الكتاب : شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد

زاد المنطلق
شرح نهج البلاغة ج : 8 ص : 130252- و من كلام له ع لأبي ذر رحمه الله لما أخرج إلى الربذةيَا أَبَا ذَرٍّ إِنَّكَ غَضِبْتَ لِلَّهِ فَارْجُ مَنْ غَضِبْتَ لَهُ إِنَّ الْقَوْمَ خَافُوكَ عَلَى دُنْيَاهُمْ وَ خِفْتَهُمْ عَلَى دِينِكَ فَاتْرُكْ فِي أَيْدِيهِمْ مَا خَافُوكَ عَلَيْهِ وَ اهْرُبْ مِنْهُمْ بِمَا خِفْتَهُمْ عَلَيْهِ فَمَا أَحْوَجَهُمْ إِلَى مَا مَنَعْتَهُمْ وَ أَغْنَاكَ عَمَّا مَنَعُوكَ وَ سَتَعْلَمُ مَنِ الرَّابِحُ غَداً وَ الْأَكْثَرُ حَسَداً وَ لَوْ أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَ الْأَرَضِينَ كَانَتَا عَلَى عَبْدٍ رَتْقاً ثُمَّ اتَّقَى اللَّهَ لَجَعَلَ اللَّهُ لَهُ مِنْهُمَا مَخْرَجاً لَا يُؤْنِسَنَّكَ إِلَّا الْحَقُّ وَ لَا يُوحِشَنَّكَ إِلَّا الْبَاطِلُ فَلَوْ قَبِلْتَ دُنْيَاهُمْ لَأَحَبُّوكَ وَ لَوْ قَرَضْتَ مِنْهَا لَأَمَّنُوكَ
أخبار أبي ذر الغفاري حين خروجه إلى الربذة

(9/221)


واقعة أبي ذر رحمه الله و إخراجه إلى الربذة أحد الأحداث التي نقمت على عثمان و قد روى هذا الكلام أبو بكر أحمد بن عبد العزيز الجوهري في كتاب السقيفة عن عبد الرزاق عن أبيه عن عكرمة عن ابن عباس قال لما أخرج أبو ذر إلى الربذة أمر عثمان فنودي في الناس ألا يكلم أحد أبا ذر و لا يشيعه و أمر مروان بن الحكم أن يخرج به فخرج به و تحاماه الناس إلا علي شرح نهج البلاغة ج : 8 ص : 253بن أبي طالب ع و عقيلا أخاه و حسنا و حسينا ع و عمارا فإنهم خرجوا معه يشيعونه فجعل الحسن ع يكلم أبا ذر فقال له مروان إيها يا حسن أ لا تعلم أن أم المؤمنين قد نهى عن كلام هذا الرجل فإن كنت لا تعلم فاعلم ذلك فحمل علي ع على مروان فضرب بالسوط بين أذني راحلته و قال تنح لحاك الله إلى النار. فرجع مروان مغضبا إلى عثمان فأخبره الخبر فتلظى على علي ع و وقف أبو ذر فودعه القوم و معه ذكوان مولى أم هانئ بنت أبي طالب. قال ذكوان فحفظت كلام القوم و كان حافظا فقال علي ع يا أبا ذر إنك غضبت لله إن القوم خافوك على دنياهم و خفتهم على دينك فامتحنوك بالقلى و نفوك إلى الفلا و الله لو كانت السماوات و الأرض على عبد رتقا ثم اتقى الله لجعل له منها مخرجا يا أبا ذر لا يؤنسنك إلا الحق و لا يوحشنك إلا الباطل ثم قال لأصحابه ودعوا عمكم و قال لعقيل ودع أخاك. فتكلم عقيل فقال ما عسى أن نقول يا أبا ذر و أنت تعلم أنا نحبك و أنت تحبنا فاتق الله فإن التقوى نجاة و اصبر فإن الصبر كرم و اعلم أن استثقالك الصبر من الجزع و استبطاءك العافية من اليأس فدع اليأس و الجزع. ثم تكلم الحسن فقال يا عماه لو لا أنه لا ينبغي للمودع أن يسكت و للمشيع أن ينصرف لقصر الكلام و إن طال الأسف و قد أتى القوم إليك ما ترى فضع عنك الدنيا بتذكر فراغها و شدة ما اشتد منها برجاء ما بعدها و اصبر حتى تلقى نبيك ص و هو عنك راض. ثم تكلم الحسين ع فقال يا عماه إن الله تعالى قادر أن يغير ما قد ترى

(9/222)


شرح نهج البلاغة ج : 8 ص : 254و الله كل يوم هو في شأن و قد منعك القوم دنياهم و منعتهم دينك فما أغناك عما منعوك و أحوجهم إلى ما منعتهم فاسأل الله الصبر و النصر و استعذ به من الجشع و الجزع فإن ابر من الدين و الكرم و إن الجشع لا يقدم رزقا و الجزع لا يؤخر أجلا. ثم تكلم عمار رحمه الله مغضبا فقال لا آنس الله من أوحشك و لا آمن من أخافك أما و الله لو أردت دنياهم لأمنوك و لو رضيت أعمالهم لأحبوك و ما منع الناس أن يقولوا بقولك إلا الرضا بالدنيا و الجزع من الموت مالوا إلى ما سلطان جماعتهم عليه و الملك لمن غلب فوهبوا لهم دينهم و منحهم القوم دنياهم فحسروا الدنيا و الآخرة إلا ذلك هو الخسران المبين. فبكى أبو ذر رحمه الله و كان شيخا كبيرا و قال رحمكم الله يا أهل بيت الرحمة إذا رأيتكم ذكرت بكم رسول الله ص ما لي بالمدينة سكن و لا شجن غيركم إني ثقلت على عثمان بالحجاز كما ثقلت على معاوية بالشام و كره أن أجاور أخاه و ابن خاله بالمصرين فأفسد الناس عليهما فسيرني إلى بلد ليس لي به ناصر و لا دافع إلا الله و الله ما أريد إلا الله صاحبا و ما أخشى مع الله وحشة. و رجع القوم إلى المدينة فجاء علي ع إلى عثمان فقال له ما حملك على رد رسولي و تصغير أمري فقال علي ع أما رسولك فأراد أن يرد وجهي فرددته و أما أمرك فلم أصغره. قال أ ما بلغك نهيي عن كلام أبي ذر قال أ و كلما أمرت بأمر معصية أطعناك فيه قال عثمان أقد مروان من نفسك قال مم ذا قال من شتمه و جذب راحلته قال أما راحلته فراحلتي بها و أما شتمه إياي فو الله لا يشتمني شتمه إلا شتمتك مثلها لا أكذب عليك.

(9/223)


شرح نهج البلاغة ج : 8 ص : 255فغضب عثمان و قال لم لا يشتمك كأنك خير منه قال علي إي و الله و منك ثم قام فخرج. فأرسل عثمان إلى وجوه المهاجرين و الأنصار و إلى بني أمية يشكو إليهم عليا ع فقال القوم أنت الوالي عليه و إصلاحه أجمل قال وددت ذاك فأتوا عليا ع فقال لو اعتذرت إلى مروان و أتيته فقال كلا أما مروان فلا آتيه و لا أعتذر منه و لكن إن أحب عثمان أتيته. فرجعوا إلى عثمان فأخبروه فأرسل عثمان إليه فأتاه و معه بنو هاشم
فتكلم علي ع فحمد الله و أثنى عليه ثم قال أما ما وجدت علي فيه من كلام أبي ذر و وداعه فو الله ما أردت مساءتك و لا الخلاف عليك و لكن أردت به قضاء حقه و أما مروان فإنه اعترض يريد ردي عن قضاء حق الله عز و جل فرددته رد مثلي مثله و أما ما كان مني إليك فإنك أغضبتني فأخرج الغضب مني ما لم أرده

(9/224)


فتكلم عثمان فحمد الله و أثنى عليه ثم قال أما ما كان منك إلي فقد وهبته لك و أما ما كان منك إلى مروان فقد عفا الله عنك و أما ما حلفت عليه فأنت البر الصادق فأدن يدك فأخذ يده فضمها إلى صدره. فلما نهض قالت قريش و بنو أمية لمروان أ أنت رجل جبهك علي و ضرب راحلتك و قد تفانت وائل في ضرع ناقة و ذبيان و عبس في لطمة فرس و الأوس و الخزرج في نسعة أ فتحمل لعلي ع ما أتاه إليك فقال مروان و الله لو أردت ذلك لما قدرت عليه. و اعلم أن الذي عليه أكثر أرباب السيرة و علماء الأخبار و النقل أن عثمان نفى شرح نهج البلاغة ج : 8 ص : 2أبا ذر أولا إلى الشام ثم استقدمه إلى المدينة لما شكا منه معاوية ثم نفاه من المدينة إلى الربذة لما عمل بالمدينة نظير ما كان يعمل بالشام. أصل هذه الواقعة أن عثمان لما أعطى مروان بن الحكم و غيره بيوت الأموال و اختص زيد بن ثابت بشي ء منها جعل أبو ذر يقول بين لناس و في الطرقات و الشوارع بشر الكافرين بعذاب أليم و يرفع بذلك صوته و يتلو قوله تعالى وَ الَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَ الْفِضَّةَ وَ لا يُنْفِقُونَها فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ فرفع ذلك إلى عثمان مرارا و هو ساكت. ثم إنه أرسل إليه مولى من مواليه أن انته عما بلغني عنك فقال أبو ذر أ و ينهاني عثمان عن قراءة كتاب الله تعالى و عيب من ترك أمر الله تعالى فو الله لأن أرضي الله بسخط عثمان أحب إلي و خير لي من أن أسخط الله برضا عثمان. فأغضب عثمان ذلك و أحفظه فتصابر و تماسك إلى أن قال عثمان يوما و الناس حوله أ يجوز للإمام أن يأخذ من المال شيئا قرضا فإذا أيسر قضى فقال كعب الأحبار لا بأس بذلك فقال أبو ذر يا ابن اليهوديين أ تعلمنا ديننا فقال عثمان قد كثر أذاك لي و تولعك بأصحابي الحق بالشام فأخرجه إليها. فكان أبو ذر ينكر على معاوية أشياء يفعلها فبعث إليه معاوية يوما ثلاثمائة دينار فقال أبو ذر لرسوله إن كانت من

(9/225)


عطائي الذي حرمتمونيه عامي هذا أقبلها و إن كانت صلة فلا حاجة لي فيها و ردها عليه. ثم بنى معاوية الخضراء بدمشق فقال أبو ذر يا معاوية إن كانت هذه من مال الله فهي الخيانة و إن كانت من مالك فهي الإسراف و كان أبو ذر يقول بالشام و الله لقد حدثت أعمال ما أعرفها و الله ما هي في كتاب الله و لا سنة نبيه ص شرح نهج البلاغة ج : 8 ص : 257و الله إني لأرى حقا يطفأ و باطلا يحيا و صادقا مكذبا و أثرة بغير تقى و صالحا مستأثرا عليه. قال حبيب بن مسلمة الفهري لمعية إن أبا ذر لمفسد عليكم الشام فتدارك أهله إن كان لك فيه حاجة. و روى شيخنا أبو عثمان الجاحظ في كتاب السفيانية عن جلام بن جندل الغفاري قال كنت غلاما لمعاوية على قنسرين و العواصم في خلافة عثمان فجئت إليه يوما أسأله عن حال عملي إذ سمعت صارخا على باب داره يقول أتتكم القطار تحمل النار اللهم العن الآمرين بالمعروف التاركين له اللهم العن الناهين عن المنكر المرتكبين له فازبأر معاوية و تغير لونه و قال يا جلام أ تعرف الصارخ فقلت اللهم لا قال من عذيري من جندب بن جنادة يأتينا كل يوم فيصرخ على باب قصرنا بما سمعت ثم قال أدخلوه علي فجي ء بأبي ذر بين قوم يقودونه حتى وقف بين يديه فقال له معاوية يا عدو الله و عدو رسوله تأتينا في كل يوم فتصنع ما تصنع أما أني لو كنت قاتل رجل من أصحاب محمد من غير إذن أمير المؤمنين عثمان لقتلتك و لكني أستأذن فيك قال جلام و كنت أحب أن أرى أبا ذر لنه رجل من قومي فالتفت إليه فإذا رجل أسمر ضرب من الرجال خفيف العارضين في ظهره جنأ فأقبل على معاوية و قال ما أنا بعدو لله و لا لرسوله بل أنت و أبوك عدوان لله و لرسوله أظهرتما الإسلام و أبطنتما الكفر و لقد لعنك رسول الله ص و دعا عليك مرات ألا تشبع
سمعت رسول الله ص يقول إذا ولي الأمة الأعين الواسع البلعوم الذي يأكل و لا يشبع فلتأخذ الأمة حذرها منه

(9/226)


فقال معاوية ما أنا ذاك شرح نهج البلاغة ج : 8 ص : 258الرجل قال أبو ذر بل أنت ذلك الرجل أخبرني بذلك رسول الله ص و سمعته يقول و قد مررت به اللهم العنه و لا تشبعه إلا بالتراب
و سمعته ص يقول است معاوية في النار
فضحك معاوية و أمر بحبسه و كتب إلى عثمان فيه. فكتب عثمان إلى معاوية أن احمل جندبا إلي على أغلظ مركب و أوعره فوجه به مع من سار به الليل و النهار و حمله على شارف ليس عليها إلا قتب حتى قدم به المدينة و قد سقط لحم فخذيه من الجهد. فلما قدم بعث إليه عثمان الحق بأي أرض شئت قال بمكة قال لا قال بيت المقدس قال لا قال بأحد المصرين قال لا و لكني مسيرك إلى ربذة فسيره إليها فلم يزل بها حتى مات. و في رواية الواقدي أن أبا ذر لما دخل على عثمان قال له
لا أنعم الله بقين عينا نعم و لا لقاه يوما زيناتحية السخط إذا التقينا
فقال أبو ذر ما عرفت اسمي قينا قط و في رواية أخرى لا أنعم الله بك عينا يا جنيدب فقال أبو ذر أنا جندب و سماني رسول الله ص عبد الله فاخترت اسم رسول الله ص الذي سماني به على اسمي فقال له عثمان أنت الذي تزعم أنا نقول يد الله مغلولة و إن الله فقير و نحن أغنياء فقال أبو ذر لو كنتم لا تقولون هذا لأنفقتم مال الله على عباده و لكني أشهد أني
سمعت رسول الله ص يقول إذا بلغ بنو أبي العاص ثلاثين رجلا جعلوا مال الله دولا و عباده خولا و دينه دخلا
فقال عثمان لمن حضر أ سمعتموها من رسول الله قالوا لا قال عثمان ويلك يا أبا ذر أ تكذب على رسول الله فقال أبو ذر لمن حضر أ ما تدرون أني صدقت قالوا لا و الله شرح نهج البلاغة ج : 8 ص : 259ما ندري فقال عثمان ادعوا لي عليا فلما جاء قال عثمان لأبي ذر اقصص عليه حثك في بني أبي العاص فأعاده فقال عثمان لعلي ع أ سمعت هذا من رسول الله ص قال لا و قد صدق أبو ذر فقال كيف عرفت صدقه قال لأني

(9/227)


سمعت رسول الله ص يقول ما أظلت الخضراء و لا أقلت الغبراء من ذي لهجة أصدق من أبي ذر
فقال من حضر أما هذا فسمعناه كلنا من رسول الله فقال أبو ذر أحدثكم أني سمعت هذا من رسول الله ص فتتهمونني ما كنت أظن أني أعيش حتى أسمع هذا من أصحاب محمد ص. و روى الواقدي في خبر آخر بإسناده عن صهبان مولى الأسلميين قال رأيت أبا ذر يوم دخل به على عثمان فقال له أنت الذي فعلت و فعلت فقال أبو ذر نصحتك فاستغششتني و نصحت صاحبك فاستغشني قال عثمان كذبت و لكنك تريد الفتنة و تحبها قد انغلت الشام علينا فقال له أبو ذر اتبع سنة صاحبيك لا يكن لأحد عليك كلام فقال عثمان ما لك و ذلك لا أم لك قال أبو ذر و الله ما وجدت لي عذرا إلا الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر فغضب عثمان و قال أشيروا علي في هذا الشيخ الكذاب إما أن أضربه أو أحبسه أو أقتله فإنه قد فرق جماعة المسلمين أو أنفيه من أرض الإسلام فتكلم علي ع و كان حاضرا فقال أشير عليك بما قال مؤمن آل فرعون وَ إِنْ يَكُ كاذِباً فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَ إِنْ يَكُ صادِقاً يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ فأجابه عثمان بجواب غليظ و أجابه علي ع بمثله و لم نذكر الجوابين تذمما منهما. قال الواقدي ثم إن عثمان حظر على الناس أن يقاعدوا أبا ذر أو يكلموه فمكث شرح نهج البلاغة ج : 8 ص : 260كذلك أياما ثم أتى به فوقف بين يديه فقال أبو ذر ويحك يا عثمان أ ما رأيت رسول الله ص و رأيت أبا بكر و عمر هل هديك كهديهم أما إنك لتبطش بي بطش جبار فقال عثمان اخرج عنا من بلادنا فقال أبو ذر ما أبغض إلي جوارك فإلى أين أخرج قال حيشئت قال أخرج إلى الشام أرض الجهاد قال إنما جلبتك من الشام لما قد أفسدتها أ فأردك إليها قال أ فأخرج إلى العراق قال لا إنك إن تخرج إليها تقدم على قوم أولي شبه و طعن على الأئمة و الولاة قال أ فأخرج إلى مصر قال لا قال فإلى أين

(9/228)


أخرج قال إلى البادية قال أبو ذر أصير بعد الهجرة أعرابيا قال نعم قال أبو ذر فأخرج إلى بادية نجد قال عثمان بل إلى الشرق الأبعد أقصى فأقصى امض على وجهك هذا فلا تعدون الربذة فخرج إليها. و
روى الواقدي أيضا عن مالك بن أبي الرجال عن موسى بن ميسرة أن أبا الأسود الدؤلي قال كنت أحب لقاء أبي ذر لأسأله عن سبب خروجه إلى الربذة فجئته فقلت له أ لا تخبرني أخرجت من المدينة طائعا أم أخرجت كرها فقال كنت في ثغر من ثغور المسلمين أغني عنهم فأخرجت إلى المدينة فقلت دار هجرتي و أصحابي فأخرجت من المدينة إلى ما ترى ثم قال بينا أنا ذات ليلة نائم في المسجد علي عهد رسول الله ص إذ مر بي ع فضربني برجله و قال لا أراك نائما في المسجد فقلت بأبي أنت و أمي غلبتني عيني فنمت فيه قال فكيف تصنع إذا أخرجوك منه قلت إذا ألحق بالشام فإنها أرض مقدسة و أرض الجهاد قال فكيف تصنع إذا أخرجت منها قلت أرجع إلى المسجد قال فكيف تصنع شرح نهج البلاغة ج : 8 ص : 261إذا أخرجوك منه قلت آخذ سيفي فأضربهم به فقال أ لا أدلك على خير من ذلك انسق معهم حيث ساقوك و تسمع و تطيع فسمعت و أطعت و أنا أسمع و أع و الله ليلقين الله عثمان و هو آثم في جنبي
و اعلم أن أصحابنا رحمهم الله قد رووا أخبارا كثيرة معناها أنه أخرج إلى الربذة باختياره. و حكى قاضي القضاة رحمه الله في المغني عن شيخنا أبي علي رحمه الله أن الناس اختلفوا في أمر أبي ذر و أن الرواية وردت بأنه قيل له أ عثمان أنزلك الربذة فقال لا بل أنا اخترت لنفسي ذلك. و روى أبو علي أيضا أن معاوية كتب يشكوه و هو بالشام فكتب إليه عثمان أن صر إلى المدينة فلما صار إليها قال له ما أخرجك إلى الشام قال
إني سمعت رسول الله ص يقول إذا بلغت عمارة المدينة موضع كذا فاخرج منها فلذلك خرجت فقال أي البلاد أحب إليك بعد الشام قال الربذة فقال صر إليها

(9/229)


و روى الشيخ أبو علي أيضا عن زيد بن وهب قال قلت لأبي ذر و هو بالربذة ما أنزلك هذا المنزل قال أخبرك أني كنت بالشام فذكرت قوله تعالى وَ الَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَ الْفِضَّةَ وَ لا يُنْفِقُونَها فقال لي معاوية هذه نزلت في أهل الكتاب فقلت فيهم و فينا فكتب معاوية إلى عثمان في ذلك فكتب إلى أن أقدم فقدمت عليه فانثال الناس إلي كأنهم لم يعرفوني فشكوت ذلك إلى عثمان فخيرني و قال انزل حيث شئت فنزلت الربذة. و نحن نقول هذه الأخبار و إن كانت قد رويت لكنها ليست في الاشتهار شرح نهج البلاغة ج : 8 ص : 262و الكثرة كتلالأخبار و الوجه أن يقال في الاعتذار عن عثمان و حسن الظن بفعله أنه خاف الفتنة و اختلاف كلمة المسلمين فغلب على ظنه أن إخراج أبي ذر إلى الربذة أحسم للشغب و أقطع لأطماع من يشرئب إلى شق العصا فأخرجه مراعاة للمصلحة و مثل ذلك يجوز للإمام هكذا يقول أصحابنا المعتزلة و هو الأليق بمكارم الأخلاق فقد قال الشاعر
إذا ما أتت من صاحب لك زلة فكن أنت محتالا لزلته عذرا
و إنما يتأول أصابنا لمن يحتمل حاله التأويل كعثمان فأما من لم يحتمل حاله التأويل و إن كانت له صحبة سالفة كمعاوية و أضرابه فإنهم لا يتأولون لهم إذا كانت أفعالهم و أحوالهم لا وجه لتأويلها و لا تقبل العلاج و الإصلاح

(9/230)


شرح نهج البلاغة ج : 8 ص : 131263- و من كلام له عأَيَّتُهَا النُّفُوسُ الْمُخْتَلِفَةُ وَ الْقُلُوبُ الْمُتَشَتِّتَةُ الشَّاهِدَةُ أَبْدَانُهُمْ وَ الْغَائِبَةُ عَنْهُمْ عُقُولُهُمْ أَظْأَرُكُمْ عَلَى الْحَقِّ وَ أَنْتُمْ تَنْفِرُونَ عَنْهُ نُفُورَ الْمِعْزَى مِنْ وَعْوَعَةِ الْأَسَدِ هَيْهَاتَ أَنْ أُطْلِعَ بِكُمْ سِرَارَ الْعَدْلِ أَوْ أُقِيمَ اعْوِجَاجَ الْحَقِّ اللَّهُمَّ إِنَّكَ تَعْلَمُ أَنَّهُ لَمْ يَكُنِ الَّذِي كَانَ مِنَّا مُنَافَسَةً فِي سُلْطَانٍ وَ لَا الْتِمَاسَ شَيْ ءٍ مِنْ فُضُولِ الْحُطَامِ وَ لَكِنْ لِنَرِدَ الْمَعَالِمَ مِنْ دِينِكَ وَنُظْهِرَ الْإِصْلَاحَ فِي بِلَادِكَ فَيَأْمَنَ الْمَظْلُومُونَ مِنْ عِبَادِكَ وَ تُقَامَ الْمُعَطَّلَةُ مِنْ حُدُودِكَ اللَّهُمَّ إِنِّي أَوَّلُ مَنْ أَنَابَ وَ سَمِعَ وَ أَجَابَ لَمْ يَسْبِقْنِي إِلَّا رَسُولُ اللَّهِ ص بِالصَّلَاةِ وَ قَدْ عَلِمْتُمْ أَنَّهُ لَا يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ عَلَى الْفُرُوجِ وَ الدِّمَاءِ وَ الْمَغَانِمِ وَ الْأَحْكَامِ وَ إِمَامَةِ الْمُسْلِمِينَ الْبَخِيلُ فَتَكُونَ فِي أَمْوَالِهِمْ نَهْمَتُهُ وَ لَا الْجَاهِلُ فَيُضِلَّهُمْ بِجَهْلِهِ وَ لَا الْجَافِي فَيَقْطَعَهُمْ بِجَفَائِهِ وَ لَا الْحَائِفُ لِلدُّوَلِ فَيَتَّخِذَ قَوْماً دُونَ قَوْمٍ وَ لَا الْمُرْتَشِي فِي الْحُكْمِ فَيَذْهَبَ بِالْحُقُوقِ وَ يَقِفَ بِهَا دُونَ الْمَقَاطِعِ وَ لَا الْمُعَطِّلُ لِلسُّنَّةِ فَيُهْلِكَ الْأُمَّةَ

(9/231)


أظأركم أعطفكم ظأرت الناقة ظأرا و هي ناقة مظئورة إذا عطفتها علي ولد غيرها شرح نهج البلاغة ج : 8 ص : 264و في المثل الطعن يظأر أي يعطف علي الصلح و ظأرت الناقة أيضا إذا عطفت على البو يتعدى و لا يتعدى فهي ظئور. و الوعوعة الصوت و الوعواع مثله. و قوله هيهات أن لع بكم سرار العدل يفسره الناس بمعنى هيهات أن أطلعكم مضيئين و منورين لسرار العدل و السرار آخر ليلة في الشهر و تكون مظلمة و يمكن عندي أن يفسر على وجه آخر و هو أن يكون السرار هاهنا بمعنى السرور و هي خطوط مضيئة في الجبهة و قد نص أهل اللغة على أنه يجوز سرر و سرار و قالوا و يجمع سرار على أسرة مثل حمار و أحمرة قال عنترة
بزجاجة صفراء ذات أسرة قرنت بأزهر في الشمال مفدم

(9/232)


يصف الكأس و يقول إن فيها خطوطا بيضا و هي زجاج أصفر و يقولون برقت أسرة وجهه و أسارير وجهه فيكون معنى كلامه ع هيهات أن تلمع بكم لوامع العدل و تنجلي أوضاحه و يبرق وجهه و يمكن فيه أيضا وجه آخر و هو أن ينصب سرار هاهنا على الظرفية و يكون التقدير هيهات أن أطلع بكم الحق زمان استسرار العدل و استخفائه فيكون قد حذف المفعول و حذفه كثير. ثم ذكر أن الحروب التي كانت منه لم تكن طلبا للملك و لا منافسة على الدنيا و لكن لتقام حدود الله على وجهها و يجري أمر الشريعة و الرعية على ما كان يجري عليه أيام النبوة. ثم ذكر أنه سبق المسلمين كلهم إلى التوحيد و المعرفة و لم يسبقه بالصلاة أحد إلا رسول الله ص و هكذا روى جمهور المحدثين و قد تقدم ذكر ذلك. شرح نهج البلاغة ج : 8 ص : 265فإن قلت أي وجه لإدخال هذا الكلام في غضون مقصده في هذه الخطبة فإنها مبنية على ذم أصحابه و تقرير قاعدة الإمامة أنه لا يجوز أن يليها الفاسق و أنه لا بد للإمام من صفات مخصوصة عددها ع و كل هذا لا تعلق لسبقه إلى الإسلام قلت بل الكلام متعلق بعضه ببعض من وجهين أحدهما أنه لما قال اللهم إنك تعلم أني ما سللت السيف طلبا للملك أراد أن يؤكد هذا القول في نفوس السامعين فقال أنا أول من أسلم و لم يكن الإسلام حينئذ معروفا أصلا و من يكون إسلامه هكذا لا يكون قد قصد بإسلامه إلا وجه الله تعالى و القربة إليه فمن تكون هذه حاله في مبدإ أمره كيف يخطر ببال عاقل أنه يطلب الدنيا و حطامها و يجرد عليها السيف في آخر عمره و وقت انقضاء مدة عمره. و الوجه الثاني أنه إذا كان أول السابقين وجب أن يكون أقرب المقربين لأنه تعالى قال وَ السَّابِقُونَ السَّابِقُونَ أُولئِكَ الْمُقَرَّبُونَ أ لا ترى أنه إذا قال الملك العالمون العاملون هم المختصون بنا وجب أن يكون أعلمهم أشدهم به اختصاصا و إذا كان ع أقرب المقربين وجب أن تنتفي عنه الموانع الستة التي جعل كل واحد منها صادا عن

(9/233)


الإمامة و قاطعا عن استحقاقها و هي البخل و الجهل و الجفاء أي الغلظة العصبية في دولته أي تقديم قوم على قوم و الارتشاء في الحكم و التعطيل للسنة و إذا انتفت عنه هذه الموانع الستة تعين أن يكون هو الإمام لأن شروط الإمامة موجودة فيه بالاتفاق فإذا كانت موانعها عنه منتفية و لم يحصل لغيره اجتماع الشروط و ارتفاع الموانع وجب أن يكون هو الإمام لأنه لا يجوز خلو العصر من إمام سواء كانت هذه القضية عقلية أو سمعية. شرح نهج البلاغة ج : 8 ص : 266فإن قلت أ فتراه ع بهذا قوما بأعيانهم قلت الإمامية تزعم أنه رمز في الجفاء و العصبية لقوم دون قوم إلى عمر و رمز بالجهل إلى من كان قبله و رمز بتعطيل السنة إلى عثمان و معاوية و أما نحن فنقول إنه ع لم يعن ذلك و إنما قال قولا كليا غير مخصوص و هذا هو اللائق بشرفه ع و قول الإمامية دعوى لا دليل عليها و لا يعدم كل أحد أن يستنبط من كل كلام ما يوافق غرضه و إن غمض و لا يجوز أن تبنى العقائد على مثل هذه الاستنباطات الدقيقة. و النهمة الهمة الشديدة بالأمر قد نهم بكذا بالضم فهو منهوم أي مولع به حريص عليه يقول إذا كان الإمام بخيلا كان حرصه و جشعه على أموال رعيته و من رواها نهمته بالتحريك فهي إفراط الشهوة في الطعام و الماضي نهم بالكسر. قوله ع فيقطعهم بجفائه أي يقطعهم عن حاجاتهم لغلظته عليهم لأن الوالي إذا كان غليظا جافيا أتعب الرعية و قطعهم عن مراجعته في حاجاتهم خوفا من بادرته و معرته. قوله و لا الحائف للدول أي الظالم لها و الجائر عليها و الدول جمع دولة بالضم و هي اسم المال المتداول به و يقال هذا الفي ء دولة بينهم أي يتداولونه و المعنى أنه يجب أن يكون الإمام يقسم بالسوية و لا يخص قوما دون قوم على وجه العصبية لقبيلة دون قبيلة أو لإنسان من المسلمن دون غيره فيتخذ بذلك بطانة. قوله فيقف بها دون المقاطع المقاطع جمع مقطع و هو ما ينتهي الحق إليه أي لا تصل الحقوق إلى أربابها لأجل

(9/234)


ما أخذ من الرشوة عليها.
شرح نهج البلاغة ج : 8 ص : 267فإن قلت فما باله قال في المانع السادس فيهلك الأمة و كل واحد من الموانع قبله يفضي إلى هلاك الأمة. قلت كل واحد من الموانع الخمسة يفضي إلى هلاك بعض الأمة و أما من يعطل السنة أصلا فإنه لا محالة مهلك للأمة كلها لأنه إذا عطل السنةطلقا عادت الجاهلية الجهلاء كما كانت. و قد روي و لا الخائف الدول بالخاء المعجمة و نصب الدول أي من يخاف دول الأيام و تقلبات الدهر فيتخذ قوما دون قوم ظهريا و هذا معنى لا بأس به
شرح نهج البلاغة ج : 8 ص : 132268- و من خطبة له عنَحْمَدُهُ عَلَى مَا أَخَذَ وَ أَعْطَى وَ عَلَى مَا أَبْلَى وَ ابْتَلَى الْبَاطِنُ لِكُلِّ خَفِيَّةٍ وَ الْحَاضِرُ لِكُلِّ سَرِيرَةٍ الْعَالِمُ بِمَا تُكِنُّ الصُّدُورُ وَ مَا تَخُونُ الْعُيُونُ وَ نَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ غَيْرُهُ وَ أَنَّ مُحَمَّداً ص نَجِيبُهُ وَ بَعِيثُهُ شَهَادَةً يُوَافِقُ فِيهَا السِّرُّ الْإِعْلَانَ وَ الْقَلْبُ اللِّسَانَ
على ما أبلى أي ما أعطى يقال قد أبلاه الله بلاء حسنا أي أعطاه قال زهير
جزى الله بالإحسان ما فعلا بكم و أبلاهما خير البلاء الذي يبلو

(9/235)


و أما قوله و ابتلى فالابتلاء إنزال مضرة بالإنسان على سبيل الاختبار كالمرض و الفقر و المصيبة و قد يكون الابتلاء بمعنى الاختبار في الخير إلا أنه أكثر ما يستعمل في الشر. و الباطن العالم يقال بطنت الأمر أي خبرته و تكن الصدور تستر و ما تخون العيون ما تسترق من اللحظات و الرمزات على غير الوجه الشرعي. و النجيب المنجب و البعيث المبعوث شرح نهج البلاغة ج : 8 ص : 26مِنْهَا فَإِنَّهُ وَ اللَّهِ الْجِدُّ لَا اللَّعِبُ وَ الْحَقُّ لَا الْكَذِبُ وَ مَا هُوَ إِلَّا الْمَوْتُ أَسْمَعَ دَاعِيهِ وَ أَعْجَلَ حَادِيهِ فَلَا يَغُرَّنَّكَ سَوَادُ النَّاسِ مِنْ نَفْسِكَ وَ قَدْ رَأَيْتَ مَنْ كَانَ قَبْلَكَ مِمَّنْ جَمَعَ الْمَالَ وَ حَذِرَ الْإِقْلَالَ وَ أَمِنَ الْعَوَاقِبَ طُولَ أَمَلٍ وَ اسْتِبْعَادَ أَجَلٍ كَيْفَ نَزَلَ بِهِ الْمَوْتُ فَأَزْعَجَهُ عَنْ وَطَنِهِ وَ أَخَذَهُ مِنْ مَأْمَنِهِ مَحْمُولًا عَلَى أَعْوَادِ الْمَنَايَا يَتَعَاطَى بِهِ الرِّجَالُ الرِّجَالَ حَمْلًا عَلَى الْمَنَاكِبِ وَ إِمْسَاكاً بِالْأَنَامِلِ أَ مَا رَأَيْتُمُ الَّذِينَ يَأْمُلُونَ بَعِيداً وَ يَبْنُونَ مَشِيداً وَ يَجْمَعُونَ كَثِيراً أَصْبَحَتْ بُيُوتُهُمْ قُبُوراً وَ مَا جَمَعُوا بُوراً وَ صَارَتْ أَمْوَالُهُمْ لِلْوَارِثِينَ وَ أَزْوَاجُهُمْ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَا فِي حَسَنَةٍ يَزِيدُونَ وَ لَا مِنْ سَيِّئَةٍ يُسْتَعْتَبُونَ فَمَنْ أَشْعَرَ التَّقْوَى قَلْبَهُ بَرَزَ مَهَلُهُ وَ فَازَ عَمَلُهُ فَاهْتَبِلُوا هَبَلَهَا وَ اعْمَلُوا لِلْجَنَّةِ عَمَلَهَا فَإِنَّ الدُّنْيَا لَمْ تُخْلَقْ لَكُمْ دَارَ مُقَامٍ بَلْ خُلِقَتْ لَكُمْ مَجَازاً لِتَزَوَّدُوا مِنْهَا الْأَعْمَالَ إِلَى دَارِ الْقَرَارِ فَكُونُوا مِنْهَا عَلَى أَوْفَازٍ وَ قَرِّبُوا الظُّهُورَ لِلزِّيَالِ

(9/236)


قوله ع فإنه و الله الجد الضمير للأمر و الشأن الذي خاض معهم في ذكره و وعظهم بنزوله ثم أوضحه بعد إجماله فقال إنه الموت الذي دعا فأسمع و حدا فأعجل. شرح نهج البلاغة ج : 8 ص : 270و سواد الناس عامتهم. و من هاهنا إما بمعنى الباء أي لا يغرنك الناس بنفسك و صحتك وبابك فتستبعد الموت اغترارا بذلك فتكون متعلقة بالظاهر و إما أن تكون متعلقة بمحذوف تقديره متمكنا من نفسك و راكنا إليها. و الإقلال الفقر و طول أمل منصوب على أنه مفعول. فإن قلت المفعول له ينبغي أن يكون الفعل علة في المصدر و هاهنا ليس الأمن علة طول الأمل بل طول الأمل علة الأمن قلت كما يجوز أن يكون طول الأمل علة الأمن يجوز أن يكون الأمن علة طول الأمل أ لا ترى أن الإنسان قد يأمن المصائب فيطول أمله في البقاء و وجوه المكاسب لأجل ما عنده من الأمن و يجوز أن ينصب طول أمل على البدل من المفعول المنصوب برأيت و هو من و يكون التقدير قد رأيت طول أمل من كان و هذا بدل الاشتمال و قد حذف منه الضمير العائد كما حذف من قوله تعالى قُتِلَ أَصْحابُ الْأُخْدُودِ النَّارِ.... و أعواد المنايا النعش و يتعاطى به الرجال الرجال يتداولونه تارة على أكتاف هؤلاء و تارة على أكتاف هؤلاء و قد فسر ذلك بقوله حملا على المناكب و إمساكا بالأنامل. و المشيد المبني بالشيد و هو الجص. البور الفاسد الهالك و قوم بور أي هلكى قال سبحانه وَ كُنْتُمْ قَوْماً بُوراً و هو جمع واحدة بائر كحائل و حول. شرح نهج البلاغة ج : 8 ص : 271و يستعتبون هاهنا يفسر بتفسيرين على اختف الروايتين فمن رواه بالضم على فعل ما لم يسم فاعله فمعناه لا يعاتبون على فعل سيئة صدرت منهم كما كانوا في أيام حياتهم أي لا يعاتبهم الناس أو لا يستطيعون و هم موتى أن يسيئوا إلى أحد إساءة عليها و من رواه يستعتبون بفتح حرف المضارعة فهو من استعتب فلان أي طلب أن يعتب أي يرضى تقول استعتبته فأعتبني أي استرضيته فأرضاني. و أشعر

(9/237)


فلان التقوى قلبه جعله كالشعار له أي يلازمه ملازمة شعار الجسد. و برز مهله و يروى بالرفع و النصب فمن رواه بالرفع جعله فاعل برز أي من فاق شوطه برز الرجل على أقرانه أي فاقهم و المهل شوط الفرس و من رواه بالنصب جعل برز بمعنى أبرز أي أظهر و أبان فنصب حينئذ على المفعولية. و اهتبلت غرة زيد أي اغتنمتها و الهبال الصياد الذي يهتبل الصيد أن يغره و ذئب هبل أي محتال هبلها منصوب على المصدر كأنه من هبل مثل غضب غضبا أي اغتنموا و انتهزوا الفرصة الانتهاز الذي يصلح لهذه الحال أي ليكن هذا الاهتبال بجد و همة عظيمة فإن هذه الحال حال عظيمة لا يليق بها إلا الاجتهاد العظيم. و كذا قوله و اعملوا للجنة عملها أي العمل الذي يصلح أن يكون ثمرته الجنة. و دار مقام أي دار إقامة و المجاز الطريق يجاز عليه إلى المقصد. و الأوفاز جمع وفز بسكون الفاء و هو العجلة و الظهور الركاب جمع ظهر و بنو فلان مظهرون أي لهم ظهور ينقلون عليها الأثقال كما يقال منجبون إذا كانوا أصحاب نجائب و الزيال المفارقة زايله مزايلة و زيالا أي فارقه
شرح نهج البلاغة ج : 8 ص : 133272- و من كلام له عوَ انْقَادَتْ لَهُ الدُّنْيَا وَ الآْخِرَةُ بِأَزِمَّتِهَا وَ قَذَفَتْ إِلَيْهِ السَّمَاوَاتُ وَ الْأَرَضُونَ مَقَالِيدَهَا وَ سَجَدَتْ لَهُ بِالْغُدُوِّ وَ الآْصَالِ الْأَشْجَارُ النَّاضِرَةُ وَ قَدَحَتْ لَهُ مِنْ قُضْبَانِهَا النِّيرَانُ الْمُضِيئَةُ وَ آتَتْ أُكُلَهَا بِكَلِمَاتِهِ الثِّمَارُ الْيَانِعَةُ

(9/238)


الضمير في له يرجع إلى الله تعالى و قد كان تقدم ذكر سبحانه في أول الخطبة و إن لم يذكره الرضي رحمه الله و معنى انقياد الدنيا و الآخرة له نفوذ حكمه فيهما و شياع قدرته و عمومها. و أزمتها لفظة مستعارة من انقياد الإبل بأزمتها مع قائدها و المقاليد المفاتيح. و معنى سجود الأشجار الناضرة له تصرفها حسب إرادته و كونها مسخرة له محكوما عليها بنفوذ قدرته فيها فجعل ع ذلك خضوعا منها لمشيئته و استعار لها ما هو أدل على خضوع الإنسان من جمع أفعاله و هو السجود و منه قوله تعالى أَ لَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَ مَنْ فِي الْأَرْضِ وَ الشَّمْسُ وَ الْقَمَرُ وَ النُّجُومُ وَ الْجِبالُ وَ الشَّجَرُ وَ الدَّوَابُّ وَ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ. شرح نهج البلاغة ج : 8 ص : 273قوله و قدحت له من قضبانها بالضم جمع قضيب و هو الغصن و المعنى أنه بقدرته أخرج من الشجر أخضر نارا و النار ضد هذا الجسم المخصوص و هذا هو قوله تعالى الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ ناراً فَإِذا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ بعينه. و آتت أكلها أعطت ما يؤكل منها و هو أيضا من الألفاظ القرآنية. و اليانعة الناضجة و بكلماته أي بقدرته و مشيئته و هذه اللفظة من الألفاظ المنقولة على أحد الأقسام الأربعة المذكورة في كتبنا في أصول الفقه و هو استعمال لفظة متعارفة في اللغة العربية في معنى لم يستعملها أهل اللغة فيه كنقل لفظة الصلاة الذي هو في أصل اللغة للدعاء إلى هيئات و أوضاع مخصوصة و لم تستعمل العرب تلك اللفظة فيها و لا يصح قول من قال المراد بذلك قوله كن لأنه تعالى لا يجوز أن يخاطب المعدوم و قوله تعالى إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْ ءٍ إِذا أَرَدْناهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ من باب التوسع و الاستعارة المملوء منهما القرآن و المراد سرعة المؤاتاةو عجلة الإيجاد و أنه إذا أراد من أفعاله أمرا كان

(9/239)


مِنْهَا وَ كِتَابُ اللَّهِ بَيْنَ أَظْهُرِكُمْ نَاطِقٌ لَا يَعْيَا لِسَانُهُ وَ بَيْتٌ لَا تُهْدَمُ أَرْكَانُهُ وَ عِزٌّ لَا تُهْزَمُ أَعْوَانُهُ
شرح نهج البلاغة ج : 8 ص : 274يقال هو نازل بين أظهرهم و بين ظهريهم و بين ظهرانيهم بفتح النون أي نازل بينهم فإن قلت لما ذا قالت العرب بين أظهرهم و لم تقل بين صدورهم قلت أرادت بذلك الإشعار بشدة المحاماة عنه و المراماة من دونه لأن النزيل إذا حامى القوم عنه تقبلوا شبا الأسنة و أطراف السيوف عنه بصدورهم و كان هو محروسا مصونا عن مباشرة ذلك وراء ظهورهم. و لا يعيا لسانه لا يكل عييت بالمنطق فأنا عيي على فعيل و يجوز عي الرجل في منطقه بالتشديد فهو عي على فعل
مِنْهَا أَرْسَلَهُ عَلَى حِينِ فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ وَ تَنَازُعٍ مِنَ الْأَلْسُنِ فَقَفَّى بِهِ الرُّسُلَ وَ خَتَمَ بِهِ الْوَحْيَ فَجَاهَدَ فِي اللَّهِ الْمُدْبِرِينَ عَنْهُ وَ الْعَادِلِينَ بِهِ
الضمير في أرسله راجع إلى النبي ص و هو مذكور في كلام لم يحكه جامع الكتاب. و الفترة زمان انقطاع الوحي و التنازع من الألسن أن قوما في الجاهلية كانوا يعبدون شرح نهج البلاغة ج : 8 ص : 275الصنم و قوما يعبدون الشمس و قوما يعبدون الشيطان و قوما يعبدون المسيح فكلائفة تجادل مخالفيها بألسنتها لتقودها إلى معتقدها. و قفى به الرسل أتبعها به قال سبحانه ثُمَّ قَفَّيْنا عَلى آثارِهِمْ بِرُسُلِنا و منه الكلام المقفى و سميت قوافي الشعر لأن بعضها يتبع بعضا. و العادلين به الجاعلين له عديلا أي مثلا و هو من الألفاظ القرآنية أيضا قال الله تعالى بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ

(9/240)


مِنْهَا وَ إِنَّمَا الدُّنْيَا مُنْتَهَى بَصَرِ الْأَعْمَى لَا يُبْصِرُ مِمَّا وَرَاءَهَا شَيْئاً وَ الْبَصِيرُ يَنْفُذُهَا بَصَرُهُ وَ يَعْلَمُ أَنَّ الدَّارَ وَرَاءَهَا فَالْبَصِيرُ مِنْهَا شَاخِصٌ وَ الْأَعْمَى إِلَيْهَا شَاخِصٌ وَ الْبَصِيرُ مِنْهَا مُتَزَوِّدٌ وَ الْأَعْمَى لَهَا مُتَزَوِّدٌ
شبه الدنيا و ما بعدها بما يتصوره الأعمى من الظلمة التي يتخيلها و كأنها محسوسة له و ليست بمحسوسة على الحقيقة و إنما هي عدم الضوء كمن يطلع في جب ضيق فيتخيل ظلاما فإنه لم ير شيئا و لكن لما عدم الضوء فلم ينفذ البصر تخيل أنه يرى الظلمة فأما من يرى المبصرات في الضياء فإن بصره ينفذ فيشاهد المحسوسات يقينا و هذه حال شرح نهج البلاغة ج : 8 ص : 276الدنيا و الآخرة أهل الدنيا منتهى بصرهم دنياهم و يظنون أنهم يبصرون شيئا و ليسوا بمبصرين على الحقيقة و لا حواسهم نافذة في شي ء و أهل الآخرة قد نفذت أبصارهم فرأوا الآخرة و لمف إحساسهم على الدنيا خاصة فأولئك هم أصحاب الأبصار على الحقيقة و هذا معنى شريف من معاني أصحاب الطريقة و الحقيقة و إليه الإشارة بقوله سبحانه أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِها فأما قوله فالبصير منها شاخص و الأعمى إليها شاخص فمن مستحسن التجنيس و هذا هو الذي يسميه أرباب الصناعة الجناس التام فالشاخص الأول الراحل و الشاخص الثاني من شخص بصره بالفتح إذا فتح عينه نحو الشي ء مقابلا له و جعل لا يطرف فصل في الجناس و أنواعه

(9/241)


و اعلم أن الجناس على سبعة أضرب أولها الجناس التام كهذا اللفظ و حده أن تتساوى حروف ألفاظ الكلمتين في تركيبها و في وزنها قالوا و لم يرد في القرآن العزيز منه إلا موضع واحد و هو قوله وَ يَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ ما لَبِثُوا غَيْرَ ساعَةٍ. و عندي أن هذا ليس بتجنيس أصلا و قد ذكرته في كتابي المسمى بالفلك الدائر على المثل السائر و قلت إن الساعة في الموضعين بمعنى واحد و التجنيس أن يتفق اللفظ و يختلف المعنى و لا يكون أحدهما حقيقة و الآخر مجازا بل يكونان حقيقتين و إن شرح نهج البلاغة ج : 8 ص :77زمان القيامة و إن طال لكنه عند الله في حكم الساعة الواحدة لأن قدرته لا يعجزها أمر و لا يطول عندها زمان فيكون إطلاق لفظ الساعة على أحد الموضعين حقيقة و على الآخر مجازا و ذلك يخرج الكلام عن حد التجنيس كما لو قلت ركبت حمارا و لقيت حمارا و أردت بالثاني البليد. و أيضا فلم لا يجوز أن يكون أراد بقوله وَ يَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ الأولى خاصة من زمان البعث فيكون لفظ الساعة مستعملا في الموضعين حقيقة بمعنى واحد فيخرج عن التجنيس و عن مشابهة التجنيس بالكلية. قالوا و ورد في السنة من التجنيس التام خبر واحد و
هو قوله ص لقوم من الصحابة كانوا يتنازعون جرير بن عبد الله البجلي في زمام ناقته خلوا بين جرير و الجرير
فالجرير الثاني الحبل. و جاء من ذلك في الشعر لأبي تمام قوله
فأصبحت غرر الإسلام مشرقة بالنصر تضحك عن أيامك الغرر
فالغرر الأولى مستعارة من غرة الوجه و الغرر الثانية من غرة الشي ء و هي أكرمه و كذلك قوله من القوم جعد أبيض الوجه و الندى و ليس بنان يجتدى منه بالجعد
فالجعد الأول السيد و الثاني ضد السبط و هو من صفات البخيل. و كذلك قوله
بكل فتى ضرب يعرض للقنا محيا محلى حلية الطعن و الضرب

(9/242)


شرح نهج البلاغة ج : 8 ص : 278فالضرب الأول الرجل الخفيف و الثاني مصدر ضرب. و كذلك قولهعداك حر الثغور المستضامة عن برد الثغور و عن سلسالها الحصب
فأحدهما جمع ثغر و هو ما يتاخم العدو من بلاد الحرب و الثاني للأسنان. و من هذه القصيدة
كم أحرزت قضب الهندي مصلته تهتز من قضب تهتز في كثب بيض إذا انتضيت من حجبها رجعت أحق بالبيض أبدانا من الحجبو قد أكثر الناس في استحسان هذا التجنيس و أطنبوا و عندي أنه ليس بتجنيس أصلا لأن تسمية السيوف قضبا و تسمية الأغصان قضبا كله بمعنى واحد و هو القطع فلا تجنيس إذا و كذلك البيض للسيوف و البيض للنساء كله بمعنى البياض فبطل معنى التجنيس و أظنني ذكرت هذا أيضا في كتاب الفلك الدائر. قالوا و من هذا القسم قوله أيضا
إذا الخيل جابت قسطل الخيل صدعوا صدور العوالي في صدور الكتائب
و هذا عندي أيضا ليس بتجنيس لأن الصدور في الموضعين بمعنى واحد و هو جزء الشي ء المتقدم البارز عن سائره فأما قوله أيضا عامي و عام العيس بين وديقة مسجورة و تنوفة صيخود
شرح نهج البلاغة ج : 8 ص : 279حتى أغادر كل يوم بالفلا للطير عيدا من بنات العيفإنه من التجنيس التام لا شبهة في ذلك لاختلاف المعنى فالعيد الأول هو اليوم المعروف من الأعياد و العيد الثاني فحل من فحول الإبل. و نحو هذا قول أبي نواس
عباس عباس إذا احتدم الوغى و الفضل فضل و الربيع ربيع
و قول البحتري
إذا العين راحت و هي عين على الهوى فليس بسر ما تسر الأضالع
فالعين الثانية الجاسوس و الأولى العين المبصرة و للغزى المتأخر قصيدة أكثر من التجنيس التام فيها أولها
لو زارنا طيف ذات الخال أحيانا و نحن في حفر الأجداث أحيانا
و قال في أثنائها
تقول أنت امرؤ جاف مغالطة فقلت لا هومت أجفان أجفانا
و قال في مديحها
لم يبق غيرك إنسان يلاذ به فلا برحت لعين الدهر إنسانا

(9/243)


و قد ذكر الغانمي في كتابه من صناعة الشعر بابا سماه رد الأعجاز على الصدور ذكر أنه خارج عن باب التجنيس قال مثل قول الشاعر
و نشري بجميل الصنع ذكرا طيب النشرو نفري بسيوف الهند من أسرف في النفر
شرح نهج البلاغة ج : 8 ص : 280و بحري في شرى الحمد على شاكلة البحو هذا من التجنيس و ليس بخارج عنه و لكنه تجنيس مخصوص و هو الإتيان به في طرفي البيت. و عد ابن الأثير الموصلي في كتابه من التجنيس قول الشاعر في الشيب
يا بياضا أذرى دموعي حتى عاد منها سواد عيني بياضا
و كذلك قول البحتري
و أغر في الزمن البهيم محجل قد رحت منه على أغر محجل
و هذا عندي ليس بتجنيس لاتفاق المعنى و العجب منه أنه بعد إيراده هذا أنكر على من قال إن قول أبي تمام
أظن الدمع في خدي سيبقى رسوما من بكائي في الرسوم
من التجنيس و قال أي تجنيس هاهنا و المعنى متفق و لو أمعن النظر لرأى هذا مثل البيتين السابقين. قالوا فأما الأجناس الستة الباقية فإنها خارجة عن التجنيس التام و مشبهة به. فمنها أن تكون الحروف متساوية في تركيبها مختلفة في وزنها فمن ذلك
قول النبي ص اللهم كما حسنت خلقي فحسن خلقي
و قول بعضهم لن تنالوا غرر المعالي إلا بركوب الغرر و اهتبال الغرر و قول البحتري
و فر الحائن المغرور يرجو أمانا أي ساعة ما أمان
شرح نهج البلاغة ج : 8 ص : 281يهاب الالتفات و قد تصدى للحظة طرفه طرف السناو قال آخر
قد ذبت بين حشاشة و ذماء ما بين حر هوى و حر هواء
و منها أن تكون الألفاظ متساوية في الوزن مختلفة في التركيب بحرف واحد لا غير فإن زاد على ذلك خرج من باب التجنيس و ذلك نحو قوله تعالى وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ و كذلك قوله سبحانه وَ هُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَ يَنْأَوْنَ عَنْهُ و قوله تعالى ذلِكُمْ بِما كُنْتُمْ تَفْرَحُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَ بِما كُنْتُمْ تَمْرَحُونَ و نحو هذا

(9/244)


ما ورد عن النبي ص من قوله الخير معقود بنواصي الخيل إلى يوم القيامة
و قال بعضهم لا تنال المكارم إلا بالمكاره. و قال أبو تمام
يمدون من أيد عواص عواصم تصول بأسياف قواض قواضب
و قال البحتري
من كل ساجي الطرف أغيد أجيد و مهفهف الكشحين أحوى أحور
و قال أيضا
شواجر أرماح تقطع بينهم شواجن أرحام ملوم قطوعها
شرح نهج البلاغة ج : 8 ص : 282و هذا البيت حسن الصنعة لأنه قد جمع بين التجنيس الناقص و بين المقلوب و هو أرماح و أرحام. و منها أن تكون الألفاظ مختلفة في الوزن و التركيب بحرف واحد كقوله تعالى وَ الْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ إِلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسا و كقوله تعالى وَ هُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً و
كقول النبي ص المسلم من سلم الناس من لسانه و يده
و قول بعضهم الصديق لا يحاسب و العدو لا يحتسب له هكذا ذكر ابن الأثير هذه الأمثلة. قال و من هذا القسم قول أبي تمام
أيام تدمى عينه تلك الدمى حسنا و تقمر لبه الأقماربيض فهن إذا رمقن سوافرا صور و هن إذا رمقن صوار
و كذلك قوله أيضا
بدر أطاعت فيك بادرة النوى ولعا و شمس أولعت بشماس
و قوله أيضا
جهلوا فلم يستكثروا من طاعة معروفة بعمارة الأعمار
و قوله أيضا
إن الرماح إذا غرسن بمشهد فجنى العوالي في ذراه معال
شرح نهج البلاغة ج : 8 ص : 283و قوله أيضاإذا أحسن الأقوام أن يتطاولوا بلا نعمة أحسنت أن تتطولا
و قوله أيضا
شد ما استنزلتك عن دمعك الأظعان حتى استهل صوب العزالي أي ربع يكذب الدهر عنه و هو ملقى على طريق الليالي بين حال جنت عليه و حول فهو نضو الأوحال و الأحوال أي حسن في الذاهبين تولى و جمال على ظهور الجمال و دلال مخيم في ذرى الخيم و حجل مقصر في الحفالبيت الثالث و الخامس هما المقصودان بالتمثيل. و من ذلك قول علي بن جبلة
و كم لك من يوم رفعت عماده بذات جفون أو بذات جفان
و كقول البحتري

(9/245)


نسيم الروض في ريح شمال و صوب المزن في راح شمول
و كقوله أيضا
جدير بأن تنشق عن ضوء وجهه ضبابة نقع تحتها الموت ناقع
شرح نهج البلاغة ج : 8 ص : 284و اعلم أن هذه الأمثلة لهذا القسم ذكرها ابن الأثير في كتابه و هو عندي مستدرك لأنه حد هذا القسم بما يختلف تركيبه يعني حروفه الأصلية و يختلف أيضا وزنه و يكون اختلاف تركيبه بحرف واحد هكذا قال في تحديده لهذا القسم و ليس بقمر و المار تختلف بحرف واحد و كذلك عمارة و الأعمار و كذلك العوالي و المعالي و أما قوله تعالى وَ هُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً فخارج عن هذا بالكلية لأن جميع أمثلة هذا القسم يختلف فيه الكلمات بالحروف الزائدة و هذه الآية اختلاف كلمتيها بحروف أصلية فليست من التجنيس الذي نحن بصدده بل هي من باب تجنيس التصحيف كقول البحتري
و لم يكن المعتز بالله إذ سرى ليعجز و المعتز بالله طالبه
ثم قال ابن الأثير في هذا القسم أيضا و من ذلك قول محمد بن وهيب الحميري
قسمت صروف الدهر بأسا و نائلا فمالك موتور و سيفك واتر
و هذا أيضا عندي مستدرك لأن اللفظتين كلاهما من الوتر و يرجعان إلى أصل واحد إلا أن أحد اللفظين مفعول و الآخر فاعل و ليس أحد يقول إن شاعرا لو قال في شعره ضارب و مضروب لكان قد جانس. و منها القسم المكنى بالمعكوس و هو على ضربين عكس لفظ و عكس حرف فالأول كقولهم عادات السادات سادات العادات و كقولهم شيم الأحرار أحرار الشيم. و من ذلك قول الأضبط بن قريع
قد يجمع المال غير آكله و يأكل المال غير من جمعه
شرح نهج البلاغة ج : 8 ص : 285و يقطع الثوب غير لابسه و يلبس الثوب غير من قطعو مثله قول المتنبي
فلا مجد في الدنيا لمن قل ماله و لا مال في الدنيا لمن قل مجده
و مثله قول الرضي رحمه الله من أبيات يذم فيها الزمان
أسف بمن يطير إلى المعالي و طار بمن يسف إلى الدنايا
و مثله قول آخر

(9/246)


إن الليالي للأنام مناهل تطوى و تنشر بينها الأعمارفقصارهن مع الهموم طويلة و طوالهن مع السرور قصار
و لبعض شعراء الأندلس يذكر غلامه
غيرتنا يد الزمان فقد شبت و التحى فاستحال الضحى دجى و استحال الدجى ضحىو يسمى هذا الضرب التبديل و قد مثله قدامة بن جعفر الكاتب بقولهم اشكر لمن أنعم عليك و أنعم على من شكرك. و مثله
قول النبي ص جار الدار أحق بدار الجار
قالوا و منه قوله تعالى يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَ يُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ و لا أراه منه بل هو من باب الموازنة و مثلوه أيضا
بقول أمير المؤمنين ع أما بعد فإن الإنسان يسره درك ما لم يكن ليفوته و يسوءه فوت ما لم يكن ليدركه
و بقول أبي تمام لأبي العميثل شرح نهج البلاغة ج : 8 ص : 286و أبي سعيد الضرير فإنهما قالا لما امتدح عبد الله بن طاهر بقصيدة و في افتتاحها تكلف و تعجرف لم لا تقول ما يفهم فقال لهما لم لا تفهمان ما يقال. و الضرب الثاني من هذا القسم عكس الحروف و هو كقول بعضهم قد أهدى لصديق له كرسيا
أهديت شيئا يقل لو لا أحدوثة الفأل و التبرك كرسي تفاءلت فيه لما رأيت مقلوبه يسركو كقول الآخر
كيف السرور بإقبال و آخره إذا تأملته مقلوب إقبال
أي لا بقاء و كقول الآخر
جاذبتها و الريح تجذب عقربا من فوق خد مثل قلب العقرب و طفقت الثم ثغرها فتمنعت و تحجبت عني بقلب العقربيريد برقعا و منها النوع المسمى المجنب و هو أن يجمع بين كلمتين إحداهما كالجنيبة التابعة للأخرى مثل قول بعضهم
أبا الفياض لا تحسب بأني لفقري من حلى الأشعار عارفلي طبع كسلسال معين زلال من ذرا الأحجار جار
و هذا في التحقيق هو الباب المسمى لزوم ما لا يلزم و ليس من باب التجنيس و منها المقلوب و هو ما يتساوى وزنه و تركيبه إلا أن حروفه تتقدم و تتأخر مثل قول أبي تمام شرح نهج البلاغة ج : 8 ص : 28بيض الصفائح لا سود الصحائف في متونهن جلاء الشك و الريب

(9/247)


و قد ورد مثل ذلك في المنثور نحو
ما روي عن النبي ص أنه يقال يوم القيامة لصاحب القرآن اقرأ و ارق
و قد تكلمت في كتابي المسمى بالعبقري الحسان على أقسام الصناعة البديعة نثرا و نظما و بينت أن كثيرا منها يتداخل و يقوم البعض من ذلك مقام بعض فليلمح من هناك
مِنْهَا وَ اعْلَمُوا أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ شَيْ ءٍ إِلَّا وَ يَكَادُ صَاحِبُهُ يَشْبَعُ مِنْهُ وَ يَمَلُّهُ إِلَّا الْحَيَاةَ فَإِنَّهُ لَا يَجِدُ فِي الْمَوْتِ رَاحَةً وَ إِنَّمَا ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ الْحِكْمَةِ الَّتِي هِيَ حَيَاةٌ لِلْقَلْبِ الْمَيِّتِ و بَصَرٌ لِلْعَيْنِ الْعَمْيَاءِ وَ سَمْعٌ لِلْأُذُنِ الصَّمَّاءِ وَ رِيٌّ لِلظَّمْآنِ وَ فِيهَا الْغِنَى كُلُّهُ وَ السَّلَامَةُ كِتَابُ اللَّهِ تُبْصِرُونَ بِهِ وَ تَنْطِقُونَ بِهِ وَ تَسْمَعُونَ بِهِ وَ يَنْطِقُ بَعْضُهُ بِبَعْضٍ وَ يَشْهَدُ بَعْضُهُ عَلَى بَعْضٍ وَ لَا يَخْتَلِفُ فِي اللَّهِ وَ لَا يُخَالِفُ بِصَاحِبِهِ عَنِ اللَّهِ قَدِ اصْطَلَحْتُمْ عَلَى الْغِلِّ فِيمَا بَيْنَكُمْ وَ نَبَتَ الْمَرْعَى عَلَى دِمَنِكُمْ وَ تَصَافَيْتُمْ عَلَى حُبِّ الآْمَالِ وَ تَعَادَيْتُمْ فِي كَسْبِ الْأَمْوَالِ لَقَدِ اسْتَهَامَ بِكُمُ الْخَبِيثُ وَ تَاهَ بِكُمُ الْغُرُورُ وَ اللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى نَفْسِي وَ أَنْفُسِكُمْ َ شرح نهج البلاغة ج : 8 ص : 288هذا الفصل ليس بمنتظم من أوله إلى آخره بل هو فصول متفرقة التقطها الرضي من خطبة طويلة على عادته في التقاط ما يستفصحه من كلامه ع و إن كان كل كلامه فصيحا و لكن كل واحد له هوى و محبة لشي ء مخصوص و ضروب الناس عشاق ضروبا. أما قوله شي ء مملول إلا الحياة فهو معنى قد طرقه الناس قديما و حديثا قال أبو الطيب و لذيذ الحياة أنفس في النفس و أشهى من أن يمل و أحلى و إذا الشيخ قال أف فما مل حياة و لكن الضعف ملاو قال أيضا

(9/248)


أرى كلنا يبغي الحياة لنفسه حريصا عليها مستهاما بها صبافحب الجبان النفس أورده البقا و حب الشجاع النفس أورده الحربا
و قال أبو العلاء
فما رغبت في الموت كدر مسيرها إلى الورد خمسا ثم تشربن من أجن يصادفن صقرا كل يوم و ليلة و يلقين شرا من مخالبه الحجن و لا قلقات الليل باتت كأنها من الأين و الإدلاج بعض القنا اللد شرح نهج البلاغة ج : 8 ص : 289ضربن مليعا بالسنابك أربعا إلى الماء لا يقدرن منه على معن و خوف الردى آوى إلى الكهف أهله و كلف نوحا و ابنه عمل السفن و ما استعذبته روح موسى و آدم و قد وعدا من بعده جنتي و لي من قصيدة أخاطب رجلين فرا في حرب
عذرتكما إن الحمام لمبغض و إن بقاء النفس للنفس محبوب و يكره طعم الموت و الموت طالب فكيف يلذ الموت و الموت مطلوبو قال أبو الطيب أيضا
طيب هذا النسيم أوقر في الأنفس أن الحمام مر المذاق و الأسى قبل فرقة الروح عجز و الأسى لا يكون بعد الفراقالبحتري
ما أطيب الأيام إلا أنها يا صاحبي إذا مضت لم ترجعو قال آخر
أوفى يصفق بالجناح مغلسا و يصيح من طرب إلى الندمان يا طيب لذة هذه الدنيا لنا لو أنها بقيت على الإنسانو قال آخر
أرى الناس يهوون البقاء سفاهة و ذلك شي ء ما إليه سبيل و من يأمن الأيام أما بلاؤها فجم و أما خيرها فقلي شرح نهج البلاغة ج : 8 ص : 290و قال محمد بن وهيب الحميريو نحن بنو الدنيا خلقنا لغيرها و ما كنت منه فهو شي ء محببو هذا مأخوذ من قول أمير المؤمنين ع و قد قيل له ما أكثر حب الناس للدنيا فقال هم أبناؤها أ يلام الإنسان على حب أمه
و قال آخر
يا موت ما أفجاك من نازل تنزل بالمرء على رغمه تستلب العذراء من خدرها و تأخذ الواحد من أمهأبو الطيب
و هي معشوقة على الغدر لا تحفظ عهدا و لا تتمم وصلاكل دمع يسيل منها عليها و بفك اليدين عنها نخلى شيم الغانيات فيها فلا أدري لذا أنث اسمها الناس أم لافإن قلت كيف يقول إنه لا يجد في الموت راحة و أين هذا من

(9/249)


قول رسول الله ص الدنيا سجن المؤمن و جنة الكافر
و من قوله ع و الله ما أرجو الراحة إلا بعد الموت
و ما ذا يعمل بالصالحين الذين آثروا فراق هذه العاجلة و اختاروا الآخرة و هو ع سيدهم و أميرهم قلت لا منافاة فإن الصالحين إنما طلبوا أيضا الحياة المستمرة بعد الموت و
رسول الله ص إنما قال إن الدنيا سجن المؤمن لأن الموت غير مطلوب للمؤمن لذاته إنما يطلبه للحياة المتعقبة له
و كذلك قوله ع و الله ما أرجو الراحة إلا بعد الموت
تصريح بأن الراحة في الحياة التي تتعقب الموت و هي حياة الأبد فلا منافاة إذا بين هذه الوجوه و بين ما قاله ع لأنه ما نفى إلا الراحة في الموت نفسه لا في الحياة الحاصلة بعده. شرح نهج البلاغة ج : 8 ص : 291فإن قلت فقد تطرأ على الإنسان حالة يستصعبها قيود الموت لسه و لا يفكر فيما يتعقبه من الحياة التي تشير إليها و لا يخطر بباله قلت ذاك شاذ نادر فلا يلتفت إليه و إنما الحكم للأعم الأغلب و أيضا فإن ذاك لا يلتذ بالموت و إنما يتخلص به من الألم و
أمير المؤمنين قال ما من شي ء من الملذات إلا و هو مملول إلا الحياة و بين الملذ و المخلص من الألم فرق واضح فلا يكون نقضا على كلامه. فإن قلت قد ذكرت ما قيل في حب الحياة و كراهية الموت فهل قيل في عكس ذلك و نقيضه شي ء قلت نعم فمن ذلك قول أبي الطيب كفى بك داء أن ترى الموت شافيا و حسب المنايا إن يكن أمانياتمنيتها لما تمنيت أن ترى صديقا فأعيا أو عدوا مداجيا
و قال آخر
قد قلت إذ مدحوا الحياة فأسرفوا في الموت ألف فضيلة لا تعرف منها أمان لقائه بلقائه و فراق كل معاشر لا ينصفو قيل لأعرابي و قد احتضر إنك ميت قال إلى أين يذهب بي قيل إلى الله قال ما أكره أن أذهب إلى من لم أر الخير إلا منه. إبراهيم بن مهدي

(9/250)


و إني و إن قدمت قبلي لعالم بأني و إن أبطأت عنك قريب و إن صباحا نلتقي في مسائه صباح إلى قلبي الغداة حبيبو قال بعض السلف ما من مؤمن إلا و الموت خير له من الحياة لأنه إن كان محسنا شرح نهج البلاغة ج : 8 ص : 292فالله تعالى يقول وَ ما عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَ أَبْقى لِلَّذِينَ آمَنُوا و إن كان مسيئا فالله تعالى يقول وَ لا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّما مْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّما نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدادُوا إِثْماً. و قال ميمون بن مهران بت ليلة عند عمر بن عبد العزيز فرأيته يبكي و يكثر من تمني الموت فقلت له إنك أحييت سننا و أمت بدعا و في بقائك خير للمسلمين فما بالك تتمني الموت فقال أ لا أكون كالعبد الصالح حين أقر الله له عينه و جمع له أمره قال رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَ عَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ فاطِرَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيا وَ الْآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِماً وَ أَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ و قالت الفلاسفة لا يستكمل الإنسان حد الإنسانية إلا بالموت لأن الإنسان هو الحي الناطق الميت. و قال بعضهم الصالح إذا مات استراح و الطالح إذا مات استريح منه. و قال الشاعر
جزى الله عنا الموت خيرا فإنه أبر بنا من كل بر و أرأف يعجل تخليص النفوس من الأذى و يدني من الدار التي هي أشرفو قال آخر
من كان يرجو أن يعيش فإنني أصبحت أرجو أن أموت لأعتقافي الموت ألف فضيلة لو أنها عرفت لكان سبيله أن يعشقا
و قال أبو العلاء
جسمي و نفسي لما استجمعا صنعا شرا إلي فجل الواحد الصمد
شرح نهج البلاغة ج : 8 ص : 293فالجسم يعذل فيه النفس مجتهدا و تلك تزعم أن الظالم الجسدإذا هما بعد طول الصحبة افترقا فإن ذاك لأحداث الزمان يو قال أبو العتاهية

(9/251)


المرء يأمل أن يعيش و طول عمر قد يضره تفنى بشاشته و يبقى بعد حلو العيش مره و تخونه الأيام حتى لا يرى شيئا يسره كم شامت بي أن هلكت و قائل لله دو قال ابن المعتز
أ لست ترى يا صاح ما أعجب الدهرا فذما له لكن للخالق الشكرالقد حبب الموت البقاء الذي أرى فيا حسدا مني لمن يسكن القبرا
فأما قوله ع و إنما ذلك بمنزلة الحكمة إلى قوله و فيها الغنى كله و السلامة ففصل آخر غير ملتئم بما قبله و هو إشارة إلى كلام من كلام رسول الله ص رواه لهم ثم حضهم على التمسك به و الانتفاع بمواعظه و قال إنه بمنزلة الحكمة التي هي حياة القلوب و نور الأبصار و سمع الآذان الصم و ري الأكباد الحري و فيها الغنى كله و السلامة و الحكمة المشبه كلام الرسول ص بها هي المذكورة في قوله تعالى وَ مَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً و في قوله وَ لَقَدْ آتَيْنا شرح نهج البلاغة ج : 8 ص : 294لُقْمانَ الْحِكْمَةَ في قوله وَ آتَيْناهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا و هي عبارة عن المعرفة بالله تعالى و بما في مبدعاته من الأحكام الدالة على علمه كتركيب الأفلاك و وضع العناصر مواضعها و لطائف صنعة الإنسان و غيره من الحيوان و كيفية إنشاء النبات و المعادن و ما في العالم من القوى المختلفة و التأثيرات المتنوعة الراجع ذلك كله إلى حكمة الصانع و قدرته و علمه تبارك اسمه. فأما قوله و كتاب الله إلى قوله و لا يخالف بصاحبه عن الله ففصل آخر مقطوع عما قبله و متصل بما لم يذكره جامع نهج البلاغة فإن قلت ما معنى قوله و لا يختلف في الله و لا يخالف بصاحبه عن الله و هل بين هاتين الجملتين فرق قلت نعم أما قوله و لا يختلف في الله فهو أنه لا يختلف في الدلالة على الله و صفاته أي لا يتناقض أي ليس في القرآن آيات مختلفة يدل بعضها على أنه يعلم كل المعلومات مثلا و تدل الأخرى على أنه لا يعلم كل المعلومات أو يدل بعضها على أنه لا يرى و بعضها على أنه يرى و ليس

(9/252)


وجودنا للآيات المشتبهة بقادح في هذا القول لأن آيات الجبر و التشبيه لا تدل و إنما توهم و نحن إنما نفينا أن يكون فيه ما يدل على الشي ء و نقيضه. و أما قوله و لا يخالف بصاحبه عن الله فهو أنه لا يأخذ بالإنسان المعتمد عله إلى غير الله أي لا يهديه إلا إلى جناب الحق سبحانه و لا يعرج به إلى جناب الشيطان يقال خالفت بفلان عن فلان إذا أخذت به غير نحوه و سلكت به غير جهته. شرح نهج البلاغة ج : 8 ص : 295فأما قوله قد اصطلحتم على الغل إلى آخر الفصل فكلام مقطوع أيضا عما قبله و الغل حقد. و الدمن جمع دمنة و هي الحقد أيضا و قد دمنت قلوبهم بالكسر أي ضغنت و نبت المرعى عليها أي دامت و طال الزمان عليها حتى صارت بمنزلة الأرض الجامدة الثابتة التي تنبت النبات و يجوز أن يريد بالدمن هاهنا جمع دمن و هو البعر المجتمع كالمزبلة أو جمع دمنة و هي آثار الناس و ما سودوا من الأرض يقال قد دمن الشاء الماء و قد دمن القوم الأرض فشبه ما في قلوبهم من الغل و الحقد و الضغائن بالمزبلة المجتمعة من البعر و غيره من سقاطة الديار التي قد طال مكثها حتى نبت عليها المرعى قال الشاعر
و قد ينبت المرعى على دمن الثرى و تبقى حزازات النفوس كما هيا

(9/253)


قوله ع لقد استهام بكم الخبيث يعني الشيطان و استهام بكم جعلكم هائمين أي استهامكم فعداه بحرف الجر كما تقول في استنفرت القوم إلى الحرب استنفرت بهم أي جعلتهم نافرين و يمكن أن يكون بمعنى الطلب و الاستدعاء كقولك استعلمت منه حال كذا أي استدعيت أن يعلمني و استمنحت فلانا أي طلبت و استدعيت أن يعطيني فيكون قوله و استهام بكم الخبيث أي استدعى منكم أن تهيموا و تقعوا في التيه و الضلال و الحيرة. قوله و تاه بكم الغرور هو الشيطان أيضا قال سبحانه وَ غَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ و تاه بكم جعلكم تائهين حائرين ثم سأل الله أن يعينه على نفسه و عليهم و من كلام بعض الصالحين اللهم انصرني على أقرب الأعداء إلي دارا و أدناهم مني جوارا و هي نفسي
شرح نهج البلاغة ج : 8 ص : 134296- و من كلام له ع و قد شاوره عمر بن الخطاب في الخروج إلى غزو الروموَ قَدْ تَوَكَّلَ اللَّهُ لِأَهْلِ هَذَا الدِّينِ بِإِعْزَازِ الْحَوْزَةِ وَ سَتْرِ الْعَوْرَةِ وَ الَّذِي نَصَرَهُمْ وَ هُمْ قَلِيلٌ لَا يَنْتَصِرُونَ وَ مَنَعَهُمْ وَ هُمْ قَلِيلٌ لَا يَمْتَنِعُونَ حَيٌّ لَا يَمُوتُ إِنَّكَ مَتَى تَسِرْ إِلَى هَذَا الْعَدُوِّ بِنَفْسِكَ فَتَلْقَهُمْ فَتُنْكَبْ لَا يَكُنْ لِلْمُسْلِمِينَ كَهْفٌ دُونَ أَقْصَى بِلَادِهِمْ لَيْسَ بَعْدَكَ مَرْجِعٌ يَرْجِعُونَ إِلَيْهِ فَابْعَثْ إِلَيْهِمْ رَجُلًا مِحْرَباً وَ احْفِزْ مَعَهُ أَهْلَ الْبَلَاءِ وَ النَّصِيحَةِ فَإِنْ أَظْهَرَ اللَّهُ فَذَاكَ مَا تُحِبُّ وَ إِنْ تَكُنِ الْأُخْرَى كُنْتَ رِدْءاً لِلنَّاسِ وَ مَثَابَةً لِلْمُسْلِمِينَ

(9/254)


توكل لهم صار وكيلا و يروى و قد تكفل أي صار كفيلا. و الحوزة الناحية و حوزة الملك بيضته و يقول إنما الذي نصرهم في الابتداء على ضعفهم هو الله تعالى و هو حي لا يموت فأجدر به أن ينصرهم ثانيا كما نصرهم أولا و قوله فتنكب مجزوم لأنه عطف على تسر. و كهف أي و كهف يلجأ إليه و يروى كانفة أي جهة عاصمة من قولك كنفت الإبل جعلت لها كنيفا من الشجر تستتر به و تعتصم. شرح نهج البلاغة ج : 8 ص : 297و رجل محرب أي صاحب حروب. و حفزت الرجل أحفزه دفعته من خلفه و سقته سوقا شديدا. و كنت ردءا أي عونا قال سبحانه فَأَرْسِلْهُ مَعِي رِدْء يُصَدِّقُنِي. و مثابة أي مرجعا و منه قوله تعالى مَثابَةً لِلنَّاسِ وَ أَمْناً أشار ع ألا يشخص بنفسه حذرا أن يصاب فيذهب المسلمون كلهم لذهاب الرأس بل يبعث أميرا من جانبه على الناس و يقيم هو بالمدينة فإن هزموا كان مرجعهم إليه. فإن قلت فما بال رسول الله ص كان يشاهد الحروب بنفسه و يباشرها بشخصه قلت إن رسول الله ص كان موعودا بالنصر و آمنا على نفسه بالوعد الإلهي في قوله سبحانه وَ اللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ و ليس عمر كذلك. فإن قلت فما بال أمير المؤمنين ع شهد حرب الجمل و صفين و النهروان بنفسه فهلا بعث أميرا محربا و أقام بالمدينة ردءا و مثابة. قلت عن هذا جوابان أحدهما أنه كان عالما من جهة النبي ص أنه لا يقتل في هذه الحروب و يشهد لذلك الخبر المتفق عليه بين الناس كافة يقاتل بعدي الناكثين و القاسطين و المارقين و ثانيهما يجوز أن يكون غلب على ظنه أن غيره لا يقوم مقامه في حرب هذه الفرق الخارجة عليه و لم يجد أميرا محربا من أهل البلاء و النصيحة لأنه ع هكذا قال لعمر و اعتبر هذه القيود و الشروط فمن كان من شرح نهج البلاغة ج : 8 ص : 298أصحابه ع محربا لم يكن من أهل النصيحة له و من كان من أهل النصيحة له لم يكن محربا فدعته ارورة إلى مباشرة الحرب بنفسه
غزوة فلسطين و فتح بيت المقدس

(9/255)


و اعلم أن هذه الغزاة هي غزاة فلسطين التي فتح فيها بيت المقدس و قد ذكرها أبو جعفر محمد بن جرير الطبري في التاريخ و قال إن عليا ع هو كان المستخلف على المدينة لما شخص عمر إلى الشام و إن عليا ع قال له لا تخرج بنفسك إنك تريد عدوا كلبا فقال عمر إني أبادر بجهاد العدو موت العباس بن عبد المطلب إنكم لو فقدتم العباس لانتقض بكم الشر كما ينتقض الحبل فمات العباس لست سنين خلت من إمارة عثمان و انتقض بالناس الشر. قال أبو جعفر و قد كان الروم عرفوا من كتبهم أن صاحب فتح مدينة إيلياء و هي بيت المقدس رجل اسمه على ثلاثة أحرف فكان من حضر من أمراء المسلمين يسألون عن اسمه فيعلمون أنه ليس بصاحبهم فلما طال عليهم الأمر في حرب الروم استمدوا عمر و قالوا إن لم تحضر بنفسك لم يفتح علينا فكتب إليهم أن يلقوه برأس الجابية ليوم سماه لهم فلقوه و هو راكب حمارا و كان أول من لقيه يزيد بن أبي سفيان ثم أبو عبيدة بن الجراح ثم خالد بن الوليد على الخيول و عليهم الديباج و الحرير فنزل عمر عن حماره و أخذ الحجارة و رماهم بها و قال سرعان ما لفتم عن رأيكم إياي شرح نهج البلاغة ج : 8 ص : 299تستقبلون في هذا الزي و إنما شبعتم منذ سنتين سرع ما ترت بكم البطنة و تال لو فعلتموها على رأس المائتين لاستبدلت بكم غيركم فقالوا يا أمير المؤمنين إنما هي يلامقه و تحتها السلاح فقال فنعم إذا قال أبو جعفر فلما علم الروم مقدم عمر نفسه سألوه الصلح فصالحهم و كتب لهم كتابا على أن يؤدوا الجزية ثم سار إلى بيت المقدس فقصر فرسه عن المشي فأتي ببرذون فركبه فهزه و هملج تحته فنزل عنه و ضرب وجهه بردائه و قال قبح الله من علمك هذا ردوا على فرسي فركبه و سار حتى انتهى إلى بيت المقدس. قال و لم يركب برذونا قبله و لا بعده و قال أعوذ بالله من الخيلاء. قال أبو جعفر و لقيه معاوية و عليه ثياب ديباج و حوله جماعة من الغلمان و الخول فدنا منه فقبل يده فقال ما هذا يا ابن

(9/256)


هند و إنك لعلى هذه الحال مترف صاحب لبوس و تنعم و قد بلغني أن ذوي الحاجات يقفون ببابك فقال يا أمير المؤمنين أما اللباس فأنا ببلاد عدو و نحب أن يرى أثر نعمة الله علينا و أما الحجاب فأنا نخاف من البذلة جرأة الرعية فقال ما سألتك عن شي ء إلا تركتني منه في أضيق من الرواجب إن كنت صادقا فإنه رأي لبيب و إن كنت كاذبا فإنها خدعة أريب. و قد روى الناس كلام معاوية لعمر على وجه آخر قيل لما قدم عمر الشام قدمها و هو راكب حمارا قريبا من الأرض و معه عبد الرحمن ب عوف راكب حمار قريب أيضا فتلقاهما معاوية في كوكبة خشناء فثنى وركه و نزل و سلم بالخلافة فلم يرد عليه. شرح نهج البلاغة ج : 8 ص : 300فقال له عبد الرحمن أحصرت الفتى يا أمير المؤمنين فلو كلمته قال إنك لصاحب الجيش الذي أرى قال نعم قال مع شدة احتجابك و وقوف ذويلحاجات ببابك قال أجل قال لم ويحك قال لأنا ببلاد عدو كثير فيها جواسيسهم فإن لم نتخذ العدة و العدد استخف بنا و هجم على عوراتنا و أنا بعد عاملك فإن استنقصتني نقصت و إن استزدتني زدت و إن استوقفتني وقفت فقال إن كنت كاذبا إنه لرأي أريب و إن كنت صادقا إنه لتدبير لبيب ما سألتك عن شي ء قط إلا تركتني منه في أضيق من رواجب الضرس لا آمرك و لا أنهاك فلما انصرف قال عبد الرحمن لقد أحسن الفتى في إصدار ما أردت عليه فقال لحسن إيراده و إصداره جشمناه ما جشمناه. قال أبو جعفر شخص عمر من المدينة إلى الشام أربع مرات و دخلها مرة راب فرس و مرة راكب بعير و مرة راكب بغل و مرة راكب حمار و كان لا يعرف و ربما استخبره الواحد أين أمير المؤمنين فيسكت أو يقول سل الناس و كان يدخل الشام و عليه سحق فرو مقلوب و إذا حضر الناس طعامه رأوا أخشن الطعام. قال أبو جعفر و قدم الشام في إحدى هذه المرات الأربع فصادف الطاعون بها فاشيا فاستشار الناس فكل أشار عليه بالرجوع و ألا يدخلها إلا أبا عبيدة بن الجراح فإنه قال أ تفر من قدر الله قال

(9/257)


نعم أفر من قدر الله بقدر الله إلى قدر الله لو غيرك قالها يا أبا عبيدة فما لبث أن جاء عبد الرحمن بن عوف فروى لهم
عن النبي ص أنه قال إذا كنتم ببلاد الطاعون فلا تخرجوا منها و إذا قدمتم إلى بلاد الطاعون فلا تدخلوها
فحمد الله على موافقة الخبر لما كان في نفسه و ما أشار به الناس و انصرف راجعا إلى المدينة و مات أبو عبيدة في ذلك الطاعون و هو الطاعون المعروف بطاعون عمواس و كان في سنة سبع عشرة من الهجرة
شرح نهج البلاغة ج : 8 ص : 135301- و من كلام له ع و قد وقعت بينه و بين عثمان مشاجرةفقال المغيرة بن الأخنس لعثمان أنا أكفيكه فقال أمير المؤمنين ع للمغيرة
يَا ابْنَ اللَّعِينِ الْأَبْتَرِ وَ الشَّجَرَةِ الَّتِي لَا أَصْلَ لَهَا وَ لَا فَرْعَ أَنْتَ تَكْفِينِي فَوَاللَّهِ مَا أَعَزَّ اللَّهُ مَنْ أَنْتَ نَاصِرُهُ وَ لَا قَامَ مَنْ أَنْتَ مُنْهِضُهُ اخْرُجْ عَنَّا أَبْعَدَ اللَّهُ نَوَاكَ ثُمَّ ابْلُغْ جَهْدَكَ فَلَا أَبْقَى اللَّهُ عَلَيْكَ إِنْ أَبْقَيْتَ

(9/258)


هو المغيرة بن الأخنس بن شريق بن عمرو بن وهب بن علاج بن أبي سلمة الثقفي حليف بني زهرة و إنما قال له أمير المؤمنين ع يا ابن اللعين لأن الأخنس بن شريق كان من أكابر المنافقين ذكره أصحاب الحديث كلهم في المؤلفة قلوبهم الذين أسلموا يوم الفتح بألسنتهم دون قلوبهم و أعطاه رسول الله ص مائة من الإبل من غنائم حنين يتألف بها قلبه و ابنه أبو الحكم بن الأخنس قتله أمير المؤمنين ع يوم أحد كافرا في الحرب و هو أخو المغيرة هذا و الحقد الذي في قلب المغيرة عليه من هذه الجهة و إنما قال له يا ابن الأبتر لأن من كان عقبة ضالا خبيثا فهو كمن لا عقب له بل من لا عقب له خير منه و يروى و لا أقام من أنت منهضه بالهمزة. و يروى أبعد الله نوءك من أنواء النجوم التي كانت العرب تنسب المطر إليها و كانوا إذا دعوا على إنسان قالوا أبعد الله نوءك أي خيرك. شرح نهج البلاغة ج : 8 ص : 302و الجهد بالفتح الية و يقال قد جهد فلان جهده بالفتح لا يجوز غير ذلك أي انتهى إلى غايته و قد روي أن رسول الله ص لعن ثقيفا. و
روي أنه ع قال لو لا عروة بن مسعود للعنت ثقيفا
و روى الحسن البصري أن رسول الله ص لعن ثلاث بيوت بيتان من مكة و هما بنو أمية و بنو المغيرة و بيت من الطائف و هم ثقيف. و
في الخبر المشهور المرفوع و قد ذكر ثقيفا بئست القبيلة يخرج منها كذاب و مبير

(9/259)


فكان كما قال ص الكذاب المختار و المبير الحجاج. و اعلم أن هذا الكلام لم يكن بحضرة عثمان و لكن عوانة روى عن إسماعيل بن أبي خالد عن الشعبي أن عثمان لما كثرت شكايته من علي ع أقبل لا يدخل إليه من أصحاب رسول الله ص أحد إلا شكا إليه عليا فقال له زيد بن ثابت الأنصاري و كان من شيعته و خاصته أ فلا أمشي إليه فأخبره بموجدتك فيما يأتي إليك قال بلى فأتاه زيد و معه المغيرة بن الأخنس بن شريق الثقفي و عداده في بني زهرة و أمه عمة عثمان بن عفان في جماعة فدخلوا عليه فحمد زيد الله و أثنى عليه ثم قال أما بعد فإن الله قدم لك سلفا صالحا في الإسلام و جعلك من الرسول بالمكان الذي أنت به فأنت للخير كل الخير أهل و أمير المؤمنين عثمان ابن عمك و والي هذه الأمة فله عليك حقان حق الولاية و حق القرابة و قد شكا إلينا أن عليا يعرض لي و يرد أمري علي و قد مشينا إليك نصيحة لك و كراهية أن يقع بينك و بين ابن عمك أمر نكرهه لكما. قال فحمد علي ع الله و أثنى عليه و صلى على رسوله ثم قال أما بعد فو الله ما أحب الاعتراض و لا الرد عليه إلا أن يأبى حقا لله لا يسعني أن أقول فيه إلا بالحق و و الله لأكفن عنه ما وسعني الكف. شرح نهج البلاغة ج : 8 ص : 303فقال المرة بن الأخنس و كان رجلا وقاحا و كان من شيعة عثمان و خلصائه إنك و الله لتكفن عنه أو لتكفن فإنه أقدر عليك منك عليه و إنما أرسل هؤلاء القوم من المسلمين إعزازا لتكون له الحجة عندهم عليك فقال له علي ع يا ابن اللعين الأبتر و الشجرة التي لا أصل لها و لا فرع أنت تكفني فو الله ما أعز الله امرأ أنت ناصره اخرج أبعد الله نواك ثم اجهد جهدك فلا أبقى الله عليك و لا على أصحابك إن أبقيتم. فقال له زيد إنا و الله ما جئناك لنكون عليك شهودا و لا ليكون ممشانا إليك حجة و لكن مشينا فيما بينكما التماس الأجر أن يصلح الله ذات بينكما و يجمع كلمتكما ثم دعا له و لعثمان و قام فقاموا معه. و هذا الخبر

(9/260)


يدل على أن اللفظة أنت تكفني و ليست كما ذكره الرضي رحمه الله أنت تكفيني لكن الرضا طبق هذه اللفظة على ما قبلها و هو قوله أنا أكفيكه و لا شبهة أنها رواية أخرى
فصل في نسب ثقيف و طرف من أخبارهم
و إنما قال له و الشجرة التي لا أصل لها و لا فرع لأن ثقيفا في نسبها طعن فقال قوم من النسابين إنهم من هوازن و هو القول الذي تزعمه الثقفيون قالوا هو ثقيف و اسمه قسي بن منبه بن بكر بن هوازن بن منصور بن عكرمة بن خصفة بن قيس بن عيلان بن مضر و على هذا القول جمهور الناس. و يزعم آخرون أن ثقيفا من إياد بن نزار بن معد بن عدنان و أن النخع أخوه لأبيه شرح نهج البلاغة ج : 8 ص : 304و أمه ثم افترقا فصار أحدهما في عداد هوازن و الآخر في عداد مذحج بن مالك بن زيد بن عريب بن زيد بن كهلان بن سبإ بن يشجب بن يعرب بن قحطان. و قد ر أبو العباس المبرد في الكامل لأخت الأشتر مالك بن الحارث النخعي تبكيه
أ بعد الأشتر النخعي نرجو مكاثرة و نقطع بطن وادو نصحب مذحجا بإخاء صدق و أن ننسب فنحن ذرا إيادثقيف عمنا و أبو أبينا و إخوتنا نزار أولو السداد
قال أبو العباس و هجا يحيى بن نوفل و كان هجاء خبيث اللسان العريان بن الهيثم بن الأسود النخعي و قد كان العريان تزوج امرأة اسمها زباد مبني على الكسر و الزاي مفتوحة بعدها باء منقوطة بواحدة و هي من ولد هانئ بن قبيصة الشيباني و كانت قبله تحت الوليد بن عبد الملك بن مروان فطلقها فأنكحها إياه أخ لها يقال له زياد فقال يحيى بن نوفل
أ عريان ما يدري امرؤ سيل عنكم أ من مذحج تدعون أم من إيادفإن قلتم من مذحج إن مذحجا لبيض الوجوه غير جد جعادو أنتم صغار الهام حدل كأنما وجوهكم مطلية بمدادو إن قلتم الحي اليمانون أصلنا و ناصرنا في كل يوم جلادفأطول بأير من معد و نزوة نزت بإياد خلف دار مرادضللتم كما ضلت ثقيف فما لكم و لا لهم بين القبائل هادلعمر بني شيبان إذ ينكحونه زباد لقد ما قصروا بزباد

(9/261)


شرح نهج البلاغة ج : 8 ص : 305أ بعد وليد أنكحوا عبد مذحج كمنزية عيرا خلاف جوادو أنكحها لا في كفاء و لا غنى زياد أضل الله سعي زياقال أبو العباس و كان المغيرة بن شعبة و هو والي الكوفة صار إلى دير هند بنت النعمان بن المنذر و هي فيه عمياء مترهبة فاستأذن عليها فقيل لها أمير هذه المدرة بالباب قالت قولوا له من ولد جبلة بن الأيهم أنت قال لا قالت أ فمن ولد المنذر بن ماء السماء أنت قال لا قالت فمن أنت قال أنا المغيرة بن شعبة الثقفي قالت فما حاجتك قال جئت خاطبا قالت لو كنت جئتني لجمال أو حال لأطلبنك و لكن أردت أن تتشرف بي في محافل العرب فتقول نكحت ابنة النعمان بن المنذر و إلا فأي خير في اجتماع أعور و عمياء فبعث إليها كيف كان أمركم قالت سأختصر لك الجواب أمسينا و ليس في الأرض عربي إلا و هو يرهبنا أو يرغب إلينا و أصبحنا و ليس في الأرض عربي إلا و نحن نرهبه و نرغب إليه قال فما كان أبوك يقول في ثقيف قالت أذكر و قد اختصم إليه رجلان منهم أحدهما ينتهي إلى إياد و الآخر إلى هوازن فقضى للإيادي و قال
إن ثقيفا لم تكن هوازنا و لم تناسب عامرا أو مازنا

(9/262)


فقال المغيرة أما نحن فمن بكر بن هوازن فليقل أبوك ما شاء ثم انصرف. و قال قوم آخرون إن ثقيفا من بقايا ثمود من العرب القديمة التي بادت و انقرضت. شرح نهج البلاغة ج : 8 ص : 306قال أبو العباس و قد قال الحجاج على المنبر يزعمون أنا من بقايا ثمود فقد كذبهم الله بله وَ ثَمُودَ فَما أَبْقى. و قال مرة أخرى و لئن كنا من بقايا ثمود لما نجا مع صالح إلا خيارهم. و قال الحجاج يوما لأبي العسوس الطائي أي أقدم أ نزول ثقيف الطائف أم نزول طيئ الجبلين فقال له أبو العسوس إن كانت ثقيف من بكر بن هوازن فنزول طيئ الجبلين قبلها و إن كانت من بقايا ثمود فهي أقدم فقال الحجاج اتقني فإني سريع الخطفة للأحمق المتهور فقال أبو العسوس قال أبو العباس و كان أعرابيا قحا إلا أنه لطيف الطبع و كان الحجاج يمازحه
يؤدبني الحجاج تأديب أهله فلو كنت من أولاد يوسف ما عداو إني لأخشى ضربة ثقفية يقد بها ممن عصاه المقلداعلى أنني مما أحاذر آمن إذا قيل يوما قد عصى المرء و اعتدى
و قتل المغيرة بن الأخنس مع عثمان يوم الدار و قد ذكرنا مقتله فيما تقدم
تم الجزء الثامن من شرح نهج البلاغة و يليه الجزء التاسع

(9/263)


شرح نهج البلاغة ج : 9 ص : 3الجزء التاسع
تتمة الخطب و الأوامرتتمة خطبة 135
ذكر أطراف مما شجر بين علي و عثمان في أثناء خلافته
و اعلم أن هذا الكتاب يستدعي منا أن نذكر أطرافا مما شجر بين أمير المؤمنين ع و عثمان أيام خلافته إذ كان هذا الكلام الذي شرحناه من ذلك النمط و الشي ء يذكر بنظيره و عادتنا في هذا الشرح أن نذكر الشي ء مع ما يناسبه و يقتضي ذكره. قال أحمد بن عبد العزيز الجوهري كتاب أخبار السقيفة حدثني محمد بن منصور الرمادي عن عبد الرزاق عن معمر عن زياد بن جبل عن أبي كعب الحارثي و هو ذو الإداوة قال أبو بكر أحمد بن عبد العزيز و إنما سمي ذا الإداوة لأنه قال إني خرجت في طلب إبل ضوال فتزودت لبنا في إداوة ثم قلت في نفسي ما أنصفت ربي فأين الوضوء فأرقت اللبن و ملأتها ماء فقلت هذا وضوء و شراب و طفقت أبغي إبلي فلما أردت الوضوء اصطببت من الإداوة ماء فتوضأت ثم أردت الشرب فلما اصطببتها إذا لبن فشربت فمكثت بذلك ثلاثا فقالت شرح نهج البلاغة ج : 9 ص : 4له أسماء النحرانية يا أبا كعب أ حقينا كانم حليبا قال إنك لبطالة كان يعصم من الجوع و يروي من الظمأ أما إني حدثت بهذا نفرا من قومي منهم علي بن الحارث سيد بني قنان فلم يصدقني و قال ما أظن الذي تقول كما قلت فقلت الله أعلم بذلك و رجعت إلى منزلي فبت ليلتي تلك فإذا به صلاة الصبح على بابي فخرجت إليه فقلت رحمك الله لم تعنيت ألا أرسلت إلي فآتيك فإني لأحق بذلك منك قال ما نمت الليلة إلا أتاني آت فقال أنت الذي تكذب من يحدث بما أنعم الله عليه قال أبو كعب ثم خرجت حتى أتيت المدينة فأتيت عثمان بن عفان و هو الخليفة يومئذ فسألته عن شي ء من أمر ديني و قلت يا أمير الؤمنين إني رجل من أهل اليمن من بني الحارث بن كعب و إني أريد أن أسألك فأمر حاجبك ألا يحجبني فقال يا وثاب إذا جاءك هذا الحارثي فأذن له قال فكنت إذا جئت فقرعت الباب قال من ذا فقلت الحارثي فيقول ادخل

(10/1)


فدخلت يوما فإذا عثمان جالس و حوله نفر سكوت لا يتكلمون كأن على رءوسهم الطير فسلمت ثم جلست فلم أسأله عن شي ء لما رأيت من حالهم و حاله فبينا أنا كذلك إذ جاء نفر فقالوا إنه أبى أن يجي ء قال فغضب و قال أبى أن يجي ء اذهبوا فجيئوا به فإن أبى فجروه جرا. قال فمكثت قليلا فجاءوا و معهم رجل آدم طوال أصلع في مقدم رأسه شعرات و قفاه شعرات فقلت من هذا قالوا عمار بن ياسر فقال له عثمان أنت الذي تأتيك رسلنا فتأبى أن تجي ء قال فكلمه بشي ء لم أدر ما هو ثم خرج فما زالوا شرح نهج البلاغة ج : 9 ص : 5ينفضون من عنده حتى ما بقي غيري فقام فقلت و الله لا أسأل عن هذا الأمر أحدا أقول حدثني فحتى أدري ما يصنع فتبعته حتى دخل المسجد فإذا عمار جالس إلى سارية و حوله نفر من أصحاب رسول الله ص يبكون فقال عثمان يا وثاب علي بالشرط فجاءوا فقال فرقوا بين هؤلاء ففرقوا بينهم. ثم أقيمت الصلاة فتقدم عثمان فصلى بهم فلما كبر قالت امرأة من حجرتها يا أيها الناس ثم تكلمت و ذكرت رسول الله ص و ما بعثه الله به ثم قالت تركتم أمر الله و خالفتم عهده... و نحو هذا ثم صمتت و تكلمت امرأة أخرى بمثل ذلك فإذا هما عائشة و حفصة. قال فسلم عثمان ثم أقبل على الناس و قال إن هاتين لفتانتان يحل لي سبهما و أنا بأصلهما عالم. فقال له سعد بن أبي وقاص أ تقول هذا لحبائب رسول الله ص فقال و فيم أنت و ما هاهنا ثم أقبل نحو سعد عامدا ليضربه فانسل سعد. فخرج من المسجد فاتبعه عثمان فلقي عليا ع بباب المسجد فقال له ع أين تريد قال أريد هذا الذي كذا و كذا يعني سعدا يشتمه فقال له علي ع أيها الرجل دع عنك هذا قال فلم يزل بينهما كلام حتى غضبا فقال عثمان أ لست الذي خلفك رسول الله ص له يوم تبوك فقال علي أ لست الفار عن رسول الله ص يوم أحد. قال ثم حجز الناس بينهما قال ثم خرجت من المدينة حتى انتهيت إلى الكوفة فوجدت أهلها أيضا وقع بينهم شر و نشبوا في الفتنة و ردوا سعيد بن

(10/2)


العاص فلم يدعوه يدخل إليهم فلما رأيت ذلك رجعت حتى أتيت بلاد قومي.
شرح نهج البلاغة ج : 9 ص : 6و روى الزبير بن بكار في كتاب الموفقيات عن عمه عن عيسى بن داود عن رجاله قال قال ابن عباس رحمه الله لما بنى عثمان داره بالمدينة أكثر الناس عليه في ذلك فبلغه فخطبنا في يوم جمعة ثم صلى بنا ثم عاد إلى المنبر فحمد الله و أثنى عليه ولى على رسوله ثم قال أما بعد فإن النعمة إذا حدثت حدث لها حساد حسبها و أعداء قدرها و إن الله لم يحدث لنا نعما ليحدث لها حساد عليها و منافسون فيها و لكنه قد كان من بناء منزلنا هذا ما كان إرادة جمع المال فيه و ضم القاصية إليه فأتانا عن أناس منكم أنهم يقولون أخذ فيئنا و أنفق شيئنا و استأثر بأموالنا يمشون خمرا و ينطقون سرا كأنا غيب عنهم و كأنهم يهابون مواجهتنا معرفة منهم بدحوض حجتهم فإذ غابوا عنا يروح بعضهم إلى بعض يذكرنا و قد وجدوا على ذلك أعوانا من نظرائهم و مؤازرين من شبابهم فبعدا بعدا و رغما رغما ثم أنشد بيتين كأنه يومئ فيهما إلى علي ع.
توقد بنار أينما كنت و اشتعل فلست ترى مما تعالج شافياتشط فيقضي الأمر دونك أهله وشيكا و لا تدعى إذا كنت نائيا

(10/3)


ما لي و لفيئكم و أخذ مالكم أ لست من أكثر قريش مالا و أظهرهم من الله نعمة أ لم أكن على ذلك قبل الإسلام و بعده و هبوني بنيت منزلا من بيت المال أ ليس هو لي و لكم أ لم أقم أموركم و إني من وراء حاجاتكم فما تفقدون من حقوقكم شيئا فلم لا أصنع في الفضل ما أحببت فلم كنت إماما إذا. ألا و إن من أعجب العجب أنه بلغني عنكم أنكم تقولون لنفعلن به و لنفعلن فبمن تفعلون لله آباؤكم أ بنقد البقاع أم بفقع القاع أ لست أحراكم إن دعا أن يجاب و أقمنكم إن أمر أن يطاع شرح نهج البلاغة ج : 9 ص : 7لهفي على بقائي فيكم بعد أصحابي و حياتي كم بعد أترابي يا ليتني تقدمت قبل هذا لكني لا أحب خلاف ما أحبه الله لي عز و جل إذا شئتم فإن الصادق المصدق محمدا ص قد حدثني بما هو كائن من أمري و أمركم و هذا بدء ذلك و أوله فكيف الهرب مما حتم و قدر أما إنه ع قد بشرني في آخر حديثه بالجنة دونكم إذا شئتم فلا أفلح من ندم. قال ثم هم بالنزول فبصر بعلي بن أبي طالب ع و معه عمار بن ياسر رضي الله عنه و ناس من أهل هواه يتناجون فقال إيها إيها أ سرارا لا جهارا أما و الذي نفسي بيده ما أحنق على جرة و لا أوتى من ضعف مرة و لو لا النظر لي و لكم و الرفق بي و بكم لعاجلتكم فقد اغتررتم و أفلتم من أنفسكم. ثم رفع يديه يدعو و يقول اللهم قد تعلم حبي للعافية فألبسنيها و إيثاري للسلامة فآتنيها. قال فتفرق القوم عن علي ع و قام عدي بن الخيار فقال أتم الله عليك يا أمير المؤمنين النعمة و زادك في الكرامة و الله لأن تحسد أفضل من أن تحسد و لأن تنافس أجل من أن تنافس أنت و الله في حسبنا الصميم و منصبنا الكريم إن دعوت أجبت و إن أمرت أطعت فقل نفعل و ادع تجب جعلت الخيرة و الشورى إلى أصحاب رسول الله ص ليختاروا لهم و لغيرهم و إنهم ليرون مكانك و يعرفون مكان غيرك فاختاروك منيبين طائعين غير مكرهين و لا مجبرين ما غيرت و لا فارقت و لا بدلت و لا خالفت فعلام يقدمون عليك و

(10/4)


هذا رأيهم فيك أنت و الله كما قال الأول
اذهب إليك فما للحسود إلا طلابك تحت العثار
شرح نهج البلاغة ج : 9 ص : 8حكمت فما جرت في خلة فحكمك بالحق بادي المنارفإن يسبعوك فسرا و قد جهرت بسيفك كل الجهاقال و نزل عثمان فأتى منزله و أتاه الناس و فيهم ابن عباس فلما أخذوا مجالسهم أقبل على ابن عباس فقال ما لي و لكم يا ابن عباس ما أغراكم بي و أولعكم بتعقب أمري أ تنقمون علي أمر العامة أتيت من وراء حقوقهم أم أمركم فقد جعلتهم يتمنون منزلتكم لا و الله لكن الحسد و البغي و تثوير الشر و إحياء الفتن و الله لقد ألقى النبي ص إلي ذلك و أخبرني به عن أهله واحدا واحدا و الله ما كذبت و لا أنا بمكذوب. فقال ابن عباس على رسلك يا أمير المؤمنين فو الله ما عهدتك جهرا بسرك و لا مظهرا ما في نفسك فما الذي هيجك و ثورك إنا لم يولعنا بك أمر و لم نتعقب أمرك بشي ء أتيت بالكذب و تسوف عليك بالباطل و الله ما نقمنا عليك لنا و لا للعامة قد أوتيت من وراء حقوقنا و حقوقهم و قضيت ما يلزمك لنا و لهم فأما الحسد و البغي و تثوير الفتن و إحياء الشر فمتى رضيت به عترة النبي و أهل بيته و كيف و هم منه و إلي على دين الله يثورون الشر أم على الله يحيون الفتن كلا ليس البغي و لا الحسد من طباعهم فاتئد يا أمير المؤمنين و أبصر أمرك و أمسك عليك فإن حالتك الأولى خير من حالتك الأخرى لعمري إن كنت لأثيرا عند رسول الله و إن كان يفضي إليك بسره ما يطويه عن غيرك و لا كذبت و لا أنت بمكذوب اخسأ الشيطان عنك و لا يركبك و اغلب غضبك و لا يغلبك فما دعاك إلى هذا الأمر الذي كان منك. شرح نهج البلاغة ج : 9 ص : 9قال دعاني إليه ابن عمك علي بن أبي طالب فقال ابن عباس و عسى أن يكذب مبلغك قال عثمان إنه ثقة قال ابن عباس إنه ليس بثقة من بلغ وغرى قال عثمان يا ابن عباس آلله إنك ما تعلم من علي ما شكوت منه قال اللهم لا إلا أن يقول كما يقول الناس و ينقم كما ينقمون فمن أغراك

(10/5)


به و أولعك بذكره دونهم فقال عثمان إنما آفتي من أعظم الداء الذي ينصب نفسه لرأس الأمر و هو علي ابن عمك و هذا و الله كله من نكده و شؤمه قال ابن عباس مهلا استثن يا أمير المؤمنين قل إن شاء الله فقال إن شاء الله ثم قال إني أنشدك يا ابن عباس الإسلام و الرحم فقد و الله غلبت و ابتليت بكم و الله لوددت أن هذا الأمر كان صار إليكم دوني فحملتموه عني و كنت أحد أعوانكم عليه إذا و الله لوجدتموني لكم خيرا مما وجدتكم لي و لقد علمت أن الأمر لكم و لكن قومكم دفعوكم عنه و اختزلوه دونكم فو الله ما أدري أ دفعوه عنكم أم دفعوكم عنه. قال ابن عباس مهلا يا أمير المؤمنين فإنا ننشدك الله و الإسلام و الرحم مثل ما نشدتنا أن تطمع فينا و فيك عدوا و تشمت بنا و بك حسودا إن أمرك إليك ما كان قولا فإذا صار فعلا فليس إليك و لا في يديك و إنا و الله لنخالفن إن خولفنا و لننازعن إن نوزعنا و ما تمنيك أن يكون الأمر صار إلينا دونك إلا أن يقول قائل منا ما يقوله الناس و يعيب كما عابوا فأما صرف قومنا عنا الأمر فعن حسد قد و الله عرفته و بغي قد و الله علمته فالله بيننا و بين قومنا و أما قولك إنك لا تدري أ دفعوه عنا أم دفعونا عنه فلعمري إنك لتعرف أنه لو صار إلينا هذا الأمر ما زدنا به فضلا إلى فضلنا و لا قدرا إلى قدرنا و إنا لأهل الفضل و أهل القدر و ما فضل فاضل إلا بفضلنا و لا سبق سابق إلا بسبقنا و لو لا هدينا ما اهتدى أحد و لا أبصروا من عمى و لا قصدوا من جور. فقال عثمان حتى متى يا ابن عباس يأتيني عنكم ما يأتيني هبوني كنت بعيدا أ ما كان لي من الحق عليكم أن أراقب و أن أناظر بلى و رب الكعبة و لكن الفرقة

(10/6)


شرح نهج البلاغة ج : 9 ص : 10سهلت لكم القول في و تقدمت بكم إلى الإسراع إلي و الله المستعان. قال ابن عباس مهلا حتى ألقى عليا ثم أحمل إليك على قدر ما رأى قال عثمان افعل فقد فعلت و طالما طلبت فلا أطلب و لا أجاب و لا أعتب. قال ابن عباس فخرجت فلقيت عليا و إذاه من الغضب و التلظي أضعاف ما بعثمان فأردت تسكينه فامتنع فأتيت منزلي و أغلقت بابي و اعتزلتهما فبلغ ذلك عثمان فأرسل إلي فأتيته و قد هدأ غضبه فنظر إلي ثم ضحك و قال يا ابن عباس ما أبطأ بك عنا إن تركك العود إلينا لدليل على ما رأيت عند صاحبك و عرفت من حاله فالله بيننا و بينه خذ بنا في غير ذلك. قال ابن عباس فكان عثمان بعد ذلك إذا أتاه عن علي شي ء فأردت التكذيب عنه يقول و لا يوم الجمعة حين أبطأت عنا و تركت العود إلينا فلا أدري كيف أرد عليه. و روى الزبير بن بكار أيضا في الموفقيات عن ابن عباس رحمه الله قال خرجت من مزلي سحرا أسابق إلى المسجد و أطلب الفضيلة فسمعت خلفي حسا و كلاما فتسمعته فإذا حس عثمان و هو يدعو و لا يرى أن أحدا يسمعه و يقول اللهم قد تعلم نيتي فأعني عليهم و تعلم الذين ابتليت بهم من ذوي رحمي و قرابتي فأصلحني لهم و أصلحهم لي. قال فقصرت من خطوتي و أسرع في مشيته فالتقينا فسلم فرددت عليه فقال إني خرجت ليلتنا هذه أطلب الفضل و المسابقة إلى المسجد فقلت إنه أخرجني ما أخرجك فقال و الله لئن سابقت إلى الخير إنك لمن سابقين مباركين و إني لأحبكم و أتقرب إلى الله بحبكم فقلت يرحمك الله يا أمير المؤمنين إنا لنحبك و نعرف سابقتك و سنك و قرابتك و صهرك قال يا ابن عباس فما لي و لابن عمك و ابن خالي قلت أي بني عمومتي و بني أخوالك قال اللهم اغفر أ تسأل مسألة الجاهل. شرح نهج البلاغة ج : 9 ص : 11قلت إن بني عمومتي من بني خئولتك كثير فأيهم تعني قال أعني عليا لا غيره فقلت لا و الله يأمير المؤمنين ما أعلم منه إلا خيرا و لا أعرف له إلا حسنا قال و الله

(10/7)


بالحري أن يستر دونك ما يظهره لغيرك و يقبض عنك ما ينبسط به إلى سواك. قال و رمينا بعمار بن ياسر فسلم فرددت عليه سلامه ثم قال من معك قلت أمير المؤمنين عثمان قال نعم و سلم بكنيته و لم يسلم عليه بالخلافة فرد عليه ثم قال عمار ما الذي كنتم فقد سمعت ذروا منه قلت هو ما سمعت فقال عمار رب مظلوم غافل و ظالم متجاهل قال عثمان أما إنك من شنائنا و أتباعهم و ايم الله إن اليد عليك لمنبسطة و إن السبيل إليك لسهلة و لو لا إيثار العافية و لم الشعث لزجرتك زجرة تكفي ما مضى و تمنع ما بقي. فقال عمار و الله ما أعتذر من حبي عليا و ما اليد بمنبسطة و لا السبيل بسهلة إني لازم حجة و مقيم على سنة و أما إيثارك العافية و لم الشعث فلازم ذلك و أما زجري فأمسك عنه فقد كفاك معلمي تعليمي فقال عثمان أما و الله إنك ما علمت من أعوان الشر الحاضين عليه الخذلة عند الخير و المثبطين عنه فقال عمار مهلا يا عثمان فقد سمعت رسول الله ص يصفني بغير ذلك قال عثمان و متى قال يوم دخلت عليه منصرفه عن الجمعة و ليس عنده غيرك و قد ألقى ثيابه و قعد في فضله فقبلت صدره و نحره و جبهته فقال يا عمار إنك لتحبنا و إنا لنحبك و إنك لمن الأعوان على الخير المثبطين عن الشر فقال عثمان أجل و لكنك غيرت و بدلت قال فرفع عمار يده يدعو و قال أمن يا ابن عباس اللهم من غير فغير به ثلاث مرات. قال و دخلنا المسجد فأهوى عمار إلى مصلاه و مضيت مع عثمان إلى القبلة

(10/8)


شرح نهج البلاغة ج : 9 ص : 12فدخل المحراب و قال تلبث علي إذا انصرفنا فلما رآني عمار وحدي أتاني فقال أ ما رأيت ما بلغ بي آنفا قلت أما و الله لقد أصعبت به و أصعب بك و إن له لسنه و فضله و قرابته قال إن له لذلك و لكن لا حق لمن لا حق عليه و انصرف. و صلى عثمان انصرفت معه يتوكأ علي فقال هل سمعت ما قال عمار قلت نعم فسرني ذلك و ساءني أما مساءته إياي فما بلغ بك و أما مسرته لي فحلمك و احتمالك فقال إن عليا فارقني منذ أيام على المقاربة و إن عمارا آتيه فقائل له و قائل فابدره إليه فإنك أوثق عنده منه و أصدق قولا فألق الأمر إليه على وجهه فقلت نعم. و انصرفت أريد عليا ع في المسجد فإذا هو خارج منه فلما رآني تفجع لي من فوت الصلاة و قال ما أدركتها قلت بلى و لكني خرجت مع أمير المؤمنين ثم اقتصصت عليه القصة فقال أما و الله يا ابن عباس إنه ليقرف قرحة ليحورن عليه ألمها فقلت إن له سنه و سابقته و قرابته و صهره قال إن ذلك له و لكن لا حق لمن لا حق عليه. قال ثم رهقنا عمار فبش به علي و تبسم في وجهه و سأله فقال عمار يا ابن عباس هل ألقيت إليه ما كنا فيه قلت نعم قال أما و الله إذا لقد قلت بلسان عثمان و نطقت بهواه قلت ما عدوت الحق جهدي و لا ذلك من فعلي و إنك لتعلم أي الحظين أحب إلي و أي الحقين أوجب علي. قال فظن علي أن عند عمار غير ما ألقيت إليه فأخذ بيده و ترك يدي فعلمت أنه يكره مكاني فتخلفت عنهما و انشعب بنا الطريق فسلكاه و لم يدعني فانطلقت إلى منزلي فإذا رسول عثمان يدعوني فأتيته فأجد ببابه مروان و سعيد بن العاص. شرح نهج البلاغة ج : 9 ص : 13في رجال من بني أمية فأذن لي و ألطفني و قربني و أدنى مجلسي ثم قال ما صنعت فأخبرته بالخبر على وجهه و ما قال الرجل و قلت له و كتمته قوله إنه ليقرف قرحة ليحورن عليه ألمها إبقاء عليه و إجلالا له و ذكرت مجي ء ع و بش علي له و ظن علي أن قبله غير ما ألقيت عليه و سلوكهما حيث سلكا

(10/9)


قال و فعلا قلت نعم فاستقبل القبلة ثم قال اللهم رب السموات و الأرض عالم الغيب و الشهادة الرحمن الرحيم أصلح لي عليا و أصلحني له أمن يا ابن عباس فأمنت ثم تحدثنا طويلا و فارقته و أتيت منزلي. و روى الزبير بن بكار أيضا في الكتاب المذكور عن عبد الله بن عباس قال ما سمعت من أبي شيئا قط في أمر عثمان يلومه فيه و لا يعذره و لا سألته عن شي ء من ذلك مخافة أن أهجم منه على ما لا يوافقه فإنا عنده ليلة و نحن نتعشى إذ قيل هذا أمير المؤمنين عثمان بالباب فقال اذنوا له فدخل فأوسع له على فراشه و أصاب من العشاء معه فلما رفع قام من كان هناك و ثبت أنا فحمد عثمان الله و أثنى عليه ثم قال أما بعد يا خال فإني قد جئتك أستعذرك من ابن أخيك علي سبني و شهر أمري و قطع رحمي و طعن في ديني و إني أعوذ بالله منكم يا بني عبد المطلب إن كان لكم حق تزعمون أنكم غلبتم عليه فقد تركتموه في يدي من فعل ذلك بكم و أنا أقرب إليكم رحما منه و ما لمت منكم أحدا إلا عليا و لقد دعيت أن أبسط عليه فتركته لله و الرحم و أنا أخاف ألا يتركني فلا أتركه. قال ابن عباس فحمد أبي الله و أثنى عليه ثم قال أما بعد يا ابن أختي فإن كنت لا تحمد عليا لنفسك فإني لا أحمدك لعلي و ما علي وحده قال فيك بل غيره فلو أنك

(10/10)


شرح نهج البلاغة ج : 9 ص : 14اتهمت نفسك للناس اتهم الناس أنفسهم لك و لو أنك نزلت مما رقيت و ارتقوا مما نزلوا فأخذت منهم و أخذوا منك ما كان بذلك بأس قال عثمان فذلك إليك يا خال و أنت بيني و بينهم قال أ فأذكر لهم ذلك عنك قال نعم و انصرف فما لبثنا أن قيل هذامير المؤمنين قد رجع بالباب قال أبي ائذنوا له فدخل فقام قائما و لم يجلس و قال لا تعجل يا خال حتى أوذنك فنظرنا فإذا مروان بن الحكم كان جالسا بالباب ينتظره حتى خرج فهو الذي ثناه عن رأيه الأول فأقبل علي أبي و قال يا بني ما إلى هذا من أمره شي ء ثم قال يا بني ألك عليك لسانك حتى ترى ما لا بد منه ثم رفع يديه فقال اللهم اسبق بي ما لا خير لي في إدراكه فما مرت جمعة حتى مات رحمه الله. و
روى أبو العباس المبرد في الكامل عن قنبر مولى علي ع قال دخلت مع علي على عثمان فأحبا الخلوة فأومأ إلي علي ع بالتنحي فتنحيت غير بعيد فجعل عثمان يعاتبه و علي مطرق فأقبل عليه عثمان و قال ما لك لا تقول قال إن قلت لم أقل إلا ما تكره و ليس لك عندي إلا ما تحب

(10/11)


قال أبو العباس تأويل ذلك إن قلت اعتددت عليك بمثل ما اعتددت به علي فلذعك عتابي و عقدي ألا أفعل و إن كنت عاتبا إلا ما تحب. و عندي فيه تأويل آخر و هو أني إن قلت و اعتذرت فأي شي ء حسنته من الأعذار لم يكن ذلك عندك مصدقا و لم يكن إلا مكروها غير مقبول و الله تعاى يعلم أنه ليس لك عندي في باطني و ما أطوي عليه جوانحي إلا ما تحب و إن كنت لا تقبل المعاذير التي أذكرها بل تكرهها و تنبو نفسك عنها. شرح نهج البلاغة ج : 9 ص : 15و روى الواقدي في كتاب الشورى عن ابن عباس رحمه الله قال شهدت عتاب عثمان لعلي ع يوما فقال له في ب ما قاله نشدتك الله أن تفتح للفرقة بابا فلعهدي بك و أنت تطيع عتيقا و ابن الخطاب طاعتك لرسول الله ص و لست بدون واحد منهما و أنا أمس بك رحما و أقرب إليك صهرا فإن كنت تزعم أن هذا الأمر جعله رسول الله ص لك فقد رأيناك حين توفي نازعت ثم أقررت فإن كانا لم يركبا من الأمر جددا فكيف أذعنت لهما بالبيعة و بخعت بالطاعة و إن كانا أحسنا فيما وليا و لم أقصر عنهما في ديني و حسبي و قرابتي فكن لي كما كنت لهما.

