى كل ذلك قد ذهب الناس فمنهم من ادعاه لعلي ع لاجتماع القرابة و السابقة و الوصية فإن كان الأمر كذلك فليس لآل أبي سفيان و آل مروان فيها دعوى و إن كانت (16/206)
شرح نهج البلاغة ج : 15 ص : 236إنما تنال بالوراثة و تستحق بالعمومة و تستوجب بحق العصبة فليس لهم أيضا فيها دعوى و إن كانت لا تنال إلا بالسوابق و الأعمال و الجهاد فليس لهم في ذلك قدم مذكور و لا يوم مشهور بل كانوا إذ لم تكن لهم سابقة و لم يكن فيهم ما يستحقوبه الخلافة و لم يكن فيهم ما يمنعهم منها أشد المنع لكان أهون و لكان الأمر عليهم أيسر قد عرفنا كيف كان أبو سفيان في عداوة النبي ص و في محاربته له و إجلابه عليه و غزوة إياه و عرفنا إسلامه حيث أسلم و إخلاصه كيف أخلص و معنى كلمته يوم الفتح حين رأى الجنود و كلامه يوم حنين و قوله يوم صعد بلال على الكعبة فأذن على أنه إنما أسلم على يدي العباس رحمه الله و العباس هو الذي منع الناس من قتله و جاء به رديفا إلى رسول الله ص و سأله فيه أن يشرفه و أن يكرمه و ينوه به و تلك يد بيضاء و نعمة غراء و مقام مشهود و يوم حنين غير مجحود فكان جزاء بني هاشم من بنيه أن حاربوا عليا و سموا الحسن و قتلوا الحسين و حملوا النساء على الأقتاب حواسر و كشفوا عن عورة علي بن الحسين حين أشكل عليهم بلوغه كما يصنع بذراري المشركين إذا دخلت دورهم عنوة و بعث معاوية بسر بن أرطاة إلى اليمن فقتل ابني عبيد الله بن العباس و هما غلامان لم يبلغا الحلم و قتل عبيد الله بن زياد يوم الطف تسعة من صلب علي ع و سبعة من صلب عقيل و لذلك قال ناعيهم (16/207)
عين جودي بعبرة و عويل و اندبي إن ندبت آل الرسول تسعة كلهم لصلب علي قد أصيبوا و سبعة لعقيلثم إن أمية تزعم أن عقيلا أعان معاوية على علي ع فإن كانوا كاذبين فما أولاهم بالكذب و إن كانوا صادقين فما جازوا عقيلا بما صنع و ضرب عنق مسلم شرح نهج البلاغة ج : 15 ص : 237بن عقيل صبرا و غدرا بعد الأمان و قتلوا معه هانئ بن عروة لأنه آواه و نصره و لذلك قال ااعر
فإن كنت لا تدرين ما الموت فانظري إلى هانئ في السوق و ابن عقيل تري بطلا قد هشم السيف وجهه و آخر يهوي من طمار قتيلو أكلت هند كبد حمزة فمنهم آكلة الأكباد و منهم كهف النفاق و منهم من نقر بين ثنيتي الحسين ع بالقضيب و منهم القاتل يوم الحرة عون بن عبد الله بن جعفر و يوم الطف أبا بكر بن عبد الله بن جعفر و قتل يوم الحرة أيضا من بني هاشم الفضل بن عباس بن ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب و العباس بن عتبة بن أبي لهب بن عبد المطلب و عبد الرحمن بن العباس بن ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب. قلت إن أبا عثمان قايس بين مدتي ملكهما و هو حينئذ في أيام الواثق ففضل هؤلاء عليهم لأن ملكهم أطول من ملكهم بعشر سنين فكيف به لو كان اليوم حيا و قد امتد ملكهم خمسمائة و ست عشرة سنة و هذا أكثر من ملك البيت الثالث من ملوك الفرس بنحو ثلاثين سنة و أيضا فإن كان الفخر بطول مدة الملك فبنو هاشم قد كان لهم أيضا ملك بمصر نحو مائتين و سبعين سنة مع ما ملكوه بالمغرب قبل أن ينتقلوا إلى مصر شرح نهج البلاغة ج : 15 ص :38قال أبو عثمان و قالت هاشم لأمية قد علم الناس ما صنعتم بنا من القتل و التشريد لا لذنب أتيناه إليكم ضربتم علي بن عبد الله بن عباس بالسياط مرتين على أن تزوج بنت عمه الجعفرية التي كانت عند عبد الملك و على أن نحلتموه قتل سليط و سممتم أبا هاشم عبد الله بن محمد بن علي بن أبي طالب ع و نبشتم زيدا و صلبتموه و ألقيتم رأسه في عرصة الدار توطأ بالأقدام و ينقر دماغه الدجاج حتى قال القائل (16/208)
اطرد الديك عن ذؤابة زيد طالما كان لا تطأه الدجاج
و قال شاعركم أيضا
صلبنا لكم زيدا على جذع نخلة و لم نر مهديا على الجذع يصلب و قستم بعثمان عليا سفاهة و عثمان خير من علي و أطيبفروي أن بعض الصالحين من أهل البيت ع قال اللهم إن كان كاذبا فسلط عليه كلبا من كلابك فخرج يوما بسفر له فعرض له الأسد فافترسه و قتلتم الإمام جعفرا الصادق ع و قتلتم يحيى بن زيد و سميتم قاتله ثائر مروان و ناصر الدين هذا إلى ما صنع سليمان بن حبيب بن المهلب عن أمركم و قولكم بعبد الله أبي جعفر المنصور قبل الخلافة و ما صنع مروان بإبراهيم الإمام أدخل رأسه في جراب نورة حتى مات فإن أنشدتم (16/209)
أفاض المدامع قتلى كدى و قتلى بكثوة لم ترمس و بالزابيين نفوس ثوت و أخرى بنهر أبي فطرسأنشدنا نحن
و اذكروا مصرع الحسين و زيدا و قتيلا بجانب المهراس
شرح نهج البلاغة ج : 15 ص : 239و القتيل الذي بنجران أمسى ثاويا بين غربة و تناو قد علمتم حال مروان أبيكم و ضعفه و أنه كان رجلا لا فقه له و لا يعرف بالزهد و لا الصلاح و لا برواية الآثار و لا بصحبة و لا ببعد همة و إنما ولي رستاقا من رساتيق درابجرد لابن عامر ثم ولي البحرين لمعاوية و قد كان جمع أصحابه و من تابعه ليبايع ابن الزبير حتى رده عبيد الله بن زياد و قال يوم مرج راهط و الرءوس تندر عن كواهلها في طاعته
و ما ضرهم غير حين النفوس و أي غلامي قريش غلب
هذا قول من لا يستحق أن يلي ربعا من الأرباع و لا خمسا من الأخماس و هو أحد من قتلته النساء لكلمة كان حتفه فيها. و أما أبوه الحكم بن العاص فهو طريد رسول الله ص و لعينه و المتخلج في مشيته الحاكي لرسول الله ص و المستمع عليه ساعة خلوته ثم صار طريدا لأبي بكر و عمر امتنعا عن إعادته إلى المدينة و لم يقبلا شفاعة عثمان فلما ولي أدخله فكان أعظم الناس شؤما عليه و من أكبر الحجج في قتله و خلعه من الخلافة فعبد الملك أبو هؤلاء الملوك الذين تفتخر الأموية بهم أعرق الناس في الكفر لأن أحد أبويه الحكم هذا و الآخر من قبل أمه معاوية بن المغيرة بن أبي العاص كان النبي ص طرده من المدينة و أجله ثلاثا فحيره الله تعالى حين خرج و بقي مترددا متلددا حولها لا يهتدي لسبيله حتى أرسل في أثره عليا ع و عمارا فقتلاه فأنتم أعرق الناس في الكفر و نحن أعرق الناس في الإيمان و لا يكون أمير المؤمنين إلا أولاهم بالإيمان و أقدمهم فيه. قال أبو عثمان و تفخر هاشم بأن أحدا لم يجد تسعين عاما لا طواعين فيها إلا منذ ملكوا قالوا لو لم يكن من بركة دعوتنا إلا أن تعذيب الأمراء بعمال الخراج شرح نهج البلاغة ج : 15 ص : 240بالتعليق و الزهق و التجريد و التسهير و المسالد النورة و الجورتين و العذراء و الجامعة و التشطيب قد ارتفع لكان ذلك خيرا كثيرا و في الطاعون يقول العماني الراجز يذكر دولتنا (16/210)
قد رفع الله رماح الجن و أذهب التعذيب و التجني
و العرب تسمي الطواعين رماح الجن و في ذلك يقول الشاعر
لعمرك ما خشيت على أبي رماح بني مقيدة الحمارو لكني خشيت على أبي رماح الجن أو إياك حار
يقول بعض بني أسد للحارث الغساني الملك. قال أبو عثمان و تفخر هاشم عليهم بأنهم لم يهدموا الكعبة و لم يحولوا القبلة و لم يجعلوا الرسول دون الخليفة و لم يختموا في أعناق الصحابة و لم يغيروا أوقات الصلاة و لم ينقشوا أكف المسلمين و لم يأكلوا الطعام و يشربوا على منبر رسول الله ص و لم ينهبوا الحرم و لم يطئوا المسلمات دار في الإسلام بالسباء. قلت نقلت من كتاب افتراق هاشم و عبد شمس لأبي الحسين محمد بن علي بن نصر المعروف بابن أبي رؤبة الدباس قال كان بنو أمية في ملكهم يؤذنون و يقيمون في العيد و يخطبون بعد الصلاة و كانوا في سائر صلاتهم لا يجهرون بالتكبير في الركوع و السجود و كان لهشام بن عبد الملك خصي إذا سجد هشام و هو يصلي في المقصورة قال لا إله إلا الله فيسمع الناس فيسجدون و كانوا يقعدون في إحدى خطبتي العيد و الجمعة و يقومون في الأخرى قال و رأى كعب مروان بن الحكم يخطب قاعدا فقال انظروا شرح نهج البلاغة ج : 15 ص : 241إلى هذا يخطب قاعدا و الله تعالى يقول لرسوله وَ تَرَكُوكَ قائِماً. قال و أول من قعد في الخطب معاوية و أول من أذن و أقام في صلاة العيد بشر بن مروان و كان عمال بني أمية يأخذون الجزية ممن أسلم من أهل الذمة و يقول هؤلاء فروا من الجزية و يأخذون الصدقة من الخيل و ربما دخلوا دار الرجل قد نفق فرسه أو باعه فإذا أبصروا الآخية قالوا قد كان هاهنا فرس فهات صدقتها و كانوا يؤخرون صلاة الجمعة تشاغلا عنها بالخطبة و يطيلون فيها إلى أن تتجاوز وقت العصر و تكاد الشمس تصفر فعل ذلك الوليد بن عبد الملك و يزيد أخوه و الحجاج عاملهم و وكل بهم الحجاج المسالخ معه و السيوف على رءوسهم فلا يستطيعون أن يصلوا الجمعة في وقتها. و قال الحسن البصري وا عجبا من أخيفش أعيمش جاءنا ففتننا عن ديننا و صعد على منبرنا فيخطب و الناس يلتفتون إلى الشمس فيقول ما بالكم تلتفتون إلى الشمس إنا و الله ما نصلي للشمس إنما نصلي لرب (16/211)
الشمس أ فلا تقولون يا عدو الله إن لله حقا بالليل لا يقبله بالنهار و حقا بالنهار لا يقبله بالليل ثم يقول الحسن و كيف يقولون ذلك و على رأس كل واحد منهم علج قائم بالسيف قال و كانوا يسبون ذراري الخوارج من العرب و غيرهم لما قتل قريب و زحاف الخارجيان سبى زياد ذراريهما فأعطى شقيق بن ثور السدوسي إحدى بناتهما و أعطى عباد بن حصين الأخرى و سبيت بنت لعبيدة بن هلال اليشكري و بنت لقطري بن الفجاءة المازني فصارت هذه إلى العباس بن الوليد بن عبد الملك و اسمها أم سلمة شرح نهج البلاغة ج : 15 ص : 242فوطئها بملك اليمين على رأيهم فولدت له المؤمل و محمدا و إبراهيم و أحمد و حصينا بني عباس بن الوليد بن عبد الملك و سبي واصل بن عمرو القنا و استرق و سبي سعيد الصغير الحروري و استرق و أم يزيد بن عمر بن هبيرة و كانت من سبي عن الذين سباهم مجاعة و كانت بنو أمية تبيع الرجل في الدين يلزمه و ترى أنه يصير بذلك رقيقا. كان معن أبو عمير بن معن الكاتب حرا مولى لبني العنبر فبيع في دين عليه فاشتراه أبو سعيد بن زياد بن عمرو العتكي و باع الحجاج علي بن بشير بن الماحوز لكونه قتل رسول المهلب على رجل من الأزد. فأما الكعبة فإن الحجاج في أيام عبد الملك هدمها و كان الوليد بن يزيد يصلي إذا صلى أوقات إفاقته من السكر إلى غير القبلة فقيل له فقرأ فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ. و خطب الحجاج بالكوفة فذكر الذين يزورون قبر رسول الله ص بالمدينة فقال تبا لهم إنما يطوفون بأعواد و رمة بالية هلا طافوا بقصر أمير المؤمنين عبد الملك أ لا يعلمون أن خليفة المرء خير من رسوله. قال و كانت بنو أمية تختم في أعناق المسلمين كما توسم الخيل علامة لاستعبادهم. و بايع مسلم بن عقبة أهل المدينة كافة و فيها بقايا الصحابة و أولادها و صلحاء التابعين على أن كلا منهم عبد قن لأمير المؤمنين يزيد بن معاوية إلا علي بن الحسين ع فإنه بايعه على أنه أخوه و (16/212)
ابن عمه. قال و نقشوا أكف المسلمين علامة لاسترقاقهم كما يصنع بالعلوج من الروم و الحبشة و كانت خطباء بني أمية تأكل و تشرب على المنبر يوم الجمعة لإطالتهم (16/213)
شرح نهج البلاغة ج : 15 ص : 243في الخطبة و كان المسلمون تحت منبر الخطبة يأكلون و يشربون قال أبو عثمان و يفخر بنو العباس على بني مروان و هاشم على عبد شمس بأن الملك كان في أيديهم فانتزعوه منهم و غلبوهم بالبطش الشديد و بالحيلة اللطيفة ثم لم ينزعوه إلا من يدشجعهم شجاعة و أشدهم تدبيرا و أبعدهم غورا و من نشأ في الحروب و ربي في الثغور و من لا يعرف إلا الفتوح و سياسة الجنود ثم أعطى الوفاء من أصحابه و الصبر من قواده فلم يغدر منهم غادر و لا قصر منهم مقصر كما قد بلغك عن حنظلة بن نباتة و عامر بن ضبارة و يزيد بن عمر بن هبيرة و لا أحد من سائر قواده حتى من أحبابه و كتابه كعبد الحميد الكاتب ثم لم يلقه و لا لقي تلك الحروب في عامة تلك الأيام إلا رجال ولد العباس بأنفسهم و لا قام بأكثر الدولة إلا مشايخهم كعبد الله بن علي و صالح بن علي و داود بن علي و عبد الصمد بن علي و قد لقيهم المنصور نفسه. قال و تفخر هاشم أيضا عليهم
بقول النبي ص و هو الصادق المصدق نقلت من الأصلاب الزاكية إلى الأرحام الطاهرة و ما افترقت فرقتان إلا كنت في خيرهما
و قال أيضا بعثت من خيرة قريش
و معلوم أن بني عبد مناف افترقوا فكانت هاشم و المطلب يدا و عبد شمس و نوفل يدا قال و إن كان الفخر بكثرة العدد فإنه من أعظم مفاخر العرب فولد علي بن عبد الله بن العباس اليوم مثل جميع بني عبد شمس و كذلك ولد الحسين بن علي ع هذا مع قرب ميلادهما و
قد قال النبي ص شوهاء ولود خير من حسناء عقيم
و قال أنا مكاثر بكم الأمم
و قد روى الشعبي عن جابر بن عبد الله أن النبي ص قدم من سفر شرح نهج البلاغة ج : 15 ص : 244فأراد الرجال أن يطرقوا النساء ليلا فقال أمهلوا حتى تمتشط الشعثة و تستحد المغيبة فإذا قدمتم فالكيس الكيسقالوا ذهب إلى طلب الولد و كانت العرب تفخر بكثرة الولد و تمدح الفحل القبيس و تذم العاقر و العقيم. و قال عامر بن الطفيل يعني نفسه (16/214)
لبئس الفتى إن كنت أعور عاقرا جبانا فما عذري لدى كل محضر
و قال علقمة بن علاثة يفخر على عامر آمنت و كفر و وفيت و غدر و ولدت و عقر. و قال الزبرقان
فاسأل بني سعد و غيرهم يوم الفخار فعندهم خبري أي امرئ أنا حين يحضرني رفد العطاء و طالب النصرو إذا هلكت تركت وسطهم ولدي الكرام و نابه الذكرو قال طرفة بن العبد
فلو شاء ربي كنت قيس بن خالد و لو شاء ربي كنت عمرو بن مرثدفأصبحت ذا مال كثير و عادني بنون كرام سادة لمسود
و مدح النابغة الذبياني ناسا فقال
لم يحرموا طيب النساء و أمهم طفحت عليك بناتق مذكار
شرح نهج البلاغة ج : 15 ص : 245و قال نهشل بن حريعلى بني يشد الله عظمهم و النبع ينبت قضبانا فيكتهل
و مكث الفرزدق زمانا لا يولد له فعيرته امرأته فقال
قالت أراه واحدا لا أخا له يؤمله في الوارثين الأباعدلعلك يوما أن تريني كأنما بني حوالي الليوث الحواردفإن تميما قبل أن يلد الحصى أقام زمانا و هو في الناس واحد
و قال الآخر و قد مات إخوته و ملأ حوضه ليسقي فجاء رجل صاحب عشيرة و عترة فأخذ بضبعه فنحاه ثم قال لراعيه اسق إبلك
لو كان حوض حمار ما شربت به إلا بإذن حمار آخر الأبدلكنه حوض من أودى بإخوته ريب المنون فأمسى بيضة البلدلو كان يشكي إلى الأموات ما لقي الحياء بعدهم من قلة العددثم اشتكيت لأشكاني و أنجدني قبر بسنجار أو قبر على فحد
و قال الأعشى و هو يذكر الكثرة
و لست بالأكثر منهم حصى و إنما العزة للكاثر
قال و قد ولد رجال من العرب كل منهم يلد لصلبه أكثر من مائة فصاروا بذلك مفخرا منهم عبد الله بن عمير الليثي و أنس بن مالك الأنصاري و خليفة بن بر السعدي أتى على عامتهم الموت الجارف و مات جعفر بن سليمان بن علي بن عبد الله بن العباس عن ثلاثة و أربعين ذكرا و خمس و ثلاثين امرأة كلهم لصلبه فما ظنك بمن مات من ولده في حياته و ليس طبقة من طبقات الأسنان الموت إليها أسرع و فيها أعم شرح نهج البلاغة ج : 15 ص : 246و أفشى من سن الطفولية و أمر جعفر بن سليمان قد عاينه عالم من الناس و عامتهم أحياء و ليس خبر جعفر كخبر غيره من ناس. قال الهيثم بن عدي أفضى الملك إلى ولد العباس و جميع ولد العباس يومئذ من الذكور ثلاثة و أربعون رجلا و مات جعفر بن سليمان وحده عن مثل ذلك العدد من الرجال و ممن قرب ميلاده و كثر نسله حتى صار كبعض القبائل و العمائر أبو بكر صاحب رسول الله ص و المهلب بن أبي صفرة و مسلم بن عمرو الباهلي و زياد بن عبيد أمير العراق و مالك بن مسمع و ولد جعفر بن سليمان اليوم أكثر عددا من أهل هذه القبائل و أربعة من قريش ترك كل واحد منهم عشرة بنين مذكورين معروفين و هم عبد المطلب بن هاشم و المطلب بن عبد مناف و أمية بن عبد شمس و المغيرة بن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم و ليس على ظهر الأرض هاشمي إلا من ولد عبد المطلب و لا يشك أحد أن عدد الهاشميين شبيه بعدد الجميع فهذا ما في الكثرة و القلة. قلت رحم الله أبا عثمان لو كان حيا اليوم لرأى ولد الحسن و الحسين ع أكثر من جميع العرب الذين كانوا في الجاهلية على عصر النبي ص المسلمين منهم و الكافرين لأنهم لو أحصوا لما نقص ديوانهم عن مائتي ألف إنسان. قال أبو عثمان و إن كان الفخر بنبل الرأي و صواب القول فمن مثل عباس بن عبد المطلب و عبد الله بن العباس و إن كان في الحكم و السؤدد و أصالة الرأي و الغناء العظيم فمن مثل عبد المطلب و إن كان إلى الفقه و العلم بالتأويل (16/215)
و معرفة التأويل و إلى القياس السديد و إلى الألسنة الحداد و الخطب الطوال فمن مثل علي بن أبي طالب ع و عبد الله بن عباس. شرح نهج البلاغة ج : 15 ص : 247قالوا خطبنا عبد الله بن عباس خطبة بمكة أي حصار عثمان لو شهدها الترك و الديلم لأسلموا. و في عبد الله بن العباس يقول حسان بن ثابت (16/216)
إذا قال لم يترك مقالا لقائل بملتقطات لا ترى بينها فضلاشفى و كفى ما في النفوس فلم يدع لذي إربة في القول جدا و لا هزلا
و هو البحر و هو الحبر و كان عمر يقول له في حداثته عند إجالة الرأي غص يا غواص و كان يقدمه على جلة السلف. قلت أبى أبو عثمان إلا إعراضا عن علي ع هلا قال فيه كما قال في عبد الله فلعمري لو أراد لوجد مجالا و لألفى قولا وسيعا و هل تعلم الناس الخطب و العهود و الفصاحة إلا من كلام علي ع و هل أخذ عبد الله رحمه الله الفقه و تفسير القرآن إلا عنه فرحم الله أبا عثمان لقد غلبت البصرة و طينتها على إصابة رأيه. قال أبو عثمان و إن كان الفخر في البسالة و النجدة و قتل الأقران و جزر الفرسان فمن كحمزة بن عبد المطلب و علي بن أبي طالب و كان الأحنف إذا ذكر حمزة قال أكيس و كان لا يرضى أن يقول شجاع لأن العرب كانت تجعل ذلك أربع طبقات فتقول شجاع فإذا كان فوق ذلك قالت بطل فإذا كان فوق ذلك قالت بهمة فإذا كان فوق ذلك قالت أكيس و قال العجاج
أكيس عن حوبائه سخي
و هل أكثر ما يعد الناس من جرحاهما و صرعاهما إلا سادتكم و أعلامكم قتل حمزة و علي ع عتبة و الوليد و قتلا شيبة أيضا شركا عبيدة بن الحارث فيه و قتل علي ع حنظلة بن أبي سفيان فأما آباء ملوككم من بني مروان فإنهم كما قال شرح نهج البلاغة ج : 15 ص : 248عبد الله بنلزبير لما أتاه خبر المصعب إنا و الله ما نموت حبجا كما يموت آل أبي العاص و الله ما قتل منهم قتيل في جاهلية و لا إسلام و ما نموت إلا قتلا قعصا بالرماح و موتا تحت ظلال السيوف. قال أبو عثمان كأنه لم يعد قتل معاوية بن المغيرة بن أبي العاص قتلا إذ كان إنما قتل في غير معركة و كذلك قتل عثمان بن عفان إذ كان إنما قتل محاصرا و لا قتل مروان بن الحكم لأنه قتل خنقا خنقته النساء قال و إنما فخر عبد الله بن الزبير بما في بني أسد بن عبد العزى من القتلى لأن من شأن العرب أن يفخروا بذلك كيف كانوا قاتلين أو مقتولين أ لا ترى أنك لا تصيب كثرة القتلى إلا في القوم المعروفين بالبأس و النجدة و بكثرة اللقاء و المحاربة كآل أبي طالب و آل الزبير و آل المهلب. قال و في آل الزبير خاصة سبعة مقتولون في نسق و لم يوجد ذلك في غيرهم قتل عمارة و حمزة ابنا عبد الله بن الزبير يوم قديد في المعركة قتلهما الإباضية و قتل عبد الله بن الزبير في محاربة الحجاج و قتل مصعب بن الزبير بدير الجاثليق في المعركة أكرم قتل و بإزائه عبد الملك بن مروان و قتل الزبير بوادي السباع منصرفه عن وقعة الجمل و قتل العوام بن خويلد في حرب الفجار و قتل خويلد بن أسد بن عبد العزى في حرب خزاعة فهؤلاء سبعة في نسق. قال و في بني أسد بن عبد العزى قتلى كثيرون غير هؤلاء قتل المنذر بن الزبير بمكة قتله أهل الشام في حرب الحجاج و هو على بغل ورد كان نفر به فأصعد به في الجبل شرح نهج البلاغة ج : 15 ص : 249و إياه يعني يزيد بن مفرغ الحميري و هو يهجو حبكم عبيد الله بن زياد و يعيره بفراره يوم البصرة (16/217)
لابن الزبير غداة تدمر منذرا أولى بكل حفيظة و دفاع (16/218)
و قتل عمرو بن الزبير قتله أخوه عبد الله بن الزبير و كان في جوار أخيه عبيدة بن الزبير فلم يغن عنه فقال الشاعر يحرض عبيدة على قتل أخيه عبد الله بن الزبير و يعيره بإخفاره جوار عمرو أخيهما
أ عبيد لو كان المجير لولولت بعد الهدو برنة أسماءأ عبيد إنك قد أجرت و جاركم تحت الصفيح تنوبه الأصداءاضرب بسيفك ضربة مذكورة فيها أداء أمانه و وفاء
و قتل بجير بن العوام أخو الزبير بن العوام قتله سعد بن صفح الدوسي جد أبي هريرة من قبل أمه قتله بناحية اليمامة و قتل معه أصرم و بعلك أخويه ابني العوام بن خويلد و قد قتل منهم في محاربة النبي ص قوم مشهورون منهم زمعة بن الأسود بن المطلب بن أسد بن عبد العزى كان شريفا قتل يوم بدر و أبوه الأسود كان المثل يضرب بعزته بمكة و فيه قال رسول الله ص و هو يذكر عاقر الناقة كان عزيزا منيعا كأبي زمعة و يكنى زمعة بن الأسود أبا حكيمة و قتل الحارث بن الأسود بن المطلب يوم بدر أيضا و قتل عبد الله بن حميد بن زهير بن الحارث بن الأسود بن المطلب بن أسد يوم بدر أيضا و قتل نوفل بن خويلد يوم بدر أيضا قتله علي بن أبي طالب ع و قتل يوم الحرة يزيد بن عبد الله بن زمعة بن الأسود ضرب عنقه مسرف بن عقبة صبرا قال له بايع لأمير المؤمنين يزيد شرح نهج البلاغة ج : 15 ص : 250بن معاوية على أنك عبد قن لهال بل أبايعه على أني أخوه و ابن عمه فضرب عنقه و قتل إسماعيل بن هبار بن الأسود ليلا و كان ادعى حيلة فخرج مصرخا لمن استصرخه فقتل فاتهم به مصعب بن عبد الله بن عبد الرحمن فأحلفه معاوية خمسين يمينا و خلى سبيله فقال الشاعر
و لا أجيب بليل داعيا أبدا أخشى الغرور كما غر ابن هبارباتوا يجرونه في الحش منعقرا بئس الهدية لابن العم و الجار
و قتل عبد الرحمن بن العوام بن خويلد في خلافة عمر بن الخطاب في بعض المغازي و قتل ابنه عبد الرحمن يوم الدار مع عثمان فعبد الله بن عبد الرحمن بن العوام بن خويلد قتيل ابن قتيل ابن قتيل ابن قتيل أربعة و من قتلاهم عيسى بن مصعب بن الزبير قتل بين يدي أبيه بمسكن في حرب عبد الملك و كان مصعب يكنى أبا عيسى و أبا عبد الله و فيه يقول الشاعر (16/219)
لتبك أبا عيسى و عيسى كلاهما موالي قريش كهلها و صميمها
و منهم مصعب بن عكاشة بن مصعب بن الزبير قتل يوم قديد في حرب الخوارج و قد ذكره الشاعر فقال
قمن فاندبن رجالا قتلوا بقديد و لنقصان العددثم لا تعدلن فيها مصعبا حين يبكى من قتيل بأحدإنه قد كان فيها باسلا صارما يقدم إقدام الأسد
و منهم خالد بن عثمان بن خالد بن الزبير خرج مع محمد بن عبد الله بن حسن بن حسن فقتله أبو جعفر و صلبه و منهم عتيق بن عامر بن عبد الله بن الزبير قتل بقديد أيضا و سمي عتيقا باسم جده أبي بكر الصديق. شرح نهج البلاغة ج : 15 ص : 251قلت هذا أيضا من تحامل أبي عثمانلا ذكر قتلى الطف و هم عشرون سيدا من بيت واحد قتلوا في ساعة واحدة و هذا ما لم يقع مثله في الدنيا لا في العرب و لا في العجم. و لما قتل حذيفة بن بدر يوم الهباءة و قتل معه ثلاثة أو أربعة من أهل بيته ضربت العرب بذلك الأمثال و استعظموه فجاء يوم الطف جرى الوادي فطم على القري. و هلا عدد القتلى من آل أبي طالب فإنهم إذا عدوا إلى أيام أبي عثمان كانوا عددا كثيرا أضعاف ما ذكره من قتلى الأسديين قال أبو عثمان و إن كان الفخر و الفضل في الجود و السماح فمن مثل عبد الله بن جعفر بن أبي طالب و من مثل عبيد الله بن العباس بن عبد المطلب. و قد اعترضت الأموية هذا الموضع فقالت إنما كان عبد الله بن جعفر يهب ما كان معاوية و يزيد يهبان له فمن فضل جودنا جاد. قالوا و معاوية أول رجل في الأرض وهب ألف ألف درهم و ابنه أول من ضاعف ذلك فإنه كان يجيز الحسن و الحسين ابني علي ع في كل عام لكل واحد منهما بألف ألف درهم و كذلك كان يجيز عبد الله بن العباس و عبد الله بن جعفر فلما مات و قام يزيد وفد عليه عبد الله بن جعفر فقال له إن أمير المؤمنين معاوية كان يصل رحمي في كل سنة بألف ألف درهم قال فلك ألفا ألف درهم فقال بأبي أنت و أمي أما إني ما قلتها لابن أنثى قبلك قال فلك أربعة آلاف ألف درهم. و هذا الاعتراض ساقط لأن ذلك إن صح لم يعد جودا و لا جائزة و لا صلة رحم هؤلاء (16/220)
شرح نهج البلاغة ج : 15 ص : 252قوم كان يخافهم على ملكه و يعرف حقهم فيه و موقعهم من قلوب الأمة فكان يدبر في ذلك تدبيرا و يريع أمورا و يصانع عن دولته و ملكه و نحن لم نعد قط ما أعطى خلفاء بني هاشم قوادهم و كتابهم و بني عمهم جودا فقد وهب المأمون للحسن بن سهللة عشرة آلاف ألف فما عد ذلك منه مكرمة و كذلك كل ما يكون داخلا في باب التجارة و استمالة القلوب و تدبير الدولة و إنما يكون الجود ما يدفعه الملوك في الوفود و الخطباء و الشعراء و الأشراف و الأدباء و السمار و نحوهم و لو لا ذلك لكان الخليفة إذا وفى الجند أعطياتهم احتسب ذلك في جوده فالعمالات شي ء و الإعطاء على دفع المكروه شي ء و التفضل و الجود شي ء ثم إن الذين أعطاهم معاوية و يزيد هو بعض حقهم و الذي فضل عليهما أكثر مما خرج منهما. و إن أريد الموازنة بين ملوك بني العباس و ملوك بني أمية في العطاء افتضح بنو أمية و روهم فضيحة ظاهرة فإن نساء خلفاء بني عباس أكثر معروفا من رجال بني أمية و لو ذكرت معروف أم جعفر وحدها لأتى ذلك على جميع صنائع بني مروان و ذلك معروف و لو ذكر معروف الخيزران و سلسبيل لملئت الطوامير الكثيرة به و ما نظن خالصة مولاتهم إلا فوق أجواد أجوادهم و إن شئت أن تذكر مواليهم و كتابهم فاذكر عيسى بن ماهان و ابنه عليا و خالد بن برمك و ابنه يحيى و ابنه جعفرا و الفضل و كاتبهم منصور بن زياد و محمد بن منصور و فتى العسكر فإنك تجد لكل واحد من هؤلاء ما يحيط بجميع صنائع بني عبد شمس. فأما ملوك الأموية فليس منهم إلا من كان يبخل على الطعام و كان جعفر بن سليمان كثيرا ما يذكر ذلك و كان معاوية يبغض الرجل النهم على مائدته و كان شرح نهج البلاغة ج : 15 ص : 253المنصور إذا ذكرهم يقول كان عبد الملك جبارا لا يبالي ما صنع و كان الوليد مجنونا و كان سليمان همه بطنه و فرجه و كان عمر أر بين عميان و كان هشام رجل القوم و كان لا يذكر ابن عاتكة و لقد كان (16/221)
هشام مع ما استثناه به يقول هو الأحول السراق ما زال يدخل إعطاء الجند شهرا في شهر و شهرا في شهر حتى أخذ لنفسه مقدار رزق سنة و أنشده أبو النجم العجلي أرجوزته التي أولها (16/222)
ألحد لله الوهوب المجزل
فما زال يصفق بيديه استحسانا لها حتى صار إلى ذكر الشمس فقال
و الشمس في الأفق كعين الأحول
فأمر بوج ء عنقه و إخراجه و هذا ضعف شديد و جهل عظيم. و قال خاله إبراهيم بن هشام المخزومي ما رأيت من هشام خطأ قط إلا مرتين حدا به الحادي مرة فقال إن عليك أيها البختي أكرم من تمشي به المطي
فقال صدقت و قال مرة و الله لأشكون سليمان يوم القيامة إلى أمير المؤمنين عبد الملك و هذا ضعف شديد و جهل مفرط. و قال أبو عثمان و كان هشام يقول و الله إني لأستحيي أن أعطي رجلا أكثر من أربعة آلاف درهم ثم أعطى عبد الله بن الحسن أربعة آلاف دينار فاعتدها في جوده و توسعه و إنما اشترى بها ملكه و حصن بها عن نفسه و ما في يديه قال له أخوه مسلمة أ تطمع أن تلي الخلافة و أنت بخيل جبان فقال و لكني حليم عفيف فاعترف بالجبن و البخل و هل تقوم الخلافة مع واحد منهما و إن قامت فلا تقوم إلا مع الخطر العظيم و التغرير الشديد و لو سلمت من الفساد لم تسلم من العيب. شرح نهج البلاغة ج : 15 ص : 254و لقد قدم المنصور عليهم عمر بن عبد العزيز بقوله أعور بين عميان و زعمتم أنه كان ناسكا ورعا تقيا فكيف و قد جلد خبيب بن عبد الله بن الزبير مائة جلدة و صب على رأسه جرة من ماء بارد في يوم شات حتى كز ات فما أقر بدمه و لا خرج إلى وليه من حقه و لا أعطى عقلا و لا قودا و لا كان خبيب ممن أتت عليه حدود الله و أحكامه و قصاصه فيقال كان مطيعا بإقامتها و أنه أزهق الحد نفسه و احتسبوا الضرب كان أدبا و تعزيرا فما عذره في الماء البارد في الشتاء على أثر جلد شديد و لقد بلغه أن سليمان بن عبد الملك يوصي فجاء حتى جلس على طريق من يجلس عنده أو يدخل إليه فقال رجاء بن حيوة في بعض من يدخل و من يخرج نشدتك الله أن تذكرني لهذا الأمر أو تشير بي في هذا الشأن فو الله ما لي عليه من طاقة فقال له رجاء قاتلك الله ما أحرصك عليها. و لما جاء الوليد بن عبد الملك بنعي الحجاج قال له الوليد مات الحجاج يا أبا حفص فقال و هل كان الحجاج إلا رجلا منا أهل البيت و قال في خلافته لو لا بيعة في أعناق الناس ليزيد بن عاتكة لجعلت هذا الأمر شورى بين صاحب الأعوص إسماعيل بن أمية بن عمرو بن سعيد الأشدق و بين أحمس قريش القاسم بن محمد بن أبي بكر و بين سالم بن عبد الله بن عمر (16/223)
فما كان عليه من الضرر و الحرج و ما كان عليه من الوكف و النقص أن لو قال بين علي بن العباس و علي بن الحسين بن علي و على أنه لم يرد التيمي و لا العدوي و إنما دبر الأمر للأموي و لم يكن عنده أحد من هاشم يصلح للشورى ثم دبر الأمر ليبايع لأخيه أبي بكر بن عبد العزيز من بعده حتى عوجل بالسم. و قدم عليه عبد الله بن حسن بن حسن فلما رأى كماله و بيانه و عرف نسبه و مركبه (16/224)
شرح نهج البلاغة ج : 15 ص : 255و موضعه و كيف ذلك من قلوب المسلمين و في صدور المؤمنين لم يدعه يبيت بالشام ليلة واحدة و قال له الحق بأهلك فإنك لم تغنهم شيئا هو أنفس منك و لا أرد عليهم من حياتك أخاف عليك طواعين الشام و ستلحقك الحوائج على ما تشتهي و تحب. و إا كره أن يروه و يسمعوا كلامه فلعله يبذر في قلوبهم بذرا و يغرس في صدورهم غرسا و كان أعظم خلق قولا بالجبر حتى يتجاوز الجهمية و يربي على كل ذي غاية صاحب شنعة و كان يصنع ذلك الكتب مع جهله بالكلام و قلة اختلافه إلى أهل النظر و قال له شوذب الخارجي لم لا تلعن رهطك و تذكر أباك إن كانوا عندك ظلمة فجرة فقال عمر متى عهدك بلعن فرعون قال ما لي به عهد قال أ فيسعك أن تمسك عن لعن فرعون و لا يسعني أن أمسك عن لعن آبائي فرأى أنه قد خصمه و قطع حجته و كذلك يظنه كل من قصر عن مقدار العالم و جاوز مقدار الجاهل و أي شبه لفرعون بآل مروان و آل أبي سفيان هؤلاء قوم لهم حزب و شيعة و ناس كثير يدينون بتفضيلهم و قد اعتورتهم الشبه في أمرهم و فرعون على خلاف ذلك و ضده لا شيعة له و لا حزب و لا نسل و لا موالي و لا صنائع و لا في أمره شبهة ثم إن عمر ظنين في أمر أهله فيحتاج إلى غسل ذلك عنه بالبراءة منهم و شوذب ليس بظنين في أمر فرعون و ليس الإمساك عن لعن فرعون و البراءة منه مما يعرفه الخوارج فكيف استويا عنده. و شكا إليه رجل من رهطه دينا فادحا و عيالا كثيرا فاعتل عليه فقال له فهلا اعتللت على عبد الله بن الحسن قال و
متى شاورتك في أمري قال أو مشيرا شرح هج البلاغة ج : 15 ص : 256تراني قال أو هل أعطيته إلا بعض حقه قال و لم قصرت عن كله فأمر بإخراجه و ما زال إلى أن مات محروما منه. و كان عمال أهله على البلاد عماله و أصحابه و الذي حسن أمره و شبه على الأغنياء حاله أنه قام بعقب قوم قد بدلوا عامة شرائع الدين و سن النبي ص و كان الناس قبله من الظلم و الجور و التهاون بالإسلام في أمر صغر في جنبه عاينوا منه و ألفوه عليه فجعلوه بما نقص من تلك الأمور الفظيعة في عداد الأئمة الراشدين و حسبك من ذلك أنهم كانوا يلعنون عليا ع على منابرهم فلما نهى عمر عن ذلك عد محسنا و يشهد لذلك قول كثير فيه (16/225)
و ليت فلم تشتم عليا و لم تخف بريا و لم تتبع مقالة مجرم
و هذا الشعر يدل على أن شتم علي ع قد كان لهم عادة حتى مدح من كف عنه و لما ولي خالد بن عبد الله القسري مكة و كان إذا خطب بها لعن عليا و الحسن و الحسين ع قال عبيد الله بن كثير السهمي
لعن الله من يسب عليا و حسينا من سوقة و إمام أ يسب المطهرون جدودا و الكرام الآباء و الأعمام يأمن الطير و الحمام و لا يأمن آل الرسول عند المقام طبت بيتا و طاب أهلك أهلا أهل بيت النبي و الإسلام رحمة الله و السلام عليهم كلما قام قائم بسو قام عبد الله بن الوليد بن عثمان بن عفان و كان ممن يناله بزعمهم إلى هشام بن عبد الملك و هو يخطب على المنبر بعرفة فقال يا أمير المؤمنين هذا يوم كانت شرح نهج البلاغة ج : 15 ص : 257الخلفاء تستحب فيه لعن أبي تراب فقال هشام ليس لهذا جئنا أ لا ترى أن ذلك يدل ى أنه قد كان لعنه فيهم فاشيا ظاهرا و كان عبد الله بن الوليد هذا يلعن عليا ع و يقول قتل جدي جميعا الزبير و عثمان. و قال المغيرة و هو عامل معاوية يومئذ لصعصعة بن صوحان قم فالعن عليا فقام فقال إن أميركم هذا أمرني أن ألعن عليا فالعنوه لعنه الله و هو يضمر المغيرة. و أما عبد الملك فحسبك من جهله تبديله شرائع الدين و الإسلام و هو يريد أن يلي أمور أصحابها بذلك الدين بعينه و حسبك من جهله أنه رأى من أبلغ التدبير في منع بنى هاشم الخلافة أن يلعن علي بن أبي طالب ع على منابره و يرمي بالفجور في مجالسه و هذا قرة عين عدوه و عير وليه و حسبك من جهله قيامه على منبر الخلافة قائلا إني و الله ما أنا بالخليفة المستضعف و لا بالخليفة المداهن و لا بالخليفة المأفون و هؤلاء سلفه و أئمته و بشفعتهم قام ذلك المقام و بتقدمهم و تأسيسهم نال تلك الرئاسة و لو لا العادة المتقدمة و الأجناد المجندة و الصنائع القائمة لكان أبعد خلق الله من ذلك المقام و أقربهم إلى المهلكة إن رام ذلك الشرف و عنى بالمستضعف عثمان و بالمداهن معاوية و بالمأفون يزيد بن معاوية و هذا الكلام نقض لسلطانه و عداوة لأهله و إفساد لقلوب شيعته و لو لم يكن من عجز رأيه إلا أنه لم يقدر على إظهار قوته إلا بأن يظهر عجز أئمته لكفاك ذلك منه فهذا ما ذكرته هاشم لأنفسها (16/226)
مفاخر بني أمية (16/227)
قالت أمية لنا من نوادر الرجال في العقل و الدهاء و الأدب و المكر ما ليس لأحد شرح نهج البلاغة ج : 15 ص : 258و لنا من الأجواد و أصحاب الصنائع ما ليس لأحد زعم الناس أن الدهاة أربعة معاوية بن أبي سفيان و زياد و عمرو بن العاص و المغيرة بن شعبة فمنا رجلان و من ئر الناس رجلان و لنا في الأجواد سعيد بن العاص و عبد الله بن عامر لم يوجد لهما نظير إلى الساعة و أما نوادر الرجال في الرأي و التدبير فأبو سفيان بن حرب و عبد الملك بن مروان و مسلمة بن عبد الملك و على أنهم يعدون في الحلماء و الرؤساء فأهل الحجاز يضربون المثل في الحلم بمعاوية كما يضرب أهل العراق المثل فيه بالأحنف. فأما الفتوح و التدبير في الحرب فلمعاوية غير مدافع و كان خطيبا مصقعا و مجربا مظفرا و كان يجيد قول الشعر إذا آثر أن يقوله و كان عبد الملك خطيبا حازما مجربا مظفرا و كان مسلمة شجاعا مدبرا و سائسا مقدما و كثير الفتوح كثير الأدب و كان يزيد بن معاوية خطيبا شاعرا و كان الوليد بن يزيد خطيبا شاعرا و كان مروان بن الحكم و عبد الرحمن بن الحكم شاعرين و كان بشر بن مروان شاعرا ناسبا و أديبا عالما و كان خالد بن يزيد بن معاوية خطيبا شاعرا جيد الرأي أديبا كثير الأدب حكيما و كان أول من أعطى التراجمة و الفلاسفة و قرب أهل الحكمة و رؤساء أهل كل صناعة و ترجم كتب النجوم و الطب و الكيمياء و الحروب و الآداب و الآلات و الصناعات. قالوا و إن ذكرت البأس و الشجاعة فالعباس بن الوليد بن عبد الملك و مروان بن محمد و أبوه محمد بن مروان بن الحكم و هو صاحب مصعب و هؤلاء قوم لهم آثار بالروم لا تجهل و آثار بإرمينية لا تنكر و لهم يوم العقر شهده مسلمة و العباس بن الوليد. قالوا و لنا الفتوح العظام و لنا فارس و خراسان و إرمينية و سجستان و إفريقية و جميع فتوح عثمان فأما فتوح بني مروان فأكثر و أعم و أشهر من أن شرح نهج البلاغة ج : 15 ص : 259تحتاج إلى
عدد أو إلى شاهد و الذين بلغوا في ذلك الزمان أقصى ما يمكن صاحب خف و حافر أن يبلغه حتى لم يحتجز منهم إلا ببحر أو خليج بحر أو غياض أو عقاب أو حصون و صياصي ثلاثة رجال قتيبة بن مسلم بخراسان و موسى بن نصير بإفرية و القاسم بن محمد بن القاسم الثقفي بالسند و الهند و هؤلاء كلهم عمالنا و صنائعنا و يقال إن البصرة كانت صنائع ثلاثة رجال عبد الله بن عامر و زياد و الحجاج فرجلان من أنفسنا و الثالث صنيعنا. قالوا و لنا في الأجواد و أهل الأقدار بنو عبد الله بن خالد بن أسيد بن أمية و أخوه خالد و في خالد يقول الشاعر (16/228)
إلى خالد حتى أنخنا بخالد فنعم الفتى يرجى و نعم المؤمل
و لنا سعيد بن خالد بن عبد الله بن خالد بن أسيد و هو عقيد الندى كان يسبت ستة أشهر و يفيق ستة أشهر و يرى كحيلا من غير اكتحال و دهينا من غير تدهين و له يقول موسى شهوات
أبا خالد أعني سعيد بن خالد أخا العرف لا أعني ابن بنت سعيدو لكنني أعني ابن عائشة الذي أبو أبويه خالد بن أسيدعقيد الندى ما عاش يرضى به الندى فإن مات لم يرض الندى بعقيد
قالوا و إنما تمكن فينا الشعر و جاد ليس من قبل أن الذين مدحونا ما كانوا غير من مدح الناس و لكن لما وجدوا فينا مما يتسع لأجله القول و يصدق فيه القائل قد مدح عبد الله بن قيس الرقيات من الناس آل الزبير عبد الله و مصعبا و غيرهما فكان يقول كما يقول غيره فلما صار إلينا قال
ما نقموا من بني أمية إلا أنهم يحلمون أن غضبوا
شرح نهج البلاغة ج : 15 ص : 260و أنهم معدن الملوك فما تصلح إلا عليهم العرو قال نصيب
من النفر الشم الذين إذا انتجوا أقرت لنجواهم لؤي بن غالب يحيون بسامين طورا و تارة يحيون عباسين شوس الحواجبو قال الأخطل
شمس العداوة حتى يستقاد لهم و أعظم الناس أحلاما إذا قدروا
قالوا و فينا يقول شاعركم و المتشيع لكم الكميت بن زيد
فالآن صرت إلى أمية و الأمور لها مصائر
و في معاوية يقول أبو الجهم العدوي
نقلبه لنخبر حالتيه فنخبر منهما كرما و لينانميل على جوانبه كأنا إذا ملنا نميل على أبينا (16/229)
و فيه يقول
تريع إليه هوادي الكلام إذا ضل خطبته المهذر
قالوا و إذا نظرتم في امتداح الشعراء عبد العزيز بن مروان عرفتم صدق ما نقوله. قالوا و في إرسال النبي ص إلى أهل مكة عثمان و استعماله عليها عتاب بن أسيد و هو ابن اثنتين و عشرين سنة دليل على موضع المنعة أن تهاب العرب و تعز قريش و
قال النبي ص قبل الفتح فتيان أضن بهما على النار عتاب بن أسيد و جبير بن مطعم
فولى عتابا و ترك جبير بن مطعم. شرح نهج البلاغة ج : 15 ص : 261و قال الشعبي لو ولد لي مائة ابن لسميتهم كلهم عبد الرحمن للذي رأيت في قريش من أصحاب هذا الاسم ثم عد عبد الرحمن بن عتاب بن أسيد و عبد الرحمن بن الحارث بن هشام و عبد الرحمن بن الحكم بن أبي العاص فا عبد الرحمن بن عتاب فإنه صاحب الخيل يوم الجمل و هو صاحب الكف و الخاتم و هو الذي مر به علي و هو قتيل فقال لهفي عليك يعسوب قريش هذا اللباب المحض من بني عبد مناف فقال له قائل لشد ما أتيته اليوم يا أمير المؤمنين قال إنه قام عني و عنه نسوة لم يقمن عنك. قالوا و لنا من الخطباء معاوية بن أبي سفيان أخطب الناس قائما و قاعدا و على منبر و في خطبة نكاح و قال عمر بن الخطاب ما يتصعدني شي ء من الكلام كما يتصعدني خطبة النكاح و قد يكون خطيبا من ليس عنده في حديثه و وصفه للشي ء احتجاجه في الأمر لسان بارع و كان معاوية يجري مذلك كله. قالوا و من خطبائنا يزيد بن معاوية كان أعرابي اللسان بدوي اللهجة قال معاوية و خطب عنده خطيب فأجاد لأرمينه بالخطيب الأشدق يريد يزيد بن معاوية. و من خطبائنا سعيد بن العاص لم يوجد كتحبيره تحبير و لا كارتجاله ارتجال. و منا عمرو بن سعيد الأشدق لقب بذلك لأنه حيث دخل على معاوية و هو غلام بعد وفاة أبيه فسمع كلامه فقال إن ابن سعيد هذا الأشدق. و قال له معاوية إلى من أوصى بك أبوك قال إن أبي أوصى إلي و لم يوص بي قال فبم أوصى إليك قال ألا يفقد إخوانه منه إلا وجهه. قالوا و منا سعيد بن عمرو بن سعيد خطيب ابن خطيب ابن خطيب تكلم الناس عند عبد الملك قياما و تكلم قاعدا قال عبد الملك فتكلم و أنا و الله أحب عثرته و إسكاته فأحسن حتى استنطقته و استزدته و كان عبد الملك خطيبا خطب (16/230)
شرح نهج البلاغة ج : 15 ص : 262الناس مرة فقال ما أنصفتمونا معشر رعيتنا طلبتم منا أن نسير فيكم و في أنفسنا سيرة أبي بكر و عمر في أنفسهما و رعيتهما و لم تسيروا فينا و لا في أنفسكم سيرة رعية أبي بكر و عمر فيهما و في أنفسهما و لكل من النصفة نصيب قالوا فكانت بته نافعة. قالوا و لنا زياد و عبيد الله بن زياد و كانا غنيين في صحة المعاني و جودة اللفظ و لهما كلام كثير محفوظ قالوا و من خطبائنا سليمان بن عبد الملك و الوليد بن يزيد بن عبد الملك. و من خطبائنا و نساكنا يزيد بن الوليد الناقص قال عيسى بن حاضر قلت لعمرو بن عبيد ما قولك في عمر بن عبد العزيز فكلح ثم صرف وجهه عني قلت فما قولك في يزيد الناقص فقال أو الكامل قال بالعدل و عمل بالعدل و بذل نفسه و قتل ابن عمه في طاعة ربه و كان نكالا لأهله و نقص من أعطياتهم ما زادته الجبابرة و أظهر البراءة من آبائه و جعل في عهده شرطا و لم يجعله جزما لا و الله لكأنه ينطق عن لسان أبي سعيد يريد الحسن البصري قال و كان الحسن من أنطق الناس. قالوا و قد قرئ في الكتب القديمة يا مبذر الكنوز يا ساجدا بالأسحار كانت ولايتك رحمة بهم و حجة عليهم قالوا هو يزيد بن الوليد. و من خطبائنا ثم من ولد سعيد بن العاص عمرو بن خولة كان ناسبا فصيحا خطيبا. و قال ابن عائشة الأكبر ما شهد خطيبا قط إلا و لجلج هيبة له و معرفة بانتقاده. و من خطبائنا عبد الله بن عامر و عبد الأعلى بن عبد الله بن عامر و كانا من أكرم الناس و أبين الناس كان مسلمة بن عبد الملك يقول إني لأنحي كور عمامتي على أذني لأسمع كلام عبد الأعلى. شرح نهج البلاغة ج : 15 ص : 263و كانوا يقولون أشبه قريش نعمة و جهارة و اقتدارا و بيانا بعمرو بن سعيد عبد الأعلى بن عبد الله. قالوا و من خطبائنا و رجالنا الوليد بن عبد الملك و هو الذي كان يقال له فحل بني مروان كان يب معه ستون رجلا لصلبه. و من ذوي آدابنا و علمائنا و أصحاب الأخبار و (16/231)
رواية الأشعار و الأنساب بشر بن مروان أمير العراق. قالوا و نحن أكثر نساكا منكم منا معاوية بن يزيد بن معاوية و هو الذي قيل له في مرضه الذي مات فيه لو أقمت للناس ولي عهد قال و من جعل لي هذا العهد في أعناق الناس و الله لو لا خوفي الفتنة لما أقمت عليها طرفة عين و الله لا أذهب بمرارتها و تذهبون بحلاوتها فقالت له أمه لوددت أنك حيضة قال أنا و الله وددت ذلك. قالوا و منا سليمان بن عبد الملك الذي هدم الديماس و رد المسيرين و أخرج المسجونين و ترك القريب و اختار عمر بن عبد العزيز و كان سليمان جوادا خطيبا جميلا صاحب سلامة و دعة و حب للعافية و قرب من الناس حتى سمي المهدي و قيلت الأشعار في ذلك. قالوا و لنا عمر بن عبد العزيز شبه عمر بن الخطاب قد ولده عمر و باسمه سمي و هو أشج قريش المذكور في الآثار المنقولة في الكتب العدل في أشد الزمان و ظلف نفسه بعد اعتياد النعم حتى صار مثلا و مفخرا و قيل للحسن أ ما رويت (16/232)
أن رسول الله ص قال لا يزداد الزمان إلا شدة و الناس إلا شحا و لا تقوم الساعة إلا على شرار الخلق
قال بلى قيل فما بال عمر بن عبد العزيز و عدله شرح نهج البلاغة ج : 15 ص : 264و سيرته فقال لا بد للناس من متنفس و كان مذكورا مع الخطباء و مع النساك و مع الفقهاء قالوا و لنا ابنه عبد الملك بن عمر بن عبد العزيز كان ناسكا زكيا طاهرا و كان من أتقى الناس و أحسنهمعونة لأبيه و كان كثيرا ما يعظ أباه و ينهاه. قالوا و لنا من لا نظير له في جميع أموره و هو صاحب الأعوص إسماعيل بن أمية بن عمرو بن سعيد بن العاص و هو الذي قال فيه عمر بن عبد العزيز لو كان إلي من الأمر شي ء لجعلتها شورى بين القاسم بن محمد و سالم بن عبد الله صاحب الأعوص. قالوا و من نساكنا أبو حراب من بني أمية الصغرى أ داود بن علي و من نساكنا يزيد بن محمد بن مروان كان لا يهدب ثوبا و لا يصبغه و لا يتخلق بخلوق و لا اختار طعاما على طعام ما أطعم أكله و كان يكره التكلف و ينهى عنه. قالوا و من نساكنا أبو بكر بن عبد العزيز بن مروان أراد عمر أخوه أن يجعله ولي عهده لما رأى من فضله و زهده فسما فيهما جميعا. و من نساكنا عبد الرحمن بن أبان بن عثمان بن عفان كان يصلي كل يوم ألف ركعة و كان كثير الصدقة و كان إذا تصدق بصدقة قال اللهم إن هذا لوجهك فخفف عني الموت فانطلق حاجا ثم تصبح بالنوم فذهبوا ينبهونه للرحيل فوجدوه ميتا فأقاموا عليه المأتم بالمدينة و جاء أشعب فدخل إلى المأتم و على رأسه كبة من طين فالتدم مع النساء و كان إليه محسنا. و من نساكنا عبد الرحمن بن يزيد بن معاوية بن أبي سفيان. شرح نهج البلاغة ج : 15 ص : 265قالوا فنحن نعمن الصلاح و الفضل ما سمعتموه و ما لم نذكره أكثر و أنتم تقولون أمية هي الشجرة الملعونة في القرآن و زعمتم أن الشجرة الخبيثة لا تثمر الطيب كما أن الطيب لا يثمر الخبيث فإن كان الأمر كما تقولون فعثمان بن عفان ثمرة خبيثة. و ينبغي أن يكون النبي ص دفع ابنتيه إلى خبيث و كذلك يزيد بن أبي سفيان صاحب مقدمة أبي بكر الصديق على جيوش (16/233)
الشام و ينبغي لأبي العاص بن الربيع زوج زينب بنت رسول الله ص أن يكون كذلك و ينبغي لمحمد بن عبد الله المدبج أن يكون كذلك و إن ولدته فاطمة ع لأنه من بني أمية و كذلك عبد الله بن عثمان بن عفان سبط رسول الله ص الذي مات بعد أن شدن و نقر الديك عينه فمات لأنه من بني أمية و كذلك ينبغي أن يكون عتاب بن أسيد بن أبي العيص بن أمية و إن كان النبي ص ولاه مكة أم القرى و قبلة الإسلام مع (16/234)
قوله ع فتيان أضن بهما عن النار عتاب ابن أسيد و جبير بن مطعم
و كذلك ينبغي أن يكون عمر بن عبد العزيز شبيه عمر بن الخطاب كذلك و كذلك معاوية بن يزيد بن معاوية و كذلك يزيد الناقص و ينبغي ألا يكون النبي ص عد عثمان في العشرة الذين بشرهم بالجنة و ينبغي أن يكون خالد بن سعيد بن العاص شهيد يوم مرج الصفر و الحبيس في سبيل الله و والي النبي ص على اليمن و والي أبي بكر على جميع أجناد الشام و رابع أربعة في الإسلام و المهاجر إلى أرض الحبشة كذلك و كذلك أبان بن سعيد بن العاص المهاجر إلى المدينة و القديم في الإسلام و الحبيس على الجهاد و يجب أن يكون ملعونا خبيثا و كذلك أبو حذيفة بن عتبة بن ربيعة و هو بدري من المهاجرين الأولين و كذلك أمامة بنت أبي العاص بن الربيع و أمها زينب بنت شرح نهج البلاغة ج : 15 ص : 266رسول الله ص و كذلك أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط و كان النبي ص يخرجها من المغازي و يضرب لها بسهم و يصافحها و كذلك فاطمة بنت أبي معيو هي من مهاجرة الحبشة. قالوا و مما نفخر به و ليس لبني هاشم مثله إن منا رجلا ولي أربعين سنة منها عشرون سنة خليفة و هو معاوية بن أبي سفيان و لنا أربعة إخوة خلفاء الوليد و سليمان و هشام بنو عبد الملك و ليس لكم و يزيد إلا ثلاثة إخوة محمد و عبد الله و أبي إسحاق أولاد هارون. قالوا و منا رجل ولد سبعة من الخلفاء و هو عبد الله بن يزيد بن عبد الملك بن مروان أبوه يزيد بن عاتكة خليفة و جده عبد الملك خليفة و أبو جده مروان الحكم خليفة و جده من قبل عاتكة ابنة يزيد بن معاوية أبوها يزيد بن معاوية و هو خليفة و معاوية بن أبي سفيان و هو خليفة فهؤلاء خمسة و أم عبد الله هذا عاتكة بنت عبد الله بن عثمان بن عفان و حفصة بنت عبد الله بن عمر بن الخطاب فهذان خليفتان فهذه سبعة من الخلفاء ولدوا هذا الرجل. قالوا و منا امرأة أبوها خليفة و جدها خليفة و ابنها خليفة و أخوها خليفة و بعلها خليفة فهؤلاء خمسة و هي عاتكة بنت يزيد بن معاوية بن أبي سفيان أبوها (16/235)
يزيد بن معاوية خليفة و جدها معاوية بن أبي سفيان خليفة و ابنها يزيد بن عبد الملك بن مروان خليفة و أخوها معاوية بن يزيد خليفة و بعلها عبد الملك بن مروان خليفة. قالوا و من ولد المدبج محمد بن عبد الله الأصغر امرأة ولدها النبي ص و أبو بكر و عمر و عثمان و علي و طلحة و الزبير و هي عائشة بنت محمد بن عبد الله بن عمر بن عثمان بن عفان و أمها خديجة بنت عثمان بن عروة بن الزبير و أم عروة أسماء ذات النطاقين بنت أبي بكر الصديق و أم محمد بن عبد الله بن عمرو بن عثمان و هو شرح نهج البلاغة ج : 15 ص : 267المدبج فاطمة بنت الحسين بن علي ع و أم الحسين بن علي ع فاطمة بنت رسول الله ص و أم فاطمة بنت الحسين بن علي ع أم إسحاق بنت طلحة بن عبد الله و أم عبد الله بن عمرو بن عثمان بن عفان ابنة عبد الله بن عمر بن الخطاب. قالوا ونا في الجمال و الحسن ما ليس لكم منا المدبج و الديباج قيل ذلك لجماله. و منا المطرف و منا الأرجوان فالمطرف و هو عبد الله بن عمرو بن عثمان سمي المطرف لجماله و فيه يقول الفرزدق (16/236)
نما الفاروق أنك و ابن أروى أبوك فأنت منصدع النهار
و المدبج هو الديباج كان أطول الناس قياما في الصلاة و هلك في سجن المنصور. قالوا و منا ابن الخلائف الأربعة دعي بذلك و شهر به و هو المؤمل بن العباس بن الوليد بن عبد الملك كان هو و أخوه الحارث ابني العباس بن الوليد من الفجاءة بنت قطري بن الفجاءة إمام الخوارج و كانت سبيت فوقعت إليه فلما قام عمر بن عبد العزيز أتت وجوه بني مازن و فيهم حاجب بن ذبيان المازني الشاعر فقال حاجب
أتيناك زوارا و وفدا إلى التي أضاءت فلا يخفى على الناس نورهاأبوها عميد الحي جمعا و أمها من الحنظليات الكرام حجورهافإن تك صارت حين صارت فإنها إلى نسب زاك كرام نفيرها
فبعث عمر بن عبد العزيز إلى العباس بن الوليد إما أن تردها إلى أهلها و إما أن تزوجها فقال قائل ذات يوم للمؤمل يا ابن الخلائف الأربعة قال ويلك من الرابع شرح نهج البلاغة ج : 15 ص : 268قال قطري فأما الثلاثة فالوليد و عبد الملك و مروان و أما قطري فبويع بالخلافو فيه يقول الشاعر (16/237)
و أبو نعامة سيد الكفار
قالوا و من أين صار محمد بن علي بن عبد الله بن العباس أحق بالدعوة و الخلافة من سائر إخوته و من أين كان له أن يضعها في بيته دون إخوته و كيف صار بنو الأخ أحق بها من الأعمام. و قالوا إن يكن هذا الأمر إنما يستحق بالميراث فالأقرب إلى العباس أحق و إن كان بالسن و التجربة فالعمومة بذلك أولى. قالوا فقد ذكرنا جملا من حال رجالنا في الإسلام و أما الجاهلية فلنا الأعياص و العنابس. و لنا ذو العصابة أبو أحيحة سعيد بن العاص كان إذا اعتم لم يعتم بمكة أحد و لنا حرب بن أمية رئيس يوم الفجار و لنا أبو سفيان بن حرب رئيس أحد و الخندق و سيد قريش كلها في زمانه. و قال أبو الجهم بن حذيفة العدوي لعمر حين رأى العباس و أبا سفيان على فراشه دون الناس ما نرانا نستريح من بني عبد مناف على حال قال عمر بئس أخو العشيرة أنت هذا عم رسول الله ص و هذا سيد قريش. شرح نهج البلاغة ج : 15 ص : 269قالوا و ا عتبة بن ربيعة ساد مملقا و لا يكون السيد إلا مترفا لو لا ما رأوا عنده من البراعة و النبل و الكمال و هو الذي لما تحاكمت بجيلة و كلب في منافرة جرير و الفرافصة و تراهنوا بسوق عكاظ و صنعوا الرهن على يده دون جميع من شهد على ذلك المشهد و
قال رسول الله ص و نظر إلى قريش مقبلة يوم بدر إن يكن منهم عند أحد خير فعند صاحب الجمل الأحمر
و ما ظنك بشيخ طلبوا له من جميع العسكر عند المبارزة بيضة فلم يقدروا على بيضة يدخل رأسه فيها و قد قال الشاعر
و إنا أناس يملأ البيض هامنا
قالوا و أمية الأكبر صنفان الأعياص و العنابس قال الشاعر
من الأعياص أو من آل حرب أغر كغرة الفرس الجواد (16/238)
سموا بذلك في حرب الفجار حين حفروا لأرجلهم الحفائر و ثبتوا فيها و قالوا نموت جميعا أو نظفر و إنما سموا بالعنابس لأنها أسماء الأسود و إنما سموا الأعياص لأنها أسماء الأصول فالعنابس حرب و سفيان و أبو سفيان و عمرو و الأعياص العيص و أبو العيص و العاص و أبو العاص و أبو عمرو و لم يعقب من العنابس إلا حرب و ما عقب الأعياص إلا العيص و لذلك كان معاوية يشكو القلة. قالوا و ليس لبني هاشم و المطلب مثل هذه القسمة و لا مثل هذا اللقب المشهور و هذا ما قالته أمية عن نفسها شرح نهج البلاغة ج : 15 ص : 270ذكر الجواب عما فخرت به بنو أميةو نحن نذكر ما أجاب به أبو عثمان عن كلامهم و نضيف إليه من قبلنا أمورا لم يذكرها فنقول قالت هاشم أما ذكرتم من الدهاء و المكر فإن ذلك من أسماء فجار العقلاء و ليس من أسماء أهل الصواب في الرأي من العقلاء و الأبرار و قد بلغ أبو بكر و عمر من التدبير و صواب الرأي و الخبرة بالأمور العامة و ليس من أوصافهما و لا من أسمائهما أن يقال كانا داهيين و لا كانا مكيرين و ما عامل معاوية و عمرو بن العاص عليا ع قط بمعاملة إلا و كان علي ع أعلم بها منهما و لكن الرجل الذي يحارب و لا يستعمل إلا ما يجل له أقل مذاهب في وجوه الحيل و التدبير من الرجل الذي يستعمل ما يحل و ما لا يحل و كذلك من حدث و أخبر أ لا ترى أن الكذاب ليس لكذبه غاية و لا لما يولد و يصنع نهاية و الصدوق إنما يحدث عن شي ء معروف و معنى محدود و يدل على ما قلنا أنكم عددتم أربعة في الدهاء و ليس واحد منهم عند المسلمين في طريق لمتقين و لو كان الدهاء مرتبة و المكر منزلة لكان تقدم هؤلاء الجميع السابقين الأولين عيبا شديدا في السابقين الأولين و لو أن إنسانا أراد أن يمدح أبا بكر و عمر و عثمان و عليا ثم قال الدهاة أربعة و عدهم لكان قد قال قولا مرغوبا عنه لأن الدهاء و المكر ليس من صفات الصالحين و
إن علموا من غامض الأمور ما يجهله جميع العقلاء أ لا ترى أنه قد يحسن أن يقال كان رسول الله ص أكرم الناس و أحلم الناس و أجود الناس و أشجع الناس و لا يجوز أن يقال كان أمكر الناس و أدهى الناس و إن علمنا أن علمه قد أحاط بكل مكر و خديعة و بكل أدب و مكيدة. و أما ما ذكرتم من جود سعيد بن العاص و عبد الله بن عامر فأين أنتم من عبد الله بن جعفر و عبيد الله بن العباس و الحسن بن علي و أين أنتم من جود خلفاء بني (16/239)
شرح نهج البلاغة ج : 15 ص : 271العباس كمحمد المهدي و هارون و محمد بن زبيدة و عبد الله المأمون و جعفر المقتدر بل لعل جود بعض صنائع هؤلاء كبني برمك و بني الفرات أعظم من جود الرجلين اللذين ذكرتموهما بل من جميع ما جاء به خلفاء بني أمية. و أما ما ذكرتم من حلمعاوية فلو شئنا أن نجعل جميع ساداتنا حلماء لكانوا محتملين لذلك و لكن الوجه في هذا ألا يشتق للرجل اسم إلا من أشرف أعماله و أكرم أخلاقه و إلا أن يتبين بذلك عند أصحابه حتى يصير بذلك اسما يسمى و يصير معروفا به كما عرف الأحنف بالحلم و كما عرف حاتم بالجود و كذلك هرم قالوا هرم الجواد و لو قلتم كان أبو العاص بن أمية أحلم الناس لقلنا و لعله يكون قد كان حليما و لكن ليس كل حلم يكون صاحبه به مذكورا و من إشكاله بائنا و إنكم لتظلمون خصومكم في تسميتكم معاوية بالحلم فكيف من دونه لأن العرب تقول أحلم الحلمين ألا يتعرض ثم يحلم و لم يكن في الأرض رجل أكثر تعرضا من معاوية و التعرض هو السفه فإن ادعيتم أن الأخبار التي جاءت في تعرضه كلها باطلة فإن لقائل أن يقول و كل خبر رويتموه في حلمه باطل و لقد شهر الأحنف بالحلم و لكنه تكلم بكلام كثير يجرح في الحلم و يثلم في العرض و لا يستطيع أحد أن يحكي عن العباس بن عبد المطلب و لا عن الحسن بن علي بن أبي طالب لفظا فاحشا و لا كلمة ساقطة و لا حرفا واحدا مما يحكى عن الأحنف و معاوية. و كان المأمون أحلم الناس و كان عبد الله السفاح أحلم الناس و بعد فمن يستطيع أن يصف هاشما أو عبد المطلب بالحلم دون غيره من الأخلاق و الأفعال حتى يسميه بذلك و يخص به دون كل شي ء فيه من الفضل و كيف و أخلاقهم متساوية و كلها في الغاية و لو أن رجلا كان أظهر الناس زهدا و أصدقهم للعدو لقاء و أصدق الناس لسانا شرح نهج البلاغة ج : 15 ص : 272و أجود الناس كفا و أفصحهم منطقا و كان بكل مشهورا لمنع بعض ذلك من بعض و لما كان له اسم السيد المقدم و الكامل (16/240)
المعظم و لم يكن الجواد أغلب على اسمه و لا البيان و لا النجدة. و أما ما ذكرتم من الخطابة و الفصاحة و السؤدد و العلم بالأدب و النسب فقد علم الناس أن بني هاشم في الجملة أرق ألسنة من بني أمية كان أبو طالب و الزبير شاعرين و كان أبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب شاعرا و لم يكن من أولاد أمية بن عبد شمس لصلبه شاعر و لم يكن في أولاد أمية إلا أن تعدوا في الإسلام العرجي من ولد عثمان بن عفان و عبد الرحمن بن الحكم فنعد نحن الفضل بن العباس بن عتبة بن أبي لهب و عبد الله بن معاوية بن جعفر و لنا من المتأخرين محمد بن الحسين بن موسى المعروف بالرضي و أخوه أبو القاسم و لنا الحماني و علي بن محمد صاحب الزنج و كان إبراهيم بن الحسن صاحب باخمرى أديبا شاعرا فاضلا و لنا محمد بن علي بن صالح الذي خرج في أيام المتوكل. قال أبو الفرج الأصفهاني كان من فتيان آل أبي طالب و فتاكهم و شجعانهم و ظرافهم و شعرائهم و إن عددتم الخطابة و البيان و الفصاحة لم تعدوا كعلي بن أبي طالب ع و لا كعبد الله بن العباس و لنا من الخطباء زيد بن علي بن الحسين و عبد الله بن معاوية بن عبد الله بن معاوية بن عبد الله بن جعفر و جعفر بن الحسين بن الحسن و داود بن علي بن عبد الله بن العباس و داود و سليمان ابنا جعفر بن سليمان. قالوا كان جعفر بن الحسين بن الحسن ينازع زيد بن علي بن الحسين في الوصية (16/241)
شرح نهج البلاغة ج : 15 ص : 273و كان الناس يجتمعون ليستمعوا محاورتهما و كان سليمان بن جعفر بن سليمان بن علي والي مكة فكان أهل مكة يقولون لم يرد علينا أمير إلا و سليمان أبين منه قاعدا و أخطب منه قائما و كان داود إذا خطب اسحنفر فلم يرده شي ء. قالوا و لنا الملك بن صالح بن علي كان خطيبا بليغا و سأله الرشيد و سليمان بن أبي جعفر و عيسى بن جعفر حاضران فقال له كيف رأيت أرض كذا قال مسافي ريح و منابت شيح قال فأرض كذا قال هضبات حمر و ربوات عفر حتى أتى على جميع ما سأله عنه فقال عيسى لسليمان و الله ما ينبغي لنا أن نرضى لأنفسنا بالدون من الكلام. قالوا و أما ما ذكرتم من نساك الملوك فلنا علي بن أبي طالب ع و بزهده و بدينه يضرب المثل و لنا محمد بن الواثق من خلفاء بني العباس و هو الملقب بالمهتدي كان يقول إني لآنف لبني العباس ألا يكون منهم مثل عمر بن عبد العزيز فكان مثله و فوقه و لنا القادر أبو العباس بن إسحاق بن المقتدر و لنا القائم عبد الله بن القادر كانا على قدم عظيمة من الزهد و الدين و النسك و إن عددتم النساك من غير الملوك فأين أنتم عن علي بن الحسين زين العابدين و أين أنتم عن علي بن عبد الله بن العباس و أين أنتم عن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب ع الذي كان يقال له علي الخير و علي الأغر و علي العابد و ما أقسم على الله بشي ء إلا و أبر قسمه و أين أنتم عن موسى بن جعفر بن محمد و أين أنتم عن علي بن محمد الرضا لابس الصوف طول عمره مع سعة أمواله و كثرة ضياعه و غلاته. شرح نهج لاغة ج : 15 ص : 274و أما ما ذكرتم من الفتوح فلنا الفتوح المعتصمية التي سارت بها الركبان و ضربت بها الأمثال و لنا فتوح الرشيد و لنا الآثار الشريفة في قتل بابك الخرمي بعد أن دامت فتنته في دار الإسلام نحو ثلاثين سنة و إن شئت أن تعد فتوح الطالبيين بإفريقية و مصر و ما ملكوه من مدن الروم و الفرنج و الجلالقة في سني ملكهم عددت (16/242)
الكثير الجم الذي يخرج عن الحصر و يحتاج إلى تاريخ مفرد يشتمل على جلود كثيرة. فأما الفقه و العلم و التفسير و التأويل فإن ذكرتموه لم يكن لكم فيه أحد و كان لنا فيه مثل علي بن أبي طالب ع و عبد الله بن العباس و زيد بن علي و محمد بن علي ابني علي بن الحسين بن علي و جعفر بن محمد الذي ملأ الدنيا علمه و فقهه و يقال إن أبا حنيفة من تلامذته و كذلك سفيان الثوري و حسبك بهما في هذا الباب و لذلك نسب سفيان إلى أنه زيدي المذهب و كذلك أبو حنيفة. و من مثل علي بن الحسين زين العابدين و قال الشافعي في الرسالة في إثبات خبر الواحد وجدت علي بن الحسين و هو أفقه أهل المدينة يعول على أخبار الآحاد. و من مثل محمد بن الحنفية و ابنه أبي هاشم الذي قرر علوم التوحيد و العدل و قالت المعتزلة غلبنا الناس كلهم بأبي هاشم الأول و أبي هاشم الثاني. و إن ذكرتم النجدة و البسالة و الشجاعة فمن مثل علي بن أبي طالب ع و قد وقع اتفاق أوليائه و أعدائه على أنه أشجع البشر. و من مثل حمزة بن عبد المطلب أسد الله و أسد رسوله و من مثل الحسين بن علي ع قالوا يوم الطف ما رأينا مكثورا قد أفرد من إخوته و أهله و أنصاره أشجع منه كان كالليث المحرب يحطم الفرسان حطما و ما ظنك برجل أبت نفسه الدنية و أن يعطي (16/243)
شرح نهج البلاغة ج : 15 ص : 275بيده فقاتل حتى قتل هو و بنوه و إخوته و بنو عمه بعد بذل الأمان لهم و التوثقة بالأيمان المغلظة و هو الذي سن للعرب الإباء و اقتدى بعده أبناء الزبير و بنو المهلب و غيرهم. و من لكم مثل محمد و إبراهيم بن عبد الله و من لكم كزيد بنلي و قد علمتم كلمته التي قالها حيث خرج من عند هشام ما أحب الحياة إلا من ذل فلما بلغت هشاما قال خارج و رب الكعبة فخرج بالسيف و نهى عن المنكر و دعا إلى إقامة شعائر الله حتى قتل صابرا محتسبا. و قد بلغتكم شجاعة أبي إسحاق المعتصم و وقوفه في مشاهد الحرب بنفسه حتى فتح الفتوح الجليلة و بلغتكم شجاعة عبد الله بن علي و هو الذي أزال ملك بني مروان و شهد الحروب بنفسه و كذلك صالح بن علي و هو الذي اتبع مروان بن محمد إلى مصر حتى قتله. قالوا و إن كان الفضل و الفخر في تواضع الشريف و إنصاف السيد و سجاحة الخلق و لين الجانب للعشيرة و الموالي فليس لأحد من ذلك ما لبني العباس و لقد سألنا طارق بن المبارك و هو مولى لبني أمية و صنيعة من صنائعهم فقلنا أي القبيلتين أشد نخوة و أعظم كبرياء و جبرية أ بنو مروان أم بنو العباس فقال و الله لبنو مروان في غير دولتهم أعظم كبرياء من بني العباس في دولتهم و قد كان أدرك الدولتين و لذلك قال شاعرهم (16/244)
إذا نابه من عبد شمس رأيته يتيه فرشحه لكل عظيم
شرح نهج البلاغة ج : 15 ص : 276و إن تاه تياه سواهم فإنما يتيه لنوك أو يتيه للوو من كلامهم من لم يكن من بني أمية تياها فهو دعي قالوا و إن كان الكبر مفخرا يمدح به الرجال و يعد من خصال الشرف و الفضل فمولانا عمارة بن حمزة أعظم كبرا من كل أموي كان و يكون في الدنيا و أخباره في كبره و تيهه مشهورة متعالمة. قالوا و إن كان الشرف و الفخر في الجمال و في الكمال و في البسطة في الجسم و تمام القوام فمن كان كالعباس بن عبد المطلب. قالوا رأينا العباس يطوف بالبيت و كأنه فسطاط أبيض. و من مثل علي بن عبد الله بن العباس و ولده و كان كل واحد منهم إذا قام إلى جنب أبيه كان رأسه عند شحمة أذنه و كانوا من أطول الناس و إنك لتجد ميراث ذلك اليوم في أولادهم. ثم الذي رواه أصحاب الأخبار و حمال الآثار في عبد المطلب من التمام و القوام و الجمال و البهاء و ما كان من لقب هاشم بالقمر لجماله و لأنهم يستضيئون برأيه و كما رواه الناس أن عبد المطلب ولد عشرة كان الرجل منهم يأكل في المجلس الجذعة و يشرب الفرق و ترد آنفهم قبل شفاههم و إن عامر بن مالك لما رآهم يطوفون بالبيت كأنهم جمال جون قال بهؤلاء تمنع مكة و تشرف مكة. و قد سمعتم ما ذكره الناس من جمال السفاح و حسنه و كذلك المهدي و ابنه هارون الرشيد و ابنه محمد بن زبيدة و كذلك هارون الواثق و محمد المنتصر و الزبير المعتز. شرح نهج البلاغة ج : 15 ص : 277قالوا ما رئي في العرب و لا في العجم أحسن صورة منه و كان المكتفي علي بن المعتضد بارع الجمال و لذلك قال الشاعر يضرب المثل بهو الله لا كلمته و لو أنه كالشمس أو كالبدر أو كالمكتفي (16/245)
فجعله ثالث القمرين و كان الحسن بن علي ع أصبح الناس وجها كان يشبه برسول الله ص و كذلك عبد الله بن الحسن المحض. قالوا و لنا ثلاثة في عصر بنو عم كلهم يسمى عليا و كلهم كان يصلح للخلافة بالفقه و النسك و المركب و الرأي و التجربة و الحال الرفيعة بين الناس علي بن الحسين بن علي و علي بن عبد الله بن العباس و علي بن عبد الله بن جعفر كل هؤلاء كان تاما كاملا بارعا جامعا و كانت لبابة بنت عبد الله بن العباس عند علي بن عبد الله بن جعفر قالت ما رأيته ضاحكا قط و لا قاطبا و لا قال شيئا احتاج إلى أن يعتذر منه و لا ضرب عبدا قط و لا ملكه أكثر من سنة. قالوا و بعد هؤلاء ثلاثة بنو عم و هم بنو هؤلاء الثلاثة و كلهم يسمى محمدا كما أن كل واحد من أولئك يسمى عليا و كلهم يصلح للخلافة بكرم النسب و شرف الخصال محمد بن علي بن الحسين بن علي و محمد بن علي بن عبد الله بن العباس و محمد بن علي بن عبد الله بن جعفر. قالوا كان محمد بن علي بن الحسين لا يسمع المبتلى الاستعاذة و كان ينهى الجارية و الغلام أن يقولا للمسكين يا سائل و هو سيد فقهاء الحجاز و منه و من ابنه جعفر تعلم الناس الفقه و هو الملقب بالباقر باقر العلم لقبه به رسول الله ص و لم يخلق بعد و بشر به و وعد جابر بن عبد الله برؤيته و قال ستراه طفلا فإذا رأيته فأبلغه عني السلام فعاش جابر حتى رآه و قال له ما وصى به. شرح نهج البلاغة ج : 15 ص : 278و توعد خالد بن عبد الله القسري هشام بن عبد الملك في رسالة له إليه و قال و الله إني لأعرف رجلا حجازي الأصشامي الدار عراقي الهوى يريد محمد بن علي بن عبد الله بن العباس. قالوا و أما ما ذكرتم من أمر عاتكة بنت يزيد بن معاوية فإنا نذكر فاطمة بنت رسول الله ص و هي سيدة نساء العالمين و أمها خديجة سيدة نساء العالمين و بعلها علي بن أبي طالب سيد المسلمين كافة و ابن عمها جعفر ذو الجناحين و ذو الهجرتين و ابناها الحسن و الحسين سيدا شباب (16/246)
أهل الجنة و جدهما أبو طالب بن عبد المطلب أشد الناس عارضة و شكيمة و أجودهم رأيا و أشهمهم نفسا و أمنعهم لما وراء ظهره منع النبي ص من جميع قريش ثم بني هاشم و بني المطلب ثم منع بني إخوانه من بني أخواته من بني مخزوم الذين أسلموا و هو أحد الذين سادوا مع الإقلال و هو مع هذا شاعر خطيب و من يطيق أن يفاخر بني أبي طالب و أمهم فاطمة بنت أسد بن هاشم و هي أول هاشمية ولدت لهاشمي و هي التي ربي رسول الله في حجرها و كان يدعوها أمي و نزل في قبرها و كان يوجب حقها كما يوجب حق الأم من يستطيع أن يسامي رجالا ولدهم هاشم مرتين من قبل أبيهم و من قبل أمهم قالوا و من العجائب أنها ولدت أربعة كل منهم أسن من الآخر بعشر سنين طالب و عقيل و جعفر و علي. و من الذي يعد من قريش أو من غيرهم ما يعده الطالبيون عشرة في نسق كل واحد منهم عالم زاهد ناسك شجاع جواد طاهر زاك فمنهم خلفاء و منهم مرشحون ابن ابن ابن ابن هكذا إلى عشرة و هم الحسن بن علي بن محمد بن علي بن موسى بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي ع و هذا لم يتفق لبيت من بيوت العرب و لا من بيوت العجم. (16/247)
شرح نهج البلاغة ج : 15 ص : 279قالوا فإن فخرتم بأن منكم اثنتين من أمهات المؤمنين أم حبيبة بنت أبي سفيان و زينب بنت جحش و فزينب امرأة من بني أسد بن خزيمة ادعيتموه بالحلف لا بالولادة و فينا رجل ولدته أمان من أمهات المؤمنين محمد بن عبد الله بن الحسن المحض وته خديجة أم المؤمنين و أم سلمة أم المؤمنين و ولدته مع ذلك فاطمة بنت الحسين بن علي و فاطمة سيدة نساء العالمين ابنة رسول الله ص و فاطمة بنت أسد بن هاشم و كان يقال خير النساء الفواطم و العواتك و هن أمهاته. قالوا و نحن إذا ذكرنا إنسانا فقبل أن نعد من ولده نأتي به شريفا في نفسه مذكورا بما فيه دون ما في غيره قلتم لنا عاتكة بنت يزيد و عاتكة في نفسها كامرأة من عرض قريش ليس فيها في نفسها خاصة أمر تستوجب به المفاخرة و نحن نقول منا فاطمة و فاطمة سيدة نساء العالمين و كذلك أمها خديجة الكبرى و إنما تذكران مع مريم بنت عمران و آسية بنت مزاحم اللتين ذكرهما النبي ص و ذكر إحداهما القرآن و هن المذكورات من جميع نساء العالم من العرب و العجم. و قلتم لنا عبد الله بن يزيد بن عبد الملك بن مروان ولده سبعة من الخلفاء و عبد الله هذا في نفسه ليس هناك و نحن نقول منا محمد بن علي بن عبد الله بن العباس بن عبد المطلب بن هاشم كلهم سيد و أمه العالية بنت عبيد الله بن العباس و إخوته داود و صالح و سليمان و عبد الله رجال كلهم أغر محجل ثم ولدت الرؤساء إبراهيم الإمام و أخويه أبا العباس و أبا جعفر و من جاء بعدهما من خلفاء بني العباس. و قلتم منا عبد الله بن يزيد و قلنا منا الحسين بن علي سيد شباب أهل الجنة شرح نهج البلاغة ج : 15 ص : 280و أولى الناس بكل مكرمة و أطهرهم طهارة مع النجدة و البصيرة و الفقه و الصبر و الحلم و الأنف و أخوه الحسن سيد شباب أهل الجنة و أرفع الناس درجة و أشبههم برسول الله خلقا و خلقو أبوهما علي بن أبي طالب قال شيخنا أبو عثمان و هو الذي ترك وصفه (16/248)
أبلغ في وصفه إذ كان هذا الكتاب يعجز عنه و يحتاج إلى كتاب يفرد له و عمهما ذو الجناحين و أمهما فاطمة و جدتهما خديجة و أخوالهما القاسم و عبد الله و إبراهيم و خالاتهما زينب و رقية و أم كلثوم و جدتاهما آمنة بنت وهب والدة رسول الله ص و فاطمة بنت أسد بن هاشم و جدهما رسول الله ص المخرس لكل فاخر و الغالب لكل منافر قل ما شئت و اذكر أي باب شئت من الفضل فإنك تجدهم قد حووه. و قالت أمية نحن لا ننكر فخر بني هاشم و فضلهم في الإسلام و لكن لا فرق بيننا في الجاهلية إذ كان الناس في ذلك الدهر لا يقولون هاشم و عبد شمس و لا هاشم و أمية بل يقولون كانوا لا يزيدون في الجميع على عبد مناف حتى كان أيام تميزهم في أمر علي و عثمان في الشورى ثم ما كان في أيام تحزبهم و حربهم مع علي و معاوية. و من تأمل الأخبار و الآثار علم أنه ما كان يذكر فرق بين البيتين و إنما يقال بنو عبد مناف أ لا ترى أن أبا قحافة سمع رجة شديدة و أصواتا مرتفعة و هو يومئذ شيخ كبير مكفوف فقال ما هذا قالوا قبض رسول الله ص قال فما صنعت قريش قالوا ولوا الأمر ابنك قال و رضيت بذلك بنو عبد مناف قالوا نعم قال و رضي بذلك بنو المغيرة قالوا نعم قال فلا مانع لما أعطى الله و لا معطي شرح نهج البلاغة ج : 15 ص : 281لما منع و لم يقل أ رضي بذلك بنو عبد شمس و إنما جمعهم على عبد مناف لأنه كذلك كان يقال. و هكذا قال أبو سفيان بن حرب لعلي ع و قد سخط إمارة أبي بكر أ رضيتم يا بني عبد مف أن تلي عليكم تيم و لم يقل أ رضيتم يا بني هاشم و كذلك قال خالد بن سعيد بن العاص حين قدم من اليمن و قد استخلف أبو بكر أ رضيتم معشر بني عبد مناف أن تلي عليكم تيم قالوا و كيف يفرقون بين هاشم و عبد شمس و هما أخوان لأب و أم و يدل على أن أمرهما كان واحدا و أن اسمهم كان جامعا (16/249)
قول النبي ص و صنيعه حين قال منا خير فارس في العرب عكاشة بن محصن
و كان أسديا و كان حليفا لبني عبد شمس و كل من شهد بدرا من بني كبير بن داود كانوا حلفاء بني عبد شمس فقال ضرار بن الأزور الأسدي ذاك منا يا رسول الله فقال ع بل هو منا بالحلف فجعل حليف بني عبد شمس حليف بني هاشم و هذا بين لا يحتاج صاحب هذه الصفة إلى أكثر منه. قالوا و لهذا نكح هذا البيت في هذا البيت فكيف صرنا نتزوج بنات النبي و بنات بني هاشم على وجه الدهر إلا و نحن أكفاء و أمرنا واحد و قد سمعتم إسحاق بن عيسى يقول لمحمد بن الحارث أحد بني عبد الرحمن بن عتاب بن أسيد لو لا حي أكرمهم الله بالرسالة لزعمت أنك أشرف الناس أ فلا ترى أنه لم يقدم علينا رهطه إلا بالرسالة. قالت هاشم قلتم لو لا أنا كنا أكفاءكم لما أنكحتمونا نساءكم فقد نجد القوم يستوون في حسب الأب و يفترقون في حسب الأنفس و ربما استووا في حسب أبي شرح نهج البلاغة ج : 15 ص : 282القبيلة كاستواء قريش في النضر بن كنانو يختلفون كاختلاف كعب بن لؤي و عامر بن لؤي و كاختلاف ابن قصي و عبد مناف و عبد الدار و عبد العزى و القوم قد يساوي بعضهم بعضا في وجوه و يفارقونهم في وجوه و يستجيزون بذلك القدر مناكحتهم و إن كانت معاني الشرف لم تتكامل فيهم كما تكاملت فيمن زوجهم و قد يزوج السيد ابن أخيه و هو حارض ابن حارض على وجه صلة الرحم فيكون ذلك جائزا عندهم و لوجوه في هذا الباب كثيرة فليس لكم أن تزعموا أنكم أكفاؤنا من كل وجه و إن كنا قد زوجناكم و ساويناكم في بعض الآباء و الأجداد و بعد فأنتم في الجاهلية و الإسلام قد أخرجتم بناتكم إلى سائر قريش و إلى سائر العرب أ فتزعمون أنهم أكفاؤكم عينا بعين و أما قولكم إن الحيين كان يقال لهما عبد مناف فقد كان يقال لهما أيضا مع غيرهما من قريش و بنيها بنو النضر و قال الله تعالى وَ أَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ فلم يدع النبي ص أحدا من بني عبد شمس و كانت عشيرته الأقربون بني هاشم و بني المطلب و عشيرته فوق ذاك عبد مناف و (16/250)
فوق ذلك قصي و من ذلك أن النبي ص لما أتي بعبد الله بن عامر بن كريز بن حبيب بن عبد شمس و أم عامر بن كريز أم حكيم البيضاء بنت عبد المطلب بن هاشم قال ع هذا أشبه بنا منه بكم ثم تفل في فيه فازدرده فقال أرجو أن تكون مشفيا فكان كما قال ففي قوله هو أشبه بنا منه بكم خصلتان إحداهما أن عبد شمس و هاشما لو كانا شيئا واحدا كما أن عبد المطلب شي ء واحد لما قال هو بنا أشبه به منكم و الأخرى أن في هذا القول تفضيلا لبني هاشم على بني عبد شمس أ لا ترون أنه خرج خطيا جوادا نبيلا و سيدا مشفيا له مصانع و آثار كريمة لأنه قال و هو بنا أشبه به منكم و أتي عبد المطلب شرح نهج البلاغة ج : 15 ص : 283بعامر بن كريز و هو ابن ابنته أم حكيم البيضاء فتأمله و قال و عظام هاشم ما ولدنا ولدا أحرض منه فكان كما قال عبد الله يحمق و لم يقو عظام عبد مناف لأن شرف جده عبد مناف له فيه شركاء و شرف هاشم أبيه خالص له. فأما ما ذكرتم من قول أبي سفيان و خالد بن سعيد أ رضيتم معشر بني عبد مناف أن تلي عليكم تيم فإن هذه الكلمة كلمة تحريض و تهييج فكان الأبلغ فيما يريد من اجتماع قلوب الفريقين أن يدعوهم لأب و أن يجمعهم على واحد و إن كانا مفترقين و هذا المذهب سديد و هذا التدبير صحيح. قال معاوية بن صعصعة للأشهب بن رميلة و هو نهشلي و للفرزدق بن غالب و هو مجاشعي و لمسكن بن أنيف و هو عبدلي أ رضيتم معشر بني دارم أن يسب آباءكم و يشتم أعراضكم كلب بني كليب و إنما نسبهم إلى دارم الأب الأكبر المشتمل على آباء قبائلهم ليستووا في الحمية و يتفقوا على الأنف و هذا في مثل هذا الموضع تدبير صحيح. قالوا و يدل على ما قلنا ما قاله الشعراء في هذا الباب قبل مقتل عثمان و قبل صفين قال حسان بن ثابت لأبي سفيان الحارث بن عبد المطلب (16/251)
و أنت منوط نيط في آل هاشم كما نيط خلف الراكب القدح الفرد
لم يقل نيط في آل عبد مناف. و قال
ما أنت من هاشم في بيت مكرمة و لا بني جمح الخضر الجلاعيد (16/252)
شرح نهج البلاغة ج : 15 ص : 284و لم يقل ما أنت من آل عبد مناف و كيف يقول هذا و قد علم الناس أن عبد مناف ولد أربعة هاشما و المطلب و عبد شمس و نوفلا و أن هاشما و المطلب كانا يدا واحدة و أن عبد شمس و نوفلا كانا يدا واحدة و كان مما بطأ ببني نوفل عن الإسلام إاء إخوتهم من بني عبد شمس و كان مما حث بني المطلب على الإسلام فضل محبتهم لبني هاشم لأن أمر النبي ص كان بينا و إنما كانوا يمتنعون منه من طريق الحسد و البغضة فمن لم يكن فيه هذه العلة لم يكن له دون الإسلام مانع و لذلك لم يصحب النبي ص من بني نوفل أحد فضلا أن يشهدوا معه المشاهد الكريمة و إنما صحبه حلفاؤهم كيعلى بن منبه و عتبة بن غزوان و غيرهما و بنو الحارث بن المطلب كلهم بدري عبيد و طفيل و حصين و من بني المطلب مسطح بن أثاثة بدري. و كيف يكون الأمر كما قلتم و أبو طالب يقول لمطعم بن عدي بن نوفل في أمر النبي ص لما تمالأت قريش عليه
