الكتاب : شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد |
و في بعض كتب النبوات القديمة إذا أحب الله عبدا نصب في قلبه نائحة و إذا أبغض عبدا جعل في قلبه مزمارا. و روي أن رسول الله ص كان متواصل الأحزان دائم الفكر. و قيل إن القلب إذا لم يكن فيه حزن خرب كما أن الدار إذا لم يكن فيها ساكن خربت. و سمعت رابعة رجلا يقول وا حزناه فقالت قل وا قلة حزناه لو كنت محزونا ما تهيأ لك أن تتنفس. و قال سفيان بن عيينة لو أن محزونا بكى في أمة لرحم الله تلك الأمة ببكائه. و كان بعض هؤلاء القوم إذا سافر واحد من أصحابه يقول إذا رأيت محزونا فأقرئه عني السلام. و كان الحسن البصري لا يراه أحد إلا ظن أنه حديث عهد بمصيبة. و قال وكيع يوم مات الفضيل ذهب الحزن اليوم من الأرض. و قال بعض السلف أكثر ما يجده المؤمن في صحيفته من الحسنات الحزن و الهم. شرح نهج البلاغة ج : 11 ص : 194و قال الفضيل أدركت السلف يقولون إن لله في كل شي ء زكاة و زكاة العقل طول ال. و منها الجوع و ترك الشهوات و قد تقدم ذكر ذلك. و منها الخشوع و التواضع قال سبحانه الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خاشِعُونَ و (12/161)
في الخبر النبوي عنه ص لا يدخل الجنة من في قلبه مثقال ذرة من كبر و لا يدخل النار من في قلبه مثقال ذرة من إيمان فقال رجل يا رسول الله إن المرء ليحب أن يكون ثوبه حسنا فقال إن الله جميل يحب الجمال إنما المتكبر من بطر الحق و غمص الناس
و روى أنس بن مالك أن رسول الله ص كان يعود المريض و يشيع الجنائز و يركب الحمار و يجيب دعوة العبد
و كان يوم قريظة و النضير على حمار مخطوم بحبل من ليف عليه إكاف من ليف. و دخل مكة يوم فتحها راكب بعير برحل خلق و إن ذقنه لتمس وسط الرحل خضوعا لله تعالى و خشوعا و جيشه يومئذ عشرة آلاف. قالوا في حد الخشوع هو الانقياد للحق و في التواضع هو الاستسلام و ترك الاعتراض على الحكم. و قال بعضهم الخشوع قيام القلب بين يدي الحق بهم مجموع. و قال حذيفة بن اليمان أول ما تفقدون من دينكم الخشوع. شرح نهج البلاغة ج : 11 ص : 195و كان يقال من علامات الخشوع أن العبد إذا أغضب أو خولف أو رد عليه استقبل ذلك بالقبول. و قال محمد بن علي ترمذي الخاشع من خمدت نيران شهوته و سكن دخان صدره و أشرق نور التعظيم في قلبه فماتت حواسه و حيي قلبه و تطامنت جوارحه. و قال الحسن الخشوع هو الخوف الدائم اللازم للقلب. و قال الجنيد الخشوع تذلل القلوب لعلام الغيوب قال الله تعالى وَ عِبادُ الرَّحْمنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً أي خاشعون متواضعون. و رأي بعضهم رجلا منقبض الظاهر منكسر الشاهد قد زوي منكبيه فقال يا فلان الخشوع هاهنا و أشار إلى صدره لا هاهنا و أشار إلى منكبيه. و (12/162)
روي أن رسول الله ص رأى رجلا يعبث بلحيته في صلاته فقال لو خشع قلب هذا لخشعت جوارحه
و قيل شرط الخشوع في الصلاة ألا يعرف من على يمينه و لا من على شماله. و قال بعض الصوفية الخشوع قشعريرة ترد على القلب بغتة عند مفاجأة كشف الحقيقة. و كان يقال من لم يتضع عند نفسه لم يرتفع عند غيره. و قيل إن عمر بن عبد العزيز لم يكن يسجد إلا على التراب. و كان عمر بن الخطاب يسرع في المشي و يقول هو أنجح للحاجة و أبعد من الزهو. كان رجاء بن حيوة ليلة عند عمر بن عبد العزيز و هو خليفة فصعف المصباح فقام رجل ليصلحه فقال اجلس فليس من الكرم أن يستخدم المرء ضيفه فقال شرح نهج البلاغة ج : 11 ص : 196أنبه الغلام قال إنها أولومه نامها ثم قام بنفسه فأصلح السراج فقال رجاء أ تقوم إلى السراج و أنت أمير المؤمنين قال قمت و أنا عمر بن عبد العزيز و رجعت و أنا عمر بن عبد العزيز. و (12/163)
في حديث أبي سعيد الخدري أن رسول الله ص كان يعلف البعير و يقم البيت و يخصف النعل و يرقع الثوب و يحلب الشاة و يأكل مع الخادم و يطحن معها إذا أعيت و كان لا يمنعه الحياء أن يحمل بضاعته من السوق إلى منزل أهله و كان يصافح الغني و الفقير و يسلم مبتدئا و لا يحقر ما دعي إليه و لو إلى حشف التمر و كان هين المئونة لين الخلق كريم السجية جميل المعاشرة طلق الوجه بساما من غير ضحك محزونا من غير عبوس متواضعا من غير ذلة جوادا من غير سرف رقيق القلب رحيما لكل مسلم ما تجشأ قط من شبع و لا مد يده إلى طبع
و قال الفضيل أوحى الله إلى الجبال أني مكلم على واحد منكم نبيا فتطاولت الجبال و تواضع طور سيناء فكلم الله عليه موسى لتواضعه. سئل الجنيد عن التواضع فقال خفض الجناح و لين الجانب. ابن المبارك التكبر على الأغنياء و التواضع للفقراء من التواضع. و قيل لأبي يزيد متى يكون الرجل متواضعا قال إذا لم ير لنفسه مقاما و لا حالا و لا يرى أن في الخلق من هو شر منه. و كان يقال التواضع نعمة لا يحسد عليها و التكبر محنة لا يرحم منها و العز في التواضع فمن طلبه في الكبر لم يجده. و كان يقال الشرف في التواضع و العز في التقوى و الحرية في القناعة. يحيى بن معاذ التواضع حسن في كل أحد لكنه في الأغنياء أحسن و التكبر سمج في كل أحد و لكنه في الفقراء أسمج. شرح نهج البلاغة ج : 11 ص : 197و ركب زيد بن ثابت فدنا ابن عباس ليأخذ بركابه فقال مه يا ابن عم رسول الله فقال إنا كذا أمرنا أن نفعل بعلمائناقال زيد أرني يدك فأخرجها فقبلها فقال هكذا أمرنا أن نفعل بأهل بيت نبينا. و قال عروة بن الزبير رأيت عمر بن الخطاب عليه رضوان الله تعالى و على عاتقه قربة ماء فقلت يا أمير المؤمنين إنه لا ينبغي لمثلك هذا فقال إنه لما أتتني الوفود سامعة مهادنة دخلت نفسي نخوة فأحببت أن أكسرها و مضى بالقربة إلى حجرة امرأة من الأنصار فأفرغها في إنائها. أبو سليمان الداراني من رأى لنفسه قيمة لم يذق حلاوة الخدمة. يحيى بن معاذ التكبر على من تكبر عليك تواضع. بشر الحافي سلموا على أبناء الدنيا بترك السلام عليهم بلغ عمر بن عبد العزيز أن ابنا له اشترى خاتما بألف درهم فكتب إليه بلغني أنك اشتريت خاتما و فصه بألف درهم فإذا أتاك كتابي فبع الخاتم و أشبع به ألف بطن و اتخذ خاتما من درهمين و اجعل فصه حديدا صينيا و اكتب عليه رحم الله امرأ عرف قدره. قومت ثياب عمر بن عبد العزيز و هو يخطب أيام خلافته باثني عشر درهما و هي قباء و عمامة و قميص و سراويل و رداء و خفان و (12/164)
قلنسوة. و قال إبراهيم بن أدهم ما سررت قط سروري في أيام ثلاثة كنت في سفينة و فيها رجل مضحك كان يلعب لأهل السفينة فيقول كنا نأخذ العلج من بلاد الترك هكذا و يأخذ بشعر رأسي فيهزني فسرني ذلك لأنه لم يكن في تلك السفينة أحقر مني في عينه و كنت عليلا في مسجد فدخل المؤذن و قال اخرج فلم أطق فأخذ شرح نهج البلاغة ج : 11 ص : 198برجلي و جرني إلى خارج المسجد و كنت بالشام و علي فرو فنظرت إليه فلم أميز بين الشعر و بين القمل لكثرته. عرض على بعض الأمراء مملوك بأف من الدراهم فاستكثر الثمن فقال العبد اشترني يا مولاي ففي خصلة تساوي أكثر من هذا الثمن قال ما هي قال لو قدمتني على جميع مماليك و خولتني بكل مالك لم أغلظ في نفسي بل أعلم أني عبدك فاشتراه. (12/165)
تشاجر أبو ذر و بلال فعير أبو ذر بلالا بالسواد فشكاه إلى رسول الله ص فقال يا أبا ذر ما علمت أنه قد بقي في قلبك شي ء من كبر الجاهلية فألقى أبو ذر نفسه و حلف ألا يحمل رأسه حتى يطأ بلال خده بقدمه فما رفع رأسه حتى فعل بلال ذلك مر الحسن بن علي ع بصبيان يلعبون و بين أيديهم كسر خبز يأكلونها فدعوه فنزل و أكل معهم ثم حملهم إلى منزله فأطعمهم و كساهم و قال الفضل لهم لأنهم لم يجدوا غير ما أطعموني و نحن نجد أكثر مما أطعمناهم
و منها مخالفة النفس و ذكر عيوبها و قد تقدم ذكر ذلك. و منها القناعة قال الله تعالى مَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَ هُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَياةً طَيِّبَةً قال كثير من المفسرين هي القناعة. و
في الحديث النبوي و يقال إنه من كلام أمير المؤمنين ع القناعة كنز لا ينفد
شرح نهج البلاغة ج : 11 ص : 199و في الحديث النبوي أيضا كن ورعا تكن أعبد الناس و كن قنوعا تكن أشكر الناس و أحب للناس ما تحب لنفسك تكن مؤمنا و أحسن مجاورة من جاورك تكن مسلما و أقل الضحك فإن كثرة الضحك تميت القلبو كان يقال الفقراء أموات إلا من أحياه الله تعالى بعز القناعة. و قال أبو سليمان الداراني القناعة من الرضا بمنزلة الورع من الزهد هذا أول الرضا و هذا أول الزهد. و قيل القناعة سكون النفس و عدم انزعاجها عند عدم المألوفات. و قيل في تفسير قوله تعالى لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللَّهُ رِزْقاً حَسَناً أنه القناعة. و قال أبو بكر المراغي العاقل من دبر أمر الدنيا بالقناعة و التسويف و أنكر أبو عبد الله بن خفيف فقال القناعة ترك التسويف بالمفقود و الاستغناء بالموجود. و كان يقال خرج العز و الغنى يجولان فلقيا القناعة فاستقرا. و كان يقال من كانت قناعته سمينة طابت له كل مرقة. مر أبو حازم الأعرج بقصاب فقال له خذ يا أبا حازم فقال ليس معي درهم قال أنا أنظرك قال نفسي أحسن نظرة لي منك. و قيل وضع الله تعالى خمسة أشياء في خمسة مواضع العز في الطاعة و الذل في المعصية و الهيبة في قيام الليل و الحكمة في البطن الخالي و الغنى في القناعة. و كان يقال انتقم من فلان بالقناعة كما تنتقم من قاتلك بالقصاص. ذو النون المصري من قنع استراح من أهل زمانه و استطال على أقرانه. و أنشدوا (12/166)
و أحسن بالفتى من يوم عار ينال به الغنى كرم و جوع
شرح نهج البلاغة ج : 11 ص : 200و رأى رجل حكيما يأكل ما تساقط من البقل على رأس الماء فقال له لو خدمت السلطان لم تحتج إلى أكل هذا فقال و أنت لو قنعت بهذا لم تحتج إلى خدمة السلطان. و قيل العقاب عزيز في مطاره لا تسمو إليه مطامع الصيادين فإذا طمع في جيفة علقت ى حباله نزل من مطاره فنشب في الأحبولة. و قيل لما نطق موسى بذكر الطمع فقال لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً قال له الخضر هذا فِراقُ بَيْنِي وَ بَيْنِكَ و فسر بعضهم قوله هَبْ لِي مُلْكاً لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي فقال مقاما في القناعة لا يبلغه أحد. و منها التوكل قال الله تعالى وَ مَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ و قال سهل بن عبد الله أول مقام في التوكل أن يكون العبد بين يدي الله تعالى كالميت بين يدي الغاسل يقلبه كيف يشاء لا يكون له حركة و لا تدبير. و قال رجل لحاتم الأصم من أين تأكل فقال وَ لِلَّهِ خَزائِنُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ لكِنَّ الْمُنافِقِينَ لا يَفْقَهُونَ. و قال أصحاب هذا الشأن التوكل بالقلب و ليس ينافيه الحركة بالجسد بعد أن يتحقق العبد أن التقدير من الله فإن تعسر شي ء فبتقديره و أن تسهل فبتيسيره. شرح نهج البلاج : 11 ص : 201و (12/167)
في الخبر النبوي أنه ع قال للأعرابي الذي ترك ناقته مهملة فندت فلما قيل له قال توكلت فتركتها فقال ع اعقل و توكل
و قال ذو النون التوكل الانخلاع من الحول و القوة و ترك تدبير الأسباب و قال بعضهم التوكل رد العيش إلى يوم واحد بإسقاط هم غد. و قال أبو علي الدقاق التوكل ثلاث درجات التوكل و هو أدناها ثم التسليم ثم التفويض فالأولى للعوام و الثانية للخواص و الثالثة لخواص الخواص. جاء رجل إلى الشبلي يشكو إليه كثرة العيال فقال ارجع إلى بيتك فمن وجدت منهم ليس رزقه على الله فأخرجه من البيت. و قال سهل بن عبد الله من طعن في التوكل فقط طعن في الإيمان و من طعن في الحركة فقد طعن في السنة. و كان يقال المتوكل كالطفل لا يعرف شيئا يأوي إليه إلا ثدي أمه كذلك المتوكل لا يهتدي إلا إلى ربه. و رأى أبو سليمان الداراني رجلا بمكة لا يتناول شيئا إلا شربة من ماء زمزم فمضت عليه أيام فقال له يوما أ رأيت لو غارت أي زمزم أي شي ء كنت تشرب فقام و قبل رأسه و قال جزاك الله خيرا حيث أرشدتني فإني كنت أعبد زمزم نذ أيام ثم تركه و مضى. و قيل التوكل نفي الشكوك و التفويض إلى مالك الملوك. و دخل جماعة على الجنيد فقالوا نطلب الرزق قال إن علمتم في أي موضع هو فاطلبوه قالوا فنسأل الله ذلك قال إن علمتم أنه ينساكم فذكروه قالوا لندخل البيت فنتوكل قال التجربة شك قالوا فما الحيلة قال ترك الحيلة. شرح نهج البلاغة ج : 11 ص : 202و قيل التوكل الثقة بالله و اليأس عما في أيدي الناس. و منها الشكر و قد تقدم منا ذكر كثير مما قيل فيه. و منها اليقين و هو مقام جليل قال الله تعالى وَ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ و قال علي بن أبي طالب ع لو كشف الغطاء ما ازددت يقينا (12/168)
و قال سهل بن عبد الله حرام على قلب أن يشم رائحة اليقين و فيه شكوى إلى غير الله. و
ذكر للنبي ص ما يقال عن عيسى ابن مريم ع أنه مشى على الماء فقال لو ازداد يقينا لمشى على الهواء
و في الخبر المرفوع عنه ص أنه قال لعبد الله بن مسعود لا ترضين أحدا بسخط الله و لا تحمدن أحدا على فضل الله و لا تذمن أحدا على ما لم يؤتك الله و اعلم أن الرزق لا يسوقه حرص حريص و لا يرده كراهة كاره و أن الله جعل الروح و الفرج في الرضا و اليقين و جعل الهم و الحزن في الشك و السخط (12/169)
و منها الصبر قال الله تعالى وَ اصْبِرْ وَ ما صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ و
قال علي ع الصبر من الإيمان بمنزلة الرأس من الجسد
و سئل الفضيل عن الصبر قال تجرع المرارة من غير تعبيس. و قال رويم الصبر ترك الشكوى. شرح نهج البلاغة ج : 11 ص : 203و قال علي ع الصبر مطية لا تكبو
وقف رجل على الشبلي فقال أي صبر أشد على الصابرين قال الشبلي الصبر في الله تعالى فقال لا قال فالصبر لله فقال لا قال فالصبر مع الله تعالى فقال لا قال فأي شي ء قال الصبر عن الله فصرخ الشبلي صرخة عظيمة و وقع. و يقال إن الشبلي حبس في المارستان فدخل عليه قوم فقا من أنتم قالوا محبوك جئناك زائرين فرماهم بالحجارة فهربوا فقال لو كنتم أحباي لصبرتم على بلائي و
جاء في بعض الأخبار عن الله تعالى بعيني ما يتحمل المتحملون من أجلي
و قال عمر بن الخطاب لو كان الصبر و الشكر بعيرين لم أبال أيهما ركبت
و في الحديث المرفوع الإيمان الصبر و السخاء
و في الخبر العلم خليل المؤمن و الحلم وزيره و العقل دليله و العمل قائده و الرفق والده و البر أخوه و الصبر أمير جنوده قالوا فناهيك بشرف خصلة تتأمر على هذه الخصال و المعنى أن الثبات على هذه الخصال و استدامة التخلق بها إنما يكون بالصبر فلذلك كان أمير الجنود
و منها المراقبة جاء في الخبر عن النبي ص أن سائلا سأله عن الإحسان فقال أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك
و هذه إشارة إلى حال المراقبة لأن المراقبة علم العبد باطلاع الرب عليه فاستدامة العبد لهذا العلم مراقبة للحق و هو أصل كل خير و لا يكاد يصل إلى هذه الرتبة إلا بعد فراغه عن المحاسبة فإذا حاسب نفسه على ما سلف و أصلح حاله في الوقت شرح نهج البلاغة ج : 11 ص : 20 لازم طريق الحق و أحسن بينه و بين الله تعالى بمراعاة القلب و حفظ مع الله سبحانه الأنفاس راقبه تعالى في عموم أحواله فيعلم أنه تعالى رقيب عليه يعلم أحواله و يرى أفعاله و يسمع أقواله و من تغافل عن هذه الجملة فهو بمعزل عن بداية الوصلة فكيف عن حقائق القربة. و يحكى أن ملكا كان يتحظى جارية له و كان لوزيره ميل باطن إليها فكان يسعى في مصالحها و يرجح جانبها على جانب غيرها من حظايا الملك و نسائه فاتفق أن عرض عليها الملك حجرين من الياقوت الأحمر أحدهما أنفس من الآخر بمحضر من وزيره فتحيرت أيهما تأخذ فأومأ الوزير بعينه إلى الحجر الأنفس و حانت من الملك التفاته فشاهد عين الوزير و هي مائلة إلى ذلك الجانب فبقي الوزير بعدها أربعين سنة لا يراه الملك قط إلا كاسرا عينه نحو الجانب الذي كان طرفه مائلا إليه ذلك اليوم أي كأن ذلك خلقة و هذا عزم قوي في المراقبة و مثله فليكن حال من يريد الوصول. و يحكى أيضا أن أميرا كان له غلام يقبل عليه أكثر من إقباله على غيره من مماليكه و لم يكن أكثرهم قيمة و لا أحسنهم صورة فقيل له في ذلك فأحب أن يبين لهم فضل الغلام في الخدمة على غيره فكان يوما راكبا و معه حشمه و بالبعد منهم جبل عليه ثلج فنظر الأمير إلى الثلج و أطرق فركض الغلام فرسه و لم يعلم الغلمان لما ذا ركض فلم يلبث إلا قليلا حتى جاء و معه شي ء من الثلج فقال الأمير ما أدراك أني أردت الثلج فقال إنك نظرت إليه و نظر السلطان إلى شي ء لا يكون إلا عن قصد فقال الأمير لغلمانه إنما أختصه بإكرامي و إقبالي لأنكل واحد منكم شغلا و شغله مراعاة لحظاتي و مراقبة أحوالي. (12/170)
شرح نهج البلاغة ج : 11 ص : 205و قال بعضهم من راقب الله في خواطره عصمه الله في جوارحه. و منها الرضا و هو أن يرضى العبد بالشدائد و المصائب التي يقضيها الله تعالى عليه و ليس المراد بالرضا رضا العبد بالاصي و الفواحش أو نسبتها إلى الرب تعالى عنها فإنه سبحانه لا يرضاها كما قال جل جلاله وَ لا يَرْضى لِعِبادِهِ الْكُفْرَ. و قال كُلُّ ذلِكَ كانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهاً. قال رويم الرضا أن لو أدخلك جهنم لما سخطت عليه. و قيل لبعضهم متى يكون العبد راضيا قال إذا سرته المصيبة كما سرته النعمة. قال الشبلي مرة و الجنيد حاضر لا حول و لا قوة إلا بالله فقال الجنيد أرى أن قولك هذا ضيق صدر و ضيق الصدر يجي ء من ترك الرضا بالقضاء. و قال أبو سليمان الدارني الرضا ألا تسأل الله الجنة و لا تستعيذ به من النار. و قال تالى فيمن سخط قسمته وَ مِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقاتِ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْها رَضُوا وَ إِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْها إِذا هُمْ يَسْخَطُونَ. ثم نبه على ما حرموه من فضيلة الرضا فقال وَ لَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا ما آتاهُمُ اللَّهُ وَ رَسُولُهُ وَ قالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَ رَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللَّهِ راغِبُونَ و جواب لو هاهنا محذوف لفهم المخاطب و علمه به. شرح نهج البلاغة ج : 11 ص : 206و في حذفه فائدة لطيفة و هو أن تقديره لرضي الله عنهم و لما كان رضاه عن عباده مقاما جلا جدا حذف ذكره لان الذكر له لا ينبئ عن كنهه و حقيقة فضله فكان الإضراب عن ذكره أبلغ في تعظيم مقامه. و (12/171)
من الأخبار المرفوعة أنه ص قال اللهم إني أسألك الرضا بعد القضاء
قالوا إنما قال بعد القضاء لأن الرضا قبل القضاء لا يتصور و إنما يتصور توطين النفس عليه و إنما يتحقق الرضا بالشي ء بعد وقوع ذلك الشي ء. و في الحديث أنه قال لابن عباس يوصيه اعمل لله باليقين و الرضا فإن لم يكن فاصبر فإن في الصبر على ما تكره خيرا كثيرا (12/172)
و في الحديث أنه ص رأى رجلا من أصحابه و قد أجهده المرض و الحاجة فقال ما الذي بلغ بك ما أرى قال المرض و الحاجة قال أ و لا أعلمك كلاما إن أنت قلته أذهب الله عنك ما بك قال و الذي نفسي بيده ما يسرني بحظي منهما أن شهدت معك بدرا و الحديبية فقال ص و هل لأهل بدر و الحديبية ما للراضي و القانع
و قال أبو الدرداء ذروة الإيمان الصبر و الرضا. قدم سعد بن أبي وقاص مكة بعد ما كف بصره فانثال الناس عليه يسألونه الدعاء لهم فقال له عبد الله بن السائب يا عم إنك تدعو للناس فيستجاب لك هلا دعوت أن يرد عليك بصرك فقال يا ابن أخي قضاء الله تعالى أحب إلي من بصري. عمر بن عبد العزيز أصبحت و ما لي سرور إلا في مواقع القدر. و كان يقال الرضا إطراح الاقتراح على العالم بالصلاح و كان يقال إذا كان القدر حقا كان سخطه حمقا. شرح نهج البلاغة ج : 11 ص : 207و كان يقال من رضي حظي و من اطرح الاقتراح أفلح و استراح. و كان يقال كن باضا عاملا قبل أن تكون له معمولا و سر إليه عادلا و إلا سرت نحوه معدولا. و قيل للحسن من أين أتى الخلق قال من قلة الرضا عن الله فقيل و من أين دخلت عليهم قلة الرضا عن الله قال من قلة المعرفة بالله. و قال صاحب سلوان المطاع في الرضا
يا مفزعي فيما يجي ء و راحمي فيما مضى عندي لما تقضيه ما يرضيك من حسن الرضو من القطيعة أستعيذ مصرحا و معرضا و قال أيضا
كن من مدبرك الحكيم علا و جل على وجل و ارض القضاء فإنه حتم أجل و له أجلو قال أيضا
يا من يرى حالي و أن ليس لي في غير قربي منه أوطارو ليس لي ملتحد دونه و لا عليه لي أنصارحاشا لذاك العز و الفضل أن يهلك من أنت له جارو إن تشأ هلكي فهب لي رضا بكل ما تقضي و تختار (12/173)
شرح نهج البلاغة ج : 11 ص : 208عندي لأحكامك يا مالكي قلب كما أنعمت صباركل عذاب منك مستعذب ما لم يكن سخطك و الناو منها العبودية و هي أمر وراء العبادة معناها التعبد و التذلل قالوا العبادة للعوام من المؤمنين و العبودية للخواص من السالكين. و قال أبو علي الدقاق العبادة لمن له علم اليقين و العبودية لمن له عين اليقين. و سئل محمد بن خفيف متى تصح العبودية فقال إذا طرح كله على مولاه و صبر معه على بلواه. و قال بعضهم العبودية معانقة ما أمرت به و مفارقة ما زجرت عنه. و قيل العبودية أن تسلم إليه كلك و تحمل عليه كلك. و
في الحديث المرفوع تعس عبد الدينار و تعس عبد الخبيصة
رأى أبو يزيد البسطامي رجلا فقال له ما حرفتك قال خربنده قال أمات الله حمارك لتكون عبدا لله لا عبدا للحمار. و كان ببغداد في رباط شيخ الشيوخ صوفي كبير اللحية جدا و كان مغرى و معنى بها أكثر زمانه يدهنها و يسرحها و يجعلها ليلا عند نومه في كيس فقام بعض المريدين إليه في الليل و هو نائم فقصها من الإذن إلى الإذن فأصبحت كالصريم و أصبح الصوفي شاكيا إلى شيخ الرباط فجمع الصوفية و سألهم فقال المريد أنا قصصتها قال و كيف فعلت ويلك ذلك قال أيها الشيخ إنها كانت صنمه و كان يعبدها من دون الله فأنكرت ذلك بقلبي و أردت أن أجعله عبدا لله لا عبدا للحية. شرح نهج البلاغة ج : 11 ص : 209قالوا و ليس شي ء أشرف من العبودية و لا اسم أتم للمؤمن من اسمه بالعبودية و لذلك قال سبحانه في ذكر النبي ص ليلة المعراج و كان ذلك الوقت أشرف أوقاته في الدنيا سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلًا ول تعالى فَأَوْحى إِلى عَبْدِهِ ما أَوْحى فلو كان اسم أجل من العبودية لسماه به. و أنشدوا
لا تدعني إلا بيا عبدها فإنه أشرف أسمائي (12/174)
و منها الإرادة قال تعالى وَ لا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَ الْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ. قالوا الإرادة هي بدء طريق السالكين و هي اسم لأول منازل القاصدين إلى الله و إنما سميت هذه الصفة إرادة لأن الإرادة مقدمة كل أمر فما لم يرد العبد شيئا لم يفعله فلما كان هذا الشأن أول الأمر لمن يسلك طريق الله سمي إرادة تشبيها له بالقصد إلى الأمور التي هو مقدمتها. قالوا و المريد على موجب الاشتقاق من له إرادة و لكن المريد في هذا الاصطلاح من لا إرادة له فما لم يتجرد عن إرادته لا يكون مريدا كما أن من لا إرادة له على موجب الاشتقاق لا يكون مريدا. و قد اختلفوا في العبارات الدالة على ماهية الإرادة في اصطلاحهم فقال بعضهم الإرادة ترك ما عليه العادة و عادة الناس في الغالب التعريج على أوطان الغفلة شرح نهج البلاغة ج : 11 ص : 210و الركون إلى اتباع الشهوة و اللاد إلى ما دعت إليه المنية و المريد هو المنسلخ عن هذه الجملة. و قال بعضهم الإرادة نهوض القلب في طلب الرب و لهذا قيل إنها لوعة تهون كل روعة. و قال أبو علي الدقاق الإرادة لوعة في الفؤاد و لذعة في القلب و غرام في الضمير و انزعاج في الباطن و نيران تأجج في القلوب. و قال ممشاذ الدينوري مذ علمت أن أحوال الفقراء جد كلها لم أمازح فقيرا و ذلك أن فقيرا قدم علي فقال أيها الشيخ أريد أن تتخذ لي عصيدة فجرى على لساني إرادة و عصيدة فتأخر الفقير و لم أشعر فأمرت باتخاذ عصيدة و طلبته فلم أجده فتعرفت خبره فقيل إنه انصرف من فوره و هو يقول إرادة و عصيدة إرادة و عصيدة و هام على وجهه حتى خرج إلى البادية و هو يكرر هذه الكلمة فما زال يقول و يرددها حتى مات. و حكى بعضهم قال كنت بالبادية وحدي فضاق صدري فصحت يا أنس كلموني يا جن كلموني فهتف هاتف أي شي ء ناديت فقلت الله فقال الهاتف كذبت لوأردته لما ناديت الإنس و لا
الجن. فالمريد هو الذي لا يشغله عن الله شي ء و لا يفتر آناء الليل و أطراف النهار فهو في الظاهر بنعت المجاهدات و في الباطن بوصف المكابدات فارق الفراش و لازم الانكماش و تحمل المصاعب و ركب المتاعب و عالج الأخلاق و مارس المشاق و عانقالأهوال و فارق الأشكال فهو كما قيل (12/175)
ثم قطعت الليل في مهمه لا أسدا أخشى و لا ذيبا
شرح نهج البلاغة ج : 11 ص : 211يغلبني شوقي فأطوى السرى و لم يزل ذو الشوق مغلوبو قيل من صفات المريدين التحبب إليه بالتوكل و الإخلاص في نصيحة الأمة و الأنس بالخلوة و الصبر على مقاساة الأحكام و الإيثار لأمره و الحياء من نظره و بذل المجهود في محبته و التعرض لكل سبب يوصل إليه و القناعة بالخمول و عدم الفرار من القلب إلى أن يصل إلى الرب. و قال بعضهم آفة المريد ثلاثة أشياء التزويج و كتبه الحديث و الأسفار. و قيل من حكم المريد أن يكون فيه ثلاثة أشياء نومه غلبة و أكله فاقة و كلامه ضرورة. و قال بعضهم نهاية الإرادة أن يشير إلى الله فيجده مع الإشارة فقيل له و أي شي ء يستوعب الإرادة فقال أن يجد اله بلا إشارة. و سئل الجنيد ما للمريدين و سماع القصص و الحكايات فقال الحكايات جند من جند الله تعالى يقوي بها قلوب المريدين فقيل له هل في ذلك شاهد فتلا قوله تعالى وَ كُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْباءِ الرُّسُلِ ما نُثَبِّتُ بِهِ فُؤادَكَ. و قال أصحاب الطريقة بين المريد و المراد فرق فالمريد من سلك الرياضة طلبا للوصول و المراد من فاضت عليه العناية الإلهية ابتداء فكان مخطوبا لا خاطبا و بين الخاطب و المخطوب فرق عظيم. قالوا كان موسى ع مريدا قال رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي و كان محمد ص مرادا قال له أَ لَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ و سئل الجنيد عن شرح نهج البلاغة ج : 11 ص : 212المريد و المراد فقال المريد سائر و المراد طائر و متى يلحق السائر الطائر. أرسل ذو النون المصري رجلا إلى أبي يزيد و قال له إلى متى
النوم و الراحة قد سارت القافلة فقال له أبو يزيد قل لأخي الرجل مننام الليل كله ثم يصبح في المنزل قبل القافلة فقال ذو النون هنيئا له هذا الكلام لا تبلغه أحوالنا. و قد تكلم الحكماء في هذا المقام فقال أبو علي بن سينا في كتاب الإشارات أول درجات حركات العارفين ما يسمونه هم الإرادة و هو ما يعتري المستبصر باليقين البرهاني أو الساكن النفس إلى العقد الإيماني من الرغبة في اعتلاق العروة الوثقى فيتحرك سره إلى القدس لينال من روح الاتصال فما دامت درجته هذه فهو مريد. ثم إنه ليحتاج إلى الرياضة و الرياضة موجهة إلى ثلاثة أغراض الأول تنحيه ما دون الحق عن سنن الإيثار. و الثاني تطويع النفس الأمارة للنفس المطمئنة لتنجذب قوى التخيل و الوهم إلى التوهمات المناسبة للأمر القدسي منصرفة من التوهمات المناسبة للأمر السفلي. و الثالث تلطيف السر لنفسه. فالأول يعين عليه الزهد الحقيقي و الثاني يعين عليه عدة أشياء العبادة المشفوعة بالفكرة ثم الألحان المستخدمة لقوى النفس الموقعة لما لحن بها من الكلام موقع القبول من الأوهام ثم نفس الكلام الواعظ من قائل ذكي بعبارة بليغة و نغمة رخيمة و سمت رشيد و الثالث يعين عليه الفكر اللطيف و العشق العفيف الذي تتأمر فيه شمائل المعشوق دون سلطان الشهوة. شرح نهج البلاغة ج : 11 ص 213و منها الاستقامة و حقيقتها الدوام و الاستمرار على الحال قال تعالى إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا. و سئل بعضهم عن تارك الاستقامة فقال قد ذكر الله ذلك في كتابه فقال وَ لا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَها مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكاثاً و (12/176)
في الحديث المرفوع شيبتني هود فقيل له في ذلك فقال قوله فَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ
و قال تعالى وَ أَنْ لَوِ اسْتَقامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْناهُمْ ماءً غَدَقاً فلم يقل سقيناهم بل أسقيناهم أي جعلنا لهم سقيا دائمة و ذلك لأن من دام على الخدمة دامت عليه النعمة. و منها الإخلاص و هو إفراد الحق خاصة في الطاعة بالقصد و التقرب إليه بذلك خاصة من غير رياء و من غير أن يمازحه شي ء آخر من تصنع لمخلوق أو اكتساب محمدة بين الناس أو محبة مدح أو معنى من المعاني و لذلك قال أرباب هذا الفن الإخلاص تصفية العمل عن ملاحظة المخلوقين. و قال الخواص من هؤلاء القوم نقصان كل مخلص في إخلاصه رؤية إخلاصه فإذا أرد الله أن يخلص إخلاص عبد أسقط عن إخلاصه رؤيته لإخلاصه فيكون مخلصا لا مخلصا. و (12/177)
جاء في الأثر عن مكحول ما أخلص عبد لله أربعين صباحا إلا ظهرت ينابيع الحكمة من قلبه على لسانه
شرح نهج البلاغة ج : 11 ص : 214و منها الصدق و يطلق على معنيين تجنب الكذب و تجنب الرياء و قد تقدم القول فيهما. و منها الحياء و في الحديث الصحيح إذا لم تستحي فاصنع ما شئت
و في الحديث أيضا الحياء من الإيمان
و قال تعالى أَ لَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرى قالوا معناه أ لم يستحي. و
في الحديث أنه قال لأصحابه استحيوا من الله حق الحياء قالوا إنا لنستحيي و نحمد الله قال ليس كذلك من استحيا من الله حق الحياء فليحفظ الرأس و ما وعى و البطن و ما حوى و ليذكر الموت و طول البلى و ليترك زينة الحياة الدنيا فمن يعمل ذلك فقد استحيا من الله حق الحياء
و قال ابن عطاء العلم الأكبر الهيبة و الحياء فإذا ذهبا لم يبق خير. و قال ذو النون الحب ينطق و الحياء يسكت و الخوف يقلق. و قال السري الحياء و الأنس يطرقان القلب فإن وجدا فيه الزهد و الورع حطا و إلا رحلا. و كان يقال تعامل القرن الأول من الناس فيما بينهم بالدين حتى رق الدين ثم تعامل القرن الثاني بالوفاء حتى ذهب الوفاء ثم تعامل القرن الثالث بالمروءة حتى فنيت المروءة ثم تعامل القرن الرابع بالحياء حتى قل الحياء ثم صار الناس يتعاملون بالرغبة و الرهبة شرح نهج البلاغة ج : 11 ص : 215و قال الفضيل خمس من علامات الشقاءلقسوة في القلب و جمود العين و قلة الحياء و الرغبة في الدنيا و طول الأمل. و فسر بعضهم قوله تعالى وَ لَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَ هَمَّ بِها لَوْ لا أَنْ رَأى بُرْهانَ رَبِّهِ أنها كان لها صنم في زاوية البيت فمضت فألقت على وجهه ثوبا فقال يوسف ما هذا قالت أستحيي منه قال فأنا أولى أن أستحيي من الله. و (12/178)
في بعض الكتب القديمة ما أنصفني عبدي يدعوني فأستحيي أن أرده و يعصيني و أنا أراه فلا يستحيي مني
و منها الحرية و هو ألا يكون الإنسان بقلبه رق شي ء من المخلوقات لا من أغراض الدنيا و لا من أغراض الآخرة فيكون فردا لفرد لا يسترقه عاجل دنيا و لا آجل منى و لا حاصل هوى و لا سؤال و لا قصد و لا أرب. قال له ص بعض أصحاب الصفة قد عزفت نفسي يا رسول الله عن الدنيا فاستوى عندي ذهبها و حجرها قال صرت حرا
و كان بعضهم يقول لو صحت صلاة بغير قرآن لصحت بهذا البيت
أ تمنى على الزمان محالا أن ترى مقلتاي طلعة حر
و سئل الجنيد عمن لم يبق له من الدنيا إلا مقدار مص نواه فقال المكاتب عبد ما بقي عليه درهم. و منها الذكر قال الله تعالى يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْراً كَثِيراً شرح نهج البلاغة ج : 11 ص : 216و روى أبو الدرداء أن رسول الله ص قال أ لا أنبئكم بخير أعمالكم و أزكاها عند خالقكم و أرفعها في درجاتكم و خير من إعطائكم الذهب و الفضة في سبيل الله و من أن تلقوا عدوكم فتضربوا أعناقهم و يضربوا أعناقكم قالوا ما ذلك يا رسول الله قال ذكر الله (12/179)
و في الحديث المرفوع لا تقوم الساعة على أحد يقول الله الله
و قال أبو علي الدقاق الذكر منشور الولاية فمن وفق للذكر فقد أعطي المنشور و من سلب الذكر فقد عزل. و قيل ذكر الله تعالى بالقلب سيف المريدين به يقاتلون أعداءهم و به يدفعون الآفات التي تقصدهم و أن البلاء إذا أظل العبد ففزع بقلبه إلى الله حاد عنه كل ما يكرهه. و
في الخبر المرفوع إذا مررتم برياض الجنة فارتعوا فيها قيل و ما رياض الجنة قال مجالس الذكر
و في الخبر المرفوع أنا جليس من ذكرني
و سمع الشبلي و هو ينشد
ذكرتك لا أني نسيتك لمحة و أيسر ما في الذكر ذكر لساني فكدت بلا وجد أموت من الهوى و هام على القلب بالخفقان فلما أراني الوجد أنك حاضري شهدتك موجودا بكل مكان فخاطبت موجودا بغير تكلم و لاحظت معلوما بغير عي شرح نهج البلاغة ج : 11 ص : 217و منها الفتوة قال سبحانه مخبرا عن أصحاب الأصنام قالُوا سَمِعْنا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقالُ لَهُ إِبْراهِيمُ. و قال تعالى في أصحاب الكهف إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَ زِدْناهُمْ هُدىً. و قد اختلفوا في التعبير عن اتوة ما هي فقال بعضهم الفتوة ألا ترى لنفسك فضلا على غيرك. و قال بعضهم الفتوة الصفح عن عثرات الإخوان. و قالوا إنما هتف الملك يوم أحد بقوله
لا سيف إلا ذو الفقار و لا فتى إلا علي
لأنه كسر الأصنام فسمي بما سمي به أبوه إبراهيم الخليل حين كسرها و جعلها جذاذا. قالوا و صنم كل إنسان نفسه فمن خالف هواه فقد كسر صنمه فاستحق أن يطلق عليها لفظ الفتوة. و قال الحارث المحاسبي الفتوة أن تنصف و لا تنتصف. و قال عبد الله بن أحمد بن حنبل سئل أبي عن الفتوة فقال ترك ما تهوى لما تخشى. و قيل الفتوة ألا تدخر و لا تعتذر. (12/180)
سأل شقيق البلخي جعفر بن محمد الصادق ع عن الفتوة فقال ما تقول أنت قال إن أعطينا شكرنا و إن منعنا صبرنا قال إن الكلاب عندنا بالمدينة هذا شأنها و لكن قل إن أعطينا آثرنا و إن منعنا شكرنا
شرح نهج البلاغة ج : 11 ص : 218و منها الفراسة قيل في تفسير قوله تعالى إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ أي للمتفرسين و قال النبي ص اتقوا فراسة المؤمن فإنها لا تخطئ
قيل الفراسة سواطع أنوار لمعت في القلوب حتى شهدت الأشياء من حيث أشهدها الحق إياها و كل من كان أقوى إيمانا كان أشد فراسة. و كان يقال إذا صحت الفراسة ارتقى منها صاحبها إلى المشاهدة. و منها حسن الخلق و هو من صفات العارفين فقد أثنى الله تعالى به على نبيه فقال وَ إِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ و
قيل له ص أي المؤمنين أفضل إيمانا فقال أحسنهم خلقا و بالخلق تظهر جواهر الرجال و الإنسان مستور بخلقه مشهور بخلقه
و قال بعضهم حسن الخلق استصغار ما منك و استعظام ما إليك. و
قال النبي ص إنكم لن تسعوا الناس بأموالكم فسعوهم بأخلاقكم
قيل لذي النون من أكبر الناس هما قال أسوؤهم خلقا. و كان يقال ما تخلق أحد أربعين صباحا بخلق إلا صار ذلك طبيعة فيه. قال الحسن في قوله تعالى وَ ثِيابَكَ فَطَهِّرْ أي و خلقك فحسن. شتم رجل الأحنف بن قيس و جعل يتبعه و يشتمه فلما قرب الحي وقف و قال يا فتى إن كان قد بقي في قلبك شي ء فقله كيلا يسمعك سفهاء الحي فيجيبوك. شرح نهج البلاغة ج : 11 ص : 219و يقال إن معروفا الكرخي نزل دجلة ليسبح و وضع ثيابه و مصحفه فجاءت امرأة فاحتملتهما فتبعها و قال أنا معروف الكرخي فلا بأس عليك أ لك ابن يقرأ قالت لا قال أ فلك بعل قالت لال فهاتي المصحف و خذي الثياب. قيل لبعضهم ما أدب الخلق قال ما أدب الله به نبيه في قوله خُذِ الْعَفْوَ وَ أْمُرْ بِالْعُرْفِ وَ أَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ (12/181)
يقال إن في بعض كتب النبوات القديمة يا عبدي اذكرني حين تغضب أذكرك حين أغضب
قالت امرأة لمالك بن دينار يا مرائي فقال لقد وجدت اسمي الذي أضله أهل البصرة. قال بعضهم و قد سئل عن غلام سوء له لم يمسكه قال أ تعلم عليه الحلم. و كان يقال ثلاثة لا يعرفون إلا عند ثلاثة الحليم عند الغضب و الشجاع عند الحرب و الصديق عند الحاجة إليه. و قيل في تفسير قوله تعالى وَ أَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظاهِرَةً وَ باطِنَةً الظاهرة تسوية الخلق و الباطنة تصفية الخلق. الفضيل لأن يصحبني فاجر حسن الخلق أحب إلي من أن يصحبني عابد سيئ الخلق. خرج إبراهيم بن أدهم إلى بعض البراري فاستقبله جندي فسأله أين العمران فأشار إلى المقبرة فضرب رأسه فشجه و أدماه فلما جاوزه قيل له إن ذلك إبراهيم بن أدهم شرح نهج البلاغة ج : 11 ص : 220زاهد خراسان فرد إليه يعتذر فقال إبراهيم إنك لما ضربتني سألت الله لك الجنة. قال لم سألت ذلك قال علمت أني أوجر على ضربك لي فلم أرد أن يكون نصيبي منك الر و نصيبك مني الشر. و قال بعض أصحاب الجنيد قدمت من مكة فبدأت بالشيخ كي لا يتعنى إلي فسلمت عليه ثم مضيت إلى منزلي فلما صليت الصبح في المسجد إذا أنا به خلفي في الصف فقلت إنما جئتك أمس لئلا تتعنى فقال ذلك فضلك و هذا حقك. (12/182)
كان أبو ذر على حوض يسقي إبله فزاحمه إنسان فكسر الحوض فجلس أبو ذر ثم اضطجع فقيل له في ذلك فقال أمرنا رسول الله ص إذا غضب الرجل و هو قائم فليجلس فإن ذهب عنه و إلا فليضطجع
دعا إنسان بعض مشاهير الصوفية إلى ضيافة فلما حضر باب داره رده و اعتذر إليه ثم فعل به مثل ذلك و ثانية و ثالثة و الصوفي لا يغضب و لا يضجر فمدحه ذلك الإنسان و أثنى عليه بحسن الخلق فقال إنما تمدحني على خلق تجد مثله في الكلب إن دعوته حضر و إن زجرته انزجر. مر بعضهم وقت الهاجرة بسكة فألقى عليه من سطح طست رماد فغضب من كان في صحبته فقال لا تغضبوا من استحق أن يصب عليه النار فصولح على الرماد لم تجز له أن يغضب. كان لبغض الخياطين جار يدفع إليه ثيابا فيخيطها و يدفع إليه أجرتها دراهم زيوفا فيأخذها فقام يوما من حانوته و استخلف ولده فجاء الجار بالدراهم الزائفة فدفعها إلى الولد فلم يقبلها فأبدلها بدراهم جيدة فلما جاء أبوه دفع إليه الدراهم فقال ويحك هل جرى بينك و بينه أمر قال نعم إنه أحضر الدراهم زيوفا فرددتها فأحضر هذه شرح نهج البلاغة ج : 11 ص : 221فقال بئس ما صنعت إنه منذ ك و كذا سنة يعاملني بالزائف و أصبر عليه و ألقيها في بئر كي لا يغر غيري بها و قيل الخلق السيئ هو أن يضيق قلب الإنسان عن أن يتسع لغير ما تحبه النفس و تؤثره كالمكان الضيق لا يسع غير صاحبه. و كان يقال من سوء الخلق أن تقف على سوء خلق غيرك و تعيبه به. (12/183)
قيل لرسول الله ادع الله على المشركين فقال إنما بعثت رحمة و لم أبعث عذابا
دعا علي ع غلاما له مرارا و هو لا يجيبه فقام إليه فقال أ لا تسمع يا غلام قال بلى قال فما حملك على ترك الجواب قال أمني لعقوبتك قال اذهب فأنت حر
و منها الكتمان قال رسول الله ص استعينوا على أموركم بالكتمان
و قال السري علامة الحب الصبر و الكتمان و من باح بسرنا فليس منا. و قال الشاعر
كتمت حبك حتى منك تكرمة ثم استوى فيك إسراري و إعلاني كأنه غاض حتى فاض عن جسدي فصار سقمي به في جسم كتمانيو هذا ضد ما يذهب إليه القوم من الكتمان و هو عذر لأصحاب السر و الإعلان و كان يقال المحبة فاضحة و الدمع نمام. و قال الشاعر
لا جزى الله دمع عيني خيرا و جزى الله كل خير لساني (12/184)
شرح نهج البلاغة ج : 11 ص : 222فاض دمعي فليس يكتم شيئا و وجدت اللسان ذا كتمايقال إن بعض العارفين أوصى تلميذه بكتمان ما يطلع عليه من الحال فلما شاهد الأمر غلب فكان يطلع في بئر في موضع خال فيحدثها بما يشاهد فنبتت في تلك البئر شجرة سمع منها صوت يحكي كلام ذلك التلميذ كما يحكي الصدا كلام المتكلم فأسقط بذلك من ديوان الأولياء. و أنشدوا
أبدا تحن إليكم الأرواح و وصالكم ريحانها و الراح و قلوب أهل ودادكم تشتاقكم و إلى لقاء جمالكم ترتاح وا رحمة للعاشقين تحملوا ثقل المحبة و الهوى فضاح بالسر إن باحوا تباح دماؤهم و كذا دماء البائحين تبو قال الحسين بن منصور الحلاج
إني لأكتم من علمي جواهره كي لا يرى العلم ذو جهل فيفتنناو قد تقدمني فيه أبو حسن إلى الحسين و أوصى قبله الحسنايا رب مكنون علم لو أبوح به لقيل لي أنت ممن يعبد الوثناو لاستحل رجال صالحون دمي يرون أقبح ما يأتونه حسنا
و منها الجود و السخاء و الإيثار قال الله تعالى وَ يُؤْثِرُونَ عَلى أَنْفُسِهِمْ وَ لَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ و
قال النبي ص السخي قريب من الله قريب من الناس شرح نهج البلاغة ج : 11 ص : 223و البخيل بعيد من الله بعيد من الناس و أن الجاهل السخي أحب إلى الله من العابد البخيلقالوا لا فرق بين الجود و السخاء في اصطلاح أهل العربية إلا أن الباري سبحانه لا يوصف بالسخاء لأنه يشعر بسماح النفس عقيب التردد في ذلك و أما في اصطلاح أرباب هذه الطريقة فالسخاء هو الرتبة الأولى و الجود بعده ثم الإيثار فمن أعطى البعض و أبقى البعض فهو صاحب السخاء و من أعطى الأكثر و أبقى لنفسه شيئا فهو صاحب الجود و الذي قاسى الضراء و آثر غيره بالبلغة فهو صاحب الإيثار. قال أسماء بن خارجة الفزاري ما أحب أن أرد أحدا عن حاجة طلبها إن كان كريما صنت عرضه عن الناس و إن كان لئيما صنت عنه عرضي. كان مؤرق العجلي يتلطف في بر إخوانه يضع عندهم ألف درهم و يقول أمسكوها حتى أعود إليكم ثم يرسل إليهم أنتم منها في حل. و كان يقال الجود إجابة الخاطر الأول. و كان أبو الحسن البوشنجي في الخلاء فدعا تلميذا له فقال انزع عني هذا القميص و ادفعه إلى فلان فقيل له هلا صبرت فقال لم آمن على نفسي أن تغير علي ما وقع لي من التخلق معه بالقميص. (12/185)
رئي علي ع يوما باكيا فقيل له لم تبكي فقال لم يأتني ضيف منذ سبعة أيام أخاف أن يكون الله قد أهانني
أضاف عبد الله بن عامر رجلا فأحسن قراه فلما أراد أن يرتحل لم يعنه غلمانه فسئل عن ذلك فقال إنهم إنما يعينون من نزل علينا لا من ارتحل عنا. و منها الغيرة
قال رسول الله ص لا أحد أغير من الله إنما حرم الفواحش ما ظهر منها و ما بطن لغيرته
شرح نهج البلاغة ج : 11 ص : 224و في حديث أبي هريرة أن الله ليغار و أن المؤمن ليغارقال و الغيرة هي كراهية المشاركة فيما هو حقك. و قيل الغيرة الأنفة و الحمية. و حكي عن السري أنه قرئ بين يديه وَ إِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنا بَيْنَكَ وَ بَيْنَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجاباً مَسْتُوراً فقال لأصحابه أ تدرون ما هذا الحجاب هذا حجاب الغيرة و لا أحد أغير من الله. قالوا و معنى حجاب الغيرة أنه لما أصر الكافرون على الجحود عاقبهم بأن لم يجعلهم أهلا لمعرفة أسرار القرآن. و قال أبو علي الدقاق إن أصحاب الكسل عن عبادته هم الذين ربط الحق بأقدامهم مثقلة الخذلان فاختار لهم البعد و أخرهم عن محل القرب و لذلك تأخروا. و في معناه أنشدوا فقالوا (12/186)
أنا صب بمن هويت و لكن ما احتيالي في سوء رأي الموالي
و في معناه قالوا سقيم لا يعاد و مريد لا يراد. و كان أبو علي الدقاق إذا وقع شي ء في خلال المجلس يشوش قلوب الحاضرين يقول هذا من غيرة الحق يريد به ألا يتم ما أملناه من صفاء هذا الوقت. و أنشدوا في معناه همت بإتياننا حتى إذا نظرت إلى المرأة نهانا وجهها الحسن
و قيل لبعضهم أ تريد أن تراه قال لا قيل لم قال أنزه ذلك الجمال عن نظر مثلي و في معناه أنشدوا
إني لأحسد ناظري عليك حتى أغض إذا نظرت إليك
شرح نهج البلاغة ج : 11 ص : 225و أراك تخطر في شمائلك التي هي فتنتي فأغار منك عليكو سئل الشبلي متى تستريح قال إذا لم أر له ذاكرا. و قال أبو علي الدقاق في
قول النبي ص عند مبايعته فرسا من أعرابي و أنه استقاله فأقاله فقال الأعرابي عمرك الله فمن أنت قال ص أنا امرؤ من قريش فقال بعض الصحابة من الحاضرين للأعرابي كفاك جفاء ألا تعرف نبيك
فكان أبو علي يقول إنما قال امرؤ من قريش غيرة و نوعا من الأنفة و إلا فقد كان الواجب عليه أن يتعرف لكل أحد أنه من هو لكن الله سبحانه أجرى على لسان ذلك الصحابي التعريف للأعرابي بقوله كفاك جفاء ألا تعرف نبيك. و قال أصحاب الطريقة مساكنة أحد من الخلق للحق في قلبك توجب الغيرة منه تعالى. أذن الشبلي مرة فلما انتهى إلى الشهادتين قال و حقك لو لا أنك أمرتني ما ذكرت معك غيرك. و سمع رجل رجلا يقول جل الله فقال أحب أن تجله عن هذا. و كان بعض العارفين يقول لا إله إلا الله من داخل القلب محمد رسول الله من قرط الأذن. و قيل لأبي الفتوح السهروردي و قد أخذ بحلب ليصلب على خشبة ما الذي أباحهم هذا منك قال إن هؤلاء دعوني إلى أن أجعل محمدا شريكا لله في الربوبية فلم أفعل فقتلوني. شرح نهج البلاغة ج : 11 ص : 226و منها التفويض قال الله تعالى وَ عَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَ هُوَ خَيْرٌ كُمْ وَ عَسى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَ هُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَ اللَّهُ يَعْلَمُ وَ أَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ فاستوقف من عقل أمره عن الاقتراح عليه و أفهمه ما يرضاه به من التفويض إليه فالعاقل تارك للاقتراح على العالم بالصلاح. و قال تعالى فَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَ يَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً فبعث على تأكيد الرجاء بقوله خَيْراً كَثِيراً. و لما فوض مؤمن آل فرعون أمره إلى الله فَوَقاهُ اللَّهُ سَيِّئاتِ ما مَكَرُوا وَ حاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذابِ كما ورد في الكتاب العزيز. و حقيقة التفويض هي التسليم لأحكام الحق سبحانه و إلى ذلك وقعت الإشارة بقوله تعالى قُلْ لَنْ يُصِيبَنا إِلَّا ما كَتَبَ اللَّهُ لَنا هُوَ مَوْلانا وَ عَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ فأس التفويض و الباعث عليه هو اعتقاد العجز عن مغالبة القدر و أنه لا يكون في الخير و الشر أعني الرخص و الصحة و سعة الرزق و البلايا و الأمراض و (12/187)
العلل و ضيق الرزق إلا ما أراد الله تعالى كونه و لا يصح التفويض ممن لم يعتقد ذلك و لم يعلمه علم اليقين. و قد بالغ النبي ص في التصريح به و النص عليه (12/188)
بقوله لعبد الله بن مسعود ليقل همك ما قدر أتاك و ما لم يقدر لم يأتك و لو جهد الخلق أن ينفعوك بشي ء لم يكتبه الله لك لم يقدروا عليه و لو جهدوا أن يضروك بشي ء لم يكتبه الله عليك لم يقدروا على ذلك شرح نهج البلاغة ج : 11 ص : 227و في صحيح مسلم بن الحجاج أنه قال لأبي هريرة في كلام له فإن أصابك شي ء فلا تقل لو فعلت كذا لكان كذا فإن لو تفتح عمل الشيطان و لكن قل ما قدر الله و ما شاء فعو في صحيح مسلم أيضا عن البراء بن عازب إذا أخذت مضجعك فقل كذا إلى أن قال وجهت وجهي إليك و ألجأت ظهري إليك رغبة و رهبة إليك لا منجى و لا ملجأ منك إلا إليك
و كان يقال معارضة المريض طبيبه توجب تعذيبه و كان يقال إنما الكيس الماهر من أمسى في قبضة القاهر. و كان يقال إذا كانت مغالبة القدر مستحيلة فما من أعوان تقوده إلى الحيلة. و كان يقال إذا التبست المصادر ففوض إلى القادر. و كان يقال من الدلالة على أن الإنسان مصرف مغلوب و مدبر مربوب أن يتبلد رأيه في بعض الخطوب و يعمى عليه الصواب المطلوب. و إذا كان كذلك فربما كان تدميره في تدبيره و اغتياله من احتياله و هلكته من حركته. و في ذلك أنشدوا
أيا من يعول في المشكلات على ما رآه و ما دبره إذا أعضل الأمر فافزع به إلى من يرى منه ما لم تره تكن بين عطف يقيل الخطوب و لطف يهون ما قدره إذا كنت تجهل عقبى الأمور و ما لك حول و لا مقدره فلم ذا العنا و علام الأسى و مم الحذار و فيم ال شرح نهج البلاغة ج : 11 ص : 228و أنشدوا في هذا المعنىيا رب مغتبط و مغبوط بأمر فيه هلكه و منافس في ملك ما يشقيه في الدارين ملكه علم العواقب دونه ستر و ليس يرام هتكه و معارض الأقدار بالآراء سيئ الحال ضنكه فكن امرأ محض اليقين و زيف الشبهات سبكه تفويضه توحيده و عناده المقدار و منها الولاية و المعرفة و قد تقدم القول فيهما. و منها الدعاء و المناجاة قال الله تعالى ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ و (12/189)
في الحديث المرفوع الدعاء مخ العبادة
و قد اختلف أرباب هذا الشأن في الدعاء فقال قوم الدعاء مفتاح الحاجة و مستروح أصحاب الفاقات و ملجأ المضطرين و متنفس ذوي المآرب. و قد ذم الله تعالى قوما فقال وَ يَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ فسروه و قالوا لا يمدونها إليه في السؤال. و قال سهل بن عبد الله التستري خلق الله الخلق و قال تاجروا في فإن لم تفعلوا فاسمعوا مني فإن لم تفعلوا فكونوا ببابي فإن لم تفعلوا فأنزلوا حاجاتكم بي. قالوا و قد أثنى الله على نفسه فقال أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذا دَعاهُ قالوا الدعاء إظهار فاقة العبودية. شرح نهج البلاغة ج : 11 ص : 22 قال أبو حاتم الأعرج لأن أحرم الدعاء أشد علي من أن أحرم الإجابة. و قال قوم بل السكوت و الخمود تحت جريان الحكم و الرضا بما سبق من اختيار الحكيم العالم بالمصالح أولى و لهذا قال الواسطي اختيار ما جرى لك في الأزل خير لك من معارضة الوقت. و
قال النبي ص إخبارا عن الله تعالى من شغله ذكري عن مسألتي أعطيته أفضل ما أعطي السائلين
و قال قوم يجب أن يكون العبد صاحب دعاء بلسانه و صاحب رضا بقلبه ليأتي بالأمرين جميعا. و قال قوم إن الأوقات تختلف ففي بعض الأحوال يكون الدعاء أفضل من السكوت و في بعض الأحوال يكون بالعكس و إنما يعرف هذا في الوقت لأن علم الوقت يحصل في الوقت فإذا وجد في قلبه الإشارة إلى الدعاء فالدعاء أولى و إن وجد بقلبه الإشارة إلى السكوت فالسكوت له أتم و أولى. و (12/190)
جاء في الخبر أن الله يبغض العبد فيسرع إجابته بغضا لسماع صوته و أنه يحب العبد فيؤخر إجابته حبا لسماع صوته
و من أدب الدعاء حضور القلب
فقد روي عنه ص أن الله لا يستجيب دعاء قلب لاه
و من شروط الإجابة طيب الطعمة و حل المكسب
قال ص لسعد بن أبي وقاص أطب كسبك تستجب دعوتك
شرح نهج البلاغة ج : 11 ص : 230و ينبغي أن يكون الدعاء بعد المعرفةقيل لجعفر بن محمد الصادق ع ما بالنا ندعو فلا يستجاب لنا قال لأنكم تدعون من لا تعرفونه
كان صالح المري يقول كثيرا ادعوا فمن أدمن قرع الباب يوشك أن يفتح له فقالت له رابعة العدوية ما ذا تقول أغلق هذا الباب حتى يستفتح فقال صالح شيخ جهل و امرأة علمت. و قيل فائدة الدعاء إظهار الفاقة من الخلق و إلا فالرب يفعل ما يشاء. و قيل دعاء العامة بالأقوال و دعاء العابد بالأفعال و دعاء العارف بالأحوال. و قيل خير الدعاء ما هيجه الأحزان و الوجد. و قيل أقرب الدعاء إلى الإجابة دعاء الاضطرار لقوله تعالى أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذا دَعاهُ. قال أصحاب هذه الطريقة ألسنة المبتدءين أرباب الإرادة منطلقة بالدعاء و ألسنة المحققين الواصلين قد خرست عن ذلك. و كان عبد الله بن المبارك يقول ما دعوته منذ خمسين سنة و لا أريد أن يدعو لي أحد. و قيل الدعاء سلم المذنبين. و قال من قال بنقيض هذا الدعاء مراسلة و ما دامت المراسلة باقية فالأمر جميل بعد. و قالوا ألسنة المذنبين دموعهم. و كان أبو علي الدقاق يقول إذا بكى المذنب فقد راسل الله. و في معناه أنشدوا (12/191)
دموع الفتى عما يجن تترجم و أنفاسه تبدين ما القلب يكتم
شرح نهج البلاغة ج : 11 ص : 231و قال بعضهم لبعض العارفين ادع لي فقال كفاك من الإجابة ألا تجعل بينك و بينه واسطة. و منها التأسي قال سبحانه لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ أي في مصابه و ما نيل منه في نفسه و في أهله يوم أحد فلا تجزع أن أصيب بعضكم. و
جاء في الحديث المرفوع لا تنظروا إلى من فوقكم و انظروا إلى من دونكم فإنه أجدر ألا تزدروا نعم الله عليكم
و قالت الخنساء ترثى أخاها
و لو لا كثرة الباكين حولي على إخوانهم لقتلت نفسي و ما يبكون مثل أخي و لكن أعزي النفس عنه بالتأسيو حقيقة التأسي تهوين المصائب و النوائب على النفس بالنظر إلى ما أصاب أمثالك و من هو أرفع محلا منك. و قد فسر العلماء قوله تعالى وَ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذابِ مُشْتَرِكُونَ قال إنه لا يهون على أحد من أهل النار عذابه و إن تأسى بغيره من المعذبين لأن الله تعالى جعل لهم التأسي نافعا في الدنيا و لم يجعله نافعا لأهل النار مبالغة في تعذيبهم و نفيا لراحة تصل إليهم. شرح نهج البلاغة ج : 11 ص : 232و منها الفقر و هو شعار الصالحين قال رسول الله ص اللهم أحيني مسكينا و أمتني مسكينا و احشرني مع المساكين (12/192)
قال لعلي ع إن الله قد زينك بزينة لم يزين العباد بأحسن منها وهب لك حب المساكين فجعلك ترضى بهم أتباعا و يرضون بك إماما. و
جاء في الخبر المرفوع الفقراء الصبر جلساء الله يوم القيامة
و سئل يحيى بن معاذ عن الفقر فقال ألا تستغني إلا بالله. و
قال أبو الدرداء لأن أقع من فوق قصر فأتحطم أحب إلي من مجالسة الغني لأني سمعت رسول الله ص يقول إياكم و مجالسة الموتى فقيل له و ما الموتى قال الأغنياء
قيل للربيع بن خثيم قد غلا السعر قال نحن أهون على الله من أن يجيعنا إنما يجيع أولياءه. و قيل ليحيى بن معاذ ما الفقر قال خوف الفقر. و قال الشبلي أدنى علامات الفقير أن لو كانت الدنيا بأسرها لواحد فأنفقها في يوم واحد ثم خطر بباله لو أمسكت منها قوت يوم آخر لم يصدق في فقره. سئل ابن الجلاء عن الفقر فسكت ثم ذهب قليلا و عاد فقال كانت عندي أربعة دوانيق فضة فاستحييت من الله أن أتكلم في الفقر و هي عندي فذهبت فأخرجتها ثم قعد فتكلم في الفقر. و قال أبو علي الدقاق في تفسير
قوله ص من تواضع لغني ذهب ثلثا دينه
إن المرء بقلبه و لسانه و جوارحه فمن تواضع لغني بلسانه و جوارحه ذهب ثلثا دينه فإن تواضع له مع ذلك بقلبه ذهب دينه كله. شرح نهج البلاغة ج : 11 ص : 233و منها الأدب قالوا في تفسير قوله تعالى ما زاغَ الْبَصَرُ وَ ما طَغى حفظ أدب الحضرة. قيل إنه ع لم يمد نظره ف المقام الذي أوصل إليه ليلة شاهد السدرة و هي أقصى ما يمكن أن ينتهي إليه البشريون. و (12/193)
في الحديث المرفوع أدبني ربي فأحسن تأديبي
و قيل إن الجنيد لم يمد رجله في الخلوة عشرين سنة و كان يقول الأدب مع الله أولى من الأدب مع الخلق. و قال أبو علي الدقاق من صاحب الملوك بغير أدب أسلمه الجهل إلى القتل. و
من كلامه ع ترك الأدب يوجب الطرد فمن أساء الأدب على البساط رد إلى الباب و من أساء الأدب على الباب رد إلى ساحة الدواب
و قال عبد الله بن المبارك قد أكثر الناس في الأدب و عندي أن الأدب معرفة الإنسان بنفسه. و قال الثوري من لم يتأدب للوقت فوقته مقت. و قال أبو علي الدقاق في قوله تعالى حكاية عن أيوب إِذْ نادى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَ أَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ قال لم يقل فارحمني لأنه حفظ آداب الخطاب و كذلك قال في قول عيسى إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ قال لم يقل لم أقل رعاية لأدب الحضرة. شرح نهج البلاغة ج : 11 ص : 234و منها المحبة و هي مقام جليل قالوا المحبة أن تهب كلك لمن أحببت فلا يبقى لك منك شي ء. قلبعض العرب ما وجدت من حب فلانة قال أرى القمر على جدارها أحسن منه على جدران الناس. و قال أبو عبد الرحمن السلمي المحبة أن تغار على محبوبك أن يحبه غيرك. و قال النصرآباذي المحبة نوعان نوع يوجب حقن الدماء و نوع يوجب سفك الدماء. و قال يحيى بن معاذ المحبة الخالصة ألا تنقص بالجفاء و لا تزيد بالبر. و قيل للنصرآباذي كيف حالك في المحبة قال عدمت وصال المحبين و رزقت حسراتهم فهو ذا أنا أحترق فيها ثم قال المحبة مجانبة السلو على كل حال. و أنشدوا (12/194)
و من كان في طول الهوى ذاق سلوة فإني من ليلى لها غير ذائق و أكثر شي ء نلته من وصالها أماني لم تصدق كلمحة بارو جاء في الحديث المرفوع المرء مع من أحب
و لما سمع سمنون هذا الخبر قال فاز المحبون بشرف الدنيا و الآخرة لأنهم مع الله تعالى. و
في الحديث المرفوع لأعطين الراية غدا رجلا يحب الله و رسوله و يحبه الله و رسوله
و هذا يتجاوز حد الجلالة و الشرف. و كان يقال الحب أوله ختل و آخره قتل. قيل كتب يحيى بن معاذ إلى أبي يزيد سكرت من كثرة ما شربت من محبته فكتب إليه أبو زيد غيرك شرب بحور السموات و الأرض و ما روي بعد و لسانه خارج و هو يقول هل من مزيد. شرح نهج البلاغة ج : 11 ص 235و أنشد
عجبت لمن يقول ذكرت حبي و هل أنسى فأذكر ما نسيت شربت الحب كأسا بعد كأس فما نفد الشراب و لا رويتو قيل المحبة سكر لا يصحو صاحبه إلا بمشاهدة محبوبه ثم السكر الذي يحصل عند المشاهدة لا يوصف. و أنشدوا (12/195)
فأسكر القوم دور كأس و كان سكري من المدير
و منها الشوق جاء في الخبر المرفوع أن الجنة لتشتاق إلى ثلاثة علي و سلمان و عمار
الشوق مرتبة من مراتب القوم و مقام من مقاماتهم سئل ابن عطاء الشوق أعلى أم المحبة فقال المحبة لأن الشوق منها يتولد. و
من الأدعية النبوية المأثورة الدعاء الذي كان يدعو به عمار بن ياسر رضي الله عنه اللهم بعلمك بالغيب و قدرتك على الخلق أحيني ما علمت الحياة خيرا لي و توفني ما كانت الوفاة خيرا لي اللهم إني أسألك خشيتك في الغيب و الشهادة و أسألك كلمة الحق في الرضا و الغضب و أسألك القصد في الغنى و الفقر و أسألك نعيما لا يبيد و قرة عين لا تنقطع و أسألك الرضا بعد القضاء و برد العيش بعد الموت و أسألك النظر إلى وجهك و الشوق إلى لقائك من غير ضراء مضرة اللهم زينا بزينة الإيمان و اجعلنا هداة مهتدين
قالوا الشوق احتياج القلب إلى لقاء المحبوب و على قدر المحبة يكون الشوق و علامة الشوق حب الموت. شرح نهج البلاغة ج : 11 ص : 236و هذا هو السر في قوله تعالى فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ أي أن من كان صاحب محبة يتمنى لقاء محبوبه فمن لا يتمنى ذ لا يكون صادق المحبة. قيل لبعض الصوفية هل تشتاق إليه فقال إنما الشوق إلى غائب و هو حاضر لا يغيب. و قالوا في قوله تعالى مَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآتٍ إنه تطيب لقلوب المشتاقين. و
يقال إنه مكتوب في بعض كتب النبوات القديمة شوقناكم فلم تشتاقوا و زمرنا لكم فلم ترقصوا و خوفناكم فلم ترهبوا و نحنا لكم فلم تحزنوا
و قيل إن شعيبا بكى حتى عمي فرد الله إليه بصره ثم بكى حتى عمي فرد عليه بصره ثم كذلك ثلاثا فقال الله تعالى إن كان هذا البكاء شوقا إلى الجنة فقد أبحتها لك و إن كان خوفا من النار فقد أجرتك منها فقال و حقك لا هذا و لا هذا و لكن شوقا إليك فقال له لأجل ذلك أخدمتك نبيي و كليمي عشر سنين (12/196)
و منها الزهد و رفض الدنيا قال سبحانه وَ لا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلى ما مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا و
جاء في الخبر أن يوسف ع كان يجوع في سني الجدب فقيل له أ تجوع و أنت على خزائن مصر فقال أخاف أن أشبع فأنسى الجياع
و كذلك قال علي ع و قد قيل له أ هذا لباسك و هذا مأكولك و أنت أمير شرح نهج البلاغة ج : 11 ص : 237المؤمنين فقال نعم إن الله فرض على أئمة العدل أن يقدروا لأنفسهم كضعفة الناس كيلا يتبيغ بالفقير فقرو منع عمر بن الخطاب نفسه عام الرمادة الدسم و قال لا آكله حتى يصيبه المسلمون جميعا. و كان عمر بن عبد العزيز من أكثر الناس تنعما قبل أن يلي الخلافة قومت ثيابه حينئذ بألف دينار و قومت و هو يخطب الناس أيام خلافته بثلاثة دراهم. و اعلم أن بعض هذه المراتب و المقامات التي ذكرناها للقوم قد يكون متداخلا في الظاهر و له في الباطن عندهم فرق يعرفه من يأنس بكتبهم و قد أتينا في تقسيم مراتبهم و تفصيل مقاماتهم في هذا الفصل بما فيه كفاية
شرح نهج البلاغة ج : 11 ص : 218238- و من كلام له ع قاله عند تلاوته يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ ما غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ أَدْحَضُ مَسْئُولٍ حُجَّةً وَ أَقْطَعُ مُغْتَرٍّ مَعْذِرَةً لَقَدْ أَبْرَحَ جَهَالَةً بِنَفْسِهِ يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ مَا جَرَّأَكَ عَلَى ذَنْبِكَ وَ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ وَ مَا أَنَّسَكَ بِهَلَكَةِ نَفْسِكَ أَ مَا مِنْ دَائِكَ بُلُولٌ أَمْ لَيْسَ مِنْ نَوْمِكَ يَقَظَةٌ أَ مَا تَرْحَمُ مِنْ نَفْسِكَ مَا تَرْحَمُ مِنْ غَيْرِكَ فَلَرُبَّمَا تَرَى الضَّاحِيَ مِنْ حَرِّ الشَّمْسِ فَتُظِلُّهُ أَوْ تَرَى الْمُبْتَلَى بِأَلَمٍ يُمِضُّ جَسَدَهُ فَتَبْكِي رَحْمَةً لَهُ فَمَا صَبَّرَكَ عَلَى دَائِكَ وَ جَلَّدَكَ عَلَى مُصَابِكَ وَ عَزَّاكَ عَنِ الْبُكَاءِ عَلَى نَفْسِكَ وَ هِيَ أَعَزُّ الْأَنْفُسِ عَلَيْكَ وَ كَيْفَ لَا يُوقِظُكَ خَوْفُ بَيَاتِ نِقْمَةٍ وَ قَدْ تَوَرَّطْتَ بِمَعَاصِيهِ مَدَارِجَ سَطَوَاتِهِ فَتَدَاوَ مِنْ دَاءِ الْفَتْرَةِ فِي قَلْبِكَ بِعَزِيمَةٍ وَ مِنْ كَرَى الْغَفْلَةِ فِي نَاظِرِكَ بِيَقَظَةٍ وَ كُنْ لِلَّهِ مُطِيعاً وَ بِذِكْرِهِ آنِساً وَ تَمَثَّلْ فِي حَالِ تَوَلِّيكَ عَنْهُ إِقْبَالَهُ عَلَيْكَ يَدْعُوكَ إِلَى عَفْوِهِ وَ يَتَغَمَّدُكَ بِفَضْلِهِ وَ أَنْتَ مُتَوَلٍّ عَنْهُ إِلَى غَيْرِهِ شرح نهج البلاغة ج : 11 ص : 239فَتَعَالَى مِنْ قَوِيٍّ مَا أَكْرَمَهُ وَ تَوَاضَعْتَ مِنْ ضَعِيفٍ مَا أَجْرَأَكَ عَلَى مَعْصِيَتِهِ وَ أَنْتَ فِي كَنَفِ سِتْرِهِ مُقِيمٌ وَ فِي سَعَةِ فَضْلِهِ مُتَلِّبٌ فَلَمْ يَمْنَعْكَ فَضْلَهُ وَ لَمْ يَهْتِكْ عَنْكَ سِتْرَهُ بَلْ لَمْ تَخْلُ مِنْ لُطْفِهِ مَطْرَفَ عَيْنٍ فِي نِعْمَةٍ يُحْدِثُهَا لَكَ أَوْ سَيِّئَةٍ يَسْتُرُهَا عَلَيْكَ أَوْ بَلِيَّةٍ يَصْرِفُهَا عَنْكَ فَمَا ظَنُّكَ بِهِ لَوْ أَطَعْتَهُ وَ (12/197)
ايْمُ اللَّهِ لَوْ أَنَّ هَذِهِ الصِّفَةَ كَانَتْ فِي مُتَّفِقَيْنِ فِي الْقُوَّةِ مُتَوَازِيَيْنِ فِي الْقُدْرَةِ لَكُنْتَ أَوَّلَ حَاكِمٍ عَلَى نَفْسِكَ بِذَمِيمِ الْأَخْلَاقِ وَ مَسَاوِئِ الْأَعْمَالِ وَ حَقّاً أَقُولُ مَا الدُّنْيَا غَرَّتْكَ وَ لَكِنْ بِهَا اغْتَرَرْتَ وَ لَقَدْ كَاشَفَتْكَ الْعِظَاتِ وَ آذَنَتْكَ عَلَى سَوَاءٍ وَ لَهِيَ بِمَا تَعِدُكَ مِنْ نُزُولِ الْبَلَاءِ بِجِسْمِكَ وَ النَّقْضِ فِي قُوَّتِكَ أَصْدَقُ وَ أَوْفَى مِنْ أَنْ تَكْذِبَكَ أَوْ تَغُرَّكَ وَ لَرُبَّ نَاصِحٍ لَهَا عِنْدَكَ مُتَّهَمٌ وَ صَادِقٍ مِنْ خَبَرِهَا مُكَذَّبٌ وَ لَئِنْ تَعَرَّفْتَهَا فِي الدِّيَارِ الْخَاوِيَةِ وَ الرُّبُوعِ الْخَالِيَةِ لَتَجِدَنَّهَا مِنْ حُسْنِ تَذْكِيرِكَ وَ بَلَاغِ مَوْعِظَتِكَ بِمَحَلَّةِ الشَّفِيقِ عَلَيْكَ وَ الشَّحِيحِ بِكَ وَ لَنِعْمَ دَارُ مَنْ لَمْ يَرْضَ بِهَا دَاراً وَ مَحَلُّ مَنْ لَمْ يُوَطِّنْهَا مَحَلًّا وَ إِنَّ السُّعَدَاءَ بِالدُّنْيَا غَداً هُمُ الْهَارِبُونَ مِنْهَا الْيَوْمَ إِذَا رَجَفَتِ الرَّاجِفَةُ وَ حَقَّتْ بِجَلَائِلِهَا الْقِيَامَةُ وَ لَحِقَ بِكُلِّ مَنْسَكٍ أَهْلُهُ وَ بِكُلِّ مَعْبُودٍ عَبَدَتُهُ وَ بِكُلِّ مُطَاعٍ أَهْلُ طَاعَتِهِ فَلَمْ يَجْرِ فِي عَدْلِهِ وَ قِسْطِهِ يَوْمَئِذٍ خَرْقُ بَصَرٍ فِي الْهَوَاءِ وَ لَا هَمْسُ قَدَمٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا بِحَقِّهِ فَكَمْ حُجَّةٍ يَوْمَ ذَاكَ دَاحِضَةٌ وَ عَلَائِقِ عُذْرٍ مُنْقَطِعَةٌ فَتَحَرَّ مِنْ أَمْرِكَ مَا يَقُومُ بِهِ عُذْرُكَ وَ تَثْبُتُ بِهِ حُجَّتُكَ وَ خُذْ مَا يَبْقَى لَكَ مِمَّا لَا تَبْقَى لَهُ وَ تَيَسَّرْ لِسَفَرِكَ وَ شِمْ بَرْقَ النَّجَاةِ وَ ارْحَلْ مَطَايَا التَّشْمِيرِ (12/198)
شرح نهج البلاغة ج : 11 ص : 240لقائل أن يقول لو قال ما غرك بربك العزيز أو المنتقم أو نحو ذلك لكان أولى لأن للإنسان المعاتب أن يقول غرني كرمك الذي وصفت به نفسك. و جواب هذا أن يقال إن مجموع الصفات صار كشي ء واحد و هو الكريم الذي خلقك فسواك فعدلك في أي صورا شاء ركبك و المعنى ما غرك برب هذه صفته و هذا شأنه و هو قادر على أن يجعلك في أي صوره شاء فما الذي يؤمنك من أن يمسخك في صورة القردة و الخنازير و نحوها من الحيوانات العجم و معنى الكريم هاهنا الفياض على المواد بالصور و من هذه صفته ينبغي أن يخاف منه تبديل الصورة. قال ع أدحض مسئول حجة المبتدأ محذوف و الحجة الداحضة الباطلة. و المعذرة بكسر الذال العذر. و يقال لقد أبرح فلان جهالة و أبرح لؤما و أبرح شجاعة و أتى بالبرح من ذلك أي بالشديد العظيم و يقال هذا الأمر أبرح من هذا أي أشد و قتلوه أبرح قتل و جهالة منصوب على التمييز. و قال القطب الراوندي مفعول به قال معناه جلب جهالة إلى نفسه و ليس بصحيح و أبرح لا يتعدى هاهنا و إنما يتعدى أبرح في موضعين أحدهما أبرحه الأمر أي أعجبه و الآخر أبرح زيد عمرا أي أكرمه و عظمه. قوله ما جرأك بالهمزة و فلان جري ء القوم أي مقدمهم. و ما أنسك التشديد و روي ما آنسك بالمد و كلاهما من أصل واحد و تأنست شرح نهج البلاغة ج : 11 ص : 241بفلان و استأنست بمعنى و فلان أنيسي و مؤانسي و قد أنسني كله بمعنى أي كيف لم تستوحش من الأمور التي تؤدي إلى هلكة نفسك. و البلول مصدر بل الرجل من مرضه إذا برئ و يجوز أبل ل الشاعر (12/199)
إذا بل من داء به ظن أنه نجا و به الداء الذي هو قاتله
و الضاحي لحر الشمس البارز و هذا داء ممض أي مؤلم أمضني الجرح إمضاضا و يجوز مضني. و روي و جلدك على مصائبك بصيغة الجمع. و بيات نقمة بفتح الباء طروقها ليلا و هي من ألفاظ القرآن العزيز. و تورط وقع في الورطة بتسكين الراء و هي الهلاك و أصل الورطة أرض مطمئنة لا طريق فيها و قد أورطه و ورطه توريطا أي أوقعه فيها. و المدارج الطرق و المسالك و يجوز انتصاب مدارج هاهنا لأنها مفعول به صريح و يجوز أن ينتصب على تقدير حرف الخفض و حذفه أي في مدارج سطواته. قوله و تمثل أي و تصور. و يتغمدك بفضله أي يسترك بعفوه و سمى العفو و الصفح فضلا تسمية للنوع بالجنس. قوله مطرف عين بفتح الراء أي زمان طرف العين و طرفها إطباق أحد شرح نهج البلاغة ج : 11 ص : 242جفنيها على الآخر و انتصاب مطرف هاهنا على الظرفية كقولك وردت مقدم الحاج أي وقت قدومهم. قوله متوازيين في القدرة أي متساويين و روي متوازنين بنون. و العظات جمع عظة و هو منصوب على نزع الخافض أي كاشفتك بالعظات و روي العظات بالرفع على أنه فاعل و روي كاشفتك الغطاء. و آذنتك أي أعلمتك. و على سواء أي على عدل و إنصاف و هذا من الألفاظ القرآنية. و الراجفة الصيحة الأولى و حقت بجلائلها القيامة أي بأمورها العظام و المنسك الموضع الذي تذبح فيه النسائك و هي ذبائح القربان و يجوز فتح السين و قد قرئ بهما في قوله تعالى لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنا مَنْسَكاً. فإن قلت إذا كان يلحق بكل معبود عبدته فالنصارى إذن تلحق بعيسى و الغلاة من المسلمين بعلي و كذلك الملائكة فما القول في ذلك. قلت لا ضرر في التحاق هؤلاء بمعبوديهم و معنى الالتحاق أن يؤمر الأتباع في الموقف بالتحيز إلى الجهة التي فيها الرؤساء ثم يقال للرؤساء أ هؤلاء أتباعكم و عبدتكم فحينئذ يتبرءون منهم فينجو الرؤساء و تهلك الأتباع كما قال سبحانه أَ هؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كانُوا يَعْبُدُونَ قالُوا سُبْحانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنا مِنْ دُونِهِمْ (12/200)
بَلْ كانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ أي إنما كانوا يطيعون الشياطين المضلة لهم فعبادتهم في شرح نهج البلاغة ج : 11 ص : 243الحقيقة للشياطين لا لنا و إنهم ما أطاعونا وو أطاعونا لكانوا مهتدين و إنما أطاعوا شياطينهم. و لا حاجة في هذا الجواب إلى أن يقال ما قيل في قوله تعالى إِنَّكُمْ وَ ما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ من تخصيص العموم بالآية الأخرى و هي قوله تعالى إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى أُولئِكَ عَنْها مُبْعَدُونَ. فإن قلت فما قولك في اعتراض ابن الزبعري على الآية هل هو وارد. قلت لا لأنه قال تعالى إِنَّكُمْ وَ ما تَعْبُدُونَ و ما لما لا يعقل فلا يرد عليه الاعتراض بالمسيح و الملائكة و الذي قاله المفسرون من تخصيص العموم بالآية الثانية تكلف غير محتاج إليه. فإن قلت فما الفائدة في أن قرن القوم بأصنامهم في النار و أي معنى لذلك في زيادة التعذيب و السخط. قلت لأن النظر إلى وجه العدو باب من أبواب العذاب و إنما أصاب هؤلاء ما أصابهم بسبب الأصنام التي ضلوا بها فكلما رأوها معهم زاد غمهم و حسرتهم. و أيضا فإنهم قدروا أن يستشفعوا بها في الآخرة فإذا صادفوا الأمر على عكس ذلك لم يكن شي ء أبغض إليهم منها. قوله فلم يجر قد اختلف الرواة في هذه اللفظة فرواها قوم فلم يجر و هو مضارع جرى يجري تقول ما الذي جرى للقوم فيقول من سألته قدم الأمير من السفر فيكون المعنى على هذا فلم يك و لم يتجدد في ديوان حسابه ذلك اليوم صغير و لا حقير إلا بالحق و الإنصاف و هذا مثل قوله تعالى لا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ شرح نهج البلاغة ج : 11 ص : 244الْحِسابِو رواها قوم فلم يجز مضارع جاز يجوز أي لم يسغ و لم يرخص ذلك اليوم لأحد من المكلفين في حركة من الحركات المحقرات المستصغرات إلا إذا كانت قد فعلها بحق و على هذا يجوز فعل مثلها و رواها قوم فلم يجر من جار أي عدل عن (12/201)
الطريق أي لم يذهب عنه سبحانه و لم يضل و لم يشذ عن حسابه شي ء من أمر محقرات الأمور إلا بحقه أي إلا ما لا فائدة في إثباته و المحاسبة عليه نحو الحركات المباحة و العبثية التي لا تدخل تحت التكليف. و قال الراوندي خرق بصر مرفوع لأنه اسم ما لم يسم فاعله و لا أعرف لهذا الكلام معنى. و الهمس الصوت الخفي. قوله فتر من أمرك تحريت كذا أي توخيته و قصدته و اعتمدته. قوله و تيسر لسفرك أي هيئ أسباب السفر و لا تترك لذاك عائقا. و الشيم النظر إلى البرق. و رحلت مطيتي إذا شددت على ظهرها الرحل قال الأعشى (12/202)
رحلت سمية غدوة أجمالها غضبى عليك فما تقول بدا لها
و التشمير الجد و الانكماش في الأمر. و معاني الفصل ظاهرة و ألفاظه الفصيحة تعطيها و تدل عليها بما لو أراد المفسر أن يعبر عنه بعبارة غير عبارته ع لكان لفظه ع أولى أن يكون تفسيرا لكلام ذلك المفسر
شرح نهج البلاغة ج : 11 ص : 219245- و من كلام له عوَ اللَّهِ لَأَنْ أَبِيتَ عَلَى حَسَكِ السَّعْدَانِ مُسَهَّداً أَوْ أُجَرَّ فِي الْأَغْلَالِ مُصَفَّداً أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أَلْقَى اللَّهَ وَ رَسُولَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ظَالِماً لِبَعْضِ الْعِبَادِ وَ غَاصِباً لِشَيْ ءٍ مِنَ الْحُطَامِ وَ كَيْفَأَظْلِمُ أَحَداً لِنَفْسٍ يُسْرِعُ إِلَى الْبِلَى قُفُولُهَا وَ يَطُولُ فِي الثَّرَى حُلُولُهَا وَ اللَّهِ لَقَدْ رَأَيْتُ عَقِيلًا وَ قَدْ أَمْلَقَ حَتَّى اسْتَمَاحَنِي مِنْ بُرِّكُمْ صَاعاً وَ رَأَيْتُ صِبْيَانَهُ شُعْثَ الشُّعُورِ غُبْرَ الْأَلْوَانِ مِنْ فَقْرِهِمْ كَأَنَّمَا سُوِّدَتْ وُجُوهُهُمْ بِالْعِظْلِمِ وَ عَاوَدَنِي مُؤَكِّداً وَ كَرَّرَ عَلَيَّ الْقَوْلَ مُرَدِّداً فَأَصْغَيْتُ إِلَيْهِ سَمْعِي فَظَنَّ أَنِّي أَبِيعُهُ دِينِي وَ أَتَّبِعُ قِيَادَهُ مُفَارِقاً طَرِيقَتِي فَأَحْمَيْتُ لَهُ حَدِيدَةً ثُمَّ أَدْنَيْتُهَا مِنْ جِسْمِهِ لِيَعْتَبِرَ بِهَا فَضَجَّ ضَجِيجَ ذِي دَنَفٍ مِنْ أَلَمِهَا وَ كَادَ أَنْ يَحْتَرِقَ مِنْ مِيسَمِهَا فَقُلْتُ لَهُ ثَكِلَتْكَ الثَّوَاكِلُ يَا عَقِيلُ أَ تَئِنُّ مِنْ حَدِيدَةٍ أَحْمَاهَا إِنْسَانُهَا لِلَعِبِهِ وَ تَجُرُّنِي إِلَى نَارٍ سَجَرَهَا جَبَّارُهَا لِغَضَبِهِ أَ تَئِنُّ مِنَ الْأَذَى وَ لَا أَئِنُّ مِنْ لَظَى وَ أَعْجَبُ مِنْ ذَلِكَ طَارِقٌ طَرَقَنَا بِمَلْفُوفَةٍ فِي وِعَائِهَا وَ مَعْجُونَةٍ شَنِئْتُهَا كَأَنَّمَا عُجِنَتْ بِرِيقِ حَيَّةٍ أَوْ قَيْئِهَا فَقُلْتُ أَ صِلَةٌ أَمْ زَكَاةٌ أَمْ صَدَقَةٌ فَذَلِكَ مُحَرَّمٌ عَلَيْنَا أَهْلَ الْبَيْتِ فَقَالَ لَا ذَا وَ لَا ذَاكَ وَ لَكِنَّهَا هَدِيَّةٌ فَقُلْتُ هَبِلَتْكَ الْهَبُولُ أَ عَنْ دِينِ اللَّهِ أَتَيْتَنِي لِتَخْدَعَنِي أَ مُخْتَبِطٌ أَمْ ذُو جِنَّةٌ أَمْ تَهْجُرُ (12/203)
وَ اللَّهِ لَوْ أُعْطِيتُ الْأَقَالِيمَ السَّبْعَةَ بِمَا تَحْتَ أَفْلَاكِهَا عَلَى أَنْ أَعْصِيَ اللَّهَ فِي نَمْلَةٍ أَسْلُبُهَا جُلْبَ شَعِيرَةٍ شرح نهج البلاغة ج : 11 ص : 246مَا فَعَلْتُهُ وَ إِنَّ دُنْيَاكُمْ عِنْدِي لَأَهْوَنُ مِنْ وَرَةٍ فِي فَمِ جَرَادَةٍ تَقْضَمُهَا مَا لِعَلِيٍّ وَ لِنَعِيمٍ يَفْنَى وَ لَذَّةٍ لَا تَبْقَى نَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ سُبَاتِ الْعَقْلِ وَ قُبْحِ الزَّلَلِ وَ بِهِ نَسْتَعِينُ (12/204)
السعدان نبت ذو شوك يقال له حسك السعدان و حسكة السعدان و تشبه به حلمة الثدي فيقال سعدانة الثندوة و هذا النبت من أفضل مراعي الإبل و في المثل مرعى و لا كالسعدان و نونه زائدة لأنه ليس في الكلام فعلال غير مضاعف إلا خزعال و هو ظلع يلحق الناقة و قهقار و هو الحجر الصلب و قسطال و هو الغبار. و المسهد الممنوع النوم و هو السهاد. و الأغلال القيود و المصفد المقيد و الحطام عروض الدنيا و متاعها شبه لزواله و سرعة فنائه بما يتحطم من العيدان و يتكسر. ثم قال كيف أظلم الناس لأجل نفس تموت سريعا يعني نفسه ع. فإن قلت أ ليس قوله عن نفس يسرع إلى البلى قفولها يشعر بمذهب من قال بقدم الأنفس لأن القفول الرجوع و لا يقال في مذهبه للمسافرة قافلة إلا إذا كانت راجعة. قلت لا حاجة إلى القول بقدم الأنفس محافظة على هذه اللفظة و ذلك لأن النفس إذا كانت حادثة فقد كان أصلها العدم فإذا مات الإنسان عدمت نفسه فرجعت إلى العدم الأصلي و هو المعبر عنه بالبلى. شرح نهج البلاغة ج : 11 ص : 247و أملق افتقر قال تعالى وَ لا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ. و استماحني طلب مني أن أعطيه صاعا من الحنطة و الصاع أربعة أمداد و المد رطل و ثلث فمجموع ذلك خمسة أرطال ثلث رطل و جمع الصاع أصوع و إن شئت همزت و الصواع لغة في الصاع و يقال هو إناء يشرب فيه. و العظلم بالكسرة في الحرفين نبت يصبغ به ما يراد اسوداده و يقال هو الوسمة و شعث الألوان أي غبر. و أصغيت إليه أملت سمعي نحوه. و أتبع قياده أطيعه و انقاد له. و أحميت الحديدة في النار فهي محماة و لا يقال حميت الحديدة. و ذي دنف أي ذي سقم مؤلم. و من ميسمها من أثرها في يده. و ثكلتك الثواكل دعاء عليه و هو جمع ثاكلة و فواعل لا يجي ء إلا جمع المؤنث إلا فيما شذ نحو فوارس أي ثكلتك نساؤك. قوله أحماها إنسانها أي صاحبها و لم يقل إنسان لنه يريد أن يقابل هذه اللفظة بقوله جبارها. و سجرها بالتخفيف أوقدها (12/205)
و أحماها و السجور ما يسجر به التنور. قوله بملفوفة في وعائها كان أهدى له الأشعث بن قيس نوعا من الحلواء تأنق فيه و كان ع يبغض الأشعث لأن الأشعث كان يبغضه و ظن الأشعث أنه يستميله بالمهاداة لغرض دنيوي كان في نفس الأشعث و كان أمير المؤمنين شرح نهج البلاغة ج : 11 ص : 248ع يفطن لذلك و يعلمه و لذلك رد هدية الأشعث و لو لا ذلك لقبلها لأن النبي ص قبل الهدية و قد قبل علي ع هدايا جماعة من أصحابه و دعاء بعض من كان يأنس إليه إلى حلواء عملها يوم نوروز فأكل قال لم عملت هذا فقال لأنه يوم نوروز فضحك و قال نوروزا لنا في كل يوم إن استطعتم. و كان ع من لطافة الأخلاق و سجاحة الشيم على قاعدة عجيبة جميلة و لكنه كان ينفر عن قوم كان يعلم من حالهم الشنآن له و عمن يحاول أن يصانعه بذلك عن مال المسلمين و هيهات حتى يلين لضرس الماضغ الحجر. و قال بملفوفة في وعائها لأنه كان طبق مغطى. ثم قال و معجونة شنئتها أي أبغضتها و نفرت عنها كأنها عجنت بريق الحية أو بقيئها و ذلك أعظم الأسباب للنفرة من المأكول. و قال الراوندي وصفها باللطافة فقال كأنها عجنت بريق الحية و هذا تفسير أبعد من الصحيح. قوله أ صلة أم زكاة أم صدقة فذلك محرم علينا أهل البيت الصلة العطية لا يراد بها الأجر بل يراد وصلة التقرب إلى الموصول و أكثر ما تفعل للذكر و الصيت و الزكاة هي ما تجب في النصاب من المال. و الصدقة هاهنا هي صدقة التطوع و قد تسمى الزكاة الواجبة صدقة إلا أنها هنا هي النافلة. فإن قلت كيف قال فذلك محرم علينا أهل البيت و إنما يحرم عليهم الزكاة الواجبة خاصة و لا يحرم عليهم صدقة التطوع و لا قبول الصلات قلت أراد بقوله أهل البيت الأشخاص الخمسة محمدا و عليا و فاطمة و حسنا و حسينا (12/206)
شرح نهج البلاغة ج : 11 ص : 249ع فهؤلاء خاصة دون غيرهم من بني هاشم محرم عليهم الصلة و قبول الصدقة و أما غيرهم من بني هاشم فلا يحرم عليهم إلا الزكاة الواجبة خاصة. فإن قلت كيف قلت إن هؤلاء الخمسة يحرم عليهم قبول الصلات و قد كان حسن و حسين ع يقبلان صلة معاو. قلت كلا لم يقبلا صلته و معاذ الله أن يقبلاها و إنما قبلا منه ما كان يدفعه إليهما من جملة حقهما من بيت المال فإن سهم ذوي القربى منصوص عليه في الكتاب العزيز و لهما غير سهم ذوي القربى سهم آخر للإسلام من الغنائم. قوله هبلتك الهبول أي ثكلتك أمك و الهبول التي لها عادة بثكل الولد. فإن قلت ما الفرق بين مختبط و ذي جنة و يهجر. قلت المختبط المصروع من غلبه الأخلاط السوداوية أو غيرها عليه و ذو الجنة من به مس من الشيطان و الذي يهجر هو الذي يهذي في مرض ليس بصرع كالمحموم و المبرسم و نحوهما. و جلب الشعيرة بضم الجيم قشرها و الجلب و الجلبة أيضا جليدة تعلو الجرح عند البرء يقال منه جلب الجرح يجلب و يجلب و أجلب الجرح أيضا و يقال للجليدة التي تجعل على القتب جلبة أيضا. و تقضمها بفتح الضاد و الماضي قضم بالكسر شرح نهج البلاغة ج : 11 ص : 25نبذ من أخبار عقيل بن أبي طالب (12/207)
و عقيل هو عقيل بن أبي طالب ع بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف أخو أمير المؤمنين ع لأمه و أبيه و كان بنو أبي طالب أربعة طالب و هو أسن من عقيل بعشر سنين و عقيل و هو أسن من جعفر بعشر سنين و جعفر و هو أسن من علي بعشر سنين و علي و هو أصغرهم سنا و أعظمهم قدرا بل و أعظم الناس بعد ابن عمه قدرا. و كان أبو طالب يحب عقيلا أكثر من حبه سائر بنيه فلذلك قال للنبي ص و للعباس حين أتياه ليقتسما بنيه عام المحل فيخففا عنه ثقلهم دعوا لي عقيلا و خذوا من شئتم فأخذ العباس جعفرا و أخذ محمد ص عليا ع. و كان عقيل يكنى أبا يزيد
قال له رسول الله ص يا أبا يزيد إني أحبك حبين حبا لقرابتك مني و حبا لما كنت أعلم من حب عمي إياك (12/208)
أخرج عقيل إلى بدر مكرها كما أخرج العباس فأسر و فدي و عاد إلى مكة ثم أقبل مسلما مهاجرا قبل الحديبية و شهد غزوة مؤتة مع أخيه جعفر ع و توفي في خلافة معاوية في سنة خمسين و عمره ست و تسعون سنة. و له دار بالمدينة معروفة و خرج إلى العراق ثم إلى الشام ثم عاد إلى المدينة و لم يشهد مع أخيه أمير المؤمنين ع شيئا من حروبه أيام خلافته و عرض نفسه و ولده عليه فأعفاه و لم يكلفه حضور الحرب. و كان أنسب قريش و أعلمهم بأيامها و كان مبغضا إليهم لأنه كان يعد مساوئهم شرح نهج البلاغة ج : 11 ص : 251و كانت له طنفسة تطرح في مسجد رسوالله ص فيصلي عليها و يجتمع إليه الناس في علم النسب و أيام العرب و كان حينئذ قد ذهب بصره و كان أسرع الناس جوابا و أشدهم عارضة. كان يقال إن في قريش أربعة يتحاكم إليهم في علم النسب و أيام قريش و يرجع إلى قولهم عقيل بن أبي طالب و مخرمة بن نوفل الزهري و أبو الجهم بن حذيفة العدوي و حويط بن عبد العزى العامري. و اختلف الناس في عقيل هل التحق بمعاوية و أمير المؤمنين حي فقال قوم نعم و رووا أن معاوية قال يوما و عقيل عنده هذا أبو زيد لو لا علمه أني خير له من أخيه لما أقام عندنا و تركه فقال عقيل أخي خير لي في ديني و أنت خير لي في دنياي و قد آثرت دنياي أسأل الله خاتمة خير. و قال قوم إنه لم يعد إلى معاوية إلا بعد وفاة أمير المؤمنين ع و استدلوا على ذلك بالكتاب الذي كتبه إليه في آخر خلافته و الجواب الذي أجابه ع و قد ذكرناه فيما تقدم و سيأتي ذكره أيضا في باب كتبه ع و هذا القول هو الأظهر عندي و روى المدائني قال قال معاوية يوما لعقيل بن أبي طالب هل من حاجة فأقضيها لك قال نعم جارية عرضت علي و أبى أصحابها أن يبيعوها إلا بأربعين ألفا فأحب معاوية أن يمازحه فقال و ما تصنع بجارية قيمتها أربعون ألفا و أنت
أعمى تجتزئ بجارية قيمتها خمسون درهما قال أرجو أن أطأها فتلد لي غلاما إذا أغضبته يضرب عنقك بالسيف فضحك معاوية و قال مازحناك يا أبا يزيد و أمر فابتيعت له الجارية شرح نهج البلاغة ج : 11 ص : 252التي أولد منها مسلما فلما أتت على مسلم ثماني عشرة سنة و قد مات عقيل أبوه قال لمعاوية يا أمير المنين إن لي أرضا بمكان كذا من المدينة و إني أعطيت بها مائة ألف و قد أحببت أن أبيعك إياها فادفع إلي ثمنها فأمر معاوية بقبض الأرض و دفع الثمن إليه. (12/209)
فبلغ ذلك الحسين ع فكتب إلى معاوية أما بعد فإنك غررت غلاما من بني هاشم فابتعت منه أرضا لا يملكها فاقبض من الغلام ما دفعته إليه و اردد إلينا أرضنا
فبعث معاوية إلى مسلم فأخبره ذلك و أقرأه كتاب الحسين ع و قال اردد علينا مالنا و خذ أرضك فإنك بعت ما لا تملك فقال مسلم أما دون أن أضرب رأسك بالسيف فلا فاستلقى معاوية ضاحكا يضرب برجليه فقال يا بني هذا و الله كلام قاله لي أبوك حين ابتعت له أمك. ثم كتب إلى الحسين إني قد رددت عليكم الأرض و سوغت مسلما ما أخذ فقال الحسين ع أبيتم يا آل أبي سفيان إلا كرما. و قال معاوية لعقيل يا أبا يزيد أين يكون عمك أبو لهب اليوم قال إذا دخلت جهنم فاطلبه تجده مضاجعا لعمتك أم جميل بنت حرب بن أمية. و قالت له زوجته ابنة عتبة بن ربيعة يا بني هاشم لا يحبكم قلبي أبدا أين عمي أين أخي كان أعناقهم أباريق الفضة ترى آنافهم الماء قبل شفاههم قال إذا دخلت جهنم فخذي على شمالك. شرح نهج البلاغة ج : 11 ص : 25سأل معاوية عقيلا عن قصة الحديدة المحماة المذكورة فبكى و قال أنا أحدثك يا معاوية عنه ثم أحدثك عما سألت نزل بالحسين ابنه ضيف فاستسلف درهما اشترى به خبزا و احتاج إلى الإدام فطلب من قنبر خادمهم أن يفتح له زقا من زقاق عسل جاءتهم من اليمن فأخذ منه رطلا فلما طلبها ع ليقسمها قال يا قنبر أظن أنه حدث بهذا الزق حدث فأخبره فغضب ع و قال علي بحسين فرفع عليه الدرة فقال بحق عمي جعفر و كان إذا سئل بحق جعفر سكن فقال له ما حملك أن أخذت منه قبل القسمة قال إن لنا فيه حقا فإذا أعطيناه رددناه قال فداك أبوك و إن كان لك فيه حق فليس لك أن تنتفع بحقك قبل أن ينتفع المسلمون بحقوقهم أما لو لا أني رأيت رسول الله ص يقبل ثنيتك لأوجعتك ضربا ثم دفع إلى قنبر درهما كان مصرورا في ردائه و قال اشتر به خير عسل تقدر عليه قال عقيل و الله لكأني أنظر إلى يدي علي و هي على فم الزق و قنبر يقلب العسل فيه ثم شده و جعل يبكي و يقول اللهم اغفر لحسين فإنه لم يعلم (12/210)
فقال معاوية ذكرت من لا ينكر فضله رحم الله أبا حسن فلقد سبق من كان قبله و أعجز من يأتي بعده هلم حديث الحديدة. (12/211)
قال نعم أقويت و أصابتني مخمصة شديدة فسألته فلم تند صفاته فجمعت صبياني و جئته بهم و البؤس و الضر ظاهران عليهم فقال ائتني عشية لأدفع إليك شيئا فجئته يقودني أحد ولدي فأمره بالتنحي ثم قال أ لا فدونك فأهويت حريصا قد غلبني الجشع أظنها صرة فوضعت يدي على حديدة تلتهب نارا فلما قبضتها نبذتها و خرت كما يخور الثور تحت يد جازره فقال لي ثكلتك أمك هذا من حديدة شرح نهج البلاغة ج : 11 ص : 254أوقدت لها نار الدنيا فكيف بك و بي غدا إن سلكنا في سلاسل جهنم ثم قرأ إِذِ الْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ وَ السَّلاسِلُ يُسْحَبُونَ. ثقال ليس لك عندي فوق حقك الذي فرضه الله لك إلا ما ترى فانصرف إلى أهلك
فجعل معاوية يتعجب و يقول هيهات هيهات عقمت النساء أن يلدن مثله
شرح نهج البلاغة ج : 11 ص : 220255- و من دعاء له عاللَّهُمَّ صُنْ وَجْهِي بِالْيَسَارِ وَ لَا تَبْذُلْ جَاهِي بِالْإِقْتَارِ فَأَسْتَرْزِقَ طَالِبِي رِزْقِكَ وَ أَسْتَعْطِفَ شِرَارَ خَلْقِكَ وَ أُبْتَلَى بِحَمْدِ مَنْ أَعْطَانِي وَ أُفْتَتَنَ بِذَمِّ مَنْ مَنَعَنِي وَ أَنْتَ مِنْ وَرَاءِ ذَلِكَ كُلِّهِ وَلِيُّ الْإِعْطَاءِ وَ الْمَنْعِ إِنَّكَ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ صن وجهي باليسار أي استره بأن ترزقني يسارا و ثروة أستغني بهما عن مسألة الناس. و لا تبذل جاهي بالإقتار أي لا تسقط مروءتي و حرمتي بين الناس بالفقر الذي أحتاج معه إلى تكفف الناس. و روي أن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب الجواد رقت حاله في آخر عمره لأن عبد الملك جفاه فراح يوما إلى الجمعة فدعا فقال اللهم إنك عودتني عادة جريت عليها فإن كان ذلك قد انقضى فاقبضني إليك فلم يلحق الجمعة الأخرى. و
كان الحسن بن علي ع يدعو فيقول اللهم وسع علي فإنه لا يسعني إلا الكثير
شرح نهج البلاغة ج : 11 ص : 256قوله فأسترزق منصوب لأنه جواب الدعاء كقولهم ارزقني بعيرا فأحج عليه بين ع كيفية تبذل جاهه بالإقتار و فسره فقال بأن أطلب الرزق ممن يطلب منك الرزق. و أستعطف الأشرار من الناس أي أطلب عاطفتهم و إفضالهم و يلزم من ذلك أمران محذورانحدهما أن أبتلى بحمد المعطي. و الآخر أن أفتتن بذم المانع. قوله ع و أنت من وراء ذلك كله مثل يقال للمحيط بالأمر القاهر له القادر عليه كما نقول للملك العظيم هو من وراء وزرائه و كتابه أي مستعد متهيئ لتتبعهم و تعقبهم و اعتبار حركاتهم لإحاطته بها و إشرافه عليها. و ولي مرفوع بأنه خبر المبتدإ و يكون خبرا بعد خبر و يجوز أن يكون ولي هو الخبر و يكون من وراء ذلك جملة مركبة من جار و مجرور منصوبة الموضع لأنه حال (12/212)
شرح نهج البلاغة ج : 11 ص : 221257- و من خطبة له عدَارٌ بِالْبَلَاءِ مَحْفُوفَةٌ وَ بِالْغَدْرِ مَعْرُوفَةٌ لَا تَدُومُ أَحْوَالُهَا وَ لَا يَسْلَمُ نُزَّالُهَا أَحْوَالٌ مُخْتَلِفَةٌ وَ تَارَاتٌ مُتَصَرِّفَةٌ الْعَيْشُ فِيهَا مَذْمُومٌ وَ الْأَمَانُ مِنْهَا مَعْدُومٌ وَ إِنَّمَا أَهْلُهَا فِيهَا أَغْرَاضٌ مُسْتَهْدِفَةٌ تَرْمِيهِمْ بِسِهَامِهَا وَ تُفْنِيهِمْ بِحِمَامِهَا وَ اعْلَمُوا عِبَادَ اللَّهِ أَنَّكُمْ وَ مَا أَنْتُمْ فِيهِ مِنْ هَذِهِ الدُّنْيَا عَلَى سَبِيلِ مَنْ قَدْ مَضَى قَبْلَكُمْ مِمَّنْ كَانَ أَطْوَلَ مِنْكُمْ أَعْمَاراً وَ أَعْمَرَ دِيَاراً وَ أَبْعَدَ آثَاراً أَصْبَحَتْ أَصْوَاتُهُمْ هَامِدَةً وَ رِيَاحُهُمْ رَاكِدَةً وَ أَجْسَادُهُمْ بَالِيَةً وَ دِيَارُهُمْ خَالِيَةً وَ آثَارُهُمْ عَافِيَةً فَاسْتَبْدَلُوا بِالْقُصُورِ الْمَشَيَّدَةِ وَ النَّمَارِقِ الْمُمَهَّدَةِ الصُّخُورَ وَ الْأَحْجَارَ الْمُسْنَدَةَ وَ الْقُبُورَ اللَّاطِئَةَ الْمُلْحَدَةَ الَّتِي قَدْ بُنِيَ عَلَى الْخَرَابِ فِنَاؤُهَا وَ شُيِّدَ بِالتُّرَابِ بِنَاؤُهَا فَمَحَلُّهَا مُقْتَرِبٌ وَ سَاكِنُهَا مُغْتَرِبٌ بَيْنَ أَهْلِ مَحَلَّةٍ مُوحِشِينَ وَ أَهْلِ فَرَاغٍ مُتَشَاغِلِينَ لَا يَسْتَأْنِسُونَ بِالْأَوْطَانِ وَ لَا يَتَوَاصَلُونَ تَوَاصُلَ الْجِيرَانِ عَلَى مَا بَيْنَهُمْ مِنْ قُرْبِ الْجِوَارِ وَ دُنُوِّ الدَّارِ وَ كَيْفَ يَكُونُ بَيْنَهُمْ تَزَاوُرٌ وَ قَدْ طَحَنَهُمْ بِكَلْكَلِهِ الْبِلَى وَ أَكَلَتْهُمُ الْجَنَادِلُ وَ الثَّرَى وَ كَأَنْ قَدْ صِرْتُمْ إِلَى مَا صَارُوا إِلَيْهِ وَ ارْتَهَنَكُمْ ذَلِكَ الْمَضْجَعُ وَ ضَمَّكُمْ ذَلِكَ الْمُسْتَوْدَعُ فَكَيْفَ بِكُمْ لَوْ تَنَاهَتْ بِكُمُ الْأَمُورُ وَ بُعْثِرَتِ الْقُبُورُ هُنالِكَ تَبْلُوا كُلُّ شرح نهج البلاغة ج : 1ص : 258نَفْسٍ (12/213)
ما أَسْلَفَتْ وَ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ وَ ضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ (12/214)
بالبلاء محفوفة قد أحاط بها من كل جانب. و تارات جمع تارة و هي المرة الواحدة و متصرفة منتقلة متحولة. و مستهدفة بكسر الدال منتصبة مهيأة للرمي و روي مستهدفة بفتح الدال على المفعولية كأنها قد استهدفها غيرها أي جعلها أهدافا. و رياحهم راكدة ساكنة و آثارهم عافية مندرسة. و القصور المشيدة العالية و من روى المشيدة بالتخفيف و كسر الشين فمعناه المعمولة بالشيد و هو الجص. و النمارق الوسائد. و القبور الملحدة ذوات اللحود. و روي و الأحجار المسندة بالتشديد. قوله ع قد بني على الخراب فناؤها أي بنيت لا لتسكن الأحياء فيها كما تبنى منازل أهل الدنيا. و الكلكل الصدر و هو هاهنا استعارة. و الجنادل الحجارة و بعثرت القبور أثيرت. و تبلو كل نفس ما أسلفت تخبر و تعلم جزاء أعمالها و فيه حذف مضاف و من شرح نهج البلاغة ج : 11 ص : 259قرأ تتلو بالتاء بنقطتين أي تقرأ كل نفس كتابها و ضل عنهم ما كاا يفترون بطل عنهم ما كانوا يدعونه و يكذبون فيه من القول بالشركاء و أنهم شفعاء
ذكر بعض الآثار و الأشعار الواردة في ذم الدنيا
و من كلام بعض البلغاء في ذم الدنيا أما بعد فإن الدنيا قد عاتبت نفسها بما أبدت من تصرفها و إنبات عن مساوئها بما أظهرت عن مصارع أهلها و دلت على عوراتها بتغير حالاتها و نطقت ألسنة العبر فيها بزوالها و شهد اختلاف شئونها على فنائها و لم يبق لمرتاب فيها ريب و لا ناظر في عواقبها شك بل عرفها جل من عرفها معرفة يقين و كشفوها أوضح تكشيف ثم اختلجتهم الأهواء عن منافع العلم و دلتهم الآمال بغرور فلججت بهم في غمرات العجز فسبحوا في بحورها موقنين بالهلكة و رتعوا في عراصها عارفين بالخدعة فكان يقينهم شكا و علمهم جهلا لا بالعلم انتفعوا و لا بما عاينوا اعتبروا قلوبهم عالمة جاهلة و أبدانهم شاهدة غائبة حتى طرقتهم المنية فأعجلتهم عن الأمنية فبغتتهم القيامة و أورثتهم الندامة و كذلك الهوى حلت مذاقته و سمت عاقبته و الأمل ينسى طويلا و يأخذ وشيكا فانتفع امرؤ بعلمه و جاهد هواه أن يضله و جانب أمله أن يغره و قوي يقينه على العمل و نفى عنه الشك بقطع الأمل فإن الهوى و الأمل إذا استضعفا اليقين صرعاه و إذا تعاونا على ذي غفلة خدعاه فصريعهما لا ينهض سالما و خديعهما لا يزال نادما و القوي من قوي عليهما و الحازم من احترس منهما ألبسنا الله و إياكم جنة السلامة و وقانا و إياكم سوء العذاب. شرح نهج البلاغة ج : 11 ص : 260كان عمر بن عبد العزيز إذا جلس للقضاء قرأ أَ فَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْناهُمْ سِنِينَ ثُمَّ جاءَهُمْ ما كانُوا يُوعَدُونَ ما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يُمَتَّعُونَ. قال منصور بن عمار لأهل مجلسما أرى إساءة تكبر على عفو الله فلا تيأس و ربما آخذ الله على الصغير فلا تأمن و قد علمت أنك بطول عفو الله عنك عمرت مجالس الاغترار به و رضيت لنفسك المقام على سخطه و لو كنت تعاقب نفسك بقدر تجاوزه عن سيئاتك ما استمر بك لجاج فيما نهيت عنه و لا قصرت دون المبالغة فيه و لكنك رهين غفلتك و أسير حيرتك. قال إسماعيل بن زياد أبو يعقوب (12/215)
قدم علينا بعبادان راهب من الشام و نزل دير ابن أبي كبشة فذكروا حكمة كلامه فحملني ذلك على لقائه فأتيته و هو يقول إن لله عبادا سمت بهم هممهم فهووا عظيم الذخائر فالتمسوا من فضل سيدهم توفيقا يبلغهم سمو الهمم فإن استطعتم أيها المرتحلون عن قريب أن تأخذوا ببعض أمرهم فإنهم قوم قد ملكت الآخرة قلوبهم فلم تجد الدنيا فيها ملبسا فالحزن بثهم و الدمع راحتهم و الدءوب وسيلتهم و حسن الظن قربانهم يحزنون بطول المكث في الدنيا إذا فرح أهلها فهم فيها مسجونون و إلى الآخرة منطلقون. فما سمعت موعظة كانت أنفع لي منها. و من جيد شعر أبي نواس في الزهد (12/216)
يا بني النقص و الغير و بني الضعف و الخورو بني البعد في الطباع على القرب في الصور
شرح نهج البلاغة ج : 11 ص : 261و الشكول التي تباين في الطول و القصرأين من كان قبلكم من ذوي البأس و الخطرسائلوا عنهم المدائن و استبحثوا الخبرسبقونا إلى الرحيل و إنا لبالأثرمن مضى عبرة لنا و غدا نحن معتبرأن للموت أخذة تسبق اللمح بالبصرفكأني بكم غدا في ثيابن المدرقد نقلتم من القصور إلى ظلمة الحفرحيث لا تضرب القباب عليكم و لا الحجرحيث لا تطربون منه للهو و لا سمررحم الله مسلما ذكر الموت فازدجررحم الله مؤمنا خاف فاستشعر الحذر
و من جيد شعر الرضي أبي الحسن رحمه الله في ذكر الدنيا و تقلبها بأهلها
و هل نحن إلا مرامي السهام يحفزها نابل دائب نسر إذا جازنا طائش و نجزع إن مسنا صائب ففي يومنا قدر لا بد و عند غد قدر واث شرح نهج البلاغة ج : 11 ص : 262طرائد تطردها النائبات و لا بد أن يدرك الطالب أرى المرء يفعل فعل الحديد و هو غدا حمأ لازب عواري من سلب الهالكين يمد يدا نحوها السالب لنا بالردى موعد صادق و نيل المنى موعد كاذب حبائل للدهر مبثوثه يرد إلى جذبها الهارب و كز غاياتنا و قد بلغ المورد القارب نصبح بالكأس مجدحة ذعافا و لا يعلم الشاربو قال أيضا و هي من محاسن شعره
ما أقل اعتبارنا بالزمان و أشد اغترارنا بالأماني وقفات على غرور و إقدام على مزلق من الحدثان في حروب مع الردى فكانا اليوم في هدنة مع الأزمان و كفانا مذكرا بالمنايا علمنا أننا من الحيوان كل يوم رزية بفلان و وقوع من الردى بفلان كم تراني أضل نفسا و ألهو فكثقت بالوجدان قل لهذي الهوامل استوقفي السير أو استنشدي عن الأعطان و استقيمي قد ضمك اللقم النهج و غني وراءك الحاديا شرح نهج البلاغة ج : 11 ص : 263كم محيدا عن الطريق وقد ضرح خلج البرى و جذب العران ننثني جازعين من عدوة الدهر و نرتاع للمنايا الرواني جفلة السرب في الظلام و قد ذعذع روعا من عدوة الذؤبان ثم ننسى جرح الحمام و إن كان رغيبا يا قرب ذا النسيان كل يوم تزايل م بالردى أو تباعد من دان و سواء مضى بنا القدر الجد عجولا أو ماطل العصرانو أيضا من هذه القصيدة قد مررنا على الديار خشوعا و رأينا البنا فأين الباني و جهلنا الرسوم ثم علمنا فذكرنا الأوطار بالأوطان التفاتا إلى القرون الخوالي هل ترى اليوم غير قرن فان أين رب السدير فالحيرة البيضاء أم أين صاحب الإيوان و السيوف الحداد من آل بدر و القنا الصم من بني الرردتهم وقائع الدهر عن لعلع طرد السفاف عن نجران و المواضي من آل جفنة أرسى طنبا ملكهم على الجولان يكرعون العقار في فلق الإبريز كرع الظماء في الغدران من أباة اللعن الذين يحيون بها في معاقد التيجان تتراءاهم الوفود بعيدا ضاربين الصدور بالأذ شرح نهج البلاغة ج : 11 ص : 264في رياض من السماح حوال و جبال من الحلوم رزان و هم الماء لذ للناهل الظمآن بردا و النار للحيران كل مستيقظ الجنان إذا أظلم ليل النوامة المبطان يغتدي في السباب غير شجاع و يرى في النزال غير جبان ما ثنت عنهم المنون يدا شوكاء ا من المران عطف الدهر فرعهم فرءاه بعد بعد الذرى قريب المجاني وثنتهم بعد الجماح المنايا في عنان التسليم و الإذعان عطلت منهم المقاري و باخت في حماهم مواقد (12/217)
النيران ليس يبقى على الزمان جري ء في إباء أو عاجز في هوان لا شبوب من الصوار و لا أعنق يرعى منابت ن لا و لا خاضب من الربد يختال بريط أحم غير يمان يرتمي وجهة الرئال إذا آنس لون الإظلام و الإدجان و عقاب الملاع تلحم فرخيها بإزليقة زلول القنان نائلا في مطامح الجو هاتيك و ذا في مهابط الغيو هذا شعر فصيح نادر معرق في العربية. شرح نهج البلاغة ج : 11 ص : 265و من شعره الجيد أيضا في ذكر الدنيا و مصائبهاأ و ما رأيت وقائع الدهر أ فلا تسي ء الظن بالعمربينا الفتى كالطود تكنفه هضباته و العضب ذي الأثريأبى الدنية في عشيرته و يجاذب الأيدي على الفخرو إذا أشار إلى قبائله حشدت عليه بأوجه غريترادفون على الرماح فهم سيل يعب و عارض يسري إن نهنهوا زادوا مقاربة فكأنما عون بالزجرعدد النجوم إذا دعي بهم يتزاحمون تزاحم الشعرعقدوا على الجلى مآزرهم سبطي الأنامل طيبي النشرزل الزمان بوطء أخمصه و مواطئ الأقدام للعثرنزع الإباء و كان شملته و أقر إقرارا على صغرصدع الردى أعيا تلاحمه من ألحم الصدفين بالقطرجر الجياد على الوجى و مضى أمما يدق السهل بالوعرحتى التقى بالشمس مغمدة في قعر منقطع من البحرثم انثنت كف المنون به كالضغث بين الناب و الظفرلم تشتجر عنه الرماح و لا رد القضاء بماله الدثرجمع الجنود وراءه فكأنما لاقته و هو مضيع الظهرو بنى الحصون تمنعا فكأنما أمسى بمضيعة و ما يدري و بري امعابل للعدا فكأنما لحمامه كان الذي يبري (12/218)
شرح نهج البلاغة ج : 11 ص : 266إن التوقي فرط معجزة فدع القضاء يقد أو يفري و حمى المطاعم للبقا و ذي الآجال مل ء فروجها تجري لو كان حفظ النفس ينفعنا كان الطبيب أحق بالعمرالموت داء لا دواء له سيان ما يوبي و ما و هذا من حر الكلام و فصيحه و نادره و لا عجب فهذه الورقة من تلك الشجرة و هذا القبس من تلك النار
شرح نهج البلاغة ج : 11 ص : 222267- و من دعاء له عاللَّهُمَّ إِنَّكَ آنَسُ الآْنِسِينَ لِأَوْلِيَائِكَ وَ أَحْضَرُهُمْ بِالْكِفَايَةِ لِلْمُتَوَكِّلِينَ عَلَيْكَ تُشَاهِدُهُمْ فِي سَرَائِرِهِمْ وَ تَطَّلِعُ عَلَيْهِمْ فِي ضَمَائِرِهِمْ وَ تَعْلَمُ مَبْلَغَ بَصَائِرِهِمْ فَأَسْرَارُهُمْ لَكَ مَكْشُوفَةٌ وَ قُلُوبُهُمْ إِلَيْكَ مَلْهُوفَةٌ إِنْ أَوْحَشَتْهُمُ الْغُرْبَةُ آنَسَهُمْ ذِكْرُكَ وَ إِنْ صُبَّتْ عَلَيْهِمُ الْمَصَائِبُ لَجَئُوا إِلَى الِاسْتِجَارَةِ بِكَ عِلْماً بِأَنَّ أَزِمَّةَ الْأُمُورِ بِيَدِكَ وَ مَصَادِرَهَا عَنْ قَضَائِكَ اللَّهُمَّ إِنْ فَهِهْتُ عَنْ مَسْأَلَتِي أَوْ عَمِيتُ عَنْ طِلْبَتِي فَدُلَّنِي عَلَى مَصَالِحِي وَ خُذْ بِقَلْبِي إِلَى مَرَاشِدِي فَلَيْسَ ذَلِكَ بِنُكْرٍ مِنْ هِدَايَاتِكَ وَ لَا بِبِدْعٍ مِنْ كِفَايَاتِكَ اللَّهُمَّ احْمِلْنِي عَلَى عَفْوِكَ وَ لَا تَحْمِلْنِي عَلَى عَدْلِكَ (12/219)
أنست ضد وحشت و الإيناس ضد الإيحاش و كان القياس أن يقول إنك آنس المؤنسين لأن الماضي أفعل و إنما الآنسون جمع آنس و هو الفاعل من أنست بكذا لا من آنست فالرواية الصحيحة إذن بأوليائك أي أنت أكثرهم أنسا بأوليائك و عطفا و تحننا عليهم. و أحضرهم بالكفاية أي أبلغهم إحضارا لكفاية المتوكلين عليهم و أقومهم بذلك شرح نهج البلاغة ج : 11 ص : 268تشاهدهم في سرائرهم أي تطلع على غيبهم و البصائر العزائم نفذت بصيرته في كذا أي حق عزمه. و قلوبهم إليك ملهوفة أي صارخة مستغيثه. و فههت عن مسألتي بالكسر عييت و الفهة و الفهاهة العي رجل ه و رجل فه أيضا و امرأة فههة قال الشاعر
فلم تلفني فها و لم تلف حاجتي ملجلجة أبغي لها من يقيمها
و قد فههت يا رجل فهها أي عييت و يقال سفيه فهيه و فههه الله و خرجت لحاجة فأفهني عنها فلان أي أنسانيها. و يروى أو عمهت بالهاء و الميم المكسورة و العمه التحير و التردد عمه الرجل فهو عمه و عامه و الجمع عمه و أرض عمهاء لا أعلام بها. و النكر العجب و البدع المبتدع و منه قوله تعالى قُلْ ما كُنْتُ بِدْعاً مِنَ الرُّسُلِ أي لم آت بما لم أسبق إليه. و مثل قوله ع اللهم احملني على عفوك و لا تحملني على عدلك قول المروانية للهاشمية لما قتل مروان في خبر قد اقتصصناه قديما ليسعنا عدلكم قالت الهاشمية إذن لا نبقي منكم أحدا لأنكم حاربتم عليا ع و سممتم الحسن ع و قتلتم الحسين و زيدا و ابنه و ضربتم علي بن عبد الله و خنقتم إبراهيم الإمام في جراب النورة. قالت قد يسعنا عفوكم قالت أما هذا فنعم شرح نهج البلاغة ج : 11 ص : 26أدعية فصيحة من كلام أبي حيان التوحيدي (12/220)
و من الدعوات الفصيحة المستحسنة فصول من كلام أبي حيان التوحيدي نقلتها. فمنها اللهم إني أبرأ من الثقة إلا بك و من الأمل إلا فيك و من التسليم إلا لك و من التفويض إلا إليك و من التوكل إلا عليك و من الطلب إلا منك و من الرضا إلا عنك و من الذل إلا في طاعتك و من الصبر إلا على بلائك و أسألك أن تجعل الإخلاص قرين عقيدتي و الشكر على نعمك شعاري و دثاري و النظر إلى ملكوتك دأبي و ديدني و الانقياد لك شأني و شغلي و الخوف منك أمني و إيماني و اللياذ بذكرك بهجتي و سروري. اللهم تتابع برك و اتصل خيرك و عظم رفدك و تناهى إحسانك و صدق وعدك و بر قسمك و عمت فواضلك و تمت نوافلك و لم تبق حاجة إلا و قد قضيتها أو تكلفت بقضائها فاختم ذلك كله بالرضا و المغفرة إنك أهل ذلك و القادر عليه و الملي به. و منها اللهم إني أسألك خفايا لطفك و فواتح توفيقك و مألوف برك و عوائد إحسانك و جاه المقدسين من ملائكتك و منزلة المصطفين من رسلك و مكاثرة الأولياء من خلقك و عاقبة المتقين من عبادك. و أسألك القناعة برزقك و الرضا بحكمك و النزاهة عن محظورك و الورع في شبهاتك و القيام بحجتك و الاعتبار بما أبديت و التسليم لما أخفيت و الإقبال على ما أمرت و الوقوف عما زجرت حتى أتخذ الحق حجة عند ما خف و ثقل و الصدق سنة فيما عسر و سهل و حتى أرى أن شعار الزهد أعز شعار و منظر الباطل أشوه منظر شرح نهج البلاغة ج : 11 ص : 270فأتبختر في ملكوتك بفضفاض الرداء بالدعاء إليك و أبلغ الغاية القصوى بين خلقك بالثناء عليك. و منها اللهم إليك أع عجري و بجري و بك أستعين في عسري و يسري و إياك أدعو رغبا و رهبا فإنك العالم بتسويل النفس و فتنة الشيطان و زينة الهوى و صرف الدهر و تلون الصديق و بائقة الثقة و قنوط القلب و ضعف المنة و سوء الجزع. فقني اللهم ذلك كله و اجمع من أمري شمله و انظم من شأني شتيته و احرسني عند الغنى من البطر و عند الفقر من الضجر و عند الكفاية من (12/221)
الغفلة و عند الحاجة من الحسرة و عند الراحة من الفسولة و عند الطلب من الخيبة و عند المنازلة من الطغيان و عند البحث من الاعتراض عليك و عند التسليم من التهمة لك. و أسألك أن تجعل صدري خزانة توحيدك و لساني مفتاح تمجيدك و جوارحي خدم طاعتك فإنه لا عز إلا في الذل لك و لا غنى إلا في الفقر إليك و لا أمن إلا في الخوف منك و لا قرار إلى في القلق نحوك و لا روح إلا في الكرب لوجهك و لا ثقة إلا في تهمة خلقك و لا راحة إلا في الرضا بقسمك و لا عيش إلا في جوار المقربين عندك. و منها اللهم ببرهانك الصادع و بنور وجهك الساطع صل على محمد نبيك نبي الرحمة و قائد الأمة و إمام الأئمة و احرس علي إيماني بك بالتسليم لك و خفف عني مئونة الصبر على امتحانك و واصل لي أسباب المزيد عند الشكر على نعمتك و اجعل بقية عمري في غنى عن خلقك و رضا بالمقدم من رزقك. (12/222)
شرح نهج البلاغة ج : 11 ص : 271اللهم إنك إن آخذتنا بذنوبنا خسفت الأرض بنا و إن جازيتنا على ظلمنا قطعت دوابرنا فإنك قلت فَقُطِعَ دابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ اللهم إليك نشكو قسوة قلوبنا و غل صدورنا و فتنة أنفا و طموح أبصارنا و رفث ألسنتنا و سخف أحلامنا و سوء أعمالنا و فحش لجاجنا و قبح دعوانا و نتن أشرارنا و خبث أخيارنا و تلزق ظاهرنا و تمزق باطننا. اللهم فارحمنا و ارأف بنا و اعطف علينا و أحسن إلينا و تجاوز عنا و اقبل الميسور منا فإننا أهل عقوبة و أنت أهل مغفرة و أنت بما وصفت به نفسك أحق منا بما وسمنا به أنفسنا فإن في ذلك ما اقترن بكرمك و أدى إلى عفوك و من قبل ذلك و بعده فألب عيشنا بنعمتك و أرح أرواحنا من كد الأمل في خلقك و خذ بأزمتنا إلى بابك و أله قلوبنا عن هذه الدار الفانية و ازرع فيها محبة الدار الباقية و قلبنا على بساط لطفك و حثنا بالإحسان إلى كنفك و رفهنا عن التماس ما عند غيرك و اغضض عيوننا من ملاحظة ما حجب من غيرك و صل بيننا و بين الرضا عنك و ارفع عنا مئونة العرض عليك و خفف علينا كل ما أوصلنا إليك و أذقنا حلاوة قربك و اكشف عن سرائرنا سواتر حجبك و وكل بنا الحفظة و ارزقنا اليقظة حتى لا نقترف سيئة و لا نفارق حسنة إنك قائم على كل نفس بما كسبت و أنت بما نخفي و ما نعلن خبير بصير. و منها اللهم أنت الحي القيوم و الأول الدائم و الإله القديم و البارئ المصور و الخالق المقدس و الجبار الرفيع و القهار المنيع و الملك الصفوح و الوهاب المنوح شرح نهج البلاغة ج : 11 ص : 272و الرحمن الرءوف و الحنان العطوف و المنان اللطيف مالك الذوائب و النواصي و حافظ الأداني و الأقاصي و مصرف المطيع و العاصي. اللهم أنت الظاهر الذي لا يجحدك جاحد إلا زايلته الطمأنينة و أسلمه اليأس و أوحشه القنوط رحلت عنه العصمة و تردد بين رجاء قد نأى عنه التوفيق و أمل قد حفت به (12/223)
الخيبة و طمع يحوم على أرجاء التكذيب و سر قد أطاف به الشقاء و علانية قد أناف عليها البلاء موهون المنة منسوخ العقدة مسلوب العدة تشنؤه العين و تقليه النفس عقله عقل طائر و لبه لب حائر و حكمه حكم جائر لا يروم قرارا إلا أزعج عنه و لا يستفتح بابا إلا أرتج دونه و لا يقتبس ضرما إلا أجج عليه عثرته موصولة بالعثرة و حسرته مقرونة إلى حسرة إن سمع زيف و إن قال حرف و إن قضى خرف و إن احتج زخرف و لو فاء إلى الحق لوجد ظله ظليلا و أصاب تحته مثوى و مقيلا و أنت الباطن الذي لا يرومك رائم و لا يحوم على حقيقتك حائم إلا غشيه من نور إلهيتك و عز سلطانك و عجيب قدرتك و باهر برهانك و غرائب غيوبك و خفي شأنك و مخوف سطوتك و مرجو إحسانك ما يرده خاسئا من مزحزحه عن الغاية خجلا مبهورا و يرده إلى عجزه ملتحفا بالندم مرتديا بالاستكانة راجعا إلى الصغار موقوفا مع الذلة فظاهرك يدعو إليك بلسان الاضطرار و باطنك يحير فيك لسعة قضاء الاعتبار و فعلك يدل عليك الأسماع و الأبصار و حكمتك تعجب منك الألباب و الأسرار لك السلطان و الملكة و بيدك النجاة و الهلكة فإليك المفر و معك المقر و منك صنوف الإحسان و البر أسألك بأصح سر و أكرم لفظ و أفصح لغة و أتم إخلاص و أشرف همة و أفضل نية و أطهر عقيدة و أثبت يقين أن تصد عني (12/224)
شرح نهج البلاغة ج : 11 ص : 273كل ما يصد عنك و تصلني بكل ما يصل بك و تحبب إلي كل ما يحبب إليك فإنك الأول و الثاني و المشار إليه في جميع المعاني لا إله إلا أنت. و منها اللهم إني أسألك جدا مقرونا بالتوفيق و علما بريئا من الجهل و عملا عريا من الرياء و قولا شحا بالصواب و حالا دائرة مع الحق و فطنة عقل مضروبة في سلامة صدور و راحة جسم راجعة إلى روح بال و سكون نفس موصولا بثبات يقين و صحة حجة بعيدة من مرض شبهة حتى تكون غايتي في هذه الدنيا موصولة بالأمثل فالأمثل و عاقبتي عندك محمودة بالأفضل فالأفضل من حياة طيبة أنت الواعد بها و نعيم دائم أنت المبلغ إليه. اللهم لا تخيب رجاء هو منوط بك و لا تصفر كفا هي ممدودة إليك و لا تعذب عينا فتحتها بنعمتك و لا تذل نفسا هي عزيزه بمعرفتك و لا تسلب عقلا هو مستضي ء بنور هدايتك و لا تخرس لسانا عودته الثناء عليك فكما كنت أولا بالتفضل فن آخرا بالإحسان. الناصية بيدك و الوجه عان لك و الخير متوقع منك و المصير على كل حال إليك. ألبسني في هذه الحياة البائدة ثوب العصمة و حلني في تلك الدار الباقية بزينة الأمن و أفطم نفسي عن طلب العاجلة الزائدة و أجرني على العادة الفاضلة و لا تجعلني ممن سها عن باطن ما لك عليه بظاهر ما لك عنده فالشقي من لم تأخذ بيده و لم تؤمنه من غده و السعيد من آويته إلى كنف نعمتك و نقلته حميدا إلى منازل رحمتك غير مناقش في الحساب و لا سائق له إلى العذاب فإنك على ذلك قدير. و منها اللهم اجعل غدونا إليك مقرونا بالتوكل عليك و رواحنا عنك موصولا شرح نهج البلاغة ج : 11 ص : 274بالنجاح منك و إجابتنا لك راجعة إلى التهالك فيك و ذكرنا إياك منوطا بالسكون معك و ثقتنا بك هادئة إلى التفويض إليك و لا تخلنا من يد تستوعب الشكر و من شكر يمتري خلف المزيد و من مزيد يسبق اقتراح المقترحين و صنع يفوق ذرعلطالبين حتى نلقاك مبشرين بالرضا محكمين في المنى غير مناقشين و لا (12/225)
مطرودين. اللهم أعذنا من جشع الفقير و ريبة المنافق و تجليح المعاند و طيشة العجول و فترة الكسلان و حيلة المستبد و فتور العقل و حيرة المخرج و حسرة المحوج و فلتة الذهول و حرقة النكول و رقة الخائف و طمأنينة المغرور و غفلة الغرور. و اكفنا مئونة أخ يرصد مسكونا إليه و يمكر موثوقا به و يخيس معتمدا عليه. و صل الكفاية بالسلوة عن هذه الدنيا و اجعل التهافنا عليها حنينا إلى دار السلام و محل القرار و غلب إيماننا بالغيب على يقيننا بالعيان و احرسنا من أنفسنا فإنها ينابير الشهوة و مفاتيح البلوى. و أرنا من قدرتك ما يحفظ علينا هيبتك و أوضح لنا من حكمتك ما يقلبنا في ملكوتك و أسبغ علينا من نعمتك ما يكون لنا عونا على طاعتك و أشع في صدورنا من نورك ما تتجلى به حقائق توحيدك و اجعل ديدننا ذكرك و عادتنا الشوق إليك و علمنا النصح لخلقك و اجعل غايتنا الاتصال بك و احجبنا عن قول يبرئ من رضاك و عمل يعمى صاحبه عن هداك و ألف بيننا و بين الحق و قربنا من معادن الصدق و اعصمنا من بوائق الخلق و انقلنا من مضايق الرق و اهدنا إلى فوائد العتق. اللهم إنك بدأت بالصنع و أنت أهله فعد بالتوفيق فإنك أهله. (12/226)
شرح نهج البلاغة ج : 11 ص : 275اللهم إنا نتضاءل لك عند مشاهدة عظمتك و ندل عليك عند تواتر برك و نذل لك عند ظهور آياتك و نلح عليك عند علمنا بجودك. و نسألك من فضلك ما لا يرزؤك و لا ينكؤك و نتوسل إليك بتوحيد لا ينتمي إليه خلق و لا يفارقه حق. و منها اللهم عليأتوكل و بك أستعين و فيك أوالي و بك أنتسب و منك أفرق و معك أستأنس و لك أمجد و إياك أسأل لسانا سمحا بالصدق و صدرا قد ملئ من الحق و أملا منقطعا عن الخلق و حالا مكنونها يبوئ الجنة و ظاهرها يحقق المنة و عاقبة تنسي ما سلف و تتصل بما يتمنى و يتوكف. و أسألك اللهم كبدا رجوفا خئوفا و دمعا نطوفا شوقا إليك و نفسا عزوفا إذعانا لك و سرا ناقعا ببرد الإيمان بك و نهارا مشتملا على ما كسب من مرضاتك و ليلا مالئا بما أزلف لديك. أشكو إليك اللهم تلهفي على ما يفوتني من الدنيا و إنني في طاعة الهوى جاهلا بحقك ساهيا عن واجبك ناسيا ما تكرره من وعظك و إرشادك و بيانك و تنبيهك حتى كان حلاوة وعدك لم تلج أذني و لم تباشر فؤادي و حتى كأني مرارة عتابك و لائمتك لم تهتك حجابي و لم تعرض علي أوصابي. اللهم إليك المفر من دار منهومها لا يشبع و حائمها لا ينقع و طالبها لا يربع و واجدها لا يقنع و العيش عنك رقيق و للأمل فيك تحقيق. اللهم كما ابتليت بحكمتك الخفية التي أشكلت على العقول و حارت معها البصائر فعاف برحمتك اللطيفة التي تطاولت إليها الأعناق و تشوفت نحوها السرائر و خذ معنا بالفضل الذي إليك هو منسوب و عنك هو مطلوب و أفطم نفوسنا من رضاع الدنيا شرح نه البلاغة ج : 11 ص : 276و الطف بما أنت له أهل إنك على كل شي ء قدير. اللهم قدنا بأزمة التوحيد إلى محاضر طاعتك و اخلطنا في زمرة المخلصين لذكرك و اجعل إجابتك من قبيل ما يتصل بكرم عفوك و لا تجعل خيبتنا من قبل جهلنا بقدرك و إضرابنا عن أمرك فلا سائل أحوج منا و مسئول أجود منك. اللهم احجر بيننا و بين كل ما دل على غيرك ببيانك و (12/227)
دعا إلى سواك ببرهانك و انقلنا عن مواطن العجز مرتقيا بنا إلى شرفات العز فقد استحوذ الشيطان و خبثت النفس و ساءت العادة و كثر الصادون عنك و قل الداعون إليك و ذهب المراعون لأمرك و فقد الواقفون عند حدودك و خلت ديار الحق من سكانها و بيع دينك بيع الخلق و استهزئ بناشر مجدك و أقصي المتوسل بك. اللهم فأعد نضارة دينك و أفض بين خلقك بركات إحسانك و امدد عليهم ظل توفيقك و اقمع ذوي الاعتراض عليك و اخسف بالمقتحمين في دقائق غيبك و اهتك أستار الهاتكين لستر دينك و القارعين أبواب سرك القائسين بينك و بين خلقك اللهم إني أسألك أن تخصني بإلهام اقتبس الحق منه و توفيق يصحبني و أصحبه و لطف لا يغيب عني و لا أغيب عنه حتى أقول إذا قلت لوجهك و أسكت إذا سكت بإذنك و أسأل إذا سألت بأمرك و أبين إذا أبنت بحجتك و أبعد إذا بعدت بإجلالك و أقرب إذا قربت برحمتك و أعبد إذا عبدت مخلصا لك و أموت إذا مت منتقلا إليك اللهم فلا تكلني إلى غيرك و لا تؤيسني من خيرك. و منها اللهم إنا بك نعز كما إنا بغيرك نذل و إياك نرجو كما إنا من غيرك نيأس و إليك نفوض كما إنا من غيرك نعرض أذنت لنا في دعائك و أدنيتنا إلى فنائك و هيأتنا لعطائك و خصصتنا بحبائك و وسمتنا بولائك و عممتنا بآلائك و غمستنا في نعمائك و ناغيتنا بألسن ملكوتك عن دفائن ما في عالمك و لاطفتنا بظاهر قولك (12/228)
شرح نهج البلاغة ج : 11 ص : 277و توليتنا بباطن فعلك فسمت نحوك أبصارنا و شامت بروق جودك بصائرنا فلما استقر ما بيننا و بينك أرسلت علينا سماء فضلك مدرارا و فتحت لنا منا أسماعا و أبصارا فرأينا ما طاح معه تحصيلنا و سمعنا ما فارقنا عنده تفضيلنا فلما سرنا إلى خك من ذلك ذروا اتخذونا من أجله لعبا و هزوا فبقدرتك على بلوانا بهم أرنا بك الغنى عنهم اللهم قيض لنا فرجا من عندك و أنح لنا مخلصا إليك فإنا قد تعبنا بخلقك و عجزنا عن تقويمهم لك و نحن إلى مقاربتهم في مخالفتك أقرب منا إلى منابذتهم في موافقتك لأنه لا طاقة لنا بدهمائهم و لا صبر لنا على بلوائهم و لا حيلة لنا في شفائهم فنسألك بالضراعة التامة و بالإخلاص المرفود إلا أخذت بأيدينا و أرسلت رحمتك علينا فما أقدرك على الإجابة و ما أجودك بكل مصون يا ذا الجلال و الإكرام. و منها اللهم إنا قربنا بك فلا تنئنا عنك و ظهرنا لك فلا تبطنا دونك و وجدناك بما ألقيت إلينا من غيب ملكوتك و عزفنا عن كل ما لوانا عن بابك و وثقنا بكل ما وعدتنا في كتابك و توكلنا بالسر و العلن على لطيف صنعك. اللهم إليك نظرت العيون فعادت خاسئة عبرى و فيك تقسمت الظنون فانقلبت يائسة حسرى و في قدرتك حارت الأبصار و في حكمتك طاحت البصائر و في آلائك غرقت الأرواح و على ما كان منك تقطعت الأنفاس و من أجل إعراضك التهبت الصدور و لذكر ما مضى منك هملت الدموع اللهم تولنا فيما وليتنا حتى لا نتولى عنك و أمنا مما خوفتنا حتى نقر معك و أوسعنا رحمتك حتى نطمئن إلى ما وعدتنا في كتابك و فرق بيننا و بين الغل حتى لا نعامل به خلقك و أغننا بك حتى لا نفتقر إلى عبادك فإنك إذا يسرت أمرا تيسر و مهما بلوتنا فلا تبلنا بهجرك و لا تجرعنا مرارة سخطك لا قد اعترفنا بربوبيتك شرح نهج البلاغة ج : 11 ص : 278عبودية لك فعرفنا حقيقتها بالعفو عنا و الإقبال علا و الرفق بنا يا رحيم. و منها اللهم إن الرغبات بك منوطة و الوسائل (12/229)
إليك متداركة و الحاجات ببابك مرفوعة و الثقة بك مستحصفة أي مستحكمة و الأخبار بجودك شائعة و الآمال نحوك نازعة و الأماني وراءك منقطعة و الثناء عليك متصل و وصفك بالكرم معروف و الخلائق إلى لطفك محتاجة و الرجاء فيك قوي و الظنون بك جميلة و الأعناق لعزك خاضعة و النفوس إلى مواصلتك مشتاقة و الأرواح لعظمتك مبهوته لأنك لإله العظيم و الرب الرحيم و الجواد الكريم و السميع العليم تملك العالم كله و ما بعده و ما قبله و لك فيه تصاريف القدرة و خفيات الحكمة و نوافذ الإرادة و لك فيه ما لا ندريه مما تخفيه و لا تبديه جللت عن الإجلال و عظمت عن التعظيم و قد أزف ورودنا عليك و وقوفنا بين يديك و ظننا ما قد علمت و رجاؤنا ما قد عرفت فكن عند ظننا بك و حقق رجاءنا فيك فما خالفناك جرأة عليك و لا عصيناك تقحما في سخطك و لا اتبعنا هوانا استهزاء بأمرك و نهيك و لكن غلبت علينا جواذب الطينة التي عجنتنا بها و بذور الفطرة التي أنبتنا منها فاسترخت قيودنا عن ضبط أنفسنا و عزبت ألبابنا عن تحصيل حظوظنا و لسنا ندعي حجة و لكن نسألك رأفة فبسترك السابغ الذيال و فضلك الذي يستوعب كل مقال إلا تممت ما سلف منك إلينا و عطفت بجودك الفياض علينا و جذبت بأضباعنا و أقررت عيوننا و حققت آمالنا إنك أهل ذلك و أنت على كل شي ء قدير (12/230)
شرح نهج البلاغة ج : 12 ص : 3الجزء الثاني عشرتتمة باب الخطب و الأوامر (13/1)
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله الواحد العدل
223- و من كلام له ع
لِلَّهِ بِلَادُ فُلَانٍ فَلَقَدْ قَوَّمَ الْأَوَدَ وَ دَاوَى الْعَمَدَ وَ أَقَامَ السُّنَّةَ وَ خَلَّفَ الْفِتْنَةَ ذَهَبَ نَقِيُّ الثَّوْبِ قَلِيلَ الْعَيْبِ أَصَابَ خَيْرَهَا وَ سَبَقَ شَرَّهَا. أَدَّى إِلَى اللَّهِ طَاعَتَهُ وَ اتَّقَاهُ بِحَقِّهِ رَحَلَ وَ تَرَكَهُمْ فِي طُرُقِ مُتَشَعِّبَةٍ لَا يَهْتَدِي بِهَا الضَّالُّ وَ لَا يَسْتَيْقِنُ الْمُهْتَدِي
العرب تقول لله بلاد فلان و لله در فلان و لله نادي فلان و لله نائح فلان و المراد بالأول لله البلاد التي أنشأته و أنبتته و بالثاني لله الثدي الذي أرضعه و بالثالث لله المجلس الذي ربي فيه و بالرابع لله النائحة التي تنوح عليه و تندبه ما ذا تعهد من محاسنه. و يروى لله بلاء فلان أي لله ما صنع و فلان المكنى عنه عمر بن الخطاب و قد وجدت النسخة التي بخط الرضي أبي الحسن جامع نهج البلاغة و تحت فلان عمر شرح نهج البلاغة ج : 12 ص : 4حدثني بذلك فخار بن معد الموسوي الأودي الشاعر و سألت عنه النقيب أبا جعفر يحيى بن أبي زيد الوي فقال لي هو عمر فقلت له أ يثني عليه أمير المؤمنين ع هذا الثناء فقال نعم أما الإمامية فيقولون إن ذلك من التقية و استصلاح أصحابه و أما الصالحيون من الزيدية فيقولون إنه أثنى عليه حق الثناء و لم يضع المدح إلا في موضعه و نصابه و أما الجارودية من الزيدية فيقولون إنه كلام قاله في أمر عثمان أخرجه مخرج الذم له و التنقص لأعماله كما يمدح الآن الأمير الميت في أيام الأمير الحي بعده فيكون ذلك تعريضا به. فقلت له إلا أنه لا يجوز التعريض و الاستزادة للحاضر بمدح الماضي إلا إذا كان ذلك المدح صدقا لا يخالطه ريب و لا شبهة فإذا اعترف أمير المؤمنين بأنه أقام السنة و ذهب نقي الثوب قليل العيب و أنه أدى إلى الله طاعته و اتقاه بحقه فهذا غاية ما يكون من المدح و فيه إبطال قول من طعن على عثمان بن عفان. فلم يجبني بشي ء و قال هو ما قلت لك. فأما الراوندي فإنه قال في الشرح إنه ع مدح بعض أحابه بحسن السيرة و إن الفتنة هي التي وقعت بعد رسول الله ص من الاختيار و الأثرة. و هذا بعيد لأن لفظ أمير المؤمنين يشعر إشعارا ظاهرا بأنه يمدح واليا ذا رعية و سيرة أ لا تراه كيف يقول فلقد قوم الأود و داوى العمد و أقام السنة و خلف الفتنة و كيف يقول أصاب خيرها و سبق شرها و كيف يقول أدى إلى الله طاعته و كيف يقول رحل و تركهم (13/2)
في طرق متشعبة. شرح نهج البلاغة ج : 12 ص : 5و هذا الضمير و هو الهاء و الميم في قوله ع و تركهم هل يصح أن يعود إلا إلى الرعايا و هل يسوغ أن يقال هذا الكلام لسوقة من عرض الناس و كل من مات قبل وة النبي ص كان سوقة لا سلطان له فلا يصح أن يحمل هذا الكلام على إرادة أحد من الذين قتلوا أو ماتوا قبل وفاة النبي ص كعثمان بن مظعون أو مصعب بن عمير أو حمزة بن عبد المطلب أو عبيدة بن الحارث و غيرهم من الناس و التأويلات الباردة الغثة لا تعجبني على أن أبا جعفر محمد بن جرير الطبري قد صرح أو كاد يصرح بأن المعني بهذا الكلام عمر قال الطبري لما مات عمر بكته النساء فقالت إحدى نوادبه وا حزناه على عمر حزنا انتشر حتى ملأ البشر و قالت ابنة أبي حثمة وا عمراه أقام الأود و أبرأ العمد و أمات الفتن و أحيا السنن خرج نقي الثوب بريئا من العيب. (13/3)
قال الطبري فروى صالح بن كيسان عن المغيرة بن شعبة قال لما دفن عمر أتيت عليا ع و أنا أحب أن أسمع منه في عمر شيئا فخرج ينفض رأسه و لحيته و قد اغتسل و هو ملتحف بثوب لا يشك أن الأمر يصير إليه فقال رحم الله ابن الخطاب لقد صدقت ابنة أبي حثمة ذهب بخيرها و نجا من شرها أما و الله ما قالت و لكن قولت
و هذا كما ترى يقوي الظن أن المراد و المعني بالكلام إنما هو عمر بن الخطاب. شرح نهج البلاغة ج : 12 ص : 6قوله فلقد قوم الأود أي العوج أود الشي ء بالكسر يأود أودا أي أعوج و تأود العود يتأود. و العمد انفضاخ سنام البعير و منه يقال للعاشق عميد القلب و معموده. ه أصاب خيرها أي خير الولاية و جاء بضميرها و لم يجر ذكرها لعادة العرب في أمثال ذلك كقوله تعالى حَتَّى تَوارَتْ بِالْحِجابِ. و سبق شرها أي مات أو قتل قبل الأحداث و الاختلاط الذي جرى بين المسلمين. قوله و اتقاه بحقه أي بأداء حقه و القيام به. فإن قلت و أي معنى في قوله و اتقاه بأداء حقه و هل يتقى الإنسان الله بأداء الحق إنما قد تكون التقوى علة في أداء الحق فأما أن يتقي بأدائه فهو غير معقول. قلت أراد ع أنه اتقى الله و دلنا على أنه اتقى الله بأدائه حقه فأداء الحق علة في علمنا بأنه قد اتقى الله سبحانه. ثم ذكر أنه رحل و ترك الناس في طرق متشعبة متفرقة فالضال لا يهتدي فيها و المهتدي لا يعلم أنه على المنهج القويم و هذه الصفات إذا تأملها المنصف و أماط عن نفسه الهوى علم أن أمير المؤمنين ع لم يعن بها إلا عمر لو لم يكن قد روي لنا توقيفا و نقلا أن المعني بها عمر فكيف و قد رويناه عمن لا يتهم في هذا الباب (13/4)
نكت من كلام عمر و سيرته و أخلاقه
و نحن نذكر في هذا الموضع نكتا من كلام عمر و سيرته و أخلاقه. شرح نهج البلاغة ج : 12 ص : 7أتي عمر بمال فقال له عبد الرحمن بن عوف يا أمير المؤمنين لو حبست من هذا المال في بيت المال لنائبة تكون أو أمر يحدث فقال كلمة ما عرض بها إلا شيطان كفاني حجتها و وقاني فتها أعصي الله العام مخافة قابل أعد لهم تقوى الله قال الله سبحانه وَ مَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً وَ يَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ. استكتب أبو موسى الأشعري نصرانيا فكتب إليه عمر اعزله و استعمل بدله حنيفيا فكتب له أبو موسى إن من غنائه و خيره و خبرته كيت و كيت فكتب له عمر ليس لنا أن نأتمنهم و قد خونهم الله و لا أن نرفعهم و قد وضعهم الله و لا أن نستنصحهم في الدين و قد وترهم الإسلام و لا أن نعزهم و قد أمرنا بأن يعطوا الجزية عن يد و هم صاغرون. فكتب أبو موسى أن البلد لا يصلح إلا به فكتب إليه عمر مات النصراني و السلام. و كتب إلى معاوية إياك و الاحتجاب دون الناس و ائذن للضعيف و أدنه حتى ينبسط لسانه و يجترئ قلبه و تعهد الغريب فإنه إذا طال حبسه و دام إذنه ضعف قلبه و ترك حقه عزل عمر زيادا عن كتابة أبي موسى الأشعري في بعض قدماته عليه فقال له عن عجز أم عن خيانة فقال لا عن واحدة منهما و لكني أكره أن أحمل على العامة فضل عقلك. شرح نهج البلاغة ج : 12 ص : 8و قال إني و الله لا أدع حقا لله لشكاية تظهر و لا لضب يحتمل و لا محاباة لبشر و إنك و الله ما عاقبت من عصى الله فيك بمثل أن تطيع الله فيه. و كتب إلى سعبن أبي وقاص يا سعد سعد بني أهيب إن الله إذا أحب عبدا حببه إلى خلقه فاعتبر منزلتك من الله بمنزلتك من الناس و اعلم أن ما لك عند الله مثل ما لله عندك. و سأل رجلا عن شي ء فقال الله أعلم فقال قد شقينا إن كنا لا نعلم أن الله أعلم إذا سئل أحدكم عما لا يعلم فليقللا أدري. و قال عبد الملك على المنبر أنصفونا يا معشر الرعية تريدون (13/5)
منا سيرة أبي بكر و عمر و لم تسيروا في أنفسكم و لا فينا سيرة أبي بكر و عمر نسأل الله أن يعين كلا على كل. و دخل عمر على ابنه عبد الله فوجد عنده لحما عبيطا معلقا فقال ما هذا اللحم قال اشتهيت فاشتريت فقال أ و كلما اشتهيت شيئا أكلته كفى بالمرء سرفا أن أكل كل ما اشتهاه. مر عمر على مزبلة فتأذى بريحها أصحابه فقال هذه دنياكم التي تحرصون عليها. شرح نهج البلاغة ج : 12 ص : 9و من كلامه للأحنف يا أحنف من كثر ضحكه قلت هيبته و من مزح استخف به و من أكثر من ء عرف به و من كثر كلامه كثر سقطه و من كثر سقطه قل حياؤه و من قل حياؤه قل ورعه و من قل ورعه مات قلبه. و قال لابنه عبد الله يا بني اتق الله يقك و أقرض الله يجزك و اشكره يزدك و اعلم أنه لا مال لمن لا رفق له و لا جديد لمن لا خلق له و لا عمل لمن لا نية له. و طب يوم استخلف فقال أيها الناس إنه ليس فيكم أحد أقوى عندي من الضعيف حتى آخذ الحق له و لا أضعف من القوي حتى آخذ الحق منه. و قال لابن عباس يا عبد الله أنتم أهل رسول الله و آله و بنو عمه فما تقول منع قومكم منكم قال لا أدري علتها و الله ما أضمرنا لهم إلا خيرا قال اللهم غفرا إن قومكم كرهوا أن يجتمع لكم النبوة و الخلافة فتذهبوا في السماء شمخا و بذخا و لعلكم تقولون إن أبا بكر أول من أخركم أما إنه لم يقصد ذلك و لكن حضر أمر لم يكن بحضرته أحزم مما فعل و لو لا رأي أبي بكر في لجعل لكم من الأمر نصيبا و لو فعل ما هنأكم مع قومكم إنهم ينظرون إليكم نظر الثور إلى جازره. و كان يقول ليت شعري متى أشفى من غيظي أ حين أقدر فيقال لي لو عفوت أم حين أعجل فيقال لو صبرت. و رأى أعرابيا يصلي صلاة خفيفة فلما قضاها قال اللهم زوجني الحور العين فقال له لقد أسأت النقد و أعظمت الخطبة. و قيل له كان الناس في الجاهلية يدعون على من ظلمهم فيستجاب لهم و لسنا نرى (13/6)
شرح نهج البلاغة ج : 12 ص : 10ذلك الآن قال لأن ذلك كان الحاجز بينهم و بين الظلم و أما الآن فالساعة موعدهم و الساعة أدهى و أمر. و من كلامه من عرض نفسه للتهمة فلا يلومن من أساء به الظن و من كتم سره كانت الخيرة بيده. ضع أمر أخيك على أحسنه حتى يأتيك منه ما يبك و لا تظن بكلمة خرجت من أخيك المسلم شرا و أنت تجد لها في الخير محملا أو عليك بإخوان الصدق و كيس أكياسهم فإنهم زينة في الرخاء و عدة عند البلاء و لا تتهاونن بالخلق فيهينك الله و لا تعترض بما لا يعنيك و اعتزل عدوك و تحفظ من خليلك إلا الأمين فإن الأمين من الناس لا يعادله شي ء و لا تصحب الفاجر فيعلمك من فجوره و لا تفش إليه سرك و استشر في أمرك أهل التقوى و كفى بك عيبا أن يبدو لك من أخيك ما يخفى عليك من نفسك و أن تؤذي جليسك بما تأتي مثله. و قال ثلاث يصفين لك الود في قلب أخيك أن تبدأه بالسلام إذا لقيته و أن تدعو بأحب أسمائه إليه و أن توسع له في المجلس. و قال أحب أن يكون الرجل في أهله كالصبي و إذا أصيخ إليه كان رجلا. بينا عمر ذات يوم إذا رأى شابا يخطر بيديه فيقول أنا ابن بطحاء مكة كديها و كداها فناداه عمر فجاء فقال إن يكن لك دين فلك كرم و إن يكن لك عقل فلك مروءة و إن يكن لك مال فلك شرف و إلا فأنت و الحمار سواء. شرح نهج البلاغة ج : 12 ص : 11و قال يا معشر المهاجرين لا تكثروا الدخول على أهل الدنيا و أرباب الإمرة و الولاية فإنه مسخطة للرب و إياكم و البطنة فإنها مكسلة عن الصلاة و مفسدة للجسد مورثة للسقم و إن الله يبغضلحبر السمين و لكن عليكم بالقصد في قوتكم فإنه أدنى من الإصلاح و أبعد من السرف و أقوى على عبادة الله و لن يهلك عبد حتى يؤثر شهوته على دينه. و قال تعلموا أن الطمع فقر و أن اليأس غنى و من يئس من شي ء استغنى عنه و التؤدة في كل شي ء خير إلا ما كان من أمر الآخر و قال من اتقى الله لم يشف الله غيظه و من خاف الله لم يفعل ما يريد و (13/7)
لو لا يوم القيامة لكان غير ما ترون. و قال إني لأعلم أجود الناس و أحلم الناس أجودهم من أعطى من حرمه و أحلمهم من عفا عمن ظلمه. و كتب إلى ساكني الأمصار أما بعد فعلموا أولادكم العوم و الفروسية رووهم ما سار من المثل و حسن من الشعر. و قال لا تزال العرب أعزة ما نزعت في القوس و نزت في ظهور الخيل و قال و هو يذكر النساء أكثروا لهن من قول لا فإن نعم مفسدة تغريهن على المسألة. و قال ما بال أحدكم يثني الوسادة عند امرأة معزبة إن المرأة لحم على وضم إلا ما ذب عنه. (13/8)
شرح نهج البلاغة ج : 12 ص : 12و كتب إلى أبي موسى أما بعد فإن للناس نفرة عن سلطانهم فأعوذ بالله أن يدركني و إياك عمياء مجهولة و ضغائن محمولة و أهواء متبعة و دنيا مؤثرة أقم الحدود و اجلس للمظالم و لو ساعة من نهار و إذا عرض لك أمران أحدهما لله و الآخر للدنيفابدأ بعمل الآخرة فإن الدنيا تفنى و الآخرة تبقى و كن من مال الله عز و جل على حذر و اجف الفساق و اجعلهم يدا و يدا و رجلا و رجلا و إذا كانت بين القبائل نائرة يا لفلان يا لفلان فإنما تلك نجوى الشيطان فاضربهم بالسيف حتى يفيئوا إلى أمر الله و تكون دعواهم إلى الله و إلى الإسلام و قد بلغني أن ضبة تدعو يا لضبة و إني و الله أعلم أن ضبة ما ساق الله بها خيرا قط و لا منع بها من سوء قط فإذا جاءك كتابي هذا فأنهكهم ضربا و عقوبة حتى يفرقوا إن لم يفقهوا و الصق بغيلان بن خرشة من بينهم و عد مرضى المسلمين و اشهد جنائزهم و افتح لهم بابك و باشر أمورهم بنفسك فإنما أنت رجل منهم غير إن الله قد جعلك أثقلهم حملا و قد بلغني أنه فشا لك و لأهل بيتك هيئة في لباسك و مطعمك و مركبك ليس للمسلمين مثلها فإياك يا عبد الله بن قيس أن تكون بمنزلة البهيمة التي مرت بواد خصيب فلم يكن لها همة إلا السمن و إنما حظها من السمن لغيرها و اعلم أن للعامل مردا إلى الله فإذا زاغ العامل زاغت رعيته و إن أشقى الناس من شقيت به نفسه و رعيته و السلام و خطب عمر فقال أما بعد فإني أوصيكم بتقوى الله الذي يبقى و يفنى ما سواه و الذي بطاعته ينفع أولياءه و بمعصيته يضر أعداءه إنه ليس لهالك هلك عذر في تعمد ضلالة حسبها هدى و لا ترك حق حسبه ضلالة قد ثبتت الحجة و وضحت الطرق و انقطع العذر و لا حجة لأحد على الله عز و جل ألا إن أحق ما تعاهد به الراعي شرح نهج البلاغة ج : 12 ص : 13رعيته أن يتعاهدهم بالذي لله تعالى عليهم في وظائف دينهم ذي هداهم به و إنما علينا أن نأمركم بالذي أمركم الله به من طاعته و (13/9)
ننهاكم عما نهاكم الله عنه من معصيته و أن نقيم أمر الله في قريب الناس و بعيدهم و لا نبالى على من قال الحق ليتعلم الجاهل و يتعظ المفرط و يقتدي المقتدي و قد علمت أن أقواما يتمنون في أنفسهم و يقولون نحن نصلي مع المصلين و نجاهد مع المجاهدين إلا أن الإيمان ليس بالتمني و لكنه بالحقائق إلا من قام على الفرائض و سدد نيته و اتقى الله فذلكم الناجي و من زاد اجتهادا وجد عند الله مزيدا. و إنما المجاهدون الذين جاهدوا أهواءهم و الجهاد اجتناب المحارم ألا إن الأمر جد و قد يقاتل أقوام لا يريدون إلا الذكر و قد يقاتل أقوام لا يريدون إلا الأجر و إن الله يرضى منكم باليسير و أثابكم على اليسير الكثير. الوظائف الوظائف أدوها تؤدكم إلى الجنة و السنة السنة الزموها تنجكم من البدعة. تعلموا و لا تعجزوا فإن من عجز تكلف و إن شرار الأمور محدثاتها و إن الاقتصاد في السنة خير من الاجتهاد في الضلالة فافهموا ما توعظون به فإن الحريب من حرب دينه و إن السعيد من وعظ بغيره. و قال و عليكم بالسمع و الطاعة فإن الله قضى لهما بالعزة و إياكم و التفرق و المعصية فإن الله قضى لهما بالذلة. أقول قولي هذا و أستغفر الله العظيم لي و لكم. بعث سعد بن أبي وقاص أيام القادسية إلى عمر قباء كسرى و سيفه و منطقته (13/10)
شرح نهج البلاغة ج : 12 ص : 14و سراويله و تاجه و قميصه و خفيه فنظر عمر في وجوه القوم عنده فكان أجسمهم و أمدهم قامة سراقة بن مالك بن جعشم المدلجي فقال يا سراق قم فالبس قال سراقة طمعت فيه فقمت فلبست فقال أدبر فأدبرت و قال أقبل فأقبلت فقال بخ بخ أعرابي من ب مدلج عليه قباء كسرى و سراويله و سيفه و منطقته و تاجه و خفاه رب يوم يا سراق لو كان فيه دون هذا من متاع كسرى و آل كسرى لكان شرفا لك و لقومك انزع فنزعت فقال اللهم إنك منعت هذا نبيك و رسولك و كان أحب إليك مني و أكرم و منعته أبا بكر و كان أحب إليك مني و أكرم ثم أعطيتنيه فأعوذ بك أن تكون أعطيتنيه لتمكر بي ثم بكى حتى رحمه من كان عنده. و قال لعبد الرحمن بن عوف أقسمت عليك لما بعته ثم قسمته قبل أن تمسي فما أدركه المساء إلا و قد بيع و قسم ثمنه على المسلمين. جي ء بتاج كسرى إلى عمر فاستعظم الناس قيمته للجواهر التي كان عليه فقال إن قوما أدوا هذا لأمناء فقال علي ع إنك عففت فعفوا و لو رتعت لرتعوا. كان عمر يعس ليلا فنزلت رفقة من التجار بالمصلى فقال لعبد الرحمن بن عوف هل لك أن تحرسهم الليلة من السرق فباتا يحرسانهم و يصليان ما كتب الله لهما فسمع عمر بكاء صبي فأصغى نحوه فطال بكاؤه فتوجه إليه فقال لأمه اتقي الله و أحسني إلى صبيك ثم عاد إلى مكانه فسمع بكاءه فعاد إلى أمه فقال لها مثل ذلك ثم عاد إلى مكانه فسمع بكاءه فأتى أمه فقال ويحك إني لأراك أم سوء لا أرى ابنك يقر منذ الليلة فقالت يا عبد الله لقد آذيتني منذ الليلة إني أريغه شرح نهج البلاغة ج : 12 ص : 15على الفطام فيأبى قال و لم قالت لأن عمر لا يفرض لرضيع و إنما يفرض للفطيم قال و كم له قالت اثنا عشر شهرا قال ويحك لا تعجليه فصلى الفجر و ما يستبين الناس قراءته من غلبة البكاء عليه فلما سلم قال يا بؤسا لعمركم كم قتل من أولاد المسلم فطلب مناديا فنادى ألا لا تعجلوا صبيانكم عن الرضاع و لا تفطموا قبل (13/11)
أوان الفطام فإنا نفرض لكل مولود في الإسلام. و كتب بذلك إلى سائر الآفاق. مر عمر بشاب من الأنصار و هو ظمآن فاستسقاه فخاض له عسلا فرده و لم يشرب و قال إني سمعت الله سبحانه يقول أَذْهَبْتُمْ طَيِّباتِكُمْ فِي حَياتِكُمُ الدُّنْيا وَ اسْتَمْتَعْتُمْ بِها فقال الفتى إنها و الله ليست لك فاقرأ يا أمير المؤمنين ما قبلها وَ يَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّباتِكُمْ فِي حَياتِكُمُ الدُّنْيا أ فنحن منهم فشرب و قال كل الناس أفقه من عمر. و أوصى عمر حين طعنه أبو لؤلؤة من يستخلفه المسلمون بعده من أهل الشورى فقال أوصيك بتقوى الله لا شريك له و أوصيك بالمهاجرين الأولين خيرا أن تعرف لهم سابقتهم و أوصيك بالأنصار خيرا أقبل من محسنهم و تجاوز عن مسيئهم و أوصيك بأهل الأمصار خيرا فإنهم ردء العدو و جباة الفي ء لا تحمل فيئهم إلى غيرهم إلا عن فضل منهم و أوصيك بأهل البادية خيرا فإنهم أصل العرب و مادة الإسلام أن يؤخذ من حواشي أموالهم فيرد على فقرائهم و أوصيك بأهل الذمة خيرا أن تقاتل شرح نهج البلاغة ج : 12 ص : 16من ورائهم و لا تكلفهم فوق طاقتهم إذا أدوا ما عليهم للمسلمين طوعا أو عن يد و هم صاغرون. و أوصيك بتقوى الله و شدة الحذر منه و مخافة مقته أن يطلع منك على ريبة و أوصيك أن تخشى الله في الناس و لا تخشى الناس في الله و أوصيك بالعدلي الرعية و التفرغ لحوائجهم و ثغورهم و ألا تعين غنيهم على فقيرهم فإن في ذلك بإذن الله سلامة لقلبك و حطا لذنوبك و خيرا في عاقبة أمرك و أوصيك أن تشتد في أمر الله و في حدوده و الزجر عن معاصيه على قريب الناس و بعيدهم و لا تأخذك الرأفة و الرحمة في أحد منهم حتى تنتهك منه مثل جرمه و اجعل الناس عندك سواء لا تبال على من وجب الحق لا تأخذك في الله لومة لائم و إياك و الأثرة و المحاباة فيما ولاك الله مما أفاء الله على المسلمين فتجور و تظلم و تحرم نفسك من (13/12)
ذلك ما قد وسعه الله عليك فإنك في منزلة من منازل الدنيا و أنت إلى الآخرة جد قريب فإن صدقت في دنياك عفة و عدلا فيما بسط لك اقترفت رضوانا و إيمانا و إن غلبك الهوى اقترفت فيه سخط الله و مقته. و أوصيك ألا ترخص لنفسك و لا لغيرك في ظلم أهل الذمة. و اعلم أني قد أوصيتك و خصصتك و نصحت لك أبتغي بذلك وجه الله و الدار الآخرة و دللتك على ما كنت دالا عليه نفسي فإن عملت بالذي وعظتك و انتهيت إلى الذي أمرتك أخذت منه نصيبا وافرا و حظا وافيا و إن لم تقبل ذلك و لم تعمل و لم تترك معاظم الأمور عند الذي يرضي الله به سبحانه عنك يكن ذاك بك انتقاصا و يكن رأيك فيه مدخولا فالأهواء مشتركة و رأس الخطيئة إبليس الداعي إلى كل هلكة قد أضل القرون السالفة قبلك و أوردهم النار و لبئس الثمن أن يكون حظ امرئ من دنياه موالاة عدو الله الداعي إلى معاصيه اركب الحق و خض إليه الغمرات و كن واعظا لنفسك. شرح نهج البلاغة ج : 12 ص : 17و أنشدك لما ترحمت إلى جماعة المسلمين و للت كبيرهم و رحمت صغيرهم و قربت عالمهم لا تضربهم فيذلوا و لا تستأثر عليهم بالفي ء فتغضبهم و لا تحرمهم عطاياهم عند محلها فتفقرهم و لا تجمرهم في البعوث فتقطع نسلهم و لا تجعل الأموال دولة بين الأغنياء منهم و لا تغلق بابك دونهم فيأكل قويهم ضعيفهم. هذه وصيتي إاك و أشهد الله عليك و أقرأ عليك السلام و الله على كل شي ء شهيد. و خطب عمر فقال لا يبلغني أن امرأة تجاوز صداقها صداق زوجات رسول الله ص إلا ارتجعت ذلك منها فقامت إليه امرأة فقالت و الله ما جعل الله ذلك لك إنه تعالى يقول وَ آتَيْتُمْ إِحْداهُنَّ قِنْطاراً فَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئاً فقال عمر أ لا تعجبون من إمام أخطأ و امرأة أصابت ناضلت إمامكم فنضلته. و كان يعس ليلة فمر بدار سمع فيها صوتا فارتاب و تسور فرأى رجلا عند امرأة و زق خمر فقال يا عدو الله أ ظننت أن الله يسترك و أنت على معصيته فقال لا تعجل يا أمير (13/13)
المؤمنين إن كنت أخطأت في واحدة فقد أخطأت في ثلاث قال الله تعالى وَ لا تَجَسَّسُوا و قد تجسست و قال وَ أْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوابِها (13/14)
شرح نهج البلاغة ج : 12 ص : 18و قد تسورت و قال فَإِذا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً فَسَلِّمُوا و ما سلمت فقال هل عندك من خير إن عفوت عنك قال نعم و الله لا أعود فقال اذهب فقد عفوت عنك. و خطب يوما فقال أيها الناس ما الجزع مما لا بد منه و ما الطمع فيما لا يرجى و ما حيلة فيما سيزول و إنما الشي ء من أصله و قد مضت قبلكم الأصول و نحن فروعها فما بقاء الفرع بعد ذهاب أصله. إنما الناس في هذه الدنيا أغراض تنتبل فيهم المنايا نصب المصائب في كل جرعة شرق و في كل أكلة غصص لا تنالون نعمة إلا بفراق أخرى و لا يستقبل معمر من عمره يوم إلا بهدم آخر من أجله و هم أعوان الحتوف على أنفسهم فأين المهرب مما هو كائن ما أصغر المصيبة اليوم مع عظم الفائدة غدا و ما أعظم خيبة الخائب و خسران الخاسر يَوْمَ لا يَنْفَعُ مالٌ وَ لا بَنُونَ إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ. و أكثر الناس روى هذا الكلام لعلي ع و قد ذكره صاحب نهج البلاغة و شرحناه فيما سبق. حمل من العراق إلى عمر مال فخرج هو و مولى له فنظر إلى الإبل فاستكثرها فجعل يقول الحمد لله يكررها و يرددها و جعل مولاه يقول هذا من فضل الله و رحمته و يكررها و يرددها. فقال عمر كذبت لا أم لك أظنك ذهبت إلى أن هذا هو ما عناه سبحانه شرح نهج البلاغة ج : 12 ص : 19بقوله قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَ بِرَحْمَتِهِ فَبِذلِكَ فَلْيَفْرَحُوا و إنما ذلك الهدى أ ما تسمعه يقول هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ و هذا مما يجمعون. و روى الأحنف بن قيس قال قدمنا على عمر بفتح يم نبشره به فقال أين نزلتم قلنا في مكان كذا فقام معنا حتى انتهينا إلى مناخ ركابنا و قد أضعفها الكلال و جهدها السير فقال هلا اتقيتم الله في ركابكم هذه أ ما علمتم أن لها عليكم حقا هلا
احترموها هلا حللتم بها فأكلت من نبات الأرض فقلنا يا أمير المؤمنين إنا قدمنا بفتح عظيم فأحببنا التسرع إليك و إلى المسلمين بما يسرهم. فانصرف راجعا و نحن معه فأتى رجل فقال يا أمير المؤمنين إن فلانا ظلمني فأعدني عليه فرفع في السماء درته و ضرب بها رأسه و قال تدعون عمر و هو معرض لكم حتى إذا شغل في أمر المسلمين أتيتموه أعدني أعدني فانصرف الرجل يتذمر فقال عمر علي بالرجل فجي ء به فألقى إليه المخفقة فقال اقتص قال بل أدعه لله و لك قال ليس كذلك بل تدعه إما لله و إرادة ما عنده و إما تدعه لي قال أدعه لله قال انصرف ثم جاء حتى دخل منزله و نحن معه فصلى ركعتين خفيفتين ثم جلس فقال يا ابن الخطاب كن وضيعا فرفعك الله و كنت ضالا فهداك الله و كنت ذليلا فأعزك الله ثم حملك على رقاب الناس فجاء رجل يستعديك على من ظلمه فضربته ما ذا تقول لربك غدا فجعل يعاتب نفسه معاتبة ظننت أنه من خير أهل الأرض. شرح نهج البلاغة ج : 12 ص : 20و ذكر أبو عبيد القاسم بن سلام في يب الحديث أن رجلا أتى عمر يسأله و يشكو إليه الفقر فقال هلكت يا أمير المؤمنين فقال أ هلكت و أنت تنث نثيث الحميت أعطوه فأعطوه ربعة من مال الصدقة تبعها ظئراها ثم أنشأ يحدث عن نفسه فقال لقد رأيتني و أختا لي نرعى على أبوينا ناضحا لنا قد ألبستنا أمنا نقبتها و زودتنا يمنتيها هبيدا فنخرج بناضحنا فإذا طلعت الشمس ألقيت النقبة إلى أختي و خرجت أسعى عريان فنرجع إلى أمنا و قد جعلت لنا لفيته من ذلك الهبيد فيا خصباه. و روى ابن عباس رضي الله عنه قال دخلت على عمر في أول خلافته و قد ألقي له صاع من تمر على خصفة فدعاني إلى الأكل فأكلت تمرة واحدة و أقبل يأكل حتى أتى عليه ثم شرب من جر كان عنده و استلقى على مرفقه له و طفق يحمد الله يكرر ذلك ثم قال من أين جئت يا عبد الله قلت من المسجد قال كيف خلفت ابن عمك فظننته يعنى عبد الله بن جعفر قلت خلفته يلعب مع أترابه قال لم أعن ذلك (13/15)
إنما عنيت عظيمكم أهل البيت قلت خلفته يمتح بالغرب على نخيلات من فلان و هو يقرأ القرآن قال يا عبد الله عليك دماء البدن إن كتمتنيها هل بقي في نفسه (13/16)
شرح نهج البلاغة ج : 12 ص : 21شي ء من أمر الخلافة قلت نعم قال أ يزعم أن رسول الله ص نص عليه قلت نعم و أزيدك سألت أبي عما يدعيه فقال صدق فقال عمر لقد كان من رسول الله ص في أمره ذرو من قول لا يثبت حجة و لا يقطع عذرا و لقد كان يربع في أمره وقتا ما و لقد أرفي مرضه أن يصرح باسمه فمنعت من ذلك إشفاقا و حيطة على الإسلام لا و رب هذه البنية لا تجتمع عليه قريش أبدا و لو وليها لانتقضت عليه العرب من أقطارها فعلم رسول الله ص أني علمت ما في نفسه فأمسك و أبى الله إلا إمضاء ما حتم. ذكر هذا الخبر أحمد بن أبي طاهر صاحب كتاب تاريخ بغداد في كتابه مسندا. ابتنى أبو سفيان دارا بمكة فأتى أهلها عمر فقالوا إنه قد ضيق علينا الوادي و أسال علينا الماء فأتاه عمر فقال خذ هذا الحجر فضعه هناك و ارفع هذا و اخفض هذا ففعل فقال الحمد لله الذي أذل أبا سفيان بأبطح مكة. و قال عمر و الله لقد لان قلبي في الله حتى لهو ألين من الزبد و لقد اشتد قلبي في الله حتى لهو أشد من الحجر. كان عمر إذا أتاه الخصمان برك على ركبتيه و قال اللهم أعني عليهما فإن كلا منهما يريدني عن ديني. شرح نهج البلاغة ج : 12 ص : 22و خطب عمر فقال أيها الناس إنما كنا نعرفكم و النبي بين أظهرنا إذ ينزل الوحي و إذ ينبئنا الله من أخباركم ألا و إن النبي ص قد انطلق و الوحي قد انقطع و إنما نعرفكم بما يبدو منكم من أظهر خيرا ظننا به خيرا و أحببناه عليه و من أظهر شرا ظننا به شرا و أبغضناه عليه سرائركم بينكم و بين ربكم ألا إنه قد أتى علي حين و أنا أحسب أنه لا يقرأ القرآن أحد إلا يريد به وجه الله و ما عند الله و قد خيل إلي بأخرة أن رجالا قد قرءوه يريدون به ما عند الناس فأريدوا الله بقراءتكم و أريدوا الله بأعمالكم. ألا و
إني لا أرسل عمالي إليكم أيها الناس ليضربوا أبشاركم و لا ليأخذوا أموالكم و لكن أرسلهم إليكم ليعلموكم دينكم و سنتكم فمن فعل به سوى ذلك فليرفعه إلي لأقتص له فقد رأيت رسول الله ص يقتص من نفسه. ألا لا تضربوا المسلمين فتذلوهم و لا تمنعوهم حقوقهم فتفقروهم و لا تنزلوهم الغياض فتضيعوهم. و قال مرة قد أعياني أهل الكوفة إن استعملت عليهم لينا استضعفوه و إن استعملت عليهم شديدا شكوه و لوددت أني وجدت رجلا قويا أمينا استعمله عليهم فقال له رجل أنا أدلك يا أمير المؤمنين على الرجل القوي الأمين قال من هو قال عبد الله بن عمر قال قاتلك الله و الله ما أردت الله بها لاها الله لا أستعمله عليها و لا على غيرها و أنت فقم فاخرج فمذ الآن لا أسميك إلا المنافق فقام الرجل و خرج. و كتب إلى سعد بن أبي وقاص أن شاور طليحة بن خويلد و عمرو بن معديكرب فإن كل صانع أعلم بصنعته و لا تولهما من أمر المسلمين شيئا شرح نهج البلاغة ج : 12 ص : 23و غضب عمر على بعض عماله فكلم امرأة منساء عمر في أن تسترضيه له فكلمته فيه فغضب و قال و فيم أنت من هذا يا عدوة الله إنما أنت لعبة نلعب بك و تفركين. و من كلامه أشكو إلى الله جلد الخائن و عجز الثقة. قال عمرو بن ميمون لقد رأيت عمر بن الخطاب قبل أن يصاب بأيام واقفا على حذيفة بن اليمان و عثمان بن حنيف و هو يقول لهما أ تخافان أن تكونا حملتما الأرض ما لا تطيقه فقالا لا إنما حملناها أمرا هي له مطيقة فأعاد عليهما القول انظرا أن تكونا حملتما الأرض ما لا تطيقه فقالا لا فقال عمر إن عشت لأدعن أرامل العراق لا يحتجن بعدي إلى رجل أبدا فما أتت عليه رابعة حتى أصيب. كان عمر إذا استعمل عاملا كتب عليه كتابا و أشهد عليه رهطا من المسلمين ألا يركب برذونا و لا يأكل نقيا و لا يلبس رقيقا و لا يغلق بابه دون حاجات المسلمين ثم يقول اللهم اشهد. و استعمل عمر النعمان بن عدي بن نضلة على ميسان فبلغه عنه الشعر الذي (13/17)
قاله و هو (13/18)
و من مبلغ الحسناء أن حليلها بميسان يسقى من زجاج و حنتم إذا شئت غنتني دهاقين قرية و صناجة تحدو على كل منسم شرح نهج البلاغة ج : 12 ص : 24فإن كنت ندماني فبالأكبر اسقني و لا تسقني بالأصغر المتثلم لعل أمير المؤمنين يسوءه تنادمنا بالجوسق المتهفكتب إليه بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ حم تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ غافِرِ الذَّنْبِ وَ قابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقابِ ذِي الطَّوْلِ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ أما بعد فقد بلغني قولك
لعل أمير المؤمنين يسوءه
البيت و ايم الله إنه ليسوءني فاقدم فقد عزلتك. فلما قدم عليه قال يا أمير المؤمنين و الله ما شربتها قط و إنما هو شعر طفح على لساني و إني لشاعر. فقال عمر أظن ذاك و لكن لا تعمل لي على عمل أبدا. استعمل عمر رجلا من قريش على عمل فبلغه عنه أنه قال
اسقني شربة تروي عظامي و اسق بالله مثلها ابن هشام
فأشخصه إليه و فطن القرشي فضم إليه بيتا آخر فلما مثل بين يديه قال له أنت القائل
اسقني شربة تروي عظامي
قال نعم يا أمير المؤمنين فهلا أبلغك الواشي ما بعده قال ما الذي بعده قال
عسلا باردا بماء غمام إنني لا أحب شرب المدام
قال آلله آلله ثم قال ارجع إلى عملك. شرح نهج البلاغة ج : 12 ص : 25قال عمر أيما عامل من عمالي ظلم أحدا ثم بلغتني مظلمته فلم أغيرها فأنا الذي ظلمته. و قال للأحنف بن قيس و قد قدم عليه فاحتبسه عنده حولا يا أحنف إني قد خبرتك و بلوتك فرأيت علانيتك حسنة و أنا أر أن تكون سريرتك مثل علانيتك و إن كنا لنحدث أنه إنما يهلك هذه الأمة كل منافق عليم. و كتب عمر إلى سعد بن أبي وقاص أن مترس بالفارسية هو الأمان فمن قلتم له ذلك ممن لا يفقه لسانكم فقد أمنتموه. و قال لأمير من أمراء الشام كيف سيرتك كيف تصنع في القرآن و الأحكام فأخبره فقال أحسنت اذهب فقد أقررتك على عملك فلما ولي رجع فقال يا أمير المؤمنين إني رأيت البارحة رؤيا أقصها عليك رأيت الشمس و القمر يقتتلان و مع كل واحد منهما جنود من الكواكب فقال فمع أيهما كنت قال مع القمر فقال قد عزلتك قال الله تعالى وَ جَعَلْنَا اللَّيْلَ وَ النَّهارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنا آيَةَ اللَّيْلِ وَ جَعَلْنا آيَةَ النَّهارِ مُبْصِرَةً. كان عمر جالسا في المسجد فمر به رجل فقال ويل لك يا عمر من النار فقال قربوه إلي فدنا منه فقال لم قلت لي ما قلت قال تستعمل عمالك و تشترط عليهم شرح نهج البلاغة ج : 12 ص 26ثم لا تنظر هل وفوا لك بشروط أم لا قال و ما ذاك قال عاملك على مصر اشترطت عليه فترك ما أمرته به و ارتكب ما نهيته عنه ثم شرح له كثيرا من أمره فأرسل عمر رجلين من الأنصار فقال لهما انتهيا إليه فاسألا عنه فإن كان كذب عليه فأعلماني و إن رأيتما ما يسوءكما فلا تملكاه من أمره شيئا حتى تأتيا به فذهبا فسألا عنه فوجداه قد صدق عليه فجاءا إلى بابه فاستأذنا عليه فقال حاجبه إنه ليس عليه اليوم إذن قالا ليخرجن إلينا أو لنحرقن عليه بابه و جاء أحدهما بشعلة من نار فدخل الآذن فأخبره فخرج إليهما قالا إنا رسولا عمر إليك لتأتيه قال إن لنا حاجة تمهلانني لأتزود قالا إنه عزم علينا ألا نمهلك فاحتملاه (13/19)
فأتيا به عمر فلما أتاه سلم عليه فلم يعرفه و قال من أنت و كان رجلا أسمر فلما أصاب من ريف مصر ابيض و سمن فقال أنا عاملك على مصر أنا فلان قال ويحك ركبت ما نهيت عنه و تركت ما أمرت به و الله لأعاقبنك عقوبة أبلغ إليك فيها ائتوني بكساء من صوف و عصا و ثلاثمائة شاة من غنم الصدقة فقال البس هذه الدراعة فقد رأيت أباك و هذه خير من دراعته و خذ هذه العصا فهي خير من عصا أبيك و اذهب بهذه الشياه فارعها في مكان كذا و ذلك في يوم صائف و لا تمنع السابلة من ألبانها شيئا إلا آل عمر فإني لا أعلم أحدا من آل عمر أصاب من ألبان غنم الصدقة و لحومها شيئا. فلما ذهب رده و قال أ فهمت ما قلت فضرب بنفسه الأرض و قال يا أمير المؤمنين لا أستطيع هذا فإن شئت فاضرب عنقي قال فإن رددتك فأي رجل تكون قال و الله لا يبلغك بعدها إلا ما تحب فرده فكان نعم الرجل و قال عمر و الله شرح نهج البلاغة ج : 12 ص : 27لا أنزعن فلانا من القضاء حتى أستعمل عوضه رجلا إذا رآه الفاجر فرق. و روى عبد الله بن بريدة قال بينا عمر يعس ذات ليلة انتهى إلى باب متجاف و امرأة تغني نسوةهل من سبيل إلى خمر فأشربها أم هل سبيل إلى نصر بن حجاج (13/20)
فقال عمر أما ما عشت فلا. فلما أصبح دعا نصر بن حجاج و هو نصر بن الحجاج بن علابط البهزي السلمي فأبصره و هو من أحسن الناس وجها و أصبحهم و أملحهم حسنا فأمر أن يطم شعره فخرجت جبهته فازداد حسنا فقال له عمر اذهب فاعتم فاعتم فبدت وفرته فأمر بحلقها فازداد حسنا فقال له فتنت نساء المدينة يا ابن حجاج لا تجاورني في بلدة أنا مقيم بها ثم سيره إلى البصرة. فروى الأصمعي قال أبرد عمر بريدا إلى عتبة بن أبي سفيان بالبصرة فأقام بها أياما ثم نادى منادي عتبة من أراد أن يكتب إلى أهله بالمدينة أو إلى أمير المؤمنين شيئا فليكتب فإن بريد المسلمين خارج. فكتب الناس و دس نصر بن حجاج كتابا فيه لعبد الله عمر أمير المؤمنين من نصر بن حجاج سلام عليك أما بعد يا أمير المؤمنين (13/21)
لعمري لئن سيرتني أو حرمتني لما نلت من عرضي عليك حرام أ إن غنت الذلفاء يوما بمنية و بعض أماني النساء غرام شرح نهج البلاغة ج : 12 ص : 28ظننت بي الظن الذي ليس بعده بقاء فما لي في الندي كلام و أصبحت منفيا في غير ريبة و قد كان لي بالمكتين مقام سيمنعني مما تظن تكرمي و آباء صدق سالفون كرام و يمنعها مما تمنت صلاتها و حال لها في دينها و صيام فهاتان حالانا فهل أع فقد جب مني كاهل و سنام
فقال عمر أما ولي ولاية فلا و أقطعه أرضا بالبصرة و دارا. فلما قتل عمر ركب راحلته و لحق بالمدينة. و ذكر المبرد محمد بن يزيد الثمالي قال كان عمر أصلع فلما حلق وفرة نصر بن حجاج قال نصر و كان شاعرا
تضن ابن خطاب علي بجمة إذا رجلت تهتز هز السلاسل فصلع رأسا لم يصلعه ربه يرف رفيفا بعد أسود جائل لقد حسد الفرعان أصلع لم يكن إذا ما مشى بالفرع بالمتخايمحمد بن سعيد قال بينا يطوف عمر في بعض سكك المدينة إذ سمع امرأة تهتف من خدرها
هل من سبيل إلى خمر فأشربها أم هل سبيل إلى نصر بن حجاج
شرح نهج البلاغة ج : 12 ص : 29إلى فتى ماجد الأعراق مقتبل سهل المحيا كريم غير ملجاج تنميه أعراق صدق حين تنسبه أخي قداح عن المكروب فراج سامي النواظر من بهز له قدم تضي ء صورته في الحالك الفقال عمر ألا لا أدري معي رجلا يهتف به العواتق في خدورهن علي بنصر بن حجاج فأتي به فإذا هو أحسن الناس وجها و عينا و شعرا فأمر بشعره فجز فخرجت له وجنتان كأنه قمر فأمره أن يعتم فاعتم ففتن النساء بعينيه فقال عمر لا و الله لا تساكنني بأرض أنا بها قال و لم يا أمير المؤمنين قال هو ما أقول لك فسيره إلى البصرة. و خافت المرأة التي سمع عمر منها ما سمع أن يبدر إليها منه شي ء فدست إليه أبياتا قل للأمير الذي تخشى بوادره ما لي و للخمر أو نصر بن حجاج إني بليت أبا حفص بغيرهما شرب الحليب و طرف فاتر ساج لا تجعل الظن حقا أو تبينه إن السبيل سبيل الخائف الراجي ما منية قلتها عرضا بضائرة و الناس من هالك قدما و من ناج إن الهوى رعية التقوى تقيده حتى أقرجام و إسراج (13/22)
فبكى عمر و قال الحمد لله الذي قيد الهوى بالتقوى. و أتته يوما أم نصر حين اشتدت عليها غيبة ابنها فتعرضت لعمر بين الأذان و الإقامة فقعدت له على الطريق فلما خرج يريد الصلاة هتفت به و قالت يا أمير المؤمنين لأجاثينك غدا بين يدي الله عز و جل و لأخاصمنك إليه يبيت عاصم و عبد الله إلى شرح نهج البلاغة ج : 12 ص : 30جانبيك و بيني و بين ابني الفيافي و القفار و المفاوز و الجبال قال من هذه قيل أم نصر بن حجاج فقال يا أم نصر إن عاصما و عبد الله لم تهتف بهما العواتق من وراء الخدور. و يروى أن نصر بن الحجاج لما سيره عمر إلى اصرة نزل بها على مجاشع بن مسعود السلمي و كان خليفة أبي موسى عليها و كانت له امرأة شابة جميلة فهويت نصرا و هويها فبينا الشيخ جالس و نصر عنده إذ كتب في الأرض شيئا فقرأته المرأة فقالت أنا و الله فقال مجاشع ما قال لك قالت إنه قال ما أصفى لقحتكم هذه فقال مجاشع إن الكلمة التي قلت ليست أختا لهذا الكلام عزمت عليك لما أخبرتني قالت إنه قال ما أحسن سوار ابنتكم هذه قال و لا هذه فإنه كتب في الأرض فرأى الخط فدعا بإناء فوضعه عليه ثم أحضر غلاما من غلمانه فقال اقرأ فقرأه و إذا هو أنا و الله أحبك فقال هذه لهذه اعتدي أيتها المرأة و تزوجها يا ابن أخي إن أردت. ثم غدا على أبي موسى فأخبره فقال أبو موسى أقسم ما أخرجه عمر عن المدينة من خير ثم طرده إلى فارس و عليها عثمان بن أبي العاص الثقفي فنزل على دهقانة فأعجبها فأرسلت إليه فبلغ خبرها عثمان فبعث إليه أن اخرج عن أرض فارس فإنك لم تخرج عن المدينة و البصرة من خير فقال و الله لئن أخرجتموني لألحقن ببلاد الشرك فكتب بذلك إلى عمر فكتب أن جزوا شعره و شمروا قميصه و ألزموه المساجد. و روى عبد الله بن بريدة أن عمر خرج ليلا يعس فإذا نسوة يتحدثن و إذا هن شرح نهج البلاغة ج : 12 ص : 31يقلن أي فتيان مدينة أصبح فقالت امرأة منهن أبو ذؤيب و الله فلما أصبح عمر سأل عنه (13/23)
فإذا هو من بني سليم و إذا هو ابن عم نصر بن حجاج فأرسل إليه فحضر فإذا هو أجمل الناس و أملحهم فلما نظر إليه قال أنت و الله ذئبها يكررها و يرددها لا و الذي نفسي بيده لا تجامعني بأرض أبدا. فقال يا أمير المؤمنين إن كنت لا بد مسيري فسيرني حيث سيرت ابن عمي نصر بن حجاج فأمر بتسييره إلى البصرة فأشخص إليها. خطب عمر في الليلة التي دفن فيها أبو بكر فقال إن الله تعالى نهج سبيله و كفانا برسوله فلم يبق إلا الدعاء و الاقتداء الحمد لله الذي ابتلاني بكم و ابتلاكم بي و أبقاني فيكم بعد صاحبي و أعوذ بالله أن أزل أو أضل فأعادي له وليا أو أوالي له عدوا ألا إني و صاحبي كنفر ثلاثة قفلوا من طيبة فأخذ أحدهم مهلة إلى داره و قراره فسلك أرضا مضيئة متشابهة الأعلام فلم يزل عن الطريق و لم يحرم السبيل حتى أسلمه إلى أهله ثم تلاه الآخر فسلك سبيله و اتبع أثره فأفضى إليه و لقي صاحبه ثم تلاهما الثالث فإن سلك سبيلهما و اتبع أثرهما أفضى إليهما و لاقاهما و إن زل يمينا أو شمالا لم يجامعهما أبدا. ألا و إن العرب جمل أنف قد أعطيت خطامه ألا و إني حامله على المحجة و مستعين بالله عليه. ألا و إني داع فأمنوا اللهم إني شحيح فسخني اللهم إني غليظ فليني اللهم إني ضعيف فقوني اللهم أوجب لي بموالاتك و موالاة أوليائك ولايتك و معونتك و أبرئني (13/24)
شرح نهج البلاغة ج : 12 ص : 32من الآفات بمعاداة أعدائك و توفني مع الأبرار و لا تحشرني في زمرة الأشقياء اللهم لا تكثر لي من الدنيا فأطغى و لا تقلل لي فأشقى فإن ما قل و كفى خير مما كثر و ألهى. وفد على عمر قوم من أهل العراق منهم جرير بن عبد الله فأتاهم بجفنقد صبغت بخل و زيت و قال خذوا فأخذوا أخذا ضفيفا فقال ما بالكم تقرمون قرم الشاة الكسيرة أظنكم تريدون حلوا و حامضا و حارا و باردا ثم قذفا في البطون لو شئت أن أدهمق لكم لفعلت و لكنا نستبقي من دنيانا ما نجده في آخرتنا و لو شئنا أن نأمر بصغار الضأن فتسمط و لبأت الخبز فيخبز و نأمر بالزبيب فينبذ لنا في الأسعان حتى إذا صار مثل عين اليعقوب أكلنا هذا و شربنا هذا لفعلت و الله إني ما أعجز عن كراكر و أسنمة و صلائق و صناب لكن الله تعالى قال لقوم عيرهم أمرا فعلوه أَذْهَبْتُمْ طَيِّباتِكُمْ فِي حَياتِكُمُ الدُّنْيا و إني نظرت في هذا الأمر شرح نهج البلاغة ج : 12 ص : 33فجعلت إن أردت الدنيا أضررت بالآخرة و إن أردت الآخرة أضررت بالدنيا و إذا كان الأمر هكذا فأضروا بالفانية. خرج عمر يوما إلى المسجد و عليه قميص في ظهره أربع رقاع فقرأ حتى انتهى إلى قوله وَ فاكِهَةً وَ أَبًّا فقال الأب ثم قال إن هذا لهو التكلف و ما عليك يا ابن الخطاب ألا تدري ما الأب. و جاء قوم من الصحابة إلى حفصة فقالوا لو كلمت أباك في أن يلين من عيشه لعله أقوى له على النظر في أمور المسلمين فجاءته فقالت إن ناسا من قومك كلموني في أن أكلمك في أن تلين من عيشك فقال يا بنية غششت أباك و نصحت لقومك. و روى سالم بن عبد الله بن عمر قال لما ولي عمر قعد على رزق أبي بكر الذي كان فرضه لنفسه فاشتدت حاجته فاجتمع نفر من المهاجرين منهم علي و عثمان و طلحة و الزبير و قالوا لو قلنا لعمر يزيد في رزقه فقال عثمان إنه عمر فهلموا فلنستبن ما عنده من وراء وراء نأتي حفصة فنكلمها و نستكتمها أسماءنا فدخلوا (13/25)
عليها و سألوها أن تكلمه و لا تخبره بأسماء من أتاها إلا أن يقبل فلقيت عمر في ذلك فرأت الغضب في وجهه و قال من أتاك قالت لا سبيل إلى ذلك فقال لو علمت من هم لسؤت أوجههم أنت بيني و بينهم نشدتك الله ما أفضل ما اقتنى رسول الله ص في بيتك من الملبس قالت ثوبان ممشقان كان يلبسهما للوفد و يخطب (13/26)
شرح نهج البلاغة ج : 12 ص : 34فيهما في الجمع قال فأي طعام ناله عندك أرفع قالت خبزنا مرة خبزة شعير فصببت عليها و هي حارة أسفلها عكة لنا كان فيها سمن و عسل فجعلتها هشة حلوة دسمة فأكل منها فاستطابها قال فأي مبسط كان يبسط عندك أوطأ قالت كساء ثخين كنا نرقعه فالصيف فنجعله ثخينا فإذا كان الشتاء بسطنا نصفه و تدثرنا بنصفه قال فأبلغيهم أن رسول الله ص قدر فوضع الفضول مواضعها و تبلغ ما أبر و إني قدرت فو الله لأضعن الفضول مواضعها و لأتبلغن ما أبر حبة وفد على عمر وفد فيه رجال الناس من الآفاق فوضع لهم بسطا من عباء و قدم إليهم طعاما غليظا فقالت له ابنته حفصة أم المؤمنين إنهم وجوه الناس و كرام العرب فأحسن كرامتهم فقال يا حفصة أخبريني بألين فراش فرشته لرسول الله ص و أطيب طعام أكله عندك قالت أصبنا كساء ملبدا عام خيبر فكنت أفرشه له فينام عليه و إني رفعته ليلة فلما أصبح قال ما كان فراشي الليلة قلت فراشك كل ليلة إلا أني الليلة رفعته لك ليكون أوطأ فقال أعيديه لحالته الأولى فإن وطاءته منعتني الليلة من الصلاة. و كان لنا صاع من دقيق سلت فنخلته يوما و طبخته له و كان لنا قعب من سمن فصببته عليه فبينا هو ع يأكل إذ دخل أبو الدرداء فقال أرى سمنكم قليلا و إن لنا لقعبا من سمن قال ع فأرسل فأت به فجاء به فصبه عليه فأكل فهذا أطيب طعام أكله عندي رسول الله ص. فأرسل عمر عينيه بالبكاء و قال لها و الله لا أزيدهم على ذلك العباء و ذلك الطعام شرح نهج البلاغة ج : 12 ص : 35شيئا و هذا فراش رسول الله ص وذا طعامه. لما قدم عتبة بن مرثد أذربيجان
أتي بالخبيص فلما أكله وجد شيئا حلوا طيبا فقال لو صنعت من هذا لأمير المؤمنين فجعل له خبيصا في منقلين عظيمين و حملهما على بعيرين إلى المدينة فقال عمر ما هذا قالوا الخبيص فذاقه فوجده حلوا فقال للرسول ويحك أ كل المسلمين عندكم يشبع من هذا قال لا قال فارددهما ثم كتب إلى عتبة أما بعد فإن خبيصك الذي بعثته ليس من كد أبيك و لا من كد أمك أشبع المسلمين مما تشبع منه في رحلك و لا تستأثر فإن الأثرة شر و السلام. و روى عتبة بن مرثد أيضا قال قدمت على عمر بحلواء من بلاد فارس في سلال عظام فقال ما هذه قلت طعام طيب أتيتك به قال ويحك و لم خصصتني به قلت أنت رجل تقضي حاجات الناس أول النهار فأحببت إذا رجعت إلى منزلك أن ترجع إلى طعام طيب فتصيب منه فتقوى على القيام بأمرك فكشف عن سلة منها فذاق فاستطاب فقال عزمت عليك يا عتبة إذا رجعت إلا رزقت كل رجل من المسلمين مثله قلت و الذي يصلحك يا أمير المؤمنين لو أنفقت عليه أموال قيس كلها لما وسع ذلك قال فلا حاجة لي فيه إذا ثم دعا بقصعة من ثريد و لحم غليظ و خبز خشن فقال كل ثم جعل يأكل أكلا شهيا و جعلت أهوى إلى البضعة البيضاء أحسبها سناما و إذا هي عصبة و أهوى إلى البضعة من اللحم أمضغها (13/27)
شرح نهج البلاغة ج : 12 ص : 36فلا أسيغها و إذا هي من علباء العنق فإذا غفل عني جعلتها بين الخوان و القصعة فدعا بعس من نبيذ كاد يكون خلا فقال اشرب فلم أستطعه و لم أسغه أن أشرب فشرب ثم نظر إلي و قال ويحك إنه ليس بدرمك العراق و ودكه و لكن ما تأكله أنت و أصحا. ثم قال اسمع إنا ننحر كل يوم جزورا فأما أوراكها و ودكها و أطائبها فلمن حضرنا من المهاجرين و الأنصار و أما عنقها فلآل عمر و أما عظامها و أضلاعها فلفقراء المدينة نأكل من هذا اللحم الغث و نشرب من هذا النبيذ الخاثر و ندع لين الطعام ليوم تذهل كل مرضعة عما أرضعت و تضع كل ذات حمل حملها. حضر عند عمر قوم من الصحابة فأثنوا عليه و قالوا و الله ما رأينا يا أمير المؤمنين رجلا أقضى منك بالقسط و لا أقول بالحق و لا أشد على المنافقين منك إنك لخير الناس بعد رسول الله ص. فقال عوف بن مالك كذبتم و الله أبو بكر بعد رسول الله خير أمته رأينا أبا بكر. فقال عمر صدق عوف و الله و كذبتم لقد كان أبو بكر و الله أطيب من ريح المسك و أنا أضل من بعير أهلي. لما أتى عمر الخبر بنزول رستم القادسية كان يخرج فيستخبر الركبان كل يوم عن أهل القادسية من حين يصبح إلى انتصاف النهار ثم يرجع إلى أهله فلما جاء البشير بالفتح شرح نهج البلاغة ج : 12 ص : 37لقيه كما يلقى الركبان من قبل فسأله فأخبره فجعل يقول يا عبد الله إيه حدثني فيقول له هزم الله العدو و عمر يحث معه و يسأله و هو راجل و البشير يسير على ناقته و لا يعرفه فلما دخل المدينة إذا الناس يسلمون عليه باه بإمرة المؤمنين و يهنئونه فنزل الرجل و قال هلا أخبرتني يا أمير المؤمنين رحمك الله و جعل عمر يقول لا عليك يا ابن أخي لا عليك يا ابن أخي. و روى أبو العالية الشامي قال قدم عمر الجابية على جمل أورق تلوح صلعته ليس عليه قلنسوة تصل رجلاه بين شعبتي رحله بغير ركاب وطاؤه كساء أنبجاني كثير الصوف و هو وطاؤه إذا ركب و فراشه إذا نزل و (13/28)
حقيبته نمرة محشوة ليفا هي حقيبته إذا ركب و وسادته إذا نزل و عليه قميص من كرابيس قد دسم و تخرق جيبه فقال ادعوا إلي رأس القرية فدعوه له فقال اغسلوا قميصي هذا و خيطوه و أعيروني قميصا ريثما يجف قميصي فأتوه بقميص كتان فعجب منه فقال ما هذا قالوا كتان قال و ما الكتان فأخبروه فلبسه ثم غسل قميصه و أتي به فنزع قميصهم و لبس قميصه فقال له رأس القرية أنت ملك العرب و هذه بلاد لا يصلح بها ركوب الإبل فأتي ببرذون فطرحت عليه قطيفة بغير سرج فركبه فهملج تحته فقال للناس احبسوا فحبسوه فقال ما كنت أظن الناس يركبون الشيطان قبل هذا قدموا لي جملي فجي ء به فنزل عن البرذون و ركبه. شرح نهج البلاغة ج : 12 ص : 38قدم عمر الشام فلقيه أمراء الأجناد و عظماء تلك الأرض فقال و أين أخي قالوا من هو قال أبو عبيدة قالوا سيأتيك الفجاء أبو عبيدة على ناقة مخطومة بحبل فسلم عليه و رد له ثم قال للناس انصرفوا عنا فسار معه حتى أتى منزله فنزل عليه فلم ير فيه إلا سيفا و ترسا فقال له لو اتخذت متاع البيت قال حسبي هذا يبلغني المقيل. و روى طارق بن شهاب أن عمر لما قدم الشام عرضت له مخاضة فنزل عن بعيره و نزع جرموقيه فأمسكهما بيده و خاض الماء و زمام بعيره في يده الأخرى فقال له أبو عبيدة لقد صنعت اليوم صنيعا عظيما عند أهل هذه الأرض فصك في صدره و قال لو غيرك قالها يا أبا عبيدة إنكم كنتم أذل الناس و أحقر الناس و أقل الناس فأعزكم الله بالإسلام فمهما تطلبوا العز بغيره يرجعكم إلى الذل. و روى محمد بن سعد صاحب الواقدي أن عمر قال يوما على المنبر لقد رأيتني و ما لي من أكال يأكله الناس إلا أن لي خالات من بني مخزوم فكنت أستعذب لهن الماء فيقبضن لي القبضات من الزبيب فلما نزل قيل له ما أردت بهذا قال وجدت في نفسي بأوا فأردت أن أطأطئ منها. (13/29)
شرح نهج البلاغة ج : 12 ص : 39و من كلام عمر رحم الله امرأ أهدى إلي عيوبي. قدم عمرو بن العاص على عمر و كان واليا لمصر فقال له في كم سرت قال في عشرين قال عمر لقد سرت سير عاشق فقال عمرو إني و الله ما تأبطتنى الإماء و لا حملتني في غبرات المآلي فقال عمر و اللما هذا بجواب الكلام الذي سألتك عنه و أن الدجاجة لتفحص في الرماد فتضع لغير الفحل و إنما تنسب البيضة إلى طرقها فقام عمرو مربد الوجه. قلت المآلي خرق سود يحملها النوائح و يسرن بها بأيديهن عند اللطم و أراد خرق الحيص هاهنا و شبهها بتلك و أنكر عمر فخره بالأمهات و قال إن الفخر للأب الذي إليه النسب و سألت النقيب أبا جعفر عن هذا الحديث في عمر فقال إن عمرا فخر على عمر لأن أم الخطاب زنجية و تعرف بباطحلي تسمى صهاك فقلت له و أم عمرو النابغة أمه من سبايا العرب فقال أمه عربية من عنزة سبيت في بعض الغارات فليس يلحقها من النقص عندهم ما يلحق الإماء الزنجيات فقلت له أ كان عمرو يقدم على عمر بمثل ما قلت قال قد يكون بلغه عنه قول قدح في نفسه فلم يحتمله له و نفث بما في صدره منه و إن لم يكن جوابا مطابقا للسؤال و قد كان عمر مع خشونته يحتمل نحو هذا فقد جبهه الزبير مرة و جعل يحكي كلامه يمططه و جبهه سعد بن أبي وقاص أيضا فأغضى عنه و مر يوما في السوق على ناقة له فوثب غلام من بني ضبة فإذا هو خلفه فالتفت إليه فقال فممن أنت قال ضبي قال جسور و الله فقال الغلام على العدو قال عمر و على الصديق أيضا ما حاجتك فقضى حاجته ثم قال دع الآن لنا ظهر راحلتنا. شرح نهج البلاغة ج : 12 ص : 40و من كلام عمر اخشع عند القبور إذا نظرت إليها و استعص عند المعصية و ذل عند الطاعة و لا تبذلن كلامك إلا عند من يشتهيه و يتخذه غنما و لا تستعن على حاجتك إلا بمن يحب نجاحها لك و آخ الإخوان على التقوى و شاور في أمرك كله و إذا اشى أحدكم بعيرا فليشتره جسيما فإن أخطأته النجابة لم يخطئه السوق. أوفد (13/30)
بشر بن مروان و هو على العراق رجلا إلى عبد الملك فسأله عن بشر فقال يا أمير المؤمنين هو اللين في غير ضعف الشديد في غير عنف فقال عبد الملك ذاك الأحوذي ابن حنتمة الذي كان يأمن عنده البري ء و خافه السقيم و يعاقب على الذنب و يعرف موضع العقوبة لا بشر بن مروان. أذن عمر يوما للناس فدخل شيخ كبير يعرج و هو يقود ناقة رجيعا يجاذبها حتى وقف بين ظهراني الناس ثم قال (13/31)
و إنك مسترعى و إنا رعية و إنك مدعو بسيماك يا عمرلدى يوم شر شره لشراره و خير لمن كانت مؤانسه الخير
فقال عمر لا حول و لا قوة إلا بالله من أنت قال عمرو بن براقة قال ويحك فما منعك أن تقول وَ اعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْ ءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَ لِلرَّسُولِ ثم قرأها إلى آخرها و أمر بناقته فقبضت و حمله على غيرها و كساه و زوده. شرح نهج البل ج : 12 ص : 41بينا عمر يسير في طريق مكة يوما إذا بالشيخ بين يديه يرتجز و يقول
ما إن رأيت كفتى الخطاب أبر بالدين و بالأحساب بعد النبي صاحب الكتابفطعنه عمر بالسوط في ظهره فقال ويلك و أين الصديق قال ما لي بأمره علم يا أمير المؤمنين قال أما إنك لو كنت عالما ثم قلت هذا لأوجعت ظهرك. قال زيد بن أسلم كنت عند عمر و قد كلمه عمرو بن العاص في الحطيئة و كان محبوسا فأخرجه من السجن ثم أنشده
ما ذا تقول لأفراخ بذي مرخ زغب الحواصل لا ماء و لا شجرألقيت كاسبهم في قعر مظلمة فاغفر عليك سلام الله يا عمرأنت الإمام الذي من بعد صاحبه ألقت إليه مقاليد النهى البشرما آثروك بها إذ قدموك لها لكن لأنفسهم كانت بك الأثر
فبكى عمر لما قال له ما ذا تقول لأفراخ فكان عمرو بن العاص بعد ذلك يقول ما أقلت الغبراء و لا أظلت الخضراء أتقي من رجل يبكي خوفا من حبس الحطيئة ثم قال عمر لغلامه يرفأ علي بالكرسي فجلس عليه ثم قال علي بالطست فأتي بها ثم قال علي بالمخصف لا بل علي بالسكين فأتي بها فقال لا بل علي بالموسى فإنها أوجي فأتي بموسى ثم قال أشيروا علي في الشاعر فإنه يقول الهجر و ينسب بالحرم و يمدح الناس و يذمهم بغير ما فيهم و ما أراني إلا قاطعا لسانه فجعل الحطيئة يزيد خوفا فقال من حضر أنه لا يعود يا أمير المؤمنين و أشاروا إليه قل لا أعود يا أمير المؤمنين فقال النجاء النجاء فلما ولى ناداه يا حطيئة فرجع مرعوبا فقال كأني بك يا حطيئة شرح نهج البلاغة ج : 12 ص : 42عند فتى من قريش قد بسط لك نمرقة و كسر لك أخرى ثم قال غننا يا حطيئة فطفقت تغنيه بأعراض الناس قال يا أمير المؤمنين لا أعود و لا يكون ك. قال زيد بن أسلم ثم رأيت الحطيئة يوما بعد ذلك عند عبيد الله بن عمر قد بسط له نمرقة و كسر له أخرى ثم قال تغنينا يا حطيئة و هو يغنيه فقلت يا حطيئة أ ما تذكر قول عمر لك ففزع و قال رحم الله ذلك المرء أما لو كان حيا ما فعلنا هذا قال فقلت لعبيد الله بن عمر سمعت أباك يذكر كذا فكنت أنت ذلك الفتى. كان عمر يصادر خونة العمال فصادر أبا موسى الأشعري و كان عامله على البصرة و قال له بلغني أن لك جاريتين و أنك تطعم الناس من جفنتين و أعاده بعد المصادرة إلى عمله. و صادر أبا هريرة و أغلظ عليه و كان عامله على البحرين فقال له أ لا تعلم أني استعملتك على البحرين و أنت حاف لا نعل في رجلك و قد بلغني أنك بعت أفراسا بألف و ستمائة دينار قال أبو هريرة كانت لنا أفراس فتناتجت فقال قد حبست لك رزقك و مئونتك و هذا فضل قال أبو هريرة ليس ذلك لك قال بلى و الله و أوجع ظهرك ثم قام إليه بالدرة فضرب ظهره حتى أدماه ثم قال ائت بها فلما أحضرها قال أبو هريرة سوف (13/32)
أحتسبها عند الله قال عمر ذاك لو أخذتها من حل و أديتها طائعا أما و الله ما رجت فيك أميمة أن تجبي أموال هجر و اليمامة و أقصى البحرين لنفسك لا لله و لا للمسلمين و لم ترج فيك أكثر من رعية الحمر و عزله. و صادر الحارث بن وهب أحد بني ليث بكر بن كنانة و قال له ما قلاص و أعبد بعتها بمائه دينار قال خرجت بنفقة لي فاتجرت فيها قال و إنا و الله ما بعثناك للتجارة شرح نهج البلاغة ج : 12 ص : 43أدها قال أما و الله لا أعمل لك بعدها قال إنا و الله لا أستعملك بعدهثم صعد المنبر فقال يا معشر الأمراء إن هذا المال لو رأينا أنه يحل لنا لأحللناه لكم فأما إذ لم نره يحل لنا و ظلفنا أنفسنا عنه فاظلفوا عنه أنفسكم فإني و الله ما وجدت لكم مثلا إلا عطشان ورد اللجة و لم ينظر الماتح فلما روي غرق. و كتب عمر إلى عمرو بن العاص و هو عامله في مصر أما بعد فقد بلغني أنه قد ظهر لك مال من إبل و غنم و خدم و غلمان و لم يكن لك قبله مال و لا ذلك من رزقك فإني لك هذا و لقد كان لي من السابقين الأولين من هو خير منك و لكني استعملتك لغنائك فإذا كان عملك لك و علينا بم نؤثرك على أنفسنا فاكتب إلي من أين مالك و عجل و السلام. فكتب إليه عمرو بن العاص قرأت كتاب أمير المؤمنين و لقد صدق فأما ما ذكره من مالي فإني قدمت بلدة الأسعار فيها رخيصه و الغزو فيها كثير فجعلت فضول ما حصل لي من ذلك فيما ذكره أمير المؤمنين و الله يا أمير المؤمنين لو كانت خيانتك لنا حلالا ما خناك حيث ائتمنتنا فأقصر عنا عناك فإن لنا أحسابا إذا رجعنا إليها أغنتنا عن العمل لك و أما من كان لك من السابقين الأولين فهلا استعملتهم فو الله ما دققت لك بابا. فكتب إليه عمر أما بعد فإني لست من تسطيرك و تشقيقك الكلام في شي ء إنكم معشر الأمراء أكلتم الأمول و أخلدتم إلى الأعذار فإنما تأكلون النار و تورثون العار و قد وجهت إليك محمد بن مسلمة ليشاطرك على ما في يديك و السلام. (13/33)
شرح نهج البلاغة ج : 12 ص : 44فلما قدم إليه محمد اتخذ له طعاما و قدمه إليه فأبى أن يأكل فقال ما لك لا تأكل طعامنا قال إنك عملت لي طعاما هو تقدمة للشر و لو كنت عملت لي طعام الضيف لأكلته فأبعد عني طعامك و أحضر لي مالك فلما كان الغد و أحضر ماله جعل محمد يأخشطرا و يعطي عمرا شطرا فما رأى عمرو ما حاز محمد من المال قال يا محمد أقول قال قل ما تشاء قال لعن الله يوما كنت فيه واليا لابن الخطاب و الله لقد رأيته و رأيت أباه و إن على كل واحد منهما عباءة قطوانية مؤتزرا بها ما تبلغ مأبض ركبتيه و على عنق كل واحد منهما حزمة من حطب و إن العاص بن وائل لفي مزررات الديباج فقال محمد إيها يا عمرو فعمر و الله خير منك و أما أبوك و أبوه ففي النار و و الله لو لا ما دخلت فيه من الإسلام لألفيت معتلفا شاة يسرك غزرها و يسوءك بكؤها قال صدقت فاكتم علي قال أفعل. جاءت سرية لعبيد الله بن عمر إلى عمر تشكوه فقالت يا أمير المؤمنين أ لا تعذرني من أبي عيسى قال و من أبو عيسى قالت ابنك عبيد الله قال ويحك و قد تكني بأبي عيسى و دعاه و قال إيها اكتنيت بأبي عيسى فحذر و فزع فأخذ يده فعضها حتى صاح ثم ضربه و قال ويلك هل لعيسى أب أ ما تدري ما كنى العرب أبو سلمة أبو حنظلة أبو عرفطة أبو مرة. كان عمر إذا غضب على بعض أهله لم يشتف حتى يعض يده و كان عبد الله بن الزبير كذلك يقال إنه لم يل ولاية من ولد عمر وال عادل شرح نهج البلاغة ج : 12 ص : 45و قال مالك بن أنس إن عمر بن الخطاب استفرغ كل عدل في ولده فلم يعدل بعده أ منهم في ولاية وليها. كان عمر و من بعده من الولاة إذا أخذوا العصاة نزعوا عمائمهم و أقاموهم للناس حتى جاء زياد فضربهم بالسياط فجاء مصعب فحلق مع الضرب فجاء بشر بن مروان فكان يصلب تحت الإبطين و يضرب الأكف بالمسامير فكتب إلى بعض الجند قوم من أهله يستزيرونه و يتشوقونه و قد أخرجه بشر إلى الري فكتب إليهم (13/34)
لو لا مخافة بشر أو عقوبته أو أن يرى شأني كفي بمسمارإذا لعطلت ثغري ثم زرتكم إن المحب المعنى جد زوار (13/35)
فلما جاء الحجاج قال كل هذا لعب فقتل العصاة بالسيف. زيد بن أسلم عن أبيه قال خلا عمر لبعض شأنه و قال أمسك علي الباب فطلع الزبير فكرهته حين رأيته فأراد أن يدخل فقلت هو على حاجة فلم يلتفت إلي و أهوى ليدخل فوضعت يدي في صدره فضرب أنفي فأدماه ثم رجع فدخلت على عمر فقال ما بك قلت الزبير. فأرسل إلى الزبير فلما دخل جئت فقمت لأنظر ما يقول له فقال ما حملك على ما صنعت أدميتني للناس فقال الزبير يحكيه و يمطط في كلامه أدميتني أ تحتجب عنا يا ابن الخطاب فو الله ما احتجب مني رسول الله و لا أبو بكر فقال عمر كالمعتذر إني كنت في بعض شأني. قال أسلم فلما سمعته يعتذر إليه يئست من أن يأخذ لي بحقي منه. شرح نهج البلاغة ج : 12 ص : 46فخرج الزبير فقال عمر إنه الزبير و آثاره ما تعلم فقلت حقي حقك. و روى الزبير بن بكار في كتاب الموفقيات عن عبد الله بن عباس قال إني لأماشي عمر بن الخطاب في سكمن سكك المدينة إذ قال لي يا ابن عباس ما أرى صاحبك إلا مظلوما فقلت في نفسي و الله لا يسبقني بها فقلت يا أمير المؤمنين فاردد إليه ظلامته فانتزع يده من يدي و مضى يهمهم ساعة ثم وقف فلحقته فقال يا ابن عباس ما أظنهم منعهم عنه إلا أنه استصغره قومه فقلت في نفسي هذه شر من الأولى فقلت و الله ما استصغره الله و رسوله حين أمراه أن يأخذ براءة من صاحبك. فأعرض عني و أسرع فرجعت عنه. و قال ابن عباس قلت لعمر لقد أكثرت التمني للموت حتى خشيت أن يكون عليك غير سهل عند أوانه فما ذا سئمت من رعيتك أن تعين صالحا أو تقوم فاسدا. قال يا ابن عباس إني قائل قولا فخذه إليك كيف لا أحب فراقهم و فيهم من هو فاتح فاه للشهوة من الدنيا إما لحق لا ينوء به و إما لباطل لا يناله و الله لو لا أن أسأل عنكم لبرئت منكم فأصبحت الأرض مني بلاقع و لم أقل ما فعل فلان و فلان.