(10/12)


فقال علي ع أما الفرقة فمعاذ الله أن أفتح لها بابا و أسهل إليها سبيلا و لكني أنهاك عما ينهاك الله و رسوله عنه و أهديك إلى رشدك و أما عتيق و ابن الخطاب فإن كانا أخذا ما جعله رسول الله ص لي فأنت أعلم بذلك و المسلمون و ما لي و لهذا الأمر و قد تركته منذ حين فإما ألا يكون حقي بل المسلمون فيه شرع فقد أصاب السهم الثغرة و إما أن يكون حقي دونهم فقد تركته لهم طبت به نفسا و نفضت يدي عنه استصلاحا و أما التسوية بينك و بينهما فلست كأحدهما إنهما وليا هذا الأمر فظلفا أنفسهما و أهلهما عنه و عمت فيه و قومك عوم السابح في اللجة فارجع إلى الله أبا عمرو و انظر هل بقي من عمرك إلا كظم ء الحمار فحتى متى و إلى متى أ لا تنهى سفهاء بني أمية عن أعراض المسلمين و أبشارهم و أموالهم و الله لو ظلم عامل من عمالك حيث تغرب الشمس لكان إثمه مشتركا بينه و بينك قال ابن عباس فقال عثمان لك العتبى و افعل و اعزل من عمالي كل من تكرهه شرح نهج البلاغة ج : 9 ص : 16و يكرهه المسلمون ثم افترقا فصده مروان بن الحكم عن ذلك و قال يجترئ عليك الناس فلا تعزل أحدا منهم. و روى الزبير بن بكار أيضا في كتابه عن رجال أسند بعضهم عن بعض عن علي بن أبي طالب ع قال أرسل إلي عثمان في الهاجرة فتقنعت بثوبي و أتيته فدخلت عليه و هو على سريره و في يده قضيب و بين يديه مال دثر صبرتان من ورق و ذهب فقال دونك خذ من هذا حتى تملأ بطنك فقد أحرقتني فقلت وصلتك رحم إن كان هذا المال ورثته أو أعطاكه معط أو اكتسبته من تجارة كنت أحد رجلين إما آخذ و أشكر أو أوفر و أجهد و إن كان من مال الله و فيه حق المسلمين و اليتيم و ابن السبيل فو الله ما لك أن تعطينيه و لا لي أن آخذه فقال أبيت و الله إلا ما أبيت ثم قام إلي بالقضيب فضربني و الله ما أرد يده حتى قضى حاجته فتقنعت بثوبي و رجعت إلى منزلي و قلت الله بيني و بينك إن كنت أمرتك بمعروف أو نهيت عن منكر

(10/13)


و روى الزبير بن بكار عن الزهري قال لما أتي عمر بجوهر كسرى وضع في المسجد فطلعت عليه الشمس فصار كالجمر فقال لخازن بيت المال ويحك أرحني من هذا و اقسمه بين المسلمين فإن نفسي تحدثني أنه سيكون في هذا بلاء و فتنة بين الناس فقال يا أمير المؤمنين إن قسمته بين المسلمين لم يسعهم و ليس أحد يشتريه لأن ثمنه عظيم و لكن ندعه إلى قابل فعسى الله أن يفتح على المسلمين بمال فيشتريه منهم من يشتريه قال ارفعه فأدخله بيت المال. و قتل عمر و هو بحاله فأخذه عثمان لما ولي الخلافة فحلى به بناته. شرح نهج البلاغة ج : 9 ص : 17قال الزبير ال الزهري كل قد أحسن عمر حين حرم نفسه و أقاربه و عثمان حين وصل أقاربه.
قال الزبير و حدثنا محمد بن حرب قال حدثنا سفيان بن عيينة عن إسماعيل بن أبي خالد قال جاء رجل إلى علي ع يستشفع به إلى عثمان فقال حمال الخطايا لا و الله لا أعود إليه أبدا فآيسه منه
و روى الزبير أيضا عن شداد بن عثمان قال سمعت عوف بن مالك في أيام عمر يقول يا طاعون خذني فقلنا له لم تقول هذا و
قد سمعت رسول الله ص يقول إن المؤمن لا يزيده طول العمر إلا خيرا

(10/14)


قال إني أخاف ستا خلافة بني أمية و إمارة السفهاء من أحداثهم و الرشوة في الحكم و سفك الدم الحرام و كثرة الشرط و نشأ ينشأ يتخذون القرآن مزامير. و روى الزبير عن أبي غسان عن عمر بن زياد عن الأسود بن قيس عن عبيد بن حارثة قال سمعت عثمان و هو يخطب فأكب الناس حوله فقال اجلسوا يا أعداء الله فصاح به طلحة إنهم ليسوا بأعداء الله لكنهم عباده و قد قرءوا كتابه. و روى الزبير عن سفيان بن عيينة عن إسرائيل عن الحسن قال شهدت المسجد يوم جمعة فخرج عثمان فقام رجل فقال أنشد كتاب الله فقال عثمان اجلس أ ما لكتاب الله ناشد غيرك فجلس ثم قام آخر فقال مثل مقالته فقال اجلس فأبى شرح نهج البلاغة ج : 9 ص : 18أن يجلس فبعث إلى الشرط ليجلسوه فقام الناس فحالوا بينهم و بينه قال ثم تراموا بالبطحاء حتى يقول القائل ما أكاد أرى أديم السماء من البطحاء فنزل عثمان فدخل داره و لم يصل الجمعةفصل فيما شجر بين عثمان و ابن عباس من الكلام بحضرة علي

(10/15)


و روى الزبير أيضا في الموفقيات عن ابن عباس رحمه الله قال صليت العصر يوما ثم خرجت فإذا أنا بعثمان بن عفان في أيام خلافته في بعض أزقة المدينة وحده فأتيته إجلالا و توقيرا لمكانه فقال لي هل رأيت عليا قلت خلفته في المسجد فإن لم يكن الآن فيه فهو في منزله قال أما منزله فليس فيه فابغه لنا في المسجد فتوجهنا إلى المسجد و إذا علي ع يخرج منه قال ابن عباس و قد كنت أمس ذلك اليوم عند علي فذكر عثمان و تجرمه عليه و قال أما و الله يا ابن عباس إن من دوائه لقطع كلامه و ترك لقائه فقلت له يرحمك الله كيف لك بهذا فإن تركته ثم أرسل إليك فما أنت صانع قال أعتل و أعتل فمن يقسرني قال لا أحد. قال ابن عباس فلما تراءينا له و هو خارج من المسجد ظهر منه من التفلت و الطلب للانصراف ما استبان لعثمان فنظر إلي عثمان و قال يا ابن عباس أ ما ترى ابن خالنا يكره لقاءنا فقلت و لم و حقك ألزم و هو بالفضل أعلم فلما تقاربا رماه عثمان بالسلام فرد عليه فقال عثمان إن تدخل فإياك أردنا و إن تمض فإياك طلبنا فقال علي أي ذلك أحببت قال تدخل فدخلا و أخذ عثمان بيده فأهوى به إلى القبلة فقصر عنها و جلس قبالتها فجلس عثمان إلى جانبه فنكصت عنهما فدعواني جميعا فأتيتهما فحمد عثمان الله و أثنى عليه و صلى على رسوله ثم قال أما بعد يا بني خالي و ابني شرح نهج البلاغة ج : 9 ص : 19عمي فإذ جمعتكما في النداء فسأجمعكما في الشكاية عن رضاي على أحدكما و وجدي على الآخر إني أستعذركما من أنفسكما و أسألكما فيئتكما و أستوهبكما رجعتكما فو اللهو غالبني الناس ما انتصرت إلا بكما و لو تهضموني ما تعززت إلا بعزكما و لقد طال هذا الأمر بيننا حتى تخوفت أن يجوز قدره و يعظم الخطر فيه و لقد هاجني العدو عليكما و أغراني بكما فمنعني الله و الرحم مما أراد و قد خلونا في مسجد رسول الله ص و إلى جانب قبره و قد أحببت أن تظهرا لي رأيكما في و ما تنطويان لي عليه و تصدقا فإن الصدق

(10/16)


أنجى و أسلم و أستغفر الله لي و لكما. قال ابن عباس فأطرق علي ع و أطرقت معه طويلا أما أنا فأجللته أن أتكلم قبله و أما هو فأراد أن أجيب عني و عنه ثم قلت له أ تتكلم أم أتكلم عنك قال بل تكلم عني و عنك فحمدت الله و أثنيت عليه و صليت على رسوله ثم قلت أما بعد يا ابن عمنا و عمتنا فقد سمعنا كلامك لنا و خلطك في الشكاية بيننا على رضاك زعمت عن أحدنا و وجدك على الآخر و سنفعل في ذلك فنذمك و نحمدك اقتداء منك بفعلك فينا فإنا نذم مثل تهمتك إيانا على ما اتهمتنا عليه بلا ثقة إلا ظنا و نحمد منك غير ذلك من مخالفتك عشيرتك ثم نستعذرك من نفسك استعذارك إيانا من أنفسنا و نستوهبك فيئتك استيهابك إيانا فيئتنا و نسألك رجعتك مسألتك إيانا رجعتنا فإنا معا أيما حمدت و ذممت منا كمثلك في أمر نفسك ليس بيننا فرق و لا اختلاف بل كلانا شريك صاحبه في رأيه و قوله فو الله ما تعلمنا غير معذرين فيما بيننا و بينك و لا تعرفنا غير قانتين عليك و لا تجدنا غير راجعين إليك فنحن نسألك من نفسك مثل ما سألتنا من أنفسنا و أما قولك لو غالبتني الناس ما انتصرت إلا بكما أو تهضموني ما تعززت إلا بعزكما فأين بنا و بك عن ذلك و نحن و أنت كما قال أخو كنانة شرح نهج البلاغة ج : 9 ص : 2بدا بحتر ما رام نال و إن يرم يخض دونه غمرا من الغر رائمه لنا و لهم منا و منهم على العدا مراتب عز مصعدات سلالمهو أما قولك في هيج العدو إياك علينا و إغرائه لك بنا فو الله ما أتاك العدو من ذلك شيئا إلا و قد أتانا بأعظم منه فمنعنا مما أراد ما منعك من مراقبة الله و الرحم و ما أبقيت أنت و نحن إلا على أدياننا و أعراضنا و مروءاتنا و لقد لعمري طال بنا و بك هذا الأمر حتى تخوفنا منه على أنفسنا و راقبنا منه ما راقبت. و أما مساءلتك إيانا عن رأينا فيك و ما ننطوي عليه لك فإنا نخبرك أن ذلك إلى ما تحب لا يعلم واحد منا من صاحبه إلا ذلك و لا يقبل منه غيره و كلانا ضامن على صاحبه

(10/17)


ذلك و كفيل به و قد برأت أحدنا و زكيته و أنطقت الآخر و أسكته و ليس السقيم منا مما كرهت بأنطق من البري ء فيما ذكرت و لا البري ء منا مما سخطت بأظهر من السقيم فيما وصفت فإما جمعتنا في الرضا و إما جمعتنا في السخط لنجازيك بمثل ما تفعل بنا في ذلك مكايلة الصاع بالصاع فقد أعلمناك رأينا و أظهرنا لك ذات أنفسنا و صدقناك الصدق كما ذكرت أنجى و أسلم فأجب إلى ما دعوت إليه و أجلل عن النقض و الغدر مسجد رسول الله ص و موضع قبره و اصدق تنج و تسلم و نستغفر الله لنا و لك
قال ابن عباس فنظر إلي علي ع نظر هيبة و قال دعه حتى يبلغ رضاه فيما هو فيه فو الله لو ظهرت له قلوبنا و بدت له سرائرنا حتى رآها بعينه كما يسمع الخبر عنها بأذنه ما زال متجرما منتقما و الله ما أنا ملقى على وضمة و إني لمانع ما وراء ظهري و إن هذا الكلام لمخالفة منه و سوء عشرة فقال عثمان مهلا أبا حسن فو الله إنك لتعلم أن رسول الله ص وصفني شرح نهج البلاغة ج : 9 ص : 21بغير ذلك يوم يقول و أنت عنده إن من أصحابي لقوما سالمين لهم و إن عثمان لمنهم إنه لأحسنهم بهم ظنا و أنصحهم لهم حبا فقال علي ع فتصدق قوله ص بفعلك و خالما أنت الآن عليه فقد قيل لك ما سمعت و هو كاف إن قبلت قال عثمان فتثق يا أبا الحسن قال نعم أثق و لا أظنك إلا فاعلا قال عثمان قد وثقت و أنت ممن لا يخفر صاحبه و لا يكذب لقيله

(10/18)


قال ابن عباس فأخذت بأيديهما حتى تصافحا و تصالحا و تمازحا و نهضت عنهما فتشاورا و تآمرا و تذاكرا ثم افترقا فو الله ما مرت ثالثة حتى لقيني كل واحد منهما يذكر من صاحبه ما لا تبرك عليه الإبل فعلمت أن لا سبيل إلى صلحهما بعدها. و روى أحمد بن عبد العزيز الجوهري في كتاب أخبار السقيفة عن محمد بن قيس الأسدي عن المعروف بن سويد قال كنت بالمدينة أيام بويع عثمان فرأيت رجلا في المسجد جالسا و هو يصفق بإحدى يديه على الأخرى و الناس حوله و يقول وا عجبا من قريش و استئثارهم بهذا الأمر على أهل هذا البيت معدن الفضل و نجوم الأرض و نور البلاد و الله إن فيهم لرجلا ما رأيت رجلا بعد رسول الله ص أولى منه بالحق و لا أقضي بالعدل و لا آمر بالمعروف و لا أنهى عن المنكر فسألت عنه فقيل هذا المقداد فتقدمت إليه و قلت أصلحك الله من الرجل الذي تذكر فقال ابن عم نبيك رسول الله ص علي بن أبي طالب. قال فلبثت ما شاء الله ثم إني لقيت أبا ذر رحمه الله فحدثته ما قال المقداد فقال صدق قلت فما يمنعكم أن تجعلوا هذا الأمر فيهم قال أبى ذلك قومهم قلت فما يمنعكم أن تعينوهم قال مه لا تقل هذا إياكم و الفرقة و الاختلاف. شرح نهج البلاغة ج : 9 ص : 22قال فسكت عنه ثم كانن الأمر بعد ما كان. و ذكر شيخنا أبو عثمان الجاحظ في الكتاب الذي أورد فيه المعاذير عن أحداث عثمان أن عليا اشتكى فعاده عثمان من شكايته فقال علي ع
و عائدة تعود لغير ود تود لو أن ذا دنف يموت

(10/19)


فقال عثمان و الله ما أدري أ حياتك أحب إلي أم موتك إن مت هاضني فقدك و إن حييت فتنتني حياتك لا أعدم ما بقيت طاعنا يتخذك رديئة يلجأ إليها. فقال علي ع ما الذي جعلني رديئة للطاعنين العائبين إنما سوء ظنك بي أحلني من قبلك هذا المحل فإن كنت تخاف جانبي فلك علي عهد الله و ميثاقه أن لا بأس عليك مني ما بل بحر صوفة و إني لك لراع و إني عنك لمحام و لكن لا ينفعني ذلك عندك و أما قولك إن فقدي يهيضك فكلا أن تهاض لفقدي ما بقي لك الوليد و مروان. فقام عثمان فخرج. و قد روي أن عثمان هو الذي أنشد هذا البيت و قد كان اشتكى فعاده علي ع فقال عثمان
و عائدة تعود بغير نصح تود لو أن ذا دنف يموت
و روى أبو سعد الآبي في كتابه عن ابن عباس قال وقع بين عثمان و علي شرح نهج البلاغة ج : 9 ص : 23ع كلام فقال عثمان ما أصنع إن كانت قريش لا تحبكم و قد قتلتم منهم يوم بدر سبعين كأن وجوههم شنوف الذهب تصرع أنفهم قبل شفاههم. و روى المذكور أيضا أن عثمان لما نقم الس عليه ما نقموا قام متوكئا على مروان فخطب الناس فقال إن لكل أمة آفة و لكل نعمة عاهة و إن آفة هذه الأمة و عاهة هذه النعمة قوم عيابون طعانون يظهرون لكم ما تحبون و يسرون ما تكرهون طغام مثل النعام يتبعون أول ناعق و لقد نقموا علي ما نقموا على عمر مثله فقمعهم و وقمهم و إني لأقرب ناصرا و أعز نفرا فما لي لا أفعل في فضول الأموال ما أشاء. و روى المذكور أيضا أن عليا ع اشتكى فعاده عثمان فقال ما أراك أصبحت إلا ثقيلا قال أجل قال و الله ما أدري أ موتك أحب إلي أم حياتك إني لأحب موتك و أكره أن أعيش بعدك فلو شئت جعلت لنا من نفسك مخرجا إما صديقا مسالما و إما عدوا مغالبا و إنك لكما قال أخو إياد
جرت لما بيننا حبل الشموس فلا يأسا مبينا نرى منها و لا طمعا

(10/20)


فقال علي ع ليس لك عندي ما تخافه و إن أجبتك لم أجبك إلا بما تكرهه. و كتب عثمان إلى علي ع حين أحيط به أما بعد فقد جاوز الماء الزبى و بلغ الحزام الطبيين و تجاوز الأمر في قدره فطمع في من لا يدفع عن نفسه شرح نهج البلاغة ج : 9 ص : 2فإن كنت مأكولا فكن خير آكل و إلا فأدركني و لما أمزق
و روى الزبير خبر العيادة على وجه آخر قال مرض علي ع فعاده عثمان و معه مروان بن الحكم فجعل عثمان يسأل عليا عن حاله و علي ساكت لا يجيبه فقال عثمان لقد أصبحت يا أبا الحسن مني بمنزلة الولد العاق لأبيه إن عاش عقه و إن مات فجعه فلو جعلت لنا من أمرك فرجا إما عدوا أو صديقا و لم تجعلنا بين السماء و الماء أما و الله لأنا خير لك من فلان و فلان و إن قتلت لا تجد مثلي فقال مروان أما و الله لا يرام ما وراءنا حتى تتواصل سيوفنا و تقطع أرحامنا. فالتفت إليه عثمان و قال اسكت لا سكت و ما يدخلك فيما بيننا. و
روى شيخنا أبو عثمان الجاحظ عن زيد بن أرقم قال سمعت عثمان و هو يقول لعلي ع أنكرت علي استعمال معاوية و أنت تعلم أن عمر استعمله قال علي ع نشدتك الله أ لا تعلم أن معاوية كان أطوع لعمر من يرفأ غلامه إن عمر كان إذا استعمل عاملا وطئ على صماخه و إن القوم ركبوك و غلبوك و استبدوا بالأمر دونك فسكت عثمان
أسباب المنافسة بين علي و عثمان

(10/21)


قلت حدثني جعفر بن مكي الحاجب رحمه الله قال سألت محمد بن سليمان حاجب الحجاب و قد رأيت أنا محمدا هذا و كانت لي به معرفة غير مستحكمة و كان ظريفا شرح نهج البلاغة ج : 9 ص : 25أديبا و قد اشتغل بالرياضيات من الفلسفة و لم يكن يتعصب لمذهب بعينه قال جعفر سألت عما ده في أمر علي و عثمان فقال هذه عداوة قديمة النسب بين عبد شمس و بين بني هاشم و قد كان حرب بن أمية نافر عبد المطلب بن هاشم و كان أبو سفيان يحسد محمدا ص و حاربه و لم تزل الثنتان متباغضتين و إن جمعتهما المنافية ثم إن رسول الله ص زوج عليا بابنته و زوج عثمان بابنته الأخرى و كان اختصاص رسول الله ص لفاطمة أكثر من اختصاصه للبنت الأخرى و للثانية التي تزوجها عثمان بعد وفاة الأولى و اختصاصه أيضا لعلي و زيادة قربه منه و امتزاجه به و استخلاصه إياه لنفسه أكثر و أعظم من اختصاصه لعثمان فنفس عثمان ذلك عليه فتباعد ما بين قلبيهما و زاد في التباعد ما عساه يكون بين الأختين من مباغضة أو مشاجرة أو كلام ينقل من إحداهما إلى الأخرى فيتكدر قلبها على أختها و يكون ذلك التكدير سببا لتكدير ما بين البعلين أيضا كما نشاهده في عصرنا و في غيره من الأعصار و قد قيل ما قطع من الأخوين كالزوجتين ثم اتفق أن عليا ع قتل جماعة كثيرة من بني عبد شمس في حروب رسول الله ص فتأكد الشنئان و إذا استوحش الإنسان من صاحبه استوحش صاحبه منه ثم مات رسول الله ص فصبا إلى علي جماعة يسيرة لم يكن عثمان منهم و لا حضر في دار فاطمة مع من حضر من المخلفين عن البيعة و كانت في نفس علي ع أمور من الخلافة لم يمكنه إظهارها في أيام أبي بكر و عمر لقوة عمر و شدته و انبساط يده و لسانه فلما قتل عمر و جعل الأمر شورى بين الستة و عدل عبد الرحمن بها عن علي إلى عثمان لم يملك علي نفسه فأظهر ما كان كامنا و أبدى ما كان مستورا و لم يزل الأمر يتزايد بينهما حتى شرف و تفاقم و مع ذلك فلم يكن علي ع لينكر من أمره إلا

(10/22)


منكرا و لا ينهاه إلا كما تقتضي الشريعة نهيه عنه و كان عثمان مستضعفا في نفسه رخوا قليل الحزم واهي العقدة و سلم عنانه إلى شرح نهج البلاغة ج : 9 ص : 26مروان يصرفه كيف شاء الخلافة له في المعنى وعثمان في الاسم فلما انتقض على عثمان أمره استصرخ عليا و لاذ به و ألقى زمام أمره إليه فدافع عنه حيث لا ينفع الدفاع و ذب عنه حين لا يغني الذب فقد كان الأمر فسد فسادا لا يرجى صلاحه. قال جعفر فقلت له أ تقول إن عليا وجد من خلافة عثمان أعظم مما وجده من خلافة أبي بكر و عمر فقال كيف يكون ذلك و هو فرع لهما و لولاهما لم يصل إلى الخلافة و لا كان عثمان ممن يطمع فيها من قبل و لا يخطر له ببال و لكن هاهنا أمر يقتضي في عثمان زيادة المنافسة و هو اجتماعهما في النسب و كونهما من بني عبد مناف و الإنسان ينافس ابن عمه الأدنى أكثر من منافسة الأبعد و يهون عليه من الأبعد ما لا يهون عليه من الأقرب. قال جعفر فقلت له أ فتقول لو أن عثمان خلع و لم يقتل أ كان الأمر يستقيم لعلي ع إذا بويع بعد خلعه فقال لا و كيف يتوهم ذلك بل يكون انتقاض الأمور عليه و عثمان حي مخلوع أكثر من انتقاضها عليه بعد قتله لأنه موجود يرجى و يتوقع عوده فإن كان محبوسا عظم البلاء و الخطب و هتف الناس باسمه في كل يوم بل في كل ساعة و إن كان مخلى سربه و ممكنا من نفسه و غير محول بينه و بين اختياره لجأ إلى بعض الأطراف و ذكر أنه مظلوم غصبت خلافته و قهر على خلع نفسه فكان اجتماع الناس عليه أعظم و الفتنة به أشد و أغلظ. قال جعفر فقلت له فما تقول في هذا الاختلاف الواقع في أمر الإمامة من مبدأ الحال و ما الذي تظنه أصله و منبعه فقال لا أعلم لهذا أصلا إلا أمرين أحدهما أن رسول الله ص أهمل أمر الإمامة فلم يصرح فيه بأحد بعينه و إنما كان هناك رمز و إيماء و كناية و تعريض لو أراد صاحبه أن يحتج به وقت الاختلاف و حال المنازعة

(10/23)


شرح نهج البلاغة ج : 9 ص : 27لم يقم منه صورة حجة تغني و لا دلالة تحسب و تكفي و لذلك لم يحتج علي ع يوم السقيفة بما ورد فيه لأنه لم يكن نصا جليا يقطع العذر و يوجب الحجة و عادة الملوك إذا تمهد ملكهم و أرادوا العقد لولد من أولادهم أو ثقة من ثقاتهم أن يصرحوا كره و يخطبوا باسمه على أعناق المنابر و بين فواصل الخطب و يكتبوا بذلك إلى الآفاق البعيدة عنهم و الأقطار النائية منهم و من كان منهم ذا سرير و حصن و مدن كثيرة ضرب اسمه على صفحات الدنانير و الدراهم مع اسم ذلك الملك بحيث تزول الشبهة في أمره و يسقط الارتياب بحاله فليس أمر الخلافة بهين و لا صغير ليترك حتى يصير في مظنة الاشتباه و اللبس و لعله كان لرسول الله ص في ذلك عذر لا نعلمه نحن إما خشية من فساد الأمر أو إرجاف المنافقين و قولهم إنها ليس بنبوة و إنما هي ملك به أوصى لذريته و سلالته و لما لم يكن أحد من تلك الذرية في تلك الحال صالحا للقيام بالأمر لصغر السن جعله لأبيهم ليكون في الحقيقة لزوجته التي هي ابنته و لأولاده منها من بعده. و أما ما تقوله المعتزلة و غيرهم من أهل العدل أن الله تعالى علم أن المكلفين يكونون على ترك الأمر مهملا غير معين أقرب إلى فعل الواجب و تجنب القبيح قال و لعل رسول الله ص لم يكن يعلم في مرضه أنه يموت في ذلك المرض و كان يرجو البقاء فيمهد للإمامة قاعدة واضحة و مما يدل على ذلك أنه لما نوزع في إحضار الدواة و الكتف ليكتب لهم ما لا يضلون بعده غضب و قال اخرجوا عني لم يجمعهم بعد الغضب ثانية و يعرفهم رشدهم و يهديهم إلى مصالحهم بل ارجأ الأمر إرجاء من يرتقب الإفاقة و ينتظر العافية. قال فبتلك الأقوال المحجمة و الكنايات المحتملة و الرموز المشتبهة مثل حديث شرح نهج البلاغة ج : 9 ص : 28خصف النعل و منزلة هارون من موسى و من كنت مولاه و هذا يعسوب الدين و لا فتى إلعلي و أحب خلقك إليك... و ما جرى هذا المجرى مما لا يفصل الأمر و يقطع

(10/24)


العذر و يسكت الخصم و يفحم المنازع وثبت الأنصار فادعتها و وثب بنو هاشم فادعوها و قال أبو بكر بايعوا عمر أو أبا عبيدة و قال العباس لعلي امدد يدك لأبايعك و قال قوم ممن رعف به الدهر فيما بعد و لم يكن موجودا حينئذ إن الأمر كان للعباس لأنه العم الوارث و إن أبا بكر و عمر غصباه حقه فهذا أحدهما. و أما السبب الثاني للاختلاف فهو جعل عمر الأمر شورى في الستة و لم ينص على واحد بعينه إما منهم أو من غيرهم فبقي في نفس كل واحد منهم أنه قد رشح للخلافة و أهل للملك و السلطنة فلم يزل ذلك في نفوسهم و أذهانهم مصورا بين أعينهم مرتسما في خيالاتهم منازعة إليه نفوسهم طامحة نحوه عيونهم حتى كان من الشقاق بين علي و عثمان ما كان و حتى أفضى الأمر إلى قتل عثمان و كان أعظم الأسباب في قتله طلحة و كان لا يشك أن الأمر له من بعده لوجوه منها سابقته و منها أنه ابن عم لأبي بكر و كان لأبي بكر في نفوس أهل ذلك العصر منزلة عظيمة أعظم منها الآن و منها أنه كان سمحا جوادا و قد كان نازع عمر في حياة أبي بكر و أحب أن يفوض أبو بكر الأمر إليه من بعده فما زال يفتل في الذروة و الغارب في أمر عثمان و ينكر له القلوب و يكدر عليه النفوس و يغري أهل المدينة و الأعراب و أهل الأمصار به و ساعده الزبير و كان أيضا يرجو الأمر لنفسه و لم يكن رجاؤهما الأمر بدون رجاء علي بل رجاؤهما كان أقوى لأن عليا دحضه الأولان و أسقطاه و كسرا ناموسه بين الناس فصار نسيا منسيا و مات الأكثر ممن يعرف خصائصه التي كانت في أيام النبوة و فضله و نشأ قوم لا يعرفونه و لا يرونه إلا رجلا من عرض المسلمين و لم يبق له مما يمت به إلا أنه ابن عم الرسول و زوج ابنته و أبو سبطيه و نسي ما وراء ذلك كله و اتفق له من بغض

(10/25)


شرح نهج البلاغة ج : 9 ص : 29قريش و انحرافها ما لم يتفق لأحد و كانت قريش بمقدار ذلك البغض تحب طلحة و الزبير لأن الأسباب الموجبة لبغضهم لم تكن موجودة فيهما و كانا يتألفان قريشا في أواخر أيام عثمان و يعدانهم بالعطاء و الإفضال و هما عند أنفسهما و عند الناس يفتان بالقوة لا بالفعل لأن عمر نص عليهما و ارتضاهما للخلافة و عمر متبع القول و مرضى الفعال موفق مؤيد مطاع نافذ الحكم في حياته و بعد وفاته فلما قتل عثمان أرادها طلحة و حرص عليها فلو لا الأشتر و قوم معه من شجعان العرب جعلوها في علي لم تصل إليه أبدا فلما فاتت طلحة و الزبير فتقا ذلك الفتق العظيم على علي و أخرجا أم المؤمنين معهما و قصدا العراق و أثارا الفتنة و كان من حرب الجمل ما قد علم و عرف ثم كانت حرب الجمل مقدمة و تمهيدا لحرب صفين فإن معاوية لم يكن ليفعل ما فعل لو لا طمعه بما جرى في البصرة ثم أوهم أهل الشام أن عليا قد فسق بمحاربة أم المؤمنين و محاربة المسلمين و أنه قتل طلحة و الزبير و هما من أهل الجنة و من يقتل مؤمنا من أهل الجنة فهو من أهل النار فهل كان الفساد المتولد في صفين إلا فرعا للفساد الكائن يوم الجمل ثم نشأ من فساد صفين و ضلال معاوية كل ما جرى من الفساد و القبيح في أيام بني أمية و نشأت فتنة ابن الزبير فرعا من فروع يوم الدار لأن عبد الله كان يقول إن عثمان لما أيقن بالقتل نص علي بالخلافة و لي بذلك شهود و منهم مروان بن الحكم أ فلا ترى كيف تسلسلت هذه الأمور فرعا على أصل و غصنا من شجرة و جذوة من ضرام هكذا يدور بعضه على بعض و كله من الشورى في الستة. قال و أعجب من ذلك قول عمر و قد قيل له إنك استعملت يزيد بن أبي سفيان و سعيد بن العاص و معاوية و فلانا و فلانا من المؤلفة قلوبهم من الطلقاء و أبناء الطلقاء و تركت أن تستعمل عليا و العباس و الزبير و طلحة فقال أما علي فأنبه من ذلك و أما هؤلاء النفر شرح نهج البلاغة ج : 9 ص : 30من

(10/26)


قريش فإني أخاف أن ينتشروا في البلاد فيكثروا فيها الفساد فمن يخاف من تأميرهم لئلا يطمعوا في الملك و يدعيه كل واحد منهم لنفسه كيف لم يخف من جعلهم ستة متساوين في الشورى مرشحين للخلافة و هل شي قرب إلى الفساد من هذا و قد روي أن الرشيد رأى يوما محمدا و عبد الله ابنيه يلعبان و يضحكان فسر بذلك فلما غابا عن عينه بكى فقال له الفضل بن الربيع ما يبكيك يا أمير المؤمنين و هذا مقام جذل لا مقام حزن فقال أ ما رأيت لعبهما و مودة بينهما أما و الله ليتبدلن ذلك بغضا و شنفا و ليحتلسن كل واحد منهما نفس صاحبه عن قريب فإن الملك عقيم و كان الرشيد قد عقد الأمر لهما على ترتيب هذا بعد هذا فكيف من لم يرتبوا في الخلافة بل جعلوا فيها كأسنان المشط. فقلت أنا لجعفر هذا كله تحكيه عن محمد بن سليمان فما تقول أنت فقال
إذا قالت حذام فصدقوها فإن القول ما قالت حذام
شرح نهج البلاغة ج : 9 ص : 13631- و من كلام له علَمْ تَكُنْ بَيْعَتِكُمْ إِيَّايَ فَلْتَةً وَ لَيْسَ أَمْرِي وَ أَمْرُكُمْ وَاحِداً إِنِّي أُرِيدُكُمْ لِلَّهِ وَ أَنْتُمْ تُرِيدُونَنِي لِأَنْفُسِكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ أَعِينُونِي عَلَى أَنْفُسِكُمْ وَ ايْمُ اللَّهِ لَأُنْصِفَنَّ الْمَظْلُومَ وَ لَأَقُودَنَّ الظَّالِمَ بِخَزَامَتِهِ حَتَّى أُورِدَهُ مَنْهَلَ الْحَقِّ وَ إِنْ كَانَ كَارِهاً

(10/27)


الفلتة الأمر يقع عن غير تدبر و لا روية و في الكلام تعريض ببيعة أبي بكر و قد تقدم لنا في معنى قول عمر كانت بيعة أبي بكر فلتة وقى الله شرها كلام. و الخزامة حلقة من شعر تجعل في أنف البعير و يجعل الزمام فيها. و أعينوني على أنفسكم خذوها بالعدل و أقنعوها عن اتباع الهوى و اردعوها بعقولكم عن المسالك التي ترديها و توبقها فإنكم إذا فعلتم ذلك أعنتموني عليها لأني أعظكم و آمركم بالمعروف و أنهاكم عن المنكر فإذا كبحتم أنفسكم بلجام العقل الداعي إلى ما أدعو إليه فقد أعنتموني عليها. فإن قلت ما معنى قوله أريدكم لله و تريدونني لأنفسكم. شرح نهج البلاغة ج : 9 ص : 32قلت لأنه لا يريد من طاعتهم له إلا نصرة دين الله و القيام بحدوده و حقوقه و لا يريدهم لحظ نفسه و أما هم فإنهم يريدونه لحظوظ أنفسهم من العطاء و التقريب و الأسباب الموصلة إلى منافع الدنيا. و هذا الخطاب منه ع لجمهور أصحابفأما الخواص منهم فإنهم كانوا يريدونه للأمر الذي يريدهم له من إقامة شرائع الدين و إحياء معالمه

(10/28)


شرح نهج البلاغة ج : 9 ص : 13733- و من كلام له ع في شأن طلحة و الزبيروَ اللَّهِ مَا أَنْكَرُوا عَلَيَّ مُنْكَراً وَ لَا جَعَلُوا بَيْنِي وَ بَيْنَهُمْ نِصْفاً وَ إِنَّهُمْ لَيَطْلُبُونَ حَقّاً هُمْ تَرَكُوهُ وَ دَماً هُمْ سَفَكُوهُ فَإِنْ كُنْتُ شَرِيكَهُمْ فِيهِ فَإِنَّ لَهُمْ نَصِيبَهُمْ مِنْهُ وَ إِنْ كَانُوا وَلُوهُ دُونِي فَمَا الطَّلِبَةُ إِلَّا قِبَلَهُمْ وَ إِنَّ أَوَّلَ عَدْلِهِمْ لَلْحُكْمُ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَ إِنَّ مَعِي لَبَصِيرَتِي مَا لَبَسْتُ وَ لَا لُبِسَ عَلَيَّ وَ إِنَّهَا لَلْفِئَةُ الْبَاغِيَةُ فِيهَا الْحَمَأُ وَ الْحُمَّةُ وَ الشُّبْهَةُ الْمُغْدَفَةُ وَ إِنَّ الْأَمْرَ لَوَاضِحٌ وَ قَدْ زَاحَ الْبَاطِلُ عَنْ نِصَابِهِ وَ انْقَطَعَ لِسَانُهُ عَنْ شَغْبِهِ وَ ايْمُ اللَّهِ لَأُفْرِطَنَّ لَهُمْ حَوْضاً أَنَا مَاتِحُهُ لَا يَصْدُرُونَ عَنْهُ بِرِيٍّ وَ لَا يَعُبُّونَ بَعْدَهُ فِي حِسْيٍ
النصف الإنصاف قال الفرزدق
و لكن نصفا لو سببت و سبني بنو عبد شمس من قريش و هاشم

(10/29)


و هو على حذف المضاف أي ذا نصف أي حكما منصفا عادلا يحكم بيني و بينهم و الطلبة بكسر اللام ما طلبته من شي ء و لبست على فلان الأمر و لبس عليه الأمر كلاهما بالتخفيف. شرح نهج البلاغة ج : 9 ص : 34و الحمأ الطين الأسود قال سبحانه مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُ و حمة العقرب سمتها أي في هذه الفئة الباغية الضلال و الفساد و الضرر و إذا أرادت العرب أن تعبر عن الضلال و الفساد قالت الحم ء مثله الحمأة بالتاء و من أمثالهم ثأطة مدت بماء يضرب للرجل يشتد موقه و جهله و الثأطة الحمأة و إذا أصابها الماء ازدادت فسادا و رطوبة.و يروى فيها الحما بألف مقصورة و هو كناية عن الزبير لأن كل ما كان بسبب الرجل فهم الأحماء واحدهم حما مثل قفا و أقفاء و ما كان بسبب المرأة فهم الأخاتن فأما الأصهار فيجمع الجهتين جمعا و كان الزبير ابن عمة رسول الله ص و قد كان النبي ص أعلم عليا بأن فئة من المسلمين تبغي عليه أيام خلافته فيها بعض زوجاته و بعض أحمائه فكنى علي ع عن الزوجة بالحمة و هي سم العقرب و يروى و الحم ء يضرب مثلا لغير الطيب و لغير الصافي و ظهر أن الحم ء الذي أخبر النبي ص بخروجه مع هؤلاء البغاة هو الزبير ابن عمته و في الحمأ أربع لغات حما مثل ا و حم ء مثل كم ء و حمو مثل أبو و حم مثل أب. قوله ع و الشبهة المغدفة أي الخفية و أصله المرأة تغدف وجهها بقناعها أي تستره و روي المغدفة بكسر الدال من أغدف الليل أي أظلم. و زاح الباطل أي بعد و ذهب و أزاحه غيره. و عن نصابه عن مركزه و مقره و منه قول بعض المحين.
قد رجع الحق إلى نصابه و أنت من دون الورى أولى به

(10/30)


و الشغب بالتسكين تهييج الشر شغب الحقد بالفتح شغبا و قد جاء بالتحريك في لغة ضعيفة و ماضيها شغب بالكسر. شرح نهج البلاغة ج : 9 ص : 35و لأفرطن لهم حوضا أي لأملأن يقال أفرطت المزادة أي ملأتها و غدير مفرط أي ملآن. و الماتح بنقطتين من فوق المستقي من فوق و باليامالئ الدلاء من تحت و العب الشرب بلا مص كما تشرب الدابة و
في الحديث الكباد من العب
و الحسي ماء كامن في رمل يحفر عنه فيستخرج و جمعه أحساء. يقول ع و الله ما أنكروا علي أمرا هو منكر في الحقيقة و إنما أنكروا ما الحجة عليهم فيه لا لهم و حملهم على ذلك الحسد و حب الاستئثار بالدنيا و التفضيل في العطاء و غير ذلك مما لم يكن أمير المؤمنين ع يراه و لا يستجيزه في الدين قال و لا جعلوا بيني و بينهم نصفا يعني وسيطا يحكم و ينصف بل خرجوا عن الطاعة بغتة و إنهم ليطلبون حقا تركوه أي يظهرون أنهم يطلبون حقا بخروجهم إلى البصرة و قد تركوا الحق بالمدينة. قال و دما هم سفكوه يعني دم عثمان و كان طلحة من أشد الناس تحريضا عليه و كان الزبير دونه في ذلك. روي أن عثمان قال ويلي على ابن الحضرمية يعنى طلحة أعطيته كذا و كذا بهارا ذهبا و هو يروم دمي يحرض على نفسي اللهم لا تمتعه به و لقه عواقب بغيه. و روى الناس الذين صنفوا في واقعة الدار أن طلحة كان يوم قتل عثمان مقنعا بثوب قد استتر به عن أعين الناس يرمي الدار بالسهام و رووا أيضا أنه لما امتنع على الذين شرح نهج البلاغة ج : 9 ص : 36حصروه الدخول من باب الدار حملهم طلحة إلى دار لبعض الأنصار فأصعدهم إلى سطحها و تسوروا منها على عثمان داره فقتلوه. و رووا أيضا أن الزبير كان يقول اقتلوفقد بدل دينكم فقالوا إن ابنك يحامي عنه بالباب فقال ما أكره أن يقتل عثمان و لو بدئ بابني إن عثمان لجيفة على الصراط غدا. و قال مروان بن الحكم يوم الجمل و الله لا أترك ثأري و أنا أراه و لأقتلن طلحة بعثمان فإنه قتله ثم رماه بسهم فأصاب مأبضه

(10/31)


فنزف الدم حتى مات. ثم قال ع إن كنت شريكهم في دم عثمان فإن لهم نصيبهم منه فلا يجوز لهم أن يطلبوا بدمه و هم شركاء فيه و إن كانوا ولوه دوني فهم المطلوبون إذن به لا غيرهم. و إنما لم يذكر القسم الثالث و هو أن يكون هو ع وليه دونهم لأنه لم يقل به قائل فإن الناس كانوا على قولين في ذلك أحدهما أن عليا و طلحة و الزبير مسهم لطخ من عثمان لا بمعنى أنهم باشروا قتله بل بمعنى الإغراء و التحريض و ثانيهما أن عليا ع بري ء من ذلك و أن طلحة و الزبير غير بريئين منه. ثم قال و إن أول عدلهم للحكم على أنفسهم يقول إن هؤلاء خرجوا و نقضوا البيعة و قالوا نما خرجنا للأمر بالمعروف و النهي عن المنكر و إظهار العدل و إحياء الحق و إماتة الباطل و أول العدل أن يحكموا على أنفسهم فإنه يجب على الإنسان أن يقضي على نفسه ثم على غيره و إذا كان دم عثمان قبلهم فالواجب أن ينكروا على أنفسهم قبل إنكارهم على غيرهم. شرح نهج الاغة ج : 9 ص : 37قال و إن معي لبصيرتي أي عقلي ما لبست على الناس أمرهم و لا لبس الأمر علي أي لم يلبسه رسول الله ص علي بل أوضحه لي و عرفنيه. ثم قال و إنها للفئة الباغية لام التعريف في الفئة تشعر بأن نصا قد كان عنده أنه ستخرج عليه فئة باغية و لم يعين له وقتها و لا كل صفاتها بل بعض علاماتها فلما خرج أصحاب الجمل و رأى تلك العلامات موجودة فيهم قال و إنها للفئة الباغية أي و إن هذه الفئة أي الفئة التي وعدت بخروجها علي و لو لا هذا لقال و إنها لفئة باغية على التنكير. ثم ذكر بعض العلامات فقال إن الأمر لواضح كل هذا يؤكد به عند نفسه و عند غيره أن هذه الجماعة هي تلك الفئة الموعود بخروجها و قد ذهب الباطل و زاح و خرس لسانه بعد شغبه. ثم أقسم ليملأن لهم حوضا هو ماتحه و هذه كناية عن الحرب و الهيجاء و ما يتعقبهما من القتل و الهلاك لا يصدرون عنه بري أي ليس كهذه الحياض الحقيقية التي إذا وردها الظمآن صدر عن ري و نقع غليله بل

(10/32)


لا يصدرون عنه إلا و هم جزر السيوف و لا يعبون بعده في حسي لأنهم هلكوا فلا يشربون بعده البارد العذب. و كان عمرو بن الليث الصفار أمير خراسان أنفذ جيشا لمحاربة إسماعيل بن أحمد الساماني فانكسر ذلك الجيش و عادوا إلى عمرو بن الليث فغضب و لقي القواد بكلام غليظ فقال له بعضهم أيها الأمير إنه قد طبخ لك مرجل عظيم و إنما نلنا منه لهمة يسيرة و الباقي مذخور لك فعلام تتركه اذهب إليهم فكله فسكت عمرو بن الليث عنه و لم يجب.
شرح نهج البلاغة ج : 9 ص : 38و مرادنا من هذه المشابهة و المناسبة بين الكنايتينمِنْهُ فَأَقْبَلْتُمْ إِلَيَّ إِقْبَالَ الْعُوذِ الْمَطَافِيلِ عَلَى أَوْلَادِهَا تَقُولُونَ الْبَيْعَةَ الْبَيْعَةَ قَبَضْتُ كَفِّي فَبَسَطْتُمُوهَا وَ نَازَعْتُكُمْ يَدِي فَجَاذَبْتُمُوهَا اللَّهُمَّ إِنَّهُمَا قَطَعَانِي وَ ظَلَمَانِي وَ نَكَثَا بَيْعَتِي وَ أَلَّبَا النَّاسَ عَلَيَّ فَاحْلُلْ مَا عَقَدَا وَ لَا تُحْكِمْ لَهُمَا مَا أَبْرَمَا وَ أَرِهِمَا الْمَسَاءَةَ فِيمَا أَمَّلَا وَ عَمِلَا وَ لَقَدِ اسْتَثَبْتُهُمَا قَبْلَ الْقِتَالِ وَ اسْتَأْنَيْتُ بِهِمَا أَمَامَ الْوِقَاعِ فَغَمَطَا النِّعْمَةَ وَ رَدَّا الْعَافِيَةَ

(10/33)


العوذ النوق الحديثات النتاج الواحدة عائذ مثل حائل و حول و قد يقال ذلك للخيل و الظباء و يجمع أيضا على عوذان مثل راع و رعيان و هذه عائذة بينة العئوذ و ذلك إذا ولدت عن قريب و هي في عياذها أي بحدثان نتاجها. و المطافيل جمع مطفل و هي التي زال عنها اسم العياذ و معها طفلها و قد تسمى المطافيل عوذا إلى أن يبعد العهد بالنتاج مجازا و على هذا الوجه قال أمير المؤمنين إقبال العوذ المطافيل و إلا فالاسمان معا لا يجتمعان حقيقة و إذا زال الأول ثبت الثاني. قوله و ألبا الناس علي أي حرضا يقال حسود مؤلب. شرح نهج البلاغة ج : 9 ص 39و استثبتهما بالثاء المعجمة بثلاث طلبت منهما أن يثوبا أي يرجعا و سمي المنزل مثابة لأن أهله ينصرفون في أمورهم ثم يثوبون إليه و يروى و لقد استتبتهما أي طلبت منهما أن يتوبا إلى الله من ذنبهما في نقض البيعة. و استأنيت بهما من الإناءة و الانتظار. و الوقاع بكسر الواو مصدر واقعتهم في الحرب وقاعا مثل نازلتهم نزالا و قاتلتهم قتالا. و غمط فلان النعمة إذا حقرها و أزرى بها غمطا و يجوز غمط النعمة بالكسر و المصدر غير محرك و يقال إن الكسر أفصح من الفتح. يقول ع إنكم أقبلتم مزدحمين كما تقبل النوق إلى أولادها تسألونني البيعة فامتنعت عليكم حتى علمت اجتماعكم فبايعتكم ثم دعا علي على طلحة و الزبير بعد أن وصفهما بالقطيعة و النكث و التأليب عليه بأن يحل الله تعالى ما عقدا و ألا يحكم لهما ما أبرما و أن يريهما المساءة فيما أملا و عملا. فأما الوصف لهما بما وصفهما به فقد صدق ع فيه و أما دعاؤه فاستجيب له و المساءة التي دعا بها هي مساءة الدنيا لا مساءة الآخرة فإن الله تعالى قد وعدهما على لسان رسوله بالجنة و إنما استوجباها بالتوبة التي ينقلها أصحابنا رحمهم الله في كتبهم عنهما و لولاها لكانا من الهالكين

(10/34)


شرح نهج البلاغة ج : 9 ص : 13840- و من خطبة له ع يومئ فيها إلى ذكر الملاحميَعْطِفُ الْهَوَى عَلَى الْهُدَى إِذَا عَطَفُوا الْهُدَى عَلَى الْهَوَى وَ يَعْطِفُ الرَّأْيَ عَلَى الْقُرْآنِ إِذَا عَطَفُوا الْقُرْآنَ عَلَى الرَّأْيِ
هذا إشارة إلى إمام يخلقه الله تعالى في آخر الزمان و هو الموعود به في الأخبار و الآثار و معنى يعطف الهوى يقهره و يثنيه عن جانب الإيثار و الإرادة عاملا عمل الهدى فيجعل الهدى قاهرا له و ظاهرا عليه. و كذلك قوله و يعطف الرأي على القرآن أي يقهر حكم الرأي و القياس و العمل بغلبة الظن عاملا عمل القرآن. و قوله إذا عطفوا الهدى و إذا عطفوا القرآن إشارة إلى الفرق المخالفين لهذا الإمام المشاقين له الذين لا يعملون بالهدى بل بالهوى و لا يحكمون بالقرآن بل بالرأي شرح نهج البلاغة ج : 9 ص : 4مِنْهَا حَتَّى تَقُومَ الْحَرْبُ بِكُمْ عَلَى سَاقٍ بَادِياً نَوَاجِذُهَا مَمْلُوءَةً أَخْلَافُهَا حُلْواً رَضَاعُهَا عَلْقَماً عَاقِبَتُهَا أَلَا وَ فِي غَدٍ وَ سَيَأْتِي غَدٌ بِمَا لَا تَعْرِفُونَ يَأْخُذُ الْوَالِي مِنْ غَيْرِهَا عُمَّالَهَا عَلَى مَسَاوِئِ أَعْمَالِهَا وَ تَخْرُجُ لَهُ الْأَرْضُ أَفَالِيذَ كَبِدِهَا وَ تُلْقِي إِلَيْهِ سِلْماً مَقَالِيدَهَا فَيُرِيكُمْ كَيْفَ عَدْلُ السِّيرَةِ وَ يُحْيِي مَيِّتَ الْكِتَابِ وَ السُّنَّةِ
الساق الشدة و منه قوله تعالى يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ ساقٍ. و النواجذ أقصى الأضراس و الكلام كناية عن بلوغ الحرب غايتها كما أن غاية الضحك أن تبدو النواجذ. قوله مملوءة أخلافها و الأخلاف للناقة حلمات الضرع واحدها خلف و كذلك و قوله حلوا رضاعها علقما عاقبتها قد أخذه الشاعر فقال

(10/35)


الحرب أول ما تكون فتية تسعى بزينتها لكل جهول حتى إذا اشتعلت و شب ضرامها عادت عجوزا غير ذات حليل شمطاء جزت رأسها و تنكرت مكروهة للشم و التقبي شرح نهج البلاغة ج : 9 ص : 42و هو الرضاع بالفتح و الماضي رضع بالكسر مثل سمع سماعا و أهل نجد يقولون رضع بالفتح يرضع بالكسر رضعا مثل ضرب يضرب ضربا و أنشدواو ذموا لنا الدنيا و هم يرضعونها أفاويق حتى ما يدر لها ثعل
بكسر الضاد
فصل في الاعتراض و إيراد مثل منه
و قوله ألا و في غد تمامه يأخذ الوالي و بين الكلام جملة اعتراضية و هي قوله و سيأتي غد بما لا تعرفون و المراد تعظيم شأن الغد الموعود بمجيئه و مثل ذلك في القرآن كثير نحو قوله تعالى فَلا أُقْسِمُ بِمَواقِعِ النُّجُومِ وَ إِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ فقوله تعالى إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ هو الجواب المتلقى به قوله فَلا أُقْسِمُ و قد اعترض بينهما قوله وَ إِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ و اعترض بين هذا الاعتراض قوله لَوْ تَعْلَمُونَ لأنك لو حذفته لبقي الكلام على إفادته و هو قوله و إنه لقسم عظيم و المراد تعظيم شأن ما أقسم به من مواقع النجوم و تأكيد إجلاله في النفوس و لا سيما بقوله لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ. و من ذلك قوله تعالى وَ يَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَناتِ سُبْحانَهُ وَ لَهُمْ ما يَشْتَهُونَ فقوله سُبْحانَهُ اعتراض و المراد التنزيه و كذلك قوله تَاللَّهِ لَقَدْ عَلِمْتُمْ ما جِئْنا لِنُفْسِدَ فِي الْأَرْضِ ف لَقَدْ عَلِمْتُمْ اعتراض و المراد به تقرير إثبات البراءة من تهمة السرقة. و كذلك قوله وَ إِذا بَدَّلْنا آيَةً مَكانَ آيَةٍ وَ اللَّهُ أَعْلَمُ بِما يُنَزِّلُ قالُوا إِنَّما أَنْتَ شرح نهج البلاغة ج : 9 ص : 43مُفْتَرٍ فاعترض بين إذا و جوابها بقوله وَ اللَّهُ أَعْلَمُ بِما يُنَزِّلُ فكأنه أراد أن يجيبهم عن دعواهم فجعل الجواب اعتراضا. و من ذلك

(10/36)


قوله وَ وَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلىَهْنٍ وَ فِصالُهُ فِي عامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَ لِوالِدَيْكَ فاعترض بقوله حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلى وَهْنٍ وَ فِصالُهُ فِي عامَيْنِ بين وَصَّيْنَا و بين الموصى به و فائدة ذلك إذكار الولد بما كابدته أمه من المشقة في حمله و فصاله. و من ذلك قوله وَ إِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً فَادَّارَأْتُمْ فِيها وَ اللَّهُ مُخْرِجٌ ما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ فَقُلْنا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِها فقوله وَ اللَّهُ مُخْرِجٌ ما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ اعتراض بين المعطوف و المعطوف عليه و المراد أن يقرر في أنفس السامعين أنه لا ينفع البشر كتمانهم و إخفاؤهم لما يريد الله إظهاره. و من الاعتراض في الشعر قول جرير
و لقد أراني و الجديد إلى بلى في موكب بيض الوجوه كرام
فقوله و الجديد إلى بلى اعتراض و المراد تعزيته نفسه عما مضى من تلك اللذات. و كذلك قول كثير
لو أن الباخلين و أنت منهم رأوك تعلموا منك المطالا
فقوله و أنت منهم اعتراض و فائدته ألا تظن أنها ليست باخلة. شرح نهج البلاغة ج : 9 ص : 44و من ذلك قول الشاعرفلو سألت سراة الحي سلمى على أن قد تلون بي زماني لخبرها ذوو أحساب قومي و أعدائي فكل قد بلاني بذبي الذم عن حسبي و مالي و زبونات أشوس تيحان و إني لا أزال أخا حروب إذا لم أجن كنت مجن جافقوله
على أن قد تلون بي زماني
اعتراض و فائدته الإخبار عن أن السن قد أخذت منه و تغيرت بطول العمر أوصافه. و من ذلك قول أبي تمام
رددت رونق وجهي في صحيفته رد الصقال بهاء الصارم الخذم و ما أبالي و خير القول أصدقه حقنت لي ماء وجهي أم حقنت دميفقوله
و خير القول أصدقه
اعتراض و فائدته إثبات صدقه في دعواه أنه لا يبالي أيهما حقن. فأما قول أبي تمام أيضا
و إن الغنى لي إن لحظت مطالبي من الشعر إلا في مديحك أطوع
فإن الاعتراض فيه هو قوله
إلا في مديحك
و ليس قوله

(10/37)


إن لحظت مطالبي
اعتراضا كما زعم ابن الأثير الموصلي لأن فائدة البيت معلقة عليه لأنه لا يريد أن الغنى شرح نهج البلاغة ج : 9 ص : 45لي على كل حال أطوع من الشعر و كيف يريد هذا و هو كلام فاسد مختل بل مراده أن الغنى لي بشرط أن تلحظ مطالبي من الشعر أطوع لي إلا في مديحك فإن الشعفي مديحك أطوع لي منه و إذا كانت الفائدة معلقة بالشرط المذكور لم يكن اعتراضا و كذلك وهم ابن الأثير أيضا في قول إمرئ القيس
فلو أن ما أسعى لأدنى معيشة كفاني و لم أطلب قليل من المال و لكنما أسعى لمجد مؤثل و قد يدرك المجد المؤثل أمثاليفقال إن قوله و لم أطلب اعتراض و ليس بصحيح لأن فائدة البيت مرتبطة به و تقديره لو سعيت لأن آكل و أشرب لكفاني القليل و لم أطلب الملك فكيف يكون قوله و لم أطلب الملك اعتراضا و من شأن الاعتراض أن يكون فضلة ترد لتحسين و تكملة و ليست فائدته أصلية. و قد يأتي الاعتراض و لا فائدة فيه و هو غير مستحسن نحو قول النابغة
يقول رجال يجهلون خليقتي لعل زيادا لا أبا لك غافل
فقوله لا أبا لك اعتراض لا معنى تحته هاهنا و مثله قول زهير
سئمت تكاليف الحياة و من يعش ثمانين حولا لا أبا لك يسأم
فإن جاءت لا أبا لك تعطي معنى يليق بالموضع فهي اعتراض جيد نحو قول أبي تمام
عتابك عني لا أبا لك و اقصدي
فإنه أراد زجرها و ذمها لما أسرفت في عتابه. شرح نهج البلاغة ج : 9 ص : 46و قد يأتي الاعتراض على غاية من القبح و الاستهجان و هو على سبيل التقديم و التأخير نحو قول الشاعرفقد و الشك بين لي عناء بوشك فراقهم صرد فصيح
تقديره فقد بين لي صرد يصيح بوشك فراقهم و الشك عناء فلأجل قوله و الشك عناء بين قد و الفعل الماضي و هو بين عد اعتراضا مستهجنا و أمثال هذا للعرب كثير

(10/38)


قوله ع يأخذ الوالي من غيرها عمالها على مساوئ أعمالها كلام منقطع عما قبله و قد كان تقدم ذكر طائفة من الناس ذات ملك و أمره فذكر ع أن الوالي يعني الإمام الذي يخلقه الله تعالى في آخر الزمان يأخذ عمال هذه الطائفة على سوء أعمالهم و على هاهنا متعلقة بيأخذ التي هي بمعنى يؤاخذ من قولك أخذته بذنبه و آخذته و الهمز أفصح. و الأفاليذ جمع أفلاذ و أفلاذ جمع فلذ و هي القطعة من الكبد و هذا كناية عن الكنوز التي تظهر للقائم بالأمر و قد جاء ذكر ذلك في خبر مرفوع في لفظة و قاءت له الأرض أفلاذ كبدها و قد فسر قوله تعالى وَ أَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقالَها بذلك في بعض التفاسير. و المقاليد المفاتيح
مِنْهَا كَأَنِّي بِهِ قَدْ نَعَقَ بِالشَّامِ وَ فَحَصَ بِرَايَاتِهِ فِي ضَوَاحِي كُوفَانَ فَعَطَفَ عَلَيْهَا عَطْفَ الضَّرُوسِ وَ فَرَشَ الْأَرْضَ بِالرُّءُوسِ قَدْ فَغَرَتْ فَاغِرَتُهُ وَ ثَقُلَتْ فِي الْأَرْضِ وَطْأَتُهُ بَعِيدَ الْجَوْلَةِ عَظِيمَ الصَّوْلَةِ شرح نهج البلاغة ج : 9 ص : 47وَ اللَّهِ لَيُشَرِّدَنَّكُمْ فِي أَطْرَافِ الْأَرْضِ حَتَّى لَا يَبْقَى مِنْكُمْ إِلَّا قَلِيلٌ كَالْكُحْلِ فِي الْعَيْنِ فَلَا تَزَالُونَ كَذَلِكَ حَتَّى تَئُوبَ إِلَى الْعَرَبِ عَوَازِبُ أَحْلَامِهَا فَالْزَمُوا السَّنَ الْقَائِمَةَ وَ الآْثَارَ الْبَيِّنَةَ وَ الْعَهْدَ الْقَرِيبَ الَّذِي عَلَيْهِ بَاقِي النُّبُوَّةِ وَ اعْلَمُوا أَنَّ الشَّيْطَانَ إِنَّمَا يُسَنِّي لَكُمْ طُرُقَهُ لِتَتَّبِعُوا عَقِبَهُ

(10/39)


هذا إخبار عن عبد الملك بن مروان و ظهوره بالشام و ملكه بعد ذلك العراق و ما قتل من العرب فيها أيام عبد الرحمن بن الأشعث و قتله أيام مصعب بن الزبير. و نعق الراعي بغنمه بالعين المهملة و نغق الغراب بالغين المعجمة و فحص براياته هاهنا مفعول محذوف تقديره و فحص الناس براياته أي نحاهم و قلبهم يمينا و شمالا. و كوفان اسم الكوفة و ضواحيها ما قرب منها من القرى و الضروس الناقة السيئة الخلق تعض حالبها قال بشر بن أبي خازم
عطفنا لهم عطف الضروس من الملا بشهباء لا يمشي الضراء رقيبها

(10/40)


و قوله و فرش الأرض بالرءوس غطاها بها كما يغطى المكان بالفراش. و فغرت فاغرته كأنه يقول فتح فاه و الكلام استعارة و فغر فعل يتعدى و لا يتعدى و ثقلت في الأرض وطأته كناية عن الجور و الظلم. بعيد الجولة استعارة أيضا و المعنى أن تطواف خيوله و جيوشه في البلاد أو جولان رجاله في الحرب على الأقران طويل جدا لا يتعقبه السكون إلا نادرا. و بعيد منصوب على الحال و إضافته غير محضة. شرح نهج البلاغة ج : 9 ص : 48و عوازب أحلامها ما ذهب من عقولها عزب عنه الرأي أي بعد. و يسني لكم طرقه أي يسهل و العقب بكسر القاف مؤخر القدم و هي مؤة. فإن قلت فإن قوله حتى تئوب يدل على أن غاية ملكه أن تئوب إلى العرب عوازب أحلامها و عبد الملك مات في ملكه و لم يزل الملك عنه بأوبة أحلام العرب إليها فإن فائدة حتى إلى و هي موضوعة للغاية. قلت إن ملك أولاده ملكه أيضا و ما زال الملك عن بني مروان حتى آبت إلى العرب عوازب أحلامها و العرب هاهنا بنو العباس و من اتبعهم من العرب أيام ظهور الدولة كقحطبة بن شبيب الطائي و ابنيه حميد و الحسن و كبني رزتني بتقديم الراء المهملة الذين منهم طاهر بن الحسين و إسحاق بن إبراهيم المصعبي و عدادهم في خزاعة و غيرهم من العرب من شيعة بني العباس و قد قيل إن أبا مسلم أيضا عربي أصله و كل هؤلاء و آبائهم كانوا مستضعفين مقهورين مغمورين في دولة بني أمية لم ينهض منهم ناهض و لا وثب إلى الملك واثب إلى أن أفاء الله تعالى إلى هؤلاء ما كان عزب عنهم من إبائهم و حميتهم فغاروا للدين و المسلمين من جور بني مروان و ظلمهم و قاموا بالأمر و أزالوا تلك الدولة التي كرهها الله تعالى و أذن في انتقالها. ثم أمرهم ع بأن يلزموا بعد زوال تلك الدولة الكتاب و السنة و العهد القريب الذي عليه باقي النبوة يعني عهده و أيامه ع و كأنه خاف من أن يكون بإخباره لهم بأن دولة هذا الجبار ستنقضي إذا آبت إلى العرب عوازب أحلامها كالأمر لهم باتباع

(10/41)


ولاة الدولة الجديدة في كل ما تفعله فاستظهر عليهم بهذه الوصية و قال لهم إذا ابتذلت الدولة فالزموا الكتاب و السنة و العهد الذي فارقتكم عليه
شرح نهج البلاغة ج : 9 ص : 13949- و من كلام له ع في وقت الشورىلَنْ يُسْرِعَ أَحَدٌ قَبْلِي إِلَى دَعْوَةِ حَقٍّ وَ صِلَةِ رَحِمٍ وَ عَائِدَةِ كَرَمٍ فَاسْمَعُوا قَوْلِي وَ عُوا مَنْطِقِي عَسَى أَنْ تَرَوْا هَذَا الْأَمْرَ مِنْ بَعْدِ هَذَا الْيَوْمِ تُنْتَضَى فِيهِ السُّيُوفُ وَ تُخَانُ فِيهِ الْعُهُودُ حَتَّى يَكُونَ بَعْضُكُمْ أَئِمَّةً لِأَهْلِ الضَّلَالَةِ وَ شِيعَةً لِأَهْلِ الْجَهَالَةِ
هذا من جملة كلام قاله ع لأهل الشورى بعد وفاة عمر
من أخبار يوم الشورى و تولية عثمان

(10/42)


و قد ذكرنا من حديث الشورى فيما تقدم ما فيه كفاية و نحن نذكر هاهنا ما لم نذكره هناك و هو من رواية عوانة عن إسماعيل بن أبي خالد عن الشعبي في كتاب الشورى و مقتل عثمان و قد رواه أيضا أبو بكر أحمد بن عبد العزيز الجوهري في زيادات كتاب السقيفة قال لما طعن عمر جعل الأمر شورى بين ستة نفر علي بن أبي طالب و عثمان بن عفان و عبد الرحمن بن عوف و الزبير بن العوام و طلحة بن عبيد الله و سعد بن مالك و كان شرح نهج البلاغة ج : 9 ص : 50طلحة يومئذ بالشام و قال عمر إن رسول الله ص قبض و هو عن هؤلاء راض فهم أحق بهذا الأمر من غيرهو أوصى صهيب بن سنان مولى عبد الله بن جدعان و يقال إن أصله من حي من ربيعة بن نزار يقال لهم عنزة فأمره أن يصلي بالناس حتى يرضى هؤلاء القوم رجلا منهم و كان عمر لا يشك أن هذا الأمر صائر إلى أحد الرجلين علي و عثمان و قال إن قدم طلحة فهو معهم و إلا فلتختر الخمسة واحدا منها و روي أن عمر قبل موته أخرج سعد بن مالك من أهل الشورى و قال الأمر في هؤلاء الأربعة و دعوا سعدا على حاله أميرا بين يدي الإمام ثم قال و لو كان أبو عبيدة بن الجراح حيا لما تخالجتني فيه الشكوك فإن اجتمع ثلاثة على واحد فكونوا مع الثلاثة و إن اختلفوا فكونوا مع الجانب الذي فيه عبد الرحمن. و قال لأبي طلحة الأنصاري يا أبا طلحة فو الله لطالما أعز الله بكم الدين و نصر بكم الإسلام اختر من المسلمين خمسين رجلا فائت بهم هؤلاء القوم في كل يوم مرة فاستحثوهم حتى يختاروا لأنفسهم و للأمة رجلا منهم. ثم جمع قوما من المهاجرين و الأنصار فأعلمهم ما أوصى به و كتب في وصيته أن يولي الإمام سعد بن مالك الكوفة و أبا موسى الأشعري لأنه كان عزل سعدا عن سخطة فأحب أن يطلب ذلك إلى من يقوم بالأمر من بعده استرضاء لسعد. قال الشعبي فحدثني من لا أتهمه من الأنصار و قال أحمد بن عبد العزيز الجوهري هو سهل بن سعد الأنصاري قال مشيت وراء علي بن أبي طالب حيث

(10/43)


انصرف من عند عمر و العباس بن عبد المطلب يمشي في جانبه فسمعته يقول للعباس ذهبت منا و الله فقال كيف علمت قال أ لا تسمعه يقول كونوا في الجانب الذي فيه عبد الرحمن لأنه ابن عمه و عبد الرحمن نظير عثمان و هو صهره فإذا اجتمع هؤلاء فلو أن الرجلين شرح نهج البلاغة ج : 9 ص : 51الباقيين كانا معي لم يغنيا عني شيئا مع أني لست أرجو إلا أحدهما و مع ذلك فقد أحب عمر أن يعلمنا أن لعبد الرحمن عنده فضلا علينا لعمر الله ما جعل الله ذلك لهم علينا كما لم يجعله لأولادهم على أولادنا أما و الله لئن عمر لم يمت لأذكه ما أتى إلينا قديما و لأعلمته سوء رأيه فينا و ما أتى إلينا حديثا و لئن مات و ليموتن ليجتمعن هؤلاء القوم على أن يصرفوا هذا الأمر عنا و لئن فعلوها و ليفعلن ليرونني حيث يكرهون و الله ما بي رغبة في السلطان و لا حب الدنيا و لكن لإظهار العدل و القيام بالكتاب و السنة. قال ثم التفت فرآني وراءه فعرفت أنه قد ساءه ذلك فقلت لا ترع أبا حسن لا و الله لا يستمع أحد الذي سمعت منك في الدنيا ما اصطحبنا فيها فو الله ما سمعه مني مخلوق حتى قبض الله عليا إلى رحمته. قال عوانة فحدثنا إسماعيل قال حدثني الشعبي قال فلما مات عمر و أدرج في أكفانه ثم وضع ليصلى عليه تقدم علي بن أبي طالب فقام عند رأسه و تقدم عثمان فقام عند رجليه فقال علي ع هكذا ينبغي أن تكون الصلاة فقال عثمان بل هكذا فقال عبد الرحمن ما أسرع ما اختلفتم يا صهيب صل على عمر كما رضي أن تصلي بهم المكتوبة فتقدم صهيب فصلى على عمر. قال الشعبي و أدخل أهل الشورى دارا فأقبلوا يتجادلون عليها و كلهم بها ضنين و عليها حريص إما لدنيا و إما لآخرة فلما طال ذلك قال عبد الرحمن من رجل منكم يخرج نفسه عن هذا الأمر و يختار لهذه الأمة رجلا منكم فإني طيبة نفسي أن أخرج منها و أختار لكم قالوا قد رضينا إلا علي بن أبي طالب فإنه اتهمه و قال أنظر و أرى فأقبل أبو طلحة عليه و قال يا أبا

(10/44)


الحسن ارض برأي عبد الرحمن كان الأمر لك أو لغيرك فقال علي أعطني يا عبد الرحمن موثقا من الله لتؤثرن الحق و لا تتبع الهوى شرح نهج البلاغة ج : 9 ص : 52و لا تمل إلى صهر و لا ذي قبة و لا تعمل إلا لله و لا تألو هذه الأمة أن تختار لها خيرها قال فحلف له عبد الرحمن بالله الذي لا إله إلا هو لأجتهدن لنفسي و لكم و للأمة و لا أميل إلى هوى و لا إلى صهر و لا ذي قرابة قال فخرج عبد الرحمن فمكث ثلاثة أيام يشاور الناس ثم رجع و اجتمع الناس و كثروا على الباب لا يشكون أنه يبايع علي بن أبي طالب و كان هوى قريش كافة ما عدا بني هاشم في عثمان و هوى طائفة من الأنصار مع علي و هوى طائفة أخرى مع عثمان و هي أقل الطائفتين و طائفة لا يبالون أيهما بويع. قال فأقبل المقداد بن عمرو و الناس مجتمعون فقال أيها الناس اسمعوا ما أقول أنا المقداد بن عمرو إنكم إن بايعتم عليا سمعنا و أطعنا و إن بايعتم عثمان سمعنا و عصينا فقام عبد الله بن أبي ربيعة بن المغيرة المخزومي فنادى أيها الناس إنكم إن بايعتم عثمان سمعنا و أطعنا و إن بايعتم عليا سمعنا و عصينا فقال له المقداد يا عدو الله و عدو رسوله و عدو كتابه و متى كان مثلك يسمع له الصالحون فقال له عبد الله يا ابن الحليف العسيف و متى كان مثلك يجترئ على الدخول في أمر قريش. فقال عبد الله بن سعد بن أبي سرح أيها الملأ إن أردتم ألا تختلف قريش فيما بينها فبايعوا عثمان فقال عمار بن ياسر إن أردتم ألا يختلف المسلمون فيما بينهم فبايعوا عليا ثم أقبل على عبد الله بن سعد بن أبي سرح فقال يا فاسق يا ابن الفاسق أ أنت ممن يستنصحه المسلمون أو يستشيرونه في أمورهم و ارتفعت الأصوات و نادى مناد لا يدرى من هو فقريش تزعم أنه رجل من بني مخزوم و الأنصار تزعم أنه رجل طوال آدم مشرف على الناس لا يعرفه أحد منهم يا عبد الرحمن افرغ من أمرك و امض على ما في نفسك فإنه الصواب.

(10/45)


شرح نهج البلاغة ج : 9 ص : 53قال الشعبي فأقبل عبد الرحمن على علي بن أبي طالب فقال عليك عهد الله و ميثاقه و أشد ما أخذ الله على النبيين من عهد و ميثاق إن بايعتك لتعملن بكتاب الله و سنة رسوله و سيرة أبي بكر و عمر فقال علي ع طاقتي و مبلغ علمي و جهد رأيي و ااس يسمعون. فأقبل على عثمان فقال له مثل ذلك فقال نعم لا أزول عنه و لا أدع شيئا منه ثم أقبل على علي فقال له ذلك ثلاث مرات و لعثمان ثلاث مرات في كل ذلك يجيب علي مثل ما كان أجاب به و يجيب عثمان بمثل ما كان أجاب به. فقال ابسط يدك يا عثمان فبسط يده فبايعه و قام القوم فخرجوا و قد بايعوا إلا علي بن أبي طالب فإنه لم يبايع. قال فخرج عثمان على الناس و وجهه متهلل و خرج علي و هو كاسف البال مظلم و هو يقول يا ابن عوف ليس هذا بأول يوم تظاهرتم علينا من دفعنا عن حقنا و الاستئثار علينا و إنها لسنة علينا و طريقة تركتموها. فقال المغيرة بن شعبة لعثمان أ ما و الله لو بويع غيرك لما بايعناه فقال عبد الرحمن بن عوف كذبت و الله لو بويع غيره لبايعته و ما أنت و ذاك يا ابن الدباغة و الله لو وليها غيره لقلت له مثل ما قلت الآن تقربا إليه و طمعا في الدنيا فاذهب لا أبا لك. فقال المغيرة لو لا مكان أمير المؤمنين لأسمعتك ما تكره و مضيا. قال الشعبي فلما دخل عثمان رحله دخل إليه بنو أمية حتى امتلأت بهم الدار ثم أغلقوها عليهم فقال أبو سفيان بن حرب أ عندكم أحد من غيركم قالوا لا قال يا بني أمية تلقفوها تلقف الكرة فو الذي يحلف به أبو سفيان ما من عذاب و لا حساب و لا جنة و لا نار و لا بعث و لا قيامة. شرح نهج البلاغة ج : 9 ص : 54قال فانتهره عثمان و ساءه بما قال و أمر بإخراجه. قال الشعبي فدخل عبد الرحمن بن عوف على عثمان فقال له ما صنعت فو الله ما وفقت حيث تدخل رحلك قبل أن تصعد المنبر فتحمد الله و تثني عليه تأمر بالمعروف و تنهى عن المنكر و تعد الناس خيرا. قال فخرج عثمان

(10/46)


فصعد المنبر فحمد الله و أثنى عليه ثم قال هذا مقام لم نكن نقومه و لم نعد له من الكلام الذي يقام به في مثله و سأهيئ ذلك إن شاء الله و لن آلو أمة محمد خيرا و الله المستعان. ثم نزل.
قال عوانة فحدثني يزيد بن جرير عن الشعبي عن شقيق بن مسلمة أن علي بن أبي طالب لما انصرف إلى رحله قال لبني أبيه يا بني عبد المطلب إن قومكم عادوكم بعد وفاة النبي كعداوتهم النبي في حياته و إن يطع قومكم لا تؤمروا أبدا و و الله لا ينيب هؤلاء إلى الحق إلا بالسيف قال و عبد الله بن عمر بن الخطاب داخل إليهم قد سمع الكلام كله فدخل و قال يا أبا الحسن أ تريد أن تضرب بعضهم ببعض فقال اسكت ويحك فو الله لو لا أبوك و ما ركب مني قديما و حديثا ما نازعني ابن عفان و لا ابن عوف
فقام عبد الله فخرج. قال و أكثر الناس في أمر الهرمزان و عبيد الله بن عمر و قتله إياه و بلغ ما قال فيه علي بن أبي طالب فقام عثمان فصعد المنبر فحمد الله و أثنى عليه ثم قال أيها الناس إنه كان من قضاء الله أن عبيد الله بن عمر بن الخطاب أصاب الهرمزان و هو رجل من شرح نهج البلاغة ج : 9 ص : 55المسلمين و ليس له وارث إلا الله و المسلمون و أنا إمامكم و قد عفوت أ فتعفون عن عبيد الله ابن خليفتكم بالأمس قالوا نعم فعفا عنه فلما بلغ ذلك عليا تضاحك و قال سبحان الله لقد بدأ بها عثمان أ يعفو عن حق امرئ ليس بواليه تالله إن هذلهو العجب قالوا فكان ذلك أول ما بدا من عثمان مما نقم عليه. قال الشعبي و خرج المقداد من الغد فلقي عبد الرحمن بن عوف فأخذ بيده و قال إن كنت أردت بما صنعت وجه الله فأثابك الله ثواب الدنيا و الآخرة و إن كنت إنما أردت الدنيا فأكثر الله مالك فقال عبد الرحمن اسمع رحمك الله اسمع قال لا أسمع و الله و جذب يده من يده و مضى حتى دخل على علي ع فقال قم فقاتل حتى نقاتل معك قال علي فبمن أقاتل رحمك الله و أقبل عمار بن ياسر ينادي

(10/47)


يا ناعي الإسلام قم فانعه قد مات عرف و بدا نكر
أما و الله لو أن لي أعوانا لقاتلتهم و الله لئن قاتلهم واحد لأكونن له ثانيا
فقال علي يا أبا اليقظان و الله لا أجد عليهم أعوانا و لا أحب أن أعرضكم لما لا تطيقون
و بقي ع في داره و عنده نفر من أهل بيته و ليس يدخل إليه أحد مخافة عثمان. قال الشعبي و اجتمع أهل الشورى على أن تكون كلمتهم واحدة على من لم يبايع فقاموا إلى علي فقالوا قم فبايع عثمان قال فإن لم أفعل قالوا نجاهدك قال فمشى إلى عثمان حتى بايعه و هو يقول صدق الله و رسوله فلما بايع أتاه عبد الرحمن بن عوف فاعتذر إليه و قال إن عثمان أعطانا يده و يمينه و لم تفعل أنت فأحببت أن أتوثق للمسلمين فجعلتها فيه فقال إيها عنك إنما آثرته بها لتنالها بعده دق الله بينكما عطر منشم. شرح نهج البلاغة ج : 9 ص : 56قال الشعبي و قدم طلحمن الشام بعد ما بويع عثمان فقيل له رد هذا الأمر حتى ترى فيه رأيك فقال و الله لو بايعتم شركم لرضيت فكيف و قد بايعتم خيركم قال ثم عدا عليه بعد ذلك و صاحبه حتى قتلاه ثم زعما أنهما يطلبان بدمه. قال الشعبي فأما ما يذكره الناس من المناشدة و
قول علي ع لأهل الشورى أ فيكم أحد قال له رسول الله ص كذا فإنه لم يكن يوم البيعة و إنما كان بعد ذلك بقليل دخل علي ع على عثمان و عنده جماعة من الناس منهم أهل الشورى و قد كان بلغه عنهم هنات و قوارص فقال لهم أ فيكم أ فيكم كل ذلك يقولون لا قال لكني أخبركم عن أنفسكم أما أنت يا عثمان ففررت يوم حنين و توليت يوم التقى الجمعان و أما أنت يا طلحة فقلت إن مات محمد لنركضن بين خلاخيل نسائه كما ركض بين خلاخيل نسائنا و أما أنت يا عبد الرحمن فصاحب قراريط و أما أنت يا سعد فتدق عن أن تذكر

(10/48)


قال ثم خرج فقال عثمان أ ما كان فيكم أحد يرد عليه قالوا و ما منعك من ذلك و أنت أمير المؤمنين و تفرقوا قال عوانة قال إسماعيل قال الشعبي فحدثني عبد الرحمن بن جندب عن أبيه جندب بن عبد الله الأزدي قال كنت جالسا بالمدينة حيث بويع عثمان فجئت فجلست إلى المقداد بن عمرو فسمعته يقول و الله ما رأيت مثل ما أتي إلى أهل هذا البيت و كان عبد الرحمن بن عوف جالسا فقال و ما أنت و ذاك يا مقداد قال المقداد إني و الله أحبهم لحب رسول الله ص و إني لأعجب من قريش و تطاولهم على الناس بفضل رسول الله ثم انتزاعهم سلطانه من أهله قال عبد الرحمن أما و الله لقد أجهدت نفسي شرح نهج البلاغة ج : 9 ص : 57لكم قال المقداد أما و الله لقد تركت رجلا من الذين يأمرون بالحق و به يعدلون أما و الله لو أن لي على قريش أعوانا لقاتلتهم قتالي إياهم ببدر و أحد فقال عبد الرحمن ثكلتك أمك لا يسمعن هذا الكلام الناسإني أخاف أن تكون صاحب فتنة و فرقة. قال المقداد إن من دعا إلى الحق و أهله و ولاة الأمر لا يكون صاحب فتنة و لكن من أقحم الناس في الباطل و آثر الهوى على الحق فذلك صاحب الفتنة و الفرقة. قال فتربد وجه عبد الرحمن ثم قال لو أعلم أنك إياي تعني لكان لي و لك شأن. قال المقداد إياي تهدد يا ابن أم عبد الرحمن ثم قام عن عبد الرحمن فانصرف. قال جندب بن عبد الله فاتبعته و قلت له يا عبد الله أنا من أعوانك فقال رحمك الله إن هذا الأمر لا يغني فيه الرجلان و لا الثلاثة قال فدخلت من فوري ذلك على علي ع فلما جلست إليه قلت يا أبا الحسن و الله ما أصاب قومك بصرف هذا الأمر عنك فقال صبر جميل و الله المستعان. فقلت و الله إنك لصبور قال فإن لم أصبر فما ذا أصنع قلت إني جلست إلى المقداد بن عمرو آنفا و عبد الرحمن بن عوف فقالا كذا و كذا ثم قام المقداد فاتبعته فقلت له كذا فقال لي كذا فقال علي ع لقد صدق المقداد فما أصنع فقلت تقوم في الناس فتدعوهم إلى نفسك و

(10/49)


تخبرهم أنك أولى بالنبي ص و تسألهم النصر على هؤلاء المظاهرين عليك فإن أجابك عشرة من مائة شددت بهم على الباقين فإن دانوا لك فذاك و إلا قاتلتهم و كنت أولى بالعذر قتلت أو بقيت و كنت أعلى عند الله حجة. فقال أ ترجو يا جندب أن يبايعني من كل عشرة واحد قلت أرجو ذلك قال لكني لا أرجو ذلك لا و الله و لا من المائة واحد و سأخبرك أن الناس إنما ينظرون
شرح نهج البلاغة ج : 9 ص : 58إلى قريش فيقولون هم قوم محمد و قبيله و أما قريش بينها فتقول إن آل محمد يرون لهم على الناس بنبوته فضلا و يرون أنهم أولياء هذا الأمر دون قريش و دون غيرهم من الناس و هم إن ولوه لم يخرج السلطان منهم إلى أحد أبدا و متى كان في غيرهتداولته قريش بينها لا و الله لا يدفع الناس إلينا هذا الأمر طائعين أبدا. فقلت جعلت فداك يا ابن عم رسول الله لقد صدعت قلبي بهذا القول أ فلا أرجع إلى المصر فأوذن الناس بمقالتك و أدعو الناس إليك فقال يا جندب ليس هذا زمان ذاك. قال فانصرفت إلى العراق فكنت أذكر فضل علي على الناس فلا أعدم رجلا يقول لي ما أكره و أحسن ما أسمعه قول من يقول دع عنك هذا و خذ فيما ينفعك فأقول إن هذا مما ينفعني و ينفعك فيقوم عني و يدعني. و زاد أبو بكر أحمد بن عبد العزيز الجوهري حتى رفع ذلك من قولي إلى الوليد بن عقبة أيام ولينا فبعث إلي فحبسني حتى كلم في فخلى سبيلي. و روى الجوهري قال نادى عمار بن ياسر ذلك اليوم يا معشر المسلمين إنا قد كنا و ما كنا نستطيع الكلام قلة و ذلة فأعزنا الله بدينه و أكرمنا برسوله فالحمد لله رب العالمين يا معشر قريش إلى متى تصرفون هذا الأمر عن أهل بيت نبيكم تحولونه هاهنا مرة و هاهنا مرة ما أنا آمن أن ينزعه الله منكم و يضعه في غيركم كما نزعتموه من أهله و وضعتموه في غير أهله. فقال له هاشم بن الوليد بن المغيرة يا ابن سمية لقد عدوت طورك و ما عرفت قدرك ما أنت و ما رأت قريش لأنفسها إنك لست في شي ء من أمرها

(10/50)


و إماراتها فتنح عها. و تكلمت قريش بأجمعها فصاحوا بعمار و انتهروه فقال الحمد لله رب العالمين ما زال أعوان الحق أذلاء ثم قام فانصرف
شرح نهج البلاغة ج : 9 ص : 14059- و من كلام له ع في النهي عن غيبة الناسوَ إِنَّمَا يَنْبَغِي لِأَهْلِ الْعِصْمَةِ وَ الْمَصْنُوعِ إِلَيْهِمْ فِي السَّلَامَةِ أَنْ يَرْحَمُوا أَهْلَ الذُّنُوبِ وَ الْمَعْصِيَةِ وَ يَكُونَ الشُّكْرُ هُوَ الْغَالِبَ عَلَيْهِمْ وَ الْحَاجِزَ لَهُمْ عَنْهُمْ فَكَيْفَ بِالْعَائِبِ الَّذِي عَابَ أَخَاهُ وَ عَيَّرَهُ بِبَلْوَاهُ أَ مَا ذَكَرَ مَوْضِعَ سَتْرِ اللَّهِ عَلَيْهِ مِنْ ذُنُوبِهِ مِمَّا هُوَ أَعْظَمُ مِنَ الذَّنْبِ الَّذِي عَابَهُ بِهِ وَ كَيْفَ يَذُمُّهُ بِذَنْبٍ قَدْ رَكِبَ مِثْلَهُ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ رَكِبَ ذَلِكَ الذَّنْبَ بِعَيْنِهِ فَقَدْ عَصَى اللَّهَ فِيمَا سِوَاهُ مِمَّا هُوَ أَعْظَمُ مِنْهُ وَ ايْمُ اللَّهِ لَئِنْ لَمْ يَكُنْ عَصَاهُ فِي الْكَبِيرِ وَ عَصَاهُ فِي الصَّغِيرِ لَجُرْأَتُهُ عَلَى عَيْبِ النَّاسِ أَكْبَرُ يَا عَبْدَ اللَّهِ لَا تَعْجَلْ فِي عَيْبِ أَحَدٍ بِذَنْبِهِ فَلَعَلَّهُ مَغْفُورٌ لَهُ وَ لَا تَأْمَنْ عَلَى نَفْسِكَ صَغِيرَ مَعْصِيَةٍ فَلَعَلَّكَ مُعَذَّبٌ عَلَيْهِ فَلْيَكْفُفْ مَنْ عَلِمَ مِنْكُمْ عَيْبَ غَيْرِهِ لِمَا يَعْلَمُ مِنْ عَيْبِ نَفْسِهِ وَ لْيَكُنِ الشُّكْرُ شَاغِلًا لَهُ عَلَى مُعَافَاتِهِ مِمَّا ابْتُلِيَ غَيْرُهُ بِهِ
ليس في هذا الفصل من غريب اللغة ما نشرح شرح نهج البلاغة ج : 9 ص : 6أقوال مأثورة في ذم الغيبة و الاستماع إلى المغتابين

(10/51)


و نحن نذكر مما ورد في الغيبة لمعا نافعة على عادتنا في ذكر الشي ء عند مرورنا على ما يقتضيه و يستدعيه. و قد ورد في الكتاب العزيز ذم الغيبة قال سبحانه وَ لا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً و قال رسول الله ص لا تحاسدوا و لا تباغضوا و لا يغتب بعضكم بعضا و كونوا عباد الله إخوانا
و روى جابر و أبو سعيد عنه ص إياكم و الغيبة فإن الغيبة أشد من الزنا إن الرجل يزني فيتوب الله عليه و إن صاحب الغيبة لا يغفر له حتى يغفر له صاحبه
و روى أنس عنه ص مررت ليلة أسري بي فرأيت قوما يخمشون وجوههم بأظافيرهم فسألت جبريل عنهم فقال هؤلاء الذين يغتابون الناس
و في حديث سلمان قلت يا رسول الله علمني خيرا ينفعني الله به قال لا تحقرن من المعروف شيئا و لو أرفضت من دلوك في إناء المستقي و الق أخاك ببشر حسن و لا تغتابنه إذا أدبر
و في حديث البراء بن عازب خطبنا رسول الله ص حتى أسمع العواتق في بيوتهن فقال ألا لا تغتابوا المسلمين و لا تتبعوا عوراتهم فإنه من يتتبع عورة أخيه تتبع الله عورته و من يتتبع الله عورته يفضحه في جوف بيته
شرح نهج البلاغة ج : 9 ص : 61و في حديث أنس أن رسول الله ص قال في يوم صوم إن فلانة و فلانة كانتا تأكلان اليوم شحم امرأة مسلمة يعني الغيبة فمرهما فلتتقيئا فقاءت كل واحدة منهما علقة دمو في الصحاح المجمع عليها أنه ع مر بقبرين جديدين فقال إنهما ليعذبان و ما يعذبان بكبير أما أحدهما فكان يغتاب الناس و أما الآخر فكان لا يتنزه من البول و دعا بجريدة رطبة فكسرها اثنتين أو قال دعا بجريدتين ثم غرسهما في القبرين و قال أما إنه سيهون من عذابهما ما دامتا رطبتين
و في حديث ابن عباس أن رجلين من أصحابه اغتابا بحضرته رجلا و هو يمشي ع و هما يمشيان معه فمر على جيفة فقال انهشا منها فقالا يا رسول الله أ و ننهش الجيفة فقال ما أصبتما من أخيكما أنتن من هذه

(10/52)


و في حديث أبي هريرة من أكل لحم أخيه حيا قرب إليه لحمه في الآخرة فقيل له كله ميتا كما أكلته حيا فيأكله و يضج و يكلح
و روي أن رجلين كانا عند باب المسجد فمر بهما رجل كان مخنثا فترك ذلك فقالا لقد بقي عنده منه شي ء فأقيمت الصلاة فصليا مع الناس و ذلك يجول في أنفسهما فأتيا عطاء بن أبي رباح فسألاه فأمرهما أن يعيدا الوضوء و الصلاة و إن كانا صائمين أن يقضيا صيام ذلك اليوم. و عنمجاهد وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ الهمزة الطعان في الناس و اللمزة النمام. و عن الحسن و الله للغيبة أسرع في دين المؤمن من الأكلة في الجسد. شرح نهج البلاغة ج : 9 ص : 62بعضهم أدركنا السلف و هم لا يرون العبادة في الصوم و لا في الصلاة و لكن في الكف عن أعض الناس. ابن عباس إذا أردت أن تذكر عيوب صاحبك فاذكر عيوبك و هذا مشتق من كلام أمير المؤمنين ع. أبو هريرة يبصر أحدهما القذى في عين أخيه و لا يبصر الجذع في عين نفسه و هذا كالأول. الحسن يا ابن آدم إنك إن قضيت حقيقة الإيمان فلا تعب الناس بعيب هو فيك حتى تبدأ بإصلاح ذلك العيب من نفسك فإذا فعلت ذلك كان شغلك في خاصة نفسك و أحب العباد إلى الله من كان هكذا. و
يروى أن المسيح ع مر على جيفة كلب فقال بعض التلامذة ما أشد نتنه فقال المسيح ما أشد بياض أسنانه
كأنه نهاهم عن غيبة الكلب و نبههم إلى أنه لا ينبغي أن يذكر من كل شي ء إلا أحسنه. و سمع علي بن الحسين ع رجلا يغتاب آخر فقال إن لكل شي ء إداما و إدام كلاب الناس الغيبة و في خطبة حجة الوداع أيها الناس إن دماءكم و أموالكم و أعراضكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا إن الله حرم الغيبة كما حرم المال و الدم
عمر ما يمنعكم إذا رأيتم من يخرق أعراض الناس أن تعربوا عليه أي تقبحوا قالوا نخاف سفهه و شره قال ذلك أدنى ألا تكونوا شهداء

(10/53)


أنس يرفعه من مات على الغيبة حشر يوم القيامة مزرقة عيناه ينادى بالويل و الندامة يعرف أهله و لا يعرفونه
شرح نهج البلاغة ج : 9 ص : 63و قال هشام بن عبد الملك في بعض ولد الوليد بن عقبةأبلغ أبا وهب إذا ما لقيته بأنك شر الناس غيبا لصاحب فتبدي له بشرا إذا ما لقيته و تلسعه بالغيب لسع العقاربمر الشعبي بقوم يغتابونه في المسجد و فيهم بعض أصدقائه فأخذ بعضادتي الباب و قال
هنيئا مريئا غير داء مخامر لعزة من أعراضنا ما استحلت
و من كلام بعض الحكماء أبصر الناس بالعوار المعوار هذا مثل قول الشاعر
و أجرأ من رأيت بظهر غيب على عيب الرجال ذوو العيوب
قيل لشبيب بن شبة بن عقال ما بال عبد الله بن الأهتم يغتابك و ينتقصك قال لأنه شقيقي في النسب و جاري في البلد و شريكي في الصنعة. دخل أبو العيناء على المتوكل و عنده جلساؤه فقال له يا محمد كلهم كانوا في غيبتك منذ اليوم و لم يبق أحد لم يذممك غيري فقال
إذا رضيت عني كرام عشيرتي فلا زال غضبان علي لئامها
قال بعضهم بت بالبصرة ليلة مع المسجديين فلما كان وقت السحر حركهم واحد فقال إلى كم هذا النوم عن أعراض الناس و قيل لشاعر وصله بعض الرؤساء و أنعم عليه ما صنع بك فلان قال ما وفت نعمته بإساءته منعني لذة الثلب و حلاوة الشكوى. أعرابي من عاب سفلة فقد رفعه و من عاب شريفا فقد وضع نفسه. شرح نهج البلاغة ج : 9 ص : 64نظر بعض السلف إلى رجل يغتاب رجلا و قال يا هذا إنك تملي على حافظيك كتابا فانظر ما ذا تقول. ابن عباس ما الأسد الضاري على فريسة بأسرع من الدني ء في عرض السري بعضهو مطروفة عيناه عن عيب نفسه فإن لاح عيب من أخيه تبصرا

(10/54)


و قالت رابعة العدوية إذا نصح الإنسان لله أطلعه الله تعالى على مساوئ عمله فتشاغل بها عن ذكر مساوئ خلقه. قال عبد الله بن عروة بن الزبير لابنه يا بني عليك بالدين فإن الدنيا ما بنت شيئا إلا هدمه الدين و إذا بنى الدين شيئا لم تستطع الدنيا هدمه أ لا ترى علي بن أبي طالب و ما يقول فيه خطباء بني أمية من ذمه و عيبه و غيبته و الله لكأنما يأخذون بناصيته إلى السماء أ لا تراهم كيف يندبون موتاهم و يرثيهم شعراؤهم و الله لكأنما يندبون جيف الحمر. و من كلام بعض الصالحين الورع في المنطق أشد منه في الذهب و الفضة لأنك إذا استودعك أخوك مالا لم تجد بك نفسك لخيانة فيه و قد استودعك عرضه و أنت تغتابه و لا تبالي. كان محمد بن سيرين قد جعل على نفسه كلما اغتاب أحدا أن يتصدق بدينار و كان إذا مدح أحدا قال هو كما يشاء الله و إذا ذمه قال هو كما يعلم الله. الأحنف في خلتان لا أغتاب جليسي إذا قام عني و لا أدخل بين القوم فيما لم يدخلوني فيه. قيل لرجل من العرب من السيد فيكم قال الذي إذا أقبل هبناه و إذا أدبر اغتبناه. شرح نهج البلاغة ج : 9 ص : 65قيل للربيع بن خيثم ما نراك تعيب أحدا فقال لست راضيا على نفسي فأتفرغ لذكر عيوب الناس ثم قاللنفسي أبكي لست أبكي لغيرها لنفسي في نفسي عن الناس شاغل
عبد الله بن المبارك قلت لسفيان ما أبعد أبا حنيفة من الغيبة ما سمعته يغتاب عدوا قال هو و الله أعقل من أن يسلط على حسناته ما يذهب بها. سئل فضيل عن غيبة الفاسق فقال لا تشتغل بذكره و لا تعود لسانك الغيبة أشغل لسانك بذكر الله و إياك ذكر الناس فإن ذكر الناس داء و ذكر الله دواء. بعض الشعراء
و لست بذي نيرب في الصديق خئون العشيرة سبابهاو لا من إذا كان في مجلس أضاع القبيلة و اغتابهاو لكن أبجل ساداتها و لا أتعلم ألقابها

(10/55)


و كان يقال الغيبة فاكهة القراء و قيل لإسماعيل بن حماد بن أبي حنيفة أي اللحمان أطيب قال لحوم الناس هي و الله أطيب من لحوم الدجاج و الدراج يعني الغيبة. ابن المغيرة لا تذكر الميت بسوء فتكون الأرض أكتم عليه منك. و كان عبد الملك بن صالح الهاشمي إذا ذكر عنده الميت بسوء يقول كفوا عن أسارى الثرى. و
في الأثر سامع الغيبة أحد المغتابين
شرح نهج البلاغة ج : 9 ص : 66أبو نواسما حطك الواشون من رتبة عندي و ما ضرك مغتاب كأنهم أثنوا و لم يعلموا عليك عندي بالذي عابواالحسن ذم الرجل في السر مدح له في العلانية.
علي ع الغيبة جهد العاجز
أخذه المتنبي فقال
و أكبر نفسي عن جزاء بغيبة و كل اغتياب جهد من ما له جهد
بلغ الحسن أن رجلا اغتابه فأهدى إليه طبقا من رطب فجاءه الرجل معتذرا و قال أصلحك الله اغتبتك فأهديت لي قال إنك أهديت إلي حسناتك فأردت أن أكافئك. أتى رجل عمرو بن عبيد الله فقال له إن الأسواري لم يزل أمس يذكرك و يقول عمرو الضال فقال له يا هذا و الله ما رعيت حق مجالسة الرجل حين نقلت إلينا حديثه و لا رعيت حقي حين بلغت عن أخي ما أكرهه أعلمه أن الموت يعمنا و البعث يحشرنا و القيامة تجمعنا و الله يحكم بيننا
حكم الغيبة في الدين

(10/56)


و اعلم أن العلماء ذكروا في حد الغيبة أن تذكر أخاك بما يكرهه لو بلغه سواء ذكرت نقصانا في بدنه مثل أن تقول الأقرع أو الأعور أو في نسبه نحو أن تقول ابن النبطي و ابن الإسكاف أو الزبال أو الحائك أو خلقه نحو سيئ الخلق أو بخيل شرح نهج البلاغة ج : 9 ص : 67أو متك أو في أفعاله الدنيئة نحو قولك كذاب و ظالم و متهاون بالصلاة أو الدنيوية نحو قولك قليل الأدب متهاون بالناس كثير الكلام كثير الأكل أو في ثوبه كقولك وسخ الثياب كبير العمامة طويل الأذيال. و قد قال قوم لا غيبة في أمور الدين لأن المغتاب إنما ذم ما ذمه الله تعالى و احتجوا بما روي أنه ذكر لرسول الله ص امرأة و كثرة صومها و صلاتها و لكنها تؤذي جارتها فقال هي في النار و لم ينكر عليهم غيبتهم إياها.
و روي أن امرأة ذكرت عنده ع بأنها بخيلة فقال فما خيرها إذن
و أكثر العلماء على أن الغيبة في أمور الدين محرمة أيضا و ادعوا الإجماع على أن من ذكر غيره بما يكرهه فهو مغتاب سواء أ كان في الدين أو في غيره قالوا و المخالف مسبوق بهذا الإجماع و قالوا و
قد روي عن النبي ص أنه قال هل تدرون ما الغيبة قالوا الله و رسوله أعلم قال ذكرك أخاك بما يكرهه فقائل قال أ رأيت يا رسول الله إن كان ذلك في أخي قال إن كان فيه فقد اغتبته و إن لم يكن فقد بهته
قالوا و روى معاذ بن جبل أن رجلا ذكر عند رسول الله ص فقال قوم ما أعجزه فقال ع اغتبتم صاحبكم فقالوا قلنا ما فيه فقال إن قلتم ما ليس فيه فقد بهتموه

(10/57)


قالوا و ما احتج به الزاعمون أن لا غيبة في الدين ليس بحجة لأن الصحابة إنما ذكرت ذلك في مجلس رسول الله ص لحاجتها إلى تعرف الأحكام بالسؤال و لم يكن غرضها التنقص. و اعلم أن الغيبة ليست مقصورة على اللسان فقط بل كل ما عرفت به صاحبك شرح نهج البلاغة ج : 9 ص : 68ص أخيك فهو غيبة فقد يكون ذلك باللسان و قد يكون بالإشارة و الإيماء و بالمحاكاة نحو أن تمشي خلف الأعرج متعارجا و بالكتاب فإن القلم أحد اللسانين. و إذا ذكر المصنف شخصا في تصنيفه و هجن كلامه فهو غيبة فأما قوله قال قوم كذا فليس بغيبة لأنه لم يعين شخصا بعينه. و
كان رسول الله ص يقول ما بال أقوام يقولون كذا فكان لا يعين و يكون مقصوده واحدا بعينه

(10/58)


و أخبث أنواع الغيبة غيبة القراء المراءين و ذلك نحو أن يذكر عندهم إنسان فيقول قائلهم الحمد لله الذي لم يبلنا بدخول أبواب السلطان و التبذل في طلب الحطام و قصده أن يفهم الغير عيب ذلك الشخص فتخرج الغيبة في مخرج الحمد و الشكر لله تعالى فيحصل من ذلك غيبة المسلم و يحصل منه الرياء و إظهار التعفف عن الغيبة و هو واقع فيها و كذلك يقول لقد ساءني ما يذكر به فلان نسأل الله أن يعصمه و يكون كاذبا في دعوى أنه ساءه و في إظهار الدعاء له بل لو قصد الدعاء له لأخفاه في خلوة عقب صلواته و لو كان قد ساءه لساءه أيضا إظهار ما يكرهه ذلك الإنسان. و اعلم أن الإصغاء إلى الغيبة على سبيل التعجب كالغيبة بل أشد لأنه إنما يظهر التعجب ليزيد نشاط المغتاب في الغيبة فيندفع فيها حكاية يستخرج الغيبة منه بذلك و إذا كان السامع الساكت شريك المغتاب فما ظنك بالمجتهد في حصول الغيبة و الباعث على الاستزادة منها و قد روي أن أبا بكر و عمر ذكرا إنسانا عند رسول الله فقال أحدهما إنه لنئوم ثم أخرج رسول الله ص خبزا قفارا فطلبا منه أدما فقال قد ائتدمتما قالا ما نعلمه قال بلى بما أكلتما من لحم صاحبكما فجمعهما في الإثم و قد شرح نهج البلاغة ج : 9 ص : 69كان أحدهما قائ و الآخر مستمعا فالمستمع لا يخرج من إثم الغيبة إلا بأن ينكر بلسانه فإن خاف فبقلبه و إن قدر على القيام أو قطع الكلام بكلام آخر لزمه ذلك فإن قال بلسانه اسكت و هو مريد للغيبة بقلبه فذلك نفاق و لا يخرجه عن الإثم إلا أن يكرهه بقلبه و لا يكفي أن يشير باليد أي اكفف أو بالحاجب و العين فإن ذلك استحقار للمذكور بل ينبغي أن يذب عنه صريحا
فقد قال رسول الله ص من أذل عنده مؤمن و هو يقدر على أن ينصره فلم ينصره أذله الله يوم القيامة على رءوس الخلائق
فصل في الأسباب الباعثة على الغيبة

(10/59)


و اعلم أن الأسباب الباعثة على الغيبة على أمور منها شفاء الغيظ و ذلك أن يجري من الإنسان سبب يغضب به عليه آخر فإذا هاج غضبه تشفى بذكر مساوئه و سبق إليها لسانه بالطبع إن لم يكن هناك دين وازع و قد يمنع تشفي الغيظ عند الغضب فيحتقن الغضب في الباطن فيصير حقدا ثابتا فيكون سببا دائما لذكر المساوئ. و منها موافقة الأقران و مساعدتهم على الكلام فإنهم إذا اجتمعوا ربما أخذوا يتفكهون بذكر الأعراض فيرى أنه لو أنكر أو قطع المجلس استثقلوه و نفروا عنه فيساعدهم و يرى ذلك من حسن المعاشرة و يظن أنه مجاملة في الصحبة و قد يغضب رفقاؤه من أمر فيحتاج إلى أن يغضب لغضبهم إظهارا للمساهمة في السراء و الضراء فيخوض معهم في ذكر العيوب و المساوئ. شرح نهج البلاغة ج : 9 ص : 70و منها أن يستشعر من إنسان أنه سيذمه و يطول لسانه فيه و يقبح حاله عند بعض الرؤساء أو يشهد عليه بشهادة فيبادره قبل أن يقبحاله فيطعن فيه ليسقط أثر شهادته عليه. و قد يبتدئ بذكر بعض ما فيه صادقا ليكذب عليه بعد ذلك فيروج كذبه بالصدق الأول. و منها أن ينسب إلى أمر فيريد التبرؤ منه فيذكر الذي فعله و كان من حقه أن يبرئ نفسه و لا يذكر الذي فعله لكنه إنما يذكر غيره تأكيدا لبراءة نفسه و كيلا يكون تبرؤا مبتورا و ربما يعتذر بأن يقول فلان فعله و كنت شريكا في بعض الأمر ليبرئ نفسه بعض البراءة. و منها المباهاة و حب الرئاسة مثل أن يقول كلام فلان ركيك و معرفته بالفن الفلاني ناقصة و غرضه إظهار فضله عليه. و منها الحسد و إرادة إسقاط قدر من يمدحه الناس بذكر مساوئه لأنه يشق عليه ثناء الناس عليه و لا يجد سبيلا إلى سد باب الثناء عليه إلا بذكر عيوبه. و منها اللعب و الهزل و المطايبة و تزجية الوقت بالضحك و السخرية فيذكر غيره بما يضحك الحاضرين على سبيل الهزء و المحاكاة. و اعلم أن الذي يقوى في نفسي أن الغيبة لا تكون محرمة إلا إذا كانت على سبيل القصد إلى تنقص الإنسان فقط

(10/60)


و غض قدره فأما إذا خرجت مخرجا آخر فليست بحرام كمن يظلمه القاضي و يأخذ الرشوة على إسقاط حقوقه فإن له أن يذكر حاله للسلطان متظلما من حيف الحاكم عليه إذ لا يمكنه استيفاء حقوقه إلا بذلك
فقد قال ص مطل الغني ظلم
و قال لي الواجد يحل عقوبته و عرضه
شرح نهج البلاغة ج : 9 ص : 71و كذلك النهي عن المنكر واجب و قد يحتاج الإنسان إلى الاستعانة بالغير على تغييره و رد القاضي إلى منهج الصلاح فلا بد له أن يشرح للغير حال ذلك الإنسان المرتكب المنكر و من ذكر الإنسان بلقب مشهور فعرف عن عيبه كالأعرج و الأعمش المحدن لم يكن مغتابا إذا لم يقصد الغض و النقص. و الصحيح أن المجاهر بالفسق لا غيبة له كصاحب الماخور و المخنث و من يدعو الناس إلى نفسه أبنة و كالعشار و المستخرج بالضرب فإن هؤلاء غير كارهين لما يذكرون به و ربما تفاخروا بذلك و
قد قال النبي ص من ألقى جلباب الحياء عن وجهه فلا غيبة له
و قال عمر ليس لفاجر حرمة و أراد المجاهر بالفسق دون المستتر. و قال الصلت بن طريف قلت للحسن رحمه الله الرجل الفاجر المعلن بالفجور غير مراقب هل ذكري له بما فيه غيبة فقال لا و لا كرامة له
طريق التوبة من الغيبة
و اعلم أن التوبة من الغيبة تكفر عقابها و التوبة منها هي الندم عليها و العزم على ألا يعود فإن لم يكن الشخص المذكور قد بلغته الغيبة فلا حاجة إلى الاستحلال منه بل لا يجوز إعلامه بذلك هكذا قال شيخنا أبو الحسين رحمه الله لأنه لم يؤلمه فيحتاج إلى أن يستوهب منه إثم ذلك الإيلام و في إعلامه تضييق صدره و إدخال مشقة عليه و إن كان الشخص المذكور قد بلغته الغيبة وجب عليه أن يستحله و يستوهبه فإن كان قد مات سقط بالتوبة عقاب ما يختص بالبارئ سبحانه من ذلك الوقت و بقي ما يختص بذلك الميت لا يسقط حتى يؤخذ العوض له من المذنب يوم القصاص

(10/61)


شرح نهج البلاغة ج : 9 ص : 14172- و من كلام له عأَيُّهَا النَّاسُ مَنْ عَرَفَ مِنْ أَخِيهِ وَثِيقَةَ دِينٍ وَ سَدَادَ طَرِيقٍ فَلَا يَسْمَعَنَّ فِيهِ أَقَاوِيلَ الرِّجَالِ أَمَا إِنَّهُ قَدْ يَرْمِي الرَّامِي وَ تُخْطِئُ السِّهَامُ وَ يُحِيلُ الْكَلَامُ وَ بَاطِلُ ذَلِكَ يَبُورُ وَ اللَّهُ سَمِيعٌ وَ شَهِيدٌ أَمَا إِنَّهُ لَيْسَ بَيْنَ الْحَقِّ وَ الْبَاطِلِ إِلَّا أَرْبَعُ أَصَابِعَ فَسُئِلَ ع عَنْ مَعْنَى قَوْلِهِ هَذَا فَجَمَعَ أَصَابِعَهُ وَ وَضَعَهَا بَيْنَ أُذُنِهِ وَ عَيْنِهِ ثُمَّ قَالَ الْبَاطِلُ أَنْ تَقُولَ سَمِعْتُ وَ الْحَقُّ أَنْ تَقُولَ رَأَيْتُ

(10/62)


هذا الكلام هو نهي عن التسرع إلى التصديق بما يقال من العيب و القدح في حق الإنسان المستور الظاهر المشتهر بالصلاح و الخير و هو خلاصة قوله سبحانه إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلى ما فَعَلْتُمْ نادِمِينَ ثم ضرب ع لذلك مثلا فقال قد يرمي الرامي فلا يصيب الغرض و كذلك قد يطعن الطاعن فلا يكون طعنه صحيحا و ربما كان لغرض فاسد أو سمعه ممن له غرض شرح نهج البلاغة ج : 9 ص : 73فاسدا كالعدو و الحسود و قد يشتبه الأمر فيظن المعروف منكرا فيعجل الإنسان بقول لا يتحق كمن يرى غلام زيد يحمل في إناء مستور مغطى خلا فيظنه خمرا. قال ع و يحيل الكلام أي يكون باطلا أحال الرجل في منطقه إذا تكلم الذي لا حقيقة له و من الناس من يرويه و يحيك الكلام بالكاف من قولك ما حاك فيه السيف و يجوز أحاك بالهمزة أي ما أثر يعني أن القول يؤثر في العرض و إن كان باطلا و الرواية الأولى أشهر و أظهر. و يبور يفسد و قوله و باطل ذلك يبور مثل قولهم للباطل جولة و للحق دولة و هذا من قوله تعالى وَ قُلْ جاءَ الْحَقُّ وَ زَهَقَ الْباطِلُ إِنَّ الْباطِلَ كانَ زَهُوقاً. و الإصبع مؤنثة و لذلك قال أربع أصابع فحذف الهاء. فإن قلت كيف يقول ع الباطل ما يسمع و الحق ما يرى و أكثر المعلومات إنما هي من طريق السماع كعلمنا الآن بنبوة محمد ص بما بلغنا من معجزاته التي لم نرها و إنما سمعناها. قلت ليس كلامه في المتواتر من الأخبار و إنما كلامه في الأقوال الشاذة الواردة من طريق الآحاد التي تتضمن القدح فيمن قد غلبت نزاهته فلا يجوز العدول عن المعلوم بالمشكوك

(10/63)