جزى الله عنا عبد شمس و نوفلا جزاء مسي ء عاجلا غير آجل أ مطعم إما سامني القوم خطة فأنى متى أوكل فلست بأكل أ مطعم لم أخذلك في يوم شدة و لا مشهد عند الأمور الجلاو لقد قسم النبي ص قسمة فجعلها في بني هاشم و بني المطلب فأتاه عثمان بن عفان بن أبي العاص بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف و جبير بن مطعم بن عدي بن نوفل بن عبد مناف فقالا له يا رسول الله إن قرابتنا منك و قرابة بني المطلب واحدة فكيف أعطيتهم دوننا فقال النبي ص إنا لم نزل و بني المطلب كهاتين و شبك بين أصابعه فكيف تقولون كنا شيئا واحدا و كان الاسم الذي يجمعنا واحدا شرح نهج البلاغة ج : 15 ص : 285ثم نرجع إلى افتخار بني هاشم قالوا و إن كان الفخر بالأيد و القوة و اهتصار الأقران و مباطشة الرجال فمن أين لكم كمحمد بن الفية و قد سمعتم أخباره و أنه قبض على درع فاضلة فجذبها فقطع ذيلها ما استدار منه كله و سمعتم أيضا حديث الأيد القوي الذي أرسله ملك الروم إلى معاوية يفخر به على العرب و أن محمدا قعد له ليقيمه فلم يستطع فكأنما يحرك جبلا و أن الرومي قعد ليقيمه محمد فرفعه إلى فوق رأسه ثم جلد به الأرض هذا مع الشجاعة المشهورة و الفقه في الدين و الحلم و الصبر و الفصاحة و العلم بالملاحم و الأخبار عن الغيوب حتى ادعي له أنه المهدي و قد سمعتم أحاديث أبي إسحاق المعتصم و أن أحمد بن أبي دواد عض ساعده بأسنانه أشد العض فلم يؤثر فيه و أنه قال ما أظن الأسنة و لا السهام تؤثر في جسده و سمعتم ما قيل في عبد الكريم المطيع و أنه جذب ذنب ثور فاستله من بين وركيه. و إن كان الفخر بالبشر و طلاقة الأوجه و سجاحة الأخلاق فمن مثل علي بن أبي طالب ع و قد بلغ من سجاحة خلقه و طلاقة وجهه أن عيب بالدعابة و من الذي يسوي بين عبد شمس و بين هاشم في ذلك كان الوليد جبارا و كان هشام شرس الأخلاق و كان مروان بن محمد لا يزال قاطبا عابسا و كذلك كان يزيد بن الوليد الناقص و كان المهدي (16/253)
المنصور أسرى خلق الله و ألطفهم خلقا و كذلك محمد الأمين و أخوه المأمون و كان السفاح يضرب به المثل في السرو و سجاحة الخلق. قالوا و نحن نعد من رهطنا رجالا لا تعدون أمثالهم أبدا فمنا الأمراء بالديلم الناصر الكبير و هو الحسن الأطروش بن علي بن الحسن بن عمر بن علي بن عمر الأشرف شرح نهج البلاغة ج : 15 ص : 286بن زين العابدين و هو الذي أسلمت الديلم على يده و ناصر الأصغر و هو أحمد بن يحيى بن الحسن بن القاسم بن إبراهيم بن طباطبا و أخوه محمد بن يحيى و هو الملقب بالمرتضى و أبوه يحيى بن الحسن و هو الملقب بالهادي و من ولد الناصر الكبير الثائر و هو جعفر بن محمد بن الحسن الناصر الكبير و هم الأمراء بطبرستان و جيلان و جرجان و مازندران و سائر ممالك الديلم ملكوا تلك الأصقاع مائة و ثلاثين سنة و ضربوا الدنانير و الدراهم بأسمائهم و خطب لهم على المنابر و حاربوا الملوك السامانية و كسروا جيوشهم و قتلوا أمراءهم فهؤلاء واحدهم أعظم كثيرا من ملوك بني أمية و أطول مدة و أعدل و أنصف و أكثر نسكا و أشد حضا على الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر و ممن يجري مجراهم الداعي الأكبر و الداعي الأصغر ملكا الديلم قادا الجيوش و اصطنعا الصنائع. قالوا و لنا ملوك مصر و إفريقية ملكوا مائتين و سبعين سنة فتحوا الفتوح و استردوا ما تغلب عليه الروم من مملكة الإسلام و اصطنعوا الصنائع الجليلة. و لهم الكتاب و الشعراء و الأمراء و القواد فأولهم المهدي عبيد الله بن ميمون بن محمد بن إسماعيل بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب و آخرهم العاضد و هو عبد الله بن الأمير أبي القاسم بن الحافظ أبي الميمون بن المستعلي بن المستنصر بن الطاهر بن الحاكم بن عبد العزيز بن المعز بن المنصور بن القائم بن المهدي فإن افتخرت الأموية بملوكها في الأندلس من ولد هشام بن عبد الملك و اتصال ملكهم و جعلوهم بإزاء ملوكنا بمصر و إفريقية قلنا لهم إلا أنا (16/254)
نحن أزلنا ملككم بالأندلس كما أزلنا ملككم بالشام و المشرق كله لأنه لما ملك قرطبة (16/255)
شرح نهج البلاغة ج : 15 ص : 287الظافر من بني أمية و هو سليمان بن الحكم بن سليمان بن عبد الرحمن الملقب بالناصر خرج عليه علي بن حميد بن ميمون بن أحمد بن علي بن عبد الله بن عمر بن إدريس بن عبد الله بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب ع فقتله و أزال ملكه. ولك قرطبة دار ملك بني أمية و يلقب بالناصر ثم قام بعده أخوه القاسم بن حمود و يلقب بالمعتلي فنحن قتلناكم و أزلنا ملككم في المشرق و المغرب و نحن لكم على الرصد حيث كنتم اتبعناكم فقتلناكم و شردناكم كل مشرد و الفخر للغالب على المغلوب بهذا قضت الأمم قاطبة قالوا و لنا من أفراد الرجال من ليس لكم مثله منا يحيى بن محمد بن علي بن عبد الله بن العباس كان شجاعا جريئا و هو الذي ولي الموصل لأخيه السفاح فاستعرض أهلها حتى ساخت الأقدام في الدم. و منا يعقوب بن إبراهيم بن عيسى بن أبي جعفر المنصور كان شاعرا فصيحا و هو المعروف بأبي الأسباط و منا محمد و جعفر ابنا سليمان بن علي كانا أعظم من ملوك بني أمية و أجل قدرا و أكثر أموالا و مكانا عند الناس و أهدى محمد بن سليمان من البصرة إلى الخيزران مائة وصيفة في يد كل واحدة منهن جام من ذهب وزنه ألف مثقال مملوء مسكا و كان لجعفر بن سليمان ألفا عبد من السودان خاصة فكم يكون ليت شعري غيرهم من البيض و من الإماء و ما رئي جعفر بن سليمان راكبا قط إلا ظن أنه الخليفة. و من رجالنا محمد بن السفاح كان جوادا أيدا شديد البطش قالوا ما رئي أخوان شرح نهج البلاغة ج : 15 ص : 288أشد قوة من محمد و ريطة أخته ولدي أ العباس السفاح كان محمد يأخذ الحديد فيلويه فتأخذه هي فترده. و من رجالنا محمد بن إبراهيم طباطبا صاحب أبي السرايا كان ناسكا عابدا فقيها عظيم القدر عند أهل بيته و عند الزيدية. و من رجالنا عيسى بن موسى بن محمد بن علي بن عبد الله بن العباس و هو
الذي شيد ملك المنصور و حارب ابني عبد الله بن حسن و أقام عمود الخلافة بعد اضطرابه و كان فصيحا أديبا شاعرا. و من رجالنا عبد الوهاب بن إبراهيم الإمام حج بالناس و ولي الشام و كان فصيحا خطيبا. و من رجالنا عبد الله بن موسى الهادي كان أكرم الناس و جوادا ممدوحا أديبا شاعرا و أخوه عيسى بن موسى الهادي كان أكرم الناس و أجود الناس كان يلبس الثياب و قد حدد ظفره فيخرقها بظفره لئلا تعاد إليه و عبد الله بن أحمد بن عبد الله بن موسى الهادي و كان أديبا ظريفا. و من رجالنا عبد الله بن المعتز بالله كان أوحد الدنيا في الشعر و الأدب و الأمثال الحكمية و السؤدد و الرئاسة كان كما قيل فيه لما قتل (16/256)
لله درك من ميت بمضيعة ناهيك في العلم و الأشعار و الخطب ما فيه لو و لا لو لا فتنقصه و إنما أدركته حرفة الأدبو من رجالنا النقيب أبو أحمد الحسين بن موسى شيخ بني هاشم الطالبيين و العباسيين في عصره و من أطاعه الخلفاء و الملوك في أقطار الأرض و رجعوا إلى قوله و ابناه علي و محمد و هما المرتضى و الرضي و هما فريدا العصر في الأدب و الشعر و الفقه و الكلام و كان الرضي شجاعا أديبا شديد الأنف شرح نهج البلاغة ج : 15 ص : 289و من رجالنا القاسم بن عبد الرحيم بن عيسى بن موسى الهادي كان شاعرا ظريفا. و من رجالنا القاسم بن إبراهيم طباطبا صاحب المصنفات و الورع و الدعاء إلى الله و إلى التوحيد و العدل و منابذة الظالمين و من أولاده أمرااليمن. و من رجالنا محمد الفأفاء بن إبراهيم الإمام كان سيدا مقدما ولي الموسم و حج بالناس و كان الرشيد يسايره و هو مقنع بطيلسانه. و من رجالنا محمد بن محمد بن زيد بن علي بن الحسين صاحب أبي السرايا ساد حدثا و كان شاعرا أديبا فقيها يأمر بالمعروف و ينهى عن المنكر و لما أسر و حمل إلى المأمون أكرمه و أفضل عليه و رعى له فضله و نسبه. و من رجالنا موسى بن عيسى بن محمد بن علي بن عبد الله بن العباس كنيته أبو عيسى و هو أجل ولد عيسى و أنبلهم ولي الكوفة و سوادها زمانا طويلا للمهدي ثم الهادي و ولي المدينة و إفريقية و مصر للرشيد قال له ابن السماك لما رأى تواضعه إن تواضعك في شرفك لأحب إلي من شرفك فقال موسى إن قومنا يعني بني هاشم يقولون إن التواضع أحد مصائد الشرف. و من رجالنا موسى بن محمد أخو السفاح و المنصور كان نبيلا عندهم هو و إبراهيم الإمام لأم واحدة رأى في منامه قبل أن يصير من أمرهم ما صار أنه دخل بستانا فلم يأخذ إلا عنقودا واحدا عليه من الحب المتراص ما ربك به عليم فلم يولد له إلا عيسى ثم ولد لعيسى من ظهره أحد و ثلاثون ذكرا و عشرون أنثى. و من رجالنا عبد الله بن الحسن بن الحسن بن علي (16/257)
بن أبي طالب ع و هو عبد الله المحض و أبوه الحسن بن الحسن و أمه فاطمة بنت الحسين و كان إذا قيل من شرح نهج البلاغة ج : 15 ص : 290أجمل الناس قالوا عبد الله بن الحسن فإذا قيل من أكرم الناس قالوا عبد الله بن الحسن فإذا قالوا من أشرف الناس قالوا عبد الله بن الحسن. و من رجالنا أخوه الحسن بن الحسن و عمه د بن الحسن و بنوه محمد و إبراهيم و موسى و يحيى أما محمد و إبراهيم فأمرهما مشهور و فضلهما غير مجحود في الفقه و الأدب و النسك و الشجاعة و السؤدد و أما يحيى صاحب الديلم فكان حسن المذهب و الهدي مقدما في أهل بيته بعيدا مما يعاب على مثله و قد روى الحديث و أكثر الرواية عن جعفر بن محمد و روى عن أكابر المحدثين و أوصى جعفر بن محمد إليه لما حضرته الوفاة و إلى ولده موسى بن جعفر و أما موسى بن عبد الله بن الحسن فكان شابا نجيبا صبورا شجاعا سخيا شاعرا. و من رجالنا الحسن المثلث و هو الحسن بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب ع كان متألها فاضلا ورعا يذهب في الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر مذهب أهله و إبراهيم بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب ع كان مقدما في أهله يقال إنه أشبه أهل زمانه برسول الله ص. و من رجالنا عيسى بن زيد و يحيى بن زيد أخوه و كانا أفضل أهل زمانهما شجاعة و زهدا و فقها و نسكا. و من رجالنا يحيى بن عمر بن يحيى بن الحسين بن زيد صاحب الدعوة كان فقيها فاضلا شجاعا فصيحا شاعرا و يقال إن الناس ما أحبوا طالبيا قط دعا إلى نفسه حبهم يحيى و لا رثي أحد منهم بمثل ما رثي به. (16/258)
شرح نهج البلاغة ج : 15 ص : 291قال أبو الفرج الأصفهاني كان يحيى فارسا شجاعا شديد البدن مجتمع القلب بعيدا عن زهو الشباب و ما يعاب به مثله كان له عمود حديد ثقيل يصحبه في منزله فإذا سخط على عبد أو أمة من حشمه لواه في عنقه فلا يقدر أحد أن يحله عنه حتى يحله ه و من رجالنا محمد بن القاسم بن علي بن عمر بن الحسين بن علي بن أبي طالب ع صاحب الطالقان لقب بالصوفي لأنه لم يكن يلبس إلا الصوف الأبيض و كان عالما فقيها دينا زاهدا حسن المذهب يقول بالعدل و التوحيد. و من رجالنا محمد بن علي بن صالح بن عبد الله بن موسى بن حسن بن حسن بن علي بن أبي طالب ع كان من فتيان آل أبي طالب و فتاكهم و شجعانهم و ظرفائهم و شعرائهم و له شعر لطيف محفوظ. و منهم أحمد بن عيسى بن زيد كان فاضلا عالما مقدما في عشيرته معروفا بالفضل و قد روى الحديث و روي عنه. و من رجالنا موسى بن جعفر بن محمد و هو العبد الصالح جمع من الفقه و الدين و النسك و الحلم و الصبر و ابنه علي بن موسى المرشح للخلافة و المخطوب له بالعهد كان أعلم الناس و أسخى الناس و أكرم الناس أخلاقا. قالوا و أما ما ذكرتم من أمر الشجرة الملعونة فإن المفسرين كلهم قالوا ذلك و رووا فيه أخبارا كثيرة عن النبي ص و لستم قادرين على جحد ذلك و قد عرفتم تأخركم عن الإسلام و شدة عداوتكم للرسول الداعي إليه و محاربتكم في بدر و أحد و الخندق و صدكم الهدي عن البيت و ليس ذلك مما يوجب أن يعمكم اللعن حتى شرح نهج البلاغة ج : 15 ص : 292لا يغادر واحدا فإن زعم ذلك زاعم فقد تى و أما اختصاص محمد بن علي بالوصية و الخلافة دون إخوته فقد علمتم أن وراثة السيادة و المرتبة ليس من جنس وراثة الأموال أ لا ترى أن المرأة و الصبي و المجنون يرثون الأموال و لا يرثون المراتب و سواء في الأموال كان الابن حارضا بائرا أو بارعا جامعا. و قيل وراثة المقام سبيل وراثة اللواء دفع رسول الله ص لواء بني عبد الدار إلى مصعب (16/259)
بن عمير و دفع عمر بن الخطاب لواء بني تميم إلى وكيع بن بشر ثم دفعه إلى الأحنف حين لم يوجد في بني زرارة من يستحق وراثة اللواء فإن كان الأمر بالسن فإنما كان بين محمد بن علي و أبيه علي بن عبد الله أربع عشرة سنة كان علي يخضب بالسواد و محمد يخضب بالحمرة فكان القادم يقدم عليهما و الزائر يأتيهما فيظن أكثرهم أن محمدا هو علي و أن عليا هو محمد حتى ربما قيل لعلي كيف أصبح الشيخ من علته و متى رجع الشيخ إلى منزله و أخرى أن أمه كانت العالية بنت عبد الله بن العباس فقد ولده العباس مرتين و ولده جواد بني العباس كما والده خيرهم و حبرهم و لم يكن لأحد من إخوته مثل ذلك و كان بعض ولد محمد أسن من عامة ولد علي و ولد محمد المهدي بن عبد الله المنصور و العباس بن محمد بن علي في عام واحد و كذلك محمد بن سليمان بن علي و لم يكن لأحد من ولد علي بن عبد الله بن العباس و إن كانوا فضلاء نجباء كرماء نبلاء مثل عقله و لا كجماله كان إذا دخل المدينة و مكة جلس الناس على أبواب دورهم و النساء على سطوحهن للنظر إليه و التعجب من كماله و بهائه و قد قاتل إخوته أعداءه في دفع الملك إلى ولده غير مكرهين و لا مجبرين على أن محمدا إنما أخذ الأمر عن أساس مؤسس و قاعدة مقررة و وصية انتقلت إليه من أبي هاشم عبد الله بن محمد بن الحنفية و أخذها أبو هاشم عن أبيه محمد و أخذها محمد عن علي بن أبي طالب أبيه. (16/260)
شرح نهج البلاغة ج : 15 ص : 293قالوا لما سمت بنو أمية أبا هاشم مرض فخرج من الشام وقيذا يؤم المدينة فمر بالحميمة و قد أشفى فاستدعى محمد بن علي بن عبد الله بن العباس فدفع الوصية إليه و عرفه ما يصنع و أخبره بما سيكون من الأمر و قال له إني لم أدفعها إليك من قاء نفسي و لكن أبي أخبرني عن أبيه علي بن أبي طالب ع بذلك و أمرني به و أعلمني بلقائي إياك في هذا المكان ثم مات فتولى محمد بن علي تجهيزه و دفنه و بث الدعاة حينئذ في طلب الأمر و هو الذي قال لرجال الدعوة و القائمين بأمر الدولة حين اختارهم للتوجه و انتخبهم للدعاء و حين قال بعضهم ندعو بالكوفة و قال بعضهم بالبصرة و قال بعضهم بالجزيرة و قال بعضهم بالشام و قال بعضهم بمكة و قال بعضهم بالمدينة و احتج كل إنسان لرأيه و اعتل لقوله فقال محمد أما الكوفة و سوادها فشيعة علي و ولده و أما البصرة فعثمانية تدين بالكف و قبيل عبد الله المقتول يدينون بجميع الفرق و لا يعينون أحدا و أما الجزيرة فحرورية مارقة و الخارجية فيهم فاشية و أعراب كأعلاج و مسلمون في أخلاق النصارى و أما الشام فلا يعرفون إلا آل أبي سفيان و طاعة بني مروان عداوة راسخة و جهلا متراكما و أما مكة و المدينة فقد غلب عليهما أبو بكر و عمر و ليس يتحرك معنا في أمرنا هذا منهم أحد و لا يقوم بنصرنا إلا شيعتنا أهل البيت و لكن عليكم بخراسان فإن هناك العدد الكثير و الجلد الظاهر و صدورا سليمة و قلوبا مجتمعة لم تتقسمها الأهواء و لم تتوزعها النحل و لم تشغلها ديانة و لا هدم فيها فساد و ليس لهم اليوم همم العرب و لا فيهم تجارب كتجارب الأتباع مع السادات و لا تحالف كتحالف القبائل و لا عصبية كعصبية العشائر و ما زالوا ينالون و يمتهون و يظلمون فيكظمون و ينتظرون الفرج و يؤملون شرح نهج البلاغة ج : 15 ص : 294دولة و هم جند لهم أبدان و أجسام و منب و كواهل و هامات و لحي و شوارب و أصوات هائلة و لغات فخمة تخرج من (16/261)
أجواف منكرة. و بعد فكأني أتفاءل جانب المشرق فإن مطلع الشمس سراج الدنيا و مصباح هذا الخلق فجاء الأمر كما دبر و كما قدر فإن كان الرأي الذي رأى صوابا فقد وافق الرشاد و طبق المفصل و إن كان ذلك عن رواية متقدمة فلم يتلق تلك الرواية إلا عن نبوة. قالوا و أما قولكم إن منا رجلا مكث أربعين سنة أميرا و خليفة فإن الإمارة لا تعد فخرا مع الخلافة و لا تضم إليها و نحن نقول إن منا رجلا مكث سبعا و أربعين سنة خليفة و هو أحمد الناصر بن الحسن المستضي ء و منا رجل كث خمسا و أربعين سنة خليفة و هو عبد الله القائم و مكث أبوه أحمد القادر ثلاثا و أربعين سنة خليفة فملكهما أكثر من ملك بني أمية كلهم و هم أربعة عشر خليفة. و يقول الطالبيون منا رجل مكث ستين سنة خليفة و هو معد بن الطاهر صاحب مصر و هذه مدة لم يبلغها خليفة و لا ملك من ملوك العرب في قديم الدهر و لا في حديثه. و قلتم لنا عاتكة بنت يزيد يكتنفها خمسة من الخلفاء و نحن نقول لنا زبيدة بنت جعفر يكتنفها ثمانية من الخلفاء جدها المنصور خليفة و عم أبيها السفاح خليفة و عمها المهدي خليفة و ابن عمها الهادي خليفة و بعلها الرشيد خليفة و ابنها الأمين خليفة و ابنا بعلها المأمون و المعتصم خليفتان. قالوا و أما ما ذكرتموه من الأعياص و العنابس فلسنا نصدقكم فيما زعمتموه أصلا بهذه التسمية و إنما سموا الأعياص لمكان العيص و أبي العيص و العاص و أبي العاص و هذه أسماؤهم الأعلام ليست مشتقة من أفعال لهم كريمة و لا خسيسة و أما العنابس (16/262)
شرح نهج البلاغة ج : 15 ص : 295فإنما سموا بذلك لأن حرب بن أمية كان اسمه عنبسة و أما حرب فلقبه ذكر ذلك النسابون و لما كان حرب أمثلهم سموا جماعتهم باسمه فقيل العنابس كما يقال المهالبة و المناذرة و لهذا المعنى سمي أبو سفيان بن حرب بن عنبسة و سمي سعيد بن الع بن عنبسة
شرح نهج البلاغة ج : 16 ص : 1الجزء السادس عشرتتمة باب الكتب و الرسائل (17/1)
شرح نهج البلاغة ج : 16 ص : 3بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله الواحد العدل29- و من كتاب له ع إلى أهل البصرة
وَ قَدْ كَانَ مِنِ انْتِشَارِ حَبْلِكُمْ وَ شِقَاقِكُمْ مَا لَمْ تَغْبَوْا عَنْهُ فَعَفَوْتُ عَنْ مُجْرِمِكُمْ وَ رَفَعْتُ السَّيْفَ عَنْ مُدْبِرِكُمْ وَ قَبِلْتُ مِنْ مُقْبِلِكُمْ فَإِنْ خَطَتْ بِكُمُ الْأُمُورُ الْمُرْدِيَةُ وَ سَفَهُ الآْرَاءِ الْجَائِرَةِ إِلَى مُنَابَذَتِي وَ خِلَافِي فَهَأَنَذَا قَدْ قَرَّبْتُ جِيَادِي وَ رَحَلُتْ رِكَابِي وَ لَئِنْ أَلْجَأْتُمُونِي إِلَى الْمَسِيرِ إِلَيْكُمْ لَأُوقِعَنَّ بِكُمْ وَقْعَةً لَا يَكُونُ يَوْمُ الْجَمَلِ إِلَيْهَا إِلَّا كَلَعْقَةِ لَاعِقٍ مَعَ أَنِّي عَارِفٌ لِذِي الطَّاعَةِ مِنْكُمْ فَضْلَهُ وَ لِذِي النَّصِيحَةِ حَقَّهُ غَيْرُ مُتَجَاوِزٍ مُتَّهَماً إِلَى بَرِيٍّ وَ لَا نَاكِثاً إِلَى وَفِيٍّ
ما لم تغبوا عنه أي لم تسهوا عنه و لم تغفلوا يقال غبيت عن الشي ء أغبي غباوة إذا لم يفطن و غبي الشي ء علي كذلك إذا لم تعرفه و فلان غبي على فعيل أي قليل الفطنة و قد تغابى أي تغافل يقول لهم قد كان من خروجكم يوم الجمل عن الطاعة شرح نهج البلاغة ج : 16 ص : 4وكم حبل الجماعة و شقاقكم لي ما لستم أغبياء عنه فغفرت و رفعت السيف و قبلت التوبة و الإنابة. و المدبر هاهنا الهارب و المقبل الذي لم يفر لكن جاءنا فاعتذر و تنصل. ثم قال فإن خطت بكم الأمور خطا فلان خطوة يخطو و هو مقدار ما بين القدمين فهذا لازم فإن عديته قلت أخطيت بفلان و خطوت به و هاهنا قد عداه بالباء. و المردية المهلكة و الجائرة العادلة عن الصواب و المنابذة مفاعلة من نبذت إليه عهده أي ألقيته و عدلت عن السلم إلى الحرب أو من نبذت زيدا أي أطرحته و لم أحفل به. قوله قربت جيادي أي أمرت بتقريب خيلي إلى لأركب و أسير إليكم. و رحلت ركابي الركاب الإبل و رحلتها شددت على ظهورها الرحل قال (17/2)
رحلت سمية غدوة أجمالها غضبى عليك فما تقول بدا لها
كلعقة لاعق مثل يضرب للشي ء الحقير التافه و يروى بضم اللام و هي ما تأخذه الملعقة. ثم عاد فقال مازجا الخشونة باللين مع أني عارف فضل ذي الطاعة منكم و حق ذي النصيحة و لو عاقبت لما عاقبت البري ء بالسقيم و لا أخذت الوفي بالناكث. خطب زياد بالبصرة الخطبة الغراء مشهورة و قال فيها و الله لآخذن البري ء بالسقيم و البر باللئيم و الوالد بالولد و الجار بالجار أو تستقيم إلي قناتكم فقام أبو بلال مرداس شرح نهج البلاغة ج : 16 ص : 5ابن أدية يهمس و هو حينئذ شيخ كبير فقال أيها الأمير أنبأنا الله بخلاف ما قلت و حكم بغير ما ح قال سبحانه وَ لا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى فقال زياد يا أبا بلال إني لم أجهل ما علمت و لكنا لا نخلص إلى الحق منكم حتى نخوض إليه الباطل خوضا. و في رواية الرياشي لآخذن الولي بالولي و المقيم بالظاعن و المقبل بالمدبر و الصحيح بالسقيم حتى يلقى الرجل منكم أخاه فيقول انج سعد فقد هلك سعيد أو تستقيم لي قناتكم (17/3)
شرح نهج البلاغة ج : 16 ص : 306- و من كتاب له ع إلى معاويةفَاتَّقِ اللَّهَ فِيمَا لَدَيْكَ وَ انْظُرْ فِي حَقِّهِ عَلَيْكَ وَ ارْجِعْ إِلَى مَعْرِفَةِ مَا لَا تُعْذَرُ بِجَهَالَتِهِ فَإِنَّ لِلطَّاعَةِ أَعْلَاماً وَاضِحَةً وَ سُبُلًا نَيِّرَةً وَ مَحَجَّةً نَهْجَةً وَ غَايَةً مُطَّلَبَةً يَرِدُهَا الْأَكْيَاسُ وَ يُخَالِفُهَا الْأَنْكَاسُ مَنْ نَكَبَ عَنْهَا جَارَ عَنِ الْحَقِّ وَ خَبَطَ فِي التِّيهِ وَ غَيَّرَ اللَّهُ نِعْمَتَهُ وَ أَحَلَّ بِهِ نِقْمَتَهُ فَنَفْسَكَ نَفْسَكَ فَقَدْ بَيَّنَ اللَّهُ لَكَ سَبِيلَكَ وَ حَيْثُ تَنَاهَتْ بِكَ أُمُورُكَ فَقَدْ أَجْرَيْتَ إِلَى غَايَةِ خُسْرٍ وَ مَحَلَّةِ كُفْرٍ فَإِنَّ نَفْسَكَ قَدْ أَوْلَجَتْكَ شَرّاً وَ أَقْحَمَتْكَ غَيّاً وَ أَوْرَدَتْكَ الْمَهَالِكَ وَ أَوْعَرَتْ عَلَيْكَ الْمَسَالِكَ
قوله و غاية مطلبة أي مساعفة لطالبها بما يطلبه تقول طلب فلان مني كذا فأطلبته أي أسعفت به قال الراوندي مطلبة بمعنى متطلبة يقال طلبت كذا و تطلبته و هذا ليس بشي ء و يخرج الكلام عن أن يكون له معنى. و الأكياس العقلاء و الأنكاس جمع نكس و هو الدني ء من الرجال و ب عنها عدل. قوله و حيث تناهت بك أمورك الأولى ألا يكون هذا معطوفا و لا متصلا شرح نهج البلاغة ج : 16 ص : 7بقوله فقد بين الله لك سبيلك بل يكون كقولهم لمن يأمرونه بالوقوف حيث أنت أي قف حيث أنت فلا يذكرون الفعل و مثله قولهم مكانك أي قف مكانك. قوله فقد أجريت يل فلان قد أجرى بكلامه إلى كذا أي الغاية التي يقصدها هي كذا مأخوذ من إجراء الخيل للمسابقة و كذلك قد أجرى بفعله إلى كذا أي انتهى به إلى كذا و يروى قد أوحلتك شرا أو أورطتك في الوحل و الغي ضد الرشاد. و أقحمتك غيا جعلتك مقتحما له. و أوعرت عليك المسالك جعلتها وعرة. و (17/4)
أول هذا الكتاب أما بعد فقد بلغني كتابك تذكر مشاغبتي و تستقبح موازرتي و تزعمني متحيرا و عن الحق مقصرا فسبحان الله كيف تستجيز الغيبة و تستحسن العضيهة أي لم أشاغب إلا في أمر بمعروف أو نهي عن منكر و لم أتجبر إلا على باغ مارق أو ملحد منافق و لم آخذ في ذلك إلا بقول الله سبحانه لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ يُوادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَ رَسُولَهُ وَ لَوْ كانُوا آباءَهُمْ أَوْ أَبْناءَهُمْ أَوْ إِخْوانَهُمْ و أما التقصير في حق الله تعالى فمعاذ الله و إنما المقصر في حق الله جل ثناؤه من عطل الحقوق المؤكدة و ركن إلى الأهواء المبتدعة و أخلد إلى الضلالة المحيرة و من العجب أن تصف يا معاوية الإحسان و تخالف البرهان و تنكث الوثائق التي هي لله عز و جل طلبة و على عباده حجة مع نبذ الإسلام و تضييع الأحكام و طمس الأعلام شرح نهج البلاغة ج : 1ص : 8و الجري في الهوى و التهوس في الردى فاتق الله فيما لديك و انظر في حقه عليك (17/5)
الفصل المذكور في الكتاب. و في الخطبة زيادات يسيرة لم يذكرها الرضي رحمه الله منها
و إن للناس جماعة يد الله عليها و غضب الله على من خالفها فنفسك نفسك قبل حلول رمسك فإنك إلى الله راجع و إلى حشره مهطع و سيبهظك كربه و يحل بك غمه في يوم لا يغني النادم ندمه و لا يبل من المعتذر عذره يَوْمَ لا يُغْنِي مَوْلًى عَنْ مَوْلًى شَيْئاً وَ لا هُمْ يُنْصَرُونَ
شرح نهج البلاغة ج : 16 ص : 319- و من وصيته ع للحسن ع كتبها إليه بحاضرين عند انصرافه من صفينمِنَ الْوَالِدِ الْفَانِ الْمُقِرِّ لِلزَّمَانِ الْمُدْبِرِ الْعُمُرِ الْمُسْتَسْلِمِ لِلدَّهْرِ الذَّامِّ لِلدُّنْيَا السَّاكِنِ مَسَاكِنَ الْمَوْتَى الظَّاعِنِ عَنْهَا غَداً إِلَى الْمَوْلُودِ الْمُؤَمِّلِ مَا لَا يُدْرِكُ السَّالِكِ سَبِيلَ مَنْ قَدْ هَلَكَ غَرَضِ الْأَسْقَامِ وَ رَهِينَةِ الْأَيَّامِ وَ رَمِيَّةِ الْمَصَائِبِ وَ عَبْدِ الدُّنْيَا وَ تَاجِرِ الْغُرُورِ وَ غَرِيمِ الْمَنَايَا وَ أَسِيرِ الْمَوْتِ وَ حَلِيفِ الْهُمُومِ وَ قَرِينِ الْأَحْزَانِ وَ نُصُبِ الآْفَاتِ وَ صَرِيعِ الشَّهَوَاتِ وَ خَلِيفَةِ الْأَمْوَاتِ (17/6)
ترجمة الحسن بن علي و ذكر بعض أخباره
قال الزبير بن بكار في كتاب أنساب قريش ولد الحسن بن علي ع للنصف من شهر رمضان سنة ثلاث من الهجرة و سماه رسول الله ص حسنا و توفي لليال خلون من شهر ربيع الأول سنة خمسين. قال و المروي أن رسول الله ص سمى حسنا و حسينا رضي الله عنهما يوم سابعهما و اشتق اسم حسين من اسم حسن. شرح نهج البلاغة ج : 16 ص : 1 قال و روى جعفر بن محمد ع أن فاطمة ع حلقت حسنا و حسينا يوم سابعهما و وزنت شعرهما فتصدقت بوزنه فضة
قال الزبير و روت زينب بنت أبي رافع قالت أتت فاطمة ع بابنيها إلى رسول الله ص في شكوه الذي توفي فيه فقالت يا رسول الله هذان ابناك فورثهما شيئا فقال أما حسن فإن له هيبتي و سوددي و أما حسين فإن له جرأتي و جودي
و روى محمد بن حبيب في أماليه أن الحسن ع حج خمس عشرة حجة ماشيا تقاد الجنائب معه و خرج من ماله مرتين و قاسم الله عز و جل ثلاث مرات ماله حتى أنه كان يعطي نعلا و يمسك نعلا و يعطي خفا و يمسك خفا. و
روى أبو جعفر محمد بن حبيب أيضا أن الحسن ع أعطى شاعرا فقال له رجل من جلسائه سبحان الله أ تعطي شاعرا يعصي الرحمن و يقول البهتان فقال يا عبد الله إن خير ما بذلت من مالك ما وقيت به عرضك و إن من ابتغاء الخير اتقاء الشر (17/7)
و روى أبو جعفر قال قال ابن عباس رحمه الله أول ذل دخل على العرب موت الحسن ع. و
روى أبو الحسن المدائني قال سقي الحسن ع السم أربع مرات فقال لقد سقيته مرارا فما شق علي مثل مشقته هذه المرة فقال له الحسين ع أخبرني من سقاك قال لتقتله قال نعم قال ما أنا بمخبرك إن يكن صاحبي الذي أظن فالله أشد نقمة و إلا فما أحب أن يقتل بي بري ء شرح نهج البلاغة ج : 16 ص : 11و روى أبو الحسن قال قال معاوية لابن عباس و لقيه بمكة يا عجبا من وفاة الحسن شرب علة بماء رومة فقضى نحبة فوجم ابن عباس فقال معاوية لا يحزنك الله و لا يسوءك فقال لا يسوءني ما أبقاك الله فأمر له بمائة ألف درهم. و روى أبو الحسن ق أول من نعى الحسن ع بالبصرة عبد الله بن سلمة نعاه لزياد فخرج الحكم بن أبي العاص الثقفي فنعاه فبكى الناس و أبو بكرة يومئذ مريض فسمع الضجة فقال ما هذا فقالت امرأته ميسة بنت سخام الثقفية مات الحسن بن علي فالحمد لله الذي أراح الناس منه فقال اسكتي ويحك فقد أراحه الله من شر كثير و فقد الناس بموته خيرا كثيرا يرحم الله حسنا. قال أبو الحسن المدائني و كانت وفاته في سنة تسع و أربعين و كان مرضه أربعين يوما و كانت سنه سبعا و أربعين سنة دس إليه معاوية سما على يد جعدة بنت الأشعث بن قيس زوجة الحسن و قال لها إن قتلتيه بالسم فلك مائة ألف و أزوجك يزيد ابني فلما مات وفى لها بالمال و لم يزوجها من يزيد قال أخشى أن تصنع بابني كما صنعت بابن رسول الله ص. و
روى أبو جعفر محمد بن حبيب عن المسيب بن نجبة قال سمعت أمير المؤمنين ع يقول أنا أحدثكم عني و عن أهل بيتي أما عبد الله ابن أخي فصاحب لهو و سماح و أما الحسن فصاحب جفنة و خوان فتى من فتيان قريش و لو قد التقت حلقتا البطان لم يغن عنكم شيئا في الحرب و أما أنا و حسين فنحن منكم و أنتم منا (17/8)
شرح نهج البلاغة ج : 16 ص : 12 قال أبو جعفر و روى ابن عباس قال دخل الحسن بن علي ع على معاوية بعد عام الجماعة و هو جالس في مجلس ضيق فجلس عند رجليه فتحدث معاوية بما شاء أن يتحدث ثم قال عجبا لعائشة تزعم أني في غير ما أنا أهله و أن الذي أصبحت فيه ليس لي بحق لها و لهذا يغفر الله لها إنما كان ينازعني في هذا الأمر أبو هذا الجالس و قد استأثر الله به فقال الحسن أ و عجب ذلك يا معاوية قال إي و الله قال أ فلا أخبرك بما هو أعجب من هذا قال ما هو قال جلوسك في صدر المجلس و أنا عند رجليك فضحك معاوية و قال يا ابن أخي بلغني أن عليك دينا قال إن لعلي دينا قال كم هو قال مائة ألف فقال قد أمرنا لك بثلاثمائة ألف مائة منها لدينك و مائة تقسمها في أهل بيتك و مائة لخاصة نفسك فقم مكرما و اقبض صلتك فلما خرج الحسن ع قال يزيد بن معاوية لأبيه تالله ما رأيت رجلا استقبلك بما استقبلك به ثم أمرت له بثلاثمائة ألف قال يا بني إن الحق حقهم فمن أتاك منهم فاحث له
و روى أبو جعفر محمد بن حبيب قال قال علي ع لقد تزوج الحسن و طلق حتى خفت أن يثير عداوة
قال أبو جعفر و كان الحسن إذا أراد أن يطلق امرأة جلس إليها فقال أ يسرك أن أهب لك كذا و كذا فتقول له ما شاءت أو نعم فيقول هو لك فإذا قام أرسل إليها بالطلاق و بما سمى لها. و روى أبو الحسن المدائني قال تزوج الحسن بن علي ع هندا بنت سهيل ابن عمرو و كانت عند عبد الله بن عامر بن كريز فطلقها فكتب معاوية إلى أبي هريرة أن يخطبها على يزيد بن معاوية فلقيه الحسن ع فقال أين تريد قال أخطب هندا بنت سهيل بن عمرو على يزيد بن معاوية قال الحسن ع شرح نهج البلاغة ج : 16 ص : 13فاذكرني لها فأتاها أبو هريرة فأخبرها الخبر فقالت اختلي فقال أختار لك الحسن فتزوجته فقدم عبد الله بن عامر المدينة فقال للحسن إن لي عند هند وديعة فدخل إليها و الحسن معه فخرجت حتى جلست بين يدي عبد الله بن عامر فرق لها رقة عظيمة فقال الحسن أ لا أنزل لك عنها فلا أراك تجد محللا خيرا لكما مني قال لا ثم قال لها وديعتي فأخرجت سفطين فيهما جوهر ففتحهما و أخذ من أحدهما قبضة و ترك الآخر عليها و كانت قبل ابن عامر عند عبد الرحمن بن عتاب بن أسيد فكانت تقول سيدهم جميعا الحسن و أسخاهم ابن عامر و أحبهم إلي عبد الرحمن بن عتاب. و روى أبو الحسن المدائني قال تزوج الحسن حفصة بنت عبد الرحمن بن أبي بكر و كان المنذر بن الزبير يهواها فأبلغ الحسن عنها شيئا فطلقها فخطبها المنذر فأبت أن تتزوجه و قالت شهر بي فخطبها عاصم بن عمر بن الخطاب فتزوجها فأبلغه المنذر عنها شيئا فطلقها فخطبها المنذر فقيل لها تزوجيه فقالت لا و الله ما أفعل و قد فعل بي ما قد فعل مرتين لا و الله لا يراني في منزله أبدا. و روى المدائني عن جويرية بن أسماء قال لما مات الحسن ع أخرجوا جنازته فحمل مروان بن الحكم سريره فقال له الحسين ع تحمل اليوم جنازته و كنت بالأمس تجرعه الغيظ قال مروان نعم كنت أفعل ذلك بمن يوازن حلمه الجبال. و (17/9)
روى المدائني عن يحيى بن زكريا عن هشام بن عروة قال قال الحسن عند وفاته ادفنوني عند قبر رسول الله ص إلا أن تخافوا أن يكون في ذلك شر (17/10)
فلما أرادوا دفنه قال مروان بن الحكم لا يدفن عثمان في حش كوكب و يدفن الحسن هاهنا شرح نهج البلاغة ج : 16 ص : 14فاجتمع بنو هاشم و بنو أمية و أعان هؤلاء قوم و هؤلاء قوم و جاءوا بالسلاح فقال أبو هريرة لمروان أ تمنع الحسن أن يدفن في هذا الموضع و قد سمعت رسول الله ص يقول الحسن و الحسين سيدا شباب أهل الجنة
قال مروان دعنا منك لقد ضاع حديث رسول الله ص إذ كان لا يحفظه غيرك و غير أبي سعيد الخدري و إنما أسلمت أيام خيبر قال أبو هريرة صدقت أسلمت أيام خيبر و لكنني لزمت رسول الله ص و لم أكن أفارقه و كنت أسأله و عنيت بذلك حتى علمت من أحب و من أبغض و من قرب و من أبعد و من أقر و من نفى و من لعن و من دعا له فلما رأت عائشة السلاح و الرجال و خافت أن يعظم الشر بينهم و تسفك الدماء قالت البيت بيتي و لا آذن لأحد أن يدفن فيه و أبى الحسين ع أن يدفنه إلا مع جده فقال له محمد بن الحنفية يا أخي إنه لو أوصى أن ندفنه لدفناه أو نموت قبل ذلك و لكنه قد استثنى و قال إلا أن تخافوا الشر فأي شر يرى أشد مما نحن فيه فدفنوه في البقيع. قال أبو الحسن المدائني وصل نعي الحسن ع إلى البصرة في يومين و ليلتين فقال الجارود بن أبي سبرة
إذا كان شر سار يوما و ليلة و إن كان خير أخر السير أربعاإذا ما بريد الشر أقبل نحونا بإحدى الدواهي الربد سار و أسرعا
و روى أبو الحسن المدائني قال خرج على معاوية قوم من الخوارج بعد دخوله الكوفة و صلح الحسن ع له فأرسل معاوية إلى الحسن ع يسأله أن يخرج فيقاتل الخوارج فقال الحسن سبحان الله تركت قتالك و هو لي حلال لصلاح الأمة و ألفتهم أ فتراني أقاتل معك فخطب معاوية أهل الكوفة فقال يا أهل الكوفة شرح نهج البلاغة ج : 16 ص : 15أ تروني قاتلتكم على الصلاة و الزكاة و الحج و قد علمت أنكم تصلون و تزكون و تحجون و لكنني قاتلتكم لأتأمر عليكم و على رقابكم و قد آتاني الله ذلك و أنتم كارهون ألا إن كل مال أو دم أصيب في هذه الفتنة فمطلول و كلرط شرطته فتحت قدمي هاتين و لا يصلح الناس إلا ثلاث إخراج العطاء عند محله و إقفال الجنود لوقتها و غزو العدو في داره فإنهم إن لم تغزوهم غزوكم ثم نزل. (17/11)
قال المدائني فقال المسيب بن نجبة للحسن ع ما ينقضي عجبي منك بايعت معاوية و معك أربعون ألفا و لم تأخذ لنفسك وثيقة و عقدا ظاهرا أعطاك أمرا فيما بينك و بينه ثم قال ما قد سمعت و الله ما أراد بها غيرك قال فما ترى قال أرى أن ترجع إلى ما كنت عليه فقد نقض ما كان بينه و بينك فقال يا مسيب إني لو أردت بما فعلت الدنيا لم يكن معاوية بأصبر عند اللقاء و لا أثبت عند الحرب مني و لكني أردت صلاحكم و كف بعضكم عن بعض فارضوا بقدر الله و قضائه حتى يستريح بر أو يستراح من فاجر
قال المدائني و دخل عبيدة بن عمرو الكندي على الحسن ع و كان ضرب على وجهه ضربة و هو مع قيس بن سعد بن عبادة فقال ما الذي أرى بوجهك قال أصابني مع قيس فالتفت حجر بن عدي إلى الحسن فقال لوددت أنك كنت مت قبل هذا اليوم و لم يكن ما كان إنا رجعنا راغمين بما كرهنا و رجعوا مسرورين بما أحبوا فتغير وجه الحسن و غمز الحسين ع حجرا فسكت فقال الحسن ع يا حجر ليس كل الناس يحب ما تحب و لا رأيه كرأيك و ما فعلت إلا إبقاء عليك و الله كل يوم في شأن. شرح نهج البلاغة ج : 16 ص : 1 قال المدائني و دخل عليه سفيان بن أبي ليلى النهدي فقال له السلام عليك يا مذل المؤمنين فقال الحسن اجلس يرحمك الله إن رسول الله ص رفع له ملك بني أمية فنظر إليهم يعلون منبره واحدا فواحدا فشق ذلك عليه فأنزل الله تعالى في ذلك قرآنا قال له وَ ما جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْناكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ وَ الشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ و سمعت عليا أبي رحمه الله يقول سيلي أمر هذه الأمة رجل واسع البلعوم كبير البطن فسألته من هو فقال معاوية و قال لي إن القرآن قد نطق بملك بني أمية و مدتهم قال تعالى لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ قال أبي هذه ملك بني أمية (17/12)
قال المدائني فلما كان عام الصلح أقام الحسن ع بالكوفة أياما ثم تجهز للشخوص إلى المدينة فدخل عليه المسيب بن نجبة الفزاري و ظبيان بن عمارة التيمي ليودعاه فقال الحسن الحمد لله الغالب على أمره لو أجمع الخلق جميعا على ألا يكون ما هو كائن ما استطاعوا فقال أخوه الحسين ع لقد كنت كارها لما كان طيب النفس على سبيل أبي حتى عزم علي أخي فأطعته و كأنما يجذ أنفي بالمواسي فقال المسيب إنه و الله ما يكبر علينا هذا الأمر إلا أن تضاموا و تنتقصوا فأما نحن فإنهم سيطلبون مودتنا بكل ما قدروا عليه فقال الحسين يا مسيب نحن نعلم أنك تحبنا فقال الحسن ع سمعت أبي يقول سمعت رسول الله ص يقول من أحب قوما كان معهم (17/13)
فعرض له المسيب و ظبيان بالرجوع فقال ليس لي إلى ذلك سبيل فلما كان من غد خرج فلما صار بدير هند نظر إلى الكوفة و قال
و لا عن قلى فارقت دار معاشري هم المانعون حوزتي و ذماري
شرح نهج البلاغة ج : 16 ص : 17ثم سار إلى المدينة. قال المدائني فقال معاوية يومئذ للوليد بن عقبة بن أبي معيط بعد شخوص الحسن ع يا أبا وهب هل رمت قال نعم و سموت. قال المدائني أراد معاوية قول الوليد بن عقبة يحرضه على الطلب بدم عثمانألا أبلغ معاوية بن حرب فإنك من أخي ثقة مليم قطعت الدهر كالسدم المعنى تهدر في دمشق و لا تريم فلو كنت القتيل و كان حيا لشمر لا ألف و لا سئوم و إنك و الكتاب إلى علي كدابغة و قد حلم الأدو روى المدائني عن إبراهيم بن محمد عن زيد بن أسلم قال دخل رجل على الحسن ع بالمدينة و في يده صحيفة فقال له الرجل ما هذه قال هذا كتاب معاوية يتوعد فيه على أمر كذا فقال الرجل لقد كنت على النصف فما فعلت فقال له الحسن ع أجل و لكني خشيت أن يأتي يوم القيامة سبعون ألفا أو ثمانون ألفا تشخب أوداجهم دما كلهم يستعدي الله فيم هريق دمه
قال أبو الحسن و كان الحصين بن المنذر الرقاشي يقول و الله ما وفى معاوية للحسن بشي ء مما أعطاه قتل حجرا و أصحاب حجر و بايع لابنه يزيد و سم الحسن. شرح نهج البلاغة ج : 16 ص : قال المدائني و روى أبو الطفيل قال قال الحسن ع لمولى له أ تعرف معاوية بن خديج قال نعم قال إذا رأيته فأعلمني فرآه خارجا من دار عمرو ابن حريث فقال هو هذا فدعاه فقال له أنت الشاتم عليا عند ابن آكلة الأكباد أما و الله لئن وردت الحوض و لم ترده لترينه مشمرا عن ساقيه حاسرا عن ذراعيه يذود عنه المنافقين (17/14)
قال أبو الحسن و روى هذا الخبر أيضا قيس بن الربيع عن بدر بن الخليل عن مولى الحسن ع.
قال أبو الحسن و حدثنا سليمان بن أيوب عن الأسود بن قيس العبدي إن الحسن ع لقي يوما حبيب بن مسلمة فقال له يا حبيب رب مسير لك في غير طاعة الله فقال أما مسيري إلى أبيك فليس من ذلك قال بلى و الله و لكنك أطعت معاوية على دنيا قليلة زائلة فلئن قام بك في دنياك لقد قعد بك في آخرتك و لو كنت إذ فعلت شرا قلت خيرا كان ذلك كما قال عز و جل خَلَطُوا عَمَلًا صالِحاً وَ آخَرَ سَيِّئاً و لكنك كما قال سبحانه كَلَّا بَلْ رانَ عَلى قُلُوبِهِمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ
قال أبو الحسن طلب زياد رجلا من أصحاب الحسن ممن كان في كتاب الأمان فكتب إليه الحسن من الحسن بن علي إلى زياد أما بعد فقد علمت ما كنا أخذنا من الأمان لأصحابنا و قد ذكر لي فلان أنك تعرضت له فأحب ألا تعرض له إلا بخير و السلام
شرح نهج البلاغة ج : 16 ص : 19فلما أتاه الكتاب و ذلك بعد ادعاء معاوية إياه غضب حيث لم ينسبه إلى أبي سفيان فكتب إليه من زياد بن أبي سفيان إلى الحسن أما بعد فإنه أتاني كتابك في فاسق تؤويه الفساق من شيعتك و شيعة أبيك و ايم الله لأطلبنه بين جلدك و لحمك و إن ب الناس إلي لحما أن آكله للحم أنت منه و السلام. فلما قرأ الحسن ع الكتاب بعث به إلى معاوية فلما قرأه غضب و كتب من معاوية بن أبي سفيان إلى زياد أما بعد فإن لك رأيين رأيا من أبي سفيان و رأيا من سمية فأما رأيك من أبي سفيان فحلم و حزم و أما رأيك من سمية فما يكون من مثلها إن الحسن بن علي ع كتب إلي بأنك عرضت لصاحبه فلا تعرض له فإني لم أجعل لك عليه سبيلا و إن الحسن ليس ممن يرمى به الرجوان و العجب من كتابك إليه لا تنسبه إلى أبيه أو إلى أمه فالآن حين اخترت له و السلام. قلت جرى في مجلس بعض الأكابر و أنا حاضر القول في أن عليا ع شرف بفاطمة ع فقال إنسان كان حاضر المجلس بل فاطمة ع شرفت به و خاض الحاضرون في ذلك بعد إنكارهم تلك اللفظة و سألني صاحب المجلس أن أذكر ما عندي في المعنى و أن أوضح أيما أفضل علي أم فاطمة فقلت أما أيهما أفضل فإن أريد بالأفضل الأجمع للمناقب التي تتفاضل بها الناس نحو العلم و الشجاعة و نحو ذلك فعلي أفضل و إن أريد بالأفضل الأرفع منزلة عند الله فالذي شرح نهج البلاغة ج : 16 ص : 20استقر عليه رأي المتأخرين من أصحابنا أن عليا أرفع المسلمين كافة عند الله تعالى بعد رسول الله ص من الذكور و الإناث و فاطمة امرأة مالمسلمين و إن كانت سيدة نساء العالمين و يدل على ذلك أنه قد ثبت أنه أحب الخلق إلى الله تعالى بحديث الطائر و فاطمة من الخلق و أحب الخلق إليه سبحانه أعظمهم ثوابا يوم القيامة على ما فسره المحققون من أهل الكلام و إن أريد بالأفضل الأشرف نسبا ففاطمة أفضل لأن أباها سيد ولد آدم من الأولين و الآخرين فليس في آباء علي ع مثله و لا (17/15)
مقارنه و إن أريد بالأفضل من كان رسول الله ص أشد عليه حنوا و أمس به رحما ففاطمة أفضل لأنها ابنته و كان شديد الحب لها و الحنو عليها جدا و هي أقرب إليه نسبا من ابن العم لا شبهة في ذلك. فأما القول في أن عليا شرف بها أو شرفت به فإن عليا ع كانت أسباب شرفه و تميزه على الناس متنوعة فمنها ما هو متعلق بفاطمة ع و منها ما هو متعلق بأبيها ص و منها ما هو مستقل بنفسه. فأما الذي هو مستقل بنفسه فنحو شجاعته و عفته و حلمه و قناعته و سجاحة أخلاقه و سماحة نفسه و أما الذي هو متعلق برسول الله ص فنحو علمه و دينه و زهده و عبادته و سبقه إلى الإسلام و إخباره بالغيوب. و أما الذي يتعلق بفاطمة ع فنكاحه لها حتى صار بينه و بين رسول الله ص الصهر المضاف إلى النسب و السبب و حتى إن ذريته منها صارت ذرية لرسول الله ص و أجزاء من ذاته ع و ذلك لأن الولد إنما يكون من مني الرجل و دم المرأة و هما جزءان من ذاتي الأب و الأم ثم هكذا أبدا في ولد الولد و من بعده من البطون دائما فهذا هو القول في شرف علي ع بفاطمة. (17/16)
شرح نهج البلاغة ج : 16 ص : 21فأما شرفها به فإنها و إن كانت ابنة سيد العالمين إلا أن كونها زوجة علي أفادها نوعا من شرف آخر زائدا على ذلك الشرف الأول أ لا ترى أن أباها لو زوجها أبا هريرة أو أنس بن مالك لم يكن حالها في العظمة و الجلالة كحالها الآن و كذلك لكان بنوها و ذريتها من أبي هريرة و أنس بن مالك لم يكن حالهم في أنفسهم كحالهم الآن. قال أبو الحسن المدائني و كان الحسن كثير التزوج تزوج خولة بنت منظور بن زبان الفزارية و أمها مليكة بنت خارجة بن سنان فولدت له الحسن بن الحسن و تزوج أم إسحاق بنت طلحة بن عبيد الله فولدت له ابنا سماه طلحة و تزوج أم بشر بنت أبي مسعود الأنصاري و اسم أبي مسعود عقبة بن عمر فولدت له زيد بن الحسن و تزوج جعدة بنت الأشعث بن قيس و هي التي سقته السم و تزوج هند ابنة سهيل بن عمرو و حفصة ابنة عبد الرحمن بن أبي بكر و تزوج امرأة من كلب و تزوج امرأة من بنات عمرو بن أهتم المنقري و امرأة من ثقيف فولدت له عمرا و تزوج امرأة من بنات علقمة ابن زرارة و امرأة من بني شيبان من آل همام بن مرة فقيل له إنها ترى رأي الخوارج فطلقها و قال إني أكره أن أضم إلى نحري جمرة من جمر جهنم. و قال المدائني و خطب إلى رجل فزوجه و قال له إني مزوجك و أعلم أنك ملق طلق غلق و لكنك خير الناس نسبا و أرفعهم جدا و أبا. قلت أما قوله ملق طلق فقد صدق و أما قوله غلق فلا فإن الغلق الكثير الضجر و كان الحسن ع أوسع الناس صدرا و أسجحهم خلقا. شرح نهج البلاغة ج : 16 ص : 22قال المدائني أحصيت زوج الحسن بن علي فكن سبعين امرأة. قال المدائني و لما توفي علي ع خرج عبد الله بن العباس بن عبد المطلب إلى الناس فقال إن أمير المؤمنين ع توفي و قد ترك خلفا فإن أحببتم خرج إليكم و إن كرهتم فلا أحد على أحد فبكى الناس و قالوا بل يخرج إلينا (17/17)
فخرج الحسن ع فخطبهم فقال أيها الناس اتقوا الله فإنا أمراؤكم و أولياؤكم و إنا أهل البيت الذين قال الله تعالى فينا إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَ يُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً فبايعه الناس (17/18)
و كان خرج إليهم و عليه ثياب سود ثم وجه عبد الله بن عباس و معه قيس بن سعد بن عبادة مقدمة له في اثني عشر ألفا إلى الشام و خرج و هو يريد المدائن فطعن بساباط و انتهب متاعه و دخل المدائن و بلغ ذلك معاوية فأشاعه و جعل أصحاب الحسن الذين وجههم مع عبد الله يتسللون إلى معاوية الوجوه و أهل البيوتات فكتب عبد الله بن العباس بذلك إلى الحسن ع فخطب الناس و وبخهم و قال خالفتم أبي حتى حكم و هو كاره ثم دعاكم إلى قتال أهل الشام بعد التحكيم فأبيتم حتى صار إلى كرامة الله ثم بايعتموني على أن تسالموا من سالمني و تحاربوا من حاربني و قد أتاني أن أهل الشرف منكم قد أتوا معاوية و بايعوه فحسبي منكم لا تغروني من ديني و نفسي. و أرسل عبد الله بن الحارث بن نوفل بن الحارث بن عبد المطلب و أمه هند بنت أبي سفيان بن حرب إلى معاوية يسأله المسالمة و اشترط عليه العمل بكتاب الله و سنة نبيه و ألا يبايع لأحد من بعده و أن يكون الأمر شورى و أن يكون الناس أجمعون آمنين. شرح نهج البلاغة ج : 16 ص : 23و كتب بذلك كتابا فأبى الحسين ع و امتنع فكلمه الحسن حتى رضي و قدم معاوية إلى الكوفة. قال أبو الحسن و حدثنا أبو بكر بن الأسود قال كتب ابن العباس إلى الحسن أما بعفإن المسلمين ولوك أمرهم بعد علي ع فشمر للحرب و جاهد عدوك و قارب أصحابك و اشتر من الظنين دينه بما لا يثلم لك دينا و وال أهل البيوتات و الشرف تستصلح به عشائرهم حتى يكون الناس جماعة فإن بعض ما يكره الناس ما لم يتعد الحق و كانت عواقبه تؤدي إلى ظهور العدل و عز الدين خير من كثير مما يحبه الناس إذا كانت عواقبه تدعو إلى ظهور الجور و ذل المؤمنين و عز
الفاجرين و اقتد بما جاء عن أئمة العدل فقد جاء عنهم أنه لا يصلح الكذب إلا في حرب أو إصلاح بين الناس فإن الحرب خدعة و لك في ذلك سعة إذا كنت محاربا ما لم تبطل حقا. و اعلم أن عليا أباك إنما رغب الناس عنه إلى معاوية أنه أساء بينهم في الفي ء و سوى بينهم في العطاء فثقل عليهم و اعلم أنك تحارب من حارب الله و رسوله في ابتداء الإسلام حتى ظهر أمر الله فلما وحد الرب و محق الشرك و عز الدين أظهروا الإيمان و قرءوا القرآن مستهزءين بآيات و قاموا إلى الصلاة و هم كسالى و أدوا الفرائض (17/19)
شرح نهج البلاغة ج : 16 ص : 24و هم لها كارهون فلما رأوا أنه لا يعز في الدين إلا الأتقياء الأبرار توسموا بسيما الصالحين ليظن المسلمون بهم خيرا فما زالوا بذلك حتى شركوهم في أماناتهم و قالوا حسابهم على الله فإن كانوا صادقين فإخواننا في الدين و إن كانوا كاذب كانوا بما اقترفوا هم الأخسرين و قد منيت بأولئك و بأبنائهم و أشباههم و الله ما زادهم طول العمر إلا غيا و لا زادهم ذلك لأهل الدين إلا مقتا فجاهدهم و لا ترض دنية و لا تقبل خسفا فإن عليا لم يجب إلى الحكومة حتى غلب على أمره فأجاب و إنهم يعلمون أنه أولى بالأمر إن حكموا بالعدل فلما حكموا بالهوى رجع إلى ما كان عليه حتى أتى عليه أجله و لا تخرجن من حق أنت أولى به حتى يحول الموت دون ذلك و السلام
قال المدائني و كتب الحسن ع إلى معاوية من عبد الله الحسن بن علي أمير المؤمنين إلى معاوية بن أبي سفيان أما بعد فإن الله بعث محمدا ص رحمة للعالمين فأظهر به الحق و قمع به الشرك و أعز به العرب عامة و شرف به قريشا خاصة فقال وَ إِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَ لِقَوْمِكَ فلما توفاه الله تنازعت العرب في الأمر بعده فقالت قريش نحن عشيرته و أولياؤه فلا تنازعونا سلطانه فعرفت العرب لقريش ذلك و جاحدتنا قريش ما عرفت لها العرب فهيهات ما أنصفتنا قريش و قد كانوا ذوي فضيلة في الدين و سابقة في الإسلام و لا غرو إلا منازعته إيانا الأمر بغير حق في الدنيا معروف و لا أثر في الإسلام محمود فالله الموعد نسأل الله ألا يؤتينا في هذه الدنيا شيئا ينقصنا عنده في الآخرة إن عليا لما توفاه الله ولاني المسلمون الأمر بعده فاتق الله يا معاوية و انظر لأمة محمد شرح نهج البلاغة ج : 16 ص : 25ص ما تحقن به اءها و تصلح به أمرها و السلام (17/20)
و بعث بالكتاب مع الحارث بن سويد التيمي تيم الرباب و جندب الأزدي فقدما على معاوية فدعواه إلى بيعة الحسن ع فلم يجبهما و كتب جوابه أما بعد فقد فهمت ما ذكرت به رسول الله و هو أحق الأولين و الآخرين بالفضل كله و ذكرت تنازع المسلمين الأمر بعده فصرحت بتهمة أبي بكر الصديق و عمر و أبي عبيدة الأمين و صلحاء المهاجرين فكرهت لك ذلك إن الأمة لما تنازعت الأمر بينها رأت قريشا أخلقها به فرأت قريش و الأنصار و ذوو الفضل و الدين من المسلمين أن يولوا من قريش أعلمها بالله و أخشاها له و أقواها على الأمر فاختاروا أبا بكر و لم يألوا و لو علموا مكان رجل غير أبي بكر يقوم مقامه و يذب عن حرم الإسلام ذبه ما عدلوا بالأمر إلى أبي بكر و الحال اليوم بيني و بينك على ما كانوا عليه فلو علمت أنك أضبط لأمر الرعية و أحوط على هذه الأمة و أحسن سياسة و أكيد للعدو و أقوى على جمع الفي ء لسلمت لك الأمر عد أبيك فإن أباك سعى على عثمان حتى قتل مظلوما فطالب الله بدمه و من يطلبه الله فلن يفوته ثم ابتز الأمة أمرها و فرق جماعتها فخالفه نظراؤه من أهل السابقة و الجهاد و القدم في الإسلام و ادعى أنهم نكثوا بيعته فقاتلهم فسفكت الدماء و استحلت الحرم ثم أقبل إلينا لا يدعي علينا بيعة و لكنه يريد أن يملكنا اغترارا فحاربناه و حاربنا ثم صارت الحرب إلى أن اختار رجلا و اخترنا رجلا ليحكما بما تصلح عليه الأمة و تعود به الجماعة و الألفة و أخذنا بذلك عليهما ميثاقا و عليه مثله و علينا مثله على الرضا بما حكما فأمضى الحكمان عليه الحكم بما علمت و خلعاه فو الله ما رضي بالحكم و لا صبر لأمر الله فكيف تدعوني إلى أمر إنما تطلبه بحق أبيك و قد خرج منه فانظر لنفسك و لدينك و السلام. شرح نهج البلاغة ج : 16 ص : 26قال ثم قال للحارث و جندب ارجعا فليس بيني و بينكم إلا السيف فرجعا و أقبل إلى العر في ستين ألفا و استخلف على الشام الضحاك بن قيس الفهري و الحسن مقيم (17/21)
بالكوفة لم يشخص حتى بلغه أن معاوية قد عبر جسر منبج فوجه حجر بن عدي يأمر العمال بالاحتراس و يذب الناس فسارعوا فعقد لقيس بن سعد بن عبادة على اثني عشر ألفا فنزل دير عبد الرحمن و استخلف على الكوفة المغيرة بن نوفل بن الحارث ابن عبد المطلب و أمر قيس بن سعد بالمسير و ودعه و أوصاه فأخذ على الفرات و قرى الفلوجة ثم إلى مسكن (17/22)
و ارتحل الحسن ع متوجها نحو المدائن فأتى ساباط فأقام بها أياما فلما أراد أن يرحل إلى المدائن قام فخطب الناس فقال أيها الناس إنكم بايعتموني على أن تسالموا من سالمت و تحاربوا من حاربت و إني و الله ما أصبحت محتملا على أحد من هذه الأمة ضغينة في شرق و لا غرب و لما تكرهون في الجماعة و الألفة و الأمن و صلاح ذات البين خير مما تحبون في الفرقة و الخوف و التباغض و العداوة و إن عليا أبي كان يقول لا تكرهوا إمارة معاوية فإنكم لو فارقتموه لرأيتم الرءوس تندر عن كواهلها كالحنظل ثم نزل
فقال الناس ما قال هذا القول إلا و هو خالع نفسه و مسلم الأمر لمعاوية فثاروا به فقطعوا كلامه و انتهبوا متاعه و انتزعوا مطرفا كان عليه و أخذوا جارية كانت معه و اختلف الناس فصارت طائفة معه و أكثرهم عليه فقال اللهم أنت المستعان و أمر بالرحيل فارتحل الناس و أتاه رجل بفرس فركبه و أطاف به بعض أصحابه فمنعوا الناس عنه و ساروا فقدمه سنان بن الجراح الأسدي إلى مظلم ساباط فأقام به فلما دنا منه تقدم إليه يكلمه و طعنه في فخذه بالمعول طعنة كادت تصل إلى العظم فغشي عليه و ابتدره أصحابه فسبق إليه عبيد الله الطائي فصرع سنانا و أخذ ظبيان بن عمارة المعول شرح نهج البلاغة ج : 16 ص : 27من يده فضربه به فقطع أنفه ثم ضربه بصخرة على رأسه فقتله و أفاق الحسن ع من غشيته فعصبوا جرحه و قد نزف و ضعف فقدموا به المدائن و عليها سعد بن مسعود عم المختار بن أبي عبيد و أقام بالمدائن حتى برأ من جرحهقال المدائني و كان الحسن ع أكبر ولد علي و كان سيدا سخيا حليما خطيبا و كان رسول الله ص يحبه سابق يوما بين الحسين و بينه فسبق الحسن فأجلسه على فخذه اليمنى ثم أجلس الحسين على الفخذ اليسرى فقيل له يا رسول الله أيهما أحب إليك فقال أقول كما قال إبراهيم أبونا و قيل له أي ابنيك أحب إليك قال أكبرهما و هو الذي يلد ابني محمدا ص. و (17/23)
روى المدائني عن زيد بن أرقم قال خرج الحسن ع و هو صغير و عليه بردة و رسول الله ص يخطب فعثر فسقط فقطع رسول الله ص الخطبة و نزل مسرعا إليه و قد حمله الناس فتسلمه و أخذه على كتفه و قال إن الولد لفتنة لقد نزلت إليه و ما أدري ثم صعد فأتم الخطبة
و روى المدائني قال لقي عمرو بن العاص الحسن ع في الطواف فقال له يا حسن زعمت أن الدين لا يقوم إلا بك و بأبيك فقد رأيت الله أقامه بمعاوية فجعله راسيا بعد ميله و بينا بعد خفائه أ فرضي الله بقتل عثمان أ و من الحق أن تطوف بالبيت كما يدور الجمل بالطحين عليك ثياب كغرقئ البيض و أنت قاتل عثمان و الله إنه لألم للشعث و أسهل للوعث أن يوردك معاوية حياض أبيك فقال الحسن ع إن لأهل النار علامات يعرفون بها إلحادا لأولياء الله و موالاة لأعداء الله و الله إنك شرح نهج البلاغة ج : 16 ص : 28لتعلم أن عليا لم يرتب في الدين و لا يشفي الله ساعة و لا طرفة عين قط و ايم الله لتنتهين يا ابن أم عمرو أو لأنفذن حضنيك بنوافذ أشد من القعضبية فإياك و التهجم علي فإني من قد عرفت لست بضعيف الغمزة و لا هش المشاشة و لا مري ء المأكلة و إني من قريش كواسطة القلادة يعرف حسبي و لا أدعى لغير أبي و أنت م تعلم و يعلم الناس تحاكمت فيك رجال قريش فغلب عليك جزاروها ألأمهم حسبا و أعظمهم لؤما فإياك عني فإنك رجس و نحن أهل بيت الطهارة أذهب الله عنا الرجس و طهرنا تطهيرا فأفحم عمرو و انصرف كئيبا (17/24)
و روى أبو الحسن المدائني قال سأل معاوية الحسن بن علي بعد الصلح أن يخطب الناس فامتنع فناشده أن يفعل فوضع له كرسي فجلس عليه ثم قال الحمد لله الذي توحد في ملكه و تفرد في ربوبيته يؤتي الملك من يشاء و ينزعه عمن يشاء و الحمد لله الذي أكرم بنا مؤمنكم و أخرج من الشرك أولكم و حقن دماء آخركم فبلاؤنا عندكم قديما و حديثا أحسن البلاء إن شكرتم أو كفرتم أيها الناس إن رب علي كان أعلم بعلي حين قبضه إليه و لقد اختصه بفضل لم تعتادوا مثله و لم تجدوا مثل سابقته فهيهات هيهات طالما قلبتم له الأمور حتى أعلاه الله عليكم و هو صاحبكم و عدوكم في بدر و أخواتها جرعكم رنقا و سقاكم علقا و أذل رقابكم و أشرقكم بريقكم فلستم بملومين على بغضه و ايم الله لا ترى أمة محمد خفضا ما كانت سادتهم و قادتهم في بني أمية و لقد وجه الله إليكم فتنة لن تصدروا عنها حتى تهلكوا لطاعتكم طواغيتكم و انضوائكم إلى شياطينكم فعند الله أحتسب ما مضى و ما ينتظر من سوء دعتكم و حيف حكمكم ثم قال يا أهل الكوفة لقد فارقكم بالأمس سهم من مرامي الله صائب شرح نهج البلاغة ج : 16 ص : 29على أعداء الله نكال على فجار قريش لم يزل آخذا بحناجرها جاثما على أنفاسها ليس بالملومة في أمر الله لا بالسروقة لمال الله و لا بالفروقة في حرب أعداء الله أعطى الكتاب خواتمه و عزائمه دعاه فأجابه و قاده فاتبعه لا تأخذه في الله لومة لائم (17/25)
فصلوات الله عليه و رحمته ثم نزل فقال معاوية أخطأ عجل أو كاد و أصاب مثبت أو كاد ما ذا أردت من خطبة الحسن. فأما أبو الفرج علي بن الحسين الأصفهاني فإنه قال كان في لسان أبي محمد الحسن ع ثقل كالفأفأة حدثني بذلك محمد بن الحسين الأشناني قال حدثني محمد بن إسماعيل الأحمسي عن مفضل بن صالح عن جابر قال كان في لسان الحسن ع رتة فكان سلمان الفارسي رحمه الله يقول أتته من قبل عمه موسى بن عمران ع. قال أبو الفرج و مات شهيدا مسموما دس معاوية إليه و إلى سعد بن أبي وقاص حين أراد أن يعهد إلى يزيد ابنه بالأمر بعده سما فماتا منه في أيام متقاربة و كان الذي تولى ذلك من الحسن ع زوجته جعدة بنت الأشعث بن قيس بمال بذله لها معاوية و يقال إن اسمها سكينة و يقال عائشة و يقال شعثاء و الصحيح أن اسمها جعدة. قال أبو الفرج فروى عمرو بن ثابت قال كنت أختلف إلى أبي إسحاق شرح نهج البلاغة ج : 16 ص : السبيعي سنة أسأله عن الخطبة التي خطب بها الحسن بن علي ع عقيب وفاة أبيه و لا يحدثني بها فدخلت إليه في يوم شات و هو في الشمس و عليه برنسه فكأنه غول فقال لي من أنت فأخبرته فبكى و قال كيف أبوك و كيف أهلك قلت صالحون قال في أي شي ء تتردد منذ سنة قلت في خطبة الحن بن علي بعد وفاه أبيه. (17/26)
حدثني هبيرة ابن مريم قال خطب الحسن ع بعد وفاة أمير المؤمنين ع فقال قد قبض في هذه الليلة رجل لم يسبقه الأولون و لا يدركه الآخرون بعمل لقد كان يجاهد مع رسول الله ص فيسبقه بنفسه و لقد كان يوجهه برايته فيكنفه جبرائيل عن يمينه و ميكائيل عن يساره فلا يرجع حتى يفتح الله عليه و لقد توفي في الليلة التي عرج فيها بعيسى ابن مريم و التي توفي فيها يوشع بن نوح و ما خلف صفراء و لا بيضاء إلا سبعمائة درهم من عطائه أراد أن يبتاع بها خادما لأهله ثم خنقته العبرة فبكى و بكى الناس معه ثم قال أيها الناس من عرفني فقد عرفني و من لم يعرفني فأنا الحسن بن محمد رسول الله ص أنا ابن البشير أنا ابن النذير أنا ابن الداعي إلى الله بإذنه و السراج المنير أنا من أهل البيت الذين أذهب الله عنهم الرجس و طهرهم تطهيرا و الذين افترض الله مودتهم في كتابه إذ يقول وَ مَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِيها حُسْناً فاقتراف الحسنة مودتنا أهل البيت (17/27)
قال أبو الفرج فلما انتهى إلى هذا الموضع من الخطبة قام عبد الله بن العباس بين شرح نهج البلاغة ج : 16 ص : 31يديه فدعا الناس إلى بيعته فاستجابوا و قالوا ما أحبه إلينا و أحقه بالخلافة فبايعوه ثم نزل من المنبر. قال أبو الفرج و دس معاوية رجلا من حمير إلى الكوفو رجلا من بني القين إلى البصرة يكتبان إليه بالأخبار فدل على الحميري و على القيني فأخذا و قتلا. و
كتب الحسن ع إلى معاوية أما بعد فإنك دسست إلي الرجال كأنك تحب اللقاء لا أشك في ذلك فتوقعه إن شاء الله و بلغني أنك شمت بما لم يشمت به ذو الحجى و إنما مثلك في ذلك كما قال الأول
فإنا و من قد مات منا لكالذي يروح فيمسي في المبيت ليغتدي فقل للذي يبغي خلاف الذي مضى تجهز لأخرى مثلها فكأن قد. فأجابه معاوية أما بعد فقد وصل كتابك و فهمت ما ذكرت فيه و لقد علمت بما حدث فلم أفرح و لم أحزن و لم أشمت و لم آس و إن عليا أباك لكما قال أعشى بني قيس ابن ثعلبة (17/28)
فأنت الجواد و أنت الذي إذا ما القلوب ملأن الصدوراجدير بطعنة يوم اللقاء يضرب منها النساء النحوراو ما مزيد من خليج البحار يعلو الإكام و يعلو الجسورابأجود منه بما عنده فيعطي الألوف و يعطي البدورا
شرح نهج البلاغة ج : 16 ص : 32قال أبو الفرج و كتب عبد الله بن العباس من البصرة إلى معاوية أما بعد فإنك و دسك أخا بني القين إلى البصرة تلتمس من غفلات قريش بمثل ما ظفرت به من يمانيتك لكما قال أمية بن أبي الأسكرلعمرك إني و الخزاعي طارقا كنعجة عاد حتفها تتحفرأثارت عليها شفرة بكراعها فظلت بها من آخر الليل تنحرشمت بقوم من صديقك أهلكوا أصابهم يوم من الدهر أصفر
فأجابه معاوية أما بعد فإن الحسن بن علي قد كتب إلي بنحو مما كتبت به و أنبأني بما لم يحقق سوء ظن و رأي في و إنك لم تصب مثلي و مثلكم و إنما مثلنا كما قال طارق الخزاعي يجيب أمية عن هذا الشعر
فو الله ما أدري و إني لصادق إلى أي من يظنني أتعذرأعنف إن كانت زبينة أهلكت و نال بني لحيان شر فأنفروا
شرح نهج البلاغة ج : 16 ص : 33قال أبو الفرج و كان أول شي ء أحدثه الحسن ع أنه زاد المقاتلة مائة مائة و قد كان علي ع فعل ذلك يوم الجمل و فعله الحسن حال الاستخلاف فتبعه الخلفاء من بعده في ذلك قال و كتب الحسن ع إلى معاوية مع حرب بن عبد الله الأزدي من الحسن بن علي أمير المؤمنين إلى معاوية بن أبي سفيان سلام عليك فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو أما بعد فإن الله جل جلاله بعث محمدا رحمة للعالمين و منة للمؤمنين و كافة للناس أجمعين لِيُنْذِرَ مَنْ كانَ حَيًّا وَ يَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكافِرِينَ فبلغ رسالات الله و قام بأمر الله حتى توفاه الله غير مقصر و لا وان و بعد أن أظهر الله به الحق و محق به الشرك و خص به قريشا خاصة فقال له وَ إِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَ لِقَوْمِكَ فلما توفي تنازعت سلطانه العرب فقالت قريش نحن قبيلته و أسرته و أولياؤه و لا يحل لكم أن تنازعونا سلطان محمد و حقه فرأت العرب أن القول ما قالت قريش و أن الحجة في ذلك لهم على من نازعهم أمر محمد فأنعمت لهم و سلمت إليهم ثم حاججنا نحن قريشا بمثل ما حاججت به العرب فلم تنصفنا قريش إنصاف العرب لها إنهم أخذوا هذا الأمر دون العرب بالانتصاف و الاحتجاج فلما صرنا أهل بيت محمد و أولياءه إلى محاجتهم و طلب النصف منهم باعدونا و استولوا بالإجماع على ظلمنا و مراغمتنا و العنت منهم لنا فالموعد الله و هو الولي النصير شرح نهج البلاغة ج : 16 ص : 34و لقد كنتعجبنا لتوثب المتوثبين علينا في حقنا و سلطان نبينا و إن كانوا ذوي فضيلة و سابقة في الإسلام و أمسكنا عن منازعتهم مخافة على الدين أن يجد المنافقون و الأحزاب في ذلك مغمزا يثلمونه به أو يكون لهم بذلك سبب إلى ما أرادوا من إفساده فاليوم فليتعجب المتعجب من توثبك يا معاوية على أمر لست من أهله لا بفضل في الدين معروف و لا أثر في الإسلام محمود و أنت ابن حزب من الأحزاب و ابن أعدى قريش لرسول الله ص (17/29)
و لكتابه و الله حسيبك فسترد فتعلم لمن عقبى الدار و بالله لتلقين عن قليل ربك ثم ليجزينك بما قدمت يداك و ما الله بظلام للعبيد إن عليا لما مضى لسبيله رحمة الله عليه يوم قبض و يوم من الله عليه بالإسلام و يوم يبعث حيا ولاني المسلمون الأمر بعده فأسأل الله ألا يؤتينا في الدنيا الزائلة شيئا ينقصنا به في الآخرة مما عنده من كرامة و إنما حملني على الكتاب إليك الإعذار فيما بيني و بين الله عز و جل في أمرك و لك في ذلك إن فعلته الحظ الجسيم و الصلاح للمسلمين فدع التمادي في الباطل و ادخل فيما دخل فيه الناس من بيعتي فإنك تعلم أني أحق بهذا الأمر منك عند الله و عند كل أواب حفيظ و من له قلب منيب و اتق الله و دع البغي و احقن دماء المسلمين فو الله ما لك خير في أن تلقى الله من دمائهم بأكثر مما أنت لاقيه به و ادخل في السلم و الطاعة و لا تنازع الأمر أهله و من هو أحق به منك ليطفئ الله النائرة بذلك و يجمع الكلمة و يصلح ذات البين و إن أنت أبيت إلا التمادي في غيك سرت إليك بالمسلمين فحاكمتك حتى يحكم الله بيننا و هو خير الحاكمين (17/30)
فكتب معاوية إليه شرح نهج البلاغة ج : 16 ص : 35من عبد الله معاوية أمير المؤمنين إلى الحسن بن علي سلام الله عليك فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو أما بعد فقد بلغني كتابك و فهمت ما ذكرت به محمدا رسول الله من الفضل و هو أحق الأولين و الآخرين بالفضل كلهديمه و حديثه و صغيره و كبيره و قد و الله بلغ و أدى و نصح و هدى حتى أنقذ الله به من الهلكة و أنار به من العمى و هدى به من الجهالة و الضلالة فجزاه الله أفضل ما جزى نبيا عن أمته و صلوات الله عليه يوم ولد و يوم بعث و يوم قبض و يوم يبعث حيا. و ذكرت وفاة النبي ص و تنازع المسلمين الأمر بعده و تغلبهم على أبيك فصرحت بتهمة أبي بكر الصديق و عمر الفاروق و أبي عبيدة الأمين و حواري رسول الله ص و صلحاء المهاجرين و الأنصار فكرهت ذلك لك إنك امرؤ عندنا و عند الناس غير الظنين و لا المسي ء و لا اللئيم و أنا أحب لك القول السدي و الذكر الجميل إن هذه الأمة لما اختلفت بعد نبيها لم تجهل فضلكم و لا سابقتكم و لا قرابتكم من نبيكم و لا مكانكم في الإسلام و أهله فرأت الأمة أن تخرج من هذا الأمر لقريش لمكانها من نبيها و رأى صلحاء الناس من قريش و الأنصار و غيرهم من سائر الناس و عوامهم أن يولوا هذا الأمر من قريش أقدمها إسلاما و أعلمها بالله و أحبها له و أقواها على أمر الله فاختاروا أبا بكر و كان ذلك رأي ذوي الدين و الفضل و الناظرين للأمة فأوقع ذلك في صدوركم لهم التهمة و لم يكونوا متهمين و لا فيما أتوا بالمخطئين و لو رأى المسلمون أن فيكم من يغني غناءه و يقوم مقامه و يذب عن حريم الإسلام ذبه شرح نهج البلاغة ج : 16 ص : 36ما عدلوا بالأمر إلى غيره رغبة عنه و لكنهم علموا في ذلك بما رأوه صلاحا للإسلام و أهله و الله يجزيهم عن الإسلام و أهله خيرا. و قد فهمت الذي دعوتني إليه من الصلح و الحال فيما بيني بينك اليوم مثل الحال التي كنتم عليها أنتم و أبو بكر بعد وفاة النبي ص (17/31)
فلو علمت أنك أضبط مني للرعية و أحوط على هذه الأمة و أحسن سياسة و أقوى على جمع الأموال و أكيد للعدو لأجبتك إلى ما دعوتني إليه و رأيتك لذلك أهلا و لكن قد علمت أني أطول منك ولاية و أقدم منك بهذه الأمة تجربة و أكبر منك سنا فأنت أحق أن تجيبني إلى هذه المنزلة التي سألتني فادخل في طاعتي و لك الأمر من بعدي و لك ما في بيت مال العراق من مال بالغا ما يبلغ تحمله إلى حيث أحببت و لك خراج أي كور العراق شئت معونة لك على نفقتك يجيبها أمينك و يحملها إليك في كل سنة و لك ألا نستولي عليك بالإساءة و لا نقضي دونك الأمور و لا نعصي في أمر أردت به طاعة الله أعاننا الله و إياك على طاعته إنه سميع مجيب الدعاء و السلام. قال جندب فلما أتيت الحسن بكتاب معاوية قلت له إن الرجل سائر إليك فابدأه بالمسير حتى تقاتله في أرضه و بلاده و عمله فإما أن تقدر أنه ينقاد لك فلا و الله حتى يرى منا أعظم من يوم صفين فقال افعل ثم قعد عن مشورتي و تناسى قولي. قالوا و كتب معاوية إلى الحسن شرح نهج البلاغة ج : 16 ص : 37أما بعد فإن الله يفعل في عباده ما يشاء لا معقب لحكمه و هو سريع الحساب فاحذر أتكون منيتك على أيدي رعاع من الناس و ايئس من أن تجد فينا غميزة و إن أنت أعرضت عما أنت فيه و بايعتني وفيت لك بما وعدت و أجريت لك ما شرطت و أكون في ذلك كما قال أعشى بني قيس بن ثعلبة (17/32)
و إن أحد أسدى إليك أمانة فأوف بها تدعى إذا مت وافياو لا تحسد المولى إذا كان ذا غنى و لا تجفه إن كان في المال فانيا
ثم الخلافة لك من بعدي فأنت أولى الناس بها و السلام.
فأجابه الحسن أما بعد فقد وصل إلي كتابك تذكر فيه ما ذكرت فتركت جوابك خشية البغي مني عليك و بالله أعوذ من ذلك فاتبع الحق تعلم أني من أهله و علي إثم أن أقول فأكذب و السلام
فلما وصل كتاب الحسن إلى معاوية قرأه ثم كتب إلى عماله على النواحي بنسخة واحدة من عبد الله معاوية أمير المؤمنين إلى فلان بن فلان و من قبله من المسلمين سلام عليكم فإني أحمد إليكم الله الذي لا إله إلا هو أما بعد فالحمد لله الذي كفاكم مؤنة عدوكم و قتل خليفتكم إن الله بلطفه و حسن صنعه أتاح لعلي بن أبي طالب رجلا من عباده شرح نهج البلاغة ج : 16 ص : 38فاغتاله فقتله فترك أصحابه متفرقين مختلفين و قد جاءتنا كتب أشرافهم و قادتهم يلتمسون الأمان لأنفسهم و عشائرهم فاقبلوا إلى حين يأتيكم كتابي هذا بجهدكم و جندكم و حسن عدت فقد أصبتم بحمد الله الثأر و بلغتم الأمل و أهلك الله أهل البغي و العدوان و السلام عليكم و رحمة الله و بركاته. قال فاجتمعت العساكر إلى معاوية فسار بها قاصدا إلى العراق و بلغ الحسن خبره و مسيره نحوه و إنه قد بلغ جسر منبج فتحرك عند ذلك و بعث حجر بن عدي فأمر العمال و الناس بالتهيؤ للمسير و نادى المنادي الصلاة جامعة فأقبل الناس يثوبون و يجتمعون و قال الحسن إذا رضيت جماعة الناس فأعلمني و جاءه سعيد بن قيس الهمداني فقال له اخرج (17/33)
فخرج الحسن ع و صعد المنبر فحمد الله و أثنى عليه ثم قال أما بعد فإن الله كتب الجهاد على خلقه و سماه كرها ثم قال لأهل الجهاد من المؤمنين اصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ فلستم أيها الناس نائلين ما تحبون إلا بالصبر على ما تكرهون بلغني أن معاوية بلغه أنا كنا أزمعنا على المسير إليه فتحرك لذلك اخرجوا رحمكم الله إلى معسكركم بالنخيلة حتى ننظر و تنظروا و نرى و تروا. قال و إنه في كلامه ليتخوف خذلان الناس له قال فسكتوا فما تكلم منهم أحد و لا أجابه بحرف فلما رأى ذلك عدي بن حاتم قام فقال أنا ابن حاتم سبحان الله ما أقبح هذا المقام أ لا تجيبون إمامكم و ابن بنت نبيكم أين خطباء مضر أين المسلمون أين شرح نهج البلاغة ج : 16 ص : 39الخواضون من أهل المصر الذين ألسنتهم كالمخاريق في الدعة فإذا جد الجد فرواغون كالثعالب أ ما تخافون مقت الله و لا عيبها و عارها. ثم استقبل الن بوجهه فقال أصاب الله بك المراشد و جنبك المكاره و وفقك لما يحمد ورده و صدره قد سمعنا مقالتك و انتهينا إلى أمرك و سمعنا لك و أطعناك فيما قلت و ما رأيت و هذا وجهي إلى معسكري فمن أحب أن يوافيني فليواف (17/34)
ثم مضى لوجهه فخرج من المسجد و دابته بالباب فركبها و مضى إلى النخيلة و أمر غلامه أن يلحقه بما يصلحه و كان عدي بن حاتم أول الناس عسكرا. و قام قيس بن سعد بن عبادة الأنصاري و معقل بن قيس الرياحي و زياد بن صعصعة التيمي فأنبوا الناس و لاموهم و حرضوهم و كلموا الحسن ع بمثل كلام عدي بن حاتم في الإجابة و القبول فقال لهم الحسن ع صدقتم رحمكم الله ما زلت أعرفكم بصدق النية و الوفاء و القبول و المودة الصحيحة فجزاكم الله خيرا ثم نزل. و خرج الناس فعسكروا و نشطوا للخروج و خرج الحسن إلى العسكر و استخلف على الكوفة المغيرة بن نوفل بن الحارث بن عبد المطلب و أمره باستحثاث الناس و أشخاصهم إليه فجعل يستحثهم و يستخرجهم حتى يلتئم العسكر.
و سار الحسن ع في عسكر عظيم و عدة حسنة حتى نزل دير عبد الرحمن شرح نهج البلاغة ج : 16 ص : 40فأقام به ثلاثا حتى اجتمع الناس ثم دعا عبيد الله بن العباس بن عبد المطلب فقال له يا ابن عم إني باعث إليك اثني عشر ألفا من فرسان العرب و قراء المصر الرجل منهم يزيد الكتيبة فسر بهم و ألن لهم جانبك و ابسط لهم وجهك و افرش لهم جنا و أدنهم من مجلسك فإنهم بقية ثقات أمير المؤمنين و سر بهم على شط الفرات حتى تقطع بهم الفرات ثم تصير إلى مسكن ثم امض حتى تستقبل بهم معاوية فإن أنت لقيته فاحبسه حتى آتيك فإني على أثرك وشيكا و ليكن خبرك عندي كل يوم و شاور هذين يعني قيس بن سعد و سعيد بن قيس و إذا لقيت معاوية فلا تقاتله حتى يقاتلك فإن فعل فقاتله و إن أصبت فقيس بن سعد على الناس و إن أصيب قيس بن سعد فسعيد بن قيس على الناس (17/35)
فسار عبيد الله حتى انتهى إلى شينور حتى خرج إلى شاهي ثم لزم الفرات و الفلوجة حتى أتى مسكن و أخذ الحسن على حمام عمر حتى أتى دير كعب ثم بكر فنزل ساباط دون القنطرة فلما أصبح نادى في الناس الصلاة جامعة فاجتمعوا
فصعد المنبر فخطبهم فقال الحمد لله كلما حمده حامد و أشهد أن لا إله إلا الله كلما شهد له شاهد و أشهد أن محمدا رسول الله أرسله بالحق و ائتمنه على الوحي ص أما بعد فو الله إني لأرجو أن أكون قد أصبحت بحمد الله و منه و أنا أنصح خلقه لخلقه و ما أصبحت محتملا على مسلم ضغينة و لا مريد له بسوء و لا غائلة ألا و إن ما تكرهون في الجماعة خير لكم مما تحبون في الفرقة ألا و إني ناظر لكم خيرا شرح نهج البلاغة ج : 16 ص : 41من نظركم لأنفسكم فلا تخالفوا أمري و لا تردوا على رأيي غفر الله لي و لكم و أرشدني و إياكم لما فيه محبته وضاه إن شاء الله ثم نزل
قال فنظر الناس بعضهم إلى بعض و قالوا ما ترونه يريد بما قال قالوا نظنه يريد أن يصالح معاوية و يكل الأمر إليه كفر و الله الرجل ثم شدوا على فسطاطه فانتهبوه حتى أخذوا مصلاه من تحته ثم شد عليه عبد الرحمن بن عبد الله بن جعال الأزدي فنزع مطرفه عن عاتقه فبقي جالسا متقلدا سيفا بغير رداء فدعا بفرسه فركبه و أحدق به طوائف من خاصته و شيعته و منعوا منه من أراده و لاموه و ضعفوه لما تكلم به فقال ادعوا إلي ربيعة و همدان فدعوا له فأطافوا به و دفعوا الناس عنه و معهم شوب من غيرهم فلما مر في مظلم ساباط قام إليه رجل من بني أسد ثم من بني نصر بن قعين يقال له جراح بن سنان و بيده معول فأخذ بلجام فرسه و قال الله أكبر يا حسن أشرك أبوك ثم أشركت أنت و طعنه بالمعول فوقعت في فخذه فشقته حتى بلغت أربيته و سقط الحسن ع إلى الأرض بعد أن ضرب الذي طعنه بسيف كان بيده و اعتنقه فخرا جميعا إلى الأرض فوثب عبد الله بن الأخطل الطائي و نزع المعول من يد جراح بن سنان فخضخضه به و أكب ظبيان بن عمارة عليه فقطع أنفه ثم أخذا له الآجر فشدخا رأسه و وجهه حتى قتلوه. شرح نهج البلاغة ج : 16 ص : 42و حمل الحسن ع على سرير إلى المدائن و بها سعيد بن مسعود الثقفي واليا علا من قبله و قد كان علي ع ولاه المدائن فأقره الحسن ع عليها فأقام عنده يعالج نفسه فأما معاوية فإنه وافى حتى نزل قرية يقال لها الحلوبية بمسكن و أقبل عبيد الله بن عباس حتى نزل بإزائه فلما كان من غد وجه معاوية بخيله إليه فخرج إليهم عبيد الله فيمن معه فضربهم حتى ردهم إلى معسكرهم فلما كان الليل أرسل معاوية إلى عبيد الله بن عباس أن الحسن قد راسلني في الصلح و هو مسلم الأمر إلي فإن دخلت في طاعتي الآن كنت متبوعا و إلا دخلت و أنت تابع و لك إن أجبتني الآن أن أعطيك ألف ألف درهم أعجل لك في هذا الوقت نصفها و إذا دخلت الكوفة النصف الآخر فانسل عبيد الله إليه ليلا فدخل عسكر معاوية فوفى له (17/36)
بما وعده و أصبح الناس ينتظرون عبيد الله أن يخرج فيصلي بهم فلم يخرج حتى أصبحوا فطلبوه فلم يجدوه فصلى بهم قيس بن سعد بن عبادة ثم خطبهم فثبتهم و ذكر عبيد الله فنال منه ثم أمرهم بالصبر و النهوض إلى العدو فأجابوه بالطاعة و قالوا له انهض بنا إلى عدونا على اسم الله فنزل فنهض بهم. و خرج إليه بسر بن أرطاة فصاح إلى أهل العراق ويحكم هذا أميركم عندنا قد بايع و إمامكم الحسن قد صالح فعلام تقتلون أنفسكم. (17/37)
شرح نهج البلاغة ج : 16 ص : 43فقال لهم قيس بن سعد اختاروا إحدى اثنتين إما القتال مع غير إمام و إما أن تبايعوا بيعة ضلال فقالوا بل نقاتل بلا إمام فخرجوا فضربوا أهل الشام حتى ردوهم إلى مصافهم. فكتب معاوية إلى قيس بن سعد يدعوه و يمنيه فكتب إليه قيس لا و الللا تلقاني أبدا إلا بيني و بينك الرمح فكتب إليه معاوية حينئذ لما يئس منه أما بعد فإنك يهودي ابن يهودي تشقي نفسك و تقتلها فيما ليس لك فإن ظهر أحب الفريقين إليك نبذك و غدرك و إن ظهر أبغضهم إليك نكل بك و قتلك و قد كان أبوك أوتر غير قوسه و رمى غير غرضه فأكثر الحز و أخطأ المفصل فخذله قومه و أدركه يومه فمات بحوران طريدا غريبا و السلام. فكتب إليه قيس بن سعد أما بعد فإنما أنت وثن ابن وثن دخلت في الإسلام كرها و أقمت فيه فرقا و خرجت منه طوعا و لم يجعل الله لك فيه نصيبا لم يقدم إسلامك و لم يحدث نفاقك و لم تزل حربا لله و لرسوله و حزبا من أحزاب المشركين و عدوا لله و لنبيه و للمؤمنين من عباده و ذكرت أبي فلعمري ما أوتر إلا قوسه و لا رمى إلا غرضه فشغب عليه من لا يشق غباره و لا يبلغ كعبه و زعمت أني يهودي ابن يهودي و قد علمت و علم الناس أني و أبي أعداء الدين الذي خرجت منه و أنصار الدين الذي دخلت فيه و صرت إليه و السلام. فلما قرأ معاوية كتابه غاظه و أراد إجابته فقال له عمرو مهلا فإنك إن كاتبته أجابك بأشد من هذا و إن تركته دخل فيما دخل فيه الناس فأمسك عنه.