جاءت امرأة إلى عمر بن الخطاب فقالت يا أمير المؤمنين إن زوجي يصوم شرح نهج البلاغة ج : 12 ص : 47النهار و يقوم الليل و إني أكره أن أشكوه و هو يعمل بطاعة الله فقال نعم الزوج زوجك فجعلت تكرر عليه القول و هو يكرر عليها الجواب. فقال له كعب بن سور يا أمير المؤمنين إنها تشكو زوجها في مباعدته إياها فراشه ففطن عمر حينئذ و قال له قد وليتك الحكم بينهما. فقال كعب علي بزوجها فأتي به فقال إن زوجتك هذه تشكوك قال في طعام أو شراب قال لا قالت المرأة (13/36)
أيها القاضي الحكيم رشده ألهى خليلي عن فراشي مسجده زهده في مضجعي تعبده نهاره و ليله ما يرقده فلست في أمر النساء أحمدفقال زوجها
زهدني في فرشها و في الحجل أني امرؤ أذهلني ما قد نزل في سورة النمل و في السبع الطول و في كتاب الله تخويف جللقال كعب
إن لها حقا عليك يا رجل تصيبها من أربع لمن عقل فأعطها ذاك و دع عنك العللفقال لعمر يا أمير المؤمنين إن الله أحل له من النساء مثنى و ثلاث و رباع فله ثلاثة أيام و لياليهن يعبد فيها ربه و لها يوم و ليلة. فقال عمر و الله ما أعلم من أي أمريك أعجب أ من فهمك أمرهما أم من حكمك بينهما اذهب فقد وليتك قضاء البصرة. و روى زيد بن أسلم عن أبيه قال خرجت مع عمر بن الخطاب و هو يطوف بالليل شرح نهج البلاغة ج : 12 ص : 48فنظر إلى نار شرقي حرة المدينة فقال إن هؤلاء الركب لم ينزلوا هاهنا إلا الليلة ثم أهوى لهم فخرجت معه حتى دنونا فسمعنا تضاغي الصبيان و بكاءهم. فقال السلام عليكم يا أصحاب الضوء هل ندنونكم و احتبسنا قليلا فقالت امرأة منهم ادنوا بسلام فأقبلنا حتى وقفنا عليها فقال ما يبكي هؤلاء الصبيان قالت الجوع قال فما هذا القدر على النار قالت ماء أعللهم به قال انتظريني فإني بالغك إن شاء الله ثم خرج يهرول و أنا معه حتى جئنا دار الدقيق و كانت دارا يطرح فيها ما يجي ء من دقيق العراق و مصر و قد كان كتب إلى عمرو بن العاص و أبي موسى حين أمحلت السنة الغوث الغوث احملوا إلى أحمال الدقيق و اجعلوا فيها جمائد الشحم فجاء إلى عدل منها فطأطأ ظهره ثم قال احمله على ظهري يا أسلم فقلت أنا أحمله عنك فنظر إلي و قال أنت تحمل ني وزري يوم القيامة لا أبا لك قلت لا قال فاحمله على ظهري إذا ففعلت و خرج به يدلج و أنا معه حتى ألقاه عند المرأة. ثم قال لي ذر علي ذرور الدقيق لا يتعرد و أنا أخزر ثم أخذ المسواط يخزر ثم جعل ينفخ تحت البرمة و أنا أنظر إلى الدخان يخرج من خلل لحيته و يقول لا تعجل حتى ينضج ثم قال ألق علي من الشحم فإن القفار يوجع البطن. شرح نهج البلاغة ج : 12 ص : 49ثم أنزل القدر و قال للمرأة لا تعجلي لا تعطيهم حارا و أنا أسطح لك فجعل يسطح بالمسواط و يبرد طعامهم حتى إذا شبعوا ترك عندها الفضل ثم قال لها ائتي أمير المؤمنين غدا (13/37)
فإنعسيت أن تجديني قريبا منه فأشفع لك بخير و هي تقول من أنت يرحمك الله و تدعو له و تقول أنت أولى بالخلافة من أمير المؤمنين فيقول قولي خيرا يرحمك الله لا يزيد على هذا. ثم انصرف حتى إذا كان قريبا جلس فأقعى و جعل يسمع طويلا حتى سمع التضاحك منها و من الصبيان و أنا أقول يا أمير المؤمنين قد فرغت من هذه و لك شغل في غيرها و يقول لا تكلمني حتى إذا هدأ حسهم قام فتمطى و قال ويحك إني سمعت الجوع أسهرهم فأحببت ألا أبرح حتى أسمع الشبع أنامهم. و من كلامه الرجال ثلاثة الكامل و دون الكامل و لا شي ء فالكامل ذو الرأي يستشير الناسفيأخذ من آراء الرجال إلى رأيه و دون الكامل من يستبد به و لا يستشير و لا شي ء من لا رأى له و لا يستشير. و النساء ثلاث تعين أهلها على الدهر و لا تعين الدهر على أهلها و قلما تجدها و امرأة وعاء للولد ليس فيها غيره و الثالثة غل قمل يجعله الله في رقبة من يشاء ويفكه إذا شاء. لما أخرج عمر الحطيئة من حبسه قال له إياك و الشعر قال لا أقدر على تركه يا أمير المؤمنين مأكلة عيالي و نملة تدب على لساني قال فشبب بأهلك و إياك (13/38)
شرح نهج البلاغة ج : 12 ص : 50و كل مدحة مجحفه قال و ما المجحفة قال تقول إن بني فلان خير من بني فلان امدح و لا تفضل أحدا قال أنت و الله يا أمير المؤمنين أشعر مني. و روى الزبير في الموفقيات عن عبد الله بن عباس قال خرجت أريد عمر بن الخطاب فلقيته راكبا حمارا قد ارتسنه بحبل أسود في رجليه نعلان مخصوفتان و عليه إزار و قميص صغير و قد انكشفت منه رجلاه إلى ركبتيه فمشيت إلى جانبه و جعلت أجذب الإزار و أسويه عليه كلما سترت جانبا انكشف جانب فيضحك و يقول إنه لا يطيعك حتى جئنا العالية فصلينا ثم قدم بعض القوم إلينا طعاما من خبز و لحم و إذا عمر صائم فجعل ينبذ إلي طيب اللحم و يقول كل لي و لك ثم دخلنا حائطا فألقى إلي رداءه و قال اكفنيه و ألقى قميصه بين يديه و جلس يغسله و أنا أغسل رداءه ثم جففناهما و صلينا العصر فركب و مشيت إلى جانبه و لا ثالث لنا. فقلت يا أمير المؤمنين إني في خطبة فأشر علي قال و من خطبت قلت فلانة ابنة فلان قال النسب كما تحب و كما قد علمت و لكن في أخلاق أهلها دقة لا تعدمك أن تجدها في ولدك قلت فلا حاجة لي إذا فيها قال فلم لا تخطب إلى ابن عمك يعني عليا قلت أ لم تسبقني إليه قال فالأخرى قلت هي لابن أخيه قال يا ابن عباس إن صاحبكم إن ولي هذا الأمر أخشى عجبه بنفسه أن يذهب به فليتني أراكم بعدي قلت يا أمير المؤمنين إن صاحبنا ما قد علمت أنه ما غير و لا بدل و لا أسخط رسول الله ص أيام صحبته شرح نهج البلاغة ج : 12 ص : 51قال فقطع علي الكلام فقال و لا في ابنة أبي جهل لما أراد أن يخطبها على فاطمة. قلت قال الله تعالى وَ لَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً و صاحبنا لم يعزم على سخط رسول الله ص و لكن الخواطر التي لا يقدر أحد على دفعها عن نفسه و ربما كان من اقيه في دين الله العالم العامل بأمر الله. فقال يا ابن عباس من ظن أنه يرد بحوركم فيغوص فيها معكم حتى يبلغ قعرها فقد ظن عجزا أستغفر الله لي و لك خذ في (13/39)
غيرها. ثم أنشأ يسألني عن شي ء من أمور الفتيا و أجيبه فيقول أصبت أصاب الله بك أنت و الله أحق أن تتبع. أشرف عد الملك على أصحابه و هم يتذاكرون سيرة عمر فغاظه ذلك و قال إيها عن ذكر سيرة عمر فإنها مزراة على الولاة مفسدة للرعية. قال ابن عباس كنت عند عمر فتنفس نفسا ظننت أن أضلاعه قد انفرجت فقلت ما أخرج هذا النفس منك يا أمير المؤمنين إلا هم شديد قال إي و الله يا ابن عباس إني فكرت فلم أدر فيمن أجعل هذا الأمر بعدي ثم قال لعلك ترى صاحبك لها أهلا قلت و ما يمنعه من ذلك مع جهاده و سابقته و قرابته و علمه قال صدقت و لكنه امرؤ فيه دعابة قلت فأين أنت عن طلحة قال ذو البأو و بإصبعه المقطوعة قلت فعبد الرحمن قال رجل ضعيف لو صار الأمر إليه لوضع خاتمه في يد امرأته قلت فالزبير قال شكس لقس يلاطم في النقيع في صاع شرح نهج البلاغة ج : 12 ص : 52من بر قلت فسعد بن أبي وقاص قال صاحب سلاح و مقنب قلت فعثمان قال أوه ثلاثا و الله لئن وليها ليحملن بني أبي معيط على رقاب الناس ثم لتنهض العرب إليه. ثمال يا ابن عباس إنه لا يصلح لهذا الأمر إلا خصيف العقدة قليل الغرة لا تأخذه في الله لومة لائم ثم يكون شديدا من غير عنف لينا من غير ضعف سخيا من غير سرف ممسكا من غير وكف قال ابن عباس و كانت و الله هي صفات عمر. قال ثم أقبل علي بعد أن سكت هنيهة و قال أجرؤهم و الله إن وليها أن يحملهم على كتاب ربهم و سنة نبيهم لصاحبك أما إن ولى أمرهم حملهم على المحجة البيضاء و الصراط المستقيم. و روى عبد الله بن عمر قال كنت عند أبي يوما و عنده نفر من الناس فجرى ذكر الشعر فقال من أشعر العرب فقالوا فلان و فلان فطلع عبد الله بن عباس فسلم و جلس فقال عمر قد جاءكم الخبير من أشعر الناس يا عبد الله قال زهير بن أبي سلمى قال فأنشدني مما تستجيده له فقال يا أمير المؤمنين إنه مدح قوما من غطفان يقال لهم بنو سنان فقال (13/40)
لو كان يقعد فوق الشمس من كرم قوم بأولهم أو مجدهم قعدواقوم أبوهم سنان حين تنسبهم طابوا و طاب من الأولاد ما ولدواأنس إذا أمنوا جن إذا فزعوا مرزءون بها ليل إذا جهدوا (13/41)
شرح نهج البلاغة ج : 12 ص : 53محسدون على ما كان من نعم لا بنزع الله منهم ماله حسدوفقال عمر و الله لقد أحسن و ما أرى هذا المدح يصلح إلا لهذا البيت من هاشم لقرابتهم من رسول الله ص فقال ابن عباس وفقك الله يا أمير المؤمنين فلم تزل موفقا فقال يا ابن عباس أ تدري ما منع الناس منكم قال لا يا أمير المؤمنين قال لكني أدري قال ما هو يا أمير المؤمنين قال كرهت قريش أن تجتمع لكم النبوة و الخلافة فيجخفوا جخفا فنظرت قريش لنفسها فاختارت و وفقت فأصابت. فقال ابن عباس أ يميط أمير المؤمنين عني غضبه فيسمع قال قل ما تشاء قال أما قول أمير المؤمنين إن قريشا كرهت فإن الله تعالى قال لقوم ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا ما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمالَهُمْ. و أما قولك إنا كنا نجخف فلو جخفنا بالخلافة جخفنا بالقرابة و لكنا قوم أخلاقنا مشتقة من خلق رسول الله ص الذي قال الله تعالى وَ إِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ و قال له وَ اخْفِضْ جَناحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ. و أما قولك فإن قريشا اختارت فإن الله تعالى يقول وَ رَبُّكَ يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَ يَخْتارُ ما كانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ و قد علمت يا أمير المؤمنين أن الله اختار من خلقه لذلك من اختار فلو نظرت قريش من حيث نظر الله لها لوفقت و أصابت قريش. فقال عمر على رسلك يا ابن عباس أبت قلوبكم يا بني هاشم إلا غشا في أمر قريش لا يزول و حقدا عليها لا يحول فقال ابن عباس مهلا يا أمير المؤمنين شرح نهج البلاغة ج : 12 ص : 54لا تنسب هاشما إلى الغش فإن قلوبهم من قلب رسول الله الذي طهره الله و زكاه و هم أهل البيت الذين قاللله تعالى لهم إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ
الْبَيْتِ وَ يُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً و أما قولك حقدا فكيف لا يحقد من غصب شيئه و يراه في يد غيره. فقال عمر أما أنت يا ابن عباس فقد بلغني عنك كلام أكره أن أخبرك به فتزول منزلتك عندي قال و ما هو يا أمير المؤمنين أخبرني به فإن يك باطلا فمثلي أماط الباطل عن نفسه و إن يك حقا فإن منزلتي عندك لا تزول به. قال بلغني أنك لا تزال تقول أخذ هذا الأمر منك حسدا و ظلما قال أما قولك يا أمير المؤمنين حسدا فقد حسد إبليس آدم فأخرجه من الجنة فنحن بنو آدم المحسود. و أما قولك ظلما فأمير المؤمنين يعلم صاحب الحق من هو. ثم قال يا أمير المؤمنين أ لم تحتج العرب على العجم بحق رسول الله و احتجت قريش على سائر العرب بحق رسول الله ص فنحن أحق برسول الله من سائر قريش. فقال له عمر قم الآن فارجع إلى منزلك فقام فلما ولى هتف به عمر أيها المنصرف إني على ما كان منك لراع حقك. فالتفت ابن عباس فقال إن لي عليك يا أمير المؤمنين و على كل المسلمين حقا برسول الله ص فمن حفظه فحق نفسه حفظ و من أضاعه فحق نفسه أضاع ثم مضى. شرح نهج البلاغة ج : 12 ص : 55فقال عمر لجلسائه واها لابن عباس ماأيته لاحى أحدا قط إلا خصمه. لما توفي عبد الله بن أبي رأس المنافقين في حياة رسول الله ص جاء ابنه و أهله فسألوا رسول الله ص أن يصلي عليه فقام بين يدي الصف يريد ذلك فجاء عمر فجذبه من خلفه و قال أ لم ينهك الله أن تصلي على المنافقين فقال إني خيرت فاخترت فقيل لي اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ و لو أني أعلم أني إذا زدت على السبعين غفر له لزدت ثم صلى رسول الله عليه و مشى معه و قام على قبره. فعجب الناس من جرأة عمر على رسول الله ص فلم يلبث الناس إلا أن نزل قوله تعالى وَ لا تُصَلِّ عَلى أَحَدٍ مِنْهُمْ ماتَ أَبَداً وَ لا تَقُمْ عَلى قَبْرِهِ فلم يصل ع بعدها على أحد (13/42)
من المنافقين. و (13/43)
روى أبو هريرة قال كنا قعودا حول رسول الله ص في نفر فقام من بين أظهرنا فأبطأ علينا و خشينا أن يقطع دوننا فقمنا و كنت أول من فزع فخرجت أبتغيه حتى أتيت حائطا للأنصار لقوم من بني النجار فلم أجد له بابا إلا ربيعا فدخلت في جوف الحائط و الربيع الجدول فدخلت منه بعد أن احتفرته فإذا رسول الله ص فقال أبو هريرة قلت نعم قال ما شأنك قلت كنت بين أظهرنا فقمت فأبطأت عنا فخشينا أن تقتطع دوننا ففزعنا و كنت أول من فزع فأتيت هذا الحائط فاحتفرته كما يحتفر الثعلب و الناس من ورائي. شرح نهج البلاغة ج : 12 ص : 56فقال يا أبا هريرةذهب بنعلي هاتين فمن لقيته وراء هذا الحائط يشهد أن لا إله إلا الله مستيقنا بها قلبه فبشره بالجنة فخرجت فكان أول من لقيت عمر فقال ما هذان النعلان قلت نعلا رسول الله ص بعثني بهما و قال من لقيته يشهد أن لا إله إلا الله مستيقنا بها قلبه فبشره بالجنة. فضرب عمر في صدري فخررت لاستي و قال ارجع إلى رسول الله ص. فأجهشت بالبكاء راجعا فقال رسول الله ما بالك قلت لقيت عمر فأخبرته بالذي بعثتني به فضرب صدري ضربة خررت لاستي و قال ارجع إلى رسول الله. فخرج رسول الله فإذا عمر فقال ما حملك يا عمر على ما فعلت فقال عمر أنت بعثت أبا هريرة بكذا قال نعم قال فلا تفعل فإني أخشى أن يتكل الناس عليها فيتركوا العمل خلهم يعملون فقال رسول الله ص خلهم يعملون
و روى أبو سعيد الخدري قال أصابت الناس مجاعة في غزاة تبوك فقالوا يا رسول الله لو أذنت لنا فذبحنا نواضحنا و أكلنا شحمها و لحمها فقال افعلوا فجاء عمر فقال يا رسول الله إنهم إن فعلوا قل الظهر و لكن ادعهم بفضلات أزوادهم فاجمعها ثم ادع لهم عليها بالبركة لعل الله يجعل في ذلك خيرا شرح نهج البلاغة ج : 12 ص : 57ففعل رسول الله ص ذلك فأكل الخلق الكثير من طعام قليل و لم تذبح النواضحو روى ابن عباس رضي الله عنه أن رجلا أتى رسول الله ص يذكر له ذنبا أذنبه فانزل الله تعالى في أمره وَ أَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهارِ وَ زُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ ذلِكَ ذِكْرى لِلذَّاكِرِينَ فقال يا رسول الله لي خاصة أم للناس عامة. فضرب عمر صدره بيده و قال لا و لا نعمى عين بل للناس عامة فقال رسول الله ص بل للناس عامة (13/44)
و كان عمر يقول وافقني ربي في ثلاث قلت يا رسول الله لو اتخذنا من مقام إبراهيم مصلى فنزلت وَ اتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى. و قلت يا رسول الله إن نساءك يدخل عليهن البر و الفاجر فلو أمرتهن أن يحتجبن فنزلت آية الحجاب. و تمالأ عليه نساؤه غيرة فقلت له عسى ربه إن طلقكن أن يبدله أزواجا خيرا منكن فنزلت بهذا اللفظ. و قال عبد الله بن مسعود فضل عمر الناس بأربع برأيه في أسارى بدر فنزل القرآن بموافقته ما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ و برأيه في حجاب نساء النبي ص فنزل قوله تعالى وَ إِذا سَأَلْتُمُوهُنَّ شرح نهج البلاغة ج : 12 ص : 58مَتاعاً فَسْئَلُوهُنَّ مِنْ وَراءِ حِجابٍ و بدعوة النبي ص اللهم أيد الإسلام بأحد الرجلين و برأيه في أبي بكر كان أول من بايعه. و روت عائشة قالت كنت آكل مع رسول الله ص حيسا قبل أن تنزل آية الاب و مر عمر فدعاه فأكل فأصابت يده إصبعي فقال حس لو أطاع فيكن ما رأتكن عين فنزلت آية الحجاب. جاء عيينة بن حصن و الأقرع بن حابس إلى أبي بكر فقالا يا خليفة رسول الله إن عندنا أرضا سبخة ليس فيها كلأ و لا منفعة فإن رأيت أن تقطعناها لعلنا نحرثها أو نزرعها و لعل الله أن ينفع بها بعد اليوم فقال أبو بكر لمن حوله من الناس المسلمين ما ترون قالوا لا بأس فكتب لهما بها كتابا و أشهد فيه شهودا و عمر ما كان حاضرا فانطلقا إليه ليشهد في الكتاب فوجداه قائما يهنأ بعيرا فقالا إن خليفة رسول الله ص كتب لنا هذا الكتاب و جئناك لتشهد على ما فيه أ فتقرؤه أم نقرؤه عليك قال أ على الحال التي تريان إن شئتما فاقرآه و إن شئتما فانتظرا حتى أفرغ. قالا بل نقرؤه عليك فلما سمع ما فيه أخذه منهما ثم تفل فيه فمحاه فتذامرا و قالا مقالة سيئة. شرح نهج البلاغة ج : 12 ص : 59فقال إن رسول الله ص كان يتألما و الإسلام يومئذ ذليل و إن الله تعالى قد أعز الإسلام فاذهبا (13/45)
فاجهدا جهدكما لا رعى الله عليكما إن رعيتما. فذهبا إلى أبي بكر و هما يتذمران فقالا و الله ما ندري أنت أمير أم عمر فقال بل هو لو شاء كان. و جاء عمر و هو مغضب حتى وقف على أبي بكر فقال أخبرني عن هذه الأرض التي أقطعتها هذين الرجلين أ هي لك خاصة أم بين المسلمين عامة فقال بين المسلمين عامة قال فما حملك على أن تخص بها هذين دون جماعة المسلمين قال استشرت الذين حولي فأشاروا بذلك فقال أ فكل المسلمين أوسعتهم مشورة و رضا فقال أبو بكر فلقد كنت قلت لك إنك أقوى على هذا الأمر مني لكنك غلبتني. لما كتب النبي ص كتاب الصلح في الحديبية بينه و بين سهيل بن عمرو كان في الكتاب أن من خرج من المسلمين إلى قريش لا يرد و من خرج من المشركين إلى النبي ص يرد عليهم فغضب عمر و قال لأبي بكر ما هذا يا أبا بكر أ يرد المسلمون إلى المشركين ثم جاء إلى رسول الله ص فجلس بين يديه و قال يا رسول الله أ لست رسول الله حقا قال بلى قال و نحن المسلمون حقا قال نعم قال و هم الكافرون حقا قال نعم قال فعلام نعطي الدنية في ديننا فقال رسول الله أنا رسول الله أفعل ما يأمرني به و لن يضيعني. فقام عمر مغضبا و قال لو أجد أعوانا ما أعطيت الدنية أبدا و جاء إلى أبي بكر (13/46)
شرح نهج البلاغة ج : 12 ص : 60فقال له يا أبا بكر أ لم يكن وعدنا أننا سندخل مكة فأين ما وعدنا به فقال أبو بكر أ قال لك إنه العام يدخلها قال لا قال فسيدخلها فقال فما هذه الصحيفة التي كتبت و كيف نعطي الدنية من أنفسنا فقال أبو بكر يا هذا الزم غرزه فو الله إنلرسول الله و إن الله لا يضيعه. فلما كان يوم الفتح و أخذ رسول الله ص مفتاح الكعبة قال ادعوا لي عمر فجاء فقال هذا الذي كنت وعدتكم به. لما قتل المشركون يوم بدر أسر منهم سبعون أسيرا فاستشار رسول الله ص فيهم أبا بكر و عمر فقال أبو بكر يا رسول الله هؤلاء بنو العم و العشيرة و الإخوان و أرى أن تأخذ منهم الفدية فيكون ما أخذنا منهم قوة لنا على المشركين و عسى أن يهديهم الله بعد اليوم فيكونوا لنا عذرا فقال رسول الله ص ما تقول أنت يا عمر قال أرى أن تمكنني من فلان قريب لعمر فأضرب عنقه و تمكن عليا من عقيل فيضرب عنقه و تمكن حمزة من أخيه فيضرب عنقه حتى يعلم الله أنه ليس في قلوبنا هوادة للمشركين اقتلهم يا رسول الله فإنهم صناديدهم و قادتهم فلم يهو رسول الله ما قاله عمر. قال عمر فجئت رسول الله ص فوجدته قاعدا و أبو بكر و هما يبكيان فقلت ما يبكيكما حدثاني فإن وجدت بكاء بكيت و إلا تباكيت فقال رسول الله ص أبكي لأخذ الفداء لقد عرض علي عذابكم أدنى من هذه الشجرة لشجرة قريبة منه. شرح نهج البلاغة ج : 12 ص : 61قال عبد الله بن عمر فكان رسول الله ص يقول كدنا أن يصيبنا شر في مخالفة عمر. و قال عمر في خلافته لئن عشت إن شاء الله لأسيرن في الرة حولا فإني أعلم أن للناس حوائج تقتطع دوني أما عمالهم فلا يرفعونها إلي و أما هم فلا يصلون إلي أسير إلى الشام فأقيم بها شهرين ثم أسير إلى الجزيرة فأقيم بها شهرين ثم أسير إلى مصر فأقيم بها شهرين ثم أسير إلى البحرين فأقيم بها شهرين ثم أسير إلى الكوفة فأقيم بها شهرين ثم إلى البصرة فأقيم بها شهرين و الله لنعم الحول هذا. و قال (13/47)
أسلم بعثني عمر بإبل من إبل الصدقة إلى الحمى فوضعت جهازي على ناقة منها كريمة فلما أردت أن أصدرها قال أعرضها علي فعرضتها عليه فرأى متاعي على ناقة حسناء فقال لا أم لك عمدت إلى ناقة تغني أهل بيت من المسلمين فهلا ابن لبون بوال أو ناقة شصوص. و قيل لعمر إن هاهنا رجلا من الأحبار نصرانيا له بصر بالديوان لو اتخذته كاتبا فقال لقد اتخذت إذا بطانة من دون المؤمنين. قال و قد خطب الناس و الذي بعث محمدا بالحق لو أن جملا هلك ضياعا بشط الفرات خشيت أن يسأل الله عنه آل الخطاب. شرح نهج البلاغة ج : 12 ص : 62قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم يعني بآل الخطاب نفسه ما يعني غيرها. و كتب إلى أبي موسى أنه لم يزل للناس وجوه من الأمر فأكرم من قبلك من وجوه الناس و بحسب المسلم الضعيف من بين القوم أن ينصف في الحكم و في القسم. أتأعرابي عمر فقال إن ناقتي بها نقبا و دبرا فاحملني فقال له و الله ما ببعيرك من نقب و لا دبر فقال (13/48)
أقسم بالله أبو حفص عمر ما مسها من نقب و لا دبرفاغفر له اللهم إن كان فجر
فقال عمر اللهم اغفر لي ثم دعاه فحمله. جاء رجل إلى عمر و كانت بينهما قرابة يسأله فزبره و أخرجه فكلم فيه و قيل يا أمير المؤمنين زبرته و أخرجته قال إنه سألني من مال الله فما معذرتي إذا لقيته ملكا خائنا فلو سألني من مالي ثم بعث إليه ألف درهم من ماله. شرح نهجلبلاغة ج : 12 ص : 63و كان يقول في عماله اللهم إني لم أبعثهم ليأخذوا أموال المسلمين و لا ليضربوا أبشارهم من ظلمه أميره فلا إمرة عليه دوني بينا عمر ذات ليلة يعس سمع صوت امرأة من سطح و هي تنشد
تطاول هذا الليل و أزور جانبه و ليس إلى جنبي خليل ألاعبه فو الله لو لا الله تخشى عواقبه لزعزع من هذا السرير جوانبه مخافة ربي و الحياء يصدني و أكرم بعلي أن تنال مراكبه و لكنني أخشى رقيبا موكلا بأنفسنا لا يفتر الدهر كاتفقال عمر لا حول و لا قوة إلا بالله ما ذا صنعت يا عمر بنساء المدينة ثم جاء فضرب على حفصة ابنته فقالت ما جاء بك في هذه الساعة قال أخبريني كم تصبر المرأة المغيبة عن بعلها قالت أقصاه أربعة أشهر. فلما أصبح كتب إلى أمرائه في جميع النواحي ألا تجمر البعوث و ألا يغيب رجل عن أهله أكثر من أربعة أشهر. و روى أسلم قال كنت مع عمر و هو يعس بالمدينة إذ سمع امرأة تقول لبنتها قومي يا بنية إلى ذلك اللبن بعد المشرقين فامذقيه قالت أ و ما علمت ما كان من عزمة أمير المؤمنين بالأمس قالت و ما هو قالت إنه أمر مناديا فنادى ألا يشاب اللبن بالماء قالت فإنك بموضع لا يراك أمير المؤمنين و لا منادي أمير المؤمنين قالت شرح نهج البلاغة ج : 12 ص : 64و الله ما كنت لأطيعه في الملأ و أعصيه في الخلاء و عمر يسمع ذلك فقال يا أسلم اعرف الباب ثم مضى في عسه فلما أصبح قال يا أسلم امض إلى الموضع فانظر من قائلة و من المقول لها و هل لهما من بعل قال أسلم فأتيت الموضع فنظرت فإذا الجارية أيم و إذا المتكلمة بنت لها ليس لهما رجل. فجئت فأخبرته فجمع عمر ولده و قال هل يريد أحد أن يتزوج فأزوجه امرأة صالحة فتاة و لو كان في أبيكم حركة إلى النساء لم يسبقه أحد إليها فقال عاصم ابنه أنا فبعث إلى الجارية فزوجها ابنه عاصما فولدت له بنتا هي المكناة أم عاصم و هي أم عمر بن عبد العزيز بن مروان. حج عمر فلما كان بضجنان قال لا إله إلا الله العلي العظيم المعطي ما يشاء لمن يشاء أذكر و أنا أرعى إبل الخطاب بهذا الوادي في مدرعة صوف و كان فظا يتعبني إذا عملت و يضربني إذا قصرت و قد أمسيت اليوم و ليس بيني و بين الله أحد ثم تمثل (13/49)
لا شي ء مما يرى تبقى بشاشته يبقى الإله و يودي المال و الولدلم تغن عن هرمز يوما خزائنه و الخلد قد حاولت عاد فما خلدواو لا سليمان إذ تجري الرياح له و الإنس و الجن فيما بينها يردأين الملوك التي كانت منازلها من كل أوب إليها راكب يفدحوض هنالك مورود بلا كذب لا د من ورده يوما كما وردوا (13/50)
شرح نهج البلاغة ج : 12 ص : 65و روى محمد بن سيرين أن عمر في آخر أيامه اعتراه نسيان حتى كان ينسى عدد ركعات الصلاة فجعل أمامه رجلا يلقنه فإذا أومى إليه أن يقوم أو يركع فعل. و سمع عمر منشدا ينشد قول طرفهفلو لا ثلاث هن من عيشه الفتى و جدك لم أحفل متى قام عودي فمنهن سبقي العاذلات بشربه كميت متى ما تعل بالماء تزبدو كري إذا نادى المضاف محنبا كسيد الغضا نبهته المتوسدو تقصير يوم الدجن و الدجن معجب ببهكنة تحت الطراف الممددفقال و أنا لو لا ثلاث هن من عيشه الفتى لم أحفل متى قام عودي أن أجاهد في سبيل الله و أن أضع وجهي في التراب لله و أن أجالس قوما يلتقطون طيب القول كما يلتقط طيب التمر. و روى عبد الله بن بريدة قال كان عمر ربما يأخذ بيد الصبي فيقول ادع لي فإنك لم تذنب بعد و كان عمر كثير المشاورة كان يشاور في أمور المسلمين حتى المرأة. و روى يحيى بن سعيد قال أمر عمر الحسين بن علي ع أن يأتيه شرح نهج البلاغة ج : 12 ص : 66في بعض الحاجة فلقي الحسين ع عبد الله بن عمر فسأله من أين جاء قال استأذنت على أبي فلم يأذن لي فرجع الحسين و لقيهمر من الغد فقال ما منعك يا حسين أن تأتيني قال قد أتيتك و لكن أخبرني ابنك عبد الله أنه لم يؤذن له عليك فرجعت فقال عمر و أنت عندي مثله و هل أنبت الشعر على الرأس غيركم. قال عمر يوما و الناس حوله و الله ما أدري أ خليفة أنا أم ملك فإن كنت ملكا فقد ورطت في أمر عظيم فقال له قائل يا أمير المؤمنين إن بينهما فرقا و إنك إن شاء الله لعلى خير قال كيف قال إن الخليفة لا يأخذ إلا حقا و لا يضعه إلا في حق و
أنت بحمد الله كذلك و الملك يعسف الناس و يأخذ مال هذا فيعطيه هذا فسكت عمر و قال أرجو أن أكونه. و روى مالك عن نافع عن ابن عمر أن عمر تعلم سورة البقرة في اثنتي عشرة سنة فلما ختمها نحر جزورا. و روى أنس قال كان يطرح لعمر كل يوم صاع من تمر فيأكله حتى حشفه. و روى يوسف بن يعقوب الماجشون قال قال لي ابن شهاب و لأخ لي و ابن عم لنا و نحن صبيان أحداث لا تحتقروا أنفسكم لحداثة أسنانكم فإن عمر كان إذا نزل به الأمر المعضل دعا الصبيان فاستشارهم يبتغي حدة عقولهم. شرح نهج البلاغة ج : 12 ص : 67و روى الحسن قال كان رجل لا يزال يأخذ من لحية عمر شيئا فأخذ يوما من لحيته فقبض على يده فإذا فيها بشي ء فقال إن الملق من الكذب ثم علاه بالدرة. انقطع شسعل عمر فاسترجع و قال كل ما ساءك فهو مصيبة. وقف أعرابي على عمر فقال له (13/51)
يا ابن خطاب جزيت الجنة اكس بنياتي و أمهنه أقسم بالله لتفعلنهفقال عمر إن لم أفعل يكون ما ذا قال
إذا أبا حفص لأمضينه
فقال إذا مضيت يكون ما ذا قال
تكون عن حالي لتسألنه يوم تكون الأعطيات جنةو الواقف المسئول يبهتنه إما إلى نار و إما جنة
فبكى عمر ثم قال لغلامه أعطه قميصي هذا لذلك اليوم لا لشعره و الله ما أملك ثوبا غيره. و روى ابن عباس قال قال لي عمر ليلة أنشدني لشاعر الشعراء قلت و من هو قال زهير الذي يقول شرح نهج البلاغة ج : 12 ص : 6إذا ابتدرت قيس بن عيلان غاية من المجد من يسبق إليها يسود
فأنشدته حتى برق الفجر فقال إيها الآن اقرأ يا عبد الله قلت ما أقرأ قال سورة الواقعة. سمع عمر صوت بكاء في بيت فدخل و بيده الدرة فمال عليهم ضربا حتى بلغ النائحة فضربها حتى سقط خمارها ثم قال لغلامه اضرب النائحة ويلك اضربها فإنها نائحة لا حرمة لها لأنها لا تبكي بشجوكم إنها تهريق دموعها على أخذ دراهمكم إنها تؤذي أمواتكم في قبورهم و أحياءكم في دورهم إنها تنهى عن الصبر و قد أمر الله به و تأمر بالجزع و قد نهى الله عنه. و من كلامه من اتجر في شي ء ثلاث مرات فلم يصب فيه فليتحول عنه إلى غيره. و من كلامه لو كنت تاجرا لم اخترت على العطر شيئا إن فاتني ربحه لم يفتني ريحه. و من كلامه تفقهوا قبل أن تسودوا. و من كلامه تعلموا المهنة فإنه يوشك أحدكم أن يحتاج إلى مهنته. و من كلامه مكسبة فيها بعض الدناءة خير من مسألة الناس. و من كلامه أعقل الناس أعذرهم لهم. رأى عمر ناسا يتبعون أبي بن كعب فرفع عليه الدرة فقال يا أمير المؤمنين اتق الله قال فما هذه الجموع خلفك يا ابن كعب أ ما علمت أنها فتنة للمتبوع مذلة للتابع. جاء رجل إلى عمر فقال إن بنتا لي واريتها في الجاهلية فاستخرجناها قبل أن شرح نهج البلاغة ج : 12 ص : 69تموت فأدركت معنا الإسلافأسلمت ثم قارفت حدا من حدود الله فأخذت الشفرة لتذبح نفسها فأدركناها و قد قطعت بعض أوداجها فداويناها حتى برئت و تابت توبة حسنة و قد خطبها قوم أ فأخبرهم بالذي كان من شأنها فقال عمر أ تعمد إلى ما ستره الله فتبديه و الله لئن أخبرت بشأنها أحدا لأجعلنك نكالا لأهل الأمصار أنكحها نكاح العفيفة السليمة. (13/52)
أسلم غيلان بن سلمة الثقفي من عشر نسوة فقال له النبي ص اختر منهن أربعا و طلق ستا
فلما كان على عهد عمر طلق نساءه الأربع و قسم ماله بين بنيه فبلغ ذلك عمر فأحضره فقال له إني لأظن الشيطان فيما يسترق من السمع سمع بموتك فقذفه في نفسك و لعلك لا تمكث إلا قليلا و ايم الله لتراجعن نساءك و لترجعن في مالك أو لأورثنهن منك و لآمرن بقبرك فيرجم كما رجم قبر أبي رغال و قال عمر إن الجزف في المعيشة أخوف عندي عليكم من العيال أنه لا يبقى مع الفساد شي ء و لا يقل مع الإصلاح شي ء. و كان عمر يقول أدبوا الخيل و انتضلوا و اقعدوا في الشمس و لا يجاورنكم الخنازير و لا تقعدوا على مائدة يشرب عليها الخمر أو يرفع عليهالصليب و إياكم و أخلاق العجم و لا يحل لمؤمن أن يدخل الحمام إلا مؤتزرا و لا لامرأة أن تدخل الحمام إلا من سقم فإذا وضعت المرأة خمارها في غير بيت زوجها فقد هتكت الستر بينها و بين الله تعالى. شرح نهج البلاغة ج : 12 ص : 70و كان يكره أن يتزيا الرجال بزي النساء ألا يزال الرجل يرى مكتحلا مدهنا و أن يحف لحيته و شاربه كما تحف المرأة. سمع عمر سائلا يقول من يعشي السائل فقال عشوا سائلكم ثم جاء إلى دار إبل الصدقة يعشيها فسمع صوته مرة أخرى من يعشي السائل فقال أ لم آمركم أن تعشوه فقالوا قد عشيناه فأرسل إليه عمر و إذا معه جراب مملوء خبزا فقال إنك لست سائلا إنما أنت تاجر تجمع لأهلك فأخذ بطرف الجراب فنبذه بين يدي الإبل. و قال عمر من مزح استخف به و قال أ تدرون لم سمي المزاح مزاحا لأنه أزاح الناس عن الحق. و من كلامه لن يعطى أحد بعد الكفر بالله شرا من زوجة حديدة اللسان سيئة الخلق عقيم و لن يعطى أحد بعد الإيمان بالله خيرا من زوجة كريمة ودود ولود حسنة الخلق. و كان يقول إن شقاشق الكلام من شقاشق اللسان فأقلوا ما استطعتم. و نظر إلى شاب قد نكس رأسه خشوعا فقال يا هذا ارفع رأسك فإن الخشوع لا يزيد على ما في القلب فمن أظهر للخلق خشوعا فوق ما في قلبه فإنما أظهر نفاقا. و من كلامه إن أحبكم إلينا ما لم نركم (13/53)
أحسنكم أسماء فإذا رأيناكم فأحبكم إلينا أحسنكم أخلاقا فإذا بلوناكم فأحبكم إلينا أعظمكم أمانة و أصدقكم حديثا. و كان يقول لا تنظروا إلى صلاة امرئ و لا صيامه و لكن انظروا إلى عقله و صدقه. شرح نج البلاغة ج : 12 ص : 71و من كلامه إن العبد إذا تواضع لله رفع حكمته و قال له انتعش نعشك الله فهو في نفسه صغير و في أعين الناس عظيم و إذا تكبر و عتا وهضه الله إلى الأرض و قال اخسأ خسأك الله فهو في نفسه عظيم و في أعين الناس حقير حتى يكون عندهم أحقر من الخنزي. و قال الإنسان لا يتعلم العلم لثلاث و لا يتركه لثلاث لا يتعلمه ليماري به و لا ليباهي به و لا ليرائي به و لا يتركه حياء من طلبه و لا زهادة فيه و لا رضا بالجهل بدلا منه. و قال تعلموا أنسابكم تصلوا أرحامكم. و قال إني لا أخاف عليكم أحد الرجلين مؤمنا قد تبين إيمانه و كافرا قد تبين كفره و لكن أخاف عليكم منافقا يتعوذ بالإيمان و يعمل بغيره. و من كلامه إن الرجف من كثرة الزناء و إن قحوط المطر من قضاه السوء و أئمة الجور. و قال في النساء استعينوا عليهن بالعري فإن إحداهن إذا كثرت ثيابها و حسنت زينتها أعجبها الخروج. و من كلامه إن الجبت السحر و إن الطاغوت الشيطان و إن الجبن و الشجاعة غرائز تكون في الرجال يقاتل الشجاع عمن لا يعرف و يفر الجبان عن أمه و إن كرم الرجل دينه و حسب الرجل خلقه و إن كان فارسيا أو نبطيا. و قال تفهموا العربية فإنها تشحذ العقل و تزيد في المروءة. و قال النساء ثلاث امرأة هينة لينة عفيفة ودود ولود تعين بعلها على الدهر و لا تعين الدهر على بعلها و قلما تجدها و أخرى وعاء للولد لا تزيد على ذلك شيئا و الثالثة غل قمل يجعله الله في عنق من يشاء و ينزعه إذا شاء. (13/54)
شرح نهج البلاغة ج : 12 ص : 72و الرجال ثلاثة رجل عاقل يورد الأمور و يصدرها فيحسن إيرادا و إصدارا و آخر يشاور الرجال و يقف عند آرائهم و الثالث حائر بائر لا يأتمر رشدا و لا يطيع مرشدا. و قال ما يمنعكم إذا رأيتم السفيه يخرق أعراض النساء أن تعربوا عليه قالواخاف لسانه قال ذاك أدنى ألا تكونوا شهداء. و رأى رجلا عظيم البطن فقال ما هذا قال بركة من الله. و قال إذا رزقت مودة من أخيك فتشبث بها ما استطعت. و قال لقوم يحصدون الزرع إن الله جعل ما أخطأت أيديكم رحمة لفقرائكم فلا تعودوا فيه. و قال ما ظهرت قط نعمه على أحد إلا وجدت له حاسدا و لو أن أمرا كان أقوم من قدح لوجدت له غامزا. و قال إياكم و المدح فإنه الذبح. و قال لقبيصه بن ذؤيب أنت رجل حديث السن فصيح اللسان و إنه يكون في الرجل تسعة أخلاق حسنة و خلق واحد سيئ فيغلب الواحد التسعة فتوق عثرات السيئات. و قال بحسب امرئ من الغي أن يؤذي جليسه أو يتكلف ما لا يعنيه أو يعيب الناس بما يأتي مثله و يظهر له منهم ما يخفى عليهم من نفسه. و قال احترسوا من الناس بسوء الظن. و قال في خطبة له لا يعجبنكم من الرجل طنطنته و لكن من أدى الأمانة و كف عن أعراض الناس فهو الرجل. و قال الراحة في مهاجرة خلطاء السوء. شرح نهج البلاغة ج : 12 ص : 73و قال إن لؤما بالرجل أن يرفع يديه من الطعام قبل أصحابه. و أثنى رجل على رجل عند عمر فقال له أ عاملته قال لا قال أ صحبته في السفر قال لا قال فأنت إذا القائل ما لا يعلم. و قال لأن أموت بين شعبتي رحلي أسعى في الأرض تغي من فضل الله كفاف وجهي أحب إلي من أن أموت غازيا. و كان عمر قاعدا و الدرة معه و الناس حوله إذ أقبل الجارود العامري فقال رجل هذا سيد ربيعة فسمعها عمر و من حوله و سمعها الجارود فلما دنا منه خفقه بالدرة فقال ما لي و لك يا أمير المؤمنين قال ويلك سمعتها قال و سمعتها فمه قال خشيت أن تخالط القوم و يقال هذا أمير فأحببت أن أطأطئ (13/55)
منك. و قال من أحب أن يصل أباه في قبره فليصل إخوان أبيه من بعده. و قال إن أخوف ما أخاف أن يكون إعجاب المرء برأيه فمن قال إني عالم فهو جاهل و من قال إني في الجنة فهو في النار. و خرج للحج فسمع غناء راكب يغني و هو محرم فقيل يا أمير المؤمنين أ لا تنهاه عن الغناء و هو محرم فقال دعوه فإن الغناء زاد الراكب. و قال يثغر الغلام لسبع و يحتلم لأربع عشرة و ينتهي طوله لإحدى و عشرين و يكمل عقله لثمان و عشرين و يصير رجلا كاملا لأربعين. (13/56)
شرح نهج البلاغة ج : 12 ص : 74و روى سعيد بن المسيب أن عمر لما صدر من الحج في الشهر الذي قتل فيه كوم كومة من بطحاء و ألقى عليها طرف ثوبه ثم استلقى عليها و رفع يديه إلى السماء و قال اللهم كبرت سني و ضعفت قوتي و انتشرت رعيتي فاقبضني إليك غير مضيع و لا مفرط.م قدم المدينة فخطب الناس فقال أيها الناس قد فرضت لكم الفرائض و سننت لكم السنن و تركتكم على الواضحة إلا أن تضلوا بالناس يمينا و شمالا إياكم أن تنتهوا عن آية الرجم و أن يقول قائل لا نجد ذلك حدا في كتاب الله فقد رأيت رسول الله رجم و رجمنا بعده و لو لا أن يقول الناس إن ابن الخطاب أحدث آية في كتاب الله لكتبتها و لقد كنا نقرؤها و الشيخ و الشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة فما انسلخ ذو الحجة حتى طعن دفع إلى عمر صك محله في شعبان فقال أي شعبان الذي مضى أم الذي نحن فيه ثم جمع أصحاب رسول الله ص و قال ضعوا للناس تاريخا يرجعون إليه فقال قائل منهم اكتبوا على تاريخ الروم فقيل إنه يطول و إنه مكتوب من عهد ذي القرنين و قال قائل بل اكتبوا على تاريخ الفرس فقيل إن الفرس كلما قام ملك طرحوا ما كان قبله
فقال علي ع اكتبوا تاريخكم منذ خرج رسول الله ص من دار الشرك إلى دار النصرة و هي دار الهجرة
فقال عمر نعم ما أشرت به فكتب للهجرة بعد مضي سنتين و نصف من خلافة عمر. شرح نهج البلاغة ج : 12 ص : 75قال المؤرخون إن عمر أول من سن قيام رمضان في جماعة و كتب به إلى البلدان و أقام الحد في الخمر ثمانين و أحرق بيت رويشد الثقفي و كان نباذا و أقام في عمله بنفسه أول من حمل الدرة و أدب بها و قيل بعده كانت درة عمر أهيب من سيف الحجاج. و هو أول من فتح الفتوح فتح العراق كله السواد و الجبال و أذربيجان و كور البصرة و كور الكوفة و الأهواز و فارس و فتح الشام كلها ما خلا أجنادين فإنها فتحت في خلافة أبي بكر و فتح كور الجزيرة و الموصل و مصر و الإسكندرية و قتله أبو لؤلؤة و خيله على الري. و هو أول من مسح السواد و وضع الخراج على الأرض و الجزية على جماجم أهل الذمة فيما فتحه من البلدان و بلغ خراج السواد في أيامه مائة ألف ألف درهم و عشرين ألف ألف درهم بالوافية و هي وزن الدينار من الذهب و هو أول من مصر الأمصار و كوف الكوفة و بصر البصرة و أنزلها العرب و أول من استقضى القضاة في الأمصار و أول من دون الدواوين و كتب الناس على قبائلهم و فرض لهم الأعطية و هو أول من قاسم العمال و شاطرهم أموالهم و كان يستعمل قوما و يدع أفضل منهم لبصرهم بالعمل و قال أكره أن أدنس هؤلاء بالعمل و هو الذي هدم مسجد رسول الله ص و زاد فيه و أدخل دار العباس فيما زاد و هو الذي أخرج اليهود من الحجاز و أجلاهم عن جزيرة العرب إلى الشام و هو الذي فتح البيت المقدس و حضر الفتح بنفسه و هو الذي أخر المقام إلى موضعه اليوم و كان ملصقا بالبيت و حج بنفسه خلافته كلها إلا السنة الأولى فإنه استخلف على الحج عبد الرحمن بن عوف و هو شرح نهج البلاغة ج : 12 ص : 76الذي جاء بالحصى من العقيق فبسطه في مسجد المدينة و كان الناس إذا رفعوا رءوسهم من السجود نفضوا أيديهم. و روى أبو هريرة قال قدمت علىمر من عند أبي موسى بثمانمائة ألف درهم فقال لي بما ذا قدمت قلت (13/57)
بثمانمائة ألف درهم فقال أ لم أقل لك إنك يمان أحمق ويحك إنما قدمت بثمانين ألف درهم فقلت يا أمير المؤمنين إنما قدمت بثمانمائة ألف درهم فجعل يعجب و يكررها فقال ويحك و كم ثمانمائة ألف درهم فعددت مائة ألف و مائة ألف حتى بلغت ثمانية فاستعظم ذلك و قال أ طيب هو ويحك قلت نعم فبات عمر ليلته تلك أرقا حتى إذا نودي لصلاة الصبح قالت له امرأته ما نمت هذه الليلة قال و كيف أنام و قد جاء الناس ما لم يأتهم مثله منذ قام الإسلام فظنت المرأة أنها داهية فسألته فقال مال جم حمله أبو موسى قالت فما بالك قال ما يؤمنني لو مت و هذا المال عندي لم أضعه في حقه فخرج يصلي الصبح و اجتمع الناس إليه فقال لهم قد رأيت في هذا المال رأيا فأشيروا علي رأيت أن أكيله للناس بالمكيال قالوا لا يا أمير المؤمنين قال لا بل أبدأ برسول الله ص و بأهله ثم الأقرب فالأقرب فبدأ ببني هاشم ثم ببني المطلب ثم بعبد شمس و نوفل ثم بسائر بطون قريش. قسم عمر مروطا بين نساء المدينة فبقي مرط جيد له فقال بعض من عنده أعط هذا يا أمير المؤمنين ابنة رسول الله التي عندك يعنون أم كلثوم ابنة علي ع (13/58)
شرح نهج البلاغة ج : 12 ص : 77فقال أم سليط أحق به فإنها ممن بايع رسول الله ص و كانت تزفر لنا القرب يوم أحد. و روى زيد بن أسلم عن أبيه قال خرجت مع عمر إلى السوق فلحقته امرأة شابة فقالت يا أمير المؤمنين هلك زوجي و ترك صبية صغارا لا ينضحون كراعا لا زرع لهم لا ضرع و قد خشيت عليهم الضيعة و أنا ابنة خفاف بن أسماء الغفاري و قد شهد أبي الحديبية فوقف عمر معها و لم يمض و قال مرحبا بنسيب قريب ثم انصرف إلى بعير ظهير كان مربوطا في الدار فحمل عليه غرارتين ملأهما طعاما و جعل بينهما نفقة و ثيابا ثم ناولها خطامه و قال اقتاديه فلن يفنى هذا حتى يأتيكم الله بخير فقال له رجل لقد أكثرت لها يا أمير المؤمنين فقال ثكلتك أمك و الله لكأني أرى أبا هذه و أخاها و قد حاصرا حصنا فافتتحاه فافترقنا ثم أصبحنا نستقرئ سهماننا فيه. و روى الأوزاعي أن طلحة تبع عمر ليلة فرآه دخل بيتا ثم خرج فلما أصبح ذهب طلحة إلى ذلك البيت فرأى امرأة عمياء مقعده فقال لها ما بال رجل أتاك الليلة قالت إنه رجل يتعاهدني منذ كذا و كذا يأتيني بما يصلحني فقال طلحة ثكلتك أمك يا طلحة تريد تتبع عمر. خرج عمر إلى الشام حتى إذا كان ببعض الطريق لقيه أمراء الأجناد أبو عبيدة بن الجراح و أصحابه فأخبروه أن الوباء قد وقع بالشام فقال لابن عباس ادع لي المهاجرين فدعاهم فسألهم فاختلفوا عليه فقال بعضهم خرجت لأمر و لا نرى أن شرح نهج البلاغة ج : 12 ص : 78ترجع عنه و قال بعضهم معك بقية الناس و أصحاب رسول الله ص و لا نرى أن تقدمهم على هذا الوء فقال ارتفعوا عني ثم قال لابن عباس ادع لي الأنصار فدعاهم فاستشارهم فاختلفوا عليه اختلاف المهاجرين فقال لابن عباس ادع لي من كان من مشيخة قريش من مهاجرة الفتح فدعاهم فقالوا بأجمعهم نرى أن ترجع بالناس و لا تقدمهم على هذا الوباء فنادى عمر في الناس إني مصبح على ظهر فأصبحوا عليه فقال له أبو عبيدة بن الجراح أ فرارا من قدر الله (13/59)
تعالى فقال عمر لو غيرك قالها يا أبا عبيدة نعم نفر من قدر الله إلى قدر الله أ رأيت لو كان لك إبل فهبطت واديا له عدوتان إحداهما خصبة و الأخرى جدبة أ ليس إن رعيت الخصبة رعيتها بقدر الله و إن رعيت الجدبة رعيتها بقدر الله فجاء عبد الرحمن بن عوف و كان متغيبا في بعض حاجته فقال إن عندي من هذا علما (13/60)
سمعت رسول الله ص يقول إذا سمعتم به بأرض فلا تقدموا عليه و إذا وقع بأرض و أنتم بها فلا تخرجوا فرارا منه
فحمد عمر الله عز و جل و انصرف إلى المدينة. و روى ابن عباس قال خرجت مع عمر إلى الشام في إحدى خرجاته فانفرد يوما يسير على بعيره فاتبعته فقال لي يا ابن عباس أشكو إليك ابن عمك سألته أن يخرج معي فلم يفعل و لم أزل أراه واجدا فيم تظن موجدته قلت يا أمير المؤمنين إنك لتعلم قال أظنه لا يزال كئيبا لفوت الخلافة قلت هو ذاك إنه يزعم أن رسول الله أراد الأمر له فقال يا ابن عباس و أراد رسول الله ص الأمر له فكان ما ذا إذا لم يرد الله تعالى ذلك إن رسول الله ص أراد أمرا و أراد شرح نهج البلاغة ج : 12 ص : 79الله غيره فنفذ مرادلله تعالى و لم ينفذ مراد رسوله أ و كلما أراد رسول الله ص كان إنه أراد إسلام عمه و لم يرده الله فلم يسلم. و قد روي معنى هذا الخبر بغير هذا اللفظ و هو قوله إن رسول الله ص أراد أن يذكره للأمر في مرضه فصددته عنه خوفا من الفتنة و انتشار أمر الإسلام فعلم رسول الله ما في نفسي و أمسك و أبى الله إلا إمضاء ما حتم و حدثني الحسين بن محمد السيني قال قرأت على ظهر كتاب أن عمر نزلت به نازلة فقام لها و قعد و ترنح لها و تقطر و قال لمن عنده معشر الحاضرين ما تقولون في هذا الأمر فقالوا يا أمير المؤمنين أنت المفزع و المنزع فغضب و قال يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَ قُولُوا قَوْلًا سَدِيداً ثم قال أما و الله إني و إياكم لنعلم ابن بجدتها و الخبير بها قالوا كأنك أردت ابن أبي طالب قال و أنى
يعدل بي عنه و هل طفحت حرة مثله قالوا فلو دعوت به يا أمير المؤمنين قال هيهات إن هناك شمخا من هاشم و أثرة من علم و لحمة من رسول الله ص يؤتى و لا يأتي فامضوا بنا إليه فانقصفوا نحوه و أفضوا إليه فألفوه في حائط له عليه تبان و هو يتركل على مسحاته و يقرأ أَ يَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدىً إلى آخر السورة و دموعه تهمي على خديه فأجهش الناس لبكائه فبكوا ثم سكت و سكتوا فسأله عمر عن تلك الواقعة فأصدر جوابها فقال عمر أما شرح نهج البلاغة ج : 12 ص : 80و الله لقد أرادك الحق و لكن أبى قومك فقال يا أبا حفص خفض عليك من هنا و من هنا إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كانَ مِيقاتاً فوضع عمر إحدى يديه علىلأخرى و أطرق إلى الأرض و خرج كأنما ينظر في رماد. قلت أجدر بهذا الخبر أن يكون موضوعا و فيه ما يدل على ذلك من كون عمر أتى عليا يستفتيه في المسألة و الأخبار كثيرة بأنه ما زال يدعوه إلى منزله و إلى المسجد و أيضا فإن عليا لم يخاطب عمر منذ ولي الخلافة بالكنية و إنما كان يخاطبه بإمرة المؤمنين هكذا تنطق كتب الحديث و كتب السير و التواريخ كلها. و أيضا فإن هذا الخبر لم يسند إلى كتاب معين و لا إلى راو معين بل ذكر ذلك أنه قرأه على ظهر كتاب فيكون مجهولا و الحديث المجهول غير الصحيح. فأما ثناء عمر على أمير المؤمنين فصحيح غير منكر و في الروايات منه الكثير الواسع و لكنا أنكرنا هذا الخبر بعينه خاصة و قد روي عن ابن عباس أيضا قال دخلت على عمر يوما فقال يا ابن العباس لقد أجهد هذا الرجل نفسه في العبادة حتى نحلته رياء قلت من هو فقال هذا ابن عمك يعني عليا قلت و ما يقصد بالرياء أمير المؤمنين قال يرشح نفسه بين الناس للخلافة قلت و ما يصنع بالترشيح قد رشحه لها رسول الله ص فصرفت عنه قال إنه كان شابا حدثا فاستصغرت العرب سنه و قد كمل الآن أ لم تعلم أن الله تعالى لم يبعث نبيا إلا بعد الأربعين قلت يا أمير المؤمنين أما أهل الحجى و (13/61)
النهى فإنهم ما زالوا يعدونه كاملا منذ رفع الله منار الإسلام و لكنهم يعدونه محروما مجدودا فقال أما إنه سيليها بعد هياط و مياط ثم تزل فيها قدمه و لا يقضى منها أربه و لتكونن شاهدا ذلك يا عبد الله ثم يتبين الصبح لذي عينين و تعلم العرب صحة رأي المهاجرين الأولين (13/62)
شرح نهج البلاغة ج : 12 ص : 81الذين صرفوها عنه بادئ بدء فليتني أراكم بعدي يا عبد الله إن الحرص محرمة و إن دنياك كظلك كلما هممت به ازداد عنك بعدا. نقلت هذا الخبر من أمالي أبي جعفر محمد بن حبيب رحمه الله. و نقلت منه أيضا ما رواه عن ابن عباس قال تبرم عمر بالافة في آخر أيامه و خاف العجز و ضجر من سياسة الرعية فكان لا يزال يدعو الله بأن يتوفاه فقال لكعب الأحبار يوما و أنا عنده إني قد أحببت أن أعهد إلى من يقوم بهذا الأمر و أظن وفاتي قد دنت فما تقول في علي أشر علي في رأيك و أذكرني ما تجدونه عندكم فإنكم تزعمون أن أمرنا هذا مسطور في كتبكم فقال أما من طريق الرأي فإنه لا يصلح إنه رجل متين الدين لا يغضي على عورة و لا يحلم عن زلة و لا يعمل باجتهاد رأيه و ليس هذا من سياسة الرعية في شي ء و أما ما نجده في كتبنا فنجده لا يلي الأمر و لا ولده و إن وليه كان هرج شديد قال كيف ذك قال لأنه أراق الدماء فحرمه الله الملك إن داود لما أراد أن يبني حيطان بيت المقدس أوحى الله إليه إنك لا تبنيه لأنك أرقت الدماء و إنما يبنيه سليمان فقال عمر أ ليس بحق أراقها قال كعب و داود بحق أراقها يا أمير المؤمنين قال فإلى من يفضي الأمر تجدونه عندكم قال نجده ينتقل بعد صاحب الشريعة و الاثنين من أصحابه إلى أعدائه الذين حاربهم و حاربوه و حاربهم على الدين فاسترجع عمر مرارا و قال أ تستمع يا ابن عباس أما و الله لقد سمعت من رسول الله ما يشابه هذا
سمعته يقول ليصعدن بنو أمية على منبري و لقد أريتهم في منامي ينزون عليه نزو القردة
و فيهم أنزل وَ ما جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْناكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ وَ الشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ شرح نهج البلاغة ج : 12 ص : 82و قد روى الزبير بن بكار في الموفقيات ما يناسب هذا عن المغيرة بن شعبة قال قال لي عمر يوما يا مغيرهل أبصرت بهذه عينك العوراء منذ أصيبت قلت لا قال أما و الله ليعورن بنو أمية الإسلام كما أعورت عينك هذه ثم ليعمينه حتى لا يدري أين يذهب و لا أين يجي ء قلت ثم ما ذا يا أمير المؤمنين قال ثم يبعث الله تعالى بعد مائة و أربعين أو بعد مائة و ثلاثين وفدا كوفد الملك طيبة ريحهم يعيدون إلى الإسلام بصره و شتاته قلت من هم يا أمير المؤمنين قال حجازي و عراقي و قليلا ما كان و قليلا ما دام. و روى أبو بكر الأنباري في أماليه أن عليا ع جلس إلى عمر في المسجد و عنده ناس فلما قام عرض واحد بذكره و نسبه إلى التيه و العجب فقال عمر حق لمثله أن يتيه و الله لو لا سيفه لما قام عمود الإسلام و هو بعد أقضى الأمة و ذو سابقتها و ذو شرفها فقال له ذلك القائل فما منعكم يا أمير المؤمنين عنه قال كرهناه على حداثة السن و حبه بني عبد المطلب. قلت سألت النقيب أبا جعفر يحيى بن محمد بن أبي زيد و قد قرأت عليه هذه الأخبار فقلت له ما أراها إلا تكاد تكون دالة على النص و لكني أستبعد أن يجتمع الصحابة على دفع نص رسول الله ص على شخص بعينه كما استبعدنا من الصحابة على رد نصه على الكعبة و شهر رمضان و غيرهما من معالم الدين فقال لي رحمه الله أبيت إلا ميلا إلى المعتزلة ثم قال إن القوم لم يكونوا يذهبون في الخلافة إلى أنها من معالم الدين و أنها جارية مجرى العبادات الشرعية كالصلاة و الصوم و لكنهم كانوا يجرونها مجرى الأمور الدنيوية و يذهبون لهذا مثل تأمير الأمراء و تدبير الحروب و سياسة الرعية و ما كانوا يبالون في أمثال هذا من مخالفة نصوصه ص إذا رأوا المصلحة في (13/63)
شرح نهج البلاغة ج : 12 ص : 83غيرها أ لا تراه كيف نص على إخراج أبي بكر و عمر في جيش أسامة و لم يخرجا لما رأيا أن في مقامهما مصلحة للدولة و للملة و حفظا للبيضة و دفعا للفتنة و قد كان رسول الله ص يخالف و هو حي في أمثال ذلك فلا ينكره و لا يرى به بأسا أ لست لم أنه نزل في غزاة بدر منزلا على أن يحارب قريشا فيه فخالفته الأنصار و قالت له ليس الرأي في نزولك هذا المنزل فاتركه و انزل في منزل كذا فرجع إلى آرائهم و هو الذي قال للأنصار عام قدم إلى المدينة لا تؤبروا النخل فعملوا على قوله فحالت نخلهم في تلك السنة و لم تثمر حتى قال لهم أنتم أعرف بأمر دنياكم و أنا أعرف بأمر دينكم و هو الذي أخذ الفداء من أسارى بدر فخالفه عمر فرجع إلى تصويب رأيه بعد أن فات الأمر و خلص الأسرى و رجعوا إلى مكة و هو الذي أراد أن يصالح الأحزاب على ثلث تمر المدينة ليرجعوا عنه فأتى سعد بن معاذ و سعد بن عبادة فخالفاه فرجع إلى قولهما و قد كان قال لأبي هريرة اخرج فناد في الناس من قال لا إله إلا الله مخلصا بها قلبه دخل الجنة فخرج أبو هريرة فأخبر عمر بذلك فدفعه في صدره حتى وقع على الأرض فقال لا تقلها فإنك إن تقلها يتكلوا عليها و يدعوا العمل فأخبر أبو هريرة رسول الله ص بذلك فقال لا تقلها و خلهم يعملون فرجع إلى قول عمر و قد أطبقت الصحابة إطباقا واحدا على ترك كثير من النصوص لما رأوا المصلحة في ذلك كإسقاطهم سهم ذوي القربى و إسقاط سهم المؤلفة قلوبهم و هذان الأمران أدخل في باب الدين منهما في باب الدنيا و قد عملوا بآرائهم أمورا لم يكن لها ذكر في الكتاب و السنة كحد الخمر فإنهم عملوه اجتهادا و لم يحد رسول الله ص شاربي الخمر و قد شربها الجم الغفير في زمانه بعد نزول آية التحريم و لقد كان أوصاهم في مرضه شرح نهج البلاغة ج : 12 ص : 84أن أخرجوا نصارى نجران من جزيرة العرفلم يخرجوهم حتى مضى صدر من خلافة عمر و عملوا في أيام أبي بكر برأيهم (13/64)
في ذلك باستصلاحهم و هم الذين هدموا المسجد بالمدينة و حولوا المقام بمكة و عملوا بمقتضى ما يغلب في ظنونهم من المصلحة و لم يقفوا مع موارد النصوص حتى اقتدى بهم الفقهاء من بعد فرجح كثير منهم القياس على النص حتى استحالت الشريعة و صار أصحاب القياس أصحاب شريعة جديدة. قال النقيب و أكثر ما يعملون بآرائهم فيما يجري مجرى الولايات و التأمير و التدبير و تقرير قواعد الدولة و ما كانوا يقفون مع نصوص الرسول ص و تدبيراته إذا رأوا المصلحة في خلافها كأنهم كانوا يقيدون نصوصه المطلقة بقيد غير مذكور لفظا و كأنهم كانوا يفهمونه من قرائن أحواله و تقدير ذلك القيد افعلوا كذا إن رأيتموه مصلحة. قال و أما مخالفتهم له فيما هو محض الشرع و الدين و ليس بمتعلق بأمور الدنيا و تدبيراتها فإنه يقل جدا نحو أن يقول الوضوء شرط في الصلاة فيجمعوا على رد ذلك و يجيزوا الصلاة من غير وضوء أو يقول صوم شهر رمضان واجب فيطبقوا على مخالفة ذلك و يجعلوا شوالا عوضا عنه فإنه بعيد إذ لا غرض لهم فيه و لا يقدرون على إظهار مصلحة عثروا عليها خفيت عنه ص و القوم الذين كانوا قد غلب على ظنونهم أن العرب لا تطيع عليا ع فبعضها للحسد و بعضها للوتر و الثأر و بعضها لاستحداثهم سنه و بعضها لاستطالته عليهم و رفعه عنهم و بعضها كراهة اجتماع النبوة و الخلافة في بيت واحد و بعضها للخوف من شدة وطأته و شدته في دين الله و بعضها خوفا لرجاء تداول قبائل العرب الخلافة إذا لم يقتصر بها على بيت مخصوص عليه فيكون رجاء كل حي لوصولهم إليها ثابتا مستمرا و بعضها ببغضه لبغضهم من قرابته (13/65)
شرح نهج البلاغة ج : 12 ص : 85لرسول الله ص و هم المنافقون من الناس و من في قلبه زيغ من أمر النبوة فأصفق الكل إصفاقا واحدا على صرف الأمر عنه لغيره و قال رؤساؤهم إنا خفنا الفتنة و علمنا أن العرب لا تطيعه و لا تتركه و تأولوا عند أنفسهم النص و لا ينكر النص والوا إنه النص و لكن الحاضر يرى ما لا يرى الغائب و الغائب قد يترك لأجل المصلحة الكلية و أعانهم على ذلك مسارعة الأنصار إلى ادعائهم الأمر و إخراجهم سعد بن عبادة من بيته و هو مريض لينصبوه خليفة فيما زعموا و اختلط الناس و كثر الخبط و كادت الفتنة أن تشتعل نارها فوثب رؤساء المهاجرين فبايعوا أبا بكر و كانت فلتة كما قال قائلهم و زعموا أنهم أطفئوا بها نائرة الأنصار فمن سكت من المسلمين و أغضى و لم يتعرض فقد كفاهم أمر نفسه و من قال سرا أو جهرا إن فلانا قد كان رسول الله ص ذكره أو نص عليه أو أشار إليه أسكتوه في الجواب بأنا بادرنا إلى عقد البيعة مخافة الفتنة و اعتذروا عنده ببعض ما تقدم إما أنه حديث السن أو تبغضه العرب لأنه وترها و سفك دماءها أو لأنه صاحب زهو و تيه أو كيف تجتمع النبوة و الخلافة في مغرس واحد بل قد قالوا في العذر ما هو أقوى من هذا و أوكد قالوا أبو بكر أقوى على هذا الأمر منه لا سيما و عمر يعضده و يساعده و العرب تحب أبا بكر و يعجبها لينه و رفقه و هو شيخ مجرب للأمور لا يحسده أحد و لا يحقد عليه أحد و لا يبغضه أحد و ليس بذي شرف في النسب فيشمخ على الناس بشرفه و لا بذي قربى من الرسول ص فيدل بقربه و دع ذا كله فإنه فضل مستغنى عنه قالوا لو نصبنا عليا ع ارتد الناس عن الإسلام و عادت الجاهلية كما كانت فأيما أصلح في الدين الوقوف مع النص المفضي إلى ارتداد الخلق و رجوعهم إلى الأصنام و الجاهلية أم العمل بمقتضى الأصلح و استبقاء الإسلام و استدامة العمل بالدين و إن كان فيه مخالفة النص. شرح نهج البلاغة ج : 12 ص : 86قال رحمه الله و سكت الناس عن (13/66)
الإنكار فإنهم كانوا متفرقين فمنهم من هو مبغض شانئ لعلي ع فالذي تم من صرف الأمر عنه هو قرة عينه و برد فؤاده و منهم ذو الدين و صحة اليقين إلا أنه لما رأى كبراء الصحابة قد اتفقوا على صرف الأمر ه ظن أنهم إنما فعلوا ذلك لنص سمعوه من رسول الله ص ينسخ ما قد كان سمعه من النص على أمير المؤمنين ع لا سيما ما (13/67)
رواه أبو بكر من قول النبي ص الأئمة من قريش
فإن كثيرا من الناس توهموا أنه ناسخ للنص الخاص و إن معنى الخبر أنكم مباحون في نصب إمام من قريش من أي بطون قريش كان فإنه يكون إماما. و أكد أيضا في نفوسهم رفض النص الخاص ما سمعوه
من قول رسول الله ص ما رآه المسلمون حسنا فهو عند الله حسن
و قوله ع سألت الله ألا يجمع أمتي على ضلال فأعطانيها فأحسنوا الظن بعاقدي البيعة
و قالوا هؤلاء أعرف بأغراض رسول الله ص من كل أحد فأمسكوا و كفوا عن الإنكار و منهم فرقة أخرى و هم الأكثرون أعراب و جفاة و طغام أتباع كل ناعق يميلون مع كل ريح فهؤلاء مقلدون لا يسألون و لا ينكرون و لا يبحثون و هم مع أمرائهم و ولاتهم لو أسقطوا عنهم الصلاة الواجبة لتركوها فلذلك أمحق النص و خفي و درس و قويت كلمة العاقدين لبيعة أبي بكر و قواها زيادة على ذلك اشتغال علي و بني هاشم برسول الله ص و إغلاق بابهم عليهم و تخليتهم الناس يعملون ما شاءوا و أحبوا من غير مشاركة لهم فيما هم فيه لكنهم أرادوا استدراك ذلك بعد ما فات و هيهات الفائت لا رجعة له. و أراد علي ع بعد ذلك نقض البيعة فلم يتم له ذلك و كانت العرب لا ترى شرح نهج البلاغة ج : 12 ص : 87الغدر و لا تنقض البيعة صوابا كانت أو خطأ و قد قالت له الأنصار و غيرها أيها الرجل لو دعوتنا إلى نفسك قبل البيعة لما عدلنا بك أحدا وكنا قد بايعنا فكيف السبيل إلى نقض البيعة بعد وقوعها. قال النقيب و مما جرأ عمر على بيعة أبي بكر و العدول عن علي مع ما كان يسمعه من الرسول ص في أمره أنه أنكر مرارا على الرسول ص أمورا اعتمدها فلم ينكر عليه رسول الله ص إنكاره بل رجع في كثير منها إليه و أشار عليه بأمور كثيرة نزل القرآن فيها بموافقته فأطمعه ذلك في الإقدام على اعتماد كثير من الأمور التي كان يرى فيها المصلحة مما هي خلاف النص و ذلك نحو إنكاره عليه في الصلاة على عبد الله بن أبي المنافق و إنكاره فداء أسارى بدر و إنكاره عليه تبرج نسائه للناس و إنكاره قضية الحديبية و إنكاره أمان العباس لأبي سفيان بن حرب و إنكاره واقعة أبي حذيفة بن عتبة و إنكاره أمره بالنداء (13/68)
من قال لا إله إلا الله دخل الجنة
و إنكاره أمره بذبح النواضح و إنكاره على النساء بحضرة رسول الله ص هيبتهن له دون رسول الله ص إلى غير ذلك من أمور كثيرة تشتمل عليها كتب الحديث و لو لم يكن إلا إنكاره قول رسول الله ص في مرضه (13/69)
ائتوني بدواة و كتف أكتب لكم ما لا تضلون بعدي
و قوله ما قال و سكوت رسول الله ص عنه و أعجب الأشياء أنه قال ذلك اليوم حسبنا كتاب الله فافترق الحاضرون من المسلمين في الدار فبعضهم يقول القول ما قال رسول الله ص و بعضهم يقول القول ما قال عمر فقال رسول الله و قد كثر اللغط و علت الأصوات
قوموا عني فما ينبغي لنبي أن يكون عنده هذا التنازع
فهل بقي للنبوة مزية أو فضل إذا كان الاختلاف قد وقع بين القولين و ميل شرح نهج البلاغة ج : 12 ص : 88المسلمون بينهما فرجح قوم هذا و قوم هذا فليس ذلك دالا على أن القوم سووا بينه و بين عمر و جعلوا القولين مسألة خلاف ذهب كل فريق إلى نصرة واحد منهما كما يختلف اان من عرض المسلمين في بعض الأحكام فينصر قوم هذا و ينصر ذاك آخرون فمن بلغت قوته و همته إلى هذا كيف ينكر منه أنه يبايع أبا بكر لمصلحة رآها و يعدل عن النص و من الذي كان ينكر عليه ذلك و هو في القول الذي قاله للرسول ص في وجهه غير خائف من الأنصار و لا ينكر عليه أحد لا رسول الله ص و لا غيره و هو أشد من مخالفة النص في الخلافة و أفظع و أشنع قال النقيب على أن الرجل ما أهمل أمر نفسه بل أعد أعذارا و أجوبة و ذلك لأنه قال لقوم عرضوا له بحديث النص أن رسول الله ص رجع عن ذلك بإقامته أبا بكر في الصلاة مقامه و أوهمهم أن ذلك جار مجرى النص عليه بالخلافة و قال يوم السقيفة أيكم يطيب نفسا أن يتقدم قدمين قدمهما رسول الله ص في الصلاة ثم أكد ذلك بأن قال لأبي بكر و قد عرض عليه البيعة أنت صاحب رسول الله ص في المواطن كلها شدتها و رخائها رضيك لديننا أ فلا نرضاك لدنيانا. ثم عاب عليا بخطبته بنت أبي جهل فأوهم أن رسول الله ص كرهه لذلك و وجد عليه و أرضاه عمرو بن العاص فروى حديثا افتعله و اختلقه على رسول الله (13/70)
قال سمعته يقول إن آل أبي طالب ليسوا لي بأولياء إنما وليي الله و صالح المؤمنين
فجعلوا ذلك كالناسخ لقوله ص من كنت مولاه فهذا مولاه
قلت للنقيب أ يصح النسخ في مثل هذا أ ليس هذا نسخا للشي ء قبل تقضي وقت فعله فقال سبحان الله من أين تعرف العرب هذا و أنى لها أن تتصوره فضلا عن أن تحكم بعدم جوازه فهل يفهم حذاق الأصوليين هذه المسألة فضلا عن حمقى العرب هؤلاء قوم ينخدعون بأدنى شبهة و يستمالون بضعف سبب و تبنى الأمور معهم على ظواهر شرح نهج البلاغة ج : 12 ص : 89النصوص و أوائل الأدلة و هم أصحاب جهل و تقليد لا أصحاب تفضيل و نظر. قال ثم أكد حسن ظن الناس بهم أنهم أطلقوا أنفسهم عن الأموال و زهدوا في متاع الدنيا و زخرفها و سلكوا مسلك الرفض لزينتها و البة عنها و القناعة بالطفيف النزر منها و أكلوا الخشن و لبسوا الكرابيس و لما ألقت إليهم الدنيا أفلاذ كبدها و فرقوا الأموال على الناس و قسموها بينهم و لم يتدنسوا منها بقليل و لا كثير فمالت إليهم القلوب و أحبتهم النفوس و حسنت فيهم الظنون و قال من كان في نفسه شبهة منهم أو وقفه في أمرهم لو كان هؤلاء قد خالفوا النص لهوى أنفسهم لكانوا أهل الدنيا و لظهر عليهم الميل إليها و الرغبة فيها و الاستئثار بها و كيف يجمعون على أنفسهم مخالفة النص و ترك لذات الدنيا و مآربها فيخسروا الدنيا و الآخرة و هذا لا يفعله عاقل و القوم عقلاء ذوو الباب و آراء صحيحة فلم يبق عند أحد شك في أمرهم و لا ارتياب لفعلهم و ثبتت العقائد على ولايتهم و تصويب أفعالهم و نسوا لذة الرئاسة و أن أصحاب الهمم العالية لا يلتفون إلى المأكل و المشرب و المنكح و إنما يريدون الرئاسة و نفوذ الأمر كما قال الشاعر (13/71)
و قد رغبت عن لذة المال أنفس و ما رغبت عن لذة النهي و الأمر
قال رحمه الله و الفرق بين الرجلين و بين الثالث ما أصيب به الثالث و قتل تلك القتلة و خلعه الناس و حصروه و ضيقوا عليه بعد أن توالى إنكارهم أفعاله و جبهوه في وجهه و فسقوه و ذلك لأنه استأثر هو و أهله بالأموال و انغمسوا فيها و استبدوا بها فكانت طريقته و طريقتهم مخالفة لطريق الأولين فلم تصبر العرب على ذلك و لو كان عثمان سلك طريق عمر في الزهد و جمع الناس و ردع الأمراء و الولاة عن الأموال و تجنب استعمال أهل بيته و وفر أعراض الدنيا و ملاذها و شهواتها على الناس زاهدا فيها تاركا لها معرضا عنها لما ضره شي ء قط و لا أنر عليه أحد قط و لو حول الصلاة من شرح نهج البلاغة ج : 12 ص : 90الكعبة إلى بيت المقدس بل لو أسقط عن الناس إحدى الصلوات الخمس و اقتنع منهم بأربع و ذلك لأن همم الناس مصروفة إلى الدنيا و الأموال فإذا وجدوها سكتوا و إذا فقدوها هاجوا و اضطربوا أ لست ترى رسول ال ص كيف قسم غنائم هوازن على المنافقين و على أعدائه الذين يتمنون قتله و موته و زوال دولته فلما أعطاهم أحبوه إما كلهم أو أكثرهم و من لم يحبه منهم بقلبه جامله و داراه و كف عن إظهار عداوته و الإجلاب عليه و لو أن عليا صانع أصحابه بالمال و أعطاه الوجوه و الرؤساء لكان أمره إلى الانتظام و الاطراد أقرب و لكنه رفض جانب التدبير الدنيوي و آثر لزوم الدين و تمسك بأحكام الشريعة و الملك أمر آخر غير الدين فاضطرب عليه أصحابه و هرب كثير منهم إلى عدوه. و قد ذكرت في هذا الفصل خلاصة ما حفظته عن النقيب أبي جعفر و لم يكن إمامي المذهب و لا كان يبرأ من السلف و لا يرتضي قول المسرفين من الشيعة و لكنه كلام أجراه على لسانه البحث و الجدل بيني و بينه على أن العلوي لو كان كراميا لا بد أن يكون عنده نوع من تعصب و ميل على الصحابة و إن قل. و لنرجع إلى ذكر كلام عمر من خطبته و سيرته. كتب عمر إلى أبي موسى لما استعمله قاضيا و بعثه إلى العراق من عبد الله أمير (13/72)
المؤمنين عمر إلى عبد الله بن قيس سلام عليك أما بعد فإن القضاء فريضة محكمة و سنة متبعة فافهم إذا أدلي إليك فإنه لا ينفع تكلم بحق لا نفاد له آس بين الناس في وجهك و عدلك و مجلسك حتى لا يطمع شريف في شرح نهج البلاغة ج : 12 ص : 91حيفك و لا ييأس ضعيف من عدلك البينة على من ادعى و اليمين على من أنكر و الصلح جائز بين المسلمين إلا صلحا أحل حراما أو حرم حلالا لا يمنعنك قضاء قضيته اليوم فراجعت فيه عقلك و هديت فيه لرشدك أن ترجع إلى الحق فإن الحق قديم و مراجعةلحق خير من التمادي في الباطل الفهم الفهم فيما تلجلج في صدرك مما ليس في كتاب و لا سنة ثم اعرف الأشباه و الأمثال و قس الأمور عند ذلك و اعمد إلى أقربها إلى الله عز و جل و أشبهها بالحق و اجعل لمن ادعى حقا غائبا أو بينة أمدا ينتهي إليه فإن أحضر بينته أخذت له بحقه و إلا استحللت عليه القضية فإنه أنفى للشك و أجلى للعمى المسلمون عدول بعضهم على بعض إلا مجلودا في حد أو مجربا عليه شهادة زور أو ظنينا في ولاء أو نسب فإن الله عز و جل تولى منكم السرائر و درأ عنكم بالبينات و الأيمان الشبهات إياك و الغلق و الضجر و التأذي بالخصوم و التنكر عند الخصومات فإن الحق في مواطن الحق يعظم الله به الأجر و يحسن به الذخر فمن صحت نيته و أقبل على نفسه كفاه الله ما بينه و بين الناس و من تخلق للناس بما يعلم الله عز و جل منه إنه ليس من نفسه شانه الله فما ظنك بثواب الله في عاجل رزقه و خزائن رحمته و السلام. ذكر هذه الرسالة أبو العباس محمد بن يزيد المبرد في كتاب الكامل و أطراها فقال إنه جمع فيها جمل الأحكام و اختصرها بأجود الكلام و جعل الناس بعده يتخذونه إماما فلا يجد محق عنها معدلا و لا ظالم عن حدودها محيصا. (13/73)
شرح نهج البلاغة ج : 12 ص : 92و كتب عمر إلى عماله يوصيهم فقال في جملة الكتاب ارتدوا و ائتزروا و انتعلوا و ألقوا الخفاف و السراويلات و ألقوا الركب و انزوا نزوا على الخيل و اخشوشنوا و عليكم بالمعدية أو قال و تمعددوا و ارموا الأغراض و علموا فتيانكم العوم و رماية و ذروا التنعم و زي العجم و إياكم و الحرير فإن رسول الله ص نهى عنه و قال لا تلبسوا من الحرير إلا ما كان هكذا و أشار بإصبعه. و كتب إلى بعض عماله أن أسعد الرعاة من سعدت به رعيته و أن أشقى الرعاة من شقيت به رعيته فإياك أن تزيغ فتزيغ رعيتك فيكون مثلك عند الله مثل البهيمة رأت الخضرة في الأرض فرعت فيها تبغي السمن و حتفها في سمنها و كتب إلى أبي موسى و هو بالبصرة بلغني أنك تأذن للناس الجماء الغفير فإذا جاءك كتابي هذا فأذن لأهل الشرف و أهل القرآن و التقوى و الدين فإذا أخذوا مجالسهم فأذن للعامة و لا تؤخر عمل اليوم لغد فتتداك عليك الأعمال فتضيع و إياك و اتباع الهوى فإن للناس أهواء متبعة و دنيا مؤثرة و ضغائن محمولة و حاسب نفسك في الرخاء قبل حساب الشدة فإنه من حاسب نفسه في الرخاء قبل حساب الشدة كان مرجعه إلى الرضا و الغبطة و من ألهته حياته و شغلته أهواؤه عاد أمره إلى الندامة و الحسرة إنه لا يقيم أمر الله في الناس إلا خصيف العقدة بعيد القرارة لا يحنق على جرة و لا يطلع الناس منه على عورة و لا يخاف في الحق لومة لائم الزم أربع خصال يسلم لك دينك و تحيط بأفضل حظك إذا حضر الخصمان فعليك بالبينات العدول و الأيمان القاطعة ثم ائذن شرح نهج البلاغة ج : 12 ص : 93للضعيف حتى ينبسط لسانه و يجترئ قلبه و تعاهد الغريب فإنه إذا طال حبسه ترك حاجته و انصرف إلى أهله و احرص على الصلح ما لم يبن لك القضاء و السلام عليك. و كان رجل من الأنصار لا يزال يهدي لعمر فخذ جزور إلى أن جاء ذات يوم مع خصمه فجعل في أثناء الكلام يقول يا أمير المؤمنين افصل القضاء بيني و (13/74)
بينه كما يفصل فخذ الجزور. قال عمر فما زال يرددها حتى خفت على نفسي فقضيت عليه و كتبت إلى عمالي أما بعد فإياكم و الهدايا فإنها من الرشا ثم لم أقبل له هدية فيما بعد و لا لغيره. و كان عمر يقول اكتبوا عن الزاهدين في الدنيا ما يقولون فإن الله عز و جل وكل بهم ملائكة واضعة أيديهم على أفواههم فلا يتكلمون إلا بما هيأه الله لهم. و روى أبو جعفر الطبري في تاريخه قال كان عمر يقول جردوا القرآن و لا تفسروه و أقلوا الرواية عن رسول الله ص و أنا شريككم. و قال أبو جعفر و كان عمر إذا أراد أن ينهى الناس عن شي ء جمع أهله فقال إني عسيت أن أنهى الناس عن كذا و أن الناس ينظرون إليكم نظر الطير إلى اللحم و أقسم بالله لا أجد أحدا منكم يفعل إلا أضعفت عليه العقوبة. قال أبو جعفر و كان عمر شديدا على أهل الريب و في حق الله صليباحتى يستخرجه و لينا سهلا فيما يلزمه حتى يؤديه و بالضعيف رحيما. (13/75)
شرح نهج البلاغة ج : 12 ص : 94و روى زيد بن أسلم عن أبيه أن نفرا من المسلمين كلموا عبد الرحمن بن عوف فقالوا كلم لنا عمر بن الخطاب فقد و الله أخشانا حتى لا نستطيع أن نديم إليه أبصارنا فذكر عبد الرحمن له ذلك فقال أ و قد قالوا ذلك و الله لقد لنت لهم حتى تخوفالله في أمرهم و قد تشددت عليهم حتى خفت الله في أمرهم و أنا و الله أشد فرقا لله منهم لي. و روى جابر بن عبد الله قال قال رجل لعمر يا خليفة الله قال خالف الله بك قال جعلني الله فداك قال إذن يهينك الله. و روى أبو جعفر قال استشار عمر في أمر المال كيف يقسمه فقال له علي بن أبي طالب ع تقسم كل سنة ما اجتمع معك من المال و لا تمسك منه شيئا و قال عثمان بن عفان أرى مالا كثيرا يسع الناس و إن لم يحصوا حتى يعرف من أخذ ممن لم يأخذ خشيت أن ينتشر الأمر فقال الوليد بن هشام بن المغيرة يا أمير المؤمنين قد جئت الشام فرأيت ملوكها قد دونوا ديوانا و جندوا جنودا و فرضوا لهم أرزاقا فأخذ بقوله فدعا عقيل بن أبي طالب و مخرمة بن نوفل و جبير بن مطعم و كانوا نساب قريش و قال اكتبوا الناس على منازلهم فكتبوا فبدءوا ببني هاشم ثم أتبعوهم أبا بكر و قومه ثم عمر و قومه على ترتيب الخلافة فلما نظر إليه قال وددت أنه كان هكذا لكن ابدأ بقرابة النبي ص الأقرب فالأقرب حتى تضعوا عمر حيث وضعه الله. قال أبو جعفر جاءت بنو عدي إلى عمر فقالوا له يا عمر أنت خليفة رسول الله شرح نهج البلاغة ج : 12 ص : 95ص قال أو خليفة أبي بكر و أبو بكر خليفة رسول الله ص قالوا و ذاكلو جعلت نفسك حيث جعلك هؤلاء القوم فقال بخ بخ يا بني عدي أردتم الأكل على ظهري و أن أذهب حسناتي لكم لا و الله و لو كتبتم آخر الناس إن لي صاحبين سلكا طريقا فإن أنا خالفتهما خولف بي و الله ما أدركنا الفضل في الدنيا إلا بمحمد و لا نرجو ما نرجو من الآخرة و ثوابها إلا بمحمد ص فهو شرفنا و قومه أشرف العرب ثم الأقرب منه فالأقرب و (13/76)
ما بيننا و بين أن نلقاه ثم لا نفارقه إلى آدم إلا آباء يسيرة و الله لئن جاءت الأعاجم بالأعمال و جئنا بغير عمل فإنهم أولى بمحمد ص منا يوم القيامة لا ينظرن رجل إلى قرابته و ليعمل بما عند الله فإن من قصر به عمله لم يسرع به نسبه. و روى السائب بن يزيد قال سمعت عمر بن الخطاب يقول و الله ما من أحد إلا له في هذا المال حق أعطيه أو منعه و ما أحد أحق به من أحد إلا عبد مملوك و ما أنا فيه إلا كأحدكم و لكنا على منازلنا من كتاب الله و قسمنا من رسول الله ص فالرجل و بلاؤه في الإسلام و الرجل و غناؤه و الرجل و حاجته و الله لئن بقيت ليأتين الراعي بجبل صنعاء حظه من المال و هو مكانه. و روى نافع مولى آل الزبير قال سمعت أبا هريرة يقول رحم الله ابن حنتمة لقد رأيته عام الرمادة و إنه ليحمل على ظهره جرابين و عكة زيت في يده و إنه ليعتقب هو و أسلم فلما رآني قال من أين يا أبا هريرة قلت قريبا فأخذت (13/77)
شرح نهج البلاغة ج : 12 ص : 96أعقبه فحملناه حتى انتهينا إلى ضرار فإذا صرم من نحو عشرين بيتا من محارب فقال عمر ما أقدمكم قالوا الجهد و أخرجوا لنا جلد الميتة مشويا كانوا يأكلونه و رمة العظام مسحوقة كانوا يستفونها فرأيت عمر طرح رداءه ثم برز فما زال يطبخ لهمتى شبعوا و أرسل أسلم إلى المدينة فجاء بأبعرة فحملهم عليها ثم أنزلهم الجبانة ثم كساهم و كان يختلف إليهم و إلى غيرهم حتى كفى الله ذلك. و روى راشد بن سعد أن عمر أتي بمال فجعل يقسم بين الناس فازدحموا عليه فأقبل سعد بن أبي وقاص يزاحم الناس حتى خلص إليه فعلاه عمر بالدرة و قال إنك أقبلت لا تهابن سلطان الله في الأرض فأحببت بأن أعلمك أن سلطان الله لا يهابك. و قالت الشفاء ابنة عبد الله و رأت فتيانا من النساك يقتصدون في المشي و يتكلمون رويدا ما هؤلاء فقيل نساك فقالت كان عمر بن الخطاب هو الناسك حقا و كان إذا تكلم أسمع و إذا مشى أسرع و إذا ضرب أوجع. أعان عمر رجلا على حمل شي ء فدعا له الرجل و قال نفعك بنوك يا أمير المؤمنين قال بل أغناني الله عنهم. و من كلامه القوة في العمل ألا يؤخر عمل اليوم لغد و الأمانة ألا تخالف سريرتك علانيتك و التقوى بالتوقي و من يتق الله يقه. شرح ج البلاغة ج : 12 ص : 97و قال عمر كنا نعد المقرض بخيلا إنما كانت المواساة. أتى رهط إلى عمر فقالوا يا أمير المؤمنين كثر العيال و اشتدت المئونة فزدنا في أعطياتنا فقال فعلتموها جمعتم بين الضرائر و اتخذتم الخدم من مال الله أما لوددت أني و إياكم في سفينتين في لة البحر تذهب بنا شرقا و غربا فلن يعجز الناس أن يولوا رجلا منهم فإن استقام اتبعوه و إن جنف قتلوه فقال طلحة و ما عليك لو قلت و إن أعوج عزلوه فقال القتل أرهب لمن بعده احذروا فتى قريش فإنه كريمها الذي لا ينام إلا على الرضا و يضحك عند الغضب و يتناول ما فوقه من تحته. و كان يقول في آخر أيامه عند تبرمه بالأمر و ضجره من الرعية (13/78)
اللهم ملوني و مللتهم و أحسست من نفسي و أحسوا مني و لا أدري بأينا يكون اللوت و قد أعلم أن لهم قتيلا منهم فاقبضني إليك. و ذكر قوم من الصحابة لعمر رجلا فقالوا فاضل لا يعرف الشر قال ذاك أوقع له فيه و روى الطبري في التاريخ أن عمر استعمل عتبة بن أبي سفيان على عمل فقدم منه بمال فقال له ما هذا يا عتبة قال مال خرجت به معي و تجرت فيه قال و ما لك تخرج المال معك إلى هذا الوجه فأخذ المال منه فصيره في بيت المال فلما قام عثمان قال لأبي سفيان شرح نهج البلاغة : 12 ص : 98إنك إن طلبت ما أخذه عمر من عتبة رددته عليك فقال له أبو سفيان إياك و ما هممت به إنك إن خالفت صاحبك قبلك ساء رأي الناس فيك إياك أن ترد على من كان قبلك فيرد عليك من بعدك. و روى الطبري أيضا أن هندا بنت عتبة بن ربيعة قامت إلى عمر فسألته أن يقرضها من بيت المال أربعة آلاف درهم تتجر فيها و تضمنها فخرجت بها إلى بلاد كلب فباعت و اشترت و بلغها أن أبا سفيان قد أتى معاوية يستميحه و معه ابنه عمرو بن أبي سفيان فعدلت إليه من بلاد كلب و كان أبو سفيان قد طلقها فقال معاوية ما أقدمك يا أمه قالت النظر إليك يا بني إنه عمر و إنما يعمل لله و قد أتاك أبوك فخشيت أن تخرج إليه من كل شي ء و أهل ذلك هو و لكن لا يعلم عمر من أين أعطيته فيؤنبوك و يؤنبك و لا تستقبلها أبدا فبعث معاوية إلى أبيه و أخيه مائة دينار و كساهما و حملهما فسخطها عمر فقال أبو سفيان لا تسخطها فإنها عطاء لم تب عنه هند و رجع هو و ابنه إلى المدينة فسأله عمر بكم أجازك معاوية فقال بمائة دينار فسكت عمر. و روى الأحنف قال أتى عبد الله بن عمير عمر و هو يقرض الناس فقال يا أمير المؤمنين أقرض لي فلم يلتفت إليه فنخسه فقال عمر حس و أقبل عليه فقال من أنت فقال عبد الله بن عمير و كان أبوه استشهد يوم حنين فقال يا يرفأ أعطه ستمائة فأعطاه ستمائة فلم يقبلها و رجع إلى عمر فأخبره فقال يا يرفأ أعطه (13/79)
شرح نهج البلاغة ج : 12 ص : 99ستمائة حلة فأعطاه فلبس الحلة التي كساه عمر و رمى ما كان عليه فقال له خذ ثيابك هذه فلتكن في مهنة أهلك و هذه لزينتك. و روى إياس بن سلمة عن أبيه قال مر عمر في السوق و معه الدرة فخفقني خفقة فأصاب طرف ثوبي و قال أمط عن الطريق فلمكان في العام المقبل لقيني فقال يا سلمة أ تريد الحج قلت نعم فأخذ بيدي و انطلق بي إلى منزله فأعطاني ستمائة درهم و قال استعن بها على حجك و اعلم أنها بالخفقة التي خفقتك فقلت يا أمير المؤمنين ما ذكرتها قال و أنا ما نسيتها. و خطب عمر فقال أيتها الرعية إن لنا عليكم حقا النصيحة بالغيب و المعاونة على الخير إنه ليس من حلم أحب إلى الله و لا أعم نفعا من حلم إمام و رفقه و ليس من جهل أبغض إلى الله من جهل إمام و خرفه أيها الرعية إنه من يأخذ بالعافية من بين ظهرانيه فوته الله العافية من فوقه. و روى الربيع بن زياد قال قدمت على عمر بمال من البحرين فصليت معه العشاء ثم سلمت عليه فقال ما قدمت به قلت خمسمائة ألف قال ويحك إنما قدمت بخمسين ألفا قلت بل خمسمائة ألف قال كم يكون ذلك قلت مائة ألف و مائة ألف و مائة ألف حتى عددت خمسا فقال إنك ناعس ارجع إلى بيتك ثم اغد علي فغدوت عليه فقال ما جئت به قلت ما قلته لك قال كم هو قلت خمسمائة ألف قال أ طيب هو قلت نعم لا أعلم إلا ذلك فاستشار الصحابة فيه فأشير عليه بنصب الديوان فنصبه و قسم المال بين المسلمين ففضلت عنده فضلة شرح نهج البلاغة ج : 12 ص : 100فأصبح فجمع المهاجرين و الأنصار و فيهم علي بن أ طالب و قال للناس ما ترون في فضل فضل عندنا من هذا المال فقال الناس يا أمير المؤمنين إنا شغلناك بولاية أمورنا عن أهلك و تجارتك و صنعتك فهو لك فالتفت إلى علي فقال ما تقول أنت قال قد أشاروا عليك قال فقل أنت فقال له لم تجعل يقينك ظنا فلم يفهم عمر قوله فقال لتخرجن مما قلت قال أجل و الله لأخرجن منه أ تذكر حين بعثك رسول الله ص (13/80)
ساعيا فأتيت العباس بن عبد المطلب فمنعك صدقته فكان بينكما شي ء فجئتما إلي و قلتما انطلق معنا إلى رسول الله ص فجئنا إليه فوجدناه خاثرا فرجعنا ثم غدونا عليه فوجدناه طيب النفس فأخبرته بالذي صنعالعباس فقال لك يا عمر أ ما علمت أن عم الرجل صنو أبيه فذكرنا له ما رأينا من خثوره في اليوم الأول و طيب نفسه في اليوم الثاني فقال إنكم أتيتم في اليوم الأول و قد بقي عندي من مال الصدقة ديناران فكان ما رأيتم من خثوري لذلك و أتيتم في اليوم الثاني و قد وجهتهما فذاك الذي رأيتم من طيب نفسي أشير عليك ألا تأخذ من هذا الفضل شيئا و أن تفضه على فقراء المسلمين فقال صدقت و الله لأشكرن لك الأولى و الأخيرة. و روى أبو سعيد الخدري قال حججنا مع عمر أول حجة حجها في خلافته فلما دخل المسجد الحرام دنا من الحجر الأسود فقبله و استلمه و قال إني لأعلم أنك حجر لا تضر و لا تنفع و لو لا أني رأيت رسول الله ص قبلك و استلمك لما قبلتك و لا استلمتك فقال له علي بلى يا أمير المؤمنين إنه ليضر و ينفع و لو علمت تأويل ذلك من كتاب الله لعلمت أن الذي أقول لك كما أقول قال الله تعالى وَ إِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَ أَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ أَ لَسْتُ شرح نهج البلاغة ج : 12 ص : 101بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلىفلما أشهدهم و أقروا له أنه الرب عز و جل و أنهم العبيد كتب ميثاقهم في رق ثم ألقمه هذا الحجر و أن له لعينين و لسانا و شفتين تشهد لمن وافاه بالموافاة فهو أمين الله عز و جل في هذا المكان فقال عمر لا أبقاني الله بأرض لست بها يا أبا الحسن. قلت قد وجدنا في الآثار و الأخبار في سيرة عمر أشياء تناسب قوله في هذا الحجر الأسود كما أمر بقطع الشجرة التي بويع رسول الله ص تحتها بيعة الرضوان في عمرة الحديبية لأن المسلمين بعد وفاة رسول الله ص كانوا يأتونها فيقيلون تحتها فلما تكرر ذلك أوعدهم عمر فيها ثم (13/81)
أمر بها فقطعت. و روى المغيرة بن سويد قال خرجنا مع عمر في حجة حجها فقرأ بنا في الفجر أَ لَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحابِ الْفِيلِ و لِإِيلافِ قُرَيْشٍ فلما فرغ رأى الناس يبادرون إلى مسجد هناك فقال ما بالهم قالوا مسجد صلى فيه النبي ص و الناس يبادرون إليه فناداهم فقال هكذا هلك أهل الكتاب قبلكم اتخذوا آثار أنبيائهم بيعا من عرضت له صلاة في هذا المسجد فليصل و من لم تعرض له صلاة فليمض. و أتى رجل من المسلمين إلى عمر فقال أنا لما فتحنا المدائن أصبنا كتابا فيه علم من علوم الفرس و كلام معجب فدعا بالدرة فجعل يضربه بها ثم قرأ نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ و يقول ويلك أ قصص أحسن من كتاب الله إنما هلك شرح نهج البلاغة ج : 12 ص : 102من كان قبلكم لأنهم أقبلوا على كتب علمائهم و أساقفتهم و تركوا التوراة و الإنجيل حتى درسا و ذهب ما فيهما من العلم. و جاء رجل إلى عمر فقال إن ضبي التميمي لقينا يا أمير المؤمنين فجعل يسألنا عن تفسير حروف من القرآن فقال اللهم أمكني منه فبينا عمر يوما جالس يغدي الناس إذ جاءه الضبيع و عليه ثياب و عمامة فتقدم فأكل حتى إذا فرغ قال يا أمير المؤمنين ما معنى قوله تعالى وَ الذَّارِياتِ ذَرْواً فَالْحامِلاتِ وِقْراً قال ويحك أنت هو فقام إليه فحسر عن ذراعيه فلم يزل يجلده حتى سقطت عمامته فإذا له ضفيرتان فقال و الذي نفس عمر بيده لو وجدتك محلوقا لضربت رأسك ثم أمر به فجعل في بيت ثم كان يخرجه كل يوم فيضربه مائة فإذا برأ أخرجه فضربه مائة أخرى ثم حمله على قتب و سيره إلى البصرة و كتب إلى أبي موسى يأمره أن يحرم على الناس مجالسته و أن يقوم في الناس خطيبا ثم يقول إن ضبيعا قد ابتغى العلم فأخطأه فلم يزل وضيعا في قومه و عند الناس حتى هلك و قد كان من قبل سيد قومه. و قال عمر على المنبر ألا إن أصحاب الرأي أعداء السنن أعيتهم الأحاديث أن يحفظوها فأفتوا بآرائهم فضلوا و (13/82)
أضلوا ألا إنا نقتدي و لا نبتدي و نتبع و لا نبتدع إنه ما ضل متمسك بالأثر و روى زيد بن أسلم عن أبيه قال سمعت عمر يقول في الحج فيم الرملان الآن و الكشف عن المناكب و قد أظهر الله الإسلام و نفى الكفر و أهله و مع ذلك لا ندع شيئا كنا نفعله على عهد رسول الله ص. (13/83)
شرح نهج البلاغة ج : 12 ص : 103مر عمر برجل فسلم عليه فرد عليه فقال ما اسمك قال جمرة قال أبو من قال أبو شهاب قال ممن قال من الحرقة قال و أين مسكنك قال بحرة النار قال بأيها قال بذات لظى فقال ويحك أدرك أهلك فقد احترقوا فمضى عليهم فوجدهم قد احترقوا. و روى الث بن سعد قال أتي عمر بفتى أمرد قد وجد قتيلا ملقى على وجه الطريق فسأل عن أمره و اجتهد فلم يقف له على خبر فشق عليه فكان يدعو و يقول اللهم أظفرني بقاتله حتى إذا كان رأس الحول أو قريبا من ذلك وجد طفل مولود ملقى في موضع ذلك القتيل فأتي به عمر فقال ظفرت بدم القتيل إن شاء الله تعالى فدفع الطفل إلى امرأة و قال لها قومي بشأنه و خذي منا نفقته و انظري من يأخذه منك فإذا وجدت امرأة تقبله و تضمه إلى صدرها فأعلميني مكانها فلما شب الصبي جاءت جارية فقالت للمرأة إن سيدتي بعثتني إليك لتبعثي إليها بهذا الصبي فتراه و ترده إليك قالت نعم اذهبي به إليها و أنا معك فذهبت بالصبي حتى دخلت على امرأة شابة فأخذت الصبي فجعلت تقبله و تفديه و تضمه إليها و إذا هي بنت شيخ من الأنصار من أصحاب رسول الله ص فجاءت المرأة و أخبرت عمر فاشتمل على سيفه و أقبل إلى منزلها فوجد أباها متكئا على الباب فقال له ما الذي تعلم من حال ابنتك قال أعرف الناس بحق الله و حق أبيها مع حسن صلاتها و صيامها و القيام بدينها فقال إني أحب أن أدخل إليها و أزيدها رغبة في الخير فدخل الشيخ ثم خرج فقال ادخل يا أمير المؤمنين فدخل و أمر أن يخرج كل من في الدار إلا أباها ثم سألها عن الصبي فلجلجت فقال لتصدقيني ثم انتضى السيف فقالت على رسلك يا أمير
المؤمنين فو الله لأصدقنك إن عجوزا كانت تدخل علي فاتخذتها أما و كانت تقوم في أمري بما تقوم به الوالدة و أنا لها بمنزلة البنت شرح نهج البلاغة ج : 12 ص : 104فمكثت كذلك حينا ثم قالت إنه قد عرض ليفر و لي بنت أتخوف عليها بعدي الضيعة و أنا أحب أن أضمها إليك حتى أرجع من سفري ثم عمدت إلى ابن لها أمرد فهيأته و زينته كما تزين المرأة و أتتني به و لا أشك أنه جارية فكان يرى مني ما ترى المرأة من المرأة فاغتفلني يوما و أنا نائمة فما شعرت به حتى علاني و خالطني فمددت يدي إلى شفرة كانت عندي فقتلته ثم أمرت به فألقي حيث رأيت فاشتملت منه على هذا الصبي فلما وضعته ألقيته في موضع أبيه هذا و الله خبرهما على ما أعلمتك فقال عمر صدقت بارك الله فيك ثم أوصاها و وعظها و خرج و كان عمر يقول لو أدركت عروة و عفراء لجمعت بينهما. ذكر عمرو بن العاص يوما عمر فترحم عليه و قال ما رأيت أحدا أتقي منه و لا أعمل بالحق منه لا يبالي على من وقع الحق من ولد أو والد إني لفي منزلي بمصر ضحى إذ أتاني آت فقال قدم عبد الله و عبد الرحمن ابنا عمر غازيين فقلت أين نزلا قال في موضع كذا لأقصى مصر و قد كان عمر كتب إلي إياك و أن يقدم عليك أحد من أهل بيتي فتجيزه أو تحبوه بأمر لا تصنعه بغيره فافعل بك ما أنت أهله فضقت ذرعا بقدومهما و لا أستطيع أن أهدي لهما و لا أن آتيهما في منزلهما خوفا من أبيهما فو الله إني لعلى ما أنا عليه و إذا قائل يقول هذا عبد الرحمن بن عمر بالباب و أبو سروعة يستأذنان عليك فقلت يدخلان فدخلا و هما منكسران فقالا أقم علينا حد الله فإنا أصبنا الليلة شرابا فسكرنا فزبرتهما و طردتهما و قلت ابن أمير المؤمنين و آخر معه من أهل بدر فقال عبد الرحمن إن لم تفعل أخبرت أبي إذا قدمت عليه أنك لم تفعل فعلمت أني إن لم أقم عليهما الحد غضب عمر و عزلني فنحن على ما نحن عليه (13/84)
شرح نهج البلاغة ج : 12 ص : 105إذ دخل عبد الله بن عمر فقمت إليه و رحبت به و أردت أن أجلسه في صدر مجلسي فأبى علي و قال إن أبي نهاني أن أدخل عليك إلا ألا أجد من الدخول بدا و إني لم أجد من الدخول عليك بدا إن أخي لا يحلق على رءوس الناس أبدا فأما الضرب فاصنع بدا لك قال و كانوا يحلقون مع الحد فأخرجتهما إلى صحن الدار و ضربتهما الحد و دخل عبد الله بن عمر بأخيه عبد الرحمن إلى بيت من الدار فحلق رأسه و حلق أبا سروعة و الله ما كتبت إلى عمر بحرف مما كان و إذا كتابه قد ورد من عبد الله عمر أمير المؤمنين إلى العاصي ابن العاصي عجبت لك يا ابن العاصي و لجرأتك علي و مخالفتك عهدي أما إني خالفت فيك أصحاب بدر و من هو خير منك و اخترتك و أنت الخامل و قدمتك و أنت المؤخر و أخبرني الناس بجرأتك و خلافك و أراك كما أخبروا و ما أراني إلا عازلك فمسي ء عزلك ويحك تضرب عبد الرحمن بن عمر فيداخل بيتك و تحلق رأسه في داخل بيتك و قد عرفت أن في هذا مخالفتي و إنما عبد الرحمن رجل من رعيتك تصنع به ما تصنع بغيره من المسلمين و لكن قلت هو ولد أمير المؤمنين و قد عرفت ألا هوادة لأحد من الناس عندي في حق يجب لله عز و جل فإذا جاءك كتابي هذا فابعث به في عباءة على قتب حتى يعرف سوء ما صنع قال فبعثت به كما قال أبوه و أقرأت أخاه عبد الله كتاب أبيهما و كتبت إلى عمر كتابا أعتذر فيه و أخبرته أني ضربته في صحن الدار و حلفت بالله الذي لا يحلف بأعظم منه أنه الموضع الذي أقيم فيه الحدود على المسلم و الذمي و بعثت بالكتاب مع عبد الله بن عمر فذكر أسلم مولى عمر قال قدم عبد الله بأخيه عبد الرحمن على أبيهما فدخل عليه في عباءة و هو لا يقدر على المشي من مركبه فقال يا عبد الرحمن فعلت و فعلت السياط السياط فكلمه شرح نهج البلاغة ج : 12 ص : 106عبد الرحمن بن عوف و قال يا أمير المؤمنيند أقيم عليه الحد مرة فلم يلتفت إليه و زبره فأخذته السياط و جعل يصيح (13/85)
أنا مريض و أنت و الله قاتلي فلم يرق له حتى استوفى الحد و حبسه ثم مرض شهرا و مات. و روى الزبير بن بكار قال خطب عمر أم كلثوم بنت علي ع فقال له إنها صغيرة فقال زوجنيها يا أبا الحسن فإني أرصد من كرامتها ما لا يرصده أحد فقال أنا أبعثها إليك فإن رضيتها زوجتكها فبعثها إليه ببرد و قال لها قولي هذا البرد الذي ذكرته لك فقالت له ذلك فقال قولي له قد رضيته رضي الله عنك و وضع يده على ساقها فقالت له أ تفعل هذا لو لا أنك أمير المؤمنين لكسرت أنفك ثم جاءت أباها فأخبرته الخبر و قالت بعثتني إلى شيخ سوء قال مهلا يا بنية إنه زوجك فجاء عمر إلى مجلس المهاجرين في الروضة و كان يجلس فيها المهاجرون الأولون فقال رفئوني رفئوني قالوا بما ذا يا أمير المؤمنين قال تزوجت أم كلثوم بنت علي بن أبي طالب (13/86)
سمعت رسول الله ص يقول كل سبب و نسب و صهر ينقطع يوم القيامة إلا سببي و نسبي و صهري
و كتب عثمان إلى أبي موسى إذا جاءك كتابي هذا فأعط الناس أعطياتهم و احمل ما بقي إلي ففعل و جاء زيد بن ثابت بالمال فوضعه بين يدي عثمان فجاء ابن لعثمان فأخذ منه أستاندانة من فضة فمضى بها فبكى زيد قال عثمان ما يبكيك قال أتيت عمر مثل ما أتيتك به فجاء ابن له فأخذ درهما فأمر به فانتزع منه حتى أبكى شرح نهج البلاغة ج : 12 ص : 107الغلام و أن ابنك قد أخذ هذه فلم أر أحدا قال شيئا فقال عثمان إن عمر كان يمنع أهله و قرابته ابتغاء وجه الله و أنا أعطي أهلي و أقاربي ابتغاء وجه الله و لن تلقى مثل عمر و روى إسماعيل بن خالد قاقيل لعثمان أ لا تكون مثل عمر قال لا أستطيع أن أكون مثل لقمان الحكيم. ذكرت عائشة عمر فقالت كان أجودنا نسيج وحده قد أعد للأمور أقرانها. جاء عبد الله بن سلام بعد أن صلى الناس على عمر فقال إن كنتم سبقتموني بالصلاة عليه فلا تسبقوني بالثناء عليه ثم قال نعم أخو الإسلام كنت يا عمر جوادا بالحق بخيلا بالباطل ترضى حين الرضا و تسخط حين السخط لم تكن مداحا و لا معيابا طيب الطرف عفيف الطرف. و روى جويرية بن قدامة قال دخلت مع أهل العراق على عمر حين أصيب فرأيته قد عصب بطنه بعمامة سوداء و الدم يسيل فقال له الناس أوصنا فقال عليكم بكتاب الله فإنكم لن تضلوا ما اتبعتموه فأعدنا القول عليه ثانية أوصنا قال أوصيكم بالمهاجرين فإن الناس سيكثرون و يقلون و أوصيكم بالأنصار فإنهم شعب الإسلام الذي لجأ إليه و أوصيكم بالأعراب فإنهم أصلكم الذي لجأتم إليه و مأواكم و أوصيكم بأهل الذمة فإنهم عهد نبيكم و رزق عيالكم قوموا عني. شرح نهج البلاغة ج : 12 ص : 108فلم أحفظ من كلامه إلا هذه الكلمات. و روى عمرو بن ميمون قال سمعت عمر و هو يقول و قد أشار إلى الستة و لم يكلم أحدا منهم إلا علي بن أبي طالب و عثمان ثم أمرهم بالخروج فقال لمن كان عنده إذا اجتمعوا علرجل فمن خالف فلتضرب رقبته ثم قال إن يولوها الأجلح يسلك بهم الطريق (13/87)
فقال له قائل فما يمنعك من العهد إليه قال أكره أن أتحملها حيا و ميتا (13/88)
خطب عمر الطوال
و قال الجاحظ في كتاب البيان و التبيين لم يكن عمر من أهل الخطب الطوال و كان كلامه قصيرا و إنما صاحب الخطب الطوال علي بن أبي طالب ع. و قد وجدت أنا لعمر خطبا فيها بعض الطول ذكرها أبو جعفر محمد بن جرير الطبري في التاريخ. فمنها خطبة خطب بها حين ولي الخلافة و هي بعد حمد الله و الثناء عليه و على رسوله أيها الناس إني وليت عليكم و لو لا رجاء أن أكون خيركم لكم و أقواكم عليكم و أشدكم استضلاعا بما ينوب من مهم أموركم ما توليت ذلك منكم و لكفى عمر فيها مجزى العطاء موافقة الحساب بأخذ حقوقكم كيف آخذها و وضعها أين أضعها شرحنهج البلاغة ج : 12 ص : 109و بالسير فيكم كيف أسير فربي المستعان فإن عمر لم يصبح يثق بقوة و لا حيلة إن لم يتداركه الله برحمته و عونه. أيها الناس إن الله قد ولاني أمركم و قد علمت أنفع ما لكم و أسأل الله أن يعينني عليه و أن يحرسني عنده كما حرسني عند غيره و أنيلهمني العدل في قسمكم كالذي أمر به فإني امرؤ مسلم و عبد ضعيف إلا ما أعان الله و لن يغير الذي وليت من خلافتكم من خلقي شيئا إن شاء الله إنما العظمة لله و ليس للعباد منها شي ء فلا يقولن أحدكم إن عمر تغير منذ ولي و إني أعقل الحق من نفسي و أتقدم و أبين لكم أمر فأيما رجل كانت له حاجة أو ظلم مظلمة أو عتب علينا في خلق فليؤذني فإنما أنا رجل منكم فعليكم بتقوى الله في سركم و علانيتكم و حرماتكم و أعراضكم و أعطوا الحق من أنفسكم و لا يحمل بعضكم بعضا على ألا تتحاكموا إلي فإنه ليس بيني و بين أحد هوادة و أنا حبيب إلى صلاحكم عزيز على عنتكم و أنتم أناس عامتكم حضر في بلاد الله و أهل بلد لا زرع فيه و لا ضرع إلا ما جاء الله به إليه و إن الله عز و جل قد وعدكم كرامة كبيرة و أنا مسئول عن أمانتي و ما أنا فيه و مطلع على ما يحضرني بنفسي إن شاء الله لا أكله إلى أحد و
لا أستطيع ما بعد منه إلا بالأمناء و أهل النصح منكم للعامة و لست أحمل أمانتي إلى أحد سواهم إن شاء الله. و خطب عمر مرة أخرى فقال بعد حمد الله و الصلاة على رسول الله ص شرح نهج البلاغة ج : 12 ص : 110أيها الناس إن بعض الطمع فقر و إن بعض اليأس غنى و إنكم تجمعون ما لا تأكلون و تلون ما لا تدركون و أنتم مؤجلون في دار غرور و قد كنتم على عهد رسول الله ص تؤخذون بالوحي و من أسر شيئا أخذ بسريرته و من أعلن شيئا أخذ بعلانيته فأظهروا لنا حسن أخلاقكم و الله أعلم بالسرائر فإنه من أظهر لنا قبيحا و زعم أن سريرته حسنة لم نصدقه و من أظهر لنا علانية حسنة ظننا به حسنا و اعلموا أن بعض الشح شعبة من النفاق فأنفقوا خيرا لأنفسكم و من يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون. أيها الناس أطيبوا مثواكم و أصلحوا أموركم و اتقوا الله ربكم و لا تلبسوا نساءكم القباطي فإنه إن لم يشف فإنه يصف. أيها الناس إني لوددت أن أنجو كفافا لا لي و لا علي إني لأرجو أن عمرت فيكم يسيرا أو كثيرا أن أعمل فيكم بالحق إن شاء الله و ألا يبقى أحد من المسلمين و إن كان في بيته إلا أتاه حقه و نصيبه من مال الله و إن لم يعمل إليه نفسه و لم ينصب إليه بدنه فأصلحوا أموالكم التي رزقكم الله فقليل في رفق خير من كثير في عنف. و اعلموا أن القتل حتف من الحتوف يصيب البر و الفاجر و الشهيد من احتسب نفسه و إذا أراد أحدكم بعيرا فليعمد إلى الطويل العظيم فليضربه بعصاه فإن وجده حديد الفؤاد فليشتره. و خطب عمر مرة أخرى فقال (13/89)
شرح نهج البلاغة ج : 12 ص : 111إن الله سبحانه قد استوجب عليكم الشكر و اتخذ عليكم الحجج فيما آتاكم من كرامة الدنيا و الآخرة من غير مسألة منكم و لا رغبة منكم فيه إليه فخلقكم تبارك و تعالى و لم تكونوا شيئا لنفسه و عبادته و كان قادرا أن يجعلكم لأهون خلقه عليفجعلكم عامة خلقه و لم يجعلكم لشي ء غيره و سخر لكم ما في السموات و الأرض و أسبغ عليكم نعمه ظاهرة و باطنة و حملكم في البر و البحر و رزقكم من الطيبات لعلكم تشكرون ثم جعل لكم سمعا و بصرا و من نعم الله عليكم نعم عم بها بني آدم و منها نعم اختص بها أهل دينكم ثم ارت تلك النعم خواصها في دولتكم و زمانكم و طبقتكم و ليس من تلك النعم نعمة وصلت إلى امرئ خاصة إلا لو قسمتم ما وصل منها بين الناس كلهم أتعبهم شكرها و فدحهم حقها إلا بعون الله مع الإيمان بالله و رسوله فأنتم مستخلفون في الأرض قاهرون لأهلها قد نصر الله دينكم فلم تصبح أمة مخالفة لدينكم إلا أمتين أمة مستعبدة للإسلام و أهله يتجرون لكم تستصفون معايشهم و كدائحهم و رشح جباههم عليهم المئونة و لكم المنفعة و أمة تنتظر وقائع الله و سطواته في كل يوم و ليلة قد ملأ الله قلوبهم رعبا فليس لهم معقل يلجئون إليه و لا مهرب يتقون به قد دهمتهم جنود الله و نزلت بساحتهم مع رفاغة العيش و استفاضة المال و تتابع البعوث و سد الثغور بإذن الله في العافية الجليلة العامة التي لم تكن الأمة على أحسن منها منذ كان الإسلام و الله المحمود مع الفتوح العظام في كل بلد فما عسى أن يبلغ شكر الشاكرين و ذكر الذاكرين و اجتهاد المجتهدين مع هذه النعم التي لا يحصى عددها و لا يقدر قدرها و لا يستطاع أداء حقها إلا بعون الله و رحمته و لطفه فنسأل الله الذي أبلانا هذا أن يرزقنا العمل بطاعته و المسارعة إلى مرضاته و اذكروا عباد الله بلاء الله عندكم و استتموا نعمة الله عليكم و في مجالسكم مثنى و فرادى فإن الله تعالى قال لموسى (13/90)
شرح نهج البلاغة ج : 12 ص : 112 أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَ ذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ و قال لمحمد ص وَ اذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ فلو كنتم إذ كنتم مستضعفين محرومين خير الدنيا على شعبة من ال تؤمنون بها و تستريحون إليها مع المعرفة بالله و بدينه و ترجون الخير فيما بعد الموت و لكنكم كنتم أشد الناس عيشة و أعظم الناس بالله جهالة فلو كان هذا الذي ابتلاكم به لم يكن معه حظ في دنياكم غير أنه ثقة لكم في آخرتكم التي إليها المعاد و المنقلب و أنتم من جهد المعيشة على ما كنتم عليه كنتم أحرياء إن تشحوا على نصيبكم منه و إن تظهروه على غيره فبله أما إنه قد جمع لكم فضيلة الدنيا و كرامة الآخرة أو لمن شاء أن يجمع ذلك منكم فأذكركم الله الحائل بينكم و بين قلوبكم إلا ما عرفتم حق الله و عملتم له و سيرتم أنفسكم على طاعته و جمعتم مع السرور بالنعم خوفا لزوالها و انتقالها و وجلا من تحويلها فإنه لا شي ء أسلب للنعمة من كفرانها و أن الشكر أمن للغير و نماء للنعمة و استجلاب للزيادة و هذا علي في أمركم و نهيكم واجب إن شاء الله و روى أبو عبيدة معمر بن المثنى في كتاب مقاتل الفرسان قال كتب عمر إلى سلمان بن ربيعة الباهلي أو إلى النعمان بن مقرن أن في جندك رجلين من العرب عمرو بن معديكرب و طليحة بن خويلد فأحضرهما الناس و أدبهما و شاورهما في الحرب و ابعثهما في الطلائع و لا تولهما عملا من أعمال المسلمين و إذا وضعت الحرب أوزارها فضعهما حيث وضعا أنفسهما قال و كان عمرو ارتد و طليحة تنبأ. شرح نهج البلاغة ج : 12 ص : 113و روى أبو عبيدة أيضا في هذا الكتاب قال قدم عمرو بن معديكرب و الأجلح بن وقاص الفهمي على عمر فأتياه و بين يديه مال يوزن فقال م قدمتما قالا يوم الخميس قال فما حبسكما عني قالا شغلنا المنزل يوم قدمنا ثم كانت الجمعة ثم غدونا عليك اليوم فلما فرغ من وزن (13/91)
المال نحاه و أقبل عليهما فقال هيه فقال عمرو بن معديكرب يا أمير المؤمنين هذا الأجلح بن وقاص الشديد المرة البعيد الغرة الوشيك الكرة و الله ما رأيت مثله حين الرجال صارع و مصروع و الله لكأنه لا يموت فقال عمر للأجلح و أقبل عليه و قد عرف الغضب في وجهه هيه يا أجلح فقال الأجلح يا أمير المؤمنين تركت الناس خلفي صالحين كثيرا نسلهم داره أرزاقهم خصبة بلادهم أجرياء على عدوهم فأكلا عدوهم عنهم فسيمتع الله بك فما رأينا مثلك إلا من سبقك فقال ما منعك أن تقول في صاحبك مثل ما قال فيك قال ما رأيت من وجهك قال أصبت أما إنك لو قلت فيه مثل الذي قال فيك لأوجعتكما ضربا و عقوبة فإذ تركتك لنفسك فسأتركه لك و الله لوددت لو سلمت لكم حالكم و دامت عليكم أموركم أما إنه سيأتي عليك يوم تعضه و ينهشك و تهره و ينبحك و لست له يومئذ و ليس لك فإن لا يكن بعدكم فما أقربه منكم. لما أسر الهرمزان صاحب الأهواز و تستر و حمل إلى عمر حمل و معه رجال من المسلمين فيهم الأحنف بن قيس و أنس بن مالك فأدخلوه في المدينة في هيئته و عليه تاجه الذهب و كسوته فوجدوا عمر نائما في جانب المسجد فجلسوا عنده ينتظرون انتباهه فقال الهرمزان أين عمر فقالوا هو ذا قال و أين حراسه و حجابه قالوا لا حارس له و لا حاجب قال فينبغي أن يكون هذا نبيا قالوا إنه يعمل عمل الأنبياء. شرح نهج البلاغة ج : 12 ص : 114فاستيقظ عمر فقاللهرمزان قالوا نعم قال لا أكلمه حتى لا يبقى عليه من حليته شي ء فرموا بالحلية و ألبسوه ثوبا ضعيفا فقال عمر يا هرمزان كيف رأيت وبال الغدر و قد كان صالح المسلمين مرة ثم نكث فقال يا عمر إنا و إياكم في الجاهلية كنا نغلبكم إذ لم يكن الله معكم و لا معنا فلما كان لله معكم غلبتمونا قال فما عذرك في انتقاضك مرة بعد مرة قال أخاف إن قلت أن تقتلني قال لا بأس عليك فأخبرني فاستسقى ماء فأخذه و جعلت يده ترعد قال ما لك قال أخاف أن تقتلني و أنا أشرب قال لا بأس (13/92)
عليك حتى تشربه فألقاه من يده فقال ما بالك أعيدوا عليه الماء و لا تجمعوا عليه بين القتل و العطش قال كيف تقتلني و قد أمنتني قال كذبت قال لم أكذب فقال أنس صدق يا أمير المؤمنين قال ويحك يا أنس أنا أؤمن قاتل مجزأة بن ثور و البراء بن مالك و الله لتأتيني بالمخرج أو لأعاقبنك قال إنك قلت لا بأس عليك حتى تخبرني و لا بأس عليك حتى تشرب و قال له ناس من المسلمين مثل قول أنس فأقبل على الهرمزان فقال تخدعني و الله لا تخدعني إلا أن تسلم فأسلم ففرض له ألفين و أنزله المدينة. بعث عمر عمير بن سعيد الأنصاري عاملا على حمص فمكث حولا لا يأتيه خبره ثم كتب إليه بعد حول إذا أتاك كتابي هذا فأقبل و احمل ما جبيت من مال المسلمين فأخذ عمير جرابه و جعل فيه زاده و قصعته و علق أداته و أخذ عنزته و أقبل ماشيا من حمص حتى دخل المدينة و قد شحب لونه و اغبر وجهه و طال شعره فدخل على عمر فسلم فقال عمر ما شأنك يا عمير قال ما ترى من شأني أ لست تراني صحيح البدن ظاهر الدم معي الدنيا أجرها بقرنيها قال و ما معك فظن عمر أنه قد جاء (13/93)
شرح نهج البلاغة ج : 12 ص : 115بمال قال معي جرابي أجعل فيه زادي و قصعتي آكل فيها و أغسل منها رأسي و ثيابي و أداتي أحمل فيها وضوئي و شرابي و عنزتي أتوكأ عليها و أجاهد بها عدوا إن عرض لي قال عمر أ فجئت ماشيا قال نعم لم يكن لي دابة قال أ فما كان في رعيتك أحيتبرع لك بدابة تركبها قال ما فعلوا و لا سألتهم ذلك قال عمر بئس المسلمون خرجت من عندهم قال عمير اتق الله يا عمر و لا تقل إلا خيرا قد نهاك الله عن الغيبة و قد رأيتهم يصلون قال عمر فما ذا صنعت في إمارتك قال و ما سؤالك قال سبحان الله قال أما إني لو لا أخشى أن أعمل ما أخبرتك أتيت البلد فجمعت صلحاء أهله فوليتهم جبايته و وضعه في مواضعه و لو أصابك منه شي ء لأتاك قال أ فما جئت بشي ء قال لا فقال جددوا لعمير عهدا قال إن ذلك لشي ء لا أعمله بعد لك و لا لأحد بعدك و الله ما كدت أسلم بل لم أسلم قلت لنصراني معاهد أخزاك ا فهذا ما عرضتني له يا عمر إن أشقى أيامي ليوم صحبتك ثم استأذنه في الانصراف فأذن له و منزله بقباء بعيدا عن المدينة فأمهله عمر أياما ثم بعث رجلا يقال له الحارث فقال انطلق إلى عمير بن سعد و هذه مائة دينار فإن وجدت عليه أثرا فأقبل علي بها و إن رأيت حالا شديدة فادفع إليه هذه المائة فانطلق الحارث فوجد عميرا جالسا يفلي قميصا له إلى جانب حائط فسلم عليه فقال عمير انزل رحمك الله فنزل فقال من أين جئت قال من المدينة قال كيف تركت أمير المؤمنين قال صالحا قال كيف تركت المسلمين قال صالحين قال أ ليس عمر يقيم الحدود قال بلى ضرب ابنا له على فاحشة فمات من ضربه فقال عمير اللهم أعن عمر فإني لا أعلمه إلا شديدا حبه لك قال فنزل به ثلاثة أيام و ليس لهم إلا قرص من شعير كانوا يخصونه كل يوم به و يطوون حتى نالهم الجهد فقال له عمير إنك قد أجعتنا فإن رأيت أن تتحول عنا فافعل فأخرج الحارث الدنانير فدفعها إليه و قال بعث بها أمير المؤمنين فاستغن بها فصاح و قال (13/94)
ردها لا حاجة لي فيها فقالت المرأة خذها شرح نهج البلاغة ج : 12 ص : 116ثم ضعها في موضعها فقال ما لي شي ء أجعلها فيه فشقت أسفل درعها فأعطته خرقة فشدها فيها ثم خرج فقسمها كلها بين أبناء الشء و الفقراء فجاء الحارث إلى عمر فأخبره فقال رحم الله عميرا ثم لم يلبث أن هلك فعظم مهلكه على عمر و خرج مع رهط من أصحابه ماشين إلى بقيع الغرقد فقال لأصحابه ليتمنين كل واحد منا أمنيته فكل واحد تمنى شيئا و انتهت الأمنية إلى عمر فقال وددت أن لي رجلا مثل عمير بن سعد أستعين به على أمور المسلمين (13/95)
نبذ من كلام عمر
و من كلام عمر إياكم و هذه المجازر فإن لها ضراوة كضراوة الخمر. و قال إياكم و الراحة فإنها غفلة. و قال السمن غفلة. و قال لا تسكنوا نساءكم الغرف و لا تعلموهن الكتابة و استعينوا عليهن بالعرى و عودوهن قول لا فإن نعم تجرئهن على المسألة. و قال تبين عقل المرء في كل شي ء حتى في علته فإذا رأيته يتوقى على نفسه الصبر عن شهوته و يحتمي من مطعمه و مشربه عرفت ذلك في عقله و ما سألني رجل عن شي ء قط إلا تبين لي عقله في ذلك. و قال إن للناس حدودا و منازل فأنزلوا كل رجل منزلته و ضعوا كل إنسان في حده و احملوا كل امرئ بفعله على ره. و قال اعتبروا عزيمة الرجل بحميته و عقله بمتاع بيته قال أبو عثمان الجاحظ لأنه شرح نهج البلاغة ج : 12 ص : 117ليس من العقل أن يكون فرشه لبدا و مرقعته طبرية. و قال من يئس من شي ء استغنى عنه و عز المؤمن استغناؤه عن الناس. و قال لا يقوم بأمر الله إلا من لصانع و لا يصارع و لا يتبع المطامع. و قال لا تضعفوا همتكم فإني لم أر شيئا أقعد برجل عن مكرمة من ضعف همته و وعظ رجلا فقال لا تلهك الناس عن نفسك فإن الأمور إليك تصل دونهم و لا تقطع النهار سادرا فإنه محفوظ عليك فإذا أسأت فأحسن فإني لم أر شيئا أشد طلبا و لا أسرع إدراكا من حسنة حديثة لذنب قديم. و قال احذر من فلتات السباب و كل ما أورثك النبز و أعلقك اللقب فإنه إن يعظم بعده شأنك يشتد على ذلك ندمك. و قال كل عمل كرهت من أجله الموت فاتركه ثم لا يضرك متى مت. و قال أقلل من الدين تعش حرا و أقلل من الذنوب يهن عليك الموت و انظر في أي نصاب تضع ولدك فإن العرق دساس. و قال ترك الخطيئة أسهل من معالجة التوبة. و قال احذروا النعمة حذركم المعصية و هي أخفهما عليكم عندي. و قال احذروا عاقبة الفراغ فإنه أجمع لأبواب المكروه من السكر. و قال أجود الناس من يجود على من لا يرجو ثوابه و أحلمهم من عفا بعد القدرة و أبخلهم من بخل بالسلام و أعجزهم من عجز في دعائه. (13/96)
و قال رب نظرة زرعت شهوة و رب شهوة أورثت حزنا دائما. شرح نهج البلاغة ج : 12 ص : 118و قال ثلاث خصال من لم تكن فيه لم ينفعه الإيمان حلم يرد به جهل الجاهل و ورع يحجزه عن المحارم و خلق يداريه الناس (13/97)
أخبار عمر مع عمرو بن معديكرب
و ذكر أبو عبيدة معمر بن المثنى في كتاب مقاتل الفرسان أن سعد بن أبي وقاص أوفد عمرو بن معديكرب بعد فتح القادسية إلى عمر فسأله عمر عن سعد كيف تركته و كيف رضا الناس عنه فقال يا أمير المؤمنين هو لهم كالأب يجمع لهم جمع الذرة أعرابي في نمرته أسد في تامورته نبطي في جبايته يقسم بالسوية و يعدل في القضية و ينفر في السرية. و كان سعد كتب يثني على عمرو فقال عمر لكأنما تعاوضتما الثناء كتب يثني عليك و قدمت تثني عليه فقال لم أثن إلا بما رأيت قال دع عنك سعدا و أخبرني عن مذحج قومك. قال في كل فضل و خير قال ما قولك في علة بن خالد قال أولئك فوارس أعراضنا أحثنا طلبا و أقلنا هربا قال فسعد العشيرة قال أعظمنا خميسا و أكبرنا رئيسا و أشدنا شريسا قال فالحارث بن كعب قال حكمة لا ترام قال فمراد قال الأتقياء البررة و المساعير الفجرة ألزمنا قرارا و أبعدنا آثارا. شرح نهج البلاغة ج : 12 ص : 9قال فأخبرني عن الحرب قال مرة المذاق إذا قلصت عن ساق من صبر فيها عرف و من ضعف عنها تلف و إنها لكما قال الشاعر
الحرب أول ما تكون فتية تسعى بزينتها لكل جهول حتى إذا استعرت و شب ضرامها عادت عجوزا غير ذات حليل شمطاء جزت رأسها و تنكرت مكروهة للشم و التقبيقال فأخبرني عن السلاح قال سل عما شئت منه قال الرمح قال أخوك و ربما خانك قال النبل قال منايا تخطئ و تصيب قال الترس قال ذاك المجن و عليه تدور الدوائر قال الدرع قال مشغلة للراكب متعبة للراجل و إنها لحصن حصين قال السيف قال هناك قارعت أمك الهبل قال بل أمك قال بل أمي و الحمى أضرعتني لك. عرض سليمان بن ربيعة الباهلي جنده بأرمينية فكان لا يقبل من الخيل إلا عتيقا فمر عمرو بن معديكرب بفرس غليظ فرده و قال هذا هجين قال عمرو إنه ليس بهجين و لكنه غليظ قال بل هو هجين فقال عمرو إن الهجين ليعرف الهجين فكتب بكلمته إلى عمر فكتب إليه أما بعد يا ابن معديكرب فإنك القائل لأميرك ما قلت فإنه بلغني أن عندك سيفا تسميه الصمصامة و أن عندي سيفا أسميه مصمما و أقسم بالله لئن وضعته بين أذنيك لا يقلع حتى يبلغ قحفك. شرح نهج البلاغة ج : 12 ص : 120و كتب إلى سليمان بن ربيعة يلومه في حلمه عنه فل قرأ عمرو الكتاب قال من ترونه يعني قالوا أنت أعلم قال هددني بعلي و الله و قد كان صلى بناره مرة في حياة رسول الله ص و أفلت من يده بجريعة الذقن و ذلك حين ارتدت مذحج و كان رسول الله ص أمر عليها فروة بن مسيك المرادي فأساء السيرة و نابذ عمرو بن معديكرب ففارقه في كثير من قبائل مذحج فاستجاش فروة عليه و عليهم رسول الله ص فأرسل خالد بن سعيد بن العاص في سرية و خالد بن الوليد بعده في سرية ثانية و علي بن أبي طالب ع في سرية ثالثة و كتب إليهم كل واحد منكم أمير من معه فإذا اجتمعتم فعلي أمير على الكل فاجتمعوا بموضع من أرض اليمن يقال له كسر فاقتتلوا هناك و صمد عمرو بن معديكرب لعلي ع و كان يظن أن لا يثبت له أحد من شجعان العرب فثبت له فعلا عليه و عاين منه ما لم يكن يحتسبه ففر من بين يديه هاربا ناجيا (13/98)
بحشاشة نفسه بعد أن كاد يقتله و فر معه رؤساء مذحج و فرسانهم و غنم المسلمون أموالهم و سبيت ذلك اليوم ريحانة بنت معديكرب أخت عمرو فأدى خالد بن سعيد بن العاص فداءها من ماله فأصابه عمرو أخوها الصمصامة فلم يزل ينتقل في بني أمية و يتداولونه واحدا بعد واحد حتى صار إلى بني العباس في أيام المهدي محمد بن المنصور أبي جعفر (13/99)
فصل فيما نقل عن عمر من الكلمات الغريبة
فأما ما نقل عن عمر من الألفاظ الغريبة اللغوية التي شرحها المفسرون فنحن نذكر من ذلك ما يليق بهذا الكتاب. شرح نهج البلاغة ج : 12 ص : 121قال أبو جعفر محمد بن جرير الطبري في تاريخه روى عبد الرحمن بن أبي زيد عن عمران بن سودة الليثي قال صليت الصبح مع عمر فقرأ حان و سورة معها ثم انصرف فقمت معه فقال أ حاجة قلت حاجة قال فالحق فلحقت فلما دخل أذن فإذا هو على رمال سرير ليس فوقه شي ء فقلت نصيحة قال مرحبا بالناصح غدوا و عشيا قلت عابت أمتك أو قال رعيتك عليك أربعا قال فوضع عود الدرة ثم ذقن عليها هكذا روى ابن قتيبة و قالأبو جعفر فوضع رأس درته في ذقنه و وضع أسفلها على فخذه و قال هات قال ذكروا أنك حرمت المتعة في أشهر الحج و زاد أبو جعفر و هي حلال و لم يحرمها رسول الله ص و لا أبو بكر فقال أجل إنكم إذا اعتمرتم في أشهر حجكم رأيتموها مجزئة عن حجكم فقرع حجكم و كانت قابية قوب عامها و الحج بهاء من بهاء الله و قد أصبت قال و ذكروا أنك حرمت متعة النساء و قد كان رخصة من الله نستمتع بقبضة و نفارق عن ثلاث قال إن رسول الله ص أحلها في زمان ضرورة و رجع الناس إلى السعة ثم لم أعلم أحدا من المسلمين عاد إليها و لا عمل بها فالآن من شاء نكح بقبضة و فارق عن ثلاث بطلاق و قد أصبت. و قال ذكروا أنك أعتقت الأمة إذا وضعت ذا بطنها بغير عتاقة سيدها قال ألحقت حرمة بحرمة و ما أردت إلا الخير و أستغفر الله. قال و شكوا منك عنف السياق و نهر الرعية قال فنزع الدرة ثم مسحها حتى أتى
على سيورها و قال و أنا زميل محمد رسول الله ص في غزاة قرقرة شرح نهج البلاغة ج : 12 ص : 122الكدر فو الله إني لأرتع فأشبع و أسقي فأروي و إني لأضرب العروض و أزجر العجول و أؤدب قدري و أسوق خطوتي و أرد اللفوت و أضم العنود و أكثر الضجر و أقل الضرب و أشهر بالعصا و أدفع باليد و لو لا ذلك لأعذرت.ال أبو جعفر فكان معاوية إذا حدث بهذا الحديث يقول كان و الله عالما برعيته. قال ابن قتيبة رملت السرير و أرملته إذا نسجته بشريط من خوص أو ليف. و ذقن عليها أي وضع عليها ذقنه يستمع الحديث. و قوله فقرع حجكم أي خلت أيام الحج من الناس و كانوا يتعوذون من قرع الفناء و ذلك ألا يكون عليه غاشية و زوار و من قرع المراح و ذلك ألا يكون فيه إبل. و القابية قشر البيضة إذا خرج منها الفرخ. و القوب الفرخ قال الكميت (13/100)
لهن و للمشيب و من علاه من الأمثال قابية و قوب
أراد أن النساء ينفرن من ذي الشيب و يفارقنه كما يفارق الفرخ البيضة فلا يعود إليها بعد خروجه منها أبدا و روي عن عمر أنكم إذا رأيتم العمرة في أشهر الحج كافية من الحج خلت مكة من الحجاج فكانت كبيضة فارقها فرخها قوله إني لأرتع فأشبع و أسقى فأروي مثل مستعار من رعيت الإبل أي إذا أرتعت الإبل أي أرسلتها ترعى تركتها حتى تشبع و إذا سقيتها تركتها حتى تروي. و قوله أضرب العروض العروض الناقة تأخذ يمينا و شمالا و لا تلزم المحجة يقول أضربها حتى تعود إلى الطريق و مثله قوله و أضم العنود. و العجول البعير يند عن الإبل يركب رأسه عجلا و يستقبلها. شرح نهج البلاغة ج : 12 ص : 123قوله و أؤدب قدري أي قدر طاقتي. و قوله و أسوق خطوتي أي قدر خطوتي. و اللفوت البعير يلتفت يمينا و شمالا و يروغ. و قوله و أكثر الزجر و أقل الضرب أي أنه يقتصر من التأديب في السياسة على ما يكتفي به حتى يضطر إلى ماو أشد منه و أغلظ. و قوله و أشهر بالعصا و أدفع باليد يريد أنه يرفع العصا يرهب بها و لا يستعملها و لكنه يدفع بيده. قوله و لو لا ذلك لأعذرت أي لو لا هذا التدبير و هذه السياسة لخلفت بعض ما أسوق و يقال أعذر الراعي الشاة و الناقة إذا تركها و الشاة العذيرة و عذرت هي إذا تخلفت عن الغنم. قال ابن قتيبة و هذه أمثال ضربها و أصلها في رعية الإبل و سوقها و إنما يريد بها حسن سياسته للناس في الغزاة التي ذكرها يقول فإذا كنت أفعل كذا في أيام رسول الله ص مع طاعة الناس له و تعظيمهم إياه فكيف لا أفعله بعده. و عندي أن ابن قتيبة غالط في هذا التأويل و ليس في كلام عمر ما يدل على ذلك و ليس عمر في غزاة قرقرة الكدر يسوس الناس و لا يأمرهم و لا ينهاهم و كيف و رسول الله ص حاضر بينهم و لا كان في غزاة قرقرة الكدر حرب و لا ما يحتاج فيه إلى السياسة و هل كان لعمر أو لغير عمر و رسول الله ص حي أن يرتع فيشبع و يسقي فيروي و هل تكون هذه الصفات و ما بعدها إلا (13/101)
للرئيس الأعظم و الذي اراده عمر ذكر حاله في خلافته رادا على عمران بن سوادة في قوله إن الرعية يشكون منك عنف السياق و شدة النهر فقال ليشكون فو الله إني لرفيق بهم و مستقص في سياستهم شرح نهج البلاغة : 12 ص : 124و لا ناهك لهم عقوبة و إني لأقنع بالهيبة و التهويل عليهم و لا أعمل العصا حيث يمكنني الاكتفاء باليد و إني أرد الشارد منهم و أعدل المائل إلى غير ذلك من الأمور التي عددها و أحسن في تعديدها. و إنما ذكر قوله أنا زميل رسول الله ص في غزاة قرقرة الكدر على عادة العرب في الافتخار وقت المنافرة و عند ما تجيش النفس و يحمى القلب كما كان علي ع يقول وقت الحاجة أنا عبد الله و أخو رسوله فيذكر أشرف أحواله و المزية التي اختص بها عن غيره و كان رسول الله ص في غزاة قرقرة الكدر أردف عمر معه على بعيره فكان عمر يفخر بها و يذكرها وقت الحاجة إليها. و في حديث عمر أنه خرج من الخلاء فدعا بطعام فقيل له أ لا تتوضأ فقال لو لا التنطس ما باليت ألا أغسل يدي. قال أبو عبيد القاسم بن سلام قال ابن علية التنطس التقذر و قال الأصمعي هو المبالغة في التطهر فكل من أدق النظر في الأمور فاستقصى علمها فهو متنطس و منه قيل للطبيب النطاسي و النطيس لدقة علمه بالطب. و في حديث عمر حين سأل الأسقف عن الخلفاء فحدثه حتى إذا انتهى إلى الرابع فقال صدع من حديد و قال عمر وا دفراه. قال أبو عبيدة قال الأصمعي كان حماد بن سلمة يقول صدأ من حديد و هذا أشبه بالمعنى لأن الصدأ له دفر و هو النتن و الصدع لا دفر له و قيل للدنيا أم دفر لما فيها من الدواهي و الآفات فأما الذفر بالذال المعجمة و فتح الفاء فهو الريح الذكية من طيب أو نتن. (13/102)
شرح نهج البلاغة ج : 12 ص : 125و عندي في هذا الحديث كلام و الأظهر أن الرواية المشهورة هي الصحيحة و هي قوله صدع من حديد و لكن بفتح الدال و هو ما كان من الوعول بين العظيم و الشخت فإن ثبتت الرواية بتسكين الدال فغير ممتنع أيضا يقال رجل صدع إذا كان ضربا من الال ليس برهل و لا غليظ. و رابع الخلفاء هو علي بن أبي طالب ع و أراد بالأسقف مدحه. و قول عمر وا دفراه إشارة إلى نفسه كأنه استصغر نفسه و عابها بالنسبة إلى ما وصفه الأسقف من مدح الرابع و إطرائه. فأما تأويل أبي عبيدة فإنه ظن أن الرابع عثمان و جعل رسول الله ص معدودا من الجملة ليصح كون عثمان رابعا و جعل الدفر و النتن له و صرف اللفظ عن الرواية المشهورة إلى غيرها فقال صدأ حديد ليطابق لفظه النتن على ما يليق بها فغير خاف ما فيه من التعسف و رفض الرواية المشهورة. و أيضا فإن رسول الله ص لا يجوز إدخاله في لفظ الخلفاء لأنه ليس بخليفة لأن الخليفة من يخلف غيره و رسول الله ص مستخلف الناس كلهم و ليس بخليفة لأحد. و في حديث عمر قال عند موته لو أن لي ما في الأرض جميعا لافتديت به من هول المطلع. قال أبو عبيد هو موضع الاطلاع من إشراف إلى انحدار أو من انحدار إلى إشراف و هو من الأضداد فشبه ما أشرف عليه من أمر الآخرة. شرح نهج البلاغة ج : 12 ص : 126و في حديث عمر حين بعث حذيفة و ابن حنيف إلى السواد ففلجا الجزية على أهله. قال أبو عبيد فلجا أي قسما بالفلج و أصله من الفلج و هو المكيال الذي يقال له الفلج لأن خراجهم كان طعاما. و في حديث عمر حيقال له حذيفة إنك تستعين بالرجل الذي فيه و بعضهم يرويه بالرجل الفاجر فقال أستعمله لأستعين بقوته ثم أكون على قفانه. قال أبو عبيد عن الأصمعي قفان كل شي ء جماعه و استقصاء معرفته يقول أكون على تتبع أمره حتى أستقصي عمله و أعرفه. قال أبو عبيد و لا أحسب هذه الكلم عربية و إنما أصلها قبان و منه قول العامة فلان قبان على فلان إذا كان (13/103)
بمنزلة الأمين عليه و الرئيس الذي يتتبع أمره و يحاسبه و به سمي هذا الميزان الذي يقال له القبان. و في حديث عمر حين قال لابن عباس و قد شاوره في شي ء فأعجبه كلامه نشنشة أعرفها من أخشن هكذا ارواية و أما أهل العلم فيقولون شنشنة أعرفها من أخزم. و الشنشنة في بعض الأحوال قد تكون بمعنى المضغة أو القطعة تقطع من اللحم و القول المشهور أن الشنشنة مثل الطبيعة و السجية فأراد عمر أني أعرف فيك مشابه من أبيك في رأيه و يقال إنه لم يكن لقرشي مثل رأي العباس. قال و قد قال أبو عبيدة معمر بن المثنى يجوز شنشنة و نشنشة و غيره ينكر نشنشة. (13/104)
شرح نهج البلاغة ج : 12 ص : 127و في حديث عمر يوم السقيفة قال و قد كنت زورت في نفسي قاله أقوم بها بين يدي أبي بكر فلم يترك أبو بكر شيئا مما زورته إلا تكلم به. قال أبو عبيد التزوير إصلاح الكلام و تهيئته كالتزويق. و في حديث عمر حين ضرب الرجل الذي أقسم على أسلمة ثلاثين سوطا كلها تبضع و تحدر. قال أبو عبيد أي تشق و تورم حدر الجلد يحدره و أحدره غيره. و في حديثه أنه قال لمؤذن بيت المقدس إذا أذنت فترسل و إذا أقمت فاحذم. قال أبو عبيدة الحذم بالحاء المهملة الحدر في الإقامة و قطع التطويل و أصله في المشي و هو الإسراع فيه و أن يكون مع هذا كأنه يهوي بيده إلى خلفه و الجذم بالجيم أيضا القطع و كذلك الخذم بالخاء المعجمة. و في حديثه أنه قال لا يقر رجل أنه كان يطأ جاريته إلا ألحقت به ولدها فمن شاء فليمسكها و من شاء فليرسلها. قال أبو عبيد هكذا الرواية بالسين المهملة و المعروف أنه الإرشال بالشين المعجمة و لعله حول الشين إلى السين كما يقال سمت العاطش أي شمته و في حديثه كذب عليكم الحج كذب عليكم العمرة كذب عليكم الجهاد ثلاثة أسفار كذبت عليكم. شرح نهج البلاغة ج : 12 ص : 128قال أبو عبيد معنى كذب عليكم الإغراء أي عليكم به و كان الأصلي هذا أن يكون نصبا و لكنه جاء عنهم بالرفع شاذا على غير قياس و مما يحقق أنه مرفوع قول الشاعر (13/105)
كذبت عليك لا تزال تقوفني كما قاف آثار الوثيقة قائف
فقوله كذبت عليك إنما أغراه بنفسه أي عليك بي فجعل نفسه في موضع رفع أ لا تراه قد جاء بالباء فجعلها اسمه. و قال معقر بن حمار البارقي
و ذبيانية وصت بنيها بأن كذب القراطف و القروف
فرفع و الشعر مرفوع و معناه عليكم بالقراطف و القروف و القراطف القطف واحدها قرطف و القروف الأوعية. و مما يحقق الرفع أيضا قول عمر كذبت عليكم قال أبو عبيد و لم أسمع النصب في هذا إلا حرفا كان أبو عبيد يحكيه عن أعرابي نظر إلى ناقة نضو لرجل فقال كذب عليك البزر و النوى لم أسمع في هذا نصبا غير هذا الحرف. قال و العرب تقول للمريض كذب عليك العسل بالرفع أي عليك به. و في حديثه ما يمنعكم إذا رأيتم الرجل يخرق أعراض الناس ألا تعربوا عليه قالوا نخاف لسانه قال ذاك ألا تكونوا شهداء. قال أبو عبيد ألا تعربوا أي ألا تفسدوا عليه كلامه و تقبحوه له. و في حديثه أنه نهى عن الفرس في الذبيحة. شرح نهج البلاغة ج : 12 ص : 129قال أبو عبيد قيل في تفسيره أن ينتهي بالذبح إلى النخاع و هو عظم في الرقبة و ربما فسر النخاع بأنه المخ الذي في فقار الصلب متصلا بالقفا فنهى أن ينتهي بالذبح إلى ذلك. و ق في تفسيره أيضا أن يكسر رقبة الذبيحة قبل أن تبرد و يؤكد هذا التفسير قوله في تمام الحديث و لا تعجلوا الأنفس حتى تزهق. و في حديثه حين أتاه رجل يسأله أيام المحل فقال له هلكت و أهلكت فقال عمر أ هلكت و أنت تنث نثيث الحميت أعطوه ربعة من الصدقة فخرجت يتبعها ظئراها. قال أبو عبيد قد روي تمث بالميم و المحفوظ بالنون و تنث أي ترشح و تعرق من سمنك و كثرة لحمك. و الحميت النحي و فيه الرب أو السمن أو نحوها و الربعة ما ولد في أول النتاج و الذكر ربع. و في حديثه أنه خرج إلى المسجد للاستسقاء فصعد المنبر فلم يزد على الاستغفار حتى نزل فقيل إنك لم تستسق فقال لقد استسقيت بمجاديح السماء. قال أبو عبيد جعل الاستغفار استسقاء تأول فيه قوله تعالى اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كانَ غَفَّاراً يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً و المجاديح جمع مجدح و هو النجم الذي كانت العرب تزعم أنها تمطر به و يقال مجدح بضم الميم و إنما قال عمر ذلك على أنها كلمة (13/106)
جارية على ألسنة العرب ليس على تحقيق الأنواء و لا التصديق بها شرح نهج البلاغة ج : 12 ص : 130و هذا شبيه بقول ابن عباس في رجل جعل أمر امرأته بيدها فقالت له أنت طالق ثلاثا فقال خطأ الله نوءها ألالقت نفسها ثلاثا ليس هذا دعاء منه ألا تمطر إنما ذلك على الكلام المقول. و مما يبين أن عمر أراد إبطال الأنواء و التكذيب بها قوله لقد استسقيت بمجاديح السماء التي يستسقى بها الغيث فجعل الاستغفار هو المجاديح لا الأنواء. و في حديثه و هو يذكر حال صباه في الجاهلية لقد رأيتني مرة و أختا لي نرعى على أبوينا ناضحا لنا قد ألبستنا أمنا نقبتها و زودتنا يمينتيها من الهبيد فنخرج بناضحنا فإذا طلعت الشمس ألقيت النقبة إلى أختي و خرجت أسعى عريان فنرجع إلى أمنا و قد جعلت لنا لفينة من ذلك الهبيد فيا خصباه. قال أبو عبيد الناضح البعير الذي يسنى عليه فيسقى به الأرض و الأنثى ناضحة و هي السانية أيضا و الجمع سوان و قد سنت تسنو و لا يقال ناضح لغير المستسقى. و النقبة أن تؤخذ القطعة من الثوب قدر السراويل فيجعل لها حجزة مخيطة من غير نيفق و تشد كما تشد حجزة السراويل فإذا كان لها نيفق و ساقان فهي سراويل. و قال و الذي وردت به الرواية زودتنا يمينتيها و الوجه في الكلام أن يكون يمينتيها بالتشديد لأنه تصغير يمين بلا هاء و إنما قال يمينتيها و لم يقل يديها و لا كفيها لأنه لم يرد أنها جمعت كفيها ثم أعطتنا بهما و إنما أراد أنها أعطت كل واحد كفا كفا بيمينها فهاتان يمينان. الهبيد حب الحنظل زعموا أنه يعالج حتى يمكن أكله و يطيب. (13/107)
شرح نهج البلاغة ج : 12 ص : 131و اللفيتة ضرب من الطبيخ كالحساء. و في حديثه إذا مر أحدكم بحائط فليأكل منه و لا يتخذ ثبانا. قال أبو عبيد هو الوعاء الذي يحمل فيه الشي ء فإن حملته بين يديك فهو ثبان و أن جعلته في حضنك فهي خبنة. و في حديثه لو أشاء لدعوت بصلاءصناب و صلائق و كراكرة و أسنمة و أفلاذ. قال أبو عبيد الصلاء الشواء و الصناب الخردل بالزبيب و الصلائق الخبز الرقيق و من رواه سلائق بالسين أراد ما يسلق من البقول و غيرها و الكراكر كراكر الإبل و الأفلاذ جمع فلذ و هو القطعة من الكبد. و في حديثه لو شئت أن يدهمق لي لفعلت. قال أبو عبيد دهمقت الطعام إذا لينته و رققته و طيبته. و في حديثه لئن بقيت لأسوين بين الناس حتى يأتي الراعي حقه في صفنه لم يعرق جبينه. الصفن خريطة للراعي فيها طعامه و ما يحتاج إليه و روي بفتح الصاد و يقال أيضا في صفينه. شرح نهج البلاغة ج : 12 ص :32و في حديثه لئن بقيت إلى قابل ليأتين كل مسلم حقه حتى يأتي الراعي بسرو حمير لم يعرق جبينه. السرو مثل الخيف و هو ما انحدر عن الجبل و ارتفع عن المسيل. و في حديثه لئن عشت إلى قابل لألحقن آخر الناس بأولهم حتى يكونوا ببانا واحدا. قال أبو عبيد قال ابن مهدي يعني شيئا واحدا و لا أحسب هذه الكلمة عربية و لم أسمعها في غير هذا الحديث. و في حديثه أنه خطب فقال ألا إن الأسيفع أسيفع جهينة رضي من دينه و أمانته بأن يقال سابق الحاج أو قال سبق الحاج فادان معرضا فأصبح قد رين به فمن كان له عليه دين فليغد بالغداة فلنقسم ماله بينهم بالحصص. قوله فادان معرضا أي استدان معرضا و هو الذي يعترض الناس فيستدين ممن أمكنه و كل شي ء أمكنك من عرضه فهو معرض لك كقوله و البحر معرضا و السدير. و رين بالرجل إذا وقع فيما لا يمكنه الخروج منه. شرح نهج البلاغة ج : 12 ص : 133و في حديثه أنه قال لمولاه أ و رآه يحمل متاعه على بعير من إبل الصدقة فقال فهلا ناقة شصوصا أو ابن (13/108)
لبون بوالا. الشصوص التي قد ذهب لبنها و وصف ابن اللبون بالبول و إن كانت كلها تبول إنما أراد ليس عنده سوى البول أي ليس عنده مما ينتفع به من ظهر و لا له ضرع فيحلب لا يزيد على أنه بوال فقط. و في حديثه حين قيل له إن النساء قد اجتمعن يبكين على خالد بن الوليد فقال و ما على نساء بني المغيرة أن يسفكن من دموعهن على أبي سليمان ما لم يكن نقع و لا لقلقة. قيل النقع هاهنا طعام المأتم و الأشبه أن النقع رفع الصوت و اللقلقة مثله. و في حديثه أن سلمان بن ربيعة الباهلي شكا إليه عاملا من عماله فضربه بالدرة حتى أنهج. قال أبو عبيد أي أصابه النفس و البهر من الإعياء. و في حديثه حين قدم عليه أحد بني ثور فقال له هل من مغربة خبر فقال نعم أخذنا رجلا من العرب كفر بعد إسلامه فقدمناه فضربنا عنقه فقال فهلا أدخلتموه جوف بيت فألقيتم إليه كل يوم رغيفا ثلاثة أيام لعله يتوب أو يراجع اللهم لم أشهد و لم آمر و لم أرض إذ بلغني. شرح نهج البلاغة ج : 12 ص : 134يقال هل من مغربة خبر بكسر الراء و يروى بفتحها و أصله البعد و منه شأو مغرب. و في حديثه أنه قال آلله ليضربن أحدكم أخاه بمثل آكلةللحم ثم يرى أنه لا أقيده و الله لأقيدنه. قال أبو عبيد آكلة اللحم عصا محددة. و في حديثه أعضل بي أهل الكوفة ما يرضون بأمير و لا يرضاهم أمير هو من العضال و هو الداء و الأمر الشديد الذي لا يقوم له صاحبه. و في حديثه أنه خطب فذكر الربا فقال إن منه أبوابا لا تخفى على أحد منها السلم في السن و أن تباع الثمرة و هي مغضفة و لما تطب و أن يباع الذهب بالورق نساء. قال أبو عبيد السلم في السن أن يسلف الرجل في الرقيق و الدواب و غيرها من الحيوان لأنه ليس له حد معلوم. و المغضفة المتدلية في شجرها و كل مسترخ أغضف أي تكون غير مدركة. و في حديثه أنه خطب فقال ألا لا تغالوا في صداق النساء فإن الرجل يغالي بصداق المرأة حتى يكون ذلك لها في قلبه عداوة تقول جشمت إليك عرق (13/109)
القربة. (13/110)
شرح نهج البلاغة ج : 12 ص : 135قال معناه تكلفت لك حتى عرقت عرق القربة و عرقها سيلان مائها و في حديثه أنه رفع إليه غلام ابتهر جارية في شعره فقال انظروا إليه فلم يوجد أنبت فدرأ عنه الحد. قال أبو عبيد ابتهرها أي قذفها بنفسه فقال فعلت بها. و في حديثه أنه قضىي الأرنب بحلان إذا قتلها المحرم. قال الحلان الجدي. و في حديثه أنه قال حجة هاهنا ثم احدج هاهنا حتى تفنى. قال يأمر بحجة الإسلام لا غير ثم بعدها الغزو في سبيل الله. حتى تفنى أي حتى تهرم. و في حديثه أنه سافر في عقب رمضان و قال إن الشهر قد تسعسع فلو صمنا بقيته. قال أبو عبيد السين مكررة مهملة و العين مهملة أي أدبر و فنى. و في حديثه و قد سمع رجلا خطب فأكثر فقال إن كثيرا من الخطب من شقاشق الشيطان. الواحدة شقشقة و هو ما يخرج من شدق الفحل عند نزوانه شبيهة بالرئة و الشيطان شرح نهج البلاغة ج : 12 ص : 136لا شقشقة له إا هذا مثل لما يدخل في الخطب من الكلام المكذوب و تزوير الباطل. و في حديثه أنه قدم مكة فأذن أبو محذورة فرفع صوته فقال له أ ما خشيت يا أبا محذورة أن ينشق مريطاؤك. قال المريطاء ما بين السرة إلى العانة و يروى بالقصر. و في حديثه أنه سئل عن المذي فقال هو الفطر و فيه الوضوء. قال سماه فطرا من قولهم فطرت الناقة فطرا إذا حلبتها بأطراف الأصابع فلا يخرج اللبن إلا قليلا و كذلك المذي و ليس المني كذلك لأنه يخرج منه مقدار كثير. و في حديثه أنه سئل عن حد الأمة الزانية فقال إن الأمة ألقت فروة رأسها من وراء الدار. قال الفروة جلدة الرأس و هذا مثل إنما أراد أنها ألقت القناع و تركت الحجاب و خرجت إلى حيث لا يمكنها أن تمتنع من الفجور نحو رعاية الغنم فكأنه يرى أن لا حد عليها. و في حديثه أنه أتي بشارب فقال لأبعثنك إلى رجل لا تأخذه فيك هوادة فبعث به إلى مطيع بن الأسود العدوي فقال إذا أصبحت غدا فاضربه الحد فجاء عمر شرح نهج البلاغة ج : 12 ص :
137و هو يضربه ضربا شديدا فقال قتلت الرجل كم ضربته قال ستين قال أقص عنه بعشرين. قال معناه اجعل شدة هذا الضرب قصاصا بالعشرين التي بقيت من الحد فلا تضربه إياها. و في حديثه أن رجلا أتاه فذكر له أن شهادةلزور قد كثرت في أرضهم فقال لا يؤسر أحد في الإسلام بشهادة الزور فإنا لا نقبل إلا العدول. قال لا يؤسر لا يحبس و منه الأسير المسجون. و في حديثه أنه جدب السمر بعد عتمة. جدبه أي عابه و وصمه. و مثل هذا الحديث في كراهيته السمر حديثه الآخر أنه كان ينش الناس بعد العشاء بالدرة و يقول انصرفوا إلى بيوتكم. قال هكذا روي بالشين المعجمة و قيل إن الصحيح ينس بالسين المهملة و الأظهر أنه ينوش الناس بالواو من التناوش قال تعالى وَ أَنَّى لَهُمُ التَّناوُشُ. و في حديثه هاجروا و لا تهجروا و اتقوا الأرنب إن يحذفها أحدكم بالعصا و لكن ليذك لكم الأسل الرماح و النبل. شرح نهج البلاغة ج : 12 ص : 138قال رواه زر بن حبيش قال قدمت المدينة فخرجت في يوم عيد فإذا رجل متلبب أعسر أيسر يمشي مع الناس كأنه راكب و هو يقول كذا و كذا فإذا هو عمر يقول هاجروا و أخلصوا الهجرة و لا تهجروا. و لا تشبهوا بالاجرين على غير صحة منكم كقولك تحلم الرجل و ليس بحليم و تشجع و ليس بشجاع. و الذكاة الذبح و الأسل أعم من الرماح و أكثر ما يستعمل في الرماح خاصة. و المتلبب المتحزم بثيابه. و فلان أعسر يسر يعمل بكلتا يديه و الذي جاء في الرواية أيسر بالهمزة. و في حديثه أنه أفطر في رمضان و هو يرى أن الشمس قد غربت ثم نظر فإذا الشمس طالعة فقال لا نقضيه ما تجانفنا فيه الإثم. يقول لم نتعمد فيه الإثم و لا ملنا إليه و الجنف الميل. و في حديثه أنه قال لما مات عثمان بن مظعون على فراشه هبنه الموت عندي منزلة حين لم يمت شهيدا فلما مات رسول الله ص على فراشه و أبو بكر علمت أن موت الأخيار على فرشهم. هبته أي طأطأه و حط من قدره. و في حديثه أن رجلا من الجن لقيه فقال هل (13/111)
لك أن تصارعني فإن صرعتني (13/112)
شرح نهج البلاغة ج : 12 ص : 139علمتك آية إذا قرأتها حين تدخل بيتك لم يدخله شيطان فصارعه فصرعه عمر و قال له إني أراك ضئيلا شخيتا كان ذراعيك ذراعا كلب أ فهكذا أنتم كلكم أيها الجن أم أنت من بينهم فقال إني من بينهم لضليع فعاودني فصارعه فصرعه الإنسي فقال أ تق آية الكرسي فإنه لا يقرؤها أحد إذا دخل بيته إلا خرج الشيطان منه و له خبج كخبج الحمار. قال رواه عبد الله بن مسعود و قال خرج رجل من الإنس فلقيه رجل من الجن ثم ذكر الحديث فقيل له هو عمر فقال و من عسى أن يكون إلا عمر الشخيت النحيف الجسم و مثله الشخت. و الضليع العظيم الخلق. و الخبج الضراط. و في حديثه أنه كان يطوف بالبيت و هو يقول ربنا آتنا في الدنيا حسنة و في الآخرة حسنة و قنا عذاب النار ما له هجيرى غيرها. قال هجيرى الرجل دأبه و ديدنه و شأنه. و مثلها من قول عمر لو أطيق الأذان مع الخليقى لأذنت. و مثلها من قول عمر بن عبد العزيز لا رديدى في الصدقة أي لا ترد. و مثلها قول العرب كانت بينهم رميا أي مراماة ثم حجزت بينهم حجيزى أي محاجزة. شرح نهج البلاغة ج : 12 ص : 140و في حديثه حين قال للرجل الذي وجد منبوذا فأتاه به فقال عسى الغوير أبؤسا قال عريفه يا أمير المؤمنين إنه ونه فأثنى عليه خيرا و قال فهو حر ولاؤه لك. الأبؤس جمع بأس و المثل قديم مشهور و مراد عمر لعلك أنت صاحب هذا المنبوذ كأنه اتهمه و ساء ظنه فيه فلما أثنى عليه عريفه أي كفيله قال له هذا المنبوذ حر و ولاؤه لك لأنه بإنقاذه إياه من الهلكة كأنه أعتقه. و في حديثه أن قريشا تريد أن تكون مغويات لمال الله. هكذا يروى بالتخفيف و الكسر و المعروف مغويات بتشديد الياء و فتحها واحدتها مغواة و هي حفرة كالزبية تحفر للذئب و يجعل فيها جدي فإذا نظر إليها الذئب سقط يريده فيصاد و لهذا قيل لكل مهلكة مغواة. و في حديثه فرقوا عن المنية و اجعلوا الرأس رأسين و لا تلثوا بدار معجزة و
أصلحوا مثاويكم و أخيفوا الهوام قبل أن تخيفكم و اخشوشنوا و اخشوشبوا و تمعددوا. شرح نهج البلاغة ج : 12 ص : 141قال فرقوا عن المنية و اجعلوا الرأس رأسين أي إذا أراد أحدكم أن يشتري شيئا من الحيوان كمملوك أو دابة فلا يغين به فإنه لا يدري ما يحدث فيه و لكن ليجعل ثمنه في رأسين و إن كان كل واحد منهما دون الأول فإن مات أحدهما بقي الآخر. و قوله و لا تلثوا بدار معجزة فالإلثاث الإقامة أي لا تقيموا ببلد يعجزكم فيه الرزق و لكن اضطربوا في البلاد للكسب. و هذا شبيه بحديثه الآخر إذا اتجر أحدكم في شي ء ثلاث مرات فلم يرزق منه فليدعه. و المثاوي المنازل جمع مثوى. و أخيفوا الهوام أي اقتلوا ما يظهر في دوركم من الحيات و العقارب لتخافكم فلا تظهر. و اخشوشنوا أمر بالخشونة في العيش و مثله اخشوشبوا بالباء أراد ابتذال النفس في العمل و الاحتفاء فيالمشي ليغلظ الجلد و يجسو. و تمعددوا قيل إنه من الغلظ أيضا يقال للغلام إذا أنبت و غلظ قد تمعدد. و قيل أراد تشبهوا بمعد بن عدنان و كانوا أهل قشف و غلظ في المعاش أي دعوا التنعم و زي العجم. و قد جاء عنه في حديث آخر مثله عليكم باللبسة المعدية. و في حديثه أنه كتب إلى خالد بن الوليد أنه بلغني أنك دخلت حماما بالشام و أن من بها من الأعاجم أعدوا لكم دلوكا عجن بخمر و إني أظنكم آل المغيرة ذرو النار. (13/113)
شرح نهج البلاغة ج : 12 ص : 142الدلوك ما يتدلك به كالسحور و الفطور و نحوهما. و ذرو النار خلق النار و يروى ذرء النار بالهمزة من ذرأ الله الناس أي صورهم و أوجدهم. و في حديثه املكوا العجين فإنه أحد الريعين. ملكت العجين أجدت عجنه. و الريع الزيادة و الريع الثي ما يزيد عند خبزه في التنور و في حديثه حين طعن فدخل عليه ابن عباس فرآه مغتما بمن يستخلف بعده فذكر عثمان فقال كلف بأقاربه قال فعلي قال فيه دعابة قال فطلحة قال لو لا بأو فيه قال فالزبير قال وعقة لقس قال فعبد الرحمن قال أوه ذكرت رجلا صالحا و لكنه ضعيف و هذا الأمر لا يصلح له إلا اللين من غير ضعف و القوي من غير عنف قال فسعد قال ذاك يكون في مقنب من مقانبكم. قوله كلف بأقاربه أي شديد الحب لهم. و الدعابة المزاح. شرح نهج البلاغة ج : 12 ص : 143و البأو الكبر و العظمة. و قوله وعقة لقس و يروى ضبيس و معناه كله الشراسة شد الخلق و خبث النفس. و المقنب جماعة من الفرسان. و في حديثه أنه قال عام الرمادة لقد هممت أن أجعل مع كل أهل بيت من المسلمين مثلهم فإن الإنسان لا يهلك على نصف شبعه فقال له رجل لو فعلت يا أمير المؤمنين ما كنت فيها ابن ثأداء. قال يريد أن الإنسان إذا اقتصر على نصف شبعه لم يهلك جوعا و ابن ثأداء بفتح الهمزة ابن الأمة. و في حديثه أنه قرأ في صلاة الفجر بالناس سورة يوسف فلما انتهى إلى قوله تعالى إِنَّما أَشْكُوا بَثِّي وَ حُزْنِي إِلَى اللَّهِ وَ أَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ بكى حتى سمع نشيجه. النشيج صوت البكاء يردده الصبي في صدره و لا يخرجه. و في حديثه أنه أتي في نساء أو إماء ساعيات في الجاهلية فأمر بأولادهن أن يقوموا على آبائهم فلا يسترقوا. شرح نهج البلاغة ج : 12 ص : 144المساعاة زنا الإماء خاصة قضى عمر في أولادهن في الجاهلية أن يسومن على آبائهم بدفع الآء قيمتهم إلى سادات الإماء و يصير الأولاد أحرارا لاحقي النسب بآبائهم. (13/114)
و في حديثه ليس على عربي ملك و لسنا بنازعين من يد رجل شيئا أسلم عليهم و لكنا نقومهم الملة خمسا من الإبل. قال كانت العرب تسبي بعضها بعضا في الجاهلية فيأتي الإسلام و المسبي في يد الإنسان كالمملوك له فقضى عمر في مثل هذا أن يرد حرا إلى نسبه و تكون قيمته على نفسه يؤديها إلى الذي سباه لأنه أسلم و هو في يده و قيمته كائنا ما كان خمس من الإبل. قوله و الملة أي تقوم ملة الإنسان و شرعها. و في حديثه لما ادعى الأشعث بن قيس رقاب أهل نجران لأنه كان سباهم في الجاهلية و استعبدهم تغلبا فصاروا كمماليكه فلما أسلموا أبوا عليه فخاصموه عند عمر في رقابهم فقالوا يا أمير المؤمنين إنما كنا له عبيد مملكة و لم نكن عبيد قن فتغيظ عمر عليه و قال أردت أن تتغفلني. يعني أردت غفلتي. شرح نهج البلاغة ج : 12 ص : 145و عبد قن ملك ملك أبواه و عبد مملكة بفتح اللام و ضمها من غلب عليه و استعبد و كان في الأصل حرا فقضى عمر فيهم أن صيرهم أحرارا بلا عوض لأنه ليس بسباء على الحقيقة. و في حديثه أنه قضى في ولد المغرور بغرة. قال هو الرجل يزوج رجلا آخر مملوكة لإنسان آخر على أنها حرة فقضى عمر أن يغرم الزوج لمولى الأمة غرة أي عبدا أو أمة و يكون ولده حرا ثم يرجع الرجل الزوج على من غره بما غرم. و في حديثه أنه رأى جارية متكمكمة فسأل عنها فقالوا أمة آل فلان فضربها بالدرة ضربات و قال يا لكعاء أ تشبهين بالحرائر. قال متكمكمة لابسة قناع أصله من الكمة و هي كالقلنسوة و الأصل مكممة فأعاد الكاف كما قالوا كفكف فلان عن كذا و تصرصر الباب. و لكعاء و لكاع بالكسر و البناء شتم للأمة و للرجل يقال يا لكع. و في حديثه ورع اللص و لا تراعه. يقول ادفعه إذا رأيته في منزلك و اكففه بما استطعت و لا تنتظر فيه شيئا و كل (13/115)
شرح نهج البلاغة ج : 12 ص : 146شي ء كففته فقد ورعته و كل ما تنتظره فأنت تراعيه و المعنى أنه رخص في الإقدام على اللص بالسلاح و نهى أن يمسك عنه نائما. و في حديثه أن رجلا أتاه فقال إن ابن عمي شج موضحة فقال أ من أهل القرى أم من أهل البادية قال من أهل الباديقال عمر إنا لا نتعاقل المضغ بيننا. قال سماها مضغا استصغارا لها و لأمثالها كالسن و الإصبع. قال و مثل ذلك لا تحمله العاقلة عند كثير من الفقهاء و كذلك كل ما كان دون الثلث. و في حديثه أنه لما حصب المسجد قال له فلان لم فعلت قال هو أغفر للنخامة و ألين في الموطئ. أغفر لها أستر لها. و حصب المسجد فرشه بالحصباء و هي رمل فيه حصى صغار. و في حديثه أن الحارث بن أوس سأله عن المرأة تطوف بالبيت ثم تنفر من غير أن تطوف طواف الصدر إذا كانت حائضا فنهاه عمر عن ذلك فقال الحارث كذلك أفتاني رسول الله ص فقال عمر أربت يداك أ تسألني و قد سمعت من رسول الله ص كي أخالفه قال دعا عليه بقطع اليدين من قولك قطعت الشاة إربا إربا. شرح نهج البلاغة ج : 12 ص : 147و في حديثه أنه سمع رجلا يتعوذ من الفتن فقال عمر اللهم إني أعوذ بك من الضفاطة أ تسأل ربك ألا يرزقك مالا و ولدا. قال أراد قوله تعالى إِنّا أَمْوالُكُمْ وَ أَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ و الضفاطة الحمق و ضعف العقل رجل ضفيط أي أحمق. و في حديثه ما بال رجال لا يزال أحدهم كاسرا وسادة عند امرأة مغزية يتحدث إليها و تتحدث إليه عليكم بالجنبة فإنها عفاف إنما النساء لجم على وضم إلا ما ذب عنه. قال مغزية قد غزا زوجها فهو غائب عنها أغزت المرأة إذا كان بعلها غازيا و كذلك أغابت فهي مغيبة. و عليكم بالجنبة أي الناحية يقول تنحوا عنهن و كلموهن من خارج المنزل و الوضم الخشبة أو البارية يجعل عليها اللحم. قال و هذا مثل حديثه الآخر ألا لا يدخلن رجل على امرأة و إن قيل حموها ألا حموها الموت. قال دعا عليها فإذا كان هذا رأيه في أبي الزوج و هو (13/116)
محرم لها فكيف بالغريب و في حديثه أن بيعة أبي بكر كانت فلتة وقى الله شرها فلا بيعة إلا عن مشورة و أيما رجل بايع رجلا عن غير مشورة فلا يؤمر واحد منهما تغرة أن يقتلا. قال التغرة التغرير غررت بالقوم تغريرا و تغرة كقولك حللت اليمين تحليلا شرح نهج البلاغة ج : 12 ص : 148و تحلة و مثله في المضاعف كثير أي أن في ذلك تغريرا بأنفسهما و تعريضا لهما أن يقتلا. و في حديثه أن العبد إذا تواضع لله رفع الله حكمته و قال انتعش نعشك الله و إذا تكبر و عدا طوره وهصالله إلى الأرض. قال وهصه أي كسره و عدا طوره أي قدره. و في حديثه حجوا بالذرية لا تأكلوا أرزاقها و تذروا أرباقها في أعناقها. قال أراد بالذرية هنا النساء و لم يرد الصبيان لأنه لا حج عليهم. و الأرباق جمع ربق و هو الحبل. و في حديثه أنه وقف بين الحرتين و هما داران لفلان فقال شوى أخوك حتى إذا انضج رمد. هذا مثل يضرب للرجل يصنع معروفا ثم يفسده. و في حديثه السائبة و الصدقة ليومهما. قال السائبة المعتق. شرح نهج البلاغة ج : 12 ص : 149و ليومهما ليوم القيامة الذي فعل ما فعله لأجله. و في حديثه لا تشتروا رقيق أهل الذمة فإم أهل خراج يؤدي بعضهم عن بعض و أرضهم فلا تتنازعوها و لا يقرن أحدكم بالصغار بعد إذ نجاه الله. قال كره أن يشتري أرضهم المسلمون و عليها خراج فيصير الخراج منتقلا إلى المسلم و إنما منع من شراء رقيقهم لأن جزيتهم تكثر على حسب كثرة رقيقهم فإذا ابتيع رقيقهم قلت جزيتهم و إذا أقلت جزيتهم يقل بيت المال. و في حديثه في قنوت الفجر و إليك نسعى و نحفد نرجو رحمتك و نخشى عذابك إن عذابك بالكفار ملحق. قال حفد العبد مولاه يحفد أي خدم و منه قوله تعالى بَنِينَ وَ حَفَدَةً أي خدما. و ملحق اسم فاعل بمعنى لاحق من الحق و هو لغة في لحق يقال لحقت زيدا و ألحقته بمعنى. و في حديثه لا تشتروا الذهب بالفضة إلا يدا بيد هاء و هاء إني أخاف عليكم الرماء. قال الرماء الزيادة و هو (13/117)