شرح نهج البلاغة ج : 9 ص : 14274- و من كلام له عوَ لَيْسَ لِوَاضِعِ الْمَعْرُوفِ فِي غَيْرِ حَقِّهِ وَ عِنْدَ غَيْرِ أَهْلِهِ مِنَ الْحَظِّ فِيمَا أَتَى إِلَّا مَحْمَدَةُ اللِّئَامِ وَ ثَنَاءُ الْأَشْرَارِ وَ مَقَالَةُ الْجُهَّالَ مَا دَامَ مُنْعِماً عَلَيْهِمْ مَا أَجْوَدَ يَدَهُ وَ هُوَ عَنْ ذَاتِ اللَّهِ بِخَيْلٌ فَمَنْ آتَاهُ اللَّهُ مَالًا فَلْيَصِلْ بِهِ الْقَرَابَةَ وَ لْيُحْسِنْ مِنْهُ الضِّيَافَةَ وَ لْيَفُكَّ بِهِ الْأَسِيرَ وَ الْعَانِيَ وَ لْيُعْطِ مِنْهُ الْفَقِيرَ وَ الْغَارِمَ وَ لْيَصْبِرْ نَفْسَهُ عَلَى الْحُقُوقِ وَ النَّوَائِبِ ابْتِغَاءَ الثَّوَابِ فَإِنَّ فَوْزاً بِهَذِهِ الْخِصَالِ شَرَفُ مَكَارِمِ الدُّنْيَا وَ دَرْكُ فَضَائِلِ الآْخِرَةِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ
هذا الكلام يتضمن ذم من يخرج ماله إلى الفتيان و الأقران و الشعراء و نحوهم و يبتغي به المدح و السمعة و يعدل عن إخراجه في وجوه البر و ابتغاء الثواب قال ع ليس له من الحظ إلا محمدة اللئام و ثناء الأشرار و قولهم ما أجود يده أي ما أسمحه و هو بخيل بما يرجع إلى ذات الله يعني الصدقات و ما يجري مجراها من صلة الرحم و الضيافة و فك الأسير و العاني و هو الأسير بعينه و إنما اختلف اللفظ. شرح نهج البلاغة ج : 9 ص : 75و الغارم من عليه الديون و يقال صبر فلان نفسه على كذا مخففا أي حبسها قال تعالى وَ اصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذنَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ. و قال عنترة يذكر حربا
فصبرت عارفة لذلك حرة ترسو إذا نفس الجبان تطلع
و في الحديث النبوي في رجل أمسك رجلا و قتله آخر فقال ع اقتلوا القاتل و اصبروا الصابر
أي احبسوا الذي حبسه للقتل إلى أن يموت. و قوله فإن فوزا أفصح من أن يقول فإن الفوز أو فإن في الفوز كما قال الشاعر

(10/64)


إن شواء و نشوة و خبب البازل الأمون من لذة العيش و الفتى للدهر و الدهر ذو شئونو لم يقل إن الشواء و النشوة و السر في هذا أنه كأنه يجعل هذا الشواء شخصا من جملة أشخاص داخلة تحت نوع واحد و يقول إن واحدا منها أيها كان فهو من لذة العيش و إن لم يحصل له كل أشخاص ذلك النوع و مراده تقرير فضيلة هذه الخصال في النفوس أي متى حصل للإنسان فوز ما بها فقد حصل له الشرف و هذا المعنى و إن أعطاه لفظة الفوز بالألف و اللام إذا قصد بها الجنسية إلا أنه قد يسبق إلى الذهن منها الاستغراق لا الجنسية فأتى بلفظة لا توهم الاستغراق و هي اللفظة المنكرة و هذا دقيق و هو من لباب علم البيان

(10/65)


شرح نهج البلاغة ج : 9 ص : 14376- و من خطبة له ع في الاستسقاءإِلَّا وَ إِنَّ الْأَرْضَ الَّتِي تَحْمِلُكُمْ وَ السَّمَاءَ الَّتِي تُظِلُّكُمْ مُطِيعَتَانِ لِرَبِّكُمْ وَ مَا أَصْبَحَتَا تَجُودَانِ لَكُمْ بِبَرَكَتِهِمَا تَوَجُّعاً لَكُمْ وَ لَا زُلْفَةً إِلَيْكُمْ وَ لَا لِخَيْرٍ تَرْجُوَانِهِ مِنْكُمْ وَ لَكِنْ أُمِرَتَا بِمَنَافِعِكُمْ فَأَطَاعَتَا وَ أُقِيمَتَا عَلَى حُدُودِ مَصَالِحِكُمْ فَقَامَتَا إِنَّ اللَّهَ يَبْتَلِي عِبَادَهُ عِنْدَ الْأَعْمَالِ السَّيِّئَةِ بِنَقْصِ الثَّمَرَاتِ وَ حَبْسِ الْبَرَكَاتِ وَ إِغْلَاقِ خَزَائِنِ الْخَيْرَاتِ لِيَتُوبَ تَائِبٌ وَ يُقْلِعَ مُقْلِعٌ وَ يَتَذَكَّرَ مُتَذَكِّرٌ وَ يَزْدَجِرَ مُزْدَجِرٌ وَ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ الِاسْتِغْفَارَ سَبَباً لِدُرُورِ الرِّزْقِ وَ رَحْمَةِ الْخَلْقِ فَقَالَ سُبْحَانَهُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كانَ غَفَّاراً يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً وَ يُمْدِدْكُمْ بِأَمْوالٍ وَ بَنِينَ وَ يَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَ يَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهاراً فَرَحِمَ اللَّهُ امْرَأً اسْتَقْبَلَ تَوْبَتَهُ وَ اسْتَقَالَ خَطِيئَتَهُ وَ بَادَرَ مَنِيَّتَهُ اللَّهُمَّ إِنَّا خَرَجْنَا إِلَيْكَ مِنْ تَحْتِ الْأَسْتَارِ وَ الْأَكْنَانِ وَ بَعْدَ عَجِيجِ الْبَهَائِمِ وَ الْوِلْدَانِ رَاغِبِينَ فِي رَحْمَتِكَ وَ رَاجِينَ فَضْلَ نِعْمَتِكَ وَ خَائِفِينَ مِنْ عَذَابِكَ وَ نِقْمَتِكَ شرح نهج البلاغة ج : 9 ص : 77اللَّهُمَّ فَاسْقِنَا غَيْثَكَ وَ لَا تَجْلْنَا مِنَ الْقَانِطِينَ وَ لَا تُهْلِكْنَا بِالسِّنِينَ وَ لَا تُؤَاخِذْنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاءُ مِنَّا يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ اللَّهُمَّ إِنَّا خَرَجْنَا إِلَيْكَ نَشْكُو إِلَيْكَ مَا لَا يَخْفَى عَلَيْكَ أَلْجَأَتْنَا الْمَضَايِقُ الْوَعْرَةُ وَ

(10/66)


أَجَاءَتْنَا الْمَقَاحِطُ الْمُجْدِبَةُ وَ أَعْيَتْنَا الْمَطَالِبُ الْمُتَعَسِّرَةُ وَ تَلَاحَمَتْ عَلَيْنَا الْفِتَنُ الْمَسْتَصْعَبَةُ اللَّهُمَّ إِنَّا نَسْأَلُكَ أَلَّا تَرُدَّنَا خَائِبِينَ وَ لَا تَقْلِبَنَا وَاجِمِينَ وَ لَا تُخَاطِبَنَا بِذُنُوبِنَا وَ لَا تُقَايِسَنَا بِأَعْمَالِنَا اللَّهُمَّ انْشُرْ عَلَيْنَا غَيْثَكَ وَ بَرَكَتِكَ وَ رِزْقَكَ وَ رَحْمَتَكَ وَ اسْقِنَا سُقْيَا نَاقِعَةً مُرْوِيَةً مُعْشِبَةً تُنْبِتُ بِهَا مَا قَدْ فَاتَ وَ تُحْيِي بِهَا مَا قَدْ مَاتَ نَافِعَةَ الْحَيَا كَثِيرَةَ الْمُجْتَنَى تُرْوِي بِهَا الْقِيعَانَ وَ تُسِيلُ الْبُطْنَانَ وَ تَسْتَوْرِقُ الْأَشْجَارَ وَ تُرْخِصُ الْأَسْعَارَ إِنَّكَ عَلَى مَا تَشَاءُ قَدِيرٌ

(10/67)


تظلكم تعلو عليكم و قد أظلتني الشجرة و استظللت بها و الزلفة القربة يقول إن السماء و الأرض إذا جاءتا بمنافعكم أما السماء فبالمطر و أما الأرض فبالنبات فإنهما لم تأتيا بذلك تقربا إليكم و لا رحمة لكم و لكنهما أمرتا بنفعكم فامتثلتا الأمر لأنه أمر من تجب طاعته و لو أمرتا بغير ذلك لفعلتاه و الكلام مجاز و استعارة لأن الجماد لا يؤمر و المعنى أن الكل مسخر تحت القدرة الإلهية و مراده تمهيد قاعدة الاستسقاء كأنه يقول إذا كانت السماء و الأرض أيام الخصب و المطر و النبات لم يكن ما كان منهما محبة لكم و لا رجاء منفعة منكم بل طاعة الصانع الحكيم سبحانه فيما سخرهما له شرح نهج البلاغة ج : 9 ص : 78فكذلك السماء و الأرض أيام الجدب و انقطاع المطر و عدم الكلأ ليس ما كان منهما بغضا لكم و لا استدفاع ضرر يخاف منكم بل طاعة الصانع الحكيم سبحانه فيما سخرهما له و إذا كان كذلك فبالحري ألا نأمالسماء و لا الأرض و أن نجعل آمالنا معلقة بالملك الحق المدبر لهما و أن نسترحمه و ندعوه و نستغفره لا كما كانت العرب في الجاهلية يقولون مطرنا بنوء كذا و قد سخط النوء الفلاني على بني فلان فأمحلوا. ثم ذكر ع أن الله تعالى يبتلي عباده عند الذنوب بتضييق الأرزاق عليهم و حبس مطر السماء عنهم و هذا الكلام مطابق للقواعد الكلامية لأن أصحابنا يذهبون إلى أن الغلاء قد يكون عقوبة على ذنب و قد يكون لطفا للمكلفين في الواجبات العقلية و هو معنى قوله ليتوب تائب إلى آخر الكلمات و يقلع يكف و يمسك. ثم ذكر أن الله سبحانه جعل الاستغفار سببا في درور الرزق و استدل عليه بالآية التي أمر نوح ع فيها قومه بالاستغفار يعني التوبة عن الذنوب و قدم إليهم الموعد بما هو واقع في نفوسهم و أحب إليهم من الأمور الآجلة فمناهم الفوائد العاجلة ترغيبا في الإيمان و بركاته و الطاعة و نتائجها كما قال سبحانه للمسلمين وَ أُخْرى تُحِبُّونَها نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَ فَتْحٌ

(10/68)


قَرِيبٌ فوعدهم بمحبوب الأنفس الذي يرونه في العاجل عيانا و نقدا لا جزاء و نسيئة و قال تعالى في موضع آخر وَ لَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى آمَنُوا وَ اتَّقَوْا لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ مِنَ السَّماءِ وَ الْأَرْضِ و قال سبحانه وَ لَوْ أَنَّهُمْ أَقامُوا التَّوْراةَ وَ الْإِنْجِيلَ وَ ما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ
شرح نهج البلاغة ج : 9 ص : 79و قال تعالى وَ أَنْ لَوِ اسْتَقامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْناهُمْ ماءً غَدَقاًالثواب و العقاب عند المسلمين و أهل الكتاب

(10/69)


و كل ما في التوراة من الوعد و الوعيد فهو لمنافع الدنيا و مضارها أما منافعها فمثل أن يقول إن أطعتم باركت فيكم و كثرت من أولادكم و أطلت أعماركم و أوسعت أرزاقكم و استبقيت اتصال نسلكم و نصرتكم على أعدائكم و إن عصيتم و خالفتم اخترمتكم و نقصت من آجالكم و شتت شملكم و رميتكم بالجوع و المحل و أذللت أولادكم و أشمت بكم أعداءكم و نصرت عليكم خصومكم و شردتكم في البلاد و ابتليتكم بالمرض و الذل و نحو ذلك. و لم يأت في التوراة وعد و وعيد بأمر يتعلق بما بعد الموت و أما المسيح ع فإنه صرح بالقيامة و بعث الأبدان و لكن جعل العقاب روحانيا و كذلك الثواب أما العقاب فالوحشة و الفزع و تخيل الظلمة و خبث النفس و كدرها و خوف شديد و أما الثواب فما زاد على أن قال إنهم يكونون كالملائكة و ربما قال يصعدون إلى ملكوت السماء و ربما قال أصحابه و علماء ملته الضوء و اللذة و السرور و الأمن من زوال اللذة الحاصلة لهم هذا هو قول المحققين منهم و قد أثبت بعضهم نارا حقيقية لأن لفظة النار وردت في الإنجيل فقال محققوهم نار قلبية أي نفسية روحانية و قال الأفلون نار كهذه النار و منهم من أثبت عقابا غير النار و هو بدني فقال الرعدة و صرير الأسنان فأما الجنة بمعنى الأكل و الشرب و الجماع فإنه لم يقل منهم قائل به أصلا و الإنجيل صرح بانتفاء ذلك في القيامة تصريحا لا يبقى بعده ريب لمرتاب و جاء خاتم الأنبياء محمد شرح نهج البلاغة ج : 9 ص : 80ص فأثبت المعاد على وجه محقق كامل أكمل مما ذكره الأولان فقال إن البدن و النفس معا موثان و لكل منهما حظ في الثواب و العقاب. و قد شرح الرئيس أبو علي الحسين بن عبد الله بن سينا هذا الموضع في رسالة له في المعاد تعرف بالرسالة الأصحوبة شرحا جيدا فقال إن الشريعة المحمدية أثبتت في القيامة رد النفس إلى البدن و جعلت للمثاب و المعاقب ثوابا و عقابا بحسب البدن و النفس جميعا فكان للمثاب لذات بدنية من حور عين و

(10/70)


ولدان مخلدين و فاكهة يشتهون و كأس لا يصدعون عنها و لا ينزفون و جنات تجري من تحتها الأنهار من لبن و عسل و خمر و ماء زلال و سرر و أرائك و خيام و قباب فرشها من سندس و إستبرق و ما جرى مجرى ذلك و لذات نفسانية من السرور و مشاهدة الملكوت و الأمن من العذاب و العلم اليقيني بدوام ما هم فيه و أنه لا يتعقبه عدم و لا زوال و الخلو عن الأحزان و المخاوف و للمعاقب عقاب بدني و هو المقامع من الحديد و السلاسل و الحريق و الحميم و الغسلين و الصراخ و الجلود التي كلما نضجت بدلوا جلودا غيرها و عقاب نفساني من اللعن و الخزي و الخجل و الندم و الخوف الدائم و اليأس من الفرج و العلم اليقيني بدوام الأحوال السيئة التي هم عليها. قال فوفت الشريعة الحكمة حقها من الوعد الكامل و الوعيد الكامل و بهما ينتظم الأمر و تقوم الملة فأما النصارى و ما ذهبوا إليه من أمر بعث الأبدان ثم خلوها في الدار الآخرة من المطعم و الملبس و المشرب و المنكح فهو أرك ما ذهب إليه أرباب الشرائع و أسخفه و ذلك أنه إن كان السبب في البعث هو أن الإنسان هو البدن أو أن البدن شريك النفس في الأعمال الحسنة و السيئة فوجب أن يبعث فهذا القول بعينه إن أوجب ذلك فإنه يوجب أن يثاب البدن و يعاقب بالثواب و العقاب البدني المفهوم عند العالم و إن كان الثواب و العقاب روحانيا فما الغرض في بعث الجسد ثم ما ذلك

(10/71)


شرح نهج البلاغة ج : 9 ص : 81الثواب و العقاب الروحانيان و كيف تصور العامة ذلك حتى يرغبوا و يرهبوا كلا بل لم تصور لهم الشريعة النصرانية من ذلك شيئا غير أنهم يكونون في الآخرة كالملائكة و هذا لا يفي بالترغيب التام و لا ما ذكروه من العقاب الروحاني و هو الظلمو خبث النفس كاف في الترهيب و الذي جاءت به شريعة الإسلام حسن لا زيادة عليه انقضى كلام هذا الحكيم. فأما كون الاستغفار سببا لنزول القطر و درور الرزق فإن الآية بصريحها ناطقة به لأنها أمر و جوابه قال اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كانَ غَفَّاراً يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً كما تقول قم أكرمك أي إن قمت أكرمتك و عن عمر أنه خرج يستسقي فما زاد على الاستغفار فقيل له ما رأيناك استسقيت فقال لقد استسقيت بمجاديح السماء التي يستنزل بها المطر. و عن الحسن أن رجلا شكا إليه الجدب فقال استغفر الله فشكا آخر إليه الفقر و آخر قلة النسل و آخر قلة ريع أرضه فأمرهم كلهم بالاستغفار فقال له الربيع بن صبيح رجال أتوك يشكون أبوابا و يشكون أنواعا فأمرتهم كلهم بالاستغفار فتلا له الآية
قوله استقبل توبته أي استأنفها و جددها و استقال خطيئته طلب الإقالة منها و الرحمة و بادر منيته سابق الموت قبل أن يدهمه. شرح نهج البلاغة ج : 9 ص : 82قوله ع لا تهلكنا بالسنين جمع سنة و هي الجدب و المحل قال تعالى وَ لَقَدْ أَخَذْنا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ
قال النبي ص يدعو على المشركين اللهم اجعلها عليهم سنين كسني يوسف
و السنة لفظ محذوف منه حرف قيل إنه الهاء و قيل الواو فمن قال المحذوف هاء قال أصله سنهة مثل جبهة لأنهم قالوا نخلة سنهاء أي تحمل سنة و لا تحمل أخرى و قال بعض الأنصار
فليست بسنهاء و لا رجبية و لكن عرايا في السنين الجوائح

(10/72)


و من قال أصلها الواو احتج بقولهم أسنى القوم يسنون إسناء إذا لبثوا في المواضع سنة فأما التصغير فلا يدل على أحد المذهبين بعينه لأنه يجوز سنية و سنيهة و الأكثر في جمعها بالواو و النون سنون بكسر السين كما في هذه الخطبة و بعضهم يقول سنون بالضم. و المضايق الوعرة بالتسكين و لا يجوز التحريك و قد وعر هذا الشي ء بالضم وعورة و كذلك توعر أي صار وعرا و استوعرت الشي ء استصعبته. و أجاءتنا ألجأتنا قال تعالى فَأَجاءَهَا الْمَخاضُ إِلى جِذْعِ النَّخْلَةِ. و المقاحط المجدبة السنون الممحلة جمع مقحطة. و تلاحمت اتصلت. و الواجملذي قد اشتد حزنه حتى أمسك عن الكلام و الماضي وجم بالفتح يجم وجوما. قوله و لا تخاطبنا بذنوبنا و لا تقايسنا بأعمالنا أي لا تجعل جواب دعائنا لك ما تقتضيه ذنوبنا كأنه يجعله كالمخاطب لهم و المجيب عما سألوه إياه كما يفاوض الواحد شرح نهج البلاغة ج : 9 ص : 83منااحبه و يستعطفه فقد يجيبه و يخاطبه بما يقتضيه ذنبه إذا اشتدت موجدته عليه و نحوه. و لا تقايسنا بأعمالنا قست الشي ء بالشي ء إذا حذوته و مثلته به أي لا تجعل ما تجيبنا به مقايسا و مماثلا لأعمالنا السيئة. قوله سقيا ناقعة هي فعلى مؤنثة غير مصروفة. و الحيا المطر ناقعة مروية مسكنة للعطش نقع الماء العطش نقعا و نقوعا سكنه و في المثل الرشف أنقع أي أن الشراب الذي يرشف قليلا قليلا أنجع و أقطع للعطش و إن كان فيه بطء. و كثيرة المجتنى أي كثيرة الكلأ و الكلأ الذي يجتنى و يرعى و القيعان جمع قاع و هو الفلاة. و البطنان جمع بطن و هو الغامض من الأرض مثل ظهر و ظهران و عبد و عبدان

(10/73)


شرح نهج البلاغة ج : 9 ص : 14484- و من خطبة له عبَعَثَ رُسُلَهُ بِمَا خَصَّهُمْ بِهِ مِنْ وَحْيِهِ وَ جَعَلَهُمْ حُجَّةً لَهُ عَلَى خَلْقِهِ لِئَلَّا تَجِبَ الْحُجَّةُ لَهُمْ بِتَرْكِ الْإِعْذَارِ إِلَيْهِمْ فَدَعَاهُمْ بِلِسَانِ الصِّدْقِ إِلَى سَبِيلِ الْحَقِّ أَلَا إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ كَشَفَ الْخَلْقَ كَشْفَةً لَا أَنَّهُ جَهِلَ مَا أَخْفَوْهُ مِنْ مَصُونِ أَسْرَارِهِمْ وَ مَكْنُونِ ضَمَائِرِهِمْ وَ لَكِنْ لِيَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا فَيَكُونَ الثَّوَابُ جَزَاءً وَ الْعِقَابُ بَوَاءً أَيْنَ الَّذِينَ زَعَمُوا أَنَّهُمُ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ دُونَنَا كَذِباً وَ بَغْياً عَلَيْنَا أَنْ رَفَعَنَا اللَّهُ وَ وَضَعَهُمْ وَ أَعْطَانَا وَ حَرَمَهُمْ وَ أَدْخَلَنَا وَ أَخْرَجَهُمْ بِنَا يُسْتَعْطَى الْهُدَى وَ يُسْتَجْلَى الْعَمَى إِنَّ الْأَئِمَّةَ مِنْ قُرَيْشٍ غُرِسُوا فِي هَذَا الْبَطْنِ مِنْ هَاشِمٍ لَا تَصْلُحُ عَلَى سِوَاهُمْ وَ لَا تَصْلُحُ الْوُلَاةُ مِنْ غَيْرِهِمْ

(10/74)


أول الكلام مأخوذ من قوله سبحانه رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَ مُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ و قوله تعالى وَ ما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا. شرح نهج البلاغة ج : 9 ص : 85فإن قلت فهذا يناقض مذهب المزلة في قولهم بالواجبات عقلا و لو لم تبعث الرسل. قلت صحة مذهبهم تقتضي أن تحمل عموم الألفاظ على أن المراد بها الخصوص فيكون التأويل لئلا يكون للناس على الله حجة فيما لم يدل العقل على وجوبه و لا قبحه كالشرعيات و كذلك وَ ما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا على ما لم يكن العقل دليلا عليه حتى نبعث رسولا. الإعذار تقديم العذر ثم قال إن الله تعالى كشف الخلق بما تعبدهم به من الشرعيات على ألسنة الأنبياء و لم يكن أمرهم خافيا عنه فيحتاج إلى أن يكشفهم بذلك و لكنه أراد ابتلاءهم و اختبارهم ليعلم أيهم أحسن عملا فيعاقب المسي ء و يثيب المحسن. فإن قلت الإشكال قائم لأنه إذا كان يعلم أيهم يحسن و أيهم يسي ء فما فائدة الابتلاء و هل هو إلا محض العبث قلت فائدة الابتلاء إيصال نفع إلى زيد لم يكن ليصح إيصاله إليه إلا بواسطة هذا الابتلاء و هو ما يقوله أصحابنا إن الابتلاء بالاب قبيح و الله تعالى يستحيل أن يفعل القبيح. قوله و للعقاب بواء أي مكافأة قالت ليلى الأخيلية
فإن تكن القتلى بواء فإنكم فتى ما قتلتم آل عوف بن عامر

(10/75)


و أبأت القاتل بالقتيل و استبأته أيضا إذا قتلته به و قد باء الرجل بصاحبه أي قتل به شرح نهج البلاغة ج : 9 ص : 86و في المثل باءت عرار بكحل و هما بقرتان قتلت إحداهما بالأخرى و قال مهلهل لبجير لما قتل بؤ بشسع نعل كليب. قوله ع أين الذين زعموا هذا الكلام كناية إشارة إلى قوم من الصحابة كانوا ينازعونه الفضل فمنهم من كان يدعي له أنه أفرض و منهم من كان يدعي له أنه أقرأ و منهم من كان يدعي له أنه أعلم بالحلال و الحرام هذا مع تسليم هؤلاء له أنه ع أقضى الأمة و أن القضاء يحتاج إلى كل هذه الفضائل و كل واحدة منها لا تحتاج إلى غيرها فهو إذن أجمع للفقه و أكثرهم احتواء عليه إلا أنه ع لم يرض بذلك و لم يصدق الخبر الذي قيل أفرضكم فلان إلى آخره فقال إنه كذب و افتراء حمل قوما على وضعه الحسد و البغي و المنافسة لهذا الحي من بني هاشم أن رفعهم الله على غيرهم و اختصهم دون من سواهم. و أن هاهنا للتعليل أي لأن فحذف اللام التي هي أداة التعليل على الحقيقة قال سبحانه لَبِئْسَ ما قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ و قال بعض النحاة لبعض الفقهاء الزاعمين أن لا حاجة للفقه إلى النحو ما تقول لرجل قال لزوجته أنت طالق إن دخلت الدار فقال لا يقع إلا بالدخول فقال فإن فتح الهمزة قال كذلك فعرفه أن العربية نافعة في الفقه و أن الطلاق منجز لا معلق إن كان مراده تعليل الطلاق بوقوع الدخول لاشتراطه به. ثم قال بنا يستعطى الهدى أي يطلب أن يعطى و كذلك يستجلى أي يطلب جلاؤه. ثم قال إن الأئمة من قريش إلى آخر الفصل شرح نهج البلاغة ج : 9 ص : 8اختلاف الفرق الإسلامية في كون الأئمة من قريش

(10/76)


و قد اختلف الناس في اشتراط النسب في الإمامة فقال قوم من قدماء أصحابنا إن النسب ليس بشرط فيها أصلا و إنها تصلح في القرشي و غير القرشي إذا كان فاضلا مستجمعا للشرائط المعتبرة و اجتمعت الكلمة عليه و هو قول الخوارج. و قال أكثر أصحابنا و أكثر الناس إن النسب شرط فيها و إنها لا تصلح إلا في العرب خاصة و من العرب في قريش خاصة و قال أكثر أصحابنا معنى
قول النبي ص الأئمة من قريش
أن القرشية شرط إذا وجد في قريش من يصلح للإمامة فإن لم يكن فيها من يصلح فليست القرشية شرطا فيها. و قال بعض أصحابنا معنى الخبر أنه لا تخلو قريش أبدا ممن يصلح للإمامة فأوجبوا بهذا الخبر وجود من يصلح من قريش لها في كل عصر و زمان. و قال معظم الزيدية إنها في الفاطميين خاصة من الطالبيين لا تصلح في غير البطنين و لا تصح إلا بشرط أن يقوم بها و يدعو إليها فاضل زاهد عالم عادل شجاع سائس و بعض الزيدية يجيز الإمامة في غير الفاطميين من ولد علي ع و هو من أقوالهم الشاذة. و أما الراوندية فإنهم خصصوها بالعباس رحمه الله و ولده من بين بطون قريش كلها و هذا القول هو الذي ظهر في أيام المنصور و المهدي و أما الإمامية فإنهم جعلوها سارية في ولد الحسين ع في أشخاص مخصوصين و لا تصلح عندهم لغيرهم. و جعلها الكيسانية في محمد بن الحنفية و ولده و منهم من نقلها منه إلى ولد غيره. فإن قلت إنك شرحت هذا الكتاب على قواعد المعتزلة و أصولهم فما قولك في هذا شرح نهج البلاغة ج : 9 ص : 88الكلام و هو تصريح بأن الإمامة لا تصلح من قريش إلا في بني هاشم خاصة و ليس ذلك بمذهب للمعتزلة لا متقدميهم و لا متأخريهم. قلت هذا الموضع مشكل و لي فيه نظر و إن صح أن عليا ع له قلت كما قال لأنه ثبت عندي
أن النبي ص قال إنه مع الحق و أن الحق يدور معه حيثما دار
و يمكن أن يتأول و يطبق على مذهب المعتزلة فيحمل على أن المراد به كمال الإمامة كما حمل

(10/77)


قوله ص لا صلاة لجار المسجد إلا في المسجد
على نفي الكمال لا على نفي الصحة
مِنْهَا آثَرُوا عَاجِلًا وَ أَخَّرُوا آجِلًا وَ تَرَكُوا صَافِياً وَ شَرِبُوا آجِناً كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى فَاسِقِهِمْ وَ قَدْ صَحِبَ الْمُنْكَرَ فَأَلِفَهُ وَ بَسِئَ بِهِ وَ وَافَقَهُ حَتَّى شَابَتْ عَلَيْهِ مَفَارِقُهُ وَ صُبِغَتْ بِهِ خَلَائِقُهُ ثُمَّ أَقْبَلَ مُزْبِداً كَالتَّيَّارِ لَا يُبَالِي مَا غَرَّقَ أَوْ كَوَقْعِ النَّارِ فِي الْهَشِيمِ لَا يَحْفِلُ مَا حَرَّقَ أَيْنَ الْعُقُولُ الْمُسْتَصْبِحَةُ بِمَصَابِيحِ الْهُدَى وَ الْأَبْصَارُ اللَّامِحَةُ إِلَى مَنَازِلِ التَّقْوَى أَيْنَ الْقُلُوبُ الَّتِي وُهِبَتْ لِلَّهِ وَ عُوقِدَتْ عَلَى طَاعَةِ اللَّهِ ازْدَحَمُوا عَلَى الْحُطَامِ وَ تَشَاحُّوا عَلَى الْحَرَامِ وَ رُفِعَ لَهُمْ عَلَمُ الْجَنَّةِ وَ النَّارِ فَصَرَفُوا عَنِ الْجَنَّةِ وُجُوهَهُمْ وَ أَقْبَلُوا إِلَى النَّارِ بِأَعْمَالِهِمْ وَ دَعَاهُمْ رَبُّهُمْ فَنَفَرُوا وَ وَلَّوْا وَ دَعَاهُمُ الشَّيْطَانُ فَاسْتَجَابُوا وَ أَقْبَلُوا

(10/78)


شرح نهج البلاغة ج : 9 ص : 89آثروا اختاروا و أخروا تركوا الآجن الماء المتغير أجن الماء يأجن و يأجن. و بسئ به ألفه و ناقة بسوء ألفت الحالب و لا تمنعه و شابت عليه مفارقه طال عهده به مذ زمن الصبا حتى صار شيخا و صبغت به خلائقه ما صارت طبعا لأن العادة طبيعة ثية. مزبدا أي ذو زبد و هو ما يخرج من الفم كالرغوة يضرب مثلا للرجل الصائل المقتحم. و التيار معظم اللجة و المراد به هاهنا السيل و الهشيم دقاق الحطب. و لا يحفل بفتح حرف المضارعة لأن الماضي ثلاثي أي لا يبالي. و الأبصار اللامحة الناظرة و تشاحوا تضايقوا كل منهم يريد ألا يفوته ذلك و أصله الشح و هو البخل. فإن قلت هذا الكلام يرجع إلى الصحابة الذين تقدم ذكرهم في أول الخطبة. قلت لا و إن زعم قوم أنه عناهم بل هو إشارة إلى قوم ممن يأتي من الخلف بعد السلف أ لا تراه قال كأني أنظر إلى فاسقهم قد صحب المنكر فألفه و هذا اللفظ إنما يقال في حق من لم يوجد بعد كما قال في حق الأتراك كأني أنظر إليهم قوما كأن وجوههم المجان و كما قال في حق صاحب الزنج كأني به يا أحنف قد سار في الجيش و كما قال في الخطبة التي ذكرناها آنفا كأني به قد نعق بالشام يعني به عبد الملك و حوشي ع أن يعني بهذا الكلام الصحابة لأنهم ما آثروا العاجل و لا أخروا الآجل و لا صحبوا المنكر و لا أقبلوا كالتيار لا يبالي ما غرق و لا كالنار لا تبالي ما أحرقت و لا ازدحموا على الحطام و لا تشاحوا على الحرام و لا صرفوا عن الجنة وجوههم و لا أقبلوا شرح نهج البلاغة ج : 9 ص : 90إلى النابأعمالهم و لا دعاهم الرحمن فولوا و لا دعاهم الشيطان فاستجابوا و قد علم كل أحد حسن سيرتهم و سداد طريقتهم و إعراضهم عن الدنيا و قد ملكوها و زهدهم فيها و قد تمكنوا منها و لو لا قوله كأني أنظر إلى فاسقهم لم أبعد أن يعني بذلك قوما ممن عليه اسم الصحابة و هو رديء الطريقة كالمغيرة بن شعبة و عمرو بن العاص و مروان بن الحكم و معاوية

(10/79)


و جماعة معدودة أحبوا الدنيا و استغواهم الشيطان و هم معدودون في كتب أصحابنا و من اشتغل بعلوم السيرة و التواريخ عرفهم بأعيانهم
شرح نهج البلاغة ج : 9 ص : 14591- و من خطبة له عأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا أَنْتُمْ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا غَرَضٌ تَنْتَضِلُ فِيهِ الْمَنَايَا مَعَ كُلِّ جَرْعَةٍ شَرَقٌ وَ فِي كُلِّ أَكْلَةٍ غَصَصٌ لَا تَنَالُونَ مِنْهَا نِعْمَةً إِلَّا بِفِرَاقِ أُخْرَى وَ لَا يُعَمَّرُ مُعَمَّرٌ مِنْكُمْ يَوْماً مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا بِهَدْمِ آخَرَ مِنْ أَجَلِهِ وَ لَا تُجَدَّدُ لَهُ زِيَادَةٌ فِي أَكْلِهِ إِلَّا بِنَفَادِ مَا قَبْلَهَا مِنْ رِزْقِهِ وَ لَا يَحْيَا لَهُ أَثَرٌ إِلَّا مَاتَ لَهُ أَثَرٌ وَ لَا يَتَجَدَّدُ لَهُ جَدِيدٌ إِلَّا بَعْدَ أَنْ يَخْلَقَ لَهُ جَدِيدٌ وَ لَا تَقُومُ لَهُ نَابِتَةٌ إِلَّا وَ تَسْقُطُ مِنْهُ مَحْصُودَةٌ وَ قَدْ مَضَتْ أُصُولٌ نَحْنُ فُرُوعُهَا فَمَا بَقَاءُ فَرْعٍ بَعْدَ ذَهَابِ أَصْلِهِ
الغرض ما ينصب ليرمى و هو الهدف و تنتضل فيه المنايا تترامى فيه للسبق و منه الانتضال بالكلام و بالشعر كأنه يجعل المنايا أشخاصا تتناضل بالسهام من الناس من يموت قتلا و منهم من يموت غرقا أو يتردى في بئر أو تسقط عليه حائط أو يموت على فراشه. ثم قال مع كل جرعة شرق و في كل أكلة غصص بفتح الغين مصدر قولك غصصت يا فلان بالطعام و روي غصص جمع غصة و هي الشجا و هذا مثل قول بعضهم المنحة فيها مقرونة بالمحنة و النعمة مشفوعة بالنقمة شرح نهج البلاغة ج : 9 ص : 92و قد بالغ بعض الشعراء في الشكوى فأتى بهذه الألفاظ لكنه أسرف فقال.حظي من العيش أكل كله غصص مر المذاق و شرب كله شرق

(10/80)


و مراد أمير المؤمنين ع بكلامه أن نعيم الدنيا لا يدوم فإذا أحسنت أساءت و إذا أنعمت أنقمت. ثم قال لا ينالون منها نعمة إلا بفراق أخرى هذا معنى لطيف و ذلك أن الإنسان لا يتهيأ له أن يجمع بين الملاذ الجسمانية كلها في وقت فحال ما يكون آكلا لا يكون مجامعا و حال ما يشرب لا يأكل و حال ما يركب للقنص و الرياضة لا يكون جالسا على فراش وثير ممهد و على هذا القياس لا يأخذ في ضرب من ضروب الملاذ إلا و هو تارك لغيره منها. ثم قال و لا يعمر معمر منكم يوما من عمره إلا بهدم آخر من أجله و هذا أيضا لطيف لأن المسرور ببقائه إلى يوم الأحد لم يصل إليه إلا بعد أن قضى يوم السبت و قطعه و يوم السبت من أيام عمره فإذا قد هدم من عمره يوما فيكون قد قرب إلى الموت لأنه قد قطع من المسافة جزءا. ثم قال و لا تجدد له زيادة في أكله إلا بنفاد ما قبلها من رزقه و هذا صحيح فإن فسرنا الرزق بما وصل إلى البطن على أحد تفسيرات المتكلمين فإن الإنسان لا يأكل لقمة إلا و قد فرغ من اللقمة التي قبلها فهو إذا لا يتجدد له زيادة في أكله إلا بنفاد ما قبلها من رزقه. ثم قال و لا يحيا له أثر إلا مات له أثر و ذلك أن الإنسان في الأعم الأغلب لا ينتشر صيته و يشيع فضله إلا عند الشيخوخة و كذلك لا تعرف أولاده و يصير لهم اسم في الدنيا إلا بعد كبره و علو سنه فإذا ما حيي له أثر إلا بعد أن مات له أثر و هو قوته و نشاطه و شبيبته و مثله قوله و لا يتجدد له جديد إلا بعد أن يخلق له جديد. شرح نهج البلاغة ج : 9 ص : 93ثم قال و لا تقوم له نابتة ا و تسقط منه محصودة هذه إشارة إلى ذهاب الآباء عند حدوث أبنائهم في الأعم الأغلب و لهذا قال و قد مضت أصول نحن فروعها فما بقاء فرع بعد ذهاب أصله و قد نظر الشعراء إلى هذا المعنى فقالوا فيه و أكثروا نحو قول الشاعر

(10/81)


فإن أنت لم تصدقك نفسك فانتسب لعلك تهديك القرون الأوائل فإن لم تجد من دون عدنان والدا و دون معد فلتزعك العواذلو قال الشاعر
فعددت آبائي إلى عرق الثرى فدعوتهم فعلمت أن لم يسمعوالا بد من تلف مصيب فانتظر أ بأرض قومك أم بأخرى تصرع
و قد صرح أبو العتاهية بالمعنى فقال
كل حياة إلى ممات و كل ذي جدة يحول كيف بقاء الفروع يوما و قد ذوت قبلها الأصولمِنْهَا وَ مَا أُحْدِثَتْ بِدْعَةٌ إِلَّا تُرِكَ بِهَا سُنَّةٌ فَاتَّقُوا الْبِدَعَ وَ الْزَمُوا الْمَهْيَعَ إِنَّ عَوَازِمَ الْأُمُورِ أَفْضَلُهَا وَ إِنَّ مُحْدَثَاتِهَا شِرَارُهَا
شرح نهج البلاغة ج : 9 ص : 94البدعة كل ما أحدث مما لم يكن على عهد رسول الله ص فمنها الحسن كصلاة التراويح و منها القبيح كالمنكرات التي ظهرت في أواخر الخلافة العثمانية و إن كانت قد تكلفت الأعذار عنها. و معنى قوله ع ما أحدثت بدعة إلا ترك بها سنة أن من السنةلا تحدث البدعة فوجود البدعة عدم للسنة لا محالة. و المهيع الطريق الواضح من قولهم أرض هيعة أي مبسوطة واسعة و الميم مفتوحة و هي زائدة. و عوازم الأمور ما تقادم منها من قولهم عجوز عوزم أي مسنة قال الراجز
لقد غدوت خلق الثياب أحمل عدلين من التراب لعوزم و صبية سغاب فآكل و لاحس و آبيو يجمع فوعل على فواعل كدورق و هوجل و يجوز أن يكون عوازم جمع عازمة و يكون فاعل بمعنى مفعول أي معزوم عليها أي مقطوع معلوم بيقين صحتها و مجي ء فاعلة بمعنى مفعولة كثير كقولهم عيشة راضية بمعنى مرضية و الأول أظهر عندي لأن في مقابلته قوله و إن محدثاتها شرارها و لمحدث في مقابلة القديم

(10/82)


شرح نهج البلاغة ج : 9 ص : 14695- و من كلام له ع و قد استشاره عمر في الشخوص لقتال الفرس بنفسهإِنَّ هَذَا الْأَمْرَ لَمْ يَكُنْ نَصْرُهُ وَ لَا خِذْلَانُهُ بِكَثْرَةٍ وَ لَا بِقِلَّةٍ وَ هُوَ دِينُ اللَّهِ الَّذِي أَظْهَرَهُ وَ جُنْدُهُ الَّذِي أَعَدَّهُ وَ أَمَدَّهُ حَتَّى بَلَغَ مَا بَلَغَ وَ طَلَعَ حَيْثُمَا طَلَعَ وَ نَحْنُ عَلَى مَوْعُودٍ مِنَ اللَّهِ وَ اللَّهُ مُنْجِزٌ وَعْدَهُ وَ نَاصِرٌ جُنْدَهُ وَ مَكَانُ الْقَيِّمِ بِالْأَمْرِ مَكَانُ النِّظَامِ مِنَ الْخَرَزِ يَجْمَعُهُ وَ يَضُمُّهُ فَإِنِ انْقَطَعَ النِّظَامُ تَفَرَّقَ وَ ذَهَبَ ثُمَّ لَمْ يَجْتَمِعْ بِحَذَافِيرِهِ أَبَداً وَ الْعَرَبُ الْيَوْمَ وَ إِنْ كَانُوا قَلِيلًا فَهُمْ كَثِيرُونَ بِالْإِسْلَامِ عَزِيزُونَ بِالِاجْتِمَاعِ فَكُنْ قُطْباً وَ اسْتَدِرِ الرَّحَى بِالْعَرَبِ وَ أَصْلِهِمْ دُونَكَ نَارَ الْحَرْبِ فَإِنَّكَ إِنْ شَخَصْتَ مِنْ هَذِهِ الْأَرْضِ انْتَقَضَتْ عَلَيْكَ الْعَرَبُ مِنْ أَطْرَافِهَا وَ أَقْطَارِهَا حَتَّى يَكُونَ مَا تَدَعُ وَرَاءَكَ مِنَ الْعَوْرَاتِ أَهَمَّ إِلَيْكَ مِمَّا بَيْنَ يَدَيْكَ إِنَّ الْأَعَاجِمَ إِنْ يَنْظُرُوا إِلَيْكَ غَداً يَقُولُوا هَذَا أَصْلُ الْعَرَبِ فَإِذَا اقْتَطَعْتُمُوهُ اسْتَرَحْتُمْ فَيَكُونُ ذَلِكَ أَشَدَّ لِكَلْبِهِمْ عَلَيْكَ وَ طَمَعِهِمْ فِيكَ فَأَمَّا مَا ذَكَرْتَ مِنْ مَسِيرِ الْقَوْمِ إِلَى قِتَالِ الْمُسْلِمِينَ فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ هُوَ أَكْرَهُ لِمَسِيرِهِمْ مِنْكَ وَ هُوَ أَقْدَرُ عَلَى تَغْيِيرِ مَا يَكْرَهُ وَ أَمَّا مَا ذَكَرْتَ مِنْ عَدَدِهِمْ فَإِنَّا لَمْ نَكُنْ نُقَاتِلُ فِيمَا مَضَى بِالْكَثْرَةِ وَ إِنَّمَا كُنَّا نُقَاتِلُ بِالنَّصْرِ وَ الْمَعُونَةِ

(10/83)


شرح نهج البلاغة ج : 9 ص : 96نظام العقد الخيط الجامع له و تقول أخذته كله بحذافيره أي بأصله و أصل الحذافير أعالي الشي ء و نواحيه الواحد حذفار. و أصلهم نار الحرب اجعلهم صالين لها يقال صليت اللحم و غيره أصليه صليا مثل رميته أرميه رميا إذا شويته و في الحديثه ص أتي بشاة مصلية أي مشوية و يقال أيضا صليت الرجل نارا إذا أدخلته النار و جعلته يصلاها فإن ألقيته فيها إلقاء كأنك تريد الإحراق قلت أصليته بالألف و صليته تصلية و قرئ وَ يَصْلى سَعِيراً و من خفف فهو من قولهم صلى فلان بالنار بالكسر يصلى صليا احترق قال الله تعالى هُمْ أَوْلى بِها صِلِيًّا و يقال أيضا صلى فلان بالأمر إذا قاسى حره و شدته قال الطهوي
و لا تبلى بسالتهم و إن هم صلوا بالحرب حينا بعد حين
و على هذا الوجه يحمل كلام أمير المؤمنين ع و هو مجاز من الإحراق و الشي ء الموضوع لها هذا اللفظ حقيقة. و العورات الأحوال التي يخاف انتقاضها في ثغر أو حرب قال تعالى يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنا عَوْرَةٌ وَ ما هِيَ بِعَوْرَةٍ و الكلب الشر و الأذى يوم القادسية
و اعلم أن هذا الكلام قد اختلف في الحال التي قاله فيها لعمر فقيل قاله له في شرح نهج البلاغة ج : 9 ص : 97غزاة القادسية و قيل في غزاة نهاوند و إلى هذا القول الأخير ذهب محمد بن جرير الطبري في التاريخ الكبير و إلى القول الأول ذهب المدائني في كتاب الفتوح و نحنشير إلى ما جرى في هاتين الوقعتين إشارة خفيفة على مذهبنا في ذكر السير و الأيام. فأما وقعة القادسية فكانت في سنة أربع عشرة للهجرة استشار عمر المسلمين في أمر القادسية فأشار عليه علي بن أبي طالب في رواية أبي الحسن علي بن محمد بن سيف المدائني ألا يخرج بنفسه و
قال إنك إن تخرج لا يكن للعجم همة إلا استئصالك لعلمهم أنك قطب رحى العرب فلا يكون للإسلام بعدها دولة

(10/84)


و أشار عليه غيره من الناس أن يخرج بنفسه فأخذ برأي علي ع. و روى غير المدائني أن هذا الرأي أشار به عبد الرحمن بن عوف قال أبو جعفر محمد بن جرير الطبري لما بدا لعمر في المقام بعد أن كان عزم على الشخوص بنفسه أمر سعد بن أبي وقاص على المسلمين و بعث يزدجرد رستم الأرمني أميرا على الفرس فأرسل سعد النعمان بن مقرن رسولا إلى يزدجرد فدخل عليه و كلمه بكلام غليظ فقال يزدجرد لو لا أن الرسل لا تقتل لقتلتك ثم حمله وقرا من تراب على رأسه و ساقه حتى أخرجه من باب من أبواب المدائن و قال ارجع إلى صاحبك فقد كتبت إلى رستم أن يدفنه و جنده من العرب في خندق القادسية ثم لأشغلن العرب بعدها بأنفسهم و لأصيبنهم بأشد مما أصابهم به سابور ذو الأكتاف فرجع النعمان إلى سعد فأخبره فقال لا تخف فإن الله قد ملكنا أرضهم تفاؤلا بالتراب. قال أبو جعفر و تثبط رستم عن القتال و كرهه و آثر المسالمة و استعجله يزدجرد مرارا و استحثه على الحرب و هو يدافع بها و يرى المطاولة و كان عسكره مائة و عشرين ألفا شرح نهج البلاغة ج : 9 ص : 98و كان عسكر سعد بضعا و ثلاثين ألفا و أقام رستم بريدا من الرجال الواحد منهم إلى جانب الآخر من القادسية إلى المدائن كلما تكلم رستم كلمة أدا بعضهم إلى بعض حتى تصل إلى سمع يزدجرد في وقتها و شهد وقعة القادسية مع المسلمين طليحة بن خويلد و عمرو بن معديكرب و الشماخ بن ضرار و عبدة بن الطبيب الشاعر و أوس بن معن الشاعر و قاموا في الناس ينشدونهم الشعر و يحرضونهم و قرن أهل فارس أنفسهم بالسلاسل لئلا يهربوا فكان المقرنون منهم نحو ثلاثين ألفا و التحم الفريقان في اليوم الأول فحملت الفيلة التي مع رستم على الخيل فطحنتها و ثبت لها جمع من الرجالة و كانت ثلاثة و ثلاثين فيلا منها فيل الملك و كان أبيض عظيما فضربت الرجال خراطيم الفيلة بالسيوف فقطعتها و ارتفع عواؤها و أصيب في هذا اليوم و هو اليوم الأول خمسمائة من المسلمين و ألفان

(10/85)


من الفرس و وصل في الثاني أبو عبيدة بن الجراح من الشام في عساكر من المسلمين فكان مددا لسعد و كان هذا اليوم على الفرس أشد من اليوم الأول قتل من المسلمين ألفان و من المشركين عشرة آلاف و أصبحوا في اليوم الثالث على القتال و كان عظيما على العرب و العجم معا و صبر الفريقان و قامت الحرب ذلك اليوم و تلك الليلة جمعاء لا ينطقون كلامهم الهرير فسميت ليلة الهرير. و انقطعت الأخبار و الأصوات عن سعد و رستم و انقطع سعد إلى الصلاة و الدعاء و البكاء و أصبح الناس حسرى لم يغمضوا ليلتهم كلها و الحرب قائمة بعد إلى وقت الظهر فأرسل الله تعالى ريحا عاصفا في اليوم الرابع أمالت الغبار و النقع على العجم فانكسروا و وصلت العرب إلى سرير رستم و قد قام عنه ليركب جملا و على رأسه العلم فضرب هلال بن علقمة الحمل الذي رستم فوقه فقطع حباله و وقع على هلال أحد العدلين فأزال فقار ظهره و مضى رستم نحو العتيق فرمى نفسه فيه و اقتحم هلال عليه فأخذ شرح نهج البلاغة ج : 9 ص : 99برجله و خرج به يجره حتى ألقاه تحت أرجل الخيل و قد قتله و صعد السرير فنادى أنا هلال أنا قاتل رستم فانهزمت الفرس و تهافت في العقيق فقتل منهم نحو ثلاثين ألفا و نهبت أموالهم و أسلابهم و كانت عظيمة جدا و أخذت العرب منهم كافورا كثيرا فلم يعبئوا به لأنهم لم يعرفوه و باعوه من قوم بملح كيلا بكيل و سروا بذلك و قالوا أخذنا منهم ملحا طيبا و دفعنا إليهم ملحا غير طيب و أصابوا من الجامات من الذهب و الفضة ما لا يقع عليه العد لكثرته فكان الرجل منهم يعرض جامين من ذهب على صاحبه ليأخذ منه جاما واحدا من فضة يعجبه بياضها و يقول من يأخذ صفراوين ببيضاء. و بعث سعد بالأنفال و الغنائم إلى عمر فكتب إلى سعد لا تتبع الفرس و قف مكانك و اتخذه منزلا فنزل موضع الكوفة اليوم و اختط مسجدها و بنى فيها الخطط للعرب
يوم نهاوند

(10/86)


فأما وقعة نهاوند فإن أبا جعفر محمد بن جرير الطبري ذكر في كتاب التاريخ أن عمر لما أراد أن يغزو العجم و جيوش كسرى و هي مجتمعة بنهاوند استشار الصحابة فقام عثمان فتشهد فقال أرى يا أمير المؤمنين أن تكتب إلى أهل الشام فيسيروا من شامهم و تكتب إلى أهل اليمن فيسيروا من يمنهم ثم تسير أنت بأهل هذين الحرمين إلى المصرين البصرة و الكوفة فتلقى جمع المشركين بجمع المسلمين فإنك إذا سرت شرح نهج البلاغة ج : 9 ص : 100بمن معك و من عندك قل في نفسك ما تكاثر من عدد القوم و كنت أعز عزا و أكثر إنك لا تستبقي من نفسك بعد اليوم باقية و لا تمتع من الدنيا بعزيز و لا تكون منها في حرز حريز إن هذا اليوم له ما بعده فاشهد بنفسك و رأيك و أعوانك و لا تغب ه. قال أبو جعفر و قام طلحة فقال أما بعد يا أمير المؤمنين فقد أحكمتك الأمور و عجمتك البلايا و حنكتك التجارب و أنت و شأنك و أنت و رأيك لا ننبو في يديك و لا نكل أمرنا إلا إليك فأمرنا نجب و ادعنا نطع و احملنا نركب و قدنا ننقد فإنك ولي هذا الأمر و قد بلوت و جربت و اختبرت فلم ينكشف شي ء من عواقب الأمور لك إلا عن خيار. فقال علي بن أبي طالب ع أما بعد فإن هذا الأمر لم يكن نصره و لا خذلانه بكثرة و لا قلة إنما هو دين الله الذي أظهره و جنده الذي أعزه و أمده بالملائكة حتى بلغ ما بلغ فنحن على موعود من الله و الله منجز وعده و ناصر جنده و إن مكانك منهم مكان النظام من الخرز يجمعه و يمسكه فإن انحل تفرق ما فيه و ذهب ثم لم يجتمع بحذافيره أبدا و العرب اليوم و إن كانوا قليلا فإنهم كثير عزيز بالإسلام أقم مكانك و اكتب إلى أهل الكوفة فإنهم أعلام العرب و رؤساؤهم و ليشخص منهم الثلثان و ليقم الثلث و اكتب إلى أهل البصرة أن يمدوهم ببعض من عندهم و لا تشخص الشام و لا اليمن إنك إن أشخصت أهل الشام من شامهم سارت الروم إلى ذراريهم و إن أشخصت أهل اليمن من يمنهم سارت الحبشة إلى ذراريهم و متى شخصت

(10/87)


من هذه الأرض انتقضت عليك العرب من أقطارها و أطرافها حتى يكون ما تدع وراءك أهم إليك مما بين يديك من العورات و العيالات إن الأعاجم إن ينظروا شرح نهج البلاغة ج : 9 ص : 101إليك غدا قالوا هذا أمير العرب و أصلهم فكان ذلك أشد لكلبهم عليك و أما ما ذكرت من مسير القوم فإن الله هو أكره لسيرهم منك و هو أقدر على تغيير ما يكره و أما ما ذكرت من عددهم فإنا لم نكن نقاتل فيما ى بالكثرة و إنما كنا نقاتل بالصبر و النصر

(10/88)


فقال عمر أجل هذا الرأي و قد كنت أحب أن أتابع عليه فأشيروا علي برجل أوليه ذلك الثغر قالوا أنت أفضل رأيا فقال أشيروا علي به و اجعلوه عراقيا قالوا أنت أعلم بأهل العراق و قد وفدوا عليك فرأيتهم و كلمتهم قال أما و الله لأولين أمرهم رجلا يكون عمدا لأول الأسنة قيل و من هو يا أمير المؤمنين قال النعمان بن مقرن قالوا هو لها. و كان النعمان يومئذ بالبصرة فكتب إليه عمر فولاه أمر الجيش. قال أبو جعفر كتب إليه عمر سر إلى نهاوند فقد وليتك حرب الفيروزان و كان المقدم على جيوش كسرى فإن حدث بك حدث فعلى الناس حذيفة بن اليمان فإن حدث به حدث فعلى الناس نعيم بن مقرن فإن فتح الله عليكم فاقسم على الناس ما أفاء الله عليهم و لا ترفع إلي منه شيئا و إن نكث القوم فلا تراني و لا أراك و قد جعلت معك طليحة بن خويلد و عمرو بن معديكرب لعلمهما بالحرب فاستشرهما و لا تولهما شيئا. قال أبو جعفر فسار النعمان بالعرب حتى وافى نهاوند و ذلك في السنة السابعة من خلافة عمر و تراءى الجمعان و نشب القتال و حجزهم المسلمون في خنادقهم و اعتصموا بالحصون و المدن و شق على المسلمين ذلك فأشار طليحة عليه فقال أرى أن تبعث خيلا ببعض القوم و تحمشهم فإذا استحمشوا خرج بعضهم و اختلطوا بكم شرح نهج البلاغة ج : 9 ص : 102فاستطردوا لهم فإنهم يطمعون بذلك ثم تعطف عليهم حتى يقضي الله بيننا و بينهم بما يحب. ففعل النعمان ذلك فكان كما ظن طليحة و انقطع العجم عن حصونهم بعض الانقطاع فلما أمعنوا في الانكشاف للمسلمين حمل النعمان بالناس فاقتتل قتالا شديدا لم يسمع السامعون مثله و زلق بالنعمان فرسه فصرع و أصيب و تناول الراية نعيم أخوه فأتى حذيفة لها فدفعها إليه و كتم المسلمون مصاب أميرهم و اقتتلوا حتى أظلم الليل و رجعوا و المسلمون وراءهم فعمي عليهم قصدهم فتركوه و غشيهم المسلمون بالسيوف فقتلوا منهم ما لا يحصى و أدرك المسلمون الفيروزان و هو هارب و قد انتهى إلى

(10/89)


ثنية مشحونة ببغال موقرة عسلا فحبسته على أجله فقتل فقال المسلمون إن لله جنودا من عسل. و دخل المسلمون نهاوند فاحتووا على ما فيها و كانت أنفال هذا اليوم عظيمة فحملت إلى عمر فلما رآها بكى فقال له المسلمون إن هذا اليوم يوم سرور و جذل فما بكاؤك قال ما أظن أن الله تعالى زوي هذا عن رسول الله ص و عن أبي بكر إلا لخير أراده بهما و لا أراه فتحه علي إلا لشر أريد بي إن هذا المال لا يلبث أن يفتن الناس. ثم رفع يده إلى السماء يدعو و يقول اللهم اعصمني و لا تكلني إلى نفسي يقولها مرارا ثم قسمه بين المسلمين عن آخره
شرح نهج البلاغة ج : 9 ص : 147103- و من خطبة له عفَبَعَثَ اللَّهُ مُحَمَّداً ص بِالْحَقِّ لِيُخْرِجَ عِبَادَهُ مِنْ عِبَادَةِ الْأَوْثَانِ إِلَى عِبَادَتِهِ وَ مِنْ طَاعَةِ الشَّيْطَانِ إِلَى طَاعَتِهِ بِقُرْآنٍ قَدْ بَيَّنَهُ وَ أَحْكَمَهُ لِيَعْلَمَ الْعِبَادُ رَبَّهُمْ إِذْ جَهِلُوهُ وَ لِيُقِرُّوا بِهِ بَعْدَ إِذْ جَحَدُوهُ وَ لِيُثْبِتُوهُ بَعْدَ إِذْ أَنْكَرُوهُ فَتَجَلَّى لَهُمْ سُبْحَانَهُ فِي كِتَابِهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونُوا رَأَوْهُ بِمَا أَرَاهُمْ مِنْ قُدْرَتِهِ وَ خَوَّفَهُمْ مِنْ سَطْوَتِهِ وَ كَيْفَ مَحَقَ مَنْ مَحَقَ بِالْمَثُلَاتِ وَ احْتَصَدَ مَنِ احْتَصَدَ بِالنَّقِمَاتِ

(10/90)


الأوثان جمع وثن و هو الصنم و يجمع أيضا على وثن مثل أسد و آساد و أسد و سمي وثنا لانتصابه و بقائه على حال واحدة من قولك وثن فلان بالمكان فهو واثن و هو الثابت الدائم. قوله فتجلى سبحانه لهم أي ظهر من غير أن يرى بالبصر بل بما نبههم عليه في القرآن من قصص الأولين و ما حل بهم من النقمة عند مخالفة الرسل. و المثلات بضم الثاء العقوبات. فإن قلت ظاهر هذا الكلام أن الرسول ع بعث إلى الناس ليقروا بالصانع و يثبتوه و هذا خلاف قول المعتزلة لأن فائدة الرسالة عندهم هي إلطاف شرح نهج البلاغة ج : 9 ص : 104المكلفين بالأحكام الشرع المقربة إلى الواجبات العقلية و المبعدة من المقبحات العقلية و لا مدخل للرسول في معرفة البارئ سبحانه لأن العقل يوجبها و إن لم يبعث الرسل. قلت إن كثيرا من شيوخنا أوجبوا بعثة الرسل إذا كان في حثهم المكلفين على ما في العقول فائدة و هو مذهب شيخنا أبي علي رحمه الله فلا يمتنع أن يكون إرسال محمد ص إلى العرب و غيرهم لأن الله تعالى علم أنهم مع تنبيهه إياهم على ما هو واجب في عقولهم من المعرفة أقرب إلى حصول المعرفة فحينئذ يكون بعثه لطفا و يستقيم كلام أمير المؤمنين

(10/91)


وَ إِنَّهُ سَيَأْتِي عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِي زَمَانٌ لَيْسَ فِيهِ شَيْ ءٌ أَخْفَى مِنَ الْحَقِّ وَ لَا أَظْهَرَ مِنَ الْبَاطِلِ وَ لَا أَكْثَرَ مِنَ الْكَذِبِ عَلَى اللَّهِ وَ رَسُولِهِ وَ لَيْسَ عِنْدَ أَهْلِ ذَلِكَ الزَّمَانِ سِلْعَةٌ أَبْوَرَ مِنَ الْكتَابِ إِذَا تُلِيَ حَقَّ تِلَاوَتِهِ وَ لَا أَنْفَقَ مِنْهُ إِذَا حُرِّفَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَ لَا فِي الْبِلَادِ شَيْ ءٌ أَنْكَرَ مِنَ الْمَعْرُوفِ وَ لَا أَعْرَفَ مِنَ الْمُنْكَرِ فَقَدْ نَبَذَ الْكِتَابَ حَمَلَتُهُ وَ تَنَاسَاهُ حَفَظَتُهُ فَالْكِتَابُ َوْمَئِذٍ وَ أَهْلُهُ طَرِيدَانِ مَنْفِيَّانِ وَ صَاحِبَانِ مُصْطَحِبَانِ فِي طَرِيقٍ وَاحِدٍ لَا يُؤْوِيهِمَا مُؤْوٍ فَالْكِتَابُ وَ أَهْلُهُ فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ فِي النَّاسِ وَ لَيْسَا فِيهِمْ وَ مَعَهُمْ وَ لَيْسَا مَعَهُمْ لِأَنَّ الضَّلَالَةَ لَا تُوَافِقُ الْهُدَى وَ إِنِ اجْتَمَعَا فَاجْتَمَعَ الْقَوْمُ عَلَى الْفُرْقَةِ وَ افْتَرَقُوا عَنِ الْجَمَاعَةِ كَأَنَّهُمْ أَئِمَّةُ الْكِتَابِ وَ لَيْسَ الْكِتَابُ إِمَامَهُمْ فَلَمْ يَبْقَ عِنْدَهُمْ مِنْهُ إِلَّا اسْمُهُ وَ لَا يَعْرِفُونَ إِلَّا خَطَّهُ وَ زَبْرَهُ وَ مِنْ قَبْلُ مَا مَثَلُوا بِالصَّالِحِينَ كُلَّ مُثْلَةٍ وَ سَمَّوْا صِدْقَهُمْ عَلَى اللَّهِ فِرْيَةً وَ جَعَلُوا شرح نهج البلاغة ج : 9 ص : 105فِي الْحَسَنَةِ عُقُوبَةَ السَّيِّئَةِ وَ إِنَّمَا هَلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ بِطُولِ آمَالِهِ وَ تَغَيُّبِ آجَالِهِمْ حَتَّى نَزَلَ بِهِمُ الْمَوْعُودُ الَّذِي تُرَدُّ عَنْهُ الْمَعْذِرَةُ وَ تُرْفَعُ عَنْهُ التَّوْبَةُ وَ تَحُلُّ مَعَهُ الْقَارِعَةُ وَ النِّقْمَةُ

(10/92)


أخبر ع أنه سيأتي على الناس زمان من صفته كذا و كذا و قد رأيناه و رآه من كان قبلنا أيضا قال شعبة إمام المحدثين تسعة أعشار الحديث كذب. و قال الدارقطني ما الحديث الصحيح في الحديث إلا كالشعرة البيضاء في الثور الأسود و أما غلبة الباطل على الحق حتى يخفى الحق عنده فظاهرة. و أبور أفسد من بار الشي ء أي هلك و السلعة المتاع و نبذ الكتاب ألقاه و لا يؤويهما لا يضمهما إليه و ينزلهما عنده. و الزبر مصدر زبرت أزبر بالضم أي كتبت و جاء يزبر بالكسر و الزبر بالكسر الكتاب و جمعه زبور مثل قدر و قدور و قرأ بعضهم وَ آتَيْنا داوُدَ َبُوراً أي كتبا و الزبور بفتح الزاي الكتاب المزبور فعول بمعنى مفعول و قال الأصمعي سمعت أعرابيا يقول أنا أعرف بزبرتي أي خطي و كتابتي. و مثلوا بالصالحين بالتخفيف نكلوا بهم مثلت بفلان أمثل بالضم مثلا بالفتح و سكون الثاء و الاسم المثلة بالضم و من روى مثلوا بالتشديد أراد جدعوهم بعد قتلهم. و على في قوله و سموا صدقهم على الله فرية ليست متعلقة بصدقهم بل بفرية شرح نهج البلاغة ج : 9 ص : 106أي و سموا صدقهم فرية على الله فإن امتنع أن يتعلق حرف الجر به لتقدمه عليه و هو مصدر فليكن متعلقا بفعل مقدر دل عليه هذا المصدر الهر و روي و جعلوا في الحسنة العقوبة السيئة و الرواية الأولى بالإضافة أكثر و أحسن. و الموعود هاهنا الموت و القارعة المصيبة تقرع أي تلقى بشدة و قوة

(10/93)


أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّهُ مَنِ اسْتَنْصَحَ اللَّهَ وُفِّقَ وَ مَنِ اتَّخَذَ قَوْلَهُ دَلِيلًا هُدِيَ لِلَّتِي هِيَ أَقُومُ فَإِنَّ جَارَ اللَّهِ آمِنٌ وَ عَدُوَّهُ خَائِفٌ وَ إِنَّهُ لَا يَنْبَغِي لِمَنْ عَرَفَ عَظَمَةَ اللَّهِ أَنْ يَتَعَظَّمَ فَإِنَّ رِفْعَةَ الَّذِينَ يَعْلَمُونَ مَا عَظَمَتُهُ أَنْ يَتَوَاضَعُوا لَهُ وَ سَلَامَةَ الَّذِينَ يَعْلَمُونَ مَا قُدْرَتُهُ أَنْ يَسْتَسْلِمُوا لَهُ فَلَا تَنْفِرُوا مِنَ الْحَقِّ نِفَارَ الصَّحِيحِ مِنَ الْأَجْرَبِ وَ الْبَارِئِ مِنْ ذِي السَّقَمِ وَ اعْلَمُوا أَنَّكُمْ لَنْ تَعْرِفُوا الرُّشْدَ حَتَّى تَعْرِفُوا الَّذِي تَرَكَهُ وَ لَنْ تَأْخُذُوا بِمِيثَاقِ الْكِتَابِ حَتَّى تَعْرِفُوا الَّذِي نَقَضَهُ وَ لَنْ تَمَسَّكُوا بِهِ حَتَّى تَعْرِفُوا الَّذِي نَبَذَهُ فَالْتَمِسُوا ذَلِكَ مِنْ عِنْدِ أَهْلِهِ فَإِنَّهُمْ عَيْشُ الْعِلْمِ وَ مَوْتُ الْجَهْلِ هُمُ الَّذِينَ يُخْبِرُكُمْ حُكْمُهُمْ عَنْ عِلْمِهِمْ وَ صَمْتُهُمْ عَنْ مَنْطِقِهِمْ وَ ظَاهِرُهُمْ عَنْ بَاطِنِهِمْ لَا يُخَالِفُونَ الدِّينَ وَ لَا يَخْتَلِفُونَ فِيهِ فَهُوَ بَيْنَهُمْ شَاهِدٌ صَادِقٌ وَ صَامِتٌ نَاطِقٌ

(10/94)


من استنصح الله من أطاع أوامره و علم أنه يهديه إلى مصالحه و يرده عن مفاسده و يرشده إلى ما فيه نجاته و يصرفه عما فيه عطبه. شرح نهج البلاغة ج : 9 ص : 107و التي هي أقوم يعني الحالة و الخلة التي اتباعها أقوم و هذا من الألفاظ القرآنية قال سبحانه إِنَّ هذَا الْرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ و المراد بتلك الحالة المعرفة بالله و توحيده و وعد له. ثم نهى ع عن التكبر و التعظم و قال إن رفعة القوم الذين يعرفون عظمة الله أن يتواضعوا له و ما هاهنا بمعنى أي شي ء و من روى بالنصب جعلها زائدة و قد ورد في ذم التعظم و اتكبر ما يطول استقصاؤه و هو مذموم على العباد فكيف بمن يتعظم على الخالق سبحانه و إنه لمن الهالكين و
قال رسول الله ص لما افتخر أنا سيد ولد آدم ثم قال و لا فخر
فجهر بلفظة الافتخار ثم أسقط استطالة الكبر و إنما جهر بما جهر به لأنه أقامه مقام شكر النعمة و التحدث بها و
في الحديث المرفوع عنه ص أن الله قد أذهب عنكم حمية الجاهلية و فخرها بالآباء الناس بنو آدم و آدم من تراب مؤمن تقي و فاجر شقي لينتهين أقوام يفخرون برجال إنما هم فحم من فحم جهنم أو ليكونن أهون على الله من جعلان تدفع النتن بأنفها

(10/95)


قوله و اعلموا أنكم لن تعرفوا الرشد حتى تعرفوا الذي تركه فيه تنبيه على أنه يجب البراءة من أهل الضلال و هو قول أصحابنا جميعهم فإنهم بين مكفر لمن خالف أصول التوحيد و العدل و هم الأكثرون أو مفسق و هم الأقلون و ليس أحد منهم معذورا عند أصحابنا و إن ضل بعد النظر كما لا نعذر اليهود و النصارى إذا ضلوا بعد النظر. ثم قال ع فالتمسوا ذلك عند أهله هذا كناية عنه ع و كثيرا ما يسلك هذا المسلك و يعرض هذا التعريض و هو الصادق الأمين العارف بأسرار الإلهية. شرح نهج البلاغة ج : 9 ص : 108ثم ذكر أن هؤلاء الذين أمر باتباعهم ينبئ حهم عن علمهم و ذلك لأن الامتحان يظهر خبيئة الإنسان. ثم قال و صمتهم عن نطقهم صمت العارف أبلغ من نطق غيره و لا يخفى فضل الفاضل و إن كان صامتا. ثم ذكر أنهم لا يخالفون الدين لأنهم قوامه و أربابه و لا يختلفون فيه لأن الحق في التوحيد و العدل واحد فالدين بينهم شاهد صادق يأخذون بحكمه كما يؤخذ بحكم الشاهد الصادق. و صامت ناطق لأنه لا ينطق بنفسه بل لا بد له من مترجم فهو صامت في الصورة و هو في المعنى أنطق الناطقين لأن الأوامر و النواهي و الآداب كلها مبنية عليه و متفرعة عليه

(10/96)


شرح نهج البلاغة ج : 9 ص : 148109- و من كلام له ع في ذكر أهل البصرةكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَرْجُو الْأَمْرَ لَهُ وَ يَعْطِفُهُ عَلَيْهِ دُونَ صَاحِبِهِ لَا يَمُتَّانِ إِلَى اللَّهِ بِحَبْلٍ وَ لَا يَمُدَّانِ إِلَيْهِ بِسَبَبٍ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا حَامِلُ ضَبٍّ لِصَاحِبِهِ وَ عَمَّا قَلِيلٍ يَكْشِفُ قِنَاعَهُ بِهِ وَ اللَّهِ لَئِنْ أَصَابُوا الَّذِي يُرِيدُونَ لَيَنْتَزِعَنَّ هَذَا نَفْسَ هَذَا وَ لَيَأْتِيَنَّ هَذَا عَلَى هَذَا قَدْ قَامَتِ الْفِئَةُ الْبَاغِيَةُ فَأَيْنَ الْمُحْتَسِبُونَ قَدْ سُنَّتَ لَهُمُ السُّنَنُ وَ قُدِّمَ لَهُمُ الْخَبَرُ وَ لِكُلِّ ضَلَّةٍ عِلَّةٌ وَ لِكُلِّ نَاكِثٍ شُبْهَةٌ وَ اللَّهِ لَا أَكُونُ كَمُسْتَمِعِ اللَّدْمِ يَسْمَعُ النَّاعِيَ وَ يَحْضُرُ الْبَاكِيَ ثُمَّ لَا يَعْتَبِرُ

(10/97)


ضمير التثنية راجع إلى طلحة و الزبير رضي الله عنهما و يمتان يتوسلان الماضي ثلاثي مت يمت بالضم و الضب الحقد و المحتسبون طالبو الحسبة و هي الأجر و مستمع اللدم كناية عن الضبع تسمع وقع الحجر بباب جحرها من يد الصائد فتنخذل و تكف شرح نهج البلاغة ج : 9 ص : 110جوحها إليها حتى يدخل عليها فيربطها يقول لا أكون مقرا بالضيم راغنا أسمع الناعي المخبر عن قتل عسكر الجمل لحكيم بن جبلة و أتباعه فلا يكون عندي من التغيير و الإنكار لذلك إلا أن أسمعه و أحضر الباكين على قتلاهم. و قوله لكل ضلة علة و لكل ناكث شبهة هو جواب سؤال مقدر كأنه يقول إن قيل لأي سبب خرج هؤلاء فإنه لا بد أن يكون لهم تأويل في خروجهم و قد قيل إنهم يطالبون بدم عثمان فهو ع قال كل ضلالة فلا بد لها من علة اقتضتها و كل ناكث فلا بد له من شبهة يستند إليها. و قوله لينتزعن هذا نفس هذا قول صحيح لا ريب فيه لأن الرئاسة لا يمكن أن يدبرها اثنان معا فلو صح لهما ما أراداه لوثب أحدهما على الآخر فقتله فإن الملك عقيم و قد ذكر أرباب السيرة أن الرجلين اختلفا من قبل وقوع الحرب فإنهما اختلفا في الصلاة فأقامت عائشة محمد بن طلحة و عبد الله بن الزبير يصلي هذا يوما و هذا يوما إلى أن تنقضي الحرب. ثم إن عبد الله بن الزبير ادعى أن عثمان نص عليه بالخلافة يوم الدار و احتج في ذلك بأنه استخلفه على الصلاة و احتج تارة أخرى بنص صريح زعمه و ادعاه و طلب طلحة من عائشة أن يسلم الناس عليه بالإمرة و أدلى إليها بالتيمية و أدلى الزبير إليها بأسماء أختها فأمرت الناس أن يسلموا عليهما معا بالإمرة. و اختلفا في تولي القتال فطلبه كل منهما أولا ثم نكل كل منهما عنه و تفادى منه و قد ذكرنا في الأجزاء المتقدمة قطعة صالحة من أخبار الجمل شرح نهج البلاغة ج : 9 ص : 11من أخبار يوم الجمل

(10/98)


و روى أبو مخنف قال لما تزاحف الناس يوم الجمل و التقوا قال علي ع لأصحابه لا يرمين رجل منكم بسهم و لا يطعن أحدكم فيهم برمح حتى أحدث إليكم و حتى يبدءوكم بالقتال و بالقتل
فرمى أصحاب الجمل عسكر علي ع بالنبل رميا شديدا متتابعا فضج إليه أصحابه و قالوا عقرتنا سهامهم يا أمير المؤمنين و جي ء برجل إليه و إنه لفي فسطاط له صغير فقيل له هذا فلان قد قتل فقال اللهم اشهد ثم قال أعذروا إلى القوم فأتي برجل آخر فقيل و هذا قد قتل فقال الله اشهد أعذروا إلى القوم ثم أقبل عبد الله بن بديل بن ورقاء الخزاعي و هو من أصحاب رسول الله ص يحمل أخاه عبد الرحمن بن بديل قد أصابه سهم فقتله فوضعه بين يدي علي ع و قال يا أمير المؤمنين هذا أخي قد قتل فعند ذلك استرجع علي ع و دعا بدرع رسول الله ص ذات الفضول فلبسها فتدلت بطنه فرفعها بيده و قال لبعض أهله فحزم وسطه بعمامة و تقلد ذا الفقار و دفع إلى ابنه محمد راية رسول الله ص السوداء و تعرف بالعقاب و قال لحسن و حسين ع إنما دفعت الراية إلى أخيكما و تركتكما لمكانكما من رسول الله ص.

(10/99)


قال أبو مخنف و طاف علي ع على أصحابه و هو يقرأ أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَ لَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْساءُ وَ الضَّرَّاءُ وَ زُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ شرح نهج البلاغة ج : 9 ص : 112ثم قال أفرغ الله علينا و عليكم الصبر و أعز لنا و لكم النصر و كان لنا و لكم ظهيرا في كل أمر ثم رفع مصحفا بيده فقال من يأخذ هذا المصحف فيدعوهم إلى ما فيه و له الجنة فقام ام شاب اسمه مسلم عليه قباء أبيض فقال أنا آخذه فنظر إليه علي و قال يا فتى إن أخذته فإن يدك اليمنى تقطع فتأخذه بيدك اليسرى فتقطع ثم تضرب بالسيف حتى تقتل فقال لا صبر لي على ذلك فنادى علي ثانية فقام الغلام و أعاد عليه القول و أعاد الغلام القول مرارا حتى قال الغلام أنا آخذه و هذا الذي ذكرت في الله قليل فأخذه و انطلق فلما خالطهم ناداهم هذا كتاب الله بيننا و بينكم فضربه رجل فقطع يده اليمنى فتناوله باليسرى فضربه أخرى فقطع اليسرى فاحتضنه فضربوه بأسيافهم حتى قتل
فقالت أم ذريح العبدية في ذلك
يا رب إن مسلما أتاهم بمصحف أرسله مولاهم للعدل و الإيمان قد دعاهم يتلو كتاب الله لا يخشاهم فخضبوا من دمه ظباهم و أمهم واقفة تراهم تأمرهم بالغي لا تنهاقال أبو مخنف فعند ذلك أمر علي ع ولده محمدا أن يحمل الراية فحمل و حمل معه الناس و استحر القتل في الفريقين و قامت الحرب على ساق

(10/100)


شرح نهج البلاغة ج : 9 ص : 113مقتل طلحة و الزبيرقال فأما طلحة فإن أهل الجمل لما تضعضعوا قال مروان لا أطلب ثار عثمان من طلحة بعد اليوم فانتحى له بسهم فأصاب ساقه فقطع أكحله فجعل الدم يبض فاستدعى من مولى له بغلة فركبها و أدبر و قال لمولاه ويحك أ ما من مكان أقدر فيه على النزول فقد قتلني الدم فيقول له مولاه انج و إلا لحقك القوم فقال بالله ما رأيت مصرع شيخ أضيع من مصرعي هذا حتى انتهى إلى دار من دور البصرة فنزلها و مات بها. و قد روي أنه رمي قبل أن يرميه مروان و جرح في غير موضع من جسده. و
روى أبو الحسن المدائني أن عليا ع مر بطلحة و هو يكيد بنفسه فوقف عليه و قال أما و الله إن كنت لأبغض أن أراكم مصرعين في البلاد و لكن ما حتم واقع ثم تمثل

(10/101)


و ما تدري إذا أزمعت أمرا بأي الأرض يدركك المقيل و ما يدري الفقير متى غناه و لا يدري الغني متى يعيل شرح نهج البلاغة ج : 9 ص : 114و ما تدري إذا ألقحت شولا أ تنتج بعد ذلك أم تحي. و أما الزبير فقتله ابن جرموز غيلة بوادي السباع و هو منصرف عن الحرب نادم على ما فرط منه و تقدم ذكر كيفية قتله فيما سبق. و روى الكلبي قال كان العرق الذي أصابه السهم إذا أمسكه طلحة بيده استمسك و إذا رفع يده عنه سال فقال طلحة هذا سهم أرسله الله تعالى و كان أمر الله قدرا مقدورا ما رأيت كاليوم دم قرشي أضيع. قال و كان الحسن البصري إذا سمع هذا و حكي له يقول ذق عقعق. و روى أبو مخنف عن عبد الله بن عون عن نافع قال سمعت مروان بن الحكم يقول أنا قتلت طلحة. و قال أبو مخنف و قد قال عبد الملك بن مروان لو لا أن أبي أخبرني أنه رمى طلحة فقتله ما تركت تيميا إلا قتلته بعثمان قال يعني أن محمد بن أبي بكر و طلحة قتلاه و كانا تيميين. قال أبو مخنف و حدثنا عبد الرحمن بن جندب عن أبيه جندب بن عبد الله قال مررت بطلحة و إن معه عصابة يقاتل بهم و قد فشت فيهم الجراح و كثرهم الناس فرأيته جريحا و السيف في يده و أصحابه يتصدعون عنه رجلا فرجلا و اثنين فاثنين و أنا أسمعه و هو يقول عباد الله الصبر الصبر فإن بعد الصبر النصر و الأجر شرح نهج البلاغة ج : 9 ص : 115فقلت له النجاء النجاء ثكلتك أمك فو الله ما أجرت و لا نصرت و لكنك وزرت و خسرت ثم صحت بأصحه فانذعروا عنه و لو شئت أن أطعنه لطعنته فقلت له أما و الله لو شئت لجدلتك في هذا الصعيد فقال و الله لهلكت هلاك الدنيا و الآخرة إذن فقلت له و الله لقد أمسيت و إن دمك لحلال و إنك لمن النادمين فانصرف و معه ثلاثة نفر و ما أدري كيف كان أمره إلا أني أعلم أنه قد هلك. و روي أن طلحة قال ذلك اليوم ما كنت أظن أن هذه الآية نزلت فينا وَ اتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً. و روى

(10/102)


المدائني قال لما أدبر طلحة و هو جريح يرتاد مكانا ينزله جعل يقول لمن يمر به من أصحاب علي ع أنا طلحة من يجيرني يكررها قال فكان الحسن البصري إذا ذكر ذلك يقول لقد كان في جوار عريض
شرح نهج البلاغة ج : 9 ص : 149116- و من كلام له ع قبل موتهأَيُّهَا النَّاسُ كُلُّ امْرِئٍ لَاقٍ مَا يَفِرُّ مِنْهُ فِي فِرَارِهِ الْأَجَلُ مَسَاقُ النَّفْسِ وَ الْهَرَبُ مِنْهُ مُوَافَاتُهُ كَمْ أَطْرَدْتُ الْأَيَّامَ أَبْحَثُهَا عَنْ مَكْنُونِ هَذَا الْأَمْرِ فَأَبَى اللَّهُ إِلَّا إِخْفَاءَهُ هَيْهَاتَ عِلْمٌ مَخْزُونٌ أَمَّا وَصِيَّتِي فَاللَّهَ لَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَ مُحَمَّداً ص فَلَا تُضَيِّعُوا سُنَّتَهُ أَقِيمُوا هَذَيْنِ الْعَمُودَيْنِ وَ أَوْقِدُوا هَذَيْنِ الْمِصْبَاحَيْنِ وَ خَلَاكُمْ ذَمٌّ مَا لَمْ تَشْرُدُوا حُمِّلَ كُلُّ امْرِئٍ مِنْكُمْ مَجْهُودَهُ وَ خُفِّفَ عَنِ الْجَهَلَةِ رَبٌّ رَحِيمٌ وَ دِينٌ قَوِيمٌ وَ إِمَامٌ عَلِيمٌ أَنَا بِالْأَمْسِ صَاحِبُكُمْ وَ أَنَا الْيَوْمَ عِبْرَةٌ لَكُمْ وَ غَداً مُفَارِقُكُمْ غَفَرَ اللَّهُ لِي وَ لَكُمْ إِنْ ثَبَتَتِ الْوَطْأَةُ فِي هَذِهِ الْمَزَلَّةِ فَذَاكَ وَ إِنْ تَدْحَضِ الْقَدَمُ فَإِنَّا كُنَّا فِي أَفْيَاءِ أَغْصَانٍ وَ مَهَبِّ رِيَاحٍ وَ تَحْتَ ظِلِّ غَمَامٍ اضْمَحَلَّ فِي الْجَوِّ مُتَلَفَّقُهَا وَ عَفَا فِي الْأَرْضِ مَخَطُّهَا وَ إِنَّمَا كُنْتُ جَاراً جَاوَرَكُمْ بَدَنِي أَيَّاماً وَ سَتُعْقَبُونَ مِنِّي جُثَّةً خَلَاءً سَاكِنَةً بَعْدَ حَرَاكٍ وَ صَامِتَةً بَعْدَ نُطْقٍ لِيَعِظَكُمْ هُدُوئِي وَ خُفُوتُ إِطْرَاقِي وَ سُكُونُ أَطْرَافِي فَإِنَّهُ أَوْعَظُ لِلْمُعْتَبِرِينَ مِنَ الْمَنْطِقِ الْبَلِيغِ وَ الْقَوْلِ الْمَسْمُوعِ شرح نهج البلاغة : 9 ص : 117وَدَاعِي لَكُمْ وَدَاعُ امْرِئٍ مُرْصِدٍ لِلتَّلَاقِي غَداً تَرَوْنَ

(10/103)


أَيَّامِي وَ يَكْشِفُ لَكُمْ عَنْ سَرَائِرِي وَ تَعْرِفُونَنِي بَعْدَ خُلُوِّ مَكَانِي وَ قِيَامِ غَيْرِي مَقَامِي
أطردت الرجل إذا أمرت بإخراجه و طرده و طردته إذا نفيته و أخرجته فالإطراد أدل على العز و القهر من الطرد و كأنه ع جعل الأيام أشخاصا يأمر بإخراجهم و إبعادهم عنه أي ما زلت أبحث عن كيفية قتلي و أي وقت يكون بعينه و في أي أرض يكون يوما يوما فإذا لم أجده في اليوم أطردته و استقبلت غده فأبحث فيه أيضا فلا أعلم فأبعده و أطرده و أستأنف يوما آخر هكذا حتى وقع المقدور و هذا الكلام يدل على أنه لم يكن يعرف حال قتله معرفة مفصلة من جميع الوجوه و أن رسول الله ص أعلمه بذلك علما مجملا لأنه قد ثبت
أنه ص قال له ستضرب على هذه و أشار إلى هامته فتخضب منها هذه و أشار إلى لحيته

(10/104)


و ثبت أنه ص قال له أ تعلم من أشقى الأولين قال نعم عاقر الناقة فقال له أ تعلم من أشقى الآخرين قال لا قال من يضربك هاهنا فيخضب هذه و كلام أمير المؤمنين ع يدل على أنه بعد ضرب ابن ملجم له لا يقطع على أنه يموت من ضربته أ لا تراه يقول إن ثبتت الوطأة في هذه المزلة فذاك و إن تدحض فإنما كنا في أفياء أغصان و مهاب رياح أي إن سلمت فذاك الذي تطلبونه يخاطب أهله و أولاده و لا ينبغي أن يقال فذاك ما أطلبه لأنه ع كان يطلب الآخرة شرح نهج البلاغة ج : 9 ص : 118أكثر من الدنيا و في كلامه المنقول عنه ما يؤكد ما قلناه و هو قوله إن عشت فأنا ولي دمي و إن مت فضربة بضربة. و ليس قوله ع و أنا اليوم عبرة لكم و غدا مفارقكم و ما يجري مجراه من ألفاظ الفصل بناقض لما ناه و ذلك لأنه لا يعني غدا بعينه بل ما يستقبل من الزمان كما يقول الإنسان الصحيح أنا غدا ميت فما لي أحرص على الدنيا و لأن الإنسان قد يقول في مرضه الشديد لأهله و ولده ودعتكم و أنا مفارقكم و سوف يخلو منزلي مني و تتأسفون على فراقي و تعرفون موضعي بعدي كله على غلبة الظن و قد يقصد الصالحون به العظة و الاعتبار و جذب السامعين إلى جانب التقوى و ردعهم عن الهوى و حب الدنيا. فإن قلت فما تصنع بقوله ع لابن ملجم
أريد حباءه و يريد قتلي عذيرك من خليلك من مراد
و قول الخلص من شيعته فهلا تقتله فقال فكيف أقتل قاتلي و تارة قال إنه لم يقتلني فكيف أقتل من لم يقتل و كيف قال في البط الصائح خلفه في المسجد ليلة ضربه ابن ملجم
دعوهن فإنهن نوائح و كيف قال تلك الليلة
إني رأيت رسول الله ص فشكوت إليه و قلت ما لقيت من أمتك من الأود و اللدد فقال ادع الله عليهم فقلت اللهم أبدلني بهم خيرا منهم و أبدلهم بي شرا مني

(10/105)


و كيف قال إني لا أقتل محاربا و إنما أقتل فتكا و غيلة يقتلني رجل خامل الذكر. و قد جاء عنه ع من هذا الباب آثار كثيرة. قلت كل هذا لا يدل على أنه كان يعلم الأمر مفصلا من جميع الوجوه أ لا ترى أنه شرح نهج البلاغة ج : 9 ص : 119ليس في الأخبار و الآثار ما يدل علىلوقت الذي يقتل فيه بعينه و لا على المكان الذي يقتل فيه بعينه و أما ابن ملجم فمن الجائز أن يكون علم أنه هو الذي يقتله و لم يعلم علما محققا أن هذه الضربة تزهق نفسه الشريفة منها بل قد كان يجوز أن يبل و يفيق منها ثم يكون قتله فيما بعد على يد ابن ملجم و إن طال الأمد و ليس هذا بمستحيل و قد وقع مثله فإن عبد الملك جرح عمرو بن سعيد الأشدق في أيام معاوية على منافرة كانت بينهما فعفا عمرو عنه ثم كان من القضاء و القدر أن عبد الملك قتل عمرا أيضا بيده ذبحا كما تذبح الشاة. و أما قوله في البط دعوهن فإنهن نوائح فلعله علم أنه تلك الليلة يصاب و يجرح و إن لم يعلم أنه يموت منه و النوائح قد ينحن على المقتول و قد ينحن على المجروح و المنام و الدعاء لا يدل على العلم بالوقت بعينه و لا يدل على أن إجابة دعائه تكون على الفور لا محالة. ثم نعود إلى الشرح أما قوله كل امرئ لاق ما يفر منه في فراره أي إذا كان مقدورا و إلا فقد رأينا من يفر من الشي ء و يسلم لأنه لم يقدر و هذا من قوله تعالى وَ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ و قوله لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلى مَضاجِعِهِمْ و من قوله تعالى قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي َفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلاقِيكُمْ و في القرآن العزيز مثل هذا كثير. قوله و الأجل مساق النفس أي الأمر الذي تساق إليه و تنتهي عنده و تقف إذا بلغته فلا يبقى له حينئذ أكلة في الدنيا. شرح نهج البلاغة ج : 9 ص : 120قوله و الهرب منه موافاته هذا كلام خارج مخرالمبالغة في عدم النجاة و كون الفرار غير مغن و لا عاصم من الموت يقول

(10/106)


الهرب بعينه من الموت موافاة للموت أي إتيان إليه كأنه لم يرتض بأن يقول الهارب لا بد أن ينتهي إلى الموت بل جعل نفس الهرب هو ملاقاة الموت. قوله أبحثها أي أكشفها و أكثر ما يستعمل بحث معدى بحرف الجر و قد عداه هاهنا إلى الأيام بنفسه و إلى مكنون الأمر بحرف الجر و قد جاء بحثت الدجاجة التراب أي نبشته. قوله فأبى الله إلا إخفاءه هيهات علم مخزون تقديره هيهات ذلك مبتدأ و خبره هيهات اسم للفعل معناها بعد أي علم هذا العيب علم مخزون مصون لم أطلع عليه. فإن قلت ما معنى قوله كم أطردت الأيام أبحثها و هل علم الإنسان بموته كيف يكون و في أي وقت يكون و في أي أرض يكون مما يمكن استدراكه بالنظر و الفكر و البحث. قلت مراده ع أني كنت في أيام رسول الله ص أسأله كثيرا عن هذا الغيب فما أنبأني منه إلا بأمور إجمالية غير مفصلة و لم يأذن الله تعالى في اطلاعي على تفاصيل ذلك. قوله فالله لا تشركوا به شيئا الرواية المشهورة فالله بالنصب و كذلك محمدا بتقدير فعل لأن الوصية تستدعي الفعل بعدها أي وحدوا الله و قد روي بالرفع و هو جائز على المبتدأ و الخبر. قوله أقيموا هذين العمودين و أوقدوا هذين المصباحين و خلاكم ذم ما لم تشردوا كلام داخل في باب الاستعارة شبه الكتاب و السنة بعمودي الخيمة و بمصباحين شرح نهج البلاغة ج : 9 ص : 121يستضاء بهما و خلاكم ذم كلمة جارية مجرى المثل معناها و لا ذم عليكم فقد أعذرتم و ذم مرفوع بالفاعلية معناه عداكم و سقط كم. فإن قلت إذا لم يشركوا بالله و لم يضيعوا سنة محمد ص فقد قاموا بكل ما يجب و انتهوا عن كل ما يقبح فأي حاجة له إلى أن يستثني و يقول ما لم تشردوا و إنما كان يحتاج إلى هذه اللفظة لو قال وصيتي إليكم أن توحدوا الله و تؤمنوا بنبوة محمد ص كان حينئذ يحتاج إلى قوله ما لم تشردوا و يكون مراده بها فعل الواجبات و تجنب المقبحات لأنه ليس في الإقرار بالوحدانية و الرسالة العمل بل العمل خارج عن ذلك فوجب

(10/107)


إذا أوصى أن يوصي بالاعتقاد و العمل كما قال عمر لأبي بكر في واقعة أهل الردة كيف تقاتلهم و هم مقرون بالشهادتين و
قد قال رسول الله ص أمرت بأن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله محمد رسول الله فقال أبو بكر إنه قال تتمة هذا فإذا هم قالوها عصموا مني دماءهم و أموالهم إلا بحقها
و أداء الزكاة من حقها. قلت مراده بقوله ما لم تشردوا ما لم ترجعوا عن ذلك فكأنه قال خلاكم ذم إن وحدتم الله و اتبعتم سنة رسوله و دمتم على ذلك و لا شبهة أن هذا الكلام منتظم و أن اللفظتين الأوليين ليستا بمغنيتين عن اللفظة الثالثة و بتقدير أن يغنيا عنه فإن في ذكره مزيد تأكيد و إيضاح غير موجودين لو لم يذكر و هذا كقوله تعالى وَ مَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَ رَسُولَهُ وَ يَخْشَ اللَّهَ وَ يَتَّقْهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْفائِزُونَ و ليس لقائل أن يقول من لا يخشى الله لا يكون مطيعا لله و الرسول و أي حاجة به إلى ذكر ما قد أغنى اللفظ الأول عنه قوله حمل كل امرئ مجهوده و خفف عن الجهلة هذا كلام متصل بما قبله شرح نهج البلاغة ج : 9 ص : 122لأنه لما قال ما لم تشردوا أنبأ عن تكليفهم كل ما وردت به السنة النبوية و أن يدوموا عليه و هذا في الظاهر تكليف أمور شاقة فاستدرك بكلام يدل على التخفيفقال إن التكاليف على قدر المكلفين فالعلماء تكليفهم غير تكليف العامة و أرباب الجهل و المبادئ كالنساء و أهل البادية و طوائف من الناس الغالب عليهم البلادة و قلة الفهم كأقاصي الحبشة و الترك و نحوهم و هؤلاء عند المكلفين غير مكلفين إلا بحمل التوحيد و العدل بخلاف العلماء الذين تكليفهم الأمور المفصلة و حل المشكلات الغامضة و قد روي حمل على صيغة الماضي و مجهوده بالنصب و خفف على صيغة الماضي أيضا و يكون الفاعل هو الله تعالى المقدم ذكره و الرواية الأولى أكثر و أليق. ثم قال رب رحيم أي ربكم رب رحيم و دين قويم أي مستقيم و إمام عليم يعني رسول الله ص و من الناس من

(10/108)


يجعل رب رحيم فاعل خفف على رواية من رواها فعلا ماضيا و ليس بمستحسن لأن عطف الدين عليه يقتضي أن يكون الدين أيضا مخففا و هذا لا يصح. ثم دعا لنفسه و لهم بالغفران. ثم قسم الأيام الماضية و الحاضرة و المستقبلة قسمة حسنة فقال أنا بالأمس صاحبكم و أنا اليوم عبرة لكم و غدا مفارقكم إنما كان عبرة لهم لأنهم يرونه بين أيديهم ملقى صريعا بعد أن صرع الأبطال و قتل الأقران فهو كما قال الشاعر
أكال أشلاء الفوارس بالقنا أضحى بهن و شلوه مأكول

(10/109)


و يقال دحضت قدم فلان أي زلت و زلقت. ثم شبه وجوده في الدنيا بأفياء الأغصان و مهاب الرياح و ظلال الغمام لأن ذلك كله سريع الانقضاء لا ثبات له. شرح نهج البلاغة ج : 9 ص : 123قوله اضمحل في الجو متلفقها و عفا في الأرض مخطها اضمحل ذهب و الميم زائدة و منه الضحل وو الماء القليل و اضمحل السحاب تقشع و ذهب و في لغة الكلابيين امضحل الشي ء بتقديم الميم و متلفقها مجتمعها أي ما اجتمع من الغيوم في الجو و التلفيق الجمع و عفا درس و مخطها أثرها كالخطة. قوله و إنما كنت جارا جاوركم بدني أياما في هذا الكلام إشعار بما يذهب إليه كثر العقلاء من أمر النفس و أن هوية الإنسان شي ء غير هذا البدن. و قوله ستعقبون مني أي إنما تجدون عقيب فقدي جثة يعني بدنا خلاء أي لا روح فيه بل قد أقفر من تلك المعاني التي كنتم تعرفونها و هي العقل و النطق و القوة و غير ذلك ثم وصف تلك الجثة فقال ساكنة بعد حرك بالفتح أي بعد حركة و صامتة بعد نطق و هذا الكلام أيضا يشعر بما قلناه من أمر النفس بل يصرح بذلك أ لا تراه قال ستعقبون مني جثة أي تستبدلون بي جثة صفتها كذا و تلك الجثة جثته ع و محال أن يكون العوض و المعوض عنه واحدا فدل على أن هويته ع التي أعقبنا منها الجنة غير الجثة. قوله ليعظكم هدوي أي سكوني و خفوت إطراقي مثله خفت خفوتا سكن و خفت خفاتا مات فجأة و إطراقه إرخاؤه عينيه ينظر إلى الأرض لضعفه عن رفع جفنه و سكون أطرافه يداه و رجلاه و رأسه ع. قال فإنه أوعظ للمعتبرين من المنطق البليغ و القول المسموع و صدق ع فإن خطبا أخرس ذلك اللسان و هد تلك القوى لخطب جليل و يجب أن يتعظ العقلاء به و ما عسى يبلغ قول الواعظين بالإضافة إلى من شاهد تلك الحال بل بالإضافة إلى من سمعها و أفكر فيها فضلا عن مشاهدتها عيانا و في هذا الكلام شبه من كلام الحكماء الذين تكلموا عند تابوت الإسكندر فقال أحدهم حركنا بسكونه شرح نهج البلاغة ج : 9 ص : 124و قال الآخر قد

(10/110)


كان سيفك لا يجف و كانت مراقيك لا ترام و كانت نقماتك لا تؤمن و كانت عطاياك يفرح بها و كان ضياؤك لا ينكشف فأصبح ضوؤك قد خمد و أصبحت نقماتك لا تخشى و عطاياك لا ترجى و مراقيك لا تمنع و سيفك لا طع. و قال الآخر انظروا إلى حلم المنام كيف انجلى و إلى ظل الغمام كيف انسلى و قال آخر ما كان أحوجه إلى هذا الحلم و إلى هذا الصبر و السكون أيام حياته و قال آخر القدرة العظيمة التي ملأت الدنيا العريضة الطويلة طويت في ذراعين. و قال الآخر أصبح آسر الأسراء أسيرا و قاهر الملوك مقهورا كان بالأمس مالكا فصار اليوم هالكا. ثم قال ع ودعتكم وداع امرئ مرصد للتلاقي أرصدته لكذا أي أعددته له و في الحديث إلا أن أرصده لدين علي و التلاقي هاهنا لقاء الله و يروى وداعيكم أي وداعي إياكم و الوداع مفتوح الواو. ثم قال غدا ترون أيامي و يكشف لكم عن سرائري و تعرفونني بعد خلو مكاني و قيام غيري مقامي هذا معنى قد تداوله الناس قديما و حديثا قال أبو تمام
راحت وفود الأرض عن قبره فارغة الأيدي ملاء القلوب قد علمت ما رزئت إنما يعرف قدر الشمس بعد الغروبو قال أبو الطيب
و نذمهم و بهم عرفنا فضله و بضدها تتبين الأشياء
شرح نهج البلاغة ج : 9 ص : 125و من أمثالهمالضد يظهر حسنة الضد
و منها أيضا لو لا مرارة المرض لم تعرف حلاوة العافية. و إنما قال ع و يكشف لكم عن سرائري لأنهم بعد فقده و موته يظهر لهم و يثبت عندهم إذا رأوا و شاهدوا إمرة من بعده أنه إنما كان يريد بتلك الحروب العظيمة وجه الله تعالى و ألا يظهر المنكر في الأرض و إن ظن قوم في حياته أنه كان يريد الملك و الدنيا

(10/111)


شرح نهج البلاغة ج : 9 ص : 150126- و من خطبة له ع و يومئ فيها إلى الملاحموَ أَخَذُوا يَمِيناً وَ شِمَالًا ظَعْناً فِي مَسَالِكِ الْغَيِّ وَ تَرْكاً لِمَذَاهِبِ الرُّشْدِ فَلَا تَسْتَعْجِلُوا مَا هُوَ كَائِنٌ مُرْصَدٌ وَ لَا تَسْتَبْطِئُوا مَا يَجِي ءُ بِهِ الْغَدُ فَكَمْ مِنْ مُسْتَعْجِلٍ بِمَا إِنْ أَدْرَكَهُ وَدَّ أَنَّهُ لَْ يُدْرِكْهُ وَ مَا أَقْرَبَ الْيَوْمَ مِنْ تَبَاشِيرِ غَدٍ يَا قَوْمِ هَذَا إِبَّانُ وُرُودِ كُلِّ مَوْعُودٍ وَ دُنُوٌّ مِنْ طَلْعَةِ مَا لَا تَعْرِفُونَ أَلَا وَ إِنَّ مَنْ أَدْرَكَهَا مِنَّا يَسْرِي فِيهَا بِسِرَاجٍ مُنِيرٍ وَ يَحْذُو فِيهَا عَلَى مِثَالِ الصَّالِحِينَ لِيَحُلَّ فِيهَا رِبْقاً وَ يُعْتِقَ فِيهَا رِقّاً وَ يَصْدَعَ شَعْباً وَ يَشْعَبَ صَدْعاً فِي سُتْرَةٍ عَنِ النَّاسِ لَا يُبْصِرُ الْقَائِفُ أَثَرَهُ وَ لَوْ تَابَعَ نَظَرَهُ ثُمَّ لَيُشْحَذَنَّ فِيهَا قَوْمٌ شَحْذَ الْقَيْنِ النَّصْلَ تُجْلَى بِالتَّنْزِيلِ أَبْصَارُهُمْ وَ يُرْمَى بِالتَّفْسِيرِ فِي مَسَامِعِهِمْ وَ يُغْبَقُونَ كَأْسَ الْحِكْمَةِ بَعْدَ الصَّبُوحِ

(10/112)


يذكر ع قوما من فرق الضلال أخذوا يمينا و شمالا أي ضلوا عن الطريق الوسطى التي هي منهاج الكتاب و السنة و ذلك لأن كل فضيلة و حق فهو محبوس بطرفين خارجين عن العدالة و هما جانبا الإفراط و التفريط كالفطانة التي هي محبوسة شرح نهج البلاغة ج : 9 ص : 127بالجربزة و اباوة و الشجاعة التي هي محبوسة بالتهور و الجبن و الجود المحبوس بالتبذير و الشح فمن لم يقع على الطريق الوسطى و أخذ يمينا و شمالا فقد ضل. ثم فسر قوله أخذ يمينا و شمالا فقال ظعنوا ظعنا في مسالك الغي و تركوا مذاهب الرشد تركا و نصب تركا و ظعنا على المصدرية و العامل فيهما من غير لفظهما و هو قوله أخذوا. ثم نهاهم عن استعجال ما هو معد و لا بد من كونه و وجوده و إنما سماه كائنا لقرب كونه كما قال تعالى إِنَّكَ مَيِّتٌ وَ إِنَّهُمْ مَيِّتُونَ و نهاهم أن يستبطئوا ما يجي ء في الغد لقرب وقوعه كما قال و إن غدا للناظرين قريب
و قال الآخر
غد ما غد ما أقرب اليوم من غد
و قال تعالى إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ أَ لَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ. ثم قال كم من مستعجل أمرا و يحرص عليه فإذا حصل ود أنه لم يحصل قال أبو العتاهية
من عاش لاقى ما يسوء من الأمور و ما يسرو لرب حتف فوقه ذهب و ياقوت و در
و قال آخر
فلا تتمنين الدهر شيئا فكم أمنية جلبت منية

(10/113)


شرح نهج البلاغة ج : 9 ص : 128و قال تعالى وَ عَسى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَ هُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَ اللَّهُ يَعْلَمُ وَ أَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ و تباشير الصبح أوائله. ثم قال يا قوم قد دنا وقت القيامة و ظهور الفتن التي تظهر أمامها. و إبان الشي ء بالكسر و اليد وقته و زمانه و كنى عن تلك الأهوال بقوله و دنو من طلعة ما لا تعرفون لأن تلك الملاحم و الأشراط الهائلة غير معهود مثلها نحو دابة الأرض و الدجال و فتنته و ما يظهر على يده من المخاريق و الأمور الموهمة و واقعة السفياني و ما يقتل فيها من الخلائق الذين لا يحصى عددهم. ثم ذكر أن مهدي آل محمد ص و هو الذي عنى بقوله و إن من أدركها منا يسري في ظلمات هذه الفتن بسراج منير و هو المهدي و أتباع الكتاب و السنة. و يحذو فيها يقتفي و يتبع مثال الصالحين ليحل في هذه الفتن و ربقا أي حبلا معقودا. و يعتق رقا أي يستفك أسرى و ينقذ مظلومين من أيدي ظالمين و يصدع شعبا أي يفرق جماعة من جماعات الضلال و يشعب صدعا يجمع ما تفرق من كلمة أهل الهدى و الإيمان. قوله ع في سترة عن الناس هذا الكلام يدل على استتار هذا الإنسان المشار إليه و ليس ذلك بنافع للإمامية في مذهبهم و إن ظنوا أنه تصريح بقولهم و ذلك لأنه من الجائز أن يكون هذا الإمام يخلقه الله تعالى في آخر الزمان و يكون مستترا مدة و له دعاة يدعون إليه و يقررون أمره ثم يظهر بعد ذلك الاستتار و يملك الممالك شرح نهج البلاغة ج : 9 ص : 129و يقهر الدول و يمهد الأرض كما ورد في قوله لا يبصر القائف أي هو استتار شديد لا يدركه القائف و هو الذي يعرف الآثار و الجمع قافة و لا يعرف أثره و لو استقصى في الطلب و تابع النظر و التأمل. و يقال شحذت السكين أشحذه شحذا أي حددته يريد ليحرضن في هذه الملاحم قوم على الحرب و قتل أهل الضلال و لتشحذن عزائمهم كما يشحذ الصيقل السيف و يرقق حده. ثم وصف هؤلاء القوم المشحوذي العزائم فقال تجلى بصائرهم

(10/114)


بالتنزيل أي يكشف الرين و الغطاء عن قلوبهم بتلاوة القرآن و إلهامهم تأويله و معرفة أسراره. ثم صرح بذلك فقال و يرمى بالتفسير في مسامعهم أي يكشف لهم الغطاء و تخلق المعارف في قلوبهم و يلهمون فهم الغوامض و الأسرار الباطنة و يغبقون كأس الحكم بعد الصبوح أي لا تزال المعارف الربانية و الأسرار الإلهية تفيض عليهم صباحا و مساء فالغبوق كناية عن الفيض الحاصل لهم في الآصال و الصبوح كناية عما يحصل لهم منه في الغدوات و هؤلاء هم العارفون الذين جمعوا بين الزهد و الحكمة و الشجاعة و حقيق بمثلهم أن يكونوا أنصارا لولي الله الذي يجتبيه و يخلقه في آخر أوقات الدنيا فيكون خاتمة أوليائه و الذي يلقى عصا التكليف عنده
مِنْهَا وَ طَالَ الْأَمَدُ بِهِمْ لِيَسْتَكْمِلُوا الْخِزْيَ وَ يَسْتَوْجِبُوا الْغِيَرَ حَتَّى إِذَا اخْلَوْلَقَ شرح نهج البلاغة ج : 9 ص : 130الْأَجَلُ وَ اسْتَرَاحَ قَوْمٌ إِلَى الْفِتَنِ وَ اشْتَالُوا عَنْ لَقَاحِ حَرْبِهِمْ لَمْ يَمُنُّوا عَلَى اللَّ بِالصَّبْرِ وَ لَمْ يَسْتَعْظِمُوا بَذْلَ أَنْفُسِهِمْ فِي الْحَقِّ حَتَّى إِذَا وَافَقَ وَارِدُ الْقَضَاءِ انْقِطَاعَ مُدَّةِ الْبَلَاءِ حَمَلُوا بَصَائِرَهُمْ عَلَى أَسْيَافِهِمْ وَ دَانُوا لِرَبِّهِمْ بِأَمْرِ وَاعِظِهِمْ

(10/115)


هذا الكلام يتصل بكلام قبله لم يذكره الرضي رحمه الله و هو وصف فئة ضالة قد استولت و ملكت و أملى لها الله سبحانه قال ع و طال الأمد بهم ليستكملوا الخزي و يستوجبوا الغير أي النعم التي يغيرها بهم من نعم الله سبحانه كما قال وَ إِذا أَرَدْنا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنا مُتْرَفِيها فَفَسَقُوا فِيها فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْناها تَدْمِيراً و كما قال تعالى سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ. حتى إذا اخلولق الأجل أي قارب أمرهم الانقضاء من قولك اخلولق السحاب أي استوى و صار خليقا بأن يمطر و اخلولق الرسم استوى مع الأرض. و استراح قوم إلى الفتن أي صبا قوم من شيعتنا و أوليائنا إلى هذه الفئة و استراحوا إلى ضلالها و فتنتها و اتبعوها. و اشتالوا عن لقاح حربهم أي رفعوا أيديهم و سيوفهم عن أن يشبوا الحرب بينهم و بين هذه الفئة مهادنة لها و سلما و كراهية للقتال يقال شال فلان كذا أي رفعه و اشتال افتعل هو في نفسه كقولك حجم زيد عمرا و احتجم هو نفسه و لقاح حربهم هو بفتح اللام مصدر من لقحت الناقة. قوله لم يمنوا هذا جواب قوله حتى إذا و الضمير في يمنوا راجع إلى شرح نهج البلاغة ج : 9 ص : 131العارفين الذين تقدم ذكرهفي الفصل السابق ذكره يقول حتى إذا ألقى هؤلاء السلام إلى هذه الفئة عجزا عن القتال و استراحوا من منابذتهم بدخولهم في ضلالتهم و فتنتهم إما تقية منهم أو لشبهة دخلت عليهم أنهض الله تعالى هؤلاء العارفين الشجعان الذين خصهم بحكمته و أطلعهم على أسرار ملكوته فنهضوا و لم يمنوا على الله تعالى بصبرهم و لم يستعظموا أن يبذلوا في الحق نفوسهم قال حتى إذا وافق قضاء الله تعالى و قدره كي ينهض هؤلاء بقضاء الله و قدره في انقضاء مدة تلك الفئة و ارتفاع ما كان شمل الخلق من البلاء بملكها و إمرتها حمل هؤلاء العارفون بصائرهم على أسيافهم و هذا معنى لطيف يعني أنهم أظهروا بصائرهم و عقائدهم و قلوبهم

(10/116)


للناس و كشفوها و جردوها من أجفانها مع تجريد السيوف من أجفانها فكأنها شي ء محمول على السيوف يبصره من يبصر السيوف و لا ريب أن السيوف المجردة من أجلى الأجسام للأبصار فكذلك ما يكون محمولا عليها و ن الناس من فسر هذا الكلام فقال أراد بالبصائر جمع بصيرة و هو الدم فكأنه أراد طلبوا ثأرهم و الدماء التي سفكتها هذه الفئة و كأن تلك الدماء المطلوب ثأرها محمولة على أسيافهم التي جردوها للحرب و هذا اللفظ قد قاله بعض الشعراء المتقدمين بعينه
راحوا بصائرهم على أكتافهم و بصيرتي يعدو بها عتد وأى
و فسره أبو عمرو بن العلاء فقال يريد أنهم تركوا دم أبيهم و جعلوه خلفهم أي لم يثأروا به و أنا طلبت ثأري و كان أبو عبيدة معمر بن المثنى يقول في هذا البيت البصيرة الترس أو الدرع و يرويه حملوا بصائرهم شرح نهج البلاغة ج : 9 ص : 13حَتَّى إِذَا قَبَضَ اللَّهُ رَسُولَهُ رَجَعَ قَوْمٌ عَلَى الْأَعْقَابِ وَ غَالَتْهُمُ السُّبُلُ وَ اتَّكَلُوا عَلَى الْوَلَائِجِ وَ وَصَلُوا غَيْرَ الرَّحِمِ وَ هَجَرُوا السَّبَبَ الَّذِي أُمِرُوا بِمَوَدَّتِهِ وَ نَقَلُوا الْبِنَاءَ عَنْ رَصِّ أَسَاسِهِ فَبَنَوْهُ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهِ مَعَادِنُ كُلِّ خَطِيئَةٍ وَ أَبْوَابُ كُلِّ ضَارِبٍ فِي غَمْرَةٍ قَدْ مَارُوا فِي الْحَيْرَةِ وَ ذَهَلُوا فِي السَّكْرَةِ عَلَى سُنَّةٍ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ مِنْ مُنْقَطِعٍ إِلَى الدُّنْيَا رَاكِنٍ أَوْ مُفَارِقٍ لِلدِّينِ مُبَايِنٍ

(10/117)


رجعوا على الأعقاب تركوا ما كانوا عليه قال سبحانه وَ مَنْ يَنْقَلِبْ عَلى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً. و غالتهم السبل أهلكهم اختلاف الآراء و الأهواء غاله كذا أي أهلكه و السبل الطرق. و الولائج جمع وليجة و هي البطانة يتخذها الإنسان لنفسه قال سبحانه وَ لَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَ لا رَسُولِهِ وَ لَا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً. و وصلوا غير الرحم أي غير رحم رسول الله ص فذكرها ع شرح نهج البلاغة ج : 9 ص : 133ذكرا مطلقا غير مضاف للعلم بها كما يقول القائل أهل البيت فيعلم السامع أنه أراد أهل ب الرسول. و هجروا السبب يعني أهل البيت أيضا و هذه إشارة إلى
قول النبي ص خلفت فيكم الثقلين كتاب الله و عترتي أهل بيتي حبلان ممدودان من السماء إلى الأرض لا يفترقان حتى يردا علي الحوض

(10/118)


فعبر أمير المؤمنين عن أهل البيت بلفظ السبب لما كان النبي ص قال حبلان و السبب في اللغة الحبل. عنى بقوله أمروا بمودته قول الله تعالى قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى. قوله و نقلوا البناء عن رص أساسه الرص مصدر رصصت الشيء أرصه أي ألصقت بعضه ببعض و منه قوله تعالى كَأَنَّهُمْ بُنْيانٌ مَرْصُوصٌ و تراص القوم في الصف أي تلاصقوا فبنوه في غير موضعه و نقلوا الأمر عن أهله إلى غير أهله. ثم ذمهم ع و قال إنهم معادن كل خطيئة و أبواب كل ضارب في غمرة الغمرة الضلال و الجهل و الضارب فيها الداخل المعتقد لها. قد ماروا في الحيرة مار يمور إذا ذهب و جاء فكأنهم يسبحون في الحيرة كما يسبح الإنسان في الماء. و ذهل فلان بالفتح يذهل على سنة من آل فرعون أي على طريقة و آل فرعون أتباعه قال تعالى أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذابِ شرح نهج البلة ج : 9 ص : 134من منقطع إلى الدنيا لا هم له غيرها راكن مخلد إليها قال الله تعالى وَ لا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا أو مفارق للدين مباين مزايل. فإن قلت أي فرق بين الرجلين و هل يكون المنقطع إلى الدنيا إلا مفارقا للدين قلت قد يكون في أهل الضلال من هو مفارق للدين مباين و ليس براكن إلى الدنيا و لا منقطع إليها كما نرى كثيرا من أحبار النصارى و رهبانهم. فإن قلت أ ليس هذا الفصل صريحا في تحقيق مذهب الإمامية قلت لا بل نحمله على أنه عنى ع أعداءه الذين حاربوه من قريش و غيرهم من أفناء العرب في أيام صفين و هم الذين نقلوا البناء و هجروا السبب و وصلوا غير الرحم و اتكلوا على الولائج و غالتهم السبل و رجعوا على الأعقاب كعمرو بن العاص و المغيرة بن شعبة و مروان بن الحكم و الوليد بن عقبة و حبيب بن مسلمة و بسر بن أرطاة و عبد الله بن الزبير و سعيد بن العاص و حوشب و ذي الكلاع و شرحبيل بن السمط و أبي الأعور السلمي و غيرهم ممن تقدم ذكرنا له

(10/119)


في الفصول المتعلقة بصفين و أخبارها فإن هؤلاء نقلوا الإمامة عنه ع إلى معاوية فنقلوا البناء عن رص أصله إلى غير موضعه. فإن قلت لفظ الفصل يشهد بخلاف ما تأولته لأنه قال ع حتى إذا قبض الله رسوله رجع قوم على الأعقاب فجعل رجوعهم على الأعقاب عقيب قبض الرسول ص و ما ذكرته أنت كان بعد قبض الرسول بنيف و عشرين سنة. قلت ليس يمتنع أن يكون هؤلاء المذكورون رجعوا على الأعقاب لما مات رسول الله ص و أضمروا في أنفسهم مشاقة أمير المؤمنين و أذاه و قد كان فيهم من

(10/120)


شرح نهج البلاغة ج : 9 ص : 135يتحكك به في أيام أبي بكر و عمر و عثمان و يتعرض له و لم يكن أحد منهم و لا من غيرهم يقدم على ذلك في حياة رسول الله و لا يمتنع أيضا أن يريد برجوعهم على الأعقاب ارتدادهم عن الإسلام بالكلية فإن كثيرا من أصحابنا يطعنون في إيمان بعمن ذكرناه و يعدونهم من المنافقين و قد كان سيف رسول الله ص يقمعهم و يردعهم عن إظهار ما في أنفسهم من النفاق فأظهر قوم منهم بعده ما كانوا يضمرونه من ذلك خصوصا فيما يتعلق بأمير المؤمنين الذي ورد في حقه ما كنا نعرف المنافقين على عهد رسول الله إلا ببغض علي بن أبي طالب و هو خبر محقق مذكور في الصحاح. فإن قلت يمنعك من هذا التأويل قوله و نقلوا البناء عن رص أساسه فجعلوه في غير موضعه و ذلك لأن إذا ظرف و العامل فيها قوله رجع قوم على الأعقاب و قد عطف عليه قوله و نقلوا البناء فإذا كان الرجوع على الأعقاب واقعا في الظرف المذكور و هو وقت قبض الرسول وجب أن يكون نقل البناء إلى غير موضعه واقعا في ذلك الوقت أيضا لأن أحد الفعلين معطوف على الآخر و لم ينقل أحد وقت قبض الرسول ص البناء إلى معاوية عن أمير المؤمنين ع و إنما نقل عنه إلى شخص آخر و في إعطاء العطف حقه إثبات مذهب الإمامية صريحا. قلت إذا كان الرجوع على الأعقاب واقعا وقت قبض النبي ص فقد قمنا بما يجب من وجود عامل في الظرف و لا يجب أن يكون نقل البناء إلى غير موضعه واقعا في تلك الحال أيضا بل يجوز أن يكون واقعا في زمان آخر إما بأن تكون الواو للاستئناف لا للعطف أو بأن تكون للعطف في مطلق الحدث لا في وقوع الحدث في عين ذلك الزمان المخصوص كقوله تعالى حَتَّى إِذا أَتَيا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَما أَهْلَها فَأَبَوْا أَنْ شرح نهج البلاغة ج : 9 ص : 136يُضَيِّفُوهُما فَوَجَدا فِيها جِداراً يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ فَأَقامَهُ فالعامل في الظرفستطعما و يجب أن يكون استطعامهما وقت إتيانهما أهلها لا محالة و لا

(10/121)


يجب أن تكون جميع الأفعال المذكورة المعطوفة واقعة حال الإتيان أيضا أ لا ترى أن من جملتها فأقامه و لم يكن إقامة الجدار حال إتيانهما القرية بل متراخيا عنه بزمان ما اللهم إلا أن يقول قائل أشار بيده إلى الجدار فقام أو قال له قم فقام لأنه لا يمكن أن يجعل إقامة الجدار مقارنا للإتيان إلا على هذا الوجه و هذا لم يكن و لا قاله مفسر و لو كان قد وقع على هذا الوجه لما قال له لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً لأن الأجر إنما يكون على اعتمال عمل فيه مشقة و إنما يكون فيه مشقة إذا بناه بيده و باشره بجوارحه و أعضائه. و اعلم أنا نحمل كلام أمير المؤمنين ع على ما يقتضيه سؤدده الجليل و منصبه العظيم و دينه القويم من الإغضاء عما سلف ممن سلف فقد كان صاحبهم بالمعروف برهة من الدهر فإما أن يكون ما كانوا فيه حقهم أو حقه فتركه لهم رفعا لنفسه عن المنازعة أو لما رآه من المصلحة و على كلا التقديرين فالواجب علينا أن نطبق بين آخر أفعاله و أقواله بالنسبة إليهم و بين أولها فإن بعد تأويل ما يتأوله من كلامه ليس بأبعد من تأويل أهل التوحيد و العدل الآيات المتشابهة في القرآن و لم يمنع بعدها من الخوض في تأويلها محافظة على الأصول المقررة فكذلك هاهنا

(10/122)


شرح نهج البلاغة ج : 9 ص : 151137- و من خطبة له عوَ أَسْتَعِينُهُ عَلَى مَدَاحِرِ الشَّيْطَانِ وَ مَزَاجِرِهِ وَ الِاعْتِصَامِ مِنْ حَبَائِلِهِ وَ مَخَاتِلِهِ وَ أَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّداً عَبْدُهُ وَ رَسُولُهُ وَ نَجِيبُهُ وَ صَفْوَتُهُ لَا يُؤَازَى فَضْلُهُ وَ لَا يُجْبَرُ فَقْدُهُ أَضَاءَتْ بِهِ الْبِلَادُ بَعْدَ الضَّلَالَةِ الْمُظْلِمَةِ وَ الْجَهَالَةِ الْغَالِبَةِ وَ الْجَفْوَةِ الْجَافِيَةُ وَ النَّاسُ يَسْتَحِلُّونَ الْحَرِيمَ وَ يَسْتَذِلُّونَ الْحَكِيمَ يَحْيَوْنَ عَلَى فَتْرَةٍ وَ يَمُوتُونَ عَلَى كَفْرَةٍ ثُمَّ إِنَّكُمْ مَعْشَرَ الْعَرَبِ أَغْرَاضُ بَلَايَا قَدِ اقْتَرَبَتْ فَاتَّقُوا سَكَرَاتِ النِّعْمَةِ وَ احْذَرُوا بَوَائِقَ النِّقْمَةِ وَ تَثَبَّتُوا فِي قَتَامِ الْعِشْوَةِ وَ اعْوِجَاجِ الْفِتْنَةِ عِنْدَ طُلُوعِ جَنِينِهَا وَ ظُهُورِ كَمِينِهَا وَ انْتِصَابِ قُطْبِهَا وَ مَدَارِ رَحَاهَا تَبْدَأُ فِي مَدَارِجَ خَفِيَّةٍ وَ تَئُولُ إِلَى فَظَاعَةٍ جَلِيَّةٍ شِبَابُهَا كَشِبَابِ الْغُلَامِ وَ آثَارُهَا كَآثَارِ السِّلَامِ يَتَوَارَثُهَا الظَّلَمَةُ بِالْعُهُودِ أَوَّلُهُمْ قَائِدٌ لآِخِرِهِمْ وَ آخِرُهُمْ مُقْتَدٍ بِأَوَّلِهِمْ يَتَنَافَسُونَ فِي دُنْيَا دَنِيَّةٍ وَ يَتَكَالَبُونَ عَلَى جِيفَةٍ مُرِيحَةٍ وَ عَنْ قَلِيلٍ يَتَبَرَّأُ التَّابِعُ مِنَ الْمَتْبُوعِ وَ الْقَائِدُ مِنَ الْمَقُودِ فَيَتَزَايَلُونَ بِالْبَغْضَاءِ وَ يَتَلَاعَنُونَ عِنْدَ اللِّقَاءِ ثُمَّ يَأْتِي بَعْدَ ذَلِكَ طَالِعُ الْفِتْنَةِ الرَّجُوفِ وَ الْقَاصِمَةِ الزَّحُوفِ فَتَزِيغُ قُلُوبٌ بَعْدَ اسْتِقَامَةٍ وَ تَضِلُّ رِجَالٌ بَعْدَ سَلَامَةٍ وَ تَخْتَلِفُ الْأَهْوَاءُ عِنْدَ هُجُومِهَا وَ تَلْتَبِسُ الآْرَاءُ عِنْدَ نُجُومِهَا شرح نهج البلاغة ج : 9 ص : 138مَنْ أَشْرَ لَهَا

(10/123)


قَصَمَتْهُ وَ مَنْ سَعَى فِيهَا حَطَمَتْهُ يَتَكَادَمُونَ فِيهَا تَكَادُمَ الْحُمُرِ فِي الْعَانَةِ قَدِ اضْطَرَبَ مَعْقُودُ الْحَبْلِ وَ عَمِيَ وَجْهُ الْأَمْرِ تَغِيضُ فِيهَا الْحِكْمَةُ وَ تَنْطِقُ فِيهَا الظَّلَمَةُ وَ تَدُقُّ أَهْلَ الْبَدْوِ بِمِسْحَلِهَا وَ تَرُضُّهُمْ بِكَلْكَلِهَا يَضِيعُ فِي غُبَارِهَا الْوُحْدَانُ وَ يَهْلِكُ فِي طَرِيقِهَا الرُّكْبَانُ تَرِدُ بِمُرِّ الْقَضَاءِ وَ تَحْلُبُ عَبِيطَ الدِّمَاءِ وَ تَثْلِمُ مَنَارَ الدِّينِ وَ تَنْقُضُ عَقْدَ الْيَقِينِ يَهْرُبُ مِنْهَا الْأَكْيَاسُ وَ يُدَبِّرُهَا الْأَرْجَاسُ مِرْعَادٌ مِبْرَاقٌ كَاشِفَةٌ عَنْ سَاقٍ تُقْطَعُ فِيهَا الْأَرْحَامُ وَ يُفَارَقُ عَلَيْهَا الْإِسْلَامُ بَرِيئُهَا سَقِيمٌ وَ ظَاعِنُهَا مُقِيمٌ
مداحر الشيطان الأمور التي يدحر بها أي يطرد و يبعد دحرته أدحره دحورا قال تعالى دُحُوراً وَ لَهُمْ عَذابٌ واصِبٌ و قال سبحانه اخْرُجْ مِنْها مَذْؤُماً مَدْحُوراً أي مقصى. و مزاجره الأمور يزجر بها جمع مزجر و مزجرة و كثيرا ما يبني ع من الأفعال مفعلا و مفعلة و يجمعه و إذا تأملت كلامه عرفت ذلك. و حبائل الشيطان مكايده و أشراكه التي يضل بها البشر و مخاتله الأمور التي يختل بها بالكسر أي يخدع. لا يؤازى فضله لا يساوى و اللفظة مهموزة آزيت فلانا حاذيته و لا يجوز وازيته. شرح نهج البلاغة ج : 9 ص : 139و لا يجبر فقده لا ي أحد مسده بعده و الجفوة الجافية غلظ الطبع و بلادة الفهم. و يستذلون الحكيم يستضيمون العقلاء و اللام هاهنا للجنس كقوله وَ جاءَ رَبُّكَ وَ الْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا. يحيون على فترة على انقطاع الوحي ما بين نبوتين. و يموتون على كفرة بالفتح واحد الكفرات كالضربة واحدة الضربات. و يروى ثم إنكم معشر الناس و الأغراض الأهداف و سكرات النعمة ما تحدثه النعم عند أربابها من الغفلة المشابهة للسكر قال الشاعر

(10/124)


خمس سكرات إذا مني المرء بها صار عرضة للزمان سكرة المال و الحداثة و العشق و سكر الشراب و السلطانو من كلام الحكماء للوالي سكرة لا يفيق منها إلا بالعزل و البوائق الدواهي جمع بائقة يقال باقتهم الداهية بوقا أي أصابتهم و كذلك باقتهم بئوق على فعول و ابتاقت عليهم بائقة شر مثل انباحت أي انفتقت و انباق عليهم الدهر هجم بالداهية كما يخرج الصوت من البوق و
في الحديث لا يدخل الجنة من لا يأمن جاره بوائقه
أي غوائله و شره. و القتام بفتح القاف الغبار و الأقتم الذي يعلوه قتمة و هو لون فيه غبرة و حمرة. و العشوة بكسر العين ركوب الأمر على غير بيان و وضوح و يروى و تبينوا في قتام العشوة كما قرئ إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا و فتثبتوا. شرح نهج البلاغج : 9 ص : 140و اعوجاج الفتنة أخذها في غير القصد و عدولها عن المنهج. ثم كنى عن ظهور المستور المخفي منها بقوله عند طلوع جنينها و ظهور كمينها. و الجنين الولد ما دام في البطن و الجمع أجنة و يجوز ألا يكون الكلام كناية بل صريحا أي عند طلوع ما استحن منها أي استتر و ظهور ما كمن أي ما بطن. و كنى عن استحكام أمر الفتنة بقوله و انتصاب قطعها و مدار رحاها. ثم قال إنها تبدو يسيرة ثم تصير كثيرة. و الفظاعة مصدر فظع بالضم فهو فظيع أي شديد شنيع تجاوز المقدار و كذلك أفظع الرجل فهو مفظع و أفظع الرجل على ما لم يسم فاعله نزل به أمر عظيم و أفظعت الشي ء وجدته فظيعا و مثله استفظعته و هذا المعنى كما قال الشاعر و لربما هاج الكبير و من الأمور لك الصغير
و في المثل و الشر تبدؤه صغاره و قال الشاعر
فإن النار بالعودين تذكى و إن الحرب أولها كلام
و قال أبو تمام
رب قليل جدا كثيرا كم مطر بدؤه مطير
و قال أيضا
لا تذيلن صغير همك و انظر كم بذي الأسل دوحة من قضيب

(10/125)


قوله شبابها كشباب الغلام بالكسر مصدر شب الفرس و الغلام يشب و يشب شبابا و شبيبا إذا قمص و لعب و أشببته أنا أي هيجته. شرح نهج البلاغة ج : 9 ص : 141و السلام الحجارة جمع واحده سلمة بكسر اللام يذكر الفتنة و يقول إنها تبدو في أول الأمر و أربابها يمرحون و يشبون كما يشب الغلام و يمرح ثم تئول إلى أن تعقب فيهم آثارا كآثار الحجارة في الأبدان قال الشاعرو الحب مثل الحرب أولها التخيل و النشاطو ختامها أم الربيق النكر و الضرب القطاط

(10/126)


ثم ذكر أن هذه الفتنة يتوارثها قوم من قوم و كلهم ظالم أولهم يقود آخرهم كما يقود الإنسان القطار من الإبل و هو أمامها و هي تتبعه و آخرهم يقتدي بأولهم أي يفعل فعله و يحذو حذوه. و جيفة مريحة منتنة أراحت ظهر ريحها و يجوز أن تكون من أراح البعير أي مات و قد جاء في أراح بمعنى أنتن راح بلا همز. ثم ذكر تبرؤ التابع من المتبوع يعني يوم القيامة. فإن قلت إن الكتاب العزيز إنما ذكر تبرؤ المتبوع من التابع في قوله إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَ رَأَوُا الْعَذابَ وَ تَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبابُ و هاهنا قد عكس ذلك فقال إن التابع يتبرأ من المتبوع قلت إنه قد ورد في الكتاب العزيز مثل ذلك في قوله أَيْنَ شُرَكاؤُكُمُ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ قالُوا ضَلُّوا عَنَّا بَلْ لَمْ نَكُنْ نَدْعُوا مِنْ قَبْلُ شَيْئاً فقولهم لَمْ نَكُنْ نَدْعُوا مِنْ قَبْلُ شَيْئاً هو التبرؤ و هو قوله حكاية عنهم وَ اللَّهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ و هذا هو التبرؤ. شرح نهج البلاغة ج : 9 ص : 142ثم ذكر ع أن القائد يتبرأ من المقود أي يتبرأ المتبوع من التابع فيكون كل من الفريقين تبرأ من صاحبه كما قال سبحانه ثُمَّ يَوْ الْقِيامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَ يَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً. و يتزايلون يتفرقون. قوله ثم يأتي بعد ذلك طالع الفتنة الرجوف طالعها مقدماتها و أوائلها و سماها رجوفا لشدة الاضطراب فيها. فإن قلت أ لم تكن قلت إن قوله عن قليل يتبرأ التابع من المتبوع يعني به يوم القيامة فكيف يقول ثم يأتي بعد ذلك طالع الفتنة و هذا إنما يكون قبل القيامة قلت إنه لما ذكر تنافس الناس على الجيفة المنتنة و هي الدنيا أراد أن يقول بعده بلا فصل ثم يأتي بعد ذلك طالع الفتنة الرجوف لكنه لما تعجب من تزاحم الناس و تكالبهم على تلك الجيفة أراد أن يؤكد ذلك التعجب فأتى بجملة معترضة بين الكلامين تؤكد

(10/127)


معنى تعجبه منهم فقال إنهم على ما قد ذكرنا من تكالبهم عليها عن قليل يتبرأ بعضهم من بعض و يلعن بعضهم بعضا و ذلك أدعى لهم لو كانوا يعقلون إلى أن يتركوا التكالب و التهارش على هذه الجيفة الخسيسة ثم عاد إلى نظام الكلام فقال ثم يأتي بعد ذلك طالع الفتنة الرجوف و مثل هذا الاعتراض في الكلام كثير و خصوصا في القرآن و قد ذكرنا منه فيما تقدم طرفا. قوله و القاصمة الزحوف القاصمة الكاسرة و سماها زحوفا تشبيها لمشيها قدما بمشي الدبى الذي يهلك الزروع و يبيدها و الزحف السير على تؤدة كسير الجيوش بعضها إلى بعض. شرح نهج البلاغة ج : 9 ص : 143قوله و تزيغ قلوب أي تميل و هذه اللفظة و التي بعدها دالتان على خلاف ما تذهب إليه الإمامية من أن المؤمن لا يكفر و ناصرتان لمذهب أصحابنا. و نجومها مصدر نجم الشر إذا ظهر. من أشرف لها مصادمها و قابلها و من سعى فيها أي في تسكينها و إطفائها و هذا كله إشارة إلى الملحمة الكائنة في آخر الزمان. و التكادم التعاض بأدنى الفم كما يكدم الحمار و يقال كدم يكدم و المكدم المعض. و العانة القطيع من حمر الوحش و الجمع عون. تغيض فيها الحكمة تنقض. فإن قلت ليس قوله و تنطق فيها الظلمة واقعا في نقيض قوله تغيض فيها الحكمة فأين هذا من الخطابة التي هو فيها نسيج وحده قلت بل المناقضة ظاهرة لأن الحكمة إذا غاضت فيها لم ينطق بها أحد و لا بد من نطق ما فإذا لم تنطق الحكماء وجب أن يكون النطق لمن ليس من الحكماء فهو من الظلمة فقد ثبت التناقض. و المسحل المبرد يقول تنحت أهل البدو و تسحتهم كما يسحت الحديد أو الخشب بالمبرد و أهل البدو أهل البادية و يجوز أن يريد بالمسحل الحلقة التي في طرف شكيم اللجام المعترضة بإزاء حلقة أخرى في الطرف الآخر و تدخل إحداهما في الأخرى بمعنى أن هذه الفتنة تصدم أهل البدو بمقدمة جيشها كما يصدم الفارس الراجل أمامه بمسحل لجام فرسه. و الكلكل الصدر و ترضهم تدقهم دقا جريشا.