قال و بعث معاوية عبد الله بن عامر و عبد الرحمن بن سمرة إلى الحسن للصلح فدعواه شرح نهج البلاغة ج : 16 ص : 44إليه فزهداه في الأمر و أعطياه ما شرط له معاوية و ألا يتبع أحد بما مضى و لا ينال أحد من شيعة علي بمكروه و لا يذكر علي إلا بخير و أشياء شرطها الحسن فأجاب إلى ذلك و انصرف قيس بن سعد فيمن معه إلى الكوفة و انصرف الحسن أيضا إلي و أقبل معاوية قاصدا نحو الكوفة و اجتمع إلى الحسن ع وجوه الشيعة و أكابر أصحاب أمير المؤمنين ع يلومونه و يبكون إليه جزعا مما فعله (17/38)
قال أبو الفرج فحدثني محمد بن أحمد بن عبيد قال حدثنا الفضل بن الحسن البصري قال حدثنا ابن عمرو قال حدثنا مكي بن إبراهيم قال حدثنا السري بن إسماعيل عن الشعبي عن سفيان بن أبي ليلى قال أبو الفرج و حدثني به أيضا محمد بن الحسين الأشنانداني و علي بن العباس المقانعي عن عباد بن يعقوب عن عمرو بن ثابت عن الحسن بن الحكم عن عدي بن ثابت عن سفيان بن أبي ليلى قال أتيت الحسن بن علي حين بايع معاوية فوجدته بفناء داره و عنده رهط فقلت السلام عليك يا مذل المؤمنين قال و عليك السلام يا سفيان و نزلت فعقلت راحلتي ثم أتيته فجلست إليه فقال كيف قلت يا سفيان قلت السلام عليك يا مذل المؤمنين فقال لم جرى هذا منك إلينا قلت أنت و الله بأبي و أمي أذللت رقابنا حيث أعطيت هذا الطاغية البيعة و سلمت الأمر إلى اللعين ابن آكلة الأكباد و معك مائة ألف كلهم يموت دونك فقد جمع الله عليك أمر الناس فقال يا سفيان إنا أهل بيت إذا علمنا الحق تمسكنا به و إني سمعت عليا يقول سمعت رسول الله ص يقول لا تذهب الليالي و الأيام حتى يجتمع أمر هذه الأمة على رجل واسع السرم شرح نهج البلاغة ج : 16 ص : 45ضخم البلعوم يأكل و لا يشبع لا ينظر الله إليه و لا يموت حتى لا يكون له فالسماء عاذر و لا في الأرض ناصر و إنه لمعاوية و إني عرفت أن الله بالغ أمره ثم أذن المؤذن فقمنا على حالب نحلب ناقته فتناول الإناء فشرب قائما ثم سقاني و خرجنا نمشي إلى المسجد فقال لي ما جاء بك يا سفيان قلت حبكم و الذي بعث محمدا بالهدى و دين الحق قال فأبشر يا سفيان فإني سمعت عليا يقول سمعت رسول الله ص يقول يرد علي الحوض أهل بيتي و من أحبهم من أمتي كهاتين يعني السبابتين أو كهاتين يعني السبابة و الوسطى إحداهما تفضل على الأخرى أبشر يا سفيان فإن الدنيا تسع البر و الفاجر حتى يبعث الله إمام الحق من آل محمد ص (17/39)
قلت قوله و لا في الأرض ناصر أي ناصر ديني أي لا يمكن أحدا أن ينتصر له بتأويل ديني يتكلف به عذرا لأفعاله القبيحة. فإن قلت قوله و إنه لمعاوية من الحديث المرفوع أو من كلام علي ع أو من كلام الحسن ع قلت الظاهر أنه من كلام الحسن ع فإنه قد غلب على ظنه أن معاوية صاحب هذه الصفات و إن كان القسمان الأولان غير ممتنعين. فإن قلت فمن هو إمام الحق من آل محمد قلت أما الإمامية فتزعم أنه صاحبهم الذي يعتقدون أنه الآن حي في الأرض و أما أصحابنا فيزعمون أنه فاطمي يخلقه الله في آخر الزمان. شرح نهج البلاغة ج : 16 ص : 46قال أبو الف و سار معاوية حتى نزل النخيلة و جمع الناس بها فخطبهم قبل أن يدخل الكوفة خطبة طويلة لم ينقلها أحد من الرواة تامة و جاءت منقطعة في الحديث و سنذكر ما انتهى إلينا منها. فأما الشعبي فإنه روى أنه قال في الخطبة ما اختلف أمر أمة بعد نبيها إلا و ظهر أهل باطلها على أهل حقها ثم انتبه فندم فقال إلا هذه الأمة فإنها و إنها و أما أبو إسحاق السبيعي فقال إن معاوية قال في خطبته بالنخيلة ألا إن كل شي ء أعطيته الحسن بن علي تحت قدمي هاتين لا أفي به. قال أبو إسحاق و كان و الله غدارا. و روى الأعمش عن عمرو بن مرة عن سعيد بن سويد ال صلى بنا معاوية بالنخيلة الجمعة ثم خطبنا فقال و الله إني ما قاتلتكم لتصلوا و لا لتصوموا و لا لتحجوا و لا لتزكوا إنكم لتفعلون ذلك و إنما قاتلتكم لأتأمر عليكم و قد أعطاني الله ذلك و أنتم كارهون. قال و كان عبد الرحمن بن شريك إذا حدث بذلك يقول هذا و الله هو التهتك. (17/40)
قال أبو الفرج و حدثني أبو عبيد محمد بن أحمد قال حدثني الفضل بن الحسن البصري قال حدثني يحيى بن معين قال حدثني أبو حفص اللبان عن عبد الرحمن بن شريك عن إسماعيل بن أبي خالد عن حبيب بن أبي ثابت قال خطب معاوية بالكوفة حين دخلها و الحسن و الحسين ع جالسان تحت المنبر فذكر عليا ع شرح نهج البلاغة ج : 16 ص : 47فنال منه ثم نال من الحسن فقام الحسين ع ليرد عليه فأخذه الحسن بيده فأجلسه ثم قام فقال أيها الذاكر عليا أنا الحسن و أبي علي و أنت معاوية و أبوك صخر و أمي فاطمة و أمك هند و جدي رسول الله و جدك عتبة بن ربيعة و جدتخديجة و جدتك قتيلة فلعن الله أخملنا ذكرا و ألأمنا حسبا و شرنا قديما و حديثا و أقدمنا كفرا و نفاقا فقال طوائف من أهل المسجد آمين (17/41)
قال الفضل قال يحيى بن معين و أنا أقول آمين. قال أبو الفرج قال أبو عبيد قال الفضل و أنا أقول آمين و يقول علي بن الحسين الأصفهاني آمين. قلت و يقول عبد الحميد بن أبي الحديد مصنف هذا الكتاب آمين. قال أبو الفرج و دخل معاوية الكوفة بعد فراغه من خطبته بالنخيلة و بين يديه خالد ابن عرفطة و معه حبيب بن حماد يحمل رايته فلما صار بالكوفة دخل المسجد من باب الفيل و اجتمع الناس إليه.
قال أبو الفرج فحدثني أبو عبيد الصيرفي و أحمد بن عبيد الله بن عمار عن محمد بن علي بن خلف عن محمد بن عمرو الرازي عن مالك بن سعيد عن محمد بن عبد الله الليثي عن عطاء بن السائب عن أبيه قال بينما علي بن أبي طالب ع على منبر الكوفة إذ دخل رجل فقال يا أمير المؤمنين مات خالد بن عرفطة فقال لا و الله ما مات و لا يموت حتى يدخل من باب المسجد و أشار إلى باب الفيل و معه راية ضلالة يحملها حبيب بن حماد قال فوثب رجل فقال يا أمير المؤمنين أنا حبيب بن حماد و أنا لك شيعة فقال شرح نهج البلاغة ج : 16 ص : 48فإنه كما أقول فو اللهقد قدم خالد بن عرفطة على مقدمة معاوية يحمل رايته حبيب بن حماد قال أبو الفرج و قال مالك بن سعيد و حدثني الأعمش بهذا الحديث قال حدثني صاحب هذه الدار و أشار إلى دار السائب أبي عطاء إنه سمع عليا ع يقول هذا (17/42)
قال أبو الفرج فلما تم الصلح بين الحسن و معاوية أرسل إلى قيس بن سعد يدعوه إلى البيعة فجاءه و كان رجلا طوالا يركب الفرس المشرف و رجلاه تخطان في الأرض و ما في وجهه طاقة شعر و كان يسمى خصي الأنصار فلما أرادوا إدخاله إليه قال إني حلفت ألا ألقاه إلا و بيني و بينه الرمح أو السيف فأمر معاوية برمح و سيف فوضعا بينه و بينه ليبر يمينه. قال أبو الفرج و قد روي أن الحسن لما صالح معاوية اعتزل قيس بن سعد في أربعة آلاف فارس فأبى أن يبايع فلما بايع الحسن أدخل قيس ليبايع فأقبل على الحسن فقال أ في حل أنا من بيعتك فقال نعم فألقي له كرسي و جلس معاوية على سرير و الحسن معه فقال له معاوية أ تبايع يا قيس قال نعم و وضع يده على فخذه و لم يمدها إلى معاوية فجاء معاوية من سريره و أكب على قيس حتى مسح يده على يده و ما رفع إليه قيس يده. شرح نهج البلاغة ج : 16 ص : 49قال أبو الفرج ثم إن معاويأمر الحسن أن يخطب فظن أنه سيحصر فقام فخطب
فقال في خطبته إنما الخليفة من سار بكتاب الله و سنة نبيه و ليس الخليفة من سار بالجور ذاك رجل ملك ملكا تمتع به قليلا ثم تنخمه تنقطع لذته و تبقى تبعته وَ إِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَكُمْ وَ مَتاعٌ إِلى حِينٍ (17/43)
قال و انصرف الحسن إلى المدينة فأقام بها و أراد معاوية البيعة لابنه يزيد فلم يكن عليه شي ء أثقل من أمر الحسن بن علي و سعد بن أبي وقاص فدس إليهما سما فماتا منه. قال أبو الفرج فحدثني أحمد بن عبيد الله بن عمار عن عيسى بن مهران عن عبيد بن الصباح الخراز عن جريرعن مغيرة قال أرسل معاوية إلى بنت الأشعث بن قيس و هي تحت الحسن فقال لها إني مزوجك يزيد ابني على أن تسمي الحسن و بعث إليها بمائة ألف درهم ففعلت و سمت الحسن فسوغها المال و لم يزوجها منه فخلف عليها رجل من آل طلحة فأولدها فكان إذا وقع بينهم و بين بطون قريش كلام عيروهم و قالوا يا بني مسمة الأزواج. قال حدثني أحمد قال حدثني يحيى بن بكير عن شعبة عن أبي بكر بن حفص قال توفي الحسن بن علي و سعد بن أبي وقاص في أيام متقاربة و ذلك بعد ما مضى من ولاية إمارة معاوية عشر سنين و كانوا يروون أنه سقاهما السم
قال أبو الفرج و حدثني أحمد بن عون عن عمران بن إسحاق قال كنت مع الحسن و الحسين ع في الدار فدخل الحسن المخرج ثم خرج فقال لقد سقيت السم مرارا ما سقيت مثل هذه المرة لقد لفظت قطعة من كبدي فجعلت شرح نهج البلاغة ج : 16 ص : 50أقلبها بعود معي فقال الحسين و من سق قال و ما تريد منه أ تريد أن تقتله إن يكن هو هو فالله أشد نقمة منك و إن لم يكن هو فما أحب أن يؤخذ بي بري ء قال أبو الفرج دفن الحسن ع في قبر فاطمة بنت رسول الله ص في البقيع و قد كان أوصى أن يدفن مع النبي ص فمنع مروان بن الحكم من ذلك و ركبت بنو أمية في السلاح و جعل مروان يقول
يا رب هيجا هي خير من دعه
يدفن عثمان في البقيع و يدفن الحسن في بيت النبي ص و الله لا يكون ذلك أبدا و أنا أحمل السيف و كادت الفتنة تقع و أبى الحسين ع أن يدفنه إلا مع النبي ص فقال له عبد الله بن جعفر عزمت عليك يا أبا عبد الله بحقي ألا تكلم بكلمة فمضوا به إلى البقيع و انصرف مروان. (17/44)
قال أبو الفرج و قد روى الزبير بن بكار أن الحسن ع أرسل إلى عائشة أن تأذن له أن يدفن مع النبي ص فقالت نعم فلما سمعت بنو أمية بذلك استلأموا في السلاح و تنادوا هم و بنو هاشم في القتال فبلغ ذلك الحسن فأرسل إلى بني هاشم أما إذا كان هذا فلا حاجة لي فيه ادفنوني إلى جنب أمي فدفن إلى جنب فاطمة ع
قال أبو الفرج فأما يحيى بن الحسن صاحب كتاب النسب فإنه روى أن عائشة شرح نهج البلاغة ج : 16 ص : 51ركبت ذلك اليوم بغلا و استنفرت بنو أمية مروان بن الحكم و من كان هناك منهم و من حشمهم و هو قول القائلفيوما على بغل و يوما على جمل
قلت و ليس في رواية يحيى بن الحسن ما يؤخذ على عائشة لأنه لم يرو أنها استنفرت الناس لما ركبت البغل و إنما المستنفرون هم بنو أمية و يجوز أن تكون عائشة ركبت لتسكين الفتنة لا سيما و قد روي عنها أنه لما طلب منها الدفن قالت نعم فهذه الحال و القصة منقبة من مناقب عائشة.
قال أبو الفرج و قال جويرية بن أسماء لما مات الحسن و أخرجوا جنازته جاء مروان حتى دخل تحته فحمل سريره فقال له الحسين ع أ تحمل اليوم سريره و بالأمس كنت تجرعه الغيظ قال مروان كنت أفعل ذلك بمن يوازن حلمه الجبال
قال و قدم الحسين ع للصلاة عليه سعيد بن العاص و هو يومئذ أمير المدينة و قال تقدم فلو لا أنها سنة لما قدمتك. قال قيل لأبي إسحاق السبيعي متى ذل الناس فقال حين مات الحسن و ادعي زياد و قتل حجر بن عدي. قال اختلف الناس في سن الحسن ع وقت وفاته فقيل ابن ثمان و أربعين و هو المروي عن جعفر بن محمد ع في رواية هشام بن سالم و قيل ابن ست و أربعين و هو المروي أيضا عن جعفر بن محمد ع في رواية أبي بصير. شرح نهج البلاغة ج : 16 ص : 52قال و في الحسن ع يقول سليمان بن قتة يرثيه و كان محبا لهيا كذب الله من نعى حسنا ليس لتكذيب نعيه ثمن كنت خليلي و كنت خالصتي لكل حي من أهله سكن أجول في الدار لا أراك و في الدار أناس جوارهم غبن بدلتهم منك ليت أنهم أضحوا و بيني و بينهم عثم نرجع إلى تفسير ألفاظ الفصل أما قوله كتبها إليه بحاضرين فالذي كنا نقرؤه قديما كتبها إليه بالحاضرين على صيغة التثنية يعني حاضر حلب و حاضر قنسرين و هي الأرباض و الضواحي المحيطة بهذه البلاد ثم قرأناه بعد ذلك على جماعة من الشيوخ بغير لام و لم يفسروه و منهم من يذكره بصيغة الجمع لا بصيغة التثنية و منهم من يقول بخناصرين يظنونه تثنية خناصرة أو جمعها و قد طلبت هذه الكلمة في الكتب المصنفة سيما في البلاد و الأرضين فلم أجدها و لعلي أظفر بها فيما بعد فألحقها في هذا الموضع. قوله من الوالد الفان حذف الياء ها هنا للازدواج بين الفان و الزمان و لأنه وقف و في الوقف على المنقوص يجوز مع اللام حذف الياء و إثباتها و الإثبات هو الوجه و مع عدم اللام يجوز الأمران و إسقاط الياء هو الوجه. قوله المقر للزمان أي المقر له بالغلبة كأنه جعل نفسه فيما مضى خصما للزمان بالقهر. قوله المدبر العمر لأنه كان قد جاوز الستين و لم يبق بعد مجاوزة الستين إلا إدبار العمر لأنها نصف العمر الطبيعي الذي قل أن يبلغه أحد فعلى تقدير أنه شرح نهج البلاغة ج : 16 ص : 53يبلغه فكل ما بعد الستين (17/45)
أقل مما مضى فلا جرم يكون العمر قد أدبر. قوله المستسلم للدهر هذا آكد من له المقر للزمان لأنه قد يقر الإنسان لخصمه و لا يستسلم. قوله الذام للدنيا هذا وصف لم يستحدثه عند الكبر بل لم يزل عليه و لكن يجوز أن يزيد ذمه لها لأن الشيخ تنقص قواه التي يستعين بها على الدنيا و الدين جميعا و لا يزال يتأفف من الدنيا. قوله الساكن مساكن الموتى إشعار بأنه سيموت و هذا من قوله تعالى وَ سَكَنْتُمْ فِي مَساكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ. قوله الظاعن عنها غدا لا يريد الغد بعينه بل يريد قرب الرحيل و الظعن. و هذا الكلام من أمير المؤمنين ع كلام من قد أيقن بالفراق و لا ريب في ظهور الاستكانة و الخضوع عليه و يدل أيضا على كرب و ضيق عطن لكونه لم يبلغ أربه من حرب أهل الشام و انعكس ما قدره بتخاذل أصحابه عنه و نفوذ حكم عمرو بن العاص فيه لحمق أبي موسى و غباوته و انحرافه أيضا. قوله إلى المولود هذه اللفظة بإزاء الوالد. قوله المؤمل ما لا يدرك لو قال قائل إنه كنى بذلك عن أنه لا ينال الخلافة بعد موتي و إن كان مؤملا لها لم يبعد و يكون ذلك إخبارا عن غيب و لكن الأظهر أنه لم يرد ذلك إنما أراد جنس البشر لا خصوص الحسن و كذلك سائر الأوصاف التي تلي هذه اللفظة لا تخص الحسن ع بعينه بل هي و إن كانت له في الظاهر بل هي للناس كلهم في الحقيقة أ لا ترى إلى قوله بعدها السالك سبيل من قد هلك فإن كل واحد من الناس يؤمل أمورا لا يدركها و كل واحد من الناس سألك سبيل من هلك قبله. شرح نهج البلاغة ج : 16 ص : 54قوله ع غرض الأسقام لأن الإنسان كالهدف لآفات الدنيا و أعراضها. قوله ع و رهينة الام الرهينة هاهنا المهزول يقال إنه لرهن و إنه لرهينة إذا كان مهزولا بالياء قال الراجز (17/46)
أما ترى جسمي خلاء قد رهن هزلا و ما مجد الرجال في السمن
و يجوز أن يريد بالرهينة واحدة الرهائن يقال للأسير أو للزمن أو للعاجز عند الرحيل أنه لرهينة و ذلك لأن الرهائن محتبسة عند مرتهنها. قوله و رمية المصائب الرمية ما يرمى. قوله و عبد الدنيا و تاجر الغرور و غريم المنايا لأن الإنسان طوع شهواته فهو عبد الدنيا و حركاته فيها مبنية على غرور لا أصل له فهو تاجر الغرور لا محالة و لما كانت المنايا تطالبه بالرحيل عن هذه الدار كانت غريما له يقتضيه ما لا بد له من أدائه. قوله و أسير الموت و حليف الهموم و قرين الأحزان و نصب الآفات و سريع الشهوات لما كان الإنسان مع الموت كما قال طرفة (17/47)
لعمرك إن الموت ما أخطأ الفتى لكالطول المرخى و ثنياه باليد
كان أسيرا له لا محالة و لما كان لا بد لكل إنسان من الهم كان حليف الهموم و كذلك لا يخلو و لا ينفك من الحزن فكان قرينا له و لما كان معرضا للآفات كان نصبا لها و لما كان إنما يهلك بشهواته كان صريعا لها. قوله و خليفة الأموات قد أخذه من قال إن أمرا ليس بينه و بين آدم إلا أب ميت لمعرق في الموت. و اعلم أنه عد من صفات نفسه سبعا و عد من صفات ولده أربع عشرة صفة فجعل شرح نهج البلاغة ج : 16 ص : 55بإزاء كل واحدة مما له اثنتين فليلمح ذلكبعض ما قيل من الشعر في الدهر و فعله بالإنسان
و من جيد ما نعى به شاعر نفسه و وصف ما نقص الدهر من قواه قول عوف بن محلم الشيباني في عبد الله بن طاهر أمير خراسان
يا ابن الذي دان له المشرقان و ألبس الأمن به المغربان إن الثمانين و بلغتها قد أحوجت سمعي إلى ترجمان و بدلتني بالشطاط انحنا و كنت كالصعدة تحت السنان و قاربت مني خطا لم تكن مقاربات و ثنت من عنان و عوضتني من زماع الفتى و همه هم الجبان الهدان و أنشأت بيني الورى عنانة من غير نسج العنان و لم تدع في لمستمتع إلا لساني و كفاني لسان أدعو به الله و أثني به على الأمير المصعبي الهجا شرح نهج البلاغة ج : 16 ص : 56و من الشعر القديم الجيد في هذا المعنى قول سالم بن عونة الضبيلا يبعدن عصر الشباب و لا لذاته و نباته النضرو المشرفات من الخدور كإيماض الغمام يجوز بالقطرو طراد خيل مثلها التقتا لحفيظة و مقاعد الخمرلو لا أولئك ما حلفت متى عوليت في خرج إلى قبري هربت زبيبة أن رأت ثرمي و أن انحنى لتقادم ظهري من بعد ما عهدت فأدلفني يوم ي و ليلة تسري حتى كأني خاتل قنصا و المرء بعد تمامه يجري لا تهزئي مني زبيب فما في ذاك من عجب و لا سخرأ و لم تري لقمان أهلكه ما اقتات من سنة و من شهرو بقاء نسر كلما انقرضت أيامه عادت إلى نسرما طال من أمد على لبد رجعت محارته إلى قصرو لقد حلبت الدهر أشطره و عت ما آتي من الأمر (17/48)
أنا أستفصح قوله ما اقتات من سنة و من شهر جعل الزمان كالقوت له و من اقتات الشي ء فقد أكله و الأكل سبب المرض و المرض سبب الهلاك شرح نهج البلاغة ج : 16 ص : 57أَمَّا بَعْدُ فَإِنَّ فِيمَا تَبَيَّنْتُ مِنْ إِدْبَارِ الدُّنْيَا عَنِّي وَ جُمُوحِ الدَّهْرِ عَلَيَّ وَ إِقْبَالِ الآْخِرَةِ إِلَيَّ مَا يَزَعُنِي عَنْ ذِكْرِ مَنْ سِوَايَ وَ الِاهْتِمَامِ بِمَا وَرَائِي غَيْرَ أَنِّي حَيْ تَفَرَّدَ بِي دُونَ هُمُومِ النَّاسِ هَمُّ نَفْسِي فَصَدَّقَنِي رَأْيِي وَ صَرَفَنِي عَنْ هَوَايَ وَ صَرَّحَ لِي مَحْضُ أَمْرِي فَأَفْضَى بِي إِلَى جَدٍّ لَا يَكُونُ فِيهِ لَعِبٌ وَ صِدْقٍ لَا يَشُوبُهُ كَذِبٌ وَجَدْتُكَ بَعْضِي بَلْ وَجَدْتُكَ كُلِّي حَتَّى كَأَنَّ شَيْئاً لَوْ أَصَابَكَ أَصَابَنِي وَ كَأَنَّ الْمَوْتَ لَوْ أَتَاكَ أَتَانِي فَعَنَانِي مِنْ أَمْرِكَ مَا يَعْنِينِي مِنْ أَمْرِ نَفْسِي فَكَتَبْتُ إِلَيْكَ كِتَابِي هَذَا مُسْتَظْهِراً بِهِ إِنْ أَنَا بَقِيتُ لَكَ أَوْ فَنِيتُ (17/49)
يزعني يكفني و يصدني وزعت فلانا و لا بد للناس من وزعة. و سوى لفظة تقصر إذا كسرت سينها و تمد إذا فتحتها و هي هاهنا بمعنى غير و من قبلها بمعنى شي ء منكر كقوله رب من أنضجت غيظا قلبه
و التقدير غير ذكر إنسان سواي و يجوز أن تكون من موصولة و قد حذف أحد جزأي الصلة و التقدير عن ذكر الذي هو غيري كما قالوا في لَنَنْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ أي هو أشد يقول ع إن فيما قد بان لي من تنكر الوقت و إدبار الدنيا و إقبال الآخرة شاغلا لي عن الاهتمام بأحد غيري و الاهتمام و الفكر في أمر الولد و غيره ممن أخلفه ورائي. شرح نهج البلاغة ج : 16 ص : 58ثم عاد فقال ألا إن همي بنفسي يقتضي اهتمامي بك لأنك بعضي بل كلي فإن كان اهتمامي بنفسي يصرفني عن غيري لم تكن أنت داخلا في جملة من يصرفني همي بنفسعنهم لأنك لست غيري. فإن قلت أ فهذا الهم حدث لأمير المؤمنين ع الآن أو من قبل لم يكن عالما بأن الدنيا مدبرة و الآخرة مقبلة. قلت كلا بل لم يزل عالما عارفا بذلك و لكنه الآن تأكد و قوي بطريق علو السن و ضعف القوى و هذا أمر يحصل للإنسان على سبيل الإيجاب لا بد من حصوله لكل أحد و إن كان عالما بالحال من قبل و لكن ليس العيان كالخبر. و من مستحسن ما قيل في هذا المعنى قول أبي إسحاق الصابئ (17/50)
أقيك الردى إني تنبهت من كرى و سهو على طول المدى اعترياني فأثبت شخصا دانيا كان خافيا على البعد حتى صار نصب عياني هو الأجل المحتوم لي جد جده و كان يريني غفلة المتواني له نذر قد آذنتني بهجمة له لست منها آخذا بأمان و لا بد منه ممهلا أو معاجلا سيأتي فلا يثنني ثان
و أول هذه القصيدة و هو داخل له في هذا المعنى أيضا
إذا ما تعدت بي و سارت محفة لها أرجل يسعى بها رجلان و ما كنت من فرسانها غير أنها وفت لي لما خانت القدمان نزلت إليها عن سراة حصاني بحكم مشيب أو فراش حصان فقد حملت مني ابن سبعين سالكا سبيلا عليها يسلك الثقل شرح نهج البلاغة ج : 16 ص : 59كما حمل المهد الصبي و قبلها ذعرت أسود الغيل بالنزوان و لي بعدها أخرى تسمى جنازة جنيبة يوم للمنية دان تسير على أقدام أربعة إلى ديار البلى معدودهن ثمان و إني على عيث الردى في جوارحي و ما كف من خطوي و بطش بناني و إن لم يدع ادا مروعا به غير باق من الحدثان تلوم تحت الحجب ينفث حكمه إلى أذن تصغي لنطق لسان لأعلم أني ميت عاق دفنه ذماء قليل في غد هو فان و إن فما للأرض غرثان حائما يراصد من أكلي حضور أوان به شره عم الورى بفجائع تركن فلانا ثاكلا لفلان غدا فاغرا يشكو الطوى و هو راا تلتقي يوما له الشفتان إذا عاضنا بالنسل ممن نعوله تلا أولا منه بمهلك ثان إلى ذات يوم لا ترى الأرض وارثا سوى الله من إنس تراه و جاقوله تفرد بي دون هموم الناس هم نفسي أي دون الهموم التي قد كانت تعتريني لأجل أحوال الناس. فصدقني رأيي يقال صدقته كذا أي عن كذا و في المثل صدقني سن بكره لأنه لما نفر قال له هدع و هي كلمة تسكن بها صغار الإبل إذا نفرت و المعنى أن هذا الهم صدقني عن الصفة التي يجب أن يكون رأيي عليها و تلك الصفة هي ألا يفكر في شرح نهج البلاغة ج : 16 ص : 60أمر شي ء من الموجودات أصلا إلا الله تعالى و نفسه و فوق هذه الطبقة طبقة أخرى جدا و هي ألا تفكر في شي ء قط إلا في الله وحده و فوق هذه الطبقة طبقة أخرى تجل عن الذكر و التفسير و صلح لأحد من المخلوقين إلا النادر الشاذ و قد ذكرها هو فيما سبق و هو ألا يفكر في شي ء أصلا لا في المخلوق و لا في الخالق لأنه قد قارب أن يتحد بالخالق و يستغني عن الفكر فيه. قوله و صرفني عن هواي أي عن هواي و فكري في تدبير الخلافة و سياسة الرعية و القيام بما يوم (17/51)
به الأئمة. قوله ع و صرح لي محض أمري يروى بنصب محض و رفعه فمن نصب فتقديره عن محض أمري فلما حذف الجار نصب و من رفع جعله فاعلا و صرح كشف أو انكشف. قوله فأفضى بي إلى كذا ليس بمعنى أنه قد كان من قبل يمازج جده باللعب بل المعنى أن همومه الأولى قد كانت بحيث يمكن أن يتخللها وقت راحة أو دعابة لا يخرج بها عن الحق كما كان رسول الله ص يمزح و لا يقول إلا حقا فالآن قد حدث عنده هم لا يمكن أن يتخلله من ذلك شي ء أصلا و مدار الفرق بين الحالتين أعني الأولى و الثانية على إمكان اللعب لا نفس اللعب و ما يلزم من قوله أفضى لك بيهذا الهم إلى انتفاء إمكان اللعب أن تكون همومه الأولى قد كان يمازجها اللعب و لكن يلزم من ذلك أنها قد كانت يمكن ذلك فيها إمكانا محضا على أن اللعب غير منكر إذا لم يكن باطلا أ لا ترى إلى (17/52)
قول النبي ص المؤمن دعب لعب
و كذلك القول في قوله و صدق لا يشوبه كذب
أي لا يمكن أن يشوبه كذب و ليس المراد بالصدق و الكذب هاهنا مفهومهما المشهورين بل هو من قولهم صدقونا اللقاء و من قولهم حمل عليهم فما كذب قال زهير شرح نهج البلاغة ج : 16 ص : 6ليث بعثر يصطاد الليوث إذا ما كذب الليث عن أقرانه صدقا
أي أفضى بي هذا الهم إلى أن صدقتني الدنيا حربها كأنه جعل نفسه محاربا للدنيا أي صدقتني الدنيا حربها و لم تكذب أي لم تجبن و لم تخن. أخبر عن شدة اتحاد ولده به فقال وجدتك بعضي قال الشاعر
و إنما أولادنا بيننا أكبادنا تمشي على الأرض لو هبت الريح على بعضهم لامتنعت عيني من الغمضو غضب معاوية على ابنه يزيد فهجره فاستعطفه له الأحنف قال له يا أمير المؤمنين أولادنا ثمار قلوبنا و عماد ظهورنا و نحن لهم سماء ظليلة و أرض ذليلة فإن غضبوا فأرضهم و إن سألوا فأعطهم فلا تكن عليهم قفلا فيملوا حياتك و يتمنوا موتك. و قيل لابنة الخس أي ولديك أحب إليك قالت الصغير حتى يكبر و المريض حتى يبرأ و الغائب حتى يقدم. غضب الطرماح على امرأته فشفع فيها ولده منها صمصام و هو غلام لم يبلغ عشرا فقال الطرماح (17/53)
أ صمصام إن تشفع لأمك تلقها لها شافع في الصدر لم يتزحزح هل الحب إلا أنها لو تعرضت لذبحك يا صمصام قلت لها اذبحي أحاذر يا صمصام إن مت أن يلي تراثي و إياك امرؤ غير مصلح إذا صك وسط القوم رأسك صكة يقول له الناهي ملكت فأسو في الحديث المرفوع إن ريح الولد من ريح الجنة
شرح نهج البلاغة ج : 16 ص : 62و في الحديث الصحيح أنه قال لحسن و حسين ع إنكم لتجبنون و إنكم لتبخلون و إنكم لمن ريحان اللهو من ترقيص الأعراب قول أعرابية لولدها
يا حبذا ريح الولد ريح الخزامى في البلدأ هكذا كل ولد أم لم يلد قبلي أحد
و في الحديث المرفوع من كان له صبي فليستصب له
و أنشد الرياشي
من سره الدهر أن يرى الكبدا يمشي على الأرض فلير الولدا
فَإِنِّي أُوصِيكَ بِتَقْوَى اللَّهِ أَيُّ بُنَيَّ وَ لُزُومِ أَمْرِهِ وَ عِمَارَةِ قَلْبِكَ بِذِكْرِهِ وَ الِاعْتِصَامِ بِحَبْلِهِ وَ أَيُّ سَبَبٍ أَوْثَقُ مِنْ سَبَبٍ بَيْنَكَ وَ بَيْنَ اللَّهِ إِنْ أَنْتَ أَخَذْتَ بِهِ أَحْيِ قَلْبَكَ بِالْمَوْعِظَةِ وَ أَمِتْهُ بِالزَّهَادَةِ وَ قَوِّهِ بِالْيَقِينِ وَ نَوِّرْهُ بِالْحِكْمَةِ وَ ذَلِّلْهُ بِذِكْرِ الْمَوْتِ وَ قَرِّرْهُ بِالْفَنَاءِ وَ بَصِّرْهُ فَجَائِعَ الدُّنْيَا وَ حَذِّرْهُ صَوْلَةَ الدَّهْرِ وَ فُحْشَ تَقَلُّبِ اللَّيَالِي وَ الْأَيَّامِ وَ اعْرِضْ عَلَيْهِ أَخْبَارَ الْمَاضِينَ وَ ذَكِّرْهُ بِمَا أَصَابَ مَنْ كَانَ قَبْلَكَ مِنَ الْأَوَّلِينَ وَ سِرْ فِي دِيَارِهِمْ وَ آثَارِهِمْ فَانْظُرْ فِيمَا فَعَلُوا وَ عَمَّا انْتَقَلُوا وَ أَيْنَ حَلُّوا وَ نَزَلُوا فَإِنَّكَ تَجِدُهُمْ انْتَقَلُوا عَنِ الْأَحِبَّةِ وَ حَلُّوا دَارَ الْغُرْبَةِ وَ كَأَنَّكَ عَنْ قَلِيلٍ قَدْ صِرْتَ كَأَحَدِهِمْ شرح نهج البلاغة ج : 16 ص : 63فَأَصْلِحْ مَثْوَاكَ وَ لَا تَبِعْ آخِرَتَكَ بِدُنْيَاكَ وَ دَعِ الْقَوْلَ فِيمَا لَا تَعْرِفُ وَ الْخِطَابَ فِيمَا لَمْ تُكَلَّفْ وَ أَسِكْ عَنْ طَرِيقٍ إِذَا خِفْتَ ضَلَالَتَهُ فَإِنَّ الْكَفَّ عِنْدَ حَيْرَةِ الضَّلَالِ خَيْرٌ مِنْ رُكُوبِ الْأَهْوَالِ (17/54)
قوله ع و أي سبب أوثق إشارة إلى القرآن لأنه هو المعبر عنه بقوله تعالى وَ اعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَ لا تَفَرَّقُوا. ثم أتى بلفظتين متقابلتين و ذلك من لطيف الصنعة فقال أحي قلبك بالموعظة و أمته بالزهادة و المراد إحياء دواعيه إلى الطاعة و إماتة الشهوات عنه. قوله ع و اعرض عليه أخبار الماضين معنى قد تداوله الناس قال الشاعر
سل عن الماضين إن نطقت عنهم الأجداث و الترك أي دار للبلى نزلوا و سبيل للردي سلكواقوله ع و دع القول فيما لا تعرف
من قول رسول الله ص لعبد الله بن عمرو بن العاص يا عبد الله كيف بك إذا بقيت في حثالة من الناس مرجت عهودهم و أماناتهم و صار الناس هكذا و شبك بين أصابعه قال عبد الله فقلت مرني يا رسول الله فقال خذ ما تعرف و دع ما لا تعرف و عليك بخويصة نفسك (17/55)
شرح نهج البلاغة ج : 16 ص : 64قوله و الخطاب فيما لم تكلف من قول رسول الله ص من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه
و قال معاوية في عبد الملك بن مروان و هو حينئذ غلام إن لهذا الغلام لهمة و إنه مع ذلك تارك لثلاث آخذ بثلاث تارك مساءة الصديق جدا و هزلا تارك ما لا يعنيه تارك ما لا يعتذر منه آخذ بأحسن الحديث إذا حدث و بأحسن الاستماع إذا حدث و بأهون الأمرين إذا خولف. قوله ع و أمسك عن طريق إذا خفت ضلالته مأخوذ من
قول النبي ص دع ما يريبك إلى ما لا يريبك
و في خبر آخر إذا رابك أمر فدعه
وَ أْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ تَكُنْ مِنْ أَهْلِهِ وَ أَنْكِرِ الْمُنْكَرَ بِيَدِكَ وَ لِسَانِكَ وَ بَايِنْ مَنْ فَعَلَهُ بِجُهْدِكَ وَ جَاهِدْ فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ وَ لَا تَأْخُذْكَ فِي اللَّهِ لَوْمَةُ لَائِمٍ وَ خُضِ الْغَمَرَاتِ إِلَى الْحَقِّ حَيْثُ كَانَ وَ تَفَقَّهْ فِي الدِّينِ وَ عَوِّدْ نَفْسَكَ الصَّبْرَ عَلَى الْمَكْرُوهِ وَ نِعْمَ الْخُلُقُ التَّصَبُرُ فِي الْحَقِّ وَ أَلْجِئْ نَفْسَكَ فِي أُمُورِكَ كُلِّهَا إِلَى إِلَهِكَ فَإِنَّكَ تُلْجِئُهَا إِلَى كَهْفٍ حَرِيزٍ وَ مَانِعٍ عَزِيزٍ وَ أَخْلِصْ فِي الْمَسْأَلَةِ لِرَبِّكَ فَإِنَّ بِيَدِهِ الْعَطَاءَ وَ الْحِرْمَانَ وَ أَكْثِرِ الِاسْتِخَارَةَ وَ تَفَهَّمْ وَصِيَّتِي وَ لَا تَذْهَبَنَّ عَنْكَ صَفْحاً فَإِنَّ خَيْرَ الْقَوْلِ مَا نَفَعَ وَ اعْلَمْ أَنَّهُ لَا خَيْرَ فِي عِلْمٍ لَا يَنْفَعُ وَ لَا يُنْتَفَعُ بِعِلْمٍ لَا يَحِقُّ تَعَلُّمُهُ
شرح نهج البلاغة ج : 16 ص : 65أمره يأمر بالمعروف و ينهى عن المنكر و هما واجبان عندنا و أحد الأصول الخمسة التي هي أصول الدين. و معنى قوله تكن من أهله لأن أهل المعروف هم الأبرار الصالحون و يجب إنكار المنكر باللسان فإن لم ينجع فباليد و تفصيل ذلك و ترتيبه مذر في كتبي الكلامية. قوله و خض الغمرات إلى الحق لا شبهة أن الحسن ع لو تمكن لخاضها إلا أن من فقد الأنصار لا حيلة له. (17/56)
و هل ينهض البازي بغير جناح
و الذي خاضها مع عدم الأنصار هو الحسين ع و لهذا عظم عند الناس قدره فقدمه قوم كثير على الحسن ع فإن قلت فما قول أصحابكم في ذلك قلت هما عندنا في الفضيلة سيان أما الحسن فلوقوفه مع قوله تعالى إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا و أما الحسين فلإعزاز الدين. قوله فنعم التصبر قد تقدم منا كلام شاف في الصبر. و قوله و أكثر الاستخارة ليس يعني بها ما يفعله اليوم قوم من الناس من سطر رقاع و جعلها في بنادق و إنما المراد أمره إياه بأن يطلب الخيرة من الله فيما يأتي و يذر. قوله لا خير في علم لا ينفع قول حق لأنه إذا لم ينفع كان عبثا. شرح نهالبلاغة ج : 16 ص : 66قوله و لا ينتفع بعلم لا يحق تعلمه أي لا يجب و لا يندب إليه و ذلك لأن النفع إنما هو نفع الآخرة فما لم يكن من العلوم مرغبا فيه إما بإيجاب أو ندب فلا انتفاع به في الآخرة و ذلك كعلم الهندسة و الأرثماطيقي و نحوهما
أَيْ بُنَيَّ إِنِّي لَمَّا رَأَيْتُنِي قَدْ بَلَغْتُ سِنّاً وَ رَأَيْتُنِي أَزْدَادُ وَهْناً بَادَرْتُ بِوَصِيَّتِي إِلَيْكَ وَ أَوْرَدْتُ خِصَالًا مِنْهَا قَبْلَ أَنْ يَعْجَلَ بِي أَجَلِي دُونَ أَنْ أُفْضِيَ إِلَيْكَ بِمَا فِي نَفْسِي أَوْ أَنْ أُنْقَصَ فِي رَأْيِي كَمَا نُقِصْتُ فِي جِسْمِي أَوْ يَسْبِقَنِي إِلَيْكَ بَعْضُ غَلَبَاتِ الْهَوَى وَ فِتَنِ الدُّنْيَا فَتَكُونَ كَالصَّعْبِ النَّفُورِ وَ إِنَّمَا قَلْبُ الْحَدَثِ كَالْأَرْضِ الْخَالِيَةِ مَا أُلْقِيَ فِيهَا مِنْ شَيْ ءٍ قَبِلَتْهُ فَبَادَرْتُكَبِالْأَدَبِ قَبْلَ أَنْ يَقْسُوَ قَلْبُكَ وَ يَشْتَغِلَ لُبُّكَ لِتَسْتَقْبِلَ بِجِدِّ رَأْيِكَ مِنَ الْأَمْرِ مَا قَدْ كَفَاكَ أَهْلُ التَّجَارِبِ بُغْيَتَهُ وَ تَجْرِبَتَهُ فَتَكُونَ قَدْ كُفِيتَ مَئُونَةَ الطَّلَبِ وَ عُوفِيتَ مِنْ عِلَاجِ التَّجْرِبَةِ فَأَتَاكَ مِنْ ذَلِكَ مَا قَدْ كُنَّا نَأْتِيهِ وَ اسْتَبَانَ لَكَ مَا رُبَّمَا أَظْلَمَ عَلَيْنَا مِنْهُ (17/57)
هذه الوصية كتبها ع للحسن بعد أن تجاوز الستين و روي أنه ذكر عند رسول الله ص ما بين الستين و السبعين فقال معترك المنايا. قوله ع أو أن أنقص في رأيي هذا يدل على بطلان قول من قال إنه لا يجوز أن ينقص في رأيه و أن الإمام معصوم عن أمثال ذلك و كذلك قوله شرح نهج الاغة ج : 16 ص : 67للحسن أو يسبقني إليك بعض غلبات الهوى و فتن الدنيا يدل على أن الإمام لا يجب أن يعصم عن غلبات الهوى و لا عن فتن الدنيا. قوله فتكون كالصعب النفور أي كالبعير الصعب الذي لا يمكن راكبا و هو مع ذلك نفور عن الأنس. ثم ذكر أن التعلم إنما هو في الصبا و في المثل الغلام كالطين يقبل الختم ما دام رطبا. و قال الشاعر
اختم و طينك رطب إن قدرت فكم قد أمكن الختم أقواما فما ختموا
و مثل هو ع قلب الحدث بالأرض الخالية ما ألقي فيها من شي ء قبلته و كان يقال التعلم في الصغر كالنقش في الحجر و التعلم في الكبر كالخط على الماء. قوله فأتاك من ذلك ما كنا نأتيه أي الذي كنا نحن نتجشم المشقة في اكتسابه و نتكلف طلبه يأتيك أنت الآن صفوا عفوا أَيْ بُنَيَّ إِنِّي وَ إِنْ لَمْ أَكُنْ عُمِّرْتُ عُمُرَ مَنْ كَانَ قَبْلِي فَقَدْ نَظَرْتُ فِي أَعْمَالِهِمْ وَ فَكَّرْتُ فِي أَخْبَارِهِمْ وَ سِرْتُ فِي آثَارِهِمْ حَتَّى عُدْتُ كَأَحَدِهِمْ بَلْ كَأَنِّي بِمَا انْتَهَى إِلَيَّ مِنْ أُمُورِهِمْ قَدْ عُمِّرْتُ مَعَ أَوَّلِهِمْ إِلَى آخِرِهِمْ فَعَرَفْتُ صَفْوَ ذَلِكَ مِنْ كَدَرِهِ وَ نَفْعَهُ مِنْ ضَرَرِهِ فَاسْتَخْلَصْتُ لَكَ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ جَلِيلَهُ وَ تَوَخَّيْتُ لَكَ شرح نهج البلاغة ج : 16 ص : 68جَمِيلَهُ وَ صَرَفْتُ عَنْكَ مَجْهُولَهُ وَ رَأَيْتَُيْثُ عَنَانِي مِنْ أَمْرِكَ مَا يَعْنِي الْوَالِدَ الشَّفِيقَ وَ أَجْمَعْتُ عَلَيْهِ مِنْ أَدَبِكَ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ وَ أَنْتَ مُقْبِلُ الْعُمُرِ وَ مُقْتَبَلُ الدَّهْرِ ذُو نِيَّةٍ سَلِيمَةٍ وَ نَفْسٍ صَافِيَةٍ وَ أَنْ أَبْتَدِئَكَ بِتَعْلِيمِ كِتَابِ اللَّهِ عَزَّ وَ جَلَّ وَ تَأْوِيلِهِ وَ شَرَائِعِ الْإِسْلَامِ وَ أَحْكَامِهِ وَ حَلَالِهِ وَ حَرَامِهِ لَا أُجَاوِزُ ذَلِكَ بِكَ إِلَى غَيْرِهِ ثُمَّ أَشْفَقْتُ أَنْ يَلْتَبِسَ عَلَيْكَ مَا اخْتَلَفَ النَّاسُ فِيهِ مِنْ أَهْوَائِهِمْ وَ آرَائِهِمْ مِثْلَ الَّذِي الْتَبَسَ عَلَيْهِمْ فَكَانَ إِحْكَامُ ذَلِكَ عَلَى مَا كَرِهْتُ مِنْ تَنْبِيهِكَ لَهُ أَحَبَّ إِلَيَّ مِنْ إِسْلَامِكَ إِلَى أَمْرٍ لَا آمَنُ عَلَيْكَ فِيهِ الْهَلَكَةَ وَ رَجَوْتُ أَنْ يُوَفِّقَكَ اللَّهُ فِيهِ لِرُشْدِكَ وَ أَنْ يَهْدِيَكَ لِقَصْدِكَ فَعَهِدْتُ إِلَيْكَ وَصِيَّتِي هَذِهِ (17/58)
هذا الفصل و ما بعده يشعر بالنهي عن علم الكلام حسب ما يقتضيه ظاهر لفظه أ لا تراه قال له كنت عازما على أن أعلمك القرآن و تفسيره و الفقه و هو المعرفة بأحكام الشريعة و لا أجاوز ذلك بك إلى غيره ثم خفت أن تدخل عليك شبهة في أصول الدين فيلتبس عليك في عقيدتك الأصلية ما التبس على غيرك من الناس فعدلت عن العزم الأول إلى أن أوصيك بوصايا تتعلق بأصول الدين. و معنى قوله ع و كان إحكام ذلك إلى قوله لا آمن عليك به الهلكة أي فكان إحكامي الأمور الأصلية عندك و تقرير الوصية التي أوصيك بها في ذهنك فيما رجع إلى النظر في العلوم الإلهية و إن كنت كارها للخوض معك شرح نهج البلاغة ج : 16 ص : 69فيه و تنبيهك عليه أحب إلي من أن أتركك سدى مهملا تتلاعب بك الشبه و تعتورك الشكوك في أصول دينك فربما أفضى ذلك بك إلى الهلكة. فإن قلت فلما ذا كان كارها تنبيه ولده على ذلك و أنتم تقولون إن معرفة الله جبة على المكلفين و ليس يليق بأمير المؤمنين أن يكره ما أوجبه الله تعالى قلت لعله علم إما من طريق وصية رسول الله ص أو من طريق معرفته بما يصلح أن يكون لطفا لولده و معرفته بما يكون مفسدة له لكثرة التجربة له و طول الممارسة لأخلاقه و طباعه أن الأصلح له ألا يخوض في علم الكلام الخوض الكلي و أن يقتنع بالمبادئ و الجمل فمصالح البشر تختلف فرب إنسان مصلحته في أمر ذلك الأمر بعينه مفسدة لغيره و نحن و إن أوجبنا المعرفة فلم نوجب منها إلا الأمور المجملة و أما التفصيلات الدقيقة الغامضة فلا تجب إلا عند ورود الشبهة فإذا لم تقع الشبهة في نفس المكلف لم يجب عليه الخوض في التفصيلات. قوله ع قد عمرت مع أولهم إلى آخرهم العين مفتوحة و الميم مكسورة مخففة تقول عمر الرجل يعمر عمرا و عمرا على غير قياس لأن قياس مصدره التحريك أي عاش زمانا طويلا و استعمل في القسم أحدهما فقط و هو المفتوح. قوله ع حيث عناني من أمرك أي أهمني قال (17/59)
عناني من صدودك ما عنا
قوله و أجمعت عليه أي عزمت. و مقتبل الدهر يقال اقتبل الغلام فهو مقتبل بالفتح و هو من الشواذ و مثله أحصن الرجل إذا تزوج فهو محصن و إذا عف فمحصن أيضا و أسهب إذا أطال الحديث فهو مسهب و ألفج إذا افتقر فهو ملفج و ينبغي أن يكون له من قوله تنبيهك له بمعنى شرح نهالبلاغة ج : 16 ص : 70عليه أو تكون على أصلها أي ما كرهت تنبيهك لأجله. فإن قلت إلى الآن ما فسرت لما ذا كره تنبيهه على هذا الفن قلت بلى قد أشرت إليه و هو أنه كره أن يعدل به عن تفسير القرآن و علم الفقه إلى الخوض في الأمور الأصولية فنبهه على أمور يجره النظر و تأمل الأدلة و الشبهات إليها دقيقة يخاف على الإنسان من الخوض فيها أن تضطرب عقيدته إلا أنه لم يجد به بدا من تنبيهه على أصول الديانة و إن كان كارها لتعريضه لخطر الشبهة فنبهه على أمور جملية غير مفصلة و أمره أن يلزم ذلك و لا يتجاوزه إلى غيره و أن يمسك عما يشتبه عليه و سيأتي ذكر ذلك (17/60)
وَ اعْلَمْ يَا بُنَيَّ أَنَّ أَحَبَّ مَا أَنْتَ آخِذٌ بِهِ إِلَيَّ مِنْ وَصِيَّتِي تَقْوَى اللَّهِ وَ الِاقْتِصَارُ عَلَى مَا فَرَضَهُ اللَّهُ عَلَيْكَ وَ الْأَخْذُ بِمَا مَضَى عَلَيْهِ الْأَوَّلُونَ مِنْ آبَائِكَ وَ الصَّالِحُونَ مِنْ أَهْلِ بَيْتِكَ فَإِنَّهُمْ لَمْ يَدَعُوا أَنْ نَظَرُوا لِأَنْفُسِهِمْ كَمَا أَنْتَ نَاظِرٌ وَ فَكَّرُوا كَمَا أَنْتَ مُفَكِّرٌ ثُمَّ رَدَّهُمْ آخِرُ ذَلِكَ إِلَى الْأَخْذِ بِمَا عَرَفُوا وَ الْإِمْسَاكِ عَمَّا لَمْ يُكَلَّفُوا فَإِنْ أَبَتْ نَفْسُكَ أَنْ تَقْبَلَ ذَلِكَ دُونَ أَنْ تَعْلَمَ كَمَا عَلِمُوا فَلْيَكُنْ طَلَبُكَ ذَلِكَ بِتَفَهُّمٍ وَ تَعَلُّمٍ لَا بِتَوَرُّطِ الشُّبُهَاتِ وَ عُلَقِ الْخُصُومَاتِ وَ ابْدَأْ قَبْلَ نَظَرِكَ فِي ذَلِكَ بِالِاسْتِعَانَةِ بِإِلَهِكَ وَ الرَّغْبَةِ إِلَيْهِ فِي تَوْفِيقِكَ وَ تَرْكِ كُلِّ شَائِبَةٍ أَوْلَجَتْكَ فِي شُبْهَةٍ أَوْ أَسْلَمَتْكَ إِلَى ضَلَالَةٍ فَإِنْ أَيْقَنْتَ أَنْ قَدْ صَفَا قَلْبُكَ فَخَشَعَ وَ تَمَّ رَأْيُكَ فَاجْتَمَعَ وَ كَانَ هَمُّكَ فِي ذَلِكَ هَمّاً وَاحِداً فَانْظُرْ فِيمَا فَسَّرْتُ لَكَ وَ إِنْ أَنْتَ لَمْ يَجْتَمِعْ لَكَ مَا تُحِبُّ مِنْ نَفْسِكَ وَ فَرَاغِ نَظَرِكَ وَ فِكْرِكَ شرح نهج البلاغة ج : 16 ص : 71فَاعْلَمْ أَنَّكَ إِنَّمَا تَخْبِطُ الْعَشْوَاءَ وَ تَتَوَرَّطُ الظَّلْمَاءَ وَ لَيْسَ طَالِبُ الدِّينِ مَنْ خَبَطَ أَوْ خَلَطَ وَ الْإِمْسَاكُ عَنْ ذَلِكَ مْثَلُ (17/61)
أمره أن يقتصر على القيام بالفرائض و أن يأخذ بسنة السلف الصالح من آبائه و أهل بيته فإنهم لم يقتصروا على التقليد بل نظروا لأنفسهم و تأملوا الأدلة ثم رجعوا آخر الأمر إلى الأخذ بما عرفوا و الإمساك عما لم يكلفوا. فإن قلت من سلفه هؤلاء الذين أشار إليهم قلت المهاجرون الأولون من بني هاشم و بني المطلب كحمزة و جعفر و العباس و عبيدة بن الحارث و كأبي طالب في قول الشيعة و كثير من أصحابنا و كعبد المطلب في قول الشيعة خاصة. فإن قلت فهل يكون أمير المؤمنين ع نفسه معدودا من جملة هؤلاء قلت لا فإنه لم يكن من أهل المبادئ و الجمل المقتصر بهم في تكليفهم العقليات على أوائل الأدلة بل كان سيد أهل النظر كافة و إمامهم. فإن قلت ما معنى قوله لم يدعوا أن نظروا لأنفسهم قلت لأنهم إذا تأملوا الأدلة و فكروا فيها فقد نظروا لأنفسهم كما ينظر الإنسان لنفسه ليخلصها من مضرة عظيمة سبيلها أن تقع به إن لم ينظر في الخلاص منها و هذا هو الوجه في وجوب النظر في طريق معرفة الله و الخوف من إهمال النظر. فإن قلت ما معنى قوله إلى الأخذ بما عرفوا و الإمساك عما لم يكلفوا شرح نهج البلاغة ج : 16 ص : 72قلت الأخذ بما عرفوا مثل أدلة حدوث الأجسام و توحيد البارئ و عدله الإمساك عما لم يكلفوا مثل النظر في إثبات الجزء الذي لا يتجزأ و نفيه و مثل الكلام في الخلإ و الملإ و الكلام في أن هل بين كل حركتين مستقيمتين سكون أم لا و أمثال ذلك مما لا يتوقف أصول التوحيد و العدل عليه فإنه لا يلزم أصحاب الجمل و المبادئ أن يخوضوا في ذلك لأنهم لم يكلفوا الخوض فيه و هو من وظيفة قوم آخرين. قوله ع فإن أبت نفسك أن تقبل ذلك دون أن تعلم كما علموا هذا الموضع فيه نظر لأنا قد قلنا إنهم لم يعلموا التفاصيل الدقيقة فكيف يجعلهم عالمين بها و يقول أن تعلم كما علموا و ينبغي أن يقال إن الكاف و ما عملت فيه في موضع نصب لأنه صفة مصدر محذوف و تقديره فإن أبت نفسك أن تقبل ذلك (17/62)
علما كما علموا دون أن تعلم التفاصيل الدقيقة و جاز انتصاب علما و العامل فيه تقبل لأن القبول من جنس العلم لأن القبول اعتقاد و العلم اعتقاد و ليس لقائل أن يقول فإذن يكون قد فصل بين الصفة و الموصوف بأجنبي لأن الفصل بينهما قد جاء كثيرا قال الشاعر (17/63)
جزى الله كفا ملئها من سعادة سرت في هلاك المال و المال نائم
و يجوز أن يقال كما علموا الآن بعد موتهم فإنهم بعد الموت يكونون عالمين بجميع ما يشتبه علمه على الناس في الحياة الدنيا لأن المعارف ضرورية بعد الموت و النفوس باقية على قول كثير من المسلمين و غيرهم. و اعلم أن الذي يدعو إلى تكلف هذه التأويلات أن ظاهر الكلام كونه يأمر بتقليد النبي ص و الأخذ بما في القرآن و ترك النظر العقلي هذا هو ظاهر الكلام أ لا تراه كيف يقول له الاقتصار على ما فرضه الله عليك و الأخذ بما مضى عليه أهل شرح نهج البلاغة ج : 16 ص : 73بيتك و سلفك فإنهم لما حاولوا النظر رجعوا بأخرة إلى السمعيات و ترك العقليات لأنها أفضت بهم إلى ما لا يعرفونه و لا هو من تكليفهم. ثم قال له فإن كرهت التقليد المحض و أحببت أن تسلك مسلكهم في النظر و إن أفضى بك الأمر بأخرة إلى تركه و العود إلى المعروف من الشرعيات و ما ورد به الكتاب و السنة فينبغي أن تنظر و أنت مجتمع الهم خال من الشبهة و تكون طالبا للحق غير قاصد إلى الجدل و المراء فلما وجدنا ظاهر اللفظ يقتضي هذه المعاني و لم يجز عندنا أن يأمر أمير المؤمنين ع ولده مع حكمته و أهلية ولده بالتقليد و ترك النظر رجعنا إلى تأويل كلامه على وجه يخرج به ع من أن يأمر بما لا يجوز لمثله أن يأمر به. و اعلم أنه قد أوصاه إذا هم بالشروع في النظر بمحض ما ذكره المتكلمون و ذلك أمور منها أن يرغب إلى الله في توفيقه و تسديده. و منها أن يطلب المطلوب النظري بتفهم و تعلم لا بجدال و مغالبة و مراء و مخاصمة. و منها إطراح العصبية لمذهب بعينه و التورط في الشبهات التي يحاول بها
نصره ذلك المذهب. و منها ترك الإلف و العادة و نصرة أمر يطلب به الرئاسة و هو المعني بالشوائب التي تولج في الضلال. و منها أن يكون صافي القلب مجتمع الفكر غير مشغول السر بأمر من جوع شرح نهج البلاغة ج : 16 ص : 74أو شبع أو شبق أو غضب و لا يكوذا هموم كثيرة و أفكار موزعة مقسمة بل يكون فكره و همه هما واحدا. قال فإذا اجتمع لك كل ذلك فانظر و إن لم يجتمع لك ذلك و نظرت كنت كالناقة العشواء الخابطة لا تهتدي و كمن يتورط في الظلماء لا يعلم أين يضع قدمه و ليس طالب الدين من كان خابطا أو خالطا و الإمساك عن ذلك أمثل و أفضل (17/64)
فَتَفَهَّمْ يَا بُنَيَّ وَصِيَّتِي وَ اعْلَمْ أَنَّ مَالِكَ الْمَوْتِ هُوَ مَالِكُ الْحَيَاةِ وَ أَنَّ الْخَالِقَ هُوَ الْمُمِيتُ وَ أَنَّ الْمُفْنِيَ هُوَ الْمُعِيدُ وَ أَنَّ الْمُبْتَلِيَ هُوَ الْمُعَافِي وَ أَنَّ الدُّنْيَا لَمْ تَكُنْ لِتَسْتَقِرَّ إِلَّا عَلَى مَا جَعَلَهَا اللَّهُ عَلَيْهِ مِنَ النَّعْمَاءِ وَ الِابْتِلَاءِ وَ الْجَزَاءِ فِي الْمَعَادِ أَوْ مَا شَاءَ مِمَّا لَا تَعْلَمُ فَإِنْ أَشْكَلَ عَلَيْكَ شَيْ ءٌ مِنْ ذَلِكَ فَاحْمِلْهُ عَلَى جَهَالَتِكَ فَإِنَّكَ أَوَّلُ مَا خُلِقْتَ بِهِ جَاهلًا ثُمَّ عُلِّمْتَ وَ مَا أَكْثَرَ مَا تَجْهَلُ مِنَ الْأَمْرِ وَ يَتَحَيَّرُ فِيهِ رَأْيُكَ وَ يَضِلُّ فِيهِ بَصَرُكَ ثُمَّ تُبْصِرُهُ بَعْدَ ذَلِكَ
قد تعلق بهذه اللفظة و هو قوله أو ما شاء مما لا تعلم قوم من التناسخية و قالوا المعني بها الجزاء في الهياكل التي تنتقل النفوس إليها و ليس ما قالوه بظاهر و يجوز أن يريد ع أن الله تعالى قد يجازي المذنب في الدنيا بنوع من العقوبة كالأسقام و الفقر و غيرهما و العقاب و إن كان مفعولا على وجه الاستحقاق و الإهانة فيجوز لمستحقه و هو الباري شرح نهج البلاغة ج : 16 ص : 75أن يقتصر منه على الإيلام فقط لأن الجميع حقه فله أن يستوفي البعض و يسقط البعض و قد روي أو بما شاء بالباء الزائدة و روي بما لا يعلم و أما الثواب فلا يجوز يجازى به المحسن في الدنيا لأنه على صفة لا يمكن أن تجامع التكليف فيحمل لفظ الجزاء على جزاء العقاب خاصة. ثم أعاد ع وصيته الأولى فقال و إن أشكل عليك شي ء من أمر القضاء و القدر و هو كون الكافر مخصوصا بالنعماء و المؤمن مخصوصا بضرب من الابتلاء و كون الجزاء قد كون في المعاد و قد يكون في غير المعاد فلا تقدحن جهالتك به في سكون قلبك إلى ما عرفتك جملته و هو أن الله تعالى هو المحيي المميت المفني المعيد المبتلي المعافي و أن الدنيا بنيت على الابتلاء و الأنعام و أنهما لمصالح و أمور يستأثر الله تعالى بعلمها و أنه يجازي عباده إما في الآخرة أو غير الآخرة على حسب ما يريده و يختاره. ثم قال له إنما خلقت في مبدإ خلقتك جاهلا فلا تطلبن نفسك غاية من العلم لا وصول لها إليها أو لها إليها وصول بعد أمور صعبة و متاعب شديدة فمن خلق جاهلا حقيق أن يكون جهله مدة عمره أكثر من علمه استصحابا للأصل. ثم أراد أن يؤنسه بكلمة استدرك بها إيحاشه فقال له و عساك إذا جهلت شيئا من ذلك أن تعلمه فيما بعد فما أكثر ما تجهل من الأمور و تتحير فيه ثم تبصره و تعرفه و هذا من الطب اللطيف و الرقى الناجعة و السحر الحلال شرح نهج البلاغة ج : 16 ص : 7فَاعْتَصِمْ بِالَّذِي خَلَقَكَ وَ رَزَقَكَ وَ سَوَّاكَ فَلْيَكُنْ لَهُ تَعَبُّدُكَ (17/65)
وَ إِلَيْهِ رَغْبَتُكَ وَ مِنْهُ شَفَقَتُكَ وَ اعْلَمْ يَا بُنَيَّ أَنَّ أَحَداً لَمْ يُنْبِئْ عَنِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ كَمَا أَنْبَأَ عَلَيْهِ نَبِيُّنَا ص فَارْضَ بِهِ رَائِداً وَ إِلَى النَّجَاةِ قَائِداً فَإِنِّي لَمْ آلُكَ نَصِيحَةً وَ إِنَّكَ لَنْ تَبْلُغَ فِي النَّظَرِ لِنَفْسِكَ وَ إِنِ اجْتَهَدْتَ مَبْلَغَ نَظَرِي لَكَ (17/66)
عاد إلى أمره باتباع الرسول ص و أن يعتمد على السمع و ما وردت به الشريعة و نطق به الكتاب و قال له إن أحدا لم يخبر عن الله تعالى كما أخبر عنه نبينا ص و صدق ع فإن التوراة و الإنجيل و غيرهما من كتب أنبياء بني إسرائيل لم تتضمن من الأمور الإلهية ما تضمنه القرآن و خصوصا في أمر المعاد فإنه في أحد الكتابين مسكوت عنه و في الآخر مذكور ذكرا مضطربا و الذي كشف هذا القناع في هذا المعنى و صرح بالأمر هو القرآن ثم ذكر له أنه أنصح له من كل أحد و أنه ليس يبلغ و إن اجتهد في النظر لنفسه ما يبلغه هو ع له لشدة حبه له و إيثاره مصلحته و قوله لم آلك نصحا لم أقصر في نصحك ألى الرجل في كذا يألو أي قصر فهو آل و الفعل لازم و لكنه حذف اللام فوصل الفعل إلى الضمير فنسبه و كان أصله لا آلو لك نصحا و نصحا منصوب على التمييز و ليس كما قاله الراوندي إن انتصابه على أنه مفعول ثان فإنه إلى مفعول واحد لا يتعدى فكيف إلى اثنين شرح نهج البلاغة ج : 16 ص : 77و يقول هذه امرأة آلية أي مقصرة و جمعها أوال و في المثل إلا حظية فلا ألية أصله في المرأة تصلف عند بعلها فتوصي حيث فاتتها الحظوة ألا تألوه في التودد إليه و التحبب إلى قلبه. قوله و منه شفقتك أي خوفك. و رائأصله الرجل يتقدم القوم فيرتاد بهم المرعى
وَ اعْلَمْ يَا بُنَيَّ أَنَّهُ لَوْ كَانَ لِرَبِّكَ شَرِيكٌ لَأَتَتْكَ رُسُلُهُ وَ لَرَأَيْتَ آثَارَ مِلْكِهِ وَ سُلْطَانِهِ وَ لَعَرَفْتَ أَفْعَالَهُ وَ صِفَاتَهُ وَ لَكِنَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ كَمَا وَصَفَ نَفْسَهُ لَا يُضَادُّهُ فِي مُلْكِهِ أَحَدٌ وَ لَا يَزُولُ أَبَداً وَ لَمْ يَزَلْ أَوَّلٌ قَبْلَ الْأَشْيَاءِ بِلَا أَوَّلِيَّةٍ وَ آخِرٌ بَعْدَ الْأَشْيَاءِ بِلَا نِهَايَةٍ عَظُمَ أَنْ تُثْبَتَ رُبُوبِيَّتُهُ بِإِحَاطَةِ قَلْبٍ أَوْ بَصَرٍ فَإِذَا عَرَفْتَ ذَلِكَ فَافْعَلْ كَمَا يَنْبَغِي لِمِثْلِكَ أَنْ يَفْعَلَهُ فِي صِغَرِ خَطَرِهِ وَ قِلَّةِ مَقْدِرَتِهِ وَ كَثْرَةِ عَجْزِهِ و عَظِيمِ حَاجَتِهِ إِلَى رَبِّهِ فِي طَلَبِ طَاعَتِهِ وَ الرَّهِينَةِ مِنْ عُقُوبَتِهِ وَ الْخَشْيَةِ مِنْ عُقُوبَتِهِ وَ الشَّفَقَةِ مِنْ سُخْطِهِ فَإِنَّهُ لَمْ يَأْمُرْكَ إِلَّا بِحَسَنٍ وَ لَمْ يَنْهَكَ إِلَّا عَنْ قَبِيحٍ (17/67)
يمكن أن يستدل بهذا الكلام على نفي الثاني من وجهين أحدهما أنه لو كان في الوجود ثان للبارئ تعالى لما كان القول بالوحدانية حقا بل كان الحق هو القول بالتثنية و محال ألا يكون ذلك الثاني حكيما و لو كان الحق هو شرح نهج البلاغة ج : 16 ص : 78إثبات ثان حكيم لوجب أيبعث رسولا يدعو المكلفين إلى التثنية لأن الأنبياء كلهم دعوا إلى التوحيد لكن التوحيد على هذا الفرض ضلال فيجب على الثاني الحكيم أن يبعث من ينبه المكلفين على ذلك الضلال و يرشدهم إلى الحق و هو إثبات الثاني و إلا كان منسوبا في إهمال ذلك إلى السفه و استفساد المكلفين و ذلك لا يجوز و لكنا ما أتانا رسول يدعو إلى إثبات ثان في الإلهية فبطل كون القول بالتوحيد ضلالا و إذا لم يكن ضلالا كان حقا فنقيضه و هو القول بإثبات الثاني باطل الوجه الثاني أنه لو كان في الوجود ثان للقديم تعالى لوجب أن يكون لنا طريق إلى إثباته إما من مجرد أفعاله أو من صفات أفعاله أو من صفات نفسه أو لا من هذا و لا من هذا فمن التوقيف. و هذه هي الأقسام التي ذكرها أمير المؤمنين ع لأن قوله أتتك رسله هو التوقيف و قوله و لرأيت آثار ملكه و سلطانه هي صفات أفعاله و قوله و لعرفت أفعاله و صفاته هما القسمان الآخران. أما إثبات الثاني من مجرد الفعل فباطل لأن الفعل إنما يدل على فاعل و لا يدل على التعدد و أما صفات أفعاله و هي كون أفعاله محكمة متقنة فإن الأحكام الذي نشاهده إنما يدل على عالم و لا يدل على التعدد و أما صفات ذات البارئ فالعلم بها فرع على العلم بذاته فلو أثبتنا ذاته بها لزم الدور. و أما التوقيف فلم يأتنا رسول ذو معجزة صحيحة يدعونا إلى الثاني و إذا بطلت الأقسام كلها و قد ثبت أن ما لا طريق إلى إثباته لا يجوز إثباته بطل القول بإثبات الثاني. ثم قال لا يضاده في ملكه أحد ليس يريد بالضد ما يريده المتكلمون من نفي ذات هي معاكسة لذات البارئ تعالى في صفاتها كمضادة السواد للبياض بل (17/68)
مراده نفي الثاني لا غير فإن نفي الضد بحث آخر لا دخول له بين هذا الكلام. شرح نهج البلاغة ج : 16 ص : 79ثم ذكر له أن البارئ تعالى قديم سابق للأشياء لا سبقا له حد محدود و أول معين بل لا أول له مطلق ثم قال و هو مع هذا آخر الأشياء آخرية مطلقة ليس تنتهي إلى غاية معينة. ثم ذكر أن له ربوبية جلت عن أن تحيط بها الأبصار و العقول. و قد سبق منا خوض في هذا المعنى و ذكرنا من نظمنا في هذا النمط أشياء لطيفة و نحن نذكر هاهنا من نظمنا أيضا في هذا المعنى و في فننا الذي اشتهرنا به و هو المناجاة و المخاطبة على طريقة أرباب الطريقة ما لم نذكره هناك فمن ذاك قولي (17/69)
فلا و الله ما وصل ابن سينا و لا أغنى ذكاء أبي الحسين و لا رجعا بشي ء بعد بحث و تدقيق سوى خفي حنين لقد طوفت أطلبكم و لكن يحول الوقت بينكم و بيني فهل بعد انقضاء الوقت أحظى بوصلكم غدا و تقر عيني منى عشنا بها زمنا و كانت تسوفنا بصدق أو بمين فإن أكدت فذاكديني و إن أجدت فذاك حلول ديني
و منها
أ مولاي قد أحرقت قلبي فلا تكن غدا محرقا بالنار من كان يهواكاأ تجمع لي نارين نار محبة و نار عذاب أنت أرحم من ذاكا
و منها
قوم موسى تاهوا سنين كما قد جاء في النص قدرها أربعوناو لي اليوم تائها في جوى من لا أسمي و حبه خمسوناقل لأحبابنا إلام نروم الوصل منكم و أنتم تمنعونا شرح نهج البلاغة ج : 16 ص : 80كم نناجيكم فلا ترشدونا و نناديكم فلا تسمعوناحسبنا علمكم بأنا مواليكم و إن كنتم لنا كارهينافعسى تدرك السعادة أرباب المعاصي فيصبحوا فائزينو منها و الله ما آسى من الدنيا على مال و لا ولد و لا سلطان بل في صميم القلب مني حسرة تبقى معي و تلف في أكفاني إني أراك بباطني لا ظاهري فالحسن مشغلة عن العرفان يا من سهرت مفكرا في أمره خمسين حولا دائم الجولان فرجعت أحمق من نعامة بيهس و أضل سعيا من أبي غبو منها
و حقك إن أدخلتني النار قلت للذين بها قد كنت ممن أحبه و أفنيت عمري في علوم دقيقة و ما بغيتي إلا رضاه و قربه هبوني مسيئا أوتغ الحلم جهله و أوبقه بين البرية ذنبه أ ما يقتضي شرع التكرم عتقه أ يحسن أن ينسى هواه و حبه أ ما كان ينوي الحق فيما يقوله أ لم تنصر حيد و العدل كتبه أ ما رد زيغ ابن الخطيب و شكه و إلحاده إذ جل في الدين خطبه أ ما قلتم من كان فينا مجاهدا سيكرم مثواه و يعذب شربه و نهديه سبلا من هدانا جهاده و يدخله خير المداخل كسبه فأي اجتهاد فوق ما كان صانعا و قد أحرقت زرق الشياطين شهبه و ما نال قلب جيش محمد كما نال من أهل الضلالة قلبه (17/70)
شرح نهج البلاغة ج : 16 ص : 81فإن تصفحوا يغنم و إن تتجرموا فتعذيبكم حلو المذاقة عذبه و آية صدق الصب أن يعذب الأذى إذ كان من يهوى عليه يصو منها إذا فكرت فيك يحار عقلي و ألحق بالمجانين الكبارو أصحو تارة فيشوب ذهني و يقدح خاطري كشواظ نارفيا من تاهت العقلاء فيه فأمسوا كلهم صرعى عقارو يا من كاعت الأفكار عنه فآبت بالمتاعب و الخسارو يا من ليس يعلمه نبي و لا ملك و لا يدريه دارو يا من ليس قداما و خلفا و لا جهة اليمين و لا اليسارو لا فوق السماء و لا تدلى من الأرضين في لجج البحارو يا من أمره من ذاك أجلى من ابن ذكاء أو صبح النهارسألتك باسمك المكتوم إلا فككت النفس من رق الإساروجدت لها بما تهوى فأنت العليم بباطن اللغز الضمار
و منها
يا رب إنك عالم بمحبتي لك و اجتهادي و تجردي للذب عنك على مراغمة الأعادي بالعدل و التوحيد أصدع معلنا في كل نادي و كشفت زيغ ابن الخطيب و لبسه بين العبادو نقضت سائر ما بناه من الضلالة و الفس شرح نهج البلاغة ج : 16 ص : 82و أبنت عن إغوائه في دين أحمد ذي الرشادو جعلت أوجه ناصريه محممات بالسوادو كففت من غلوائهم بعد التمرد و العنادفكأنما نخل الرماد عليهم بعد الرمادو قصدت وجهك أبتغي حسن المثوبة في المعادفأفض على العبد الفقير إليكم نور السدادو ارز قبل الموت معرفة المصائر و المبادي و افكك أسير الحرص باللأصفاد من أسر الصفادو اغسل بصفو القرب من أبوابكم كدر البعادو أعضه من حر الغليل بوصلكم برد الفؤادو ارحم عيونا فيك هامية و قلبا فيك صاديا ساطح الأرض المهاد و ممسك السبع الشداديَا بُنَيَّ إِنِّي قَدْ أَنْبَأْتُكَ عَنِ الدُّنْيَا وَ حَالِهَا وَ زَوَالِهَا وَ انْتِقَالِهَا وَ أَنْبَأْتُكَ عَنِ الآْخِرَةِ وَ مَا أُعِدَّ لِأَهْلِهَا وَ ضَرَبْتُ لَكَ فِيهِمَا الْأَمْثَالَ لِتَعْتَبِرَ بِهَا وَ تَحْذُوَ عَلَيْهَا إِنَّمَا مَثَلُ مَنْ خَبَرَ الدُّنْيَا كَمَثَلِ قَوْمٍ سَفْرٍ نَبَا بِهِمْ مَنْزِلٌ جَدِيبٌ فَأَمُّوا مَنْزِلًا خَصِيباً وَ جَنَاباً مَرِيعاً فَاحْتَمَلُوا وَعْثَاءَ الطَّرِيقِ وَ فِرَاقَ الصَّدِيقِ وَ خُشُونَةَ السَّفَرِ وَ جُشُوبَةَ المَطْعَمِ لِيَأْتُوا سَعَةَ دَارِهِمْ وَ مَنْزِلَ قَرَارِهِمْ فَلَيْسَ يَجِدُونَ لِشَيْ ءٍ مِنْ ذَلِكَ أَلَماً وَ لَا يَرَوْنَ نَفَقَةً فِيهِ مَغْرَماً وَ لَا شَيْ ءَ أَحَبُّ إِلَيْهِمْ مِمَّا قَرَّبَهُمْ مِنْ مَنْزِلِهِمْ شرح نهج البلاغة ج : 16 ص : 83وَ أَدْنَاهُمْ إِلَى مَحَلَّتِهِمْ وَ مَثمَنِ اغْتَرَّ بِهَا كَمَثَلِ قَوْمٍ كَانُوا بِمَنْزِلٍ خَصِيبٍ فَنَبَا بِهِمْ إِلَى مَنْزِلٍ جَدِيبٍ فَلَيْسَ شَيْ ءٌ أَكْرَهَ إِلَيْهِمْ وَ لَا أَفْظَعَ عِنْدَهُمْ (17/71)
مِنْ مُفَارَقَةِ مَا كَانُوا فِيهِ إِلَى مَا يَهْجُمُونَ عَلَيْهِ وَ يَصِيرُونَ إِلَيْهِ حذا عليه يحذو و احتذى مثاله يحتذي أي اقتدى به و قوم سفر بالتسكين أي مسافرون. و أموا قصدوا و المنزل الجديب ضد المنزل الخصيب. و الجناب المريع بفتح الميم ذو الكلإ و العشب و قد مرع الوادي بالضم. و الجناب الفناء و وعثاء الطريق مشقتها. و جشوبة المطعم غلظه طعام جشيب و مجشوب و يقال إنه الذي لا أدم معه. يقول مثل من عرف الدنيا و عمل فيها للآخرة كمن سافر من منزل جدب إلى منزل خصيب فلقي في طريقه مشقة فإنه لا يكترث بذلك في جنب ما يطلب و بالعكس من عمل للدنيا و أهمل أمر الآخرة فإنه كمن يسافر إلى منزل ضنك و يهجر منزلا رحيبا طيبا و هذا من (17/72)
قول رسول الله ص الدنيا سجن المؤمن و جنة الكافر
شرح نهج البلاغة ج : 16 ص : 84يَا بُنَيَّ اجْعَلْ نَفْسَكَ مِيزَاناً فِيمَا بَيْنَكَ وَ بَيْنَ غَيْرِكَ فَأَحْبِبْ لِغَيْرِكَ مَا تُحِبُّ لِنَفْسِكَ وَ اكْرَهْ لَهُ مَا تَكْرَهُ لَهَا وَ لَا تَظْلِمْ كَمَا لَا تُحِبُّ أَنْ تُظْلَمَ وَ أَحْسِنْ كَمَا تُحُِ أَنْ يُحْسَنَ إِلَيْكَ وَ اسْتَقْبِحْ مِنْ نَفْسِكَ مَا تَسْتَقْبِحُهُ مِنْ غَيْرِكَ وَ ارْضَ مِنَ النَّاسِ بِمَا تَرْضَاهُ لَهُمْ مِنْ نَفْسِكَ وَ لَا تَقُلْ مَا لَا تَعْلَمُ وَ إِنْ قَلَّ مَا تَعْلَمُ وَ لَا تَقُلْ مَا لَا تُحِبُّ أَنْ يُقَالَ لَكَ وَ اعْلَمْ أَنَّ الْإِعْجَابَ ضِدُّ الصَّوَابِ وَ آفَةُ الْأَلْبَابِ فَاسْعَ فِي كَدْحِكَ وَ لَا تَكُنْ خَازِناً لِغَيْرِكَ وَ إِذَا أَنْتَ هُدِيتَ لِقَصْدِكَ فَكُنْ أَخْشَعَ مَا تَكُونُ لِرَبِّكَ
جاء في الحديث المرفوع لا يكمل إيمان عبد حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه و يكره لأخيه ما يكره لنفسه
و قال بعض الأسارى لبعض الملوك افعل معي ما تحب أن يفعل الله معك فأطلقه و هذا هو معنى قوله ع و لا تظلم كما لا تحب أن تظلم. و قوله و أحسن من قول الله تعالى وَ أَحْسِنْ كَما أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ. و قوله و استقبح من نفسك سئل الأحنف عن المروءة فقال أن تستقبح من نفسك ما تستقبحه من غيرك و روي و ارض من الناس لك و هي أحسن. و أما العجب و ما ورد في ذمة فقد قدمنا فيه قولا مقنعا. شرح نهج البلاغة ج : 16 ص : 85قوله ع و اسع في كدحك أي أذهب ما اكتسبت بالإنفاق و الكدح هاهنا هو المال الذي كدح في حصوله و السعي فيه إنفاقه هذه كلمة فصيحة و قد تقدم نظائر قوله و لا تكن خازنا لغيرك. ثم أمره أن يكون أخشع ما يكون لله إذ هداه لرشده و ذلك لأن هدايته إياه إلى رشده نعمة عظيمة منه فوجب أن يقابل بالخشوع لأنه ضرب من الشكر (17/73)
وَ اعْلَمْ أَنَّ أَمَامَكَ طَرِيقاً ذَا مَسَافَةٍ بَعِيدَةٍ وَ مَشَقَّةٍ شَدِيدَةٍ وَ أَنَّهُ لَا غِنَى بِكَ فِيهِ عَنْ حُسْنِ الِارْتِيَادِ وَ قَدْرِ بَلَاغِكَ مِنَ الزَّادِ مَعَ خِفَّةِ الظَّهْرِ فَلَا تَحْمِلَنَّ عَلَى ظَهْرِكَ فَوْقَ طَاقَتِكَ فَيَكُونَ ثِقْلُ ذَلِكَ وَبَالًا عَلَيْكَ وَ إِذَا وَجَدْتَ مِنْ أَهْلِ الْفَاقَةِ مَنْ يَحْمِلُ لَكَ زَادَكَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ فَيُوَافِيكَ بِهِ غَداً حَيْثُ تَحْتَاجُ إِلَيْهِ فَاغْتَنِمْهُ وَ حَمِّلْهُ إِيَّاهُ وَ أَكْثِرْ مِنْ تَزْوِيدِهِ وَ أَنْتَ قَادِرٌ عَلَيْهِ فَلَعَلَّكَ تَطْلُبُهُ فَلَا تَجِدُهُ وَ اغْتَنِمْ مَنِ اسْتَقْرَضَكَ فِي حَالِ غِنَاكَ لِيَجْعَلَ قَضَاءَهُ لَكَ فِي يَوْمِ عُسْرَتِكَ وَ اعْلَمْ أَنَّ أَمَامَكَ عَقَبَةً كَئُوداً الْمُخِفُّ فِيهَا أَحْسَنُ حَالًا مِنَ الْمُثْقِلِ وَ الْمُبْطِئُ عَلَيْهَا أَقْبَحُ أَمْراً مِنَ الْمُسْرِعِ وَ أَنَّ مَهْبِطَهَا بِكَ لَا مَحَالَةَ إِمَّا عَلَى جَنَّةٍ أَوْ عَلَى نَارٍ فَارْتَدْ لِنَفْسِكَ قَبْلَ نُزُولِكَ وَ وَطِّئِ الْمَنْزِلَ قَبْلَ حُلُولِكَ فَلَيْسَ بَعْدَ الْمَوْتِ مُسْتَعْتَبٌ وَ لَا إِلَى الدُّنْيَا مُنْصَرَفٌ (17/74)
شرح نهج البلاغة ج : 16 ص : 86أمره في هذا الفصل بإنفاق المال و الصدقة و المعروف فقال إن بين يديك طريقا بعيد المسافة شديد المشقة و من سلك طريقا فلا غنى له عن أن يرتاد لنفسه و يتزود من الزاد قدر ما يبلغه الغاية و أن يكون خفيف الظهر في سفره ذلك فإياك أن تحممن المال ما يثقلك و يكون وبالا عليك و إذا وجدت من الفقراء و المساكين من يحمل ذلك الثقل عنك فيوافيك به غدا وقت الحاجة فحمله إياه فلعلك تطلب مالك فلا تجده
جاء في الحديث المرفوع خمس من أتى الله بهن أو بواحدة منهن أوجب له الجنة من سقى هامة صادية أو أطعم كبدا هافية أو كسا جلدة عارية أو حمل قدما حافية أو أعتق رقبة عانية (17/75)
قيل لحاتم الأصم لو قرأت لنا شيئا من القرآن قال نعم فاندفع فقرأ الم ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَ مِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ يكنزون فقالوا أيها الشيخ ما هكذا أنزل قال صدقتم و لكن هكذا أنتم
وَ اعْلَمْ أَنَّ الَّذِي بِيَدِهِ خَزَائِنُ السَّمَاوَاتِ وَ الْأَرْضِ قَدْ أَذِنَ لَكَ فِي الدُّعَاءِ وَ تَكَفَّلَ لَكَ بِالْإِجَابَةِ وَ أَمَرَكَ أَنْ تَسْأَلَهُ لِيُعْطِيَكَ وَ تَسْتَرْحِمَهُ لِيَرْحَمَكَ وَ لَمْ يَجْعَلْ بَيْنَهُ وَ بَيْنَكَ مَنْ يَحْجُبُكَ عَنْهُ وَ لَمْ يُلْجِئْكَ إِلَى مَنْ يَشْفَعُ لَكَ إِلَيْهِ شرح نهج البلاغة ج : 16 ص : 87وَ لَمْ يَمْنَعْكَ إِنْ أَسَأْتَ مِنَ التَّوْبَةِ وَ لَمْ يُعَاجِلْكَ بِالنِّقْمَةِ وَ لَمْ يَفْضَحْكَ حَيْثُ تَعَرَّضْتَ لِلْفَضِيحَةِ وَ لَمْ يُشَدِّدْ عَلَيَ فِي قَبُولِ الْإِنَابَةِ وَ لَمْ يُنَاقِشْكَ بِالْجَرِيمَةِ وَ لَمْ يُؤْيِسْكَ مِنَ الرَّحْمَةِ بَلْ جَعَلَ نُزُوعَكَ عَنِ الذَّنْبِ حَسَنَةً وَ حَسَبَ سَيِّئَتَكَ وَاحِدَةً وَ حَسَبَ حَسَنَتَكَ عَشْراً وَ فَتَحَ لَكَ بَابَ الْمَتَابِ وَ بَابَ الِاسْتِعْتَابِ فَإِذَا نَادَيْتَهُ سَمِعَ نِدَاكَ وَ إِذَا نَاجَيْتَهُ عَلِمَ نَجْوَاكَ فَأَفْضَيْتَ إِلَيْهِ بِحَاجَتِكَ وَ أَبْثَثْتَهُ ذَاتَ نَفْسِكَ وَ شَكَوْتَ إِلَيْهِ هُمُومَكَ وَ اسْتَكْشَفْتَهُ كُرُوبَكَ وَ اسْتَعَنْتَهُ عَلَى أُمُورِكَ وَ سَأَلْتَهُ مِنْ خَزَائِنِ رَحْمَتِهِ مَا لَا يَقْدِرُ عَلَى إِعْطَائِهِ غَيْرُهُ مِنْ زِيَادَةِ الْأَعْمَارِ وَ صِحَّةِ الْأَبْدَانِ وَ سَعَةِ الْأَرْزَاقِ ثُمَّ جَعَلَ فِي يَدَيْكَ مَفَاتِيحَ خَزَائِنِهِ بِمَا أَذِنَ لَكَ فِيهِ مِنْ مَسْأَلَتِهِ فَمَتَى شِئْتَ اسْتَفْتَحْتَ بِالدُّعَاءِ أَبْوَابَ نِعْمَتِهِ وَ اسْتَمْطَرْتَ شَآبِيبَ رَحْمَتِهِ فَلَا يُقْنِطَنَّكَ إِبْطَاءُ إِجَابَتِهِ فَإِنَّ الْعَطِيَّةَ عَلَى قَدْرِ النِّيَّةِ وَ رُبَّمَا أُخِّرَتْ عَنْكَ الْإِجَابَةُ لِيَكُونَ ذَلِكَ أَعْظَمَ لِأَجْرِ السَّائِلِ وَ أَجْزَلَ لِعَطَاءِ الآْمِلِ وَ رُبَّمَا سَأَلْتَ الشَّيْ ءَ فَلَا (17/76)
تُعْطَاهُ وَ أُوتِيتَ خَيْراً مِنْهُ عَاجِلًا أَوْ آجِلًا أَوْ صُرِفَ عَنْكَ لِمَا هُوَ خَيْرٌ لَكَ فَلَرُبَّ أَمْرٍ قَدْ طَلَبْتَهُ فِيهِ هَلَاكُ دِينِكَ لَوْ أُوتِيتَهُ فَلْتَكُنْ مَسْأَلَتَُ فِيمَا يَبْقَى لَكَ جَمَالُهُ وَ يُنْفَى عَنْكَ وَبَالُهُ فَالْمَالُ لَا يَبْقَى لَكَ وَ لَا تَبْقَى لَهُ (17/77)
قد تقدم القول في الدعاء. قوله بل جعل نزوعك عن الذنب حسنة هذا متفق عليه بين أصحابنا و هو أن تارك القبيح لأنه قبيح يستحق الثواب. شرح نهج البلاغة ج : 16 ص : 88قوله حسب سيئتك واحدة و حسب حسنتك عشرا هذا إشارة إلى قوله تعالى مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْ أَمْثالِها وَ مَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزى إِلَّا مِثْلَها. قوله و أبثثته ذات نفسك أي حاجتك. ثم ذكر له وجوها في سبب إبطاء الإجابة منها أن ذلك أمر عائد إلى النية فلعلها لم تكن خالصة. و منها أنه ربما أخرت ليكون أعظم لأجر السائل لأن الثواب على قدر المشقة. و منها أنه ربما أخرت ليعطي السائل خيرا مما سائل إما عاجلا أو آجلا أو في الحالين. و منها أنه ربما صرف ذلك عن السائل لأن في إعطائه إياه مفسدة في الدين. قوله فالمال لا يبقى لك و لا تبقى له لفظ شريف فصيح و معنى صادق محقق فيه عظة بالغة و قال أبو الطيب
أين الجبابرة الأكاسرة الألى كنزوا الكنوز فما بقين و لا بقوا
و يروى من يحجبه عنك. و روى حيث الفضيحة أي حيث الفضيحة موجودة منك. و اعلم أن في قوله قد أذن لك في الدعاء و تكفل لك بالإجابة إشارة إلى قوله تعالى ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ. و في قوله و أمر أن تسأله ليعطيك إشارة إلى قوله وَ سْئَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ. شرح نهج البلاغة ج : 16 ص : 89و في قوله و تسترحمه ليرحمك إشارة إلى قوله وَ ما كانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ. و في قوله و لم يمنعك إن أسأت من التوبة إشارة إلى قوله إِلَّا مَنْ تابَ وَ آمَنَ وَ عَمِلَ عَمَلًا صالِحاً فَأُوْلئِكَ يُبَدِّلاللَّهُ سَيِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ وَ كانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً (17/78)
وَ اعْلَمْ يَا بُنَيَّ أَنَّكَ إِنَّمَا خُلِقْتَ لِلآْخِرَةِ لَا لِلدُّنْيَا وَ لِلْفَنَاءِ لَا لِلْبَقَاءِ وَ لِلْمَوْتِ لَا لِلْحَيَاةِ وَ أَنَّكَ فِي مَنْزِلِ قُلْعَةٍ وَ دَارِ بُلْغَةٍ وَ طَرِيقٍ إِلَى الآْخِرَةِ وَ أَنَّكَ طَرِيدُ الْمَوْتِ الَّذِي لَا يَنْجُو هَارِبُهُ وَ لَا يَفُوتُهُ طَالِبُهُ وَ لَا بُدَّ أَنَّهُ مُدْرِكُهُ فَكُنْ مِنْهُ عَلَى حَذَرٍ أَنْ يُدْرِكَكَ وَ أَنْتَ عَلَى حَالِ سَيِّئَةٍ قَدْ كُنْتَ تُحَدِّثُ نَفْسَكَ مِنْهَا بِالتَّوْبَةِ فَيَحُولَ بَيْنَكَ وَ بَيْنَ ذَلِكَ فَإِذَا أَنْتَ قَدْ أَهْلَكْتَ نَفْسَكَ يَا بُنَيَّ أَكْثِرْ مِنْ ذِكْرِ الْمَوْتِ وَ ذِكْرِ مَا تَهْجُمُ عَلَيْهِ وَ تُفْضِي بَعْدَ الْمَوْتِ إِلَيْهِ حَتَّى يَأْتِيَكَ وَ قَدْ أَخَذْتَ مِنْهُ حِذْرَكَ وَ شَدَدْتَ لَهُ أَزْرَكَ وَ لَا يَأْتِيَكَ بَغْتَةً فَيَبْهَرَكَ وَ إِيَّاكَ أَنْ تَغْتَرَّ بِمَا تَرَى مِنْ إِخْلَادِ أَهْلِ الدُّنْيَا إِلَيْهَا وَ تَكَالُبِهِمْ عَلَيْهَا فَقَدْ نَبَّأَكَ اللَّهُ عَنْهَا وَ نَعَتَتْ لَكَ نَفْسَهَا وَ تَكَشَّفَتْ لَكَ عَنْ مَسَاوِيهَا فَإِنَّمَا أَهْلُهَا كِلَابٌ عَاوِيَةٌ وَ سِبَاعٌ ضَارِيَةٌ يَهِرُّ بَعْضُهَا عَلَى بَعْضِ وَ يَأْكُلُ عَزِيزُهَا ذَلِيلَهَا وَ يَقْهَرُ كَبِيرُهَا صَغِيرَهَا شرح نهج البلاغة ج : 16 ص : 90نَعَمٌ مُعَقَّلَةٌ وَ أُخْرَى مُهْمَلَةٌ قَدْ أَضَلَّتْ عُقُولَهَا وَ رَكِبَتْ مَجْهُولَهَا سُرُوحُ عَاهَةٍ بِوَادٍ عْثٍ لَيْسَ لَهَا رَاعٍ يُقِيمُهَا وَ لَا مُسِيمٌ يُسِيمُهَا سَلَكَتْ بِهِمُ الدُّنْيَا طَرِيقَ الْعَمَى وَ أَخَذَتْ بِأَبْصَارِهِمْ عَنْ مَنَارِ الْهُدَى فَتَاهُوا فِي حَيْرَتِهَا وَ غَرِقُوا فِي نِعْمَتِهَا وَ اتَّخَذُوهَا رَبّاً فَلَعِبَتْ بِهِمْ وَ لَعِبُوا بِهَا وَ نَسُوا مَا وَرَاءَهَا رُوَيْداً يُسْفِرُ (17/79)