بمعنى الربا يقال أرميت على الخمسين أي زدت عليها. شرح نهج البلاغة ج : 12 ص : 150و في حديثه من لبد أو عقص أو ضفر فعليه الحلق. قال التلبيد أن تجعل في رأسك شيئا من صمغ أو عسل يمنع من أن يقمل. و العقص و الضفر فتل الشعر و نسجه و في حديثه ما تصعدتني خطبة كما تصعدتني خطبة النكاح. قال معناه ما شق علي و أصله منلصعود و هي العقبة المنكرة قال تعالى سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً. و في حديثه أنه قال لمالك بن أوس يا مالك أنه قد دفت علينا من قومك دافة و قد أمرنا لهم برضخ فاقسمه فيهم. قال الدافة جماعة تسير سيرا ليس بالشديد. و في حديثه أنه سأل جيشا فقال هل ثبت لكم العدو قدر حلب شاة بكيئة. قال البكيئة القليلة اللبن. و في حديثه أنه قال في متعة الحج قد علمت أن رسول الله ص فعلها و أصحابه و لكن كرهت أن يظلوا بهن معرسين تحت الأراك ثم يلبون بالحج تقطر رءوسهم. شرح نهج البلاغة ج : 12 ص : 151قال المعرس الذي يغشى امرأته قال كره أن يحل الر من عمرته ثم يأتي النساء ثم يهل بالحج. و في حديثه نعم المرء صهيب لو لم يخف الله لم يعصه. قال المعنى أنه لا يترك المعصية خوف العقاب بل يتركها لقبحها فلو كان لا يخاف عقوبة الله لترك المعصية. و في حديثه أنه أتي بسكران في شهر رمضان فقال للمنخرين للمنخرين أ صبياننا صيام و أنت مفطر. قال معناه الدعاء عليه كقولك كبه الله للمنخرين و كقولهم لليدين و للفم. و في حديثه أنه قال لما توفي رسول الله ص قام أبو بكر فتلا هذه الآية في خطبته إِنَّكَ مَيِّتٌ وَ إِنَّهُمْ مَيِّتُونَ قال عمر فعقرت حتى وقعت إلى الأرض. قال يقال للرجل إذا بهت و بقي متحيرا دهشا قد عقر و مثله بعل و خرق. و في حديثه أنه كتب إلى أبي عبيدة و هو بالشام حين وقع بها الطاعون أن الأردن أرض غمقة و أن الجابية أرض نزهة فأظهر بمن معك من المسلمين إلى الجابية. شرح نهج البلاغة ج : 12 ص : 152قال الغمقة الكثيرة الأنداء الوباء و النزهة (13/118)
البعيدة من ذلك. و في حديثه أنه قال لبعضهم في كلام كلمه به بل تحوسك فتنة. قال معناه تخالطك و تحثك على ركوبها قال و تحوس مثل تجوس بالجيم قال تعالى فَجاسُوا خِلالَ الدِّيارِ. و في حديثه حين ذكر الجراد فقال وددت أن عندنا منه قفعة أو قفعتين. قال القفعة شي ء شبيه بالزنبيل ليس بالكبير يعمل من خوص ليس له عرى و هو الذي يسمى القفة. و في حديثه أن أذينة العبدي أتاه يسأله فقال إني حججت من رأس هزا و خازك أو بعض هذه المزالف فمن أين أعتمر فقال ائت عليا فاسأله فسألته فقال من حيث ابتدأت. قال رأس هزا و خازك مضعان من ساحل فارس و المزالف كل قرية تكون بين البر و بلاد الريف و هي المزارع أيضا كالأنبار و عين التمر و الحيرة. و في حديثه أنه نهى عن المكايلة. قال معناه مكافأة الفعل القبيح بمثله. شرح نهج البلاغة ج : 12 ص : 153و في حديثه ليس الفقير الذي لا مال له إنما اقير الأخلق الكسب. قال أراد الرجل الذي لا يرزأ في ماله و لا يصاب بالمصائب و أصله أن يقال للجبل المصمت الذي لا يؤثر فيه شي ء أخلق و صخرة خلقاء إذا كانت كذلك فأراد عمر أن الفقر الأكبر إنما هو فقر الآخرة لمن لم يقدم من ماله لنفسه شيئا يثاب عليه هناك و هذا نحو (13/119)
قول النبي ص ليس الرقوب الذي لا يبقى له ولد إنما الرقوب الذي لم يقدم من ولده أحدا
فهذا ما لخصته من غريب كلام عمر من كتاب أبي عبيد. فأما ما ذكره ابن قتيبة من غريب حديثه في كتابه فأنا ألخص منه ما أنا ذاكره. قال ابن قتيبة فمن غريب حديث عمر أنه خطب فقال إن أخوف ما أخاف عليكم أن يؤخذ الرجل المسلم البري ء عند الله فيدسر كما يدسر الجزور و يشا لحمه كما يشاط لحم الجزور يقال عاص و ليس بعاص
فقال علي ع فكيف ذاك و لما تشتد البلية و تظهر الحمية و تسبى الذرية و تدقهم الفتن دق الرحى بثفالها
قال ابن قتيبة يدسر أي يدفع و
منه حديث ابن عباس ليس في العنبر زكاه إنما هو شي ء يدسره البحر و يشاط لحمه أي يقطع و يبضع و الأصل في الإشاطة الإحراق فأستعير و في الحديث أن زيد بن حارثة قاتل يوم مؤتة حتى شاط في رماح القوم. و الثفال جلدة تبسط تحت الرحى فيقع عليها الدقيق. شرح نهج البلاغة ج : 12 ص : 154و في حديث عمر القسامة توجب العقل و لا تشيط الدم (13/120)
قال ابن قتيبة العقل الدية يقول إذا حلفت فإنما تجب الدية لا القود و قد روي عن ابن الزبير و عمر بن عبد العزيز أنهما أقادا بالقسامة. و
في حديثه لا تفطروا حتى تروا الليل يغسق على الظراب
قال يغسق أي يظلم. و الظراب جمع ظرب و هو ما كان دون الجبل و إنما خص الظراب بالذكر لقصرها أراد أن ظلمة الليل تقرب من الأرض. و
في حديثه أن رجلا كسر منه عظم فأتى عمر يطلب القود فأبى أن يقتص له فقال الرجل فكاسر عظمي إذن كالأرقم إن يقتل ينقم و إن يترك يلقم فقال عمر هو كالأرقم
قال كانت الجاهلية تزعم أن الجن يتصور بعضهم في صورة الحيات و أن من قتل حية منها طلبت الحية بالثأر فربما مات أو أصابه خبل فهذا معنى قوله إن يقتل ينقم و معنى يلقم يقول إن تركته أكلك و هذا مثل يضرب للرجل يجتمع عليه أمران من الشر لا يدري كيف يصنع فيهما و نحوه قولهم هو كالأشقر إن تقدم عقر و إن تأخر نحر. شرح نهج البلاغة ج : 12 ص : 155قال و إنما لم يقده لأنه يخاف من القصاص في العظم الموت و لكن فيه الدية. و في حديثه أنه أتى مسجد قباء فرأى فيه شيئا من غبار و عنكبوت فقال لرجل ائتني بجريدة و اتق العواهن قال فجئته بهاربط كميه بوذمة ثم أخذ الجريدة فجعل يتتبع بها الغبار. قال الجريدة السعفة و جمعها جريد. و العواهن السعفات التي يلين القلبة و القلبة جمع قلب و أهل نجد يسمون العواهن الحواني و إنما نهاه عنها إشفاقا على القلب أن يضر به قطعها. و الوذمة سير من سيور الدلو يكون بين آذان الدلو و العراقي. و
في حديثه ألا لا تضربوا المسلمين فتذلوهم و لا تمنعوهم حقوقهم فتكفروهم و لا تجمروهم فتفتنوهم (13/121)
قال التجمير ترك الجيش في مغازيهم لا يقفلون. و في حديثه أنه أتي بمروط فقسمها بين نساء المسلمين و رفع مرطا بقي إلى أم سليط الأنصارية و قال إنها كانت تزفر القرب يوم أحد تسقى المسلمين. قال تزفرها تحملها و منه زفر اسم رجل كان يحمل الأثقال. شرح نهج البلاغة ج :2 ص : 156و
في حديثه أنه قال أعطوا من الصدقة من أبقت له السنة غنما و لا تعطوا من أبقت له السنة غنمين
قال السنة هاهنا الأزمنة و منه قوله تعالى وَ لَقَدْ أَخَذْنا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ. قال و كان عمر لا يجيز نكاحا في عام سنة يقول لعل الضيعة تحملهم على أن ينكحوا غير الأكفاء. و كان أيضا لا يقطع سارقا في عام سنة. و قوله غنما أي قطعة من الغنم يقال لفلان غنمان أي قطعتان من الغنم و أراد عمر أن من له قطعتان غني لا يعطى من الصدقة شيئا لأنها لم تكن قطعتين إلا لكثرتها. و في حديثه أنه انكفأ لونه في عام الرمادة حين قال لا آكل سمنا و لا سمينا و أنه اتخذ أيام كان يطعم الناس قدحا فيه فرض فكان يطوف على القصاع فيغمز القدح فإن لم تبلغ الثريدة الفرض قال فانظر ما ذا يفعل بصاحب الطعام. قال انكفأ تغير عن حاله و أصله الانقلاب من كفأت الإناء. و سمي عام الرمادة من قولهم أرمد الناس إذا جهدوا و الرمد الهلاك. و القدح السهم و الفرض الحز جعل عمر هذا الحز علامة لعمق الثريد في الصحفة. شرح نهج البلاغة ج : 12 ص : 157و في حديثه أن عطاء بن يسار قال قلت للوليد بن عبد الملك روي لي أن عمر بن الخطاب قال وددت أني سلمت من الخلافة كفافا لا علي و لا لي فقال كذبت الخليفة يقول هذا فقلت أ و كذبت فأفلت منه بجريعة الذقن. قال يقال خلص من خصمه كفافا أيف كل واحد منهما على صاحبه فلم ينل أحدهما من الآخر شيئا. و أفلت فلان بجريعة ذقن أي أن نفسه قد صارت في فيه و جريعة تصغير جرعة. قلت و إنما استعظم الوليد ذلك لأن بني أمية كانوا يرون أن من ولي الخلافة فقد وجبت له الجنة و لهذا خطب هشام يوم ولي فقال الحمد لله الذي أنقذني من النار بهذا المقام و في حديثه أن سماك بن حرب قال رأيت عمر فرأيت رجلا أروح كأنه راكب و الناس يمشون كأنه من رجال بني سدوس. قال الأروح الذي تتدانى عقباه و تتباعد صدور قدميه يقال أروح بين الروح و الأفحج الذي تتدانى صدور قدميه و تتباعد عقباه و تتفحج ساقاه و الأوكع الذي يميل إبهام رجله على أصابعه حتى يزول فيرى شخص (13/122)
أصلها خارجا و هو الوكع و منه أمة وكعاء و بنو سدوس فخذ من بني شيبان و الطول أغلب عليهم. شرح نهج البلاغة ج : 12 ص : 158و في حديثه عن ابن عباس قال دعاني فإذا حصير بين يديه عليه الذهب منثور نثرلحثا فأمرني بقسمة. قال الحثا التبن مقصور قال الراجز يهجو رجلا (13/123)
و يأكل التمر و لا يلقي النوى و لا يواري فرجه إذا اصطلى كأنه غرارة ملأى حثاو في حديثه أنه قال النساء ثلاث فهينة لينة عفيفة مسلمة تعين أهلها على العيش و لا تعين العيش على أهلها و أخرى وعاء للولد و أخرى غل قمل يضعه الله في عنق من يشاء و يفكه عمن يشاء و الرجال ثلاثة رجل ذو رأي و عقل و رجل إذا حزبه أمر أتى ذا رأي فاستشاره و رجل حائر بائر لا يأتمر رشدا و لا يطيع مرشدا. قال البائر الهالك قال تعالى وَ كُنْتُمْ قَوْماً بُوراً و الأصل في قوله غل قمل أنهم كانوا يغلون بالقد و عليه الشعر فيقمل على الرجال. و لا يأتمر رشدا أي لا يأتي برشد من ذات نفسه يقال لمن فعل الشي ء من غير مشاورة قد ائتمر بئس ما ائتمرت لنفسك قال النمر بن تولب
و اعلمن أن كل مؤتمر مخطئ في الرأي أحيانا
و في حديثه أنه خرج ليلة في شهر رمضان و الناس أوزاع فقال إني لأظن لو جمعناهم على قارئ واحد كان أفضل فأمر أبي بن كعب فأمهم ثم خرج ليلة و هم شرح نهج البلاغة ج : 12 ص : 159يصلون بصلاته فقال نعم البدعة هذه و التي ينامون عنها أفضل من التي يقومون. قال الأوزاع ارق يريد أنهم كانوا يصلون فرادى يقال وزعت المال بينهم أي فرقته. و قوله و التي ينامون عنها أفضل يريد صلاة آخر الليل فإنها خير من صلاة أوله. و في حديثه أن أصحاب محمد ص تذاكروا الوتر فقال أبو بكر أما أنا فأبدأ بالوتر و قال عمر لكني أوتر حين ينام الضفطى. قال هو جمع ضفيط و هو الرجل الجاهل الضعيف الرأي. و منه ما روي عن ابن عباس أنه قال لو لم يطلب الناس بدم عثمان لرموا بالحجارة من السماء فقيل أ تقول هذا و أنت عامل لفلان فقال إن في ضفطات و هذه إحدى ضفطاتي. و في حديثه أنه قال في وصيته إن توفيت و في يدي صرمة ابن الأكوع فسنتها سنة ثمغ. شرح نهج البلاغة ج : 12 ص : 160قال الصرمة هاهنا قطعة من النخل و يقال للقطعة الخفيفة من الإبل صرمة و يقال لصاحبها مصرم و لعله قيل للمقل مصرم من هذا. و ثمغ مال كان لعمر و وقفه. و في حديثه أنه لما قدم الشام تفحل له أمراء الشام قال أي اخشوشن له في الزي و اللباس و المطعم تشبها به و أصله من الفحل لأن التصنع في اللباس و القيام على النفس إنما هو عندهم للإناث لا للفحول. و في حديثه أنه قدم مكة فسأل من يعلم موضع المقام و كان السيل احتمله من مكانه فقال المطلب بن أبي وداعة السهمي يا أمير المؤمنين قد كنت قدرته و ذرعته بمقاط عندي. قال المقاط الحبل و جمعه مقط. و في حديثه أنه قال للذي قتل الظبي و هو محرم خذ شاة من الغنم فتصدق بلحمها و اسق إهابها. قال الإهاب الجلد. و اسقه أي اجعله سقاء لغيرك كما تقول اسقني عسلا أي اجعله لي سقاء و أقد بي خيلا أي أعطني خيلا أقودها و اسقني إبلا أعطني إبلا أسوقها. شرح نهج البلاغة ج : 12 ص : (13/124)
161و قالت بنو تميم للحجاج أقبرنا صالحا يعنون صالح بن عبد الرحمن و كان قتله و صلبه فسألوه أن يمكنهم من دفنه. و في حديثه أنه ذكر عنده التمر و الزبيب أيهما أفضل و يروى أنه قال لرجل من أهل الطا الحبلة أفضل أم النخلة فأرسل إلى أبي حثمة الأنصاري فقال إن هؤلاء اختلفوا في التمر و الزبيب أيهما أفضل. و في رواية أخرى و جاء أبو عمرة عبد الرحمن بن محصن الأنصاري فقال أبو حثمة ليس الصقر في رءوس الرقل الراسخات في الوحل المطعمات في المحل تعلة الصبي و قرى الضيف و به يحترش الضب في الأرض الصلعاء كزبيب إن أكلته ضرست و إن تركته غرثت. و في الرواية الأخرى فقال أبو عمرة الزبيب إن آكله أضرس و إن أتركه أغرث ليس كالصقر في رءوس الرقل الراسخات في الوحل و المطعمات في المحل خرفة الصائم و تحفة الكبير و صمتة الصغير و خرسة مريم و يحترش به الضباب من الصلعاء. قال الحبلة بفتح الحاء و تسكين الباء الأصل من الكرم و في الحديث أن نوحا لما خرج من السفينة غرس الحبلة و كانت لأنس بن مالك حبلة تحمل كذا و كان يسميها أم العيال فأما الحبلة بالضم فثمر العضاه. و منه الحديث كنا نغزو مع رسول الله ص و ما لنا طعام إلا الحبلة و ورق السمر و الحبلة بالضم أيضا ضرب من الحلي يجعل في القلائد شبه بورق العضاه لأنه يصاغ على صورته. و أغرث أجوع و الغرث الجوع. (13/125)
شرح نهج البلاغة ج : 12 ص : 162و الصقر عسل الرطب. و الرقل جمع رقلة و هي النخلة الطويلة. و قوله خرفة الصائم اسم لما يخترف أي يجتنى و نسبها إلى الصائم لأنهم كانوا يحبون أن يفطروا على التمر. و قوله و صمتة الصغير لأن الصغير كان إذا بكى عندهم سكتوه به و تعلة صبي نحوه من التعليل. و خرسة مريم الخرسة ما تطعمه النفساء عند ولادتها أشار إلى قوله تعالى وَ هُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُساقِطْ عَلَيْكِ رُطَباً جَنِيًّا فأما الخرس بغير هاء فهو الطعام الذي يصنع لأجل الولادة كالإعذار للختان و النقيعة للقادم و الوكيرة للبناء. و يحترش به الضب أي يصطاده يقال إن الضب يعجب بالتمر و الحارش صائد الضباب. و الصلعاء الصحراء التي لا نبات بها كرأس الأصلع. و في حديثه أنه قال للسائب ورع عني بالدرهم و الدرهمين. قال أي كف الخصوم عني في قدر الدرهم و الدرهمين بأن تنظر في ذلك و تقضي فيه بينهم و تنوب عني و كل من كففته فقد ورعته و منه الورع في الدين إنما هو الكف عن المعاصي و منه حديث عمر لا تنظروا إلى صلاة الرجل و صيامه و لكن من إذا حدث صدق و إذا اؤتمن أدى و إذا أشفى ورع أي إذا أشرف على المعصية كف عنها. شرح نهج البلاغة ج : 12 ص : 163في حديثه أنه خطب الناس فقال أيها الناس لينكح الرجل منكم لمته من النساء و لتنكح المرأة لمتها من الرجال قال لمة الرجل من النساء مثله في السن و منه ما روي أن فاطمة ع خرجت في لمة من نسائها تتوطأ ذيلها حتى دخلت على أبي بكر. و أراد عمر بن الخطاب لا تنكح الشابة الشيخ الكبير و لا ينكح الشاب العجوز و كان سبب هذه الخطبة أن شابة زوجها أهلها شيخا فقتلته. و في حديثه أن رجلا أتاه يشكو إليه النقرس فقال كذبتك الظهائر. قال الظهائر جمع ظهيرة و هي الهاجرة و وقت زوال الشمس. و كذبتك أي عليك بها و هي كلمة معناها الإغراء يقولون كذبك كذا أي عليك به. و (13/126)
منه الحديث المرفوع الحجامة على الريق فيها شفاء و بركة فمن احتجم في يوم الخميس و يوم الأحد كذباك (13/127)
أي عليك بهما و إنما أمر عمر صاحب النقرس أن يبرز للحر في الهاجرة و يمشي حافيا و يبتذل نفسه لأن ذلك يذهب النقرس. و في حديثه أنه قال من يدلني على نسيج وحده فقال أبو موسى ما نعلمه غيرك فقال ما هي إلا إبل موقع ظهورها. قال معنى قوله نسيج وحده أي لا عيب فيه و لا نظير له أصله من الثوب النفيس لا ينسج على منواله غيره. شرح نهج البلاغة ج : 12 ص : 164و البعير الموقع الذي يكثر آثار الدبر بظهره لكثرة ما يركب و أراد عمر أنا كلنا مثل ذلك في العيب. و في حديثه أن الطبيب الأنصاري سقاه لبنا حين طعن فخرج من الطعنة أبيض يصلد. ق أي يبرق و لم يتغير لونه و في حديثه أن نادبة عمر قالت وا عمراه أقام الأود و شفى العمد فقال علي ع أما و الله ما قالته و لكن قولته. و العمد ورم و دبر يكون في ظهر البعير و أراد علي ع أنه كأنما ألقي هذا الكلام على لسانها لصحته و صدقه. و في حديثه أنه استعمل رجلا على اليمن فوفد إليه و عليه حلة مشتهرة و هو مرجل دهين فقال أ هكذا بعثناك ثم أمر بالحلة فنزعت عنه و ألبس جبة صوف ثم سأل عن ولايته فلم يذكر إلا خيرا فرده على عمله ثم وفد إليه بعد ذلك فإذا أشعث مغبر عليه أطلاس فقال و لا كل هذا إن عاملنا ليس بالشعث و لا العافي كلوا و اشربوا و ادهنوا إنكم لتعلمون الذي أكره من أمركم. قال ثياب أطلاس أي وسخة و منه قيل للذئب أطلس. شرح نهج البلاغة ج : 12 ص : 165و العافي الطويل الشعر يقال عفى وبر البعير إذا طال و منه الحديث المرفوع أمر أن تعفى اللحى و تحفى الشوارب
و في حديثه أنه قال للرجل أ ما تراني لو شئت أمرت بشاة فتية سمينة أو قنية فألقي عنها صوفها ثم أمرت بدقيق فنخل في خرقة فجعل منه خبز مرقق و أمرت بصاع من زبيب فجعل في سعن حتى يكون كدم الغزال. قال السعن قربة أو إداوة ينتبذ فيها و تعلق بجذع. و في حديثه أنه رأى رجلا يأنح ببطنه فقال ما هذا قال بركة من الله قال بل هو عذاب من الله يعذبك به. قال يأنح يصوت و هو ما يعتري الإنسان السمين من البهر إذا مشى أنح يأنح أنوحا. و في حديثه أنه لما دنا من الشام و لقيه الناس جعلوا يتراطنون فأشكعه ذلك و قال لأسلم مولاه إنهم لم يروا على صاحبك بزة قوم غضب الله عليهم. قال أشكعه أغضبه قال أراد أنهم لم يتحاموا عنه اللغط و الكلام بالفارسية و النبطية بحضرته لأنهم لم يروه بعين الإمارة و السلطان كما يرون أمراءهم لأنهم لم يروا عليه بزة الأمراء و زيهم. شرح نهج البلاغة ج : 12 ص : 166و في حديثه أعاملا على الطائف كتب إليه أن رجالا منهم كلموني في خلايا لهم أسلموا عليها و سألوني أن أحميها لهم فكتب إليه عمر أنها ذباب غيث فإن أدوا زكاته فاحمه لهم. قال الخلايا موضع النحل التي تعسل الواحدة خلية و أراد بقوله إنها ذباب غيث أنها تعيش بالمطر لأنها تأكل ما ينبت عنه فإذا لم يكن غيث فقدت ما تأكل فشبهها بالسائم من النعم لا مئونة على صاحبها منها و أوجب فيها الزكاة. و في حديثه أن سعد بن الأخرم قال كان بين الحي و بين عدي بن حاتم تشاجر فأرسلوني إلى عمر فأتيته و هو يطعم الناس من كسور إبل و هو قائم متوكئ على عصا مؤتزر إلى أنصاف ساقيه خدب من الرجال كأنه راعي غنم و علي حلة ابتعتها بخمسمائة درهم فسلمت عليه فنظر إلي بذنب عينه و قال لي أ ما لك معوز قلت بلى قال فألقها فألقيتها و أخذت معوزا ثم لقيته فسلمت فرد علي السلام. قال كسور الإبل أعضاؤها. و الخدب العظيم الجافي و كأنه راعي غنم يريد في الجفاء و البذاذة و خشونة الهيئة و اللبسة. و المعوز (13/128)
الثوب الخلق و الميم مكسورة و إنما ترك رد السلام عليه أولا لأنه أشهر الحلة فأدبه بترك رد السلام فلما خلعها و لبس المعوز رده عليه. شرح نهج البلاغة ج : 12 ص : 167و في حديثه أنه ذكر فتيان قريش سرفهم في الإنفاق فقال لحرفة أحدهم أشد علي من عيلته. قال الحرفة هاهنا أن يكون الرجل لا يتجر و لا يلتمس الرزق فيكون محدودا لا يرزق إذا طلب و منه قيل فلان محارف و العيلة الفقر. و في حديثه أنه قال لرجل ما مالك قال أقرن لي و آدمة في المنيئة قال قومها و زكها. قال الأقرن جمع قرن و هي جعبة من جلود تكون للصيادين يشق منها جانب ليدخلها الريح فلا يفسد الريش. و آدمة جمع أديم كجريب و أجربة. و المنيئة الدباغ و إنما أمره بتزكيتها لأنها كانت للتجارة. و في حديثه أن أبا وجزة السعدي قال شهدته يستقي فجعل يستغفر فأقول أ لا يأخذ فيما خرج له و لا أشعر أن الاستسقاء هو الاستغفار فقلدتنا السماء قلدا كل خمس عشرة ليلة حتى رأيت الأرنبة يأكلها صغار الإبل من وراء حقاق العرفط. قال فقلدتنا مطرتنا لوقت معين و منه قلد الحمى و قلد الزرع سقيه لوقت و هو وقت الحاجة. و قال رأيت الأرنب يحتملها السيل حتى تتعلق بالعرفط و هو شجر ذو شوك و زاد في الأرنب هاء كما قالوا عقرب و عقربة و حقاق العرفط صغارها و قيل الأرنب شرح نهج البلاغة ج : 12 ص : 168ضرب من النبت لا يكاد يطول فأراد أنه طال بهذا المطر حتى أكلته صغار الإبل من وراء شجر العرفط. و في حديثه أنه قال مولي أحد إلا حامى على قرابته و قرى في عيبته و لن يلي الناس قرشي عض على ناجذه. قال حامى عليهم عطف عليهم و قرى في عيبته أي اختان و أصل قرى جمع. و في حديثه لن تخور قوى ما كان صاحبها ينزع و ينزو. يخور يضعف و النزع في القوس و النزو على الخيل. و روي أن عمر كان يأخذ بيده اليمنى أذنه اليسرى ثم يجمع جراميزه و يثب فكأنما خلق على ظهر فرسه. و (13/129)
في حديثه تعلموا السنة و الفرائض و اللحن كما تتعلمون القرآن (13/130)
قال اللحن هاهنا اللغة و النحو. و في حديثه أنه مر على راع فقال يا راعي عليك بالظلف من الأرض لا ترمض فإنك راع و كل راع مسئول. قال الظلف المواضع الصلبة أمره أن يرعى غنمه فيها و نهاه أن يرمض و هو أن يرعى غنمه في الرمضاء و هي تشتد جدا في الدهاس و الرمل و تخف في الأرض الصلبة. شرح نهج البلاغة ج : 12 ص : 169و في حديثه أن رجلا قرأ عليه حرفا فأنكره فقال من أقرأك هذا قال أبو موسى فقال إن أبا موسى لم يكن من أهل البهش. قال البهش المقل الرطب فإذا يبس فهو الخشل و أراد أن أبا موسى ليس من أهل الحجاز لأن المقل بالحجاز نبت القرآن نزل بلغة الحجاز. و في حديثه أن عقبة بن أبي معيط لما قال للنبي ص أ أقتل من بين قريش فقال عمر حن قدح ليس منها. قال هذا مثل يضرب للرجل يدخل نفسه في القوم و ليس منهم و القدح أحد قداح الميسر و كانوا يستعيرون القدح يدخلونه في قداحهم يتيمنون به و يثقون بفوزه. و في حديثه أن أهل الكوفة لما أوفدوا العلباء بن الهيثم السدوسي إليه فرأى عمر هيئته رثة و أعجبه كلامه و عمله قال لكل أناس في حميلهم خير. قال هذا مثل و المراد أنهم سودوه على معرفة منهم بما فيه من الخلال المحمودة و المعنى أن خبره فوق منظره. و في حديثه أنه أخذ من القطنية الزكاة. قال هي الحبوب كالعدس و الحمص و في أخذ الزكاة منها خلاف بين الفقهاء. شرح نهج البلاغة ج : 12 ص : 170و في حديثه أنه كان يقول للخارص إذا وجدت قوما قد خرفوا في حائطهم فانظر قدر ما ترى أنهم يأكلونه فلا تخرصه. قال خرفوا فيه أي نزلوا فيه أم اختراف الثمرة. و في حديثه إذا أجريت الماء على الماء جزى عنك. قال يريد صب الماء على البول في الأرض فإنه يطهر المكان و لا حاجة إلى غسله و جزى قضى و أغنى من قوله تعالى لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً فإن أدخلت الألف قلت أجزأك و همزت و معناه كفاك. و في حديثه
أنه قال لا يعطى من المغانم شي ء حتى تقسم إلا لراع و الدليل غير موليه. قال الراعي هاهنا الطليعة لأنه يرعى القوم أي يحفظهم. و قوله غير موليه أي غير معطيه شيئا لا يستحقه. و في حديثه أن من الناس من يقاتل رياء و سمعة و منهم من يقاتل و هو ينوي الدنيا و مهم من ألجمه القتال فلم يجد بدا و منهم من يقاتل صابرا محتسبا أولئك هم الشهداء قال ألجمه القتال أي رهقه و غشيه فلم يجد مخلصا. (13/131)
شرح نهج البلاغة ج : 12 ص : 171و في حديثه أنه أرسل إلى أبي عبيدة رسولا فقال له حين رجع فكيف رأيت أبا عبيدة قال رأيت بللا من عيش فقصر من رزقه ثم أرسل إليه و قال للرسول حين قدم كيف رأيته قال رأيته حفوفا قال رحم الله أبا عبيد بسطنا له فبسط و قبضنا له فقبض. ل الحفوف و الحفف واحد و هو ضيق العيس و شدته يقال ما عليهم حفف و لا ضفف أي ما عليهم أثر عوز و الشظف مثل الحفف. و في حديثه أنه رئي في المنام فسئل عن حاله فقال ثل عرشي لو لا أني صادفت ربي رحيما. قال ثل عرشه أي هدم. و في حديثه أنه قال لأبي مريم الحنفي لأنا أشد بغضا لك من الأرض للدم قالوا كان عمر عليه غليظا كان قاتل زيد بن الخطاب أخيه فقال أ ينقصني ذلك من حقي شيئا قال لا قال فلا ضير. قال هذا مثل لأن الأرض لا يغوص فيها الدم كما يغوص الماء فهذا بغض الأرض له و يقال إن دم البعير تنشفه الأرض وحده و في حديثه أن اللبن يشبه عليه. شرح نهج البلاغة ج : 12 ص : 172قال معناه أن الطفل ربما نزع به الشبه إلى الظئر من أجل لبنها فلا تسترضعوا إلا من ترضون أخلاقها. و في حديثه اغزوا و الغزو حلو خضر قبل أن يكون ثماما ثم يكون رماما ثم يكون حطاما. قال هذا مثل و الثمام نبت ضعيف. و الرمابالضم و الرميم واحد مثل طوال و طويل. و الحطام يبس النبت إذا تكسر و معنى الكلام أنه أمرهم بالغزو حين عزائمهم قوية و بواعثهم إليه شديدة فإن مع ذلك يكون الظفر قبل أن يهي و يضعف فيكون كالثمام الضعيف ثم كالرميم
ثم يكون حطاما فيذهب. و في حديثه إذا انتاطت المغازي و اشتدت العزائم و منعت الغنائم أنفسها فخير غزوكم الرباط. قال انتاطت بعدت و النطي ء البعيد. و اشتدت العزائم صعبت و منعت الغنائم أنفسها فخير غزوكم الرباط في سبيل الله. و في حديثه أنه وضع يده في كشية ضب و قال إن النبي ص لم يحرمه و لكن قذره. قال كشية الضب شح بطنه. شرح نهج البلاغة ج : 12 ص : 173و قوله وضع أي أكل منه. و في حديثه لا أوتى بأحد انتقص من سبل المسلمين إلى مثاباته شيئا إلا فعلت به كذا. قال المثابات هاهنا المنازل يثوب أهلها إليها أي يرجعون و المراد من اقتطع شيئا من طريق المسلمين و أدخله في داره. و فحديثه أنه كره النير. قال هو علم الثوب و أظنه كرهه إذا كان حريرا. و في حديثه أنه انكسرت قلوص من إبل الصدقة فجفنها. قال اتخذ منها جفنة من طعام و أجمع عليه. و في حديثه عجبت لتاجر هجر و راكب البحر. قال عجب كيف يختلف إلى هجر مع شدة وبائها و كيف يركب البحر مع الخطار بالنفس. و في حديثه أنه قال ليلة لابن عباس في مسير له أنشدنا لشاعر الشعراء قال و من شرح نهج البلاغة ج : 12 ص : 174هو قال الذي لم يعاظل بين القول و لم يتبع حوشي الكلام قال و من هو قال زهير فجعل ينشد إلى أن برق الصبح. قال هو مأخوذ من تعاظل الجراد إذا ر بعضه بعضا. و حوشي الكلام وحشيه. و في حديثه أن نائلا مولى عثمان قال سافرت مع مولاي و عمر في حج أو عمرة فكان عمر و عثمان و ابن عمر لفا و كنت أنا و ابن الزبير في شببة معنا لفا فكنا نتمازح و نترامى بالحنظل فما يزيدنا عمر على أن يقول لنا كذاك لا تذعروا علينا فقلنا لرياح بن العترف لو نصبت لنا نصب العرب فقال أقول مع عمر فقلنا افعل و إن نهاك فانته ففعل و لم يقل عمر شيئا حتى إذا كان في وجه السحر ناداه يا رياح إنها اكفف فإنها ساعة ذكر. قال لفا أي حزبا و فرقة. و شببة جمع شاب مثل كاتب و كتبة و كاذب و كذبة و كافر و كفرة. و قوله كذاك أي (13/132)
حسبكم. و قوله لا تذعروا علينا أي لا تنفروا إبلنا. و نصب العرب غناء لهم يشبه الحداء إلا أنه أرق منه. و في حديثه أنه كتب في الصدقة إلى بعض عماله كتابا فيه و لا تحبس الناس أولهم على آخرهم فإن الرجن للماشية عليها شديد و لها مهلك و إذا وقف الرجل عليك غنمه فلا تعتم من غنمه و لا تأخذ من أدناها و خذ الصدقة من أوسطها و إذا وجب على (13/133)
شرح نهج البلاغة ج : 12 ص : 175الرجل سن لم تجدها في إبله فلا تأخذ إلا تلك السن من شروى إبله أو قيمة عدل و انظر ذوات الدر و الماخض فتنكب عنها فإنها ثمال حاضريهم. قال الرجن الحبس رجن بالمكان أقام به و مثله دجن بالدال. و لا تعتم لا تختر اعتام اعتياما أي اخت. من شروى إبله أي من مثلها. و ذوات الدر ذوات اللبن. و الماخض الحامل. و ثمال حاضريهم عصمتهم و غياثهم و حاضريهم من يسكن الحضر. و في حديثه أنه كان يلقط النوى من الطريق و النكث فإذا مر بدار قوم ألقاها فيها و قال ليأكل هذا داجنتكم و انتفعوا بباقيه. قال الداجنة ما يعلفه الناس في منازلهم من الشاة و الدجاج و الطير. و النكث الخيوط الخلق من صوف أو شعر أو وبر. و في حديثه ثلاث من الفواقر جار مقامة إن رأى حسنة دفنها و إن رأى سيئة أذاعها و امرأة إن دخلت عليها لسنتك و إن غبت عنها لم تأمنها و إمام إن أحسنت لم يرض عنك و إن أسأت قتلك. شرح نهج البلاغة ج : 12 ص : 176قال الفواقر الدواهي واحدتها فاقرة لأنها تكسر فقار الظهر. و لسنتك أخذتك بلسانها. و في حديثه في خطبة له من أتى هذا البيت لا ينهره إليه غيره رجع و قد غفر له. قال ينهره يدفعه يريد من حج لا ينوي بالحج إلا الطاعة غفر لهو
في حديثه اللبن لا يموت
قال قيل في معناه أن اللبن إذا أخذ من ميتة لم يحرم و كل شي ء أخذ من الحي فلم يحرم فإنه إن أخذ من الميت لم يحرم. و قيل في معناه إن رضع الطفل من امرأة ميتة حرم عليه من أولادها و قرابتها من يحرم عليها منها لو كانت حية. و قيل معناه أن اللبن إذا انفصل من الضرع أوجر به الصبي أو أدم به أو ديف له في دواء و سقيه فإنه إن لم يسم في اللغة رضاعا إلا أنه يحرم به ما يحرم بالرضاع فقال اللبن لا يموت أي لا يبطل عمله بمفارقة الثدي. و في حديثه من حظ المرء نفاق أيمه و موضع خفه. قال الأيم التي لا بعل لها و الخف الإبل كما تسمى الحمر و البغال حافرا و البقر و الغنم ظلفا يريد من حظ الإنسان أن يخطب إليه و يتزوج بناته و أخواته و أشباههن فلا يبرن شرح نهج البلاغة ج : 12 ص : 177و من حظه أيضا أن ينفق إبله حتى ينتابه التجار و غيرهم فيبتاعوها في مواضعها يستطرقونه لا يحتاج أن يعرضها عليهم. في حديثه أن العباس بن عبد المطلب سأله عن الشعراء فقال إمرؤ القيس سابقهم خسف لهم عين الشعر فافتقر عن معان عور أصح بصر. قال خسف لهم من الخسيف و هي البئر تحفر في حجارة فيخرج منها ماء كثير و جمعها خسف. و قوله افتقر أي فتح و هو من الفقير و الفقير فم القناة. و قوله عن معان عور يريد أن إمرأ القيس من اليمن و اليمن ليست لهم فصاحة نزار فجعل معانيهم عورا و فتح إمرؤ القيس عنها أصح بصر (13/134)
ذكر الأحاديث الواردة في فضل عمر
فأما الحديث الوارد في فضل عمر فمنه ما هو مذكور في الصحاح و منه ما هو غير مذكور فيها فمما ذكر في المسانيد الصحيحة من ذلك
ما روت عائشة أن رسول الله ص قال كان في الأمم محدثون فإن يكن في أمتي فعمر
أخرجاه في الصحيحين و روى سعد بن أبي وقاص قال استأذن عمر على رسول الله ص و عنده نساء من قريش يكلمنه عالية أصواتهن فلما استأذن قمن يبتدرن الحجاب فدخل و رسول الله ص يضحك قال أضحك الله سنك يا رسول الله قال عجبت من هؤلاء اللواتي كن عندي فلما سمعن صوتك ابتدرن الحجاب فقال عمر أنت شرح نهج البلاغة ج : 12 ص : 178أحق أن يهبن ثم قال أي عدوات أنفسهن أ تهبنني و لا تهبن رسول الله ص قلن نعم أنت أغلظ و أفظ فقال رسول الله ص و الذي نفسي بيده ما لقيك الشيطان قط سالكا فجا إلا سلك فجا غير فجكأخرجاه في الصحيحين و قد روي في فضله من غير الصحاح أحاديث (13/135)
منها إن السكينة لتنطق على لسان عمر
و منها إن الله تعالى ضرب بالحق على لسان عمر و قلبه
و منها إن بين عيني عمر ملكا يسدده و يوفقه
و منها لو لم أبعث فيكم لبعث عمر
و منها لو كان بعدي نبي لكان عمر
و منها لو نزل إلى الأرض عذاب لما نجا منه إلا عمر
و منها ما أبطأ عني جبريل إلا ظننت أنه بعث إلى عمر
و منها سراج أهل الجنة عمر
و منها إن شاعرا أنشد النبي ص شعرا فدخل عمر فأشار النبي ص إلى الشاعر أن اسكت فلما خرج عمر قال له عد فعاد فدخل عمر فأشار النبي ص بالسكوت مرة ثانية فلما خرج عمر سأل الشاعر رسول الله ص عن الرجل فقال هذا عمر بن الخطاب و هو رجل لا يحب الباطل
و منها إن النبي ص قال وزنت بأمتي فرجحت و وزن أبو بكر بها فرجح و وزن عمر بها فرجح ثم رجح ثم رجح
شرح نهج البلاغة ج : 12 ص : 179و قد رووا في فضله حديثا كثيرا غير هذا و لكنا ذكرنا الأشهر و قد طعن أعداؤه و مبغضوه في هذه الأحاديث فقالوا لو كان محدثا و ملهما لما اختار معاوية الفاسق لولاية الشام و لكن الله تعالى قد ألهمه و حدثه بما يواقع من القبائح و المرات و البغي و التغلب على الخلافة و الاستئثار بمال الفي ء و غير ذلك من المعاصي الظاهرة قالوا و كيف لا يزال الشيطان يسلك فجا غير فجه و قد فر مرارا من الزحف في أحد و حنين و خيبر و الفرار من الزحف من عمل الشيطان و إحدى الكبائر الموبقة. قالوا و كيف يدعى له أن لسكينة تنطق على لسانه أ ترى كانت السكينة تلاحي رسول الله ص يوم الحديبية حتى أغضبه. قالوا و لو كان ينطق على لسانه ملك أو بين عينيه ملك يسدده و يوفقه أو ضرب الله بالحق على لسانه و قلبه لكان نظيرا لرسول الله ص بل كان أفضل منه لأنه ص كان يؤدي الرسالة إلى الأمة عن ملك من الملائكة و عمر قد كان ينطق على لسانه ملك و زيد ملكا آخر بين عينيه يسدده و يوفقه فهذا الملك الثاني مما قد فضل به على رسول الله ص و قد كان حكم في أشياء فيخطئ فيها حتى يفهمه إياها علي بن أبي طالب و معاذ بن جبل و غيرهما حتى قال لو لا علي لهلك عمر و لو لا معاذ لهلك عمر و كان يشكل عليه الحكم فيقول لابن عباس غص يا غواص فيفرج عنه فأين كان الملك الثاني المسدد له و أين الحق الذي ضرب به على لسان عمر و معلوم أن رسول الله ص كان ينتظر في الوقائع نزول الوحي و عمر على مقتضى هذه الأخبار لا حاجة به إلى نزول ملك عليه لأن الملكين معه في كل وقت و كل حال ملك ينطق على لسانه و ملك آخر بين عينيه يسدده و يوفقه و قد عززا بثالث و هي السكينة فهو إذا أفضل من رسول الله ص. شرح نهج البلاغة ج : 12 ص : 180و قالوا و الحديث الذي مضمونه لو لم أبعث فيكم لبعث عمر فيلزم أن يكون رسول ال ص عذابا على عمر و أذى شديدا له لأنه لو لم يبعث لبعث عمر نبيا و (13/136)
رسولا و لم تعلم رتبة أجل من رتبة الرسالة فالمزيل لعمر عن هذه الرتبة التي ليس وراءها رتبة ينبغي ألا يكون في الأرض أحد أبغض إليه منه. قالوا و أما كونه سراج أهل الجنة فيقتضي أنه لو لم يكن تجلى عمر لكانت الجنة مظلمة لا سراج لها. قالوا و كيف يجوز أن يقال لو نزل العذاب لم ينج منه إلا عمر و الله تعالى يقول وَ ما كانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَ أَنْتَ فِيهِمْ. قالوا و كيف يجوز أن يقال إن النبي ص كان يسمع الباطل و يحبه و يشهده و عمر لا يسمع الباطل و لا يشهده و لا يحبه أ ليس هذا تنزيها لعمر عما لم ينزه عنه رسول الله ص. قالوا و من العجب أن يكون النبي ص أرجح من الأمة يسيرا و كذلك أبو بكر و يكون عمر أرجح منهما كثيرا فإن هذا يقتضي أن يكون فضله أبين و أظهر من فضل أبي بكر و من فضل رسول الله ص. و الجواب أنه ليس يجب فيمن كان محدثا ملهما أن يكون محدثا ملهما في كل شي ء بل الاعتبار بأكثر أفعاله و ظنونه و آرائه و لقد كان عمر كثير التوفيق مصيب الرأي في جمهور أمره و من تأمل سيرته علم صحة ذلك و لا يقدح في ذلك أن يختلف ظنه في القليل من الأمور. و أما الفرار من الزحف فإنه م يفر إلا متحيزا إلى فئة و قد استثنى الله تعالى ذلك فخرج به عن الإثم. (13/137)
شرح نهج البلاغة ج : 12 ص : 181و أما باقي الأخبار فالمراد بالملك فيها الأخبار عن صحة ظنه و صدق فراسته و هو كلام يجري مجرى المثل فلا يقدح فيه ما ذكروه. و أما قوله ص لو نزل إلى الأرض عذاب لما نجا منه إلا عمر فهو كلام قاله عقيب أخذ الفدية من أسارى بدر فإن ع لم يشر عليه و نهاه عنه فأنزل الله تعالى لَوْ لا كِتابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيما أَخَذْتُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ و إذا كان القرآن قد نطق بذلك و شهد لم يلتفت إلى طعن من طعن في الخبر. و أما قوله ع سراج أهل الجنة عمر فمعناه سراج القوم الذين يستحقون الجنة من أهل الدنيا أيام كونهم في الدنيا مع عمر أي يستضيئون بعلمه كما يستضاء بالسراج. و أما حديث منع الشاعر فإن رسول الله ص خاف أن يذكر في شعره ما يقتضي الإنكار فيعنف به عمر و كان شديد الغلظة فأراد النبي ص أن ينكر هو على الشاعر أن قال في شعره ما يقتضي ذلك على وجه اللطف و الرفق و كان ع رءوفا رحيما كما قال الله تعالى. و أما حديث الرجحان فالمراد به الفتوح و ملك البلاد و تأويله أنه ع أري في منامه ما يدل على أنه يفتح الله عليه بلادا و على أبي بكر مثله و يفتح على عمر أضعاف ذلك و هكذا وقع. و اعلم أن من تصدى للعيب وجده و من قصر همته على الطعن على الناس انفتحت شرح نهج البلاغة ج : 12 ص : 182له أبواب كثيرة و السعيد من أنصف من نفسه و رفض الهوى و تزود التقوى و بالله التوفيقذكر ما ورد من الخبر عن إسلام عمر (13/138)
و أما إسلام عمر فإنه أسلم فكان تمام أربعين إنسانا في أظهر الروايات و ذلك في السنة السادسة من النبوة و سنه إذ ذاك ست و عشرون سنة و كان عمر ابنه عبد الله يومئذ ست سنين و أصح ما روي في إسلامه رواية أنس بن مالك عنه قال خرجت متقلدا سيفي فلقيت رجلا من بني زهرة فقال أين تعمد قلت أقتل محمدا قال و كيف تأمن في بني هاشم و بني زهرة فقلت ما أراك إلا صبوت قال أ فلا أدلك على العجب أن أختك و زوجها قد صبوا فمشى عمر فدخل عليهما ذامرا و عندهما رجل من أصحاب رسول الله ص يقال له خباب بن الأرت فلما سمع خباب حس عمر توارى فقال عمر ما هذه الهينمة التي سمعتها عندكم و كانوا يقرءون طه على خباب فقال ما عندنا شي ء إنما هو حديث كنا نتحدثه بيننا قال فلعلكما قد صبوتما فقال له ختنه أ رأيت يا عمر إن كان الحق في غير دينك فوثب عمر على ختنه فوطئه وطئا شديدا فجاءت أخته فدفعته عن زوجها فنفحها بيدهفأدمى وجهها فجاهرته فقالت إن الحق في غير دينك و أنا أشهد أن لا إله إلا الله و أن محمدا رسول الله فاصنع ما بدا لك فلما يئس قال أعطوني هذا الكتاب الذي عندكم فأقرءوه و كان عمر يقرأ الخط شرح نهج البلاغة ج : 12 ص : 183فقالت له أخته إنك رجس و إن هذا الكتاب لا سه إلا المطهرون فقم فتوضأ فقام فأصاب ماء ثم أخذ الكتاب فقرأ طه ما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقى إِلَّا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشى إلى قوله إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَ أَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي فقال عمر دلوني على محمد فلما سمع خباب قول عمر و رأى منه الرقة خرج من البيت فقال أبشر يا عمر فإني لأرجو أن تكون دعوة رسول الله ص ليلة الخميس لك سمعته يقول اللهم أعز الإسلام بعمر بن الخطاب أو بعمرو بن هشام قال و رسول الله ص في الدار التي في أصل الصفا فانطلق عمر حتى أتى الدار و على الباب حمزة بن عبد المطلب و طلحة بن عبيد الله و ناس من أهل رسول (13/139)
الله ص فلما رأى الناس عمر قد أقبل كأنهم وجدوا و قالوا قد جاء عمر فقال حمزة قد جاء عمر فإن يرد الله به خيرا يسلم و إن يرد غير ذلك كان قتله علينا هينا قال و النبي ص من داخل البيت يوحى إليه فسمع رسول الله ص كلام القوم فخرج مسرعا حتى انتهى إلى عمر فأخذ بمجامع ثوبه و حمائل سيفه و قال ما أنت منتهيا يا عمر حتى ينزل الله بك يعني من الخزي و النكال ما أنزل بالوليد بن المغيرة ثم قال اللهم هذا عمر اللهم أعز الإسلام بعمر فقال أشهد أن لا إله إلا الله و أشهد أنك رسول الله فكبر أهل الدار و من كان على الباب تكبيرة سمعها من كان في المسجد من المشركين. و قد روي أن عمر كان موعودا و مبشرا بما وصل إليه من قبل أن يظهر أمر الإسلام قرأت في كتاب من تصانيف أبي أحمد العسكري رحمه الله أن عمر خرج عسيفا مع الوليد بن المغيرة إلى الشام في تجارة للوليد و عمر يومئذ ابن ثماني عشرة سنة فكان يرعى (13/140)
شرح نهج البلاغة ج : 12 ص : 184للوليد إبله و يرفع أحماله و يحفظ متاعه فلما كان بالبلقاء لقيه رجل من علماء الروم فجعل ينظر إليه و يطيل النظر لعمر ثم قال أظن اسمك يا غلام عامرا أو عمران أو نحو ذلك قال اسمي عمر قال اكشف عن فخذيك فكشف فإذا على أحدهما شامة سوء في قدر راحة الكف فسأله أن يكشف عن رأسه فكشف فإذا هو أصلع فسأله أن يعتمل بيده فاعتمل فإذا أعسر أيسر فقال له أنت ملك العرب و حق مريم البتول قال فضحك عمر مستهزئا قال أ و تضحك و حق مريم البتول أنك ملك العرب و ملك الروم و ملك الفرس فتركه عمر و انصرف مستهينا بكلامه و كان عمر يحدث بعد ذلك و يقول تبعني ذلك الرومي و هو راكب حمارا فلم يزل معي حتى باع الوليد متاعه و ابتاع بثمنه عطرا و ثيابا و قفل إلى الحجاز و الرومي يتبعني لا يسألني حاجة و يقبل يدي كل يوم إذا أصبحت كما تقبل يد الملك حتى خرجنا من حدود الشام و دخلنا في أرض الحجاز راجعين إلى مكة فودعني و رجع و كان الوليد يسألني عنه فلا أخبره و لا أراه إلا هلك و لو كان حيا لشخص إلينا (13/141)
تاريخ موت عمر و الأخبار الواردة في ذلك
فأما تاريخ موته فإن أبا لؤلؤة طعنه يوم الأربعاء لأربع بقين من ذي الحجة من سنة ثلاث و عشرين و دفن يوم الأحد صباح هلال المحرم سنة أربع و عشرين و كانت ولايته عشر سنين و ستة أشهر و هو ابن ثلاث و ستين في أظهر الأقوال و قد كان قال على المنبر يوم جمعة و قد ذكر رسول الله ص و أبا بكر أني قد رأيت رؤيا أظنها لحضور أجلي رأيت كأن ديكا نقرني نقرتين فقصصتها على أسماء شرح نهج البلاغة ج : 12 ص : 185بنت عميس فقالت يقتلك رجل من العجم و إني أفكرت فيمن أستخلف ثم رأيت أن الله لم يكن ليضيع دينه و خلافته التي بعث بها رسوله و روىبن شهاب قال كان عمر لا يأذن لصبي قد احتلم في دخول المدينة حتى كتب المغيرة و هو على الكوفة يذكر له غلاما صنعا عنده و يستأذنه في دخول المدينة و يقول إن عنده أعمالا كثيرة فيها منافع للناس إنه حداد نقاش نجار فأذن له أن يرسل به إلى المدينة و ضرب عليه المغيرة مائة درهم في كل شهر فجاء إلى عمر يوما يشتكي إليه الخراج فقال له عمر ما ذا تحسن من الأعمال فعد له الأعمال التي يحسن فقال له ليس خراجك بكثير في كنه عملك هذا هو الذي رواه أكثر الناس من قوله له و من الناس من يقول إنه جهر بكلام غليظ و اتفقوا كلهم على أن العبد انصرف ساخطا يتذمر فلبث أياما ثم مر بعمر فدعاه فقال قد حدثت أنك تقول لو أشاء لصنعت رحى تطحن بالريح فالتفت العبد عابسا ساخطا إلى عمر و مع عمر رهط من الناس فقال لأصنعن لك رحى يتحدث الناس بها فلما ولي أقبل عمر على الرهط فقال أ لا تسمعون إلى العبد ما أظنه إلا أوعدني آنفا فلبث ليالي ثم اشتمل أبو لؤلؤة على خنجر ذي رأسين نصابه في وسطه فكمن في زاوية من زوايا المسجد في غلس السحر فلم يزل هنالك حتى جاء عمر يوقظ الناس لصلاة الفجر كما كان يفعل فلما دنا منه وثب عليه فطعنه ثلاث طعنات إحداهن تحت السرة قد خرقت الصفاق و هي التي قتلته ثم انحاز إلى أهل المسجد فطعن فيهم من يليه حتى طعن أحد عشر (13/142)
رجلا سوى عمر ثم انتحر بخنجره فقال عمر حين أدركه النزف قولوا لعبد الرحمن بن عوف فليصل بالناس ثم غلبه النزف فأغمي عليه شرح نهج البلاغة ج : 12 ص : 186فأحتمل حتى أدخل بيته ثم صلى عبد الرحمن بالن قال ابن عباس فلم أزل عند عمر و هو مغمى عليه لم يزل في غشية واحدة حتى أسفر فلما أسفر أفاق فنظر في وجوه من حوله و قال أ صلى الناس فقيل نعم فقال لا إسلام لمن ترك الصلاة ثم دعا بوضوء فتوضأ و صلى ثم قال اخرج يا ابن عباس فاسأل من قتلني فجئت حتى فتحت باب الدار فإذا الناس مجتمعون فقلت من طعن أمير المؤمنين قالوا طعنه أبو لؤلؤة غلام المغيرة قال ابن عباس فدخلت فإذا عمر ينظر إلى الباب يستأني خبر ما بعثني له فقلت يا أمير المؤمنين زعم الناس أنه عدو الله أبو لؤلؤة غلام المغيرة بن شعبة و أنه طعن رهطا ثم قتل نفسه فقال الحمد لله الذي لم يجعل قاتلي يحاجني عند الله بسجدة سجدها له قط ما كانت العرب لتقتلني ثم قال أرسلوا إلى طبيب ينظر جرحي فأرسلوا إلى طبيب من العرب فسقاه نبيذا فخرج من الجرح فاشتبه عليهم الدم بالنبيذ ثم دعوا طبيبا آخر فسقاه لبنا فخرج اللبن من الطعنة صلدا أبيض فقال الطبيب اعهد يا أمير المؤمنين عهدك فقال لقد صدقني و لو قال غير ذلك لكذب فبكى عليه القوم حتى أسمعوا من خارج الدار فقال لا تبكوا علينا ألا و من كان باكيا فليخرج (13/143)
فإن النبي ص قال إن الميت ليعذب ببكاء أهله عليه
و روي عن عبد الله بن عمر أنه قال سمعت أبي يقول لقد طعنني أبو لؤلؤة طعنتين و ما أظنه إلا كلبا حتى طعنني الثالثة و روي أن عبد الرحمن بن عوف طرح على أبي لؤلؤة بعد أن طعن الناس خميصه كانت عليه فلما حصل فيها نحر نفسه فاحتز عبد الرحمن رأسه و اجتمع البدريون و أعيان المهاجرين و الأنصار بالباب فقال عمر لابن عباس اخرج إليهم فاسألهم أ عن ملإ منكم شرح نهج البلاغة ج : 12 ص : 187كان هذا الذي أصابني فخرج يسألهم فقال القوم لا و الله و لوددنا أن الله زاد في عمره من أعمارنا. و روى عبد الله بن عمر قال كان أبي يكتب إلى أمراءلجيوش لا تجلبوا إلينا من العلوج أحدا جرت عليه المواسي فلما طعنه أبو لؤلؤة قال من بي قالوا غلام المغيرة قال أ لم أقل لكم لا تجلبوا إلينا من العلوج أحدا فغلبتموني. و روى محمد بن إسماعيل البخاري في صحيحه عن عمرو بن ميمون قال إني لقائم ما بيني و بين عمر إلا عبد الله بن عباس غداة أصيب و كان إذا مر بين الصفين قال استووا حتى إذا لم ير بيننا خللا تقدم فكبر و ربما قرأ سورة يوسف أو النحل في الركعة الأولى أو نحو ذلك في الركعة الثانية حتى يجتمع الناس فما هو إلا أن كبر فسمعته يقول قتلني أو أكلني الكلب و ذلك حين طعنه العلج بسكين ذات طرفين لا يمر على أحد يمينا و لا شمالا إلا طعنه حتى طعن ثلاثة عشر رجلا مات منهم ستة فلما رأى ذلك رجل من المسلمين طرح عليه برنسا فلما ظن العلج أنه مأخوذ نحر نفسه و تناول عمر بيده عبد الرحمن بن عوف فقدمه فمن يلي عمر فقد رأى الذي رأى و أما نواحي المسجد فإنهم لا يدرون غير أنهم فقدوا صوت عمر فهم يقولون سبحان الله فصلى عبد الرحمن صلاة خفيفة فلما انصرفوا قال يا ابن عباس انظر من قتلني فجال ساعة ثم جاء فقال غلام المغيرة قال الصنع قال نعم شرح نهج البلاغة ج : 12 ص : 188قال قاتله الله لقد أمرت به معروفا امد لله الذي لم يجعل منيتي بيد رجل يدعي الإسلام و قد كنت أنت و أبوك (13/144)
تحبان أن يكثر العلوج و كان العباس أكثرهم رقيقا فقال إن شئت فعلنا أي قتلناهم قال كذبت بعد أن تكلموا بلسانكم و صلوا قبلتكم و حجوا حجكم فأحتمل إلى بيته و انطلقنا معه و كان الناس لم تصبهم مصيبة قبل يومئذ فقائل يقول لا بأس عليه و قائل يقول أخاف عليه فأتي بنبيذ فشربه فخرج من جوفه ثم أتي بلبن فشربه فخرج من جوفه فعلموا أنه ميت فدخل الناس يثنون عليه و جاء رجل شاب فقال أبشر يا أمير المؤمنين ببشرى الله لك صحبة برسول الله و قدم في الإسلام ما قد علمت ثم وليت فعدلت ثم الشهادة فقال عمر وددت أن ذلك كله كان كفافا لا على و لا لي فلما أدبر إذا رداؤه يمس الأرض فقال ردوا على الغلام فردوه فقال يا ابن أخي ارفع ثوبك فإنه أبقى لثوبك و أتقى لربك يا عبد الله بن عمر انظر ما علي من دين فحسبوه فوجدوه ستة و ثمانين ألفا أو نحوه فقال إن وفى به مال آل عمر فأده من أموالهم و إلا فسل في بني عدي بن كعب فإن لم تف به أموالهم فسل في قريش و لا تعدهم إلى غيرهم و أد عني هذا المال انطلق إلى عائشة فقل لها يقرأ عليك السلام عمر و لا تقل أمير المؤمنين فإني اليوم لست للمؤمنين أميرا و قل يستأذن عمر بن الخطاب أن يدفن مع صاحبيه فمضى و سلم و استأذن و دخل عليها فوجدها قاعدة تبكي فقال يقرأ عليك عمر السلام و يستأذن أن يدفن مع صاحبيه فقالت كنت أريده لنفسي يعني الموضع و لأوثرنه اليوم على نفسي فلما أقبل قيل هذا عبد الله قد جاء قال ارفعوني فأسندوه إلى رجل منهم قال يا عبد الله ما لديك قال الذي تحب يا أمير المؤمنين قد أذنت قال الحمد لله ما كان شي ء أهم إلي من شرح نهج البلاغة ج : 12 ص : 189ذلك إذا أنا قبضت فاحملني ثم سلم عليها و قل يستأذن عمر بن الخطاب فإن أذنت لي فأدخلوني و إن ردتني فردوني إلى مقابر المسلمين و ادفنوني بين المسلمين و جاءت ابنته حفصة و النساء معها قال فلما رأيناها قمنا فولجت عليه فبكت عنده ساعو استأذن الرجال فولجت بيتا (13/145)
داخلا لهم فسمعنا بكاءها من البيت الداخل فقال أوص يا أمير المؤمنين و استخلف فقال ما أجد أحق بهذا الأمر من هؤلاء النفر أو قال الرهط الذين توفي رسول الله ص و هو عنهم راض فسمى عليا و عثمان و الزبير و طلحة و سعدا و عبد الرحمن و قال يشهدكم عبد الله بن عمر و ليس له من الأمر شي ء كهيئة التعزية له فإن أصابت الإمارة سعدا فهو أهل لذلك و إلا فليستعن به أيكم أمر فإني لم أعزله عن عجز و لا عن خيانة ثم قال أوصي الخليفة من بعدي بالمهاجرين الأولين أن يعرف لهم حقهم و يحفظ لهم حرمتهم و أوصيه بالأنصا خيرا الذين تبوءوا الدار و الإيمان من قبلهم أن يقبل من محسنهم و أن يعفو عن مسيئهم و أوصيه بأهل الأمصار خيرا فإنهم ردء الإسلام و جباة الأموال و غيظ العدو ألا يأخذ منهم إلا فضلهم عن رضاهم و أوصيه بالأعراب خيرا فإنهم أصل العرب و مادة الإسلام أن يؤخذ من حواشي أموالهم و يرد على فقرائهم و أوصيه بذمة الله و ذمة رسوله أن يوفي لهم بعهدهم و أن يقاتل من وراءهم و ألا يكلفوا إلا طاقتهم. قال فلما قبض خرجنا به فانطلقنا نمشي فسلم عبد الله بن عمر و قال يستأذن عمر بن الخطاب فقالت أدخلوه فأدخل فوضع هنالك مع صاحبيه. شرح نهج بلاغة ج : 12 ص : 190و قال ابن عباس أنا أول من أتى عمر حين طعن فقال احفظ عني ثلاثا فإني أخاف ألا يدركني الناس أما أنا فلم أقض في الكلالة و لم أستخلف على الناس و كل مملوك لي عتيق فقلت له أبشر بالجنة صاحبت رسول الله ص فأطلت صحبته و وليت أمر المسلمين فقويت عليه و أديت الأمانة قال أما تبشيرك لي بالجنة فو الله الذي لا إله إلا هو لو أن لي الدنيا بما فيها لافتديت به من هول ما أمامي قبل أن أعلم ما الخبر و أما ما ذكرت من أمر المسلمين فلوددت أن ذلك كان كفافا لا علي و لا لي و أما ما ذكرت من صحبة رسول الله ص فهو ذلك و روى معمر عن الزهري عن سالم عن عبد الله قال دخلت على أبي فقلت سمعت الناس يقولون مقالة و آليت أن (13/146)
أقولها لك زعموا أنك غير مستخلف و أنه لو كان لك راعي إبل أو غنم ثم جاءك و تركها رأيت أنه قد ضيع فرعاية الناس أشد فوضع رأسه ثم رفعه فقال إن الله تعالى يحفظ دينه إن لم أستخلف فإن رسول الله ص لم يستخلف و إن استخلفت فإن أبا بكر قد استخلف فو الله ما هو إلا أن ذكر رسول الله و أبا بكر فعلمت أنه لم يكن يعدل برسول الله ص أحدا و أنه غير مستخلف. و روي أنه قال و قد أذنت له عائشة في أن يدفن في بيتها إذا مت فاستأذنوها مرة ثانية فإن أذنت و إلا فاتركوها فإني أخشى أن تكون أذنت لي لسلطاني فاستأذنوها بعد موته فأذنت. (13/147)
شرح نهج البلاغة ج : 12 ص : 191و روى عمر بن ميمون قال لما طعن عمر دخل عليه كعب الأحبار فقال الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ قد أنبأتك أنك شهيد فقال من أين لي بالشهادة و أنا بجزيرة العرب. و روى ابن عباس قال لما طعن عمر و جئته بخبأبي لؤلؤة أتيته و البيت ملآن فكرهت أن أتخطى رقابهم و كنت حديث السن فجلست و هو مسجى و جاء كعب الأحبار و قال لئن دعا أمير المؤمنين ليبقيه الله لهذه الأمة حتى يفعل فيها كذا و كذا حتى ذكر المنافقين فيمن ذكر فقلت أبلغه ما تقول قال ما قلت إلا و أنا أريد أن تبلغه فتشجعت و قمت فتخطيت رقابهم حتى جلست عند رأسه و قلت إنك أرسلتني بكذا إن عبد المغيرة قتلك و أصاب معك ثلاثة عشر إنسانا و إن كعبا هاهنا و هو يحلف بكذا فقال أدعو إلي كعبا فدعي فقال ما تقول قال أقول كذا قال لا و الله لا أدعو و لكن شقي عمر إن لم يغفر الله له. و روى المسور بن مخرمة إن عمر لما طعن أغمي عليه طويلا فقيل إنكم لم توقظوه بشي ء مثل الصلاة إن كانت به حياة فقالوا الصلاة يا أمير المؤمنين الصلاة قد صليت فانتبه فقال الصلاة لاها الله لا أتركها لا حظ في الإسلام لمن ترك الصلاة فصلى و إن جرحه لينثعب دما. و روى امسور بن مخرمة أيضا قال لما طعن عمر جعل يألم و يجزع فقال ابن عباس و لا و كل ذلك يا أمير المؤمنين لقد صحبت رسول الله ص فأحسنت صحبته ثم فارقته و هو عنك راض و صحبت أبا بكر و أحسنت صحبته و فارقك و هو عنك راض ثم صحبت المسلمين فأحسنت إليهم و فارقتهم و هم عنك راضون شرح نهج البلاغة ج : 12 ص : 192قال أما ما ذكرت من صحبة رسول الله ص و أبي بكر فذلك مما من الله به علي و أما ما ترى من جزعي فو الله لو أن لي بما في الأرض ذهبا لافتديت به من عذاب الله قبل أن أراه و في رواية لافتديت به من هول المطلع و في رواية المغرور من غرموه لو أن لي ما على ظهرها من صفراء و بيضاء لافتديت به من هول المطلع (13/148)
و في رواية في الإمارة على تثني يا ابن عباس قلت و في غيرها قال و الذي نفسي بيده لوددت أني خرجت منها كما دخلت فيها لا حرج و لا وزر و في رواية لو كان لي ما طلعت عليه الشمس لافتديت به من كرب ساعة يعني الموت كيف و لم أرد الناس بعد و في رواية لو أن لي الدنيا و ما فيها لافتديت به من هول ما أمامي قبل أن أعلم ما الخبر. قال ابن عباس فسمعنا صوت أم كلثوم وا عمراه و كان معها نسوة يبكين فارتج البيت بكاء فقال عمر ويلم عمر إن الله لم يغفر له فقلت و الله إني لأرجو إلا تراها إلا مقدار ما قال الله تعالى وَ إِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها إن كنت ما علمنا لأمير المؤمنين و سيد المسلمين تقضي بالكتاب و تقسم بالسوية. فأعجبه قولي فاستوى جالسا فقال أ تشهد لي بهذا يا ابن عباس فكععت أي جبنت فضرب علي ع بين كتفي و قال اشهد و في رواية لم تجزع يا أمير المؤمنين فو الله لقد كان إسلامك عزا و إمارتك فتحا و لقد ملأت الأرض عدلا فقال أ تشهد لي بذلك يا ابن عباس قال فكأنه كره الشهادة فتوقف فقال له علي ع قل نعم و أنا معك فقال نعم. و في رواية أنه قال مسست جلده و هو ملقى فقلت جلد لا تمسه النار أبدا فنظر إلي نظرة جعلت أرثي له منها قال و ما علمك بذلك قلت صحبت رسول الله ص فأحسنت صحبته الحديث فقال لو أن لي ما في الأرض لافتديت (13/149)
شرح نهج البلاغة ج : 12 ص : 193به من عذاب الله قبل أن ألقاه أو أراه. و في رواية قال فأنكرنا الصوت و إذا عبد الرحمن بن عوف و قيل طعن أمير المؤمنين فانصرف الناس و هو في دمه مسجى لم يصل الفجر بعد فقيل يا أمير المؤمنين الصلاة فرفع رأسه و قال لاها الله إذن لاظ لامرئ في الإسلام ضيع صلاته ثم وثب ليقوم فانثعب جرحه دما فقال هاتوا لي عمامة فعصب بها جرحه ثم صلى و ذكر ثم التفت إلى ابنه عبد الله و قال ضع خدي إلى الأرض يا عبد الله قال عبد الله فلم أعج بها و ظننت أنها اختلاس من عقله فقالها مرة أخرى ضع خدي إلى الأرض يا بني فلم أفعل فقال الثالثة ضع خدي إلى الأرض لا أم لك فعرفت أنه مجتمع العقل و لم يمنعه أن يضعه هو إلا ما به من الغلبة فوضعت خده إلى الأرض حتى نظرت إلى أطراف شعر لحيته خارجة من أضعاف التراب و بكى حتى نظرت إلى الطين قد لصق بعينه فأصغيت أذني لأسمع ما يقول فسمعته يقول يا ويل عمر و ويل أم عمر إن لم يتجاوز الله عنه و (13/150)
قد جاء في رواية أن عليا ع جاء حتى وقف عليه فقال ما أحد أحب إلي أن ألقى الله بصحيفته من هذا المسجى
و روي عن حفصة أم المؤمنين قالت سمعت أبي يقول في دعائه اللهم قتلا في سبيلك و وفاة في بلد نبيك قلت و أنى يكون هذا قال يأتي به الله إذا شاء و يروى أن كعبا كان يقول له نجدك في كتبنا تموت شهيدا فيقول كيف لي بالشهادة و أنا في جزيرة العرب. و روى المقدام بن معديكرب قال لما أصيب عمر دخلت عليه حفصة ابنته فنادت يا صاحب رسول الله و يا صهر رسول الله و يا أمير المؤمنين فقال لابنه عبد الله أجلسني فلا صبر لي على ما أسمع فأسنده إلى صدره فقال لها إني أحرج عليك شرح نهج البلاغة ج : 12 ص : 194بما لي عليك من الحق أن تندبيني بعمجلسك هذا فأما عينك فلن أملكها إنه ليس من ميت يندب عليه بما ليس فيه إلا الملائكة تمقته. و روى الأحنف قال سمعت عمر يقول إن قريشا رءوس الناس ليس أحد منهم يدخل من باب إلا دخل معه طائفة من الناس فلما أصيب عمر أمر صهيبا أن يصلي بالناس ثلاثة أيام و يطعمهم حتى يجتمعوا على رجل فلما وضعت الموائد كف الناس عن الطعام فقال العباس بن عبد المطلب أيها الناس إن رسول الله ص مات فأكلنا بعده و مات أبو بكر فأكلنا بعده و أنه لا بد للناس من الأكل ثم مد يده فأكل من الطعام فعرفت قول عمر. و يروي كثير من الناس الشعر المذكور في الحماسة و يزعم أن هاتفا من الجن هتف به و هو (13/151)
جزيت عن الإسلام خيرا و باركت يد الله في ذاك الأديم الممزق فمن يسع أو يركب جناحي نعامة ليدرك ما قدمت بالأمس يسبق قضيت أمورا ثم غادرت بعدها بوائق في أكمامها لم تفتق أ بعد قتيل بالمدينة أظلمت له الأرض تهتز العضاه بأسؤق و ما كنت أخشى أن تكون وفاته بكفي سبنزرق العين مطرق تظل الحصان البكر يلقي جنينها نثا خبر فوق المطي معلقو الأكثرون يروونها لمزرد أخي الشماخ و منهم من يرويها للشماخ نفسه
شرح نهج البلاغة ج : 12 ص : 195فصل في ذكر ما طعن به على عمر و الجواب عنهو نذكر في هذا الموضع ما طعن به على عمر في المغني من المطاعن و ما اعترض به الشريف المرتضى على قاضى القضاة و ما أجاب به قاضى القضاة في كتابه المعروف بالشافي و نذكر ما عندنا في البعض من ذلك (13/152)
الطعن الأول
قال قاضى القضاة أول ما طعن به عليه قول من قال إنه بلغ من قلة علمه أنه لم يعلم أن الموت يجوز على النبي ص و أنه أسوة الأنبياء في ذلك حتى قال و الله ما مات محمد و لا يموت حتى تقطع أيدي رجال و أرجلهم فلما تلا عليه أبو بكر قوله تعالى إِنَّكَ مَيِّتٌ وَ إِنَّهُمْ مَيِّتُونَ و قوله وَ ما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَ فَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ الآية قال أيقنت بوفاته و كأني لم أسمع هذه الآية فلو كان يحفظ القرآن أو يفكر فيه لما قال ذلك و هذا يدل على بعده من حفظ القرآن و تلاوته و من هذا حاله لا يجوز أن يكون إماما. قال قاضى القضاة و هذا لا يصح لأنه قد روي عنه أنه قال كيف يموت و قد قال الله تعالى لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ و قال وَ لَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً و لذلك نفى موته ع لأنه حمل الآية على أنها خبر عنه في حال حياته شرح نهج البلاغة ج : 12 ص : 196حتى قال له أبو بكر إن الله وعده بذلك و سيفعله و تلا عليه ما تلا فأيقن عند ذلك بموته و إنما ظن أن موته يتأخر عن ذلك الوقت لا أنه منع من موته. ثم سأل قاضى القضاة نفسه فقال فإن قيل ف قال لأبي بكر عند قراءة الآية كأني لم أسمعها و وصف نفسه بأنه أيقن بالوفاة. و أجاب بأن قال لما كان الوجه في ظنه ما أزال أبو بكر الشبهة فيه جاز أن يتيقن ثم سأل نفسه عن سبب يقينه فيما لا يعلم إلا بالمشاهدة. و أجاب بأن قرينة الحال عند سماع الخبر أفادته اليقين و لو لم يكن في ذلك إلا خبر أبي بكر و ادعاؤه لذلك
و الناس مجتمعون لحصل اليقين. و قوله كأني لم أقرأ هذه الآية أو لم أسمعها تنبيه على ذهوله عن الاستدلال بها لا أنه على الحقيقة لم يقرأها و لم يسمعها و لا يجب فيمن ذهب عن بعض أحكام الكتاب ألا يعرف القرآن لأن ذلك لو دل لوجب ألا يحفظ القرآن إلا من يعرف جميع أحكامه ثم ذكر أن حفظ القرآن كله غير واجب و لا يقدح الإخلال به في الفضل. و حكي عن الشيخ أبي علي أن أمير المؤمنين ع لم يحط علمه بجميع الأحكام و لم يمنع ذلك من فضله و استدل بما روي من قوله كنت إذا سمعت من رسول الله ص حديثا نفعني الله به ما شاء أن ينفعني و إذا حدثني غيره أحلفته فإن حلف لي صدقته و حدثني أبو بكر و صدق أبو بكر و ذكر أنه لم يعرف أي موضع يدفن فيه رسول الله ص حتى رجع إلى ما رواه أبو بكر و ذكر قصة الزبير في موالي صفية و أن أمير المؤمنين ع أراد أن يأخذ ميراثهم كما أن عليه أن يحمل عقلهم حتى أخبره عمر بخلاف ذلك من أن الميراث للأب و العقل على العصبة. (13/153)
شرح نهج البلاغة ج : 12 ص : 197ثم سأل نفسه فقال كيف يجوز ما ذكرتم على أمير المؤمنين ع مع قوله سلوني قبل أن تفقدوني و قوله إن هاهنا علما جما يومئ إلى قلبه و قوله لو ثنيت لي الوسادة لحكمت بين أهل التوراة بتوراتهم و بين أهل الإنجيل بإنجيلهم و بين أهل الزبورزبورهم و بين أهل القرآن بقرآنهم و قوله كنت إذا سئلت أجبت و إذا سكت ابتدئت. و أجاب عن ذلك بأن هذا إنما يدل على عظم المحل في العلم من غير أن يدل على الإحاطة بالجميع. و حكي عن أبي علي استبعاده ما روي من قوله لو ثنيت الوسادة قال لأنه لا يجوز أن يصف نفسه بأنه يحكم بما لا يجوز و معلوم أنه ع لا يحكم بين الجميع إلا بالقرآن ثنيت له الوسادة أو لم تثن و هذا يدل على أن الخبر موضوع. فاعترض الشريف المرتضى فقال ليس يخلو خلاف عمر في وفاة رسول الله ص من أن يكون على سبيل الإنكار لموته على كل حال و الاعتقاد بأن الموت لا يجوز عليه على كل وجه أو يكون منكرا لموته في تلك الحال من حيث لم يظهر دينه على الدين كله و ما أشبه ذلك مما قال صاحب الكتاب أنها كانت شبهة في تأخر موته عن تلك الحال. فإن كان الوجه الأول فهو مما لا يجوز خلاف العقلاء في مثله و العلم بجواز الموت على سائر البشر لا يشك فيه عاقل و العلم من دينه ع بأنه سيموت كما مات من قبله ضروري و ليس يحتاج في مثل هذا إلى الآيات التي تلاها أبو بكر من قوله تعالى إِنَّكَ مَيِّتٌ وَ إِنَّهُمْ مَيِّتُونَ و ما أشبهها و إن كان خلافه على الوجه الثاني تأول ما فيه أن هذا الخلاف لا يليق بما احتج به أبو بكر من قوله تعالى إِنَّكَ مَيِّتٌ وَ إِنَّهُمْ مَيِّتُونَ لأنه لم ينكر على هذا جواز الموت و إنما خالف في تقدمه و قد كان يجب أن يقول له و أي حجة في هذه الآيات على شرح نهج البلاغة ج : 12 ص : 198من جوز عليه ص الموت في المستقبل و أنكره في هذه الحال و د فكيف دخلت الشبهة البعيدة على عمر من بين سائر الخلق و من أين زعم (13/154)
أنه لا يموت حتى يقطع أيدي رجال و أرجلهم و كيف حمل معنى قوله تعالى لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ و قوله وَ لَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً على أن ذلك لا يكون في المستقبل بعد الوفاة و كيف لم يخطر هذا إلا لعمر وحده و معلوم أن ضعف الشبهة إنما يكون من ضعف الفكرة و قلة التأمل و البصيرة و كيف لم يوقن بموته لما رأى ما عليه أهل الإسلام من اعتقاد موته و ما ركبهم من الحزن و الكآبة لفقده و هلا دفع بهذا اليقين ذلك التأويل البعيد فلم يحتج إلى موقف و معرف و قد كان يجب إن كانت هذه شبهة أن يقول في حال مرض رسول الله ص و قد رأى جزع أهله و أصحابه و خوفهم عليه من الوفاة حتى يقول أسامة بن زيد معتذرا من تباطئه عن الخروج في الجيش الذي كان رسول الله ص يكرر و يردد الأمر حينئذ بتنفيذه لم أكن لأسأل عنك الركب ما هذا الجزع و الهلع و قد أمنكم الله من موته بكذا في وجه كذا و ليس هذا من أحكام الكتاب التي يعذر من لا يعرفها على ما ظنه صاحب الكتاب. قلت الذي قرأناه و رويناه من كتب التواريخ يدل على أن عمر أنكر موت رسول الله ص من الوجهين المذكورين أنكر أولا أن يموت إلى يوم القيامة و اعتقد عمر أنه يعمر كما يعتقد كثير من الناس في الخضر فلما حاجه أبو بكر بقوله تعالى إِنَّكَ مَيِّتٌ وَ إِنَّهُمْ مَيِّتُونَ و بقوله أَ فَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ رجع عن ذلك الاعتقاد. و ليس يرد على هذا ما اعترض به المرتضى لأن عمر ما كان يعتقد استحالة الموت عليه كاستحالة الموت على البارئ تعالى أعني الاستحالة الذاتية بل اعتقد استمرار حياته إلى يوم (13/155)
شرح نهج البلاغة ج : 12 ص : 199القيامة مع كون الموت جائزا في العقل عليه و لا تناقض في ذلك فإن إبليس يبقى حيا إلى يوم القيامة مع كون موته جائزا في العقل و ما أورده أبو بكر عليه لازم على أن يكون نفيه للموت على هذا أوجه. و أما الوجه الثاني فهو أنه لما دفعه و بكر عن ذلك الاعتقاد وقف مع شبهة أخرى اقتضت عنده أن موته يتأخر و إن لم يكن إلى يوم القيامة و ذلك أنه تأول قوله تعالى هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَ دِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ فجعل الضمير عائدا على الرسول لا على الدين و قال إن رسول الله ص لم يظهر بعد على سائر الأديان فوجب أن تستمر حياته إلى أن يظهر على الأديان بمقتضى الوعد الذي لا يجوز عليه الخلف و الكذب فحاجه أبو بكر من هذا المقام فقال له إنما أراد ليظهر دينه و سيظهره فيما بعد و لم يقل ليظهره الآن فمن ثم قال له و لو أراد ليظهر الرسول ص على الدين كله لكان الجواب واحدا لأنه إذا ظهر دينه فقد أظهره هو. فأما قول المرتضى رحمه الله و كيف دخلت هذه الشبهة على عمر من بين الخلق فهكذا تكون الخراطر و الشبه و الاعتقادات تسبق إلى ذهن واحد دون غيره و كيف دخلت الشبهة على جماعة منعوا الزكاة و احتجوا بقوله تعالى وَ صَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ دون غيرهم من قبائل العرب و كيف دخلت الشبهة على أصحاب الجمل و صفين دون غيرهم و كيف دخلت الشبهة على خوارج النهروان دون غيرهم و هذا باب واسع فأما قوله و من أين زعم أنه لا يموت حتى تقطع أيدي رجال و أرجلهم فإن الذي (13/156)
شرح نهج البلاغة ج : 12 ص : 200ذكره المؤرخون أنه قال ما مات رسول الله ص و إنما غاب عنا كما غاب موسى عن قومه و سيعود فتقطع أيدي رجال و أرجلهم ممن أرجف بموته و هذه الرواية تخالف ما ذكره المرتضى. فأما قوله و كيف حمل معنى قوله لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ و قوله وَ لَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً على أن ذلك لا يكون في المستقبل فقد بينا الشبهة الداخلة عليه في ذلك و كونه ظن أن ذلك يكون معجلا على الفور و كذلك قوله وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ... وَ لَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً فإنه ظن أن هذا العموم يدخل فيه رسول الله ص لأنه سيد المؤمنين و سيد الصالحين أو أنه لفظ عام و المراد به رسول الله وحده كما ورد في كثير من آيات القرآن مثل ذلك فظن أن هذا الاستخلاف في جميع الأرض و تبديل الخوف بالأمن إنما هو على الفور لا على التراخي و ليست هذه الشبهة بضعيفة جدا كما ظن المرتضى بل هي موضع نظر. فأما قوله كيف لم يؤمن بموته لما رأى من كآبة الناس و حزنهم فلأن الناس يبنون الأمر على الظاهر و عمر نظر في أمر باطن دقيق فاعتقد أن الرسول لم يمت و إنما ألقي شبهه على غيره كما ألقي شبه عيسى على غيره فصلب و عيسى قد رفع و لم يصلب و اعلم أن أول من سن لأهل الغيبة من الشيعة القول بأن الإمام لم يمت و لم يقتل و إن كان في الظاهر و في مرأى العين قد قتل أو مات إنما هو عمر و لقد كان يجب على المرتضى و طائفته أن يشكروه على ما أسس لهم من هذا الاعتقاد. (13/157)
شرح نهج البلاغة ج : 12 ص : 201فأما قوله فهلا قال في مرض رسول الله ص لما رأى جزعهم لموته قد أمنكم الله من موته فغير لازم لأن الشبهة لا تجب أن تخطر بالبال في كل الأوقات فلعله قد كان في ذلك الوقت غافلا عنها مشغول الذهن بغيرها و لو صح للمرتضى هذا لوجب أن يدفع و يبطل كل ما يتجدد و يطرأ على الناس من الشبهة في المذاهب و الآراء فنقول كيف طرأت عليهم هذه الشبهات الآن و لم تطرأ عليهم من قبل و هذا من اعتراضات المرتضى الضعيفة على أنا قد ذكرنا نحن في الجزء الأول من هذا الكتاب ما قصده عمر بقوله إن رسول الله لم يمت و قلنا فيه قولا شافيا لم نسبق إليه فليعاود ثم قال المرتضى فأما ما روي عن أمير المؤمنين ع من خبر الاستحلاف في الأخبار فلا يدل على عدم علم أمير المؤمنين بالحكم لأنه يجوز أن يكون استحلافه ليرهب المخبر و يخوفه من الكذب على النبي ص لأن العلم بصحة الحكم الذي يتضمنه الخبر لا يقتضي صدق المخبر و أيضا فلا تاريخ لهذا الحديث و يمكن أن يكون استحلافه ع للرواة إنما كان في حياة رسول الله ص و في تلك الحال لم يكن محيطا بجميع الأحكام. فأما حديث الدفن و إدخاله في باب أحكام الدين التي يجب معرفتها فطريف و قد يجوز أن يكون أمير المؤمنين ع سمع من النبي ص في باب الدفن مثل ما سمعه أبو بكر و كان عازما على العمل به حتى روى أبو بكر ما رواه فعمل بما كان يعلمه لا من طريق أبي بكر و ظن الناس أن العمل لأجله و يجوز أن يكون رسول الله ص خير وصيه ع في موضع دفنه و لم يعين له موضعا بعينه فلما روى أبو بكر ما رواه رأى موافقته فليس في هذا دلالة على أنه ع استفاد حكما لم يكن عنده. شرح نهج البلاغة ج : 12 ص : 202و أما موالي صفية فحكم الله فيهم ما أفتى به أمير المؤمنين ع و ليس سكوته حيث سكت عند عمر رجوعا عما أفتى به و لكنه كسكوته عن كثير من الحق تقية و مداراة للقوم. و أما قوله ع سلوني قبل أن تفقدوني و قوله إن هاهنا لعلما جما (13/158)
إلى غير ذلك فإنه لا يدل على عظم المحل في العلم فقط على ما ظنه صاحب الكتاب بل هو قول واثق بنفسه آمن من أن يسأل عما لا يعلمه و كيف يجوز أن يقول مثله على رءوس الأشهاد و ظهور المنابر سلوني قبل أن تفقدوني و هو يعلم أن كثيرا من أحكام الدين يعزب عنه و أين كان أعداؤه و المنتهزون لفرصته و زلته عن سؤاله عن مشكل المسائل و غوامض الأحكام و الأمر في هذا ظاهر. فأما استبعاد أبي علي لما روي عنه ع من قوله لو ثنيت لي الوسادة للوجه الذي ظنه فهو البعيد فإنه لم يفطن لغرضه ع و إنما أراد أني كنت أقاضيهم إلى كتبهم الدالة على البشارة بنبينا ص و صحة شرعه فأكون حاكما حينئذ عليهم بما تقتضيه كتبهم من هذه الشريعة و أحكام هذا القرآن و هذا من جليل الأغراض و عظيمها (13/159)
الطعن الثاني
أنه أمر برجم حامل حتى نبهه معاذ و قال إن يكن لك عليها سبيل فلا سبيل لك على ما في بطنها فرجع عن حكمه و قال لو لا معاذ لهلك عمر و من يجهل هذا القدر لا يجوز أن يكون إماما لأنه يجري مجرى أصول الشرع بل العقل يدل عليه لأن الرجم عقوبة و لا يجوز أن يعاقب من لا يستحق. شرح نهج البلاغة ج : 12 ص : 203اعتذر قاضي القضاة عن هذا فقال إنه ليس في الخبر أنه أمر برجمها مع علمه بأنها حامل لأنه ليس ممن يخفى عليه هذا القدر و هو أن الحامل لا ترجم حتى تضع و إنما ثبت عنده زناها فأمر برجمها على الظاهر و إنما قال ما قال في معاذ لأنه نبهه على أنها حامل. ثم سأل نفسه فقال فإن قيل إذا لم تكن منه معصية فكيف يهلك لو لا معاذ و أجاب بأنه لم يرد لهلك من جهة العذاب و إنما أراد أنه كان يجري بقوله قتل من لا يستحق القتل و يجوز أن يريد بذلك تقصيره في تعرف حالها لأن ذلك لا يمتنع أن يكون بخطيئة و إن صغرت. اعترض المرتضى على هذا الاعتذار فقال لو كان الأمر على ما ظننته لم يكن تنبيه معاذ له على هذا الوجه بل كان يجب أن ينبهه بأن يقول له هي حامل و لا يقول له إن كان لك سبيل عليها فلا سبيل لك على ما في بطنها لأن هذا قول من عنده أنه أمر برجمها مع العلم بحملها و أقل ما يجب لو كان الأمر كما ظنه صاحب الكتاب أن يقول لمعاذ ما ذهب علي أن الحامل لا ترجم و إنما أمرت برجمها لفقد علمي بحملها فكان ينفي بهذا القول عن نفسه الشبهة و في إمساكه عنه مع شدة الحاجة إليه دليل على صحة قولنا و قد كان يجب أيضا أن يسأل عن الحمل لأنه أحد الموانع من الرجم فإذا علم انتفاءه و ارتفاعه أمر بالرجم و صاحب الكتاب قد اعترف بأن ترك المسألة عن ذلك تقصير و خطيئة و ادعى أنها صغيرة و من أين له ذلك و لا دليل يدل عنده في غير الأنبياء ع أن معصية بعينها صغيرة. فأما إقراره بالهلاك لو لا تنبيه معاذ فإنه يقتضي التعظيم و التفخيم لشأن الفعل و لا يليق ذلك إلا بالتقصير (13/160)
الواقع إما في الأمر برجمها مع العلم بأنها حامل أو ترك البحث عن ذلك شرح نهج البلاغة ج : 12 ص : 204و المسألة عنه و أي لوم عليه في أن يجري بقوله قتل من لا يستحق القتل إذا لم يكن ذلك عن تفريط منه و لا تقصير. قلت أما ظاهر لفظ معاذ فيشعر بما قاله المرتضى و لم يمتنع أن يكون عمر لم يعلم أنها حامل و أن معاذا قد كان من الأدب أن يقول له حامل يا أمير المؤمنين فعدل عن هذا اللفظ بمقتضى أخلاق العرب و خشونتهم فقال له إن كان لك عليها سبيل فلا سبيل لك على ما في بطنها فنبهه على العلة و الحكم معا و كان الأدب أن ينبهه على العلة فقط. و أما عدول عمر عن أن يقول أنا أعلم أن الحامل لا ترجم و إنما أمرت برجمها لأني لم أعلم أنها حامل فلأنه إنما يجب أن يقول مثل هذا من يخاف من اضطراب حاله أو نقصان ناموسه و قاعدته أن لم يقله و عمر كان أثبت قدما في ولايته و أشد تمكنا من أن يحتاج إلى الاعتذار بمثل هذا. و أما قول المرتضى كان يجب أن يسأل عن الحمل لأنه أحد الموانع من الرجم فكلام صحيح لازم و لا ريب إن ترك السؤال عن ذلك نوع من الخطإ و لكن المرتضى قد ظلم قاضي القضاة لأنه زعم أنه ادعى أن ذلك صغيرة ثم أنكر عليه ذلك و من أين له ذلك و أي دليل دل على أن هذه المعصية صغيرة و قاضي القضاة ما ادعى أن ذلك صغيرة بل قال لا يمتنع أن يكون ذلك خطيئة و إن صغرت و العجب أنه حكى لفظ قاضي القضاة بهذه الصورة ثم قال إنه ادعى أنها صغيرة و بين قول القائل لا يمتنع أن يكون صغيرة و قوله هي صغيرة لا محالة فرق عظيم. و أما قول عمر لو لا معاذ لهلك عمر فإن ظاهر اللفظ يشعر بما يريده المرتضى و ينحو إليه و لا يمتنع أن يكون المقصود به ما ذكره قاضي القضاة و إن كان مرجوحا فإن القائل خطأ (13/161)
شرح نهج البلاغة ج : 12 ص : 205قد يقول هلكت ليس يعني به العقاب يوم القيامة بل لوم الناس و تعنيفهم إياه على ترك الاحتراس و إهمال التثبت
الطعن الثالث
خبر المجنونة التي أمر برجمها فنبهه أمير المؤمنين ع و (13/162)
قال إن القلم مرفوع عن المجنون حتى يفيق
فقال لو لا علي لهلك عمر و هذا يدل على أنه لم يكن يعرف الظاهر من الشريعة. أجاب قاضي القضاة فقال ليس في الخبر أنه عرف جنونها فيجوز أن يكون الذي نبه عليه هو جنونها دون الحكم لأنه كان يعلم أن الحد لا يقام في حال الجنون و إنما قال لو لا علي لهلك عمر لا من جهة المعصية و الإثم لكن لأن حكمه لو نفذ لعظم غمه و يقال في شدة الغم إنه هلاك كما يقال في الفقر و غيره و ذلك مبالغة منه لما كان يلحقه من الغم الذي زال بهذا التنبيه على أن هذا الوجه مما لا يمتنع في الشرع أن يكون صحيحا و أن يقال إذا كانت مستحقة للحد فإقامته عليها تصح و إن لم يكن لها عقل لأنه لا يخرج الحد من أن يكون واقعا موقعه و يكون قوله ع رفع القلم عن ثلاث يراد به زوال التكليف عنهم دون زوال إجراء الحكم عليهم و من هذه حاله لا يمتنع أن يكون مشتبها فرجع فيه إلى غيره و لا يكون الخطأ فيه مما يعظم فيمنع من صحة الإمامة. اعترض الشريف المرتضى هذا فقال لو كان أمر برجم المجنونة من غير علم بجنونها لما قال له أمير المؤمنين أ ما علمت أن القلم مرفوع عن المجنون حتى يفيق بل كان يقول له بدلا من ذلك هي مجنونة و كان ينبغي أن يقول عمر متبرئا من الشبهة ما علمت بجنونها و لست ممن يذهب عليه أن المجنون لا يرجم فلما رأيناه استعظم ما أمر به و قال لو لا شرح نهج البلاغة ج : 12 ص : 206علي لهلك عمر دلنا على أنه كان تأثم و تحرج بوقوع الأمر بالرجم و أنه مما لا يجوز و لا يحل و إلا فلا معنى لهذا الكلام و أما ذكر الغم فأي غم كان يلحقه إذا فعل ما له أن يفعله و لم يكن منه تفريط و لا تقصير لأنه إذا كان جنونها لم يعلم به فكانت المسألة عن حالها و البحث لا يجبان عليه فأي وجه لتألمه و توجعه و استعظامه لما فعله و هل هذا إلا كرجم المشهود عليه بالزناء في أنه لو ظهر للإمام بعد ذلك
براءة ساحته لم يجب أن يندم على فعله و يستعظمه لأنه وقع صوابا مستحقا. و أما قوله إنه كان لا يمتنع في الشرع أن يقام الحد على المجنون و تأوله الخبر المروي على أنه يقتضي زوال التكليف دون الأحكام فإن أراد أنه لا يمتنع في العقل أن يقام على المجنون ما هو من جنس الحد بغير استخفاف و لا إهانة فذلك صحيح كما يقام على التائب و أما الحد في الحقيقة و هو الذي تضمنه الاستخفاف و الإهانة فلا يجوز إلا على المكلفين و مستحقي العقاب و بالجنون قد أزيل التكليف فزال استحقاق العقاب الذي تبعه الحد. و قوله لا يمتنع أن يرجع فيما هذه حاله من المشتبه إلى غيره فليس هذا من المشتبه الغامض بل يجب أن يعرفه العوام فضلا عن العلماء على أنا قد بينا أنه لا يجوز أن يرجع الإمام في جلي و لا مشتبه من أحكام الدين إلى غيره. و قوله إن الخطأ في ذلك لا يعظم فيمنع من صحة الإمامة اقتراح بغير حجة لأنه إذا اعترف بالخطإ فلا سبيل للقطع على أنه صغير. قلت لو كان قد نقل أن أمير المؤمنين قال له أ ما علمت لكان قول المرتضى قويا ظاهرا إلا أنه لم ينقل هذه الصيغة بعينها و المعروف المنقول أنه قال له قال رسول الله ص رفع القلم عن ثلاث فرجع عن رجمها و يجوز أن يكون أشعره بالعلة (13/163)
شرح نهج البلاغة ج : 12 ص : 207و الحكم معا لأن هذا الموضع أكثر اشتباها من حديث رجم الحامل فغلب على ظن أمير المؤمنين أنه لو اقتصر على قوله أنها مجنونة لم يكن ذلك دافعا لرجمها فأكده برواية الحديث و اعتذار قاضي القضاة بالغم جيد و قول المرتضى أي غم كان يلحقه إذا فعل ما له أن يفعله ليس بإنصاف و لا مثل هذا يقال فيه أنه فعل ما له أن يفعله و لا يقال في العرف لمن قتل إنسانا خطأ أنه فعل ما له أن يفعله و المرجوم في الزناء إذا ظهر للإمام بعد قتله براءة ساحته قد يغتم بقتله غما كثيرا بالطبع البشرى و يتألم و إن لم يكن آثما و ليس من توابع الإثم و لوازمه. و قول المرتضى لم يجب أن يندم على ما فعله كلام خارج عما هو بصدده لأنه لم يجر ذكر للندم و إنما الكلام في الغم و لا يلزم أن يكون كل مغتم نادما. و أما اعتراضه على قاضي القضاة في قوله لا يمتنع في الشرع أن ترجم المجنونة فلما اشتبه على عمر الأمر سأل غيره عنه بقوله إن أردت الحد الحقيقي فمعلوم و إن أردت ما هو جنس الحد فمسلم فليس بجيد لأن هذا إنما يكون طعنا على عمر بتقدير ثلاثة أمور أحدها أن يكون (13/164)
النبي ص قد قال أقيموا الحد على الزاني
بهذا اللفظ أعني أن يكون في لفظ النص ذكر الحد و ثانيها أن يكون الحد في اللغة العربية أو في عرف الشرع الذي يتفاهمه الصحابة هو العقوبة المخصوصة التي يقارنها الاستخفاف و الإهانة و ثالثها ألا يصح إهانة المجنون و الاستخفاف به و أن يعلم عمر ذلك فإذا اجتمعت هذه الأمور الثلاثة ثم أمر عمر بأن يقام الحد على المجنونة فقد توجه الطعن و معلوم أنه لم تجتمع هذه الأمور الثلاثة فإنه ليس في القرآن و لا في السنة ذكر الحد بهذا اللفظ و لا الحد في اللغة العربية هو العقوبة التي يقارنها الاستخفاف و الإهانة و لا عرف الشرع و مواضعه الصحابة يشتمل على ذلك و إنما هذا شي ء استنبطه المتكلمون المتأخرون بأذهانهم و أفكارهم ثم بتقدير تسليم هذين المقامين لم قال إن المجنون شرح نهج البلاغة ج : 12 ص : 208لا يصح عليه الاستخفاف و الإهانة فمن الجائز أن يصح ذلك عليه و إن لم يتألم بالاستخفاف و الإهانة كما يتألم بالعقوبة و إذا صح عليه أن يألم بالعقوبة صح عليه أن يألم بالاستخفاف و الإهانة لأن الجنون لا يبلغ و إن عظم مبلغا يبطل تصور الإنسان لإهانته و لاستخفافه و بتقدير ألا يصح على المجنون الاستخفاف و الإهانة من أين لنا أن عمر علم أن ذلك لا يصح عليه فمن الممكن أن يكون ظن أن ذلك يصح عليه لأن هذا مقام اشتباه و التباس. فأما قوله قد بينا أنه لا يجوز أن يرجع الإمام أصلا إلى غيره فهو مبني على مذهبهم و قواعدهم و قوله معترضا على كلام قاضي القضاة أن الخطأ في ذلك قد لا يعظم ليمنع من صحة الإمامة أن هذا اقتراح بغير حجة لأنه إذا اعترف بالخطإ فلا سبيل إلى القطع على أنه صغير غير لازم لأن قاضي القضاة لم يقطع بأنه صغير بل قال لا يمتنع و إذا جاز أن يكون صغيرا لم نكن قاطعين على فساد الإمامة به. فإن قال المرتضى كما أنكم لا تقطعون على أنه صغير فتكون الإمامة مشكوكا فيها قيل له الأصل عدم الكبير فإذا حصل الشك في أمر هل هو صغير أم كبير تساقط (13/165)
التعارض و رجعنا إلى الأصل و هو عدم كون ذلك الخطإ كبيرا فلا يمنع ذلك من صحة الإمامة (13/166)
الطعن الرابع
حديث أبي العجفاء و أن عمر منع من المغالاة في صدقات النساء اقتداء بما كان من النبي ص في صداق فاطمة حتى قامت المرأة و نبهته بقوله تعالى وَ آتَيْتُمْ إِحْداهُنَّ قِنْطاراً على جواز ذلك فقال كل النساء أفقه من عمر شرح نهج البلاغة ج : 12 ص : 209و بما روي أنه تسور على قوم و وجدهم على منكر فقالوا له إنك أخطأت من جهات تجسست و قال الله تعالى وَ لا تَجَسَّسُوا و دخلت بغير إذن و لم تسلم. أجاب قاضي القضاة فقال علمنا بتقدم عمر في العلم و فضله فيه ضروري فلا يجوز أن يقدح فيه بأخبار أحاديث غير مشهورة و إنما أراد في المشهور أن المستحب الاقتداء برسول الله ص و أن المغالاة فيها ليس بمكرمة ثم عند التنبيه علم أن ذلك مبني على طيب النفس فقال ما قاله على جهة التواضع لأن من أظهر الاستفادة من غيره و إن قل علمه فقد تعاطى الخضوع و نبه على أن طريقته أخذ الفائدة أينما وجدها و صير نفسه قدوة في ذلك و أسوة و ذلك حسن من الفضلاء و أما حديث التجسس فإن كان فعله فقد كان له ذلك لأن للإمام أن يجتهد في إزالة المنكر بهذا الجنس من الفعل و إنما لحقه على ما يروى في الخبر الخجل لأنه لم يصادف الأمر على ما ألقي إليه في إقدامهم على المنكر اعترض المرتضى على هذا الجواب فقال له أما تعويلك على العلم الضروري بكونه من أهل العلم و الاجتهاد فذلك إذا صح لم ينفعك لأنه قد يذهب على من هو بهذه الصفة كثير من الأحكام حتى ينبه عليها و يجتهد فيها و ليس العلم الضروري ثابتا بأنه عالم بجميع أحكام الدين فيكون قاضيا على هذه الأخبار فأما تأوله الحديث و حمله على الاستحباب فهو دفع للعيان لأن المروي أنه منع من ذلك و حظره حتى قالت المرأة ما قالت و لو كان غير حاظر للمغالاة لما كان في الآية حجة و لا كان لكلام المرأة موقع و لا كان يعترف لها بأنها أفقه منه
بل كان الواجب أن يرد عليها و يوبخها و يعرفها أنه ما حظر لذلك و إنما تكون شرح نهج البلاغة ج : 12 ص : 210الآية حجة عليه لو كان حاظر مانعا فأما التواضع فلا يقتضي إظهار القبيح و تصويب الخطإ و لو كان الأمر على ما توهمه صاحب الكتاب لكان هو المصيب و المرأة مخطئة فكيف يتواضع بكلام يوهم أنه المخطئ و هي المصيبة فأما التجسس فهو محظور بالقرآن و السنة و ليس للإمام أن يجتهد فيما يؤدي إلى مخالفة الكتاب و السنة و قد كان يجب إن كان هذا عذرا صحيحا أن يعتذر به إلى من خطأه في وجهه و قال له إنك أخطأت السنة من وجوه فإنه بمعاذير نفسه أعلم من صاحب الكتاب و تلك الحال حال تدعو إلى الاحتجاج و إقامة العذر. قلت قصارى هذا الطعن أن عمر اجتهد في حكم أو أحكام فأخطأ فلما نبه عليها رجع و هذا عند المعتزلة و أكثر المسلمين غير منكر و إنما ينكر أمثال هذا من يبطل الاجتهاد و يوجب عصمة الإمام فإذا هذا البحث ساقط على أصول المعتزلة و الجواب عنه غير لازم علينا (13/167)
الطعن الخامس
أنه كان يعطي من بيت المال ما لا يجوز حتى أنه كان يعطي عائشة و حفصة عشرة آلاف درهم في كل سنة و منع أهل البيت خمسهم الذي يجري مجرى الواصل إليهم من قبل رسول الله ص و أنه كان عليه ثمانون ألف درهم من بيت المال على سبيل القرض. أجاب قاضي القضاة بأن دفعه إلى الأزواج جائز من حيث إن لهن حقا في بيت شرح نهج البلاغة ج : 12 ص : 211المال و للإمام أن يدفع ذلك على قدر ما يراه و هذا الفعل قد فعله من قبله و من بعده و لو كان منكرا لما استمر عليه أمير المؤمنين ع و قد ثبت استمراره عليه و لو كان ذلك طعنا لوجب إذا كان يدفع إلى الحسن و الحسين و إلى عبد الله بن جعفر و غيرهم من بيت المال شيئا أن يكون في حكم الخائن و كل ذلك يبطل ما قالوه لأن بيت المال إنما يراد لوضع الأموال في حقوقها ثم الاجتهاد و إلى المتولي للأمر في الكثرة و القلة. فأما أمر الخمس فمن باب الاجتهاد و قد اختلف الناس فيه فمنهم من جعله حقا لذوي القربى و سهما مفردا لهم على ما يقتضيه ظاهر الآية و منهم من جعله حقا لهم من جهة الفقر و أجراهم مجرى غيرهم و إن كانوا قد خصوا بالذكر كما أجرى الأيتام و إن خصوا بالذكر مجرى غيرهم في أنهم يستحقون بالفقر و الكلام في ذلك يطول فلم يخرج عمر بما حكم به عن طريقة الاجتهاد و من قدح في ذلك فإنما يقدح في الاجتهاد الذي هو طريقة الصحابة. فأما اقتراضه من بيت المال فإن صح فهو غير محظور بل ربما كان أحوط إذا كان على ثقة من رده بمعرفة الوجه الذي يمكنه منه الرد و قد ذكر الفقهاء ذلك و قال أكثرهم أن الاحتياط في مال الأيتام و غيرهم أن يجعل في ذمة الغني المأمون لبعده عن الخطر و لا فرق بين أن يقرض الغير أو يقترضه لنفسه و من بلغ في أمره أن يطعن على عمر بمثل هذه الأخبار مع ما يعلم من سريرته و تشدده في ذات الله و احتياطه فيما يتصل بملك الله و تنزهه عنه حتى فعل بالصبي الذي أكل من تمر الصدقة واحدة ما فعل و حتى كان يرفع نفسه عن (13/168)
الأمر الحقير و يتشدد على كل أحد حتى على ولده فقد أبعد في القول. اعترض المرتضى فقال أما تفصيل الأزواج فإنه لا يجوز لأنه لا سبب فيهن شرح نهج البلاغة ج : 12 ص : 212يقتضي ذلك و إنما يفضل الإمام في العطاء ذوي الأسباب المقتضية لذلك مثل الجهاد و غيره من الأمور العام نفعها للمسلمين. و قوله إن لهن حقا في بيت المال صحيح إلا أنه لا يقتضي تفضيلهن على غيرهن و ما عيب بدفع حقهن إليهن و إنما عيب بالزيادة عليه و ما يعلم أن أمير المؤمنين ع استمر على ذلك و إن كان صحيحا كما ادعى فالسبب الداعي إلى الاستمرار عليه هو السبب الداعي إلى الاستمرار على جميع الأحكام فأما تعلقه بدفع أمير المؤمنين إلى الحسن و الحسين و غيرهما شيئا من بيت المال فعجب لأنه لم يفضل هؤلاء في العطية فيشبه ما ذكرناه في الأزواج و إنما أعطاهم حقوقهم و سوى بينهم و بين غيرهم. فأما الخمس فهو للرسول و لأقربائه على ما نطق به القرآن و إنما عنى تعالى بقوله وَ لِذِي الْقُرْبى وَ الْيَتامى وَ الْمَساكِينِ وَ ابْنِ السَّبِيلِ من كان من آل الرسول خاصة لأدلة كثيرة لا حاجة بنا إلى ذكرها هاهنا و (13/169)
قد روى سليم بن قيس الهلالي قال سمعت أمير المؤمنين ع يقول نحن و الله الذين عنى الله بذي القربى قرنهم الله بنفسه و نبيه ص فقال ما أَفاءَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرى فَلِلَّهِ وَ لِلرَّسُولِ وَ لِذِي الْقُرْبى وَ الْيَتامى وَ الْمَساكِينِ وَ ابْنِ السَّبِيلِ كل هؤلاء منا خاصة و لم يجعل لنا سهما في الصدقة أكرم الله تعالى نبيه و أكرمنا أن يطعمنا أوساخ ما في أيدي الناس
و روى يزيد بن هرم قال كتب نجده إلى ابن عباس يسأله عن الخمس لمن هو فكتب إليه كتبت تسألني عن الخمس لمن هو و إنا كنا نزعم أنه لنا فأبى قومنا علينا ذلك فصبرنا عليه. قال و أما الاجتهاد الذي عول عليه فليس عذرا في إخراج الخمس عن أهله فقد أبطلناه. شرح نهج البلاغة ج : 12 ص : 213و أما الاقتراض من بيت المال فهو مما يدعو إلى الريبة و من كان من التشدد و التحفظ و التقشف على الحد الذي ذكره كيف تطيب نفسه بالاقتراض من بيت المال و فيه حقوق و ربما مست الحاجة إلى الإخراج منها و أي حاجة لمن كان جشب المأكل خشن الملبس يتبلغ بالقوت إلى اقتراض الأموال. فأما حكايته عن الفقهاء أن الاحتياط أن يحفظ مال الأيتام في ذمة الغني المأمون فذلك إذا صح لم يكن نافعا له لأن عمر لم يكن غنيا و لو كان غنيا لما اقترض فقد خرج اقتراضه عن أن يكون من باب الاحتياط و إنما اشترط الفقهاء مع الأمانة الغنى لئلا تمس الحاجة إليه فلا يمكن ارتجاعه و لهذا قلنا إن اقتراضه لحاجته إلى المال لم يكن صوابا و حسن نظر للمسلمين. قلت أما قوله لا يجوز للإمام أن يفضل في العطاء إلا لسبب يقتضي ذلك كالجهاد فليست أسباب التفضيل مقصورة على الجهاد وحده فقد يستحق الإنسان التفضيل في العطاء على غيره لكثرة عبادته أو لكثرة علمه أو انتفاع الناس به فلم لا يجوز أن يكون عمر فضل الزوجات لذلك. و أيضا فإن الله تعالى فرض لذوي القربى من رسول الله ص نصيبا في الفي ء و الغنيمة ليس إلا لأنهم ذوو قرابته فقط فما المانع من أن يقيس عمر على ذلك ما فعله في العطاء فيفضل ذوي قرابة رسول في ذلك على غيرهم ليس إلا لأنهم ذوو قرابته و الزوجات و إن لم يكن لهن قربى النسب فلهن قربى الزوجية و كيف يقول المرتضى ما جاز أن يفضل أحدا إلا بالجهاد و قد فضل الحسن و الحسين على كثير من أكابر المهاجرين و الأنصار و هما صبيان ما جاهدا و لا بلغا الحلم بعد و أبوهما أمير المؤمنين (13/170)
شرح نهج البلاغة ج : 12 ص : 214موافق على ذلك راض به غير منكر له و هل فعل عمر ذلك إلا لقربهما من رسول الله ص. و نحن نذكر ما فعله عمر في هذا الباب مختصرا نقلناه من كتاب أبي الفرج عبد الرحمن بن علي بن الجوزي المحدث في أخبار عمر و سيرته. روى أبو الفرج عن أبي سلمة بن عبد الرحمن قال استشار عمر الصحابة بمن يبدأ في القسم و الفريضة فقالوا ابدأ بنفسك فقال بل أبدأ بآل رسول الله ص و ذوي قرابته فبدأ بالعباس قال ابن الجوزي و قد وقع الاتفاق على أنه لم يفرض لأحد أكثر مما فرض له. و روي أنه فرض له اثني عشر ألفا و هو الأصح ثم فرض لزوجات رسول الله ص لكل واحدة عشرة آلاف و فضل عائشة عليهن بألفين فأبت فقال ذلك بفضل منزلتك عند رسول الله ص فإذا أخذت فشأنك و استثنى من الزوجات جويرية و صفية و ميمونة ففرض لكل واحدة منهن ستة آلاف فقالت عائشة إن رسول الله ص كان يعدل بيننا فعدل عمر بينهن و ألحق هؤلاء الثلاث بسائرهن ثم فرض للمهاجرين الذين شهدوا بدرا لكل واحد خمسة آلاف و لمن شهدها من الأنصار لكل واحد أربعة آلاف. و قد روي أنه فرض لكل واحد ممن شهد بدرا من المهاجرين أو من الأنصار أو من غيرهم من القبائل خمسة آلاف ثم فرض لمن شهد أحدا و ما بعدها إلى الحديبية أربعة آلاف ثم فرض لكل من شهد المشاهد بعد الحديبية ثلاثة آلاف ثم فرض لكل من شهد المشاهد بعد وفاة رسول الله ص ألفين و خمسمائة و ألفين و ألفا شرح نهج البلاغة ج : 12 ص : 215و خمسمائة و ألفا واحدا إلى مائتين و هم أهل هجر و مات عمر على ذلك. قال ابن الجوزي و أدخل عمر في أهل بدر ممن لم يحضر بدرا أربعة و هم الحسن و الحسين و أبو ذر و سلمان ففرض لكل واحد منهم خمسة آلاف. قال ابن الجوزي و روى السدي أن عمر كسا أصحاب النبي ص فلم يرتض في الكسوة ما يستصلحه للحسن و الحسين ع فبعث إلى اليمن فأتي لهما بكسوة فاخرة فلما كساهما قال الآن طابت نفسي. قال ابن الجوزي فأما ما اعتمده في (13/171)
النساء فإنه جعل نساء أهل بدر على خمسمائة و نساء من بعد بدر إلى الحديبية على أربعمائة و نساء من بعد ذلك على ثلاثمائة و جعل نساء أهل القادسية على مائتين مائتين ثم سوى بين النساء بعد ذلك. و لو لم يدل على تصويب عمر فيما فعله إلا إجماع الصحابة و اتفاقهم عليه و ترك الإنكار لذلك كان كافيا. فأما الخمس و الخلاف فيه فإنها مسألة اجتهادية و الذي يظهر لنا فيه و يغلب عندنا من أمرها أن الخمس حق صحيح ثابت و أنه باق إلى الآن على ما يذهب إليه الشافعي و أنه لم يسقط بموت رسول الله ص و لكنا لا نرى ما يعتقده المرتضى من أن الخمس لآل الرسول ص و أن الأيتام أيتامهم و المساكين مساكينهم و ابن السبيل منهم لأنه على خلاف ما يقتضيه ظاهر الآية و العطف و يمكن أن يحتج على ذلك بأن قوله تعالى في سورة الحشر لِلْفُقَراءِ الْمُهاجِرِينَ يبطل هذا القول لأن هذه اللام لا بد أن تتعلق بشي ء و ليس قبلها ما تتعلق به أصلا إلا أن تجعل بدلا من اللام التي قبلها في قوله ما أَفاءَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرى فَلِلَّهِ وَ لِلرَّسُولِ شرح نهج البلاغة ج : 12 ص : 216وَ لِذِي الْقُرْبى وَ الْيَتامى وَ الْمَساكِينِ وَ ابْنِ السَّبِيلِ (13/172)
و ليس يجوز أن تكون بدلا من اللام في اللَّهُ و لا من اللام في قوله وَ لِلرَّسُولِ فبقي أن تكون بدلا من اللام في قوله و لِذِي الْقُرْبى أما الأول فتعظيما له سبحانه و أما الثاني فلأنه تعالى قد أخرج رسوله من الفقراء بقوله وَ يَنْصُرُونَ اللَّهَ وَ رَسُولَهُ و لأنه يجب أن يرفع رسول الله ص عن التسمية بالفقير و أما الثالث فإما أن يفسر هذا البدل و ما عطف عليه المبدل منه أو يفسر هذا البدل وحده دون ما عطف عليه المبدل منه و الأول لا يصح لأن المعطوف على هذا البدل ليس من أهل القرى و هم الأنصار أ لا ترى كيف قال سبحانه لِلْفُقَراءِ الْمُهاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ الآية ثم قال سبحانه وَ الَّذِينَ تَبَوَّؤُا الدَّارَ وَ الْإِيمانَ مِنْ قَبْلِهِمْ و هم الأنصار و إن كان الثاني صار تقدير الآية أن الخمس لله و للرسول و لذي القربى الذين وصفهم الله و نعتهم بأنهم هاجروا و أخرجوا من ديارهم و للأنصار فيكون هذا مبطلا لما يذهب إليه المرتضى في قصر الخمس على ذوي القربى. و يمكن أن يعترض هذا الاحتجاج فيقال لم لا يجوز أن يكون قوله وَ الَّذِينَ تَبَوَّؤُا الدَّارَ وَ الْإِيمانَ ليس بعطف و لكنه كلام مبتدأ و موضع الذين رفع بالابتداء و خبره يحبون. و أيضا فإن هذه الحجة لا يمكن التمسك بها في آية الأنفال و هو قوله تعالى وَ اعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْ ءٍ. فأما رواية سليم بن قيس الهلالي فليست بشي ء و سليم معروف المذهب و يكفي في رد روايته كتابه المعروف بينهم المسمى كتاب سليم. شرح نهج البلاغة ج : 12 ص : 217على أني قد سمعت من بعضهم من يذكر أن هذا الاسم على غير مسمى و أنه لم يكن في الدنيا أحد يعرف بسليم بن قيس الهلالي و أن الكتاب المنسوب إليه منحول موضوع لا أصل له و إن كان بعضهم يذكره في اسم الرجال و الرواية المذكورة عن ابن عباس في كتابه إلى نجدة الحروري صحيحة ثابتة و ليس فيها ما يدل على (13/173)
مذهب المرتضى من أن الخمس كله لذوي القربى لأن نجدة إنما سأله عن خمس الخمس لا عن الخمس كله. و ينبغي أن يذكر في هذا الموضع اختلاف الفقهاء في الخمس أما أبو حنيفة فعنده أن قسمة الخمس كانت في عهد رسول الله ص على خمسة أسهم سهم لرسول الله ص و سهم لذوي قرباه من بني هاشم و بني المطلب دون بني عبد شمس و نوفل استحقوه حينئذ بالنصرة و المظاهرة لما روي عن عثمان بن عفان و جبير بن مطعم أنهما قالا لرسول الله ص هؤلاء إخوتك من بني هاشم لا ننكر فضلهم لمكانك الذي جعلك الله منهم أ رأيت إخواننا بني المطلب أعطيتهم و حرمتنا و إنما نحن و هم بمنزلة واحدة (13/174)
فقال ص إنهم لم يفارقونا في جاهلية و لا إسلام إنما بنو هاشم و بنو المطلب شي ء واحد
و شبك بين أصابعه و ثلاثة أسهم ليتامى المسلمين و مساكينهم و أبناء السبيل منهم و أما بعد رسول الله ص فسهمه ساقط بموته و كذلك سهم ذوي القربى و إنما يعطون لفقرهم فهم أسوة سائر الفقراء و لا يعطى أغنياؤهم فيقسم الخمس إذن على ثلاثة أسهم اليتامى و المساكين و ابن السبيل. و أما الشافعي فيقسم الخمس عنده بعد وفاة رسول الله ص على خمسة أسهم سهم لرسول الله ص يصرف إلى ما كان يصرفه إليه رسول الله ص أيام حياته من مصالح المسلمين كعدة الغزاة من الكراع و السلاح شرح نهج البلاغة ج : 12 ص : 218و نحو ذلك و سهم لذوي القربى من أغنيائهم و فقرائهم يقسم بينهم للذكر مثل حظ الأنثيين من بني هاشم و بني المطلب و الباقي للفرق الثلاث. و أما مالك بن أنس فعنده أن الأمر في هذه المسألة مفوض إلى اجتهاد الإمام إن رأى قسمه بين هؤلاء و إن رأى أعطاه بعضهم دون بعض و إن رأى الإمام غيرهم أولى و أهم فغيرهم. و بقي الآن البحث عن معنى قوله سبحانه و تعالى فَلِلَّهِ وَ لِلرَّسُولِ و ما المراد بسهم الله سبحانه و كيف يقول الفقهاء الخمس مقسوم خمسة أقسام و ظاهر الآية يدل على ستة أقسام فنقول يحتمل أن يكون معنى قوله سبحانه فَلِلَّهِ وَ لِلرَّسُولِ لرسول الله كقوله وَ اللَّهُ وَ رَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ أي و رسول الله أحق و مذهب أبي حنيفة و الشافعي يجي ء على هذا الاحتمال. و يحتمل أن يريد بذكره إيجاب سهم سادس يصرف إلى وجه من وجوه القرب و مذهب أبي العالية يجي ء على هذا الاحتمال لأنه يذهب إلى أن الخمس يقسم ستة أقسام أحدها سهمه تعالى يصرف إلى رتاج الكعبة و قد روي أن رسول الله ص كان يأخذ الخمس فيضرب بيده فيه فيأخذ منه قبضة فيجعلها للكعبة و يقول سهم الله تعالى ثم يقسم ما بقي على خمسة أقسام. و قال قوم سهم الله لبيت الله. و يحتمل احتمالا ثالثا و هو أن يراد بقوله فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ أن من حق الخمس أن يكون متقربا به إليه سبحانه لا (13/175)
غير ثم خص من وجوه القرب هذه الخمسة تفضيلا لها (13/176)
شرح نهج البلاغة ج : 12 ص : 219على غيرها كقوله وَ جِبْرِيلَ وَ مِيكالَ و مذهب مالك يجي ء على هذا الاحتمال و
قد روي عن ابن عباس رضي الله عنه أنه كان على ستة لله و للرسول سهمان و سهم لأقاربه و ثلاثة أسهم للثلاثة حتى قبض ع فأسقط أبو بكر ثلاثة أسهم و قسم الخمس كله على ثلاثة أسهم و كذلك فعل عمر
و روي أن أبا بكر منع بني هاشم الخمس و قال إنما لكم أن نعطي فقيركم و نزوج أيمكم و نخدم من لا خادم له منكم و أما الغني منكم فهو بمنزلة ابن سبيل غني لا يعطى شيئا و لا يتيم موسر
و قد روي عن زيد بن علي ع مثل ذلك قال ليس لنا أن نبني منه القصور و لا أن نركب منه البراذين فأما مذهب الإمامية فإن الخمس كله للقرابة. و
يروون عن أمير المؤمنين ع أنه قال أيتامنا و مساكيننا فإن صح عنه ذلك فقوله عندنا أولى بالاتباع و إنما الكلام في صحته. فأما اقتراض عمر من بيت المال ثمانين ألفا فليس بمعروف و المعروف المشهور أنه كان يظلف نفسه عن الدرهم الواحد منه. و قد روى ابن سعد في كتاب الطبقات أن عمر خطب فقال إن قوما يقولون إن هذا المال حلال لعمر و ليس كما قالوا لاها الله إذن أنا أخبركم بما أستحل منه يحل لي منه حلتان حلة في الشتاء و حلة في القيظ و ما أحج عليه و أعتمر من الظهر و قوتي و قوت أهلي كقوت رجل من قريش ليس بأغناهم و لا أفقرهم ثم أنا بعد رجل من المسلمين يصيبني ما أصابهم. شرح نهج البلاغة ج : 12 ص : 220و روى ابن سعد أيضا أن عمر كان إذا احتاج أتى إلى صاحب بيت المال فاستقرضه فربما عسر عليه القضاء فيأتيه صاحب بيت المال فيتقاضاه فيحتال له و ربما خرج عطاؤه فقضاه و لقد اشتكى مرة فوصف له الطبيب العسل فخرج حتى صعد المنبر و في بيت المال عكة فقال إن أذنتم لي فيها أخذتها و إلا فهي علي حرام فأذنوا له فيها ثم قال إن مثلي و مثلكم كقوم سافروا فدفعوا نفقاتهم إلى رجل منهم لينفق عليهم فهل يحل له أن يستأثر منها بشي ء. و روى ابن سعد أيضا قال مكث عمر زمانا لا يأكل من مال المسلمين شيئا حتى أصابته خصاصة فأرسل إلى أصحاب رسول الله ص فاستشارهم فقال لهم قد شغلت نفسي بأمركم فما الذي يصلح أن أصيبه من مالكم فقال عثمان كل و أطعم و كذلك قال سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل فتركهما و أقبل على علي ع فقال ما تقول أنت قال غداء و عشاء قال أصبت و أخذ بقوله (13/177)
و روى أبو الفرج بن الجوزي في كتاب سيرة عمر عن نائلة عن ابن عمر قال جمع عمر الناس لما انتهى إليه فتح القادسية و دمشق فقال إني كنت امرأ تاجرا يغني الله عيالي بتجارتي و قد شغلتموني عن التجارة بأمركم فما ترون أنه يحل لي من هذا المال فقال القوم فأكثروا و علي ع ساكت فقال عمر ما تقول أنت يا أبا الحسن قال ما أصلحك و أصلح عيالك بالمعروف و ليس لك من هذا المال غيره فقال القول ما قاله أبو الحسن و أخذ به (13/178)
و روى عبد الله بن زيد بن أسلم عن أبيه عن جده أن عبد الله و عبيد الله ابني عمر مرا بأبي موسى و هو على العراق و هما مقبلان من أرض فارس فقال مرحبا بابني أخي شرح نهج البلاغة ج : 12 ص : 221لو كان عندي شي ء و بلي قد اجتمع هذا المال عندي فخذاه و اشتريا به متاعا فإذا قدمتما فبيعاه و لكما ربحه و أديا إلى أمير المؤمنين رأس المال ففعلا فلما قدما على عمر بالمدينة أخبراه فقال أ كل أولاد المهاجرين يصنع بهم أبو موسى مثل ذلك فقالا لا قال فإن عمر يأبى أن يجيز ذلك و جعل قرضا. و روي عن قتادة قال كان معيقيب على بيت المال لعمر فكسح عمر بيت المال يوما و أخرجه إلى المسلمين فوجد معيقيب فيه درهما فدفعه إلى ابن عمر قال معيقيب ثم انصرفت إلى بيتي فإذا رسول عمر قد جاء يدعوني فجئت فإذا الدرهم في يده فقال ويحك يا معيقيب أ وجدت علي في نفسك شيئا قلت و ما ذاك قال أردت أن تخاصمني أمة محمد في هذا الدرهم يوم القيامة. و روى عمر بن شبة عن عبد الله بن الأرقم و كان خازن عمر فقال إن عندنا حلية من حلية جلولاء و آنية من فضة فانظر ما تأمر فيها قال إذا رأيتني فارغا فآذني فجاءه يوما فقال إني أراك اليوم فارغا فما تأمر بتلك الحلية قال ابسط لي نطعا فبسطه ثم أتى بذلك المال فصب عليه فرفع يديه و قال اللهم إنك ذكرت هذا المال فقلت زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَواتِ مِنَ النِّساءِ وَ الْبَنِينَ وَ الْقَناطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ
الذَّهَبِ وَ الْفِضَّةِ ثم قلت لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلى ما فاتَكُمْ وَ لا تَفْرَحُوا بِما آتاكُمْ اللهم إنا لا نستطيع إلا أن نفرح بما زينت لنا اللهم إني أسألك أن تضعه في حقه و أعوذ بك من شره ثم ابتدأ فقسمه بين الناس فجاءه ابن بنت له فقال يا أبتاه هب لي منه خاتما فقال اذهب إلى أمك تسقك سويقا فلم يعطه شيئا. و روى الطبري في تاريخه أن عمر خطب أم كلثوم بنت أبي بكر فأرسل فيها إلى شرح نهج البلاغة ج : 12 ص : 222عائشة فقالت الأمر إليها فقالت أم كلثوم لا حاجة لي فيه قالت لها عائشة ويلك أ ترغبين عن أمير المؤمنين قالت نعم إنه يغلق بابه و يمنع خيره و يدخل عابسا و يخرج عابسا فأرسلت عائشة إلى عمرو بن العاص فأخبرته فقال أنا أكفيك فأتى عمر فقال يا أمير المؤمنين بلغني خبر أعيذك بالله منه قال ما هو قال خطبت أم كلثوم بنت أبي بكر قال نعم أ فترغب بي عنها أم ترغب بها عني قال لا واحدة و لكنها حدثة نشأت تحت كنف أم المؤمنين في لين و رفق و فيك غلظة و نحن نهابك و لا نستطيع أن نردك عن خلق من أخلاقك فكيف بها إن خالفتك في شي ء فسطوت بها كنت قد خلفت أبا بكر في ولده بغير ما يحق عليك قال فكيف لي بعائشة و قد كلمتها فيها قال أنا لك بها و أدلك على خير منها أم كلثوم بنت علي بن أبي طالب تعلق منها بسبب من رسول الله فصرفه عنها إلى أم كلثوم بنت فاطمة. و روى عاصم بن عمر قال بعث إلى عمر عند الهاجرة أو قال عند صلاة الصبح فأتيته فوجدته جالسا في المسجد فقال يا بني إني لم أكن أرى شيئا من هذا المال يحل لي قبل أن ألي إلا بحقه و ما كان أحرم علي منه حين وليته فعاد أمانتي و إني كنت أنفقت عليك من مال الله شهرا و لست بزائدك عليه و قد أعطيتك تمري بالعالية فبعه و خذ ثمنه ثم ائت رجلا من تجار قومك فكن إلى جانبه فإذا ابتاع شيئا فاستشركه و أنفق ما تربحه عليك و على أهلك قال فذهبت ففعلت. و روى الحسن البصري أن عمر كان يمشي يوما في سكة (13/179)
من سكك المدينة إذ صبية تطيش على وجه الأرض تقعد مرة و تقوم أخرى من الضعف و الجهد فقال عمر ما بال هذه قال عبد الله ابنه أ ما تعرف هذه قال لا قال إنها إحدى بناتك (13/180)
شرح نهج البلاغة ج : 12 ص : 223فأنكر عمر ذلك فقال هذه ابنتي من فلانة قال ويحك و ما صيرها إلى ما أرى قال منعك ما عندك قال أنا منعتك ما عندي فما الذي منعك أن تطلب لبناتك ما يكسب الأقوام لبناتهم أنه و الله ما لك عندي غير سهمك في المسلمين وسعك أو عجز عنك و كتاب الله بيني و بينك. و روى سعيد بن المسيب قال كتب عمر لما قسم العطاء و فضل من فضل للمهاجرين الذين شهدوا بدرا خمسة آلاف و كتب لمن لم يشهد بدرا أربعة آلاف فكان منهم عمر بن أبي سلمة المخزومي و أسامة بن زيد بن حارثة و محمد بن عبد الله بن جحش و عبد الله بن عمر بن الخطاب فقال عبد الرحمن بن عوف و هو الذي كان يكتب يا أمير المؤمنين أن عبد الله بن عمر ليس من هؤلاء أنه و أنه يطريه و يثني عليه فقال له عمر ليس له عندي إلا مثل واحد منهم فتكلم عبد الله و طلب الزيادة و عمر ساكت فلما قضى كلامه قال عمر لعبد الرحمن اكتبه على خمسة آلاف و اكتبني على أربعة آلاف فقال عبد الله لا أريد هذا فقال عمر و الله لا أجتمع أنا و أنت على خمسة آلاف قم إلى منزلك فقام عبد الله كئيبا و قال أبو وائل استعملني ابن زياد على بيت المال بالكوفة فأتاني رجل بصك يقول فيه أعط صاحب المطبخ ثمانمائة درهم فقلت له مكانك و دخلت على ابن زياد فقلت له إن عمر استعمل عبد الله بن مسعود بالكوفة على القضاء و بيت المال و استعمل عثمان بن حنيف على سقي الفرات و استعمل عمار بن ياسر على الصلاة و الجند فرزقهم كل يوم شاة واحدة فجعل نصفها و سقطها و أكارعها لعمار لأنه كان على الصلاة و الجند و جعل لابن مسعود ربعها و لابن حنيف ربعها ثم قال إن مالا يؤخذ منه كل يوم شاة أن ذلك فيه لسريع فقال ابن زياد ضع المفتاح فاذهب حيث شئت. شرح نهج البلاغة ج
: 12 ص : 224و روى أبو جعفر الطبري في التاريخ أن عمر بعث سلمة بن قيس الأشجعي إلى طائفة من الأكراد كانوا على الشرك فخرج إليهم في جيش سرحه معه من المدينة فلما انتهى إليهم دعاهم إلى الإسلام أو إلى أداء الجزية فأبوا فقاتلهم فنصره الله عليهم فقتل المقاتلة و سبي الذرية و جمع الرثة و وجد حلية و فصوصا و جواهر فقال لأصحابه أ تطيب أنفسكم أن نبعث بهذا إلى أمير المؤمنين فإنه غير صالح لكم و إن على أمير المؤمنين لمئونة و أثقالا قالوا نعم قد طابت أنفسنا فجعل تلك الجواهر في سفط و بعث به مع واحد من أصحابه و قال له سر فإذا أتيت البصرة فاشتر راحلتين فأوقرهما زادا لك و لغلامك و سر إلى أمير المؤمنين قال ففعلت فأتيت عمر و هو يغدي الناس قائما متكئا على عصا كما يصنع الراعي و هو يدور على القصاع فيقول يا يرفأ زد هؤلاء لحما زد هؤلاء خبزا زد هؤلاء مرقة فجلست في أدنى الناس فإذا طعام فيه خشونة طعامي الذي معي أطيب منه فلما فرغ أدبر فاتبعته فدخل دارا فاستأذنت و لم أعلم حاجبه من أنا فأذن لي فوجدته في صفة جالسا على مسح متكئا على وسادتين من أدم محشوتين ليفا و في الصفة عليه ستر من صوف فنبذ إلي إحدى الوسادتين فجلست عليها فقال يا أم كلثوم أ لا تغدوننا فأخرج إليه خبزة بزيت في عرضها ملح لم يدق فقال يا أم كلثوم أ لا تخرجين إلينا تأكلين معنا فقالت إني أسمع عندك حس رجل قال نعم و لا أراه من أهل هذا البلد قال فذاك حين عرفت أنه لم يعرفني فقالت لو أردت أن أخرج إلى الرجال لكسوتني كما كسا الزبير امرأته و كما كسا طلحة امرأته قال أ و ما يكفيك أنك أم كلثوم ابنة علي بن أبي طالب و زوجة أمير المؤمنين عمر بن الخطاب قالت إن ذاك عني لقليل الغناء قال كل فلو كانت راضية لأطعمتك أطيب من هذا فأكلت قليلا و طعامي الذي معي أطيب منه (13/181)
شرح نهج البلاغة ج : 12 ص : 225و أكل فما رأيت أحدا أحسن أكلا منه ما يتلبس طعامه بيده و لا فمه ثم قال اسقونا فجاءوا بعس من سلت فقال أعط الرجل فشربت قليلا و إن سويقي الذي معي لأطيب منه ثم أخذه فشربه حتى قرع القدح جبهته ثم قال الحمد لله الذي أطعمنا فأشبعنا و سقانا فأروانا إنك يا هذا لضعيف الأكل ضعيف الشرب فقلت يا أمير المؤمنين إن لي حاجة قال ما حاجتك قلت أنا رسول سلمة بن قيس فقال مرحبا بسلمة و رسوله فكأنما خرجت من صلبه حدثني عن المهاجرين كيف هم قلت كما تحب يا أمير المؤمنين من السلامة و الظفر و النصر على عدوهم قال كيف أسعارهم قلت أرخص أسعار قال كيف اللحم فيهم فإنه شجرة العرب و لا تصلح العرب إلا على شجرتها قلت البقرة فيهم بكذا و الشاة فيهم بكذا ثم سرنا يا أمير المؤمنين حتى لقينا عدونا من المشركين فدعوناهم إلى الذي أمرت به من الإسلام فأبوا فدعوناهم إلى الخراج فأبوا فقاتلناهم فنصرنا الله عليهم فقتلنا المقاتلة و سبينا الذرية و جمعنا الرثة فرأى سلمة في الرثة حلية فقال للناس إن هذا لا يبلغ فيكم شيئا أ فتطيب أنفسكم أن أبعث به إلى أمير المؤمنين قالوا نعم ثم استخرجت سفطي ففتحته فلما نظر إلى تلك الفصوص من بين أحمر و أخضر و أصفر وثب و جعل يده في خاصرته يصيح صياحا عاليا و يقول لا أشبع الله إذن بطن عمر يكررها فظن النساء أني جئت لأغتاله فجئن إلى الستر فكشفنه فسمعنه يقول لف ما جئت به يا يرفأ جأ عنقه قال فأنا أصلح سفطي و يرفأ يجأ عنقي ثم قال النجاء النجاء قلت يا أمير المؤمنين انزع بي فاحلمني فقال يا يرفأ أعطه راحلتين من إبل الصدقة شرح نهج البلاغة ج : 12 ص : 226فإذا لقيت أفقر إليهما منك فادفعهما إليه و قال أظنك ستبطئ أما و الله لئن تفرق المسلمون في مشاتيهم قبل أن يقسم هذا فيهم لأفعلن بك و بصاحبك الفاقرة. قال فارتحلت حتى أتيت إلى سلمة بن قيس فقلت ما بارك الله فيما اختصصتني به اقسم هذا في الناس (13/182)
قبل أن تصيبني و إياك فاقرة فقسمه فيهم فإن الفص ليباع بخمسة دراهم و بستة و هو خير من عشرين ألفا. و جملة الأمر أن عمر لا يجوز أن يطعن فيه بمثل هذا و لا ينسب إلى شره و حب للمال فإن طريقته في التعفف و التقشف و خشونة العيش و الزهد أظهر من كل ظاهر و أوضح من كل واضح و حاله في ذلك معلومة و على كل تقدير سواء كان يفعل ذلك دينا أو ورعا كما هو الظاهر من حاله أو كان يفعل ذلك ناموسا و صناعة و رياء و حيلة كما تزعم الشيعة فإنه عظيم لأنه إما أن يكون على غاية الدين و التقى أو يكون أقوى الناس نفسا و أشدهم عزما و كلا الأمرين فضيلة. و الذي ذكره المحدثون و أرباب السير أن عمر لما طعن و احتمل في دمه إلى بيته و أوصى بما أوصى قال لابنه عبد الله انظروا ما علي من دين فحسبوه فوجدوه ستمائة و ثمانين ألف درهم هكذا ورد في الأخبار أنها كانت ديونا للمسلمين و لم تكن من بيت المال فقال عمر انظر يا عبد الله فإن وفى به مال آل عمر فأده من أموالهم و إلا فسل في بني عدي بن كعب فإن لم تف به أموالهم فسل في قريش و لا تعدهم إلى غيرهم فهكذا وردت الرواية فلذلك قال قاضي القضاة فإن صح فالعذر كذا و كذا لأنه لم يثبت عنده صحة اقتراضه هذا المقدار من بيت المال. و قد روي أن عمر كان له نخل بالحجاز غلته كل سنة أربعون ألفا يخرجها في (13/183)
شرح نهج البلاغة ج : 12 ص : 227النوائب و الحقوق و يصرفها إلى بني عدي بن كعب إلى فقرائهم و أراملهم و أيتامهم روى ذلك ابن جرير الطبري في التاريخ. فأما قول المرتضى أي حاجة بخشن العيش و جشب المأكل إلى اقتراض الأموال فجوابه أن المتزهد المتقشف قد يضيق على نفسه و يوسع على غيره إما من باب التكرم و الإحسان أو من باب الصدقة و ابتغاء الثواب و قد يصل رحمه و إن قتر على نفسه. و قد روى الطبري أن عمر دفع إلى أم كلثوم بنت أمير المؤمنين ع صداقها يوم تزوجها أربعين ألف درهم فلعل هذا الاقتراض من الناس كان لهذا الوجه و لغيره من الوجوه التي قل أن يخلو أحد منها (13/184)
الطعن السادس
أنه عطل حد الله في المغيرة بن شعبة لما شهد عليه بالزناء و لقن الشاهد الرابع الامتناع عن الشهادة اتباعا لهواه فلما فعل ذلك عاد إلى الشهود فحدهم و ضربهم فتجنب أن يفضح المغيرة و هو واحد و فضح الثلاثة مع تعطيله لحكم الله و وضعه في غير موضعه. أجاب قاضي القضاة فقال إنه لم يعطل الحد إلا من حيث لم تكمل الشهادة و بإرادة الرابع لئلا يشهد لا تكمل البينة و إنما تكمل بالشهادة. و قال إن قوله أرى وجه رجل لا يفضح الله به رجلا من المسلمين يجري في أنه سائغ صحيح مجرى ما روي عن النبي ص من أنه أتي بسارق فقال لا تقر. شرح نهج البلاغة ج : 12 ص : 228و قال ع لصفوان بن أمية لما أتاه بالسارق و أمر بقطعه فقال هو له يعني ما سرق هلا قبل أن تأتيني به فلا يمتنع من عمر ألا يحب أن تكمل الشهادة و ينبه الشاهد على ألا يشهد و قال إنه جلد الثلاثة من حيث صاروا قذفه و إنه ليس حالهم و قد شهدوا كحال من لم تتكامل الشهادة عليه لأن الحيلة في إزالة الحد عنه و لما تتكامل الشهادة عليه ممكنة بتلقين و تنبيه غيره و لا حيلة فيما قد وقع من الشهادة فلذلك حدهم. قال و ليس في إقامة الحد عليهم من الفضيحة ما في تكامل الشهادة على المغيرة لأنه يتصور بأنه زان و يحكم بذلك و ليس كذلك حال الشهود لأنهم لا يتصورون بذلك و إن وجب في الحكم أن يجعلوا في حكم القذفة. و حكي عن أبي علي أن الثلاثة كان القذف قد تقدم منهم للمغيرة بالبصرة لأنهم صاحوا به من نواحي المسجد بأنا نشهد أنك زان فلو لم يعيدوا الشهادة لكان يحدهم لا محالة فلم يمكن في إزالة الحد عنهم ما أمكن في المغيرة. و حكي عن أبي علي في جواب اعتراضه عن نفسه بما روي عن عمر أنه كان إذا رآه يقول لقد خفت أن يرميني الله عز و جل بحجارة من السماء أن هذا الخبر غير صحيح و لو كان حقا لكان تأويله التخويف و إظهار قوة الظن لصدق القوم الذين شهدوا عليه ليكون ردعا له و ذكر أنه غير ممتنع أن يحب ألا يفتضح لما (13/185)
كان متوليا للبصرة من قبله. ثم أجاب عن سؤال من سأله عن امتناع زياد من الشهادة و هل يقتضي الفسق أم لا فإن قال لا نعلم أنه كان يتمم الشهادة و لو علمنا ذلك لكان حيث ثبت في الشرع أن له شرح نهج البلاغة ج : 12 ص : 229السكوت لا يكون طعنا و لو كان ذلك طعنا و قد ظهر أمره لأمير المؤمنين ع لما ولاه فارس و لما ائتمنه على أموال الناس و دمائهم. اعترض المرتضى فقال إنما نسب إلى تعطيل الحد من حيث كان في حكم الثابت و إنما بتلقينه لم تكمل الشهادة لأن زيادا ما حضر إلا ليشهد بما شهد به أصحابه و قد صرح بذلك كما صرحوا قبل حضورهم و لو لم يكن هذا لما شهد القوم قبله و هم لا يعلمون هل حاله في ذلك الحكم كحالهم لكنه أحجم في الشهادة لما رأى كراهية متولي الأمر لكمالها و تصريحه بأنه لا يريد أن يعمل بموجبها. و من العجائب أن يطلب الحيلة في دفع الحد عن واحد و هو لا يندفع إلا بانصرافه إلى ثلاثة فإن كان درء الحد و الاحتيال في دفعه من السنن المتبعة فدرؤه عن ثلاثة أولى من درئه عن واحد. و قوله إن دفع الحد عن المغيرة ممكن و دفعه عن ثلاثة و قد شهدوا غير ممكن طريف لأنه لو لم يلقن الشاهد الرابع الامتناع عن الشهادة لاندفع الحد عن الثلاثة و كيف لا تكون الحيلة ممكنة فيما ذكره. و قوله إن المغيرة يتصور بصورة زان لو تكاملت الشهادة و في هذا من الفضيحة ما ليس في حد الثلاثة غير صحيح لأن الحكم في الأمرين واحد لأن الثلاثة إذا حدوا يظن بهم الكذب و إن جوز أن يكونوا صادقين و المغيرة لو تكاملت الشهادة عليه بالزناء لظن به ذلك مع التجويز لأن يكون الشهود كذبه و ليس في أحد إلا ما في الآخر. و ما روي عنه ع من أنه أتي بسارق فقال له لا تقر إن كان صحيحا لا يشبه ما نحن فيه لأنه ليس في دفع الحد عن السارق إيقاع غيره في المكروه. و قصة المغيرة تخالف هذا لما ذكرناه. (13/186)
شرح نهج البلاغة ج : 12 ص : 231من مقدمات الزناء و أسبابه فهلا ضم عمر إلى جلد الثلاثة تعزير هذا الذي قد صح عنده بشهادة الأربعة ما صح من الفاحشة مثل تعريك أذنه أو ما يجري مجراه من خفيف التعزير و يسيره و هل في العدول عن ذلك حتى عن لومه و توبيخه و الاستخفاف به إلا ما ذكروه من السبب الذي يشهد الحال به قلت أما المغيرة فلا شك عندي أنه زنى بالمرأة و لكني لست أخطئ عمر في درء الحد عنه و إنما أذكر أولا قصته من كتابي أبي جعفر محمد بن جرير الطبري و أبي الفرج علي بن الحسن الأصفهاني ليعلم أن الرجل زنى بها لا محالة ثم أعتذر لعمر في درء الحد عنه. قال الطبري في تاريخه و في هذه السنة يعني سنة سبع عشرة ولى عمر أبا موسى البصرة و أمره أن يشخص إليه المغيرة بن شعبة و ذلك لأمر بلغه عنه قال الطبري حدثني محمد بن يعقوب بن عتبة قال حدثني أبي قال كان المغيرة يخالف إلى أم جميل امرأة من بني هلال بن عامر و كان لها زوج من ثقيف هلك قبل ذلك يقال له الحجاج بن عبيد و كان المغيرة و كان أمير البصرة يختلف إليها سرا فبلغ ذلك أهل البصرة فأعظموه فخرج المغيرة يوما من الأيام إلى المرأة فدخل عليها و قد وضعوا عليهما الرصد فانطلق القوم الذين شهدوا عند عمر فكشفوا الستر فرأوه قد واقعها فكتبوا بذلك إلى عمر و أوفدوا إليه بالكتاب أبا بكرة فانتهى أبو بكرة إلى المدينة و جاء إلى باب عمر فسمع صوته و بينه و بينه حجاب فقال أبو بكرة فقال نعم قال لقد جئت لشر قال إنما جاء به المغيرة ثم قص عليه القصة و عرض عليه الكتاب فبعث أبا موسى عاملا و أمره شرح نهج البلاغة ج : 12 ص : 232أن يبعث إليه المغيرة فلما دخل أبو موسى البصرة و قعد في الإمارة أهدى إليه المغيرة عقيلة و قال إنني قد رضيتها لك فبعث أبو موسى بالمغيرة إلى عمر. و قال الطبري و روى الواقدي قال حدثني عبد الرحمن بن محمد بن أبي بكر بن عمرو بن حزم الأنصاري عن أبيه عن مالك بن أوس بن (13/187)
الحدثان قال قدم المغيرة على عمر فتزوج في طريقه امرأة من بني مرة فقال له عمر إنك لفارغ القلب شديد الشبق طويل الغرمول ثم سأل عن المرأة فقيل له يقال لها الرقطاء كان زوجها من ثقيف و هي من بني هلال. قال الطبري و كتب إلي السري عن شعيب عن سيف أن المغيرة كان يبغض أبا بكرة و كان أبو بكرة يبغضه و يناغي كل واحد منهما صاحبه و ينافره عند كل ما يكون منه و كانا متجاورين بالبصرة بينهما طريق و هما في مشربتين متقابلتين فهما في داريهما في كل واحدة منهما كوة مقابلة الأخرى فاجتمع إلى أبي بكرة نفر يتحدثون في مشربته فهبت ريح ففتحت باب الكوة فقام أبو بكرة ليصفقه فبصر بالمغيرة و قد فتحت الريح باب الكوة التي في مشربته و هو بين رجلي امرأة فقال للنفر قوموا فانظروا فقاموا فنظروا ثم قال اشهدوا قالوا و من هذه قال أم جميل إحدى نساء بني عامر بن صعصعة فقالوا إنما رأينا أعجازا و لا ندري الوجوه فلما قامت صمموا و خرج المغيرة إلى الصلاة فحال أبو بكرة بينه و بين الصلاة و قال لا تصل بنا و كتبوا إلى عمر بذلك و كتب المغيرة إليه أيضا فأرسل عمر إلى أبي موسى فقال يا أبا موسى إني مستعملك و إني باعثك إلى الأرض التي قد باض بها الشيطان و فرخ فالزم ما تعرف و لا تستبدل فيستبدل الله بك فقال يا أمير المؤمنين أعني بعدة من (13/188)
شرح نهج البلاغة ج : 12 ص : 233أصحاب رسول الله ص من المهاجرين و الأنصار فإني وجدتهم في هذه الأمة و هذه الأعمال كالملح لا يصلح الطعام إلا به قال عمر فاستعن بمن أحببت فاستعان بتسعة و عشرين رجلا منهم أنس بن مالك و عمران بن حصين و هشام بن عامر و خرج أبو موسى بهم حتى أناخ بالبصرة في المربد و بلغ المغيرة أن أبا موسى قد أناخ بالمربد فقال و الله ما جاء أبو موسى زائرا و لا تاجرا و لكنه جاء أميرا فإنهم لفي ذلك إذ جاء أبو موسى حتى دخل عليهم فدفع إلى المغيرة كتابا من عمر إنه لأوجز كتاب كتب به أحد من الناس أربع كلم عزل فيها و عاتب و استحث و أمر أما بعد فإنه بلغني نبأ عظيم فبعثت أبا موسى فسلم ما في يديك إليه و العجل. كتب إلى أهل البصرة أما بعد فإني قد بعثت أبا موسى أميرا عليكم ليأخذ لضعيفكم من قويكم و ليقاتل بكم عدوكم و ليدفع عن ذمتكم و ليجبي لكم فيئكم و ليقسم فيكم و ليحمي لكم طرقكم. فأهدى إليه المغيرة وليدة من مولدات الطائف تدعى عقيلة و قال إني قد رضيتها لك و كانت فارهة و ارتحل المغيرة و أبو بكرة و نافع بن كلدة و زياد و شبل بن معبد البجلي حتى قدموا على عمر فجمع بينهم و بين المغيرة فقال المغيرة يا أمير المؤمنين سل هؤلاء الأعبد كيف رأوني مستقبلهم أم مستدبرهم و كيف رأوا المرأة و عرفوها فإن كانوا مستقبلي فكيف لم أستتر و إن كانوا مستدبري فبأي شي ء استحلوا النظر إلي في منزلي على امرأتي و الله ما أتيت إلا امرأتي فبدأ بأبي بكرة فشهد عليه أنه رآه بين رجلي أم جميل و هو يدخله و يخرجه قال عمر كيف رأيتهما قال مستدبرهما قال كيف استثبت رأسها قال تجافيت فدعا بشبل بن معبد فشهد مثل ذلك و قال استقبلتهما و استدبرتهما و شهد نافع بمثل شهادة أبي بكرة و لم يشهد زياد بمثل شهادتهم قال شرح نهج البلاغة ج : 12 ص : 234رأيته جالسا بين رجلي امرأة و رأيت قدمين مرفوعتين تخفقان و استين مكشوفتين و سمعت حفزا شديدا قال عمر (13/189)
فهل رأيته فيها كالميل في المكحلة قال لا قال فهل تعرف المرأة قال لا و لكن أشبهها فأمر عمر بالثلاثة فجلدوا الحد و قرأ فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَداءِ فَأُولئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكاذِبُونَ فقال المغيرة الحمد لله الذي أخزاكم فصاح به عمر اسكت أسكت الله نأمتك أما و الله لو تمت الشهادة لرجمتك بأحجارك فهذا ما ذكره الطبري. و أما أبو الفرج علي بن الحسين الأصفهاني فإنه ذكر في كتاب الأغاني أن أحمد بن عبد العزيز الجوهري حدثه عن عمر بن شبة عن علي بن محمد عن قتادة قال كان المغيرة بن شعبة و هو أمير البصرة يختلف سرا إلى امرأة من ثقيف يقال لها الرقطاء فلقيه أبو بكرة يوما فقال له أين تريد قال أزور آل فلان فأخذ بتلابيبه و قال إن الأمير يزار و لا يزور. قال أبو الفرج و حدثني بحديثه جماعة ذكر أسماءهم بأسانيد مختلفة لا نرى الإطالة بذكرها أن المغيرة كان يخرج من دار الإمارة وسط النهار فكان أبو بكرة يلقاه فيقول له أين يذهب الأمير فيقول له إلى حاجة فيقول حاجة ما ذا إن الأمير يزار و لا يزور. قالوا و كانت المرأة التي يأتيها جارة لأبي بكرة فقال فبينا أبو بكرة في غرفة له مع أخويه نافع و زياد و رجل آخر يقال له شبل بن معبد و كانت غرفة جارته تلك محاذية غرفة أبي بكرة فضربت الريح باب غرفة المرأة ففتحته فنظر القوم فإذا هم بالمغيرة ينكحها فقال أبو بكرة هذه بلية قد ابتليتم بها فانظروا فنظروا حتى أثبتوا (13/190)
شرح نهج البلاغة ج : 12 ص : 235فنزل أبو بكرة فجلس حتى خرج عليه المغيرة من بيت المرأة فقال له أبو بكرة إنه قد كان من أمرك ما قد علمت فاعتزلنا فذهب المغيرة و جاء ليصلي بالناس الظهر فمنعه أبو بكرة و قال لا و الله لا تصلي بنا و قد فعلت ما فعلت فقال الناس دعوه فليصل إنه الأمير و اكتبوا إلى عمر فكتبوا إليه فورد كتابه أن يقدموا عليه جميعا المغيرة و الشهود. قال أبو الفرج و قال المدائني في حديثه فبعث عمر بأبي موسى و عزم عليه ألا يضع كتابه من يده حتى يرحل المغيرة. قال أبو الفرج و قال علي بن هاشم في حديثه إن أبا موسى قال لعمر لما أمره أن يرحل المغيرة من وقته أ و خير من ذلك يا أمير المؤمنين نتركه فيتجهز ثلاثا ثم يخرج. قالوا فخرج أبو موسى حتى صلى صلاة الغداة بظهر المربد و أقبل إنسان فدخل على المغيرة فقال إني رأيت أبا موسى قد دخل المسجد الغداة و عليه برنس و ها هو في جانب المسجد فقال المغيرة إنه لم يأت زائرا و لا تاجرا قالوا و جاء أبو موسى حتى دخل على المغيرة و معه صحيفة مل ء يده فلما رآه قال أمير فأعطاه أبو موسى الكتاب فلما ذهب يتحرك عن سريره قال له مكانك تجهز ثلاثا. قال أبو الفرج و قال آخرون إن أبا موسى أمره أن يرحل من وقته فقال المغيرة قد علمت ما وجهت له فألا تقدمت و صليت فقال ما أنا و أنت في هذا الأمر إلا سواء فقال المغيرة إني أحب أن أقيم ثلاثا لأتجهز فقال أبو موسى قد عزم علي أمير المؤمنين ألا أضع عهدي من يدي إذا قرأته حتى أرحلك إليه قال إن شئت شفعتني و أبررت قسم أمير المؤمنين بأن تؤجلني إلى الظهر و تمسك الكتاب في يدك. قالوا فلقد رئي أبو موسى مقبلا و مدبرا و أن الكتاب في يده معلق بخيط فتجهز المغيرة و بعث إلى أبي موسى بعقيلة جارية عربية من سبي اليمامة من شرح نهج البلاغة ج : 12 ص : 236بني حنيفة و يقال إنها مولدة الطائف و معها خادم و سار المغيرة حين صلى الظهر حتى قدم على عمر. قال أبو (13/191)
الفرج فقال محمد بن عبد الله بن حزم في حديثه إن عمر قال له لما قدم عليه لقد شهد عليك بأمر إن كان حقا لأن تكون مت قبل ذلك كان خيرا لك. قال أبو الفرج قال أبو زيد عمر بن شبة فجلس له عمر و دعا به و بالشهود فتقدم أبو بكرة فقال أ رأيته بين فخذيها قال نعم و الله لكأني أنظر إلى تشريم جدري بفخذيها قال المغيرة لقد ألطفت النظر قال أبو بكرة لم آل أن أثبت ما يخزيك الله به فقال عمر لا و الله حتى تشهد لقد رأيته يلج فيها كما يلج المرود في المكحلة قال نعم أشهد على ذلك فقال عمر اذهب عنك مغيرة ذهب ربعك. قال أبو الفرج و يقال إن عليا ع هو قائل هذا القول ثم دعا نافعا فقال علام تشهد قال على مثل شهادة أبي بكرة فقال عمر لا حتى تشهد أنك رأيته يلج فيها ولوج المرود في المكحلة قال نعم حتى بلغ قذذه فقال اذهب عنك مغيرة ذهب نصفك ثم دعا الثالث و هو شبل بن معبد فقال علام تشهد قال على مثل شهادة صاحبي فقال اذهب عنك مغيرة ذهب ثلاثة أرباعك قال فجعل المغيرة يبكي إلى المهاجرين و بكى إلى أمهات المؤمنين حتى بكين معه قال و لم يكن زياد حضر ذلك المجلس فأمر عمر أن ينحى الشهود الثلاثة و ألا يجالسهم أحد من أهل المدينة و انتظر قدوم زياد فلما قدم جلس في المسجد و اجتمع رءوس المهاجرين و الأنصار قال المغيرة و كنت قد أعددت كلمة أقولها فلما رأى عمر زيادا مقبلا قال إني لأرى رجلا لن يخزي الله على لسانه رجلا من المهاجرين. (13/192)
شرح نهج البلاغة ج : 12 ص : 237قال أبو الفرج و في حديث أبي زيد بن عمر بن شبة عن السري عن عبد الكريم بن رشيد عن أبي عثمان النهدي أنه لما شهد الشاهد الأول عند عمر تغير الثالث لذلك لون عمر ثم جاء الثاني فشهد فانكسر لذلك انكسارا شديدا ثم جاء فشهد فكان الرماد نثر على وجه عمر فلما جاء زياد جاء شاب يخطر بيديه فرفع عمر رأسه إليه و قال ما عندك أنت يا سلح العقاب و صاح أبو عثمان النهدي صيحة تحكي صيحة عمر قال عبد الكريم بن رشيد لقد كدت أن يغشى علي لصيحته. قال أبو الفرج فكان المغيرة يحدث قال فقمت إلى زياد فقلت لا مخبأ لعطر بعد عروس يا زياد أذكرك الله و أذكرك موقف القيامة و كتابه و رسوله أن تتجاوز إلى ما لم تر ثم صحت يا أمير المؤمنين أن هؤلاء قد احتقروا دمي فالله الله في دمي قال فترنقت عينا زياد و احمر وجهه و قال يا أمير المؤمنين أما إن أحق ما حق القوم فليس عندي و لكني رأيت مجلسا قبيحا و سمعت نفسا حثيثا و انتهارا و رأيته متبطنها فقال عمر أ رأيته يدخل و يخرج كالميل في المكحلة قال لا. قال أبو الفرج و روى كثير من الرواة أنه قال رأيته رافعا برجليها و رأيت خصيتيه مترددتين بين فخذيها و سمعت حفزا شديدا و سمعت نفسا عاليا فقال عمر أ رأيته يدخله و يخرجه كالميل في المكحلة قال لا فقال عمر الله أكبر قم يا مغيرة إليهم فاضربهم فجاء المغيرة إلى أبي بكرة فضربه ثمانين و ضرب الباقين. و روى قوم أن الضارب لهم الحد لم يكن المغيرة و أعجب عمر قول زياد و درأ الحد عن المغيرة فقال أبو بكرة بعد أن ضرب أشهد أن المغيرة فعل كذا و كذا فهم عمر بضربه فقال له علي ع إن ضربته رجمت صاحبك و نهاه عن ذلك. شرح نهج البلاغة ج : 12 ص : 238قال أبو الفرج يعني إن ضربه تصير شهادته شهادتين فيوجب بذلك الرجم على المغيرة. قال فاستتاب عمر أبا بكرة فقال إنما تستتيبني لتقبل شهادتي قال أجل قال فإني لا أشهد بين اثنين ما بقيت في الدنيا قال فلما (13/193)
ضربوا الحد قال المغيرة الله أكبر الحمد لله الذي أخزاكم فقال عمر اسكت أخزى الله مكانا رأوك فيه. قال و أقام أبو بكرة على قوله و كان يقول و الله ما أنسي قط فخذيها و تاب الاثنان فقبل شهادتهما و كان أبو بكرة بعد ذلك إذا طلب إلى شهادة قال اطلبوا غيري فإن زيادا أفسد علي شهادتي. و قال أبو الفرج و روى إبراهيم بن سعيد عن أبيه عن جده قال لما ضرب أبو بكرة أمرت أمه بشاة فذبحت و جعل جلدها على ظهره قال إبراهيم فكان أبي يقول ما ذاك إلا من ضرب شديد. قال أبو الفرج فحدثنا الجوهري عن عمر بن شبة عن علي بن محمد عن يحيى بن زكريا عن مجالد عن الشعبي قال كانت الرقطاء التي رمي بها المغيرة تختلف إليه في أيام إمارته الكوفة في خلافة معاوية في حوائجها فيقضيها لها. قال أبو الفرج و حج عمر بعد ذلك مرة فوافق الرقطاء بالموسم فرآها و كان المغيرة يومئذ هناك فقال عمر للمغيرة ويحك أ تتجاهل علي و الله ما أظن أبا بكرة كذب عليك و ما رأيتك إلا خفت أن أرمي بحجارة من السماء. قال و كان علي ع بعد ذلك يقول إن ظفرت بالمغيرة لأتبعته الحجارة. قال أبو الفرج فقال حسان بن ثابت يهجو المغيرة و يذكر هذه القصة (13/194)
لو أن اللؤم ينسب كان عبدا قبيح الوجه أعور من ثقيف
شرح نهج البلاغة ج : 12 ص : 239تركت الدين و الإسلام لما بدت لك غدوة ذات النصيف و راجعت الصبا و ذكرت لهوا مع القينات في العمر اللطيف
قال أبو الفرج و روى المدائني أن المغيرة لما شخص إلى عمر في هذه الوقعة رأى في طريقه جارية فأعجبته فخطبها إلى أبيها فقال له و أنت على هذه الحال قال و ما عليك إن أبق فهو الذي تريد و إن أقتل ترثني فزوجه. و قال أبو الفرج قال الواقدي كانت امرأة من بني مرة تزوجها بالرقم فلما قدم بها على عمر قال إنك لفارغ القلب طويل الشبق. فهذه الأخبار كما تراها تدل متأملها على أن الرجل زنى بالمرأة لا محالة و كل كتب التواريخ و السير تشهد بذلك و إنما اقتصرنا نحن منها على ما في هذين الكتابين. و قد روى المدائني أن المغيرة كان أزنى الناس في الجاهلية فلما دخل في الإسلام قيده الإسلام و بقيت عنده منه بقية ظهرت في أيام ولايته البصرة. و روى أبو الفرج في كتاب الأغاني عن الجاحظ أبي عثمان عمرو بن بحر قال كان المغيرة بن شعبة و الأشعث بن قيس و جرير بن عبد الله البجلي يوما متوافقين بالكناسة في نفر و طلع عليهم أعرابي فقال لهم المغيرة دعوني أحركه قالوا لا تفعل فإن للأعراب جوابا يؤثر قال لا بد قالوا فأنت أعلم فقال له يا أعرابي أ تعرف المغيرة بن شعبة قال نعم أعرفه أعور زانيا فوجم ثم تجلد فقال أ تعرف الأشعث بن قيس قال نعم ذاك رجل لا يعرى قومه قال و كيف ذاك قال لأنهم حاكة. قال فهل تعرف جرير بن عبد الله قال كيف لا أعرف رجلا لولاه ما عرفت عشيرته فقالوا قبحك الله فإنك شر جليس هل تحب أن يوقر لك بعيرك هذا مالا و تموت شرح نهج البلاغة ج : 12 ص : 240أكرم العرب موتة قال فمن يبلغه إذن أهلي فانصرفوا عنه فتركوه قال أبو الفرج و روى علي بن سليمان الأخفس قال خرج المغيرة بن شعبة و هو يومئذ على الكوفة و معه الهيثم بن التيهان النخعي غب مطر يسير في ظهر الكوفة و النجف فلقي ابن لسان الحمرة أحد بني تيم الله بن ثعلبة و هو لا يعرف المغيرة و لا يعرفه المغيرة فقال له من أين أقبلت يا أعرابي قال من السماوة قال كيف تركت الأرض خلفك قال عريضة أريضة (13/195)
قال فكيف كان المطر قال عفى الأثر و ملأ الحفر قال فمن أنت قال من بكر بن وائل قال كيف علمك بهم قال إن جهلتهم لم أعرف غيرهم قال فما تقول في بني شيبان قال سادتنا و سادة غيرنا قال فما تقول في بني ذهل قال سادة نوكى قال فقيس بن ثعلبة قال إن جاورتهم سرقوك و إن ائتمنتهم خانوك قال فبنو تيم الله بن ثعلبة قال رعاء النقد و عراقيب الكلاب قال فبني يشكر قال صريح تحسبه مولى. قال هشام بن الكلبي لأن في ألوانهم حمرة قال فعجل قال أحلاس الخيل قال فعبد القيس قال يطعمون الطعام و يضربون الهام قال فعنزة قال لا تلتقي بهم الشفتان لؤما قال فضبيعة أضجم قال جدعا و عقرا قال فأخبرني عن النساء قال النساء أربع ربيع مربع و جميع مجمع و شيطان سمعمع و غل لا يخلع قال فسر قال أما الربيع المربع فالتي إذا نظرت إليها سرتك و إذا أقسمت عليها برتك و أما التي هي جميع مجمع فالمرأة تتزوجها و لها نسب فيجتمع نسبها إلى نسبك و أما الشيطان السمعمع فالكالحة في وجهك إذا دخلت المولولة في أثرك شرح نهج البلاغة ج : 12 ص : 241إذا خرجت و أما الغل الذي لا يخلع فبنت عمك السوداء القصيرة الفوهاء الدميمة التي قد نثرت لك بطنها إن طلقتها ضاع ولدك و إن أمسكتها فعلى جدع أنفك قال المغيرة بل أنفك قال فما تقول في أميرك المغيرة بن شعبة قال أعور زان فقال الهيثم بن الأسود فض الله فاك ويلك إنه الأمير المغيرة قال إنها كلمة تقال فانطلق به المغيرة إلى منزله و عنده يومئذ أربع نسوة و ستون أو سبعون أمه و قال ويحك هل يزني الحر و عنده مثل هؤلاء ثم قال لهن ارمين إليه بحليكن ففعلن فخرج بمل ء كسائه ذهبا و فضة. و إنما أوردنا هذين الخبرين ليعلم السامع أن الخبر بزناه كان شائعا مشهورا مستفيضا بين الناس و لأنهما يتضمنان أدبا و كتابنا هذا موضوع للأدب. و إنما قلنا إن عمر لم يخطئ في درء الحد عنه لأن الإمام يستحب له ذلك و إن غلب على ظنه أنه قد وجب الحد عليه (13/196)
روى المدائني أن أمير المؤمنين عليا ع أتي برجل قد وجب عليه الحد فقال أ هاهنا شهود قالوا نعم قال فأتوني بهم إذا أمسيتم و لا تأتوني إلا معتمين فلما أعتموا جاءوه فقال لهم نشدت الله رجلا ما لي عنده مثل هذا الحد إلا انصرف قال فما بقي منهم أحد فدرأ عنه الحد ذكر هذا الخبر أبو حيان في كتاب البصائر في الجزء السادس منه (13/197)
و الخبر المشهور الذي كاد يكون متواترا
أن رسول الله ص قال ادرءوا الحدود بالشبهات
و من تأمل المسائل الفقهية في باب الحدود علم أنها بنيت على الإسقاط عند أدنى سبب و أضعفه أ لا ترى أنه لو أقر بالزناء ثم رجع عن إقراره قبل إقامة الحد أو في وسطه قبل رجوعه و خلي سبيله. شرح نهج البلاغة ج : 12 ص : 242و قال أبو حنيفة و أصحابه يستحب للإمام أن يلقن المقر الرجوع و يقول له تأمل ما تقول لعلك مسستها أو قبلتها و يجب على الإمام أن يسأل الشهود ما الزناء و كيف هو و أين زنى و بمن زنى و متى زنى و هل رأوه وطئها في فرجها كالميل في المكحلة فإذا ثبت كل ذلك سأل عنهم فلا يقيم الحد حتى يعدلهم القاضي في السر و العلانية و لا يقام الحد بإقرار الإنسان على نفسه حتى يقر أربع مرات في أربعة مجالس كلما أقر رده القاضي و إذا تم إقراره سأله القاضي عن الزناء ما هو و كيف هو و أين زنى و بمن زنى و متى زنى. قال الفقهاء و يجب أن يبتدئ الشهود برجمه إذا تكاملت الشهادة فإن امتنعوا من الابتداء برجمه سقط الحد. قالوا و لا حد على من وطئ جارية ولده أو ولد ولده و إن قال علمت أنها على حرام و إن وطئ جارية أبيه أو أمه أو أخته و قال ظننت أنها تحل لي فلا حد عليه و من أقر أربع مرات في مجالس مختلفة بالزناء بفلانة فقالت هي بل تزوجني فلا حد عليه و كذلك إن أقرت المرأة بأنه زنى بها فلان فقال الرجل بل تزوجتها فلا حد عليها قالوا و إذا شهد الشهود بحد متقادم من الزناء لم يمنعهم عن إقامته بعدهم عن الإمام لم تقبل شهادتهم إذا كان حد
الزناء و إن شهدوا أنه زنى بامرأة و لا يعرفونها لم يحد لم تقبل شهادتهم إذا كان حد الزناء و إن شهدوا أنه زنى بامرأة و لا يعرفونها لم يحد و إن شهد اثنان أنه زنى بامرأة بالكوفة و آخران أنه زنى بالبصرة درئ الحد عنهما جميعا و إن شهد أربعة على رجل أنه زنى بامرأة بالنخيلة عند طلوع الشمس من يوم كذا و كذا و أربعة شهدوا بهذه المرأة عند طلوع الشمس ذلك اليوم بدير هند درئ الحد عنه و عنها و عنهم جميعا و إن شهد أربعة على شهادة أربعة بالزناء لم يحد المشهود عليه. شرح نهج البلاغة ج : 12 ص : 243و هذه المسائل كلها مذهب أبي حنيفة و يوافقه الشافعي في كثير منها و من تأملها علم أن مبني الحدود على الإسقاط بالشبهات و إن ضعفت. فإن قلت كل هذا لا يلزم المرتضى لأن مذهبه في فروع الفقه مخالف لمذهب الفقهاء قلت ذكر محمد بن النعمان و هو شيخ المرتضى الذي قرأ عليه فقه الإمامية في كتاب المقنعة أن الشهود الأربعة إن تفرقوا في الشهادة بالزناء و لم يأتوا بها مجتمعين في وقت في مكان واحد سقط الحد عن المشهود عليه و وجب عليهم حد القذف. قال و إذا أقر الإنسان على نفسه بالزناء أربع مرات على اختيار منه للإقرار وجب عليه الحد و إن أقر مرة أو مرتين أو ثلاثا لم يجب عليه الحد بهذا الإقرار و للإمام أن يؤدبه بإقراره على نفسه حسب ما يراه فإن كان أقر على امرأة بعينها جلد حد القذف. قال و إن جعل في الحفرة ليرجم و هو مقر على نفسه بالزناء ففر منها ترك و لم يرد لأن فراره رجوع عن الإقرار و هو أعلم بنفسه. قال و لا يجب الرجم على المحصن الذي يعده الفقهاء محصنا و هو من وطئ امرأة في نكاح صحيح و إنما الإحصان عندنا من له زوجة أو ملك يمين يستغني بها عن غيرها و يتمكن من وطئها فإن كانت مريضة لا يصل إليها بنكاح أو صغيرة لا يوطأ مثلها أو غائبة عنه أو محبوسة لم يكن محصنا بها و لا يجب عليه الرجم. قال و نكاح المتعة لا يحصن عندنا و إذا كان هذا مذهب (13/198)
الإمامية فقد اتفق قولهم و أقوال الفقهاء في سقوط الرجم بأدنى سبب و الذي رواه أبو الفرج الأصفهاني أن زيادا لم يحضر في المجلس الأول و أنه حضر في مجلس ثان فلعل إسقاط الحد كان لهذا. ثم نعود إلى تصفح ما اعترض به المرتضى كلام قاضي القضاة. (13/199)
شرح نهج البلاغة ج : 12 ص : 244أما قوله كان الحد في حكم الثابت فإن الله تعالى لم يوجب الحد إلا إذا كان ثابتا و لم يوجبه إذا كان في حكم الثابت و يسأل عن معنى قوله في حكم الثابت هل المراد بذلك أنه قريب من الثبوت و إن لم يثبت حقيقة أم المراد أنه قد ثبت و تحقق فإن أراد الثاني قيل له لا نسلم أنه ثبت لأن الشهادة لم تتم و قد اعترف المرتضى بذلك و أقر بأن الشهادة لم تكمل و لكنه نسب ذلك إلى تلقين عمر و إن أراد الأول قيل له ليس يكفي في وحوب الحد أن يكون قريبا إلى الثبوت لأنه لو كفى ذلك لحد الإنسان بشهادة ثلاثة من الشهود. و أما قوله إن عمر لقنه و كره أن يشهد فلا ريب أن الأمر وقع كذلك و قد قلنا إن هذا جائز بل مندوب إليه و روينا عن أمير المؤمنين ما رويناه و ذكرنا قول الفقهاء في ذلك و إنهم استحبوا أن يقول القاضي للمقر بالزناء تأمل ما تقوله لعلك مسستها أو قبلتها. فأما قول المرتضى إنه درأ الحد عن واحد و كان درؤه عن ثلاثة أولى فقد أجاب قاضي القضاة عنه بأنه ما كان يمكن دفعه عنهم فأما قول المرتضى بل قد كان يمكن دفعه عنهم بألا يلقن الرابع الامتناع من الشهادة فقد أجاب قاضي القضاة عنه بأن الزناء و وسم الإنسان به أعظم و أشنع و أفحش من أن يوسم بالكذب و الافتراء و عقوبة الزاني أعظم من عقوبة الكاذب القاذف عند الله تعالى في دار التكليف يبين ذلك أن الله تعالى أوجب جلد ثلاثة من المسلمين لتخليص واحد شهد الثلاثة عليه بالزناء فلو لم يكن هذا المعنى ملحوظا في نظر الشارع لما أوجبه فكيف يقول المرتضى ليس لأحد الأمرين إلا ما في الآخر. و أما خبر السارق الذي رواه قاضي القضاة و قول
المرتضى في الاعتراض عليه ليس في دفع الحد عن السارق إيقاع غيره في المكروه و قصة المغيرة تخالف هذا فليس بجيد شرح نهج البلاغة ج : 12 ص : 245لأن في دفع الحد عن السارق إضاعة مال المسلم الذي سرق السارق في زمانه و فيه أيضا إغراء أهل الفساد بالسرقة لأنهم إذا لم يقم الحد عليهم لمكان الجحود أقدموا على سرقة الأموال فلو لم يكن عناية الشارع بالدماء أكثر من عنايته بغيره من الأموال و الأبشار لما قال للمكلف لا تقر بالسرقة و لا بالزناء و لما رجح واحدا على ثلاثة و هان في نظره أن تضرب أبشارهم بالسياط و هم ثلاثة حفظا لدم واحد. و أما حديث صفوان و قول المرتضى فلا يشبه كل ما نحن فيه لأن الرسول ص بين أن ذلك القول يسقط الحد لو تقدم و ليس فيه تلقين يوجب إسقاط الحد. فجوابه أن قاضي القضاة لم يقصد بإيراد هذا الخبر إلا تشييد قول عمر أرى وجه رجل لا يفضح الله به رجلا من المسلمين لأن عمر كره فضيحة المغيرة كما كره رسول الله ص فضيحة السارق الذي قال صفوان هو له و قال ع هلا قبل أن تأتيني به أي هلا قلت ذلك قبل أن تحضره فلم يفتضح بين الناس فإن قولك هو له و إن درأ الحد إلا أنه لا يدرأ الفضيحة. فأما ما حكاه قاضي القضاة عن أبي علي من أن القذف قد كان تقدم منهم و هم بالبصرة فقد ذكرنا في الخبر ما يدل على ذلك فبطل قول المرتضى أن ذلك غير معروف و أن الظاهر المروي خلافه. و أما قول عمر للمغيرة ما رأيتك إلا خفت أن يرميني الله بحجارة من السماء فالظاهر أن مراده ما ذكره قاضي القضاة من التخويف و إظهار قوة الظن بصدق الشهود ليكون ردعا له و لذلك ورد في الخبر ما أظن أبا بكرة كذب عليك تقديره أظنه لم يكذب و لو كان كما قال المرتضى ندما و تأسفا على تفريط وقع لأقام الحد عليه و لو بعد حين و من الذي كان يمنعه من ذلك لو أراده. (13/200)