(10/128)


شرح نهج البلاغة ج : 9 ص : 144قوله تضيع في غبارها الوحدان جمع واحد مثل شاب و شبان و راع و رعيان و يجوز الأحدان بالهمز أي من كان يسير وحده فإنه يهلك بالكلية في غبارها و أما إذا كانوا جماعة ركبانا فإنهم يضلون و هو أقرب من الهلاك و يجوز أن يكون الوحدان جمع حد يقال فلان أوحد الدهر و هؤلاء الوحدان أو الأحدان مثل أسود و سودان أي يضل في هذه الفتنة و ضلالها الذي كنى عنه بالغبار فضلاء عصرها و علماء عهدها لغموض الشبهة و استيلاء الباطل على أهل وقتها و يكون معنى الفقرة الثانية على هذا التفسير أن الراكب الذي هو بمظنة النجاة لا ينجو و الركبان جمع راكب و لا يكون إلا ذا بعير قوله ترد بمر القضاء أي بالبوار و الهلاك و الاستئصال. فإن قلت أ يجوز أن يقال للفتنة القبيحة إنها من القضاء. قلت نعم لا بمعنى الخلق بل بمعنى الإعلام كما قال سبحانه وَ قَضَيْنا إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ فِي الْكِتابِ لَتُفْسِدُنَّ أي أعلمناهم أي ترد هذه الفتنة بإعلام الله تعالى لمن يشاء إعلامه من المكلفين أنها أم اللهيم التي لا تبقي و لا تذر فذلك الإعلام هو المر الذي لا يبلغ الوصف مرارته لأن الأخبار عن حلول المكروه الذي لا مدفع عنه و لا محيص منه مر جدا. قوله و تحلب عبيط الدماء أي هذه الفتنة يحلبها الحالب دما عبيطا و هذه كناية عن الحرب و قد قال ع في موضع آخر أما و الله ليحلبنها دما و ليتبعنها ندما و العبيط الدم الطري الخالص. و ثلمت الإناء أثلمه بالكسر. و الأكياس العقلاء. شرح نهج البلاغة ج : 9 ص : 145و الأرجاجمع رجس و هو القذر و النجس و المراد هاهنا الفاسقون فإما أن يكون على حذف المضاف أي و يدبرها ذوو الأرجاس أو أن يكون جعلهم الأرجاس أنفسها لما كانوا قد أسرفوا في الفسق فصاروا كأنهم الفسق و النجاسة نفسها كما يقال رجل عدل و رجل رضا. قوله مرعاد مبراق أي ذات وعيد و تهدد و يجوز أن يعني بالرعد صوت السلاح و قعقعته و بالبرق لونه و

(10/129)


ضوءه. و كاشفة عن ساق عن شدة و مشقة. قوله بريئها سقيم يمكن أن يعني بها أنها لشدتها لا يكاد الذي يبرأ منها و ينفض يده عنها يبرأ بالحقيقة بل لا بد أن يستثني شيئا من الفسق و الضلال أي لشدة التباس الأمر و اشتباه الحال على المكلفين حينئذ. و يمكن أن يعني به أن الهارب منها غير ناج بل لا بد أن يصيبه بعض معرتها و مضرتها. و ظاعنها مقيم أي ما يفارق الإنسان من أذاها و شرها فكأنه غير مفارق له لأنه قد أبقى عنده ندوبا و عقابيل من شرورها و غوائلها
مِنْهَا بَيْنَ قَتِيلٍ مَطْلُولٍ وَ خَائِفٍ مُسْتَجِيرٍ يَخْتِلُونَ بِعَقْدِ الْأَيْمَانِ وَ بِغُرُورِ الْإِيمَانِ فَلَا تَكُونُوا أَنْصَابَ الْفِتَنِ وَ أَعْلَامَ الْبِدَعِ شرح نهج البلاغة ج : 9 ص : 146وَ الْزَمُوا مَا عُقِدَ عَلَيْهِ حَبْلُ الْجَمَاعَةوَ بُنِيَتْ عَلَيْهِ أَرْكَانُ الطَّاعَةِ وَ اقْدَمُوا عَلَى اللَّهِ مَظْلُومِينَ وَ لَا تَقْدَمُوا عَلَيْهِ ظَالِمِينَ وَ اتَّقُوا مَدَارِجَ الشَّيْطَانِ وَ مَهَابِطَ الْعُدْوَانِ وَ لَا تُدْخِلُوا بُطُونَكُمْ لُعَقَ الْحَرَامِ فَإِنَّكُمْ بِعَيْنِ مَنْ حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَعْصِيَةَ وَ سَهَّلَ لَكُمْ سُبُلَ الطَّاعَةِ
يقال طل دم فلان فهو مطلول أي مهدر لا يطلب به و يجوز أطل دمه و طله الله و أطله أهدره و لا يقال طل دم فلان بالفتح و أبو عبيدة و الكسائي يقولانه. و يختلون يخدعون بالأيمان التي يعقدونها و يقسمون بها و بالإيمان الذي يظهرونه و يقرون به. ثم قال فلا تكونوا أنصار الفتن و أعلام البدع أي لا تكونوا ممن يشار إليكم في البدع كما يشار إلى الأعلام المبنية القائمة و
جاء في الخبر المرفوع كن في الفتنة كابن اللبون لا ظهر فيركب و لا ضرع فيحلب
و هذه اللفظة يرويها كثير من الناس لأمير المؤمنين ع. قوله و اقدموا على الله مظلومين
جاء في الخبر كن عبد الله المقتول

(10/130)


و مدارج الشيطان جمع مدرجة و هي السبيل التي يدرج فيها و مهابط العدوان محاله التي يهبط فيها. و لعق الحرام جمع لعقة بالضم و هي اسم لما تأخذه الملعقة و اللعقة بالفتح المرة الواحدة. قوله فإنكم بعين من حرم يقال أنت بعين فلان أي أنت بمرأى منه و قد
قال ع في موضع آخر بصفين فإنكم بعين الله و مع ابن عم رسول الله
و هذا من باب الاستعارة قال سبحانه وَ لِتُصْنَعَ عَلى عَيْنِي و قال تَجْرِي بِأَعْيُنِنا
شرح نهج البلاغة ج : 9 ص : 152147- و من خطبة له عالْحَمْدُ لِلَّهِ الدَّالِّ عَلَى وُجُودِهِ بِخَلْقِهِ وَ بِمُحْدَثِ خَلْقِهِ عَلَى أَزَلِيَّتِهِ وَ بِاشْتِبَاهِهِمْ عَلَى أَنْ لَا شَبَهَ لَهُ لَا تَسْتَلِمُهُ الْمَشَاعِرُ وَ لَا تَحْجُبُهُ السَّوَاتِرُ لِافْتِرَاقِ الصَّانِعِ وَ الْمَصْنُوعِ وَ الْحَادِّ وَ الْمَحْدُودِ وَ الرَّبِّ وَ الْمَرْبُوبِ الْأَحَدِ بِلَا تَأْوِيلِ عَدَدٍ وَ الْخَالِقِ لَا بِمَعْنَى حَرَكَةٍ وَ نَصَبٍ وَ السَّمِيعِ لَا بِأَدَاةٍ وَ الْبَصِيرِ لَا بِتَفْرِيقِ آلَةٍ وَ الشَّاهِدِ لَا بِمُمَاسَّةٍ وَ الْبَائِنِ لَا بِتَرَاخِي مَسَافَةٍ وَ الظَّاهِرِ لَا بِرُؤْيَةٍ وَ الْبَاطِنِ لَا بِلَطَافَةٍ بَانَ مِنَ الْأَشْيَاءِ بِالْقَهْرِ لَهَا وَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهَا وَ بَانَتِ الْأَشْيَاءُ مِنْهُ بِالْخُضُوعِ لَهُ وَ الرُّجُوعِ إِلَيْهِ مَنْ وَصَفَهُ فَقَدْ حَدَّهُ وَ مَنْ حَدَّهُ فَقَدْ عَدَّهُ وَ مَنْ عَدَّهُ فَقَدْ أَبْطَلَ أَزَلَهُ وَ مَنْ قَالَ كَيْفَ فَقَدِ اسْتَوْصَفَهُ وَ مَنْ قَالَ أَيْنَ فَقَدْ حَيَّزَهُ عَالِمٌ إِذْ لَا مَعْلُومٌ وَ رَبٌّ إِذْ لَا مَرْبُوبٌ وَ قَادِرٌ إِذْ لَا مَقْدُورٌ
أبحاث كلامية

(10/131)


في هذا الفصل أبحاث أولها في وجوده تعالى و إثبات أن للعالم صانعا و هاتان طريقتان في الدلالة على وجوده الأول سبحانه. شرح نهج البلاغة ج : 9 ص : 148إحداهما الطريقة المذكورة في هذا الفصل و هي طريقة المتكلمين و هي إثبات أن الأجسام محدثة و لا بد للمحدث من محدث. الثانية إثبات وجوده تعالى من النظر في نفس الوجود. و ذلك لأن الوجود ينقسم بالاعتبار الأول إلى قسمين واجب و ممكن و كل ممكن لا بد أن ينتهي إلى الواجب لأن طبيعة الممكن يمتنع من أن يستقل بنفسه في قوامه فلا بد من واجب يستند إليه و ذلك الواجب الوجود الضروري الذي لا بد منه هو الله تعالى. و ثانيها إثبات أزليته و بيانه ما ذكره في هذا الفصل و هو أن العالم مخلوق له سبحانه حادث من جهته و المحدث لا بد له من محدث فإن كان ذلك المحدث محدثا عاد القول فيه كالقول في الأول و يتسلسل فلا بد من محدث قديم و ذلك هو الله تعالى. و ثالثها أنه لا شبيه له أي ليس بجسم كهذه الأجسام و بيانه ما ذكر أيضا أن مخلوقاته متشابهة يعني بذلك ما يريده المتكلمون من قولهم الأجسام متماثلة في الجسمية و أن نوع الجسمية واحد أي لا يخالف جسم جسما بذاته و إذا كانت متماثلة صح على كل واحد منها ما صح على الآخر فلو كان له سبحانه شبيه منها أي لو كان جسما مثلها لوجب أن يكون محدثا كمثلها أو تكون قديمة مثله و كلا الأمرين محال. و رابعها أن المشاعر لا تستلمه و روي لا تلمسه و المشاعر الحواس و بيانه أنه تعالى ليس بجسم لما سبق و ما ليس بجسم استحال أن تكون المشاعر لامسة له لأن إدراك المشاعر مدركاته مقصور على الأجسام و هيئاتها و الاستلام في اللغة لمس الحجر باليد و تقبيله و لا يهمز لأن أصله من السلام و هي الحجارة كما يقال استنوق الجمل و بعضهم يهمزه شرح نهج البلاغة ج : 9 ص : 149و خامسها أن السواتر لا تحجبه و بيانه أن السواتر ولحجب إنما تحجب ما كان في جهة و ذلك لأنها ذوات أين و وضع فلا نسبة

(10/132)


لها إلى ما ليس من ذوات الأين و الوضع. ثم قال ع لافتراق الصانع و المصنوع إشارة إلى أن المصنوع من ذوات الجهة و الصانع منزه عن ذلك بري ء عن المواد فلا يلزم فيه ما يلزم في ذوات المادة و الجهة. وسادسها معنى قولنا إنه أحد أنه ليس بمعنى العدد كما يقوله الناس أول العدد أحد و واحد بل المراد بأحديته كونه لا يقبل التجزؤ و باعتبار آخر كونه لا ثاني له في الربوبية. و سابعها أنه خالق لا بمعنى الحركة و النصب و هو التعب و ذلك لأن الخالقين منا يحتاجون إلى الحركة من حيث كانوا أجساما تفعل بالآلات و البارئ سبحانه ليس بجسم و لا يفعل بالآلة بل كونه قادرا إنما هو لذاته المقدسة لا لأمر زائد عليها فلم يكن فاعلا بالحركة. و ثامنها أنه سميع لا بأداة و ذلك لأن حاجتنا إلى الحواس إنما كانت لأمر يخصنا و هو كوننا أحياء بحياة حالة في أبعاضنا و البارئ تعالى حي لذاته فلم يحتج في كونه مدركا إلى الأداة و الجارحة. و تاسعها أنه بصير لا بتفريق آلة و المراد بتفريق الآلة هاهنا الشعاع الذي باعتباره يكون الواحد منا مبصرا فإن القائلين بالشعاع يقولون إنه يخرج من العين أجسام لطيفة هي الأشعة و تكون آلة للحي في إبصار المبصرات فيتفرق عليها فكل جسم يقع عليه ذلك الشعاع يكون مبصرا و البارئ تعالى بصير لا بشعاع يجعله آلة في الإدراك و يتفرق على المرئيات

(10/133)


شرح نهج البلاغة ج : 9 ص : 150فيدركها به و ذلك لما قدمناه من أنه حي لذاته لا بمعنى فلا يحتاج إلى آلة و أداة و وصلة تكون كالواسطة بينه و بين المدركات. و عاشرها أنه الشاهد لا بمماسة و ذلك لأن الشاهد منا هو الحاضر بجسمه عند المشهود أ لا ترى أن من في الصين ليكون شاهدا من في المغرب لأن الحضور الجسماني يفتقر إلى القرب و القرب من لوازم الجسمية فما ليس بجسم و هو عالم بكل شي ء يكون شاهدا من غير قرب و لا مماسة و لا أين مطلوب. و حادي عشرها أنه البائن لا بتراخي مسافة بينونة المفارق عن المادة بينونة ليست أينية لأنه ل نسبة لأحدهما إلى الآخر بالجهة فلا جرم كان البارئ تعالى مباينا عن العالم لا بمسافة بين الذاتين. و ثاني عشرها أنه الظاهر لا برؤية و الباطن لا بلطافة و ذلك لأن الظاهر من الأجسام ما كان مرئيا بالبصر و الباطن منها ما كان لطيفا جدا إما لصغره أو لشفافيته و البارئ تعالى ظاهر للبصائر لا للأبصار باطن أي غير مدرك بالحواس لأن ذاته لا تقبل المدركية إلا من حيث كان لطيف الحجم أو شفاف الجرم. و ثالث عشرها أنه قال بان من الأشياء بالقهر لها و القدرة عليها و بانت الأشياء منه بالخضوع له و الرجوع إليه هذا هو معنى قول المتكلمين و الحكماء و الفرق بينه و بين الموجودات كلها أنه واجب الوجود لذاته و الأشياء كلها ممكنة الوجود بذواتها فكلها محتاجة إليه لأنها لا وجود لها إلا به و هذا هو معنى خضوعها له و رجوعها إليه و هو سبحانه غني عن كل شي ء و مؤثر في كل شي ء إما بنفسه أو بأن يكون مؤثرفيما هو مؤثر في ذلك الشي ء كأفعالنا فإنه يؤثر فينا و نحن نؤثر فيها فإذا هو قاهر لكل شي ء و قادر على كل شي ء فهذه هي البينونة بينه و بين الأشياء كلها. شرح نهج البلاغة ج : 9 ص : 151و رابع عشرها أنه لا صفة له زائدة على ذاته و نعني بالصفة ذاتا موجودة قائمته و ذلك لأن من أثبت هذه الصفة له فقد حده و من حده فقد عده و من عده فقد

(10/134)


أبطل أزله و هذا كلام غامض و تفسيره أن من أثبت له علما قديما أو قدرة قديمة فقد أوجب أن يعلم بذلك العلم معلومات محدودة أي محصورة و كذلك قد أوجب أن يقدر بتلك القدرة على مقدورات محدودة و هذه المقدمة في كتب أصحابنا المتكلمين مما يذكرونه في تقرير أن العلم الواحد لا يتعلق بمعلومين و أن القدرة الواحدة لا يمكن أن تتعلق في الوقت الواحد من الجنس الواحد في المحل الواحد إلا بجزء واحد و سواء فرض هذان المعنيان قديمين أو محدثين فإن هذا الحكم لازم لهما فقد ثبت أن من أثبت المعاني القديمة فقد أثبت البارئ تعالى محدود العالمية و القادرية و من قال بذلك فقد عده أي جعله من جملة الجثة المعدودة فيما بيننا كسائر البشر و الحيوانات و من قال بذلك فقد أبطل أزله لأن كل ذات مماثلة لهذه الذوات المحدثة فإنها محدثة مثلها و المحدث لا يكون أزليا. و خامس عشرها أن من قال كيف فقد استوصفه أي من قال لزيد كيف الله فقد استدعى أن يوصف الله بكيفية من الكيفيات و البارئ تعالى لا تجوز الكيفيات عليه و الكيفيات هي الألوان و الطعوم و نحوها و الأشكال و المعاني و ما يجري مجرى ذلك و كل هذا لا يجوز إلا على الأجسام. فإن قلت ينبغي أن يقول فقد وصفه و لا يقال فقد استوصفه لأن السائل لم يستوصف الله و إنما استوصف صاحبه الذي سأله عن كيفية الله. قلت استوصف هاهنا بمعنى وصف كقولك استغنى زيد عن عمرو أي غني عنه و استعلى عليه أي علا و مثله كثير. و سادس عشرها أن من قال أين فقد حيزه لأن أين سؤال عن المكان و ليس الله تعالى في مكان و يأتي أنه في كل مكان بمعنى العلم و الإحاطة.

(10/135)


شرح نهج البلاغة ج : 9 ص : 152و سابع عشرها أنه عالم إذ لا معلوم و رب إذ لا مربوب و قادر إذ لا مقدور و كل هذا صحيح و مدلول عليه لأنه عالم فيما لم يزل و ليس شي ء من الأشياء بموجود و هو رب كل شي ء قبل أن يخلقه كما تقول أنه سميع بصير قبل أن يدرك المسموعات مبصرات أي قبل أن يخلقها و قادر على الأشياء قبل كونها لأنه يستحيل حال كونها أن تكون مقدوره لاستحالة إيجاد الموجود. و قد شرحنا كل هذه المسائل التوحيدية في كتبنا المصنفة في علم الكلام
مِنْهَا قَدْ طَلَعَ طَالِعٌ وَ لَمَعَ لَامِعٌ وَ لَاحَ لَائِحٌ وَ اعْتَدَلَ مَائِلٌ وَ اسْتَبْدَلَ اللَّهُ بِقَوْمٍ قَوْماً وَ بِيَوْمٍ يَوْماً وَ انْتَظَرْنَا الْغِيَرَ انْتِظَارَ الْمُجْدِبِ الْمَطَرَ وَ إِنَّمَا الْأَئِمَّةُ قُوَّامُ اللَّهِ عَلَى خَلْقِهِ وَ عُرَفَاؤُهُ عَلَى عِبَادِهِ وَ لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ عَرَفَهُمْ وَ عَرَفُوهُ وَ لَا يَدْخُلُ النَّارَ إِلَّا مَنْ أَنْكَرَهُمْ وَ أَنْكَرُوهُ إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَصَّكُمْ بِالْإِسْلَامِ وَ اسْتَخْلَصَكُمْ لَهُ وَ ذَلِكَ لِأَنَّهُ اسْمُ سَلَامَةٍ وَ جِمَاعُ كَرَامَةٍ اصْطَفَى اللَّهُ تَعَالَى مَنْهَجَهُ وَ بَيَّنَ حُجَجَهُ مِنْ ظَاهِرِ عِلْمٍ وَ بَاطِنِ حُكْمٍ لَا تَفْنَى غَرَائِبُهُ وَ لَا تَنْقَضِي عَجَائِبُهُ فِيهِ مَرَابِيعُ النِّعَمِ وَ مَصَابِيحُ الظُّلَمِ لَا تُفْتَحُ الْخَيْرَاتُ إِلَّا بِمَفَاتِيحِهِ وَ لَا تُكْشَفُ الظُّلُمَاتُ إِلَّا بِمَصَابِيحِهِ قَدْ أَحْمَى حِمَاهُ وَ أَرْعَى مَرْعَاهُ فِيهِ شِفَاءُ الْمُشْتَفِي وَ كِفَايَةُ الْمُكْتَفِي

(10/136)


شرح نهج البلاغة ج : 9 ص : 153هذه خطبة خطب بها بعد قتل عثمان حين أفضت الخلافة إليه. قد طلع طالع يعني عود الخلافة إليه و كذلك قوله و لمع لامع و لاح لائح كل هذا يراد به معنى واحد. و اعتدل مائل إشارة إلى ما كانت الأمور عليه من الاعوجاج في أواخر أيام عثمان وستبدل الله بعثمان و شيعته عليا و شيعته و بأيام ذاك أيام هذا. ثم قال و انتظرنا الغير انتظار المجدب المطر و هذا الكلام يدل على أنه قد كان يتربص بعثمان الدوائر و يرتقب حلول الخطوب بساحته ليلي الخلافة. فإن قلت أ ليس هو الذي طلق الدنيا فأين هذا القول من طلاقها قلت إنه طلق الدنيا أن يقبل منها حظا دنيويا و لم يطلقها أن ينهى فيها عن المنكرات التي أمره الله تعالى بالنهي عنها و يقيم فيها الدين الذي أمره الله بإقامته و لا سبيل له إلى النهي عن المنكر و الأمر بالمعروف إلا بولاية الخلافة
عقيدة علي في عثمان و رأي المعتزلة في ذلك
فإن قلت أ يجوز على مذهب المعتزلة أن يقال إنه ع كان ينتظر قتل عثمان انتظار المجدب المطر و هل هذا إلا محض مذهب الشيعة. قلت إنه ع لم يقل و انتظرنا قتله و إنما انتظر الغير فيجوز أن يكون أراد انتظار خلعه و عزله عن الخلافة فإن عليا ع عند أصحابنا كان يذهب إلى أن عثمان استحق الخلع بإحداثه و لم يستحق القتل و هذا الكلام إذا حمل على انتظار الخلع كان موافقا لمذهب أصحابنا. شرح نهج البلاغة ج : 9 ص : 154فإن قلت أ تقول المعتزلة إن عليا كان يذهب إلى فسق عثمان المستوجب لأجله الخلع قلت كلا حاش لله أن تقول المعتزلة ذلك و إنمتقول إن عليا كان يرى أن عثمان يضعف عن تدبير الخلافة و أن أهله غلبوا عليه و استبدوا بالأمر دونه و استعجزه المسلمون و استسقطوا رأيه فصار حكمه حكم الإمام إذا عمي أو أسره العدو فإنه ينخلع من الإمامة.

(10/137)


ثم قال ع الأئمة قوام الله على خلقه أي يقومون بمصالحهم و قيم المنزل هو المدبر له. قال و عرفاؤه على عباده جمع عريف و هو النقيب و الرئيس يقال عرف فلان بالضم عرافة بالفتح مثل خطب خطابة أي صار عريفا و إذا أردت أنه عمل ذلك قلت عرف فلان علينا سنين يعرف عرافة بالكسر مثل كتب يكتب كتابة. قال و لا يدخل الجنة إلا من عرفهم و عرفوه و لا يدخل النار إلا من أنكرهم و أنكروه هذا إشارة إلى قوله تعالى يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُناسٍ بِإِمامِهِمْ قال المفسرون ينادى في الموقف يا أتباع فلان و يا أصحاب فلان فينادى كل قوم باسم إمامهم يقول أمير المؤمنين ع لا يدخل الجنة يومئذ إلا من كان في الدنيا عارفا بإمامه و من يعرفه إمامه في الآخرة فإن الأئمة تعرف أتباعها يوم القيامة و إن لم يكونوا رأوهم في الدنيا كما أن النبي ص يشهد للمسلمين و عليهم و إن لم يكن رأى أكثرهم قال سبحانه فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَ جِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً و

(10/138)


جاء في الخبر شرح نهج البلاغة ج : 9 ص : 155المرفوع من مات بغير إمام مات ميتة جاهليةو أصحابنا كافة قائلون بصحة هذه القضية و هي أنه لا يدخل الجنة إلا من عرف الأئمة أ لا ترى أنهم يقولون الأئمة بعد رسول الله ص فلان و فلان و يعدونهم واحدا واحدا فلو أن إنسانا لا يقول بذلك لكان عندهم فاسقا و الفاسق لا يدخل الجنة عندهم أبدا أعني من مات على فسقه فقد ثبت أن هذه القضية و هي قوله ع لا يدخل الجنة إلا من عرفهم قضية صحيحة على مذهب المعتزلة و ليس قوله و عرفوه بمنكر عند أصحابنا إذا فسرنا قوله تعالى يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُناسٍ بِإِمامِهِمْ على ما هو الأظهر و الأشهر من التفسيرات و هو ما ذكرناه. و بقيت القضية الثانية ففيها الإشكال و هي قوله ع و لا يدخل النار إلا من أنكرهم و أنكروه و ذلك أن لقائل أن يقول قد يدخل النار من لم ينكرهم مثل أن يكون إنسان يعتقد صحة إمامة القوم الذين يذهب أنهم أئمة عند المعتزلة ثم يزني أو يشرب الخمر من غير توبة فإنه يدخل النار و ليس بمنكر للأئمة فكيف يمكن الجمع بين هذه القضية و بين الاعتزال فالجواب أن الواو في قوله و أنكروه بمعنى أو كما في قوله تعالى فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ مَثْنى وَ ثُلاثَ وَ رُباعَ فالإنسان المفروض في السؤال و إن كان لا ينكر الأئمة إلا أنهم ينكرونه أي يسخطون يوم القيامة أفعاله يقال أنكرت فعل فلان أي كرهته فهذا هو تأويل الكلام على مذهبنا فأما الإمامية فإنهم يحملون ذلك على تأويل آخر و يفسرون قوله و لا يدخل النار فيقولون أراد و لا يدخل النار دخولا مؤبدا إلا من ينكرهم و ينكرونه. شرح نهج البلاغة ج : 9 : 156ثم ذكر ع شرف الإسلام و قال إنه مشتق من السلامة و إنه جامع للكرامة و إن الله قد بين حججه أي الأدلة على صحته. ثم بين ما هذه الأدلة فقال من ظاهر علم و باطن حكم أي حكمه من هاهنا للتبيين و التفسير كما تقول دفعت إليه سلاحا من سيف و رمح و

(10/139)


سهم و يعني بظاهر علم و باطن حكم و القرآن أ لا تراه كيف أتى بعده بصفات و نعوت لا تكون إلا للقرآن من قوله لا تفنى عزائمه أي آياته المحكمة و براهينه العازمة أي القاطعة و لا تنقضي عجائبه لأنه مهما تأمله الإنسان استخرج منه بفكر غرائب عجائب لم تكن عنده من قبل. فيه مرابيع النعم المرابيع الأمطار التي تجي ء في أول الربيع فتكون سببا لظهور الكلأ و كذلك تدبر القرآن سبب للنعم الدينية و حصولها. قوله قد أحمى حماه و أرعى مرعاه الضمير في أحمى يرجع إلى الله تعالى أي قد أحمى الله حماه أي عرضه لأن يحمى كما تقول أ قتلت الرجل أي عرضته لأن يقتل و ضربته أي عرضته لأن يضرب أي قد عرض الله تعالى حمى القرآن و محارمه لأن يجتنب و مكن منها و عرض مرعاه لأن يرعى أي مكن من الانتفاع بما فيه من الزواجر و المواعظ لأنه خاطبنا بلسان عربي مبين و لم يقنع ببيان ما لا نعلم إلا بالشرع حتى نبه في أكثره على أدلة العقل
شرح نهج البلاغة ج : 9 ص : 153157- و من خطبة له عوَ هُوَ فِي مُهْلَةٍ مِنَ اللَّهِ يَهْوِي مَعَ الْغَافِلِينَ وَ يَغْدُو مَعَ الْمُذْنِبِينَ بِلَا سَبِيلٍ قَاصِدٍ وَ لَا إِمَامٍ قَائِدٍ
يصف إنسانا من أهل الضلال غير معين بل كما تقول رحم الله امرأ اتقى ربه و خاف ذنبه و بئس الرجل رجل قل حياؤه و عدم وفاؤه و لست تعني رجلا بعينه. و يهوي يسقط و السبيل القاصد الطريق المؤدية إلى المطلوب. و الإمام إما الخليفة و إما الأستاذ أو الدين أو الكتاب على كل من هؤلاء تطلق هذه اللفظة

(10/140)


مِنْهَا حَتَّى إِذَا كَشَفَ لَهُمْ عَنْ جَزَاءِ مَعْصِيَتِهِمْ وَ اسْتَخْرَجَهُمْ مِنْ جَلَابِيبِ غَفْلَتِهِمْ اسْتَقْبَلُوا مُدْبِراً وَ اسْتَدْبَرُوا مُقْبِلًا فَلَمْ يَنْتَفِعُوا بِمَا أَدْرَكُوا مِنْ طَلِبَتِهِمْ وَ لَا بِمَا قَضَوْا مِنْ وَطَرِهِمْ شرح نهج البلاغة ج : 9 ص : 158وَ إِنِّي أُحَذِّرُكُمْ وَ نَفْسِي هَذِهِ الْمَنْزِلَةَ فَلْيَنْتَفِعِ امْرُؤٌ بِنَفْسِهِ فَإِنَّمَا الْبَصِيرُ مَنْ سَمِعَ فَتَفَكَّرَ وَ نَظَرَ فَأَبْصَرَ وَ انْتَفَعَ بِالْعِبَرِ ثُمَّ سَلَكَ جَدَداً وَاضِحاً يَتَجَنَّبُ فِي الصَّرْعَةَ فِي الْمَهَاوِي وَ الضَّلَالَ فِي الْمَغَاوِي وَ لَا يُعِينُ عَلَى نَفْسِهِ الْغُوَاةَ بِتَعَسُّفٍ فِي حَقٍّ أَوْ تَحْرِيفٍ فِي نُطْقٍ أَوْ تَخَوُّفٍ مِنْ صِدْقٍ فَأَفِقْ أَيُّهَا السَّامِعُ مِنْ سَكْرَتِكَ وَ اسْتَيْقِظْ مِنْ غَفْلَتِكَ وَ اخْتَصِرْ مِنْ عَجَلَتِكَ وَ أَنْعِمِ الْفِكْرَ فِيمَا جَاءَكَ عَلَى لِسَانِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ ص مِمَّا لَا بُدَّ مِنْهُ وَ لَا مَحِيصَ عَنْهُ وَ خَالِفْ مَنْ خَالَفَ ذَلِكَ إِلَى غَيْرِهِ وَ دَعْهُ وَ مَا رَضِيَ لِنَفْسِهِ وَ ضَعْ فَخْرَكَ وَ احْطُطْ كِبْرَكَ وَ اذْكُرْ قَبْرَكَ فَإِنَّ عَلَيْهِ مَمَرَّكَ وَ كَمَا تَدِينُ تُدَانُ وَ كَمَا تَزْرَعُ تَحْصُدُ وَ مَا قَدَّمْتَ الْيَوْمَ تَقْدَمُ عَلَيْهِ غَداً فَامْهَدْ لِقَدَمِكَ وَ قَدِّمْ لِيَوْمِكَ فَالْحَذَرَ الْحَذَرَ أَيُّهَا الْمُسْتَمِعُ وَ الْجِدَّ الْجِدَّ أَيُّهَا الْغَافِلُ وَ لا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ
فاعل كشف هو الله تعالى و قد كان سبق ذكره في الكلام و إنما كشف لهم عن جزاء معصيتهم بما أراهم حال الموت من دلائل الشقوة و العذاب
فقد ورد في الخبر الصحيح أنه لا يموت ميت حتى يرى مقره من جنة أو نار

(10/141)


و لما انفتحت أعين أبصارهم عند مفارقة الدنيا سمى ذلك ع استخراجا لهم من جلابيب غفلتهم كأنهم كانوا من الغفلة و الذهول في لباس نزع عنهم. قال استقبلوا مدبرا أي استقبلوا أمرا كان في ظنهم و اعتقادهم مدبرا عنهم و هو الشقاء و العذاب و استدبروا مقبلا تركوا وراء ظهورهم ما كانوا خولوه من الأولاد و الأموال و النعم و في قوة هذا الكلام أن يقول عرفوا ما أنكروه و أنكروا ما عرفوه شرح نهج البلاغة ج : 9 ص : 159و روي أحذركم و نفسي هذه المزلة مفعلة من الزلل و في قوله و نفسي لطافة رشيقة و ذلك لأنه طيب قلوبهم بأن جعل نفسه شريكة م في هذا التحذير ليكونوا إلى الانقياد أقرب و عن الإباء و النفرة أبعد بطريق جدد لاحب. و المهاوي جمع مهواة و هي الهوة يتردى فيها. و المغاوي جمع مغواة و هي الشبهة التي يغوى بها الناس أي يضلون. يصف الأمور التي يعين بها الإنسان أرباب الضلال على نفسه و هي أن يتعسف في حق يقوله أو يأمر به فإن الرفق أنجح و أن يحرف المنطق فإن الكذب لا يثمر خيرا و أن يتخوف من الصدق في ذات الله قال سبحانه إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ فذم من لا يصدق و يجاهد في الحق. قوله و اختصر من عجلتك أي لا تكن عجلتك كثيرة بل إذا كانت لك عجلة فلتكن شيئا يسيرا. و تقول أنعمت النظر في كذا أي دققته من قولك أنعمت سحق الحجر و قيل إنه مقلوب أمعن. و النبي الأمي إما الذي لا يحسن الكتابة أو المنسوب إلى أم القرى و هي مكة. و لا محيص عنه لا مفر و لا مهرب حاص أي تخلص من أمر كان شب فيه. قوله فإن عليه ممرك أي ليس القبر بدار مقام و إنما هو ممر و طريق إلى الآخرة. شرح نهج البلاغة ج : 9 ص : 160و كما تدين تدان أي كما تجازي غيرك تجازى بفعلك و بحسب ما عملت و منه قوله سبحانه إِنَّا لَمَدِينُونَ أي مجزيون و منه الديان في صفة الله تعالى. قوله وما تزرع تحصد معنى قد قاله الناس بعده كثيرا قال الشاعر

(10/142)


إذا أنت لم تزرع و أدركت حاصدا ندمت على التقصير في زمن البذر
و من أمثالهم من زرع شرا حصد ندما. فامهد لنفسك أي سو و وطئ. وَ لا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ من القرآن العزيز أي و لا يخبرك بالأمور أحد على حقائقها كالعارف بها العالم بكنهها
إِنَّ مِنْ عَزَائِمِ اللَّهِ فِي الذِّكْرِ الْحَكِيمِ الَّتِي عَلَيْهَا يُثِيبُ وَ يُعَاقِبُ وَ لَهَا يَرْضَى وَ يَسْخَطُ أَنَّهُ لَا يَنْفَعُ عَبْداً وَ إِنْ أَجْهَدَ نَفْسَهُ وَ أَخْلَصَ فِعْلَهُ أَنْ يَخْرُجَ مِنَ الدُّنْيَا لَاقِياً رَبَّهُ بِخَصْلَةٍ مِنْ هَذِهِ الْخِصَالِ لَمْ يَتُبْ مِنْهَا أَنْ يُشْرِكَ بِاللَّهِ فِيمَا افْتَرَضَ عَلَيْهِ مِنْ عِبَادَتِهِ أَوْ يَشْفِيَ غَيْظَهُ بِهَلَاكِ نَفْسٍ أَوْ يَعُرَّ بِأَمْرٍ فَعَلَهُ غَيْرُهُ أَوْ يَسْتَنْجِحَ حَاجَةً إِلَى النَّاسِ بِإِظْهَارِ بِدْعَةٍ فِي دِينِهِ أَوْ يَلْقَى النَّاسَ بِوَجْهَيْنِ أَوْ يَمْشِيَ فِيهِمْ بِلِسَانَيْنِ اعْقِلْ ذَلِكَ فَإِنَّ الْمِثْلَ دَلِيلٌ عَلَى شِبْهِهِ إِنَّ الْبَهَائِمَ هَمُّهَا بُطُونُهَا وَ إِنَّ السِّبَاعَ هَمُّهَا الْعُدْوَانُ عَلَى غَيْرِهَا وَ إِنَّ النِّسَاءَ هَمُّهُنَّ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَ الْفَسَادُ فِيهَا إِنَّ الْمُؤْمِنِينَ مُسْتَكِينُونَ إِنَّ الْمُؤْمِنِينَ مُشْفِقُونَ إِنَّ الْمُؤْمِنِينَ خَائِفُونَ

(10/143)


شرح نهج البلاغة ج : 9 ص : 161عزائم الله هي موجباته و الأمر المقطوع عليه الذي لا ريب فيه و لا شبهة قال ع إن من الأمور التي نص الله تعالى عليها نصا لا يحتمل التأويل و هي من العزائم التي يقطع بها و لا رجوع فيها و لا نسخ لها أن من مات و هو على ذنب من هذه الوب المذكورة و لو اكتفى بذلك ع لأغناه عن قوله لم يتب إلا أنه ذكر ذلك تأكيدا و زيادة في الإيضاح فإنه لا ينفعه فعل شي ء من الأفعال الحسنة و لا الواجبة و لا تفيده العبادة و لو أجهد نفسه فيها بل يكون من أهل النار و الذنوب المذكورة هي أن يتخذ مع الله إلها آخر فشركه في العبادة أو يقتل إنسانا بغير حق بل ليشفي غيظه أو يقذف غيره بأمر قد فعله هو. عره بكذا يعره عرا أي عابه و لطخه أو يروم بلوغ حاجة من أحد بإظهار بدعة في الدين كما يفعل أكثر الناس في زماننا أو يكون ذا وجهين و هو أيضا قوله أو يمشي فيهم بلسانين و إنما أعاده تأكيدا. لما نصب معاوية ابنه يزيد لولاية العهد أقعده في قبة حمراء و أدخل الناس يسلمون على معاوية ثم يميلون إلى قبة يزيد فيسلمون عليه بولاية العهد حتى جاء رجل ففعل ذلك ثم رجع إلى معاوية فقال يا أمير المؤمنين أما إنك لو لم تول هذا أمور المسلمين لأضعتها و كان الأحنف جالسا فلما خف الناس قال معاوية ما بالك لا تقول يا أبا بحر قال أخاف الله إن كذبتك و أخافك إن صدقتك فما ذا أقول فقال جزاك الله عن الطاعة خيرا و أمر له بصلة جزيلة فلما خرج لقيه ذلك الرجل بالباب فقال يا أبا بحر إني لأعلم أن شر من خلق الله هذا الرجل و لكن هؤلاء شرح نهج البلاغة ج : 9 ص : 162قد استوثقوا من هذه الأموال بالأبواب و الأقفال فلسنا نطمع في استخراجها إلا بما سمعت فقال يا هذا أمسك عليك فإن ذا الوجهين خليق ألا يكون وجيها عند الله غدا. ثم أمر ع بأن يعقل ما قاله و يعلم باطن خطابه و إنما رمز بباطن ا الكلام إلى الرؤساء يوم الجمل لأنهم حاولوا أن يشفوا غيظهم بإهلاكه و

(10/144)


إهلاك غيره من المسلمين و عروه ع بأمر هم فعلوه و هو التأليب على عثمان و حصره و استنجحوا حاجتهم إلى أهل البصرة بإظهار البدعة و الفتنة و لقوا الناس بوجهين و لسانين لأنهم بايعوه و أظهروا الرضا به ثم دبوا له الخمر فجعل ذنوبهم هذه مماثلة للشرك بالله سبحانه في أنها لا تغفر إلا بالتوبة و هذا هو معنى قوله اعقل ذلك فإن المثل دليل على شبهه و روي فإن المثل واحد الأمثال أي هذا الحكم بعدم المغفرة لمن أتى شيئا من هذه الأشياء عام و الواحد منها دليل على ما يماثله و يشابهه. فإن قلت فهذا تصريح بمذهب الإمامية في طلحة و الزبير و عائشة. قلت كلا فإن هذه الخطبة خطب بها و هو سائر إلى البصرة و لم تقع الحرب إلا بعد تعدد الكبائر و رمز فيها إلى المذكورين و قال إن لم يتوبوا و قد ثبت أنهم تابوا و الأخبار عنهم بالتوبة كثيرة مستفيضة. ثم أراد ع أن يومئ إلى ذكر النساء للحال التي كان وقع إليها من استنجاد أعدائه بامرأة فذكر قبل ذكر النساء أنواعا من الحيوان تمهيدا لقاعدة ذكر النساء فقال إن البهائم همها بطونها كالحمر و البقر و الإبل و الغنم و إن السباع همها العدوان

(10/145)


شرح نهج البلاغة ج : 9 ص : 163على غيرها كالأسود الضارية و النمور و الفهود و البزاة و الصقور ثم قال و إن النساء همهن زينة الحياة الدنيا و الفساد فيها. نظر حكيم إلى امرأة مصلوبة على شجرة فقال ليت كل شجرة تحمل مثل هذه الثمرة. و مرت امرأة بسقراط و هو يتشرق فالشمس فقالت ما أقبحك أيها الشيخ فقال لو أنكن من المرائي الصدئة لغمني ما بان من قبح صورتي فيكن. و رأى حكيم امرأة تعلم الكتابة فقال سهم يسقى سما ليرمي به يوما ما. و رأى بعضهم جارية تحمل نارا فقال نار على نار و الحامل شر من المحمول. و قيل لسقراط أي السباع أحسن قال المرأة. و تزوج بعضهم امرأة نحيفة فقيل له في ذلك فقال اخترت من الشر أقله. و رأى بعض الحكماء امرأة غريقة قد احتملها السيل فقال زادت الكدر كدرا و الشر بالشر يهلك. ثم ذكر ع خصائص المؤمن فقال إن المؤمنين مستكينون استكان الرجل أي خضع و ذل. إن المؤمنين مشفقون التقوى رأس الإيمان كما ورد في الخبر. ثم قال إن المؤمنين خائفون هو الأول و إنما أكده و التأكيد مطلوب في باب الخطابة
شرح نهج البلاغة ج : 9 ص : 154164- و من خطبة له عوَ نَاظِرُ قَلْبِ اللَّبِيبِ بِهِ يُبْصِرُ أَمَدَهُ وَ يَعْرِفُ غَوْرَهُ وَ نَجْدَهُ دَاعٍ دَعَا وَ رَاعٍ رَعَى فَاسْتَجِيبُوا لِلدَّاعِي وَ اتَّبِعُوا الرَّاعِي
يقول إن قلب اللبيب له عين يبصر بها غايته التي يجري إليها و يعرف من أحواله المستقبلة ما كان مرتفعا أو منخفضا ساقطا و النجد المرتفع من الأرض و منه قولهم للعالم بالأمور طلاع أنجد. ثم قال داع دعا موضع داع رفع لأنه مبتدأ محذوف الخبر تقديره في الوجود داع دعا و راع رعى و يعني بالداعي رسول الله ص و بالراعي نفسه ع

(10/146)


قَدْ خَاضُوا بِحَارَ الْفِتَنِ وَ أَخَذُوا بِالْبِدَعِ دُونَ السُّنَنِ وَ أَرَزَ الْمُؤْمِنُونَ وَ نَطَقَ الضَّالُّونَ الْمُكَذِّبُونَ نَحْنُ الشِّعَارُ وَ الْأَصْحَابُ وَ الْخَزَنَةُ وَ الْأَبْوَابُ وَ لَا تُؤْتَى الْبُيُوتُ إِلَّا مِنْ أَبْوَابِهَا فَمَنْ أَتَاهَا مِنْ غَيْرِ أَبْوَابِهَا سُمِّيَ سَارِقاً
شرح نهج البلاغة ج : 9 ص : 165هذا كلام متصل بكلام لم يحكه الرضي رحمه الله و هو ذكر قوم من أهل الضلال قد كان أخذ في ذمهم و نعى عليهم عيوبهم. و أرز المؤمنون أي انقبضوا و المضارع يأرز بالكسر أرزا و أروزا و رجل أروز أي منقبض و في الحديث إن الإسلام ليأرز إلى المدينة كما تأرز الحية إلى جحرها
أي ينضم إليها و يجتمع. ثم قال نحن الشعار و الأصحاب يشير إلى نفسه و هو أبدا يأتي بلفظ الجمع و مراده الواحد. و الشعار ما يلي الجسد من الثياب فهو أقرب من سائرها إليه و مراده الاختصاص برسول الله ص. و الخزنة و الأبواب يمكن أن يعني به خزنة العلم و أبواب العلم
لقول رسول الله ص أنا مدينة العلم و علي بابها فمن أراد الحكمة فليأت الباب

(10/147)


و قوله فيه خازن علمي و قال تارة أخرى عيبة علمي و يمكن أن يريد خزنة الجنة و أبواب الجنة أي لا يدخل الجنة إلا من وافى بولايتنا فقد جاء في حقه الخبر الشائع المستفيض أنه قسيم النار و الجنة و ذكر أبو عبيد الهروي في الجمع بين الغريبين أن قوما من أئمة العربية فسروه فقالوا لأنه لما كان محبه من أهل الجنة و مبغضه من أهل النار كأنه بهذا الاعتبار قسيم النار و الجنة قال أبو عبيد و قال غير هؤلاء بل هو قسيمها بنفسه في الحقيقة يدخل قوما إلى الجنة و قوما إلى النار و هذا الذي ذكره أبو عبيد أخيرا هو ما يطابق الأخبار الواردة فيه يقول للنار هذا لي فدعيه و هذا لك فخذيه. ثم ذكر أن البيوت لا تؤتى إلا من أبوابها قال الله تعالى وَ لَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا شرح نهج البلاغة ج : 9 ص : 166الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِها وَ لكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقى وَ أْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوابِه ثم قال من أتاها من غير أبوابها سمي سارقا و هذا حق ظاهرا و باطنا أما الظاهر فلأن من يتسور البيوت من غير أبوابها هو السارق و أما الباطن فلأن من طلب العلم من غير أستاذ محقق فلم يأته من بابه فهو أشبه شي ء بالسارق ذكر الأحاديث و الأخبار الواردة في فضائل علي

(10/148)


و اعلم أن أمير المؤمنين ع لو فخر بنفسه و بالغ في تعديد مناقبه و فضائله بفصاحته التي آتاه الله تعالى إياها و اختصه بها و ساعده على ذلك فصحاء العرب كافة لم يبلغوا إلى معشار ما نطق به الرسول الصادق ص في أمره و لست أعني بذلك الأخبار العامة الشائعة التي يحتج بها الإمامية على إمامته كخبر الغدير و المنزلة و قصة براءة و خبر المناجاة و قصة خيبر و خبر الدار بمكة في ابتداء الدعوة و نحو ذلك بل الأخبار الخاصة التي رواها فيه أئمة الحديث التي لم يحصل أقل القليل منها لغيره و أنا أذكر من ذلك شيئا يسيرا مما رواه علماء الحديث الذين لا يتهمون فيه و جلهم قائلون بتفضيل غيره عليه فروايتهم فضائله توجب من سكون النفس ما لا يوجبه رواية غيرهم.
الخبر الأول يا علي إن الله قد زينك بزينة لم يزين العباد بزينة أحب إليه منها هي زينة الأبرار عند الله تعالى الزهد في الدنيا جعلك لا ترزأ من الدنيا شيئا و لا ترزأ الدنيا منك شيئا و وهب لك حب المساكين فجعلك ترضى بهم أتباعا و يرضون بك إماما
شرح نهج البلاغة ج : 9 ص : 167 رواه أبو نعيم الحافظ في كتابه المعروف ب حلية الأولياء و زاد فيه أبو عبد الله أحمد بن حنبل في المسند فطوبى لمن أحبك و صدق فيك و ويل لمن أبغضك و كذب فيك الخبر الثاني قال لوفد ثقيف لتسلمن أو لأبعثن إليكم رجلا مني أو قال عديل نفسي فليضربن أعناقكم و ليسبين ذراريكم و ليأخذن أموالكم قال عمر فما تمنيت الإمارة إلا يومئذ و جعلت أنصب له صدري رجاء أن يقول هو هذا فالتفت فأخذ بيد علي و قال هو هذا مرتين
رواه أحمد في المسند و
رواه في كتاب فضائل علي ع أنه قال لتنتهن يا بني وليعة أو لأبعثن إليكم رجلا كنفسي يمضي فيكم أمري يقتل المقاتلة و يسبي الذرية
قال أبو ذر فما راعني إلا برد كف عمر في حجزتي من خلفي يقول من تراه يعني فقلت إنه لا يعنيك و إنما يعني خاصف النعل و إنه قال هو هذا

(10/149)


الخبر الثالث إن الله عهد إلي في علي عهدا فقلت يا رب بينه لي قال اسمع إن عليا راية الهدى و إمام أوليائي و نور من أطاعني و هو الكلمة التي ألزمتها المتقين من أحبه فقد أحبني و من أطاعه فقد أطاعني فبشره بذلك فقلت قد بشرته يا رب فقال أنا عبد الله و في قبضته فإن يعذبني فبذنوبي لم يظلم شيئا و إن يتم لي ما وعدني فهو أولى و قد دعوت له فقلت اللهم اجل قلبه و اجعل ربيعه الإيمان بك قال قد فعلت ذلك غير أني مختصه بشي ء من البلاء لم أختص به أحدا من أوليائي فقلت رب أخي و صاحبي قال إنه سبق في علمي أنه لمبتل و مبتلى شرح نهج البلاغة ج : 9 ص : 168 ذكره أبو نعيم الحافظ في حلية الأولياء عن أبي برزة الأسلمي ثم رواه بإسناد آخر بلفظ آخر عن أنس بن مالك أن رب العالمين عهد في علي إلي عهدا أنه راية الهدى و منار الإيمان و إمام أوليائي و نور جميع من أطاعني إن عليا أميني غدا في قيامة و صاحب رايتي بيد علي مفاتيح خزائن رحمة ربي
الخبر الرابع من أراد أن ينظر إلى نوح في عزمه و إلى آدم في علمه و إلى إبراهيم في حلمه و إلى موسى في فطنته و إلى عيسى في زهده فلينظر إلى علي بن أبي طالب
رواه أحمد بن حنبل في المسند و رواه أحمد البيهقي في صحيحه
الخبر الخامس من سره أن يحيا حياتي و يموت ميتتي و يتمسك بالقضيب من الياقوتة التي خلقها الله تعالى بيده ثم قال لها كوني فكانت فليتمسك بولاء علي بن أبي طالب
ذكره أبو نعيم الحافظ في كتاب حلية الأولياء و رواه أبو عبد الله بن حنبل في المسند في كتاب فضائل علي بن أبي طالب و حكاية لفظ أحمد رضي الله عنه من أحب أن يتمسك بالقضيب الأحمر الذي غرسه الله في جنة عدن بيمينه فليتمسك بحب علي بن أبي طالب
الخبر السادس و الذي نفسي بيده لو لا أن تقول طوائف من أمتي فيك ما قالت النصارى في ابن مريم لقلت اليوم فيك مقالا لا نمر بملإ من المسلمين إلا أخذوا التراب من تحت قدميك للبركة

(10/150)


ذكره أبو عبد الله أحمد بن حنبل في المسند
الخبر السابع خرج ص على الحجيج عشية عرفة فقال لهم إن الله قد شرح نهج البلاغة ج : 9 ص : 169باهى بكم الملائكة عامة و غفر لكم عامة و باهى بعلي خاصة و غفر له خاصة إني قائل لكم قولا غير محاب فيه لقرابتي إن السعيد كل السعيد حق السعيد من أحب عليا في حياته و بعدوته
رواه أبو عبد الله أحمد بن حنبل في كتاب فضائل علي ع و في المسند أيضا
الخبر الثامن رواه أبو عبد الله أحمد بن حنبل في الكتابين المذكورين أنا أول من يدعى به يوم القيامة فأقوم عن يمين العرش في ظله ثم أكسى حلة ثم يدعى بالنبيين بعضهم على أثر بعض فيقومون عن يمين العرش و يكسون حللا ثم يدعى بعلي بن أبي طالب لقرابته مني و منزلته عندي و يدفع إليه لوائي لواء الحمد آدم و من دونه تحت ذلك اللواء ثم قال لعلي فتسير به حتى تقف بيني و بين إبراهيم الخليل ثم تكسى حلة و ينادي مناد من العرش نعم العبد أبوك إبراهيم و نعم الأخ أخوك علي أبشر فإنك تدعى إذا دعيت و تكسى إذا كسيت و تحيا إذا حييت
الخبر التاسع يا أنس اسكب لي وضوءا ثم قام فصلى ركعتين ثم قال أول من يدخل عليك من هذا الباب إمام المتقين و سيد المسلمين و يعسوب الدين و خاتم الوصيين و قائد الغر المحجلين قال أنس فقلت اللهم اجعله رجلا من الأنصار و كتبت دعوتي فجاء علي فقال ص من جاء يا أنس فقلت علي فقام إليه مستبشرا فاعتنقه ثم جعل يمسح عرق وجهه فقال علي يا رسول الله صلى الله عليك و آلك لقد رأيت منك اليوم تصنع بي شيئا ما صنعته بي قبل قال و ما يمنعني و أنت تؤدي عني و تسمعهم صوتي و تبين لهم ما اختلفوا فيه بعدي رواه أبو نعيم الحافظ في حلية الأولياء

(10/151)


شرح نهج البلاغة ج : 9 ص : 170 الخبر العاشر ادعوا لي سيد العرب عليا فقالت عائشة أ لست سيد العرب فقال أنا سيد ولد آدم و علي سيد العرب فلما جاء أرسل إلى الأنصار فأتوه فقال لهم يا معشر الأنصار أ لا أدلكم على ما إن تمسكتم به لن تضلوا أبدا قالوا بلى يا رسول اه قال هذا علي فأحبوه بحبي و أكرموه بكرامتي فإن جبرائيل أمرني بالذي قلت لكم عن الله عز و جل
رواه الحافظ أبو نعيم في حلية الأولياء
الخبر الحادي عشر مرحبا بسيد المؤمنين و إمام المتقين فقيل لعلي ع كيف شكرك فقال أحمد الله على ما آتاني و أسأله الشكر على ما أولاني و أن يزيدني مما أعطاني
ذكره صاحب الحلية أيضا الخبر الثاني عشر من سره أن يحيا حياتي و يموت مماتي و يسكن جنة عدن التي غرسها ربي فليوال عليا من بعدي و ليوال وليه و ليقتد بالأئمة من بعدي فإنهم عترتي خلقوا من طينتي و رزقوا فهما و علما فويل للمكذبين من أمتي القاطعين فيهم صلتي لا أنالهم الله شفاعتي
ذكره صاحب الحلية أيضا الخبر الثالث عشر بعث رسول الله ص خالد بن الوليد في سرية و بعث عليا ع في سرية أخرى و كلاهما إلى اليمن و قال إن اجتمعتما فعلي على الناس و إن افترقتما فكل واحد منكما على جنده فاجتمعا و أغارا و سبيا نساء و أخذا أموالا و قتلا ناسا و أخذ علي جارية فاختصها لنفسه فقال خالد لأربعة من المسلمين منهم بريدة الأسلمي اسبقوا إلى رسول الله ص فاذكروا له كذا و اذكروا شرح نهج البلاغة ج : 9 ص : 171له كذا لأمور عددها على علي فسبقوا إليه فجاء واحد من جانبه فقال إن عليا فعل كذا فأعرض عنه فجاء الآخر من الجانالآخر فقال إن عليا فعل كذا فأعرض عنه فجاء بريدة الأسلمي فقال يا رسول الله إن عليا فعل ذلك فأخذ جارية لنفسه فغضب ص حتى احمر وجهه و قال دعوا لي عليا يكررها إن عليا مني و أنا من علي و إن حظه في الخمس أكثر مما أخذ و هو ولي كل مؤمن من بعدي

(10/152)


رواه أبو عبد الله أحمد في المسند غير مرة و رواه في كتاب فضائل علي و رواه أكثر المحدثين
الخبر الرابع عشر كنت أنا و علي نورا بين يدي الله عز و جل قبل أن يخلق آدم بأربعة عشر ألف عام فلما خلق آدم قسم ذلك فيه و جعله جزءين فجزء أنا و جزء علي
رواه أحمد في المسند و في كتاب فضائل علي ع و
ذكره صاحب كتاب الفردوس و زاد فيه ثم انتقلنا حتى صرنا في عبد المطلب فكان لي النبوة و لعلي الوصية
الخبر الخامس عشر النظر إلى وجهك يا علي عبادة أنت سيد في الدنيا و سيد في الآخرة من أحبك أحبني و حبيبي حبيب الله و عدوك عدوي و عدوي عدو الله الويل لمن أبغضك
رواه أحمد في المسند قال و كان ابن عباس يفسره و يقول إن من ينظر إليه يقول سبحان الله ما أعلم هذا الفتى سبحان الله ما أشجع هذا الفتى سبحان الله ما أفصح هذا الفتى شرح نهج البلاغة ج : 9 ص : 17 الحديث السادس عشر لما كانت ليلة بدر قال رسول الله ص من يستقي لنا ماء فأحجم الناس فقام علي فاحتضن قربة ثم أتى بئرا بعيدة القعر مظلمة فانحدر فيها فأوحى الله إلى جبريل و ميكائيل و إسرافيل أن تأهبوا لنصر محمد و أخيه و حزبه فهبطوا من السماء لهم لغط يذعر من يسمعه فلما حاذوا البئر سلموا عليه من عند آخرهم إكراما له و إجلالا
رواه أحمد في كتاب فضائل علي ع و زاد فيه في طريق أخرى عن أنس بن مالك لتؤتين يا علي يوم القيامة بناقة من نوق الجنة فتركبها و ركبتك مع ركبتي و فخذك مع فخذي حتى تدخل الجنة
الحديث السابع عشر خطب ص يوم جمعة فقال أيها الناس قدموا قريشا و لا تقدموها و تعلموا منها و لا تعلموها قوة رجل من قريش تعدل قوة رجلين من غيرهم و أمانة رجل من قريش تعدل أمانة رجلين من غيرهم أيها الناس أوصيكم بحب ذي قرباها أخي و ابن عمي علي بن أبي طالب لا يحبه إلا مؤمن و لا يبغضه إلا منافق من أحبه فقد أحبني و من أبغضه فقد أبغضني و من أبغضني عذبه الله بالنار

(10/153)


رواه أحمد رضي الله عنه في كتاب فضائل علي ع
الحديث الثامن عشر الصديقون ثلاثة حبيب النجار الذي جاء من أقصى المدينة يسعى و مؤمن آل فرعون الذي كان يكتم إيمانه و علي بن أبي طالب و هو أفضلهم
رواه أحمد في كتاب فضائل علي ع
الحديث التاسع عشر أعطيت في علي خمسا هن أحب إلي من الدنيا و ما فيها أما واحدة فهو كاب بين يدي الله عز و جل حتى يفرغ من حساب الخلائق و أما الثانية شرح نهج البلاغة ج : 9 ص : 173فلواء الحمد بيده آدم و من ولد تحته و أما الثالثة فواقف على عقر حوضي يسقي من عرفن أمتي و أما الرابعة فساتر عورتي و مسلمي إلى ربي و أما الخامسة فإني لست أخشى عليه أن يعود كافرا بعد إيمان و لا زانيا بعد إحصان
رواه أحمد في كتاب الفضائل
الحديث العشرون كانت لجماعة من الصحابة أبواب شارعة في مسجد الرسول ص فقال ع يوما سدوا كل باب في المسجد إلا باب علي فسدت فقال في ذلك قوم حتى بلغ رسول الله ص فقام فيهم فقال إن قوما قالوا في سد الأبواب و تركي باب علي إني ما سددت و لا فتحت و لكني أمرت بأمر فاتبعته
رواه أحمد في المسند مرارا و في كتاب الفضائل
الحديث الحادي و العشرون دعا ص عليا في غزاة الطائف فانتجاه و أطال نجواه حتى كره قوم من الصحابة ذلك فقال قائل منهم لقد أطال اليوم نجوى ابن عمه فبلغه ع ذلك فجمع منهم قوما ثم قال إن قائلا قال لقد أطال اليوم نجوى ابن عمه أما إني ما انتجيته و لكن الله انتجاه
رواه أحمد رحمه الله في المسند
الحديث الثاني و العشرون أخصمك يا علي بالنبوة فلا نبوة بعدي و تخصم الناس بسبع لا يجاحد فيها أحد من قريش أنت أولهم إيمانا بالله و أوفاهم بعهد الله و أقومهم بأمر الله و أقسمهم بالسوية و أعدلهم في الرعية و أبصرهم بالقضية و أعظمهم عند الله مزية

(10/154)


شرح نهج البلاغة ج : 9 ص : 174رواه أبو نعيم الحافظ في حلية الأولياء الخبر الثالث و العشرون قالت فاطمة إنك زوجتني فقيرا لا مال له فقال زوجتك أقدمهم سلما و أعظمهم حلما و أكثرهم علما أ لا تعلمين أن الله اطلع إلى الأرض اطلاعة فاختار منها أباك ثم اطلع إليها ثانية فاختار منها بعلك
رواه أحمد في المسند الحديث الرابع و العشرون لما أنزل إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَ الْفَتْحُ بعد انصرافه ع من غزاة حنين جعل يكثر من سبحان الله أستغفر الله ثم قال يا علي إنه قد جاء ما وعدت به جاء الفتح و دخل الناس في دين الله أفواجا و إنه ليس أحد أحق منك بمقامي لقدمك في الإسلام و قربك مني و صهرك و عندك سيدة نساء العالمين و قبل ذلك ما كان من بلاء أبي طالب عندي حين نزل القرآن فأنا حريص على أن أراعي ذلك لولده

(10/155)


رواه أبو إسحاق الثعلبي في تفسير القرآن. و اعلم أنا إنما ذكرنا هذه الأخبار هاهنا لأن كثيرا من المنحرفين عنه ع إذا مروا على كلامه في نهج البلاغة و غيره المتضمن التحدث بنعمة الله عليه من اختصاص الرسول له ص و تميزه إياه عن غيره ينسبونه إلى التيه و الزهو و الفخر و لقد سبقهم بذلك قوم من الصحابة قيل لعمر ول عليا أمر الجيش و الحرب فقال هو أتيه من ذلك و قال زيد بن ثابت ما رأينا أزهى من علي و أسامة. فأردنا بإيراد هذه الأخبار هاهنا عند تفسير قوله نحن الشعار و الأصحاب و نحن الخزنة و الأبواب أن ننبه على عظم منزلته عند الرسول ص و أن من قيل شرح نهج البلاغة ج : 9 ص : 175في حقه ما قيل لو رقي إلى السماء و عرج في الهواء و فخر على الملائكة و الأنبياء تعظما و تبجحا لم يكن ملوما بل كان بذلك جديرا فكيف و هو ع لم يسلك قط مسلك التعظم و التكبر في شي ء من أقواله و لا من أفعاله و كالطف البشر خلقا و أكرمهم طبعا و أشدهم تواضعا و أكثرهم احتمالا و أحسنهم بشرا و أطلقهم وجها حتى نسبه من نسبه إلى الدعابة و المزاح و هما خلقان ينافيان التكبر و الاستطالة و إنما كان يذكر أحيانا ما يذكره من هذا النوع نفثة مصدور و شكوى مكروب و تنفس مهموم و لا يقصد به إذا ذكره إلا شكر النعمة و تنبيه الغافل على ما خصه الله به من الفضيلة فإن ذلك من باب الأمر بالمعروف و الحض على اعتقاد الحق و الصواب في أمره و النهي عن المنكر الذي هو تقديم غيره عليه في الفضل فقد نهى الله سبحانه عن ذلك فقال أَ فَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لا يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدى فَما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ

(10/156)


مِنْهَا فِيهِمْ كَرَائِمُ الْإِيمَانِ وَ هُمْ كُنُوزُ الرَّحْمَنِ إِنْ نَطَقُوا صَدَقُوا وَ إِنْ صَمَتُوا لَمْ يُسْبَقُوا فَلْيَصْدُقْ رَائِدٌ أَهْلَهُ وَ لْيُحْضِرْ عَقْلَهُ وَ لْيَكُنْ مِنْ أَبْنَاءِ الآْخِرَةِ فَإِنَّهُ مِنْهَا قَدِمَ وَ إِلَيْهَا يَنْقَلِبُ فَالنَّاظِرُ بِالْقَلْبِ الْعَامِلُ بِالْبَصَرِ يَكُونُ مُبْتَدَأُ عَمَلِهِ أَنْ يَعْلَمَ أَ عَمَلُهُ عَلَيْهِ أَمْ لَهُ فَإِنْ كَانَ لَهُ مَضَى فِيهِ وَ إِنْ كَانَ عَلَيْهِ وَقَفَ عَنْهُ فَإِنَّ الْعَامِلَ بِغَيْرِ عِلْمٍ كَالسَّائِرِ عَلَى غَيْرِ طَرِيقٍ فَلَا يَزِيدُهُ بُعْدُهُ عَنِ الطَّرِيقِ الْوَاضِحِ شرح نهج البلاغة ج : 9 ص : 176إِلَّا بُعْداً مِنْ حَاجَتِهِ وَ الْعَامِلُ بِالْعِلْمِ كَالسَّائِرِ عَلَى الطَّرِيقِ الْوَاضِحِ فَلْيَنْظُرْ نَاظِرٌ أَ سَائِرٌ هُوَ أَمْ رَاجِعٌقوله فيهم يرجع إلى آل محمد ص الذين عناهم بقوله نحن الشعار و الأصحاب و هو يطلق دائما هذه الصيغ الجمعية و يعني نفسه و في القرآن كثير من ذلك نحو قوله تعالى الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزادَهُمْ إِيماناً وَ قالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَ نِعْمَ الْوَكِيلُ. و كرائم الإيمان جمع كريمة و هي المنفسات منه قال الشاعر
ماض من العيش لو يفدى بذلت له كرائم المال من خيل و من نعم

(10/157)


فإن قلت أ يكون في الإيمان كرائم و غير كرائم قلت نعم لأن الإيمان عند أكثر أصحابنا اسم للطاعات كلها واجبها و نفلها فمن كانت نوافله أكثر كانت كرائم الإيمان عنده أكثر و من قام بالواجبات فقط من غير نوافل كان عنده الإيمان و لم يكن عنده كرائم الإيمان. فإن قلت فعلى هذا تكون النوافل أكرم من الواجبات. قلت هي أكرم منها باعتبار و الواجبات أكرم منها باعتبار آخر أما الأول فلأن صاحبها إذا كان قد قام بالواجبات كان أعلى مرتبة في الجنة ممن اقتصر على الواجبات فقط و أما الثاني فلأن المخل بها لا يعاقب و المخل بالواجبات يعاقب. قوله و هم كنوز الرحمن لأن الكنز مال يدخر لشديدة أو ملمة تلم بالإنسان و كذلك هؤلاء قد ذخروا لإيضاح المشكلات الدينية على المكلفين. شرح نهج البلاغة ج : 9 ص : 177ثم قال إن نطقوا صدقوا و إن سكتوا لم يكن سكوتهم عن عي يوجب كونهم مسبوقين لكنهم ينطقون حكما و يصمتوحلما. ثم أمر ع بالتقوى و العمل الصالح و قال ليصدق رائد أهله الرائد الذاهب من الحي يرتاد لهم المرعى و في أمثالهم الرائد لا يكذب أهله و المعنى أنه ع أمر الإنسان بأن يصدق نفسه و لا يكذبها بالتسويف و التعليل قال الشاعر
أخي إذا خاصمت نفسك فاحتشد لها و إذا حدثت نفسك فاصدق

(10/158)


و في المثل المتشبع بما لا يملك كلابس ثوبي زور. فإنه منها قدم قد قيل إن الله تعالى خلق أرواح البشر قبل أجسادهم و الخبر في ذلك مشهور و الآية أيضا و هي قوله وَ إِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ و يمكن أن يفسر على وجه آخر و ذلك أن الآخرة اليوم عدم محض و الإنسان قدم من العدم و إلى العدم ينقلب فقد صح أنه قدم من الآخرة و يرجع إلى الآخرة. و روي أن العالم بالبصر أي بالبصيرة فيكون هو و قوله فالناظر بالقلب سواء و إنما قاله تأكيدا و على هذا الوجه لا يحتاج إلى تفسير و تأويل فأما الرواية المشهورة فالوجه في تفسيرها أن يكون قوله فالناظر مبتدأ و العامل صفة له و قوله بالبصر يكون مبتدأ عمله جملة مركبة من مبتدأ و خبر موضعها رفع لأنها خبر المبتدأ الذي هو فالناظر و هذه الجملة المذكورة قد دخلت عليها كان فالجار و المجرور و هو الكلمة الأولى منها منصوبة الموضع لأنها خبر كان و يكون قوله فيما بعد أن يعلم منصوب شرح نهج البلاغة ج : 9 ص : 178الموضع لأنه بدل من البصر الذي هو خبر يكون و المراد بالبصر هاهنا البصيرة فيصير تقدير الكلام فالناظر بقلبه العامل بجوارحه يكون مبتدأ عمله بالفكر و البصيرة بأن يعلم أ له له أم عليه. و يروى كالسابل على غير طريق و السابل طالب السبيل و
قد جاء في الخبر المرفوع من عمل بغير هدى لم يزدد من الله إلا بعدا
و في كلام الحكماء العامل بغير علم كالرامي من غير وتر
وَ اعْلَمْ أَنَّ لِكُلِّ ظَاهِرٍ بَاطِناً عَلَى مِثَالِهِ فَمَا طَابَ ظَاهِرُهُ طَابَ بَاطِنُهُ وَ مَا خَبُثَ ظَاهِرُهُ خَبُثَ بَاطِنُهُ وَ قَدْ قَالَ الرَّسُولُ الصَّادِقُ ص إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْعَبْدَ وَ يُبْغِضُ عَمَلَهُ وَ يُحِبُّ الْعَمَلَ وَ يُبْغِضُ بَدَنَهُ

(10/159)


هذا الكلام مشتق من قوله تعالى وَ الْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَباتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَ الَّذِي خَبُثَ لا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِداً و هو تمثيل ضربه الله تعالى لمن ينجع فيه الوعظ و التذكير من البشر و لمن لا يؤثر ذلك فيه مثله بالأرض العذبة الطيبة تخرج النبت و الأرض السبخة الخبيثة لا تنبت و كلام أمير المؤمنين ع إلى هذا المعنى يومئ يقول إن لكلتا حالتي الإنسان الظاهرة أمرا باطنا يناسبها من أحواله و الحالتان الظاهرتان ميله إلى العقل و ميله إلى الهوى فالمتبع لمقتضى عقله يرزق السعادة و الفوز فهذا هو الذي طاب شرحنهج البلاغة ج : 9 ص : 179ظاهره و طاب باطنه و المتبع لمقتضى هواه و عادته و دين أسلافه يرزق الشقاوة و العطب و هذا هو الذي خبث ظاهره و خبث باطنه. فإن قلت فلم قال فما طاب و هلا قال فمن طاب و كذلك في خبث قلت كلامه في الأخلاق و العقائد و ما تنطوي عليه الضمائر يول ما طاب من هذه الأخلاق و الملكات و هي خلق النفس الربانية المريدة للحق من حيث هو حق سواء كان ذلك مذهب الآباء و الأجداد أو لم يكن و سواء كان ذلك مستقبحا مستهجنا عند العامة أو لم يكن و سواء نال به من الدنيا حظا أو لم ينل يستطيب باطنه يعني ثمرته و هي السعادة و هذا المعنى من مواضع ما لا من مواضع من. فأما الخبر المروي فإنه مذكور في كتب المحدثين و قد فسره أصحابنا المتكلمون فقالوا إن الله تعالى قد يحب المؤمن و محبته له إرادة إثابته و يبغض عملا من أعماله و هو ارتكاب صغيرة من الصغائر فإنها مكروهة عند الله و ليست قادحة في إيمان المؤمن لأنها تقع مكفرة و كذلك قد يبغض العبد بأن يريد عقابه نحو أن يكون فاسقا لم يتب و يحب عملا من أعماله نحو أن يطيع ببعض الطاعات و حبه لتلك الطاعة هي إرادته تعالى أن يسقط عنه بها بعض ما يستحقه من العقاب المتقدم

(10/160)


وَ اعْلَمْ أَنَّ لِكُلِّ عَمَلٍ نَبَاتاً وَ كُلُّ نَبَاتٍ لَا غِنَى بِهِ عَنِ الْمَاءِ وَ الْمِيَاهُ مُخْتَلِفَةٌ فَمَا طَابَ سَقْيُهُ طَابَ غَرْسُهُ وَ حَلَتْ ثَمَرَتُهُ وَ مَا خَبُثَ سَقْيُهُ خَبُثَ غَرْسُهُ وَ أَمَرَّتْ ثَمَرَتُهُ
شرح نهج البلاغة ج : 9 ص : 180السقي مصدر سقيت و السقي بالكسر النصيب من الماء. و أمر الشي ء أي صار مرا. و هذا الكلام مثل في الإخلاص و ضده و هو الرياء و حب السمعة فكل عمل يكون مدده الإخلاص لوجهه تعالى لا غير فإنه زاك حلو الجنى و كل عمل يكون الرياء و حب الة مدده فليس بزاك و تكون ثمرته مرة المذاق شرح نهج البلاغة ج : 9 ص : 11155- و من خطبة له ع يذكر فيها بديع خلقة الخفاش

(10/161)


الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي انْحَسَرَتِ الْأَوْصَافُ عَنْ كُنْهِ مَعْرِفَتِهِ وَ رَدَعَتْ عَظَمَتُهُ الْعُقُولَ فَلَمْ تَجِدْ مَسَاغاً إِلَى بُلُوغِ غَايَةِ مَلَكُوتِهِ هُوَ اللَّهُ الْحَقُّ الْمُبِينُ أَحَقُّ وَ أَبْيَنُ مِمَّا تَرَى الْعُيُونُ لَمْ تَبْلُغْهُ الْعُقُولُ بِتَحْدِيدٍ فَيَكُونَ مُشَبَّهاً وَ لَمْ تَقَعْ عَلَيْهِ الْأَوْهَامُ بِتَقْدِيرٍ فَيَكُونَ مُمَثَّلًا خَلَقَ الْخَلْقَ عَلَى غَيْرِ تَمْثِيلٍ وَ لَا مَشُورَةِ مُشِيرٍ وَ لَا مَعُونَةِ مُعِينٍ فَتَمَّ خَلْقُهُ بِأَمْرِهِ وَ أَذْعَنَ لِطَاعَتِهِ فَأَجَابَ وَ لَمْ يُدَافِعْ وَ انْقَادَ وَ لَمْ يُنَازِعْ وَ مِنْ لَطَائِفِ صَنَعْتِهِ وَ عَجَائِبِ خِلْقَتِهِ مَا أَرَانَا مِنْ غَوَامِضِ الْحِكْمَةِ فِي هَذِهِ الْخَفَافِيشِ الَّتِي يَقْبِضُهَا الضِّيَاءُ الْبَاسِطُ لِكُلِّ شَيْ ءٍ وَ يَبْسُطُهَا الَّلَامُ الْقَابِضُ لِكُلِّ حَيٍّ وَ كَيْفَ عَشِيَتْ أَعْيُنُهَا عَنْ أَنْ تَسْتَمِدَّ مِنَ الشَّمْسِ الْمُضِيئَةِ نُوراً تَهْتَدِي بِهِ فِي مَذَاهِبِهَا وَ تَتَّصِلُ بِعَلَانِيَةِ بُرْهَانِ الشَّمْسِ إِلَى مَعَارِفِهَا وَ رَدَعَهَا بِتَلَأْلُؤِ ضِيَائِهَا عَنِ الْمُضِيِّ فِي سُبُحَاتِ إِشْرَاقِهَا وَ أَكَنَّهَا فِي مَكَامِنِهَا عَنِ الذَّهَابِ فِي بُلَجِ ائْتِلَاقِهَا وَ هِيَ مُسْدَلَةُ الْجُفُونِ بِالنَّهَارِ عَلَى حِدَاقِهَا وَ جَاعِلَةُ اللَّيْلِ سِرَاجاً تَسْتَدِلُّ بِهِ فِي الْتِمَاسِ أَرْزَاقِهَا فَلَا يَرُدُّ أَبْصَارَهَا إِسْدَافُ ظُلْمَتِهِ وَ لَا تَمْتَنِعُ مِنَ الْمُضِيِّ فِيهِ لِغَسَقِ دُجُنَّتِهِ فَإِذَا أَلْقَتِ الشَّمْسُ قِنَاعَهَا وَ بَدَتْ أَوْضَاحُ نَهَارِهَا وَ دَخَلَ مِنْ إِشْرَاقِ نُورِهَا عَلَى الضِّبَابِ فِي وِجَارِهَا أَطْبَقَتِ الْأَجْفَانَ عَلَى مَآقِيهَا وَ تَبَلَّغَتْ بِمَا اكْتَسَبَتْهُ مِنَ

(10/162)


الْمَعَاشِ فِي ظُلَمِ لَيَالِيهَا شرح نهج البلاغة ج : 9 ص : 182فَسُبْحَانَ مَنْ جَعَلَ اللَّيْلَ لَهَا نَهَاراً وَ مَعَاشاً وَ النَّهَارَ سَكَناً وَ قَرَاراً وَ جَعَلَ لَهَا أَجْنِحَةً مِنْ حْمِهَا تَعْرُجُ بِهَا عِنْدَ الْحَاجَةِ إِلَى الطَّيَرَانِ كَأَنَّهَا شَظَايَا الآْذَانِ غَيْرَ ذَوَاتِ رِيشٍ وَ لَا قَصَبٍ إِلَّا أَنَّكَ تَرَى مَوَاضِعَ الْعُرُوقِ بَيِّنَةً أَعْلَاماً لَهَا جَنَاحَانِ لَمَّا يَرِقَّا فَيَنْشَقَّا وَ لَمْ يَغْلُظَا فَيَثْقُلَا تَطِيرُ وَ وَلَدُهَا لَاصِقٌ بِهَا لَاجِئٌ إِلَيْهَا يَقَعُ إِذَا وَقَعَتْ وَ يَرْتَفِعُ إِذَا ارْتَفَعَتْ لَا يُفَارِقُهَا حَتَّى تَشْتَدَّ أَرْكَانُهُ وَ يَحْمِلَهُ لِلنُّهُوضِ جَنَاحُهُ وَ يَعْرِفَ مَذَاهِبَ عَيْشِهِ وَ مَصَالِحَ نَفْسِهِ فَسُبْحَانَ الْبَارِئِ لِكُلِّ شَيْ ءٍ عَلَى غَيْرِ مِثَالٍ خَلَا مِنْ غَيْرِهِ الخفاش واحد جمعه خفافيش و هو هذا الطائر الذي يطير ليلا و لا يطير نهارا و هو مأخوذ من الخفش و هو ضعف في البصر خلقة و الرجل أخفش و قد يكون علة و هو الذي يبصر بالليل لا بالنهار أو في يوم غيم لا في يوم صحو. و انحسرت الأوصاف كلت و أعيت و ردعت كفت و المساغ المسلك. قال أحق و أبين مما ترى العيون و ذلك لأن العلوم العقلية إذا كانت ضرورية أو قريبة من الضرورية كانت أوثق من المحسوسات لأن الحس يغلط دائما فيرى الكبير صغيرا كالبعيد و الصغير كبيرا كالعنبة في الماء ترى كالإجاصة و يرى الساكن متحركا كجرف الشط إذا رآه راكب السفينة متصاعدا و يرى المتحرك ساكنا كالظل إلى غير ذلك من الأغاليط و القضايا العقلية الموثوق بها لأنها بديهية أو تكاد فالغلط غير داخل عليها قوله يقبضها الضياء أي يقبض أعينها. قوله و تتصل بعلانية برهان الشمس كلام جيد في مذاهب الاستعارة. شرح نهج البلاغة ج : 9 ص 183و سبحات إشراقها جلاله و بهاؤه و أكنها سترها و بلج

(10/163)


ائتلافها جمع بلجة و هي أول الصبح و جاء بلجة أيضا بالفتح. و الحداق جمع حدقة العين و الإسداف مصدر أسدف الليل أظلم. و غسق الدجنة ظلام الليل فإذا ألقت الشمس قناعها أي سفرت عن وجهها و أشرقت. و الأوضاح جمع وضح و قد يراد به حلي يعمل من الدراهم الصحاح و قد يراد به الدراهم الصحاح نفسها و إن لم يكن حليا و الضباب جمع ضب و وجارها بيتها و شظايا الآذان أقطاع منها و القصب هاهنا الغضروف. و خلاصة الخطبة التعجب من أعين الخفافيش التي تبصر ليلا و لا تبصر نهارا و كل الحيوانات بخلاف ذلك فقد صار الليل لها معاشا و النهار لها سكنا بعكس الحال فيما عداها ثم من أجنحتها التي تطير بها و هي لحم لا ريش عليه و لا غضروف و ليست رقيقة فتنشق و لا كثيفة فتثقلها عن الطيران ثم من ولدها إذا طارت احتملته و هو لاصق بها فإذا وقعت وقع ملتصقا بها هكذا إلى أن يشتد و يقوى على النهوض فيفارقها
فصل في ذكر بعض غرائب الطيور و ما فيها من عجائب

(10/164)


و اعلم أنه ع قد أتى بالعلة الطبيعية في عدم إبصارها نهارا و هو انفعال حاسة بصرها عن الضوء الشديد و قد يعرض مثل ذلك لبعض الناس و هو المرض المسمى روز كور أي أعمى النهار و يكون ذلك عن إفراط التحلل في الروح النوري فإذا لقي حر النهار أصابه قمر ثم يستدرك ذلك برد الليل فيزول فيعود الإبصار. شرح نهج البلاغة ج : 9 ص : 184و أما طيرانها من غير ريش فإنه ليس بذلك الطيران الشديد و إنما هو نهوض و خفة أفادها الله تعالى إياه بواسطة الطبيعة و التصاق الولد بها لأنها تضمه إليها بالطبع و ينضم إليها كذلك و تستعين على ضمه برجليها بقصر المسافة و جملة الأمر أنه تعجب من عجيب و في الأحاديث العامية قيل للخفاش لما ذا لا جناح لك قال لأني تصوير مخلوق قيل فلما ذا لا تخرج نهارا قال حياء من الطيور يعنون أن المسيح ع صوره و أن إليه الإشارة بقوله تعالى وَ إِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيها فَتَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِي. و في الطير عجائب و غرائب لا تهتدي العقول إليها و يقال إن ضربين من الحيوان أصمان لا يسمعان و هما النعام و الأفاعي. و تقول العرب إن الظليم يسمع بعينه و أنفه لا يحتاج معهما إلى حاسة أخرى و الكراكي يجمعها أمير لها كيعسوب النحل و لا يجمعها إلا أزواجا و العصافير آلفة للناس آنسة بهم لا تسكن دارا حتى يسكنها إنسان و متى سكنتها لم تقم فيها إذا خرج الإنسان منها فبفراقه تفارق و بسكناه تسكن و يذكر أهل البصرة أنه إذا كان زمن الخروج إلى البساتين لم يبق في البصرة عصفور إلا خرج إليها إلا ما أقام على بيضه و فراخه و قد يدرب العصفور فيستجيب من المكان البعيد و يرجع. و قال شيخنا أبو عثمان بلغني أنه درب فيرجع من ميل و ليس في الأرض رأس أشبه برأس الحية من رأس العصفور و ليس في الحيوان الذي يعايش الناس أقصر عمرا منه قيل لأجل السفاد الذي يستكثر منه و يتميز الذكر من الأنثى في العصافير

(10/165)


تميز الديك شرح نهج البلاغة ج : 9 ص : 185من الدجاجة لأن له لحية و لا شي ء أحنى على ولده منه و إذا عرض له شي ء صاح فأقبلت إليه العصافير يساعدنه و ليس لشي ء في مثل جسم العصفور من شدة وطئه إى أو على السطح ما للعصفور فإنك إذا كنت تحت السطح و وقع حسبت وقعته وقعة حجر و ذكور العصافير لا تعيش إلا سنة و كثيرا ما تجلب الحيات إلى المنازل لأن الحيات تتبعها حرصا على ابتلاع بيضها و فراخها. و يقال إن الدجاجة إذا باضت بيضتين في يوم واحد و تكرر ذلك ماتت و إذا هرمت الدجاجة لم يكن لأواخر ما تبيضه صفرة و إذا لم يكن للبيضة مح لم يخلق فيها فروج لأن غذاءه المح ما دام في البيضة و قد يكون للبيضة محان فتنفقص عن فروجين يخلقان من البياض و يغتذيان بالمحين لأن الفراريج تخلق من البياض و تغتذي بالصفرة و كل ديك فإنه يلتقط الحبة فيحذف بها إلى الدجاجة سماحا و إيثارا و لهذا قالوا أسمح من لاقطة يعنون الديكة إلا ديكة مرو بخراسان فإنها تطرد دجاجها عن الحب و تنزعه من أفواهها فتبتلعه. و الحمامة بلهاء و في أمثالهم أحمق من حمامة و هي مع حمقها مهتدية إلى مصالح نفسها و فراخها. قال ابن الأعرابي قلت لشيخ من العرب من علمك هذا قال علمني الذي علم الحمامة على بلهها تقليب بيضها كي تعطي الوجهين جميعا نصيبهما من الحضن. و الهداية في الحمام لا تكون إلا في الخضر و السمر فأما الأسود الشديد السواد فهو كالزنجي القليل المعرفة و الأبيض ضعيف القوة و إذا خرج الجوزل عن بيضته علم أبواه أن حلقه لا يتسع للغذاء فلا يكون لهما هم إلا أن ينفخا في حلقه الريح لتتسع حوصلته بعد التحامها ثم يعلمن أنه لا يحتمل في أول اغتذائه أن يزق بالطعم فيزقانه باللعاب المختلط

(10/166)


شرح نهج البلاغة ج : 9 ص : 186بقواهما و قوى الطعم ثم يعلمان أن حوصلته تحتاج إلى دباغ فيأكلان من شورج أصول الحيطان و هو شي ء من الملح الخالص و التراب فيزقانه به فإذا علما أنه قد اندبغ زقاه بالحب الذي قد غب في حواصلهما ثم بالذي هو أطرى فأطرى حتى يتعود فإذلما أنه قد أطاق اللقط منعاه بعض المنع ليحتاج و يتشوف فتطلبه نفسه و يحرص عليه فإذا فطماه و بلغا منتهى حاجته إليهما نزع الله تلك الرحمة منهما و أقبل بهما على طلب نسل آخر. و يقال إن حية أكلت بيض مكاء فجعل المكاء يشرشر على رأسها و يدنو منها حتى دلعت الحية لسانها و فتحت فاها تريده و تهم به فألقى فيها حسكة فأخذت بحلقها حتى ماتت. و من دعاء الصالحين يا رزاق النعاب في عشه و ذلك أن الغراب إذا فقص عن فراخه فقص عنها بيض الألوان فينفر عنها و لا يزقها فتنفتح أفواهها فيأتيها ذباب يتساقط في أفواهها فيكون غذاءها إلى أن تسود فينقطع الذباب عنها و يعود الغراب إليها فيأنس بها و يغذيها. و الحبارى تدبق جناح الصقر بذرقها ثم يجتمع عليه الحباريات فينتفن ريشه طاقة طاقة حتى يموت و لذلك يحاول الحبارى العلو عليه و يحاول هو العلو عليها و لا يتجاسر أن يدنو منها متسفلا عنها و يقال إن الحبارى تموت كمدا إذا انحسر عنها ريشها و رأت صويحباتها تطير. شرح نهج البلاغة ج : 9 ص : 187و كل الطير يتسافد بالأستاه إلا الحجل فإن الحجلة تكون في سفالة الريح و اليعقوب في علاوتها فتلقح منه كما تلقح النخلة من الفحال بالريح. و الحبارى شديد الحمق يقال إنها أحمق اير و هي أشد حياطة لبيضها و فراخها. و العقعق مع كونه أخبث الطير و أصدقها خبثا و أشدها حذرا ليس في الأرض طائر أشد تضييعا لبيضه و فراخه منه. و من الطير ما يؤثر التفرد كالعقاب و منه ما يتعايش زوجا كالقطا. و الظليم يبتلع الحديد المحمى ثم يميعه في قانصته حتى يحيله كالماء الجاري و في ذلك أعجوبتان التغذي بما لا يغذى به و استمراؤه

(10/167)


و هضمه شيئا لو طبخ بالنار أبدا لما انحل. و كما سخر الحديد لجوف الظليم فأحاله سخر الصخر الأصم لأذناب الجراد إذا أراد أن يلقي بيضه غرس ذنبه في أشد الأرض صلابة فانصدع له و ذلك من فعل الطبيعة بتسخير الصانع القديم سبحانه كما أن عود الحلفاء الرخو الدقيق المنبت يلقى في نباته الآجر و الخزف الغليظ فيثقبه. و قد رأيت في مسناة سور بغداد في حجر صلد نبعة نبات قد شقت و خرجت من موضع لو حاول جماعة أن يضربوه بالبيارم الشديدة مدة طويلة لم يؤثر فيه أثرا. و قد قيل إن إبرة العقرب أنفذ في الطنجير و الطست. و في الظليم شبه من البعير من جهة المنسم و الوظيف و العنق و الخزامة التي في أنفه شرح نهج البلاغة ج : 9 ص : 188و شبه من الطائر من جهة الريش و الجناحين و الذنب و المنقار ثم إن ما فيه من شبه الطير جذبه إلى البيض و فيه من شبه البعير لم يجذبه إلى الولادة. و يقال إن النعامة مع عظم عظامها و شدة عدوها لا مخ فيها و أشد ما يكون عدوها أن تستقبل الريح فكلما كان أشد لعصوفها كان أشد لحضرها تضع عنقها على ظهرها ثم تخرق الريح و من أعاجيبها أن الصيف إذا دخل و ابتدأ البسر في الحمرة ابتدأ لون وظيفها في الحمرة فلا يزالان يزدادان حمرة إلى أن تنتهي حمرة البسر و لذلك قيل للظليم خاضب و من العجب أنها لا تأنس بالطير و لا بالإبل مع مشاكلتها للنوعين و لا يكاد يرى بيضها مبددا البتة بل تصفه طولا صفا مستويا على غاية الاستواء حتى لو مددت عليه خيط المسطر لما وجدت لبعضه خروجا عن البعض ثم تعطي لكل واحدة نصيبها من الحضن. و الذئب لا يعرض لبيض النعام ما دام الأبوان حاضرين فإنهما متى نقفاه ركبه الذكر فطحره و أدركته الأنثى فركضته ثم أسلمته إلى الذكر و ركبته عوضه فلا يزالان يفعلان به ذلك حتى يقتلاه أو يعجزهما هربا و النعام قد يتخذ في الدور و ضرره شديد لأن النعامة ربما رأت في أذن الجارية قرطا فيه حجر أو حبة لؤلؤ فخطفته و أكلته و خرمت

(10/168)


الأذن أو رأت ذلك في لبتها فضربت بمنقارها اللبة فخرقتها
شرح نهج البلاغة ج : 9 ص : 156189- و من كلام له ع خاطب به أهل البصرة على جهة اقتصاص الملاحمفَمَنِ اسْتَطَاعَ عِنْدَ ذَلِكَ أَنْ يَعْتَقِلَ نَفْسَهُ عَلَى اللَّهِ فَلْيَفْعَلْ وَ إِنْ أَطَعْتُمُونِي فَإِنِّي حَامِلُكُمْ إِنْ شَاءَ اللَّهُ عَلَى سَبِيلِ الْجَنَّةِ وَ إِنْ كَانَ ذَا مَشَقَّةٍ شَدِيدَةٍ وَ مَذَاقَةٍ مَرِيرَةٍ وَ أَمَّا فُلَانَةُ فَأَدْرَكَهَا رَأْيُ النِّسَاءِ وَ ضِغْنٌ غَلَا فِي صَدْرِهَا كَمِرْجَلِ الْقَيْنِ وَ لَوْ دُعِيَتْ لِتَنَالَ مِنْ غَيْرِي مَا أَتَتْ إِلَيَّ لَمْ تَفْعَلْ وَ لَهَا بَعْدُ حُرْمَتُهَا الْأَوْلَى وَ الْحِسَابُ عَلَى اللَّهِ
يعتقل نفسه على الله يحبسها على طاعته ثم ذكر أن السبيل التي حملهم عليها و هي سبيل الرشاد ذات مشقة شديدة و مذاقة مريرة لأن الباطل محبوب النفوس فإنه اللهو و اللذة و سقوط التكليف و أما الحق فمكروه النفس لأن التكليف صعب و ترك الملاذ العاجلة شاق شديد المشقة. و الضغن الحقد و المرجل قدر كبيرة و القين الحداد أي كغليان قدر من حديد شرح نهج البلاغة ج : 9 ص : 19فصل في ترجمة عائشة و ذكر طرف من أخبارها

(10/169)


و فلانة كناية عن أم المؤمنين عائشة أبوها أبو بكر و قد تقدم ذكر نسبه و أمها أم رومان ابنة عامر بن عويمر بن عبد شمس بن عتاب بن أذينة بن سبيع بن دهمان بن الحارث بن غنم بن مالك بن كنانة تزوجها رسول الله ص قبل الهجرة بسنتين بعد وفاة خديجة و هي بنت سبع سنين و بنى عليها بالمدينة و هي بنت تسع سنين و عشرة أشهر و كانت قبله تذكر لجبير بن مطعم و تسمى له و كان رسول الله ص رأى في المنام عائشة في سرقة من حرير عند متوفى خديجة فقال إن يكن هذا من عند الله يمضه روي هذا الخبر في المسانيد الصحيحة و كان نكاحه إياها في شوال و بناؤه عليها في شوال أيضا فكانت تحب أن تدخل النساء من أهلها و أحبتها على أزواجهن في شوال و تقول هل كان في نسائه أحظى مني و قد نكحني و بنى علي في شوال ردا بذلك على من يزعم من النساء أن دخول الرجل بالمرأة بين العيدين مكروه. و توفي رسول الله ص عنها و هي بنت عشرين سنة و استأذنت رسول الله ص في الكنية فقال لها اكتني بابنك عبد الله بن الزبير يعني ابن أختها فكانت تكنى أم عبد الله و كانت فقيهة راوية للشعر ذات حظ من رسول الله ص و ميل ظاهر إليها و كانت لها عليه جرأة و إدلال لم يزل ينمي و يستشري حتى كان منها في أمره في قصة مارية ما كان من الحديث شرح نهج البلاغة ج : 9 ص : 191الذي أسره إلى الزوجة الأخرى و أدى إلى تظاهرهما عليه و أنزل فيهما قرآنا يتلى في المحاريب يتضمن وعيدا غليظا عقيب تصريح بوقوع الذنب و صغو القلب و أعقبتها تلك الجرأة و ذلك الانبساط و حدث منها في أيام الخلا العلوية ما حدث و لقد عفا الله تعالى عنها و هي من أهل الجنة عندنا بسابق الوعد و ما صح من أمر التوبة. و

(10/170)


روى أبو عمر بن عبد البر في كتاب الاستيعاب في باب عائشة عن سعيد بن نصر عن قاسم بن أصبغ عن محمد بن وضاح عن أبي بكر بن أبي شيبة عن وكيع عن عصام بن قدامة عن عكرمة عن ابن عباس قال قال رسول الله ص لنسائه أيتكن صاحبة الجمل الأدبب يقتل حولها قتلي كثير و تنجو بعد ما كادت
قال أبو عمر بن عبد البر و هذا الحديث من أعلام نبوته ص قال و عصام بن قدامة ثقة و سائر الإسناد فثقة رجاله أشهر من أن تذكر. و لم تحمل عائشة من رسول الله ص و لا ولد له ولد من مهيرة إلا من خديجة و من السراري من مارية. و قذفت عائشة في أيام رسول الله ص بصفوان بن المعطل السلمي و القصة مشهورة فأنزل الله تعالى براءتها في قرآن يتلى و ينقل و جلد قاذفوها الحد و توفيت في سنة سبع و خمسين للهجرة و عمرها أربع و ستون سنة و دفنت بالبقيع شرح نهج البلاغة ج : 9 ص : 192في ملك معاوية و صلى عليها المسلمون ليلا و أمهم أبو هريرة و ل في قبرها خمسة من أهلها عبد الله و عروة ابنا الزبير و القاسم و عبد الله ابنا محمد بن أبي بكر و عبد الرحمن بن أبي بكر و ذلك لسبع عشرة خلت من شهر رمضان من السنة المذكورة. فأما قوله فأدركها رأي النساء أي ضعف آرائهن و
قد جاء في الخبر لا يفلح قوم أسندوا أمرهم إلى امرأة
و جاء إنهن قليلات عقل و دين

(10/171)


أو قال ضعيفات و لذلك جعل شهادة المرأتين بشهادة الرجل الواحد و المرأة في أصل الخلقة سريعة الانخداع سريعة الغضب سيئة الظن فاسدة التدبير و الشجاعة فيهن مفقودة أو قليلة و كذلك السخاء و أما الضغن فاعلم أن هذا الكلام يحتاج إلى شرح و قد كنت قرأته على الشيخ أبي يعقوب يوسف بن إسماعيل اللمعاني رحمه الله أيام اشتغالي عليه بعلم الكلام و سألته عما عنده فيه فأجابني بجواب طويل أنا أذكر محصوله بعضه بلفظه رحمه الله و بعضه بلفظي فقد شذ عني الآن لفظه كله بعينه قال أول بدء الضغن كان بينها و بين فاطمة ع و ذلك لأن رسول الله ص تزوجها عقيب موت خديجة فأقامها مقامها و فاطمة هي ابنة خديجة و من المعلوم أن ابنة الرجل إذا ماتت أمها و تزوج أبوها أخرى كان بين الابنة و بين المرأة كدر و شنئان و هذا لا بد منه لأن الزوجة تنفس عليها ميل الأب و البنت تكره ميل أبيها إلى امرأة غريبة كالضرة لأمها بل هي ضرة على الحقيقة و إن كانت الأم ميتة و لأنا لو قدرنا الأم حية لكانت العداوة مضطرمة متسعرة فإذا كانت قد ماتت ورثت ابنتها تلك العداوة و في المثل عداوة الحماة و الكنة و قال الراجز شرح نهج البلاغة ج : 9 ص : 19إن الحماة أولعت بالكنة و أولعت كنتها بالظنة

(10/172)


ثم اتفق أن رسول الله ص مال إليها و أحبها فازداد ما عند فاطمة بحسب زيادة ميله و أكرم رسول الله ص فاطمة إكراما عظيما أكثر مما كان الناس يظنونه و أكثر من إكرام الرجال لبناتهم حتى خرج بها عن حد حب الآباء للأولاد فقال بمحضر الخاص و العام مرارا لا مرة واحدة و في مقامات مختلفة لا في مقام واحد إنها سيدة نساء العالمين و إنها عديلة مريم بنت عمران و إنها إذا مرت في الموقف نادى مناد من جهة العرش يا أهل الموقف غضوا أبصاركم لتعبر فاطمة بنت محمد و هذا من الأحاديث الصحيحة و ليس من الأخبار المستضعفة و إن إنكاحه عليا إياها ما كان إلا بعد أن أنكحه الله تعالى إياها في السماء بشهادة الملائكة و
كم قال لا مرة يؤذيني ما يؤذيها و يغضبني ما يغضبها و إنها بضعة مني يريبني ما رابها

(10/173)