الظَّلَامُ كَأَنْ قَدْ وَرَدَتِ الْأَظْعَانُ يُوشِكُ مَنْ أَسْرَعَ أَنْ يَلْحَقَ (17/80)
يقول هذا منزل قلعة بضم القاف و سكون اللام أي ليس بمستوطن و يقال هذا مجلس قلعة إذا كان صاحبه يحتاج إلى أن يقوم مرة بعد مرة و يقال أيضا هم على قلعة أي على رحلة و القلعة أيضا هو المال العارية و
في الحديث بئس المال القلعة
و كله يرجع إلى معنى واحد. قوله و دار بلغة و البلغة ما يتبلغ به من العيش. قوله سروح عاهة و السروح جمع سرح و هو المال السارح و العاهة الآفة أعاه القوم أصابت ماشيتهم العاهة. و واد وعث لا يثبت الحافر و الخف فيه بل يغيب فيه و يشق على من يمشي فيه. و أوعث القوم وقعوا في الوعث. و مسيم يسيمها راع يرعاها. قوله رويدا يسفر الظلام إلى آخر الفصل ثلاثة أمثال محركة لمن عنده شرح نهج البلاغة ج : 16 ص : 91استعداد و استقرأني أبو الفرج محمد بن عباد رحمه الله و أنا يومئذ حدث هذه الوصية فقرأتها عليه من حفظي فلما وصلت إلى هذا الضع صاح صيحة شديدة و سقط و كان جبارا قاسي القلب
أقوال حكيمة في وصف الدنيا و فناء الخلق
و اعلم أنا قدمنا في وصف الدنيا و الفناء و الموت من محاسن كلام الصالحين و الحكماء ما فيه الشفاء و نذكر الآن أشياء آخر. فمن كلام الحسن البصري يا ابن آدم إنما أنت أيام مجموعة فإذا مضى يوم مضى بعضك. عن بعض الحكماء رحم الله امرأ لا يغره ما يرى من كثرة الناس فإنه يموت وحده و يقبر وحده و يحاسب وحده. و قال بعضهم لا وجه لمقاساة الهموم لأجل الدنيا و لا الاعتداد بشي ء من متاعها و لا التخلي منها أما ترك الاهتمام لها فمن جهة أنه لا سبيل إلى دفع الكائن من مقدورها و أما ترك الاعتداد بها فإن مرجع كل أحد إلى تركها و أما تر التخلي عنها فإن الآخرة لا تدرك إلا بها. و من كلام بعض الحكماء أفضل اختيار الإنسان ما توجه به إلى الآخرة و أعرض به عن الدنيا و قد تقدمت الحجة و أذنا بالرحيل و لنا من الدنيا على الدنيا دليل و إنما أحدنا في مدة بقائه صريع لمرض أو مكتئب بهم أو مطروق بمصيبة أو مترقب لمخوف لا يأمن المرء أصناف لذته من المطعوم و المشروب أن يكون موته فيه و لا يأمن مملوكه شرح نهج البلاغة ج : 16 ص : 92و جاريته أن يقتلاه بحديد أو سم و هو مع ذلك عاجز عن استدامة سلامة عقله من زوال و سمعه من صمم و بصره من عمى و لسانه من خرس و سائر جوار من زمانة و نفسه من تلف و ماله من بوار و حبيبه من فراق و كل ذلك يشهد شهادة قطعية أنه فقير إلى ربه ذليل في قبضته محتاج إليه لا يزال المرء بخير ما حاسب نفسه و عمر آخرته بتخريب دنياه و إذا اعترضته بحار المكاره جعل معابرها الصبر و التأسي و لم يغتر بتتابع النعم و إبطاء حلول النقم و أدام صحبة التقي و فطم النفس عن الهوى فإنما حياته كبضاعة ينفق من رأس المال منها و لا يمكنه أن يزيد فيها و مثل ذلك يوشك فناؤه و سرعة زواله. و قال أبو العتاهية في ذكر الموت (17/81)
ستباشر الترباء خدك و سيضحك الباكون بعدك و لينزلن بك البلى و ليخلفن الموت عهدك و ليفنينك مثل ما أفنى أباك بلى و جدك لو قد رحلت عن القصور و طيبها و سكنت لحدك لم تنتفع إلا بفعل صالح قد كان ع شرح نهج البلاغة ج : 16 ص : 93و ترى الذين قسمت مالك بينهم حصصا و كدك يتلذذون بما جمعت لهم و لا يجدون فقوَ اعْلَمْ يَا بُنَيَّ أَنَّ مَنْ كَانَتْ مَطِيَّتُهُ اللَّيْلَ وَ النَّهَارَ فَإِنَّهُ يُسَارُ بِهِ وَ إِنْ كَانَ وَاقِفاً وَ يَقْطَعُ الْمَسَافَةَ وَ إِنْ كَانَ مُقِيماً وَادِعاً وَ اعْلَمْ يَقِيناً أَنَّكَ لَنْ تَبْلُغَ أَمَلَكَ وَ لَنْ تَعْدُوَ أَجَلَكَ وَ أَنَّكَ فِي سَبِيلِ مَنْ كَانَ قَبْلَكَ فَخَفِّضْ فِي الطَّلَبِ وَ أَجْمِلْ فِي الْمُكْتَسَبِ فَإِنَّهُ رُبَّ طَلَبٍ قَدْ جَرَّ إِلَى حَرَبٍ وَ لَيْسَ كُلُّ طَالِبٍ بِمَرْزُوقٍ وَ لَا كُلُّ مُجْمِلٍ بِمَحْرُومٍ وَ أَكْرِمْ نَفْسَكَ عَنْ كُلِّ دَنِيَّةٍ وَ إِنْ سَاقَتْكَ إِلَى الرَّغَائِبِ فَإِنَّكَ لَنْ تَعْتَاضَ بِمَا تَبْذُلُ مِنْ نَفْسِكَ عِوَضاً وَ لَا تَكُنْ عَبْدَ غَيْرِكَ وَ قَدْ جَعَلَكَ اللَّهُ حُرّاً وَ مَا خَيْرُ خَيْرٍ لَا يُنَالُ إِلَّا بِشَرٍّ وَ يُسْرٍ لَا يُنَالُ إِلَّا بِعُسْرٍ وَ إِيَّاكَ أَنْ تُوجِفَ بِكَ مَطَايَا الطَّمَعِ فَتُورِدَكَ مَنَاهِلَ الْهَلَكَةِ وَ إِنِ اسْتَطَعْتَ أَلَّا يَكُونَ بَيْنَكَ وَ بَيْنَ اللَّهِ ذُو نِعْمَةٍ فَافْعَلْ فَإِنَّكَ مُدْرِكٌ قَسْمَكَ وَ آخِذٌ سَهْمَكَ وَ إِنَّ الْيَسِيرَ مِنَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ أَكْرَمُ وَ أَعْظَمُ مِنَ الْكَثِيرِ مِنْ خَلْقِهِ وَ إِنْ كَانَ كُلٌّ مِنْهُ (17/82)
شرح نهج البلاغة ج : 16 ص : 94مثل الكلمة الأولى قول بعض الحكماء و قد نسب أيضا إلى أمير المؤمنين ع أهل الدنيا كركب يسار بهم و هم نيام
قوله فخفضن في الطلب من
قول رسول الله ص إن روح القدس نفث في روعي أنه لن تموت نفس حتى تستكمل رزقها فأجملوا في الطلب (17/83)
و قال الشاعر
ما اعتاض باذل وجهه بسؤاله عوضا و لو نال الغنى بسؤال و إذا النوال إلى السؤال قرنته رجح السؤال و خف كل نوالو قال آخر
رددت رونق وجهي عن صحيفته رد الصقال بهاء الصارم الخذم و ما أبالي و خير القول أصدقه حقنت لي ماء وجهي أم حقنت دميو قال آخر
و إني لأختار الزهيد على الغنى و أجزأ بالمال القراح عن المحض و أدرع الإملاق صبرا و قد أرى مكان الغنى كي لا أهين له عرضيو قال أبو محمد اليزيدي في المأمون
أبقى لنا الله الإمام و زاده شرفا إلى الشرف الذي أعطاه و الله أكرمنا بأنا معشر عتقاء من نعم العباد سواهو قال آخر
كيف النهوض بما أوليت من حسن أم كيف أشكر ما طوقت من نعم
شرح نهج البلاغة ج : 16 ص : 95ملكتني ماء وجه كاد يسكبه ذل السؤال و لم تفجع به هممو قال آخر
لا تحرصن على الحطام فإنما يأتيك رزقك حين يؤذن فيه سبق القضاء بقدره و زمانه و بأنه يأتيك أو يأتيهو كان يقال ما استغنى أحد بالله إلا افتقر الناس إليه. و قال رجل في مجلس فيه قوم من أهل العلم لا أدري ما يحمل من يوقن بالقدر على الحرص على طلب الرزق فقال له أحد الحاضرين يحمله القدر فسكت. أقول لو كنت حاضرا لقلت لو حمله القدر لما نهاه العقلاء عن الحرص و لما مدحوه على العفة و القناعة فإن عاد و قال و أولئك ألجأهم القدر إلى المدح و الذم و الأمر و النهي فقد جعل نفسه و غيره من الناس بل من جميع الحيوانات بمنزلة الجمادات التي يحركها غيرها و من بلغ إلى هذا الحد لا يكلم. و قال الشاعر
أراك تزيدك الأيام حرصا على الدنيا كأنك لا تموت فهل لك غاية إن صرت يوما إليها قلت حسبي قد رضيتأبو العتاهية
أي عيش يكون أطيب من عيش كفاف قوت بقدر البلاغ قمرتني الأيام عقلي و مالي و شبابي و صحتي و فراغيو أوصى بعض الأدباء ابنه فكتب إليه شرح نهج البلاغة ج : 16 ص : 9كن حسن الظن برب خلقك بني و احمده على ما رزقك و اعلم بأن الحرص يطفي رونقك فجانب الحرص و حسن خلقك و اصدق و صادق أبدا من صدقك دار معاديك و مق من ومقك و اجعل لأعدائك حزما ملقك و جنبن حشو الكلام منطقك هذي وصاة والد قد عشقك وصاة من يقلقه ما أقلقك أرشدك اللهو وفقك (17/84)
أبو العتاهية
أجل الغنى مما يؤمل أسرع و أراك تجمع دائما لا تشبع قل لي لمن أصبحت تجمع دائبا أ لبعل عرسك لا أبا لك تجمعو أوصى زياد ابنه عبيد الله عند موته فقال لا تدنسن عرضك و لا تبذلن وجهك و لا تخلقن جدتك بالطلب إلى من إن ردك كان رده عليك عيبا و إن قضى حاجتك جعلها عليك منا و احتمل الفقر بالتنزه عما في أيدي الناس و الزم القناعة بما قسم لك فإن سوء عمل الفقير يضع الشريف و يخمل الذكر و يوجب الحرمان
وَ تَلَافِيكَ مَا فَرَطَ مِنْ صَمْتِكَ أَيْسَرُ مِنْ إِدْرَاكِكَ مَا فَاتَ مِنْ مَنْطِقِكَ وَ حِفْظُ مَا فِي الْوِعَاءِ بِشَدِّ الْوِكَاءِ وَ حِفْظُ مَا فِي يَدَيْكَ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ طَلَبِ مَا فِي يَدَيْ غَيْرِكَ وَ مَرَارَةُ الْيَأْسِ خَيْرٌ مِنَ الطَّلَبِ إِلَى النَّاسِ وَ الْحِرْفَةُ مَعَ الْعِفَّةَ خَيْرٌ مِنَ الْغِنَى مَعَ الْفُجُورِ وَ الْمَرْءُ أَحْفَظُ لِسِرِّهِ وَ رُبَّ سَاعٍ فِيمَا يَضُرُّهُ شرح نهج البلاغة ج : 16 ص : 97مَنْ أَكْثَرَ أَهْجَرَ وَ مَنْ تَفَكَّرَ أَبْصَرَ قَارِنْ أَهْلَ الْخَيِ تَكُنْ مِنْهُمْ وَ بَايِنْ أَهْلَ الشَّرِّ تَبِنْ عَنْهُمْ بِئْسَ الطَّعَامُ الْحَرَامُ وَ ظُلْمُ الضَّعِيفِ أَفْحَشُ الظُّلْمِ إِذَا كَانَ الرِّفْقُ خُرْقاً كَانَ الْخُرْقُ رِفْقاً رُبَّمَا كَانَ الدَّوَاءُ دَاءً وَ الدَّاءُ دَوَاءً وَ رُبَّمَا نَصَحَ غَيْرُ النَّاصِحِ وَ غَشَّ الْمُسْتَنْصَحُ وَ إِيَّاكَ وَ الِاتِّكَالَ عَلَى الْمُنَى فَإِنَّهَا بَضَائِعُ النَّوْكَى وَ الْعَقْلُ حِفْظُ التَّجَارِبِ وَ خَيْرُ مَا جَرَّبْتَ مَا وَعَظَكَ بَادِرِ الْفُرْصَةَ قَبْلَ أَنْ تَكُونَ غُصَّةً لَيْسَ كُلُّ طَالِبٍ يُصِيبُ وَ لَا كُلُّ غَائِبٍ يَئُوبُ وَ مِنَ الْفَسَادِ إِضَاعَةُ الزَّادِ وَ مَفْسَدَةُ الْمَعَادِ وَ لِكُلِّ أَمْرٍ عَاقِبَةٌ سَوْفَ يَأْتِيكَ مَا قُدِّرَ لَكَ التَّاجِرُ مُخَاطِرٌ وَ رُبَّ يَسِيرٍ أَنْمَى مِنْ كَثِيرٍ (17/85)
هذا الكلام قد اشتمل على أمثال كثيرة حكمية. أولها قوله تلافيك ما فرط من صمتك أيسر من إدراكك ما فات من منطقك و هذا مثل قولهم أنت قادر على أن تجعل صمتك كلاما و لست بقادر على أن تجعل كلامك صمتا و هذا حق لأن الكلام يسمع و ينقل فلا يستطاع إعادته صمتا و الصمت عدم الكلام فالقادر على الكلام قادر على أن يبدله بالكلام و ليس الصمت بمنقول و لا مسموع فيتعذر استدراكه. شرح نهج البلاغة ج : 16 ص : 98و ثانيها قوله حفظ ما في يديك أحب إلي من طلب ما في أيدي غيرك هذا مثل قولهم في المثل البخل خير من سؤال البخيل و ليس مراد أمير اؤمنين ع وصايته بالإمساك و البخل بل نهيه عن التفريط و التبذير قال الله تعالى وَ لا تَبْسُطْها كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَحْسُوراً و أحمق الناس من أضاع ماله اتكالا على مال الناس و ظنا أنه يقدر على الاستخلاف قال الشاعر (17/86)
إذا حدثتك النفس أنك قادر على ما حوت أيدي الرجال فكذب
و ثالثها قوله مرارة اليأس خير من الطلب إلى الناس من هذا أخذ الشاعر قوله
و إن كان طعم اليأس مرا فإنه ألذ و أحلى من سؤال الأراذل
و قال البحتري
و اليأس إحدى الراحتين و لن ترى تعبا كظن الخائب المغرور
و رابعها قوله الحرفة مع العفة خير من الغنى مع الفجور و الحرفة بالكسر مثل الحرف بالضم و هو نقصان الحظ و عدم المال و منه قوله رجل محارف بفتح الراء يقول لأن يكون المرء هكذا و هو عفيف الفرج و اليد خير من الغنى مع الفجور و ذلك لأن ألم الحرفة مع العفة و مشقتها إنما هي في أيام قليلة و هي أيام العمر و لذة الغنى إذا كان مع الفجور ففي مثل تلك الأيام يكون و لكن يستعقب عذابا طويلا فالحال الأولى خير لا محالة و أيضا ففي الدنيا خير أيضا للذكر الجميل فيها و الذكر القبيح في الثانية و للمحافظة على المروءة في الأولى و سقوط المروءة في الثانية. شرح نهج البلاغة ج : 16 ص : 99و خامسها قوله المرء أحفظ لسره أي الأولى ألا تبوح بسرك إلى أحد فأنت أحفظ له من غيرك فإن أذعته فانتشر فلا تلم إلا نفسك لأنك كنت عاجزا عن حفظ سر نفسك فغيرك عن حفظ سرك و هو أجنبي أعجز قال الشاعرإذا ضاق أصدر المرء عن حفظ سره فصدر الذي يستودع السر أضيق (17/87)
و سادسها قوله رب ساع فيما يضره قال عبد الحميد الكاتب في كتابه إلى أبي مسلم لو أراد الله بالنملة صلاحا لما أنبت لها جناحا. و سابعها قوله من أكثر أهجر يقال أهجر الرجل إذا أفحش في المنطق السوء و الخنى قال الشماخ
كماجدة الأعراق قال ابن ضرة عليها كلاما جار فيه و أهجرا
و هذا مثل قولهم من كثر كلامه كثر سقطه و قالوا أيضا قلما سلم مكثار أو أمن من عثار. و ثامنها قوله من تفكر أبصر قالت الحكماء الفكر تحديق العقل نحو المعقول كما أن النظر البصري تحديق البصر نحو المحسوس و كما أن من حدق نحو المبصر و حدقته صحيحة و الموانع مرتفعة لا بد أن يبصره كذلك من نظر بعين عقله و أفكر فكرا صحيحا لا بد أن يدرك الأمر الذي فكر فيه و يناله. و تاسعها قوله قارن أهل الخير تكن معهم و باين أهل الشر تبن عنهم كأن يقال حاجبك وجهك و كاتبك لسانك و جليسك كلك و قال الشاعر
عن المرء لا تسأل و سل عن قرينه فكل قرين بالمقارن مقتد
شرح نهج البلاغة ج : 16 ص : 100و عاشرها قوله بئس الطعام الحرام هذا من قوله تعالى إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً إِنَّما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ ناراً وَ سَيَصْلَوْنَ سَعِيراً. و حادي عشرها قوله ظلم الضعيف أفحش الظلم رأى معاويةبنه يزيد يضرب غلاما فقال يا بني كيف لا يسع حلمك من تضربه فلا يمتنع منك و أمر المأمون بإشخاص الخطابي القاص من البصرة فلما مثل بين يديه قال له يا سليمان أنت القائل العراق عين الدنيا و البصرة عين العراق و المربد عين البصرة و مسجدي عين المربد و أنا عين مسجدي و أنت أعور فإن عين الدنيا عوراء قال يا أمير المؤمنين لم أقل ذاك و لا أظن أمير المؤمنين أحضرني لذلك قال بلغني أنك أصبحت فوجدت على سارية من سواري مسجدك (17/88)
رحم الله عليا إنه كان تقيا
فأمرت بمحوه قال يا أمير المؤمنين كان و لقد كان نبيا فأمرت بإزالته فقال كذبت كانت القاف أصح من عينك الصحيحة ثم قال و الله لو لا أن أقيم لك عند العامة سوقا لأحسنت تأديبك قال يا أمير المؤمنين قد ترى ما أنا عليه من الضعف و الزمانة و الهرم و قلة البصر فإن عاقبتني مظلوما فاذكر
قول ابن عمك علي ع ظلم الضعيف أفحش الظلم
و إن عاقبتني بحق فاذكر أيضا
قوله لكل شي ء رأس و الحلم رأس السؤدد فنهض المأمون من مجلسه و أمر برده إلى البصرة و لم يصله بشي ء و لم يحضر أحد قط مجلس المأمون إلا وصله عدا الخطابي و ليس هذا هو المحدث الحافظ المشهور ذاك أبو سليمان أحمد بن محمد بن أحمد البستي كان في أيام المطيع و الطائع و هذا قاص بالبصرة كان يقال له أبو زكري سليمان بن محمد البصري. و ثاني عاشرها قوله إذا كان الرفق خرقا كان الخرق رفقا يقول إذا كان استعمال شرح نهج البلاغة ج : 16 ص : 101الرفق مفسدة و زيادة في الشر فلا تستعمله فإنه حينئذ ليس برفق بل هو خرق و لكن استعمل الخرق فإنه يكون رفقا و الحالة هذه لأن الشر يلقى إلا بشر مثله قال عمرو ابن كلثوم (17/89)
ألا لا يجهلن أحد علينا فنجهل فوق جهل الجاهلينا
و في المثل إن الحديد بالحديد يفلج. و قال زهير
و من لا يذد عن حوضه بسلاحه يهدم و من لا يظلم الناس يظلم
و قال أبو الطيب
و وضع الندى في موضع السيف بالعلى مضر كوضع السيف في موضع الندى
و ثالث عشرها قوله و ربما كان الدواء داء و الداء دواء هذا مثل قول أبي الطيب
ربما صحت الأجسام بالعلل
و مثله قول أبي نواس
و داوني بالتي كانت هي الداء
و مثل قول الشاعر
تداويت من ليلى بليلى فلم يكن دواء و لكن كان سقما مخالفا
و رابع عشرها قوله ربما نصح غير الناصح و غش المستنصح كان المغيرة بن شعبة يبغض عليا ع منذ أيام رسول الله ص و تأكدت شرح نهج البلاغة ج : 16 ص : 102بغضته إلى أيام أبي بكر و عثمان و عمر و أشار عليه يوم بويع بالخلافة أن يقر معاوية على الشام مدة يسيرة فإذا خطب لبالشام و توطأت دعوته دعاه إليه كما كان عمر و عثمان يدعوانه إليهما و صرفه فلم يقبل و كان ذلك نصيحة من عدو كاشح. و استشار الحسين ع عبد الله بن الزبير و هما بمكة في الخروج عنها و قصد العراق ظانا أنه ينصحه فغشه و قال له لا تقم بمكة فليس بها من يبايعك و لكن دونك العراق فإنهم متى رأوك لم يعدلوا بك أحدا فخرج إلى العراق حتى كان من أمره ما كان. و خامس عشرها قوله إياك و الاتكال على المنى فإنها بضائع النوكى جمع أنوك و هو الأحمق من هذا أخذ أبو تمام قوله (17/90)
من كان مرعى عزمه و همومه روض الأماني لم يزل مهزولا
و من كلامهم ثلاثة تخلق العقل و هو أوضح دليل على الضعف طول التمني و سرعة الجواب و الاستغراب في الضحك و كان يقال التمني و الحلم سيان و قال آخر شرف الفتى ترك المنى. و سادس عشرها قوله العقل حفظ التجارب من هذا أخذ المتكلمون قولهم العقل نوعان غريزي و مكتسب فالغريزي العلوم البديهية و المكتسب ما أفادته التجربة و حفظته النفس. و سابع عشرها قوله خير ما جربت ما وعظك مثل هذا قول أفلاطون إذا لم تعظك التجربة فلم تجرب بل أنت ساذج كما كنت. و ثامن عشرها قوله بادر الفرصة قبل أن تكون غصة حضر عبيد الله بن زياد عند هانئ بن عروة عائدا و قد كمن له مسلم بن عقيل و أمره أن يقتله إذا جلس شرح نهج البلاغة ج : 16 ص : 103و استقر فلما جلس جعل مسلم يؤامر نفسه و يريدها على الوثوب به فلم تطعه و جعل هانئ ينشد كأنه يترنم بالشعرما الانتظار بسلمى لا تحييها
و يكرر ذلك فأوجس عبيد الله خيفة و نهض فعاد إلى قصر الإمارة و فات مسلما منه ما كان يؤمله بإضاعة الفرصة حتى صار أمره إلى ما صار و تاسع عشرها قوله ليس كل طالب يصيب و لا كل غائب يثوب الأولى كقول القائل (17/91)
ما كل وقت ينال المرء ما طلبا و لا يسوغه المقدار ما وهبا
و الثانية كقول عبيد
و كل ذي غيبة يئوب و غائب الموت لا يئوب
العشرون قوله من الفساد إضاعة الزاد و مفسدة المعاد و لا ريب أن من كان في سفر و أضاع زاده و أفسد الحال التي يعود إليها فإنه أحمق و هذا مثل ضربه للإنسان في حالتي دنياه و آخرته. الحادي و العشرون قوله و لكل أمر عاقبة هذا مثل المثل المشهور لكل سائلة قرار. الثاني و العشرون قوله سوف يأتيك ما قدر لك هذا من
قول رسول الله ص و إن يقدر لأحدكم رزق في قبة جبل أو حضيض بقاع يأته
الثالث و العشرون قوله التاجر مخاطر هذا حق لأنه يتعجل بإخراج الثمن و لا يعلم هل يعود أم لا و هذا الكلام ليس على ظاهره بل له باطن و هو أن من مزج الأعمال الصالحة بالأعمال السيئة مثل قوله خَلَطُوا عَمَلًا صالِحاً وَ آخَرَ سَيِّئاً شرح نهج البلاغة ج : 16 ص : 4فإنه مخاطر لأنه لا يأمن أن يكون بعض تلك السيئات تحبط أعماله الصالحة كما لا يأمن أن يكون بعض أعماله الصالحة يكفر تلك السيئات و المراد أنه لا يجوز للمكلف أن يفعل إلا الطاعة أو المباح. الرابع و العشرون قوله رب يسير أنمى من كثير قد جاء في الأثر قد يجعل الله من القليل الكثير و يجعل من الكثير البركة و قال الفرزدق
فإن تميما قبل أن يلد الحصى أقام زمانا و هو في الناس واحد
و قال أبو عثمان الجاحظ رأينا بالبصرة أخوين كان أبوهما يحب أحدهما و يبغض الآخر فأعطى محبوبه يوم موته كل ماله و كان أكثر من مائتي ألف درهم و لم يعط الآخر شيئا و كان يتجر في الزيت و يكتسب منه ما يصرفه في نفقة عياله ثم رأينا أولاد الأخ الموسر بعد موت الأخوين من عائلة ولد الأخ المعسر يتصدقون عليهم من فواضل أرزاقهم (17/92)
لَا خَيْرَ فِي مُعِينٍ مُهِينٍ وَ لَا فِي صَدِيقٍ ظَنِينٍ سَاهِلِ الدَّهْرَ مَا ذَلَّ لَكَ قَعُودُهُ وَ لَا تُخَاطِرْ بِشَيْ ءٍ رَجَاءَ أَكْثَرَ مِنْهُ وَ إِيَّاكَ أَنْ تَجْمَحَ بِكَ مَطِيَّةُ اللَّجَاجِ احْمِلْ نَفْسَكَ مِنْ أَخِيكَ عِنْدَ صَرْمِهِ عَلَىالصِّلَةِ وَ عِنْدَ صُدُودِهِ عَلَى اللُّطْفِ وَ الْمُقَارَبَةِ وَ عِنْدَ جُمُودِهِ عَلَى الْبَذْلِ وَ عِنْدَ تَبَاعُدِهِ عَلَى الدُّنُوِّ وَ عِنْدَ شِدَّتِهِ عَلَى اللِّينِ وَ عِنْدَ جُرْمِهِ عَلَى الْعُذْرِ حَتَّى كَأَنَّكَ لَهُ عَبْدٌ وَ كَأَنَّهُ ذُو نِعْمَةٍ عَلَيْكَ شرح نهج البلاغة ج : 16 ص : 105وَ إِيَّاكَ أَنْ تَضَعَ ذَلِكَ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهِ أَوْ أَنْ تَفْعَلَهُ بِغَيْرِ أَهْلِهِ لَا تَتَّخِذَنَّ عَدُوَّ صَدِيقِكَ صَدِيقاً فَتُعَادِيَ صَدِيقَكَ وَ امْحَضْ أَخَاكَ النَّصِيحَةَ حَسَنَةً كَانَتْ وْ قَبِيحَةً وَ تَجَرَّعِ الْغَيْظَ فَإِنِّي لَمْ أَرَ جُرْعَةً أَحْلَى مِنْهَا عَاقِبَةً وَ لَا أَلَذَّ مَغَبَّةً وَ لِنْ لِمَنْ غَالَظَكَ فَإِنَّهُ يُوشِكُ أَنْ يَلِينَ لَكَ وَ خُذْ عَلَى عَدُوِّكَ بِالْفَضْلِ فَإِنَّهُ أَحَدُ الظَّفَرَيْنِ وَ إِنْ أَرَدْتَ قَطِيعَةَ أَخِيكَ فَاسْتَبِقْ لَهُ مِنْ نَفْسِكَ بَقِيَّةً يَرْجِعُ إِلَيْهَا إِنْ بَدَا لَهُ ذَلِكَ يَوْماً مَا وَ مَنْ ظَنَّ بِكَ خَيْراً فَصَدِّقْ ظَنَّهُ وَ لَا تُضِيعَنَّ حَقَّ أَخِيكَ اتِّكَالًا عَلَى مَا بَيْنَكَ وَ بَيْنَهُ فَإِنَّهُ لَيْسَ لَكَ بِأَخٍ
مَنْ أَضَعْتَ حَقَّهُ وَ لَا يَكُنْ أَهْلُكَ أَشْقَى الْخَلْقِ بِكَ وَ لَا تَرْغَبَنَّ فِيمَنْ زَهِدَ عَنْكَ وَ لَا يَكُونَنَّ أَخُوكَ أَقْوَى عَلَى قَطِيعَتِكَ مِنْكَ عَلَى صِلَتِهِ وَ لَا تَكُونَنَّ عَلَى الْإِسَاءَةِ أَقْوَى مِنْكَ عَلَى الْإِحْسَانِ وَ لَا يَكْبُرَنَّ عَلَيْكَ ظُلْمُ مَنْ ظَلَمَكَ فَإِنَّهُ يَسْعَى فِي مَضَرَّتِهِ وَ نَفْعِكَ وَ لَيْسَ جَزَاءُ مَنْ سَرَّكَ أَنْ تَسُوءَهُ (17/93)
هذا الفصل قد اشتمل على كثير من الأمثال الحكمية. فأولها قوله لا خير في معين مهين و لا في صديق ظنين مثل الكلمة الأولى قولهم
إذا تكفيت بغير كاف وجدته للهم غير شاف
و من الكلمة الثانية أخذ الشاعر قوله
فإن من الإخوان من شحط النوى به و هو راع للوصال أمين و منهم صديق العين أما لقاؤه فحلو و أما غيبه فظنين شرح نهج البلاغة ج : 16 ص : 106و ثانيها قوله ساهل الدهر ما ذلك لك قعوده هذا استعارة و القعود البكر حين يمكن ظهره من الركوب إلى أن يثني و مثل هذا المعنى قولهم في المثل من ناطح الدهر أصبح أجم. و مثلهو در مع الدهر كيفما دارا
و مثله
و من قامر الأيام عن ثمراتها فأحر بها أن تنجلي و لها القمر
و مثله
إذا الدهر أعطاك العنان فسر به رويدا و لا تعنف فيصبح شامسا
و ثالثها قوله لا تخاطر بشي ء رجاء أكثر منه هذا مثل قولهم من طلب الفضل حرم الأصل. و رابعها قوله إياك و أن تجمح بك مطية اللجاج هذا استعارة و في المثل ألج من خنفساء و ألج من زنبور و كان يقال اللجاج من القحة و القحة من قلة الحياء و قلة الحياء من قلة المروءة وفي المثل لج صاحبك فحج. و خامسها قوله احمل نفسك من أخيك إلى قوله أو تفعله بغير أهله اللطف بفتح اللام و الطاء الاسم من ألطفه بكذا أي بره به و جاءتنا لطفة من فلان أي هدية و الملاطفة المبارة و روي عن اللطف و هو الرفق للأمر و المعنى أنه أوصاه إذا قطعه أخوه أن يصله و إذا جفاه أن يبره و إذا بخل عليه أن يجود عليه إلى آخر الوصاة. ثم قال له لا تفعل ذلك مع غير أهله قال الشاعر شرح نهج البلاغة ج : 16 ص : 10و أن الذي بيني و بين بني أبي و بين بني أمي لمختلف جدافإن أكلوا لحمي وفرت لحومهم و إن هدموا مجدي بنيت لهم مجداو إن زجروا طيرا بنحس تمر بي زجرت لهم طيرا تمر بهم سعداو لا أحمل الحقد القديم عليهم و ليس رئيس القوم من يحمل الحقدا (17/94)
و قال الشاعر
إني و إن كان ابن عمي كاشحا لمقاذف من خلفه و ورائه و مفيده نصري و إن كان امرأ متزحزحا في أرضه و سمائه و أكون والي سره و أصونه حتى يحق علي وقت أدائه و إذا الحوادث أجحفت بسوامه قرنت صحيحتنا إلى جربائه و إذا دعا باسمي ليركب مركبا صعبا قعدت له على سيسائه وأجن فليقة في خدره لم أطلع مما وراء خبائه و إذا ارتدى ثوبا جميلا لم أقل يا ليت أن علي فضل ردائهو سادسها قوله لا تتخذن عدو صديقك صديقا فتعادي صديقك قد قال الناس في هذا المعنى فأكثروا قال بعضهم
إذا صافى صديقك من تعادي فقد عاداك و انقطع الكلام
و قال آخر
صديق صديقي داخل في صداقتي و خصم صديقي ليس لي بصديق
و قال آخر
تود عدوي ثم تزعم أنني صديقك إن الرأي عنك لعازب
شرح نهج البلاغة ج : 16 ص : 108و سابعها قوله و امحض أخاك النصيحة حسنة كانت أو قبيحة ليس يعني ع بقبيحة هاهنا القبيح الذي يستحق به الذم و العقاب و إنما يريد نافعة له في العاجل كانت أو ضارة له في الأجل فعبر عن النفع و الضرر بالحسن و القبيح كقوله تعالى وَ إِ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذا هُمْ يَقْنَطُونَ. و قد فسره قوم فقالوا أراد كانت نافعة لك أو ضارة لك و يحتمل تفسير آخر و هو وصيته إياه أن يمحض أخاه النصيحة سواء كانت مما لا يستحيا من ذكرها و شياعها أو كانت مما يستحيا من ذكرها و استفاضتها بين الناس كمن ينصح صديقه في أهله و يشير عليه بفراقهم لفجور اطلع عليه منهم فإن الناس يسمون مثل هذا إذا شاع قبيحا. و ثامنها قوله تجرع الغيظ فإني لم أر جرعة أحلى منها عاقبة و لا ألذ مغبة هذا مثل قولهم الحلم مرارة ساعة و حلاوة الدهر كله و كان يقال التذلل للناس مصايد الشرف. (17/95)
قال المبرد في الكامل أوصى علي بن الحسين ابنه محمد بن علي ع فقال يا بني عليك بتجرع الغيظ من الرجال فإن أباك لا يسره بنصيبه من تجرع الغيظ من الرجال حمر النعم و الحلم أعز ناصرا و أكثر عددا
و تاسعها قوله لن لمن غالظك فإنه يوشك أن يلين لك هذا مثل المثل المشهور إذا عز أخوك فهن و الأصل في هذا قوله تعالى ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَ بَيْنَهُ عَداوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ. و عاشرها قوله خذ على عدوك بالفضل فإنه أحد الظفرين هذا معنى مليح و منه قول ابن هانئ في المعز شرح نهج البلاغة ج : 16 ص : 10ضراب هام الروم منتقما و في أعناقهم من جوده أعباءلو لا انبعاث السيف و هو مسلط في قتلهم قتلتهم النعماء
و كنت كاتبا بديوان الخلافة و الوزير حينئذ نصير الدين أبو الأزهر أحمد بن الناقد رحمه الله فوصل إلى حضرة الديوان في سنة اثنتين و ثلاثين و ستمائة محمد بن محمد أمير البحرين على البر ثم وصل بعده الهرمزي صاحب هرمز في دجلة بالمراكب البحرية و هرمز هذه فرضة في البحر نحو عمان و امتلأت بغداد من عرب محمد بن محمد و أصحاب الهرمزي و كانت تلك الأيام أياما غراء زاهرة لما أفاض المستنصر على الناس من عطاياه و الوفود تزدحم من أقطار الأرض على أبواب ديوانه فكتبت يوم دخول الهرمزي إلى الوزير أبياتا سنحت على البديهة و أنا متشاغل بما كنت فيه من مهام الخدمة و كان رحمه الله لا يزال يذكرها و ينشدها و يستحسنها (17/96)
يا أحمد بن محمد أنت الذي علقت يداه بأنفس الأعلاق ما أملت بغداد قبلك أن ترى أبدا ملوك البحر في الأسواق ولهوا عليها غيرة و تنافسوا شغفا بها كتنافس العشاق و غدت صلاتك في رقاب سراتهم و نداك كالأطواق في الأعناق بسديد رأيك أصلحت جمحاتهم و تألفوا من بعد طول لله همه ماجد لم تعتلق بسحيل آراء و لا أحذاق جلب السلاهب من أراك و بعدها جلب المراكب من جزيرة واق هذا العداء هو العداء فعد عن قول ابن حجر في لأى و عناق و أظنه و الظن علم أنه سيجيئنا بممالك الآفاق إما أسير صنيعة في جيده بالجود غل أو أسير و شرح نهج البلاغة ج : 16 ص : 110لا زال في ظل الخليفة ما له فان و سودده المعظم باو حادي عشرها قوله إن أردت قطيعة أخيك فاستبق له من نفسك بقية يرجع إليها إن بدا ذلك له يوما هذا مثل قولهم أحبب حبيبك هونا ما عسى أن يكون بغيضك يوما ما و أبغض بغيضك هونا ما عسى أن يكون حبيبك يوما ما و ما كان يقال إذا هويت فلا تكن غاليا و إذا تركت فلا تكن قاليا. و ثاني عشرها قوله من ظن خيرا فصدق ظنه كثير من أرباب الهمم يفعلون هذا يقال لمن قد شدا طرفا من العلم هذا عالم هذا فاضل فيدعوه ما ظن فيه من ذلك إلى تحقيقه فيواظب على الاشتغال بالعلم حتى يصير عالما فاضلا حقيقة و كذلك يقول الناس هذا كثير العبادة هذا كثير الزهد لمن قد شرع في شي ء من ذلك فتحمله أقوال الناس على الالتزام بالزهد و العبادة. و ثالث عشرها قوله و لا تضيعن حق أخيك اتكالا على ما بينك و بينه فإنه ليس لك بأخ من أضعت حقه من هذا النحو قول الشاعر. إذا خنتم بالغيب عهدي فما لكم تدلون إدلال المقيم على العهدصلوا و افعلوا فعل المدل بوصله و إلا فصدوا و افعلوا فعل ذي الصدى (17/97)
و كان يقال إضاعة الحقوق داعية العقوق. و رابع عشرها قوله لا ترغبن فيمن زهد فيك الرغبة في الزاهد هي الداء العياء قال العباس بن الأحنف
ما زلت أزهد في مودة راغب حتى ابتليت برغبة في زاهدهذا هو الداء الذي ضاقت به حيل الطبيب و طال يأس العائد (17/98)
شرح نهج البلاغة ج : 16 ص : 111و قد قال الشعراء المتقدمون و المتأخرون فأكثروا نحو قولهمو في الناس إن رثت حبالك واصل و في الأرض عن دار القلى متحول
و قول تأبط شرا
إني إذا خلة ضنت بنائلها و أمسكت بضعيف الحبل أحذاقي نجوت منها نجائي من بجيلة إذ ألقيت ليلة خبت الرهط أرواقيو خامس عشرها قوله لا يكونن أخوك أقوى على قطيعتك منك على صلته و لا تكونن على الإساءة أقوى منك على الإحسان هذا أمر له بأن يصل من قطعه و أن يحسن إلى من أساء إليه. ظفر المأمون عبد الله بن هارون الرشيد بكتب قد كتبها محمد بن إسماعيل بن جعفر الصادق ع إلى أهل الكرخ و غيرهم من أعمال أصفهان يدعوهم فيها إلى نفسه فأحضرها بين يديه و دفعها إليه و قال له أ تعرف هذه فأطرق خجلا فقال له أنت آمن و قد وهبت هذا الذنب لعلي و فاطمة ع فقم إلى منزلك و تخير ما شئت من الذنوب فإنا نتخير لك مثل ذلك من العفو. و سادس عشرها قوله لا يكبرن عليك ظلم من ظلمك فإنه يسعى في مضرته و نفعك و ليس جزاء من سرك أن تسوءه
جاء في الخبر المرفوع إنه ص سمع عائشة تدعو على من سرق عقدا لها فقال لها لا تمسحي عنه بدعائك
أي لا تخففي عذابه و قوله ع و ليس جزاء من سرك أن تسوءه يقول لا تنتقم ممن ظلمك فإنه قد نفعك في الآخرة بظلمه لك و ليس جزاء من ينفع إنسانا أن يسي ء إليه و هذا مقام جليل شرح نهج البلاغة ج : 16 ص : 112لا يقدر عليه إلا الأفراد من الأولياء الأبرار و قبض بعض الجرة على قوم صالحين فحبسهم و قيدهم فلما طال عليهم الأمر زفر بعضهم زفرة شديدة و دعا على ذلك الجبار فقال له بعض أولاده و كان أفضل أهل زمانه في العبادة و كان مستجاب الدعوة لا تدع عليه فتخفف عن عذابه قالوا يا فلان أ لا ترى ما بنا و بك لا يأنف ربك لنا قال إن لفلان مهبطا في النار لم يكن ليبلغه إلا بما ترون و إن لكم لمصعدا في الجنة لم تكونوا لتبلغوه إلا بما ترون قالوا فقد نال منا العذاب و الحديد فادع الله لنا أن يخلصنا و ينقذنا مما نحن فيه قال إني لأظن أني لو فعلت لفعل و لكن و الله لا أفعل حتى أموت هكذا فألقى الله فأقول له أي رب سل فلانا لم فعل بي هذا و من الناس من يجعل قوله ع و ليس جزاء من سرك أن تسوءه كلمة مفردة مستقلة بنفسها ليست من تمام الكلام الأول و الصحيح ما ذكرناه. و سابع عشرها و من حقه أن يقدم ذكره قوله و لا يكن أهلك أشقى الخلق بك هذا كما يقال في المثل من شؤم الساحرة أنها أول ما تبدأ بأهلها و المراد من هذه الكلمة النهي عن قطيعة الرحم و إقصاء الأهل و حرمانهم و (17/99)
في الخبر المرفوع صلوا أرحامكم و لو بالسلام
وَ اعْلَمْ يَا بُنَيَّ أَنَّ الرِّزْقَ رِزْقَانِ رِزْقٌ تَطْلُبُهُ وَ رِزْقٌ يَطْلُبُكَ فَإِنْ أَنْتَ لَمْ تَأْتِهِ أَتَاكَ مَا أَقْبَحَ الْخُضُوعَ عِنْدَ الْحَاجَةِ وَ الْجَفَاءَ عِنْدَ الْغِنَى إِنَّمَا لَكَ مِنْ دُنْيَاكَ مَا أَصْلَحْتَ بِهِ مَثْوَاكَ وَ إِنْ كُنْتَ جَازِعاً عَلَى مَا تَفَلَّتَ مِنْ يَدَيْكَ فَاجْزَعْ عَلَى كُلِّ مَا لَمْ يَصِلْ إِلَيْكَ شرح نهج البلاغة ج : 16 ص : 113اسْتَدِلَّ عَلَى مَا لَمْ يَكُنْ بِمَا قَدْ كَانَ فَإِنَّ الْأُمُورَ أَشْبَاهٌ وَ لَا تَكُونَنَّ مِمَّنْ لَا تَنْفَعُهُ ْعِظَةُ إِذَا بَالَغْتَ فِي إِيلَامِهِ فَإِنَّ الْعَاقِلَ يَتَّعِظُ بِالآْدَابِ وَ الْبَهَائِمَ لَا تَتَّعِظُ إِلَّا بِالضَّرْبِ. اطْرَحْ عَنْكَ وَارِدَاتِ الْهُمُومِ بِعَزَائِمِ الصَّبْرِ وَ حُسْنِ الْيَقِينِ مَنْ تَرَكَ الْقَصْدَ جَارَ وَ الصَّاحِبُ مُنَاسِبٌ وَ الصَّدِيقُ مَنْ صَدَقَ غَيْبُهُ وَ الْهَوَى شَرِيكُ الْعَمَى وَ رُبَّ بَعِيدٍ أَقْرَبُ مِنْ قَرِيبٍ وَ قَرِيبٍ أَبْعَدُ مِنْ بَعِيدٍ وَ الْغَرِيبُ مَنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ حَبِيبٌ مَنْ تَعَدَّى الْحَقَّ ضَاقَ مَذْهَبُهُ وَ مَنِ اقْتَصَرَ عَلَى قَدْرِهِ كَانَ أَبْقَى لَهُ وَ أَوْثَقُ سَبَبٍ أَخَذْتَ بِهِ سَبَبٌ بَيْنَكَ وَ بَيْنَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَ مَنْ لَمْ يُبَالِكَ فَهُوَ عَدُوُّكَ قَدْ يَكُونُ الْيَأْسُ إِدْرَاكاً إِذَا كَانَ الطَّمَعُ هَلَاكاً لَيْسَ كُلُّ عَوْرَةٍ تَظْهَرُ وَ لَا كُلُّ فُرْصَةٍ تُصَابُ وَ رُبَّمَا أَخْطَأَ الْبَصِيرُ قَصْدَهُ وَ أَصَابَ الْأَعْمَى رُشْدَهُ أَخِّرِ الشَّرَّ فَإِنَّكَ إِذَا شِئْتَ تَعَجَّلْتَهُ وَ قَطِيعَةُ الْجَاهِلِ تَعْدِلُ صِلَةَ الْعَاقِلِ مَنْ أَمِنَ الزَّمَانَ خَانَهُ وَ مَنْ أَعْظَمَهُ أَهَانَهُ لَيْسَ كُلُّ مَنْ رَمَى أَصَابَ إِذَا تَغَيَّرَ السُّلْطَانُ تَغَيَّرَ (17/100)
الزَّمَانُ سَلْ عَنِ الرَّفِيقِ قَبْلَ الطَّرِيقِ وَ عَنِ الْجَارِ قَبْلَ الدَّارِ (17/101)
شرح نهج البلاغة ج : 16 ص : 114 في بعض الروايات اطرح عنك واردات الهموم بحسن الصبر و كرم العزاءقد مضى لنا كلام شاف في الرزق. و روى أبو حيان قال رفع الواقدي إلى المأمون رقعة يذكر فيها غلبة الدين عليه و كثرة العيال و قلة الصبر فوقع المأمون عليها أنت رجل فيك خلتان السخاء و الحياء فأما السخاء فهو الذي أطلق ما في يديك و أما الحياء فهو الذي بلغ بك إلى ما ذكرت و قد أمرنا لك بمائة ألف درهم فإن كنا أصبنا إرادتك فازدد في بسط يدك و إن كنا لم نصب إرادتك فبجنايتك على نفسك و أنت كنت حدثتني و أنت على قضاء الرشيد
عن محمد بن إسحاق عن الزهري عن أنس بن مالك إن رسول الله ص قال للزبير يا زبير إن مفاتيح الرزق بإزاء العرش ينزل الله تعالى للعباد أرزاقهم على قدر نفقاتهم فمن كثر كثر له و من قلل قلل له
قال الواقدي و كنت أنسيت هذا الحديث و كانت مذاكرته إياي به أحب من صلته. و اعلم أن هذا الفصل يشتمل على نكت كثيرة حكمية منها قوله الرزق رزقان رزق تطلبه و رزق يطلبك و هذا حق لأن ذلك إنما يكون على حسب ما يعلمه الله تعالى من مصلحة المكلف فتارة يأتيه الرزق بغير اكتساب و لا تكلف حركة و لا تجشم سعي و تارة يكون الأمر بالعكس. دخل عماد الدولة أبو الحسن بن بويه شيراز بعد أن هزم ابن ياقوت عنها و هو فقير شرح نهج البلاغة ج : 16 ص : 115لا مال له فساخت إحدى قوائم فرسه في الصحراء في الأرض فنزل عنها و ابتدرها غلمانه فخلصوها هر لهم في ذلك الموضع نقب وسيع فأمرهم بحفرة فوجدوا فيه أموالا عظيمة و ذخائر لابن ياقوت ثم استلقى يوما آخر على ظهره في داره بشيراز التي كان ابن ياقوت يسكنها فرأى حية في السقف فأمر غلمانه بالصعود إليها و قتلها فهربت منهم و دخلت في خشب الكنيسة فأمر أن يقلع الخشب و تستخرج و تقتل فلما قلعوا الخشب وجدوا فيه أكثر من خمسين ألف دينار ذخيرة لابن ياقوت. و احتاج أن يفصل و يخيط ثيابا له و لأهله فقيل هاهنا خياط حاذق كان يخيط لابن ياقوت و هو رجل منسوب إلى الدين و الخير إلا أنه أصم لا يسمع شيئا أصلا فأمر بإحضاره فأحضر و عنده رعب و هلع فلما أدخله إليه كلمه و قال أريد أن تخيط لنا كذا و كذا قطعة من الثياب فارتعد الخياط و اضطرب كلامه و قال و الله يا مولانا ما له عندي إلا أربعة صناديق ليس غيرها فلا تسمع قول الأعداء في فتعجب عماد الدولة و أمر بإحضار الصناديق فوجدها كلها ذهبا و حليا و جواهر مملوءة وديعة لابن ياقوت. و أما الرزق الذي يطلبه الإنسان و يسعى إليه فهو كثير جدا لا يحصى و منها قوله ما أقبح الخضوع عند الحاجة و الجفاء عند الغنى هذا من قول الله تعالى حَتَّى إِذا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَ جَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَ فَرِحُوا بِها جاءَتْها رِيحٌ عاصِفٌ وَ جاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ (17/102)
مَكانٍ وَ ظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنا مِنْ هذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ فَلَمَّا أَنْجاهُمْ إِذا هُمْ يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ. و من الشعر الحكمي في هذا الباب قول الشاعر (17/103)
خلقان لا أرضاهما لفتى تيه الغنى و مذلة الفقر
شرح نهج البلاغة ج : 16 ص : 116فإذا غنيت فلا تكن بطرا و إذا افتقرت فته على الدهو منها قوله إنما لك من دنياك ما أصلحت به مثواك هذا من
كلام رسول الله ص يا ابن آدم ليس لك من مالك إلا ما أكلت فأفنيت أو لبست فأبليت أو تصدقت فأبقيت
و قال أبو العتاهية
ليس للمتعب المكادح من دنياه إلا الرغيف و الطمران
و منها قوله و إن كنت جازعا على ما تفلت من يديك فاجزع على كل ما لم يصل إليك يقول لا ينبغي أن تجزع على ما ذهب من مالك كما لا ينبغي أن تجزع على ما فاتك من المنافع و المكاسب فإنه لا فرق بينهما إلا أن هذا حصل و ذاك لم يحصل بعد و هذا فرق غير مؤثر لأن الذي تظن أنه حاصل لك غير حاصل في الحقيقة و إنما الحاصل على الحقيقة ما أكلته و لبسته و أما القنيات و المدخرات فلعلها ليست لك كما قال الشاعر
و ذي إبل يسقي و يحسبها له أخي تعب في رعيها و دءوب غدت و غدا رب سواه يسوقها و بدل أحجارا و جال قليبو منها قوله استدل على ما لم يكن بما كان فإن للأمور أشباها يقال إذا شئت أن تنظر للدنيا بعدك فانظرها بعد غيرك. و قال أبو الطيب في سيف الدولة
ذكي تظنيه طليعة عينه يرى قلبه في يومه ما يرى غدا
و منها قوله و لا تكونن ممن لا تنفعه العظة... إلى قوله إلا بالضرب هو قول الشاعر شرح نهج البلاغة ج : 16 ص : 11العبد يقرع بالعصا و الحر تكفيه الملامة
و كان يقال اللئيم كالعبد و العبد كالبهيمة عتبها ضربها. و منها قوله اطرح عنك واردات الهموم بحسن الصبر و كرم العزاء هذا كلام شريف فصيح عظيم النفع و الفائدة و قد أخذ عبد الله بن الزبير بعض هذه الألفاظ فقال في خطبته لما ورد عليه الخبر بقتل مصعب أخيه لقد جاءنا من العراق خبر أحزننا و سرنا جاءنا خبر قتل مصعب فأما سرورنا فلأن ذلك كان له شهادة و كان لنا إن شاء الله خيرة و أما الحزن فلوعة يجدها الحميم عند فراق حميمه ثم يرعوي بعدها ذو الرأي إلى حسن الصبر و كرم العزاء. و منها قوله من ترك القصد جار القصد الطريق المعتدل يعني أن خير الأمور أوسطها فإن الفضائل تحيط بها الرذائل فمن تعدى هذه يسيرا وقع في هذه. و منها قوله الصاحب مناسب كان يقال الصديق نسيب الروح و الأخ نسيب البدن قال أبو الطيب (17/104)
ما الخل إلا من أود بقلبه و أرى بطرف لا يرى بسوائه
و منها قوله الصديق من صدق غيبه من هاهنا أخذ أبو نواس قوله في المنهوكة
هل لك و الهل خبر فيمن إذا غبت حضرأو ما لك اليوم أثر فإن رأى خيرا شكرأو كان تقصير عذر
و منها قوله الهوى شريك العمى هذا مثل قولهم حبك الشي ء يعمي و يصم قال الشاعر شرح نهج البلاغة ج : 16 ص : 1و عين الرضا عن كل عيب كليلة كما أن عين السخط تبدي المساويا
و منها قوله رب بعيد أقرب من قريب و قريب أبعد من بعيد هذا معنى مطروق قال الشاعر
لعمرك ما يضر البعد يوما إذا دنت القلوب من القلوب
و قال الأحوص
إني لأمنحك الصدود و إنني قسما إليك مع الصدود لأميل
و قال البحتري
و نازحة و الدار منها قريبة و ما قرب ثاو في التراب مغيب
و منها قوله و الغريب من لم يكن له حبيب يريد بالحبيب هاهنا المحب لا المحبوب قال الشاعر
أسرة المرء والداه و فيما بين جنبيهما الحياة تطيب و إذا وليا عن المرء يوما فهو في الناس أجنبي غريبو منها قوله من تعدى الحق ضاق بمذهبه يريد بمذهبه هاهنا طريقته و هذه استعارة و معناه أن طريق الحق لا مشقة فيها لسالكها و طرق الباطل فيها المشاق و المضار و كان سالكها سالك طريقة ضيقة يتعثر فيها و يتخبط في سلوكها. و منها قوله من اقتصر على قدره كان أبقى له هذا مثل (17/105)
قوله رحم الله امرأ عرف قدره و لم يتعد طوره
و قال من جهل قدره قتل نفسه
و قال أبو الطيب
و من جهلت نفسه قدره رأى غيره منه ما لا يرى
شرح نهج البلاغة ج : 16 ص : 119و منها قوله أوثق سبب أخذت به سبب بينك و بين الله سبحانه هذا من قول الله تعالى فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى لَا انْفِصامَ لَها. و منها قوله فمن لم يبالك فهو عك أي لم يكترث بك و هذه الوصاة خاصة بالحسن ع و أمثاله من الولاة و أرباب الرعايا و ليست عامة للسوقة من أفناء الناس و ذلك لأن الوالي إذا أنس من بعض رعيته أنه لا يباليه و لا يكترث به فقد أبدى صفحته و من أبدى لك صفحته فهو عدوك و أما غير الوالي من أفناء الناس فليس أحدهم إذا لم يبال الآخر بعدو له. و منها قوله قد يكون اليأس إدراكا إذا كان الطمع هلاكا هذا مثل قول القائل
من عاش لاقى ما يسوء من الأمور و ما يسرو لرب حتف فوقه ذهب و ياقوت و در
و المعنى ربما كان بلوغ الأمل في الدنيا و الفوز بالمطلوب منها سببا للهلاك فيها و إذا كان كذلك كان الحرمان خيرا من الظفر. و منها قوله ليس كل عورة تظهر و لا كل فرصة تصاب يقول قد تكون عورة العدو مستترة عنك فلا تظهر و قد تظهر لك و لا يمكنك إصابتها. و قال بعض الحكماء الفرصة نوعان فرصة من عدوك و فرصة في غير عدوك فالفرصة من عدوك ما إذا بلغتها نفعتك و إن فاتتك ضرتك و في غير عدوك ما إذا أخطأك نفعه لم يصل إليك ضره شرح نهج البلاغة ج : 16 ص : 120و منها قوله فربما أخطأ البصير قصده و أصاب الأعمى رشده من هذا النحو قولهم في المثل مع الخواطئ سهم صائب و قولهم رمية من غير رام و قالوا في مثل اللفظة الأولى الجواد يكبو و الحسام قد ينبو و قالوا قد يهفو الحليم و يجهل العليم. ونها قوله أخر الشر فإنك إذا شئت تعجلته مثل هذا قولهم في الأمثال الطفيلية كل إذا وجدت فإنك على الجوع قادر و من الأمثال الحكمية ابدأ بالحسنة قبل السيئة فلست بمستطيع للحسنة في كل وقت و أنت على الإساءة متى شئت قادر. و منها قوله قطيعة الجاهل تعدل صلة العاقل هذا حق لأن الجاهل إذا قطعك انتفعت ببعده عنك كما تنتفع بمواصلة الصديق العاقل لك و هذا كما يقول المتكلمون عدم المضرة كوجود المنفعة و يكاد أن يبتني على هذا قولهم كما أن فعل المفسدة قبيح من البارئ فالإخلال باللطف منه أيضا يجب أن يكون قبيحا. و منها قوله من أمن الزمان خانه و من أعظمه أهانه مثل الكلمة الأولى قول الشاعر (17/106)
و من يأمن الدنيا يكن مثل قابض على الماء خانته فروج الأنامل
و قالوا احذر الدنيا ما استقامت لك و من الأمثال الحكمية من أمن الزمان ضيع ثغرا مخوفا و مثل الكلمة الثانية قولهم الدنيا كالأمة اللئيمة المعشوقة كلما ازددت لها عشقا و عليها تهالكا ازدادت إذلالا و عليك شطاطا. و قال أبو الطيب
و هي معشوقة على الغدر لا تحفظ عهدا و لا تتمم وصلا
شرح نهج البلاغة ج : 16 ص : 121شيم الغانيات فيها فلا أدري لذا أنث اسمها الناس أم لو منها قوله ليس كل من رمى أصاب هذا معنى مشهور قال أبو الطيب (17/107)
ما كل من طلب المعالي نافذا فيها و لا كل الرجال فحولا
و منها قوله إذا تغير السلطان تغير الزمان في كتب الفرس أن أنوشروان جمع عمال السواد و بيده درة يقلبها فقال أي شي ء أضر بارتفاع السواد و أدعى إلى محقه أيكم قال ما في نفسي جعلت هذه الدرة في فيه فقال بعضهم انقطاع الشرب و قال بعضهم احتباس المطر و قال بعضهم استياء الجنوب و عدم الشمال فقال لوزيره قل أنت فإني أظن عقلك يعادل عقول الرعية كلها أو يزيد عليها قال تغير رأي السلطان في رعيته و إضمار الحيف لهم و الجور عليهم فقال لله أبوك بهذا العقل أهلك آبائي و أجدادي لما أهلوك له و دفع إليه الدرة فجعلها في فيه. و منها قوله سل عن الرفيق قبل الطريق و عن الجار قبل الدار و قد روي هذا الكلام مرفوعا و في المثل جار السوء كلب هارش و أفعى ناهش. و في المثل الرفيق إما رحيق أو حريق
إِيَّاكَ أَنْ تَذْكُرَ مِنَ الْكَلَامِ مَا يَكُونُ مُضْحِكاً وَ إِنْ حَكَيْتَ ذَلِكَ عَنْ غَيْرِكَ شرح نهج البلاغة ج : 16 ص : 122وَ إِيَّاكَ وَ مُشَاوَرَةَ النِّسَاءِ فَإِنَّ رَأْيَهُنَّ إِلَى أَفْنٍ وَ عَزْمَهُنَّ إِلَى وَهْنٍ وَ اكْفُفْ عَلَيْهِنَّ مِنأَبْصَارِهِنَّ بِحِجَابِكَ إِيَّاهُنَّ فَإِنَّ شِدَّةَ الْحِجَابِ أَبْقَى عَلَيْهِنَّ وَ لَيْسَ خُرُوجُهُنَّ بِأَشَدَّ مِنْ إِدْخَالِكَ مَنْ لَا يُوثَقُ بِهِ عَلَيْهِنَّ وَ إِنِ اسْتَطَعْتَ أَلَّا يَعْرِفْنَ غَيْرَكَ فَافْعَلْ وَ لَا تُمَلِّكِ الْمَرْأَةَ مِنْ أَمْرِهَا مَا جَاوَزَ نَفْسَهَا فَإِنَّ الْمَرْأَةَ رَيْحَانَةٌ وَ لَيْسَتْ بِقَهْرَمَانَةٍ وَ لَا تَعْدُ بِكَرَامَتِهَا نَفْسَهَا وَ لَا تُطْمِعْهَا فِي أَنْ تَشْفَعَ لِغَيْرِهَا وَ إِيَّاكَ وَ التَّغَايُرَ فِي غَيْرِ مَوْضِعِ غَيْرَةٍ فَإِنَّ ذَلِكَ يَدْعُو الصَّحِيحَةَ إِلَى السَّقَمِ وَ الْبَرِيئَةَ إِلَى الرِّيَبِ وَ اجْعَلْ لِكُلِّ إِنْسَانٍ مِنْ خَدَمِكَ عَمَلًا تَأْخُذُهُ بِهِ فَإِنَّهُ أَحْرَى أَلَّا يَتَوَاكَلُوا فِي خِدْمَتِكَ وَ أَكْرِمْ عَشِيرَتَكَ فَإِنَّهُمْ جَنَاحُكَ الَّذِي بِهِ تَطِيرُ وَ أَصْلُكَ الَّذِي إِلَيْهِ تَصِيرُ وَ يَدُكَ الَّتِي بِهَا تَصُولُ اسْتَوْدِعِ اللَّهَ دِينَكَ وَ دُنْيَاكَ وَ اسْأَلْهُ خَيْرَ الْقَضَاءِ لَكَ فِي الْعَاجِلَةِ وَ الآْجِلَةِ وَ الدُّنْيَا وَ الآْخِرَةِ وَ السَّلَامُ (17/108)
نهاه أن يذكر من الكلام ما كان مضحكا لأن ذلك من شغل أرباب الهزل و البطالة و قل أن يخلو ذلك من غيبة أو سخرية ثم قال و إن حكيت ذلك عن غيرك فإنه كما يستهجن الابتداء بذلك يستهجن حكايته عن الغير و ذلك كلام فصيح أ لا ترى أنه لا يجوز الابتداء بكلمة الكفر و يكره أيضا حكايتها و قال عمر لما نهاه شرح نهج البلاغة ج : 16 ص : 123رسول الله ص أن يحلف بالله فما حلفت به ذاكرا و لا آثرا و لا حاكيا. و كان يقال من مازح استخف به و من كثر ضحكه قلت هيبته. فأما مشاورة النساء فإنه من فعل عجزة الرجال قال الفضل بن الربيع أيام الحرب ب الأمين و المأمون في كلام يذكر فيه الأمين و يصفه بالعجز ينام نوم الظربان و ينتبه انتباهة الذئب همه بطنه و لذته فرجه لا يفكر في زوال نعمة و لا يروي في إمضاء رأي و لا مكيدة قد شمر له عبد الله عن ساقه و فوق له أشد سهامه يرميه على بعد الدار بالحتف النافذ و الموت القاصد قد عبى له المنايا على متون الخيل و ناط له البلايا بأسنة الرماح و شفار السيوف فكأنه هو قال هذا الشعر و وصف به نفسه و أخاه (17/109)
يقارع أتراك ابن خاقان ليله إلى أن يرى الإصباح لا يتلعثم فيصبح من طول الطراد و جسمه نحيل و أضحي في النعيم أصمم و همي كأس من عقار و قينة و همته درع و رمح و مخذم فشتان ما بيني و بين ابن خالد أمية في الرزق الذي الله يقو نحن معه نجري إلى غاية إن قصرنا عنها ذممنا و إن اجتهدنا في بلوغها انقطعنا و إنما نحن شعب من أصل إن قوي قوينا و إن ضعف ضعفنا إن هذا الرجل قد ألقى بيده إلقاء الأمة الوكعاء يشاور النساء و يعتزم على الرؤيا قد أمكن أهل الخسارة و اللهو من سمعه فهم يمنونه الظفر و يعدونه عقب الأيام و الهلاك أسرع إليه من السيل إلى قيعان الرمل. قوله ع فإن رأيهن إلى أفن الأفن بالسكون النقص و المتأفن شرح نهج البلاغة ج : 16 ص : 124المتنقص يقال فلان يتأفن فلانا أي يتنقصه و يعيبه و من رواه إلى أفن بالتحريك فهو ضعف الرأي أفن الرجل يأفن نا أي ضعف رأيه و في المثل إن الرقين تغطي أفن الأفين و الوهن الضعف. قوله و اكفف عليهن من أبصارهن من هاهنا زائدة و هو مذهب أبي الحسن الأخفش في زيادة من في الموجب و يجوز أن يحمل على مذهب سيبويه فيعنى به فاكفف عليهن بعض أبصارهن. ثم ذكر فائدة الحجاب و نهاه أن يدخل عليهن من لا يوثق به و قال إن خروجهن أهون من ذلك و ذلك لأن من تلك صفته يتمكن من الخلوة ما لا يتمكن منه من يراهن في الطرقات. ثم قال إن استطعت ألا يعرفن غيرك فافعل كان لبعضهم بنت حسناء فحج بها و كان يعصب عينيها و يكشف للناس وجهها فقيل له في ذلك فقال إنما الحذر من رؤيتها الناس لا من رؤية الناس لها. قال و لا تملك المرأة من أمرها ما جاوز نفسها أي لا تدخلها معك في تدبير و لا مشورة و لا تتعدين حال نفسها و ما يصلح شأنها. فإن المرأة ريحانة و ليست بقهرمانة أي إنما تصلح للمتعة و اللذة و ليست وكيلا في مال و لا وزيرا في رأي. ثم أكد الوصية الأولى فقال لا تعد بكرامتها نفسها هذا هو قوله و لا تملكها من أمرها ما جاوز نفسها. ثم (17/110)
نهاه أن يطمعها في الشفاعات. شرح نهج البلاغة ج : 16 ص : 125و روى الزبير بن بكار قال كانت الخيزران كثيرا ما تكلم موسى ابنها لما استخلف في الحوائج و ن يجيبها إلى كل ما تسأل حتى مضت أربعة أشهر من خلافته و تتألى الناس عليها و طمعوا فيها فكانت المواكب تغدو إلى بابها و كلمته يوما في أمر فلم يجد إلى إجابتها سبيلا و احتج عليها بحجة فقالت لا بد من إجابتي فقال لا أفعل قالت إني قد ضمنت هذه الحاجة لعبد الله بن مالك فغضب موسى و قال ويلي على ابن الفاعلة قد علمت أنه صاحبها و الله لا قضيتها لك و لا له قالت و الله لا أسألك حاجة أبدا قال إذن و الله لا أبالي فقامت مغضبة فقال مكانك تستوعبي كلامي و أنا و الله بري ء من قرابتي من رسول الله ص لئن بلغني أنه وقف أحد من قوادي خاصتي و خدمي و كتابي على بابك لأضربن عنقه و أقبضن ماله فمن شاء فليلزم ذلك ما هذه المواكب التي تغدو إلى بابك كل يوم أ ما لك مغزل يشغلك أو مصحف يذكرك أو بيت يصونك إياك ثم إياك أن تفتحي فاك في حاجة لملي أو ذمي فانصرفت و ما تعقل ما تطأ عليه و لم تنطق عنده بحلوة و لا مرة بعدها حتى هلك. و أخذ هذه اللفظة منه و هي قوله إن المرأة ريحانة و ليست بقهرمانة الحجاج فقالها للوليد بن عبد الملك روى ابن قتيبة في كتاب عيون الأخبار قال دخل الحجاج على الوليد بن عبد الملك و عليه درع و عمامة سوداء و فرس عربية و كنانة و ذلك في أول قدمة قدمها عليه من العراق فبعثت أم البنين بنت عبد العزيز بن مروان و هي تحت الوليد إليه من هذا الأعرابي المستلئم في السلاح عندك و أنت في غلالة فأرسل إليها هذا الحجاج فأعادت إليه الرسول فقال تقول لك و الله لأن يخلو بك ملك الموت في اليوم أحيانا أحب (17/111)
شرح نهج البلاغة ج : 16 ص : 126إلي من أن يخلو بك الحجاج فأخبره الوليد بذلك و هو يمازحه فقال يا أمير المؤمنين دع عنك مفاكهة النساء بزخرف القول فإنما المرأة ريحانة و ليست بقهرمانة فلا تطلعها على سرك و مكايدة عدوك فلما دخل الوليد عليها أخبرها و هو يمازحها بالة الحجاج فقالت يا أمير المؤمنين حاجتي أن تأمره غدا أن يأتيني مسلما ففعل ذلك فأتاها الحجاج فحجبته فلم يزل قائما ثم أذنت له فقالت يا حجاج أنت الممتن على أمير المؤمنين بقتلك ابن الزبير و ابن الأشعث أما و الله لو لا أن الله علم أنك شر خلقه ما ابتلاك برمي الكعبة الحرام و لا بقتل ابن ذات النطاقين أول مولود في دار هجرة الإسلام و أما نهيك أمير المؤمنين عن مفاكهة النساء و بلوغ لذاته و أوطاره فإن كن ينفرجن عن مثلك فما أحقه بالأخذ منك و إن كن ينفرجن عن مثله فهو غير قابل لقولك أما و الله لقد نقص نساء أمير المؤمنين الطيب من غدائرهن فبعنه في أعطية أهل الشام حين كنت في أضيق من قرن قد أظلتك رماحهم و أثخنك كفاحهم و حين كان أمير المؤمنين أحب إليهم من أبنائهم و آبائهم فأنجاك الله من عدو أمير المؤمنين بحبهم إياه قاتل الله القائل حين ينظر إليك و سنان غزالة بين كتفيك (17/112)
أسد علي و في الحروب نعامة ربداء تنفر من صفير الصافرهلا برزت إلى غزالة في الوغى بل كان قلبك في جناحي طائر
قم فاخرج فقام فخرج شرح نهج البلاغة ج : 16 ص : 12بعض ما قيل في الغيرة من الشعر
فأما قوله ع إياك و التغاير في غير موضع غيرة فقد قيل هذا المعنى قال بعض المحدثين
يا أيها الغائر مه لا تغر إلا لما تدركه بالبصرما أنت في ذلك إلا كمن بيته الدب لرمي الحجر
و كان مسكين الدارمي أحد من يستهجن الغيرة و يستقبح وقوعها في غير محلها فمن شعره في هذا المعنى
ما أحسن الغيرة في حينها و أقبح الغيرة في غير حين من لم يزل متهما عرسه مناصبا فيها لرجم الظنون يوشك أن يغريها بالذي يخاف أو ينصبها للعيون حسبك من تحصينها ضمها منك إلى خيم كريم و دين لا تظهرن يوما على عورة فيتبع المقرون حبل القو قال أيضا (17/113)
ألا أيها الغائر المستشيط علام تغار إذ لم تغرفما خير عرس إذا خفتها و ما خير بيت إذا لم يزرتغار من الناس أن ينظروا و هل يفتن الصالحات النظرفإني سأخلي لها بيتها فتحفظ لي نفسها أو تذر شرح نهج البلاغة ج : 16 ص : 128إذا الله لم يعطه ودها فلن يعطي الود سوط ممرو من ذا يراعي له عرسه إذا ضمه و الركاب السقو قال أيضا
و لست امرأ لا أبرح الدهر قاعدا إلى جنب عرسي لا أفارقها شبراو لا مقسما لا أبرح الدهر بيتها لأجعله قبل الممات لها قبراو لا حاملا ظني و لا قول قائل على غيره حتى أحيط به خبراو هبني امرأ راعيت ما دمت شاهدا فكيف إذا ما سرت من بيتها شهراإذا هي لم تحصن لما في فنائها فليس بمنجيها بنائي لها قصرا
فأما قوله و اجعل لكل إنسان من خدمك عملا تأخذه به فقد قالت الحكماء هذا المعنى قال أبرويز في وصيته لولده شيرويه و انظر إلى كتابك فمن كان منهم ذا ضياع قد أحسن عمارتها فوله الخراج و من كان منهم ذا عبيد قد أحسن سياستهم و تثقيفهم فوله الجند و من كان منهم ذا سراري و ضرائر قد أحسن القيام عليهن فوله النفقات و القهرمة و هكذا فاصنع في خدم دارك و لا تجعل أمرك فوضى بين خدمك فيفسد عليك ملكك. و أما قوله فأكرم عشيرتك فإنهم جناحك فقد تقدم منا كلام في وجوب الاعتضاد بالعشائر
اعتزاز الفرزدق بقومه
روى أبو عبيدة قال كان الفرزدق لا ينشد بين يدي الخلفاء و الأمراء إلا قاعدا شرح نهج البلاغة ج : 16 ص : 129فدخل على سليمان بن عبد الملك يوما فأنشده شعرا فخر فيه بآبائه و قال من جملتهتالله ما حملت من ناقة رجلا مثلي إذا الريح لفتني على الكور
فقال سليمان هذا المدح لي أم لك قال لي و لك يا أمير المؤمنين فغضب سليمان و قال قم فأتمم و لا تنشد بعده إلا قائما فقال الفرزدق لا و الله أو يسقط إلى الأرض أكثري شعرا فقال سليمان ويلي على الأحمق ابن الفاعلة لا يكنى و ارتفع صوته فسمع الضوضاء بالباب فقال سليمان ما هذا قيل بنو تميم على الباب قالوا لا ينشد الفرزدق قائما و أيدينا في مقابض سيوفنا قال فلينشد قاعدا (17/114)
وفود الوليد بن جابر على معاوية
و روى أبو عبيد الله محمد بن موسى بن عمران المرزباني قال كان الوليد بن جابر بن ظالم الطائي ممن وفد على رسول الله ص فأسلم ثم صحب عليا ع و شهد معه صفين و كان من رجاله المشهورين ثم وفد على معاوية في الاستقامة و كان معاوية لا يثبته معرفة بعينه فدخل عليه في جملة الناس فلما انتهى إليه استنسبه فانتسب له فقال أنت صاحب ليلة الهرير قال نعم قال و الله ما تخلو مسامعي من رجزك تلك الليلة و قد علا صوتك أصوات الناس و أنت تقول
شدوا فداء لكم أمي و أب فإنما الأمر غدا لمن غلب هذا ابن عم المصطفى و المنتجب تنمه للعلياء سادات العرب ليس بموصوم إذا نص النسب أول من صلى و صام و اقترقال نعم أنا قائلها قال فلما ذا قلتها قال لأنا كنا مع رجل لا نعلم خصلة شرح نهج البلاغة ج : 16 ص : 130توجب الخلافة و لا فضيلة تصير إلى التقدمة إلا و هي مجموعة له كان أول الناس سلما و أكثرهم علما و أرجحهم حلما فات الجياد فلا يشق غباره يستولي على الأمد فلا يف عثاره و أوضح منهج الهدى فلا يبيد مناره و سلك القصد فلا تدرس آثاره فلما ابتلانا الله تعالى بافتقاده و حول الأمر إلى من يشاء من عباده دخلنا في جملة المسلمين فلم ننزع يدا عن طاعة و لم نصدع صفاة جماعة على أن لك منا ما ظهر و قلوبنا بيد الله و هو أملك بها منك فاقبل صفونا و أعرض عن كدرنا و لا تثر كوامن الأحقاد فإن النار تقدح بالزناد قال معاوية و إنك لتهددني يا أخا طيئ بأوباش العراق أهل النفاق و معدن الشقاق فقال يا معاوية هم الذين أشرقوك بالريق و حبسوك في المضيق و ذادوك عن سنن الطريق حتى لذت منهم بالمصاحف و دعوت إليها من صدق بها و كذبت و آمن بمنزلها و كفرت و عرف من تأويلها ما أنكرت فغضب معاوية و أدار طرفه فيمن حوله فإذا جلهم من مضر و نفر قليل من اليمن فقال أيها الشقي الخائن إني لإخال أن هذا آخر كلام تفوه به و كان عفير بن سيف بن ذي يزن بباب معاوية حينئذ فعرف موقف الطائي و مراد معاوية فخافه عليه فهجم عليهم الدار و أقبل على اليمانية فقال شاهت الوجوه ذلا و قلا و جدعا و فلا كشم الله هذه الأنف كشما مرعبا ثم التفت إلى معاوية فقال إني و الله يا معاوية ما أقول قولي هذا حبا لأهل العراق و لا جنوحا إليهم و لكن الحفيظة تذهب الغضب لقد رأيتك بالأمس خاطبت أخا ربيعة يعني صعصعة بن صوحان و هو أعظم جرما عندك من هذا و أنكأ لقلبك و أقدح في صفاتك و أجد في عداوتك و أشد انتصارا في حربك ثم أثبته و سرحته و أنت (17/115)
الآن مجمع على قتل هذا زعمت استصغارا لجماعتنا فإنا لا نمر و لا نحلي و لعمري لو وكلتك أبناء قحطان إلى قومك لكان جدك العاثر و ذكرك الداثر (17/116)
شرح نهج البلاغة ج : 16 ص : 131و حدك المفلول و عرشك المثلول فاربع على ظلعك و اطونا على بلالتنا ليسهل لك حزننا و يتطامن لك شاردنا فإنا لا نرام بوقع الضيم و لا نتلمظ جرع الخسف و لا نغمز بغماز الفتن و لا نذر على الغضب فقال معاوية الغضب شيطان فاربع نفسك أيهالإنسان فإنا لم نأت إلى صاحبك مكروها و لم نرتكب منه مغضبا و لم ننتهك منه محرما فدونكه فإنه لم يضق عنه حلمنا و يسع غيره فأخذ عفير بيد الوليد و خرج به إلى منزله و قال له و الله لتئوبن بأكثر مما آب به معدي من معاوية و جمع من بدمشق من اليمانية و فرض على كل رجل دينارين في عطائه فبلغت أربعين ألفا فتعجلها من بيت المال و دفعها إلى الوليد و رده إلى العراق
شرح نهج البلاغة ج : 16 ص : 32132- و من كتاب له ع إلى معاويةوَ أَرْدَيْتَ جِيلًا مِنَ النَّاسِ كَثِيراً خَدَعْتَهُمْ بِغَيِّكَ وَ أَلْقَيْتَهُمْ فِي مَوْجِ بَحْرِكَ تَغْشَاهُمُ الظُّلُمَاتُ وَ تَتَلَاطَمُ بِهِمُ الشُّبُهَاتُ فَجَارُوا عَنْ وِجْهَتِهِمْ وَ نَكَصُوا عَلَى أَعْقَابِهِمْ وَ تَوَلَّوْا عَلَى أَدْبَارِهِمْ وَ عَوَّلُوا عَلَى أَحْسَابِهِمْ إِلَّا مَنْ فَاءَ مِنْ أَهْلِ الْبَصَائِرِ فَإِنَّهُمْ فَارَقُوكَ بَعْدَ مَعْرِفَتِكَ وَ هَرَبُوا إِلَى اللَّهِ مِنْ مُوَازَرَتِكَ إِذْ حَمَلْتَهُمْ عَلَى الصَّعْبِ وَ عَدَلْتَ بِهِمْ عَنِ الْقَصْدِ فَاتَّقِ اللَّهَ يَا مُعَاوِيَةُ فِي نَفْسِكَ وَ جَاذِبِ الشَّيْطَانَ قِيَادَكَ فَإِنَّ الدُّنْيَا مُنْقَطِعَةٌ عَنْكَ وَ الآْخِرَةَ قَرِيبَةٌ مِنْكَ وَ السَّلَامُ
أرديتهم أهلكتهم و جيلا من الناس أي صنفا من الناس و الغي الضلال و جاروا عدلوا عن القصد و وجهتهم بكسر الواو يقال هذا وجه الرأي أي هو الرأي بنفسه و الاسم الوجه بالكسر و يجوز بالضم. قوله و عولوا على أحسابهم أي لم يعتمدوا على الدين و إنما أردتهم الحمية و نخوة الجاهلية فأخلدوا إليها و تركوا الدين و الإشارة إلى بني أمية و خلفائهم الذين اتهموه ع بدم عثمان فحاموا عن الحسب و لم يأخذوا بموجب الشرع في تلك الواقعة شرح نهج البلاغة ج : 16 ص : 133ثم استثنى قوما فاءوا أي رجعوا عن نصرة معاوية و قد ذكرنا في أخبار صفين من فا معاوية و رجع إلى أمير المؤمنين ع أو فارقه و اعتزل الطائفتين. قوله حملتهم على الصعب أي على الأمر الشاق و الأصل في ذلك البعير المستصعب يركبه الإنسان فيغرر بنفسه (17/117)
ذكر بعض ما دار بين علي و معاوية من الكتب
و أول هذا الكتاب من عبد الله علي أمير المؤمنين ع إلى معاوية بن أبي سفيان أما بعد فإن الدنيا دار تجارة و ربحها أو خسرها الآخرة فالسعيد من كانت بضاعته فيها الأعمال الصالحة و من رأى الدنيا بعينها و قدرها بقدرها و إني لأعظك مع علمي بسابق العلم فيك مما لا مرد له دون نفاذه و لكن الله تعالى أخذ على العلماء أن يؤدوا الأمانة و أن ينصحوا الغوي و الرشيد فاتق الله و لا تكن ممن لا يرجو لله وقارا و من حقت عليه كلمة العذاب فإن الله بالمرصاد و إن دنياك ستدبر عنك و ستعود حسرة عليك فاقلع عما أنت عليه من الغي و الضلال على كبر سنك و فناء عمرك فإن حالك اليوم كحال الثوب المهيل الذي لا يصلح من جانب إلا فسد من آخر و قد أرديت جيلا من الناس كثيرا خدعتهم بغيك
إلى آخر الكتاب. قال أبو الحسن علي بن محمد المدائني فكتب إليه معاوية من معاوية بن أبي سفيان إلى علي بن أبي طالب أما بعد فقد وقفت على كتابك و قد أبيت على الفتن إلا تماديا و إني لعالم أن الذي يدعوك إلى ذلك مصرعك الذي شرح نهج البلاغة ج : 16 ص : 134لا بد لك م و إن كنت موائلا فازدد غيا إلى غيك فطالما خف عقلك و منيت نفسك ما ليس لك و التويت على من هو خير منك ثم كانت العاقبة لغيرك و احتملت الوزر بما أحاط بك من خطيئتك و السلام. (17/118)
فكتب علي ع إليه أما بعد فإن ما أتيت به من ضلالك ليس ببعيد الشبه مما أتى به أهلك و قومك الذين حملهم الكفر و تمني الأباطيل على حسد محمد ص حتى صرعوا مصارعهم حيث علمت لم يمنعوا حريما و لم يدفعوا عظيما و أنا صاحبهم في تلك المواطن الصالي بحربهم و الفال لحدهم و القاتل لرءوسهم و رءوس الضلالة و المتبع إن شاء الله خلفهم بسلفهم فبئس الخلف خلف أتبع سلفا محله و محطه النار و السلام
قال فكتب إليه معاوية أما بعد فقد طال في الغي ما استمررت أدراجك كما طالما تمادي عن الحرب نكوصك و إبطاؤك فتوعد وعيد الأسد و تروغ روغان الثعلب فحتام تحيد عن لقاء مباشرة الليوث الضارية و الأفاعي القاتلة و لا تستبعدنها فكل ما هو آت قريب إن شاء الله و السلام.
قال فكتب إليه علي ع أما بعد فما أعجب ما يأتيني منك و ما أعلمني بما أنت إليه صائر و ليس إبطائي عنك إلا ترقبا لما أنت له مكذب و أنا به مصدق و كأني بك غدا و أنت تضج من الحرب ضجيج الجمال من الأثقال و ستدعوني أنت و أصحابك إلى كتاب تعظمونه بألسنتكم و تجحدونه بقلوبكم و السلام
قال فكتب إليه معاوية شرح نهج البلاغة ج : 16 ص : 135أما بعد فدعني من أساطيرك و اكفف عني من أحاديثك و اقصر عن تقولك على رسول الله ص و افترائك من الكذب ما لم يقل و غرور من معك و الخداع لهم فقد استغويتهم و يوشك أمرك أن ينكشف لهم فيعتزلوك و يعلموا أن ما جئت بباطل مضمحل و السلام.
قال فكتب إليه علي ع أما بعد فطالما دعوت أنت و أولياؤك أولياء الشيطان الرجيم الحق أساطير الأولين و نبذتموه وراء ظهوركم و جهدتم بإطفاء نور الله بأيديكم و أفواهكم وَ اللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَ لَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ و لعمري ليتمن النور على كرهك و لينفذن العلم بصغارك و لتجازين بعملك فعث في دنياك المنقطعة عنك ما طاب لك فكأنك بباطلك و قد انقضى و بعملك و قد هوى ثم تصير إلى لظى لم يظلمك الله شيئا وَ ما رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (17/119)
قال فكتب إليه معاوية أما بعد فما أعظم الرين على قلبك و الغطاء على بصرك الشره من شيمتك و الحسد من خليقتك فشمر للحرب و اصبر للضرب فو الله ليرجعن الأمر إلى ما علمت و العاقبة للمتقين هيهات هيهات أخطأك ما تمنى و هوى قلبك مع من هوى فاربع على ظلعك و قس شبرك بفترك لتعلم أين حالك من حال من يزن الجبال حلمه و يفصل بين أهل الشك علمه و السلام.
قال فكتب إليه علي ع أما بعد فإن مساوئك مع علم الله تعالى فيك حالت بينك و بين أن يصلح لك أمرك و أن يرعوي قلبك يا ابن الصخر اللعين زعمت أن يزن الجبال حلمك و يفصل بين أهل الشك علمك و أنت الجلف المنافق الأغلف القلب القليل العقل الجبان الرذل فإن كنت صادقا فيما تسطر و يعينك عليه أخو بني سهم فدع الناس جانبا و تيسر لما دعوتني إليه من الحرب و الصبر على شرح نهج البلاغة ج : 16 ص : 136الضرب و أعف الفريقين من القتال ليعلم أينا المرين على قلبه المغطى على بصره فأنا أبو الحسن قاتل جدك و أخيك و خالك و ما أنت منهم ببعيد ولسلام
قلت و أعجب و أطرب ما جاء به الدهر و إن كانت عجائبه و بدائعه جمة أن يفضى أمر علي ع إلى أن يصير معاوية ندا له و نظيرا مماثلا يتعارضان الكتاب و الجواب و يتساويان فيما يواجه به أحدهما صاحبه و لا يقول له علي ع كلمة إلا قال مثلها و أخشن مسا منها فليت محمدا ص كان شاهد ذلك ليرى عيانا لا خبرا أن الدعوة التي قام بها و قاسى أعظم المشاق في تحملها و كابد الأهوال في الذب عنها و ضرب بالسيوف عليها لتأييد دولتها و شيد أركانها و ملأ الآفاق بها خلصت صفوا عفوا لأعدائه الذين كذبوه لما دعا إليها و أخرجوه عن أوطانه لما حض عليها و أدموا وجهه و قتلوا عمه و أهله فكأنه كان يسعى لهم و يدأب لراحتهم كما قال أبو سفيان في أيام عثمان و قد مر بقبر حمزة و ضربه برجله و قال يا أبا عمارة إن الأمر الذي اجتلدنا عليه بالسيف أمسى في يد غلماننا اليوم يتلعبون به ثم آل الأمر إلى أن يفاخر معاوية عليا كما يتفاخر الأكفاء و النظراء. (17/120)
إذا عير الطائي بالبخل مادر و قرع قسا بالفهاهة باقل و قال السها للشمس أنت خفية و قال الدجى يا صبح لونك حائل و فاخرت الأرض السماء سفاهة و كاثرت الشهب الحصى و الجنادل فيا موت زر إن الحياة ذميمة و يا نفس جدي إن دهرك هاثم أقول ثانيا لأمير المؤمنين ع ليت شعري لما ذا فتح باب الكتاب شرح نهج البلاغة ج : 16 ص : 137و الجواب بينه و بين معاوية و إذا كانت الضرورة قد قادت إلى ذلك فهلا اقتصر في الكتاب إليه على الموعظة من غير تعرض للمفاخرة و المنافرة و إذا كان لا بد منهما فهلا اكت بهما من غير تعرض لأمر آخر يوجب المقابلة و المعارضة بمثله و بأشد منه وَ لا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ و هلا دفع هذا الرجل العظيم الجليل نفسه عن سباب هذا السفيه الأحمق هذا مع أنه القائل من واجه الناس بما يكرهون قالوا فيه ما لا يعلمون أي افتروا عليه و قالوا فيه الباطل.