شرح نهج البلاغة ج : 12 ص : 246و قوله لم يخاف أن يرمى بالحجارة و هو لم يدرأ الحد عن مستحق له جوابه أن هذا القول يجري مجرى التهويل و التخويف للمغيرة كيلا يقدم على أن يعرض نفسه لشبهه فيما بعد. فأما قول قاضي القضاة أنه غير ممتنع أن يحب ألا يفتضح لما كان متوليا للبصرة من قبله و قول المرتضى معترضا عليه إن كونه واليا من قبله لا يقتضي أن يدرأ عنه الحد فغير لازم لأن قاضي القضاة ما جعل كونه واليا من قبله مقتضيا أن يدرأ عنه الحد و إنما قاله في جواب من أنكر على عمر محبته لدرء الحد عنه فقال إنه غير قبيح و لا يحرم محبة درء الحد عنه لأنه وال من قبله فجعل الولاية للبصرة مسوغة لمحبة عمر لدفع الحد عنه لا مسوغة لدفع الحد عنه و بين الأمرين فرق واضح. و أما قول المرتضى إن الشرع حظر كتمان الشهادة فصحيح فيما عدا الحدود فأما في الحدود فلا و قد ورد (13/201)
في الخبر الصحيح من رأى على أخيه شيئا من هذه القاذورات و ستر ستره الله يوم يفتضح المجرمون
فأما قول المرتضى هب أن الحد سقط أ ما اقتضت الحال تأديب المغيرة بنوع من أنواع التعزير و إن خف فكلام لازم لا جواب عنه و لو فعله عمر لبرئ من التهمة براءة الذئب من دم يوسف و ما أدري كيف فاته ذلك مع تشدده في الدين و صلابته في السياسة و لعله كان له مانع عن اعتماد ذلك لا نعلمه
الطعن السابع
أنه كان يتلون في الأحكام حتى روي أنه قضى في الجد بسبعين قضية و روي شرح نهج البلاغة ج : 12 ص : 247مائة قضية و أنه كان يفضل في القسمة و العطاء و قد سوى الله تعالى بين الجميع و أنه قال في الأحكام من جهة الرأي و الحدس و الظن. أجاب قاضي القضاة عن ذلك فقال مسائل الاجتهاد يسوغ فيها الاختلاف و الرجوع عن رأي إلى رأي بحسب الأمارات و غالب الظن و قد ذكر أن ذلك طريقة أمير المؤمنين ع في أمهات الأولاد و مقاسمة الجد مع الإخوة و مسألة الحرام. قال و إنما الكلام في أصل القياس و الاجتهاد فإذا ثبت ذلك خرج من أن يكون طعنا و قد ثبت أن أمير المؤمنين ع كان يولي من يرى خلاف رأيه كابن عباس و شريح و لا يمنع زيدا و ابن مسعود من الفتيا مع الاختلاف بينه و بينهما. فأما ما روي من السبعين قضية فالمراد به في مسائل من الجد لأن مسألة واحدة لا يوجد فيها سبعون قضية مختلفة و ليس في ذلك عيب بل يدل على سعة علمه. و قال قد صح في زمان الرسول ص مثل ذلك لأنه لما شاور في أمر الأسرى أبا بكر أشار ألا يقتلهم و أشار عمر بقتلهم فمدحهما جميعا فما الذي يمنع من كون القولين صوابا من المجتهدين و من الواحد في حالين. و بعد فقد ثبت أن اجتهاد الحسن ع في طلب الإمامة كان بخلاف اجتهاد الحسين ع لأنه سلم الأمر و تمكنه أكثر من تمكن الحسين ع و لم يمنع ذلك من كونهما ع مصيبين. شرح نهج البلاغة ج : 12 ص : 248اعترض المرتضى هذا الجواب فقال لا شك أن التلون في الأحكام و الرجوع من قضاء إلى قضاء إنما يكون عيبا و طعنا إذا أبطل الاجتهاد الذي يذهبون إليه فأما لو ثبت لم يكن ذلك عيبا فأما الدعوى على أمير المؤمنين ع أنه تنقل في الأحكام و رجع من مذهب إلى آخر فإنها غير صحيحة و لا نسلمه و نحن ننازعه فيها و هو لا ينازعنا في تلون صاحبه و تنقله فلم يشتبه الأمران. و أظهر ما روي في ذلك خبر أمهات الأولاد و قد بينا فيما سلف من الكتاب ما فيه و قلنا إن مذهبه في بيعهن (13/202)
كان واحدا غير مختلف و إن كان قد وافق عمر في بعض الأحوال لضرب من الرأي فأما توليته لمن يرى خلاف رأيه فليس ذلك لتسويغه الاجتهاد الذي يذهبون إليه بل لما بيناه من قبل أنه ع كان غير متمكن من اختياره و أنه يجري أكثر الأمور مجراها المتقدم للسياسة و التدبير و هذا السبب في أنه لم يمنع من خالفه في الفتيا. فأما قوله إن السبعين قضية لم تكن في مسألة واحدة و إنما كانت في مسائل من الجد فكلا الأمرين واحد فيما قصدناه لأن حكم الله تعالى لا يختلف في المسألة الواحدة و المسائل فأما أمر الأسارى فإن صح فإنه لا يشبه أحكام الدين المبنية على العلم و اليقين لأنه لا سبيل لأبي بكر و عمر إلى المشورة في أمر الأسارى إلا من طريق الظن و الحسبان و أحكام الدين معلومة و إلى العلم بها سبيل. و ما ادعاه من اجتهاد الحسن بخلاف اجتهاد الحسين ليس على ما ظنه لأن ذلك لم يكن عن اجتهاد و ظن بل كان عن علم و يقين فمن أين له أنهما عملا على الظن فما نراه اعتمد على حجة و من أين له أن تمكن الحسن كان أكثر من تمكن الحسين (13/203)
شرح نهج البلاغة ج : 12 ص : 249على أن هذا لو كان على ما قاله لم يحسن من هذا التسليم و من ذاك القتال لأن المقاتل قد يكون مغررا ملقيا بيديه إلى التهلكة و المسالم مضيعا للأمر مفرطا و إذا كان عند صاحب الكتاب التسليم و القتال إنما كانا عن ظن و أمارات فليس يجوز أن يغلب على الظن بأن الرأي في القتال مع ارتفاع أمارات التمكن و لا أن يغلب في الظن المسالمة مع قوة أمارات التمكن. قلت أما القول في صحة الاجتهاد و بطلانه فله مواضع غير هذا الموضع و كذلك القول في تقية الإمام و استصلاحه و فعله ما لا يسوغ لضرب من السياسة و التدبير. و أما مسائل الجد فلم يعترض المرتضى قول قاضي القضاة فيها و أما قاضي القضاة فقد استبعد بل أحال أن تكون مسألة واحدة بعينها تحتمل سبعين حكما مختلفة فحمل الحديث على أن عمر أفتى في باب ميراث الأجداد و الجدات بسبعين فتيا في سبعين مسألة مختلفة الصور و ذلك دليل على علمه و فقهه و تمكنه من البحث في تفاريع المسائل الشرعية هذا هو جواب قاضي القضاة فكيف يعترض بقوله كلا الأمرين واحد فيما قصدناه لأن حكم الله لا يختلف في المسألة الواحدة و المسائل المتعددة أ ليس هذا اعتراض من ظن أن قاضي القضاة قد اعترض بتناقض أحكامه و لكن لا في مسألة بعينها بل في مسائل من باب ميراث الجد و لم يقصد قاضي القضاة ما ظنه و الوجه أن يعترض قاضي القضاة فيقال إن الرواة كلهم اتفقوا على أن عمر تلون تلونا شديدا في الجد مع الإخوة كيف يقاسمهم و هي مسألة واحدة فقضى فيها بسبعين قضية فأخرجوا الرواية مخرج التعجب من تناقض فتاويه و لم يخرج أحد من المحدثين الرواية مخرج المدح له بسعة تفريعه في الفقه و المسائل فلا يجوز صرف الرواية عن الوضع الذي وردت عليه. (13/204)
شرح نهج البلاغة ج : 12 ص : 250و قول قاضي القضاة كيف تحتمل مسألة واحدة سبعين وجها جوابه أنه لم يقع الأمر بموجب ما توهمه بل المراد أن قوما تحاكموا إليه في هذه المسألة مثلا اليوم فأفتى فيها بفتيا نحو أن يقول في جد و بنت و أخت للبنت النصف و الباقي بين الجد الأخت للذكر مثل حظ الأنثيين و هو قول زيد بن ثابت ثم يتحاكم إليه بعد أيام في هذه المسألة بعينها قد وضعت لقوم آخرين فيقول للبنت النصف و للجد السدس و الباقي للأخت و هو المذهب المحكي عن علي ع و ذلك بأن يتغلب على ظنه ترجيح هذه الفتيا على ما كان أفتى به من قبل ثم تقع هذه المسألة بعينها بعد شهر آخر فيفتي فيها بفتيا أخرى فيقول للبنت النصف و الباقي بين الجد و الأخت نصفين و هو مذهب ابن مسعود ثم تقع المسألة بعينها بعد شهر آخر فيقضي فيها بالفتيا الأولى و هي مذهب زيد بأن يعود ظنه مترجحا متغلبا لمذهب زيد ثم تقع المسألة بعينها بعد وقت آخر فيفتي فيها بقول علي ع و هكذا لا تزال المسألة بعينها تقع و أقواله فيها تختلف و هي ثلاثة لا مزيد عليها إلا أنه لا يزال يفتي فيها فتاوى مختلفة إلى أن توفي فأحصيت فكانت سبعين فتيا. فأما احتجاج قاضي القضاة بقصة أسرى بدر فجيد و أما ما اعترض به المرتضى فليس بجيد لأن المسألة من باب الشرع و هو قتل الأسرى أو تخليتهم بالفداء و القتل و إراقة الدم من أهم المسائل الشرعية و قد علم من الشارع شدة العناية بأمر الدنيا فإن كانت أحكام الشرع لا يجوز أن تتلقى و أن يفتي فيها إلا بطريق معلومة و أن الظن و الاجتهاد لا مدخل له في الشرع كما يذهب إليه المرتضى فكيف جاز من رسول الله ص أن يشاور في أحكام شرعية من لا طريق له إلى العلم و إنما قصارى أمره الظن و الاجتهاد و الحسبان و كيف مدحهما جميعا و قد اختلفا و لا بد أن يكون أحدهما مخطئا. (13/205)
شرح نهج البلاغة ج : 12 ص : 251و أما قول المرتضى من أين لقاضي القضاة أن ما اعتمده الحسن و الحسين من الكف و الإقدام كان عن الاجتهاد فجيد و جواب صحيح على أصول الإمامية لأنه ليس بمستحيل أن يعتمدا ذلك بوصية سابقة من أبيهما ع. و أما قوله لقاضي القضاة كلامك مضب لأنك أسندت ما اعتمداه إلى الاجتهاد ثم قلت و قد كان تمكن الحسن أكثر من تمكن الحسين ع و هذا يؤدي إلى أن أحدهما غرر بنفسه و الآخر فرط في تسليم حقه فليس بجيد و الذي أراده قاضي القضاة الدلالة على جواز الاجتهاد و أنه طريقة المسلمين كلهم و أهل البيت ع و أومأ إلى ما اعتمده الحسن من تسليم الأمر إلى معاوية و ما اعتمده الحسين من منازعة يزيد الخلافة فعملا فيها بموجب اجتهادهما و ما غلب على ظنونهما من المصلحة و قد كان تمكن الحسن ع في الحال الحاضرة أكثر من تمكن الحسين ع في حاله الحاضرة لأن جند الحسن كان حوله و مطيفا به و هم كما روي مائة ألف سيف و لم يكن مع الحسين ع ممن يحيط به و يسير بمسيره إلى العراق إلا دون مائة فارس و لكن ظنهما في عاقبة الأمر و مستقبل الحال كان مختلفا فكان الحسن يظن خذلان أصحابه عند اللقاء و الحرب و كان الحسين ع يظن نصرة أصحابه عند اللقاء و الحرب فلذلك أحجم أحدهما و أقدم الآخر فقد بان أن قول قاضي القضاة غير مضطرب و لا متناقض (13/206)
الطعن الثامن
ما روي عن عمر من قوله متعتان كانتا على عهد رسول الله ص أنا أنهى عنهما و أعاقب عليهما و هذا اللفظ قبيح لو صح المعنى فكيف إذ فسد لأنه ليس ممن شرح نهج البلاغة ج : 12 ص : 252يشرع فيقول هذا القول و لأنه يوهم مساواة الرسول ص في الأمر و النهي و أن اتباعه أولى ماتباع رسول الله ص. أجاب قاضي القضاة فقال أنه إنما عنى بقوله و أنا أنهى عنهما و أعاقب عليهما كراهته لذلك و تشدده فيه من حيث نهى رسول الله ص عنهما بعد أن كانتا في أيامه منبها بذلك على حصول النسخ فيهما و تغير الحكم لأنا نعلم أنه كان متبعا للرسول متدينا بالإسلام فلا يجوز أن نحمل قوله على خلاف ما تواتر من حاله و حكي عن أبي علي أن ذلك بمنزلة أن يقول إني أعاقب من صلى إلى بيت المقدس و إن كان صلي إلى بيت المقدس في حياة رسول الله ص و اعتمد في تصويبه على كف الصحابة عن النكير عنه و ادعى أن أمير المؤمنين ع أنكر على ابن عباس إحلال المتعة و روى عن النبي ص تحريمهما فأما متعة الحج فإنما أراد ما كانوا يفعلون من فسخ الحج لأنه كان يحصل لهم عنده التمتع و لم يرد بذلك التمتع الذي يجري مجرى تقدم العمرة و إضافة الحج إليها بعد ذلك لأنه جائز لم يقع فيه قبح. اعترض المرتضى هذا الكلام فقال ظاهر الخبر المروي عن عمر في المتعتين يبطل هذا التأويل لأنه قال متعتان كانتا على عهد رسول الله ص أنا أنهى عنهما و أعاقب عليهما فأضاف النهي إلى نفسه و لو كان الرسول نهى عنهما لأضاف النهي إليه فكان آكد و أولى فكان يقول فنهى عنهما أو نسخهما و أنا من بعده أنهى عنهما و أعاقب عليهما و ليس يشبه ما ذكره من الصلاة إلى بيت المقدس أن نسخ شرح نهج البلاغة ج : 12 ص : 253الصلاة إلى بيت المقدس معلوم ضرورة من دينه ص و ليس كذلك المتعة على أنه لو قال إن الصلاة إلى بيت المقدس كانت في أيام النبي ص جائزة و أنا الآن أنهى عنهاكان قبيحا شنيعا مثل ما استقبحنا من القول الأول و ليس هذا القول منه (13/207)
ردا على الرسول ص لأنه لا يمتنع أن يكون استحسن حظرها في أيامه لوجه لم يكن فيما تقدم و اعتقد أن الإباحة في أيام رسول الله ص كان لها شرط لم يوجد في أيامه و قد روي عنه أنه صرح بهذا المعنى فقال إنما أحل الله المتعة للناس على عهد رسول الله ص و النساء يومئذ قليلة و لذلك روي عنه في متعة الحج أنه قال قد علمت أن رسول الله ص فعلها و أصحابه و لكن كرهت أن يظلوا بها معرسين تحت الأراك ثم يرجعوا بالحج تقطر رءوسهم. و أما اعتماده على الكف عن النكير فقد تقدم أنه ليس بحجة إلا على شرائط شرحناها على أنه قد روي أن عمر قال بعد نهيه عن المتعة لا أوتي بأحد تزوج متعة إلا عذبته بالحجارة و لو كنت تقدمت فيها لرجمت و ما وجدنا أحدا أنكر عليه هذا القول لأن المتمتع عندهم لا يستحق الرجم و لم يدل ترك النكير على صوابه. فأما ادعاؤه على أمير المؤمنين ع أنه أنكر على ابن عباس إحلالها فالأمر بخلافه و عكسه فقد روي عنه ع من طرق كثيرة أنه كان يفتي بها و ينكر على محرمها و الناهي عنها و (13/208)
روى عمر بن سعد الهمداني عن حبيش بن المعتمر قال سمعت عليا ع يقول لو لا ما سبق من ابن الخطاب في المتعة ما زنى إلا شقي
و روى أبو بصير قال سمعت أبا جعفر محمد بن علي الباقر ع يروي عن جده أمير المؤمنين ع لو لا ما سبقني به ابن الخطاب ما زنى إلا شقي
و قد أفتى بالمتعة شرح نهج البلاغة ج : 12 ص : 254جماعة من الصحابة و التابعين كعبد الله بن عباس و عبد الله بن مسعود و جابر بن عبد الله الأنصاري و سلمة بن الأكوع و أبي سعيد الخدري و سعيد بن جبير و مجاهد و غير ما ذكرناه ممن يطول ذكره فأما سادة أهل البيت ع و ماؤهم فأمرهم واضح في الفتيا بها كعلي بن الحسين زين العابدين و أبي جعفر الباقر ع و أبي عبد الله الصادق ع و أبي الحسن موسى الكاظم و علي بن موسى الرضا ع و ما ذكرنا من فتيا من أشرنا إليه من الصحابة بها يدل على أوضح بطلان ما ذكره صاحب الكتاب من ارتفاع النكير لتحريمها لأن مقامهم على الفتيا بها نكير فأما متعة الحج فقد فعلها النبي ص و الناس أجمع من بعده و الفقهاء في أعصارنا هذه لا يرونها خطأ بل صوابا. فأما قول صاحب الكتاب إن عمر إنما أنكر فسخ الحج فباطل لأن ذلك أولا لا يسمى متعة و لأن ذلك ما فعل في أيام النبي ص و لا فعله أحد من المسلمين بعده و إنما هو من سنن الجاهلية فكيف يقول عمر متعتان كانتا على عهد رسول الله ص و كيف يغلظ و يشدد فيما لم يفعل و لا فعل. قلت لا شبهة أن الظاهر من كلام عمر إضافة النهي إلى نفسه لكنا يجب علينا أن نترك ظاهر اللفظ إذا علمنا من قائله ما يوجب صرف اللفظ عن الظاهر كما يعتمده كل أحد في القرائن المقترنة بالألفاظ و المعلوم من حال عمر أنه لم يكن يدعي أنه ناسخ لشريعة شرح نهج البلاغة ج : 12 ص : 255الرسول ص و أنه كان متدينا بالإسلام و تابعا للرسول الذي جاء به فوجب أن يحمل كلامه على أنه أراد أنهما كاا ثم حرمتا ثم أنا الآن أعاقب من فعلهما لأنه قد كان بلغه عن قوم من المسلمين بعد علمهم بالتحريم و قول المرتضى لعله كان اعتقد أن الإباحة أيام رسول الله ص كانت مشروطة بشرط لم يوجد في أيامه قول يبطل طعنه في عمر و يمهد له عذرا و يصير المسألة اجتهادية. و أما طعنه في الاحتجاج على تصويب عمر بترك الإنكار عليه و قوله فهلا أنكروا (13/209)
عليه قوله لا أرى أحدا يستمتع إلا رجمته فليس بطعن مستقيم و إنما يكون طعنا صحيحا لو كان أتى بمتمتع فأمر برجمه فأما أن ينكروا عليه وعيده و تهديده لا لإنسان معين بل كلاما مطلقا و قولا كليا يقصد به حسم المادة في المتعة و تخويف فاعلها فإنه ليس بمحل للإنكار عليه و ما زالت الأئمة و الصالحون يتوعدون بأمر ليس في نفوسهم فعله على طريق التأديب و التهذيب على أن قوما من الفقهاء قد أوجبوا إقامة الحد على المتمتع فلا يمتنع أن يكون عمر ذاهبا إلى هذا المذهب. فأما ما رواه عن أمير المؤمنين ع و عن الطاهرين من أولاده من تحليل المتعة فلسنا في هذا المقام نناكره في ذلك و ننازعه فيها و المسألة فقهية من فروع الشريعة و ليس كتابنا موضوعا لذكره و لا الموضع الذي نحن فيه يقتضي الحجاج فيها و البحث في تحليلها و تحريمها و إنما الموضع موضع الكلام في حال عمر و ما نقل عنه من الكلمة هل يقتضي ذلك الطعن في دينه أم لا. فأما متعة الحج فقد اعتذر لنفسه و قال ما قدمنا ذكره من أن الحج بهاء من بهاء الله و أن التمتع يكسفه و يذهب نوره و رونقه و أنهم يظلون معرسين تحت الأراك ثم شرح نهج البلاغة ج :2 ص : 256يهلون بالحج و رءوسهم تقطر و إذا كان قد اعتذر لنفسه فقد كفانا مئونة الاعتذار (13/210)
الطعن التاسع
ما روي عنه من قصة الشورى و كونه خرج بها عن الاختيار و النص جميعا و أنه ذم كل واحد بأن ذكر فيه طعنا ثم أهله للخلافة بعد أن طعن فيه و أنه جعل الأمر إلى ستة ثم إلى أربعة ثم إلى واحد قد وصفه بالضعف و القصور و قال إن اجتمع علي و عثمان فالقول ما قالاه و إن صاروا ثلاثة و ثلاثة فالقول للذين فيهم عبد الرحمن و ذلك لعلمه بأن عليا و عثمان لا يجتمعان و أن عبد الرحمن لا يكاد يعدل بالأمر عن ختنه و ابن عمه و أنه أمر بضرب أعناقهم إن تأخروا عن البيعة فوق ثلاثة أيام و أنه أمر بقتل من يخالف الأربعة منهم أو الذين فيهم عبد الرحمن. أجاب قاضي القضاة عن ذلك فقال الأمور الظاهرة لا يجوز أن يعترض عليها بأخبار غير صحيحة و الأمر في الشورى ظاهر و أن الجماعة دخلت فيها بالرضا و لا فرق بين من قال في أحدهم أنه دخل فيها لا بالرضا و بين من قال ذلك في جميعهم و لذلك جعلنا دخول أمير المؤمنين ع في الشورى أحد ما يعتمد عليه في أن لا نص يدل عليه أنه المختص بالإمامة لأنه قد كان يجب عليه أن يصرح بالنص على نفسه بل يحتاج إلى ذكر فضائله و مناقبه لأن الحال حال مناظرة و لم يكن الأمر مستقرا لواحد فلا يمكن أن يتعلق بالتقية و المتعالم من حاله أنه لو امتنع من هذا الأمر في الشورى أصلا لم يلحقه الخوف فضلا عن غيره و معلوم أن دلالة الفعل أحسن من دلالة القول من حيث كان الاحتمال فيه أقل و المروي أن عبد الرحمن أخذ الميثاق على الجماعة شرح نهج البلاغة ج : 12 ص : 257بالرضا بمن يختاره و لا يجب القدح في الأفعال بالظنون بل ي حملها على ظاهر الصحة دون الاحتمال كما يجب مثله في غيرها و يجب إذا تقدمت للفاعل حالة تقتضي حسن الظن به أن يحمل فعله على ما يطابقها و قد علمنا أن حال عمر و ما كان عليه من النصيحة للمسلمين منع من صرف أمره في الشورى إلى الأغراض التي يظنها أعداؤه فلا يصح لهم أن يقولوا كان مراده في الشورى بأن يجعل الأمر إلى الفرقة التي فيها (13/211)
عبد الرحمن عند الخلاف أن يتم الأمر لعثمان لأنه لو كان هذا مراده لم يكن هناك ما يمنعه من النص على عثمان كما لم يمنع ذلك أبا بكر لأن أمره إن لم يكن أقوى من أمر أبي بكر لم ينقص عنه و ليس ذلك بدعة لأنه إذا جاز في غير الإمام إذا اختار أن يفعل ذلك بأن ينظر في أماثل القوم فيعلم أنهم عشرة ثم ينظر في العشرة فيعلم أن أمثلهم خمسة ثم ينظر في واحد من الخمسة فما الذي يمنع من مثله في الإمام و هو في هذا الباب أقوى اختيارا لأن له أن يختار واحدا بعينه. ثم ذكر أنه إنما حصره في الجماعة الذين انتهى إليهم الفضل و جعله شورى بينهم ثم بين أن الانتقال من الستة إلى الأربعة و من الأربعة إلى الثلاثة لا يكون متناقضا لأن الأقوال مختلفة و ليست واحدة و لو كانت أيضا واحدة لكان كالرجوع و للإمام أن يرجع في مثل ذلك لأنه في حكم الوصية. قال و قولهم أنه كان يعلم أن عثمان و عليا لا يجتمعان و أن عبد الرحمن يميل إلى عثمان قلة دين لأن الأمور المستقبلة لا تعلم و إنما يحصل فيها أمارة قال و الأمارات توجب أنه لم يكن فيهم حرص شديد على الإمامة بل الغالب من حالهم طلب الاتفاق و الائتلاف و الاسترواح إلى قيام الغير بذلك و إنما جعل عمر الأمر إلى عبد الرحمن عند الاختلاف لعلمه بزهده في الأمر و أنه لأجل ذلك أقرب أن يتثبت لأن الراغب (13/212)
شرح نهج البلاغة ج : 12 ص : 258عن الشي ء يحصل له من التثبت ما لا يحصل للراغب فيه و من كانت هذه حاله كان القوم إلى الرضا به أقرب. و حكي عن أبي علي أن المخادعة إنما تظن بمن قصده في الأمور طريق الفساد و عمر بري ء من ذلك. قال و الضعف الذي وصف به عبد الرحمنا أراد به الضعف عن القيام بالإمامة لا ضعف الرأي و لذلك رد الاختيار و الرأي إليه و حكي عن أبي علي ضعف ما روي من أمره بضرب أعناق القوم إذا تأخروا عن البيعة و أن ذلك لو صح لأنكره القوم و لم يدخلوا في الشورى بهذا الشرط ثم تأوله إذ سلم صحته على أنهم إن تأخروا عن البيعة على سبيل شق العصا و طلب الأمر من غير وجهه و قال و لا يمتنع أن يقول ذلك على طريق التهديد و إن بعد عنده أن يقدموا عليه كما قال تعالى لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ. اعترض المرتضى هذا الكلام فقال إن الذي رتبه عمر في قصة الشورى من ترتيب العدد و اتفاقه و اختلافه يدل أولا على بطلان مذهب أصحاب الاختيار في عدد العاقدين للإمامة و أنه يتم بعقد واحد لغيره برضا أربعة و أنه لا يتم بدون ذلك فإن قصة الشورى تصرح بخلاف هذا الاعتبار فهذا أحد وجوه المطاعن فيها. و من جملتها أنه وصف كل واحد منهم بوصف زعم أنه يمنع من الإمامة ثم جعل الأمر فيمن له تلك الأوصاف و قد روى محمد بن سعد عن الواقدي عن محمد بن عبد الله الزهري عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة عن ابن عباس قال قال عمر لا أدري ما أصنع بأمة محمد ص و ذلك قبل أن يطعن فقلت و لم تهتم و أنت تجد من تستخلفه شرح نهجلبلاغة ج : 12 ص : 259عليهم قال أ صاحبكم يعني عليا قلت نعم هو لها أهل في قرابته من رسول الله ص و صهره و سابقته و بلائه قال إن فيه بطالة و فكاهة فقلت فأين أنت من طلحة قال فأين الزهو و النخوة قلت عبد الرحمن قال هو رجل صالح على ضعف فيه قلت فسعد قال ذاك صاحب مقنب و قتال لا يقوم بقرية لو حمل أمرها قلت فالزبير قال وعقة لقس مؤمن (13/213)
الرضا كافر الغضب شحيح و إن هذا الأمر لا يصلح إلا لقوي في غير عنف رفيق في غير ضعف و جواد في غير سرف قلت فأين أنت من عثمان قال لو وليها لحمل بني أبي معيط على رقاب الناس و لو فعلها لقتلوه. و قد يروى من غير هذا الطريق أن عمر قال لأصحاب الشورى روحوا إلي فلما نظر إليهم قال قد جاءني كل واحد منهم يهز عفريته يرجو أن يكون خليفة أما أنت يا طلحة أ فلست القائل إن قبض النبي ص أنكح أزواجه من بعده فما جعل الله محمدا أحق ببنات أعمامنا منا فأنزل الله تعالى فيك وَ ما كانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَ لا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْواجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَداً و أما أنت يا زبير فو الله ما لان قلبك يوما و لا ليلة و ما زلت جلفا جافيا و أما أنت يا عثمان فو الله لروثة خير منك و أما أنت يا عبد الرحمن فإنك رجل عاجز تحب قومك جميعا و أما أنت يا سعد فصاحب عصبية و فتنة و أما أنت يا علي فو الله لو وزن إيمانك بإيمان أهل الأرض لرجحهم فقام علي موليا يخرج فقال عمر و الله إني لأعلم مكان رجل لو وليتموه (13/214)
شرح نهج البلاغة ج : 12 ص : 260أمركم لحملكم على المحجة البيضاء قالوا من هو قال هذا المولي من بينكم قالوا فما يمنعك من ذلك قال ليس إلى ذلك سبيل. و في خبر آخر رواه البلاذري في تاريخه أن عمر لما خرج أهل الشورى من عنده قال إن ولوها الأجلح سلك بهم الطريق فقالبد الله بن عمر فما يمنعك منه يا أمير المؤمنين قال أكره أن أتحملها حيا و ميتا. فوصف كما ترى كل واحد من القوم بوصف قبيح يمنع من الإمامة ثم جعلها في جملتهم حتى كان تلك الأوصاف تزول في حال الاجتماع و نحن نعلم أن الذي ذكره إن كان مانعا من الإمامة في كل واحد على الانفراد فهو مانع من الاجتماع مع أنه وصف عليا ع بوصف لا يليق به و لا ادعاه عدو قط بل هو معروف بضده من الركانة و البعد عن المزاح و الدعابة و هذا معلوم ضرورة لمن سمع أخباره ع و كيف يظن به ذلك و قد روي عن ابن عباس أنه قال كان أمير المؤمنين علي ع إذا أتى هبنا أن نبتدئه بالكلام و هذا لا يكون إلا من شدة التزمت و التوقر و ما يخالف الدعابة و الفكاهة. و مما تضمنته قصة الشورى من المطاعن أنه قال لا أتحملها حيا و ميتا و هذا إن كان علة عدوله عن النص إلى واحد بعينه فهو قول متلمس متخلص لا يفتات على الناس في آرائهم ثم نقض هذا بأن نص على ستة من بين العالم كله ثم رتب العدد ترتيبا مخصوصا يؤول إلى أن اختيار عبد الرحمن هو المقدم و أي شي ء يكون من التحمل أكثر من هذا و أي فرق بين أن يتحملها بأن ينص على واحد بعينه و بين أن يفعل ما فعله من الحصر و الترتيب. شرح نهج البلاغة ج : 12: 261و من جملة المطاعن أنه أمر بضرب الأعناق إن تأخروا عن البيعة أكثر من ثلاثة أيام و معلوم أنهم بذلك لا يستحقون القتل لأنهم إذا كانوا إنما كلفوا أن يجتهدوا آراءهم في اختيار الإمام فربما طال زمان الاجتهاد و ربما قصر بحسب ما يعرض فيه من العوارض فأي معنى للأمر بالقتل إذا تجاوزوا الأيام الثلاثة ثم أنه أمر بقتل من يخالف الأربعة (13/215)
و من يخالف العدد الذي فيه عبد الرحمن و كل ذلك مما لا يستحق به القتل. فأما تضعيف أبي علي لذكر القتل فليس بحجة مع أن جميع من روى قصة الشورى روى ذلك و قد روى الطبري ذلك في تاريخه و غيره. فأما تأوله الأمر بالقتل على أن المراد به إذا تأخروا على طريق شق العصا و طلب الأمر من غير وجهه فبعيد من الصواب لأنه ليس في ظاهر الخبر ذلك و لأنهم إذا شقوا العصا و طلبوا الأمر من غير وجهه من أول يوم وجب أن يمنعوا و يقاتلوا فأي معنى لضرب الأيام الثلاثة أجلا. فأما تعلقه بالتهديد فكيف يجوز أن يتهدد الإنسان على فعل بما لا يستحقه و إن علم أنه لا يعزم عليه. فأما قوله تعالى لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ فيخالف ما ذكر لأن الشرك يستحق به إحباط الأعمال و ليس يستحق بالتأخير عن البيعة القتل. فأما ادعاء صاحب الكتاب أن الجماعة دخلوا في الشورى على سبيل الرضا و أن عبد الرحمن أخذ عليهم العهد أن يرضوا بما يفعله فمن قرأ قصة الشورى على وجهها و عدل عما تسوله النفس من بناء الأخبار على المذاهب علم أن الأمر بخلاف ما ذكر و قد روى الطبري في تاريخه عن أشياخه من طرق مختلفة أن أمير المؤمنين ع قال حين خرج من عند عمر بعد خطابه للجماعة بما تقدم ذكره لقوم كانوا معه من بني هاشم إن طمع فيكم قومكم لم تؤمروا أبدا و تلقاه العباس بن عبد المطلب (13/216)
شرح نهج البلاغة ج : 12 ص : 262فقال يا عم عدلت عنا قال و ما علمك قال قرن بي عثمان و قال كونوا مع الأكثر و إن رضي رجلان رجلا و رجلان رجلا فكونوا مع الذين فيهم عبد الرحمن فسعد لا يخالف ابن عمه عبد الرحمن و عبد الرحمن صهر عثمان لا يختلفان فيوليها عبد الرحمنثمان أو يوليها عثمان عبد الرحمن فلو كان الآخران معي لم ينفعاني بله أني لا أرجو إلا أحدهما فقال له العباس لم أدفعك عن شي ء إلا رجعت إلى مستأخرا أشرت عليك عند وفاة رسول الله ص أن تسأله فيمن هذا الأمر فأبيت و أشرت عليك عند وفاته أن تعاجل الأمر فأبيت و أشرت عيك حين سماك عمر في الشورى ألا تدخل معهم فأبيت فاحفظ علي واحدة كلما عرض عليك القوم فقل لا إلا أن يولوك و احذر هؤلاء الرهط فإنهم لا يبرحون يدفعوننا عن هذا الأمر حتى يقوم لنا به غيرنا و غيرهم و ايم الله لا تناله إلا بشر لا ينفع معه خير (13/217)
فقال علي ع أما و الله لئن بقي عمر لأذكرنه ما أتى إلينا و لئن مات ليتداولنها بينهم و لئن فعلوا ليجدنني حيث يكرهون ثم تمثل
حلفت برب الراقصات عشية غدون خفافا فابتدرن المحصباليحتلبن رهط ابن يعمر مارئا نجيعا بنو الشداخ وردا مصلبا
. فالتفت فرأى أبا طلحة الأنصاري فكره مكانه فقال أبو طلحة لا ترع أبا حسن. قال المرتضى فإن قال قائل أي معنى لقول العباس إني دعوتك إلى أن تسأل رسول الله ص فيمن هذا الأمر من قبل وفاته أ ليس هذا مبطلا لما تدعونه من النص. قلنا غير ممتنع أن يريد العباس سؤاله عمن يصير الأمر إليه و ينتقل إلى يديه شرح نهج البلاغة ج : 12 ص : 263لأنه قد يستحقه من لا يصل إليه و قد يصل إلى من لا يستحقه و ليس يمتنع أن يريد إنما كنا نسأله ص إعادة النص قبل الموت ليتجدد و يتأكد و يكون لقرب العهد إليه بعيدا من أن يطرح. فإن قيل أ ليس قد أنكر على صاحب الكتاب من التأويل بعينه فيما استعمله من الرواية عن أبي بكر من قوله ليتني كنت سألت رسول الله ص هل للأنصار في هذا الأمر حق. قلنا إنما أنكرناه في ذلك الخبر لأنه لا يليق به من حيث قال فكنا لا ننازعه أهله و هذا قول من لا علم له بأنه ليس للأنصار حق في الإمامة و من كان يرجع في أن لهم حقا في الأمر أو لا حق لهم فيه إلى ما يسمعه مستأنفا و ليس هذا في الخبر الذي ذكرناه. و (13/218)
روى العباس بن هشام الكلبي عن أبيه عن جده في إسناده أن أمير المؤمنين ع شكا إلى العباس ما سمع من قول عمر كونوا مع الثلاثة الذين فيهم عبد الرحمن بن عوف و قال و الله لقد ذهب الأمر منا قال و كيف قلت ذلك يا ابن أخي قال إن سعدا لا يخالف ابن عمه عبد الرحمن و عبد الرحمن نظير عثمان و صهره فأحدهما يختار لصاحبه لا محالة و إن كان الزبير و طلحة معي فلن أنتفع بذلك إذا كان ابن عوف في الثلاثة الآخرين
قال ابن الكلبي عبد الرحمن زوج أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط و أمها أروى بنت كريز و أروى أم عثمان فلذلك قال صهره. و في رواية الطبري أن عبد الرحمن دعا عليا ع فقال عليك عهد الله شرح نهج البلاغة ج : 12 ص : 264و ميثاقه لتعملن بكتاب الله و سنة رسوله و سيرة الخفتين فقال أرجو أن أفعل و أعمل بمبلغ علمي و طاقتي. و
في خبر آخر عن أبي الطفيل أن عبد الرحمن قال لعلي ع هلم يدك خذها بما فيها على أن تسير فينا بسيرة أبي بكر و عمر فقال آخذها بما فيها على أن أسير فيكم بكتاب الله و سنة نبيه جهدي فترك يده و قال هلم يدك يا عثمان أ تأخذها بما فيها على أن تسير فينا بسيرة أبي بكر و عمر قال نعم قال هي لك يا عثمان (13/219)
و في رواية الطبري أنه قال لعثمان مثل قوله لعلي فقال نعم فبايعه فقال علي ع ختونة حنت دهرا
و في خبر آخر نفعت الختونة يا ابن عوف ليس هذا أول يوم تظاهرتم فيه علينا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَ اللَّهُ الْمُسْتَعانُ عَلى ما تَصِفُونَ و الله ما وليت عثمان إلا ليرد الأمر إليك و الله كل يوم هو في شأن
و في غير رواية الطبري أن عبد الرحمن قال له لقد قلت ذلك لعمر فقال ع أ و لم يكن ذلك كما قلت
و روى الطبري أن عبد الرحمن قال لا تجعلن يا علي على نفسك سبيلا فإني نظرت و شاورت الناس فإذا هم لا يعدلون بعثمان فقام علي ع و هو يقول سيبلغ الكتاب أجله
و في رواية الطبري أن الناس لما بايعوا عثمان تلكأ علي ع فقال عثمان فمن نكث فإنما ينكث على نفسه و من أوفى بما عاهد عليه الله فسيؤتيه أجرا شرح نهج البلاغة ج : 12 ص : 265عظيما فرجع علي ع حتى بايعه و هو يقول خدعة و أي خدعةو روى البلاذري في كتابه عن ابن الكلبي عن أبيه عن أبي مخنف في إسناد له أن عليا ع لما بايع عبد الرحمن عثمان كان قائما فقال له عبد الرحمن بايع و إلا ضربت عنقك و لم يكن يومئذ مع أحد سيف غيره فخرج علي مغضبا فلحقه أصحاب الشورى فقالوا له بايع و إلا جاهدناك فأقبل معهم يمشي حتى بايع عثمان. قال المرتضى فأي رضا هاهنا و أي إجماع و كيف يكون مختارا من تهدد بالقتل و بالجهاد و هذا المعنى و هو حديث ضرب العنق لو روته الشيعة لتضاحك المخالفون منه و تغامزوا و قالوا هذا من جملة ما تدعونه من المحال و تروونه من الأحاديث و قد أنطق الله به رواتهم و أجراه على أفواه ثقاتهم و لقد تكلم المقداد في ذلك اليوم بكلام طويل يفند فيه ما فعلوه من بيعة عثمان و عدولهم بالأمر عن أمير المؤمنين إلى أن قال له عبد الرحمن يا مقداد اتق الله فإني خائف عليك الفتنة ثم إن المقداد قام فأتى عليا فقال أ تقاتل فنقاتل معك فقال علي فبمن أقاتل و تكلم أيضا عمار فيما رواه أبو مخنف فقال يا معشر قريش أين تصرفون هذا الأمر عن بيت نبيكم تحولونه هاهنا مرة و هاهنا مرة أما و الله ما أنا بآمن أن ينزعه الله منكم فيضعه في غيركم كما انتزعتموه من أهله و وضعتموه في غير أهله فقال له هشام بن الوليد يا ابن سمية لقد عدوت طورك و ما عرفت قدرك و ما أنت و ما رأته قريش لأنفسها إنك لست في شي ء من أمرها و إمارتها فتنح عنها و تكلمت قريش بأجمعها و صاحت بعمار و انتهرته فقال الحمد لله ما زال أعوان الحق قليلا. روى أبو مخنف أيضا أن عمارا قال هذا البيت ذلك اليوم شرح نهج البلاغة ج : 12 ص : 266يا ناعي الإسلام قم فانعه قد مات عرف و أتى منكر (13/220)
أما و الله لو أن لي أعوانا لقاتلتهم و قال أمير المؤمنين ع لئن قاتلتهم بواحد لأكونن ثانيا فقال و الله ما أجد عليهم أعوانا و لا أحب أن أعرضكم لما لا تطيقون (13/221)
و روى أبو مخنف عن عبد الرحمن بن جندب عن أبيه قال دخلت على علي ع و كنت حاضرا بالمدينة يوم بويع عثمان فإذا هو واجم كئيب فقلت ما أصاب قوم صرفوا هذا الأمر عنكم فقال صبر جميل فقلت سبحان الله إنك لصبور قال فاصنع ما ذا قلت تقوم في الناس خطيبا فتدعوهم إلى نفسك و تخبرهم أنك أولى بالنبي ص بالعمل و السابقة و تسألهم النصر على هؤلاء المتظاهرين عليك فإن أجابك عشرة من مائة شددت بالعشرة على المائة فإن دانوا لك كان ما أحببت و إن أبوا قاتلتهم فإن ظهرت عليهم فهو سلطان الله آتاه نبيه ص و كنت أولى به منهم إذ ذهبوا بذلك فرده الله إليك و إن قتلت في طلبه فقتلت شهيدا و كنت أولى بالعذر عند الله تعالى في الدنيا و الآخرة فقال ع أ و تراه كان تابعي من كل مائة عشرة قلت لأرجو ذلك قال لكني لا أرجو و لا و الله من المائة اثنين و سأخبرك من أين ذلك إن الناس إنما ينظرون إلى قريش فيقولون هم قوم محمد ص و قبيلته و إن قريشا تنظر إلينا فتقول إن لهم بالنبوة فضلا على سائر قريش و إنهم أولياء هذا الأمر دون قريش و الناس و إنهم إن ولوه لم يخرج هذا السلطان منهم إلى أحد أبدا و متى كان في غيرهم تداولتموه بينكم فلا و الله لا تدفع قريش إلينا هذا السلطان طائعة أبدا قلت أ فلا أرجع إلى المصر فأخبر الناس بمقالتك هذه و أدعو الناس إليك فقال يا جندب ليس هذا زمان ذلك فرجعت فكلما ذكرت للناس شيئا من فضل علي زبروني شرح نهج البلاغة ج : 12 ص : 267و نهروني حتى رفع ذلك من أمري للوليد بن عقبة فبعث إلي فحبسنيقال و هذه الجملة التي أوردناها قليل من كثير في أن الخلاف كان واقما و الرضا كان مرتفعا و الأمر إنما تم بالحيلة و المكر و الخداع و أول شي ء مكر به عبد الرحمن أنه ابتدأ فأخرج نفسه من الأمر
ليتمكن من صرفه إلى من يريد و ليقال أنه لو لا إيثاره الحق و زهده في اللاية لما أخرج نفسه منها ثم عرض على أمير المؤمنين ع ما يعلم أنه لا يجيب إليه و لا تلزمه الإجابة إليه من السير فيهم بسيرة الرجلين و علم أنه ع لا يتمكن من أن يقول إن سيرتهما لا تلزمني لئلا ينسب إلى الطعن عليهما و كيف يلزم سيرتهما و كل واحد منهما لم يسر بسيرة الآخر بل اختلفا و تباينا في كثير من الأحكام هذا بعد أن قال لأهل الشورى وثقوا إلي من أنفسكم بأنكم ترضون باختياري إذا أخرجت نفسي فأجابوه على ما رواه أبو مخنف بإسناده إلى ما عرض عليهم إلا أمير المؤمنين ع فإنه قال انظر لعلمه بما يجر هذا المكر حتى أتاهم أبو طلحة فأخبره عبد الرحمن بما عرض و ما جاء به القوم إياه إلا عليا فأقبل أبو طلحة على علي ع فقال يا أبا الحسن إن أبا محمد ثقة لك و للمسلمين فما بالك تخافه و قد عدل بالأمر عن نفسه فلن يتحمل المأثم لغيره فأحلف علي ع عبد الرحمن بما عرض ألا يميل إلى الهوى و أن يؤثر الحق و يجتهد للأمة و لا يحابي ذا قرابة فحلف له و هذا غاية ما يتمكن منه أمير المؤمنين ع في الحال لأن عبد الرحمن لما أخرج نفسه من الأمر و ظنت به الجماعة الخير و فوضت إليه الاختيار لم يقدر أمير المؤمنين ع على أن يخالفهم و ينقض ما اجتمعوا عليه فكان أكثر ما تمكن منه أن أحلفه و صرح بما يخافه من جهته من الميل إلى الهوى و إيثار القرابة غير أن ذلك كله لم يغن شيئا. شرح نهج البلاغة ج : 12 ص : 268قال و أما قول صاحب الكتاب أن دخوله في الشورى دلالة على أنه لا نص عليه بالإمامة و لو كان عليه نص لصرح به في تلك الحال و كان ره أولى من ذكر الفضائل و المناقب فإن المانع من ذكر النص كونه يقتضي تضليل من تقدم عليه و تفسيقهم و ليس كذلك تعديد المناقب و الفضائل. و أما دخوله ع في الشورى فلو لم يدخل فيها إلا ليحتج بما احتج به من مقاماته و فضائله و درايته و وسائله إلى الإمامة و (13/222)
بالأخبار الدالة عندنا عليها على النص و الإشارة بالإمامة إليه لكان غرضا صحيحا و داعيا قويا و كيف لا يدخل في الشورى و عندهم أن واضعها قد أحسن النظر للمسلمين و فعل ما لم يسبق إليه من التحرز للدين. فأول ما كان يقال له لو امتنع منها إنك مصرح بالطعن على واضعها و على جماعة المسلمين بالرضا بها و ليس طعنك إلا لأنك ترى أن الأمر لك و أنك أحق به فيعود الأمر إلى ما كان ع يخافه من تفرق الكلمة و وقوع الفتنة. قال و في أصحابنا القائلين بالنص من يقول إنه ع إنما دخل في الشورى لتجويزه أن ينال الأمر منها و عليه أن يتوصل إلى ما يلزمه القيام به من كل وجه يظن أن يوصله إليه. قال و قول صاحب الكتاب إن التقية لا يمكن أن يتعلق بها لأن الأمر لم يكن استقر لواحد طريف لأن الأمر و إن لم يكن في تلك الحال مستقرا لأحد فمعلوم أن الإظهار بما يطعن في المتقدمين من ولاة الأمر لا يمكن منه و لا يرضى به و كذلك (13/223)
شرح نهج البلاغة ج : 12 ص : 269الخروج مما يتفق أكثرهم عليه و يرضى جمهورهم به و لا يقرون أحدا عليه بل يعدونه شذوذا عن الجماعة و خلافا على الأمة. فأما قوله إن الأفعال لا يقدح فيها بالظنون بل يجب أن تحمل على ظاهر الصحة و إن الفاعل إذا تقدمت له حالة تقتضي حسالظن به يجب أن تحمل أفعاله على ما يطابقها فإنا متى سلمنا له بهذه المقدمة لم يتم قصده فيها لأن الفعل إذا كان له ظاهر وجب أن يحمل على ظاهره إلا بدليل يعدل بنا عن ظاهره كما يجب مثله في الألفاظ و قد بينا أن ظاهر الشورى و ما جرى فيها يقتضي ما ذكرناه للأمارات اللائحة و الوجوه الظاهرة فما عدلنا عن ظاهر إلى محتمل بل المخالف هو الذي يسومنا أن نعدل عن الظاهر فأما الفاعل و ما تقدم له من الأحوال فمتى تقدم للفاعل حالة تقتضي أن يظن به الخير من غير علم و لا يقين فلا بد أن يؤثر فيها و يقدح أن يرى له حالة أخرى تقتضي ظن القبيح به لدلالة ظاهرها على ذلك و ليس لنا أن نقضي بالأولى على الثانية و هما جميعا مظنونتان لأن ذلك بمنزلة أن يقول قائل اقضوا بالثانية على الأولى و ليس كذلك إذا تقدمت للفاعل حالة تقتضي بالخير منه ثم تليها حالة تقتضي ظن القبيح به لأنا حينئذ نقتضي بالعلم على الظن و نبطل حكمه لمكان العلم و إذا صحت هذه الجملة فما تقدمت لمن ذكر حالة تقتضي العلم بالخير و إنما تقدم ما يقتضي حسن الظن فليس لنا إلا نسي ء الظن به عند ظهور أمارات سوء الظن لأن كل ذلك مظنون غير معلوم. و قوله لو أراد ذلك ما منعه من أن ينص على عثمان مانع كما ل يمنع ذلك أبا بكر من النص عليه فليس بشي ء لأنه قد فعل ما يقوم مقام النص على من أراد إيصاله إليه و صرفه عمن أراد أن يصرفه عنه من غير شناعة التصريح و حتى لا يقال فيه ما قيل في أبي بكر و يراجع في قصته كما روجع أبو بكر و لم يتعسف أبعد الطريقين و غرضه يتم من أربهما. (13/224)
شرح نهج البلاغة ج : 12 ص : 270قال فأما بيان صاحب الكتاب أن الانتقال من الستة إلى الأربعة في الشورى و من الأربعة إلى الثلاثة لا يكون تناقضا فهو رد على من زعم أن ذلك تناقض و ليس من هذا الوجه طعنا بل قد بينا وجوه المطاعن و فصلناها. و أما قوله إن الأمور المقبلة لا تعلم و إنما يحصل فيها أمارة ردا على من قال إن عمر كان يعلم أن عليا ع و عثمان لا يجتمعان و أن عبد الرحمن يميل إلى عثمان فكلام في غير موضعه لأن المراد بذلك الظن لا العلم و إن عبر عن الظن بالعلم على طريقه في الاستعمال معروفة لا يتناكرها المتكلمون و لعل صاحب الكتاب قد استعمل العلم في موضع الظن فيما لا يحصى كثرة من كتابه هذا و غيره و قد بينا فيما ذكرناه من رواية الكلبي عن أبي مخنف أن أمير المؤمنين ع أول من سبق إلى هذا المعنى في قوله للعباس شاكيا إليه ذهب و الله الأمر منا لأن سعدا لا يخالف ابن عمه عبد الرحمن و عبد الرحمن صهر عثمان فأحدهما مختار لصاحبه لا محالة و إن كان الزبير و طلحة معي فلن أنتفع بذلك إذا كان ابن عوف في الثلاثة الآخرين فأما قوله إن عبد الرحمن كان زاهدا في الأمر و الزاهد أقرب إلى التثبت فقد بينا وجه إظهاره الزهد فيه و أنه جعله الذريعة إلى مراده. فأما قول صاحب الكتاب إن الضعف الذي وصفه به إنما أراد به الضعف عن القيام بالإمامة لا ضعف الرأي فهب أن الأمر كذلك أ ليس قد جعله أحد من يجوز أن يختار للإمامة و يفوض إليه مع ضعفه عنها و هذا بمنزلة أن يصفه بالفسق ثم يدخله في جملة القوم لأن الضعف عن الإمامة مانع منها كما أن الفسق كذلك. شرح نهج البلاغة ج : 12 ص : 271قلت الكلام في الشورى و المطاعن فيها طويل جدا و قد ذكرت من ذلك في كتبي الكلامية و تعليقاتي ما قاله الناس و ما لم أسبق إليه و لا يحتمل هذا الكتاب الإطالة باستقصاء ذلك لأنه ليس بكتاب حجاج و نظر و ني أذكر منه نكتا يسيرة فأقول إن كانت أفعال عمر و أقواله قد تناقضت (13/225)
في واقعة الشورى كما زعم المرتضى رحمه الله فكذلك أفعال أمير المؤمنين إن كان منصوصا عليه كما تقوله الإمامية قد تناقضت أيضا أما أولا فإن كان منصوصا عليه فكيف أدخل نفسه في الشورى المبنية على صحة الاختيار و عدم النص أ ليس هذا إيهاما ظاهرا لأكثر المسلمين خصوصا الضعفة منهم و من لا نظر له في دقائق الأمور عنده أنه غير منصوص عليه فكيف يجوز له إضلال المكلفين و أن يوقع في نفوسهم عدم النص مع كون النص كان حاصلا. و أما عذر المرتضى عن هذا بأنه دخل في الشورى ليتمكن من الاحتجاج على أهل الشورى بمقاماته و فضائله فيقال له قد كان الدهر الأطول مخالطا لأهل الشورى و غيرهم مجتمعا معهم في المسجد و غيره من مواطن كل يوم بل كل ساعة فلا يجوز أن يقال دخل ليضمه و إياهم أو يظلهم سقف فيتمكن بذلك من ذكر مقاماته و فضائله بينهم لأن العاقل لا يجوز أن يرتكب أمرا يوهم القبيح ليفعل فعلا قد كان من قبله بثلاث عشرة سنة متمكنا من أن يفعله من غير أن يرتكب ذلك الأمر الموهم للقبيح و ليت شعري من الذي كان يمنعه أيام أبي بكر و عمر من أن يذكر مقاماته و فضائله و يفتخر بها و لم أنفك ع من ذكر فضائله و الفخر بمناقبه في تلك المدة الطويلة و قد كان عمر و هو المعروف المشهور بالغلظة و الفظاظة يذكر فضائله و يعترف بها فلست أرى لعذر المرتضى أصلا بهذا الوجه أو معنى. (13/226)
شرح نهج البلاغة ج : 12 ص : 272فأما عذره الثاني عن دخوله في الشورى بقوله لو لم يدخل فيها لقيل له إنك قد طعنت على واضع الشورى و ليس ذلك إلا لأنك ترى الأمر لك فليس بعذر جيد لأنه لو امتنع من الدخول فيها على وجه الزهد و قلة الالتفات إلى الولاية و الإعراض عن سلطان و الإمرة لما نسبه أحد إلى ما ذكره المرتضى أصلا و لقال الناس رجل زاهد لا يريد الدنيا و لا يرغب في الرئاسة ثم ما المانع من أن يقول لعمر و هو حي نشدتك الله لا تدخلني فيها فإني لا أريدها و لا أوثرها أ تراه كان في جواب هذا الكلام يأمر بقتله و يقول له إنما امتناعك لأنك تدعي أن رسول الله ص نص عليك فلا ترى أخذ الأمر من جهتي و توليه من طريقي و إنما تريده بمحض النص الأول لا غير ما أظن أن عاقلا يخطر له أن ذلك كان يكون فهذا العذر بارد لا معنى له كالعذر الأول. فأما عذره الثالث و هو قوله إنه كان يجب عليه أن يتوصل إلى القيام بالأمر بكل طريق لأنه يلزمه القيام به فعذر جيد لا بأس به. و أما ثانيا فيقال للمرتضى هب إنا نزلنا عن الدخول في الشورى هلا عرض للجماعة و هم مجتمعون و هو يعد لهم مناقبه و فضائله بذكر النص و ذلك بأن يكنى عنه كناية لطيفة فيقول لهم قد كان من رسول الله ص بالأمس في حقي ما تعلمون أ تراهم كانوا في جواب هذه الكلمة يقتلونه ما أظن أنهم كانوا يجتمعون على ذلك و لا بد لو عرض بشي ء من ذلك كان من كلام يدور بينهم في المعنى نحو أن يقولوا إن ذلك النص رجع عنه رسول الله ص أو يقولوا رأى المسلمون تركه للمصلحة أو يجري بينهو بينهم جدال و نزاع و لم يكن هناك خليفة يخاف جانبه و إنما كان مجلس مناظرة و بحث و لم يستقر الأمر لأحد. و قول المرتضى إنه و إن كان كذلك إلا أنهم كانوا لا يرضون أن يطعن في المتقدمين شرح نهج البلاغة ج : 12 ص : 273منهم و يكرهون منه ذلك و لا يقرونه عليه و يعده شذوذا له عن الجماعة و خلافا للأمة قول صحيح إذا كان القائل يقوله (13/227)
على وجه شق العصا و المنابذة و كشف القناع و إذا قاله على وجه الاستعطاف لهم و الإذكار بما عساهم نسوة و حسن التلطف و الرفق بهم و الاستمالة لهم و تذكيرهم حقوق رسول الله ص و ميثاقه الذي واثقهم به فإنه لا يقع منهم في مقابلة ذلك قتله و لا قطع عضو من أعضائه و لا إقامة الحد عليه و أقصى ما في الباب أنهم كانوا يردون ذلك عليه بكلام مثل كلامه و يجيبونه بجواب يناسب جوابه و يدفعونه عما يرومه بوجه من وجوه الدفع إن كانوا مقيمين على الإصرار على غصب الحق منه. و أما ثالثا فإن كان ع كما تقوله الإمامية منصوصا عليه فما الذي منعه لما قال له عبد الرحمن أبايعك على أن تسير فينا بسيرة الشيخين أن يقول نعم فإنه لو قال نعم لبايعه عبد الرحمن و وصل إلى الأمر الذي يلزمه القيام به و إلى الحال التي كان يتوصل بكل طريق إلى الوصول إليها. و قول المرتضى إن سيرتهما كانت مختلفة لأن أحدهما حكم بكثير مما حكم الآخر بضده ليس بجيد لأن السيرة التي كان عبد الرحمن يطلبها ذلك اليوم هو الأمر الكلي في إيالة الرعية و سياستهم و جباية الفي ء و ظلف الوالي نفسه و أهله عنه و صرفه إلى المسلمين و رم الأمر و جمع العمال و قهر الظلمة و إنصاف المظلومين و حماية البيضة و تسريب الجيوش إلى بلاد الشرك هذه هي السيرة التي كان عبد الرحمن يشترطها و هي التي طلبها الناس بعد ذلك فقالوا لمعاوية في آخر أيامه و لعبد الملك و لغيرهما و صاحوا بهم تحت المنابر نطلب سيرة العمرين و لم يريدوا في الأحكام و الفتاوي الشرعية نحو القول في الجد مع الإخوة (13/228)
شرح نهج البلاغة ج : 12 ص : 274و القول في الكلالة و القول في أمهات الأولاد فما أعلم الذي منع أمير المؤمنين ع من أن يقول لعبد الرحمن نعم فيأخذها ثم كان إذا أخذها أقدر الناس على هذه السيرة و أقواهم عليها فوا عجبا بينا هو يطلب الخلافة أشد الطلب فإذا هو ناكصنها و قد عرضت عليه على أمر هو قيم به و لهذا كان الرأي عندي أن يدخل فيها حينئذ و من الذي كان يناظره بعد ذلك و يجادله فيقول قد أخللت بشي ء من سيرة أبي بكر و عمر كلا إن السيف لضاربه و الأمر لمالكه و الرعية أتباع و الحكم لصاحب السلطان منهم. و من العجب أن يقولالمرتضى إنه لأجل التقية وافق على الرضا بالشورى فهلا اتقى القوم و قد ذكروا له سيرة الشيخين فأباها و كرهها و من كان يخاف على نفسه أن لو أظهر الزهد في الخلافة و الرغبة عن الدخول في أمر الشورى كيف لم يخف على نفسه و قد ذكرت له سيرة الشيخين فتركها و لم يوافق عليها و قال لا بل على أن أجتهد رأيي. و أما قول المرتضى إنه وصف القوم بصفات تمنع من الإمامة ثم عينهم للإمامة فنقول في جوابه أن تلك الصفات لا تمنع من الإمامة بالكلية بل هي صفات تنقص في الجملة أي لو لم تكن هذه الصفات فيهم لكانوا أكمل أ لا ترى أنه قال في عبد الرحمن رجل صالح على ضعف فيه فذكر أن فيه ضعفا يسيرا لأنه لو كان يرى ضعفه مانعا من الإمامة لقال ضعيف عنها جدا أو لا يصلح لها لضعفه و كذلك قوله في أمير المؤمنين فيه فكاهة لأن ذلك لا يمنع من الإمامة و لا زهو طلحة و نخوته و لا ما وصف به الزبير من أنه شديد السخط وقت غضبه و أنه بخيل و لا توليه الأقارب على رقاب الناس إذا لم يكونوا فساقا و أقوى عيب ذكره ما عاب به سعدا في قوله صاحب شرح نهج البلاغة ج : 12 ص : 275مقنب و قتال لا يقوم بقرية لو حمل أمرها و يجوز أن يكون قال ذلك على سبيل المبالغة في استصلاحه لأن يكون صاحب جيشقاتل به بين يدي الإمام و أنه ليس له دربة و نظر في تدبير البلاد و (13/229)
الأطراف و جباية أموالها أ لا تراه كيف قال لا يقوم بقرية و يجوز أن يلي الخلافة من هذه حاله و يستعين في أمر العباد و البلاد و جباية الأموال بالكفاة الأمناء فأما الرواية الأخرى التي قال فيها لعثمان لروثة خير منك فهي من روايات الشيعة و لسنا نعرفها من كتب غيرهم. فأما قوله كيف قال لا أتحملها حيا و ميتا فحصر الخلافة في العدد المخصوص ثم رتبها ذلك الترتيب إلى أن آلت إلى اختيار عبد الرحمن وحده فنقول في جوابه أنه كان يحب إلا يستقل وحده بأمر الخلافة و أن يشاركه في ذلك غيره من صلحاء المهاجرين ليكون أعذر عند الله تعالى و عند الناس و إذا كان قد وضع الشورى على ذلك الوضع المخصوص فلم يتحملها استقلالا بل شركه فيها غيره فهو أقل لتحمله أمرها لو كان عين على واحد بعينه. و أما حديث القتل فليس مراده إلا شق العصا و مخالفة الجماعة و التوثب على الأمر مغالبة. و قول المرتضى لو كان ذلك من أول يوم لوجب أن يمنع فاعله و يقاتل فأي معنى لضرب الأيام الثلاثة أجلا فإنه يقال له إن الأجل المذكور لم يضرب لقتل من يشق العصا و إنما ضرب لإبرامهم الأمر و فصله قبل أن تتطاول الأيام بهم و يتسامع من بعد عن دار الهجرة أن الخليفة قد قتل و أنهم مضطربون إلى الآن لم يقيموا لأنفسهم خليفة بعده فيطمع أهل الفساد و الدعارة و لا يؤمن وقوع الفتن (13/230)
شرح نهج البلاغة ج : 12 ص : 276و لا يؤمن أيضا أن يسترد الروم و فارس بلادا قد كان الإسلام استولى عليها لأن عدم الرئيس مطمع للعدو في ملكه و رعيته. فأما الأخبار و الآثار التي ذكرها المرتضى في مبايعة علي ع لعثمان و أنه كان مكرها عليها أو كالمكره و أن الرضا ك مرتفعا و الخلاف كان واقعا فكلام في غير موضعه لأن قاضي القضاة لم ينح بكلامه هذا النحو و لا قصد هذا القصد ليناقضه بما رواه و أسنده من الأخبار و الآثار و لا هذا الموضع من كتاب المغني موضع الكلام في بيعة عثمان و صحتها و وقوع الرضا بها فيطعن المرتضى في ذلك بما رواه من الأخبار و الآثار الدالة على تهضم القوم لأمير المؤمنين ع و أصحابه و شيعته و تهددهم و إنما الرضا الذي أشار إليه قاضي القضاة فهو رضا أمير المؤمنين ع بأن يكون في جملة أهل الشورى لأن هذا الباب من كتاب المغني هو باب نفي المطاعن عن عمر و قد تقدم ذكر كثير منها. ثم انتهى إلى هذا الطعن و هو حديث الشورى فذكر قاضي القضاة أن الشورى مما طعن بها عليه و ادعى أنها كانت خطأ من أفعاله لأنها لا نص و لا اختيار أ لا تراه كيف قال في أول الطعن فخرج بها عن النص و الاختيار فنقول في الجواب لو كانت خطأ لما دخل علي ع فيها و لا رضي بها فدخوله فيها و رضاه بها دليل على أنها لم تكن خطأ و أين هذا من بيعة عثمان حتى يخلط أحد البابين بالآخر. فأما دعواه أن عمر عمل هذا الفعل حيلة ليصرف الأمر عن علي ع من حيث علم أن عبد الرحمن صهر عثمان و أن سعدا ابن عم عبد الرحمن فلا يخالفه فجعل شرح نهجلبلاغة ج : 12 ص : 277الصواب في الثلاثة الذين يكون فيهم عبد الرحمن فنقول في جوابه إن عمر لو فعل ذلك و قصده لكان أحمق الناس و أجهلهم لأنه من الجائز ألا يوافق سعد ابن عمه لعداوة تكون بينهما خصوصا من بني العم و يمكن أن يستميل علي ع سعدا إلى نفسه بطريق آمنة بنت وهب و بطريق حمزة بن عبد المطلب و بطريق الدين و الإسلام و عهد (13/231)
الرسول ص و من الجائز أن يعطف عبد الرحمن على علي ع لوجه من الوجوه و يعرض عن عثمان أو يبدو من عثمان في الأيام الثلاثة أمر يكرهه عبد الرحمن فيتركه و يميل إلى علي ع و من الجائز أن يموت عبد الرحمن في تلك الأيام أو يموت سعد أو يموت عثمان أو يقتل واحد منهم فيخلص الأمر لعلي ع و من الجائز أن يخالف أبو طلحة أمره له أن يعتمد على الفرقة التي فيها عبد الرحمن و لا يعمل بقوله و يميل إلى جهة علي ع فتبطل حيلته و تدبيره. ثم هب أن هذا كله قد أسقطناه من الذي أجبر عمر و أكرهه و قسره على إدخال علي ع في أهل الشورى و إن كان مراده كما زعم المرتضى صرف الأمر بالحيلة فقد كان يمكنه أن يجعل الشورى في خمسة و لا يذكر عليا ع فيهم أ تراه كان يخاف أحدا لو فعل ذلك و من الذي كان يجسر أن يراجعه في هذا أو غيره و حيث أدخله من الذي أجبره على أن يقول إن وليها ذلك لحملهم على المحجة البيضاء و حملهم على الصراط المستقيم و نحو ذلك من المدح قد كان قادرا ألا يقول ذلك و الكلام الغث البارد لا أحبه. فأما قوله إن عبد الرحمن فعل ما فعل من إخراج نفسه من الإمامة حيلة ليسلم الأمر إلى عثمان و يصرفه عن علي ع فكلام بعضه صحيح و بعضه غير صحيح أما الصحيح منه فميل عبد الرحمن إلى جهة عثمان و انحرافه عن علي ع قليلا (13/232)
شرح نهج البلاغة ج : 12 ص : 278و ليس هذا بمخصوص بعبد الرحمن بل قريش قاطبة كانت منحرفة عنه. و أما الذي هو غير صحيح فقوله أنه أخرج نفسه منها لذلك فإن هذا عندي غير صحيح لأنه قد كان يمكنه ألا يخرج نفسه منها و يبلغ غرضه بأن يتجاوز هو و ابن عمه إلى عثمان و يدعليا و طلحة و الزبير طائفة أخرى فيولي المسلمون الأمر الطائفة التي فيها عبد الرحمن بمقتضى نص عمر على ذلك ثم يعتمد عبد الرحمن بعد ذلك ما يشاء إن شاء وليها هو أو أحد الرجلين فأي حاجة كانت به إلى أن يخرج نفسه منها ليبلغ غرضا قد كان يمكنه الوصول إليه بدون ذلك. و أيضا فإن كان غرضه ذلك فإنه من رجال الدنيا قد كان لا محالة و لم يكن من رجال الآخرة و من هو من رجال الدنيا و محبيها كيف تسمح نفسه بترك الخلافة ليعطيها غيره و هلا واطأ سعدا ابن عمه و طلحة صديقه على أن يولياه الخلافة و قد قال عمر كونوا مع الثلاثة الذين فيهم عبد الرحمن لا سيما و طلحة منحرف عن علي ع و عثمان لأنهما ابنا عبد مناف و كذلك سعد و عبد الرحمن منحرفان عنهما لذلك أيضا و لما اختصا به من صهر رسول الله ص و الصحيح أن عبد الرحمن أخرج نفسه منها لأنه استضعف نفسه عن تحمل أثقالها و كلفها و كره أن يدخل فيها فيقصر عن عمر و يراه الناس بعين النقص و لا يستطيع أن يقوم بما كان عمر يقوم به و كان عبد الرحمن غنيا موسرا كثير المال و شيخا قد ذهب عنه ترف الشباب فنفض عنها يده استغناء عنها و كراهية لخلل يدخل عليه إن وليها. و أما ميله عن علي ع فقد كان منه بعض ذلك و الطباع لا تملك و الحسد مستقر في نفوس البشر لا سيما إذا انضاف إليه ما يقتضي الازدياد في الأمور. فأما تنزيه المرتضى لعلي ع عن الفكاهة و الدعابة فحق و لقد كان (13/233)
شرح نهج البلاغة ج : 12 ص : 279ع على قدم عظيمة من الوقار و الجد و السمت العظيم و الهدى الرصين و لكنه كان طلق الوجه سمح الأخلاق و عمر كان يريد مثله من ذوي الفظاظة و الخشونة لأن كل واحد يستحسن طبع نفسه و لا يستحسن طبع من يباينه في الخلق و الطبع و أنا أعجب لفظة عمر إن كان قالها إن فيه بطالة و حاش لله أن يوصف علي ع بذلك و إنما يوصف به أهل الدعابة و اللهو و ما أظن عمر إن شاء الله قالها و أظنها زيدت في كلامه و إن الكلمة هاهنا لدالة على انحراف شديد. فأما قول أمير المؤمنين ع للعباس و لغيره ذهب الأمر منا إن عبد الرحمن لا يخالف ابن عمه فليس معناه أن عمر قصد ذلك و إنما معناه أن من سوء الاتفاق أن وقع الأمر هكذا و يوشك ألا يصل إلينا حيث قد اتفق فيه هذه النكتة. فأما قول قاضي القضاة إذا تقدمت للفاعل حالة تقتضي حسن الظن وجب أن يحمل فعله على ما يطابقها و اعتراض المرتضى عليه بقوله إن ذلك إنما يجب إذا كان الخير معلوما منه فيما تقدم لا مظنونا و متى كان مظنونا ثم وجدنا له فعلا يظن به القبيح لم يكن لنا أن نقضي بالسابق على اللاحق فنقول في جوابه أن الإنسان إذا كان مشهورا بالصلاح و الخير و تكرر منه فعل ذلك مدة طويلة ثم رأيناه قد وقعت منه حركة تنافي ذلك فيما بعد فإنه يجب علينا أن نحملها على ما يطابق أحواله الأولى ما وجدنا لها محملا لأن أحواله الأولى كثيرة و هذه حالة مفردة شاذة و إلحاق القليل بالكثير و حمله عليه أولى من نقض الكثير بالقليل و قد كانت أحوال عمر مدة عشرين سنة منتظمة في إصلاح الرعية و مناصحة الدين و هذا معلوم منه ضرورة أعني ظاهر أحواله فإذا وقعت عنه حالة واحدة و هي شرح نهج البلاغة ج : 12 ص : 280قصة الشورى فيها شبهة ما وجب أن نتأولها ما وجدنا لها في الخير محملا و نلحقها بتلك الأحوال الكثيرة التي تكررت منه في الأزمان الطوي و لا يجوز أن نضع اليد عليها و نقول هذه لا غيرها و نقبحها و نهجنها (13/234)
و نسد أبواب هذه التأويلات عنها ثم نحمل أفعاله الكثيرة المتقدمة كلها عليها في التقبيح و التهجين فهذا خلاف الواجب فقد بان صحة ما ذكره قاضي القضاة لأنه لا حاجة بنا في القضاء بالسابق على اللاحق إلا أن يكون خيره معلوما و علم علما يقينا فإن الظن الغالب كاف في هذا المقام على الوجه الذي ذكرناه. و أما قوله عن عمر أنه بلغ ما في نفسه من إيصال الأمر إلى من أراد و صرفه عمن أراد من غير شناعة بالتصريح و حتى لا يقال فيه ما قيل في أبي بكر أو يراجع في نصه كما روجع أبو بكر و لأي حال يتعسف أبعد الطريقين و غرضه يتم من أقربهما فقد قلنا في جوابه ما كفى و بينا أن عمر لو أراد ما ذكر لصرف الأمر عمن يريد صرفه عنه و نص على من يريد إيصال الأمر إليه و لم يبال بأحد فقد عرف الناس كلهم كيف كانت هيبته و سطوته و طاعة الرعية له حتى أن المسلمين أطاعوه أعظم من طاعتهم رسول الله ص في حياته و نفوذ أمره فيهم أعظم من نفوذ أمره ع فمن الذي كان يجسر أو يقدر أن يراجعه في نصه أو يراده أو يلفظ عنده أو غائبا عنه بكلمة تنافي مراده و أي شي ء ضر أبا بكر من مراجعة طلحة له حيث نص ليقول المرتضى خا عمر من أن يراجع كما روجع أبو بكر و قد سمع الناس ما قال أبو بكر لطلحة لما راجعه فإنه أخزاه و جبهه حتى دخل في الأرض و قام من عنده و هو لا يهتدي إلى الطريق و أين كانت هيبة الناس لأبي بكر من هيبتهم لعمر فلقد كان أبو بكر و هو خليفة يهابه و هو رعية و سوقة بين يديه و كل أفاضل الصحابة كان يهابه و هو بعد لم يل الخلافة حتى أن الشيعة تقول إن النبي ص يهابه فمن (13/235)
شرح نهج البلاغة ج : 12 ص : 281كانت هذه حاله و هو رعية و سوقة فكيف يكون و هو خليفة قد ملك مشارق الأرض و مغاربها و خطب له على مائة ألف منبر و لو أراد عمر أن يخطب بالخلافة لأبي هريرة لما خالفه أحد من الناس أبدا فكيف يقول المرتضى لما ذا يتعسف عمر أبعد الطرين و غرضه يتم من أقربهما. و العجب منه كيف يقول خاف شناعة التصريح فمن لم يخف عندهم شناعة المخالفة لرسول الله ص و هو يعلم أن المسلمين يعلمون أنه مخالف لله تعالى و لرسوله قائم في مقام لم يجعله الله تعالى له كيف يخاف شناعة التصريح باسم عثمان لو كان يريد استخلافه إن هذا لأعجب من العجب الطعن العاشر (13/236)
قولهم إنه أبدع في الدين ما لا يجوز كالتراويح و ما عمله في الخراج الذي وضعه على السواد و في ترتيب الجزية و كل ذلك مخالف للقرآن و السنة لأنه تعالى جعل الغنيمة للغانمين و الخمس منها لأهل الخمس فخالف القرآن و كذلك السنة تنطق في الجزية أن على كل حالم دينارا فخالف في ذلك السنة و أن الجماعة لا تكون إلا في المكتوبات فخالف السنة. أجاب قاضي القضاة عن ذلك بأن قيام شهر رمضان قد روي عن النبي ص أنه عمله ثم تركه و إذا علم أن الترك ليس بنسخ صار سنة يجوز أن يعمل بها و إذا كان ما لأجله تركه من التنبيه بذلك على أنه ليس بفرض و من تخفيف التعبد شرح نهج البلاغة ج : 12 ص : 282ليس بقائم في فعل عمر لم يمتنع أن يدوم عليه و إذا كان فيه الدعاء إلى الصلاة و التشدد في حفظ القرآن فما الذي يمنع أن يعمل به. فأما أمر الخراج فأصله السنة لأن النبي ص بين أن لمن يتولى الأمر ضربا من الاختيار في غنيمة و لذلك فصل بين الرجال و الأموال فجعل الاختيار في الرجال إلى الإمام في القتل و الاسترقاق و المفاداة و فصل بينه و بين المال و إن كان الجميع غنيمة. ثم ذكر أن الغنيمة لم تضف إلى الغانمين إضافة الملك و إنما المراد أن لهم في ذلك من الاختصاص و الحق ما ليس لغيرهم فإذا عرض ما يقتضي تقديم أمر آخر جاز للإمام أن يفعله و رأى عمر في أمر السواد الاحتياط للإسلام بأن يقر في أيديهم على الخراج الذي وضعه و إن كان في الناس من يقول فعل ذلك برضا الغانمين و بأن عوض و يدل على صحة فعله إجماع الأمة و رضاهم به و لما أفضى الأمر إلى أمير المؤمنين ع تركه على جملته و لم يغيره. ثم ذكر في الجزية أن طريقها الاجتهاد فإن الخبر المروي في هذا الباب ليس بمقطوع به و لا معناه معلوم. اعترض المرتضى هذا الجواب فقال أما التراويح فلا شبهة أنها بدعة و (13/237)
قد روي عن النبي ص أنه قال أيها الناس إن الصلاة بالليل في شهر رمضان من النافلة جماعة بدعة و صلاة الضحى بدعة ألا فلا تجتمعوا ليلا في شهر رمضان في النافلة و لا تصلوا صلاة الضحى فإن قليلا في سنة خير من كثير في بدعة ألا و إن كل بدعة ضلالة و كل ضلالة سبيلها في النار (13/238)
شرح نهج البلاغة ج : 12 ص : 283و قد روي أن عمر خرج في شهر رمضان ليلا فرأى المصابيح في المسجد فقال ما هذا فقيل له إن الناس قد اجتمعوا لصلاة التطوع فقال بدعة فنعمت البدعة فاعترف كما ترى بأنها بدعة و قد شهد الرسول ص أن كل بدعة ضلالة
و قد روي أن أمير المؤمنين ع لما اجتمعوا إليه بالكوفة فسألوه أن ينصب لهم إماما يصلي بهم نافلة شهر رمضان زجرهم و عرفهم أن ذلك خلاف السنة فتركوه و اجتمعوا لأنفسهم و قدموا بعضهم فبعث إليهم ابنه الحسن ع فدخل عليهم المسجد و معه الدرة فلما رأوه تبادروا الأبواب و صاحوا وا عمراه. قال فأما ادعاؤه أن قيام شهر رمضان كان في أيام الرسول ص ثم تركه فمغالطة منه لأنا لا ننكر قيام شهر رمضان بالنوافل على سبيل الانفراد و إنما أنكرنا الاجتماع على ذلك فإن ادعى أن الرسول ص صلاها جماعة في أيامه فإنها مكابرة ما أقدم عليها أحد و لو كان كذلك ما قال عمر إنها بدعة و إن أراد غير ذلك فهو مما لا ينفعه لأن الذي أنكرناه غيره. قال و الذي ذكره من أن فيه التشدد في حفظ القرآن و المحافظة على الصلاة ليس بشي ء لأن الله تعالى و رسوله بذلك أعلم و لو كان كما قاله لكانا يسنان هذه الصلاة و يأمران بها و يس لنا أن نبدع في الدين بما نظن أن فيه مصلحة لأنه لا خلاف في أن ذلك لا يسوغ و لا يحل. و أما أمر الخراج فهو خلاف لنص القرآن لأن الله تعالى جعل الغنيمة في وجوه مخصوصة فمن خالفها فقد أبدع و ليس للإمام و لا لغيره أن يجتهد فيخالف النص فبطل قوله أنه رأى من الاحتياط للإسلام أن يقر في أيديهم على الخراج لأن خلاف النص شرح نهج البلاغة ج : 12 ص : 284لا يكون من الاحتياط و رسوله أعلم بالاحتياط منه و لو كان لرضا الغانمين عن ذلك أو عوضهم منه على ما ادعاه صاحب الكتاب لوجب أن يظهر ذلك و يعلم و ما عرفنا في ذلك شيئا و لا نقلالناقلون. و أما ما ادعاه من الإجماع فمعوله فيه على ترك النكير و قد تقدم الكلام عليه و تكرر و كذلك قد تقدم الكلام في وجه إقرار أمير المؤمنين ع ما أقره من أحكام القوم و ما ادعاه أن خبر الجزية غير معلوم و لا مقطوع به فهب أن ذلك مسلم على ما فيه أ ليس من مذهبه أن أخبار الآحاد في الشريعة يعمل بها و إن لم تكن معلومة فهلا عمل (13/239)
عمر بالخبر المروي في هذا الباب و عدل عن اجتهاده الذي أداه إلى مخالفة الله تعالى. أما كون صلاة التراويح بدعة و إطلاق عمر عليها هذا اللفظ فإن لفظ البدعة يطلق على مفهومين أحدهما ما خولف به الكتاب و السنة مثل صوم يوم النحر و أيام التشريق فإنه و إن كان صوما إلا أنه منهي عنه. و الثاني ما لم يرد فيه نص بل سكت عنه ففعله المسلمون بعد وفاة رسول الله ص فإن أريد بكون صلاة التراويح بدعة المفهوم الأول فلا نسلم أنها بدعة بهذا التفسير و الخبر الذي رواه المرتضى غير معروف و لا يمكنه أن يسنده إلى كتاب من كتب المحدثين و لو قدر على ذلك لأسنده و لعله من أخبار أصحابه من محدثي الإمامية و الأخباريين منهم و الألفاظ التي في آخر الحديث و هي (13/240)
كل بدعة ضلالة و كل ضلالة شرح نهج البلاغة ج : 12 ص : 285في النارمروية مشهورة و لكن على تفسير البدعة بالمفهوم الأول و قول عمر إنها لبدعة خبر مروي مشهور و لكن أراد به البدعة بالتفسير الثاني و الخبر الذي رواه أمير المؤمنين ع ينفرد هو و طائفته بنقله و المحدثون لا يعرفون ذلك و لا يثبتونه. فأما إنكاره أن تكون نافلة شهر رمضان صلاها رسول الله ص في جماعة فإنكار لست أرتضيه لمثله فإن كتب المحدثين مشحونة برواية ذلك و قد ذكره أحمد بن حنبل في مسنده غير مرة بعدة طرق و رواه الفقهاء ذكره الطحاوي في كتاب إختلاف الفقهاء و ذكره أبو الطيب الطبري الشافعي في شرحه كتاب المزني و قد ذكره المتأخرون أيضا ذكره الغزالي في كتاب إحياء علوم الدين و قال إن رسول الله ص صلى التراويح في شهر رمضان في جماعة ليلتين أو ثلاثا ثم ترك و قال أخاف أن يوجب عليكم و أجاز لي الشيخ أبو الفرج عبد الرحمن بن علي بن الجوزي بروايته عن شيخه محمد بن ناصر عن شيوخه و رجاله أن رسول الله ص صلى نافلة شهر رمضان في جماعة يأتمون به ليالي ثم لم يخرج و قام في بيته و صلى الناس فرادى بقية أيامه و أيام أبي بكر و صدرا من خلافة عمر فخرج عمر ليلة فرأى الناس أوزاعا يصلون في المسجد فقال لو جمعتهم على إمام فأمر أبي بن كعب أن يصلي بهم فصلى بهم تلك الليلة ثم خرج فرآهم مجتمعين إلى أبي بن كعب يصلي بهم فقال بدعة و نعمة البدعة أما إنها لفضل و التي ينامون عنها أفضل. قال يعني قيام آخر الليل فإنه أفضل من قيام أوله. و أما قول قاضي القضاة أن في التراويح فائدة و هي التشدد في حفظ القرآن و الدعاء إلى الصلاة و اعتراض المرتضى إياه بقوله الله أعلم بالمصلحة و ليس لنا أن نسن ما لم يسنه شرح نهج البلاغة ج : 12 ص : 286الله و رسوله فإنه يقال له أ ليس يجوز للإنسان أن يخترع من النوافل صلوات مخصوصة بكيفيات مخصوصة و أعداد ركعات مخصوصة و لا يكون ذلك مكروها و لا حراما نحو أن لي (13/241)
ثلاثين ركعة بتسليمة واحدة و يقرأ في كل ركعة منها سورة من قصار المفصل أ فيقول أحد إن هذا بدعة لأنه لم يرد فيه نص و لا سبق إليه المسلمون من قبل فإن قال هذا يسوغ فإنه داخل تحت عموم ما ورد في فضل صلاة النافلة قيل له و التراويح جائزة و مسنونة لأنها داخلة تحت عموم ما ورد في فضل صلاة الجماعة. فإن قال كيف تكون نافلة و هي جماعة قيل له قد رأينا كثيرا من النوافل تصلى جماعة نحو صلاة العيد و صلاة الكسوف و صلاة الاستسقاء و صلاة الجنازة إذا لم يتعين للمصلي بأن يقوم غيره مقامه فيها. فأما ما أشار إليه قاضي القضاة من التشدد في حفظ القرآن فهو أنه روي أن عمر أتي بسارق فأمر بقطعه فقال لم أعلم أن الله أوجب القطع في السرقة و لو علمت لم أسرق فأحلفه على ذلك و سن التراويح جماعة ليتكرر سماع القرآن على أسماع المسلمين. و قد اختلف الفقهاء أيما أفضل في نافلة شهر رمضان الاجتماع عليها أم صلاتها فرادى فقال قوم الجماعة أفضل لأن الاجتماع بركة و له فضيلة و لو لا فضيلته لم يسن في المكتوبة و لأنه ربما يكسل في الانفراد و ينشط عند مشاهدة الجمع. و قال قوم الانفراد أفضل لأنها سنة ليست من الشعائر كالعيدين فإلحاقها بتحية المسجد أولى و قد جرت العادة بأن يدخل المسجد جمع معا ثم لم يصلوا التحية بالجماعة. و روى القائلون بهذا القول (13/242)
عن النبي ص أنه قال فضل صلاة المتطوع في بيته على صلاة المتطوع في المسجد كفضل صلاة المكتوبة في المسجد على صلاته في البيت
شرح نهج البلاغة ج : 12 ص : 287و قد روي عنه ع أن أفضل النوافل ركعتان يصليهما المسلم في زاوية بيته لا يعلمهما إلا الله وحدهقالوا و لأنها إذا صليت فرادى كانت الصلاة أبعد من الرياء و التصنع و بالجملة الاختلاف في أيهما أفضل فأما تحريم الصلاة و لزوم الإثم بفعلها فمما لم يذهب إليه إلا الإمامية و قد روى الرواة أن عليا ع خرج ليلا في شهر رمضان في خلافة عثمان بن عفان فرأى المصابيح في المساجد و المسلمون يصلون التراويح فقال نور الله قبر عمر كما نور مساجدنا و الشيعة يروون هذا الخبر و لكن بحمل اللفظ على معنى آخر. فأما حديث الخراج فقد ذكره أرباب علم الخراج و الكتاب و ذكره الفقهاء أيضا في كتبهم و ذكره أرباب السيرة و أصحاب التاريخ قال قدامة بن جعفر في كتاب الخراج اختلف الفقهاء في أرض العنوة فقال بعضهم تخمس ثم تقسم أربعة أخماس على الذين افتتحوها و قال بعضهم ذلك إلى الإمام إن رأى أن يجعلها غنيمة ليخمسها و يقسم الباقي كما فعل رسول الله ص بخيبر فذلك إليه و إن رأى أن يجعلها فيئا فلا يخمسها و لا يقسمها بل تكون موقوفة على سائر المسلمين كما فعل عمر بأرض السواد و أرض مصر و غيرهما مما افتتحه عنوة فعلى الوجهين جميعا فيهما قدوة و متبع لأن النبي ص قسم خيبر و صيرها غنيمة و أشار الزبير بن العوام على عمر في مصر و بلاد الشام بمثل ذلك و هو مذهب مالك بن أنس و جعل عمر السواد و غيره فيئا موقوفا على المسلمين من كان منهم حاضرا في وقته و من أتى بعده و لم يقسمه و هو رأي رآه علي بن أبي طالب ع و معاذ بن جبل و أشارا عليه و به كان يأخذ سفيان بن سعيد و ذلك رأي من جعل الخيار إلى الإمام في تصيير أرض العنوة غنيمة أو فيئا راجعا للمسلمين في كل سنة. شرح نهج البلاغة ج : 12 ص : 288قال قدامة رحمه الله فأما ما فعله رسول الله ص من تصييره خيبر غنيمة فإنه ع اتبع فيه آية محكمة و هي قوله تعالى وَ اعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ (13/243)
شَيْ ءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَ لِلرَّسُولِ وَ لِذِي الرْبى وَ الْيَتامى وَ الْمَساكِينِ وَ ابْنِ السَّبِيلِ فهذه آية الغنيمة و هي لأهلها دون الناس و بها عمل رسول الله ص و أما الآية التي عمل بها عمر و ذهب إليها علي ع و معاذ بن جبل فيما أشارا عليه به فهي قوله تعالى ما أَفاءَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرى فَلِلَّهِ وَ لِلرَّسُولِ وَ لِذِي الْقُرْبى وَ الْيَتامى وَ الْمَساكِينِ وَ ابْنِ السَّبِيلِ إلى قوله لِلْفُقَراءِ الْمُهاجِرِينَ وَ الَّذِينَ تَبَوَّؤُا الدَّارَ وَ الْإِيمانَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَ الَّذِينَ جاؤُ مِنْ بَعْدِهِمْ انتهت ألفاظ قدامة. و روى محمد بن جرير الطبري في تاريخه أن عمر هم أن يقسم أرض السواد بين الغانمين كما يقسم الغنائم ثم قال فكيف بالآجام و مناقع المياه و الغياض و الهضب المرتفع و الغائط المنخفض و كيف يصنع هؤلاء بالماء و قسمته بينهم أخاف أن يضرب بعضهم وجوه بعض ثم جمع الغانمين فقال لهم ذلك فرضوا أن تقر الأرض حبيسا لهم يولونها من تراضوا عليه ثم يقتسمون غلتها كل عام فقال عمر اللهم إني قد اجتهدت و قد قضيت ما علي اللهم إني أشهدك عليهم فاشهد. فأما قول قاضي القضاة إن النبي ص جعل لمتولي أمر الأمة ضربا من الاختيار في الغنيمة و ما ذكره من الفرق بين الرجال و الأموال و ما ذكره من أن الغانمين ليسوا مالكي الغنيمة ملكا صريحا و إنما هو ضرب من الاختصاص فكله جيد لا كلام عليه و لم يعترضه المرتضى بشي ء و لا تعرض له. و أما قول قاضي القضاة إنه روي أن عمر فعل ما فعل برضا الغانمين و بأن عوضهم شرح نهج البلاغة ج : 12 ص : 289عنه و إنكار المرتضى وقوع ذلك و قوله أنه لم ينقل فقد بينا أن الطبري ذكر في تاريخه أن عمر فعل ذلك برضا الغانمين و بعد أن جمعهم و قال لهم ما استصلحه و ما أدى إليه اجتهاده فرضوا به و أشهدوا الله عليهم و الحاضرين. و قد ذكر كثير الفقهاء أن عمر عوض (13/244)
الغانمين عن أرض السواد و وقفه على مصالح المسلمين و هذا ما رواه الشافعي و ذكر حديث التعريض أبو الحسن علي بن حبيب الماوردي في كتاب الحاوي في الفقه و ذكره أيضا أبو الطيب طاهر بن عبد الله الطبري في شرح المزني. و أما تعلق قاضي القضاة بإجماع المسلمين فتعلق صحيح و طعن المرتضى فيه بالتقية و موافقة الإمام المعصوم على الباطل طعن يسمج التعلق به و للبحث فيه سبح طويل. و أما أمر الجزية فطريقه الاجتهاد و للإمام أن يرى فيه رأيه بمشاورة الصلحاء و الفقهاء و قد قال قاضي القضاة إن الخبر الذي ذكره المرتضى و ذكر أنه مرفوع و هو (13/245)
على كل حالم دينار خبر مظنون غير معلوم و اعتراض المرتضى عليه بقوله هب أن الأمر كذلك أ لستم تزعمون أن خبر الواحد معمول عليه في الفروع فهلا عمل عمر بهذا الخبر و إن كان خبر واحد اعتراض ليس بلازم لأنه إذا كان خبر واحد عندنا لم يلزم أن يكون أيضا خبر واحد عند عمر بل من الجائز أن يكون مفتعلا بعد وفاة عمر و لو كان قد ثبت أن عمر سمع هذا الخبر من واحد أو اثنين من الصحابة ثم لم يعمل به كان الاعتراض لازما و لكن ذلك مما لم يثبت
شرح نهج البلاغة ج : 13 ص : 3الجزء الثالث عشرتتمة باب الخطب و الأوامر (14/1)
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله الواحد العدل
224- و من كلام له ع في وصف بيعته بالخلافة
و قد تقدم مثله بألفاظ مختلفة
وَ بَسَطْتُمْ يَدِي فَكَفَفْتُهَا وَ مَدَدْتُمُوهَا فَقَبَضْتُهَا ثُمَّ تَدَاكَكْتُمْ عَلَيَّ تَدَاكَّ الْإِبِلِ الْهِيمِ عَلَى حِيَاضِهَا يَوْمَ وِرْدِهَا حَتَّى انْقَطَعَتِ النَّعْلُ وَ سَقَطَ الرِّدَاءُ وَ وُطِئَ الضَّعِيفُ وَ بَلَغَ مِنْ سُرُورِ النَّاسِ بِبَيْعَتِهِمْ إِيَّايَ أَنِ ابْتَهَجَ بِهَا الصَّغِيرُ وَ هَدَجَ إِلَيْهَا الْكَبِيرُ وَ تَحَامَلَ نَحْوَهَا الْعَلِيلُ وَ حَسَرَتْ إِلَيْهَا الْكِعَابُ
التداك الازدحام الشديد و الإبل الهيم العطاش. و هدج إليها الكبير مشى مشيا ضعيفا مرتعشا و المضارع يهدج بالكسر. و تحامل نحوها العليل تكلف المشي على مشقة. شرح نهج البلاغة ج : 13 ص : 4و حسرت إليها الكعاب كشفت عن وجهها حرصا على حضور البيعة و الكعاب الجارية التقد نهد ثديها كعبت تكعب بالضم. قوله حتى انقطع النعل و سقط الرداء شبيه
بقوله في الخطبة الشقشقية حتى لقد وطئ الحسنان و شق عطفاي
و قد تقدم ذكر بيعته ع بعد قتل عثمان و إطباق الناس عليها و كيفية الحال فيها و شرح شرحا يستغنى عن إعادته
شرح نهج البلاغة ج : 13 ص : 2255- و من خطبة له عفَإِنَّ تَقْوَى اللَّهِ مِفْتَاحُ سَدَادٍ وَ ذَخِيرَةُ مَعَادٍ وَ عِتْقٌ مِنْ كُلِّ مَلَكَةٍ وَ نَجَاةٌ مِنْ كُلِّ هَلَكَةٍ بِهَا يَنْجَحُ الطَّالِبُ وَ يَنْجُو الْهَارِبُ وَ تُنَالُ الرَّغَائِبُ فَاعْمَلُوا وَ الْعَمَلُ يُرْفَعُ وَ التَّوْبَةُ تَنْفَعُ وَ الدُّعَاءُ يُسْمَعُ وَ الْحَالُ هَادِئَةٌ وَ الْأَقْلَامُ جَارِيَةٌ وَ بَادِرُوا بِالْأَعْمَالِ عُمُراً نَاكِساً أَوْ مَرَضاً حَابِساً أَوْ مَوْتاً خَالِساً فَإِنَّ الْمَوْتَ هَادِمُ لَذَّاتِكُمْ وَ مُكَدِّرُ شَهَوَاتِكُمْ وَ مُبَاعِدُ طِيَّاتِكُمْ زَائِرٌ غَيْرُ مَحْبُوبٍ وَ قِرْنٌ غَيْرُ مَغْلُوبٍ وَ وَاتِرٌ غَيْرُ مَطْلُوبٍ قَدْ أَعْلَقَتْكُمْ حَبَائِلُهُ وَ تَكَنَّفَتْكُمْ غَوَائِلُهُ وَ أَقْصَدَتْكُمْ مَعَابِلُهُ وَ عَظُمَتْ فِيكُمْ سَطْوَتُهُ وَ تَتَابَعَتْ عَلَيْكُمْ عَدْوَتُهُ وَ قَلَّتْ عَنْكُمْ نَبْوَتُهُ فَيُوشِكُ أَنْ تَغْشَاكُمْ دَوَاجِي ظُلَلِهِ وَ احْتِدَامُ عِلَلِهِ وَ حَنَادِسُ غَمَرَاتِهِ وَ غَوَاشِي سَكَرَاتِهِ وَ أَلِيمُ إِرْهَاقِهِ وَ دُجُوُّ أَطْبَاقِهِ وَ خُشُونَةُ مَذَاقِهِ فَكَأَنْ قَدْ أَتَاكُمْ بَغْتَةً فَأَسْكَتَ نَجِيَّكُمْ وَ فَرَّقَ نَدِيَّكُمْ وَ عَفَّى آثَارَكُمْ وَ عَطَّلَ دِيَارَكُمْ وَ بَعَثَ وُرَّاثَكُمْ يَقْتَسِمُونَ تُرَاثَكُمْ بَيْنَ حَمِيمٍ خَاصٍّ لَمْ يَنْفَعْ وَ قَرِيبٍ مَحْزُونٍ لَمْ يَمْنَعْ وَ آخَرَ شَامِتٍ لَمْ يَجْزَعْ فَعَلَيْكُمْ بِالْجَدِّ وَ الِاجْتِهَادِ وَ التَّأَهُّبِ وَ الِاسْتِعْدَادِ وَ التَّزَوُّدِ فِي مَنْزِلِ الزَّادِ وَ لَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا كَمَا غَرَّتْ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ مِنَ الْأُمَمِ الْمَاضِيَةِ وَ الْقُرُونِ الْخَالِيَةِ الَّذِينَ احْتَلَبُوا دِرَّتَهَا وَ أَصَابُوا غِرَّتَهَا وَ (14/2)
أَفْنَوْا عِدَّتَهَا وَ أَخْلَقُوا جِدَّتَهَا شرح نهج البلاغة ج : 13 ص : 6وَ أَصْبَحَتْ مَسَاكِنُهُمْ أَجْدَاثاً وَ أَمْوَالُهُمْ مِيرَاثاً لَا يَعْرِفُونَ مَنْ أَتَاهُمْ وَ لَا يَحْفِلُونَ مَنْ بَكَاهُمْ وَ لَا يُجِيبُونَ مَنْ دَعَاهُمْ فَاحْرُوا الدُّنْيَا فَإِنَّهَا غَدَّارَةٌ غَرَّارَةٌ خَدُوعٌ مُعْطِيَةٌ مَنُوعٌ مُلْبِسَةٌ نَزُوعٌ لَا يَدُومُ رَخَاؤُهَا وَ لَا يَنْقَضِي عَنَاؤُهَا وَ لَا يَرْكُدُ بَلَاؤُهَا (14/3)
عتق من كل ملكة هو مثل
قوله ع التوبة تجب ما قبلها
أي كل ذنب موبق يملك الشيطان فاعله و يستحوذ عليه فإن تقوى الله تعتق منه و تكفر عقابه و مثله قوله و نجاة من كل هلكة. قوله ع و العمل ينفع أي اعملوا في دار التكليف فإن العمل يوم القيامة غير نافع. قوله ع و الحال هادئة أي ساكنة ليس فيها ما في أحوال الموقف من تلك الحركات الفظيعة نحو تطاير الصحف و نطق الجوارح و عنف السياق إلى النار. قوله ع و الأقلام جارية يعني أن التكليف باق و أن الملائكة الحفظة تكتب أعمال العباد بخلاف يوم القيامة فإنه يبطل ذلك و يستغنى عن الحفظة لسقوط التكليف. قوله عمرا ناكسا يعني الهرم من قوله تعالى وَ مَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ لرجوع الشيخ الهرم إلى مثل حال الصبي الصغير في ضعف العقل و البنية شرح نهج البلاغة ج : 13 ص : 7و الموت الخالس المختطف و الطيات جمع طية بالكسر و هي منزل السفر و الواتر القاتل و الوتر بالكسر الذحل. و أعلقتكم ائله جعلتكم معتلقين فيها و يروى قد علقتكم بغير همز. و تكنفتكم غوائله أحاطت بكم دواهيه و مصائبه و أقصدتكم أصابتكم. و المعابل نصال عراض الواحدة معبلة بالكسر. و عدوته بالفتح ظلمه و نبوته مصدر نبا السيف إذا لم يؤثر في الضريبة. و يوشك بالكسر يقرب و تغشاكم تحيط بكم. و الدواجي الظلم الواحدة داجية و الظلل جمع ظلة و هي السحاب و الاحتدام الاضطرام و الحنادس الظلمات. و إرهاقه مصدر أرهقته أي أعجلته و يروى إزهاقه بالزاي. و الأطباق جمع طبق و هذا من باب الاستعارة أي تكاثف ظلماتها طبق فوق طبق. و يروى و جشوبة مذاقه بالجيم و الباء و هي غلظ الطعام. و النجي القوم يتناجون و الندي القوم يجتمعون في النادي. و احتلبوا درتها فازوا بمنافعها كما يحتلب الإنسان اللبن. و هذه الخطبة من محاسن خطبه ع و فيها من صناعة البديع ما هو ظاهر للمتأمل (14/4)
مِنْهَا فِي صِفَةِ الزُّهَّادِ كَانُوا قَوْماً مِنْ أَهْلِ الدُّنْيَا وَ لَيْسُوا مِنْ أَهْلِهَا فَكَانُوا فِيهَا كَمَنْ لَيْسَ مِنْهَا شرح نهج البلاغة ج : 13 ص : 8عَمِلُوا فِيهَا بِمَا يُبْصِرُونَ وَ بَادَرُوا فِيهَا مَا يَحْذَرُونَ تَقَلُّبُ أَبْدَانِهْ بَيْنَ ظَهْرَانَيْ أَهْلِ الآْخِرَةِ وَ يَرَوْنَ أَهْلَ الدُّنْيَا يُعَظِّمُونَ مَوْتَ أَجْسَادِهِمْ وَ هُمْ أَشَدُّ إِعْظَاماً لِمَوْتِ قُلُوبِ أَحْيَائِهِمْ (14/5)
بين ظهراني أهل الآخرة بفتح النون و لا يجوز كسرها و يجوز بين ظهري أهل الآخرة لو روي و المعنى في وسطهم. قوله ع كانوا قوما من أهل الدنيا و ليسوا من أهلها أي هم من أهلها في ظاهر الأمر و في مرأى العين و ليسوا من أهلها لأنه لا رغبة عندهم في ملاذها و نعيمها فكأنهم خارجون عنها. قوله عملوا فيها بما يبصرون أي بما يرونه أصلح لهم و يجوز أن يريد أنهم لشدة اجتهادهم قد أبصروا المآل فعملوا فيها على حسب ما يشاهدونه من دار الجزاء و هذا
كقوله ع لو كشف الغطاء ما ازددت يقينا
قوله ع و بادروا فيها ما يحذرون أي سابقوه يعني الموت. قوله ع تقلب أبدانهم هذا محمول تارة على الحقيقة و تارة على المجاز أما الأول فلأنهم لا يخالطون إلا أهل الدين و لا يجالسون أهل الدنيا و أما الثاني فلأنهم لما استحقوا الثواب كان الاستحقاق بمنزلة وصولهم إليه فأبدانهم تتقلب بين ظهراني أهل الآخرة أي بين ظهراني قوم هم بمنزلة أهل الآخرة لأن المستحق للشي ء نظير لمن فعل به ذلك الشي ء. ثم قال هؤلاء الزهاد يرون أهل الدنيا إنما يستعظمون موت الأبدان و هم أشد استعظاما لموت القلوب و قد تقدم من كلامنا في صفات الزهاد و الرفين ما فيه كفاية
شرح نهج البلاغة ج : 13 ص : 2269- و من خطبة له ع خطبها بذي قار و هو متوجه إلى البصرةذكرها الواقدي في كتاب الجمل
فَصَدَعَ بِمَا أُمِرَ بِهِ وَ بَلَّغَ رِسَالَاتِ رَبِّهِ فَلَمَّ اللَّهُ بِهِ الصَّدْعَ وَ رَتَقَ بِهِ الْفَتْقَ وَ أَلَّفَ بِهِ الشَّمْلَ بَيْنَ ذَوِي الْأَرْحَامِ بَعْدَ الْعَدَاوَةِ الْوَاغِرَةِ فِي الصُّدُورِ وَ الضَّغَائِنِ الْقَادِحَةِ فِي الْقُلُوبِ (14/6)
ذو قار اسم موضع قريب من البصرة و فيه كانت وقعة للعرب مع الفرس قبل الإسلام. و صدع بما أمر به أي جهر و أصل الصدع الشق. و لم به جمع و رتق خاط و ألحم. و العداوة الواغرة ذات الوغرة و هي شدة الحر. و الضغائن الأحقاد. و القادحة في القلوب كأنها تقدح النار فيها كما تقدح النار بالمقدحة
شرح نهج البلاغة ج : 13 ص : 22710- و من كلام له ع كلم به عبد الله بن زمعةو هو من شيعته و ذلك أنه قدم عليه في خلافته يطلب منه مالا
فَقَالَ ع إِنَّ هَذَا الْمَالَ لَيْسَ لِي وَ لَا لَكَ وَ إِنَّمَا هُوَ فَيْ ءٌ لِلْمُسْلِمِينَ وَ جَلْبُ أَسْيَافِهِمْ فَإِنْ شَرِكْتَهُمْ فِي حَرْبِهِمْ كَانَ لَكَ مِثْلُ حَظِّهِمْ وَ إِلَّا فَجَنَاةُ أَيْدِيهِمْ لَا تَكُونُ لِغَيْرِ أَفْوَاهِهِمْ عبد الله بن زمعة و نسبه
هو عبد الله بن زمعة بفتح الميم لا كما ذكره الراوندي و هو عبد الله بن زمعة بن الأسود بن المطلب بن أسد بن عبد العزى بن قصي. كان الأسود من المستهزءين الذين كفى الله رسوله أمرهم بالموت و القتل و ابنه زمعة بن الأسود قتل يوم بدر كافرا و كان يدعى زاد الركب و قتل أخوه عقيل بن الأسود أيضا كافرا يوم بدر و قتل الحارث بن زمعة أيضا يوم بدر كافرا و الأسود هو الذي سمع امرأة تبكي على بعير تضله بمكة بعد يوم بدر فقال
أ تبكي أن يضل لها بعير و يمنعها من النوم الهجود
شرح نهج البلاغة ج : 13 ص : 11و لا تبكي على بدر و لكن على بدر تقاصرت الجدودألا قد ساد بعدهم أناس و لو لا يوم بدر لم يسودوو كان عبد الله بن زمعة شيعة لعلي ع و من أصحابه و من ولد عبد الله هذا أبو البختري القاضي و هو وهب بن وهب بن كبير بن عبد الله بن زمعة قاضي الرشيد هارون بن محمد المهدي و كان منحرفا عن علي ع و هو الذي أفتى الرشيد ببطلان الأمان الذي كتبه ليحيى بن عبد الله بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب ع و أخذه بيده فمزقه. و قال أمية بن أبي الصلت يرثي قتلى بدر و يذكر زمعة بن الأسود (14/7)
عين بكي لنوفل و لعمرو ثم لا تبخلي على زمعه
نوفل بن خويلد من بني أسد بن عبد العزى و يعرف بابن العدوية قتله علي ع و عمرو أبو جهل بن هشام قتله عوف بن عفراء و أجهز عليه عبد الله بن مسعود
قوله ع و جلب أسيافهم أي ما جلبته أسيافهم و ساقته إليهم و الجلب المال المجلوب و جناة الثمر ما يجنى منه و هذه استعارة فصيحة
شرح نهج البلاغة ج : 13 ص : 22812- و من كلام له عأَلَا وَ إِنَّ اللِّسَانَ بَضْعَةٌ مِنَ الْإِنْسَانِ فَلَا يُسْعِدُهُ الْقَوْلُ إِذَا امْتَنَعَ وَ لَا يُمْهِلُهُ النُّطْقُ إِذَا اتَّسَعَ وَ إِنَّا لَأُمَرَاءُ الْكَلَامِ وَ فِينَا تَنَشَّبَتْ عُرُوقُهُ وَ عَلَيْنَا تَهَدَّلَتْ غُصُونُهُ وَ اعْلَمُوا رَحِمَكُمُ اللَّهُ أَنَّكُمْ فِي زَمَانٍ الْقَائِلُ فِيهِ بِالْحَقِّ قَلِيلٌ وَ اللِّسَانُ عَنِ الصِّدْقِ كَلِيلٌ وَ اللَّازِمُ لِلْحَقِّ ذَلِيلٌ أَهْلُهُ مُعْتَكِفُونَ عَلَى الْعِصْيَانِ مُصْطَلِحُونَ عَلَى الْإِدْهَانِ فَتَاهُمْ عَارِمٌ وَ شَائِبُهُمْ آثِمٌ وَ عَالِمُهُمْ مُنَافِقٌ وَ فَارِئُهُمْ مُمَاذِقٌ لَا يُعَظِّمُ صَغِيرُهُمْ كَبِيرَهُمْ وَ لَا يَعُولُ غَنِيُّهُمْ فَقِيرَهُمْ
بضعة من الإنسان قطعة منه و الهاء في يسعده ترجع إلى اللسان. و الضمير في امتنع يرجع إلى الإنسان و كذلك الهاء في لا يمهله يرجع إلى اللسان. و الضمير في اتسع يرجع إلى الإنسان و تقديره فلا يسعد اللسان القول إذا امتنع الإنسان عن أن يقول و لا يمهل اللسان النطق إذا اتسع للإنسان القول و المعنى أن اللسان آلة للإنسان فإذا صرفه صارف عن الكلام لم يكن اللسان شرح نهج البلاغة ج : 13 ص : 13ناطقا و إذا دعاه داع إلى الكلام نطق اللسان بما في ضمير صاحبه. و تنشبت عروقه أي علقت و روي انتشبت و الرواية الأولى أدخل في صناعة الكلام نها بإزاء تهدلت و التهدل التدلي و قد أخذ هذه الألفاظ بعينها أبو مسلم الخراساني فخطب بها في خطبة مشهورة من خطبه (14/8)
ذكر من أرتج عليهم أو حصروا عند الكلام
و اعلم أن هذا الكلام قاله أمير المؤمنين ع في واقعة اقتضت أن يقوله و ذلك أنه أمر ابن أخته جعدة بن هبيرة المخزومي أن يخطب الناس يوما فصعد المنبر فحصر و لم يستطع الكلام فقام أمير المؤمنين ع فتسنم ذروة المنبر و خطب خطبة طويلة ذكر الرضي رحمه الله منها هذه الكلمات و روى شيخنا أبو عثمان في كتاب البيان و التبيين أن عثمان صعد المنبر فأرتج عليه فقال إن أبا بكر و عمر كانا يعدان لهذا المقام مقالا و أنتم إلى إمام عادل أحوج منكم إلى إمام خطيب و ستأتيكم الخطبة على وجهها ثم نزل. قال أبو عثمان و روى أبو الحسن المدائني قال صعد ابن لعدي بن أرطاة المنبر فلما رأى الناس حصر فقال الحمد لله الذي يطعم هؤلاء و يسقيهم و صعد روح بن حاتم المنبر فلما رأى الناس قد رشقوه بأبصارهم و صرفوا أسماعهم شرح نهج البلاغة ج : 13 ص : 14نحوه قال نكسوا رءوسكم و غضوا أبصاركم فإن أول مركب صعب فإذا يسر اه عز و جل فتح قفل تيسر ثم نزل. و خطب مصعب بن حيان أخو مقاتل بن حيان خطبة نكاح فحصر فقال لقنوا موتاكم لا إله إلا الله فقالت أم الجارية عجل الله موتك أ لهذا دعوناك. و خطب مروان بن الحكم فحصر فقال اللهم إنا نحمدك و نستعينك و لا نشرك بك. و لما حصر عبد الله بن عامر بن كريز على المنبر بالبصرة و كان خطيبا شق عليه ذلك فقال له زياد ابن أبيه و كان خليفته أيها الأمير لا تجزع فلو أقمت على المنبر عامة من ترى أصابهم أكثر مما أصابك فلما كانت الجمعة تأخر عبد الله بن عامر و قال زياد للناس إن الأمير اليوم موعوك فقيل لرجل من وجوه أمراء القبائل قم فاصعد المنبر فلما صعد حصر فقال الحمد لله الذي يرزق هؤلاء و بقي ساكتا فأنزلوه و أصعدوا آخر من الوجوه فلما استوى قائما قابل بوجهه الناس فوقعت عينه على صلعة رجل فقال أيها الناس إن هذا الأصلع قد منعني الكلام اللهم فالعن هذه الصلعة فأنزلوه و قالوا لوازع اليشكري قم إلى المنبر فتكلم فلما صعد و رأى الناس (14/9)
قال أيها الناس إني كنت اليوم كارها لحضور الجمعة و لكن امرأتي حملتني على إتيانها و أنا أشهدكم أنها طالق ثلاثا فأنزلوه فقال زياد لعبد الله بن عامر كيف رأيت قم الآن فاخطب الناس. شرح نهج البلاغة : 13 ص : 15و قال سهل بن هارون دخل قطرب النحوي على المخلوع فقال يا أمير المؤمنين كانت عدتك أرفع من جائزتك و هو يتبسم فاغتاظ الفضل بن الربيع فقلت له إن هذا من الحصر و الضعف و ليس من الجلد و القوة أما تراه يفتل أصابعه و يرشح جبينه. و دخل معبد بن طوق العنبري على بعض الأمراء فتكلم و هو قائم فأحسن فلما جلس تلهيع في كلامه فقال له ما أظرفك قائما و أموقك قاعدا قال إني إذا قمت جددت و إذا قعدت هزلت فقال ما أحسن ما خرجت منها. و كان عمرو بن الأهتم المنقري و الزبرقان بن بدر عند رسول الله ص فسأل ع عمرا عن الزبرقان فقال يا رسول الله إنه لمانع لحوزته مطاع في أدانيه فقال الزبرقان حسدني يا رسول الله فقال عمرو يا رسول الله إنه لزمر المروءة ضيق العطن لئيم الخال فنظر رسول الله ص إلى وجه عمرو فقال يا رسول الله رضيت فقلت أحسن ما علمت و غضبت فقلت أقبح ما علمت و ما كذبت في الأولى و لقد صدقت في الأخرى (14/10)
فقال ع إن من البيان لسحرا
و قال خالد بن صفوان ما الإنسان لو لا اللسان إلا صورة ممثلة أو بهيمة مهملة شرح نهج البلاغة ج : 13 ص : 16و قال ابن أبي الزناد كنت كاتبا لعمر بن عبد العزيز فكان يكتب إلى عبد الحميد بن عبد الرحمن بن زيد بن الخطاب في المظالم فيراجعه فكتب إليه إنه يخيل إلي أنيو كتبت إليك أن تعطي رجلا شاة لكتبت إلي أ ضأنا أم معزا فإذا كتبت إليك بأحدهما كتبت إلي أ ذكرا أم أنثى و إذا كتبت إليك بأحدهما كتبت إلي صغيرا أم كبيرا فإذا كتبت إليك في مظلمة فلا تراجعني و السلام. و أخذ المنصور هذا فكتب إلى سلم بن قتيبة عامله بالبصرة يأمره بهدم دور من خرج مع إبراهيم بن عبد الله بن الحسن و عقر نخلهم فكتب إليه بأيهما أبدأ بالدور أم بالنخل يا أمير المؤمنين فكتب إليه لو قلت لك بالنخل لكتبت إلي بما ذا أبدأ بالشهريز أم بالبرني و عزله و ولى محمد بن سليمان. و خطب عبد الله بن عامر مرة فأرتج عليه و كان ذلك اليوم يوم الأضحى فقال لا أجمع عليكم عيا و لؤما من أخذ شاة من السوق فهي له و ثمنها علي. و خطب السفاح أول يوم صعد فيه المنبر فأرتج عليه فقام عمه داود بن علي فقال أيها الناس إن أمير المؤمنين يكره أن يتقدم قوله فيكم فعله و لأثر الأفعال أجدى عليكم من تشقيق المقال و حسبكم كتاب الله علما فيكم و ابن عم رسول الله ص خليفة عليكم. قال الشاعر شرح نهج البلاغة ج : 13 ص : 1و ما خير من لا ينفع الدهر عيشه و إن مات لم يحزن عليه أقاربه كهام على الأقصى كليل لسانه و في بشر الأدنى حديد مخالبهو قال أحيحة بن الجلاح (14/11)
و الصمت أجمل بالفتى ما لم يكن عي يشينه و القول ذو خطل إذا ما لم يكن لب يزينه شرح نهج البلاغة ج : 13 ص : 22918- و من كلام له عرَوَى ذِعْلَبٌ الْيَمَامِيُّ عَنْ أَحْمَدَ بْنِ قُتَيْبَةَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يَزِيدَ عَنْ مَالِكِ بْنِ دِحْيَةَ قَالَ كُنَّا عِنْدَ أَمِيرِ الْمُؤْمنِيِنَ ع فَقَالَ وَ قَدْ ذُكِرَ عِنْدَهُ اخْتِلَافُ النَّاسِ إِنَّمَا فَرَّقَ بَيْنَهُمْ مَبَادِئُ طِينِهِمْ وَ ذَلِكَ أَنَّهُمْ كَانُوا فِلْقَةً مِنْ سَبَخِ أَرْضٍ وَ عَذْبِهَا وَ حَزْنِ تُرْبَةٍ وَ سَهْلِهَا فَهُمْ عَلَى حَسَبِ قُرْبِ أَرْضِهِمْ يَتَقَارَبُونَ وَ عَلَى قَدْرِ اخْتِلَافِهَا يَتَفَاوَتُونَ فَتَامُّ الرُّوَاءِ نَاقِصُ الْعَقْلِ وَ مَادُّ الْقَامَةِ قَصِيرُ الْهِمَّةِ وَ زَاكِي الْعَمَلِ قَبِيحُ الْمَنْظَرِ وَ قَرِيبُ الْقَعْرِ بَعِيدُ السَّبْرِ وَ مَعْرُوفُ الضَّرِيبَةِ مُنْكَرُ الْجَلِيبَةِ وَ تَائِهُ الْقَلْبِ مُتَفَرِّقُ اللُّبِّ وَ طَلِيقُ اللِّسَانِ حَدِيدُ الْجَنَانِ (14/12)
ذعلب و أحمد و عبد الله و مالك رجال من رجال الشيعة و محدثيهم و هذا الفصل عندي لا يجوز أن يحمل على ظاهره و ما يتسارع إلى أفهام العامة منه و ذلك لأن قوله إنهم كانوا فلقة من سبخ أرض و عذبها إما أن يريد به أن كل واحد من الناس ركب من طين و جعل صورة بشرية طينية برأس و بطن و يدين و رجلين ثم نفخت فيه الروح كما فعل بآدم أو يريد به أن الطين الذي ركبت منه صورة آدم فقط كان مختلطا من سبخ و عذب فإن أريد الأول فالواقع خلافه لأن البشر الذين نشاهدهم و الذين بلغتنا أخبارهم لم يخلقوا من الطين كما خلق آدم و إنما خلقوا من نطف آبائهم و ليس لقائل أن يقول لعل تلك النطف شرح نهج البلاغة ج : 13 ص : 19افترقت لأنها تولدت من أغذية مختلفة المنبت من العذوبة و الملوحة و ذلك لأن النطفة لا تتولد من غذاء بعينه بل من مجموع الأغذية و تلك الأغذية لا يمكن أن تكون كلها من أرض سبخة محضة في السبخية ن هذا من الاتفاقات التي يعلم عدم وقوعها كما يعلم أنه لا يجوز أن يتفق أن يكون أهل بغداد في وقت بعينه على كثرتهم لا يأكلون ذلك اليوم إلا السكباج خاصة و أيضا فإن الأرض السبخة أو التي الغالب عليها السبخية لا تنبت الأقوات أصلا و إن أريد الثاني و هو أن يكون طين آدم ع مختلطا في جوهره مختلفا في طبائعه فلم كان زيد الأحمق يتولد من الجزء السبخي و عمرو العاقل يتولد من الجزء العذبي و كيف يؤثر اختلاف طين آدم من ستة آلاف سنة في أقوام يتوالدون الآن. و الذي أراه أن لكلامه ع تأويلا باطنا و هو أن يريد به اختلاف النفوس المدبرة للأبدان و كنى عنها بقوله مبادئ طينهم و ذلك أنها لما كانت الماسكة للبدن من الانحلال العاصمة له من تفرق العناصر صارت كالمبدإ و كالعلة له من حيث إنها كانت علة في بقاء امتزاجه و اختلاط عناصره بعضها ببعض و لذلك إذا فارقت عند الموت افترقت العناصر و انحلت الأجزاء فرجع اللطيف منها إلى الهواء و الكثيف إلى الأرض. و قوله كانوا (14/13)
فلقة من سبخ أرض و عذبها و حزن تربة و سهلها تفسيره أن البارئ جل جلاله لما خلق النفوس خلقها مختلفة في ماهيتها فمنها الزكية و منها الخبيثة و منها العفيفة و منها الفاجرة و منها القوية و منها الضعيفة و منها الجريئة المقدمة و منها الفشلة الذليلة إلى غير ذلك من أخلاق النفوس المختلفة المتضادة. ثم فسر ع و علل تساوي قوم في الأخلاق و تفاوت آخرين فيها فقال شرح نهج البلاغة ج : 13 ص : 20إن نفس زيد قد تكون مشابهة أو قريبة من المشابهة لنفس عمرو فإذا هما في اللاق متساويتان أو متقاربتان و نفس خالد قد تكون مضادة لنفس بكر أو قريبة من المضادة فإذا هما في الأخلاق متباينتان أو قريبتان من المباينة. و القول باختلاف النفوس في ماهياتها هو مذهب أفلاطون و قد اتبعه عليه جماعة من أعيان الحكماء و قال به كثير من مثبتي النفوس من متكلمي الإسلام. و أما أرسطو و أتباعه فإنهم لا يذهبون إلى اختلاف النفوس في ماهيتها و القول الأول عندي أمثل. ثم بين ع اختلاف آحاد الناس فقال منهم من هو تام الرواء لكنه ناقص العقل و الرواء بالهمز و المد المنظر الجميل و من أمثال العرب ترى الفتيان كالنخل و ما يدريك ما الدخل. و قال الشاعر (14/14)
عقله عقل طائر و هو في خلقة الجمل
و قال أبو الطيب
و ما الحسن في وجه الفتى شرف له إذا لم يكن في فعله و الخلائق
و قال الآخر
و ما ينفع الفتيان حسن وجوههم إذا كانت الأخلاق غير حسان فلا يغررنك المرء راق رواؤه فما كل مصقول الغرار يماني شرح نهج البلاغة ج : 13 ص : 21و من شعر الحماسةلقومي أرعى للعلا من عصابة من الناس يا حار بن عمرو تسودهاو أنتم سماء يعجب الناس رزها بآبدة تنحي شديد وئيدهاتقطع أطناب البيوت بحاصب و أكذب شي ء برقها و رعودهافويل أمها خيلا بهاء و شارة إذا لاقت الأعداء لو لا صدودهاو منه أيضا
و كاثر بسعد إن سعدا كثيرة و لا ترج من سعد وفاء و لا نصرايروعك من سعد بن زيد جسومها و تزهد فيها حين تقتلها خبرا (14/15)
قوله ع و ماد القامة قصير الهمة قريب من المعنى الأول إلا أنه خالف بين الألفاظ فجعل الناقص بإزاء التام و القصير بإزاء الماد و يمكن أن يجعل المعنيان مختلفين و ذلك لأنه قد يكون الإنسان تام العقل إلا أن همته قصيرة و قد رأينا كثيرا من الناس كذلك فإذن هذا قسم آخر من الاختلاف غير الأول. قوله ع و زاكي العمل قبيح المنظر يريد بزكاء أعماله حسنها و طهارتها فيكون قد أوقع الحسن بإزاء القبيح و هذا القسم موجود فاش بين الناس. قوله و قريب القعر بعيد السبر أي قد يكون الإنسان قصير القامة و هو مع ذلك داهية باقعة و المراد بقرب قعره تقارب ما بين طرفيه فليست بطنه بمديدة شرح نهج البلاغة ج : 13 ص : 22و لا مستطيلة و إذا سبرته و اختبرت ما عنده وجدته لبيبا فطنا لا يوقف على أسراره و لا يدرك باطنه و من هذا المعنى قول الشاعرترى الرجل النحيف فتزدريه و في أثوابه أسد مزيرو يعجبك الطرير فتبتليه فيخلف ظنك الرجل الطرير
و قيل لبعض الحكماء ما بال القصار من الناس أدهى و أحذق قال لقرب قلوبهم من أدمغتهم. و من شعر الحماسة
إلا يكن عظمي طويلا فإنني له بالخصال الصالحات وصول و لا خير في حسن الجسوم و طولها إذا لم تزن حسن الجسوم عقولو من شعر الحماسة أيضا و هو تمام البيتين المقدم ذكرهما
فما عظم الرجال لهم بفخر و لكن فخرهم كرم و خيرضعاف الطير أطولها جسوما و لم تطل البزاة و لا الصقوربغاث الطير أكثرها فراخا و أم الصقر مقلات نزورلقد عظم البعير بغير لب فلم يستغن بالعظم البعير
قوله ع و معروف الضريبة منكر الجليبة الجليبة هي الخلق الذي شرح نهج البلاغة ج : 13 ص : 23يتكلفه الإنسان و يستجلبه مثل أن يكون جبانا بالطبع فيتكلف الشجاعة أو شحيحا بالطبع فيتكلف الجود و هذا القسم أيضا عام في الناس. ثم لما فرغ من الأخلاق المتضادة ذكر بعدها ذ الأخلاق و الطباع المتناسبة المتلائمة فقال و تائه القلب متفرق اللب و هذان الوصفان متناسبان لا متضادان. ثم قال و طليق اللسان حديد الجنان و هذان الوصفان أيضا متناسبان و هما متضادان للوصفين قبلهما فالأولان ذم و الآخران مدح (14/16)
شرح نهج البلاغة ج : 13 ص : 23024- و من كلام له عقَالَهُ وَ هُوَ يَلِي غُسْلَ رَسُولِ اللَّهِ ص وَ تَجْهِيزَهُ بِأَبِي أَنْتَ وَ أُمِّي يَا رَسُولَ اللَّهِ لَقَدِ انْقَطَعَ بِمَوْتِكَ مَا لَمْ يَنْقَطِعْ بِمَوْتِ غَيْرِكَ مِنَ النُّبُوَّةِ وَ الْإِنْبَاءِ وَ أَخْبَارِ السَّمَاءِ خَصَّصْتَ حَتَّى صِرْتَ مُسَلِّياً عَمَّنْ سِوَاكَ وَ عَمَّمْتَ حَتَّى صَارَ النَّاسُ فِيكَ سَوَاءً وَ لَوْ لَا أَنَّكَ أَمَرْتَ بِالصَّبْرِ وَ نَهَيْتَ عَنِ الْجَزَعِ لَأَنْفَدْنَا عَلَيْكَ مَاءَ الشُّئُونِ وَ لَكَانَ الدَّاءُ مُمَاطِلًا وَ الْكَمَدُ مُحَالِفاً وَ قَلَّا لَكَ وَ لَكِنَّهُ مَا لَا يُمْلَكُ رَدُّهُ وَ لَا يُسْتَطَاعُ دَفْعُهُ بِأَبِي أَنْتَ وَ أُمِّي اذْكُرْنَا عِنْدَ رَبِّكَ وَ اجْعَلْنَا مِنْ بَالِكَ
بأبي أنت و أمي أي بأبي أنت مفدي و أمي. و الإنباء الإخبار مصدر أنبأ ينبئ و روي و الأنباء بفتح الهمزة جمع نبأ و هو الخبر و أخبار السماء الوحي. قوله ع خصصت و عممت أي خصت مصيبتك أهل بيتك حتى أنهم لا يكترثون بما يصيبهم بعدك من المصائب و لا بما أصابهم من قبل و عمت هذه شرح نهج البلاغة ج : 13 ص : 25المصيبة أيضا الناس حتى استوى الخلائق كلهم فيها فهي مصيبة خاصة بالنسبة و عامة بالنسبة. و مثل قوله حتى صرت مسليا عمن سواك قول الشاعررزئنا أبا عمر و لا حي مثله فلله در الحادثات بمن تقع فإن تك قد فارقتنا و تركتنا ذوي خلة ما في انسداد لها طمع لقد جر نفعا فقدنا لك أننا أمنا على كل الرزايا من الجزو قال آخر (14/17)
أقول للموت حين نازله و الموت مقدامة على البهم أظفر بمن شئت إذ ظفرت به ما بعد يحيى للموت من ألمو لي في هذا المعنى كتبته إلى صديق غاب عني من جملة أبيات
و قد كنت أخشى من خطوب غوائل فلما نأى عني أمنت من الحذرفأعجب لجسم عاش بعد حياته و أعجب لنفع حاصل جره ضرر
و قال إسحاق بن خلف يرثي بنتا له
أمست أميمة معمورا بها الرجم لقا صعيد عليها الترب مرتكم يا شقة النفس إن النفس والهة حرى عليك و إن الدمع منسجم قد كنت أخشى عليها أن تقدمني إلى الحمام فيبدي وجهها العدم فالآن نمت فلا هم يؤرقني تهدا العيون إذا ما أودت الح شرح نهج البلاغة ج : 13 ص : 26للموت عندي أياد لست أكفرها أحيا سرورا و بي مما أتى ألو قال آخر
فلو أنها إحدى يدي رزيتها و لكن يدي بانت على إثرها يدي فآليت لا آسى على إثر هالك قدي الآن من حزن على هالك قديو قال آخر
أ جاري ما أزداد إلا صبابة عليك و ما تزداد إلا تنائياأ جاري لو نفس فدت نفس ميت فديتك مسرورا بنفسي و مالياو قد كنت أرجو أن أملاك حقبة فحال قضاء الله دون رجائياألا فليمت من شاء بعدك إنما عليك من الأقدار كان حذاريا
و قال آخر
لتغد المنايا حيث شاءت فإنها محللة بعد الفتى ابن عقيل فتى كان مولاه يحل بنجوة فحل الموالي بعده بمسيلقوله ع و لكان الداء مماطلا أي مماطلا بالبرء أي لا يجيب إلى الإقلاع. و الإبلال الإفاقة شرح نهج البلاغة ج : 13 ص : 2ذكر طرف من سيرة النبي ع عند موته (14/18)
فأما وفاة رسول الله ص و ما ذكره أرباب السيرة فيها فقد ذكرنا طرفا منه فيما تقدم و نذكر هاهنا طرفا آخر مما أورده أبو جعفر محمد بن جرير الطبري في تاريخه.
قال أبو جعفر روى أبو مويهبة مولى رسول الله ص قال أرسل إلي رسول الله ص في جوف الليل فقال يا أبا مويهبة إني قد أمرت أن أستغفر لأهل البقيع فانطلق معي فانطلقت معه فلما وقف بين أظهرهم قال السلام عليكم يا أهل المقابر ليهن لكم ما أصبحتم فيه مما أصبح الناس فيه أقبلت الفتن كقطع الليل المظلم يتبع آخرها أولها الآخرة شر من الأولى ثم أقبل علي فقال يا أبا مويهبة إني قد أوهبت مفاتيح خزائن الدنيا و الخلد فيها و الجنة فخيرت بينها و بين الجنة فاخترت الجنة فقلت بأبي أنت و أمي فخذ مفاتيح خزائن الدنيا و الخلد فيها و الجنة جميعا فقال لا يا أبا مويهبة اخترت لقاء ربي ثم استغفر لأهل البقيع و انصرف فبدأ بوجعه الذي قبضه الله فيه
و روى محمد بن مسلم بن شهاب الزهري عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة عن عائشة قالت رجع رسول الله ص تلك الليلة من البقيع فوجدني و أنا أجد صداعا في رأسي و أقول وا رأساه فقال بل أنا وا رأساه ثم قال ما ضرك لو مت قبلي فقمت عليك فكفنتك و صليت عليك و دفنتك فقلت و الله لكأني شرح نهج البلاغة ج : 13 ص : 28بك لو كان ذلك رجعت إلى منزلي فأعرست ببعض نسائك فتبسم ع و تتام به وجعه و هو مع ذلك يدور على نسائه حتى استعز به و هو في بيت ميمونة فدعا نساءه فاستأذنهن أن يمرض في بيتي فأذن له فخرج بين رجلين من أهله أحدهما الفضل بن الاس و رجل آخر تخط قدماه في الأرض عاصبا رأسه حتى دخل بيته قال عبيد الله بن عبد الله بن عتبة فحدثت عبد الله بن العباس بهذا الحديث فقال أ تدري من الرجل الآخر قلت لا قال علي بن أبي طالب لكنها كانت لا تقدر أن تذكره بخير و هي تستطيع قالت ثم غمر رسول الله ص و اشتد به الوجع فقال أهريقوا علي سبع قرب من آبار شتى حتى أخرج إلى الناس فأعهد إليهم قالت فأقعدته في مخضب لحفصة بنت عمر و صببنا عليه الماء حتى طفق يقول بيده حسبكم حسبكم (14/19)
قلت المخضب المركن. و روى عطاء عن الفضل بن عباس رحمه الله قال جاءني رسول الله ص حين بدأ به مرضه فقال اخرج فخرجت إليه فوجدته موعوكا قد عصب رأسه فقال خذ بيدي فأخذت بيده حتى جلس على المنبر ثم قال ناد في الناس فصحت فيهم فاجتمعوا إليه فقال أيها الناس إني أحمد إليكم الله إنه قد دنا مني حقوق من بين أظهركم فمن كنت جلدت له ظهرا فهذا ظهري فليستقد منه و من كنت شتمت له عرضا فهذا عرضي فليستقد منه و من كنت أخذت له مالا فهذا مالي فليأخذ منه و لا يقل رجل إني أخاف الشحناء من قبل رسول الله ألا و إن الشحناء ليست من طبيعتي و لا من شأني ألا و إن أحبكم إلي من أخذ مني حقا شرح نهج البلاغة ج : 13 ص : 29إن كان له أو حللني فلقيت الله و أنا طيب النفس و قد أراني أن هذا غير مغن عني حتى أقوم فيكم به مرارا ثم نزل فصلى الظهر ثم رجع فجلس على المنبر فعاد لمقالته الأولى في الشحناء و غيرها فقارجل فقال يا رسول الله إن لي عندك ثلاثة دراهم فقال إنا لا نكذب قائلا و لا نستحلفه على يمين فيم كانت لك عندي قال أ تذكر يا رسول الله يوم مر بك المسكين فأمرتني فأعطيته ثلاثة دراهم قال أعطه يا فضل فأمرته فجلس ثم قال أيها الناس من كان عنده شي ء فليؤده و لا يقلفضوح الدنيا فإن فضوح الدنيا أهون من فضوح الآخرة فقام رجل فقال يا رسول الله عندي ثلاثة دراهم غللتها في سبيل الله قال و لم غللتها قال كنت محتاجا إليها قال خذها منه يا فضل ثم قال أيها الناس من خشي من نفسه شيئا فليقم أدعو له فقام رجل فقال يا رسول الله إني لكذاب و إني لفاحش و إني لنئوم فقال اللهم ارزقه صدقا و صلاحا و أذهب عنه النوم إذا أراد ثم قام رجل فقال يا رسول الله إني لكذاب و إني لمنافق و ما شي ء أو قال و إن من شي ء إلا و قد جئته فقام عمر بن الخطاب فقال فضحت نفسك أيها الرجل فقال النبي ص يا ابن الخطاب فضوحلدنيا أهون من فضوح الآخرة اللهم ارزقه صدقا و إيمانا و صير أمره إلى (14/20)
خير (14/21)
و روى عبد الله بن مسعود قال نعى إلينا نبينا و حبيبنا نفسه قبل موته بشهر جمعنا في بيت أمنا عائشة فنظر إلينا و شدد و دمعت عينه و قال مرحبا بكم حياكم الله رحمكم الله آواكم الله حفظكم الله رفعكم الله نفعكم الله شرح نهج البلاغة ج : 13 ص : 30وفقكم الله رزقكم اه هداكم الله نصركم الله سلمكم الله تقبلكم الله أوصيكم بتقوى الله و أوصى الله بكم و استخلفه عليكم إني لكم منه نذير و بشير ألا تعلوا على الله في عباده و بلاده فإنه قال لي و لكم تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُها لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَ لا فَساداً وَ الْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ فقلنا يا رسول الله فمتى أجلك قال قد دنا الفراق و المنقلب إلى الله و إلى سدرة المنتهى و الرفيق الأعلى و جنة المأوى و العيش المهنا قلنا فمن يغسلك يا رسول الله قال أهلي الأدنى فالأدنى قلنا ففيم نكفنك قال في ثيابي هذه إن شئتم أو في بياض مصر أو حلة يمنية قلنا فمن يصلي عليك فقال إذا غسلتموني و كفنتموني فضعوني على سريري في بيتي هذا على شفير قبري ثم اخرجوا عني ساعة فإن أول من يصلي علي جليسي و حبيبي و خليلي جبرائيل ثم ميكائيل ثم إسرافيل ثم ملك الموت مع جنوده من الملائكة ثم ادخلوا علي فوجا فوجا فصلوا علي و سلموا و لا تؤذوني بتزكية و لا ضجة و لا رنة و ليبدأ بالصلاة علي رجال أهل بيتي ثم نساؤهم ثم أنتم بعد و أقرءوا أنفسكم مني السلام و من غاب من أهلي فأقرءوه مني السلام و من تابعكم بعدي على ديني فأقرءوه مني السلام فإني أشهدكم أني قد سلمت على من بايعني على ديني من اليوم إلى يوم القيامة قلنا فمن يدخلك قبرك يا رسول الله قال أهلي مع ملائكة كثيرة يرونكم و لا ترونهم
قلت العجب لهم كيف لم يقولوا له في تلك الساعة فمن يلي أمورنا بعدك لأن ولاية الأمر أهم من السؤال عن الدفن و عن كيفية الصلاة عليه و ما أعلم ما أقول في هذا المقام
قال أبو جعفر الطبري و روى سعيد بن جبير قال كان ابن عباس رحمه الله يقول شرح نهج البلاغة ج : 13 ص : 31يوم الخميس و ما يوم الخميس ثم يبكي حتى تبل دموعه الحصباء فقلنا له و ما يوم الخميس قال يوم اشتد برسول الله ص وجعه فقال ائتوني باللوح و الدواة أو قال بالكتو الدواة أكتب لكم ما لا تضلون بعدي فتنازعوا فقال اخرجوا و لا ينبغي عند نبي أن يتنازع قالوا ما شأنه أ هجر استفهموه فذهبوا يعيدون عليه فقال دعوني فما أنا فيه خير مما تدعونني إليه ثم أوصى بثلاث قال أخرجوا المشركين من جزيرة العرب و أجيزوا الوفد بنحو مما كنت أجيزهم و سكت عن الثالثة عمدا أو قالها و نسيتها (14/22)
و روى أبو جعفر عن ابن عباس قال خرج علي بن أبي طالب ع من عند رسول الله ص في وجعه الذي توفي فيه فقال له الناس يا أبا الحسن كيف أصبح رسول الله ص قال أصبح بحمد الله بارئا فأخذ العباس بيده و قال أ لا ترى أنك بعد ثلاث عبد العصا إني لأعرف الموت في وجوه بني عبد المطلب فاذهب إلى رسول الله ص فسله فيمن يكن هذا الأمر فإن كان فينا علمنا ذلك و إن كان في غيرنا وصى بنا فقال علي أخشى أن أسأله فيمنعناها فلا يعطيناها الناس أبدا
و روت عائشة قالت أغمي على رسول الله ص و الدار مملوءة من النساء أم سلمة و ميمونة و أسماء بنت عميس و عندنا عمه العباس بن عبد المطلب فأجمعوا على أن يلدوه فقال العباس لا ألده فلدوه فلما أفاق قال من صنع بي هذا قالوا عمك قال لنا هذا دواء جاءنا من نحو هذه الأرض و أشار إلى أرض الحبشة قال فلم فعلتم ذلك فقال العباس خشينا يا رسول الله أن يكون بك ذات الجنب فقال إن ذلك شرح نهج البلاغة ج : 13 ص : 32لداء ما كان الله ليقذفني به لا يبقى أحد في البيت إلا لد إلا عمي قال فلقد لدت ميمونة و إنها لصائمة لقسم رسول الله ص عقوبة ل بما صنعوا
قال أبو جعفر و قد وردت رواية أخرى عن عائشة قالت لددنا رسول الله ص في مرضه فقال لا تلدوني فقلنا كراهية المريض للدواء فلما أفاق قال لا يبقى أحد إلا لد غير العباس عمي فإنه لم يشهدكم (14/23)
قال أبو جعفر و الذي تولى اللدود بيده أسماء بنت عميس. قلت العجب من تناقض هذه الروايات في إحداها أن العباس لم يشهد اللدود فلذلك أعفاه رسول الله ص من أن يلد و لد من كان حاضرا و في إحداها أن العباس حضر لده ع و في هذه الرواية التي تتضمن حضور العباس في لده كلام مختلف فيها أن العباس قال لا ألده ثم قال فلد فأفاق فقال من صنع بي هذا قالوا عمك إنه قال هذا دواء جاءنا من أرض الحبشة لذات الجنب فكيف يقول لا ألده ثم يكون هو الذي أشار بأن يلد و قال هذا دواء جاءنا من أرض الحبشة لكذا. و سألت النقيب أبا جعفر يحيى بن أبي زيد البصري عن حديث اللدود فقلت أ لد علي بن أبي طالب ذلك اليوم فقال معاذ الله لو كان لد لذكرت عائشة ذلك فيما تذكره و تنعاه عليه قال و قد كانت فاطمة حاضرة في الدار و ابناها معها أ فتراها لدت أيضا و لد الحسن و الحسين كلا و هذا أمر لم يكن و إنما هو حديث ولده من ولده تقربا إلى بعض الناس و الذي كان أن أسماء بنت عميس أشارت بأن يلد و قالت هذا دواء جاءنا من أرض الحبشة جاء به جعفر بن أبي طالب و كان بعلها شرح نهج البلاغة ج : 13 ص : 33و ساعدتها على تصويب ذلك و الإشارة به ميمونة بنت الحارث فلد رسول الله ص فلما أفاق أنكره و ل عنه فذكر له كلام أسماء و موافقة ميمونة لها فأمر أن تلد الامرأتان لا غير فلدتا و لم يجر غير ذلك و الباطل لا يكاد يخفى على مستبصر. و
روت عائشة قالت كثيرا ما كنت أسمع رسول الله يقول إن الله لم يقبض نبيا حتى يخيره فلما احتضر رسول الله ص كان آخر كلمة سمعتها منه بل الرفيق الأعلى فقلت إذا و الله لا يختارنا و علمت أن ذلك ما كان يقوله من قبل
و روى الأرقم بن شرحبيل قال سألت ابن عباس رحمه الله هل أوصى رسول الله ص فقال لا قلت فكيف كان فقال إن رسول الله ص قال في مرضه ابعثوا إلى علي فادعوه فقالت عائشة لو بعثت إلى أبي بكر و قالت حفصة لو بعثت إلى عمر فاجتمعوا عنده جميعا هكذا لفظ الخبر على ما أورده الطبري في التاريخ و لم يقل فبعث رسول الله ص إليهما قال ابن عباس فقال رسول الله ص انصرفوا فإن تكن لي حاجة أبعث إليكم فانصرفوا و قيل لرسول الله الصلاة فقال مروا أبا بكر أن يصلي بالناس فقالت عائشة إن أبا بكر رجل رقيق فمر عمر فقال مروا عمر فقال عمر ما كنت لأتقدم و أبو بكر شاهد فتقدم أبو بكر فوجد رسول الله ص خفة فخرج فلما سمع أبو بكر حركته تأخر فجذب رسول الله ص ثوبه فأقامه مكانه و قعد رسول الله ص فقرأ من حيث انتهى أبو بكر (14/24)
قلت عندي في هذه الواقعة كلام و يعترضني فيها شكوك و اشتباه إذا كان قد شرح نهج البلاغة ج : 13 ص : 34أراد أن يبعث إلى علي ليوصي إليه فنفست عائشة عليه فسألت أن يحضر أبوها و نفست حفصة عليه فسألت أن يحضر أبوها ثم حضرا و لم يطلبا فلا شبهة أن ابنتيهما طلبتاهما ه هو الظاهر و قول رسول الله ص و قد اجتمعوا كلهم عنده انصرفوا فإن تكن لي حاجة بعثت إليكم قول من عنده ضجر و غضب باطن لحضورهما و تهمة للنساء في استدعائهما فكيف يطابق هذا الفعل و هذا القول ما روي من أن عائشة قالت لما عين على أبيها في الصلاة أن أبي رجل رقيق فمر عمر و أين ذلك الحرص من هذا الاستعفاء و الاستقالة و هذا يوهم صحة ما تقوله الشيعة من أن صلاة أبي بكر كانت عن أمر عائشة و إن كنت لا أقول بذلك و لا أذهب إليه إلا أن تأمل هذا الخبر و لمح مضمونه يوهم ذلك فلعل هذا الخبر غير صحيح و أيضا ففي الخبر ما لا يجيزه أهل العدل و هو أن يقول مروا أبا بكر ثم يقول عقيبه مروا عمر لأن هذا نسخ الشي ء قبل تقضي وقت فعله. فإن قلت قد مضى من الزمان مقدار ما يمكن الحاضرين فيه أن يأمروا أبا بكر و ليس في الخبر إلا أنه أمرهم أن يأمروه و يكفي في صحة ذلك مضي زمان يسير جدا يمكن فيه أن يقال ي أبا بكر صل بالناس قلت الإشكال ما نشأ من هذا الأمر بل من كون أبي بكر مأمورا بالصلاة و إن كان بواسطة ثم نسخ عنه الأمر بالصلاة قبل مضي وقت يمكن فيه أن يفعل الصلاة فإن قلت لم قلت في صدر كلامك هذا إنه أراد أن يبعث إلى علي ليوصي إليه و لم لا يجوز أن يكون بعث إليه لحاجة له قلت لأن مخرج كلام ابن عباس هذا المخرج أ لا ترى أن الأرقم بن شرحبيل الراوي لهذا الخبر قال سألت ابن عباس هل أوصى رسول الله ص فقال لا فقلت فكيف كان فقال إن رسول الله ص قال في مرضه (14/25)
شرح نهج البلاغة ج : 13 ص : 35ابعثوا إلى علي فادعوه فسألته المرأة أن يبعث إلى أبيها و سألته الأخرى أن يبعث إلى أبيها فلو لا أن ابن عباس فهم من قوله ص ابعثوا إلى علي فادعوه أنه يريد الوصية إليه لما كان لإخبار الأرقم بذلك متصلا بسؤاله عن الوصية معنى و روى القاسم بن محمد بن أبي بكر عن عائشة قالت رأيت رسول الله ص يموت و عنده قدح فيه ماء يدخل يده في القدح ثم يمسح وجهه بالماء و يقول اللهم أعني على سكرة الموت (14/26)
و روى عروة عن عائشة قالت اضطجع رسول الله ص يوم موته في حجري فدخل على رجل من آل أبي بكر في يده مسواك أخضر فنظر رسول الله ص إليه نظرا عرفت أنه يريده فقلت له أ تحب أن أعطيك هذا المسواك قال نعم فأخذته فمضغته حتى ألنته ثم أعطيته إياه فاستن به كأشد ما رأيته يستن بسواك قبله ثم وضعه و وجدت رسول الله ص يثقل في حجري فذهبت أنظر في وجهه فإذا بصره قد شخص و هو يقول بل الرفيق الأعلى من الجنة فقلت لقد خيرت فاخترت و الذي بعثك بالحق و قبض رسول الله ص
قال الطبري و قد وقع الاتفاق على أنه كان يوم الإثنين من شهر ربيع الأول و اختلف في أي الأثانين كان فقيل لليلتين خلتا من الشهر و قيل لاثنتي عشرة خلت من الشهر و اختلف في تجهيزه أي يوم كان فقيل يوم الثلاثاء الغد من وفاته و قيل إنما دفن بعد وفاته بثلاثة أيام اشتغل القوم عنه بأمر البيعة. و قد روى الطبري ما يدل على ذلك عن زياد بن كليب عن إبراهيم النخعي أن شرح نهج البلاغة ج : 13 ص : 36أبا بكر جاء بعد ثلاث إلى رسول الله ص و قد أربد بطنه فكشف عن وجهه و قبل عينيه و قال بأبي أنت و أمي طبت حيا و طبت ميتا قلت و أنا أعجبن هذا هب أن أبا بكر و من معه اشتغلوا بأمر البيعة فعلي بن أبي طالب و العباس و أهل البيت بما ذا اشتغلوا حتى يبقى النبي ص مسجى بينهم ثلاثة أيام بلياليهن لا يغسلونه و لا يمسونه. فإن قلت الرواية التي رواها الطبري في حديث الأيام الثلاثة إنما كانت قبل البيعة لأن لفظ الخبر عن إبراهيم و أنه لما قبض النبي ص كان أبو بكر غائبا فجاء بعد ثلاث و لم يتجرأ أحد أن يكشف عن وجهه ع حتى أربد بطنه فكشف عن وجهه و قبل عينيه و قال بأبي أنت و أمي طبت حيا و طبت ميتا ثم خرج إلى الناس فقال من كان يعبد محمدا فإن محمدا قد مات الحديث بطوله قلت لعمري إن الرواية هكذا أوردها و لكنها مستحيلة لأن أبا بكر فارق رسول الله ص و هو حي و مضى إلى منزله بالسنح في يوم الإثنين و هو اليوم الذي مات فيه رسول الله ص لأنه رآه بارئا صالح الحال هكذا روى الطبري في كتابه و بين السنح و بين المدينة نصف فرسخ بل هو طائفة من المدينة فكيف يبقى رسول الله ص ميتا يوم الإثنين و يوم الثلاثاء و يوم الأربعاء لا يعلم به أبو بكر و بينهما غلوة ثلاثة أسهم و كيف يبقى طريحا بين أهله ثلاثة أيام لا يجترئ أحد منهم أن يكشف عن وجهه و فيهم علي بن أبي طالب و هو روحه بين جنبيه و العباس عمه القائم مقام أبيه و ابنا فاطمة و هما كولديه و فيهم فاطمة بضعة منه أ (14/27)
فما كان في هؤلاء من يكشف عن وجهه و لا من يفكر في جهازه و لا من يأنف له من شرح نهج البلاغة ج : 13 ص : 37انتفاخ بطنه و اخضرارها و ينتظر بذلك حضور أبي بكر ليكشف عن وجهه أنا لا أصدق ذلك و لا يس قلبي إليه و الصحيح أن دخول أبي بكر إليه و كشفه عن وجهه و قوله ما قال إنما كان بعد الفراغ من البيعة و أنهم كانوا مشتغلين بها كما ذكر في الرواية الأخرى. و بقي الإشكال في قعود علي ع عن تجهيزه إذا كان أولئك مشتغلين بالبيعة فما الذي شغله هو فأقول يغلب على ظني إن صح ذلك أن يكون قد فعله شناعة على أبي بكر و أصحابه حيث فاته الأمر و استؤثر عليه به فأراد أن يتركه ص بحاله لا يحدث في جهازه أمرا ليثبت عند الناس أن الدنيا شغلتهم عن نبيهم ثلاثة أيام حتى آل أمره إلى ما ترون و قد كان ع يتطلب الحيلة في تهجين أمر أبي بكر حيث وقع في السقيفة ما وقع بكل طريق و يتعلق بأدنى سبب من أمور كان يعتمدها و أقوال كان يقولها فلعل هذا من جملة ذلك أو لعله إن صح ذلك فإنما تركه ص بوصية منه إليه و سر كانا يعلمانه في ذلك. فإن قلت فلم لا يجوز أن يقال إن صح ذلك إنه أخر جهازه ليجتمع رأيه و رأي المهاجرين على كيفية غسله و تكفينه و نحو ذلك من أموره قلت لأن الرواية الأولى تبطل هذا الاحتمال و هي (14/28)
قوله ص لهم قبل موته يغسلني أهلي الأدنى منهم فالأدنى و أكفن في ثيابي أو في بياض مصر أو في حلة يمنية
قال أبو جعفر فأما الذين تولوا غسله فعلي بن أبي طالب و العباس بن عبد المطلب و الفضل بن العباس و قثم بن العباس و أسامة بن زيد و شقران مولى رسول الله ص شرح نهج البلاغة ج : 13 ص : 38و حضر أوس بن خولي أحد الخزرج فقال لعلي بن أبي طالب أنشدك الله يا علي و حظنا رسول الله و كان أوس من أصحاب بدر فقال له ادخل فدخل فحضر غسله ع و صب الماء عليه أسامة و شقران و كان علي ع يغسله و قد أسنده إلى صدره و عليه قميصه يدلكه من ورائه لا يفضي بيده إلى بدن رسول الله ص و كان العباس و ابناه الفضل و قثم يساعدونه على قلبه من جانب إلى جانب. قال أبو جعفر و روت عائشة أنهم اختلفوا في غسله هل يجرد أم لا فألقى الله عليهم السنة حتى ما منهم رجل إلا و ذقنه على صدره ثم كلمهم متكلم من ناحية البيت لا يدرى من هو غسلوا النبي و عليه ثيابه فقاموا إليه فغسلوه و عليه قميصه فكانت عائشة تقول لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما غسله إلا نساؤه. قلت حضرت عند محمد بن معد العلوي في داره ببغداد و عنده حسن بن معالي الحلي المعروف بابن الباقلاوي و هما يقرءان هذا الخبر و هذه الأحاديث من تاريخ الطبري فقال محمد بن معد لحسن بن معالي ما تراها قصدت بهذا القول قال حسدت أباك على ما كان يفتخر به من غسل رسول الله ص فضحك محمد فقال هبها استطاعت أن تزاحمه في الغسل هل تستطيع أن تزاحمه في غيره من خصائصه. قال أبو جعفر الطبري ثم كفن ص في ثلاثة أثواب ثوبين صحاريين و برد حبرة أدرج فيها إدراجا و لحد له على عادة أهل المدينة فلما فرغوا منه وضعوه على سريره. شرح نهج البلاغة ج : 13 ص : 39و اختلفوا في دفنه فقال قائل ندفنه في مسجده و قال قائل ندفنه في البقيع مع أصحابه و قال أبو بكر سمعت رسول الله ص يقول ما قبض نبي إلا و دفن حيث قبض (14/29)
فرفع فراش رسول الله الذي توفي فيه فحفر له تحته. قلت كيف اختلفوا في موضع دفنه و
قد قال لهم فضعوني على سريري في بيتي هذا على شفير قبري (14/30)
و هذا تصريح بأنه يدفن في البيت الذي جمعهم فيه و هو بيت عائشة فإما أن يكون ذلك الخبر غير صحيح أو يكون الحديث الذي تضمن أنهم اختلفوا في موضع دفنه و أن أبا بكر روى لهم أنه قال الأنبياء يدفنون حيث يموتون غير صحيح لأن الجمع بين هذين الخبرين لا يمكن. و أيضا فهذا الخبر ينافي ما ورد في موت جماعة من الأنبياء نقلوا من موضع موتهم إلى مواضع أخر و قد ذكر الطبري بعضهم في أخبار أنبياء بني إسرائيل. و أيضا فلو صح هذا الخبر لم يكن مقتضيا إيجاب دفن النبي ص حيث قبض لأنه ليس بأمر بل هو إخبار محض اللهم إلا أن يكونوا فهموا من مخرج لفظه ع و من مقصده أنه أراد الوصية لهم بذلك و الأمر بدفنه حيث يقبض. قال أبو جعفر ثم دخل الناس فصلوا عليه أرسالا حتى إذا فرغ الرجال أدخل النساء حتى إذا فرغ النساء أدخل الصبيان ثم أدخل العبيد و لم يؤمهم إمام ثم دفن ع وسط الليل من ليلة الأربعاء.
قال أبو جعفر و قد روت عمرة بنت عبد الرحمن بن أسعد بن زرارة عن عائشة قالت ما علمنا بدفن رسول الله ص حتى سمعنا صوت المساحي في جوف الليل ليلة الأربعاء
شرح نهج البلاغة ج : 13 ص : 40قلت و هذا أيضا من العجائب لأنه إذا مات يوم الإثنين وقت ارتفاع الضحى كما ذكر في الرواية و دفن ليلة الأربعاء وسط الليل فلم يمض عليه ثلاثة أيام كما ورد في تلك الرواية. و أيضا فمن العجب كون عائشة و هو في بيتها لا تعلم بدفنه حتى عت صوت المساحي أ تراها أين كانت و قد سألت عن هذا جماعة فقالوا لعلها كانت في بيت يجاور بيتها عندها نساء كما جرت عادة أهل الميت و تكون قد اعتزلت بيتها و سكنت ذلك البيت لأن بيتها مملوء بالرجال من أهل رسول الله ص و غيرهم من الصحابة و هذا قريب و يحتمل أن يكون. قال الطبري و نزل في قبر رسول الله ص علي بن أبي طالب ع و الفضل بن عباس و قثم أخوه و شقران مولاهم و قال أوس بن خولي لعلي ع أنشدك الله يا علي و حظنا من رسول الله ص فقال له انزل فنزل مع القوم و أخذ شقران قطيفة كان رسول الله ص يلبسها فقذفها معه في القبر و قال لا يلبسها أحد بعده. قلت من تأمل هذه الأخبار علم أن عليا ع كان الأصل و الجملة و التفصيل في أمر رسول الله ص و جهازه أ لا ترى أن أوس بن خولي لا يخاطب أحدا من الجماعة غيره و لا يسأل غيره في حضور الغسل و النزول في القبر ثم انظر إلى كرم علي ع و سجاحة أخلاقه و طهارة شيمته كيف لم يضن بمثل هذه المقامات الشريفة عن أوس و هو رجل غريب من الأنصار فعرف له حقه و أطلبه بما طلبه فكم بين هذه السجية الشريفة و بين قول من قال لو استقبلت من أمري ما استدبرت شرح نهج البلاغة ج : 13 ص : 41ما غسل رسول الله ص إلا نساؤه و لو كان في ذلكلمقام غيره من أولي الطباع الخشنة و أرباب الفظاظة و الغلظة و قد سأل أوس ذلك لزجر و انتهر و رجع خائبا. قال الطبري و كان المغيرة بن شعبة يدعي أنه أحدث الناس عهدا برسول الله ص و يقول للناس إنني أخذت خاتمي فألقيته في القبر و قلت إن خاتمي قد سقط مني و إنما طرحته عمدا لأمس رسول الله ص فأكون آخر الناس به عهدا. قال الطبري فروى عبد (14/31)
الله بن الحارث بن نوفل قال اعتمرت مع علي بن أبي طالب ع في زمان عمر أو عثمان فنزل على أخته أم هانئ بنت أبي طالب فلما فرغ من عمرته رجع و قد سكب له غسل فلما فرغ من غسله دخل عليه نفر من أهل العراق فقالوا يا أبا الحسن جئناك نسألك عن أمر نحب أن تخبرنا به فقال أظن المغيرة يحدثكم أنه أحدث الناس عهدا برسول الله ص قالوا أجل عن ذا جئنا نسألك قال كذب أحدث الناس عهدا برسول الله ص قثم بن العباس كان آخرنا خروجا من قبره. قلت بحق ما عاب أصحابنا رحمهم الله المغيرة و ذموه و انتقصوه فإنه كان على طريقة غير محمودة و أبى الله إلا أن يكون كاذبا على كل حال لأنه إن لم يكن أحدثهم بالنبي عهدا فقد كذب في دعواه أنه أحدثهم به عهدا و إن كان أحدثهم به عهدا كما يزعم فقد اعترف بأنه كذب في قوله لهم سقط خاتمي مني و إنما ألقاه عمدا و أين المغيرة و رسول الله ص ليدعي القرب منه و أنه أحدث الناس عهدا به شرح نهج البلاغة ج : 13 ص : 42و قد علم الله تعالى و المسلمون أنه لو لا الحدث الذي أحدث و القوم الذين صحبهم فقتلهم غدرا و اتخذ أموالهم ثم التجأ إلى رسول الله ص ليعصمه لم يسلم و لا وطئصا المدينة. قال الطبري و قد اختلف في سن رسول الله ص فالأكثرون أنه كان ابن ثلاث و ستين سنة و قال قوم ابن خمس و ستين سنة و قال قوم ابن ستين. فهذا ما ذكره الطبري في تاريخه. و روى محمد بن حبيب في أماليه قال تولى غسل النبي ص علي ع و العباس رضي الله عنه. و (14/32)
كان علي ع يقول بعد ذلك ما شممت أطيب من ريحه و لا رأيت أضوأ من وجهه حينئذ و لم أره يعتاد فاه ما يعتاد أفواه الموتى
قال محمد بن حبيب فلما كشف الإزار عن وجهه بعد غسله انحنى عليه فقبله مرارا و بكى طويلا و قال بأبي أنت و أمي طبت حيا و طبت ميتا انقطع بموتك ما لم ينقطع بموت أحد سواك من النبوة و الأنباء و أخبار السماء خصصت حتى صرت مسليا عمن سواك و عممت حتى صارت المصيبة فيك سواء و لو لا أنك أمرت بالصبر و نهيت عن الجزع لأنفدنا عليك ماء الشئون و لكن أتى ما لا يدفع أشكو إليك كمدا و إدبارا مخالفين و داء الفتنة فإنها قد استعرت نارها و داؤها الداء الأعظم بأبي أنت و أمي اذكرنا عند ربك و اجعلنا من بالك و همك ثم نظر إلى قذاة في عينه فلفظها بلسانه ثم رد الإزار على وجهه (14/33)
شرح نهج البلاغة ج : 13 ص : 43و قد روى كثير من الناس ندبة فاطمة ع أباها يوم موته و بعد ذلك اليوم و هي ألفاظ معدودة مشهورة منهايا أبتاه جنة الخلد مثواه يا أبتاه عند ذي العرش مأواه يا أبتاه كان جبرئيل يغشاه يا أبتاه لست بعد اليوم أراه
و من الناس من يذكر أنها كانت تشوب هذه الندبة بنوع من التظلم و التألم لأمر يغلبها و الله أعلم بصحة ذلك و الشيعة تروي أن قوما من الصحابة أنكروا بكاءها الطويل و نهوها عنه و أمروها بالتنحي عن مجاورة المسجد إلى طرف من أطراف المدينة. و أنا أستبعد ذلك و الحديث يدخله الزيادة و النقصان و يتطرق إليه التحريف و الافتعال و لا أقول أنا في أعلام المهاجرين إلا خيرا
شرح نهج البلاغة ج : 13 ص : 23144- و من خطبة له عالْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَا تُدْرِكُهُ الشَّوَاهِدُ وَ لَا تَحْوِيهِ الْمَشَاهِدُ وَ لَا تَرَاهُ النَّوَاظِرُ وَ لَا تَحْجُبُهُ السَّوَاتِرُ الدَّالِّ عَلَى قِدَمِهِ بِحُدُوثِ خَلْقِهِ وَ بِحُدُوثِ خَلْقِهِ عَلَى وُجُودِهِ وَ بِاشْتِبَاهِهِمْ عَلَى أَنْ لَا شَبَهَ لَهُ الَّذِي صَدَقَ فِي مِيعَادِهِ وَ ارْتَفَعَ عَنْ ظُلْمِ عِبَادِهِ وَ قَامَ بِالْقِسْطِ فِي خَلْقِهِ وَ عَدَلَ عَلَيْهِمْ فِي حُكْمِهِ مُسْتَشْهِدٌ بِحُدُوثِ الْأَشْيَاءِ عَلَى أَزَلِيَّتِهِ وَ بِمَا وَسَمَهَا بِهِ مِنَ الْعَجْزِ عَلَى قُدْرَتِهِ وَ بِمَا اضْطَرَّهَا إِلَيْهِ مِنَ الْفَنَاءِ عَلَى دَوَامِهِ وَاحِدٌ لَا بِعَدَدٍ وَ دَائِمٌ لَا بِأَمَدٍ وَ قَائِمٌ لَا بِعَمَدٍ تَتَلَقَّاهُ الْأَذْهَانُ لَا بِمُشَاعَرَةٍ وَ تَشْهَدُ لَهُ الْمَرَائِي لَا بِمُحَاضَرَةٍ لَمْ تُحِطْ بِهِ الْأَوْهَامُ بَلْ تَجَلَّى لَهَا بِهَا وَ بِهَا امْتَنَعَ مِنْهَا وَ إِلَيْهَا حَاكَمَهَا لَيْسَ بِذِي كِبَرٍ امْتَدَّتْ بِهِ النِّهَايَاتُ فَكَبَّرَتْهُ تَجْسِيماً وَ لَا بِذِي عِظَمٍ تَنَاهَتْ بِهِ الْغَايَاتُ فَعَظَّمَتْهُ تَجْسِيداً بَلْ كَبُرَ شَأْناً وَ عَظُمَ سُلْطَاناً وَ أَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّداً عَبْدُهُ وَ رَسُولُهُ الصَّفِيُّ وَ أَمِينُهُ الرَّضِيُّ ص أَرْسَلَهُ بِوُجُوبِ الْحُجَجِ وَ ظُهُورِ الْفَلَجِ وَ إِيضَاحِ الْمَنْهَجِ فَبَلَّغَ الرِّسَالَةَ صَادِعاً بِهَا وَ حَمَلَ عَلَى الْمَحَجَّةِ دَالًّا عَلَيْهَا وَ أَقَامَ أَعْلَامَ الِاهْتِدَاءِ وَ مَنَارَ الضِّيَاءِ وَ جَعَلَ أَمْرَاسَ الْإِسْلَامِ مَتِينَةً وَ عُرَا الْإِيمَانِ وَثِيقَةً (14/34)
شرح نهج البلاغة ج : 13 ص : 45الشواهد هاهنا يريد بها الحواس و سماها شواهد إما لحضورها شهد فلان كذا أي حضره أو لأنها تشهد على ما تدركه و تثبته عند العقل كما يشهد الشاهد بالشي ء و يثبته عند الحاكم. و المشاهد هاهنا المجالس و النوادي يقال حضرت مشهد بني فلان ناديهم و مجتمعهم. ثم فسر اللفظة الأولى و أبان عن مراده بها بقوله و لا تراه النواظر و فسر اللفظة الثانية و أبان عن مرادها فقال و لا تحجبه السواتر. ثم قال الدال على قدمه بحدوث خلقه و بحدوث خلقه على وجوده هذا مشكل لأن لقائل أن يقول إذا دل على قدمه بحدوث خلقه فقد دخل في جملة المدلول كونه موجودا لأن القديم هو الموجود و لم يزل فأي حاجه إلى أن يعود فيقول و بحدوث خلقه على وجوده. و لمجيب أن يجيب على طريقة شيوخنا أصحاب أبي هاشم فيقول لا يلزم من الاستدلال بحدوث الأجسام على أنه لا بد من محدث قديم كونه موجودا لأن عندهم أن الذات المعدومة قد تتصف بصفات ذاتية و هي معدومة فلا يلزم من كون صانع العالم عندهم عالما قادرا حيا أن يكون موجودا بل لا بد من دلالة زائدة على أن له صفة الوجود و هي و الدلالة التي يذكرونها من أن كونه قادرا عالما تقتضي تعلقه بالمقدور و المعلوم و كل ذات متعلقة فإن عدمها يخرجها عن التعلق كالإرادة فلو كان تعالى معدوما لم يجز أن يكون متعلقا فحدوث الأجسام إذا قد دل على أمرين من وجهين مختلفين أحدهما أنه لا بد من صانع له و هذا هو المعني بقدمه. شرح نهج البلاغة ج : 13 ص : 46و الثاني أن هذا الصانع له صفة لأجلها يصحلى ذاته أن تكون قادرة عالمة و هذا هو المعني بوجوده. فإن قلت أ يقول أصحاب شيخكم أبي هاشم إن الذات المعدومة التي لا أول لها تسمى قديمة قلت لا و البحث في هذا بحث في اللفظ لا في المعنى. و المراد بقوله ع الدال بحدوث الأشياء على قدمه أي على كونه ذاتا لم يجعلها جاعل و ليس المراد بالقدم هاهنا الوجود لم يزل بل مجرد الذاتية لم يزل. (14/35)
ثم يستدل بعد ذلك بحدوث الأشياء على أن له صفة أخرى لم تزل زائدة على مجرد الذاتية و تلك الصفة هي وجوده فقد اتضح المراد الآن. فإن قلت فهل لهذا الكلام مساغ على مذهب البغداديين قلت نعم إذا حمل على منهج التأويل بأن يريد بقوله و بحدوث خلقه على وجوده أي على صحة إيجاده له فيما بعد أي إعادته بعد العدم يوم القيامة لأنه إذا صح منه تعالى إحداثه ابتداء صح منه إيجاده ثانيا على وجه الإعادة لأن الماهية قابلة للوجود و العدم و القادر قادر لذاته فأما من روى بحدوث خلقه على وجوده فإنه قد سقطت عنه هذه الكلف كلها و المعنى على هذا ظاهر لأنه تعالى دل المكلفين بحدوث خلقه على أنه جواد منعم و مذهب أكثر المتكلمين أنه خلق العالم جودا و إنعاما و إحسانا إليهم. قوله ع و باشتباههم على أن لا شبه له هذا دليل صحيح و ذلك لأنه إذا ثبت أن جسما ما محدث ثبت أن سائر الأجسام محدثة لأن الأجسام متماثلة و كل ما صح على الشي ء صح على مثله و كذلك إذا ثبت أن سوادا ما أو بياضا ما محدث ثبت أن سائر السوادات و البياضات محدثة لأن حكم الشي ء حكم مثله و السواد في معنى شرح نهج البلاغة ج : 13 ص : 47كونه سوادا غير مختلف و كذلك البياض فصارت الدلالة هكذا الذوات التي عندنا يشبه بعضها بعضا و هي محدثة فلو كان الباري سبحانه يشبه شيئا منها لكان مثلها و لكان محدثا لأن حكم الشي ء حكم مثله لكنه تعالى ليس بمحدث فليس بمشابه لشي ءا فقد صح إذا قوله ع و باشتباههم على أن لا شبه له. قوله ع الذي صدق في ميعاده لا يجوز ألا يصدق لأن الكذب قبيح عقلا و الباري تعالى يستحيل منه من جهة الداعي و الصارف أن يفعل القبيح. قوله ع و ارتفع عن ظلم عباده هذا هو مذهب أصحابنا المعتزلة و عن أمير المؤمنين ع أخذوه و هو أستاذهم و شيخهم في العدل و التوحيد فأما الأشعرية فإنها و إن كانت تمتنع عن إطلاق القول بأن الله تعالى يظلم العباد إلا أنها تعطي المعنى في الحقيقة لأن الله (14/36)
عندهم يكلف العباد ما لا يطيقونه بل هو سبحانه عندهم لا يكلفهم إلا ما لا يطيقونه بل هو سبحانه عندهم لا يقدر على أن يكلفهم ما يطيقونه و ذلك لأن القدرة عندهم مع الفعل فالقاعد غير قادر على القيام و إنما يكون قادرا على القيام عند حصول القيام و يستحيل عندهم أن يوصف الباري تعالى بإقدار العبد القاعد على القيام و هو مع ذلك مكلف له أن يقوم و هذا غاية ما يكون من الظلم سواء أطلقوا هذه اللفظة عليه أو لم يطلقوها. ثم أعاد الكلام الأول في التوحيد تأكيدا فقال حدوث الأشياء دليل على قدمه و كونها عاجزة عن كثير من الأفعال دليل على قدرته و كونها فانية دليل على بقائه. فإن قلت أما الاستدلال بحدوث الأشياء على قدمه فمعلوم فكيف يكون الاستدلال على الأمرين الأخيرين شرح نهج البلاغة ج : 13 ص : 48قلت إذا شاركه سبحانه بعض الموجودات في كونه موجودا و افترقا في أن أحدهما لا يصح منه فعل الجسم و لا الكون و لا الحياة و لا الوجود المحدث و يصح ذلك من الموجودات القديمة دل على افتراقهما فأمر لأجله صح من القديم ذلك و تعذر ذلك على المحدث و ذلك الأمر هو الذي يسمى من كان عليه قادرا و ينبغي أن تحمل لفظة العجز هاهنا على المفهوم اللغوي و هو تعذر الإيجاد لا على المفهوم الكلامي. و أما الاستدلال الثاني فينبغي أن يحمل الفناء هاهنا على المفهوم اللغوي و هو تغير الصفات و زوالها لا على المفهوم الكلامي فيصير تقدير الكلام لما كانت الأشياء التي بيننا تتغير و تتحول و تنتقل من حال إلى حال و علمنا أن العلة المصححة لذلك كونها محدثة علمنا أنه سبحانه لا يصح عليه التنقل و التغير لأنه ليس بمحدث ثم قال واحد لا بعدد لأن وحدته ذاتية و ليست صفة زائدة عليه و هذا من الأبحاث الدقيقة في علم الحكمة و ليس هذا الكتاب موضوعا لبسط القول في أمثاله. ثم قال دائم لا بأمد لأنه تعالى ليس بزماني و داخل تحت الحركة و الزمان و هذا أيضا من دقائق العلم الإلهي و (14/37)
العرب دون أن تفهم هذا أو تنطق به و لكن هذا الرجل كان ممنوحا من الله تعالى بالفيض المقدس و الأنوار الربانية. ثم قال قائم لا بعمد لأنه لما كان في الشاهد كل قائم فله عماد يعتمد عليه أبان ع تنزيهه تعالى عن المكان و عما يتوهمه الجهلاء من أنه مستقر على عرشه بهذه اللفظة و معنى القائم هاهنا ليس ما يسبق إلى الذهن من أنه المنتصب بل ما تفهمه من قولك فلان قائم بتدبير البلد و قائم بالقسط. ثم قال تتلقاه الأذهان لا بمشاعرة أي تتلقاه تلقيا عقليا ليس كما يتلقى الجسم الجسم بمشاعره و حواسه و جوارحه و ذلك لأن تعقل الأشياء و هو حصول صورها (14/38)
شرح نهج البلاغة ج : 13 ص : 49في العقل بريئة من المادة و المراد بتلقيه سبحانه هاهنا تلقي صفاته لا تلقي ذاته تعالى لأن ذاته تعالى لا تتصورها العقول و سيأتي إيضاح أن هذا مذهبه ع. ثم قال و تشهد له المرائي لا بمحاضرة المرائي جمع مرئي و هو الشي ء المدرك بالبيقول المرئيات تشهد بوجود الباري لأنه لو لا وجوده لما وجدت و لو لم توجد لم تكن مرئيات و هي شاهدة بوجوده لا كشهادتها بوجود الأبصار لأنها شهدت بوجود الأبصار لحضورها فيها و أما شهادتها بوجود الباري فليست بهذه الطريق بل بما ذكرناه و الأولى أن يكون المرائي هاهنا جمع مرآة بفتح الميم من قولهم هو حسن في مرآة عيني يقول إن جنس الرؤية يشهد بوجود الباري من غير محاضرة منه للحواس. قوله ع لم تحط به الأوهام إلى قوله ع و إليها حاكمها هذا الكلام دقيق و لطيف و الأوهام هاهنا هي العقول يقول إنه سبحانه لم تحط به العقول أي لم تتصور كنه ذاته و لكنه تجلى للعقول بالعقول و تجليه هاهنا هو كشف ما يمكن أن تصل إليه العقول من صفاته الإضافية و السلبية لا غير و كشف ما يمكن أن تصل إليه العقول من أسرار مخلوقاته فأما غير ذلك فلا و ذلك لأن البحث النظري قد دل على أنا لم نعلم منه سبحانه إلا الإضافة و السلب أما الإضافة فكقولنا عالم قادر و أما السلب فكقولنا ليس بجسم و لا عرض و لا يرى فأما حقيقة الذات المقدسة المخصوصة من حيث هي هي فإن العقل لا يتصورها و هذا مذهب الحكماء و بعض المتكلمين من أصحابنا و من غيرهم. ثم قال و بالعقول امتنع من العقول أي و بالعقول و بالنظر علمنا أنه تعالى يمتنع أن تدركه العقول. ثم قال و إلى العقول حكم العقول أي جعل العقول المدعية أنها أحاطت شرح نهج البلاغة ج : 13 ص : 50به و أدركته كالخصم له سبحانه ثم حاكمها إلى العقول السليمة الصحيحة النظر فحكمت له سبحانه على العقول المدعية لما ليست أهلا له. و اعلم أن القول بالحيرة في جلال ذات الباري و الوقوف (14/39)
عند حد محدود لا يتجاوزه العقل قول ما زال فضلاء عقلاء قائلين به (14/40)
من أشعار الشارح في المناجاة
و من شعري الذي أسلك فيه مسلك المناجاة عند خلواتي و انقطاعي بالقلب إليه سبحانه قولي
و الله لا موسى و لا عيسى المسيح و لا محمدعلموا و لا جبريل و هو إلى محل القدس يصعدكلا و لا النفس البسيطة لا و لا العقل المجردمن كنه ذاتك غير أنك واحدي الذات سرمدوجدوا إضافات و سلبا و الحقيقة ليس توجدو رأوا وجودا واجبا يفنى الزمان و ليس ينفدفلتخسأ الحكماء عن جرم له الأفلاك تسجدمن أنت يا رسطو و من أفلاط قبلك يا مبلدو من ابن سينا حين قرر ما بنيت له و شيدهل أنتم إلا الفراش رأى الشهاب و قد توقدفدنا فأحرق نفسه و لو اهتدى رشدا لأبعد
شرح نهج البلاغة ج : 13 ص : 51و مما قلته أيضا في قصور العقل عن معرفته سبحانه و تعالىفيك يا أعجوبة الكون غدا الفكر كليلاأنت حيرت ذوي اللب و بلبلت العقولاكلما أقدم فكري فيك شبرا فر ميلاناكصا يخبط في عمياء لا يهدى السبيلا
و لي في هذا المعنى
فيك يا أغلوطة الفكر تاه عقلي و انقضى عمري سافرت فيك العقول فما ربحت إلا أذى السفررجعت حسرى و ما وقفت لا على عين و لا أثرفلحى الله الألى زعموا أنك المعلوم بالنظركذبوا إن الذي طلبوا خارج عن قوة البشرو قلت أيضا في المعنى
أفنيت خمسين عاما معملا نظري فيه فلم أدر ما آتي و ما أذرمن كان فوق عقول القائسين فما ذا يدرك الفكر أو ما يبلغ النظر
و لي أيضا
حبيبي أنت لا زيد و عمرو و إن حيرتني و فتنت ديني طلبتك جاهدا خمسين عاما فلم أحصل على برد اليقين شرح نهج البلاغة ج : 13 ص : 52فهل بعد الممات بك اتصال فأعلم غامض السر المصون نوى قذف و كم قد مات قبلي بحسرته عليك من القرو من شعري أيضا في المعنى و كنت أنادي به ليلا في مواضع مقفرة خالية من الناس بصوت رفيع و أجدح قلبي أيام كنت مالكا أمري مطلقا من قيود الأهل و الولد و علائق الدنيا
يا مدهش الألباب و الفطن و محير التقوالة اللسن أفنيت فيك العمر أنفقه و المال مجانا بلا ثمن أتتبع العلماء أسألهم و أجول في الآفاق و المدن و أخالط الملل التي اختلفت في الدين حتى عابد الوثن و ظننت أني بالغ غرضي لما اجتهدت و مبرئ شجني و مطهر من كل رجس هوى بذاك و غاسل درني فإذا الذي استكثرت منه هو الجاني علي عظائم المحن فضللت في تيه بلا علم و غرقت في يم بلا سفن و رجعت صفر الكف مكتئبا حيران ذا هم و ذا حزن أبكي و أنكت في الثرى بيدي طورا و أدعم تارة ذقني و أصيح يا من ليس يعرفه أحد مدى الأحقاب و الزمن يا منت الوجوه و من قرنت له الأعناق في قرن آمنت يا جذر الأصم من الأعداد بل يا فتنة الفتن أن ليس تدركك العيون و أن الرأي ذو أفن و ذو غب شرح نهج البلاغة ج : 13 ص : 53و الكل أنت فكيف يدركه بعض و أنت السر في العلو مما قلته في المعنى (14/41)
ناجيته و دعوته اكشف عن عشا قلبي و عن بصري و أنت النورو ارفع حجابا قد سدلت ستوره دوني و هل دون المحب ستورفأجابني صه يا ضعيف فبعض ذا قد رامه موسى فدك الطور
أعجبني هذا المعنى فنقلته إلى لفظ آخر فقلت
حبيبي أنت من دون البرايا و إن لم أحظ منك بما أريدقنعت من الوصال بكشف حال فقيل ارجع فمطلبها بعيدأ لم تسمع جواب سؤال موسى و ليس على مكانته مزيدتعرض للذي حاولت يوما فدك الصخر و اضطرم الصعيد
و لي في هذا المعنى أيضا
قد حار في النفس جميع الورى و الفكر فيها قد غدا ضائعاو برهن الكل على ما ادعوا و ليس برهانهم قاطعامن جهل الصنعة عجزا فما أجدره أن يجهل الصانعا
و لي أيضا في الرد على الفلاسفة الذين عللوا حركة الفلك بأنه أراد استخراج الوضع أولا ليتشبه بالعقل المجرد في كماله و أن كل ما له بالقوة فهو خارج إلى الفعل
تحير أرباب النهى و تعجبوا من الفلك الأقصى لما ذا تحركافقيل بطبع كالثقيل إذا هوى و قيل اختيارا و المحقق شككافرد حديث الطبع إذ كان دائرا و ليس على سمت قويم فيسلكا
شرح نهج البلاغة ج : 13 ص : 54و قيل لمن قال اختيارا فما الذي دعاه إلى أن دار ركضا فأوشكافقالوا لوضع حادث يستجده يعاقب منه مطلبا ثم متركافقيل لهم هذا الجنون بعينه و لو رامه منا امرؤ كان أعفكاو لو أن إنسانا غدا ليس قصده سوى الوضع و استخراجه عد مضحكو لي أيضا في الرد على من زعم أن النبي ص رأى الله سبحانه بالعين و هو الذي أنكرته عائشة و العجب لقوم من أرباب النظر جهلوا ما أدركته امرأة من نساء العرب (14/42)
عجبت لقوم يزعمون نبيهم رأى ربه بالعين تبا لهم تباو هل تدرك الأبصار غير مكيف و كيف تبيح العين ما يمنع القلباإذا كان طرف القلب عن كنهه نبا حسيرا فطرف العين عن كنهه أنبى
و المقطعات التي نظمتها في إجلال الباري سبحانه عن أن تحيط به العقول كثيرة موجودة في كتبي و مصنفاتي فلتلمح من مظانها و غرضنا بإيراد بعضها أن لها هنا تشييدا لما قاله أمير المؤمنين ع علي في هذا الباب.