فكان هذا و أمثاله يوجب زيادة الضغن عند الزوجة حسب زيادة هذا التعظيم و التبجيل و النفوس البشرية تغيظ على ما هو دون هذا فكيف هذا. ثم حصل عند بعلها ما هو حاصل عندها أعني عليا ع فإن النساء كثيرا ما يجعلن الأحقاد في قلوب الرجال لا سيما و هن محدثات الليل كما قيل في المثل و كانت تكثر الشكوى من عائشة و يغشاها نساء المدينة و جيران بيتها فينقلن إليها كلمات عن عائشة ثم يذهبن إلى بيت عائشة فينقلن إليها كلمات عن فاطمة و كما كانت فاطمة تشكو إلى بعلها كانت عائشة تشكو إلى أبيها لعلمها أن بعلها لا يشكيها على ابنته فحصل في نفس أبي بكر من ذلك أثر ما ثم تزايد تقريظ رسول الله ص شرح نهج البلاغة ج : 9 ص : 194لعلي ع و تقريبه و اختصاصه فأحدث ذلك حسدا له و غبطة في نفس أبي بكر عنه و هو أبوها و في نفس طلحة و هو ابن عمها و هي تجلس إليهما و تسمع كلامهما و هما يجلسان إليها و يحادثانها فدى إليها منهما كما أعدتهما. قال و لست أبرئ عليا ع من مثل ذلك فإنه كان ينفس على أبي بكر سكون النبي ص إليه و ثناءه عليه و يحب أن ينفرد هو بهذه المزايا و الخصائص دونه و دون الناس أجمعين و من انحرف عن إنسان انحرف عن أهله و أولاده فتأكدت البغضة بين هذين الفريقين ثم كان من أمر القذف ما كان و لم يكن علي ع من القاذفين و لكنه كان من المشيرين على رسول الله ص بطلاقها تنزيها لعرضه عن أقوال الشنأة و المنافقين. قال له لما استشاره إن هي إلا شسع نعلك و قل له سل الخادم و خوفها و إن أقامت على الجحود فاضربها و بلغ عائشة هذا الكلام كله و سمعت أضعافه مما جرت عادة الناس أن يتداولوه في مثل هذه الواقعة و نقل النساء إليها كلاما كثيرا عن علي و فاطمة و أنهما قد أظهرا الشماتة جهارا و سرا بوقوع هذه الحادثة لها فتفاقم الأمر و غلظ. ثم إن رسول الله ص صالحها و رجع إليها و نزل القرآن ببراءتها فكان منها ما يكون من الإنسان ينتصر بعد أن قهر و يستظهر بعد أن

(10/174)


غلب و يبرأ بعد أن اتهم من بسط اللسان و فلتات القول و بلغ ذلك كله عليا ع و فاطمة ع فاشتدت الحل و غلظت و طوى كل من الفريقين قلبه على الشنئان لصاحبه ثم كان بينها و بين علي ع في حياة رسول الله ص أحوال و أقوال كلها تقتضي تهييج ما في النفوس نحو قولها له و قد استدناه رسول الله فجاء حتى قعد بينه
شرح نهج البلاغة ج : 9 ص : 195و بينها و هما متلاصقان أ ما وجدت مقعدا لكذا لا تكني عنه إلا فخذي و نحو ما روي أنه سايره يوما و أطال مناجاته فجاءت و هي سائرة خلفهما حتى دخلت بينهما و قالت فيم أنتما فقد أطلتما فيقال إن رسول الله ص غضب ذلك اليوم و ما روي من حث الجفنة من الثريد التي أمرت الخادم فوقفت لها فأكفأتها و نحو ذلك مما يكون بين الأهل و بين المرأة و أحمائها. ثم اتفق أن فاطمة ولدت أولادا كثيرة بنين و بنات و لم تلد هي ولدا و أن رسول الله ص كان يقيم بني فاطمة مقام بنيه و يسمي الواحد منهما ابني و يقول دعوا لي ابني و لا تزرموا على ابني و ما فعل ابني فما ظنك بالزوجة إذا حرمت الولد من البعل ثم رأت البعل يتمنى بني ابنته من غيرها و يحنو عليهم حنو الوالد المشفق هل تكون محبة لأولئك البنين و لأمهم و لأبيهم أم مبغضة و هل تود دوام ذلك و استمراره أم زواله و انقضاءه. ثم اتفق أن رسول الله ص سد باب أبيها إلى المسجد و فتح باب صهره ثم بعث أباها ببراءة إلى مكة ثم عزله عنها بصهره فقدح ذلك أيضا في نفسها و ولد لرسول الله ص إبراهيم من مارية فأظهر علي ع بذلك سرورا كثيرا و كان يتعصب لمارية و يقوم بأمرها عند رسول الله ص ميلا على غيرها و جرت لمارية نكبة مناسبة لنكبة عائشة فبرأها علي ع منها و كشف بطلانها أو كشفه الله تعالى على يده و كان ذلك كشفا محسا بالبصر لا يتهيأ للمنافقين أن يقولوا فيه ما قالوه في القرآن المنزل ببراءة عائشة و كل ذلك مما كان يوغر صدر عائشة عليه و يؤكد ما في نفسها منه ثم مات إبراهيم فأبطنت شماتة و

(10/175)


إن أظهرت كآبة شرح نهج البلاغة ج : 9 ص : 196و وجم علي ع من ذلك و كذلك فاطمة و كانا يؤثران و يريدان أن تتميز مارية عليها بالولد فلم يقدر لهما و لا لمارية ذلك و بقيت الأمور على ما هي عليه و في النفوس ما فيها حتى مرض رسول الله المرض الذي توفي فيه و كانت فاطمة ع و علي ع يريدان أن يمرضاه في بيتهما و كذلك كان أزواجه كلهن فمال إلى بيت عائشة بمقتضى المحبة القلبية التي كانت لها دون نسائه و كره أن يزاحم فاطمة و بعلها في بيتهما فلا يكون عنده من الانبساط لوجودهما ما يكون إذا خلا بنفسه في بيت من يميل إليه بطبعه و علم أن المريض يحتاج إلى فضل مداراة و نوم و يقظة و انكشاف و خروج حدث فكانت نفسه إلى بيته أسكن منها إلى بيت صهره و بنته فإنه إذا تصور حياءهما منه استحيا هو أيضا منهما و كل أحد يحب أن يخلو بنفسه و يحتشم الصهر و البنت و لم يكن له إلى غيرها من الزوجات مثل ذلك الميل إليها فتمرض في بيتها فغبطت على ذلك و لم يمرض رسول الله ص منذ قدم المدينة مثل هذا المرض و إنما كان مرضه الشقيقة يوما أو بعض يوم ثم يبرأ فتطاول هذا المرض و كان علي ع لا يشك أن الأمر له و أنه لا ينازعه فيه أحد من الناس و لهذا قال له عمه و قد مات رسول الله ص امدد يدك أبايعك فيقول الناس عم رسول الله ص بايع ابن عم رسول الله ص فلا يختلف عليك اثنان قال يا عم و هل يطمع فيها طامع غيري قال ستعلم قال فإني لا أحب هذا الأمر من وراء رتاج و أحب أن أصحر به فسكت عنه فلما ثقل رسول الله ص في مرضه أنفذ جيش أسامة و جعل فيه أبا بكر و غيره من أعلام

(10/176)


شرح نهج البلاغة ج : 9 ص : 197المهاجرين و الأنصار فكان علي ع حينئذ بوصوله إلى الأمر إن حدث برسول الله ص حدث أوثق و تغلب على ظنه أن المدينة لو مات لخلت من منازع ينازعه الأمر بالكلية فيأخذه صفوا عفوا و تتم له البيعة فلا يتهيأ فسخها لو رام ضد منازعته عليها ان من عود أبي بكر من جيش أسامة بإرسالها إليه و إعلامه بأن رسول الله ص يموت ما كان و من حديث الصلاة بالناس ما عرف فنسب علي ع عائشة أنها أمرت بلالا مولى أبيها أن يأمره فليصل بالناس لأن رسول الله كما روي قال ليصل بهم أحدهم و لم يعين و كانت صلاة الصبح فخرج رسول الله ص و هو في آخر رمق يتهادى بين علي و الفضل بن العباس حتى قام في المحراب كما ورد في الخبر ثم دخل فمات ارتفاع الضحى فجعل يوم صلاته حجة في صرف الأمر إليه و قال أيكم يطيب نفسا أن يتقدم قدمين قدمهما رسول الله في الصلاة و لم يحملوا خروج رسول الله ص إلى الصلاة لصرفه عنها بل لمحافظته على الصلاة مهما أمكن فبويع على هذه النكتة التي اتهمها علي ع على أنها ابتدأت منها. و كان علي ع يذكر هذا لأصحابه في خلواته كثيرا و يقول إنه لم يقل ص إنكن لصويحبات يوسف إلا إنكارا لهذه الحال و غضبا منها لأنها و حفصة تبادرتا إلى تعيين أبويهما و أنه استدركها بخروجه و صرفه عن المحراب فلم يجد ذلك و لا أثر مع قوة الداعي الذي كان يدعو إلى أبي بكر و يمهد له قاعدة الأمر و تقرر حاله في نفوس الناس و من اتبعه على ذلك من أعيان المهاجرين و الأنصار و لما ساعد على ذلك من الحظ الفلكي و الأمر السمائي الذي جمع عليه القلوب و الأهواء فكانت هذه الحال عند علي أعظم من كل عظيم و هي الطامة الكبرى شرح نهج البلاغة ج : 9 ص : 198و المصيبة العظمى و لم ينسبها إلا إلى عائشة وحدها و لا علق الأمر الواقع إلا بها فدعا عليها في خلواته و بين خواصه و تظلم إلى الله منها و ى له في تخلفه عن البيعة ما هو مشهور حتى بايع و كان يبلغه و فاطمة

(10/177)


عنها كل ما يكرهانه منذ مات رسول الله ص إلى أن توفيت فاطمة و هما صابران على مضض و رمض و استظهرت بولاية أبيها و استطالت و عظم شأنها و انخذل علي و فاطمة و قهرا و أخذت فدك و خرجت فاطمة تجادل في ذلك مرارا فلم تظفر بشي ء و في ذلك تبلغها النساء و الداخلات و الخارجات عن عائشة كل كلام يسوؤها و يبلغن عائشة عنها و عن بعلها مثل ذلك إلا أنه شتان ما بين الحالين و بعد ما بين الفريقين هذه غالبة و هذه مغلوبة و هذه آمرة و هذه مأمورة و ظهر التشفي و الشماتة و لاشي ء أعظم مرارة و مشقة من شماتة العدو. فقلت له رحمه الله أ فتقول أنت إن عائشة عينت أباها للصلاة و رسول الله ص لم يعينه فقال أما أنا فلا أقول ذلك و لكن عليا كان يقوله و تكليفي غير تكليفه كان حاضرا و لكم أكن حاضرا فأنا محجوج بالأخبار التي اتصلت بي و هي تتضم تعيين النبي ص لأبي بكر في الصلاة و هو محجوج بما كان قد علمه أو يغلب على ظنه من الحال التي كان حضرها. قال ثم ماتت فاطمة فجاء نساء رسول الله ص كلهن إلى بني هاشم في العزاء إلا عائشة فإنها لم تأت و أظهرت مرضا و نقل إلى علي ع عنها كلام يدل على السرور. ثم بايع علي أباها فسرت بذلك و أظهرت من الاستبشار بتمام البيعة و استقرار

(10/178)


شرح نهج البلاغة ج : 9 ص : 199الخلافة و بطلان منازعة الخصم ما قد نقله الناقلون فأكثروا و استمرت الأمور على هذا مدة خلافة أبيها و خلافة عمر و عثمان و القلوب تغلي و الأحقاد تذيب الحجارة و كلما طال الزمان على علي تضاعفت همومه و باح بما في نفسه إلى أن قتل عثن و قد كانت عائشة فيها أشد الناس عليه تأليبا و تحريضا فقالت أبعده الله لما سمعت قتله و أملت أن تكون الخلافة في طلحة فتعود الإمرة تيمية كما كانت أولا فعدل الناس عنه إلى علي بن أبي طالب فلما سمعت ذلك صرخت وا عثماناه قتل عثمان مظلوما و ثار ما في الأنفس حتى تولد من ذلك يوم الجمل و ما بعده. هذه خلاصة كلام الشيخ أبي يعقوب رحمه الله و لم يكن يتشيع و كان شديدا في الاعتزال إلا أنه في التفضيل كان بغداديا

(10/179)


فأما قوله ع و لو دعيت لتنال من غيري مثل ما أتت إلي لم تفعل فإنما يعني به عمر يقول لو أن عمر ولي الخلافة بعد قتل عثمان على الوجه الذي قتل عليه و الوجه الذي أنا وليت الخلافة عليه و نسب إلى عمر أنه كان يؤثر قتله أو يحرض عليه و دعيت عائشة إلى أن تخرج عليه في عصابة من المسلمين إلى بعض بلاد الإسلام تثير فتنة و تنقض البيعة لم تفعل و هذا حق لأنها لم تكن تجد على عمر ما تجده على علي ع و لا الحال الحال. فأما قوله و لها بعد حرمتها الأولى و الحساب على الله فإنه يعني بذلك حرمتها بنكاح رسول الله ص لها و حبه إياها و حسابها على الله لأنه غفور رحيم لا يتعاظم عفوه زلة و لا يضيق عن رحمته ذنب. شرح نهج البلاغة ج : 9 ص : 200فإن قلت هذا الكلام يدل على توقفه ع في أمرها و أنتم تقولون إنها من أهل الجنة فكيف تجمعون بين مذهبكم و هذا الكلام. قلت يجوز أن يكون قال هذا الكلام قبل أن يتواتالخبر عنده بتوبتها فإن أصحابنا يقولون إنها تابت بعد قتل أمير المؤمنين و ندمت و قالت لوددت أن لي من رسول الله ص عشرة بنين كلهم ماتوا و لم يكن يوم الجمل و إنها كانت بعد قتله تثني عليه و تنشر مناقبه مع أنهم رووا أيضا أنها عقيب الجمل كانت تبكي حتى تبل خمارها و أنها استغفرت الله و ندمت و لكن لم يبلغ أمير المؤمنين ع حديث توبتها عقيب الجمل بلاغا يقطع العذر و يثبت الحجة و الذي شاع عنها من أمر الندم و التوبة شياعا مستفيضا إنما كان بعد قتله ع إلى أن ماتت و هي على ذلك و التائب مغفور له و يجب قبول التوبة عندنا في العدل و قد أكدوا وقوع التوبة منها ما
روي في الأخبار المشهورة أنها زوجة رسول الله ص في الآخرة كما كانت زوجته في الدنيا
و مثل هذا الخبر إذا شاع أوجب علينا أن نتكلف إثبات توبتها و لو لم ينقل فكيف و النقل لها يكاد أن يبلغ حد التواتر

(10/180)


مِنْهُ سَبِيلٌ أَبْلَجُ الْمِنْهَاجِ أَنْوَرُ السِّرَاجِ فَبِالْإِيمَانِ يُسْتَدَلُّ عَلَى الصَّالِحَاتِ وَ بِالصَّالِحَاتِ يُسْتَدَلُّ عَلَى الْإِيمَانِ وَ بِالْإِيمَانِ يُعْمَرُ الْعِلْمُ وَ بِالْعِلْمِ يُرْهَبُ الْمَوْتُ وَ بِالْمَوْتِ تُخْتَمُ الدُّنْيَا وَ بِالدُّنْيَا تُحْرَزُ الآْخِرَةُ وَ بِالْقِيَامَةِ تُزْلَفُ الْجَنَّةُ وَ تُبَرَّزُ الْجَحِيمُ شرح نهج البلاغة ج : 9 ص : 201لِلْغَاوِينَ وَ إِنَّ الْخَلْقَ لَا مَقْصَرَ لَهُمْ عَنِ الْقِيَامَةِ مُرْقِلِينَ فِي مِضْمَارِهَا إِلَى الْغَايَةِ الْقُصْو

(10/181)


هو الآن في ذكر الإيمان و عنه قال سبيل أبلج المنهاج أي واضح الطريق. ثم قال فبالإيمان يستدل على الصالحات يريد بالإيمان هاهنا مسماه اللغوي لا الشرعي لأن الإيمان في اللغة هو التصديق قال سبحانه وَ ما أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنا أي بمصدق و المعنى أن من حصل عنده التصديق بالوحدانية و الرسالة و هما كلمتا الشهادة استدل بهما على وجوب الأعمال الصالحة عليه أو ندبه إليها لأن المسلم يعلم من دين نبيه ص أنه أوجب عليه أعمالا صالحة و ندبه إلى أعمال صالحة فقد ثبت أن بالإيمان يستدل على الصالحات. ثم قال و بالصالحات يستدل على الإيمان فالإيمان هاهنا مستعمل في مسماه الشرعي لا في مسماه اللغوي و مسماه الشرعي هو العقد بالقلب و القول باللسان و العمل بالجوارح فلا يكون المؤمن مؤمنا حتى يستكمل فعل كل واجب و يجتنب كل قبيح و لا شبهة أنا متى علمنا أو ظننا من مكلف أنه يفعل الأفعال الصالحة و يجتنب الأفعال القبيحة استدللنا بذلك على حسن إطلاق لفظ المؤمن عليه و بهذا التفسير الذي فسرناه نسلم من إشكال الدور لأن لقائل أن يقول من شرط الدليل أن يعلم قبل العلم بالمدلول فلو كان كل واحد من الإيمان و الصالحات يستدل به على الآخر لزم تقدم العلم بكل واحد منهما على العلم بكل واحد منهما فيؤدي إلى الدور و لا شبهة أن هذا الدور غير لازم على التفسير الذي فسرناه نحن. شرح نهج البلاغة ج : 9 ص : 202ثم قال ع و بالإيمان يعمر العلم و ذلك لأن العالم و هو غير عامل بعلمه غير منتفع بما علم بل مستضر به غاية الضرر فكأن علمه خراب غيرعمور و إنما يعمر بالإيمان و هو فعل الواجب و تجنب القبيح على مذهبنا أو الاعتقاد و المعرفة على مذهب غيرنا أو القول اللساني على قول آخرين و مذهبنا أرجح لأن عمارة العلم إنما تكون بالعمل من الأعضاء و الجوارح و بدون ذلك يبقى العلم على خرابه كما كان. ثم قال و بالعلم يرهب الموت هذا من قول الله تعالى إِنَّما يَخْشَى اللَّهَ مِنْ

(10/182)


عِبادِهِ الْعُلَماءُ. ثم قال و بالموت تختم الدنيا و هذا حق لأنه انقطاع التكليف. ثم قال و بالدنيا تحرز الآخرة هذا كقول بعض الحكماء الدنيا متجر و الآخرة ربح و نفسك رأس المال. ثم قال و بالقيامة تزلف الجنة للمتقين و تبرز الجحيم للغاوين هذا من القرآن العزيز و تزلف لهم تقدم لهم و تقرب إليهم. و لا مقصر لي عن كذا لا محبس و لا غاية لي دونه و أرقل أسرع و المضمار حيث تستبق الخيل
مِنْهَا قَدْ شَخَصُوا مِنْ مُسْتَقَرِّ الْأَجْدَاثِ وَ صَارُوا إِلَى مَصَايِرِ الْغَايَاتِ لِكُلِّ دَارٍ أَهْلُهَا شرح نهج البلاغة ج : 9 ص : 203لَا يَسْتَبْدِلُونَ بِهَا وَ لَا يُنْقَلُونَ عَنْهَا وَ إِنَّ الْأَمْرَ بِالْمَعْرُوفِ وَ النَّهْيَ عَنِ الْمُكَرِ لَخُلُقَانِ مِنْ خُلُقِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَ إِنَّهُمَا لَا يُقَرِّبَانِ مِنْ أَجَلٍ وَ لَا يَنْقُصَانِ مِنْ رِزْقٍ وَ عَلَيْكُمْ بِكِتَابِ اللَّهِ فَإِنَّهُ الْحَبْلُ الْمَتِينُ وَ النُّورُ الْمُبِينُ وَ الشِّفَاءُ النَّافِعُ وَ الرِّيُّ النَّاقِعُ وَ الْعِصْمَةُ لِلْمُتَمَسِّكِ وَ النَّجَاةُ لِلْمُتَعَلِّقِ لَا يَعْوَجُّ فَيُقَامَ وَ لَا يَزِيغُ فَيُسْتَعْتَبَ وَ لَا يُخْلِقُهُ كَثْرَةُ الرَّدِّ وَ وُلُوجُ السَّمْعِ مَنْ قَالَ بِهِ صَدَقَ وَ مَنْ عَمِلَ بِهِ سَبَقَ
شخصوا من بلد كذا خرجوا و مستقر الأجداث مكان استقرارهم بالقبور و هي جمع جدث. و مصاير الغايات جمع مصير و الغايات جمع غاية و هي ما ينتهى إليه قال الكميت
فالآن صرت إلى أمية و الأمور إلى مصاير
ثم ذكر أن أهل الثواب و العقاب كل من الفريقين يقيم بدار لا يتحول منها و هذا كما
ورد في الخبر أنه ينادي مناد يا أهل الجنة سعادة لا فناء لها و يا أهل النار شقاوة لا فناء لها

(10/183)


ثم ذكر أن الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر خلقان من خلق الله سبحانه و ذلك لأنه تعالى ما أمر إلا بمعروف و ما نهى إلا عن منكر و يبقى الفرق بيننا و بينه أنا يجب علينا النهي عن المنكر بالمنع منه و هو سبحانه لا يجب عليه ذلك لأنه لو منع من إتيان المنكر لبطل التكليف. ثم قال إنهما لا يقربان من أجل و لا ينقصان من رزق و إنما قال ع شرح نهج البلاغة ج : 9 ص : 204ذلك لأن كثيرا من الناس يكف عن نهي الظلمة عن المناكير توهما منه أنهم أما إن يبطشوا به فيقتلوه أو يقطعوا رزقه و يحرموه فقال ع إن ذلك ليس مما يقرب من الأجل و لا طع الرزق. و ينبغي أن يحمل كلامه ع على حال السلامة و غلبة الظن بعدم تطرق الضرر الموفي على مصلحة النهي عن المنكر. ثم أمر باتباع الكتاب العزيز و وصفه بما وصفه به. و ماء ناقع ينقع الغلة أي يقطعها و يروى منها و لا يزيغ يميل فيستعتب يطلب منه العتبى هي الرضا كما يطلب من الظالم يميل فيسترضى. قال و لا يخلقه كثرة الرد و ولوج السمع هذا من خصائص القرآن المجيد شرفه الله تعالى و ذلك أن كل كلام منثور أو منظوم إذا تكررت تلاوته و تردد ولوجه الأسماع مل و سمج و استهجن إلا القرآن فإنه لا يزال غضا طريا محبوبا غير مملول

(10/184)


شرح نهج البلاغة ج : 9 ص : 157205 و قام إليه ع رجل فقال أخبرنا عن الفتنة و هل سألت عنها رسول الله ص فقال عإِنَّهُ لَمَّا أَنْزَلَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ قَوْلَهُ الم أَ حَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَ هُمْ لا يُفْتَنُونَ عَلِمْتُ أَنَّ الْفِتْنَةَ لَا تَنْزِلُ بِنَا وَ رَسُولُ اللَّهِ ص بَيْنَ أَظْهُرِنَا فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا هَذِهِ الْفِتْنَةُ الَّتِي أَخْبَرَكَ اللَّهُ بِهَا فَقَالَ يَا عَلِيُّ إِنَّ أُمَّتِي سَيُفْتَنُونَ بَعْدِي فَقُلْتُ يَا رَسُولُ اللَّهِ أَ وَ لَيْسَ قَدْ قُلْتَ لِي يَوْمَ أُحُدٍ حَيْثُ اسْتُشْهِدَ مَنِ اسْتُشْهِدَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَ حِيزَتْ عَنِّي الشَّهَادَةُ فَشَقَّ ذَلِكَ عَلَيَّ فَقُلْتَ لِي أَبْشِرْ فَإِنَّ الشَّهَادَةَ مِنْ وَرَائِكَ فَقَالَ لِي إِنَّ ذَلِكَ لَكَذَلِكَ فَكَيْفَ صَبْرُكَ إِذاً فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ لَيْسَ هَذَا مِنْ مَوَاطِنِ الصَّبْرِ وَ لَكِنْ مِنْ مَوَاطِنِ الْبُشْرَى وَ الشُّكْرِ وَ قَالَ يَا عَلِيُّ إِنَّ الْقَوْمَ سَيُفْتَنُونَ بِأَمْوَالِهِمْ وَ يَمُنُّونَ بِدِينِهِمْ عَلَى رَبِّهِمْ وَ يَتَمَنَّوْنَ رَحْمَتَهُ وَ يَأْمَنُونَ سَطْوَتَهُ وَ يَسْتَحِلُّونَ حَرَامَهُ بِالشُّبُهَاتِ الْكَاذِبَةِ وَ الْأَهْوَاءِ السَّاهِيَةِ فَيَسْتَحِلُّونَ الْخَمْرَ بِالنَّبِيذِ وَ السُّحْتَ بِالْهَدِيَّةِ وَ الرِّبَا بِالْبَيْعِ فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَبِأَيِّ الْمَنَازِلِ أُنْزِلُهُمْ عِنْدَ ذَلِكَ أَ بِمَنْزِلَةِ رِدَّةٍ أَمْ بِمَنْزِلَةِ فِتْنَةٍ فَقَالَ بِمَنْزِلَةِ فِتْنَةٍ

(10/185)


شرح نهج البلاغة ج : 9 ص : 206قد كان ع يتكلم في الفتنة و لذلك ذكر الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر و لذلك قال فعليكم بكتاب الله أي إذا وقع الأمر و اختلط الناس فعليكم بكتاب الله فلذلك قام إليه من سأله عن الفتنة و هذا الخبر مروي عن رسول الله ص قد رواه كثير من المحدثين عن علي ع أن رسول الله ص قال له إن الله قد كتب عليك جهاد المفتونين كما كتب علي جهاد المشركين قال فقلت يا رسول الله ما هذه الفتنة التي كتب علي فيها الجهاد قال قوم يشهدون أن لا إله إلا الله و أني رسول الله و هم مخالفون للسنة فقلت يا رسول الله فعلام أقاتلهم و هم يشهدون كما أشهد قال على الأحداث في الدين و مخالفة الأمر فقلت يا رسول الله إنك كنت وعدتني الشهادة فأسأل الله أن يعجلها لي بين يديك قال فمن يقاتل الناكثين و القاسطين و المارقين أما إني وعدتك الشهادة و ستستشهد تضرب على هذه فتخضب هذه فكيف صبرك إذا قلت يا رسول الله ليس ذا بموطن صبر هذا موطن شكر قال أجل أصبت فأعد للخصومة فإنك مخاصم فقلت يا رسول الله لو بينت لي قليلا فقال إن أمتي ستفتن من بعدي فتتأول القرآن و تعمل بالرأي و تستحل الخمر بالنبيذ و السحت بالهدية و الربا بالبيع و تحرف الكتاب عن مواضعه و تغلب كلمة الضلال فكن جليس بيتك حتى تقلدها فإذا قلدتها جاشت عليك الصدور و قلبت لك الأمور تقاتل حينئذ على تأويل القرآن كما قاتلت على تنزيله فليست حالهم الثانية بدون حالهم الأولى فقلت يا رسول الله فبأي المنازل أنزل هؤلاء المفتونين من بعدك أ بمنزلة فتنة أم بمنزلة ردة فقال بمنزلة فتنة يعمهون فيها إلى أن يدركهم العدل فقلت يا رسول الله أ يدركهم العدل منا أم من غيرنا قال بل منا بنا فتح و بنا يختم و بنا ألف الله بين القلوب شرح نهج البلاغة ج : 9 ص : 207بعد الشرك و بنا يؤلف بين القلوب بعد الفتنة فقلت امد لله على ما وهب لنا من فضله

(10/186)


و اعلم أن لفظه ع المروي في نهج البلاغة يدل على أن الآية المذكورة و هي قوله ع الم أَ حَسِبَ النَّاسُ أنزلت بعد أحد و هذا خلاف قول أرباب التفسير لأن هذه الآية هي أول سورة العنكبوت و هي عندهم بالاتفاق مكية و يوم أحد كان بالمدينة و ينبغي أن يقال في هذا إن هذه الآية خاصة أنزلت بالمدينة و أضيفت إلى السورة المكية فصارتا واحدة و غلب عليها نسب المكي لأن الأكثر كان بمكة و في القرآن مثل هذا كثير كسورة النحل فإنها مكية بالإجماع و آخرها ثلاث آيات أنزلت بالمدينة بعد يوم أحد و هي قوله تعالى وَ إِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا بِمِثْلِ ما عُوقِبْتُمْ بِهِ وَ لَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ وَ اصْبِرْ وَ ما صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ وَ لا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَ لا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَ الَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ. فإن قلت فلم قال علمت أن الفتنة لا تنزل بنا و رسول الله بين أظهرنا قلت لقوله تعالى وَ ما كانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَ أَنْتَ فِيهِمْ. و قوله حيزت عني الشهادة أي منعت. قوله ليس هذا من مواطن الصبر كلام عال جدا يدل على يقين عظيم و عرفان تام و نحوه
قوله و قد ضربه ابن ملجم فزت و رب الكعبة

(10/187)


شرح نهج البلاغة ج : 9 ص : 208قوله سيفتنون بعدي بأموالهم من قوله تعالى إِنَّما أَمْوالُكُمْ وَ أَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ. قوله و يمنون بدينهم على ربهم من قوله تعالى يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُن عَلَيْكُمْ أَنْ هَداكُمْ لِلْإِيمانِ. قوله و يتمنون رحمته من قوله أحمق الحمقى من أتبع نفسه هواها و تمنى على الله. قوله و يأمنون سطوته من قوله تعالى أَ فَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخاسِرُونَ. و الأهواء الساهية الغافلة و السحت الحرام و يجوز ضم الحاء و قد أسحت الرجل في تجارته إذا اكتسب السحت. و في قوله بل بمنزلة فتنة تصديق لمذهبنا في أهل البغي و أنهم لم يدخلوا في الكفر بالكلية بل هم فساق و الفاسق عندنا في منزلة بين المنزلتين خرج من الإيمان و لم يدخل في الكفر شرح نهج البلاغة ج : 9 ص : 158209- و من خطبة له عالْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي جَعَلَ الْحَمْدَ مِفْتَاحاً لِذِكْرِهِ وَ سَبَباً لِلْمَزِيدِ مِنْ فَضْلِهِ وَ دَلِيلًا عَلَى آلَائِهِ وَ عَظَمَتِهِ عِبَادَ اللَّهِ إِنَّ الدَّهْرَ يَجْرِي بِالْبَاقِينَ كَجَرْيِهِ بِالْمَاضِينَ لَا يَعُودُ مَا قَدْ وَلَّى مِنْهُ وَ لَا يَبْقَى سَرْمَداً مَا فِيهِ آخِرُ فَعَالِهِ كَأَوَّلِهِ مُتَشَابِهَةٌ أُمُورُهُ مُتَظَاهِرَةٌ أَعْلَامُهُ فَكَأَنَّكُمْ بِالسَّاعَةِ تَحْدُوكُمْ حَدْوَ الزَّاجِرِ بِشَوْلِهِ فَمَنْ شَغَلَ نَفْسَهُ بِغَيْرِ نَفْسِهِ تَحَيَّرَ فِي الظُّلُمَاتِ وَ ارْتَبَكَ فِي الْهَلَكَاتِ وَ مَدَّتْ بِهِ شَيَاطِينُهُ فِي طُغْيَانِهِ وَ زَيَّنَتْ لَهُ سَيِّئَ أَعْمَالِهِ فَالْجَنَّةُ غَايَةُ السَّابِقِينَ وَ النَّارُ غَايَةُ الْمُفَرِّطِينَ اعْلَمُوا عِبَادَ اللَّهِ أَنَّ التَّقْوَى دَارُ حِصْنٍ عَزِيزٍ وَ الْفُجُورَ دَارُ حِصْنٍ ذَلِيلٍ

(10/188)


لَا يَمْنَعُ أَهْلَهُ وَ لَا يُحْرِزُ مَنْ لَجَأَ إِلَيْهِ أَلَا وَ بِالتَّقْوَى تُقْطَعُ حُمَةُ الْخَطَايَا وَ بِالْيَقِينِ تُدْرَكُ الْغَايَةُ الْقُصْوَى عِبَادَ اللَّهِ اللَّهَ اللَّهَ فِي أَعَزِّ الْأَنْفُسِ عَلَيْكُمْ وَ أَحَبِّهَا إِلَيْكُمْ فَإِنَّ اللَّهَ قَدْ أَوْضَحَ لَكُمْ سَبِيلَ الْحَقِّ وَ أَنَارَ طُرُقَهُ فَشِقْوَةٌ لَازِمَةٌ أَوْ سَعَادَةٌ دَائِمَةٌ فَتَزَوَّدُوا فِي أَيَّامِ الْفَنَاءِ لِأَيَّامِ الْبَقَاءِ قَدْ دُلِلْتُمْ عَلَى الزَّادِ وَ أُمِرْتُمْ بِالظَّعَنِ وَ حُثِثْتُمْ عَلَى الْمَسِيرِ فَإِنَّمَا أَنْتُمْ كَرَكْبٍ وُقُوفٍ لَا يَدْرُونَ مَتَى يُؤْمَرُونَ بِالسَّيْرِ أَلَا فَمَا يَصْنَعُ بِالدُّنْيَا مَنْ شرح نهج البلاغة ج : 9 ص : 210خُلِقَ لِلآْخِرَةِ وَ مَا يَصْنَعُ بِالْمَالِ مَنْ عَمَّا قَلِيلٍ يُسْلَبُهُ وَ بْقَى عَلَيْهِ تَبِعَتُهُ وَ حِسَابُهُ عِبَادَ اللَّهِ إِنَّهُ لَيْسَ لِمَا وَعَدَ اللَّهُ مِنَ الْخَيْرِ مَتْرَكٌ وَ لَا فِيمَا نَهَى عَنْهُ مِنَ الشَّرِّ مَرْغَبٌ عِبَادَ اللَّهِ احْذَرُوا يَوْماً تُفْحَصُ فِيهِ الْأَعْمَالُ وَ يَكْثُرُ فِيهِ الزِّلْزَالُ وَ تَشِيبُ فِيهِ الْأَطْفَالُ اعْلَمُوا عِبَادَ اللَّهِ أَنَّ عَلَيْكُمْ رَصَداً مِنْ أَنْفُسِكُمْ وَ عُيُوناً مِنْ جَوَارِحِكُمْ وَ حُفَّاظَ صِدْقٍ يَحْفَظُونَ أَعْمَالَكُمْ وَ عَدَدَ أَنْفَاسِكُمْ لَا تَسْتُرُكُمْ مِنْهُمْ ظُلْمَةُ لَيْلٍ دَاجٍ وَ لَا يُكِنُّكُمْ مِنْهُمْ بَابٌ ذُو رِتَاجٍ وَ إِنَّ غَداً مِنَ الْيَوْمِ قَرِيبٌ يَذْهَبُ الْيَوْمُ بِمَا فِيهِ وَ يَجِي ءُ الْغَدُ لَاحِقاً بِهِ فَكَأَنَّ كُلَّ امْرِئٍ مِنْكُمْ قَدْ بَلَغَ مِنَ الْأَرْضِ مَنْزِلَ وَحْدَتِهِ وَ مَخَطَّ حُفْرَتِهِ فَيَا لَهُ ِنْ بَيْتِ وَحْدَةٍ وَ مَنْزِلِ وَحْشَةٍ وَ مَفْرَدِ غُرْبَةٍ وَ كَأَنَّ الصَّيْحَةَ

(10/189)


قَدْ أَتَتْكُمْ وَ السَّاعَةَ قَدْ غَشِيَتْكُمْ وَ بَرَزْتُمْ لِفَصْلِ الْقَضَاءِ قَدْ زَاحَتْ عَنْكُمُ الْأَبَاطِيلُ وَ اضْمَحَلَّتْ عَنْكُمُ الْعِلَلُ وَ اسْتَحَقَّتْ بِكُمُ الْحَقَائِقُ وَ صَدَرَتْ بِكُمُ الْأُمُورُ مَصَادِرَهَا فَاتَّعِظُوا بِالْعِبَرِ وَ اعْتَبِرُوا بِالْغِيَرِ وَ انْتَفِعُوا بِالنُّذُرِ
جعل الحمد مفتاحا لذكره لأن أول الكتاب العزيز الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ و القرآن هو الذكر قال سبحانه إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَ إِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ شرح نهج البلاغة ج : 9 ص : 211و سببا للمزيد لأنه تعالى قال لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزدَنَّكُمْ و الحمد هاهنا هو الشكر و معنى جعله الحمد دليلا على عظمته و آلائه أنه إذا كان سببا للمزيد فقد دل ذلك على عظمة الصانع و آلائه أما دلالته على عظمته فلأنه دال على أن قدرته لا تتناهى أبدا بل كلما ازداد الشكر ازدادت النعمة و أما دلالته على آلائه فلأنه لا جود أعظم من جود من يعطي من يحمده لا حمدا متطوعا بل حمدا واجبا عليه. قوله يجري بالباقين كجريه بالماضين من هذا أخذ الشعراء و غيرهم ما نظموه في هذا المعنى قال بعضهم
مات من مات و الثريا الثريا و السماك السماك و النسر نسرو نجوم السماء تضحك منا كيف تبقى من بعدنا و نمر
و قال آخر
فما الدهر إلا كالزمان الذي مضى و لا نحن إلا كالقرون الأوائل
قوله لا يعود ما قد ولى منه كقول الشاعر
ما أحسن الأيام إلا أنها يا صاحبي إذا مضت لم ترجع
قوله و لا يبقى سرمدا ما فيه كلام مطروق المعنى قال عدي

(10/190)


ليس شي ء على المنون بباق غير وجه المهيمن الخلاققوله آخر أفعاله كأوله يروى كأولها و من رواه كأوله أعاد الضمير إلى الدهر أي آخر أفعال الدهر كأول الدهر فحذف المضاف. متشابهة أموره لأنه كما كان من قبل يرفع و يضع و يغني و يفقر و يوجد شرح نهج البلاغة ج : 9 ص : 212و يعدم فكذلك هو الآن أفعاله متشابهة و روي متبقة أي شي ء منها قبل شي ء كأنها خيل تتسابق في مضمار. متظاهرة أعلامه أي دلالاته على سجيته التي عامل الناس بها قديما و حديثا متظاهرة يقوي بعضها بعضا و هذا الكلام جار منه ع على عادة العرب في ذكر الدهر و إنما الفاعل على الحقيقة رب الدهر. و الشول النوق التي خلبنها و ارتفع ضرعها و أتى عليها من نتاجها سبعة أشهر أو ثمانية الواحدة شائلة و هي جمع على غير القياس و شولت الناقة أي صارت شائلة فأما الشائل بغير هاء فهي الناقة تشول بذنبها للقاح و لا لبن لها أصلا و الجمع شول مثل راكع و ركع قال أبو النجم
كأن في أذنابهن الشول
و الزاجر الذي يزجر الإبل يسوقها و يقال حدوت إبلي و حدوت بإبلي و الحدو سوقها و الغناء لها و كذلك الحداء و يقال للشمال حدواء لأنها تحدو السحاب أي تسوقه قال العجاج
حدواء جاءت من بلاد الطور
و لا يقال للمذكر أحدى و ربما قيل للحمار إذا قدم أتنه حاد قال ذو الرمة
حادي ثلاث من الحقب السماحيج

(10/191)


و المعنى أن سائق الشول يعسف بها و لا يتقي سوقها و لا يدارك كما يسوق العشار. شرح نهج البلاغة ج : 9 ص : 213ثم قال ع من شغل نفسه بغير نفسه هلك و ذلك أن من لا يوفي النظر حقه و يميل إلى الأهواء و نصرة الأسلاف و الحجاج عما ربي عليه بين الأهل و الأستاذين الذين عوا في قلبه العقائد يكون قد شغل نفسه بغير نفسه لأنه لم ينظر لها و لا قصد الحق من حيث هو حق و إنما قصد نصرة مذهب معين يشق عليه فراقه و يصعب عنده الانتقال منه و يسوؤه أن يرد عليه حجة تبطله فيسهر عينه و يتعب قلبه في تهويس تلك الحجة و القدح فيها بالغث و السمين لا لأنه يقصد الحق بل يقصد نصرة المذهب المعين و تشييد دليله لا جرم أنه متحير في ظلمات لا نهاية لها. و الارتباك الاختلاط ربكت الشي ء أربكه ربكا خلطته فارتبك أي اختلط و ارتبك الرجل في الأمر أي نشب فيه و لم يكد يتخلص منه. قوله و مدت به شياطينه في طغيانه مأخو من قوله تعالى وَ إِخْوانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الغَيِّ ثُمَّ لا يُقْصِرُونَ. و روي و مدت له شياطينه باللام و معناه الإمهال مد له في الغي أي طول له و قال تعالى قُلْ مَنْ كانَ فِي الضَّلالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمنُ مَدًّا. قوله و زينت له سيئ أعماله مأخوذ من قوله تعالى أَ فَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً. قوله التقوى دار حصن عزيز معناه دار حصانة عزيزة فأقام الاسم مقام المصدر و كذلك في الفجور. و يحرز من لجأ إليه يحفظ من اعتصم به. شرح نهج البلاغة ج : 9 ص : 214و حمة الخطايا سمها و تقطالحمة كما تقول قطعت سريان السم في بدن الملسوع بالبادزهرات و الترياقات فكأنه جعل سم الخطايا ساريا في الأبدان و التقوى تقطع سريانه. قوله و باليقين تدرك الغاية القصوى و ذلك لأن أقصى درجات العرفان الكشف و هو المراد هاهنا بلفظ اليقين. و انتصب الله الله على الإغراء و في متعلقة بالفعل المقدر و تقديره راقبوا و أعز الأنفس عليهم

(10/192)


أنفسهم. قوله فشقوة لازمة مرفوع على أنه خبر مبتدإ محذوف تقديره فغايتكم أو فجزاؤكم أو فشأنكم و هذا يدل على مذهبنا في الوعيد لأنه قسم الجزاء إلى قسمين إما العذاب أبدا أو النعيم أبدا و في هذا بطلان قول المرجئة إن ناسا يخرجون من النار فيدخلون الجنة لأن هذا لو صح لكان قسما ثالثا. قوله فقد دللتم على الزاد أي الطاعة. و أمرتم بالظعن أي أمرتم بهجر الدنيا و أن تظعنوا عنها بقلوبكم و يجوز الظعن بالتسكين. و حثثتم على المسير لأن الليل و النهار سائقان عنيفان. قوله و إنما أنتم كركب وقوف لا يدرون متى يؤمرون بالسير السير هاهنا هو الخروج من الدنيا إلى الآخرة بالموت جعل الناس و مقامهم في الدنيا كركب وقوف لا يدرون متى يقال لهم سيروا فيسيرون لأن الناس لا يعلمون الوقت الذي يموتون فيه فإن قلت كيف سمى الموت و المفارقة سيرا. قلت لأن الأرواح يعرج بها إما إلى عالمها و هم السعداء أو تهوي إلى أسفل شرح نهج البلاغة ج : 9 ص : 215السافلين و هم الأشقياء و هذا هو السير الحقيقي لا حركة الرجل بالمشي و من أثبت الأنفس المجردة قال سيرها خلوصها من عالم الحس و اتصالها المعنوي لا الأبدي ارئها فهو سير في المعنى لا في الصورة و من لم يقل بهذا و لا بهذا قال إن الأبدان بعد الموت تأخذ في التحلل و التزايل فيعود كل شي ء منها إلى عنصره فذاك هو السير. و ما في عما قليل زائدة و تبعته إثمه و عقوبته. قوله إنه ليس لما وعد الله من الخير مترك أي ليس الثوب فيما ينبغي للمرء أن يتركه و لا الشر فيما ينبغي أن يرغب المرء فيه. و تفحص فيه الأعمال تكشف و الزلزال بالفتح اسم للحركة الشديدة و الاضطراب و الزلزال بالكسر المصدر قال تعالى وَ زُلْزِلُوا زِلْزالًا شَدِيداً. قوله و يشيب فيه الأطفال كلام جار مجرى المثل يقال في اليوم الشديد إنه ليشيب نواصي الأطفال و قال تعالى فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِنْ كَفَرْتُمْ يَوْماً يَجْعَلُ الْوِلْدانَ شِيباً و ليس

(10/193)


ذلك على حقيقته لأن الأمة مجمعة على أن الأطفال لا تتغير حالهم في الآخرة إلى الشيب و الأصل في هذا أن الهموم و الأحزان إذا توالت على الإنسان شاب سريعا قال أبو الطيب
و الهم يخترم الجسيم نحافة و يشيب ناصية الصبي و يهرم
قوله إن عليكم رصدا من أنفسكم و عيونا من جوارحكم لأن الأعضاء تنطق في القيامة بأعمال المكلفين و تشهد عليهم. شرح نهج البلاغة ج : 9 ص : 216و الرصد جمع راصد كالحرس جمع حارس. قوله و حفاظ صدق يعني الملائكة الكاتبين لا يعتصم منهم بسترة و لا ظلام ليل و من هذا المعنى قول الشاعرإذا ما خلوت الدهر يوما فلا تقل خلوت و لكن قل علي رقيب
قوله و إن غدا من اليوم قريب و منه قول القائل
فإن غدا لناظره قريب
منه قوله
غد ما غد ما أقرب اليوم من غد
و منه قول الله تعالى إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ أَ لَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ و الصيحة نفخة الصور. و زاحت الأباطيل بعدت و اضمحلت تلاشت و ذهبت. قوله و استحقت أي حقت و وقعت استفعل بمعنى فعل كقولك استمر على باطله أي مر عليه. و صدرت بكم الأمور مصادرها كل وارد فله صدر عن مورده و صدر الإنسان عن موارد الدنيا الموت ثم البعث
شرح نهج البلاغة ج : 9 ص : 159217- و من خطبة له عأَرْسَلَهُ عَلَى حِينِ فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ وَ طُولِ هَجْعَةٍ مِنَ الْأُمَمِ وَ انْتِقَاضٍ مِنَ الْمُبْرَمِ فَجَاءَهُمْ بِتَصْدِيقِ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَ النُّورِ الْمُقْتَدَى بِهِ ذَلِكَ الْقُرْآنُ فَاسْتَنْطِقُوهُ وَ لَنْ يَنْطِقَ وَ لَكِنْ أُخْبِرُكُمْ عَنْهُ أَلَا إِنَّ فِيهِ عِلْمَ مَا يَأْتِي وَ الْحَدِيثَ عَنِ الْمَاضِي وَ دَوَاءَ دَائِكُمْ وَ نَظْمَ مَا بَيْنَكُمْ

(10/194)


الهجعة النومة الخفيفة و قد تستعمل في النوم المستغرق أيضا و المبرم الحبل المفتول و الذي بين يديه التوراة و الإنجيل. فإن قلت التوراة و الإنجيل قبله فكيف جعلهما بين يديه قلت أحد جزأي الصلة محذوف و هو المبتدأ و التقدير بتصديق الذي هو بين يديه و هو ضمير القرآن أي بتصديق الذي القرآن بين يديه و حذف أحد جزأي الصلة هاهنا ثم حذفه في قوله تعالى تَماماً عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ وَ تَفْصِيلًا في قراءة من جعله اسما شرح نهج البلاغة ج : 9 ص : 218مرفوعا و أيضا فإن العرب تستعمل بين يديه بمعنى قبل قال تعالى بَيْنَ يَدَيْ عَذا شَدِيدٍ أي قبله
مِنْهَا فَعِنْدَ ذَلِكَ لَا يَبْقَى بَيْتُ مَدَرٍ وَ لَا وَبَرٍ إِلَّا وَ أَدْخَلَهُ الظُّلْمَةُ تَرْحَةً وَ أَوْلَجُوا فِيهِ نِقْمَةً فَيَوْمَئِذٍ لَا يَبْقَى لَهُمْ فِي السَّمَاءِ عَاذِرٌ وَ لَا فِي الْأَرْضِ نَاصِرٌ أَصْفَيْتُمْ بِالْأَمْرِ غَيْرَ أَهْلِهِ وَ أَوْرَدْتُمُوهُ غَيْرَ مَوْرِدِهِ وَ سَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِمَّنْ ظَلَمَ مَأْكَلًا بِمَأْكَلٍ وَ مَشْرَباً بِمَشْرَبٍ مِنْ مَطَاعِمِ الْعَلْقَمِ وَ مَشَارِبِ الصَّبِرِ وَ الْمَقِرِ وَ لِبَاسِ شِعَارِ الْخَوْفِ وَ دِثَارِ السَّيْفِ وَ إِنَّمَا هُمْ مَطَايَا الْخَطِيئَاتِ وَ زَوَامِلُ الآْثَامِ فَأُقْسِمُ ثُمَّ أُقْسِمُ لَتَنْخَمَنَّهَا أُمَيَّةُ مِنْ بَعْدِي كَمَا تُلْفَظُ النُّخَامَةُ ثُمَّ لَا تَذُوقُهَا وَ لَا تَتَطَعَّمُ بِطَعْمِهَا أَبَداً مَا كَرَّ الْجَدِيدَانِ

(10/195)


الترحة الحزن قال فحينئذ لا يبقى لهم أي يحيق بهم العذاب و يبعث الله عليهم من ينتقم و هذا إخبار عن ملك بني أمية بعده و زوال أمرهم عند تفاقم فسادهم في الأرض. ثم خاطب أولياء هؤلاء الظلمة و من كان يؤثر ملكهم فقال أصفيتم بالأمر شرح نهج البلاغة ج : 9 ص : 219غيرهله أصفيت فلانا بكذا خصصته به و صفية المغنم شي ء كان يصطفيه الرئيس لنفسه من الغنيمة. و أوردتموه غير ورده أنزلتموه عند غير مستحقه ثم قال سيبدل الله مأكلهم اللذيذة الشهية بمأكل مريرة علقمية و المقر المر و مأكلا منصوب بفعل مقدر أي يأكلون مأكلا و الباء هاهنا لمجازاة الدالة على الصلة كقوله تعالى فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ و كقول أبي تمام
فبما قد أراه ريان مكسو المعاني من كل حسن و طيب
و قال سبحانه قالَ رَبِّ بِما أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لِلْمُجْرِمِينَ و جعل شعارهم الخوف لأنه باطن في القلوب و دثارهم السيف لأنه ظاهر في البدن كما أن الشعار ما كان إلى الجسد و الدثار ما كان فوقه. و مطايا الخطيات حوامل الذنوب و زوامل الآثام جمع زاملة و هي بعير يستظهر به الإنسان يحمل متاعه عليه قال الشاعر
زوامل أشعار و لا علم عندهم بجيدها إلا كعلم الأباعر
و تنخمت النخامة إذا تنخعتها و النخامة النخاعة. و الجديدان الليل و النهار و قد جاء في الأخبار الشائعة المستفيضة في كتب المحدثين أن رسول الله ص أخبر أن بني أمية تملك الخلافة بعده مع ذم منه ع شرح نهج البلاغة ج : 9 ص : 220لهم نحو ما روي عنه في تفسير قوله تعا وَ ما جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْناكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ وَ الشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ فإن المفسرين قالوا إنه رأى بني أمية ينزون على منبره نزو القردة هذا لفظ رسول الله ص الذي فسر لهم الآية به فساءه ذلك ثم قال الشجرة الملعونة بنو أمية و بنو المغيرة و نحو

(10/196)


قوله ص إذا بلغ بنو أبي العاص ثلاثين رجلا اتخذوا مال الله دولا و عباده خولا
و نحو قوله ص في تفسير قوله تعالى لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ قال ألف شهر يملك فيها بنو أمية
و ورد عنه ص من ذمهم الكثير المشهور نحو
قوله أبغض الأسماء إلى الله الحكم و هشام و الوليد
و في خبر آخر اسمان يبغضهما الله مروان و المغيرة
و نحو قوله إن ربكم يحب و يبغض كما يحب أحدكم و يبغض و إنه يبغض بني أمية و يحب بني عبد المطلب
فإن قلت كيف قال ثم لا تذوقها أبدا و قد ملكوا بعد قيام الدولة الهاشمية بالمغرب مدة طويلة قلت الاعتبار بملك العراق و الحجاز و ما عداهما من الأقاليم لا اعتداد به
شرح نهج البلاغة ج : 9 ص : 160221- و من خطبة له عوَ لَقَدْ أَحْسَنْتُ جِوَارَكُمْ وَ أَحَطْتُ بِجُهْدِي مِنْ وَرَائِكُمْ وَ أَعْتَقْتُكُمْ مِنْ رِبَقِ الذُّلِّ وَ حَلَقِ الضَّيْمِ شُكْراً مِنِّي لِلْبِرِّ الْقَلِيلِ وَ إِطْرَاقاً عَمَّا أَدْرَكَهُ الْبَصَرُ وَ شَهِدَهُ الْبَدَنُ مِنَ الْمُنْكَرِ الْكَثِيرِ
أحطت بجهدي من ورائكم حميتكم و حضنتكم و الجهد بالضم الطاقة الربق جمع ربقة و هي الحبل يربق به البهم. و حلق الضيم جمع حلقة بالتسكين و يجوز حلق بكسر الحاء و حلاق فإن قلت كيف يجوز له أن يطرق و يغضي عن المنكر. قلت يجوز له ذلك إذا علم أو غلب على ظنه أنه إن نهاهم عنه لم يرتدعوا و أضافوا إليه منكرا آخر فحينئذ يخرج الإطراق و الإغضاء عن حد الجواز إلى حد الوجوب لأن النهي عن المنكر يكون و الحالة هذه مفسدة

(10/197)


شرح نهج البلاغة ج : 9 ص : 161222- و من خطبة له عأَمْرُهُ قَضَاءٌ وَ حِكْمَةٌ وَ رِضَاهُ أَمَانٌ وَ رَحْمَةُ يَقْضِي بِعِلْمٍ وَ يَعْفُو بِحِلْمٍ اللَّهُمَّ لَكَ الْحَمْدُ عَلَى مَا تَأْخُذُ وَ تُعْطِي وَ عَلَى مَا تُعَافِي وَ تَبْتَلِي حَمْداً يَكُونُ أَرْضَى الْحَمْدِ لَكَ وَ أَحَبَّ الْحَمْدِ إِلَيْكَ وَ أَفْضَلَ الْحَمْدِ عِنْدَكَ حَمْداً يَمْلَأُ مَا خَلَقْتَ وَ يَبْلُغُ مَا أَرَدْتَ حَمْداً لَا يَحْجُبُ عَنْكَ وَ لَا يُقْصَرُ دُونَكَ حَمْداً لَا يَنْقَطِعُ عَدَدُهُ وَ لَا يَفْنَى مَدَدُهُ فَلَسْنَا نَعْلَمُ كُنْهَ عَظَمَتِكَ إِلَّا أَنَّا نَعْلَمُ أَنَّكَ حَيٌّ قَيُّومُ لَا تَأْخُذُكَ سِنَةٌ وَ لَا نَوْمٌ لَمْ يَنْتَهِ إِلَيْكَ نَظَرٌ وَ لَمْ يُدْرِكْكَ بَصَرٌ أَدْرَكْتَ الْأَبْصَارَ وَ أَحْصَيْتَ الْأَعْمَالَ وَ أَخَذْتَ بِالنَّوَاصِي وَ الْأَقْدَامِ وَ مَا الَّذِي نَرَى مِنْ خَلْقِكَ وَ نَعْجَبُ لَهُ مِنْ قُدْرَتِكَ وَ نَصِفُهُ مِنْ عَظِيمِ سُلْطَانِكَ وَ مَا تَغَيَّبَ عَنَّا مِنْهُ وَ قَصُرَتْ أَبْصَارُنَا عَنْهُ وَ انْتَهَتْ عُقُولُنَا دُونَهُ وَ حَالَتْ سَوَاتِرُ الْغُيُوبِ بَيْنَنَا وَ بَيْنَهُ أَعْظَمُ فَمَنْ فَرَّغَ قَلْبَهُ وَ أَعْمَلَ فِكْرَهُ لِيَعْلَمَ كَيْفَ أَقَمْتَ عَرْشَكَ وَ كَيْفَ ذَرَأْتَ خَلْقَكَ وَ كَيْفَ عَلَّقْتَ فِي الْهَوَاءِ سَمَاوَاتِكَ وَ كَيْفَ مَدَدْتَ عَلَى مَوْرِ الْمَاءِ أَرْضَكَ رَجَعَ طَرْفُهُ حَسِيراً وَ عَقْلُهُ مَبْهُوراً وَ سَمْعُهُ وَالِهاً وَ فِكْرُهُ حَائِراً

(10/198)


شرح نهج البلاغة ج : 9 ص : 223يجوز أن يكون أمره هاهنا هو الأمر الفعلي لا الأمر القولي كما يقال أمر فلان مستقيم و ما أمر كذا و قال تعالى وَ ما أَمْرُنا إِلَّا واحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ وَ ما أَمْرُ السَّاعَةِ إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَ فيكون المعنى أن شأنه تعالى ليس إلا أحد شيئين و هما أن يقول و أن يفعل فعبر عن أن يقول بقوله قضاء لأن القضاء الحكم و عبر عن أن يفعل بقوله و حكمة لأن أفعاله كلها تتبع دواعي الحكمة و يجوز أن يكون أمره هو الأمر القولي و هو المصدر من أمر له بكذا أمرا فيكون المعنى أن أوامره إيجاب و إلزام بما فيه حكمة و مصلحة و قد جاء القضاء بمعنى الإلزام و الإيجاب في القرآن العزيز في قوله وَ قَضى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ أي أوجب و ألزم. قوله و رضاه أمان و رحمة لأن من فاز بدرجة الرضا فقد أمن و حصلت له الرحمة لأن الرضا رحمة و زيادة. قوله يقضي بعلم أي يحكم بما يحكم به لأنه عالم بحسن ذلك القضاء أو وجوبه في العدل. قوله و يعفو بحلم أي لا يعفو عن عجز و ذل كما يعفو الضعيف عن القوي بل هو قادر على الانتقام و لكنه يحلم. ثم حمد الله تعالى على الإعطاء و الأخذ و العافية و البلاء لأن ذلك كله من عند الله لمصالح للمكلف يعلمها و ما يعلمها المكلف و الحمد على المصالح واجب. شرح نهج البلاغة ج : 9 ص : 224ثم أخذ في تفخيم شأن ذلك الحمد و تعظيمه و المبالغة في وصفه احتذاء بقول رسول الله ص الحمد لله زنة عرشه الحمد لله عدد خلقه الحمد لله مل ء سمائه و أرضه فقال ع حمدا يكون أرضى الحمد لك أي يكون رضاك له أوفى و أعظم من رضاك بغيره و كذلك القول في أحب و أفضل. قوله و يبلغ ما أردت أي هو غاية ما تنتهي إليه الإرادة و هذا كقول الأعرابية في صفة المطر غشينا ما شئنا و هو من فصيح الكلام. قوله لا يحجب عنك لأن الإخلاص يقارنه و الرياء منتف عنه. قوله و لا يقصر دونك أي لا يحبس

(10/199)


أي لا مانع عن وصوله إليك و هذا من باب التوسع و معناه أنه بري ء من الموانع عن إثماره الثواب و اقتضائه إياه و روي و لا يقصر من القصور و روي و لا يقصر من التقصير. ثم أخذ في بيان أن العقول قاصرة عن إدراك الاري سبحانه و العلم به و أنا إنما نعلم منه صفات إضافية أو سلبية كالعلم بأنه حي و معنى ذلك أنه لا يستحيل على ذاته أن يعلم و يقدر و أنه قيوم بمعنى أن ذاته لا يجوز عليها العدم أي يقيم الأشياء و يمسكها و كل شي ء يقيم الأشياء كلها و يمسكها فليس بمحتاج إلى من يقمه و يمسكه و إلا لم يكن مقيما و ممسكا لكل شي ء و كل من ليس بمحتاج إلى من يقيمه و يمسكه فذاته لا يجوز عليها العدم و أنه تعالى لا تأخذه سنة و لا نوم لأن هذا من صفات الأجسام و ما لا يجوز عليها العدم لا يكون جسما و لا يوصف بخواص الأجسام و لوازمها فإنه لا ينته إليه نظر لأن انتهاء النظر إليه يستلزم مقابلته و هو تعالى منزه عن الجهة و إلا لم يكن ذاته مستحيلا عليها العدم و أنه لا يدركه بصر لأن إبصار الأشياء بانطباع أمثلتها في الرطوبة الجليدية كانطباع أشباح المرئيات في المرآة و الباري تعالى لا يتمثل و لا يتشبح و إلا لم يكن شرح نهج البلاغة ج : 9 ص : 225قيوما و أنه يدرك الأبصار لأنه إما عالم لذاته أو لأنه حي لا آفة به و أنه يحصي الأعمال لأنه عالم لذاته فيعلم كل شي ء حاضرا و ماضيا و مستقبلا و أنه يأخذ بالنواصي و الأقدام لأنه قادر لذاته فهو متمكن من كل مقدور. ثم خرج إفن آخر فقال و ما الذي نعجب لأجله من قدرتك و عظيم ملكك و الغائب عنا من عظمتك أعظم من الحاضر مثال ذلك أن جرم الشمس أعظم من جرم الأرض مائة و ستين مرة و لا نسبة لجرم الشمس إلى فلكها المائل و لا نسبة لفلكها المائل إلى فلكها المميل و فلك تدوير المريخ الذي فوقها أعظم من مميل الشمس و لا نسبة لفلك تدوير المريخ إلى فلكه المميل و فلك تدوير المشتري أعظم من مميل المريخ و لا نسبة لفلك

(10/200)


تدوير المشتري إلى فلكه المميل و فلك تدوير زحل أعظم من مميل المشتري و لا نسبة لفلك تدوير زحل إلى مميل زحل و لا نسبة لمميل زحل إلى كرة الثوابت و لا نسبة لكرة الثوابت إلى الفلك الأطلس الأقصى فانظر أي نسبة تكون الأرض بكليتها على هذا الترتيب إلى الفلك الأطلس و هذا مما تقصر العقول عن فهمه و تنتهي دونه و تحول سواتر الغيوب بينها و بينه كما قال ع. ثم ذكر أن من أعمل فكره ليعلم كيف أقام سبحانه العرش و كيف ذرأ الخلق و كيف علق السماوات بغير علاقة و لا عمد و كيف مد الأرض على الماء رجع طرفه حسيرا و عقله مبهورا و هذا كله حق و من تأمل كتبنا العقلية و اعتراضنا على الفلاسفة الذين عللوا هذه الأمور و زعموا أنهم استنبطوا لها أسبابا عقلية و ادعوا وقوفهم على كنهها و حقائقها علم صحة ما ذكره ع من أن من حاول تقدير ملك الله تعالى و عظيم مخلوقاته بمكيال عقله فقد ضل ضلالا مبينا.

(10/201)


شرح نهج البلاغة ج : 9 ص : 226و روي و فكره جائرا بالجيم أي عادلا عن الصواب و الحسير المتعب و المبهور المغلوب و الواله المتحيرمِنْهَا يَدَّعِي بِزَعْمِهِ أَنَّهُ يَرْجُو اللَّهَ كَذَبَ وَ الْعَظِيمِ مَا بَالُهُ لَا يَتَبَيَّنُ رَجَاؤُهُ فِي عَمَلِهِ فَكُلُّ مَنْ رَجَا عُرِفَ رَجَاؤُهُ فِي عَمَلِهِ إِلَّا رَجَاءَ اللَّهِ فَإِنَّهُ مَدْخُولٌ وَ كُلُّ خَوْفٍ مُحَقَّقٌ إِلَّا خَوْفَ اللَّهِ فَإِنَّهُ مَعْلُولٌ يَرْجُو اللَّهَ فِي الْكَبِيرِ وَ يَرْجُو الْعِبَادَ فِي الصَّغِيرِ فَيُعْطِي الْعَبْدَ مَا لَا يُعْطِي الرَّبَّ فَمَا بَالُ اللَّهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ يُقَصَّرُ بِهِ عَمَّا يُصْنَعُ بِهِ لِعِبَادِهِ أَ تَخَافُ أَنْ تَكُونَ فِي رَجَائِكَ لَهُ كَاذِباً أَوْ تَكُونَ لَا تَرَاهُ لِلرَّجَاءِ مَوْضِعاً وَ كَذَلِكَ إِنْ هُوَ خَافَ عَبْداً مِنْ عَبِيدِهِ أَعْطَاهُ مِنْ خَوْفِهِ مَا لَا يُعْطِي رَبَّهُ فَجَعَلَ خَوْفَهُ مِنَ الْعِبَادِ نَقْداً وَ خَوْفَهُ مِنْ خَالِقِهِ ضِمَاراً وَ وَعْداً وَ كَذَلِكَ مَنْ عَظُمَتِ الدُّنْيَا فِي عَيْنِهِ وَ كَبُرَ مَوْقِعُهَا مِنْ قَلْبِهِ آثَرَهَا عَلَى اللَّهِ فَانْقَطَعَ إِلَيْهَا وَ صَارَ عَبْداً لَهَا

(10/202)


يجوز بزعمه بالضم و بزعمه بالفتح و بزعمه بالكسر ثلاث لغات أي بقوله فأما من زعمت أي كفلت فالمصدر الزعم بالفتح و الزعامة شرح نهج البلاغة ج : 9 ص : 227ثم أقسم على كذب هذا الزاعم فقال و العظيم و لم يقل و الله العظيم تأكيدا لعظمة البارئ سبحانه لأن الموصوف إذا قي و ترك و اعتمد على الصفة حتى صارت كالاسم كان أدل على تحقق مفهوم الصفة كالحارث و العباس. ثم بين مستند هذا التكذيب فقال ما بال هذا الزاعم أنه يرجو ربه و لا يظهر رجاؤه في عمله فإنا نرى من يرجو واحدا من البشر يلازم بابه و يواظب على خدمته و يتحبب إليه و يتقرب إلى قلبه بأنواع الوسائل و القرب ليظفر بمراده منه و يتحقق رجاؤه فيه و هذا الإنسان الذي يزعم أنه يرجو الله تعالى لا يظهر من أعماله الدينية ما يدل على صدق دعواه و مراده ع هاهنا ليس شخصا بعينه بل كل إنسان هذه صفته فالخطاب له و الحديث معه. ثم قال كل رجاء إلا رجاء الله فهو مدخول أي معيب و الدخل بالتسكين العيب و الريبة و من كلامهم ترى الفتيان كالنخل و ما يدريك ما الدخل و جاء الدخل بالتحريك أيضا يقال هذا الأمر فيه دخل و دغل بمعنى قوله تعالى وَ لا تَتَّخِذُوا أَيْمانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ أي مكرا و خديعة و هو من هذا الباب أيضا. ثم قال و كل خوف محقق إلا خوف الله فإنه معلول محقق أي ثابت أي كل خوف حاصل حقيقة فإنه مع هذا الحصول و التحقق معلول ليس بالخوف الصريح إلا خوف الله وحده و تقواه و هيبته و سطوته و سخطه ذلك لأن الأمر الذي يخاف من العبد سريع الانقضاء و الزوال و الأمر الذي يخاف من الباري تعالى لا غاية له و لا انقضاء لمحذوره كما قيل
في الحديث المرفوع فضوح الدنيا أهون من فضوح الآخرة

(10/203)


شرح نهج البلاغة ج : 9 ص : 228ثم عاد إلى الرجاء فقال يرجو هذا الإنسان الله في الكثير أي يرجو رحمته في الآخرة و لا يتعلق رجاؤه بالله تعالى إلا في هذا الموضع فأما ما عدا ذلك من أمور الدنيا كالمكاسب و الأموال و الجاه و السلطان و اندفاع المضار و التوصل إلى اغراض بالشفاعات و التوسلات فإنه لا يخطر له الله تعالى ببال بل يعتمد في ذلك على السفراء و الوسطاء و يرجو حصول هذه المنافع و دفع هذه المضار من أبناء نوعه من البشر فقد أعطى العباد من رجائه ما لم يعطه الخالق سبحانه فهو مخطئ لأنه إما ألا يكون هو في نفسه صالحا لأن يرجوه سبحانه و إما ألا يكون البارئ تعالى في نفسه صالحا لأن يرجى فإن كان الثاني فهو كفر صراح و إن كان الأول فالعبد مخطئ حيث لم يجعل نفسه مستعدا لفعل الصالحات لأن يصلح لرجاء البارئ سبحانه. ثم انتقل ع إلى الخوف فقال و كذلك إن خاف هذا الإنسان عبدا مثله خافه أكثر من خوفه البارئ سبحانه لأن كثيرا من الناس يخافون السلطان و سطوته أكثر من خوفهم مؤاخذة البارئ سبحانه و هذا مشاهد و معلوم من الناس فخوف بعضهم من بعض كالنقد المعجل و خوفهم من خالقهم ضمار و وعد و الضمار ما لا يرجى من الوعود و الديون قال الراعي
حمدن مزاره و أصبن منه عطاء لم يكن عدة ضمارا

(10/204)


ثم قال و كذلك من عظمت الدنيا في عينه يختارها على الله و يستعبده حبها و يقال كبر بالضم يكبر أي عظم فهو كبير و كبار بالتخفيف فإذا أفرط قيل شرح نهج البلاغة ج : 9 ص : 229كبار بالتشديد فأما كبر بالكسر فمعناه أسن و المصدر منهما كبرا بفتح الباءوَ لَقَدْ كَانَ فِي رَسُولِ اللَّهِ ص كَافٍ لَكَ فِي الْأُسْوَةِ وَ دَلِيلٌ لَكَ عَلَى ذَمِّ الدُّنْيَا وَ عَيْبِهَا وَ كَثْرَةِ مَخَازِيهَا وَ مَسَاوِيهَا إِذْ قُبِضَتْ عَنْهُ أَطْرَافُهَا وَ وُطَّئَتْ لِغَيْرِهِ أَكْنَافُهَا وَ فُطِمَ عَنْ رَضَاعِهَا وَ زُوِيَ عَنْ زَخَارِفِهَا وَ إِنْ شِئْتَ ثَنَّيْتُ بِمُوسَى كَلِيمِ اللَّهِ ص حَيْثُ يَقُولُ رَبِّ إِنِّي لِما أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ وَ اللَّهِ مَا سَأَلَهُ إِلَّا خُبْزاً يَأْكُلُهُ لِأَنَّهُ كَانَ يَأْكُلُ بَقْلَةَ الْأَرْضِ وَ لَقَدْ كَانَتْ خُضْرَةُ الْبَقْلِ تُرَى مِنْ شَفِيفِ صِفَاقِ بَطْنِهِ لِهُزَالِهِ وَ تَشَذُّبِ لَحْمِهِ وَ إِنْ شِئْتَ ثَلَّثْتُ بِدَاوُدَ ص صَاحِبِ الْمَزَامِيرِ وَ قَارِئِ أَهْلِ الْجَنَّةِ فَلَقَدْ كَانَ يَعْمَلُ سَفَائِفَ الْخُوصِ بِيَدِهِ وَ يَقُولُ لِجُلَسَائِهِ أَيُّكُمْ يَكْفِينِي بَيْعَهَا وَ يَأْكُلُ قُرْصَ الشَّعِيرِ مِنْ ثَمَنِهَا وَ إِنْ شِئْتَ قُلْتُ فِي عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ع فَلَقَدْ كَانَ يَتَوَسَّدُ الْحَجَرَ وَ يَلْبَسُ الْخَشِنَ وَ يَأْكُلُ الْجَشِبَ وَ كَانَ إِدَامُهُ الْجُوعَ وَ سِرَاجُهُ بِاللَّيْلِ الْقَمَرَ وَ ظِلَالُهُ فِي الشِّتَاءِ مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَ مَغَارِبَهَا وَ فَاكِهَتُهُ وَ رَيْحَانُهُ مَا تُنْبِتُ الْأَرْضُ لِلْبَهَائِمِ وَ لَمْ تَكُنْ لَهُ زَوْجَةٌ تَفْتِنُهُ وَ لَا وَلَدٌ يَحْزُنُهُ وَ لَا مَالٌ يَلْفِتُهُ وَ لَا طَمَعٌ يُذِلُّهُ دَابَّتُهُ رِجْلَاهُ وَ خَادِمُهُ يَدَاهُ

(10/205)


شرح نهج البلاغة ج : 9 ص : 230يجوز أسوة و إسوة و قرئ التنزيل بهما و المساوئ العيوب ساءه كذا يسوؤه سوءا بالفتح و مساءة و مسائية و سوته سواية و مساية بالتخفيف أي ساءه ما رآه مني و سأل سيبويه الخليل عن سوائية فقال هي فعالية بمنزلة علانية و الذين قالوا سوايةذفوا الهمزة تخفيفا و هي في الأصل قال و سألته عن مسائية فقال هي مقلوبة و أصلها مساوئة فكرهوا الواو مع الهمزة و الذين قالوا مساية حذفوا الهمزة أيضا تخفيفا و من أمثالهم الخيل تجري في مساويها أي أنها و إن كانت بها عيوب و أوصاب فإن كرمها يحملها على الجري. و المخازي جمع مخزاة و هي الأمر يستحى من ذكره لقبحه و أكنافها جوانبها و زوى قبض و زخارف جمع زخرف و هو الذهب
روي عن رسول الله ص أنه قال عرضت علي كنوز الأرض و دفعت إلي مفاتيح خزائنها فكرهتها و اخترت الدار الآخرة

(10/206)


و جاء في الأخبار الصحيحة أنه كان يجوع و يشد حجرا على بطنه و أنه ما شبع آل محمد من لحم قط و أن فاطمة و بعلها و بنيها كانوا يأكلون خبز الشعير و أنهم آثروا سائلا بأربعة أقراص منه كانوا أعدوها لفطورهم و باتوا جياعا و قد كان رسول الله ص ملك قطعة واسعة من الدنيا فلم يتدنس منها بقليل و لا كثير و لقد كانت الإبل التي غنمها يوم حنين أكثر من عشرة آلاف بعير فلم يأخذ منها وبرة لنفسه و فرقها كلها على الناس و هكذا كانت شيمته و سيرته في جميع أحواله إلى أن توفي. و الصفاق الجلد الباطن الذي فوقه الجلد الظاهر من البطن و شفيفه رقيقه الذي يستشف ما وراءه و بالتفسير الذي فسر ع الآية فسرها المفسرون و قالوا إن شرح نهج البلاغة ج : 9 ص : 231خضرة البقل كانت ترى في بطنه من الهزال و إنه ما سأل الله إلا أكلة من الخبز و ما في لِما أَنْزَلْتَ بمعنى أي أي إني لأي شي ء أنزلت إلي قليل أو كثيث أو سمين فقير. فإن قلت لم عدى فقيرا باللام و إنما يقال فقير إلى كذا قلت لأنه ضمن معنى سائل و مطالب و من فسر الآية بغير ما ذكره ع لم يحتج إلى الجواب عن هذا السؤال فإن قوما قالوا أراد إني فقير من الدنيا لأجل ما أنزلت إلي من خير أي من خير الدين و هو النجاة من الظالمين فإن ذلك رضا بالبدل السني و فرحا به و شكرا له. و تشذب اللحم تفرقه و المزامير جمع مزمار و هو الآلة التي يزمر فيها و يقال زمر يزمر و يزمر بالضم و الكسر فهو زمار و لا يكاد يقال زامر و يقال للمرأة زامرة و لا يقال زمارة فأما الحديث أنه نهى عن كسب الزمارة فقالوا إنها الزانية هاهنا و يقال إن داود أعطي من طيب النغم و لذة ترجيع القراءة ما كانت الطيور لأجله تقع عليه و هو في محرابه و الوحش تسمعه فتدخل بين الناس و لا تنفر منهم لما قد استغرقها من طيب صوته و
قال النبي ص لأبي موسى و قد سمعه يقرأ لقد أوتيت مزمارا من مزامير داود
و كان أبو موسى شجي الصوت إذا قرأ و

(10/207)


ورد في الخبر داود قارئ أهل الجنة
و سفائف الخوص جمع سفيفة و هي النسيجة منه سففت الخوص و أسففته بمعنى و هذا الذي ذكره ع عن داود يجب أن يحمل على أنه شرح حاله قبل أن يملك فإنه كان فقيرا فأما حيث ملك فإن المعلوم من سيرته غير ذلك. فأما عيسى فحاله كما ذكرها ع لا ريب في ذلك على أنه أكل اللحم و شرب شرح نهج البلاغة ج : 9 ص : 232الخمر و ركب الحمار و خدمه التلامذة و لكن الأغلب من حاله هي الأمور التي عددها أمير المؤمنين ع. و يقال حزنني الشي ء يحزنني بالضم و يجوز أحزنني بالهمز يحزنني و قرئ بهما و هو في كلامه ع في هذا الفصل بهما و يقال لفته عن كذا يلفبالكسر أي صرفه و لواه

(10/208)


فَتَأَسَّ بِنَبِيِّكَ الْأَطْيَبِ الْأَطْهَرِ ص فَإِنَّ فِيهِ أُسْوَةً لِمَنْ تَأَسَّى وَ عَزَاءً لِمَنْ تَعَزَّى وَ أَحَبُّ الْعِبَادِ إِلَى اللَّهِ الْمُتَأَسِّي بِنَبِيِّهِ وَ الْمُقْتَصُّ لِأَثَرِهِ قَضَمَ الدُّنْيَا قَضْماً وَ لَمْ يُعِرْهَا طَرْفاً أَهْضَمُ أَهْلِ الدُّنْيَا كَشْحاً وَ أَخْمَصُهُمْ مِنَ الدُّنْيَا بَطْناً عُرِضَتْ عَلَيْهِ الدُّنْيَا فَأَبَى أَنْ يَقْبَلَهَا وَ عَلِمَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَبْغَضَ شَيْئاً فَأَبْغَضَهُ وَ حَقَّرَ شَيْئاً فَحَقَّرَهُ وَ صَغَّرَ شَيْئاً فَصَغَّرَهُ وَ لَوْ لَمْ يَكُنْ فِينَا إِلَّا حُبُّنَا مَا أَبْغَضَ اللَّهُ وَ رَسُولُهُ وَ تَعْظِيمُنَا مَا صَغَّرَ اللَّهُ وَ رَسُولُهُ لَكَفَى بِهِ شِقَاقاً لِلَّهِ تَعَالَى وَ مُحَادَّةً عَنْ أَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى وَ لَقَدْ كَانَ ص يَأْكُلُ عَلَى الْأَرْضِ وَ يَجْلِسُ جِلْسَةَ الْعَبْدِ وَ يَخْصِفُ بِيَدِهِ نَعْلَهُ وَ يَرْفَعُ بِيَدِهِ ثَوْبَهُ وَ يَرْكَبُ الْحِمَارَ الْعَارِيَ وَ يُرْدِفُ خَلْفَهُ وَ يَكُونُ السِّتْرُ عَلَى بَابِ بَيْتِهِ فَتَكُونُ فِيهِ التَّصَاوِيرُ فَيَقُولُ يَا فُلَانَةُ لِإِحْدَى أَزْوَاجِهِ غَيِّبِيهِ عَنِّي فَإِنِّي إِذَا نَظَرْتُ إِلَيْهِ ذَكَرْتُ الدُّنْيَا وَ زَخَارِفَهَا فَأَعْرَضَ عَنِ الدُّنْيَا بِقَلْبِهِ وَ أَمَاتَ ذِكْرَهَا مِنْ نَفْسِهِ وَ أَحَبَّ أَنْ تَغِيبَ زِينَتُهَا عَنْ عَيْنِهِ لِكَيْلَا يَتَّخِذَ مِنْهَا رِيَاشاً وَ لَا يَعْتَقِدَهَا قَرَاراً وَ لَا يَرْجُوَ فِيهَا مُقَاماً فَأَخْرَجَهَا مِنَ النَّفْسِ وَ أَشْخَصَهَا عَنِ الْقَلْبِ وَ غَيَّبَهَا عَنِ الْبَصَرِ شرح نهج البلاغة ج : 9 ص : 233وَ كَذَلِكَ مَنْ أَبْغَضَ شَيْئاً أَبْغَضَ أَنْ يَنْظُرَ إِلَيْهِ وَ أَنْ يُذْكَرَ عِدَهُ وَ لَقَدْ كَانَ فِي رَسُولِ اللَّهِ ص مَا يَدُلُّكُ عَلَى

(10/209)


مَسَاوِئِ الدُّنْيَا وَ عُيُوبِهَا إِذْ جَاعَ فِيهَا مَعَ خَاصَّتِهِ وَ زُوِيَتْ عَنْهُ زَخَارِفُهَا مَعَ عَظِيمِ زُلْفَتِهِ فَلْيَنْظُرْ نَاظِرٌ بِعَقْلِهِ أَكْرَمَ اللَّهُ مُحَمَّداً ص بِذَلِكَ أَمْ أَهَانَهُ فَإِنْ قَالَ أَهَانَهُ فَقَدْ كَذَبَ وَ اللَّهِ الْعَظِيمِ بِالْإِفْكِ الْعَظِيمِ وَ إِنْ قَالَ أَكْرَمَهُ فَلْيَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهَانَ غَيْرَهُ حَيْثُ بَسَطَ الدُّنْيَا لَهُ وَ زَوَاهَا عَنْ أَقْرَبِ النَّاسِ مِنْهُ فَتَأَسَّى مُتَأَسٍّ بِنَبِيِّهِ وَ اقْتَصَّ أَثَرَهُ وَ وَلَجَ مَوْلِجَهُ وَ إِلَّا فَلَا يَأْمَنِ الْهَلَكَةَ فَإِنَّ اللَّهَ جَعَلَ مُحَمَّداً ص عَلَماً لِلسَّاعَةِ وَ مُبَشِّراً بِالْجَنَّةِ وَ مُنْذِراً بِالْعُقُوبَةِ خَرَجَ مِنَ الدُّنْيَا خَمِيصاً وَ وَرَدَ الآْخِرَةَ سَلِيماً لَمْ يَضَعْ حَجَراً عَلَى حَجَرٍ حَتَّى مَضَى لِسَبِيلِهِ وَ أَجَابَ دَاعِيَ رَبِّهِ فَمَا أَعْظَمَ مِنَّةَ اللَّهِ عِنْدَنَا حِينَ أَنْعَمَ عَلَيْنَا بِهِ سَلَفاً نَتَّبِعُهُ وَ قَائِداً نَطَأُ عَقِبَهُ وَ اللَّهِ لَقَدْ رَقَّعْتُ مِدْرَعَتِي هَذِهِ حَتَّى اسْتَحْيَيْتُ مِنْ رَاقِعِهَا وَ لَقَدْ قَالَ لِي قَائِلٌ أَ لَا تَنْبِذُهَا عَنْكَ فَقُلْتُ اعْزُبْ عَنِّي فَعِنْدَ الصَّبَاحِ يَحْمَدُ الْقَوْمُ السُّرَى

(10/210)


المقتص لأثره المتبع له و منه قوله تعالى وَ قالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ و قضم الدنيا تناول منها قدر الكفاف و ما تدعو إليه الضرورة من خشن العيشة و قال أبو ذر رحمه الله يخضمون و نقضم و الموعد الله و أصل القضم أكل الشي ء اليابس بأطراف الأسنان و الخضم أكل بكل افم للأشياء الرطبة و روي قصم بالصاد أي كسر شرح نهج البلاغة ج : 9 ص : 234قوله أهضم أهل الدنيا كشحا الكشح الخاصرة و رجل أهضم بين الهضم إذا كان خميصا لقلة الأكل. و روي و حقر شيئا فحقره بالتخفيف و الشقاق الخلاف و المحادة المعاداة و خصف النعل خرزها و الرياش النة و المدرعة الدراعة. و قوله عند الصباح يحمد القوم السرى مثل يضرب لمحتمل المشقة العاجلة رجاء الراحة الآجلة
نبذ من الأخبار و الآثار الواردة في البعد عن زينة الدنيا
جاء في الأخبار الصحيحة أنه ع قال إنما أنا عبد آكل أكل العبيد و أجلس جلسة العبيد
و كان يأكل على الأرض و يجلس جلوس العبيد يضع قصبتي ساقيه على الأرض و يعتمد عليهما بباطني فخذيه و ركوبه الحمار العاري آية التواضع و هضم النفس و أردف غيره خلفه آكد في الدلالة على ذلك. و جاء في الأخبار الصحيحة النهي عن التصاوير و عن نصب الستور التي فيها التصاوير و كان رسول الله ص إذا رأى سترا فيه التصاوير أمر أن تقطع رأس تلك الصورة. و
جاء في الخبر من صور صورة كلف في القيامة أن ينفخ فيها الروح فإذا قال لا أستطيع عذب

(10/211)


شرح نهج البلاغة ج : 9 ص : 235قوله لم يضع حجرا على حجر هو عين ما جاء في الأخبار الصحيحة خرج رسول الله ص من الدنيا و لم يضع حجرا على حجر. و جاء في أخبار علي ع التي ذكرها أبو عبد الله أحمد بن حنبل في كتاب فضائله و هو روايتي عن قريش بن السبيع بن المهنا العلوي عن نقيب الطالبيين أبي عبد الله أحمد بن علي بن المعمر عن المبارك بن عبد الجبار أحمد بن القاسم الصيرفي المعروف بابن الطيوري عن محمد بن علي بن محمد بن يوسف العلاف المزني عن أبي بكر أحمد بن جعفر بن حمدان بن مالك القطيعي عن عبد الله بن أحمد بن حنبل عن أبيه أبي عبد الله أحمد رحمه الله قال قيل لعلي ع يا أمير المؤمنين لم ترقع قميصك قال ليخشع القلب و يقتدي بي المؤمنون
و روى أحمد رحمه الله أن عليا كان يطوف الأسواق مؤتزرا بإزار مرتديا برداء و معه الدرة كأنه أعرابي بدوي فطاف مرة حتى بلغ سوق الكرابيس فقال لواحد يا شيخ بعني قميصا تكون قيمته ثلاثة دراهم فلما عرفه الشيخ لم يشتر منه شيئا ثم أتى آخر فلما عرفه لم يشتر منه شيئا فأتى غلاما حدثا فاشترى منه قميصا بثلاثة دراهم فلما جاء أبو الغلام أخبره فأخذ درهما ثم جاء إلى علي ع ليدفعه إليه فقال له ما هذا أو قال ما شابه هذا فقال يا مولاي إن القميص الذي باعك ابني كان يساوي درهمين فلم يأخذ الدرهم و قال باعني رضاي و أخذ رضاه
و روى أحمد رحمه الله عن أبي النوار بائع الخام بالكوفة قال جاءني علي بن أبي طالب إلى السوق و معه غلام له و هو خليفة فاشترى مني قميصين و قال لغلامه اختر أيهما شئت فأخذ أحدهما و أخذ علي الآخر ثم لبسه و مد يده فوجد كمه فاضلة فقال اقطع الفاضل فقطعته ثم كفه و ذهب

(10/212)


شرح نهج البلاغة ج : 9 ص : 236و روى أحمد رحمه الله عن الصمال بن عمير قال رأيت قميص علي ع الذي أصيب فيه و هو كرابيس سبيلاني و رأيت دمه قد سال عليه كالدردي. و روى أحمد رحمه الله قال لما أرسل عثمان إلى علي ع وجده مؤتزرا بعباءة محتجزا بعقال و هو يهنأ بعيرا لو الأخبار في هذا المعنى كثيرة و فيما ذكرناه كفاية
شرح نهج البلاغة ج : 9 ص : 162237- و من خطبة له عابْتَعَثَهُ بِالنُّورِ الْمُضِي ءِ وَ الْبُرْهَانِ الْجَلِيِّ وَ الْمِنْهَاجِ الْبَادِي وَ الْكِتَابِ الْهَادِي أُسْرَتُهُ خَيْرُ أُسْرَةٍ وَ شَجَرَتُهُ خَيْرُ شَجَرَةٍ أَغْصَانُهَا مُعْتَدِلَةٌ وَ ثِمَارُهَا مُتَهَدِّلَةٌ مَوْلِدُهُ بِمَكَّةَ وَ هِجْرَتُُ بِطَيْبَةَ عَلَا بِهَا ذِكْرُهُ وَ امْتَدَّ مِنْهَا صَوْتُهُ أَرْسَلَهُ بِحُجَّةٍ كَافِيَةٍ وَ مَوْعِظَةٍ شَافِيَةٍ وَ دَعْوَةٍ مُتَلَافِيَةٍ أَظْهَرَ بِهِ الشَّرَائِعَ الْمَجْهُولَةَ وَ قَمَعَ بِهِ الْبِدَعَ الْمَدْخُولَةَ وَ بَيَّنَ بِهِ الْأَحْكَامَ الْمَفْصُولَةَ فَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دَيْناً تَتَحَقَّقْ شِقْوَتُهُ وَ تَنْفَصِمْ عُرْوَتُهُ وَ تَعْظُمْ كَبْوَتُهُ وَ يَكُنْ مَآبُهُ إِلَى الْحُزْنِ الطَّوِيلِ وَ الْعَذَابِ الْوَبِيلِ وَ أَتَوَكَّلُ عَلَى اللَّهِ تَوَكُّلَ الْإِنَابَةِ إِلَيْهِ وَ أَسْتَرْشِدُهُ السَّبِيلَ الْمُؤَدِّيَةَ إِلَى جَنَّتِهِ الْقَاصِدَةَ إِلَى مَحَلِّ رَغْبَتِهِ

(10/213)


بالنور المضي ء أي بالدين أو بالقرآن و أسرته أهله أغصانها معتدلة كناية عن عدم الاختلاف بينهم في الأمور الدينية و ثمارها متهدلة أي متدلية كناية عن سهولة اجتناء العلم منها. و طيبة اسم المدينة كان اسمها يثرب فسماها رسول الله ص طيبة شرح نهج البلاغة ج : 9 ص :8و مما أكفر الناس به يزيد بن معاوية أنه سماها خبيثة مراغمة لرسول الله ص. علا بها ذكره لأنه ص إنما انتصر و قهر الأعداء بعد الهجرة و دعوة متلافية أي تتلافى ما فسد في الجاهلية من أديان البشر. قوله و بين به الأحكام المفصولة ليس يعني أنها كانت مفصولة قبل أن بينها بل المراد بين به الأحكام التي هي الآن مفصولة عندنا و واضحة لنا لأجل بيانه لها. و الكبوة مصدر كبا الجواد إذا عثر فوقع إلى الأرض و المآب المرجع و العذاب الوبيل ذو الوبال و هو الهلاك و الإنابة الرجوع و السبيل الطريق يذكر و يؤنث و القاصدة ضد الجائرة فإن قلت لم عدى القاصدة ب إلى قلت لأنها لما كانت قاصدة تضمنت معنى الإفضاء إلى المقصد فعداها ب إلى باعتبار المعنى

(10/214)


أُوصِيكُمْ عِبَادَ اللَّهِ بِتَقْوَى اللَّهِ وَ طَاعَتِهِ فَإِنَّهَا النَّجَاةُ غَداً وَ الْمَنْجَاةُ أَبَداً رَهَّبَ فَأَبْلَغَ وَ رَغَّبَ فَأَسْبَغَ وَ وَصَفَ لَكُمُ الدُّنْيَا وَ انْقِطَاعَهَا وَ زَوَالَهَا وَ انْتِقَالَهَا فَأَعْرِضُوا عَمَّا يُعْجِبُكُمْ فِيهَا لِقِلَّةِ مَا يَصْحَبُكُمْ مِنْهَا أَقْرَبُ دَارٍ مِنْ سَخَطِ اللَّهِ وَ أَبْعَدُهَا مِنْ رِضْوَانِ اللَّهِ شرح نهج البلاغة ج : 9 ص : 239فَغُضُّوا عَنْكُمْ عِبَادَ اللَّهِ غُمُومَهَا وَ أَشْغَالَهَا لِمَا أَيْقَنْتُمْ بِهِ مِنْ فِرَاقِهَا وَ تَرُّفِ حَالَاتِهَا فَاحْذَرُوهَا حَذَرَ الشَّفِيقِ النَّاصِحِ وَ الْمُجِدِّ الْكَادِحِ وَ اعْتَبِرُوا بِمَا قَدْ رَأَيْتُمْ مِنْ مَصَارِعِ الْقُرُونِ قَبْلَكُمْ قَدْ تَزَايَلَتْ أَوْصَالُهُمْ وَ زَالَتْ أَبْصَارُهُمْ وَ أَسْمَاعُهُمْ وَ ذَهَبَ شَرَفُهُمْ وَ عِزُّهُمْ وَ انْقَطَعَ سُرُورُهُمْ وَ نَعِيمُهُمْ فَبُدِّلُوا بِقُرْبِ الْأَوْلَادِ فَقْدَهَا وَ بِصُحْبَةِ الْأَزْوَاجِ مُفَارَقَتَهَا لَا يَتَفَاخَرُونَ وَ لَا يَتَنَاسَلُونَ وَ لَا يَتَزَاوَرُونَ وَ لَا يَتَحَاوَرُونَ فَاحْذَرُوا عِبَادَ اللَّهِ حَذَرَ الْغَالِبِ لِنَفْسِهِ الْمَانِعِ لِشَهْوَتِهِ النَّاظِرِ بِعَقْلِهِ فَإِنَّ الْأَمْرَ وَاضِحٌ وَ الْعَلَمَ قَائِمٌ وَ الطَّرِيقَ جَدَدٌ وَ السَّبِيلَ قَصْدٌ
المنجاة مصدر نجا ينجو نجاة و منجاة و النجاة الناقة ينجى عليها فاستعارها هاهنا للطاعة و التقوى كأنها كالمطية المركوبة يخلص بها الإنسان من الهلكة. قوله رهب فأبلغ الضمير يرجع إلى الله سبحانه أي خوف المكلفين فأبلغ في التخويف و رغبهم فأتم الترغيب و أسبغه ثم أمر بالإعراض عما يسر و يروق من أمر الدنيا لقلة ما يصحب الناس من ذلك ثم قال إنها أقرب دار من سخط الله و هذا نحو
قول النبي ص حب الدنيا رأس كل خطيئة

(10/215)


شرح نهج البلاغة ج : 9 ص : 240قوله فغضوا عنكم عباد الله غمومها أي كفوا عن أنفسكم الغم لأجلها و الاشتغال بها يقال غضضت فلانا عن كذا أي كففته قال تعالى وَ اغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ قوله فاحذروها حذر الشفيق الناصح أي فاحذروها على أنفسكم لأنفسكم كما يحذر الشفيق ناصح على صاحبه و كما يحذر المجد الكادح أي الساعي من خيبة سعيه و الأوصال الأعضاء و المحاورة المخاطبة و المناجاة و روي و لا يتجاورون بالجيم و العلم ما يتسدل به في المفازة و طريق جدد أي سهل واضح و السبيل قصد أي مستقيم
شرح نهج البلاغة ج : 9 ص : 163241- و من كلام له ع لبعض أصحابهو قد سأله كيف دفعكم قومكم عن هذا المقام و أنتم أحق به فقال ع
يَا أَخَا بَنِي أَسَدٍ إِنَّكَ لَقَلِقُ الْوَضِينِ تُرْسِلُ فِي غَيْرِ سَدَدٍ وَ لَكَ بَعْدُ ذِمَامَةُ الصِّهْرِ وَ حَقُّ الْمَسْأَلَةِ وَ قَدِ اسْتَعْلَمْتَ فَاعْلَمْ أَمَّا الِاسْتِبْدَادُ عَلَيْنَا بِهَذَا الْمَقَامِ وَ نَحْنُ الْأَعْلَوْنَ نَسَباً وَ الْأَشَدُّونَ بِالرَّسُولِ ص نَوْطاً فَإِنَّهَا كَانَتْ أَثَرَةً شَحَّتْ عَلَيْهَا نُفُوسُ قَوْمٍ وَ سَخَتْ عَنْهَا نُفُوسُ آخَرِينَ وَ الْحَكَمُ اللَّهُ وَ الْمَعْوَدُ إِلَيْهِ يَوْمُ الْقِيَامَةِ
وَ دَعْ عَنْكَ نَهْباً صِيحَ فِي حَجَرَاتِهِ وَ لَكِنْ حَدِيثاً مَا حَدِيثُ الرَّوَاحِلِ

(10/216)


وَ هَلُمَّ الْخَطْبَ فِي ابْنِ أَبِي سُفْيَانَ فَلَقَدْ أَضْحَكَنِي الدَّهْرُ بَعْدَ إِبْكَائِهِ وَ لَا غَرْوَ وَ اللَّهِ فَيَا لَهُ خَطْباً يَسْتَفْرِغُ الْعَجَبَ وَ يُكْثِرُ الْأَوَدَ حَاوَلَ الْقَوْمُ إِطْفَاءَ نُورِ اللَّهِ مِنْ مِصْبَاحِهِ وَ سَدَّ فَوَّارِهِ مِنْ يَنْبُوعِهِ وَ جَدَحُوا بَيْنِي وَ بَيْنَهُمْ شِرْباً وَبِيئاً فَإِنْ تَرْتَفِعْ عَنَّا وَ عَنْهُمْ مِحَنُ الْبَلْوَى أَحْمِلْهُمْ مِنَ الْحَقِّ عَلَى مَحْضِهِ وَ إِنْ تَكُنِ الْأُخْرَى فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَراتٍ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِما يَصْنَعُونَ

(10/217)


شرح نهج البلاغة ج : 9 ص : 242الوضين بطان القتب و حزام السرج و يقال للرجل المضطرب في أموره إنه لقلق الوضين و ذلك أن الوضين إذا قلق اضطرب القتب أو الهودج أو السرج و من عليه. و يرسل في غير سدد أي يتكلم في غير قصد و في غير صواب و السدد و الاستداد الاستقامة الصواب و السديد الذي يصيب السدد و كذلك المسد و استد الشي ء أي استقام. و ذمامة الصهر بالكسر أي حرمته هو الذمام قال ذو الرمة تكن عوجة يجزيكها الله عنده بها الأجر أو تقضى ذمامة صاحبو يروى ماتة الصهر أي حرمته و وسيلته مت إليه بكذا و إنما قال ع له و لك بعد ذمامة الصهر لأن زينب بنت جحش زوج رسول الله ص كانت أسدية و هي زينب بنت جحش بن رباب بن يعمر بن صبرة بن مرة بن كثير بن غنم بن دودان بن أسد بن خزيمة و أمها أمية بنت عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف فهي بنت عمة رسول الله ص و المصاهرة المشار إليها هي هذه. و لم يفهم القطب الراوندي ذلك فقال في الشرح كان أمير المؤمنين ع قد تزوج في بني أسد و لم يصب فإن عليا ع لم يتزوج في بني أسد البتة و نحن نذكر أولاده أما الحسن و الحسين و زينب الكبرى و أم كلثوم الكبرى فأمهم فاطمة بنت سيدنا رسول الله ص و أما محمد فأمه خولة بنت إياس بن جعفر من بني حنيفة و أما أبو بكر و عبد الله فأمهما ليلى بنت مسعود النهشلية شرح نهج البلاغة ج : 9 ص : 243من تميم و أما عمر و رقية فأمهما سبية من بني تغلب يقال لها الصهباء سبيت في خلا أبي بكر و إمارة خالد بن الوليد بعين التمر و أما يحيى و عون فأمهما أسماء بنت عميس الخثعمية و أما جعفر و العباس و عبد الله و عبد الرحمن فأمهم أم البنين بنت حزام بن خالد بن ربيعة بن الوحيد من بني كلاب و أما رملة و أم الحسن فأمهما أم سعيد بنت عروة بن مسعود الثقفي و أما أم كلثوم الصغرى و زينب الصغرى و جمانة و ميمونة و خديجة و فاطمة و أم الكرام و نفيسة و أم سلمة و أم أبيها و أمامة بنت علي ع فهن لأمهات

(10/218)


أولاد شتى فهؤلاء أولاده و ليس فيهم أحد من أسدية و لا بلغنا أنه تزوج في بني أسد و لم يولد له و لكن الراوندي يقول ما يخطر له و لا يحقق. و أما حق المسألة فلأن للسائل على المسئول حقا حيث أهله لأن يستفيد منه. و الاستبداد بالشي ء التفرد به و النوط الالتصاق و كانت أثرة أي استئثارا بالأمر و استبدادا به قال النبي ص للأنصار ستلقون بعدي أثرة. و شحت بخلت و سخت جادت و يعني بالنوس التي سخت نفسه و بالنفوس التي شحت أما على قولنا فإنه يعني نفوس أهل الشورى بعد مقتل عمر و أما على قول الإمامية فنفوس أهل السقيفة و ليس في الخبر ما يقتضي صرف ذلك إليهم فالأولى أن يحمل على ما ظهر عنه من تألمه من عبد الرحمن بن عوف و ميله إلى عثمان. ثم قال إن الحكم هو الله و إن الوقت الذي يعود الناس كلهم إليه هو يوم القيامة و روي يوم بالنصب على أنه ظرف و العامل فيه المعود على أن يكون مصدرا. و أما البيت فهو لإمرئ القيس بن حجر الكندي و روي أن أمير المؤمنين ع لم يستشهد إلا بصدره فقط و أتمه الرواة شرح نهج البلاغج : 9 ص : 244
حديث عن إمرئ القيس

(10/219)


و كان من قصة هذا الشعر أن إمرأ القيس لما تنقل في أحياء العرب بعد قتل أبيه نزل على رجل من جديلة طيئ يقال له طريف بن مل ء فأجاره و أكرمه و أحسن إليه فمدحه و أقام عنده ثم إنه لم يوله نصيبا في الجبلين أجأ و سلمى فخاف ألا يكون له منعة فتحول و نزل على خالد بن سوس بن أصمع النبهاني فأغارت بنو جديلة على إمرئ القيس و هو في جوار خالد بن سدوس فذهبوا بإبله و كان الذي أغار عليه منهم باعث بن حويص فلما أتى إمرأ القيس الخبر ذكر ذلك لجاره فقال له أعطني رواحلك ألحق عليها القوم فأرد عليك إبلك ففعل فركب خالد في إثر القوم حتى أدركهم فقال يا بني جديلة أغرتم على إبل جاري فقالوا ما هو لك بجار قال بلى و الله و هذه رواحله قالوا كذلك قال نعم فرجعوا إليه فأنزلوه عنهن و ذهبوا بهن و بالإبل و قيل بل انطوى خالد على الإبل فذهب بها فقال إمرؤ القيس

(10/220)


دع عنك نهبا صيح في حجراته و لكن حديثا ما حديث الرواحل كان دثارا حلقت بلبونه عقاب تنوفى لا عقاب القواعل تلعب باعث بذمة خالد و أودى دثار في الخطوب الأوائل و أعجبني مشي الحزقة خالد كمشي أتان حلئت بالمناهل أبت أجأ أن تسلم العام جارها فمن شاء فلينهض لها من ل تبيت لبوني بالقرية أمنا و أسرحها غبا بأكناف حائل شرح نهج البلاغة ج : 9 ص : 245بنو ثعل جيرانها و حماتها و تمنع من رماة سعد و نائل تلاعب أولاد الوعول رباعها دوين السماء في رءوس المجادل مكللة حمراء ذات أسرة لها حبك كأنها من وصدثار اسم راع كان لإمرئ القيس و تنوفى و القواعل جبال و الحزقة القصير الضخم البطن و اللبون الإبل ذوات الألبان و القرية موضع معروف بين الجبلين و حائل اسم موضع أيضا و سعد و نائل حيان من طيئ و الرباع جمع ربع و هو ما نتج في الربيع و المجادل القصور و مكللة يرجع إلى المجادل مكللة بالصخر و الأسرة الطريق و كذلك الحبك و الوصائل جمع وصيلة و هو ثوب أمغر الغزل فيه خطوط و النهب الغنيمة و الجمع النهاب و الانتهاب مصدر انتهبت المال إذا أبحته يأخذه من شاء و النهبى اسم ما أنهب و حجراته نواحيه الواحدة حجرة مثل جمرات و جمرة و صيح في حجراته صياح الغارة و الرواحل جمع راحلة و هي الناقة التي تصلح أن ترحل أي يشد الرحل على ظهرها و يقال للبعير راحلة و انتصب حديثا بإضمار فعل أي هات حديثا أو حدثني حديثا و يروى و لكن حديث أي و لكن مرادي أو غرضي حديث فحذف المبتدأ و ما هاهنا يحتمل أن تكون إبهامية و هي التي إذا اقترنت باسم نكرة زادته إبهاما و شياعا كقولك أعطني كتابا ما تريد أي كتاب كان و يحتمل أن تكون صلة مؤكدة كالتي في قوله تعالى فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ وَ كُفْرِهِمْ بِآياتِ اللَّهِ فأما حديث الثاني فقد ينصب و قد يرفع فمن نصب أبدله من حديث الأول و من رفع جاز أن يجعل ما موصولة بمعنى الذي و صلتها الجملة أي الذي هو حديث الرواحل ثم حذف

(10/221)


صدر الجملة كما حذف في تَماماً عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ و يجوز أن تجعل ما استفهامية بمعنى أي
شرح نهج البلاغة ج : 9 ص : 246ثم قال و هلم الخطب هذا يقوي رواية من روى عنه أنه ع لم يستشهد إلا بصدر البيت كأنه قال دع عنك ما مضى و هلم ما نحن الآن فيه من أمر معاوية فجعل هلم ما نحن فيه من أمر معاوية قائما مقام قول إمرئ القيسو لكن حديثا ما حديث الرواحل
و هلم لفظ يستعمل لازما و متعديا فاللازم بمعنى تعال قال الخليل أصله لم من قولهم لم الله شعثه أي جمعه كأنه أراد لم نفسك إلينا أي اجمعها و اقرب منا و جاءت ها للتنبيه قبلها و حذفت الألف لكثرة الاستعمال و جعلت الكلمتان كلمة واحدة يستوي فيها الواحد و الاثنان و الجمع و المؤنث و المذكر في لغة أهل الحجاز قال سبحانه وَ الْقائِلِينَ لِإِخْوانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنا و أهل نجد يصرفونها فيقولون للاثنين هلما و للجمع هلموا و على ذلك و قد يوصل إذا كان لازما باللام فيقال هلم لك و هلم لكما كما قالوا هيت لك و إذا قيل لك هلم إلى كذا أي تعال إليه قلت لا أهلم مفتوحة الألف و الهاء مضمومة الميم فأما المتعدية فهي بمعنى هات تقول هلم كذا و كذا قال الله تعالى هَلُمَّ شُهَداءَكُمُ و تقول لمن قال لك ذلك لا أهلمه أي لا أعطيكه يأتي بالهاء ضمير المفعول ليتميز من الأولى. يقول ع و لكن هات ذكر الخطب فحذف المضاف و الخطب الحادث الجليل يعني الأحوال التي أدت إلى أن صار معاوية منازعا في الرئاسة قائما عند كثير من الناس مقامه صالحا لأن يقع في مقابلته و أن يكون ندا له. ثم قال فلقد أضحكني الدهر بعد إبكائه يشير إلى ما كان عنده من الكآبة لتقدم من سلف عليه فلم يقنع الدهر له بذلك حتى جعل معاوية نظيرا له فضحك ع شرح نهج البلاغة ج : 9 ص : 247مما تحكم به الأوقات و يقتضيه تصرف الدهر و تقلبه و ذلك ضحك تعجب و اعتبار. ثم قال و لا غرو و الله أي و لا عجب و الله. ثم فسر ذلك فقال يا له خطبا يستفرغ

(10/222)


العجب أي يستنفده و يفن يقول قد صار العجب لا عجب لأن هذا الخطب استغرق التعجب فلم يبق منه ما يطلق عليه لفظ التعجب و هذا من باب الإغراق و المبالغة في المبالغة كما قال أبو الطيب
أسفي على أسفي الذي دلهتني عن علمه فبه علي خفاءو شكيتي فقد السقام لأنه قد كان لما كان لي أعضاء
و قال ابن هاني المغربي
قد سرت في الميدان يوم طرادهم فعجبت حتى كدت ألا أعجبا
و الأود العوج. ثم ذكر تمالؤ قريش عليه فقال حاول القوم إطفاء نور الله من مصباحه يعني ما تقدم من منابذة طلحة و الزبير و أصحابهما له و ما شفع ذلك من معاوية و عمرو و شيعتهما و فوار الينبوع ثقب البئر. قوله و جدحوا بيني و بينهم شربا أي خلطوه و مزجوه و أفسدوه. و الوبي ء ذو الوباء و المرض و هذا استعارة كأنه جعل الحال التي كانت بينه و بينهم قد أفسدها القوم و جعلوها مظنة الوباء و السقم كالشرب الذي يخلط بالسم أو بالصبر فيفسد و يوبئ. شرح نهج البلاغة ج : 9 ص : 248ثم قال فإن كشف الله تعالى هذه المحن التي يحصل منها ابت الصابرين و المجاهدين و حصل لي التمكن من الأمر حملتهم على الحق المحض الذي لا يمازجه باطل كاللبن المحض الذي لا يخالطه شي ء من الماء و إن تكن الأخرى أي و إن لم يكشف الله تعالى هذه الغمة و مت أو قتلت و الأمور على ما هي عليه من الفتنة و دولة الضلال فَلا تَذْهبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَراتٍ و الآية من القرآن العزيز. و سألت أبا جعفر يحيى بن محمد العلوي نقيب البصرة وقت قراءتي عليه عن هذا الكلام و كان رحمه الله على ما يذهب إليه من مذهب العلوية منصفا وافر العقل فقلت له من يعني ع بقوله كانت أثرة شحت عليها نفوس قوم و سخت عنها نفوس آخرين و من القوم الذين عناهم الأسدي بقوله كيف دفعكم قومكم عن هذا المقام و أنتم أحق به هل المراد يوم السقيفة أو يوم الشورى فقال يوم السقيفة فقلت إن نفسي لا تسامحني أن أنسب إلى الصحابة عصيان رسول الله ص و دفع النص فقال و

(10/223)


أنا فلا تسامحني أيضا نفسي أن أنسب الرسول ص إلى إهمال أمر الإمامة و أن يترك الناس فوضى سدى مهملين و قد كان لا يغيب عن المدينة إلا و يؤمر عليها أميرا و هو حي ليس بالبعيد عنها فكيف لا يؤمر و هو ميت لا يقدر على استدراك ما يحدث. ثم قال ليس يشك أحد من الناس أن رسول الله ص كان عاقلا كامل العقل أما المسلمون فاعتقادهم فيه معلوم و أما اليهود و النصارى و الفلاسفة فيزعمون أنه حكيم تام الحكمة سديد الرأي أقام ملة و شرع شريعة فاستجد ملكا عظيما بعقله و تدبيره و هذا الرجل العاقل الكامل يعرف طباع العرب و غرائزهم و طلبها بالثارات و الذحول و لو بعد الأزمان المتطاولة و يقتل الرجل من القبيلة رجلا من بيت آخر شرح نهج البلاغة ج : 9 ص : 249فلا يزال أهل ذلك المقتول و أقاربه يتطلبون القاتل ليقتلوه حتى يدركوا ثارهم منه فإن لم يظفروا به قتلوا بعض أقاربه و أهله فإن لم يظفروا بأحدهم قتلوا واحدا أو جماعة من تلالقبيلة به و إن لم يكونوا رهطه الأدنين و الإسلام لم يحل طبائعهم و لا غير هذه السجية المركوزة في أخلاقهم و الغرائز بحالها فكيف يتوهم لبيب أن هذا العاقل الكامل وتر العرب و على الخصوص قريشا و ساعده على سفك الدماء و إزهاق الأنفس و تقلد الضغائن ابن عمه الأدنى و صهره و هو يعلم أنه سيموت كما يموت الناس و يتركه بعده و عنده ابنته و له منها ابنان يجريان عنده مجرى ابنين من ظهره حنوا عليهما و محبة لهما و يعدل عنه في الأمر بعده و لا ينص عليه و لا يستخلفه فيحقن دمه و دم بنيه و أهله باستخلافه أ لا يعلم هذا العاقل الكامل أنه إذا تركه و ترك بنيه و أهله سوقة و رعية فقد عرض دماءهم للإراقة بعده بل يكون هو ع هو الذي قتله و أشاط بدمائهم لأنهم لا يعتصمون بعده بأمر يحميهم و إنما يكونون مضغة للأكل و فريسة للمفترس يتخطفهم الناس و تبلغ فيهم الأغراض فأما إذا جعل السلطان فيهم و الأمر إليهم فإنه يكون قد عصمهم و حقن دماءهم

(10/224)


بالرئاسة التي يصولون بها و يرتدع الناس عنهم لأجلها و مثل هذا معلوم بالتجربة أ لا ترى أن ملك بغداد أو غيرها من البلاد لو قتل الناس و وترهم و أبقى في نفوسهم الأحقاد العظيمة عليه ثم أهمل أمر ولده و ذريته من بعده و فسح للناس أن يقيموا ملكا من عرضهم و واحدا منهم و جعل بنيه سوقة كبعض العامة لكان بنوه بعده قليلا بقاؤهم سريعا هلاكهم و لوثب عليهم الناس ذوو الأحقاد و الترات من كل جهة يقتلونهم و يشردونهم كل مشرد و لو أنه عين ولدا من أولاده للملك و قام خواصه و خدمه و خوله بأمره بعده لحقنت دماء أهل شرح نهج البلاغة ج : 9 ص : 250بيته و لم تطل يد أحد من الناس إليهم لناموس الملك و أبهة السلطنة و قوة الرئاسة و حرمة الإمارة. أ فترى ذهب عن رسول الله ص هذا المعنى أم أحب أن يستأصل أهله و ذريته من بعده و أين موضع الشفقة على فاطمة العزيزة عنده الحبيبة إلى قلب أ تقول إنه أحب أن يجعلها كواحدة من فقراء المدينة تتكفف الناس و أن يجعل عليا المكرم المعظم عنده الذي كانت حاله معه معلومة كأبي هريرة الدوسي و أنس بن مالك الأنصاري يحكم الأمراء في دمه و عرضه و نفسه و ولده فلا يستطيع الامتناع و على رأسه مائة ألف سيف مسلول تتلظى أكباد أصحابها عليه و يودون أن يشربوا دمه بأفواههم و يأكلوا لحمه بأسنانهم قد قتل أبناءهم و إخوانهم و آباءهم و أعمامهم و العهد لم يطل و القروح لم تتقرف و الجروح لم تندمل. فقلت له لقد أحسنت فيما قلت إلا أن لفظه ع يدل على أنه لم يكن نص عليه أ لا تراه يقول و نحن الأعلون نسبا و الأشدون بالرسول نوطا فجعل الاحتجاج بالنسب و شدة القرب فلو كان عليه نص لقال عوض ذلك و أنا المنصوص علي المخطوب باسمي. فقال رحمه الله إنما أتاه من حيث يعلم لا من حيث يجهل أ لا ترى أنه سأله فقال كيف دفعكم قومكم عن هذا المقام و أنتم أحق به فهو إنما سأل عن دفعهم عنه و هم أحق به من جهة اللحمة و العترة و لم يكن الأسدي يتصور

(10/225)


النص و لا يعتقده و لا يخطر بباله لأنه لو كان هذا في نفسه لقال له لم دفعك الناس عن هذا المقام و قد نص عليك رسول الله ص و لم يقل له هذا و إنما قال كلاما عاما لبني هاشم كافة شرح نهج البلاغة ج : 9 ص : 251كيف دفعكم قومكم عن هذا و أنتم أحق به أي باعتبار الهاشمية و القربى فأجابه بجواب أعاد قبله المعنى الذي تعلق به الأسدي بعينه تمهيدا للجواب فقال إنما فعلوا ذلك مع أنا أقرب إلى رسول الله ص من غيرنا لأنهم استأثروا علينا و لو قال له أ المنصوص علي و المخطوب باسمي في حياة رسول الله ص لما كان قد أجابه لأنه ما سأله هل أنت منصوص عليك أم لا و لا هل نص رسول الله ص بالخلافة على أحد أم لا و إنما قال لم دفعكم قومكم عن الأمر و أنتم أقرب إلى ينبوعه و معدنه منهم فأجابه جوابا ينطبق على السؤال و يلائمه أيضا فلو أخذ يصرح له بالنص و يعرفه تفاصيل باطن الأمر لنفر عنه و اتهمه و لم يقبل قوله و لم ينجذب إلى تصديقه فكان أولى الأمور في حكم السياسة و تدبير الناس أن يجيب بما لا نفرة منه و لا مطعن عليه فيه

(10/226)


شرح نهج البلاغة ج : 9 ص : 164252- و من خطبة له عالْحَمْدُ لِلَّهِ خَالِقِ الْعِبَادِ وَ سَاطِحِ الْمِهَادِ وَ مُسِيلِ الْوِهَادِ وَ مُخْصِبِ النِّجَادِ لَيْسَ لِأَوَّلِيَّتِهِ ابْتِدَاءٌ وَ لَا لِأَزَلِيَّتِهِ انْقِضَاءٌ هُوَ الْأَوَّلُ وَ لَمْ يَزَلْ وَ الْبَاقِي بِلَا أَجَلٍ خَرَّتْ لَهُ الْجِبَاهُ وَ وَحَّدَتْهُ الشِّفَاهُ حَدَّ الْأَشْيَاءَ عِنْدَ خَلْقِهِ لَهَا إِبَانَةً لَهُ مِنْ شَبَهِهَا لَا تُقَدِّرُهُ الْأَوْهَامُ بِالْحُدُودِ وَ الْحَرَكَاتِ وَ لَا بِالْجَوَارِحِ وَ الْأَدَوَاتِ لَا يُقَالُ لَهُ مَتَى وَ لَا يُضْرَبُ لَهُ أَمَدٌ بِ حَتَّى الظَّاهِرُ لَا يُقَالُ مِمَّ وَ الْبَاطِنُ لَا يُقَالُ فِيمَ لَا شَبَحٌ فَيُتَقَصَّى وَ لَا مَحْجُوبٌ فَيُحْوَى لَمْ يَقْرُبْ مِنَ الْأَشْيَاءِ بِالْتِصَاقٍ وَ لَمْ يَبْعُدْ عَنْهَا بِافْتِرَاقٍ وَ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ مِنْ عِبَادِهِ شُخُوصُ لَحْظَةٍ وَ لَا كُرُورُ لَفْظَةٍ وَ لَا ازْدِلَافُ رَبْوَةٍ وَ لَا انْبِسَاطُ خُطْوَةٍ فِي لَيْلٍ دَاجٍ وَ لَا غَسَقٍ سَاجٍ يَتَفَيَّأُ عَلَيْهِ الْقَمَرُ الْمُنِيرُ وَ تَعْقُبُهُ الشَّمْسُ ذَاتُ النُّورِ فِي الْأُفُولِ وَ الْكُرُورِ وَ تَقْلِيبِ الْأَزْمِنَةِ وَ الدُّهُورِ مِنْ إِقْبَالِ لَيْلٍ مُقْبِلٍ وَ إِدْبَارِ نَهَارٍ مُدْبِرٍ قَبْلَ كُلِّ غَايَةٍ وَ مُدَّةِ وَ كُلِّ إِحْصَاءٍ وَ عِدَّةٍ تَعَالَى عَمَّا يَنْحَلُهُ الْمُحَدِّدُونَ مِنْ صِفَاتِ الْأَقْدَارِ وَ نِهَايَاتِ الْأَقْطَارِ وَ تَأَثُّلِ الْمَسَاكِنِ وَ تَمَكُّنِ الْأَمَاكِنِ فَالْحَدُّ لِخَلْقِهِ مَضْرُوبٌ وَ إِلَى غَيْرِهِ مَنْسُوبٌ لَمْ يَخْلُقِ الْأَشْيَاءَ مِنْ أُصُولٍ أَزَلِيَّةٍ وَ لَا مِنْ أَوَائِلَ أَبَدِيَّةٍ بَلْ خَلَقَ مَا خَلَقَ فَأَقَامَ شرح نهج البلاغة ج : 9 ص : 253حَدَّهُ وَ صَوَّرَ فَأَحْسَنَ ورَتَهُ لَيْسَ

(10/227)


لِشَيْ ءٍ مِنْهُ امْتِنَاعٌ وَ لَا لَهُ بِطَاعَةِ شَيْ ءٍ انْتِفَاعٌ عِلْمُهُ بِالْأَمْوَاتِ الْمَاضِينَ كَعِلْمِهِ بِالْأَحْيَاءِ الْبَاقِينَ وَ عِلْمُهُ بِمَا فِي السَّمَاوَاتِ الْعُلَى كَعِلْمِهِ بِمَا فِي الْأَرَضِينَ السُّفْلَىالمهاد هنا هو الأرض و أصله الفراش و ساطحه باسطه و منه تسطيح القبور خلاف تسنيمها و منه أيضا المسطح للموضع الذي يبسط فيه التمر ليجفف. و الوهاد جمع وهدة و هي المكان المطمئن و مسيلها مجرى السيل فيها و النجاد جمع نجد و هو ما ارتفع من الأرض و مخصبها مروضها و جاعلها ذوات خصب
مباحث كلامية

(10/228)


و اعلم أنه ع أورد في هذه الخطبة ضروبا من علم التوحيد و كلها مبنية على ثلاثة أصول. الأصل الأول أنه تعالى واجب الوجود لذاته و يتفرع على هذا الأصل فروع أولها أنه ليس لأوليته ابتداء لأنه لو كان لأوليته ابتداء لكان محدثا و لا شي ء من المحدث بواجب الوجود لأن معى واجب الوجود أن ذاته لا تقبل العدم و يستحيل الجمع بين قولنا هذه الذات محدثة أي كانت معدومة من قبل و هي في حقيقتها لا تقبل العدم. شرح نهج البلاغة ج : 9 ص : 254و ثانيها أنه ليس لأزليته انقضاء لأنه لو صح عليه العدم لكان لعدمه سبب فكان وجوده موقوفا على انتف سبب عدمه و المتوقف على غيره يكون ممكن الذات فلا يكون واجب الوجود. و قوله ع هو الأول لم يزل و الباقي بلا أجل تكرار لهذين المعنيين السابقين على سبيل التأكيد و يدخل فيه أيضا قوله لا يقال له متى و لا يضرب له أمد بحتى لأن متى للزمان و واجب الوجود يرتفع عن الزمان و حتى للغاية و واجب الوجود لا غاية له. و يدخل أيضا فيه قوله قبل كل غاية و مدة و كل إحصاء و عدة. و ثالثها أنه لا يشبه الأشياء البتة لأن ما عداه إما جسم أو عرض أو مجرد فلو أشبه الجسم أو العرض لكان إما جسما أو عرضا ضرورة تساوي المتشابهين المتماثلين في حقائقهما. و لو شابه غيره من المجردات مع أن كل مجرد غير ممكن لكان ممكنا و ليس واجب الوجود بممكن فيدخل في هذا المعنى قوله ع حد الأشياء عند خلقه لها إبانة له من شبهها أي جعل المخلوقات ذوات حدود ليتميز هو سبحانه عنها إذ لا حد له فبطل أن يشبهه شي ء منها و دخل فيه وله ع لا تقدره الأوهام بالحدود و الحركات و لا بالجوارح. و الأدوات جمع أداة و هي ما يعتمد به و دخل فيه قوله الظاهر فلا يقال مم أي لا يقال من أي شي ء ظهر و الباطن فلا يقال فيم أي لا يقال فيما ذا بطن و يدخل فيه قوله لا شبح فيتقصى و الشبح الشخص و يتقصى يطلب أصاه. و يدخل فيه قوله و لا محجوب فيحوى و قوله لم يقرب من الأشياء

(10/229)


بالتصاق و لم يبعد عنها بافتراق لأن هذه الأمور كلها من خصائص الأجسام و واجب الوجود لا يشبه الأجسام و لا يماثلها. و يدخل فيه قوله ع تعالى عما ينحله المحددون من صفات الأقدار أي مما ينسبه إليه المشبهة و المجسمة من صفات المقادير و ذوات المقادير. شرح نهج البلاغة ج : 9 ص : 255و نهايات الأقطار أي الجوانب. و تأثل المساكن مجد مؤثل أي أصيل و بيت مؤثل أي معمور و كأن أصل الكلمة أن تبنى الدار بالأثل و هو شجر معروف و تمكن الأماكن ثبوتها و استقرارها. و قوله لحد لخلقه مضروب و إلى غيره منسوب و قوله و لا له بطاعة شي ء انتفاع لأنه إنما ينتفع الجسم الذي يصح عليه الشهوة و النفرة كل هذا داخل تحت هذا الوجه. الأصل الثاني أنه تعالى عالم لذاته فيعلم كل معلوم و يدخل تحت هذا الأصل قوله ع لا تخفى عليه من عباده شخوص لحظة أ تسكن العين فلا تتحرك و لا كرور لفظة أي رجوعها. و لا ازدلاف ربوة صعود إنسان أو حيوان ربوة من الأرض و هي الموضع المرتفع و لا انبساط خطوة في ليل داج أي مظلم. و لا غسق ساج أي ساكن. ثم قال يتفيأ عليه القمر المنير هذا من صفات الغسق و من تتمة نعته و معنى يتفيأ عليه يتقلب ذاهبا و جائيا في حالتي أخذه في الضوء إلى التبدر و أخذه في النقص إلى المحاق. و قوله و تعقبه أي و تتعقبه فحذف إحدى التاءين كما قال سبحانه الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ أي تتوفاهم و الهاء في و تعقبه ترجع إلى القمر أي و تسير الشمس عقبه في كروره و أفوله أي غيبوبته و في تقليب الأزمنة و الدهور من إقبال ليل و إدبار نهار.