أيها الشاتمي لتحسب مثلي إنما أنت في الضلال تهيم لا تسبنني فلست بسبي إن سبي من الرجال الكريمو هكذا جرى في القنوت و اللعن قنت بالكوفة على معاوية و لعنه في الصلاة و خطبة الجمعة و أضاف إليه عمرو بن العاص و أبا موسى و أبا الأعور السلمي و حبيب بن مسلمة فبلغ ذلك معاوية بالشام فقنت عليه و لعنه بالصلاة و خطبة الجمعة و أضاف إليه الحسن و الحسين و ابن عباس و الأشتر النخعي و لعله ع قد كان يظهر له من المصلحة حينئذ ما يغيب عنا الآن و لله أمر هو بالغه (17/121)
شرح نهج البلاغة ج : 16 ص : 33138- و من كتاب له ع إلى قثم بن العباس و هو عامله على مكةأَمَّا بَعْدُ فَإِنَّ عَيْنِي بِالْمَغْرِبِ كَتَبَ إِلَيَّ يُعْلِمُنِي أَنَّهُ وُجِّهَ إِلَى الْمَوْسِمِ أُنَاسٌ مِنْ أَهْلِ الشَّامِ الْعُمْيِ الْقُلُوبِ الصُّمِّ الْأَسْمَاعِ الْكُمْهِ الْأَبْصَارِ الَّذِينَ يَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَ يُطِيعُونَ الْمَخْلُوقَ فِي مَعْصِيَةِ الْخَالِقِ وَ يَحْتَلِبُونَ الدُّنْيَا دَرَّهَا بِالدِّينِ وَ يَشْتَرُونَ عَاجِلَهَا بِآجِلِ الْأَبْرَارِ الْمُتَّقِينَ وَ لَنْ يَفُوزَ بِالْخَيْرِ إِلَّا عَامِلُهُ وَ لَا يُجْزَى جَزَاءَ الشَّرِّ إِلَّا فَاعِلُهُ فَأَقِمْ عَلَى مَا فِي يَدَيْكَ قِيَامَ الْحَازِمِ الطَّبِيبِ وَ النَّاصِحِ اللَّبِيبِ التَّابِعِ لِسُلْطَانِهِ الْمُطِيعِ لِإِمَامِهِ وَ إِيَّاكَ وَ مَا يُعْتَذَرُ مِنْهُ وَ لَا تَكُنْ عِنْدَ النَّعْمَاءِ بَطِراً وَ لَا عِنْدَ الْبَأْسَاءِ فَشِلًا وَ السَّلَامُ
كان معاوية قد بعث إلى مكة دعاة في السر يدعون إلى طاعته و يثبطون العرب عن نصرة أمير المؤمنين و يوقعون في أنفسهم أنه إما قاتل لعثمان أو خاذل و إن الخلافة شرح نهج البلاغة ج : 16 ص : 139لا تصلح فيمن قتل أو خذل و ينشرون عندهم محاسن معاوية بزعمهم و أخلاقه و سيه فكتب أمير المؤمنين ع هذا الكتاب إلى عامله بمكة ينبهه على ذلك ليعتمد فيه بما تقتضيه السياسة و لم يصرح في هذا الكتاب بما ذا يأمره أن يفعل إذا ظفر بهم. قوله عيني بالمغرب أي أصحاب أخباره عند معاوية و سمى الشام مغربا لأنه من الأقاليم المغربية. و الموسم الأيام التي يقام فيها الحج. و قوله و يحتلبون الدنيا درها بالدين دلالة على ما قلنا إنهم كانوا دعاة يظهرون سمت الدين و ناموس العبادة و فيه إبطال قول من ظن أن المراد بذلك السرايا التي كان معاوية يبعثها فتغير على أعمال علي ع و درها منصوب بالبدل من الدنيا و روي الذين يلتمسون الحق بالباطل أي يطلبونه أي يتبعون معاوية و هو على الباطل التماسا و طلبا للحق و لا يعلمون أنهم قد ضلوا. قوله و إياك و ما يعتذر منه من الكلمات الشريفة الجليلة الموقع و قد رويت مرفوعة و كان يقال ما شي ء أشد على الإنسان من حمل المروءة و المروءة ألا يمل الإنسان في غيبة صاحبه ما يعتذر منه عند حضوره. قوله و لا تكن عند النعماء بطرا و لا عند البأساء فشلا معنى مستعمل قال الشاعر (17/122)
فلست بمفراح إذا الدهر سرني و لا جازع من صرفه المتقلب و لا أتمنى الشر و الشر تاركي و لكن متى أحمل على الشر أركب شرح نهج البلاغة ج : 16 ص : 140قثم بن عباس و بعض أخبارهفأما قثم بن العباس فأمه أم إخوته و روى ابن عبد البر في كتاب الاستيعاب
عن عبد الله بن جعفر قال كنت أنا و عبيد الله و قثم ابنا العباس نلعب فمر بنا رسول الله ص راكبا فقال ارفعوا إلي هذا الفتى يعني قثم فرفع إليه فأردفه خلفه ثم جعلني بين يديه و دعا لنا
فاستشهد قثم بسمرقند. قال ابن عبد البر و روى عبد الله بن عباس قال كان قثم آخر الناس عهدا برسول الله ص أي آخر من خرج من قبره ممن نزل فيه قال و كان المغيرة بن شعبة يدعي ذلك لنفسه فأنكر علي بن أبي طالب ع ذلك و قال بل آخر من خرج من القبر قثم بن العباس. قال ابن عبد البر و كان قثم واليا لعلي ع على مكة عزل علي ع خالد بن العاص بن هشام بن المغيرة المخزومي و كان واليها لعثمان و ولاها أبا قتادة الأنصاري ثم عزله عنها و ولى مكانه قثم بن العباس فلم يزل واليه عليها حتى قتل علي ع قال هذا قول خليفة و قال الزبير بن بكار استعمل علي ع قثم بن العباس على المدينة. قال ابن عبد البر و استشهد قثم بسمرقند كان خرج إليها مع سعيد بن عثمان بن عفان زمن معاوية فقتل هناك. قال و كان قثم يشبه رسول الله ص و فيه يقول داود بن مسلم شرح نهج البلاغة ج : 16 ص : 14عتقت من حل و من رحلة يا ناق إن أدنيتني من قثم إنك إن أدنيت منه غدا حالفني اليسر و مات العدم في كفه بحر و في وجهه بدر و في العرنين منه شمم أصم عن قيل الخنا سمعه و ما على الخير به من صمم لم يدر ما لا و بلا قد درى فعافها و اعتاض منها شرح نهج البلاغة ج : 16 ص : 34142- و من كتاب له ع إلى محمد بن أبي بكرلما بلغه توجده من عزله بالأشتر عن مصر ثم توفي الأشتر في توجهه إلى هناك قبل وصوله إليها (17/123)
أَمَّا بَعْدُ فَقَدْ بَلَغَنِي مَوْجِدَتُكَ مِنْ تَسْرِيحِ الْأَشْتَرِ إِلَى عَمَلِكَ وَ إِنِّي لَمْ أَفْعَلْ ذَلِكَ اسْتِبْطَاءً لَكَ فِي الْجَهْدَ وَ لَا ازْدِيَاداً لَكَ فِي الْجِدِّ وَ لَوْ نَزَعْتُ مَا تَحْتَ يَدِكَ مِنْ سُلْطَانِكَ لَوَلَّيْتُكَ مَا هُوَ أَيْسَرُ عَلَيْكَ مَئُونَةً وَ أَعْجَبُ إِلَيْكَ وِلَايَةً إِنَّ الرَّجُلَ الَّذِي كُنْتُ وَلَّيْتُهُ أَمْرَ مِصْرَ كَانَ رَجُلًا لَنَا نَاصِحاً وَ عَلَى عَدُوِّنَا شَدِيداً نَاقِماً فَرَحِمَهُ اللَّهُ فَلَقَدِ اسْتَكْمَلَ أَيَّامَهُ وَ لَاقَى حِمَامَهُ وَ نَحْنُ عَنْهُ رَاضُونَ أَوْلَاهُ اللَّهُ رِضْوَانَهُ وَ ضَاعَفَ الثَّوَابَ لَهُ فَأَصْحِرْ لِعَدُوِّكَ وَ امْضِ عَلَى بَصِيرَتِكَ وَ شَمِّرْ لِحَرْبِ مَنْ حَارَبَكَ وَ ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ وَ أَكْثِرِ الِاسْتِعَانَةَ بِاللَّهِ يَكْفِكَ مَا أَهَمَّكَ وَ يُعِنْكَ عَلَى مَا يُنْزِلُ بِكَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ (17/124)
محمد بن أبي بكر و بعض أخباره
أم محمد رحمه الله أسماء بنت عميس الخثعمية و هي أخت ميمونة زوج النبي ص شرح نهج البلاغة ج : 16 ص : 143و أخت لبابة أم الفضل و عبد الله زوج العباس بن عبد المطلب و كانت من المهاجرات إلى أرض الحبشة و هي إذ ذاك تحت جعفر بن أبي طالب ع فولدت له هناك محمد بن جعفر عبد الله و عونا ثم هاجرت معه إلى المدينة فلما قتل جعفر يوم مؤتة تزوجها أبو بكر فولدت له محمد بن أبي بكر هذا ثم مات عنها فتزوجها علي ع و ولدت له يحيى بن علي لا خلاف في ذلك. و قال ابن عبد البر في الإستيعاب ذكر ابن الكلبي أن عون بن علي اسم أمه أسماء بنت عميس و لم يقل ذلك أحد غيره. و قد روي أن أسماء كانت تحت حمزة بن عبد المطلب فولدت له بنتا تسمى أمة الله و قيل أمامة و محمد بن أبي بكر ممن ولد في عصر رسول الله ص. قال ابن عبد البر في كتاب الإستيعاب ولد عام حجة الوداع في عقب ذي القعدة بذي الحليفة حين توجه رسول الله ص إلى الحج فسمته عائشة محمدا و كنته أبا القاسم بعد ذلك لما ولد له ولد سماه القاسم و لم تكن الصحابة ترى بذلك بأسا ثم كان في حجر علي ع و قتل بمصر و كان علي ع يثني عليه و يقرظه و يفضله و كان لمحمد رحمه الله عبادة و اجتهاد و كان ممن حضر عثمان و دخل عليه فقال له لو رآك أبوك لم يسره هذا المقام منك فخرج و تركه و دخل عليه بعده من قتله و يقال إنه أشار إلى من كان معه فقتلوه. (17/125)
قوله و بلغني موجدتك أي غضبك وجدت على فلان موجدة و وجدانا لغة قليلة و أنشدوا
كلانا رد صاحبه بغيظ على حنق و وجدان شديد
شرح نهج البلاغة ج : 16 ص : 144فأما في الحزن فلا يقال إلا وجدت أنا بالفتح لا غير. و الجهد الطاقة أي لم أستبطئك في بذل طاقتك و وسعك و من رواها الجهد بالفتح فهو من قولهم اجهد جهدك في كذا أي أبلغ الغاية و لا يقال هذا الحرف هاهنا إلا مفتوحا. ثم طيب ع نفسه بأقال له لو تم الأمر الذي شرعت فيه من ولاية الأشتر مصر لعوضتك بما هو أخف عليك مئونة و ثقلا و أقل نصبا من ولاية مصر لأنه كان في مصر بإزاء معاوية من الشام و هو مدفوع إلى حربه. ثم أكد ع ترغيبه بقوله و أعجب إليك ولاية. فإن قلت ما الذي بيده مما هو أخف على محمد مئونة و أعجب إليه من ولاية مصر قلت ملك الإسلام كله كان بيد علي ع إلا الشام فيجوز أن يكون قد كان في عزمه أن يوليه اليمن أو خراسان أو أرمينية أو فارس. ثم أخذ في الثناء على الأشتر و كان علي ع شديد الاعتضاد به كما كان هو شديد التحقق بولايته و طاعته. و ناقما من نقمت على فلان كذا إذا أنكرته عليه و كرهته منه. ثم دعا له بالرضوان و لست أشك بأن الأشتر بهذه الدعوة يغفر الله له و يكفر ذنوبه و يدخله الجنة و لا فرق عندي بينها و بين دعوة رسول الله ص و يا طوبى لمن حصل له من علي ع بعض هذا. قوله و أصحر لعدوك أي ابرز له و لا تستتر عنه بالمدينة التي أنت فيها أصحر الأسد من خيسه إذا خرج إلى الصحراء. و شمر فلان للحرب إذا أخذ لها أهبتها (17/126)
شرح نهج البلاغة ج : 16 ص : 35145- و من كتاب له ع إلى عبد الله بن العباس بعد مقتل محمد بن أبي بكرأَمَّا بَعْدُ فَإِنَّ مِصْرَ قَدِ افْتُتِحَتْ وَ مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي بَكْرٍ رَحِمَهُ اللَّهُ قَدِ اسْتُشْهِدَ فَعِنْدَ اللَّهِ نَحْتَسِبُهُ وَلَداً نَاصِحاً وَ عَامِلًا كَادِحاً وَ سَيْفاً قَاطِعاً وَ رُكْناً دَافِعاً وَ قَدْ كُنْتُ حَثَثْتُ النَّاسَ عَلَى لَحَاقِهِ وَ أَمَرْتُهُمْ بِغِيَاثِهِ قَبْلَ الْوَقْعَةِ وَ دَعَوْتُهُمْ سِرّاً وَ جَهْراً وَ عَوْداً وَ بَدْءاً فَمِنْهُمُ الآْتِي كَارِهاً وَ مِنْهُمُ الْمُعْتَلُّ كَاذِباً وَ مِنْهُمُ الْقَاعِدُ خَاذِلًا أَسْأَلُ اللَّهَ تَعَالَى أَنْ يَجْعَلَ لِي مِنْهُمْ فَرَجاً عَاجِلًا فَوَاللَّهِ لَوْ لَا طَمَعِي عِنْدَ لِقَائِي عَدُوِّي فِي الشَّهَادَةِ وَ تَوْطِينِي نَفْسِي عَلَى الْمَنِيَّةِ لَأَحْبَبْتُ أَلَّا أَبْقَى مَعَ هَؤُلَاءِ يَوْماً وَاحِداً وَ لَا أَلْتَقِيَ بِهِمْ أَبَداً (17/127)
انظر إلى الفصاحة كيف تعطي هذا الرجل قيادها و تملكه زمامها و اعجب لهذه الألفاظ المنصوبة يتلو بعضها بعضا كيف تواتيه و تطاوعه سلسة سهلة تتدفق من غير تعسف و لا تكلف حتى انتهى إلى آخر الفصل فقال يوما واحدا و لا ألتقي بهم أبدا و أنت و غيرك من الفصحاء إذا شرعوا في كتاب أو خطبة جاءت القرائن و الفواصل شرح نهج البلاغة ج : 16 ص : 146تارة مرفوعة و تارة مجرورة و تارة منصوبة فإن أرادوا قسرها بإعراب واحد ظهر منها في التكلف أثر بين و علامة واضحة و هذا الصنف من البيان أحد أنواع الإعجاز في القرآن ذكره عبد القاهر قال انظر إ سورة النساء و بعدها سورة المائدة الأولى منصوبة الفواصل و الثانية ليس فيها منصوب أصلا و لو مزجت إحدى السورتين بالأخرى لم تمتزجا و ظهر أثر التركيب و التأليف بينهما. ثم إن فواصل كل واحد منهما تنساق سياقة بمقتضى البيان الطبيعي لا الصناعة التكلفية ثم انظر إلى الصفات و الموصوفات في هذا الفصل كيف قال ولدا ناصحا و عاملا كادحا و سيفا قاطعا و ركنا دافعا لو قال ولدا كادحا و عاملا ناصحا و كذلك ما بعده لما كان صوابا و لا في الموقع واقعا فسبحان من منح هذا الرجل هذه المزايا النفيسة و الخصائص الشريفة أن يكون غلام من أبناء عرب مكة ينشأ بين أهله لم يخالط الحكماء و خرج أعرف بالحكمة و دقائق العلوم الإلهية من أفلاطون و أرسطو و لم يعاشر أرباب الحكم الخلقية و الآداب النفسانية لأن قريشا لم يكن أحد منهم مشهورا بمثل ذلك و خرج أعرف بهذا الباب من سقراط و لم يرب بين الشجعان لأن أهل مكة كانوا ذوي تجارة و لم يكونوا ذوي حرب و خرج أشجع من كل بشر مشى على الأرض قيل لخلف الأحمر أيما أشجع عنبسة و بسطام أم علي بن أبي طالب فقال إنما يذكر عنبسة و بسطام مع البشر و الناس لا مع من يرتفع عن هذه الطبقة فقيل له فعلى كل حال قال و الله لو صاح في وجوههما لماتا قبل أن يحمل عليهما و خرج أفصح من سحبان و قس و لم تكن قريش (17/128)
بأفصح العرب كان غيرها أفصح منها قالوا أفصح العرب جرهم و إن لم تكن لهم نباهة و خرج أزهد الناس في الدنيا و أعفهم مع أن قريشا ذوو حرص و محبة للدنيا و لا غرو فيمن كان شرح نهج البلاغة ج : 16 ص : 1محمد ص مربيه و مخرجه و العناية الإلهية تمده و ترفده أن يكون منه ما كان. يقال احتسب ولده إذا مات كبيرا و افترط ولده إذا مات صغيرا قوله فمنهم الآتي قسم جنده أقساما فمنهم من أجابه و خرج كارها للخروج كما قال تعالى كَأَنَّما يُساقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَ هُمْ يَنْظُرُونَ و منهم من قعد و اعتل بعلة كاذبة كما قال تعالى يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنا عَوْرَةٌ وَ ما هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلَّا فِراراً و منهم من تأخر و صرح بالقعود و الخذلان كما قال تعالى فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلافَ رَسُولِ اللَّهِ وَ كَرِهُوا أَنْ يُجاهِدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَ أَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ و المعنى أن حاله كانت مناسبة لحال النبي ص و من تذكر أحوالهما و سيرتهما و ما جرى لهما إلى أن قبضا علم تحقيق ذلك. ثم أقسم أنه لو لا طمعه في الشهادة لما أقام مع أهل العراق و لا صحبهم. فإن قلت فهلا خرج إلى معاوية وحده من غير جيش إن كان يريد الشهادة قلت ذلك لا يجوز لأنه إلقاء النفس إلى التهلكة و للشهادة شروط متى فقدت فلا يجوز أن تحمل إحدى الحالتين على الأخرى (17/129)
شرح نهج البلاغة ج : 16 ص : 36148- و من كتاب له ع إلى أخيه عقيل بن أبي طالب في ذكر جيش أنفذه إلى بعض الأعداءو هو جواب كتاب كتبه إليه عقيل
فَسَرَّحْتُ إِلَيْهِ جَيْشاً كَثِيفاً مِنَ الْمُسْلِمِينَ فَلَمَّا بَلَغَهُ ذَلِكَ شَمَّرَ هَارِباً وَ نَكَصَ نَادِماً فَلَحِقُوهُ بِبَعْضِ الطَّرِيقِ وَ قَدْ طَفَّلَتِ الشَّمْسُ لِلْإِيَابِ فَاقْتَتَلُوا شَيْئاً كَلَا وَ لَا فَمَا كَانَ إِلَّا كَمَوْقِفِ سَاعَةٍ حَتَّى نَجَا جَرِيضاً بَعْدَ مَا أُخِذَ مِنْهُ بِالْمُخَنَّقِ وَ لَمْ يَبْقَ مَعَهُ غَيْرُ الرَّمَقِ فَلَأْياً بِلَأْيٍ مَا نَجَا فَدَعْ عَنْكَ قُرَيْشاً وَ تَرْكَاضَهُمْ فِي الضَّلَالِ وَ تَجْوَالَهُمْ فِي الشِّقَاقِ وَ جِمَاحَهُمْ فِي التِّيهِ فَإِنَّهُمْ قَدْ أَجْمَعُوا عَلَى حَرْبِي كَإِجْمَاعِهِمْ عَلَى حَرْبِ رَسُولِ اللَّهِ ص قَبْلِي فَجَزَتْ قُرَيْشاً عَنِّي الْجَوَازِي فَقَدْ قَطَعُوا رَحِمِي وَ سَلَبُونِي سُلْطَانَ ابْنِ أُمِّي وَ أَمَّا مَا سَأَلْتَ عَنْهُ مِنْ رَأْيِي فِي الْقِتَالِ فَإِنَّ رَأْيِي قِتَالُ الْمُحِلِّينَ حَتَّى أَلْقَى اللَّهَ لَا يَزِيدُنِي كَثْرَةُ النَّاسِ حَوْلِي عِزَّةً وَ لَا تَفَرُّقُهُمْ عَنِّي وَحْشَةً وَ لَا تَحْسَبَنَّ ابْنَ أَبِيكَ وَ لَوْ أَسْلَمَهُ النَّاسُ مُتَضَرِّعاً مُتَخَشِّعاً وَ لَا مُقِرّاً لِلضَّيْمِ وَاهِناً وَ لَا سَلِسَ الزِّمَامِ لِلْقَائِدِ وَ لَا وَطِئَ الظَّهْرِ لِلرَّاكِبِ الْمُقْتَعِدِ وَ لَكِنَّهُ كَمَا قَالَ أَخُو بَنِي سَلِيمٍ (17/130)
فَإِنْ تَسْأَلِينِي كَيْفَ أَنْتَ فَإِنَّنِي صَبُورٌ عَلَى رَيْبِ الزَّمَانِ صَلِيبُ يَعِزُّ عَلَيَّ أَنْ تُرَى بِي كَآبَةٌ فَيَشْمَتَ عَادٍ أَوْ يُسَاءَ حَبِيبُ شرح نهج البلاغة ج : 16 ص : 149قد تقدم ذكر هذا الكتاب في اقتصاصنا ذكر حال بسر بن أرطاة و غارته على اليمن في أول الكتاب. و يقال طفلت الشمس بالتشديد إذا مالت للغروب و طفل الليل مشددا أيضا إذا أقبل ظلامه و الطفل بالتحريك بعد العصر حين تطفل الشمس للغروب و يق أتيته طفلي أي في ذلك الوقت. و قوله ع للإياب أي للرجوع أي ما كانت عليه في الليلة التي قبلها يعني غيبوبتها تحت الأرض و هذا الخطاب إنما هو على قدر أفهام العرب كانوا يعتقدون أن الشمس منزلها و مقرها تحت الأرض و أنها تخرج كل يوم فتسير على العالم ثم تعود إلى منزلها فتأوي إليه كما يأوي الناس ليلا إلى منازلهم. و قال الراوندي عند الإياب عند الزوال و هذا غير صحيح لأن ذلك الوقت لا يسمى طفلا ليقال إن الشمس قد طفلت فيه. قوله ع فاقتتلوا شيئا كلا و لا أي شيئا قليلا و موضع كلا و لا نصب لأنه صفة شيئا و هي كلمة تقال لما يستقصر وقته جدا و المعروف عند أهل اللغة كلا و ذا قال ابن هانئ المغربي (17/131)
و أسرع في العين من لحظة و أقصر في السمع من لا و ذا
و في شعر الكميت كلا و كذا تغميضة. و قد رويت في نهج البلاغة كذلك إلا أن في أكثر النسخ كلا و لا و من الناس من يرويها كلا و لات و هي حرف أجري مجرى ليس و لا تجي شرح نهج البلاغة ج : 16 ص : 150حين إلا أن تحذف في شعر و من الرواة من يرويها كلا و لأي و لأي فعل معناه أبطأ. قوله ع نجا جريضا أي قد غص بالريق من شدة الجهد و الكرب يقال جرض بريقه يجرض بالكسر مثال كسر يكسر و رجل جريض مثل قدر يقدر فهو قدير و يجوز أن يريد بقو فنجا جريضا أي ذا جريض و الجريض الغصة نفسها و في المثل حال الجريض دون القريض قال الشاعر
كان الفتى لم يغن في الناس ليلة إذا اختلف اللحيان عند الجريض (17/132)
قال الأصمعي و يقال هو يجرض بنفسه أي يكاد يموت و منه قول إمرئ القيس
و أفلتهن علباء جريضا و لو أدركنه صفر الوطاب
و أجرضه الله بريقه أغصه. قوله ع بعد ما أخذ منه بالمخنق هو موضع الخنق من الحيوان و كذلك الخناق بالضم يقال أخذ بخناقه فأما الخناق بالكسر فالحبل تخنق به الشاة و الرمق بقية الروح. قوله ع فلأيا بلأي ما نجا أي بعد بطء و شدة و ما زائدة أو مصدرية و انتصب لأيا على المصدر القائم مقام الحال أي نجا مبطئا و العامل في المصدر محذوف أي أبطأ بطئا و الفائدة في تكرير اللفظة المبالغة في وصف البطء الذي نجا موصوفة به أي لأيا مقرونا بلأي شرح نهج البلاغة ج : 16 ص : 151و قال الراوندي هذه القصة و هذا الهارب جريضا و بعد لأي ما نجا معاوية قال و قد قيل إن معاوية بعث أمويا فهرب على هذه الحال و الأول أصح و هذا عجيب مضحك وددت له ألا يكون شرح هذا الكتاب. قوله فدع عنك قريشا إلى قوله على حرب رسول الله ص هذا الكلام حق فإن قريشا اجتمعت على حربه منذ يوم بويع بغضا له و حسدا و حقدا عليه فأصفقوا كلهم يدا واحدة على شقاقه و حربه كما كانت حالهم في ابتداء الإسلام مع رسول الله ص لم تخرم حاله من حاله أبدا إلا أن ذاك عصمه الله من القتل فمات موتا طبيعيا و هذا اغتاله إنسان فقتله. قوله فجزت قريشا عني الجوازي فقد قطعوا رحمي و سلبوني سلطان ابن أمي هذه كلمة تجري مجرى المثل تقول لمن يسي ء إليك و تدعو عليه جزتك عني الجوازي يقال جزاه الله بما صنع و جازاه الله بما صنع و مصدر الأول جزاء و الثاني مجازاة و أصل الكلمة أن الجوازي جمع جازية كالجواري جمع جارية فكأنه يقول جزت قريشا عني بما صنعت لي كل خصلة من نكبة أو شدة و مصيبة أو جائحة أي جعل الله هذه الدواهي كلها جزاء قريش بما صنعت بي و سلطان ابن أمي يعني به الخلافة و ابن أمه هو رسول الله ص لأنهما ابنا فاطمة بنت
عمرو بن عمران بن عائذ بن مخزوم أم عبد الله و أبي طالب و لم يقل سلطان ابن أبي لأن غير أبي طالب من الأعمام يشركه في النسب إلى عبد المطلب. قال الراوندي الجوازي جمع جازية و هي النفس التي تجزي أي جزاهم و فعل بهم ما يستحقون عساكر لأجلي و في نيابتي و كافأهم سرية تنهض إليهم و هذا إشارة إلى بني أمية يهلكون من بعده و هذا تفسير غريب طريف. شرح نهج البلاغة ج : 16 ص : 152و ق أيضا قوله سلطان ابن أمي يعني نفسه أي سلطانه لأنه ابن أم نفسه قال و هذا من أحسن الكلام و لا شبهة أنه على تفسير الراوندي لو قال و سلبوني سلطان ابن أخت خالتي أو ابن أخت عمتي لكان أحسن و أحسن و هذا الرجل قد كان يجب أن يحجر عليه و لا يمكن من تفسير هذا الكتاب و يؤخذ عليه أيمان البيعة ألا يتعرض له. قوله فإن رأيي قتال المحلين أي الخارجين من الميثاق و البيعة يعني البغاة و مخالفي الإمام و يقال لكل من خرج من إسلام أو حارب في الحرم أو في الأشهر الحرم محل و على هذا فسر قول زهير (17/133)
و كم بالقنان من محل و محرم
أي من لا ذمة له و من له ذمة و كذلك قول خالد بن يزيد بن معاوية في زوجته رملة بنت الزبير بن العوام
ألا من لقلب معنى غزل يحب المحلة أخت المحل
أي ناقضة العهد أخت المحارب في الحرم أو أخت ناقض بيعة بني أمية و روي متخضعا متضرعا بالضاد. و مقرا للضيم و بالضيم أي هو راض به صابر عليه و واهنا أي ضعيفا. السلس السهل و مقتعد البعير راكبه. و الشعر ينسب إلى العباس بن مرداس السلمي و لم أجده في ديوانه و معناه ظاهر و في الأمثال الحكمية لا تشكون حالك إلى مخلوق مثلك فإنه إن كان صديقا أحزنته و إن كان عدوا أشمته و لا خير في واحد من الأمرين
شرح نهج البلاغة ج : 16 ص : 37153- و من كتاب له ع إلى معاويةفَسُبْحَانَ اللَّهِ مَا أَشَدَّ لُزُومَكَ لِلْأَهْوَاءَ الْمُبْتَدَعَةِ وَ الْحَيْرَةِ الْمُتَّبَعَةِ مَعَ تَضْيِيعِ الْحَقَائِقِ وَ اطِّرَاحِ الْوَثَائِقِ الَّتِي هِيَ لِلَّهِ تَعَالَى طِلْبَةٌ وَ عَلَى عِبَادِهِ حُجَّةٌ فَأَمَّا إِكْثَارُكَ الْحِجَاجَ عَلَى عُثْمَانَ وَ قَتَلَتِهِ فَإِنَّكَ إِنَّمَا نَصَرْتَ عُثْمَانَ حَيْثُ كَانَ النَّصْرُ لَكَ وَ خَذَلْتَهُ حَيْثُ كَانَ النَّصْرُ لَهُ وَ السَّلَامُ (17/134)
أول هذا الكتاب قوله أما بعد فإن الدنيا حلوة خضرة ذات زينة و بهجة لم يصب إليها أحد إلا و شغلته بزينتها عما هو أنفع له منها و بالآخرة أمرنا و عليها حثثنا فدع يا معاوية ما يفنى و اعمل لما يبقى و احذر الموت الذي إليه مصيرك و الحساب الذي إليه عاقبتك و اعلم أن الله تعالى إذا أراد بعبد خيرا حال بينه و بين ما يكره و وفقه لطاعته و إذا أراد الله بعبد سوءا أغراه بالدنيا و أنساه الآخرة و بسط له أمله و عاقه عما فيه صلاحه و قد وصلني كتابك فوجدتك ترمي غير غرضك و تنشد غير ضالتك و تخبط في عماية شرح نهج البلاغة ج : 16 ص : 4و تتيه في ضلالة و تعتصم بغير حجة و تلوذ بأضعف شبهة فأما سؤالك المتاركة و الإقرار لك على الشام فلو كنت فاعلا ذلك اليوم لفعلته أمس و أما قولك إن عمر ولاكه فقد عزل من كان ولاه صاحبه و عزل عثمان من كان عمر ولاه و لم ينصب للناس إمام إلا ليرى من صلاح الأمة إماما قد كان ظهر لمن قبله أو أخفى عنهم عيبه و الأمر يحدث بعده الأمر و لكل وال رأي و اجتهاد فسبحان الله ما أشد لزومك للأهواء المبتدعة و الحيرة المتبعة
إلى آخر الفصل. و أما قوله ع إنما نصرت عثمان حيث كان النصر لك إلى آخره فقد روى البلاذري قال لما أرسل عثمان إلى معاوية يستمده بعث يزيد بن أسد القسري جد خالد بن عبد الله بن يزيد أمير العراق و قال له إذا أتيت ذا خشب فأقم بها و لا تتجاوزها و لا تقل الشاهد يرى ما لا يرى الغائب فإنني أنا الشاهد و أنت الغائب. قال فأقام بذي خشب حتى قتل عثمان فاستقدمه حينئذ معاوية فعاد إلى الشام بالجيش الذي كان أرسل معه و إنما صنع ذلك معاوية ليقتل عثمان فيدعو إلى نفسه. و كتب معاوية إلى ابن عباس عند صلح الحسن ع له كتابا يدعوه فيه إلى بيعته و يقول له فيه و لعمري لو قتلتك بعثمان رجوت أن يكون ذلك لله رضا و أن يكون رأيا صوابا فإنك من الساعين عليه و الخاذلين له و السافكين دمه و ما جرى بيني و بينك صلح فيمنعك مني و لا بيدك أمان. فكتب إليه ابن عباس جوابا طويلا يقول فيه و أما قولك إني من الساعين على عثمان و الخاذلين له و السافكين دمه و ما جرى بيني و بينك صلح فيمنعك مني شرح نهج البلاغة ج : 16 ص : 155فأقسم بالله لأنت المتربص بقتله و المحب لهلاكه و الحابس الناس قبلك عنه على بصيرة من أمره و لقد أتاك كتابه و صريخه يستغيث بك و يستصرخ فما حفلت به حتىعثت إليه معذرا بأجرة أنت تعلم إنهم لن يتركوه حتى يقتل فقتل كما كنت أردت ثم علمت عند ذلك أن الناس لن يعدلوا بيننا و بينك فطفقت تنعى عثمان و تلزمنا دمه و تقول قتل مظلوما فإن يك قتل مظلوما فأنت أظلم الظالمين ثم لم تزل مصوبا و مصعدا و جاثما و رابضا تستغوي الجهال و تنازعنا حقنا بالسفهاء حتى أدركت ما طلبت وَ إِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَكُمْ وَ مَتاعٌ إِلى حِينٍ (17/135)
شرح نهج البلاغة ج : 16 ص : 38156- و من كتاب له ع إلى أهل مصر لما ولى عليهم الأشترمِنْ عَبْدِ اللَّهِ عَلِيٍّ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ إِلَى الْقَوْمِ الَّذِينَ غَضِبُوا لِلَّهِ حِينَ عُصِيَ فِي أَرْضِهِ وَ ذُهِبَ بِحَقِّهِ فَضَرَبَ الْجَوْرُ سُرَادِقَهُ عَلَى الْبَرِّ وَ الْفَاجِرِ وَ الْمُقِيمِ وَ الظَّاعِنِ فَلَا مَعْرُوفٌ يُسْتَرَاحُ إِلَيْهِ وَ لَا مُنْكَرٌ يُتَنَاهَى عَنْهُ أَمَّا بَعْدُ فَقَدْ بَعَثْتُ إِلَيْكُمْ عَبْداً مِنْ عِبَادِ اللَّهِ لَا يَنَامُ أَيَّامَ الْخَوْفِ وَ لَا يَنْكُلُ عَنِ الْأَعْدَاءِ سَاعَاتِ الرَّوْعِ أَشَدَّ عَلَى الْفُجَّارِ مِنْ حَرِيقِ النَّارِ وَ هُوَ مَالِكُ بْنُ الْحَارِثِ أَخُو مَذْحِجٍ فَاسْمَعُوا لَهُ وَ أَطِيعُوا أَمْرَهُ فِيمَا طَابَقَ الْحَقَّ فَإِنَّهُ سَيْفٌ مِنْ سُيُوفِ اللَّهِ لَا كَلِيلُ الظُّبَةِ وَ لَا نَابِي الضَّرِيبَةَ فَإِنْ أَمَرَكُمْ أَنْ تَنْفِرُوا فَانْفِرُوا وَ إِنْ أَمَرَكُمْ أَنْ تُقِيمُوا فَأَقِيمُوا فَإِنَّهُ لَا يُقْدِمُ وَ لَا يُحْجِمُ وَ لَا يُؤَخِّرُ وَ لَا يُقَدِّمُ إِلَّا عَنْ أَمْرِي وَ قَدْ آثَرْتُكُمْ بِهِ عَلَى نَفْسِي لِنَصِيحَتِهِ لَكُمْ وَ شِدَّةِ شَكِيمَتِهِ عَلَى عَدُوِّكُمْ (17/136)
هذا الفصل يشكل علي تأويله لأن أهل مصر هم الذين قتلوا عثمان و إذا شهد أمير المؤمنين ع أنهم غضبوا لله حين عصي في الأرض فهذه شهادة قاطعة على عثمان بالعصيان و إتيان المنكر و يمكن أن يقال و إن كان متعسفا إن الله تعالى شرح نهج البلاغة ج : 16 ص : 157عصي في الأرلا من عثمان بل من ولاته و أمرائه و أهله و ذهب بينهم بحق الله و ضرب الجور سرادقه بولايتهم و أمرهم على البر و الفاجر و المقيم و الظاعن فشاع المنكر و فقد المعروف يبقى أن يقال هب أن الأمر كما تأولت فهؤلاء الذين غضبوا لله إلى ما ذا آل أمرهم أ ليس الأمر آل إلى أنهم قطعوا المسافة من مصر إلى المدينة فقتلوا عثمان فلا تعدو حالهم أمرين إلا أن يكونوا أطاعوا الله بقتله فيكون عثمان عاصيا مستحقا للقتل أو يكونوا أسخطوا الله تعالى بقتله فعثمان إذا على حق و هم الفساق العصاة فكيف يجوز أن يبجلهم أو يخاطبهم خطاب الصالحين و يمكن أن يجاب عن ذلك بأنهم غضبوا لله و جاءوا من مصر و أنكروا على عثمان تأميره الأمراء الفساق و حصروه في داره طلبا أن يدفع إليهم مروان ليحبسوه أو يؤدبوه على ما كتبه في أمرهم فلما حصر طمع فيه مبغضوه و أعداؤه من أهل المدينة و غيرها و صار معظم الناس إلبا عليه و قل عدد المصريين بالنسبة إلى ما اجتمع من الناس على حصره و مطالبته بخلع نفسه و تسليم مروان و غيره من بني أمية إليهم و عزل عماله و الاستبدال بهم و لم يكونوا حينئذ يطلبون نفسه و لكن قوما منهم و من غيرهم تسوروا داره فرماهم بعض عبيده بالسهام فجرح بعضهم فقادت الضرورة إلى النزول و الإحاطة به و تسرع إليه واحد منهم فقتله ثم إن ذلك القاتل قتل في الوقت و قد ذكرنا ذلك فيما تقدم و شرحناه فلا يلزم من فسق ذلك القاتل و عصيانه أن يفسق الباقون لأنهم ما أنكروا إلا المنكر و أما القتل فلم يقع منهم و لا راموه و لا أرادوه فجاز أن يقال إنهم غضبوا لله و أن يثنى عليهم و يمدحهم. ثم وصف الأشتر بما وصفه (17/137)
به و مثل قوله لا ينام أيام الخوف قولهم لا ينام ليلة يخاف و لا يشبع ليلة يضاف و قال شرح نهج البلاغة ج : 16 ص : 15فأتت به حوش الفؤاد مبطنا سهدا إذا ما نام ليل الهوجل (17/138)
ثم أمرهم أن يطيعوه فيما يأمرهم به مما يطابق الحق و هذا من شدة دينه و صلابته ع لم يسامح نفسه في حق أحب الخلق إليه أن يهمل هذا القيد
قال رسول الله ص لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق
و قال أبو حنيفة قال لي الربيع في دهليز المنصور إن أمير المؤمنين يأمرني بالشي ء بعد الشي ء من أمور ملكه فأنفذه و أنا خائف على ديني فما تقول في ذلك قال و لم يقل لي ذلك إلا في ملإ الناس فقلت له أ فيأمر أمير المؤمنين بغير الحق قال لا قلت فلا بأس عليك أن تفعلالحق قال أبو حنيفة فأراد أن يصطادني فاصطدته. و الذي صدع بالحق في هذا المقام الحسن البصري قال له عمر بن هبيرة أمير العراق في خلافة يزيد بن عبد الملك في ملإ من الناس منهم الشعبي و ابن سيرين يا أبا سعيد إن أمير المؤمنين يأمرني بالشي ء اعلم أن في تنفيذه الهلك في الدين فما تقول في ذلك قال الحسن ما ذا أقول إن الله مانعك من يزيد و لن يمنعك يزيد من الله يا عمر خف الله و اذكر يوما يأتيك تتمخض ليلته عن القيامة أنه سينزل عليك ملك من السماء فيحطك عن سريرك إلى قصرك و يضطرك من قصرك إلى لزوم فراشك ثم ينقلك عن فراشك إلى قبرك ثم لا يغني عنك إلا عملك فقام عمر بن هبيرة باكيا يصطك لسانه. قوله فإنه سيف من سيوف الله هذا لقب خالد بن الوليد و اختلف فيمن شرح نهج البلاغة ج : 16 ص : 159لقبه به فقيل لقبه به رسول الله ص و الصحيح أنه لقبه به أبو بكر لقتاله أهل الردة و قتله مسيلمة. و ابة بالتخفيف حد السيف و النابي من السيوف الذي لا يقطع و أصله نبا أي ارتفع فلما لم يقطع كان مرتفعا فسمي نابيا و في الكلام حذف تقديره و لا ناب ضارب الضريبة و ضارب الضريبة هو حد السيف فأما الضريبة نفسها فهو الشي ء المضروب بالسيف و إنما
دخلته الهاء و إن كان بمنى مفعول لأنه صار في عداد الأسماء كالنطيحة و الأكيلة. ثم أمرهم بأن يطيعوه في جميع ما يأمرهم به من الإقدام و الإحجام و قال إنه لا يقدم و لا يؤخر إلا عن أمري و هذا إن كان قاله مع أنه قد سنح له أن يعمل برأيه في أمور الحرب من غير مراجعته فهو عظيم جدا لأنه يكون قد أقامه مقام نفسه و جاز أن يقول إنه لا يفعل شيئا إلا عن أمري و إن كان لا يراجعه في الجزئيات على عادة العرب في مثل ذلك لأنهم يقولون فيمن يثقون به نحو ذلك و قد ذهب كثير من الأصوليين إلى أن الله تعالى قال لمحمد ص احكم بما شئت في الشريعة فإنك لا تحكم إلا بالحق و إنه كان يحكم من غير مراجعته لجبرائيل و إن الله تعالى قد قال في حقه وَ ما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى و إن كان ع قال هذا القول عن الأشتر لأنه قد قرر معه بينه و بينه ألا يعمل شيئا قليلا و لا كثيرا إلا بعد مراجعته فيجوز و لكن هذا بعيد لأن المسافة طويلة بين العراق و مصر و كانت الأمور هناك تقف و تفسد. ثم ذكر أنه آثرهم به على نفسه و هكذا قال عمر لما أنفذ عبد الله بن مسعود إلى الكوفة في كتابه إليهم قد آثرتكم به على نفسي و ذلك أن عمر كان يستفتيه في الأحكام و علي ع كان يصول على الأعداء بالأشتر و يقوي أنفس جيوشه بمقامه بينهم فلما بعثه إلى مصر كان مؤثرا لأهل مصر به على نفسه (17/139)
شرح نهج البلاغة ج : 16 ص : 39160- و من كتاب له ع إلى عمرو بن العاصفَإِنَّكَ قَدْ جَعَلْتَ دِينَكَ تَبَعاً لِدُنْيَا امْرِئٍ ظَاهِرٍ غَيُّهُ مَهْتُوكٍ سِتْرُهُ يَشِينُ الْكَرِيمَ بِمَجْلِسِهِ وَ يُسَفِّهُ الْحَلِيمَ بِخِلْطَتِهِ فَاتَّبَعْتَ أَثَرَهُ وَ طَلَبْتَ فَضْلَهُ اتِّبَاعَ الْكَلْبِ لِلضِّرْغَامِ يَلُوذُ بِمَخَالِبِهِ وَ يَنْتَظِرُ مَا يُلْقَى إِلَيْهِ مِنْ فَضْلِ فَرِيسَتِهِ فَأَذْهَبْتَ دُنْيَاكَ وَ آخِرَتَكَ وَ لَوْ بِالْحَقِّ أَخَذْتَ أَدْرَكْتَ مَا طَلَبْتَ فَإِنْ يُمَكِّنِ اللَّهُ مِنْكَ وَ مِنِ ابْنِ أَبِي سُفْيَانَ أَجْزِكُمَا بِمَا قَدَّمْتُمَا وَ إِنْ تُعْجِزَا وَ تَبْقَيَا فَمَا أَمَامَكُمَا شَرٌّ لَكُمَا وَ السَّلَامُ (17/140)
كل ما قاله فيهما هو الحق الصريح بعينه لم يحمله بغضه لهما و غيظه منهما إلى أن بالغ في ذمهما به كما يبالغ الفصحاء عند سورة الغضب و تدفق الألفاظ على الألسنة و لا ريب عند أحد من العقلاء ذوي الإنصاف أن عمرا جعل دينه تبعا لدنيا معاوية و أنه ما بايعه و تابعه إلا على جعالة جعلها له و ضمان تكفل له بإيصاله و هي ولاية مصر مؤجلة و قطعة وافرة من المال معجلة و لولديه و غلمانه ما ملأ أعينهم. فأما قوله ع في معاوية ظاهر غيه فلا ريب في ظهور ضلاله و بغيه و كل باغ غاو. شرح نهج البلاغة ج : 16 ص : 161أما مهتوك ستره فإنه كان كث الهزل و الخلاعة صاحب جلساء و سمار و معاوية لم يتوقر و لم يلزم قانون الرئاسة إلا منذ خرج على أمير المؤمنين و احتاج إلى الناموس و السكينة و إلا فقد كان في أيام عثمان شديد التهتك موسوما بكل قبيح و كان في أيام عمر يستر نفسه قليلا خوفا منه إلا أنه كان يلبس الحرير و الديباج و يشرب في آنية الذهب و الفضة و يركب البغلات ذوات السروج المحلاة بها و عليها جلال الديباج و الوشي و كان حينئذ شابا و عنده نزق الصبا و أثر الشبيبة و سكر السلطان و الإمرة و نقل الناس عنه في كتب السيرة أنه كان يشرب الخمر في أيام عثمان في الشام و أما بعد وفاة أمير المؤمنين و استقرار الأمر له فقد اختلف فيه فقيل إنه شرب الخمر في ستر و قيل إنه لم يشربه و لا خلاف في أنه سمع الغناء و طرب عليه و أعطى و وصل عليه أيضا. و روى أبو الفرج الأصفهاني قال قال عمرو بن العاص لمعاوية في قدمة قدمها إلى المدينة أيام خلافته قم بنا إلى هذا الذي قد هدم شرفه و هتك ستره عبد الله بن جعفر نقف على بابه فنسمع غناء جواريه فقاما ليلا و معهما وردان غلام عمرو و وقفا بباب عبد الله بن جعفر فاستمعا الغناء و أحس عبد الله بوقوفهما ففتح الباب و عزم على معاوية أن يدخل فدخل فجلس على سرير عبد الله فدعا عبد الله له و قدم إليه يسيرا من طعام فأكل فلما أنس (17/141)
قال يا أمير المؤمنين أ لا تأذن لجواريك أن يتممن أصواتهن فإنك قطعتها عليهن قال فليقلن فرفعن أصواتهن و جعل معاوية يتحرك قليلا قليلا حتى ضرب برجله السرير ضربا شديدا فقال عمرو قم أيها الرجل فإن الرجل الذي جئت لتلحاه أو لتعجب من امرئ أحسن حالا منك فقال مهلا فإن الكريم طروب. شرح نهج البلاغة ج : 16 ص : 162أما قوله يشين الكريم بمجلسه و يسفه الحليم بخلطته فالأمر كذلك فإنه لم يكن في مجلسه إلا شتم بني هاشم و قذفهم و التعرض بذكر الإسلام و الطعن عليه و إنظهر الانتماء إليه و أما طلب عمرو فضله و اتباعه أثره اتباع الكلب للأسد فظاهر و لم يقل الثعلب غضا من قدر عمرو و تشبيها له بما هو أبلغ في الإهانة و الاستخفاف. ثم قال و لو بالحق أخذت أدركت ما طلبت أي لو قعدت عن نصره و لم تشخص إليه ممالئا به على الحق لوصل إليك من بيت المال قدر كفايتك. و لقائل أن يقول إن عمرا ما كان يطلب قدر الكفاية و علي ع ما كان يعطيه إلا حقه فقط و لا يعطيه بلدا و لا طرفا من الأطراف و الذي كان يطلب ملك مصر لأنه فتحها أيام عمر و وليها برهة و كانت حسرة في قلبه و حزازة في صدره فباع آخرته بها فالأولى أن يقال معناه لو أخذت بالحق أدركت ما طلبت من الآخرة. فإن قلت إن عمرا لم يكن علي ع يعتقد أنه من أهل الآخرة فكيف يقول له هذا الكلام قلت لا خلل و لا زلل في كلامه ع لأنه لو أخذ بالحق لكان معتقدا كون علي ع على الحق باعتقاده صحة نبوة رسول الله ص و صحة التوحيد فيصير تقدير الكلام لو بايعتني معتقدا للزوم بيعتي لك لكنت في ضمن ذلك طالبا الثواب فكنت تدركه في الآخرة. ثم قال مهددا لهما و متوعدا إياهما فإن يمكن الله منك و من ابن أبي سفيان و أقول لو ظفر بهما لما كان في غالب ظني يقتلهما فإنه كان حليما كريما و لكن كان يحبسهما ليحسم بحبسهما مادة فسادهما. (17/142)
شرح نهج البلاغة ج : 16 ص : 163ثم قال و إن تعجزا و تبقيا أي و إن لم أستطع أخذكما أو أمت قبل ذلك و بقيتما بعدي فما أمامكما شر لكما من عقوبة الدنيا لأن عذاب الدنيا منقطع و عذاب الآخرة غير منقطع. و ذكر نصر بن مزاحم في كتاب صفين هذا الكتاب بزيادة لم يذكرها اضي قال نصر و كتب علي ع إلى عمرو بن العاص من عبد الله علي أمير المؤمنين إلى الأبتر ابن الأبتر عمرو بن العاص بن وائل شانئ محمد و آل محمد في الجاهلية و الإسلام سلام على من اتبع الهدى أما بعد فإنك تركت مروءتك لامرئ فاسق مهتوك ستره يشين الكريم بمجلسه و يسفه الحليم بخلطته فصار قلبك لقلبه تبعا كما قيل وافق شن طبقة فسلبك دينك و أمانتك و دنياك و آخرتك و كان علم الله بالغا فيك فصرت كالذئب يتبع الضرغام إذا ما الليل دجى أو أتى الصبح يلتمس فاضل سؤره و حوايا فريسته و لكن لا نجاة من القدر و لو بالحق أخذت لأدركت ما رجوت و قد رشد من كان الحق قائده فإن يمكن الله منك و من ابن آكلة الأكباد ألحقتكما بمن قتله الله من ظلمة قريش على عهد رسول الله ص و إن تعجزا و تبقيا بعد فالله حسبكما و كفى بانتقامه انتقاما و بعقابه عقابا و السلام (17/143)
شرح نهج البلاغة ج : 16 ص : 40164- و من كتاب له ع إلى بعض عمالهأَمَّا بَعْدُ فَقَدْ بَلَغَنِي عَنْكَ أَمْرٌ إِنْ كُنْتَ فَعَلْتَهُ فَقَدْ أَسْخَطْتَ رَبَّكَ وَ عَصَيْتَ إِمَامَكَ وَ أَخْزَيْتَ أَمَانَتَكَ بَلَغَنِي أَنَّكَ جَرَّدْتَ الْأَرْضَ فَأَخَذْتَ مَا تَحْتَ قَدَمَيْكَ وَ أَكَلْتَ مَا تَحْتَ يَدَيْكَ فَارْفَعْ إِلَيَّ حِسَابَكَ وَ اعْلَمْ أَنَّ حِسَابَ اللَّهِ أَعْظَمُ مِنْ حِسَابِ النَّاسِ وَ السَّلَامُ
أخزيت أمانتك أذللتها و أهنتها و جردت الأرض قشرتها و المعنى أنه نسبه إلى الخيانة في المال و إلى إخراب الضياع و في حكمة أبرويز أنه قال لخازن بيت المال إني لا أحتملك على خيانة درهم و لا أحمدك على حفظ عشرة آلاف ألف درهم لأنك إنما تحقن بذلك دمك و تعمر به أمانتك و إنك إن خنت قليلا خنت كثيرا فاحترس من خصلتين من النقصان فيما تأخذ و من الزيادة فيما تعطي و اعلم أني لم أجعلك على ذخائر الملك و عمارة المملكة و العدة على العدو إلا و أنت أمين عندي من الموضع الذي هي فيه و من خواتمها التي هي عليها فحقق ظني في اختياري إياك أحقق ظنك في رجائك لي و لا تتعوض بخير شرا و لا برفعة ضعة و لا بسلامة ندامة و لا بأمانة خيانة. شرح نهج البلاغة ج : 16 ص : 165و في الحديث المرفوع من ولي لنا عملا فليتزوج و ليتخذ مسكنا و مركبا و خادما فمن اتخذ سوى ذلك جاء يوم القيامة عادلا غالا سارقا (17/144)
و قال عمر في وصيته لابن مسعود إياك و الهدية و ليست بحرام و لكني أخاف عليك الدالة. و أهدى رجل لعمر فخذ جزور فقبله ثم ارتفع إليه بعد أيام مع خصم له فجعل في أثناء الكلام يقول يا أمير المؤمنين افصل القضاء بيني و بينه كما يفصل فخذ الجزور فقضى عمر عليه ثم قام فخطب الناس و حرم الهدايا على الولاة و القضاة. و أهدى إنسان إلى المغيرة سراجا من شبه و أهدى آخر إليه بغلا ثم اتفقت لهما خصومة في أمر فترافعا إليه فجعل صاحب السراج يقول إن أمري أضوأ من السراج فلما أكثر قال المغيرة ويحك إن البغل يرمح السراج فيكسره. و مر عمر ببناء يبنى بآجر و جص لبعض عماله فقال أبت الدراهم إلا أن تخرج أعناقها و روي هذا الكلام عن علي ع و كان عمر يقول على كل عامل أمينان الماء و الطين. و لما قدم أبو هريرة من البحرين قال له عمر يا عدو الله و عدو كتابه أ سرقت مال الله تعالى قال أبو هريرة لست بعدو الله و لا عدو كتابه و لكني عدو من عاداهما و لم أسرق مال الله فضربه بجريدة على رأسه ثم ثناه بالدرة و أغرمه عشرة آلاف درهم ثم أحضره فقال يا أبا هريرة من أين لك عشرة آلاف درهم قال خيلي تناسلت و عطائي تلاحق و سهامي تتابعت قال عمر كلا و الله ثم تركه أياما ثم قال له أ لا تعمل قال لا قال قد عمل من هو خير منك يا أبا هريرة قال من هو قال يوسف الصديق فقال أبو هريرة إن يوسف عمل لمن لم يضرب رأسه شرح نهج البلاغة ج : 16 ص : 166و ظهره و لا شتم عرضه و لا نزع ماله لا و الله لا أعمل لك أبدا. و كان زياد إذا ولى رجلا قال له خذ عه و سر إلى عملك و اعلم أنك محاسب رأس سنتك و أنك ستصير إلى أربع خصال فاختر لنفسك إنا إن وجدناك أمينا ضعيفا استبدلنا بك لضعفك و سلمتك من معرتنا أمانتك و إن وجدناك خائنا قويا استعنا بقوتك و أحسنا أدبك على خيانتك و أوجعنا ظهرك و أثقلنا غرمك و إن جمعت علينا الجرمين جمعنا عليك المضرتين و إن وجدناك أمينا قويا زدنا رزقك و رفعنا (17/145)
ذكرك و كثرنا مالك و أوطأنا الرجال عقبك. و وصف أعرابي عاملا خائنا فقال الناس يأكلون أماناتهم لقما و هو يحسوها حسوا. قال أنس بن أبي إياس الدؤلي لحارثة بن بدر الغداني و قد ولي سرق و يقال إنها لأبي الأسود (17/146)
أ حار بن بدر قد وليت ولاية فكن جرذا فيها تخون و تسرق و لا تحقرن يا حار شيئا أصبته فحظك من ملك العراقين سرق و باه تميما بالغنى إن للغني لسانا به المرء الهيوبة ينطق فإن جميع الناس إما مكذب يقول بما تهوى و إما مصدق يقولون أقوالا و لا يتبعونها و إن قيل هاتققوا لم يحققوا
فيقال إنها بلغت حارثة بن بدر فقال أصاب الله به الرشاد فلم يعد بإشارته ما في نفسي
شرح نهج البلاغة ج : 16 ص : 41167- و من كتاب له ع إلى بعض عمالهأَمَّا بَعْدُ فَإِنِّي كُنْتُ أَشْرَكْتُكَ فِي أَمَانَتِي وَ جَعَلْتُكَ شِعَارِي وَ بِطَانَتِي وَ لَمْ يَكُنْ فِي أَهْلِي رَجُلٌ أَوْثَقَ مِنْكَ فِي نَفْسِي لِمُوَاسَاتِي وَ مُوَازَرَتِي وَ أَدَاءِ الْأَمَانَةِ إِلَيَّ فَلَمَّا رَأَيْتَ الزَّمَانَ عَلَى ابْنِ عَمِّكَ قَدْ كَلِبَ وَ الْعَدُوَّ قَدْ حَرِبَ وَ أَمَانَةَ النَّاسِ قَدْ خَزِيَتْ وَ هَذِهِ الْأُمَّةُ قَدْ فَتَكَتْ وَ شَغَرَتْ قَلَبْتَ لِابْنِ عَمِّكَ ظَهْرَ الْمِجَنِّ فَفَارَقْتَهُ مَعَ الْمُفَارِقِينَ وَ خَذَلْتَهُ مَعَ الْخَاذِلِينَ وَ خُنْتَهُ مَعَ الْخَائِنِينَ فَلَا ابْنَ عَمِّكَ آسَيْتَ وَ لَا الْأَمَانَةَ أَدَّيْتَ وَ كَأَنَّكَ لَمْ تَكُنِ اللَّهَ تُرِيدُ بِجِهَادِكَ وَ كَأَنَّكَ لَمْ تَكُنْ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّكَ وَ كَأَنَّكَ إِنَّمَا كُنْتَ تَكِيدُ هَذِهِ الْأُمَّةَ عَنْ دُنْيَاهُمْ وَ تَنْوِي غِرَّتَهُمْ عَنْ فَيْئِهِمْ فَلَمَّا أَمْكَنَتْكَ الشِّدَّةُ فِي خِيَانَةِ الْأُمَّةِ أَسْرَعْتَ الْكَرَّةَ وَ عَاجَلْتَ الْوَثْبَةَ وَ اخْتَطَفْتَ مَا قَدَرْتَ عَلَيْهِ مِنْ أَمْوَالِهِمُ الْمَصُونَةِ لِأَرَامِلِهِمْ وَ أَيْتَامِهِمُ اخْتِطَافَ الذِّئْبِ الْأَزَلِّ دَامِيَةَ الْمِعْزَى الْكَسِيرَةَ فَحَمَلْتَهُ إِلَى الْحِجَازِ رَحِيبَ الصَّدْرِ بِحَمْلِهِ غَيْرَ مُتَأَثِّمٍ مِنْ أَخْذِهِ كَأَنَّكَ لَا أَبَا لِغَيْرِكَ حَدَرْتَ إِلَى أَهْلِكَ تُرَاثَكَ مِنْ أَبِيكَ وَ أُمِّكَ فَسُبْحَانَ اللَّهِ أَ مَا تُؤْمِنُ بِالْمَعَادِ أَ وَ مَا تَخَافُ نِقَاشَ الْحِسَابِ أَيُّهَا الْمَعْدُودُ كَانَ عِنْدَنَا مِنْ أُولِي الْأَلْبَابِ كَيْفَ تُسِيغُ شَرَاباً وَ طَعَاماً وَ أَنْتَ تَعْلَمُ أَنَّكَ تَأْكُلُ حَرَاماً وَ تَشْرَبُ حَرَاماً وَ تَبْتَاعُ الْإِمَاءَ (17/147)
وَ تَنْكِحُ النِّسَاءَ مِنْ أَمْوَالِ الْيَتَامَى وَ الْمَسَاكِينِ شرح نهج البلاغة ج : 16 ص : 168وَ الْمُؤْمِنِينَ وَ الْمُجَاهِدِينَ الَّذِينَ أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ هَذِهِ الْأَمْوَالَ وَ أَحْرَزَ بِهِمْ هَذِهِ الْبِلَادَ فَاتَّقِ اللَّهَ وَ ارْدُدإِلَى هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ أَمْوَالَهُمْ فَإِنَّكَ إِنْ لَمْ تَفْعَلْ ثُمَّ أَمْكَنَنِي اللَّهُ مِنْكَ لَأُعْذِرَنَّ إِلَى اللَّهِ فِيكَ وَ لَأَضْرِبَنَّكَ بِسَيْفِي الَّذِي مَا ضَرَبْتُ بِهِ أَحَداً إِلَّا دَخَلَ النَّارَ وَ وَ اللَّهِ لَوْ أَنَّ الْحَسَنَ وَ الْحُسَيْنَ فَعَلَا مِثْلَ الَّذِي فَعَلْتَ مَا كَانَتْ لَهُمَا عِنْدِي هَوَادَةٌ وَ لَا ظَفِرَا مِنِّي بِإِرَادَةٍ حَتَّى آخُذُ الْحَقَّ مِنْهُمَا وَ أُزِيحَ الْبَاطِلَ عَنْ مَظْلَمَتِهِمَا وَ أُقْسِمُ بِاللَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ مَا يَسُرُّنِي أَنَّ مَا أَخَذْتَهُ مِنْ أَمْوَالِهِمْ حَلَالٌ لِي أَتْرُكُهُ مِيرَاثاً لِمَنْ بَعْدِي فَضَحِّ رُوَيْداً فَكَأَنَّكَ قَدْ بَلَغْتَ الْمَدَى وَ دُفِنْتَ تَحْتَ الثَّرَى وَ عُرِضَتْ عَلَيْكَ أَعْمَالُكَ بِالْمَحَلِّ الَّذِي يُنَادِي الظَّالِمُ فِيهِ بِالْحَسْرَةِ وَ يَتَمَنَّى الْمُضَيِّعُ فِيهِ الرَّجْعَةَ وَ لَاتَ حِينَ مَنَاصٍ (17/148)
أشركتك في أمانتي جعلتك شريكا فيما قمت فيه من الأمر و ائتمنني الله عليه من سياسة الأمة و سمى الخلافة أمانة كما سمى الله تعالى التكليف أمانة في قوله إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ فأما قوله و أداء الأمانة إلي فأمر آخر و مراده بالأمانة الثانية ما يتعارفه الناس من قولهم فلان ذو أمانة أي لا يخون فيما أسند إليه. و كلب الزمان اشتد و كذلك كلب البرد. شرح نهج البلاغة ج : 16 ص : 169و حرب العدو استأسد و خزيت أمانة الناس ذلت و هانت. و شغرت الأمة خلت من الخير و شغر البلد خلا من الناس. و قلبت له ظهر المجن إذا كنت معه فصرتليه و أصل ذلك أن الجيش إذا لقوا العدو و كانت ظهور مجانهم إلى وجه العدو و بطون مجانهم إلى وجه عسكرهم فإذا فارقوا رئيسهم و صاروا مع العدو كان وضع مجانهم بدلا من الوضع الذي كان من قبل و ذلك أن ظهور الترسة لا يمكن أن تكون إلا في وجوه الأعداء لأنها مرمى سهامهم. و أمكنتك الشدة أي الحملة. قوله أسرعت الكرة لا يجوز أن يقال الكرة إلا بعد فرة فكأنه لما كان مقلعا في ابتداء الحال عن التعرض لأموالهم كان كالفار عنها فلذلك قال أسرعت الكرة. و الذئب الأزل الخفيف الوركين و ذلك أشد لعدوه و أسرع لوثبته و إن اتفق أن تكون شاة من المعزى كثيرة و دامية أيضا كان الذئب على اختطافها أقدر. و نقاش الحساب مناقشته. قوله فضح رويدا كلمة تقال لمن يؤمر بالتؤدة و الأناة و السكون و أصلها الرجل يطعم إبله ضحى و يسيرها مسرعا ليسير فلا يشبعها فيقال له ضح رويدا (17/149)
اختلاف الرأي فيمن كتب له هذا الكتاب
و قد اختلف الناس في المكتوب إليه هذا الكتاب فقال الأكثرون إنه عبد الله بن العباس رحمه الله و رووا في ذلك روايات و استدلوا عليه بألفاظ من ألفاظ الكتاب شرح نهج البلاغة ج : 16 ص : 170كقوله أشركتك في أمانتي و جعلتك بطانتي و شعاري و أنه لم يكن في أهلي رجل أوثمنك و قوله على ابن عمك قد كلب ثم قال ثانيا قلبت لابن عمك ظهر المجن ثم قال ثالثا و لابن عمك آسيت و قوله لا أبا لغيرك و هذه كلمة لا تقال إلا لمثله فأما غيره من أفناء الناس فإن عليا ع كان يقول لا أبا لك. و قوله أيها المعدود كان عندنا من أولي الألباب و قوله لو أن الحسن و الحسين ع و هذا يدل على أن المكتوب إليه هذا الكتاب قريب من أن يجري مجراهما عنده. و قد روى أرباب هذا القول أن عبد الله بن عباس كتب إلى علي ع جوابا من هذا الكتاب قالوا و كان جوابه أما بعد فقد أتاني كتابك تعظم علي ما أصبت من بيت مال البصرة و لعمري أن حقي في بيت المال أكثر مما أخذت و السلام. قالوا (17/150)
فكتب إليه علي ع أما بعد فإن من العجب أن تزين لك نفسك أن لك في بيت مال المسلمين من الحق أكثر مما لرجل واحد من المسلمين فقد أفلحت إن كان تمنيك الباطل و ادعاؤك ما لا يكون ينجيك من المأثم و يحل لك المحرم إنك لأنت المهتدي السعيد إذا و قد بلغني أنك اتخذت مكة وطنا و ضربت بها عطنا تشتري بها مولدات مكة و المدينة و الطائف تختارهن على عينك و تعطي فيهن مال غيرك فارجع هداك الله إلى رشدك و تب إلى الله ربك و أخرج إلى المسلمين من أموالهم فعما قليل تفارق من ألفت و تترك ما جمعت و تغيب في صدع من الأرض غير موسد و لا ممهد قد فارقت الأحباب و سكنت التراب و واجهت الحساب غنيا عما خلفت فقيرا إلى ما قدمت و السلام
شرح نهج البلاغة ج : 16 ص : 171قالوا فكتب إليه ابن عباس أما بعد فإنك قد أكثرت علي و و الله لأن ألقى الله قد احتويت على كنوز الأرض كلها و ذهبها و عقيانها و لجينها أحب إلي من أن ألقاه بدم امرئ مسلم و السلام. و قال آخرون و هم الأقلون هذا لم يكن و لا فارق عبالله بن عباس عليا ع و لا باينه و لا خالفه و لم يزل أميرا على البصرة إلى أن قتل علي ع. قالوا و يدل على ذلك ما رواه أبو الفرج علي بن الحسين الأصفهاني من كتابه الذي كتبه إلى معاوية من البصرة لما قتل علي ع و قد ذكرناه من قبل قالوا و كيف يكون ذلك و لم يخدعه معاوية و يجره إلى جهته فقد علمتم كيف اختدع كثيرا من عمال أمير المؤمنين ع و استمالهم إليه بالأموال فمالوا و تركوا أمير المؤمنين ع فما باله و قد علم النبوة التي حدثت بينهما لم يستمل ابن عباس و لا اجتذبه إلى نفسه و كل من قرأ السير و عرف التواريخ يعرف مشاقة ابن عباس لمعاوية بعد وفاة علي ع و ما كان يلقاه به من قوارع الكلام و شديد الخصام و ما كان يثني به على أمير المؤمنين ع و يذكر خصائصه و فضائله و يصدع به من مناقبه و مآثره فلو كان بينهما غبار أو كدر لما كان الأمر كذلك بل كانت الحال تكون بالضد لما اشتهر من أمرهما. و هذا عندي هو الأمثل و الأصوب. و قد قال الراوندي المكتوب إليه هذا الكتاب هو عبيد الله بن العباس لا عبد الله شرح نهج البلاغة ج : 16 ص : 172و ليس ذلك بصحيح فإن عبيد الله كان عامل علي ع على اليمن و قد ذكرت قصته مع بسر بن أرطاة فيما تقدم و لم ينقل عنه أنه أخذالا و لا فارق طاعة. و قد أشكل علي أمر هذا الكتاب فإن أنا كذبت النقل و قلت هذا كلام موضوع على أمير المؤمنين ع خالفت الرواة فإنهم قد أطبقوا على رواية هذا الكلام عنه و قد ذكر في أكثر كتب السير و إن صرفته إلى عبد الله بن عباس صدني عنه ما أعلمه من ملازمته لطاعة أمير المؤمنين ع في حياته و بعد وفاته و إن صرفته إلى غيره لم أعلم (17/151)
إلى من أصرفه من أهل أمير المؤمنين ع و الكلام يشعر بأن الرجل المخاطب من أهله و بني عمه فأنا في هذا الموضع من المتوقفين (17/152)
شرح نهج البلاغة ج : 16 ص : 42173- و من كتاب له ع إلى عمر بن أبي سلمة المخزوميو كان عامله على البحرين فعزله و استعمل النعمان بن عجلان الزرقي مكانه
أَمَّا بَعْدُ فَإِنِّي قَدْ وَلَّيْتُ النُّعْمَانَ بْنِ عَجْلَانَ الزُّرَقِيَّ عَلَى الْبَحْرَيْنِ وَ نَزَعْتُ يَدَكَ بِلَا ذَمٍّ لَكَ وَ لَا تَثْرِيبٍ عَلَيْكَ فَلَقَدْ أَحْسَنْتَ الْوِلَايَةَ وَ أَدَّيْتَ الْأَمَانَةَ فَأَقْبِلْ غَيْرَ ظَنِينٍ وَ لَا مَلُومٍ وَ لَا مُتَّهَمٍ وَ لَا مَأْثُومٍ فَقَدْ أَرَدْتُ الْمَسِيرَ إِلَى ظَلَمَةِ أَهْلِ الشَّامِ وَ أَحْبَبْتُ أَنْ تَشْهَدَ مَعِي فَإِنَّكَ مِمَّنْ أَسْتَظْهِرُ بِهِ عَلَى جِهَادِ الْعَدُوِّ وَ إِقَامَةِ عَمُودِ الدِّينِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ
عمر بن أبي سلمة و نسبه و بعض أخباره
أما عمر بن أبي سلمة فهو ربيب رسول الله ص و أبوه أبو سلمة بن عبد الأسد بن هلال بن عبد الله بن عمر بن مخزوم بن يقظة يكنى أبا حفص ولد في السنة الثانية من الهجرة بأرض الحبشة و قيل إنه كان يوم قبض رسول الله ص ابن تسع سنين و توفي في المدينة في خلافة عبد الملك سنة ثلاث و ثمانين و قد حفظ عن رسول الله ص الحديث و روى عنه سعيد بن المسيب و غيره ذكر شرح نهج البلاغة ج : 16 ص : 174ذلك كله ابن عبد البر في كتاب الإستيعابالنعمان بن عجلان و نسبه و بعض أخباره
و أما النعمان بن عجلان الزرقي فمن الأنصار ثم من بني زريق و هو الذي خلف على خولة زوجة حمزة بن عبد المطلب رحمه الله بعد قتله قال ابن عبد البر في كتاب الإستيعاب كان النعمان هذا لسان الأنصار و شاعرهم و يقال إنه كان رجلا أحمر قصيرا تزدريه العين إلا أنه كان سيدا و هو القائل يوم السقيفة
و قلتم حرام نصب سعد و نصبكم عتيق بن عثمان حلال أبا بكرو أهل أبو بكر لها خير قائم و إن عليا كان أخلق بالأمرو إن هوانا في علي و إنه لأهل لها من حيث يدرى و لا يدرى (17/153)
قوله و لا تثريب عليك فالتثريب الاستقصاء في اللوم و يقال ثربت عليه و عربت عليه إذا قبحت عليه فعله. و الظنين المتهم و الظنة التهمة و الجمع الظنن يقول قد أظن زيد عمرا و الألف ألف وصل و الظاء مشددة و النون مشددة أيضا و جاء بالطاء المهملة أيضا أي اتهمه و في حديث ابن سيرين لم يكن علي ع يظن في قتل عثمان الحرفان مشددان و هو يفتعل من يظنن و أدغم قال الشاعر
و ما كل من يظنني أنا معتب و ما كل ما يروى علي أقول
شرح نهج البلاغة ج : 16 ص : 43175- و من كتاب له ع إلى مصقلة بن هبيرة الشيباني و كان عامله على أردشيرخرةبَلَغَنِي عَنْكَ أَمْرٌ إِنْ كُنْتَ فَعَلْتَهُ فَقَدْ أَسْخَطْتَ إِلَهَكَ وَ عَصَيْتَ إِمَامَكَ أَنَّكَ تَقْسِمُ فَيْ ءَ الْمُسْلِمِينَ الَّذِي حَازَتْهُ رِمَاحُهُمْ وَ خُيُولُهُمْ وَ أُرِيقَتْ عَلَيْهِ دِمَاؤُهُمْ فِيمَنِ اعْتَامَكَ مِنْ أَعْرَابِ قَوْمَِ فَوَالَّذِي فَلَقَ الْحَبَّةَ وَ بَرَأَ النَّسَمَةَ لَئِنْ كَانَ ذَلِكَ حَقّاً لَتَجِدَنَّ لَكَ عَلَيَّ هَوَاناً وَ لَتَخِفَّنَّ عِنْدِي مِيزَاناً فَلَا تَسْتَهِنْ بِحَقِّ رَبِّكَ وَ لَا تُصْلِحْ دُنْيَاكَ بِمَحْقِ دِينِكَ فَتَكُونَ مِنَ الْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا أَلَا وَ إِنَّ حَقَّ مَنْ قِبَلَكَ وَ قِبَلَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ فِي قِسْمَةِ هَذَا الْفَيْ ءِ سَوَاءٌ يَرِدُونَ عِنْدِي عَلَيْهِ وَ يَصْدُرُونَ عَنْهُ قد تقدم ذكر نسب مصقلة بن هبيرة و أردشيرخرة كورة من كور فارس. و اعتامك اختارك من بين الناس أصله من العيمة بالكسر و هي خيار المال اعتام المصدق إذا أخذ العيمة و قد روي فيمن اعتماك بالقلب و الصحيح شرح نهج البلاغة ج : 16 ص : 176المشهور الأول و روي و لتجدن بك دي هوانا بالباء و معناها اللام و لتجدن بسبب فعلك هوانك عندي و الباء ترد للسببية كقوله تعالى فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ طَيِّباتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ. و المحق الإهلاك. و المعنى أنه نهى مصقلة عن أن يقسم الفي ء على أعراب قومه الذين اتذوه سيدا و رئيسا و يحرم المسلمين الذين حازوه بأنفسهم و سلاحهم و هذا هو الأمر الذي كان ينكره على عثمان و هو إيثار أهله و أقاربه بمال الفي ء و قد سبق شرح مثل ذلك مستوفى شرح نهج البلاغة ج : 16 ص : 44177- و من كتاب له ع إلى زياد ابن أبيهو قد بلغه أن معاوية كتب إليه يريد خديعته باستلحاقه (17/154)
وَ قَدْ عَرَفْتُ أَنَّ مُعَاوِيَةَ كَتَبَ إِلَيْكَ يَسْتَزِلُّ لُبَّكَ وَ يَسْتَفِلُّ غَرْبَكَ فَاحْذَرْهُ فَإِنَّمَا هُوَ الشَّيْطَانُ يَأْتِي الْمَرْءَ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَ مِنْ خَلْفِهِ وَ عَنْ يَمِينِهِ وَ عَنْ شِمَالِهِ لِيَقْتَحِمَ غَفْلَتَهُ وَ يَسْتَلِبَ غِرَّتَهُ وَ قَدْ كَانَ مِنْ أَبِي سُفْيَانَ فِي زَمَنِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ فَلْتَةٌ مِنْ حَدِيثِ النَّفْسِ وَ نَزْغَةٌ مِنْ نَزَغَاتِ الشَّيْطَانِ لَا يَثْبُتُ بِهَا نَسَبٌ وَ لَا يُسْتَحَقُّ بِهَا إِرْثٌ وَ الْمُتَعَلِّقُ بِهَا كَالْوَاغِلِ الْمُدَفَّعِ وَ النَّوْطِ الْمُذَبْذَبِ فَلَمَّا قَرَأَ زِيَادٌ الْكِتَابَ قَالَ شَهِدَ بِهَا وَ رَبِّ الْكَعْبَةِ وَ لَمْ تَزَلْ فِي نَفْسِهِ حَتَّى ادَّعَاهُ مُعَاوِيَةُ (17/155)
قال الرضي رحمه الله تعالى قوله ع الواغل هو الذي يهجم على الشرب ليشرب معهم و ليس منهم فلا يزال مدفعا محاجزا و النوط المذبذب هو ما يناط برحل الراكب من قعب أو قدح أو ما أشبه ذلك فهو أبدا يتقلقل إذا حث ظهره و استعجل سيره
شرح نهج البلاغة ج : 16 ص : 178يستزل لبك يطلب زلله و خطأه أي يحاول أن تزل و اللب العقل و يستفل غربك يحاول أن يفل حدك أي عزمك و هذا من باب المجاز ثم أمره أن يحذره و قال إنه يعني معاوية كالشيطان يأتي المرء من كذا و من كذا و هو مأخوذ من قول الله تعالى ثُمََّآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَ مِنْ خَلْفِهِمْ وَ عَنْ أَيْمانِهِمْ وَ عَنْ شَمائِلِهِمْ وَ لا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شاكِرِينَ قالوا في تفسيره من بين أيديهم يطمعهم في العفو و يغريهم بالعصيان و من خلفهم يذكرهم مخلفيهم و يحسن لهم جمع المال و تركه لهم و عن أيمانهم يحبب إليهم الرئاسة و الثناء و عن شمائلهم يحبب إليهم اللهو و اللذات. و قال شقيق البلخي ما من صباح إلا قعد لي الشيطان على أربعة مراصد من بين يدي و من خلفي و عن يميني و عن شمالي أما من بين يدي فيقول لا تخف فإن الله غفور رحيم فأقرأ وَ إِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تابَ وَ آمَنَ وَ عَمِلَ صالِحاً ثُمَّ اهْتَدى و أما من خلفي فيخوفني الضيعة على مخلفي فأقرأ وَ ما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُها و أما من قبل يميني فيأتيني من جهة الثناء فأقرأ وَ الْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ و أما من قبل شمالي فيأتيني من قبل الشهوات فأقرأ وَ حِيلَ بَيْنَهُمْ وَ بَيْنَ ما يَشْتَهُونَ. فإن قلت لم لم يقل و من فوقهم و من تحتهم شرح نهج البلاغة ج : 16 ص : 179قلت لأن جهة فوق جهة نزول الرحمة و مستقر الملائكة و مكان العرش و الأنوار الشريفة و لا سبيل له إليها وما من جهة تحت فلأن الإتيان منها يوحش و ينفر عنه لأنها الجهة المعروفة بالشياطين فعدل عنها إلى ما هو أدعى إلى قبول وساوسه و أضاليله. و قد فسر قوم المعنى الأول فقالوا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ من جهة الدنيا و مِنْ خَلْفِهِمْ من جهة الآخرة و عَنْ أَيْمانِهِمْ الحسنات و عَنْ شَمائِلِهِمْ أي يحثهم على طلب الدنيا و يؤيسهم من (17/156)
الآخرة و يثبطهم عن الحسنات و يغريهم بالسيئات. قوله ليقتحم غفلته أي ليلج و يهجم عليه و هو غافل جعل اقتحامه إياه اقتحاما للغرة نفسها لما كانت غالبة عليه. و يستلب غرته ليس المعنى باستلابه الغرة أن يرفعها و يأخذها لأنه لو كان كذلك لصار ذلك الغافل المغتر فاقدا للغفلة و الغرة و كان لبيبا فطنا فلا يبقى له سبيل عليه و إنما المعنى بقوله و يستلب غرته ما يعنيه الناس بقولهم أخذ فلان غفلتي و فعل كذا. و معنى أخذها هنا أخذ ما يستدل به على غفلتي. و فلتة أمر وقع من غير تثبت و لا روية. و نزغة كلمة فاسدة من نزغات الشيطان أي من حركاته القبيحة التي يستفسد بها مكلفين و لا يثبت بها نسب و لا يستحق بها إرث لأن المقر بالزناء لا يلحقه النسب و لا يرثه المولود (17/157)
لقوله ص الولد للفراش و للعاهر الحجر
نسب زياد ابن أبيه و ذكر بعض أخباره و كتبه و خطبه
فأما زياد فهو زياد بن عبيد و من الناس من يقول عبيد بن فلان و ينسبه إلى شرح نهج البلاغة ج : 16 ص : 180ثقيف و الأكثرون يقولون إن عبيدا كان عبدا و إنه بقي إلى أيام زياد فابتاعه و أعتقه و سنذكر ما ورد في ذلك و نسبة زياد لغير أبيه لخمول أبيه و الدعوة التي استق بها فقيل تارة زياد ابن سمية و هي أمه و كانت أمة للحارث بن كلدة بن عمرو بن علاج الثقفي طبيب العرب و كانت تحت عبيد. و قيل تارة زياد ابن أبيه و قيل تارة زياد ابن أمه و لما استلحق قال له أكثر الناس زياد بن أبي سفيان لأن الناس مع الملوك الذين هم مظنة الرهبة و الرغبة و ليس أتباع الدين بالنسبة إلى أتباع الملوك إلا كالقطرة في البحر المحيط فأما ما كان يدعى به قبل الاستلحاق فزياد بن عبيد و لا يشك في ذلك أحد. و روى أبو عمر بن عبد البر في كتاب الإستيعاب عن هشام بن محمد بن السائب الكلبي عن أبيه عن أبي صالح عن ابن عباس أن عمر بعث زيادا في إصلاح فساد واقع باليمن فلما رجع من وجهه خطب عند عمر خطبة لم يسمع مثلها و أبو سفيان حاضر و علي ع و عمرو بن العاص فقال عمرو بن العاص لله أبو هذا الغلام لو كان قرشيا لساق العرب بعصاه فقال أبو سفيان إنه لقرشي و إني لأعرف الذي وضعه في رحم أمه فقال علي ع و من هو قال أنا فقال مهلا يا أبا سفيان فقال أبو سفيان (17/158)
أما و الله لو لا خوف شخص يراني يا علي من الأعادي لأظهر أمره صخر بن حرب و لم يخف المقالة في زيادو قد طالت مجاملتي ثقيفا و تركي فيهم ثمر الفؤادعنى بقوله لو لا خوف شخص عمر بن الخطاب شرح نهج البلاغة ج : 16 ص : 181و روى أحمد بن يحيى البلاذري قال تكلم زياد و هو غلام حدث بحضرة عمر كلاما أعجب الحاضرين فقال عمرو بن العاص لله أبوه لو كان قرشيا لساق العرب بعصاه فقال أبو سفيان أما و الله إنه لقرشي و لو عته لعرفت أنه خير من أهلك فقال و من أبوه قال أنا و الله وضعته في رحم أمه فقال فهلا تستلحقه قال أخاف هذا العير الجالس أن يخرق علي إهابي. و روى محمد بن عمر الواقدي قال قال أبو سفيان و هو جالس عند عمر و علي هناك و قد تكلم زياد فأحسن أبت المناقب إلا أن تظهر في شمائل زياد فقال علي ع من أي بني عبد مناف هو قال ابني قال كيف قال أتيت أمه في الجاهلية سفاحا فقال علي ع مه يا أبا سفيان فإن عمر إلى المساءة سريع قال فعرف زياد ما دار بينهما فكانت في نفسه. و روى علي بن محمد المدائني قال لما كان زمن علي ع ولى زيادا فارس أو بعض أعمال فارس فضبطها ضبطا صالحا و جبى خراجها و حماها و عرف ذلك معاوية فكتب إليه أما بعد فإنه غرتك قلاع تأوي إليها ليلا كما تأوي الطير إلى وكرها و ايم الله لو لا انتظاري بك ما الله أعلم به لكان لك مني ما قاله العبد الصالح فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لا قِبَلَ لَهُمْ بِها وَ لَنُخْرِجَنَّهُمْ مِنْها أَذِلَّةً وَ هُمْ صاغِرُونَ و كتب في أسفل الكتاب شعرا من جملته (17/159)
تنسى أباك و قد شالت نعامته إذ يخطب الناس و الوالي لهم عمر
فلما ورد الكتاب على زياد قام فخطب الناس و قال العجب من ابن آكلة الأكباد و رأس النفاق يهددني و بيني و بينه ابن عم رسول الله ص و زوج سيدة نساء العالمين و أبو السبطين و صاحب الولاية و المنزلة و الإخاء في مائة ألف شرح نهج البلاغة ج : 16 ص : 182من المهاجرين ولأنصار و التابعين لهم بإحسان أما و الله لو تخطى هؤلاء أجمعين إلي لوجدني أحمر مخشا ضرابا بالسيف ثم كتب إلى علي ع و بعث بكتاب معاوية في كتابه. (17/160)
فكتب إليه علي ع و بعث بكتابه أما بعد فإني قد وليتك ما وليتك و أنا أراك لذلك أهلا و إنه قد كانت من أبي سفيان فلتة في أيام عمر من أماني التيه و كذب النفس لم تستوجب بها ميراثا و لم تستحق بها نسبا و إن معاوية كالشيطان الرجيم يأتي المرء من بين يديه و من خلفه و عن يمينه و عن شماله فاحذره ثم احذره ثم احذره و السلام
و روى أبو جعفر محمد بن حبيب قال كان علي ع قد ولى زيادا قطعة من أعمال فارس و اصطنعه لنفسه فلما قتل علي ع بقي زياد في عمله و خاف معاوية جانبه و علم صعوبة ناحيته و أشفق من ممالأته الحسن بن علي ع فكتب إليه من أمير المؤمنين معاوية بن أبي سفيان إلى زياد بن عبيد أما بعد فإنك عبد قد كفرت النعمة و استدعيت النقمة و لقد كان الشكر أولى بك من الكفر و إن الشجرة لتضرب بعرقها و تتفرع من أصلها إنك لا أم لك بل لا أب لك قد هلكت و أهلكت و ظننت أنك تخرج من قبضتي و لا ينالك سلطاني هيهات ما كل ذي لب يصيب رأيه و لا كل ذي رأي ينصح في مشورته أمس عبد و اليوم أمير خطة ما ارتقاها مثلك يا ابن سمية و إذا أتاك كتابي هذا فخذ الناس بالطاعة و البيعة و أسرع الإجابة فإنك أن تفعل فدمك حقنت و نفسك تداركت و إلا اختطفتك شرح نهج البلاغة ج : 16 ص : 183بأضعف ريش و نلتك بأهون سعي و أقسم قسما مبرورا إ أوتى بك إلا في زمارة تمشي حافيا من أرض فارس إلى الشام حتى أقيمك في السوق و أبيعك عبدا و أردك إلى حيث كنت فيه و خرجت منه و السلام. فلما ورد الكتاب على زياد غضب غضبا شديدا و جمع الناس و صعد المنبر فحمد الله ثم قال ابن آكلة الأكباد و قاتلة أسد الله و مظهر الخلاف و مسر النفاق و رئيس الأحزاب و من أنفق ماله في إطفاء نور الله كتب إلي يرعد و يبرق عن سحابة جفل لا ماء فيها و عما قليل تصيرها الرياح قزعا و الذي يدلني على ضعفه تهدده قبل القدرة أ فمن إشفاق علي تنذر و تعذر كلا و لكن ذهب إلى غير مذهب و قعقع لمن ربي بين صواعق تهامة كيف أرهبه و بيني و بينه ابن بنت رسول الله ص و ابن ابن عمه في مائة ألف من المهاجرين و الأنصار و الله لو أذن لي فيه أو ندبني إليه لأريته الكواكب نهارا و لأسعطته ماء الخردل دونه الكلام اليوم و الجمع غدا و المشورة بعد ذلك إن شاء الله ثم نزل. و كتب إلى معاوية أما بعد فقد وصل إلي كتابك يا معاوية و فهمت ما فيه فوجدتك (17/161)
كالغريق يغطيه الموج فيتشبث بالطحلب و يتعلق بأرجل الضفادع طمعا في الحياة إنما يكفر النعم و يستدعي النقم من حاد الله و رسوله و سعى في الأرض فسادا فأما سبك لي فلو لا حلم ينهاني عنك و خوفي أن أدعى سفيها لأثرت لك مخازي لا يغسلها الماء و أما تعييرك لي بسمية فإن كنت ابن سمية فأنت ابن جماعة و أما زعمك أنك تختطفني بأضعف ريش و تتناولني بأهون سعي فهل رأيت بازيا يفزعه صغير (17/162)
شرح نهج البلاغة ج : 16 ص : 184القنابر أم هل سمعت بذئب أكله خروف فامض الآن لطيتك و اجتهد جهدك فلست أنزل إلا بحيث تكره و لا أجتهد إلا فيما يسوؤك و ستعلم أينا الخاضع لصاحبه الطالع إليه و السلام. فلما ورد كتاب زياد على معاوية غمه و أحزنه و بعث إلى المغيرة بشعبة فخلا به و قال يا مغيرة إني أريد مشاورتك في أمر أهمني فانصحني فيه و أشر علي برأي المجتهد و كن لي أكن لك فقد خصصتك بسري و آثرتك على ولدي قال المغيرة فما ذاك و الله لتجدني في طاعتك أمضى من الماء إلى الحدور و من ذي الرونق في كف البطل الشجاع قال يا مغيرة إن زيادا قد أقام بفارس يكش لنا كشيش الأفاعي و هو رجل ثاقب الرأي ماضي العزيمة جوال الفكر مصيب إذا رمى و قد خفت منه الآن ما كنت آمنه إذ كان صاحبه حيا و أخشى ممالأته حسنا فكيف السبيل إليه و ما الحيلة في إصلاح رأيه قال المغيرة أنا له إن لم أمت إن زيادا رجل يحب الشرف و الذكر و صعود المنابر فلو لاطفته المسألة و ألنت له الكتاب لكان لك أميل و بك أوثق فاكتب إليه و أنا الرسول فكتب معاوية إليه من أمير المؤمنين معاوية بن أبي سفيان إلى زياد بن أبي سفيان أما بعد فإن المرء ربما طرحه الهوى في مطارح العطب و إنك للمرء المضروب به المثل قاطع الرحم و واصل العدو و حملك سوء ظنك بي و بغضك لي على أن عققت قرابتي و قطعت رحمي و بتت نسبي و حرمتي حتى كأنك لست أخي و ليس صخر بن حرب أباك و أبي و شتان ما بيني و بينك أطلب بدم ابن أبي العاص و أنت
تقاتلني و لكن أدركك عرق الرخاوة من قبل النساء فكنت شرح نهج البلاغة ج : 16 ص : 18كتاركة بيضها بالعراء و ملحفة بيض أخرى جناحا (17/163)
و قد رأيت أن أعطف عليك و لا أؤاخذك بسوء سعيك و أن أصل رحمك و أبتغي الثواب في أمرك فاعلم أبا المغيرة إنك لو خضت البحر في طاعة القوم فتضرب بالسيف حتى انقطع متنه لما ازددت منهم إلا بعدا فإن بني عبد شمس أبغض إلى بني هاشم من الشفرة إلى الثور الصريع و قد أوثق للذبح فارجع رحمك الله إلى أصلك و اتصل بقومك و لا تكن كالموصول بريش غيره فقد أصبحت ضال النسب و لعمري ما فعل بك ذلك إلا اللجاج فدعه عنك فقد أصبحت على بينة من أمرك و وضوح من حجتك فإن أحببت جانبي و وثقت بي فأمره بأمره و إن كرهت جانبي و لم تثق بقولي ففعل جميل لا علي و لا لي و السلام. فرحل المغيرة بالكتاب حتى قدم فارس فلما رآه زياد قربه و أدناه و لطف به فدفع إليه الكتاب فجعل يتأمله و يضحك فلما فرغ من قراءته وضعه تحت قدمه ثم قال حسبك يا مغيرة فإني أطلع على ما في ضميرك و قد قدمت من سفرة بعيدة فقم و أرح ركابك قال أجل فدع عنك اللجاج يرحمك الله و ارجع إلى قومك و صل أخاك و انظر لنفسك و لا تقطع رحمك قال زياد إني رجل صاحب أناة و لي في أمري روية فلا تعجل علي و لا تبدأني بشي ء حتى أبدأك ثم جمع الناس بعد يومين أو ثلاثة فصعد المنبر فحمد الله و أثنى عليه ثم قال أيها الناس ادفعو البلاء ما اندفع عنكم و ارغبوا إلى الله في دوام العافية لكم فقد نظرت في أمور الناس منذ قتل عثمان و فكرت فيهم فوجدتهم كالأضاحي في كل عيد يذبحون و لقد أفنى هذان اليومان يوم الجمل و صفين ما ينيف على مائة ألف كلهم يزعم أنه طالب حق و تابع إمام و على بصيرة من أمره فإن كان الأمر هكذا فالقاتل و المقتول في الجنة كلاشرح نهج البلاغة ج : 16 ص : 186ليس كذلك و لكن أشكل الأمر و التبس على القوم و إني لخائف أن يرجع الأمر كما بدأ فكيف لامرئ بسلامة دينه و قد نظرت في
أمر الناس فوجدت أحد العاقبتين العافية و سأعمل في أموركم ما تحمدون عاقبته و مغبته فقد حمدت طاعتكم إن شاء الله ثنزل و كتب جواب الكتاب أما بعد فقد وصل كتابك يا معاوية مع المغيرة بن شعبة و فهمت ما فيه فالحمد لله الذي عرفك الحق و ردك إلى الصلة و لست ممن يجهل معروفا و لا يغفل حسبا و لو أردت أن أجيبك بما أوجبته الحجة و احتمله الجواب لطال الكتاب و كثر الخطاب و لكنك إن كنت كتبت كتابك هذا عن عقد صحيح و نية حسنة و أردت بذلك برا فستزرع في قلبي مودة و قبولا و إن كنت إنما أردت مكيدة و مكرا و فساد نية فإن النفس تأبى ما فيه العطب و لقد قمت يوم قرأت كتابك مقاما يعبأ به الخطيب المدره فتركت من حضر لا أهل ورد و لا صدر كالمتحيرين بمهمة ضل بهم الدليل و أنا على أمثال ذلك قدير و كتب في أسفل الكتاب (17/164)
إذا معشري لم ينصفوني وجدتني أدافع عني الضيم ما دمت باقياو كم معشر أعيت قناتي عليهم فلاموا و ألفوني لدى العزم ماضياو هم به ضاقت صدور فرجته و كنت بطبي للرجال مداوياأدافع بالحلم الجهول مكيدة و أخفى له تحت العضاه الدواهيافإن تدن مني أدن منك و إن تبن تجدني إذا لم تدن مني نائيا
فأعطاه معاوية جميع ما سأله و كتب إليه بخط يده ما وثق به فدخل إليه الشام فقربه و أدناه و أقره على ولايته ثم استعمله على العراق. شرح نهج البلاغة ج : 16 ص : 187و روى علي بن محمد المدائني قال لما أراد معاوية استلحاق زياد و قد قدم عليه الشام جمع الناس و صعد انبر و أصعد زيادا معه فأجلسه بين يديه على المرقاة التي تحت مرقاته و حمد الله و أثنى عليه ثم قال أيها الناس إني قد عرفت نسبنا أهل البيت في زياد فمن كان عنده شهادة فليقم بها فقام ناس فشهدوا أنه ابن أبي سفيان و أنهم سمعوا ما أقر به قبل موته فقام أبو مريم السلولي و كان خمارا في الجاهلية فقال أشهد يا أمير المؤمنين أن أبا سفيان قدم علينا بالطائف فأتاني فاشتريت له لحما و خمرا و طعاما فلما أكل قال يا أبا مريم أصب لي بغيا فخرجت فأتيت بسمية فقلت لها إن أبا سفيان ممن قد عرفت شرفه و جوده و قد أمرني أن أصيب له بغيا فهل لك فقالت نعم يجي ء الآن عبيد بغنمه و كان راعيا فإذا تعشى و وضع رأسه أتيته فرجعت إلى أبي سفيان فأعلمته فلم نلبث أن جاءت تجر ذيلها فدخلت معه فلم تزل عنده حتى أصبحت فقلت له لما انصرفت كيف رأيت صاحبتك قال خير صاحبة لو لا ذفر في إبطيها. فقال زياد من فوق المنبر ا أبا مريم لا تشتم أمهات الرجال فتشتم أمك. فلما انقضى كلام معاوية و مناشدته قام زياد و أنصت الناس فحمد الله و أثنى عليه ثم قال أيها الناس إن معاوية و الشهود قد قالوا ما سمعتم و لست أدري حق هذا من باطله و هو و الشهود أعلم بما قالوا و إنما عبيد أب مبرور و وال مشكور ثم نزل. و روى شيخنا أبو عثمان أن زيادا مر و هو والي البصرة بأبي العريان العدوي و كان شيخا مكفوفا ذا لسن و عارضة شديدة فقال أبو العريان ما هذه الجلبة قالوا زياد بن أبي سفيان قال و الله ما ترك أبو سفيان إلا يزيد و معاوية و عتبة و عنبسة و حنظلة و محمدا فمن أين جاء زياد فبلغ الكلام زيادا و قال له قائل لو سددت (17/165)
شرح نهج البلاغة ج : 16 ص : 188عنك فم هذا الكلب فأرسل إليه بمائتي دينار فقال له رسول زياد إن ابن عمك زيادا الأمير قد أرسل إليك مائتي دينار لتنفقها فقال وصلته رحم إي و الله ابن عمي حقا ثم مر به زيامن الغد في موكبه فوقف عليه فسلم و بكى أبو العريان فقيل له ما يبكيك قال عرفت صوت أبي سفيان في صوت زياد فبلغ ذلك معاوية فكتب إلى أبي العريان (17/166)
ما ألبثتك الدنانير التي بعثت أن لونتك أبا العريان ألواناأمسى إليك زياد في أرومته نكرا فأصبح ما أنكرت عرفانالله در زياد لو تعجلها كانت له دون ما يخشاه قربانا
فلما قرئ كتاب معاوية على أبي العريان قال اكتب جوابه يا غلام
أحدث لنا صلة تحيا النفوس بها قد كدت يا ابن أبي سفيان تنساناأما زياد فقد صحت مناسبه عندي فلا أبتغي في الحق بهتانامن يسد خيرا يصبه حين يفعله أو يسد شرا يصبه حيثما كانا
و روى أبو عثمان أيضا قال كتب زياد إلى معاوية ليستأذنه في الحج فكتب إليه إني قد أذنت لك و استعملتك على الموسم و أجزتك بألف ألف درهم فبينا هو يتجهز إذ بلغ ذلك أبا بكرة أخاه و كان مصارما له منذ لجلج في الشهادة على المغيرة بن شعبة أيام عمر لا يكلمه قد لزمته أيمان عظيمة ألا يكلمه أبدا فأقبل أبو بكرة يدخل القصر يريد زيادا فبصر به الحاجب فأسرع إلى زياد قائلا أيها الأمير هذا أخوك أبو بكرة قد دخل القصر قال ويحك أنت رأيته قال ها هو ذا قد طلع و في حجر زياد بني يلاعبه و جاء أبو بكرة حتى وقف عليه فقال للغلام كيف أنت يا غلام إن أباك ركب في الإسلام عظيما زنى أمه و انتفى من أبيه و لا و الله ما علمت سمية رأت شرح نهج البلاغة ج : 16 ص : 189أبا سفيان قط ثم أبوك يريد أن يركب ما هو أعظم من ذلك يوافي الموسم غدا و يوافي أم حبيبة بنت أبي سفيان و هي من أمهات المؤمنين فإن جاء يستأذنليها فأذنت له فأعظم بها فرية على رسول الله ص و مصيبة و إن هي منعته فأعظم بها على أبيك فضيحة ثم انصرف فقال جزاك الله يا أخي عن النصيحة خيرا ساخطا كنت أو راضيا ثم كتب إلى معاوية إني قد اعتللت عن الموسم فليوجه إليه أمير المؤمنين من أحب فوجه عتبة بن أبي سفيان. فأما أبو عمر بن عبد البر في كتاب الإستيعاب فإنه قال لما ادعى معاوية زيادا في سنة أربع و أربعين و ألحقه به أخا زوج ابنته من ابنه محمد بن زياد ليؤكد بذلك صحة الاستلحاق و كان أبو بكرة أخا زياد لأمه أمهما جميعا سمية فحلف ألا يكلم زيادا أبدا و قال هذا زنى أمه و انتفى من أبيه و لا و الله ما علمت سمية رأت أبا سفيان قبل ويله ما يصنع بأم حبيبة أ يريد أن يراها فإن حجبته فضحته و إن رآها فيا لها مصيبة يهتك من رسول الله ص حرمة عظيمة. و حج زياد مع معاوية و دخل المدينة فأراد الدخول على أم حبيبة ثم ذكر قول أبي بكرة فانصرف عن ذلك و قيل إن أم حبيبة حجبته و لم تأذن له في الدخول عليها و (17/167)
قيل إنه حج و لم يرد المدينة من أجل قول أبي بكرة و إنه قال جزى الله أبا بكرة خيرا فما يدع النصيحة في حال و روى أبو عمر بن عبد البر في هذا الكتاب قال دخل بنو أمية و فيهم عبد الرحمن بن الحكم على معاوية أيام ما استلحق زيادا فقال له عبد الرحمن يا معاوية لو لم تجد إلا الزنج لاستكثرت بهم علينا قلة و ذلة يعني على بني أبي العاص فأقبل معاوية شرح نهج البلاغة ج : 16 ص : 190على مروان و قال أخرج عنا هذا الخليع فقال مروان إي و الله إنه لخليع ما يطاق فقال معاة و الله لو لا حلمي و تجاوزي لعلمت أنه يطاق أ لم يبلغني شعره في و في زياد ثم قال مروان أسمعنيه فأنشد (17/168)
ألا أبلغ معاوية بن حرب لقد ضاقت بما يأتي اليدان أ تغضب أن يقال أبوك عف و ترضى أن يقال أبوك زان فأشهد أن رحمك من زياد كرحم الفيل من ولد الأتان و أشهد أنها حملت زيادا و صخر من سمية غير دثم قال و الله لا أرضى عنه حتى يأتي زيادا فيترضاه و يعتذر إليه فجاء عبد الرحمن إلى زياد معتذرا يستأذن عليه فلم يأذن له فأقبلت قريش إلى زياد تكلمه في أمر عبد الرحمن فلما دخل سلم فتشاوس له زياد بعينه و كان يكسر عينه فقال له زياد أنت القائل ما قلت قال عبد الرحمن ما الذي قلت قال قلت ما لا يقال قال أصلح الله الأمير إنه لا ذنب لمن أعتب و إنما الصفح عمن أذنب فاسمع مني ما أقول قال هات فأنشده
إليك أبا المغيرة تبت مما جرى بالشام من خطل اللسان و أغضبت الخليفة فيك حتى دعاه فرط غيظ إن هجاني و قلت لمن لحاني في اعتذاري إليك اذهب فشأنك غير شأن شرح نهج البلاغة ج : 16 ص : 191عرفت الحق بعد ضلال رأيي و بعد الغي من زيغ الجنان زياد من أبي سفيان غصن تهادى ناضرا بين الجنان أراك أخا و عما و ابن عم فما أدري بعيب ما تراني و إن زيادة في آل حرب أحب إلي من وسطي بناني ألا أبلغ معاوية بن حرب فقد ظفرت بمااليدان
فقال زياد أراك أحمق صرفا شاعرا ضيع اللسان يسوغ لك ريقك ساخطا و مسخوطا و لكنا قد سمعنا شعرك و قبلنا عذرك فهات حاجتك قال تكتب إلى أمير المؤمنين بالرضا عني قال نعم ثم دعا كاتبه فكتب له بالرضا عنه فأخذ كتابه و مضى حتى دخل على معاوية فلما قرأه قال لحا الله زيادا لم يتنبه لقوله (17/169)
و إن زيادة في آل حرب
ثم رضي عن عبد الرحمن و رده إلى حالته. و أما أشعار يزيد بن مفرغ الحميري و هجاؤه عبيد الله و عبادا ابني زياد بالدعوة فكثيرة مشهورة نحو قوله
أ عباد ما للؤم عنك تحول و لا لك أم من قريش و لا أب و قل لعبيد الله ما لك والد بحق و لا يدري امرؤ كيف تنسبو نحو قوله
شهدت بأن أمك لم تباشر أبا سفيان واضعة القناع
شرح نهج البلاغة ج : 16 ص : 192و لكن كان أمر فيه لبس على حذر شديد و ارتياع إذا أودى معاوية بن حرب فبشر شعب قعبك بانصدو نحو قوله
إن زيادا و نافعا و أبا بكرة عندي من أعجب العجب هم رجال ثلاثة خلقوا في رحم أنثى و كلهم لأب ذا قرشي كما تقول و ذا مولى و هذا بزعمه عربكان عبيد الله بن زياد يقول ما شجيت بشي ء أشد علي من قول ابن مفرغ فكر ففي ذاك إن فكرت معتبر هل نلت مكرمة إلا بتأميرعاشت سمية ما عاشت و ما علمت أن ابنها من قريش في الجماهير
و يقال إن الأبيات النونية المنسوبة إلى عبد الرحمن ابن أم الحكم ليزيد بن مفرغ و إن أولها
أ لا أبلغ معاوية بن حرب مغلغلة من الرجل اليماني
و نحو قوله و قد باع برد غلامه لما حبسه عباد بن زياد بسجستان
يا برد ما مسنا دهر أضر بنا من قبل هذا و لا بعنا له ولدالامتني النفس في برد فقلت لها لا تهلكي إثر برد هكذا كمدالو لا الدعي و لو لا ما تعرض بي من الحوادث ما فارقته أبدا
و نحو قوله
أبلغ لديك بني قحطان مألكة عضت بأير أبيها سادة اليمن أضحى دعي زياد فقع قرقرة يا للعجائب يلهو بابن ذي يزن شرح نهج البلاغة ج : 16 ص : 193و روى ابن الكلبي أن عبادا استلحقه زياد كما استلحق معاوية زيادا كلاهما لدعوة قال لما أذن لزياد في الحج تجهز فبينا هو يتجهز و أصحاب القرب يعرضون عليه قربهم إذ تقدم عباد و كان خرازا فصار يعرض عليه و يحاوره و يجيبه فقال زياد وي من أنت قال أنا ابنك قال ويحك و أي بني قال قد وقعت على أمي فلانة و كانت من بني كذا فولدتني و كنت في بني قيس بن ثعلبة و أنا مملوك لهم فقال صدقت و الله إني لأعرف ما تقول فبعث فاشتراه و ادعاه و ألحقه و كان يتعهد بني قيس بن ثعلبة بسببه و يصلهم و عظم أمر عباد حتى ولاه معاوية سجستان بعد موت زياد و ولى أخاه عبيد الله البصرة فتزوج عباد الستيرة ابنة أنيف بن زياد الكلبي فقال الشاعر يخاطب أنيفا و كان سيد كلب في زمانه (17/170)
أبلغ لديك أبا تركان مألكة أ نائما كنت أم بالسمع من صمم أنكحت عبد بني قيس مهذبة آباؤها من عليم معدن الكرم أ كنت تجهل عبادا و محتده لا در درك أم أنكحت من عدم أ بعد آل أبي سفيان تجعله صهرا و بعد بني مروان و الحكم أعظم عليك بذا عارا و منقصة ما دمت حيا و بعموت في الرحم
و قال الحسن البصري ثلاث كن في معاوية لو لم تكن فيه إلا واحدة منهن لكانت موبقة انتزاؤه على هذه الأمة بالسفهاء حتى ابتزها أمرها و استلحاقه زيادا مراغمة
لقول رسول الله الولد للفراش و للعاهر الحجر
و قتله حجر بن عدي فيا ويله من حجر و أصحاب حجر. شرح نهج البلاغة ج : 16 ص : 194و روى الشرقي بن القطامي قال كان سعيد بن سرح مولى حبيب بن عبد شمس شيعة لعلي بن أبي طالب ع فلما قدم زياد الكوفة طلبه و أخافه فأتى الحسن بن علي ع مستجيرا به فوثب زياد على أخيه و ول و امرأته فحبسهم و أخذ ماله و نقض داره
فكتب الحسن بن علي ع إلى زياد أما بعد فإنك عمدت إلى رجل من المسلمين له ما لهم و عليه ما عليهم فهدمت داره و أخذت ماله و حبست أهله و عياله فإن أتاك كتابي هذا فابن له داره و اردد عليه عياله و ماله و شفعني فيه فقد أجرته و السلام (17/171)
فكتب إليه زياد من زياد بن أبي سفيان إلى الحسن بن فاطمة أما بعد فقد أتاني كتابك تبدأ فيه بنفسك قبلي و أنت طالب حاجة و أنا سلطان و أنت سوقة و تأمرني فيه بأمر المطاع المسلط على رعيته كتبت إلي في فاسق آويته إقامة منك على سوء الرأي و رضا منك بذلك و ايم الله لا تسبقني به و لو كان بين جلدك و لحمك و إن نلت بعضك غير رفيق بك و لا مرع عليك فإن أحب لحم علي أن آكله للحم الذي أنت منه فسلمه بجريرته إلى من هو أولى به منك فإن عفوت عنه لم أكن شفعتك فيه و إن قتلته لم أقتله إلا لحبه أباك الفاسق و السلام. فلما ورد الكتاب على الحسن ع قرأه و تبسم و كتب بذلك إلى معاوية و جعل كتاب زياد عطفه و بعث به إلى الشام و كتب جواب كتابه كلمتين لا ثالثة لهما
من الحسن بن فاطمة إلى زياد ابن سمية أما بعد فإن رسول الله ص قال الولد للفراش و للعاهر الحجر و السلام
فلما قرأ معاوية كتاب زياد إلى الحسن ضاقت به الشام و كتب إلى زياد أما بعد فإن الحسن بن علي بعث إلي بكتابك إليه جوابا عن كتاب كتبه شرح نهج البلاغة ج : 16 ص : 195إليك في ابن سرح فأكثرت العجب منك و علمت أن لك رأيين أحدهما من أبي سفيان و الآخر من سمية فأما ال من أبي سفيان فحلم و حزم و أما الذي من سمية فما يكون من رأي مثلها من ذلك كتابك إلى الحسن تشتم أباه و تعرض له بالفسق و لعمري إنك الأولى بالفسق من أبيه فأما أن الحسن بدأ بنفسه ارتفاعا عليك فإن ذلك لا يضعك لو عقلت و أما تسلطه عليك بالأمر فحق لمثل الحسن أن يتسلط و أما تركك تشفيعه فيما شفع فيه إليك فحظ دفعته عن نفسك إلى من هو أولى به منك فإذا ورد عليك كتابي فخل ما في يديك لسعيد بن أبي سرح و ابن له داره و اردد عليه ماله و لا تعرض له فقد كتبت إلى الحسن أن يخيره إن شاء أقام عنده و إن شاء رجع إلى بلده و لا سلطان لك عليه لا بيد و لا لسان و أما كتابك إلى الحسن باسمه و اسم أمه و لا تنسبه إلى أبيه فإن الحسن ويحك من لا يرمى به الرجوان و إلى أي أم وكلته لا أم لك أ ما علمت أنها فاطمة بنت رسول الله ص فذاك أفخر له لو كنت تعلمه و تعقله و كتب في أسفل الكتاب شعرا من جملته (17/172)
أما حسن فابن الذي كان قبله إذا سار سار الموت حيث يسيرو هل يلد الرئبال إلا نظيره و ذا حسن شبه له و نظيرو لكنه لو يوزن الحلم و الحجا بأمر لقالوا يذبل و ثبير
شرح نهج البلاغة ج : 16 ص : 196و روى الزبير بن بكار في الموفقيات أن عبد الملك أجرى خيلا فسبقه عباد بن زياد فأنشد عبد الملكسبق عباد و صلت لحيته و كان خرازا تجود قربته
فشكا عباد قول عبد الملك إلى خالد بن يزيد بن معاوية فقال له أما و الله لأنصفنك منه بحيث يكره فزوجه أخته فكتب الحجاج إلى عبد الملك يا أمير المؤمنين إن مناكح آل أبي سفيان قد ضاعت فأخبر عبد الملك خالدا بما كتب به الحجاج فقال خالد يا أمير المؤمنين ما أعلم امرأة منا ضاعت و نزلت إلا عاتكة بنت يزيد بن معاوية فإنها عندك و لم يعن الحجاج غيرك قال عبد الملك بل عنى الدعي ابن الدعي عبادا قال خالد يا أمير المؤمنين ما أنصفتني أدعي رجلا ثم لا أزوجه إنما كنت ملوما لو زوجت دعيك فأما دعيي فلم لا أزوجه. فأما أول ما ارتفع به زياد فهو استخلاف ابن عباس له على البصرة في خلافة علي ع و بلغت عليا عنه هنات فكتب إليه يلومه و يؤنبه فمنها الكتاب الذي ذكر الرضي رحمه الله بعضه و قد شرحنا فيما تقدم ما ذكر الرضي منه و كان علي ع أخرج إليه سعدا مولاه يحثه على حمل مال البصرة إلى الكوفة و كان بين سعد و زياد ملاحاة و منازعة و عاد سعد و شكاه إلى علي ع و عابه (17/173)
فكتب علي ع إليه أما بعد فإن سعدا ذكر أنك شتمته ظلما و هددته و جبهته تجبرا و تكبرا فما دعاك إلى التكبر و قد قال رسول الله ص الكبر رداء الله فمن نازع الله رداءه قصمه و قد أخبرني أنك تكثر من الألوان المختلفة في الطعام في اليوم الواحد شرح نهج البلاغة ج : 16 : 197و تدهن كل يوم فما عليك لو صمت لله أياما و تصدقت ببعض ما عندك محتسبا و أكلت طعامك مرارا قفارا فإن ذلك شعار الصالحين أ فتطمع و أنت متمرغ في النعيم تستأثر به على الجار و المسكين و الضعيف و الفقير و الأرملة و اليتيم أن يحسب لك أجر المتصدقين و أخبرني أنك تتكلم بكلام الأبرار و تعمل عمل الخاطئين فإن كنت تفعل ذلك فنفسك ظلمت و عملك أحبطت فتب إلى ربك يصلح لك عملك و اقتصد في أمرك و قدم إلى ربك الفضل ليوم حاجتك و ادهن غبا فإني سمعت رسول الله ص يقول ادهنوا غبا و لا تدهنوا رفها
فكتب إليه زياد أما بعد يا أمير المؤمنين فإن سعدا قدم علي فأساء القول و العمل فانتهرته و زجرته و كان أهلا لأكثر من ذلك و أما ما ذكرت من الإسراف و اتخاذ الألوان من الطعام و النعم فإن كان صادقا فأثابه الله ثواب الصالحين و إن كان كاذبا فوقاه الله أشد عقوبة الكاذبين و أما قوله إني أصف العدل و أخالفه إلى غيره فإني إذن من الأخسرين فخذ يا أمير المؤمنين بمقال قلته في مقام قمته الدعوى بلا بينة كالسهم بلا نصل فإن أتاك بشاهدي عدل و إلا تبين لك كذبه و ظلمه. و من كلام زياد تأخير جزاء المحسن لؤم و تعجيل عقوبة المسي ء طيش و كتب إليه معاوية أما بعد فاعزل حريث بن جابر عن العمل فإني لا أذكر مقاماته بصفين إلا كانت حزازة في صدري فكتب إليه زياد أما بعد فخفض عليك يا أمير المؤمنين فإن حريثا قد سبق شرفا لا يرفعه معه عمل و لا يضعه معه عزل. شرح نهج البلاغة ج : 16 ص : 198و قال لابنهبيد الله عليك بالحجاب و إنما اجترأت الرعاة على السباع بكثرة نظرها إليها. و من كلامه أحسنوا إلى أهل الخراج فإنكم لا تزالون سمانا ما سمنوا. قدم رجل خصما له إلى زياد في حق له عليه و قال أيها الأمير إن هذا يدل بخاصة ذكر أنها له منك قال زياد صدق و سأخبرك بما ينفعه عندي من خاصته و مودته إن يكن له الحق عليك آخذك به أخذا عنيفا و إن يكن الحق لك قضيت عليه ثم قضيت عنه. و قال ليس العاقل من يحتال للأمر إذا وقع فيه لكن العاقل من يحتال للأمر ألا يقع فيه. و قال في خطبة له إلا رب مسرور بقدومنا لا نسره و خائف ضرنا لا نضره. كان مكتوبا في الحيطان الأربعة في قصر زياد كتابة بالجص أربعة أسطر أولها الشدة في غير عنف و اللين في غير ضعف و الثاني المحسن مجازى بإحسانه و المسي ء يكافأ بإساءته و الثالث العطيات و الأرزاق في إبانها و أوقاتها و الرابع لا احتجاب عن صاحب ثغر و لا عن طارق ليل.و قال يوما على المنبر إن الرجل ليتكلم بالكلمة يشفي بها غيظه لا يقطع (17/174)
بها ذنب عنز فتضره لو بلغتنا عنه لسفكنا دمه. و قال ما قرأت كتاب رجل قط إلا عرفت عقله منه. و قال في خطبة استوصوا بثلاثة منكم خيرا الشريف و العالم و الشيخ فو الله لا يأتيني وضيع بشريف يستخف به إلا انتقمت منه أو شاب بشيخ يستخف به إلا أوجعته ضربا و لا جاهل بعالم يستخف به إلا نكلت به. شرح نهج البلاغة ج : 16 ص : 199و قيل لزياد ما الحظ قال أن يطول عمرك و ترى في عدوك ما يسرك. قيل كان زياد يقول هما طريقان للعامة الطاعة و السيف. و كان المغيرة يقول لو الله حتى يحملوا على سبعين طريقا غير السيف. و قال الحسن البصري لرجل أ لا تحدثني بخطبتي زياد و الحجاج حين دخلا العراق قال بلى أما زياد فلما قدم البصرة حمد الله و أثنى عليه ثم قال أما بعد فإن معاوية غير مخوف على قومه و لم يكن ليلحق بنسبة من ليس منه و قد شهدت الشهود بما قد بلغكم و الحق أحق أن يتبع و الله حيث وضع البينات كان أعلم و قد رحلت عنكم و أنا أعرف صديقي من عدوي ثم قدمت عليكم و قد صار العدو صديقا مناصحا و الصديق عدوا مكاشحا فليشتمل كل امرئ على ما في صدره و لا يكونن لسانه شفرة تجري على أوداجه و ليعلم أحدكم إذا خلا بنفسه أني قد حملت سيفي بيدي فإن أشهره لم أغمده و إن أغمده لم أشهره ثم نزل و أما الحجاج فإنه قال من أعياه داؤه فعلي دواؤه و من استبطأ أجله فعلي أن أعجله ألا إن الحزم و العزم استلبا مني سوطي و جعلا سوطي سيفي فنجاده في عنقي و قائمه بيدي و ذبابه قلادة لمن اغتر بي. فقال الحسن البؤس لهما ما أغرهما بربهما اللهم اجعلنا ممن يعتبر بهما. و قال بعضهم ما رأيت زيادا كاسرا إحدى عينيه واضعا إحدى رجليه على الأخرى يخاطب رجلا إلا رحمت المخاطب. و من كلامه نعم الشي ء الإمارة لو لا قعقعة لجام البريد و تسنم ذروة المنب. قال لحاجبه يا عجلان إني قد وليتك هذا الباب و عزلتك عن أربعة المنادي إذا جاء يؤذن بالصلاة فإنها كانت كتابا موقوتا و رسول صاحب الثغر (17/175)
فإنه إن أبطأ (17/176)
شرح نهج البلاغة ج : 16 ص : 200ساعة فسد تدبير سنة و طارق الليل فشر ما جاء به و الطباخ إذا فرغ من الطعام فإنه متى أعيد عليه التسخين فسد. و كان حارثة بن بدر الغداني قد غلب على زياد و كان حارثة مشتهرا بالشراب فقيل لزياد في ذلك فقال كيف بإطراح رجل هو يسايرنينذ قدمت العراق فلا يصل ركابه ركابي و لا تقدمني قط فنظرت إلى قفاه و لا تأخر عني فلويت عنقي إليه و لا أخذ علي الشمس في شتاء قط و لا الروح في صيف قط و لا سألته عن علم إلا ظننته لا يحسن غيره. و من كلامه كفى بالبخل عارا أن اسمه لم يقع في حمد قط و كفى بالجود فخرا أن اسمه لم يقع في ذم قط. و قال ملاك السلطان الشدة على المريب و اللين للمحسن و صدق الحديث و الوفاء بالعهد. و قال ما أتيت مجلسا قط إلا تركت منه ما لو أخذته لكان لي و ترك ما لي أحب إلي من أخذ ما ليس لي. و قال ما قرأت مثل كتب الربيع بن زياد الحارثي ما كتب إلي كتابا قط إلا في اجترار منفعة أو دفع مضرة و لا شاورته يوما قط في أمر مبهم إلا و سبق إلى الرأي. و قال يعجبني من الرجل إذا أتى مجلسا أن يعلم أين مكانه منه فلا يتعداه إلى غيره و إذا سيم خطة خسف أن يقول لا بمل ء فيه. فأما خطبة زياد المعروفة بالبتراء و إنما سيت بذلك لأنه لم يحمد الله فيها و لا صلى على رسوله فقد ذكرها علي بن محمد المدائني قال قدم زياد البصرة أميرا عليها أيام معاوية و الفسق فيها فاش جدا و أموال الناس منتهبة و السياسة ضعيفة فصعد المنبر فقال شرح نهج البلاغة ج : 16 ص : 201أما بعد فإن الجاهلية الجاء و الضلالة العمياء و الغي الموفد لأهله على النار ما فيه سفهاؤكم و يشتمل عليه حلماؤكم من الأمور العظام ينبت فيها الصغير و لا يتحاشى منها الكبير كأنكم لم تقرءوا كتاب الله و لم تستمعوا ما أعد من الثواب الكثير لأهل طاعته و العذاب الأليم لأهل معصيته في الزمن السرمد الذي لا يزول. أ تكونون كمن طرفت عينه الدنيا و
سدت مسامعه الشهوات و اختار الفانية على الباقية لا تذكرون أنكم أحدثتم في الإسلام الحدث الذي لم تسبقوا به من ترككم الضعيف يقهر و يؤخذ ماله و الضعيفة المسلوبة في النهار المبصر هذا و العدد غير قليل. أ لم يكن منكم نهاه تمنع الغواة عن دلج الليل و غارة النهار قربتم القرابة و باعدتم الذين يعتذرون بغير العذر و يعطون على المختلس كل امرئ منكم يذب عن سيفه صنيع من لا يخاف عاقبة و لا يرجو معادا ما أنتم بالحلماء و قد اتبعتم السفهاء فلم يزل بهم ما ترون من قيامكم دونهم حتى انتهكوا حرمة الإسلام ثم أطرقوا وراءكم كنوسا في مكانس الريب حرم علي الطعام و الشراب حتى أسويها بالأرض هدما و إحراقا إني رأيت آخر هذا الأمر لا يصلح إلا بما صلح به أوله لين في غير ضعف و شدة في غير عنف و أنا أقسم بالله لآخذن الولي بالولي و الظاعن بالظاعن و المقبل بالمدبر و الصحيح منكم في نفسه بالسقيم حتى يلقى الرجل أخاه (17/177)
شرح نهج البلاغة ج : 16 ص : 202فيقول انج سعد فقد هلك سعيد أو تستقيم لي قناتكم. إن كذبة المنبر تلفى مشهورة فإذا تعلقتم علي بكذبة فقد حلت لكم معصيتي من نقب عليه منكم فأنا ضامن لما ذهب منه فإياكم و دلج الليل فإني لا أوتى بمدلج إلا سفكت دمه و قد أجلتكم بقدر يأتي الخبر الكوفة و يرجع إليكم. إياكم و دعوى الجاهلية فإني لا أجد أحدا دعا بها إلا قطعت لسانه و قد أحدثتم أحداثا و قد أحدثنا لكل ذنب عقوبة فمن غرق بيوت قوم غرقناه و من حرق على قوم حرقناه و من نقب على أحد بيتا نقبنا على قلبه و من نبش قبرا دفناه فيه حيا. كفوا عني أيديكم و ألسنتكم أكف عنكم يدي و لساني و لا يظهرن من أحدكم خلاف ما عليه عامتكم فأضرب عنقه و قد كانت بيني و بين أقوام إحن فقد جعلت ذلك وراء أذني و تحت قدمي فمن كان منكم محسنا فليزدد إحسانا و من كان مسيئا فلينزع عن إساءته إني لو علمت أن أحدكم قد قتله السلال من بغضي لم أكشف عنه قناعا و لم أهتك له سترا حتى يبدي لي صفحته فإذا فعل لم أناظره فاستأنفوا أموركم و أعينوا على أنفسكم فرب مبتئس بقدومنا سيسر و مسرور بقدومنا سيبأس أيها الناس إنا أصبحنا لكم ساسة و عنكم ذادة نسوسكم بسلطان الله الذي أعطاناه و نذود عنكم بفي ء الله الذي خولناه فلنا عليكم السمع و الطاعة فيما أحببنا و لكم علينا العدل و الإنصاف فيما ولينا فاستوجبوا عدلنا و فيئنا بمناصحتكم لنا و اعلموا أني مهما قصرت عنه فلن أقصر عن ثلاث لست محتجبا عن طالب حاجة منكم شرح نهج البلاغة ج : 16 ص : 203و لا حابسا ع و لا مجمرا بعثا فادعوا الله بالصلاح لأئمتكم فإنهم ساستكم المؤدبون و كهفكم الذي إليه تأوون و متى يصلحوا تصلحوا فلا تشربوا قلوبكم بغضهم فيشتد لذلك غيظكم و يطول لذلك حزنكم و لا تدركوا حاجتكم مع أنه لو استجيب لأحد منكم لكان شرا لكم أسأل الله أن يعين كلا على كل و إذا رأيتموني أنفذ فيكم الأمر فانفذوه على أذلاله و ايم الله إن لي (17/178)
فيكم لصرعى كثيرة فليحذر كل امرئ منكم أن يكون من صرعاي. فقام عبد الله بن الأهتم فقال أشهد أيها الأمير لقد أوتيت الحكمة و فصل الخطاب. فقال كذبت ذاك نبي الله داود. فقام الأحنف فقال إنما الثناء بعد البلاء و الحمد بعد العطاء و إنا لا نثني حتى نبتلى و لا نحمد حتى نعطى فقال زياد صدقت فقام أبو بلال مرداس بن أدية يهمس و يقول أنبأنا الله بغير ما قلت فقال وَ إِبْراهِيمَ الَّذِي وَفَّى أَلَّا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى فسمعها زياد فقال يا أبا بلال إنا لا نبلغ ما نريد بأصحابك حتى نخوض إليهم الباطل خوضا. و روى الشعبي قال قدم زياد الكوفة لما جمعت له مع البصرة فدنوت من المنبر لأسمع كلامه فلم أر أحدا يتكلم فيحسن إلا تمنيت أن يسكت مخافة أن يسي ء إلا زيادا فإنه كان لا يزداد إكثارا إلا ازداد إحسانا فكنت أتنى ألا يسكت. (17/179)
شرح نهج البلاغة ج : 16 ص : 204و روى الشعبي أيضا قال لما خطب زياد خطبته البتراء بالبصرة و نزل سمع تلك الليلة أصوات الناس يتحارسون فقال ما هذا قالوا إن البلد مفتونة و إن المرأة من أهل المصر لتأخذها الفتيان الفساق فيقال لها نادي ثلاث أصوات فإن أجابك أحد و ا فلا لوم علينا فيما نصنع فغضب فقال ففيم أنا و فيم قدمت فلما أصبح أمر فنودي في الناس فاجتمعوا فقال أيها الناس إني قد نبئت بما أنتم فيه و سمعت ذروا منه و قد أنذرتكم و أجلتكم شهرا مسير الرجل إلى الشام و مسيره إلى خراسان و مسيره إلى الحجاز فمن وجدناه بعد شهر خارجا من منزله بعد العشاء الآخرة فدمه هدر فانصرف الناس يقولون هذا القول كقول من تقدمه من الأمراء فلما كمل الشهر دعا صاحب شرطته عبد الله بن حصين اليريوعي و كانت رجال الشرطة معه أربعة آلاف فقال له هيئ خيلك و رجلك فإذا صليت العشاء الآخرة و قرأ القارئ مقدار سبع من القرآن و رفع الطن القصب من القصر فسر و لا تلقين أحدا عبيد الله بن زياد فمن دونه إلا جئتني برأسه و إن راجعتني في أحد ضربت عنقك. قال فصبح على باب القصر تلك الليلة سبعمائة رأس ثم خرج الليلة الثانية فجاء بخمسين رأسا ثم خرج الليلة الثالثة فجاء برأس واحد ثم لم يجي ء بعدها بشي ء و كان الناس إذا صلوا العشاء الآخرة أحضروا إلى منازلهم شدا حثيثا و قد يترك بعضهم نعاله. كتبت عائشة إلى زياد كتابا فلم تدر ما تكتب عنوانه إن كتبت زياد بن عبيد أو ابن أبيه أغضبته و إن كتبت زياد بن أبي سفيان أثمت فكتبت من أم المؤمنين إلابنها زياد فلما قرأه ضحك و قال لقد لقيت أم المؤمنين من هذا العنوان نصبا (17/180)
شرح نهج البلاغة ج : 16 ص : 45205- و من كتاب له ع إلى عثمان بن حنيف الأنصاري و كان عامله على البصرةو قد بلغه أنه دعي إلى وليمة قوم من أهلها فمضى إليها قوله
أَمَّا بَعْدُ يَا ابْنَ حُنَيْفٍ فَقَدْ بَلَغَنِي أَنَّ رَجُلًا مِنْ فِتْيَةِ أَهْلِ الْبَصْرَةِ دَعَاكَ إِلَى مَأْدُبَةٍ فَأَسْرَعْتَ إِلَيْهَا تُسْتَطَابُ لَكَ الْأَلْوَانُ وَ تُنْقَلُ إِلَيْكَ الْجِفَانُ وَ مَا ظَنَنْتُ أَنَّكَ تُجِيبُ إِلَى طَعَامِ قَوْمٍ عَائِلُهُمْ مَجْفُوٌّ وَ غَنِيُّهُمْ مَدْعُوٌّ فَانْظُرْ إِلَى مَا تَقْضَمُهُ مِنْ هَذَا الْمَقْضَمِ فَمَا اشْتَبَهَ عَلَيْكَ عِلْمُهُ فَالْفِظْهُ وَ مَا أَيْقَنْتَ بِطِيبِ وَجْهِهِ فَنَلْ مِنْهُ أَلَا وَ إِنَّ لِكُلِّ مَأْمُومٍ إِمَاماً يَقْتَدِي بِهِ وَ يَسْتَضِي ءُ بِنُورِ عِلْمِهِ أَلَا وَ إِنَّ إِمَامَكُمْ قَدِ اكْتَفَى مِنْ دُنْيَاهُ بِطِمْرَيْهِ وَ مِنْ طُعْمِهِ بِقُرْصَيْهِ أَلَا وَ إِنَّكُمْ لَا تَقْدِرُونَ عَلَى ذَلِكَ وَ لَكِنْ أَعِينُونِي بِوَرَعٍ وَ اجْتِهَادٍ وَ عِفَّةٍ وَ سَدَادٍ فَوَاللَهِ مَا كَنَزْتُ مِنْ دُنْيَاكُمْ تِبْراً وَ لَا ادَّخَرْتُ مِنْ غَنَائِمِهَا وَفْراً وَ لَا أَعْدَدْتُ لِبَالِي ثَوْبِي طِمْراً وَ لَا حُزْتُ مِنْ أَرْضِهَا شِبْراً وَ لَا أَخَذْتُ مِنْهُ إِلَّا كَقُوتِ أَتَانٍ دَبِرَةٍ وَ لَهِيَ فِي عَيْنِي أَوْهَى مِنْ عَفْصَةٍ مَقِرَةٍ (17/181)
عثمان بن حنيف و نسبه
هو عثمان بن حنيف بضم الحاء بن واهب بن العكم بن ثعلبة بن الحارث الأنصاري شرح نهج البلاغة ج : 16 ص : 206ثم الأوسي أخو سهل بن حنيف يكنى أبا عمرو و قيل أبا عبد الله عمل لعمر ثم لعلي ع و ولاه عمر مساحة الأرض و جبايتها بالعراق و ضرب الخراج و الجزية على أهلها ولاه علي ع على البصرة فأخرجه طلحة و الزبير منها حين قدماها و سكن عثمان الكوفة بعد وفاة علي ع و مات بها في زمن معاوية.