قوله ع ليس بذي كبر إلى قوله و عظم سلطانا معناه أنه تعالى يطلق عليه من أسمائه الكبير و العظيم و قد ورد بهما القرآن العزيز و ليس المراد بهما ما يستعمله الجمهور من قولهم هذا الجسم أعظم و أكبر مقدارا من هذا الجسم بل المراد عظم شأنه و جلالة سلطانه. و الفلج النصرة و أصله سكون العين و إنما حركه ليوازن بين الألفاظ و ذلك شرح نهج البلاغة ج : 13 ص : 55لأن الماضي منه فلج الرجل على خصمه بالفتح و مصدره الفلج بالسكون فأما من روى و ظهور الفلج بضمتين فقد سقط عنه التأويل لأن الاسم من هذا اللفظ الفلج بضم أول الكلمة فإذا استلها الكاتب أو الخطيب جاز له ضم الحرف الثاني. و صادعا بهما مظهرا مجاهدا و أصله الشق. و الأمراس الحبال و الواحد مرس بفتح الميم و الراء
مِنْهَا فِي صِفَةِ عَجِيبِ خَلْقِ أَصْنَافٍ مِنَ الْحَيَوَانِ وَ لَوْ فَكَّرُوا فِي عَظِيمِ الْقُدْرَةِ وَ جَسِيمِ النِّعْمَةِ لَرَجَعُوا إِلَى الطَّرِيقِ وَ خَافُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ وَ لَكِنِ الْقُلُوبُ عَلِيلَةٌ وَ الْبَصَائِرُ مَدْخُولَةٌ أَ لَا يَنْظُرُونَ إِلَى صَغِيرِ مَا خَلَقَ كَيْفَ أَحْكَمَ خَلْقَهُ وَ أَتْقَنَ تَرْكِيبَهُ وَ فَلَقَ لَهُ السَّمْعَ وَ الْبَصَرَ وَ سَوَّى لَهُ الْعَظْمَ وَ الْبَشَرَ انْظُرُوا إِلَى النَّمْلَةِ فِي صِغَرِ جُثَّتِهَا وَ لَطَافَةِ هَيْئَتِهَا لَا تَكَادُ تُنَالُ بِلَحْظِ الْبَصَرِ وَ لَا بِمُسْتَدْرَكِ الْفِكَرِ كَيْفَ دَبَّتْ عَلَى أَرْضِهَا وَ صُبَّتْ عَلَى رِزْقِهَا تَنْقُلُ الْحَبَّةَ إِلَى جُحْرِهَا وَ تُعِدُّهَا فِي مُسْتَقَرِّهَا تَجْمَعُ فِي حَرِّهَا لِبَرْدِهَا وَ فِي وِرْدِهَا لِصَدَرِهَا مَكْفُولٌ بِرِزْقِهَا مَرْزُوقَةٌ بِوِفْقِهَا لَا يُغْفِلُهَا الْمَنَّانُ وَ لَا يَحْرِمُهَا الدَّيَّانُ وَ لَوْ فِي الصَّفَا الْيَابِسِ وَ الْحَجَرِ الْجَامِسِ وَ لَوْ فَكَّرْتَ فِي مَجَارِي أَكْلِهَا وَ فِي عُلْوِهَا وَ سُفْلِهَا وَ مَا فِي الْجَوْفِ مِنْ شَرَاسِيفِ بَطْنِهَا وَ مَا فِي الرَّأْسِ مِنْ عَيْنِهَا وَ أُذُنِهَا لَقَضَيْتَ مِنْ خَلْقِهَا عَجَباً وَ لَقِيتَ مِنْ وَصْفِهَا تَعَباً شرح نهج البلاغة ج : 13 ص : 56فَتَعَالَى الَّذِي أَقَامَهَا عَلَى قَوَائِمِهَا وَ بَنَاهَا عَلَى دَعَائِمِهَا لَمْ يَشْرَكْهُ فِي فِطْتِهَا فَاطِرٌ وَ لَمْ يُعِنْهُ عَلَى خَلْقِهَا قَادِرٌ وَ لَوْ ضَرَبْتَ فِي مَذَاهِبِ فِكْرِكَ لِتَبْلُغَ غَايَاتِهِ مَا دَلَّتْكَ الدَّلَالَةُ إِلَّا عَلَى أَنَّ فَاطِرَ النَّمْلَةِ هُوَ فَاطِرُ النَّخْلَةِ لِدَقِيقِ تَفْصِيلِ كُلِّ شَيْ ءٍ وَ غَامِضِ اختِلَافِ كُلِّ حَيٍّ وَ مَا الْجَلِيلُ وَ اللَّطِيفُ وَ الثَّقِيلُ (14/43)
وَ الْخَفِيفُ وَ الْقَوِيُّ وَ الضَّعِيفُ فِي خَلْقِهِ إِلَّا سَوَاءٌ وَ كَذَلِكَ السَّمَاءُ وَ الْهَوَاءُ وَ الرِّيَاحُ وَ الْمَاءُ فَانْظُرْ إِلَى الشَّمْسِ وَ الْقَمَرِ وَ النَّبَاتِ وَ الشَّجَرِ وَ الْمَاءِ وَ الْحَجَرِ وَ اخْتِلَافِ هَذَا اللَّيْلِ وَ النَّهَارِ وَ تَفَجُّرِ هَذِهِ الْبِحَارِ وَ كَثْرَةِ هَذِهِ الْجِبَالِ وَ طُولِ هَذِهِ الْقِلَالِ وَ تَفَرُّقِ هَذِهِ اللُّغَاتِ وَ الْأَلْسُنِ الْمُخْتَلِفَاتِ فَالْوَيْلُ لِمَنْ أَنْكَرَ الْمُقَدِّرَ وَ جَحَدَ الْمُدَبِّرَ زَعَمُوا أَنَّهُمْ كَالنَّبَاتِ مَا لَهُمْ زَارِعٌ وَ لَا لِاخْتِلَافِ صُوَرِهِمْ صَانِعٌ وَ لَمْ يَلْجَئُوا إِلَى حُجَّةٍ فِيمَا ادَّعَوْا وَ لَا تَحْقِيقٍ لِمَا دَعَوْا وَ هَلْ يَكُونُ بِنَاءٌ مِنْ غَيْرِ بَانٍ أَوْ جِنَايَةٌ مِنْ غَيْرِ جَانٍ (14/44)
مدخولة معيبة و فلق شق و خلق و البشر ظاهر الجلد. قوله ع و صبت على رزقها قيل هو على العكس أي و صب رزقها عليها و الكلام صحيح و لا حاجة فيه إلى هذا و المراد كيف همت حتى انصبت على رزقها انصبابا أي انحطت عليه و يروى و ضنت على رزقها بالضاد المعجمة و النون أي بخلت و جحرها بيتها. شرح نهج البلاغة ج : 13 ص : 57قوله ع و في وردها لصدرها أي تجمع في أيام التمكن من الحركة لأيام العجز عنها و ذلك لأن النمل يظهر صيفا و يخفى في شدة الشتاء لعجزه عن ملاقاة البرد. قوله ع رزقها وفقها أي بقدر كفايتها و يروى مكفول برزقها مرزوقة بوها. و المنان من أسماء الله تعالى العائد إلى صفاته الفعلية أي هو كثير المن و الإنعام على عباده. و الديان المجازي للعباد على أفعالهم قال تعالى إِنَّا لَمَدِينُونَ أي مجزيون و الحجر الجامس الجامد و الشراسيف أطراف الأضلاع المشرفة على البطن
فصل في ذكر أحوال الذرة و عجائب النملة
و اعلم أن شيخنا أبا عثمان قد أورد في كتاب الحيوان في باب النملة و الذرة و هي الصغيرة جدا من النمل كلاما يصلح أن يكون كلام أمير المؤمنين ع أصله و لكن أبا عثمان قد فرع عليه قال الذرة تدخر في الصيف للشتاء و تتقدم في حال المهلة و لا تضيع أوقات إمكان الحزم ثم يبلغ من تفقدها و صحة تمييزها و النظر في عواقب أمورها أنها تخاف على الحبوب التي ادخرتها للشتاء في الصيف أن تعفن و تسوس في شرح نهج البلاغة ج : 13 ص : 58بطن الأرض فتخرجها إلى ظهرها لتنثرها و تعيد إليها جفوفها و يمر بها النسيم فينفي عنها اللخن و الفساد. ثم رب بل في الأكثر تختار ذلك العمل ليلا لأن ذلك أخفى و في القمر لأنها فيه أبصر فإن كان مكانها نديا و خافت أن تنبت الحبة نقرت موضع القطمير من وسطها لعلمها أنها من ذلك الموضع تنبت و ربما فلقت الحبة نصفين فأما إن كان الحب من حب الكزبرة فإنها تفلقه أرباعا لأن أنصاف حب الكزبرة تنبت من بين جميع الحبوب فهي من هذا الوجه مجاوزة لفطنة جميع الحيوانات حتى ربما كانت في ذلك أحزم من كثير من الناس و لها مع لطافة شخصها و خفة وزنها في الشم و الاسترواح ما ليس لشي ء فربما أكل الإنسان الجراد أو بعض ما يشبه الجراد فيسقط من يده الواحة أو صدر واحدة و ليس بقربه ذرة و لا له عهد بالذر في ذلك المنزل فلا يلبث أن تقبل ذرة قاصدة إلى تلك الجرادة فترومها و تحاول نقلها و جرها إلى جحرها فإذا أعجزتها بعد أن تبلي عذرا مضت إلى جحرها راجعة فلا يلبث ذلك الإنسان أن يجدها قد أقبلت و خلفها كالخيط الأسود الممدود حتى يتعاون عليها فيحملنها فاعجب من صدق الشم لما لا يشمه الإنسان الجائع ثم انظر إلى بعد الهمة و الجرأة على محاولة نقل شي ء في وزن جسمها مائة مرة و أكثر من مائة مرة بل أضعاف أضعاف المائة و ليس شي ء من الحيوان يحمل ما يكون أضعاف وزنه مرارا كثيرة غير. فإن قال قائل فمن أين علمتم أن التي حاولت نقل الجرادة فعجزت هي التي (14/45)
أخبرت صواحباتها من الذر و أنها التي كانت على مقدمتهن قيل له لطول التجربة و لأنا لم نر قط ذرة حاولت جر جرادة فعجزت عنها ثم (14/46)
شرح نهج البلاغة ج : 13 ص : 59رأيناها راجعة إلا رأينا معها مثل ذلك و إن كنا لا نفصل في مرأى العين بينها و بين أخواتها فإنه ليس يقع في القلب غير الذي قلنا فدلنا ذلك على أنها في رجوعها عن الجرادة أنها إنما كانت لأشباهها كالرائد الذي لا يكذب أهله قال أبو عثن و لا ينكر قولنا إن الذرة توحي إلى أخواتها بما أشرنا إليه إلا من يكذب القرآن فإنه تعالى قال في قصة سليمان قالَتْ نَمْلَةٌ يا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَساكِنَكُمْ لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمانُ وَ جُنُودُهُ وَ هُمْ لا يَشْعُرُونَ فَتَبَسَّمَ ضاحِكاً مِنْ قَوْلِها فهل بعد هذا ريب أو شك في أن لها قولا و بيانا و تمييزا. فإن قلت فلعلها مكلفة و مأمورة و منهية و مطيعة و عاصية قيل هذا سؤال جاهل و ذلك أنه لا يلزم أن يكون كل ذي حس و تمييز مكلفا مأمورا منهيا مطيعا عاصيا لأن الإنسان غير البالغ الحلم قد يحفظ القرآن و كثيرا من الآثار و ضروبا من الأخبار و يشتري و يبيع و يخدع الرجال و يسخر بالمعلمين و هو غير مكلف و لا مأمور و لا منهي و لا عاص و لا مطيع فلا يلزم مما قلناه في الذرة أن تكون مكلفة. قال أبو عثمان و من عجيب ما سمعته من أمر النملة ما حدثني به بعض المهندسين عن رجل معروف بصنعة الأسطرلابات أنه أخرج طوقا من صفر أو قال من حديد من الكير و قد أحماه فرمى به على الأرض ليبرد فاشتمل الطوق على نملة فأرادت أن تنفر يمنة فلقيها وهج النار فأخذت يسرة فلقيها وهج النار فمضت قدما فكذاك فرجعت إلى خلفها فكذلك فرجعت إلى وسط الدائرة فوجدها قد ماتت في موضع رجل البركار من الدائرة و هذا من العجائب. قال أبو عثمان و حدثني أبو عبيد الله الأفوه و ما كنت أقدم عليه في زمانه من مشايخ شرح نهج البلاغة ج : 13 ص : 60المعتزلة إلا القليل قال
قد كنت ألقى من الذر و النمل في الرطب يكون عندي و في الطعاعنتا كثيرا و ذلك لأني كنت لا أستقذر النملة و لا الذرة ثم وجدت الواحدة منهما إذا وقعت في قارورة بان أو زئبق أو خيري فسد ذلك الدهن و زنخ فقذرتها و نفرت منها و قلت أخلق بطبيعتها أن تكون فاسدة خبيثة و كنت أرى لها عضا منكرا فأقول إنها من ذوات السموم و لو أن بدن النملة زيد في أجزائه حتى يلحق ببدن العقرب ثم عضت إنسانا لكانت عضتها أضر عليه من لسعة العقرب. قال فاتخذت عند ذلك لطعامي منملة و قيرتها و صببت في خندقها الماء و وضعت سلة الطعام على رأسها فغبرت أياما أكشف رأس السلة بعد ذلك و فيها ذر كثير و وجدت الماء في الخندق على حاله فقلت عسى أن يكون بعض الصبيان أنزلها و أكل مما فيها و طال مكثها في الأرض و قد دخلها الذر ثم أعيدت على تلك الحال و تكلمت في ذلك و تعرفت الحال فيه فعرفت البراءة في عذرهم و الصدق في خبرهم فاشتد تعجبي و ذهبت بي الظنون و الخواطر كل مذهب فعزمت على أن أرصدها و أحرسها و أتثبت في أمري و أتعرف شأني فإذا هي بعد أن رامت الخندق فامتنع عليها تركته جانبا و صعدت في الحائط ثم مرت على جذع السقف فلما صارت محاذية للسلة أرسلت نفسها فقلت في نفسي انظر كيف اهتدت إلى هذه الحيلة و لم تعلم أنها تبقى محصورة. ثم قلت و ما عليها أن تبقى محصورة بل أي حصار على ذرة و قد وجدت ما تشتهي. قال أبو عثمان و من أعاجيب الذرة أنها لا تعرض لجعل و لا لجرادة و لا لخنفساء و لا لبنت وردان ما لم يكن بها حبل أو عقر أو قطع رجل أو يد فإن وجدت بها من ذلك أدنى علة وثبت عليها حتى لو أن حية بها ضربة أو خرق أو خدش ثم كانت من (14/47)
شرح نهج البلاغة ج : 13 ص : 61ثعابين مصر لوثب عليها الذر حتى يأكلها و لا تكاد الحية تسلم من الذر إذا كان بها أدنى عقر. قال أبو عثمان و قد عذب الله بالذر و النمل أمما و أمما و أخرج أهل قرى من قراهم و أهل دروب من دروبهم. و حدثني بعض من أصدق خبره قال سألت را كان ينزل ببغداد في بعض الدروب التي في ناحية باب الكوفة التي جلا أهلها عنها لغلبة النمل و الذر عليها فسألته عن ذلك فقال و ما تصنع بالحديث امض معي إلى داري التي أخرجني منها النمل قال فدخلتها معه فبعث غلامه فاشترى رءوسا من الرأسين ليتغذى بها فانتقلنا هربا من النمل في أكثر من عشرين مكانا ثم دعا بطست ضخمة و صب فيها ماء صالحا ثم فرق عظام الرءوس في الدار و معه غلمانه فكان كلما اسود منها عظم لكثرة النمل و اجتماعه عليه و ذلك في أسرع الأوقات أخذه الغلام ففرغه في الطست بعود ينثر به ما عليه في جوف الطست فما لبثنا مقدار ساعة من النهار حتى فاضت الطست نملا فقال كم تظن أني فعلت مثل هذا قبل الجلاء طمعا في أن أقطع أصلها فلما رأيت عددها إما زائدا و إما ثابتا و جاءنا ما لا يصبر عليه أحد و لا يمكن معه مقام خرجت عنها. قال أبو عثمان و عذب عمر بن هبيرة سعيد بن عمرو الحرشي بأنواع العذاب فقيل له إن أردت ألا يفلح أبدا فمرهم فلينفخوا في دبره النمل ففعلوا فلم يفلح بعدها. شرح نهج البلاغة ج : 13 ص : 62قال أبو عثمان و من الحيوان أجناس يشبه الإنسان في العقل و الروية و النظر في العواقب و الفكر في الأمور مثل النمل و الذر و الفأر و الجرذان العنكبوت و النحل إلا أن النحل لا يدخر من الطعم إلا جنسا واحدا و هو العسل. قال و زعم البقطري أنك لو أدخلت نملة في جحر ذر لأكلتها حتى تأتي على عامتها و ذكر أنه قد جرب ذلك. قال و زعم صاحب المنطق أن الضبع تأكل النمل أكلا ذريعا لأنها تأتي قرية النمل وقت اجتماع النمل على باب القرية فتلحس ذلك النمل كله بلسانها بشهوة شديدة و (14/48)
إرادة قوية. قال و ربما أفسدت الأرضة على أهل القرى منازلهم و أكلت كل شي ء لهم فلا تزال كذلك حتى ينشأ في تلك القرى النمل فيسلط الله عز و جل ذلك النمل على تلك الأرضة حتى تأتي على آخرها على أن النل بعد ذلك سيكون له أذى إلا أنه دون أذى الأرضة بعيدا و ما أكثر ما يذهب النمل أيضا من تلك القرى حتى يتم لأهلها السلامة من النوعين جميعا. قال و قد زعم بعضهم أن تلك الأرضة بأعيانها تستحيل نملا و ليس فناؤها لأكل النمل لها و لكن الأرضة نفسها تستحيل نملا فعلى قدر ما يستحيل منها يرى الناس النقصان في عددها و مضرتها على الأيام. قال أبو عثمان و كان ثمامة يرى أن الذر صغار النمل و نحن نراه نوعا آخر كالبقر و الجواميس. قال و من أسباب هلاك النمل نبات أجنحته و قال الشاعر (14/49)
و إذا استوت للنمل أجنحة حتى يطير فقد دنا عطبه
شرح نهج البلاغة ج : 13 ص : 63و كان في كتاب عبد الحميد إلى أبي مسلم لو أراد الله بالنملة صلاحا لما أنبت لها جناحا فيقال إن أبا مسلم لما قرأ هذا الكلام في أول الكتاب لم يتم قراءته و ألقاه في النار و قال أخاف إن قرأته أن ينخب قلبي. قال أبو عثمان و يقتل الن بأن يصب في أفواه بيوتها القطران و الكبريت الأصفر و أن يدس في أفواهها الشعر على أنا قد جربنا ذلك فوجدناه باطلا. فأما الحكماء فإنهم لا يثبتون للنمل شراسيف و لا أضلاعا و يجب إن صح قولهم أن يحمل كلام أمير المؤمنين ع على اعتقاد الجمهور و مخاطبة العرب بما تتخيله و تتوهمه حقا و كذلك لا يثبت الحكماء للنمل آذانا بارزة عن سطوح رءوسها و يجب إن صح ذلك أن نحمل كلام أمير المؤمنين ع على قوة الإحساس بالأصوات فإنه لا يمكن الحكماء إنكار وجود هذه القوة للنمل و لهذا إذا صيح عليهن هربن. و يذكر الحكماء من عجائب النمل أشياء منها أنه لا جلد له و كذلك كل الحيوان المخرز. و منها أنه لا يوجد في صقلية نمل كبار أصلا. و منها أن النمل بعضه ماش و بعضه طائر. و منها أن حراقة النمل إذا أضيف إليها شي ء من قشور البيض و ريش هدهد و علقت على العضد منعت من النوم قوله ع و لو ضربت في مذاهب فكرك لتبلغ غاياته أي غايات فكرك و ضربت بمعنى سرت و المذاهب الطرق قال تعالى وَ إِذا ضَرَبْتُمْ فِي شرح نهج البلاغة ج : 13 ص : 64الْأَرْضِ و هذا الكلام استعارة. قال لو أمعنت النظر لعلمت أن خالق النملة الحقيرة هو خالق النخلة الطويللأن كل شي ء من الأشياء تفصيل جسمه و هيئته تفصيل دقيق و اختلاف تلك الأجسام في أشكالها و ألوانها و مقاديرها اختلاف غامض السبب فلا بد للكل من مدبر يحكم بذلك الاختلاف و يفعله على حسب ما يعلمه من المصلحة. ثم قال و ما الجليل و الدقيق في خلقه إلا سواء لأنه تعالىقادر لذاته لا يعجزه شي ء من الممكنات. ثم قال فانظر إلى الشمس و القمر إلى قوله و الألسن المختلفات هذا هو (14/50)
الاستدلال بإمكان الأعراض على ثبوت الصانع و الطرق إليه أربعة أحدها الاستدلال بحدوث الأجسام. و الثاني الاستدلال بإمكان الأعراض و الأجسام. و الثالث الاستدال بحدوث الأعراض. و الرابع الاستدلال بإمكان الأعراض. و صورة الاستدلال هو أن كل جسم يقبل للجسمية المشتركة بينه و بين سائر الأجسام ما يقبله غيره من الأجسام فإذا اختلفت الأجسام في الأعراض فلا بد من مخصص خصص هذا الجسم بهذا العرض دون أن يكون هذا العرض لجسم آخر و يكون لهذا الجسم عرض غير هذا العرض لأن الممكنات لا بد لها من مرجح يرجح أحد طرفيها على الآخر فهذا هو معنى قوله فانظر إلى الشمس و القمر و النبات و الشجر و الماء و الحجر و اختلاف هذا الليل و النهار و تفجر هذه البحار و كثرة هذه الجبال و طول هذه القلال و تفرق هذه اللغات و الألسن المختلفات أي أنه يمكن أن تكون هيئة شرح نهج البلاغة ج : 13 ص : 65الشمس و ضوءها و مقدارها حاصلا لجرم القمر و يمكن أن يكون النبات الذي لا ساق له شجرا و الشجر ذو الساق نباتا و يمكن أن يكون الماء صلبا و الحجر مائعا و يمكن أن يكون زمان الليمضيئا و زمان النهار مظلما و يمكن ألا تكون هذه البحار متفجرة بل تكون جبالا و يمكن ألا تكون هذه الجبال الكبيرة كبيرة و يمكن ألا تكون هذه القلال طويلة و كذلك القول في اللغات و اختلافها و إذا كان كل هذا ممكنا فاختصاص الجسم المخصوص بالصفات و الأعراض و الصور المخصوصة لا يمكن أن يكون لمجرد الجسمية لتماثل الأجسام فيها فلا بد من أمر زائد و ذلك الأمر الزائد هو المعني بقولنا صانع العالم. ثم سفه آراء المعطلة و قال إنهم لم يعتصموا بحجة و لم يحققوا ما وعوه أي لم يرتبوا العلوم الضرورية ترتيبا صحيحا يفضي بهم إلى النتيجة التي هي حق. ثم أخذ في الرد عليهم من طريق أخرى و هي دعوى الضرورة و قد اعتمد عليها كثير من المتكلمين فقال نعلم ضرورة أن البناء لا بد له من بان. ثم قال و الجناية لا بد لها من (14/51)
جان و هذه كلمة ساقته إليها القرينة و المراد عموم الفعلية لا خصوص الجناية أي مستحيل أن يكون الفعل من غير فاعل و الذين ادعوا الضرورة في هذه المسألة من المتكلمين استغنوا عن الطرق الأربع التي ذكرناها و أمير المؤمنين ع اعتمد أولا على طريق واحدة ثم جنح ثانيا إلى دعوى الضرورة و كلا الطريقين صحيح (14/52)
وَ إِنْ شِئْتَ قُلْتَ فِي الْجَرَادَةِ إِذْ خَلَقَ لَهَا عَيْنَيْنِ حَمْرَاوَيْنِ وَ أَسْرَجَ لَهَا شرح نهج البلاغة ج : 13 ص : 66حَدَقَتَيْنِ قَمْرَاوَيْنِ وَ جَعَلَ لَهَا السَّمْعَ الْخَفِيَّ وَ فَتَحَ لَهَا الْفَمَ السَّوِيَّ وَ جَعَلَ لَهَا الْحِسَّ اقَوِيَّ وَ نَابَيْنِ بِهِمَا تَقْرِضُ وَ مِنْجَلَيْنِ بِهِمَا تَقْبِضُ يَرْهَبُهَا الزُّرَّاعُ فِي زَرْعِهِمْ وَ لَا يَسْتَطِيعُونَ ذَبَّهَا وَ لَوْ أَجْلَبُوا بِجَمْعِهِمْ حَتَّى تَرِدَ الْحَرْثَ فِي نَزَوَاتِهَا وَ تَقْضِي مِنْهُ شَهَوَاتِهَا وَ خَلْقُهَا كُلُّهُ لَا يُكَوِّنُ إِصْبَعاً مُسْتَدِقَّةً فَتَبَارَكَ الَّذِي يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَ الْأَرْضِ طَوْعاً وَ كَرْهاً وَ يُعَفِّرُ لَهُ خَدّاً وَ وَجْهاً وَ يُلْقِي بِالطَّاعَةِ إِلَيْهِ سِلْماً وَ ضَعْفاً وَ يُعْطِي الْقِيَادَ رَهْبَةً وَ خَوْفاً فَالطَّيْرُ مُسَخَّرَةٌ لِأَمْرِهِ أَحْصَى عَدَدَ الرِّيشِ مِنْهَا وَ النَّفَسِ وَ أَرْسَى قَوَائِمَهَا عَلَى النَّدَى وَ الْيَبَسِ وَ قَدَّرَ أَقْوَاتَهَا وَ أَحْصَى أَجْنَاسَهَا فَهَذَا غُرَابٌ وَ هَذَا عُقَابٌ وَ هَذَا حَمَامٌ وَ هَذَا نَعَامٌ دَعَا كُلَّ طَائِرٍ بِاسْمِهِ وَ كَفَلَ لَهُ بِرِزْقِهِ وَ أَنْشَأَ السَّحَابَ الثِّقَالَ فَأَهْطَلَ دِيَمَهَا وَ عَدَّدَ قِسَمَهَا فَبَلَّ الْأَرْضُ بَعْدَ جُفُوفِهَا وَ أَخْرَجَ نَبْتَهَا بَعْدَ جُدُوبِهَا
قوله و أسرج لها حدقتين أي جعلهما مضيئتين كما يضي ء السراج و يقال حدقة قمراء أي منيرة كما يقال ليلة قمراء أي نيرة بضوء القمر. و بهما تقرض أي تقطع و الراء مكسورة. و المنجلان رجلاها شبههما بالمناجل لعوجهما و خشونتهما. و يرهبها يخافها و نزواتها وثباتها و الجد المحل شرح نهج البلاغة ج : 13 ص : 6ذكر غرائب الجراد و ما احتوت عليه من صنوف الصنعة (14/53)
قال شيخنا أبو عثمان في كتاب الحيوان من عجائب الجرادة التماسها لبيضها الموضع الصلد و الصخور الملس ثقة منها أنها إذا ضربت بأذنابها فيها انفرجت لها و معلوم أن ذنب الجرادة ليس في خلقة المنشار و لا طرف ذنبه كحد السنان و لا لها من قوة الأسر و لا لذنبها من الصلابة ما إذا اعتمدت به على الكدية خرج فيها كيف و هي تتعدى إلى ما هو أصلب من ذلك و ليس في طرفها كإبرة العقرب و على أن العقرب ليس تخرق القمقم من جهد الأيد و قوة البدن بل إنما ينفرج لها بطبع مجعول هناك و كذاك انفراج الصخور لأذناب الجراد. و لو أن عقابا أرادت أن تخرق جلد الجاموس لما انخرق لها إلا بالتكلف الشديد و العقاب هي التي تنكدر على الذئب الأطلس فتقد بدابرتها ما بين صلاه إلى موضع الكاهل. فإذا غرزت الجرادة و ألقت بيضها و انضمت عليها تلك الأخاديد التي هي أحدثها و صارت كالأفاحيص لها صارت حاضنة لها و مربية و حافظة و صائنة و واقية حتى إذا جاء وقت دبيب الروح فيها حدث عجب آخر و ذلك لأنه يخرج من بيضه شرح نهج البلاغة ج : 13 ص : 68أصهب إلى البياض ثم يصفر و تتلون فيه خطوط إلى السواد ثم يصير فيه خطوط سود و بيض ثم يبدو حجم جناحه ثم يستقل فيموج بعضه في بعض. قال أبو عثمان و عم قوم أن الجراد قد يريد الخضرة و دونه النهر الجاري فيصير بعضه جسرا لبعض حتى يعبر إلى الخضرة و أن ذلك حيلة منها. و ليس كما زعموا و لكن الزحف الأول من الدباء يريد الخضرة فلا يستطيعها إلا بالعبور إليها فإذا صارت تلك القطعة فوق الماء طافية
صارت لعمري أرضا للزحف الثاني الذي يريد الخضرة فإن سموا ذلك جسرا استقام فأما أن يكون الزحف الأول مهد للثاني و مكن له و آثره بالكفاية فهذا ما لا يعرف و لو أن الزحفين جميعا أشرفا على النهر و أمسك أحدهما عن تكلف العبور حتى يمهد له الآخر لكان لما قالوه وجه. قال أبو عثمان و لعاب الجراد سم على الأشجار لا يقع على شي ء إلا أحرقه. فأما الحكماء فيذكرون في كتبهم أن أرجل الجراد تقلع الثآليل و أنه إذا أخذت منه اثنتا عشرة جرادة و نزعت رءوسها و أطرافها و جعل معها قليل آس يابس و شربت للاستسقاء كما هي نفعت نفعا بينا و أن التبخر بالجراد ينفع م عسر البول و خاصة في النساء و أن أكله ينفع من تقطيره و قد يبخر به للبواسير و ينفع أكله من لسعة العقرب. و يقال إن الجراد الطوال إذا علق على من به حمى الربع نفعه (14/54)
شرح نهج البلاغة ج : 13 ص : 23269- و من خطبة له ع في التوحيدو تجمع هذه الخطبة من أصول العلم ما لا تجمعه خطبة غيرها
مَا وَحَّدَهُ مَنْ كَيَّفَهُ وَ لَا حَقِيقَتَهُ أَصَابَ مَنْ مَثَّلَهُ وَ لَا إِيَّاهُ عَنَى مَنْ شَبَّهَهُ وَ لَا صَمَدَهُ مَنْ أَشَارَ إِلَيْهِ وَ تَوَهَّمَهُ كُلُّ مَعْرُوفٍ بِنَفْسِهِ مَصْنُوعٌ وَ كُلُّ قَائِمٍ فِي سِوَاهُ مَعْلُولٌ فَاعِلٌ لَا بِاضْطِرَابِ آلَةٍ مُقَدِّرٌ لَا بِجَوْلِ فِكْرَةٍ غَنِيٌّ لَا بِاسْتِفَادَةٍ لَا تَصْحَبُهُ الْأَوْقَاتُ وَ لَا تَرْفِدُهُ الْأَدَوَاتُ سَبَقَ الْأَوْقَاتَ كَوْنُهُ وَ الْعَدَمَ وُجُودُهُ وَ الِابْتِدَاءَ أَوَّلُهُ
هذا الفصل يشتمل على مباحث متعددة أولها قوله ما وحده من كيفه و هذا حق لأنه إذا جعله مكيفا جعله ذا هيئة و شكل أو ذا لون و ضوء إلى غيرهما من أقسام الكيف و متى كان كذلك كان جسما و لم يكن واحدا لأن كل جسم قابل للانقسام و الواحد حقا لا يقبل الانقسام فقد ثبت أنه ما وحده من كيفه. و ثانيها قوله و لا حقيقته أصاب من مثله و هذا حق لأنه تعالى لا مثل له و قد دلت الأدلة الكلامية و الحكمية على ذلك فمن أثبت له مثلا فإنه لم يصب شرح نهج البلاغة ج : 13 ص : 70حقيقته تعالى و السجعة الأخرى تعطي هذا المعنى أيضا من غير زيادة عليه هي قوله ع و لا إياه عنى من شبهه و لهذا قال شيوخنا إن المشبه لا يعرف الله و لا تتوجه عباداته و صلواته إلى الله تعالى لأنه يعبد شيئا يعتقده جسما أو يعتقده مشابها لبعض هذه الذوات المحدثة و العبادة تنصرف إلى المعبود بالقصد فإذا قصد بها غير الله تعالى لم يكن قد عبد الله سبحانه و لا عرفه و إنما يتخيل و يتوهم أنه قد عرفه و عبده و ليس الأمر كما تخيل و توهم. و ثالثها قوله ع و لا صمده من أشار إليه أي أثبته في جهة كما تقول الكرامية الصمد في اللغة العربية السيد و الصمد أيضا الذي لا جوف له و صار التصميد في الاصطلاح العرفي عبارة عن التنزيه و الذي قال ع حق لأن من أشار إليه أي أثبته في جهة كما تقوله الكرامية فإنه ما صمده لأنه ما نزهه عن الجهات بل حكم عليه بما هو من خواص الأجسام و كذلك من توهمه سبحانه أي من تخيل له في نفسه صورة أو هيئة أو شكلا فإنه لم ينزهه عما يجب تنزيهه عنه. و رابعها قوله كل معروف بنفسه مصنوع هذا الكلام يجب أن يتأول و يحمل على أن كل معروف بالمشاهدة و الحس فهو مصنوع و ذلك لأن الباري سبحانه معروف من طريقين إحداهما من أفعاله و الأخرى بنفسه و هي طريقة الحكماء الذين بحثوا في الوجود من حيث هو وجود فعلموا أنه لا بد من موجود واجب الوجود فلم يستدلوا عليه بأفعاله بل أخرج لهم (14/55)
البحث في الوجود أنه لا بد من ذات يستحيل عدمها من حيث هي هي. فإن قلت كيف يحمل كلامه على أن كل معروف بالمشاهدة و الحس فهو مصنوع و هذا يدخل فيه كثير من الأعراض كالألوان و إذا دخل ذلك فسدت عليه الفقرة الثانية شرح نهج البلاغة ج : 13 ص : 71و هي قوله ع و كل قائم فيما سواه معلول لأنها للأعراض خاصة فيدخل أحد مدلول الفقرتين في الأخرى فيختل النظم قلت يريد ع بالفقرة الأولى كل معروف بنفسه من طريق المشاهدة مستقلا بذاته غير مفتقر في تقومه إلى غيره فهو مصنوع و ا يختص بالأجسام خاصة و لا يدخل الألوان و غيرها من الأعراض فيه لأنها متقومة بمحالها. و خامسها قوله و كل قائم في سواه معلول أي و كل شي ء يتقوم بغيره فهو معلول و هذا حق لا محالة كالأعراض لأنها لو كانت واجبة لاستغنت في تقومها عن سواها لكنها مفتقرة إلى المحل اذي يتقوم به ذواتها فإذا هي معلولة لأن كل مفتقر إلى الغير فهو ممكن فلا بد له من مؤثر. و سادسها قوله فاعل لا باضطراب آلة هذا لبيان الفرق بينه و بيننا فإننا نفعل بالآلات و هو سبحانه قادر لذاته فاستغنى عن الآلة. و سابعها قوله مقدر لا بجول فكرة هذا أيضا للفرق بيننا و بينه لأنا إذا قدرنا أجلنا أفكارنا و ترددت بنا الدواعي و هو سبحانه يقدر الأشياء على خلاف ذلك. و ثامنها قوله غني لا باستفادة هذا أيضا للفرق بيننا و بينه لأن الغني منا من يستفيد الغنى بسبب خارجي و هو سبحانه غني بذاته من غير استفادة أمر يصير به غنيا و المراد بكونه غنيا أن كل شي ء من الأشياء يحتاج إليه و أنه سبحانه لا يحتاج إلى شي ء من الأشياء أصلا. و تاسعها قوله لا تصحبه الأوقات هذا بحث شريف جدا و ذلك لأنه سبحانه ليس بزمان و لا قابل للحركة فذاته فوق الزمان و الدهر أما المتكلمون فإنهم يقولون شرح نهج البلاغة ج : 13 ص : 72إنه تعالى كان و لا زمان و لا وقت و أما الحكماء فيقولون إن الزمان عرض قائم بعرض آخر و ذلك العرض الآخر قائم بجسم (14/56)
معلول لبعض المعلولات الصادرة عنه سبحانه فالزمان عندهم و إن كان لم يزل إلا أن العلة الأولى ليست واقعة تحته و ذلك هالمراد بقوله لا تصحبه الأوقات إن فسرناه على قولهم و تفسيره على قول المتكلمين أولى. و عاشرها قوله و لا ترفده الأدوات رفدت فلانا إذا أعنته و المراد الفرق بيننا و بينه لأننا مرفودون بالأدوات و لولاها لم يصح منا الفعل و هو سبحانه بخلاف ذلك. و حادي عشرها قوله سبق الأوقات كونه إلى آخر الفصل هذا تصريح بحدوث العالم. فإن قلت ما معنى قوله و العدم وجوده و هل يسبق وجوده العدم مع كون عدم العالم في الأزل لا أول له قلت ليس يعني بالعدم هاهنا عدم العالم بل عدم ذاته سبحانه أي غلب وجود ذاته عدمها و سبقها فوجب له وجود يستحيل تطرق العدم إليه أزلا و أبدا بخلاف الممكنات فإن عدمها سابق بالذات على وجودها و هذا دقيق (14/57)
بِتَشْعِيرِهِ الْمَشَاعِرَ عُرِفَ أَنْ لَا مَشْعَرَ لَهُ وَ بِمُضَادَّتِهِ بَيْنَ الْأُمُورِ عُرِفَ أَنْ لَا ضِدَّ لَهُ وَ بِمُقَارَنَتِهِ بَيْنَ الْأَشْيَاءِ عُرِفَ أَنْ لَا قَرِينَ لَهُ ضَادَّ النُّورَ بِالظُّلْمَةِ وَ الْوُضُوحَ بِالْبُهْمَةِ وَ الْجُمُودَ بِالْبَلَلِ وَ الْحَرُورَ بِالصَّرْدِ شرح نهج البلاغة ج : 13 ص : 73مُؤَلِّفٌ بَيْنَ مُتَعَادِيَاتِهَا مُقَارِنٌ بَيْنَ مُتَبَايِنَاتِهَا مُقَرِّبٌ بَيْنَ مُتَبَاعِدَاتِهَا مُفَرِّقٌ بَيْنَ مُتَدَانِيَاتِهَا لَا يُشْمَلُ بِحَدٍّ وَ لَا يُحْسَبُ بِعَدّوَ إِنَّمَا تَحُدُّ الْأَدَوَاتُ أَنْفُسَهَا وَ تُشِيرُ الآْلَاتُ إِلَى نَظَائِرِهَا
المشاعر الحواس قال بلعاء بن قيس
و الرأس مرتفع فيه مشاعره يهدي السبيل له سمع و عينان
قال بجعله تعالى المشاعر عرف أن لا مشعر له و ذلك لأن الجسم لا يصح منه فعل الأجسام و هذا هو الدليل الذي يعول عليه المتكلمون في أنه تعالى ليس بجسم. ثم قال و بمضادته بين الأمور عرف أن لا ضد له و ذلك لأنه تعالى لما دلنا بالعقل على أن الأمور المتضادة إنما تتضاد على موضوع تقوم به و تحله كان قد دلنا على أنه تعالى لا ضد له لأنه يستحيل أن يكون قائما بموضوع يحله كما تقوم المتضادات بموضوعاتها. ثم قال و بمقارنته بين الأشياء عرف أن لا قرين له و ذلك لأنه تعالى قرن بين العرض و الجوهر بمعنى استحالة انفكاك أحدهما عن الآخر و قرن بين كثير من الأعراض نحو ما يقوله أصحابنا في حياتي القلب و الكبد و نحو الإضافات التي يذكرها الحكماء كالبنوة و الأبوة و الفوقية و التحتية و نحو كثير من العلل و المعلولات و الأسباب و المسببات فيما ركبه في العقول من وجوب هذه المقارنة و استحالة انفكاك أحد الأمرين شرح نهج البلاغة ج : 13 ص : 74عن الآخر علمنا أنه لا قرين له سبحانه لأنه لو قارن شيئا على حسب هذه المقارنة لاستحال انفكاكه عنه فكان محتاجا في تحقق ذاته تعالى إليه و كل محتاج ممكن فواجب الوجود ممكن هذا محال. ثم شرع في تفصيل المتضادات فقال ضاد النور بظلمة و هما عرضان عند كثير من الناس و فيهم من يجعل الظلمة عدمية. قال و الوضوح بالبهمة يعني البياض و السواد. قال و الجمود بالبلل يعني اليبوسة و الرطوبة. قال و الحرور بالصرد يعني الحرارة و البرودة و الحرور هاهنا مفتوح الحاء يقال إني لأجد لهذا الطعام حرورا و حرورة في فمي أي حرارة و يجوز أن يكون في الكلام مضاف محذوف أي و حرارة الحرور بالصرد و الحرور هاهنا يكون الريح الحارة و هي بالليل كالسموم بالنهار و الصرد البرد. ثم قال و إنه تعالى مؤلف بين هذه المتباعدات المتعاديات المتباينات و ليس المراد من تأليفه بينها جمعه إياها في مكان واحد كيف و ذلك مستحيل في نفسه بل هو سبحانه مؤلف (14/58)
لها في الأجسام المركبة حتى خلع منها صورة مفردة هي المزاج ألا ترى أنه جمع الحار و البارد و الرطب و اليابس فمزجه مزجا مخصوصا حتى انتزع منه طبيعة مفردة ليست حارة مطلقة و لا باردة مطلقة و لا رطبة مطلقة و لا يابسة مطلقة و هي المزاج و هو محدود عند الحكماء بأنه كيفية حاصلة من كيفيات متضادة و هذا هو محصول كلامه ع بعينه. و العجب من فصاحته في ضمن حكمته كيف أعطى كل لفظة من هذه اللفظات ما يناسبها و يليق بها فأعطى المتباعدات لفظة مقرب لأن البعد بإزاء القرب شرح نهج البلاغة ج : 13 ص : 75و أعطى المتباينات لفظة مقارن لأن البينونة بإزاء المقارنة و أعطى المتعاديات لفظة مؤلف لأن الائتلاف بإزاء التعادي. ثم عاد ع فعكس المعنى فقال مفرق بين متدانياتها فجعل الفساد بإزاء الكون و هذا من دقيق حكمته ع و ذلك لأن كل كائن فاسفلما أوضح ما أوضح في الكون و التركيب و الإيجاد أعقبه بذكر الفساد و العدم فقال مفرق بين متدانياتها و ذلك لأن كل جسم مركب من العناصر المختلفة الكيفيات المتضادة الطبائع فإنه سيئول إلى الانحلال و التفرق. ثم قال لا يشمل بحد و ذلك لأن الحد الشامل ما كان مركبا من جنس و فصل و الباري تعالى منزه عن ذلك لأنه لو شمله الحد على هذا الوجه يكون مركبا فلم يكن واجب الوجود و قد ثبت أنه واجب الوجود و يجوز أن يعنى به أنه ليس بذي نهاية فتحويه الأقطار و تحده. ثم قال و لا يحسب بعد يحتمل أن يريد لا تحسب أزليته بعد أي لا يقال له منذ وجد كذا و كذا كما يقال للأشياء المتقاربة العهد و يحتمل أن يريد به أنه ليس مماثلا للأشياء فيدخل تحت العدد كما تعد الجواهر و كما تعد الأمور المحسوسة. ثم قال و إنما تحد الأدوات أنفسها و تشير الآلات إلى نظائرها هذا يؤكد معنى التفسير الثاني و ذلك لأن الأدوات كالجوارح إنما تحد و تقدر ما كان مثلها من ذوات المقادير و كذلك إنما تشير الآلات و هي الحواس إلى ما كان نظيرا لها في الجسمية و (14/59)
لوازمها و الباري تعالى ليس بذي مقدار و لا جسم و لا حال في جسم فاستحال أن تحده الأدوات و تشير إليه الآلات (14/60)
شرح نهج البلاغة ج : 13 ص : 76مَنَعَتْهَا مُنْذُ الْقِدْمَةَ وَ حَمَتْهَا قَدْ الْأَزَلِيَّةَ وَ جَنَّبَتْهَا لَوْلَا التَّكْمِلَةَ بِهَا تَجَلَّى صَانِعُهَا لِلْعُقُولِ وَ بِهَا امْتَنَعَ عَنْ نَظَرِ الْعُيُونِ وَ لَا تَجْرِي عَلَيْهِ الْحَرَكَةُ وَ السكُونُ وَ كَيْفَ يَجْرِي عَلَيْهِ مَا هُوَ أَجْرَاهُ وَ يَعُودُ فِيهِ مَا هُوَ أَبْدَاهُ وَ يَحْدُثُ فِيهِ مَا هُوَ أَحْدَثَهُ إِذاً لَتَفَاوَتَتْ ذَاتُهُ وَ لَتَجَزَّأَ كُنْهُهُ وَ لَامْتَنَعَ مِنَ الْأَزَلِ مَعْنَاهُ وَ لَكَانَ لَهُ وَرَاءٌ إِذْ وُجِدَ لَهُ أَمَامٌ وَ لَالْتَمَسَ التَّمَامَ إِذْ لَزِمَهُ النُّقْصَانُ وَ إِذاً لَقَامَتْ آيَةُ الْمَصْنُوعِ فِيهِ وَ لَتَحَوَّلَ دَلِيلًا بَعْدَ أَنْ كَانَ مَدْلُولًا عَلَيْهِ وَ خَرَجَ بِسُلْطَانِ الِامْتِنَاعِ مِنْ أَنْ يُؤَثِّرَ فِيهِ مَا يُؤَثِّرُ فِي غَيْرِهِ
قد اختلف الرواة في هذا الموضع من وجهين أحدهما قول من نصب القدمة و الأزلية و التكملة فيكون نصبها عنده على أنها مفعول ثان و المفعول الأول الضمائر المتصلة بالأفعال و تكون منذ و قد و لو لا في موضع رفع بأنها فاعلة و تقدير الكلام أن إطلاق لفظة منذ على الآلات و الأدوات يمنعها عن كونها قديمة لأن لفظة منذ وضعت لابتداء الزمان كلفظة من لابتداء المكان و القديم لا ابتداء له و كذلك إطلاق لفظة قد على الآلات و الأدوات تحميها و تمنعها من كونها أزلية لأن قد لتقريب الماضي من الحال تقول قد قام زيد فقد دل على أن قيامه قريب من الحال التي أخبرت فيها شرح نهج البلاغة ج : 13 ص : 77بقيامه و الأزلي لا يصح ذلك فيه و كذلك إطلاق لفظة لو لا على الأدوات و الآلات يجنبها التكملة و يمنعها من التمام المطلق لأن لفظة لو لا وضعت لامتناع الشي ء لوجود غيره كقولك لو لا زيد لقام عمرو فامتناع قيام ع إنما هو لوجود زيد و أنت تقول في الأدوات و الآلات و كل جسم ما أحسنه لو لا أنه فان و ما أتمه لو لا كذا فيكون المقصد و المنحى بهذا الكلام على هذه الرواية بيان أن الأدوات و الآلات محدثة ناقصة و المراد بالآلات و الأدوات أربابها. الوجه الثاني قول من رفع القدمة و الأزلية و التكملة فيكون كل واحد منها عنده فاعلا و تكون الضمائر المتصلة بالأفعال مفعولا أولا و منذ و قد و لو لا مفعولا ثانيا و يكون المعنى أن قدم الباري و أزليته و كماله منعت الأدوات و الآلات من إطلاق لفظة منذ و قد و لو لا عليه سبحانه لأنه تعالى قديم كامل و لفظتا منذ و قد لا يطلقان إلا على محدث لأن إحداهما لابتداء الزمان و الأخرى لتقريب الماضي من الحال و لفظة لو لا لا تطلق إلا على ناقص فيكون المقصد و المنحى بهذا الكلام على هذه الرواية بيان قدم الباري تعالى و كماله و أنه لا يصح أن يطلق عليه ألفاظ تدل على الحدوث و النقص. قوله ع بها تجلى صانعها للعقول و بها امتنع عن نظر (14/61)
العيون أي بهذه الآلات و الأدوات التي هي حواسنا و مشاعرنا و بخلقه إياها و تصويره لها تجلى للعقول و عرف لأنه لو لم يخلقها لم يعرف و بها امتنع عن نظر العيون أي بها استنبطنا استحالة كونه مرئيا بالعيون لأنا بالمشاعر و الحواس كملت عقولنا و بعقولنا استخرجنا الدلالة على أنه لا تصح رؤيته فإذن بخلقه الآلات و الأدوات لنا عرفناه عقلا و بذلك شرح نهج البلاغة ج : 13 ص : 78أيضا عرفنا أنه يستحيل أن يعرف بغير العقل و أن قول من قال إنا سنعرفه رؤية و مشافهة بالحا باطل. قوله ع لا تجري عليه الحركة و السكون هذا دليل أخذه المتكلمون عنه ع فنظموه في كتبهم و قرروه و هو أن الحركة و السكون معان محدثة فلو حلت فيه لم يخل منها و ما لم يخل من المحدث فهو محدث. فإن قلت إنه ع لم يخرج كلامه هذا المخرج و إنما قال كيف يجري عليه ما هو أجراه و هذا نمط آخر غير ما يقرره المتكلمون قلت بل هو هو بعينه لأنه إذا ثبت أنه هو الذي أجرى الحركة و السكون أي أحدثهما لم يجز أن يجريا عليه لأنهما لو جريا عليه لم يخل إما أن يجريا عليه على التعاقب و ليسا و لا واحد منهما بقديم أو يجريا عليه على أن أحدهما قديم ثم تلاه الآخر و الأول باطل بما يبطل به حوادث لا أول لها و الثاني باطل بكلامه ع و ذلك لأنه لو كان أحدهما قديما معه سبحانه لما كان أجراه لكن قد قلنا أنه أجراه أي أحدثه و هذا خلف محال و أيضا فإذا كان أحدهما قديما معه لم يجز أن يتلوه الآخر لأن القديم لا يزول بالمحدث. ثم قال ع إذا لتفاوتت ذاته و لتجزأ كنهه و لامتنع من الأزل معناه هذا تأكيد لبيان استحالة جريان الحركة و السكون عليه تقول لو صح عليه ذلك لكان محدثا و هو معنى قوله لامتنع من الأزل معناه و أيضا كان ينبغي أن تكون ذاته منقسمة لأن المتحرك الساكن لا بد أن يكون متحيزا و كل متحيز جسم و كل جسم منقسم أبدا و في هذا إشارة إلى نفي الجوهر الفرد. (14/62)
شرح نهج البلاغة ج : 13 ص : 79ثم قال ع و لكان له وراء إذا وجد له أمام هذا يؤكد ما قلناه إنه إشارة إلى نفي الجوهر الفرد يقول لو حلته الحركة لكان جرما و حجما و لكان أحد وجهيه غير الوجه الآخر لا محالة فكان منقسما و هذا الكلام لا يستقيم إلا مع نفي الجوهر الف لأن من أثبته يقول يصح أن تحله الحركة و لا يكون أحد وجهيه غير الآخر فلا يلزم أن يكون له وراء و أمام. ثم قال ع و لا التمس التمام إذ لزمه النقصان هذا إشارة إلى ما يقوله الحكماء من أن الكون عدم و نقص و الحركة وجود و كمال فلو كان سبحانه يتحرك و يسكن لكان حال السكون ناقصا قد عدم عنه كماله فكان ملتمسا كماله بالحركة الطارئة على السكون و واجب الوجود يستحيل أن يكون له حالة نقصان و أن يكون له حالة بالقوة و أخرى بالفعل. قوله ع إذا لقامت آية المصنوع فيه و ذلك لأن آية المصنوع كونه متغيرا منتقلا من حال إلى حال لأنا بذلك استدللنا على حدوث الأجسام فلو كان تعالى متغيرا متحركا منتقلا من حال إلى حال لتحقق فيه دليل الحدوث فكان مصنوعا و قد ثبت أنه الصانع المطلق سبحانه. قوله ع و لتحول دليلا بعد أن كان مدلولا عليه يقول إنا وجدنا دليلنا على الباري سبحانه أنما هو الأجسام المتحركة فلو كان الباري متحركا لكان دليلا على غيره و كان فوقه صانع آخر صنعه و أحدثه لكنه سبحانه لا صانع له و لا ذات فوق ذاته فهو المدلول عليه و المنتهى إليه. قوله ع و خرج بسلطان الامتناع من أن يؤثر فيه ما أثر في غيره في هذا الكلام يتوهم سامعه أنه عطف على قوله لتفاوتت و لتجزأ و لامتنع شرح نهج البلاغة ج : 13 ص : 80و لكان له و لالتمس و لقامت و لتحول و ليس كذلك لأنه لو كان معطوفا عليها لاختل الكلام و فسد لأنها كلها مستحيلات عليه تعالى و المراد لو تحرك لزم هذه المحالات كلها. و قوله و خرج بسلطان الامتناع ليس من المستحيلاتليه بل هو واجب له و من الأمور الصادقة عليه فإذا فسد أن يكون معطوفا (14/63)
عليها وجب أن يكون معطوفا على ما كان مدلولا عليه و تقدير الكلام كان يلزم أن يتحول الباري دليلا على غيره بعد أن كان مدلولا عليه و بعد أن خرج بسلطان الامتناع من أن يؤثر فيه ما أثر في غيره و خروجه بسلطان الامتناع المراد به وجوب الوجود و التجريد و كونه ليس بمتحيز و لا حال في المتحيز فهذا هو سلطان الامتناع الذي به خرج عن أن يؤثر فيه ما أثر في غيره من الأجسام و الممكنات (14/64)
الَّذِي لَا يَحُولُ وَ لَا يَزُولُ وَ لَا يَجُوزُ عَلَيْهِ الْأُفُولُ لَمْ يَلِدْ فَيَكُونَ مَوْلُوداً وَ لَمْ يُولَدْ فَيَصِيرَ مَحْدُوداً جَلَّ عَنِ اتِّخَاذِ الْأَبْنَاءِ وَ طَهُرَ عَنْ مُلَامَسَةِ النِّسَاءِ لَا تَنَالُهُ الْأَوْهَامُ فَتُقَدِّرَهُ وَ لَا تَتَوَهَّمُهُ الْفِطَنُ فَتُصَوِّرَهُ وَ لَا تُدْرِكُهُ الْحَوَاسُّ فَتُحِسَّهُ وَ لَا تَلْمِسُهُ الْأَيْدِي فَتَمَسَّهُ وَ لَا يَتَغَيَّرُ بِحَالٍ وَ لَا يَتَبَدَّلُ فِي الْأَحْوَالِ وَ لَا تُبْلِيهِ اللَّيَالِي وَ الْأَيَّامُ وَ لَا يُغَيِّرُهُ الضِّيَاءُ وَ الظَّلَامُ
هذا الفصل كله واضح مستغن عن الشرح إلا قوله ع لم يلد شرح نهج البلاغة ج : 13 ص : 81فيكون مولودا لأن لقائل أن يقول كيف يلزم من فرض كونه والدا أن يكون مولودا في جوابه أنه ليس معنى الكلام أنه يلزم من فرض وقوع أحدهما وقوع الآخر و كيف و آدم والد و ليس بمولود و ما المراد أنه يلزم من فرض صحة كونه والدا صحة كونه مولودا و التالي محال و المقدم محال و إنما قلنا إنه يلزم من فرض صحة كونه والدا صحة كونه مولودا لأنه لو صح أن يكون والدا على التفسير المفهوم من الوالدية و هو أن يتصور من بعض أجزائه حي آخر من نوعه على سبيل الاستحالة لذلك الجزء كما نعقله في النطفة المنفصلة من الإنسان المستحيلة إلى صورة أخرى حتى يكون منها بشر آخر من نوع الأول لصح عليه أن يكون هو مولودا من والد آخر قبله و ذلك لأن الأجسام متماثلة في الجسمية و قد ثبت ذلك بدليل عقلي واضح في مواضعه التي هي أملك به و كل مثلين فإن أحدهما يصح عليه ما يصح على الآخر فلو صح كونه والدا يصح كونه مولودا. و أما بيان أنه لا يصح كونه مولودا فلأن كل مولود متأخر عن والده بالزمان و كل متأخر عن غيره بالزمان محدث فالمولود محدث و الباري تعالى قد ثبت أنه قديم و أن الحدوث عليه محال فاستحال أن يكون مولودا و تم الدليل (14/65)
وَ لَا يُوصَفُ بِشَيْ ءٍ مِنَ الْأَجْزَاءِ وَ لَا بِالْجَوَارِحِ وَ الْأَعْضَاءِ وَ لَا بِعَرَضٍ مِنَ الْأَعْرَاضِ وَ لَا بِالْغَيْرِيَّةِ وَ الْأَبْعَاضِ وَ لَا يُقَالُ لَهُ حَدٌّ وَ لَا نِهَايَةٌ وَ لَا انْقِطَاعٌ وَ لَا غَايَةٌ وَ لَا أَنَّ الْأَشْيَاء تَحْوِيهِ فَتُقِلَّهُ أَوْ تُهْوِيَهُ أَوْ أَنَّ شَيْئاً يَحْمِلُهُ فَيُمِيلَهُ شرح نهج البلاغة ج : 13 ص : 82أَوْ يَعْدِلَهُ لَيْسَ فِي الْأَشْيَاءِ بِوَالِجٍ وَ لَا عَنْهَا بِخَارِجٍ يُخْبِرُ لَا بِلِسَانٍ وَ لَهَوَاتٍ وَ يَسْمَعُ لَا بِخُرُوقٍ وَ أَدَاتٍ يَقُولُ وَ لَا يَلْفِظُ وَ يَحْفَظُ وَ لَا يَتَحَفَّظُ وَ يُرِيدُ وَ لَا يُضْمِرُ يُحِبُّ وَ يَرْضَى مِنْ غَيْرِ رِقَّةٍ وَ يُبْغِضُ وَ يَغْضَبُ مِنْ غَيْرِ مَشَقَّةٍ يَقُولُ لِمَنْ أَرَادَ كَوْنَهُ كُنْ فَيَكُونُ لَا بِصَوْتٍ يَقْرَعُ وَ لَا بِنِدَاءٍ يُسْمَعُ وَ إِنَّمَا كَلَامُهُ سُبْحَانَهُ فِعْلٌ مِنْهُ أَنْشَأَهُ وَ مَثَّلَهُ لَمْ يَكُنْ مِنْ قَبْلِ ذَلِكَ كَائِناً وَ لَوْ كَانَ قَدِيماً لَكَانَ إِلَهاً ثَانِياً (14/66)
في هذا الفصل مباحث أولها أن الباري سبحانه لا يوصف بشي ء من الأجزاء أي ليس بمركب لأنه لو كان مركبا لافتقر إلى أجزائه و أجزاؤه ليست نفس هويته و كل ذات تفتقر هويتها إلى أمر من الأمور فهي ممكنة لكنه واجب الوجود فاستحال أن يوصف بشي ء من الأجزاء. و ثانيها أنه يوصف بالجوارح و الأعضاء كما يقول مثبتو الصورة و ذلك لأنه لو كان كذلك لكان جسما و كل جسم ممكن و واجب الوجود غير ممكن. و ثالثها أنه لا يوصف بعرض من الأعراض كما يقوله الكرامية لأنه لو حله العرض لكان ذلك العرض ليس بأن يحل فيه أولى من أن يحل هو في العرض لأن معنى شرح نهج البلاغة ج : 13 ص : 83الحلول حصول العرض في حيز المحل تبعا لحصول المحل فيه فما ليس بمتحيز لا يتحقق فيه معنى الحلول و ليس بأن يجعل محلا أولى من أن يجعل حالا. و رابعها أنه لا يوصف بالغيرية و الأبعاض أي ليس له بعض و لا هو ذو أقسام بعضها غيرا للبعض آخر و هذا يرجع إلى البحث الأول. و خامسها أنه لا حد له و لا نهاية أي ليس ذا مقدار و لذلك المقدار طرف و نهاية لأنه لو كان ذا مقدار لكان جسما لأن المقدار من لوازم الجسمية و قد ثبت أنه تعالى ليس بجسم. و سادسها أنه لا انقطاع لوجوده و لا غاية لأنه لو جاز عليه العدم في المستقبل لكان وجوده الآن متوقفا على عدم سبب عدمه و كل متوقف على الغير فهو ممكن في ذاته و الباري تعالى واجب الوجوب فاستحال عليه العدم و أن يكون لوجوده انقطاع أو ينتهي إلى غاية يعدم عندها. و سابعها أن الأشياء لا تحويه فتقله أي ترفعه أو تهويه أي تجعله هاويا إلى جهة تحت لأنه لو كان كذلك لكان ذا مقدار أصغر من مقدار الشي ء الحاوي له لكن قد بينا أنه يستحيل عليه المقادير فاستحال كونه محويا. و ثامنها أنه ليس يحمله شي ء فيميله إلى جانب أو يعدله بالنسبة إلى جميع الجوانب لأن كل محمول مقدر و كل مقدر جسم و قد ثبأنه ليس بجسم. و تاسعها أنه ليس في الأشياء بوالج أي داخل و لا عنها (14/67)
بخارج هذا مذهب الموحدين و الخلاف فيه مع الكرامية و المجسمة و ينبغي أن يفهم قوله ع و لا عنها بخارج أنه لا يريد سلب الولوج فيكون قد خلا من النقيضين لأن ذلك محال بل المراد بكونه ليس خارجا عنها أنه ليس كما يعتقده كثير من الناس أن الفلك الأعلى المحيط لا يحتوي عليه و لكنه ذات موجودة متميزة بنفسها قائمة (14/68)
شرح نهج البلاغة ج : 13 ص : 84بذاتها خارجة عن الفلك في الجهة العليا بينها و بين الفلك بعد إما غير متناه على ما يحكى عن ابن الهيصم أو متناه على ما يذهب إليه أصحابه و ذلك أن هذه القضية و هي قولنا الباري خارج عن الموجودات كلها على هذا التفسير ليست مناقضة للية الأولى و هي قولنا الباري داخل العالم ليكون القول بخلوه عنهما قولا بخلوه عن النقيضين أ لا ترى أنه يجوز أن تكون القضيتان كاذبتين معا بألا يكون الفلك المحيط محتويا عليه و لا يكون حاصلا في جهة خارج الفلك و لو كانت القضيتان متناقضتين لما استقام ذلك و هذا كما تقول زيد في الدار زيد في المسجد فإن هاتين القضيتين ليستا متناقضتين لجواز ألا يكون زيد في الدار و لا في المسجد فإن هاتين لو تناقضتا لاستحال الخروج عن النقيضين لكن المتناقض زيد في الدار زيد ليس في الدار و الذي يستشنعه العوام من قولنا الباري لا داخل العالم و لا خارج العالم غلط مبني على اعتقادهم و تصورهم أن القضيتين تتناقضان و إذا فهم ما ذكرناه بان أنه ليس هذا القول بشنيع بل هو سهل و حق أيضا فإنه تعالى لا متحيز و لا حال في المتحيز و ما كان كذلك استحال أن يحصل في جهة لا داخل العالم و لا خارج العالم و قد ثبت كونه غير متحيز و لا حال في المتحيز من حيث كان واجب الوجود فإذن القول بأنه ليس في الأشياء بوالج و لا عنها بخارج صواب و حق. و عاشرها أنه تعالى يخبر بلا لسان و لهوات و ذلك لأن كونه تعالى مخبرا هو كونه فاعلا للخبر كما أن كونه ضاربا هو كونه فاعلا للضرب فكما لا يحتاج في كونه ضاربا إلى
أداة و جارحة يضرب بها كذلك لا يحتاج في كونه مخبرا إلى لسان و لهوات يخبر بها. و حادي عشرها أنه تعالى يسمع بلا حروف و أدوات و ذلك لأن الباري سبحانه حي لا آفة به و كل حي لا آفة به فواجب أن يسمع المسموعات و يبصر المبصرات شرح نهج البلاغة ج : 13 ص : 85و لا حاجة به سبحانه إلى حروف و أدوات كما نحتاج نحن إلى ذلك لأنا أحياء بحياة تحلنا و الباري تعالى حي لذاته فلما افترقنا فيما به كان سامعا و مبصرا افترقنا في الحاجة إلى الأدوات و الجوارح. و ثاني عشرها أنه يقول و لا يتلفظ هذا بحث لفظي و ذلك لأنه قد ورد السمع بتسميته قائلا و قد تكرر في الكتاب العزيز ذكر هذه اللفظة نحو قوله إِذْ قالَ اللَّهُ يا عِيسى وَ قالَ اللَّهُ إِنِّي مَعَكُمْ و لم يرد في السمع إطلاق كونه متلفظا عليه و في إطلاقه إيهام كونه ذا جارحة فوجب الاقتصار على ما ورد و ترك ما لم يرد. و ثالث عشرها أنه تعالى يحفظ و لا يتحفظ أما كونه يحفظ فيطلق على وجهين أحدهما أنه يحفظ بمعنى أنه يحصي أعمال عباده و يعلمها و الثاني كونه يحفظهم و يحرسهم من الآفات و الدواهي و أما كونه لا يتحفظ فيحتمل معنيين أحدهما أنه لا يجوز أن يطلق عليه أنه يتحفظ الكلام أي يتكلف كونه حافظا له و محيطا و عالما به كالواحد منا يتحفظ الدرس ليحفظه فهو سبحانه حافظ غير متحفظ و الثاني أنه ليس بمتحرز و لا مشفق على نفسه خوفا أن تبدر إليه بادرة من غيره. و رابع عشرها أنه يريد و لا يضمر أما كونه مريدا فقد ثبت بالسمع نحو قوله تعالى يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ و بالعقل لاختصاص أفعاله بأوقات مخصوصة و كيفيات مخصوصة جاز أن تقع على خلافها فلا بد من مخصص لها بما اختصت به و ذلك كونه مريدا و أما كونه لا يضمر فهو إطلاق لفظي لم يأذن فيه الشرع و فيه إيهام كونه ذا قلب لأن الضمير في العرف اللغوي ما استكن في القلب و الباري ليس بجسم. (14/69)
شرح نهج البلاغة ج : 13 ص : 86و خامس عشرها أنه يحب و يرضى من غير رقة و يبغض و يغضب من غير مشقة و ذلك لأن محبته للعبد إرادته أن يثيبه و رضاه عنه أن يحمد فعله و هذا يصح و يطلق على الباري لا كإطلاقه علينا لأن هذه الأوصاف يقتضي إطلاقها علينا رقة القلب و الباري ليس بجسم و أما بغضه للعبد فإرادة عقابه و غضبه كراهية فعله و وعيده بإنزال العقاب به و في الأغلب إنما يطلق ذلك علينا و يصح منا مع مشقة تنالنا من إزعاج القلب و غليان دمه و الباري ليس بجسم. و سادس عشرها أنه يقول لما أراد كونه كن فيكون من غير صوت يقرع و نداء يسمع هذا مذهب شيخنا أبي الهذيل و إليه يذهب الكرامية و أتباعها من الحنابلة و غيرهم و الظاهر أن أمير المؤمنين ع أطلقه حملا على ظاهر لفظ القرآن في مخاطبة الناس بما قد سمعوه و أنسوا به و تكرر على أسماعهم و أذهانهم فأما باطن الآية و تأويلها الحقيقي فغير ما يسبق إلى أذهان العوام فليطلب من موضعه. و سابع عشرها أن كلامه سبحانه فعل منه أنشأه و مثله لم يكن من قبل ذلك كائنا و لو كان قديما لكان إلها ثانيا هذا هو دليل المعتزلة على نفي المعاني القديمة التي منها القرآن و ذلك لأن القدم عندهم أخص صفات الباري تعالى أو موجب عن الأخص فلو أن في الوجود معنى قديما قائما بذات الباري لكان ذلك المعنى مشاركا للباري في أخص صفاته و كان يجب لذلك المعنى جميع ما وجب للباري من الصفات نحو العالمية و القادرية و غيرهما فكان إلها ثانيا. فإن قلت ما معنى قوله ع و مثله قلت يقال مثلت له كذا تمثيلا إذا صورت له مثاله بالكتابة أو بغيرها فالباري مثل القرآن لجبريل ع بالكتابة في اللوح المحفوظ فأنزله على محمد ص. شرح نهج البلاغة ج : 13 ص : 87و أيضا يقال مثل زيد بحضرتي إذا حضر قائما و مثلته بين يدي زيد أي أحضرته منتصبا فلما كان الله تعالى فعل القرآن واضحا بينا كان قد مثله للمكلفين (14/70)
لَا يُقَالُ كَانَ بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ فَتَجْرِيَ عَلَيْهِ الصِّفَاتُ الْمُحْدَثَاتُ وَ لَا يَكُونُ بَيْنَهَا وَ بَيْنَهُ فَصْلٌ وَ لَا لَهُ عَلَيْهَا فَضْلٌ فَيَسْتَوِيَ الصَّانِعُ وَ الْمَصْنُوعُ وَ يَتَكَافَأَ الْمُبْتَدَعُ وَ الْبَدِيعُ خَلَقَ الْخَلَائِقَ عَلَى غَيْرِ مِثَالٍ خَلَا مِنْ غَيْرِهِ وَ لَمْ يَسْتَعِنْ عَلَى خَلْقِهَا بِأَحَدٍ مِنْ خَلْقِهِ وَ أَنْشَأَ الْأَرْضَ فَأَمْسَكَهَا مِنْ غَيْرِ اشْتِغَالٍ وَ أَرْسَاهَا عَلَى غَيْرِ قَرَارٍ وَ أَقَامَهَا بِغَيْرِ قَوَائِمَ وَ رَفَعَهَا بِغَيْرِ دَعَائِمَ وَ حَصَّنَهَا مِنَ الْأَوَدِ وَ الِاعْوِجَاجِ وَ مَنَعَهَا مِنَ التَّهَافُتِ وَ الِانْفِرَاجِ أَرْسَى أَوْتَادَهَا وَ ضَرَبَ أَسْدَادَهَا وَ اسْتَفَاضَ عُيُونَهَا وَ خَدَّ أَوْدِيَتَهَا فَلَمْ يَهِنْ مَا بَنَاهُ وَ لَا ضَعُفَ مَا قَوَّاهُ (14/71)
عاد ع إلى تنزيه الباري تعالى عن الحدوث فقال لا يجوز أن يوصف به فتجري عليه الصفات المحدثات كما تجري على كل محدث و روي فتجري عليه صفات المحدثات و هو أليق ليعود إلى المحدثات ذوات الصفات ما بعده و هو قوله ع و لا يكون بينه و بينها فصل لأنه لا يحسن أن يعود الضمير في قوله و بينها إلى الصفات بل إلى ذوات الصفات. شرح نهج البلاغة ج : 13 ص : 88قال لو كان محدثا لجرت عليه صفات الأجسام المحدثة فلم يكن بينه و بين الأجسام المحدثة فرق فكان يستوي الصانع و المصنوع و هذا محال. ثم ذكر أنه خلق الخلق غير محتذ لمثال و لا مستفيد من غيره كيفية الصنعة بخلاف الواحد منا فإن الواحد منا لا بد أن يحتذي في الصنعة كالبناء و النجار و الصانع و غيرها. قال ع و لم يستعن على خلقها بأحد من خلقه لأنه تعالى قادر لذاته لا يعجزه شي ء. ثم ذكر إنشاءه تعالى الأرض و أنه أمسكها من غير اشتغال منه بإمساكها و غير ذلك من أفعاله و مخلوقاته ليس كالواحد منا يمسك الثقيل فيشتغل بإمساكه عن كثير من أموره. قال و أرساها جعلها راسية على غير قرار تتمكن عليه بل واقفة بإرادته التي اقتضت وقوفها و لأن الفلك يجذبها من جميع جهاتها كما قيل أو لأنه يدفعها من جميع جهاتها أو لأن أحد نصفيها صاعد بالطبع و الآخر هابط بالطبع فاقتضى التعادل وقوفها أو لأنها طالبة للمركز فوقفت. و الأود الاعوجاج و كرر لاختلاف اللفظ. و التهافت التساقط و الأسداد جمع سد و هو الجبل و يجوز ضم السين. و استفاض عيونها بمعنى أفاض أي جعلها فائضة. و خد أوديتها أي شقها فلم يهن ما بناه أي لم يضعف شرح نهج البلاغة ج : 13 ص : 89 (14/72)
هُوَ الظَّاهِرُ عَلَيْهَا بِسُلْطَانِهِ وَ عَظَمَتِهِ وَ هُوَ الْبَاطِنُ لَهَا بِعِلْمِهِ وَ مَعْرِفَتِهِ وَ الْعَالِي عَلَى كُلِّ شَيْ ءٍ مِنْهَا بِجَلَالِهِ وَ عِزَّتِهِ لَا يُعْجِزُهُ شَيْ ءٌ مِنْهَا طَلَبَهُ وَ لَا يَمْتَنِعُ عَلَيْهِ فَيَغْلِبَهُ وَ لَا يَفُوتُهُ السَّرِيعُ مِنْهَا فَيَسْبِقَهُ وَ لَا يَحْتَاجُ إِلَى ذِي مَالٍ فَيَرْزُقَهُ خَضَعَتِ الْأَشْيَاءُ لَهُ وَ ذَلَّتْ مُسْتَكِينَةً لِعَظَمَتِهِ لَا تَسْتَطِيعُ الْهَرَبَ مِنْ سُلْطَانِهِ إِلَى غَيْرِهِ فَتَمْتَنِعَ مِنْ نَفْعِهِ وَ ضَرِّهِ وَ لَا كُفْ ءَ لَهُ فَيُكَافِئَهُ وَ لَا نَظِيرَ لَهُ فَيُسَاوِيَهُ هُوَ الْمُفْنِي لَهَا بَعْدَ وُجُودِهَا حَتَّى يَصِيرَ مَوْجُودُهَا كَمَفْقُودِهَا وَ لَيْسَ فَنَاءُ الدُّنْيَا بَعْدَ ابْتِدَاعِهَا بِأَعْجَبَ مِنْ إِنْشَائِهَا وَ اخْتِرَاعِهَا وَ كَيْفَ وَ لَوِ اجْتَمَعَ جَمِيعُ حَيَوَانِهَا مِنْ طَيْرِهَا وَ بَهَائِمِهَا وَ مَا كَانَ مِنْ مُرَاحِهَا وَ سَائِمِهَا وَ أَصْنَافِ أَسْنَاخِهَا وَ أَجْنَاسِهَا وَ مُتَبَلِّدَةِ أُمَمِهَا وَ أَكْيَاسِهَا عَلَى إِحْدَاثِ بَعُوضَةٍ مَا قَدَرَتْ عَلَى إِحْدَاثِهَا وَ لَا عَرَفَتْ كَيْفَ السَّبِيلُ إِلَى إِيجَادِهَا وَ لَتَحَيَّرَتْ عُقُولُهَا فِي عِلْمِ ذَلِكَ وَ تَاهَتْ وَ عَجَزَتْ قُوَاهَا وَ تَنَاهَتْ وَ رَجَعَتْ خَاسِئَةً حَسِيرَةً عَارِفَةً بِأَنَّهَا مَقْهُورَةٌ مُقِرَّةً بِالْعَجْزِ عَنْ إِنْشَائِهَا مُذْعِنَةً بِالضَّعْفِ عَنْ إِفْنَائِهَا (14/73)
الظاهر الغالب القاهر و الباطن العالم الخبير. و المراح بضم الميم النعم ترد إلى المراح بالضم أيضا و هو الموضع الذي تأوي إليه النعم و ليس المراح ضد السائم على ما يظنه بعضهم و يقول إن عطف أحدهما على الآخر عطف شرح نهج البلاغة ج : 13 ص : 90على المختلف و المتضاد بل أحدهما هو الآخر و ضدهما المعلوفة و إنما عطف أحدهما على الآخر على طريقة العرب في الخطابة و مثله في القرآن كثير نحو قوله سبحانه لا يَمَسُّنا فِيها نَصَبٌ وَ لا يَمَسُّنا فِيها لُغُوبٌ. و أسناخها جمع سنخ بالكسر و هو الأصل و قوله لو اجتمع جميع الحيوان على إحداث بعوضة هو معنى قوله سبحانه إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُباباً وَ لَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ. فإن قلت ما معنى قوله لا تستطيع الهرب من سلطانه إلى غيره فتمتنع من نفعه و ضره و هلا قال من ضره و لم يذكر النفع فإنه لا معنى لذكره هاهنا قلت هذا كما يقول المعتصم بمعقل حصين عن غيره ما يقدر اليوم فلان لي على نفع و لا ضر و ليس غرضه إلا ذكر الضرر و إنما يأتي بذكر النفع على سبيل سلب القدرة عن فلان على كل ما يتعلق بذلك المعتصم و أيضا فإن العفو عن المجرم نفع له فهو ع يقول إنه ليس شي ء من الأشياء يستطيع أن يخرج إذا أجرم من سلطان الله تعالى إلى غيره فيمتنع من بأس الله تعالى و يستغني عن أن يعفو عنه لعدم اقتداره عليه (14/74)
وَ إِنَّهُ سُبْحَانَهُ يَعُودُ بَعْدَ فَنَاءِ الدُّنْيَا وَحْدَهُ لَا شَيْ ءَ مَعَهُ كَمَا كَانَ قَبْلَ ابْتِدَائِهَا كَذَلِكَ يَكُونُ بَعْدَ فَنَائِهَا بِلَا وَقْتٍ وَ لَا مَكَانٍ وَ لَا حِينٍ وَ لَا زَمَانٍ عُدِمَتْ عِنْدَ ذَلِكَ الآْجَالُ وَ الْأَوْقَاتُ وَ زَالَتِ السِّنُونَ وَ السَّاعَاتُ فَلَا شَيْ ءَ شرح نهج البلاغة ج : 13 ص : 91إِلَّا اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ الَّذِي إِلَيْهِ مَصِيرُ جَمِيعِ الْأُمُورِ بِلَا قُدْرَةٍ مِنْهَا كَانَ ابْتِدَاءُ خَلْقِهَا وَ بِغَيْرِ امْتِنَاعٍ مِنْهَا كَانَ فَنَاؤُهَا وَ لَوْ قَدَرَتْ عَلَى الِامْتِنَاعِ لَدَامَ بَقَاؤُهَا لَمْ يَتَكَاءَدْهُ صُنْعُ شَيْ ءٍ مِنْهَا إِذْ صَنَعَهُ وَ لَمْ يَؤُدْهُ مِنْهَا خَلْقُ مَا بَرَأَهُ وَ خَلَقَهُ وَ لَمْ يُكَوِّنْهَا لِتَشْدِيدِ سُلْطَانٍ وَ لَا لِخَوْفٍ مِنْ زَوَالٍ وَ نُقْصَانٍ وَ لَا لِلِاسْتِعَانَةِ بِهَا عَلَى نِدٍّ مُكَاثِرٍ وَ لَا لِلِاحْتِرَازِ بِهَا مِنْ ضِدٍّ مُثَاوِرٍ وَ لَا لِلِازْدِيَادِ بِهَا فِي مُلْكِهِ وَ لَا لِمُكَاثَرَةِ شَرِيكٍ فِي شِرْكِهِ وَ لَا لِوَحْشَةٍ كَانَتْ مِنْهُ فَأَرَادَ أَنْ يَسْتَأْنِسَ إِلَيْهَا ثُمَّ هُوَ يُفْنِيهَا بَعْدَ تَكْوِينِهَا لَا لِسَأَمٍ دَخَلَ عَلَيْهِ فِي تَصْرِيفِهَا وَ تَدْبِيرِهَا وَ لَا لِرَاحَةٍ وَاصِلَةٍ إِلَيْهِ وَ لَا لِثِقَلِ شَيْ ءٍ مِنْهَا عَلَيْهِ لَا يُمِلُّهُ طُولُ بَقَائِهَا فَيَدْعُوَهُ إِلَى سُرْعَةِ إِفْنَائِهَا وَ لَكِنَّهُ سُبْحَانَهُ دَبَّرَهَا بِلُطْفِهِ وَ أَمْسَكَهَا بِأَمْرِهِ وَ أَتْقَنَهَا بِقُدْرَتِهِ ثُمَّ يُعِيدُهَا بَعْدَ الْفَنَاءِ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ مِنْهُ إِلَيْهَا وَ لَا اسْتِعَانَةٍ بِشَيْ ءٍ مِنْهَا عَلَيْهَا وَ لَا لِانْصِرَافٍ مِنْ حَالِ وَحْشَةٍ إِلَى حَالِ اسْتِئْنَاسٍ وَ لَا مِنْ حَالِ جَهْلٍ وَ عَمًى (14/75)
إِلَى عِلْمٍ وَ الْتِمَاسٍ وَ لَا مِنْ فَقْرٍ وَ حَاجَةٍ إِلَى غِنًى وَ كَثْرَةٍ وَ لَا مِنْ ذُلٍّ وَ ضَعَةٍ إِلَى عِزٍّ وَ قُدْرَةٍ (14/76)
شرع أولا في ذكر إعدام الله سبحانه الجواهر و ما يتبعها و يقوم بها من الأعراض قبل القيامة و ذلك لأن الكتاب العزيز قد ورد به نحو قوله تعالى كَما بَدَأْنا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ و معلوم أنه بدأه عن عدم فوجب أن تكون الإعادة عن عدم أيضا و قال تعالى هُوَ الْأَوَّلُ وَ الْآخِرُ و إنما كان أولا لأنه كان موجودا و لا شي ء من شرح نهج البلاغة ج : 13 ص : 92الأشياء بموجود فوجب أن يكون آخرا كذلك هذا هو مذهب جمهور أصحابنا و جمهور المسلمين. ثم ذكر أنه يكون وحده سبحانه بلا وقت و لا مكان و لا حين و لا زمان و ذلك لأن المكان أما الجسم الذي يتمكن عليه جسم آخر أو الجهة و كلاهما لا وجود له بتقدير عدم الأفلاك و ما في حشوها من الأجسام أما الأول فظاهر و أما الثاني فلأن الجهة لا تتحقق إلا بتقدير وجود الفلك لأنها أمر إضافي بالنسبة إليه فبتقدير عدمه لا يبقى للجهة تحقق أصلا و هذا هو القول في عدم المكان حينئذ و أما الزمان و الوقت و الحين فكل هذه الألفاظ تعطي معنى واحدا و لا وجود لذلك المعنى بتقدير عدم الفلك لأن الزمان هو مقدار حركة الفلك فإذا قدرنا عدم الفلك فلا حركة و لا زمان. ثم أوضح ع ذلك و أكده فقال عدمت عند ذلك الآجال و الأوقات و زالت السنون و الساعات لأن الأجل هو الوقت الذي يحل فيه الدين أو تبطل فيه الحياة و إذا ثبت أنه لا وقت ثبت أنه لا أجل و كذلك لا سنة و لا ساعة لأنها أوقات مخصوصة. ثم عاد ع إلى ذكر الدنيا فقال بلا قدرة منها كان ابتداء خلقها و بغير امتناع منها كان فناؤها يعني أنها مسخرة تحت الأمر الإلهي. قال و لو قدرت على الامتناع لدام بقاؤها لأنها كانت تكون ممانعة للقديم سبحانه في مراده و إنما تمانعه في مراده لو كانت قادرة لذاتها و لو كانت قادرة لذاتها و أرادت
البقاء لبقيت. قوله ع لم يتكاءده بالمد أي لم يشق عليه و يجوز لم يتكأده بالتشديد و الهمزة و أصله من العقبة الكئود و هي الشاقة. شرح نهج البلاغة ج : 13 ص : 93قال و لم يؤده أي لم يثقله. ثم ذكر أنه تعالى لم يخلق الدنيا ليشد بها سلطانه و لا لخوفه من زوال أو نقص يلحقه و لا ليستعين بها على ند مماثل له أو يحترز بها عن ضد محارب له أو ليزداد بها ملكه ملكا أو ليكاثر بها شريكا في شركته له أو لأنه كان قبل خلقها مستوحشا فأراد أن يستأنس بمن خلق. ثم ذكر أنه تعالى سيفنيها بعد إيجادها لا لضجر لحقه في تدبيرها و لا لراحة تصله في إعدامها و لا لثقل شي ء منها عليه حال وجودها و لا لملل أصابه فبعثه على إعدامها. ثم عاد ع فقال إنه سبحانه سيعيدها إلى الوجود بعد الفناء لا لحاجة إليها و لا ليستعين ببعضها على بعض و لا لأنه استوحش حال عدمها فأحب أن يستأنس بإعادتها و لا لأنه فقد علما عند إعدامها فأراد بإعادتها استجداد ذلك العلم و لا لأنه صار فقيرا عند إعدامها فأحب أن يتكثر و يثري بإعادتها و لا لذل أصابه بإفنائها فأراد العز بإعادتها. فإن قلت إذا كان يفنيها لا لكذا و لا لكذا و كان من قبل أوجدها لا لكذا و لا لكذا ثم قلتم إنه يعيدها لا لكذا و لا لكذا فلأي حال أوجدها أولا و لأي حال أفناها ثانيا و لأي حال أعادها ثالثا خبرونا عن ذلك فإنكم قد حكيتم عنه عليه السلام الحكم و لم تحكوا عنه العلة قلت إنما أوجدها أولا للإحسان إلى البشر ليعرفوه فإنه لو لم يوجدهم لبقي مجهولا لا يعرف ثم كلف البشر ليعرضهم للمنزلة الجليلة التي لا يمكن وصولهم إليها إلا بالتكليف و هي الثواب ثم يفنيهم لأنه لا بد من انقطاع التكليف ليخلص الثواب من مشاق التكاليف و إذا كان لا بد من انقطاعه فلا فرق بين انقطاعه بالعدم المطلق (14/77)
شرح نهج البلاغة ج : 13 ص : 94أو بتفريق الأجزاء و انقطاعه بالعدم المطلق قد ورد به الشرع و فيه لطف زائد للمكلفين لأنه أردع و أهيب في صدورهم من بقاء أجزائهم و استمرار وجودها غير معدومة. ثم إنه سبحانه يبعثهم و يعيدهم ليوصل إلى كل إنسان ما يستحقه من ثواب أو عقاب و لا يمكن إيصال هذا المستحق إلا بالإعادة و إنما لم يذكر أمير المؤمنين ع هذه التعليلات لأنه قد أشار إليها فيما تقدم من كلامه و هي موجودة في فرش خطبه و لأن مقام الموعظة غير مقام التعليل و أمير المؤمنين ع في هذه الخطبة يسلك مسلك الموعظة في ضمن تمجيد الباري سبحانه و تعظيمه و ليس ذلك بمظنة التعليل و الحجاج (14/78)
شرح نهج البلاغة ج : 13 ص : 23395- و من خطبة له ع تختص بذكر الملاحم
أَلَا بِأَبِي وَ أُمِّي هُمْ مِنْ عِدَّةٍ أَسْمَاؤُهُمْ فِي السَّمَاءِ مَعْرُوفَةٌ وَ فِي الْأَرْضِ مَجْهُولَةٌ أَلَا فَتَوَقَّعُوا مَا يَكُونُ مِنْ إِدْبَارِ أُمُورِكُمْ وَ انْقِطَاعِ وُصَلِكُمْ وَ اسْتِعْمَالِ صِغَارِكُمْ ذَاكَ حَيْثُ تَكُونُ ضَرْبَةُ السَّيْفِ عَلَى الْمُؤْمِنِ أَهْوَنَ مِنَ الدِّرْهَمِ مِنْ حِلَّهِ ذَاكَ حَيْثُ يَكُونُ الْمُعْطَى أَعْظَمَ أَجْراً مِنَ الْمُعْطِي ذَاكَ حَيْثُ تَسْكَرُونَ مِنْ غَيْرِ شَرَابٍ بَلْ مِنَ النِّعْمَةِ وَ النَّعِيمِ وَ تَحْلِفُونَ مِنْ غَيْرِ اضْطِرَارٍ وَ تَكْذِبُونَ مِنْ غَيْرِ إِحْرَاجٍ ذَاكَ إِذَا عَضَّكُمُ الْبَلَاءُ كَمَا يَعَضُّ الْقَتَبُ غَارِبَ الْبَعِيرِ مَا أَطْوَلَ هَذَا الْعَنَاءَ وَ أَبْعَدَ هَذَا الرَّجَاءَ أَيُّهَا النَّاسُ أَلْقُوا هَذِهِ الْأَزِمَّةَ الَّتِي تَحْمِلُ ظُهُورُهَا الْأَثْقَالَ مِنْ أَيْدِيكُمْ وَ لَا تَصَدَّعُوا عَلَى سُلْطَانِكُمْ فَتَذُمُّوا غِبَّ فِعَالِكُمْ وَ لَا تَقْتَحِمُوا مَا اسْتَقْبَلْتُمْ مِنْ فَوْرِ نَارِ الْفِتْنَةِ وَ أَمِيطُوا عَنْ سَنَنِهَا وَ خَلُّوا قَصْدَ السَّبِيلِ لَهَا فَقَدْ لَعَمْرِي يَهْلِكُ فِي لَهَبِهَا الْمُؤْمِنُ وَ يَسْلَمُ فِيهَا غَيْرُ الْمُسْلِمِ إِنَّمَا مَثَلِي بَيْنَكُمْ كَمَثَلِ السِّرَاجِ فِي الظُّلْمَةِ يَسْتَضِي ءُ بِهِ مَنْ وَلَجَهَا فَاسْمَعُوا أَيُّهَا النَّاسُ وَ عُوا وَ أَحْضِرُوا آذَانَ قُلُوبِكُمْ تَفْهَمُوا (14/79)
شرح نهج البلاغة ج : 13 ص : 96الإمامية تقول هذه العدة هم الأئمة الأحد عشر من ولده ع و غيرهم يقول إنه عنى الأبدال الذين هم أولياء الله في الأرض و قد تقدم منا ذكر القطب و الأبدال و أوضحنا ذلك إيضاحا جليا. قوله ع أسماؤهم في السماء معروفة أي تعرفها الملائكة المعصومون أعلمهم الله تعالى بأسمائهم. و في الأرض مجهولة أي عند الأكثرين لاستيلاء الضلال على أكثر البشر. ثم خرج إلى مخاطبة أصحابه على عادته في ذكر الملاحم و الفتن الكائنة في آخر زمان الدنيا فقال لهم توقعوا ما يكون من إدبار أموركم و انقطاع وصلكم جمع وصلة. و استعمال صغاركم أي يتقدم الصغار على الكبار و هو من علامات الساعة. قال ذاك حيث يكون احتمال ضربة السيف على المؤمن أقل مشقة من احتمال المشقة في اكتساب درهم حلال و ذلك لأن المكاسب تكون قد فسدت و اختلطت و غلب الحرام الحلال فيها. قوله ذاك حيث يكون المعطى أعظم أجرا من المعطي معناه أن أكثر من يعطي و يتصدق في ذلك الزمان يكون ماله حراما فلا أجر له في التصدق به ثم أكثرهم يقصد الرياء و السمعة بالصدقة أو لهوى نفسه أو لخطرة من خطراته و لا يفعل الحسن لأنه حسن و لا الواجب لوجوبه فتكون اليد السفلى خيرا من اليد العليا عكس ما ورد في الأثر و أما المعطى فإنه يكون فقيرا ذا عيال لا يلزمه أن يبحث عن المال أ حرام هو أم حلال فإذا أخذه ليسد به خلته و يصرفه في قوت عياله كان أعظم أجرا ممن أعطاه. شرح نهج البلاغة ج : 13 ص : 97و قد خطر لي فيه معنى آخر و هو أن صاحب المال الحرام إنما يصرفه في أكثر الأحوال و أغلبها في الفساد و ارتكاب المحظور كما (14/80)
قال من اكتسب مالا من نهاوش أذهبه الله في نهابر
فإذا أخذه الفقير منه على وجه الصدقة فقد فوت عليه صرفه في تلك القبائح و المحضورات التي كان بعرضته صرف ذلك القدر فيها لو لم يأخذه الفقير فإذا قد أحسن الفقير إليه بكفه عن ارتكاب القبيح و من العصمة ألا يقدر فكان المعطى أعظم أجرا من المعطي. قوله ع ذاك حيث تسكرون من غير شراب بل من النعمة بفتح النون و هي غضارة العيش و قد قيل في المثل سكر الهوى أشد من سكر الخمر. قال تحلفون من غير اضطرار أي تتهاونون باليمين و بذكر الله عز و جل. قال و تكذبون من غير إحراج أي يصير الكذب لكم عادة و دربة لا تفعلونه لأن آخر منكم قد أحرجكم و اضطركم بالغيظ إلى الحلف و روي من غير إحواج بالواو أي من غير أن يحوجكم إليه أحد قال ذلك إذا عضكم البلاء كما يعض القتب غارب البعير هذا الكلام غير متصل بما قبله و هذه عادة الرضي رحمه الله يلتقط الكلام التقاطا و لا يتلو بعضه بعضا و قد ذكرنا هذه الخطبة أو أكثرها فيما تقدم من الأجزاء الأول و قبل هذا الكلام ذكر ما يناله شيعته من البؤس و القنوط و مشقة انتظار الفرج. قوله ع ما أطول هذا العناء و أبعد هذا الرجاء هذا حكاية كلام شيعته و أصحابه. شرح نهج البلاغة ج : 13 ص : 98ثم قال مخاطبا أصحابه الموجودين حوله أيها الناس ألقوا هذه الأزمة التي تحمل ظهورها الأثقال عن أيديكم هذه كناية عن النهي عن ارتكاب القبيح و ما يوجب الإثم و العقاب و الظهور هاهنا هي الإبل أنفسها و الأثقال المآثم و إلقاء الأزمة ترك اعتماد القبيح فهذا عمومه و أما خصوصه فتعريض بما كان عليه أصحابه من الغدر و مخامرة العدو عليه و إضمار الغل و الغش له و عصيانه و التلوي عليه و قد فسره بما بعده فقال و لا تصدعوا عن سلطانكم أي لا تفرقوا فتذموا غب فعالكم أي عاقبته. ثم نهاهم عن اقتحام ما استقبلوه من فور نار الفتنة و فور النار غليانها و احتدامها و يروى ما استقبلكم. ثم قال و أميطوا عن سننها أي تنحوا عن طريقها و خلوا قصد السبيل لها (14/81)
أي دعوها تسلك طريقها و لا تقفوا لها فيه فتكونوا حطبا لنارها. ثم ذكر أنه قد يهلك المؤمن في لهبها و يسلم فيه الكافر كما قيل المؤمن ملقى و الكافر موقى. ثم ذكر أن مثله فيهم كالسرج يستضي ء بها من ولجها أي دخل في ضوئها. و آذان قلوبكم كلمة مستعارة جعل للقلب آذانا كما جعل الشاعر للقلوب أبصارا فقال (14/82)
يدق على النواظر ما أتاه فتبصره بأبصار القلوب
شرح نهج البلاغة ج : 13 ص : 23499- و من خطبة له ع
أُوصِيكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ بِتَقْوَى اللَّهِ وَ كَثْرَةِ حَمْدِهِ عَلَى آلَائِهِ إِلَيْكُمْ وَ نَعْمَائِهِ عَلَيْكُمْ وَ بَلَائِهِ لَدَيْكُمْ فَكَمْ خَصَّكُمْ بِنِعْمَةٍ وَ تَدَارَكَكُمْ بِرَحْمَةٍ أَعْوَرْتُمْ لَهُ فَسَتَرَكُمْ وَ تَعَرَّضْتُمْ لِأَخْذِهِ فَأَمْهَلَكُمْ وَ أُوصِيكُمْ بِذِكْرِ الْمَوْتِ وَ إِقْلَالِ الْغَفْلَةِ عَنْهُ وَ كَيْفَ غَفْلَتُكُمْ عَمَّا لَيْسَ يُغْفِلُكُمْ وَ طَمَعُكُمْ فِيمَنْ لَيْسَ يُمْهِلُكُمْ فَكَفَى وَاعِظاً بِمَوْتَى عَايَنْتُمُوهُمْ حُمِلُوا إِلَى قُبُورِهِمْ غَيْرَ رَاكِبينَ وَ أُنْزِلُوا فِيهَا غَيْرَ نَازِلِينَ كَأَنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا لِلدُّنْيَا عُمَّاراً وَ كَأَنَّ الآْخِرَةَ لَمْ تَزَلْ لَهُمْ دَاراً أَوْحَشُوا مَا كَانُوا يُوطِنُونَ وَ أَوْطَنُوا مَا كَانُوا يُوحِشُونَ وَ اشْتَغَلُوا بِمَا فَارَقُوا وَ أَضَاعُوا مَا إِلَيْهِ انْتَقَلُوا لَا عَنْ قَبِيحٍ يَسْتَطِيعُونَ انْتِقَالًا وَ لَا فِي حَسَنٍ يَسْتَطِيعُونَ ازْدِيَاداً أَنِسُوا بِالدُّنْيَا فَغَرَّتْهُمْ وَ وَثِقُوا بِهَا فَصَرَعَتْهُمْ فَسَابِقُوا رَحِمَكُمُ اللَّهُ إِلَى مَنَازِلِكُمُ الَّتِي أُمِرْتُمْ أَنْ تَعْمُرُوهَا وَ الَّتِي رَغِبْتُمْ فِيهَا وَ دُعِيتُمْ إِلَيْهَا وَ اسْتَتِمُّوا نِعَمَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ بِالصَّبْرِ عَلَى طَاعَتِهِ وَ الْمُجَانَبَةِ لِمَعْصِيَتِهِ فَإِنَّ غَداً
مِنَ الْيَوْمِ قَرِيبٌ مَا أَسْرَعَ السَّاعَاتِ فِي الْيَوْمِ وَ أَسْرَعَ الْأَيَّامَ فِي الشَّهْرِ وَ أَسْرَعَ الشُّهُورَ فِي السَّنَةِ وَ أَسْرَعَ السِّنِينَ فِي الْعُمُرِ (14/83)
شرح نهج البلاغة ج : 13 ص : 100أعورتم أي انكشفتم و بدت عوراتكم و هي المقاتل تقول أعور الفارس إذا بدت مقاتله و أعورك الصيد إذا أمكنك منه. قوله ع أوحشوا ما كانوا يوطنون أي أوطنوا قبورهم التي كانوا يوحشونها. قوله ع و اشتغلوا بما فارقوا أي اشتغلوا و هم في القبور بما فارقوه من الأموال و القينات لأنها أذى و عقاب عليهم في قبورهم و لولاها لكانوا في راحة و يجوز أن يكون حكاية حالهم و هم بعد في الدنيا أي اشتغلوا أيام حياتهم من الأموال و المنازل بما فارقوه و أضاعوا من أمر آخرتهم ما انتقلوا إليه. ثم ذكر أنهم لا يستطيعون فعل حسنة و لا توبة من قبيح لأن التكليف سقط و المنازل التي أمروا بعمارتها و المقابر و عمارتها الأعمال الصالحة و قوله ع إن غدا من اليوم قريب كلام يجري مجرى المثل قال غد ما غد ما أقرب اليوم من غد و الأصل فيه قول الله تعالى إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ أَ لَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ. و قوله ع ما أسرع الساعات في اليوم إلى آخر الفصل كلام شريف وجيز بالغ في معناه و الفصل كله نادر لا نظير له
شرح نهج البلاغة ج : 13 ص : 235101- و من خطبة له ع
فَمِنَ الْإِيمَانِ مَا يَكُونُ ثَابِتاً مُسْتَقِرّاً فِي الْقُلُوبِ وَ مِنْهُ مَا يَكُونُ عَوَارِيَّ بَيْنَ الْقُلُوبِ وَ الصُّدُورِ إِلَى أَجَلٍ مَعْلُومٍ فَإِذَا كَانَتْ لَكُمْ بَرَاءَةٌ مِنْ أَحَدٍ فَقِفُوهُ حَتَّى يَحْضُرَهُ الْمَوْتُ فَعِنْدَ ذَلِكَ يَقَعُ حَدُّ الْبَرَاءَةِ وَ الْهِجْرَةُ قَائِمَةٌ عَلَى حَدِّهَا الْأَوَّلِ مَا كَانَ لِلَّهِ فِي أَهْلِ الْأَرْضِ حَاجَةٌ مِنْ مُسْتَسِرِّ الْأُمَّةِ وَ مُعْلِنِهَا لَا يَقَعُ اسْمُ الْهِجْرَةِ عَلَى أَحَدٍ إِلَّا بِمَعْرِفَةِ الْحُجَّةِ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ عَرَفَهَا وَ أَقَرَّ بِهَا فَهُوَ مُهَاجِرٌ وَ لَا يَقَعُ اسْمُ الِاسْتِضْعَافِ عَلَى مَنْ بَلَغَتْهُ الْحُجَّةُ فَسَمِعَتْهَا أُذُنُهُ وَ وَعَاهَا قَلْبُهُ إِنَّ أَمْرَنَا صَعْبٌ مُسْتَصْعَبٌ لَا يَحْمِلُهُ إِلَّا عَبْدٌ مُؤْمِنٌ امْتَحَنَ اللَّهُ قَلْبَهُ لِلْإِيمَانِ وَ لَا يَعِي حَدِيثَنَا إِلَّا صُدُورٌ أَمِينَةٌ وَ أَحْلَامٌ رَزِينَةٌ أَيُّهَا النَّاسُ سَلُونِي قَبْلَ أَنْ تَفْقِدُونِي فَلَأَنَا بِطُرُقِ السَّمَاءِ أَعْلَمُ مِنِّي بِطُرُقِ الْأَرْضِ قَبْلَ أَنْ تَشْغَرَ بِرِجْلِهَا فِتْنَةٌ تَطَأُ فِي خِطَامِهَا وَ تَذْهَبُ بِأَحْلَامِ قَوْمِهَا (14/84)
هذا الفصل يحمل على عدة مباحث أولها قولها ع فمن الإيمان ما يكون كذا فنقول إنه قسم الإيمان إلى ثلاثة أقسام شرح نهج البلاغة ج : 13 ص : 102أحدها الإيمان الحقيقي و هو الثابت المستقر في القلوب بالبرهان اليقيني. الثاني ما ليس ثابتا بالبرهان اليقيني بل بالدليل الجدلي كإيمان كثير ممن لم يحقق العلوم العقلية و يعتقد ما يعتقده عن أقيسة جدلية لا تبلغ إلى درجة البرهان و قد سمى ع هذا القسم باسم مفرد فقال إنه عواري في القلوب و العواري جمع عارية أي هو و إن كان في القلب و في محل الإيمان الحقيقي إلا أن حكمه حكم العارية في البيت فإنها بعرضة الخروج منه لأنها ليست أصلية كائنة في بيت صاحبها. و الثالث ما ليس مستندا إلى برهان و لا إلى قياس جدلي بل على سبيل التقليد و حسن الظن بالأسلاف و بمن يحسن ظن الإنسان فيه من عابد أو زاهد أو ذي ورع و قد جعله ع عواري بين القلوب و الصدور لأنه دون الثاني فلم يجعله حالا في القلب و جعله مع كونه عارية حالا بين القلب و الصدر فيكون أضعف مما قبله. فإن قلت فما معنى قوله إلى أجل معلوم قلت إنه يرجع إلى القسمين الأخيرين لأن من لا يكون إيمانه ثابتا بالبرهان القطعي قد ينتقل إيمانه إلى أن يصير قطعيا بأن يمعن النظر و يرتب البرهان ترتيبا مخصوصا فينتج له النتيجة اليقينية و قد يصير إيمان المقلد إيمانا جدليا فيرتقي إلى ما فوقه مرتبته و قد يصير إيمان الجدلي إيمانا تقليديا بأن يضعف في نظره ذلك القياس الجدلي و لا يكون عالما بالبرهان فيئول حال إيمانه إلى أن يصير تقليديا فهذا هو فائدة قوله إلى أجل معلوم في هذين القسمين. فأما صاحب القسم الأول فلا يمكن أن يكون إيمانه إلى أجل معلوم لأن من ظفر بالبرهان استحال أن ينتقل عن اعتقاده لا صاعدا و لا هابطا أما لا صاعدا فلأنه ليس فوق البرهان مقام آخر و أما لا هابطا فلأن مادة البرهان هي المقدمات البديهية شرح نهج البلاغة ج : 13 ص : 103و المقدمات (14/85)
البديهية يستحيل أن تضعف عند الإنسان حتى يصير إيمانه جدليا أو تقليديا. و ثانيها قوله ع فإذا كانت لكم براءة فنقول إنه ع نهى عن البراءة من أحد ما دام حيا لأنه و إن كان مخطئا في اعتقاده لكن يجوز أن يعتقد الحق فيما بعد و إن كان مخطئا في أفعاله لكن يجوز أن يتوب فلا تحل البراءة من أحد حتى يموت على أمر فإذا مات على اعتقاد قبيح أو فعل قبيح جازت البراءة منه لأنه لم يبق له بعد الموت حالة تنتظر و ينبغي أن تحمل هذه البراءة التي أشار إليها ع على البراءة المطلقة لا على كل براءة لأنا يجوز لنا أن نبرأ من الفاسق و هو حي و من الكافر و هو حي لكن بشرط كونه فاسقا و بشرط كونه كافرا فأما من مات و نعلم ما مات عليه فإنا نبرأ منه براءة مطلقة غير مشروطة. و ثالثها قوله و الهجرة قائمة على حدها الأول فنقول هذا كلام يختص به أمير المؤمنين ع و هو من أسرار الوصية لأن الناس يروون عن النبي ص أنه قال لا هجرة بعد الفتح فشفع عمه العباس في نعيم بن مسعود الأشجعي أن يستثنيه فاستثناه و هذه الهجرة التي يشير إليها أمير المؤمنين ع ليست تلك الهجرة بل هي الهجرة إلى الإمام قال إنها قائمة على حدها الأول ما دام التكليف باقيا و هو معنى قوله ما كان لله تعالى في أهل الأرض حاجة. و قال الراوندي ما هاهنا نافية أي لم يكن لله في أهل الأرض من حاجة و هذا ليس بصحيح لأنه إدخال كلام منقطع بين كلامين متصل أحدهما بالآخر. ثم ذكر أنه لا يصح أن يعد الإنسان من المهاجرين إلا بمعرفة إمام زمانه و هو (14/86)
شرح نهج البلاغة ج : 13 ص : 104معنى قوله إلا بمعرفة الحجة في الأرض قال فمن عرف الإمام و أقر به فهو مهاجر. قال و لا يجوز أن يسمى من عرف الإمام مستضعفا يمكن أن يشير به إلى آيتين في القرآن أحدهما قوله تعالى إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ قالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قالُوا أَ لَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ واسِعَةً فَتُهاجِرُوا فِيها فَأُولئِكَ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ فالمراد على هذا أنه ليس من عرف الإمام و بلغه خبره بمستضعف كما كان هؤلاء مستضعفين و إن كان في بلده و أهله لم يخرج و لم يتجشم مشقة السفر. ثانيهما قوله تعالى في الآية التي تلي الآية المذكورة إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجالِ وَ النِّساءِ وَ الْوِلْدانِ لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَ لا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا فَأُولئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ فالمراد على هذا أنه ليس من عرف الإمام و بلغه خبره بمستضعف كهؤلاء الذين استثناهم الله تعالى من الظالمين لأن أولئك كانت الهجرة بالبدن مفروضة عليهم و عفي عن ذوي العجز عن الحركة منهم و شيعة الإمام ع ليست الهجرة بالبدن مفروضة عليهم بل تكفي معرفتهم به و إقرارهم بإمامته فلا يقع اسم الاستضعاف عليهم. فإن قلت فما معنى قوله من مستسر الأمة و معلنها و بما ذا يتعلق حرف الجر قلت معناه ما دام لله في أهل الأرض المستسر منهم باعتقاده و المعلن حاجة فمن على هذا زائدة فلو حذفت لجر المستسر بدلا من أهل الأرض و من إذا كانت زائدة لا تتعلق نحو قولك ما جاءني من أحد. شرح نهج البلاغة ج : 13 ص : 105و رابعها قوله ع إن أمرنا هذا صعب مستصعب و يروى مستصعب بكسر العين لا يحتمله إلا عبد امتحن الله تعالى قلبه للإيمان هذه من ألفاظ القرآن العزيز قال الله تعالى أُولئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوى و هو من قولك امتحن (14/87)
فلان لأمر كذا و جرب و درب للنهوض به فهو مضطلع به غير وان عنه و المعنى أنهم صبر على التقوى أقوياء على احتمال مشاقها و يجوز أن يكون وضع الامتحان موضع المعرفة لأن تحققك الشي ء إنما يكون باختباره كما يوضع الخبر موضع المعرفة فكأنه قيل عرف الله قلوبهم للتقوى فتتعلق اللام بمحذوف أي كائنة له و هي اللام التي في قولك أنت لهذا الأمر أي مختص به كقوله (14/88)
أعداء من لليعملات على الوجا
و تكون مع معمولها منصوبة على الحال و يجوز أن يكون المعنى ضرب الله قلوبهم بأنواع المحن و التكاليف الصعبة لأجل التقوى أي لتثبت فيظهر تقواها و يعلم أنهم متقون لأن حقيقة التقوى لا تعلم إلا عند المحن و الشدائد و الاصطبار عليها. و يجوز أن يكون المعنى أنه أخلص قلوبهم للتقوى من قولهم امتحن الذهب إذا أذابه فخلص إبريزه من خبثه و نقاه. و هذه الكلمة قد قالها ع مرارا و وقفت في بعض الكتب على خطبة من جملتها
إن قريشا طلبت السعادة فشقيت و طلبت النجاة فهلكت و طلبت الهدى فضلت أ لم يسمعوا ويحهم قوله تعالى وَ الَّذِينَ آمَنُوا وَ اتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمانٍ أَلْحَقْنا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ فأين المعدل و المنزع عن ذرية الرسول الذين شيد الله بنيانهم فوق بنيانهم و أعلى رءوسهم فوق رءوسهم و اختارهم عليهم ألا إن الذرية أفنان أنا شجرتها و دوحة أنا ساقها و إني من أحمد بمنزلة الضوء من الضوء كنا شرح نهج البلاغة ج : 13 ص : 106ظلالا تحت العرش قبل خلق البشر و قبل خلق الطينة التي كان منها البشر أشباحا عالية لا أجساما نامية إن أمرنا صعب مستصعب لا يعرف كنهه إلا ثلاثة ملك مقرب أو نبي مرسل أو عبد امتحن الله قلبه للإيمان فإذا انكشف لكم سر أو وضح لكم أمر فاقبلوه و إلا فاسكتوا تسلموا و ردوا علمنا إلى الله فإنكم في أوسع مما بين السماء و الأرض
و خامسها قوله سلوني قبل أن تفقدوني
أجمع الناس كلهم على أنه لم يقل أحد من الصحابة و لا أحد من العلماء سلوني غير علي بن أبي طالب ع ذكر ذلك ابن عبد البر المحدث في كتاب الاستيعاب. و المراد بقوله فلأنا أعلم بطرق السماء مني بطرق الأرض ما اختص به من العلم بمستقبل الأمور و لا سيما في الملاحم و الدول و قد صدق هذا القول عنه ما تواتر عنه من الأخبار بالغيوب المتكررة لا مرة و لا مائة مرة حتى زال الشك و الريب في أنه إخبار عن علم و أنه ليس على طريق الاتفاق و قد ذكرنا كثيرا من ذلك فيما تقدم من هذا الكتاب. و قد تأوله قوم على وجه آخر قالوا أراد أنا بالأحكام الشرعية و الفتاوي الفقهية أعلم مني بالأمور الدنيوية فعبر عن تلك بطرق السماء لأنها أحكام إلهية و عبر عن هذه بطرق الأرض لأنها من الأمور الأرضية و الأول أظهر لأن فحوى الكلام و أوله يدل على أنه المراد شرح نهج البلاغة ج : 13 ص : 107 (14/89)
قصة وقعت لأحد الوعاظ ببغداد
و على ذكر قوله ع سلوني حدثني من أثق به من أهل العلم حديثا و إن كان فيه بعض الكلمات العامية إلا أنه يتضمن ظرفا و لطفا و يتضمن أيضا أدبا. قال كان ببغداد في صدر أيام الناصر لدين الله أبي العباس أحمد بن المستضي ء بالله واعظ مشهور بالحذق و معرفة الحديث و الرجال و كان يجتمع إليه تحت منبره خلق عظيم من عوام بغداد و من فضلائها أيضا و كان مشتهرا بذم أهل الكلام و خصوصا المعتزلة و أهل النظر على قاعدة الحشوية و مبغضي أرباب العلوم العقلية و كان أيضا منحرفا عن الشيعة برضا العامة بالميل عليهم فاتفق قوم من رؤساء الشيعة على أن يضعوا عليه من يبكته و يسأله تحت منبره و يخجله و يفضحه بين الناس في المجلس و هذه عادة الوعاظ يقوم إليهم قوم فيسألونهم مسائل يتكلفون الجواب عنها و سألوا عمن ينتدب لهذا فأشير عليهم بشخص كان ببغداد يعرف بأحمد بن عبد العزيز الكزي كان له لسن و يشتغل بشي ء يسير من كلام المعتزلة و يتشيع و عنده قحة و قد شدا أطرافا من الأدب و قد رأيت أنا هذا الشخص في آخر عمره و هو يومئذ شيخ و الناس يختلفون إليه في تعبير الرؤيا فأحضروه و طلبوا إليه أن يعتمد ذلك فأجابهم و جلس ذلك الواعظ في يومه الذي جرت عادته بالجلوس فيه و اجتمع الناس عنده على طبقاتهم حتى امتلأت الدنيا بهم و تكلم على عادته فأطال فلما مر في ذكر صفات الباري سبحانه في أثناء الوعظ قام إليه الكزي فسأله أسئلة عقلية على منهاج كلام المتكلمين من المعتزلة فلم يكن للواعظ عنها جواب نظري و إنما دفعه بالخطابة و الجدل و سجع الألفاظ و تردد الكلام بينهما طويلا و قال الواعظ في آخر الكلام أعين المعتزلة حول و صوتي شرح نهج البلاغة ج : 13 ص : 108في مسامعهم طبول و كلامي في أفئدتهم نصول يا من بالاعتزال يصول ويحك كم تحوم و تجول حول من لا تدركه العقول كم أقول كم أقول خلوا هذا الفضول. فارتج المجلس و صرخ الناس و علت الأصوات و طاب الواعظ و طرب و خرج من هذا (14/90)
الفصل إلى غيره فشطح شطح الصوفية و قال سلوني قبل أن تفقدوني و كررها فقام إليه الكزي فقال يا سيدي ما سمعنا أنه قال هذه الكلمة إلا علي بن أبي طالب ع و تمام الخبر معلوم و أراد الكزي بتمام الخبر قوله ع لا يقولها بعدي إلا مدع. فقال الواعظ و هو في نشوة طربه و أراد إظهار فضله و معرفته برجال الحديث و الرواة من علي بن أبي طالب أ هو علي بن أبي طالب بن المبارك النيسابوري أم علي بن أبي طالب بن إسحاق المروزي أم علي بن أبي طالب بن عثمان القيرواني أم علي بن أبي طالب بن سليمان الرازي و عد سبعة أو ثمانية من أصحاب الحديث كلهم علي بن أبي طالب فقام الكزي و قام من يمين المجلس آخر و من يسار المجلس ثالث انتدبوا له و بذلوا أنفسهم للحمية و وطنوها على القتل. فقال الكزي أشا يا سيدي فلان الدين أشا صاحب هذا القول هو علي بن أبي طالب زوج فاطمة سيدة نساء العالمين ع و إن كنت ما عرفته بعد بعينه فهو الشخص الذي لما آخى رسول الله ص بين الأتباع و الأذناب آخى بينه و بين نفسه و أسجل على أنه نظيره و مماثله فهل نقل في جهازكم أنتم من هذا شي ء أو نبت تحت خبكم من هذا شي ء. فأراد الواعظ أن يكلمه فصاح عليه القائم من الجانب الأيمن و قال يا سيدي فلان الدين محمد بن عبد الله كثير في الأسماء و لكن ليس فيهم من قال له رب العزة شرح نهج البلاغة ج : 13 ص : 109 ما ضَلَّ صاحِبُكُمْ وَ ما غَوى وَ ما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى و كذلك علي بن أبي طالب كثير في الأسماء و لكن ليس فيهم من (14/91)
قال له صاحب الشريعة أنت مني بمنزلة هرون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي
و قد تلتقي الأسماء في الناس و الكنى كثيرا و لكن ميزوا في الخلائق
فالتفت إليه الواعظ ليكلمه فصاح عليه القائم من الجانب الأيسر و قال يا سيدي فلان الدين حقك تجهله أنت معذور في كونك لا تعرفه
و إذا خفيت على الغبي فعاذر ألا تراني مقلة عمياء
فاضطرب المجلس و ماج كما يموج البحر و افتتن الناس و تواثبت العامة بعضها إلى بعض و تكشفت الرءوس و مزقت الثياب و نزل الواعظ و احتمل حتى أدخل دارا أغلق عليه بابها و حضر أعوان السلطان فسكنوا الفتنة و صرفوا الناس إلى منازلهم و أشغالهم و أنفذ الناصر لدين الله في آخر نهار ذلك اليوم فأخذ أحمد بن عبد العزيز الكزي و الرجلين اللذين قاما معه فحبسهم أياما لتطفأ نائرة الفتنة ثم أطلقهم (14/92)
شرح نهج البلاغة ج : 13 ص : 236110- و من خطبة له ع
أَحْمَدُهُ شُكْراً لِإِنْعَامِهِ وَ أَسْتَعِينُهُ عَلَى وَظَائِفِ حُقُوقِهِ عَزِيزَ الْجُنْدِ عَظِيمَ الْمَجْدِ وَ أَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّداً عَبْدُهُ وَ رَسُولُهُ دَعَا إِلَى طَاعَتِهِ وَ قَاهَرَ أَعْدَاءَهُ جِهَاداً عَنْ دِينِهِ لَا يَثْنِيهِ عَنْ ذَلِكَ اجْتِمَاعٌ عَلَى تَكْذِيبِهِ وَ الْتِمَاسٌ لِإِطْفَاءِ نُورِهِ فَاعْتَصِمُوا بِتَقْوَى اللَّهِ فَإِنَّ لَهَا حَبْلًا وَثِيقاً عُرْوَتُهُ وَ مَعْقِلًا مَنِيعاً ذِرْوَتُهُ وَ بَادِرُوا الْمَوْتَ وَ غَمَرَاتِهِ وَ امْهَدُوا لَهُ قَبْلَ حُلُولِهِ وَ أَعِدُّوا لَهُ قَبْلَ نُزُولِهِ فَإِنَّ الْغَايَةَ الْقِيَامَةُ وَ كَفَى بِذَلِكَ وَاعِظاً لِمَنْ عَقَلَ وَ مُعْتَبَراً لِمَنْ جَهِلَ وَ قَبْلَ بُلُوغِ الْغَايَةِ مَا تَعْلَمُونَ مِنْ ضِيقِ الْأَرْمَاسِ وَ شِدَّةِ الْإِبْلَاسِ وَ هَوْلِ الْمُطَّلَعِ وَ رَوْعَاتِ الْفَزَعِ وَ اخْتِلَافِ الْأَضْلَاعِ وَ اسْتِكَاكِ الْأَسْمَاعِ وَ ظُلْمَةِ اللَّحْدِ وَ خِيفَةِ الْوَعْدِ وَ غَمِّ الضَّرِيحِ وَ رَدْمِ الصَّفِيحِ فَاللَّهَ اللَّهَ عِبَادَ اللَّهِ فَإِنَّ الدُّنْيَا مَاضِيَةٌ بِكُمْ عَلَى سَنَنٍ وَ أَنْتُمْ وَ السَّاعَةَ فِي قَرَنٍ وَ كَأَنَّهَا قَدْ جَاءَتْ بِأَشْرَاطِهَا وَ أَزِفَتْ بِأَفْرَاطِهَا وَ وَقَفَتْ بِكُمْ عَلَى صِرَاطِهَا وَ كَأَنَّهَا قَدْ أَشْرَفَتْ بِزَلَازِلِهَا وَ أَنَاخَتْ بِكَلَاكِلِهَا وَ انْصَرَفَتِ الدُّنْيَا بِأَهْلِهَا وَ أَخْرَجَتْهُمْ مِنْ حِضْنِهَا فَكَانَتْ كَيَوْمَ مَضَى وَ شَهْرٍ انْقَضَى وَ صَارَ جَدِيدُهَا رَثّاً وَ سَمِينُهَا غَثّاً فِي مَوْقِفٍ ضَنْكِ الْمَقَامِ وَ أُمُورٍ مُشْتَبِهَةٍ عِظَامٍ وَ نَارٍ شَدِيدٍ كَلَبُهَا عَالٍ لَجَبُهَا سَاطِعٍ لَهَبُهَا مُتَغَيِّظٍ زَفِيرُهَا مُتَأَجِّجٍ سَعِيرُهَا بَعِيدٍ خُمُودُهَا ذَاكٍ وُقُودُهَا مَخُوفٍ (14/93)
شرح نهج البلاغة ج : 13 ص : 111وَعِيدُهَا عَمٍ قَرَارُهَا مُظْلِمَةٍ أَقْطَارُهَا حَامِيَةٍ قُدُورُهَا فَظِيعَةٍ أُمُورُهَا وَ سِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَراً قَدْ أُمِنَ الْعَذَابُ وَ انْقَطَعَ الْعِتَابُ وَ زُحْزِحُوا عَنِ النَّارِ وَ اطْمَأَنَّتْ بِهِمُ الدَّارُ وَ رَضُوا الْمَثْوَى وَ الْقَرَارَ الَّذِينَ كَانَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا زَاكِيَةً وَ أَعْيُنُهُمْ بَاكِيَةً وَ كَانَ لَيْلُهُمْ فِي دُنْيَاهُمْ نَهَاراً تَخَشُّعاً وَ اسْتِغْفَارًا وَ كَانَ نَهَارُهُمْ لَيْلًا تَوَحُّشاً وَ انْقِطَاعاً فَجَعَلَ اللَّهُ لَهُمُ الْجَنَّةَ مَآباً وَ الْجَزَاءَ ثَوَاباً وَ كَانُوا أَحَقَّ بِهَا وَ أَهْلَهَا فِي مُلْكٍ دَائِمٍ وَ نَعِيمٍ قَائِمٍ فَارْعَوْا عِبَادَ اللَّهِ مَا بِرِعَايَتِهِ يَفُوزُ فَائِزُكُمْ وَ بِإِضَاعَتِهِ يَخْسَرُ مُبْطِلُكُمْ وَ بَادِرُوا آجَالَكُمْ بِأَعْمَالِكُمْ فَإِنَّكُمْ مُرْتَهَنُونَ بِمَا أَسْلَفْتُمْ وَ مَدِينُونَ بِمَا قَدَّمْتُمْ وَ كَأَنْ قَدْ نَزَلَ بِكُمُ الْمَخُوفُ فَلَا رَجْعَةً تُنَالُونَ وَ لَا عَثْرَةً تُقَالُونَ اسْتَعْمَلَنَا اللَّهُ وَ إِيَّاكُمْ بِطَاعَتِهِ وَ طَاعَةِ رَسُولِهِ وَ عَفَا عَنَّا وَ عَنْكُمْ بِفَضْلِ رَحْمَتِهِ الْزَمُوا الْأَرْضَ وَ اصْبِرُوا عَلَى الْبَلَاءِ وَ لَا تُحَرِّكُوا بِأَيْدِيكُمْ وَ سُيُوفِكُمْ فِي هَوَى أَلْسِنَتِكُمْ وَ لَا تَسْتَعْجِلُوا بِمَا لَمْ يُعَجِّلْهُ اللَّهُ لَكُمْ فَإِنَّهُ مَنْ مَاتَ مِنْكُمْ عَلَى فِرَاشِهِ وَ هُوَ عَلَى مَعْرِفَةِ حَقِّ رَبِّهِ وَ حَقِّ رَسُولِهِ وَ أَهْلِ بَيْتِهِ مَاتَ شَهِيداً وَ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ وَ اسْتَوْجَبَ ثَوَابَ مَا نَوَى مِنْ صَالِحِ عَمَلِهِ وَ قَامَتِ النِّيَّةُ مَقَامَ إِصْلَاتِهِ لِسَيْفِهِ فَإِنَّ لِكُلِّ شَيْ ءٍ (14/94)
مُدَّةً وَ أَجَلًا (14/95)
وظائف حقوقه الواجبات المؤقتة كالصلوات الخمس و صوم شهر رمضان و الوظيفة ما يجعل للإنسان في كل يوم أو في كل شهر أو في كل سنة من طعام أو رزق شرح نهج البلاغة ج : 13 ص : 112و عزيز منصوب لأنه حال من الضمير في أستعينه و يجوز أن يكون حالا من الضمير المجرور في حقوقه و إضافة عزيز إلى الجند إضافة في تقدير الانفصال لا توجب تعريفه ليمتنع من كونه حالا. و قاهر أعداءه حاربهم و روي و قهر أعداءه. و المعقل ما يعتصم به و ذروته أعلاه. و امهدوا له اتخذوا مهادا و هو الفراش و هذه استعارة. قوله ع فإن الغاية القيامة أي فإن منتهى كل البشر إليها و لا بد منها. و الأرماس جمع رمس و هو القبر و الإبلاس مصدر أبلس أي خاب و يئس و الإبلاس أيضا الانكسار و الحزن. و استكاك الأسماع صممها. و غم الضريح ضيق القبر و كربه و الصفيح الحجر و ردمه سده. و السنن الطريق و القرن الحبل. و أشراط الساعة علاماتها و أزفت قربت و أفراطها جمع فرط و هم المتقدمون السابقون من الموتى و من روى بإفراطها فهو مصدر أفرط في الشي ء أي قربت الساعة بشدة غلوائها و بلوغها غاية الهول و الفظاعة و يجوز أن تفسر الرواية الأولى بمقدماتها و ما يظهر قبلها من خوارق العادات المزعجة كالدجال و دابة الأرض و نحوهما و يرجع ذلك إلى اللفظة الأولى و هي أشراطها و إنما يختلف اللفظ. و الكلاكل جمع كلكل و هو الصدر و يقال للأمر الثقيل قد أناخ عليهم بكلكله أي هدهم و رضهم كما يهد البعير البارك من تحته إذا أنحى عليه بصدره. قوله ع و انصرفت الدنيا بأهلها أي ولت و يروى و انصرمت أي انقضت. شرح نهج البلاغة ج : 13 ص : 113و الحضن بكسر الحاء ما دون الإبط إلى الكشح. و الرث الخلق و الغث الهزيل. و مقام ضنك أي ضيق. و شديد كلبها أي شرها و أذاها و اللجب الصوت و وقودها هاهنا بضم الواو و هو الحدث و لا يجوز الفتح لأنه ما يوقد به كالحطب و نحوه و ذاك لا يوصف بأنه ذاك. قوله ع
عم قرارها أي لا يهتدى فيه لظلمته و لأنه عميق جدا و يروى و كأن ليلهم نهار و كذلك أختها على التشبيه. و المآب المرجع و مدينون مجزيون. قوله ع فلا رجعة تنالون الرواية بضم التاء أي تعطون يقال أنلت فلانا مالا أي منحته و قد روي تنالون بفتح التاء. ثم أمر أصحابه أن يثبتوا و لا يعجلوا في محاربة من كان مخالطا لهم من ذوي العقائد الفاسدة كالخوارج و من كان يبطن هوى معاوية و ليس خطابه هذا تثبيطا لهم عن حرب أهل الشام كيف و هو لا يزال يقرعهم و يوبخهم عن التقاعد و الإبطاء في ذلك و لكن قوما من خاصته كانوا يطلعون على ما عند قوم من أهل الكوفة و يعرفون نفاقهم و فسادهم و يرومون قتلهم و قتالهم فنهاهم عن ذلك و كان يخاف فرقة جنده و انتثار حبل عسكره فأمرهم بلزوم الأرض و الصبر على البلاء. و روي بإسقاط الباء من قوله بأيديكم و من روى الكلمة بالباء جعلها زائدة و يجوز ألا تكون زائدة و يكون المعنى و لا تحركوا الفتنة بأيديكم و سيوفكم في هوى ألسنتكم فحذف المفعول. و الإصلات بالسيف مصدر أصلت أي سل. (14/96)
شرح نهج البلاغة ج : 13 ص : 114و اعلم أن هذه الخطبة من أعيان خطبه ع و من ناصع كلامه و نادره و فيها من صناعة البديع الرائقة المستحسنة البريئة من التكلف ما لا يخفى و قد أخذ ابن نباتة الخطيب كثيرا من ألفاظها فأودعها خطبه مثل قوله شديد كلبها عال لجبها ساطع لهبها متغيظ زفيرها متأجج سعيرها بعيد خمودها ذاك وقودها مخوف وعيدها عم قرارها مظلمة أقطارها حامية قدورها فظيعة أمورها فإن هذه الألفاظ كلها اختطفها و أغار عليها و اغتصبها و سمط بها خطبه و شذر بها كلامه. و مثل قوله هول المطلع و روعات الفزع و اختلاف الأضلاع و استكاك الأسماع و ظلمة اللحد و خيفة الوعد و غم الضريح و ردم الصفيح فإن هذه الألفاظ أيضا تمضي في أثناء خطبه و في غضون مواعظه
شرح نهج البلاغة ج : 13 ص : 237115- و من خطبة له ع
الْحَمْدُ لِلَّهِ الْفَاشِي فِي الْخَلْقِ حَمْدُهُ وَ الْغَالِبِ جُنْدُهُ وَ الْمُتَعَالِي جَدُّهُ أَحْمَدُهُ عَلَى نِعَمِهِ التُّؤَامِ وَ آلَائِهِ الْعِظَامِ الَّذِي عَظُمَ حِلْمُهُ فَعَفَا وَ عَدَلَ فِي كُلِّ مَا قَضَى وَ عَلِمَ بِمَا يَمْضِي وَ مَا مَضَى مُبْتَدِعِ الْخَلَائِقِ بِعِلْمِهِ وَ مُنْشِئِهِمْ بِحُكْمِهِ بِلَا اقْتِدَاءٍ وَ لَا تَعْلِيمٍ وَ لَا احْتِذَاءٍ لِمِثَالِ صَانِعٍ حَكِيمٍ وَ لَا إِصَابَةِ خَطَإٍ وَ لَا حَضْرَةِ مَلٍا وَ أَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّداً عَبْدُهُ وَ رَسُولُهُ ابْتَعَثَهُ وَ النَّاسُ يَضْرِبُونَ فِي غَمْرَةٍ وَ يَمُوجُونَ فِي حَيْرَةٍ قَدْ قَادَتْهُمْ أَزِمَّةُ الْحَيْنِ وَ اسْتَغْلَقَتْ عَلَى أَفْئِدَتِهِمْ أَقْفَالُ الرَّيْنِ عِبَادَ اللَّهِ أُوصِيكُمْ بِتَقْوَى اللَّهِ فَإِنَّهَا حَقُّ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَ الْمُوجِبَةُ عَلَى اللَّهِ حَقَّكُمْ وَ أَنْ تَسْتَعِينُوا عَلَيْهَا بِاللَّهِ وَ تَسْتَعِينُوا بِهَا عَلَى اللَّهِ فَإِنَّ التَّقْوَى فِي الْيَوْمِ الْحِرْزُ وَ الْجُنَّةُ وَ فِي غَدٍ الطَّرِيقُ إِلَى الْجَنَّةِ مَسْلَكُهَا وَاضِحٌ وَ سَالِكُهَا رَابِحٌ وَ مُسْتَوْدَعُهَا حَافِظٌ لَمْ تَبْرَحْ عَارِضَةً نَفْسَهَا عَلَى الْأُمَمِ الْمَاضِينَ مِنْكُمْ وَ الْغَابِرِينَ لِحَاجَتِهِمْ إِلَيْهَا غَداً إِذَا أَعَادَ اللَّهُ مَا أَبْدَى وَ أَخَذَ مَا أَعْطَى وَ سَأَلَ عَمَّا أَسْدَى فَمَا أَقَلَّ مَنْ قَبِلَهَا وَ حَمَلَهَا حَقَّ حَمْلِهَا أُولَئِكَ الْأَقَلُّونَ عَدَداً وَ هُمْ أَهْلُ صِفَةِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ إِذْ يَقُولُ وَ قَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ فَأَهْطِعُوا بِأَسْمَاعِكُمْ إِلَيْهَا وَ أَلِظُّوا بِجِدِّكُمْ عَلَيْهَا وَ اعْتَاضُوهَا مِنْ كُلِّ سَلَفٍ خَلَفاً وَ مِنْ كُلِّ مُخَالِفٍ مُوَافِقاً شرح نهج البلاغة ج : 13 ص : (14/97)
116أَيْقِظُوا بِهَا نَوْمَكُمْ وَ اقْطَعُوا بِهَا يَوْمَكُمْ وَ أَشْعِرُوهَا قُلُوبَكُمْ وَ ارْحَضُوا بِهَا ذُنُوبَكُمْ وَ دَاوُوا بِهَا الْأَسْقَامَ وَ بَادِرُوا بِهَا الْحِمَامَ وَ اعْتَبِرُوا بِمَنْ أَضَاعَهَا وَ لَا يَعْتَبِرَنَّ بِكُمْ مَنْ أَطَاعَهَا أَلَا فَصُونُوهَا وَ تَصَوَّنُوا بِهَا وَ كُونُوا عَنِ الدُّنْيَا نُزَّاهاً وَ إِلَى الآْخِرَةِ وُلَّاهاً وَ لَا تَضَعُوا مَنْ رَفَعَتْهُ التَّقْوَى وَ لَا تَرْفَعُوا مَنْ رَفَعَتْهُ الدُّنْيَا وَ لَا تَشِيمُوا بَارِقَهَا وَ لَا تَسْمَعُوا نَاطِقَهَا وَ لَا تُجِيبُوا نَاعِقَهَا وَ لَا تَسْتَضِيئُوا بِإِشْرَاقِهَا وَ لَا تُفْتَنُوا بِأَعْلَاقِهَا فَإِنَّ بَرْقَهَا خَالِبٌ وَ نُطْقَهَا كَاذِبٌ وَ أَمْوَالَهَا مَحْرُوبَةٌ وَ أَعْلَاقَهَا مَسْلُوبَةٌ أَلَا وَ هِيَ الْمُتَصَدِّيَةُ الْعَنُونُ وَ الْجَامِحَةُ الْحَرُونُ وَ الْمَائِنَةُ الْخَئُونُ وَ الْجَحُودُ الْكَنُودُ وَ الْعَنُودُ الصَّدُودُ وَ الْحَيُودُ الْمَيُودُ حَالُهَا انْتِقَالٌ وَ وَطْأَتُهَا زِلْزَالٌ وَ عِزُّهَا ذُلٌّ وَ جِدُّهَا هَزْلٌ وَ عُلْوُهَا سُفْلٌ دَارُ حَرْبٍ وَ سَلَبٍ وَ نَهْبٍ وَ عَطَبٍ أَهْلُهَا عَلَى سَاقٍ وَ سِيَاقٍ وَ لَحَاقٍ وَ فِرَاقٍ قَدْ تَحَيَّرَتْ مَذَاهِبُهَا وَ أَعْجَزَتْ مَهَارِبُهَا وَ خَابَتْ مَطَالِبُهَا فَأَسْلَمَتْهُمُ الْمَعَاقِلُ وَ لَفَظَتْهُمُ الْمَنَازِلُ وَ أَعْيَتْهُمُ الْمَحَاوِلُ فَمِنْ نَاجٍ مَعْقُورٍ وَ لَحْمٍ مَجْزُورٍ وَ شِلْوٍ مَذْبُوحٍ وَ دَمٍ مَسْفُوحٍ وَ عَاضٍّ عَلَى يَدَيْهِ وَ صَافِقٍ بِكَفَّيْهِ وَ مُرْتَفِقٍ بِخَدَّيْهِ وَ زَارٍ عَلَى رَأْيِهِ وَ رَاجِعٍ عَنْ عَزْمِهِ وَ قَدْ أَدْبَرَتِ الْحِيلَةُ وَ أَقْبَلَتِ الْغِيلَةُ وَ لَاتَ حِينَ مَنَاصٍ هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ قَدْ فَاتَ مَا فَاتَ وَ ذَهَبَ مَا ذَهَبَ وَ (14/98)
مَضَتِ الدُّنْيَا لِحَالِ بَالِهَا فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَ الْأَرْضُ وَ مَا كَانُوا مُنْظَرِينَ (14/99)
شرح نهج البلاغة ج : 13 ص : 117الفاشي الذائع فشا الخبر يفشو فشوا أي ذاع و أفشاه غيره و تفشى الشي ء أي اتسع و الفواشي كل منتشر من المال مثل الغنم السائمة و الإبل و غيرهما و منه الحديث
ضموا فواشيكم حتى تذهب فحمة العشاء
فيجوز أن يكون عنى بفشو حمده إطباق الأمم قاطبة على الاعتراف بنعمته و يجوز أن يريد بالفاشي سبب حمده و هو النعم التي لا يقدر قدرها فحذف المضاف. قوله و الغالب جنده فيه معنى قوله تعالى فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغالِبُونَ. قوله و المتعالي جده فيه معنى قوله تعالى وَ أَنَّهُ تَعالى جَدُّ رَبِّنا و الجد في هذا الموضع و في الآية العظمة. و التؤام جمع توأم على فوعل و هو الولد المقارن أخاه في بطن واحد و قد أتأمت المرأة إذا وضعت اثنين كذلك فهي متئم فإن كان ذلك عادتها فهي متآم و كل واحد من الولدين توأم و هما توأمان و هذا توأم هذا و هذه توأمته و الجمع توائم مثل قشعم و قشاعم و جاء في جمعه تؤام على فعال و هي اللفظة التي وردت في هذه الخطبة و هو جمع غريب لم يأت نظيره إلا في مواضع معدودة و هي عرق العظم يؤخذ عنه اللحم و عراق و شاة ربى للحديثة العهد بالولادة و غنم رباب و ظئر للمرضعة غير ولدها و ظؤار و رخل للأنثى من أولاد الضأن و رخال و فرير لولد البقرة الوحشية و فرار. و الآلاء النعم. شرح نهج البلاغة ج : 13 ص : 118قوله ع مبدع الخلائق بعلمه ليس يريد أن العلم علة في الإبداع كما تقول هوى الحجر بثقله بل المراد أبدع الخلق و هو عالم كما تقول خرج زيد بسلاحه أي خرج متسلحا فموضع الجار و المجرور على هذا نصب بالحالية و كذلك القول في و منشئهم بحكمه و الحكم هاهنا الحكمة. و منه
قوله ع إن من الشعر لحكمة
قوله بلا اقتداء و لا تعليم و لا احتذاء قد تكرر منه ع أمثاله مرارا. قوله و لا إصابة خطأ تحته معنى لطيف و ذلك لأن المتكلمين يوردون على أنفسهم سؤالا في باب كونه عالما بكل معلوم إذا استدلوا على ذلك فإنه علم بعض الأشياء لا من طريق أصلا لا من إحساس و لا من نظر و استدلال فوجب أن يعلم سائرها لأنه لا مخصص فقالوا لأنفسهم لم زعمتم ذلك و لم لا يجوز أن يكون فعل أفعاله مضطربة فلما أدركها علم كيفية صنعها بطريق كونه مدركا لها فأحكمها بعد اختلالها و اضطرابها و أجابوا عن ذلك بأنه لا بد أن يكون قبل أن فعلها عالما بمفرداتها من غير إحساس و يكفي ذلك في كونه عالما بما لم يتطرق إليه ثم يعود الاستدلال المذكور أولا. قوله ع و لا حضره ملأ الملأ الجماعة من الناس و فيه معنى قوله تعالى ما أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ لا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ. قوله يضربون في غمرة أي يسيرون في جهل و ضلالة و الضرب السير السريع. و الحين الهلاك و الرين الذنب على الذنب حتى يسود القلب و قيل الرين شرح نهج البلاغة ج : 13 ص : 119الطبع و الدنس يقال ران على قلبه ذنبه يرين رينا أي دنسه و وسخه و استغلقت أقفال الرين على قلوبهم تعسر فتحها. قوله فإنها حق الله عليكم و الموجبة على الله حقكم يريد أنها واجبة عليكم فإن فعلتموها وجب على الله أن يجازيكم عنها بالثواب و هذا تصريح بمذهب المعتزلة في العدل و أن من الأشياء ما يجب على الله تعالى من باب الحكمة. قوله و أن تستعينوا عليها بالله و تستعينوا بها على الله يريد أوصيكم بأن تستعينوا بالله على التقوى بأن تدعوه و تبتهلوا إليه أن يعينكم عليها و يوفقكم لها و ييسرها و يقوي دواعيكم إلى القيام بها و أوصيكم أن تستعينوا بالتقوى على لقاء الله و محاكمته و حسابه فإنه تعالى يوم البعث و الحساب كالحاكم بين المتخاصمين وَ تَرى كُلَّ أُمَّةٍ جاثِيَةً كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعى إِلى كِتابِهَا فالسعيد (14/100)
من استعان على ذلك الحساب و تلك الحكومة و الخصومة بالتقوى في دار التكليف فإنها نعم المعونة وَ تَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوى. و الجنة ما يستتر به. قوله و مستودعها حافظ يعني الله سبحانه لأنه مستودع الأعمال و يدل عليه قوله تعالى إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا و ليس ما قاله الراوندي من أنه أراد بالمستودع قلب الإنسان بشي ء. قوله لم تبرح عارضة نفسها كلام فصيح لطيف يقول إن التقوى لم تزل عارضة نفسها على من سلف من القرون فقبلها القليل منهم شبهها بالمرأة العارضة نفسها نكاحا على قوم فرغب فيها من رغب و زهد من زهد و على الحقيقة ليست شرح نهج البلاغة ج : 13 ص : 120هي العارضة نفسها و لكن المكلفين ممكنون من فعلها و مرغبون فيها فصارت كالعارضة. و الغابر هاهنا الباقي و هو من الأضداد يستعمل بمعنى الباقي و بمعنى الماضي. قوله ع إذا أعاد الله ما أبدى يعني أنشر الموتى و أخذ ما أعطى و ورث الأرض مالك الملوك فلم يبق في الوجود من له تصرف في شي ء غيره كما قال لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ و قيل في الأخبار و (14/101)
الحديث إن الله تعالى يجمع الذهب و الفضة كل ما كان منه في الدنيا فيجعله أمثال الجبال ثم يقول هذا فتنة بني آدم ثم يسوقه إلى جهنم فيجعله مكاوي لجباه المجرمين
و سأل عما أسدى أي سأل أرباب الثروة عما أسدى إليهم من النعم فيم صرفوها و فيم أنفقوها. قوله ع فما أقل من قبلها يعني ما أقل من قبل التقوى العارضة نفسها على الناس. و إذا في قوله إذا أعاد الله ظرف لحاجتهم إليها لأن المعنى يقتضيه أي لأنهم يحتاجون إليها وقت إعادة الله الخلق و ليس كما ظنه الراوندي أنه ظرف لقوله فما أقل من قبلها لأن المعنى على ما قلناه و لأن ما بعد الفاء لا يجوز أن يكون عاملا فيما قبلها. قوله فأهطعوا بأسماعكم أي أسرعوا أهطع في عدوه أي أسرع و يروى فانقطعوا بأسماعكم إليها أي فانقطعوا إليها مصغين بأسماعكم. قوله و ألظوا بجدكم أي ألحوا و الإلظاظ الإلحاح في الأمر و منه (14/102)
قول شرح نهج البلاغة ج : 13 ص : 121ابن مسعود ألظوا في الدعاء بيا ذا الجلال و الإكرام
و منه الملاظة في الحرب و يقال رجل ملظ و ملظاظ أي ملحاح و ألظ المطر أي دام. و قوله بجدكم أي باجتهادكم جددت في الأمر جدا بالغت و اجتهدت و يروى و واكظوا بحدكم و المواكظة المداومة على الأمر و قال مجاهد في قوله تعالى إِلَّا ما دُمْتَ عَلَيْهِ قائِماً قال أي مواكظا. قوله و أشعروا بها قلوبكم يجوز أن يريد اجعلوها شعارا لقلوبكم و هو ما دون الدثار و ألصق بالجسد منه و يجوز أن يريد اجعلوها علامة يعرف بها القلب التقي من القلب المذنب كالشعار في الحرب يعرف به قوم من قوم و يجوز أن يريد أخرجوا قلوبكم بها من أشعار البدن أي طهروا القلوب بها و صفوها من دنس الذنوب كما يصفى البدن بالفصاد من غلبة الدم الفاسد و يجوز أن يريد الإشعار بمعنى الإعلام من أشعرت زيدا بكذا أي عرفته إياه أي اجعلوها عالمة بجلالة موقعها و شرف محلها. قوله و ارحضوا بها أي اغسلوا و ثوب رحيض و مرحوض أي مغسول. قال و داووا بها الأسقام يعني أسقام الذنوب. و بادروا بها الحمام عجلوا و اسبقوا الموت أن يدرككم و أنتم غير متقين. و اعتبروا بمن أضاع التقوى فهلك شقيا و لا يعتبرن بكم أهل التقوى أي لا تكونوا أنتم لهم معتبرا بشقاوتكم و سعادتهم. ثم قال و صونوا التقوى عن أن تمازجها المعاصي و تصونوا أنتم بها عن الدناءة و ما ينافي العدالة. و النزه جمع نزيه و هو المتباعد عما يوجب الذم و الولاه جمع واله و هو المشتاق ذو الوجد حتى يكاد يذهب عقله. شرح نهج البلاغة ج : 13 ص : 122ثم شرع في ذكر الدنيا فقال لا تشيموا بارقها الشيم النظر إلى البرق انتظارا للمطر. و لا تسمعوا ناطقها لا تصغوا إليها سامعين و لا تجيبوا مناديها. و الأعلاق جمع علق و هو الشي ء النفيس و برق خالب و خلب لا مطر فيه. و أموالها محروبة أي مسلوبة. قوله ع ألا و هي المتصدية العنون شبهها بالمرأة المومس تتصدى للرجال تريد الفجور و تتصدى لهم تتعرض و العنون المتعرضة أيضا عن لي كذا أي عرض. ثم قال و (14/103)
الجامحة الحرون شبهها بالدابة ذات الجماح و هي التي لا يستطاع ركوبها لأنها تعثر بفارسها و تغلبه و جعلها مع ذلك حرونا و هي التي لا تنقاد. ثم قال و المائنة الخئون مان أي كذب شبهها بامرأة كاذبة خائنة. و الجحود الكنود جحد الشي ء أنكره و كند النعمة كفرها جعلها كامرأة تجحد الصنيعة و لا تعترف بها و تكفر النعمة و يجوز أن يكون الجحود من قولك رجل جحد و جحد أي قليل الخير و عام جحد أي قليل المطر و قد جحد النبت إذا لم يطل. قال و العنود الصدود العنود الناقة تعدل عن مرعى الإبل و ترعى ناحية. و الصدود المعرضة صد عنه أي أعرض شبهها في انحرافها و ميلها عن القصد بتلك. قال و الحيود الميود حادث الناقة عن كذا تحيد فهي حيود إذا مالت عنه. و مادت تميد فهي ميود أي مالت فإن كانت عادتها ذلك سميت الحيود الميود في كل حال. شرح نهج البلاغة ج : 13 ص : 123قال حالها انتقال يجوز أن يعني به أن شيمتها و سجيتها الانتقال و التغير و يجوز أن يريد به معنى أدق و هو أن الزمان على ثلاثة أقسام ماض و حاضر و مستقبل فالماضي و المستقبل لا وجود لهما الآن و إنما الموجود أبدا هو الحاضر فلما أراد المبالغة في وصف الدنيا بالتغير و الزوال قال حالها انتقال أي أن الآن الذي يحكم العقلاء عليه بالحضور منها ليس بحاضر على الحقيقة بل هو سيال متغير فلا ثبوت إذا لشي ء منها مطلقا و يروى و حالها افتعال أي كذب و زور و هي رواية شاذة. قال و وطئتها زلزال الوطأة كالضغطة و منه (14/104)
قوله ص اللهم اشدد وطأتك على مضر
و أصلها موضع القدم و الزلزال الشدة العظيمة و الجمع زلازل. و قال الراوندي في شرحه يريد أن سكونها حركة من قولك وطؤ الشي ء أي صار وطيئا ذا حال لينة و موضع وطي ء أي وثير و هذا خطأ لأن المصدر من ذلك وطاءة بالمد و هاهنا وطأة ساكن الطاء فأين أحدهما من الآخر. قال و علوها سفل يجوز ضم أولهما و كسره. قال دار حرب الأحسن في صناعة البديع أن تكون الراء هاهنا ساكنة ليوازي السكون هاء نهب و من فتح الراء أراد السلب حربته أي سلبت ماله. قال أهلها على ساق و سياق يقال قامت الحرب على ساق أي على شدة و منه قوله سبحانه يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ ساقٍ و السياق نزع الروح يقال رأيت فلانا يسوق أي ينزع عند الموت أو يكون مصدر ساق الماشية سوقا و سياقا. و قال الراوندي في شرحه يريد أن بعض أهلها في أثر بعض كقولهم ولدت فلانة شرح نهج البلاغة ج : 13 ص : 124ثلاثة بنين على ساق و ليس ما قاله بشي ء لأنهم يقولون ذلك للمرأة إذا لم يكن بين البنين أنثى و لا يقال ذلك في مطلع التتابع أين كان. قال ع و لحاق و فراق اللام مفتوحة مصدر لحق به و هذا كقولهم الدنيا مولود يولد و مفقود يفقد. قال ع قد تحيرت مذاهبها أي تحير أهلها في مذاهبهم و ليس يعني بالمذاهب هاهنا الاعتقادات بل المسالك. و أعجزت مهاربها أي أعجزتهم جعلتهم عاجزين فحذف المفعول. و أسلمتهم المعاقل لم تحصنهم. و لفظتهم بفتح الفاء رمت بهم و قذفتهم. و أعيتهم المحاول أي المطالب. ثم وصف أحوال الدنيا فقال هم فمن ناج معقور أي مجروح كالهارب من الحرب بحشاشة نفسه و قد جرح بدنه. و لحم مجزور أي قتيل قد صار جزرا للسباع. و شلو مذبوح الشلو العضو من أعضاء الحيوان المذبوح أو الميت و (14/105)
في الحديث ائتوني بشلوها الأيمن
و دم مفسوح أي مسفوك و عاض على يديه أي ندما. و صافق بكفيه أي تعسفا أو تعجبا. و مرتفق بخديه جاعل لهما على مرفقيه فكرا و هما. و زار على رأيه أي عائب أي يرى الواحد منهم رأيا و يرجع عنه و يعيبه و هو البداء الذي يذكره المتكلمون ثم فسره بقوله و راجع عن عزمه. شرح نهج البلاغة ج : 13 ص : 125فإن قلت فهل يمكن أن يفرق بينهما ليكون الكلام أكثر فائدة قلت نعم بأن يريد بالأول من رأى رأيا و كشفه لغيره و جامعه عليه ثم بدا له و عابه و يريد بالثاني من عزم نفسه عزما و لم يظهر لغيره ثم رجع عنه و يمكن أيضا بأن يفرق بينهما بأن يعني بالرأي الاعتقاد كما يقال هذا رأي أبي حنيفة و العزم أمر مفرد خارج عن ذلك و هو ما يعزم عليه الإنسان من أمور نفسه و لا يقال عزم في الاعتقادات ثم قال ع و قد أدبرت الحيلة أي ولت و أقبلت الغيلة أي الشر و منه قولهم فلان قليل الغائلة أو يكون بمعنى الاغتيال يقال قتله غيلة أي خديعة يذهب به إلى مكان يوهمه أنه لحاجة ثم يقتله. قال ع و لات حين مناص هذه من ألفاظ الكتاب العزيز قال الأخفش شبهوا لات بليس و أضمروا فيها اسم الفاعل قال و لا تكون لات إلا مع حين و قد جاء حذف حين في الشعر و منه المثل حنت و لات هنت أي و لات حين حنت و الهاء بدل من الحاء فحذف الحين و هو يريده قال و قرأ بعضهم وَ لاتَ حِينَ مَناصٍ بالرفع و أضمر الخبر و قال أبو عبيد هي لا و التاء إنما زيدت في حين لا في لا و إن كتبت مفردة و الأصل تحين كما قال في ألان تلان فزادوا التاء و أنشد لأبي وجزة (14/106)
العاطفون تحين ما من عاطف و المطعمون زمان أين المطعم
و قال المؤرج زيدت التاء في لات كما زيدت في ربت و ثمت. و المناص المهرب ناص عن قرنه ينوص نوصا و مناصا أي ليس هذا وقت الهرب و الفرار. شرح نهج البلاغة ج : 13 ص : 126و يكون المناص أيضا بمعنى الملجأ و المفزع أي ليس هذا حين تجد مفزعا و معقلا تعتصم به. هيهات اسم للفعل و معناه بعد يقال هيهات زيد فهو مبتدأ و خبر و المعنى يعطي الفعلية و التاء في هيهات مفتوحة مثل كيف و أصلها هاء و ناس يكسرونها على كل حال بمنزلة نون التثنية و قال الراجز (14/107)
هيهات من مصبحها هيهات هيهات حجر من صنيعات
و قد تبدل الهاء همزة فيقال أيهات مثل هراق و أراق قال
أيهات منك الحياة أيهاتا
قال الكسائي فمن كسر التاء وقف عليها بالهاء فقال هيهاه و من فتحها وقف إن شاء بالتاء و إن شاء بالهاء. قوله ع و مضت الدنيا لحال بالها كلمة تقال فيما انقضى و فرط أمره و معناها مضى بما فيه إن كان خيرا و إن كان شرا. قوله ع فما بكت عليهم السماء هو من كلام الله تعالى و المراد أهل السماء و هم الملائكة و أهل الأرض و هم البشر و المعنى أنهم لا يستحقون أن يتأسف عليهم و قيل أراد المبالغة في تحقير شأنهم لأن العرب كانت تقول في العظيم القدر يموت بكته السماء و بكته النجوم قال الشاعر
فالشمس طالعة ليست بكاسفة تبكي عليك نجوم الليل و القمرا
فنفى عنهم ذلك و قال ليسوا من يقال فيه مثل هذا القول و تأولها ابن عباس رضي الله عنه لما قيل له أ تبكي السماء و الأرض على أحد فقال نعم يبكيه مصلاه في الأرض و مصعد عمله في السماء فيكون نفي البكاء عنهما كناية عن أنه لم يكن لهم في الأرض عمل صالح يرفع منهما إلى السماء
شرح نهج البلاغة ج : 13 ص : 238127- و من خطبة له ع و من الناس من يسمي هذه الخطبة بالقاصعة
و هي تتضمن ذم إبليس لعنه الله على استكباره و تركه السجود لآدم ع و أنه أول من أظهر العصبية و تبع الحمية و تحذير الناس من سلوك طريقته
الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَبِسَ الْعِزَّ وَ الْكِبْرِيَاءَ وَ اخْتَارَهُمَا لِنَفْسِهِ دُونَ خَلْقِهِ وَ جَعَلَهُمَا حِمًى وَ حَرَماً عَلَى غَيْرِهِ وَ اصْطَفَاهُمَا لِجَلَالِهِ وَ جَعَلَ اللَّعْنَةَ عَلَى مَنْ نَازَعَهُ فِيهِمَا مِنْ عِبَادِهِ ثُمَّ اخْتَبَرَ بِذَلِكَ مَلَائِكَتَهُ الْمُقَرَّبِينَ لِيَمِيزَ الْمُتَوَاضِعِينَ مِنْهُمْ مِنَ الْمُسْتَكْبِرِينَ فَقَالَ سُبْحَانَهُ وَ هُوَ الْعَالِمُ بِمُضْمَرَاتِ الْقُلُوبِ وَ مَحْجُوبَاتِ الْغُيُوبِ إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ طِينٍ فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَ نَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ إِلَّا إِبْلِيسَ اعْتَرَضَتْهُ الْحَمِيَّةُ فَافْتَخَرَ عَلَى آدَمَ بِخَلْقِهِ وَ تَعَصَّبَ عَلَيْهِ لِأَصْلِهِ فَعَدُوُّ اللَّهِ إِمَامُ الْمُتَعَصِّبِينَ وَ سَلَفُ الْمُسْتَكْبِرِينَ الَّذِي وَضَعَ أَسَاسَ الْعَصَبِيَّةِ وَ نَازَعَ اللَّهَ رِدَاءَ الْجَبَرِيَّةِ وَ ادَّرَعَ لِبَاسَ التَّعَزُّزِ وَ خَلَعَ قِنَاعَ التَّذَلُّلِ أَلَا يَرَوْنَ كَيْفَ صَغَّرَهُ اللَّهُ بِتَكَبُّرِهِ وَ وَضَعَهُ بِتَرَفُّعِهِ فَجَعَلَهُ فِي الدُّنْيَا مَدْحُوراً وَ أَعَدَّ لَهُ فِي الآْخِرَةِ سَعِيراً (14/108)
شرح نهج البلاغة ج : 13 ص : 128يجوز أن تسمى هذه الخطبة القاصعة من قولهم قصعت الناقة بجرتها و هو أن تردها إلى جوفها أو تخرجها من جوفها فتملأ فاها فلما كانت الزواجر و المواعظ في هذه الخطبة مرددة من أولها إلى آخرها شبهها بالناقة التي تقصع الجرة و يجوز أن تسمى القاصعة لأنها كالقاتلة لإبليس و أتباعه من أهل العصبية من قولهم قصعت القملة إذا هشمتها و قتلتها و يجوز أن تسمى القاصعة لأن المستمع لها المعتبر بها يذهب كبره و نخوته فيكون من قولهم قصع الماء عطشه أي أذهبه و سكنه قال ذو الرمة بيتا في هذا المعنى
فانصاعت الحقب لم تقصع صرائرها و قد تشح فلا ري و لا هيم (14/109)
الصرائر جمع صريرة و هي العطش و يجوز أن تسمى القاصعة لأنها تتضمن تحقير إبليس و أتباعه و تصغيرهم من قولهم قصعت الرجل إذا امتهنته و حقرته و غلام مقصوع أي قمي ء لا يشب و لا يزداد. و العصبية على قسمين عصبية في الله و هي محمودة و عصبية في الباطل و هي مذمومة و هي التي نهى أمير المؤمنين ع عنها و كذلك الحمية و
جاء في الخبر العصبية في الله تورث الجنة و العصبية في الشيطان تورث النار
و جاء في الخبر العظمة إزاري و الكبرياء ردائي فمن نازعني فيهما قصمته
و هذا معنى قوله ع اختارهما لنفسه دون خلقه إلى آخر قوله من عباده. قال ع ثم اختبر بذلك ملائكته المقربين مع علمه بمضمراتهم و ذلك لأن اختباره سبحانه ليس ليعلم بل ليعلم غيره من خلقه طاعة من يطيع و عصيان من يعصي و كذلك قوله سبحانه وَ ما جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْها إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ شرح نهج البلاغة ج : 13 ص : 129الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلى عَقِبَيْهِ النون في لنعلم نون الجمع لا نون العظمة أي لتصير أنت و غيرك من المكلفين عالمين لمن يطيع و من يعصي كما أنا عالم بذلك فتكونوا كلكم مشاركين لي في العلم بذلك. فإن قلت و ما فائدة وقوفهم على ذلك و علمهم به قلت ليس بممتنع أن يكون ظهور حال العاصي و المطيع و علم المكلفين أو أكثرهم أو بعضهم به يتضمن لطفا في التكليف. فإن قلت إن الملائكة لم تكن تعلم ما البشر و لا تتصور ماهيته فكيف قال لهم إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ طِينٍ قلت قد كان قال لهم إني خالق جسما من صفته كيت و كيت فلما حكاه اقتصر على الاسم و يجوز أن يكون عرفهم من قبل أن لفظة بشر على ما ذا تقع ثم قال لهم إني خالق هذا الجسم المخصوص الذي أعلمتكم أن لفظة بشر واقعة عليه من طين. قوله تعالى فَإِذا سَوَّيْتُهُ أي إذا أكملت خلقه. فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ أمرهم بالسجود له و قد اختلف في ذلك فقال قوم كان قبلة كما الكعبة اليوم قبلة و لا يجوز السجود إلا لله و قال آخرون بل كان السجود له تكرمة و محنة و السجود لغير الله غير قبيح في العقل إذا لم يكن عبادة و لم يكن فيه مفسدة. و قوله تعالى وَ نَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي أي أحللت فيه الحياة و أجريت الروح إليه في عروقه و أضاف الروح إليه تبجيلا لها و سمى ذلك نفخا على وجه الاستعارة لأن العرب تتصور من الروح معنى الريح و النفخ يصدق على الريح فاستعار لفظة النفخ توسعا. شرح نهج البلاغة ج : 13 ص : 130و قالت الحكماء هذا عبارة عن (14/110)
النفس الناطقة. فإن قلت هل كان إبليس من الملائكة أم لا قلت قد اختلف في ذلك فمن جعله منهم احتج بالاستثناء و من جعله من غيرهم احتج بقوله تعالى كانَ مِنَ الْجِنِّ و جعل الاستثناء منقطعا و بأن له نسلا و ذرية قال تعالى أَ فَتَتَّخِذُونَهُ وَ ذُرِّيَّتَهُ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِي و الملائكة لا نسل لهم و لا ذرية و بأن أصله نار و الملائكة أصلها نور و قد مر لنا كلام في هذا في أول الكتاب. قوله فافتخر على آدم بخلقه و تعصب عليه لأصله كانت خلقته أهون من خلقة آدم ع و كان أصله من نار و أصل آدم ع من طين. فإن قلت كيف حكم على إبليس بالكفر و لم يكن منه إلا مخالفة الأمر و معلوم أن تارك الأمر فاسق لا كافر قلت إنه اعتقد أن الله أمره بالقبيح و لم ير أمره بالسجود لآدم ع حكمة و امتنع من السجود تكبرا و رد على الله أمره و استخف بمن أوجب الله إجلاله و ظهر أن هذه المخالفة عن فساد عقيدة فكان كافرا. فإن قلت هل كان كافرا في الأصل أم كان مؤمنا ثم كفر قلت أما المرجئة فأكثرهم يقول كان في الأصل كافرا لأن المؤمن عندهم لا يجوز أن يكفر و أما أصحابنا فلما كان هذا الأصل عندهم باطلا توقفوا في حال إبليس و جوزوا كلا الأمرين. شرح نهج البلاغة ج : 13 ص : 131قوله ع رداء الجبرية الباء مفتوحة يقال فيه جبرية و جبروة و جبروت و جبورة كفروجة أي كبر و أنشدوا (14/111)
فإنك إن عاديتني غضب الحصا عليك و ذو الجبورة المتغطرف
و جعله مدحورا أي مطرودا مبعدا دحره الله دحورا أي أقصاه و طرده
وَ لَوْ أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَخْلُقَ آدَمَ مِنْ نُورٍ يَخْطَفُ الْأَبْصَارَ ضِيَاؤُهُ وَ يَبْهَرُ الْعُقُولَ رُوَاؤُهُ وَ طِيبٍ يَأْخُذُ الْأَنْفَاسَ عَرْفُهُ لَفَعَلَ وَ لَوْ فَعَلَ لَظَلَّتْ لَهُ الْأَعْنَاقُ خَاضِعَةً وَ لَخَفَّتِ الْبَلْوَى فِيهِ عَلَى الْمَلَائِكَةِ وَ لَكِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ يَبْتَلِي خَلْقَهُ بِبَعْضِ مَا يَجْهَلُونَ أَصْلَهُ تَمْيِيزاً بِالِاخْتِبَارِ لَهُمْ وَ نَفْياً لِلِاسْتِكْبَارِ عَنْهُمْ وَ إِبْعَاداً لِلْخُيَلَاءِ مِنْهُمْ فَاعْتَبِرُوا بِمَا كَانَ مِنْ فِعْلِ اللَّهِ بِإِبْلِيسَ إِذْ أَحْبَطَ عَمَلَهُ الطَّوِيلَ وَ جَهْدَهُ الْجَهِيدَ وَ كَانَ قَدْ عَبَدَ اللَّهَ سِتَّةَ آلَافِ سَنَةٍ لَا يُدْرَى أَ مِنْ سِنِي الدُّنْيَا أَمْ مِنْ سِنِي الآْخِرَةِ عَنْ كِبْرِ سَاعَةٍ وَاحِدَةٍ فَمَنْ ذَا بَعْدَ إِبْلِيسَ يَسْلَمُ عَلَى اللَّهِ بِمِثْلِ مَعْصِيَتِهِ كَلَّا مَا كَانَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ لِيُدْخِلَ الْجَنَّةَ بَشَراً بِأَمْرٍ أَخْرَجَ بِهِ مِنْهَا مَلَكاً إِنْ حُكْمَهُ فِي أَهْلِ السَّمَاءِ وَ الْأَرْضِ لَوَاحِدٌ وَ مَا بَيْنَ اللَّهِ وَ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ خَلْقِهِ هَوَادَةٌ فِي إِبَاحَةِ حِمًى حَرَّمَهُ عَلَى الْعَالَمِينَ (14/112)
خطفت الشي ء بكسر الطاء أخطفه إذا أخذته بسرعة استلابا و فيه لغة أخرى شرح نهج البلاغة ج : 13 ص : 132خطف بالفتح و يخطف بالفتح و يخطف بالكسر و هي لغة رديئة قليلة لا تكاد تعرف و قد قرأ بها يونس في قوله تعالى يَكادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصارَهُمْ. و الرواء بالهمزة و المد المنظر الحسن و العرف الريح الطيبة. و الخيلاء بضم الخاء و كسرها الكبر و كذلك الخال و المخيلة تقول اختال الرجل و خال أيضا أي تكبر. و أحبط عمله أبطل ثوابه و قد حبط العمل حبطا بالتسكين و حبوطا و المتكلمون يسمون إبطال الثواب إحباطا و إبطال العقاب تكفيرا. و جهده بفتح الجيم اجتهاده و جده و وصفه بقوله الجهيد أي المستقصى من قولهم مرعى جهيد أي قد جهده المال الراعي و استقصى رعية. و كلامه ع يدل على أنه كان يذهب إلى أن إبليس من الملائكة لقوله أخرج منها ملكا و الهوادة الموادعة و المصالحة يقول إن الله تعالى خلق آدم من طين و لو شاء أن يخلقه من النور الذي يخطف أو من الطيب الذي يعبق لفعل و لو فعل لهال الملائكة أمره و خضعوا له فصار الابتلاء و الامتحان و التكليف بالسجود له خفيفا عليهم لعظمته في نفوسهم فلم يستحقوا ثواب العمل الشاق و هذا يدل على أن الملائكة تشم الرائحة كما نشمها نحن و لكن الله تعالى يبتلي عباده بأمور يجهلون أصلها اختبارا لهم. فإن قلت ما معنى قوله ع تمييزا بالاختبار لهم قلت لأنه ميزهم عن غيرهم من مخلوقاته كالحيوانات العجم و أبانهم عنهم و فضلهم عليهم بالتكليف و الامتحان. شرح نهج البلاغة ج : 13 ص : 133قال و نفيا للاستكبار عنهم لأن العبادات خضوع و خشوع و ذلة ففيها نفي الخيلاء و التكبر عن فاعليها فأمرهم بالاعتبار بحال إبليس الذي عبد الله ستة آلاف سنة لا يدرى أ من سني الدنيا أم من سني الآخرة و هذا يدل على أنه قد سمع فيه نصا من رسول الله ص مجملا لم يفسره له أو فسره له خاصة و لم يفسره أمير المؤمنين ع للناس لما يعلمه في (14/113)
كتمانه عنهم من المصلحة. فإن قلت قوله لا يدرى على ما لم يسم فاعله يقتضي أنه هو لا يدري قلت إنه لا يقتضي ذلك و يكفي في صدق الخبر إذا ورد بهذه الصيغة أن يجهله الأكثرون. فأما القول في سني الآخرة كم هي فاعلم أنه قد ورد في الكتاب العزيز آيات مختلفات إحداهن قوله تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَ الرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ. و الأخرى قوله يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّماءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ. و الثالثة قوله وَ إِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ. و أولى ما قيل فيها أن المراد بالآية الأولى مدة عمر الدنيا و سمي ذلك يوما و قال إن الملائكة لا تزال تعرج إليه بأعمال البشر طول هذه المدة حتى ينقضي التكليف و ينتقل الأمر إلى دار أخرى و أما الآيتان الأخيرتان فمضمونهما بيان كمية أيام الآخرة و هو أن كل يوم منها مثل ألف سنة من سني الدنيا. (14/114)
شرح نهج البلاغة ج : 13 ص : 134فإن قلت فعلى هذا كم تكون مدة عبادة إبليس إذا كانت ستة آلاف سنة من سني الآخرة قلت يكون ما يرتفع من ضرب أحد المضروبين في الآخرة و هو ألفا ألف ألف ثلاث لفظات الأولى منهم مثناة و مائة ألف ألف لفظتان و ستون ألف ألف سنة لفظتان أيضا من سني الدنيا و لما رأى أمير المؤمنين ع هذا المبلغ عظيما جدا علم أن أذهان السامعين لا تحتمله فلذلك أبهم القول عليهم و قال لا يدرى أ من سني الدنيا أم من سني الآخرة. فإن قلت فإذا كنتم قد رجحتم قول من يقول إن عمر الدنيا خمسون ألف سنة فكم يكون عمرها إن كان الله تعالى أراد خمسين ألف سنة من سني الآخرة لأنه لا يؤمن أن يكون أراد ذلك إذا كانت السنة عنده عبارة عن مدة غير هذه المدة التي قد اصطلح عليها الناس قلت يكون ما يرتفع من ضرب خمسين ألفا في ثلاثمائة و ستين ألف من سني الدنيا و مبلغ ذلك ثمانية عشر ألف ألف ألف سنة من سني الدنيا ثلاث لفظات و هذا القول قريب من القول المحكي عن الهند. و روى أبو جعفر محمد بن جرير الطبري في تاريخه روايات كثيرة بأسانيد أوردها عن جماعة من الصحابة أن إبليس كان إليه ملك السماء و ملك الأرض و كان من قبيلة من الملائكة يقال لهم الجن و إنما سموا الجن لأنهم كانوا خزان الجنان و كان إبليس رئيسهم و مقدمهم و كان أصل خلقهم من نار السموم و كان اسمه الحارث قال و قد روي أن الجن كانت في الأرض و أنهم أفسدوا فيها فبعث الله إليهم إبليس في جند من الملائكة فقتلهم و طردهم إلى جزائر البحار ثم تكبر في نفسه و رأى أنه قد صنع شيئا عظيما لم يصنعه غيره قال و كان شديد الاجتهاد في العبادة. شرح نهج البلاغة ج : 13 ص : 135و قيل كان اسمه عزازيل و أن الله تعالى جعله حكما و قاضيا بين سكان الأرض قبل خلق آدم فدخله الكبر و العجب لعبادته و اجتهاده و حكمه في سكان الأرض و قضائه بينهم فانطوى على المعصية حتى كان من أمره مع آدم ع ما كان قلت و لا (14/115)
ينبغي أن نصدق من هذه الأخبار و أمثالها إلا ما ورد في القرآن العزيز الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه و لا من خلفه أو في السنة أو نقل عمن يجب الرجوع إلى قوله و كل ما عدا ذلك فالكذب فيه أكثر من الصدق و الباب مفتوح فليقل كل أحد في أمثال هذه القصص ما شاء و اعلم أن كلام أمير المؤمنين في هذا الفصل يطابق مذهب أصحابنا في أن الجنة لا يدخلها ذو معصية أ لا تسمع قوله فمن بعد إبليس يسلم على الله بمثل معصيته كلا ما كان الله ليدخل الجنة بشرا بأمر أخرج به منها ملكا إن حكمه في أهل السماء و الأرض لواحد. فإن قلت أ ليس من قولكم إن صاحب الكبيرة إذا تاب دخل الجنة فهذا صاحب معصية و قد حكمتم له بالجنة قلت إن التوبة أحبطت معصيته فصار كأنه لم يعص. فإن قلت إن أمير المؤمنين ع إنما قال فمن ذا بعد إبليس يسلم على الله بمثل معصيته و لم يقل بالمعصية المطلقة و المرجئة لا تخالف في أن من وافى القيامة بمثل معصية إبليس لم يكن من أهل الجنة قلت كل معصية كبيرة فهي مثل معصيته و لم يكن إخراجه من الجنة لأنه كافر بل لأنه عاص مخالف للأمر أ لا ترى أنه قال سبحانه قالَ فَاهْبِطْ مِنْها فَما يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيها فعلل إخراجه من الجنة بتكبره لا بكفره. فإن قلت هذا مناقض لما قدمت في شرح الفصل الأول (14/116)
شرح نهج البلاغة ج : 13 ص : 136قلت كلا لأني في الفصل الأول عللت استحقاقه اسم الكفر بأمر زائد على المعصية المطلقة و هو فساد اعتقاده و لم أجعل ذلك علة في خروجه من الجنة و هاهنا عللت خروجه من الجنة بنفس المعصية فلا تناقض. فإن قلت ما معنى قول أمير المؤمنين ع ما كان الله ليدخل الجنة بشرا بأمر أخرج به منها ملكا و هل يظن أحد أو يقول إن الله تعالى يدخل الجنة أحدا من البشر بالأمر الذي أخرج به هاهنا إبليس كلا هذا ما لا يقوله أحد و إنما الذي يقوله المرجئة إنه يدخل الجنة من قد عصى و خالف الأمر كما خالف الأمر إبليس برحمته و عفوه و كما يشاء لا أنه يدخله الجنة بالمعصية و كلام أمير المؤمنين ع يقتضي نفي دخول أحد الجنة بالمعصية لأن الباء للسببية قلت الباء هاهنا ليست للسببية كما يتوهمه هذا المعترض بل هي كالباء في قولهم خرج زيد بثيابه و دخل زيد بسلاحه أي خرج لابسا و دخل متسلحا أي يصحبه الثياب و يصحبه السلاح فكذلك قوله ع بأمر أخرج به منها ملكا معناه أن الله تعالى لا يدخل الجنة بشرا يصحبه أمر أخرج الله به ملكا منها (14/117)
فَاحْذَرُوا عِبَادَ اللَّهِ عَدُوَّ اللَّهِ أَنْ يُعْدِيَكُمْ بِدَائِهِ وَ أَنْ يَسْتَفِزَّكُمْ بِخَيْلِهِ وَ رَجْلِهِ فَلَعَمْرِي لَقَدْ فَوَّقَ لَكُمْ سَهْمَ الْوَعِيدِ وَ أَغْرَقَ إِلَيْكُمْ بِالنَّزْعِ الشَّدِيدِ وَ رَمَاكُمْ مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ فَقَالَ رَبِّ بِما أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ قَذْفاً بِغَيْبٍ بَعِيدٍ وَ رَجْماً بِظَنٍّ شرح نهج البلاغة ج : 13 ص : 137غَيْرِ مُصِيبٍ صَدَّقَهُ بِهِ أَبْنَاءُ الْحَمِيَّةِ وَ إِخْوَانُ الْعَصَبِيَّةِ وَ فُرْسَانُ الْكِبْرِ وَ الْجَاهِلِيَّةِ حَتَّى إِذَا انْقَادَتْ لَهُ الْجَامِحَةُ مِنْكُمْ وَ اسْتَحْكَمَتِ الطَّمَاعِيَةُ مِنْهُ فِيكُمْ فَنَجَمَتْ فِيهِ الْحَالُ مِنَ السِّرِّ الْخَفِيِّ إِلَى الْأَمْرِ الْجَلِيِّ اسْتَفْحَلَ سُلْطَانُهُ عَلَيْكُمْ وَ دَلَفَ بِجُنُودِهِ نَحْوَكُمْ فَأَقْحَمُوكُمْ وَلَجَاتِ الذُّلِّ وَ أَحَلُّوكُمْ وَرَطَاتِ الْقَتْلِ وَ أَوْطَئُوكُمْ إِثْخَانَ الْجِرَاحَةِ طَعْناً فِي عُيُونِكُمْ وَ حَزّاً فِي حُلُوقِكُمْ وَ دَقّاً لِمَنَاخِرِكُمْ وَ قَصْداً لِمَقَاتِلِكُمْ وَ سَوْقاً بِخَزَائِمِ الْقَهْرِ إِلَى النَّارِ الْمُعَدَّةِ لَكُمْ فَأَصْبَحَ أَعْظَمَ فِي دِينِكُمْ حَرْجاً وَ أَوْرَى فِي دُنْيَاكُمْ قَدْحاً مِنَ الَّذِينَ أَصْبَحْتُمْ لَهُمْ مُنَاصِبِينَ وَ عَلَيْهِمْ مُتَأَلِّبِينَ فَاجْعَلُوا عَلَيْهِ حَدَّكُمْ وَ لَهُ جِدَّكُمْ فَلَعَمْرُ اللَّهِ لَقَدْ فَخَرَ عَلَى أَصْلِكُمْ وَ وَقَعَ فِي حَسَبِكُمْ وَ دَفَعَ فِي نَسَبِكُمْ وَ أَجْلَبَ بِخَيْلِهِ عَلَيْكُمْ وَ قَصَدَ بِرَجْلِهِ سَبِيلَكُمْ يَقْتَنِصُونَكُمْ بِكُلِّ مَكَانٍ وَ يَضْرِبُونَ مِنْكُمْ كُلَّ بَنَانٍ لَا تَمْتَنِعُونَ بِحِيلَةٍ وَ لَا تَدْفَعُونَ بِعَزِيمَةٍ فِي حَوْمَةِ ذُلٍّ وَ (14/118)
حَلْقَةِ ضِيقٍ وَ عَرْصَةِ مَوْتٍ وَ جَوْلَةِ بَلَاءٍ فَأَطْفِئُوا مَا كَمَنَ فِي قُلُوبِكُمْ مِنْ نِيرَانِ الْعَصَبِيَّةِ وَ أَحْقَادِ الْجَاهِلِيَّةِ فَإِنَّمَا تِلْكَ الْحَمِيَّةُ تَكُونُ فِي الْمُسْلِمِ مِنْ خَطَرَاتِ الشَّيْطَانِ وَ نَخَوَاتِهِ وَ نَزَغَاتِهِ وَ نَفَثَاتِهِ وَ اعْتَمِدُوا وَضْعَ التَّذَلُّلِ عَلَى رُءُوسِكُمْ وَ إِلْقَاءَ التَّعَزُّزِ تَحْتَ أَقْدَامِكُمْ وَ خَلْعَ التَّكَبُّرِ مِنْ أَعْنَاقِكُمْ وَ اتَّخِذُوا التَّوَاضُعَ مَسْلَحَةً بَيْنَكُمْ وَ بَيْنَ عَدُوِّكُمْ إِبْلِيسَ وَ جُنُودِهِ فَإِنَّ لَهُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ جُنُوداً وَ أَعْوَاناً وَ رَجْلًا وَ فُرْسَاناً وَ لَا تَكُونُوا كَالْمُتَكَبِّرِ عَلَى ابْنِ أُمِّهِ مِنْ غَيْرِ مَا فَضْلٍ جَعَلَهُ اللَّهُ فِيهِ سِوَى مَا أَلْحَقَتِ الْعَظَمَةُ بِنَفْسِهِ مِنْ عَدَاوَةِ الْحَسَبِ وَ قَدَحَتِ الْحَمِيَّةُ فِي قَلْبِهِ مِنْ نَارِ الْغَضَبِ وَ نَفَخَ الشَّيْطَانُ فِي أَنْفِهِ مِنْ رِيحِ الْكِبْرِ الَّذِي أَعْقَبَهُ اللَّهُ بِهِ النَّدَامَةَ وَ أَلْزَمَهُ آثَامَ الْقَاتِلِينَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ (14/119)
شرح نهج البلاغة ج : 13 ص : 138موضع أن يعديكم نصب على البدل من عدو الله و قال الراوندي يجوز أن يكون مفعولا ثانيا و هذا ليس بصحيح لأن حذر لا يتعدى إلى المفعولين و العدوى ما يعدي من جرب أو غيره أعدى فلان فلانا من خلقه أو من علته و هو مجاوزته من صاحبه إلى غيره و
في الحديث لا عدوى في الإسلام
فإن قلت فإذا كان النبي ص قد أبطل أمر العدوى فكيف قال أمير المؤمنين فاحذروه أن يعديكم قلت إن النبي ص أبطل ما كانت العرب تزعمه من عدوى الجرب في الإبل و غيرها و أمير المؤمنين ع حذر المكلفين من أن يتعلموا من إبليس الكبر و الحمية و شبه تعلمهم ذلك منه بالعدوى لاشتراك الأمرين في الانتقال من أحد الشخصين إلى الآخر. قوله ع يستفزكم أي يستخفكم و هو من ألفاظ القرآن وَ اسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ أي أزعجه و استخفه و أطر قلبه و الخيل الخيالة و منه (14/120)
الحديث يا خيل الله اركبي
و الرجل اسم جمع لراجل كركب اسم جمع لراكب و صحب اسم جمع لصاحب و هذه أيضا من ألفاظ القرآن العزيز وَ أَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَ رَجِلِكَ و قرئ و رجلك بكسر الجيم على أن فعلا بالكسر بمعنى فاعل نحو تعب و تاعب
شرح نهج البلاغة ج : 13 ص : 85و لا حاجة به سبحانه إلى حروف و أدوات كما نحتاج نحن إلى ذلك لأنا أحياء بحياة تحلنا و الباري تعالى حي لذاته فلما افترقنا فيما به كان سامعا و مبصرا افترقنا في الحاجة إلى الأدوات و الجوارح. و ثاني عشرها أنه يقول و لا يتلفظ هذا بحث لفظي و ذلك لأنه قد ورد السمع بتسميته قائلا و قد تكرر في الكتاب العزيز ذكر هذه اللفظة نحو قوله إِذْ قالَ اللَّهُ يا عِيسى وَ قالَ اللَّهُ إِنِّي مَعَكُمْ و لم يرد في السمع إطلاق كونه متلفظا عليه و في إطلاقه إيهام كونه ذا جارحة فوجب الاقتصار على ما ورد و ترك ما لم يرد. و ثالث عشرها أنه تعالى يحفظ و لا يتحفظ أما كونه يحفظ فيطلق على وجهين أحدهما أنه يحفظ بمعنى أنه يحصي أعمال عباده و يعلمها و الثاني كونه يحفظهم و يحرسهم من الآفات و الدواهي و أما كونه لا يتحفظ فيحتمل معنيين أحدهما أنه لا يجوز أن يطلق عليه أنه يتحفظ الكلام أي يتكلف كونه حافظا له و محيطا و عالما به كالواحد منا يتحفظ الدرس ليحفظه فهو سبحانه حافظ غير متحفظ و الثاني أنه ليس بمتحرز و لا مشفق على نفسه خوفا أن تبدر إليه بادرة من غيره. و رابع عشرها أنه يريد و لا يضمر أما كونه مريدا فقد ثبت بالسمع نحو قوله تعالى يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ و بالعقل لاختصاص أفعاله بأوقات مخصوصة و كيفيات مخصوصة جاز أن تقع على خلافها فلا بد من مخصص لها بما اختصت به و ذلك كونه مريدا و أما كونه لا يضمر فهو إطلاق لفظي لم يأذن فيه الشرع و فيه إيهام كونه ذا قلب لأن الضمير في العرف اللغوي ما استكن في القلب و الباري ليس بجسم. (14/121)
شرح نهج البلاغة ج : 13 ص : 86و خامس عشرها أنه يحب و يرضى من غير رقة و يبغض و يغضب من غير مشقة و ذلك لأن محبته للعبد إرادته أن يثيبه و رضاه عنه أن يحمد فعله و هذا يصح و يطلق على الباري لا كإطلاقه علينا لأن هذه الأوصاف يقتضي إطلاقها علينا رقة القلب و الباري ليس بجسم و أما بغضه للعبد فإرادة عقابه و غضبه كراهية فعله و وعيده بإنزال العقاب به و في الأغلب إنما يطلق ذلك علينا و يصح منا مع مشقة تنالنا من إزعاج القلب و غليان دمه و الباري ليس بجسم. و سادس عشرها أنه يقول لما أراد كونه كن فيكون من غير صوت يقرع و نداء يسمع هذا مذهب شيخنا أبي الهذيل و إليه يذهب الكرامية و أتباعها من الحنابلة و غيرهم و الظاهر أن أمير المؤمنين ع أطلقه حملا على ظاهر لفظ القرآن في مخاطبة الناس بما قد سمعوه و أنسوا به و تكرر على أسماعهم و أذهانهم فأما باطن الآية و تأويلها الحقيقي فغير ما يسبق إلى أذهان العوام فليطلب من موضعه. و سابع عشرها أن كلامه سبحانه فعل منه أنشأه و مثله لم يكن من قبل ذلك كائنا و لو كان قديما لكان إلها ثانيا هذا هو دليل المعتزلة على نفي المعاني القديمة التي منها القرآن و ذلك لأن القدم عندهم أخص صفات الباري تعالى أو موجب عن الأخص فلو أن في الوجود معنى قديما قائما بذات الباري لكان ذلك المعنى مشاركا للباري في أخص صفاته و كان يجب لذلك المعنى جميع ما وجب للباري من الصفات نحو العالمية و القادرية و غيرهما فكان إلها ثانيا. فإن قلت ما معنى قوله ع و مثله قلت يقال مثلت له كذا تمثيلا إذا صورت له مثاله بالكتابة أو بغيرها فالباري مثل القرآن لجبريل ع بالكتابة في اللوح المحفوظ فأنزله على محمد ص. شرح نهج البلاغة ج : 13 ص : 87و أيضا يقال مثل زيد بحضرتي إذا حضر قائما و مثلته بين يدي زيد أي أحضرته منتصبا فلما كان الله تعالى فعل القرآن واضحا بينا كان قد مثله للمكلفين (14/122)
لَا يُقَالُ كَانَ بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ فَتَجْرِيَ عَلَيْهِ الصِّفَاتُ الْمُحْدَثَاتُ وَ لَا يَكُونُ بَيْنَهَا وَ بَيْنَهُ فَصْلٌ وَ لَا لَهُ عَلَيْهَا فَضْلٌ فَيَسْتَوِيَ الصَّانِعُ وَ الْمَصْنُوعُ وَ يَتَكَافَأَ الْمُبْتَدَعُ وَ الْبَدِيعُ خَلَقَ الْخَلَائِقَ عَلَى غَيْرِ مِثَالٍ خَلَا مِنْ غَيْرِهِ وَ لَمْ يَسْتَعِنْ عَلَى خَلْقِهَا بِأَحَدٍ مِنْ خَلْقِهِ وَ أَنْشَأَ الْأَرْضَ فَأَمْسَكَهَا مِنْ غَيْرِ اشْتِغَالٍ وَ أَرْسَاهَا عَلَى غَيْرِ قَرَارٍ وَ أَقَامَهَا بِغَيْرِ قَوَائِمَ وَ رَفَعَهَا بِغَيْرِ دَعَائِمَ وَ حَصَّنَهَا مِنَ الْأَوَدِ وَ الِاعْوِجَاجِ وَ مَنَعَهَا مِنَ التَّهَافُتِ وَ الِانْفِرَاجِ أَرْسَى أَوْتَادَهَا وَ ضَرَبَ أَسْدَادَهَا وَ اسْتَفَاضَ عُيُونَهَا وَ خَدَّ أَوْدِيَتَهَا فَلَمْ يَهِنْ مَا بَنَاهُ وَ لَا ضَعُفَ مَا قَوَّاهُ (14/123)
عاد ع إلى تنزيه الباري تعالى عن الحدوث فقال لا يجوز أن يوصف به فتجري عليه الصفات المحدثات كما تجري على كل محدث و روي فتجري عليه صفات المحدثات و هو أليق ليعود إلى المحدثات ذوات الصفات ما بعده و هو قوله ع و لا يكون بينه و بينها فصل لأنه لا يحسن أن يعود الضمير في قوله و بينها إلى الصفات بل إلى ذوات الصفات. شرح نهج البلاغة ج : 13 ص : 88قال لو كان محدثا لجرت عليه صفات الأجسام المحدثة فلم يكن بينه و بين الأجسام المحدثة فرق فكان يستوي الصانع و المصنوع و هذا محال. ثم ذكر أنه خلق الخلق غير محتذ لمثال و لا مستفيد من غيره كيفية الصنعة بخلاف الواحد منا فإن الواحد منا لا بد أن يحتذي في الصنعة كالبناء و النجار و الصانع و غيرها. قال ع و لم يستعن على خلقها بأحد من خلقه لأنه تعالى قادر لذاته لا يعجزه شي ء. ثم ذكر إنشاءه تعالى الأرض و أنه أمسكها من غير اشتغال منه بإمساكها و غير ذلك من أفعاله و مخلوقاته ليس كالواحد منا يمسك الثقيل فيشتغل بإمساكه عن كثير من أموره. قال و أرساها جعلها راسية على غير قرار تتمكن عليه بل واقفة بإرادته التي اقتضت وقوفها و لأن الفلك يجذبها من جميع جهاتها كما قيل أو لأنه يدفعها من جميع جهاتها أو لأن أحد نصفيها صاعد بالطبع و الآخر هابط بالطبع فاقتضى التعادل وقوفها أو لأنها طالبة للمركز فوقفت. و الأود الاعوجاج و كرر لاختلاف اللفظ. و التهافت التساقط و الأسداد جمع سد و هو الجبل و يجوز ضم السين. و استفاض عيونها بمعنى أفاض أي جعلها فائضة. و خد أوديتها أي شقها فلم يهن ما بناه أي لم يضعف شرح نهج البلاغة ج : 13 ص : 89 (14/124)
هُوَ الظَّاهِرُ عَلَيْهَا بِسُلْطَانِهِ وَ عَظَمَتِهِ وَ هُوَ الْبَاطِنُ لَهَا بِعِلْمِهِ وَ مَعْرِفَتِهِ وَ الْعَالِي عَلَى كُلِّ شَيْ ءٍ مِنْهَا بِجَلَالِهِ وَ عِزَّتِهِ لَا يُعْجِزُهُ شَيْ ءٌ مِنْهَا طَلَبَهُ وَ لَا يَمْتَنِعُ عَلَيْهِ فَيَغْلِبَهُ وَ لَا يَفُوتُهُ السَّرِيعُ مِنْهَا فَيَسْبِقَهُ وَ لَا يَحْتَاجُ إِلَى ذِي مَالٍ فَيَرْزُقَهُ خَضَعَتِ الْأَشْيَاءُ لَهُ وَ ذَلَّتْ مُسْتَكِينَةً لِعَظَمَتِهِ لَا تَسْتَطِيعُ الْهَرَبَ مِنْ سُلْطَانِهِ إِلَى غَيْرِهِ فَتَمْتَنِعَ مِنْ نَفْعِهِ وَ ضَرِّهِ وَ لَا كُفْ ءَ لَهُ فَيُكَافِئَهُ وَ لَا نَظِيرَ لَهُ فَيُسَاوِيَهُ هُوَ الْمُفْنِي لَهَا بَعْدَ وُجُودِهَا حَتَّى يَصِيرَ مَوْجُودُهَا كَمَفْقُودِهَا وَ لَيْسَ فَنَاءُ الدُّنْيَا بَعْدَ ابْتِدَاعِهَا بِأَعْجَبَ مِنْ إِنْشَائِهَا وَ اخْتِرَاعِهَا وَ كَيْفَ وَ لَوِ اجْتَمَعَ جَمِيعُ حَيَوَانِهَا مِنْ طَيْرِهَا وَ بَهَائِمِهَا وَ مَا كَانَ مِنْ مُرَاحِهَا وَ سَائِمِهَا وَ أَصْنَافِ أَسْنَاخِهَا وَ أَجْنَاسِهَا وَ مُتَبَلِّدَةِ أُمَمِهَا وَ أَكْيَاسِهَا عَلَى إِحْدَاثِ بَعُوضَةٍ مَا قَدَرَتْ عَلَى إِحْدَاثِهَا وَ لَا عَرَفَتْ كَيْفَ السَّبِيلُ إِلَى إِيجَادِهَا وَ لَتَحَيَّرَتْ عُقُولُهَا فِي عِلْمِ ذَلِكَ وَ تَاهَتْ وَ عَجَزَتْ قُوَاهَا وَ تَنَاهَتْ وَ رَجَعَتْ خَاسِئَةً حَسِيرَةً عَارِفَةً بِأَنَّهَا مَقْهُورَةٌ مُقِرَّةً بِالْعَجْزِ عَنْ إِنْشَائِهَا مُذْعِنَةً بِالضَّعْفِ عَنْ إِفْنَائِهَا (14/125)
الظاهر الغالب القاهر و الباطن العالم الخبير. و المراح بضم الميم النعم ترد إلى المراح بالضم أيضا و هو الموضع الذي تأوي إليه النعم و ليس المراح ضد السائم على ما يظنه بعضهم و يقول إن عطف أحدهما على الآخر عطف شرح نهج البلاغة ج : 13 ص : 90على المختلف و المتضاد بل أحدهما هو الآخر و ضدهما المعلوفة و إنما عطف أحدهما على الآخر على طريقة العرب في الخطابة و مثله في القرآن كثير نحو قوله سبحانه لا يَمَسُّنا فِيها نَصَبٌ وَ لا يَمَسُّنا فِيها لُغُوبٌ. و أسناخها جمع سنخ بالكسر و هو الأصل و قوله لو اجتمع جميع الحيوان على إحداث بعوضة هو معنى قوله سبحانه إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُباباً وَ لَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ. فإن قلت ما معنى قوله لا تستطيع الهرب من سلطانه إلى غيره فتمتنع من نفعه و ضره و هلا قال من ضره و لم يذكر النفع فإنه لا معنى لذكره هاهنا قلت هذا كما يقول المعتصم بمعقل حصين عن غيره ما يقدر اليوم فلان لي على نفع و لا ضر و ليس غرضه إلا ذكر الضرر و إنما يأتي بذكر النفع على سبيل سلب القدرة عن فلان على كل ما يتعلق بذلك المعتصم و أيضا فإن العفو عن المجرم نفع له فهو ع يقول إنه ليس شي ء من الأشياء يستطيع أن يخرج إذا أجرم من سلطان الله تعالى إلى غيره فيمتنع من بأس الله تعالى و يستغني عن أن يعفو عنه لعدم اقتداره عليه (14/126)
وَ إِنَّهُ سُبْحَانَهُ يَعُودُ بَعْدَ فَنَاءِ الدُّنْيَا وَحْدَهُ لَا شَيْ ءَ مَعَهُ كَمَا كَانَ قَبْلَ ابْتِدَائِهَا كَذَلِكَ يَكُونُ بَعْدَ فَنَائِهَا بِلَا وَقْتٍ وَ لَا مَكَانٍ وَ لَا حِينٍ وَ لَا زَمَانٍ عُدِمَتْ عِنْدَ ذَلِكَ الآْجَالُ وَ الْأَوْقَاتُ وَ زَالَتِ السِّنُونَ وَ السَّاعَاتُ فَلَا شَيْ ءَ شرح نهج البلاغة ج : 13 ص : 91إِلَّا اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ الَّذِي إِلَيْهِ مَصِيرُ جَمِيعِ الْأُمُورِ بِلَا قُدْرَةٍ مِنْهَا كَانَ ابْتِدَاءُ خَلْقِهَا وَ بِغَيْرِ امْتِنَاعٍ مِنْهَا كَانَ فَنَاؤُهَا وَ لَوْ قَدَرَتْ عَلَى الِامْتِنَاعِ لَدَامَ بَقَاؤُهَا لَمْ يَتَكَاءَدْهُ صُنْعُ شَيْ ءٍ مِنْهَا إِذْ صَنَعَهُ وَ لَمْ يَؤُدْهُ مِنْهَا خَلْقُ مَا بَرَأَهُ وَ خَلَقَهُ وَ لَمْ يُكَوِّنْهَا لِتَشْدِيدِ سُلْطَانٍ وَ لَا لِخَوْفٍ مِنْ زَوَالٍ وَ نُقْصَانٍ وَ لَا لِلِاسْتِعَانَةِ بِهَا عَلَى نِدٍّ مُكَاثِرٍ وَ لَا لِلِاحْتِرَازِ بِهَا مِنْ ضِدٍّ مُثَاوِرٍ وَ لَا لِلِازْدِيَادِ بِهَا فِي مُلْكِهِ وَ لَا لِمُكَاثَرَةِ شَرِيكٍ فِي شِرْكِهِ وَ لَا لِوَحْشَةٍ كَانَتْ مِنْهُ فَأَرَادَ أَنْ يَسْتَأْنِسَ إِلَيْهَا ثُمَّ هُوَ يُفْنِيهَا بَعْدَ تَكْوِينِهَا لَا لِسَأَمٍ دَخَلَ عَلَيْهِ فِي تَصْرِيفِهَا وَ تَدْبِيرِهَا وَ لَا لِرَاحَةٍ وَاصِلَةٍ إِلَيْهِ وَ لَا لِثِقَلِ شَيْ ءٍ مِنْهَا عَلَيْهِ لَا يُمِلُّهُ طُولُ بَقَائِهَا فَيَدْعُوَهُ إِلَى سُرْعَةِ إِفْنَائِهَا وَ لَكِنَّهُ سُبْحَانَهُ دَبَّرَهَا بِلُطْفِهِ وَ أَمْسَكَهَا بِأَمْرِهِ وَ أَتْقَنَهَا بِقُدْرَتِهِ ثُمَّ يُعِيدُهَا بَعْدَ الْفَنَاءِ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ مِنْهُ إِلَيْهَا وَ لَا اسْتِعَانَةٍ بِشَيْ ءٍ مِنْهَا عَلَيْهَا وَ لَا لِانْصِرَافٍ مِنْ حَالِ وَحْشَةٍ إِلَى حَالِ اسْتِئْنَاسٍ وَ لَا مِنْ حَالِ جَهْلٍ وَ عَمًى (14/127)
إِلَى عِلْمٍ وَ الْتِمَاسٍ وَ لَا مِنْ فَقْرٍ وَ حَاجَةٍ إِلَى غِنًى وَ كَثْرَةٍ وَ لَا مِنْ ذُلٍّ وَ ضَعَةٍ إِلَى عِزٍّ وَ قُدْرَةٍ (14/128)
شرع أولا في ذكر إعدام الله سبحانه الجواهر و ما يتبعها و يقوم بها من الأعراض قبل القيامة و ذلك لأن الكتاب العزيز قد ورد به نحو قوله تعالى كَما بَدَأْنا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ و معلوم أنه بدأه عن عدم فوجب أن تكون الإعادة عن عدم أيضا و قال تعالى هُوَ الْأَوَّلُ وَ الْآخِرُ و إنما كان أولا لأنه كان موجودا و لا شي ء من شرح نهج البلاغة ج : 13 ص : 92الأشياء بموجود فوجب أن يكون آخرا كذلك هذا هو مذهب جمهور أصحابنا و جمهور المسلمين. ثم ذكر أنه يكون وحده سبحانه بلا وقت و لا مكان و لا حين و لا زمان و ذلك لأن المكان أما الجسم الذي يتمكن عليه جسم آخر أو الجهة و كلاهما لا وجود له بتقدير عدم الأفلاك و ما في حشوها من الأجسام أما الأول فظاهر و أما الثاني فلأن الجهة لا تتحقق إلا بتقدير وجود الفلك لأنها أمر إضافي بالنسبة إليه فبتقدير عدمه لا يبقى للجهة تحقق أصلا و هذا هو القول في عدم المكان حينئذ و أما الزمان و الوقت و الحين فكل هذه الألفاظ تعطي معنى واحدا و لا وجود لذلك المعنى بتقدير عدم الفلك لأن الزمان هو مقدار حركة الفلك فإذا قدرنا عدم الفلك فلا حركة و لا زمان. ثم أوضح ع ذلك و أكده فقال عدمت عند ذلك الآجال و الأوقات و زالت السنون و الساعات لأن الأجل هو الوقت الذي يحل فيه الدين أو تبطل فيه الحياة و إذا ثبت أنه لا وقت ثبت أنه لا أجل و كذلك لا سنة و لا ساعة لأنها أوقات مخصوصة. ثم عاد ع إلى ذكر الدنيا فقال بلا قدرة منها كان ابتداء خلقها و بغير امتناع منها كان فناؤها يعني أنها مسخرة تحت الأمر الإلهي. قال و لو قدرت على الامتناع لدام بقاؤها لأنها كانت تكون ممانعة للقديم سبحانه في مراده و إنما تمانعه في مراده لو كانت قادرة لذاتها و لو كانت قادرة لذاتها و أرادت
البقاء لبقيت. قوله ع لم يتكاءده بالمد أي لم يشق عليه و يجوز لم يتكأده بالتشديد و الهمزة و أصله من العقبة الكئود و هي الشاقة. شرح نهج البلاغة ج : 13 ص : 93قال و لم يؤده أي لم يثقله. ثم ذكر أنه تعالى لم يخلق الدنيا ليشد بها سلطانه و لا لخوفه من زوال أو نقص يلحقه و لا ليستعين بها على ند مماثل له أو يحترز بها عن ضد محارب له أو ليزداد بها ملكه ملكا أو ليكاثر بها شريكا في شركته له أو لأنه كان قبل خلقها مستوحشا فأراد أن يستأنس بمن خلق. ثم ذكر أنه تعالى سيفنيها بعد إيجادها لا لضجر لحقه في تدبيرها و لا لراحة تصله في إعدامها و لا لثقل شي ء منها عليه حال وجودها و لا لملل أصابه فبعثه على إعدامها. ثم عاد ع فقال إنه سبحانه سيعيدها إلى الوجود بعد الفناء لا لحاجة إليها و لا ليستعين ببعضها على بعض و لا لأنه استوحش حال عدمها فأحب أن يستأنس بإعادتها و لا لأنه فقد علما عند إعدامها فأراد بإعادتها استجداد ذلك العلم و لا لأنه صار فقيرا عند إعدامها فأحب أن يتكثر و يثري بإعادتها و لا لذل أصابه بإفنائها فأراد العز بإعادتها. فإن قلت إذا كان يفنيها لا لكذا و لا لكذا و كان من قبل أوجدها لا لكذا و لا لكذا ثم قلتم إنه يعيدها لا لكذا و لا لكذا فلأي حال أوجدها أولا و لأي حال أفناها ثانيا و لأي حال أعادها ثالثا خبرونا عن ذلك فإنكم قد حكيتم عنه عليه السلام الحكم و لم تحكوا عنه العلة قلت إنما أوجدها أولا للإحسان إلى البشر ليعرفوه فإنه لو لم يوجدهم لبقي مجهولا لا يعرف ثم كلف البشر ليعرضهم للمنزلة الجليلة التي لا يمكن وصولهم إليها إلا بالتكليف و هي الثواب ثم يفنيهم لأنه لا بد من انقطاع التكليف ليخلص الثواب من مشاق التكاليف و إذا كان لا بد من انقطاعه فلا فرق بين انقطاعه بالعدم المطلق (14/129)
شرح نهج البلاغة ج : 13 ص : 94أو بتفريق الأجزاء و انقطاعه بالعدم المطلق قد ورد به الشرع و فيه لطف زائد للمكلفين لأنه أردع و أهيب في صدورهم من بقاء أجزائهم و استمرار وجودها غير معدومة. ثم إنه سبحانه يبعثهم و يعيدهم ليوصل إلى كل إنسان ما يستحقه من ثواب أو عقاب و لا يمكن إيصال هذا المستحق إلا بالإعادة و إنما لم يذكر أمير المؤمنين ع هذه التعليلات لأنه قد أشار إليها فيما تقدم من كلامه و هي موجودة في فرش خطبه و لأن مقام الموعظة غير مقام التعليل و أمير المؤمنين ع في هذه الخطبة يسلك مسلك الموعظة في ضمن تمجيد الباري سبحانه و تعظيمه و ليس ذلك بمظنة التعليل و الحجاج (14/130)
شرح نهج البلاغة ج : 13 ص : 23395- و من خطبة له ع تختص بذكر الملاحم
أَلَا بِأَبِي وَ أُمِّي هُمْ مِنْ عِدَّةٍ أَسْمَاؤُهُمْ فِي السَّمَاءِ مَعْرُوفَةٌ وَ فِي الْأَرْضِ مَجْهُولَةٌ أَلَا فَتَوَقَّعُوا مَا يَكُونُ مِنْ إِدْبَارِ أُمُورِكُمْ وَ انْقِطَاعِ وُصَلِكُمْ وَ اسْتِعْمَالِ صِغَارِكُمْ ذَاكَ حَيْثُ تَكُونُ ضَرْبَةُ السَّيْفِ عَلَى الْمُؤْمِنِ أَهْوَنَ مِنَ الدِّرْهَمِ مِنْ حِلَّهِ ذَاكَ حَيْثُ يَكُونُ الْمُعْطَى أَعْظَمَ أَجْراً مِنَ الْمُعْطِي ذَاكَ حَيْثُ تَسْكَرُونَ مِنْ غَيْرِ شَرَابٍ بَلْ مِنَ النِّعْمَةِ وَ النَّعِيمِ وَ تَحْلِفُونَ مِنْ غَيْرِ اضْطِرَارٍ وَ تَكْذِبُونَ مِنْ غَيْرِ إِحْرَاجٍ ذَاكَ إِذَا عَضَّكُمُ الْبَلَاءُ كَمَا يَعَضُّ الْقَتَبُ غَارِبَ الْبَعِيرِ مَا أَطْوَلَ هَذَا الْعَنَاءَ وَ أَبْعَدَ هَذَا الرَّجَاءَ أَيُّهَا النَّاسُ أَلْقُوا هَذِهِ الْأَزِمَّةَ الَّتِي تَحْمِلُ ظُهُورُهَا الْأَثْقَالَ مِنْ أَيْدِيكُمْ وَ لَا تَصَدَّعُوا عَلَى سُلْطَانِكُمْ فَتَذُمُّوا غِبَّ فِعَالِكُمْ وَ لَا تَقْتَحِمُوا مَا اسْتَقْبَلْتُمْ مِنْ فَوْرِ نَارِ الْفِتْنَةِ وَ أَمِيطُوا عَنْ سَنَنِهَا وَ خَلُّوا قَصْدَ السَّبِيلِ لَهَا فَقَدْ لَعَمْرِي يَهْلِكُ فِي لَهَبِهَا الْمُؤْمِنُ وَ يَسْلَمُ فِيهَا غَيْرُ الْمُسْلِمِ إِنَّمَا مَثَلِي بَيْنَكُمْ كَمَثَلِ السِّرَاجِ فِي الظُّلْمَةِ يَسْتَضِي ءُ بِهِ مَنْ وَلَجَهَا فَاسْمَعُوا أَيُّهَا النَّاسُ وَ عُوا وَ أَحْضِرُوا آذَانَ قُلُوبِكُمْ تَفْهَمُوا (14/131)
شرح نهج البلاغة ج : 13 ص : 96الإمامية تقول هذه العدة هم الأئمة الأحد عشر من ولده ع و غيرهم يقول إنه عنى الأبدال الذين هم أولياء الله في الأرض و قد تقدم منا ذكر القطب و الأبدال و أوضحنا ذلك إيضاحا جليا. قوله ع أسماؤهم في السماء معروفة أي تعرفها الملائكة المعصومون أعلمهم الله تعالى بأسمائهم. و في الأرض مجهولة أي عند الأكثرين لاستيلاء الضلال على أكثر البشر. ثم خرج إلى مخاطبة أصحابه على عادته في ذكر الملاحم و الفتن الكائنة في آخر زمان الدنيا فقال لهم توقعوا ما يكون من إدبار أموركم و انقطاع وصلكم جمع وصلة. و استعمال صغاركم أي يتقدم الصغار على الكبار و هو من علامات الساعة. قال ذاك حيث يكون احتمال ضربة السيف على المؤمن أقل مشقة من احتمال المشقة في اكتساب درهم حلال و ذلك لأن المكاسب تكون قد فسدت و اختلطت و غلب الحرام الحلال فيها. قوله ذاك حيث يكون المعطى أعظم أجرا من المعطي معناه أن أكثر من يعطي و يتصدق في ذلك الزمان يكون ماله حراما فلا أجر له في التصدق به ثم أكثرهم يقصد الرياء و السمعة بالصدقة أو لهوى نفسه أو لخطرة من خطراته و لا يفعل الحسن لأنه حسن و لا الواجب لوجوبه فتكون اليد السفلى خيرا من اليد العليا عكس ما ورد في الأثر و أما المعطى فإنه يكون فقيرا ذا عيال لا يلزمه أن يبحث عن المال أ حرام هو أم حلال فإذا أخذه ليسد به خلته و يصرفه في قوت عياله كان أعظم أجرا ممن أعطاه. شرح نهج البلاغة ج : 13 ص : 97و قد خطر لي فيه معنى آخر و هو أن صاحب المال الحرام إنما يصرفه في أكثر الأحوال و أغلبها في الفساد و ارتكاب المحظور كما (14/132)
قال من اكتسب مالا من نهاوش أذهبه الله في نهابر
فإذا أخذه الفقير منه على وجه الصدقة فقد فوت عليه صرفه في تلك القبائح و المحضورات التي كان بعرضته صرف ذلك القدر فيها لو لم يأخذه الفقير فإذا قد أحسن الفقير إليه بكفه عن ارتكاب القبيح و من العصمة ألا يقدر فكان المعطى أعظم أجرا من المعطي. قوله ع ذاك حيث تسكرون من غير شراب بل من النعمة بفتح النون و هي غضارة العيش و قد قيل في المثل سكر الهوى أشد من سكر الخمر. قال تحلفون من غير اضطرار أي تتهاونون باليمين و بذكر الله عز و جل. قال و تكذبون من غير إحراج أي يصير الكذب لكم عادة و دربة لا تفعلونه لأن آخر منكم قد أحرجكم و اضطركم بالغيظ إلى الحلف و روي من غير إحواج بالواو أي من غير أن يحوجكم إليه أحد قال ذلك إذا عضكم البلاء كما يعض القتب غارب البعير هذا الكلام غير متصل بما قبله و هذه عادة الرضي رحمه الله يلتقط الكلام التقاطا و لا يتلو بعضه بعضا و قد ذكرنا هذه الخطبة أو أكثرها فيما تقدم من الأجزاء الأول و قبل هذا الكلام ذكر ما يناله شيعته من البؤس و القنوط و مشقة انتظار الفرج. قوله ع ما أطول هذا العناء و أبعد هذا الرجاء هذا حكاية كلام شيعته و أصحابه. شرح نهج البلاغة ج : 13 ص : 98ثم قال مخاطبا أصحابه الموجودين حوله أيها الناس ألقوا هذه الأزمة التي تحمل ظهورها الأثقال عن أيديكم هذه كناية عن النهي عن ارتكاب القبيح و ما يوجب الإثم و العقاب و الظهور هاهنا هي الإبل أنفسها و الأثقال المآثم و إلقاء الأزمة ترك اعتماد القبيح فهذا عمومه و أما خصوصه فتعريض بما كان عليه أصحابه من الغدر و مخامرة العدو عليه و إضمار الغل و الغش له و عصيانه و التلوي عليه و قد فسره بما بعده فقال و لا تصدعوا عن سلطانكم أي لا تفرقوا فتذموا غب فعالكم أي عاقبته. ثم نهاهم عن اقتحام ما استقبلوه من فور نار الفتنة و فور النار غليانها و احتدامها و يروى ما استقبلكم. ثم قال و أميطوا عن سننها أي تنحوا عن طريقها و خلوا قصد السبيل لها (14/133)
أي دعوها تسلك طريقها و لا تقفوا لها فيه فتكونوا حطبا لنارها. ثم ذكر أنه قد يهلك المؤمن في لهبها و يسلم فيه الكافر كما قيل المؤمن ملقى و الكافر موقى. ثم ذكر أن مثله فيهم كالسرج يستضي ء بها من ولجها أي دخل في ضوئها. و آذان قلوبكم كلمة مستعارة جعل للقلب آذانا كما جعل الشاعر للقلوب أبصارا فقال (14/134)
يدق على النواظر ما أتاه فتبصره بأبصار القلوب
شرح نهج البلاغة ج : 13 ص : 23499- و من خطبة له ع
أُوصِيكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ بِتَقْوَى اللَّهِ وَ كَثْرَةِ حَمْدِهِ عَلَى آلَائِهِ إِلَيْكُمْ وَ نَعْمَائِهِ عَلَيْكُمْ وَ بَلَائِهِ لَدَيْكُمْ فَكَمْ خَصَّكُمْ بِنِعْمَةٍ وَ تَدَارَكَكُمْ بِرَحْمَةٍ أَعْوَرْتُمْ لَهُ فَسَتَرَكُمْ وَ تَعَرَّضْتُمْ لِأَخْذِهِ فَأَمْهَلَكُمْ وَ أُوصِيكُمْ بِذِكْرِ الْمَوْتِ وَ إِقْلَالِ الْغَفْلَةِ عَنْهُ وَ كَيْفَ غَفْلَتُكُمْ عَمَّا لَيْسَ يُغْفِلُكُمْ وَ طَمَعُكُمْ فِيمَنْ لَيْسَ يُمْهِلُكُمْ فَكَفَى وَاعِظاً بِمَوْتَى عَايَنْتُمُوهُمْ حُمِلُوا إِلَى قُبُورِهِمْ غَيْرَ رَاكِبينَ وَ أُنْزِلُوا فِيهَا غَيْرَ نَازِلِينَ كَأَنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا لِلدُّنْيَا عُمَّاراً وَ كَأَنَّ الآْخِرَةَ لَمْ تَزَلْ لَهُمْ دَاراً أَوْحَشُوا مَا كَانُوا يُوطِنُونَ وَ أَوْطَنُوا مَا كَانُوا يُوحِشُونَ وَ اشْتَغَلُوا بِمَا فَارَقُوا وَ أَضَاعُوا مَا إِلَيْهِ انْتَقَلُوا لَا عَنْ قَبِيحٍ يَسْتَطِيعُونَ انْتِقَالًا وَ لَا فِي حَسَنٍ يَسْتَطِيعُونَ ازْدِيَاداً أَنِسُوا بِالدُّنْيَا فَغَرَّتْهُمْ وَ وَثِقُوا بِهَا فَصَرَعَتْهُمْ فَسَابِقُوا رَحِمَكُمُ اللَّهُ إِلَى مَنَازِلِكُمُ الَّتِي أُمِرْتُمْ أَنْ تَعْمُرُوهَا وَ الَّتِي رَغِبْتُمْ فِيهَا وَ دُعِيتُمْ إِلَيْهَا وَ اسْتَتِمُّوا نِعَمَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ بِالصَّبْرِ عَلَى طَاعَتِهِ وَ الْمُجَانَبَةِ لِمَعْصِيَتِهِ فَإِنَّ غَداً
مِنَ الْيَوْمِ قَرِيبٌ مَا أَسْرَعَ السَّاعَاتِ فِي الْيَوْمِ وَ أَسْرَعَ الْأَيَّامَ فِي الشَّهْرِ وَ أَسْرَعَ الشُّهُورَ فِي السَّنَةِ وَ أَسْرَعَ السِّنِينَ فِي الْعُمُرِ (14/135)
شرح نهج البلاغة ج : 13 ص : 100أعورتم أي انكشفتم و بدت عوراتكم و هي المقاتل تقول أعور الفارس إذا بدت مقاتله و أعورك الصيد إذا أمكنك منه. قوله ع أوحشوا ما كانوا يوطنون أي أوطنوا قبورهم التي كانوا يوحشونها. قوله ع و اشتغلوا بما فارقوا أي اشتغلوا و هم في القبور بما فارقوه من الأموال و القينات لأنها أذى و عقاب عليهم في قبورهم و لولاها لكانوا في راحة و يجوز أن يكون حكاية حالهم و هم بعد في الدنيا أي اشتغلوا أيام حياتهم من الأموال و المنازل بما فارقوه و أضاعوا من أمر آخرتهم ما انتقلوا إليه. ثم ذكر أنهم لا يستطيعون فعل حسنة و لا توبة من قبيح لأن التكليف سقط و المنازل التي أمروا بعمارتها و المقابر و عمارتها الأعمال الصالحة و قوله ع إن غدا من اليوم قريب كلام يجري مجرى المثل قال غد ما غد ما أقرب اليوم من غد و الأصل فيه قول الله تعالى إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ أَ لَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ. و قوله ع ما أسرع الساعات في اليوم إلى آخر الفصل كلام شريف وجيز بالغ في معناه و الفصل كله نادر لا نظير له
شرح نهج البلاغة ج : 13 ص : 235101- و من خطبة له ع
فَمِنَ الْإِيمَانِ مَا يَكُونُ ثَابِتاً مُسْتَقِرّاً فِي الْقُلُوبِ وَ مِنْهُ مَا يَكُونُ عَوَارِيَّ بَيْنَ الْقُلُوبِ وَ الصُّدُورِ إِلَى أَجَلٍ مَعْلُومٍ فَإِذَا كَانَتْ لَكُمْ بَرَاءَةٌ مِنْ أَحَدٍ فَقِفُوهُ حَتَّى يَحْضُرَهُ الْمَوْتُ فَعِنْدَ ذَلِكَ يَقَعُ حَدُّ الْبَرَاءَةِ وَ الْهِجْرَةُ قَائِمَةٌ عَلَى حَدِّهَا الْأَوَّلِ مَا كَانَ لِلَّهِ فِي أَهْلِ الْأَرْضِ حَاجَةٌ مِنْ مُسْتَسِرِّ الْأُمَّةِ وَ مُعْلِنِهَا لَا يَقَعُ اسْمُ الْهِجْرَةِ عَلَى أَحَدٍ إِلَّا بِمَعْرِفَةِ الْحُجَّةِ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ عَرَفَهَا وَ أَقَرَّ بِهَا فَهُوَ مُهَاجِرٌ وَ لَا يَقَعُ اسْمُ الِاسْتِضْعَافِ عَلَى مَنْ بَلَغَتْهُ الْحُجَّةُ فَسَمِعَتْهَا أُذُنُهُ وَ وَعَاهَا قَلْبُهُ إِنَّ أَمْرَنَا صَعْبٌ مُسْتَصْعَبٌ لَا يَحْمِلُهُ إِلَّا عَبْدٌ مُؤْمِنٌ امْتَحَنَ اللَّهُ قَلْبَهُ لِلْإِيمَانِ وَ لَا يَعِي حَدِيثَنَا إِلَّا صُدُورٌ أَمِينَةٌ وَ أَحْلَامٌ رَزِينَةٌ أَيُّهَا النَّاسُ سَلُونِي قَبْلَ أَنْ تَفْقِدُونِي فَلَأَنَا بِطُرُقِ السَّمَاءِ أَعْلَمُ مِنِّي بِطُرُقِ الْأَرْضِ قَبْلَ أَنْ تَشْغَرَ بِرِجْلِهَا فِتْنَةٌ تَطَأُ فِي خِطَامِهَا وَ تَذْهَبُ بِأَحْلَامِ قَوْمِهَا (14/136)
هذا الفصل يحمل على عدة مباحث أولها قولها ع فمن الإيمان ما يكون كذا فنقول إنه قسم الإيمان إلى ثلاثة أقسام شرح نهج البلاغة ج : 13 ص : 102أحدها الإيمان الحقيقي و هو الثابت المستقر في القلوب بالبرهان اليقيني. الثاني ما ليس ثابتا بالبرهان اليقيني بل بالدليل الجدلي كإيمان كثير ممن لم يحقق العلوم العقلية و يعتقد ما يعتقده عن أقيسة جدلية لا تبلغ إلى درجة البرهان و قد سمى ع هذا القسم باسم مفرد فقال إنه عواري في القلوب و العواري جمع عارية أي هو و إن كان في القلب و في محل الإيمان الحقيقي إلا أن حكمه حكم العارية في البيت فإنها بعرضة الخروج منه لأنها ليست أصلية كائنة في بيت صاحبها. و الثالث ما ليس مستندا إلى برهان و لا إلى قياس جدلي بل على سبيل التقليد و حسن الظن بالأسلاف و بمن يحسن ظن الإنسان فيه من عابد أو زاهد أو ذي ورع و قد جعله ع عواري بين القلوب و الصدور لأنه دون الثاني فلم يجعله حالا في القلب و جعله مع كونه عارية حالا بين القلب و الصدر فيكون أضعف مما قبله. فإن قلت فما معنى قوله إلى أجل معلوم قلت إنه يرجع إلى القسمين الأخيرين لأن من لا يكون إيمانه ثابتا بالبرهان القطعي قد ينتقل إيمانه إلى أن يصير قطعيا بأن يمعن النظر و يرتب البرهان ترتيبا مخصوصا فينتج له النتيجة اليقينية و قد يصير إيمان المقلد إيمانا جدليا فيرتقي إلى ما فوقه مرتبته و قد يصير إيمان الجدلي إيمانا تقليديا بأن يضعف في نظره ذلك القياس الجدلي و لا يكون عالما بالبرهان فيئول حال إيمانه إلى أن يصير تقليديا فهذا هو فائدة قوله إلى أجل معلوم في هذين القسمين. فأما صاحب القسم الأول فلا يمكن أن يكون إيمانه إلى أجل معلوم لأن من ظفر بالبرهان استحال أن ينتقل عن اعتقاده لا صاعدا و لا هابطا أما لا صاعدا فلأنه ليس فوق البرهان مقام آخر و أما لا هابطا فلأن مادة البرهان هي المقدمات البديهية شرح نهج البلاغة ج : 13 ص : 103و المقدمات (14/137)
البديهية يستحيل أن تضعف عند الإنسان حتى يصير إيمانه جدليا أو تقليديا. و ثانيها قوله ع فإذا كانت لكم براءة فنقول إنه ع نهى عن البراءة من أحد ما دام حيا لأنه و إن كان مخطئا في اعتقاده لكن يجوز أن يعتقد الحق فيما بعد و إن كان مخطئا في أفعاله لكن يجوز أن يتوب فلا تحل البراءة من أحد حتى يموت على أمر فإذا مات على اعتقاد قبيح أو فعل قبيح جازت البراءة منه لأنه لم يبق له بعد الموت حالة تنتظر و ينبغي أن تحمل هذه البراءة التي أشار إليها ع على البراءة المطلقة لا على كل براءة لأنا يجوز لنا أن نبرأ من الفاسق و هو حي و من الكافر و هو حي لكن بشرط كونه فاسقا و بشرط كونه كافرا فأما من مات و نعلم ما مات عليه فإنا نبرأ منه براءة مطلقة غير مشروطة. و ثالثها قوله و الهجرة قائمة على حدها الأول فنقول هذا كلام يختص به أمير المؤمنين ع و هو من أسرار الوصية لأن الناس يروون عن النبي ص أنه قال لا هجرة بعد الفتح فشفع عمه العباس في نعيم بن مسعود الأشجعي أن يستثنيه فاستثناه و هذه الهجرة التي يشير إليها أمير المؤمنين ع ليست تلك الهجرة بل هي الهجرة إلى الإمام قال إنها قائمة على حدها الأول ما دام التكليف باقيا و هو معنى قوله ما كان لله تعالى في أهل الأرض حاجة. و قال الراوندي ما هاهنا نافية أي لم يكن لله في أهل الأرض من حاجة و هذا ليس بصحيح لأنه إدخال كلام منقطع بين كلامين متصل أحدهما بالآخر. ثم ذكر أنه لا يصح أن يعد الإنسان من المهاجرين إلا بمعرفة إمام زمانه و هو (14/138)
شرح نهج البلاغة ج : 13 ص : 104معنى قوله إلا بمعرفة الحجة في الأرض قال فمن عرف الإمام و أقر به فهو مهاجر. قال و لا يجوز أن يسمى من عرف الإمام مستضعفا يمكن أن يشير به إلى آيتين في القرآن أحدهما قوله تعالى إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ قالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قالُوا أَ لَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ واسِعَةً فَتُهاجِرُوا فِيها فَأُولئِكَ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ فالمراد على هذا أنه ليس من عرف الإمام و بلغه خبره بمستضعف كما كان هؤلاء مستضعفين و إن كان في بلده و أهله لم يخرج و لم يتجشم مشقة السفر. ثانيهما قوله تعالى في الآية التي تلي الآية المذكورة إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجالِ وَ النِّساءِ وَ الْوِلْدانِ لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَ لا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا فَأُولئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ فالمراد على هذا أنه ليس من عرف الإمام و بلغه خبره بمستضعف كهؤلاء الذين استثناهم الله تعالى من الظالمين لأن أولئك كانت الهجرة بالبدن مفروضة عليهم و عفي عن ذوي العجز عن الحركة منهم و شيعة الإمام ع ليست الهجرة بالبدن مفروضة عليهم بل تكفي معرفتهم به و إقرارهم بإمامته فلا يقع اسم الاستضعاف عليهم. فإن قلت فما معنى قوله من مستسر الأمة و معلنها و بما ذا يتعلق حرف الجر قلت معناه ما دام لله في أهل الأرض المستسر منهم باعتقاده و المعلن حاجة فمن على هذا زائدة فلو حذفت لجر المستسر بدلا من أهل الأرض و من إذا كانت زائدة لا تتعلق نحو قولك ما جاءني من أحد. شرح نهج البلاغة ج : 13 ص : 105و رابعها قوله ع إن أمرنا هذا صعب مستصعب و يروى مستصعب بكسر العين لا يحتمله إلا عبد امتحن الله تعالى قلبه للإيمان هذه من ألفاظ القرآن العزيز قال الله تعالى أُولئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوى و هو من قولك امتحن (14/139)
فلان لأمر كذا و جرب و درب للنهوض به فهو مضطلع به غير وان عنه و المعنى أنهم صبر على التقوى أقوياء على احتمال مشاقها و يجوز أن يكون وضع الامتحان موضع المعرفة لأن تحققك الشي ء إنما يكون باختباره كما يوضع الخبر موضع المعرفة فكأنه قيل عرف الله قلوبهم للتقوى فتتعلق اللام بمحذوف أي كائنة له و هي اللام التي في قولك أنت لهذا الأمر أي مختص به كقوله (14/140)
أعداء من لليعملات على الوجا
و تكون مع معمولها منصوبة على الحال و يجوز أن يكون المعنى ضرب الله قلوبهم بأنواع المحن و التكاليف الصعبة لأجل التقوى أي لتثبت فيظهر تقواها و يعلم أنهم متقون لأن حقيقة التقوى لا تعلم إلا عند المحن و الشدائد و الاصطبار عليها. و يجوز أن يكون المعنى أنه أخلص قلوبهم للتقوى من قولهم امتحن الذهب إذا أذابه فخلص إبريزه من خبثه و نقاه. و هذه الكلمة قد قالها ع مرارا و وقفت في بعض الكتب على خطبة من جملتها
إن قريشا طلبت السعادة فشقيت و طلبت النجاة فهلكت و طلبت الهدى فضلت أ لم يسمعوا ويحهم قوله تعالى وَ الَّذِينَ آمَنُوا وَ اتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمانٍ أَلْحَقْنا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ فأين المعدل و المنزع عن ذرية الرسول الذين شيد الله بنيانهم فوق بنيانهم و أعلى رءوسهم فوق رءوسهم و اختارهم عليهم ألا إن الذرية أفنان أنا شجرتها و دوحة أنا ساقها و إني من أحمد بمنزلة الضوء من الضوء كنا شرح نهج البلاغة ج : 13 ص : 106ظلالا تحت العرش قبل خلق البشر و قبل خلق الطينة التي كان منها البشر أشباحا عالية لا أجساما نامية إن أمرنا صعب مستصعب لا يعرف كنهه إلا ثلاثة ملك مقرب أو نبي مرسل أو عبد امتحن الله قلبه للإيمان فإذا انكشف لكم سر أو وضح لكم أمر فاقبلوه و إلا فاسكتوا تسلموا و ردوا علمنا إلى الله فإنكم في أوسع مما بين السماء و الأرض
و خامسها قوله سلوني قبل أن تفقدوني
أجمع الناس كلهم على أنه لم يقل أحد من الصحابة و لا أحد من العلماء سلوني غير علي بن أبي طالب ع ذكر ذلك ابن عبد البر المحدث في كتاب الاستيعاب. و المراد بقوله فلأنا أعلم بطرق السماء مني بطرق الأرض ما اختص به من العلم بمستقبل الأمور و لا سيما في الملاحم و الدول و قد صدق هذا القول عنه ما تواتر عنه من الأخبار بالغيوب المتكررة لا مرة و لا مائة مرة حتى زال الشك و الريب في أنه إخبار عن علم و أنه ليس على طريق الاتفاق و قد ذكرنا كثيرا من ذلك فيما تقدم من هذا الكتاب. و قد تأوله قوم على وجه آخر قالوا أراد أنا بالأحكام الشرعية و الفتاوي الفقهية أعلم مني بالأمور الدنيوية فعبر عن تلك بطرق السماء لأنها أحكام إلهية و عبر عن هذه بطرق الأرض لأنها من الأمور الأرضية و الأول أظهر لأن فحوى الكلام و أوله يدل على أنه المراد شرح نهج البلاغة ج : 13 ص : 107 (14/141)
قصة وقعت لأحد الوعاظ ببغداد
و على ذكر قوله ع سلوني حدثني من أثق به من أهل العلم حديثا و إن كان فيه بعض الكلمات العامية إلا أنه يتضمن ظرفا و لطفا و يتضمن أيضا أدبا. قال كان ببغداد في صدر أيام الناصر لدين الله أبي العباس أحمد بن المستضي ء بالله واعظ مشهور بالحذق و معرفة الحديث و الرجال و كان يجتمع إليه تحت منبره خلق عظيم من عوام بغداد و من فضلائها أيضا و كان مشتهرا بذم أهل الكلام و خصوصا المعتزلة و أهل النظر على قاعدة الحشوية و مبغضي أرباب العلوم العقلية و كان أيضا منحرفا عن الشيعة برضا العامة بالميل عليهم فاتفق قوم من رؤساء الشيعة على أن يضعوا عليه من يبكته و يسأله تحت منبره و يخجله و يفضحه بين الناس في المجلس و هذه عادة الوعاظ يقوم إليهم قوم فيسألونهم مسائل يتكلفون الجواب عنها و سألوا عمن ينتدب لهذا فأشير عليهم بشخص كان ببغداد يعرف بأحمد بن عبد العزيز الكزي كان له لسن و يشتغل بشي ء يسير من كلام المعتزلة و يتشيع و عنده قحة و قد شدا أطرافا من الأدب و قد رأيت أنا هذا الشخص في آخر عمره و هو يومئذ شيخ و الناس يختلفون إليه في تعبير الرؤيا فأحضروه و طلبوا إليه أن يعتمد ذلك فأجابهم و جلس ذلك الواعظ في يومه الذي جرت عادته بالجلوس فيه و اجتمع الناس عنده على طبقاتهم حتى امتلأت الدنيا بهم و تكلم على عادته فأطال فلما مر في ذكر صفات الباري سبحانه في أثناء الوعظ قام إليه الكزي فسأله أسئلة عقلية على منهاج كلام المتكلمين من المعتزلة فلم يكن للواعظ عنها جواب نظري و إنما دفعه بالخطابة و الجدل و سجع الألفاظ و تردد الكلام بينهما طويلا و قال الواعظ في آخر الكلام أعين المعتزلة حول و صوتي شرح نهج البلاغة ج : 13 ص : 108في مسامعهم طبول و كلامي في أفئدتهم نصول يا من بالاعتزال يصول ويحك كم تحوم و تجول حول من لا تدركه العقول كم أقول كم أقول خلوا هذا الفضول. فارتج المجلس و صرخ الناس و علت الأصوات و طاب الواعظ و طرب و خرج من هذا (14/142)
الفصل إلى غيره فشطح شطح الصوفية و قال سلوني قبل أن تفقدوني و كررها فقام إليه الكزي فقال يا سيدي ما سمعنا أنه قال هذه الكلمة إلا علي بن أبي طالب ع و تمام الخبر معلوم و أراد الكزي بتمام الخبر قوله ع لا يقولها بعدي إلا مدع. فقال الواعظ و هو في نشوة طربه و أراد إظهار فضله و معرفته برجال الحديث و الرواة من علي بن أبي طالب أ هو علي بن أبي طالب بن المبارك النيسابوري أم علي بن أبي طالب بن إسحاق المروزي أم علي بن أبي طالب بن عثمان القيرواني أم علي بن أبي طالب بن سليمان الرازي و عد سبعة أو ثمانية من أصحاب الحديث كلهم علي بن أبي طالب فقام الكزي و قام من يمين المجلس آخر و من يسار المجلس ثالث انتدبوا له و بذلوا أنفسهم للحمية و وطنوها على القتل. فقال الكزي أشا يا سيدي فلان الدين أشا صاحب هذا القول هو علي بن أبي طالب زوج فاطمة سيدة نساء العالمين ع و إن كنت ما عرفته بعد بعينه فهو الشخص الذي لما آخى رسول الله ص بين الأتباع و الأذناب آخى بينه و بين نفسه و أسجل على أنه نظيره و مماثله فهل نقل في جهازكم أنتم من هذا شي ء أو نبت تحت خبكم من هذا شي ء. فأراد الواعظ أن يكلمه فصاح عليه القائم من الجانب الأيمن و قال يا سيدي فلان الدين محمد بن عبد الله كثير في الأسماء و لكن ليس فيهم من قال له رب العزة شرح نهج البلاغة ج : 13 ص : 109 ما ضَلَّ صاحِبُكُمْ وَ ما غَوى وَ ما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى و كذلك علي بن أبي طالب كثير في الأسماء و لكن ليس فيهم من (14/143)
قال له صاحب الشريعة أنت مني بمنزلة هرون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي
و قد تلتقي الأسماء في الناس و الكنى كثيرا و لكن ميزوا في الخلائق
فالتفت إليه الواعظ ليكلمه فصاح عليه القائم من الجانب الأيسر و قال يا سيدي فلان الدين حقك تجهله أنت معذور في كونك لا تعرفه
و إذا خفيت على الغبي فعاذر ألا تراني مقلة عمياء
فاضطرب المجلس و ماج كما يموج البحر و افتتن الناس و تواثبت العامة بعضها إلى بعض و تكشفت الرءوس و مزقت الثياب و نزل الواعظ و احتمل حتى أدخل دارا أغلق عليه بابها و حضر أعوان السلطان فسكنوا الفتنة و صرفوا الناس إلى منازلهم و أشغالهم و أنفذ الناصر لدين الله في آخر نهار ذلك اليوم فأخذ أحمد بن عبد العزيز الكزي و الرجلين اللذين قاما معه فحبسهم أياما لتطفأ نائرة الفتنة ثم أطلقهم (14/144)
شرح نهج البلاغة ج : 13 ص : 236110- و من خطبة له ع
أَحْمَدُهُ شُكْراً لِإِنْعَامِهِ وَ أَسْتَعِينُهُ عَلَى وَظَائِفِ حُقُوقِهِ عَزِيزَ الْجُنْدِ عَظِيمَ الْمَجْدِ وَ أَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّداً عَبْدُهُ وَ رَسُولُهُ دَعَا إِلَى طَاعَتِهِ وَ قَاهَرَ أَعْدَاءَهُ جِهَاداً عَنْ دِينِهِ لَا يَثْنِيهِ عَنْ ذَلِكَ اجْتِمَاعٌ عَلَى تَكْذِيبِهِ وَ الْتِمَاسٌ لِإِطْفَاءِ نُورِهِ فَاعْتَصِمُوا بِتَقْوَى اللَّهِ فَإِنَّ لَهَا حَبْلًا وَثِيقاً عُرْوَتُهُ وَ مَعْقِلًا مَنِيعاً ذِرْوَتُهُ وَ بَادِرُوا الْمَوْتَ وَ غَمَرَاتِهِ وَ امْهَدُوا لَهُ قَبْلَ حُلُولِهِ وَ أَعِدُّوا لَهُ قَبْلَ نُزُولِهِ فَإِنَّ الْغَايَةَ الْقِيَامَةُ وَ كَفَى بِذَلِكَ وَاعِظاً لِمَنْ عَقَلَ وَ مُعْتَبَراً لِمَنْ جَهِلَ وَ قَبْلَ بُلُوغِ الْغَايَةِ مَا تَعْلَمُونَ مِنْ ضِيقِ الْأَرْمَاسِ وَ شِدَّةِ الْإِبْلَاسِ وَ هَوْلِ الْمُطَّلَعِ وَ رَوْعَاتِ الْفَزَعِ وَ اخْتِلَافِ الْأَضْلَاعِ وَ اسْتِكَاكِ الْأَسْمَاعِ وَ ظُلْمَةِ اللَّحْدِ وَ خِيفَةِ الْوَعْدِ وَ غَمِّ الضَّرِيحِ وَ رَدْمِ الصَّفِيحِ فَاللَّهَ اللَّهَ عِبَادَ اللَّهِ فَإِنَّ الدُّنْيَا مَاضِيَةٌ بِكُمْ عَلَى سَنَنٍ وَ أَنْتُمْ وَ السَّاعَةَ فِي قَرَنٍ وَ كَأَنَّهَا قَدْ جَاءَتْ بِأَشْرَاطِهَا وَ أَزِفَتْ بِأَفْرَاطِهَا وَ وَقَفَتْ بِكُمْ عَلَى صِرَاطِهَا وَ كَأَنَّهَا قَدْ أَشْرَفَتْ بِزَلَازِلِهَا وَ أَنَاخَتْ بِكَلَاكِلِهَا وَ انْصَرَفَتِ الدُّنْيَا بِأَهْلِهَا وَ أَخْرَجَتْهُمْ مِنْ حِضْنِهَا فَكَانَتْ كَيَوْمَ مَضَى وَ شَهْرٍ انْقَضَى وَ صَارَ جَدِيدُهَا رَثّاً وَ سَمِينُهَا غَثّاً فِي مَوْقِفٍ ضَنْكِ الْمَقَامِ وَ أُمُورٍ مُشْتَبِهَةٍ عِظَامٍ وَ نَارٍ شَدِيدٍ كَلَبُهَا عَالٍ لَجَبُهَا سَاطِعٍ لَهَبُهَا مُتَغَيِّظٍ زَفِيرُهَا مُتَأَجِّجٍ سَعِيرُهَا بَعِيدٍ خُمُودُهَا ذَاكٍ وُقُودُهَا مَخُوفٍ (14/145)
شرح نهج البلاغة ج : 13 ص : 111وَعِيدُهَا عَمٍ قَرَارُهَا مُظْلِمَةٍ أَقْطَارُهَا حَامِيَةٍ قُدُورُهَا فَظِيعَةٍ أُمُورُهَا وَ سِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَراً قَدْ أُمِنَ الْعَذَابُ وَ انْقَطَعَ الْعِتَابُ وَ زُحْزِحُوا عَنِ النَّارِ وَ اطْمَأَنَّتْ بِهِمُ الدَّارُ وَ رَضُوا الْمَثْوَى وَ الْقَرَارَ الَّذِينَ كَانَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا زَاكِيَةً وَ أَعْيُنُهُمْ بَاكِيَةً وَ كَانَ لَيْلُهُمْ فِي دُنْيَاهُمْ نَهَاراً تَخَشُّعاً وَ اسْتِغْفَارًا وَ كَانَ نَهَارُهُمْ لَيْلًا تَوَحُّشاً وَ انْقِطَاعاً فَجَعَلَ اللَّهُ لَهُمُ الْجَنَّةَ مَآباً وَ الْجَزَاءَ ثَوَاباً وَ كَانُوا أَحَقَّ بِهَا وَ أَهْلَهَا فِي مُلْكٍ دَائِمٍ وَ نَعِيمٍ قَائِمٍ فَارْعَوْا عِبَادَ اللَّهِ مَا بِرِعَايَتِهِ يَفُوزُ فَائِزُكُمْ وَ بِإِضَاعَتِهِ يَخْسَرُ مُبْطِلُكُمْ وَ بَادِرُوا آجَالَكُمْ بِأَعْمَالِكُمْ فَإِنَّكُمْ مُرْتَهَنُونَ بِمَا أَسْلَفْتُمْ وَ مَدِينُونَ بِمَا قَدَّمْتُمْ وَ كَأَنْ قَدْ نَزَلَ بِكُمُ الْمَخُوفُ فَلَا رَجْعَةً تُنَالُونَ وَ لَا عَثْرَةً تُقَالُونَ اسْتَعْمَلَنَا اللَّهُ وَ إِيَّاكُمْ بِطَاعَتِهِ وَ طَاعَةِ رَسُولِهِ وَ عَفَا عَنَّا وَ عَنْكُمْ بِفَضْلِ رَحْمَتِهِ الْزَمُوا الْأَرْضَ وَ اصْبِرُوا عَلَى الْبَلَاءِ وَ لَا تُحَرِّكُوا بِأَيْدِيكُمْ وَ سُيُوفِكُمْ فِي هَوَى أَلْسِنَتِكُمْ وَ لَا تَسْتَعْجِلُوا بِمَا لَمْ يُعَجِّلْهُ اللَّهُ لَكُمْ فَإِنَّهُ مَنْ مَاتَ مِنْكُمْ عَلَى فِرَاشِهِ وَ هُوَ عَلَى مَعْرِفَةِ حَقِّ رَبِّهِ وَ حَقِّ رَسُولِهِ وَ أَهْلِ بَيْتِهِ مَاتَ شَهِيداً وَ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ وَ اسْتَوْجَبَ ثَوَابَ مَا نَوَى مِنْ صَالِحِ عَمَلِهِ وَ قَامَتِ النِّيَّةُ مَقَامَ إِصْلَاتِهِ لِسَيْفِهِ فَإِنَّ لِكُلِّ شَيْ ءٍ (14/146)
مُدَّةً وَ أَجَلًا (14/147)
وظائف حقوقه الواجبات المؤقتة كالصلوات الخمس و صوم شهر رمضان و الوظيفة ما يجعل للإنسان في كل يوم أو في كل شهر أو في كل سنة من طعام أو رزق شرح نهج البلاغة ج : 13 ص : 112و عزيز منصوب لأنه حال من الضمير في أستعينه و يجوز أن يكون حالا من الضمير المجرور في حقوقه و إضافة عزيز إلى الجند إضافة في تقدير الانفصال لا توجب تعريفه ليمتنع من كونه حالا. و قاهر أعداءه حاربهم و روي و قهر أعداءه. و المعقل ما يعتصم به و ذروته أعلاه. و امهدوا له اتخذوا مهادا و هو الفراش و هذه استعارة. قوله ع فإن الغاية القيامة أي فإن منتهى كل البشر إليها و لا بد منها. و الأرماس جمع رمس و هو القبر و الإبلاس مصدر أبلس أي خاب و يئس و الإبلاس أيضا الانكسار و الحزن. و استكاك الأسماع صممها. و غم الضريح ضيق القبر و كربه و الصفيح الحجر و ردمه سده. و السنن الطريق و القرن الحبل. و أشراط الساعة علاماتها و أزفت قربت و أفراطها جمع فرط و هم المتقدمون السابقون من الموتى و من روى بإفراطها فهو مصدر أفرط في الشي ء أي قربت الساعة بشدة غلوائها و بلوغها غاية الهول و الفظاعة و يجوز أن تفسر الرواية الأولى بمقدماتها و ما يظهر قبلها من خوارق العادات المزعجة كالدجال و دابة الأرض و نحوهما و يرجع ذلك إلى اللفظة الأولى و هي أشراطها و إنما يختلف اللفظ. و الكلاكل جمع كلكل و هو الصدر و يقال للأمر الثقيل قد أناخ عليهم بكلكله أي هدهم و رضهم كما يهد البعير البارك من تحته إذا أنحى عليه بصدره. قوله ع و انصرفت الدنيا بأهلها أي ولت و يروى و انصرمت أي انقضت. شرح نهج البلاغة ج : 13 ص : 113و الحضن بكسر الحاء ما دون الإبط إلى الكشح. و الرث الخلق و الغث الهزيل. و مقام ضنك أي ضيق. و شديد كلبها أي شرها و أذاها و اللجب الصوت و وقودها هاهنا بضم الواو و هو الحدث و لا يجوز الفتح لأنه ما يوقد به كالحطب و نحوه و ذاك لا يوصف بأنه ذاك. قوله ع
عم قرارها أي لا يهتدى فيه لظلمته و لأنه عميق جدا و يروى و كأن ليلهم نهار و كذلك أختها على التشبيه. و المآب المرجع و مدينون مجزيون. قوله ع فلا رجعة تنالون الرواية بضم التاء أي تعطون يقال أنلت فلانا مالا أي منحته و قد روي تنالون بفتح التاء. ثم أمر أصحابه أن يثبتوا و لا يعجلوا في محاربة من كان مخالطا لهم من ذوي العقائد الفاسدة كالخوارج و من كان يبطن هوى معاوية و ليس خطابه هذا تثبيطا لهم عن حرب أهل الشام كيف و هو لا يزال يقرعهم و يوبخهم عن التقاعد و الإبطاء في ذلك و لكن قوما من خاصته كانوا يطلعون على ما عند قوم من أهل الكوفة و يعرفون نفاقهم و فسادهم و يرومون قتلهم و قتالهم فنهاهم عن ذلك و كان يخاف فرقة جنده و انتثار حبل عسكره فأمرهم بلزوم الأرض و الصبر على البلاء. و روي بإسقاط الباء من قوله بأيديكم و من روى الكلمة بالباء جعلها زائدة و يجوز ألا تكون زائدة و يكون المعنى و لا تحركوا الفتنة بأيديكم و سيوفكم في هوى ألسنتكم فحذف المفعول. و الإصلات بالسيف مصدر أصلت أي سل. (14/148)
شرح نهج البلاغة ج : 13 ص : 114و اعلم أن هذه الخطبة من أعيان خطبه ع و من ناصع كلامه و نادره و فيها من صناعة البديع الرائقة المستحسنة البريئة من التكلف ما لا يخفى و قد أخذ ابن نباتة الخطيب كثيرا من ألفاظها فأودعها خطبه مثل قوله شديد كلبها عال لجبها ساطع لهبها متغيظ زفيرها متأجج سعيرها بعيد خمودها ذاك وقودها مخوف وعيدها عم قرارها مظلمة أقطارها حامية قدورها فظيعة أمورها فإن هذه الألفاظ كلها اختطفها و أغار عليها و اغتصبها و سمط بها خطبه و شذر بها كلامه. و مثل قوله هول المطلع و روعات الفزع و اختلاف الأضلاع و استكاك الأسماع و ظلمة اللحد و خيفة الوعد و غم الضريح و ردم الصفيح فإن هذه الألفاظ أيضا تمضي في أثناء خطبه و في غضون مواعظه
شرح نهج البلاغة ج : 13 ص : 237115- و من خطبة له ع
الْحَمْدُ لِلَّهِ الْفَاشِي فِي الْخَلْقِ حَمْدُهُ وَ الْغَالِبِ جُنْدُهُ وَ الْمُتَعَالِي جَدُّهُ أَحْمَدُهُ عَلَى نِعَمِهِ التُّؤَامِ وَ آلَائِهِ الْعِظَامِ الَّذِي عَظُمَ حِلْمُهُ فَعَفَا وَ عَدَلَ فِي كُلِّ مَا قَضَى وَ عَلِمَ بِمَا يَمْضِي وَ مَا مَضَى مُبْتَدِعِ الْخَلَائِقِ بِعِلْمِهِ وَ مُنْشِئِهِمْ بِحُكْمِهِ بِلَا اقْتِدَاءٍ وَ لَا تَعْلِيمٍ وَ لَا احْتِذَاءٍ لِمِثَالِ صَانِعٍ حَكِيمٍ وَ لَا إِصَابَةِ خَطَإٍ وَ لَا حَضْرَةِ مَلٍا وَ أَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّداً عَبْدُهُ وَ رَسُولُهُ ابْتَعَثَهُ وَ النَّاسُ يَضْرِبُونَ فِي غَمْرَةٍ وَ يَمُوجُونَ فِي حَيْرَةٍ قَدْ قَادَتْهُمْ أَزِمَّةُ الْحَيْنِ وَ اسْتَغْلَقَتْ عَلَى أَفْئِدَتِهِمْ أَقْفَالُ الرَّيْنِ عِبَادَ اللَّهِ أُوصِيكُمْ بِتَقْوَى اللَّهِ فَإِنَّهَا حَقُّ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَ الْمُوجِبَةُ عَلَى اللَّهِ حَقَّكُمْ وَ أَنْ تَسْتَعِينُوا عَلَيْهَا بِاللَّهِ وَ تَسْتَعِينُوا بِهَا عَلَى اللَّهِ فَإِنَّ التَّقْوَى فِي الْيَوْمِ الْحِرْزُ وَ الْجُنَّةُ وَ فِي غَدٍ الطَّرِيقُ إِلَى الْجَنَّةِ مَسْلَكُهَا وَاضِحٌ وَ سَالِكُهَا رَابِحٌ وَ مُسْتَوْدَعُهَا حَافِظٌ لَمْ تَبْرَحْ عَارِضَةً نَفْسَهَا عَلَى الْأُمَمِ الْمَاضِينَ مِنْكُمْ وَ الْغَابِرِينَ لِحَاجَتِهِمْ إِلَيْهَا غَداً إِذَا أَعَادَ اللَّهُ مَا أَبْدَى وَ أَخَذَ مَا أَعْطَى وَ سَأَلَ عَمَّا أَسْدَى فَمَا أَقَلَّ مَنْ قَبِلَهَا وَ حَمَلَهَا حَقَّ حَمْلِهَا أُولَئِكَ الْأَقَلُّونَ عَدَداً وَ هُمْ أَهْلُ صِفَةِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ إِذْ يَقُولُ وَ قَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ فَأَهْطِعُوا بِأَسْمَاعِكُمْ إِلَيْهَا وَ أَلِظُّوا بِجِدِّكُمْ عَلَيْهَا وَ اعْتَاضُوهَا مِنْ كُلِّ سَلَفٍ خَلَفاً وَ مِنْ كُلِّ مُخَالِفٍ مُوَافِقاً شرح نهج البلاغة ج : 13 ص : (14/149)