(10/230)


شرح نهج البلاغة ج : 9 ص : 256فإن قلت إذا كان قوله يتفيأ عليه القمر المنير في موضع جر لأنه صفة غسق فكيف تتعقب الشمس و القمر مع وجود الغسق و هل يمكن اجتماع الشمس و الغسق قلت لا يلزم من تعقب الشمس للقمر ثبوت الغسق. بل قد يصدق تعقبها له و يكون الغسق معدوما نه ع قال لا يخفى على الله حركة في نهار و لا ليل يتفيأ عليه القمر و تعقبه الشمس أي تظهر عقيبه فيزول الغسق بظهورها. و هذا التفسير الذي فسرناه يقتضي أن يكون حرف الجر و هو في التي في قوله في الكرور متعلقا بمحذوف و يكون موضعه نصبا على الحال أي و تعقبه كارا و آفلا و يدخل تحته أيضا قوله ع علمه بالأموات الماضين كعلمه بالأحياء الباقين و علمه بما في السماوات العلا كعلمه بما في الأرضين السفلى. الأصل الثالث أنه تعالى قادر لذاته فكان قادرا على كل الممكنات و يدخل تحته قوله لم يخلق الأشياء من أصول أزلية و لا من أوائل أبدية بل خلق ما خلق فأقام حده و صور ما صور فأحسن صورته و الرد في هذا على أصحاب الهيولى و الطينة التي يزعمون قدمها. و يدخل تحته قوله ليس لشي ء امتناع لأنه متى أراد إيجاد شي ء أوجده و يدخل تحته قوله خرت له الجباه أي سجدت و وحدته الشفاه يعني الأفواه فعبر بالجزءن الكل مجازا و ذلك لأن القادر لذاته هو المستحق للعبادة لخلقه أصول النعم كالحياة و القدرة و الشهوة. و اعلم أن هذا الفن هو الذي بان به أمير المؤمنين ع عن العرب في زمانه قاطبة شرح نهج البلاغة ج : 9 ص : 257و استحق به التقدم و الفضل عليهم أجمعين و ذلك لأن الخة التي يتميز بها الإنسان عن البهائم هي العقل و العلم أ لا ترى أنه يشاركه غيره من الحيوانات في اللحمية و الدموية و القوة و القدرة و الحركة الكائنة على سبيل الإرادة و الاختيار فليس الامتياز إلا بالقوة الناطقة أي العاقلة العالمة فكلما كان الإنسان أكثر حظا منها كانت إنسانيته أتم و معلوم أن هذا الرجل انفرد بهذا الفن و هو أشرف

(10/231)


العلوم لأن معلومه أشرف المعلومات و لم ينقل عن أحد من العرب غيره في هذا الفن حرف واحد و لا كانت أذهانهم تصل إلى هذا و لا يفهمونه بهذا الفن فهو منفرد فيه و بغيره من الفنون و هي العلوم الشرعية مشارك لهم و راجح عليهم فكان أكمل منهم لأنا قد بينا أن الأعلم أدخل في صورة الإنسانية و هذا هو معنى الأفضلية
مِنْهَا أَيُّهَا الْمَخْلُوقُ السَّوِيُّ وَ الْمَنْشَأُ الْمَرْعِيُّ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْحَامِ وَ مُضَاعَفَاتِ الْأَسْتَارِ. بُدِئْتَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ وَ وُضِعْتَ فِي قَرَارٍ مَكِينٍ إِلَى قَدَرٍ مَعْلُومٍ وَ أَجَلٍ مَقْسُومٍ تَمُورُ فِي بَطْنِ أُمِّكَ جَنِيناً لَا تُحِيرُ دُعَاءً وَ لَا تَسْمَعُ نِدَاءً ثُمَّ أُخْرِجْتَ مِنْ مَقَرِّكَ إِلَى دَارٍ لَمْ تَشْهَدْهَا وَ لَمْ تَعْرِفْ سُبُلَ مَنَافِعِهَا فَمَنْ هَدَاكَ لِاجْتِرَارِ الْغِذَاءِ مِنْ ثَدْيِ أُمِّكَ وَ عَرَّفَكَ عِنْدَ الْحَاجَةِ مَوَاضِعَ طَلَبِكَ وَ إِرَادَتِكَ هَيْهَاتَ إِنَّ مَنْ يَعْجِزُ عَنْ صِفَاتِ ذِي الْهَيْئَةِ وَ الْأَدَوَاتِ فَهُوَ عَنْ صِفَاتِ خَالِقِهِ أَعْجَزُ وَ مِنْ تَنَاوُلِهِ بِحُدُودِ الْمَخْلُوقِينَ أَبْعَدُ

(10/232)


شرح نهج البلاغة ج : 9 ص : 258السوي المستوي الخلقة غير ناقص قال سبحانه فَتَمَثَّلَ لَها بَشَراً سَوِيًّا و المنشأ مفعول من أنشأ أي خلق و أوجد و المرعي المحوط المحفوظ. و ظلمات الأرحام و مضاعفات الأستار مستقر النطف و الرحم موضوعة فيما بين المثانة و المعى استقيم و هي مربوطة برباطات على هيئة السلسلة و جسمها عصبي ليمكن امتدادها و اتساعها وقت الحاجة إلى ذلك عند الولادة و تنضم و تتقنص إذا استغني عن ذلك و لها بطنان ينتهيان إلى فم واحد و زائدتان يسميان قريني الرحم و خلف هاتين الزائدتين بيضتا المرأة و هما أصغر من بيضتي الرجل و أشد تفرطحا و منهما ينصب مني المرأة إلى تجويف الرحم و للرحم رقبة منتهية إلى فرج المرأة و تلك الرقبة من المرأة بمنزلة الذكر من الرجل فإذا امتزج مني الرجل بمني المرأة في تجويف الرحم كان العلوق ثم ينمي و يزيد من دم الطمث و يتصل بالجنين عروق تأتي إلى الرحم فتغذوه حتى يتم و يكمل فإذا تم لم يكتف بما تحته من تلك العروق فيتحرك حركات قوية طلبا للغذاء فتهتك أربطة الرحم التي قلنا إنها على هيئة السلسلة و تكون منها الولادة. قوله بدئت من سلالة من طين أي كان ابتداء خلقك من سلالة و هي خلاصة الطين لأنها سلت من بين الكدر و فعالة بناء للقلة كالقلامة و القمامة. و قال الحسن هي ما بين ظهراني الطين. ثم قال و وضعت في قرار مكين الكلام الأول لآدم الذي هو أصل البشر و الثاني لذريته و القرار المكين الرحم متمكنة في موضعها برباطاتها لأنها لو كانت متحركة لتعذر العلوق. شرح نهجلبلاغة ج : 9 ص : 259ثم قال إلى قدر معلوم و أجل مقسوم إلى متعلقة بمحذوف كأنه قال منتهيا إلى قدر معلوم أي مقدرا طوله و شكله إلى أجل مقسوم مدة حياته. ثم قال تمور في بطن أمك أي تتحرك لا تحير أي لا ترجع جوابا أحار يحير. إلى دار لم تشهدها يعني الدنيا و يقال أشبه شي ء بحال الانتقال من الدنيا إلى الأحوال التي بعد الموت انتقال

(10/233)


الجنين من ظلمة الرحم إلى فضاء الدنيا فلو كان الجنين يعقل و يتصور كان يظن أنه لا دار له إلا الدار التي هو فيها و لا يشعر بما وراءها و لا يحس بنفسه إلا و قد حصل في دار لم يعرفها و لا تخطر ببالهفبقي هو كالحائر المبهوت و هكذا حالنا في الدنيا إذا شاهدنا ما بعد الموت. و لقد أحسن ابن الرومي في صفة خطوب الدنيا و صروفها بقوله
لما تؤذن الدنيا به من صروفها يكون بكاء الطفل ساعة يولدو إلا فما يبكيه منها و إنها لأوسع مما كان فيه و أرغدإذا أبصر الدنيا استهل كأنه بما سوف يلقى من أذاها يهدد
قال فمن هداك إلى اجترار الغذاء من ثدي أمك اجترار امتصاص اللبن من الثدي و ذلك بالإلهام الإلهي. قال و عرفك عند الحاجة أي أعلمك بموضع الحلمة عند طلبك الرضاع فالتقمتها بفمك. شرح نهج البلاغة ج : 9 ص : 260ثم قال هيهات أي بعد أن يحيط علما بالخالق من عجز عن معرفالمخلوق قال الشاعر
رأيت الورى يدعون الهدى و كم يدعي الحق خلق كثيرو ما في البرايا امرؤ عنده من العلم بالحق إلا اليسيرخفي فما ناله ناظر و ما إن أشار إليه مشيرو لا شي ء أظهر من ذاته و كيف يرى الشمس أعمى ضرير شرح نهج البلاغة ج : 9 ص : 165261- و من كلام له ع لعثمان بن عفانقالوا لما اجتمع الناس إلى أمير المؤمنين ع و شكوا إليه ما نقموه على عثمان و سألوه مخاطبته و استعتابه لهم فدخل ع على عثمان فقال

(10/234)


إِنَّ النَّاسَ وَرَائِي وَ قَدِ اسْتَسْفَرُونِي بَيْنَكَ وَ بَيْنَهُمْ وَ وَ اللَّهِ مَا أَدْرِي مَا أَقُولُ لَكَ مَا أَعْرِفُ شَيْئاً تَجْهَلُهُ وَ لَا أَدُلُّكَ عَلَى أَمْرٍ لَا تَعْرِفُهُ إِنَّكَ لَتَعْلَمُ مَا نَعْلَمُ مَا سَبَقْنَاكَ إِلَى شَيْ ءٍ فَُخْبِرَكَ عَنْهُ وَ لَا خَلَوْنَا بِشَيْ ءٍ فَنُبَلِّغَكَهُ وَ قَدْ رَأَيْتَ كَمَا رَأَيْنَا وَ سَمِعْتَ كَمَا سَمِعْنَا وَ صَحِبْتَ رَسُولَ اللَّهِ ص كَمَا صَحِبْنَا وَ مَا ابْنُ أَبِي قُحَافَةَ وَ لَا ابْنُ الْخَطَّابِ بِأَوْلَى بِعَمَلِ الْخَيْرِ مِنْك وَ أَنْتَ أَقْرَبُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ ص وَشِيجَةَ رَحِمٍ مِنْهُمَا وَ قَدْ نِلْتَ مِنْ صِهْرِهِ مَا لَمْ يَنَالَا فَاللَّهَ اللَّهَ فِي نَفْسِكَ فَإِنَّكَ وَ اللَّهِ مَا تُبَصَّرُ مِنْ عَمًى وَ لَا تُعَلَّمُ مِنْ جَهْلٍ وَ إِنَّ الطُّرُقَ لَوَاضِحَةٌ وَ إِنَّ أَعْلَامَ الدِّينِ لَقَائِمَةٌ فَاعْلَمْ أَنَّ أَفْضَلَ عِبَادِ اللَّهِ عِنْدَ اللَّهِ إِمَامٌ عَادِلٌ هُدِيَ وَ هَدَى فَأَقَامَ سُنَّةً مَعْلُومَةً وَ أَمَاتَ بِدْعَةً مَجْهُولَةً وَ إِنَّ السُّنَنَ لَنَيِّرَةٌ لَهَا أَعْلَامٌ وَ إِنَّ الْبِدَعَ لَظَاهِرَةٌ لَهَا أَعْلَامٌ وَ إِنَّ شَرَّ النَّاسِ عِنْدَ اللَّهِ إِمَامٌ جَائِرٌ ضَلَّ وَ ضُلَّ بِهِ فَأَمَاتَ سُنَّةً مَأْخُوذَةً وَ أَحْيَا بِدْعَةً مَتْرُوكَةً وَ إِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ ص يَقُولُ يُؤْتَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِالْإِمَامِ الْجَائِرِ وَ لَيْسَ مَعَهُ نَصِيرٌ وَ لَا عَاذِرٌ فَيُلْقَى فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَيَدُورُ فِيهَا كَمَا تَدُورُ الرَّحَى ثُمَّ يَرْتَبِطُ فِي قَعْرِهَا شرح نهج البلاغة ج : 9 ص : 262وَ إِنِّي أَنْشُدُكَ اللَّهَ أَنْ تَكُونَ إِمَامَ هَذِهِ الْأُمَّةِ الْمَقْتُولفَإِنَّهُ كَانَ يُقَالُ يُقْتَلُ فِي هَذِهِ الْأُمَّةِ إِمَامٌ

(10/235)


يَفْتَحُ عَلَيْهَا الْقَتْلَ وَ الْقِتَالَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَ يَلْبِسُ أُمُورَهَا عَلَيْهَا وَ يَبُثُّ الْفِتَنَ فِيهَا فَلَا يُبْصِرُونَ الْحَقَّ مِنَ الْبَاطِلِ يَمُوجُونَ فِيهَا مَوْجاً وَ يَمْرُجُونَ فِيهَا مَرْجاً فَلَا تَكُونَنَّ لِمَرْوَانَ سَيِّقَةً يَسُوقُكَ حَيْثُ شَاءَ بَعْدَ جَلَالِ السِّنِّ وَ تَقَضِّي الْعُمُرِ فَقَالَ لَهُ عُثْمَانُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَلِّمِ النَّاسَ فِي أَنْ يُؤَجِّلُونِي حَتَّى أَخْرُجَ إِلَيْهِمْ مِنْ مَظَالِمِهِمْ فَقَالَ ع مَا كَانَ بِالْمَدِينَةِ فَلَا أَجَلَ فِيهِ وَ مَا غَابَ فَأَجَلُهُ وُصُولُ أَمْرِكَ إِلَيْهِ

(10/236)


نقمت على زيد بالفتح أنقم فأنا ناقم إذا عتبت عليه و قال الكسائي نقمت بالكسر أيضا أنقم لغة و هذه اللفظة تجي ء لازمة و متعدية قالوا نقمت الأمر أي كرهته. و استعتبت فلانا طلبت منه العتبى و هي الرضا و استعتابهم عثمان طلبهم منه ما يرضيهم عنه. و استسفروني جعلوني فيرا و وسيطا بينك و بينهم. ثم قال له و أقسم على ذلك أنه لا يعلم ما ذا يقول له لأنه لا يعرف أمرا يجهله أي من هذه الأحداث خاصة و هذا حق لأن عليا ع لم يكن يعلم منها ما يجهله شرح نهج البلاغة ج : 9 ص : 263عثمان بل كان أحداث الصبيان فضلا عن العقلاء المميزين يعون وجهي الصواب و الخطأ فيها. ثم شرع معه في مسلك الملاطفة و القول اللين فقال ما سبقنا إلى الصحبة و لا انفردنا بالرسول دونك و أنت مثلنا و نحن مثلك. ثم خرج إلى ذكر الشيخين فقال قولا معناه أنهما ليسا خيرا منك فإنك مخصوص دونهما بقرب النسب يعني المنافية و بالصهر و هذا كلام هو موضع المثل يسر حسوا في ارتغاء و مراده تفضيل نفسه ع لأن العلة التي باعتبارها فضل عثمان عليهما محققة فيه و زيادة لأن له مع المنافية الهاشمية فهو أقرب. و الوشيجة عروق الشجرة ثم حذره جانب الله تعالى و نبهه على أن الطرق واضحة و أعلام الهدى قائمة و أن الإمام العادل أفضل الناس عند الله و أن الإمام الجائر شر الناس عند الله. ثم روى له الخبر المذكور و روي ثم يرتبك في قعرها أي ينشب. و خوفه أن يكون الإمام المقتول الذي يفتح الفتن بقتله و قد كان رسول الله ص قال كلاما هو هذا أو يشبه هذا. و مرج الدين أي فسد و السيقة ما استاقه العدو من الدواب مثل الوسيقة قال الشاعر
فما أنا إلا مثل سيقة العدا إن استقدمت بحر و إن جبأت عقر

(10/237)


و الجلال بالضم الجليل كالطوال و الطويل أي بعد السن الجليل أي العمر الطويل. شرح نهج البلاغة ج : 9 ص : 264و قوله ما كان بالمدينة فلا أجل فيه و ما غاب فأجله وصول أمرك إليه كلام شريف فصيح لأن الحاضر أي معنى لتأجيله و الغائب فلا عذر بعد وصول الأمر في تأخيره ل السلطان لا يؤخر أمره. و قد ذكرنا من الأحداث التي نقمت على عثمان فيما تقدم ما فيه كفاية و قد ذكر أبو جعفر محمد بن جرير الطبري رحمه الله في التاريخ الكبير هذا الكلام فقال إن نفرا من أصحاب رسول الله ص تكاتبوا فكتب بعضهم إلى بعض أن اقدموا فإن الجهاد بالمدينة لا بالروم و استطال الناس على عثمان و نالوا منه و ذلك في سنة أربع و ثلاثين و لم يكن أحد من الصحابة يذب عنه و لا ينهى إلا نفر منهم زيد بن ثابت و أبو أسيد الساعدي و كعب بن مالك و حسان بن ثابت فاجتمع الناس فكلموا علي بن أبي طالب ع و سألوه أن يكلم عثمان فدخل عليه و قال له إن الناس... و روى الكلام إلى آخره بألفاظه فقال عثمان و قد علمت أنك لتقولن ما قلت أما و الله لو كنت مكاني ما عنفتك و لا عتبت عليك و لم آت منكرا إنما وصلت رحما و سددت خلة و آويت ضائعا و وليت شبيها بمن كان عمر يوليه أنشدك الله يا علي أ لا تعلم أن المغيرة بن شعبة ليس هناك قال بلى قال أ فلا تعلم أن عمر ولاه قال بلى قال فلم تلومني أن وليت ابن عامر في رحمه و قرابته فقال علي ع إن عمر كان يطأ على صماخ من يوليه ثم يبلغ منه إن أنكر منه أمرا أقصى العقوبة و أنت فلا تفعل ضعفت و رققت على أقربائك. شرح نهج البغة ج : 9 ص : 265قال عثمان هم أقرباؤك أيضا فقال علي لعمري إن رحمهم مني لقريبة و لكن الفضل في غيرهم. فقال عثمان أ فلا تعلم أن عمر ولى معاوية فقد وليته قال علي أنشدك الله أ لا تعلم أن معاوية كان أخوف لعمر من يرفأ غلامه له قال بلى قال فإن معاوية يقطع الأمور دونك و يقول للناس هذا بأمر عثمان و أنت تعلم ذلك فلا تعير عليه. ثم قام

(10/238)


علي فخرج عثمان على أثره فجلس على المنبر فخطب الناس و قال أما بعد فإن لكل شي ء آفة و لكل أمر عاهة و إن آفة هذه الأمة و عاهة هذه النعمة عيابون طعانون يرونكم ما تحبون و يسرون عنكم ما تكرهون قولون لكم و تقولون أمثال النعام يتبع أول ناعق أحب مواردها إليها البعيد لا يشربون إلا نغصا و لا يردون إلا عكرا أما و الله لقد عبتم علي ما أقررتم لابن الخطاب بمثله و لكنه وطئكم برجله و ضربكم بيده و قمعكم بلسانه فدنتم له على ما أحببتم و كرهتم و لنت لكم و أوطأتكم كتفي و كففت يدي و لساني عنكم فاجترأتم علي أما و الله لأنا أقرب ناصرا و أعز نفرا و أكثر عددا و أحرى إن قلت هلم أن يجاب صوتي و لقد أعددت لكم أقرانا و كشرت لكم عن نابي و أخرجتم مني خلقا لم أكن أحسنه و منطقا لم أكن أنطق به فكفوا عني ألسنتكم و طعنكم و عيبكم على ولاتكم فما الذي تفقدون من حقكم و الله ما قصرت عن بلوغ من كان قبلي يبلغ و ما وجدتكم تختلفون عليه فما بالكم. فقام مروان بن الحكم فقال و إن شئتم حكمنا بيننا و بينكم السيف. فقال عثمان اسكت لا سكت دعني و أصحابي ما منطقك في هذا أ لم أتقدم إليك ألا تنطق. فسكت مروان و نزل عثمان

(10/239)


شرح نهج البلاغة ج : 9 ص : 166266- و من خطبة له ع يذكر فيها عجيب خلقة الطاوسابْتَدَعَهُمْ خَلْقاً عَجِيباً مِنْ حَيَوَانٍ وَ مَوَاتٍ وَ سَاكِنٍ وَ ذِي حَرَكَاتٍ وَ أَقَامَ مِنْ شَوَاهِدِ الْبَيِّنَاتِ عَلَى لَطِيفِ صَنْعَتِهِ وَ عَظِيمِ قُدْرَتِهِ مَا انْقَادَتْ لَهُ الْعُقُولُ مُعْتَرِفَةً بِهِ وَ مَسَلِّمَةً لَهُ وَ نَعَقَتْ فِي أَسْمَاعِنَا دَلَائِلُهُ عَلَى وَحْدَانِيَّتِهِ وَ مَا ذَرَأَ مِنْ مُخْتَلِفِ صُوَرِ الْأَطْيَارِ الَّتِي أَسْكَنَهَا أَخَادِيدَ الْأَرْضِ وَ خُرُوقَ فِجَاجِهَا وَ رَوَاسِيَ أَعْلَامِهَا مِنْ ذَاتِ أَجْنِحَةٍ مُخْتَلِفَةٍ وَ هَيْئَاتٍ مُتَبَايِنَةٍ مُصَرَّفَةٍ فِي زِمَامِ التَّسْخِيرِ وَ مُرَفْرِفَةٍ بِأَجْنِحَتِهَا فِي مَخَارِقِ الْجَوِّ الْمُنْفَسِحِ وَ الْفَضَاءِ الْمُنْفَرِجِ كَوَّنَهَا بَعْدَ إِذْ لَمْ تَكُنْ فِي عَجَائِبِ صُوَرٍ ظَاهِرَةٍ وَ رَكَّبَهَا فِي حِقَاقِ مَفَاصِلَ مُحْتَجِبَةٍ وَ مَنَعَ بَعْضَهَا بِعَبَالَةِ خَلْقِهِ أَنْ يَسْمُوَ فِي الْهَوَاءِ خُفُوفاً وَ جَعَلَهُ يَدِفُّ دَفِيفاً وَ نَسَقَهَا عَلَى اخْتِلَافِهَا فِي الْأَصَابِيغِ بِلَطِيفِ قُدْرَتِهِ وَ دَقِيقِ صَنْعَتِهِ فَمِنْهَا مَغْمُوسٌ فِي قَالَبِ لَوْنٍ لَا يَشُوبُهُ غَيْرُ لَوْنِ مَا غُمِسَ فِيهِ وَ مِنْهَا مَغْمُوسٌ فِي لَوْنِ صِبْغٍ قَدْ طُوِّقَ بِخِلَافِ مَا صُبِغَ بِهِ

(10/240)


الموات بالفتح ما لا حياة فيه و أرض موات أي قفر و الساكن هاهنا كالأرض و الجبال و ذو الحركات كالنار و الماء الجاري و الحيوان. شرح نهج البلاغة ج : 9 ص : 267و نعقت في أسماعنا دلائله أي صاحت دلائله لظهورها كالأصوات المسموعة التي تعلم يقينا. و أخاديد الأرض شقوا جمع أخدود و فجاجها جمع فج و هو الطريق بين الجبلين و رواسي أعلامها أثقال جبالها. مصرفة في زمام التسخير أي هي مسخرة تحت القدرة الإلهية. و حقاق المفاصل جمع حق و هو مجمع المفصلين من الأعضاء كالركبة و جعلها محتجبة لأنها مستورة بالجلد و اللحم. و عبالة الحيوان كثافة جسده و الخفوف سرعة الحركة و الدفيف للطائر طيرانه فويق الأرض يقال عقاب دفوف قال إمرؤ القيس يصف فرسه و يشبهها بالعقاب
كأني بفتخاء الجناحين لقوة دفوف من العقبان طأطأت شملالي

(10/241)


و نسقها رتبها و الأصابيغ جمع أصباغ و أصباغ جمع صبغ. و المغموس الأول هو ذو اللون الواحد كالأسود و الأحمر و المغموس الثاني ذو اللونين نحو أن يكون أحمر و عنقه خضراء. و روي قد طورق لون أي لون على لون كما تقول طارقت بين الثوبين. فإن قلت ما هذه الطيور التي يسكن بعضها الأخاديد و بعضها الفجاج و بعضها رءوس الجبال. قلت أما الأول فكالقطا و الصدى و الثاني كالقبج و الطيهوج و الثالث كالصقر و العقاب شرح نهج البلاغة ج : 9 ص : 26وَ مِنْ أَعْجَبِهَا خَلْقاً الطَّاوُسُ الَّذِي أَقَامَهُ فِي أَحْسَنِ تَعْدِيلٍ وَ نَضَّدَ أَلْوَانَهُ فِي أَحْسَنِ تَنْضِيدٍ بِجَنَاحٍ أَشْرَجَ قَصَبَهُ وَ ذَنَبٍ أَطَالَ مَسْحَبَهُ إِذَا دَرَجَ إِلَى الْأُنْثَى نَشَرَهُ مِنْ طَيِّهِ وَ سَمَا بِهِ مُطِلًّا عَلَى رَأْسِهِ كَأَنَّهُ قِلْعُ دَارِيٍّ عَنَجَهُ نُوتِيُّهُ يَخْتَالُ بِأَلْوَانِهِ وَ يَمِيسُ بِزَيَفَانِهِ يُفْضِي كَإِفْضَاءِ الدِّيَكَةِ وَ يَؤُرُّ بِمَلَاقِحِهِ أَرَّ الْفُحُولِ الْمُغْتَلِمَةِ لِلضِّرَابِ أُحِيلُكَ مِنْ ذَلِكَ عَلَى مُعَايَنَةٍ لَا كَمَنْ يُحِيلُ عَلَى ضَعِيفٍ إِسْنَادُهُ وَ لَوْ كَانَ كَزَعْمِ مَنْ يَزْعُمُ أَنَّهُ يُلْقِحُ بِدَمْعَةٍ تَسْفَحُهَا مَدَامِعُهُ فَتَقِفُ فِي ضَفَّتَيْ جُفُونِهِ وَ أَنَّ أُنْثَاهُ تَطْعَمُ ذَلِكَ ثُمَّ تَبِيضُ لَا مِنْ لِقَاحِ فَحْلٍ سِوَى الدَّمْعِ الْمُنْبَجِسِ لَمَا كَانَ ذَلِكَ بِأَعْجَبَ مِنْ مُطَاعَمَةِ الْغُرَابِ

(10/242)


الطاوس فاعول كالهاضوم و الكابوس و ترخيمه طويس و نضد رتب قوله أشرج قصبه القصب هاهنا عروق الجناح و غضاريفه عظامه الصغار و أشرجها ركب بعضها في بعض كما تشرج العيبة أي يداخل بين أشراجها و هي عراها واحدها شرج بالتحريك. ثم ذكر ذنب الطاوس و أنه طويل المسحب و أن الطاوس إذا درج إلى الأنثى للسفاد نشر ذنبه من طيه و علا به مرتفعا على رأسه و القلع شراع السفينة و جمعه قلاع و الداري جالب العطر في البحر من دارين و هي فرضة بالبحرين فيها سوق يحمل إليها المسك من الهند و
في الحديث الجليس الصالح كالداري إن لم يحذك من عطره علقك من ريحه
قال الشاعر شرح نهج البلاغة ج : 9 ص : 26إذا التاجر الداري جاء بفأرة من المسك راحت في مفارقهم تجري
و النوتي الملاح و جمعه نواتي. و عنجه عطفه و عنجت خطام البعير رددته على رجليه أعنجه بالضم و الاسم العنج بالتحريك و في المثل عود يعلم العنج يضرب مثلا لتعليم الحاذق. و يختال من الخيلاء و هي العجب و يميس يتبختر. و زيفانه تبختره زاف يزيف و منه ناقة زيافة أي مختالة قال عنترة
زيافة مثل الفنيق المكدم

(10/243)


و كذلك ذكر الحمام عند الحمامة إذا جر الذنابى و دفع مقدمه بمؤخره و استدار عليها. و يفضي يسفد و الديكة جمع ديك كالقرطة و الجحرة جمع قرط و جحر. و يؤر يسفد و الأر الجماع و رجل آر كثير الجماع و ملاقحه أدوات اللقاح و أعضاؤه و هي آلات التناسل. قوله أر الفحول أي أرا مثل أر الفحول ذات الغلمة و الشبق. ثم ذكر أنه لم يقل ذلك عن إسناد قد يضعف و يتداخله الطعن بل قال ذلك عن عيان و مشاهدة. شرح نهج البلاغة ج : 9 ص : 270فإن قلت من أين للمدينة طواويس و أين العرب و هذا الطائر حتى يقول أمير المؤمنين ع أحيلك من ذلك على معاينة سيما و هو يعني السفاد و رؤية ذلك لمن تكثر الطواويس في داره و يطول مكثها عنده نادرة. قلت لم يشاهد أمير المؤمنين ع الطواويس بالمدينة بل بالكوفة و كانت يومئذ تجبى إليها ثمرات كل شي ء و تأتي إليها هدايا الملوك من الآفاق و رؤية المسافدة مع وجود الذكر و الأنثىغير مستبعدة. و اعلم أن قوما زعموا أن الذكر تدمع عينه فتقف الدمعة بين أجفانه فتأتي الأنثى فتطعمها فتلقح من تلك الدمعة و أمير المؤمنين ع لم يحل ذلك و لكنه قال ليس بأعجب من مطاعمة الغراب و العرب تزعم أن الغراب لا يسفد و من أمثالهم أخفى من سفاد الغراب فيزعمون أن اللقاح من مطاعمة الذكر و الأنثى منهما و انتقال جزء من الماء الذي في قانصته إليها من منقاره و أما الحكماء فقل أن يصدقوا بذلك على أنهم قد قالوا في كتبهم ما يقرب من هذا قالوا في السمك البياض إن سفاده خفي جدا و إنه لم يظهر ظهورا يعتد به و يحكم بسببه. هذا لفظ ابن سينا في كتاب الشفاء ثم قال و الناس يقولون إن الإناث تأخذ زرع الذكور في أفواهها إلى بطونها ثم قال و قد شوهدت الإناث منها تتبع الذكور مبتلعة للزرع و أما عند الولادة فإن الذكور تتبع الإناث مبتلعة بيضها. قال ابن سينا و القبجة تحبلها ريح تهب من ناحية الحجل الذكر و من سماع صوته. قال و النوع المسمى مالاقيا تتلاصق بأفواهها

(10/244)


ثم تتشابك فذاك سفادها و سمعت شرح نهج البلاغة ج : 9 ص : 271أن الغراب يسفد و أنه قد شوهد سفاده و يقول الناس إن من شاهد سفاد الغراب يثري و لا يموت إلا و هو كثير المال موسر. و الضفتان بفتح الد الجنابان و هما ضفتا النهر و قد جاء ذلك بالكسر أيضا و الفتح أفصح. و المنبجس المنفجر و يسفحها يصبها و روي تنشجها مدامعه من النشيج و هو صوت الماء و غليانه من زق أو حب أو قدر
تَخَالُ قَصَبَهُ مَدَارِيَ مِنْ فِضَّةٍ وَ مَا أُنْبِتَ عَلَيْهَا مِنْ عَجِيبِ دَارَاتِهِ وَ شُمُوسِهِ خَالِصَ الْعِقْيَانِ وَ فِلَذَ الزَّبَرْجَدِ فَإِنْ شَبَّهْتَهُ بِمَا أَنْبَتَتِ الْأَرْضُ قُلْتَ جَنِيٌّ جُنِيَ مِنْ زَهْرَةِ كُلِّ رَبِيعٍ وَ إِنْ ضَاهَيْتَهُ بِالْمَلَابِسِ فَهُوَ كَمَوْشِيِّ الْحُلَلِ أَوْ كَمُونِقِ عَصْبِ الْيَمَنِ وَ إِنْ شَاكَلْتَهُ بِالْحُلِيِّ فَهُوَ كَفُصُوصٍ ذَاتِ أَلْوَانٍ قَدْ نُطِّقَتْ بِاللُّجَيْنِ الْمُكَلَّلِ يَمْشِي مَشْيَ الْمَرِحِ الْمُخْتَالِ وَ يَتَصَفَّحُ ذَنَبَهُ وَ جَنَاحَهُ فَيُقَهْقِهُ ضَاحِكاً لِجَمَالِ سِرْبَالِهِ وَ أَصَابِيغِ وِشَاحِهِ فَإِذَا رَمَى بِبَصَرِهِ إِلَى قَوَائِمِهِ زَقَا مُعْوِلًا بِصَوْتٍ يَكَادُ يُبِينُ عَنِ اسْتِغَاثَتِهِ وَ يَشْهَدُ بِصَادِقِ تَوَجُّعِهِ لِأَنَّ قَوَائِمَهُ حُمْشٌ كَقَوَائِمِ الدِّيَكَةِ الْخِلَاسِيَّةِ
قصبه عظام أجنحته و المداري جمع مدرى و هو في الأصل القرن قال النابغة يصف الثور و الكلاب
شك الفريصة بالمدرى فأنفذها شك المبيطر إذ يشفي من العضد
شرح نهج البلاغة ج : 9 ص : 272و كذلك المدراة و يقال المدرى لشي ء كالمسلة تصلح بها الماشطة شعور النساء قال الشاعتهلك المدراة في أكنافه و إذا ما أرسلته يعتفر

(10/245)


و تمدرت المرأة أي سرحت شعرها شبه عظام أجنحة الطاوس بمدارى من فضة لبياضها و شبه ما أنبت الله عليها من تلك الدارات و الشموس التي في الريش بخالص العقيان و هو الذهب. و فلذ الزبرجد جمع فلذة و هي القطعة و الزبرجد هذا الجوهر الذي تسميه الناس البلخش. ثم قال إن شبهته بنبات الأرض قلت إنه قد جني من زهرة كل ربيع في الأرض لاختلاف ألوانه و أصباغه. و إن ضاهيته بالملابس المضاهاة المشاكلة يهمز و لا يهمز و قرئ يضاهون قول الذين كفروا و يُضاهِؤُنَ و هذا ضهي هذا على فعيل أي شبيهه. و موشي الحلل ما دبج بالوشي و هو الأرقم الملون و العصب برود اليمن. و الحلي جمع حلي و هو ما تلبسه المرأة من الذهب و الفضة مثل ثدي و ثدي و وزنه فعول و قد تكسر الحاء لمكان الياء مثل عصي و قرئ مِنْ حُلِيِّهِمْ بالضم و الكسر. و نطقت باللجين جعلت الفضة كالنطاق لها و المكلل ذو الإكليل. شرح نهج البلاغة ج : 9 : 273و زقا صوت يزقو زقوا و زقيا و زقاء و كل صائح زاق و الزقية الصيحة و هو أثقل من الزواقي أي الديكة لأنهم كانوا يسمرون فإذا صاحت الديكة تفرقوا. و معولا صارخا أعولت الفرس صوتت و منه العويل و العولة. و قوائمه حمش دقاق و هو أحمش الساقين و حمش الساقين بالتسكين و قد حمشت قوائمه أي دقت و تقول العرب للغلام إذا كانت أمه بيضاء و أبوه عربيا آدم فجاء لونه بين لونيهما. خلاسي بالكسر و الأنثى خلاسية و قال الليث الديكة الخلاسية هي المتولدة من الدجاج الهندي و الفارسي. يقول ع إن الطاوس يزهى بنفسه و يتيه إذا نظر في أعطافه و رأى ألوانه المختلفة فإذا نظر إلى ساقيه وجم لذلك و انكسر نشاطه و زهوه فصاح صياح العويل لحزنه و ذلك لدقة ساقيه و نتوء عرقوبيه

(10/246)


وَ قَدْ نَجَمَتْ مِنْ ظُنْبُوبِ سَاقِهِ صِيصِيَةٌ خَفِيَّةٌ وَ لَهُ فِي مَوْضِعِ الْعُرْفِ قُنْزُعَةٌ خَضْرَاءُ مُوَشَّاةٌ وَ مَخْرَجُ عَنُقِهِ كَالْإِبْرِيقِ وَ مَغْرِزُهَا إِلَى حَيْثُ بَطْنُهُ كَصِبْغِ الْوَسْمَةِ الْيَمَانِيَّةِ أَوْ كَحَرِيرَةٍ مُلْبَسَةٍ مِرْآةً ذَاتَ صِقَالٍ وَ كَأَنَّهُ مُتَلَفِّعٌ بِمِعْجَرٍ أَسْحَمَ إِلَّا أَنَّهُ يُخَيَّلُ لِكَثْرَةِ مَائِهِ وَ شِدَّةِ بَرِيقِهِ أَنَّ الْخُضْرَةَ النَّاضِرَةَ مُمْتَزِجَةٌ بِهِ وَ مَعَ فَتْقِ سَمْعِهِ خَطٌّ كَمُسْتَدَقِّ الْقَلَمِ فِي لَوْنِ الْأُقْحُوَانِ أَبْيَضُ يَقَقٌ فَهُوَ بِبَيَاضِهِ فِي سَوَادِ شرح نهج البلاغة ج : 9 ص : 274مَا هُنَالِكَ يَأْتَلِقُ وَ قَلَّ صِبْغٌ إِلَّا وَ قَدْ أَخَذَ مِنْهُ بِقِسْطٍ وَ عَلَاهُ بِكَثْرَةِ صِقَالِهِ وَ بَرِيقِهِ وَ بَصِيصِ دِيبَاجِهِ وَ رَوْنَقِهِ فَهُوَ كلْأَزَاهِيرِ الْمَبْثُوثَةِ لَمْ تُرَبِّهَا أَمْطَارُ رَبِيعٍ وَ لَا شُمُوسُ قَيْظٍ
نجمت ظهرت و الظنبوب حرف الساق و هو هذا العظم اليابس. و الصيصية في الأصل شوكة الحائك التي يسوي بها السداة و اللحمة و منه قوله
كوقع الصياصي في النسيج الممدد
و نقل إلى صيصية الديك لتلك الهيئة التي في رجله. و العرف الشعر المرتفع من عنقه على رأسه و القنزعة واحدة القنازع و هي الشعر حوالي الرأس و
في الحديث غطي عنا قنازعك يا أم أيمن

(10/247)


و موشاة ذات وشي. و الوسمة بكسر السين العظلم الذي يخضب به و يجوز تسكين السين. و الأسحم الأسود و المتلفع الملتحف و يروى متقنع بمعجر و هو ما تشده المرأة على رأسها كالرداء. و الأقحوان البابونج الأبيض و جمعه أقاح. شرح نهج البلاغة ج : 9 ص : 275و أبيض يقق خالص البياض و جاء يقق بالكسر و يأتلق يلمع. و البصيص البريق و بص الشي ء لمع. و تربها الأمطار تربيها و تجمعها. يقول ع كأن هذا الطائر ملتحف بملحفة سوداء إلا أنها لكثرة رونقها يتوهم أنه قد امتزج بها خضرة ناضرة و قل أكون لون إلا و قد أخذ هذا الطائر منه بنصيب فهو كأزاهير الربيع إلا أن الأزهار تربيها الأمطار و الشموس و هذا مستغن عن ذلك

(10/248)


وَ قَدْ يَنْحَسِرُ مِنْ رِيشِهِ وَ يَعْرَى مِنْ لِبَاسِهِ فَيَسْقُطُ تَتْرَى وَ يَنْبُتُ تِبَاعاً فَيَنْحَتُّ مِنْ قَصَبِهِ انْحِتَاتَ أَوْرَاقِ الْأَغْصَانِ ثُمَّ يَتَلَاحَقُ نَامِياً حَتَّى يَعُودَ كَهَيْئَتِهِ قَبْلَ سُقُوطِهِ لَا يُخَالِفُ سَالِفَ أَلْوَانِهِ وَ لَا يَقَعُ لَوْنٌ فِي غَيْرِ مَكَانِهِ وَ إِذَا تَصَفَّحَتْ شَعْرَةً مِنْ شَعَرَاتِ قَصَبِهِ أَرَتْكَ حُمْرَةً وَرْدِيَّةً وَ تَارَةً خُضْرَةً زَبَرْجَدِيَّةً وَ أَحْيَاناً صُفْرَةً عَسْجَدِيَّةً فَكَيْفَ تَصِلُ إِلَى صِفَةِ هَذَا عَمَائِقُ الْفِطَنِ أَوْ تَبْلُغُهُ قَرَائِحُ الْعُقُولِ أَوْ تَسْتَنْظِمُ وَصْفَهُ أَقْوَالُ الْوَاصِفِينَ وَ أَقَلُّ أَجْزَائِهِ قَدْ أَعْجَزَ الْأَوْهَامَ أَنْ تُدْرِكَهُ وَ الْأَلْسِنَةَ أَنْ تَصِفَهُ فَسُبْحَانَ الَّذِي بَهَرَ الْعُقُولَ عَنْ وَصْفِ خَلْقٍ جَلَّاهُ لِلْعُيُونِ فَأَدْرَكَتْهُ مَحْدُوداً مُكَوَّناً وَ مُؤَلَّفاً مُلَوَّناً وَ أَعْجَزَ الْأَلْسُنَ عَنْ تَلْخِيصِ صِفَتِهِ وَ قَعَدَ بِهَا عَنْ تَأْدِيَةِ نَعْتِهِ وَ سُبْحَانَ مَنْ أَدْمَجَ قَوَائِمَ الذَّرَّةِ وَ الْهَمَجَةِ إِلَى مَا فَوْقَهُمَا مِنْ خَلْقِ الْحِيتَانِ وَ الْفِيَلَةِ شرح نهج البلاغة ج : 9 ص : 276وَ وَأَى عَلَى نَفْسِهِ أَلَّا يَضْطَرِبَ شَبَحٌ مِمَّا أَوْلَجَ فِيهِ الرُّوحَ إِلَّا وَ جَعَلَ الْحِمَامَ مَوْعِدَهُ وَ الْفَنَاءَ غَايَتَهُينحسر من ريشه ينكشف فيسقط و يروى يتحسر. تترى أي شيئا بعد شي ء و بينهما فترة قال الله تعالى ثُمَّ أَرْسَلْنا رُسُلَنا تَتْرا لأنه لم يرسلهم على تراسل بل بعد فترات و هذا مما يغلط فيه قوم فيعتقدون أن تترى للمواصلة و الالتصاق و أصلها الواو من الوتر و هو الفردو فيها لغتان تنون و لا تنون فمن ترك صرفها للمعرفة جعل ألفها ألف تأنيث و من نونها جعل ألفها للإلحاق. قال ع و ينبت

(10/249)


تباعا أي لا فترات بينهما و كذلك حال الريش الساقط يسقط شيئا بعد شي ء و ينبت جميعا. و ينحت يتساقط و انحتات الورق تناثرها و ناميا زائدا يقول ع إذ عاد ريشه عاد مكان كل ريشة ريشة ملونة بلون الريشة الأولى فلا يتخالف الأوائل و الأواخر. و الخضرة الزبرجدية منسوبة إلى الزمرد و لفظة الزبرجد تارة تستعمل له و تارة لهذا الحجر الأحمر المسمى بلخش و العسجد الذهب و عمائق الفطن شرح نهج البلاغة ج : 9 ص : 277البعي القعر و القريحة الخاطر و الذهن و بهر غلب و جلاه أظهره و يروى بالتخفيف و أدمج القوائم أحكمها كالحبل المدمج الشديد الفتل. و الذرة النملة الصغيرة و الهمجة واحدة الهمج و هو ذباب صغير كالبعوض يسقط على وجوه الغنم و الحمر و أعينها. و وأى وعد و الوأي الوعد. و اعلم أن الحكماء ذكروا في الطاوس أمورا قالوا إنه يعيش خمسا و عشرين سنة و هي أقصى عمره و يبيض في السنة الثالثة من عمره عند ما ينتقش لونه و يتم ريشه و يبيض في السنة مرة واحدة اثنتي عشرة بيضة في ثلاثة أيام و يحضنها ثلاثين يوما فيفرخ و يلقي ريشه مع سقوط ورق الشجر و ينبته مع ابتداء نبات الورق. و الدجاج قد يحضن بيض الطاوس و إنما يختار الدجاج لحضانته و إن وجدت الطاوسة لأن الطاوس الذكر يعبث بالأنثى و يشغلها عن الحضانة و ربما انفقص البيض من تحتها و لهذه العلة يخبأ كثير من الإناث محاضنها عن ذكرانها و لا تقوى الدجاجة على أكثر من بيضتي طاوس و ينبغي أن يتعهد الدجاجة حينئذ بتقريب العلف منها. و قال شيخنا أبو عثمان الجاحظ رحمه الله في كتاب الحيوان إن الطاوسة قد تبيض من الريح بأن يكون في سفالة الريح و فوقها طاوس ذكر فيحمل ريحه فتبيض منه و كذلك القبجة. قال و بيض الريح قل أن يفرخ شرح نهج البلاغة ج : 9 ص : 27مِنْهَا فِي صِفَةِ الْجَنَّةِ فَلَوْ رَمَيْتَ بِبَصَرِ قَلْبِكَ نَحْوَ مَا يُوصَفُ لَكَ مِنْهَا لَعَزَفَتْ نَفْسُكَ عَنْ بَدَائِعِ مَا أُخْرِجَ إِلَى

(10/250)


الدُّنْيَا مِنْ شَهَوَاتِهَا وَ لَذَّاتِهَا وَ زَخَارِفِ مَنَاظِرِهَا وَ لَذَهِلَتْ بِالْفِكْرِ فِي اصْطِفَافِ أَشْجَارٍ غُيِّبَتْ عُرُوقُهَا فِي كُثْبَانِ الْمِسْكِ عَلَى سَوَاحِلِ أَنْهَارِهَا وَ فِي تَعْلِيقِ كَبَائِسِ اللُّؤْلُؤِ الرَّطْبِ فِي عَسَالِيجِهَا وَ أَفْنَانِهَا وَ طُلُوعِ تِلْكَ الثِّمَارِ مُخْتَلِفَةً فِي غُلُفِ أَكْمَامِهَا تُجْنَى مِنْ غَيْرِ تَكَلُّفٍ فَتَأْتِي عَلَى مُنْيَةِ مُجْتَنِيهَا وَ يُطَافُ عَلَى نُزَّالِهَا فِي أَفْنِيَةِ قُصُورِهَا بِالْأَعْسَالِ الْمُصَفَّقَةِ وَ الْخُمُورِ الْمُرَوَّقَةِ قَوْمٌ لَمْ تَزَلِ الْكَرَامَةُ تَتَمَادَى بِهِمْ حَتَّى حَلُّوا دَارَ الْقَرَارِ وَ أَمِنُوا نُقْلَةَ الْأَسْفَارِ فَلَوْ شَغَلْتَ قَلْبَكَ أَيُّهَا الْمُسْتَمِعُ بِالْوُصُولِ إِلَى مَا يَهْجُمُ عَلَيْكَ مِنْ تِلْكَ الْمَنَاظِرِ الْمُونِقَةِ لَزَهِقَتْ نَفْسُكَ شَوْقاً إِلَيْهَا وَ لَتَحَمَّلْتَ مِنْ مَجْلِسِي هَذَا إِلَى مُجَاوَرَةِ أَهْلِ الْقُبُورِ اسْتِعْجَالًا بِهَا جَعَلَنَا اللَّهُ وَ إِيَّاكُمْ مِمَّنْ يَسْعَى بِقَلْبِهِ إِلَى مَنَازِلِ الْأَبْرَارِ بِرَحْمَتِهِ
قال الرضي رحمه الله تعالى تفسير بعض ما في هذه الخطبة من الغريب قوله ع يؤر بملاقحه الأر كناية عن النكاح يقال أر الرجل المرأة يؤرها إذا نكحها. و قوله ع كأنه قلع داري عنجه نوتيه القلع شراع السفينة و داري منسوب إلى دارين و هي بلدة على البحر يجلب منها الطيب و عنجه أي عطفه يقال عنجت الناقة أعنجها عنجا إذا عطفتها و النوتي الملاح. شرح نهج البلاغة ج : 9 ص : 279و قوله ع ضفتي جفونه أراد جانبي جفونه و الضفتان الجانبان. و قوله و فلذ الزبرجد الفلذ جمع فلذة و هي القطعة. و قوله ع كبائس اللؤلؤ الرطب الكباسة العذق و العساج الغصون واحدها عسلوج

(10/251)


رميت ببصر قلبك أي أفكرت و تأملت و عزفت نفسك كرهت و زهدت و الزخارف جمع زخرف و هو الذهب و كل مموه. و اصطفاف الأشجار انتظامها صفا و يروى في اصطفاق أغصان أي اضطرابها. و يأتي على منية مجتنيها لا يترك له منية أصلا لأنه يكون قد بلغ نهاية الأماني. و العسل المصفق المصفى تحويلا من إناء إلى إناء و المونقة المعجبة و زهقت نفسه مات. و اعلم أنه لا مزيد في التشويق إلى الجنة على ما ذكره الله تعالى في كتابه فكل الصيد في جانب الفرا. شرح نهج البلاغة ج : 9 ص : 280و قد جاء عن رسول الله ص في ذلك أخبار صحيحة فروى أسامة بن زيد قال سمعت رسول الله ص يذكر الجنة فقال أ لا مشتر لها هي و رب الكعبة ريحانة تهتز و نور يتلألأ و نهر يطرد و زوجة لا تموت مع حبور و نعيم و مقام الأبد و روى أبو سعيد الخدري عنه ص أن الله سبحانه لما حوط حائط الجنة لبنة من ذهب و لبنة من فضة و غرس غرسها قال لها تكلمي فقالت قد أفلح المؤمنون فقال طوبى لك منزل الملوك
و روى جابر بن عبد الله عنه ع إذا دخل أهل الجنة الجنة قال لهم ربهم تعالى أ تحبون أن أزيدكم فيقولون و هل خير مما أعطيتنا فيقول نعم رضواني أكبر
و عنه ع إن أحدهم ليعطى قوة مائة رجل في الأكل و الشرب فقيل له فهل يكون منهم حدث أو قال خبث قال عرق يفيض من أعراضهم كريح المسك يضمر منه البطن
و روى الزمخشري في ربيع الأبرار و مذهبه في الاعتزال و نصرة أصحابنا معلوم و كذلك في انحرافه عن الشيعة و تسخيفه لمقالاتهم

(10/252)


أن رسول الله محمدا ص قال لما أسري بي أخذني جبرئيل فأقعدني على درنوك من درانيك الجنة ثم ناولني سفرجلة فبينا أنا أقلبها انفلقت فخرجت منها جارية لم أر أحسن منها فسلمت فقلت من أنت قالت أنا الراضية المرضية خلقني الجبار من ثلاثة أصناف أعلاي من عنبر شرح نهج الاغة ج : 9 ص : 281و أوسطي من كافور و أسفلي من مسك ثم عجنني بماء الحيوان و قال لي كوني كذا فكنت خلقني لأخيك و ابن عمك علي بن أبي طالب
قلت الدرنوك ضرب من البسط ذو خمل و يشبه به فروة البعير قال الراجز
جعد الدرانيك رفل الأجلاد
شرح نهج البلاغة ج : 9 ص : 167282- و من خطبة له علِيَتَأَسَّ صَغِيرُكُمْ بِكَبِيرِكُمْ وَ لْيَرْأَفْ كَبِيرُكُمْ بِصَغِيرِكُمْ وَ لَا تَكُونُوا كَجُفَاةِ الْجَاهِلِيَّةِ لَا فِي الدِّينِ يَتَفَقَّهُونَ وَ لَا عَنِ اللَّهِ يَعْقِلُونَ كَقَيْضِ بَيْضٍ فِي أَدَاحٍ يَكُونُ كَسْرُهَا وِزْراً وَ يُخْرِجُ حِضَانُهَا شَرّاً

(10/253)


أمرهم ع أن يتأسى الصغير منهم بالكبير في أخلاقه و آدابه فإن الكبير لكثرة التجربة أحزم و أكيس و أن يرأف الكبير بالصغير و الرأفة الرحمة لأن الصغير مظنة الضعف و الرقة. ثم نهاهم عن خلق الجاهلية في الجفاء و القسوة و قال إنهم لا يتفقهون في دين و لا يعقلون عن الله ما يأمرهم به و هذا من قول الله سبحانه صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَعْقِلُونَ و روي تتفقهون بتاء الخطاب. ثم شبههم ببيض الأفاعي في الأعشاش يظن بيض القطا فلا يحل لمن رآه أن يكسره لأنه يظنه بيض القطا و حضانه يخرج شرا لأنه يفقص عن أفعى. شرح نهج البلاغة ج 9 ص : 283و استعار لفظة الأداحي للأعشاش مجازا لأن الأداحي لا تكون إلا للنعام تدحوها بأرجلها و تبيض فيها و دحوها توسيعها من دحوت الأرض. و القيض الكسر و الفلق قضت القارورة و البيضة و انقاضت هي و انقاض الجدار انقياضا أي تصدع من غير أن يسقط فإن سقط قيل تقيض تقيضا و تقوض تقوضا و قوضته أنا و تقول للبيضة إذا تكسرت فلقا تقيضت تقيضا فإن تصدعت و لم تنفلق قلت انقاضت فهي منقاضة و القارورة مثله

(10/254)


مِنْهَا افْتَرَقُوا بَعْدَ أُلْفَتِهِمْ وَ تَشَتَّتُوا عَنْ أَصْلِهِمْ فَمِنْهُمْ آخِذٌ بِغُصْنٍ أَيْنَمَا مَالَ مَالَ مَعَهُ عَلَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى سَيَجْمَعُهُمْ لِشَرِّ يَوْمٍ لِبَنِي أُمَيَّةَ كَمَا يَجْتَمِعُ قَزَعُ الْخَرِيفِ يُؤَلِّفُ اللَّهُ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَجْمَعُهُمْ رُكَاماً كَرُكَامِ السَّحَابِ ثُمَّ يَفْتَحُ اللَّهُ لَهُمْ أَبْوَاباً يَسِيلُونَ مِنْ مُسْتَثَارِهِمْ كَسَيْلِ الْجَنَّتَيْنِ حَيْثُ لَمْ تَسْلَمْ عَلَيْهِ قَارَةٌ وَ لَمْ تَثْبُتْ عَلَيْهِ أَكَمَةٌ وَ لَمْ يَرُدَّ سُنَنَهُ رَصُّ طَوْدٍ وَ لَا حِدَابُ أَرْضٍ يُذَعْذِعُهُمُ اللَّهُ فِي بُطُونِ أَوْدِيَتِهِ ثُمَّ يَسْلُكُهُمْ يَنَابِيعَ فِي الْأَرْضِ يَأْخُذُ بِهِمْ مِنْ قَوْمٍ حُقُوقَ قَوْمٍ وَ يُمَكِّنُ لِقَوْمٍ فِي دِيَارِ قَوْمٍ وَ ايْمُ اللَّهِ لَيَذُوبَنَّ مَا فِي أَيْدِيهِمْ بَعْدَ الْعُلُوِّ وَ التَّمْكِينِ كَمَا تَذُوبُ الْأَلْيَةُ عَلَى النَّارِ أَيُّهَا النَّاسُ لَوْ لَمْ تَتَخَاذَلُوا عَنْ نَصْرِ الْحَقِّ وَ لَمْ تَهِنُوا عَنْ تَوْهِينِ الْبَاطِلِ لَمْ شرح نهج البلاغة ج : 9 ص : 284يَطْمَعْ فِيكُمْ مَنْ لَيْسَ مِثْلَمْ وَ لَمْ يَقْوَ مَنْ قَوِيَ عَلَيْكُمْ لَكِنَّكُمْ تِهْتُمْ مَتَاهَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَ لَعَمْرِي لَيُضَعَّفَنَّ لَكُمُ التِّيْهُ مِنْ بَعْدِي أَضْعَافاً بِمَا خَلَّفْتُمُ الْحَقَّ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ وَ قَطَعْتُمُ الْأَدْنَى وَ وَصَلْتُمُ الْأَبْعَدَ وَ اعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِنِ اتَّبَعْتُمُ الدَّاعِيَ لَكُمْ سَلَكَ بِكُمْ مِنْهَاجَ الرَّسُولِ وَ كُفِيتُمْ مَئُونَةَ الِاعْتِسَافِ وَ نَبَذْتُمُ الثِّقْلَ الْفَادِحَ عَنِ الْأَعْنَاقِ

(10/255)


هو ع يذكر حال أصحابه و شيعته بعده فيقول افترقوا بعد ألفتهم أي بعد اجتماعهم. و تشتتوا عن أصلهم أي عني بعد مفارقتي فمنهم آخذ بغصن أي يكون منهم من يتمسك بمن أخلفه بعدي من ذرية الرسول أينما سلكوا سلكوا معهم و تقدير الكلام و منهم من لا يكون هذه حاله لكنه لم يذكره ع اكتفاء بذكر القسم الأول لأنه دال على القسم الثاني. ثم قال على أن هؤلاء القوم من ثبت منهم على عقيدته فينا و من لم يثبت لا بد أن يجمعهم الله تعالى لشر يوم لبني أمية و كذا كان فإن الشيعة الهاشمية اجتمعت على إزالة ملك بني مروان من كان منهم ثابتا على ولاء علي بن أبي طالب ع و من حاد منهم عن ذلك و ذلك في أواخر أيام مروان الحمار عند ظهور الدعوة الهاشمية. و قزع الخريف جمع قزعة و هي سحب صغار تجتمع فتصير ركاما و هو ما كثف شرح نهج البلاغة ج : 9 ص : 285من السحاب و ركمت الشي ء أركمه إذا جمعته و ألقيت بعضه على بعض مستثارهم موضع ثورتهم. و الجنتان هما اللتان قال الله تعالى فيهما لَقَدْ كانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتانِ عَنْ يَمِينٍ وَ شِمالٍ و سلط الله عليهما السيل قال الله تعالى فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ فشبه ع سيلان الجيوش إلى بني أمية بالسيل المسلط على تينك الجنتين. فإنه لم تسلم عليه قارة و هي الجبيل الصغير و لم تثبت له أكمة و هي التلعة من الأرض. و لم يرد سننه أي طريقه طود مرصوص أي جبل شديد التصاق الأجزاء بعضها ببعض و لا حداب أرض جمع حدبة و هي الروابي و النجاد. ثم قال يذعذعهم الله الذعذعة بالذال المعجمة مرتين التفريق و ذعذعة الشر إذاعته. ثم يسلكهم ينابيع في الأرض من ألفاظ القرآن و المراد أنه كما أن الله تعالى ينزل من السماء ماء فيستكن في أعماق الأرض ثم يظهر منها ينابيع إلى ظاهرها كذلك هؤلاء القوم يفرقهم الله تعالى في بطون الأودية و غوامض الأغوار ثم شرح نهج البلاغة ج : 9 ص : 286يظهرهم بعد

(10/256)


الاختفاء فيأخذ بهم من قوم حقوق آخرين و يمكن منهم قوما من ملك قوم و ديارهم. ثم أقسم ليذوبن ما في أيدي بني أمية بعد علوهم و تمكينهم كما تذوب الألية على النار و همزة الألية مفتوحة و جمعها ألياتالتحريك و التثنية أليان بغير تاء قال الراجز
ترتج ألياه ارتجاج الوطب
و جمع الألية ألاء على فعال و كبش آلى على أفعل و نعجة ألياء و الجمع ألي على فعل و يقال أيضا كبش أليان بالتحريك و كباش أليانات و رجل أليأ أي عظيم الألية و امرأة عجزاء و لا تقل ألياء و قد قاله بعضهم و قد ألي الرجل بالكسر يألى عظمت أليته. ثم قال لو لا تخاذلكم لم يطمع فيكم من هو دونكم. و تهنوا مضارع وهن أي ضعف و هو من ألفاظ القرآن أيضا. و تهتم متاه بني إسرائيل حرتم و ضللتم الطريق و
قد جاء في المسانيد الصحيحة أن رسول الله ص قال لتركبن سنن من كان قبلكم حذو النعل بالنعل و القذة بالقذة حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه فقيل يا رسول الله اليهود و النصارى قال فمن إذا
و من الأخبار الصحيحة أيضا أ متهوكون أنتم كما تهوكت اليهود و النصارى
و في صحيحي البخاري و مسلم رحمهما الله أنه سيجاء يوم القيامة بأناس من أمتي شرح نهج البلاغة ج : 9 ص : 287فيؤخذ بهم ذات الشمال فإذا رأيتهم اختلجوا دوني قلت أي رب أصحابي فيقال لي إنك لا تدري ما عملوا بعدك فأقول ما قال العبد الصالح وَ كُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيد ما دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَ أَنْتَ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ شَهِيدٌ الإسناد في هذا الحديث عن ابن عباس رضي الله عنه و
في الصحيحين أيضا عن زينب بنت جحش قالت استيقظ رسول الله ص يوما من نومه محمرا وجهه و هو يقول لا إله إلا الله ويل للعرب من شر قد اقترب فقلت يا رسول الله أ نهلك و فينا الصالحون فقال نعم إذا كثر الخبث

(10/257)


و في الصحيحين أيضا يهلك أمتي هذا الحي من قريش قالوا يا رسول الله فما تأمرنا قال لو أن الناس اعتزلوهم
رواه أبو هريرة عنه ص.
ثم قال ع ليضعفن لكم التيه من بعدي
يعني الضلال يضعفه لكم الشيطان و أنفسكم بما خلفتم الحق وراء ظهوركم أي لأجل ترككم الحق و قطعكم الأدنى يعني نفسه و وصلكم الأبعد يعني معاوية و يروى إن اتبعتم الراعي لكم بالراء. و الاعتساف سلوك غير الطريق و الفادح الثقل فدحه الدين أثقله
شرح نهج البلاغة ج : 9 ص : 168288- و من خطبة له ع في أول خلافتهإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى سُبْحَانَهُ أَنْزَلَ كِتَاباً هَادِياً بَيَّنَ فِيهِ الْخَيْرَ وَ الشَّرَّ فَخُذُوا نَهْجَ الْخَيْرِ تَهْتَدُوا وَ اصْدِفُوا عَنْ سَمْتِ الشَّرِّ تَقْصِدُوا الْفَرَائِضَ الْفَرَائِضَ أَدُّوهَا إِلَى اللَّهِ تُؤَدِّكُمْ إِلَى الْجَنَّةِ إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَ حَرَاماً غَيْرَ مَجْهُولٍ وَ أَحَلَّ حَلَالًا غَيْرَ مَدْخُولٍ وَ فَضَّلَ حُرْمَةَ الْمُسْلِمِ عَلَى الْحُرَمِ كُلِّهَا وَ شَدَّ بِالْإِخْلَاصِ وَ التَّوْحِيدِ حُقُوقَ الْمُسْلِمِينَ فِي مَعَاقِدِهَا فَالْمُسْلِمُ مَنْ سَلِمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَ يَدِهِ إِلَّا بِالْحَقِّ وَ لَا يَحِلُّ أَذَى الْمُسْلِمِ إِلَّا بِمَا يَجِبُ بَادِرُوا أَمْرَ الْعَامَّةِ وَ خَاصَّةَ أَحَدِكُمْ وَ هُوَ الْمَوْتُ فَإِنَّ النَّاسَ أَمَامَكُمْ وَ إِنَّ السَّاعَةَ تَحْدُوكُمْ مِنْ خَلْفِكُمْ تَخَفَّفُوا تَلْحَقُوا فَإِنَّمَا يُنْتَظَرُ بِأَوَّلِكُمْ آخِرُكُمْ اتَّقُوا اللَّهَ فِي عِبَادِهِ وَ بِلَادِهِ فَإِنَّكُمْ مَسْئُولُونَ حَتَّى عَنِ الْبِقَاعِ وَ الْبَهَائِمِ وَ أَطِيعُوا اللَّهَ وَ لَا تَعْصُوهُ وَ إِذَا رَأَيْتُمُ الْخَيْرَ فَخُذُوا بِهِ وَ إِذَا رَأَيْتُمُ الشَّرَّ فَأَعْرِضُوا عَنْهُ

(10/258)


شرح نهج البلاغة ج : 9 ص : 289و اصدفوا عن سمت الشر أي أعرضوا عن طريقه تقصدوا أي تعدلوا و القصد العدل. ثم أمر بلزوم الفرائض من العبادات و المحافظة عليها كالصلاة و الزكاة و انتصب ذلك على الإغراء. ثم ذكر أن الحرام غير مجهول للمكلف بل معلوم و الحلال غير مدخوأي لا عيب و لا نقص فيه و أن حرمة المسلم أفضل من جميع الحرمات و هذا لفظ
الخبر النبوي حرمة المسلم فوق كل حرمة دمه و عرضه و ماله
قال ع و شد بالإخلاص و التوحيد حقوق المسلمين في معاقدها لأن الإخلاص و التوحيد داعيان إلى المحافظة على حقوق المسلمين صارفان عن انتهاك محارمهم. قال فالمسلم من سلم الناس هذا لفظ الخبر النبوي بعينه. قوله و لا يحل أذى المسلم إلا بما يجب أي إلا بحق و هو الكلام الأول و إنما أعاده تأكيدا. ثم أمر بمبادرة الموت و سماه الواقعة العامة لأنه يعم الحيوان كله ثم سماه خاصة أحدكم لأنه و إن كان عاما إلا أن له مع كل إنسان بعينه خصوصية زائدة على ذلك العموم. قوله فإن الناس أمامكم أي قد سبقوكم و الساعة تسوقكم من خلفكم. ثم أمر بالتخفف و هو القناعة من الدنيا باليسير و ترك الحرص عليها فإن المسافر الخفيف أحرى بالنجاة و لحاق أصحابه و بلوغ المنزل من الثقيل شرح نهج البلاغة ج : 9 ص : 290و قوله فإنما ينتظر بأولكم آخركم أي إنما ينتظر ببعث الموتى المتقدمين أن يموت الأواخر أيضا فيبعث الكل جميعا في وقت واحد. ثم ذكر أنهم مسئولون عن كل شي ء حتى عن البقاع لم استوطنتم هذه و زهدتم في هذه و لم أخربتم هذه الدار و عمرتذه الدار و حتى عن البهائم لم ضربتموها لم أجعتموها. و روي فإن البأس أمامكم يعني الفتنة و الرواية الأولى أظهر و
قد ورد في الأخبار النبوية لينتصفن للجماء من القرناء
و جاء في الخبر الصحيح إن الله تعالى عذب إنسانا بهر حبسه في بيت و أجاعه حتى هلك

(10/259)


شرح نهج البلاغة ج : 9 ص : 169291- و من كلام له ع بعد ما بويع له بالخلافةو قد قال له قوم من الصحابة لو عاقبت قوما ممن أجلب على عثمان فقال ع
يَا إِخْوَتَاهْ إِنِّي لَسْتُ أَجْهَلُ مَا تَعْلَمُونَ وَ لَكِنْ كَيْفَ لِي بِقُوَّةٍ وَ الْقَوْمُ الْمُجْلِبُونَ عَلَى حَدِّ شَوْكَتِهِمْ يَمْلِكُونَنَا وَ لَا نَمْلِكُهُمْ وَ هَا هُمْ هَؤُلَاءِ قَدْ ثَارَتْ مَعَهُمْ عِبْدَانُكُمْ وَ الْتَفَّتْ إِلَيْهِمْ أَعْرَابُكُمْ وَ هُمْ خِلَالَكُمْ يَسُومُونَكُمْ مَا شَاءُوا وَ هَلْ تَرَوْنَ مَوْضِعاً لِقُدْرَةٍ عَلَى شَيْ ءٍ تُرِيدُونَهُ إِنَّ هَذَا الْأَمْرَ أَمْرُ جَاهِلِيَّةٍ وَ إِنَّ لِهَؤُلَاءِ الْقَوْمِ مَادَّةً إِنَّ النَّاسَ مِنْ هَذَا الْأَمْرِ إِذَا حُرّكَ عَلَى أُمُورٍ فِرْقَةٌ تَرَى مَا تَرَوْنَ وَ فِرْقَةٌ تَرَى مَا لَا تَرَوْنَ وَ فِرْقَةٌ لَا تَرَى هَذَا وَ لَا هَذَا فَاصْبِرُوا حَتَّى يَهْدَأَ النَّاسُ وَ تَقَعَ الْقُلُوبُ مَوَاقِعَهَا وَ تُؤْخَذَ الْحُقُوقُ مُسْمَحَةً فَاهْدَءُوا عَنِّي وَ انْظُرُوا مَا ذَا يَأْتِيكُمْ بِهِ أَمْرِي وَ لَا تَفْعَلُوا فَعْلَةً تُضَعْضِعُ قُوَّةً وَ تُسْقِطُ مُنَّةً وَ تُورِثُ وَهْناً وَ ذِلَّةً وَ سَأُمْسِكُ الْأَمْرَ مَا اسْتَمْسَكَ وَ إِذَا لَمْ أَجِدْ بُدّاً فَآخِرُ الدَّوَاءِ الْكَيُّ
أجلب عليه أعان عليه و أجلبه أعانه و الألف في يا إخوتاه بدل من ياء الإضافة و الهاء للسكت. شرح نهج البلاغة ج : 9 ص : 292و على حد شوكتهم شدتهم أي لم تنكسر سورتهم. و العبدان جمع عبد بالكسر مثل جحش و جحشان و جاء عبدان بالضم مثل تمر و تمران و جاء عبيد مثل كلب كليب و هو جمع عزيز و جاء أعبد و عباد و عبدان مشددة الدال و عبداء بالمد و عبدى بالقصر و معبوداء بالمد و عبد بالضم مثل سقف و سقف و أنشدوا
أنسب العبد إلى آبائه أسود الجلدة من قوم عبد

(10/260)


و منه قرأ بعضهم وَ عَبَدَ الطَّاغُوتَ و أضافه. قوله و التفت إليهم أعرابكم انضمت و اختلطت بهم. و هم خلالكم أي بينكم يسومونكم ما شاءوا يكلفونكم قال تعالى يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ. و تؤخذ الحقوق مسمحة من أسمح أي ذل و انقاد. فاهدءوا عني أي فاسكنوا هدأ الرجل هدءا و هدوءا أي سكن و أهدأه غيره و تضعضع قوة تضعف و تهد ضعضعت البناء هددته و المنة القوة و الوهن الضعف و آخر الدواء الكي مثل مشهور و يقال آخر الطب و يغلط فيه العامة فتقول آخر الداء و الكي ليس من الداء ليكون آخره شرح نهج البلاغة ج : 9 ص : 29موقف علي من قتلة عثمان

(10/261)


و اعلم أن هذا الكلام يدل على أنه ع كان في نفسه عقاب الذين حصروا عثمان و الاقتصاص ممن قتله إن كان بقي ممن باشر قتله أحد و لهذا قال إني لست أجهل ما تعلمون فاعترف بأنه عالم بوجوب ذلك و اعتذر بعدم التمكن كما ينبغي و صدق ع فإن أكثر أهل المدينة أجلبوا عليه و كان من أهل مصر و من الكوفة عالم عظيم حضروا من بلادهم و طووا المسالك البعيدة لذلك و انضم إليهم أعراب أجلاف من البادية و كان الأمر أمر جاهلية كما قال ع و لو حرك ساكنا لاختلف الناس و اضطربوا فقوم يقولون أصاب و قوم يقولون أخطأ و قوم لا يحكمون بصواب و لا خطأ بل يتوقفون و لا يأمن لو شرع في عقوبة الناس و القبض عليهم من تجدد فتنة أخرى كالأولى و أعظم فكان الأصوب في التدبير و الذي يوجبه الشرع و العقل الإمساك إلى حين سكون الفتنة و تفرق تلك الشعوب و عود كل قوم إلى بلادهم و كان ع يؤمل أن يطيعه معاوية و غيره و أن يحضر بنو عثمان عنده يطالبون بدم أبيهم و يعينون قوما بأعيانهم بعضهم للقتل و بعضهم للحصار و بعضهم للتسور كما جرت عادة المتظلمين إلى الإمام و القاضي فحينئذ يتمكن من العمل بحكم الله تعالى فلم يقع الأمر بموجب ذلك و عصى معاوية و أهل الشام و التجأ ورثة عثمان إليه و فارقوا حوزة أمير المؤمنين ع و لم يطلبوا القصاص طلبا شرعيا و إنما طلبوه مغالبة و جعلها معاوية عصبية الجاهلية و لم يأت أحد منهم الأمر من بابه و قبل ذلك ما كان من أمر طلحة و الزبير و نقضهما البيعة و نهبهما أموال المسلمين بالبصرة و قتلهما الصالحين من أهلها و جرت أمور كلها تمنع الإمام عن التصدي للقصاص و اعتماد ما يجب اعتماده لو كان الأمر وقع على القاعدة شرح نهج البلاغة ج : 9 ص : 294الصحيحة من المطالبة بذلك على وجه السكون و الحكومة و قد قال هو ع لمعاوية فأما طلبك قتلة عثمان فادخل في الطاعة و حاكم القوم إلي أحملك و إيا على كتاب الله و سنة رسوله. قال أصحابنا المعتزلة رحمهم الله و هذا

(10/262)


عين الحق و محض الصواب لأنه يجب دخول الناس في طاعة الإمام ثم تقع المحاكمة إليه فإن حكم بالحق استديمت إمامته و إن حكم بالجور انتقض أمره و تعين خلعه. فإن قلت فما معنى قوله و سأمسك الأمر ما استمسك فإذا لم أجد بدا فآخر الدواء الكي. قلت ليس معناه و سأصبر عن معاقبة هؤلاء ما أمكن الصبر فإذا لم أجد بدا عاقبتهم و لكنه كلام قاله أول مسير طلحة و الزبير إلى البصرة فإنه حينئذ أشار عليه قوم بمعاقبة المجلبين فاعتذر بما قد ذكر ثم قال و سأمسك الأمر ما استمسك أي أمسك نفسي عن محاربة هؤلاء الناكثين للبيعة ما أمكنني و أدفع الأيام بمراسلتهم و تخويفهم و إنذارهم و أجتهد في ردهم إلى الطاعة بالترغيب و الترهيب فإذا لم أجد بدا من الحرب فآخر الدواء الكي أي الحرب لأنها الغاية التي ينتهي أمر العصاة إليها

(10/263)


شرح نهج البلاغة ج : 9 ص : 170295- و من خطبة له ع عند مسير أصحاب الجمل إلى البصرةإِنَّ اللَّهَ بَعَثَ رَسُولًا هَادِياً بِكِتَابٍ نَاطِقٍ وَ أَمْرٍ قَائِمٍ لَا يَهْلِكُ عَنْهُ إِلَّا هَالِكٌ وَ إِنَّ الْمُبْتَدَعَاتِ الْمُشَبَّهَاتِ هُنَّ الْمُهْلِكَاتُ إِلَّا مَا حَفِظَ اللَّهُ مِنْهَا وَ إِنَّ فِي سُلْطَانِ اللَّهِ عِصْمَةً لِأَمْرِكُمْ فَأَعْطُوهُ طَاعَتَكُمْ غَيْرَ مُلَوَّمَةٍ وَ لَا مُسْتَكْرَهٍ بِهَا وَ اللَّهِ لَتَفْعَلُنَّ أَوْ لَيَنْقُلَنَّ اللَّهُ عَنْكُمْ سُلْطَانَ الْإِسْلَامِ ثُمَّ لَا يَنْقُلُهُ إِلَيْكُمْ أَبَداً حَتَّى يَأْرِزَ الْأَمْرُ إِلَى غَيْرِكُمْ إِنَّ هَؤُلَاءِ قَدْ تَمَالَئُوا عَلَى سَخْطَةِ إِمَارَتِي وَ سَأَصْبِرُ مَا لَمْ أَخَفْ عَلَى جَمَاعَتِكُمْ فَإِنَّهُمْ إِنْ تَمَّمُوا عَلَى فَيَالَةِ هَذَا الرَّأْيِ انْقَطَعَ نِظَامُ الْمُسْلِمِينَ وَ إِنَّمَا طَلَبُوا هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَداً لِمَنْ أَفَاءَهَا اللَّهُ عَلَيْهِ فَأَرَادُوا رَدَّ الْأُمُورِ عَلَى أَدْبَارِهَا وَ لَكُمْ عَلَيْنَا الْعَمَلُ بِكِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى وَ سُنَّةِ رَسُولِهِ ص وَ الْقِيَامُ بِحَقِّهِ وَ النَّعْشُ لِسُنَّتِهِ

(10/264)


و أمر قائم أي مستقيم ليس بذي عوج لا يهلك عنه إلا هالك تقديره لا يهلك عادلا عنه إلا هالك و هذا كما تقول لا يعلم هذا الفن إلا عالم أي من قد بلغ الغاية شرح نهج البلاغة ج : 9 ص : 296في العلم و استحق أن يوصف بذلك و يشار إليه فيه كذلك لا يهلك بعدوله عنه إلا منو أعظم الهالكين و من يشار إليه بالهلاك و قد بلغ الغاية في الهلاك. ثم قال إن المبتدعات المشبهات هن المهلكات المبتدعات ما أحدث و لم يكن على عهد الرسول و المشبهات التي تشبه السنن و ليست منها أي المشبهات بالسنن و روي المشبهات بالكسر أي المشبهات على الناس يقال قد شبه عليه الأمر أي ألبس عليه و يروى المشتبهات أي الملتبسات لا يعرف حقها من باطلها. قال إلا من حفظ الله أي من عصمه الله بألطاف يمتنع لأجلها عن الخطأ ثم أمرهم بلزوم الطاعة و اتباع السلطان و قال إن فيه عصمة لأمركم فأعطوه طاعتكم غير ملومة أي مخلصين ذوي طاعة محضة لا يلام باذلها أي لا ينسب إلى النفاق و لا مستكره بها أي ليست عن استكراه بل يبذلونها اختيارا و محبة و يروى غير ملوية أي معوجة من لويت العود. ثم أقسم أنهم إن لم يفعلوا و إلا نقل الله عنهم سلطان الإسلام يعني الخلافة ثم لا يعيده إليهم أبدا حتى يأرز الأمر إلى غيرهم أي حتى ينقبض و ينضم و يجتمع و
في الحديث إن الإسلام ليأرز إلى المدينة كما تأرز الحية إلى جحرها

(10/265)


فإن قلت كيف قال إنه لا يعيده إليهم أبدا و قد عاد إليهم بالخلافة العباسية. قلت لأن الشرط لم يقع و هو عدم الطاعة فإن أكثرهم أطاعوه طاعة غير ملومة و لا مستكره بها و إذا لم يتحقق الشرط لم يتحقق المشروط. شرح نهج البلاغة ج : 9 ص : 297و قد أجاب قوم عن هذا فقالوخاطب الشيعة الطالبية فقال إن لم تعطوني الطاعة المحضة نقل الله الخلافة عن هذا البيت حتى يأرز و ينضم إلى بيت آخر و هكذا وقع فإنها انضمت إلى بيت آخر من بني هاشم. و أجاب قوم آخرون فقالوا أراد بقوله أبدا المبالغة كما تقول احبس هذا الغريم أبدا و المراد بالقوم الذين يأرز الأمر إليهم بنو أمية كأنه قال إن لم تفعلوا نقل الله الخلافة عنكم حتى يجعلها في قوم آخرين و هم أعداؤكم من أهل الشام و بني أمية و لا يعيده إليكم إلى مدة طويلة و هكذا وقع. و قد تمالئوا قد اجتمعوا و تساعدوا على سخطة إمارتي على كراهيتها و بغضها. ثم وعد بالصبر عليهم ما لم يخف من فرقة الجماعة و انتشار حبل الإسلام. و فيالة الرأي ضعفه و كذلك فيولته و رجل فيل الرأي أي ضعيفه قال
بني رب الجواد فلا تفيلوا فما أنتم فنعذركم لفيل
أي لستم على رجل ضعيف الرأي و الجمع أفيال و يقال أيضا رجل فال قال
رأيتك يا أخيطل إذ جرينا و جربت الفراسة كنت فالا

(10/266)


قال إن تموا على هذا الرأي الضعيف قطعوا نظام المسلمين و فرقوا جماعتهم. ثم ذكر أن الحسد دعاهم إلى ذلك و أفاءها عليه ردها عليه فاء يفي ء رجع و فلان سريع الفي ء من غضبه أي سريع الرجوع و إنه لحسن الفيئة بالكسر مثال الفيعة أي حسن الرجوع و هذا الكلام لا يشعر بأ ع كان يعتقد أن الأمر له و أنه غلب عليه ثم رجع إليه و لكنه محمول على أنه من رسول الله ص بمنزلة الجزء من الكل و أنهما من جوهر واحد فلما كان الوالي قديما و هو رسول الله ص شرح نهج البلاغة ج : 9 ص : 298ثم تخلل بين ولايته ص و ولاية أمير المؤمنين ع ولايات غريبسمى ولايته فيئا و رجوعا لأنها رجعت إلى الدوحة الهاشمية و بهذا يجب أن يتأول قوله فأرادوا رد الأمور على أدبارها أي أرادوا انتزاع الخلافة من بني هاشم كما انتزعت أولا و إقرارها في بيوت بعيدة عن هذا البيت أسوة بما وقع من قبل. و النعش مصدر نعش أي رفع و لا يجوز أنعش

(10/267)


شرح نهج البلاغة ج : 9 ص : 171299- و من كلام له ع كلم به بعض العربوَ قَدْ أَرْسَلَهُ قَوْمٌ مِنْ أَهْلِ الْبَصْرَةِ لَمَّا قَرُبَ ع مِنْهَا لِيَعْلَمَ لَهُمْ مِنْهُ حَقِيقَةَ حَالِهِ مَعَ أَصْحَابِ الْجَمَلِ لِتَزُولَ الشُّبْهَةُ مِنْ نُفُوسِهِمْ فَبَيَّنَ لَهُ ع مِنْ أَمْرِهِ مَعَهُمْ مَا عَلِمَ بِهِ أَنَّهُ عَلَى الْحَقِّ ثُمَّ قَالَ لَهُ بَايِعْ فَقَالَ إِنِّي رَسُولُ قَوْمٍ وَ لَا أُحْدِثُ حَدَثاً حَتَّى أَرْجِعَ إِلَيْهِمْ فَقَالَ ع أَ رَأَيْتَ لَوْ أَنَّ الَّذِينَ وَرَاءَكَ بَعَثُوكَ رَائِداً تَبْتَغِي لَهُمْ مَسَاقِطَ الْغَيْثِ فَرَجَعْتَ إِلَيْهِمْ وَ أَخْبَرْتَهُمْ عَنِ الْكَلَإِ وَ الْمَاءِ فَخَالَفُوا إِلَى الْمَعَاطِشِ وَ الْمَجَادِبِ مَا كُنْتَ صَانِعاً قَالَ كُنْتُ تَارِكَهُمْ وَ مُخَالِفَهُمْ إِلَى الْكَلَإِ وَ الْمَاءِ فَقَالَ ع فَامْدُدْ إِذاً يَدَكَ فَقَالَ الرَّجُلُ فَوَاللَّهِ مَا اسْتَطَعْتُ أَنْ أَمْتَنِعَ عِنْدَ قِيَامِ الْحُجَّةِ عَلَيَّ فَبَايَعْتُهُ ع وَ الرَّجُلُ يُعْرَفُ بِكُلَيْبٍ الْجَرْمِيِّ

(10/268)


الجرمي منسوب إلى بني جرم بن ربان بن حلوان بن عمران بن الحاف بن قضاعة من حمير و كان هذا الرجل بعثه قوم من أهل البصرة إليه ع شرح نهج البلاغة ج : 9 ص : 300يستعلم حاله أ هو على حجة أم على شبهة فلما رآه ع و سمع لفظه علم صدقه و برهانه فكان بينهما ما قد شرحه ع. لا شي ء ألطف و لا أوقع و لا أوضح من المثال الذي ضربه ع و هو حجة لازمة لا مدفع لها. قوله و لا أحدث حدثا أي لا أفعل ما لم يأمروني به إنما أمرت باستعلام حالك فقط فأما المبايعة لك فإن أحدثتها كنت فاعلا ما لم أندب له. و مساقط الغيث المواضع التي يسقط الغيث فيه و الكلأ النبت إذا طال و أمكن أن يرعى و أول ما يظهر يسمى الرطب فإذا طال قليلا فهو الخلى فإذا طال شيئا آخر فهو الكلأ فإذا يبس فهو الحشيش. و المعاطش و المجادب مواضع العطش و الجدب و هو المحل

(10/269)


شرح نهج البلاغة ج : 9 ص : 172301- و من كلام له ع لما عزم على لقاء القوم بصفيناللَّهُمَّ رَبَّ السَّقْفِ الْمَرْفُوعِ وَ الْجَوِّ الْمَكْفُوفِ الَّذِي جَعَلْتَهُ مَغِيضاً لِلَّيْلِ وَ النَّهَارِ وَ مَجْرًى لِلشَّمْسِ وَ الْقَمَرِ وَ مُخْتَلَفاً لِلنُّجُومِ السَّيَّارَةِ وَ جَعَلْتَ سُكَّانَهُ سِبْطاً مِنْ مَلَائِكَتِكَ لَا يَسْأَمُونَ مِنْ عِبَادَتِكَ وَ رَبَّ هَذِهِ الْأَرْضِ الَّتِي جَعَلْتَهَا قَرَاراً لِلْأَنَامِ وَ مَدْرَجاً لِلْهَوَامِّ وَ الْأَنْعَامِ وَ مَا لَا يُحْصَى مِمَّا يُرَى وَ مَا لَا يُرَى وَ رَبَّ الْجِبَالِ الرَّوَاسِي الَّتِي جَعَلْتَهَا لِلْأَرْضِ أَوْتَاداً وَ لِلْخَلْقِ اعْتِمَاداً إِنْ أَظْهَرْتَنَا عَلَى عَدُوِّنَا فَجَنِّبْنَا الْبَغْيَ وَ سَدِّدْنَا لِلْحَقِّ وَ إِنْ أَظْهَرْتَهُمْ عَلَيْنَا فَارْزُقْنَا الشَّهَادَةَ وَ اعْصِمْنَا مِنَ الْفِتْنَةِ أَيْنَ الْمَانِعُ لِلذِّمَارِ وَ الْغَائِرُ عِنْدَ نُزُولِ الْحَقَائِقِ مِنْ أَهْلِ الْحِفَاظِ الْعَارُ وَرَاءَكُمْ وَ الْجَنَّةُ أَمَامَكُمْ

(10/270)


السقف المرفوع السماء و الجو المكفوف السماء أيضا كفه أي جمعه و ضم بعضه إلى بعض و يمر في كلامه نحو هذا و إن السماء هواء جامد أو ماء جامد. و جعلته مغيضا لليل و النهار أي غيضة لهما و هي في الأصل الأجمة يجتمع إليها الماء شرح نهج البلاغة ج : 9 ص : 302فتسمى غيضو مغيضا و ينبت فيها الشجر كأنه جعل الفلك كالغيضة و الليل و النهار كالشجر النابت فيها. و وجه المشاركة أن المغيض أو الغيضة يتولد منهما الشجر و كذلك الليل و النهار يتولدان من جريان الفلك. ثم عاد فقال و مجرى للشمس و القمر أي موضعا لجريانهما. و مختلفا للنجوم السيارة أي موضعا لاختلافها و اللام مفتوحة. ثم قال جعلت سكانه سبطا من ملائكتك أي قبيلة قال تعالى اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْباطاً أُمَماً. لا يسأمون لا يملون و قرارا للأنام أي موضع استقرارهم و سكونهم و مدرجا للهوام أي موضع دروجهم و سيرهم و حركاتهم و الهوام الحشرات و المخوف من الأحناش. و ما لا يحصى أي لا يضبط بالإحصاء و العد مما نراه و نعرفه و ما لا نراه و لا نعرفه. و قال بعض العلماء إن أردت أن تعرف حقيقة قوله مما يرى و ما لا يرى فأوقد نارا صغيرة في فلاة في ليلة صيفية و انظر ما يجتمع عليها من الأنواع الغريبة العجيبة الخلق التي لم تشاهدها أنت و لا غيرك قط. قوله و للخلق اعتمادا لأنهم يجعلونها كالمساكن لهم فينتفعون بها و يبنون منازل إلى جانبها فيقوم مقام جدار قد استغنوا عن بنيانه و لأنها أمهات العيون و منابع المياه باعتماد الخلق على مرافقهم و منافعهم و مصالحهم عليها. شرح نهج البلاغة ج : 9 ص : 303قوله و سددنا للحق أي صوبنا إليه من قولك منهم سديد أي مصيب و سدد السنان إلى القرن أي صوبه نحوه. و الذمار ما يحامى عنه و الغائر ذو الغيرة و نزول الحقائق نزول الأمور الشديدة كالحرب و نحوها. ثم قال العار وراءكم أي إن رجعتم القهقرىاربين. و الجنة أمامكم أي إن أقدمتم على العدو مجاهدين و هذا الكلام

(10/271)


شريف جدا
شرح نهج البلاغة ج : 9 ص : 173304- و من خطبة له عالْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَا تُوَارِي عَنْهُ سَمَاءٌ سَمَاءً وَ لَا أَرْضٌ أَرْضاً
هذا الكلام يدل على إثبات أرضين بعضها فوق بعض كما أن السماوات كذلك و لم يأت في الكتاب العزيز ما يدل على هذا إلا قوله تعالى اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ وَ مِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ و هو قول كثير من المسلمين. و قد تأول ذلك أرباب المذهب الآخر القائلون بأنها أرض واحدة فقالوا إنها سبعة أقاليم فالمثلية هي من هذا الوجه لا من تعدد الأرضين في ذاتها. و يمكن أن يتأول مثل ذلك كلام أمير المؤمنين ع فيقال إنها و إن كانت أرضا واحدة لكنها أقاليم و أقطار مختلفة و هي كرية الشكل فمن على حدبة الكرة لا يرى من تحته و من تحته لا يراه و من على أحد جانبيها لا يرى من على الجانب الآخر و الله تعالى يدرك ذلك كله أجمع و لا يحجب عنه شي ء منها بشي ء منها. فأما قوله ع لا تواري عنه سماء سماء فلقائل أن يقول و لا يتوارى شي ء من السماوات عن المدركين منا لأنها شفافة فأي خصيصة للباريالى في ذلك فينبغي أن يقال هذا الكلام على قاعدة غير القاعدة الفلسفية بل هو على قاعدة شرح نهج البلاغة ج : 9 ص : 305الشريعة الإسلامية التي تقتضي أن السماوات تحجب ما وراءها عن المدركين بالحاسة و أنها ليست طباقا متراصة بل بينها خلق من خلق الله تعالى لا يعلمهميره و اتباع هذا القول و اعتقاده أولى

(10/272)


منهاوَ قَدْ قَالَ قَائِلٌ إِنَّكَ عَلَى هَذَا الْأَمْرِ يَا ابْنَ أَبِي طَالِبٍ لَحَرِيصٌ فَقُلْتُ بَلْ أَنْتُمْ وَ اللَّهِ لَأَحْرَصُ وَ أَبْعَدُ وَ أَنَا أَخَصُّ وَ أَقْرَبُ وَ إِنَّمَا طَلَبْتُ حَقّاً لِي وَ أَنْتُمْ تَحُولُونَ بَيْنِي وَ بَيْنَهُ وَ تَضْرِبُونَ وَجْهِي دُونَهُ فَلَمَّا قَرَّعْتُهُ بِالْحُجَّةِ فِي الْمَلَإِ الْحَاضِرِينَ هَبَّ كَأَنَّهُ بُهِتَ لَا يَدْرِي مَا يُجِيبُنِي بِهِ اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْتَعْدِيكَ عَلَى قُرَيْشٍ وَ مَنْ أَعَانَهُمْ فَإِنَّهُمْ قَطَعُوا رَحِمِي وَ صَغَّرُوا عَظِيمَ مَنْزِلَتِيَ وَ أَجْمَعُوا عَلَى مُنَازَعَتِي أَمْراً هُوَ لِي ثُمَّ قَالُوا أَلَا إِنَّ فِي الْحَقِّ أَنْ تَأْخُذَهُ وَ فِي الْحَقِّ أَنْ تَتْرُكَهُ

(10/273)


هذا من خطبة يذكر فيها ع ما جرى يوم الشورى بعد مقتل عمر و الذي قال له إنك على هذا الأمر لحريص سعد بن أبي وقاص مع روايته فيه أنت مني بمنزلة هارون من موسى و هذا عجب فقال لهم بل أنتم و الله أحرص و أبعد... الكلام المذكور و قد رواه الناس كافة. و قالت الإمامية هذا الكلام يوم السقيفة و الذي قال له إنك على هذا الأمر لحريص أبو عبيدة بن الجراح و الرواية الأولى أظهر و أشهر. شرح نهج البلاغة ج : 9 ص : 306و روي فلما قرعته بالتخفيف أي صدمته بها. و روي هب لا يدري ما يجيبني كما تقول استيقظ و انتبه كأنه كان غافلا ذاهلا عن اجة فهب لما ذكرتها. أستعديك أطلب أن تعديني عليهم و أن تنتصف لي منهم. قطعوا رحمي لم يرعوا قربه من رسول الله ص. و صغروا عظيم منزلتي لم يقفوا مع النصوص الواردة فيه. و أجمعوا على منازعتي أمرا هو لي أي بالأفضلية أنا أحق به منهم هكذا ينبغي أن يتأول كلامه. و كذلك قوله إنما أطلب حقا لي و أنتم تحولون بيني و بينه و تضربون وجهي دونه. قال ثم قالوا ألا إن في الحق أن تأخذه و في الحق أن تتركه قال لم يقتصروا على أخذ حقي ساكتين عن الدعوى و لكنهم أخذوه و ادعوا أن الحق لهم و أنه يجب علي أن أترك المنازعة فيه فليتهم أخذوه معترفين بأنه حقي فكانت المصيبة به أخف و أهون. و اعلم أنه قد تواترت الأخبار عنه ع بنحو من هذا القول نحو
قوله ما زلت مظلوما منذ قبض الله رسوله حتى يوم الناس هذا
و قوله اللهم أخز قريشا فإنها منعتني حقي و غصبتني أمري
و قوله فجزى قريشا عني الجوازي فإنهم ظلموني حقي و اغتصبوني سلطان ابن أمي
شرح نهج البلاغة ج : 9 ص : 307و قوله و قد سمع صارخا ينادي أنا مظلوم فقال هلم فلنصرخ معا فإني ما زلت مظلوماو قوله و إنه ليعلم أن محلي منها محل القطب من الرحى
و قوله أرى تراثي نهبا
و قوله أصغيا بإنائنا و حملا الناس على رقابنا

(10/274)


و قوله إن لنا حقا إن نعطه نأخذه و إن نمنعه نركب أعجاز الإبل و إن طال السرى
و قوله ما زلت مستأثرا علي مدفوعا عما أستحقه و أستوجبه
و أصحابنا يحملون ذلك كله على ادعائه الأمر بالأفضلية و الأحقية و هو الحق و الصواب فإن حمله على الاستحقاق بالنص تكفير أو تفسيق لوجوه المهاجرين و الأنصار و لكن الإمامية و الزيدية حملوا هذه الأقوال على ظواهرها و ارتكبوا بها مركبا صعبا و لعمري إن هذه الألفاظ موهمة مغلبة على الظن ما يقوله القوم و لكن تصفح الأحوال يبطل ذلك الظن و يدرأ ذلك الوهم فوجب أن يجري مجرى الآيات المتشابهات الموهمة ما لا يجوز على البارئ فإنه لا نعمل بها و لا نعول على ظواهرها لأنا لما تصفحنا أدلة العقول اقتضت العدول عن ظاهر اللفظ و أن تحمل على التأويلات المذكورة في الكتب. و حدثني يحيى بن سعيد بن علي الحنبلي المعروف بابن عالية من ساكني قطفتا بالجانب الغربي من بغداد و أجد الشهود المعدلين بها قال كنت حاضرا مجلس الفخر إسماعيل بن علي الحنبلي الفقيه المعروف بغلام بن المنى و كان الفخر إسماعيل بن علي هذا مقدم شرح نهج البلاغة ج : 9 ص : 308الحنابلة ببغداد في الفقه و الخلاف و يشتغل بشي ء في علم المنطق و كان حلو العبارة و قد رأيته أنا و حضرت عنده و سمعت كلامه و توفي سنة عشر و ستمائة. قال ابن عالية و نحن عنده نتحدث إذ دخل شخص من الحنابلة قد كان له دين علعض أهل الكوفة فانحدر إليه يطالبه به و اتفق أن حضرت زيارة يوم الغدير و الحنبلي المذكور بالكوفة و هذه الزيارة هي اليوم الثامن عشر من ذي الحجة و يجتمع بمشهد أمير المؤمنين ع من الخلائق جموع عظيمة تتجاوز حد الإحصاء. قال ابن عالية فجعل الشيخ الفخر يسأل ذلك الشخص ما فعلت ما رأيت هل وصل مالك إليك هل بقي لك منه بقية عند غريمك و ذلك يجاوبه حتى قال له يا سيدي لو شاهدت يوم الزيارة يوم الغدير و ما يجري عند قبر علي بن أبي طالب من الفضائح و الأقوال الشنيعة و

(10/275)


سب الصحابة جهارا بأصوات مرتفعة من غير مراقبة و لا خيفة فقال إسماعيل أي ذنب لهم و الله ما جراهم على ذلك و لا فتح لهم هذا الباب إلا صاحب ذلك القبر فقال ذلك الشخص و من صاحب القبر قال علي بن أبي طالب قال يا سيدي هو الذي سن لهم ذلك و علمهم إياه و طرقهم إليه قال نعم و الله قال يا سيدي فإن كان محقا فما لنا أن نتولى فلانا و فلانا و إن كان مبطلا فما لنا نتولاه ينبغي أن نبرأ إما منه أو منهما. قال ابن عالية فقام إسماعيل مسرعا فلبس نعليه و قال لعن الله إسماعيل الفاعل إن كان يعرف جواب هذه المسألة و دخل دار حرمه و قمنا نحن و انصرفنا
مِنْهَا فِي ذِكْرِ أَصْحَابِ الْجَمَلِ فَخَرَجُوا يَجُرُّونَ حُرْمَةَ رَسُولِ اللَّهِ ص كَمَا تُجَرُّ الْأَمَةُ عِنْدَ شِرَائِهَا شرح نهج البلاغة ج : 9 ص : 309مُتَوَجِّهِينَ بِهَا إِلَى الْبَصْرَةِ فَحَبَسَا نِسَاءَهُمَا فِي بُيُوتِهِمَا وَ أَبْرَزَا حَبسَ رَسُولِ اللَّهِ ص لَهُمَا وَ لِغَيْرِهِمَا فِي جَيْشٍ مَا مِنْهُمْ رَجُلٌ إِلَّا وَ قَدْ أَعْطَانِيَ الطَّاعَةَ وَ سَمَحَ لِي بِالْبَيْعَةِ طَائِعاً غَيْرَ مُكْرَهٍ فَقَدِمُوا عَلَى عَامِلِي بِهَا وَ خُزَّانِ بَيْتِ مَالِ الْمُسْلِمِينَ وَ غَيْرِهِمْ مِنْ أَهْلِهَا فَقَتَلُوا طَائِفَةً صَبْراً وَ طَائِفَةً غَدْراً فَوَاللَّهِ إِنْ لَوْ لَمْ يُصِيبُوا مِنَ الْمُسْلِمِينَ إِلَّا رَجُلًا وَاحِداً مُعْتَمِدِينَ لِقَتْلِهِ بِلَا جُرْمٍ جَرَّهُ لَحَلَّ لِي قَتْلُ ذَلِكَ الْجَيْشِ كُلِّهِ إِذْ حَضَرُوهُ فَلَمْ يُنْكِرُوا وَ لَمْ يَدْفَعُوا عَنْهُ بِلِسَانٍ وَ لَا بِيَدٍ دَعْ مَا إِنَّهُمْ قَدْ قَتَلُوا مِنَ الْمُسْلِمِينَ مِثْلَ الْعِدَّةِ الَّتِي دَخَلُوا بِهَا عَلَيْهِمْ

(10/276)


حرمة رسول الله ص كناية عن الزوجة و أصله الأهل و الحرم و كذلك حبيس رسول الله ص كناية عنها. و قتلوهم صبرا أي بعد الأسر و قوله فو الله إن لو لم يصيبوا إن هاهنا زائدة و يجوز أن تكون مخففة من الثقيلة. و يسأل عن قوله ع لو لم يصيبوا إلا رجلا واحدا لحل لي قتل ذلك الجيش بأسره لأنهم حضروه فلم ينكروا فيقال أ يجوز قتل من لم ينكر المنكر مع تمكنه من إنكاره. و الجواب أنه يجوز قتلهم لأنهم اعتقدوا ذلك القتل مباحا فإنهم إذا اعتقدوا إباحته فقد اعتقدوا إباحة ما حرم الله فيكون حالهم حال من اعتقد أن الزنا مباح أو أن شرب الخمر مباح. شرح نهج البلاغة ج : 9 ص : 310و قال القطب الراوندي يريد أنهم داخلون في عموم قوله تعالى إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللَّهَ وَ رَسُولَهُ وَ يَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا. و لقائل أن يقول الإشكال إنما وقع في قو لو لم يصيبوا من المسلمين إلا رجلا واحدا لحل لي قتل ذلك الجيش بأسره لأنهم حضروا المنكر و لم يدفعوه بلسان و لا يد فهو علل استحلاله قتلهم بأنهم لم ينكروا المنكر و لم يعلل ذلك بعموم الآية. و أما معنى قوله دع ما إنهم قد قتلوا من المسلمين مثل العدة التي دخلوا بها عليهم فهو أنه لو كان المقتول واحدا لحل لي قتلهم كلهم فكيف و قد قتلوا من المسلمين عدة مثل عدتهم التي دخلوا بها البصرة و ما هاهنا زائدة. و صدق ع فإنهم قتلوا من أوليائه و خزان بيت المال بالبصرة خلقا كثيرا بعضهم غدرا و بعضهم صبرا كما خطب به ع
ذكر يوم الجمل و مسير عائشة إلى القتال

(10/277)


و روى أبو مخنف قال حدثنا إسماعيل بن خالد عن قيس بن أبي حازم و روى الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس و روى جرين بن يزيد عن عامر الشعبي و روى محمد بن إسحاق عن حبيب بن عمير قالوا جميعا لما خرجت عائشة و طلحة و الزبير من مكة إلى البصرة طرقت ماء الحوأب و هو ماء لبني عامر بن صعصعة فنبحتهم الكلاب فنفرت صعاب إبلهم فقال قائل منهم لعن الله الحوأب فما أكثر كلابها فلما سمعت عائشة ذكر الحوأب قالت أ هذا ماء الحوأب قالوا نعم فقالت ردوني ردوني فسألوها ما شأنها ما بدا لها
فقالت إني سمعت رسول الله ص يقول كأني بكلاب شرح نهج البلاغة ج : 9 ص : 311ماء يدعى الحوأب قد نبحت بعض نسائي ثم قال لي إياك يا حميراء أن تكونيهافقال لها الزبير مهلا يرحمك الله فإنا قد جزنا ماء الحوأب بفراسخ كثيرة فقالت أ عندك من يشهد بأن هذه الكلاب النابحة ليست على ماء الحوأب فلفق لها الزبير و طلحة خمسين أعرابيا جعلا لهم جعلا فحلفوا لها و شهدوا أن هذا الماء ليس بماء الحوأب فكانت هذه أول شهادة زور في الإسلام فسارت عائشة لوجهها.
قال أبو مخنف و حدثنا عصام بن قدامة عن عكرمة عن ابن عباس أن رسول الله ص قال يوما لنسائه و هن عنده جميعا ليت شعري أيتكن صاحبة الجمل الأدبب تنبحها كلاب الحوأب يقتل عن يمينها و شمالها قتلى كثيرة كلهم في النار و تنجو بعد ما كادت

(10/278)


قلت و أصحابنا المعتزلة رحمهم الله يحملون قوله ع و تنجو على نجاتها من النار و الإمامية يحملون ذلك على نجاتها من القتل و محملنا أرجح لأن لفظة في النار أقرب إليه من لفظة القتلى و القرب معتبر في هذا الباب أ لا ترى أن نحاة البصريين أعملوا أقرب العاملين نظرا إلى القرب. قال أبو مخنف و حدثني الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس أن الزبير و طلحة أغذا السير بعائشة حتى انتهوا إلى حفر أبي موسى الأشعري و هو قريب من البصرة و كتبا إلى عثمان بن حنيف الأنصاري و هو عامل علي ع على البصرة أن أخل لنا دار الإمارة فلما وصل كتابهما إليه بعث الأحنف بن قيس فقال له إن هؤلاء القوم قدموا علينا و معهم زوجة رسول الله و الناس إليها سراع كما ترى فقال الأحنف شرح نهج البلاغة ج : 9 ص : 312إنهم جاءوك بها للطلب بدم عثمان و هم الذين ألبوا على عثمان الناس و سفكوا دمه و أراهم و الله لا يزايلون حتى يلقوالعداوة بيننا و يسفكوا دماءنا و أظنهم و الله سيركبون منك خاصة ما لا قبل لك به إن لم تتأهب لهم بالنهوض إليهم فيمن معك من أهل البصرة فإنك اليوم الوالي عليهم و أنت فيهم مطاع فسر إليهم بالناس و بادرهم قبل أن يكونوا معك في دار واحدة فيكون الناس لهم أطوع منهم لك. فقال عثمان بن حنيف الرأي ما رأيت لكنني أكره الشر و أن أبدأهم به و أرجو العافية و السلامة إلى أن يأتيني كتاب أمير المؤمنين و رأيه فأعمل به ثم أتاه بعد الأحنف حكيم بن جبلة العبدي من بني عمرو بن وديعة فأقرأه كتاب طلحة و الزبير فقال له مثل قول الأحنف و أجابه عثمان بمثل جوابه للأحنف فقال له حكيم فأذن لي حتى أسير إليهم بالناس فإن دخلوا في طاعة أمير المؤمنين و إلا نابذتهم على سواء. فقال عثمان لو كان ذلك رأيي لسرت إليهم نفسي قال حكيم أما و الله إن دخلوا عليك هذا المصر لينتقلن قلوب كثير من الناس إليهم و ليزيلنك عن مجلسك هذا و أنت أعلم فأبى عليه عثمان.