قوله من فتية البصرة أي من فتيانها أي من شبابها أو من أسخيائها يقال للسخي هذا فتى و الجمع فتية و فتيان و فتو و يروى أن رجلا من قطان البصرة أي سكانها. و المأدبة بضم الدال الطعام يدعى إليه القوم و قد جاءت بفتح الدال أيضا و يقال أدب فلان القوم يأدبهم بالكسر أي دعاهم إلى طعامه و الآدب الداعي إليه قال طرفة (17/182)
نحن في المشتاة ندعو الجفلى لا ترى الآدب فينا ينتقر
و يقال أيضا آدبهم إلى طعامه يؤدبهم إيدابا و يروى و كثرت عليك الجفان فكرعت و أكلت أكل ذئب نهم أو ضبع قرم. و روي و ما حسبتك تأكل طعام قوم. ثم ذم أهل البصرة فقال عائلهم مجفو و غنيهم مدعو و العائل الفقير و هذا كقول الشاعر
فإن تملق فأنت لنا عدو فإن تثر فأنت لنا صديق
شرح نهج البلاغة ج : 16 ص : 207ثم أمره بأن يترك ما فيه شبهة إلى ما لا شبهة فيه و سمي ذلك قضما و مقضما و إن كان مما لا يقضم لاحتقاره له و ازدرائه إياه و أنه عنده ليس مما يستحق أن يسمى بأسماء المرغوب فيه المتنافس عليه و ذلك لأن القضم يطلق على معنيين أحدهمالى أكل الشي ء اليابس و الثاني على ما يؤكل ببعض الفم و كلاهما يدلان على أن ذلك المقضم المرغوب عنه لا فيه. ثم ذكر ع حال نفسه فقال إن إمامكم قد قنع من الدنيا بطمريه و الطمر الثوب الخلق البالي و إنما جعلهما اثنين لأنهما إزار و رداء لا بد منهما أي للجسد و الرأ. قال و من طعمه بقرصيه أي قرصان يفطر عليهما لا ثالث لهما و روي قد اكتفى من الدنيا بطمريه و سد فورة جوعه بقرصيه لا يطعم الفلذة في حوليه إلا في يوم أضحية. ثم قال إنكم لن تقدروا على ما أقدر عليه و لكني أسألكم أن تعينوني بالورع و الاجتهاد. ثم أقسم أنه ما كنز ذهبا و لا ادخر مالا و لا أعد ثوبا باليا سملا لبالي ثوبيه فضلا عن أن يعد ثوبا قشيبا كما يفعله الناس في إعداد ثوب جديد ليلبسوه عوض الأسمال التي ينزعونها و لا حاز من أرضها شبرا و الضمير في أرضها يرجع إلى دنياكم و لا أخذ منها إلا كقوت أتان دبرة و هي التي عقر ظهرها فقل أكلها. ثم قال و لهي في عيني أهون من عفصة مقرة أي مرة مقر الشي ء بالكسر أي صار مرا و أمقره بالهمز أيضا قال لبيد ممقر مر على أعدائه و على الأدنين حلو كالعسل (17/183)
شرح نهج البلاغة ج : 16 ص : 208بَلَى كَانَتْ فِي أَيْدِينَا فَدَكٌ مِنْ كُلِّ مَا أَظَلَّتْهُ السَّمَاءُ فَشَحَّتْ عَلَيْهَا نُفُوسُ قَوْمٍ وَ سَخَتْ عَنْهَا نُفُوسُ آخَرِينَ وَ نِعْمَ الْحَكَمُ اللَّهُ وَ مَا أَصْنَعُ بِفَدَكٍ وَ غَيْرِ فَدَكٍ وَ النَّفُ مَظَانُّهَا فِي غَدٍ جَدَثٌ تَنْقَطِعُ فِي ظُلْمَتِهِ آثَارُهَا وَ تَغِيبُ أَخْبَارُهَا وَ حُفْرَةٌ لَوْ زِيدَ فِي فُسْحَتِهَا وَ أَوْسَعَتْ يَدَا حَافِرِهَا لَأَضْغَطَهَا الْحَجَرُ وَ الْمَدَرُ وَ سَدَّ فُرَجَهَا التُّرَابُ الْمُتَرَاكِمُ وَ إِنَّمَا هِيَ نَفْسِي أَرُوضُهَا بِالتَّقْوَى لِتَأْتِيَ آمِنَةً يَوْمَ الْخَوْفِ الْأَكْبَرِ وَ تَثْبُتَ عَلَى جَوَانِبِ الْمَزْلَقِ (17/184)
الجدث القبر و أضغطها الحجر جعلها ضاغطة و الهمزة للتعدية و يروى و ضغطها. و قوله مظانها في غد جدث المظان جمع مظنة و هو موضع الشي ء و مألفه الذي يكون فيه قال فإن يك عامر قد قال جهلا فإن مظنة الجهل الشباب
يقول لا مال لي و لا اقتنيت فيما مضى مالا و إنما كانت في أيدينا فدك فشحت عليها نفوس قوم أي بخلت و سخت عنها نفوس آخرين سامحت و أغضت و ليس يعني هاهنا بالسخاء إلا هذا لا السخاء الحقيقي لأنه ع و أهله لم يسمحوا بفدك إلا غصبا و قسرا و قد قال هذه الألفاظ في موضع آخر فيما تقدم و هو يعني الخلافة بعد وفاة رسول الله ص. شرح نهج البلاغة ج : 16 ص : 209ثم قال و نعم الحكم الله الحكم الحاكم و هذا الكلام كلام شاك متظلم ثم ذكر مال الإنسان و أنه لا ينبغي أن يكترث بالقينات و الأموال فإنه يصير عن قريب إلى دار البلى و منازل المو. ثم ذكر أن الحفرة ضيقة و أنه لو وسعها الحافر لألجأها الحجر المتداعي و المدر المتهافت إلى أن تضغط الميت و تزحمه و هذا كلام محمول على ظاهره لأنه خطاب للعامة و إلا فأي فرق بين سعة الحفرة و ضيقها على الميت اللهم إلا أن يقول قائل إن الميت يحس في قبره فإذا قيل ذلك فالجاعل له حساسا بعد عدم الحس هو الذي يوسع الحفرة و إن كان الحافر قد جعلها ضيقة فإذن هذا الكلام جيد لخطاب العرب خاصة و من يحمل الأمور على ظواهرها. ثم قال و إنما هي نفسي أروضها بالتقوى يقول تقللي و اقتصاري من المطعم و الملبس على الجشب و الخشن رياضة لنفسي لأن ذلك إنما أعمله خوفا من الله أن أنغمس في الدنيا فالرياضة بذلك هي رياضة في الحقيقة بالتقوى لا بنفس التقلل و التقشف لتأتي نفسي آمنة يوم الفزع الأكبر و تثبت في مداحض الزلق (17/185)
ذكر ما ورد من السير و الأخبار في أمر فدك
و اعلم أنا نتكلم في شرح هذه الكلمات بثلاثة فصول الفصل الأول فيما ورد في الحديث و السير من أمر فدك و الفصل الثاني في هل النبي ص يورث أم لا و الفصل الثالث في أن فدك هل صح كونها نحلة من رسول الله ص لفاطمة أم لا جئت شيئا فريا فدونكها مخطومة مرحولة تلقاك يوم حشرك فنعم الحكم الله و الزعيم محمد و الموعد القيامة و عند الساعة يخسر المبطلون و لكل نبأ مستقر و سوف تعلمون من يأتيه عذاب يخزيه و يحل عليه عذاب مقيم ثم التفتت إلى قبر أبيها فتمثلت بقول هند بنت أثاثة (17/186)
قد كان بعدك أنباء و هينمة لو كنت شاهدها لم تكثر الخطب أبدت رجال لنا نجوى صدورهم لما قضيت و حالت دونك الكتب تجهمتنا رجال و استخف بنا إذا غبت عنا فنحن اليوم نغتصقال و لم ير الناس أكثر باك و لا باكية منهم يومئذ ثم عدلت إلى مسجد الأنصار فقالت يا معشر البقية و أعضاد الملة و حضنة الإسلام ما هذه الفترة عن نصرتي و الونية عن معونتي و الغمزة في حقي و السنة عن ظلامتي أ ما كان رسول الله ص يقول المرء يحفظ في ولده سرعان ما أحدثتم و عجلان ما أتيتم أ لأن مات رسول الله ص أمتم دينه ها إن موته لعمري خطب جليل استوسع وهنه شرح نهج البلاغة ج : 16 ص : 213و استبهم فتقه و فقد راتقه و أظلمت الأرض له و خشعت الجبال و أكدت الآمال أضيع بعده الحريم و هتكت الحرمة و أذيلت المصونة و تلك نازلة أع بها كتاب الله قبل موته و أنبأكم بها قبل وفاته فقال وَ ما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَ فَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ وَ مَنْ يَنْقَلِبْ عَلى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً وَ سَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ إيها بني قيلة اهتضم تراث أبي و أنتم بمرأى و مسمع تبلغكم الدعوة و يشملكم الصوت و فيكم العدة و العدد و لكم الدار و الجنن و أنتم نخبة الله التي انتخب و خيرته التي اختار باديتم العرب و بادهتم الأمور و كافحتم البهم حتى دارت بكم رحى الإسلام و در حلبه و خبت نيران الحرب و سكنت فورة الشرك و هدأت دعوة الهرج و استوثق نظام الدين أ فتأخرتم بعد الإقدام و نكصتم بعد الشدة و جبنتم بعد الشجاعة عن قوم نكثوا أيمانهم من بعد عهدهم و طعنوا في دينكم فقاتلوا أئمة الكفر إنهم لا أيمان لهم لعلهم ينتهون ألا و قد أرى أن قد أخلدتم إلى الخفض و ركنتم إلى الدعة فجحدتم الذي وعيتم و سغتم الذي سوغتم و إن تكفروا أنتم و من في الأرض جميعا فإن الله لغني حميد ألا و قد قلت لكم ما قلت (17/187)
على معرفة مني بالخذلة التي خامرتكم و خور القناة و ضعف اليقين فدونكموها فاحتووها مدبرة الظهر ناقبة الخف باقية العار موسومة الشعار موصولة بنار الله الموقدة التي تطلع على الأفئدة فبعين الله ما تعملون وَ سَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ (17/188)
قال و حدثني محمد بن زكريا قال حدثنا محمد بن الضحاك قال حدثنا هشام بن محمد عن عوانة بن الحكم قال لما كلمت فاطمة ع أبا بكر بما كلمته به حمد أبو بكر الله و أثنى عليه و صلى على رسوله ثم قال يا خيرة النساء و ابنة خير الآباء و الله ما عدوت رأي رسول الله ص و ما عملت إلا بأمره و إن الرائد شرح نهج البلاغة ج : 16 ص : 214لا يكذب أهله و قد قلت فأبلغت و أغلظت فأهجرت فغفر الله لنا و لك أما بعد فقد دفعت آلة رسول الله و دابته و حذاءه إلى علي ع و أما ما سوى ذلك فإني سمعت رسول الله ص يقول إنا معاشر الأنبياء لا نورث ذهبا وا فضة و لا أرضا و لا عقارا و لا دارا و لكنا نورث الإيمان و الحكمة و العلم و السنة فقد عملت بما أمرني و نصحت له و ما توفيقي إلا بالله عليه توكلت و إليه أنيب
قال أبو بكر و روى هشام بن محمد عن أبيه قال قالت فاطمة لأبي بكر إن أم أيمن تشهد لي أن رسول الله ص أعطاني فدك فقال لها يا ابنة رسول الله و الله ما خلق الله خلقا أحب إلي من رسول الله ص أبيك و لوددت أن السماء وقعت على الأرض يوم مات أبوك و الله لأن تفتقر عائشة أحب إلي من أن تفتقري أ تراني أعطي الأحمر و الأبيض حقه و أظلمك حقك و أنت بنت رسول الله ص إن هذا المال لم يكن للنبي ص و إنما كان مالا من أموال المسلمين يحمل النبي به الرجال و ينفقه في سبيل الله فلما توفي رسول الله ص وليته كما كان يليه قالت و الله لا كلمتك أبدا قال و الله لا هجرتك أبدا قالت و الله لأدعون الله عليك قال و الله لأدعون الله لك فلما حضرتها الوفاة أوصت ألا يصلي عليها فدفنت ليلا و صلى عليها عباس بن عبد المطلب و كان بين وفاتها و وفاة أبيها اثنتان و سبعون ليلة. (17/189)
قال أبو بكر و حدثني محمد بن زكريا قال حدثنا جعفر بن محمد بن عمارة بالإسناد الأول قال فلما سمع أبو بكر خطبتها شق عليه مقالتها فصعد المنبر و قال أيها الناس ما هذه الرعة إلى كل قالة أين كانت هذه الأماني في عهد رسول الله ص شرح نهج البلاغة ج : 16 ص : 215ألا سمع فليقل و من شهد فليتكلم إنما هو ثعالة شهيده ذنبه مرب لكل فتنة هو الذي يقول كروها جذعة بعد ما هرمت يستعينون بالضعفة و يستنصرون بالنساء كأم طحال أحب أهلها إليها البغي ألا إني لو أشاء أن أقول لقلت و لو قلت لبحت إني ساكت ما تركت ثم التفت إلى الأنصار فقال قد بلغني يا معشر الأنصار مقالة سفهائكم و أحق من لزم عهد رسول الله ص أنتم فقد جاءكم فآويتم و نصرتم ألا إني لست باسطا يدا و لا لسانا على من لم يستحق ذلك منا
ثم نزل فانصرفت فاطمة ع إلى منزلها. قلت قرأت هذا الكلام على النقيب أبي يحيى جعفر بن يحيى بن أبي زيد البصري و قلت له بمن يعرض فقال بل يصرح قلت لو صرح لم أسألك فضحك و قال بعلي بن أبي طالب ع قلت هذا الكلام كله لعلي يقوله قال نعم إنه الملك يا بني قلت فما مقالة الأنصار قال هتفوا بذكر علي فخاف من اضطراب الأمر عليهم فنهاهم فسألته عن غريبه فقال أما الرعة بالتخفيف أي الاستماع و الإصغاء و القالة القول و ثعالة اسم الثعلب علم غير مصروف و مثل ذؤالة للذئب و شهيده ذنبه أي لا شاهد له على ما يدعي إلا بعضه و جزء منه و أصله مثل قالوا إن الثعلب أراد أن يغرى الأسد بالذئب فقال إنه قد أكل الشاة التي كنت قد أعددتها لنفسك و كنت حاضرا قال فمن يشهد لك بذلك فرفع ذنبه و عليه دم و كان الأسد قد افتقد الشاة فقبل شهادته و قتل الذئب و مرب ملازم أرب بالمكان و كروها جذعة أعيدوها إلى الحال الأولى يعني الفتنة و الهرج و أم طحال امرأة بغي في الجاهلية و يضرب بها المثل فيقال أزنى من أم طحال. شرح نهج البلاغة ج : 16 ص : 216قال أبو بكر و حدثني محمد بن زكريا قال حدثني ابن عائشة قال حدثني أبي عن عمه قال لما كلمت فاطمة أبا بكر بكى ثم قال يا ابنة رسول الله الله ما ورث أبوك دينارا و لا درهما و إنه قال إن الأنبياء لا يورثون فقالت إن فدك وهبها لي رسول الله ص قال فمن يشهد بذلك فجاء علي بن أبي طالب ع فشهد و جاءت أم أيمن فشهدت أيضا فجاء عمر بن الخطاب و عبد الرحمن بن عوف فشهد أن رسول الله ص كان يقسمها قال أبو بكر صدقت يا ابنة رسول الله ص و صدق علي و صدقت أم أيمن و صدق عمر و صدق عبد الرحمن بن عوف و ذلك أن مالك لأبيك كان رسول الله ص يأخذ من فدك قوتكم و يقسم الباقي و يحمل منه في سبيل الله فما تصنعين بها قالت أصنع بها كما يصنع بها أبي قال فلك على الله أن أصنع فيها كما يصنع فيها أبوك قالت الله لتفعلن قال الله لأفعلن قالت اللهم اشهد و (17/190)
كان أبو بكر يأخذ غلتها فيدفع إليهم منها ما يكفيهم و يقسم الباقي و كان عمر كذلك ثم كان عثمان كذلك ثم كان علي كذلك فلما ولي الأمر معاوية بن أبي سفيان أقطع مروان بن الحكم ثلثها و أقطع عمرو بن عثمان بن عفان ثلثها و أقطع يزيد بن معاوية ثلثها و ذلك بعد موت الحسن بن علي ع فلم يزالوا يتداولونها حتى خلصت كلها لمروان بن الحكم أيام خلافته فوهبها لعبد العزيز ابنه فوهبها عبد العزيز لابنه عمر بن عبد العزيز فلما ولي عمر بن العزيز الخلافة كانت أول ظلامة ردها دعا حسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب ع و قيل بل دعا علي بن الحسين ع فردها عليه و كانت بيد أولاد فاطمة ع مدة ولاية عمر بن عبد العزيز فلما ولي يزيد بن عاتكة قبضها منهم فصارت في أيدي بني مروان كما كانت يتداولونها حتى انتقلت الخلافة عنهم فلما ولي أبو العباس السفاح ردها على عبد الله (17/191)
شرح نهج البلاغة ج : 16 ص : 217بن الحسن بن الحسن ثم قبضها أبو جعفر لما حدث من بني حسن ما حدث ثم ردها المهدي ابنه على ولد فاطمة ع ثم قبضها موسى بن المهدي و هارون أخوه فلم تزل أيديهم حتى ولي المأمون فردها على الفاطميين قال أبو بكر حدثني محمد بن زكريا قال حني مهدي بن سابق قال جلس المأمون للمظالم فأول رقعة وقعت في يده نظر فيها و بكى و قال للذي على رأسه ناد أين وكيل فاطمة فقام شيخ عليه دراعة و عمامة و خف تعزى فتقدم فجعل يناظره في فدك و المأمون يحتج عليه و هو يحتج على المأمون ثم أمر أن يسجل لهم بها فكتب السجل و قرئ عليه فأنفذه فقام دعبل إلى المأمون فأنشده الأبيات التي أولها
أصبح وجه الزمان قد ضحكا برد مأمون هاشم فدكا
فلم تزل في أيديهم حتى كان في أيام المتوكل فأقطعها عبد الله بن عمر البازيار و كان فيها إحدى عشرة نخلة غرسها رسول الله ص بيده فكان بنو فاطمة يأخذون ثمرها فإذا قدم الحجاج أهدوا لهم من ذلك التمر فيصلونهم فيصير إليهم من ذلك مال جزيل جليل فصرم عبد الله بن عمر البازيار ذلك التمر و وجه رجلا يقال له بشران بن أبي أمية الثقفي إلى المدينة فصرمه ثم عاد إلى البصرة ففلج. قال أبو بكر أخبرنا أبو زيد عمر بن شبة قال حدثنا سويد بن سعيد و الحسن بن عثمان قالا حدثنا الوليد بن محمد عن الزهري عن عروة عن عائشة أن فاطمة ع أرسلت إلى أبي بكر تسأله ميراثها من رسول الله ص و هي حينئذ تطلب ما كان لرسول الله ص بالمدينة و فدك و ما بقي من خمس خيبر فقال أبو بكر شرح نهج البلاغة ج : 16 ص : 218إن رسول الله ص قال لا نورث ما تركناه صدقة إنما يأكل آل محمد من هذا المال و إني و الله لا أغير شيئا من صات رسول الله ص عن حالها التي كانت عليها في عهد رسول الله ص و لأعملن فيها بما عمل فيها رسول الله ص فأبى أبو بكر أن يدفع إلى فاطمة منها شيئا فوجدت من ذلك على أبي بكر و هجرته فلم تكلمه حتى توفيت و عاشت بعد أبيها ستة أشهر فلما توفيت دفنها علي ع ليلا و لم يؤذن بها أبا بكر. قال أبو بكر و أخبرنا أبو زيد قال حدثنا إسحاق بن إدريس قال حدثنا محمد بن أحمد عن معمر عن الزهري عن عروة عن عائشة أن فاطمة و العباس أتيا أبا بكر يلتمسان ميراثهما من رسول الله ص و هما حينئذ يطلبان أرضه بفدك و سهمه بخيبر فقال لهما أبو بكر إني سمعت رسول الله ص يقول لا نورث ما تركنا صدقة إنما يأكل آل محمد ص من هذا المال و إني و الله لا أغير أمرا رأيت رسول الله ص يصنعه إلا صنعته قال فهجرته فاطمة فلم تكلمه حتى ماتت. (17/192)
قال أبو بكر و أخبرنا أبو زيد قال حدثنا عمر بن عاصم و موسى بن إسماعيل قال حدثنا حماد بن سلمة عن الكلبي عن أبي صالح عن أم هانئ أن فاطمة قالت لأبي بكر من يرثك إذا مت قال ولدي و أهلي قالت فما لك ترث رسول الله ص دوننا قال يا ابنة رسول الله ما ورث أبوك دارا و لا مالا و لا ذهبا و لا فضة قالت بلى سهم الله الذي جعله لنا و صار فيئنا الذي بيدك فقال لها سمعت رسول الله ص يقول إنما هي طعمة أطعمناها الله فإذا مت كانت بين المسلمين (17/193)
قال أبو بكر و أخبرنا أبو زيد قال حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة قال حدثنا محمد بن الفضل عن الوليد بن جميع عن أبي الطفيل قال أرسلت فاطمة إلى أبي بكر شرح نهج البلاغة ج : 16 ص : 219أنت ورثت رسول الله ص أم أهله قال بل أهله قالت فما بال سهم رسول الله ص قال إني سم رسول الله ص يقول إن الله أطعم نبيه طعمة ثم قبضه و جعله للذي يقوم بعده فوليت أنا بعده على أن أرده على المسلمين قالت أنت و ما سمعت من رسول الله ص أعلم قلت في هذا الحديث عجب لأنها قالت له أنت ورثت رسول الله ص أم أهله قال بل أهله و هذا تصريح بأنه ص موروث يرثه أهله و هو خلاف قوله لا نورث و أيضا فإنه يدل على أن أبا بكر استنبط من قول رسول الله ص أن الله أطعم نبيا طعمة أن يجري رسول الله ص عند وفاته مجرى ذلك النبي ص أو يكون قد فهم أنه عنى بذلك النبي المنكر لفظا نفسه كما فهم من قوله في خطبته إن عبدا خيره الله بين الدنيا و ما عند ربه فاختار ما عند ربه فقال أبو بكر بل نفديك بأنفسنا.
قال أبو بكر و أخبرنا أبو زيد قال أخبرنا القعنبي قال حدثنا عبد العزيز بن محمد عن محمد بن عمر عن أبي سلمة أن فاطمة طلبت فدك من أبي بكر فقال إني سمعت رسول الله ص يقول إن النبي لا يورث من كان النبي يعوله فأنا أعوله و من كان النبي ص ينفق عليه فأنا أنفق عليه فقالت يا أبا بكر أ يرثك بناتك و لا يرث رسول الله ص بناته فقال هو ذاك
قال أبو بكر و أخبرنا أبو زيد قال حدثنا محمد بن عبد الله بن الزبير قال حدثنا فضيل بن مرزوق قال حدثنا البحتري بن حسان قال قلت لزيد بن علي ع و أنا أريد أن أهجن أمر أبي بكر إن أبا بكر انتزع فدك من فاطمة ع فقال إن أبا بكر كان رجلا شرح نهج البلاغة ج : 16 ص : 0رحيما و كان يكره أن يغير شيئا فعله رسول الله ص فأتته فاطمة فقالت إن رسول الله ص أعطاني فدك فقال لها هل لك على هذا بينة فجاءت بعلي ع فشهد لها ثم جاءت أم أيمن فقالت أ لستما تشهدان أني من أهل الجنة قالا بلى قال أبو زيد يعني أنها قالت لأبي بكر و عمر قالت فأنا أشهد أن رسول الله ص أعطاها فدك فقال أبو بكر فرجل آخر أو امرأة أخرى لتستحقي بها القضية ثم قال أبو زيد و ايم الله لو رجع الأمر إلي لقضيت فيها بقضاء أبي بكر (17/194)
قال أبو بكر و أخبرنا أبو زيد قال حدثنا محمد بن الصباح قال حدثنا يحيى بن المتوكل أبو عقيل عن كثير النوال قال قلت لأبي جعفر محمد بن علي ع جعلني الله فداك أ رأيت أبا بكر و عمر هل ظلماكم من حقكم شيئا أو قال ذهبا من حقكم بشي ء فقال لا و الذي أنزل القرآن على عده ليكون للعالمين نذيرا ما ظلمنا من حقنا مثقال حبة من خردل قلت جعلت فداك أ فأتولاهما قال نعم ويحك تولهما في الدنيا و الآخرة و ما أصابك ففي عنقي ثم قال فعل الله بالمغيرة و بنان فإنهما كذبا علينا أهل البيت
قال أبو بكر و أخبرنا أبو زيد قال حدثنا عبد الله بن نافع و القعنبي عن مالك عن الزهري عن عروة عن عائشة أن أزواج النبي ص أردن لما توفي أن يبعثن عثمان بن عفان إلى أبي بكر يسألنه ميراثهن أو قال ثمنهن قالت فقلت لهن أ ليس قد قال النبي ص لا نورث ما تركنا صدقة
قال أبو بكر و أخبرنا أبو زيد قال حدثنا عبد الله بن نافع و القعنبي و بشر بن عمر عن مالك عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة عن النبي ص قال لا يقسم ورثتي دينارا و لا درهما ما تركت بعد نفقة نسائي و مئونة عيالي فهو صدقة
شرح نهج البلاغة ج : 16 ص : 221قلت هذا حديث غريب لأن المشهور أنه لم يرو حديث انتفاء الإرث إلا أبو بكر وحده. و قال أبو بكر و حدثنا أبو زيد عن الحزامي عن ابن وهب عن يونس عن ابن شهاب عن عبد الرحمن الأعرج أنه سمع أبا هريرة يقول سمعت رسول الله ص يقول و الذي نفسي بيده لا يقسم ورثتي شيئا ما تركت صدقة (17/195)
قال و كانت هذه الصدقة بيد علي ع غلب عليها العباس و كانت فيها خصومتهما فأبى عمر أن يقسمها بينهما حتى أعرض عنها العباس و غلب عليها ع ثم كانت بيد حسن و حسين ابني علي ع ثم كانت بيد علي بن الحسين ع و الحسن بن الحسن كلاهما يتداولانها ثم بيد زيد بن علي ع قال أبو بكر و أخبرنا أبو زيد قال حدثنا عثمان بن عمر بن فارس قال حدثنا يونس عن الزهري عن مالك بن أوس بن الحدثان أن عمر بن الخطاب دعاه يوما بعد ما ارتفع النهار قال فدخلت عليه و هو جالس على سرير رمال ليس بينه و بين الرمال فراش على وسادة أدم فقال يا مالك إنه قد قدم من قومك أهل أبيات حضروا المدينة و قد أمرت لهم برضخ فاقسمه بينهم فقلت يا أمير المؤمنين مر بذلك غيري قال اقسم أيها المرء قال فبينا نحن على ذلك إذ دخل يرفأ فقال هل لك في عثمان و سعد و عبد الرحمن و الزبير يستأذنون عليك قال نعم فأذن لهم قال ثم لبث قليلا ثم جاء فقال هل لك في علي و العباس يستأذنان عليك قال ائذن لهما فلما دخلا قال عباس يا أمير المؤمنين اقض بيني و بين هذا يعني عليا و هما يختصمان في الصوافي التي أفاء الله على رسوله شرح نهج البلاغة ج : 16 ص : 222من أموال بني النضير قال فاستب علي و العباس عند عمر فقال د الرحمن يا أمير المؤمنين اقض بينهما و أرح أحدهما من الآخر فقال عمر أنشدكم الله الذي تقوم بإذنه السماوات و الأرض هل تعلمون أن رسول الله ص قال لا نورث ما تركناه صدقة يعني نفسه قالوا قد قال ذلك فأقبل على العباس و علي فقال أنشدكما الله هل تعلمان ذلك قالا نعم قال عمر فإني أحدثكم عن
هذا الأمر أن الله تبارك و تعالى خص رسوله ص في هذا الفي ء بشي ء لم يعطه غيره قال تعالى وَ ما أَفاءَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَما أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَ لا رِكابٍ وَ لكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلى مَنْ ياءُ وَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ و كانت هذه خاصة لرسول الله ص فما اختارها دونكم و لا استأثر بها عليكم لقد أعطاكموها و ثبتها فيكم حتى بقي منها هذا المال و كان ينفق منه على أهله سنتهم ثم يأخذ ما بقي فيجعله فيما يجعل مال الله عز و جل فعل ذلك في حيات ثم توفي فقال أبو بكر أنا ولي رسول الله ص فقبضه الله و قد عمل فيها بما عمل به رسول الله ص و أنتما حينئذ و التفت إلى علي و العباس تزعمان أن أبا بكر فيها ظالم فاجر و الله يعلم أنه فيها لصادق بار راشد تابع للحق ثم توفى الله أبا بكر فقلت أنا أولى الناس بأبي بكر و برسول الله ص فقبضتها سنتين أو قال سنين من إمارتي أعمل فيها مثل ما عمل به رسول الله ص و أبو بكر ثم قال و أنتما و أقبل على العباس و علي تزعمان أني فيها ظالم فاجر و الله يعلم أني فيها بار راشد تابع للحق ثم جئتماني و كلمتكما واحدة و أمركما جميع فجئتني يعني العباس تسألني نصيبك من ابن أخيك و جاءني هذا يعني عليا يسألني نصيب امرأته من أبيها فقلت لكما أن رسول الله ص قال لا نورث ما تركناه صدقة فلما بدا لي أن شرح نهج البلاغة ج : 16 ص : 223أدفعها إليكما قلت أدفعها على أن عليكما عهد الله و ميثاقه لتعملان فيها بما ل رسول الله ص و أبو بكر و بما عملت به فيها و إلا فلا تكلماني فقلتما ادفعها إلينا بذلك فدفعتها إليكما بذلك أ فتلتمسان مني قضاء غير ذلك و الله الذي تقوم بإذنه السماوات و الأرض لا أقضي بينكما بقضاء غير ذلك حتى تقوم الساعة فإن عجزتما عنها فادفعاها إلي فأنا أكفيكماها. (17/196)
قال أبو بكر و حدثنا أبو زيد قال حدثنا إسحاق بن إدريس قال حدثنا عبد الله بن المبارك قال حدثني يونس عن الزهري قال حدثني مالك بن أوس بن الحدثان بنحوه قال فذكرت ذلك لعروة فقال صدق مالك بن أوس أنا سمعت عائشة تقول أرسل أزواج النبي ص عثمان بن عفان إلى أبي بكر يسأل لهن ميراثهن من رسول الله ص مما أفاء الله عليه حتى كنت أردهن عن ذلك فقلت أ لا تتقين الله أ لم تعلمن أن رسول الله ص كان يقول لا نورث ما تركناه صدقة يريد بذلك نفسه إنما يأكل آل محمد من هذا المال فانتهى أزواج النبي ص إلى ما أمرتهن به (17/197)
قلت هذا مشكل لأن الحديث الأول يتضمن أن عمر أقسم على جماعة فيهم عثمان فقال نشدتكم الله أ لستم تعلمون أن رسول الله ص قال لا نورث ما تركناه صدقة يعني نفسه فقالوا نعم و من جملتهم عثمان فكيف يعلم بذلك فيكون مترسلا لأزواج النبي ص يسأله أن يعطيهن الميراث اللهم إلا أن يكون عثمان و سعد و عبد الرحمن و الزبير صدقوا عمر على سبيل التقليد لأبي بكر فيما رواه و حسن الظن و سموا ذلك علما لأنه قد يطلق على الظن اسم العلم. شرح نهج البلاغة ج : 16 ص : 224فإن قال قائل فهلا حسن ظن عثمان برواية أبي بكر في مبدإ الأمر فلم يكن رسولا وجات النبي ص في طلب الميراث قيل له يجوز أن يكون في مبدإ الأمر شاكا ثم يغلب على ظنه صدقه لأمارات اقتضت تصديقه و كل الناس يقع لهم مثل ذلك. و هاهنا إشكال آخر و هو أن عمر ناشد عليا و العباس هل تعلمان ذلك فقالا نعم فإذا كانا يعلمانه فكيف جاء العباس و فاطمة إلى أبي بكر يطلبان الميراث على ما ذكره في خبر سابق على هذا الخبر و قد أوردناه نحن و هل يجوز أن يقال كان العباس يعلم ذلك ثم يطلب الإرث الذي لا يستحقه و هل يجوز أن يقال أن عليا كان يعلم ذلك و يمكن زوجته أن تطلب ما لا تستحقه خرجت من دارها إلى المسجد و نازعت أبا بكر و كلمته بما كلمته إلا بقوله و إذنه و رأيه و أيضا فإنه إذا كان ص لا يورث فقد أشكل دفع آلته و دابته و حذائه إلى علي ع لأنه غير وارث في الأصل و إن كان أعطاه ذلك لأن زوجته بعرضه أن ترث لو لا الخبر فهو أيضا غير جائز لأن الخبر قد منع أن يرث منه شيئا قليلا كان أو كثيرا. فإن قال قائل نحن معاشر الأنبياء لا نورث ذهبا و لا فضة و لا أرضا و لا عقارا و لا دارا قيل هذا الكلام يفهم من مضمونه أنهم لا يورثون شيئا أصلا لأن عادة العرب جارية بمثل ذلك و ليس يقصدون نفي ميراث هذه الأجناس المعدودة دون غيرها بل يجعلون ذلك كالتصريح بنفي أن يورثوا شيئا ما على الإطلاق. و أيضا فإنه جاء في خبر (17/198)
الدابة و الآلة و الحذاء أنه روي عن النبي ص لا نورث ما تركناه صدقة و لم يقل لا نورث كذا و لا كذا و ذلك يقتضي عموم انتفاء الإرث عن كل شي ء شرح نهج البلاغة ج : 16 ص : 225و أما الخبر الثاني و هو ا رواه هشام بن محمد الكلبي عن أبيه ففيه إشكال أيضا لأنه قال إنها طلبت فدك و قالت إن أبي أعطانيها و إن أم أيمن تشهد لي بذلك فقال لها أبو بكر في الجواب إن هذا المال لم يكن لرسول الله ص و إنما كان مالا من أموال المسلمين يحمل به الرجال و ينفقه في سبيل الله فلقائل أن يقول له أ يجوز للنبي ص أن يملك ابنته أو غير ابنته من أفناء الناس ضيعة مخصوصة أو عقارا مخصوصا من مال المسلمين لوحي أوحى الله تعالى إليه أو لاجتهاد رأيه على قول من أجاز له أن يحكم بالاجتهاد أو لا يجوز للنبي ص ذلك فإن قال لا يجوز قال ما لا يوافقه العقل و لا المسلمون عليه و إن قال يجوز ذلك قيل فإن المرأة ما اقتصرت على الدعوى بل قالت أم أيمن تشهد لي فكان ينبغي أن يقول لها في الجواب شهادة أم أيمن وحدها غير مقبولة و لم يتضمن هذا الخبر ذلك بل قال لها لما ادعت و ذكرت من يشهد لها هذا مال من مال الله لم يكن لرسول الله ص و هذا ليس بجواب صحيح. و أما الخبر الذي رواه محمد بن زكريا عن عائشة ففيه من الإشكال مثل ما في هذا الخبر لأنه إذا شهد لها علي ع و أم أيمن أن رسول الله ص وهب لها فدك لم يصح اجتماع صدقها و صدق عبد الرحمن و عمر و لا ما تكلفه أبو بكر من تأويل ذلك بمستقيم لأن كونها هبة من رسول الله ص لها يمنع من قوله كان يأخذ منها قوتكم و يقسم الباقي و يحمل منه في سبيل الله لأن هذا ينافي كونها هبة لها لأن معنى كونها لها انتقالها إلى ملكيتها و أن تتصرف فيها خاصة دون كل أحد من الناس و ما هذه صفته كيف يقسم و يحمل منه في سبيل الله. (17/199)
شرح نهج البلاغة ج : 16 ص : 226فإن قال قائل هو ص أبوها و حكمه في مالها كحكمه في ماله و في بيت مال المسلمين فلعله كان بحكم الأبوة يفعل ذلك قيل فإذا كان يتصرف فيها تصرف الأب في مال ولده لا يخرجه ذلك عن كونه مال ولده فإذا مات الأب لم يجز لأحد أن يتصرف في ماذلك الولد لأنه ليس باب له فيتصرف في ماله تصرف الآباء في أموال أولادهم على أن الفقهاء أو معظمهم لا يجيزون للأب أن يتصرف في مال الابن. و هاهنا إشكال آخر و هو قول عمر لعلي ع و العباس و أنتما حينئذ تزعمان أن أبا بكر فيها ظالم فاجر ثم قال لما ذكر نفسه و أنتما تزعمان أني فيها ظالم فاجر فإذا كانا يزعمان ذلك فكيف يزعم هذا الزعم مع كونهما يعلمان أن رسول الله ص قال لا أورث إن هذا لمن أعجب العجائب و لو لا أن هذا الحديث أعني حديث خصومة العباس و علي عند عمر مذكور في الصحاح المجمع عليها لما أطلت العجب من مضمونه إذ لو كان غير مذكور في الصحاح لكان بعض ما ذكرناه يطعن في صحته و إنما الحديث في الصحاح لا ريب في ذلك. قال أبو بكر و أخبرنا أبو زيد قال حدثنا ابن أبي شيبة قال حدثنا ابن علية عن أيوب عن عكرمة عن مالك بن أوس بن الحدثان قال جاء العباس و علي إلى عمر فقال العباس اقض بيني و بين هذا الكذا و كذا أي يشتمه فقال الناس افصل بينهما فقال لا أفصل بينهما قد علما أن رسول الله ص قال لا نورث ما تركناه صدقة. قلت و هذا أيضا مشكل لأنهما حضرا يتنازعان لا في الميراث بل في ولاية صدقة رسول الله ص أيهما يتولاها ولاية لا إرثا و على هذا كانت الخصومة شرح نهج البلاغة ج : 16 ص : 227فهل يكون جواب ذلك قد علما أن رسول الله ص قال لا نورث. قال أبو بكر و أخبرنا أبو زيد قال حدثني يحيى بن كثير أبو غسان قال حدثنا شعبة عن عمر بن مرة عن أبي البختري قال جاء العباس و علي إلى عمر و هما يختصمان فقال عمر لطلحة و ابير و عبد الرحمن و سعد أنشدكم الله أ سمعتم رسول الله ص يقول كل مال (17/200)
نبي فهو صدقة إلا ما أطعمه أهله إنا لا نورث فقالوا نعم قال و كان رسول الله يتصدق به و يقسم فضله ثم توفي فوليه أبو بكر سنتين يصنع فيه ما كان يصنع رسول الله ص و أنتما تقولان أنه كان بذلك خاطئا و كان بذلك ظالما و ما كان بذلك إلا راشدا ثم وليته بعد أبي بكر فقلت لكما إن شئتما قبلتماه على عمل رسول الله ص و عهده الذي عهد فيه فقلتما نعم و جئتماني الآن تختصمان يقول هذا أريد نصيبي من ابن أخي و يقول هذا أريد نصيبي من امرأتي و الله لا أقضي بينكما إلا بذلك. قلت و هذا أيضا مشكل لأن أكثر الروايات أنه لم يرو هذا الخبر إلا أبو بكر وحده ذكر ذلك أعظم المحدثين حتى إن الفقهاء في أصول الفقه أطبقوا على ذلك في احتجاجهم في الخبر برواية الصحابي الواحد و قال شيخنا أبو علي لا تقبل في الرواية إلا رواية اثنين كالشهادة فخالفه المتكلمون و الفقهاء كلهم و احتجوا عليه بقبول الصحابة رواية أبي بكر وحده نحن معاشر الأنبياء لا نورث حتى إن بعض أصحاب أبي علي تكلف لذلك جوابا فقال قد روي أن أبا بكر يوم حاج فاطمة ع قال أنشد الله امرأ سمع من رسول الله ص في هذا شيئا فروى مالك بن أوس بن الحدثان أنه سمعه من رسول الله ص و هذا الحديث ينطق شرح نهج البلاغة ج : 16 ص : 228بأنه استشهد عمر و طلحة و الزبير و عبد الرحمن و سعدا فقالوا سمعناه من رسول الله ص فأين كانت هذه الروايات أيام أبي بكر ما نقل أن أحدا من هؤلاء يوم خصومة فاطمة ع و أبي بكر روى من هذشيئا. قال أبو بكر و أخبرنا أبو زيد عمر بن شبة قال حدثنا محمد بن يحيى عن إبراهيم بن أبي يحيى عن الزهري عن عروة عن عائشة أن أزواج النبي ص أرسلن عثمان إلى أبي بكر فذكر الحديث قال عروة و كانت فاطمة قد سألت ميراثها من أبي بكر مما تركه النبي ص فقال لها بأبي أنت و أمي و بأبي أبوك و أمي و نفسي إن كنت سمعت من رسول الله ص شيئا أو أمرك بشي ء لم أتبع غير ما تقولين و أعطيتك ما تبتغين و إلا فإني (17/201)
أتبع ما أمرت به. قال أبو بكر و حدثنا أبو زيد قال حدثنا عمرو بن مرزوق عن شعبة عن عمرو بن مرة عن أبي البختري قال قال لها أبو بكر لما طلبت فدك بأبي أنت و أمي أنت عندي الصادقة الأمينة إن كان رسول الله ص عهد إليك في ذلك عهدا أو وعدك به وعدا صدقتك و سلمت إليك فقالت لم يعهد إلي في ذلك بشي ء و لكن الله تعالى يقول يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ فقال أشهد لقد سمعت رسول الله ص يقول إنا معاشر الأنبياء لا نورث قلت و في هذا من الإشكال ما هو ظاهر لأنها قد ادعت أنه عهد إليها رسول الله ص في ذلك أعظم العهد و هو النحلة فكيف سكتت عن ذكر هذا لما سألها أبو بكر و هذا أعجب من العجب. شرح نهج البلاغة ج : 16 ص : 229قال أبو بكر و حدثنا أبو زيد قال حدثنا محمد بن يحيى قال حدثنعبد العزيز بن عمران بن عبد العزيز بن عبد الله الأنصاري عن ابن شهاب عن مالك بن أوس بن الحدثان قال سمعت عمر و هو يقول للعباس و علي و عبد الرحمن بن عوف و الزبير و طلحة أنشدكم الله هل تعلمون أن رسول الله ص قال إنا لا نورث معاشر الأنبياء ما تركنا صدقة قالوا اللهم نعم قال أنشدكم الله هل تعلمون أن رسول الله ص يدخل في فيئه أهله السنة من صدقاته ثم يجعل ما بقي في بيت المال قالوا اللهم نعم فلما توفي رسول الله ص قبضها أبو بكر فجئت يا عباس تطلب ميراثك من ابن أخيك و جئت يا علي تطلب ميراث زوجتك من أبيها و زعمتما أن أبا بكر كان فيها خائنا فاجرا و الله لقد كان امرأ مطيعا تابعا للحق ثم توفي أبو بكر فقبضتها فجئتماني تطلبان ميراثكما أما أنت يا عباس فتطلب ميراثك من ابن أخيك و أما علي فيطلب ميراث زوجته من أبيها و زعمتما أني فيها خائن و فاجر و الله يعلم أني فيها مطيع تابع للحق فأصلحا أمركما و إلا و الله لم ترجع إليكما فقاما و تركا الخصومة و أمضيت صدقة. قال أبو زيد قال أبو غسان فحدثنا عبد الرزاق الصنعاني عن معمر بن شهاب عن مالك بنحوه و قال في آخره (17/202)
فغلب علي عباسا عليها فكانت بيد علي ثم كانت بيد الحسن ثم كانت بيد الحسين ثم علي بن الحسين ثم الحسن بن الحسن ثم زيد بن الحسن. قلت و هذا الحديث يدل صريحا على أنهما جاءا يطلبان الميراث لا الولاية و هذا من المشكلات لأن أبا بكر حسم المادة أولا و قرر عند العباس و علي و غيرهما أن النبي ص لا يورث و كان عمر من المساعدين له على ذلك فكيف يعود (17/203)
شرح نهج البلاغة ج : 16 ص : 230العباس و علي بعد وفاة أبي بكر يحاولان امرأ قد كان فرغ منه و يئس من حصوله اللهم إلا أن يكونا ظنا أن عمر ينقض قضاء أبي بكر في هذه المسألة و هذا بعيد لأن عليا و العباس كانا في هذه المسألة يتهمان عمر بممالأة أبي بكر على ذلك أ لتراه يقول نسبتماني و نسبتما أبا بكر إلى الظلم و الخيانة فكيف يظنان أنه ينقض قضاء أبي بكر و يورثهما و اعلم أن الناس يظنون أن نزاع فاطمة أبا بكر كان في أمرين في الميراث و النحلة و قد وجدت في الحديث أنها نازعت في أمر ثالث و منعها أبو بكر إياه أيضا و هو سهم ذوي القربى
قال أبو بكر أحمد بن عبد العزيز الجوهري أخبرني أبو زيد عمر بن شبة قال حدثني هارون بن عمير قال حدثنا الوليد بن مسلم قال حدثني صدقة أبو معاوية عن محمد بن عبد الله عن محمد بن عبد الرحمن بن أبي بكر عن يزيد الرقاشي عن أنس بن مالك أن فاطمة ع أتت أبا بكر فقالت لقد علمت الذي ظلمتنا عنه أهل البيت من الصدقات و ما أفاء الله علينا من الغنائم في القرآن من سهم ذوي القربى ثم قرأت عليه قوله تعالى وَ اعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْ ءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَ لِلرَّسُولِ وَ لِذِي الْقُرْبى الآية فقال لها أبو بكر أبي أنت و أمي و والد ولدك السمع و الطاعة لكتاب الله و لحق رسول الله ص و حق قرابته و أنا أقرأ من كتاب الله الذي تقرءين منه و لم يبلغ علمي منه أن هذا السهم من الخمس يسلم إليكم كاملا قالت أ فلك هو و لأقربائك قال لا بل أنفق عليكم منه و أصرف الباقي في مصالح المسلمين قالت ليس هذا حكم الله تعالى قال هذا حكم الله فإن كان رسول الله عهد إليك شرح نهج البلاغة ج : 16 ص : 231في هذا عهدا أو أوجبه لكم حقا صدقتك و سلمته كله إليك و إلى أهلك قالت إن رسول الله ص لم يعهد إلي في ذلك بشي ء إلا أني سمعته يقول لما أنزلت هذه الآيبشروا آل محمد فقد جاءكم الغنى قال أبو بكر لم يبلغ علمي من هذه الآية أن أسلم إليكم هذا السهم كله كاملا و لكن لكم الغنى الذي يغنيكم و يفضل عنكم و هذا عمر بن الخطاب و أبو عبيدة بن الجراح فاسأليهم عن ذلك و انظري هل يوافقك على ما طلبت أحد منهم فانصرفت إلى عمر فقالت له مثل ما قالت لأبي بكر فقال لها مثل ما قاله لها أبو بكر فعجبت فاطمة ع من ذلك و تظنت أنهما كانا قد تذاكرا ذلك و اجتمعا عليه (17/204)
قال أبو بكر و أخبرنا أبو زيد قال حدثنا هارون بن عمير قال حدثنا الوليد عن ابن أبي لهيعة عن أبي الأسود عن عروة قال أرادت فاطمة أبا بكر على فدك و سهم ذوي القربى فأبى عليها و جعلهما في مال الله تعالى. قال أبو بكر و أخبرنا أبو زيد قال حدثنا أحمد بن معاوية عن هيثم عن جويبر عن أبي الضحاك عن الحسن بن محمد بن علي بن أبي طالب ع أن أبا بكر منع فاطمة و بني هاشم سهم ذوي القربى و جعله في سبيل الله في السلاح و الكراع. (17/205)
قال أبو بكر و أخبرنا أبو زيد قال حدثنا حيان بن هلال عن محمد بن يزيد بن ذريع عن محمد بن إسحاق قال سألت أبا جعفر محمد بن علي ع قلت أ رأيت عليا حين ولي العراق و ما ولي من أمر الناس كيف صنع في سهم ذوي القربى قال سلك بهم طريق أبي بكر و عمر قلت و كيف و لم و أنتم تقولون ما تقولون قال أما و الله ما كان أهله يصدرون إلا عن رأيه فقلت فما منعه قال كان يكره شرح نهج البلاغة ج : 16 ص : 232أن يدعى عليه مخالفة أبي بكر و عمرقال أبو بكر و حدثني المؤمل بن جعفر قال حدثني محمد بن ميمون عن داود بن المبارك قال أتينا عبد الله بن موسى بن عبد الله بن حسن بن الحسن و نحن راجعون من الحج في جماعة فسألناه عن مسائل و كنت أحد من سأله فسألته عن أبي بكر و عمر فقال سئل جدي عبد الله بن الحسن بن الحسن عن هذه المسألة فقال كانت أمي صديقة بنت نبي مرسل فماتت و هي غضبى على إنسان فنحن غضاب لغضبها و إذا رضيت رضينا. قال أبو بكر و حدثني أبو جعفر محمد بن القاسم قال حدثني علي بن الصباح قال أنشدنا أبو الحسن رواية المفضل للكميت
أهوى عليا أمير المؤمنين و لا أرضى بشتم أبي بكر و لا عمراو لا أقول و إن لم يعطيا فدكا بنت النبي و لا ميراثها كفراالله يعلم ما ذا يحضران به يوم القيامة من عذر إذا اعتذرا
قال ابن الصباح فقال لي أبو الحسن أ تقول إنه قد أكفرهما في هذا الشعر قلت نعم قال كذاك هو.
قال أبو بكر حدثنا أبو زيد عن هارون بن عمير عن الوليد بن مسلم عن إسماعيل بن عباس عن محمد بن السائب عن أبي صالح عن مولى أم هانئ قال دخلت فاطمة على أبي بكر بعد ما استخلف فسألته ميراثها من أبيها فمنعها فقالت له لئن مت اليوم من كان يرثك قال ولدي و أهلي قالت فلم ورثت أنت رسول الله ص دون ولده و أهله قال فما فعلت يا بنت رسول الله ص قالت بلى إنك عمدت إلى فدك و كانت صافية لرسول الله ص فأخذتها و عمدت إلى ما أنزل الله من السماء فرفعته عنا فقال يا بنت رسول الله شرح نهج البلاغة ج : 16 ص : 233ص لم أفعل حدثني رسول الله أن الله تعالى يطعم النبي ص الطعمة ما كان حيا فإذا قبضه الله إليه رفعت فقالت أنت و رسول الله أعلم ما أنا بسائلتك بعد مجلسي ثم انصرفت (17/206)
قال أبو بكر و حدثنا محمد بن زكريا قال حدثنا محمد بن عبد الرحمن المهلبي عن عبد الله بن حماد بن سليمان عن أبيه عن عبد الله بن حسن بن حسن عن أمه فاطمة بنت الحسين ع قالت لما اشتد بفاطمة بنت رسول الله ص الوجع و ثقلت في علتها اجتمع عندها نساء من نساء المهاجرين و الأنصار فقلن لها كيف أصبحت يا ابنة رسول الله ص قالت و الله أصبحت عائفة لدنياكم قالية لرجالكم لفظتهم بعد أن عجمتهم و شنئتهم بعد أن سبرتهم فقبحا لفلول الحد و خور القناة و خطل الرأي و بئسما قدمت لهم أنفسهم أن سخط الله عليهم و في العذاب هم خالدون لا جرم قد قلدتهم ربقتها و شنت عليهم غارتها فجدعا و عقرا و سحقا للقوم الظالمين ويحهم أين زحزحوها عن رواسي الرسالة و قواعد النبوة و مهبط الروح الأمين و الطيبين بأمر الدنيا و الدين ألا ذلك هو الخسران المبين و ما الذي نقموا من أبي حسن نقموا و الله نكير سيفه و شدة وطأته و نكال وقعته و تنمره في ذات الله و تالله لو تكافوا عن زمام نبذه إليه رسول الله ص لاعتلقه و لسار إليهم سيرا سجحا لا تكلم حشاشته و لا يتعتع راكبه و لأوردهم منهلا نميرا فضفاضا يطفح ضفتاه و لأصدرهم بطانا قد تحير بهم الرأي غير متحل بطائل إلا بغمر الناهل و ردعه سورة الساغب و لفتحت عليهم بركات من السماء و الأرض و سيأخذهم الله بما كانوا يكسبون ألا هلم فاستمع و ما عشت شرح نهج البلاغة ج : 16 ص : 234أراك الدهر عجبه و إن تعجب فقد أعجبك الحادث إلى أي لجإ استندوا و بأي عروة تمسكوا لبئس المولى و لبئس العشير و لبئس للظالم بدلا استبدلوا و الله الذنابى بالقوادم و العجز بالكاهل فرغما لمعاطس قوم يحسبون أنهم يحسنون صنعا ألا إنهم هم المفسدون و لكن لا يشعرون ويحهم أ فمن يهدي إلى الحق أحق أن يتبع أمن لا يهدي إلا أن يهدى فما لكم كيف تحكمون أما لعمر الله لقد لقحت فنظرة ريثما تنتج ثم احتلبوها طلاع العقب دما عبيطا و ذعاقا ممقرا هنالك يخسر المبطلون (17/207)
و يعرف التالون غب ما أسس الأولون ثم طيبوا عن أنفسكم نفسا و اطمئنوا للفتنة جأشا و أبشروا بسيف صارم و هرج شامل و استبداد من الظالمين يدع فيئكم زهيدا و جمعكم حصيدا فيا حسرة عليكم و أنى لكم و قد عميت عليكم أ نلزمكموها و أنتم لها كارهون و الحمد لله رب العالمين و صلاته على محمد خاتم النبيين و سيد المرسلين (17/208)
قلت هذا الكلام و إن لم يكن فيه ذكر فدك و الميراث إلا أنه من تتمة ذلك و فيه إيضاح لما كان عندها و بيان لشدة غيظها و غضبها فإنه سيأتي فيما بعد ذكر ما يناقض به قاضي القضاة و المرتضى في أنها هل كانت غضبى أم لا و نحن لا ننصر مذهبا بعينه و إنما نذكر ما قيل و إذا جرى بحث نظري قلنا ما يقوى في أنفسنا منه. و اعلم أنا إنما نذكر في هذا الفصل ما رواه رجال الحديث و ثقاتهم و ما أودعه أحمد بن عبد العزيز الجوهري في كتابه و هو من الثقات الأمناء عند أصحاب الحديث و أما ما يرويه رجال الشيعة و الأخباريون منهم في كتبهم من قولهم إنهما أهاناها و أسمعاها كلاما غليظا و إن أبا بكر رق لها حيث لم يكن عمر حاضرا فكتب لها بفدك كتابا فلما خرجت به وجدها عمر فمد يده إليه ليأخذه مغالبة فمنعته فدفع بيده في صدرها شرح نهج البلاغة ج : 16 ص : 235و أخذ الصحيفة فخرقها بعد أن تفل فيها فمحاها و إنها د عليه فقالت بقر الله بطنك كما بقرت صحيفتي فشي ء لا يرويه أصحاب الحديث و لا ينقلونه و قدر الصحابة يجل عنه و كان عمر أتقى لله و أعرف لحقوق الله من ذلك و قد نظمت الشيعة بعض هذه الواقعة التي يذكرونها شعرا أوله أبيات لمهيار بن مرزويه الشاعر من قصيدته التي أوله
يا ابنة القوم تراك بالغ قتلي رضاك
و قد ذيل عليها بعض الشيعة و أتمها و الأبيات يا ابنة الطاهر كم تقرع بالظلم عصاك غضب الله لخطب ليلة الطف عراك و رعى النار غدا قط رعى أمس حماك مر لم يعطفه شكوى و لا استحيا بكاك و اقتدى الناس به بعد فأردى ولداك يا ابنة الراقي إلى السدرة في لوح السكاك لهف نفسي و على مثلك فلتبك البواكي كيف لم تقطع ليك ابن صحاك فرحوا يوم أهانوك بما ساء أباك و لقد أخبرهم أن رضاه في رضاك دفعا النص على إرثك لما دفعاك و تعرضت لقدر تافه و انت شرح نهج البلاغة ج : 16 ص : 236و ادعيت النحلة المشهود فيها بالصكاك فاستشاطا ثم ما إن كذبا إن كذباك فزوى الله عن الرحمة زنديقا ذواك و نفى عن بابه الواسع شيطانا فانظر إلى هذه البلية التي صبت من هؤلاء على سادات المسلمين و أعلام المهاجرين و ليس ذلك بقادح في علو شأنهم و جلالة مكانهم كما أن مبغضي الأنبياء و حسدتهم و مصنفي الكتب في إلحاق العيب و التهجين لشرائعهم لم تزدد لأنبيائهم إلا رفعة و لا زادت شرائعهم إلا انتشارا في الأرض و قبولا في النفس و بهجة و نورا عند ذوي الألباب و العقول. و قال لي علوي في الحلة يعرف بعلي بن مهنإ ذكي ذو فضائل ما تظن قصد أبي بكر و عمر بمنع فاطمة فدك قلت ما قصدا قال أرادا ألا يظهرا لعلي و قد اغتصباه الخلافة رقة ولينا و خذلانا و لا يرى عندهما خورا فأتبعا القرح بالقرح. و قلت لمتكلم من متكلمي الإمامية يعرف بعلي بن تقي من بلدة النيل و هل كانت فدك إلا نخلا يسيرا و عقارا ليس بذلك الخطير فقال لي ليس الأمر كذلك بل كانت جليلة جدا و كان فيها من النخل نحو ما بالكوفة الآن من النخل و ما قصد أبو بكر و عمر بمنع فاطمة عنها إلا ألا يتقوى علي بحاصلها و غلتها على المنازعة في الخلافة و لهذا أتبعا ذلك بمنع فاطمة و علي و سائر بني هاشم و بني المطلب حقهم في الخمس فإن شرح نهج البلاغة ج : 16 ص : 237الفقير الذي لا مال له تضعف همته و يتصاغر عند نفسه و يكون مشغولا بالاحتراف (17/209)
الاكتساب عن طلب الملك و الرئاسة فانظر إلى ما قد وقر في صدور هؤلاء و هو داء لا دواء له و ما أكثر ما تزول الأخلاق و الشيم فأما العقائد الراسخة فلا سبيل إلى زوالها (17/210)
الفصل الثاني في النظر في أن النبي ص هل يورث أم لا
نذكر في هذا الموضع ما حكاه المرتضى رحمه الله في الشافي عن قاضي القضاة في هذا المعنى و ما اعترضه به و إن استضعفنا شيئا من ذلك قلنا ما عندنا و إلا تركناه على حاله. قال المرتضى أول ما ابتدأ به قاضي القضاة حكايته عنا استدلالنا على أنه ص مورث بقوله تعالى يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ و هذا الخطاب عام يدخل فيه النبي و غيره. ثم أجاب يعني قاضي القضاة عن ذلك فقال إن الخبر الذي احتج به أبو بكر يعني
قوله نحن معاشر الأنبياء لا نورث
لم يقتصر على روايته هو وحده حتى استشهد عليه عمر و عثمان و طلحة و الزبير و سعدا و عبد الرحمن فشهدوا به فكان لا يحل لأبي بكر و قد صار الأمر إليه أن يقسم التركة ميراثا و قد خبر رسول الله ص بأنها صدقة و ليست بميراث و أقل ما في هذا الباب أن يكون الخبر من أخبار الآحاد شرح نهج البلاغة ج : 16 ص : 238فلو أن شاهدين شهدا في التركة أن فيها حقا أ ليس كان يجب أن يصرف ذلك عن الإرث فعلمه بما قال رسول الله ص مع شهادة غيره أقوى و لسنا نجعله مدعيا لأنه لم يدع ذلك لنفسه و إنما بين أنه ليس بميراث و أنه صدقة و لا يمتنع تخصيص ارآن بذلك كما يخص في العبد و القاتل و غيرهما و ليس ذلك بنقص في الأنبياء بل هو إجلال لهم يرفع الله به قدرهم عن أن يورثوا المال و صار ذلك من أوكد الدواعي ألا يتشاغلوا بجمعه لأن أحد الدواعي القوية إلى ذلك تركه على الأولاد و الأهلين و لما سمعت فاطمة ع ذلك من أبي بكر كفت عن الطلب فيما ثبت من الأخبار الصحيحة فلا يمتنع أن تكون غير عارفة بذلك فطلبت الإرث فلما روى لها ما روى كفت فأصابت أولا و أصابت ثانيا. و ليس لأحد أن يقول كيف يجوز أن يبين النبي ص ذلك للقوم و لا حق لهم في الإرث و يدع أن يبين ذلك لمن له حق في الإرث مع أن التكليف يتصل به و ذلك لأن التكليف في ذلك يتعلق بالإمام فإذا بين له جاز ألا يبين لغيره و يصير البيان له بيانا لغيره و إن لم يسمعه من الرسول لأن هذا الجنس من البيان يجب أن يكون بحسب المصلحة. قال ثم حكى عن أبي علي أنه قال أ تعلمون كذب أبي بكر في هذه الرواية أم تجوزون أن يكون صادقا قال و قد علم أنه لا شي ء يقطع به على كذبه فلا بد من تجويز كونه صادقا و إذا صح ذلك قيل لهم فهل كان يحل له مخالفة الرسول فإن قالوا لو كان صدقا لظهر و اشتهر قيل لهم إن ذلك من باب العمل و لا يمتنع أن ينفرد بروايته جماعة يسيرة بل الاحد و الاثنان مثل سائر الأحكام و مثل الشهادات فإن قالوا نعلم أنه (17/211)
لا يصح لقوله تعالى في كتابه وَ وَرِثَ سُلَيْمانُ داوُدَ قيل لهم شرح نهج البلاغة ج : 16 ص : 239و من أين أنه ورثه الأموال مع تجويز أن يكون ورثه العلم و الحكمة فإن قالوا إطلاق الميراث لا يكون ا في الأموال قيل لهم إن كتاب الله يبطل قولكم لأنه قال ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا و الكتاب ليس بمال و يقال في اللغة ما ورثت الأبناء عن الآباء شيئا أفضل من أدب حسن و قالوا العلماء ورثة الأنبياء و إنما ورثوا منهم العلم دون المال على أن في آخر الآية ما يدل على ما قلناه و هو قوله تعالى حاكيا عنه وَ قالَ يا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنا مَنْطِقَ الطَّيْرِ وَ أُوتِينا مِنْ كُلِّ شَيْ ءٍ إِنَّ هذا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ فنبه على أن الذي ورث هو هذا العلم و هذا الفضل و إلا لم كن لهذا القول تعلق بالأول فإن قالوا فقد قال تعالى فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا يَرِثُنِي وَ يَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ و ذلك يبطل الخبر قيل لهم ليس في ذلك بيان المال أيضا و في الآية ما يدل على أن المراد النبوة و العلم لأن زكريا خاف على العلم أن يندرس و قوله وَ إِنِّي خِفْتُ الْمَوالِيَ مِنْ وَرائِي يدل على ذلك لأن الأنبياء لا تحرص على الأموال حرصا يتعلق خوفها بها و إنما أراد خوفه على العلم أن يضيع فسأل الله تعالى وليا يقوم بالدين مقامه و قوله وَ يَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ يدل على أن المراد العلم و الحكمة لأنه لا يرث أموال يعقوب في الحقيقة و إنما يرث ذلك غيره قال فأما من يقول إن المراد أنا معاشر الأنبياء لا نورث ما تركناه صدقة أي ما جعلناه صدقة في حال حياتنا لا نورثه فركيك من القول لأن إجماع الصحابة يخالفه لأن أحدا لم يتأوله على هذا الوجه لأنه لا يكون في ذلك تخصيص الأنبياء و لا مزية لهم و لأن قوله ما تركناه صدقة جملة من الكلام مستقلة بنفسها كأنه شرح نهج البلاغة ج : 16 ص : 240ع مع (17/212)
بيانه أنهم لا يورثون المال يبين أنه صدقة لأنه كان يجوز ألا يكون ميراثا و يصرف إلى وجه آخر غير الصدقة. قال فأما خبر السيف و البغلة و العمامة و غير ذلك فقد قال أبو علي إنه لم يثبت أن أبا بكر دفع ذلك إلى أمير المؤمنين ع ع جهة الإرث كيف يجوز ذلك مع الخبر الذي رواه و كيف يجوز لو كان وارثا أن يخصه بذلك و لا إرث له مع العم لأنه عصبة فإن كان وصل إلى فاطمة ع فقد كان ينبغي أن يكون العباس شريكا في ذلك و أزواج رسول الله ص و لوجب أن يكون ذلك ظاهرا مشهورا ليعرف أنهم أخذوا نصيبهم من ذلك أو بدله و لا يجب إذا لم يدفع أبو بكر ذلك إليه على جهة الإرث ألا يحصل ذلك في يده لأنه قد يجوز أن يكون النبي ص نحله ذلك و يجوز أيضا أن يكون أبو بكر رأى الصلاح في ذلك أن يكون بيده لما فيه من تقوية الدين و تصدق ببدله بعد التقويم لأن الإمام له أن يفعل ذلك. قال و حكى عن أبي علي في البرد و القضيب أنه لم يمتنع أن يكون جعله عدة في سبيل الله و تقوية على المشركين فتداولته الأئمة لما فيه من التقوية و رأى أن ذلك أولى من أن يتصدق به إن ثبت أنه ع لم يكن قد نحله غيره في حياته ثم عارض نفسه بطلب أزواج النبي ص الميراث و تنازع أمير المؤمنين ع و العباس بعد موت فاطمة ع و أجاب عن ذلك بأن قال يجوز أن يكونوا لم يعرفوا رواية أبي بكر و غيره للخبر. و قد روي أن عائشة لما عرفتهن الخبر أمسكن و قد بينا أنه لا يمتنع في مثل ذلك أن يخفى على من يستحق الإرث و يعرفه من يتقلد الأمر كما يعرف العلماء و الحكام من أحكام المواريث ما لا يعلمه أرباب الإرث و قد بينا أن رواية أبي بكر مع الجماعة شرح نهج البلاغة ج : 16 ص : 241أقوى من شاهدين لو شهد أن بعض تركته ع دين و هو أقوى من رواية سلمان و ابن مسعود لو رويا ذلك. قال و متى تعلقوا بعموم القرآن أريناهم از التخصيص بهذا الخبر كما أن عموم القرآن يقتضي كون الصدقات للفقراء و قد ثبت أن آل محمد لا تحل لهم (17/213)
الصدقة. هذا آخر ما حكاه المرتضى من كلام قاضي القضاة. ثم قال نحن نبين أولا ما يدل على أنه ص يورث المال و نرتب الكلام في ذلك الترتيب الصحيح ثم نعطف على ما أورده و نتكلم عليه. قال رضي الله عنه و الذي يدل على ما ذكرنا قوله تعالى مخبرا عن زكريا ع وَ إِنِّي خِفْتُ الْمَوالِيَ مِنْ وَرائِي وَ كانَتِ امْرَأَتِي عاقِراً فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا يَرِثُنِي وَ يَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَ اجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا فخبر أنه خاف من بني عمه لأن الموالي هاهنا هم بنو العم بلا شبهة و إنما خافهم أن يرثوا ماله فينفقوه في الفساد لأنه كان يعرف ذلك من خلائقهم و طرائقهم فسأل ربه ولدا يكون أحق بميراثه منهم و الذي يدل على أن المراد بالميراث المذكور ميراث المال دون العلم و النبوة على ما يقولون إن لفظة الميراث في اللغة و الشريعة لا يفيد إطلاقها إلا على ما يجوز أن ينتقل على الحقيقة من الموروث إلى الوارث كالأموال و ما في معناها و لا يستعمل في غير المال إلا تجوزا و اتساعا و لهذا لا يفهم من قول القائل لا وارث لفلان إلا فلان و فلان يرث مع فلان بالظاهر و الإطلاق إلا ميراث الأموال و الأعراض دون العلوم و غيرها و ليس لنا أن نعدل عن ظاهر الكلام و حقيقته إلى مجازه بغير دلالة و أيضا فإنه تعالى خبر عن نبيه أنه اشترط في وارثه أن يكون رضيا و متى لم يحمل الميراث في الآية على المال دون العلم (17/214)
شرح نهج البلاغة ج : 16 ص : 242و النبوة لم يكن للاشتراط معنى و كان لغوا و عبثا لأنه إذا كان إنما سأل من يقوم مقامه و يرث مكانه فقد دخل الرضا و ما هو أعظم من الرضا في جملة كلامه و سؤاله فلا مقتضي لاشتراطه أ لا ترى أنه لا يحسن أن يقول اللهم ابعث إلينا نبيا اجعله عاقلا و مكلفا فإذا ثبتت هذه الجملة صح أن زكريا موروث ماله و صح أيضا لصحتها أن نبينا ص ممن يورث المال لأن الإجماع واقع على أن حال نبينا ع لا يخالف حال الأنبياء المتقدمين في ميراث المال فمن مثبت للأمرين و ناف للأمرين. قلت إن شيخنا أبا الحسين قال في كتاب الغرر صورة الخبر الوارد في هذا الباب و هو الذي رواه أبو بكر لا نورث و لم يقل نحن معاشر الأنبياء لا نورث فلا يلزم من كون زكريا يورث الطعن في الخبر و تصفحت أنا كتب الصحاح في الحديث فوجدت صيغة الخبر كما قاله أبو الحسين و إن كان رسول الله ص عنى نفسه خاصة بذلك فقد سقط احتجاج الشيعة بقصة زكريا و غيره من الأنبياء إلا أنه يبعد عندي أن يكون أراد نفسه خاصة لأنه لم تجر عادته أن يخبر عن نفسه في شي ء بالنون. فإن قلت أ يصح من المرتضى أن يوافق على أن صورة الخبر هكذا ثم يحتج بقصة زكريا بأن يقول إذا ثبت أن زكريا موروث ثت أن رسول الله ص يجوز أن يكون موروثا لإجماع الأمة على أن لا فرق بين الأنبياء كلهم في هذا الحكم. قلت و إن ثبت له هذا الإجماع صح احتجاجه و لكن ثبوته يبعد لأن من نفى كون زكريا ع موروثا من الأمة إنما نفاه لاعتقاده أن رسول الله ص قال نحن معاشر الأنبياء فإذا كان لم يقل هكذا لم يقل إن زكريا ع غير موروث شرح نهج البلاغة ج : 16 ص : 243قال المرتضى و مما يقوي ما قدمناه أن زكريا ع خاف بني عمه فطلب وارثا لأجل خوفه و لا يليق خوفه منهم إلا بالمال دون العلم و النبوة لأنه ع كان أعلم بالله تعالى من أن يخاف أن يبعث نبيا ليس هل للنبوة و أن يورث علمه و حكمه من ليس أهلا لهما و لأنه إنما بعث (17/215)
لإذاعة العلم و نشره في الناس فلا يجوز أن يخاف من الأمر الذي هو الغرض في البعثة فإن قيل هذا يرجع عليكم في الخوف عن إرث المال لأن ذلك غاية الضن و البخل قلنا معاذ الله أن يستوي الحال لأن المال قد يصح أن يرزقه الله تعالى المؤمن و الكافر و العدو و الولي و لا يصح ذلك في النبوة و علومها و ليس من الضن أن يأسى على بني عمه و هم من أهل الفساد أن يظفروا بماله فينفقوه على المعاصي و يصرفوه في غير وجوهه المحبوبة بل ذلك غاية الحكمة و حسن التدبير في الدين لأن الدين يحظر تقوية الفساق و إمدادهم بما يعينهم على طرائقهم المذمومة و ما يعد ذلك شحا و لا بخلا إلا من لا تأمل له. فإن قيل أ فلا جاز أن يكون خاف من بني عمه أن يرثوا علمه و هم من أهل الفساد على ما ادعيتم فيستفسدوا به الناس و يموهوا به عليهم قلنا لا يخلو هذا العلم الذي أشرتم إليه من أن يكون هو كتب علمه و صحف حكمته لأن ذلك قد يسمى علما على طريق المجاز أو يكون هو العلم الذي يحل القلب فإن كان الأول فهو يرجع إلى معنى المال و يصحح أن الأنبياء يورثون أموالهم و ما في معناها و إن كان الثاني لم يخل هذا من أن يكون هو العلم الذي بعث النبي لنشره و أدائه أو أن يكون علما مخصوصا لا يتعلق بالشريعة و لا يجب إطلاع جميع الأمة عليه كعلم العواقب و ما يجري في مستقبل الأوقات و ما جرى مجرى ذلك و القسم الأول لا يجوز على النبي أن يخاف من وصوله إلى بني عمه و هم من جملة أمته الذين بعث لإطلاعهم على ذلك و تأديته إليهم و كأنه على هذا الوجه يخاف مما هو الغرض من بعثته و القسم الثاني فاسد أيضا لأن (17/216)
شرح نهج البلاغة ج : 16 ص : 244هذا العلم المخصوص إنما يستفاد من جهته و يوقف عليه بإطلاعه و إعلامه و ليس هو مما يجب نشره في جميع الناس فقد كان يجب إذا خاف من إلقائه إلى بعض الناس فسادا ألا يلقيه إليه فإن ذلك في يده و لا يحتاج إلى أكثر من ذلك. قلت لعاكس أنعكس هذا على المرتضى رحمه الله حينئذ و يقول له و قد كان يجب إذا خاف من أن يرث بنو عمه أمواله فينفقوها في الفساد أن يتصدق بها على الفقراء و المساكين فإن ذلك في يده فيحصل له ثواب الصدقة و يحصل له غرضه من حرمان أولئك المفسدين ميراثه. قال المرتضى رضي الله عنه و مما يدل على أن الأنبياء يورثون قوله تعالى وَ وَرِثَ سُلَيْمانُ داوُدَ و الظاهر من إطلاق لفظة الميراث يقتضي الأموال و ما في معناها على ما دللنا به من قبل. قال و يدل على ذلك أيضا قوله تعالى يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ الآية و قد أجمعت الأمة على عموم هذه اللفظة إلا من أخرجه الدليل فيجب أن يتمسك بعمومها لمكان هذه الدلالة و لا يخرج عن حكمها إلا من أخرجه دليل قاطع. قلت أما قوله تعالى وَ وَرِثَ سُلَيْمانُ داوُدَ فظاهرها يقتضي وراثة النبوة أو الملك أو العلم الذي قال في أول الآية وَ لَقَدْ آتَيْنا داوُدَ وَ سُلَيْمانَ عِلْماً لأنه لا معنى لذكر ميراث سليمان المال فإن غيره من أولاد داود قد ورث أيضا أباه داود و في كتب اليهود و النصارى أن بني داود كانوا تسعة عشر و قد قال بعض المسلمين أيضا ذلك فأي معنى في تخصيص سليمان بالذكر إذا كان إرث المال و أما يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ فالبحث في تخصيص ذلك بالخبر فرع من فروع مسألة خبر الواحد هل هو حجة في شرح نهج البلاغة ج : 16 ص : 245الشرعيات أم لا فإن ثبت مذهب المرتضى في كونه ليس بحجة فكلامه هنا جيد و إن لم يثبت فلا مانع من صيص العموم بالخبر فإن الصحابة قد خصصت عمومات الكتاب بالأخبار في (17/217)
مواضع كثيرة. قال المرتضى و أما تعلق صاحب الكتاب بالخبر الذي رواه أبو بكر و ادعاؤه أنه استشهد عمر و عثمان و فلانا و فلانا فأول ما فيه أن الذي ادعاه من الاستشهاد غير معروف و الذي روي أن عمر استشهد هؤلاء النفر لما تنازع أمير المؤمنين ع و العباس رضي الله عنه في الميراث فشهدوا بالخبر المتضمن لنفي الميراث و إنما مقول مخالفينا في صحة الخبر الذي رواه أبو بكر عند مطالبة فاطمة ع بالإرث على إمساك الأمة عن النكير عليه و الرد لقضيته. قلت صدق المرتضى رحمه الله فيما قال أما عقيب وفاة النبي ص و مطالبة فاطمة ع بالإرث فلم يرو الخبر إلا أبو بكر وحده و قيل إنه رواه معه مالك بن أوس بن الحدثان و أما المهاجرون الذين ذكرهم قاضي القضاة فإنما شهدوا بالخبر في خلافة عمر و قد تقدم ذكر ذلك. قال المرتضى ثم لو سلمنا استشهاد من ذكر على الخبر لم يكن فيه حجة لأن الخبر على كل حال لا يخرج من أن يكون غير موجب للعلم و هو في حكم أخبار الآحاد و ليس يجوز أن يرجع عن ظاهر القرآن بما يجرى هذا المجرى لأن المعلوم لا يخص إلا بمعلوم و إذا كانت دلالة الظاهر معلومة لم يجز أن يخرج عنها بأمر مظنون. قال و هذا الكلام مبني على أن التخصيص للكتاب و السنة المقطوع بها لا يقع (17/218)
شرح نهج البلاغة ج : 16 ص : 246بأخبار الآحاد و هو المذهب الصحيح و قد أشرنا إلى ما يمكن أن يعتمد في الدلالة عليه من أن الظن لا يقابل العلم و لا يرجع عن المعلوم بالمظنون قال و ليس لهم أن يقولوا إن التخصيص بأخبار الآحاد يستند أيضا إلى علم و إن كان الطريق مظنا و يشيروا إلى ما يدعونه من الدلالة على وجوب العمل بخبر الواحد في الشريعة و أنه حجة لأن ذلك مبني من قولهم على ما لا نسلمه و قد دل الدليل على فساده أعني قولهم خبر الواحد حجة في الشرع على أنهم لو سلم لهم ذلك لاحتاجوا إلى دليل مستأنف على أنه يقبل في تخصيص القرآن لأن ما دل على العمل به في الجملة لا يتناول هذا الموضع كما لا يتناول جواز النسخ به. قلت أما قول المرتضى لو سلمنا أن هؤلاء المهاجرين الستة رووه لما خرج عن كونه خبرا واحدا و لما جاز أن يرجع عن عموم الكتاب به لأنه معلوم و الخبر مظنون. و لقائل أن يقول ليته حصل في كل واحد من آيات القرآن رواية مثل هذه الستة حيث جمع القرآن على عهد عثمان و من قبله من الخلفاء فإنهم بدون هذا العدد كانوا يعملون في إثبات الآية في المصحف بل كانوا يحلفون من أتاهم بالآية و من نظر في كتب التواريخ عرف ذلك فإن كان هذا العدد إنما يفيد الظن فالقول في آيات الكتاب كذلك و إن كانت آيات الكتاب أثبتت عن علم مستفاد من رواية هذا العدد و نحوه فالخبر مثل ذلك. فأما مذهب المرتضى في خبر الواحد فإنه قول انفرد به عن سائر الشيعة لأن من قبله من فقهائهم ما عولوا في الفقه إلا على أخبار الآحاد كزرارة و يونس و أبي بصير و ابني بابويه و الحلبي و أبي جعفر القمي و غيرهم ثم من كان في عصر المرتضى منهم شرح نهج البلاغة ج : 16 ص : 247كأبي جعفر الطوسي و غيره و قد تكلمت في اعتبار الذريعة على ما أعتمد عليه في هذه المسألة و أما تخصيص الكتاب بخبر الواحد فالظاهر أنه إذا صح ك خبر الواحد حجة في الشرع جاز تخصيص الكتاب به و هذا من فن أصول الفقه (17/219)
فلا معنى لذكره هنا. قال المرتضى رضي الله عنه و هذا يسقط قول صاحب الكتاب إن الشاهدين لو شهدا أن في التركة حقا لكان يجب أن ينصرف عن الإرث و ذلك لأن الشهادة و إن كانت مظنونة فالعمل بها يستند إلى علم لأن الشريعة قد قررت العمل بالشهادة و لم تقرر العمل بخبر الواحد و ليس له أن يقيس خبر الواحد على الشهادة من حيث اجتمعا في غلبة الظن لأنا لا نعمل على الشهادة من حيث غلبة الظن دون ما ذكرناه من تقرير الشريعة العمل بها أ لا ترى أنا قد نظن بصدق الفاسق و المرأة و الصبي و كثير ممن لا يجوز العمل بقوله فبان أن المعول في هذا على المصلحة التي نستفيدها على طريق الجملة من دليل الشرع. قال و أبو بكر في حكم المدعي لنفسه و الجار إليها بخلاف ما ظنه صاحب الكتاب و كذلك من شهد له إن كانت هناك شهادة و ذلك أن أبا بكر و سائر المسلمين سوى أهل بيت الرسول ص يحل لهم الصدقة و يجوز أن يصيبوا فيها و هذه تهمة في الحكم و الشهادة. قال و ليس له أن يقول فهذا يقتضي ألا يقبل شهادة شاهدين في تركة فيها صدقة لمثل ما ذكرتم. (17/220)
شرح نهج البلاغة ج : 16 ص : 248قال و ذلك لأن الشاهدين إذا شهدا في الصدقة فحظهما منها كحظ صاحب الميراث بل سائر المسلمين و ليس كذلك حال تركة الرسول لأن كونها صدقة يحرمها على ورثته و يبيحها لسائر المسلمين. قلت هذا فرق غير مؤثر اللهم إلا أن يعني به تهمة أبي ر و الشهود الستة في جر النفع إلى أنفسهم يكون أكثر من تهمتهم لو شهدوا على أبي هريرة مثلا أن ما تركه صدقة لأن أهل أبي هريرة يشاركون في القسمة و أهل النبي ص لا يشاركون الشهود فيما يصيبهم إذ هم لا تحل لهم الصدقة فتكون حصة أبي بكر و الشهود مما تركه رسول الله أكثر من حصتهم مما يتركه أبو هريرة فيكون تطرق التهمة إلى أبي بكر و الشهود أكثر حسب زيادة حصتهم و ما وقفت للمرتضى على شي ء أطرف من هذا لأن رسول الله ص مات و المسلمون أكثر من خمسين ألف إنسان لأنه قاد في غزاة تبوك عشرين ألفا ثم وفدت إليه الوفود كلها بعد ذلك فلي شعري كم مقدار ما يتوفر على أبي بكر و ستة نفر معه و هم من جملة خمسين ألفا بين ما إذا كان بنو هاشم و بنو المطلب و هم حينئذ عشرة نفر لا يأخذون حصة و بين ما إذا كانوا يأخذون أ ترى أ يكون المتوفر على أبي بكر و شهوده من التركة عشر عشر درهم ما أظن أنه يبلغ ذلك و كم مقدار ما يقلل حصص الشهود على أبي هريرة إذا شركهم أهله في التركة لتكون هذه القلة موجبة رفع التهمة و تلك الزيادة و الكثرة موجبة حصول التهمة و هذا الكلام لا أرتضيه للمرتضى. قال المرتضى رضي الله عنه و أما قوله يخص القرآن بالخبر كما خصصناه في العبد و القاتل فليس بشي ء لأنا إنما خصصنا من ذكر بدليل مقطوع عليه معلوم و ليس هذا موجودا في الخبر الذي ادعاه فأما قوله و ليس ذلك ينقص الأنبياء بل هو إجلال لهم شرح نهج البلاغة ج : 16 ص : 249فمن الذي قال له إن فيه نقصا و كما أنه لا نقص فيه فلا إجلال فيه و لا فضيلة لأن اعي و إن كان قد يقوى على جمع المال ليخلف على الورثة فقد يقويه أيضا (17/221)
إرادة صرفه في وجوه الخير و البر و كلا الأمرين يكون داعيا إلى تحصيل المال بل الداعي الذي ذكرناه أقوى فيما يتعلق بالدين. قال و أما قوله إن فاطمة لما سمعت ذلك كفت عن الطلب فأصابت أولا و أصابت ثانيا فلعمري إنها كفت عن المنازعة و المشاحة لكنها انصرفت مغضبة متظلمة متألمة و الأمر في غضبها و سخطها أظهر من أن يخفى على منصف فقد روى أكثر الرواة الذين لا يتهمون بتشيع و لا عصبية فيه من كلامها في تلك الحال و بعد انصرافها عن مقام المنازعة و المطالبة ما يدل على ما ذكرناه من سخطها و غضبها. (17/222)
أخبرنا أبو عبيد الله محمد بن عمران المرزباني قال حدثني محمد بن أحمد الكاتب قال حدثنا أحمد بن عبيد بن ناصح النحوي قال حدثني الزيادي قال حدثنا الشرقي بن القطامي عن محمد بن إسحاق قال حدثنا صالح بن كيسان عن عروة عن عائشة قالت لما بلغ فاطمة إجماع أبي بكر على منعها فدك لاثت خمارها على رأسها و اشتملت بجلبابها و أقبلت في لمة من حفدتها...