116أَيْقِظُوا بِهَا نَوْمَكُمْ وَ اقْطَعُوا بِهَا يَوْمَكُمْ وَ أَشْعِرُوهَا قُلُوبَكُمْ وَ ارْحَضُوا بِهَا ذُنُوبَكُمْ وَ دَاوُوا بِهَا الْأَسْقَامَ وَ بَادِرُوا بِهَا الْحِمَامَ وَ اعْتَبِرُوا بِمَنْ أَضَاعَهَا وَ لَا يَعْتَبِرَنَّ بِكُمْ مَنْ أَطَاعَهَا أَلَا فَصُونُوهَا وَ تَصَوَّنُوا بِهَا وَ كُونُوا عَنِ الدُّنْيَا نُزَّاهاً وَ إِلَى الآْخِرَةِ وُلَّاهاً وَ لَا تَضَعُوا مَنْ رَفَعَتْهُ التَّقْوَى وَ لَا تَرْفَعُوا مَنْ رَفَعَتْهُ الدُّنْيَا وَ لَا تَشِيمُوا بَارِقَهَا وَ لَا تَسْمَعُوا نَاطِقَهَا وَ لَا تُجِيبُوا نَاعِقَهَا وَ لَا تَسْتَضِيئُوا بِإِشْرَاقِهَا وَ لَا تُفْتَنُوا بِأَعْلَاقِهَا فَإِنَّ بَرْقَهَا خَالِبٌ وَ نُطْقَهَا كَاذِبٌ وَ أَمْوَالَهَا مَحْرُوبَةٌ وَ أَعْلَاقَهَا مَسْلُوبَةٌ أَلَا وَ هِيَ الْمُتَصَدِّيَةُ الْعَنُونُ وَ الْجَامِحَةُ الْحَرُونُ وَ الْمَائِنَةُ الْخَئُونُ وَ الْجَحُودُ الْكَنُودُ وَ الْعَنُودُ الصَّدُودُ وَ الْحَيُودُ الْمَيُودُ حَالُهَا انْتِقَالٌ وَ وَطْأَتُهَا زِلْزَالٌ وَ عِزُّهَا ذُلٌّ وَ جِدُّهَا هَزْلٌ وَ عُلْوُهَا سُفْلٌ دَارُ حَرْبٍ وَ سَلَبٍ وَ نَهْبٍ وَ عَطَبٍ أَهْلُهَا عَلَى سَاقٍ وَ سِيَاقٍ وَ لَحَاقٍ وَ فِرَاقٍ قَدْ تَحَيَّرَتْ مَذَاهِبُهَا وَ أَعْجَزَتْ مَهَارِبُهَا وَ خَابَتْ مَطَالِبُهَا فَأَسْلَمَتْهُمُ الْمَعَاقِلُ وَ لَفَظَتْهُمُ الْمَنَازِلُ وَ أَعْيَتْهُمُ الْمَحَاوِلُ فَمِنْ نَاجٍ مَعْقُورٍ وَ لَحْمٍ مَجْزُورٍ وَ شِلْوٍ مَذْبُوحٍ وَ دَمٍ مَسْفُوحٍ وَ عَاضٍّ عَلَى يَدَيْهِ وَ صَافِقٍ بِكَفَّيْهِ وَ مُرْتَفِقٍ بِخَدَّيْهِ وَ زَارٍ عَلَى رَأْيِهِ وَ رَاجِعٍ عَنْ عَزْمِهِ وَ قَدْ أَدْبَرَتِ الْحِيلَةُ وَ أَقْبَلَتِ الْغِيلَةُ وَ لَاتَ حِينَ مَنَاصٍ هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ قَدْ فَاتَ مَا فَاتَ وَ ذَهَبَ مَا ذَهَبَ وَ (14/150)
مَضَتِ الدُّنْيَا لِحَالِ بَالِهَا فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَ الْأَرْضُ وَ مَا كَانُوا مُنْظَرِينَ (14/151)
شرح نهج البلاغة ج : 13 ص : 117الفاشي الذائع فشا الخبر يفشو فشوا أي ذاع و أفشاه غيره و تفشى الشي ء أي اتسع و الفواشي كل منتشر من المال مثل الغنم السائمة و الإبل و غيرهما و منه الحديث
ضموا فواشيكم حتى تذهب فحمة العشاء
فيجوز أن يكون عنى بفشو حمده إطباق الأمم قاطبة على الاعتراف بنعمته و يجوز أن يريد بالفاشي سبب حمده و هو النعم التي لا يقدر قدرها فحذف المضاف. قوله و الغالب جنده فيه معنى قوله تعالى فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغالِبُونَ. قوله و المتعالي جده فيه معنى قوله تعالى وَ أَنَّهُ تَعالى جَدُّ رَبِّنا و الجد في هذا الموضع و في الآية العظمة. و التؤام جمع توأم على فوعل و هو الولد المقارن أخاه في بطن واحد و قد أتأمت المرأة إذا وضعت اثنين كذلك فهي متئم فإن كان ذلك عادتها فهي متآم و كل واحد من الولدين توأم و هما توأمان و هذا توأم هذا و هذه توأمته و الجمع توائم مثل قشعم و قشاعم و جاء في جمعه تؤام على فعال و هي اللفظة التي وردت في هذه الخطبة و هو جمع غريب لم يأت نظيره إلا في مواضع معدودة و هي عرق العظم يؤخذ عنه اللحم و عراق و شاة ربى للحديثة العهد بالولادة و غنم رباب و ظئر للمرضعة غير ولدها و ظؤار و رخل للأنثى من أولاد الضأن و رخال و فرير لولد البقرة الوحشية و فرار. و الآلاء النعم. شرح نهج البلاغة ج : 13 ص : 118قوله ع مبدع الخلائق بعلمه ليس يريد أن العلم علة في الإبداع كما تقول هوى الحجر بثقله بل المراد أبدع الخلق و هو عالم كما تقول خرج زيد بسلاحه أي خرج متسلحا فموضع الجار و المجرور على هذا نصب بالحالية و كذلك القول في و منشئهم بحكمه و الحكم هاهنا الحكمة. و منه
قوله ع إن من الشعر لحكمة
قوله بلا اقتداء و لا تعليم و لا احتذاء قد تكرر منه ع أمثاله مرارا. قوله و لا إصابة خطأ تحته معنى لطيف و ذلك لأن المتكلمين يوردون على أنفسهم سؤالا في باب كونه عالما بكل معلوم إذا استدلوا على ذلك فإنه علم بعض الأشياء لا من طريق أصلا لا من إحساس و لا من نظر و استدلال فوجب أن يعلم سائرها لأنه لا مخصص فقالوا لأنفسهم لم زعمتم ذلك و لم لا يجوز أن يكون فعل أفعاله مضطربة فلما أدركها علم كيفية صنعها بطريق كونه مدركا لها فأحكمها بعد اختلالها و اضطرابها و أجابوا عن ذلك بأنه لا بد أن يكون قبل أن فعلها عالما بمفرداتها من غير إحساس و يكفي ذلك في كونه عالما بما لم يتطرق إليه ثم يعود الاستدلال المذكور أولا. قوله ع و لا حضره ملأ الملأ الجماعة من الناس و فيه معنى قوله تعالى ما أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ لا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ. قوله يضربون في غمرة أي يسيرون في جهل و ضلالة و الضرب السير السريع. و الحين الهلاك و الرين الذنب على الذنب حتى يسود القلب و قيل الرين شرح نهج البلاغة ج : 13 ص : 119الطبع و الدنس يقال ران على قلبه ذنبه يرين رينا أي دنسه و وسخه و استغلقت أقفال الرين على قلوبهم تعسر فتحها. قوله فإنها حق الله عليكم و الموجبة على الله حقكم يريد أنها واجبة عليكم فإن فعلتموها وجب على الله أن يجازيكم عنها بالثواب و هذا تصريح بمذهب المعتزلة في العدل و أن من الأشياء ما يجب على الله تعالى من باب الحكمة. قوله و أن تستعينوا عليها بالله و تستعينوا بها على الله يريد أوصيكم بأن تستعينوا بالله على التقوى بأن تدعوه و تبتهلوا إليه أن يعينكم عليها و يوفقكم لها و ييسرها و يقوي دواعيكم إلى القيام بها و أوصيكم أن تستعينوا بالتقوى على لقاء الله و محاكمته و حسابه فإنه تعالى يوم البعث و الحساب كالحاكم بين المتخاصمين وَ تَرى كُلَّ أُمَّةٍ جاثِيَةً كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعى إِلى كِتابِهَا فالسعيد (14/152)
من استعان على ذلك الحساب و تلك الحكومة و الخصومة بالتقوى في دار التكليف فإنها نعم المعونة وَ تَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوى. و الجنة ما يستتر به. قوله و مستودعها حافظ يعني الله سبحانه لأنه مستودع الأعمال و يدل عليه قوله تعالى إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا و ليس ما قاله الراوندي من أنه أراد بالمستودع قلب الإنسان بشي ء. قوله لم تبرح عارضة نفسها كلام فصيح لطيف يقول إن التقوى لم تزل عارضة نفسها على من سلف من القرون فقبلها القليل منهم شبهها بالمرأة العارضة نفسها نكاحا على قوم فرغب فيها من رغب و زهد من زهد و على الحقيقة ليست شرح نهج البلاغة ج : 13 ص : 120هي العارضة نفسها و لكن المكلفين ممكنون من فعلها و مرغبون فيها فصارت كالعارضة. و الغابر هاهنا الباقي و هو من الأضداد يستعمل بمعنى الباقي و بمعنى الماضي. قوله ع إذا أعاد الله ما أبدى يعني أنشر الموتى و أخذ ما أعطى و ورث الأرض مالك الملوك فلم يبق في الوجود من له تصرف في شي ء غيره كما قال لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ و قيل في الأخبار و (14/153)
الحديث إن الله تعالى يجمع الذهب و الفضة كل ما كان منه في الدنيا فيجعله أمثال الجبال ثم يقول هذا فتنة بني آدم ثم يسوقه إلى جهنم فيجعله مكاوي لجباه المجرمين
و سأل عما أسدى أي سأل أرباب الثروة عما أسدى إليهم من النعم فيم صرفوها و فيم أنفقوها. قوله ع فما أقل من قبلها يعني ما أقل من قبل التقوى العارضة نفسها على الناس. و إذا في قوله إذا أعاد الله ظرف لحاجتهم إليها لأن المعنى يقتضيه أي لأنهم يحتاجون إليها وقت إعادة الله الخلق و ليس كما ظنه الراوندي أنه ظرف لقوله فما أقل من قبلها لأن المعنى على ما قلناه و لأن ما بعد الفاء لا يجوز أن يكون عاملا فيما قبلها. قوله فأهطعوا بأسماعكم أي أسرعوا أهطع في عدوه أي أسرع و يروى فانقطعوا بأسماعكم إليها أي فانقطعوا إليها مصغين بأسماعكم. قوله و ألظوا بجدكم أي ألحوا و الإلظاظ الإلحاح في الأمر و منه (14/154)
قول شرح نهج البلاغة ج : 13 ص : 121ابن مسعود ألظوا في الدعاء بيا ذا الجلال و الإكرام
و منه الملاظة في الحرب و يقال رجل ملظ و ملظاظ أي ملحاح و ألظ المطر أي دام. و قوله بجدكم أي باجتهادكم جددت في الأمر جدا بالغت و اجتهدت و يروى و واكظوا بحدكم و المواكظة المداومة على الأمر و قال مجاهد في قوله تعالى إِلَّا ما دُمْتَ عَلَيْهِ قائِماً قال أي مواكظا. قوله و أشعروا بها قلوبكم يجوز أن يريد اجعلوها شعارا لقلوبكم و هو ما دون الدثار و ألصق بالجسد منه و يجوز أن يريد اجعلوها علامة يعرف بها القلب التقي من القلب المذنب كالشعار في الحرب يعرف به قوم من قوم و يجوز أن يريد أخرجوا قلوبكم بها من أشعار البدن أي طهروا القلوب بها و صفوها من دنس الذنوب كما يصفى البدن بالفصاد من غلبة الدم الفاسد و يجوز أن يريد الإشعار بمعنى الإعلام من أشعرت زيدا بكذا أي عرفته إياه أي اجعلوها عالمة بجلالة موقعها و شرف محلها. قوله و ارحضوا بها أي اغسلوا و ثوب رحيض و مرحوض أي مغسول. قال و داووا بها الأسقام يعني أسقام الذنوب. و بادروا بها الحمام عجلوا و اسبقوا الموت أن يدرككم و أنتم غير متقين. و اعتبروا بمن أضاع التقوى فهلك شقيا و لا يعتبرن بكم أهل التقوى أي لا تكونوا أنتم لهم معتبرا بشقاوتكم و سعادتهم. ثم قال و صونوا التقوى عن أن تمازجها المعاصي و تصونوا أنتم بها عن الدناءة و ما ينافي العدالة. و النزه جمع نزيه و هو المتباعد عما يوجب الذم و الولاه جمع واله و هو المشتاق ذو الوجد حتى يكاد يذهب عقله. شرح نهج البلاغة ج : 13 ص : 122ثم شرع في ذكر الدنيا فقال لا تشيموا بارقها الشيم النظر إلى البرق انتظارا للمطر. و لا تسمعوا ناطقها لا تصغوا إليها سامعين و لا تجيبوا مناديها. و الأعلاق جمع علق و هو الشي ء النفيس و برق خالب و خلب لا مطر فيه. و أموالها محروبة أي مسلوبة. قوله ع ألا و هي المتصدية العنون شبهها بالمرأة المومس تتصدى للرجال تريد الفجور و تتصدى لهم تتعرض و العنون المتعرضة أيضا عن لي كذا أي عرض. ثم قال و (14/155)
الجامحة الحرون شبهها بالدابة ذات الجماح و هي التي لا يستطاع ركوبها لأنها تعثر بفارسها و تغلبه و جعلها مع ذلك حرونا و هي التي لا تنقاد. ثم قال و المائنة الخئون مان أي كذب شبهها بامرأة كاذبة خائنة. و الجحود الكنود جحد الشي ء أنكره و كند النعمة كفرها جعلها كامرأة تجحد الصنيعة و لا تعترف بها و تكفر النعمة و يجوز أن يكون الجحود من قولك رجل جحد و جحد أي قليل الخير و عام جحد أي قليل المطر و قد جحد النبت إذا لم يطل. قال و العنود الصدود العنود الناقة تعدل عن مرعى الإبل و ترعى ناحية. و الصدود المعرضة صد عنه أي أعرض شبهها في انحرافها و ميلها عن القصد بتلك. قال و الحيود الميود حادث الناقة عن كذا تحيد فهي حيود إذا مالت عنه. و مادت تميد فهي ميود أي مالت فإن كانت عادتها ذلك سميت الحيود الميود في كل حال. شرح نهج البلاغة ج : 13 ص : 123قال حالها انتقال يجوز أن يعني به أن شيمتها و سجيتها الانتقال و التغير و يجوز أن يريد به معنى أدق و هو أن الزمان على ثلاثة أقسام ماض و حاضر و مستقبل فالماضي و المستقبل لا وجود لهما الآن و إنما الموجود أبدا هو الحاضر فلما أراد المبالغة في وصف الدنيا بالتغير و الزوال قال حالها انتقال أي أن الآن الذي يحكم العقلاء عليه بالحضور منها ليس بحاضر على الحقيقة بل هو سيال متغير فلا ثبوت إذا لشي ء منها مطلقا و يروى و حالها افتعال أي كذب و زور و هي رواية شاذة. قال و وطئتها زلزال الوطأة كالضغطة و منه (14/156)
قوله ص اللهم اشدد وطأتك على مضر
و أصلها موضع القدم و الزلزال الشدة العظيمة و الجمع زلازل. و قال الراوندي في شرحه يريد أن سكونها حركة من قولك وطؤ الشي ء أي صار وطيئا ذا حال لينة و موضع وطي ء أي وثير و هذا خطأ لأن المصدر من ذلك وطاءة بالمد و هاهنا وطأة ساكن الطاء فأين أحدهما من الآخر. قال و علوها سفل يجوز ضم أولهما و كسره. قال دار حرب الأحسن في صناعة البديع أن تكون الراء هاهنا ساكنة ليوازي السكون هاء نهب و من فتح الراء أراد السلب حربته أي سلبت ماله. قال أهلها على ساق و سياق يقال قامت الحرب على ساق أي على شدة و منه قوله سبحانه يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ ساقٍ و السياق نزع الروح يقال رأيت فلانا يسوق أي ينزع عند الموت أو يكون مصدر ساق الماشية سوقا و سياقا. و قال الراوندي في شرحه يريد أن بعض أهلها في أثر بعض كقولهم ولدت فلانة شرح نهج البلاغة ج : 13 ص : 124ثلاثة بنين على ساق و ليس ما قاله بشي ء لأنهم يقولون ذلك للمرأة إذا لم يكن بين البنين أنثى و لا يقال ذلك في مطلع التتابع أين كان. قال ع و لحاق و فراق اللام مفتوحة مصدر لحق به و هذا كقولهم الدنيا مولود يولد و مفقود يفقد. قال ع قد تحيرت مذاهبها أي تحير أهلها في مذاهبهم و ليس يعني بالمذاهب هاهنا الاعتقادات بل المسالك. و أعجزت مهاربها أي أعجزتهم جعلتهم عاجزين فحذف المفعول. و أسلمتهم المعاقل لم تحصنهم. و لفظتهم بفتح الفاء رمت بهم و قذفتهم. و أعيتهم المحاول أي المطالب. ثم وصف أحوال الدنيا فقال هم فمن ناج معقور أي مجروح كالهارب من الحرب بحشاشة نفسه و قد جرح بدنه. و لحم مجزور أي قتيل قد صار جزرا للسباع. و شلو مذبوح الشلو العضو من أعضاء الحيوان المذبوح أو الميت و (14/157)
في الحديث ائتوني بشلوها الأيمن
و دم مفسوح أي مسفوك و عاض على يديه أي ندما. و صافق بكفيه أي تعسفا أو تعجبا. و مرتفق بخديه جاعل لهما على مرفقيه فكرا و هما. و زار على رأيه أي عائب أي يرى الواحد منهم رأيا و يرجع عنه و يعيبه و هو البداء الذي يذكره المتكلمون ثم فسره بقوله و راجع عن عزمه. شرح نهج البلاغة ج : 13 ص : 125فإن قلت فهل يمكن أن يفرق بينهما ليكون الكلام أكثر فائدة قلت نعم بأن يريد بالأول من رأى رأيا و كشفه لغيره و جامعه عليه ثم بدا له و عابه و يريد بالثاني من عزم نفسه عزما و لم يظهر لغيره ثم رجع عنه و يمكن أيضا بأن يفرق بينهما بأن يعني بالرأي الاعتقاد كما يقال هذا رأي أبي حنيفة و العزم أمر مفرد خارج عن ذلك و هو ما يعزم عليه الإنسان من أمور نفسه و لا يقال عزم في الاعتقادات ثم قال ع و قد أدبرت الحيلة أي ولت و أقبلت الغيلة أي الشر و منه قولهم فلان قليل الغائلة أو يكون بمعنى الاغتيال يقال قتله غيلة أي خديعة يذهب به إلى مكان يوهمه أنه لحاجة ثم يقتله. قال ع و لات حين مناص هذه من ألفاظ الكتاب العزيز قال الأخفش شبهوا لات بليس و أضمروا فيها اسم الفاعل قال و لا تكون لات إلا مع حين و قد جاء حذف حين في الشعر و منه المثل حنت و لات هنت أي و لات حين حنت و الهاء بدل من الحاء فحذف الحين و هو يريده قال و قرأ بعضهم وَ لاتَ حِينَ مَناصٍ بالرفع و أضمر الخبر و قال أبو عبيد هي لا و التاء إنما زيدت في حين لا في لا و إن كتبت مفردة و الأصل تحين كما قال في ألان تلان فزادوا التاء و أنشد لأبي وجزة (14/158)
العاطفون تحين ما من عاطف و المطعمون زمان أين المطعم
و قال المؤرج زيدت التاء في لات كما زيدت في ربت و ثمت. و المناص المهرب ناص عن قرنه ينوص نوصا و مناصا أي ليس هذا وقت الهرب و الفرار. شرح نهج البلاغة ج : 13 ص : 126و يكون المناص أيضا بمعنى الملجأ و المفزع أي ليس هذا حين تجد مفزعا و معقلا تعتصم به. هيهات اسم للفعل و معناه بعد يقال هيهات زيد فهو مبتدأ و خبر و المعنى يعطي الفعلية و التاء في هيهات مفتوحة مثل كيف و أصلها هاء و ناس يكسرونها على كل حال بمنزلة نون التثنية و قال الراجز (14/159)
هيهات من مصبحها هيهات هيهات حجر من صنيعات
و قد تبدل الهاء همزة فيقال أيهات مثل هراق و أراق قال
أيهات منك الحياة أيهاتا
قال الكسائي فمن كسر التاء وقف عليها بالهاء فقال هيهاه و من فتحها وقف إن شاء بالتاء و إن شاء بالهاء. قوله ع و مضت الدنيا لحال بالها كلمة تقال فيما انقضى و فرط أمره و معناها مضى بما فيه إن كان خيرا و إن كان شرا. قوله ع فما بكت عليهم السماء هو من كلام الله تعالى و المراد أهل السماء و هم الملائكة و أهل الأرض و هم البشر و المعنى أنهم لا يستحقون أن يتأسف عليهم و قيل أراد المبالغة في تحقير شأنهم لأن العرب كانت تقول في العظيم القدر يموت بكته السماء و بكته النجوم قال الشاعر
فالشمس طالعة ليست بكاسفة تبكي عليك نجوم الليل و القمرا
فنفى عنهم ذلك و قال ليسوا من يقال فيه مثل هذا القول و تأولها ابن عباس رضي الله عنه لما قيل له أ تبكي السماء و الأرض على أحد فقال نعم يبكيه مصلاه في الأرض و مصعد عمله في السماء فيكون نفي البكاء عنهما كناية عن أنه لم يكن لهم في الأرض عمل صالح يرفع منهما إلى السماء
شرح نهج البلاغة ج : 13 ص : 238127- و من خطبة له ع و من الناس من يسمي هذه الخطبة بالقاصعة
و هي تتضمن ذم إبليس لعنه الله على استكباره و تركه السجود لآدم ع و أنه أول من أظهر العصبية و تبع الحمية و تحذير الناس من سلوك طريقته
الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَبِسَ الْعِزَّ وَ الْكِبْرِيَاءَ وَ اخْتَارَهُمَا لِنَفْسِهِ دُونَ خَلْقِهِ وَ جَعَلَهُمَا حِمًى وَ حَرَماً عَلَى غَيْرِهِ وَ اصْطَفَاهُمَا لِجَلَالِهِ وَ جَعَلَ اللَّعْنَةَ عَلَى مَنْ نَازَعَهُ فِيهِمَا مِنْ عِبَادِهِ ثُمَّ اخْتَبَرَ بِذَلِكَ مَلَائِكَتَهُ الْمُقَرَّبِينَ لِيَمِيزَ الْمُتَوَاضِعِينَ مِنْهُمْ مِنَ الْمُسْتَكْبِرِينَ فَقَالَ سُبْحَانَهُ وَ هُوَ الْعَالِمُ بِمُضْمَرَاتِ الْقُلُوبِ وَ مَحْجُوبَاتِ الْغُيُوبِ إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ طِينٍ فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَ نَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ إِلَّا إِبْلِيسَ اعْتَرَضَتْهُ الْحَمِيَّةُ فَافْتَخَرَ عَلَى آدَمَ بِخَلْقِهِ وَ تَعَصَّبَ عَلَيْهِ لِأَصْلِهِ فَعَدُوُّ اللَّهِ إِمَامُ الْمُتَعَصِّبِينَ وَ سَلَفُ الْمُسْتَكْبِرِينَ الَّذِي وَضَعَ أَسَاسَ الْعَصَبِيَّةِ وَ نَازَعَ اللَّهَ رِدَاءَ الْجَبَرِيَّةِ وَ ادَّرَعَ لِبَاسَ التَّعَزُّزِ وَ خَلَعَ قِنَاعَ التَّذَلُّلِ أَلَا يَرَوْنَ كَيْفَ صَغَّرَهُ اللَّهُ بِتَكَبُّرِهِ وَ وَضَعَهُ بِتَرَفُّعِهِ فَجَعَلَهُ فِي الدُّنْيَا مَدْحُوراً وَ أَعَدَّ لَهُ فِي الآْخِرَةِ سَعِيراً (14/160)
شرح نهج البلاغة ج : 13 ص : 128يجوز أن تسمى هذه الخطبة القاصعة من قولهم قصعت الناقة بجرتها و هو أن تردها إلى جوفها أو تخرجها من جوفها فتملأ فاها فلما كانت الزواجر و المواعظ في هذه الخطبة مرددة من أولها إلى آخرها شبهها بالناقة التي تقصع الجرة و يجوز أن تسمى القاصعة لأنها كالقاتلة لإبليس و أتباعه من أهل العصبية من قولهم قصعت القملة إذا هشمتها و قتلتها و يجوز أن تسمى القاصعة لأن المستمع لها المعتبر بها يذهب كبره و نخوته فيكون من قولهم قصع الماء عطشه أي أذهبه و سكنه قال ذو الرمة بيتا في هذا المعنى
فانصاعت الحقب لم تقصع صرائرها و قد تشح فلا ري و لا هيم (14/161)
الصرائر جمع صريرة و هي العطش و يجوز أن تسمى القاصعة لأنها تتضمن تحقير إبليس و أتباعه و تصغيرهم من قولهم قصعت الرجل إذا امتهنته و حقرته و غلام مقصوع أي قمي ء لا يشب و لا يزداد. و العصبية على قسمين عصبية في الله و هي محمودة و عصبية في الباطل و هي مذمومة و هي التي نهى أمير المؤمنين ع عنها و كذلك الحمية و
جاء في الخبر العصبية في الله تورث الجنة و العصبية في الشيطان تورث النار
و جاء في الخبر العظمة إزاري و الكبرياء ردائي فمن نازعني فيهما قصمته
و هذا معنى قوله ع اختارهما لنفسه دون خلقه إلى آخر قوله من عباده. قال ع ثم اختبر بذلك ملائكته المقربين مع علمه بمضمراتهم و ذلك لأن اختباره سبحانه ليس ليعلم بل ليعلم غيره من خلقه طاعة من يطيع و عصيان من يعصي و كذلك قوله سبحانه وَ ما جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْها إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ شرح نهج البلاغة ج : 13 ص : 129الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلى عَقِبَيْهِ النون في لنعلم نون الجمع لا نون العظمة أي لتصير أنت و غيرك من المكلفين عالمين لمن يطيع و من يعصي كما أنا عالم بذلك فتكونوا كلكم مشاركين لي في العلم بذلك. فإن قلت و ما فائدة وقوفهم على ذلك و علمهم به قلت ليس بممتنع أن يكون ظهور حال العاصي و المطيع و علم المكلفين أو أكثرهم أو بعضهم به يتضمن لطفا في التكليف. فإن قلت إن الملائكة لم تكن تعلم ما البشر و لا تتصور ماهيته فكيف قال لهم إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ طِينٍ قلت قد كان قال لهم إني خالق جسما من صفته كيت و كيت فلما حكاه اقتصر على الاسم و يجوز أن يكون عرفهم من قبل أن لفظة بشر على ما ذا تقع ثم قال لهم إني خالق هذا الجسم المخصوص الذي أعلمتكم أن لفظة بشر واقعة عليه من طين. قوله تعالى فَإِذا سَوَّيْتُهُ أي إذا أكملت خلقه. فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ أمرهم بالسجود له و قد اختلف في ذلك فقال قوم كان قبلة كما الكعبة اليوم قبلة و لا يجوز السجود إلا لله و قال آخرون بل كان السجود له تكرمة و محنة و السجود لغير الله غير قبيح في العقل إذا لم يكن عبادة و لم يكن فيه مفسدة. و قوله تعالى وَ نَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي أي أحللت فيه الحياة و أجريت الروح إليه في عروقه و أضاف الروح إليه تبجيلا لها و سمى ذلك نفخا على وجه الاستعارة لأن العرب تتصور من الروح معنى الريح و النفخ يصدق على الريح فاستعار لفظة النفخ توسعا. شرح نهج البلاغة ج : 13 ص : 130و قالت الحكماء هذا عبارة عن (14/162)
النفس الناطقة. فإن قلت هل كان إبليس من الملائكة أم لا قلت قد اختلف في ذلك فمن جعله منهم احتج بالاستثناء و من جعله من غيرهم احتج بقوله تعالى كانَ مِنَ الْجِنِّ و جعل الاستثناء منقطعا و بأن له نسلا و ذرية قال تعالى أَ فَتَتَّخِذُونَهُ وَ ذُرِّيَّتَهُ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِي و الملائكة لا نسل لهم و لا ذرية و بأن أصله نار و الملائكة أصلها نور و قد مر لنا كلام في هذا في أول الكتاب. قوله فافتخر على آدم بخلقه و تعصب عليه لأصله كانت خلقته أهون من خلقة آدم ع و كان أصله من نار و أصل آدم ع من طين. فإن قلت كيف حكم على إبليس بالكفر و لم يكن منه إلا مخالفة الأمر و معلوم أن تارك الأمر فاسق لا كافر قلت إنه اعتقد أن الله أمره بالقبيح و لم ير أمره بالسجود لآدم ع حكمة و امتنع من السجود تكبرا و رد على الله أمره و استخف بمن أوجب الله إجلاله و ظهر أن هذه المخالفة عن فساد عقيدة فكان كافرا. فإن قلت هل كان كافرا في الأصل أم كان مؤمنا ثم كفر قلت أما المرجئة فأكثرهم يقول كان في الأصل كافرا لأن المؤمن عندهم لا يجوز أن يكفر و أما أصحابنا فلما كان هذا الأصل عندهم باطلا توقفوا في حال إبليس و جوزوا كلا الأمرين. شرح نهج البلاغة ج : 13 ص : 131قوله ع رداء الجبرية الباء مفتوحة يقال فيه جبرية و جبروة و جبروت و جبورة كفروجة أي كبر و أنشدوا (14/163)
فإنك إن عاديتني غضب الحصا عليك و ذو الجبورة المتغطرف
و جعله مدحورا أي مطرودا مبعدا دحره الله دحورا أي أقصاه و طرده
وَ لَوْ أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَخْلُقَ آدَمَ مِنْ نُورٍ يَخْطَفُ الْأَبْصَارَ ضِيَاؤُهُ وَ يَبْهَرُ الْعُقُولَ رُوَاؤُهُ وَ طِيبٍ يَأْخُذُ الْأَنْفَاسَ عَرْفُهُ لَفَعَلَ وَ لَوْ فَعَلَ لَظَلَّتْ لَهُ الْأَعْنَاقُ خَاضِعَةً وَ لَخَفَّتِ الْبَلْوَى فِيهِ عَلَى الْمَلَائِكَةِ وَ لَكِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ يَبْتَلِي خَلْقَهُ بِبَعْضِ مَا يَجْهَلُونَ أَصْلَهُ تَمْيِيزاً بِالِاخْتِبَارِ لَهُمْ وَ نَفْياً لِلِاسْتِكْبَارِ عَنْهُمْ وَ إِبْعَاداً لِلْخُيَلَاءِ مِنْهُمْ فَاعْتَبِرُوا بِمَا كَانَ مِنْ فِعْلِ اللَّهِ بِإِبْلِيسَ إِذْ أَحْبَطَ عَمَلَهُ الطَّوِيلَ وَ جَهْدَهُ الْجَهِيدَ وَ كَانَ قَدْ عَبَدَ اللَّهَ سِتَّةَ آلَافِ سَنَةٍ لَا يُدْرَى أَ مِنْ سِنِي الدُّنْيَا أَمْ مِنْ سِنِي الآْخِرَةِ عَنْ كِبْرِ سَاعَةٍ وَاحِدَةٍ فَمَنْ ذَا بَعْدَ إِبْلِيسَ يَسْلَمُ عَلَى اللَّهِ بِمِثْلِ مَعْصِيَتِهِ كَلَّا مَا كَانَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ لِيُدْخِلَ الْجَنَّةَ بَشَراً بِأَمْرٍ أَخْرَجَ بِهِ مِنْهَا مَلَكاً إِنْ حُكْمَهُ فِي أَهْلِ السَّمَاءِ وَ الْأَرْضِ لَوَاحِدٌ وَ مَا بَيْنَ اللَّهِ وَ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ خَلْقِهِ هَوَادَةٌ فِي إِبَاحَةِ حِمًى حَرَّمَهُ عَلَى الْعَالَمِينَ (14/164)
خطفت الشي ء بكسر الطاء أخطفه إذا أخذته بسرعة استلابا و فيه لغة أخرى شرح نهج البلاغة ج : 13 ص : 132خطف بالفتح و يخطف بالفتح و يخطف بالكسر و هي لغة رديئة قليلة لا تكاد تعرف و قد قرأ بها يونس في قوله تعالى يَكادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصارَهُمْ. و الرواء بالهمزة و المد المنظر الحسن و العرف الريح الطيبة. و الخيلاء بضم الخاء و كسرها الكبر و كذلك الخال و المخيلة تقول اختال الرجل و خال أيضا أي تكبر. و أحبط عمله أبطل ثوابه و قد حبط العمل حبطا بالتسكين و حبوطا و المتكلمون يسمون إبطال الثواب إحباطا و إبطال العقاب تكفيرا. و جهده بفتح الجيم اجتهاده و جده و وصفه بقوله الجهيد أي المستقصى من قولهم مرعى جهيد أي قد جهده المال الراعي و استقصى رعية. و كلامه ع يدل على أنه كان يذهب إلى أن إبليس من الملائكة لقوله أخرج منها ملكا و الهوادة الموادعة و المصالحة يقول إن الله تعالى خلق آدم من طين و لو شاء أن يخلقه من النور الذي يخطف أو من الطيب الذي يعبق لفعل و لو فعل لهال الملائكة أمره و خضعوا له فصار الابتلاء و الامتحان و التكليف بالسجود له خفيفا عليهم لعظمته في نفوسهم فلم يستحقوا ثواب العمل الشاق و هذا يدل على أن الملائكة تشم الرائحة كما نشمها نحن و لكن الله تعالى يبتلي عباده بأمور يجهلون أصلها اختبارا لهم. فإن قلت ما معنى قوله ع تمييزا بالاختبار لهم قلت لأنه ميزهم عن غيرهم من مخلوقاته كالحيوانات العجم و أبانهم عنهم و فضلهم عليهم بالتكليف و الامتحان. شرح نهج البلاغة ج : 13 ص : 133قال و نفيا للاستكبار عنهم لأن العبادات خضوع و خشوع و ذلة ففيها نفي الخيلاء و التكبر عن فاعليها فأمرهم بالاعتبار بحال إبليس الذي عبد الله ستة آلاف سنة لا يدرى أ من سني الدنيا أم من سني الآخرة و هذا يدل على أنه قد سمع فيه نصا من رسول الله ص مجملا لم يفسره له أو فسره له خاصة و لم يفسره أمير المؤمنين ع للناس لما يعلمه في (14/165)
كتمانه عنهم من المصلحة. فإن قلت قوله لا يدرى على ما لم يسم فاعله يقتضي أنه هو لا يدري قلت إنه لا يقتضي ذلك و يكفي في صدق الخبر إذا ورد بهذه الصيغة أن يجهله الأكثرون. فأما القول في سني الآخرة كم هي فاعلم أنه قد ورد في الكتاب العزيز آيات مختلفات إحداهن قوله تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَ الرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ. و الأخرى قوله يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّماءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ. و الثالثة قوله وَ إِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ. و أولى ما قيل فيها أن المراد بالآية الأولى مدة عمر الدنيا و سمي ذلك يوما و قال إن الملائكة لا تزال تعرج إليه بأعمال البشر طول هذه المدة حتى ينقضي التكليف و ينتقل الأمر إلى دار أخرى و أما الآيتان الأخيرتان فمضمونهما بيان كمية أيام الآخرة و هو أن كل يوم منها مثل ألف سنة من سني الدنيا. (14/166)
شرح نهج البلاغة ج : 13 ص : 134فإن قلت فعلى هذا كم تكون مدة عبادة إبليس إذا كانت ستة آلاف سنة من سني الآخرة قلت يكون ما يرتفع من ضرب أحد المضروبين في الآخرة و هو ألفا ألف ألف ثلاث لفظات الأولى منهم مثناة و مائة ألف ألف لفظتان و ستون ألف ألف سنة لفظتان أيضا من سني الدنيا و لما رأى أمير المؤمنين ع هذا المبلغ عظيما جدا علم أن أذهان السامعين لا تحتمله فلذلك أبهم القول عليهم و قال لا يدرى أ من سني الدنيا أم من سني الآخرة. فإن قلت فإذا كنتم قد رجحتم قول من يقول إن عمر الدنيا خمسون ألف سنة فكم يكون عمرها إن كان الله تعالى أراد خمسين ألف سنة من سني الآخرة لأنه لا يؤمن أن يكون أراد ذلك إذا كانت السنة عنده عبارة عن مدة غير هذه المدة التي قد اصطلح عليها الناس قلت يكون ما يرتفع من ضرب خمسين ألفا في ثلاثمائة و ستين ألف من سني الدنيا و مبلغ ذلك ثمانية عشر ألف ألف ألف سنة من سني الدنيا ثلاث لفظات و هذا القول قريب من القول المحكي عن الهند. و روى أبو جعفر محمد بن جرير الطبري في تاريخه روايات كثيرة بأسانيد أوردها عن جماعة من الصحابة أن إبليس كان إليه ملك السماء و ملك الأرض و كان من قبيلة من الملائكة يقال لهم الجن و إنما سموا الجن لأنهم كانوا خزان الجنان و كان إبليس رئيسهم و مقدمهم و كان أصل خلقهم من نار السموم و كان اسمه الحارث قال و قد روي أن الجن كانت في الأرض و أنهم أفسدوا فيها فبعث الله إليهم إبليس في جند من الملائكة فقتلهم و طردهم إلى جزائر البحار ثم تكبر في نفسه و رأى أنه قد صنع شيئا عظيما لم يصنعه غيره قال و كان شديد الاجتهاد في العبادة. شرح نهج البلاغة ج : 13 ص : 135و قيل كان اسمه عزازيل و أن الله تعالى جعله حكما و قاضيا بين سكان الأرض قبل خلق آدم فدخله الكبر و العجب لعبادته و اجتهاده و حكمه في سكان الأرض و قضائه بينهم فانطوى على المعصية حتى كان من أمره مع آدم ع ما كان قلت و لا (14/167)
ينبغي أن نصدق من هذه الأخبار و أمثالها إلا ما ورد في القرآن العزيز الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه و لا من خلفه أو في السنة أو نقل عمن يجب الرجوع إلى قوله و كل ما عدا ذلك فالكذب فيه أكثر من الصدق و الباب مفتوح فليقل كل أحد في أمثال هذه القصص ما شاء و اعلم أن كلام أمير المؤمنين في هذا الفصل يطابق مذهب أصحابنا في أن الجنة لا يدخلها ذو معصية أ لا تسمع قوله فمن بعد إبليس يسلم على الله بمثل معصيته كلا ما كان الله ليدخل الجنة بشرا بأمر أخرج به منها ملكا إن حكمه في أهل السماء و الأرض لواحد. فإن قلت أ ليس من قولكم إن صاحب الكبيرة إذا تاب دخل الجنة فهذا صاحب معصية و قد حكمتم له بالجنة قلت إن التوبة أحبطت معصيته فصار كأنه لم يعص. فإن قلت إن أمير المؤمنين ع إنما قال فمن ذا بعد إبليس يسلم على الله بمثل معصيته و لم يقل بالمعصية المطلقة و المرجئة لا تخالف في أن من وافى القيامة بمثل معصية إبليس لم يكن من أهل الجنة قلت كل معصية كبيرة فهي مثل معصيته و لم يكن إخراجه من الجنة لأنه كافر بل لأنه عاص مخالف للأمر أ لا ترى أنه قال سبحانه قالَ فَاهْبِطْ مِنْها فَما يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيها فعلل إخراجه من الجنة بتكبره لا بكفره. فإن قلت هذا مناقض لما قدمت في شرح الفصل الأول (14/168)
شرح نهج البلاغة ج : 13 ص : 136قلت كلا لأني في الفصل الأول عللت استحقاقه اسم الكفر بأمر زائد على المعصية المطلقة و هو فساد اعتقاده و لم أجعل ذلك علة في خروجه من الجنة و هاهنا عللت خروجه من الجنة بنفس المعصية فلا تناقض. فإن قلت ما معنى قول أمير المؤمنين ع ما كان الله ليدخل الجنة بشرا بأمر أخرج به منها ملكا و هل يظن أحد أو يقول إن الله تعالى يدخل الجنة أحدا من البشر بالأمر الذي أخرج به هاهنا إبليس كلا هذا ما لا يقوله أحد و إنما الذي يقوله المرجئة إنه يدخل الجنة من قد عصى و خالف الأمر كما خالف الأمر إبليس برحمته و عفوه و كما يشاء لا أنه يدخله الجنة بالمعصية و كلام أمير المؤمنين ع يقتضي نفي دخول أحد الجنة بالمعصية لأن الباء للسببية قلت الباء هاهنا ليست للسببية كما يتوهمه هذا المعترض بل هي كالباء في قولهم خرج زيد بثيابه و دخل زيد بسلاحه أي خرج لابسا و دخل متسلحا أي يصحبه الثياب و يصحبه السلاح فكذلك قوله ع بأمر أخرج به منها ملكا معناه أن الله تعالى لا يدخل الجنة بشرا يصحبه أمر أخرج الله به ملكا منها (14/169)
فَاحْذَرُوا عِبَادَ اللَّهِ عَدُوَّ اللَّهِ أَنْ يُعْدِيَكُمْ بِدَائِهِ وَ أَنْ يَسْتَفِزَّكُمْ بِخَيْلِهِ وَ رَجْلِهِ فَلَعَمْرِي لَقَدْ فَوَّقَ لَكُمْ سَهْمَ الْوَعِيدِ وَ أَغْرَقَ إِلَيْكُمْ بِالنَّزْعِ الشَّدِيدِ وَ رَمَاكُمْ مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ فَقَالَ رَبِّ بِما أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ قَذْفاً بِغَيْبٍ بَعِيدٍ وَ رَجْماً بِظَنٍّ شرح نهج البلاغة ج : 13 ص : 137غَيْرِ مُصِيبٍ صَدَّقَهُ بِهِ أَبْنَاءُ الْحَمِيَّةِ وَ إِخْوَانُ الْعَصَبِيَّةِ وَ فُرْسَانُ الْكِبْرِ وَ الْجَاهِلِيَّةِ حَتَّى إِذَا انْقَادَتْ لَهُ الْجَامِحَةُ مِنْكُمْ وَ اسْتَحْكَمَتِ الطَّمَاعِيَةُ مِنْهُ فِيكُمْ فَنَجَمَتْ فِيهِ الْحَالُ مِنَ السِّرِّ الْخَفِيِّ إِلَى الْأَمْرِ الْجَلِيِّ اسْتَفْحَلَ سُلْطَانُهُ عَلَيْكُمْ وَ دَلَفَ بِجُنُودِهِ نَحْوَكُمْ فَأَقْحَمُوكُمْ وَلَجَاتِ الذُّلِّ وَ أَحَلُّوكُمْ وَرَطَاتِ الْقَتْلِ وَ أَوْطَئُوكُمْ إِثْخَانَ الْجِرَاحَةِ طَعْناً فِي عُيُونِكُمْ وَ حَزّاً فِي حُلُوقِكُمْ وَ دَقّاً لِمَنَاخِرِكُمْ وَ قَصْداً لِمَقَاتِلِكُمْ وَ سَوْقاً بِخَزَائِمِ الْقَهْرِ إِلَى النَّارِ الْمُعَدَّةِ لَكُمْ فَأَصْبَحَ أَعْظَمَ فِي دِينِكُمْ حَرْجاً وَ أَوْرَى فِي دُنْيَاكُمْ قَدْحاً مِنَ الَّذِينَ أَصْبَحْتُمْ لَهُمْ مُنَاصِبِينَ وَ عَلَيْهِمْ مُتَأَلِّبِينَ فَاجْعَلُوا عَلَيْهِ حَدَّكُمْ وَ لَهُ جِدَّكُمْ فَلَعَمْرُ اللَّهِ لَقَدْ فَخَرَ عَلَى أَصْلِكُمْ وَ وَقَعَ فِي حَسَبِكُمْ وَ دَفَعَ فِي نَسَبِكُمْ وَ أَجْلَبَ بِخَيْلِهِ عَلَيْكُمْ وَ قَصَدَ بِرَجْلِهِ سَبِيلَكُمْ يَقْتَنِصُونَكُمْ بِكُلِّ مَكَانٍ وَ يَضْرِبُونَ مِنْكُمْ كُلَّ بَنَانٍ لَا تَمْتَنِعُونَ بِحِيلَةٍ وَ لَا تَدْفَعُونَ بِعَزِيمَةٍ فِي حَوْمَةِ ذُلٍّ وَ (14/170)
حَلْقَةِ ضِيقٍ وَ عَرْصَةِ مَوْتٍ وَ جَوْلَةِ بَلَاءٍ فَأَطْفِئُوا مَا كَمَنَ فِي قُلُوبِكُمْ مِنْ نِيرَانِ الْعَصَبِيَّةِ وَ أَحْقَادِ الْجَاهِلِيَّةِ فَإِنَّمَا تِلْكَ الْحَمِيَّةُ تَكُونُ فِي الْمُسْلِمِ مِنْ خَطَرَاتِ الشَّيْطَانِ وَ نَخَوَاتِهِ وَ نَزَغَاتِهِ وَ نَفَثَاتِهِ وَ اعْتَمِدُوا وَضْعَ التَّذَلُّلِ عَلَى رُءُوسِكُمْ وَ إِلْقَاءَ التَّعَزُّزِ تَحْتَ أَقْدَامِكُمْ وَ خَلْعَ التَّكَبُّرِ مِنْ أَعْنَاقِكُمْ وَ اتَّخِذُوا التَّوَاضُعَ مَسْلَحَةً بَيْنَكُمْ وَ بَيْنَ عَدُوِّكُمْ إِبْلِيسَ وَ جُنُودِهِ فَإِنَّ لَهُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ جُنُوداً وَ أَعْوَاناً وَ رَجْلًا وَ فُرْسَاناً وَ لَا تَكُونُوا كَالْمُتَكَبِّرِ عَلَى ابْنِ أُمِّهِ مِنْ غَيْرِ مَا فَضْلٍ جَعَلَهُ اللَّهُ فِيهِ سِوَى مَا أَلْحَقَتِ الْعَظَمَةُ بِنَفْسِهِ مِنْ عَدَاوَةِ الْحَسَبِ وَ قَدَحَتِ الْحَمِيَّةُ فِي قَلْبِهِ مِنْ نَارِ الْغَضَبِ وَ نَفَخَ الشَّيْطَانُ فِي أَنْفِهِ مِنْ رِيحِ الْكِبْرِ الَّذِي أَعْقَبَهُ اللَّهُ بِهِ النَّدَامَةَ وَ أَلْزَمَهُ آثَامَ الْقَاتِلِينَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ (14/171)
شرح نهج البلاغة ج : 13 ص : 138موضع أن يعديكم نصب على البدل من عدو الله و قال الراوندي يجوز أن يكون مفعولا ثانيا و هذا ليس بصحيح لأن حذر لا يتعدى إلى المفعولين و العدوى ما يعدي من جرب أو غيره أعدى فلان فلانا من خلقه أو من علته و هو مجاوزته من صاحبه إلى غيره و
في الحديث لا عدوى في الإسلام
فإن قلت فإذا كان النبي ص قد أبطل أمر العدوى فكيف قال أمير المؤمنين فاحذروه أن يعديكم قلت إن النبي ص أبطل ما كانت العرب تزعمه من عدوى الجرب في الإبل و غيرها و أمير المؤمنين ع حذر المكلفين من أن يتعلموا من إبليس الكبر و الحمية و شبه تعلمهم ذلك منه بالعدوى لاشتراك الأمرين في الانتقال من أحد الشخصين إلى الآخر. قوله ع يستفزكم أي يستخفكم و هو من ألفاظ القرآن وَ اسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ أي أزعجه و استخفه و أطر قلبه و الخيل الخيالة و منه (14/172)
الحديث يا خيل الله اركبي
و الرجل اسم جمع لراجل كركب اسم جمع لراكب و صحب اسم جمع لصاحب و هذه أيضا من ألفاظ القرآن العزيز وَ أَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَ رَجِلِكَ و قرئ و رجلك بكسر الجيم على أن فعلا بالكسر بمعنى فاعل نحو تعب و تاعب شرح نهج البلاغة ج : 13 ص : 139و معناه و قد تضم الجيم أيضا فيكون مثل قولك رجل حدث و حدث و ندس و ندس. فإن قلت فهل لإبليس خيل تركبها جنده قلت يجوز أن يكون ذلك و قد فسره قوم بهذا و الصحيح أنه كلام خرج مخرج المثل شبهت حاله في تسلطه على بني آدم بمن يغير على قوبخيله فيستأصلهم و قيل بصوتك أي بدعائك إلى القبيح و خيله و رجله كل ماش و راكب من أهل الفساد من بني آدم قوله و فوقت السهم جعلت له فوقا و هو موضع الوتر و هذا كناية عن الاستعداد و لا يجوز أن يفسر قوله فقد فوق لكم سهم الوعيد بأنه وضع الفوق في الوتر ليرمي به لأن ذلك لا يقال فيه قد فوق بل يقال أفقت السهم و أوفقته أيضا و لا يقال أفوقته و هو من النوادر. و قوله و أغرق إليكم بالنزع أي استوفى مد القوس و بالغ في نزعها ليكون مرماه أبعد و وقع سهامه أشد. قوله و رماكم من مكان قريب لأنه كما جاء
في الحديث يجري من ابن آدم مجرى الدم و يخالط القلب
و لا شي ء أقرب من ذلك. و الباء في قوله بِما أَغْوَيْتَنِي متعلق بفعل محذوف تقديره أجازيك بما أغويتني تزييني لهم القبيح فما على هذا مصدرية أي أجازيك بإغوائك لي تزييني لهم القبيح فحذف المفعول و يجوز أن تكون الباء قسما كأنه أقسم بإغوائه إياه ليزينن لهم. فإن لت و أي معنى في أن يقسم بإغوائه و هل هذا مما يقسم به قلت نعم لأنه ليس إغواء الله تعالى إياه خلق الغي و الضلال في قلبه بل تكليفه شرح نهج البلاغة ج : 13 ص : 140إياه السجود الذي وقع الغي عنده من الشيطان لا من الله فصار حيث وقع عنده كأنه موجب عنه فنسب إلى الري و التكليف تعريض للثواب و لذة الأبد فكان جديرا أن يقسم به و قد أقسم في موضع آخر فقال فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ فأقسم بالعزة و هاهنا أقسم بالأمر و التكليف و يجوز فيه وجه ثالث و هو ألا تكون الباء قسما و يقدر قسم محذوف و يكون المعنى بسبب ما كلفتني فأفضى إلى غوايتي أقسم لأفعلن بهم نحو ما فعلت بي و هو أن أزين لهم المعاصي التي تكون سبب هلاكهم. فإن قلت ليس هذا نحو ما فعله الباري به لأن الباري أمره بالحسن فأباه و عدل عنه إلى القبيح و الشيطان لا يأمرنا بالحسن فنكرهه و نعدل عنه إلى القبيح فكيف يكون ذلك نحو واقعته مع الباري قلت المشابهة بين الواقعتين في أن كل واحدة منهما تقع عندها المعصية لا على وجه الإجبار و القسر بل على قصد الاختيار لأن معصية إبليس كانت من نفسه و وقعت عند الأمر بالسجود اختيارا منه لا فعلا من الباري و معصيتنا نحن عند التزيين و الوسوسة تقع اختيارا منا لا اضطرارا يضطرنا إبليس إليه فلما تشابهت الصورتان في هذا المعنى حسن قوله بما فعلت بي كذا لأفعلن بهم نحوه. فإن قلت ما معنى قوله فِي الْأَرْضِ و من أين كان يعلم إبليس أن آدم سيصير له ذرية في الأرض قلت أما علمه بذلك فمن قول الله تعالى له و للملائكة إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً و أما لفظة الأرض (14/173)
فالمراد بها هاهنا الدنيا التي هي دار التكليف كقوله تعالى شرح نهج البلاغة ج : 13 ص : 141 وَ لكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ ليس يريد به الأرض بعينها بل الدنيا و ما فيها من الملاذ و هوى الأس. قوله ع قذفا بغيب بعيد أي قال إبليس هذا القول قذفا بغيب بعيد و العرب تقول للشي ء المتوهم على بعد هذا قذف بغيب بعيد و القذف في الأصل رمي الحجر و أشباهه و الغيب الأمر الغائب و هذه اللفظة من الألفاظ القرآنية قال الله تعالى في كفار قريش وَ يَقْذِفُونَ بِالَْيْبِ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ أي يقولون هذا سحر أو هذا من تعليم أهل الكتاب أو هذه كهانة و غير ذلك مما كانوا يرمونه ع به و انتصب قذفا على المصدر الواقع موقع الحال و كذلك رجما و قال الراوندي انتصبا لأنهما مفعول له و ليس بصحيح لأن المفعول له ما يكون عذرا و علة لوقوع الفعل و إبليس ما قال ذلك الكلام لأجل القذف و الرجم فلا يكون مفعولا له. فإن قلت كيف قال ع قذفا من مكان بعيد و رجما بظن غير مصيب و قد صح ما توهمه و أصاب في ظنه فإن إغواءه و تزيينه تم على الناس كلهم إلا على المخلصين قلت أما أولا فقد روي و رجما بظن مصيب بحذف غير و يؤكد هذه الرواية قوله تعالى وَ لَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقاً و أما ثانيا على الرواية التي هي أشهر فنقول أما قذفا من مكان بعيد فإنه قال ما قال على سبيل التوهم و الحسبان لأمر مستبعد لا يعلم صحته و لا يظنها و ليس وقوع ما وقع من المعاصي و صحة ما توهمه بمخرج لكون قوله الأول قذفا بغيب بعيد و أما رجما بظن غير مصيب (14/174)
شرح نهج البلاغة ج : 13 ص : 142فيجب أن يحمل قوله لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ على الغواية بمعنى الشرك أو الكفر و يكون الاستثناء و هو قوله إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ معناه إلا المعصومين من كل معصية و هذا ظن غير مصيب لأنه ما أغوى كل البشر الغية التي هي الكفر و الشرك إلا المعصومين العصمة المطلقة بل أغوى بعضهم كذلك و بعضهم بأن زين له الفسق دون الكفر فيكون ظنه أنه قادر على إغواء البشر كافة بمعنى الضلال بالكفر ظنا غير مصيب. قوله صدقه به أبناء الحمية موضع صدقه جر لأنه صفة ظن و قد روي صدقه أبناء الحمية من غير ذكر الجار و المجرور و من رواه بالجار و المجرور كان معناه صدقه في ذلك الظن أبناء الحمية فأقام الباء مقام في. قوله حتى إذا انقادت له الجامحة منكم أي الأنفس الجامحة أو الأخلاق الجامحة. قوله فنجمت فيه الحال أي ظهرت و قد روي فنجمت الحال من السر الخفي من غير ذكر الجار و المجرور و من رواه بالجار و المجرور فالمعنى فنجمت الحال في هذا الشأن المذكور بينه و بينكم من الخفاء إلى الجلاء. و استفحل سلطانه قوي و اشتد و صار فحلا و استفحل جواب قوله حتى إذا. دلف بجنوده تقدم بهم. و الولجات جمع ولجة بالتحريك و هي موضع أو كهف يستتر فيه المارة من مطر أو غيره. و أقحموكم أدخلوكم و الورطة الهلكة. قوله و أوطئوكم إثخان الجراحة أي جعلوكم واطئين لذلك و الإثخان مصدر أثخن في القتل أي أكثر منه و بالغ حتى كثف شأنه و صار كالشي ء الثخين و معنى شرح نهج البلاغة ج : 13 ص : 143إيطاء الان ببني آدم ذلك إلقاؤه إياهم فيه و توريطهم و حمله لهم عليه فالإثخان على هذا منصوب لأنه مفعول ثان لا كما زعم الراوندي أنه انتصب بحذف حرف الخفض. قوله ع طعنا في عيونكم انتصب طعنا على المصدر و فعله محذوف أي فعلوا بكم هذه الأفعال فطعنوكم في عيونكم طعنا فأما من روى و أوطئوكم لإثخان الجراحة باللام فإنه يجعل طعنا منصوبا على أنه (14/175)
مفعول به أي أوطئوكم طعنا و حزا كقولك أوطأته نارا و أوطأته عشوة و يكون لإثخان الجراحة مفعولا له أي أوطئوكم الطعن ليثخنوا جراحكم و ينبغي أن يكون قصدا و سوقا خالصين للمصدرية لأنه يبعد أن يكون مفعولا به. و اعلم أنه لما ذكر الطعن نسبه إلى العيون و لما ذكر الحز و هو الذبح نسبه إلى الحلوق و لما ذكر الدق و هو الصدم الشديد أضافه إلى المناخر و هذا من صناعة الخطابة التي علمه الله إياها بلا تعليم و تعلمها الناس كلهم بعده منه. و الخزائم جمع خزامة و هي حلقة من شعر تجعل في وتره أنف البعير فيشد فيها الزمام. و تقول قد ورى الزند أي خرجت ناره و هذا الزند أورى من هذا أي أكثر إخراجا للنار يقول فأصبح الشيطان أضر عليكم و أفسد لحالكم من أعدائكم الذين أصبحتم مناصبين لهم أي معادين و عليهم متألبين أي مجتمعين. فإن قلت أما أعظم في الدين حرجا فمعلوم فأي معنى لقوله و أورى في دنياكم قدحا و هل يفسد إبليس أمر الدنيا كما يفسد أمر الدين قلت نعم لأن أكثر القبائح الدينية مرتبطة بالمصالح و المفاسد الدنيوية أ لا ترى أنه إذا أغرى السارق بالسرقة أفسد حال السارق من جهة الدين و حال المسروق منه من جهة الدنيا (14/176)
شرح نهج البلاغة ج : 13 ص : 144و كذلك القول في الغصب و القتل و ما يحدث من مضار الشرور الدنيوية من اختلاط الأنساب و اشتباه النسل و ما يتولد من شرب الخمر و السكر الحاصل عنها من أمور يحدثها السكران خبطا بيده و قذفا بلسانه إلى غير ذلك من أمثال هذه الأمور و أاهها. قوله ع فاجعلوا عليه حدكم أي شباتكم و بأسكم. و له جدكم من جددت في الأمر جدا أي اجتهدت فيه و بالغت. ثم ذكر أنه فخر على أصل بني آدم يعني أباهم آدم ع حيث امتنع من السجود له و قال أنا خير منه. و وقع في حسبكم أي عاب حسبكم و هو الطين فقال إن النار أفضل منه و دفع في نسبكم مثله و أجلب بخيله عليكم أي جمع خيالته و فرسانه و ألبها. و يقتنصونكم يتصيدونكم و البنان أطراف الأصابع و هو جمع واحدته بنانة و يجمع في القلة على بنانات و يقال بنان مخضب لأن كل جمع ليس بينه و بين واحدة إلا الهاء فإنه يذكر و يوحد. و الحومة معظم الماء و الحرب و غيرهما و موضع هذا الجار و المجرور نصب على الحال أي يقتنصونكم في حومة ذل. و الجولة الموضع الذي تجول فيه. و كمن في قلوبكم استتر و منه الكمين في الحرب. و نزغات الشيطان وساوسه التي يفسد بها و نفثاته مثله. قوله و اعتمدوا وضع التذلل على رءوسكم و إلقاء التعزز تحت أقدامكم كلام شريف جليل المحل و كذلك قوله ع و اتخذوا التواضع مسلحة بينكم و بين عدوكم إبليس و جنوده و المسلحة خيل معدة للحماية و الدفاع. شرح نهج البلاغة ج : 13 ص : 145ثم نهاهم أن يكونوا كقابيل الذي حسد أخاه هابيل فقتله و هما أخوان لأب و أم إنما قال ابن أمه فذكر الأم دون الأب لأن الأخوين من الأم أشد حنوا و محبة و التصاقا من الأخوين من الأب لأن الأم هي ذات الحضانة و التربية. و قوله من غير ما فضل ما هاهنا زائدة و تعطي معنى التأكيد نهاهم ع أن يحسدوا النعم و أن يبغوا و يفسدوا في الأرض فإن آدم لما أمر ولده بالقربان قرب قابيل شر ماله و كان كافرا و قرب هابيل خير (14/177)
ماله و كان مؤمنا فتقبل الله تعالى من هابيل و أهبط من السماء نارا فأكلته قالوا لأنه لم يكن في الأرض حينئذ فقير يصل القربان إليه فحسده قابيل و كان أكبر منه سنا فقال لأقتلنك قال هابيل إنما يتقبل الله من المتقين أي بذنبك و جرمك كان عدم قبول قربانك لانسلاخك من التقوى فقتله فأصبح نادما لا ندم التوبة بل ندم الحير و رقة الطبع البشري و لأنه تعب في حمله كما ورد في التنزيل أنه لم يفهم ما ذا يصنع به حتى بعث الله الغراب. قوله ع و ألزمه آثام القاتلين إلى يوم القيامة لأنه كان ابتدأ بالقتل و من سن سنة شر كان عليه وزرها و وزر من عمل بها إلى يوم القيامة كما أن من سن سنة خير كان له أجرها و أجر من عمل بها إلى يوم القيامة و روى أبو جعفر محمد بن جرير الطبري في تاريخه أن الروايات اختلفت في هذه الواقعة فروى قوم أن الرجلين كانا من بني إسرائيل و ليسا من ولد آدم لصلبه و الأكثرون خالفوا في ذلك. ثم اختلف الأكثرون فروى قوم أن القربان من قابيل و هابيل كان ابتداء و الأكثرون قالوا بل أراد آدم ع أن يزوج هابيل أخت قابيل توأمته و يزوج شرح نهج البلاغة ج : 13 ص : 146قابيل أخت هاب توأمته فأبى قابيل لأن توأمته كانت أحسن فأمرهما أبوهما بالقربان فمن تقبل قربانه نكح الحسناء فتقبل قربان هابيل فقتله أخوه كما ورد في الكتاب العزيز. و (14/178)
روى الطبري مرفوعا أنه ص قال ما من نفس تقتل ظلما إلا كان على ابن آدم ع الأول كفل منها و ذلك بأنه أول من سن القتل
و هذا يشيد قول أمير المؤمنين ع
أَلَا وَ قَدْ أَمْعَنْتُمْ فِي الْبَغْيِ وَ أَفْسَدْتُمْ فِي الْأَرْضِ مُصَارَحَةً لِلَّهِ بِالْمُنَاصَبَةِ وَ مُبَارَزَةً لِلْمُؤْمِنِينَ بِالْمُحَارَبَةِ فَاللَّهَ اللَّهَ فِي كِبْرِ الْحَمِيَّةِ وَ فَخْرِ الْجَاهِلِيَّةِ فَإِنَّهُ مَلَاقِحُ الشَّنَئَانِ وَ مَنَافِخُ الشَّيْطَانِ الَّتِي خَدَعَ بِهَا الْأُمَمَ الْمَاضِيَةَ وَ الْقُرُونَ الْخَالِيَةَ حَتَّى أَعْنَقُوا فِي حَنَادِسِ جَهَالَتِهِ وَ مَهَاوِي ضَلَالَتِهِ ذُلُلًا عَنْ سِيَاقِهِ سُلُساً فِي قِيَادِهِ أَمْراً تَشَابَهَتِ الْقُلُوبُ فِيهِ وَ تَتَابَعَتِ الْقُرُونُ عَلَيْهِ وَ كِبْراً تَضَايَقَتِ الصُّدُورُ بِهِ أَلَا فَالْحَذَرَ الْحَذَرَ مِنْ طَاعَةِ سَادَاتِكُمْ وَ كُبَرَائِكُمْ الَّذِينَ تَكَبَّرُوا عَنْ حَسَبِهِمْ وَ تَرَفَّعُوا فَوْقَ نَسَبِهِمْ وَ أَلْقَوُا الْهَجِينَةَ عَلَى رَبِّهِمْ وَ جَاحَدُوا اللَّهَ عَلَى مَا صَنَعَ بِهِمْ مُكَابَرَةً لِقَضَائِهِ وَ مُغَالَبَةً لآِلَائِهِ فَإِنَّهُمْ قَوَاعِدُ آسَاسِ الْعَصَبِيَّةِ وَ دَعَائِمُ أَرْكَانِ الْفِتْنَةِ وَ سُيُوفُ اعْتِزَاءِ الْجَاهِلِيَّةِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَ لَا تَكُونُوا لِنِعَمِهِ عَلَيْكُمْ أَضْدَاداً وَ لَا لِفَضْلِهِ عِنْدَكُمْ حُسَّاداً شرح نهج البلاغة ج : 13 ص : 147وَ لَا تُطِيعُوا الْأَدْعِيَاءَ الَّذِينَ شَرِبْتُمْ بِصَفْوِكُمْ كَدَرَهُمْ وَ خَلَطْتُمْ بِصِحَّتِكُمْ مَرَضَهُمْ وَ أَدْخَلْتُمْ فِي حَقِّكُمْ بَاطِلَهُمْ وَ هُمْ َاسُ الْفُسُوقِ وَ أَحْلَاسُ الْعُقُوقِ اتَّخَذَهُمْ إِبْلِيسُ مَطَايَا ضَلَالٍ وَ جُنْداً بِهِمْ يَصُولُ عَلَى النَّاسِ وَ تَرَاجِمَةً يَنْطِقُ عَلَى أَلْسِنَتِهِمْ اسْتِرَاقاً لِعُقُولِكُمْ وَ دُخُولًا فِي عُيُونِكُمْ وَ نَفْثاً فِي أَسْمَاعِكُمْ فَجَعَلَكُمْ مَرْمَى نَبْلِهِ وَ مَوْطِئَ قَدَمِهِ وَ مَأْخَذَ يَدِهِ (14/179)
فَاعْتَبِرُوا بِمَا أَصَابَ الْأُمَمَ الْمُسْتَكْبِرِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ مِنْ بَأْسِ اللَّهِ وَ صَوْلَاتِهِ وَ وَقَائِعِهِ وَ مَثُلَاتِهِ وَ اتَّعِظُوا بِمَثَاوِي خُدُودِهِمْ وَ مَصَارِعُ جُنُوبِهِمْ وَ اسْتَعِيذُوا بِاللَّهِ مِنْ لَوَاقِحِ الْكِبْرِ كَمَا تَسْتَعِيذُونَهُ مِنْ طَوَارِقِ الدَّهْرِ (14/180)
أمعنتم في البغي بالغتم فيه من أمعن في الأرض أي ذهب فيها بعيدا و مصارحة لله أي مكاشفة. و المناصبة المعاداة. و ملاقح الشنئان قال الراوندي الملاقح هي الفحول التي تلقح و ليس بصحيح نص الجوهري على أن الوجه لواقح كما جاء في القرآن وَ أَرْسَلْنَا الرِّياحَ لَواقِحَ و قال هو من النوادر لأن الماضي رباعي و الصحيح أن ملاقح هاهنا جمع ملقح و هو المصدر من لقحت كضربت مضربا و شربت مشربا و يجوز فتح النون من الشنئان و تسكينها و هو البغض. و منافخ الشيطان جمع منفخ و هو مصدر أيضا من نفخ و نفخ الشيطان و نفثه شرح نهج البلاغة ج :3 ص : 148واحد و هو وسوسته و تسويله و يقال للمتطاول إلى ما ليس له قد نفخ الشيطان في أنفه. و
في كلامه ع يقوله لطلحة و هو صريع و قد وقف عليه و أخذ سيفه سيف طالما جلى به الكرب عن وجه رسول الله ص و لكن الشيطان نفخ في أنفه
قوله و أعنقوا أصرعوا و فرس معناق و السير العنق قال الراجز
يا ناق سيري عنقا فسيحا إلى سليمان فنستريحا
و الحنادس الظلم. و المهاوي جمع مهواة بالفتح و هي الهوة يتردى الصيد فيها و قد تهاوى الصيد في المهواة إذا سقط بعضه في أثر بعض. قوله ع ذللا عن سياقه انتصب على الحال جمع ذلول و هو السهل المقادة و هو حال من الضمير في أعنقوا أي أسرعوا منقادين لسوقه إياهم. و سلسا جمع سلس و هو السهل أيضا و إنما قسم ذللا و سلسا بين سياقه و قياده لأن المستعمل في كلامهم قدت الفرس فوجدته سلسا أو صعبا و لا يستحسنون سقته فوجدته سلسا أو صعبا و إنما المستحسن عندهم سقته فوجدته ذلولا أو شموسا. قوله ع أمرا منصوب بتقدير فعل أي اعتمدوا أمرا و كبرا معطوف عليه أو ينصب كبرا على المصدر بأن يكون اسما واقعا موقعه كالعطاء موضع الإعطاء. و قال الراوندي أمرا منصوب هاهنا لأنه مفعول به و ناصبه المصدر الذي هو سياقه و قياده تقول سقت و قدت قيادا و هذا غير صحيح لأن مفعول هذين المصدرين محذوف تقديره عن سياقه إياهم و قياده إياهم و هذا هو معنى الكلام و لو فرضنا مفعول شرح نهج البلاغة ج : 13 ص : 149أحد هذين المصدرين أمرا لفسد معنى الكلام و قال الراوندي أيضا و يجوز أن يكون أمرا حالا و هذا أيضا ليس بشي ء لأن الحال وصف هيئة الفاعل أو المفعول و أمرا ليس كذلك. قوله ع تشت القلوب فيه أي أن الحمية و الفخر و الكبر و العصبية ما زالت القلوب متشابهة متماثلة فيها. و تتابعت القرون عليه جمع قرن بالفتح و هي الأمة من الناس. و كبرا تضايقت الصدور به أي كبر في الصدور حتى امتلأت به و ضاقت عنه لكثرته. ثم أمر بالحذر من طاعة الرؤساء أرباب الحمية و فيه إشارة إلى قوله تعالى إِنَّا أَطَعْنا سادَتَنا وَ كُبَراءَنا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا. و قد كان أمر في الفصل الأول بالتواضع لله و نهى هاهنا عن التواضع للرؤساء و قد جاء (14/181)
في الخبر المرفوع ما أحسن تواضع الأغنياء للفقراء و أحسن منه تكبر الفقراء على الأغنياء
الذين تكبروا عن حسبهم أي جهلوا أنفسهم و لم يفكروا في أصلهم من النطف المستقذرة من الطين المنتن قال الشاعر (14/182)
ما بال من أوله نطفة و جيفة آخره يفخريصبح لا يملك تقديم ما يرجو و لا تأخير ما يحذر
قوله ع و ألقوا الهجينة على ربهم روي الهجينة على فعيلة كالطبيعة و الخليقة و روي الهجنة على فعلة كالمضغة و اللقمة و المراد بهما الاستهجان من قولك هو يهجن كذا أي يقبحه و يستهجنه أي يستقبحه أي نسبوا ما في الأنساب شرح نهج البلاغة ج : 13 ص : 150من القبح بزعمهملى ربهم مثل أن يقولوا للرجل أنت عجمي و نحن عرب فإن هذا ليس إلى الإنسان بل هو إلى الله تعالى فأي ذنب له فيه. قوله و جاحدوا الله أي كابروه و أنكروا صنعه إليهم. و آساس بالمد جمع أساس. و اعتزاء الجاهلية قولهم يا لفلان و سمع أبي بن كعب رجلا يقول يا لفلان فقال عضضت بهن أبيك فقيل له يا أبا المنذر ما كنت فحاشا
قال سمعت رسول الله ص يقول من تعزى بعزاء الجاهلية فأعضوه بهن أبيه و لا تكنوا
قوله فلا تكونوا لنعمة الله أضدادا لأن البغي و الكبر يقتضيان زوال النعمة و تبدلها بالنقمة. قوله و لا تطيعوا الأدعياء مراده هاهنا بالأدعياء الذين ينتحلون الإسلام و يبطنون النفاق. ثم وصفهم فقال الذين شربتم بصفوكم كدرهم أي شربتم كدرهم مستبدلين ذلك بصفوكم و يروى الذين ضربتم أي مزجتم و يروى شريتم أي بعتم و استبدلتم. و الأحلاس جمع حلس و هو كساء رقيق يكون على ظهر البعير ملازما له فقيل لكل ملازم أمر هو حلس ذلك الأمر. و الترجمان بفتح التاء هو الذي يفسر لسانا بلسان غيره و قد تضم التاء و يروى و نثا في أسماعكم من نث الحديث أي أفشاه شرح نهج البلاغة ج : 13 ص : 15فَلَوْ رَخَّصَ اللَّهُ فِي الْكِبْرِ لِأَحَدٍ مِنْ عِبَادِهِ لَرَخَّصَ فِيهِ لِخَاصَّةِ أَنْبِيَائِهِ وَ لَكِنَّهُ سُبْحَانَهُ كَرَّهَ إِلَيْهِمُ التَّكَابُرَ وَ رَضِيَ لَهُمُ التَّوَاضُعَ فَأَلْصَقُوا بِالْأَرْضِ خُدُودَهُمْ وَ عَفَّرُوا فِي التُّرَابِ وُجُوهَهُمْ وَ خَفَضُوا أَجْنِحَتَهُمْ لِلْمُؤْمِنِينَ وَ كَانُوا قَوْماً مُسْتَضْعَفِينَ قَدِ اخْتَبَرَهُمُ اللَّهُ بِالْمَخْمَصَةِ وَ ابْتَلَاهُمْ بِالْمَجْهَدَةِ وَ امْتَحَنَهُمْ بِالْمَخَاوِفِ وَ مَحَّصَهُمْ بِالْمَكَارِهِ فَلَا تَعْتَبِرُوا الرِّضَا وَ السُّخْطَ بِالْمَالِ وَ الْوَلَدِ جَهْلًا بِمَوَاقِعِ الْفِتْنَةِ وَ الِاخْتِبَارِ فِي مَوْضِعِ الْغِنَى وَ الْإِقْتَارِ فَقَدْ قَالَ سُبْحَانَهُ وَ تَعَالَى أَ يَحْسَبُونَ أَنَّما نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مالٍ وَ بَنِينَ نُسارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْراتِ بَلْ لا يَشْعُرُونَ (14/183)
التكابر التعاظم و الغرض مقابلة لفظة التواضع لتكون الألفاظ مزدوجة. و عفر وجهه ألصقه بالعفر. و خفضوا أجنحتهم ألانوا جانبهم. و المخمصة الجوع و المجهدة المشقة و أمير المؤمنين ع كثير الاستعمال لمفعل و مفعلة بمعنى المصدر إذا تصفحت كلامه عرفت ذلك. و محصهم أي طهرهم و روي مخضهم بالخاء و الضاد المعجمة أي حركهم و زلزلهم. شرح نهج البلاغة ج : 13 ص : 152ثم نهى أن يعتبر رضا الله و سخطه بما نراه من إعطائه الإنسان مالا و ولدا فإن ذلك جهل بمواقع الفتنة و الاختبار. و قوله تعالى أَ يَحْسَبُونَ الآية دليل على ما قاله ع و الأد العقلية أيضا دلت على أن كثيرا من الآلام و الغموم و البلوى إنما يفعله الله تعالى للألطاف و المصالح و ما الموصولة في الآية يعود إليها محذوف و مقدر لا بد منه و إلا كان الكلام غير منتظم و غير مرتبط بعضه ببعض و تقديره نسارع لهم في الخيرات (14/184)
فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ يَخْتَبِرُ عِبَادَهُ الْمُسْتَكْبِرِينَ فِي أَنْفُسِهِمْ بِأَوْلِيَائِهِ الْمُسْتَضْعَفِينَ فِي أَعْيُنِهِمْ وَ لَقَدْ دَخَلَ مُوسَى بْنُ عِمْرَانَ وَ مَعَهُ أَخُوهُ هَارُونُ ع عَلَى فِرْعَوْنَ وَ عَلَيْهِمَا مَدَارِعُ الصُّوفِ وَ بِأَيْدِيهِمَا الْعِصِيُّ فَشَرَطَا لَهُ إِنْ أَسْلَمَ بَقَاءَ مُلْكِهِ وَ دَوَامِ عِزِّهِ فَقَالَ أَ لَا تَعْجَبُونَ مِنْ هَذَيْنِ يَشْرِطَانِ لِي دَوَامَ الْعِزِّ وَ بَقَاءَ الْمُلْكِ وَ هُمَا بِمَا تَرَوْنَ مِنْ حَالِ الْفَقْرِ وَ الذُّلِّ فَهَلَّا أُلْقِيَ عَلَيْهِمَا أَسَاوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ إِعْظَاماً لِلذَّهَبِ وَ جَمْعِهِ وَ احْتِقَاراً لِلصُّوفِ وَ لُبْسِهِ وَ لَوْ أَرَادَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ لِأَنْبِيَائِهِ حَيْثُ بَعَثَهُمْ أَنْ يَفْتَحَ لَهُمْ كُنُوزَ الذِّهْبَانِ وَ مَعَادِنَ الْعِقْيَانِ وَ مَغَارِسَ الْجِنَانِ وَ أَنْ يَحْشُرَ مَعَهُمْ طُيُورَ السَّمَاءِ وَ وُحُوشَ الْأَرَضِينَ لَفَعَلَ وَ لَوْ فَعَلَ لَسَقَطَ الْبَلَاءُ وَ بَطَلَ الْجَزَاءُ وَ اضْمَحَلَّتِ الْأَنْبَاءُ وَ لَمَا وَجَبَ لِلْقَابِلِينَ أُجُورُ الْمُبْتَلَيْنَ وَ لَا اسْتَحَقَّ الْمُؤْمِنُونَ ثَوَابَ الْمُحْسِنِينَ وَ لَا لَزِمَتِ الْأَسْمَاءُ مَعَانِيَهَا وَ لَكِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ جَعَلَ رُسُلَهُ أُولِي قُوَّةٍ فِي عَزَائِمِهِمْ وَ ضَعَفَةً فِيمَا شرح نهج البلاغة ج : 13 ص : 153تَرَى الْأَعْيُنُ مِنْ حَالَاتِهِمْ مَعَ قَنعَةٍ تَمْلَأُ الْقُلُوبَ وَ الْعُيُونَ غِنًى وَ خَصَاصَةٍ تَمْلَأُ الْأَبْصَارَ وَ الْأَسْمَاعَ أَذًى (14/185)
مدارع الصوف جمع مدرعة بكسر الميم و هي كالكساء و تدرع الرجل و تمدرع إذا لبسها و العصي جمع عصا. و تقول هذا سوار المرأة و الجمع أسورة و جمع الجمع أساورة و قرئ فَلَوْ لا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ و قد يكون جمع أساور قال سبحانه يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ قال أبو عمرو بن العلاء أساور هاهنا جمع إسوار و هو السوار. و الذهبان بكسر الذال جمع ذهب كخرب لذكر الحبارى و خربان و العقيان الذهب أيضا قوله ع و اضمحلت الأنباء أي تلاشت و فنيت و الأنباء جمع نبأ و هو الخبر أي لسقط الوعد و الوعيد و بطلا. قوله ع و لا لزمت الأسماء معانيها أي من يسمى مؤمنا أو مسلما حينئذ فإن تسميته مجاز لا حقيقة لأنه ليس بمؤمن إيمانا من فعله و كسبه بل يكون ملجأ إلى الإيمان بما يشاهده من الآيات العظيمة. و المبتلين بفتح اللام جمع مبتلى كالمعطين و المرتضين جمع معطى و مرتضى. و الخصاصة الفقر. شرح نهج البلاغة ج : 13 ص : 154و هذا الكلام هو ما يقوله أصحابنا بعينه في تعليل أفعال الباري سبحانه بالحكمة و المصلحة و أن الغرض بالتكليف هو التعريض للثواب و أنه يجب أن يكون خالصا من الإلجاء و من أن يفعل الواجب بوجه غير وجه وجوبه يرتدع عن قبيح لوجه غير وجه قبحه. و روى أبو جعفر محمد بن جرير الطبري في التاريخ أن موسى قدم هو و أخوه هارون مصر على فرعون لما بعثهما الله تعالى إليه حتى وقفا على بابه يلتمسان الإذن عليه فمكثا سنين يغدوان على بابه و يروحان لا يعلم بهما و لا يجترئ أحد على أن يخبره بشأنهما و قد كانا قالا لمن بالباب إنا رسولا رب العالمين إلى فرعون حتى دخل عليه بطال له يلاعبه و يضحكه فقال له أيها الملك إن على الباب رجلا يقول قولا عجيبا عظيما و يزعم أن له إلها غيرك قال ببابي قال نعم قال أدخلوه فدخل و بيده عصاه و معه هارون أخوه فقال أنا رسول رب العالمين إليك و ذكر تمام الخبر. فإن قلت أي خاصية في الصوف و (14/186)
لبسه و لم اختاره الصالحون على غيره قلت ورد في الخبر أن أول لباس لبسه آدم لما هبط إلى الأرض صوف كبش قيضه الله له و أمره أن يذبحه فيأكل لحمه و يلبس صوفه لأنه أهبط عريان من الجنة فذبحه و غزلت حواء صوفه فلبس آدم منه ثوبا و ألبس حواء ثوبا آخر فلذلك صار شعار الأولياء و انتسبت إليه الصوفية شرح نهج البلاغة ج : 13 ص : 15وَ لَوْ كَانَتِ الْأَنْبِيَاءُ أَهْلَ قُوَّةٍ لَا تُرَامُ وَ عِزَّةٍ لَا تُضَامُ وَ مُلْكٍ تُمَدُّ نَحْوَهُ أَعْنَاقُ الرِّجَالِ وَ تُشَدُّ إِلَيْهِ عُقَدُ الرِّحَالِ لَكَانَ ذَلِكَ أَهْوَنَ عَلَى الْخَلْقِ فِي الِاعْتِبَارِ وَ أَبْعَدَ لَهُمْ مِنَ الِاسْتِكْبَارِ وَ لآَمَنُوا عَنْ رَهْبَةٍ قَاهِرَةٍ لَهُمْ أَوْ رَغْبَةٍ مَائِلَةٍ بِهِمْ فَكَانَتِ النِّيَّاتُ مُشْتَرَكَةً وَ الْحَسَنَاتُ مُقْتَسَمَةً وَ لَكِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ أَرَادَ أَنْ يَكُونَ الِاتِّبَاعُ لِرُسُلِهِ وَ التَّصْدِيقُ بِكُتُبِهِ وَ الْخُشُوعُ لِوَجْهِهِ وَ الِاسْتِكَانَةُ لِأَمْرِهِ وَ الِاسْتِسْلَامُ لِطَاعَتِهِ أُمُوراً لَهُ خَاصَّةً لَا يَشُوبُهَا مِنْ غَيْرِهَا شَائِبَةٌ (14/187)
تمد نحوه أعناق الرجال أي لعظمته أي يؤمله المؤملون و يرجوه الراجون و كل من أمل شيئا فقد طمح ببصره إليه معنى لا صورة فكنى عن ذلك بمد العنق. و تشد إليه عقد الرحال يسافر أرباب الرغبات إليه يقول لو كان الأنبياء ملوكا ذوي بأس و قهر لم يمكن إيمان الخلق و انقيادهم إليهم لأن الإيمان في نفسه واجب عقلا بل كان لرهبة لهم أو رغبة فيهم فكانت النيات مشتركة هذا فرض سؤال و جواب عنه كأنه قال لنفسه لم لا يجوز أن يكون إيمانهم على هذا التقدير لوجوبه و لخوف ذلك النبي أو لرجاء نفع ذلك النبي ص فقال لأن النيات تكون حينئذ مشتركة أي يكون المكلف قد فعل الإيمان لكلا الأمرين و كذلك تفسير قوله و الحسنات مقتسمة قال و لا يجوز أن تكون طاعة الله تعالى تعلو إلا لكونها طاعة له لا غير و لا يجوز أن يشوبها و يخالطها من غيرها شائبة. شرح نهج البلاغة ج : 13 ص : 156فإن قلت ما معنى قوله لكان ذلك أهون ى الخلق في الاعتبار و أبعد لهم من الاستكبار قلت أي لو كان الأنبياء كالملوك في السطوة و البطش لكان المكلف لا يشق عليه الاعتبار و الانزجار عن القبائح مشقته عليه إذا تركه لقبحه لا لخوف السيف و كان بعد المكلفين عن الاستكبار و البغي لخوف السيف و التأديب أعظم من بعدهم عنهما إذا تركوهما لوجه قبحهما فكان يكون ثواب المكلف إما ساقطا و إما ناقصا (14/188)
وَ كُلَّمَا كَانَتِ الْبَلْوَى وَ الِاخْتِبَارُ أَعْظَمَ كَانَتِ الْمَثُوبَةُ وَ الْجَزَاءُ أَجْزَلَ أَ لَا تَرَوْنَ أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ اخْتَبَرَ الْأَوَّلِينَ مِنْ لَدُنْ آدَمَ ص إِلَى الآْخِرِينَ مِنْ هَذَا الْعَالَمِ بِأَحْجَارٍ لَا تَضُرُّ وَ لَا تَنْفَعُ وَ لَا تُبْصِرُ وَ لَا تَسْمَعُ فَجَعَلَهَا بَيْتَهُ الْحَرَامَ الَّذِي جَعَلَهُ اللَّهُ لِلنَّاسِ قِيَاماً ثُمَّ وَضَعَهُ بِأَوْعَرِ بِقَاعِ الْأَرْضِ حَجَراً وَ أَقَلِّ نَتَائِقِ الدُّنْيَا مَدَراً وَ أَضْيَقِ بُطُونِ الْأَوْدِيَةِ قُطْراً بَيْنَ جِبَالٍ خَشِنَةٍ وَ رِمَالٍ دَمِثَةٍ وَ عُيُونٍ وَشِلَةٍ وَ قُرًى مُنْقَطِعَةٍ لَا يَزْكُو بِهَا خُفٌّ وَ لَا حَافِرٌ وَ لَا ظِلْفٌ ثُمَّ أَمَرَ آدَمَ ع وَ وَلَدَهُ أَنْ يَثْنُوا أَعْطَافَهُمْ نَحْوَهُ فَصَارَ مَثَابَةً لِمُنْتَجَعِ أَسْفَارِهِمْ وَ غَايَةً لِمُلْقَى رِحَالِهِمْ تَهْوِي إِلَيْهِ ثِمَارُ الْأَفْئِدَةِ مِنْ مَفَاوِزِ قِفَارٍ سَحِيقَةٍ وَ مَهَاوِي فِجَاجٍ عَمِيقَةٍ وَ جَزَائِرِ بِحَارٍ مُنْقَطِعَةٍ حَتَّى يَهُزُّوا مَنَاكِبَهُمْ ذُلُلًا يُهَلِّلُونَ لِلَّهِ حَوْلَهُ وَ يَرْمُلُونَ عَلَى أَقْدَامِهِمْ شُعْثاً غُبْراً لَهُ قَدْ نَبَذُوا السَّرَابِيلَ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَ شَوَّهُوا بِإِعْفَاءِ الشُّعُورِ مَحَاسِنَ خَلْقِهِمُ ابْتِلَاءً عَظِيماً وَ امْتِحَاناً شَدِيداً وَ اخْتِبَاراً مُبِيناً وَ تَمْحِيصاً بَلِيغاً جَعَلَهُ اللَّهُ سَبَباً لِرَحْمَتِهِ وَ وُصْلَةً إِلَى جَنَّتِهِ شرح نهج البلاغة ج : 13 ص : 157وَ لَوْ أَرَادَ سُبْحَانَهُ أَنْ يَضَعَ بَيْتَهُ الْحَرَامَ وَ مَشَاعِرَهُ الْعِظَامَ بَيْنَ جَنَّاتٍ وَ أَنْهَارٍ وَ سَهْلٍ وَ قَرَارٍ جَمَّ الْأَشْجَارِ دَانِيَ الثِّمَارِ مُلْتَفَّ ابُنَى مُتَّصِلَ الْقُرَى بَيْنَ بُرَّةٍ سَمْرَاءَ وَ رَوْضَةٍ (14/189)
خَضْرَاءَ وَ أَرْيَافٍ مُحْدِقَةٍ وَ عِرَاصٍ مُغْدِقَةٍ وَ زُرُوعٍ نَاضِرَةٍ وَ طُرُقٍ عَامِرَةٍ لَكَانَ قَدْ صَغُرَ قَدْرُ الْجَزَاءِ عَلَى حَسَبِ ضَعْفِ الْبَلَاءِ وَ لَوْ كَانَ الْأَسَاسُ الْمَحْمُولُ عَلَيْهَا وَ الْأَحْجَارُ الْمَرْفُوعُ بِهَا مِنْ زُمُرُّدَةٍ خَضْرَاءَ وَ يَاقُوتَةٍ حَمْرَاءَ وَ نُورٍ وَ ضِيَاءٍ لَخَفَّفَ ذَلِكَ مُصَارَعَةَ الشَّكِّ فِي الصُّدُورِ وَ لَوَضَعَ مُجَاهَدَةَ إِبْلِيسَ عَنِ الْقُلُوبِ وَ لَنَفَى مُعْتَلَجَ الرَّيْبِ مِنَ النَّاسِ وَ لَكِنَّ اللَّهَ يَخْتَبِرُ عِبَادَهُ بِأَنْوَاعِ الشَّدَائِدِ وَ يَتَعَبَّدُهُمْ بِأَنْوَاعِ الْمَجَاهِدِ وَ يَبْتَلِيهِمْ بِضُرُوبِ الْمَكَارِهِ إِخْرَاجاً لِلتَّكَبُّرِ مِنْ قُلُوبِهِمْ وَ إِسْكَاناً لِلتَّذَلُّلِ فِي نُفُوسِهِمْ وَ لِيَجْعَلَ ذَلِكَ أَبْوَاباً فُتُحاً إِلَى فَضْلِهِ وَ أَسْبَاباً ذُلُلًا لِعَفْوِهِ (14/190)
كانت المثوبة أي الثواب. و أجزل أكثر و الجزيل العظيم و عطاء جزل و جزيل و الجمع جزال و قد أجزلت له من العطاء أي أكثرت. و جعله للناس قياما أي عمادا و فلان قيام أهله أي يقيم شئونهم و منه قوله تعالى وَ لا تُؤْتُوا السُّفَهاءَ أَمْوالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِياماً. و أوعر بقاع الأرض حجرا أي أصعبها و مكان وعر بالتسكين صعب المسلك أو المقام. شرح نهج البلاغة ج : 13 ص : 158و أقل نتائق الدنيا مدرا أصل هذه اللفظة من قولهم امرأة منتاق أي كثيرة الحبل و الولادة و يقال ضيعة منتاق أي كثيرة الريع فجعل ع الضياع ات المدر التي تثار للحرث نتائق و قال إن مكة أقلها صلاحا للزرع لأن أرضها حجرية. و القطر الجانب و رمال دمثة سهلة و كلما كان الرمل أسهل كان أبعد عن أن ينبت. و عيون وشلة أي قليلة الماء و الوشل بفتح الشين الماء القليل و يقال وشل الماء وشلانا أي قطر. قوله لا يزكو بها خف أي لا تزيد الإبل فيها أي لا تسمن و الخف هاهنا هو الإبل و الحافر الخيل و الحمير و الظلف الشاة أي ليس حولها مرعى يرعاه الغنم فتسمن. و أن يثنوا أعطافهم نحوه أي يقصدوه و يحجوه و عطفا الرجل جانباه. و صار مثابة أي يثاب إليه و يرجع نحوه مرة بعد أخرى و هذه من ألفاظ الكتاب العزيز. قوله ع لمنتجع أسفارهم أي لنجعتها و النجعة طلب الكلأ في الأصل ثم سمي كل من قصد أمرا يروم النفع منه منتجعا. قوله و غاية لملقى رحالهم أي صار البيت هو الغاية التي هي الغرض و المقصد و عنده تلقى الرحال أي تحط رحال الإبل عن ظهورها و يبطل السفر لأنهم قد انتهوا إلى الغاية المقصودة. شرح نهج البلاغة ج : 13 ص : 159قوله تهوي إليه ثمار الأفئدة ثمرة الفؤاد هو سويداء القلب و منه قولهم للولد هو ثمرة الفؤاد و معنى تهوي إليه أي تتشوقه و تحن نحوه. و المفاوز هي جمع مفازة الفلاة سميت مفازة إما لأنها مكة من قولهم فوز الرجل أي هلك و أما تفاؤلا بالسلامة و الفوز و (14/191)
الرواية المشهورة من مفاوز قفار بالإضافة و قد روى قوم من مفاوز بفتح الزاء لأنه لا ينصرف و لم يضيفوا جعلوا قفار صفة. و السحيقة البعيدة. و المهاوي المساقط. و الفجاج جمع فج و هو الطريق بين الجبلين. قوله ع حتى يهزوا مناكبهم أي يحركهم الشوق نحوه إلى أن يسافروا إليه فكنى عن السفر بهز المناكب. و ذللا حال إما منهم و إما من المناكب و واحد المناكب منكب بكسر الكاف و هو مجمع عظم العضد و الكتف. قوله و يهللون يقولون لا إله إلا الله و روي يهلون لله أي يرفعون أصواتهم بالتلبية و نحوها. و يرملون الرمل السعي فوق المشي قليلا. شعثا غبرا لا يتعهدون شعورهم و لا ثيابهم و لا أبدانهم قد نبذوا السرابيل و رموا ثيابهم و قمصانهم المخيطة. و شوهوا بإعفاء الشعور أي غيروا و قبحوا محاسن صورهم بأن أعفوا شعورهم فلم يحلقوا ما فضل منها و سقط على الوجه و نبت في غيره من الأعضاء التي جرت العادة بإزالتها عنها. (14/192)
شرح نهج البلاغة ج : 13 ص : 160و التمحيص التطهير من محصت الذهب بالنار إذا صفيته مما يشوبه و التمحيص أيضا الامتحان و الاختبار و المشاعر معالم النسك. قوله و سهل و قرار أي في مكان سهل يستقر فيه الناس و لا ينالهم من المقام به مشقة. و جم الأشجار كثيرها و دانيلثمار قريبها. و ملتف البنى مشتبك العمارة. و البرة الواحدة من البر و هو الحنطة. و الأرياف جمع ريف و هو الخصب و المرعى في الأصل و هو هاهنا السواد و المزارع و محدقة محيطة و مغدقة غزيرة و الغدق الماء الكثير. و ناضرة ذات نضارة و رونق و حسن. قوله و لو كانت الإساس يقول لو كانت إساس البيت التي حمل البيت عليها و أحجاره التي رفع بها من زمردة و ياقوتة فالمحمول و المرفوع كلاهما مرفوعان لأنهما صفة اسم كان و الخبر من زمردة و روي بين زمردة و يجوز أن تحمل لفظتا المفعول و هما المحمول و المرفوع ضمير البيت فيكون قائما مقام اسم الفاعل و يكون موضع الجار و المجرور نصبا و يجوز ألا تحملهما ذلك الضمير و يجعل الجار و المجرور هو الساد مسد الفاعل فيكون موضعه رفعا. و روي مضارعة الشك بالضاد المعجمة و معناه مقارنة الشك و دنوه من النفس و أصله من مضارعة القدر إذا حان إدراكها و من مضارعة الشمس إذا دنت للمغيب. و قال الراوندي في تفسير هذه الكلمة من مضارعة الشك أي مماثلته و مشابهته و هذا بعيد لأنه لا معنى للمماثلة و المشابهة هاهنا و الرواية الصحيحة بالصاد المهملة. قوله ع و لنفى متعلج الريب أي اعتلاجه أي و لنفى اضطراب الشك في القلوب و روي يستعبدهم و يتعبدهم و الثانية أحسن. شرح نهج البلاغة ج : 13 ص : 161و المجاهد جمع مجهدة و هي المشقة. و أبوابا فتحا أي مفتوحة و أسبابا ذللا أي سهلة. و اعلم أن محصول هذا الفصل أنه كلما كانت العبادة أشق كان الثواب عليها أعظم و لو أن الله تعالى جعل العبادات سهلة على اكلفين لما استحقوا عليها من الثواب إلا قدرا يسيرا بحسب ما يكون فيها (14/193)
من المشقة اليسيرة. فإن قلت فهل كان البيت الحرام موجودا أيام آدم ع ثم أمر آدم و ولده أن يثنوا أعطافهم نحوه قلت نعم هكذا روى أرباب السير و أصحاب التواريخ (14/194)
روى أبو جعفر محمد بن جرير الطبري في تاريخه عن ابن عباس أن الله تعالى أوحى إلى آدم لما أهبطه إلى الأرض أن لي حرما حيال عرشي فانطلق فابن لي بيتا فيه ثم طف به كما رأيت ملائكتي تحف بعرشي فهنالك أستجيب دعاءك و دعاء من يحف به من ذريتك فقال آدم إني لست أقوى على بنائه و لا أهتدي إليه فقيض الله تعالى له ملكا فانطلق به نحو مكة و كان آدم في طريقه كلما رأى روضة أو مكانا يعجبه سأل الملك أن ينزل به هناك ليبني فيه فيقول الملك إنه ليس هاهنا حتى أقدمه مكة فبنى البيت من خمسة جبال طور سيناء و طور زيتون و لبنان و الجودي و بنى قواعده من حراء فلما فرغ خرج به الملك إلى عرفات فأراه المناسك كلها التي يفعلها الناس اليوم ثم قدم به مكة و طاف بالبيت أسبوعا ثم رجع إلى أرض الهند فمات
و روى الطبري في التاريخ أن آدم حج من أرض الهند إلى الكعبة أربعين حجة على رجليه. شرح نهج البلاغة ج : 13 ص : 162و قد روي أن الكعبة أنزلت من السماء و هي ياقوتة أو لؤلؤة على اختلاف الروايات و أنها بقيت على تلك الصورة إلى أن فسدت الأرض بالمعاصي أيام نوح و جاء الطوفان فرفع البيت و بنى إبراهيم هذه البنية على قواعده القديمة
و روى أبو جعفر عن وهب بن منبه أن آدم دعا ربه فقال يا رب أ ما لأرضك هذه عامر يسبحك و يقدسك فيها غيري فقال الله إني سأجعل فيها من ولدك من يسبح بحمدي و يقدسني و سأجعل فيها بيوتا ترفع لذكري يسبحني فيها خلقي و يذكر فيها اسمي و سأجعل من تلك البيوت بيتا أختصه بكرامتي و أوثره باسمي فأسميه بيتي و عليه وضعت جلالتي و خصصته بعظمتي و أنا مع ذلك في كل شي ء أجعل ذلك البيت حرما آمنا يحرم بحرمته من حوله و من تحته و من فوقه فمن حرمه بحرمتي استوجب كرامتي و من أخاف أهله فقد أباح حرمتي و استحق سخطي و أجعله بيتا مباركا يأتيه بنك شعثا غبرا على كل ضامر من كل فج عميق يرجون بالتلبية رجيجا و يعجون بالتكبير عجيجا من اعتمده لا يريد غيره و وفد إلي و زارني و استضاف بي أسعفته بحاجته و حق على الكريم أن يكرم وفده و أضيافه تعمره يا آدم ما دمت حيا ثم تعمره الأمم و القرون و الأنبياء من ولدك أمة بعد أمة و قرنا بعد قرن (14/195)
قال ثم أمر آدم أن يأتي إلى البيت الحرام الذي أهبط له إلى الأرض فيطوف به كما كان يرى الملائكة تطوف حول العرش و كان البيت حينئذ من درة أو من ياقوتة فلما أغرق الله تعالى قوم نوح رفعه و بقي أساسه فبوأه الله لإبراهيم فبناه شرح نهج البلاغة ج : 13 ص : 16فَاللَّهَ اللَّهَ فِي عَاجِلِ الْبَغْيِ وَ آجِلِ وَخَامَةِ الظُّلْمِ وَ سُوءِ عَاقِبَةِ الْكِبْرِ فَإِنَّهَا مَصْيَدَةُ إِبْلِيسَ الْعُظْمَى وَ مَكِيدَتُهُ الْكُبْرَى الَّتِي تُسَاوِرُ قُلُوبَ الرِّجَالِ مُسَاوَرَةَ السُّمُومِ الْقَاتِلَةِ فَمَا تُكْدِي أَبَداً وَ لَا تُشْوِي أَحَداً لَا عَالِماً لِعِلْمِهِ وَ لَا مُقِلًّا فِي طِمْرِهِ وَ عَنْ ذَلِكَ مَا حَرَسَ اللَّهُ عِبَادَهُ الْمُؤْمِنِينَ بِالصَّلَوَاتِ وَ الزَّكَوَاتِ وَ مُجَاهَدَةِ الصِّيَامِ فِي الْأَيَّامِ الْمَفْرُوضَاتِ تَسْكِيناً لِأَطْرَافِهِمْ وَ تَخْشِيعاً لِأَبْصَارِهِمْ وَ تَذْلِيلًا لِنُفُوسِهِمْ وَ تَخْفِيضاً لِقُلُوبِهِمْ وَ إِذْهَاباً لِلْخُيَلَاءِ عَنْهُمْ وَ لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ تَعْفِيرِ عِتَاقِ الْوُجُوهِ بِالتُّرَابِ تَوَاضُعاً وَ الْتِصَاقِ كَرَائِمِ الْجَوَارِحِ بِالْأَرْضِ تَصَاغُراً وَ لُحُوقِ الْبُطُونِ بِالْمُتُونِ مِنَ الصِّيَامِ تَذَلُّلًا مَعَ مَا فِي الزَّكَاةِ مِنْ صَرْفِ ثَمَرَاتِ الْأَرْضِ وَ غَيْرِ ذَلِكَ إِلَى أَهْلِ الْمَسْكَنَةِ وَ الْفَقْرِ انْظُرُوا إِلَى مَا فِي هَذِهِ الْأَفْعَالِ مِنْ قَمْعِ نَوَاجِمِ الْفَخْرِ وَ قَدْعِ طَوَالِعِ الْكِبْرِ (14/196)
بلدة وخمة و وخيمة بينة الوخامة أي وبيئة. مصيدة إبليس بسكون الصاد و فتح الياء آلته التي يصطاد بها. و تساور قلوب الرجال تواثبها و سار إليه يسور أي وثب و المصدر السور و مصدر تساور المساورة و يقال إن لغضبه سورة و هو سوار أي وثاب معربد. شرح نهج البلاغة ج : 13 : 164و سورة الشراب وثوبه في الرأس و كذلك مساورة السموم التي ذكرها أمير المؤمنين ع. و ما تكدي ما ترد عن تأثيرها من قولك أكدى حافر الفرس إذا بلغ الكدية و هي الأرض الصلبة فلا يمكنه أن يحفر. و لا تشوي أحدا لا تخطئ المقتل و تصيب غيره و هو الشوى و الشوى الأطراف كاليد و الرجل. قال لا ترد مكيدته عن أحد لا عن عالم لأجل علمه و لا عن فقير لطمره و الطمر الثوب الخلق. و ما في قوله و عن ذلك ما حرس الله زائدة مؤكدة أي عن هذه المكايد التي هي البغي و الظلم و الكبر حرس الله عباده فعن متعلقة بحرس و قال الراوندي يجوز أن تكون مصدرية فيكون موضعها رفعا بالابتداء و خبر المبتدأ قوله لما في ذلك و قال أيضا يجوز أن تكون نافية أي لم يحرس الله عباده عن ذلك إلجاء و قهرا بل فعلوه اختيارا من أنفسهم و الوجه الأول باطل لأن عن على هذا التقدير تكون من صلة المصدر فلا يجوز تقديمها عليه و أيضا فإن لما في ذلك لو كان هو الخبر لتعلق لام الجر بمحذوف فيكون التقدير حراسة الله لعباده عن ذلك كائنة لما في ذلك من تعفير الوجوه بالتراب و هذا كلام غير مفيد و لا منتظم إلا على تأويل بعيد لا حاجة إلى تعسفه و الوجه الثاني باطل لأن سياقة الكلام تدل على فساده أ لا ترى قوله تسكينا و تخشيعا و قوله لما في ذلك من كذا و هذا كله تعليل الحاصل الثابت لا تعليل المنفي المعدوم. ثم بين ع الحكمة في العبادات فقال إنه تعالى حرس عباده بالصلوات شرح نهج البلاغة ج : 13 ص : 165التي افترضها عليهم من تلك المكايد و كذلك بالزكاة و الصوم لين أطرافهم و يخشع أبصارهم فجعل التسكين و التخشيع عذرا و علة للحراسة (14/197)
و نصب اللفظات على أنها مفعول له. ثم علل السكون و الخشوع الذي هو علة الحراسة لما في الصلاة من تعفير الوجه على التراب فصار ذلك علة العلة قال و ذلك لأن تعفير عتاق الوجوه بالتراب تواضعا يوجب هضم النفس و كسرها و تذليلها. و عتاق الوجوه كرائمها. و إلصاق كرائم الجوارح بالأرض كاليدين و الساقين تصاغرا يوجب الخشوع و الاستسلام و الجوع في الصوم الذي يلحق البطن في المتن يقتضي زوال الأشر و البطر و يوجب مذلة النفس و قمعها عن الانهماك في الشهوات و ما في الزكاة من صرف فواضل المكاسب إلى أهل الفقر و المسكنة يوجب تطهير النفوس و الأموال و مواساة أرباب الحاجات بما تسمح به النفوس من الأموال و عاصم لهم من السرقات و ارتكاب المنكرات ففي ذلك كله دفع مكايد الشيطان. و تخفيض القلوب حطها عن الاعتلاء و التيه. و الخيلاء التكبر و المسكنة أشد الفقر في أظهر الرأيين. و القمع القهر. و النواجم جمع ناجمة و هي ما يظهر و يطلع من الكبر و غيره. و القدع بالدال المهملة الكف قدعت الفرس و كبحته باللجام أي كففته. و الطوالع كالنواجم شرح نهج البلاغة ج : 13 ص : 16وَ لَقَدْ نَظَرْتُ فَمَا وَجَدْتُ أَحَداً مِنَ الْعَالَمِينَ يَتَعَصَّبُ لِشَيْ ءٍ مِنَ الْأَشْيَاءِ إِلَّا عَنْ عِلَّةٍ تَحْتَمِلُ تَمْوِيهَ الْجُهَلَاءِ أَوْ حُجَّةٍ تَلِيطُ بِعُقُولِ السُّفَهَاءِ غَيْرَكُمْ فَإِنَّكُمْ تَتَعَصَّبُونَ لِأَمْرٍ مَا يُعْرفُ لَهُ سَبَبٌ وَ لَا عِلَّةٌ أَمَّا إِبْلِيسُ فَتَعَصَّبَ عَلَى آدَمَ لِأَصْلِهِ وَ طَعَنَ عَلَيْهِ فِي خِلْقَتِهِ فَقَالَ أَنَا نَارِيٌّ وَ أَنْتَ طِينِيٌّ وَ أَمَّا الْأَغْنِيَاءُ مِنْ مُتْرَفَةِ الْأُمَمِ فَتَعَصَّبُوا لآِثَارِ مَوَاقِعِ النِّعَمِ فَقَالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالًا وَ أَوْلَاداً وَ مَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ فَإِنْ كَانَ لَا بُدَّ مِنَ الْعَصَبِيَّةِ فَلْيَكُنْ تَعَصُّبُكُمْ لِمَكَارِمِ (14/198)
الْخِصَالِ وَ مَحَامِدِ الْأَفْعَالِ وَ مَحَاسِنِ الْأُمُورِ الَّتِي تَفَاضَلَتْ فِيهَا الْمُجَدَاءُ وَ النُّجَدَاءُ مِنْ بُيُوتَاتِ الْعَرَبِ وَ يَعَاسِيبِ القَبَائِلِ بِالْأَخْلَاقِ الرَّغِيبَةِ وَ الْأَحْلَامِ الْعَظِيمَةِ وَ الْأَخْطَارِ الْجَلِيلَةِ وَ الآْثَارِ الْمَحْمُودَةِ فَتَعَصَّبُوا لِخِلَالِ الْحَمْدِ مِنَ الْحِفْظِ لِلْجِوَارِ وَ الْوَفَاءِ بِالذِّمَامِ وَ الطَّاعَةِ لِلْبِرِّ وَ الْمَعْصِيَةِ لِلْكِبْرِ وَ الْأَخْذِ بِالْفَضْلِ وَ الْكَفِّ عَنِ الْبَغْيِ وَ الْإِعْظَامِ لِلْقَتْلِ وَ الْإِنْصَافِ لِلْخَلْقِ وَ الْكَظْمِ لِلْغَيْظِ وَ اجْتِنَابِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ (14/199)
قد روي تحتمل بالتاء و روي تحمل و المعنى واحد. و التمويه التلبيس من موهت النحاس إذا طليته بالذهب ليخفى. و لاط الشي ء بقلبي يلوط و يليط أي التصق. و المترف الذي أطغته النعمة. شرح نهج البلاغة ج : 13 ص : 167و تفاضلت فيها أي تزايدت. و المجداء جمع ماجد و المجدشرف في الآباء و الحسب و الكرم يكونان في الرجل و إن لم يكونا في آبائه هكذا قال ابن السكيت و قد اعترض عليه بأن المجيد من صفات الله تعالى قال سبحانه ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ على قراءة من رفع و الله سبحانه يتعالى عن الآباء و قد جاء في وصف القرآن المجيد قال سبحانه بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ. و النجداء الشجعان واحدهم نجيد و أما نجد و نجد بالكسر و الضم فجمعه أنجاد مثل يقظ و أيقاظ. و بيوتات العرب قبائلها و يعاسيب القبائل رؤساؤها و اليعسوب في الأصل ذكر النحل و أميرها. و الرغيبة الخصلة يرغب فيها. و الأحلام العقول و الأخطار الأقدار. ثم أمرهم بأن يتعصبوا لخلال الحمد و عددها و ينبغي أن يحمل قوله ع فإنكم تتعصبون لأمر ما يعرف له سبب و لا علة على أنه لا يعرف له سبب مناسب فكيف يمكن أن يتعصبوا لغير سبب أصلا. و قيل إن أصل هذه العصبية و هذه الخطبة أن أهل الكوفة كانوا قد فسدوا في آخر خلافة أمير المؤمنين و كانوا قبائل في الكوفة فكان الرجل يخرج من منازل قبيلته فيمر بمنازل قبيلة أخرى فينادي باسم قبيلته يا للنخع مثلا أو يا لكندة نداء عاليا يقصد به الفتنة و إثارة الشر فيتألب عليه فتيان القبيلة التي مر بها فينادون يا لتميم شرح نهج البغة ج : 13 ص : 168و يا لربيعة و يقبلون إلى ذلك الصائح فيضربونه فيمضي إلى قبيلته فيستصرخها فتسل السيوف و تثور الفتن و لا يكون لها أصل في الحقيقة إلا تعرض الفتيان بعضهم ببعض (14/200)
وَ احْذَرُوا مَا نَزَلَ بِالْأُمَمِ قَبْلَكُمْ مِنَ الْمَثُلَاتِ بِسُوءِ الْأَفْعَالِ وَ ذَمِيمِ الْأَعْمَالِ فَتَذَكَّرُوا فِي الْخَيْرِ وَ الشَّرِّ أَحْوَالَهُمْ وَ احْذَرُوا أَنْ تَكُونُوا أَمْثَالَهُمْ فَإِذَا تَفَكَّرْتُمْ فِي تَفَاوُتِ حَالَيْهِمْ فَالْزَمُوا كُلَّ أَمْرٍ لَزِمَتِ الْعِزَّةُ بِهِ حَالَهُمْ وَ زَاحَتِ الْأَعْدَاءُ لَهُ عَنْهُمْ وَ مُدَّتِ الْعَافِيَةُ بِهِ عَلَيْهِمْ وَ انْقَادَتِ النِّعْمَةُ لَهُ مَعَهُمْ وَ وَصَلَتِ الْكَرَامَةُ عَلَيْهِ حَبْلَهُمْ مِنَ الِاجْتِنَابِ لِلْفُرْقَةِ وَ اللُّزُومِ لِلْأُلْفَةِ وَ التَّحَاضِّ عَلَيْهَا وَ التَّوَاصِي بِهَا وَ اجْتَنِبُوا كُلَّ أَمْرٍ كَسَرَ فِقْرَتَهُمْ وَ أَوْهَنَ مُنَّتَهُمْ مِنْ تَضَاغُنِ الْقُلُوبِ وَ تَشَاحُنِ الصُّدُورِ وَ تَدَابُرِ النُّفُوسِ وَ تَخَاذُلِ الْأَيْدِي (14/201)
المثلات العقوبات. و ذميم الأفعال ما يذم منها. و تفاوت حاليهم اختلافهما و زاحت الأعداء بعدت و له أي لأجله. و التحاض عليها تفاعل يستدعي وقوع الحض و هو الحث من الجهتين أي يحث بعضهم بعضا. و الفقرة واحدة فقر الظهر و يقال لمن قد أصابته مصيبة شديدة قد كسرت فقرته. شرح نهج البلاغة ج : 13 ص : 169و المنة القوة. و تضاغن القلوب و تشاحنها واحد و تخاذل الأيدي ألا ينصر الناس بعضهم بعضاوَ تَدَبَّرُوا أَحْوَالَ الْمَاضِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ قَبْلَكُمْ كَيْفَ كَانُوا فِي حَالِ التَّمْحِيصِ وَ الْبَلَاءِ أَ لَمْ يَكُونُوا أَثْقَلَ الْخَلَائِقِ أَعْبَاءً وَ أَجْهَدَ الْعِبَادِ بَلَاءً وَ أَضْيَقَ أَهْلِ الدُّنْيَا حَالًا اتَّخَذَتْهُمُ الْفَرَاعِنَةُ عَبِيداً فَسَامُوهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ وَ جَرَّعُوهُمْ جُرَعَ الْمُرَارِ فَلَمْ تَبْرَحِ الْحَالُ بِهِمْ فِي ذُلِّ الْهَلَكَةِ وَ قَهْرِ الْغَلَبَةِ لَا يَجِدُونَ حِيلَةً فِي امْتِنَاعٍ وَ لَا سَبِيلًا إِلَى دِفَاعٍ حَتَّى إِذَا رَأَى اللَّهُ سُبْحَانَهُ جِدَّ الصَّبْرِ مِنْهُمْ عَلَى الْأَذَى فِي مَحَبَّتِهِ وَ الِاحْتِمَالَ لِلْمَكْرُوهِ مِنْ خَوْفِهِ جَعَلَ لَهُمْ مِنْ مَضَايِقِ الْبَلَاءِ فَرَجاً فَأَبْدَلَهُمُ الْعِزَّ مَكَانَ الذُّلِّ وَ الْأَمْنَ مَكَانَ الْخَوْفِ فَصَارُوا مُلُوكاً حُكَّاماً وَ أَئِمَّةً أَعْلَاماً وَ قَدْ بَلَغَتِ الْكَرَامَةُ مِنَ اللَّهِ لَهُمْ مَا لَمْ تَذْهَبِ الآْمَالُ إِلَيْهِ بِهِمْ (14/202)
تدبروا أي تأملوا و التمحيص التطهير و التصفية. و الأعباء الأثقال واحدها عب ء. و أجهد العباد أتعبهم. و الفراعنة العتاة و كل عات فرعون. و ساموهم سوء العذاب ألزموهم إياه و هذا إشارة إلى قوله تعالى يَسُومُونَكُمْ سُوءَ شرح نهج البلاغة ج : 13 ص : 170الْعَذابِذَبِّحُونَ أَبْناءَكُمْ وَ يَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ وَ فِي ذلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ. و المرار بضم الميم شجر مر في الأصل و استعير شرب المرار لكل من يلقى شديد المشقة. و رأى الله منهم جد الصبر أي أشده. و أئمة أعلاما أي يهتدى بهم كالعلم في الفلاة (14/203)
فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانُوا حَيْثُ كَانَتِ الْأَمْلَاءُ مُجْتَمِعَةً وَ الْأَهْوَاءُ مُؤْتَلِفَةً وَ الْقُلُوبُ مُعْتَدِلَةً وَ الْأَيْدِي مُتَرَادِفَةً وَ السُّيُوفُ مُتَنَاصِرَةً وَ الْبَصَائِرُ نَافِذَةً وَ الْعَزَائِمُ وَاحِدَةً أَ لَمْ يَكُونُوا أَرْبَاباً فِي أَقْطَارِ الْأَرَضِينَ وَ مُلُوكاً عَلَى رِقَابِ الْعَالَمِينَ فَانْظُرُوا إِلَى مَا صَارُوا إِلَيْهِ فِي آخِرِ أُمُورِهِمْ حِينَ وَقَعَتِ الْفُرْقَةُ وَ تَشَتَّتَتِ الْأُلْفَةُ وَ اخْتَلَفَتِ الْكَلِمَةُ وَ الْأَفْئِدَةُ تَشَعَّبُوا مُخْتَلِفِينَ وَ تَفَرَّقُوا مُتَحَارِبِينَ وَ قَدْ خَلَعَ اللَّهُ عَنْهُمْ لِبَاسَ كَرَامَتِهِ وَ سَلَبَهُمْ غَضَارَةَ نِعْمَتِهِ وَ بَقِيَ قَصَصُ أَخْبَارِهِمْ فِيكُمْ عِبْرَةً لِلْمُعْتَبِرِينَ مِنْكُمْ
الأملاء الجماعات الواحد ملأ. شرح نهج البلاغة ج : 13 ص : 171و مترادفة متعاونة البصائر نافذة يقال نفذت بصيرتي في هذا الخبر أي اجتمع همي عليه و لم يبق عندي تردد فيه لعلمي به و تحقيقي إياه. و أقطار الأرضين نواحيها و تشتتت تفرقت. و تشعبوا صاروا شعوبا و قبائل تلفين. و تفرقوا متحزبين اختلفوا أحزابا و روي متحازبين. و غضارة النعمة الطيب اللين منها. و القصص الحديث. يقول انظروا في أخبار من قبلكم من الأمم كيف كانت حالهم في العز و الملك لما كانت كلمتهم واحدة و إلى ما ذا آلت حالهم حين اختلفت كلمتهم فاحذروا أن تكونوا مثلهم و أن يحل بكم إن اختلفتم مثل ما حل بهم (14/204)
فَاعْتَبِرُوا بِحَالِ وَلَدِ إِسْمَاعِيلَ وَ بَنِي إِسْحَاقَ وَ بَنِي إِسْرَائِيلَ ع فَمَا أَشَدَّ اعْتِدَالَ الْأَحْوَالِ وَ أَقْرَبَ اشْتِبَاهَ الْأَمْثَالِ تَأَمَّلُوا أَمْرَهُمْ فِي حَالِ تَشَتُّتِهِمْ وَ تَفَرُّقِهِمْ لَيَالِيَ كَانَتِ الْأَكَاسِرَةُ وَ الْقَيَاصِرَةُ أَرْبَاباً لَهُمْ يَحْتَازُونَهُمْ عَنْ رِيفِ الآْفَاقِ وَ بَحْرِ الْعِرَاقِ وَ خُضْرَةِ الدُّنْيَا إِلَى مَنَابِتِ الشِّيحِ وَ مَهَافِي الرِّيحِ وَ نَكَدِ الْمَعَاشِ فَتَرَكُوهُمْ عَالَةً مَسَاكِينَ إِخْوَانَ دَبَرٍ وَ وَبَرٍ أَذَلَّ الْأُمَمِ دَاراً وَ أَجْدَبَهُمْ قَرَاراً لَا يَأْوُونَ إِلَى جَنَاحِ دَعْوَةٍ يَعْتَصِمُونَ بِهَا وَ لَا إِلَى ظِلِّ أُلْفَةٍ يَعْتَمِدُونَ عَلَى عِزِّهَا فَالْأَحْوَالُ مُضْطَرِبَةٌ وَ الْأَيْدِي مُخْتَلِفَةٌ وَ الْكَثْرَةُ مُتَفَرِّقَةٌ فِي بَلَاءِ أَزْلٍ وَ أَطْبَاقِ جَهْلٍ مِنْ بَنَاتٍ مَوْءُودَةٍ وَ أَصْنَامٍ مَعْبُودَةٍ وَ أَرْحَامٍ مَقْطُوعَةٍ وَ غَارَاتٍ مَشْنُونَةٍ
شرح نهج البلاغة ج : 13 ص : 172لقائل أن يقول ما نعرف أحدا من بني إسحاق و بني إسرائيل احتازتهم الأكاسرة و القياصرة عن ريف الآفاق إلى البادية و منابت الشيح إلا أن يقال يهود خيبر و النضير و بني قريظة و بني قينقاع و هؤلاء نفر قليل لا يعتد بهم و يعلم من فحوى خطبة أنهم غير مرادين بالكلام و لأنه ع قال تركوهم إخوان دبر و وبر و هؤلاء لم يكونوا من أهل الوبر و الدبر بل من أهل المدر لأنهم كانوا ذوي حصون و آطام و الحاصل أن الذين احتازتهم الأكاسرة و القياصرة من الريف إلى البادية و صاروا أهل وبر ولد إسماعيل لا بنو إسحاق و بنو إسرائيل و الجواب أنه ع ذكر في هذه الكلمات و هي قوله فاعتبروا بحال ولد إسماعيل و بني إسحاق و بني إسرائيل المقهورين و القاهرين جميعا أما المقهورون فبنو إسماعيل و أما القاهرون فبنو إسحاق و بنو إسرائيل لأن الأكاسرة من بني إسحاق ذكر كثير من أهل العلم أن فارس من ولد إسحاق و القياصرة من ولد إسحاق أيضا لأن الروم بنو العيص بن إسحاق و على هذا يكون الضمير في أمرهم و تشتتهم و تفرقهم يرجع إلى بني إسماعيل خاصة. فإن قلت فبنو إسرائيل أي مدخل لهم هاهنا قلت لأن بني إسرائيل لما كانوا ملوكا بالشام في أيام أجاب الملك و غيره حاربوا العرب من بني إسماعيل غير مرة و طردوهم عن الشام و ألجئوهم على المقام ببادية الحجاز و يصير تقدير الكلام فاعتبروا بحال ولد إسماعيل مع بني إسحاق و بني إسرائيل فجاء بهم في صدر الكلام على العموم ثم خصص فقال الأكاسرة و القياصرة و هم داخلون في عموم ولد إسحاق و إنما لم يخصص عموم بني إسرائيل لأن العرب لم تكن تعرف ملوك شرح نهج البلاغة ج : 13 ص : 173ولد يعقوب فيذكر لهم أسماءهم في الخطبة بخلاف ولد إسحاق فإنهم كانوا يعرفون ملوكهم من بني ساسان و من بني الأصفر. قوله ع فما أشد اعتدال الأحوال أي ما أشبه الأشياء ضها ببعض و إن حالكم لشبيهة بحال أولئك فاعتبروا بهم. قوله يحتازونهم (14/205)
عن الريف يبعدونهم عنه و الريف الأرض ذات الخصب و الزرع و الجمع أرياف و رافت الماشية أي رعت الريف و قد أرفنا أي صرنا إلى الريف و أرافت الأرض أي أخصبت و هي أرض ريفة بتشديد الياء. و بحر العراق دجلة و الفرات أما الأكاسرة فطردوهم عن بحر العراق و أما القياصرة فطردوهم عن ريف الآفاق أي عن الشام و ما فيه من المرعى و المنتجع. قوله ع أربابا لهم أي ملوكا و كانت العرب تسمى الأكاسرة أربابا و لما عظم أمر حذيفة بن بدر عندهم سموه رب معد. و منابت الشيح أرض العرب و الشيح نبت معروف. و مهافي الريح المواضع التي تهفو فيها أي تهب و هي الفيافي و الصحاري. و نكد المعاش ضيقه و قلته. و تركوهم عالة أي فقراء جمع عائل و العائل ذو العيلة و العيلة الفقر قال تعالى وَ إِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ قال الشاعر (14/206)
تعيرنا أننا عالة صعاليك نحن و أنتم ملوك
شرح نهج البلاغة ج : 13 ص : 174نظيره قائد و قادة و سائس و ساسة. و قوله إخوان دبر و وبر الدبر مصدر دبر البعير أي عقره القتب و الوبر للبعير بمنزلة الصوف للضأن و الشعر للمعز. قوله أذل الأمم دارا لعدم المعاقل و الحصون المنيعة فيها. و أجدبهم قرارا لعدم الزرع الشجر و النخل بها و الجدب المحل. و لا يأوون لا يلتجئون و لا ينضمون. و الأزل الضيق و أطباق جهل جمع طبق أي جهل متراكم بعضه فوق بعض. و غارات مشنونة متفرقة و هي أصعب الغارات
فصل في ذكر الأسباب التي دعت العرب إلى وأد البنات
من بنات موءودة كان قوم من العرب يئدون البنات قيل إنهم بنو تميم خاصة و إنه استفاض منهم في جيرانهم و قيل بل كان ذلك في تميم و قيس و أسد و هذيل و بكر بن وائل قالوا و ذلك أن رسول الله ص دعا عليهم
فقال اللهم اشدد وطأتك على مضر و اجعل عليهم سنين كسني يوسف
فأجدبوا سبع سنين حتى أكلوا الوبر بالدم و كانوا يسمونه العلهز فوأدوا البنات لإملاقهم و فقرهم و قد دل على ذلك بقوله وَ لا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ قال وَ لا يَقْتُلْنَ أَوْلادَهُنَّ. و قال قوم بل وأدوا البنات أنفة و زعموا أن تميما منعت النعمان الإتاوة سنة من شرح نهج البلاغة ج : 13 ص : 175السنين فوجه إليهم أخاه الريان بن المنذر و جل من معه من بكر بن وائل فاستاق النعم و سبى الذراري و في ذلك يقول بعض بني يشكرلما رأوا راية النعمان مقبلة قالوا ألا ليت أدنى دارنا عدن يا ليت أم تميم لم تكن عرفت مرا و كانت كمن أودى به الزمن إن تقتلونا فأعيار مخدعة أو تنعموا فقديما منكم المنن منكم زهير و عتاب و محتضن و ابنا لقيط و أودى في الوغى قفوفدت بنو تميم إلى النعمان و استعطفوه فرق عليهم و أعاد عليهم السبي و قال كل امرأة اختارت أباها ردت إليه و إن اختارت صاحبها تركت عليه فكلهن اخترن آباءهن إلا ابنة قيس بن عاصم فإنها اختارت من سباها و هو عمرو بن المشمرخ اليشكري فنذر قيس بن عاصم المنقري التميمي ألا يولد له بنت إلا وأدها و الوأد أن يخنقها في التراب و يثقل وجهها به حتى تموت ثم اقتدى به كثير من بني تميم قال سبحانه وَ إِذَا الْمَوْؤُدَةُ سُئِلَتْ بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ أي على طريق التبكيت و التوبيخ لمن فعل ذلك أو أجازه كما قال سبحانه يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَ أَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَ أُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ. و من جيد شعر الفرزدق قوله في هجاء جرير (14/207)
أ لم تر أنا بني دارم زرارة منا أبو معبدو منا الذي منع الوائدات و أحيا الوليد فلم يوأدأ لسنا بأصحاب يوم النسار و أصحاب ألوية المربد
شرح نهج البلاغة ج : 13 ص : 176أ لسنا الذين تميم بهم تسامى و تفخر في المشهدو ناجية الخير و الأقرعان و قبر بكاظمة الموردإذا ما أتى قبره عائذ أناخ على القبر بالأسعدأ يطلب مجد بني دارم عطية كالجعل الأسودقرنبى يحك قفا مقرف لئيم مآثره قعددو مجد بني دارم فوقه ان السماكين و الفرقد (14/208)
و في الحديث أن صعصعة بن ناجية بن عقال لما وفد على رسول الله ص قال يا رسول الله إني كنت أعمل في الجاهلية عملا صالحا فهل ينفعني ذلك اليوم قال ع و ما عملت قال ضللت ناقتين عشراوين فركبت جملا و مضيت في بغائهما فرفع لي بيت حريد فقصدته فإذا شيخ جالس بفنائه فسألته عن الناقتين فقال ما نارهما قلت ميسم بني دارم قال هما عندي و قد أحيا الله بهما قوما من أهلك من مضر فجلست معه ليخرجهما إلى فإذا عجوز قد خرجت من كسر البيت فقال لها ما وضعت إن كان سقبا شاركنا في أموالنا و إن كان حائلا وأدناها فقالت العجوز وضعت أنثى فقلت له أ تبيعها قال و هل تبيع العرب أولادها قلت إنما أشتري حياتها و لا أشتري رقها قال فبكم قلت احتكم قال بالناقتين و الجمل قلت أ ذاك لك على أن يبلغني الجمل و إياها قال بعتك فاستنقذتها شرح نهج البلاغة ج : 13 ص : 177منه بالجمل و الناقتين و آمنت بك يا رسول الله و قدارت لي سنة في العرب أن أشتري كل موءودة بناقتين عشراوين و جمل فعندي إلى هذه الغاية ثمانون و مائتا موءودة قد انقذتهن قال ع لا ينفعك ذاك لأنك لم تبتغ به وجه الله و أن تعمل في إسلامك عملا صالحا تثب عليه
و روى الزبير في الموفقيات أن أبا بكر قال في الجاهلية لقيس بن عاصم المنقري ما حملك على أن وأدت قال مخافة أن يخلف عليهن مثلك
فَانْظُرُوا إِلَى مَوَاقِعِ نِعَمِ اللَّهِ عَلَيْهِمْ حِينَ بَعَثَ إِلَيْهِمْ رَسُولًا فَعَقَدَ بِمِلَّتِهِ طَاعَتَهُمْ وَ جَمَعَ عَلَى دَعْوَتِهِ أُلْفَتَهُمْ كَيْفَ نَشَرَتِ النِّعْمَةُ عَلَيْهِمْ جَنَاحَ كَرَامَتِهَا وَ أَسَالَتْ لَهُمْ جَدَاوِلَ نَعِيمِهَا وَ الْتَفَّتِ الْمِلَّةُ بِهِمْ فِي عَوَائِدِ بَرَكَتِهَا فَأَصْبَحُوا فِي نِعْمَتِهَا غَرِقِينَ وَ فِي خُضْرَةِ عَيْشِهَا فَاكِهِينَ قَدْ تَرَبَّعَتِ الْأُمُورُ بِهِمْ فِي ظِلِّ سُلْطَانٍ قَاهِرٍ وَ آوَتْهُمُ الْحَالُ إِلَى كَنَفِ عِزٍّ غَالِبٍ وَ تَعَطَّفَتِ الْأُمُورُ عَلَيْهِمْ فِي ذُرَى مُلْكٍ ثَابِتٍ فَهُمْ حُكَّامٌ عَلَى الْعَالَمِينَ وَ مُلُوكٌ فِي أَطْرَافِ الْأَرَضِينَ يَمْلِكُونَ الْأُمُورَ عَلَى مَنْ كَانَ يَمْلِكُهَا عَلَيْهِمْ وَ يُمْضُونَ الْأَحْكَامَ فِيمَنْ كَانَ يُمْضِيهَا فِيهِمْ لَا تُغْمَزُ لَهُمْ قَنَاةٌ وَ لَا تُقْرَعُ لَهُمْ صَفَاةٌ (14/209)
لما ذكر ما كانت العرب عليه من الذل و الضيم و الجهل عاد فذكر ما أبدل الله شرح نهج البلاغة ج : 13 ص : 178به حالهم حين بعث إليهم محمدا ص فعقد عليهم طاعتهم كالشي ء المنتشر المحلول فعقدها بملة محمد ص. و الجداول الأنهر. و التفت الملة بهم أي كانوا متفرقين فالتملة محمد بهم أي جمعتهم و يقال التف الحبل بالحطب أي جمعه و التف الحطب بالحبل أي اجتمع به. و في في قوله في عوائد بركتها متعلقة بمحذوف و موضع الجار و المجرور نصب على الحال أي جمعتهم الملة كائنة في عوائد بركتها و العوائد جمع عائدة و هي المنفعة تقول هذا أعود عليك أي أنفع لك و روي و التقت الملة بالقاف أي اجتمعت بهم من اللقاء و الرواية الأولى أصح. و أصبحوا في نعمتها غرقين مبالغة في وصف ما هم فيه من النعمة. و فاكهين ناعمين و روي فكهين أي أشرين و قد قرئ بهما في قوله تعالى وَ نَعْمَةٍ كانُوا فِيها فاكِهِينَ و قال الأصمعي فاكهين مازحين و المفاكهة الممازحة و من أمثالهم لا تفاكه أمة و لا تبل على أكمة فأما قوله تعالى فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ فقيل تندمون و قيل تعجبون. و عن في قوله و عن خضرة عيشها متعلقة بمحذوف تقديره فأصبحوا فاكهين فكاهة صادرة عن خضرة عيشها أي خضرة عيش النعمة سبب لصدور الفكاهة و المزاح عنه. و تربعت الأمور بهم أي أقامت من قولك ربع بالمكان أي أقام به. شرح نهج البلاغة ج : 13 ص : 179و آوتهم الحال بالمد أي ضمتهم و أنزلتهم قال تعالى آوى إِلَيْهِ أَخاهُ أي ضمه إليه و أنزله و يجوز أوتهم بغير مد أفعلت في هذا المعنى فعلت واحد عن أبي زيد. و الكنف الجانب و تعطفت الأمور عليهم كناية عن السيادة و الإقبال يقال قد تعطف الدهر على فلان أي أقبل حظه و سعادته بعد أن لم يكن كذلك. و في ذرا ملك بضم الذال أي في أعاليه جمع ذروة و يكنى عن العزيز الذي لا يضام فيقال لا يغمز له قناة أي هو صلب و القناة إذا لم تلن في يد الغامز كانت أبعد عن الحطم و الكسر. و (14/210)
لا تقرع لهم صفاة مثل يضرب لمن لا يطمع في جانبه لعزته و قوته (14/211)
أَلَا وَ إِنَّكُمْ قَدْ نَفَضْتُمْ أَيْدِيَكُمْ مِنْ حَبْلِ الطَّاعَةِ وَ ثَلَمْتُمْ حِصْنَ اللَّهِ الْمَضْرُوبَ عَلَيْكُمْ بِأَحْكَامِ الْجَاهِلِيَّةِ فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ قَدِ امْتَنَّ عَلَى جَمَاعَةِ هَذِهِ الْأُمَّةِ فِيمَا عَقَدَ بَيْنَهُمْ مِنْ حَبْلِ هَذِهِ الْأُلْفَةِ الَّتِي يَتَقَلَّبُونَ فِي ظِلِّهَا وَ يَأْوُونَ إِلَى كَنَفِهَا بِنِعْمَةٍ لَا يَعْرِفُ أَحَدٌ مِنَ الْمَخْلُوقِينَ لَهَا قِيمَةً لِأَنَّهَا أَرْجَحُ مِنْ كُلِّ ثَمَنٍ وَ أَجَلُّ مِنْ كُلِّ خَطَرٍ وَ اعْلَمُوا أَنَّكُمْ صِرْتُمْ بَعْدَ الْهِجْرَةِ أَعْرَاباً وَ بَعْدَ الْمُوَالَاةِ أَحْزَاباً مَا تَتَعَلَّقُونَ مِنَ الْإِسْلَامِ إِلَّا بِاسْمِهِ وَ لَا تَعْرِفُونَ مِنَ الْإِيمَانِ إِلَّا رَسْمَهُ تَقُولُونَ النَّارَ وَ لَا الْعَارَ كَأَنَّكُمْ تُرِيدُونَ أَنْ تُكْفِئُوا الْإِسْلَامَ عَلَى وَجْهِهِ انْتِهَاكاً لِحَرِيمِهِ وَ نَقْضاً لِمِيثَاقِهِ الَّذِي وَضَعَهُ اللَّهُ لَكُمْ حَرَماً فِي أَرْضِهِ وَ أَمْناً بَيْنَ خَلْقِهِ وَ إِنَّكُمْ إِنْ لَجَأْتُمْ إِلَى غَيْرِهِ حَارَبَكُمْ أَهْلُ الْكُفْرِ ثُمَّ لَا جَبْرَائِيلَ شرح نهج الاغة ج : 13 ص : 180وَ لَا مِيكَائِيلَ وَ لَا مُهَاجِرِينَ وَ لَا أَنْصَارَ يَنْصُرُونَكُمْ إِلَّا الْمُقَارَعَةَ بِالسَّيْفِ حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ بَيْنَكُمْ وَ إِنَّ عِنْدَكُمُ الْأَمْثَالَ مِنْ بَأْسِ اللَّهِ وَ قَوَارِعِهِ وَ أَيَّامِهِ وَ وَقَائِعِهِ فَلَا تَسْتَبْطِئُوا وَعِيدَهُ جَهْلًا بِأَخْذِهِ وَ تَهَاوُناً بِبَطْشِهِ وَ يَأْساً مِنْ بَأْسِهِ فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ لَمْ يَلْعَنِ الْقُرُونَ الْمَاضِيَةَ بَيْنَ أَيْدِيكُمْ إِلَّا لِتَرْكِهِمُ الْأَمْرَ بِالْمَعْرُوفِ وَ النَّهْيَ عَنِ الْمُنْكَرِ
فَلَعَنَ اللَّهُ السُّفَهَاءَ لِرُكُوبِ الْمَعَاصِي وَ الْحُلَمَاءَ لِتَرْكِ التَّنَاهِي (14/212)
نفضتم أيديكم كلمة تقال في اطراح الشي ء و تركه و هي أبلغ من أن تقول تركتم حبل الطاعة لأن من يخلي الشي ء من يده ثم ينفض يده منه يكون أشد تخلية له ممن لا ينفضها بل يقتصر على تخليته فقط لأن نفضها إشعار و إيذان بشدة الاطراح و الإعراض. و الباء في قوله بأحكام ااهلية متعلقة بثلمتم أي ثلمتم حصن الله بأحكام الجاهلية التي حكمتم بها في ملة الإسلام. و الباء في قوله بنعمة لا يعرف متعلقة بامتن و في من قوله فيما عقد متعلقة بمحذوف و موضعها نصب على الحال و هذا إشارة إلى قوله تعالى لَوْ أَنْفَقْتَ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ما أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَ لكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ و قوله فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْواناً. و روي تتقلبون في ظلها. شرح نهج البلاغة ج : 13 ص : 181قوله صرتم بعد الهجرة أعرابا الأعراب على عهد رسول الله ص من آمن به من أهل البادية و لم يهاجر إليه و هم ناقصو المرتبة عن المهاجرين لجفائهم و قسوتهم و توحشهم و نشئهم في بعد من مخالطة العلماء و سماع كلام الرسول ص و فيهم أنزل الْعْرابُ أَشَدُّ كُفْراً وَ نِفاقاً وَ أَجْدَرُ أَلَّا يَعْلَمُوا حُدُودَ ما أَنْزَلَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ و ليست هذه الآية عامة في كل الأعراب بل خاصة ببعضهم و هم الذين كانوا حول المدينة و هم جهينة و أسلم و أشجع و غفار و إليهم أشار سبحانه بقوله وَ مِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرابِ مُنافِقُونَ و كيف يكون كل الأعراب مذموما و قد قال تعالى وَ مِنَ الْأَعْرابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ وَ يَتَّخِذُ ما يُنْفِقُ قُرُباتٍ عِنْدَ اللَّهِ و صارت هذه الكلمة جارية مجرى المثل. و أنشد الحجاج على منبر الكوفة
قد لفها الليل بعصلبي أروع خراج من الدوي مهاجر ليس بأعرابيو قال عثمان لأبي ذر أخشى أن تصير بعد الهجرة أعرابيا. و روي و لا يعقلون من الإيمان. و قولهم النار و لا العار منصوبتان بإضمار فعل أي ادخلوا النار و لا تلتزموا العار و هي كلمة جارية مجرى المثل أيضا يقولها أرباب الحمية و الإباء فإذا قيلت في حق كانت صوابا و إذا قيلت في باطل كانت خطأ. و أكفأت الإناء و كفأته لغتان أي كببته. شرح نهج البلاغة ج : 13 ص : 182قوله ثم لا جبرائيل و لا ميكائيل و لا مهاجرين الرواية المشهورة هكذا بالنصب و هو جائز على التشبيه بالنكرة كقولهم معضلة و لا أبا حسن لها قال الراجزلا هيثم الليلة للمطي (14/213)
و قد روي بالرفع في الجميع. و المقارعة منصوبة على المصدر و قال الراوندي هي استثناء منقطع و الصواب ما ذكرناه و قد روي إلا المقارعة بالرفع تقديره و لا نصير لكم بوجه من الوجوه إلا المقارعة. و الأمثال التي أشار إليها أمير المؤمنين ع هي ما تضمنه القرآن من أيام الله و نقماته على أعدائه و قال تعالى وَ ضَرَبْنا لَكُمُ الْأَمْثالَ. و التناهي مصدر تناهى القوم عن كذا أي نهى بعضهم بعضا يقول لعن الله الماضين من قبلكم لأن سفهاءهم ارتكبوا المعصية و حلماءهم لم ينهوهم عنها و هذا من قوله تعالى كانُوا لا يَتَناهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ ما كانُوا يَفْعَلُونَ
أَلَا وَ قَدْ قَطَعْتُمْ قَيْدَ الْإِسْلَامِ وَ عَطَّلْتُمْ حُدُودَهُ وَ أَمَتُّمْ أَحْكَامَهُ أَلَا وَ قَدْ أَمَرَنِيَ اللَّهُ بِقِتَالِ أَهْلِ الْبَغْيِ وَ النَّكْثِ وَ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ فَأَمَّا النَّاكِثُونَ فَقَدْ قَاتَلْتُ وَ أَمَّا الْقَاسِطُونَ فَقَدْ جَاهَدْتُ وَ أَمَّا الْمَارِقَةُ فَقَدْ دَوَّخْتُ وَ أَمَّا شَيْطَانُ الرَّدْهَةِ فَقَدْ كُفِيتُهُ بِصَعْقَةٍ سُمِعَتْ لَهَا وَجْبَةُ قَلْبِهِ وَ رَجَّةُ صَدْرِهِ شرح نهج البلاغة ج : 13 ص : 183وَ بَقِيَتْ بَقِيَّةٌ مِنْ أَهْلِ الْبَغْيِ وَ لَئْ أَذِنَ اللَّهُ فِي الْكَرَّةِ عَلَيْهِمْ لَأُدِيلَنَّ مِنْهُمْ إِلَّا مَا يَتَشَذَّرُ فِي أَطْرَافِ الْبِلَادِ تَشَذُّراً (14/214)
قد ثبت عن النبي ص أنه قال له ع ستقاتل بعدي الناكثين و القاسطين و المارقين
فكان الناكثون أصحاب الجمل لأنهم نكثوا بيعته ع و كان القاسطون أهل الشام بصفين و كان المارقون الخوارج في النهروان و في الفرق الثلاث قال الله تعالى فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّما يَنْكُثُ عَلى نَفْسِهِ و قال وَ أَمَّا الْقاسِطُونَ فَكانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَباً و
قال النبي ص يخرج من ضئضئ هذا قوم يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية ينظر أحدكم في النصل فلا يجد شيئا فينظر في الفوق فلا يجد شيئا سبق الفرث و الدم
و هذا الخبر من أعلام نبوته ص و من أخباره المفصلة بالغيوب. و أما شيطان الردهة فقد قال قوم إنه ذو الثدية صاحب النهروان و رووا في ذلك خبرا عن النبي ص و ممن ذكر ذلك و اختاره الجوهري صاحب الصحاح و هؤلاء يقولون إن ذا الثدية لم يقتل بسيف و لكن الله رماه يوم النهروان بصاعقة و إليها أشار ع بقوله فقد كفيته بصعقة سمعت لها وجبة شرح نهج البلاغة ج : 13 ص : 184قلبه و قال قوم شيطان الردهة أحد الأبالسة المردة من أعوان عدو الله إبليس و رووا في ذلك خبرا عن النبي ص و أنه كان يتعوذ منه و الردهة شبه نقرة في الجبل يجتمع فيها الء و هذا مثل قوله ع هذا أزب العقبة أي شيطانها و لعل أزب العقبة هو شيطان الردهة بعينه فتارة يرد بهذا اللفظ و تارة يرد بذلك اللفظ و قال قوم شيطان الردهة مارد يتصور في صورة حية و يكون على الردهة و إنما أخذوا هذا من لفظة الشيطان لأن الشيطان الحية و منه قولهم شيطان الحماطة و الحماطة شجرة مخصوصة و يقال إنها كثيرة الحيات. قوله و يتشذر في أطراف الأرض يتمزق و يتبدد و منه قولهم ذهبوا شذر مذر. و البقية التي بقيت من أهل البغي معاوية و أصحابه لأنه ع لم يكن أتى عليهم بأجمعهم و إنما وقفت الحرب بينه و بينهم بمكيدة التحكيم. قوله ع و لئن أذن الله في الكرة عليهم أي إن مد لي في العمر لأديلن منهم أي لتكونن الدولة لي عليهم أدلت من فلان أي غلبته و قهرته و صرت ذا دولة عليه (14/215)
استدلال قاضي القضاة على إمامة أبي بكر و رد المرتضى عليه
و اعلم أن أصحابنا قد استدلوا على صحة إمامة أبي بكر بقوله تعالى يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَ يُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ شرح نهج البلاغة ج : 13 ص : 185عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أِزَّةٍ عَلَى الْكافِرِينَ يُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَ لا يَخافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ ثم قال قاضي القضاة في المعنى و هذا خبر من الله تعالى و لا بد أن يكون كائنا على ما أخبر به و الذين قاتلوا المرتدين هم أبو بكر و أصحابه فوجب أن يكونوا هم الذين عناهم الله سبحانه بقوله يُحِبُّهُمْ وَ يُحِبُّونَهُ و ذلك يوجب أن يكونوا على صواب. و اعترض المرتضى رحمه الله على هذا الاحتجاج في الشافي فقال من أين قلت إن الآية نزلت في أبي بكر و أصحابه فإن قال لأنهم الذين قاتلوا المرتدين بعد رسول الله ص و لا أحد قاتلهم سواهم قيل له و من الذي سلم لك ذلك أ و ليس أمير المؤمنين ع قد قاتل الناكثين و القاسطين و المارقين بعد الرسول ص و هؤلاء عندنا مرتدون عن الدين و يشهد بصحة التأويل زائدا على احتمال القول له ما روي عن أمير المؤمنين ع من قوله يوم البصرة و الله ما قوتل أهل الآية حتى اليوم و تلاها و قد روي عن عمار و حذيفة و غيرهما مثل ذلك. فإن قال دليلي على أنها في أبي بكر و أصحابه قول أهل التفسير قيل له أ و كل أهل التفسير قال ذلك فإن قال نعم كابر لأنه قد روي عن جماعة التأويل الذي ذكرناه و لو لم يكن إلا ما روي عن أمير المؤمنين ع و وجوه أصحابه الذين ذكرناهم لكفى و إن قال حجتي قول بعض المفسرين قلنا و أي حجة في قول البعض و لم صار البعض الذي قال ما ذكرت أولى بالحق من البعض الذي قال ما ذكرنا. ثم يقال له قد وجدنا الله تعالى قد نعت المذكورين في الآية بنعوت يجب أن شرح نهج البلاغة ج : 13 ص : 186تراعا لنعلم أ في صاحبنا هي أم في صاحبك و قد جعله الرسول ص في خيبر حين (14/216)
فر من فر من القوم عن العدو صاحب هذه الأوصاف (14/217)
فقال لأعطين الراية غدا رجلا يحب الله و رسوله و يحبه الله و رسوله كرارا غير فرار فدفعها إلى أمير المؤمنين ع
ثم قوله تعالى أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكافِرِينَ يقتضي ما ذكرنا لأنه من المعلوم بلا خلاف حال أمير المؤمنين ع في التخاشع و التواضع و ذم نفسه و قمع غضبه و أنه ما رئي قط طائشا و لا متطيرا في حال من الأحوال و معلوم حال صاحبيكم في هذا الباب أما أحدهما فإنه اعترف طوعا بأن له شيطانا يعتريه عند غضبه و أما الآخر فكان معروفا بالجد و العجلة مشهورا بالفظاظة و الغلظة و أما العزة على الكافرين فإنما تكون بقتالهم و جهادهم و الانتقام منهم و هذه حال لم يسبق أمير المؤمنين ع إليها سابق و لا لحقه فيها لاحق. ثم قال تعالى يُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَ لا يَخافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ و هذا وصف أمير المؤمنين المستحق له بالإجماع و هو منتف عن أبي بكر و صاحبه إجماعا لأنه لا قتيل لهما في الإسلام و لا جهاد بين يدي الرسول ص و إذا كانت الأوصاف المراعاة في الآية حاصلة لأمير المؤمنين ع و غير حاصلة لمن ادعيتم لأنها فيهم على ضربين ضرب معلوم انتفاؤه كالجهاد و ضرب مختلف فيه كالأوصاف التي هي غير الجهاد و على من أثبتها لهم الدلالة على حصولها و لا بد أن يرجع في ذلك إلى غير ظاهر الآية لم يبق في يده من الآية دليل. هذه جملة ما ذكره المرتضى رحمه الله و لقد كان يمكنه التخلص من الاحتجاج بالآية شرح نهج البلاغة ج : 13 ص : 187على وجه ألطف و أحسن و أصح مما ذكره فيقول المراد بها من ارتد على عهد رسول الله ص في واقعة الأسود العنسي باليمن فإن كثيرا من المسلمين ضلوا به و ارتدوا عن الإسل و ادعوا له النبوة و اعتقدوا صدقه و القوم الذين يحبهم الله و يحبونه القوم الذين كاتبهم رسول الله ص و أغراهم بقتله و الفتك به و هم فيروز الديلمي و أصحابه و القصة مشهورة
و قد كان له أيضا أن يقول لم قلت إن الذين قاتلهم أبو بكر و أصحابه كانوا مرتدين فإن المرتد من ينكر دين الإسلام بعد أن كان قد تدين به و الذين منعوا الزكاة لم ينكروا أصل دين الإسلام و إنما تأولوا فأخطئوا لأنهم تأولوا قول الله تعالى خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَ تُزَكِّيهِمْ بِها وَ صَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ فقالوا إنما ندفع زكاة أموالنا إلى من صلاته سكن لنا و لم يبق بعد وفاة النبي ص من هو بهذه الصفة فسقط عنا وجوب الزكاة ليس هذا من الردة في شي ء و إنما سماهم الصحابة أهل الردة على سبيل المجاز إعظاما لما قالوه و تأولوه. فإن قيل إنما الاعتماد على قتال أبي بكر و صحابه لمسيلمة و طليحة اللذين ادعيا النبوة و ارتد بطريقهما كثير من العرب لا على قتال مانعي الزكاة قيل إن مسيلمة و طليحة جاهدهما رسول الله ص قبل موته بالكتب و الرسل و أنفذ لقتلهما جماعة من المسلمين و أمرهم أن يفتكوا بهما غيلة إن أمكنهم ذلك و استنفر عليهما قبائل من العرب و كل ذلك مفصل مذكور في كتب السيرة و التواريخ فلم لا يجوز أن يكون أولئك النفر الذين بعثهم رسول الله ص للفتك بهما هم المعنيون بقوله يُحِبُّهُمْ وَ يُحِبُّونَهُ إلى آخر الآية و لم يقل في الآية يجاهدون (14/218)
شرح نهج البلاغة ج : 13 ص : 188فيقتلون و إنما ذكر الجهاد فقط و قد كان الجهاد من أولئك النفر حاصلا و إن لم يبلغوا الغرض كما كان الجهاد حاصلا عند حصار الطائف و إن لم يبلغ فيه الغرض. و قد كان له أيضا أن يقول سياق الآية لا يدل على ما ظنه المستدل بها من أنه ميرتدد عن الدين فإن الله يأتي بقوم يحبهم و يحبونه يحاربونه لأجل ردته و إنما الذي يدل عليه سياق الآية أنه من يرتد منكم عن دينه بترك الجهاد مع رسول الله ص و سماه ارتدادا على سبيل المجاز فسوف يأتي الله بقوم يحبهم و يحبونه يجاهدون في سبيل الله معه عوضا عنكم و كذلك كان كل من خذل النبي ص و قعد عن النهوض معه في حروبه أغناه الله تعالى عنه بطائفة أخرى من المسلمين جاهدوا بين يديه. و أما قول المرتضى رحمه الله إنها أنزلت في الناكثين و القاسطين و المارقين الذين حاربهم أمير المؤمنين ع فبعيد لأنهم لا يطلق عليهم لفظ الردة عندنا و لا عند المرتضى و أصحابه أما اللفظ فبالاتفاق و إن سموهم كفارا و أما المعنى فلأن في مذهبهم أن من ارتد و كان قد ولد على فطرة الإسلام بانت امرأته منه و قسم ماله بين ورثته و كان على زوجته عدة المتوفى عنها زوجها و معلوم أن أكثر محاربي أمير المؤمنين ع كانوا قد ولدوا في الإسلام و لم يحكم فيهم بهذه الأحكام. و قوله إن الصفات غير متحققة في صاحبكم فلعمري إن حظ أمير المؤمنين ع منها هو الحظ الأوفى و لكن الآية ما خصت الرئيس بالصفات المذكورة و إنما أطلقها على المجاهدين و هم الذين يباشرون الحرب فهب أن أبا بكر و عمر ما كانا بهذه الصفات لم لا يجوز أن يكون مدحا لمن جاهد بين أيديهما من المسلمين و باشر الحرب و هم شجعان المهاجرين و الأنصار الذين فتحوا الفتوح و نشروا الدعوة و ملكوا الأقاليم. شرح نهج البلاغة ج : 13 ص : 189و قد استدل قاضي القضاة أيضا عن صحة إمامة أبي بكر و أد هذا الاستدلال إلى شيخنا أبي علي بقوله تعالى سَيَقُولُ لَكَ (14/219)
الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الْأَعْرابِ شَغَلَتْنا أَمْوالُنا وَ أَهْلُونا فَاسْتَغْفِرْ لَنا يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ ما لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ و قال تعالى فَإِنْ رَجَعَكَ اللَّهُ إِلى طائِفَةٍ مِنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَداً وَ لَنْ تُقاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَاقْعُدُوا مَعَ الْخالِفِينَ و قال تعالى سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انْطَلَقْتُمْ إِلى مَغانِمَ لِتَأْخُذُوها ذَرُونا نَتَّبِعْكُمْ يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اللَّهِ قُلْ لَنْ تَتَّبِعُونا كَذلِكُمْ قالَ اللَّهُ مِنْ قَبْلُ يعني قوله تعالى لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَداً وَ لَنْ تُقاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا ثم قال سبحانه قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرابِ سَتُدْعَوْنَ إِلى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ فَإِنْ تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللَّهُ أَجْراً حَسَناً وَ إِنْ تَتَوَلَّوْا كَما تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ يُعَذِّبْكُمْ عَذاباً أَلِيماً فبين أن الذي يدعو هؤلاء المخلفين من الأعراب إلى قتال قوم أولي بأس شديد غير النبي ص لأنه تعالى قد بين أنهم لا يخرجون معه و لا يقاتلون معه عدوا بآية متقدمة و لم يدعهم بعد النبي ص إلى قتال الكفار إلا أبو بكر و عمر و عثمان لأن أهل التأويل لم يقولوا في هذه الآية غير وجهين من التأويل فقال بعضهم عنى بقوله سَتُدْعَوْنَ إِلى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ بني حنيفة و قال بعضهم عنى فارس و الروم و أبو بكر هو الذي دعا إلى قتال بني حنيفة و قتال آل فارس و الروم و دعاهم بعده إلى قتال فارس و الروم عمر فإذا كان الله تعالى قد بين أنهم بطاعتهم لهما يؤتهم أجرا حسنا و إن تولوا عن طاعتهما يعذبهم عذابا أليما صح أنهما على حق و أن طاعتهما طاعة لله تعالى و هذا يوجب صحة إمامتهما. (14/220)
شرح نهج البلاغة ج : 13 ص : 190فإن قيل إنما أراد الله بذلك أهل الجمل و صفين قيل هذا فاسد من وجهين أحدهما قوله تعالى تُقاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ و الذين حاربوا أمير المؤمنين كانوا على الإسلام و لم يقاتلوا على الكفر و الوجه الثاني أنا لا نعرف من الذينناهم الله تعالى بهذا من بقي إلى أيام أمير المؤمنين ع كما علمنا أنهم كانوا باقين في أيام أبي بكر. اعترض المرتضى رحمه الله على هذا الكلام من وجهين أحدهما أنه نازع في اقتضاء الآية داعيا يدعو هؤلاء المخلفين غير النبي ص و ذلك لأن قوله تعالى سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الْأَعْرابِ شَغَلَتْنا أَمْوالُنا وَ أَهْلُونا فَاسْتَغْفِرْ لَنا يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ ما لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً إِنْ أَرادَ بِكُمْ ضَرًّا أَوْ أَرادَ بِكُمْ نَفْعاً بَلْ كانَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَ الْمُؤْمِنُونَ إِلى أَهْلِيهِمْ أَبَداً وَ زُيِّنَ ذلِكَ فِي قُلُوبِكُمْ وَ ظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ وَ كُنْتُمْ قَوْماً بُوراً. إنما أراد به سبحانه الذين تخلفوا عن الحديبية بشهادة جميع أهل النقل و إطباق المفسرين. ثم قال تعالى سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انْطَلَقْتُمْ إِلى مَغانِمَ لِتَأْخُذُوها ذَرُونا نَتَّبِعْكُمْ يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اللَّهِ قُلْ لَنْ تَتَّبِعُونا كَذلِكُمْ قالَ اللَّهُ مِنْ قَبْلُ فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنا بَلْ كانُوا لا يَفْقَهُونَ إِلَّا قَلِيلًا و إنما التمس هؤلاء المخلفون أن يخرجوا إلى غنيمة خيبر فمنعهم الله تعالى من ذلك و أمر نبيه أن يقول لهم لن تتبعونا إلى هذه الغزاة لأن الله تعالى كان حكم من قبل بأن غنيمة خيبر لمن شهد الحديبية و أنه لا حظ لمن لم يشهدها و هذا هو معنى قوله تعالى يُرِيدُونَ (14/221)
أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اللَّهِ و قوله كَذلِكُمْ قالَ اللَّهُ مِنْ قَبْلُ ثم قال تعالى قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ شرح نهج البلاغة ج : 13 ص : 191مِنَ الْأَعْرابِ سَتُدْعَوْنَ إِلى قَوْمٍ أُولِي بَأٍ شَدِيدٍ تُقاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ و إنما أراد أن الرسول سيدعوكم فيما بعد إلى قتال قوم أولي بأس شديد و قد دعاهم النبي ص بعد ذلك إلى غزوات كثيرة إلى قوم أولي بأس شديد كمؤتة و حنين و تبوك و غيرهما فمن أين يجب أن يكون الداعي لهؤلاء غير النبي ص مع ما ذكرناه من الحروب التي كانت بعد خيبر. و قوله إن معنى قوله تعالى كَذلِكُمْ قالَ اللَّهُ مِنْ قَبْلُ إنما أراد به ما بينه في قوله فَإِنْ رَجَعَكَ اللَّهُ إِلى طائِفَةٍ مِنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَداً وَ لَنْ تُقاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا بتبوك سنة تسع و آية الفتح نزلت في سنة ست فكيف يكون قبلها. و ليس يجب أن يقال في القرآن بالإرادة و بما يحتمل من الوجوه في كل موضع دون الرجوع إلى تاريخ نزول الآي و الأسباب التي وردت عليها و تعلقت بها. و مما يبين لك أن هؤلاء المخلفين غير أولئك لو لم نرجع في ذلك إلى نقل و تاريخ قوله تعالى في هؤلاء فَإِنْ تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللَّهُ أَجْراً حَسَناً وَ إِنْ تَتَوَلَّوْا كَما تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ يُعَذِّبْكُمْ عَذاباً أَلِيماً فلم يقطع منهم على طاعة و لا معصية بل ذكر الوعد و الوعيد على ما يفعلونه من طاعة أو معصية و حكم المذكورين في آية سورة التوبة بخلاف هذه لأنه تعالى بعد قوله إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَاقْعُدُوا مَعَ الْخالِفِينَ وَ لا تُصَلِّ عَلى أَحَدٍ مِنْهُمْ ماتَ أَبَداً وَ لا تَقُمْ عَلى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَ رَسُولِهِ وَ ماتُوا وَ هُمْ فاسِقُونَ وَ لا تُعْجِبْكَ أَمْوالُهُمْ وَ أَوْلادُهُمْ إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ (14/222)
أَنْ يُعَذِّبَهُمْ بِها فِي الدُّنْيا وَ تَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَ هُمْ كافِرُونَ و اختلاف أحكامهم و صفاتهم يدل (14/223)
شرح نهج البلاغة ج : 13 ص : 192على اختلافهم و أن المذكورين في آية سورة الفتح غير المذكورين في آية سورة التوبة. و أما قوله لأن أهل التأويل لم يقولوا في هذه الآية غير وجهين من التأويل فذكرهما باطل لأن أهل التأويل قد ذكروا شيئا آخر لم يذكره لأن المسيب روى عأبي روق عن الضحاك في قوله تعالى سَتُدْعَوْنَ إِلى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ الآية قال هم ثقيف و روى هشيم عن أبي يسر سعيد بن جبير قال هم هوازن يوم حنين. و روى الواقدي عن معمر عن قتادة قال هم هوازن و ثقيف فكيف ذكر من أقوال المفسرين ما يوافقه مع اختلاف الرواية عنهم على أنا لا نرجع في كل ما يحتمله تأويل القرآن إلى أقوال المفسرين فإنهم ربما تركوا مما يحتمله القول وجها صحيحا و كم استخرج جماعة من أهل العدل في متشابه القرآن من الوجوه الصحيحة التي ظاهر التنزيل بها أشبه و لها أشد احتمالا مما لم يسبق إليه المفسرون و لا دخل في جملة تفسيرهم و تأويلهم. و الوجه الثاني سلم فيه أن الداعي هؤلاء المخلفين غير النبي ص و قال لا يمتنع أن يعنى بهذا الداعي أمير المؤمنين ع لأنه قاتل بعده الناكثين و القاسطين و المارقين و بشره النبي ص بأنه يقاتلهم و قد كانوا أولي بأس شديد بلا شبهة. قال فأما تعلق صاحب الكتاب بقوله أَوْ يُسْلِمُونَ و أن الذين حاربهم أمير المؤمنين ع كانوا مسلمين فأول ما فيه أنهم غير مسلمين عنده و عند أصحابه لأن الكبائر تخرج من الإسلام عندهم كما تخرج عن الإيمان إذ كان الإيمان هو الإسلام شرح نهج البلاغة ج : 13 ص : 193علمذهبهم ثم إن مذهبنا في محاربي أمير المؤمنين ع معروف لأنهم عندنا كانوا كفارا بمحاربته لوجوه الأول منها أن من حاربه كان مستحلا لقتاله مظهرا أنه في ارتكابه على حق و نحن نعلم أن من أظهر استحلال شرب جرعة خمر هو كافر
بالإجماع و استحلال دماء المؤمنين فضلا عن أفاضلهم و أكابرهم أعظم من شرب الخمر و استحلاله فيجب أن يكونوا من هذا الوجه كفارا. الثاني (14/224)
أنه ع قال له بلا خلاف بين أهل النقل حربك يا علي حربي و سلمك سلمي
و نحن نعلم أنه لم يرد إلا التشبيه بينهما في الأحكام و من أحكام محاربي النبي ص الكفر بلا خلاف. الثالث
أن النبي ص قال له بلا خلاف أيضا اللهم وال من والاه و عاد من عاداه و انصر من نصره و اخذل من خذله
و قد ثبت عندنا أن العداوة من الله لا تكون إلا للكفار الذين يعادونه دون فساق أهل الملة. الرابع قوله إنا لا نعلم ببقاء هؤلاء المخلفين إلى أيام أمير المؤمنين ع فليس بشي ء لأنه إذا لم يكن ذلك معلوما و مقطوعا عليه فهو مجوز و غير معلوم خلافه و الجواز كاف لنا فيهذا الموضع. و لو قيل له من أين علمت بقاء المخلفين المذكورين في الآية على سبيل القطع إلى أيام أبي بكر لكان يفزع إلى أن يقول حكم الآية يقتضي بقاءهم حتى يتم كونهم مدعوين إلى قتال أولي البأس الشديد على وجه يلزمهم فيه الطاعة و هذا بعينه يمكن أن يقال له و يعتمد في بقائهم إلى أيام أمير المؤمنين ع على ما يوجبه حكم الآية. فإن قيل كيف يكون أهل الجمل و صفين كفارا و لم يسر أمير المؤمنين ع شرح نهج البلاغة ج : 13 ص : 194فيهم بسيرة الكفار لأنه ما سباهم و لا غنم أموالهم و لا تبع موليهم قلنا أحكام الكفر تختلف و إن شملهم ا الكفر لأن في الكفار من يقتل و لا يستبقى و فيهم من يؤخذ منه الجزية و لا يحل قتله إلا بسبب طارئ غير الكفر و منهم من لا يجوز نكاحه على مذهب أكثر المسلمين فعلى هذا يجوز أن يكون أكثر هؤلاء القوم كفارا و إن لم يسر فيهم بجميع سيرة أهل الكفر لأنا قد بينا اختلاف أحكام الكفار و يرجع في أن حكمهم مخالف لأحكام الكفار إلى فعله ع و سيرته فيهم على أنا لا نجد في الفساق من حكمه أن يقتل مقبلا و لا يقتل موليا و لا يجهز على جريحه إلى غير ذلك من الأحكام
التي سيرها في أهل البصرة و صفين. فإذا قيل في جواب ذلك أحكام الفسق مختلفة و فعل أمير المؤمنين هو الحجة في أن حكم أهل البصرة و صفين ما فعله قلنا مثل ذلك حرفا بحرف و يمكن مع تسليم أن الداعي لهؤلاء المخلفين أبو بكر أن يقال ليس في الآية دلالة على مدح الداعي و لا على إمامته لأنه قد يجوز أن يدعو إلى الحق و الصواب من ليس عليهما فيلزم ذلك الفعل من حيث كان واجبا في نفسه لا لدعاء الداعي إليه و أبو بكر إنما دعا إلى دفع أهل الردة عن الإسلام و هذا يجب على المسلمين بلا دعاء داع و الطاعة فيه طاعة لله تعالى فمن أين له أن الداعي كان على حق و صواب و ليس في كون ما دعا إليه طاعة ما يدل على ذلك. و يمكن أيضا أن يكون قوله تعالى سَتُدْعَوْنَ إنما أراد به دعاء الله تعالى لهم بإيجاب القتال عليهم لأنه إذا دلهم على وجوب قتال المرتدين و رفعهم عن بيضة الإسلام فقد دعاهم إلى القتال و وجبت عليهم الطاعة و وجب لهم الثواب إن أطاعوا و هذا أيضا تحتمله الآية. شرح نهج الاغة ج : 13 ص : 195فهذه جملة ما ذكره المرتضى رحمه الله في هذا الموضع و أكثره جيد لا اعتراض عليه و قد كان يمكنه أن يقول لو سلمنا بكل هذا لكان ليس في قوله لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَداً الآية ما يدل على أن النبي ص لا يكون هو الداعي لهم إلى القوم أولي البأس الشديد لأنه ليس فيها إلا محض الإخبار عنهم بأنهم لا يخرجون معه و لا يقاتلون العدو معه و ليس في هذا ما ينفي كونه داعيا لهم كما (14/225)
أنه ع قال أبو لهب لا يؤمن بي
لم يكن هذا القول نافيا لكونه يدعوه إلى الإسلام. و قوله فَاقْعُدُوا مَعَ الْخالِفِينَ ليس بأمر على الحقيقة و إنما هو تهديد كقوله اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ و لا بد للمرتضى و لقاضي القضاة جميعا من أن يحملا صيغة افعل على هذا المحمل لأنه ليس لأحدهما بمسوغ أن يحمل الأمر على حقيقته لأن الشارع لا يأمر بالقعود و ترك الجهاد مع القدرة عليه و كونه قد تعين وجوبه. فإن قلت لو قدرنا أن هذه الآية و هي قوله تعالى قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرابِ سَتُدْعَوْنَ إِلى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ أنزلت بعد غزوة تبوك و بعد نزول سورة براءة التي تتضمن قوله تعالى لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَداً و قدرنا أن قوله تعالى لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَداً ليس إخبارا محضا كما تأولته أنت و حملت الآية عليه بل معناه لا أخرجكم معي و لا أشهدكم حرب العدو هل كان يتم الاستدلال قلت لا لأن للإمامية أن تقول يجوز أن يكون الداعي إلى حرب القوم أولي البأس الشديد مع تسليم هذه المقدمات كلها هو رسول الله ص لأنه دعاهم إلى حرب الروم في سرية أسامة بن زيد في صفر من سنة إحدى عشرة لما سيره إلى البلقاء و قال له سر إلى الروم مقتل أبيك فأوطئهم الخيول و حشد معه أكثر المسلمين فهذا الجيش قد دعي فيه المخلفون من الأعراب الذين قعدوا عن الجهاد شرح نهج البلاغة ج : 13 ص : 196في غزاة تبوك إلى قوم أولي بأس شديد و لم يخرجوا مع رسول الله ص و لا حاربوا معه عدوا. فإن قلت إذا خرجوا مع أسامة فكأنما خرجوا مع رسول الله و إذا حاربوا مع أسا العدو فكأنما حاربوا مع رسول الله ص و قد كان سبق أنهم لا يخرجون مع رسول الله ص و لا يحاربون معه عدوا قلت و إذا خرجوا مع خالد بن الوليد و غيره في أيام أبي بكر و مع أبي عبيدة و سعد في أيام عمر فكأنما خرجوا مع رسول الله ص و حاربوا العدو معه أيضا. فإن اعتذرت بأنه و إن شابه الخروج معه و الحرب معه إلا أنه على الحقيقة ليس معه (14/226)
و إنما هو مع امرئ من قبل خلفائه قيل لك و كذلك خروجهم مع أسامة و محاربة العدو معه و إن شابه الخروج مع النبي و محاربة العدو معه إلا أنه على الحقيقة ليس معه و إنما هو مع بعض أمرائه. و يمكن أن يعترض الاستدلال بالآية فيقال لا يجوز حملها على بني حنيفة لأنهم كانوا مسلمين و إنما منعوا الزكاة مع قولهم لا إله إلا الله محمد رسول الله ص و منع الزكاة لا يخرج به الإنسان عن الإسلام عند المرجئة و الإمامية مرجئة و لا يجوز حملها على فارس و الروم لأنه تعالى أخبر أنه لا واسطة بين قتالهم و إسلامهم كما تقول إما كذا و إما كذا فيقتضي ذلك نفي الواسطة و قتال فارس و الروم بينه و بين إسلامهم واسطة و هو دفع الجزية و إنما تنتفي هذه الواسطة في قتال العرب لأن مشركي العرب لا تؤخذ منهم الجزية فالآية إذن دالة على أن المخلفين سيدعون إلى قوم أولي بأس شديد الحكم فيهم إما قتالهم و إما إسلامهم و هؤلاء هم مشركو العرب و لم يحارب مشركي العرب إلا رسول الله ص فالداعي لهم إذا هو رسول الله و بطل الاستدلال بالآية (14/227)
شرح نهج البلاغة ج : 13 ص : 197أَنَا وَضَعْتُ بِكَلَاكِلِ الْعَرَبِ وَ كَسَرْتُ نَوَاجِمَ قُرُونِ رَبِيعَةَ وَ مُضَرَ وَ قَدْ عَلِمْتُمْ مَوْضِعِي مِنْ رَسُولِ اللَّهِ ص بِالْقَرَابَةِ الْقَرِيبَةِ وَ الْمَنْزِلَةِ الْخَصِيصَةِ وَضَعَنِي فِي حَجْرِهِ وَ نَا وَلِيدٌ يَضُمُّنِي إِلَى صَدْرِهِ وَ يَكْنُفُنِي فِي فِرَاشِهِ وَ يُمِسُّنِي جَسَدَهُ وَ يُشِمُّنِي عَرْفَهُ وَ كَانَ يَمْضَغُ الشَّيْ ءَ ثُمَّ يُلْقِمُنِيهِ وَ مَا وَجَدَ لِي كَذْبَةً فِي قَوْلٍ وَ لَا خَطْلَةً فِي فِعْلٍ وَ لَقَدْ قَرَنَ اللَّهُ بِه ص مِنْ لَدُنْ أَنْ كَانَ فَطِيماً أَعْظَمَ مَلَكٍ مِنْ مَلَائِكَتِهِ يَسْلُكُ بِهِ طَرِيقَ الْمَكَارِمِ وَ مَحَاسِنَ أَخْلَاقِ الْعَالَمِ لَيْلَهُ وَ نَهَارَهُ وَ لَقَدْ كُنْتُ أَتَّبِعُهُ اتِّبَاعَ الْفَصِيلِ أَثَرَ أُمِّهِ يَرْفَعُ لِي فِي كُلِّ يَوْمٍ مِنْ أَخْلَاقِهِ عَلَماً وَ يَأْمُرُنِي بِالِاقْتِدَاءِ بِهِ وَ لَقَدْ كَانَ يُجَاوِرُ فِي كُلِّ سَنَةٍ بِحِرَاءَ فَأَرَاهُ وَ لَا يَرَاهُ غَيْرِي وَ لَمْ يَجْمَعْ بَيْتٌ وَاحِدٌ يَوْمَئِذٍ فِي الْإِسْلَامِ غَيْرَ رَسُولِ اللَّهِ ص وَ خَدِيجَةَ وَ أَنَا ثَالِثُهُمَا أَرَى نُورَ الْوَحْيِ وَ الرِّسَالَةِ وَ أَشُمُّ رِيحَ النُّبُوَّةِ وَ لَقَدْ سَمِعْتُ رَنَّةَ الشَّيْطَانِ حِينَ نَزَلَ الْوَحْيُ عَلَيْهِ ص فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا هَذِهِ الرَّنَّةُ فَقَالَ هَذَا الشَّيْطَانُ قَدْ أَيِسَ مِنْ عِبَادَتِهِ إِنَّكَ تَسْمَعُ مَا أَسْمَعُ وَ تَرَى مَا أَرَى إِلَّا أَنَّكَ لَسْتَ بِنَبِيٍّ وَ لَكِنَّكَ لَوَزِيرٌ وَ إِنَّكَ لَعَلَى خَيْرٍ (14/228)
الباء في قوله بكلاكل العرب زائدة و الكلاكل الصدور الواحد كلكل و المعنى أني أذللتهم و صرعتهم إلى الأرض. شرح نهج البلاغة ج : 13 ص : 198و نواجم قرون ربيعة و مضر من نجم منهم و ظهر و علا قدره و طار صيته. فإن قلت أما قهره لمضر فمعلوم فما حال ربيعة و لم نعرف أنقتل منهم أحدا قلت بلى قد قتل بيده و بجيشه كثيرا من رؤسائهم في صفين و الجمل فقد تقدم ذكر أسمائهم من قبل و هذه الخطبة خطب بها بعد انقضاء أمر النهروان. و العرف بالفتح الريح الطيبة و مضغ الشي ء يمضغه بفتح الضاد. و الخطلة في الفعل الخطأ فيه و إيقاعه على غير وجه. و حراء اسم جبل بمكة معروف. و الرنة الصوت (14/229)
ذكر ما كان من صلة علي برسول الله في صغره
و القرابة القريبة بينه و بين رسول الله ص دون غيره من الأعمام كونه رباه في حجره ثم حامى عنه و نصره عند إظهار الدعوة دون غيره من بني هاشم ثم ما كان بينهما من المصاهرة التي أفضت إلى النسل الأطهر دون غيره من الأصهار و نحن نذكر ما ذكره أرباب السير من معاني هذا الفصل. روى الطبري في تاريخه قال حدثنا ابن حميد قال حدثنا سلمة قال حدثني محمد بن إسحاق قال حدثني عبد الله بن نجيح عن مجاهد قال كان من نعمة الله عز و جل على علي بن أبي طالب ع و ما صنع الله له و أراده به من الخير أن قريشا أصابتهم أزمة شديدة و كان أبو طالب ذا عيال كثير فقال رسول الله ص للعباس و كان من أيسر بني هاشم يا عباس إن أخاك أبا طالب كثير العيال و قد ترى ما أصاب الناس من هذه الأزمة فانطلق بنا فلنخفف عنه من عياله آخذ من بيته واحدا و تأخذ واحدا شرح نهج البلاغة ج : 13 ص : 199فنكفيهما عنه فقال العباس نعم فالقا حتى أتيا أبا طالب فقالا له إنا نريد أن نخفف عنك من عيالك حتى ينكشف عن الناس ما هم فيه فقال لهما إن تركتما لي عقيلا فاصنعا ما شئتما فأخذ رسول الله ص عليا فضمه إليه و أخذ العباس جعفرا رضي الله عنه فضمه إليه فلم يزل علي بن أبي طالب ع مع رسول الله ص حتى بعثه الله نبيا فاتبعه علي ع فأقر به و صدقه و لم يزل جعفر عند العباس حتى أسلم و استغنى عنه. قال الطبري و حدثنا ابن حميد قال حدثنا سلمة قال حدثنا محمد بن إسحاق قال كان رسول الله ص إذا حضرت الصلاة خرج إلى شعاب مكة و خرج معه علي بن أبي طالب ع مستخفيا من عمه أبي طالب و من جميع أعمامه و سائر قومه فيصليان الصلوات فيها فإذا أمسيا رجعا فمكثا كذلك ما شاء الله أن يمكثا. ثم إن أبا طالب عثر عليهما و هما يصليان فقال لرسول الله ص يا ابن أخي ما هذا الذي أراك تدين به قال يا عم هذا دين الله و دين ملائكته و دين رسله و دين أبينا إبراهيم أو كما قال بعثني الله به رسولا إلى العباد و أنت يا عم (14/230)
أحق من بذلت له النصيحة و دعوته إلى الهدى و أحق من أجابني إليه و أعانني عليه أو كما قال فقال أبو طالب يا ابن أخي إني لا أستطيع أن أفارق ديني و دين آبائي و ما كانوا عليه و لكن و الله لا يخلص إليك شي ء تكرهه ما بقيت. قال الطبري و قد روى هؤلاء المذكورون أن أبا طالب قال لعلي ع يا بني ما هذا الذي أنت عليه فقال يا أبت إني آمنت بالله و برسوله و صدقته بما شرح نهج البلاغة ج : 13 ص : 200جاء به و صليت لله معه قال فزعموا أنه قال له أما إنه لا يدعو إلا إلىر فالزمه. و (14/231)
روى الطبري في تاريخه أيضا قال حدثنا أحمد بن الحسين الترمذي قال حدثنا عبد الله بن موسى قال أخبرنا العلاء عن المنهال بن عمر و عن عبد الله بن عبد الله قال سمعت عليا ع يقول أنا عبد الله و أخو رسوله و أنا الصديق الأكبر لا يقولها بعدي إلا كاذب مفتر صليت قبل الناس بسبع سنين
و في غير رواية الطبري أنا الصديق الأكبر و أنا الفاروق الأول أسلمت قبل إسلام أبي بكر و صليت قبل صلاته بسبع سنين
كأنه ع لم يرتض أن يذكر عمر و لا رآه أهلا للمقايسة بينه و بينه و ذلك لأن إسلام عمر كان متأخرا. و روى الفضل بن عباس رحمه الله قال سألت أبي عن ولد رسول الله ص الذكور أيهم كان رسول الله ص له أشد حبا فقال علي بن أبي طالب ع فقلت له سألتك عن بنيه فقال إنه كان أحب إليه من بنيه جميعا و أرأف ما رأيناه زايله يوما من الدهر منذ كان طفلا إلا أن يكون في سفر لخديجة و ما رأينا أبا أبر بابن منه لعلي و لا ابنا أطوع لأب من علي له. و روى الحسين بن زيد بن علي بن الحسين ع قال سمعت زيدا أبي ع يقول كان رسول الله يمضغ اللحمة و التمرة حتى تلين و يجعلهما في فم علي ع و هو صغير في حجره و كذلك كان أبي علي بن الحسين ع يفعل بي و لقد كان يأخذ الشي ء من الورك و هو شديد الحرارة فيبرده في الهواء أو ينفخ عليه حتى يبرد ثم يلقمنيه أ فيشفق علي من حرارة لقمة و لا يشفق علي من النار لو كان أخي إماما الوصية كما يزعم هؤلاء لكان أبي أفضى بذلك إلي و وقاني من حر جهنم. شرح نهج البلاغة ج : 13 ص : 201و روى جبير بن مطعم قال قال أبي مطعم بن عدي لنا و نحن صبيان بمكة أ لا ترون حب هذا الغلام يعني عليا لمحمد و اتباعه له دون أبيه و اللات و العزى لوددت أن ابني بفتي بني نوفل جميعا. و روى سعيد بن جبير قال سألت أنس بن مالك فقلت أ رأيت قول عمر عن الستة إن رسول الله ص مات و هو عنهم راض أ لم يكن راضيا عن غيرهم من أصحابه فقال بلى مات رسول الله ص و هو راض عن كثير من المسلمين و لكن كان عن هؤلاء أكثر رضا فقلت له فأي الصحابة كان رسول الله ص له أحمد أو كما قال قال ما فيهم أحد إلا و قد سخط منه فعلا و أنكر عليه أمرا إلا اثنان علي بن أبي طالب و أبو بكر بن أبي قحافة فإنهما لم يقترفا منذ أتى الله بالإسلام أمرا أسخطا فيه رسول الله ص (14/232)
ذكر حال رسول الله في نشوئه
و ينبغي أن نذكر الآن ما ورد في شأن رسول الله ص و عصمته بالملائكة ليكون ذلك تقريرا و إيضاحا لقوله ع و لقد قرن الله به من لدن كان فطيما أعظم ملك من ملائكته و أن نذكر حديث مجاورته ع بحراء و كون علي ع معه هناك و أن نذكر ما ورد في أنه لم يجمع بيت واحد يومئذ في الإسلام غير رسول الله ص و عليا و خديجة و أن نذكر ما ورد في سماعه رنة الشيطان و أن نذكر ما ورد في كونه ع وزيرا للمصطفى ص أما المقام الأول فروى محمد بن إسحاق بن يسار في كتاب السيرة النبوية و رواه أيضا محمد بن جرير الطبري في تاريخه قال كانت حليمة بنت أبي ذؤيب السعدية شرح نهج البلاغة ج : 13 ص : 202أم رسول الله ص التي أرضعته تحدث أنها خرجت من بلدها و معها زوجها و ابن لها ترضعه في نسوة من بني سعد بن بكر يلتمسن الرضاع بمكة في سنة شهباء لم تبق شيئا قالت فخرجت على أتان لنا قمراء عجفاء و معنا شارف لنا ما تبض بقطرة لا ننام ليلنا أجمع من بكاء صبينا الذي معنا من الجوع ما في ثديي ما يغنيه و لا في شارفنا ما يغديه و لكنا نرجو الغيث و الفرج فخرجت على أتاني تلك و لقد أراثت بالركب ضعفا و عجفا حتى شق ذلك عليهم حتى قدمنا مكة نلتمس الرضاع فما منا امرأة إلا و قد عرض عليها محمد ص فتأباه إذا قيل لها إنه يتيم و ذلك أنا إنما كنا نرجو المعروف من أبي الصبي فكنا نقول يتيم ما عسى أن تصنع أمه و جده فكنا نكرهه لذلك فما بقيت امرأة ذهبت معي إلا أخذت رضيعا غيري فلما اجتمعنا للانطلاق قلت لصاحبي و الله إني لأكره أن أرجع من بين صواحبي لم آخذ رضيعا و الله لأذهبن إلى ذلك اليتيم فلآخذنه قال لا عليك أن تفعلي و عسى الله أن يجعل لنا فيه بركة فذهبت إليه فأخذته و ما يحملني على أخذه إلا أني لم أجد غيره قالت فلما أخذته رجعت إلى رحلي فلما وضعته في حجري أقبل عليه ثدياي بما شاء من لبن فرضع حتى روي و شرب معه أخوه حتى روي و ما كنا ننام قبل ذلك من بكاء صبينا جوعا فنام و قام (14/233)
زوجي إلى شارفنا تلك فنظر إليها فإذا أنها حافل فحلب منها ما شرب و شربت حتى انتهينا ريا و شبعا فبتنا بخير ليلة قالت يقول شرح نهج البلاغة ج : 13 ص : 203صاحبي حين أصبحنا أ تعلمين و الله يا حليمةقد أخذت نسمة مباركة فقلت و الله إني لأرجو ذلك ثم خرجنا و ركبت أتاني تلك و حملته معي عليها فو الله لقطعت بالركب ما يقدر عليها شي ء من حميرهم حتى إن صواحبي ليقلن لي ويحك يا بنت أبي ذؤيب اربعي علينا أ ليس هذه أتانك التي كنت خرجت عليها فأقول لهن بلى و الله إنا لهي فيقلن و الله إن لها لشأنا. قالت ثم قدمنا منازلنا من بلاد بني سعد و ما أعلم أرضا من أرض العرب أجدب منها فكانت غنمي تروح علي حين قدمنا به معنا شباعا ملأى لبنا فكنا نحتلب و نشرب و ما يحلب إنسان قطرة لبن و لا يجدها في ضرع حتى إن الحاضر من قومنا ليقولون لرعاتهم ويلكم اسرحوا حيث يسرح راعي ابنة أبي ذؤيب فيفعلون فتروح أغنامهم جياعا ما تبض بقطرة و تروح غنمي شباعا لبنا فلم نزل نعرف من الله الزيادة و الخير به حتى مضت سنتاه و فصلته فكان يشب شبابا لا يشبه الغلمان فلم يبلغ سنتيه حتى كان غلاما جفرا فقدمنا به على أمه آمنة بنت وهب و نحن أحرص شي ء على مكثه فينا لما كنا نرى من بركته فكلمنا أمه و قلنا لها لو تركته عندنا حتى يغلظ فإنا نخشى عليه وباء مكة فلم نزل بها حتى ردته معنا. فرجعنا به إلى بلاد بني سعد فو الله إنه لبعد ما قدمنا بأشهر مع أخيه في بهم لنا خلف بيوتنا إذ أانا أخوه يشتد فقال لي و لأبيه ها هو ذاك أخي القرشي قد جاءه (14/234)
شرح نهج البلاغة ج : 13 ص : 204رجلان عليهما ثياب بياض فأضجعاه و شقا بطنه فهما يسوطانه قالت فخرجت أنا و أبوه نشتد نحوه فوجدناه قائما ممتقعا وجهه فالتزمته و التزمه أبوه و قلنا ما لك يا بني قال جاءني رجلان عليهما ثياب بيض فأضجعاني ثم شقا بطني فالتمسا فيه شي لا أدري ما هو قالت فرجعنا به إلى خبائنا و قال لي أبوه يا حليمة لقد خشيت أن يكون هذا الغلام قد أصيب فألحقيه بأهله قالت فاحتملته حتى قدمت به على أمه فقالت ما أقدمك به يا ظئر و قد كنت حريصة عليه و على مكثه عندك فقلت لها قد بلغ الله بابني و قضيت الذي علي و تخوفت عليه الأحداث و أديته إليك كما تحبين قالت أ تخوفت عليه الشيطان قلت نعم قالت كلا و الله ما للشيطان عليه من سبيل و إن لابني شأنا أ فلا أخبرك خبره قلت بلى قالت رأيت حين حملت به أنه خرج مني نور أضاءت له قصور بصرى من الشام ثم حملت به فو الله ما رأيت حملا قط كان أخف و لا أيسر منه ثم وقع حين ولدته و إنه لواضع يديه بالأرض و رافع رأسه إلى السماء دعيه عنك و انطلقي راشدة. (14/235)
قال و روى الطبري في تاريخه عن شداد بن أوس قال سمعت رسول الله ص يحدث عن نفسه و يذكر ما جرى له و هو طفل في أرض بني سعد بن بكر قال لما ولدت استرضعت في بني سعد فبينا أنا ذات يوم منتبذ من شرح نهج البلاغة ج : 13 ص : 205أهلي في بطن واد مع أتراب لي من الصبيان ناذف بالجلة إذا أتاني رهط ثلاثة معهم طشت من ذهب مملوءة ثلجا فأخذوني من بين أصحابي فخرج أصحابي هرابا حتى انتهوا إلى شفير الوادي ثم عادوا إلى الرهط فقالوا ما أربكم إلى هذا الغلام فإنه ليس منا هذا ابن سيد قريش و هو مسترضع فينا غلام يتيم ليس له أب فما ذا يرد عليكم قتله و ما ذا تصيبون من ذلك و لكن إن كنتم لا بد قاتليه فاختاروا منا أينا شئتم فاقتلوه مكانه و دعوا هذا الغلام فإنه يتيم. فلما رأى الصبيان أن القوم لا يحيرون لهم جوابا انطلقوا هرابا مسرعين إلى الحي يؤذنونهم و يستصرخونهم على القوم فعمد أحدهم فأضجعني إضجاعا لطيفا ثم شق ما بين مفرق صدري إلى منتهى عانتي و أنا أنظر إليه فلم أجد لذلك حسا ثم أخرج بطني فغسلها بذلك الثلج فأنعم غسلها ثم أعادها مكانها ثم قام الثاني منهم فقال لصاحبه تنح فنحاه عني ثم أدخل يده في جوفي و أخرج قلبي و أنا أنظر إليه فصدعه ثم أخرج منه مضغة سوداء فرماها ثم قال بيده يمنة منه و كأنه يتناول شيئا فإذا في يده خاتم من نور تحار أبصار الناظرين دونه فختم به قلبي ثم أعاده مكانه فوجدت برد ذلك الخاتم في قلبي دهرا ثم قال الثالث لصاحبه تنح عنه فأمر يده ما بين مفرق صدري إلى منتهى عانتي فالتأم ذلك الشق ثم أخذ بيدي فأنهضني من مكاني إنهاضا لطيفا و قال للأول الذي شق بطني زنه بعشرة من أمته فوزنني بهم فرجحتهم فقال دعوه فلو وزنتموه بأمته كلها لرجحهم ثم ضموني إلى صدرهم و قبلوا رأسي و ما بين عيني و قالوا يا حبيب الله لا ترع إنك لو تدري ما يراد بك من الخير لقرت عيناك فبينا أنا كذلك إذا أنا بالحي قد جاءوا بحذافيرهم و إذا أمي و هي (14/236)
شرح نهج البلاغة ج : 13 ص : 206ظئري أمام الحي تهتف بأعلى صوتها و تقول يا ضعيفاه فانكب علي أولئك الرهط فقبلوا رأسي و ما بين عيني و قالوا حبذا أنت من ضعيف ثم قالت ظئري يا وحيداه فانكبوا علي و ضمي إلى صدورهم و قبلوا رأسي و ما بين عيني ثم قالوا حبذا أنت من وحيد و ما أنت بوحيد إن الله و ملائكته معك و المؤمنين من أهل الأرض ثم قالت ظئري يا يتيماه استضعفت من بين أصحابك فقتلت لضعفك فانكبوا علي و ضموني إلى صدورهم و قبلوا رأسي و ما بين عيني و قالوا حبذا أنت من يتيم ما أكرمك على الله لو تعلم ما يراد بك من الخير قال فوصل الحي إلى شفير الوادي فلما بصرت بي أمي و هي ظئري نادت يا بني أ لا أراك حيا بعد فجاءت حتى انكبت علي و ضمتني إلى صدرها فو الذي نفسي بيده إني لفي حجرها قد ضمتني إليها و إن يدي لفي يد بعضهم فجعلت ألتفت إليهم و ظننت أن القوم يبصرونهم فإذا هم لا يبصرونهم فيقول بعض القوم إن هذا الغلام قد أصابه لمم أو طائف من الجن فانطلقوا به إلى كاهن بني فلان حتى ينظر إليه و يداويه فقلت ما بي شي ء مما يذكرون نفسي سليمة و إن فؤادي صحيح ليست بي قلبة فقال أبي و هو زوج ئري أ لا ترون كلامه صحيحا إني لأرجو ألا يكون على ابني بأس. فاتفق القوم على أن يذهبوا إلى الكاهن بي فاحتملوني حتى ذهبوا بي إليه فقصوا عليه قصتي فقال اسكتوا حتى أسمع من الغلام فهو أعلم بأمره منكم فسألني فقصصت عليه أمري و أنا يومئذ ابن خمس سنين فلما سمع قولي وثب و قال يا للعرب اقتلوا هذا الغلام فهو و اللات و العزى لئن عاش ليبدلن دينكم و ليخالفن أمركم و ليأتينكم بما لم تسمعوا به قط فانتزعتني ظئري من حجره و قالت لو علمت أن هذا يكون من قولك ما أتيتك به شرح نهج البلاغة ج : 13 ص : 207ثم احتملوني فأصبحت و قد صار فجسدي أثر الشق ما بين صدري إلى منتهى عانتي كأنه الشراك (14/237)
و روي أن بعض أصحاب أبي جعفر محمد بن علي الباقر ع سأله عن قول الله عز و جل إِلَّا مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَ مِنْ خَلْفِهِ رَصَداً فقال ع يوكل الله تعالى بأنبيائه ملائكة يحصون أعمالهم و يؤدون إليه تبليغهم الرسالة و وكل بمحمد ص ملكا عظيما منذ فصل عن الرضاع يرشده إلى الخيرات و مكارم الأخلاق و يصده عن الشر و مساوئ الأخلاق و هو الذي كان يناديه السلام عليك يا محمد يا رسول الله و هو شاب لم يبلغ درجة الرسالة بعد فيظن أن ذلك من الحجر و الأرض فيتأمل فلا يرى شيئا (14/238)
و روى الطبري في التاريخ عن محمد بن الحنفية عن أبيه علي ع قال سمعت رسول الله ص يقول ما هممت بشي ء مما كان أهل الجاهلية يعملون به غير مرتين كل ذلك يحول الله تعالى بيني و بين ما أريد من ذلك ثم ما هممت بسوء حتى أكرمني الله برسالته قلت ليلة لغلام من قريش كان يعى معي بأعلى مكة لو أبصرت لي غنمي حتى أدخل مكة فأسمر بها كما يسمر الشباب فخرجت أريد ذلك حتى إذا جئت أول دار من دور مكة سمعت عزفا بالدف و المزامير فقلت ما هذا قالوا هذا فلان تزوج ابنة فلان فجلست أنظر إليهم فضرب الله على أذني فنمت فما أيقظني إلا مس الشمس فرجعت إلى صاحبي فقال ما فعلت فقلت ما صنعت شيئا ثم أخبرته الخبر ثم قلت له ليلة أخرى مثل ذلك فقال أفعل فخرجت فسمعت حين دخلت مكة مثل ما سمعت حين دخلتها تلك الليلة فجلست شرح نهج البلاغة ج : 13 ص : 208أنظر فضرب الله على أذني فما أيقظني إلا مس الشمس فرجعت إلى صاح فأخبرته الخبر ثم ما هممت بعدها بسوء حتى أكرمني الله برسالته
و روى محمد بن حبيب في أماليه قال قال رسول الله ص أذكر و أنا غلام ابن سبع سنين و قد بنى ابن جدعان دارا له بمكة فجئت مع الغلمان نأخذ التراب و المدر في حجورنا فننقله فملأت حجري ترابا فانكشفت عورتي فسمعت نداء من فوق رأسي يا محمد أرخ إزارك فجعلت أرفع رأسي فلا أرى شيئا إلا أني أسمع الصوت فتماسكت و لم أرخه فكأن إنسانا ضربني على ظهري فخررت لوجهي و انحل إزاري فسترني و سقط التراب إلى الأرض فقمت إلى دار أبي طالب عمي و لم أعد (14/239)
و أما حديث مجاورته ع بحراء فمشهور و قد ورد في الكتب الصحاح أنه كان يجاور في حراء من كل سنة شهرا و كان يطعم في ذلك الشهر من جاءه من المساكين فإذا قضى جواره من حراء كان أول ما يبدأ به إذا انصرف أن يأتي باب الكعبة قبل أن يدخل بيته فيطوف بها سبعا أو ما شاء الله من ذلك ثم يرجع إلى بيته حتى جاءت السنة التي أكرمه الله فيها بالرسالة فجاور في حراء شهر رمضان و معه أهله خديجة و علي بن أبي طالب و خادم لهم فجاءه جبريل بالرسالة و
قال ع جاءني و أنا نائم بنمط فيه كتاب فقال اقرأ قلت ما أقرأ فغتني حتى ظننت أنه الموت ثم أرسلني فقال اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ إلى قوله عَلَّمَ الْإِنْسانَ شرح نهج البلاغة ج : 13 ص : 209ما لَمْ يَعْلَمْ فقرأته ثم انصرف عني فانتبهت من نومي و كما كتب في قلبي كتاب
و ذكر تمام الحديث. و أما حديث أن الإسلام لم يجتمع عليه بيت واحد يومئذ إلا النبي و هو ع و خديجة فخبر عفيف الكندي مشهور و قد ذكرناه من قبل و أن أبا طالب قال له أ تدري من هذا قال لا قال هذا ابن أخي محمد بن عبد الله بن عبد المطلب و هذا ابني علي بن أبي طالب و هذه المرأة خلفهما خديجة بنت خويلد زوجة محمد ابن أخي و ايم الله ما أعلم على الأرض كلها أحدا على هذا الدين غير هؤلاء الثلاثة. و أما رنة الشيطان
فروى أبو عبد الله أحمد بن حنبل في مسنده عن علي بن أبي طالب ع قال كنت مع رسول الله ص صبيحة الليلة التي أسري به فيها و هو بالحجر يصلي فلما قضى صلاته و قضيت صلاتي سمعت رنة شديدة فقلت يا رسول الله ما هذه الرنة قال أ لا تعلم هذه رنة الشيطان علم أني أسري بي الليلة إلى السماء فأيس من أن يعبد في هذه الأرض (14/240)
و قد روي عن النبي ص ما يشابه هذا لما بايعه الأنصار السبعون ليلة العقبة سمع من العقبة صوت عال في جوف الليل يا أهل مكة هذا مذمم و الصباة معه قد أجمعوا على حربكم فقال رسول الله ص للأنصار أ لا تسمعون ما يقول هذا أزب العقبة يعني شيطانها و قد روي أزبب العقبة ثم التفت إليه فقال استمع يا عدو الله أما و الله لأفرغن لك
شرح نهج البلاغة ج : 13 ص : 210و روي عن جعفر بن محمد الصادق ع قال كان علي ع يرى مع رسول الله ص قبل الرسالة الضوء و يسمع الصوت و قال له ص لو لا أني خاتم الأنبياء لكنت شريكا في النبوة فإن لا تكن نبيا فإنك وصي نبي و وارثه بل أنت سيد الأوصياء و إمام الأتقياء
و أما خبر الوزارة فقد ذكره الطبري في تاريخه عن عبد الله بن عباس عن علي بن أبي طالب ع قال لما أنزلت هذه الآية وَ أَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ على رسول الله ص دعاني فقال يا علي إن الله أمرني أن أنذر عشيرتك الأقربين فضقت بذلك ذرعا و علمت أني متى أنادهم بهذا الأمر أر منهم ما أكره فصمت حتى جاءني جبريل ع فقال يا محمد إنك إن لم تفعل ما أمرت به يعذبك ربك فاصنع لنا صاعا من طعام و اجعل عليه رجل شاة و املأ لنا عسا من لبن ثم اجمع بني عبد المطلب حتى أكلمهم و أبلغهم ما أمرت به ففعلت ما أمرني به ثم دعوتهم و هم يومئذ أربعون رجلا يزيدون رجلا أو ينقصونه و فيهم أعمامه أبو طالب و حمزة و العباس و أبو لهب فلما اجتمعوا إليه دعا بالطعام الذي صنعت لهم فجئت به فلما وضعته تناول رسول الله ص بضعة من اللحم فشقها بأسنانه ثم ألقاها في نواحي الصحفة ثم قال كلوا باسم الله فأكلوا حتى ما لهم إلى شي ء من حاجة و ايم الله الذي نفس علي بيده إن كان الرجل الواحد منهم ليأكل ما قدمته لجميعهم ثم قال اسق القوم يا علي فجئتهم بذلك العس فشربوا منه حتى رووا جميعا و ايم الله إن كان الرجل منهم ليشرب مثله فلما أراد رسول الله ص أن يكلمهم بدره أبو لهب إلى لكلام فقال لشد ما سحركم صاحبكم فتفرق القوم و لم يكلمهم رسول الله ص فقال من الغد يا علي إن هذا الرجل قد سبقني شرح نهج البلاغة ج : 13 ص : 211إلى ما سمعت من القول فتفرق القوم قبل أن أكلمهم فعد لنا اليوم إلى مثل ما صنعت بالأمس ثم اجمعهم لي ففعلت ثم جمعتهم ثمعاني بالطعام فقربته لهم ففعل كما فعل بالأمس فأكلوا حتى ما لهم بشي ء حاجة ثم قال اسقهم فجئتهم بذلك العس فشربوا منه جميعا حتى رووا ثم تكلم رسول الله ص فقال يا بني عبد المطلب إني و الله ما أعلم أن شابا في العرب جاء قومه بأفضل مما جئتكم به إني قد جئتكم بخير ادنيا و الآخرة و قد أمرني الله أن أدعوكم إليه فأيكم يوازرني على هذا (14/241)
الأمر على أن يكون أخي و وصيي و خليفتي فيكم فأحجم القوم عنها جميعا و قلت أنا و إني لأحدثهم سنا و أرمصهم عينا و أعظمهم بطنا و أحمشهم ساقا أنا يا رسول الله أكون وزيرك عليه فأعاد القول فأمسكوا و أعدت ما قلت فأخذ برقبتي ثم قال لهم هذا أخي و وصيي و خليفتي فيكم فاسمعوا له و أطيعوا فقام القوم يضحكون و يقولون لأبي طالب قد أمرك أن تسمع لابنك و تطيع (14/242)
و يدل على أنه وزير رسول الله ص من نص الكتاب و السنة قول الله تعالى وَ اجْعَلْ لِي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي هارُونَ أَخِي اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي وَ أَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي و
قال النبي ص في الخبر المجمع على روايته بين سائر فرق الإسلام أنت مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي
فأثبت له جميع مراتب هارون عن موسى فإذن هو وزير رسول الله ص و شاد أزره و لو لا أنه خاتم النبيين لكان شريكا في أمره. شرح نهج البلاغة ج : 13 ص : 212و روى أبو جعفر الطبري أيضا في التاريخ أن رجلا قال لعلي ع يا أمير المؤمنين بم ورثت ابن عمك دون عمك فقال علي ع هاؤم ثلاث مرات حتى اشرأب الناس و نشروا آذانهم ثم قال جمع رسول الله ص بني عبد المطلب بمكة و هم رهطه كلهم يأكل الجذعة و يشرب الفرق فصنع مدا من طعام حتى أكلوا و شبعوا و بقي الطعام كما هو كأنه لم يمس ثم دعا بغمر فشربوا و رووا و بقي الشراب كأنه لم يشرب ثم قال يا بني عبد المطلب إني بعثت إليكم خاصة و إلى الناس عامة فأيكم يبايعني على أن يكون أخي و صاحبي و وارثي فلم يقم إليه أحد فقمت إليه و كنت من أصغر القوم فقال اجلس ثم قال ذلك ثلاث مرات كل ذلك أقوم إليه فيقول اجلس حتى كان في الثالثة فضرب بيده على يدي فعند ذلك ورثت ابن عمي دون عمي
وَ لَقَدْ كُنْتُ مَعَهُ ص لَمَّا أَتَاهُ الْمَلَأُ مِنْ قُرَيْشٍ فَقَالُوا لَهُ يَا مُحَمَّدُ إِنَّكَ قَدِ ادَّعَيْتَ عَظِيماً لَمْ يَدَّعِهِ آبَاؤُكَ وَ لَا أَحَدٌ مِنْ بَيْتِكَ وَ نَحْنُ نَسْأَلُكَ أَمْراً إِنْ أَنْتَ أَجَبْتَنَا إِلَيْهِ وَ أَرَيْتَنَاهُ عَلِمْنَا أَنَّكَ نَبِيٌّ وَ رَسُولٌ وَ إِنْ لَمْ تَفْعَلْ عَلِمْنَا أَنَّكَ سَاحِرٌ كَذَّابٌ فَقَالَ ص وَ مَا تَسْأَلُونَ قَالُوا تَدْعُو لَنَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ حَتَّى تَنْقَلِعَ بِعُرُوقِهَا وَ تَقِفَ بَيْنَ يَدَيْكَ فَقَالَ ص إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شرح نهج البلاغة ج : 13 ص : 213شَيْ ءٍ قَدِيرٌ فَإِنْ فَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ ذَلِكَ أَ تُؤْمِنُونَ وَ تَشْهَدُونَ بِالْحَقِّ قَالُوا نَعَمْ قَالَ فَإِنِّي سَأُرِيكُمْ مَا تَطْلُبُونَ وَ إِنِّي لَأَعْلَمُ أَنَّكُمْ لَا تَفِيئُونَ إِلَى خَيْرٍ وَ أَنَّ فُمْ مَنْ يُطْرَحُ فِي الْقَلِيبِ وَ مَنْ يُحَزِّبُ الْأَحْزَابَ ثُمَّ قَالَ ص يَا أَيَّتُهَا الشَّجَرَةُ إِنْ كُنْتِ تُؤْمِنِينَ بِاللَّهِ وَ الْيَوْمِ الآْخِرِ وَ تَعْلَمِينَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ فَانْقَلِعِي بِعُرُوقِكِ حَتَّى تَقِفِي بَيْنَ يَدَيَّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَ الَّذِي بَعَثَهُ بِالْحَقِّ لَانْقَلَعَتْ بِعُرُوقِهَا وَ جَاءَتْ وَ لَهَا دَوِيٌّ شَدِيدٌ وَ قَصْفٌ كَقَصْفِ أَجْنِحَةِ الطَّيْرِ حَتَّى وَقَفَتْ بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللَّهِ ص مُرَفْرِفَةً وَ أَلْقَتْ بِغُصْنِهَا الْأَعْلَى عَلَى رَسُولِ اللَّهِ ص وَ بِبَعْضِ أَغْصَانِهَا عَلَى مَنْكِبِي وَ كُنْتُ عَنْ يَمِينِهِ ص فَلَمَّا نَظَرَ الْقَوْمُ إِلَى ذَلِكَ قَالُوا عُلُوّاً وَ اسْتِكْبَاراً فَمُرْهَا فَلْيَأْتِكَ نِصْفُهَا وَ يَبْقَى نِصْفُهَا فَأَمَرَهَا فَأَقْبَلَ إِلَيْهِ نِصْفُهَا كَأَعْجَبِ إِقْبَالٍ وَ أَشَدِّهِ دَوِيّاً فَكَادَتْ تَلْتَفُّ بِرَسُولِ (14/243)
اللَّهِ ص فَقَالُوا كُفْراً وَ عُتُوّاً فَمُرْ هَذَا النِّصْفَ فَلْيَرْجِعْ إِلَى نِصْفِهِ كَمَا كَانَ فَأَمَرَهُ ص فَرَجَعَ فَقُلْتُ أَنَا لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ إِنِّي أَوَّلُ مُؤْمِنٍ بِكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَ أَوَّلُ مَنْ أَقَرَّ بِأَنَّ الشَّجَرَةَ فَعَلَتْ مَا فَعَلَتْ بِأَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى تَصْدِيقاً بِنُبُوَّتِكَ وَ إِجْلَالًا لِكَلِمَتِكَ فَقَالَ الْقَوْمُ كُلُّهُمْ بَلْ سَاحِرٌ كَذَّابٌ عَجِيبُ السِّحْرِ خَفِيفٌ فِيهِ وَ هَلْ يُصَدِّقُكَ فِي أَمْرِكَ إِلَّا مِثْلُ هَذَا يَعْنُونَنِي وَ إِنِّي لَمِنْ قَوْمٍ لَا تَأْخُذُهُمْ فِي اللَّهِ لَوْمَةُ لَائِمٍ سِيمَاهُمْ سِيمَا الصِّدِّيقِينَ وَ كَلَامُهُمْ كَلَامُ الْأَبْرَارِ عُمَّارُ اللَّيْلِ وَ مَنَارُ النَّهَارِ مُتَمَسِّكُونَ بِحَبْلِ الْقُرْآنِ يُحْيُونَ سُنَنَ اللَّهِ وَ سُنَنَ رَسُولِهِ لَا يَسْتَكْبِرُونَ وَ لَا يَعْلُونَ وَ لَا يَغُلُّونَ وَ لَا يُفْسِدُونَ قُلُوبُهُمْ فِي الْجِنَانِ وَ أَجْسَادُهُمْ فِي الْعَمَلِ (14/244)
شرح نهج البلاغة ج : 13 ص : 214الملأ الجماعة و لا تفيئون لا ترجعون و من يطرح في القليب كعتبة و شيبة ابني ربيعة بن عبد شمس و عمرو بن هشام بن المغيرة المكنى أبا جهل و غيرهم طرحوا في قليب بدر بعد انقضاء الحرب و من يحزب الأحزاب أبو سفيان صخر بن حرب بن أمية. القصف و القصيف الصوت و سيماهم علامتهم و مثله سيمياء. و معنى قوله ع قلوبهم في الجنان و أجسادهم في العمل أن قلوبهم ملتذة بمعرفة الله تعالى و أجسادهم نصبة بالعبادة. و أما أمر الشجرة التي دعاها رسول الله ص فالحديث الوارد فيها كثير مستفيض قد ذكره المحدثون في كتبهم و ذكره المتكلمون في معجزات الرسول ص و الأكثرون رووا الخبر فيها على الوضع الذي جاء في خطبة أمير المؤمنين و منهم من يروي ذلك مختصرا أنه دعا شجرة فأقبلت تخد إليه الأرض خدا. و قد ذكر البيهقي في كتاب دلائل النبوة حديث الشجرة و رواه أيضا محمد بن إسحاق بن يسار في كتاب السيرة و المغازي على وجه آخر قال محمد بن إسحاق كان ركانة بن عبد يزيد بن هاشم بن عبد المطلب بن عبد مناف أشد قريش كلها فخلا يوما برسول الله ص في بعض شعاب مكة فقال له رسول الله ص يا ركانة أ لا تتقي الله و تقبل ما أدعوك إليه قال لو أعلم أن الذي تقول حق لاتبعتك قال أ فرأيت إن صرعتك أ تعلم أن ما أقول لك حق قال نعم قال فقم حتى أصارعك فقام ركانة فلما بطش به رسول الله ص أضجعه لا يملك من نفسه شيئا فقال عد يا محمد فعاد فصرعه فقال يا محمد إن هذا لعجب حين تصرعني فقال رسول الله ص و أعجب من ذلك إن شئت أريتكه إن اتقيت الله و اتبعت أمري شرح نهج البلاغة ج : 13 ص : 215قال ما هو قال أدعو لك هذه الشجرة التي تراها فتأتي قال فادعها فدعاها فأقبلت حتى وقفت بين يدي رسول الله ص ثم قال ارجعي إلى مكانك فرجعت إلى مكانها فرجع ركانة إلى قومه و قال يا بني عبد مناف ساحروا بصاحبكمهل الأرض فما رأيت أسحر منه قط ثم أخبرهم بالذي رأى و الذي صنع (14/245)
القول في إسلام أبي بكر و علي و خصائص كل منهما (14/246)
و ينبغي أن نذكر في هذا الموضع ملخص ما ذكره الشيخ أبو عثمان الجاحظ في كتابه المعروف بكتاب العثمانية في تفضيل إسلام أبي بكر على إسلام علي ع لأن هذا الموضع يقتضيه لقوله ع حكاية عن قريش لما صدق رسول الله ص و هل يصدقك في أمرك إلا مثل هذا لأنهم استصغروا سنه فاستحقروا أمر محمد رسول الله ص حيث لم يصدقه في دعواه إلا غلام صغير السن و شبهة العثمانية التي قررها الجاحظ من هذه الشبهة نشأت و من هذه الكلمة تفرعت لأن خلاصتها أن أبا بكر أسلم و هو ابن أربعين سنة و علي أسلم و لم يبلغ الحلم فكان إسلام أبي بكر أفضل. ثم نذكر ما اعترض به شيخنا أبو جعفر الإسكافي على الجاحظ في كتابه المعروف بنقض العثمانية و يتشعب الكلام بينهما حتى يخرج عن البحث في الإسلامين إلى البحث في أفضلية الرجلين و خصائصهما فإن ذلك لا يخلو عن فائدة جليلة و نكتة شرح نهج البلاغة ج : 13 ص : 216لطيفة لا يليق أن يخ كتابنا هذا عنها و لأن كلامهما بالرسائل و الخطابة أشبه و في الكتابة أقصد و أدخل و كتابنا هذا موضوع لذكر ذلك و أمثاله. قال أبو عثمان قالت العثمانية أفضل الأمة و أولاها بالإمامة أبو بكر بن أبي قحافة لإسلامه على الوجه الذي لم يسلم عليه أحد في عصره و ذلك أن الناس اختلفوا في أول الناس إسلاما فقال قوم أبو بكر و قال قوم زيد بن حارثة و قال قوم خباب بن الأرت. و إذا تفقدنا أخبارهم و أحصينا أحاديثهم و عددنا رجالهم و نظرنا في صحة أسانيدهم كان الخبر في تقدم إسلام أبي بكر أعم و رجاله أكثر و أسانيده أصح و هو بذاك أشهر و اللفظ فيه أظهر مع الأشعار الصحيحة و الأخبار المستفيضة في حياة رسول الله ص و بعد وفاته و ليس بين الأشعار و الأخبار فرق إذا امتنع في مجيئها و أصل مخرجها التباعد و الاتفاق و التواطؤ و لكن ندع هذا المذهب جانبا و نضرب عنه صفحا اقتدارا على الحجة و وثوقا بالفلج و القوة و نقتصر على
أدنى نازل في أبي بكر و ننزل على حكم الخصم فنقول إنا وجدنا من يزعم أنه أسلم قبل زيد و خباب و وجدنا من يزعم أنهما أسلما قبله و أوسط الأمور أعدلها و أقربها من محبة الجميع و رضا المخالف أن نجعل إسلامهم كان معا إذ الأخبار متكافئة و الآثار متساوية على ما تزعمون و ليست إحدى القضيتين أولى في صحة العقل من الأخرى ثم نستدل على إمامه أبي بكر بما ورد فيه من الحديث و بما أبانه به الرسول ص من غيره. قالوا فمما روي من تقدم إسلامه ما حدث به أبو داود و ابن مهدي عن شعبة و ابن عيينة عن الجريري عن أبي هريرة قال أبو بكر أنا أحقكم بهذا الأمر يعني الخلافة أ لست أول من صلى. شرح نهج البلاغة ج : 13 ص : 21 روى عباد بن صهيب عن يحيى بن عمير عن محمد بن المنكدر أن رسول الله ص قال إن الله بعثني بالهدى و دين الحق إلى الناس كافة فقالوا كذبت و قال أبو بكر صدقت (14/247)
و روى يعلى بن عبيد قال جاء رجل إلى ابن عباس فسأله من كان أول الناس إسلاما فقال أ ما سمعت قول حسان بن ثابت
إذا تذكرت شجوا من أخي ثقة فاذكر أخاك أبا بكر بما فعلاالثاني التالي المحمود مشهده و أول الناس منهم صدق الرسلا
و قال أبو محجن
سبقت إلى الإسلام و الله شاهد و كنت حبيبا بالعريش المشهر
و قال كعب بن مالك
سبقت أخا تيم إلى دين أحمد و كنت لدى الغيران في الكهف صاحبا
و روى ابن أبي شيبة عن عبد الله بن إدريس و وكيع عن شعبة عن عمرو بن مرة قال قال النخعي أبو بكر أول من أسلم. و
روى هيثم عن يعلى بن عطاء عن عمرو بن عنبسة قال أتيت النبي ص و هو بعكاظ فقلت من بايعك على هذا الأمر فقال بايعني حر و عبد
فلقد رأيتني يومئذ و أنا رابع الإسلام. شرح نهج البلاغة ج : 13 ص : 218قال بعض أصحاب الحديث يعني بالحر أبا بكر و بالعبد بلالا. و روى الليث بن سعد عن معاوية بن صالح عن سليم بن عامر عن أبي أمامه قال حدثني عمرو بن عنبسة أنه سأل النبي ص و هو بعكاظ فقال له من تبعك قال تبعني حر و عبد أبو بكر و بلال (14/248)
و روى عمرو بن إبراهيم الهاشمي عن عبد الملك بن عمير عن أسيد بن صفوان صاحب النبي ص قال لما قبض أبو بكر جاء علي بن أبي طالب ع فقال رحمك الله أبا بكر كنت أول الناس إسلاما
و روى عباد عن الحسن بن دينار عن بشر بن أبي زينب عن عكرمة مولى ابن عباس قال إذا لقيت الهاشميين قالوا علي بن أبي طالب أول من أسلم و إذا لقيت الذين يعلمون قالوا أبو بكر أول من أسلم. قال أبو عثمان الجاحظ قالت العثمانية فإن قال قائل فما بالكم لم تذكروا علي بن أبي طالب في هذه الطبقة و قد تعلمون كثرة مقدميه و الرواية فيه قلنا قد علمنا الرواية الصحيحة و الشهادة القائمة أنه أسلم و هو حدث غرير و طفل صغير فلم نكذب الناقلين و لم نستطع أن نلحق إسلامه بإسلام البالغين لأن المقلل زعم أنه أسلم و هو ابن خمس سنين و المكثر زعم أنه أسلم و هو ابن تسع سنين فالقياس أن يؤخذ بالأوسط بين الروايتين و بالأمر بين الأمرين و إنما يعرف حق ذلك من باطله بأن نحصي سنيه التي ولي فيها الخلافة و سني عمر و سني عثمان و سني أبي بكر و مقام النبي ص بالمدينة و مقامه بمكة عند إظهار الدعوة فإذا فعلنا ذلك صح أنه أسلم و هو ابن سبع سنين فالتاريخ المجمع عليه أنه قتل ع في شهر رمضان سنة أربعين. شرح نهج البلاغة ج : 13 ص : 219قال شيخنا أبو جعفر الإسكافي لو لا ما غلب على الناس من الجهل و حب التقليد لم نحتج إلى نقض ما احتجت به العثمانية فقد علم الناس كافة أن الدولو السلطان لأرباب مقالتهم و عرف كل أحد علو أقدار شيوخهم و علمائهم و أمرائهم و ظهور كلمتهم و قهر سلطانهم و ارتفاع التقية عنهم و الكرامة و الجائزة لمن روى الأخبار و الأحاديث في فضل أبي بكر و ما كان من تأكيد بني أمية لذلك و ما ولده المحدثون من الأحاديث طلبا لما في أيديهم فكانوا لا يألون جهدا في طول ما ملكوا أن يخملوا ذكر علي ع و ولده و يطفئوا نورهم و يكتموا فضائلهم و مناقبهم و سوابقهم و يحملوا على شتمهم و سبهم و لعنهم على المنابر فلم يزل السيف يقطر من دمائهم مع قلة عددهم و كثرة عدوهم فكانوا بين قتيل و أسير و شريد و هارب و مستخف ذليل و خائف مترقب حتى إن الفقيه و المحدث و (14/249)
القاضي و المتكلم ليتقدم إليه و يتوعد بغاية الإيعاد و أشد العقوبة ألا يذكروا شيئا من فضائلهم و لا يرخصوا لأحد أن يطيف بهم و حتى بلغ من تقية المحدث أنه إذا ذكر حديثا عن علي ع كنى عن ذكره فقال قال رجل من قريش و فعل رجل من قريش و لا يذكر عليا ع و لا يتفوه باسمه. ثم رأينا جميع المختلفين قد حاولوا نقض فضائله و وجهوا الحيل و التأويلات نحوها من خارجي مارق و ناصب حنق و ثابت مستبهم و ناشئ معاند و منافق مكذب و عثماني حسود يعترض فيها و يطعن و معتزلي قد نقض في الكلام و أبصر علم الاختلاف (14/250)
شرح نهج البلاغة ج : 13 ص : 220و عرف الشبه و مواضع الطعن و ضروب التأويل قد التمس الحيل في إبطال مناقبه و تأول مشهور فضائله فمرة يتأولها بما لا يحتمل و مرة يقصد أن يضع من قدرها بقياس منتقض و لا يزداد مع ذلك إلا قوة و رفعة و وضوحا و استنارة و قد علمت أن معية و يزيد و من كان بعدهما من بني مروان أيام ملكهم و ذلك نحو ثمانين سنة لم يدعوا جهدا في حمل الناس على شتمه و لعنه و إخفاء فضائله و ستر مناقبه و سوابقه روى خالد بن عبد الله الواسطي عن حصين بن عبد الرحمن عن هلال بن يساف عن عبد الله بن ظالم قال لما بويع لمعاوية أقام المغيرة بن شعبة خطباء يلعنون عليا ع فقال سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل أ لا ترون إلى هذا الرجل الظالم يأمر بلعن رجل من أهل الجنة. روى سليمان بن داود عن شعبة عن الحر بن الصباح قال سمعت عبد الرحمن بن الأخنس يقول شهدت المغيرة بن شعبة خطب فذكر عليا ع فنال منه. روى أبو كريب قال حدثنا أبو أسامة قال حدثنا صدقة بن المثنى النخعي عن رياح بن الحارث قال بينما المغيرة بن شعبة بالمسجد الأكبر و عنده ناس إذ جاءه رجل يقال له قيس بن علقمة فاستقبل المغيرة فسب عليا ع. روى محمد بن سعيد الأصفهاني عن شريك عن محمد بن إسحاق عن عمرو بن علي بن الحسين عن أبيه علي بن الحسين ع قال قال لي مروان ما كان في القوم أدفع عن صاحبنا من صاحبكم قلت فما بالكم تسبونه على المنابر قال إنه لا يستقيم لنا الأمر إلا بذلك. روى مالك بن إسماعيل أبو غسان النهدي عن ابن أبي سيف قال خطب مروان و الحسن ع جالس فنال من علي ع فقال الحسن ويلك يا مروان أ هذا الذي تشتم شر الناس قال لا و لكنه خير الناس. شرح نهج البلاغة ج : 13 ص : 221و روى أبو غسان أيضا قال قال عمر بن عبد العزيز كان أبي يخطب فلا يزال مستمرا في خطبته حتى إذا صار إلى ذكر علي و سبه تقطع لسانه و اصفر وج و تغيرت حاله فقلت له في ذلك فقال أ و قد فطنت لذلك إن هؤلاء لو (14/251)
يعلمون من علي ما يعلمه أبوك ما تبعنا منهم رجل. و روى أبو عثمان قال حدثنا أبو اليقظان قال قام رجل من ولد عثمان إلى هشام بن عبد الملك يوم عرفة فقال إن هذا يوم كانت الخلفاء تستحب فيه لعن أبي تراب. و روى عمرو بن الفناد عن محمد بن فضيل عن أشعث بن سوار قال سب عدي بن أرطاة عليا ع على المنبر فبكى الحسن البصري و قال لقد سب هذا اليوم رجل إنه لأخو رسول الله ص في الدنيا و الآخرة. و روى عدي بن ثابت عن إسماعيل بن إبراهيم قال كنت أنا و إبراهيم بن يزيد جالسين في الجمعة مما يلي أبواب كندة فخرج المغيرة فخطب فحمد الله ثم ذكر ما شاء أن يذكر ثم وقع في علي ع فضرب إبراهيم على فخذي أو ركبتي ثم قال أقبل علي فحدثني فإنا لسنا في جمعة أ لا تسمع ما يقول هذا. و روى عبد الله بن عثمان الثقفي قال حدثنا ابن أبي سيف قال قال ابن لعامر بن عبد الله بن الزبير لولده لا تذكر يا بني عليا إلا بخير فإن بني أمية لعنوه على منابرهم ثمانين سنة فلم يزده الله بذلك إلا رفعة إن الدنيا لم تبن شيئا قط إلا رجعت على ما بنت فهدمته و إن الدين لم يبن شيئا قط و هدمه. و روى عثمان بن سعيد قال حدثنا مطلب بن زياد عن أبي بكر بن عبد الله الأصبهاني قال كان دعي لبني أمية يقال له خالد بن عبد الله لا يزال يشتم عليا ع (14/252)
شرح نهج البلاغة ج : 13 ص : 222فلما كان يوم جمعة و هو يخطب الناس قال و الله إن كان رسول الله ليستعمله و إنه ليعلم ما هو و لكنه كان ختنه و قد نعس سعيد بن المسيب ففتح عينيه ثم قال ويحكم ما قال هذا الخبيث رأيت القبر انصدع و رسول الله ص يقول كذبت يا عدو اللهو روى القناد قال حدثنا أسباط بن نصر الهمداني عن السدي قال بينما أنا بالمدينة عند أحجار الزيت إذ أقبل راكب على بعير فوقف فسب عليا ع فخف به الناس ينظرون إليه فبينما هو كذلك إذ أقبل سعد بن أبي وقاص فقال اللهم إن كان سب عبدا لك صالحا فأر المسلمين خزيه فما لبث أن نفر به بعيره فسقط فاندقت عنقه. و روى عثمان بن أبي شيبة عن عبد الله بن موسى عن فطر بن خليفة عن أبي عبد الله الجدلي قال دخلت على أم سلمة رحمها الله فقالت لي أ يسب رسول الله ص فيكم و أنتم أحياء قلت و أنى يكون هذا قالت أ ليس يسب علي ع و من يحبه. و روى العباس بن بكار الضبي قال حدثني أبو بكر الهذلي عن الزهري قال قال ابن عباس لمعاوية أ لا تكف عن شتم هذا الرجل قال ما كنت لأفعل حتى يربو عليه الصغير و يهرم فيه الكبير فلما ولي عمر بن عبد العزيز كف عن شتمه فقال الناس ترك السنة. قال و قد روي عن ابن مسعود إما موقوفا عليه أو مرفوعا كيف أنتم إذا شملتكم فتنة يربو عليها الصغير و يهرم فيها الكبير يجري عليها الناس فيتخذونها سنة فإذا غير منها شي ء قيل غيرت السنة. شرح نهج البلاغة ج : 13 ص : 223قال أبو جعفر و قد تعلمون أن بعض الملوك ربما أحدثوا قولا أو دينا لهوى فيحملون النالى ذلك حتى لا يعرفوا غيره كنحو ما أخذ الناس الحجاج بن يوسف بقراءة عثمان و ترك قراءة ابن مسعود و أبي بن كعب و توعد على ذلك بدون ما صنع هو و جبابرة بني أمية و طغاة مروان بولد علي ع و شيعته و إنما كان سلطانه نحو عشرين سنة فما مات الحجاج حتى اجتمع أهل العراق على قراءة عثمان و نشأ أبناؤهم و لا يعرفون غيرها لإمساك الآباء عنها و (14/253)
كف المعلمين عن تعليمها حتى لو قرأت عليهم قراءة عبد الله و أبي ما عرفوها و لظنوا بتأليفها الاستكراه و الاستهجان لإلف العادة و طول الجهالة لأنه إذا استولت على الرعية الغلبة و طالت عليهم أيام التسلط و شاعت فيهم المخافة و شملتهم التقية اتفقوا على التخاذل و التساكت فلا تزال الأيام تأخذ من بصائرهم و تنقص من ضمائرهم و تنقض من مرائرهم حتى تصير البدعة التي أحدثوها غامرة للسنة التي كانوا يعرفونها و لقد كان الحجاج و من ولاه كعبد الملك و الوليد و من كان قبلهما و بعدهما من فراعنة بني أمية على إخفاء محاسن علي ع و فضائله و فضائل ولده و شيعته و إسقاط أقدارهم أحرص منهم على إسقاط قراءة عبد الله و أبي لأن تلك القراءات لا تكون سببا لزوال ملكهم و فساد أمرهم و انكشاف حالهم و في اشتهار فضل علي ع و ولده و إظهار محاسنهم بوارهم و تسليط حكم الكتاب المنبوذ عليهم فحرصوا و اجتهدوا في إخفاء فضائله و حملوا الناس على كتمانها و سترها و أبى الله أن يزيد أمره و أمر ولده إلا استنارة و إشراقا و حبهم إلا شغفا و شدة و ذكرهم إلا انتشارا و كثرة و حجتهم إلا وضوحا و قوة و فضلهم إلا ظهورا و شأنهم إلا علوا و أقدارهم إلا إعظاما حتى أصبحوا بإهانتهم إياهم أعزاء و بإماتتهم ذكرهم أحياء و ما أرادوا به و بهم من الشر تحول خيرا فانتهى إلينا من ذكر فضائله و خصائصه و مزاياه و سوابقه ما لم يتقدمه السابقون و لا ساواه فيه القاصدون و لا يلحقه الطالبون و لو لا أنها كانت (14/254)
شرح نهج البلاغة ج : 13 ص : 224كالقبلة المنصوبة في الشهرة و كالسنن المحفوظة في الكثرة لم يصل إلينا منها في دهرنا حرف واحد إذا كان الأمر كما وصفناه. قال فأما ما احتج به الجاحظ بإمامة أبي بكر بكونه أول الناس إسلاما فلو كان هذا احتجاجا صحيحا لاحتج به أبو بكيوم السقيفة و ما رأيناه صنع ذلك لأنه أخذ بيد عمر و يد أبي عبيدة بن الجراح و قال للناس قد رضيت لكم أحد هذين الرجلين فبايعوا منهما من شئتم و لو كان هذا احتجاجا صحيحا لما قال عمر كانت بيعة أبي بكر فلتة وقى الله شرها و لو كان احتجاجا صحيحا لادعى واحد من الناس لأبي بكر الإمامة في عصره أو بعد عصره بكونه سبق إلى الإسلام و ما عرفنا أحدا ادعى له ذلك على أن جمهور المحدثين لم يذكروا أن أبا بكر أسلم إلا بعد عدة من الرجال منهم علي بن أبي طالب و جعفر أخوه و زيد بن حارثة و أبو ذر الغفاري و عمرو بن عنبسة السلمي و خالد بن سعيد بن العاص و خباب بن الأرت و إذا تأملنا الروايات الصحيحة و الأسانيد القوية و الوثيقة وجدناها كلها ناطقة بأن عليا ع أول من أسلم. فأما الرواية عن ابن عباس أن أبا بكر أولهم إسلاما فقد روي عن ابن عباس خلاف ذلك بأكثر مما رووا و أشهر فمن ذلك ما رواه يحيى بن حماد عن أبي عوانة و سعيد بن عيسى عن أبي داود الطيالسي عن عمرو بن ميمون عن ابن عباس أنه قال أول من صلى من الرجال علي ع. و (14/255)
روى الحسن البصري قال حدثنا عيسى بن راشد عن أبي بصير عن عكرمة عن ابن عباس قال فرض الله تعالى الاستغفار لعلي ع في القرآن شرح نهج البلاغة ج : 13 ص : 225على كل مسلم بقوله تعالى رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا وَ لِإِخْوانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونا بِالْإِيمانِ فكل من أم بعد علي فهو يستغفر لعلي ع
و روى سفيان بن عيينة عن ابن أبي نجيح عن مجاهد عن ابن عباس قال السباق ثلاثة سبق يوشع بن نون إلى موسى و سبق صاحب يس إلى عيسى و سبق علي بن أبي طالب إلى محمد عليه و عليهم السلام
فهذا قول ابن عباس في سبق علي ع إلى الإسلام و هو أثبت من حديث الشعبي و أشهر على أنه قد روي عن الشعبي خلاف ذلك من حديث (14/256)
أبي بكر الهذلي و داود بن أبي هند عن الشعبي قال قال رسول الله ص لعلي ع هذا أول من آمن بي و صدقني و صلى معي
قال فأما الأخبار الواردة بسبقه إلى الإسلام المذكورة في الكتب الصحاح و الأسانيد الموثوق بها فمنها ما روى شريك بن عبد الله عن سليمان بن المغيرة عن زيد بن وهب عن عبد الله بن مسعود أنه قال أول شي ء علمته من أمر رسول الله ص أني قدمت مكة مع عمومة لي و ناس من قوي و كان من أنفسنا شراء عطر فأرشدنا إلى العباس بن عبد المطلب فانتهينا إليه و هو جالس إلى زمزم فبينا نحن عنده جلوسا إذ أقبل رجل من باب الصفا و عليه ثوبان أبيضان و له وفرة إلى أنصاف أذنيه جعدة أشم أقنى أدعج العينين كث اللحية براق الثنايا أبيض تعلوه حمرة كأنه القمر ليلة البدر و على يمينه غلام مراهق أو محتلم حسن الوجه تقفوهم امرأة قد سترت محاسنها حتى قصدوا نحو الحجر فاستلمه و استلمه الغلام ثم استلمته المرأة ثم طاف بالبيت سبعا و الغلام و المرأة يطوفان معه ثم استقبل الحجر شرح نهج البلاغة ج : 13 ص : 226فقام و رفع يديه و كبر و قام الغلام إلى جانبه و قامت المرأة خلفها فرفعت يديها و كبرت فأطال القنوت ثم ركع و ركع الغلام و المرأة ثم رفع رأسه فأطال و رفع الغلام و المرأة معه يصنعان مثل ما يصنع فلما رأينا شيئا ننكره لا نعرفه بمكأقبلنا على العباس فقلنا يا أبا الفضل إن هذا الدين ما كنا نعرفه فيكم قال أجل و الله قلنا فمن هذا قال هذا ابن أخي هذا محمد بن عبد الله و هذا الغلام ابن أخي أيضا هذا علي بن أبي طالب و هذه المرأة زوجة محمد هذه خديجة بنت خويلد و الله ما على وجه الأرض أحد يدين بهذا الدين إلا هؤلاء الثلاثة و من حديث موسى بن داود عن خالد بن نافع عن عفيف بن قيس الكندي و قد رواه عن عفيف أيضا مالك بن إسماعيل النهدي و
الحسن بن عنبسة الوراق و إبراهيم بن محمد بن ميمونة قالوا جميعا حدثنا سعيد بن جشم عن أسد بن عبد الله البجلي عن يحيى بن عفيف بن قيس عن أبيه قال كنت في الجاهلية عطارا فقدمت مكة فنزلت على العباس بن عبد المطلب فبينا أنا جالس عنده أنظر إلى الكعبة و قد تحلقت الشمس في السماء أقبل شاب كان في وجهه القمر حتى رمى ببصره إلى السماء فنظر إلى الشمس ساعة ثم أقبل حتى دنا من الكعبة فصف قدميه يصلي فخرج على أثره فتى كأن وجهه صفيحة يمانية فقام عن يمينه فجاءت امرأة متلففة في ثيابها فقامت خلفهما فأهوى الشاب راكعا فركعا معه ثم أهوى إلى الأرض ساجدا فسجدا معه فقلت للعباس يا أبا الفضل أمر عظيم فقال أمر و الله عظيم أ تدري من هذا الشاب قلت لا قال هذا ابن أخي هذا محمد بن عبد الله بن عبد المطلب أ تدري من هذا الفتى قلت لا قال هذا ابن أخي علي بن أبي طالب بن عبد المطلب أ تدري من المرأة قلت لا قال هذه ابنة خويلد بن أسد بن عبد العزى هذه خديجة زوج محمد هذا و إن محمدا هذا يذكر أن إلهه إله السماء و الأرض و أمره بهذا الدين فهو عليه كما ترى شرح نهج البلاغة ج : 13 ص : 227و يزعم أنه نبي و قد صدقه على قوله علي ابن عمه هذا الفتى و زوجته خديجة هذه المرأة و الله ما أعلم على وجه الأرض كلها أحدا على هذا الدين غير هؤلاء الثلاثة قال عفيف فقلت له فما تقولون أنتم قال ننتظر الشيما يصنع يعني أبا طالب أخاه. و (14/257)
روى عبد الله بن موسى و الفضل بن دكين و الحسن بن عطية قالوا حدثنا خالد بن طهمان عن نافع بن أبي نافع عن معقل بن يسار قال كنت أوصى النبي ص فقال لي هل لك أن نعود فاطمة قلت نعم يا رسول الله فقام يمشي متوكئا علي و قال أما إنه سيحمل ثقلها غيرك و يكون أجرها لك قال فو الله كأنه لم يكن علي من ثقل النبي ص شي ء فدخلنا على فاطمة ع فقال لها ص كيف تجدينك قالت لقد طال أسفي و اشتد حزني و قال لي النساء زوجك أبوك فقيرا لا مال له فقال لها أ ما ترضين أني زوجتك أقدم أمتي سلما و أكثرهم علما و أفضلهم حلما قالت بلى رضيت يا رسول اله و قد روى هذا الخبر يحيى بن عبد الحميد و عبد السلام بن صالح عن قيس بن الربيع عن أبي أيوب الأنصاري بألفاظه أو نحوها (14/258)
و روى عبد السلام بن صالح عن إسحاق الأزرق عن جعفر بن محمد عن آبائه أن رسول الله ص لما زوج فاطمة دخل النساء عليها فقلن يا بنت رسول الله خطبك فلان و فلان فردهم عنك و زوجك فقيرا لا مال له فلما دخل عليها أبوها ص رأى ذلك في وجهها فسألها فذكرت له ذلك فقال يا فاطمة إن الله أمرني فأنكحتك أقدمهم سلما و أكثرهم علما و أعظمهم حلما و ما زوجتك إلا بأمر من السماء أ ما علمت أنه أخي في الدنيا و الآخرة
شرح نهج البلاغة ج : 13 ص : 228و روى عثمان بن سعيد عن الحكم بن ظهير عن السدي أن أبا بكر و عمر خطبا فاطمة ع فردهما رسول الله ص و قال لم أومر بذلك فخطبها علي ع فزوجه إياها و قال لها زوجتك أقدم الأمة إسلاماو ذكر تمام الحديث قال و قد روى هذا الخبر جماعة من الصحابة منهم أسماء بنت عميس و أم أيمن و ابن عباس و جابر بن عبد الله.