(10/279)


قال و كتب علي إلى عثمان لما بلغه مشارفة القوم البصرة من عبد الله علي أمير المؤمنين إلى عثمان بن حنيف أما بعد فإن البغاة عاهدوا الله ثم نكثوا و توجهوا إلى مصرك و ساقهم الشيطان لطلب ما لا يرضى الله به و الله أشد بأسا و أشد تنكيلا فإذا قدموا عليك فادعهم إلى الطاعة و الرجوع إلى الوفاء بالعهد و الميثاق الذي فارقونا عليه فإن أجابوا فأحسن جوارهم ما داموا شرح نهج البلاغة ج : 9 ص : 313عندك و إن أبو إلا التمسك بحبل النكث و الخلاف فناجزهم القتال حتى يحكم الله بينك و بينهم و هو خير الحاكمين و كتبت كتابي هذا إليك من ربذة و أنا معجل المسير إليك إن شاء الله. و كتبه عبيد الله بن أبي رافع في سنة ست و ثلاثين

(10/280)


قال فلما وصل كتاب علي ع إلى عثمان أرسل إلى أبي الأسود الدؤلي و عمران بن الحصين الخزاعي فأمرهما أن يسيرا حتى يأتياه بعلم القوم و ما الذي أقدمهم فانطلقا حتى إذا أتيا حفر أبي موسى و به معسكر القوم فدخلا على عائشة فنالاها و وعظاها و أذكراها و ناشداها الله فقالت لهما القيا طلحة و الزبير فقاما من عندها و لقيا الزبير فكلماه فقال لهما إنا جئنا للطلب بدم عثمان و ندعو الناس إلى أن يردوا أمر الخلافة شورى ليختار الناس لأنفسهم فقالا له إن عثمان لم يقتل بالبصرة ليطلب دمه فيها و أنت تعلم قتلة عثمان من هم و أين هم و إنك و صاحبك و عائشة كنتم أشد الناس عليه و أعظمهم إغراء بدمه فأقيدوا من أنفسكم و أما إعادة أمر الخلافة شورى فكيف و قد بايعتم عليا طائعين غير مكرهين و أنت يا أبا عبد الله لم يبعد العهد بقيامك دون هذا الرجل يوم مات رسول الله ص و أنت آخذ قائم سيفك تقول ما أحد أحق بالخلافة منه و لا أولى بها منه و امتنعت من بيعة أبي بكر فأين ذلك الفعل من هذا القول. فقال لهما اذهبا فالقيا طلحة فقاما إلى طلحة فوجداه أخشن الملمس شديد العريكة قوي العزم في إثارة الفتنة و إضرام نار الحرب فانصرفا إلى عثمان بن حنيف فأخبراه و قال له أبو الأسود
يا ابن حنيف قد أتيت فانفر و طاعن القوم و جالد و اصبر
شرح نهج البلاغة ج : 9 ص : 314و ابرز لها مستلئما و شمفقال ابن حنيف إي و الحرمين لأفعلن و أمر مناديه فنادى في الناس السلاح السلاح فاجتمعوا إليه و قال أبو الأسود
أتينا الزبير فدانى الكلام و طلحة كالنجم أو أبعدو أحسن قوليهما فادح يضيق به الخطب مستنكدو قد أوعدونا بجهد الوعيد فأهون علينا بما أوعدوافقلنا ركضتم و لم ترملوا و أصدرتم قبل أن توردوافإن تلقحوا الحرب بين الرجال فملقحها حده الأنكدو إن عليا لكم مصحر ألا إنه الأسد الأسودأما إنه ثالث العابدين بمكة و الله لا يعبدفرخوا الخناق و لا تعجلوا فإن غدا لكم موعد

(10/281)


قال و أقبل القوم فلما انتهوا إلى المربد قام رجل من بني جشم فقال أيها الناس أنا فلان الجشمي و قد أتاكم هؤلاء القوم فإن كانوا أتوكم خائفين لقد أتوكم من المكان الذي يأمن فيه الطير و الوحش و السباع و إن كانوا إنما أتوكم بطلب دم عثمان فغيرنا ولي قتله فأطيعوني أيها الناس و ردوهم من حيث أقبلوا فإنكم إن لم تفعلوا لم تسلموا من الحرب الضروس و الفتنة الصماء التي لا تبقي و لا تذر. قال فحصبه ناس من أهل البصرة فأمسك. قال و اجتمع أهل البصرة إلى المربد حتى ملئوه مشاة و ركبانا فقام طلحة فأشار إلى الناس بالسكون ليخطب فسكتوا بعد جهد فقال أما بعد فإن عثمان بن عفان كان من أهل السابقة و الفضيلة و من المهاجرين الأولين الذي رضي الله عنهم و رضوا عنه شرح نهج البلاغة ج : 9 ص : 315و نزل القرآن ناطقا بفضلهم و أحد أئمة المسلمين الوالين عليكم بعد أبي بكر و عمر صاحبي رسول الله ص و قد كانحدث أحداثا نقمنا عليه فأتيناه فاستعتبناه فأعتبنا فعدا عليه امرؤ ابتز هذه الأمة أمرها غصبا بغير رضا منها و لا مشورة فقتله و ساعده على ذلك قوم غير أتقياء و لا أبرار فقتل محرما بريئا تائبا و قد جئناكم أيها الناس نطلب بدم عثمان و ندعوكم إلى الطلب بدمه فإن نحن أمكننا الله من قتلته قتلناهم به و جعلنا هذا الأمر شورى بين المسلمين و كانت خلافة رحمة للأمة جميعا فإن كل من أخذ الأمر من غير رضا من العامة و لا مشورة منها ابتزازا كان ملكه ملكا عضوضا و حدثا كثيرا. ثم قام الزبير فتكلم بمثل كلام طلحة. فقام إليهما ناس من أهل البصرة فقالوا لهما أ لم تبايعا عليا فيمن بايعه ففيم بايعتما ثم نكثتما فقالا ما بايعنا و ما لأحد في أعناقنا بيعة و إنما استكرهنا على بيعة فقال ناس قد صدقا و أحسنا القول و قطعا بالثواب و قال ناس ما صدقا و لا أصابا في القول حتى ارتفعت الأصوات. قال ثم أقبلت عائشة على جملها فنادت بصوت مرتفع أيها الناس أقلوا الكلام و اسكتوا

(10/282)


فأسكت الناس لها فقالت إن أمير المؤمنين عثمان قد كان غير و بدل ثم لم يزل يغسل ذلك بالتوبة حتى قتل مظلوما تائبا و إنما نقموا عليه ضربه بالسوط و تأميره الشبان و حمايته موضع الغمامة فقتلوه محرما في حرمة الشهر و حرمة البلد ذبحا كما يذبح الجمل ألا و إن قريشا رمت غرضها بنبالها و أدمت أفواهها بأيديها و ما نالت بقتلها إياه شيئا و لا سلكت به سبيلا
شرح نهج البلاغة ج : 9 ص : 316قاصدا أما و الله ليرونها بلايا عقيمة تنتبه النائم و تقيم الجالس و ليسلطن عليهم قوم لا يرحمونهم و يسومونهم سوء العذاب. أيها الناس إنه ما بلغ من ذنب عثمان ما يستحل به دمه مصتموه كما يماص الثوب الرحيض ثم عدوتم عليه فقتلتموه بعدوبته و خروجه من ذنبه و بايعتم ابن أبي طالب بغير مشورة من الجماعة ابتزازا و غصبا تراني أغضب لكم من سوط عثمان و لسانه و لا أغضب لعثمان من سيوفكم ألا إن عثمان قتل مظلوما فاطلبوا قتلته فإذا ظفرتم بهم فاقتلوهم ثم اجعلوا الأمر شورى بين الرهط الذين اختارهم أمير المؤمنين عمر بن الخطاب و لا يدخل فيهم من شرك في دم عثمان. قال فماج الناس و اختلطوا فمن قائل القول ما قالت و من قائل يقول و ما هي و هذا الأمر إنما هي امرأة مأمورة بلزوم بيتها و ارتفعت الأصوات و كثر اللغط حتى تضاربوا بالنعال و تراموا بالحصى. ثم إن الناس تمايزوا فصاروا فريقين فريق مع عثمان بن حنيف و فريق مع عائشة و أصحابها. قال و حدثنا الأشعث بن سوار عن محمد بن سيرين عن أبي الخليل قال لما نزل طلحة و الزبير المربد أتيتهما فوجدتهما مجتمعين فقلت لهما ناشدتكما الله و صحبة رسول الله ص ما الذي أقدمكما أرضنا هذه فلم يتكلما فأعدت عليهما فقالا بلغنا أن بأرضكم هذه دنيا فجئنا نطلبها. شرح نهج البلاغة ج : 9 ص : 317قال و قد روى محمد بن سيرين عن الأحنف بن قيس أنه لقيهما فقالا له مثل مقالتهما الأولى إنما جئنا لطلب الدنيا. و قد روى المدائني أيضا نحوا مما روى

(10/283)


أبو مخنف قال بعث علي ع ابن عباس يوم الجمل إلى الزبير قبل الحرب فقال له إن أمير المؤمنين يقرأ عليك السلام و يقول لكم أ لم تبايعني طائعا غير مكره فما الذي رابك مني فاستحللت به قتالي قال فلم يكن له جواب إلا أنه قال لي إنا مع الخوف الشديد لنطمع لم يقل غير ذلك
قال أبو إسحاق فسألت محمد بن علي بن الحسين ع ما تراه يعني بقوله هذا فقال أما و الله ما تركت ابن عباس حتى سألته عن هذا فقال يقول إنا مع الخوف الشديد مما نحن عليه نطمع أن نلي مثل الذي وليتم
و قال محمد بن إسحاق حدثني جعفر بن محمد ع عن أبيه عن ابن عباس قال بعثني علي ع يوم الجمل إلى طلحة و الزبير و بعث معي بمصحف منشور و إن الريح لتصفق ورقه فقال لي قل لهما هذا كتاب الله بيننا و بينكم فما تريدان فلم يكن لهما جواب إلا أن قالا نريد ما أراد كأنهما يقولان الملك فرجعت إلى علي فأخبرته

(10/284)


و قد روى قاضي القضاة رحمه الله في كتاب المغني عن وهب بن جرير قال قال رجل من أهل البصرة لطلحة و الزبير إن لكما فضلا و صحبة فأخبراني عن مسيركما شرح نهج البلاغة ج : 9 ص : 318هذا و قتالكما أ شي ء أمركما به رسول الله ص أم رأي رأيتماه فأما طلحة فسكت و جعل ينكي الأرض و أما الزبير فقال ويحك حدثنا أن هاهنا دراهم كثيرة فجئنا لنأخذ منها. و جعل قاضي القضاة هذا الخبر حجة في أن طلحة تاب و أن الزبير لم يكن مصرا على الحرب و الاحتجاج بهذا الخبر على هذا المعنى ضعيف و إن صح هو و ما قبله إنه لدليل على حمق شديد و ضعف عظيم و نقص ظاهر و ليت شعري ما الذي أحوجهما إلى هذا القول و إذا كان هذا في أنفسهما فهلا كتماه. ثم نعود إلى خبرهما قال أبو مخنف فلما أقبل طلحة و الزبير من المربد يريدان عثمان بن حنيف فوجداه و أصحابه قد أخذوا بأفواه السكك فمضوا حتى انتهوا إلى موضع الدباغين فاستقبلهم أصحاب ابن حنيف فشجرهم طلحة و الزبير و أصحابهما بالرماح فحمل عليهم حكيم بن جبلة فلم يزل هو و أصحابه يقاتلونهم حتى أخرجوهم من جميع السكك و رماهم النساء من فوق البيوت بالحجارة فأخذوا إلى مقبرة بني مازن فوقفوا بها مليا حتى ثابت إليهم خيلهم ثم أخذوا على مسناة البصرة حتى انتهوا إلى الرابوقة ثم أتوا سبخة دار الرزق فنزلوها. قال و أتاهما عبد الله بن حكيم التميمي لما نزلا السبخة بكتب كانا كتباها إليه فقال لطلحة يا أبا محمد أ ما هذا كتبك إلينا قال بلى قال فكتبت أمس تدعونا إلى خلع عثمان و قتله حتى إذا قتلته أتيتنا ثائرا بدمه فلعمري ما هذا رأيك لا تريد إلا هذه الدنيا مهلا إذا كان هذا رأيك فلم قبلت من علي ما عرض عليك من البيعة شرح نهج البلاغة ج : 9 ص : 319فبايعته طائعا راضيا ثم نكثت بيعتك ثم جئت لتدخلنا في فتنتك فقال إن عليا دعاني إلى بيعته بعد ما بايع الناس فعلمت لو لأقبل ما عرضه علي لم يتم لي ثم يغرى بي من معه. قال ثم أصبحنا من غد

(10/285)


فصفا للحرب و خرج عثمان بن حنيف إليهما في أصحابه فناشدهما الله و الإسلام و أذكرهما بيعتهما عليا ع فقالا نطلب بدم عثمان فقال لهما و ما أنتما و ذاك أين بنوه أين بنو عمه الذين هم أحق به منكم كلا و الله و لكنكما حسدتماه حيث اجتمع الناس عليه و كنتما ترجوان هذا الأمر و تعملان له و هل كان أحد أشد على عثمان قولا منكما فشتماه شتما قبيحا و ذكرا أمه فقال للزبير أما و الله لو لا صفية و مكانها من رسول الله فإنها أدنتك إلى الظل و أن الأمر بيني و بينك يا ابن الصعبة يعني طلحة أعظم من القول لأعلمتكما من أمركما ما يسوءكما اللهم إني قد أعذرت إلى هذين الرجلين. ثم حمل عليهم و اقتتل الناس قتالا شديدا ثم تحاجزوا و اصطلحوا على أن يكتب بينهم كتاب صلح فكتب. هذا ما اصطلح عليه عثمان بن حنيف الأنصاري و من معه من المؤمنين من شيعة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب و طلحة و الزبير و من معهما من المؤمنين و المسلمين من شيعتهما أن لعثمان بن حنيف دار الإمارة و الرحبة و المسجد و بيت المال و المنبر و أن لطلحة و الزبير و من معهما أن ينزلوا حيث شاءوا من البصرة و لا يضار بعضهم بعضا في طريق و لا فرضة و لا سوق و لا شرعة و لا مرفق حتى يقدم أمير المؤمنين علي بن أبي طالب فإن أحبوا دخلوا فيما دخلت فيه الأمة و إن أحبوا لحق كل قوم بهواهم و ما أحبوا من

(10/286)


شرح نهج البلاغة ج : 9 ص : 320قتال أو سلم أو خروج أو إقامة و على الفريقين بما كتبوا عهد الله و ميثاقه و أشد ما أخذه على نبي من أنبيائه من عهد و ذمة. و ختم الكتاب و رجع عثمان بن حنيف حتى دخل دار الإمارة و قال لأصحابه ألحقوا رحمكم الله بأهلكم و ضعوا سلاحكم داووا جرحاكم فمكثوا كذلك أياما. ثم إن طلحة و الزبير قالا إن قدم علي و نحن على هذه الحال من القلة و الضعف ليأخذن بأعناقنا فأجمعا على مراسلة القبائل و استمالة العرب فأرسلا إلى وجوه الناس و أهل الرئاسة و الشرف يدعوانهم إلى الطلب بدم عثمان و خلع علي و إخراج ابن حنيف من البصرة فبايعهم على ذلك الأزد و ضبة و قيس بن عيلان كلها إلا الرجل و الرجلين من القبيلة كرهوا أمرهم فتواروا عنهم و أرسلوا إلى هلال بن وكيع التميمي فلم يأتهم فجاءه طلحة و الزبير إلى داره فتوارى عنهما فقالت له أمه ما رأيت مثلك أتاك شيخا قريش فتواريت عنهما فلم تزل به حتى ظهر لهما و بايعهما و معه بنو عمرو بن تميم كلهم و بنو حنظلة إلا بني يربوع فإن عامتهم كانوا شيعة علي ع و بايعهم بنو دارم كلهم إلا نفرا من بني مجاشع ذوي دين و فضل. فلما استوسق لطلحة و الزبير أمرهما خرجا في ليلة مظلمة ذات ريح و مطر و معهما أصحابهما قد ألبسوهم الدروع و ظاهروا فوقها بالثياب فانتهوا إلى المسجد وقت الصلاة الفجر و قد سبقهم عثمان بن حنيف إليه و أقيمت الصلاة فتقدم عثمان ليصلي بهم فأخره أصحاب طلحة و الزبير و قدموا الزبير فجاءت السبابجة و هم الشرط حرس بيت المال فأخرجوا الزبير و قدموا عثمان فغلبهم أصحاب الزبير فقدموا الزبير و أخروا عثمان فلم يزالوا كذلك حتى كادت الشمس تطلع و صاح بهم أهل المسجد أ لا تتقون أصحاب محمد و قد طلعت الشمس فغلب الزبير فصلى بالناس فلما انصرف من شرح نهج البلاغة ج : 9 ص : 321صلاته صاح بأصحابه المستسلحين أن خذوعثمان بن حنيف فأخذوه بعد أن تضارب هو و مروان بن الحكم بسيفيهما فلما

(10/287)


أسر ضرب ضرب الموت و نتف حاجباه و أشفار عينيه و كل شعرة في رأسه و وجهه و أخذوا السبابجة و هم سبعون رجلا فانطلقوا بهم و بعثمان بن حنيف إلى عائشة فقالت لأبان بن عثمان اخرج إليه فاضرب عنقه فإن الأنصار قتلت أباك و أعانت على قتله فنادى عثمان يا عائشة و يا طلحة و يا زبير إن أخي سهل بن حنيف خليفة علي بن أبي طالب على المدينة و أقسم بالله إن قتلتموني ليضعن السيف في بني أبيكم و أهليكم و رهطكم فلا يبقى أحد منكم فكفوا عنه و خافوا أن يقع سهل بن حنيف بعيالاتهم و أهلهم بالمدينة فتركوه. و أرسلت عائشة إلى الزبير أن اقتل السبابجة فإنه قد بلغني الذي صنعوا بك قال فذبحهم و الله الزبير كما يذبح الغنم ولي ذلك منهم عبد الله ابنه و هم سبعون رجلا و بقيت منهم طائفة مستمسكين ببيت المال قالوا لا ندفعه إليكم حتى يقدم أمير المؤمنين فسار إليهم الزبير في جيش ليلا فأوقع بهم و أخذ منهم خمسين أسيرا فقتلهم صبرا. قال أبو مخنف فحدثنا الصقعب بن زهير قال كانت السبابجة القتلى يومئذ أربعمائة رجل قال فكان غدر طلحة و الزبير بعثمان بن حنيف أول غدر كان في الإسلام و كان السبابجة أول قوم ضربت أعناقهم من المسلمين صبرا قال و خيروا عثمان بن حنيف بين أن يقيم أو يلحق بعلي فاختار الرحيل فخلوا سبيله فلحق بعلي ع فلما رآه بكى و قال له فارقتك شيخا و جئتك أمرد فقال علي إنا لله و إنا إليه راجعون قالها ثلاثا. شرح نهج البلاغة ج : 9 ص : 322قلت السبابجة لف معربة قد ذكرها الجوهري في كتاب الصحاح قال هم قوم من السند كانوا بالبصرة جلاوزة و حراس السجن و الهاء للعجمة و النسب قال يزيد بن مفرغ الحميري
و طماطيم من سبابيج خزر يلبسوني مع الصباح القيودا

(10/288)


قال فلما بلغ حكيم بن جبلة ما صنع القوم بعثمان بن حنيف خرج في ثلاثمائة من عبد القيس مخالفا لهم و منابذا فخرجوا إليه و حملوا عائشة على جمل فسمي ذلك اليوم يوم الجمل الأصغر و يوم علي يوم الجمل الأكبر. و تجالد الفريقان بالسيوف فشد رجل من الأزد من عسكر عائشة على حكيم بن جبلة فضرب رجله فقطعها و وقع الأزدي عن فرسه فجثا حكيم فأخذ رجله فرمى بها الأزدي فصرعه ثم دب إليه فقتله متكئا عليه خانقا له حتى زهقت نفسه فمر بحكيم إنسان و هو يجود بنفسه فقال من فعل بك قال وسادي فنظر فإذا الأزدي تحته و كان حكيم شجاعا مذكورا. قال و قتل مع حكيم إخوة له ثلاثة و قتل أصحابه كلهم و هم ثلاثمائة من عبد القيس و القليل منهم من بكر بن وائل فلما صفت البصرة لطلحة و الزبير بعد قتل حكيم و أصحابه و طرد ابن حنيف عنهما اختلفا في الصلاة و أراد كل منهما أن يؤم بالناس و خاف أن تكون صلاته خلف صاحبه تسليما له و رضا بتقدمه فأصلحت بينهما عائشة بأن جعلت عبد الله بن الزبير و محمد بن طلحة يصليان بالناس هذا يوما و هذا يوما. قال أبو مخنف ثم دخلا بيت المال بالبصرة فلما رأوا ما فيه من الأموال قال الزبير وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَها فَعَجَّلَ لَكُمْ هذِهِ فنحن أحق شرح نهج البلاغة ج : 9 ص : 323بها من أهل البصرة فأخذا ذلك المال كله فلما غلب علي ع رد تلك الأموال إلى بيت المال و قسمها في المسلمين. و قد ذكرنا فيما تقدم كيفية الوقعة و مقتل الزبير فارا عن الحرب خوفا أو توبة و نحن نقول إنها توبة و ذكر مقتل طلحة و الاستيلاء على أم المؤمنين و إحسان علي ع إليها و إلى من أسر في الحرب أو ظفر به بعدها
منافرة بين ولدي علي و طلحة

(10/289)


كان القاسم بن محمد بن يحيى بن طلحة بن عبيد الله التيمي يلقب أبا بعرة ولي شرطة الكوفة لعيسى بن موسى بن محمد بن علي بن عبد الله بن العباس كلم إسماعيل بن جعفر بن محمد الصادق ع بكلام خرجا فيه إلى المنافرة فقال القاسم بن محمد لم يزل فضلنا و إحساننا سابغا عليكم يا بني هاشم و على بني عبد مناف كافة فقال إسماعيل أي فضل و إحسان أسديتموه إلى بني عبد مناف أغضب أبوك جدي بقوله ليموتن محمد و لنجولن بين خلاخيل نسائه كما جال بين خلاخيل نسائنا فأنزل الله تعالى مراغمة لأبيك وَ ما كانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَ لا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْواجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَداً و منع ابن عمك أمي حقها من فدك و غيرها من ميراث أبيها و أجلب أبوك على عثمان و حصره حتى قتل و نكث بيعة علي و شام السيف شرح نهج البلاغة ج : 9 ص : 324في وجهه و أفسد قلوب المسلمين عليه فإن كان لبني عبد مناف ق غير هؤلاء أسديتم إليهم إحسانا فعرفني من هم جعلت فداك
منافرة عبد الله بن الزبير و عبد الله بن العباس

(10/290)


و تزوج عبد الله بن الزبير أم عمرو ابنة منظور بن زبان الفزارية فلما دخل بها قال لها تلك الليلة أ تدرين من معك في حجلتك قالت نعم عبد الله بن الزبير بن العوام بن خويلد بن أسد بن عبد العزى. قال ليس غير هذا قالت فما الذي تريد قال معك من أصبح في قريش بمنزلة الرأس من الجسد لا بل بمنزلة العينين من الرأس قالت أما و الله لو أن بعض بني عبد مناف حضرك لقال لك خلاف قولك فغضب و قال الطعام و الشراب علي حرام حتى أحضرك الهاشميين و غيرهم من بني عبد مناف فلا يستطيعون لذلك إنكارا قالت إن أطعتني لم تفعل و أنت أعلم و شأنك. فخرج إلى المسجد فرأى حلقة فيها قوم من قريش منهم عبد الله بن العباس و عبد الله بن الحصين بن الحارث بن عبد المطلب بن عبد مناف فقال لهم ابن الزبير أحب أن تنطلقوا معي إلى منزلي فقام القوم بأجمعهم حتى وقفوا على باب بيته فقال ابن الزبير يا هذه اطرحي عليك سترك فلما أخذوا مجالسهم دعا بالمائدة فتغذى القوم فلما فرغوا قال لهم إنما جمعتكم لحديث ردته علي صاحبة الستر و زعمت أنه لو كان بعض بني عبد مناف حضرني لما أقر لي بما قلت و قد حضرتم جميعا و أنت يا ابن عباس ما تقول إني أخبرتها أن معها في خدرها من أصبح في قريش بمنزلة شرح نه البلاغة ج : 9 ص : 325الرأس من الجسد بل بمنزلة العينين من الرأس فردت علي مقالتي فقال ابن عباس أراك قصدت قصدي فإن شئت أن أقول قلت و إن شئت أن أكف كففت قال بل قل و ما عسى أن تقول أ لست تعلم أني ابن الزبير حواري رسول الله ص و أن أمي أسماء بنت أبي بكر الصديق ات النطاقين و أن عمتي خديجة سيدة نساء العالمين و أن صفية عمة رسول الله ص جدتي و أن عائشة أم المؤمنين خالتي فهل تستطيع لهذا إنكارا. قال ابن عباس لقد ذكرت شرفا شريفا و فخرا فاخرا غير أنك تفاخر من بفخره فخرت و بفضله سموت قال و كيف ذلك قال لأنك لم تذكر فخرا إلا برسول الله ص و أنا أولى بالفخر به منك قال ابن الزبير لو شئت

(10/291)


لفخرت عليك بما كان قبل النبوة قال ابن عباس
قد أنصف القارة من راماها
نشدتكم الله أيها الحاضرون عبد المطلب أشرف أم خويلد في قريش قالوا عبد المطلب قال أ فهاشم كان أشرف فيها أم أسد قالوا بل هاشم قال أ فعبد مناف أشرف أم عبد العزى قالوا عبد مناف فقال ابن عباس
تنافرني يا ابن الزبير و قد قضى عليك رسول الله لا قول هازل و لو غيرنا يا ابن الزبير فخرته و لكنما ساميت شمس الأصائل شرح نهج البلاغة ج : 9 ص : 326قضى لنا رسول الله ص بالفضل في قوله ما افترقت فرقتان إلا كنت في خيرهما فقد فارقناك من بعد قصي بن كلاب أ فنحن في فرقة الخير أم لا إن قلت نعم خصمت و إن قلت لا كفرت. فضحك بعض القوم فقال ابن الزبير أما و الله لو لا تحرمك بطعامنا ابن عباس لأعرقت جبينك قبل أن تقوم من مجلسك قال ابن عباس و لم أ بباطل فالباطل لا يغلب الحق أم بحق فالحق لا يخشى من الباطل. فقالت المرأة من وراء الستر إني و الله لقد نهيته عن هذا المجلس فأبى إلا ما ترون. فقال ابن عباس مه أيتها المرأة اقنعي ببعلك فما أعظم الخطر و ما أكرم الخبر فأخذ القوم بيد ابن عباس و كان قد عمي فقالوا انهض أيها الرجل فقد أفحمته غير مرة فنهض و قال
ألا يا قومنا ارتحلوا و سيروا فلو ترك القطا لغفا و ناما

(10/292)


فقال ابن الزبير يا صاحب القطاة أقبل علي فما كنت لتدعني حتى أقول و ايم الله لقد عرف الأقوام أني سابق غير مسبوق و ابن حواري و صديق متبجح في الشرف الأنيق خير من طليق. فقال ابن عباس دسعت بجرتك فلم تبق شيئا هذا الكلام مردود من امرئ حسود فإن كنت سابقا فإلى من سبقت و إن كنت فاخرا فبمن فخرت فإن كنت أدركت هذا الفخر بأسرتك دون أسرتنا فالفخر لك علينا و إن كنت إنما أدركته بأسرتنا فالفخر لنا عليك و الكثكث في فمك و يديك و أما ما ذكرت شرح نهج البلاغة ج : 9 ص : 327من الطليق فو الله لقد ابتلي فصبر و أنعم عليه فشكر و إن كاو الله لوفيا كريما غير ناقض بيعة بعد توكيدها و لا مسلم كتيبة بعد التأمر عليها. فقال ابن الزبير أ تعير الزبير بالجبن و الله إنك لتعلم منه خلاف ذلك. قال ابن عباس و الله إني لا أعلم إلا أنه فر و ما كر و حارب فما صبر و بايع فما تمم و قطع الرحم و أنكر الفضل و رام ما ليس له بأهل.
و أدرك منها بعض ما كان يرتجي و قصر عن جري الكرام و بلداو ما كان إلا كالهجين أمامه عناق فجاراه العناق فأجهدا
فقال ابن الزبير لم يبق يا بني هاشم غير المشاتمة و المضاربة. فقال عبد الله بن الحصين بن الحارث أقمناه عنك يا ابن الزبير و تأبى إلا منازعته و الله لو نازعته من ساعتك إلى انقضاء عمرك ما كنت إلا كالسغب الظمآن يفتح فاه يستزيد من الريح فلا يشبع من سغب و لا يروى من عطش فقل إن شئت أو فدع و انصرف القوم

(10/293)


شرح نهج البلاغة ج : 9 ص : 174328- و من خطبة له عأَمِينُ وَحْيِهِ وَ خَاتَمُ رُسُلِهِ وَ بَشِيرُ رَحْمَتِهِ وَ نَذِيرُ نِقْمَتِهِ أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ أَحَقَّ النَّاسِ بِهَذَا الْأَمْرِ أَقْوَاهُمْ عَلَيْهِ وَ أَعْلَمُهُمْ بِأَمْرِ اللَّهِ فِيهِ فَإِنْ شَغَبَ شَاغِبٌ اسْتُعْتِبَ فَإِنْ أَبَى قُوتِلَ وَ لَعَمْرِي لَئِنْ كَانَتِ الْإِمَامَةُ لَا تَنْعَقِدُ حَتَّى تَحْضُرَهَا عَامَّةُ النَّاسِ مَا إِلَى ذَلِكَ سَبِيلٌ وَ لَكِنْ أَهْلُهَا يَحْكُمُونَ عَلَى مَنْ غَابَ عَنْهَا ثُمَّ لَيْسَ لِلشَّاهِدِ أَنْ يَرْجِعَ وَ لَا لِلْغَائِبِ أَنْ يَخْتَارَ أَلَا وَ إِنِّي أُقَاتِلُ رَجُلَيْنِ رَجُلًا ادَّعَى مَا لَيْسَ لَهُ وَ آخَرَ مَنَعَ الَّذِي عَلَيْهِ

(10/294)


صدر الكلام في ذكر رسول الله ص و يتلوه فصول. أولها أن أحق الناس بالإمامة أقواهم عليها و أعلمهم بحكم الله فيها و هذا لا ينافي مذهب أصحابنا البغداديين في صحة إمامة المفضول لأنه ما قال إن إمامة غير الأقوى فاسدة و لكنه قال إن الأقوى أحق و أصحابنا لا ينكرون أنه ع أحق ممن تقدمه بالإمامة مع قولهم بصحة إمامة المتقدمين لأنه لا منافاة بين كونه أحق و بين صحة إمامة غيره. شرح نهج البلاغة ج : 9 ص : 329فإن قلت أي فرق بين أقواهم عليه و أعلمهم بأمر الله فيه قلت أقواهم أحسنهم سياسة و أعلمهم بأمر الله أكثرهم علما و إجراء للتير بمقتضى العلم و بين الأمرين فرق واضح فقد يكون سائسا حاذقا و لا يكون عالما بالفقه و قد يكون سائسا فقيها و لا يجري التدبير على مقتضى علمه و فقهه. و ثانيها أن الإمامة لا يشترط في صحة انعقادها أن يحضرها الناس كافة لأنه لو كان ذلك مشترطا لأدى إلى ألا تنعقد إمامة أبدا لتعذر اجتماع المسلمين من أطراف الأرض و لكنها تنعقد بعقد العلماء و أهل الحل و العقد الحاضرين ثم لا يجوز بعد عقدها لحاضريها أن يرجعوا من غير سبب يقتضي رجوعهم و لا يجوز لمن غاب عنها أن يختار غير من عقد له بل يكون محجوجا بعقد الحاضرين مكلفا طاعة الإمامة المعقود له و على هذا جرت الحال في خلافة أبي بكر و عمر و عثمان و انعقد إجماع المسلمين عليه و هذا الكلام تصريح بصحة مذهب أصحابنا في أن الاختيار طريق إلى الإمامة و مبطل لما تقوله الإمامية من دعوى النص عليه و من قولهم لا طريق إلى الإمامة سوى النص أو المعجز. و ثالثها أن الخارج على الإمام يستعتب أولا بالكلام و المراسلة فإن أبى قوتل و هذا هو نص الكتاب العزيز وَ إِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما فَإِنْ بَغَتْ إِحْداهُما عَلَى الْأُخْرى فَقاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِي ءَ إِلى أَمْرِ اللَّهِ. و رابعها أنه يقاتل أحد رجلين إما رجلا

(10/295)


ادعى ما ليس له نحو أن يخرج على الإمام من يدعي الخلافة لنفسه و إما رجلا منع ما عليه نحو أن يخرج على الإمام رجل لا يدعي الخلافة و لكنه يمتنع من الطاعة فقط. فإن قلت الخارج على الإمام مدع الخلافة نفسه مانع ما عليه أيضا لأنه قد امتنع من الطاعة فقد دخل أحد القسمين في الآخر. شرح نهج البلاغة ج : 9 ص : 330قلت لما كان مدعي الخلافة قد اجتمع له أمران إيجابي و سلبي فالإيجابي دعواه الخلافة و السلبي امتناعه من الطاعة كان متميزا ممن لم يحصل له إلا القسم السل فقط و هو مانع الطاعة لا غير فكان الأحسن في فن علم البيان أن يشتمل اللفظ على التقسيم الحاضر للإيجاب و السلب فلذلك قال إما مدعيا ما ليس له أو مانعا ما هو عليه

(10/296)


أُوصِيكُمْ عِبَادَ اللَّهِ بِتَقْوَى اللَّهِ فَإِنَّهَا خَيْرُ مَا تَوَاصَى الْعِبَادُ بِهِ وَ خَيْرُ عَوَاقِبِ الْأُمُورِ عِنْدَ اللَّهِ وَ قَدْ فُتِحَ بَابُ الْحَرْبِ بَيْنَكُمْ وَ بَيْنَ أَهْلِ الْقِبْلَةِ وَ لَا يَحْمِلُ هَذَا الْعَلَمَ إِلَّا أَهْلُ الْبَصَرِ وَ الصَّبْرِ وَ الْعِلْمِ بِمَوَاقِعِ الْحَقِّ فَامْضُوا لِمَا تُؤْمَرُونَ بِهِ وَ قِفُوا عِنْدَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ وَ لَا تَعْجَلُوا فِي أَمْرٍ حَتَّى تَتَبَيَّنُوا فَإِنَّ لَنَا مَعَ كُلِّ أَمْرٍ تُنْكِرُونَهُ غِيَراً أَلَا وَ إِنَّ هَذِهِ الدُّنْيَا الَّتِي أَصْبَحْتُمْ تَتَمَنَّوْنَهَا وَ تَرْغَبُونَ فِيهَا وَ أَصْبَحَتْ تُغْضِبُكُمْ وَ تُرْضِيكُمْ لَيْسَتْ بِدَارِكُمْ وَ لَا مَنْزِلِكُمُ الَّذِي خُلِقْتُمْ لَهُ وَ لَا الَّذِي دُعِيتُمْ إِلَيْهِ أَلَا وَ إِنَّهَا لَيْسَتْ بِبَاقِيَةٍ لَكُمْ وَ لَا تَبْقَوْنَ عَلَيْهَا وَ هِيَ وَ إِنْ غَرَّتْكُمْ مِنْهَا فَقَدْ حَذَّرَتْكُمْ شَرَّهَا فَدَعُوا غُرُورَهَا لِتَحْذِيرِهَا وَ أَطْمَاعَهَا لِتَخْوِيفِهَا وَ سَابِقُوا فِيهَا إِلَى الدَّارِ الَّتِي دُعِيتُمْ إِلَيْهَا وَ انْصَرِفُوا بِقُلُوبِكُمْ عَنْهَا وَ لَا يَخِنَّنَّ أَحَدُكُمْ خَنِينَ الْأَمَةِ عَلَى مَا زُوِيَ عَنْهُ مِنْهَا وَ اسْتَتِمُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ بِالصَّبْرِ عَلَى طَاعَةِ اللَّهِ وَ الْمُحَافَظَةِ عَلَى مَا اسْتَحْفَظَكُمْ مِنْ كِتَابِهِ أَلَا وَ إِنَّهُ لَا يَضُرُّكُمْ تَضْيِيعُ شَيْ ءٍ مِنْ دُنْيَاكُمْ بَعْدَ حِفْظِكُمْ قَائِمَةَ دِينِكُمْ شرح نهج البلاغة ج : 9 ص : 331أَلَا وَ إِنَّهُ لَا يَنْفَعُكُمْ بَعْدَ تَضْيِيعِ دِينِكُمْ شَيْ ءٌ حَافَظْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَمْرِ دُنْيَاكُمْ أَخَذَ اللَّهُ بِقُلُوبِنَا وَ قُلُوبِكإِلَى الْحَقِّ وَ أَلْهَمَنَا وَ إِيَّاكُمُ الصَّبْرَ

(10/297)


لم يكن المسلمون قبل حرب الجمل يعرفون كيفية قتال أهل القبلة و إنما تعلموا فقه ذلك من أمير المؤمنين ع. و قال الشافعي لو لا علي لما عرف شي ء من أحكام أهل البغي. قوله ع و لا يحمل هذا العلم إلا أهل البصر و الصبر و ذلك لأن المسلمين عظم عندهم حرب أهل القبلة و أكروه و من أقدم عندهم عليه أقدم على خوف و حذر فقال ع إن هذا العلم ليس يدركه كل أحد و إنما له قوم مخصوصون. ثم أمرهم بالمضي عند ما يأمرهم به و بالانتهاء عما ينهاهم عنه و نهاهم عن أن يعجلوا بالحكم على أمر ملتبس حتى يتبين و يتضح. ثم قال إن عندنا تغييرا لكل ما تنكرونه من الأمور حتى يثبت أنه يجب إنكارها و تغييرها أي لست كعثمان أصر على ارتكاب ما أنهى عنه بل أغير كل ما ينكره المسلمون و يقتضي الحال و الشرع تغييره. ثم ذكر أن الدنيا التي تغضب الناس و ترضيهم و هي منتهى أمانيهم و رغبتهم ليست دارهم و إنما هي طريق إلى الدار الآخرة و مدة اللبث في ذلك الطريق يسيرة جدا. و قال إنها و إن كانت غرارة فإنها منذرة و محذرة لأبنائها بما رأوه من آثارها في شرح نهج البلاغة ج : 9 ص : 332سلفهم و إخوتهم و أحبائهم و مناداتها على نفسها بأنها فاعلة بهم ما فعلت بأولئك من الفناء و فراق المألوف.ال فدعوا غرورها لتحذيرها و ذلك لأن جانب تحذيرها أولى بأن يعمل عليه من جانب غرورها لأن غرورها إنما هو بأمر سريع مع التصرم و الانقضاء و تحذيرها إنما هو لأمر جليل عظيم فإن الفناء المعجل محسوس و قد دل العقل و الشرائع كافة على أن بعد ذلك الفناء سعادة و شقاوة فينبغي للعاقل أن يحذر من تلك الشقاوة و يرغب في تلك السعادة و لا سبيل إلى ذلك إلا برفض غرور الدنيا على أنه لو لم يكن ذلك لكان الواجب على أهل اللب و البصيرة رفضها لأن الموجود منها خيال فإنه أشبه شي ء بأحلام المنام فالتمسك به و الإخلاد إليه حمق. و الخنين صوت يرج من الأنف عند البكاء و أضافه إلى الأمة لأن الإماء كثيرا ما يضربن

(10/298)


فيبكين و يسمع الخنين منهن و لأن الحرة تأنف من البكاء و الخنين و زوي قبض. ثم ذكر أنه لا يضر المكلف فوات قسط من الدنيا إذا حفظ قائمة دينه يعني القيام بالواجبات و الانتهاء عن المحظورات و لا ينفعه حصول الدنيا كلها بعد تضييعه دينه لأن ابتياع لذة متناهية بلذة غير متناهية يخرج اللذة المتناهية من باب كونها نفعا و يدخلها في باب المضار فكيف إذا انضاف إلى عدم اللذة غير المتناهية حصول مضار و عقوبات غير متناهية أعاذنا الله منها

(10/299)


شرح نهج البلاغة ج : 10 ص : 3الجزء العاشرتتمة باب الخطب و الأوامر
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله الواحد العدل
175- و من كلام له ع في معنى طلحة بن عبيد الله
قَدْ كُنْتُ وَ مَا أُهَدَّدُ بِالْحَرْبِ وَ لَا أُرَهَّبُ بِالضَّرْبِ وَ أَنَا عَلَى مَا وَعَدَنِي رَبِّي مِنَ النَّصْرِ وَ اللَّهِ مَا اسْتَعْجَلَ مُتَجَرِّداً لِلطَّلَبِ بِدَمِ عُثْمَانَ إِلَّا خَوْفاً مِنْ أَنْ يُطَالَبَ بِدَمِهِ لِأَنَّهُ مَظِنَّتُهُ وَ لَمْ يَكُنْ فِي الْقَوْمِ أَحْرَصُ عَلَيْهِ مِنْهُ فَأَرَادَ أَنْ يُغَالِطَ بِمَا أَجْلَبَ فِيهِ لِيَلْتَبِسَ الْأَمْرُ وَ يَقَعَ الشَّكُّ. وَ وَ اللَّهِ مَا صَنَعَ فِي أَمْرِ عُثْمَانَ وَاحِدَةً مِنْ ثَلَاثٍ لَئِنْ كَانَ ابْنُ عَفَّانَ ظَالِماً كَمَا كَانَ يَزْعُمُ لَقَدْ كَانَ يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يُؤازِرَ قَاتِلِيهِ وَ أَنْ يُنَابِذَ نَاصِرِيهِ. وَ لَئِنْ كَانَ مَظْلُوماً لَقَدْ كَانَ يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَكُونَ مِنَ الْمُنَهْنِهِينَ عَنْهُ وَ الْمُعَذِّرِينَ فِيهِ وَ لَئِنْ كَانَ فِي شَكٍّ مِنَ الْخَصْلَتَيْنِ لَقَدْ كَانَ يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَعْتَزِلَهُ وَ يَرْكُدَ جَانِباً وَ يَدَعَ النَّاسَ مَعَهُ فَمَا فَعَلَ وَاحِدَةً مِنَ الثَّلَاثِ وَ جَاءَ بِأَمْرٍ لَمْ يُعْرَفْ بَابُهُ وَ لَمْ تَسْلَمْ مَعَاذِيرُهُ

(11/1)


شرح نهج البلاغة ج : 10 ص : 4كان هاهنا تامة و الواو واو الحال أي خلقت و وجدت و أنا بهذه الصفة كما تقول خلقني الله و أنا شجاع. و يجوز أن تكون الواو زائدة و تكون كان ناقصة و خبرها ما أهدد كما في المثل لقد كنت و ما أخشى بالذئب. فإن قلت إذا كانت ناقصة لزم أنكون الآن بخلاف ما مضى فيكون الآن يهدد و يرهب. قلت لا يلزم ذلك لأن كان الناقصة للماضي من حيث هو ماض و ليس يشترط في ذلك أن يكون منقطعا بل قد يكون دائما كقوله تعالى وَ كانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً. ثم ذكر ع أنه على ما وعده ربه من النصر و أنه واثق بالظفر و الغلبة الآن كما كانت عادته فيما سبق. ثم شرح حال طلحة و قال إنه تجرد للطلب بدم عثمان مغالطة للناس و إيهاما لهم أنه بري ء من دمه فيلتبس الأمر و يقع الشك. و قد كان طلحة أجهد نفسه في أمر عثمان و الإجلاب عليه و الحصر له و الإغراء به و منته نفسه الخلافة بل تلبس ها و تسلم بيوت الأموال و أخذ مفاتيحها و قاتل الناس و أحدقوا به و لم يبق إلا أن يصفق بالخلافة على يده شرح نهج البلاغة ج : 10 ص : ذكر ما كان من أمر طلحة مع عثمان
ذكر أبو جعفر محمد بن جرير الطبري في كتاب التاريخ قال حدثني عمر بن شبة عن علي بن محمد عن عبد ربه عن نافع عن إسماعيل بن أبي خالد عن حكيم بن جابر قال قال علي ع لطلحة و عثمان محصور أنشدك الله إلا رددت الناس عن عثمان قال لا و الله حتى تعطي بنو أمية الحق من أنفسها

(11/2)


و روى الطبري أن عثمان كان له على طلحة خمسون ألفا فخرج عثمان يوما إلى المسجد فقال له طلحة قد تهيأ مالك فاقبضه فقال هو لك يا أبا محمد معونة لك على مروءتك. قال فكان عثمان يقول و هو محصور جزاء سنمار. و روى الطبري أيضا أن طلحة باع أرضا له من عثمان بسبعمائة ألف فحملها إليه فقال طلحة إن رجلا يبيت و هذه عنده و في بيته لا يدري ما يطرقه من أمر الله لغرير بالله فبات و رسله تختلف بها في سكك المدينة يقسمها حتى أصبح و ما عنده منها درهم واحد. قال الطبري روى ذلك الحسن البصري و كان إذا روى ذلك يقول ثم جاء إلينا يطلب الدينار و الدرهم أو قال و الصفراء و البيضاء. شرح نهج البلاغة ج : 10 ص : 6و روى الطبري أيضا قال قال ابن عباس رحمه الله لما حججت بالناس نيابة عن عثمان و هو محصور مررت بعائشة بالصلصل فقالت يا ابن عباس أنشدك الله فإنك قد أعطيت لسانا و عقلا أن تخذل الناس عن طلحة فقدانت لهم بصائرهم في عثمان و أنهجت و رفعت لهم المنار و تحلبوا من البلدان لأمر قد حم و إن طلحة فيما بلغني قد اتخذ رجالا على بيوت الأموال و أخذ مفاتيح الخزائن و أظنه يسير إن شاء الله بسيرة ابن عمه أبي بكر فقال يا أمه لو حدث بالرجل حدث ما فزع الناس إلا إلى صاحبنا فقالت إيها عنك يا ابن عباس إني لست أريد مكابرتك و لا مجادلتك. و روى المدائني في كتاب مقتل عثمان أن طلحة منع من دفنه ثلاثة أيام و أن عليا ع لم يبايع الناس إلا بعد قتل عثمان بخمسة أيام و أن حكيم بن حزام أحد بني أسد بن عبد العزى و جبير بن مطعم بن الحارث بن نوفل استنجدا بعلي ع على دفنه فأقعد طلحة لهم في الطريق ناسا بالحجارة فخرج به نفر يسير من أهله و هم يريدون به حائطا بالمدينة يعرف بحش كوكب كانت اليهود تدفن فيه موتاهم فلما صار هناك رجم سريره و هموا بطرحه فأرسل علي ع إلى الناس يعزم عليهم ليكفوا عنه فكفوا فانطلقوا به حتى دفنوه في حش كوكب. شرح نهج البلاغة ج : 10 ص : 7و روى

(11/3)


الطبري نحو ذلك إلا أنه لم يذكر طلحة بعينه و زاد فيه أن معاوية لما ظهر على الناس أمر بذلك الحائط فهدم حتى أفضى به إلى البقيع و أمر الناس أن يدفنوا موتاهم حول قبره حتى اتصل ذلك بمقابر المسلمي و روى المدائني في هذا الكتاب قال دفن عثمان بين المغرب و العتمة و لم يشهد جنازته إلا مروان بن الحكم و ابنة عثمان و ثلاثة من مواليه فرفعت ابنته صوتها تندبه و قد جعل طلحة ناسا هناك أكمنهم كمينا فأخذتهم الحجارة و صاحوا نعثل نعثل فقالوا الحائط الحائط فدفن في حائط هناك. و روى الواقدي قال لما قتل عثمان تكلموا في دفنه فقال طلحة يدفن بدير سلع يعني مقابر اليهود. و ذكر الطبري في تاريخه هذا إلا أنه روى عن طلحة فقال قال رجل يدفن بدير سلع فقال حكيم بن حزام و الله لا يكون هذا أبدا و أحد من ولد قصي حي حتى كاد الشر يلتحم فقال ابن عديس البلوي أيها الشيخ و ما يضرك أين دفن قال لا يدفن إلا ببقيع الغرقد حيث دفن سلفه و رهطه فخرج به حكيم بن حزام في اثني عشر رجلا منهم الزبير بن العوام فمنعهم الناس عن البقيع فدفنوه بحش كوكب.

(11/4)


شرح نهج البلاغة ج : 10 ص : 8و روى الطبري في التاريخ أن عثمان لما حصر كان علي ع بخيبر في أمواله فلما قدم أرسل إليه يدعوه فلما دخل عليه قال له إن لي عليك حقوقا حق الإسلام و حق النسب و حق ما لي عليك من العهد و الميثاق و و الله أن لو لم يكن من هذا كله شي ءكنا في جاهلية لكان عارا على بني عبد مناف أن يبتزهم أخو تيم ملكهم يعني طلحة فقال له ع سيأتيك الخبر ثم قام فدخل المسجد فرأى أسامة بن زيد جالسا فدعاه فاعتمد على يده و خرج يمشي إلى طلحة فدخل داره و هي دحاس من الناس فقام ع فقال يا طلحة ما هذا الأمر الذي وقعت فيه فقال يا أبا أحسن أ بعد ما مس الحزام الطبيين فانصرف علي ع و لم يحر إليه شيئا حتى أتى بيت المال فنادى افتحوا هذا الباب فلم يقدروا على فتحه فقال اكسروه فكسر فقال أخرجوا هذا المال فجعلوا يخرجونه و هو يعطي الناس و بلغ الذين في دار طلحة ما صنع علي ع فجعلوا يتسللون إليه حتى بقي طلحة وحده و بلغ الخبر عثمان فسر بذلك ثم أقبل طلحة يمشي عامدا إلى دار عثمان فاستأذن عليه فلما دخل قال يا أمير المؤمنين أستغفر الله و أتوب إليه لقد رمت أمرا حال الله بيني و بينه فقال عثمان إنك و الله ما جئت تائبا و لكن جئت مغلوبا و الله حسيبك يا طلحة. ثم قسم ع حال طلحة فقال لا يخلو إما أن يكون معتقدا حل دم عثمان أو حرمته أو يكون شاكا في الأمرين فإن كان يعتقد حله لم يجز له أن ينقض البيعة لنصرة إنسان حلال الدم و إن كان يعتقد حرمته فقد كان يجب عليه أن ينهنه عنه الناس أي يكفهم. شرح نهج البلاغة : 10 ص : 9و أن يعذر فيه بالتشديد أي يقصر و لم يفعل ذلك و إن كان شاكا فقد كان يجب عليه أن يعتزل الأمر و يركد جانبا و لم يعتزل و إنما صلي بنار الفتنة و أصلاها غيره. فإن قلت يمكن أن يكون طلحة اعتقد إباحة دم عثمان أولا ثم تبدل ذلك الاعتقاد بعد قتله فاعتقد أن قتله حرام و أنه يجب أن يقتص من قاتليه. قلت لو اعترف بذلك لم يقسم علي

(11/5)


ع هذا التقسيم و إنما قسمه لبقائه على اعتقاد واحد و هذا التقسيم مع فرض بقائه على اعتقاد واحد صحيح لا مطعن فيه و كذا كان حال طلحة فإنه لم ينقل عنه أنه قال ندمت على ما فعلت بعثمان فإن قلت كيف قال أمير المؤمنين ع فما فعل واحدة من الثلاث و قد فعل واحدة منها لأنه وازر قاتليه حيث كان محصورا. قلت مراده ع أنه إن كان عثمان ظالما وجب أن يؤازر قاتليه بعد قتله يحامي عنهم و يمنعهم ممن يروم دماءهم و معلوم أنه لم يفعل ذلك و إنما وازرهم و عثمان حي و ذلك غير داخل في التقسيم

(11/6)


شرح نهج البلاغة ج : 10 ص : 17610- من خطبة له يأَيُّهَا النَّاسُ غَيْرُ الْمَغْفُولِ عَنْهُمْ وَ التَّارِكُونَ وَ الْمَأْخُوذُ مِنْهُمْ مَا لِي أَرَاكُمْ عَنِ اللَّهِ ذَاهِبِينَ وَ إِلَى غَيْرِهِ رَاغِبِينَ كَأَنَّكُمْ نَعَمٌ أَرَاحَ بِهَا سَائِمٌ إِلَى مَرْعًى وَبِيٍّ وَ مَشْرَبٍ دَوِيٍّ وَ إِنَّمَا هِيَ كَالْمَعْلُوفَةِ لِلْمُدَى لَا تَعْرِفُ مَا ذَا يُرَادُ بِهَا إِذَا أُحْسِنَ إِلَيْهَا تَحْسَبُ يَوْمَهَا دَهْرَهَا وَ شِبَعَهَا أَمْرَهَا وَ اللَّهِ لَوْ شِئْتُ أَنْ أُخْبِرَ كُلَّ رَجُلٍ مِنْكُمْ بِمَخْرَجِهِ وَ مَوْلِجِهِ وَ جَمِيعِ شَأْنِهِ لَفَعَلْتُ وَ لَكِنْ أَخَافُ أَنْ تَكْفُرُوا فِيَّ بِرَسُولِ اللَّهِ ص أَلَا وَ إِنِّي مُفْضِيهِ إِلَى الْخَاصَّةِ مِمَّنْ يُؤْمَنُ ذَلِكَ مِنْهُ وَ الَّذِي بَعَثَهُ بِالْحَقِّ وَ اصْطَفَاهُ عَلَى الْخَلْقِ مَا أَنْطِقُ إِلَّا صَادِقاً وَ لَقَدْ عَهِدَ إِلَيَّ بِذَلِكَ كُلِّهِ وَ بِمَهْلِكِ مَنْ يَهْلِكُ وَ مَنْجَى مَنْ يَنْجُو وَ مَآلِ هَذَا الْأَمْرِ وَ مَا أَبْقَى شَيْئاً يَمُرُّ عَلَى رَأْسِي إِلَّا أَفْرَغَهُ فِي أُذُنِي وَ أَفْضَى بِهِ إِلَيَّ أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي وَ اللَّهِ مَا أَحُثُّكُمْ عَلَى طَاعَةٍ إِلَّا وَ أَسْبِقُكُمْ إِلَيْهَا وَ لَا أَنْهَاكُمْ عَنْ مَعْصِيَةٍ إِلَّا وَ أَتَنَاهَى قَبْلَكُمْ عَنْهَا

(11/7)


خاطب المكلفين كافة و قال إنهم غافلون عما يراد بهم و منهم و ليسوا بمغفول عنهم بل أعمالهم محفوظة مكتوبة. شرح نهج البلاغة ج : 10 ص : 11ثم قال و التاركون أي يتركون الواجبات. ثم قابل ذلك بقوله و المأخوذ منهم لأن الأخذ في مقابلة الترك و معنى الأخذ منهم انتقاص مارهم و انتقاض قواهم و استلاب أحبابهم و أموالهم. ثم شبههم بالنعم التي تتبع نعما أخرى. سائمة أي راعية و إنما قال ذلك لأنها إذا اتبعت أمثالها كان أبلغ في ضرب المثل بجهلها من الإبل التي يسيمها راعيها و المرعى الوبي ذو الوباء و المرض و المشرب الدوي ذو الداء و أصل الوبي اللين الوبي ء المهموز و لكنه لينه يقال أرض وبيئة على فعيلة و وبئة على فعلة و يجوز أوبأت فهي موبئة. و الأصل في الدوي دو بالتخفيف و لكنه شدده للازدواج. ثم ذكر أن هذه النعم الجاهلة التي أوقعت أنفسها في هذا المرتع و المشرب المذمومين كالغنم و غيرها م النعم المعلوفة. للمدى جمع مدية و هي السكين لا تعرف ما ذا يراد بها و تظن أن ذلك العلف إحسان إليها على الحقيقة. و معنى قوله تحسب يومها دهرها أي تظن أن ذلك العلف و الإطعام كما هو حاصل لها ذلك اليوم يكون حاصلا لها أبدا. و شبعها أمرها مثل ذلك أي تظن أنه ليس أمرها و شأنها إلا أن يطعمها أربابها لتشبع و تحسن و تسمن ليس يريدون بها غير ذلك. ثم خرج ع من هذا الفن إلى فن آخر فأقسم أنه لو شاء أن يخبر كل واحد منهم من أين خرج و كيفية خروجه من منزله و أين يلج و كيفية ولوجه و جميع شأنه من مطعمه و مشربه و ما عزم عليه من أفعاله و ما أكله و ما ادخره في بيته و غير ذلك من شئونه و أحواله لفعل. شرح نهج البلاغة ج : 10 ص : 12و هذا كقول المسيح ع وَ أُنَبِّئُكُمْ بِما تَأْكُلُونَ وَ ما تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ. قال إلا أني أخاف أن تكفروا في برسول الله ص أي أخاف عليكم الغلو في أمرو أن تفضلوني على رسول الله ص بل أخاف عليكم أن تدعوا في الإلهية كما

(11/8)


ادعت النصارى ذلك في المسيح لما أخبرهم بالأمور الغائبة. ثم قال ألا و إني مفضيه إلى الخاصة أي مفض به و مودع إياه خواص أصحابي و ثقاتي الذين آمن منهم الغلو و أعلم أنهم لا يكفرون في بالرسول ص لعلمهم أن ذلك من إعلام نبوته إذ يكون تابع من أتباعه و صاحب من أصحابه بلغ إلى هذه المنزلة الجليلة. ثم أقسم قسما ثانيا أنه ما ينطق إلا صادقا و أن رسول الله ص عهد بذلك كله إليه و أخبره بمهلك من يهلك من الصحابة و غيرهم من الناس و بنجاة من ينجو و بمآل هذا الأمر يعني ما يفضي إليه أمر الإسلام و أمر الدولة و الخلافة و أنه ما ترك شيئا يمر على رأسه ع إلا و أخبره به و أسره إليه
فصل في ذكر بعض أقوال الغلاة في علي
و اعلم أنه غير مستحيل أن تكون بعض الأنفس مختصة بخاصية تدرك بها المغيبات و قد تقدم من الكلام في ذلك ما فيه كفاية و لكن لا يمكن أن تكون نفس تدرك كل المغيبات لأن القوة المتناهية لا تحيط بأمور غير متناهية و كل قوة في نفس حادثة فهي متناهية فوجب أن يحمل كلام أمير المؤمنين ع لا على أن يريد به عموم العالمية شرح نهج البلاغة ج : 10 ص : 13بل بعلم أمورا محدودة من المغيبات مما اقتضت حكمة البارئ سبحانه أن يؤهله لعلمه و كذلك القول في رسول الله ص إنه إنما كان يعلم أمورا معدودة لا أمورا غير متناهية و مع أنه ع قد كتم ما عل حذرا من أن يكفروا فيه برسول الله ص فقد كفر كثير منهم و ادعوا فيه النبوة و ادعوا فيه أنه شريك الرسول في الرسالة و ادعوا فيه أنه هو كان الرسول و لكن الملك غلط فيه و ادعوا أنه هو الذي بعث محمدا ص إلى الناس و ادعوا فيه الحلول و ادعوا فيه الاتحاد و لم يتركوا نوعا من أنواع الضلالة فيه إلا و قالوه و اعتقدوه و قال شاعرهم فيه من أبيات
و من أهلك عادا و ثمودا بدواهيه و من كلم موسى فوق طور إذ يناديه و من قال على المنبر يوما و هو راقيه سلوني أيها الناس فحاروا في معانو قال بعض شعرائهم

(11/9)


إنما خالق الخلائق من زعزع أركان حصن خيبر جذباقد رضينا به إماما و مولى و سجدنا له إلها و ربا
جملة من إخبار علي بالأمور الغيبية
و قد ذكرنا فيما تقدم من إخباره ع عن الغيوب طرفا صالحا و من عجيب ما وقفت عليه من ذلك قوله في الخطبة التي يذكر فيها الملاحم و هو يشير إلى القرامطة شرح نهج البلاغة ج : 10 ص : 14ينتحلون لنا الحب و الهوى و يضمرون لنا البغض و القلى و آية ذلك قتلهم وراثنا و هجر أحداثنا. و صح ما أخبر به لأن القرامطة قتلت من آل أبي طالب ع خلقا كثيرا و أسماؤهم مذكورة في كتاب مقاتل الطالبيين لأبي الفرج الأصفهاني. و مر أبو طاهر سليمان بن الحسن الجنابي في جيشه بالغري و بالحائر فلم يعرج على واحد منهما و لا دخل و لا وقف. و في هذه الخطبة قال و هو يشير إلى السارية التي كان يستند إليها في مسجد الكوفة كأني بالحجر الأسود منصوبا هاهنا ويحهم إن فضيلته ليست في نفسه بل في موضعه و أسسه يمكث هاهنا برهة ثم هاهنا برهة و أشار إلى البحرين ثم يعود إلى مأواه و أم مثواه. و وقع الأمر في الحجر الأسود بموجب ما أخبر به ع. و قد وقفت له على خطب مختلفة فيها ذكر الملاحم فوجدتها تشتمل على ما يجوز أن ينسب إليه و ما لا يجوز أن ينسب إليه و وجدت في كثير منها اختلالا ظاهرا و هذه المواضع التي أنقلها ليست من تلك الخطب المضطربة بل من كلام له وجدته متفرقا في كتب مختلفة و من ذلك

(11/10)


أن تميم بن أسامة بن زهير بن دريد التميمي اعترضه و هو يخطب على المنبر و يقول سلوني قبل أن تفقدوني فو الله لا تسألوني عن فئة تضل مائة أو تهدي مائة إلا نبأتكم بناعقها و سائقها و لو شئت لأخبرت كل واحد منكم بمخرجه و مدخله و جمع شأنه فقال فكم في رأسي طاقة شعر فقال له أما و الله إني لأعلم ذلك و لكن أين برهانه لو أخبرتك به و لقد أخبرتك بقيامك و مقالك و قيل لي إن على كل شرح نهج البلاغة ج : 10 ص : 15شعرة من شعر رأسك ملكا يلعنك و شيطانا يستفزك و آية ذلك أن في بيتك سخلا يقتل ابن رسول الله ص و يحض على قتلهفكان الأمر بموجب ما أخبر به ع كان ابنه حصين بالصاد المهملة يومئذ طفلا صغيرا يرضع اللبن ثم عاش إلى أن صار على شرطة عبيد الله بن زياد و أخرجه عبيد الله إلى عمر بن سعد يأمره بمناجزة الحسين ع و يتوعده على لسانه إن أرجأ ذلك فقتل ع صبيحة اليوم الذي ورد فيه الحصين بالرسالة في ليلته. و من ذلك
قوله ع للبراء بن عازب يوما يا براء أ يقتل الحسين و أنت حي فلا تنصره فقال البراء لا كان ذلك يا أمير المؤمنين
فلما قتل الحسين ع كان البراء يذكر ذلك و يقول أعظم بها حسرة إذ لم أشهده و أقتل دونه. و سنذكر من هذا النمط فيما بعد إذا مررنا بما يقتضي ذكره ما يحضرنا إن شاء الله

(11/11)


شرح نهج البلاغة ج : 10 ص : 17716- و من خطبة له عانْتَفِعُوا بِبَيَانِ اللَّهِ وَ اتَّعِظُوا بِمَوَاعِظِ اللَّهِ وَ اقْبَلُوا نَصِيحَةَ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ قَدْ أَعْذَرَ إِلَيْكُمْ بِالْجَلِيَّةِ وَ أَخَذَ عَلَيْكُمُ الْحُجَّةَ وَ بَيَّنَ لَكُمْ مَحَابَّهُ مِنَ الْأَعْمَالِ وَ مَكَارِهَهُ مِنْهَا لِتَتَّبِعُوا هَذِهِ وَ تَجْتَنِبُوا هَذِهِ فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ ص كَانَ يَقُولُ إِنَّ الْجَنَّةَ حُفَّتْ بِالْمَكَارِهِ وَ إِنَّ النَّارَ حُفَّتْ بِالشَّهَوَاتِ وَ اعْلَمُوا أَنَّهُ مَا مِنْ طَاعَةِ اللَّهِ شَيْ ءٌ إِلَّا يَأْتِي فِي كُرْهٍ وَ مَا مِنْ معْصِيَةِ اللَّهِ شَيْ ءٌ إِلَّا يَأْتِي فِي شَهْوَةٍ فَرَحِمَ اللَّهُ امْرَأً نَزَعَ عَنْ شَهْوَتِهِ وَ قَمَعَ هَوَى نَفْسِهِ فَإِنَّ هَذِهِ النَّفْسَ أَبْعَدُ شَيْ ءٍ مَنْزِعاً وَ إِنَّهَا لَا تَزَالُ تَنْزِعُ إِلَى مَعْصِيَةٍ فِي هَوًى وَ اعْلَمُوا عِبدَ اللَّهِ أَنَّ الْمُؤْمِنَ لَا يُمْسِي وَ لَا يُصْبِحُ إِلَّا وَ نَفْسُهُ ظَنُونٌ عِنْدَهُ فَلَا يَزَالُ زَارِياً عَلَيْهَا وَ مُسْتَزِيداً لَهَا فَكُونُوا كَالسَّابِقِينَ قَبْلَكُمْ وَ الْمَاضِينَ أَمَامَكُمْ قَوَّضُوا مِنَ الدُّنْيَا تَقْوِيضَ الرَّاحِلِ وَ طَوَوْهَا طَيَّ الْمَنَازِلِ
أعذر إليكم أوضح عذره في عقابكم إذا خالفتم أوامره و الجلية اليقين و إنما أعذر إليهم بذلك لأنه مكنهم من العلم اليقيني بتوحيده و عدله و أوجب عليهم ذلك في شرح نهج البلاغة ج : 10 ص : 17عقولهم فإذا تركوه ساغ في الحكمة تعذيبهم و عقوبتهم فكأنه قد أبان لهم عذره ألو قالوا لم تعاقبنا. و محابه من الأعمال هي الطاعات التي يحبها و حبه لها إرادة وقوعها من المكلفين و مكارهه من الأعمال القبائح التي يكرهها منهم و هذا الكلام حجة لأصحابنا على المجبرة و الخبر الذي رواه ع مروي في كتب المحدثين و هو

(11/12)


قول رسول الله ص حجبت الجنة بالمكاره و حفت النار بالشهوات
و من المحدثين من يرويه حفت فيهما و ليس منهم من يرويه حجبت في النار و ذلك لأن لفظ الحجاب إنما يستعمل فيما يرام دخوله و ولوجه لمكان النفع فيه و يقال حجب زيد عن مأدبة الأمير و لا يقال حجب زيد عن الحبس. ثم ذكر ع أنه لا طاعة إلا في أمر تكرهه النفس و لا معصية إلا بمواقعة أمر تحبه النفس و هذا حق لأن الإنسان ما لم يكن متردد الدواعي لا يصح التكليف و إنما تتردد الدواعي إذا أمر بما فيه مشقة أو نهي عما فيه لذة و منفعة. فإن قلت أ ليس قد أمر الإنسان بالنكاح و هو لذة قلت ما فيه من ضرر الإنفاق و معالجة أخلاق النساء يربي على اللذة الحاصلة فيه مرارا. ثم قال ع رحم الله امرأ نزع عن شهوته أي أقلع. و قمع هوى نفسه أي قهره. ثم قال فإن هذه النفس أبعد شي ء منزعا أي مذهبا قال أبو ذؤيب و النفس راغبة إذا رغبتها و إذا ترد إلى قليل تقنع
شرح نهج البلاغة ج : 10 ص : 18و من الكلام المروي عنه ع و يروى أيضا عن غيره أيها الناس إن هذه النفوس طلعة فإلا تقدعوها تنزع بكم إلى شر غايةو قال الشاعر
و ما النفس إلا حيث يجعلها الفتى فإن أطمعت تاقت و إلا تسلت
ثم قال ع نفس المؤمن ظنون عنده الظنون البئر التي لا يدرى أ فيها ماء أم لا فالمؤمن لا يصبح و لا يمسي إلا و هو على حذر من نفسه معتقدا فيها التقصير و التضجيع في الطاعة غير قاطع على صلاحها و سلامة عاقبتها. و زاريا عليها عائبا زريت عليه عبت. ثم أمرهم بالتأسي بمن كان قبلهم و هم الذين قوضوا من الدنيا خيامهم أي نقضوها و طووا أيام العمر كما يطوي المسافر منازل طريقه

(11/13)


وَ اعْلَمُوا أَنَّ هَذَا الْقُرْآنَ هُوَ النَّاصِحُ الَّذِي لَا يَغُشُّ وَ الْهَادِي الَّذِي لَا يُضِلُّ وَ الْمُحَدِّثُ الَّذِي لَا يَكْذِبُ وَ مَا جَالَسَ هَذَا الْقُرْآنَ أَحَدٌ إِلَّا قَامَ عَنْهُ بِزِيَادَةٍ أَوْ نُقْصَانٍ زِيَادَةٍ فِي هُدًى أَوْ نُقْصَانٍ مِنْ عَمًى وَ اعْلَمُوا أَنَّهُ لَيْسَ عَلَى أَحَدٍ بَعْدَ الْقُرْآنِ مِنْ فَاقَةٍ وَ لَا لِأَحَدٍ قَبْلَ الْقُرْآنِ مِنْ شرح نهج البلاغة ج : 10 ص : 19غِنًى فَاسْتَشْفُوهُ مِنْ أَدْوَائِكُمْ وَ اسْتَعِينُوا بِهِ عَلَى لَأْوَائِكُمْ فَإِنَّ فِيهِ شَاءً مِنْ أَكْبَرِ الدَّاءِ وَ هُوَ الْكُفْرُ وَ النِّفَاقُ وَ الْغَيُّ وَ الضَّلَالُ فَاسْأَلُوا اللَّهَ بِهِ وَ تَوَجَّهُوا إِلَيْهِ بِحُبِّهِ وَ لَا تَسْأَلُوا بِهِ خَلْقَهُ إِنَّهُ مَا تَوَجَّهَ الْعِبَادُ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى بِمِثْلِهِ وَ اعْلَمُوا أَنَّهُ شَافِعٌ مُشَفَّعٌ وَ قَائِلٌ مُصَدَّقٌ وَ أَنَّهُ مَنْ شَفَعَ لَهُ الْقُرْآنُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ شُفِّعَ فِيهِ وَ مَنْ مَحَلَ بِهِ الْقُرْآنُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ صُدِّقَ عَلَيْهِ فَإِنَّهُ يُنَادِي مُنَادٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا إِنَّ كُلَّ حَارِثٍ مُبْتَلًى فِي حَرْثِهِ وَ عَاقِبَةِ عَمَلِهِ غَيْرَ حَرَثِةِ الْقُرْآنِ فَكُونُوا مِنْ حَرَثَتِهِ وَ أَتْبَاعِهِ وَ اسْتَدِلُّوهُ عَلَى رَبِّكُمْ وَ اسْتَنْصِحُوهُ عَلَى أَنْفُسِكُمْ وَ اتَّهِمُوا عَلَيْهِ آرَاءَكُمْ وَ اسْتَغِشُّوا فِيهِ أَهْوَاءَكُمْ

(11/14)


غشه يغشه بالضم غشا خلاف نصحه و اللأواء الشدة. و شفع له القرآن شفاعة بالفتح و هو مما يغلط فيه العامة فيكسرونه و كذلك تبعت كذا بكذا أتبعته مفتوح أيضا. و محل به إلى السلطان قال عنه ما يضره كأنه جعل القرآن يمحل يوم القيامة عند الله بقوم أي يقول عنهم شرا و يشفع عند الله لقوم أي يثني عليهم خيرا. و الحارث المكتسب و الحرث الكسب و حرثة القرآن المتاجرون به الله. و استنصحوه على أنفسكم أي إذا أشار عليكم بأمر و أشارت عليكم أنفسكم بأمر يخالفه. شرح نهج البلاغة ج : 10 ص : 20فاقبلوا مشورة القرآن دون مشورة أنفسكم و كذلك مع قوله و اتهموا عليه آراءكم و استغشوا فيه أهواءكم
فصل في القرآن و ذكر الآثار التي وردت بفضله
و اعلم أن هذا الفصل من أحسن ما ورد في تعظيم القرآن و إجلاله و قد قال الناس في هذا الباب فأكثروا. و من الكلام المروي عن أمير المؤمنين ع في ذكر القرآن أيضا ما
رواه ابن قتيبة في كتاب عيون الأخبار عنه ع أيضا و هو مثل المؤمن الذي يقرأ القرآن كمثل الأترجة ريحها طيب و طعمها طيب و مثل المؤمن الذي لا يقرأ القرآن كمثل التمرة طعمها طيب و لا ريح لها و مثل الفاجر الذي يقرأ القرآن كمثل الريحانة ريحها طيب و طعمها مر و مثل الفاجر الذي لا يقرأ القرآن مثل الحنظلة طعمها مر و ريحها منتنة

(11/15)


و قال الحسن رحمه الله قراء القرآن ثلاثة رجل اتخذه بضاعة فنقله من مصر إلى مصر يطلب به ما عند الناس و رجل حفظ حروفه و ضيع حدوده و استدر به الولاة و استطال به على أهل بلاده و قد كثر الله هذا الضرب من حملة القرآن لا كثرهم الله و رجل قرأ القرآن فبدأ بما يعلم من دواء القرآن فوضعه على داء قلبه فسهر ليله و انهملت عيناه و تسربل بالخشوع و ارتدى بالحزن فبذاك و أمثاله يسقى الناس الغيث و ينزل النصر و يدفع البلاء و الله لهذا الضرب من حملة القرآن أعز و أقل من الكبريت الأحمر شرح نهج البلاغة ج : 10 ص : 21و في الحديث المرفوع إن من تعظيم جلال الله إكرام ذي الشيبة في الإسلام و إكرام الإمام العادل و إكرام حملة القرآن
و في الخبر المرفوع أيضا لا تسافروا بالقرآن إلى أرض العدو فإني أخاف أن يناله العدو
و كانت الصحابة تكره بيع المصاحف و تراه عظيما و كانوا يكرهون أن يأخذ المعلم على تعليم القرآن أجرا. و
كان ابن عباس يقول إذا وقعت في آل حم وقعت في روضات دمثات أتأنق فيهن
و قال ابن مسعود لكل شي ء ديباجة و ديباجة القرآن آل حم قيل لابن عباس أ يجوز أن يحلى المصحف بالذهب و الفضة فقال حليته في جوفه
و قال النبي ص أصفر البيوت جوف صفر من كتاب الله
و قال الشعبي إياكم و تفسير القرآن فإن الذي يفسره إنما يحدث عن الله. الحسن رحمه الله رحم الله امرأ عرض نفسه و عمله على كتاب الله فإن وافق حمد الله و سأله الزيادة و إن خالف أعتب و راجع من قريب. حفظ عمر بن الخطاب سورة البقرة فنحر و أطعم.
وفد غالب بن صعصعة على علي ع و معه ابنه الفرزدق فقال له من أنت فقال غالب بن صعصعة المجاشعي قال ذو الإبل الكثيرة قال نعم قال ما فعلت إبلك قال أذهبتها النوائب و ذعذعتها الحقوق قال ذاك خير سبلها شرح نهج البلاغة ج : 10 ص : 22ثم قال يا أبا الأخطل من هذا الغلامعك قال ابني و هو شاعر قال علمه القرآن فهو خير له من الشعر

(11/16)


فكان ذلك في نفس الفرزدق حتى قيد نفسه و آلى ألا يحل قيده حتى يحفظ القرآن فما حله حتى حفظه و ذلك قوله
و ما صب رجلي في حديد مجاشع مع القد إلا حاجة لي أريدها
قلت تحت قوله ع يا أبا الأخطل قبل أن يعلم أن ذلك الغلام ولده و أنه شاعر سر غامض و يكاد يكون إخبارا عن غيب فليلمح. الفضيل بن عياض بلغني أن صاحب القرآن إذا وقف على معصية خرج القرآن من جوفه فاعتزل ناحية و قال أ لهذا حملتني. قلت و هذا القول على سبيل المثل و التخويف من مواقعة المعاصي لمن يحفظ القرآن.
أنس قال قال لي رسول الله ص يا ابن أم سليم لا تغفل عن قراءة القرآن صباحا و مساء فإن القرآن يحيي القلب الميت و ينهى عن الفحشاء و المنكر
كان سفيان الثوري إذا دخل شهر رمضان ترك جميع العبادة و أقبل على قراءة القرآن من المصحف.
كعب الأحبار قال الله تعالى لموسى ع مثل كتاب محمد في الكتب مثل سقاء فيه لبن كلما مخضته استخرجت منه زبدا
أسلم الخواص كنت أقرأ القرآن فلا أجد له حلاوة فقلت لنفسي يا أسلم اقرأ القرآن كأنك تسمعه من رسول الله ص فجاءت حلاوة قليلة فقلت اقرأه كأنك تسمعه من جبرئيل ع فازدادت الحلاوة فقلت اقرأه كأنك تسمعه من الله عز و جل حين تكلم به فجاءت الحلاوة كلها. شرح نهج البلاغج : 10 ص : 23بعض أرباب القلوب إن الناس يجمزون في قراءة القرآن ما خلا المحبين فإن لهم خان إشارات إذا مروا به نزلوا يريد آيات من القرآن يقفون عندها فيفكرون فيها.
في الحديث المرفوع ما من شفيع من ملك و لا نبي و لا غيرهما أفضل من القرآن
و في الحديث المرفوع أيضا من قرأ القرآن ثم رأى أن أحدا أوتي أفضل مما أوتي فقد استصغر عظمة الله
و جاء في بعض الآثار إن الله تعالى خلق بعض القرآن قبل أن يخلق آدم و قرأه على الملائكة فقالوا طوبى لأمة ينزل عليها هذا و طوبى لأجواف تحمل هذا و طوبى لألسنة تنطق بهذا

(11/17)


و قال النبي ص إن القلوب تصدأ كما يصدأ الحديد قيل يا رسول الله و ما جلاؤها قال قراءة القرآن و ذكر الموت
و عنه ع ما أذن الله لشي ء أذنه لنبي حسن الترنم بالقرآن و عنه ع إن ربكم لأشد أذنا إلى قارئ القرآن من صاحب القينة إلى قينته
و عنه ع أنت تقرأ القرآن ما نهاك فإذا لم ينهك فلست تقرؤه
ابن مسعود رحمه الله ينبغي لحامل القرآن أن يعرف بليله إذ الناس نائمون و بنهاره إذ الناس مفطرون و بحزنه إذ الناس يفرحون و ببكائه إذ الناس يضحكون و بخشوعه إذ الناس يختالون و ينبغي لحامل القرآن أن يكون سكيتا زميتا لينا و لا ينبغي أن يكون جافيا و لا مماريا و لا صياحا و لا حديدا و لا صخابا
شرح نهج البلاغة ج : 10 ص : 24بعض السلف إن العبد ليفتتح سورة فتصلي عليه حتى يفرغ منها و إن العبد ليفتتح سورة فتلعنه حتى يفرغ منها قيل كيف ذاك قال إذا أحل حلالها و حرم حرامها صلت عليه و إلا لعنته. ابن مسعود أنزل الله عليهم القرآن ليعملوا به فاتخذوا دراسته عملا إن أحدهم ليقرأ القرآن من فاتحته إلى خاتمته ما يسقط منه حرفا و قد أسقط العمل به
ابن عباس لأن أقرأ البقرة و آل عمران أرتلهما و أتدبرهما أحب إلي من أن أقرأ القرآن كله هذرمة
ثابت البناني كابدت في القرآن عشرين سنة و تنعمت به عشرين سنة

(11/18)


الْعَمَلَ الْعَمَلَ ثُمَّ النِّهَايَةَ النِّهَايَةَ وَ الِاسْتِقَامَةَ الِاسْتِقَامَةَ ثُمَّ الصَّبْرَ الصَّبْرَ وَ الْوَرَعَ الْوَرَعَ إِنَّ لَكُمْ نِهَايَةً فَانْتَهُوا إِلَى نِهَايَتِكُمْ وَ إِنَّ لَكُمْ عَلَماً فَاهْتَدُوا بِعَلَمِكُمْ وَ إِنَّ لِلْإِسْلَامِ غَايَةً فَانْتَهُوا إِلَى غَايَتِهِ وَ اخْرُجُوا إِلَى اللَّهِ مِمَّا افْتَرَضَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَقِّهِ وَ بَيَّنَ لَكُمْ مِنْ وَظَائِفِهِ أَنَا شَاهِدٌ لَكُمْ وَ حَجِيجٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَنْكُمْ أَلَا وَ إِنَّ الْقَدَرَ السَّابِقَ قَدْ وَقَعَ وَ الْقَضَاءَ الْمَاضِيَ قَدْ تَوَرَّدَ وَ إِنِّي مُتَكَلِّمٌ بِعِدَةِ اللَّهِ وَ حُجَّتِهِ قَالَ اللَّهُ جَلَّ ذِكْرُهُ إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخافُوا وَ لا تَحْزَنُوا وَ أَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ شرح نهج البلاغة ج : 10 ص : 25الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ وَ قَدْ قُلْتُمْ رَبُّنَا اللَّهُ فَاسْتَقِيمُوا عَلَى كِتَابِهِ وَ عَلَى مِنْهَاجِ أَمْرِهِ وَ عَلَى الطَّرِيقَةِ الصَّالِحَةِ مِنْ عِبَادَتِهِ ثُمَّ لَا تَمْرُقُوا مِنْهَا وَ ل تَبْتَدِعُوا فِيهَا وَ لَا تُخَالِفُوا عَنْهَا فَإِنَّ أَهْلَ الْمُرُوقِ مُنْقَطَعٌ بِهِمْ عِنْدَ اللَّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ

(11/19)


النصب على الإغراء و حقيقته فعل مقدر أي الزموا العمل و كرر الاسم لينوب أحد اللفظين عن الفعل المقدر و الأشبه أن يكون اللفظ الأول هو القائم مقام الفعل لأنه في رتبته أمرهم بلزوم العمل ثم أمرهم بمراعاة العاقبة و الخاتمة و عبر عنها بالنهاية و هي آخر أحوال المكلف التي يفارق الدنيا عليها إما مؤمنا أو كافرا أو فاسقا و الفعل المقدر هاهنا راعوا و أحسنوا و أصلحوا و نحو ذلك. ثم أمرهم بالاستقامة و أن يلزموها و هي أداء الفرائض. ثم أمرهم بالصبر عليها و ملازمته و بملازمة الورع. ثم شرع بعد هذا الكلام المجمل في تفصيله فقال إن لكم نهاية فانتهوا إلى نهايتكم و هذا
لفظ رسول الله ص أيها الناس إن لكم معالم فانتهوا إلى معالمكم و إن لكم غاية فانتهوا إلى غايتكم

(11/20)


و المراد بالنهاية و الغاية أن يموت الإنسان على توبة من فعل القبيح و الإخلال بالواجب. ثم أمرهم بالاهتداء بالعلم المنصوب لهم و إنما يعني نفسه ع. ثم ذكر أن للإسلام غاية و أمرهم بالانتهاء إليها و هي أداء الواجبات و اجتناب المقبحات. ثم أوضح ذلك بقوله و اخرجوا إلى الله مما افترض عليكم من حقه و بين لكم شرح نهج البلاغة ج : 10 ص : 26من وظائفه فكشف بهذا الكلام معنى الغاية التي أجملها أولا ثم ذكر أنه شاهد لهم و محاج يوم القيامة عنهم و هذا إشارة إلى قوله تعالى يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُناسٍ بِإِمامِهِمْ. و حجيج فعيل بمى فاعل و إنما سمى نفسه حجيجا عنهم و إن لم يكن ذلك الموقف موقف مخاصمة لأنه إذا شهد لهم فكأنه أثبت لهم الحجة فصار محاجا عنهم. قوله ع ألا و إن القدر السابق قد وقع يشير به إلى خلافته. و هذه الخطبة من أوائل الخطب التي خطب بها أيام بويع بعد قتل عثمان و في هذا إشارة إلى أن رسول الله ص قد أخبره أن الأمر سيفضى إليه منتهى عمره و عند انقضاء أجله. ثم أخبرهم أنه سيتكلم بوعد الله تعالى و محجته على عباده في قوله إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا... الآية و معنى الآية أن الله تعالى وعد الذين أقروا بالربوبية و لم يقتصروا على الإقرار بل عقبوا ذلك بالاستقامة أن ينزل عليهم الملائكة عند موتهم بالبشرى و لفظة ثم للتراخي و الاستقامة مفضلة على الإقرار باللسان لأن الشأن كله في الاستقامة و نحوها قوله تعالى إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَ رَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتابُوا أي ثم ثبتوا على الإقرار و مقتضياته و الاستقامة هاهنا هي الاستقامة الفعلية شافعة للاستقامة القولية و قد اختلف فيه قول أمير المؤمنين ع و أبي بكر فقال أمير المؤمنين ع أدوا الفرائض و قال أبو بكر استمروا على التوحيد. شرح نهج الاغة ج : 10 ص : 27و روي أن أبا بكر تلاها و قال ما تقولون فيها فقالوا

(11/21)


لم يذنبوا فقال حملتم الأمر على أشده فقالوا قل قال لم يرجعوا إلى عبادة الأوثان و رأي أبي بكر في هذا الموضع إن ثبت عنه يؤكد مذهب الإرجاء و قول أمير المؤمنين ع يؤكد مذهب أصحابنا. و روى سفيان بن عبد الله الثقفي قال قلت يا رسول الله أخبرني بأمر أعتصم به فقال قل لا إله إلا الله ثم استقم فقلت ما أخوف ما تخافه علي فقال هذا و أخذ بلسان نفسه ص
و تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ عند الموت أو في القبر أو عند النشور. و أَلَّا تَخافُوا أن بمعنى أي أو تكون خفيفة من الثقيلة و أصله أنه لا تخافوا و الهاء ضمير الشأن. و قد فسر أمير المؤمنين الاستقامة المشترطة في الآية فقال قد أقررتم بأن الله ربكم فاستقيموا على كتابه و على منهاج أمره و على الطريقة الصالحة من عبادته. لا تمرقوا منها مرق السهم إذا خرج من الرمية مروقا. و لا تبتدعوا لا تحدثوا ما لم يأت به الكتاب و السنة. و لا تخالفوا عنها تقول خالفت عن الطريق أي عدلت عنها. قال فإن أهل المروق منقطع بهم بفتح الطاء انقطع بزيد بضم الهمزة فهو منقطع به إذا لم يجد بلاغا و وصولا إلى المقصد شرح نهج البلاغة ج : 10 ص : 2ثُمَّ إِيَّاكُمْ وَ تَهْزِيعَ الْأَخْلَاقِ وَ تَصْرِيفَهَا وَ اجْعَلُوا اللِّسَانَ وَاحِداً وَ لْيَخْزُنِ الرَّجُلُ لِسَانَهُ فَإِنَّ هَذَا اللِّسَانَ جَمُوحٌ بِصَاحِبِهِ وَ اللَّهِ مَا أَرَى عَبْداً يَتَّقِي تَقْوَى تَنْفَعُهُ حَتَّى يَخْتَزِنَ لِسَانَهُ وَ إِنَّ لِسَانَ الْمُؤْمِنِ مِنْ وَرَاءِ قَلْبِهِ وَ إِنَّ قَلْبَ الْمُنَافِقِ مِنْ وَرَاءِ لِسَانِهِ لِأَنَّ الْمُؤْمِنَ إِذَا أَرَادَ أَنْ يَتَكَلَّمَ بِكَلَامٍ تَدَبَّرَهُ فِي نَفْسِهِ فَإِنْ كَانَ خَيْراً أَبْدَاهُ وَ إِنْ كَانَ شَرّاً وَارَاهُ وَ إِنَّ الْمُنَافِقَ يَتَكَلَّمُ بِمَا أَتَى عَلَى لِسَانِهِ لَا يَدْرِي مَا ذَا لَهُ وَ مَا ذَا عَلَيْهِ وَ لَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ

(11/22)


ص لَا يَسْتَقِيمُ إِيمَانُ عَبْدٍ حَتَّى يَسْتَقِيمَ قَلْبُهُ وَ لَا يَسْتَقِيمُ قَلْبُهُ حَتَّى يَسْتَقِيمَ لِسَانُهُ فَمَنِ اسْتَطَاعَ مِنْكُمْ أَنْ يَلْقَى اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَ هُوَ نَقِيُّ الرَّاحَةِ مِنْ دِمَاءِ الْمُسْلِمِينَ وَ أَمْوَالِهِمْ سَلِيمُ اللِّسَانِ مِنْ أَعْرَاضِهِمْ فَلْيَفْعَلْ
تهزيع الأخلاق تغييرها و أصل الهزع الكسر أسد مهزع يكسر الأعناق و يرض العظام و لما كان المتصرف بخلقه الناقل له من حال قد أعدم سمته الأولى كما يعدم الكاسر صورة المكسور اشتركا في مسمى شامل لهما فاستعمل التهزيع في الخلق للتغيير و التبديل مجازا. قوله و اجعلوا اللسان واحدا نهى عن النفاق و استعمال الوجهين. قال و ليخزن الرجل لسانه أي ليحبسه فإن اللسان يجمح بصاحبه فيلقيه في الهلكة. شرح نهج البلاغة ج : 10 ص : 29ثم ذكر أنه لا يرى التقوى نافعة إلا مع حبس اللسان قال فإن لسان المؤمن وراء قلبه و قلب الأحمق وراء لسانه و ش ذلك و بينه. فإن قلت المسموع المعروف لسان العاقل من وراء قلبه و قلب الأحمق وراء لسانه كيف نقله إلى المؤمن و المنافق. قلت لأنه قل أن يكون المنافق إلا أحمق و قل أن يكون العاقل إلا مؤمنا فلأكثرية ذلك استعمل لفظ المؤمن و أراد العاقل و لفظ المنافق و أراد الأحمق. ثم روى الخبر المذكور عن النبي ص و هو مشهور. ثم أمرهم بالاجتهاد في أن يلقوا الله تعالى و كل منهم نقي الراحة من دماء المسلمين و أموالهم سليم اللسان من أعراضهم و
قد قال النبي ص إنما المسلم من سلم المسلمون من لسانه و يده
فسلامتهم من لسانه سلامة أعراضهم و سلامتهم من يده سلامة دمائهم و أموالهم و انتصاب تهزيع على التحذير و حقيقته تقدير فعل و صورته جنبوا أنفسكم تهزيع الأخلاق فإياكم قائم مقام أنفسكم و الواو عوض عن الفعل المقدر و أكثر ما يجي ء بالواو و قد جاء بغير واو في قول الاعر
إياك إياك المراء فإنه إلى الشر دعاء و للشر جالب

(11/23)


و كان يقال ينبغي للعاقل أن يتمسك بست خصال فإنها من المروءة أن يحفظ دينه و يصون عرضه و يصل رحمه و يحمي جاره و يرعى حقوق إخوانه و يخزن عن البذاء لسانه و
في الخبر المرفوع من كفي شر قبقبه و ذبذبه و لقلقه دخل الجنة
شرح نهج البلاغة ج : 10 ص : 30فالقبقب البطن و الذبذب الفرج و اللقلق اللسان. و قال بعض الحكماء من علم أن لسانه جارحة من جوارحه أقل من اعتمالها و استقبح تحريكها كما يستقبح تحريك رأسه أو منكبه دائماوَ اعْلَمُوا عِبَادَ اللَّهِ أَنَّ الْمُؤْمِنَ يَسْتَحِلُّ الْعَامَ مَا اسْتَحَلَّ عَاماً أَوَّلَ وَ يُحَرِّمُ الْعَامَ مَا حَرَّمَ عَاماً أَوَّلَ وَ أَنَّ مَا أَحْدَثَ النَّاسُ لَا يُحِلُّ لَكُمْ شَيْئاً مِمَّا حُرِّمَ عَلَيْكُمْ وَ لَكِنَّ الْحَلَالَ مَا أَحَلَّ اللَّهُ وَ الْحَرَامَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ فَقَدْ جَرَّبْتُمُ الْأُمُورَ وَ ضَرَّسْتُمُوهَا وَ وُعِظْتُمْ بِمَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ وَ ضُرِبَتِ الْأَمْثَالُ لَكُمْ وَ دُعِيتُمْ إِلَى الْأَمْرِ الْوَاضِحِ فَلَا يَصَمُّ عَنْ ذَلِكَ إِلَّا أَصَمُّ وَ لَا يَعْمَى عَنْهُ إِلَّا أَعْمَى وَ مَنْ لَمْ يَنْفَعْهُ اللَّهُ بِالْبَلَاءِ وَ التَّجَارِبِ لَمْ يَنْتَفِعْ بِشَيْ ءٍ مِنَ الْعِظَةِ وَ أَتَاهُ التَّقْصِيرُ مِنْ أَمَامِهِ حَتَّى يَعْرِفَ مَا أَنْكَرَ وَ يُنْكِرَ مَا عَرَفَ فَإِنَّ النَّاسَ رَجُلَانِ مُتَبِعٌ شِرْعَةً وَ مُبْتَدِعٌ بِدْعَةً لَيْسَ مَعَهُ مِنَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ بُرْهَانُ سُنَّةٍ وَ لَا ضِيَاءُ حُجَّةٍ

(11/24)


يقول إن الأحكام الشرعية لا يجوز بعد ثبوت الأدلة عليها من طريق النص أن تنقض باجتهاد و قياس بل كل ما ورد به النص تتبع مورد النص فيه فما استحللته عاما أول فهو في هذا العام حلال لك و كذلك القول في التحريم و هذا هو مذهب أكثر أصحابنا أن النص مقدم على القياس و قد ذكرناه في كتبنا في أصول الفقه. و أول هاهنا لا ينصرف لأنه صفة على وزن أفعل. شرح نهج البلاغة ج : 10 ص : 31و قال إن ما أحدث الناس لا يحل لكم شيئا مما حرم عليكم أي ما أحدثوه من القياس و الاجتهاد و ليس هذا بقادح في القياس و لكنه مانع من تقديمه على النص و هكذيقول أصحابنا. قوله و ضرستموها بالتشديد أي أحكمتموها تجربة و ممارسة يقال قد ضرسته الحرب و رجل مضرس. قوله فلا يصم عن ذلك إلا أصم أي لا يصم عنه إلا من هو حقيق أن يقال عنه إنه أصم كما تقول ما يجهل هذا الأمر إلا جاهل أي بالغ في الجهل. ثم قال من لم ينفعه الله بالبلاء أي بالامتحان و التجربة لم تنفعه المواعظ و جاءه النقص من بين يديه حتى يتخيل فيما أنكره أنه قد عرفه و ينكر ما قد كان عارفا به و سمى اعتقاد العرفان و تخيله عرفانا على المجاز. ثم قسم الناس إلى رجلين إما متبع طريقة و منهاجا أو مبتدع ما لا يعرف و ليس بيده حجة فالأول المحق و الثاني المبطل. و الشرعة المنهاج و البرهان الحجة

(11/25)


فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ لَمْ يَعِظْ أَحَداً بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ فَإِنَّهُ حَبْلُ اللَّهِ الْمَتِينُ وَ سَبَبُهُ الْأَمِينُ وَ فِيهِ رَبِيعُ الْقَلْبِ وَ يَنَابِيعُ الْعِلْمِ وَ مَا لِلْقَلْبِ جَلَاءٌ غَيْرُهُ مَعَ أَنَّهُ قَدْ ذَهَبَ الْمُتَذَكِّرُونَ وَ بَقِيَ النَّاسُونَ أَوِ الْمُتَنَاسُونَ فَإِذَا رَأَيْتُمْ خَيْراً فَأَعِينُوا عَلَيْهِ وَ إِذَا رَأَيْتُمْ شَرّاً فَاذْهَبُوا عَنْهُ فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ ص كَانَ يَقُولُ يَا ابْنَ آدَمَ اعْمَلِ الْخَيْرَ وَ دَعِ الشَّرَّ فَإِذَا أَنْتَ جَوَادٌ قَاصِدٌ
شرح نهج البلاغة ج : 10 ص : 32إنما جعله حبل الله لأن الحبل ينجو من تعلق به من هوة و القرآن ينجو من الضلال من يتعلق به. و جعله متينا أي قويا لأنه لا انقطاع له أبدا و هذه غاية المتانة و القوة. و متن الشي ء بالضم أي صلب و قوي و سببه الأمين مثل حبله المتين نما خالف بين اللفظين على قاعدة الخطابة. و فيه ربيع القلب لأن القلب يحيا به كما تحيا الأنعام برعي الربيع. و ينابيع العلم لأن العلم منه يتفرع كما يخرج الماء من الينبوع و يتفرع إلى الجداول و الجلاء بالكسر مصدر جلوت السيف يقول لا جلاء لصدأ القلوب من الشبهات و الغفلات إلا القرآن. ثم قال إن المتذكرين قد ذهبوا و ماتوا و بقي الناسون الذين لا علوم لهم أو المتناسون الذين عندهم العلوم و يتكلفون إظهار الجهل لأغراض دنيوية تعرض لهم و روي و المتناسون بالواو. ثم قال أعينوا على الخير إذا رأيتموه بتحسينه عند فاعله و بدفع الأمور المانعة عنه و بتسهيل أسبابه و تسنية سبله و إذا رأيتم الشر فاذهبوا عنه و لا تقاربوه و لا تقيموا أنفسكم في مقام الراضي به الموافق على فعله ثم روى لهم الخبر. و الجواد القاصد السهل السير لا سريع يتعب بسرعته و لا بطي ء يفوت الغرض ببطئه شرح نهج البلاغة ج 0 ص : 33

(11/26)


أَلَا وَ إِنَّ الظُّلْمَ ثَلَاثَةٌ فَظُلْمٌ لَا يُغْفَرُ وَ ظُلْمٌ لَا يُتْرَكُ وَ ظُلْمٌ مَغْفُورٌ لَا يُطْلَبُ فَأَمَّا الظُّلْمُ الَّذِي لَا يُغْفَرُ فَالشِّرْكُ بِاللَّهِ قَالَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَ أَمَّا الظُّلْمُ الَّذِي يُغْفَرُ فَظُلْمُ الْعَبْدِ نَفْسَهُ عِنْدَ بَعْضِ الْهَنَاتِ وَ أَمَّا الظُّلْمُ الَّذِي لَا يُتْرَكُ فَظُلْمُ الْعِبَادِ بَعْضِهِمْ بَعْضاً الْقِصَاصُ هُنَاكَ شَدِيدٌ لَيْسَ هُوَ جَرْحاً بِاْلمُدَى وَ لَا ضَرْباً بِالسِّيَاطِ وَ لَكِنَّهُ مَا يُسْتَصْغَرُ ذَلِكَ مَعَهُ فَإِيَّاكُمْ وَ التَّلَوُّنَ فِي دِينِ اللَّهِ فَإِنَّ جَمَاعَةً فِيمَا تَكْرَهُونَ مِنَ الْحَقِّ خَيْرٌ مِنْ فُرْقَةٍ فِيمَا تُحِبُّونَ مِنَ الْبَاطِلِ وَ إِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ لَمْ يُعْطِ أَحَداً بِفُرْقَةٍ خَيْراً مِمَّنْ مَضَى وَ لَا مِمَّنْ بَقِيَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ طُوبَى لِمَنْ شَغَلَهُ عَيْبُهُ عَنْ عُيُوبِ النَّاسِ وَ طُوبَى لِمَنْ لَزِمَ بَيْتَهُ وَ أَكَلَ قُوتَهُ وَ اشْتَغَلَ بِطَاعَةِ رَبِّهِ وَ بَكَى عَلَى خَطِيئَتِهِ فَكَانَ مِنْ نَفْسِهِ فِي شُغُلٍ وَ النَّاسُ مِنْهُ فِي رَاحَةٍ

(11/27)


قسم ع الظلم ثلاثة أقسام أحدها ظلم لا يغفر و هو الشرك بالله أي أن يموت الإنسان مصرا على الشرك و يجب عند أصحابنا أن يكون أراد الكبائر و إن لم يذكرها لأن حكمها حكم الشرك عندهم. شرح نهج البلاغة ج : 10 ص : 34و ثانيها الهنات المغفورة و هي صغائر الذنوب هكذا يفسأصحابنا كلامه ع. و ثالثها ما يتعلق بحقوق البشر بعضهم على بعض فإن ذلك لا يتركه الله هملا بل لا بد من عقاب فاعله و إنما أفرد هذا القسم مع دخوله في القسم الأول لتميزه بكونه متعلقا بحقوق بني آدم بعضهم على بعض و ليس الأول كذلك. فإن قلت لفظه ع مطابق للآية و هي قوله تعالى إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَ يَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ و الآية و لفظه ع صريحان في مذهب المرجئة لأنكم إذا فسرتم قوله لمن يشاء بأن المراد به أرباب التوبة قيل لكم فالمشركون هكذا حالهم يقبل الله توبتهم و يسقط عقاب شركهم بها فلأي معنى خصص المشيئة بالقسم الثاني و هو ما دون الشرك و هل هذا إلا تصريح بأن الشرك لا يغفر لمن مات عليه و ما دونه من المعاصي إذا مات الإنسان عليه لا يقطع له بالعقاب و لا لغيره بل أمره إلى الله. قلت الأصوب في هذا الموضع ألا يجعل قوله لمن يشاء معنيا به التائبون بل نقول المراد أن الله لا يستر في موقف القيامة من مات مشركا بل يفضحه على رءوس الأشهاد كما قال تعالى وَ يَقُولُ الْأَشْهادُ هؤُلاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلى رَبِّهِمْ. و أما من مات على كبيرة من أهل الإسلام فإن الله تعالى يستره في الموقف و لا يفضحه بين الخلائق و إن كان من أهل النار و يكون معنى المغفرة في هذه الآية الستر و تغطية حال العاصي في موقف الحشر و قد يكون من أهل الكبائر ممن يقر بالإسلام شرح نهج البلاغة ج : 10 ص : 35لعظيم كبائره جدا فيفضحه الله تعالى في الموقف كما يفضح المشرك فهذا معنى قوله وََغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ. فأما الكلام المطول في تأويلات

(11/28)


هذه الآية فمذكور في كتبنا الكلامية. و اعلم أنه لا تعلق للمرجئة و لا جدوى عليهم من عموم لفظ الآية لأنهم قد وافقونا على أن الفلسفي غير مغفور له و ليس بمشرك فإذا أراد بقوله تعالى إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ و من جرى مجرى المشركين قيل لهم و نحن نقول إن الزاني و القاتل يجريان مجرى المشركين كما أجريتم الفلاسفة مجرى المشركين فلا تنكروا علينا ما لم تنكروه على أنفسكم. ثم ذكر ع أن القصاص في الآخرة شديد ليس كما يعهده الناس من عقاب الدنيا الذي هو ضرب السوط و غايته أن يذوق الإنسان طعم الحديد و هو معنى قوله جرحا بالمدى جمع مدية و هي السكين بل هو شي ء آخر عظيم لا يعبر النطق عن كنهه و شدة نكاله و ألمه فصل في الآثار الواردة في شديد عذاب جهنم
قال الأوزاعي في مواعظه للمنصور
روي لي عن رسول الله ص لو أن ثوبا من ثياب أهل النار علق بين السماء و الأرض لأحرق أهل الأرض قاطبة فكيف بمن يتقمصه و لو أن ذنوبا من حميم جهنم صب على ماء الأرض كله لأجنه حتى لا يستطيع مخلوق شربه فكيف بمن يتجرعه و لو أن حلقة من سلاسل النار وضعت على جبل لذاب كما يذوب الرصاص فكيف بمن يسلك فيها و يرد فضلها على عاتقه
و روى أبو هريرة عن النبي ص لو كان في هذا المسجد مائة ألف أو يزيدون و أخرج إليهم رجل من النار فتنفس و أصابهم نفسه لأحرق المسجد و من فيه
شرح نهج البلاغة ج : 10 ص : 36و روي أن رسول الله ص قال لجبريل ما لي لا أرى ميكائيل ضاحكا قال إن ميكائيل لم يضحك منذ خلقت النار و رآهاو عنه ص لما أسري بي سمعت هدة فسألت جبريل عنها فقال حجر أرسله الله من شفير جهنم فهو يهوي منذ سبعين خريفا حتى بلغ الآن فيه
و روي عن النبي ص في قوله تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَ هُمْ فِيها كالِحُونَ قال تتقلص شفته العليا حتى تبلغ وسط رأسه و تسترخي شفته السفلى حتى تضرب سرته

(11/29)


و روى عبيد بن عمير الليثي عنه ع لتزفرن جهنم زفرة لا يبقى ملك و لا نبي إلا خر مرتعدة فرائصه حتى إن إبراهيم الخليل ليجثو على ركبتيه فيقول يا رب إني لا أسألك إلا نفسي
أبو سعيد الخدري مرفوعا لو ضربت جبال الدنيا بمقمع من تلك المقامع الحديد لصارت غبارا
الحسن البصري قال الأغلال لم تجعل في أعناق أهل النار لأنهم أعجزوا الرب و لكن إذا أصابهم اللهب أرسبتهم في النار ثم خر الحسن صعقا و قال و دموعه تتحادر يا ابن آدم نفسك نفسك فإنما هي نفس واحدة إن نجت نجوت و إن هلكت لم ينفعك من نجا. طاوس أيها الناس إن النار لما خلقت طارت أفئدة الملائكة فلما خلقتم سكنت. شرح نهج البلاغة ج : 10 ص : 37مطرف بن الشخير إنكم لتذكرون الجنة و إن ذكر النار قد حال بيني و بين أن أسأل الله الجنة. منصور بن عمار يا من البعوضة تقلقه و البقة تسهره أ مثلك يقوى على وهج السعير أو تطيق صفحة خده لفح ومها و رقة أحشائه خشونة ضريعها و رطوبة كبده تجرع غساقها. قيل لعطاء السلمي أ يسرك أن يقال لك قع في جهنم فتحرق فتذهب فلا تبعث أبدا لا إليها و لا إلى غيرها فقال و الله الذي لا إله إلا هو لو سمعت أن يقال لي لظننت أني أموت فرحا قبل أن يقال لي ذلك. الحسن و الله ما يقدر العباد قدر حرها روينا لو أن رجلا كان بالمشرق و جهنم بالمغرب ثم كشف عن غطاء واحد منها لغلت جمجمته و لو أن دلوا من صديدها صب في الأرض ما بقي على وجهها شي ء فيه روح إلا مات. كان الأحنف يصلي صلاة الليل و يضع المصباح قريبا منه فيضع إصبعه عليه و يقول ياحنيف ما حملك على ما صنعت يوم كذا حتى يصبح
فصل في العزلة و الاجتماع و ما قيل فيهما

(11/30)


ثم نهاهم ع عن التفرق في دين الله و هو الاختلاف و الفرقة ثم أمرهم باجتماع الكلمة و قال إن الجماعة في الحق المكروه إليكم خير لكم من الفرقة في الباطل المحبوب عندكم فإن الله لم يعط أحدا خيرا بالفرقة لا ممن مضى و لا ممن بقي. شرح نهج البلاغة ج : 10 ص : 38و قد دم ذكر ما ورد عن النبي ص في الأمر بلزوم الجماعة و النهي عن الاختلاف و الفرقة. ثم أمر ع بالعزلة و لزوم البيت و الاشتغال بالعبادة و مجانبة الناس و متاركتهم و اشتغال الإنسان بعيب نفسه عن عيوبهم. و قد ورد في العزلة أخبار و آثار كثيرة و اختلف الناس قديما و حديثا فيها ففضلها قوم على المخالطة و فضل قوم المخالطة عليها. فممن فضل العزلة سفيان الثوري و إبراهيم بن أدهم و داود الطائي و الفضيل بن عياض و سليمان الخواص و يوسف بن أسباط و بشر الحافي و حذيفة المرعشي و جمع كثير من الصوفية و هو مذهب أكثر العارفين و قول المتألهين من الفلاسفة. و ممن فضل المخالطة على العزلة ابن المسيب و الشعبي و ابن أبي ليلى و هشام بن عروة و ابن شبرمة و القاضي شريح و شريك بن عبد الله و ابن عيينة و ابن المبارك. فأما كلام أمير المؤمنين ع فيقتضي عند إمعان النظر فيه أن العزلة خير لقوم و أن المخالطة خير لقوم آخرين على حسب أحوال الناس و اختلافهم. و قد احتج أرباب المخالطة يقول الله تعالى فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْواناً و بقوله وَ لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَ اخْتَلَفُوا و هذا ضعيف لأن المراد بالآية تفرق الآراء و اختلاف المذاهب في أصول الدين و المراد شرح نهج البلاغة ج : 10 ص : 39بتأليف القلوب و بالأخوة عدم الإحن و الأحقاد بينهم بعد استعار نارها في الجاهلية و هذا أمر خارج عن حديث العزلة. و احتجوا بقول النبي ص المؤمن إلف مألوف و لا خير فيمن لا يألف و لا يؤلف

(11/31)


و هذا أيضا ضعيف لأن المراد منه ذم سوء الخلق و الأمر بالرفق و البشر فلا يدخل تحته الإنسان الحسن الخلق الذي لو خولط لألف و ألف و إنما يمنعه من المخالطة طلب السلامة من الناس. و احتجوا بقوله من شق عصا المسلمين فقد خلع ربقة الإسلام عن عنقه و هذا ضعيف أيضا لأنه مختص بالبغاة و المارقين عن طاعة الإمام فلا يتناول أهل العزلة الذين هم أهل طاعة للأئمة إلا أنهم لا يخالطون الناس. و احتجوا بنهيه ص عن هجر الإنسان أخاه فوق ثلاث و هذا ضعيف لأن المراد منه النهي عن الغضب و اللجاج و قطع الكلام و السلام لثوران الغيظ فهذا أمر خارج عن الباب الذي نحن فيه. و احتجوا
بأن رجلا أتى جبلا يعبد فيه فجاء أهله إلى رسول الله ص فنهاه و قال له إن صبر المسلم في بعض مواطن الجهاد يوما واحدا خير له من عبادة أربعين سنة
و هذا ضعيف لأنه إنما كان ذلك في ابتداء الإسلام و الحث على جهاد المشركين. و احتجوا بما
روي عنه ص أنه قال الشيطان ذئب و الناس كالغنم يأخذ القاصية و الشاذة إياكم و الشعاب و عليكم بالعامة و الجماعة و المساجد

(11/32)


و هذا ضعيف لأن المراد به من اعتزل الجماعة و خالفها. شرح نهج البلاغة ج : 10 ص : 40و احتج من رجح العزلة و آثرها على المخالطة بالآثار الكثيرة الواردة في ذلك نحو قول عمر خذوا بحظكم من العزلة. و قول ابن سيرين العزلة عبادة. و قول الفضيل كفى بالله محبوبا و بالقن مؤنسا و بالموت واعظا اتخذ الله صاحبا و دع الناس جانبا. و قال ابن الربيع الزاهد لداود الطائي عظني فقال صم عن الدنيا و اجعل فطرك للآخرة و فر من الناس فرارك من الأسد. و قال الحسن كلمات أحفظهن من التوراة قنع ابن آدم فاستغنى و اعتزل الناس فسلم ترك الشهوات فصار حرا ترك الحسد فظهرت مروءته صبر قليلا فتمتع طويلا. و قال وهب بن الورد بلغنا أن الحكمة عشرة أجزاء تسعة منها الصمت و العاشر في العزلة عن الناس. و قال يوسف بن مسلم لعلي بن بكار ما أصبرك على الوحدة و كان قد لزم البيت فقال كنت و أنا شاب أصبر على أشد من هذا كنت أجالس الناس و لا أكلمهم. و قال الثوري هذا وقت السكوت و ملازمة البيوت. و قال بعضهم كنت في سفينة و معنا شاب علوي فمكث معنا سبعا لا نسمع له كلاما فقلنا له قد جمعنا الله و إياك منذ سبع و لا نراك تخالطنا و لا تكلمنا فأنشد

(11/33)


قليل الهم لا ولد يموت و ليس بخائف أمرا يفوت قضى وطر الصبا و أفاد علما فغايته التفرد و السكوت شرح نهج البلاغة ج : 10 ص : 41و أكبر همه مما عليه تناجز من ترى خلق و قوقال النخعي لصاحب له تفقه ثم اعتزل. و كان مالك بن أنس الفقيه يشهد الجنائز و يعود المرضى و يعطي الإخوان حقوقهم ثم ترك واحدا واحدا من ذلك إلى أن ترك الجميع و قال ليس يتهيأ للإنسان أن يخبر بكل عذر له. و قيل لعمر بن عبد العزيز لو تفرغت لنا فقال ذهب الفراغ فلا فراغ إلا عند الله تعالى. و قال الفضيل بن عياض إني لأجد للرجل عندي يدا إذا لقيني ألا يسلم علي و إذا مرضت ألا يعودني. و قال الداراني بينا ابن خثيم جالس على باب داره إذ جاء حجر فصك وجهه فسجد و جعل يمسح الدم و يقول لقد وعظت يا ربيع ثم قام فدخل الدار فما جلس بعد ذلك على بابه حتى مات. و كان سعد بن أبي وقاص و سعيد بن زيد قد لزما بيوتهما بالعقيق فلم يكونا يأتيان المدينة لا لحاجة لهما و لا لغيرهما حتى ماتا بالعقيق. قال بشر أقلل من معرفة الناس فإنك لا تدري ما تكون يوم القيامة فإن تكن فضيحة كان من يعرفك أقل. و أحضر بعض الأمراء حاتما الأصم فكلمه ثم قال له أ لك حاجة قال نعم ألا تراني و لا أراك. و قيل للفضيل إن ابنك يقول لوددت أني في مكان أرى الناس و لا يرونني فبكى الفضيل و قال يا ويح علي أ لا أتمها فقال و لا أراهم. شرح نهج البلاغة ج : 10 ص : 42و من كلام الفضيل أيضا من سفة عقل الرجل كثرة معارفه. و قد جاء في الأحاديث المرفوعة ذكر العزلة و فضلها
نحو قوله ع لعبد الله بن عامر الجهني لما سأله عن طريق النجاة فقال له ليسعك بيتك أمسك عليك دينك و ابك على خطيئتك
و قيل له ص أي الناس أفضل فقال رجل معتزل في شعب من الشعاب يعبد ربه و يدع الناس من شره
و قال ع إن الله يحب التقي النقي الخفي
ذكر فوائد العزلة

(11/34)


و في العزلة فوائد منها الفراغ للعبادة و الذكر و الاستئناس بمناجاة الله عن مناجاة الخلق فيتفرغ لاستكشاف أسرار الله تعالى في أمر الدنيا و الآخرة و ملكوت السماوات و الأرض لأن ذلك لا يمكن إلا بفراغ و لا فراغ مع المخالطة و لذلك كان رسول الله ص في ابتداء أمره يتبتل في جبل حراء و يعتزل فيه حتى أتته النبوة. و قيل لبعض الحكماء ما الذي أرادوا بالخلوة و العزلة فقال دوام الفكر و ثبات العلوم في قلوبهم ليحيوا حياة طيبة و يموتوا موتا طيبا. و قيل لبعضهم ما أصبرك على الوحدة فقال لست وحدي أنا جليس ربي إذا شئت أن يناجيني قرأت كتابه و إذا شئت أن أناجيه صليت. و قال سفيان بن عيينة لقيت إبراهيم بن أدهم في بلاد الشام فقلت له يا إبراهيم شرح نهج البلاغة ج : 10 ص : 43تركت خراسان فقال ما تهنأت بالعيش إلا هاهنا أفر بديني من شاهق إلى شاهق فمن رآني قال موسوس أو حمال. و قيل للحسن يا أبا يد هاهنا رجل لم نره قط جالسا إلا وحده خلف سارية فقال الحسن إذا رأيتموه فأخبروني فنظروا إليه ذات يوم فقالوا للحسن و أشاروا إليه فمضى نحوه و قال له يا عبد الله لقد حببت إليك العزلة فما يمنعك من مجالسة الناس قال أمر شغلني عنهم قال فما يمنعك أن تأتي هذا الرجل الذي يقال له الحسن فتجلس إليه قال أمر شغلني عن الناس و عن الحسن قال و ما ذلك الشغل يرحمك الله قال إني أمسي و أصبح بين نعمة و ذنب فأشغل نفسي بشكر الله على نعمه و الاستغفار من الذنب فقال الحسن أنت أفقه عندي يا عبد الله من الحسن فالزم ما أنت عليه. و جاء هرم بن حيان إلى أويس فقال له ما حاجتك قال جئت لآنس بك قال ما كنت أعرف أحدا يعرف ربه فيأنس بغيره. و قال الفضيل إذا رأيت الليل مقبلا فرحت به و قلت أخلو بربي و إذا رأيت الصبح أدركني استرجعت كراهية لقاء الناس و أن يجي ء إلي من يشغلني عن ربي. و قال مالك بن دينار منلم يأنس بمحادثة الله عن محادثة المخلوقين فقد قل علمه و عمي قلبه و

(11/35)


ضاع عمره. و قال بعض الصالحين بينا أنا أسير في بعض بلاد الشام إذا أنا بعابد خارج من بعض تلك الجبال فلما نظر إلي تنحى إلى أصل شجرة و تستر بها فقلت سبحان الله أ تبخل علي بالنظر إليك فقال يا هذا إني أقمت في هذا الجبل دهرا طويلا أعالج قلبي في الصبر عن الدنيا و أهلها فطال في ذلك تعبي و فني عمري ثم سألت الله تعالى شرح نهج البلاغة ج : 10 ص : 44ألا يجعل حظي من أيامي في مجاهدة قلبي فقط فسكنه الله عن الاضطراب و آلفه الوحدة و الانفراد فلما نظرت إليك و يدني خفت أن أقع في الأمر الأول فأعود إلى ألف المخلوقين فإليك عني فإني أعوذ من شرك برب العارفين و حبيب التائبين ثم صاح وا غماه من طول المكث في الدنيا ثم حول وجهه عني ثم نفض يده و قال إليك عني يا دنيا لغيري فتزيني و أهلك فغري ثم قال سبحان من أذاق العارفين من لذة الخدمة و حلاوة الانقطاع إليه ما ألهى قلوبهم عن ذكر الجنان و الحور الحسان فإني في الخلوة آنس بذكر الله و أستلذ بالانقطاع إلى الله ثم أنشد
و إني لأستغشي و ما بي نعسة لعل خيالا منك يلقى خيالياو أخرج من بين البيوت لعلني أحدث عنك النفس في السر خاليا

(11/36)


و قال بعض العلماء إنما يستوحش الإنسان من نفسه لخلو ذاته عن الفضيلة فيتكثر حينئذ بملاقاة الناس و يطرد الوحشة عن نفسه بهم فإذا كانت ذاته فاضلة طلب الوحدة ليستعين بها على الفكرة و يستخرج العلم و الحكمة و كان يقال الاستئناس بالناس من علامات الإفلاس. و منها التخلص بالعزلة عن المعاصي التي يتعرض الإنسان لها غالبا بالمخالطة و هي الغيبة و الرياء و ترك الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر و سرقة الطبع بعض الأخلاق الرديئة و الأعمال الخبيثة من الغير. أما الغيبة فإن التحرز منها مع مخالطة الناس صعب شديد لا ينجو من ذلك إلا الصديقون فإن عادة أكثر الناس التمضمض بأعراض من يعرفونه و التنقل بلذة س شرح نهج البلاغة ج : 10 ص : 45ذلك فهي أنسهم الذي يستريحون إليه في الجلوة و المفاوضة فإن خالطتهم و وافقت أثمت و إن سكت كنت شريكا فالمستمع أحد المغتابين و إن أنكرت تركوا ذلك المغتاب و اغتابوك فازدادوا إثما على إثمهم. فأما الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر ن من خالط الناس لا يخلو عن مشاهدة المنكرات فإن سكت عصى الله و إن أنكر تعرض بأنواع من الضرر و في العزلة خلاص عن ذلك و في الأمر بالمعروف إثارة للخصام و تحريك لكوامن ما في الصدور و قال الشاعر
و كم سقت في آثاركم من نصيحة و قد يستفيد الظنة المتنصح

(11/37)


و من تجرد للأمر بالمعروف ندم عليه في الأكثر كجدار مائل يريد الإنسان أن يقيمه وحده فيوشك أن يقع عليه فإذا سقط قال يا ليتني تركته مائلا نعم لو وجد الأعوان حتى يحكم ذلك الحائط و يدعمه استقام و لكنك لا تجد القوم أعوانا على الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر فدع الناس و انج بنفسك. و أما الرياء فلا شبهة أن من خالط الناس داراهم و من داراهم راءاهم و من راءاهم كان منافقا و أنت تعلم أنك إذا خالطت متعاديين و لم تلق كل واحد منهما بوجه يوافقه صرت بغيضا إليهما جميعا و إن جاملتهما كنت من شرار الناس و صرت ذا وجهين و أقل ما يجب في مخالطة الناس إظهار الشوق و المبالغة فيه و ليس يخلو ذلك عن كذب إما في الأصل و إما في الزيادة بإظهار الشفقة بالسؤال عن الأحوال فقولك كيف أنت و كيف أهلك و أنت في الباطن فارغ القلب عن همومه نفاق محض. قال السري السقطي لو دخل علي أخ فسويت لحيتي بيدي لدخوله خشيت أن أكتب في جريدة المنافقين. شرح نهج البلاغة ج : 10 ص : 46كان الفضيل جالسا وحده في المسجد فجاء إليه أخ له فقال ما جاء بك قال المؤانسة قال هي و الله بالمواحشة أشبه هل تريد إلا أن تتزين لي و أتزين لك و تكذب لي و أكذب لك إما أن تقوم عني و إما أن أقوم ع. و قال بعض العلماء ما أحب الله عبدا إلا أحب ألا يشعر به خلقه. و دخل طاوس على هشام بن عبد الملك فقال كيف أنت يا هشام فغضب و قال لم لم تخاطبني بإمرة المؤمنين قال لأن جميع الناس ما اتفقوا على خلافتك فخشيت أن أكون كاذبا. فمن أمكنه أن يحترز هذا الاحتراز فليخالط الناس و إلا فليرض بإثبات اسمه في جريدة المنافقين إن خالطهم و لا نجاة من ذلك إلا بالعزلة. و أما سرقة الطبع من الغير فالتجربة تشهد بذلك لأن من خالط الأشرار اكتسب من شرهم و كلما طالت صحبة الإنسان لأصحاب الكبائر هانت الكبائر عنده و في المثل فإن القرين بالمقارن يقتدي. و منها الخلاص من الفتن و الحروب بين الملوك و الأمراء

(11/38)