قال المرتضى و أخبرنا المرزباني قال حدثنا أبو بكر أحمد بن محمد المكي قال حدثنا أبو العيناء بن القاسم اليماني قال حدثنا ابن عائشة قال لما قبض رسول الله ص أقبلت فاطمة إلى أبي بكر في لمة من حفدتها ثم اجتمعت الروايتان من هاهنا... و نساء قومها تطأ ذيولها ما تخرم مشيتها مشية رسول الله ص شرح نهج البلاغة ج : 16 ص : 250حتى دخلت على أبي بكر و هو في حشد من المهاجرين و الأنصار و غيرهم فنيطت دونها ملاءة ثم أنت أنة أجهش لها القوم بالبكاء و ارتج المجلس ثم أمهلت هنيهة حتى إذا سكن نشيج القوم و هدأت فورتهم افتتحت كلامها بامد لله عز و جل و الثناء عليه و الصلاة على رسول الله ص ثم قالت لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ ما عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ فإن تعزوه تجدوه أبي دون آبائكم و أخا ابن عمي دون رجالكم فبلغ الرسالة صادعا بالنذارة مائلا عن سنن المشركين ضاربا ثبجهم يدعو إلى سبيل ربه بالحكمة و الموعظة الحسنة آخذا بأكظام المشركين يهشم الأصنام و يفلق الهام حتى انهزم الجمع و ولوا الدبر و حتى تفرى الليل عن صبحه و أسفر الحق عن محضه و نطق زعيم الدين و خرست شقائق الشياطين و تمت كلمة الإخلاص و كنتم على شفا حفرة من النار نهزة الطامع و مذقة الشارب و قبسة العجلان و موطإ الأقدام تشربون الطرق و تقتاتون القد أذلة خاسئين يختطفكم الناس من حولكم حتى أنقذكم الله برسوله ص بعد اللتيا و التي و بعد أن مني بهم الرجال و ذؤبان العرب و مردة أهل الكتاب و كلما أوقدوا نارا للحرب أطفأها الله أو نجم قرن الشيطان أو فغرت فاغرة قذف أخاه في لهواتها و لا ينكفئ حتى يطأ صماخها بأخمصه و يطفئ عادية لهبها بسيفه أو قالت يخمد لهبها بحده مكدودا في ذات الله و أنتم في رفاهية فكهون آمنون وادعون (17/223)
شرح نهج البلاغة ج : 16 ص : 251إلى هنا انتهى خبر أبي العيناء عن ابن عائشة و أما عروة عن عائشة فزاد بعد هذا حتى إذا اختار الله لنبيه دار أنبيائه ظهرت حسيكة النفاق و شمل جلباب الدين و نطق كاظم الغاوين و نبغ خامل الآفكين و هدر فنيق المبطلين فخطر في عرصاتكم و أطلع الشيطان رأسه صارخا بكم فدعاكم فألفاكم لدعوته مستجيبين و لقربه متلاحظين ثم استنهضكم فوجدكم خفافا و أحمشكم فألفاكم غضابا فوسمتم غير إبلكم و وردتم غير شربكم هذا و العهد قريب و الكلم رحيب و الجرح لما يندمل إنما زعمتم ذلك خوف الفتنة ألا في الفتنة سقطوا و إن جهنم لمحيطة بالكافرين فهيهات و أنى بكم و أنى تؤفكون و كتاب الله بين أظهركم زواجره بينة و شواهده لائحة و أوامره واضحة أ رغبة عنه تريدون أم لغيره تحكمون بئس للظالمين بدلا و من يتبع غير الإسلام دينا فلن يقبل منه و هو في الآخرة من الخاسرين ثم لم تلبثوا إلا ريث أن تسكن نفرتها تسرون حسوا في ارتغاء و نحن نصبر منكم على مثل حز المدى و أنتم الآن تزعمون أن لا إرث لنا أ فحكم الجاهلية يبغون و من أحسن من الله حكما لقوم يوقنون يا ابن أبي قحافة أ ترث أباك و لا أرث أبي لقد جئت شيئا فريا فدونكها مخطومة مرحولة تلقاك يوم حشرك فنعم الحكم الله و الزعيم محمد و الموعد القيامة و عند الساعة يخسر المبطلون ثم انكفأت إلى قبر أبيها ع فقالت (17/224)
قد كان بعدك أنباء و هنبثة لو كنت شاهدها لم تكثر الخطب إذا فقدناك فقد الأرض وابلها و اختل قومك فاشهدهم و لا تغب. و روى حرمي بن أبي العلاء مع هذين البيتين بيتا ثالثا
فليت بعدك كان الموت صادفنا لما قضيت و حالت دونك الكتب
شرح نهج البلاغة ج : 16 ص : 252قال فحمد أبو بكر الله و أثنى عليه و صلى على رسوله ص و قال يا خير النساء و ابنة خير الآباء و الله ما عدوت رأي رسول الله ص و لا عملت إلا بإذنه و إن الرائد لا يكذب أهله و إني أشهد الله و كفى بالله شهيدا أني سمعت رسول الله يقول إنا معاشر الأنبياء لا نورث ذهبا و لا فضة و لا دارا و لا عقارا و إنما نورث الكتاب و الحكمة و العلم و النبوة (17/225)
قال فلما وصل الأمر إلى علي بن أبي طالب ع كلم في رد فدك فقال إني لأستحيي من الله أن أرد شيئا منع منه أبو بكر و أمضاه عمر
قال المرتضى و أخبرنا أبو عبد الله المرزباني قال حدثني علي بن هارون قال أخبرني عبيد الله بن أحمد بن أبي طاهر عن أبيه قال ذكرت لأبي الحسين زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب ع كلام فاطمة ع عند منع أبي بكر إياها فدك و قلت له إن هؤلاء يزعمون أنه مصنوع و أنه من كلام أبي العيناء لأن الكلام منسوق البلاغة فقال لي رأيت مشايخ آل أبي طالب يروونه عن آبائهم و يعلمونه أولادهم و قد حدثني به أبي عن جدي يبلغ به فاطمة ع على هذه الحكاية
و قد رواه مشايخ الشيعة و تدارسوه قبل أن يوجد جد أبي العيناء و قد حدث الحسين بن علوان عن عطية العوفي أنه سمع عبد الله بن الحسن بن الحسن يذكر عن أبيه هذا الكلام. ثم قال أبو الحسن زيد و كيف تنكرون هذا من كلام فاطمة ع و هم شرح نهج البلاغة ج : 16 ص : 253يروونن كلام عائشة عند موت أبيها ما هو أعجب من كلام فاطمة ع و يحققونه لو لا عداوتهم لنا أهل البيت ثم ذكر الحديث بطوله على نسقه و زاد في الأبيات بعد البيتين الأولين
ضاقت علي بلادي بعد ما رحبت وسم سبطاك خسفا فيه لي نصب فليت قبلك كان الموت صادفنا قوم تمنوا فأعطوا كل ما طلبواتجهمتنا رجال و استخف بنا مذ غبت عنا و كل الإرث قد غصبواقال فما رأينا يوما أكثر باكيا أو باكية من ذلك اليوم. قال المرتضى و قد روى هذا الكلام على هذا الوجه من طرق مختلفة و وجوه كثيرة فمن أرادها أخذها من مواضعها فكيف يدعي أنها ع كفت راضية و أمسكت قانعة لو لا البهت و قلة الحياء. قلت ليس في هذا الخبر ما يدل على فساد ما ادعاه قاضي القضاة لأنه ادعى أنها نازعت و خاصمت ثم كفت لما سمعت الرواية و انصرفت تاركة للنزاع راضية بموجب الخبر المروي و ما ذكره المرتضى من هذا الكلام لا يدل إلا على سخطها حال حضورها و لا يدل على أنها بعد رواية الخبر و بعد أن أقسم لها أبو بكر بالله تعالى أنه ما روى عن رسول الله ص إلا ما سمعه منه انصرفت ساخطة و لا في الحديث المذكور و الكلام المروي ما يدل على ذلك و لست أعتقد أنها انصرفت راضية كما قال قاضي القضاة بل أعلم أنها انصرفت ساخطة و ماتت و هي على أبي بكر واجدة و لكن لا من هذا الخبر بل من أخبار أخر كان الأولى بالمرتضى أن يحتج بها على شرح نهج البلاغة ج : 16 ص : 254ما يرويه في انصرافها ساخطة و موتها على ذلك السخط و أما هذا الخبر و هذا الكلام فلا يدل على هذا المطلوب. قال المرتضى رحمه الله فأما قوله إنه يجوز أن يبين ع أنه لا حق لميراثه في ورثته لغير الثة و لا يمتنع أن يرد من جهة الآحاد لأنه من باب العمل و كل هذا بناء منه على أصوله الفاسدة في أن خبر الواحد حجة في الشرع و أن العمل به واجب و دون صحة ذلك خرط القتاد و إنما يجوز أن يبين من جهة أخرى إذا تساويا في الحجة و وقوع العمل فأما مع تباينهما فلا يجوز التخيير فيهما و إذا كان ورثة النبي ص متعبدين بألا يرثوه فلا بد من إزاحة علتهم في هذه العبادة بأن يوقفهم على الحكم و يشافههم به و يلقيه إلى من يقيم الحجة عليهم (17/226)
بنقله و كل ذلك لم يكن. فأما قوله أ تجوزون صدقه في الرواية أم لا تجوزون ذلك فالجواب إنا لا نجوزه لأن كتاب الله أصدق منه و هو يدفع روايته و يبطلها فأما اعتراضه على قولنا إن إطلاق الميراث لا يكون إلا في الأموال بقوله تعالى ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا و قولهم ما ورثت الأبناء من الآباء شيئا أفضل من أدب حسن و قولهم العلماء ورثة الأنبياء فعجيب لأن كل ما ذكر مقيد غير مطلق و إنما قلنا إن مطلق لفظ الميراث من غير قرينة و لا تقييد يفيد بظاهره ميراث الأموال فبعد ما ذكره و عارض به لا يخفى على متأمل. فأما استدلاله على أن سليمان ورث داود علمه دون ماله بقوله يا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنا مَنْطِقَ الطَّيْرِ وَ أُوتِينا مِنْ كُلِّ شَيْ ءٍ إِنَّ هذا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ و أن المراد أنه شرح نهج البلاغة ج : 16 ص : 255ورث العلم و الفضل و إلا لم يكن لهذا القول تعلق بالأول فليس بشي ء يعول عليه لأنه لا يمتنع أن يريد به أنه ورث المال بالظاهر و العلم بهذا المعنى من الاستدلال فليس يجب إذا دلت الدلالة في بعض الألفاظ على معنى المجاز أن يقتصر بهليه بل يجب أن يحملها على الحقيقة التي هي الأصل إذا لم يمنع من ذلك مانع على أنه لا يمتنع أن يريد ميراث المال خاصة ثم يقول مع ذلك إنا عُلِّمْنا مَنْطِقَ الطَّيْرِ و يشير الْفَضْلُ الْمُبِينُ إلى العلم و المال جميعا فله بالأمرين جميعا فضل على من لم يكن عليهما و قوله وَ أُوتِينا مِنْ كُلِّ شَيْ ءٍ يحتمل المال كما يحتمل العلم فليس بخالص ما ظنه. فأما قوله في قصة زكريا إنه خاف على العلم أن يندرس لأن الأنبياء و إن كانوا لا يحرصون على الأموال و إنما خاف أن يضيع العلم فسأل الله تعالى وليا يقوم بالدين مقامه فقد بينا ن الأنبياء و إن كانوا لا يحرصون على الأموال و لا يبخلون بها فإنهم يجتهدون في منع المفسدين من الانتفاع بها على الفساد (17/227)
و لا يعد ذلك بخلا و لا حرصا بل فضلا و دينا و ليس يجوز من زكريا أن يخاف على العلم الاندراس و الضياع لأنه يعلم أن حكمة الله تعالى تقتضي حفظ العلم الذي هو الحجة على العباد و به تنزاح عللهم في مصالحهم فكيف يخاف ما لا يخاف من مثله. فإن قيل فهبوا أن الأمر كما ذكرتم من أن زكريا كان يأمن على العلم أن يندرس أ ليس لا بد أن يكون مجوزا أن يحفظه الله تعالى بمن هو من أهله و أقاربه كما يجوز حفظه بغريب أجنبي فما أنكرتم أن يكون خوفه إنما كان من بني عمه ألا يتعلموا العلم و لا يقوموا فيه مقامه فسأل الله ولدا يجمع فيه هذه العلوم حتى لا يخرج العلم عن بيته و يتعدى إلى غير قومه فيلحقه بذلك وصمة. شرح نهج البلاغة ج : 16 ص : 256قلنا أما إذا رتب السؤال هذا الترتيب فالاب عنه ما أجبنا به صاحب الكتاب و هو أن الخوف الذي أشاروا إليه ليس من ضرر ديني و إنما هو من ضرر دنياوي و الأنبياء إنما بعثوا لتحمل المضار الدنياوية و منازلهم في الثواب إنما زادت على كل المنازل لهذا الوجه و من كانت حاله هذه الحال فالظاهر من خوفه إذا لم يعلم وجهه بعينه أن يكون محمولا على مضار الدين لأنها هي جهة خوفهم و الغرض في بعثهم تحمل ما سواها من المضار فإذا قال النبي ص أنا خائف فلم يعلم جهة خوفه على التفصيل يجب أن يصرف خوفه بالظاهر إلى مضار الدين دون الدنيا لأن أحوالهم و بعثهم يقتضي ذلك فإذا كنا لو اعتدنا من بعضنا الزهد في الدنيا و أسبابها و التعفف عن منافعها و الرغبة في الآخرة و التفرد بالعمل لها لكنا نحمل على ما يظهر لنا من خوفه الذي لا يعلم وجهه بعينه على ما هو أشبه و أليق بحاله و نضيفه إلى الآخرة دون الدنيا و إذا كان هذا واجبا فيمن ذكرناه فهو في الأنبياء ع أوجب. قلت ينبغي ألا يقول المعترض فيلحقه بذلك وصمة فيجعل الخوف من هذه الوصمة بل يقول إنه خاف ألا يفلح بنو عمه و لا يتعلموا العلم لما رأى من الأمارات الدالة على ذلك فالخوف على هذا (17/228)
الترتيب يتعلق بأمر ديني لا دنيوي فسأل الله تعالى أن يرزقه ولدا يرث عنه علمه أي يكون عالما بالدينيات كما أنا عالم بها و هذا السؤال متعلق بأمر ديني لا دنيوي و على هذا يندفع ما ذكره المرتضى على أنه لا يجوز إطلاق القول بأن الأنبياء بعثوا لتحمل المضار الدنياوية و لا القول الغرض في بعثتهم تحمل ما سوى المضار الدينية من المضار فإنهم ما بعثوا لذلك و لا الغرض في بعثتهم ذلك و إنما بعثوا لأمر آخر و قد تحصل المضار في أداء الشرع ضمنا و تبعا لا على أنها الغرض و لا داخلة (17/229)
شرح نهج البلاغة ج : 16 ص : 257في الغرض و على أن قول المرتضى لا يجوز أن يخاف زكريا من تبديل الدين و تغييره لأنه محفوظ من الله فكيف يخاف ما لا يخاف من مثله غير مستمر على أصوله لأن المكلفين الآن قد حرموا بغيبة الإمام عنده ألطافا كثيرة الوصلة بالشرعيات كالحد و صلاة الجمعة و الأعياد و هو و أصحابه يقولون في ذلك أن اللوم على المكلفين لأنهم قد حرموا أنفسهم اللطف فهلا جاز أن يخاف زكريا من تبديل الدين و تغييره و إفساد الأحكام الشرعية لأنه إنما يجب على الله تعالى التبليغ بالرسول إلى المكلفين فإذا أفسدوا هم الأديان و بدلوها لم يجب عليه أن يحفظها عليهم لأنهم هم الذين حرموا أنفسهم اللطف. و اعلم أنه قد قرئ وَ إِنِّي خِفْتُ الْمَوالِيَ مِنْ وَرائِي و قيل إنها قراءة زين العابدين و ابنه محمد بن علي الباقر ع و عثمان بن عفان و فسروه على وجهين أحدهما أن يكون ورائي بمعنى خلفي و بعدي أي قلت الموالي و عجزوا عن إقامة الدين تقول قد خف بنو فلان أي قل عددهم فسأل زكريا ربه تقويتهم و مظاهرتهم بولي يرزقه. و ثانيهما أن يكون ورائي بمعنى قدامي أي خف الموالي و أنا حي و درجوا و انقرضوا و لم يبق منهم من به اعتضاد و على هذه القراءة لا يبقى متعلق بلفظة الخوف. و قد فسر قوم قوله وَ إِنِّي خِفْتُ الْمَوالِيَ أي خفت الذين يلون الأمر من بعدي لأن الموالي يستعمل في الوالي و جمعه موال أي خفت أن يلي بعد موتي أمراء و رؤساء يفسدون شيئا من الدين فارزقني ولدا تنعم عليه بالنبوة و العلم كما أنعمت شرح نهج البغة ج : 16 ص : 258علي و اجعل الدين محفوظا به و هذا التأويل غير منكر و فيه أيضا دفع لكلام المرتضى. قال المرتضى و أما تعلق صاحب الكتاب في أن الميراث محمول على العلم بقوله وَ يَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ لأنه لا يرث أموال آل يعقوب في الحقيقة و إنما يرث ذلك غيره فبعيد من الصواب لأن ولد زكريا يرث بالقرابة من آل يعقوب أموالهم على (17/230)
أنه لم يقل يرث آل يعقوب بل قال يَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ تنبيها بذلك على أنه يرث من كان أحق بميراثه في القرابة. فأما طعنه على من تأول الخبر بأنه ع لا يورث ما تركه للصدقة بقوله إن أحدا من الصحابة لم يتأوله على هذا الوجه فهذا التأويل الذي ذكرناه أحد ما قاله أصحابنا في هذا الخبر فمن أين له إجماع الصحابة على خلافه و إن أحدا لم يتأوله على هذا الوجه. فإن قال لو كان ذلك لظهر و اشتهر و لوقف أبو بكر عليه فقد مضى من الكلام فيما يمنع من الموافقة على هذا المعنى ما فيه كفاية. قلت لم يكن ذلك اليوم أعني يوم حضور فاطمة ع و قولها لأبي بكر ما قالت يوم تقية و خوف و كيف يكون يوم تقية و هي تقول له و هو الخليفة يا ابن أبي قحافة أ ترث أباك و لا أرث أبي و تقول له أيضا لقد جئت شيئا فريا فكان ينبغي إذا لم يؤثر أمير المؤمنين ع أن يفسر لأبي بكر معنى الخبر أن يعلم فاطمة ع (17/231)
شرح نهج البلاغة ج : 16 ص : 259تفسيره فتقول لأبي بكر أنت غالط فيما ظننت إنما قال أبي ما تركناه صدقة فإنه لا يورث. و اعلم أن هذا التأويل كاد يكون مدفوعا بالضرورة لأن من نظر في الأحاديث التي ذكرناها و ما جرت عليه الحال يعلم بطلانه علما قطعيا. قال المرتضى ووله إنه لا يكون إذ ذلك تخصيص للأنبياء و لا مزية ليس بصحيح و قد قيل في الجواب عن هذا إن النبي ص يجوز أن يريد أن ما ننوي فيه الصدقة و نفرده لها من غير أن نخرجه عن أيدينا لا تناله ورثتنا و هذا تخصيص للأنبياء و مزية ظاهرة. قلت هذه مخالفة لظاهر الكلام و إحالة اللفظ عن وضعه و بين قوله ما ننوي فيه الصدقة و هو بعد في ملكنا ليس بموروث و قوله ما نخلفه صدقة ليس بموروث فرق عظيم فلا يجوز أن يراد أحد المعنيين باللفظ المفيد للمعنى الآخر لأنه إلباس و تعمية و أيضا فإن العلماء ذكروا خصائص الرسول في الشرعيات عن أمته و عددوها نحو حل الزيادة في النكاح على أربع و نحو النكاح بلفظ الهبة على قول فرقة من المسلمين و نحو تحريم أكل البصل و الثوم عليه و إباحة شرب دمه و غير ذلك و لم يذكروا في خصائصه أنه إذا كان قد نوى أن يتصدق بشي ء فإنه لا يناله ورثته لو قدرنا أنه يورث الأموال و لا الشية قبل المرتضى ذكرت ذلك و لا رأينا في كتاب من كتبهم و هو مسبوق بإجماع طائفته عليه و إجماعهم عندهم حجة. قال المرتضى فأما قوله إن قوله ع ما تركناه صدقة جملة من الكلام شرح نهج البلاغة ج : 16 ص : 260مستقلة بنفسها فصحيح إذا كانت لفظة ما مرفوعة على الابتداء و لتكن منصوبة بوقوع الفعل عليها و كانت لفظة صدقة أيضا مرفوعة غير منصوبة و في هذا وقع النزاع فكيف يدعى أنها جملة مستقلة بنفسها و أقوى ما يمكن أن نذكره أن نقول الرواية جاءت بلفظ صدقة بالرفع و على ما تأولتموه لا تكون إلا منصوبة و الجواب عن ذلك إنا لا نسلم الرواية بالرفع و لم تجر عادة الرواة بضبط ما جرى هذا المجرى من الإعراب و (17/232)
الاشتباه يقع في مثله فمن حقق منهم و صرح بالرواية بالرفع يجوز أن يكون اشتبه عليه فظنها مرفوعة و هي منصوبة قلت و هذا أيضا خلاف الظاهر و فتح الباب فيه يؤدي إلى إفساد الاحتجاج بكثير من الأخبار. قال و أما حكايته عن أبي علي أن أبا بكر لم يدفع إلى أمير المؤمنين ع السيف و البغلة و العمامة على جهة الإرث و قوله كيف يجوز ذلك مع الخبر الذي رواه و كيف خصصه بذلك دون العم الذي هو العصبة فما نراه زاد على التعجب و مما عجب منه عجبنا و لم يثبت عصمة أبي بكر فينتفي عن أفعاله التناقض. قلت لا يشك أحد في أن أبا بكر كان عاقلا و إن شك قوم في ذلك فالعاقل في يوم واحد لا يدفع فاطمة ع عن الإرث و يقول إن أباك قال لي إنني لا أورث ثم يورث في ذلك اليوم شخصا آخر من مال ذلك المتوفى الذي حكى عنه أنه لا يورث و ليس انتفاء هذا التناقض عن أفعاله موقوفا على العصمة بل على العقل. (17/233)
شرح نهج البلاغة ج : 16 ص : 261قال المرتضى و قوله يجوز أن يكون النبي ص نحله إياه و تركه أبو بكر في يده لما في ذلك من تقوية الدين و تصدق ببدله و كل ما ذكره جائز إلا أنه قد كان يجب أن يظهر أسباب النحلة و الشهادة بها و الحجة عليها و لم يظهر من ذلك شي ء فنع و من العجائب أن تدعي فاطمة فدك نحلة و تستشهد على قولها أمير المؤمنين ع و غيره فلا يصغى إلى قولها و يترك السيف و البغلة و العمامة في يد أمير المؤمنين على سبيل النحلة بغير بينة ظهرت و لا شهادة قامت. قلت لعل أبا بكر سمع الرسول ص و هو ينحل ذلك عليا ع فلذلك لم يحتج إلى البينة و الشهادة فقد روى أنه أعطاه خاتمه و سيفه في مرضه و أبو بكر حاضر و أما البغلة فقد كان نحله إياها في حجة الوداع على ما وردت به الرواية و أما العمامة فسلب الميت و كذلك القميص و الحجزة و الحذاء فالعادة أن يأخذ ذلك ولد الميت و لا ينازع فيه لأنه خارج أو كالخارج عن التركة فلما غسل ع أخذت ابنته ثيابه التي مات فيها و هذه عادة الناس على أنا قد ذكرنا في الفصل الأول كيف دفع إليه آلة النبي ص و حذاءه و دابته و الظاهر أنه فعل ذلك اجتهادا لمصلحة رآها و للإمام أن يفعل ذلك. قال المرتضى على أنه كان يجب على أبي بكر أن يبين ذلك و يذكر وجهه بعينه لما نازع العباس فيه فلا وقت لذكر الوجه في ذلك أولى من هذا الوقت. قلت لم ينازع العباس في أيام أبي بكر لا في البغلة و العمامة و نحوها و لا في غير شرح نهج البلاغة ج : 16 ص : 262ذلك و إنما نازع عليا في أيام عمر و قد ذكرنا فية المنازعة و فيما ذا كانت. قال المرتضى رضي الله عنه في البردة و القضيب إن كان نحلة أو على الوجه الآخر يجري مجرى ما ذكرناه في وجوب الظهور و الاستشهاد و لسنا نرى أصحابنا يعني المعتزلة يطالبون أنفسهم في هذه المواضع بما يطالبوننا بمثله إذا ادعينا وجوها و أسبابا و عللا مجوزة لأنهم لا يقنعون منا بما يجوز و يمكن بل يوجبون فيما (17/234)
ندعيه الظهور و الاستشهاد و إذا كان هذا عليهم نسوه أو تناسوه. قلت أما القضيب فهو السيف الذي نحله رسول الله ص عليا ع في مرضه و ليس بذي الفقار بل هو سيف آخر و أما البردة فإنه وهبها كعب بن زهير ثم صار هذا السيف و هذه البردة إلى الخلفاء بعد تنقلات كثيرة مذكورة في كتب التواريخ. قال المرتضى فأما قوله فإن أزواج النبي ص إنما طلبن الميراث لأنهن لم يعرفن رواية أبي بكر للخبر و كذلك إنما نازع علي ع بعد موت فاطمة ع في الميراث لهذا الوجه فمن أقبح ما يقال في هذا الباب و أبعده عن الصواب و كيف لا يعرف أمير المؤمنين ع رواية أبي بكر و بها دفعت زوجته عن الميراث و هل مثل ذلك المقام الذي قامته و ما رواه أبو بكر في دفعها يخفى على من هو في أقاصي البلاد فضلا عمن هو في المدينة حاضر شاهد يراعي الأخبار و يعني بها إن هذا لخروج في المكابرة عن الحد و كيف يخفى على الأزواج ذلك حتى يطلبنه مرة بعد أخرى و يكون عثمان الرسول لهن و المطالب عنهن و عثمان على زعمهم أحد من شهد (17/235)
شرح نهج البلاغة ج : 16 ص : 263أن النبي ص لا يورث و قد سمعن على كل حال أن بنت النبي ص لم تورث ماله و لا بد أن يكن قد سألن عن السبب في دفعها فذكر لهن الخبر فكيف يقال إنهن لم يعرفنه. قلت الصحيح أن أمير المؤمنين ع لم ينازع بعد موت فاطمة في الميراث و إنما نا في الولاية لفدك و غيرها من صدقات رسول الله ص و جرى بينه و بين العباس في ذلك ما هو مشهور و أما أزواج النبي ص فما ثبت أنهن نازعن في ميراثه و لا أن عثمان كان المرسل لهن و المطالب عنهن إلا في رواية شاذة و الأزواج لما عرفن أن فاطمة ع قد دفعت عن الميراث أمسكن و لم يكن قد نازعن و إنما اكتفين بغيرهن و حديث فدك و حضور فاطمة عند أبي بكر كان بعد عشرة أيام من وفاة رسول الله ص و الصحيح أنه لم ينطق أحد بعد ذلك من الناس من ذكر أو أنثى بعد عود فاطمة ع من ذلك المجلس بكلمة واحدة في الميراث. قال المرتضى فإن قيل فإذا كان أبو بكر قد حكم بالخطإ في دفع فاطمة ع عن الميراث و احتج بخبر لا حجة فيه فما بال الأمة أقرته على هذا الحكم و لم تنكر عليه و في رضاها و إمساكها دليل على صوابه. قلت قد مضى أن ترك النكير لا يكون دليل الرضا إلا في هذا الموضع الذي لا يكون له وجه سوى الرضا و ذكرنا في ذلك قولا شافيا و قد أجاب أبو عثمان الجاحظ في كتاب العباسية عن هذا السؤال جوابا حسن المعنى و اللفظ نحن شرح نهج البلاغة ج : 16 ص : 264نذكره على وجهه ليقابل بينه و بين كلامه في العثمانية و غيرها. قلت ما كناه المرتضى رحمه الله في غير هذا الموضع أصلا بل كان سطا عليه و كناه في هذا الموضع و استجاد قوله لأنه موافق غرضه فسبحان الله ما أشد حب الناس لعقائدهم. قال قال أبو عثمان و قد زعم أناس أن الدليل على صدق خبرهما يعني أبا بكر و عمر في منع الميراث و براءة ساحتهما ترك أصحاب رسول الله ص النكير عليهما ثم قال قد يقال لهم لئن كان ترك النكير دليلا على صدقهما ليكونن ترك النكير على (17/236)
المتظلمين و المحتجين عليهما و المطالبين لهما دليلا على صدق دعواهم أو استحسان مقالتهم و لا سيما و قد طالت المناجاة و كثرت المراجعة و الملاحاة و ظهرت الشكية و اشتدت الموجدة و قد بلغ ذلك من فاطمة ع حتى إنها أوصت ألا يصلي عليها أبو بكر و لقد كانت قالت له حين أتته طالبة بحقها و محتجة لرهطها من يرثك يا أبا بكر إذا مت قال أهلي و ولدي قالت فما بالنا لا نرث النبي ص فلما منعها ميراثها و بخسها حقها و اعتل عليها و جلح في أمرها و عاينت التهضم و أيست من التورع و وجدت نشوة الضعف و قلة الناصر قالت و الله لأدعون الله عليك قال و الله لأدعون الله لك قالت و الله لا أكلمك أبدا قال و الله لا أهجرك أبدا فإن يكن ترك النكير على أبي بكر دليلا على صواب منعها إن في ترك النكير على فاطمة ع دليلا على صواب طلبها و أدنى ما كان يجب عليهم في ذلك تعريفها ما جهلت و تذكيرها ما نسيت و صرفها عن الخطإ و رفع قدرها عن البذاء و أن تقول هجرا أو تجور عادلا أو تقطع واصلا فإذا لم تجدهم أنكروا على الخصمين جميعا فقد تكافأت (17/237)
شرح نهج البلاغة ج : 16 ص : 265الأمور و استوت الأسباب و الرجوع إلى أصل حكم الله من المواريث أولى بنا و بكم و أوجب علينا و عليكم. قال فإن قالوا كيف تظن به ظلمها و التعدي عليها و كلما ازدادت عليه غلظة ازداد لها لينا و رقة حيث تقول له و الله لا أكلمك أبدا فول و الله لا أهجرك أبدا ثم تقول و الله لأدعون الله عليك فيقول و الله لأدعون الله لك ثم يحتمل منها هذا الكلام الغليظ و القول الشديد في دار الخلافة و بحضرة قريش و الصحابة مع حاجة الخلافة إلى البهاء و التنزيه و ما يجب لها من الرفعة و الهيبة ثم لم يمنعه ذلك أن قال معتذرا متقربا كلام المعظم لحقها المكبر لمقامها و الصائن لوجهها المتحنن عليها ما أحد أعز علي منك فقرا و لا أحب إلي منك غنى و لكني سمعت رسول الله ص يقول إنا معاشر الأنبياء لا نورث ما تركناه فهو صدقة قيل لهم ليس ذلك بدليل على البراءة من الظلم و السلامة من الجور و قد يبلغ من مكر الظالم و دهاء الماكر إذا كان أريبا و للخصومة معتادا أن يظهر كلام المظلوم و ذلة المنتصف و حدب الوامق و مقة المحق و كيف جعلتم ترك النكير حجة قاطعة و دلالة واضحة و قد زعمتم أن عمر قال على منبره متعتان كانتا على عهد رسول الله ص متعة النساء و متعة الحج أنا أنهى عنهما و أعاقب عليهما فما وجدتم أحدا أنكر قوله و لا استشنع مخرج نهيه و لا خطأه في معناه و لا تعجب منه و لا استفهمه و كيف تقضون بترك النكير و قد شهد عمر يوم السقيفة و بعد ذلك (17/238)
أن النبي ص قال الأئمة من قريش
ثم قال في شكاته لو كان سالم حيا ما تخالجني فيه شك حين أظهر الشك في استحقاق كل واحد من الستة الذين شرح نهج البلاغة ج : 16 ص : 266جعلهم شورى و سالم عبد لامرأة من الأنصار و هي أعتقته و حازت ميراثه ثم لم ينكر ذلك من قوله منكر و لا قابل إنسان بين قوله و لا تع منه و إنما يكون ترك النكير على من لا رغبة و لا رهبة عنده دليلا على صدق قوله و صواب عمله فأما ترك النكير على من يملك الضعة و الرفعة و الأمر و النهي و القتل و الاستحياء و الحبس و الإطلاق فليس بحجة تشفي و لا دلالة تضي ء. قال و قال آخرون بل الدليل على صدق قوهما و صواب عملهما إمساك الصحابة عن خلعهما و الخروج عليهما و هم الذين وثبوا على عثمان في أيسر من جحد التنزيل و رد النصوص و لو كان كما تقولون و ما تصفون ما كان سبيل الأمة فيهما إلا كسبيلهم فيه و عثمان كان أعز نفرا و أشرف رهطا و أكثر عددا و ثروة و أقوى عدة. قلنا إنهما لم يجحدا التنزيل و لم ينكرا النصوص و لكنهما بعد إقرارهما بحكم الميراث و ما عليه الظاهر من الشريعة ادعيا رواية و تحدثا بحديث لم يكن محالا كونه و لا ممتنعا في حجج العقول مجيئه و شهد لهما عليه من علته مثل علتهما فيه و لعل بعضهم كان يرى تصديق الرجل إذا كان عدلا في رهطه مأمونا في ظاهره و لم يكن قبل ذلك عرفه بفجرة و لا جرت عليه غدرة فيكون تصديقه له على جهة حسن الظن و تعديل الشاهد و لأنه لم يكن كثير منهم يعرف حقائق الحجج و الذي يقطع بشهادته على الغيب و كان ذلك شبهة على أكثرهم فلذلك قل النكير و تواكل الناس فاشتبه الأمر فصار لا يتخلص إلى معرفة حق ذلك من باطله إلا العالم المتقدم أو المؤيد المرشد و لأنه لم يكن لعثمان في صدور العوام و قلوب السفلة و الطغام ما كان لهما من المحبة و الهيبة و لأنهما كانا أقل استئثارا بالفي ء و تفضلا بمال الله منه و من شأن الناس إهال السلطان ما وفر عليهم أموالهم و لم يستأثر بخراجهم و لم يعطل (17/239)
ثغورهم و لأن الذي صنع أبو بكر (17/240)
شرح نهج البلاغة ج : 16 ص : 267من منع العترة حقها و العمومة ميراثها قد كان موافقا لجلة قريش و كبراء العرب و لأن عثمان أيضا كان مضعوفا في نفسه مستخفا بقدره لا يمنع ضيما و لا يقمع عدوا و لقد وثب ناس على عثمان بالشتم و القذف و التشنيع و النكير لأمور لو أتى عافها و بلغ أقصاها لما اجترءوا على اغتيابه فضلا على مبادأته و الإغراء به و مواجهته كما أغلظ عيينة بن حصن له فقال له أما إنه لو كان عمر لقمعك و منعك فقال عيينة إن عمر كان خيرا لي منك أرهبني فاتقاني. ثم قال و العجب أنا وجدنا جميع من خالفنا في الميراث على اختلافهم في التشبيه و القدر و الوعيد يرد كل صنف منهم من أحاديث مخالفيه و خصومه ما هو أقرب إسنادا و أصح رجالا و أحسن اتصالا حتى إذا صاروا إلى القول في ميراث النبي ص نسخوا الكتاب و خصوا الخبر العام بما لا يداني بعض ما ردوه و أكذبوا قائليه و ذلك أن كل إنسان منهم إنما يجري إلى هواه و يصدق ما وافق رضاه. هذا آخر كلام الجاحظ ثم قال المرتضى رضي الله عنه فإن قيل ليس ما عارض به الجاحظ من الاستدلال بترك النكير و قوله كما لم ينكروا على أبي بكر فلم ينكروا أيضا على فاطمة ع و لا على غيرها من الطالبين بالإرث كالأزواج و غيرهن معارضة صحيحة و ذلك أن نكير أبي بكر لذلك و دفعها و الاحتجاج عليها و يكفيهم و يغنيهم عن تكلف نكير آخر و لم ينكر على أبي بكر ما رواه منكر فيستغنوا بإنكاره. قلنا أول ما يبطل هذا السؤال أن أبا بكر لم ينكر عليها ما أقامت عليه بعد شرح نهج البلاغة ج : 16 ص : 268تجاجها من التظلم و التألم و التعنيف و التبكيت و قولها على ما روي و الله لأدعون الله عليك و لا أكلمك أبدا و ما جرى هذا المجرى فقد كان يجب أن ينكره غيره و من المنكر الغضب على المنصف و بعد فإن كان إنكار أبي بكر مقنعا و مغنيا عن إنكار غيره من المسلمين فإنكار فاطمة حكمه و مقامها على التظلم منه
مغن عن نكير غيرها و هذا واضح (17/241)
الفصل الثالث في أن فدك هل صح كونها نحلة رسول الله ص لفاطمة ع أم لا
نذكر في هذا الفصل ما حكاه المرتضى عن قاضي القضاة في المغني و ما اعترض به عليه ثم نذكر ما عندنا في ذلك. قال المرتضى حاكيا عن قاضي القضاة و مما عظمت الشيعة القول في أمر فدك قالوا و قد روى أبو سعيد الخدري أنه لما أنزلت وَ آتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ أعطى رسول الله ص فاطمة ع فدك ثم فعل عمر بن عبد العزيز مثل ذلك فردها على ولدها قالوا و لا شك أن أبا بكر أغضبها إن لم يصح كل الذي روي في هذا الباب و قد كان الأجمل أن يمنعهم التكرم مما ارتكبوا منها فضلا عن الدين ثم ذكروا أنها استشهدت أمير المؤمنين ع و أم أيمن فلم يقبل شهادتهما هذا مع تركه أزواج النبي ص في حجرهن و لم يجعلها صدقة و صدقهن في ذلك أن ذلك لهن و لم يصدقها. شرح نهج البلاغة ج : 16 ص : 269قال و الجواب عن ذلك أن أكثر ما يروون في هذا الباب غير صحيح و لسنا ننكر صحة ما روي من ادعائها فدك فأما أنها كانت في يدها فغير لم بل إن كانت في يدها لكان الظاهر أنها لها فإذا كانت في جملة التركة فالظاهر أنها ميراث و إذا كان كذلك فغير جائز لأبي بكر قبول دعواها لأنه لا خلاف في أن العمل على الدعوى لا يجوز و إنما يعمل على مثل ذلك إذا علمت صحته بمشاهدة أو ما جرى مجراها أو حصلت بينة أو إقرار ثم إن البينة لا بد منها و إن أمير المؤمنين ع لما خاصمه اليهودي حاكمه و أن أم سلمة التي يطبق على فضلها لو ادعت نحلا ما قبلت دعواها. ثم قال و لو كان أمير المؤمنين ع هو الوالي و لم يعلم صحة هذه الدعوى ما الذي كان يجب أن يعمل فإن قلتم يقبل الدعوى فالشرع بخلاف ذلك و إن قلتم يلتمس البينة فهو الذي فعله أبو بكر. ثم قال و أما قول أبي بكر رجل مع الرجل و امرأة مع المرأة فهو الذي يوجبه الدين و لم يثبت أن الشاهد في ذلك كان أمير المؤمنين ع بل الرواية المنقولة أنه شهد لها مولى لرسول
الله ص مع أم أيمن. قال و ليس لأحد أن يقول فلما ذا ادعت و لا بينة معها لأنه لا يمتنع أن تجوز أن يحكم أبو بكر بالشاهد و اليمين أو تجوز عند شهادة من شهد لها أن تذكر غيره فيشهد لا و هذا هو الموجب على ملتمس الحق و لا عيب عليها في ذلك و لا على أبي بكر في التماس البينة و إن لم يحكم لها لما لم يتم و لم يكن لها خصم لأن التركة صدقة على ما ذكرنا و كان لا يمكن أن يعول في ذلك على يمين أو نكول و لم يكن في الأمر إلا ما فعله قال و قد أنكر أبو علي ما قاله السائل من أنها لما ردت في دعوى النحلة ادعته إرثا و قال بل كان طلبت الإرث قبل ذلك فلما سمعت منه الخبر كفت و ادعت النحلة. (17/242)
شرح نهج البلاغة ج : 16 ص : 270قال فأما فعل عمر بن عبد العزيز فلم يثبت أنه رده على سبيل النحلة بل عمل في ذلك ما عمله عمر بن الخطاب بأن أقره في يد أمير المؤمنين ع ليصرف غلاتها في المواضع التي كان يجعلها رسول الله ص فيه فقام بذلك مدة ثم ردها إلى عمر في آخرنته و كذلك فعل عمر بن عبد العزيز و لو ثبت أنه فعل بخلاف ما فعل السلف لكان هو المحجوج بفعلهم و قولهم و أحد ما يقوي ما ذكرناه أن الأمر لما انتهى إلى أمير المؤمنين ع ترك فدك على ما كان و لم يجعله ميراثا لولد فاطمة و هذا يبين أن الشاهد كان غيره لأنه لو كان هو الشاهد لكان الأقرب أن يحكم بعلمه على أن الناس اختلفوا في الهبة إذا لم تقبض فعند بعضهم تستحق بالعقد و عند بعضهم أنها إذا لم تقبض يصير وجودها كعدمها فلا يمتنع من هذا الوجه أن يمتنع أمير المؤمنين ع من ردها و إن صح عنده عقد الهبة و هذا هو الظاهر لأن التسليم لو كان وقع لظهر أنه كان في يدها و لكان ذلك كافيا في الاستحقاق فأما حجر أزواج النبي ص فإنما تركت في أيديهن لأنها كانت لهن و نص الكتاب يشهد بذلك و قوله وَ قَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ و روي في الأخبار أن النبي ص قسم ما كان له من الحجر على نسائه و بناته و يبين صحة ذلك أنه لو كان ميراثا أو صدقة لكان أمير المؤمنين ع لما أفضى الأمر إليه يغيره. قال و ليس لأحد أن يقول إنما لم يغير ذلك لأن الملك قد صار له فتبرع به و ذلك أن الذي يحصل له ليس إلا ربع ميراث فاطمة ع و هو الثمن من ميراث رسول الله ص فقد كان يجب أن ينتصف لأولاد العباس و أولاد فاطمة منهن في باب الحجر و يأخذ هذا الحق منهن فتركه ذلك يدل على صحة ما قلناه و ليس يمكنهم بعد ذلك إلا التعلق بالتقية و قد سبق الكلام فيها. ى بالسنة. ثم حكى عن أبي علي تكذيب ما روي من الضرب بالسوط قال و المروي عن جعفر بن محمد ع أنه كان يتولاهما و يأتي القبر فيسلم عليهما مع تسليمه على رسول الله ص روى ذلك عباد (17/243)
بن صهيب و شعبة بن الحجاج و مهدي بن هلال و الدراوردي و غيرهم و قد روى عن أبيه محمد بن علي ع و عن علي بن الحسين مثل ذلك فكيف يصح ما ادعوه و هل هذه الرواية إلا كروايتهم على أن علي بن أبي طالب ع هو إسرافيل و الحسن ميكائيل و الحسين جبرائيل و فاطمة ملك الموت و آمنة أم النبي ص ليلة القدر فإن صدقوا ذلك أيضا قيل لهم فعمر بن الخطاب كيف يقدر على ضرب ملك الموت و إن قالوا لا نصدق ذلك فقد جوزوا رد هذه الروايات و صح أنه لا يجوز التعويل على هذا الخبر شرح نهج البلاغة ج : 16 ص : 272و إنما يتعلق بذلك من غرضه الإلحاد كالوراق و ابن الراوندي لأن غرضهم القدح في الإسلام. و حكى عن أبي علي أنه قال و لم صار غضبها إنبت كأنه غضب رسول الله ص من حيث (17/244)
قال فمن أغضبها فقد أغضبني
أولى من أن يقال فمن أغضب أبا بكر و عمر فقد نافق و فارق الدين لأنه روي عنه ع
قال حب أبي بكر و عمر إيمان و بغضهما نفاق
و من يورد مثل هذا فقصده الطعن في الإسلام و أن يتوهم الناس أن أصحاب النبي ص نافقوا مع مشاهدة الأعلام ليضعفوا دلالة العلم في النفوس. قال و أما حديث الإحراق فلو صح لم يكن طعنا على عمر لأن له أن يهدد من امتنع من المبايعة إرادة للخلاف على المسلمين لكنه غير ثابت انتهى كلام قاضي القضاة. قال المرتضى نحن نبتدئ فندل على أن فاطمة ع ما ادعت من نحل فدك إلا ما كانت مصيبة فيه و إن مانعها و مطالبها بالبينة متعنت عادل عن الصواب لأنها لا تحتاج إلى شهادة و بينة ثم نعطف على ما ذكره على التفصيل فنتكلم عليه. أما الذي يدل على ما ذكرناه فهو أنها كانت معصومة من الغلط مأمونا منها فعل القبيح و من هذه صفته لا يحتاج فيما يدعيه إلى شهادة و بينة فإن قيل دللوا على الأمرين قلنا بيان الأول قوله تعالى إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَ يُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً و الآية تتناول جماعة منهم فاطمة شرح نهج البلاغة ج : 16 ص : 273ع بما تواترت الأخبار في ذلك و الإرادة هاهنا دلالة على وقوع الفعل للمراد و أيضا فيدل على ذلك قوله ع فاطمة بضعة مني من آذاها فقد آذاني و من آذاني فقد آذى الله عز و جل (17/245)
و هذا يدل على عصمتها لأنها لو كانت ممن تقارف الذنوب لم يكن من يؤذيها مؤذيا له على كل حال بل كان متى فعل المستحق من ذمها أو إقامة الحد عليها إن كان الفعل يقتضيه سارا له و مطيعا على أنا لا نحتاج أن ننبه هذا الموضع على الدلالة على عصمتها بل يكفي في هذا الموضع العلم بصدقها فيما ادعته و هذا لا خلاف فيه بين المسلمين لأن أحدا لا يشك أنها لم تدع ما ادعته كاذبة و ليس بعد ألا تكون كاذبة إلا أن تكون صادقة و إنما اختلفوا في هل يجب مع العلم بصدقها تسلم ما ادعته بغير بينة أم لا يجب ذلك قال الذي يدل على الفصل الثاني أن البينة إنما تراد ليغلب في الظن صدق المدعي أ لا ترى أن العدالة معتبرة في الشهادات لما كانت مؤثرة في غلبة الظن لما ذكرناه و لهذا جاز أن يحكم الحاكم بعلمه من غير شهادة لأن علمه أقوى من الشهادة و لهذا كان الإقرار أقوى من البينة من حيث كان أغلب في تأثير غلبة الظن و إذا قدم الإقرار على الشهادة لقوة الظن عنده فأولى أن يقدم العلم على الجميع و إذا لم يحتج مع الإقرار إلى شهادة لسقوط حكم الضعيف مع القوي لا يحتاج أيضا مع العلم إلى ما يؤثر الظن من البينات و الشهادات. و الذي يدل على صحة ما ذكرناه أيضا أنه لا خلاف بين أهل النقل في أن أعرابيا نازع النبي ص في ناقة فقال ع هذه لي و قد خرجت إليك من ثمنها فقال الأعرابي من يشهد لك بذلك فقال خزيمة بن ثابت أنا أشهد بذلك فقال النبي ص من أين علمت و ما حضرت ذلك قال لا و لكن علمت ذلك من حيث علمت أنك رسول الله فقال قد أجزت شهادتك و جعلتها شهادتين فسمي ذا الشهادتين. شرح نهج البلاغة ج : 16 ص : 274و هذه القصة شبيهة لقصة فاطمة ع لأن خزيمة اكتفى في العلم بأن الناقة له ص و شهد بذلك من حيث علم لأنه رسول الله ص و لا يقول إلا حقا و أمضى النبي ص ذلك له من حيث لم يحضر الابتياع و تسليم الثمن فقد كانجب على من علم أن فاطمة ع لا تقول إلا حقا ألا يستظهر عليها بطلب (17/246)
شهادة أو بينة هذا و قد روي أن أبا بكر لما شهد أمير المؤمنين ع كتب بتسليم فدك إليها فاعترض عمر قضيته و خرق ما كتبه. (17/247)
روى إبراهيم بن السعيد الثقفي عن إبراهيم بن ميمون قال حدثنا عيسى بن عبد الله بن محمد بن علي بن أبي طالب ع عن أبيه عن جده عن علي ع قال جاءت فاطمة ع إلى أبي بكر و قالت إن أبي أعطاني فدك و علي و أم أيمن يشهدان فقال ما كنت لتقولي على أبيك إلا الحق قد أعطيتكها و دعا بصحيفة من أدم فكتب لها فيها فخرجت فلقيت عمر فقال من أين جئت يا فاطمة قالت جئت من عند أبي بكر أخبرته أن رسول الله ص أعطاني فدك و أن عليا و أم أيمن يشهدان لي بذلك فأعطانيها و كتب لي بها فأخذ عمر منها الكتاب ثم رجع إلى أبي بكر فقال أعطيت فاطمة فدك و كتبت بها لها قال نعم فقال إن عليا يجر إلى نفسه و أم أيمن امرأة و بصق في الكتاب فمحاه و خرقه
و قد روي هذا المعنى من طرق مختلفة على وجوه مختلفة فمن أراد الوقوف عليها و استقصاءها أخذها من مواضعها. و ليس لهم أن يقولوا إنها أخبار آحاد لأنها و إن كانت كذلك فأقل أحوالها أن توجب الظن و تمنع من القطع على خلاف معناها و ليس لهم أن يقولوا كيف يسلم إليها شرحنهج البلاغة ج : 16 ص : 275فدك و هو يروي عن الرسول أن ما خلفه صدقة و ذلك لأنه لا تنافي بين الأمرين لأنه إنما سلمها على ما وردت به الرواية على سبيل النحل فلما وقعت المطالبة بالميراث روى الخبر في معنى الميراث فلا اختلاف بين الأمرين. فأما إنكار صاحب الكتاب لكن فدك في يدها فما رأيناه اعتمد في إنكار ذلك على حجة بل قال لو كان ذلك في يدها لكان الظاهر أنها لها و الأمر على ما قال فمن أين أنه لم يخرج عن يدها على وجه يقتضي الظاهر خلافه و قد روي من طرق مختلفة غير طريق أبي سعيد الذي ذكره صاحب الكتاب أنه لما نزل قوله تعالى وَ آتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ دعا النبي ص فاطمة ع فأعطاها فدك و إذا كان ذلك مرويا فلا معنى لدفعه بغير حجة. و قوله لا خلاف أن العمل على الدعوى لا يجوز صحيح و قد بينا أن قولها كان معلوما صحته و إنما قوله إنما يعمل على ذلك متى علم صحته بشهادة أو ما يجري مجراها أو حصلت بينة أو إقرار فيقال له إما علمت بمشاهدة فلم يكن هناك و إما بينة فقد كانت على الحقيقة لأن شهادة أمير المؤمنين ع من أكبر البينات و أعدلها و لكن على مذهبك أنه لم تكن هناك بينة فمن أين زعمت أنه لم يكن هناك علم و إن لم يكن عن مشاهدة فقد أدخلت ذلك في جملة الأقسام. فإن قال لأن قولها بمجرده لا يكون جهة للعلم قيل له لم قلت ذلك أو ليس قد دللنا على أنها معصومة و أن الخطأ مأمون عليها ثم لو لم يكن كذلك لكان قولها في تلك القضية معلوما صحته على كل حال لأنها لو لم تكن مصيبة لكانت مبطلة عاصية فيما ادعته إذ الشبهة لا تدخل في مثله و قد أجمعت الأمة على أنها لم يظهر منها بعد (17/248)
شرح نهج البلاغة ج : 16 ص : 276رسول الله ص معصية بلا شك و ارتياب بل أجمعوا على أنها لم تدع إلا الصحيح و إن اختلفوا فمن قائل يقول مانعها مخطئ و آخر يقول هو أيضا مصيب لفقد البينة و إن علم صدقها. وما قوله إنه لو حاكم غيره لطولب بالبينة فقد تقدم في هذا المعنى ما يكفي و قصة خزيمة بن ثابت و قبول شهادته تبطل هذا الكلام. و أما قوله إن أمير المؤمنين ع حاكم يهوديا على الوجه الواجب في سائر الناس فقد روي ذلك إلا أن أمير المؤمنين لم يفعل من ذلك ما كان يجب عليه أن يفعله و إنما تبرع به و استظهر بإقامة الحجة فيه و قد أخطأ من طالبه ببينة كائنا من كان فأما اعتراضه بأم سلمة فلم يثبت من عصمتها ما ثبت من عصمة فاطمة ع فلذلك احتاجت في دعواها إلى بينة فأما إنكاره و ادعاؤه أنه لم يثبت أن الشاهد في ذلك كان أمير المؤمنين فلم يزد في ذلك إلا مجرد الدعوى و الإنكار و الأخبار مستفيضة بأنه ع شهد لها فدفع ذلك بالزيغ لا يغني شيئا و قوله إن الشاهد لها مولى لرسول الله ص هو المنكر الذي ليس بمعروف. و أما قوله إنها جوزت أن يحكم أبو بكر بالشاهد و اليمين فطريف مع قوله فيما بعد إن التركة صدقة و لا خصم فيها فتدخل اليمين في مثلها أ فترى أن فاطمة لم تكن تعلم من الشريعة هذا المقدار الذي نبه صاحب الكتاب عليه و لو لم تعلمه ما كان أمير المؤمنين ع و هو أعلم الناس بالشريعة يوافقها عليه. و قوله إنها جوزت عند شهادة من شهد لها أن يتذكر غيرهم فيشهد باطل لأن مثلها لا يتعرض للظنة و التهمة و يعرض قوله للرد و قد كان يجب أن تعلم من يشهد لها (17/249)
شرح نهج البلاغة ج : 16 ص : 277ممن لا يشهد حتى تكون دعواها على الوجه الذي يجب معه القبول و الإمضاء و من هو دونها في الرتبة و الجلالة و الصيانة من أفناء الناس لا يتعرض لمثل هذه الخطة و يتورطها للتجويز الذي لا أصل له و لا أمارة عليه. فأما إنكار أبي علي لأنكون النحل قبل ادعاء الميراث و عكسه الأمر فيه فأول ما فيه أنا لا نعرف له غرضا صحيحا في إنكار ذلك لأن كون أحد الأمرين قبل الآخر لا يصحح له مذهبا فلا يفسد على مخالفه مذهبا. ثم إن الأمر في أن الكلام في النحل كان المتقدم ظاهرا و الروايات كلها به واردة و كيف يجوز أن تبتدئ بطلب الميراث فيما تدعيه بعينه نحلا أ و ليس هذا يوجب أن تكون قد طالبت بحقها من وجه لا تستحقه منه مع الاختيار و كيف يجوز ذلك و الميراث يشركها فيه غيرها و النحل تنفرد به و لا ينقلب مثل ذلك علينا من حيث طالبت بالميراث بعد النحل لأنها في الابتداء طالبت بالنحل و هو الوجه الذي تستحق فدك منه فلما دفعت عنه طالبت ضرورة بالميراث لأن للمدفوع عن حقه أن يتوصل إلى تناوله بكل وجه و سبب و هذا بخلاف قول أبي علي لأنه أضاف إليها ادعاء الحق من وجه لا تستحقه منه و هي مختارة. و أما إنكاره أن يكون عمر بن عبد العزيز رد فدك على وجه النحل و ادعاؤه أنه فعل في ذلك ما فعله عمر بن الخطاب من إقرارها في يد أمير المؤمنين ع ليصرف غلاتها في وجوهها فأول ما فيه أنا لا نحتج عليه بفعل عمر بن عبد العزيز على أي وجه وقع لأن فعله ليس بحجة و لو أردنا الاحتجاج بهذا الجنس من الحجج لذكرنا فعل المأمون فإنه رد فدك بعد أن جلس مجلسا مشهورا حكم فيه بين خصمين نصبهما أحدهما لفاطمة و الآخر لأبي بكر و ردها بعد قيام الحجة و وضوح الأمر شرح نهج البلاغة ج : 16 ص : 278و مع ذلك فإنه قد أنكر من فعل عمر بن عبد العزيز ما هو معروف مشهور بلا خلاف بين أهل النقل فيو قد روى محمد بن زكريا الغلابي عن شيوخه عن أبي المقدام هشام بن زياد (17/250)
مولى آل عثمان قال لما ولي عمر بن عبد العزيز رد فدك على ولد فاطمة و كتب إلى واليه على المدينة أبي بكر بن عمرو بن حزم يأمره بذلك فكتب إليه إن فاطمة قد ولدت في آل عثمان و آل فلان و فلان فعلى من أرد منهم فكتب إليه أما بعد فإني لو كتبت إليك آمرك أن تذبح شاة لكتبت إلي أ جماء أم قرناء أو كتبت إليك أن تذبح بقرة لسألتني ما لونها فإذا ورد عليك كتابي هذا فاقسمها في ولد فاطمة ع من علي ع و السلام. قال أبو المقدام فنقمت بنو أمية ذلك على عمر بن عبد العزيز و عاتبوه فيه و قالوا له هجنت فعل الشيخين و خرج إليه عمر بن قيس في جماعة من أهل الكوفة فلما عاتبوه على فعله قال إنكم جهلتم و علمت و نسيتم و ذكرت إن أبا بكر محمد بن عمرو بن حزم حدثني عن أبيه عن جده (17/251)
أن رسول الله ص قال فاطمة بضعة مني يسخطها ما يسخطني و يرضيني ما أرضاها
و إن فدك كان صافية على عهد أبي بكر و عمر ثم صار أمرها إلى مروان فوهبها لعبد العزيز أبي فورثتها أنا و إخوتي عنه فسألتهم أن يبيعوني حصتهم منها فمن بائع و واهب حتى استجمعت لي فرأيت أن أردها على ولد فاطمة قالوا فإن أبيت إلا هذا فأمسك الأصل و اقسم الغلة ففعل. و أما ما ذكره من ترك أمير المؤمنين ع فدك لما أفضى الأمر إليه و استدلاله بذلك على أنه لم يكن الشاهد فيها فالوجه في تركه ع رد فدك هو الوجه في إقراره شرح نهج البلاغة ج : 16 ص : 279أحكام القوم و كفه عن نقضها و تغييرها و قد بينا ذلك فيما سبق و ذكرنا أنه كان فينتهاء الأمر إليه في بقية من التقية قوية. فأما استدلاله على أن حجر أزواج النبي ص كانت لهن بقوله تعالى وَ قَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ فمن عجيب الاستدلال لأن هذه الإضافة لا تقتضي الملك بل العادة جارية فيها أن تستعمل من جهة السكنى و لهذا يقال هذا بيت فلان و مسكنه و لا يراد بذلك الملك و قد قال تعالى لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَ لا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ و لا شبهة في أنه تعالى أراد منازل الرجال التي يسكنون فيها زوجاتهم و لم يرد بهذه الإضافة الملك. فأما ما رواه من أن رسول الله ص قسم حجره على نسائه و بناته فمن أين له إذا كان الخبر صحيحا أن هذه القسمة على وجه التمليك دون الإسكان و الإنزال و لو كان قد ملكهن ذلك لوجب أن يكون ظاهرا مشهورا. فأما الوجه في ترك أمير المؤمنين لما صار الأمر إليه في يده منازعة الأزواج في هذه الحجر فهو ما تقدم و تكرر. و أما قوله إن أبا بكر هو الذي صلى على فاطمة و كبر أربعا و إن كثيرا من الفقهاء يستدلون به في التكبير على الميت و هو شي ء ما سمع إلا منه و إن كان تلقاه عن غيره فممن يجري مجراه في العصبية و إلا فالروايات المشهورة و كتب الآثار و السير خالية من ذل و لم يختلف أهل النقل في أن عليا ع هو الذي صلى على فاطمة إلا رواية (17/252)
نادرة شاذة وردت بأن العباس رحمه الله صلى عليها. و روى الواقدي بإسناده في تاريخه عن الزهري قال سألت ابن عباس شرح نهج البلاغة ج : 16 ص : 280متى دفنتم فاطمة ع قال دفناها بليل بعد هدأة قال قلفمن صلى عليها قال علي. و روى الطبري عن الحارث بن أبي أسامة عن المدائني عن أبي زكريا العجلاني أن فاطمة ع عمل لها نعش قبل وفاتها فنظرت إليه فقالت سترتموني ستركما الله. قال أبو جعفر محمد بن جرير و الثبت في ذلك أنها زينب لأن فاطمة دفنت ليلا و لم يحضرها إلا علي و العباس و المقداد و الزبير. و روى القاضي أبو بكر أحمد بن كامل بإسناده في تاريخه عن الزهري قال حدثني عروة بن الزبير أن عائشة أخبرته أن فاطمة عاشت بعد رسول الله ص ستة أشهر فلما توفيت دفنها علي ليلا و صلى عليها و ذكر في كتابه هذا أن عليا و الحسن و الحسين ع دفنوها ليلا و غيبوا قبرها. و روى سفيان بن عيينة عن عمرو بن عبيد عن الحسن بن محمد بن الحنفية أن فاطمة دفنت ليلا. و روى عبد الله بن أبي شيبة عن يحيى بن سعيد القطان عن معمر عن الزهري مثل ذلك. و قال البلاذري في تاريخه إن فاطمة ع لم تر متبسمة بعد وفاة النبي ص و لم يعلم أبو بكر و عمر بموتها. و الأمر في هذا أوضح و أشهر من أن نطنب في الاستشهاد عليه و نذكر الروايات فيه (17/253)
شرح نهج البلاغة ج : 16 ص : 281فأما قوله و لا يصح أنها دفنت ليلا و إن صح فقد دفن فلان و فلان ليلا فقد بينا أن دفنها ليلا في الصحة أظهر من الشمس و أن منكر ذلك كالدافع للمشاهدات و لم يجعل دفنها ليلا بمجرده هو الحجة ليقال لقد دفن فلان و فلان ليلا بل يقع الاجاج بذلك على ما وردت به الروايات المستفيضة الظاهرة التي هي كالتواتر أنها أوصت بأن تدفن ليلا حتى لا يصلي الرجلان عليها و صرحت بذلك و عهدت فيه عهدا بعد أن كانا استأذنا عليها في مرضها ليعوداها فأبت أن تأذن لهما فلما طالت عليهما المدافعة رغبا إلى أمير المؤمنين ع في أن يستأذن لهما و جعلاها حاجة إليه و كلمها ع في ذلك و ألح عليها فأذنت لهما في الدخول ثم أعرضت عنهما عند دخولهما و لم تكلمهما فلما خرجا قالت لأمير المؤمنين ع هل صنعت ما أردت قال نعم قالت فهل أنت صانع ما آمرك به قال نعم قالت فإني أنشدك الله ألا يصليا على جنازتي و لا يقوما على قبري. و روى أنه عفى قبرها و علم عليه و رش أربعين قبرا في البقيع و لم يرش قبرها حتى لا يهتدى إليه و أنهما عاتباه على ترك إعلامهما بشأنها و إحضارهما الصلاة عليها فمن هاهنا احتججنا بالدفن ليلا و لو كان ليس غير الدفن بالليل من غير ما تقدم عليه و ما تأخر عنه لم يكن فيه حجة. و أما حكايته عن أبي علي إنكار ضرب الرجل لها و قوله إن جعفر بن محمد و أباه و جده كانوا يتولونهما فكيف لا ينكر أبو علي ذلك و اعتقاده فيهما اعتقاده و قد كنا نظن أن مخالفينا يقتنعون أن ينسبوا إلى أئمتنا الكف عن القوم و الإمساك و ما ظننا أنهم يحملون أنفسهم على أن ينسبوا إليهم الثناء و الولاء شرح نهج البلاغة ج : 16 ص : 282و قد علم كل أحد أن أصحاب هؤلاء السادة المختصين بهم قد رووا عنهم ضد ما روى شعبة بن الحجاج و فلان و فلان و قولهم هما أول من ظلمنا حقنا و حمل الناس على رقابنو قولهم أنهما أصفيا بإنائنا و اضطجعا بسبلنا و جلسا مجلسا نحن أحق به (17/254)
منهما إلى غير ذلك من فنون التظلم و الشكاية و هو طويل متسع و من أراد استقصاء ذلك فلينظر في كتاب المعرفة لأبي إسحاق إبراهيم بن سعيد الثقفي فإنه قد ذكر عن رجل من أهل البيت بالأسانيد النيرة ما لا زيادة عليه ثم لو صح ما ذكره شعبة لجاز أن يحمل على التقية. و أما ذكره إسرافيل و ميكائيل فما كنا نظن أن مثله يذكر ذلك و هذا من أقوال الغلاة الذين ضلوا في أمير المؤمنين ع و أهل البيت و ليسوا من الشيعة و لا من المسلمين فأي عيب علينا فيما يقولونه ثم إن جماعة من مخالفينا قد غلوا في أبي بكر و عمر و رووا روايات مختلفة فيهما تجري مجرى ما ذكره في الشناعة و لا يلزم العقلاء و ذوي الألباب من المخالفين عيب من ذلك. و أما معارضة ما روي في فاطمة ع بما روي في أن حبهما إيمان و بغضهما نفاق فالخبر الذي رويناه مجمع عليه و الخبر الآخر مطعون فيه فكيف يعارض ذلك بهذا. و أما قوله إنما قصد من يورد هذه الأخبار تضعيف دلالة الأعلام في النفوس من حيث أضاف النفاق إلى من شاهدها فتشنيع في غير موضعه و استناد إلى ما لا يجدي نفعا لأن من شاهد الأعلام لا يضعفها و لا يوهن دليلها و لا يقدح في كونها حجة لأن الأعلام ليست ملجئة إلى العلم و لا موجبة لحصوله على كل حال و إنما تثمر العلم لمن أمعن النظر فيها من الوجه الذي تدل منه فمن عدل عن ذلك لسوء اختياره لا يكون (17/255)
شرح نهج البلاغة ج : 16 ص : 283عدوله مؤثرا في دلالتها فكم قد عدل من العقلاء و ذوي الأحلام الراجحة و الألباب الصحيحة عن تأمل هذه الأعلام و إصابة الحق منها و لم يكن ذلك عندنا و عند صاحب الكتاب قادحا في دلالة الأعلام على أن هذا القول يوجب أن ينفي الشك و النق عن كل من صحب النبي ص و عاصره و شاهد أعلامه كأبي سفيان و ابنه و عمرو بن العاص و فلان و فلان ممن قد اشتهر نفاقهم و ظهر شكهم في الدين و ارتيابهم باتفاق بيننا و بينه و إن كانت إضافة النفاق إلى هؤلاء لا تقدح في دلالة الأعلام فكذلك القول في غيرهم. فأما قوله إن حديث الإحراق لم يصح و لو صح لساغ لعمر مثل ذلك فقد بينا أن خبر الإحراق قد رواه غير الشيعة. و قوله إنه يسوغ مثل ذلك فكيف يسوغ إحراق بيت علي و فاطمة ع و هل في ذلك عذر يصغى إليه أو يسمع و إنما يكون علي و أصحابه خارقين للإجماع و مخالفين للمسلمين لو كان الإجماع قد تقرر و ثبت و ليس بمتقرر و لا ثابت مع خلاف علي وحده فضلا عن أن يوافقه على ذلك غيره و بعد فلا فرق بين أن يهدد بالإحراق لهذه العلة و بين أن يضرب فاطمة ع لمثلها فإن إحراق المنازل أعظم من ضرب سوط أو سوطين فلا وجه لامتعاض المخالف من حديث الضرب إذا كان عنده مثل هذا الاعتذار قلت أما الكلام في عصمة فاطمة ع فهو بفن الكلام أشبه و للقول فيه موضع غير هذا. و أما قول المرتضى إذا كانت صادقة لم يبق حاجة إلى من يشهد لها فلقائل أن شرح نهج البلاغة ج : 16 ص : 284يقول لم قلت ذلك و لم زعمت أن الحاجة إلى البينة إنما كانت لزية غلبة الظن و لم لا يجوز أن يكون الله تعالى يعبد بالبينة لمصلحة يعلمها و إن كان المدعي لا يكذب أ ليس قد تعبد الله تعالى بالعدة في العجوز التي قد أيست من الحمل و إن كان أصل وضعها لاستبراء الرحم. و أما قصة خزيمة بن ثابت فيجوز أن يكون الله تعالى قد علم أن مصلحة المكلفين في تلك الصورة أن يكتفى بدعوى النبي ص وحدها و يستغنى (17/256)
فيها عن الشهادة. و لا يمتنع أن يكون غير تلك الصورة مخالفا لها و إن كان المدعي لا يكذب و يبين ذلك أن مذهب المرتضى جواز ظهور خوارق العادات على أيدي الأئمة و الصالحين و لو قدرنا أن واحدا من أهل الصلاح و الخير ادعى دعوى و قال بحضرة جماعة من الناس من جملتهم القاضي اللهم إن كنت صادقا فأظهر علي معجزة خارقة للعادة فظهرت عليه لعلمنا أنه صادق و مع ذلك لا تقبل دعواه إلا ببينة. و سألت علي بن الفارقي مدرس المدرسة الغربية ببغداد فقلت له أ كانت فاطمة صادقة قال نعم قلت فلم لم يدفع إليها أبو بكر فدك و هي عنده صادقة فتبسم ثم قال كلاما لطيفا مستحسنا مع ناموسه و حرمته و قلة دعابته قال لو أعطاها اليوم فدك بمجرد دعواها لجاءت إليه غدا و ادعت لزوجها الخلافة و زحزحته عن مقامه و لم يكن يمكنه الاعتذار و الموافقة بشي ء لأه يكون قد أسجل على نفسه أنها صادقة فيها تدعي كائنا ما كان من غير حاجة إلى بينة و لا شهود و هذا كلام صحيح و إن كان أخرجه مخرج الدعابة و الهزل. فأما قول قاضي القضاة لو كان في يدها لكان الظاهر أنها لها و اعتراض المرتضى عليه بقوله إنه لم يعتمد في إنكار ذلك على حجة بل قال لو كانت في يدها لكان الظاهر إنها لها و الأمر على ما قال فمن أين أنها لم تخرج عن يدها على وجه كما أن الظاهر (17/257)
شرح نهج البلاغة ج : 16 ص : 285يقتضي خلافه فإنه لم يجب عما ذكره قاضي القضاة لأن معنى قوله إنها لو كانت في يدها أي متصرفة فيها لكانت اليد حجة في الملكية لأن اليد و التصرف حجة لا محالة فلو كانت في يدها تتصرف فيها و في ارتفاقها كما يتصرف الناس في ضياعهم و أاكهم لما احتاجت إلى الاحتجاج بآية الميراث و لا بدعوى النحل لأن اليد حجة فهلا قالت لأبي بكر هذه الأرض في يدي و لا يجوز انتزاعها مني إلا بحجة و حينئذ كان يسقط احتجاج أبي بكر بقوله نحن معاشر الأنبياء لا نورث لأنها ما تكون قد ادعتها ميراثا ليحتج عليها بالخبر و خبر أبي سعيد في قوله فأعطاها فدك يدل على الهبة لا على القبض و التصرف و لأنه يقال أعطاني فلان كذا فلم أقبضه و لو كان الإعطاء هو القبض و التصرف لكان هذا الكلام متناقضا. فأما تعجب المرتضى من قول أبي علي إن دعوى الإرث كانت متقدمة على دعوى النحل و قوله إنا لا نعرف له غرضا في ذلك فإنه لا يصح له بذلك مذهب و لا يبطل على مخالفيه مذهب فإن المرتضى لم يقف على مراد الشيخ أبي علي في ذلك و هذا شي ء يرجع إلى أصول الفقه فإن أصحابنا استدلوا على جواز تخصيص الكتاب بخبر الواحد بإجماع الصحابة لأنهم أجمعوا على تخصيص قوله تعالى ُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ (17/258)
برواية أبي بكر عن النبي ص لا نورث ما تركناه صدقة
قالوا و الصحيح في الخبر أن فاطمة ع طالبت بعد ذلك بالنحل لا بالميراث فلهذا قال الشيخ أبو علي إن دعوى الميراث تقدمت على دعوى النحل و ذلك لأنه ثبت أن فاطمة انصرفت عن ذلك المجلس غير راضية و لا موافقة لأبي بكر فلو كانت دعوى الإرث متأخرة و انصرفت عن سخط لم يثبت الإجماع على تخصيص الكتاب بخبر الواحد أما إذا كانت دعوى الإرث متقدمة فلما روى لها الخبر أمسكت و انتقلت إلى النزاع من جهة أخرى فإنه يصح حينئذ الاستدلال بالإجماع على تخصيص الكتاب بخبر الواحد. شرح نهج البلاغة ج : 16 ص : 286فأما أنا فإن الأخبار عندي متعارضة ي بعضها على أن دعوى الإرث متأخرة و يدل بعضها على أنها متقدمة و أنا في هذا الموضع متوقف. و ما ذكره المرتضى من أن الحال تقتضي أن تكون البداية بدعوى النحل فصحيح و أما إخفاء القبر و كتمان الموت و عدم الصلاة و كل ما ذكره المرتضى فيه فهو الذي يظهر و يقوى عندي لأن الروايات به أكثر و أصح من غيرها و كذلك القول في موجدتها و غضبها فأما المنقول عن رجال أهل البيت فإنه يختلف فتارة و تارة و على كل حال فميل أهل البيت إلى ما فيه نصرة أبيهم و بيتهم. و قد أخل قاضي القضاة بلفظة حكاها عن الشيعة فلم يتكلم عليها و هي لفظة جيدة قال قد كان الأجمل أن يمنعهم التكرم مما ارتكبا منها فضلا عن الدين و هذا الكلام لا جواب عنه و لقد كان التكرم و رعاية حق رسول الله ص و حفظ عهده يقتضي أن تعوض ابنته بشي ء يرضيها إن لم يستنزل المسلمون عن فدك و تسلم إليها تطييبا لقلبها و قد يسوغ للإمام أن يفعل ذلكمن غير مشاورة المسلمين إذا رأى المصلحة فيه و قد بعد العهد الآن بيننا و بينهم و لا نعلم حقيقة ما كان و إلى الله نرجع الأمور (17/259)
وَ لَوْ شِئْتُ لَاهْتَدَيْتُ الطَّرِيقَ إِلَى مُصَفَّى هَذَا الْعَسَلِ وَ لُبَابِ هَذَا الْقَمْحِ وَ نَسَائِجِ هَذَا الْقَزِّ وَ لَكِنْ هَيْهَاتَ أَنْ يَغْلِبَنِي هَوَايَ وَ يَقُودَنِي جَشَعِي إِلَى تَخَيُّرِ الْأَطْعِمَةِ وَ لَعَلَّ بِالْحِجَازِ أَوْ بِالْيَمَامَةِ مَنْ لَا طَمَعَ لَهُ فِي الْقُرْصِ وَ لَا عَهْدَ لَهُ بِالشِّبَعِ أَوْ أَبِيتَ مِبْطَاناً وَ حَوْلِي بُطُونٌ غَرْثَى وَ أَكْبَادٌ حَرَّى أَوْ أَكُونَ كَمَا قَالَ الْقَائِلُ (17/260)
وَ حَسْبُكَ عَاراً أَنْ تَبِيتَ بِبِطْنَةٍ وَ حَوْلَكَ أَكْبَادٌ تَحِنُّ إِلَى الْقِدِّ
شرح نهج البلاغة ج : 16 ص : 287أَ أَقْنَعُ مِنْ نَفْسِي بِأَنْ يُقَالَ هَذَا أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ وَ لَا أُشَارِكُهُمْ فِي مَكَارِهِ الدَّهْرِ أَوْ أَكُونَ أُسْوَةً لَهُمْ فِي جُشُوبَةِ الْعَيْشِ فَمَا خُلِقْتُ لِيَشْغَلَنِي أَكْلُ الطَّيِّبَاتِ كَالْبِيمَةِ الْمَرْبُوطَةِ هَمُّهَا عَلَفُهَا أَوِ الْمُرْسَلَةِ شُغُلُهَا تَقَمُّمُهَا تَكْتَرِشُ مِنْ أَعْلَافِهَا وَ تَلْهُو عَمَّا يُرَادُ بِهَا أَوْ أُتْرَكَ سُدًى أَوْ أُهْمَلَ عَابِثاً أَوْ أَجُرَّ حَبْلَ الضَّلَالَةِ أَوْ أَعْتَسِفَ طَرِيقَ الْمَتَاهَةِ
قد روي و لو شئت لاهتديت إلى هذا العسل المصفى و لباب هذا البر المنقى فضربت هذا بذاك حتى ينضج وقودا و يستحكم معقودا. و
روي و لعل بالمدينة يتيما تربا يتضور سغبا أ أبيت مبطانا و حولي بطون غرثى إذن يحضرني يوم القيامة و هم من ذكر و أنثى
و روي بطون غرثى بإضافة بطون إلى غرثى. و القمح الحنطة. و الجشع أشد الحرص. و المبطان الذي لا يزال عظيم البطن من كثرة الأكل فأما المبطن فالضامر البطن و أما البطين فالعظيم البطن لا من الأكل و أما البطن فهو الذي لا يهمه إلا بطنه و أما المبطون فالعليل البطن و بطون غرثى جائعة و البطنة الكظة و ذلك أن يمتلئ الإنسان من الطعام امتلاء شديدا و كان يقال ينبغي للإنسان أن يجعل وعاء بطنه أثلاثا فثلث للطعام و ثلث للشراب و ثلث للنفس. شرح نهج البلاغة ج : 16 ص : 288و التقمم أكل الشاة ما بين يديها بمقمتها أي بشفتها و كل ذي ظلفالثور و غيره فهو ذو مقمة. و تكترش من أعلافها تملأ كرشها من العلف. قوله أو أجر حبل الضلالة منصوب بالعطف على يشغلني و كذلك أترك و يقال أجررته رسنه إذا أهملته. و الاعتساف السلوك في غير طريق واضح. و المتاهة الأرض يتاه فيها أي يتحير. و في قوله لو شئت لاهتديت شبه من قول عمر لو نشاء لملأنا هذا الرحاب من صلائق و صناب و قد ذكرناه فيما تقدم. و هذا البيت من أبيات منسوبة إلى حاتم بن عبد الله الطائي الجواد و أولها (17/261)
أيا ابنة عبد الله و ابنة مالك و يا ابنة ذي الجدين و الفرس الوردإذا ما صنعت الزاد فالتمسي له أكيلا فإني لست آكله وحدي قصيا بعيدا أو قريبا فإنني أخاف مذمات الأحاديث من بعدي كفى بك عارا أن تبيت ببطنة و حولك أكباد تحن إلى القدو إني لعبد الضيف ما دام نازلا و من خلالي غيرها شيمة العبد
شرح نهج البلاغة ج : 16 ص : 289وَ كَأَنِّي بِقَائِلِكُمْ يَقُولُ إِذَا كَانَ هَذَا قُوتَ ابْنِ أَبِي طَالِبٍ فَقَدْ قَعَدَ بِهِ الضَّعْفُ عَنْ قِتَالِ الْأَقْرَانِ وَ مُنَازَلَةِ الشُّجْعَانِ أَلَا وَ إِنَّ الشَّجَرَةَ الْبَرِّيَّةَ أَصْلَبُ عُوداً وَ الَوَاتِعَ الْخَضِرَةَ أَرَقُّ جُلُوداً وَ النَّابِتَاتِ الْعِذْيَةَ أَقْوَى وَقُوداً وَ أَبْطَأُ خُمُوداً. وَ أَنَا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ كَالضَّوْءِ مِنَ الضَّوْءِ وَ الذِّرَاعِ مِنَ الْعَضُدِ وَ اللَّهِ لَوْ تَظَاهَرَتِ الْعَرَبُ عَلَى قِتَالِي لَمَا وَلَّيْتُ عَنْهَا وَ لَوْ أَمْكَنَتِ الْفُرَصُ مِنْ رِقَابِهَا لَسَارَعْتُ إِلَيْهَا وَ سَأَجْهَدُ فِي أَنْ أُطَهِّرَ الْأَرْضَ مِنْ هَذَا الشَّخْصِ الْمَعْكُوسِ وَ الْجِسْمِ الْمَرْكُوسِ حَتَّى تَخْرُجَ الْمَدَرَةُ مِنْ بَيْنِ حَبِّ الْحَصِيدِ (17/262)
الشجرة البرية التي تنبت في البر الذي لا ماء فيه فهي أصلب عودا من الشجرة التي تنبت في الأرض الندية و إليه وقعت الإشارة بقوله و الرواتع الخضرة أرق جلودا. ثم قال و النابتات العذية التي تنبت عذيا و العذي بسكون الذال الزرع لا يسقيه إلا ماء المطر و هو يكون أقل أخذا من الماء من النبت سقيا قال ع إنها تكون أقوى وقودا مما يشرب الماء السائح أو ماء الناضح و أبطأ خمودا و ذلك لصلابة جرمها. ثم قال و أنا من رسول الله ص كالضوء من الضوء و الذراع من العضد شرح نهج البلاغة ج : 16 ص : 290و ذلك لأن الضوء الأول يكون علة في الضوءلثاني أ لا ترى أن الهواء المقابل للشمس يصير مضيئا من الشمس فهذا الضوء هو الضوء الأول ثم إنه يقابل وجه الأرض فيضي ء وجه الأرض منه فالضوء الذي على وجه الأرض هو الضوء الثاني و ما دام الضوء الأول ضعيفا فالضوء الثاني ضعيف فإذا ازداد الجو إضاءة ازداد وجه الأرض ضاءة لأن المعلول يتبع العلة فشبه ع نفسه بالضوء الثاني و شبه رسول الله ص بالضوء الأول و شبه منبع الأضواء و الأنوار سبحانه و جلت أسماؤه بالشمس التي توجب الضوء الأول ثم الضوء الأول يوجب الضوء الثاني و هاهنا نكتة و هي أن الضوء الثاني يكون أيضا علة لضوء ثالث و ذلك أن الضوء الحاصل على وجه الأرض و هو الضوء الثاني إذا أشرق على جدار مقابل ذلك الجدار قريبا منه مكان مظلم فإن ذلك المكان يصير مضيئا بعد أن كان مظلما و إن كان لذلك المكان المظلم باب و كان داخل البيت مقابل ذلك الباب جدار كان ذلك الجدار أشد إضاءة من باقي البيت ثم ذلك الجدار إن كان فيه ثقب إلى موضع آخر كان ما يحاذي ذلك البيت أشد إضاءة مما حواليه و هكذا لا تزال الأضواء يوجب بعضها بعضا على وجه الانعكاس بطريق العلية و بشرط المقابلة و لا تزال تضعف درجة درجة إلى أن تضمحل و يعود الأمر إلى الظلمة و هكذا عالم العلوم و الحكم المأخوذة من أمير المؤمنين ع لا تزال تضعف كما انتقلت من قوم (17/263)
إلى قوم إلى أن يعود الإسلام غريبا كما بدأ بموجب الخبر النبوي الوارد في الصحاح. و أما قوله و الذراع من العضد فلأن الذراع فرع على العضد و العضد أصل أ لا ترى أنه لا يمكن أن يكون ذراع إلا إذا كان عضد و يمكن أن يكون عضد لا ذراع له و لهذا قال الراجز لولده (17/264)
يا بكر بكرين و يا خلب الكبد أصبحت مني كذراع من عضد
شرح نهج البلاغة ج : 16 ص : 291فشبه ع بالنسبة إلى رسول الله ص بالذراع الذي العضد أصله و أسه و المراد من هذا التشبيه الإبابة عن شدة الامتزاج و الاتحاد و القرب بينهما فإن الضوء الثاني شبيه بالضوء الأول و الذراع متصل بالعضد اتصالا بينا و هذه المنزلة قد أعطاإياها رسول الله ص في مقامات كثيرة نحو
قوله في قصة براءة قد أمرت أن لا يؤدي عني إلا أنا أو رجل مني
و قوله لتنتهن يا بني وليعة أو لأبعثن إليكم رجلا مني أو قال عديل نفسي و قد سماه الكتاب العزيز نفسه فقال وَ نِساءَنا وَ نِساءَكُمْ وَ أَنْفُسَنا وَ أَنْفُسَكُمْ و
قد قال له لحمك مختلط بلحمي و دمك مسوط بدمي و شبرك و شبري واحد
فإن قلت أما قوله لو تظاهرت العرب علي لما وليت عنها فمعلوم فما الفائدة في قوله و لو أمكنت الفرصة من رقابها لسارعت إليها و هل هذا مما يفخر به الرؤساء و يعدونه منقبة و إنما المنقبة أن لو أمكنته الفرصة تجاوز و عفا. قلت غرضه أن يقرر في نفوس أصحابه و غيرهم من العرب أنه يحارب على حق و أن حربه لأهل الشام كالجهاد أيام رسول الله ص و أن من يجاهد الكفار يجب عليه أن يغلظ عليهم و يستأصل شأفتهم أ لا ترى أن رسول الله ص لما جاهد بني قريظة و ظفر لم يبق و لم يعف و حصد في يوم واحد رقاب ألف إنسان صبرا في مقام واحد لما علم في ذلك من إعزاز الدين و إذلال المشركين فالعفو له مقام و الانتقام له مقام. قوله و سأجهد في أن أطهر الأرض الإشارة في هذا إلى معاوية سماه شخصا معكوسا و جسما مركوسا و المراد انعكاس عقيدته و أنها ليست عقيدة هدى بل هي معاكسة للحق و الصواب و سماه مركوسا من قولهم ارتكس في الضلال و الركس شرح نهج البلاغة ج : 16 ص : 292رد الشي ء مقلوبا قال تعالى وَ اللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِما كَسَبُوا أي قلبهم و ردهم إلى كفرهم فلما كان تاركا للفطرة التي كل مولود يولد عليها كان مرتكسا في ضلالة و أصحاب التناسخ يفسرون هذا بتفسير آخر قالوا الان على ضربين منتصب و منحن فالمنتصب الإنسان و المنحني ما كان رأسه منكوسا إلى جهة الأرض كالبهائم و السباع. قالوا و إلى ذلك وقعت الإشارة بقوله أَ فَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلى وَجْهِهِ أَهْدى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ. قالوا فأصحاب الشقاوة تنتقل أنفسهم عند الموت إلى الحيوان المكبوب و أصحاب السعادة تنتقل أنفسهم إلى الحيوان المنتصب و لما كان معاوية عنده ع من أهل الشقاوة سماه معكوسا و مركوسا رمزا إلى هذا المعنى. قوله حتى تخرج المدرة من بين حب الحصيد أي حتى يتطهر الدين و أهله منه و ذلك لأن الزراع يجتهدون في إخراج المدر و الحجر و الشوك و العوسج و نحو ذلك من (17/265)