قال و قد روى محمد بن عبد الله بن أبي رافع عن أبيه عن جده أبي رافع قال أتيت أبا ذر بالربذة أودعه فلما أردت الانصراف قال لي و لأناس معي ستكون فتنة فاتقوا الله و عليكم بالشيخ علي بن أبي طالب فاتبعوه فإني سمعت رسول الله ص يقول له أنت أول من آمن بي و أول من يصافحني يوم القيامة و أنت الصديق الأكبر و أنت الفاروق الذي يفرق بين الحق و الباطل و أنت يعسوب المؤمنين و المال يعسوب الكافرين و أنت أخي و وزيري و خير من أترك بعدي تقضي ديني و تنجز موعدي (14/259)
قال و قد روى ابن أبي شيبة عن عبد الله بن نمير عن العلاء بن صالح عن المنهال بن عمرو عن عباد بن عبد الله الأسدي قال سمعت علي بن أبي طالب يقول أنا عبد الله و أخو رسوله و أنا الصديق الأكبر لا يقولها غيري إلا كذاب و لقد صليت قبل الناس سبع سنين
و روت معاذة بنت عبد الله العدوية قالت سمعت عليا ع يخطب على منبر البصرة و يقول أنا الصديق الأكبر آمنت قبل أن يؤمن أبو بكر و أسلمت قبل أن يسلم
و روى حبة بن جوين العرني أنه سمع عليا ع يقول أنا أول رجل أسلم شرح نهج البلاغة ج : 13 ص : 229مع رسول الله صرواه أبو داود الطيالسي عن شعبة عن سفيان الثوري عن سلمة بن كهيل عن حبة بن جوين و
روى عثمان بن سعيد الخراز عن علي بن حرار عن علي بن عامر عن أبي الحجاف عن حكيم مولى زاذان قال سمعت عليا ع يقول صليت قبل الناس سبع سنين و كنا نسجد و لا نركع و أول صلاة ركعنا فيها صلاة العصر فقلت يا رسول الله ما هذا قال أمرت به
و روى إسماعيل بن عمرو عن قيس بن الربيع عن عبد الله بن محمد بن عقيل عن جابر بن عبد الله قال صلى رسول الله ص يوم الإثنين و صلى علي يوم الثلاثاء بعده
و في الرواية الأخرى عن أنس بن مالك استنبئ النبي ص يوم الإثنين و أسلم علي يوم الثلاثاء بعده
و روى أبو رافع أن رسول الله ص صلى أول صلاة صلاها غداة الإثنين و صلت خديجة آخر نهار يومها ذلك و صلى علي ع يوم الثلاثاء غدا ذلك اليوم (14/260)
قال و قد روي بروايات مختلفة كثيرة متعددة عن زيد بن أرقم و سلمان الفارسي و جابر بن عبد الله و أنس بن مالك أن عليا ع أول من أسلم و ذكر الروايات و الرجال بأسمائهم و
روى سلمة بن كهيل عن رجاله الذين ذكرهم أبو جعفر في الكتاب أن رسول الله ص قال أولكم ورودا علي الحوض أولكم إسلاما علي بن أبي طالب
و روى ياسين بن محمد بن أيمن عن أبي حازم مولى ابن عباس عن ابن عباس شرح نهج البلاغة ج : 13 ص : 230قال سمعت عمر بن الخطاب و هو يقول كفوا عن علي بن أبي طالب فإني سمعت من رسول الله ص يقول فيه خصالا لو أن خصلة منها في جميع آل الخطاب كان أحب لي مما طلعت عليه الس كنت ذات يوم و أبو بكر و عثمان و عبد الرحمن بن عوف و أبو عبيدة مع نفر من أصحاب رسول الله ص نطلبه فانتهينا إلى باب أم سلمة فوجدنا عليا متكئا على نجاف الباب فقلنا أردنا رسول الله ص فقال هو في البيت رويدكم فخرج رسول الله ص فسرنا حوله فاتكأ على علي ع و ضرب بيده على منكبه فقال أبشر يا علي بن أبي طالب إنك مخاصم و إنك تخصم الناس بسبع لا يجاريك أحد في واحدة منهن أنت أول الناس إسلاما و أعلمهم بأيام الله
و ذكر الحديث. قال و قد روى أبو سعيد الخدري عن النبي ص مثل هذا الحديث. قال
روى أبو أيوب الأنصاري عن رسول الله ص أنه قال لقد صلت الملائكة علي و على علي ع سبع سنين و ذلك أنه لم يصل معي رجل فيها غيره
قال أبو جعفر فأما ما رواه الجاحظ من
قوله ص إنما تبعني حر و عبد
فإنه لم يسم في هذا الحديث أبا بكر و بلالا و كيف و أبو بكر لم يشتر بلالا إلا بعد ظهور الإسلام بمكة فلما أظهر بلال إسلامه عذبه أمية بن خلف و لم يكن ذلك حال إخفاء رسول الله ص الدعوة و لا في ابتداء أمر الإسلام. شرح نهج البلاغة ج : 13 ص : 231و قد قيل إنه ع إن عنى بالحر علي بن أبي طالب و بالعبد زيد بن حارثة. و روى ذلك محمد بن إسحاق قال و قد روى إسماعيل بن نصر الصفار عن محمد بن ذكوان عن الشعبي قال قال الحجاج للحسن و عنده جماعة من التابعين و ذكر علي بن أبي طالب ما تقول أنت يا حسن فقال ما أقول هو أول من صلى إلى القبلة و أجاب دعوة رسول الله ص و إن لعلي منزلة من ربه و قرابة من رسوله و قد سبقت له سوابق لا يستطيع ردها أحد فغضب الحجاج غضبا شديدا و قام عن سريره فدخل بعض البيوت و أمر بصرفنا. قال الشعبي و كنا جماعة ما منا إلا من نال من علي ع مقاربة للحجاج غير الحسن بن أبي الحسن رحمه الله. و روى محرز بن هشام عن إبراهيم بن سلمة عن محمد بن عبيد الله قال قال رجل للحسن ما لنا لا نراك تثني على علي و تقرظه قال كيف و سيف الحجاج يقطر دما إنه لأول من أسلم و حسبكم بذلك. قال فهذه الأخبار. و أما الأشعار المروية فمعروفة كثيرة منتشرة فمنها قول عبد الله بن أبي سفيان بن الحارث بن عبد المطلب مجيبا للوليد بن عقبة بن أبي معيط (14/261)
و إن ولي الأمر بعد محمد علي و في كل المواطن صاحبه وصي رسول الله حقا و صنوه و أول من صلى و من لان جانبهو قال خزيمة بن ثابت في هذا
وصي رسول الله من دون أهله و فارسه مذ كان في سالف الزمن و أول من صلى من الناس كلهم سوى خيرة النسوان و الله ذو منن شرح نهج البلاغة ج : 13 ص : 232و قال أبو سفيان بن حرب بن أمية بن عبد شمس حين بويع أبو بكرما كنت أحسب أن الأمر منصرف عن هاشم ثم منها عن أبي حسن أ ليس أول من صلى لقبلتهم و أعلم الناس بالأحكام و السننو قال أبو الأسود الدؤلي يهدد طلحة و الزبير
و إن عليا لكم مصحر يماثله الأسد الأسودأما إنه أول العابدين بمكة و الله لا يعبد (14/262)
و قال سعيد بن قيس الهمداني يرتجز بصفين
هذا علي و ابن عم المصطفى أول من أجابه فيما روى هو الإمام لا يبالي من غوىو قال زفر بن يزيد بن حذيفة الأسدي
فحوطوا عليا و انصروه فإنه وصي و في الإسلام أول أول و إن تخذلوه و الحوادث جمة فليس لكم عن أرضكم متحولقال و الأشعار كالأخبار إذا امتنع في مجي ء القبيلين التواطؤ و الاتفاق كان ورودهما حجة فأما قول الجاحظ فأوسط الأمور أن نجعل إسلامهما معا فقد أبطل بهذا ما احتج به لإمامة أبي بكر لأنه احتج بالسبق و قد عدل الآن عنه. قال أبو جعفر و يقال لهم لسنا نحتاج من ذكر سب علي ع إلا مجامعتكم إيانا على أنه أسلم قبل الناس و دعواكم أنه أسلم و هو طفل دعوى غير مقبولة لا بحجة. فإن قلتم و دعوتكم أنه أسلم و هو بالغ دعوى غير مقبولة إلا بحجة شرح نهج البلاغة ج : 13 ص : 233قلنا قد ثبت إسلامه بحكم إقراركم و لو كان طفلا لكان في الحقيقةير مسلم لأن اسم الإيمان و الإسلام و الكفر و الطاعة و المعصية إنما يقع على البالغين دون الأطفال و المجانين و إذا أطلقتم و أطلقنا اسم الإسلام فالأصل في الإطلاق الحقيقة كيف و
قد قال النبي ص أنت أول من آمن بي و أنت أول من صدقني
و قال لفاطمة زوجتك أقدمهم سلما أو قال إسلاما
فإن قالوا إنما دعاه النبي ص إلى الإسلام على جهة العرض لا التكليف. قلنا قد وافقتمونا على الدعاء و حكم الدعاء حكم الأمر و التكليف ثم ادعيتم أن ذلك كان على وجه العرض و ليس لكم أن تقبلوا معنى الدعاء عن وجهه إلا لحجة. فإن قالوا لعله كان على وجه التأديب و التعليم كما يعتمد مثل ذلك مع الأطفال قلنا إن ذلك إنما يكون إذا تمكن الإسلام بأهله أو عند النشوء عليه و الولادة فيه فأما في دار الشرك فلا يقع مثل ذلك لا سيما إذا كان الإسلام غير معروف و لا معتاد بينهم على أنه ليس من سنة النبي ص دعاء أطفال المشركين إلى الإسلام و التفريق بينهم و بين آبائهم قبل أن يبلغوا الحلم. و أيضا فمن شأن الطفل اتباع أهله و تقليد أبيه و المضي على منشئه و مولده و قد كانت منزلة النبي ص حينئذ منزلة ضيق و شدة و وحدة و هذه منازل لا ينتقل إليها إلا من ثبت الإسلام عنده بحجة و دخل اليقين قلبه بعلم و معرفة. فإن قالوا إن عليا ع كان يألف النبي ص فوافقه على طريق المساعدة له قلنا إنه و إن كان يألفه أكثر من أبويه و إخوته و عمومته و أهل بيته و لم يكن الإلف ليخرجه عما نشأ عليه و لم يكن الإسلام مما غذي به و كرر على سمعه شرح نهج البلاغة ج : 13 ص : 234لأن الإسلام خلع الأنداد و البراءة ممن أشرك بالله و هذا لا يجتمع في اعتقاد طفل. و من العجب قول العباس لعفيف بن قيس ننتظر الشيخ و ما يصنع فإذا كان العباس و حمزة ينتظران أبا طالب و يصدران عن رأيه فكيف يخالفه ابنه و يؤثر القلة على الكثرة و يفارق المحبوب إلى المكروه و العز إلى الذل و الأمن إلى الخوف عن غير معرفة و لا علم بما فيه. فأما قوله إن المقلل يزعم أنه أسلم و هو ابن خمس سنين و المكثر يزعم أنه أسلم و هو ابن تسع سنين فأول ما يقال في ذلك إن الأخبار جاءت في سنه ع يوم أسلم على خمسة أقسام فجعلناه في قسمين القسم الأول الذين قالوا أسلم و هو ابن خمس عشرة سنة حدثنا بذلك أحمد بن سعيد الأسدي (14/263)
عن إسحاق بن بشر القرشي عن الأوزاعي عن حمزة بن حبيب عن شداد بن أوس قال سألت خباب بن الأرت عن إسلام علي فقال أسلم و هو ابن خمس عشرة سنة و لقد رأيته يصلي قبل الناس مع النبي ص و هو يومئذ بالغ مستحكم البلوغ و روى عبد الرزاق عن معمر عن قتادة عن الحسن أن أول من أسلم علي بن أبي طالب و هو ابن خمس عشرة سنة. القسم الثاني الذين قالوا إنه أسلم و هو ابن أربع عشرة سنة رواه أبو قتادة الحراني عن أبي حازم الأعرج عن حذيفة بن اليمان قال كنا نعبد الحجارة و نشرب الخمر و علي من أبناء أربع عشرة سنة قائم يصلي مع النبي ص ليلا و نهارا و قريش يومئذ تسافه رسول الله ص ما يذب عنه إلا علي شرح نهج البلاغة ج : 13 ص : 235ع و روى ابن أبي شيبة عن جرير بن عبد الحميد قال أسلم علي و هو ابن أربع عشرة سنة. القسم الثالث الذين قالوا أس و هو ابن إحدى عشرة سنة (14/264)
رواه إسماعيل بن عبد الله الرقي عن محمد بن عمر عن عبد الله بن سمعان عن جعفر بن محمد ع عن أبيه عن محمد بن علي ع أن عليا حين أسلم كان ابن إحدى عشرة سنة
و روى عبد الله بن زياد المدني عن محمد بن علي الباقر ع قال أول من آمن بالله علي بن أبي طالب و هو ابن إحدى عشرة سنة و هاجر إلى المدينة و هو ابن أربع و عشرين سنة
القسم الرابع الذين قالوا إنه أسلم و هو ابن عشر سنين رواه نوح بن دراج عن محمد بن إسحاق قال أول ذكر آمن و صدق بالنبوة علي بن أبي طالب ع و هو ابن عشر سنين ثم أسلم زيد بن حارثة ثم أسلم أبو بكر و هو ابن ست و ثلاثين سنة فيما بلغنا. القسم الخامس الذين قالوا إنه أسلم و هو ابن تسع سنين رواه الحسن بن عنبسة الوراق عن سليم مولى الشعبي عن الشعبي قال أول من أسلم من الرجال علي بن أبي طالب و هو ابن تسع سنين و كان له يوم قبض رسول الله ص تسع و عشرون سنة. قال شيخنا أبو جعفر فهذه الأخبار كما تراها فإما أن يكون الجاحظ جهلها أو قصد العناد. فأما قوله فالقياس أن نأخذ بأوسط الأمرين من الروايتين فنقول إنه أسلم و هو ابن سبع سنين فإن هذا تحكم منه و يلزمه مثله في رجل ادعى قبل رجل عشرة شرح نهج البلاغة ج : 13 ص : 236دراهم فأنكر ذلك و قال إنما يستحق قبلي أربعة دراهم فينبغي أن نأخذ الأمر متوسط و يلزمه سبعة دراهم و يلزمه في أبي بكر حيث قال قوم كان كافرا و قال قوم كان إماما عادلا أن نقول أعدل الأقاويل أوسطها و هو منزلة بين المنزلتين فنقول كان فاسقا ظالما و كذلك في جميع الأمور المختلف فيها. فأما قوله و إنما يعرف حق ذلك من باطله بأن نحصي سني ولاية عثمان و عمر و أبي بكر و سني الهجرة و مقام النبي ص بمكة بعد الرسالة إلى أن هاجر فيقال له لو كانت الروايات متفقة على هذه التاريخات لكان لهذا القول مساغ و لكن الناس قد اختلفوا في ذلك فقيل إن رسول الله ص أقام بمكة بعد الرسالة خمس عشرة سنة رواه ابن عباس و قيل ثلاث عشرة سنة و روي عن ابن عباس أيضا و أكثر الناس يرونه و قيل عشر سنين رواه عرة بن الزبير و هو قول الحسن البصري و سعيد بن المسيب و اختلفوا في سن رسول الله ص فقال قوم كان ابن خمس و ستين و قيل كان ابن ثلاث و ستين و قيل كان ابن ستين و اختلفوا في سن علي ع فقيل كان ابن سبع و ستين و قيل كان ابن خمس و ستين و قيل ابن ثلاث و (14/265)
ستين و قيل ابن ستين و قيل ابن تسع و خمسين. فكيف يمكن مع هذه الاختلافات تحقيق هذه الحال و إنما الواجب أن يرجع إلى إطلاق قولهم أسلم علي فإن هذا الاسم لا يكون مطلقا إلا على البالغ كما لا يطلق اسم الكافر إلا على البالغ على أن ابن إحدى عشرة سنة يكون بالغا و يولد له الأولاد فقد روت الرواة أن عمرو بن العاص لم يكن أسن من ابنه عبد الله (14/266)
شرح نهج البلاغة ج : 13 ص : 237إلا باثنتي عشرة سنة و هذا يوجب أنه احتلم و بلغ في أقل من إحدى عشرة سنة. و روي أيضا أن محمد بن عبد الله بن العباس كان أصغر من أبيه علي بن عبد الله بن العباس بإحدى عشرة سنة فيلزم الجاحظ أن يكون عبد الله بن العباس حين مات رسوللله ص غير مسلم على الحقيقة و لا مثاب و لا مطيع بالإسلام لأنه كان 0- يومئذ ابن عشر سنين رواه هشيم عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال توفي رسول الله ص و أنا ابن عشر سنين. قال الجاحظ فإن قالوا فلعله و هو ابن سبع سنين أو ثماني سنين قد بلغ من فطنته و ذكائه و صحة لبه و صدق حدسه و انكشاف العواقب له و إن لم يكن جرب الأمور و لا فاتح الرجال و لا نازع الخصوم ما يعرف به جميع ما يحب على البالغ معرفته و الإقرار به قيل لهم إنما نتكلم على ظواهر الأحوال و ما شاهدنا عليه طبائع الأطفال فإنا وجدنا حكم ابن سبع سنين أو ثمان ما لم يعلم باطن أمره و خاصة طبعه حكم الأطفال و ليس لنا أن نزيل ظاهر حكمه و الذي نعرف من حال أفناء جنسه بلعل و عسى لأنا و إن كنا لا ندري لعله قد كان ذا فضيلة في الفطنة فلعله قد كان ذا نقص فيها. هذا على تجويز أن يكون علي ع في الغيب قد أسلم و هو ابن سبع أو ثمان إسلام البالغ غير أن الحكم على مجرى أمثاله و أشكاله الذين أسلموا و هم في مثل سنه إذ كان إسلام هؤلاء عن تربية الحاضن و تلقين القيم و رياضة السائس. فأما عند التحقيق فإنه لا تجويز لمثل ذلك لأنه لو كان أسلم و هو ابن سبع شرح نهج البلاغة ج : 13 ص : 238أو
ثمان و عرفضل ما بين الأنبياء و الكهنة و فرق ما بين الرسل و السحرة و فرق ما بين خبر النبي و المنجم و حتى عرف كيد الأريب و موضع الحجة و بعد غور المتنبئ كيف يلبس على العقلاء و تستمال عقول الدهماء و عرف الممكن في الطبع من الممتنع و ما يحدث بالاتفاق مما يحدث بالأسباب و عرف قدر القوى و غاية الحيلة و منتهى التمويه و الخديعة و ما لا يحتمل أن يحدثه إلا الخالق سبحانه و ما يجوز على الله في حكمته مما لا يجوز و كيف التحفظ من الهوى و الاحتراس من الخداع لكان كونه على هذه الحال و هذه مع فرط الصبا و الحداثة و قلة التجارب و الممارسة خروجا من العادة و من المعروف مما عليه تركيب هذه الخلقة و ليس يصل أحد إلى معرفة نبي و كذب متنبئ حتى يجتمع فيه هذه المعارف التي ذكرناها و الأسباب التي وصفناها و فصلناها و لو كان علي ع على هذه الصفة و معه هذه الخاصية لكان حجة على العامة و آية تدل على النبوة و لم يكن الله عز و جل ليخصه بمثل هذه الأعجوبة إلا و هو يريد أن يحتج بها و يجعلها قاطعة لعذر الشاهد و حجة على الغائب و لو لا أن الله أخبر عن يحيى بن زكريا أنه آتاه الحكم صبيا و أنه أنطق عيسى في المهد ما كانا في الحكم و لا في المغيب إلا كسائر الرسل و ما عليه جميع البشر فإذا لم ينطق لعلي ع بذلك قرآن و لا جاء الخبر به مجي ء الحجة القاطعة و المشاهدة القائمة فالمعلوم عندنا في الحكم أن طباعه كطباع عميه حمزة و العباس و هما أمس بمعدن جماع الخير منه أو كطباع جعفر و عقيل من رجال قومه و سادة رهطه و لو أن إنسانا ادعى مث ذلك لأخيه جعفر أو لعميه حمزة و العباس ما كان عندنا في أمره إلا مثل ما عندنا فيه أجاب شيخنا أبو جعفر رحمه الله فقال هذا كله مبني على أنه أسلم و هو ابن سبع أو ثمان و نحن قد بينا أنه أسلم بالغا ابن خمس عشرة سنة أو ابن أربع عشرة سنة على (14/267)
شرح نهج البلاغة ج : 13 ص : 239أنا لو نزلنا على حكم الخصوم و قلنا ما هو الأشهر و الأكثر من الرواية و هو أنه أسلم و هو ابن عشر لم يلزم ما قاله الجاحظ لأن ابن عشر قد يستجمع عقله و يعلم من مبادئ المعارف ما يستخرج به كثيرا من الأمور المعقولة و متى كان الصبي قلا مميزا كان مكلفا بالعقليات و إن كان تكليفه بالشرعيات موقوفا على حد آخر و غاية أخرى فليس بمنكر أن يكون علي ع و هو ابن عشر قد عقل المعجزة فلزمه الإقرار بالنبوة و أسلم إسلام عالم عارف لا إسلام مقلد تابع و إن كان ما نسقه الجاحظ و عدده من معرفة السحر و النجوم و الفصل بينهما و بين النبوة و معرفة ما يجوز في الحكمة مما لا يجوز و ما لا يحدثه إلا الخالق و الفرق بينه و بين ما يقدر عليه القادرون بالقدرة و معرفة التمويه و الخديعة و التلبيس و المماكرة شرطا في صحة الإسلام لما صح إسلام أبي بكر و لا عمر و لا غيرهما من العرب و إنما التكليف لهؤلاء بالجمل و مبادئ المعارف لا بدقائقها و الغامض منها و ليس يفتقر الإسلام إلى أن يكون المسلم قد فاتح الرجال و جرب الأمور و نازع الخصوم و إنما يفتقر إلى صحة الغريزة و كمال العقل و سلامة الفطرة أ لا ترى أن طفلا لو نشأ في دار لم يعاشر الناس بها و لا فاتح الرجال و لا نازع الخصوم ثم كمل عقله و حصلت العلوم البديهية عنده لكان مكلفا بالعقليات. فأما توهمه أن عليا ع أسلم عن تربية الحاضن و تلقين القيم و رياضة السائس فلعمري إن محمدا ص كان حاضنه و قيمه و سائسه و لكن لم يكن منقطعا عن أبيه أبي طالب و لا عن إخوته طالب و عقيل و جعفر و لا عن عمومته و أهل بيته و ما زال مخالطا لهم ممتزجا بهم مع خدمته لمحمد ص فما باله لم يمل إلى الشرك و عبادة الأصنام لمخالطته إخوته و أباه و عمومته و أهله و هم كثير و محمد ص واحد و أنت تعلم أن الصبي إذا كان له أهل ذوو كثرة و فيهم واحد شرح نهج البلاغة ج : 13 ص : 240يذهب إلى رأي مفرد لا (14/268)
يوافقه عليه غيره منهم فإنه إلى ذوي الكثرة أميل و عن ذي الرأي الشاذ المنفرد أبعد و على أن عليا ع لم يولد في دار الإسلام و إنما ولد في دار الشرك و ربي بين المشركين و شاهد الأصنام و عاين بعينه أهله رهطه يعبدونها فلو كان في دار الإسلام لكان في القول مجال و لقيل إنه ولد بين المسلمين فإسلامه عن تلقين الظئر و عن سماع كلمة الإسلام و مشاهدة شعاره لأنه لم يسمع غيره و لا خطر بباله سواه فلما لم يكن ولد كذلك ثبت أن إسلامه إسلام المميز العارف بما دخل عليه و لو لا أنه كذلك لما مدحه رسول الله ص بذلك و لا أرضى ابنته فاطمة لما وجدت من تزويجه بقوله لها زوجتك أقدمهم سلما و لا قرن إلى قوله و أكثرهم علما و أعظمهم حلما و الحلم العقل و هذان الأمران غاية الفضل فلو لا أنه أسلم إسلام عارف عالم مميز لما ضم إسلامه إلى العلم و الحلم اللذين وصفه بهما و كيف يجوز أن يمدحه بأمر لم يكن مثابا عليه و لا معاقبا به لو تركه و لو كان إسلامه عن تلقين و تربية لما افتخر هو ع به على رءوس الأشهاد و لا خطب على المنبر و هو بين عدو و محارب و خاذل منافق فقال أنا عبد الله و أخو رسوله و أنا الصديق الأكبر و الفاروق الأعظم صليت قبل الناس سبع سنين و أسلمت قبل إسلام أبي بكر و آمنت قبل إيمانه فهل بلغكم أن أحدا من أهل ذلك العصر أنكر ذلك أو عابه أو ادعاه لغيره أو قال له إنما كنت طفلا أسلمت على تربية محمد ص ذلك و تلقينه إياك كما يعلم الطفل الفارسية و التركية منذ يكون رضيعا فلا فخر له في تعلم ذلك و خصوصا في عصر قد حارب فيه أهل البصرة و الشام و النهروان و قد اعتورته الأعداء و هجته الشعراء فقال فيه النعمان بن بشير شرح نهج البلاغة ج : 13 ص : 24لقد طلب الخلافة من بعيد و سارع في الضلال أبو تراب معاوية الإمام و أنت منها على وتح بمنقطع السرابو قال فيه أيضا بعض الخوارج (14/269)
دسسنا له تحت الظلام ابن ملجم جزاء إذا ما جاء نفسا كتابهاأبا حسن خذها على الرأس ضربة بكف كريم بعد موت ثوابها (14/270)
و قال عمران بن حطان يمدح قاتله
يا ضربة من تقي ما أراد بها إلا ليبلغ من ذي العرش رضواناإني لأذكره حينا فأحسبه أوفى البرية عند الله ميزانا
فلو وجد هؤلاء سبيلا إلى دحض حجة فيما كان يفخر به من تقدم إسلامه لبدءوا بذلك و تركوا ما لا معنى له. و قد أوردنا ما مدحه الشعراء به من سبقه إلى الإسلام فكيف لم يرد على هؤلاء الذين مدحوه بالسبق شاعر واحد من أهل حربه و لقد قال في أمهات الأولاد قولا خالف فيه عمر فذكروه بذلك و عابوه فكيف تركوا أن يعيبوه بما كان يفتخر به مما لا فخر فيه عندهم و عابوه بقوله في أمهات الأولاد. ثم يقال له خبرنا عن عبد الله بن عمر و قد أجازه النبي ص يوم الخندق و لم يجزه يوم أحد هل كان يميز ما ذكرته و هل كان يعلم فرق ما بين النبي و المتنبئ و يفصل بين السحر و المعجزة إلى غيره مما عددت و فصلت. فإن قال نعم و تجاسر على ذلك قيل له فعلي ع بذلك أولى من ابن عمر لأنه أذكى و أفطن بلا خلاف بين العقلاء و أنى يشك في ذلك و قد رويتم أنه شرح نهج البلاغة ج : 13 ص : 242لم يميز بين الميزان و العود بعد طوللسن و كثرة التجارب و لم يميز أيضا بين إمام الرشد و إمام الغي فإنه امتنع من بيعة علي ع و طرق على الحجاج بابه ليلا ليبايع لعبد الملك كيلا يبيت تلك الليلة بلا إمام زعم لأنه روي عن النبي ص أنه قال من مات و لا إمام له مات ميتة جاهلية و حتى بلغ من احتقار الحجاج له و استرذاله حاله أن أخرج رجله من الفراش فقال أصفق بيدك عليها فذلك تمييزه بين الميزان و العود و هذا اختياره في الأئمة و حال علي ع في ذكائه و فطنته و توقد حسه و صدق حدسه معلومة مشهورة فإذا جاز أن يصح إسلام ابن عمر و يقال عنه إنه عرف تلك الأمور التي سردها الجاحظ و نسقها و أظهر فصاحته و تشدقه فيها فعلي بمعرفة ذلك أحق و بصحة إسلامه
أولى. و إن قال لم يكن ابن عمر يعلم و يعرف ذلك فقد أبطل إسلامه و طعن في رسول الله ص حيث حكم بصحة إسلامه و أجازه يوم الخندق لأنه ع كان قال لا أجيز إلا البالغ العاقل و لذلك لم يجزه يوم أحد. ثم يقال له إن ما نقوله في بلوغ علي ع الحد الذي يحسن فيه التكليف العقلي بل يجب و هو ابن عشر سنين ليس بأعجب من مجي ء الولد لستة أشهر و قد صحح ذلك أهل العلم و استنبطوه من الكتاب و إن كان خارجا من التعارف و التجارب و العادة و كذلك مجي ء الولد لسنتين خا أيضا عن التعارف و العادة و قد صححه الفقهاء و الناس. و يروى أن معاذا لما نهى عمر عن رجم الحامل تركها حتى ولدت غلاما قد نبتت ثنيتاه فقال أبوه ابني و رب الكعبة فثبت ذلك سنة يعمل بها الفقهاء و قد وجدنا العادة تقضي بأن الجارية تحيض لاثنتي عشرة سنة و أنه أقل سن تحيض فيه المرأة و قد (14/271)
شرح نهج البلاغة ج : 13 ص : 243يكون في الأقل نساء يحضن لعشر و لتسع و قد ذكر ذلك الفقهاء و قد قال الشافعي في اللعان لو جاءت المرأة بحمل و زوجها صبي له دون عشر سنين لم يكن ولدا له لأن من لم يبلغ عشر سنين من الصبيان لا يولد له و إن كان له عشر سنين جاز أن يك الولد له و كان بينهما لعان إذا لم يقر به. و قال الفقهاء أيضا إن نساء تهامة يحضن لتسع سنين لشدة الحر ببلادهن. قال الجاحظ و لو لم يعرف باطل هذه الدعوى من آثر التقوى و تحفظ من الهوى إلا بترك علي ع ذكر ذلك لنفسه و الاحتجاج به على خصمه و قد نازع الرجال و ناوى الأكفاء و جامع أهل الشورى لكان كافيا و متى لم تصح لعلي ع هذه الدعوى في أيامه و لم يذكرها أهل عصره فهي عن ولده أعجز و منهم أضعف. و لم ينقل أن عليا ع احتج بذلك في موقف و لا ذكره في مجلس و لا قام به خطيبا و لا أدلى به واثقا لا سيما و قد رضيه الرسول ص عندكم مفزعا و معلما و جعله للناس إماما و لا ادعى له أحد ذلك في عصره كما لم يدعه لنفسه حتى يقول إنسان واحد الدليل على إمامته أن النبي ص دعاه إلى الإسلام أو كلفه التصديق قبل بلوغه ليكون ذلك آية للناس في عصره و حجة له و لولده من بعده فهذا كان أشد على طلحة و الزبير و عائشة من كل ما ادعاه من فضائله و سوابقه و ذكر قرابته. قال شيخنا أبو جعفر رحمه الله إن مثل الجاحظ مع فضله و علمه لا يخفى عليه كذب شرح نهج البلاغة ج : 13 ص : 244هذه الدعوى و فسادها و لكنه يقول ما يقوله تعصبا و عنادا و قد روى الناس كافة افتخار علي ع بالسبق ى الإسلام و أن النبي ص استنبئ يوم الإثنين و أسلم علي يوم الثلاثاء و أنه كان يقول صليت قبل الناس سبع سنين و أنه ما زال يقول أنا أول من أسلم و يفتخر بذلك و يفتخر له به أولياؤه و مادحوه و شيعته في عصره و بعد وفاته و الأمر في ذلك أشهر من كل شهير و قد قدمنا منه طرفا و ما علمنا أحدا من الناس فيما خلا استخف بإسلام علي ع و لا (14/272)
تهاون به و لا زعم أنه أسلم إسلام حدث غرير و طفل صغير و من العجب أن يكون مثل العباس و حمزة ينتظران أبا طالب و فعله ليصدرا عن رأيه ثم يخالفه علي ابنه لغير رغبة و لا رهبة يؤثر القلة على الكثرة و الذل على العزة من غير علم و لا معرفة بالعاقبة و كيف ينكر الجاحظ و العثمانية أن رسول الله ص دعاه إلى الإسلام و كلفه التصديق. و قد روي في الخبر الصحيح أنه كلفه في مبدإ الدعوة قبل ظهور كلمة الإسلام و انتشارها بمكة أن يصنع له طعاما و أن يدعو له بني عبد المطلب فصنع له الطعام و دعاهم له فخرجوا ذلك اليوم و لم ينذرهم ص لكلمة قالها عمه أبو لهب فكلفه في اليوم الثاني أن يصنع مثل ذلك الطعام و أن يدعوهم ثانية فصنعه و دعاهم فأكلوا ثم كلمهم ص فدعاهم إلى الدين و دعاه معهم لأنه من بني عبد المطلب ثم ضمن لمن يوازره منهم و ينصره على قوله أن يجعله أخاه في الدين و وصيه بعد موته و خليفته من بعده فأمسكوا كلهم و أجابه هو وحده و قال أنا أنصرك على ما جئت به و أوازرك و أبايعك فقال لهم لما رأى منهم الخذلان و منه النصر و شاهد منهم المعصية و منه الطاعة و عاين منهم الإباء و منه الإجابة هذا أخي و وصيي و خليفتي من بعدي فقاموا يسخرون و يضحكون و يقولون لأبي طالب أطع ابنك فقد أمره عليك فهل يكلف عمل (14/273)
شرح نهج البلاغة ج : 13 ص : 245الطعام و دعاء القوم صغير مميز و غر غير عاقل و هل يؤتمن على سر النبوة طفل ابن خمس سنين أو ابن سبع و هل يدعى في جملة الشيوخ و الكهول إلا عاقل لبيب و هل يضع رسول الله ص يده في يده و يعطيه صفقة يمينه بالأخوة و الوصية و الخلافة ا و هو أهل لذلك بالغ حد التكليف محتمل لولاية الله و عداوة أعدائه و ما بال هذا الطفل لم يأنس بأقرانه و لم يلصق بأشكاله و لم ير مع الصبيان في ملاعبهم بعد إسلامه و هو كأحدهم في طبقته كبعضهم في معرفته. و كيف لم ينزع إليهم في ساعة من ساعاته فيقال دعاه داعي الصبا و خاطر من خواطر الدنيا و حملته الغرة و الحداثة على حضور لهوهم و الدخول في حالهم بل ما رأيناه إلا ماضيا على إسلامه مصمما في أمره محققا لقوله بفعله قد صدق إسلامه بعفافه و زهده و لصق برسول الله ص من بين جميع من بحضرته فهو أمينه و أليفه في دنياه و آخرته و قد قهر شهوته و جاذب خواطره صابرا على ذلك نفسه لما يرجو من فوز العاقبة و ثواب الآخرة و قد ذكر هو ع في كلامه و خطبه بدء حاله و افتتاح أمره حيث أسلم لما دعا رسول الله ص الشجرة فأقبلت تخد الأرض فقالت قريش ساحر خفيف السحر فقال علي ع يا رسول الله أنا أول من يؤمن بك آمنت بالله و رسوله و صدقتك فيما جئت به و أنا أشهد أن الشجرة فعلت ما فعلت بأمر الله تصديقا لنبوتك و برهانا على صحة دعوتك فهل يكون إيمان قط أصح من هذا الإيمان و أوثق عقدة و أحكم مرة و لكن حنق العثمانية و غيظهم و عصبية الجاحظ و انحرافه مما لا حيلة فيه ثم لينظر المنصف و ليدع الهوى جانبا ليعلم نعمة الله على علي ع بالإسلام حيث أسلم على الوضع الذي أسلم عليه فإنه لو لا الألطاف التي خص بها و الهداية التي منحها لما كان إلا كبعض أقارب محمد ص و أهله فقد كان ممازجا له كممازجته و مخالطا له كمخالطة كثير من أهله و رهطه و لم يستجب منهم شرح نهج البلاغة ج : 13 ص : 246أحد له إلا بعد حين و (14/274)
منهم من لم يستجب له أصلا فإن جعفرا ع كان ملتصقا به و لم يسلم حينئذ و كان عتبة بن أبي لهب ابن عمه و صهره زوج ابنته و لم يصدقه بل كان شديدا عليه و كان لخديجة بنون من غيره و لم يسلموا حينئذ وم ربائبه و معه في دار واحدة و كان أبو طالب أباه في الحقيقة و كافله و ناصره و المحامي عنه و من لولاه لم تقم له قائمة و مع ذلك لم يسلم في أغلب الروايات و كان العباس عمه و صنو أبيه و كالقرين له في الولادة و المنشإ و التربية و لم يستجب له إلا بعد حين طويل و كان أبو لهب عمه و كدمه و لحمه و لم يسلم و كان شديدا عليه فكيف ينسب إسلام علي ع إلى الإلف و التربية و القرابة و اللحمة و التلقين و الحضانة و الدار الجامعة و طول العشرة و الأنس و الخلوة و قد كان كل ذلك حاصلا لهؤلاء أو لكثير منهم و لم يهتد أحد منهم إذ ذاك بل كانوا بين من جحد و كفر و مات على كفره و من أبطأ و تأخر و سبق بالإسلام و جاء سكيتا و قد فاز بالمنزلة غيره. و هل يدل تأمل حال علي ع مع الإنصاف إلا على أنه أسلم لأنه شاهد الأعلام و رأى المعجزات و شم ريح النبوة و رأى نور الرسالة و ثبت اليقين في قلبه بمعرفة و علم و نظر صحيح لا بتقليد و لا حمية و لا رغبة و لا رهبة إلا فيما يتعلق بأمور الآخرة. قال الجاحظ فلو أن عليا ع كان بالغا حيث أسلم لكان إسلام أبي بكر و زيد بن حارثة و خباب بن الأرت أفضل من إسلامه لأن إسلام المقتضب الذي لم يعتد به و لم يعوده و لم يمرن عليه أفضل من إسلام الناشئ الذي ربي فيه و نشأ و حبب (14/275)
شرح نهج البلاغة ج : 13 ص : 247إليه و ذلك لأن صاحب التربية يبلغ حيث يبلغ و قد أسقط إلفه عنه مؤنة الروية و الخاطر و كفاه علاج القلب و اضطراب النفس و زيد و خباب و أبو بكر يعانون من كلفة النظر و مؤنة التأمل و مشقة الانتقال من الدين الذي قد طال إلفهم له ما هغير خاف و لو كان علي حيث أسلم بالغا مقتضبا كغيره ممن عددنا كان إسلامهم أفضل من إسلامه لأن من أسلم و هو يعلم أن له ظهرا كأبي طالب و ردءا كبني هاشم و موضعا في بني عبد المطلب ليس كالحليف و المولى و التابع و العسيف و كالرجل من عرض قريش أ و لست تعلم أن قريشا خاصة و أهل مكة عامة لم يقدروا على أذى النبي ص ما كان أبو طالب حيا و أيضا فإن أولئك اجتمع عليهم مع فراق الإلف مشقة الخواطر و علي ع كان بحضرة رسول الله ص يشاهد الأعلام في كل وقت و يحضر منزل الوحي فالبراهين له أشد انكشافا و الخواطر على قلبه أقل اعتلاجا و على قدر الكلفة و المشقة يعظم الفضل و يكثر الأجر. قال أبو جعفر رحمه الله ينبغي أن ينظر أهل الإنصاف هذا الفصل و يقفوا على قول الجاحظ و الأصم في نصرة العثمانية و اجتهادهما في القصد إلى فضائل هذا الرجل و تهجينها فمرة يبطلان معناها و مرة يتوصلان إلى حط قدرها فلينظر في كل باب اعترضا فيه أين بلغت حيلتهما و ما صنعا في احتيالهما في قصصهما و سجعهما أ ليس إذا تأملتها علمت أنها ألفاظ ملفقة بلا معنى و أنها عليها شجى و بلاء و إلا فما عسى أن تبلغ حيلة الحاسد و يغني كيد الكائد الشانئ لمن قد جل قدره عن النقص و أضاءت فضائله إضاءة الشمس و أين قول الجاحظ من دلائل السماء و براهين الأنبياء و قد علم شرح نهج البلاغة ج : 13 ص : 248الصغير و الكبير و العالم و الجاهل ممن بلغه ذكر علي ع و علم مبعث النبي ص أن عليا ع لم يولد في دار الإسلام و لا غذي في حجر الإيمان و إنما استضافه رسول الله ص إلنفسه سنة القحط و المجاعة و عمره يومئذ ثماني سنين فمكث معه سبع سنين (14/276)
حتى أتاه جبرئيل بالرسالة فدعاه و هو بالغ كامل العقل إلى الإسلام فأسلم بعد مشاهدة المعجزة و بعد إعمال النظر و الفكرة و إن كان قد ورد في كلامه أنه صلى سبع سنين قبل الناس كلهم فإنما يعني ما بين الثمان و الخمس عشرة و لم يكن حينئذ دعوة و لا رسالة و لا ادعاء نبوة و إنما كان رسول الله ص يتعبد على ملة إبراهيم و دين الحنيفية و يتحنث و يجانب الناس و يعتزل و يطلب الخلوة و ينقطع في جبل حراء و كان علي ع معه كالتابع و التلميذ فلما بلغ الحلم و جاءت النبي ص الملائكة و بشرته بالرسالة دعاه فأجابه عن نظر و معرفة بالأعلام المعجزة فكيف يقول الجاحظ إن إسلامه لم يكن مقتضبا. و إن كان إسلامه ينقص عن إسلام غيره في الفضيلة لما كان يمرن عليه من التعبد مع رسول الله ص قبل الدعوة لتكونن طاعة كثير من المكلفين أفضل من طاعة رسول الله ص و أمثاله من المعصومين لأن العصمة عند أهل العدل لطف يمنع من اختص به من ارتكاب القبيح فمن اختص بذلك اللطف كانت الطاعة عليه أسهل فوجب أن يكون ثوابه أنقص من ثواب من أطاع مع تلك الألطاف. و كيف يقول الجاحظ إن إسلامه ناقص عن إسلام غيره و قد جاء في الخبر أنه أسلم يوم الثلاثاء و استنبئ النبي ص يوم الإثنين فمن هذه حاله لم تكثر حجج الرسالة على سمعه و لا تواترت أعلام النبوة على مشاهدته و لا تطاول الوقت عليه لتخف محنته و يسقط ثقل تكليفه بل بان فضله و ظهر حسن اختياره لنفسه إذ أسلم في حال بلوغه و عانى نوازع طبعه و لم يؤخر ذلك بعد سماعه. (14/277)
شرح نهج البلاغة ج : 13 ص : 249و قد غمر الجاحظ في كتابه هذا أن أبا بكر كان قبل إسلامه مذكورا و رئيسا معروفا يجتمع إليه كثير من أهل مكة فينشدون الأشعار و يتذاكرون الأخبار و يشربون الخمر و قد كان سمع دلائل النبوة و حجج الرسل و سافر إلى البلدان و وصلت إليه أخبار و عرف دعوى الكهنة و حيل السحرة و من كان كذلك كان انكشاف الأمور له أظهر و الإسلام عليه أسهل و الخواطر على قلبه أقل اعتلاجا و كل ذلك عون لأبي بكر على الإسلام و مسهل إليه سبيله و لذلك لما قال النبي ص أتيت بيت المقدس سأله أبو بكر عن المسجد و مواضعه فصدقه و بان له أمره و خفت مئونته لما تقدم من معرفته بالبيت فخرج إذا إسلام أبي بكر على قول الجاحظ من معنى المقتضب و في ذلك رويتم (14/278)
عنه ص أنه قال ما دعوت أحدا إلى الإسلام إلا و كان له تردد و نبوة إلا ما كان من أبي بكر فإنه لم يتلعثم حتى هجم به اليقين إلى المعرفة و الإسلام
فأين هذا و إسلام من خلي و عقله و ألجئ إلى نظره مع صغر سنه و اعتلاج الخواطر على قلبه و نشأته في ضد ما دخل فيه و الغالب على أمثاله و أقرانه حب اللعب و اللهو فلجأ إلى ما ظهر له من دلائل الدعوة و لم يتأخر إسلامه فيلزمه التقصير بالمعصية فقهر شهوته و غالب خواطره و خرج من عادته و ما كان غذي به لصحة نظره و لطافة فكره و غامض فهمه فعظم استنباطه و رجح فضله و شرف قدر إسلامه و لم يأخذ من الدنيا بنصيب و لا تنعم فيها بنعيم حدثا و لا كبيرا و حمى نفسه عن الهوى و كسر شرة حداثته بالتقوى و اشتغل بهم الدين عن نعيم الدنيا و أشغل هم الآخرة قلبه و وجه إليه رغبته فإسلامه هو السبيل الذي لم يسلم عليه أحد غيره و ما سبيله في ذلك إلا كسبيل الأنبياء ليعلم أن منزلته من النبي ص كمنزلة هارون من موسى و أنه و إن لم يكن نبيا فقد كان في سبيل الأنبياء سالكا و لمنهاجهم متبعا و كانت حاله كحال إبراهيم ع فإن شرح نهج البلاغة ج : 13 ص : 250أهل العلم ذكروا أنه لما كان صغيرا جعلته أمه في سرب لم يطلع عليه أحد فلما نشأ و درج و عقل قال لأمه من ربي قالت أبوك قال فمن رب أبي فزبرته و نهرته إلى أن طلع من شق السرب فرأى كوكبا فقال هذا ربي فلما أفل قال لا أحب الآين فلما رأى القمر بازغا قال هذا ربي فلما أفل قال لئن لم يهدني ربي لأكونن من القوم الضالين فلما رأى الشمس بازغة قال هذا ربي هذا أكبر فلما أفلت قال يا قوم إني بري ء مما تشركون إني وجهت وجهي للذي فطر السموات و الأرض حنيفا و ما أنا من المشركين و في ذلك يقول اله جل ثناؤه وَ كَذلِكَ نُرِي إِبْراهِيمَ مَلَكُوتَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ لِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ و على هذا كان إسلام الصديق الأكبر ع لسنا نقول إنه كان مساويا له في الفضيلة و لكن كان مقتديا بطريقه على ما قال الله تعالى إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْراهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَ هذَا النَّبِيُّ وَ الَّذِينَ (14/279)
آمَنُوا وَ اللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ و أما اعتلال الجاحظ بأن له ظهرا كأبي طالب و ردءا كبني هاشم فإنه يوجب عليه أن تكون محنة أبي بكر و بلال و ثوابهما و فضل إسلامهما أعظم مما لرسول الله ص لأن أبا طالب ظهره و بني هاشم ردؤه و حسبك جهلا من معاند لم يستطع حط قدر علي ع إلا بحطه من قدر رسول الله ص و لم يكن أحد أشد على رسول الله ص من قراباته الأدنى منهم فالأدنى كأبي لهب عمه و امرأة أبي لهب و هي أم جميل بنت حرب بن أمية و إحدى أولاد عبد مناف ثم ما كان من عقبة بن أبي معيط و هو ابن عمه و ما كان من النضر بن الحارث و هو من بني عبد الدار بن قصي و هو ابن عمه أيضا و غير هؤلاء ممن يطول تعداده و كلهم كان يطرح الأذى في طريقه و ينقل أخباره و يرميه بالحجارة و يرمي الكرش شرح نهج البلاغة ج : 13 ص : 251و الفرث عل و كانوا يؤذون عليا ع كأذاه و يجتهدون في غمه و يستهزءون به و ما كان لأبي بكر قرابة تؤذيه كقرابة علي و لما كان بين علي و بين النبي ص من الاتحاد و الإلف و الاتفاق أحجم المنافقون بالمدينة عن أذى رسول الله ص خوفا من سيفه و لأنه صاحب الدار و الجيش و أمره مطاع و قوله نافذ فخافوا على دمائهم منه فاتقوه و أمسكوا عن إظهار بغضه و أظهروا بغض علي ع و شنآنه فقال رسول الله ص في حقه في (14/280)
الخبر الذي روي في جميع الصحاح لا يحبك إلا مؤمن و لا يبغضك إلا منافق
و قال كثير من أعلام الصحابة كما
روي في الخبر المشهور بين المحدثين ما كنا نعرف المنافقين إلا ببغض علي بن أبي طالب
و أين كان ظهر أبي طالب عن جعفر و قد أزعجه الأذى عن وطنه حتى هاجر إلى بلاد الحبشة و ركب البحر أ يتوهم الجاحظ أن أبا طالب نصر عليا و خذل جعفرا. قال الجاحظ و لأبي بكر فضيلة في إسلامه أنه كان قبل إسلامه كثير الصديق عريض الجاه ذا يسار و غنى يعظم لماله و يستفاد من رأيه فخرج من عز الغنى و كثرة الصديق إلى ذل الفاقة و عجز الوحدة و هذا غير إسلام من لا حراك به و لا عز له تابع غير متبوع لأن من أشد ما يبتلى الكريم به السب بعد التحية و الضرب بعد الهيبة و العسر بعد اليسر ثم كان أبو بكر دعية من دعاة الرسول و كان يتلوه في جميع أحواله فكان الخوف إليه أشد و المكروه نحوه أسرع و كان ممن تحسن مطالبته و لا يستحيا من إدراك الثأر عنده لنباهته و بعد ذكره و الحدث الصغير يزدرى و يحتقر لصغر سنه و خمول ذكره. شرح نهج البلاغة ج : 13 ص : 252قال شيخنا أبو جعفر رحمه الله أما ما ذكر من كثرة مال و الصديق و استفاضة الذكر و بعد الصيت و كبر السن فكله عليه لا له و ذلك لأنه قد علم أن من سيرة العرب و أخلاقها حفظ الصديق و الوفاء بالذمام و التهيب لذي الثروة و احترام ذي السن العالية و في كل هذا ظهر شديد و سند و ثقة يعتمد عليها عند المحن و لذلك كان المرء منهم إذا تمكن من صديقه أبقى عليه و استحيا منه و كان ذلك سببا لنجاته و العفو عنه على أن علي بن أبي طالب ع إن لم يكن شهره سنه فقد شهره نسبه و موضعه من بني هاشم و إن لم يستفض ذكره بلقاء الرجال و كثرة الأسفار استفاض بأبي طالب فأنتم تعلمون أنه ليس تيم في بعد الصيت كهاشم و لا أبو قحافة كأبي طالب و على حسب ذلك يعلو ذكر الفتى على ذي السن و يبعد صيت الحدث على الشيخ و معلوم أيضا أن عليا على أعناق المشركين أثقل إذ كان هاشميا و إن كان أبوه حامى رسول الله ص و المانع لحوزته و علي هو الذي فتح على العرب باب الخلاف و استهان بهم بما أظهر من الإسلام و الصلاة و خالف رهطه و عشيرته و أطاع (14/281)
ابن عمه فيما لم يعرف من قبل و لا عهد له نظير كما قال تعالى لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أُنْذِرَ آباؤُهُمْ فَهُمْ غافِلُونَ ثم كان بعد صاحب رسول الله ص و مشتكى حزنه و أنيسه في خلوته و جليسه و أليفه في أيامه كلها و كل هذا يوجب التحريض عليه و معاداة العرب له ثم أنتم معاشر العثمانية تثبتون لأبي بكر فضيلة بصحبة الرسول ص من مكة إلى يثرب و دخوله معه في الغار فقلتم مرتبة شريفة و حالة جليلة إذ كان شريكه في الهجرة و أنيسه في الوحشة فأين هذه من صحبة علي ع له في خلوته و حيث لا يجد أنيسا غيره ليله و نهاره أيام مقامه بمكة يعبد الله شرح نهج البلاغة ج : 13 ص : 253معه سرا و يتكلف له الحاجة جهرا و يخدمه كالعبد يخدم مولاه و يشفق عليه و يحوطه و كالولد يبر والده و يعطف عليه ولما سئلت عائشة من كان أحب الناس إلى رسول الله ص قالت أما من الرجال فعلي و أما من النساء ففاطمة (14/282)
قال الجاحظ و كان أبو بكر من المفتونين المعذبين بمكة قبل الهجرة فضربه نوفل بن خويلد المعروف بابن العدوية مرتين حتى أدماه و شده مع طلحة بن عبيد الله في قرن و جعلهما في الهاجرة عمير بن عثمان بن مرة بن كعب بن سعد بن تيم بن مرة و لذلك كانا يدعيان القرينين و لو لم يكن له غير ذلك لكان لحاقه عسيرا و بلوغ منزلته شديدا و لو كان يوما واحدا لكان عظيما و علي بن أبي طالب رافه وادع ليس بمطلوب و لا طالب و ليس أنه لم يكن في طبعه الشهامة و النجدة و في غريزته البسالة في الشجاعة لكنه لم يكن قد تمت أداته و لا استكملت آلته و رجال الطلب و أصحاب الثأر يغمصون ذا الحداثة و يزدرون بذي الصبا و الغرارة إلى أن يلحق بالرجال و يخرج من طبع الأطفال. قال شيخنا أبو جعفر رحمه الله أما القول فممكن و الدعوى سهلة سيما على مثل الجاحظ فإنه ليس على لسانه من دينه و عقله رقيب و هو من دعوى الباطل غير بعيد فمعناه نزر و قوله لغو و مطلبه سجع و كلامه لعب و لهو يقول الشي ء و خلافه و يحسن القول و ضده ليس له من نفسه واعظ و لا لدعواه حد قائم و إلا فكيف تجاسر على القول بأن عليا حينئذ لم يكن مطلوبا و لا طالبا و قد بينا بالأخبار الصحيحة و الحديث المرفوع المسند أنهكان يوم أسلم بالغا كاملا منابذا بلسانه و قلبه لمشركي قريش شرح نهج البلاغة ج : 13 ص : 254ثقيلا على قلوبهم و هو المخصوص دون أبي بكر بالحصار في الشعب و صاحب الخلوات برسول الله ص في تلك الظلمات المتجرع لغصص المرار من أبي لهب و أبي جهل و غيرهما و المصطلي لكل روه و الشريك لنبيه في كل أذى قد نهض بالحمل الثقيل و بان بالأمر الجليل و من الذي كان يخرج ليلا من الشعب على هيئة السارق و يخفي نفسه و يضائل شخصه حتى يأتي إلى من يبعثه إليه أبو طالب من كبراء قريش كمطعم بن عدي و غيره فيحمل لبني هاشم على ظهره أعدال الدقيق و القمح و هو على أشد خوف من أعدائهم كأبي جهل و غيره لو ظفروا به (14/283)
لأراقوا دمه أ علي كان يفعل ذلك أيام الحصار في الشعب أم أبو بكر و قد ذكر هو ع حاله يومئذ (14/284)
فقال في خطبة له مشهورة فتعاقدوا ألا يعاملونا و لا يناكحونا و أوقدت الحرب علينا نيرانها و اضطرونا إلى جبل وعر مؤمننا يرجو الثواب و كافرنا يحامي عن الأصل و لقد كانت القبائل كلها اجتمعت عليهم و قطعوا عنهم المارة و الميرة فكانوا يتوقعون الموت جوعا صباحا و مساء لا يرون وجها و لا فرجا قد اضمحل عزمهم و انقطع رجاؤهم
فمن الذي خلص إليه مكروه تلك المحن بعد محمد ص إلا علي ع وحده و ما عسى أن يقول الواصف و المطنب في هذه الفضيلة من تقصي معانيها و بلوغ غاية كنهها و فضيلة الصابر عندها و دامت هذه المحنة عليهم ثلاث سنين حتى انفرجت عنهم بقصة الصحيفة و القصة مشهورة. و كيف يستحسن الجاحظ لنفسه أن يقول في علي ع إنه قبل الهجرة كان وادعا رافها لم يكن مطلوبا و لا طالبا و هو صاحب الفراش الذي فدى رسول الله ص بنفسه و وقاه بمهجته و احتمل السيوف و رضح الحجارة دونه و هل ينتهي الواصف و إن أطنب و المادح و إن أسهب إلى الإبانة عن مقدار هذه الفضيلة و الإيضاح بمزية هذه الخصيصة. شرح نهج البلاغة ج : 13 ص : 255فأما قوله إن أبا بكر عذب بمكة فإنا لا نعلم أن العذاب كان واقعا إلا بعبد أو عسيف أو لمن لا عشيرة له تمنعه فأنتم في أبي بكر بين أمرين تارة تجعلونه دخيلا ساقطا و هجينا رذيلا مستضعفا ذليلا و تارة تجونه رئيسا متبعا و كبيرا مطاعا فاعتمدوا على أحد القولين لنكلمكم بحسب ما تختارونه لأنفسكم و لو كان الفضل في الفتنة و العذاب لكان عمار و خباب و بلال و كل معذب بمكة أفضل من أبي بكر لأنهم كانوا من العذاب في أكثر مما كان فيه و نزل فيهم من القرآن ما لم ينزل فيه كقوله تعالى وَ الَّذِينَ هاجَرُوا فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ ما ظُلِمُوا قالوا نزلت في خباب و بلال و نزل في عمار قوله إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَ قَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ و كان رسول الله ص يمر على عمار و أبيه و أمه و هم يعذبون يعذبهم بنو مخزوم لأنهم كانوا حلفاءهم (14/285)
فيقول صبرا آل ياسر فإن موعدكم الجنة
و كان بلال يقلب على الرمضاء و هو يقول أحد أحد و ما سمعنا لأبي بكر في شي ء من ذلك ذكرا و لقد كان لعلي ع عنده يد غراء إن صح ما رويتموه في تعذيبه لأنه قتل نوفل بن خويلد و عمير بن عثمان يوم بدر ضرب نوفلا فقطع ساقه فقال أذكرك الله و الرحم فقال قد قطع الله كل رم و صهر إلا من كان تابعا لمحمد ثم ضربه أخرى ففاضت نفسه و صمد لعمير بن عثمان التميمي فوجده يروم الهرب و قد ارتج عليه المسلك فضربه على شراسيف صدره فصار نصفه الأعلى بين رجليه و ليس أن أبا بكر لم يطلب بثأره منهما و يجتهد لكنه لم يقدر على أن يفعل فعل علي ع فبان علي ع بفعله دونه قال الجاحظ و لأبي بكر مراتب لا يشركه فيها علي و لا غيره و ذلك قبل الهجرة شرح نهج البلاغة ج : 13 ص : 256فقد علم الناس أن عليا ع إنما ظهر فضله و انتشر صيته و امتحن و لقي المشاق منذ يوم بدر و أنه إنما قاتل في الزمان الذي استوفى فيه أهل الإام و أهل الشرك و طمعوا في أن يكون الحرب بينهم سجالا و أعلمهم الله تعالى أن العاقبة للمتقين و أبو بكر كان قبل الهجرة معذبا و مطرودا مشردا في الزمان الذي ليس بالإسلام و أهله نهوض و لا حركة و لذلك قال أبو بكر في خلافته طوبى لمن مات في فأفأة الإسلام يقول في ضعفه. قال أبو جعفر رحمه الله لا أشك أن الباطل خان أبا عثمان و الخطأ أقعده و الخذلان أصاره إلى الحيرة فما علم و عرف حتى قال ما قال فزعم أن عليا ع قبل الهجرة لم يمتحن و لم يكابد المشاق و أنه إنما قاسى مشاق التكليف و محن الابتلاء منذ يوم بدر و نسي الحصار في الشعب و ما مني به منه و أبو بكر وادع رافه يأكل ما يريد و يجلس مع من يحب مخلى سربه طيبة نفسه ساكنا قلبه و علي يقاسي الغمرات و يكابد الأهوال و يجوع و يظمأ و يتوقع القتل صباحا و مساء لأنه كان هو المتوصل المحتال في إحضار قوت زهيد من شيوخ قريش و عقلائها سرا ليقيم به رمق رسول الله ص و بني هاشم و هم في الحصار و لا يأمن في كل وقت (14/286)
مفاجأة أعداء رسول الله ص له بالقتل كأبي جهل بن هشام و عقبة بن أبي معيط و الوليد بن المغيرة و عتبة بن ربيعة و غيرهم من فراعنة قريش و جبابرتها و لقد كان يجيع نفسه و يطعم رسول الله ص زاده و يظمئ نفسه و يسقيه ماءه و هو كان المعلل له إذا مرض و المؤنس له إذا استوحش و أبو بكر بنجوة عن ذلك لا يمسه مما يمسهم ألم و لم يلحقه مما يلحقهم مشقة و لا يعلم بشي ء من أخبارهم و أحوالهم إلا على سبيل الإجمال دون التفصيل ثلاث سنين محرمة معاملتهم و مناكحتهم و مجالستم محبوسين محصورين ممنوعين من الخروج (14/287)
شرح نهج البلاغة ج : 13 ص : 257و التصرف في أنفسهم فكيف أهمل الجاحظ هذه الفضيلة و نسي هذه الخصيصة و لا نظير لها و لكن لا يبالي الجاحظ بعد أن يسوغ له لفظه و تنسق له خطابته ما ضيع من المعنى و رجع عليه من الخطأ. فأما قوله و اعلموا أن العاقبة للمتقين ففيه إشا إلى معنى غامض قصده الجاحظ يعني أن لا فضيلة لعلي ع في الجهاد لأن الرسول كان أعلمه أنه منصور و أن العاقبة له و هذا من دسائس الجاحظ و همزاته و لمزاته و ليس بحق ما قاله لأن رسول الله ص أعلم أصحابه جملة أن العاقبة لهم و لم يعلم واحدا منهم بعينه أنه لا يقتل لا عليا و لا غيره و إن صح أنه كان أعلمه أنه لا يقتل فلم يعلمه أنه لا يقطع عضو من أعضائه و لم يعلمه أنه لا يمسه ألم جراح في جسده و لم يعلمه أنه لا يناله الضرب الشديد. و على أن رسول الله ص قد أعلم أصحابه قبل يوم بدر و هو يومئذ بمكة أن العاقبة لهم كما أعلم أصحابه بعد الهجرة ذلك فإن لم يكن لعلي و المجاهدين فضيلة في الجهاد بعد الهجرة لإعلامه إياهم ذلك فلا فضيلة لأبي بكر و غيره في احتمال المشاق قبل الهجرة لإعلامه إياهم بذلك فقد جاء في الخبر أنه وعد أبا بكر قبل الهجرة بالنصر و أنه قال له أرسلت إلى هؤلاء بالذبح و إن الله تعالى سيغنمنا أموالهم و يملكنا ديارهم فالقول في الموضعين متساو و متفق. قال الجاحظ و إن بين المحنة في الدهر الذي صار فيه أصحاب النبي ص مقرنين لأهل مكة و مشركي قريش و معهم أهل يثرب أصحاب النخيل و الآطام و الشجاعة و الصبر و المواساة و الإيثار و المحاماة و العدد الدثر و الفعل الجزل و بين الدهر الذي كانوا فيه بمكة يفتنون و يشتمون و يضربون و يشردون و يجوعون و يعطشون شرح نهج البلاغة ج : 13 ص : 258مقهورين لا حراك بهم و أذلاء لا عز لهم و فقراء لا مال عندهم و مستخفين لا يمكنهم إظهار دعوتهم لفرقا واضحا و لقد كان في حال أحوجت لوطا و هو نبي إلى أن قال لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ (14/288)
قُوَّةً أَوْ آوِي إِلى رُكْنٍ شَدِيدٍ و (14/289)
قال النبي ص عجبت من أخي لوط كيف قال أَوْ آوِي إِلى رُكْنٍ شَدِيدٍ و هو يأوي إلى الله تعالى
ثم لم يكن ذلك يوما و لا يومين و لا شهرا و لا شهرين و لا عاما و لا عامين و لكن السنين بعد السنين و كان أغلظ القوم و أشدهم محنة بعد رسول الله ص أبو بكر لأنه أقام بمكة ما أقام رسول الله ص ثلاث عشرة سنة و هو أوسط ما قالوا في مقام النبي ص. قال شيخنا أبو جعفر رحمه الله ما نرى الجاحظ احتج لكون أبي بكر أغلظهم و أشدهم محنة إلا بقوله لأنه أقام بمكة مدة مقام الرسول ص بها و هذه الحجة لا تخص أبا بكر وحده لأن عليا ع أقام معه هذه المدة و كذلك طلحة و زيد و عبد الرحمن و بلال و خباب و غيرهم و قد كان الواجب عليه أن يخص أبا بكر وحده بحجة تدل على أنه كان أغلظ الجماعة و أشدهم محنة بعد رسول الله ص فالاحتجاج في نفسه فاسد. ثم يقال له ما بالك أهملت أمر مبيت علي ع على الفراش بمكة ليلة الهجرة هل نسيته أم تناسيته فإنها المحنة العظيمة و الفضيلة الشريفة التي متى امتحنها الناظر و أجال فكره فيها رأى تحتها فضائل متفرقة و مناقب متغايرة و ذلك أنه لما استقر الخبر عند المشركين أن رسول الله ص مجمع على الخروج من بينهم للهجرة شرح نهج البلاغة ج : 13 ص : 259إلى غيرهم قصدوا إلى معاجلته و تعاقدوا على أن يبيتوه في فراشه و أن يضربوه بأسياف كثيرة بيد كل حب قبيلة من قريش سيف منها ليضيع دمه بين الشعوب و يتفرق بين القبائل و لا يطلب بنو هاشم بدمه قبيلة واحدة بعينها من بطون قريش و تحالفوا على تلك الليلة و اجتمعوا عليها فلما علم رسول ص ذلك من أمرهم دعا أوثق الناس عنده و أمثلهم في نفسه و أبذلهم في ذات الإله لمهجته و أسرعهم إجابة إلى طاعته
فقال له إن قريشا قد تحالفت على أن تبيتني هذه الليلة فامض إلى فراشي و نم في مضجعي و التف في بردي الحضرمي ليروا أني لم أخرج و إني خارج إن شاء الله
فمنعه أولا من التحرز و إعمال الحيلة و صده عن الاستظهار لنفسه بنوع من أنواع المكايد و الجهات التي يحتاط بها الناس لنفوسهم و ألجأه إلى أن يعرض نفسه لظبات السيوف الشحيذة من أيدي أرباب الحنق و الغيظة فأجاب إلى ذلك سامعا مطيعا طيبة بها نفسه و نام على فراشه صابرا محتسبا واقيا له بمهجته ينتظر القتل و لا نعلم فوق بذل النفس درجة يلتمسها صابر و لا يبلغها طالب و الجود بالنفس أقصى غاية الجود و لو لا أن رسول الله ص علم أنه أهل لذلك لما أهله و لو كان عنده نقص في صبره أو في شجاعته أو في مناصحته لابن عمه و اختير لذلك لكان من اختاره ص منقوضا في رأيه مضرا في اختياره و لا يجوز أن يقول هذا أحد من أهل الإسلام و كلهم مجمعون على أن الرسول ص عمل الصواب و أحسن في الاختيار. ثم في ذلك إذا تأمله المتأمل وجوه من الفضل منها أنه و إن كان عنده في موضع الثقة فإنه غير مأمون عليه ألا يضبط السر فيفسد التدبير بإفشائه تلك الليلة إلى من يلقيه إلى الأعداء. و منها أنه و إن كان ضابطا للسر و ثقة عند من اختاره فغير مأمون عليه الجبن عند شرح نهج البلاغة ج : 13 ص : 260مفاجأة المكروه و مباشرة الأهوال فيفر من الفراش فيفطن لموضع الحيلة و يطلب رسول الله ص ففر به. و منها أنه و إن كان ضابطا للسر شجاعا نجدا فلعله غير محتمل للمبيت على الفراش لأن هذا أمر خارج عن الشجاعة إن كان قد قامه مقام المكتوف الممنوع بل هو أشد مشقة من المكتوف الممنوع لأن المكتوف الممنوع يعلم من نفسه أنه لا سبيل له إلى الهرب و هذا يجد السبيل إلى الهرب و إلى الدفع عن نفسه و لا يهرب و لا يدافع. و منها أنه و إن كان ثقة عنده ضابطا للسر شجاعا محتملا للمبيت على الفراش فإنه غير مأمون أن يذهب صبره عند العقوبة الواقعة و العذاب النازل بساحته حتى يبوح بما عنده و يصير إلى الإقرار بما يعلمه و هو أنه أخذ طريق كذا فيطلب فيؤخذ فلهذا قال علماء المسلمين إن فضيلة علي ع تلك (14/290)
الليلة لا نعلم أحدا من البشر نال مثلها إلا ما كان من إسحاق و إبراهيم عند استسلامه للذبح و لو لا أن الأنبياء لا يفضلهم غيرهم لقلنا إن محنة علي أعظم لأنه قد روي أن إسحاق تلكأ لما أمره أن يضطجع و بكى على نفسه و قد كان أبوه يعلم أن عنده في ذلك وقفة و لذلك قال له فَانْظُرْ ما ذا تَرى و حال علي ع بخلاف ذلك لأنه ما تلكأ و لا تتعتع و لا تغير لونه و لا اضطربت أعضاؤه و لقد كان أصحاب النبي ص يشيرون عليه بالرأي المخالف لما كان أمر به و تقدم فيه فيتركه و يعمل بما أشاروا به كما جرى يوم الخندق في مصانعة الأحزاب بثلث تمر المدينة فإنهم أشاروا عليه بترك ذلك فتركه و هذه كانت قاعدته معهم و عادته بينهم و قد كان لعلي ع أن يعتل بعلة و أن يقف و يقول يا رسول الله أكون معك أحميك من العدو و أذب بسيفي عنك فلست شرح نهج البغة ج : 13 ص : 261مستغنيا في خروجك عن مثلي و نجعل عبدا من عبيدنا في فراشك قائما مقامك يتوهم القوم برؤيته نائما في بردك أنك لم تخرج و لم تفارق مركزك فلم يقل ذلك و لا تحبس و لا توقف و لا تلعثم و ذلك لعلم كل واحد منهما ص أن أحدا لا يصبر على ثقل هذه المحنة و لا يتورط هذه الهلكة إلا من خصه الله تعالى بالصبر على مشقتها و الفوز بفضيلتها و له من جنس ذلك أفعال كثيرة كيوم دعا عمرو بن عبد ود المسلمين إلى المبارزة فأحجم الناس كلهم عنه لما علموا من بأسه و شدته ثم كرر النداء فقام علي ع (14/291)
فقال أنا أبرز إليه فقال له رسول الله ص إنه عمرو قال نعم و أنا علي
فأمره بالخروج إليه فلما خرج
قال ص برز الإيمان كله إلى الشرك كله
و كيوم أحد حيث حمى رسول الله ص من أبطال قريش و هم يقصدون قتله فقتلهم دونه حتى قال جبرئيل ع يا محمد إن هذه هي المواساة
فقال إنه مني و أنا منه
فقال جبريل و أنا منكما و لو عددنا أيامه و مقاماته التي شرى فيها نفسه لله تعالى لأطلنا و أسهبنا قال الجاحظ فإن احتج محتج لعلي ع بالمبيت على الفراش فبين الغار و الفراش فرق واضح لأن الغار و صحبة أبي بكر للنبي ص قد نطق به القرآن فصار كالصلاة و الزكاة و غيرهما مما نطق به الكتاب و أمر علي ع و نومه على الفراش و إن كان ثابتا صحيحا إلا أنه لم يذكر في القرآن و إنما جاء مجي ء الروايات و السير و هذا لا يوازن هذا و لا يكايله. قال شيخنا أبو جعفر رحمه الله هذا فرق غير مؤثر لأنه قد ثبت بالتواتر حديث شرح نهج البلاغة ج : ص : 262الفراش فلا فرق بينه و بين ما ذكر في نص الكتاب و لا يجحده إلا مجنون أو غير مخالط لأهل الملة أ رأيت كون الصلوات خمسا و كون زكاة الذهب ربع العشر و كون خروج الريح ناقضا للطهارة و أمثال ذلك مما هو معلوم بالتواتر حكمه هل هو مخالف لما نص في الكتاب عليه من الأحكام هذا مما لا يقوله رشيد و لا عاقل على أن الله تعالى لم يذكر اسم أبي بكر في الكتاب و إنما قال إِذْ يَقُولُ لِصاحِبِهِ و إنما علمنا أنه أبو بكر بالخبر و ما ورد في السيرة و قد قال أهل التفسير إن قوله تعالى وَ يَمْكُرُ اللَّهُ وَ اللَّهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ كناية عن علي ع لأنه مكر بهم و أول الآية وَ إِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَ يَمْكُرُونَ وَ يَمْكُرُ اللَّهُ وَ اللَّهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ أنزلت في ليلة الهجرة و مكرهم كان توزيع السيوف على بطون قريش و مكر الله تعالى هو منام علي ع على الفراش فلا فرق بين الموضعين في أنهما مذكوران كناية لا تصريحا و قد روى المفسرون كلهم أن قول الله تعالى وَ مِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللَّهِ أنزلت في علي ع ليلة المبيت على الفراش فهذه مثل قوله تعالى إِذْ يَقُولُ لِصاحِبِهِ لا فرق بينهما. قال الجاحظ و فرق (14/292)
آخر و هو أنه لو كان مبيت علي ع على الفراش جاء مجي ء كون أبي بكر في الغار لم يكن له في ذلك كبير طاعة لأن الناقلين نقلوا أنه ص قال له نم فلن يخلص إليك شي ء تكرهه و لم ينقل ناقل أنه شرح نهج البلاغة ج : 13 ص : 263قال لأبي بكر في صحبته إياه و كونه معه في الغار مثل ذلك و لا قال له أنفق و أعتق فإنك لن تفتقر و لن يصل إليك مكروه. قال شيخنا أبو جعفر رحمه الله هذا هو الكذب الصراح و التحريف و الإدخال في الرواية ما ليس منها المعروف المنقول (14/293)
أنه ص قال له اذهب فاضطجع في مضجعي و تغش ببردي الحضرمي فإن القوم سيفقدونني و لا يشهدون مضجعي فلعلهم إذا رأوك يسكنهم ذلك حتى يصبحوا فإذا أصبحت فاغد في أداء أمانتي
و لم ينقل ما ذكره الجاحظ و إنما ولده أبو بكر الأصم و أخذه الجاحظ و لا أصل له و لو كان هذا صحيحا لم يصل إليه منهم مكروه و قد وقع الاتفاق على أنه ضرب و رمي بالحجارة قبل أن يعلموا من هو حتى تضور و أنهم قالوا له رأينا تضورك فإنا كنا نرمي محمدا و لا يتضور و لأن لفظة المكروه إن كان قالها إنما يراد بها القتل فهب أنه أمن القتل كيف يأمن من الضرب و الهوان و من أن ينقطع بعض أعضائه و بأن سلمت نفسه أ ليس الله تعالى قال لنبيه بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَ إِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ وَ اللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ و مع ذلك فقد كسرت رباعيته و شج وجهه و أدميت ساقه و ذلك لأنها عصمة من القتل خاصة و كذلك المكروه الذي أومن علي ع منه و إن كان صح ذلك في الحديث إنما هو مكروه القتل. ثم يقال له و أبو بكر لا فضيلة له أيضا في كونه في الغار لأن النبي ص قال له لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنا و من يكن الله معه فهو آمن لا محالة من كل سوء فكيف قلت و لم ينقل ناقل أنه قال لأبي بكر في الغار مثل ذلك فكل ما يجيب به عن هذا فهو جوابنا عما أورده فنقول له هذا ينقلب عليك في النبي ص شرح نهج البلاغة ج : 13 ص : 264ن الله تعالى وعده بظهور دينه و عاقبة أمره فيجب على قولك ألا يكون مثابا عند الله تعالى على ما يحتمله من المكروه و لا ما يصيبه من الأذى إذ كان قد أيقن بالسلامة و الفتح في عدته. قال الجاحظ و من جحد كون أبي بكر صاحب رسول الله ص فقد كفر لأنه جحد نص الكتاب ثم انظر إلى قوله تعالى إِنَّ اللَّهَ مَعَنا من الفضيلة لأبي بكر لأنه شريك رسول الله ص في كون الله تعالى معه و إنزال السكينة قال كثير من الناس إنه في الآية مخصوص بأبي بكر لأنه كان محتاجا إلى السكينة لما تداخله من رقة الطبع البشري و النبي ص كان غير محتاج إليها لأنه يعلم أنه محروس من الله تعالى فلا معنى لنزول السكينة عليه و هذه (14/294)
فضيلة ثالثة لأبي بكر. قال شيخنا أبو جعفر رحمه الله إن أبا عثمان يجر على نفسه ما لا طاقة له به من مطاعن الشيعة و لقد كان في غنية عن التعلق بما تعلق به لأن الشيعة تزعم أن هذه الآية بأن تكون طعنا و عيبا على أبي بكر أولى من أن تكون فضيلة و منقبة له لأنه لما قال له لا تَحْزَنْ دل على أنه قد كان حزن و قنط و أشفق على نفسه و ليس هذا من صفات المؤمنين الصابرين و لا يجوز أن يكون حزنه طاعة لأن الله تعالى لا ينهى عن الطاعة فلو لم يكن ذنبا لم ينه عنه و قوله إِنَّ اللَّهَ مَعَنا أي إن الله عالم بحالنا و ما نضمره من اليقين أو الشك كما يقول الرجل لصاحبه لا تضمرن سوءا و لا تنوين قبيحا فإن الله تعالى يعلم ما نسره و ما نعلنه و هذا مثل قوله تعالى وَ لا أَدْنى مِنْ ذلِكَ وَ لا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ ما كانُوا أي هو عالم بهم و أما السكينة شرح نهج البلاغة ج : 13 ص : 265فكيف يقول إنها ليست راجعة إلى النبي ص و بعدها قوله وَ أَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْها أ ترى المؤيد بالجنود كان أبا بكر أم رسول الله ص. و قوله إنه مستغن عنها ليس بصحيح و لا يستغني أحد عن ألطاف الله و توفيقه و تأييده و تثبيقلبه و قد قال الله تعالى في قصة حنين وَ ضاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلى رَسُولِهِ ص. و أما الصحبة فلا تدل إلا على المرافقة و الاصطحاب لا غير و قد يكون حيث لا إيمان كما قال تعالى قالَ لَهُ صاحِبُهُ وَ هُوَ يُحاوِرُهُ أَ كَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ و نحن و إن كنا نعتقد إخلاص أبي بكر و إيمانه الصحيح السليم و فضيلته التامة إلا أنا لا نحتج له بمثل ما احتج به الجاحظ من الحجج الواهية و لا نتعلق بما يجر علينا دواهي الشيعة و مطاعنها. قال الجاحظ و إن كان المبيت على الفراش فضيلة فأين هي من فضائل أبي بكر أيام مكة من عتق المعذبين و (14/295)
إنفاق المال و كثرة المستجيبين مع فرق ما بين الطاعتين لأن طاعة الشاب الغرير و الحدث الصغير الذي في عز صاحبه عزه ليست كطاعة الحليم الكبير الذي لا يرجع تسويد صاحبه إلى رهطه و عشيرته. قال شيخنا أبو جعفر رحمه الله أما كثرة المستجيبين فالفضل فيها راجع إلى المجيب شرح نهج البلاغة ج : 13 ص : 266لا إلى المجاب على أنا قد علمنا أن من استجاب لموسى ع أكثر ممن استجاب لنوح ع و ثواب نوح أكثر لصبره على الأعداء و مقاساة خلافهم و عنت و أما إنفاق المال فأين محنة الغني من محنة الفقير و أين يعتدل إسلام من أسلم و هو غني إن جاع أكل و إن أعيا ركب و إن عري لبس قد وثق بيساره و استغنى بماله و استعان على نوائب الدنيا بثروته ممن لا يجد قوت يومه و إن وجد لم يستأثر به فكان الفقر شعاره و في ذلك قيل الفقر شعار المؤمن و (14/296)
قال الله تعالى لموسى يا موسى إذا رأيت الفقر مقبلا فقل مرحبا بشعار الصالحين
و في الحديث أن الفقراء يدخلون الجنة قبل الأغنياء بخمسمائة عام
و كان النبي ص يقول اللهم احشرني في زمرة الفقراء
و لذلك أرسل الله محمدا ص فقيرا و كان بالفقر سعيدا فقاسى محنة الفقر و مكابدة الجوع حتى شد الحجر على بطنه و حسبك بالفقر فضيلة في دين الله لمن صبر عليه فإنك لا تجد صاحب الدنيا يتمناه لأنه مناف لحال الدنيا و أهلها و إنما هو شعار أهل الآخرة. و أما طاعة علي ع و كون الجاحظ زعم أنها كانت لأن في عز محمد عزه و عز رهطه بخلاف طاعة أبي بكر فهذا يفتح عليه أن يكون جهاد حمزة كذلك و جهاد عبيدة بن الحارث و هجرة جعفر إلى الحبشة بل لعل محاماة المهاجرين من قريش على رسول الله ص كانت لأن في دولته دولتهم و في نصرته استجداد ملك لهم و هذا يجر إلى الإلحاد و يفتح باب الزندقة و يفضي إلى الطعن في الإسلام و النبوة. قال الجاحظ و على أنا لو نزلنا إلى ما يريدونه جعلنا الفراش كالغار و خلصت فضائل أبي بكر في غير ذلك عن معارض. قال شيخنا أبو جعفر رحمه الله قد بينا فضيلة المبيت على الفراش على فضيلة الصحبة شرح نهج البلاغة ج : 13 ص : 267في الغار بما هو واضح لمن أنصف و نزيد هاهنا تأكيدا بما لم نذكره فيما تقدم فنقول إن فضيلة المبيت على الفراش على الصحبة في الغار لوجهين أحدهما أن عليا ع قد كان أنس بالنبي ص و حصل له بمصاحبته قديما أنس عظيم و إلف شديد فا فارقه عدم ذلك الأنس و حصل به أبو بكر فكان ما يجده علي ع من الوحشة و ألم الفرقة موجبا زيادة ثوابه لأن الثواب على قدر المشقة. و ثانيهما أن أبا بكر كان يؤثر الخروج من مكة و قد كان خرج من قبل فردا فازداد كراهية للمقام فلما خرج مع رسول الله ص وافق ذلك هوى قلبه و محبوب نفسه فلم يكن له من الفضيلة ما يوازي فضيلة من احتمل المشقة العظيمة و عرض نفسه لوقع السيوف و رأسه لرضخ الحجارة لأنه على قدر سهولة العبادة يكون نقصان الثواب قال الجاحظ ثم الذي لقي أبو بكر في مسجده الذي بناه على بابه في بني جمح فقد كان بنى مسجدا يصلي فيه و يدعو الناس إلى الإسلام و كان له صوت رقيق و وجه عتيق و كان (14/297)
إذا قرأ بكى فيقف عليه المارة من الرجال و النساء و الصبيان و العبيد فلما أوذي في الله و منع من ذلك المسجد استأذن رسول الله ص في الهجرة فأذن له فأقبل يريد المدينة فتلقاه الكناني فعقد له جوارا و قال و الله لا أدع مثلك يخرج من مكة فرجع إليها و عاد لصنيعه في المسجد فمشت قريش إلى جاره الكناني و أجلبوا عليه فقال له دع المسجد و ادخل بيتك و اصنع فيه ما بدا لك. (14/298)
شرح نهج البلاغة ج : 13 ص : 268قال شيخنا أبو جعفر رحمه الله كيف كانت بنو جمح تؤذي عثمان بن مظعون و تضربه و هو فيهم ذو سطوة و قدر و تترك أبا بكر يبني مسجدا يفعل فيه ما ذكرتم و أنتم الذين رويتم عن ابن مسعود أنه قال ما صلينا ظاهرين حتى أسلم عمر بن الخطاب و ذي تذكرونه من بناء المسجد كان قبل إسلام عمر فكيف هذا. و أما ما ذكرتم من رقة صوته و عتاق وجهه فكيف يكون ذلك و قد روى الواقدي و غيره أن عائشة رأت رجلا من العرب خفيف العارضين معروق الخدين غائر العينين أجنأ لا يمسك إزاره فقالت ما رأيت أشبه بأبي بكر من هذا فلا نراها دلت على شي ء من الجمال في صفته. قال الجاحظ و حيث رد أبو بكر جوار الكناني و قال لا أريد جارا سوى الله لقي من الأذى و الذل و الاستخفاف و الضرب ما بلغكم و هذا موجود في جميع السير و كان آخر ما لقي هو و أهله في أمر الغار و قد طلبته قريش و جعلت فيه مائة بير كما جعلت في النبي ص فلقي أبو جهل أسماء بنت بكر فسألها فكتمته فلطمها حتى رمت قرطا كان في أذنها. قال شيخنا أبو جعفر رحمه الله هذا الكلام و هجر السكران سواء في تقارب المخرج و اضطراب المعنى و ذلك أن قريشا لم تقدر على أذى النبي ص و أبو طالب حي يمنعه فلما مات طلبته لتقتله فخرج تارة إلى بني عامر و تارة إلى ثقيف و تارة إلى بني شيبان و لم يكن يتجاسر على المقام بمكة إلا مستترا حتى أجاره مطعم بن عدي ثم خرج إلى المدينة فبذلت فيه مائة بعير لشدة حنقها عليه حين فاتها فلم تقدر عليه فما
بالها بذلت في أبي بكر مائة بعير أخرى و قد كان رد الجوار و بقي بينهم فردا لا ناصر له شرح نهج البلاغة ج : 13 ص : 269و لا دافع عنده يصنعون به ما يريدون إما أن يكونوا أجهل البرية كلها أو يكون العثمانية أكذب جيل في الأرض و أوقحه وجها فهذا مما لم يذكر في سيرة و لا روي في أثر و لا سمع به بشر و سبق الجاحظ به أحد. قال الجاحظ ثم الذي كان من دعائه إلى الإسلام و حسن احتجاجه حتى أسلم على يديه طلحة و الزبير و سعد و عثمان و عبد الرحمن لأنه ساعة أسلم دعا إلى الله و إلى رسوله. قال شيخنا أبو جعفر رحمه الله ما أعجب هذا القول إذ تدعي العثمانية لأبي بكر الرفق في الدعاء و حسن الاحتجاج و قد أسلم و معه في منزله ابنه عبد الرحمن فما قدر أن يدخله في الإسلام طوعا برفقه و لطف احتجاجه و لا كرها بقطع النفقة عنه و إدخال المكروه عليه و لا كان لأبي بكر عند ابنه عبد الرحمن من القدر ما يطيعه فيما يأمره به و يدعوه إليه كما روي أن أبا طالب فقد النبي ص يوما و كان يخاف عليه من قريش أن يغتالوه فخرج و معه ابنه جعفر يطلبان النبي ص فوجده قائما في بعض شعاب مكة يصلي و علي ع معه عن يمينه فلما رآهما أبو طالب قال لجعفر تقدم و صل جناح ابن عمك فقام جعفر عن يسار محمد ص فلما صاروا ثلاثة تقدم رسول الله ص و تأخر الأخوان فبكى أبو طالب و قال (14/299)
إن عليا و جعفرا ثقتي عند ملم الخطوب و النوب لا تخذلا و انصرا ابن عمكما أخي لأمي من بينهم و أبي و الله لا أخذل النبي و لا يخذله من بني ذو حس شرح نهج البلاغة ج : 13 ص : 270فتذكر الرواة أن جعفرا أسلم منذ ذلك اليوم لأن أباه أمره بذلك و أطاع أمره و أبو بكر لم يقدر على إدخال ابنه عبد الرحمن في الإسلام حتى أقام بمكة على كفره ثلاث عشرة سنة و خرج يوم أحد في عسكر المشركين ينادي أنا عبد الرحمن بن عتيقل من مبارز ثم مكث بعد ذلك على كفره حتى أسلم عام الفتح و هو اليوم الذي دخلت فيه قريش في الإسلام طوعا و كرها و لم يجد أحد منها إلى ترك ذلك سبيلا و أين كان رفق أبي بكر و حسن احتجاجه عند أبيه أبي قحافة و هما في دار واحدة هلا رفق به و دعاه إلى الإسلام فأسلم و قد علمتم أنه بقي على الكفر إلى يوم الفتح فأحضره ابنه عند النبي ص و هو شيخ كبير رأسه كالثغامة فنفر رسول الله ص منه و قال غيروا هذا فخضبوه ثم جاءوا به مرة أخرى فأسلم و كان أبو قحافة فقيرا مدقعا سيئ الحال و أبو بكر عندهم كان مثريا فائض المال فلم يمكنه استمالته إلى الإسلام بالنفقة و الإحسان و قد كانت امرأة أبي بكر أم عبد الله ابنه و اسمها نملة بنت عبد العزى بن أسعد بن عبد بن ود العامرية لم تسلم و أقامت على شركها بمكة و هاجر أبو بكر و هي كافرة فلما نزل قوله تعالى وَ لا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوافِرِ فطلقها أبو بكر فمن عجز عن ابنه و أبيه و امرأته فهو عن غيرهم من الغرماء أعجز و من لم يقبل منه أبوه و ابنه و امرأته لا برفق و احتجاج و لا خوفا من قطع النفقة عنهم و إدخال المكروه عليهم فغيرهم أقل قبولا منه و أكثر خلافا عليه. قال الجاحظ و قالت أسماء بنت أبي بكر ما عرفت أبي إلا و هو يدين بالدين و لقد رجع إلينا يوم أسلم فدعانا إلى الإسلام فما رمنا حتى أسلمنا و أسلم أكثر جلسائه و لذلك قالوا من أسلم بدعاء أبي بكر أكثر ممن أسلم بالسيف و لم يذهبوا في ذلك (14/300)
إلى العدد بل عنوا الكثرة في القدر لأنه أسلم على يديه خمسة من أهل الشورى شرح نهج البلاغة ج : 13 ص : 271كلهم يصلح للخلافة و هم أكفاء علي ع و منازعوه الرئاسة و الإمامة فهؤلاء أكثر من جميع الناس. قال شيخنا أبو جعفر رحمه الله أخبرونا من هذا الذي أسلم ذلك اليوم من أهل بيت أبي بكر إذا كانت امرأته لم تسلم و ابنه عبد الرحمن لم يسلم و أبقحافة لم يسلم و أخته أم فروة لم تسلم و عائشة لم تكن قد ولدت في ذلك الوقت لأنها ولدت بعد مبعث النبي ص بخمس سنين و محمد بن أبي بكر ولد بعد مبعث رسول الله ص بثلاث و عشرين سنة لأنه ولد في حجة الوداع و أسماء بنت أبي بكر التي قد روى الجاحظ هذا الخبر عنها كانت يوم بعث رسول الله ص بنت أربع سنين و في رواية من يقول بنت سنتين فمن الذي أسلم من أهل بيته يوم أسلم نعوذ بالله من الجهل و الكذب و المكابرة و كيف أسلم سعد و الزبير و عبد الرحمن بدعاء أبي بكر و ليسوا من رهطه و لا من أترابه و لا من جلسائه و لا كانت بينهم قبل ذلك صداقة متقدمة و لا أنس وكيد و كيف ترك أبو بكر عتبة بن ربيعة و شيبة بن ربيعة لم يدخلهما في الإسلام برفقه و حسن دعائه و قد زعمتم أنهما كانا يجلسان إليه لعلمه و طريف حديثه و ما باله لم يدخل جبير بن مطعم في الإسلام و قد ذكرتم أنه أدبه و خرجه و منه أخذ جبير العلم بأنساب قريش و مآثرها فكيف عجز عن هؤلاء الذين عددناهم و هم منه بالحال التي وصفنا و دعا من لم يكن بينه و بينه أنس و لا معرفة إلا معرفة عيان و كيف لم يقبل منه عمر بن الخطاب و قد كان شكله و أقرب الناس شبها به في أغلب أخلاقه و لئن رجعتم إلى الإنصاف لتعلمن أن هؤلاء لم يكن إسلامهم إلا بدعاء الرسول ص لهم و على يديه أسلموا و لو فكرتم في حسن التأتي في الدعاء ليصحن لأبي طالب في ذلك (14/301)
شرح نهج البلاغة ج : 13 ص : 272على شركه أضعاف ما ذكرتموه لأبي بكر لأنكم رويتم أن أبا طالب قال لعلي ع يا بني الزمه فإنه لن يدعوك إلا إلى خير و قال لجعفر صل جناح ابن عمك فأسلم بقوله و لأجله أصفق بنو عبد مناف على نصرة رسول الله ص بمكة من بني مخزوم و بني سهم بني جمح و لأجله صبر بنو هاشم على الحصار في الشعب و بدعائه و إقباله على محمد ص أسلمت امرأته فاطمة بنت أسد فهو أحسن رفقا و أيمن نقيبة من أبي بكر و غيره و إنما منعه عن الإسلام أن ثبت أنه لم يسلم إلا تقية و أبو بكر لم يكن له إلا ابن واحد و هو عبد الرحمن فلم يمكنه أن يدخله في الإسلام و لا أمكنه إذ لم يقبل منه الإسلام أن يجعله كبعض مشركي قريش في قلة الأذى لرسول الله ص و فيه أنزل وَ الَّذِي قالَ لِوالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُما أَ تَعِدانِنِي أَنْ أُخْرَجَ وَ قَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ مِنْ قَبْلِي وَ هُما يَسْتَغِيثانِ اللَّهَ وَيْلَكَ آمِنْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَيَقُولُ ما هذا إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ و إنما يعرف حسن رفق الرجل و تأتيه بأن يصلح أولا أمر بيته و أهله ثم يدعو الأقرب فالأقرب فإن رسول الله ص لما بعث كان أول من دعا زوجته خديجة ثم مكفوله و ابن عمه عليا ع ثم مولاه زيدا ثم أم أيمن خادمته فهل رأيتم أحدا ممن كان يأوي إلى رسول الله ص لم يسارع و هل التاث عليه أحد من هؤلاء فهكذا يكون حسن التأتي و الرفق في الدعاء هذا و رسول الله مقل و هو من جملة عيال خديجة حين بعثه الله تعالى و أبو بكر عندكم كان موسرا و كان أبوه مقترا و كذلك ابنه و امرأته أم عبد الله و الموسر في فطرة العقول أولى أن يتبع من المقتر و إنما حسن التأتي و الرفق في الدعاء ما صنعه مصعب بن عمير لسعد بن معاذ لما دعاه و ما صنع سعد بن معاذ ببني عبد الأشهل لما دعاهم و ما صنع بريدة بن الحصيب بأسلم لما دعاهم قالوا أسلم بدعائه ثمانون بيتا من قومه (14/302)
شرح نهج البلاغة ج : 13 ص : 273و أسلم بنو عبد الأشهل بدعاء سعد في يوم واحد و أما من لم يسلم ابنه و لا امرأته و لا أبوه و لا أخته بدعائه فهيهات أن يوصف و يذكر بالرفق في الدعاء و حسن التأتي و الأناة قال الجاحظ ثم أعتق أبو بكر بعد ذلك جماعة من المعذبين في اه و هم ست رقاب منهم بلال و عامر بن فهيرة و زنيرة النهدية و ابنتها و مر بجارية يعذبها عمر بن الخطاب فابتاعها منه و أعتقها و أعتق أبا عيسى فأنزل الله فيه فَأَمَّا مَنْ أَعْطى وَ اتَّقى وَ صَدَّقَ بِالْحُسْنى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرى إلى آخر السورة. قال شيخنا أبو جعفر رحمه الله أما بلال و عامر بن فهيرة فإنما أعتقهما رسول الله ص روى ذلك الواقدي و ابن إسحاق و غيرهما و أما باقي مواليهم الأربعة فإن سامحناكم في دعواكم لم يبلغ ثمنهم في تلك الحال لشدة بغض مواليهم لهم إلا مائة درهم أو نحوها فأي فخر في هذا و أما الآية فإن ابن عباس قال في تفسيرها فَأَمَّا مَنْ أَعْطى وَ اتَّقى وَ صَدَّقَ بِالْحُسْنى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرى أي لأن يعود. و قال غيره نزلت في مصعب بن عمير قال الجاحظ و قد علمتم ما صنع أبو بكر في ماله و كان ماله أربعين ألف درهم فأنفقه في نوائب الإسلام و حقوقه و لم يكن خفيف الظهر قليل العيال و النسل فيكون فاقد جميع اليسارين بل كان ذا بنين و بنات و زوجة و خدم و حشم و يعول والديه و ما ولدا و لم يكن النبي ص قبل ذلك عنده مشهورا فيخاف العار في ترك مواساته فكان إنفاقه على الوجه الذي لا نجد في غاية الفضل مثله و لقد (14/303)
قال النبي ص ما نفعني مال كما نفعني مال أبي بكر
شرح نهج البلاغة ج : 13 ص : 274قال شيخنا أبو جعفر رحمه الله أخبرونا على أي نوائب الإسلام أنفق هذا المال و في أي وجه وضعه فإنه ليس بجائز أن يخفى ذلك و يدرس حتى يفوت حفظه و ينسى ذكره و أنتم فلم تقفوا على شي ء أكثر من عتقه بزعمكم ست رقاب لعلها لا يبلغ ثمنهي ذلك العصر مائة درهم و كيف يدعي له الإنفاق الجليل و قد باع من رسول الله ص بعيرين عند خروجه إلى يثرب و أخذ منه الثمن في مثل تلك الحال و روى ذلك جميع المحدثين و قد رويتم أيضا أنه كان حيث كان بالمدينة غنيا موسرا و رويتم عن عائشة أنها قالت هاجر أبو بكر و عنده عشرة آلاف درهم و قلتم إن الله تعالى أنزل فيه وَ لا يَأْتَلِ أُولُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَ السَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبى قلتم هي في أبي بكر و مسطح بن أثاثة فأين الفقر الذي زعمتم أنه أنفق حتى تخلل بالعباءة و رويتم أن لله تعالى في سمائه ملائكة قد تخللوا بالعباءة و أن النبي ص رآهم ليلة الإسراء فسأل جبرائيل عنهم فقال هؤلاء ملائكة تأسوا بأبي بكر بن أبي قحافة صديقك في الأرض فإنه سينفق عليك ماله حتى يخلل عباءه في عنقه و أنتم أيضا رويتم أن الله تعالى لما أنزل آية النجوى فقال يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ناجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقَةً ذلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ الآية لم يعمل بها إلا علي بن أبي طالب وحده مع إقراركم بفقره و قلة ذات يده و أبو بكر في الحال التي ذكرنا من السعة أمسك عن مناجاته فعاتب الله المؤمنين في ذلك فقال أَ أَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقاتٍ فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَ تابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فجعله سبحانه ذنبا يتوب عليهم منه و هو إمساكهم عن تقديم الصدقة فكيف سخت نفسه بإنفاق أربعين ألفا و أمسك عن مناجاة الرسول و إنما كان يحتاج فيها إلى إخراج درهمين. و أما ما ذكر من كثرة عياله و نفقته عليهم فليس (14/304)
في ذلك دليل على تفضيله لأن شرح نهج البلاغة ج : 13 ص : 275نفقته على عياله واجبة مع أن أرباب السيرة ذكروا أنه لم يكن ينفق على أبيه شيئا و أنه كان أجيرا لابن جدعان على مائدته يطرد عنها الذبان.ال الجاحظ و قد تعلمون ما كان يلقى أصحاب النبي ص ببطن مكة من المشركين و حسن صنيع كثير منهم كصنيع حمزة حين ضرب أبا جهل بقوسه ففلق هامته و أبو جهل يومئذ سيد البطحاء و رئيس الكفر و أمنع أهل مكة و قد عرفتم أن الزبير سل سيفه و استقبل به المشركين لما أرجف أن محمدا ص قد قتل و أن عمر بن الخطاب قال حين أسلم لا يعبد الله سرا بعد اليوم و أن سعدا ضرب بعض المشركين بلحي جمل فأراق دمه فكل هذه الفضائل لم يكن لعلي بن أبي طالب فيها ناقة و لا جمل و قد قال الله تعالى لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَ قاتَلَ أُولئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَ قاتَلُوا فإذا كان الله تعالى قد فضل من أنفق قبل الفتح لأنه لا هجرة بعد الفتح على من أنفق بعد الفتح فما ظنكم بمن أنفق من قبل الهجرة و من لدن مبعث النبي ص إلى الهجرة و إلى بعد الهجرة. قال شيخنا أبو جعفر رحمه الله إننا لا ننكر فضل الصحابة و سوابقهم و لسنا كالإمامية الذين يحملهم الهوى على جحد الأمور المعلومة و لكننا ننكر تفضيل أحد من الصحابة على علي بن أبي طالب و لسنا ننكر غير ذلك و ننكر تعصب الجاحظ للعثمانية و قصده إلى فضائل هذا الرجل و مناقبه بالرد و الإبطال و أما حمزة فهو عندنا ذو فضل عظيم و مقام جليل و هو سيد الشهداء الذين استشهدوا على عهد رسول الله (14/305)
شرح نهج البلاغة ج : 13 ص : 276ص و أما فضل عمر فغير منكر و كذلك الزبير و سعد و ليس فيما ذكر ما يقتضي كون علي ع مفضولا لهم أو لغيرهم إلا قوله و كل هذه الفضائل لم يكن لعلي ع فيها ناقة و لا جمل فإن هذا من التعصب البارد و الحيف الفاحش و قد قدمنا من آثار علي قبل الهجرة و ما له إذ ذاك من المناقب و الخصائص ما هو أفضل و أعظم و أشرف من جميع ما ذكر لهؤلاء على أن أرباب السيرة يقولون إن الشجة التي شجها سعد و إن السيف الذي سله الزبير هو الذي جلب الحصار في الشعب على النبي ص و بني هاشم و هو الذي سير جعفرا و أصحابه إلى الحبشة و سل السيف في الوقت الذي لم يؤمر المسلمون فيه بسل السيف غير جائز قال تعالى أَ لَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَ أَقِيمُوا الصَّلاةَ وَ آتُوا الزَّكاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتالُ إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ فتبين أن التكليف له أوقات فمنها وقت لا يصلح فيه سل السيف و منها وقت يصلح فيه و يجب فأما قوله تعالى لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ فقد ذكرنا ما عندنا من دعواهم لأبي بكر إنفاق المال و أيضا فإن الله تعالى لم يذكر إنفاق المال مفردا و إنما قرن به القتال و لم يكن أبو بكر صاحب قتال و حرب فلا تشمله الآية و كان علي ع صاحب قتال و إنفاق قبل الفتح أما قتاله فمعلوم بالضرورة و أما إنفاقه فقد كان على حسب حاله و فقره و هو الذي أطعم الطعام على حبه مسكينا و يتيما و أسيرا و أنزلت فيه و في زوجته و ابنيه سورة كاملة من القرآن و هو الذي ملك أربعة دراهم فأخرج منها درهما سرا و درهما علانية ليلا ثم أخرج منها في النهار درهما سرا و درهما علانية فأنزل فيه قوله تعالى الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَ النَّهارِ سِرًّا وَ عَلانِيَةً و هو الذي قدم بين يدي نجواه صدقة شرح نهج البلاغة ج : 13 ص : 277دون (14/306)
المسلمين كافة و هو الذي تصدق بخاتمه و هو راكع فأنزل الله فيه إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَ رَسُولُهُ وَ الَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَ يُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَ هُمْ راكِعُونَ.ال الجاحظ و الحجة العظمى للقائلين بتفضيل علي ع قتله الأقران و خوضه الحرب و ليس له في ذلك كبير فضيلة لأن كثرة القتل و المشي بالسيف إلى الأقران لو كان من أشد المحن و أعظم الفضائل و كان دليلا على الرئاسة و التقدم لوجب أن يكون للزبير و أبي دجانة و محمد بن مسلمة و ابن عفراء و البراء بن مالك من الفضل ما ليس لرسول الله ص لأنه لم يقتل بيده إلا رجلا واحدا و لم يحضر الحرب يوم بدر و لا خالط الصفوف و إنما كان معتزلا عنهم في العريش و معه أبو بكر و أنت ترى الرجل الشجاع قد يقتل الأقران و يجندل الأبطال و فوقه من العسكر من لا يقتل و لا يبارز و هو الرئيس أو ذوي الرأي و المستشير في الحرب لأن للرؤساء من الاكتراث و الاهتمام و شغل البال و العناية و التفقد ما ليس لغيرهم و لأن الرئيس هو المخصوص بالمطالبة و عليه مدار الأمور و به يستبصر المقاتل و يستنصر و باسمه ينهزم العدو و لو لم يكن له إلا أن الجيش لو ثبت و فر هو لم يغن ثبوت الجيش كله و كانت الدبرة عليه و لو ضيع القوم جميعا و حفظ هو لانتصر و كانت الدولة له و لهذا لا يضاف النصر و الهزيمة إلا إليه ففضل أبي بكر بمقامه في العريش مع رسول الله يوم بدر أعظم من جهاد علي ع ذلك اليوم و قتله أبطال قريش. قال شيخنا أبو جعفر رحمه الله لقد أعطي أبو عثمان مقولا و حرم معقولا إن كان (14/307)
شرح نهج البلاغة ج : 13 ص : 278يقول هذا على اعتقاد و جد و لم يذهب به مذهب اللعب و الهزل أو على طريق التفاصح و التشادق و إظهار القوة و السلاطة و ذلاقة اللسان و حدة الخاطر و القوة على جدال الخصوم أ لم يعلم أبو عثمان أن رسول الله ص كان أشجع البشر و أنه خاض حروب و ثبت في المواقف التي طاشت فيها الألباب و بلغت القلوب الحناجر فمنها يوم أحد و وقوفه بعد أن فر المسلمون بأجمعهم و لم يبق معه إلا أربعة علي و الزبير و طلحة و أبو دجانة فقاتل و رمى بالنبل حتى فنيت نبله و انكسرت سية قوسه و انقطع وتره فأمر عكاشة بن محصن أن يوترها فقال يا رسول الله لا يبلغ الوتر فقال أوتر ما بلغ قال عكاشة فو الذي بعثه بالحق لقد أوترت حتى بلغ و طويت منه شبرا على سية القوس ثم أخذها فما زال يرميهم حتى نظرت إلى قوسه قد تحطمت و بارز أبي بن خلف فقال له أصحابه إن شئت عطف عليه بعضنا فأبى و تناول الحربة من الحارث بن الصمة ثم انتقض بأصحابه كما ينتقض البعير قالوا فتطايرنا عنه تطاير الشعارير فطعنه بالحربة فجعل يخور كما يخور الثور و لو لم يدل على ثباته حين انهزم أصحابه و تركوه إلا قوله تعالى إِذْ تُصْعِدُونَ وَ لا تَلْوُونَ عَلى أَحَدٍ وَ الرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْراكُمْ فكونه ع في أخراهم و هم يصعدون و لا يلوون هاربين دليل على أنه ثبت و لم يفر و ثبت يوم حنين في تسعة من أهله و رهطه الأدنين و قد فر المسلمون كلهم و النفر التسعة محدقون به العباس آخذ بحكمة بغلته و علي بين يديه مصلت سيفه و الباقون حول بغلة رسول الله ص يمنة و يسرة و قد انهزم المهاجرون و الأنصار و كلما فروا أقدم هو ص يمنة و يسرة و قد انهزم المهاجرون و الأنصار و كلما فرو أقدم هو ص و صمم مستقدما يلقى السيوف و النبال بنحره و صدره ثم أخذ كفا من (14/308)
شرح نهج البلاغة ج : 13 ص : 279البطحاء و حصب المشركين و قال شاهت الوجوه و الخبر المشهور عن علي ع و هو أشجع البشر كنا إذا اشتد البأس و حمي الوطيس اتقينا برسول الله ص و لذنا به (14/309)
فكيف يقول الجاحظ إنه ما خاض الحرب و لا خالط الصفوف و أي فرية أعظم من فرية من نسب رسول الله ص إلى الإحجام و اعتزال الحرب ثم أي مناسبة بين أبي بكر و رسول الله ص في هذا المعنى ليقيسه و ينسبه إلى رسول الله ص صاحب الجيش و الدعوة و رئيس الإسلام و الملة و الملحوظ بين أصحابه و أعدائه بالسيادة و إليه الإيماء و الإشارة و هو الذي أحنق قريشا و العرب و ورى أكبادهم بالبراءة من آلهتهم و عيب دينهم و تضليل أسلافهم ثم وترهم فيما بعد بقتل رؤسائهم و أكابرهم و حق لمثله إذا تنحى عن الحرب و اعتزلها أن يتنحى و يعتزل لأن ذلك شأن الملوك و الرؤساء إذا كان الجيش منوطا بهم و ببقائهم فمتى هلك الملك هلك الجيش و متى سلم الملك أمكن أن يبقى عليه ملكه و إن عطب جيشه فإنه يستجد جيشا آخر و لذلك نهى الحكماء أن يباشر الملك الحرب بنفسه و خطئوا الإسكندر لما بارز قوسرا ملك الهند و نسبوه إلى مجانبة الحكمة و مفارقة الصواب و الحزم فليقل لنا الجاحظ أي مدخل لأبي بكر في هذا المعنى و من الذي كان يعرفه من أعداء الإسلام ليقصده بالقتل و هل هو إلا واحد من عرض المهاجرين حكمه حكم عبد الرحمن بن عوف و عثمان بن عفان و غيرهما بل كان عثمان أكثر منه صيتا و أشرف منه مركبا و العيون إليه أطمح و العدو إليه أحنق و أكلب و لو قتل أبو بكر في بعض تلك المعارك هل كان يؤثر قتله في الإسلام ضعفا أو يحدث فيه وهنا أو يخاف على الملة لو قتل أبو بكر في بعض تلك الحروب أن تندرس و تعفى آثارها و ينطمس منارها ليقول الجاحظ إن أبا بكر كان حكمه حكم رسول الله ص في مجانبة الحروب و اعتزالها نعوذ بالله من الخذلان و قد علم العقلاء كلهم ممن له شرح نهج البلاغة ج : 13 ص : 280بالسير معرفة و
بالآثار و الأخبار ممارسة حال حروب رسول الله ص كيف كانت و حاله ع فيها كيف كان و وقوفه حيث وقف و حربه حيث حارب و جلوسهي العريش يوم جلس و إن وقوفه ص وقوف رئاسة و تدبير و وقوف ظهر و سند يتعرف أمور أصحابه و يحرس صغيرهم و كبيرهم بوقوفه من ورائهم و تخلفه عن التقدم في أوائلهم لأنهم متى علموا أنه في أخراهم اطمأنت قلوبهم و لم تتعلق بأمره نفوسهم فيشتغلوا بالاهتمام به عن عدوهم و لا يكون لهم فئة يلجئون إليها و ظهر يرجعون إليه و يعلمون أنه متى كان خلفهم تفقد أمورهم و علم مواقفهم و آوى كل إنسان مكانه في الحماية و النكاية و عند المنازلة في الكر و الحملة فكان وقوفه حيث وقف أصلح لأمرهم و أحمى و أحرس لبيضتهم و لأنه المطلوب من بينهم إذ هو مدبر أمورهم و والي جماعتهم أ لا ترون أن موقف صاحب اللواء موقف شريف و أن صلاح الحرب في وقوفه و أن فضيلته في ترك التقدم في أكثر حالاته فللرئيس حالات الأولى حالة يتخلف و يقف آخرا ليكون سندا و قوة و ردءا و عدة و ليتولى تدبير الحرب و يعرف مواضع الخلل. و الحالة الثانية يتقدم فيها في وسط الصف ليقوي الضعيف و يشجع الناكص. و حالة ثالثة و هي إذا اصطدم الفيلقان و تكافح السيفان اعتمد ما تقتضيه الحال من الوقوف حيث يستصلح أو من مباشرة الحرب بنفسه فإنها آخر المنازل و فيها تظهر شجاعة الشجاع النجد و فسالة الجبان المموه. فأين مقام الرئاسة العظمى لرسول الله ص و أين منزلة أبي بكر ليسوي بين المنزلتين و يناسب بين الحالتين. و لو كان أبو بكر شريكا لرسول الله ص في الرسالة و ممنوحا من الله (14/310)
شرح نهج البلاغة ج : 13 ص : 281بفضيلة النبوة و كانت قريش و العرب تطلبه كما تطلب محمدا ص و كان يدبر من أمر الإسلام و تسريب العساكر و تجهيز السرايا و قتل الأعداء ما يدبره محمد ص لكان للجاحظ أن يقول ذلك فأما و حاله حاله و هو أضعف المسلمين جنانا و أقلهم عند عرب ترة لم يرم قط بسهم و لا سل سيفا و لا أراق دما و هو أحد الأتباع غير مشهور و لا معروف و لا طالب و لا مطلوب فكيف يجوز أن يجعل مقامه و منزلته مقام رسول الله ص و منزلته و لقد خرج ابنه عبد الرحمن مع المشركين يوم أحد فرآه أبو بكر فقام مغيظا عليه فسل من السيف مقدار إصبع يريد البروز إليه فقال له رسول الله ص يا أبا بكر شم سيفك و أمتعنا بنفسك و لم يقل له و أمتعنا بنفسك إلا لعلمه بأنه ليس أهلا للحرب و ملاقاة الرجال و أنه لو بارز لقتل. و كيف يقول الجاحظ لا فضيلة لمباشرة الحرب و لقاء الأقران و قتل أبطال الشرك و هل قامت عمد الإسلام إلا على ذلك و هل ثبت الدين و استقر إلا بذلك أ تراه لم يسمع قول الله تعالى إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيانٌ مَرْصُوصٌ و المحبة من الله تعالى هي إرادة الثواب فكل من كان أشد ثبوتا في هذا الصف و أعظم قتالا كان أحب إلى الله و معنى الأفضل هو الأكثر ثوابا فعلي ع إذا هو أحب المسلمين إلى الله لأنه أثبتهم قدما في الصف المرصوص لم يفر قط بإجماع الأمة و لا بارزه قرن إلا قتله. أ تراه لم يسمع قول الله تعالى وَ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجاهِدِينَ عَلَى الْقاعِدِينَ أَجْراً عَظِيماً و قوله إِنَّ اللَّهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَ أَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقاتِلُونَ شرح نهج البلاغة ج : 13 ص : 282فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَ يُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرا وَ الْإِنْجِيلِ وَ الْقُرْآنِ ثم قال سبحانه مؤكدا لهذا البيع و (14/311)
الشراء وَ مَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بايَعْتُمْ بِهِ وَ ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ و قال الله تعالى ذلِكَ بِأَنَّهُمْ لا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَ لا نَصَبٌ وَ لا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَ لا يَطَؤُنَ مَوْطِئاً يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَ لا يَنالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صالِحٌ. فمواقف الناس في الجهاد على أحوال و بعضهم في ذلك أفضل من بعض فمن دلف إلى الأقران و استقبل السيوف و الأسنة كان أثقل على أكتاف الأعداء لشدة نكايته فيهم ممن وقف في المعركة و أعان و لم يقدم و كذلك من وقف في المعركة و أعان و لم يقدم إلا أنه بحيث تناله السهام و النبل أعظم غناء و أفضل ممن وقف حيث لا يناله ذلك و لو كان الضعيف و الجبان يستحقان الرئاسة بقلة بسط الكف و ترك الحرب و أن ذلك يشاكل فعل النبي ص لكان أوفر الناس حظا في الرئاسة و أشدهم لها استحقاقا حسان بن ثابت و إن بطل فضل علي ع في الجهاد لأن النبي ص كان أقلهم قتالا كما زعم الجاحظ ليبطلن على هذا القياس فضل أبي بكر في الإنفاق لأن رسول الله ص كان أقلهم مالا. و أنت إذا تأملت أمر العرب و قريش و نظرت السير و قرأت الأخبار عرفت أنها كانت تطلب محمدا ص و تقصد قصده و تروم قتله فإن أعجزها و فاتها طلبت عليا ع و أرادت قتله لأنه كان أشبههم بالرسول حالا و أقربهم منه قربا و أشدهم عنه دفعا و أنهم متى قصدوا عليا فقتلوه أضعفوا أمر محمد ص و كسروا شوكته إذ كان أعلى من ينصره في البأس و القوة و الشجاعة شرح نهج البلاغة ج : 13 ص : 283و النجدة و الإقدام و البسالة أ لا ترى إلى قول عتبة بن ربيعة يوم بدر و قد خرج هو و أخوه شيبة و ابنه الوليد بن عتبة فأخرج إليه الرسول نفرمن الأنصار فاستنسبوهم فانتسبوا لهم فقالوا ارجعوا إلى قومكم ثم نادوا يا محمد أخرج إلينا أكفاءنا من قومنا فقال النبي ص لأهله (14/312)
الأدنين قوموا يا بني هاشم فانصروا حقكم الذي آتاكم الله على باطل هؤلاء قم يا علي قم يا حمزة قم يا عبيدة أ لا ترى ما جعلت هند بنت عتبة لمن قتله يوم أحد لأنه اشترك هو و حمزة في قتل أبيها يوم بدر أ لم تسمع قول هند ترثي أهلها (14/313)
ما كان عن عتبة لي من صبر أبي و عمي و شقيق صدري أخي الذي كان كضوء البدر بهم كسرت يا علي ظهريو ذلك لأنه قتل أخاها الوليد بن عتبة و شرك في قتل أبيها عتبة و أما عمها شيبة فإن حمزة تفرد بقتله. و قال جبير بن مطعم لوحشي مولاه يوم أحد إن قتلت محمدا فأنت حر و إن قتلت عليا فأنت حر و إن قتلت حمزة فأنت حر فقال أما محمد فسيمنعه أصحابه و أما علي فرجل حذر كثير الالتفات في الحرب و لكني سأقتل حمزة فقعد له و زرقه بالحربة فقتله. و لما قلنا من مقاربة حال علي ع في هذا الباب لحال رسول الله ص و مناسبتها إياها ما وجدناه في السير و الأخبار من إشفاق رسول الله ص و حذره عليه و دعائه له بالحفظ و السلامة
قال ص يوم الخندق و قد برز علي إلى عمرو و رفع يديه إلى السماء بمحضر من أصحابه اللهم إنك أخذت مني شرح نهج البلاغة ج : 13 ص : 284حمزة يوم أحد و عبيدة يوم بدر فاحفظ اليوم علي عليا رَبِّ لا تَذَرْنِي فَرْداً وَ أَنْتَ خَيْرُ الْوارِثِينَو لذلك ضن به عن مبارزة عمرو حين دعا عمرو الناس إلى نفسه مرارا في كلها يحجمون و يقدم علي فيسأل الإذن له في البراز حتى قال له رسول الله ص إنه عمرو فقال و أنا علي فأدناه و قبله و عممه بعمامته و خرج معه خطوات كالمودع له القلق لحاله المنتظر لما يكون منه ثم لم يزل ص رافعا يديه إلى السماء مستقبلا لها بوجهه و المسلمون صموت حوله كأنما على رءوسهم الطير حتى ثارت الغبرة و سمعوا التكبير من تحتها فعلموا أن عليا قتل عمرا فكبر رسول الله ص و كبر المسلمون تكبيرة سمعها من وراء الخندق من عساكر المشركين و لذلك قال حذيفة بن اليمان لو قسمت فضيلة علي ع بقتل عمرو يوم الخندق بين المسلمين بأجمعهم لوسعتهم و قال ابن عباس في قوله تعالى وَ كَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتالَ قال بعلي بن أبي طالب. قال الجاحظ على أن مشي الشجاع بالسيف إلى الأقران ليس على ما توهمه من لا يعلم باطن الأمر لأن معه في حال مشيه إلى الأقران بالسيف أمورا أخرى لا يبصرها الناس و إنما يقضون على ظاهر ما يرون من إقدامه و شجاعته فربما كان سبب ذلك الهوج و ربما كان الغرارة و الحداثة و ربما كان الإحراج و الحمية و ربما كان لمحبة النفخ و الأحدوثة و ربما كان طباعا كطباع القاسي و الرحيم و السخي و البخيل شرح نهج البلاغة ج : 13 ص : 285قال شيخنا أبو جعفر رحمه الله فيقال للجاحظ فعلى أيها كان مشي علي بن أبي طالب إلى الأقران بالسيف فأيما قلت من ذلك بانت عداوتك لله تعالى و لرسوله و إن كان مشيه ليس على وجه مما ذكرت و إنما كان على وجه نصرة و القصد إلى المسابقة إلى ثواب الآخرة و الجهاد في سبيل الله و إعزاز الدين كنت بجميع (14/314)
ما قلت معاندا و عن سبيل الإنصاف خارجا و في إمام المسلمين طاعنا و إن تطرق مثل هذا الوهم على علي ع ليتطرقن مثله على أعيان المهاجرين و الأنصار أرباب الجهاد و القتال الذين نصروا رسول الله ص بأنفسهم و وقوه بمهجهم و فدوه بأبنائهم و آبائهم فلعل ذلك كان لعلة من العلل المذكورة و في ذلك الطعن في الدين و في جماعة المسلمين. و لو جاز أن يتوهم هذا في علي ع و في غيره لما (14/315)
قال رسول الله ص حكاية عن الله تعالى لأهل بدر اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم
و لا قال لعلي ع برز الإيمان كله إلى الشرك كله
و لا قال أوجب طلحة. و قد علمنا ضرورة من دين الرسول ص تعظيمه لعلي ع تعظيما دينيا لأجل جهاده و نصرته فالطاعن فيه طاعن في رسول الله ص إذ زعم أنه قد يمكن أن يكون جهاده لا لوجه الله تعالى بل لأمر آخر من الأمور التي عددها و بعثه على التفوه بها إغواء الشيطان و كيده و الإفراط في عداوة من أمر الله بمحبته و نهى عن بغضه و عداوته. شرح نهج البلاغة ج : 13 ص : 286أ ترى رسول الله ص خفي عليه من أمر علي ع ما لاح للجاحظ و العثمانية فمدحه و هو غير مستحق للمدح. قال الجاحظ فصاحب النفس المختارة المعتدلة يكون قتاله طاعة و فراره صية لأن نفسه معتدلة كالميزان في استقامة لسانه و كفتيه فإذا لم يكن كذلك كان إقدامه طباعا و فراره طباعا. قال شيخنا أبو جعفر رحمه الله فيقال له فلعل إنفاق أبي بكر على ما تزعم أربعين ألف درهم لا ثواب له لأن نفسه ربما تكون غير معتدلة لأنه يكون مطبوعا على الجود و السخاء و لعل خروجه مع النبي ص يوم الهجرة إلى الغار لا ثواب له فيه لأن أسبابه كانت له مهيجة و دواعيه غالبة محبة الخروج و بغض المقام و لعل رسول الله ص في دعائه إلى الإسلام و إكبابه على الصلوات الخمس في جوف الليل و تدبيره أمر الأمة لا ثواب له فيه لأنه قد تكون نفسه غير معتدلة بل يكون في طباعه الرئاسة و حبها و العبادة و الالتذاذ بها و لقد كنا نعجب من مذهب أبي عثمان أن المعارف ضرورة و أنها تقع طباعا و في قوله بالتولد و حركة الحجر بالطبع حتى رأينا من قوله ما هو أعجب منه فزعم أنه ربما يكون جهاد علي ع و قتله المشركين لا ثواب له فيه لأنه فعله طبعا و هذا أطرف من قوله في المعرفة و في التولد. قال الجاحظ و وجه آخر أن عليا لو كان كما يزعم شيعته ما كان له بقتل الأقران كبير فضيلة و لا عظيم طاعة لأنه قد (14/316)
روي عن النبي ص أنه قال له شرح نهج البلاغة ج : 13 ص : 287ستقاتل بعدي الناكثين و القاسطين و المارقينفإذا كان قد وعده بالبقاء بعده فقد وثق بالسلامة من الأقران و علم أنه منصور عليهم و قاتلهم فعلى هذا يكون جهاد طلحة و الزبير أعظم طاعة منه. قال شيخنا أبو جعفر رحمه الله هذا راجع على الجاحظ في النبي ص لأن الله تعالى قال له وَ اللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ فلم يكن له في جهاده كبير طاعة و كثير طاعة و (14/317)
كثير من الناس يروي عنه ص اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر و عمر
فوجب أن يبطل جهادهما و
قد قال للزبير ستقاتل عليا و أنت ظالم له
فأشعره بذلك أنه لا يموت في حياة رسول الله ص و قال في الكتاب العزيز لطلحة وَ ما كانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَ لا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْواجَهُ مِنْ بَعْدِهِ قالوا نزلت في طلحة فأعلمه بذلك أنه يبقى بعده فوجب ألا يكون لهما كبير ثواب في الجهاد و الذي صح عندنا من الخبر و هو قوله ستقاتل بعدي الناكثين أنه قال لما وضعت الحرب أوزارها و دخل الناس في دين الله أفواجا و وضعت الجزية و دانت العرب قاطبة. قال الجاحظ ثم قصد الناصرون لعلي و القائلون بتفضيله إلى الأقران الذين قتلهم فأطروهم و غلوا فيهم و ليسوا هناك فمنهم عمرو بن عبد ود تركتموه أشجع من عامر بن الطفيل و عتبة بن الحارث و بسطام بن قيس و قد سمعنا بأحاديث حروب الفجار و ما كان بين قريش و دوس و حلف الفضول فما سمعت لعمرو بن عبد ود ذكرا في ذلك. شرح نهج البلاغة ج : 13 ص : 288قال شيخنا أبو جعفر رحمه الله أمر عو بن عبد ود أشهر و أكثر من أن يحتج له فلنتلمح كتب المغازي و السير و لينظر ما رثته به شعراء قريش لما قتل فمن ذلك ما ذكره محمد بن إسحاق في مغازيه قال و قال مسافع بن عبد مناف بن زهرة بن حذافة بن جمح يبكي عمرو بن عبد الله بن عبد ود حين قتله علي بن أبي طالب ع مبارزة لما جزع المذاد أي قطع الخندق
عمرو بن عبد كان أول فارس جزع المذاد و كان فارس مليل سمح الخلائق ماجد ذو مرة يبغي القتال بشكة لم ينكل و لقد علمتم حين ولوا عنكم أن ابن عبد منهم لم يعجل حتى تكفنه الكماة و كلهم يبغي القتال له و ليس بمؤتل و لقد تكنفت الفوارس فارسا بجنوب سلع غير نكس أميل لنزال هناك فارس غالب بجنوب سلع ليته لم ينزل فاذهب علي ما ظفرت بمثلها فخرا و لو لاقيت مثل المعضل نفسي الفداء لفارس من غالب لاقى حمام الموت لم يتحلحل أعني الذي جزع المذاد و لم يكن فشلا و ليس لدى الحروب بزو قال هبيرة بن أبي وهب المخزومي يعتذر من فراره عن علي بن أبي طالب و تركه عمرا يوم الخندق و يبكيه شرح نهج البلاغة ج : 13 ص : 28لعمرك ما وليت ظهري محمدا و أصحابه جبنا و لا خيفة القتل و لكنني قلبت أمري فلم أجد لسيفي غناء إن وقفت و لا نبلي وقفت فلما لم أجد لي مقدما صدرت كضرغام هزبر إلى شبل ثنى عطفه عن قرنه حين لم يجد مجالا و كان الحزم و الرأي من فعلي فلا تبعدن يا عمرو حيا و هالكا مت محمود الثنا ماجد الفعل و لا تبعدن يا عمرو حيا و هالكا فقد كنت في حرب العدا مرهف النصل فمن لطراد الخيل تقدع بالقنا و للبذل يوما عند قرقرة البزل هنالك لو كان ابن عمرو لزارها و فرجها عنهم فتى غير ما وغل كفتك علي لن ترى مثل موقف وقفت على شلو المقدم كافما ظفرت كفاك يوما بمثلها أمنت بها ما عشت من زلة النعل (14/318)
و قال هبيرة بن أبي وهب أيضا يرثي عمرا و يبكيه
لقد علمت عليا لؤي بن غالب لفارسها عمرو إذا ناب نائب و فارسها عمرو إذا ما يسوقه علي و إن الموت لا شك طالب عشية يدعوه علي و إنه لفارسها إذ خام عنه الكتائ شرح نهج البلاغة ج : 13 ص : 290فيا لهف نفسي إن عمرا لكائن بيثرب لا زالت هناك المصائب لقد أحرز العليا علي بقتله و للخير يوما لا محالة جاو قال حسان بن ثابت الأنصاري يذكر عمرا
أمسى الفتى عمرو بن عبد ناظرا كيف العبور و ليته لم ينظرو لقد وجدت سيوفنا مشهورة و لقد وجدت جيادنا لم تقصرو لقد لقيت غداة بدر عصبة ضربوك ضربا غير ضرب الحسرأصبحت لا تدعى ليوم عظيمة يا عمرو أو لجسيم أمر منكر (14/319)
و قال حسان أيضا
لقد شقيت بنو جمح بن عمرو و مخزوم و تيم ما نقيل و عمرو كالحسام فتى قريش كأن جبينه سيف صقيل فتى من نسل عامر أريحي تطاوله الأسنة و النصول دعاه الفارس المقدام لما تكشفت المقانب و الخيول أبو حسن فقنعه حساما جرازا لا أفل و لا نكول فغادره مكبا مسلحبا على عفر بعد القتيل
فهذه الأشعار فيه بل بعض ما قيل فيه. و أما الآثار و الأخبار فموجودة في كتب السير و أيام الفرسان و وقائعهم و ليس شرح نهج البلاغة ج : 13 ص : 291أحد من أرباب هذا العلم يذكر عمرا إلا قال كان فارس قريش و شجاعها و إنما قال له حسانو لقد لقيت غداة بدر عصبة
لأنه شهد مع المشركين بدرا و قتل قوما من المسلمين ثم فر مع من فر و لحق بمكة و هو الذي كان قال و عاهد الله عند الكعبة ألا يدعوه أحد إلى واحدة من ثلاث إلا أجابه و آثاره في أيام الفجار مشهورة تنطق بها كتب الأيام و الوقائع و لكنه لم يذكر مع الفرسان الثلاثة و هم عتبة و بسطام و عامر لأنهم كانوا أصحاب غارات و نهب و أهل بادية و قريش أهل مدينة و ساكنو مدر و حجر لا يرون الغارات و لا ينهبون غيرهم من العرب و هم مقتصرون على المقام ببلدتهم و حماية حرمهم فلذلك لم يشتهر اسمه كاشتهار هؤلاء. و يقال له إذا كان عمرو كما تذكر ليس هناك فما باله لما جزع الخندق في ستة فرسان هو أحدهم فصار مع أصحاب النبي ص على أرض واحدة و هم ثلاثة آلاف و دعاهم إلى البراز مرارا لم ينتدب أحد منهم للخروج إليه و لا سمح منهم أحد بنفسه حتى وبخهم و قرعهم و ناداهم أ لستم تزعمون أنه من قتل منا فإلى النار و من قتل منكم فإلى الجنة أ فلا يشتاق أحدكم إلى أن يذهب إلى الجنة أو يقدم عدوه إلى النار فجبنوا كلهم و نكلوا و ملكهم الرعب و الوهل فإما أن يكون هذا أشجع الناس كما قيل عنه أو يكون المسلمون كلهم أجبن العرب و أذلهم و أفشلهم و قد روى الناس كلهم الشعر الذي أنشده لما نكل القوم بجمعهم عنه و أنه جال بفرسه و استدار و ذهب يمنة ثم ذهب يسرة ثم وقف تجاه القوم فقال (14/320)
و لقد بححت من النداء بجمعهم هل من مبارز
شرح نهج البلاغة ج : 13 ص : 292و وقفت إذ جبن المشيع وقفة القرن المناجزو كذاك أني لم أزل متسرعا نحو الهزاهزإن الشجاعة في الفتى و الجود من خير الغرائفلما برز إليه علي أجابه فقال له
لا تعجلن فقد أتاك مجيب صوتك غير عاجزذو نية و بصيرة يرجو الغداة نجاة فائزإني لأرجو أن أقيم عليك نائحة الجنائزمن ضربة تفنى و يبقى ذكرها عند الهزاهز
و لعمري لقد سبق الجاحظ بما قاله بعض جهال الأنصار لما رجع رسول الله من بدر و قال فتى من الأنصار شهد معه بدرا إن قتلنا إلا عجائز صلعا فقال له النبي ص لا تقل ذلك يا ابن أخ أولئك الملأ. قال الجاحظ و قد أكثروا في الوليد بن عتبة بن ربيعة قتيله يوم بدر و ما علمنا الوليد حضر حربا قط قبلها و لا ذكر فيها. قال شيخنا أبو جعفر رحمه الله كل من دون أخبار قريش و آثار رجالها وصف الوليد بالشجاعة و البسالة و كان مع شجاعته أنه يصارع الفتيان فيصرعهم و ليس لأنه لم يشهد حربا قبلها ما يجب أن يكون بطلا شجاعا فإن عليا ع لم يشهد قبل بدر حربا و قد رأى الناس آثاره فيها. شرح نهج البلاغة ج : 13 ص : 293قال الجاحظ و قد ثبت أبو بكر مع النبي ص يوم أحد كما ثبت علي فلا فخر لأحدهما على صاحبه في ذلك اليوم. قال شيخنا أبو جعفر رحمه الله أما ثباته يوم أحد فأكثر المؤرخين و أرباب السير ينكرونه و جمههم يروي أنه لم يبق مع النبي ص إلا علي و طلحة و الزبير و أبو دجانة و قد روي عن ابن عباس أنه قال و لهم خامس و هو عبد الله بن مسعود و منهم من أثبت سادسا و هو المقداد بن عمرو و روى يحيى بن سلمة بن كهيل قال قلت لأبي كم ثبت مع رسول الله ص يوم أحد فقال اثنان قلت من هما قال علي و أبو دجانة. و هب أن أبا بكر ثبت يوم أحد كما يدعيه الجاحظ أ يجوز له أن يقول ثبت كما ثبت علي فلا فخر لأحدهما على الآخر و هو يعلم آثار علي ع ذلك اليوم و أنه قتل أصحاب الألوية من بني عبد الدار منهم طلحة بن أبي طلحة الذي رأى رسول الله ص في منامه أنه مردف كبشا فأوله و قال كبش الكتيبة نقتله فلما قتله علي ع مبارزة و هو أول قتيل قتل من المشركين ذلك اليوم كبر رسول الله ص و قال هذا كبش الكتيبة. و ما كان منه من المحاماة عن رسول الله ص و قد فر الناس و أسلموه فتصمد له كتيبة من قريش فيقول يا علي اكفني هذه فيحمل عليها فيهزمها و يقتل عميدها حتى سمع المسلمون و المشركون (14/321)
صوتا من قبل السماء (14/322)
لا سيف إلا ذو الفقار و لا فتى إلا علي
و حتى قال النبي ص عن جبرائيل ما قال. أ تكون هذه آثاره و أفعاله ثم يقول الجاحظ لا فخر لأحدهما على صاحبه. شرح نهج البلاغة ج : 13 ص : 294 رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنا وَ بَيْنَ قَوْمِنا بِالْحَقِّ وَ أَنْتَ خَيْرُ الْفاتِحِينَ. قال الجاحظ و لأبي بكر في ذلك اليوم مقام مشهور خرج ابنه عبد الرحمن فارسا مكفرا في الحديد يسأل المبارزة و يقول أنا عبد الرحمن بن عتيق فنهإليه أبو بكر يسعى بسيفه فقال له النبي ص شم سيفك و ارجع إلى مكانك و متعنا بنفسك. قال شيخنا أبو جعفر رحمه الله ما كان أغناك يا أبا عثمان عن ذكر هذا المقام المشهور لأبي بكر فإنه لو تسمعه الإمامية لأضافته إلى ما عندها من المثالب لأن قول النبي ص ارجع دليل على أنه لا يحتمل مبارزة أحد لأنه إذا لم يحتمل مبارزة ابنه و أنت تعلم حنو الابن علي الأب و تبجيله له و إشفاقه عليه و كفه عنه لم يحتمل مبارزة الغريب الأجنبي. و قوله له و متعنا بنفسك إيذان له بأنه كان يقتل لو خرج و رسول الله كان أعرف به من الجاحظ فأين حال هذا الرجل من حال الرجل الذي صلى بالحرب و مشى إلى السيف بالسيف فقتل السادة و القادة و الفرسان و الرجالة. قال الجاحظ على أن أبا بكر و إن لم تكن آثاره في الحرب كآثار غيره فقد بذل الجهد و فعل ما يستطيعه و تبلغه قوته و إذا بذل المجهود فلا حال أشرف من حاله. شرح نهج الاغة ج : 13 ص : 295قال شيخنا أبو جعفر رحمه الله أما قوله إنه بذل الجهد فقد صدق و أما قوله لا حال أشرف من حاله فخطأ لأن حال من بلغت قوته فأعملها في قتل المشركين أشرف من حال من نقصت قوته عن بلوغ الغاية أ لا ترى أن حال الرجل أشرف في الجهاد من حال المرأة و حال البالغ الأيد أشرف من حال الصبي الضعيف. فهذه جملة ما ذكره الشيخ أبو جعفر محمد بن عبد الله الإسكافي رحمه الله في نقض العثمانية اقتصرنا عليها هاهنا و سنعود فيما بعد
إلى ذكر جملة أخرى من كلامه إذا اقتضت الحال ذكره (14/323)
شرح نهج البلاغة ج : 13 ص : 239296- و من كلام له ع قاله لعبد الله بن عباس و قد جاءه برسالة من عثمانو هو محصور يسأله فيها الخروج إلى ماله بينبع ليقل هتف الناس باسمه للخلافة بعد أن كان سأله مثل ذلك من قبل فقال ع
يَا ابْنَ عَبَّاسٍ مَا يُرِيدُ عُثْمَانُ إِلَّا أَنْ يَجْعَلَنِي جَمَلًا نَاضِحاً بِالْغَرْبِ أَقْبِلْ وَ أَدْبِرْ بَعَثَ إِلَيَّ أَنْ أَخْرُجَ ثُمَّ بَعَثَ إِلَيَّ أَنْ أَقْدَمَ ثُمَّ هُوَ الآْنَ يَبْعَثُ إِلَيَّ أَنْ أَخْرُجَ وَ اللَّهِ لَقَدْ دَفَعْتُ عَنْهُ حَتَّى خَشِيتُ أَنْ أَكُونَ آثِماً
ينبع على يفعل مثل يحلم و يحكم اسم موضع كان فيه نخل لعلي بن أبي طالب ع و ينبع الآن بلد صغير من أعمال المدينة. و هتف الناس باسمه نداؤهم و دعاؤهم و أصله الصوت يقال هتف الحمام يهتف هتفا و هتف زيد بعمرو هتافا أي صاح به و قوس هتافة و هتفى أي ذات صوت. و الناضح البعير يستقى عليه و قال معاوية لقيس بن سعد و قد دخل عليه شرح نهج البلاغة ج : 13 ص : 297في رهط من الأنصار ما فعلت نواضحكم يهزأ به فقال أنصبناها في طلب أبيك يوم بدر. و الغرب الدلو العظيمة. قوله أقبل و أدبر أي يقول لي ذلك كما يقال للناضح و قد صرح العباس بن مرس بهذه الألفاظ فقال
أراك إذا أصبحت للقوم ناضحا يقال له بالغرب أدبر و أقبل
قوله لقد دفعت عنه حتى خشيت أن أكون آثما يحتمل أن يريد بالغت و اجتهدت في الدفاع عنه حتى خشيت أن أكون آثما في كثرة مبالغتي و اجتهادي في ذلك و إنه لا يستحق الدفاع عنه لجرائمه و أحداثه و هذا تأويل من ينحرف عن عثمان و يحتمل أن يريد لقد دفعت عنه حتى كدت أن ألقي نفسي في الهلكة و أن يقتلني الناس الذين ثاروا به فخفت الإثم في تغريري بنفسي و توريطها في تلك الورطة العظيمة و يحتمل أن يريد لقد جاهدت الناس دونه و دفعتهم عنه حتى خشيت أن أكون آثما بما نلت منهم من الضرب بالسوط و الدفع باليد و الإعانة بالقول أي فعلت من ذلك أكثر مما يحب (14/324)
وصية العباس قبل موته لعلي
قرأت في كتاب صنفه أبو حيان التوحيدي في تقريظ الجاحظ قال نقلت من خط الصولي قال الجاحظ إن العباس بن عبد المطلب أوصى علي بن أبي طالب ع في علته التي مات فيها فقال أي بني إني مشف على الظعن عن الدنيا إلى الله الذي فاقتي إلى عفوه و تجوزه أكثر من حاجتي إلى ما أنصحك فيه و أشير عليك به شرح نهج البلاغة ج : 13 ص : 298و لكن العرق نبوض و الرحم عروض و إذا قضيت حق العمومة فلا أبالي بعد إن هذا الرجل يعني عثمان قد جاءني مرارا بحديثك و ناظرني ملاينا و مخاشنا في أمرك و لم أجد عليك إلا مثل ما أجد منك عليه و لا رأيت منه لك إلاثل ما أجد منك له و لست تؤتى من قلة علم و لكن من قلة قبول و مع هذا كله فالرأي الذي أودعك به أن تمسك عنه لسانك و يدك و همزك و غمزك فإنه لا يبدؤك ما لم تبدأه و لا يجيبك عما لم يبلغه و أنت المتجني و هو المتأني و أنت العائب و هو الصامت فإن قلت كيف هذا و قد جلس مجلسا أنا به أحق فقد قاربت و لكن ذاك بما كسبت يداك و نكص عنه عقباك لأنك بالأمس الأدنى هرولت إليهم تظن أنهم يحلون جيدك و يختمون إصبعك و يطئون عقبك و يرون الرشد بك و يقولون لا بد لنا منك و لا معدل لنا عنك و كان هذا من هفواتك الكبر و هناتك التي ليس لك منها عذر و الآن بعد ما ثللت عرشك بيدك و نبذت رأي عمك في البيداء يتدهده في السافياء خذ بأحزم مما يتوضح به وجه الأمر لا تشار هذا الرجل و لا تماره و لا يبلغنه عنك ما يحنقه عليك فإنه إن كاشفك أصاب أنصارا و إن كاشفته لم تر إلا ضرارا و لم تستلج إلا عثارا و اعرف من هو بالشام له و من هاهنا حوله من يطيع أمره و يمتثل قوله لا تغترر بناس يطيفون بك و يدعون الحنو عليك و الحب لك فإنهم بين مولى جاهل و صاحب متمن و جليس يرعى العين و يبتدر المحضر و لو ظن الناس بك ما تظن بنفسك لكان الأمر لك و الزمام في يدك و لكن هذا حديث يوم مرض رسول الله ص فات ثم حرم الكلام فيه حين مات فعليك الآن بالعزوف عن شي ء (14/325)
عرضك شرح نهج البلاغة ج : 13 ص : 299له رسول الله ص فلم يتم و تصديت له مرة بعد مرة فلم يستقم و من ساور الدهر غلب و من حرص على ممنوع تعب فعلى ذلك فقد أوصيت عبد الله بطاعتك و بعثته على متابعتك و أوجرته محبتك و وجدت عنده من ذلك ظني به لك لا توتر قوسك إلا بعد الثقبها و إذا أعجبتك فانظر إلى سيتها ثم لا تفوق إلا بعد العلم و لا تغرق في النزع إلا لتصيب الرمية و انظر لا تطرف يمينك عينك و لا تجن شمالك شينك ودعني بآيات من آخر سورة الكهف و قم إذا بدا لك (14/326)
قلت الناس يستحسنون رأي العباس لعلي ع في ألا يدخل في أصحاب الشورى و أما أنا فإني أستحسنه إن قصد به معنى و لا أستحسنه إن قصد به معنى آخر و ذلك لأنه إن أجرى بهذا الرأي إلى ترفعه عليهم و علو قدره عن أن يكون مماثلا لهم أو أجرى به إلى زهده في الإمارة و رغبته عن الولاية فكل هذا رأي حسن و صواب و إن كان منزعه في ذلك إلى أنك إن تركت الدخول معهم و انفردت بنفسك في دارك أو خرجت عن المدينة إلى بعض أموالك فإنهم يطلبونك و يضربون إليك آباط الإبل حتى يولوك الخلافة و هذا هو الظاهر من كلامه فليس هذا الرأي عندي بمستحسن لأنه لو فعل ذلك لولوا عثمان أو واحدا منهم غيره و لم يكن عندهم من الرغبة فيه ع ما يبعثهم على طلبه بل كان تأخره عنهم قرة أعينهم و واقعا بإيثارهم فإن قريشا كلها كانت تبغضه أشد البغض و لو عمر عمر نوح و توصل إلى الخلافة بجميع أنواع التوصل كالزهد فيها تارة و المناشدة بفضائله تارة و بما فعله في ابتداء الأمر من إخراج زوجته و أطفاله ليلا إلى بيوت الأنصار و بما اعتمده إذ ذاك من تخلفه في بيته و إظهار أنه قد انعكف على جمع القرآن و بسائر أنواع الحيل فيها لم تحصل له إلا بتجريد السيف كما فعل في آخر الأمر و لست ألوم العرب لا سيما قريشا في بغضها له و انحرافها عنه فإنه وترها و سفك دماءها و كشف القناع في منابذتها و نفوس العرب و أكبادهم كما تعلم شرح نهج البلاغة ج : 13 ص : 300و ليس الإسلام بمانع من بقاء الأحقاد في النفوس كما نشاهده اليوم عيانا و الناس كالناس الأول و الطبائع واحدة فأحسأنك كنت من سنتين أو ثلاث جاهليا أو من بعض الروم و قد قتل واحد من المسلمين ابنك أو أخاك ثم أسلمت أ كان إسلامك يذهب عنك ما تجده من بغض ذلك القاتل و شنآنه كلا إن ذلك لغير ذاهب هذا إذا كان الإسلام صحيحا و العقيدة محققة لا كإسلام كثير من العرب فبعضهم تقليدا و بعضهم للطمع و الكسب و بعضهم خوفا من السيف و بعضهم على طريق الحمية (14/327)
و الانتصار أو لعداوة قوم آخرين من أضداد الإسلام و أعدائه. و اعلم أن كل دم أراقه رسول الله ص بسيف علي ع و بسيف غيره فإن العرب بعد وفاته ع عصبت تلك الدماء بعلي بن أبي طالب ع وحده لأنه لم يكن في رهطه من يستحق في شرعهم و سنتهم و عادتهم أن يعصب به تلك الدماء إلا بعلي وحده و هذه عادة العرب إذا قتل منها قتلى طالبت بتلك الدماء القاتل فإن مات أو تعذرت عليها مطالبته طالبت بها أمثل الناس من أهله. لما قتل قوم من بني تميم أخا لعمرو بن هند قال بعض أعدائه يحرض عمرا عليهم (14/328)
من مبلغ عمرا بأن المرء لم يخلق صباره و حوادث الأيام لا يبقى لها إلا الحجاره ها إن عجزة أمه بالسفح أسفل من أواره تسفي الرياح خلال كشحيه و قد سلبوا إزاره فاقتل زرارة لا أرى في القوم أمثل من زر شرح نهج البلاغة ج : 13 ص : 301فأمره أن يقتل زرارة بن عدس رئيس بني تميم و لم يكن قاتلا أخا الملك و لا حاضرا قتله. و من نظر في أيام العرب و وقائعها و مقاتلها عرف ما ذكرناه. سألت النقيب أبا جعفر يحيى بن أبي زيد رحمه الله فقلت له إني لأعجب من علي ع كيف بقي ك المدة الطويلة بعد رسول الله ص و كيف ما اغتيل و فتك به في جوف منزله مع تلظي الأكباد عليه. فقال لو لا أنه أرغم أنفه بالتراب و وضع خده في حضيض الأرض لقتل و لكنه أخمل نفسه و اشتغل بالعبادة و الصلاة و النظر في القرآن و خرج عن ذلك الزي الأول و ذلك الشعار و نسي السيف و صار كالفاتك يتوب و يصير سائحا في الأرض أو راهبا في الجبال و لما أطاع القوم الذين ولوا الأمر و صار أذل لهم من الحذاء تركوه و سكتوا عنه و لم تكن العرب لتقدم عليه إلا بمواطاة من متولي الأمر و باطن في السر منه فلما لم يكن لولاة الأمر باعث و داع إلى قتله وقع الإمساك عنه و لو لا ذلك لقتل ثم أجل بعد معقل حصين. فقلت له أ حق ما يقال في حديث خالد فقال إن قوما من العلوية يذكرون ذلك. ثم قال و قد روي أن رجلا جاء إلى زفر بن الهذيل صاحب أبي حنيفة فسأله عما يقول أبو حنيفة في جواز الخروج من الصلاة بأمر غير التسليم نحو الكلام و الفعل الكثير أو الحدث فقال إنه جائز قد قال أبو بكر في تشهده ما قال فقال الرجل شرح نهج البلاغة ج : 13 ص : 302و ما الذي قاله أبو بكر قال لا عليك فأعاد عليه السؤال ثانية و ثالثة فقال أخرجوه أخرجوه قد كنت أحدث أنه من أصحاب أبي الخطاب. قلت له فمالذي تقوله أنت قال أنا أستبعد ذلك و إن روته الإمامية. ثم قال أما خالد فلا أستبعد منه الإقدام عليه بشجاعته في نفسه و لبغضه إياه و لكني (14/329)
أستبعده من أبي بكر فإنه كان ذا ورع و لم يكن ليجمع بين أخذ الخلافة و منع فدك و إغضاب فاطمة و قتل علي ع حاش لله من ذلك فقلت له أ كان خالد يقدر على قتله قال نعم و لم لا يقدر على ذلك و السيف في عنقه و علي أعزل غافل عما يراد به قد قتله ابن ملجم غيلة و خالد أشجع من ابن ملجم. فسألته عما ترويه الإمامية في ذلك كيف ألفاظه فضحك و قال (14/330)
كم عالم بالشي ء و هو يسائلثم قال دعنا من هذا ما الذي تحفظ في هذا المعنى قلت قول أبي الطيب
نحن أدرى و قد سألنا بنجد أ طويل طريقنا أم يطول و كثير من السؤال اشتياق و كثير من رده تعليلفاستحسن ذلك و قال لمن عجز البيت الذي استشهدت به قلت لمحمد بن هانئ المغربي و أوله
في كل يوم أستزيد تجاربا كم عالم بالشي ء و هو يسائلفبارك علي مرارا ثم قال نترك الآن هذا و نتمم ما كنا فيه و كنت أقرأ عليه في ذلك الوقت جمهرة النسب لابن الكلبي فعدنا إلى القراءة و عدلنا عن الخوض عما كان اعترض الحديث فيه
شرح نهج البلاغة ج : 13 ص : 240303- و من كلام له ع اقتص فيه ذكر ما كان منه بعد هجرة النبي ص ثم لحاقه بهفَجَعَلْتُ أَتْبَعُ مَأْخَذَ رَسُولِ اللَّهِ ص فَأَطَأُ ذِكْرَهُ حَتَّى انْتَهَيْتُ إِلَى الْعَرْجِ فِي كَلَامٍ طَوِيلٍ
قال الرضي رحمه الله تعالى قوله ع فأطأ ذكره من الكلام الذي رمي به إلى غايتي الإيجاز و الفصاحة أراد أني كنت أغطي خبره ص من بدء خروجي إلى أن انتهيت إلى هذا الموضع فكنى عن ذلك بهذه الكناية العجيبة
العرج منزل بين مكة و المدينة إليه ينسب العرجي الشاعر و هو عبد الله بن عمرو بن عثمان بن عفان بن أبي العاص بن أمية بن عبد شمس. قال محمد بن إسحاق في كتاب المغازي لم يعلم رسول الله ص أحدا من المسلمين ما كان عزم عليه من الهجرة إلا علي بن أبي طالب و أبا بكر بن أبي قحافة أما علي فإن رسول الله ص أخبره بخروجه و أمره أن يبيت على شرح نهج البلاغة ج : 13 ص : 304فراشه يخادع المشركين عنه ليروا أنه لم يبرح فلا يطلبوه حتى تبعد المسافة بينهم و بينه و أن يتخلف بعده بمكة حتى يؤدي عن رسول الله ص الودائع التي عنده للناس و كان ول الله ص استودعه رجال من مكة ودائع لهم لما يعرفونه من أمانته و أما أبو بكر فخرج معه. و سألت النقيب أبا جعفر يحيى بن أبي زيد الحسني رحمه الله فقلت إذا كانت قريش قد محصت رأيها و ألقى إليها إبليس كما روي ذلك الرأي و هو أن يضربوه بأسياف من أيدي جماعة من بطون مختلفة ليضيع دمه في بطون قريش فلا تطلبه بنو عبد مناف فلما ذا انتظروا به تلك الليلة الصبح فإن الرواية جاءت بأنهم كانوا تسوروا الدار فعاينوا فيها شخصا مسجى بالبرد الحضرمي الأخضر فلم يشكوا أنه هو فرصدوه إلى أن أصبحوا فوجدوه عليا و هذا طريف لأنهم كانوا قد أجمعوا على قتله تلك الليلة فما بالهم لم يقتلوا ذلك الشخص المسجى و انتظارهم به النهار دليل على أنهم لم يكونوا أرادوا قتله تلك الليلة فقال في الجواب لقد كانوا هموا من النهار بقتله تلك الليلة و كان إجماعهم على ذلك و عزمهم في حقنه من بني عبد مناف لأن الذين محصوا هذا الرأي و اتفقوا عليه النضر بن الحارث من بني عبد الدار و أبو البختري بن هشام و حكيم بن حزام و زمعة بن الأسود بن المطلب هؤلاء الثلاثة من بني أسد بن عبد العزى و أبو جهل بن هشام و أخوه الحارث و خالد بن الوليد بن المغيرة هؤلاء الثلاثة من بني مخزوم و نبيه و منبه ابنا الحجاج و عمرو بن العاص هؤلاء الثلاثة من بني سهم و أمية بن (14/331)
خلف و أخوه أبي بن خلف هذان من بني جمح فنما هذا الخبر من الليل إلى عتبة بن ربيعة بن عبد شمس فلقي منهم قوما فنهاهم عنه و قال إن بني عبد مناف لا تمسك عن دمه و لكن صفدوه شرح نهج البلاغة ج : 13 : 305في الحديد و احبسوه في دار من دوركم و تربصوا به أن يصيبه من الموت ما أصاب أمثاله من الشعراء و كان عتبة بن ربيعة سيد بني عبد شمس و رئيسهم و هم من بني عبد مناف و بنو عم الرجل و رهطه فأحجم أبو جهل و أصحابه تلك الليلة عن قتله إحجاما ثم تسوروا عليه و هم يظنونه في الدار فلما رأوا إنسانا مسجى بالبرد الأخضر الحضرمي لم يشكوا أنه هو و ائتمروا في قتله فكان أبو جهل يذمرهم عليه فيهمون ثم يحجمون ثم قال بعضهم لبعض ارموه بالحجارة فرموه فجعل علي يتضور منها و يتقلب و يتأوه تأوها خفيفا فلم يزالوا كذلك في إقدام عليه و إحجام عنه لما يريده الله تعالى من سلامته و نجاته حتى أصبح و هو وقيذ من رمي الحجارة و لو لم يخرج رسول الله ص إلى المدينة و أقام بينهم بمكة و لم يقتلوه تلك الليلة لقتلوه في الليلة التي تليها و إن شبت الحرب بينهم و بين عبد مناف فإن أبا جهل لم يكن بالذي ليمسك عن قتله و كان فاقد البصيرة شديد العزم على الولوغ في دمه. قلت للنقيب أ فعلم رسول الله ص و علي ع بما كان من نهي عتبة لهم قال لا إنهما لم يعلما ذلك تلك الليلة و إنما عرفاه من بعد و لقد قال رسول الله ص يوم بدر لما رأى عتبة و ما كان منه إن يكن في القوم خير ففي صاحب الجمل الأحمر و لو قدرنا أن عليا ع علم ما قال لهم عتبة لم يسقط ذلك فضيلته في المبيت لأنه لم يكن على ثقة من أنهم يقبلون قول عتبة بل كان ظن الهلاك و القتل أغلب. و أما حال علي ع فلما أدى الودائع خرج بعد ثلاث من هجرة النبي (14/332)
شرح نهج البلاغة ج : 13 ص : 306ص فجاء إلى المدينة راجلا قد تورمت قدماه فصادف رسول الله ص نازلا بقباء على كلثوم بن الهدم فنزل معه في منزله و كان أبو بكر نازلا بقباء أيضا في منزل حبيب بن يساف ثم خرج رسول الله ص و هما معه من قباء حتى نزل بالمدينة على أبي أي خالد بن يزيد الأنصاري و ابتنى المسجد (14/333)
شرح نهج البلاغة ج : 13 ص : 241307- و من خطبة له عفَاعْمَلُوا وَ أَنْتُمْ فِي نَفَسِ الْبَقَاءِ وَ الصُّحُفُ مَنْشُورَةٌ وَ التَّوْبَةُ مَبْسُوطَةٌ وَ الْمُدْبِرُ يُدْعَى وَ الْمُسِي ءُ يُرْجَى قَبْلَ أَنْ يَخْمُدَ الْعَمَلُ وَ يَنْقَطِعَ الْمَهَلُ وَ تَنْقَضِيَ الْمُدَّةُ وَ يُسَدَّ بَابُ التَّوْبَةِ وَتَصْعَدَ الْمَلَائِكَةُ فَأَخَذَ امْرُؤٌ مِنْ نَفْسِهِ لِنَفْسِهِ وَ أَخَذَ مِنْ حَيٍّ لِمَيِّتٍ وَ مِنْ فَانٍ لِبَاقٍ وَ مِنْ ذَاهِبٍ لِدَائِمٍ امْرُؤٌ خَافَ اللَّهَ وَ هُوَ مُعَمَّرٌ إِلَى أَجَلِهِ وَ مَنْظُورٌ إِلَى عَمَلِهِ امْرُؤٌ أَلْجَمَ نَفْسَهُ بِلِجَامِهَا وَ زَمَّهَا بِزِمَامِهَا فَأَمْسَكَهَا بِلِجَامِهَا عَنْ مَعَاصِي اللَّهِ وَ قَادَهَا بِزِمَامِهَا إِلَى طَاعَةِ اللَّهِ
في نفس البقاء بفتح الفاء أي في سعته تقول أنت في نفس من أمرك أي في سعة. و الصحف منشورة أي و أنتم بعد أحياء لأنه لا تطوى صحيفة الإنسان إلا إذا مات و التوبة مبسوطة لكم غير مقبوضة عنكم و لا مردودة عليكم إن فعلتم كما ترد على الإنسان توبته إذا احتضر. و المدبر يدعى أي من يدبر منكم و يولي عن الخير يدعى إليه و ينادى يا فلان أقبل على ما يصلحك. شرح نهج البلاغة ج : 13 ص : 308و المسي ء يرجى أي يرجى عوده و إقلاعه. قبل أن يجمد العمل استعارة مليحة لأن الميت يجمد عمله و يقف و يروى يخمد بالخاء من خمدت النار و الأول أحسن. نقطع المهل أي العمر الذي أمهلتم فيه. و تصعد الملائكة لأن الإنسان عند موته تصعد حفظته إلى السماء لأنه لم يبق لهم شغل في الأرض. قوله فأخذ امرؤ ماض يقوم مقام الأمر و قد تقدم شرح ذلك و المعنى أن من يصوم و يصلي فإنما يأخذ بعض قوة نفسه مما يلقى من المشقة لنفسه أي عدة و ذخيرة لنفسه يوم القيامة و كذلك من يتصدق فإنه يأخذ من ماله و هو جار مجرى نفسه لنفسه. و أخذ من حي لميت أي من حال الحياة لحال الموت و لو قال من ميت لحي كان جيدا أيضا لأن الحي في الدنيا ليس بحي على الحقيقة و إنما الحياة حياة الآخرة كما قال الله تعالى وَ إِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوانُ. و روي أمسكها بلجامها بغير فاء (14/334)
شرح نهج البلاغة ج : 13 ص : 242309- و من خطبة له ع في شأن الحكمين و ذم أهل الشامجُفَاةٌ طَغَامٌ عَبِيدٌ أَقْزَامٌ جُمِعُوا مِنْ كُلِّ أَوْبٍ وَ تُلُقِّطُوا مِنْ كُلِّ شَوْبٍ مِمَّنْ يَنْبَغِي أَنْ يُفَقَّهَ وَ يُؤَدَّبَ وَ يُعَلَّمَ وَ يُدَرَّبَ وَ يُوَلَّى عَلَيْهِ وَ يُؤْخَذَ عَلَى يَدَيْهِ لَيْسُوا مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَ الْأَنْصَارِ وَ لَا مِنَ الَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَ الْإِيمَانَ أَلَا وَ إِنَّ الْقَوْمَ اخْتَارُوا لِأَنْفُسِهِمْ أَقْرَبَ الْقَوْمِ مِمَّا يُحِبُّونَ وَ إِنَّكُمُ اخْتَرْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ أَقْرَبَ الْقَوْمِ مِمَّا تَكْرَهُونَ وَ إِنَّمَا عَهْدُكُمْ بِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ قَيْسٍ بِالْأَمْسِ يَقُولُ إِنَّهَا فِتْنَةٌ فَقَطِّعُوا أَوْتَارَكُمْ وَ شِيمُوا سُيُوفَكُمْ فَإِنْ كَانَ صَادِقاً فَقَدْ أَخْطَأَ بِمَسِيرِهِ غَيْرَ مُسْتَكْرَهٍ وَ إِنْ كَانَ كَاذِباً فَقَدْ لَزِمَتْهُ التُّهْمَةُ فَادْفَعُوا فِي صَدْرِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ بِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْعَبَّاسِ وَ خُذُوا مَهَلَ الْأَيَّامِ وَ حُوطُوا قَوَاصِيَ الْإِسْلَامِ أَ لَا تَرَوْنَ إِلَى بِلَادِكُمْ تُغْزَى وَ إِلَى صَفَاتِكُمْ تُرْمَى (14/335)
جفاة جمع جاف أي هم أعراب أجلاف و الطغام أوغاد الناس الواحد و الجمع فيه سواء. و يقال للأشرار و اللئام عبيد و إن كانوا أحرارا. شرح نهج البلاغة ج : 13 ص : 310و الأقزام بالزاي رذال الناس و سفلتهم و المسموع قزم الذكر و الأنثى و الواحد و الجمع فيه سواء لأنه فيعنى المصدر قال الشاعر
و هم إذا الخيل جالوا في كتائبها فوارس الخيل لا ميل و لا قزم
و لكنه ع قال أقزام ليوازن بها قوله طغام و قد روي قزام و هي رواية جيدة و قد نطقت العرب بهذه اللفظة و قال الشاعر
أحصنوا أمهم من عبدهم تلك أفعال القزام الوكعه
و جمعوا من كل أوب أي من كل ناحية. و تلقطوا من كل شوب أي من فرق مختلطة. ثم وصف جهلهم و بعدهم عن العلم و الدين فقال ممن ينبغي أن يفقه و يؤدب أي يعلم الفقه و الأدب و يدرب أي يعود اعتماد الأفعال الحسنة و الأخلاق الجميلة. و يولى عليه أي لا يستحقون أن يولوا أمرا بل ينبغي أن يحجر عليهم كما يحجر على الصبي و السفيه لعدم رشده و روي و يولى عليه بالتخفيف و يؤخذ على يديه أي يمنع من التصرف. قوله ع و لا الذين تبوءوا الدار و الإيمان ظاهر اللفظ يشعر بأن الأقسام ثلاثة و ليست إلا اثنين لأن الذين تبوءوا الدار و الإيمان الأنصار و لكنه ع كرر ذكرهم تأكيدا و أيضا فإن لفظة الأنصار واقعة على كل من كان من الأوس و الخزرج الذين أسلموا على عهد رسول الله ص و الذين تبوءوا الدار شرح نهج البلاغة ج : 13 ص : 311و الإيمان في الآية قوم مخصوصون منهم و هم أهل الإخلاص و الإيمان التام فصار ذكر الخ بعد العام كذكره تعالى جبريل و ميكائيل ثم قال وَ الْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذلِكَ ظَهِيرٌ و هما من الملائكة و معنى قوله تبوءوا الدار و الإيمان سكنوهما و إن كان الإيمان لا يسكن كما تسكن المنازل لكنهم لما ثبتوا عليه و اطمأنوا سماه منزلا لهم و متبوأ و يجوز أن يكون مثل قوله (14/336)
و رأيت زوجك في الوغى متقلدا سيفا و رمحا
ثم ذكر ع أن أهل الشام اختاروا لأنفسهم أقرب القوم مما يحبونه و هو عمرو بن العاص و كرر لفظة القوم و كان الأصل أن يقول ألا و إن القوم اختاروا لأنفسهم أقربهم مما يحبون فأخرجه مخرج قول الله تعالى وَ اتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ و الذي يحبه أهل الشام هو الانتصار على أهل العراق و الظفر بهم و كان عمرو بن العاص أقربهم إلى بلوغ ذلك و الوصول إليه بمكره و حيلته و خدائعه و القوم في قوله ثانيا أقرب القوم بمعنى الناس كأنه قال و اخترتم لأنفسكم أقرب الناس مما تكرهونه و هو أبو موسى الأشعري و اسمه عبد الله بن قيس و الذي يكرهه أهل العراق هو ما يحبه أهل الشام و هو خذلان عسكر العراق و انكسارهم و استيلاء أهل الشام عليهم و كان أبو موسى أقرب الناس إلى وقوع ذلك و هكذا وقع لبلهه و غفلته و فساد رأيه و بغضه عليا ع من قبل. ثم قال أنتم بالأمس يعني في واقعة الجمل قد سمعتم أبا موسى ينهى أهل الكوفة شرح نهج البلاغة ج : 13 ص : 312عن نصرتي و يقول لهم هذه هي الفتنة التي وعدنا بها فقطعوا أوتار قسيكم و شيموا سيوفكم أي أغمدوها فإن كان صادقا فما باله سار إلي و صار معي في الصف و حضر حرب صفين و كثر سواد أهل العراق و إن لم ارب و لم يسل السيف فإن من حضر في إحدى الجهتين و إن لم يحارب كمن حارب و إن كان كاذبا فيما رواه من خبر الفتنة فقد لزمته التهمة و قبح الاختلاف إليه في الحكومة و هذا يؤكد صحة إحدى الروايتين في أمر أبي موسى فإنه قد اختلفت الرواية هل حضر حرب صفين مع أهل العراق أم لا فمن قال حضر قال حضر و لم يحارب و ما طلبه اليمانيون من أصحاب علي ع ليجعلوه حكما كالأشعث بن قيس و غيره إلا و هو حاضر معهم في الصف و لم يكن منهم على مسافة و لو كان على مسافة لما طلبوه و لكان لهم فيمن حضر غناء عنه و لو كان على مسافة لما وافق علي ع على تحكيمه و لا كان علي ع ممن يحكم من لم يحضر معه. و قال الأكثرون إنه (14/337)
كان معتزلا للحرب بعيدا عن أهل العراق و أهل الشام. فإن قلت فلم لا يحمل قوله ع فإن كان صادقا فقد أخطأ بسيره غير مستكره على مسيره إلى أمير المؤمنين ع و أهل العراق حيث طلبوه ليفوضوا إليه أمر الحكومة قلت لو حملنا كلامه ع على هذا لم يكن لازما لأبي موسى و كان الجواب عنه هينا و ذلك لأن أبا موسى يقول إنما أنكرت الحرب و ما سرت لأحارب و لا لأشهد الحرب و لا أغري بالحرب و إنما سرت للإصلاح بين الناس و إطفاء نائرة الفتنة فليس يناقض ذلك ما رويته عن الرسول من خبر الفتنة و لا ما قلته في الكوفة في واقعة الجمل قطعوا أوتار قسيكم. شرح نهج البلاغة ج : 13 ص : 313قوله ع فادفعوا في صدر عمرو بن العاص بعبد الله بن العباس يقال لمن يرام كفه عن أمر يتطاول له ادفع في صدره و ذلك لأن من يقدم على أمر ببدنه فيدفع دافع في صدره حقي فإنه يرده أو يكاد فنقل ذلك إلى الدفع المعنوي. قوله ع و خذوا مهل الأيام أي اغتنموا سعة الوقت و خذوه مناهبة قبل أن يضيق بكم أو يفوت. قوله ع و حوطوا قواصي الإسلام ما بعد من الأطراف و النواحي. ثم قال لهم أ لا ترون إلى بلادكم تغزى هذا يدل على أن هذه الخطبة بعد انقضاء أمر التحكيم لأن معاوية بعد أن تم على أبي موسى من الخديعة ما تم استعجل أمره و بعث السرايا إلى أعمال أمير المؤمنين علي ع. و تقول قد رمى فلان صفاة فلان إذا دهاه بداهية قال الشاعر (14/338)
و الدهر يوتر قوسه يرمي صفاتك بالمعابل
و أصل ذلك الصخرة الملساء لا يؤثر فيها السهام و لا يرميها الرامي إلا بعد أن نبل غيرها يقول قد بلغت غارات أهل الشام حدود الكوفة التي هي دار الملك و سرير الخلافة و ذلك لا يكون إلا بعد الإثخان في غيرها من الأطراف
فصل في نسب أبي موسى و الرأي فيه عند المعتزلة
و نحن نذكر نسب أبي موسى و شيئا من سيرته و حاله نقلا من كتاب الإستيعاب لابن عبد البر المحدث و نتبع ذلك بما نقلناه من غير الكتاب المذكور قال ابن عبد البر هو عبد الله بن قيس بن سليم بن حضارة بن حرب بن عامر بن عنز بن بكر بن عامر شرح نهج البلاغة ج : 13 ص : 31ن عذر بن وائل بن ناجية بن الجماهر بن الأشعر و هو نبت بن أدد بن زيد بن يشجب بن عريب بن كهلان بن سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان و أمه امرأة من عك أسلمت و ماتت بالمدينة و اختلف في أنه هل هو من مهاجرة الحبشة أم لا و الصحيح أنه ليس منهم و لكنه أسلم ثم رجع إلى بلاد قومه فلم يزل بها حتى قدم هو و ناس من الأشعريين على رسول الله ص فوافق قدومهم قدوم أهل السفينتين جعفر بن أبي طالب و أصحابه من أرض الحبشة فوافوا رسول الله ص بخيبر فظن قوم أن أبا موسى قدم من الحبشة مع جعفر. و قيل إنه لم يهاجر إلى الحبشة و إنما أقبل في سفينة مع قوم من الأشعريين فرمت الريح سفينتهم إلى أرض الحبشة و خرجوا منها مع جعفر و أصحابه فكان قدومهم معا فظن قوم أنه كان من مهاجرة الحبشة. قال و ولاه رسول الله ص من مخاليف اليمن زبيد و ولاه عمر البصرة لما عزل المغيرة عنها فلم يزل عليها إلى صدر من خلافة عثمان فعزله عثمان عنها و ولاها عبد الله بن عامر بن كريز فنزل أبو موسى الكوفة حينئذ و سكنها فلما كره أهل الكوفة سعيد بن العاص و دفعوه عنها ولوا أبا موسى و كتبوا إلى عثمان يسألونه أن يوليه فأقره على الكوفة فلما قتل عثمان عزله علي ع عنها فلم يزل واجدا لذلك على علي ع حتى جاء منه ما قال حذيفة فيه فقد روى حذيفة فيه كلاما كرهت ذكره و الله يغفر له. قلت الكلام الذي أشار إليه أبو عمر بن عبد البر و لم يذكره قوله فيه و قد ذكر عنده بالدين أما أنتم فتقولون ذلك و أما أنا فأشهد أنه عدو لله و لرسوله و حرب لهما في الحياة الدنيا و يوم يقوم الأشهاد يوم لا ينفع الظالمين معذرتهم و لهم اللعنة و لهم (14/339)
شرح نهج البلاغة ج : 13 ص : 315سوء الدار و كان حذيفة عارفا بالمنافقين أسر إليه رسول الله ص أمرهم و أعلمه أسماءهم. و روي أن عمارا سئل عن أبي موسى فقال لقد سمعت فيه من حذيفة قولا عظيما سمعته يقوصاحب البرنس الأسود ثم كلح كلوحا علمت منه أنه كان ليلة العقبة بين ذلك الرهط. و روي عن سويد بن غفلة قال كنت مع أبي موسى على شاطئ الفرات في خلافة عثمان فروى لي خبرا عن رسول الله ص (14/340)
قال سمعته يقول إن بني إسرائيل اختلفوا فلم يزل الاختلاف بينهم حتى بعثوا حكمين ضالين ضلا و أضلا من اتبعهما و لا ينفك أمر أمتي حتى يبعثوا حكمين يضلان و يضلان من تبعهما
فقلت له احذر يا أبا موسى أن تكون أحدهما قال فخلع قميصه و قال أبرأ إلى الله من ذلك كما أبرأ من قميصي هذا. فأما ما تعتقده المعتزلة فيه فأنا أذكر ما قاله أبو محمد بن متويه في كتاب الكفاية قال رحمه الله أما أبو موسى فإنه عظم جرمه بما فعله و أدى ذلك إلى الضرر الذي لم يخف حاله و كان علي ع يقنت عليه و على غيره
فيقول اللهم العن معاوية أولا و عمرا ثانيا و أبا الأعور السلمي ثالثا و أبا موسى الأشعري رابعا
روي عنه ع أنه كان يقول في أبي موسى صبغ بالعلم صبغا و سلخ منه سلخا
قال و أبو موسى هو الذي
روى عن النبي ص أنه قال كان في شرح نهج البلاغة ج : 13 ص : 316بني إسرائيل حكمان ضالان و سيكون في أمتي حكمان ضالان ضال من اتبعهماو أنه قيل له أ لا يجوز أن تكون أحدهما فقال لا أو كلاما ما هذا معناه فلما بلي به قيل فيه البلاء موكل بالمنطق و لم يثبت في توبته ما ثبت في توبة غيره و إن كان الشيخ أبو علي قد ذكر في آخر كتاب الحكمين أنه جاء إلى أمير المؤمنين ع في مرض الحسن بن علي فقال له أ جئتنا عائدا أم شامتا فقال بل عائدا و حدث بحديث في فضل العيادة. قال ابن متويه و هذه أمارة ضعيفة في توبته. انتهى كلام ابن متويه و ذكرته لك لتعلم أنه عند المعتزلة من أرباب الكبائر و حكمه حكم أمثاله ممن واقع كبيرة و مات عليها. قال أبو عمر بن عبد البر و اختلف في تاريخ موته فقيل سنة اثنتين و أربعين و قيل سنة أربع و أربعين و قيل سنة خمسين و قيل سنة اثنتين و خمسين. و اختلف في قبره فقيل مات بمكة و دفن بها و قيل مات بالكوفة و دفن بها (14/341)
شرح نهج البلاغة ج : 13 ص : 243317- و من خطبة له ع يذكر فيها آل محمد صهُمْ عَيْشُ الْعِلْمِ وَ مَوْتُ الْجَهْلِ يُخْبِرُكُمْ حِلْمُهُمْ عَنْ عِلْمِهِمْ وَ ظَاهِرُهُمْ عَنْ بَاطِنِهِمْ وَ صَمْتُهُمْ عَنْ حُكْمِ مَنْطِقِهِمْ لَا يُخَالِفُونَ الْحَقَّ وَ لَا يَخْتَلِفُونَ فِيهِ وَ هُمْ دَعَائِمُ الْإِسْلَامِ وَ وَلَائِجُ الِاعْتِصَامِ بِهِمْ عَادَ الْحَقُّ إِلَى نِصَابِهِ وَ انْزَاحَ الْبَاطِلُ عَنْ مَقَامِهِ وَ انْقَطَعَ لِسَانُهُ عَنْ مَنْبِتِهِ عَقَلُوا الدِّينَ عَقْلَ وِعَايَةٍ وَ رِعَايَةٍ لَا عَقْلَ سَمَاعٍ وَ رِوَايَةٍ فَإِنَّ رُوَاةَ الْعِلْمِ كَثِيرٌ وَ رُعَاتَهُ قَلِيلٌ
يقول بهم يحيا العلم و يموت الجهل فسماهم حياة ذاك و موت هذا نظرا إلى السببية يدلكم حلمهم و صفحهم عن الذنوب على علمهم و فضائلهم و يدلكم ما ظهر منهم من الأفعال الحسنة على ما بطن من إخلاصهم و يدلكم صمتهم و سكوتهم عما لا يعنيهم عن حكمة منطقهم و يروى و يدلكم صمتهم على منطقهم و ليس في هذه الرواية لفظة حكم. لا يخالفون الحق لا يعدلون عنه و لا يختلفون فيه كما يختلف غيرهم من الفرق و أرباب المذاهب فمنهم من له في المسألة قولان و أكثر و منهم من يقول قولا ثم يرجع عنه و منهم من يرى في أصول الدين رأيا ثم ينفيه و يتركه. شرحنهج البلاغة ج : 13 ص : 318و دعائم الإسلام أركانه. و الولائج جمع وليجة و هي الموضع يدخل إليه و يستتر فيه و يعتصم به. و عاد الحق إلى نصابه رجع إلى مستقره و موضعه و انزاح الباطل زال و انقطع لسانه انقطع حجته. عقلوا الدين عقل رعاية أي عرفوا الدين و علموه معرفةمن وعى الشي ء و فهمه و أتقنه و وعاية أي وعوا الدين و حفظوه و حاطوه ليس كما يعقله غيرهم عن سماع و رواية فإن من يروي العلم و يسنده إلى الرجال و يأخذه من أفواه الناس كثير و من يحفظ العلم حفظ فهم و إدراك أصالة لا تقليدا قليل تم الجزء الثالث عشر من شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد و يليه الجزء الرابع عشر (14/342)
شرح نهج البلاغة ج : 14 ص : 3الجزء الرابع عشرباب الكتب و الرسائل (15/1)
شرح نهج البلاغة ج : 14 ص : 5 باب المختار من كتب مولانا أمير المؤمنين ع و رسائله إلى أعدائه و أولياء بلاده و يدخل في ذلك ما اختير من عهوده إلى عماله و وصاياه لأهله و أصحابهلما فرغ من إيراد المختار من خطب أمير المؤمنين ع و كلامه الجاري مجرى الخطب من المواعظ و الزواجر شرع في إيراد باب من مختار كلامه ع و هو ما كان جاريا مجرى الرسائل و الكتب و يدخل في ذلك العهود و الوصايا و قد أورد في هذا الباب ما هو بالباب الأول أشبه نحو كلامه ع لشريح القاضي لما اشترى دارا و كلامه لشريح بن هانئ لما جعله على مقدمته إلى الشام. و سمى ما يكتب للولاة عهدا اشتقاقا من قولهم عهدت إلى فلان أي أوصيته شرح نهج البلاغة ج : 14 ص : 1- من كتاب له ع إلى أهل الكوفة عند مسيره من المدينة إلى البصرة
مِنْ عَبْدِ اللَّهِ عَلِيٍّ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ إِلَى أَهْلِ الْكُوفَةِ جَبْهَةِ الْأَنْصَارِ وَ سَنَامِ الْعَرَبِ أَمَّا بَعْدُ فَإِنِّي أُخْبِرُكُمْ عَنْ أَمْرِ عُثْمَانَ حَتَّى يَكُونَ سَمْعُهُ كَعِيَانِهِ إِنَّ النَّاسَ طَعَنُوا عَلَيْهِ فَكُنْتُ رَجُلًا مِنَ الْمُهَاجِرِينَ أُكْثِرُ اسْتِعْتَابَهُ وَ أُقِلُّ عِتَابَهُ وَ كَانَ طَلْحَةُ وَ الزُّبَيْرُ أَهْوَنُ سَيْرِهِمَا فِيهِ الْوَجِيفُ وَ أَرْفَقُ حِدَائِهِمَا الْعَنِيفُ وَ كَانَ مِنْ عَائِشَةَ فِيهِ فَلْتَةُ غَضَبٍ فَأُتِيحَ لَهُ قَوْمٌ قَتَلُوهُ وَ بَايَعَنِي النَّاسُ غَيْرَ مُسْتَكْرَهِينَ وَ لَا مُجْبَرِينَ بَلْ طَائِعِينَ مُخَيَّرِينَ وَ اعْلَمُوا أَنَّ دَارَ الْهِجْرَةِ قَدْ قَلَعَتْ بِأَهْلِهَا وَ قَلَعُوا بِهَا وَ جَاشَتْ جَيْشَ الْمِرْجَلِ وَ قَامَتِ الْفِتْنَةُ عَلَى الْقُطْبِ فَأَسْرِعُوا إِلَى أَمِيرِكُمْ وَ بَادِرُوا جِهَادَ عَدُوِّكُمْ إِنْ شَاءَ اللَّهُ
قوله جبهة الأنصار يمكن أن يريد جماعة الأنصار فإن الجبهة في اللغة الجماعة و يمكن أن يريد به سادة الأنصار و أشرافهم لأن جبهة الإنسان أعلى أعضائه و ليس يريد بالأنصار هاهنا بني قيلة بل الأنصار هاهنا الأعوان. شرح نهج البلاغة ج : 14 ص : 7قوله ع و سنام العرب أيهل الرفعة و العلو منهم لأن السنام أعلى أعضاء البعير. قوله ع أكثر استعتابه و أقل عتابه الاستعتاب طلب العتبى و هي الرضا قال كنت أكثر طلب رضاه و أقل عتابه و تعنيفه على الأمور و أما طلحة و الزبير فكانا شديدين عليه. و الوجيف سير سريع و هذا مثل للمشمرين في الطعن عليه حتى إن السير السريع أبطأ ما يسيران في أمره و الحداء العنيف أرفق ما يحرضان به عليه. و دار الهجرة المدينة. و قوله قد قلعت بأهلها و قلعوا بها الباء هاهنا زائدة في أحد الموضعين و هو الأول و بمعنى من في الثاني يقول فارقت أهلها و فارقوها و منه قولهم هذا منزل قلعة أي ليس بمستوطن. و جاشت اضطربت و المرجل القدر. و من لطيف الكلام قوله ع فكنت رجلا من المهاجرين فإن في ذلك من التخلص و التبري ما لا يخفى على المتأمل أ لا ترى أنه لم يبق عليه في ذلك حجة لطاعن حيث كان قد جعل نفسه كواحد من عرض المهاجرين الذين بنفر يسير منهم انعقدت خلافة أبي بكر و هم أهل الحل و العقد و إنما كان الإجماع حجة لدخولهم فيه. و من لطيف الكلام أيضا قوله فأتيح له قوم قتلوه و لم يقل أتاح الله له قوما و لا قال أتاح له الشيطان قوما و جعل الأمر مبهما. و قد ذكر أن خط الرضي رحمه الله مستكرهين بكسر الراء و الفتح أحسن و أصوب و إن كان قد جاء استكرهت الشي ء بمعنى كرهته. شرح نهج البلاغة ج : 14 ص : 8و قال الراوندي المراد بدار الهجرة هاهنا الكوفة التي هاجر أمير المؤمنين ع إليها و ليس بصحيح بل المراد المدينة و سياق الكلام يقتضي ذلك و لأنه كان حين كتب هذا الكتالى أهل الكوفة بعيدا عنهم فكيف يكتب إليهم يخبرهم عن أنفسهم (15/2)
أخبار علي عند مسيره إلى البصرة و رسله إلى أهل الكوفة (15/3)
و روى محمد بن إسحاق عن عمه عبد الرحمن بن يسار القرشي قال لما نزل علي ع الربذة متوجها إلى البصرة بعث إلى الكوفة محمد بن جعفر بن أبي طالب و محمد بن أبي بكر الصديق و كتب إليهم هذا الكتاب و
زاد في آخره فحسبي بكم إخوانا و للدين أنصارا ف انْفِرُوا خِفافاً وَ ثِقالًا وَ جاهِدُوا بِأَمْوالِكُمْ وَ أَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ
و روى أبو مخنف قال حدثني الصقعب قال سمعت عبد الله بن جنادة يحدث أن عليا ع لما نزل الربذة بعث هاشم بن عتبة بن أبي وقاص إلى أبي موسى الأشعري و هو الأمير يومئذ على الكوفة لينفر إليه الناس و كتب إليه معه من عبد الله علي أمير المؤمنين إلى عبد الله بن قيس أما بعد فإني قد بعثت إليك هاشم بن عتبة لتشخص إلي من قبلك من المسلمين ليتوجهوا إلى قوم نكثوا بيعتي و قتلوا شيعتي و أحدثوا في الإسلام هذا الحدث العظيم فاشخص بالناس إلي معه حين يقدم عليك فإني لم أولك المصر الذي أنت فيه و لم أقرك عليه إلا لتكون من أعواني على الحق و أنصاري على هذا الأمر و السلام
شرح نهج البلاغة ج : 14 ص : 9فأما رواية محمد بن إسحاق فإنه قال لما قدم محمد بن جعفر و محمد بن أبي بكر الكوفة استنفرا الناس فدخل قوم منهم على أبي موسى ليلا فقالوا له أشر علينا برأيك في الخروج مع هذين الرجلين إلى علي ع فقال أما سبيل الآخرة فالزموا بيوتكم وما سبيل الدنيا فاشخصوا معهما فمنع بذلك أهل الكوفة من الخروج و بلغ ذلك المحمدين فأغلظا لأبي موسى فقال أبو موسى و الله إن بيعة عثمان لفي عنق علي و عنقي و أعناقكما و لو أردنا قتالا ما كنا لنبدأ بأحد قبل قتلة عثمان فخرجا من عنده فلحقا بعلي ع فأخبراه الخبر. و أما رواية أبي مخنف فإنه قال إن هاشم بن عتبة لما قدم الكوفة دعا أبو موسى السائب بن مالك الأشعري فاستشاره فقال اتبع ما كتب به إليك فأبى ذلك و حبس الكتاب و بعث إلى هاشم يتوعده و يخوفه. قال السائب فأتيت هاشما فأخبرته برأي أبي موسى فكتب إلى علي ع لعبد الله علي أمير المؤمنين من هاشم بن عتبة أما بعد يا أمير المؤمنين فإني قدمت بكتابك على امرئ مشاق بعيد الود ظاهر الغل و الشنآن فتهددني بالسجن و خوفني بالقتل و قد كتبت إليك هذا الكتاب مع المحل بن خليفة أخي طيئ و هو من شيعتك و أنصارك و عنده علم ما قبلنا فاسأله عما بدا لك و اكتب إلي برأيك و السلام. قال فلما قدم المحل بكتاب هاشم على علي ع سلم عليه ثم قال الحمد لله الذي أدى الحق إلى أهله و وضعه موضعه فكره ذلك قوم قد و الله كرهوا نبوة محمد ص ثم بارزوه و جاهدوه فرد الله عليهم كيدهم في نحورهم و جعل دائرة السوء عليهم و الله يا أمير المؤمنين لنجاهدنهم معك في كل موطن حفظا لرسول الله ص في أهل بيته إذ صاروا أعداء لهم بعده. شرح نهج البلاغة ج : 14 ص : 10فرحب به علي ع و قال له خيرا ثم أجلسه إلى جانبه و قرأ كتاب هاشم و سأله عن الناس و عن أبي موسى فقال و الله يا أمير المؤمنين ما أثق به لا آمنه على خلافك إن وجد من يساعده على ذلك فقال علي ع و الله ما كان (15/4)
عندي بمؤتمن و لا ناصح و لقد أردت عزله فأتاني الأشتر فسألني أن أقره و ذكر أن أهل الكوفة به راضون فأقررته و (15/5)
روى أبو مخنف قال و بعث علي ع من الربذة بعد وصول المحل بن خليفة أخي طيئ عبد الله بن عباس و محمد بن أبي بكر إلى أبي موسى و كتب معهما من عبد الله علي أمير المؤمنين إلى عبد الله بن قيس أما بعد يا ابن الحائك يا عاض أير أبيه فو الله إني كنت لأرى أن بعدك من هذا الأمر الذي لم يجعلك الله له أهلا و لا جعل لك فيه نصيبا سيمنعك من رد أمري و الانتزاء علي و قد بعثت إليك ابن عباس و ابن أبي بكر فخلهما و المصر و أهله و اعتزل عملنا مذءوما مدحورا فإن فعلت و إلا فإني قد أمرتهما أن ينابذاك على سواء إن الله لا يهدي كيد الخائنين فإذا ظهرا عليك قطعاك إربا إربا و السلام على من شكر النعمة و وفى بالبيعة و عمل برجاء العاقبة
قال أبو مخنف فلما أبطأ ابن عباس و ابن أبي بكر عن علي ع و لم يدر ما صنعا رحل عن الربذة إلى ذي قار فنزلها فلما نزل ذا قار بعث إلى الكوفة الحسن ابنه ع و عمار بن ياسر و زيد بن صوحان و قيس بن سعد بن عبادة و معهم كتاب إلى أهل الكوفة فأقبلوا حتى كانوا بالقادسية فتلقاهم الناس فلما دخلوا الكوفة قرءوا
كتاب علي و هو من عبد الله علي أمير المؤمنين إلى من بالكوفة من المسلمين شرح نهج البلاغة ج : 14 ص : 11أما بعد فإني خرجت مخرجي هذا إما ظالما و إما مظلوما و إما باغيا و إما مبغيا علي فأنشد الله رجلا بلغه كتابي هذا إلا نفر إلي فإن كنت مظلوما أعانني و إن كنت لما استعتبني و السلام
قال أبو مخنف فحدثني موسى بن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن أبيه قال أقبلنا مع الحسن و عمار بن ياسر من ذي قار حتى نزلنا القادسية فنزل الحسن و عمار و نزلنا معهما فاحتبى عمار بحمائل سيفه ثم جعل يسأل الناس عن أهل الكوفة و عن حالهم ثم سمعته يقول ما تركت في نفسي حزة أهم إلي من ألا نكون نبشنا عثمان من قبره ثم أحرقناه بالنار.