بين الزرع كي تفسد منابته فيفسد الحب الذي يخرج منه فشبه معاوية بالمدر و نحوه من مفسدات الحب و شبه الدين بالحب الذي هو ثمرة الزرع (17/266)
وَ مِنْ هَذَا الْكِتَابِ وَ هُوَ آخِرُهُ إِلَيْكِ عَنِّي يَا دُنْيَا فَحَبْلُكِ عَلَى غَارِبِكِ قَدِ انْسَلَلْتُ مِنْ مَخَالِبِكِ وَ أَفْلَتُّ مِنْ حَبَائِلِكِ وَ اجْتَنَبْتُ الذَّهَابَ فِي مَدَاحِضِكِ شرح نهج البلاغة ج : 16 ص : 293أَيْنَ الْقُرُونُ الَّينَ غَرَرْتِهِمْ بِمَدَاعِبِكِ أَيْنَ الْأُمَمُ الَّذِينَ فَتَنْتِهِمْ بِزَخَارِفِكِ فَهَا هُمْ رَهَائِنُ الْقُبُورِ وَ مَضَامِينُ اللُّحُودِ وَ اللَّهِ لَوْ كُنْتِ شَخْصاً مَرْئِيّاً وَ قَالَباً حِسِّيّاً لَأَقَمْتُ عَلَيْكِ حُدُودَ اللَّهِ فِي عِبَادٍ غَرَرْتِهِمْ بِالْأَمَانِيِّ وَ أُمَمٍ أَلْقَيْتِهِمْ فِي الْمَهَاوِي وَ مُلُوكٍ أَسْلَمْتِهِمْ إِلَى التَّلَفِ وَ أَوْرَدْتِهِمْ مَوَارِدَ الْبَلَاءِ إِذْ لَا وِرْدَ وَ لَا صَدَرَ هَيْهَاتَ مَنْ وَطِئَ دَحْضَكِ زَلِقَ وَ مَنْ رَكِبَ لُجَجَكِ غَرِقَ وَ مَنِ ازْوَرَّ عَنْ حَبَائِلِكِ وُفِّقَ وَ السَّالِمُ مِنْكِ لَا يُبَالِي إِنْ ضَاقَ بِهِ مُنَاخُهُ وَ الدُّنْيَا عِنْدَهُ كَيَوْمَ حَانَ انْسِلَاخُهُ
إليك عني أي ابعدي و حبلك على غاربك كناية من كنايات الطلاق أي اذهبي حيث شئت لأن الناقة إذا ألقي حبلها على غاربها فقد فسح لها أن ترعى حيث شاءت و تذهب أين شاءت لأنه إنما يردها زمامها فإذا ألقي حبلها على غاربها فقد أهملت. و الغارب ما بين السنام و العنق و المداحض المزالق. و قيل إن في النسخة التي بخط الرضي رضي الله عنه غررتيهم بالياء و كذلك فتنتيهم و ألقيتيهم و أسلمتيهم و أوردتيهم و الأحسن حذف الياء و إذا كانت الرواية وردت بها فهي من إشباع الكسرة كقوله
أ لم يأتيك و الأنباء تنمي بما فعلت لبون بني زياد
و مضامين اللحود أي الذين تضمنتهم و في الحديث نهى عن بيع المضامين و الملاقيح و هي ما في أصلاب الفحول و بطون الإناث. شرح نهج البلاغة ج : 16 ص : 294ثم قال لو كنت أيتها الدنيا إنسانا محسوسا كالواحد من البشر لأقمت عليك الحد كما فعلت بالناس. ثم شرح أفعالها فقامنهم من غررت و منهم من ألقيت في مهاوي الضلال و الكفر و منهم من أتلفت و أهلكت. ثم قال و من وطئ دحضك زلق مكان دحض أي مزلة. ثم قال لا يبالي من سلم منك إن ضاق مناخه لا يبالي بالفقر و لا بالمرض و لا بالحبوس و السجون و غير ذلك من أنواع المحن لأن هذا كله حقير لا اعتداد به في جنب السلامة من فتنة الدنيا. قال و الدنيا عند من قد سلم منها كيوم قرب انقضاؤه و فناؤه (17/267)
اعْزُبِي عَنِّي فَوَاللَّهِ لَا أَذِلُّ لَكِ فَتَسْتَذِلِّينِي وَ لَا أَسْلَسُ لَكِ فَتَقُودِينِي وَ ايْمُ اللَّهِ يَمِيناً أَسْتَثْنِي فِيهَا بِمَشِيئَةِ اللَّهِ لَأَرُوضَنَّ نَفْسِي رِيَاضَةً تَهِشُّ مَعَهَا إِلَى الْقُرْصِ إِذَا قَدَرْتُ عَلَيْهِ مَطْعُوماً وَ تَقْنَعُ بِالْمِلْحِ مَأْدُوماً وَ لَأَدَعَنَّ مُقْلَتِي كَعَيْنِ مَاءٍ نَضَبَ مَعِينُهَا مُسْتَفْرِغَةً دُمُوعَهَا أَ تَمْتَلِئُ السَّائِمَةُ مِنْ رِعْيِهَا فَتَبْرُكَ وَ تَشْبَعُ الرَّبِيضَةُ مِنْ عُشْبِهَا فَتَرْبِضَ وَ يَأْكُلُ عَلِيٌّ مِنْ زَادِهِ فَيَهْجَعَ قَرَّتْ إِذاً عَيْنُهُ إِذَا اقْتَدَى بَعْدَ السِّنِينَ الْمُتَطَاوِلَةِ بِالْبَهِيمَةِ الْهَامِلَةِ وَ السَّائِمَةِ الْمَرْعِيَّةِ طُوبَى لِنَفْسٍ أَدَّتْ إِلَى رَبِّهَا فَرْضَهَا وَ عَرَكَتْ بِجَنْبِهَا بُؤْسَهَا وَ هَجَرَتْ فِي شرح نهجلبلاغة ج : 16 ص : 295اللَّيْلِ غُمْضَهَا حَتَّى إِذَا غَلَبَ الْكَرَى عَلَيْهَا افْتَرَشَتْ أَرْضَهَا وَ تَوَسَّدَتْ كَفَّهَا فِي مَعْشَرٍ أَسْهَرَ عُيُونَهُمْ خَوْفُ مَعَادِهِمْ وَ تَجَافَتْ عَنْ مَضَاجِعِهِمْ جُنُوبُهُمْ وَ هَمْهَمَتْ بِذِكْرِ رَبِّهِمْ شِفَاهُهُمْ وَ تَقَشَّعَتْ بِطُولِ اسْتِغْفَارِهِمْ ذُنُوبُهُمْ أُولئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ فَاتَّقِ اللَّهَ يَا ابْنَ حُنَيْفٍ وَ لْتَكْفُفْ أَقْرَاصُكَ لِيَكُونَ مِنَ النَّارِ خَلَاصُكَ (17/268)
اعزبي ابعدي يقال عزب الرجل بالفتح أي بعد و لا أسلس لك بفتح اللام أي لا أنقاد لك سلس الرجل بالكسر يسلس فهو بين السلس أي سهل قياده. ثم حلف و استثنى بالمشيئة أدبا كما أدب الله تعالى رسوله ص ليروضن نفسه أي يدربها بالجوع و الجوع هو أصل الرياضة عند الحكماء و أرباب الطريقة. قال حتى أهش إلى القرص أي إلى الرغيف و أقنع من الإدام بالملح. و نضب معينها فني ماؤها. ثم أنكر على نفسه فقال أ تشبع السائمة من رعيها بكسر الراء و هو الكلأ و الربيضة جماعة من الغنم أو البقر تربض في أماكنها و أنا أيضا مثلها أشبع و أنام. لقد قرت عيني إذا حيث أشابه البهائم بعد الجهاد و السبق و العبادة و العم و الجد في السنين المتطاولة. قوله و عركت بجنبها بؤسها أي صبرت على بؤسها و المشقة التي تنالها يقال قد عرك فلان بجنبه الأذى أي أغضى عنه و صبر عليه. شرح نهج البلاغة ج : 16 ص : 296قوله افترشت أرضها ألم يكن لها فراش إلا الأرض. و توسدت كفها لم يكن لها وسادة إلا الكف. و تجافت عن مضاجعهم جنوبهم لفظ الكتاب العزيز تَتَجافى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضاجِعِ. و همهمت تكلمت كلاما خفيا. و تقشعت ذنوبهم زالت و ذهبت كما يتقشع السحاب. قوله و لتكفف أقراصك إنما هو نهي لابن حنيف أن يكف عن الأقراص و إن كان اللفظ يقتضي أن تكف الأقراص عن ابن حنيف و قد رواها قوم بالنصب قالوا فاتق الله يا ابن حنيف و لتكفف أقراصك لترجو بها من النار خلاصك و التاء هاهنا للأمر عوض الياء و هي لغة لا بأس بها و قد قيل إن رسول الله ص قرأ فبذلك فلتفرحوا بالتاء (17/269)
شرح نهج البلاغة ج : 17 ص : 3الجزء السابع عشرتتمة أبواب الكتب و الرسائل (18/1)
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله الواحد العدل
46- و من كتاب له ع إلى بعض عماله
أَمَّا بَعْدُ فَإِنَّكَ مِمَّنْ أَسْتَظْهِرُ بِهِ عَلَى إِقَامَةِ الدِّينِ وَ أَقْمَعُ بِهِ نَخْوَةَ الْأَثِيمِ وَ أَسُدُّ بِهِ لَهَاةَ الثَّغْرِ الْمَخُوفِ فَاسْتَعِنْ بِاللَّهِ عَلَى مَا أَهَمَّكَ وَ اخْلِطِ الشِّدَّةَ بِضِغْثٍ مِنَ اللِّينِ وَ ارْفُقْ مَا كَانَ الرِّفْقُ أَرْفَقَ وَ اعْتَزِمْ بِالشِّدَّةِ حِينَ لَا تُغْنِي عَنْكَ إِلَّا الشِّدَّةُ وَ اخْفِضْ لِلرَّعِيَّةِ جَنَاحَكَ وَ ابْسُطْ لَهُمْ وَجْهَكَ وَ أَلِنْ لَهُمْ جَانِبَكَ وَ آسِ بَيْنَهُمْ فِي اللَّحْظَةِ وَ النَّظْرَةِ وَ الْإِشَارَةِ وَ التَّحِيَّةِ حَتَّى لَا يَطْمَعَ الْعُظَمَاءُ فِي حَيْفِكَ وَ لَا يَيْأَسَ الضُّعَفَاءُ مِنْ عَدْلِكَ وَ السَّلَامُ
قد أخذ الشاعر معنى قوله و آس بينهم في اللحظة و النظرة فقال شرح نهج البلاغة ج : 17 ص : اقسم اللحظ بيننا إن في اللحظ لعنوان ما تجن الصدورإنما البر روضة فإذا ما كان بشر فروضة و غدير
قوله و آس بينهم في اللحظة أي اجعلهم أسوة و روي و ساو بينهم في اللحظة و المعنى واحد. و أستظهر به أجعله كالظهر. و النخوة الكبرياء و الأثيم المخطئ المذنب. و قوله و أسد به لهاة الثغر استعارة حسنة. و الضغث في الأصل قبضة حشيش مختلط يابسها بشي ء من الرطب و منه أغاث الأحلام للرؤيا المختلطة التي لا يصح تأويلها فاستعار اللفظة هاهنا و المراد امزج الشدة بشي ء من اللين فاجعلهما كالضغث و قال تعالى وَ خُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً. قوله فاعتزم بالشدة أي إذا جد بك الحد فدع اللين فإن في حال الشدة لا تغني إلا الشدة قال الفند الزماي
فلما صرح الشر فأمسى و هو عريان و لم يبق سوى العدوان دناهم كما دانواقوله حتى لا يطمع العظماء في حيفك أي حتى لا يطمع العظماء في أن تمالئهم على حيف الضعفاء و قد تقدم مثل هذا فيما سبق (18/2)
شرح نهج البلاغة ج : 17 ص : 475- و من وصية له ع للحسن و الحسين ع لما ضربه ابن ملجم لعنه اللهأُوصِيكُمَا بِتَقْوَى اللَّهِ وَ أَلَّا تَبْغِيَا الدُّنْيَا وَ إِنْ بَغَتْكُمَا وَ لَا تَأْسَفَا عَلَى شَيْ ءٍ مِنْهَا زُوِيَ عَنْكُمَا وَ قُولَا بِالْحَقِّ وَ اعْمَلَا لِلْأَجْرِ وَ كُونَا لِلظَّالِمِ خَصْماً وَ لِلْمَظْلُومِ عَوْناً أُوصِيكُمَا وَ جَمِعَ وَلَدِي وَ أَهْلِي وَ مَنْ بَلَغَهُ كِتَابِي بِتَقْوَى اللَّهِ وَ نَظْمِ أَمْرِكُمْ وَ صَلَاحِ ذَاتِ بَيْنِكُمْ فَإِنِّي سَمِعْتُ جَدَّكُمَا ص يَقُولُ صَلَاحُ ذَاتِ الْبَيْنِ أَفْضَلُ مِنْ عَامَّةِ الصَّلَاةِ وَ الصِّيَامِ اللَّهَ اللَّهَ فِي الْأَيْتَامِ فَلَا تُغِبُّوا أَفْوَاهَهُمْ وَ لَا يَضِيعُوا بِحَضْرَتِكُمْ وَ اللَّهَ اللَّهَ فِي جِيرَانِكُمْ فَإِنَّهُمْ وَصِيَّةُ نَبِيِّكُمْ مَا زَالَ يُوصِي بِهِمْ حَتَّى ظَنَنَّا أَنَّهُ سَيُوَرِّثُهُمْ وَ اللَّهَ اللَّهَ فِي الْقُرْآنِ لَا يَسْبِقُكُمْ بِالْعَمَلِ بِهِ غَيْرُكُمْ وَ اللَّهَ اللَّهَ فِي الصَّلَاةِ فَإِنَّهَا عَمُودُ دِينِكُمْ وَ اللَّهَ اللَّهَ فِي بَيْتِ رَبِّكُمْ لَا تُخَلُّوهُ مَا بَقِيتُمْ فَإِنَّهُ إِنْ تُرِكَ لَمْ تُنَاظَرُوا وَ اللَّهَ اللَّهَ فِي الْجِهَادِ بِأَمْوَالِكُمْ وَ أَنْفُسِكُمْ وَ أَلْسِنَتِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَ عَلَيْكُمْ بِالتَّوَاصُلِ وَ التَّبَاذُلِ وَ إِيَّاكُمْ وَ التَّدَابُرَ وَ التَّقَاطُعَ لَا تَتْرُكُوا شرح نهج البلاغة ج : 17 ص : 6الْأَمْرَ بِالْمَعْرُوفِ وَ النَّهْيَ عَنِ الْمُنْكَرِ فَيُوَلَّى عَلَيْكُمْ أَرَارُكُمْ ثُمَّ تَدْعُونَ فَلَا يُسْتَجَابُ
لَكُمْ ثُمَّ قَالَ يَا بَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ لَا أُلْفِيَنَّكُمْ تَخُوضُونَ دِمَاءَ الْمُسْلِمِينَ خَوْضاً تَقُولُونَ قُتِلَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ قُتِلَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ أَلَا لَا تَقْتُلُنَّ بِي إِلَّا قَاتِلِي انْظُرُوا إِذَا أَنَا مِتُّ مِنْ ضَرْبَتِهِ هَذِهِ فَاضْرِبُوهُ ضَرْبَةً بِضَرْبَةٍ وَ لَا تُمَثِّلُوا بِالرَّجُلِ فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ ص يَقُولُ إِيَّاكُمْ وَ الْمُثْلَةَ وَ لَوْ بِالْكَلْبِ الْعَقُورِ (18/3)
روي و اعملا للآخرة و روي فلا تغيروا أفواهكم يقول لا تطلبا الدنيا و إن طلبتكما فإذا كان من تطلبه الدنيا منهيا عن طلبها فمن لا تطلبه يكون منهيا عن طلبها بالطريق الأولى. ثم قال و لا تأسفا على شي ء منها زوي عنكما أي قبض قال رسول الله ص زويت لي الدنيا فأريت مشارقها و مغاربها و سيبلغ ملك أمتي ما زوي لي منها
و روي و لا تأسيا و كلاهما بمعنى واحد أي لا تحزنا و هذا من قوله تعالى لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلى ما فاتَكُمْ. شرح نهج البلاغة ج : 17 ص : 7قوله صلاح ذات البين أخذه هذه اللفظة عبد الملك بن مروان فقال لبنيه و قد جمعوا عنده يوم موتهانفوا الضغائن بينكم و عليكم عند المغيب و في حضور المشهدبصلاح ذات البين طول حياتكم إن مد في عمري و إن لم يمددإن القداح إذا اجتمعن فرامها بالكسر ذو بطش شديد أيدعزت فلم تكسر و إن هي بددت فالوهن و التكسير للمتبدد
و ذات هاهنا زائدة مقحمة. قوله فلا تغبوا أفواههم أي لا تجيعوهم بأن تطمعوهم غبا و من روى فلا تغيروا أفواههم فذاك لأن الجائع يتغير فمه
قال ع لخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك
قال و لا يضيعوا بحضرتكم أي لا تضيعوهم فالنهي في الظاهر للأيتام و في المعنى للأوصياء و الأولياء و الظاهر أنه لا يعني الأيتام الذين لهم مال تحت أيدي أوصيائهم لأن أولئك الأوصياء محرم عليهم أن يصيبوا من أموال اليتامى إلا القدر النزر جدا عند الضرورة ثم يقضونه مع التمكن و من هذه حاله لا يحسن أن يقال له لا تغيروا أفواه أيتامكم و إنما الأظهر أنه يعني الذين مات آباؤهم و هم فقراء يتعين مواساتهم و يقبح القعود عنهم كما قال تعالى وَ يُطْعِمُونَ الطَّعامَ عَلى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَ يَتِيماً وَ أَسِيراً و اليتم في الناس من قبل الأب و في البهائم من قبل الأم لأن الآباء من البهائم لا عناية لهم بالأولاد بل العناية للأم لأنها المرضعة المشفقة و أما الناس فإن الأب هو الكافل القيم بنفقة الولد فإذا مات وصل الضرر إليه لفقد كافله و الأم بمعزل عن ذلك و جمع يتيم على أيتام كما قالوا شريف و أشراف و حكى أبو علي في التكملة كمي ء و أكماء و لا يسمى الصبي يتيما إلا إذا شرح نهج البلاغة ج : 17 ص : 8كان دون البلوغ و إذا بلغ زال اسم اليتيم عنه و اليتامى أحد الأصناف الذين عينوا في الخمس بنص الكتاب العزيفصل في الآثار الواردة في حقوق الجار (18/4)
ثم أوصى بالجيران و اللفظ الذي ذكره ع قد ورد مرفوعا في رواية عبد الله بن عمر لما ذبح شاة فقال أهديتم لجارنا اليهودي فإني سمعت رسول الله ص يقول ما زال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه
و في الحديث أنه ص قال من كان يؤمن بالله و اليوم الآخر فليكرم جاره
و عنه ع جار السوء في دار المقامة قاصمة الظهر
و عنه ع من جهد البلاء جار سوء معك في دار مقامة إن رأى حسنة دفنها و إن رأى سيئة أذاعها و أفشاها
و من أدعيتهم اللهم إني أعوذ بك من مال يكون علي فتنة و من ولد يكون علي كلا و من حليلة تقرب الشيب و من جار تراني عيناه و ترعاني أذناه إن رأى خيرا دفنه و إن سمع شرا طار به
ابن مسعود يرفعه و الذي نفسي بيده لا يسلم العبد حتى يسلم قلبه و لسانه و يأمن جاره بوائقه قالوا ما بوائقه قال غشمه و ظلمه (18/5)
لقمان يا بني حملت الحجارة و الحديد فلم أر شيئا أثقل من جار السوء
و أنشدوا
ألا من يشتري دارا برخص كراهة بعض جيرتها تباع
و قال الأصمعي جاور أهل الشام الروم فأخذوا عنهم خصلتين اللؤم و قلة الغيرة شرح نهج البلاغة ج : 17 ص : 9و جاور أهل البصرة الخزر فأخذوا عنهم خصلتين الزناء و قلة الوفاء و جاور أهل الكوفة السواد فأخذوا عنهم خصلتين السخاء و الغيرة. و كان يقال من تطاول على جاره م بركة داره. و كان يقال من آذى جاره ورثه الله داره. باع أبو الجهم العدوي داره و كان في جوار سعيد بن العاص بمائة ألف درهم فلما أحضرها المشتري قال له هذا ثمن الدار فأعطني ثمن الجوار قال أي جوار قال جوار سعيد بن العاص قال و هل اشترى أحد جوارا قط فقال رد علي داري و خذ مالك لا أدع جوار رجل إن قعدت سأل عني و إن رآني رحب بي و إن غبت عنه حفظني و إن شهدت عنده قربني و إن سألته قضى حاجتي و إن لم أسأله بدأني و إن نابتني نائبة فرج عني فبلغ ذلك سعيدا فبعث إليه مائة ألف درهم و قال هذا ثمن دارك و دارك لك. الحسن ليس حسن الجوار كف الأذى و لكن حسن الجوار الصبر على الأذى. جاءت امرأة إلى الحسن فشكت إليه الخلة و قالت أنا جارتك قال كم بيني و بينك قالت سبع أدؤر فنظر الحسن فإذا تحت فراشه سبعة دراهم فأعطاها إياها و قال كدنا نهلك. و كان كعب بن مامة إذا جاوره رجل قام له بما يصلحه و حماه ممن يقصده و إن هلك له شي ء أخلفه عليه و إن مات وداه لأهله فجاوره أبو دواد الإيادي فزاره على العادة فبالغ في إكرامه و كانت العرب إذا حمدت جارا قالت جار كجار أبي دواد قال قيس بن زهير شرح نهج البلاغة ج : 17 ص : أطوف ما أطوف ثم آوي إلى جار كجار أبي دواد
ثم تعلم منه أبو دواد و كان يفعل لجاره فعل كعب به. و قال مسكين الدارمي
ما ضر جارا لي أجاوره ألا يكون لبابه سترأعمى إذا ما إذا جارتي خرجت حتى يواري جارتي الخدرناري و نار الجار واحدة و إلبه قبلي ينزل القدر (18/6)
استعرض أبو مسلم صاحب الدولة فرسا محضيرا فقال لأصحابه لما ذا يصلح هذا فذكروا سباق الخيل و صيد الحمر و النعام و اتباع الفار من الحرب فقال لم تصنعوا شيئا يصلح للفرار من الجار السوء. سأل سليمان علي بن خالد بن صفوان عن ابنيه محمد و سليمان و كانا جاريه فقال كيف إحمادك جوارهما فتمثل بقول يزيد بن مفرغ الحميري
سقى الله دارا لي و أرضا تركتها إلى جنب داري معقل بن يسارأبو مالك جار لها و ابن مرثد فيا لك جاري ذلة و صغار
و في الحديث المرفوع أيضا من رواية جابر الجيران ثلاثة فجار له حق و جار له حقان و جار له ثلاثة حقوق فصاحب الحق الواحد جار مشرك لا رحم له فحقه شرح نهج البلاغة ج : 17 ص : 11حق الجوار و صاحب الحقين جار مسلم لا رحم له و صاحب الثلاثة جار مسلم ذو رحم و أدنى حق اوار ألا تؤذي جارك بقتار قدرك إلا أن تقتدح له منها
قلت تقتدح تغترف و المقدحة المغرفة. و كان يقال الجيران خمسة الجار الضار السيئ الجوار و الجار الدمس الحسن الجوار و الجار اليربوعي المنافق و الجار البراقشي المتلون في أفعاله و الجار الحسدلي الذي عينه تراك و قلبه يرعاك. و
روى أبو هريرة كان رسول الله ص يقول اللهم إني أعوذ بك من جار السوء في دار المقامة فإن دار البادية تتحول
قوله ع الله الله في القرآن أمرهما بالمسارعة إلى العمل به و نهاها أن يسبقهما غيرهما إلى ذلك ثم أمرهما بالصلاة و الحج. و شدد الوصاة في الحج فقال فإنه إن ترك لم تناظروا أي يتعجل الانتقام منكم. فأما المثلة فمنهي عنها
أمر رسول الله ص أن يمثل بهبار بن الأسود لأنه روع زينب حتى أجهضت ثم نهى عن ذلك و قال لا مثلة المثلة حرام
شرح نهج البلاغة ج : 17 ص : 4812- و من كتاب له ع إلى معاويةفَإِنَّ الْبَغْيَ وَ الزُّورَ يُوتِغَانِ الْمَرْءَ فِي دِينِهِ وَ دُنْيَاهُ وَ يُبْدِيَانِ خَلَلَهُ عِنْدَ مَنْ يَعِيبُهُ وَ قَدْ عَلِمْتُ أَنَّكَ غَيْرُ مُدْرِكٍ مَا قُضِيَ فَوَاتُهُ وَ قَدْ رَامَ أَقْوَامٌ أَمْراً بِغَيْرِ الْحَقِّ فَتَأَلَّوْا عَلَى اللَّهِ فَأَكْذَبَهُمْ فَاحْذَرْ يَوْماً يَغْتَبِطُ فِيهِ مَنْ أَحْمَدَ عَاقِبَةَ عَمَلِهِ وَ يَنْدَمُ مَنْ أَمْكَنَ الشَّيْطَانَ مِنْ قِيَادِهِ فَلَمْ يُجَاذِبْهُ وَ قَدْ دَعَوْتَنَا إِلَى حُكْمِ الْقُرْآنِ وَ لَسْتَ مِنْ أَهْلِهِ وَ لَسْنَا إِيَّاكَ أَجَبْنَا وَ لَكِنَّا أَجَبْنَا الْقُرْآنَ فِي حُكْمِهِ وَ السَّلَامُ (18/7)
يوتغان يهلكان و الوتغ بالتحريك الهلاك و قد وتغ يوتغ وتغا أي أثم و هلك و أوتغه الله أهلكه الله و أوتغ فلان دينه بالإثم. قوله فتألوا على الله أي حلفوا من الألية و هي اليمين و
في الحديث من تألى على الله أكذبه الله
و معناه من أقسم تجبرا و اقتدارا لأفعلن كذا أكذبه الله و لم يبلغ أمله. و قد روي تأولوا على الله أي حرفوا الكلم عن مواضعه و تعلقوا بشبهة في تأويل القرآن انتصارا لمذاهبهم و آرائهم فأكذبهم الله بأن أظهر للعقلاء فساد تأويلاتهم و الأول أصح. شرح نهج البلاغة ج :7 ص : 13و يغتبط فيه يفرح و يسر و الغبطة السرور روي يغبط فيه أي يتمنى مثل حاله هذه. قوله و يندم من أمكن الشيطان من قياده فلم يجاذبه الياء التي هي حرف المضارعة عائدة على المكلف الذي أمكن الشيطان من قياده يقول إذا لم يجاذب الشيطان من قياده فإنه يندم فأما من جاذبه قياده فقد قام بما عليه. و مثله قوله و لسنا إياك أجبنا قوله و الله ما حكمت مخلوقا و إنما حكمت القرآن و معنى مخلوقا بشرا لا محدثا
شرح نهج البلاغة ج : 17 ص : 4914- و من كتاب له ع إلى معاوية أيضاأَمَّا بَعْدُ فَإِنَّ الدُّنْيَا مَشْغَلَةٌ عَنْ غَيْرِهَا وَ لَمْ يُصِبْ صَاحِبُهَا مِنْهَا شَيْئاً إِلَّا فَتَحَتْ لَهُ حِرْصاً عَلَيْهَا وَ لَهَجاً بِهَا وَ لَنْ يَسْتَغْنِيَ صَاحِبُهَا بِمَا نَالَ فِيهَا عَمَّا لَمْ يَبْلُغْهُ مِنْهَا وَ مِنْ وَرَاءِ ذَلِكَ فِرَاقُ مَا جَمَعَ وَ نَقْضُ مَا أَبْرَمَ وَ لَوِ اعْتَبَرْتَ بِمَا مَضَى حَفِظْتَ مَا بَقِيَ وَ السَّلَامُ (18/8)
هذا كما قيل في المثل صاحب الدنيا كشارب ماء البحر كلما ازداد شربا ازداد عطشا و الأصل في هذا
قول الله تعالى لو كان لابن آدم واديان من ذهب لابتغى لهما ثالثا و لا يملأ عين ابن آدم إلا التراب
و هذا من القرآن الذي رفع و نسخت تلاوته. و قد ذكر نصر بن مزاحم هذا الكتاب و قال إن أمير المؤمنين ع كتبه إلى عمرو بن العاص و زاد فيه زيادة لم يذكرها الرضي
أما بعد فإن الدنيا مشغلة عن الآخرة و صاحبها منهوم عليها لم يصب شيئا منها قط إلا فتحت عليه حرصا و أدخلت عليه مئونة تزيده رغبة فيها شرح نهج البلاغة ج : 17 ص : 15و لن يستغني صاحبها بما نال عما لم يدرك و من وراء ذلك فراق ما جمع و السعيد من وعظ بغيره فلا تحبطجرك أبا عبد الله و لا تشرك معاوية في باطله فإن معاوية غمص الناس و سفه الحق و السلام
قال نصر و هذا أول كتاب كتبه علي ع إلى عمرو بن العاص فكتب إليه عمرو جوابه أما بعد فإن الذي فيه صلاحنا و ألفة ذات بيننا أن تنيب إلى الحق و أن تجيب إلى ما ندعوكم إليه من الشورى فصبر الرجل منا نفسه على الحق و عذره الناس بالمحاجزة و السلام. قال نصر فكتب علي ع إلى عمرو بن العاص بعد ذلك كتابا غليظا. و هو الذي ضرب مثله فيه بالكلب يتبع الرجل و هو مذكور في نهج البلاغة و اللهج الحرص. و معنى قوله ع لو اعتبرت بما مضى حفظت ما بقي أي لو اعتبرت بما مضى من عمرك لحفظت باقيه أن تنفقه في الضلال و طلب الدنيا و تضيعه (18/9)
شرح نهج البلاغة ج : 17 ص : 5016- و من كتاب له ع إلى أمرائه على الجيوشمِنْ عَبْدِ اللَّهِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ رَفَعَهُ إِلَى أَصْحَابِ الْمَسَالِحِ أَمَّا بَعْدُ فَإِنَّ حَقّاً عَلَى الْوَالِي أَلَّا يُغَيِّرَهُ عَلَى رَعِيَّتِهِ فَضْلٌ نَالَهُ وَ لَا طَوْلٌ خُصَّ بِهِ وَ أَنْ يَزِيدَهُ مَا قَسَمَ اللَّهُ لَهُ مِنْ نِعَمِهِ دُنُوّاً مِنْ عِبَادِهِ وَ عَطْفاً عَلَى إِخْوَانِهِ أَلَا وَ إِنَّ لَكُمْ عِنْدِي أَلَّا أَحْتَجِزَ دُونَكُمْ سِرّاً إِلَّا فِي حَرْبٍ وَ لَا أَطْوِيَ دُونَكُمْ أَمْراً إِلَّا فِي حُكْمٍ وَ لَا أُؤَخِّرَ لَكُمْ حَقّاً عَنْ مَحَلِّهِ وَ لَا أَقِفَ بِهِ دُونَ مَقْطَعِهِ وَ أَنْ تَكُونُوا عِنْدِي فِي الْحَقِّ سَوَاءً فَإِذَا فَعَلْتُ ذَلِكَ وَجَبَتْ لِلَّهِ عَلَيْكُمُ النِّعْمَةُ وَ لِي عَلَيْكُمُ الطَّاعَةُ وَ أَلَّا تَنْكُصُوا عَنْ دَعْوَةٍ وَ لَا تُفَرِّطُوا فِي صَلَاحٍ وَ أَنْ تَخُوضُوا الْغَمَرَاتِ إِلَى الْحَقِّ فَإِنْ أَنْتُمْ لَمْ تَسْتَقِيمُوا لِي عَلَى ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ أَحَدٌ أَهْوَنَ عَلَيَّ مِمَّنِ اعْوَجَّ مِنْكُمْ ثُمَّ أُعْظِمُ لَهُ الْعُقُوبَةَ وَ لَا يَجِدُ عِنْدِي فِيهَا رُخْصَةً فَخُذُوا هَذَا مِنْ أُمَرَائِكُمْ وَ أَعْطُوهُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ مَا يُصْلِحُ اللَّهُ بِهِ أَمْرَكُمْ وَ السَّلَامُ (18/10)
شرح نهج البلاغة ج : 17 ص : 17أصحاب المسالح جماعات تكون بالثغر يحمون البيضة و المسلحة هي الثغر كالمرغبة و في الحديث كان أدنى مسالح فارس إلى العرب العذيب
قال يجب على الوالي ألا يتطاول على الرعية بولايته و ما خص به عليهم من الطول و هو الفضل و أن تكون تلك الزيادة التي أعطيها سببا لزيادة دنوه من الرعية و حنوه عليهم. ثم قال لكم عندي ألا أحتجز دونكم بسر أي لا أستتر قال إلا في حرب و ذلك لأن الحرب يحمد فيها طي الأسرار و الحرب خدعة. ثم قال و لا أطوي دونكم أمرا إلا في حكم أي أظهركم على كل ما نفسي مما يحسن أن أظهركم عليه فأما أحكام الشريعة و القضاء على أحد الخصمين فإني لا أعلمكم به قبل وقوعه كيلا تفسد القضية بأن يحتال ذلك الشخص لصرف الحكم عنه. ثم ذكر أنه لا يؤخر لهم حقا عن محله يعني العطاء و أنه لا يقف دون مقطعه و الحق هاهنا غير العطاء بل الحكم قال زهير (18/11)
فإن الحق مقطعه ثلاث يمين أو نفار أو جلاء
أي متى تعين الحكم حكمت به و قطعت و لا أقف و لا أتحبس. و لما استوفى ما شرط لهم قال فإذا أنا وفيت بما شرطت على نفسي وجبت لله عليكم النعمة و لي عليكم الطاعة. ثم أخذ في الاشتراط عليهم كما شرط لهم فقال و لي عليكم ألا تنكصوا عن شرح نهج البلاغة ج : 17 ص : 18دعوأي لا تتقاعسوا عن الجهاد إذا دعوتكم إليه و لا تفرطوا في صلاح أي إذا أمكنتكم فرصة أو رأيتم مصلحة في حرب العدو أو حماية الثغر فلا تفرطوا فيها فتفوت و أن تخوضوا الغمرات إلى الحق أي تكابدوا المشاق العظيمة و لا يهولنكم خوضها إلى الحق. ثم توعدهم إن لم يفعلوا ذلك ثم قال فخذوا هذا من أمرائكم ليس يعني به أن على هؤلاء أصحاب المسالح أمراء من قبله ع كالواسطة بينهم و بينه بل من أمرائكم يعني مني و ممن يقوم في الخلافة مقامي بعدي لأنه لو كان الغرض هو الأول لما كان محلهم عنده أن يقول ألا أحتجز دونكم بسر و لا أطوي دونكم أمرا لأن محل من كان بتلك الصفة دون هذا
شرح نهج البلاغة ج : 17 ص : 5119- و من كتاب له ع إلى عماله على الخراجمِنْ عَبْدِ اللَّهِ عَلِيٍّ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ إِلَى أَصْحَابِ الْخَرَاجِ أَمَّا بَعْدُ فَإِنَّ مَنْ لَمْ يَحْذَرْ مَا هُوَ سَائِرٌ إِلَيْهِ لَمْ يُقَدِّمْ لِنَفْسِهِ مَا يُحْرِزُهَا وَ اعْلَمُوا أَنَّ مَا كُلِّفْتُمْ يَسِيرٌ وَ أَنَّ ثَوَابَهُ كَثِيرٌ وَ لَوْ لَمْ يَكُنْ فِيمَا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ مِنَ الْبَغْيِ وَ الْعُدْوَانِ عِقَابٌ يُخَافُ لَكَانَ فِي ثَوَابِ اجْتِنَابِهِ مَا لَا عُذْرَ فِي تَرْكِ طَلَبِهِ فَأَنْصِفُوا النَّاسَ مِنْ أَنْفُسِكُمْ وَ اصْبِرُوا لِحَوَائِجِهِمْ فَإِنَّكُمْ خُزَّانُ الرَّعِيَّةِ وَ وُكَلَاءُ الْأُمَّةِ وَ سُفَرَاءُ الْأَئِمَّةِ وَ لَا تُحْشِمُوا أَحَداً عَنْ حَاجَتِهِ وَ لَا تَحْبِسُوهُ عَنْ طَلِبَتِهِ وَ لَا تَبِيعُنَّ النَّاسَ فِي الْخَرَاجِ كِسْوَةَ شِتَاءٍ وَ لَا صَيْفٍ وَ لَا دَابَّةً يَعْتَمِلُونَ عَلَيْهَا وَ لَا عَبْداً وَ لَا تَضْرِبُنَّ أَحَداً سَوْطاً لِمَكَانِ دِرْهَمٍ وَ لَا تَمَسُّنَّ مَالَ أَحَدٍ مِنَ النَّاسِ مُصَلٍّ وَ لَا مُعَاهَدٍ إِلَّا أَنْ تَجِدُوا فَرَساً أَوْ سِلَاحاً يُعْدَى بِهِ عَلَى أَهْلِ الْإِسْلَامِ فَإِنَّهُ لَا يَنْبَغِي لِلْمُسْلِمِ أَنْ يَدَعَ ذَلِكَ فِي أَيْدِي أَعْدَاءِ الْإِسْلَامِ فَيَكُونَ شَوْكَةً عَلَيْهِ وَ لَا تَدَّخِرُوا أَنْفُسَكُمْ نَصِيحَةً وَ لَا الْجُنْدَ حُسْنَ سِيرَةٍ وَ لَا الرَّعِيَّةَ مَعُونَةً وَ لَا دِينَ اللَّهِ قُوَّةً وَ أَبْلُوهُ فِي سَبِيلِ مَا اسْتَوْجَبَ عَلَيْكُمْ فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ قَدِ اصْطَنَعَ عِنْدَنَا شرح نهج البلاغة ج : 17 ص : 20وَ عِنْدَكُمْ أَنْ نَشْكُرَهُ بِجُهْدِنَا وَ أَنْ نَنْصُرَهُ بِمَا بَلَغَتْ قُوَّتُنَا وَ لَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ الْعَلِيِّ الْعَظِيمِيقول لو قدرنا أن (18/12)
القبائح العقلية كالظلم و البغي لا عقاب على فعلها بل في تركها ثواب فقط لم يكن الإنسان معذورا إذا فرط في ذلك الترك لأنه يكون قد حرم نفسه نفعا هو قادر على إيصاله إليها. قوله و لا تحشموا أحدا أي لا تغضبوا طالب حاجة فتقطعوه عن طلبها أحشمت زيدا و جاء حشمته و هو أن يجلس إليك فتغضبه و تؤذيه و قال ابن الأعرابي حشمته أخجلته و أحشمته أغضبته و الاسم الحشمة و هي الاستحياء و الغضب. ثم نهاهم أن يبيعوا لأرباب الخراج ما هو من ضرورياتهم كثياب أبدانهم و كدابة يعتملون عليها نحو بقر الفلاحة و كعبد لا بد للإنسان منه يخدمه و يسعى بين يديه. ثم نهاهم عن ضرب الأبشار لاستيفاء الخراج. و كتب عدي بن أرطاة إلى عمر بن عبد العزيز يستأذنه في عذاب العمال فكتب إليه كأني لك جنة من عذاب الله و كأن رضاي ينجيك من سخط الله من قامت عليه بينة أو أقر بما لم يكن مضطهدا مضطرا إلا الإقرار به فخذه بأدائه فإن كان قادرا عليه فاستأد و إن أبى فاحبسه و إن لم يقدر فخل سبيله بعد أن تحلفه بالله أنه لا يقدر على شي ء فلأن يلقوا الله بجناياتهم أحب إلي من أن ألقاه بدمائهم. شرح نهج البلاغة ج : 17 ص : 21ثم نهاهم أن يعرضوا لمال أحد من المسلمين أو من ااهدين المعاهد هاهنا هو الذمي أو من يدخل دار الإسلام من بلاد الشرك على عهد إما لأداء رسالة أو لتجارة و نحو ذلك ثم يعود إلى بلاده. ثم نهاهم عن الظلم و أخذ أموال الناس على طريق المصادرة و التأويل الباطل قال إلا أن تخافوا غائلة المعاهدين بأن تجدوا عندهم خيولا أو سلاحا و تظنوا منهم وثبة على بلد من بلاد المسلمين فإنه لا يجوز الإغضاء عن ذلك حينئذ. قوله و أبلوا في سبيل الله أي اصطنعوا من المعروف في سبيل الله ما استوجب عليكم يقال هو يبلوه معروفا أي يصنعه إليه قال زهير (18/13)
جزى الله بالإحسان ما فعلا بكم و أبلاهما خير البلاء الذي يبلو
قوله ع قد اصطنعا عندنا و عندكم أن نشكره أي لأن نشكره بلام التعليل و حذفها أي أحسن إلينا لنشكره و حذفها أكثر نحو قوله تعالى لَبِئْسَ ما قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ (18/14)
شرح نهج البلاغة ج : 17 ص : 5222- و من كتاب له ع إلى أمراء البلاد في معنى الصلاةأَمَّا بَعْدُ فَصَلُّوا بِالنَّاسِ الظُّهْرَ حَتَّى تَفِي ءَ الشَّمْسُ مِثْلَ مَرْبِضِ الْعَنْزِ وَ صَلُّوا بِهِمُ الْعَصْرَ وَ الشَّمْسُ بَيْضَاءُ حَيَّةٌ فِي عُضْوٍ مِنَ النَّهَارِ حِينَ يُسَارُ فِيهَا فَرْسَخَانِ وَ صَلُّوا بِهِمُ الْمَغْرِبَ حِينَ يُفطِرُ الصَّائِمُ وَ يَدْفَعُ الْحَاجُّ إِلَى مِنًى وَ صَلُّوا بِهِمُ الْعِشَاءَ حِينَ يَتَوَارَى الشَّفَقُ إِلَى ثُلُثِ اللَّيْلِ وَ صَلُّوا بِهِمُ الْغَدَاةَ وَ الرَّجُلُ يَعْرِفُ وَجْهَ صَاحِبِهِ وَ صَلُّوا بِهِمْ صَلَاةَ أَضْعَفِهِمْ وَ لَا تَكُونُوا فَتَّانِينَ
بيان اختلاف الفقهاء في أوقات الصلاة
قد اختلف الفقهاء في أوقات الصلاة فقال أبو حنيفة أول وقت الفجر إذا طلع الفجر الثاني و هو المعترض في الأفق و آخر وقتها ما لم تطلع الشمس و أول وقت الظهر إذا زالت الشمس و آخر وقتها إذا صار ظل كل شي ء مثليه سوى الزوال و قال أبو يوسف و محمد آخر وقتها إذا صار الل مثله. قال أبو حنيفة و أول وقت العصر إذا خرج وقت الظهر و هذا على القولين و آخر وقتها ما لم تغرب الشمس و أول وقت المغرب إذا غربت الشمس و آخر وقتها شرح نهج البلاغة ج : 17 ص : 23ما لم يغب الشفق و هو البياض الذي في الأفق بعد الحمرة و قال أبو يوسف و محمد هو حمرة. قال أبو حنيفة و أول وقت العشاء إذا غاب الشفق و هذا على القولين و آخر وقتها ما لم يطلع الفجر. و قال الشافعي أول وقت الفجر إذا طلع الفجر الثاني و لا يزال وقتها المختار باقيا إلى أن يسفر ثم يبقى وقت الجواز إلى طلوع الشمس. و قال أبو سعيد الإصطخري من الشافعية لا يبقى وقت الجواز بل يخرج وقتها بعد الإسفار و يصلى قضاء و لم يتابعه على هذا القول أحد قال الشافعي و أول وقت الظهر إذا زالت الشمس و حكى أبو الطيب الطبري من الشافعية أن من الناس من قال لا تجوز الصلاة حتى يصير الفي ء بعد الزوال مثل الشراك. و قال مالك أب أن يؤخر الظهر بعد الزوال بقدر ما يصير الظل ذراعا و هذا مطابق لما قال أمير المؤمنين ع حين تفي ء الشمس كمربض العنز أي كموضع تربض العنز و ذلك نحو ذراع أو أكثر بزيادة يسيرة. قال الشافعي و آخر وقت الظهر إذا صار ظل كل شي ء مثله و يعتبر المثل من حد الزيادة علالظل الذي كان عند الزوال و بهذا القول قال أبو يوسف و محمد و قد حكيناه من قبل و به أيضا قال الثوري و أحمد و هو رواية الحسن بن زياد اللؤلؤي عن أبي حنيفة فأما الرواية المشهورة عنه و هي التي رواها أبو يوسف فهو أن آخر وقت الظهر صيرورة الظل مثليه و قد حكيناه عنه فيما تقدم. و قال ابن المنذر تفرد أبو حنيفة بهذا القول و عن أبي حنيفة (18/15)
رواية ثالثة أنه إذا صار ظل كل شي ء مثله خرج وقت الظهر و لم يدخل وقت العصر إلى أن يصير ظل كل شي ء مثليه. شرح نهج البلاغة ج : 17 ص : 24و قال أبو ثور و محمد بن جرير الطبري قدر أربع ركعان المثل و المثلين يكون مشتركا بين الظهر و العصر. و حكي عن مالك أنه قال إذا صار ظل كل شي ء مثله فهو آخر وقت الظهر و أول وقت العصر فإذا زاد على المثل زيادة بينة خرج وقت الظهر و اختص الوقت بالعصر. و حكى ابن الصباغ من الشافعية عن مالك أن وقت الظهر إلى أن يصيرظل كل شي ء مثله وقتا مختارا فأما وقت الجواز و الأداء فآخره إلى أن يبقى إلى غروب الشمس قدر أربع ركعات و هذا القول مطابق لمذهب الإمامية. و قال ابن جريج و عطاء لا يكون مفرطا بتأخيرها حتى تكون في الشمس صفرة. و عن طاوس لا يفوت حتى الليل. فأما العصر فإن الشافعييقول إذا زاد على المثل أدنى زيادة فقد دخل وقت العصر و الخلاف في ذلك بينه و بين أبي حنيفة لأنه يقول أول وقت العصر إذا صار ظل كل شي ء مثليه و زاد عليه أدنى زيادة و قد حكيناه عنه فيما تقدم. و كلام أمير المؤمنين ع في العصر مطابق لمذهب أبي حنيفة لأن بعد صيرورةالظل مثليه هو الوقت الذي تكون فيه الشمس حية بيضاء في عضو من النهار حين يسار فيه فرسخان و أما قبل ذلك فإنه فوق ذلك يسار من الفراسخ أكثر من ذلك و لا يزال وقت الاختيار عند الشافعي للعصر باقيا حتى يصير ظل كل شي ء مثليه ثم يبقى وقت الجواز إلى غروب الشمس. و قالأبو سعيد الإصطخري من أصحابه يصير قضاء بمجاوزة المثلين فأما وقت المغرب فإذا غربت الشمس و غروبها سقوط القرص. و قال أبو الحسن علي بن حبيب الماوردي من الشافعية لا بد أن يسقط القرص و يغيب (18/16)
شرح نهج البلاغة ج : 17 ص : 25حاجب الشمس و هو الضياء المستعلي عليها كالمتصل بها و لم يذكر ذلك من الشافعية أحد غيره. و ذكر الشاشي في كتاب حلية العلماء أن الشيعة قالت أول وقت المغرب إذا اشتبكت النجوم قال قد حكي هذا عنهم و لا يساوي الحكاية و لم تذهب الشيعة ى هذا و سنذكر قولهم فيما بعد. و كلام أمير المؤمنين ع في المغرب لا ينص على وقت معين لأنه عرف ذلك بكونه وقت الإفطار و وقت ما يدفع الحاج و كلا الأمرين يحتاج إلى تعريف كما يحتاج وقت الصلاة اللهم إلا أن يكون قد عرف أمراء البلاد الذين يصلون بالناس من قبل هذا الكتاب متى هذا الوقت الذي يفطر فيه الصائم ثم يدفع فيه الحاج بعينه ثم يحيلهم في هذا الكتاب على ذلك التعريف المخصوص. قال الشافعي و للمغرب وقت واحد و هو قول مالك. و حكى أبو ثور عن الشافعي أن لها وقتين و آخر وقتها إذا غاب الشفق و ليس بمشهور عنه و المشهور القول الأول و قد ذكرنا قول أبي حنيفة فيما تقدم و هو امتداد وقتها إلى أن يغيب الشفق و به قال أحمد و داود. و اختلف أصحاب الشافعي في مقدار الوقت الواحد فمنهم من قال هو مقدر بقدر الطهارة و ستر العورة و الأذان و الإقامة و فعل ثلاث ركعات و منهم من قدره بغير ذلك. و قال أبو إسحاق الشيرازي منهم التضييق إنما هو في الشروع فأما الاستدامة فتجوز إلى مغيب الشفق. فأما وقت العشاء فقال الشافعي هو أن يغيب الشفق و هو الحمرة و هو قول مالك و أحمد و داود و أبي يوسف و محمد و قد حكينا مذهب أبي حنيفة فيما تقدم و هو أن يغيب الشفق الذي هو البياض و به قال زفر و المزني. شرح نهج البلاغة ج : 17 ص : 26قال الشافعي و آخر وقتها المختار إلى نصف الليل هذا هو قوله القديم و هو مذهب أبي حنيفة و قال في الجديد إلى ثلث الليل و يجب أن يحمل قول أمير المؤمنين ع في العشاء إنها إلى ثلث الليل على وقت الاختيار ليك مطابقا لهذا القول و به قال مالك و إحدى الروايتين عن أحمد ثم يذهب (18/17)
وقت الاختيار و يبقى وقت الجواز إلى طلوع الفجر الثاني. و قال أبو سعيد الإصطخري لا يبقى وقت الجواز بعد نصف الليل بل يصير قضاء. فقد ذكرنا مذهبي أبي حنيفة و الشافعي في الأوقات و هما الإمامان المعتبران في الفقه و دخل في ضمن حكاية مذهب الشافعي ما يقوله مالك و أحمد و غيرهما من الفقهاء. فأما مذهب الإمامية من الشيعة فنحن نذكره نقلا عن كتاب أبي عبد الله محمد بن محمد بن النعمان رحمه الله المعروف بالرسالة المقنعة قال وقت الظهر من بعد زوال الشمس إلى أن يرجع الفي ء سبعي الشخص و علامة الزوال رجوع الفي ء بعد انتهائه إلى النقصان و طريق معرفة ذلك بالأصطرلاب أو ميزان الشمس و هو معروف عند كثير من الناس أو بالعمود المنصوب في الدائرة الهندية أيضا فمن لم يعرف حقيقة العمل بذلك أو لم يجد آلته فلينصب عودا من خشب أو غه في أرض مستوية السطح و يكون أصل العود غليظا و رأسه دقيقا شبه المذري الذي ينسج به التكك أو المسلة التي تخاط بها الأحمال فإن ظل هذا العود يكون بلا شك في أول النهار أطول من العود و كلما ارتفعت الشمس نقص من طوله حتى يقف القرص في وسط السماء فيقف الفي ء حينئذ إذا زال القرص عن الوسط إلى جهة المغرب رجع الفي ء إلى الزيادة فليعتبر من أراد الوقوف على وقت الزوال ذلك بخطط و علامات يجعلها على رأس ظل العود عند وضعه شرح نهج البلاغة ج : 17 ص : 27في صدر النهار و كلما نقص في الظل شي ء علم عليه فإذا رجع إلى الزيادة على موضع العلامة عرف حينئذ برجوعه أن الشمس قد زالت. و بذلك تعرف أيضا القبلة فإن قرص الشمس يقف فيها وسط النهار و يصير عن يسارها و يمين المتوجه إليها بعد وقو و زوالها عن القطب فإذا صارت مما يلي حاجبه الأيمن من بين عينيه علم أنها قد زالت و عرف أن القبلة تلقاء وجهه و من سبقت معرفته بجهة القبلة فهو يعرف زوال الشمس إذا توجه إليها فرأى عين الشمس مما يلي حاجبه الأيمن إلا أن ذلك لا يبين إلا بعد زوالها (18/18)
بزمان و يبين الزوال من أول وقته بما ذكرناه من الأصطرلاب و ميزان الشمس و الدائرة الهندية و العمود الذي وصفناه و من لم يحصل له معرفة ذلك أو فقد الآلة توجه إلى القبلة فاعتبر صيرورة الشمس على طرف حاجبه الأيمن وقت العصر من بعد الفراغ من الظهر إذا صليت الظهر في أول أوقاتها أعني بعد زوال الشمس بلا فصل و يمتد إلى أن يتغير لون الشمس باصفرارها للغروب و للمضطر و الناسي إلى مغيبها بسقوط القرص عما تبلغه أبصارنا من السماء و أول وقت المغرب مغيب الشمس و علامة مغيبها عدم الحمرة في المشرق المقابل للمغرب في السماء و ذلك أن المشرق في السماء مطل على المغرب فما دامت الشمس ظاهرة فوق أرضنا فهي تلقى ضوءها على المشرق في السماء فيرى حمرتها فيه فإذا ذهبت الحمرة منه علم أن القرص قد سقط و غاب و آخره أول وقت العشاء الآخرة و أول وقتها مغيب الشمس و هو الحمرة في المغرب و آخره مضي الثلث الأول من الليل و أول وقت الغداة اعتراض الفجر و هو البياض في المشرق يعقبه الحمرة في مكانه و يكون مقدمة لطلوع الشمس على الأرض من السماء و ذلك أن الفجر الأول و هو البياض الظاهر في المشرق يطلع طولا ثم ينعكس بعد مدة عرضا ثم يحمر الأفق بعده للشمس. شرح نهج البلاغة ج : 17 ص : 28و لينبغي للإنسان أن يصلي فريضة الغداة حتى يعترض البياض و ينتشر صعدا في السماء كما ذكرنا و آخر وقت الغداة طلوع الشمس. هذا ما تقوله الفقهاء في مواقيت الصلاة (18/19)
فأما قوله ع و الرجل يعرف وجه صاحبه فمعناه الإسفار و قد ذكرناه. و قوله ع و صلوا بهم صلاة أضعفهم أي لا تطيلوا بالقراءة الكثيرة و الدعوات الطويلة. ثم قال و لا تكونوا فتانين أي لا تفتنوا الناس بإتعابهم و إدخال المشقة عليهم بإطالة الصلاة و إفساد صلاة المأمومين بما يفعلونه من أفعال مخصوصة نحو أن يحدث الإمام فيستخلف فيصلي الناس خلف خليفته فإن ذلك لا يجوز على أحد قولي الشافعي و نحو أن يطيل الإمام الركوع و السجود فيظن المأمومون أنه قد رفع فيرفعون أو يسبقونه بأركان كثيرة و نحو ذلك من مسائل يذكرها الفقهاء في كتبهم. و اعلم أن أمير المؤمنين ع إنما بدأ بصلاة الظهر لأنها أول فريضة افترضت على المكلفين من الصلاة على ما كان يذهب إليه ع و إلى ذلك تذهب الإمامية و ينصر قولهم تسميتها بالأولى و لهذا بدأ أبو عبد الله محمد بن محمد بن النعمان بذكرها قبل غيرها فأما من عدا هؤلاء فأول الصلاة المفروضة عندهم الصبح و هي أول النهار. و أيضا يتفرع على هذا البحث القول في الصلاة الوسطى ما هي فذهب جمهور شرح نهج البلاغة ج : 17 ص : 29الناس إلى أنها العصر لأنها بين صلاتي نهار و صلاتي ليل و قد رووا أيضا في ذلك روايات بعضها في الصحاح و قياس مذهب الإمية أنها المغرب لأن الظهر إذا كانت الأولى كانت المغرب الوسطى إلا أنهم يروون عن أئمتهم ع أنها الظهر و يفسرون الوسطى بمعنى الفضلى لأن الوسط في اللغة هو خيار كل شي ء و منه قوله تعالى جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً و قد ذهب إلى أنها المغرب قوم من الفقهاء أيضا. قال كثير من الناس أنها الصبح لأنها أيضا بين صلاتي ليل و صلاتي نهار و رووا أيضا فيها روايات و هو مذهب الشافعي و من الناس من قال إنها الظهر كقول الإمامية و لم يسمع عن أحد معتبرا أنها العشاء إلا قولا شاذا ذكره بعضهم. و قال لأنها بين صلاتين لا تقصران (18/20)
شرح نهج البلاغة ج : 17 ص : 5330- و من كتاب له ع كتبه للأشتر النخعي رحمه الله لما ولاه على مصر و أعمالهاحين اضطرب أمر أميرها محمد بن أبي بكر و هو أطول عهد كتبه و أجمعه للمحاسن (18/21)
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ هَذَا مَا أَمَرَ بِهِ عَبْدُ اللَّهِ عَلِيٌّ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ مَالِكَ بْنَ الْحَارِثِ الْأَشْتَرَ فِي عَهْدِهِ إِلَيْهِ حِينَ وَلَّاهُ مِصْرَ جِبَايَةَ خَرَاجِهَا وَ جِهَادَ عَدُوِّهَا وَ اسْتِصْلَاحَ أَهْلِهَا وَ عِمَارَةَ بِلَادِهَا أَمَرَهُ بِتَقْوَى اللَّهِ وَ إِيْثَارِ طَاعَتِهِ وَ اتِّبَاعِ مَا أَمَرَ بِهِ فِي كِتَابِهِ مِنْ فَرَائِضِهِ وَ سُنَنِهِ الَّتِي لَا يَسْعَدُ أَحَدٌ إِلَّا بِاتِّبَاعِهَا وَ لَا يَشْقَى إِلَّا مَعَ جُحُودِهَا وَ إِضَاعَتِهَا وَ أَنْ يَنْصُرَ اللَّهَ سُبْحَانَهُ بِيَدِهِ وَ قَلْبِهِ وَ لِسَانِهِ فَإِنَّهُ جَلَّ اسْمُهُ قَدْ تَكَفَّلَ بِنَصْرِ مَنْ نَصَرَهُ وَ إِعْزَازِ مَنْ أَعَزَّهُ وَ أَمَرَهُ أَنْ يَكْسِرَ مِنْ نَفْسِهِ عِنْدَ الشَّهَوَاتِ وَ يَنْزَعَهَا عِنْدَ الْجَمَحَاتِ فَإِنَّ النَّفْسَ أَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ اللَّهُ ثُمَّ اعْلَمْ يَا مَالِكُ أَنِّي قَدْ وَجَّهْتُكَ إِلَى بِلَادٍ قَدْ جَرَتْ عَلَيْهَا دُوَلٌ قَبْلَكَ مِنْ عَدْلٍ وَ جَوْرٍ وَ أَنَّ النَّاسَ يَنْظُرُونَ مِنْ أُمُورِكَ فِي مِثْلِ مَا كُنْتَ تَنْظُرُ فِيهِ مِنْ أُمُورِ شرح نهج البلاغة ج : 17 ص : 31الْوُلَاةِ قَبْلَكَ وَ يَقُولُونَ فِيكَ مَا كُنْتَ تَقُولُهُ فِيهِمْ وَ إِنَّمَا يُسْتَدَلُّ عَلَى الصَّالِحِينَ بِمَا يُجْرِي اللَّهُ لَهُمْ عَلَى أَلْسُنِ عِبَادِهِ فَلْيَكُنْ أَحَبَّ الذَّخَائِرِ إِلَكَ ذَخِيرَةُ الْعَمَلِ الصَّالِحِ فَامْلِكْ هَوَاكَ وَ شُحَّ بِنَفْسِكَ عَمَّا لَا يَحِلُّ لَكَ فَإِنَّ الشُّحَّ بِالنَّفْسِ الْإِنْصَافُ
مِنْهَا فِيمَا أَحَبَّتْ أَوْ كَرِهَتْ (18/22)
نصرة الله باليد الجهاد بالسيف و بالقلب الاعتقاد للحق و باللسان قول الحق و الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر و قد تكفل الله بنصرة من نصره لأنه تعالى قال وَ لَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ. و الجمحات منازعة النفس إلى شهواتها و مآربها و نزعها بكفها. ثم قال له قد كنت تسمع أخبار الولاة و تعيب قوما و تمدح قوما و سيقول الناس في إمارتك الآن نحو ما كنت تقول في الأمراء فاحذر أن تعاب و تذم كما كنت تعيب و تذم من يستحق الذم. ثم قال إنما يستدل على الصالحين بما يكثر سماعه من ألسنة الناس بمدحهم و الثناء عليهم و كذلك يستدل على الفاسقين بمثل ذلك. و كان يقال ألسنة الرعية أقلام الحق سبحانه إلى الملوك. ثم أمره أن يشح بنفسه و فسر له الشح ما هو فقال إن تنتصف منها فيما أحبت شرح نهج البلاغة ج : 17 ص : 32و كرهت أي لا تمكنها من الاسترسال في الشهوات و كن أميرا عليها و مسيطرا و قعا لها من التهور و الانهماك. فإن قلت هذا معنى قوله فيما أحبت فما معنى قوله و كرهت قلت لأنها تكره الصلاة و الصوم و غيرهما من العبادات الشرعية و من الواجبات العقلية و كما يجب أن يكون الإنسان مهيمنا عليها في طرف الفعل يجب أن يكون مهيمنا عليها في طرف الترك
وَ أَشْعِرْ قَلْبَكَ الرَّحْمَةَ لِلرَّعِيَّةِ وَ الْمَحَبَّةَ لَهُمْ وَ اللُّطْفَ بِهِمْ وَ لَا تَكُونَنَّ عَلَيْهِمْ سَبُعاً ضَارِياً تَغْتَنِمُ أَكْلَهُمْ فَإِنَّهُمْ صِنْفَانِ إِمَّا أَخٌ لَكَ فِي الدِّينِ وَ إِمَّا نَظِيرٌ لَكَ فِي الْخَلْقِ يَفْرُطُ مِنْهُمُ الزَّلَلُ وَ تَعْرِضُ لَهُمُ الْعِلَلُ وَ يُؤْتَى عَلَى أَيْدِيهِمْ فِي الْعَمْدِ وَ الْخَطَإِ فَأَعْطِهِمْ مِنْ عَفْوِكَ وَ صَفْحِكَ مِثْلِ الَّذِي تُحِبُّ وَ تَرْضَى أَنْ يُعْطِيَكَ اللَّهُ مِنْ عَفْوِهِ وَ صَفْحِهِ فَإِنَّكَ فَوْقَهُمْ وَ وَالِي الْأَمْرِ عَلَيْكَ فَوْقَكَ وَ اللَّهُ فَوْقَ مَنْ وَلَّاكَ وَ قَدِ اسْتَكْفَاكَ أَمْرَهُمْ وَ ابْتَلَاكَ بِهِمْ وَ لَا تَنْصِبَنَّ نَفْسَكَ لِحَرْبِ اللَّهِ فَإِنَّهُ لَا يَدَيْ لَكَ بِنِقْمَتِهِ وَ لَا غِنَى بِكَ عَنْ عَفْوِهِ وَ رَحْمَتِهِ وَ لَا تَنْدَمَنَّ عَلَى عَفْوٍ وَ لَا تَبْجَحَنَّ بِعُقُوبَةٍ وَ لَا تُسْرِعَنَّ إِلَى بَادِرَةٍ وَجَدْتَ عَنْهَا مَنْدُوحَةً وَ لَا تَقُولَنَّ إِنِّي مُؤَمَّرٌ آمُرُ فَأُطَاعُ فَإِنَّ ذَلِكَ إِدْغَالٌ فِي الْقَلْبِ وَ مَنْهَكَةٌ لِلدِّينِ وَ تَقَرُّبٌ مِنَ الْغِيَرِ شرح نهج البلاغة ج : 17 ص : 33وَ إِذَا أَحْدَثَ لَكَ مَا أَنْتَ فِيهِ مِنْ سُلْطَانِكَ أُبَّهَةً أَوْ مَخِيلَةً فَانْظُرْ إِلَى عِظَمِ مُلْكِ اللَّهِ فَوْقَكَ وَ قُدْرَتِهِ مِنْكَ عَلَى مَا لَا تَقْدِرُ عَلَيْهِ مِنْ نَفْسِكَ فَإِنَّ ذَلِكَ يُطَامِنُ إِيْكَ مِنْ طِمَاحِكَ وَ يَكُفُّ عَنْكَ مِنْ غَرْبِكَ وَ يَفِي ءُ إِلَيْكَ بِمَا عَزَبَ عَنْكَ مِنْ عَقْلِكَ إِيَّاكَ وَ مُسَامَاةَ اللَّهِ فِي عَظَمَتِهِ وَ التَّشَبُّهَ بِهِ فِي جَبَرُوتِهِ فَإِنَّ اللَّهَ يُذِلُّ كُلَّ جَبَّارٍ وَ يُهِينُ كُلَّ مُخْتَالٍ (18/23)
أشعر قلبك الرحمة أي اجعلها كالشعار له و هو الثوب الملاصق للجسد قال لأن الرعية إما أخوك في الدين أو إنسان مثلك تقتضي رقة الجنسية و طبع البشرية الرحمة له. قوله و يؤتى على أيديهم مثل قولك و يؤخذ على أيديهم أي يهذبون و يثقفون يقال خذ على يد هذا السفيه و قد حجر الحاكم على فلان و أخذ على يده. ثم قال فنسبتهم إليك كنسبتك إلى الله تعالى و كما تحب أن يصفح الله عنك ينبغي أن تصفح أنت عنهم. قوله لا تنصبن نفسك لحرب الله أي لا تبارزه بالمعاصي فإنه لا يدي لك بنقمته اللام مقحمة و المراد الإضافة و نحوه قولهم لا أبا لك. قوله و لا تقولن إني مؤمر أي لا تقل إني أمير و وال آمر بالشي ء فأطاع. شرح نهج البلاغة ج : 17 ص : 34و الإدغال الإفساد و منهكة للدين ضعف و سقم. ثم أمره عند حدوث الأبهة و العظمة عنده لأجل الرئاسة و الإمرة أن يذكر عظمة الله تعالى و قدرته على إعدامه و إيجاده و إما و إحيائه فإن تذكر ذلك يطامن من غلوائه أي يغض من تعظمه و تكبره و يطأطئ منه. و الغرب حد السيف و يستعار للسطوة و السرعة في البطش و الفتك. قوله و يفي ء أي يرجع إليك بما بعد عنك من عقلك و حرف المضارعة مضموم لأنه من أفاء. و مساماة الله تعالى مباراته في السمو وهو العلو (18/24)
أَنْصِفِ اللَّهَ وَ أَنْصِفِ النَّاسَ مِنْ نَفْسِكَ وَ مِنْ خَاصَّةً أَهْلِكَ وَ مَنْ لَكَ هَوًى فِيهِ مِنْ رَعِيَّتِكَ فَإِنَّكَ إِلَّا تَفْعَلْ تَظْلِمْ وَ مَنْ ظَلَمَ عِبَادَ اللَّهِ كَانَ اللَّهُ خَصْمَهُ دُونَ عِبَادِهِ وَ مَنْ خَاصَمَهُ اللَّهُ أَدْحَضَ حُجَّتَهُ وَ كَانَ لِلَّهِ حَرْباً حَتَّى يَنْزِعَ أَوْ يَتُوبَ وَ لَيْسَ شَيْ ءٌ أَدْعَى إِلَى تَغْيِيرِ نِعْمَةِ اللَّهِ وَ تَعْجِيلِ نِقْمَتِهِ مِنْ إِقَامَةٍ عَلَى ظُلْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ يَسْمَعُ دَعْوَةَ الْمُضْطَهَدِينَ وَ هُوَ لِلظَّالِمِينَ بِلْمِرْصَادِ وَ لْيَكُنْ أَحَبَّ الْأُمُورِ إِلَيْكَ أَوْسَطُهَا فِي الْحَقِّ وَ أَعَمُّهَا فِي الْعَدْلِ وَ أَجْمَعُهَا لِرِضَا الرَّعِيَّةِ فَإِنَّ سُخْطَ الْعَامَّةِ يُجْحِفُ بِرِضَا الْخَاصَّةِ وَ إِنَّ سُخْطَ الْخَاصَّةِ يُغْتَفَرُ مَعَ رِضَا الْعَامَّةِ شرح نهج البلاغة ج : 17 ص : 35وَ لَيْسَ أَحَدٌ مِنَ الرَّعِيَّةِ أَثْقَلَ عَلَى الْوَالِي مَئُونَةً فِي الرَّخَاءِ وَ أَقَلَّ مَعُونَةً لَهُ فِي الْبَلَاءِ وَ أَكْرَهَ لِلْإِنْصَافِ وَ أَسْأَلَ بِالْإِلْحَافِ وَ أَقَلَّ شُكْراً عِنْدَ الْإِعْطَاءِ وَ أْطَأَ عُذْراً عِنْدَ الْمَنْعِ وَ أَضْعَفَ صَبْراً عِنْدَ مُلِمَّاتِ الدَّهْرِ مِنْ أَهْلِ الْخَاصَّةِ وَ إِنَّمَا عَمُودُ الدِّينِ وَ جِمَاعُ الْمُسْلِمِينَ وَ الْعُدَّةُ لِلْأَعْدَاءِ الْعَامَّةُ مِنَ الْأُمَّةِ فَلْيَكُنْ صِغْوُكَ لَهُمْ وَ مَيْلُكَ مَعَهُمْ (18/25)
قال له أنصف الله أي قم له بما فرض عليك من العبادة و الواجبات العقلية و السمعية. ثم قال و أنصف الناس من نفسك و من ولدك و خاصة أهلك و من تحبه و تميل إليه من رعيتك فمتى لم تفعل ذلك كنت ظالما. ثم نهاه عن الظلم و أكد الوصاية عليه في ذلك. ثم عرفه أن قانون الإمارة الاجتهاد في رضا العامة فإنه لا مبالاة بسخط خاصة الأمير مع رضا العامة فأما إذا سخطت العامة لم ينفعه رضا الخاصة و ذلك مثل أن يكون في البلد عشرة أو عشرون من أغنيائه و ذوي الثروة من أهله يلازمون الوالي و يخدمونه و يسامرونه و قد صار كالصديق لهم فإن هؤلاء و من ضارعهم من حواشي الوالي و أرباب الشفاعات و القربات عنده لا يغنون عنه شيئا عند تنكر العامة له و كذاك لا يضر سخط هؤلاء إذا رضيت العامة و ذلك لأن هؤلاء عنهم غنى و لهم بدل و العامة لا غنى عنهم و لا بدل منهم و لأنهم إذا شغبوا عليه كانوا كالبحر إذا هاج و اضطرب فلا يقاومه أحد و ليس الخاصة كذلك. شرح نهج البلاغة ج : 17 ص : 36ثم قال ع و نعم ما قال ليس شي ء أقل نفعا و لا أكثر ضررا على الوالي من خواصه أيام الولاية لأنهم يثقلون عليه بالحاجات و المسائل و الشفاعات فإذا عزل هجروه و رفضوه حتى لو لقوه في الطريق لم يسلموا ه. و الصغو بالكسر و الفتح و الصغا مقصور الميل (18/26)
وَ لْيَكُنْ أَبْعَدَ رَعِيَّتِكَ مِنْكَ وَ أَشْنَأَهُمْ عِنْدَكَ أَطْلَبُهُمْ لِمَعَايِبِ النَّاسِ فَإِنَّ فِي النَّاسِ عُيُوباً الْوَالِي أَحَقُّ مَنْ سَتَرَهَا فَلَا تَكْشِفَنَّ عَمَّا غَابَ عَنْكَ مِنْهَا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ تَطْهِيرُ مَا ظَهَرَ لَكَ وَ اللَّهُ يَحْكُمُ عَلَى مَا غَابَ عَنْكَ فَاسْتُرِ الْعَوْرَةَ مَا اسْتَطَعْتَ يَسْتُرِ اللَّهُ مِنْكَ مَا تُحِبُّ سَتْرَهُ مِنْ رَعِيَّتِكَ أَطْلِقْ عَنِ النَّاسِ عُقْدَةَ كُلِّ حِقْدٍ وَ اقْطَعْ عَنْكَ سَبَبَ كُلِّ وِتْرٍ وَ تَغَابَ عَنْ كُلِّ مَا لَا يَضِحُ لَكَ وَ لَا تَعْجَلَنَّ إِلَى تَصْدِيقِ سَاعٍ فَإِنَّ السَّاعِيَ غَاشٌّ وَ إِنْ تَشَبَّهَ بِالنَّاصِحِينَ وَ لَا تُدْخِلَنَّ فِي مَشُورَتِكَ بَخِيلًا يَعْدِلُ بِكَ عَنِ الْفَضْلِ وَ يَعِدُكَ الْفَقْرَ وَ لَا جَبَاناً يُضْعِفُكَ عَنِ الْأُمُورِ وَ لَا حَرِيصاً يُزَيِّنُ لَكَ الشَّرَهَ بِالْجَوْرِ فَإِنَّ الْبُخْلَ وَ الْجُبْنَ وَ الْحِرْصَ غَرَائِزُ شَتَّى يَجْمَعُهَا سُوءُ الظَّنِّ بِاللَّهِ (18/27)
شرح نهج البلاغة ج : 17 ص : 37أشناهم عندك أبغضهم إليك. و تغاب تغافل يقال تغابى فلان عن كذا. و يضح يظهر و الماضي وضحفصل في النهي عن ذكر عيوب الناس و ما ورد في ذلك من الآثار
عاب رجل رجلا عند بعض الأشراف فقال له لقد استدللت على كثرة عيوبك بما تكثر فيه من عيوب الناس لأن طالب العيوب إنما يطلبها بقدر ما فيه منها. و قال الشاعر
و أجرأ من رأيت بظهر غيب على عيب الرجال أولو العيوب
و قال آخر
يا من يعيب و عيبه متشعب كم فيك من عيب و أنت تعيب
و في الخبر المرفوع دعوا الناس بغفلاتهم يعيش بعضهم مع بعض
و قال الوليد بن عتبة بن أبي سفيان كنت أساير أبي و رجل معنا يقع في رجل فالتفت أبي إلي فقال يا بني نزه سمعك عن استماع الخنى كما تنزه لسانك عن الكلام به فإن المستمع شريك القائل إنما نظر إلى أخبث ما في وعائه فأفرغه في وعائك و لو ردت كلمة جاهل في فيه لسعد رادها كما شقي قائلها. و (18/28)
قال ابن عباس الحدث حدثان حدث من فيك و حدث من فرجك
شرح نهج البلاغة ج : 17 ص : 38و عاب رجل رجلا عند قتيبة بن مسلم فقال له قتيبة أمسك ويحك فقد تلمظت بمضغه طالما لفظها الكرام. و مر رجل بجارين له و معه ريبة فقال أحدهما لصاحبه أ فهمت ما معه من الريبة قال و ما معه قال كذا قال عبدي حر لوجه الله شكرا له تعالى إلم يعرفني من الشر ما عرفك. و قال الفضيل بن عياض إن الفاحشة لتشيع في كثير من المسلمين حتى إذا صارت إلى الصالحين كانوا لها خزانا. و قيل لبزرجمهر هل من أحد لا عيب فيه فقال الذي لا عيب فيه لا يموت. و قال الشاعر
و لست بذي نيرب في الرجا ل مناع خير و سبابهاو لا من إذا كان في جانب أضاع العشيرة و اغتابهاو لكن أطاوع ساداتها و لا أتعلم ألقابها
و قال آخر
لا تلتمس من مساوي الناس ما ستروا فيكشف الله سترا من مساويكاو اذكر محاسن ما فيهم إذا ذكروا و لا تعب أحدا منهم بما فيكا
و قال آخر
ابدأ بنفسك فإنهما عن عيبها فإذا انتهت عنه فأنت حكيم فهناك تعذر إن وعظت و يقتدى بالقول منك و يقبل التعليم شرح نهج البلاغة ج : 17 ص : 39فأما قوله ع أطلق عن الناس عقدة كل حقد فقد استوفى هذا المعنى زياد في خطبته البتراء فقال و قد كانت بيني و بين أقوام إحن و قد جعلت ذلك دبر أذني و تحت قدمي فمن كان منكم محسنا فليزدد إحسانا و من كان منكم مسيئا فلينزع عن إساءته إنلو علمت أن أحدكم قد قتله السلال من بغضي لم أكشف عنه قناعا و لم أهتك له سترا حتى يبدي لي صفحته فإذا فعل لم أناظره ألا فليشمل كل امرئ منكم على ما في صدره و لا يكونن لسانه شفرة تجري على ودجه (18/29)
فصل في النهي عن سماع السعاية و ما ورد ذلك من الآثار
فأما قوله ع و لا تعجلن إلى تصديق ساع فقد ورد في هذا المعنى كلام حسن قال ذو الرئاستين قبول السعاية شر من السعاية لأن السعاية دلالة و القبول إجازة و ليس من دل على شي ء كمن قبله و أجازه فامقت الساعي على سعايته فإنه لو كان صادقا كان لئيما إذ هتك العورة و أضاعالحرمة. و عاتب مصعب بن الزبير الأحنف على أمر بلغه عنه فأنكره فقال مصعب أخبرني به الثقة قال كلا أيها الأمير إن الثقة لا يبلغ. و كان يقال لو لم يكن من عيب الساعي إلا أنه أصدق ما يكون أضر ما يكون على الناس لكان كافيا. كانت الأكاسرة لا تأذن لأحد أن يطبخ السكباج و كان ذلك مما يختص به الملك فرفع ساع إلى أنوشروان إن فلانا دعانا و نحن جماعة إلى طعام له و فيه شرح نهج البلاغة ج : 17 ص : 40سكباج فوقع أنوشروان على رقعته قد حمدنا نصيحتك و ذممنا صديقك على سوء اختياره للإخوان. جاء رجل إلى الوليد بن عبد الملك و هو خليفة عبد الملك على دمشق فقال أيها الأمير إن عندي نصيحة قال اذكرها قال جار لي رجع من بعثه سرا فقال أمانت فقد أخبرتنا أنك جار سوء فإن شئت أرسلنا معك فإن كنت كاذبا عاقبناك و إن كنت صادقا مقتناك و إن تركتنا تركناك قال بل أتركك أيها الأمير قال فانصرف. و مثل هذا يحكى عن عبد الملك أن إنسانا سأله الخلوة فقال لجلسائه إذا شئتم فانصرفوا فلما تهيأ الرجل للكلام قال له اسمع ما أقول إياك أن تمدحني فأنا أعرف بنفسي منك أو تكذبني فإنه لا رأي لمكذوب أو تسعى بأحد إلي فإني لا أحب السعاية قال أ فيأذن أمير المؤمنين بالانصراف قال إذا شئت. و قال بعض الشعراء (18/30)
لعمرك ما سب الأمير عدوه و لكنما سب الأمير المبلغ
و قال آخر
حرمت منائي منك إن كان ذا الذي أتاك به الواشون عني كما قالواو لكنهم لما رأوك شريعة إلي تواصوا بالنميمة و احتالوافقد صرت أذنا للوشاة سميعة ينالون من عرضي و لو شئت ما نالوا
و قال عبد الملك بن صالح لجعفر بن يحيى و قد خرج يودعه لما شخص إلى خراسان أيها الأمير أحب أن تكون لي كما قال الشاعر شرح نهج البلاغة ج : 17 ص : 4فكوني على الواشين لداء شغبة كما أنا للواشي ألد شغوب (18/31)
قال بل أكون كما قال القائل
و إذا الواشي وشى يوما بها نفع الواشي بما جاء يضر
و قال العباس بن الأحنف
ما حطك الواشون من رتبة عندي و لا ضرك مغتاب كأنهم أثنوا و لم يعلموا عليك عندي بالذي عابواقوله ع و لا تدخلن في مشورتك بخيلا يعدل بك عن الفضل و يعدك الفقر مأخوذ من قول الله تعالى الشَّيْطانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَ يَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشاءِ وَ اللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَ فَضْلًا قال المفسرون الفحشاء هاهنا البخل و معنى يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ يخيل إليكم أنكم إن سمحتم بأموالكم افتقرتم فيخوفكم فتخافون فتبخلون. قوله ع فإن البخل و الجبن و الحرص غرائز شتى يجمعها سوء الظن بالله كلام شريف عال على كلام الحكماء يقول إن بينها قدرا مشتركا و إن كانت غرائز و طبائع مختلفة و ذلك القدر المشترك هو سوء الظن بالله لأن الجبان يقول في نفسه إن أقدمت قتلت و البخيل يقول إن سمحت و أنفقت افتقرت و الحريص يقول إن لم أجد و أجتهد و أدأب فاتني ما أروم و كل هذه الأمور ترجع إلى سوء الظن بالله و لو أحسن الظن الإنسان بالله و كان يقينه صادقا لعلم أن الأجل مقدر و أن الرزق مقدر و أن الغنى و الفقر مقدران و أنه لا يكون من ذلك إلا ما قضى الله تعالى كونه شرح نهج البلاغة ج : 17 ص : 4شَرُّ وُزَرَائِكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكَ لِلْأَشْرَارِ وَزِيراً وَ مَنْ شَرِكَهُمْ فِي الآْثَامِ فَلَا يَكُونَنَّ لَكَ بِطَانَةً فَإِنَّهُمْ أَعْوَانُ الْأَثَمَةِ وَ إِخْوَانُ الظَّلَمَةِ وَ أَنْتَ وَاجِدٌ مِنْهُمْ خَيْرَ الْخَلَفِ مِمَّنْ لَهُ مِثْلُ آرَائِهِمْ وَ نَفَاذِهِمْ وَ لَيْسَ عَلَيْهِ مِثْلُ آصَارِهِمْ وَ أَوْزَارِهِمْ وَ آثَامِهِمْ
مِمَّنْ لَمْ يُعَاوِنْ ظَالِماً عَلَى ظُلْمِهِ وَ لَا آثِماً عَلَى إِثْمِهِ أُولَئِكَ أَخَفُّ عَلَيْكَ مَئُونَةً وَ أَحْسَنُ لَكَ مَعُونَةً وَ أَحْنَى عَلَيْكَ عَطْفاً وَ أَقَلُّ لِغَيْرِكَ إِلْفاً فَاتَّخِذْ أُولَئِكَ خَاصَّةً لِخَلَوَاتِكَ وَ حَفَلَاتِكَ ثُمَّ لْيَكُنْ آثَرُهُمْ عِنْدَكَ أَقْوَلَهُمْ بِمُرِّ الْحَقِّ لَكَ وَ أَقَلَّهُمْ مُسَاعَدَةً فِيمَا يَكُونُ مِنْكَ مِمَّا كَرِهَ اللَّهُ لِأَوْلِيَائِهِ وَاقِعاً ذَلِكَ مِنْ هَوَاكَ حَيْثُ وَقَعَ (18/32)
نهاه ع ألا يتخذ بطانة قد كانوا من قبل بطانة للظلمة و ذلك لأن الظلم و تحسينه قد صار ملكة ثابتة في أنفسهم فبعيد أن يمكنهم الخلو منها إذ قد صارت كالخلق الغريزي اللازم لتكرارها و صيرورتها عادة فقد جاءت النصوص في الكتاب و السنة بتحريم معاونة الظلمة و مساعدتهم و تحريم الاستعانة بهم فإن من استعان بهم كان معينا لهم قال تعالى وَ ما كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُداً و قال لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ يُوادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَ رَسُولَهُ و
جاء في الخبر المرفوع ينادى يوم القيامة أين من بري لهم أي الظالمين قلما
شرح نهج البلاغة ج : 17 ص : 43أتي الوليد بن عبد الملك برجل من الخوارج فقال له ما تقول في الحجاج قال و ما عسيت أن أقول فيه هل هو إلا خطيئة من خطاياك و شرر من نارك فلعنك الله و لعن الحجاج معك و أقبل يشتمهما فالتفت الوليد إلى عمر بن عبد العزيز فقال ما تقول هذا قال ما أقول فيه هذا رجل يشتمكم فإما أن تشتموه كما شتمكم و إما أن تعفوا عنه فغضب الوليد و قال لعمر ما أظنك إلا خارجيا فقال عمر و ما أظنك إلا مجنونا و قام فخرج مغضبا و لحقه خالد بن الريان صاحب شرطة الوليد فقال له ما دعاك إلى ما كلمت به أمير المؤمنين لقد ضربت بيدي إلى قائم سيفي أنتظر متى يأمرني بضرب عنقك قال أ و كنت فاعلا لو أمرك قال نعم فلما استخلف عمر جاء خالد بن الريان فوقف على رأسه متقلدا سيفه فنظر إليه و قال يا خالد ضع سيفك فإنك مطيعنا في كل أمر نأمرك به و كان بين يديه كاتب للوليد فقال له ضع أنت قلمك فإنك كنت تضر به و تنفع اللهم إني قد وضعتهما فلا ترفعهما قال فو الله ما زالا وضيعين مهينين حتى ماتا. و روى الغزالي في كتاب إحياء علوم الدين قال لما خالط الزهري السلطان كتب أخ له في الدين إليه عافانا الله و إياك أبا بكر من الفتن فقد أصبحت بحال ينبغي لمن عرفك أن يدعو الله لك و يرحمك فقد أصبحت شيخا كبيرا و قد أثقلتك نعم الله عليك بما فهمك من كتابه و علمك من سنة نبيه و ليس كذلك أخذ الله الميثاق على العلماء فإنه تعالى قال لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَ لا تَكْتُمُونَهُ و اعلم أن أيسر ما ارتكبت و أخف ما احتملت أنك آنست وحشة الظالم و سهلت سبيل الغي بدنوك إلى من لم يؤد حقا و لم يترك باطلا حين أدناك اتخذوك أبا بكر قطبا تدور شرح نهج البلاغة ج : 17 ص : 44عليه رحى ظلمهم و جسرا يعبرون عليه إلى بلائهم و معاصيهم و سلما يصعدون فيه إلى ضلالتهم يدخلون بك الشك على العلماء و يادون بك قلوب الجهلاء فما أيسر ما عمروا لك في جنب ما خربوا عليك و ما (18/33)
أكثر ما أخذوا منك في جنب ما أفسدوا من حالك و دينك و ما يؤمنك أن تكون ممن قال الله تعالى فيهم فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضاعُوا الصَّلاةَ وَ اتَّبَعُوا الشَّهَواتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا يا أبا بكر إنك تعامل من لا يجهل و يحفظ عليك من لا يغفل فداو دينك فقد دخله سقم و هيئ زادك فقد حضر سفر بعيد و ما يخفى على الله من شي ء في الأرض و لا في السماء و السلام وَ الْصَقْ بِأَهْلِ الْوَرَعِ وَ الصِّدْقِ ثُمَّ رُضْهُمْ عَلَى أَلَّا يُطْرُوكَ وَ لَا يَبْجَحُوكَ بِبَاطِلٍ لَمْ تَفْعَلْهُ فَإِنَّ كَثْرَةَ الْإِطْرَاءِ تُحْدِثُ الزَّهْوَ وَ تُدْنِي مِنَ الْعِزَّةِ وَ لَا يَكُونَنَّ الْمُحْسِنُ وَ الْمُسِي ءُ عِنْدَكَبِمَنْزِلَةٍ سَوَاءٍ فَإِنَّ فِي ذَلِكَ تَزْهِيداً لِأَهْلِ الْإِحْسَانِ فِي الْإِحْسَانِ وَ تَدْرِيباً لِأَهْلِ الْإِسَاءَةِ وَ أَلْزِمْ كُلًّا مِنْهُمْ مَا أَلْزَمَ نَفْسَهُ (18/34)
شرح نهج البلاغة ج : 17 ص : 45قوله و الصق بأهل الورع كلمة فصيحة يقول اجعلهم خاصتك و خلصاءك. قال ثم رضهم على ألا يطروك أي عودهم ألا يمدحوك في وجهك و لا يبجحوك بباطل لا يجعلوك ممن يبجح أي يفخر بباطل لم يفعله كما يبجح أصحاب الأمراء الأمراء بأن يقولوا لهم ماأينا أعدل منكم و لا أسمح و لا حمى هذا الثغر أمير أشد بأسا منكم و نحو ذلك و قد جاء
في الخبر احثوا في وجوه المداحين التراب
و قال عبد الملك لمن قام يساره ما تريد أ تريد أن تمدحني و تصفني أنا أعلم بنفسي منك. و قام خالد بن عبد الله القسري إلى عمر بن عبد العزيز يوم بيعته فقال يا أمير المؤمنين من كانت الخلافة زائنته فقد زينتها و من كانت شرفته فقد شرفتها فإنك لكما قال القائل
و إذا الدر زان حسن وجوه كان للدر حسن وجهك زينا
فقال عمر بن عبد العزيز لقد أعطي صاحبكم هذا مقولا و حرم معقولا و أمره أن يجلس. و لما عقد معاوية البيعة لابنه يزيد قام الناس يخطبون فقال معاوية لعمرو بن سعيد الأشدق قم فاخطب يا أبا أمية فقام فقال أما بعد فإن يزيد ابن أمير المؤمنين أمل تأملونه و أجل تأمنونه إن افتقرتم إلى حلمه وسعكم و إن احتجتم إلى رأيه أرشدكم و إن اجتديتم ذات يده أغناكم و شملكم جذع قارح سوبق فسبق و موجد فمجد شرح نهج البلاغة ج : 17 ص : 46و قورع فقرع و هو خلف أمير المؤمنين و لا خلف منه فقال معاوية أوسعت يا أبا أمية فاجلس فإنما أردنا بعض هذا.و أثنى رجل على علي ع في وجهه ثناء أوسع فيه و كان عنده متهما فقال له أنا دون ما تقول و فوق ما في نفسك (18/35)
و قال ابن عباس لعتبة بن أبي سفيان و قد أثنى عليه فأكثر رويدا فقد أمهيت يا أبا الوليد يعني بالغت يقال أمهى حافر البئر إذا استقصى حفرها. فأما قوله ع و لا يكونن المحسن و المسي ء عندك بمنزلة سواء فقد أخذه الصابي فقال و إذا لم يكن للمحسن ما يرفعه و للمسي ء ماضعه زهد المحسن في الإحسان و استمر المسي ء على الطغيان و قال أبو الطيب شر البلاد بلاد لا صديق بها و شر ما يكسب الإنسان ما يصم و شر ما قبضته راحتي قنص شهب البزاة سواء فيه و الرخمو كان يقال قضاء حق المحسن أدب للمسي ء و عقوبة المسي ء جزاء للمحسنوَ اعْلَمْ أَنَّهُ لَيْسَ شَيْ ءٌ بِأَدْعَى إِلَى حُسْنِ ظَنِّ وَالٍ بِرَعِيَّتِهِ مِنْ إِحْسَانِهِ إِلَيْهِمْ وَ تَخْفِيفِهِ الْمَئُونَاتِ عَلَيْهِمْ وَ تَرْكِ اسْتِكْرَاهِهِ إِيَّاهُمْ عَلَى مَا لَيْسَ لَهُ قِبَلَهُمْ فَلْيَكُنْ مِنْكَ فِي ذَلِكَ أَمْرٌيَجْتَمِعُ لَكَ بِهِ حُسْنُ الظَّنِّ بِرَعِيَّتِكَ فَإِنَّ حُسْنَ الظَّنِّ يَقْطَعُ عَنْكَ نَصَباً طَوِيلًا وَ إِنَّ أَحَقَّ مَنْ حَسُنَ ظَنُّكَ بِهِ لَمَنْ حَسُنَ بَلَاؤُكَ عِنْدَهُ وَ إِنَّ أَحَقَّ مَنْ سَاءَ ظَنُّكَ بِهِ لَمَنْ سَاءَ بَلَاؤُكَ عِنْدَهُ شرح نهج البلاغة ج : 17 ص : 47وَ لَا تَنْقُضْ سُنَّةً صَالِحَةً عَمِلَ بِهَا صُدُورُ هَذِهِ الْأُمَّةِ وَ اجْتَمَعَتْ بِهَا الْأُلْفَةُ وَ صَلَحَتْ عَلَيْهَا الرَّعِيَّةُ وَ لَا تُحْدِثَنَّ سُنَّةً تَضُرُّ بِشَيْ ءٍ مِنْ مَاضِي تِلْكَ السُّنَنِ فَيَكُونَْأَجْرُ لِمَنْ سَنَّهَا وَ الْوِزْرُ عَلَيْكَ بِمَا نَقَضْتَ مِنْهَا وَ أَكْثِرْ مُدَارَسَةَ الْعُلَمَاءِ وَ مُنَاقَشَةَ الْحُكَمَاءِ فِي تَثْبِيتِ مَا صَلَحَ عَلَيْهِ أَمْرُ بِلَادِكَ وَ إِقَامَةِ مَا اسْتَقَامَ بِهِ النَّاسُ قَبْلَكَ (18/36)
خلاصة صدر هذا الفصل أن من أحسن إليك حسن ظنه فيك و من أساء إليك استوحش منك و ذلك لأنك إذا أحسنت إلى إنسان و تكرر منك ذلك الإحسان تبع ذلك اعتقادك أنه قد أحبك ثم يتبع ذلك الاعتقاد أمر آخر و هو أنك تحبه لأن الإنسان مجبول على أن يحب من يحبه و إذا أحببته سكنت إليه و حسن ظنك فيه و بالعكس من ذلك إذا أسأت إلى زيد لأنك إذا أسأت إليه و تكررت الإساءة تبع ذلك اعتقادك أنه قد أبغضك ثم يتبع ذلك الاعتقاد أمر آخر و هو أن تبغضه أنت و إذا أبغضته انقبضت منه و استوحشت و ساء ظنك به. قال المنصور للربيع سلني لنفسك قال يا أمير المؤمنين ملأت يدي فلم يبق عندي موضع للمسألة قال فسلني لولدك قال أسألك أن تحبه فقال المنصور يا ربيع إن الحب لا يسأل و إنما هو أمر تقتضيه الأسباب قال يا أمير المؤمنين و إنما أسألك أن تزيد من إحسانك فإذا تكرر أحبك و إذا أحبك أحببته فاستحسن شرح نهج البلاغة ج : 17 : 48المنصور ذلك ثم نهاه عن نقض السنن الصالحة التي قد عمل بها من قبله من صالحي الأمة فيكون الوزر عليه بما نقض و الأجر لأولئك بما أسسوا ثم أمره بمطارحة العلماء و الحكماء في مصالح عمله فإن المشورة بركة و من استشار فقد أضاف عقلا إلى عقله. و مما جاء في معنى الأول قال رجل لإياس بن معاوية من أحب الناس إليك قال الذين يعطوني قال ثم من قال الذين أعطيهم. و قال رجل لهشام بن عبد الملك إن الله جعل العطاء محبة و المنع مبغضة فأعني على حبك و لا تعني في بغضك (18/37)