قال فلما دخل الحسن و عمار الكوفة اجتمع إليهما الناس فقام الحسن فاستنفر الناس فحمد الله و صلى على رسوله ثم قال أيها الناس إنا جئنا ندعوكم إلى الله و إلى كتابه و سنة رسوله و إلى أفقه من تفقه من المسلمين و أعدل من تعدلون و أفضل من تفضلون و أوفى من تبايعون من لم يعبه القرآن و لم تجهله السنة و لم تقعد به السابقة إلى من قربه الله تعالى إلى رسوله قرابتين قرابة الدين و قرابة الرحم إلى من سبق الناس إلى كل مأثرة إلى من كفى الله به رسوله و الناس متخاذلون فقرب منه و هم متباعدون و صلى معه و هم مشركون و قاتل معه و هم منهزمون و بارز معهم و هم محجمون و صدقه و هم يكذبون إلى من لم ترد له رواية و لا تكافأ له سابقة و هو يسألكم النصر و يدعوكم إلى الحق و يأمركم بالمسير إليه لتوازروه و تنصروه على قوم نكثوا بيعته و قتلوا أهل الصلاح من أصحابه و مثلوا بعماله و انتهبوا بيت ماله فاشخصوا إليه رحمكم الله فمروا بالمعروف و انهوا عن المنكر و احضروا بما يحضر به الصالحون (15/6)
قال أبو مخنف حدثني جابر بن يزيد قال حدثني تميم بن حذيم الناجي قال قدم علينا شرح نهج البلاغة ج : 14 ص : 12الحسن بن علي ع و عمار بن ياسر يستنفران الناس إلى علي ع و معهما كتابه فلما فرغا من قراءة كتابه قام الحسن و هو فتى حدث و الله إني لأرثي له من حداثة سنه صعوبة مقامه فرماه الناس بأبصارهم و هم يقولون اللهم سدد منطق ابن بنت نبينا فوضع يده على عمود يتساند إليه و كان عليلا من شكوى به
فقال الحمد لله العزيز الجبار الواحد القهار الكبير المتعال سواء منكم من أسر القول و من جهر به و من هو مستخف بالليل و سارب بالنهار أحمده على حسن البلاء و تظاهر النعماء و على ما أحببنا و كرهنا من شدة و رخاء و أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له و أن محمدا عبده و رسوله امتن علينا بنبوته و اختصه برسالته و أنزل عليه وحيه و اصطفاه على جميع خلقه و أرسله إلى الإنس و الجن حين عبدت الأوثان و أطيع الشيطان و جحد الرحمن فصلى الله عليه و على آله و جزاه أفضل ما جزى المسلمين أما بعد فإني لا أقول لكم إلا ما تعرفون إن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب أرشد الله أمره و أعز نصره بعثني إليكم يدعوكم إلى الصواب و إلى العمل بالكتاب و الجهاد في سبيل الله و إن كان في عاجل ذلك ما تكرهون فإن في آجله ما تحبون إن شاء الله و لقد علمتم أن عليا صلى مع رسول الله ص وحده و إنه يوم صدق به لفي عاشرة من سنه ثم شهد مع رسول الله ص جميع مشاهده و كان من اجتهاده في مرضاة الله و طاعة رسوله و آثاره الحسنة في الإسلام ما قد بلغكم و لم يزل رسول الله ص راضيا عنه حتى غمضه بيده و غسله وحده و الملائكة أعوانه و الفضل ابن عمه ينقل إليه الماء ثم أدخله حفرته و أوصاه بقضاء دينه و عداته و غير ذلك من أموره كل ذلك من من الله عليه ثم و الله ما دعا إلى نفسه و لقد تداك الناس عليه تداك الإبل الهيم عند ورودها فبايعوه طائعين ثم نكث منهم ناكثون بلا حدث أحدثه و لا خلاف أتاه حسدا له و بغيا عليه فعليكم عباد الله بتقوى الله و طاعته و الجد و الصبر و الاستعانة بالله شرح نهج البلاغة ج : 14 ص : 13و الخفوف إلى ما دعاكم إليه أمير المؤمنين عصمنا الله و إياكم بما عصم به أولياءه و أهل طاعته و ألهمنا و إياكم تقواه و أعاننا و إياكم على جهاد أعدائه و أستغفر الله العظيم لي و لكمثم مضى إلى الرحبة فهيأ منزلا لأبيه أمير المؤمنين. قال جابر فقلت لتميم كيف أطاق (15/7)
هذا الغلام ما قد قصصته من كلامه فقال و لما سقط عني من قوله أكثر و لقد حفظت بعض ما سمعت. قال و لما نزل علي ع ذا قار كتبت عائشة إلى حفصة بنت عمر أما بعد فإني أخبرك أن عليا قد نزل ذا قار و أقام بها مرعوبا خائفا لما بلغه من عدتنا و جماعتنا فهو بمنزلة الأشقر إن تقدم عقر و إن تأخر نحر فدعت حفصة جواري لها يتغنين و يضربن بالدفوف فأمرتهن أن يقلن في غنائهن ما الخبر ما الخبر علي في السفر كالفرس الأشقر إن تقدم عقر و إن تأخر نحر. و جعلت بنات الطلقاء يدخلن على حفصة و يجتمعن لسماع ذلك الغناء. فبلغ أم كلثوم بنت علي ع فلبست جلابيبها و دخلت عليهن في نسوة متنكرات ثم أسفرت عن وجهها فلما عرفتها حفصة خجلت و استرجعت فقالت أم كلثوم لئن تظاهرتما عليه منذ اليوم لقد تظاهرتما على أخيه من قبل فأنزل الله فيكما ما أنزل فقالت حفصة كفى رحمك الله و أمرت بالكتاب فمزق و استغفرت الله. قال أبو مخنف روى هذا جرير بن يزيد عن الحكم و رواه الحسن بن دينار عن الحسن البصري و ذكر الواقدي مثل ذلك و ذكر المدائني أيضا مثله قال فقال سهل بن حنيف في ذلك هذه الأشعار شرح نهج البلاغة : 14 ص : 14 (15/8)
عذرنا الرجال بحرب الرجال فما للنساء و ما للسباب أ ما حسبنا ما أتينا به لك الخير من هتك ذاك الحجاب و مخرجها اليوم من بيتها يعرفها الذنب نبح الكلاب إلى أن أتانا كتاب لها مشوم فيا قبح ذاك الكتقال فحدثنا الكلبي عن أبي صالح أن عليا ع لما نزل ذا قار في قلة من عسكره صعد الزبير منبر البصرة فقال أ لا ألف فارس أسير بهم إلى علي فأبيته بياتا و أصبحه صباحا قبل أن يأتيه المدد فلم يجبه أحد فنزل واجما و قال هذه و الله الفتنة التي كنا نحدث بها فقال له بعض مواليه رحمك الله يا أبا عبد الله تسميها فتنة ثم نقاتل فيها فقال ويحك و الله إنا لنبصر ثم لا نصبر فاسترجع المولى ثم خرج في الليل فارا إلى علي ع فأخبره فقال اللهم عليك به. قال أبو مخنف و لما فرغ الحسن بن علي ع من خطبته قام بعده عمار فحمد الله و أثنى عليه و صلى على رسوله ثم قال أيها الناس أخو نبيكم و ابن عمه يستنفركم لنصر دين الله و قد بلاكم الله بحق دينكم و حرمة أمكم فحق دينكم أوجب و حرمته أعظم أيها الناس عليكم بإمام لا يؤدب و فقيه لا يعلم و صاحب بأس لا ينكل و ذي سابقة في الإسلام ليست لأحد و إنكم لو قد حضرتموه بين لكم أمركم إن شاء الله. قال فلما سمع أبو موسى خطبة الحسن و عمار قام فصعد المنبر و قال الحمد لله الذي أكرمنا بمحمد فجمعنا بعد الفرقة و جعلنا إخوانا متحابين بعد العداوة و حرم علينا دماءنا و أموالنا قال الله سبحانه وَ لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ شرح نهج البلاغة ج : 14 ص : 15و قال تعالى وَ مَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزاؤُهُ جَهَنَّمُ خالِداً فِيها فاتقوا الله عباد الله و ضعوا أسلحتكم و كفوا عن قتال إخوانكم. أما بعد يا أهل الكوفة إن تطيعوا الله باديا و تطيعوني ثانيا تكونوارثومة من جراثيم العرب يأوي إليكم المضطر و يأمن فيكم الخائف إن عليا إنما يستنفركم لجهاد أمكم عائشة و طلحة و الزبير حواري رسول الله و (15/9)
من معهم من المسلمين و أنا أعلم بهذه الفتن أنها إذا أقبلت شبهت و إذا أدبرت أسفرت إني أخاف عليكم أن يلتقي غاران منكم فيقتتلا ثم يتركا كالأحلاس الملقاة بنجوة من الأرض ثم يبقى رجرجة من الناس لا يأمرون بالمعروف و لا ينهون عن منكر إنها قد جاءتكم فتنة كافرة لا يدرى من أين تؤتى تترك الحليم حيران كأني أسمع رسول الله ص بالأمس يذكر الفتن فيقول أنت فيها نائما خير منك قاعدا و أنت فيها جالسا خير منك قائما و أنت فيها قائما خير منك ساعيا فثلموا سيوفكم و قصفوا رماحكم و انصلوا سهامكم و قطعوا أوتاركم و خلوا قريشا ترتق فتقها و ترأب صدعها فإن فعلت فلأنفسها ما فعلت و إن أبت فعلى أنفسها ما جنت سمنها في أديمها استنصحوني و لا تستغشوني و أطيعوني و لا تعصوني يتبين لكم رشدكم و يصلى هذه الفتنة من جناها فقام إليه عمار بن ياسر فقال أنت سمعت رسول الله ص يقول ذلك قال نعم هذه يدي بما قلت فقال إن كنت صادقا فإنما عناك بذلك وحدك و اتخذ عليك الحجة فالزم بيتك و لا تدخلن في الفتنة أما إني أشهد أن رسول الله ص أمر عليا بقتال الناكثين و سمى له فيهم من سمى و أمره بقتال القاسطين و إن شئت لأقيمن لك شهودا يشهدون أن رسول الله ص شرح نهج البلاغة ج : 14 ص : 16إنما نهاك وحدك و حذرك من الدخول في الفتنة ثم قال له أعطني يدك على ما سمعت فمد إليه يده فقال له عمار غلب الله من غالبه و جده ثم جذبه فنزل عن المنبر. و روى محمد بن جرير الطبري في التاريخ قال لما أتى عليا ع الخبر و هو بالمدينة بأمر عائشة و طلحة و الزبير و أنهم قد توجهوا نحو العراق خرج يبادر و هو يرجو أن يدركهم و يردهم فلما انتهى إلى الربذة أتاه عنهم أنهم قد أمعنوا فأقام بالربذة أياما و أتاه عنهم أنهم يريدون البصرة فسر بذلك و قال إن أهل الكوفة أشد لي حبا و فيهم رؤساء العرب و أعلامهم فكتب إليهم إني قد اخترتكم على الأمصار و إني بالأثر. (15/10)
قال أبو جعفر محمد بن جرير رحمه الله كتب علي ع من الربذة إلى أهل الكوفة أما بعد فإني قد اخترتكم و آثرت النزول بين أظهركم لما أعرف من مودتكم و حبكم لله و رسوله فمن جاءني و نصرني فقد أجاب الحق و قضى الذي عليه (15/11)
قال أبو جعفر فأول من بعثه علي ع من الربذة إلى الكوفة محمد بن أبي بكر و محمد بن جعفر فجاء أهل الكوفة إلى أبي موسى و هو الأمير عليهم ليستشيروه في الخروج إلى علي بن أبي طالب ع فقال لهم أما سبيل الآخرة فأن تقعدوا و أما سبيل الدنيا فأن تخرجوا. و بلغ المحمدين قول أبي موسى الأشعري فأتياه و أغلظا له فأغلظ لهما و قال شرح نهج البلاغة ج : 14 ص : 17لا يحل لك القتال مع علي حتى لا يبقى أحد من قتلة عثمان إلا قتل حيث كان و قالت أخت علي بن عدي من بني عبد العزى بن عبد شمس و كان أخوها علي بن عدي من شيعة علي ع و في جملة عسكر
لا هم فاعقر بعلي جمله و لا تبارك في بعير حمله ألا علي بن عدي ليس لهقال أبو جعفر ثم أجمع علي ع على المسير من الربذة إلى البصرة فقام إليه رفاعة بن رافع فقال يا أمير المؤمنين أي شي ء تريد و أين تذهب بنا قال أما الذي نريد و ننوي فإصلاح إن قبلوا منا و أجابوا إليه قال فإن لم يقبلوا قال ندعوهم و نعطيهم من الحق ما نرجو أن يرضوا ه قال فإن لم يرضوا قال ندعهم ما تركونا قال فإن لم يتركونا قال نمتنع منهم قال فنعم إذا. و قام الحجاج بن غزية الأنصاري فقال و الله يا أمير المؤمنين لأرضينك بالفعل كما أرضيتني منذ اليوم بالقول ثم قال
دراكها دراكها قبل الفوت و انفر بنا و اسم بنا نحو الصوت لا وألت نفسي إن خفت الموتو لله لننصرن الله عز و جل كما سمانا أنصارا. قال أبو جعفر رحمه الله و سار علي ع نحو البصرة و رأيته مع ابنه محمد بن الحنفية و على ميمنته عبد الله بن عباس و على ميسرته عمر بن أبي سلمة و علي ع في القلب على ناقة حمراء يقود فرسا كميتا فتلقاه بفيد غلام من شرح نه البلاغة ج : 14 ص : 18بني سعد بن ثعلبة يدعى مرة فقال من هؤلاء قيل هذا أمير المؤمنين فقال سفرة قانية فيها دماء من نفوس فانية فسمعها علي ع فدعاه فقال ما اسمك قال مرة قال أمر الله عيشك أ كاهن سائر اليوم قال بل عائف فخلى سبيله و نزل بفيد فأتته أسد و طيئ فعرضو عليه أنفسهم فقال الزموا قراركم ففي المهاجرين كفاية. و قدم رجل من الكوفة فيدا فأتى عليا ع فقال له من الرجل قال عامر بن مطرف قال الليثي قال الشيباني قال أخبرني عما وراءك قال إن أردت الصلح فأبو موسى صاحبك و إن أردت القتال فأبو موسى ليس لك بصاحب فقال ع ما أريد إلا الصلح إلا أن يرد علينا (15/12)
قال أبو جعفر و قدم عليه عثمان بن حنيف و قد نتف طلحة و الزبير شعر رأسه و لحيته و حاجبيه فقال يا أمير المؤمنين بعثتني ذا لحية و جئتك أمرد فقال أصبت خيرا و أجرا ثم قال أيها الناس إن طلحة و الزبير بايعاني ثم نكثاني بيعتي و ألبا علي الناس و من العجب انقيادهما لأبي بكر و عمر و خلافهما علي و الله إنهما ليعلمان أني لست بدونهما اللهم فاحلل ما عقدا و لا تبرم ما قد أحكما في أنفسهما و أرهما المساءة فيما قد عملا
قال أبو جعفر و عاد محمد بن أبي بكر و محمد بن جعفر إلى علي ع فلقياه و قد انتهى إلى ذي قار فأخبراه الخبر فقال علي ع لعبد الله بن العباس اذهب أنت إلى الكوفة فادع أبا موسى إلى الطاعة و حذره من العصيان و الخلاف و استنفر الناس فذهب عبد الله بن عباس حتى قدم الكوفة فلقي أبا موسى و اجتمع الرؤساء من أهل الكوفة فقام أبو موسى فخطبهم و قال إن أصحاب رسول الله ص صحبوه في مواطن كثيرة فهم أعلم بالله ممن لم يصحبه و إن لكم علي حقا شرح نهج البلاغة ج : 14 ص : 19و أنا مؤديه إليكم أمر ألا تستخفوا بسلطان الله و ألا تجترءوا على اه أن تأخذوا كل من قدم عليكم من أهل المدينة في هذا الأمر فتردوه إلى المدينة حتى تجتمع الأمة على إمام ترتضي به إنها فتنة صماء النائم فيها خير من اليقظان و اليقظان خير من القاعد و القاعد خير من القائم و القائم خير من الراكب فكونوا جرثومة من جراثيم العرب أغمدوا سيوفكم و أنصلوا أسنتكم و اقطعوا أوتار قسيكم حتى يلتئم هذا الأمر و تنجلي هذه الفتنة. قال أبو جعفر رحمه الله فرجع ابن عباس إلى علي ع فأخبره فدعا الحسن ابنه ع و عمار بن ياسر و أرسلهما إلى الكوفة فلما قدماها كان أول من أتاهما مسروق بن الأجدع فسلم عليهما و أقبل على عمار فقال يا أبا اليقظان علام قتلتم أمير المؤمنين قال على شتم أعراضنا و ضرب أبشارنا قال فو الله ما عاقبتم بمثل ما عوقبتم به و لئن صبرتم لكان خيرا للصابرين ثم خرج أبو موسى فلقي الحسن ع فضمه إليه و قال لعمار يا أبا اليقظان أ غدوت فيمن غدا على أمير المؤمنين و أحللت نفسك مع الفجار قال لم أفعل و لم تسوءني فقطع عليهما الحسن و قال لأبي موسى يا أبا موسى لم تثبط الناس عنا فو الله ما أردنا إلا الإصلاح و ما مثل أمير المؤمنين يخاف على شي ء قال أبو موسى صدقت بأبي و أمي و لكن المستشار مؤتمن سمعت رسول الله ص يقول تكون فتنة و ذكر تمام الحديث فغضب عمار و ساءه ذلك و قال أيها الناس (15/13)
إنما قال رسول الله ص ذلك له خاصة و قام رجل من بني تميم فقال لعمار اسكت أيها العبد أنت أمس مع الغوغاء و تسافه أميرنا اليوم و ثار زيد بن صوحان و طبقته فانتصروا لعمار و جعل أبو موسى يكف الناس و يردعهم عن الفتنة ثم انطلق حتى صعد المنبر و أقبل زيد بن صوحان و معه كتاب من عائشة إليه خاصة و كتاب منها إلى أهل الكوفة عامة تثبطهم عن نصرة شرح نهج البلاغة ج : 14 ص : 20علي و تأمرهم بلزوم الأرض و قال أيها الناس انظروا إلى هذه أمرت أن تقر في بيتها و أمرنا ن أن نقاتل حتى لا تكون فتنة فأمرتنا بما أمرت به و ركبت ما أمرنا به فقام إليه شبث بن ربعي فقال له و ما أنت و ذاك أيها العماني الأحمق سرقت أمس بجلولاء فقطعك الله و تسب أم المؤمنين فقام زيد و شال يده المقطوعة و أومأ بيده إلى أبي موسى و هو على المنبر و قال له يا عبد الله بن قيس أ ترد الفرات عن أمواجه دع عنك ما لست تدركه ثم قرأ الم أَ حَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا... الآيتين ثم نادى سيروا إلى أمير المؤمنين و صراط سيد المرسلين و انفروا إليه أجمعين و قام الحسن بن علي ع فقال أيها الناس أجيبوا دعوة إمامكم و سيروا إلى إخوانكم فإنه سيوجد لهذا الأمر من ينفر إليه و الله لأن يليه أولو النهى أمثل في العاجلة و خير في العاقبة فأجيبوا دعوتنا و أعينونا على أمرنا أصلحكم الله. و قام عبد خير فقال يا أبا موسى أخبرني عن هذين الرجلين أ لم يبايعا عليا قال بلى قال أ فأحدث علي حدثا يحل به نقض بيعته قال لا أدري قال لا دريت و لا أتيت إذا كنت لا تدري فنحن تاركوك حتى تدري أخبرني هل تعلم أحدا خارجا عن هذه الفرق الأربع علي بظهر الكوفة و طلحة و الزبير بالبصرة و معاوية بالشام و فرقة رابعة بالحجاز قعود لا يجبى بهم في ء لا يقاتل بهم عدو فقال أبو موسى أولئك خير الناس قال عبد خير اسكت يا أبا موسى فقد غلب عليك غشك. قال أبو جعفر و أتت الأخبار عليا ع (15/14)
باختلاف الناس بالكوفة فقال للأشتر أنت شفعت في أبي موسى أن أقره على الكوفة فاذهب فأصلح ما أفسدت (15/15)
شرح نهج البلاغة ج : 14 ص : 21فقام الأشتر فشخص نحو الكوفة فأقبل حتى دخلها و الناس في المسجد الأعظم فجعل لا يمر بقبيلة إلا دعاهم و قال اتبعوني إلى القصر حتى وصل القصر فاقتحمه و أبو موسى يومئذ يخطب الناس على المنبر و يثبطهم و عمار يخاطبه و الحسن ع يقول اعت عملنا و تنح عن منبرنا لا أم لك. قال أبو جعفر فروى أبو مريم الثقفي قال و الله إني لفي المسجد يومئذ إذ دخل علينا غلمان أبي موسى يشتدون و يبادرون أبا موسى أيها الأمير هذا الأشتر قد جاء فدخل القصر فضربنا و أخرجنا فنزل أبو موسى من المنبر و جاء حتى دخل القصر فصاح به الأشتر اخرج من قصرنا لا أم لك أخرج الله نفسك فو الله إنك لمن المنافقين قديما قال أجلني هذه العشية قال قد أجلتك و لا تبيتن في القصر الليلة و دخل الناس ينتهبون متاع أبي موسى فمنعهم الأشتر و قال إني قد أخرجته و عزلته عنكم فكف الناس حينئذ عنه.
قال أبو جعفر فروى الشعبي عن أبي الطفيل قال قال علي ع يأتيكم من الكوفة اثنا عشر ألف رجل و رجل واحد
فو الله لقعدت على نجفة ذي قار فأحصيتهم واحدا واحدا فما زادوا رجلا و لا نقصوا رجلا
فصل في نسب عائشة و أخبارها
و ينبغي أن نذكر في هذا الموضع طرفا من نسب عائشة و أخبارها و ما يقوله أصحابنا المتكلمون فيها جريا على عادتنا في ذكر مثل ذلك كلما مررنا بذكر أحد من الصحابة شرح نهج البلاغة ج : 14 ص : 22أما نسبها فإنها ابنة أبي بكر و قد ذكرنا نسبه فيما تقدم و أمها أم رومان نة عامر بن عويمر بن عبد شمس بن عتاب بن أذينة بن سبيع بن دهمان بن الحارث بن تميم بن مالك بن كنانة تزوجها رسول الله ص بمكة قبل الهجرة بسنتين و قيل بثلاث و هي بنت ست سنين و قيل بنت سبع سنين و بنى عليها بالمدينة و هي بنت تسع لم يختلفوا في ذلك. و كانت تذكر لجبير بن مطعم و تسمى له و ورد في الأخبار الصحيحة أن رسول الله ص أري عائشة في المنام في سرقة حرير متوفى خديجة رضي الله عنها فقال إن يكن هذا من عند الله يمضه فتزوجها بعد موت خديجة بثلاث سنين و تزوجها في شوال و أعرس بها بالمدينة في شوال على رأس ثمانية عشر شهرا من مهاجره إلى المدينة. و قال ابن عبد البر في كتاب الإستيعاب كانت عائشة تحب أن تدخل النساء من أهلها و أحبتها في شوال على أزواجهن و تقول هل كان في نسائه أحظى عنده مني و قد نكحني و بنى علي في شوال. قلت قرئ هذا الكلام على بعض الناس فقال كيف رأت الحال بينها و بين أحمائها و أهل بيت زوجها. و روى أبو عمر بن عبد البر في الكتاب المذكور أن رسول الله ص توفي عنها و هي بنت ثمان عشرة سنة فكان سنها معه تسع سنين و لم ينكح بكرا غيرها و استأذنت رسول الله ص في الكنية فقال لها اكتني بابنك عبد الله بن الزبير يعني ابن أختها فكانت كنيتها أم عبد الله و كانت فقيهة عالمة بالفرائض و الشعر و الطب. شرح نهج البلاغة ج : 14 ص : 23و روي أن النبي ص قال فضل عائشة على النساء كفضل الثريد على الطعام و أصحابنا يحملون لفظة النساء في هذا الخبر على زوجاته لأن فاطمة ع عندهم أفضل منها (15/16)
لقوله ص إنها سيدة نساء العالمين
و قذفت بصفوان بن المعطل السلمي في سنة ست منصرف رسول الله ص من غزاة بني المصطلق و كانت معه فقال فيها أهل الإفك ما قالوا و نزل القرآن ببراءتها. و قوم من الشيعة زعموا أن الآيات التي في سورة النور لم تنزل فيها و إنما أنزلت في مارية القبطية و ما قذفت به مع الأسود القبطي و جحدهم لإنزال ذلك في عائشة جحد لما يعلم ضرورة من الأخبار المتواترة ثم كان من أمرها و أمر حفصة و ما جرى لهما مع رسول الله ص في الأمر الذي أسره على إحداهما ما قد نطق الكتاب العزيز به و اعتزل رسول الله ص نساءه كلهن و اعتزلهما معهن ثم صالحهن و طلق حفصة ثم راجعها و جرت بين عائشة و فاطمة إبلاغات و حديث يوغر الصدور فتولد بين عائشة و بين علي ع نوع ضغينة و انضم إلى ذلك إشارته على رسول الله ص في قصة الإفك بضرب الجارية و تقريرها و قوله إن النساء كثير. ثم جرى حديث صلاة أبي بكر بالناس فتزعم الشيعة أن رسول الله ص لم يأمر بذلك و أنه إنما صلى بالناس عن أمر عائشة ابنته و أن رسول الله ص خرج متحاملا و هو مثقل فنحاه عن المحراب و زعم معظم المحدثين أن ذلك كان عن أمر رسول الله ص و قوله ثم اختلفوا فمنهم من قال نحاه و صلى هو بالناس و منهم من قال بل ائتم بأبي بكر كسائر الناس و منهم شرح نهج البلاغة ج : 14 ص : 24من قال كان الناس يصلون بصلاة أبي بكر و أبو بكر يصلي بصلاة رسول الله ص. ثم كان منها في أمر عثمان و تضريب الناس عليه ما قد ذكرناه في مواضعه ثم تلا ذلك يوم الجمل. و اختلف المتكلمون في حالها و حال من حضر واقعة الجمل فقا الإمامية كفر أصحاب الجمل كلهم الرؤساء و الأتباع و قال قوم من الحشوية و العامة اجتهدوا فلا إثم عليهم و لا نحكم بخطئهم و لا خطإ علي ع و أصحابه. و قال قوم من هؤلاء بل نقول أصحاب الجمل أخطئوا و لكنه خطأ مغفور و كخطإ المجتهد في بعض مسائل الفروع عند من قال بالأشبه و إلى هذا القول يذهب أكثر الأشعرية. و قال أصحابنا المعتزلة كل (15/17)
أهل الجمل هالكون إلا من ثبتت توبته منهم قالوا و عائشة ممن ثبتت توبتها و كذلك طلحة و الزبير أما عائشة فإنها اعترفت لعلي ع يوم الجمل بالخطإ و سألته العفو و قد تواترت الرواية عنها بإظهار الندم و أنها كانت تقول ليته كان لي من رسول الله ص بنون عشرة كلهم مثل عبد الرحمن بن الحارث بن هشام و ثكلتهم و لم يكن يوم الجمل و أنها كانت تقول ليتني مت قبل يوم الجمل و أنها كانت إذا ذكرت ذلك اليوم تبكي حتى تبل خمارها و أما الزبير فرجع عن الحرب معترفا بالخطإ لما أذكره علي ع ما أذكره و أما طلحة فإنه مر به و هو صريع فارس فقال له قف فوقف قال من أي الفريقين أنت قال من أصحاب أمير المؤمنين قال أقعدني فأقعده فقال امدد يدك أبايعك لأمير المؤمنين فبايعه. شرح نهج البلاغة ج : 14 ص : 25و قال شيوخنا ليس لقائل أن يقول ما يروى أخبار الآحاد بتوبتهم لا يعارض ما علم قطعا من معصيتهم قالوا لأن التوبة إنما يحكم بها للمكلف على غالب الظن في جميع المواضع لا على القطع أ لا ترى أنا نجوز أن يكون من أظهر التوبة منافقا و كاذبا فبان أن المرجع في قبولها في كل موضع إنما هو إلى الظن فجاز أن يعارض ما علم من معصيتهم بما يظن من توبتهم (15/18)
شرح نهج البلاغة ج : 14 ص : 226- و من كتاب له ع إليهم بعد فتح البصرةوَ جَزَاكُمُ اللَّهُ مِنْ أَهْلِ مِصْرٍ عَنْ أَهْلِ بَيْتِ نَبِيِّكُمْ أَحْسَنَ مَا يَجْزِي الْعَامِلِينَ بِطَاعَتِهِ وَ الشَّاكِرِينَ لِنِعْمَتِهِ فَقَدْ سَمِعْتُمْ وَ أَطَعْتُمْ وَ دُعِيتُمْ فَأَجَبْتُمْ
موضع قوله من أهل مصر نصب على التمييز و يجوز أن يكون حالا. فإن قلت كيف يكون تمييزا و تقديره و جزاكم الله متمدنين أحسن ما يجزي المطيع و التمييز لا يكون إلا جامدا و هذا مشتق قلت إنهم أجازوا كون التمييز مشتقا في نحو قولهم ما أنت جارة و قولهم يا سيدا ما أنت من سيد. و ما يجوز أن تكون مصدرية أي أحسن جزاء العاملين و يجوز أن تكون بمعنى الذي و يكون قد حذف العائد إلى الموصول و تقديره أحسن الذي يجزي به العاملين (15/19)
شرح نهج البلاغة ج : 14 ص : 327- و من كتاب له ع كتبه لشريح بن الحارث قاضيهرُوِيَ أَنَّ شُرَيْحَ بْنَ الْحَارِثِ قَاضِيَ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ ع اشْتَرَى عَلَى عَهْدِهِ دَاراً بِثَمَانِينَ دِينَاراً فَبَلَغَهُ ذَلِكَ فَاسْتَدْعَى شُرَيْحاً وَ قَالَ لَهُ بَلَغَنِي أَنَّكَ ابْتَعْتَ دَاراً بِثَمَانِينَ دِينَاراً وَ كَتَبْتَ لَهَا كِتَاباً وَ أَشْهَدْتَ فِيهِ شُهُوداً فَقَالَ لَهُ شُرَيْحٌ قَدْ كَانَ ذَلِكَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ قَالَ فَنَظَرَ إِلَيْهِ نَظَرَ الْمُغْضَبِ ثُمَّ قَالَ لَهُ يَا شُرَيْحُ أَمَا إِنَّهُ سَيَأْتِيكَ مَنْ لَا يَنْظُرُ فِي كِتَابِكَ وَ لَا يَسْأَلُكَ عَنْ بَيِّنَتِكَ حَتَّى يُخْرِجَكَ مِنْهَا شَاخِصاً وَ يُسْلِمَكَ إِلَى قَبْرِكَ خَالِصاً فَانْظُرْ يَا شُرَيْحُ لَا تَكُونُ ابْتَعْتَ هَذِهِ الدَّارَ مِنْ غَيْرِ مَالِكَ أَوْ نَقَدْتَ الثَّمَنَ مِنْ غَيْرِ حَلَالِكَ فَإِذَا أَنْتَ قَدْ خَسِرْتَ دَارَ الدُّنْيَا وَ دَارَ الآْخِرَةِ. أَمَا إِنَّكَ لَوْ كُنْتَ أَتَيْتَنِي عِنْدَ شِرَائِكَ مَا اشْتَرَيْتَ لَكَتَبْتُ لَكَ كِتَاباً عَلَى هَذِهِ النُّسْخَةِ فَلَمْ تَرْغَبْ فِي شِرَاءِ هَذِهِ الدَّارِ بِالدِّرْهَمِ فَمَا فَوْقُ وَ النُّسْخَةُ هَذِهِ هَذَا مَا اشْتَرَى عَبْدٌ ذَلِيلٌ مِنْ مَيِّتٍ قَدْ أُزْعِجَ لِلرَّحِيلِ اشْتَرَى مِنْهُ دَاراً مِنْ دَارِ الْغُرُورِ مِنْ جَانِبِ الْفَانِينَ وَ خِطَّةِ الْهَالِكِينَ وَ تَجْمَعُ هَذِهِ الدَّارَ حُدُودٌ أَرْبَعَةٌ الْحَدُّ الْأَوَّلُ يَنْتَهِي إِلَى دَوَاعِي الآْفَاتِ وَ الْحَدُّ الثَّانِي يَنْتَهِي إِلَى دَوَاعِي الْمُصِيبَاتِ وَ الْحَدُّ الثَّالِثُ يَنْتَهِي إِلَى الْهَوَى الْمُرْدِي وَ الْحَدُّ الرَّابِعُ يَنْتَهِي إِلَى الشَّيْطَانِ الْمُغْوِي وَ فِيهِ يُشْرَعُ بَابُ هَذِهِ الدَّارِ اشْتَرَى هَذَا (15/20)
الْمُغْتَرُّ بِالْأَمَلِ مِنْ هَذَا شرح نهج البلاغة ج : 14 ص : 28الْمُزْعَجِ بِالْأَجَلِ هَذِهِ الدَّارَ بِالْخُرُوجِ مِنْ عِزِّ الْقَنَاعَةِ وَ الدُّخُولِ فِي ذُلِّ الطَّلَبِ وَ الضَّرَاعَةِ فَمَا أَدْرَكَ هَذَا الْمُشْتَرِي فِيمَا اشْتَرَى مِنْ دَرَكٍ فَعَلَى مُبَلْبِلِ أْسَامِ الْمُلُوكِ وَ سَالِبِ نُفُوسِ الْجَبَابِرَةِ وَ مُزِيلِ مُلْكِ الْفَرَاعِنَةِ مِثْلِ كِسْرَى وَ قَيْصَرَ وَ تُبَّعٍ وَ حِمْيَرَ وَ مَنْ جَمَعَ الْمَالَ عَلَى الْمَالِ فَأَكْثَرَ وَ مَنْ بَنَى وَ شَيَّدَ وَ زَخْرَفَ وَ نَجَّدَ وَ ادَّخَرَ وَ اعْتَقَدَ وَ نَظَرَ بِزَعْمِهِ لِلْوَلَدِ إِشْخَاصُهُمْ جَمِيعاً إِلَى مَوْقِفِ الْعَرْضِ وَ الْحِسَابِ وَ مَوْضِعِ الثَّوَابِ وَ الْعِقَابِ إِذَا وَقَعَ الْأَمْرُ بِفَصْلِ الْقَضَاءِ وَ خَسِرَ هُنَالِكَ الْمُبْطِلُونَ شَهِدَ عَلَى ذَلِكَ الْعَقْلُ إِذَا خَرَجَ مِنْ أَسْرِ الْهَوَى وَ سَلِمَ مِنْ عَلَائِقِ الدُّنْيَا (15/21)
نسب شريح و ذكر بعض أخباره
هو شريح بن الحارث بن المنتجع بن معاوية بن جهم بن ثور بن عفير بن عدي بن الحارث بن مرة بن أدد الكندي و قيل إنه حليف لكندة من بني الرائش. و قال ابن الكلبي ليس اسم أبيه الحارث و إنما هو شريح بن معاوية بن ثور. و قال قوم هو شريح بن هانئ. و قال قوم هو شريح بن شراحيل و الصحيح أنه شريح بن الحارث و يكنى أبا أمية استعمله عمر بن الخطاب على القضاء بالكوفة فلم يزل قاضيا ستين سنة لم يتعطل فيها إلا ثلاث سنين في فتنة ابن الزبير امتنع فيها من القضاء ثم استعفى الحجاج من شرح نهج البلاغة ج : 14 ص : 29العمل فأعفاه فلزم منزله إ أن مات و عمر عمرا طويلا قيل إنه عاش مائة سنة و ثمانيا و ستين و قيل مائة سنة و توفي سنة سبع و ثمانين. و كان خفيف الروح مزاحا فقدم إليه رجلان فأقر أحدهما بما ادعى به خصمه و هو لا يعلم فقضى عليه فقال لشريح من شهد عندك بهذا قال ابن أخت خالك و قيل إنه جاءته امرأته تبكي و تتظلم على خصمها فما رق لها حتى قال له إنسان كان بحضرته أ لا تنظر أيها القاضي إلى بكائها فقال إن إخوة يوسف جاءوا أباهم عشاء يبكون. و أقر علي ع شريحا على القضاء مع مخالفته له في مسائل كثيرة من الفقه مذكورة في كتب الفقهاء. و استأذنه شريح و غيره من قضاة عثمان في القضاء أول ما وقعت الفرقة فقال اقضوا كما كنتم تقضون حتى تكون للناس جماعة أو أموت كما مات أصحابي. و سخط علي ع مرة عليه فطرده عن الكوفة و لم يعزله عن القضاء و أمره بالمقام ببانقيا و كانت قرية قريبة من الكوفة أكثر ساكنها اليهود فأقام بها مدة حتى رضي عنه و أعاده إلى الكوفة. و قال أبو عمر بن عبد البر في كتاب الإستيعاب أدرك شريح الجاهلية و لا يعد من الصحابة بل من التابعين و كان شاعرا محسنا و كان سناطا لا شعر في وجهه (15/22)
قوله ع و خطة الهالكين بكسر الخاء و هي الأرض التي يختطها الإنسان شرح نهج البلاغة ج : 14 ص : 30أي يعلم عليها علامة بالخط ليعمرها و منه خطط الكوفة و البصرة. و زخرف البناء أي ذهب جدرانه بالزخرف و هو الذهب. و نجد فرش المنزل بالوسائد و النجاد الذي يعالج الفرش الوسائد و يخيطهما و التنجيد التزيين بذلك و يجوز أن يريد بقوله نجد رفع و علا من النجد و هو المرتفع من الأرض. و اعتقد جعل لنفسه عقدة كالضيعة أو الذخيرة من المال الصامت. و إشخاصهم مرفوع بالابتداء و خبره الجار المجرور المقدم و هو قوله فعلى مبلبل أجسام الملوك و موضع الاستحسان من هذا الفصل و إن كان كله حسنا أمران أحدهما أنه ع نظر إليه نظر مغضب إنكارا لابتياعه دارا بثمانين دينارا و هذا يدل على زهد شديد في الدنيا و استكثار للقليل منها و نسبه هذا المشتري إلى الإسراف و خوف من أن يكون ابتاعها بمال حرام. الثاني أنه أملى عليه كتابا زهديا وعظيا مماثلا لكتب الشروط التي تكتب في ابتياع الأملاك فإنهم يكتبون هذا ما اشترى فلان من فلان اشترى منه دارا من شارع كذا و خطة كذا و يجمع هذه الدار حدود أربعة فحد منها ينتهي إلى دار فلان و حد آخر ينتهي إلى ملك فلان و حد آخر ينتهي إلى ما كان يعرف بفلان و هو الآن معروف بفلان و حد آخر ينتهي إلى كذا و منه شروع باب هذه الدار و طريقها اشترى هذا المشتري المذكور من البائع المذكور جميع الدار المذكورة بثمن مبلغه كذا و كذا دينارا أو درهما فما أدرك المشتري المذكور من درك فمرجوع به على من يوجب الشرع الرجوع به عليه ثم تكتب الشهود في آخر الكتاب شهد فلان ابن فلان بذلك و شهد فلان ابن فلان به أيضا و هذا يدل على أن الشروط المكتوبة الآن قد كانت شرح نهج البلاغة ج : 14 ص : 31في زمن الصحابة تكتب مثلها أو نحوها إلا أنا ما سمعنا عن أحد منهم نقل صيغة الشرط الفقهي إ معنى آخر كما قد نظمه هو ع و لا غرو فما زال سباقا إلى العجائب و (15/23)
الغرائب. فإن قلت لم جعل الشيطان المغوي في الحد الرابع قلت ليقول و فيه يشرع باب هذه الدار لأنه إذا كان الحد إليه ينتهي كان أسهل لدخوله إليها و دخول أتباعه و أوليائه من أهل الشيطنة و الضلال (15/24)
شرح نهج البلاغة ج : 14 ص : 432- و من كتاب له كتبه ع إلى بعض أمراء جيشهفَإِنْ عَادُوا إِلَى ظِلِّ الطَّاعَةِ فَذَاكَ الَّذِي نُحِبُّ وَ إِنْ تَوَافَتِ الْأُمُورُ بِالْقَوْمِ إِلَى الشِّقَاقِ وَ الْعِصْيَانِ فَانْهَدْ بِمَنْ أَطَاعَكَ إِلَى مَنْ عَصَاكَ وَ اسْتَغْنِ بِمَنِ انْقَادَ مَعَكَ عَمَّنْ تَقَاعَسَ عَنْكَ فَإِنَّ الْمُتَكَارِهَ مَغِيبُهُ خَيْرٌ مِنْ مَشْهَدِهِ وَ قُعُودُهُ أَغْنَى مِنْ نُهُوضِهِ
انهد أي انهض و تقاعس أي أبطأ و تأخر. و المتكاره الذي يخرج إلى الجهاد من غير نية و بصيرة و إنما يخرج كارها مرتابا و مثل قوله ع فإن المتكاره مغيبه خير من مشهده و قعوده أغنى من نهوضه قوله تعالى لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ ما زادُوكُمْ إِلَّا خَبالًا
شرح نهج البلاغة ج : 14 ص : 533- و من كتاب له ع إلى الأشعث بن قيس و هو عامل أذربيجانوَ إِنَّ عَمَلَكَ لَيْسَ لَكَ بِطُعْمَةٍ وَ لَكِنَّهُ فِي عُنُقِكَ أَمَانَةٌ وَ أَنْتَ مُسْتَرْعًى لِمَنْ فَوْقَكَ لَيْسَ لَكَ أَنْ تَفْتَاتَ فِي رَعِيَّةٍ وَ لَا تُخَاطِرَ إِلَّا بِوَثِيقَةٍ وَ فِي يَدَيْكَ مَالٌ مِنْ مَالِ اللَّهِ تَعَالَى وَ أَنْتَ مِنْ خُزَّانِهِ حَتَّى تُسَلِّمَهُ إِلَيَّ وَ لَعَلِّي أَلَّا أَكُونَ شَرَّ وُلَاتِكَ لَكَ وَ السَّلَامُ
قد ذكرنا نسب أشعث بن قيس فيما تقدم. و أذربيجان اسم أعجمي غير مصروف الألف مقصورة و الذال ساكنة قال حبيب
و أذربيجان احتيال بعد ما كانت معرس عبرة و نكال
و قال الشماخ
تذكرتها وهنا و قد حال دونها قرى أذربيجان المسالح و الجال
و النسبة إليه أذري بسكون الذال هكذا القياس و لكن المروي عن أبي بكر في الكلام الذي قاله عند موته و لتألمن النوم على الصوف الأذري بفتح الذال. و الطعمة بضم الطاء المهملة المأكلة و يقال فلان خبيث الطعمة أي ردي ء الكسب. و الطعمة بالكسر لهيئة التطعم يقول إن عمل لم يسوغه الشرع و الوالي من قبلي إياه شرح نهج البلاغة ج : 14 ص : 34و لا جعله لك أكلا و لكنه أمانة في يدك و عنقك للمسلمين و فوقك سلطان أنت له رعية فليس لك أن تفتات في الرعية الذين تحت يدك يقال افتات فلان على فلان إذا فعل بغير إذنه ما سبيله أن يستأذنه فيه أصله من الفوت و هو السبق كأنه سبقه إلى ذلك الأمر و قوله و لا تخاطر إلا بوثيقة أي لا تقدم على أمر مخوف فيما يتعلق بالمال الذي تتولاه إلا بعد أن تتوثق لنفسك يقال أخذ فلان بالوثيقة في أمره أي احتاط ثم قال له و لعلي لا أكون شر ولاتك و هو كلام يطيب به نفسه و يسكن به جأشه لأن في أول الكلام إيحاشا له إذ كانت ألفاظه تدل على أنه لم يره أمينا على المال فاستدرك ذلك بالكلمة الأخيرة أي ربما تحمد خلافتي و ولايتي عليك و تصادف مني إحسانا إليك أي عسى ألا يكون شكرك لعثمان و من قبله أكثر من شكرك لي و هذا من باب وعدك الخفي و تسميه العرب الملث. و أول هذا الكتاب (15/25)
من عبد الله علي أمير المؤمنين إلى الأشعث بن قيس أما بعد فلو لا هنات و هنات كانت منك كنت المقدم في هذا الأمر قبل الناس و لعل أمرا كان يحمل بعضه بعضا إن اتقيت الله عز و جل و قد كان من بيعة الناس إياي ما قد علمت و كان من أمر طلحة و الزبير ما قد بلغك فخرجت إليهما فأبلغت في الدعاء و أحسنت في البقية و إن عملك ليس لك بطعمة
إلى آخر الكلام و هذا الكتاب كتبه إلى الأشعث بن قيس بعد انقضاء الجمل
شرح نهج البلاغة ج : 14 ص : 635- و من كتاب له ع إلى معاويةإِنَّهُ بَايَعَنِي الْقَوْمُ الَّذِينَ بَايَعُوا أَبَا بَكْرٍ وَ عُمَرَ وَ عُثْمَانَ عَلَى مَا بَايَعُوهُمْ عَلَيْهِ فَلَمْ يَكُنْ لِلشَّاهِدِ أَنْ يَخْتَارَ وَ لَا لِلْغَائِبِ أَنْ يَرُدَّ وَ إِنَّمَا الشُّورَى لِلْمُهَاجِرِينَ وَ الْأَنْصَارِ فَإِنِ اجْتَمَعُوا عَلَى رَجُلٍ وَ سَمَّوْهُ إِمَاماً كَانَ ذَلِكَ لِلَّهِ رِضًا فَإِنْ خَرَجَ عَنْ أَمْرِهِمْ خَارِجٌ بِطَعْنٍ أَوْ بِدْعَةٍ رَدُّوهُ إِلَى مَا خَرَجَ مِنْهُ فَإِنْ أَبَى قَاتَلُوهُ عَلَى اتَّبَاعِهِ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ وَ وَلَّاهُ اللَّهُ مَا تَوَلَّى وَ لَعَمْرِي يَا مُعَاوِيَةُ لَئِنْ نَظَرْتَ بِعَقْلِكَ دُونَ هَوَاكَ لَتَجِدَنِّي أَبْرَأَ النَّاسِ مِنْ دَمِ عُثْمَانَ وَ لَتَعْلَمَنَّ أَنِّي كُنْتُ فِي عُزْلَةٍ عَنْهُ إِلَّا أَنْ تَتَجَنَّى فَتَجَنَّ مَا بَدَا لَكَ وَ السَّلَامُ (15/26)
قد تقدم ذكر هذا الكلام في أثناء اقتصاص مراسلة أمير المؤمنين ع معاوية بجرير بن عبد الله البجلي و قد ذكره أرباب السيرة كلهم و أورده شيوخنا المتكلمون في كتبهم احتجاجا على صحة الاختيار و كونه طريقا إلى الإمامة و أول الكتاب
أما بعد فإن بيعتي بالمدينة لزمتك و أنت بالشام لأنه بايعني القوم الذين بايعوا
إلى آخر الفصل. شرح نهج البلاغة ج : 14 ص : 36و المشهور المروي فإن خرج من أمرهم خارج بطعن أو رغبة أي رغبة عن ذلك الإمام الذي وقع الاختيار له. و المروي بعد قوله ولاه الله بعد ما تولىو أصلاه جهنم و ساءت مصيرا و إن طلحة و الزبير بايعاني ثم نقضا بيعتي فكان نقضهما كردتهما فجاهدتهما على ذلك حتى جاء الحق و ظهر أمر الله و هم كارهون فادخل فيما دخل فيه المسلمون فإن أحب الأمور إلي فيك العافية إلا أن تتعرض للبلاء فإن تعرضت له قاتلتك و استعنت بالله عليك و قد أكثرت في قتلة عثمان فادخل فيما دخل الناس فيه ثم حاكم القوم إلي أحملك و إياهم على كتاب الله فأما تلك التي تريدها فخدعة الصبي عن اللبن و لعمري يا معاوية إن نظرت بعقلك (15/27)
إلى آخر الكلام. و بعده و اعلم أنك من الطلقاء الذين لا تحل لهم الخلافة و لا تعترض بهم الشورى و قد أرسلت إليك جرير بن عبد الله البجلي و هو من أهل الإيمان و الهجرة فبايع و لا قوة إلا بالله. و اعلم أن هذا الفصل دال بصريحه على كون الاختيار طريقا إلى الإمامة كما يذكره أصحابنا المتكلمون لأنه احتج على معاوية ببيعة أهل الحل و العقد له و لم يراع في ذلك إجماع المسلمين كلهم و قياسه على بيعة أهل الحل و العقد لأبي بكر فإنه ما روعي فيها إجماع المسلمين لأن سعد بن عبادة لم يبايع و لا أحد من أهل بيته و ولده و لأن عليا و بني هاشم و من انضوى إليهم لم يبايعوا في مبدإ الأمر و امتنعوا و لم يتوقف المسلمون في تصحيح إمامة أبي بكر و تنفيذ أحكامه على بيعتهم و هذا دليل على صحة الاختيار و كونه طريقا إلى الإمامة و أنه لا يقدح في إمامته ع امتناع معاوية من البيعة و أهل الشام فأما الإمامية فتحمل هذا الكتاب منه ع على التقية و تقول إنه ما كان يمكنه شرح نهج البلاغة ج : 14 ص : 37أن يصرح لمعاوية في مكتوبه بباطن الحال و يقول له أنا منصوص علي من رسول الله ص و معهود إلى المسلمين أن أكون خليفة فيهم بلا فصل فيكون في ذلك طعن على الأئمة المتقدمين و تفسحاله مع الذين بايعوه من أهل المدينة و هذا القول من الإمامية دعوى لو عضدها دليل لوجب أن يقال بها و يصار إليها و لكن لا دليل لهم على ما يذهبون إليه من الأصول التي تسوقهم إلى حمل هذا الكلام على التقية. فأما قوله ع و قد أكثرت في قتلة عثمان فادخل فيما دخل فيه المسلمون ثم حاكم القوم إلي أحملك و إياهم على كتاب الله فيجب أن يذكر في شرحه ما يقول المتكلمون في هذه الواقعة قال أصحابنا المعتزلة رحمهم الله هذا الكلام حق و صواب لأن أولياء الدم يجب أن يبايعوا الإمام و يدخلوا تحت طاعته ثم يرفعوا خصومهم إليه فإن حكم بالحق استديمت إمامته و إن حاد عن الحق انقضت خلافته و أولياء عثمان الذين (15/28)
هم بنوه لم يبايعوا عليا ع و لا دخلوا تحت طاعته ثم و كذلك معاوية ابن عم عثمان لم يبايع و لا أطاع فمطالبتهم له بأن يقتص لهم من قاتلي عثمان قبل بيعتهم إياه و طاعتهم له ظلم منهم و عدوان. فإن قلت هب أن القصاص من قتلة عثمان موقوف على ما ذكره ع أ ما كان يجب عليه لا من طريق القصاص أن ينهى عن المنكر و أنتم تذهبون إلى أن النهي عن المنكر واجب على من هو سوقة فكيف على الإمام الأعظم قلت هذا غير وارد هاهنا لأن النهي عن المنكر إنما يجب قبل وقوع المنكر لكيلا يقع فإذا وقع المنكر فأي نهي يكون عنه و قد نهى علي ع أهل مصر و غيرهم عن قتل عثمان قبل قتله مرارا و نابذهم بيده و لسانه و بأولاده فلم يغن (15/29)
شرح نهج البلاغة ج : 14 ص : 38شيئا و تفاقم الأمر حتى قتل و لا يجب بعد القتل إلا القصاص فإذا امتنع أولياء الدم من طاعة الإمام لم يجب عليه أن يقتص من القاتلين لأن القصاص حقهم و قد سقط ببغيهم على الإمام و خروجهم عن طاعته و قد قلنا نحن فيما تقدم أن القصاص إن يجب على من باشر القتل و الذين باشروا قتل عثمان قتلوا يوم قتل عثمان في دار عثمان و الذين كان معاوية يطالبهم بدم عثمان لم يباشروا القتل و إنما كثروا السواد و حصروه عثمان في الدار و أجلبوا عليه و شتموه و توعدوه و منهم من تسور عليه داره و لم ينزل إليه و منهم من نزل فحضر محضر قتله و لم يشرك فيه و كل هؤلاء لا يجب عليهم القصاص في الشرع
جرير بن عبد الله البجلي عند معاوية
و قد ذكرنا فيما تقدم شرح حال جرير بن عبد الله البجلي في إرسال علي ع إياه إلى معاوية مستقصى و ذكر الزبير بن بكار في الموفقيات أن عليا ع لما بعث جريرا إلى معاوية خرج و هو لا يرى أحدا قد سبقه إليه قال فقدمت على معاوية فوجدته يخطب الناس و هم حوله يبكون حول قميص عثمان و هو معلق على رمح مخضوب بالدم و عليه أصابع زوجته نائلة بنت الفرافصة مقطوعة فدفعت إليه كتاب علي ع و كان معي في الطريق رجل يسير بسيري و يقيم بمقامي فمثل بين يديه في تلك الحال و أنشده (15/30)
إن بني عمك عبد المطلب هم قتلوا شيخكم غير كذب و أنت أولى الناس بالوثب فثبو قد ذكرنا تمام هذه الأبيات فيما تقدم. شرح نهج البلاغة ج : 14 ص : 39قال ثم دفع إليه كتابا من الوليد بن عقبة بن أبي معيط و هو أخو عثمان لأمه كتبه مع هذا الرجل من الكوفة سرا أولهمعاوي إن الملك قد جب غاربه
الأبيات التي ذكرنا فيما تقدم. قال فقال لي معاوية أقم فإن الناس قد نفروا عند قتل عثمان حتى يسكنوا فأقمت أربعة أشهر ثم جاءه كتاب آخر من الوليد بن عقبة أوله
ألا أبلغ معاوية بن حرب فإنك من أخي ثقة مليم قطعت الدهر كالسدم المعنى تهدر في دمشق و لا تريم و إنك و الكتاب إلى علي كدابغة و قد حلم الأديم فلو كنت القتيل و كان حيا لشمر لا ألف و لا سئقال فلما جاءه هذا الكتاب وصل بين طومارين أبيضين ثم طواهما و كتب عنوانهما شرح نهج البلاغة ج : 14 ص : 40من معاوية بن أبي سفيان إلى علي بن أبي طالب و دفعهما إلي لا أعلم ما فيهما و لا أظنهما إلا جوابا و بعث معي رجلا من بني عبس لا أدري ما معه فخرجنا حتى قدمنالى الكوفة و اجتمع الناس في المسجد لا يشكون أنها بيعة أهل الشام فلما فتح علي ع الكتاب لم يجد شيئا و قام العبسي فقال من هاهنا من أحياء قيس و أخص من قيس غطفان و أخص من غطفان عبسا إني أحلف بالله لقد تركت تحت قميص عثمان أكثر من خمسين ألف شيخ خاضبي لحاهم بدموع أعينهم متعاقدين متحالفين ليقتلن قتلته في البر و البحر و إني أحلف بالله ليقتحمنها عليكم ابن أبي سفيان بأكثر من أربعين ألفا من خصيان الخيل فما ظنكم بعد بما فيها من الفحول ثم دفع إلى علي ع كتابا من معاوية ففتحه فوجد فيه (15/31)
أتاني أمر فيه للنفس غمة و فيه اجتداع للأنوف أصيل مصاب أمير المؤمنين و هده تكاد لها صم الجبال تزولو قد ذكرنا هذا الشعر فيما تقدم
شرح نهج البلاغة ج : 14 ص : 741- و من كتاب منه ع إليه أيضاأَمَّا بَعْدُ فَقَدْ أَتَتْنِي مِنْكَ مَوْعِظَةٌ مُوَصَّلَةٌ وَ رِسَالَةٌ مُحَبَّرَةٌ نَمَّقْتَهَا بِضَلَالِكَ وَ أَمْضَيْتَهَا بِسُوءِ رَأْيِكَ وَ كِتَابُ امْرِئٍ لَيْسَ لَهُ بَصَرٌ يَهْدِيهِ وَ لَا قَائِدٌ يُرْشِدُهُ قَدْ دَعَاهُ الْهَوَى فَأَجَابَهُ وَ قَادَهُ الضَّلَالُ فَاتَّبَعَهُ فَهَجَرَ لَاغِطاً وَ ضَلَّ خَابِطاً
موعظة موصلة أي مجموعة الألفاظ من هاهنا و هاهنا و ذلك عيب في الكتابة و الخطابة و إنما الكاتب من يرتجل فيقول قولا فصلا أو يروي فيأتي بالبديع المستحسن و هو في الحالين كليهما ينفق من كيسه و لا يستعير كلام غيره. و الرسالة المحبرة المزينة الألفاظ كأنه ع يشير إلى أنه قد كان يظهر عليها أثر التكلف و التصنع. و التنميق التزيين أيضا. و هجر الرجل أي هذى و منه قوله تعالى في أحد التفسيرين إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هذَا الْقُرْآنَ مَهْجُوراً. و اللاغط ذو اللغط و هو الصوت و الجلبة. شرح نهج البلاغة ج : 14 ص : 42و خبط البعيرهو خابط إذا مشى ضالا فحبط بيديه كل ما يلقاه و لا يتوقى شيئا. و هذا الكتاب كتبه علي ع جوابا عن كتاب كتبه معاوية إليه في أثناء حرب صفين بل في أواخرها و كان كتاب معاوية من عبد الله معاوية بن أبي سفيان إلى علي بن أبي طالب أما بعد فإن الله تعالى يقول في محكم كتابه وَ لَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَ إِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ و إني أحذرك الله أن تحبط عملك و سابقتك بشق عصا هذه الأمة و تفريق جماعتها فاتق الله و اذكر موقف القيامة و أقلع عما أسرفت فيه من الخوض في دماء المسلمين و (15/32)
إني سمعت رسول الله ص يقول لو تمالأ أهل صنعاء و عدن على قتل رجل واحد من المسلمين لأكبهم الله على مناخرهم في النار
فكيف يكون حال من قتل أعلام المسلمين و سادات المهاجرين بله ما طحنت رحى حربه من أهل القرآن و ذي العبادة و الإيمان من شيخ كبير و شاب غرير كلهم بالله تعالى مؤمن و له مخلص و برسوله مقر عارف فإن كنت أبا حسن إنما تحارب على الإمرة و الخلافة فلعمري لو صحت خلافتك لكنت قريبا من أن تعذر في حرب المسلمين و لكنها ما صحت لك أنى بصحتها و أهل الشام لم يدخلوا فيها و لم يرتضوا بها و خف الله و سطواته و اتق بأسه و نكاله و أغمد سيفك عن الناس فقد و الله أكلتهم الحرب فلم يبق منهم إلا كالثمد في قرارة الغدير و الله المستعان. (15/33)
فكتب علي ع إليه جوابا عن كتابه شرح نهج البلاغة ج : 14 ص : 43من عبد الله علي أمير المؤمنين إلى معاوية بن أبي سفيان أما بعد فقد أتتني منك موعظة موصلة و رسالة محبرة نمقتها بضلالك و أمضيتها بسوء رأيك و كتاب امرئ ليس له بصر يهديه و لا قائد يرشده دعاه الهوى فابه و قاده الضلال فاتبعه فهجر لاغطا و ضل خابطا فأما أمرك لي بالتقوى فأرجو أن أكون من أهلها و أستعيذ بالله من أن أكون من الذين إذا أمروا بها أخذتهم العزة بالإثم و أما تحذيرك إياي أن يحبط عملي و سابقتي في الإسلام فلعمري لو كنت الباغي عليك لكان لك أن تحذرني ذلك و لكني وجدت الله تعالى يقول فَقاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِي ءَ إِلى أَمْرِ اللَّهِ فنظرنا إلى الفئتين أما الفئة الباغية فوجدناها الفئة التي أنت فيها لأن بيعتي بالمدينة لزمتك و أنت بالشام كما لزمتك بيعة عثمان بالمدينة و أنت أمير لعمر على الشام وكما لزمت يزيد أخاك بيعة عمر و هو أمير لأبي بكر على الشام و أما شق عصا هذه الأمة فأنا أحق أن أنهاك عنه فأما تخويفك لي من قتل أهل البغي فإن رسول الله ص أمرني بقتالهم و قتلهم و قال لأصحابه إن فيكم من يقاتل على تأويل القرآن كما قاتلت على تنزيله و أشار إلي و أنا أولى من اتبع أمره و أما قولك إن بيعتي لم تصح لأن أهل الشام لم يدخلوا فيها كيف و إنما هي بيعة واحدة تلزم الحاضر و الغائب لا يثنى فيها النظر و لا يستأنف فيها الخيار الخارج منها طاعن و المروي فيها مداهن فاربع على ظلعك و انزع سربال غيك و اترك ما لا جدوى له عليك فليس لك عندي إلا السيف حتى تفي ء إلى أمر الله صاغرا و تدخل في البيعة راغما و السلام شرح نهج البلاغة ج : 14 ص : 44وَ مِنْ هَذَا الْكِتَابِ لِأَنَّهَا بَيْعَةٌ وَاحِدَةٌ لَا يُثَنَّى فِيهَا النَّظَرُ وَ لَا يُسْتَأْنَفُ فِيهَا الْخِيَارُ الْخَارِجُ مِنْهَا طَاعِنٌ وَ الْمُرَوِّي فِيهَا مُدَاهِنٌلا يثنى فيها النظر أي (15/34)
لا يعاود و لا يراجع ثانية و لا يستأنف فيها الخيار ليس بعد عقدها خيار لمن عقدها و لا لغيرهم لأنها تلزم غير العاقدين كما تلزم العاقدين فيسقط الخيار فيها الخارج منها طاعن على الأمة لأنهم أجمعوا على أن الاختيار طريق الإمامة. و المروي فيها مداهن أي الذي يرتئي و يبطئ عن الطاعة و يفكر و أصله من الروية و المداهن المنافق (15/35)
شرح نهج البلاغة ج : 14 ص : 845- و من كتاب له ع إلى جرير بن عبد الله البجلي لما أرسله إلى معاويةأَمَّا بَعْدُ فَإِذَا أَتَاكَ كِتَابِي فَاحْمِلْ مُعَاوِيَةَ عَلَى الْفَصْلِ وَ خُذْهُ بِالْأَمْرِ الْجَزْمِ ثُمَّ خَيِّرْهُ بَيْنَ حَرْبٍ مُجْلِيَةٍ أَوْ سِلْمٍ مُخْزِيَةٍ فَإِنِ اخْتَارَ الْحَرْبَ فَانْبِذْ إِلَيْهِ وَ إِنِ اخْتَارَ السِّلْمَ فَخُذْ بَيْعَتَهُ وَ السَّلَامُ
قد تقدم ذكر نسب جرير بن عبد الله البجلي. و قوله ع فاحمل معاوية على الفصل أي لا تتركه متلكئا مترددا يطمعك تارة و يؤيسك أخرى بل احمله على أمر فيصل إما البيعة أو أن يأذن بالحرب. و كذلك قوله و خذه بالأمر الجزم أي الأمر المقطوع به لا تكن ممن يقدم رجلا و يؤخر أخرى و أصل الجزم القطع. و حرب مجلية تجلي المقهورين فيها عن ديارهم أي تخرجهم. و سلم مخزية أي فاضحة و إنما جعلها مخزية لأن معاوية امتنع أولا من البيعة فإذا دخل في السلم فإنما يدخل فيها بالبيعة و إذا بايع بعد الامتناع فقد دخل تحت الهضم و رضي بالضيم و ذلك هو الخزي. شرح نهج البلاغة ج : 14 ص : 46قوله فانبذ إليه من قوله تعالى فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلى سَواءٍ و أصله العهد و الهدنة و عقد الحلف يكون بين الرجلين أو بين القبيلتين ثم يبدو لهما في ذلك فينتقلان إلى الحرب فينبذ أحدهما إلى الآخر عهده كأنه كتاب مكتوب بينهما نبذه أحدهما يوم الحرب و أبطله فاستعير ذلك للمجاهرة بالعداوة و المكاشفة و نسخ شريعة السلام السابقة بالحرب المعاقبة لها
شرح نهج البلاغة ج : 14 ص : 947- و من كتاب له ع إلى معاويةفَأَرَادَ قَوْمُنَا قَتْلَ نَبِيِّنَا وَ اجْتِيَاحَ أَصْلِنَا وَ هَمُّوا بِنَا الْهُمُومَ وَ فَعَلُوا بِنَا الْأَفَاعِيلَ وَ مَنَعُونَا الْعَذْبَ وَ أَحْلَسُونَا الْخَوْفَ وَ اضْطَرُّونَا إِلَى جَبَلٍ وَعْرٍ وَ أَوْقَدُوا لَنَا نَارَ الْحَرْبِ فَعَزَمَ اللَّهُ لَنَا عَلَى الذَّبِّ عَنْ حَوْزَتِهِ وَ الرَّمْيِ مِنْ وَرَاءِ حَوْمَتِهِ مُؤْمِنُنَا يَبْغِي بِذَلِكَ الْأَجْرِ وَ كَافِرُنَا يُحَامِي عَنِ الْأَصْلِ وَ مَنْ أَسْلَمَ مِنْ قُرَيْشٍ خِلْوٌ مِمَّا نَحْنُ فِيهِ بِحِلْفٍ يَمْنَعُهُ أَوْ عَشِيرَةٍ تَقُومُ دُونَهُ فَهُوَ مِنَ الْقَتْلِ بِمَكَانِ أَمْنٍ وَ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ ص إِذَا احْمَرَّ الْبَأْسُ وَ أَحْجَمَ النَّاسُ قَدَّمَ أَهْلَ بَيْتِهِ فَوَقَى بِهِمْ أَصْحَابَهُ حَرَّ السُّيُوفِ وَ الْأَسِنَّةِ فَقُتِلَ عُبَيْدَةُ بْنُ الْحَارِثِ يَوْمَ بَدْرٍ وَ قُتِلَ حَمْزَةُ يَوْمَ أُحُدٍ وَ قُتِلَ جَعْفَرٌ يَوْمَ مُؤْتَةَ وَ أَرَادَ مَنْ لَوْ شِئْتُ ذَكَرْتُ اسْمَهُ مِثْلَ الَّذِي أَرَادُوا مِنَ الشَّهَادَةِ وَ لَكِنَّ آجَالَهُمْ عُجِّلَتْ وَ مَنِيَّتَهُ أُخِّرَتْ فَيَا عَجَباً لِلدَّهْرِ إِذْ صِرْتُ يُقْرَنُ بِي مَنْ لَمْ يَسْعَ بِقَدَمِي وَ لَمْ تَكُنْ لَهُ كَسَابِقَتِي الَّتِي لَا يُدْلِي أَحَدٌ بِمِثْلِهَا إِلَّا أَنْ يَدَّعِيَ مُدَّعٍ مَا لَا أَعْرِفُهُ وَ لَا أَظُنُّ اللَّهَ يَعْرِفُهُ وَ الْحَمْدُ لِلَّهِ عَلَى كُلِّ حَالٍ وَ أَمَّا مَا سَأَلْتَ مِنْ دَفْعِ قَتَلَةِ عُثْمَانَ إِلَيْكَ فَإِنِّي نَظَرْتُ فِي هَذَا الْأَمْرِ فَلَمْ أَرَهُ يَسَعُنِي دَفْعُهُمْ إِلَيْكَ وَ لَا إِلَى غَيْرِكَ وَ لَعَمْرِي لَئِنْ لَمْ تَنْزِعْ عَنْ غَيِّكَ وَ شِقَاقِكَ لَتَعْرِفَنَّهُمْ عَنْ قَلِيلٍ يَطْلُبُونَكَ لَا (15/36)
يُكَلِّفُونَكَ طَلَبَهُمْ فِي بَرٍّ وَ لَا بَحْرٍ وَ لَا جَبَلٍ شرح نهج البلاغة ج : 14 ص : 48وَ لَا سَهْلٍ إِلَّا أَنَّهُ طَلَبٌ يَسُوءُكَ وِجْدَانُهُ وَ زَوْرٌ لَا يَسُرُّكَ لُقْيَانُهُ وَ السَّلَامُ لِأَهْلِهِقوله ع فأراد قومنا يعني قريشا. و الاجتياح الاستئصال و منه الجائحة و هي السنة أو الفتنة التي تجتاح المال أو الأنفس. قوله و منعونا العذب أي العيش العذب لا أنهم منعوهم الماء العذب على أنه قد نقل أنهم منعوا أيام الحصار في شعب بني هاشم من الماء العذب و سنذكر ذلك. قوله و أحلسونا الخوف أي ألزموناه و الحلس كساء رقيق يكون تحت برذعة البعير و أحلاس البيوت ما يبسط تحت حر الثياب و (15/37)
في الحديث كن حلس بيتك
أي لا تخالط الناس و اعتزل عنهم فلما كان الحلس ملازما ظهر البعير و أحلاس البيوت ملازمة لها قال و أحلسونا الخوف أي جعلوه لنا كالحلس الملازم. قوله و اضطرونا إلى جبل وعر مثل ضربه ع لخشونة مقامهم و شظف منزلهم أي كانت حالنا فيه كحال من اضطر إلى ركوب جبل وعر و يجوز أن يكون حقيقة لا مثلا لأن الشعب الذي حصروهم فيه مضيق بين جبلين. قوله فعزم الله لنا أي قضى الله لنا و وفقنا لذلك و جعلنا عازمين عليه. و الحوزة الناحية و حوزة الملك بيضته. شرح نهج البلاغة ج : 14 ص : 49و حومة الماء و الرمل معظمه. و الرمي عنها المناضلة و محاماة و يروى و الرمي من وراء حرمته و الضمير في حوزته و حومته راجع إلى النبي ص و قد سبق ذكره و هو قوله نبينا و يروى و الرميا. و قال الراوندي و هموا بنا الهموم أي هموا نزول الهم بنا فحذف المضاف و أقام المضاف إليه مقامه و ليس ما قاله بجيد بل الهموم منصوب هاهنا على المصدر أي هموا بنا هموما كثيرة و هموا بنا أي أرادوا نهبنا كقوله تعالى وَ هَمَّ بِها على تفسير أصحابنا و إنما أدخل لام التعريف في الهموم أي هموا بنا تلك الهموم التي تعرفونها فأتى باللام ليكون أعظم و أكبر في الصدور من تنكيرها أي تلك الهموم معروفة مشهورة بين الناس لتكرر عزم المشركين في أوقات كثيرة مختلفة على الإيقاع. و قوله و فعلوا بنا الأفاعيل يقال لمن أثروا آثارا منكرة فعلوا بنا الأفاعيل و قل أن يقال ذلك في غير الضرر و الأذى و منه قول أمية بن خلف لعبد الرحمن بن عوف و هو يذكر حمزة بن عبد المطلب يوم بدر ذاك الذي فعل بنا الأفاعيل. قوله يحامي عن الأصل أي يدافع عن محمد و يذب عنه حمية و محافظة على النسب. قوله خلو مما نحن فيه أي خال و الحلف العهد. و احمر البأس كلمة مستعارة أي اشتدت الحرب حتى احمرت الأرض من الدم فجعل البأس هو الأحمر مجازا كقولهم الموت الأحمر. شرح نهج البلاغة ج : 14 ص : 50قوله و أحجم الناس أي كفوا عن الحرب و (15/38)
جبنوا عن الإقدام يقال حجمت فلانا عن كذا أحجمه بالضم فأحجم هو و هذه اللفظة من النوادر كقولهم كببته فأكب. و يوم مؤتة بالهمز و مؤتة أرض معروفة. و قوله و أراد من لو شئت لذكرت اسمه يعني به نفسهقوله إذ صرت يقرن بي من لم يسع بقدمي إشارة إلى معاوية في الظاهر و إلى من تقدم عليه من الخلفاء في الباطن و الدليل عليه قوله التي لا يدلي أحد بمثلها فأطلق القول إطلاقا عاما مستغرقا لكل الناس أجمعين. ثم قال إلا أن يدعي مدع ما لا أعرفه و لا أظن الله يعرفه أي كل من ادعى خلاف ما ذكرته فهو كاذب لأنه لو كان صادقا لكان علي ع يعرفه لا محالة فإذا قال عن نفسه إن كل دعوة تخالف ما ذكرت فإني لا أعرف صحتها فمعناه أنها باطلة. و قوله و لا أظن الله يعرفه فالظن هاهنا بمعنى العلم كقوله تعالى وَ رَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُواقِعُوها و أخرج هذه الكلمة مخرج قوله تعالى قُلْ أَ تُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِما لا يَعْلَمُ فِي السَّماواتِ وَ لا فِي الْأَرْضِ و ليس المراد سلب العلم بل العلم بالسلب كذلك ليس مراده ع سلب الظن الذي هو بمعنى العلم بل ظن السلب أي علم السلب أي و أعلم أن الله سبحانه يعرف انتفاءه و كل ما يعلم الله انتفاءه فليس بثابت. و قال الراوندي قوله ع و لا أظن الله يعرفه مثل قوله تعالى وَ لَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجاهِدِينَ مِنْكُمْ وَ الصَّابِرِينَ. (15/39)
شرح نهج البلاغة ج : 14 ص : 51و الله يعلم كل شي ء قبل وجوده و إنما معناه حتى نعلم جهادهم موجودا و ليست هذه الكلمة من الآية بسبيل لتجعل مثالا لها و لكن الراوندي يتكلم بكل ما يخطر له من غير أن يميز ما يقول. و تقول أدلى فلان بحجته أي احتج بها و فلان مدل بر أي مت بها و أدلى بماله إلى الحاكم دفعه إليه ليجعله وسيلة إلى قضاء حاجته منه فأما الشفاعة فلا يقال فيها أدليت و لكن دلوت بفلان أي استشفعت به و قال عمر لما استسقى بالعباس رحمه الله اللهم إنا نتقرب إليك بعم نبيك و قفية آبائه و كبر رجاله دلونا به إليك مستشفعين قوله ع فلم أره يسعني أي لم أر أنه يحل لي دفعهم إليك و الضمير في أره ضمير الشأن و القصة و أره من الرأي لا من الرؤية كقولك لم أر الرأي الفلاني. و نزع فلان عن كذا أي فارقه و تركه ينزع بالكسر و الغي الجهل و الضلال. و الشقاق الخلاف. الوجدان مصدر وجدت كذا أي أصبته و الزور الزائر. و اللقيان مصدر لقيت تقول لقيته لقاء و لقيانا. ثم قال و السلام لأهله لم يستجز في الدين أن يقول له و السلام عليك لأنه عنده فاسق لا يجوز إكرامه فقال و السلام لأهله أي على أهله. و يجب أن نتكلم في هذا الفصل في مواضع منها ذكر ما جاء في السيرة من إجلاب قريش على رسول الله ص و بني هاشم و حصرهم في الشعب. شرح نهج البلاغة ج : 14 ص : 52و منها الكلام في المؤمنين و الكافرين من بني هاشم الذين كانوا في الشعب محصورين معه ص من هم. و منها شرح قصة بدر. و منها شرح غزاة أحد. و منها شرح غزاة مؤتةالفصل الأول إجلاب قريش على بني هاشم و حصرهم في الشعب (15/40)
فأما الكلام في الفصل الأول فنذكر منه ما ذكره محمد بن إسحاق بن يسار في كتاب السيرة و المغازي فإنه كتاب معتمد عند أصحاب الحديث و المؤرخين و مصنفه شيخ الناس كلهم. قال محمد بن إسحاق رحمه الله لم يسبق عليا ع إلى الإيمان بالله و رسالة محمد ص أحد من الناس اللهم إلا أن تكون خديجة زوجة رسول الله ص قال و قد كان ص يخرج و معه علي مستخفين من الناس فيصليان الصلوات في بعض شعاب مكة فإذا أمسيا رجعا فمكثا بذلك ما شاء الله أن يمكثا لا ثالث لهما ثم إن أبا طالب عثر عليهما يوما و هما يصليان فقال لمحمد ص يا ابن أخي ما هذا الذي تفعله فقال أي عم هذا دين الله و دين ملائكته و رسله و دين أبينا إبراهيم أو كما قال ع بعثني الله به رسولا إلى العباد و أنت أي عم أحق من بذلت له النصيحة و دعوته إلى الهدى و أحق من أجابني إليه و أعانني عليه أو كما قال فقال أبو طالب إني لا أستطيع يا ابن أخي أن أفارق شرح نهج البلاغة ج : 14 ص : 53ديني و دين آبائي و ما كانوا عليه و لكن و الله لا يخلص إليك شي ء تكرهه ما بقيت فزعموا أنه قال لعلي أي بني ما هذا الذي تصنع قال يا أبتاه آمنت بالله و رسوله و صدقته فيما جاء به و صليت إليه و اتبعت قول نبيه فزعموا أنه قال لها إنه لا يدعوك أو لن يدعوك إلا إلى خير فالزمه. قال ابن إسحاق ثم أسلم زيد بن حارثة مولى رسول الله ص فكان أول من أسلم و صلى معه بعد علي بن أبي طالب ع. ثم أسلم أبو بكر بن أبي قحافة فكان ثالثا لهما ثم أسلم عثمان بن عفان و طلحة و الزبير و عبد الرحمن و سعد بن أبي وقاص فصاروا ثمانية فهم الثمانية الذين سبقوا الناس إلى الإسلام بمكة ثم أسلم بعد هؤلاء الثمانية أبو عبيدة بن الجراح و أبو سلمة بن عبد الأسد و أرقم بن أبي أرقم ثم انتشر الإسلام بمكة و فشا ذكره و تحدث الناس به و أمر الله رسوله أن يصدع بما أمر به فكانت مدة إخفاء رسول الله ص نفسه و شأنه إلى أن أمر بإظهار الدين ثلاث سنين فيما (15/41)
بلغني. قال محمد بن إسحاق و لم تكن قريش تنكر أمره حينئذ كل الإنكار حتى ذكر آلهتهم و عابها فأعظموا ذلك و أنكروه و أجمعوا على عداوته و خلافه و حدب عليه عمه أبو طالب فمنعه و قام دونه حتى مضى مظهرا لأمر الله لا يرده عنه شي ء قال فلما رأت قريش محاماة أبي طالب عنه و قيامه دونه و امتناعه من أن يسلمه مشى إليه رجال من أشراف قريش منهم عتبة بن ربيعة و شيبة أخوه و أبو سفيان بن حرب و أبو البختري بن هشام و الأسود بن المطلب و الوليد بن المغيرة و أبو جهل عمو بن هشام (15/42)
شرح نهج البلاغة ج : 14 ص : 54و العاص بن وائل و نبيه و منبه ابنا الحجاج و أمثالهم من رؤساء قريش فقالوا يا أبا طالب إن ابن أخيك قد سب آلهتنا و عاب ديننا و سفه أحلامنا و ضلل آراءنا فإما أن تكفه عنا و إما أن تخلي بيننا و بينه فقال لهم أبو طالب قولا رفيقا و هم ردا جميلا فانصرفوا عنه و مضى رسول الله ص على ما هو عليه يظهر دين الله و يدعو إليه ثم شرق الأمر بينه و بينهم تباعدا و تضاغنا حتى أكثرت قريش ذكر رسول الله ص بينها و تذامروا فيه و حض بعضهم بعضا عليه فمشوا إلى أبي طالب مرة ثانية فقالوا يا أبا طالب إن لك سنا و شرفا و منزلة فينا و إنا قد استنهيناك من ابن أخيك فلم تنهه عنا و إنا و الله لا نصبر على شتم آبائنا و تسفيه أحلامنا و عيب آلهتنا فإما أن تكفه عنا أو ننازله و إياك حتى يهلك أحد الفريقين ثم انصرفوا فعظم على أبي طالب فراق قومه و عداوتهم و لم تطب نفسه بإسلام ابن أخيه لهم و خذلانه فبعث إليه فقال يا ابن أخي إن قومك قد جاءوني فقالوا لي كذا و كذا للذي قالوا فأبق علي و على نفسك و لا تحملني من الأمر ما لا أطيقه قال فظن رسول الله ص أنه قد بدا لعمه فيه بداء و أنه خاذله و مسلمه و أنه قد ضعف عن نصرته و القيام دونه فقال يا عم و الله لو وضعوا الشمس في يميني و القمر في شمالي على أن أترك هذا الأمر ما تركته حتى يظهره الله أو أهلك ثم استعبر باكيا و قام فلما ولى ناداه أبو طالب أقبل يا ابن أخي فأقبل راجعا فقال له اذهب يا ابن أخي فقل ما أحببت فو الله لا أسلمك لشي ء أبدا. شرح نالبلاغة ج : 14 ص : 55قال ابن إسحاق و قال أبو طالب يذكر ما أجمعت عليه قريش من حربه لما قام بنصر محمد ص (15/43)
و الله لن يصلوا إليك بجمعهم حتى أوسد في التراب دفينافانفذ لأمرك ما عليك مخافة و ابشر و قر بذاك منه عيوناو دعوتني و زعمت أنك ناصحي و لقد صدقت و كنت قبل أميناو عرضت دينا قد علمت بأنه من خير أديان البرية دينالو لا الملامة أو حذاري سبة لوجدتني سمحا بذاك مبينا (15/44)
قال محمد بن إسحاق ثم إن قريشا حين عرفت أن أبا طالب قد أبى خذلان رسول الله ص و إسلامه إليهم و رأوا إجماعه على مفارقتهم و عداوتهم مشوا إليه بعمارة بن الوليد بن المغيرة المخزومي و كان أجمل فتى في قريش فقالوا له يا أبا طالب هذا عمارة بن الوليد أبهى فتى في قريش و أجمله فخذه إليك فاتخذه ولدا فهو لك و أسلم لنا هذا ابن أخيك الذي قد خالف دينك و دين آبائك و فرق جماعة قومك لنقتله فإنما هو رجل برجل فقال أبو طالب و الله ما أنصفتموني تعطوني ابنكم أغذوه لكم و أعطيكم ابني تقتلونه هذا و الله ما لا يكون أبدا فقال له المطعم بن عدي بن نوفل و كان له صديقا مصافيا و الله يا أبا طالب ما أراك تريد أن تقبل من قومك شيئا لعمري قد جهدوا في التخلص مما تكره و أراك لا تنصفهم فقال أبو طالب و الله ما أنصفوني و لا أنصفتني و لكنك قد أجمعت على خذلاني و مظاهرة القوم علي فاصنع ما بدا لك شرح نهجلبلاغة ج : 14 ص : 56قال فعند ذلك تنابذ القوم و صارت الأحقاد و نادى بعضهم بعضا و تذامروا بينهم على من في القبائل من المسلمين الذين اتبعوا محمدا ص فوثبت كل قبيلة على من فيها منهم يعذبونهم و يفتنونهم عن دينهم و منع الله رسوله منهم بعمه أبي طالب و قام في بني هاشم و بني عبد المطلب حين رأى قريشا تصنع ما تصنع فدعاهم إلى ما هو عليه من منع رسول الله ص و القيام دونه فاجتمعوا إليه و قاموا معه و أجابوه إلى ما دعاهم إليه من الدفاع عن رسول الله ص إلا ما كان من أبي لهب فإنه لم يجتمع معهم على ذلك فكان أبو طالب يرسل إليه الأشعار و يناشده النصر منها القطعة التي أولها
حديث عن أبي لهب أتانا و كانفه على ذاكم رجال (15/45)
و منها القطعة التي أولها
أ ظننت عني قد خذلت و غالني منك الغوائل بعد شيب المكبر
و منها القطعة التي أولها
تستعرض الأقوام توسعهم عذرا و ما إن قلت من عذر
قال محمد بن إسحاق فلم يؤثر عن أبي لهب خير قط إلا ما يروى أن أبا سلمة بن عبد الأسد المخزومي لما وثب عليه قومه ليعذبوه و يفتنوه عن الإسلام هرب منهم فاستجار بأبي طالب و أم أبي طالب مخزومية و هي أم عبد الله والد رسول الله ص فأجاره فمشى إليه رجال من بني مخزوم و قالوا له يا أبا طالب هبك منعت منا ابن أخيك محمدا فما لك و لصاحبنا تمنعه منا قال إنه استجار بي و هو ابن أختي و إن أنا لم أمنع ابن أختي لم أمنع ابن أخي فارتفعت أصواتهم و أصواته فقام أبو لهب و لم ينصر أبا طالب قبلها و لا بعدها فقال يا معشر قريش و الله لقد أكثرتم على هذا شرح نهج البلاغة ج : 14 ص : 57الشيخ لا تزالون تتوثبون عليه في جواره من بين قومه أما و الله لتنتهن عنه أو لنقومن معه فيما قام فيه حتى يبلغ ما أراد فقالوا بل ننصرف عما تكره يا أبا عتبة فقاموا فانصرفوا و كان وليا لهم و معينا على رسول الله ص و أبطالب فاتقوه و خافوا أن تحمله الحمية على الإسلام فطمع فيه أبو طالب حيث سمعه قال ما قال و أمل أن يقوم معه في نصرة رسول الله ص فقال يحرضه على ذلك
و إن امرأ أبو عتيبة عمه لفي معزل من أن يسام المظالماو لا تقبلن الدهر ما عشت خطة تسب بها أما هبطت المواسماأقول له و أين منه نصيحتي أبا عتبة ثبت سوادك قائماو ول سبيل العجز غيرك منهم فإنك لم تخلق على العجز لازماو حارب فإن الحرب نصف و لن ترى أخا الحرب يعطى الخسف حتى يسالماكذبتم و بيت الله نبزى محمدا و لما تروا يوما من الشعب قائما
و قال يخاطب أبا لهب أيضا
عجبت لحلم يا ابن شيبة عازب و أحلام أقوام لديك سخاف يقولون شايع من أراد محمدا بظلم و قم في أمره بخلاف أضاميم إما حاسد ذو خيانة و إما قريب عنك غير مصاف فلا تركبن الدهر منه ذمامة و أنت امرؤ من خير عبد مناف و لا تتركنه ما حييت لمعظم و كن رجلا ذا نجدة و عفود العدا عن ذروة هاشمية إلافهم في الناس خير إلاف فإن له قربى لديك قريبة و ليس بذي حلف و لا بمضاف و لكنه من هاشم ذي صميمها إلى أبحر فوق البحور طوا شرح نهج البلاغة ج : 14 ص : 58و زاحم جميع الناس عنه و كن له وزيرا على الأعداء غير مجاف و إن غضبت منه قريش فقل لها بني عمنا ما قومكم بضعاف و ما بالكم تغشون منه ظلامة و ما بال أحقاد هناك خوافي فما قومنا بالقوم يخشون ظلمنا و ما نحن فيما ساءهم بخفاف و لكل الحفائظ و النهى و عز ببطحاء المشاعر واف (15/46)
قال محمد بن إسحاق فلما طال البلاء على المسلمين و الفتنة و العذاب و ارتد كثير عن الدين باللسان لا بالقلب كانوا إذا عذبوهم يقولون نشهد أن هذا الله و أن اللات و العزى هي الآلهة فإذا خلوا عنهم عادوا إلى الإسلام فحبسوهم و أوثقوهم بالقد و جعلوهم في حر الشمس على الصخر و الصفا و امتدت أيام الشقاء عليهم و لم يصلوا إلى محمد ص لقيام أبي طالب دونه فأجمعت قريش على أن يكتبوا بينهم و بين بني هاشم صحيفة يتعاقدون فيها ألا يناكحوهم و لا يبايعوهم و لا يجالسوهم فكتبوها و علقوها في جوف الكعبة تأكيدا على أنفسهم و كان كاتبها منصور بن عكرمة بن هاشم بن عبد مناف بن عبد الدار بن قصي فلما فعلوا ذلك انحازت هاشم و المطلب فدخلوا كلهم مع أبي طالب في الشعب فاجتمعوا إليه و خرج منهم أبو لهب إلى قريش فظاهرها على قومه. قال محمد بن إسحاق فضاق الأمر ببني هاشم و عدموا القوت إلا ما كان يحمل إليهم سرا و خفية و هو شي ء قليل لا يمسك أرماقهم و أخافتهم قريش فلم يكن يظهر منهم أحد و لا يدخل إليهم أحد و ذلك أشد ما لقي رسول الله ص و أهل بيته بمكة. قال محمد بن إسحاق فأقاموا على ذلك سنتين أو ثلاثا حتى جهدوا ألا يصل إليهم شرح نهج البلاغة ج : 14 ص : 59شي ء إلقليل سرا ممن يريد صلتهم من قريش و قد كان أبو جهل بن هشام لقي حكيم بن حزام بن خويلد بن أسد بن عبد العزى معه غلام يحمل قمحا يريد به عمته خديجة بنت خويلد و هي عند رسول الله محاصرة في الشعب فتعلق به و قال أ تحمل الطعام إلى بني هاشم و الله لا تبرح أنت و طعامك حتى أفضحك بمكة فجاءه أبو البختري العاص بن هشام بن الحارث بن أسد بن عبد العزى فقال ما لك و له قال إنه يحمل الطعام إلى بني هاشم فقال أبو البختري يا هذا إن طعاما كان لعمته عنده بعثت إليه فيه أ فتمنعه أن يأتيها بطعامها خل سبيل الرجل فأبى أبو جهل حتى نال كل منهما من صاحبه فأخذ له أبو البختري لحي بعير فضربه به فشجه و وطئه وطئا (15/47)
شديدا فانصرف و هو يكره أن يعلم رسول الله ص و بنو هاشم بذلك فيشمتوا فلما أراد الله تعالى من إبطال الصحيفة و الفرج عن بني هاشم من الضيق و الأزل الذي كانوا فيه قام هشام بن عمرو بن الحارث بن حبيب بن نصر بن مالك بن حسل بن عامر بن لؤي في ذلك أحسن قيام و ذلك أن أباه عمرو بن الحارث كان أخا لنضلة بن هاشم بن عبد مناف بن قصي من أمه فكان هشام بن عمرو يحسب لذلك واصلا ببني هاشم و كان ذا شرف في قومه بني عامر بن لؤي فكان يأتي بالبعير ليلا و قد أوقره طعاما و بنو هاشم و بنو المطلب في الشعب حتى إذا أقبل به فم الشعب فمنع بخطامه من رأسه ثم يضربه على جنبه فيدخل الشعب عليهم ثم يأتي به مرة أخرى و قد أوقره تمرا فيصنع به مثل ذلك ثم إنه مشى إلى زهير بن أبي أمية بن المغيرة المخزومي فقال يا زهير أ رضيت أن تأكل الطعام و تشرب الشراب و تلبس الثياب و تنكح النساء و أخوالك حيث قد علمت لا يبتاعون و لا يبتاع منهم و لا ينكحون و لا ينكح إليهم و لا يواصلون و لا يزارون أما إني أحلف لو كان أخوك أبو الحكم بن هشام و دعوته إلى مثل ما دعاك (15/48)
شرح نهج البلاغة ج : 14 ص : 60إليه منهم ما أجابك أبدا قال ويحك يا هشام فما ذا أصنع إنما أنا رجل واحد و الله لو كان معي رجل آخر لقمت في نقض هذه الصحيفة القاطعة قال قد وجدت رجلا قال من هو قال أنا قال زهير أبغنا ثالثا فذهب إلى مطعم بن عدي بن نوفل بن عبد منافقال له يا مطعم أ رضيت أن يهلك بطنان من عبد مناف جوعا و جهدا و أنت شاهد على ذلك موافق لقريش فيه أما و الله لئن أمكنتموهم من هذا لتجدن قريشا إلى مساءتكم في غيره سريعة قال ويحك ما ذا أصنع إنما أنا رجل واحد قال قد وجدت ثانيا قال من هو قال أنا قال أبغني ثالثا قال قد وجدت قال من هو قال زهير بن أمية قال أنا قال أبغنا رابعا فذهب إلى أبي البختري بن هشام فقال له نحو ما قال للمطعم قال و هل من أحد يعين على هذا قال نعم و ذكرهم قال فأبغنا خامسا فمضى إلى زمعة بن الأسود بن المطلب بن أسد بن عبد العزى فكلمه فقال و هل يعين على ذلك من أحد قال نعم ثم سمى له القوم فاتعدوا خطم الحجون ليلا بأعلى مكة فأجمعوا أمرهم و تعاقدوا على القيام في الصحيفة حتى ينقضوها و قال زهير أنا أبدؤكم و أكون أولكم يتكلم فلما أصبحوا غدوا إلى أنديتهم و غدا زهير بن أبي أمية عليه حلة له فطاف بالبيت سبعا ثم أقبل على الناس فقال يا أهل مكة أ نأكل الطعام و نشرب الشراب و نلبس الثياب و بنو هاشم هلكى و الله لا أقعد حتى تشق هذه الصحيفة القاطعة الظالمة و كان أبو جهل في ناحية المسجد فقال كذبت و الله لا تشق فقال زمعة بن الأسود لأبي جهل و الله أنت أكذب ما رضينا و الله بها حين كتبت فقال أبو البختري معه صدق و الله زمعة لا نرضى بها و لا نقر بما كتب فيها فقال المطعم بن عدي صدقا و الله و كذب من قال غير ذلك نبرأ إلى الله منها و مما كتب فيها و قال هشام بن عمرو مثل قولهم فقال أبو جهل هذا أمر قضي بليل و قام مطعم بن عدي إلى الصحيفة فحطها و شقها فوجد الأرضة قد أكلتها إلا شرح نهج البلاغة ج : 14 ص (15/49)
: 61ما كان من باسمك اللهم قالوا و أما كاتبها منصور بن عكرمة فشلت يده فيما يذكرون فلما مزقت الصحيفة خرج بنو هاشم من حصار الشعب. قال محمد بن إسحاق فلم يزل أبو طالب ثابتا صابرا مستمرا على نصر ول الله ص و حمايته و القيام دونه حتى مات في أول السنة الحادية العشرة من مبعث رسول الله ص فطمعت فيه قريش حينئذ و نالت منه فخرج عن مكة خائفا يطلب أحياء العرب يعرض عليهم نفسه فلم يزل كذلك حتى دخل مكة في جوار المطعم بن عدي ثم كان من أمره مع الخزرج ما كان ليلة العقبة. قال و من شعر أبي طالب الذي يذكر فيه رسول الله ص و قيامه دونه (15/50)
أرقت و قد تصوبت النجوم و بت و لا تسالمك الهموم لظلم عشيرة ظلموا و عقوا و غب عقوقهم لهم وخيم هم انتهكوا المحارم من أخيهم و كل فعالهم دنس ذميم و راموا خطة جورا و ظلما و بعض القول ذو جنف مليم لتخرج هاشما فتكون منها بلاقع بطن مكة فالحطيم فمهلا قومنا لا تر بمظلمة لها خطب جسيم فيندم بعضكم و يذل بعض و ليس بمفلح أبدا ظلوم أرادوا قتل أحمد زاعميه و ليس بقتله منهم زعيم و دون محمد منا ندي هم العرنين و العضو الصمو من ذلك قوله
و قالوا لأحمد أنت امرؤ خلوف الحديث ضعيف السبب
شرح نهج البلاغة ج : 14 ص : 62و إن كان أحمد قد جاءهم بصدق و لم يأتهم بالكذب فإنا و من حج من راكب و كعبة مكة ذات الحجب تنالون أحمد أو تصطلوا ظباة الرماح و حد القضب و تغترفوا بين أبياتكم صدور العوالي و خيلا شزب تراهن من بين ضافي السبيب قصير الحزام طويل عليها صناديد من هاشم هم الأنجبون مع المنتجبو روى عبد الله بن مسعود قال لما فرغ رسول الله ص من قتلى بدر و أمر بطرحهم في القليب جعل يتذكر من شعر أبي طالب بيتا فلا يحضره فقال له أبو بكر لعله قوله يا رسول الله
و إنا لعمر الله إن جد جدنا لتلتبسن أسيافنا بالأماثل
فسر بظفره بالبيت و قال إي لعمر الله لقد التبست. و من شعر أبي طالب قوله
ألا أبلغا عني لؤيا رسالة بحق و ما تغني رسالة مرسل بني عمنا الأدنين فيما يخصهم و إخواننا من عبد شمس و نوفل أ ظاهرتم قوما علينا سفاهة و أمرا غويا من غواة و جهل يقولون لو أنا قتلنا محمدا أقرت نواصي هاشم بالتذلل كذبتم و رب الهدي تدمى نحوره بمكة و البيت العالمقبل تنالونه أو تصطلوا دون نيله صوارم تفري كل عضو و مفصل فمهلا و لما تنتج الحرب بكرها بخيل تمام أو بآخر معج شرح نهج البلاغة ج : 14 ص : 63و تلقوا بيع الأبطحين محمدا على ربوة في رأس عنقاء عيطل و تأوي إليه هاشم إن هاشما عرانين كعب آخر بعد أول فإن كنتم ترجون قتل محمد فروموا بما جمعتم نقل يذبل فإنا سنحميه بكل طمرة و ذي ميعة نهد المراكل هيكل و كل رديني ظماء كعوضب كإيماض الغمامة مفصل (15/51)
قلت كان صديقنا علي بن يحيى البطريق رحمه الله يقول لو لا خاصة النبوة و سرها لما كان مثل أبي طالب و هو شيخ قريش و رئيسها و ذو شرفها يمدح ابن أخيه محمدا و هو شاب قد ربي في حجره و هو يتيمه و مكفوله و جار مجرى أولاده بمثل قوله
و تلقوا ربيع الأبطحين محمدا على ربوة في رأس عنقاء عيطل و تأوي إليه هاشم إن هاشما عرانين كعب آخر بعد أولو مثل قوله
و أبيض يستسقى الغمام بوجهه ثمال اليتامى عصمة للأرامل يطيف به الهلاك من آل هاشم فهم عنده في نعمة و فواضلفإن هذا الأسلوب من الشعر لا يمدح به التابع و الذنابى من الناس و إنما هو من مديح الملوك و العظماء فإذا تصورت أنه شعر أبي طالب ذاك الشيخ المبجل العظيم في محمد ص و هو شاب مستجير به معتصم بظله من قريش قد رباه في حجره غلاما و على عاتقه طفلا و بين يديه شابا يأكل من زاده و يأوي إلى داره علمت موضع خاصية النبوة و سرها و أن أمره كان عظيما و أن الله تعالى أوقع في القلوب و الأنفس له منزلة رفيعة و مكانا جليلا شرح نهج البلاغة ج : 14 ص : 64و قرأت في أمالي أبي جعفر بن حبيب رحمه الله قال كان أبو طالب إذا رأى رسول الله ص أانا يبكي و يقول إذا رأيته ذكرت أخي و كان عبد الله أخاه لأبويه و كان شديد الحب و الحنو عليه و كذلك كان عبد المطلب شديد الحب له و كان أبو طالب كثيرا ما يخاف على رسول الله ص البيات إذا عرف مضجعه يقيمه ليلا من منامه و يضجع ابنه عليا مكانه فقال له علي ليلة يا أبت إني مقتول فقال له (15/52)
اصبرن يا بني فالصبر أحجى كل حي مصيره لشعوب قدر الله و البلاء شديد لفداء الحبيب و ابن الحبيب لفداء الأعز ذي الحسب الثاقب و الباع و الكريم النجيب إن تصبك المنون فالنبل تبري فمصيب منها و غير مصيب كل حي و إن تملى بعمر آخذ من مذاقها بن فأجاب علي ع فقال له
أ تأمرني بالصبر في نصر أحمد و و الله ما قلت الذي قلت جازعاو لكنني أحببت أن ترى نصرتي و تعلم أني لم أزل لك طائعاسأسعى لوجه الله في نصر أحمد نبي الهدى المحمود طفلا و يافعا
الفصل الثاني القول في المؤمنين و الكافرين من بني هاشم
الفصل الثاني في تفسير قوله ع مؤمننا يبغي بذلك الأجر و كافرنا يحامي عن الأصل و من أسلم من قريش خلو مما نحن فيه لحلف يمنعه أو عشيرة تقوم دونه شرح نهج البلاغة ج : 14 ص : 65فهم من القتل بمكان أمن فنقول إن بني هاشم لما حصروا في الشعب بعد أن منعوا رسول الله ص قريش كانوا صنفين مسلمين و كفارا فكان علي ع و حمزة بن عبد المطلب مسلمين. و اختلف في جعفر بن أبي طالب هل حصر في الشعب معهم أم لا فقيل حصر في الشعب معهم و قيل بل كان قد هاجر إلى الحبشة و لم يشهد حصار الشعب و هذا هو القول الأصح و كان من المسلمين المحصورين في الشعب مع بني هاشم عبيدة بن الحارث بن المطلب بن عبد مناف و هو و إن لم يكن من بني هاشم إلا أنه يجري مجراهم لأن بني المطلب و بني هاشم كانوا يدا واحدة لم يفترقوا في جاهلية و لا إسلام. و كان العباس رحمه الله في حصار الشعب معهم إلا أنه كان على دين قومه و كذلك عقيل بن أبي طالب و طالب بن أبي طالب و نوفل بن الحارث بن عبد المطلب و أبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب و ابنه الحارث بن نوفل بن الحارث بن عبد المطلب و كان شديدا على رسول الله ص يبغضه و يهجوه بالأشعار إلا أنه كان لا يرضى بقتله و لا يقار قريشا في دمه محافظة على النسب و كان سيد المحصورين في الشعب و رئيسهم و شيخهم أبو طالب بن عبد المطلب و هو الكافل و المحامي (15/53)
اختلاف الرأي في إيمان أبي طالب
و اختلف الناس في إيمان أبي طالب فقالت الإمامية و أكثر الزيدية ما مات إلا مسلما. شرح نهج البلاغة ج : 14 ص : 66و قال بعض شيوخنا المعتزلة بذلك منهم الشيخ أبو القاسم البلخي و أبو جعفر الإسكافي و غيرهما. و قال أكثر الناس من أهل الحديث و العامة من شيوخنا البصرن و غيرهم مات على دين قومه و
يروون في ذلك حديثا مشهورا أن رسول الله ص قال له عند موته قل يا عم كلمة أشهد لك بها غدا عند الله تعالى
فقال لو لا أن تقول العرب إن أبا طالب جزع عند الموت لأقررت بها عينك. و روي أنه قال أنا على دين الأشياخ. و قيل إنه قال أنا على دين عبد المطلب و قيل غير ذلك. و روى كثير من المحدثين أن قوله تعالى ما كانَ لِلنَّبِيِّ وَ الَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَ لَوْ كانُوا أُولِي قُرْبى مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحابُ الْجَحِيمِ وَ ما كانَ اسْتِغْفارُ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَها إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ الآية أنزلت في أبي طالب لأن رسول الله استغفر له بعد موته. و رووا أن قوله تعالى إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ نزلت في أبي طالب. و رووا أن عليا ع جاء إلى رسول الله ص بعد موت أبي طالب فقال له إن عمك الضال قد قضى فما الذي تأمرني فيه. و احتجوا بأنه لم ينقل أحد عنه أنه رآه يصلي و الصلاة هي المفرقة بين المسلم و الكافر و أن عليا و جعفرا لم يأخذا من تركته شيئا و (15/54)
رووا عن النبي ص أنه قال إن الله قد وعدني بتخفيف عذابه لما صنع في حقي و إنه في ضحضاح من نار
و رووا عنه أيضا أنه قيل له لو استغفرت لأبيك و أمك فقال لو استغفرت لهما لاستغفرت لأبي طالب فإنه صنع إلي ما لم يصنعا و إن عبد الله و آمنة و أبا طالب جمرات من جمرات جهنم
شرح نهج البلاغة ج : 14 ص : 67فأما الذين زعموا أنه كان مسلما فقد رووا خلاف ذلك و أسندوا خبرا إلى أمير المؤمنين ع أنه قال قال رسول الله ص قال لي جبرائيل إن الله مشفعك في ستة بطن حملتك آمنة بنت وهب و صلب أنزلك عبد الله بن عبد المطلب و حجر كفلك أبي طالب و بيت آواك عبد المطلب و أخ كان لك في الجاهلية قيل يا رسول الله و ما كان فعله قال كان سخيا يطعم الطعام و يجود بالنوال و ثدي أرضعتك حليمة بنت أبي ذؤيب
قلت سألت النقيب أبا جعفر يحيى بن أبي زيد عن هذا الخبر و قد قرأته عليه هل كان لرسول الله ص أخ من أبيه أو من أمه أو منهما في الجاهلية فقال لا إنما يعني أخا له في المودة و الصحبة قلت له فمن هو قال لا أدري. قالوا و (15/55)
قد نقل الناس كافة عن رسول الله ص أنه قال نقلنا من الأصلاب الطاهرة إلى الأرحام الزكية
فوجب بهذا أن يكون آباؤه كلهم منزهين عن الشرك لأنهم لو كانوا عبدة أصنام لما كانوا طاهرين. قالوا و أما ما ذكر في القرآن من إبراهيم و أبيه آزر و كونه كان ضالا مشركا فلا يقدح في مذهبنا لأن آزر كان عم إبراهيم فأما أبوه فتارخ بن ناحور و سمي العم أبا كما قال أَمْ كُنْتُمْ شُهَداءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قالَ لِبَنِيهِ ما تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قالُوا نَعْبُدُ إِلهَكَ وَ إِلهَ آبائِكَ ثم عد فيهم إسماعيل و ليس من آبائه و لكنه عمه. قلت و هذا الاحتجاج عندي ضعيف لأن المراد من قوله نقلنا من الأصلاب الطاهرة إلى الأرحام الزكية تنزيه آبائه و أجداده و أمهاته عن السفاح لا غير هذا مقتضى شرح نهج البلاغة ج : 14 ص : 68سياقة الكلام لأن العرب كان يعيب بعضها بعضا باختلاط المياه و اشتباه الأنساب و نكاح الشبهة. و قولهم لو كانوا عبدة أصنام لما كانوا طاهرين يقال لهم لملتم إنهم لو كانوا عبدة أصنام لما كانوا طاهري الأصلاب فإنه لا منافاة بين طهارة الأصلاب و عبادة الصنم أ لا ترى أنه لو أراد ما زعموه لما ذكر الأصلاب و الأرحام بل جعل عوضها العقائد و اعتذارهم عن إبراهيم و أبيه يقدح في قولهم في أبي طالب لأنه لم يكن أبا محمد ص بل كان عمه فإذا جاز عندهم أن يكون العم و هو آزر مشركا كما قد اقترحوه في تأويلهم لم يكن لهم حجة من هذا الوجه على إسلام أبي طالب. و احتجوا في إسلام الآباء
بما روي عن جعفر بن محمد ع أنه قال يبعث الله عبد المطلب يوم القيامة و عليه سيماء الأنبياء و بهاء الملوك
و روي أن العباس بن عبد المطلب قال لرسول الله ص بالمدينة يا رسول الله ما ترجو لأبي طالب فقال أرجو له كل خير من الله عز و جل (15/56)
و روي أن رجلا من رجال الشيعة و هو أبان بن محمود كتب إلى علي بن موسى الرضا ع جعلت فداك إني قد شككت في إسلام أبي طالب فكتب إليه وَ مَنْ يُشاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدى وَ يَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ الآية و بعدها إنك إن لم تقر بإيمان أبي طالب كان مصيرك إلى النار
و قد روي عن علي بن محمد الباقر ع أنه سئل عما يقوله الناس إن أبا طالب في ضحضاح من نار فقال لو وضع إيمان أبي طالب في كفة ميزان و إيمان هذا الخلق في الكفة الأخرى لرجح إيمانه ثم قال أ لم تعلموا أن أمير المؤمنين عليا ع كان يأمر أن يحج عن عبد الله و أبيه أبي طالب في حياته ثم أوصى في وصيته بالحج عنهم
و روي أن أبا بكر جاء بأبي قحافة إلى النبي ص عام الفتح يقوده شرح نهج البلاغة ج : 14 ص : 69و هو شيخ كبير أعمى فقال رسول الله أ لا تركت الشيخ حتى نأتيه فقال أردت يا رسول الله أن يأجره الله أما و الذي بعثك بالحق لأنا كنت أشد فرحا بإسلام عمك أبي طالب مني بإسل أبي ألتمس بذلك قرة عينك فقال صدقت. و
روي أن علي بن الحسين ع سئل عن هذا فقال وا عجبا إن الله تعالى نهى رسوله أن يقر مسلمة على نكاح كافر و قد كانت فاطمة بنت أسد من السابقات إلى الإسلام و لم تزل تحت أبي طالب حتى مات
و يروي قوم من الزيدية أن أبا طالب أسند المحدثون عنه حديثا ينتهي إلى أبي رافع مولى رسول الله ص قال سمعت أبا طالب يقول بمكة حدثني محمد ابن أخي أن ربه بعثه بصلة الرحم و أن يعبده وحده لا يعبد معه غيره و محمد عندي الصادق الأمين. و قال قوم إن
قول النبي ص أنا و كافل اليتيم كهاتين في الجنة
إنما عنى به أبا طالب. و قالت الإمامية إن ما يرويه العامة من أن عليا ع و جعفرا لم يأخذا من تركة أبي طالب شيئا حديث موضوع و مذهب أهل البيت بخلاف ذلك فإن المسلم عندهم يرث الكافر و لا يرث الكافر المسلم و لو كان أعلى درجة منه في النسب. قالوا و (15/57)
قوله ص لا توارث بين أهل ملتين
نقول بموجبه لأن التوارث تفاعل و لا تفاعل عندنا في ميراثهما و اللفظ يستدعي الطرفين كالتضارب لا يكون إلا من اثنين قالوا و حب رسول الله ص شرح نهج البلاغة ج : 14 ص : 70لأبي طالب معلوم مشهور و لو كان كافرا ما جاز له حبه لقوله تعالى لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُو بِاللَّهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ يُوادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَ رَسُولَهُ الآية. قالوا و قد اشتهر و استفاض الحديث و هو
قوله ص لعقيل أنا أحبك حبين حبا لك و حبا لحب أبي طالب فإنه كان يحبك
قالوا و خطبة النكاح مشهورة خطبها أبو طالب عند نكاح محمد ص خديجة و هي قوله الحمد لله الذي جعلنا من ذرية إبراهيم و زرع إسماعيل و جعل لنا بلدا حراما و بيتا محجوجا و جعلنا الحكام على الناس ثم إن محمد بن عبد الله أخي من لا يوازن به فتى من قريش إلا رجح عليه برا و فضلا و حزما و عقلا و رأيا و نبلا و إن كان في المال قل فإنما المال ظل زائل و عارية مسترجعة و له في خديجة بنت خويلد رغبة و لها فيه مثل ذلك و ما أحببتم من الصداق فعلي و له و الله بعد نبأ شائع و خطب جليل. قالوا أ فتراه يعلم نبأه الشائع و خطبه الجليل ثم يعانده و يكذبه و هو من أولي الألباب هذا غير سائغ في العقول. قالوا و
قد روي عن أبي عبد الله جعفر بن محمد ع أن رسول الله ص قال إن أصحاب الكهف أسروا الإيمان و أظهروا الكفر فآتاهم الله أجرهم مرتين و إن أبا طالب أسر الإيمان و أظهر الشرك فآتاه الله أجره مرتين
و في الحديث المشهور أن جبرائيل ع قال له ليلة مات أبو طالب اخرج منها فقد مات ناصرك
قالوا و أما حديث الضحضاح من النار فإنما يرويه الناس كلهم عن رجل واحد و هو المغيرة بن شعبة و بغضه لبني هاشم و على الخصوص لعلي ع مشهور معلوم و قصته و فسقه أمر غير خاف. شرح نهج البلاغة ج : 14 ص : 71و قالوا و قد روي بأسانيد كثيرة بعضها عن العباس بن عبد المطلو بعضها عن أبي بكر بن أبي قحافة أن أبا طالب ما مات حتى قال لا إله إلا الله محمد رسول الله و الخبر مشهور أن أبا طالب عند الموت قال كلاما خفيا فأصغى إليه أخوه العباس ثم رفع رأسه إلى رسول الله ص فقال يا ابن أخي و الله لقد قالها عمك و لكنه ضعف عن أن يبلغك صوته. و (15/58)
روي عن علي ع أنه قال ما مات أبو طالب حتى أعطى رسول الله ص من نفسه الرضا
قالوا و أشعار أبي طالب تدل على أنه كان مسلما و لا فرق بين الكلام المنظوم و المنثور إذا تضمنا إقرارا بالإسلام أ لا ترى أن يهوديا لو توسط جماعة من المسلمين و أنشد شعرا قد ارتجله و نظمه يتضمن الإقرار بنبوة محمد ص لكنا نحكم بإسلامه كما لو قال أشهد أن محمدا رسول الله ص فمن تلك الأشعار قوله
يرجون منا خطة دون نيلها ضراب و طعن بالوشيج المقوم يرجون أن نسخى بقتل محمد و لم تختضب سمر العوالي من الدم كذبتم و بيت الله حتى تفلقوا جماجم تلقى بالحطيم و زمزم و تقطع أرحام و تنسى حليلة حليلا و يغشى محرم بعد محرم على ما مضى من مقتكم و عقوقكم و غشيانكم فركم كل مأثم و ظلم نبي جاء يدعو إلى الهدى و أمر أتى من عند ذي العرش قيم شرح نهج البلاغة ج : 14 ص : 72فلا تحسبونا مسلميه فمثله إذا كان في قوم فليس بمسلو من شعر أبي طالب في أمر الصحيفة التي كتبتها قريش في قطيعة بني هاشم
ألا أبلغا عني على ذات بينها لؤيا و خصا من لؤي بني كعب أ لم تعلموا أنا وجدنا محمدا رسولا كموسى خط في أول الكتب و أن عليه في العباد محبة و لا حيف فيمن خصه الله بالحب و أن الذي رقشتم في كتابكم يكون لكم يوما كراغية السقب أفيقوا أفيقوا قبل أن تحفر الزبى و يمن لم يجن ذنبا كذي ذنب و لا تتبعوا أمر الغواة و تقطعوا أواصرنا بعد المودة و القرب و تستجلبوا حربا عوانا و ربما أمر على من ذاقه حلب الحرب فلسنا و بيت الله نسلم أحمدا لعزاء من عض الزمان و لا كرب و لما تبن منا و منكم سوالف و أيد أترت بالمهندة الشهب بمعتر ترى قصد القنا به و الضباع العرج تعكف كالشرب كأن مجال الخيل في حجراته و غمغمة الأبطال معركة الحرب أ ليس أبونا هاشم شد أزره و أوصى بنيه بالطعان و بالضرب و لسنا نمل الحرب حتى تملنا و لا نشتكي مما ينوب من الن شرح نهج البلاغة ج : 14 ص : 73و لكننا أهل الحفائظ و النهى إذا طار أرواح الكماة من الرعو من ذلك قوله (15/59)
فلا تسفهوا أحلامكم في محمد و لا تتبعوا أمر الغواة الأشائم تمنيتم أن تقتلوه و إنما أمانيكم هذي كأحلام نائم و إنكم و الله لا تقتلونه و لما تروا قطف اللحى و الجماجم زعمتم بأنا مسلمون محمدا و لما نقاذف دونه و نزاحم من القوم مفضال أبي على العدا تمكن في الفرمن آل هاشم أمين حبيب في العباد مسوم بخاتم رب قاهر في الخواتم يرى الناس برهانا عليه و هيبة و ما جاهل في قومه مثل عالم نبي أتاه الوحي من عند ربه و من قال لا يقرع بها سن ناو من ذلك قوله و قد غضب لعثمان بن مظعون الجمحي حين عذبته قريش و نالت منه
أ من تذكر دهر غير مأمون أصبحت مكتئبا تبكي كمحزون أم من تذكر أقوام ذوي سفه يغشون بالظلم من يدعو إلى الدين أ لا يرون أذل الله جمعهم أنا غضبنا لعثمان بن مظعون و نمنع الضيم من يبغي مضامتنا بكل مطرد في الكف مسنون و مرهفات كأن الملح خالطها يشفى بها الداء من المجانين حتى تقر رجال لا حلوم لها بعد الصعوبة بالإسماح و اللين شرح نهج البلاغة ج : 14 ص : 74أو تؤمنوا بكتاب منزل عجب على نبي موسى أو كذي النوقالوا و قد جاء في الخبر أن أبا جهل بن هشام جاء مرة إلى رسول الله ص و هو ساجد و بيده حجر يريد أن يرضخ به رأسه فلصق الحجر بكفه فلم يستطع ما أراد فقال أبو طالب في ذلك من جملة أبيات (15/60)
أفيقوا بني عمنا و انتهوا عن الغي من بعض ذا المنطق و إلا فإني إذا خائف بوائق في داركم تلتقي كما ذاق من كان من قبلكم ثمود و عاد و ما ذا بقو منها
و أعجب من ذاك في أمركم عجائب في الحجر الملصق بكف الذي قام من حينه إلى الصابر الصادق المتقي فأثبته الله في كفه على رغمه الخائن الأحمقالوا و قد اشتهر عن عبد الله المأمون رحمه الله أنه كان يقول أسلم أبو طالب و الله بقوله
نصرت الرسول رسول المليك ببيض تلألأ كلمع البروق أذب و أحمي رسول الإله حماية حام عليه شفيق و ما إن أدب لأعدائه دبيب البكار حذار الفنيق و لكن أزير لهم ساميا كما زار ليث بغيل مض شرح نهج البلاغة ج : 14 ص : 75قالوا و قد جاء في السيرة و ذكره أكثر المؤرخين أن عمرو بن العاص لما خرج إلى بلاد الحبشة ليكيد جعفر بن أبي طالب و أصحابه عند النجاشي قالتقول ابنتي أين أين الرحيل و ما البين مني بمستنكرفقلت دعيني فإني امرؤ أريد النجاشي في جعفرلأكويه عنده كية أقيم بها نخوة الأصعرو لن أنثني عن بني هاشم بما اسطعت في الغيب و المحضرو عن عائب اللات في قوله و لو لا رضا اللات لم تمطرو إني لأشنا قريش له و إن كان كالذهب الأحمر
قالوا فكان عمرو يسمى الشانئ ابن الشانئ لأن أباه كان إذا مر عليه رسول الله ص بمكة يقول له و الله إني لأشنؤك و فيه أنزل إِنَّ شانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ قالوا فكتب أبو طالب إلى النجاشي شعرا يحرضه فيه على إكرام جعفر و أصحابه و الإعراض عما يقوله عمرو فيه و فيهم من جملته (15/61)
ألا ليت شعري كيف في الناس جعفر و عمرو و أعداء النبي الأقارب و هل نال إحسان النجاشي جعفرا و أصحابه أم عاق عن ذاك شاغبفي أبيات كثيرة. قالوا و
روي عن علي ع أنه قال قال لي أبي يا بني الزم ابن عمك فإنك تسلم به من كل بأس عاجل و آجل ثم قال لي
إن الوثيقة في لزوم محمد فاشدد بصحبته على أيديكا
. شرح نهج البلاغة ج : 14 ص : 76و من شعره المناسب لهذا المعنى قولهإن عليا و جعفرا ثقتي عند ملم الزمان و النوب لا تخذلا و انصرا ابن عمكما أخي لأمي من بينهم و أبي و الله لا أخذل النبي و لا يخذله من بني ذو حسقالوا و قد جاءت الرواية أن أبا طالب لما مات جاء علي ع إلى رسول الله ص فآذنه بموته فتوجع عظيما و حزن شديدا ثم قال له امض فتول غسله فإذا رفعته على سريره فأعلمني ففعل فاعترضه رسول الله ص و هو محمول على رءوس الرجال فقال وصلتك رحم يا عم و جزيت خيرا فلقد ربيت و كفلت صغيرا و نصرت و آزرت كبيرا ثم تبعه إلى حفرته فوقف عليه فقال أما و الله لأستغفرن لك و لأشفعن فيك شفاعة يعجب لها الثقلان. قالوا و المسلم لا يجوز أن يتولى غسل الكافر و لا يجوز للنبي أن يرق لكافر و لا أن يدعو له بخير و لا أن يعده بالاستغفار و الشفاعة و إنما تولى علي ع غسله لأن طالبا و عقيلا لم يكونا أسلما بعد و كان جعفر بالحبشة و لم تكن صلاة الجنائز شرعت بعد و لا صلى رسول الله ص على خديجة و إنما كان تشييع و رقة و دعاء. قالوا و من شعر أبي طالب يخاطب أخاه حمزة و كان يكنى أبا يعلى
فصبرا أبا يعلى على دين أحمد و كن مظهرا للدين وفقت صابراو حط من أتى بالحق من عند ربه بصدق و عزم لا تكن حمز كافرافقد سرني إذ قلت إنك مؤمن فكن لرسول الله في الله ناصرا (15/62)
شرح نهج البلاغة ج : 14 ص : 77و باد قريشا بالذي قد أتيته جهارا و قل ما كان أحمد ساحرقالوا و من شعره المشهور
أنت النبي محمد قرم أعز مسودلمسودين أكارم طابوا و طاب المولدنعم الأرومة أصلها عمرو الخضم الأوحدهشم الربيكة في الجفان و عيش مكة أنكدفجرت بذلك سنة فيها الخبيزة تثردو لنا السقاية للحجيج بها يماث العنجدو المأزمان و ما حوت عرفاتها و المسجدأنى تضام و لم أمت و أنا الشجاع العربدو بطاح مكة لا يرى فيها نجيع أسودو بنو أبيك كأنهم أسد العرين توقدو لقد عهدتك صادقا في القول لا تتزيدما زلت تنطق بالصواب و أنت طفل أمرد
قالوا و من شعره المشهور أيضا قوله يخاطب محمدا و يسكن جأشه و يأمره بإظهار الدعوة
لا يمنعنك من حق تقوم به أيد تصول و لا سلق بأصوات
شرح نهج البلاغة ج : 14 ص : 78فإن كفك كفي إن بليت بهم و دون نفسك نفسي في الملماو من ذلك قوله و يقال إنها لطالب بن أبي طالب
إذا قيل من خير هذا الورى قبيلا و أكرمهم أسره أناف لعبد مناف أب و فضله هاشم العزه لقد حل مجد بني هاشم مكان النعائم و النثره و خير بني هاشم أحمد رسول الإله على فتو من ذلك قوله
لقد أكرم الله النبي محمدا فأكرم خلق الله في الناس أحمدو شق له من اسمه ليجله فذو العرش محمود و هذا محمد
و قوله أيضا و قد يروى لعلي ع
يا شاهد الله علي فاشهد أني على دين النبي أحمدمن ضل في الدين فإني مهتد
قالوا فكل هذه الأشعار قد جاءت مجي ء التواتر لأنه إن لم تكن آحادها متواترة فمجموعها يدل على أمر واحد مشترك و هو تصديق محمد ص و مجموعها متواتر كما أن كل واحدة من قتلات علي ع الفرسان منقولة آحادا و مجموعها متواتر يفيدنا العلم الضروري بشجاعته و كذلك القول فيم روي من سخاء حاتم و حلم الأحنف و معاوية و ذكاء إياس و خلاعة أبي نواس و غير ذلك قالوا و اتركوا هذا كله جانبا ما قولكم في القصيدة اللامية التي شهرتها كشهرة قفا نبك و إن جاز الشك فيها أو في شي ء من أبياتها جاز الشك في قفا نبك و في بعض أبياتها و نحن نذكر منهاهاهنا قطعة و هي قوله شرح نهج البلاغة ج : 14 ص : 7أعوذ برب البيت من كل طاعن علينا بسوء أو يلوح بباطل و من فاجر يغتابنا بمغيبة و من ملحق في الدين ما لم نحاول كذبتم و بيت الله يبزى محمد و لما نطاعن دونه و نناضل و ننصره حتى نصرع دونه و نذهل عن أبنائنا و الحلائل و حتى نرى ذا الردع يركب ردعه من الطعن فعل اب المتحامل و ينهض قوم في الحديد إليكم نهوض الروايا تحت ذات الصلاصل و إنا و بيت الله من جد جدنا لتلتبسن أسيافنا بالأماثل بكل فتى مثل الشهاب سميدع أخي ثقة عند الحفيظة باسل و ما ترك قوم لا أبا لك سيدا يحوط الذمار غير نكس مواكل و أبيض يستسقى الغمام بوجهه اليتامى عصمة للأرامل يلوذ به الهلاك من آل هاشم فهم عنده في نعمة و فواضل و ميزان صدق لا يخيس شعيرة و وزان صدق وزنه غير عائل أ لم تعلموا أن ابننا لا مكذب لدينا و لا يعبأ بقول الأباطل لعمري لقد كلفت وجدا بأحمد و أحببته حب الحبيب المواصل و جدت بنفسي دونه ه و دافعت عنه بالذرى و الكواهل فلا زال للدنيا جمالا لأهلها و شينا لمن عادى و زين المحافل و أيده رب العباد بنصره و أظهر دينا حقه غير باط شرح نهج البلاغة ج : 14 ص : 80و ورد في السيرة و المغازي أن عتبة بن ربيعة أو شيبة لما قطع رجل عبيدة بن الحارث بن المطلب يوم بدر أشبل عليه علي و حمزة (15/63)
فاستنقذاه منه و خبطا عتبة بسيفيهما حتى قتلاه و احتملا صاحبهما من المعركة إلى العريش فألقياه بين يدي رسول اه ص و إن مخ ساقه ليسيل فقال يا رسول الله لو كان أبو طالب حيا لعلم أنه قد صدق في قوله (15/64)
كذبتم و بيت الله نخلي محمدا و لما نطاعن دونه و نناضل و ننصره حتى نصرع حوله و نذهل عن أبنائنا و الحلائلفقالوا إن رسول الله ص استغفر له و لأبي طالب يومئذ و بلغ عبيدة مع النبي ص إلى الصفراء فمات فدفن بها.
قالوا و قد روي أن أعرابيا جاء إلى رسول الله ص في عام جدب فقال أتيناك يا رسول الله و لم يبق لنا صبي يرتضع و لا شارف يجتر ثم أنشده
أتيناك و العذراء تدمى لبانها و قد شغلت أم الرضيع عن الطفل و ألقى بكفيه الفتى لاستكانة من الجوع حتى ما يمر و لا يحلي و لا شي ء مما يأكل الناس عندنا سوى الحنظل العامي و العلهز الفسل و ليس لنا إلا إليك فرارنا و أين فرار الناس إلا إلى ال. فقام النبي ص يجر رداءه حتى صعد المنبر فحمد الله و أثنى عليه و قال اللهم اسقنا غيثا مغيثا مريئا هنيئا مريعا سحا سجالا غدقا طبقا قاطبا دائما درا تحيي به الأرض و تنبت به الزرع و تدر به الضرع و اجعله سقيا نافعا عاجلا غير رائث فو الله ما رد رسول الله ص يده إلى نحره حتى ألقت السماء شرح نهج البلاغة ج : 14 ص : 81أرواقها و جاء الناس يضجون الغرق الغرق يا رسول الله فقال اللهم حوالينا و لا علينا فانجاب السحاب عن المدينة حتى استدار حولها كالإكليل فضحك رسول الله حتى بدت نواجذه ثم قال لله در أبي طالب لو كان حيا لقرت عه من ينشدنا قوله فقام علي فقال يا رسول الله لعلك أردت
و أبيض يستسقى الغمام بوجهه
قال أجل فأنشده أبياتا من هذه القصيدة و رسول الله يستغفر لأبي طالب على المنبر ثم قام رجل من كنانة فأنشده
لك الحمد و الحمد ممن شكر سقينا بوجه النبي المطردعا الله خالقه دعوة إليه و أشخص منه البصرفما كان إلا كما ساعة أو أقصر حتى رأينا الدرردفاق العزالي و جم البعاق أغاث به الله عليا مضرفكان كما قاله عمه أبو طالب ذو رواء غرربه يسر الله صوب الغمام فهذا العيان و ذاك الخبرفمن يشكر الله يلق المزيد و من يكفر الله يلق الغير (15/65)
فقال رسول الله إن يكن شاعر أحسن فقد أحسنت
قالوا و إنما لم يظهر أبو طالب الإسلام و يجاهر به لأنه لو أظهره لم يتهيأ له من نصرة النبي ص ما تهيأ له و كان كواحد من المسلمين الذين اتبعوه نحو أبي بكر و عبد الرحمن بن عوف و غيرهما ممن أسلم و لم يتمكن من نصرته و القيام دونه شرح نهج البلاغة ج : 14 ص : 82حيذ و إنما تمكن أبو طالب من المحاماة عنه بالثبات في الظاهر على دين قريش و إن أبطن الإسلام كما لو أن إنسانا كان يبطن التشيع مثلا و هو في بلد من بلاد الكرامية و له في ذلك البلد وجاهة و قدم و هو يظهر مذهب الكرامية و يحفظ ناموسه بينهم بذلك و كان في ذلك البلد نفر يسير من الشيعة لا يزالون ينالون بالأذى و الضرر من أهل ذلك البلد و رؤسائه فإنه ما دام قادرا على إظهار مذهب أهل البلد يكون أشد تمكنا من المدافعة و المحاماة عن أولئك النفر فلو أظهر ما يجوز من التشيع و كاشف أهل البلد بذلك صار حكمه حكم واحد من أولئك النفر و لحقه من الأذى و الضرر ما يلحقهم و لم يتمكن من الدفاع أحيانا عنهم كما كان أولا. قلت فأما أنا فإن الحال ملتبسة عندي و الأخبار متعارضة و الله أعلم بحقيقة حاله كيف كانت. و يقف في صدري رسالة النفس الزكية إلى المنصور و قوله فيها فأنا ابن خير الأخيار و أنا ابن شر الأشرار و أنا ابن سيد أهل الجنة و أنا ابن سيد أهل النار. فإن هذه شهادة منه على أبي طالب بالكفر و هو ابنه و غير متهم عليه و عهده قريب من عهد النبي ص لم يطل الزمان فيكون الخبر مفتعلا. و جملة الأمر أنه قد روي في إسلامه أخبار
كثيرة و روي في موته على دين قومه أخبار كثيرة فتعارض الجرح و التعديل فكان كتعارض البينتين عند الحاكم و ذلك يقتضي التوقف فأنا في أمره من المتوقفين. شرح نهج البلاغة ج : 14 ص : 83فأما الصلاة و كونه لم ينقل عنه أنه صلى فيجوز أن يكون لأن الصلاة لم تكن بعد قد فرضت و إنما كانت نفلا غير واجب فمن ش صلى و من شاء ترك و لم تفرض إلا بالمدينة و يمكن أن يقول أصحاب الحديث إذا تعارض الجرح و التعديل كما قد أشرتم إليه فالترجيح عند أصحاب أصول الفقه لجانب الجرح لأن الجارح قد اطلع على زيادة لم يطلع عليها المعدل. و لخصومهم أن يجيبوا عن هذا فنقول إن هذا إنما يقال و يذكر في أصول الفقه في طعن مفصل في مقابلة تعديل مجمل مثاله أن يروي شعبة مثلا حديثا عن رجل فهو بروايته عنه قد وثقه و يكفي في توثيقه له أن يكون مستور الحال ظاهره العدالة فيطعن فيه الدار قطني مثلا بأن يقول كان مدلسا أو كان يرتكب الذنب الفلاني فيكون قد طعن طعنا مفصلا في مقابلة تعديل مجمل و فيما نحن فيه و بصدده الروايتان متعارضتان تفصيلا لا إجمالا لأن هؤلاء يروون أنه تلفظ بكلمتي الشهادة عند الموت و هؤلاء يروون أنه قال عند الموت أنا على دين الأشياخ. و بمثل هذا يجاب على من يقول من الشيعة روايتنا في إسلامه أرجح لأنا نروي حكما إيجابيا و نشهد على إثبات و خصومنا يشهدون على النفي و لا شهادة على النفي و ذلك أن الشهادة في الجانبين معا إنما هي على إثبات و لكنه إثبات متضاد. و صنف بعض الطالبيين في هذا العصر كتابا في إسلام أبي طالب و بعثه إلي و سألني أن أكتب عليه بخطي نظما أو نثرا أشهد فيه بصحة ذلك و بوثاقة الأدلة عليه فتحرجت أن أحكم بذلك حكما قاطعا لما عندي من التوقف فيه و لم أستجز أن أقعد عن تعظيم أبي طالب فإني أعلم أنه لولاه لما قامت للإسلام دعامة و أعلم أن حقه واجب على كل مسلم في الدنيا إلى أن تقوم الساعة فكتبت على ظاهر المجلد شرح نهج البلاغة ج : 14 ص (15/66)
: 8و لو لا أبو طالب و ابنه لما مثل الدين شخصا فقامافذاك بمكة آوى و حامى و هذا بيثرب جس الحماماتكفل عبد مناف بأمر و أودى فكان علي تمامافقل في ثبير مضى بعد ما قضى ما قضاه و أبقى شمامافلله ذا فاتحا للهدى و لله ذا للمعالي ختاماو ما ضر مجد أبي طالب جهول لغا أو بصير تعامى كما لا يضر إياة الصباح من ظن ضوء النهار الظلامافوفيته حقه من التعظيم و الإجلال و لم أجزم بأمر عندي فيه وقفة (15/67)
الفصل الثالث قصة غزوة بدر
الفصل الثالث في شرح القصة في غزاة بدر و نحن نذكر ذلك من كتاب المغازي لمحمد بن عمر الواقدي و نذكر ما عساه زاده محمد بن إسحاق في كتاب المغازي و ما زاده أحمد بن يحيى بن جابر البلاذري في تاريخ الأشراف. قال الواقدي بلغ رسول الله ص أن عير قريش قد فصلت من مكة تريد الشام و قد جمعت قريش فيها أموالها فندب لها أصحابه و خرج يعترضها على رأس ستة عشر شهرا من مهاجره ع فخرج في خمسين و مائة و يقال في مائتين فلم يلق العير و فاتته ذاهبة إلى الشام و هذه غزاة ذي العشيرة رجع منها إلى المدينة فلم يلق حربا فلما تحين انصراف العير من الشام قافلة ندب أصحابه لها و بعث طلحة بن عبيد الله و سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل قبل خروجه من المدينة بعشر ليال شرح نهج البلاغة ج : 14 ص : 85يتجسسان خبر العير حتى نزلا على كشد الجهني بالموضع المعروف بالنخبار و هو من وراء ذي المروة على الساحل فأجارهما و زلهما فلم يزالا مقيمين في خباء وبر حتى مرت العير فرفعهما على نشز من الأرض فنظرا إلى القوم و إلى ما تحمل العير و جعل أهل العير يقولون لكشد يا كشد هل رأيت أحدا من عيون محمد فيقول أعوذ بالله و أنى لمحمد عيون بالنخبار فلما راحت العير باتا حتى أصبحا ثم خرجا و خرج معهما كشد خفيرا حتى أوردهما ذا المروة و ساحلت العير فأسرعت و سار بها أصحابها ليلا و نهارا فرقا من الطلب و قدم طلحة و سعيد المدينة في اليوم الذي لقي رسول الله ص قريشا ببدر فخرجا يعترضان رسول الله ص فلقياه بتربان و تربان بين ملل و السالة على المحجة و كانت منزل عروة بن أذينة الشاعر و قدم كشد بعد ذلك على النبي ص و قد أخبر طلحة و سعيد رسول الله ص بما صنع بهما فحباه و أكرمه و قال أ لا أقطع لك ينبع قال إني كبير و قد نفد عمري و لكن أقطعها لابن أخي فأقطعها له قالوا و ندب رسول الله ص المسلمين و قال هذه عير قريش فيها أموالهم لعل الله أن يغنمكموها فأسرع من أسرع حتى إن كان الرجل (15/68)
ليساهم أباه في الخروج فكان ممن ساهم أباه سعد بن خيثمة فقال سعد لأبيه إنه لو كان غير الجنة آثرتك به إني لأرجو الشهادة في وجهي هذا فقال خيثمة آثرني و قر مع نسائك فأبى سعد فقال خيثمة إنه لا بد لأحدنا من أن يقيم فاستهما فخرج سهم سعد فقتل ببدر و أبطأ عن النبي ص بشر كثير من أصحابه و كرهوا خروجه و كان في ذلك كلام كثير و اختلاف و بعضهم تخلف من أهل النيات و البصائر لم يظنوا أنه يكون قتال إنما هو الخروج للغنيمة و لو ظنوا أنه يكون قتال لما تخلفوا منهم أسيد شرح نهج البلاغة ج : 14 ص : 86بن حضير فلما قدم رسول الله ص قال أسيد الحمد لله الذي سرك و أظهرك على عدوك و الذي بعثك بالحق ما تخلفت عنك رغبة بنفسي عن نفسك و لا ظننت أنك تلاقي عدوا و لا ظننت إلا أنها العير فقال له رسول الله ص صدقت. قال و خرج رسول الله ص ح انتهى إلى المكان المعروف بالبقع و هي بيوت السقيا و هي متصلة ببيوت المدينة فضرب عسكره هناك و عرض المقاتلة فعرض عبد الله بن عمر و أسامة بن زيد و رافع بن خديج و البراء بن عازب و أسيد بن ظهير و زيد بن أرقم و زيد بن ثابت فردهم و لم يجزهم. قال الواقدي فحدثني أبو بكر بن إسماعيل عن أبيه عن عامر بن سعد عن أبيه قال رأيت أخي عمير بن أبي وقاص قبل أن يعرضنا رسول الله ص يتوارى فقلت ما لك يا أخي قال إني أخاف أن يراني رسول الله ص فيستصغرني فيردني و أنا أحب الخروج لعل الله أن يرزقني الشهادة قال فعرض على رسول الله ص فاستصغره فقال ارجع فبكى عمير فأجازه. قال فكان سعد يقول كنت أعقد له حمائل سيفه من صغره فقتل ببدر و هو ابن ست عشرة سنة. قال فلما نزل ع بيوت السقيا أمر أصحابه أن يستقوا من بئرهم و شرب ع منها كان أول من شرب و صلى عندها و دعا يومئذ لأهل المدينة (15/69)
فقال شرح نهج البلاغة ج : 14 ص : 87اللهم إن إبراهيم عبدك و خليلك و نبيك دعاك لأهل مكة و إني محمد عبدك و نبيك أدعوك لأهل المدينة أن تبارك لهم في صاعهم و مدهم و ثمارهم اللهم حبب إلينا المدينة و اجعل ما بها من الوباء بخم اللهم إني حرمت ما بين لابتيها كما حرإبراهيم خليلك مكة (15/70)
قال الواقدي و خم على ميلين من الجحفة. و قدم رسول الله ص أمامه عدي بن أبي الزغباء و بسيس بن عمرو و جاء إليه عبد الله بن عمرو بن حرام فقال يا رسول الله لقد سرني منزلك هذا و عرضك فيه أصحابك و تفاءلت به إن هذا منزلنا في بني سلمة حيث كان بيننا و بين أهل حسيكة ما كان. قال الواقدي هي حسيكة الذباب و الذباب جبل بناحية المدينة و كان بحسيكة يهود و كان لهم بها منازل. قال عبد الله بن عمرو بن حرام فعرضنا يا رسول الله هاهنا أصحابنا فأجزنا من كان يطيق السلاح و رددنا من صغر عن حمل السلاح ثم سرنا إلى يهود حسيكة و هم أعز يهود كانوا يومئذ فقتلناهم كيف شئنا فذلت لنا سائر يهود إلى اليوم و أنا أرجو يا رسول الله أن نلتقي نحن و قريش فيقر الله عينك منهم. قال الواقدي و كان خلاد بن عمرو بن الجموح لما كان من النهار رجع إلى أهله بخرباء فقال له أبوه عمرو بن الجموح ما ظننت إلا أنكم قد سرتم فقال إن رسول الله ص يعرض الناس بالبقيع فقال عمرو نعم الفأل و الله إني لأرجو أن تغنموا و أن تظفروا بمشركي قريش إن هذا منزلنا يوم سرنا إلى حسيكة شرح نهج البلاغة ج : 14 ص : 88قال فإن رسول الله ص قد غير اسمه و سماه السقيا قال فكانت في نفسي أن أشتريها حتى اشاها سعد بن أبي وقاص ببكرين و يقال بسبع أواق فذكر للنبي ص أن سعدا اشتراها فقال ربح البيع. قال الواقدي فراح رسول الله ص من بيوت السقيا لاثنتي عشرة ليلة مضت من رمضان و خرج المسلمون معه ثلاثمائة و خمسة و تخلف ثمانية ضرب لهم بسهامهم و أجورهم فكانت الإبل سبعين بعيرا و كانوا يتعاقبون الإبل الاثنين و الثلاثة و
الأربعة فكان رسول الله ص و علي بن أبي طالب ع و مرثد بن أبي مرثد و يقال زيد بن حارثة مكان مرثد يتعاقبون بعيرا واحدا و كان حمزة بن عبد المطلب و زيد بن حارثة و أبو كبشة و أنسة موالي النبي ص على بعير و كان عبيدة بن الحارث و الطفيل و الحصين ابنا الحارث و مسطح بن أثاثة على بعير لعبيدة بن الحارث ناضح ابتاعه من أبي داود المازني و كان معاذ و عوف و معوذ بنو عفراء و مولاهم أبو الحمراء على بعير و كان أبي بن كعب و عمارة بن حزام و حارثة بن النعمان على بعير و كان خراش بن الصمة و قطبة بن عامر بن حديدة و عبد الله بن عمرو بن حزام على بعير و كان عتبة بن غزوان و طليب بن عمير على جمل لعتبة بن غزوان يقال له العبس و كان مصعب بن عمير و سويبط بن حرملة و مسعود بن ربيع على جمل لمصعب و كان عمار بن ياسر و عبد الله بن مسعود على بعير و كان عبد الله بن كعب و أبو داود المازني و سليط بن قيس على جمل لعبد الله بن كعب و كان عثمان بن عفان و قدامة بن مظعون و عبد الله بن مظعون و السائب بن عثمان على بعير يتعاقبون و كان أبو بكر و عمر و عبد الرحمن بن عوف على بعير و كان سعد بن معاذ و أخوه و ابن أخيه الحارث بن أوس و الحارث بن أنس على جمل لسعد بن معاذ ناضح يقال له الذيال و كان سعيد بن زيد و سلمة بن (15/71)
شرح نهج البلاغة ج : 14 ص : 89سلامة بن وقش و عباد بن بشر و رافع بن يزيد على ناضح لسعيد بن زيد ما تزودوا إلا صاعا من تمر. قال الواقدي فروى معاذ بن رفاعة عن أبيه قال خرجت مع النبي ص إلى بدر و كان كل ثلاثة يتعاقبون بعيرا فكنت أنا و أخي خلاد بن رافع على بكر ا و معنا عبيدة بن يزيد بن عامر فكنا نتعاقب فسرنا حتى إذا كنا بالروحاء إذ مر بنا بكرنا و برك علينا و أعيا فقال أخي اللهم إن لك علي نذرا لئن رددتنا إلى المدينة لأنحرنه فمر بنا النبي ص و نحن على تلك الحال فقلنا يا رسول الله برك علينا بكرنا فدعا بماء فتمضمض و توضأ في إناء ثم قال افتحا فاه ففعلنا فصبه في فيه ثم على رأسه ثم على عنقه ثم على حاركه ثم على سنامه ثم على عجزه ثم على ذنبه ثم قال اركبا و مضى رسول الله ص فلحقناه أسفل من المنصرف و إن بكرنا لينفر بنا حتى إذا كنا بالمصلى راجعين من بدر برك علينا فنحره أخي فقسم لحمه و تصدق به. قال الواقدي و قد روي أن سعد بن عبادة حمل في بدر على عشرين جملا. قال و روي عن سعد بن أبي وقاص أنه قال فخرجنا إلى بدر مع رسول الله ص و معنا سبعون بعيرا فكانوا يتعاقبون الثلاثة و الأربعة و الاثنان على بعير و كنت أنا من أعظم أصحاب النبي ع عنه غناء و أرجلهم رجلة و أرماهم لسهم لم أركب خطوة ذاهبا و لا راجعا (15/72)
قال الواقدي و قال رسول الله ص حين فصل من بيوت السقيا اللهم إنهم حفاة فاحملهم و عراة فاكسهم و جياع فأشبعهم و عالة فأغنهم من فضلك فما رجع أحد منهم يريد أن يركب إلا وجد ظهرا للرجل البعير و البعيران و اكتسى شرح نهج البلاغة ج : 14 ص : 90من كان عاريا و أصابوا طعاما من أزوادهم و أصابوا فداء الأسرى فأغنى به كل عائلقال و استعمل رسول الله ص على المشاة قيس بن أبي صعصعة و اسم أبي صعصعة عمر بن يزيد بن عوف بن مبذول و أمره النبي ص حين فصل من بيوت السقيا أن يعد المسلمين فوقف لهم ببئر أبي عبيدة يعدهم ثم أخبر النبي ص و خرج من بيوت السقيا حتى سلك بطن العقيق ثم سلك طريق المكيمن حتى خرج على بطحاء بن أزهر فنزل تحت شجرة هناك فقام أبو بكر إلى حجارة هناك فبنى منها مسجدا فصلى فيه رسول الله و أصبح يوم الاثنين و هو هناك ثم صار إلى بطن ملل و تربان بين الحفيرة و ملل. قال الواقدي فكان سعد بن أبي وقاص يقول لما كنا بتربان قال لي رسول الله ص يا سعد انظر إلى الظبي فأفوق له بسهم و قام رسول الله ص فوضع رأسه بين منكبي و أذني ثم قال اللهم سدد رميته قال فما أخطأ سهمي عن نحره فتبسم رسول الله ص و خرجت أعدو فأخذته و به رمق فذكيته فحملناه حتى نزلنا قريبا و أمر به رسول الله ص فقسم بين أصحابه. قال الواقدي و كان معهم فرسان فرس لمرثد بن أبي مرثد الغنوي و فرس للمقداد بن عمرو البهراني حليف بني زهرة و يقال فرس للزبير و لم يكن إلا فرسان لاختلاف عندهم أن المقداد له فرس و قد روي عن ضباعة بنت الزبير عن المقداد شرح نهج البلاغة ج : 14 ص : 91قال كان معي يوم بدر فرس ال له سبحة و قد روى سعد بن مالك الغنوي عن آبائه أن مرثد بن أبي مرثد الغنوي شهد بدرا على فرس له يقال له السيل. قال الواقدي و لحقت قريش بالشام في عيرها و كانت العير ألف بعير و كان فيها أموال عظام و لم يبق بمكة قرشي و لا قرشية له مثقال فصاعدا إلا بعث به في العير حتى إن (15/73)
المرأة لتبعث بالشي ء التافه و كان يقال إن فيها لخمسين ألف دينار و قالوا أقل و إن كان ليقال إن أكثر ما فيها من المال لآل سعيد بن العاص لأبي أحيحة إما مال لهم أو مال مع قوم قراض على النصف و كان عامة العير لهم و يقال بل كان لبني مخزوم فيها مائتا بير و خمسة أو أربعة آلاف مثقال ذهبا و كان يقال للحارث بن عامر بن نوفل فيها ألفا مثقال. قال الواقدي و حدثني هشام بن عمارة بن أبي الحويرث قال كان لبني عبد مناف فيها عشرة آلاف مثقال و كان متجرهم إلى غزة من أرض الشام. قال الواقدي و حدثني عبد الله بن جعفر عن أبي عون مولى المسور عن مخرمة بن نوفل قال لما لحقنا بالشام أدركنا رجل من جذام فأخبرنا أن محمدا قد كان عرض لعيرنا في بدأتنا و أنه تركه مقيما ينتظر رجعتنا قد حالف علينا أهل الطريق و وادعهم قال مخرمة فخرجنا خائفين نخاف الرصد فبعثنا ضمضم بن عمرو حين فصلنا من الشام. قال الواقدي و كان عمرو بن العاص مع العير و كان يحدث بعد ذلك يقول لما كنا بالزرقاء و الزرقاء بالشام من أذرعات على مرحلتين و نحن منحدرون إلى مكة لقينا رجلا من جذام فقال قد كان عرض محمد لكم في بدأتكم في أصحابه فقلنا ما شعرنا قال بلى فأقام شهرا ثم رجع إلى يثرب و أنتم يوم عرض محمد لكم مخفون فهو الآن أحرى أن يعرض لكم إنما يعد لكم الأيام عدا فاحذروا على عيركم (15/74)
شرح نهج البلاغة ج : 14 ص : 92و ارتئوا آراءكم فو الله ما أرى من عدد و لا كراع و لا حلقة فأجمع القوم أمرهم فبعثوا ضمضم بن عمرو و كان في العير و قد كانت قريش مرت به و هو بالساحل معه بكران فاستأجروه بعشرين مثقالا و أمره أبو سفيان أن يخبر قريشا أن محمدا قد ع لعيرهم و أمره أن يجدع بعيره إذا دخل و يحول رحله و يشق قميصه من قبله و دبره و يصيح الغوث الغوث و يقال إنما بعثوه من تبوك و كان في العير ثلاثون رجلا من قريش فيهم عمرو بن العاص و مخرمة بن نوفل. قال الواقدي و قد كانت عاتكة بنت عبد المطلب رأت قبل مجي ء ضمضم ب عمرو رؤيا أفزعتها و عظمت في صدرها فأرسلت إلى أخيها العباس فقالت يا أخي لقد و الله رأيت رؤيا أفزعتني و تخوفت أن يدخل على قومك منها شر و مصيبة فاكتم علي ما أحدثك منها رأيت راكبا أقبل على بعير حتى وقف بالأبطح ثم صرخ بأعلى صوته يا آل غدر انفروا إلى مصارعكم في ثلاث فصرخ بها ثلاث مرات فأرى الناس اجتمعوا إليه ثم دخل المسجد و الناس يتبعونه إذ مثل به بعيره على ظهر الكعبة فصرخ مثلها ثلاثا ثم مثل به بعيره على رأس أبي قبيس فصرخ بمثلها ثلاثا ثم أخذ صخرة من أبي قبيس فأرسلها فأقبلت تهوي حتى إذا كانت في أسفل الجبل ارفضت فما بقي بيت من بيوت مكة و لا دار من دورها إلا دخلته منها فلذة. قال الواقدي و كان عمرو بن العاص يحدث بعد ذلك فيقول لقد رأيت كل هذا و لقد رأيت في دارنا فلقة من الصخرة التي انفلقت من أبي قبيس و لقد كان ذلك عبرة و لكن الله لم يرد أن نسلم يومئذ لكنه أخر إسلامنا إلى ما أراد. قلت كان بعض أصحابنا يقول لم يكف عمرا أن يقول رأيت الصخرة في دور مكة عيانا فيخرج ذلك مخرج الاستهزاء باطنا على وجه النفاق و استخفافه بعقول المسلمين (15/75)