على الدنيا.
روى أبو سعيد الخدري عن النبي ص أنه قال يوشك أن يكون خير مال المسلم غنيمات يتبع بها شعاف الجبال و مواضع القطر يفر بدينه من الفتن
و روى عبد الله بن عمرو بن العاص أن رسول الله ص ذكر الفتن فقال إذا رأيت الناس قد مرجت عهودهم و خفت أمانتهم و كانوا هكذا و شبك شرح نهج البلاغة ج : 10 ص : 47بأصابعه فقلت ما تأمرني فقال الزم بيتك و املك عليك لسانك و خذ ما تعرف و دع ما تنكر و عليك بأمر الخاصة دع عنك أمر العامة
و روى ابن مسعود عنه ص أنه قال سيأتي على الناس زمان لا يسلم لذي دين دينه إلا من فر من قرية إلى قرية و من شاهق إلى شاهق كالثعلب الرواغ قيل و متى ذلك يا رسول الله قال إذا لم تنل المعيشة إلا بمعاصي الله سبحانه فإذا كان ذلك الزمان كان هلاك الرجل على يد أبويه فإن لم يكن له أبوان فعلى يد زوجته و ولده و إن لم يكن فعلى يد قرابته قالوا كيف ذلك يا رسول الله قال يعيرونه بالفقر و ضيق اليد فيكلفونه ما لا يطيقه حتى يورده ذلك موارد الهلكة
و روى ابن مسعود أيضا أنه ص ذكر الفتنة فقال الهرج فقلت و ما الهرج يا رسول الله قال حين لا يأمن المرء جليسه قلت فبم تأمرني يا رسول الله إن أدركت ذلك الزمان قال كف نفسك و يدك و ادخل دارك قلت أ رأيت إن دخل علي داري قال ادخل بيتك قلت إن دخل علي البيت قال ادخل مسجدك و اصنع هكذا و قبض على الكوع و قل ربي الله حتى تموت

(11/39)


و منها الخلاص من شر الناس فإنهم يؤذونك تارة بالغيبة و تارة بسوء الظن و التهمة و تارة بالاقتراحات و الأطماع الكاذبة التي يعسر الوفاء بها و تارة بالنميمة و الكذب مما يرونه منك من الأعمال و الأقوال مما لا تبلغ عقولهم كنهه فيدخرون ذلك في نفوسهم عدة لوقت ينتهزون فيه فرصة الشر و من يعتزلهم يستغن عن التحفظ لذلك. و قال بعض الحكماء لصاحبه أعلمك شعرا هو خير لك من عشرة آلاف درهم و هو شرح نهج البلاغة ج : 10 ص : 4اخفض الصوت إن نطقت بليل و التفت بالنار قبل المقال ليس للقول رجعة حين يبدو بقبيح يكون أو بجمالو من خالط الناس لا ينفك من حاسد و طاعن و من جرب ذلك عرف. و
من الكلام المأثور عن علي ع اخبر تقله
قال الشاعر
من حمد الناس و لم يبلهم ثم بلاهم ذم من يحمدو صار بالوحدة مستأنسا يوحشه الأقرب و الأبعد

(11/40)


و قيل لسعد بن أبي وقاص أ لا تأتي المدينة قال ما بقي فيها إلا حاسد نعمة أو فرح بنقمة. و قال ابن السماك كتب إلينا صاحب لنا أما بعد فإن الناس كانوا دواء يتداوى به فصاروا داء لا دواء لهم ففر منهم فرارك من الأسد. و كان بعض الأعراب يلازم شجرة و يقول هذه نديمي و هو نديم فيه ثلاث خصال إن سمع لم ينم علي و إن تفلت في وجهه احتمل و إن عربدت عليه لم يغضب فسمع الرشيد هذا الخبر فقال قد زهدني سماعه في الندماء. و كان بعضهم يلازم الدفاتر و المقابر فقيل له في ذلك قال لم أر أسلم من الوحدة و لا أوعظ من قبر و لا أمتع من دفتر. و قال الحسن مرة إني أريد الحج فجاء إلي ثابت البناني و قال بلغني أنك تريد الحج فأحببت أن نصطحب فقال الحسن دعنا نتعاشر بستر الله إني أخاف أن نصطحب فيرى بعضنا من بعض ما نتماقت عليه. و قال بعض الصالحين كان الناس ورقا لا شوك فيه فالناس اليوم شوك لا ورق فيه. و قال سفيان بن عيينة قال لي سفيان الثوري في اليقظة في حياته و في المنام بعد شرح نهج البلاغة ج : 10 ص : 49وفاته أقلل معرفة الناس فإن التخلص منهم شديد و لا أحسبني رأيت ما أكره إلا ممن عرفت. و قال بعضهم جئت إلى مالك بن دينار و هو قاعد وحده و عنده كلب رابض قريبا ه فذهبت أطرده فقال دعه فإنه لا يضر و لا يؤذي و هو خير من الجليس السوء. و قال أبو الدرداء اتقوا الله و احذروا الناس فإنهم ما ركبوا ظهر بعير إلا أدبروه و لا ظهر جواد إلا عقروه و لا قلب مؤمن إلا أخربوه. و قال بعضهم أقلل المعارف فإنه أسلم لدينك و قلبك و أخف لظهرك و أدعى إلى سقوط الحقوق عنك لأنه كلما كثرت المعارف كثرت الحقوق و عسر القيام بالجميع. و قال بعضهم إذا أردت النجاة فأنكر من تعرف و لا تتعرف إلى من لا تعرف. و منها أن في العزلة بقاء الستر على المروءة و الخلق و الفقر و سائر العورات و قد مدح الله تعالى المستترين فقال يَحْسَبُهُمُ الْجاهِلُ أَغْنِياءَ مِنَ التَّعَفُّفِ. و

(11/41)


قال الشاعر
و لا عار أن زالت عن الحر نعمة و لكن عارا أن يزول التجمل
و ليس يخلو الإنسان في دينه و دنياه و أفعاله عن عورات يتقين و يجب سترها و لا تبقى السلامة مع انكشافها و لا سبيل إلى ذلك إلا بترك المخالطة. و منها أن ينقطع طمع الناس عنك و ينقطع طمعك عن الناس أما انقطاع طمع الناس عنك ففيه نفع عظيم فإن رضا الخلق غاية لا تدرك لأن أهون حقوق الناس شرح نهج البلاغة ج : 10 ص : 50و أيسرها حضور الجنازة و عيادة المريض و حضور الولائم و الإملاكات و في ذلك تضييع الأوقات و التعرض للآفات ثم يعوق عن بعضها العوائق و تستثقل فيها المعاذير و لا يمكن إظهار كل الأعذار فيقول لك قائل إنك قمت بحق فن و قصرت في حقي و يصير ذلك سبب عداوة فقد قيل إن من لم يعد مريضا في وقت العيادة يشتهي موته خيفة من تخجيله إياه إذا برأ من تقصيره فأما من يعم الناس كلهم بالحرمان فإنهم يرضون كلهم عنه و متى خصص وقع الاستيحاش و العتاب و تعميمهم بالقيام بجميع الحقوق مما لا قدرة عليه للمتجرد ليله و نهاره فكيف من له مهم يشغله ديني أو دنيوي. و من كلام بعضهم كثرة الأصدقاء زيادة الغرماء. و قال الشاعر
عدوك من صديقك مستفاد فلا تستكثرن من الصحاب فإن الداء أكثر ما تراه يكون من الطعام أو الشرابو أما انقطاع طمعك عنهم ففيه أيضا فائدة جزيلة فإن من نظر إلى زهرة الدنيا و زخرفها تحرك حرصه و انبعث بقوة الحرص طمعه و أكثر الأطماع يتعقبها الخيبة فيتأذى الإنسان بذلك و إذا اعتزل لم يشاهد و إذا لم يشاهد لم يشته و لم يطمع و لذلك قال الله تعالى لنبيه ص وَ لا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلى ما مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا و
قال ع انظروا إلى من دونكم و لا تنظروا إلى من هو فوقكم فإنه أجدر ألا تزدروا نعمة الله عليكم

(11/42)


شرح نهج البلاغة ج : 10 ص : 51و قال عون بن عبد الله كنت أجالس الأغنياء فلا أزال مغموما أرى ثوبا أحسن من ثوبي و دابة أفره من دابتي فجالست الفقراء فاسترحت. و خرج المزني صاحب الشافعي من باب جامع الفسطاط بمصر و كان فقيرا مقلا فصادف ابن عبد الحكم قد أقبل في مبه فبهره ما رأى من حاله و حسن هيأته فتلا قوله تعالى وَ جَعَلْنا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَ تَصْبِرُونَ ثم قال نعم أصبر و أرضى. فالمعتزل عن الناس في بيته لا يبتلى بمثل هذه الفتن فإن من شاهد زينة الدنيا إما أن يقوى دينه و يقينه فيصبر فيحتاج إلى أن يتجرع مرارة الصبر و هو أمر من الصبر أو تنبعث رغبته فيحتال في طلب الدنيا فيهلك دنيا و آخرة أما في الدنيا فبالطمع الذي في أكثر الأوقات يتضمن الذل المعجل و أما في الآخرة فلإيثاره متاع الدنيا على ذكر الله و التقرب إليه و لذلك قال الشاعر
إذا كان باب الذل من جانب الغنى سموت إلى العلياء من جانب الفقر

(11/43)


أشار إلى أن الطمع يوجب في الحال ذلا. و منها الخلاص من مشاهدة الثقلاء و الحمقى و معاناة أخلاقهم فإن رؤية الثقيل هي العمى الأصغر قيل للأعمش بم عمشت عيناك قال بالنظر إلى الثقلاء. و دخل على أبي حنيفة رحمه الله فقال له روينا في الخبر أن من سلب كريمتيه عوضه الله ما هو خير منهما فما الذي عوضك قال كفاني رؤية ثقيل مثلك يمازحه. و قال الشافعي رحمه الله ما جالست ثقيلا إلا وجدت الجانب الذي يليه من بدني كأنه أثقل علي من الجانب الآخر. و هذه المقاصد و إن كان بعضها دنيويا إلا أنها تضرب في الدين بنصيب و ذلك لأن شرح نهج البغة ج : 10 ص : 52من تأذى برؤية ثقيل لم يلبث أن يغتابه و يثلبه و ذلك فساد في الدين و في العزلة السلامة عن جميع ذلك. و اعلم أن كلام أمير المؤمنين ع تختلف مناهجه فقد رجح العزلة في هذا الفصل على المخالطة و نهى عن العزلة في موضع آخر سيأتي ذكره في الفصل الذي أوله أنه دخل على العلاء بن زياد الحارثي عائدا و يجب أن يحمل ذلك على أن من الناس من العزلة خير له من المخالطة و منهم من هو بالضد من ذلك و قد قال الشافعي قريبا من ذلك قال ليونس بن عبد الأعلى صاحبه يا يونس الانقباض عن الناس مكسبة للعداوة و الانبساط إليهم مجلبة لقرناء السوء فكن بين المنقبض و المنبسط. فإذا أردت العزلة فينبغي للمعتزل أن ينوي بعزلته كف شره عن الناس أولا ثم طلب السلامة من شر الأشرار ثانيا ثم الخلاص من آفة القصور عن القيام بحقوق المسلمين ثالثا ثم التجرد بكنه الهمة بعبادة الله تعالى رابعا فهذه آداب نيته ثم ليكن في خلوته مواظبا على العلم و العمل و الذكر و الفكر ليجتني ثمرة العزلة و يجب أن يمنع الناس عن أن يكثروا غشيانه و زيارته فيتشوش وقته و أن يكف نفسه عن السؤال عن أخبارهم و أحوالهم و عن الإصغاء إلى أراجيف الناس و ما الناس مشغولون به فإن كل ذلك ينغرس في القلب حتى ينبعث على الخاطر و البال وقت الصلاة و وقت الحاجة إلى

(11/44)


إحضار القلب فإن وقوع الأخبار في السمع كوقوع البذر في الأرض لا بد أن ينبت و تتفرع عروقه و أغصانه و إحدى مهمات المعتزل قطع الوساوس الصارفة عن ذكر الله و لا ريب أن الأخبار ينابيع الوساوس و أصولها. و يجب أن يقنع باليسير من المعيشة و إلا اضطره التوسع إلى الناس و احتاج إلى مخالطتهم. شرح نهج البلاغة ج : 10 ص : 53و ليكن صبورا على ما يلقاه من أذى الجيران إذ يسد سمعه عن الإصغاء إلى ما يقول فيه من أثنى عليه بالعزلة و قدح فيه بترك المخالطة فإن ذلك لا بد أنؤثر في القلب و لو مدة يسيرة و حال اشتغال القلب به لا بد أن يكون واقفا عن سيره في طريق الآخرة فإن السير فيها إما يكون بالمواظبة على ورد أو ذكر مع حضور قلب و إما بالفكر في جلال الله و صفاته و أفعاله و ملكوت سماواته و إما بالتأمل في دقائق الأعمال و مفسدات القلب و طلب طرق التخلص منها و كل ذلك يستدعي الفراغ و لا ريب أن الإصغاء إلى ما ذكرناه يشوش القلب. و يجب أن يكون للمعتزل أهل صالح أو جليس صالح لتستريح نفسه إليه ساعة عن كد المواظبة ففي ذلك عون له على بقية الساعات و ليس يتم للإنسان الصبر على العزلة إلا بقطع الطمع عن الدنيا و ما الناس منهمكون فيه و لا ينقطع طمعه إلا بقصر الأمل و ألا يقدر لنفسه عمرا طويلا بل يصبح على أنه لا يمسي و يمسي على أنه لا يصبح فيسهل عليه صبر يوم و لا يسهل عليه العزم على صبر عشرين سنة لو قدر تراخي أجله و ليكن كثير الذكر للموت و وحدة القبر مهما ضاق قلبه من الوحدة و ليتحقق أن من لم يحصل في قلبه من ذكر الله و معرفته ما يأنس به فإنه لا يطيق وحشة الوحدة بعد الموت و أن من أنس بذكر الله و معرفته فإن الموت لا يزيل أنسه لأن الموت ليس يهدم محل الأنس و المعرفة بل يبقى حيا بمعرفته و أنسه فرحا بفضل الله عليه قال سبحانه وَ لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْواتاً بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ

(11/45)


فَرِحِينَ بِما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ. و كل من يجرد نفسه في ذات الله فهو شهيد مهما أدركه الموت فالمجاهد من شرح نهج البلاغة : 10 ص : 54جاهد نفسه و هواه كما صرح به ع و
قال لأصحابه رجعنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر
فالجهاد الأصغر محاربة المشركين و الجهاد الأكبر جهاد النفس. و هذا الفصل في العزلة نقلناه على طوله من كلام أبي حامد الغزالي في إحياء علوم الدين و هذبنا منه ما اقتضت الحال تهذيبه
شرح نهج البلاغة ج : 10 ص : 17855- و من كلام له ع في معنى الحكمينفَأَجْمَعَ رَأْيُ مَلَئِكُمْ عَلَى أَنِ اخْتَارُوا رَجُلَيْنِ فَأَخَذْنَا عَلَيْهِمَا أَنْ يُجَعْجِعَا عِنْدَ الْقُرْآنِ وَ لَا يُجَاوِزَاهُ وَ تَكُونُ أَلْسِنَتُهُمَا مَعَهُ وَ قُلُوبُهُمَا تَبَعَهُ فَتَاهَا عَنْهُ وَ تَرَكَا الْحَقَّ وَ هُمَا يُبْصِرَانِهِ وَ كَانَ الْجَوْرُ هَوَاهُمَا وَ الِاعْوِجَاجُ دَأْبَهُمَا وَ قَدْ سَبَقَ اسْتِثْنَاؤُنَا عَلَيْهِمَا فِي الْحُكْمِ بِالْعَدْلِ وَ الْعَمَلِ بِالْحَقِّ سُوءَ رَأْيِهِمَا وَ جَوْرَ حُكْمِهِمَا وَ الثِّقَةُ فِي أَيْدِينَا لِأَنْفُسِنَا حِينَ خَالَفَا سَبِيلَ الْحَقِّ وَ أَتَيَا بِمَا لَا يُعْرَفُ مِنْ مَعْكُوسِ الْحُكْمِ

(11/46)


الملأ الجماعة و يجعجعا يحبسا نفوسهما و آراءهما عند القرآن جعجعت أي حبست أخذت عليهما العهد و الميثاق أن يعملا بما في القرآن و لا يتجاوزاه. فتاها عنه أي عدلا و تركا الحق على علم منهما به. و الدأب العادة و سوء رأيهما منصوب لأنه مفعول سبق و الفاعل استثناؤنا. ثم قال و الثقة في أيدينا أي نحن على برهان و ثقة من أمرنا و ليس بضائر لنا ما فعلاه لأنهما خالفا الحق و عدلا عن الشرط و عكسا الحكم. شرح نهج البلاغة ج : 10 ص : 56و روى الثوري عن أبي عبيدة قال أمر بلال بن أبي بردة و كان قاضيا بتفريق بين رجل و امرأته فقال الرجيا آل أبي موسى إنما خلقكم الله للتفريق بين المسلمين
كتاب معاوية إلى عمرو بن العاص و هو على مصر
كتب معاوية إلى عمرو بن العاص و هو على مصر قد قبضها بالشرط الذي اشترط على معاوية أما بعد فإن سؤال أهل الحجاز و زوار أهل العراق كثروا علي و ليس عندي فضل عن أعطيات الحجاز فأعني بخراج مصر هذه السنة فكتب عمرو إليه
معاوي إن تدركك نفس شحيحة فما مصر إلا كالهباءة في الترب و ما نلتها عفوا و لكن شرطتها و قد دارت الحرب العوان على قطب و لو لا دفاعي الأشعري و رهطه لألفيتها ترغو كراغية السقثم كتب في ظاهر الكتاب و رأيت أنا هذه الأبيات بخط أبي زكريا يحيى بن علي الخطيب التبريزي رحمه الله

(11/47)


معاوي حظي لا تغفل و عن سنن الحق لا تعدل أ تنسى مخادعتي الأشعري و ما كان في دومة الجندل ألين فيطمع في غرتي و سهمي قد خاض في المقتل فألمظه عسلا باردا و أخبأ من تحته حنظلي و أعليته المنبر المشمخر كرجع الحسام إلى الم شرح نهج البلاغة ج : 10 ص : 57فأضحي لصاحبه خالعا كخلع النعال من الأرجل و أثبتها فيك موروثة ثبوت الخواتم في الأنمل وهبت لغيري وزن الجبال و أعطيتني زنة الخردل و إن عليا غدا خصمنا سيحتج بالله و المرسل و ما دم عثمان منج لنا فليس عن الحق منفلما بلغ الجواب إلى معاوية لم يعاوده في شي ء من أمر مصر بعدها. بعث عبد الملك روح بن زنباع و بلال بن أبي بردة بن أبي موسى إلى زفر بن الحارث الكلابي بكلام و حذرهما من كيده و خص بالتحذير روحا فقال يا أمير المؤمنين إن أباه كان المخدوع يوم دومة الجندل لا أبي فلام تخوفني الخداع و الكيد فغضب بلال و ضحك عبد الملك

(11/48)


شرح نهج البلاغة ج : 10 ص : 17958- و من خطبة له علَا يَشْغَلُهُ شَأْنٌ وَ لَا يُغَيِّرُهُ زَمَانٌ وَ لَا يَحْوِيهِ مَكَانٌ وَ لَا يَصِفُهُ لِسَانٌ لَا يَعْزُبُ عَنْهُ عَدَدُ قَطْرِ الْمَاءِ وَ لَا نُجُومِ السَّمَاءِ وَ لَا سَوَافِي الرِّيحِ فِي الْهَوَاءِ وَ لَا دَبِيبُ النَّمْلِ عَلَى الصَّفَا وَ لَا مَقِيلُ الذَّرِّ فِي اللَّيْلَةِ الظَّلْمَاءِ يَعْلَمُ مَسَاقِطَ الْأَوْرَاقِ وَ خَفِيِّ طَرْفِ الْأَحْدَاقِ وَ أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ غَيْرَ مَعْدُولٍ بِهِ وَ لَا مَشْكُوكٍ فِيهِ وَ لَا مَكْفُورٍ دِينُهُ وَ لَا مَجْحُودٍ تَكْوِينُهُ شَهَادَةَ مَنْ صَدَقَتْ نِيَّتُهُ وَ صَفَتْ دِخْلَتُهُ وَ خَلَصَ يَقِينُهُ وَ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ وَ أَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّداً عَبْدُهُ وَ رَسُولُهُ الَمْجُتْبَىَ مِنْ خَلَائِقِهِ وَ الْمُعْتَامُ لِشَرْحِ حَقَائِقِهِ وَ الْمُخْتَصُّ بِعَقَائِلِ كَرَامَاتِهِ وَ الْمُصْطَفَى لِكَرَائِمِ رِسَالَاتِهِ وَ الْمُوَضَّحَةُ بِهِ أَشْرَاطُ الْهُدَى وَ الْمَجْلُوُّ بِهِ غِرْبِيبُ الْعَمَى

(11/49)


لا يشغله أمر لأن الحي الذي تشغله الأشياء هو الحي العالم بالبعض دون البعض و القادر على البعض دون البعض فأما من لا يغيب عنه شي ء أصلا و لا يعجز عن شي ء أصلا و لا يمنعه من إيجاد مقدوره إذا أراد مانع أصلا فكيف يشغله شأن. و كذلك لا يغيره زمان لأنه واجب الوجود لا يحويه مكان لأنه ليس بجسم شرح نهج البلاغة ج : 10 ص : 59و لا يصفه لسان لأن كنه ذاته غير معلوم و إنما المعلوم منه إضافات أو سلوب. و لا يعزب عنه أمر من الأمور أي لا يفوته علم شي ء أصلا. و السوافي التي تسفي التراب أي تذروه. و الصفا مقصور الصخر الأملس و لقف عليها هاهنا لأن المقصور لا يكون في مقابلة الممدود و إنما الفقرة المقابلة للهواء هي الظلماء و يكون الصفا في أدراج الكلام أسوة بكلمة من الكلمات و الذر صغار النمل. و يعلم مساقط الأوراق من قوله تعالى وَ ما تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُها. و طرف الأحداق مصدر طرف البصر يطرف طرفا إذا انطبق أحد الجفنين على الآخر و لكونه مصدرا وقع على الجماعة كما وقع على الواحد فقال ع طرف الأحداق كما قال سبحانه لا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ. و غير معدول به غير مسوى بينه و بين أحد. و الدخلة بكسر الدال باطن الأمر و يجوز الدخلة بالضم. و المعتام المختار و العيمة بالكسر خيار المال اعتام الرجل إذا أخذ العيمة. فإن قلت لفظة معتام و مختار تصلح للفاعل و المفعول فما ذا يفصل بينهما. قلت بما يقترن باللفظ من الكلام قبله و بعده. فإن قلت فهل يختلفان في التقدير في صناعة النحو و إن اتفقا في اللفظ. قلت نعم فإن عين الكلمة ياء مفتوح ما قبلها فإن أردت الفاعل فهي مكسورة و تقديره مختير مثل مخترع و إن كان مفعولا فهي مفتوحة شرح نهج البلاغة ج : 10 ص : 60و تقديره مختير مثل مخترع و على كلا التقديرين لا بد من انقلاب الياء ألفا و اللفظ واحد و لكنقدر على الألف كسرة للفاعل و فتحة للمفعول و كذلك القول في معتام و مضطر

(11/50)


و نحوهما. و حكي أن بعض المتكلمين من المجبرة قال أسمي العبد مضطرا إلى الفعل إذا فعله و لا أسمي الله تعالى مضطرا إليه. قيل فكيف تقول قال مضطر بكسر الطاء فضحك أهل المجلس منه. و العقائل جمع عقيلة و هي كريمة كل شي ء من الناس و الإبل و غير ذلك و يقال للذرة عقيلة البحر. و أشراط الهدى علاماته و منه أشراط الساعة قال تعالى فَقَدْ جاءَ أَشْراطُها. و الغربيب الأسود الشديد السواد و يجلى به غربيب العمى تكشف به ظلم الضلال و تستنير بهدايته و قوله تعالى َ غَرابِيبُ سُودٌ ليس على أن الصفة قد تقدمت على الموصوف بل يجعل السود بدلا من الغرابيب. فإن قلت الهاء في حقائقه إلى ما ذا ترجع. قلت إلى البارئ سبحانه و حقائقه حقائق توحيده و عدله فالمضاف محذوف و معنى حقائق توحيده الأمور المحققة اليقينية التي لا تعتريها الشكوك و لا تتخالجها الشبه و هي أدلة أصحابنا المعتزلة التي استنبطوها بعقولهم بعد أن دلهم إليها و نبههم على طرق استنباطها رسول الله ص بواسطة أمير المؤمنين ع لأنه إمام المتكلمين الذي لم يعرف علم الكلام من أحد قبله شرح نهج البلاغة ج : 10 ص : 6أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ الدُّنْيَا تَغُرُّ الْمُؤَمِّلَ لَهَا وَ الْمُخْلِدَ إِلَيْهَا وَ لَا تَنْفَسُ بِمَنْ نَافَسَ فِيهَا وَ تَغْلِبُ مَنْ غَلَبَ عَلَيْهَا وَ ايْمُ اللَّهِ مَا كَانَ قَوْمٌ قَطُّ فِي غَضِّ نِعْمَةٍ مِنْ عَيْشٍ فَزَالَ عَنْهُمْ إِلَّا بِذُنُوبٍ اجْتَرَحُوهَا لِأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ وَ لَوْ أَنَّ النَّاسَ حِينَ تَنْزِلُ بِهِمُ النِّقَمُ وَ تَزُولَ عَنْهُمُ النِّعَمُ فَزِعُوا إِلَى رَبِّهِمْ بِصِدْقٍ مِنْ نِيَّاتِهِمْ وَ وَلَهٍ مِنْ قُلُوبِهِمْ لَرَدَّ عَلَيْهِمْ كُلَّ شَارِدٍ وَ أَصْلَحَ لَهُمْ كُلَّ فَاسِدٍ وَ إِنِّي لَأَخْشَى عَلَيْكُمْ أَنْ تَكُونُوا فِي فَتْرَةٍ وَ قَدْ كَانَتْ أُمُورٌ مَضَتْ مِلْتُمْ فِيهَا

(11/51)


مَيْلَةً كُنْتُمْ فِيهَا عِنْدِي غَيْرَ مَحْمُودِينَ وَ لَئِنْ رُدَّ عَلَيْكُمْ أَمْرُكُمْ إِنَّكُمْ لَسُعَدَاءُ وَ مَا عَلَيَّ إِلَّا الْجُهْدُ وَ لَوْ أَشَاءُ أَنْ أَقُولَ لَقُلْتُ عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ
المخلد المائل إليها قال تعالى وَ لكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ. و لا تنفس بمن نافس فيها لا تضن به أي من نافس في الدنيا فإن الدنيا تهينه و لا تضن به كما يضن بالعلق النفيس. ثم قال و تغلب من غلب عليها أي من غلب على الدنيا مقاهرة فسوف تغلبه الدنيا و تهلكه. ثم أقسم أنه ما كان قوم في غض نعمة أي في نعمة غضة أي طرية ناضرة فزالت عنهم شرح نهج البلاغة ج : 10 ص : 62إلا بذنوب اجترحوها أي اكتسبوها و هذا يكاد يشعر بمذهب أهل التناسخ و من قال إن الألم لا يحسن أن يفعله الحكيم سبحانه و تعالى بالحيوانات إلا مستحقا فأما مب أصحابنا فلا يتخرج هذا الكلام عليه لأنه يجوز عندهم أن تزول النعم عن الناس لضرب من اللطف مضاف إلى عوض يعوضهم الله تعالى به في الآخرة فيجب أن يحمل هذا الكلام لا على عمومه بل على الأكثر و الأغلب. ثم قال ع لو أن الناس عند حلول النقم بهم و زوال النعم عنهم يلتجئون إلى الله تعالى تائبين من ذنوبهم لرفع عنهم النقمة و أعاد إليهم النعمة. و الوله كالتحير يحدث عند الخوف أو الوجد و الشارد الذاهب. قوله و إني لأخشى عليكم أن تكونوا في فترة أي في أمر جاهلية لغلبة الضلال و الجهل على الأكثرين منهم. و هذه خطبة خطب بها ع بعد قتل عثمان في أول خلافته ع و قد تقدم ذكر بعضها و الأمور التي مالوا فيها عليه اختيارهم عثمان و عدولهم عنه يوم الشورى. و قال لئن رد عليكم أمركم أي أحوالكم التي كانت أيام رسول الله ص من صلاح القلوب و النيات إنكم سعداء. و الجهد بالضم الطاقة. ثم قال لو أشاء أن أقول لقلت أي لو شئت لذكرت سبب التحامل علي و تأخري عن غيري و لكني لا أشاء ذلك و لا أستصلح ذكره. شرح نهج البلاغة ج

(11/52)


: 10 ص : 63ثم قال عفا الله عما سلف لفظ مأخوذ من الكتاب العزيز عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ وَ مَنْ عادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ وَ اللَّهُ عَيزٌ ذُو انْتِقامٍ. و هذا الكلام يدل على مذهب أصحابنا في أن ما جرى من عبد الرحمن و غيره في يوم الشورى و إن كان لم يقع على الوجه الأفضل فإنه معفو عنه مغفور لفاعله لأنه لو كان فسقا غير مغفور لم يقل أمير المؤمنين ع عفا الله عما سلف
شرح نهج البلاغة ج : 10 ص : 18064- و من كلام له عوَ قَدْ سَأَلَهُ ذِعْلِبُ الْيَمَانِيُّ فَقَالَ هَلْ رَأَيْتَ رَبَّكَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ فَقَالَ ع أَ فَأَعْبُدُ مَا لَا أَرَى فَقَالَ وَ كَيْفَ تَرَاهُ قَالَ لَا تُدْرِكُهُ الْعُيُونُ بِمُشَاهَدَةِ الْعِيَانِ وَ لَكِنْ تُدْرِكُهُ الْقُلُوبُ بِحَقَائِقِ الْإِيمَانِ قَرِيبٌ مِنَ الْأَشْيَاءِ غَيْرَ مُلَامِسٍ بَعِيدٌ مِنْهَا غَيْرَ مُبَايِنٍ مُتَكَلِّمٌ بِلَا رَوِيَّةٍ مَرِيدٌ لَا بِهِمَّةٍ صَانِعٌ لَا بِجَارِحَةٍ لَطِيفٌ لَا يُوصَفُ بِالْخَفَاءِ كَبِيرٌ لَا يُوصَفُ بِالْجَفَاءِ بَصِيرٌ لَا يُوصَفُ بِالْحَاسَّةِ رَحِيمٌ لَا يُوصَفُ بِالرِّقَّةِ تَعْنُو الْوُجُوهُ لِعَظَمَتِهِ وَ تَجِبُ الْقُلُوبُ مِنْ مَخَافَتِهِ

(11/53)


الذعلب في الأصل الناقة السريعة و كذلك الذعلبة ثم نقل فسمي به إنسان و صار علما كما نقلوا بكرا عن فتى الإبل إلى بكر بن وائل. و اليماني مخفف الياء و لا يجوز تشديدها جعلوا الألف عوضا عن الياء الثانية و كذلك فعلوا في الشامي و الأصل يمني و شامي. و قوله ع أ فأعبد ما لا أرى مقام رفيع جدا لا يصلح أن يقوله غيره ع. شرح نهج البلاغة ج : 10 ص : 65ثم ذكر ماهية هذه الرؤية قال إنها رؤية البصيرة لا رؤية البصر. ثم شرح ذلك فقال إنه تعالى قريب من الأشياء غير ملامس لها لأنه ليس بجسم و إنما قربه منها علمه بها كما قال تعالى ما يُونُ مِنْ نَجْوى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رابِعُهُمْ. قوله بعيد منها غير مباين لأنه أيضا ليس بجسم فلا يطلق عليه البينونة و بعده منها هو عبارة عن انتفاء اجتماعه معها و ذلك كما يصدق على البعيد بالوضع يصدق أفضل الصدق على البعيد بالذات الذي لا يصح الوضع و الأين أصلا عليه. قوله متكلم بلا روية الروية الفكرة يرتئي الإنسان بها ليصدر عنه ألفاظ سديدة دالة على مقصده و البارئ تعالى متكلم لا بهذا الاعتبار بل لأنه إذا أراد تعريف خلقه من جهة الحروف و الأصوات و كان في ذلك مصلحة و لطف لهم خلق الأصوات و الحروف في جسم جمادي فيسمعها من يسمعها و يكون ذلك كلامه لأن المتكلم في اللغة العربية فاعل الكلام لا من حله الكلام و قد شرحنا هذا في كتبنا الكلامية. قوله مريد بلا همة أي بلا عزم فالعزم عبارة عن إرادة متقدمة للفعل تفعل توطينا للنفس على الفعل و تمهيدا للإرادة المقارنة له و إنما يصح ذلك على الجسم الذي يتردد فيها تدعوه إليه الدواعي فأما العالم لذاته فلا يصح ذلك فيه. قوله صانع لا بجارحة أي لا بعضو لأنه ليس بجسم. قوله لطيف لا يوصف بالخفاء لأن العرب إذا قالوا لشي ء إنه لطيف أرادوا أنه صغير الحجم و البارئ تعالى لطيف لا بهذا الاعتبار بل يطلقباعتبارين

(11/54)


شرح نهج البلاغة ج : 10 ص : 66أحدهما أنه لا يرى لعدم صحة رؤية ذاته فلما شابه اللطيف من الأجسام في استحالة رؤيته أطلق عليه لفظ اللطيف إطلاقا للفظ السبب على المسبب. و ثانيهما أنه لطيف بعباده كما قال في الكتاب العزيز أي يفعل الألطاف المقربة لهم من الطاعة العدة لهم من القبيح أو لطيف بهم بمعنى أنه يرحمهم و يرفق بهم. قوله كبير لا يوصف بالجفاء لما كان لفظ كبير إذا استعمل في الجسم أفاد تباعد أقطاره ثم لما وصف البارئ بأنه كبير أراد أن ينزهه عما يدل لفظ كبير عليه إذا استعمل في الأجسام و المراد من وصفه تعالى بأنه كبير عظمة شأنه و جلالة سلطانه. قوله بصير لا يوصف بالحاسة لأنه تعالى يدرك إما لأنه حي لذاته أو أن يكون إدراكه هو علمه و لا جارحة له و لا حاسة على كل واحد من القولين. قوله رحيم لا يوصف بالرقة لأن لفظة الرحمة في صفاته تعالى تطلق مجازا على إنعامه على عباده لأن الملك إذا رق على رعيته و عطف أصابهم بإنعامه و معروفه. قوله تعنو الوجوه أي تخضع قال تعالى وَ عَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ. قوله و تجب القلوب أي تخفق و أصله من وجب الحائط سقط و يروى توجل القلوب أي تخاف وجل خاف. و روي صانع لا بحاسة و روي لا تراه العيون بمشاهدة العيان عوضا عن لا تدركه

(11/55)


شرح نهج البلاغة ج : 10 ص : 18167- و من كلام له ع في ذم أصحابهأَحْمَدُ اللَّهَ عَلَى مَا قَضَى مِنْ أَمْرٍ وَ قَدَّرَ مِنْ فِعْلٍ وَ عَلَى ابْتِلَائِي بِكُمْ أَيَّتُهَا الْفِرْقَةُ الَّتِي إِذَا أَمَرْتُ لَمْ تُطِعْ وَ إِذَا دَعَوْتُ لَمْ تُجِبْ إِنْ أُهْمِلْتُمْ خُضْتُمْ وَ إِنْ حُورِبْتُمْ خُرْتُمْ وَ إِنِ اجْتَمَعَ النَّاسُ عَلَى إِمَامٍ طَعَنْتُمْ وَ إِنْ أُجِئْتُمْ إِلَى مُشَاقَّةٍ نَكَصْتُمْ. لَا أَبَا لِغَيْرِكُمْ مَا تَنْتَظِرُونَ بِنَصْرِكُمْ وَ الْجِهَادِ عَلَى حَقِّكُمْ الْمَوْتَ أَوِ الذُّلَّ لَكُمْ فَوَاللَّهِ لَئِنْ جَاءَ يَومِي وَ لَيَأْتِيَنِّي لَيُفَرِّقَنَّ بَيْنِي وَ بَيْنِكُمْ وَ أَنَا لِصُحْبَتِكُمْ قَالٍ وَ بِكُمْ غَيْرُ كَثِيرٍ لِلَّهِ أَنْتُمْ أَ مَا دِينٌ يَجْمَعُكُمْ وَ لَا حَمِيَّةٌ تَشْحَذُكُمْ أَ وَ لَيْسَ عَجَباً أَنَّ مُعَاوِيَةَ يَدْعُو الْجُفَاةَ الطَّغَامَ فَيَتَّبِعُونَهُ عَلَى غَيْرِ مَعُونَةٍ وَ لَا عَطَاءٍ وَ أَنَا أَدْعُوكُمْ وَ أَنْتُمْ تَرِيكَةُ الْإِسْلَامِ وَ بَقِيَّةُ النَّاسِ إِلَى الْمَعُونَةِ أَوْ طَائِفَةٍ مِنَ الْعَطَاءِ فَتَتَفَرَّقُونَ عَنِّي وَ تَخْتَلِفُونَ عَلَيَّ إِنَّهُ لَا يَخْرُجُ إِلَيْكُمْ مِنْ أَمْرِي رِضًا فَتَرْضَوْنَهُ وَ لَا سُخْطٌ فَتَجْتَمِعُونَ عَلَيْهِ وَ إِنَّ أَحَبَّ مَا أَنَا لَاقٍ إِلَيَّ الْمَوْتُ قَدْ دَارَسْتُكُمُ الْكِتَابَ وَ فَاتَحْتُكُمُ الْحِجَاجَ وَ عَرَّفْتُكُمْ مَا أَنْكَرْتُمْ وَ سَوَّغْتُكُمْ مَا مَجَجْتُمْ لَوْ كَانَ الْأَعْمَى يَلْحَظُ أَوِ النَّائِمُ يَسْتَيْقِظُ شرح نهج البلاغة ج : 10 ص : 68وَ أَقْرِبْ بِقَوْمٍ مِنَ الْجَهْلِ بِاللَّهِ قَائِدُهُمْ مُعَاوِيَةُ وَ مُؤَدِّبُهُمُ ابْنُ النَّابِغَةِقضى و قدر في هذا الموضع واحد. و يروى على ما ابتلاني. و أهملتم خليتم و تركتم و يروى أمهلتم

(11/56)


أي أخرتم. و خرتم ضعفتم و الخور الضعف رجل خوار و رمح خوار و أرض خوارة و الجمع خور و يجوز أن يكون خرتم أي صحتم كما يخور الثور و منه قوله تعالى عِجْلًا جَسَداً لَهُ خُوارٌ و يروى جرتم أي عدلتم عن الحرب فرارا. و أجئتم ألجئتم قال تعالى فَأَجاءَهَا الْمَخاضُ إِلى جِذْعِ النَّخْلَةِ. و المشاقة المقاطعة و المصارمة. و نكصتم أحجمتم قال تعالى فَلَمَّا تَراءَتِ الْفِئَتانِ نَكَصَ عَلى عَقِبَيْهِ أي رجع محجما أي دعيتم إلى كشف القناع مع العدو و جبنتم و هبتموه. قوله لا أبا لغيركم الأفصح لا أب بحذف الألف كما قال الشاعر
أبي الإسلام لا أب لي سواه إذا افتخروا بقيس أو تميم
و أما قولهم لا أبا لك بإثباته فدون الأول في الفصاحة كأنهم قصدوا الإضافة و أقحموا اللام مزيدة مؤكدة كما قالوا يا تيم تيم عدي و هو غريب لأن حكم شرح نهج البلاغة ج : 10 ص : 69لا أن تعمل في النكرة فقط و حكم الألف أن تثبت مع الإضافة و الإضافة تعرف فاجتمع فيها مان متنافيان فصار من الشواذ كالملامح و المذاكير و لدن غدوة. و قال الشيخ أبو البقاء رحمه الله يجوز فيها وجهان آخران. أحدهما أنه أشبع فتحة الباء فنشأت الألف و الاسم باق على تنكيره و الثاني أن يكون استعمل أبا على لغة من قالها أبا في جميع أحوالها مثل عصا و منه
إن أباها و أبا أباها

(11/57)


قوله الموت أو الذل لكم دعاء عليهم بأن يصيبهم أحد الأمرين كأنه شرع داعيا عليهم بالفناء الكلي و هو الموت ثم استدرك فقال أو الذل لأنه نظير الموت في المعنى و لكنه في الصورة دونه و لقد أجيب دعاؤه ع بالدعوة الثانية فإن شيعته ذلوا بعد في الأيام الأموية حتى كانوا كفقع قرقر. ثم أقسم أنه إذا جاء يومه لتكونن مفارقته لهم عن قلى و هو البغض و أدخل حشوة بين أثناء الكلام و هي ليأتيني و هي حشوة لطيفة لأن لفظة إن أكثر ما تستعمل لما لا يعلم حصوله و لفظة إذا لما يعلم أو يغلب على الظن حصوله تقول إذا طلعت الشمس جئت إليك و لا تقول إن طلعت الشمس جئت إليك و تقول إذا احمر البسر جئتك و لا تقول إن احمر البسر جئتك فلما قال لئن جاء يومي أتى بلفظة دالة على أن الموضع موضع إذا لا موضع إن فقال و ليأتيني. شرح نهج البلاغة ج : 10 ص : 70و الواو في قوله و أنا لصحبتكم واو الحال و كذلك الواو في قه و بكم غير كثير و قوله غير كثير لفظ فصيح و قال الشاعر
لي خمسون صديقا بين قاض و أميرلبسوا الوفر فلم أخلع بهم ثوب النفيرلكثير هم و لكني بهم غير كثير

(11/58)


قوله لله أنتم لله في موضع رفع لأنه خبر عن المبتدإ الذي هو أنتم و مثله لله در فلان و لله بلاد فلان و لله أبوك و اللام هاهنا فيها معنى التعجب و المراد بقوله لله أنتم لله سعيكم أو لله عملكم كما قالوا لله درك أي عملك فحذف المضاف و أقيم الضمير المنفصل المضاف إليه مقامه. فإن قلت أ فجاءت هذه اللام بمعنى التعجب في غير لفظ لله قلت لا كما أن تاء القسم لم تأت إلا في اسم الله تعالى. قوله ع أ ما دين يجمعكم ارتفاع دين على أنه فاعل فعل مقدر له أي أ ما يجمعكم دين يجمعكم اللفظ الثاني مفسر للأول كما قدرناه بعد إذا في قوله سبحانه إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ و يجوز أن يكون حمية مبتدأ و الخبر محذوف تقديره أ ما لكم حمية و الحمية الأنفة. و شحذت النصل أحددته. فإن قلت كيف قال إن معاوية لم يكن يعطي جنده و إنه هو ع كان يعطيهم و المشهور أن معاوية كان يمد أصحابه بالأموال و الرغائب قلت إن معاوية لم يكن يعطي جنده على وجه المعونة و العطاء و إنما كان يعطي رؤساء القبائل من اليمن و ساكني الشام الأموال الجليلة يستعبدهم بها و يدعو أولئك شرح نهج البلاغة ج : 10 ص : 71الرؤساء أتباعهم من العرب فيطيعونهم فمنهم من يطيعهم حمية و منهم من يطيعهم لأياد ووارف من أولئك الرؤساء عندهم و منهم من يطيعهم دينا زعموا للطلب بدم عثمان و لم يكن يصل إلى هؤلاء الأتباع من أموال معاوية قليل و لا كثير. و أما أمير المؤمنين ع فإنه كان يقسم بين الرؤساء و الأتباع على وجه العطاء و الرزق و لا يرى لشريف على مشروف فضلا فكان من يقعد عنه بهذا الطريق أكثر ممن ينصره و يقوم بأمره و ذلك لأن الرؤساء من أصحابه كانوا يجدون في أنفسهم من ذلك أعني المساواة بينهم و بين الأتباع فيخذلونه ع باطنا و إن أظهروا له النصر و إذا أحس أتباعهم بتخاذلهم و تواكلهم تخاذلوا أيضا و تواكلوا أيضا و لم يجد عليه ص ما أعطى الأتباع من الرزق لأن انتصار الأتباع له و قتالهم دونه لا

(11/59)


يتصور وقوعه و الرؤساء متخاذلون فكان يذهب ما يرزقهم ضياعا. فإن قلت فأي فرق بين المعونة و العطاء. قلت المعونة إلى الجند شي ء يسير من المال برسم ترميم أسلحتهم و إصلاح دوابهم و يكون ذلك خارجا عنالعطاء المفروض شهرا فشهرا و العطاء المفروض شهرا فشهرا يكون شيئا له مقدار يصرف في أثمان الأقوات و مئونة العيال و قضاء الديون. و التريكة بيضة النعام تتركها في مجثمها يقول أنتم خلف الإسلام و بقيته كالبيضة التي تتركها النعامة. فإن قلت ما معنى قوله لا يخرج إليكم من أمري رضا فترضونه و لا سخط فتجتمعون عليه قلت معناه أنكم لا تقبلون مما أقول لكم شيئا سواء كان مما يرضيكم أو مما يسخطكم بل لا بد لكم من المخالفة و الافتراق عنه شرح نهج البلاغة ج : 10 ص : 72ثم ذكر أن أحب الأشياء إليه أن يلقى الموت و هذه الحال التي ذكرهابو الطيب فقال
كفى بك داء أن ترى الموت شافيا و حسب المنايا أن تكن أمانياتمنيتها لما تمنيت أن ترى صديقا فأعيا أو عدوا مداجيا

(11/60)


قوله قد دارستكم الكتاب أي درسته عليكم دارست الكتب و تدارستها و أدرستها و درستها بمعنى و هي من الألفاظ القرآنية. و فاتحتكم الحجاج أي حاكمتكم بالمحاجة و المجادلة و قوله تعالى رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنا أي احكم و الفتاح الحاكم. و عرفتكم ما أنكرتم بصرتكم ما عمي عنكم. و سوغتكم ما مججتم يقال مججت الشراب من فمي أي رميت به و شيخ ماج يمج ريقه و لا يستطيع حبسه من كبره و أحمق ماج أي يسيل لعابه يقول ما كانت عقولكم و أذهانكم تنفر عنه من الأمور الدينية أوضحته لكم حتى عرفتموه و اعتقدتموه و انطوت قلوبكم عليه و لم يجزم ع بحصول ذلك لهم لأنه قال لو كان الأعمى يلحظ و النائم يستيقظ أي إني قد فعلت معكم ما يقتضي حصول الاعتقادات الحقيقية في أذهانكم لو أزلتم عن قلوبكم ما يمنع من حصولها لكم و المانع المشار إليه هو الهوى و العصبية و الإصرار على اللجاج و محبة نصرة عقيدة قد سبقت إلى القلب و زرعها التعصب شرح نهج البلاغة ج : 10 ص : 73و مشقة مفارقة الأسلاف الذين قد انغرس في النفس تعظيمهم و مالت القلوب إلى تقليدهم لحسن الظن بهم. ثم قال أقرب بقوم أي ما أقربهم من الجهل كما قال تعالى أَسْمِعْ بِهِمْ وَ أَبْصِرْ أي ما أسمعهم و أبصرهم. فإن قلت قكان يجب أن يقول و أقرب بقوم قائدهم معاوية و مؤدبهم ابن النابغة من الجهل فلا يحول بين النكرة الموصوفة و صفتها بفاصل غريب و لم يقل ذلك بل فصل بين الصفة و الموصوف بأجنبي منهما. قلت قد جاء كثير من ذلك نحو قوله تعالى وَ مِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرابِ مُنافِقُونَ وَ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفاقِ في قول من لم يجعل مردوا صفة أقيمت مقام الموصوف لأنه يجعل مردوا صفة القوم المحذوفين المقدرين بعد الأعراب و قد حال بين ذلك و بين مردوا قوله وَ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ. و نحوه قوله أَنْزَلَ عَلى عَبْدِهِ الْكِتابَ وَ لَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً قَيِّماً. فإن قيما

(11/61)


حال من الكتاب و قد توسط بين الحال و ذي الحال وَ لَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً و الحال كالصفة و لأنهم قد أجازوا مررت برجل أيها الناس طويل و النداء أجنبي على أنا لا نسلم أن قوله من الجهل أجنبي لأنه متعلق بأقرب و الأجنبي ما لا تعلق له بالكلام
شرح نهج البلاغة ج : 10 ص : 18274- و من كلام له عوَ قَدْ أَرْسَلَ رَجُلًا مِنْ أَصْحَابِهِ يَعْلَمُ لَهُ عِلْمَ أَحْوَالِ قَوْمٍ مِنْ جُنْدِ الْكُوفَةِ قَدْ هَمُّوا بِاللِّحَاقِ بِالْخَوَارِجِ وَ كَانُوا عَلَى خَوْفٍ مِنْهُ ع فَلَمَّا عَادَ إِلَيْهِ الرَّجُلُ قَالَ لَهُ أَ أَمِنُوا فَقَطَنُوا أَمْ جَبَنُوا فَظَعَنُوا فَقَالَ الرَّجُلُ بَلْ ظَعَنُوا يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ فَقَالَ ع بُعْداً لَهُمْ كَمَا بَعِدَتْ ثَمُودُ أَمَا لَوْ أُشْرِعَتِ الْأَسِنَّةُ إِلَيْهِمْ وَ صُبَّتِ السُّيُوفُ عَلَى هَامَاتِهِمْ لَقَدْ نَدِمُوا عَلَى مَا كَانَ مِنْهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ الْيَوْمَ قَدِ اسْتَفَلَّهُمْ وَ هُوَ غَداً مُتَبَرِّئٌ مِنْهُمْ وَ مُتَخَلٍّ عَنْهُمْ فَحَسْبُهُمْ مِنَ الْهُدَى وَ ارْتِكَاسِهِمْ فِي الضَّلَالِ وَ الْعَمَى وَ صَدِّهِمْ عَنِ الْحَقِّ وَ جِمَاحِهِمْ فِي التِّيهِ

(11/62)


قد ذكرنا قصة هؤلاء القوم فيما تقدم عند شرحنا قصة مصقلة بن هبيرة الشيباني و قطن الرجل بالمكان يقطن بالضم أقام به و توطنه فهو قاطن و الجمع قطان و قاطنة و قطين أيضا مثل غاز و غزي و عازب للكلأ البعيد و عزيب. و ظعن صار الرجل ظعنا و ظعنا و قرئ بهما يَوْمَ ظَعْنِكُمْ و أظعنه سيره و انتصب بعدا على المصدر. شرح نهج البلاغة ج : 10 ص : 75و ثمود إذا أردت القبيلة غير مصروف و إذا أردت الحي أو اسم الأب مصروف و يقال إنه ثمود بن عابر بن آدم بن سام بن نوح قيل سميت ثمود لقلة مائها من الثمد و هو الماء القليل و كانت مساكنهم الر بين الحجاز و الشام إلى وادي القرى. و أشرعت الرمح إلى زيد أي سددته نحوه و شرع الرمح نفسه و صبت السيوف على هاماتهم استعارة من صببت الماء شبه وقع السيوف و سرعة اعتوارها الرءوس بصب الماء. و استفلهم الشيطان وجدهم مفلولين فاستزلهم هكذا فسروه. و يمكن عندي أن يريد أنه وجدهم فلا لا خير فيهم و الفل في الأصل الأرض لا نبات بها لأنها لم تمطر قال حسان يصف العزى
و إن التي بالجذع من بطن نخلة و من دانها فل من الخير معزل
أي خال من الخير. و يروى استفزهم أي استخفهم. و الارتكاس في الضلال الرجوع كأنه جعلهم في ترددهم في طبقات الضلال كالمرتكس الراجع إلى أمر قد كان تخلص منه. و الجماح في التيه الغلو و الإفراط مستعار من جماح الفرس و هو أن يعتز صاحبه و يغلبه جمح فهو جموح

(11/63)


شرح نهج البلاغة ج : 10 ص : 18376- و من خطبة له عرُوِيَ عَنْ نَوْفٍ الْبَكَالِيِّ قَالَ خَطَبَنَا بِهَذِهِ الْخُطْبَةِ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيٌّ ع بِالْكُوفَةِ وَ هُوَ قَائِمٌ عَلَى حِجَارَةٍ نَصَبَهَا لَهُ جَعْدَةُ بْنُ هُبَيْرَةَ الْمَخْزُومِيُّ وَ عَلَيْهِ مِدْرَعَةٌ مِنْ صُوفٍ وَ حَمَائِلُ سَيْفِهِ لِيفٌ وَ فِي رِجْلَيْهِ نَعْلَانِ مِنْ لِيفٍ وَ كَأَنَّ جَبِينَهُ ثَفِنَةُ بَعِيرٍ فَقَالَ ع الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي إِلَيْهِ مَصَائِرُ الْخَلْقِ وَ عَوَاقِبُ الْأَمْرِ نَحْمَدُهُ عَلَى عَظِيمِ إِحْسَانِهِ وَ نَيِّرِ بُرْهَانِهِ وَ نَوَامِي فَضْلِهِ وَ امْتِنَانِهِ حَمْداً يَكُونُ لِحَقِّهِ قَضَاءً وَ لِشُكْرِهِ أَدَاءً وَ إِلَى ثَوَابِهِ مُقَرِّباً وَ لِحُسْنِ مَزِيدِهِ مُوجِباً وَ نَسْتَعِينُ بِهِ اسْتِعَانَةً رَاجٍ لِفَضْلِهِ مُؤَمِّلٍ لِنَفْعِهِ وَاثِقٍ بِدَفْعِهِ مُعْتَرِفٍ لَهُ بِالطَّوْلِ مُذْعِنٍ لَهُ بِالْعَمَلِ وَ الْقَوْلِ وَ نُؤْمِنُ بِهِ إِيمَانَ مَنْ رَجَاهُ مُوقِناً وَ أَنَابَ إِلَيْهِ مُؤْمِناً وَ خَنَعَ لَهُ مُذْعِناً وَ أَخْلَصَ لَهُ مُوَحِّداً وَ عَظَّمَهُ مُمَجِّداً وَ لَاذَ بِهِ رَاغِباً مُجْتَهِداً
نوف البكالي
قال الجوهري في الصحاح نوف البكالي بفتح الباء كان حاجب علي ع ثم قال و قال ثعلب هو منسوب إلى بكالة قبيلة. شرح نهج البلاغة ج : 10 ص : 77و قال القطب الراوندي في شرح نهج البلاغة بكال و بكيل شي ء واحد و هو اسم حي من همدان و بكيل أكثر قال الكميفقد شركت فيه بكيل و أرحب

(11/64)


و الصواب غير ما قالاه و إنما بنو بكال بكسر الباء حي من حمير منهم هذا الشخص هو نوف بن فضالة صاحب علي ع و الرواية الصحيحة الكسر لأن نوف بن فضالة بكالي بالكسر من حمير و قد ذكر ابن الكلبي نسب بني بكال الحميريين فقال هو بكال بن دعمي بن غوث بن سعد بن عوف بن عدي بن مالك بن زيد بن سهل بن عمرو بن قيس بن معاوية بن جشم بن عبد شمس بن وائل بن الغوث بن قطن بن عريب بن زهير بن أيمن بن الهميسع بن حمير
نسب جعدة بن هبيرة
و أما جعدة بن هبيرة فهو ابن أخت أمير المؤمنين ع أمه أم هانئ بنت أبي طالب بن عبد المطلب بن هاشم و أبوه هبيرة بن أبي وهب بن عمرو بن عائذ بن عمران بن مخزوم بن يقظة بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب و كان جعدة فارسا شجاعا فقيها و ولي خراسان لأمير المؤمنين ع و هو من الصحابة الذين أدركوا رسول الله ص يوم الفتح مع أمه أم هانئ بنت أبي طالب و هرب أبو هبيرة بن أبي وهب ذلك اليوم هو و عبد الله بن الزبعرى إلى نجران. شرح نهج البلاغة ج : 10 ص : 78و روى أهل الحديث أن أم هانئ كانت يوم الفتح في بيتها فدخل عليها هبيرة بن أبي وهب لها و رجل من بني عمه هاربين من علي ع و هو يتبعهما و بيده السيف فقامت أم هانئ في وجهه دونهما و قالت ما تريده منهما و لم تكن رأته من ثماني سنين فدفع في صدرها فلم تزل عن موضعها و قالت أ تدخل يا علي بيتي و تهتك حرمتي و تقتل بعلي و لا تستحيي مني بعد ثماني سنين فقال إن رسول الله ص أهدر دمهما فلا بد أن أقتلهما فقبضت على يده التي فيها السيف فدخلا بيتا ثم خرجا منه إلى غيره ففاتاه

(11/65)


و جاءت أم هانئ إلى رسول الله ص فوجدته يغتسل من جفنة فيها أثر العجين و فاطمة ابنته تستره بثوبها فوقفت حتى أخذ ثوبه فتوشح به ثم صلى ثماني ركعات من الضحى ثم انصرف فقال مرحبا و أهلا بأم هانئ ما جاء بك فأخبرته خبر بعلها و ابن عمه و دخول علي ع بيتها بالسيف فجاء علي ع و رسول الله ص يضحك فقال له ما صنعت بأم هانئ فقال سلها يا رسول الله ما صنعت بي و الذي بعثك بالحق لقد قبضت على يدي و فيها السيف فما استطعت أن أخلصها إلا بعد لأي و فاتني الرجلان فقال ص لو ولد أبو طالب الناس كلهم لكانوا شجعانا قد أجرنا من أجارت أم هانئ و أمنا من أمنت فلا سبيل لك عليهما
فأما هبيرة فلم يرجع و أما الرجل الآخر فرجع فلم يعرض له. قالوا و أقام هبيرة بن أبي وهب بنجران حتى مات بها كافرا و روى له محمد بن إسحاق في كتاب المغازي شعرا أوله
أ شاقتك هند أم أتاك سؤالها كذاك النوى أسبابها و انفتالها
يذكر فيه أم هانئ و إسلامها و أنه مهاجر لها إذ صبت إلى الإسلام و من جملته شرح نهج البلاغة ج : 10 ص : 7فإن كنت قد تابعت دين محمد و قطعت الأرحام منك حبالهافكوني على أعلى سحوق بهضبة ململمة غبراء يبس قلالها
و قال ابن عبد البر في كتاب الاستيعاب ولدت أم هانئ لهبيرة بن أبي وهب بنين أربعة جعدة و عمرا و هانئا و يوسف و قال و جعدة الذي يقول
أبي من بني مخزوم إن كنت سائلا و من هاشم أمي لخير قبيل فمن ذا الذي ينأى علي بخاله كخالي علي ذي الندى و عقيلالمدرعة الجبة و تدرع لبسها و ربما قالوا تمدرع. و ثفنة البعير واحدة ثفناته و هو ما يقع على الأرض من أعضائه إذا استناخ فيغلظ و يكثف كالركبتين و غيرهما و يقال ذو الثفنات الثلاثة لعلي بن الحسين و علي بن عبد الله بن العباس ع و لعبد الله بن وهب الراسبي رئيس الخوارج لأن طول السجود كان قد أثر في ثفناتهم قال دعبل شرح نهج البلاغة ج : 10 ص : 8ديار علي و الحسين و جعفر و حمزة و السجاد ذي الثفنات

(11/66)


و مصائر الأمور جمع مصير و هو مصدر صار إلى كذا و معناه المرجع قال تعالى وَ إِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ فأما المصدر من صار الشي ء كذا فمصير و صيرورة و القياس في مصدر صار إليه أي رجع مصارا كمعاش و إنما جمع المصدر هاهنا لأن الخلائق يرجعون إلى الله تعالى في أحوالمختلفة في الدنيا و في الدار الآخرة فجمع المصدر و إن كان يقع بلفظه على القليل و الكثير لاختلاف وجوهه كقوله تعالى وَ تَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا. و عواقب الأمر جمع عاقبة و هي آخر الشي ء. ثم قسم الحمد فجعله على ثلاثة أقسام أحدها الحمد على عظيم إحسانه و و أصول نعمه تعالى كالحياة و القدرة و الشهوة و غيرها مما لا يدخل جنسه تحت مقدور القادر. و ثانيها الحمد على نير برهانه و هو ما نصبه في العقول من العلوم البديهية المفضية إلى العلوم النظرية بتوحيده و عدله. و ثالثها الحمد على أرزاقه النامية أي الزائدة و ما يجري مجراها من إطالة الأعمار و كثرة الأرزاق و سائر ضروب الإحسان الداخلة في هذا القسم. ثم بالغ في الحمد حمدا يكون لحقه قضاء و لشكره أداء و ذلك لأن الحمد و الشكر و لو بلغ شرح نهج البلاغة ج : 10 ص : 81أقصى غاياته لم يصل إلى أن يكون قاضيا لحق الله تعالى و لا مؤد لشكره و لكنه قال ذلك على سبيل المبالغة. ثم قال و إلى ثوابه مقربا و لحسن مزيده موجبا و ذلك لأن الشكر يوجب الثواب و المزيد قال الله تعالى فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ أي أثبكم و قال لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ. ثم شرع في الاستعانة بالله ففصلها أحسن تفصيل فذكر أنه يستعين به استعانة راج لفضله في الآخرة مؤمل لنفعه في الدنيا واثق بدفعه المضار عنه و ذلك لأنه أراد أن يحتوي على وجوه ما يستعان به تعالى لأجله فذكر الأمور الإيجابية و أعقبها بالأمور السلبية فالأولى جلب المنافع و الثانية دفع المضار. و الطول الإفضال و الإذعان الانقياد و الطاعة. و أناب إليه أقبل و تاب و خنع خضع و

(11/67)


المصدر الخنوع و لاذ به لجأ إليه
لَمْ يُولَدْ سُبْحَانَهُ فَيَكُونَ فِي الْعِزِّ مُشَارَكاً وَ لَمْ يَلِدْ فَيَكُونَ مَوْرُوثاً هَالِكاً وَ لَمْ يَتَقَدَّمْهُ وَقْتٌ وَ لَا زَمَانٌ وَ لَمْ يَتَعَاوَرْهُ زِيَادَةٌ وَ لَا نُقْصَانٌ بَلْ ظَهَرَ لِلْعُقُولِ بِمَا أَرَانَا مِنْ عَلَامَاتِ التَّدْبِيرِ الْمُتْقَنِ وَ الْقَضَاءِ الْمُبْرَمِ فَمِنْ شَوَاهِدِ خَلْقِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ مُوَطَّدَاتٍ بِلَا عَمَدٍ قَائِمَاتٍ بِلَا سَنَدٍ دَعَاهُنَّ فَأَجَبْنَ طَائِعَاتٍ مُذْعِنَاتٍ غَيْرَ مُتَلَكِّئَاتٍ وَ لَا مُبْطِئَاتٍ وَ لَوْ لَا إِقْرَارُهُنَّ لَهُ بِالرُّبُوبِيَّةِ وَ إِذْعَانُهُنَّ لَهُ بِالطَّوَاعِيَةِ لَمَا جَعَلَهُنَّ مَوْضِعاً لِعَرْشِهِ شرح نهج البلاغة ج : 10 ص : 82وَ لَا مَسْكَناً لِمَلَائِكَتِهِ وَ لَا مَصْعَداً لِلْكَلِمِ الطَّيِّبِ وَ الْعَمَلِ الصَّالِحِ مِنْ خَلْقِهِنفى ع أن يكون البارئ سبحانه مولودا فيكون له شريك في العز و الإلهية و هو أبوه الذي ولده و إنما قال ذلك جريا على عادة ملوك البشر فإن الأكثر أن الملك يكون ابن ملك قبله و نفى أن يكون له ولد جريا أيضا على عادة البشر في أن كل والد في الأكثر فإنه يهلك قبل هلاك الولد و يرثه الولد و هذا النمط من الاحتجاج يسمى خطابة و هو نافع في مواجهة العرب به و أراد من الاحتجاج إثبات العقيدة فتارة تثبت في نفوس العلماء بالبرهان و تارة تثبت في نفوس العوام بالخطابة و الجدل. ثم نفى أن يتقدمه وقت أو زمان و الوقت هو الزمان و إنما خالف بين اللفظين و أتى بحرف العطف كقوله تعالى لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَ مِنْهاجاً. و نفى أن يتعاوره أي تختلف عليه زيادة أو نقصان يقال عاورت زيدا الضرب أي فعلت به من الضرب مثل ما فعل بي و اعتوروا الشي ء أي تداولوه فيما بينهم و كذلك تعوروه و تعاوروه و نما ظهرت الواو في اعتوروا لأنه في معنى تعاوروا

(11/68)


فبني عليه و لو لم يكن في معناه لاعتلت كما قالوا اجتوروا لما كان في معنى تجاوروا التي لا بد من صحة الواو فيها لسكون الألف قبلها و اعتورت الرياح رسم الدار اختلفت عليه. فإن قلت هذا يقتضي أن يقول و لم يتعاوره زيادة و نقصان لأن التعاور يستدعي الضدين معا و لا ينبغي أن يقول و لا نقصان كما لا يجوز أن تقول لم يختلف زيد و لا عمرو شرح نهج البلاغة ج : 10 ص : 83قلت لما كانت مراتب الزيادة مختلفة جاز أن يقال لا يعتوره الزيادة فكذلك القول في جانب النقصان و جرى كل واحد من النين مجرى أشياء متنافية تختلف على الموضع الموصوف بها. قوله ع موطدات أي ممهدات مثبتات. و العمد جمع عماد نحو إهاب و أهب و إدام و أدم و هو على خلاف القياس و منه قوله تعالى فِي عَمَدٍ مُمَدَّدَةٍ و قوله تعالى خَلَقَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها و السند ما يستند إليه. ثم قال دعاهن فأجبن طائعات هذا من باب المجاز و التوسع لأن الجماد لا يدعى و أما من قال إن السماوات أحياء ناطقة فإنه لم يجعلهن مكلفات ليقال و لو لا إقرارهن له بالربوبية لما فعل كذا بل يقول ذلك على وجه آخر و لكن لغة العرب تنطق بمثل هذا المجاز نحو قول الراجز
امتلأ الحوض و قال قطني مهلا رويدا قد ملأت بطني

(11/69)


و منه قوله تعالى ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ. و منه قول مكاتب لبني منقر التميميين كان قد ظلع بمكاتبته فأتى قبر غالب بن صعصعة فاستجار به و أخذ منه حصيات فشدهن في عمامته ثم أتى الفرزدق فأخبره خبره و قال إني قد قلت شعرا قال هاته فأنشده شرح نهج البلاغة ج : 10 ص : 8بقبر ابن ليلى غالب عذت بعد ما خشيت الردى أو أن أرد على قسربقبر امرئ يقري المئين عظامه و لم يك إلا غالبا ميت يقري فقال لي استقدم أمامك إنما فكاكك أن تلقى الفرزدق بالمصرفقال ما اسمك فقال لهذم قال يا لهذم حكمك مسمطا قال ناقة كوماء سوداء الحدقة قال يا جارية اطرحي لنا حبلا ثم قال يا لهذم اخرج بنا إلى المربد فألقه في عنق ما شئت من إبل الناس فتخير لهذم على عينه ناقة و رمى بالحبل في عنقها و جاء صاحبها فقال له الفرزدق اغد علي أوفك ثمنها فجعل لهذم يقودها و الفرزدق يسوقها حتى أخرجها من البيوت إلى الصحراء فصاح به الفرزدق يا لهذم قبح الله أخسرنا فخبر الشاعر عن القبر بقوله فقال لي استقدم أمامك و القبر و الميت الذي فيه لا يخبران و لكن العرب و أهل الحكمة من العجم يجعلون كل دليل قولا و جوابا أ لا ترى إلى قول زهير
أ من أم أوفى دمنة لم تكلم

(11/70)


و إنما كلامها عنده أن تبين ما يرى من الآثار فيها عن قدم العهد بأهلها. و من كلام بعض الحكماء هلا وقفت على تلك الجنان و الحيطان فقلت أيتها الجنان أين من شق أنهارك و غرس أشجارك و جنى ثمارك فإن لم تجبك حوارا أجابتك اعتبارا. و قال النعمان بن المنذر و معه عدي بن زيد في ظل شجرات مونقات يشرب شرح نهج البلاغة ج : 10 ص : 85فقال عدي أبيت اللعن و أراد أن يعظه أ تدري ما تقول هذه الشجرات قال ما تقول قالرب ركب قد أناخوا حولنا يشربون الخمر بالماء الزلال ثم أضحوا عصف الدهر بهم و كذاك الدهر يودي بالرجالفتنغص النعمان يومه ذلك. و المذعن المنقاد المطيع و المتلكئ المتوقف و الكلم الطيب شهادة أن لا إله إلا الله و أن محمدا ص رسوله و العمل الصالح أداء الواجبات و النوافل و اللفظات من القرآن العزيز. و المصعد موضع الصعود و لا شبهة أن السماء أشرف من الأرض على رأي المليين و على رأي الحكماء أما أهل الملة فلأن السماء مصعد الأعمال الصالحة و محل الأنوار و مكان الملائكة و فيها العرش و الكرسي و الكواكب المدبرات أمرا و أما الحكماء فلأمور أخرى تقتضيها أصولهم

(11/71)


جَعَلَ نُجُومَهَا أَعْلَاماً يَسْتَدِلُّ بِهَا الْحَيْرَانُ فِي مُخْتَلِفِ فِجَاجِ الْأَقْطَارِ لَمْ يَمْنَعْ ضَوْءَ نُورِهَا ادْلِهْمَامُ سُجُفِ اللَّيْلِ الْمُظْلِمِ وَ لَا اسْتَطَاعَتْ جَلَابِيبُ سَوَادِ الْحَنَادِسِ أَنْ تَرُدَّ مَا شَاعَ فِي السَّمَاوَاتِ مِنْ تَلَأْلُؤِ نُورِ الْقَمَرِ فَسُبْحَانَ مَنْ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ سَوَادُ شرح نهج البلاغة ج : 10 ص : 86غَسَقٍ دَاجٍ وَ لَا لَيْلٍ سَاجٍ فِي بِقَاعِ الْأَرَضِينَ الْمُتَطَأْطِئَاتِ وَ لَا فِي يَفَاعِ السُّفْعِ الْمُتَجَاوِرَاتِ وَ مَا يَتَجَلْجَلبِهِ الرَّعْدُ فِي أُفُقِ السَّمَاءِ وَ مَا تَلَاشَتْ عَنْهُ بُرُوقُ الْغَمَامِ وَ مَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ تُزِيلُهَا عَنْ مَسْقَطِهَا عَوَاصِفُ الْأَنْوَاءِ وَ انْهِطَالُ السَّمَاءِ وَ يَعْلَمُ مَسْقَطَ الْقَطْرَةِ وَ مَقَرَّهَا وَ مَسْحَبَ الذَّرَّةِ وَ مَجَرَّهَا وَ مَا يَكْفِي الْبَعُوضَةَ مِنْ قُوتِهَا وَ مَا تَحْمِلُ مِنَ الْأُنْثَى فِي بَطْنِهَا

(11/72)


أعلاما أي يستدل بها و الفجاج جمع فج و هو الطريق في الجبل. ثم قال إن ادلهمام سواد الليل أي شدة ظلمته لم يمنع الكواكب من الإضاءة و كذلك أيضا لم يمنع ظلام الليل القمر من تلألؤ نوره و إنما خص القمر بالذكر و إن كان من جملة الكواكب لشرفه بما يظهر للأبصار من عظم حجمه و شدة إضاءته فصار كقوله تعالى فِيهِما فاكِهَةٌ وَ نَخْلٌ وَ رُمَّانٌ و قد روى بعض الرواة ادلهمام بالنصب و جعله مفعولا و ضوء نورها بالرفع و جعله فاعلا و هذه الرواية أحسن في صناعة الكتابة لمكان الازدواج أي لا القمر و لا الكواكب تمنع الليل من الظلمة و لا الليل يمنع الكواكب و القمر من الإضاءة. و السجف جمع سجف و هو الستر و يجوز فتح السين. و شاع تفرق و التلألؤ اللمعان و الجلابيب الثياب و الغسق الظلمة و الساجي الساكن و الداجي المظلم و المتطأطئ المنخفض و السفع المتجاورات هاهنا الجبال و سماها سفعا لأن السفعة سواد مشرب بحمرة و كذلك لونها في الأكثر. شرح نهج البلاغة ج : 10 ص : 87و اليفاع الأرض المرتفعة و التجلجل صوت الرعد و ما تلاشت عنه بروق الغمام هذه الكلمة أهمل بناءها كثير من أئمة اللغة و هي صحيحة و قد جاءت و وردت قال ابن الأعرابي لشا الرجل إذا اتضع و خس بعد رة و إذا صح أصلها صح استعمال الناس تلاشى الشي ء بمعنى اضمحل. و قال القطب الراوندي تلاشى مركب من لا شي ء و لم يقف على أصل الكلمة و قد ظهر الآن أن معنى كلامه ع أنه سبحانه يعلم ما يصوت به الرعد و يعلم ما يضمحل عنه البرق. فإن قلت و هل يقصد الرعد بجلجلته معنى قولا ليقال إن البارئ يعلمه ثم ما المراد بكونه عالما بما يضمحل البرق عنه. قلت قد يكون تعالى يحدث في الرعد جلجلة أي صوتا ليهلك به قوما أو لينفع به قوما فعلمه بما تتضمنه تلك الجلجلة هو معنى قولنا يعلم ما يصوت به الرعد و لا ريب أن البرق يلمع فيضي ء أقطارا مخصصة ثم يتلاشى عنها فالبارئ سبحانه عالم بتلك الأقطار التي يتلاشى البرق

(11/73)


عنها. فإن قلت هو سبحانه عالم بما يضيئه البرق و بما لا يضيئه فلما ذا خص بالعالمية ما يتلاشى عنه البرق. قلت لأن علمه بما ليس بمضي ء بالبرق أعجب و أغرب لأن ما يضيئه البرق يمكن أن يعلمه أولوالأبصار الصحيحة فأراد ع أن يشرح من صفاته سبحانه ما هو بخلاف المعتاد بين البشر ليكون إعظام السامعين له سبحانه أتم و أكمل. و العواصف الرياح الشديدة و أضافها إلى الأنواء لأن أكثر ما يكون عصفانها في الأنواء و هي جمع نوء و هو سقوط النجم من منازل القمر الثمانية و العشرين في المغرب شرح نهج البلاغة ج : 10 ص : 88مع الفجر و طلوع رقيبه من المشرق مقابلا له من ساعته و مدة النوء ثلاثة عشر يوما إلا الجبهة فإن لها أربعة عشر يوما. قال أبو عبيد و لم يسمع في النوء أنه المسقوط إلا في هذا الموضع و كانت العرب تضيف الرياح و الأار و الحر و البرد إلى الساقط منها. و قال الأصمعي بل إلى الطالع في سلطانه فتقول مطرنا بنوء كذا و كذا و نهى النبي ص عن ذلك و الجمع أنواء و نوءان أيضا مثل بطن و بطنان و عبد و عبدان قال حسان بن ثابت
و يثرب تعلم أنا بها إذا قحط القطر نوءانها
و الانهطال الانصباب و مسقط القطرة من المطر موضع سقوطها و مقرها موضع قرارها و مسحب الذرة الصغيرة من النمل و مجرها موضع سحبها و جرها. و هذا الفصل من فصيح الكلام و نادره و يتضمن من توحيد الله تعالى و تمجيده و الثناء عليه ما يشهد لنفسه

(11/74)


وَ الْحَمْدُ لِلَّهِ الْكَائِنِ قَبْلَ أَنْ يَكُونَ كُرْسِيٌّ أَوْ عَرْشٌ أَوْ سَمَاءٌ أَوْ أَرْضٌ أَوْ جَانٌّ أَوْ إِنْسٌ لَا يُدْرَكُ بِوَهْمٍ وَ لَا يُقَدَّرُ بِفَهْمٍ وَ لَا يَشْغَلُهُ سَائِلٌ وَ لَا يَنْقُصُهُ نَائِلٌ وَ لَا يَنْظُرُ بِعَيْنٍ وَ لَا يُحَدُّ بِأَيْنٍ وَ لَا يُوصَفُ بِالْأَزْوَاجِ وَ لَا يُخْلَقُ بِعِلَاجٍ وَ لَا يُدْرَكُ بِالْحَوَاسِّ وَ لَا يُقَاسُ بِالنَّاسِ الَّذِي كَلَّمَ مُوسَى تَكْلِيماً وَ أَرَاهُ مِنْ آيَاتِهِ عَظِيماً بِلَا جَوَارِحَ وَ لَا أَدَوَاتٍ وَ لَا نُطْقٍ وَ لَا لَهَوَاتٍ بَلْ إِنْ كُنْتَ صَادِقاً أَيُّهَا الْمُتَكَلِّفُ لِوَصْفِ رَبِّكَ فَصِفْ شرح نهج البلاغة ج : 10 ص : 89جِبْرِيلَ وَ مِيكَائِيلَ وَ جُنُودَ الْمَلَائِكَةِ الْمُقَرَّبِينَ فِي حُجُرَاتِ الْقُدُسِ مُرْجَحِنِّينَ مُتَوَلِّهَةً عُقُولُهُمْ أَنْ يَحُدُّوا حْسَنَ الْخَالِقِينَ وَ إِنَّمَا يُدْرَكُ بِالصِّفَاتِ ذَوُو الْهَيْئَاتِ وَ الْأَدَوَاتِ وَ مَنْ يَنْقَضِي إِذَا بَلَغَ أَمَدَ حَدِّهِ بِالْفَنَاءِ فَلَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ أَضَاءَ بِنُورِهِ كُلَّ ظَلَامٍ وَ أَظْلَمَ بِظُلْمَتِهِ كُلَّ نُورٍ
ليس يعني بالكائن هاهنا ما يعنيه الحكماء و المتكلمون بل مراده الموجود أي هو الموجود قبل أن يكون الكرسي و العرش و غيرهما و الأوائل يزعمون أن فوق السماوات السبع سماء ثامنة و سماء تاسعة و يقولون إن الثامنة هي الكرسي و إن التاسعة هي العرش. قوله ع لا يدرك بوهم الوهم هاهنا الفكرة و التوهم. و لا يقدر بفهم أي لا تستطيع الأفهام أن تقدره و تحده. و لا يشغله سائل كما يشغل السؤال منا من يسألونه. و لا ينقصه العطاء كما ينقص العطاء خزائن الملوك. و لا يبصر بجارحة و لا يحد بأين و لفظة أين في الأصل مبنية على الفتح فإذا نكرتها صارت اسما متمكنا كما قال الشاعر
ليت شعري و أين مني ليت إن ليتا و إن لوا عناء

(11/75)


و إن شئت قلت إنه تكلم بالاصطلاح الحكمي و الأين عندهم حصول الجسم في المكان و هو أحد المقولات العشر. شرح نهج البلاغة ج : 10 ص : 90قوله ع و لا يوصف بالأزواج أي صفات الأزواج و هي الأصناف قال سبحانه وَ أَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ. قوله و لا يخلبعلاج أي لا يحتاج في إيجاد المخلوقات إلى معالجة و مزاولة. قوله و كلم موسى تكليما من الألفاظ القرآنية و المراد هاهنا من ذكر المصدر تأكيد الأمر و إزالة لبس عساه يصلح للسامع فيعتقد أنه أراد المجاز و أنه لم يكن كلام على الحقيقة. قوله و أراه من آياته عظيما ليس يريد به الآيات الخارجة عن التكليم كانشقاق البحر و قلب العصا لأنه يكون بإدخال ذلك بين قوله تكليما و قوله بلا جوارح و لا أدوات و لا نطق و لا لهوات مستهجنا و إنما يريد أنه أراد بتكليمه إياه عظيما من آياته و ذلك أنه كان يسمع الصوت من جهاته الست ليس على حد سماع كلام البشر من جهة مخصوصة و له دوي و صلصلة كوقع السلاسل العظيمة على الحصى الأصم. فإن قلت أ تقول إن الكلام حل أجساما مختلفة من الجهات الست. قلت لا و إنما حل الشجرة فقط و كان يسمع من كل جهة و الدليل على حلوله في الشجرة قوله تعالى فَلَمَّا أَتاها نُودِيَ مِنْ شاطِئِ الْوادِ الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَنْ يا مُوسى فلا يخلو إما أن يكون النداء حل الشجرة أو المنادي حلها و الثاني باطل فثبت الأول. ثم قال ع لمن يتكلف أن يصف ربه إن كنت صادقا أنك قد وصلت إلى شرح نهج البلاغة ج : 10 ص : 91معرفة صفته فصف لنا الملائكة فإن معرفة ذات الملك أهون من معرفة ذات الأول سبحانه. و حجرات القدس جمع حجرة و مرجحنين مائلين إلى جهة تحت خضوعا لجلال البارئ سبحانه ارجحن الحجر إذا مال هاويا متولهة عقولهم أي حائرة ثم قال إنما يدرك لصفات و يعرف كنه ما كان ذا هيئة و أداة و جارحة و ما ينقضي و يفنى و يتطرق إليه العدم و واجب

(11/76)


الوجود سبحانه بخلاف ذلك. و تحت قوله أضاء بنوره كل ظلام إلى آخر الفصل معنى دقيق و سر خفي و هو أن كل رذيلة في الخلق البشري مع معرفته بالأدلة البرهانية غير مؤثرة و لا قادحة في جلالة المقام الذي قد بلغ إليه و ذلك نحو أن يكون العارف بخيلا أو جبانا أو حريصا أو نحو ذلك و كل فضيلة في الخلق البشري مع الجهل به سبحانه فليست بفضيلة في الحقيقة و لا معتد بها لأن نقيصة الجهل به تكسف تلك الأنوار و تمحق فضلها و ذلك نحو أن يكون الجاهل به سبحانه جوادا أو شجاعا أو عفيفا أو نحو ذلك و هذا يطابق ما يقوله الأوائل من أن العارف المذنب يشقى بعد الموت قليلا ثم يعود إلى النعيم السرمدي و أن الجاهل ذا العبادة و الإحسان يشقى بعد الموت شقاء مؤبدا و مذهب الخلص من مرجئة الإسلام يناقض هذه اللفظات و يقال إنه مذهب أبي حنيفة رحمه الله و يمكن تأويلها على مذهب أصحابنا بأن يقال كل ظلام من المعاصي الصغائر فإنه ينجلي بضياء معرفته و طاعته و كل طاعة يفعلها المكلف مع الكفر به سبحانه فإنها غير نافعة و لا موجبة ثوابا و يكون هذا التأويل من باب صرف اللفظ عن عمومه إلى خصوصه

(11/77)


شرح نهج البلاغة ج : 10 ص : 92أُوصِيكُمْ عِبَادَ اللَّهِ بِتَقْوَى اللَّهِ الَّذِي أَلْبَسَكُمُ الرِّيَاشَ وَ أَسْبَغَ عَلَيْكُمُ الْمَعَاشَ فَلَوْ أَنَّ أَحَداً يَجِدُ إِلَى الْبَقَاءِ سِلْماً أَوْ لِدَفْعِ الْمَوْتِ سَبِيلًا لَكَانَ ذَلِكَ سُلَيْمَانَ نَ دَاوُدَ ع الَّذِي سُخِّرَ لَهُ مُلْكُ الْجِنِّ وَ الْإِنْسِ مَعَ النُّبُوَّةِ وَ عَظِيمِ الزُّلْفَةِ فَلَمَّا اسْتَوْفَى طُعْمَتَهُ وَ اسْتَكْمَلَ مُدَّتَهُ رَمَتْهُ قِسِيُّ الْفَنَاءِ بِنَبَالِ الْمَوْتِ وَ أَصْبَحَتِ الدِّيَارُ مِنْهُ خَالِيَةً وَ الْمَسَاكِنُ مُعَطَّلَةً وَ وَرِثَهَا قَوْمٌ آخَرُونَ وَ إِنَّ لَكُمْ فِي الْقُرُونِ السَّالِفَةِ لَعِبْرَةً أَيْنَ الْعَمَالِقَةُ وَ أَبْنَاءُ الْعَمَالِقَةِ أَيْنَ الْفَرَاعِنَةُ وَ أَبْنَاءُ الْفَرَاعِنَةِ أَيْنَ أَصْحَابُ مَدَائِنِ الرَّسِّ الَّذِينَ قَتَلُوا النَّبِيِّينَ وَ أَطْفَئُوا سُنَنَ الْمُرْسَلِينَ وَ أَحْيَوْا سُنَنَ الْجَبَّارِينَ أَيْنَ الَّذِينَ سَارُوا بِالْجُيُوشِ وَ هَزَمُوا الْأُلُوفَ وَ عَسْكَرُوا الْعَسَاكِرَ وَ مَدَّنُوا الْمَدَائِنَ
الرياش اللباس و أسبغ أوسع و إنما ضرب المثل بسليمان ع لأنه كان ملك الإنس و الجن و لم يحصل لغيره ذلك و من الناس من أنكر هذا لأن اليهود و النصارى يقولون إنه لم يتعد ملكه حدود الشام بل بعض الشام و ينكرون حديث الجن و الطير و الريح و يحملون ما ورد من ذلك على وجوه و تأويلات عقلية معنوية ليس هذا موضع ذكرها. و الزلفة القرب و الطعمة بضم الطاء المأكلة يقال قد جعلت هذه الضيعة طعمة لزيد. و القسي جمع قوس و أصلها قووس على فعول كضرب و ضروب إلا أنهم قدموا شرح نهج البلاغة ج : 10 ص : 93اللام فقالوا قسو على فلوع ثم قلبت الواياء و كسروا القاف كما كسروا عين عصي فصارت قسي
نسب العمالقة

(11/78)


و العمالقة أولاد لاوذ إرم بن سام بن نوح كان الملك باليمن و الحجاز و ما تاخم ذلك من الأقاليم فمنهم عملاق بن لاوذ بن سام و منهم طسم بن لاوذ أخوه. و منهم جديس بن لاوذ أخوهما و كان العز و الملك بعد عملاق بن لاوذ في طسم فلما ملكهم عملاق بن طسم بغى و أكثر الفساد في الأرض حتى كان يطأ العروس ليلة إهدائها إلى بعلها و إن كانت بكرا افتضها قبل وصولها إلى البعل ففعل ذلك بامرأة من جديس يقال لها غفيرة بنت غفار فخرجت إلى قومها و هي تقول
لا أحد أذل من جديس أ هكذا يفعل بالعروس
فغضب لها أخوها الأسود بن غفار و تابعه قومه على الفتك بعملاق بن طسم و أهل بيته فصنع الأسود طعاما و دعا عملاق الملك إليه ثم وثب به و بطسم فأتى على رؤسائهم و نجا منهم رياح بن مر فصار إلى ذي جيشان بن تبع الحميري ملك اليمن فاستغاث به و استنجده على جديس فسار ذو جيشان في حمير فأتى بلاد جو و هي قصبة اليمامة فاستأصل جديسا كلها و أخرب اليمامة فلم يبق لجديس باقية و لا لطسم إلا اليسير منهم. ثم ملك بعد طسم و جديس وبار بن أميم بن لاوذ بن إرم فسار بولده و أهله فنزل بأرض وبار و هي المعروفة الآن برمل عالج فبغوا في الأرض حينا حتى أفناهم الله شرح نهج البلاغة ج : 10 ص : 94ثم ملك الأرض بعد وبار عبد ضخم بن أثيف بن لاوذ فنزلوا بالطائف حينا ثم بادوانسب عاد و ثمود
و ممن يعد مع العمالقة عاد و ثمود فأما عاد فهو عاد بن عويص بن إرم بن سام بن نوح كان يعبد القمر و يقال إنه رأى من صلبه أولاد أولاد أولاده أربعة آلاف و إنه نكح ألف جارية و كانت بلاده الأحقاف المذكورة في القرآن و هي من شحر عمان إلى حضرموت و من أولاده شداد بن عاد صاحب المدينة المذكورة. و أما ثمود فهو ثمود بن عابر بن إرم بن سام بن نوح و كانت دياره بين الشام و الحجاز إلى ساحل نهر الحبشة
نسب الفراعنة

(11/79)


قوله ع أين الفراعنة و أبناء الفراعنة جمع فرعون و هم ملوك مصر فمنهم الوليد بن الريان فرعون يوسف و منهم الوليد بن مصعب فرعون موسى و منهم فرعون بن الأعرج الذي غزا بني إسرائيل و أخرب بيت المقدس
نسب أصحاب الرس
قوله ع أين أصحاب مدائن الرس قيل إنهم أصحاب شعيب شرح نهج البلاغة ج : 10 ص : 95النبي ص و كانوا عبدة أصنام و لهم مواش و آبار يسقون منها. و الرس بئر عظيمة جدا انخسفت بهم و هم حولها فهلكوا و خسفت بأرضهم كلها و ديارهم و قيل الرس قرية بفلج اليمامة كان بها قوم مبقايا ثمود بغوا فأهلكوا. و قيل قوم من العرب القديمة بين الشام و الحجاز و كانت العنقاء تختطف صبيانهم فتقتلهم فدعوا الله أن ينقذهم منها فبعث إليهم حنظلة بن صفوان فدعاهم إلى الدين على أن يقتل العنقاء فشارطوه على ذلك فدعا عليها فأصابتها الصاعقة فلم يفوا له و قتلوه فأهلكوا. و قيل هم أصحاب الأخدود و الرس هو الأخدود و قيل الرس أرض بأنطاكية قتل فيها حبيب النجار. و قيل بل كذب أهلها نبيهم و رسوه في بئر أي رموه فيها. و قيل إن الرس نهر في إقليم الباب و الأبواب مبدؤه من مدينة طراز و ينتهي إلى نهر الكر فيختلط به حتى يصب في بحر الخزر كان هناك ملوك أولو بأس و قدرة فأهلكهم الله ببغيهم
مِنْهَا قَدْ لَبِسَ لِلْحِكْمَةِ جُنَّتَهَا وَ أَخَذَهَا بِجَمِيعِ أَدَبِهَا مِنَ الْإِقْبَالِ عَلَيْهَا وَ الْمَعْرِفَةِ بِهَا وَ التَّفَرُّغِ لَهَا فَهِيَ عِنْدَ نَفْسِهِ ضَالَّتُهُ الَّتِي يَطْلُبُهَا وَ حَاجَتُهُ الَّتِي يَسْأَلُ عَنْهَا فَهُوَ مُغْتَرِبٌ إِذَا اغْتَرَبَ الْإِسْلَامُ وَ ضَرَبَ بِعَسِيبِ ذَنَبِهِ وَ أَلْصَقَ الْأَرْضَ بِجِرَانِهِ بَقِيَّةٌ مِنْ بَقَايَا حُجَّتِهِ خَلِيفَةٌ مِنْ خَلَائِفِ أَنْبِيَائِهِ

(11/80)


شرح نهج البلاغة ج : 10 ص : 96هذا الكلام فسره كل طائفة على حسب اعتقادها فالشيعة الإمامية تزعم أن المراد به المهدي المنتظر عندهم و الصوفية يزعمون أنه يعني به ولي الله في الأرض و عندهم أن الدنيا لا تخلو عن الأبدال و هم الأربعون و عن الأوتاد و هم سبعة و عن قطب و هو واحد فإذا مات القطب صار أحد السبعة قطبا عوضه و صار أحد الأربعين وتدا عوض الوتد و صار بعض الأولياء الذين يصطفيهم الله تعالى أبدالا عوض ذلك البدل. و أصحابنا يزعمون أن الله تعالى لا يخلي الأمة من جماعة من المؤمنين العلماء بالعدل و التوحيد و أن الإجماع إنما يكون حجة باعتبار أقوال أولئك العلماء لكنه لما تعذرت معرفتهم بأعيانهم اعتبر إجماع سائر العلماء و إنما الأصل قول أولئك. قالوا و كلام أمير المؤمنين ع ليس يشير فيه إلى جماعة أولئك العلماء من حيث هم جماعة و لكنه يصف حال كل واحد منهم فيقول من صفته كذا و من صفته كذا. و الفلاسفة يزعمون أن مراده ع بهذا الكلام العارف و لهم في العرفان و صفات أربابه كلام يعرفه من له أنس بأقوالهم و ليس يبعد عندي أن يريد به القائم من آل محمد ص في آخر الوقت إذا خلقه الله تعالى و إن لم يكن الآن موجودا فليس في الكلام ما يدل على وجوده الآن و قد وقع اتفاق الفرق من المسلمين أجمعين على أن الدنيا و التكليف لا ينقضي إلا عليه. قوله ع قد لبس للحكمة جنتها الجنة ما يستتر به من السلاح كالدرع و نحوها و لبس جنة الحكمة قمع النفس عن المشتهيات و قطع علائق النفس عن شرح نهج البلاغة ج : 10 ص : 97المحسات فإن ذلك مانع للنفس عن أن يصيبها سهام الهوى كما تمنع الدرع الدارع عن أن يصيبه سهام الرماية. ثم عاد إلى صفة هذا الشخص فقال و أخذ بجميع أدبها من الإقبال عليها أي شدة الحرص و الهمة. ثم قال و المعرفة بها أي و المعرفة بشرفها و نفاستها. ثم قال و التفرغ لها لأن الذهن متى وجهته نحو معلومين تخبط و فسد و إنما يدرك الحكمة بتخلية

(11/81)


السر من كل ما مر سواها. قال فهي عند نفسه ضالته التي يطلبها هذا مثل
قوله ع الحكمة ضالة المؤمن
و من كلام الحكماء لا يمنعك من الانتفاع بالحكمة حقارة من وجدتها عنده كما لا يمنعك خبث تراب المعدن من التقاط الذهب. و وجدت بخط أبي محمد عبد الله بن أحمد الخشاب رحمه الله في تعاليق مسودة أبياتا للعطوي و هي
قد رأينا الغزال و الغصن و النجمين شمس الضحى و بدر التمام فو حق البيان يعضده البرهان في مأقط شديد الخصام ما رأينا سوى المليحة شيئا جمع الحسن كله في نظام هي تجري مجرى الأصالة في الرأي و مجرى الأرواح في الأجسو قد كتب ابن الخشاب بخطه تحت المليحة ما أصدقه إن أراد بالمليحة الحكمة قوله ع و حاجته التي يسأل عنها هو مثل قوله ضالته التي يطلبها. ثم قال هو مغترب إذا اغترب الإسلام يقول هذا الشخص يخفي نفسه و يحملها شرح نهج البلاغة ج : 10 ص : 98إذا اغترب الإسلام و اغترابلإسلام أن يظهر الفسق و الجور على الصلاح و العدل
قال ع بدأ الإسلام غريبا و سيعود كما بدأ

(11/82)


قال و ضرب بعسيب ذنبه و ألصق الأرض بجرانه هذا من تمام قوله إذا اغترب الإسلام أي إذا صار الإسلام غريبا مقهورا و صار الإسلام كالبعير البارك يضرب الأرض بعسيبه و هو أصل الذنب و يلصق جرانه و هو صدره في الأرض فلا يكون له تصرف و لا نهوض. ثم عاد إلى صفة الشخص المذكور. و قال بقية من بقايا حججه خليفة من خلائف أنبيائه الضمير هاهنا يرجع إلى الله سبحانه و إن لم يجر ذكره للعلم به كما قال حَتَّى تَوارَتْ بِالْحِجابِ و يمكن أن يقال إن الضمير راجع إلى مذكور و هو الإسلام أي من بقايا حجج الإسلام و خليفة من خلائف أنبياء الإسلام. فإن قلت ليس للإسلام إلا نبي واحد. قلت بل له أنبياء كثير قال تعالى مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْراهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ و قال سبحانه ثُمَّ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً و كل الأنبياء دعوا إلى ما دعا إليه محمد ص من التوحيد و العدل فكلهم أنبياء للإسلام. فإن قلت أ ليس لفظ الحجة و لفظ الخليفة مشعرا بما تقوله الإمامية. قلت لا فإن أهل التصوف يسمون صاحبهم حجة و خليفة و كذلك الفلاسفة شرح نهج البلاغة ج : 10 ص : 99و أصحابنا لا يمتنعون من إطلاق هذه الألفاظ على الماء المؤمنين في كل عصر لأنهم حجج الله أي إجماعهم حجة و قد استخلفهم الله في أرضه ليحكموا بحكمه. و على ما اخترناه نحن فالجواب ظاهر

(11/83)


أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي قَدْ بَثَثْتُ لَكُمُ الْمَوَاعِظَ الَّتِي وَعَظَ بِهَا الْأَنْبِيَاءُ أُمَمَهُمْ وَ أَدَّيْتُ إِلَيْكُمْ مَا أَدَّتِ الْأَوْصِيَاءُ إِلَى مَنْ بَعْدَهُمْ وَ أَدَّبْتُكُمْ بِسَوْطِي فَلَمْ تَسْتَقِيمُوا وَ حَدَوْتُكُمْ بِالزَّوَاجِرِ فَلَمْ تَسْتَوْسِقُوا لِلَّهِ أَنْتُمْ أَ تَتَوَقَّعُونَ إِمَاماً غَيْرِي يَطَأُ بِكُمُ الطَّرِيقَ وَ يُرْشِدُكُمُ السَّبِيلَ أَلَا إِنَّهُ قَدْ أَدْبَرَ مِنَ الدُّنْيَا مَا كَانَ مُقْبِلًا وَ أَقْبَلَ مِنْهَا مَا كَانَ مُدْبِراً وَ أَزْمَعَ التَّرْحَالَ عِبَادُ اللَّهِ الْأَخْيَارُ وَ بَاعُوا قَلِيلًا مِنَ الدُّنْيَا لَا يَبْقَى بِكَثِيرٍ مِنَ الآْخِرَةِ لَا يَفْنَى مَا ضَرَّ إِخْوَانَنَا الَّذِينَ سُفِكَتْ دِمَاؤُهُمْ بِصِفِّينَ أَلَّا يَكُونُوا الْيَوْمَ أَحْيَاءً يُسِيغُونَ الْغُصَصَ وَ يَشْرَبُونَ الرَّنْقَ قَدْ وَ اللَّهِ لَقُوا اللَّهَ فَوَفَّاهُمْ أُجُورَهُمْ وَ أَحَلَّهُمْ دَارَ الْأَمْنِ بَعْدَ خَوْفِهِمْ أَيْنَ إِخْوَانِيَ الَّذِينَ رَكِبُوا الطَّرِيقَ وَ مَضَوْا عَلَى الْحَقِّ أَيْنَ عَمَّارٌ وَ أَيْنَ ابْنُ التَّيِّهَانِ وَ أَيْنَ ذُو الشَّهَادَتَيْنِ وَ أَيْنَ نُظَرَاؤُهُمْ مِنْ إِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ تَعَاقَدُوا عَلَى الْمَنِيَّةِ وَ أُبْرِدَ بِرُءُوسِهِمْ إِلَى الْفَجَرَةِ قَالَ ثُمَّ ضَرَبَ ع بِيَدِهِ إِلَى لِحْيَتِهِ الشَّرِيفَةِ الْكَرِيمَةِ فَأَطَالَ الْبُكَاءَ ثُمَّ قَالَ ع أَوْهِ عَلَى إِخْوَانِيَ الَّذِينَ قَرَءُوا الْقُرْآنَ فَأَحْكَمُوهُ وَ تَدَبَّرُوا الْفَرْضَ فَأَقَامُوهُ شرح نهج البلاغة ج : 10 ص : 100أَحْيَوُا السُّنَّةَ وَ أَمَاتُوا الْبِدْعَةَ دُعُوا لِلْجِهَادِ فَأَجَابُوا وَ وَثِقُوا بِالْقَائِدِ فَاتَّبَعُوهُ ثُمَّ نَادَىِأَعْلَى صَوْتِهِ الْجِهَادَ الْجِهَادَ عِبَادَ اللَّهِ أَلَا وَ

(11/84)


إِنِّي مُعَسْكِرٌ فِي يَومِي هَذَا فَمَنْ أَرَادَ الرَّوَاحَ إِلَى اللَّهِ فَلْيَخْرُجْ قَالَ نَوْفٌ وَ عَقَدَ لِلْحُسَيْنِ ع فِي عَشَرَةِ آلَافٍ وَ لِقَيْسِ بْنِ سَعْدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي عَشَرَةِ آلَافٍ وَ لِأَبِي أَيُّوبَ الْأَنْصَارِيِّ فِي عَشَرَةِ آلَافٍ وَ لِغَيْرِهِمْ عَلَى أَعْدَادٍ أُخْرَ وَ هُوَ يُرِيدُ الرَّجْعَةَ إِلَى صِفِّينَ فَمَا دَارَتِ الْجُمُعَةُ حَتَّى ضَرَبَهُ الْمَلْعُونُ ابْنُ الْمُلْجَمِ لَعَنَهُ اللَّهُ فَتَرَاجَعَتِ الْعَسَاكِرُ فَكُنَّا كَأَغْنَامٍ فَقَدَتْ رَاعِيهَا تَخْتَطِفُهَا الذِّئَابُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ
بثثت لكم المواعظ فرقتها و نشرتها و الأوصياء الذين يأتمنهم الأنبياء على الأسرار الإلهية و قد يمكن ألا يكونوا خلفاء بمعنى الإمرة و الولاية فإن مرتبتهم أعلى من مراتب الخلفاء. و حدوتكم سقتكم كما تحدى الإبل فلم تستوسقوا أي لم تجتمعوا قال
مستوسقات لم يجدن سائقا

(11/85)


قوله يطأ بكم الطريق أي يحملكم على المنهاج الشرعي و يسلك بكم مسلك الحق كأنه جعلهم ضالين عن الطريق التي يطلبونها. شرح نهج البلاغة ج : 10 ص : 101و قال أ تريدون إماما غيري يوقفكم على الطريق التي تطلبونها حتى تطئوها و تسلكوها. ثم ذكر أنه قد أدبر من الدنيا ما ن مقبلا و هو الهدى و الرشاد فإنه كان في أيام رسول الله ص و خلفائه مقبلا ثم أدبر عند استيلاء معاوية و أتباعه و أقبل منها ما كان مدبرا و هو الضلال و الفساد و معاوية عند أصحابنا مطعون في دينه منسوب إلى الإلحاد قد طعن فيه ص و روى فيه شيخنا أبو عبد الله البصري في كتاب نقض السفيانية على الجاحظ و روى عنه أخبارا كثيرة تدل على ذلك و قد ذكرناها في كتابنا في مناقضة السفيانية. و روى أحمد بن أبي طاهر في كتاب أخبار الملوك أن معاوية سمع المؤذن يقول أشهد أن لا إله إلا الله فقالها ثلاثا فقال أشهد أن محمدا رسول الله فقال لله أبوك يا ابن عبد الله لقد كنت عالي الهمة ما رضيت لنفسك إلا أن يقرن اسمك باسم رب العالمين. قوله ع و أزمع الترحال أي ثبت عزمهم عليه يقال أزمعت الأمر و لا يقال أزمعت على الأمر هكذا يقول الكسائي و أجازه الخليل و الفراء. ثم قال ع إنه لم يضر إخواننا القتلى بصفين كونهم اليوم ليسوا بأحياء حياتنا المشوبة بالنغص و الغصص. و يقال ماء رنق بالتسكين أي كدر رنق الماء بالكسر يرنق رنقا فهو رنق و أرنقته أي كدرته و عيش رنق بالكسر أي كدر. ثم أقسم أنهم لقوا الله فوفاهم أجورهم و هذا يدل على ما يذهب إليه جمهور أصحابنا من نعيم القبر و عذابه. ثم قال ع أين إخواني ثم عددهم فقال أين عمار شرح نهج البلاغة ج : 10 ص : 10عمار بن ياسر و نسبه و نبذ من أخباره

(11/86)


و هو عمار بن ياسر بن عامر بن كنانة بن قيس العنسي بالنون المذحجي يكنى أبا اليقظان حليف بني مخزوم. و نحن نذكر طرفا من أمره من كتاب الإستيعاب لأبي عمر بن عبد البر المحدث قال أبو عمر كان ياسر والد عمار عربيا قحطانيا من عنس في مذحج إلا أن ابنه عمارا كان مولى لبني مخزوم لأن أباه ياسرا قدم مكة مع أخوين له يقال لهما مالك و الحارث في طلب أخ لهم رابع فرجع الحارث و مالك إلى اليمن و أقام ياسر بمكة فحالف أبا حذيفة بن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم فزوجه أبو حذيفة أمة يقال لها سمية فأولدها عمارا فأعتقه أبو حذيفة فمن هاهنا كان عمار مولى بني مخزوم و أبوه عربي لا يختلفون في ذلك و للحلف و الولاء الذي بين بني مخزوم و عمار و أبيه ياسر كان احتمال بني مخزوم على عثمان حين نال من عمار غلمان عثمان ما نالوا من الضرب حتى انفتق له فتق في بطنه زعموا و كسروا ضلعا من أضلاعه فاجتمعت بنو مخزوم فقالوا و الله لئن مات لا قتلنا به أحدا غير عثمان. قال أبو عمر كان عمار بن ياسر ممن عذب في الله ثم أعطاهم عمار ما أرادوا بلسانه و اطمأن الإيمان بقلبه فنزل فيه إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَ قَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ و هذا مما أجمع عليه أهل التفسير. شرح نهج البلاغة ج : 10 ص : 103و هاجر إلى أرض الحبشة و صلى إلى القبلتين و هو من المهاجرين الأولين ثم شهد بدرا و المشاهد كلها و أبلى بلاء حسنا ثم شهد اليمامة فأبلى فيها أيضا يومئذ و قطعت أذنه. قال أبو عمر و قد روى الواقدي عن عبد الله بن نافع عن أبيه عن ع الله بن عمر قال رأيت عمارا يوم اليمامة على صخرة و قد أشرف عليها يصيح يا معشر المسلمين أ من الجنة تفرون أنا عمار بن ياسر هلموا إلي و أنا أنظر إلى أذنه قد قطعت فهي تذبذب و هو يقاتل أشد القتال. قال أبو عمر و كان عمار آدم طوالا مضطربا أشهل العينين بعيد ما بين المنكبين لا يغير شيبة. قال و بلغنا أن عمارا قال كنت تربا لرسول

(11/87)


الله ص في سنه لم يكن أحد أقرب إليه مني سنا. و
قال ابن عباس في قوله تعالى أَ وَ مَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ وَ جَعَلْنا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ إنه عمار بن ياسر كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُماتِ لَيْسَ بِخارِجٍ مِنْها إنه أبو جهل بن هشام
قال و قال رسول الله ص إن عمارا ملئ إيمانا إلى مشاشه و يروى إلى أخمص قدميه
و روى أبو عمر عن عائشة أنها قالت ما من أحد من أصحاب رسول الله ص شرح نهج البلاغة ج : 10 ص : 104أشاء أن أقول فيه إلا قلت إلا عمار بن ياسر فإني سمعت رسول الله ص يقول إنه ملئ إيمانا إلى أخمص قدميهقال أبو عمر و قال عبد الرحمن بن أبزى شهدنا مع علي ع صفين ثمانمائة ممن بايع بيعة الرضوان قتل منا ثلاثة و ستون منهم عمار بن ياسر.
قال أبو عمر و من حديث خالد بن الوليد أن رسول الله ص قال من أبغض عمارا أبغضه الله
فما زلت أحبه من يومئذ.
قال أبو عمر و من حديث علي بن أبي طالب ع أن عمارا جاء يستأذن على رسول الله ص يوما فعرف صوته فقال مرحبا بالطيب المطيب يعني عمارا ائذنوا له
قال أبو عمر و من حديث أنس عن النبي ص اشتاقت الجنة إلى أربعة علي و عمار و سلمان و بلال
قال أبو عمر و فضائل عمار كثيرة جدا يطول ذكرها. قال و روى الأعمش عن أبي عبد الرحمن السلمي قال شهدنا مع علي ع صفين فرأيت عمار بن ياسر لا يأخذ في ناحية و لا واد من أودية صفين إلا رأيت أصحاب محمد ص يتبعونه كأنه علم لهم و سمعته يقول يومئذ لهاشم بن عتبة يا هاشم تقدم الجنة تحت البارقة
اليوم ألقى الأحبة محمدا و حزبه
و الله لو هزمونا حتى يبلغوا بنا سعفات هجر لعلمنا أنا على الحق و أنهم على الباطل ثم قال
نحن ضربناكم على تنزيله فاليوم نضربكم على تأويله

(11/88)


شرح نهج البلاغة ج : 10 ص : 105ضربا يزيل الهام عن مقيله و يذهل الخليل عن خليله أو يرجع الحق على سبيفلم أر أصحاب محمد ص قتلوا في موطن ما قتلوا يومئذ. قال و قد قال أبو مسعود البدري و طائفة لحذيفة حين احتضر و قد ذكر الفتنة إذا اختلف الناس فبمن تأمرنا قال عليكم بابن سمية فإنه لن يفارق الحق حتى يموت أو قال فإنه يزول مع الحق حيث زال. قال أبو عمر و بعضهم يجعل هذا الحديث عن حذيفة مرفوعا. قال أبو عمر و روى الشعبي عن الأحنف أن عمارا حمل يوم صفين فحمل عليه ابن جزء السكسكي و أبو الغادية الفزاري فأما أبو الغادية فطعنه و أما ابن جزء فاحتز رأسه. قلت هذا الموضع مما اختلف فيه قول أبي عمر رحمه الله فإنه ذكر في كتاب الكنى من الإستيعاب أبا الغادية بالغين المعجمة و قال إنه جهني من جهينة و جهينة من قضاعة و قد نسبه هاهنا فزاريا. و قال في كتاب الكنى إن اسم أبي الغادية يسار و قيل مسلم. و قد ذكر ابن قتيبة في كتاب المعارف عن أبي الغادية أنه كان يحدث عن نفسه بقتل عمار و يقول إن رجلا طعنه فانكشف المغفر عن رأسه فضربت رأسه فإذا رأس عمار قد ندر. و كيفية هذا القتل تخالف الكيفية التي رواها ابن عبد البر. قال أبو عمر و قد روى وكيع عن شعبة عن عبد بن مرة عن عبد الله بن سلمة شرح نهج البلاغة ج : 10 ص : 106قال لكأني أنظر إلى عمار يوم صفين و هو يع فاستسقى فأتي بشربة من لبن فشرب فقال
اليوم ألقى الأحبة

(11/89)


إن رسول الله ص عهد إلي أن آخر شربة أشربها في الدنيا شربة من لبن ثم استسقى ثانية فأتته امرأة طويلة اليدين بإناء فيه ضياح من لبن فقال حين شربه الحمد لله الجنة تحت الأسنة و الله لو ضربونا حتى يبلغونا سعفات هجر لعلمنا أنا على الحق و أنهم على الباطل ثم قاتل حتى قتل. قال أبو عمر و قد روى حارثة بن المضراب قرأت كتاب عمر إلى أهل الكوفة أما بعد فإني بعثت إليكم عمارا أميرا و عبد الله بن مسعود معلما و وزيرا و هما من النجباء من أصحاب محمد فاسمعوا لهما و اقتدوا بهما فإني قد آثرتكم بعبد الله على نفسي أثرة. قال أبو عمر و إنما قال عمر هما من النجباء
لقول رسول الله ص إنه لم يكن نبي إلا أعطي سبعة من أصحابه نجباء وزراء فقهاء و إني قد أعطيت أربعة عشر حمزة و جعفرا و عليا و حسنا و حسينا و أبا بكر و عمر و عبد الله بن مسعود و سلمان و عمارا و أبا ذر و حذيفة و المقداد و بلالا
قال أبو عمر و تواترت الأخبار عن رسول الله ص أنه قال تقتل عمارا الفئة الباغية
و هذا من إخباره بالغيب و أعلام نبوته ص و هو من أصح الأحاديث. و كانت صفين في ربيع الآخر سنة سبع و ثلاثين و دفنه علي ع في ثيابه و لم يغسله. شرح نهج البلاغة ج : 10 ص : 107و روى أهل الكوفة أنه صلى عليه و هو مذهبهم في الشهداء أنهم لا يغسلون و لكن يصلى عليهم. ل أبو عمر و كانت سن عمار يوم قتل نيفا و تسعين سنة و قيل إحدى و تسعين و قيل اثنتين و تسعين و قيل ثلاثا و تسعين
ذكر أبي الهيثم بن التيهان و طرف من أخباره

(11/90)


ثم قال ع و أين ابن التيهان هو أبو الهيثم بن التيهان بالياء المنقوطة باثنتين تحتها المشددة المكسورة و قبلها تاء منقوطة باثنتين فوقها و اسمه مالك و اسم أبيه مالك أيضا ابن عبيد بن عمرو بن عبد الأعلم بن عامر الأنصاري أحد النقباء ليلة العقبة و قيل إنه لم يكن من أنفسهم و إنه من بلي بن أبي الحارث بن قضاعة و إنه حليف لبني عبد الأشهل كان أحد النقباء ليلة العقبة و شهد بدرا. قال أبو عمر بن عبد البر في كتاب الإستيعاب اختلف في وقت وفاته فذكر خليفة عن الأصمعي قال سألت قومه فقالوا مات في حياة رسول الله ص. قال أبو عمر و هذا لم يتابع عليه قائله. و قيل إنه توفي سنة عشرين أو إحدى و عشرين. و قيل إنه أدرك صفين و شهدها مع علي ع و هو الأكثر. و قيل إنه قتل بها. ثم قال أبو عمر حدثنا خلف بن قاسم قال حدثنا الحسن بن رشيق قال شرح نهج البلاغة ج : 10 ص : 108حدثنا الدولابي قال حدثنا أبو ر الوجيهي عن أبيه عن صالح بن الوجيه قال و ممن قتل بصفين عمار و أبو الهيثم بن التيهان و عبد الله بن بديل و جماعة من البدريين رحمهم الله. ثم روى أبو عمر رواية أخرى فقال حدثنا أبو محمد عبد الله بن محمد بن عبد المؤمن قال حدثنا عثمان بن أحمد بن السماك قال حدثنا حنبل بن إسحاق بن علي قال قال أبو نعيم أبو الهيثم بن التيهان اسمه مالك و اسم التيهان عمرو بن الحارث أصيب أبو الهيثم مع علي يوم صفين. قال أبو عمر هذا قول أبي نعيم و غيره. قلت و هذه الرواية أصح من قول ابن قتيبة في كتاب المعارف و ذكر قوم أن أبا الهيثم شهد صفين مع علي ع و لا يعرف ذلك أهل العلم و لا يثبتونه فإن تعصب ابن قتيبة معلوم و كيف يقول لا يعرفه أهل العلم و قد قاله أبو نعيم و قاله صالح بن الوجيه و رواه ابن عبد البر و هؤلاء شيوخ المحدثين
ذكر ذي الشهادتين خزيمة بن ثابت و طرف من أخباره

(11/91)


ثم قال ع و أين ذو الشهادتين هو خزيمة بن ثابت بن الفاكه بن ثعلبة الخطمي الأنصاري من بني خطمة من الأوس جعل رسول الله ص شرح نهج البلاغة ج : 10 ص : 109شهادته كشهادة رجلين لقصة مشهورة يكنى أبا عمارة شهد بدرا و ما بعدها من المشاهد و كانت راية بني خطمة بيده يوملفتح. قال أبو عمر بن عبد البر في كتاب الإستيعاب و شهد صفين مع علي بن أبي طالب ع فلما قتل عمار قاتل حتى قتل. قال أبو عمر و قد روي حديث مقتله بصفين من وجوه كثيرة ذكرناها في كتاب الإستيعاب عن ولد ولده و هو محمد بن عمارة بن خزيمة ذي الشهادة و أنه كان يقول في صفين
سمعت رسول الله ص يقول تقتل عمارا الفئة الباغية

(11/92)


ثم قاتل حتى قتل. قلت و من غريب ما وقعت عليه من العصبية القبيحة أن أبا حيان التوحيدي قال في كتاب البصائر إن خزيمة بن ثابت المقتول مع علي ع بصفين ليس هو خزيمة بن ثابت ذا الشهادتين بل آخر من الأنصار صحابي اسمه خزيمة بن ثابت و هذا خطأ لأن كتب الحديث و النسب تنطق بأنه لم يكن في الصحابة من الأنصار و لا من غير الأنصار خزيمة بن ثابت إلا ذو الشهادتين و إنما الهوى لا دواء له على أن الطبري صاحب التاريخ قد سبق أبا حيان بهذا القول و من كتابه نقل أبو حيان و الكتب الموضوعة لأسماء الصحابة تشهد بخلاف ما ذكراه ثم أي حاجة لناصري أمير المؤمنين أن يتكثروا بخزيمة و أبي الهيثم و عمار و غيرهم لو أنصف شرح نهج البلاغة ج : 10 ص : 110الناس هذا الرجل و رأوه بالعين الصحيحة لعلموا أنه لو كان وحده و حاربه الناس كلهم أجمعون لكان على الحق و كانوا على الباطلثم قال ع و أين نظراؤهم من إخوانهم يعني الذين قتلوا بصفين معه من الصحابة كابن بديل و هاشم بن عتبة و غيرهما ممن ذكرناه في أخبار صفين. و تعاقدوا على المنية جعلوا بينهم عقدا و روي تعاهدوا. و أبرد برءوسهم إلى الفجرة حملت رءوسهم مع البريد إلى الفسقة للبشارة بها و الفجرة هاهنا أمراء عسكر الشام تقول قد أبردت إلى الأمير فأنا مبرد و الرسول بريد و يقال للفرانق البريد لأنه ينذر قدام الأسد. قوله أوه على إخواني ساكنة الواو مكسورة الهاء كلمة شكوى و توجع و قال الشاعر
فأوه لذكراها إذا ما ذكرتها و من بعد أرض دونها و سماء

(11/93)


و ربما قلبوا الواو ألفا فقالوا آه من كذا آه على كذا و ربما شددوا الواو و كسروها و سكنوا الهاء فقالوا أوه من كذا و ربما حذفوا الهاء مع التشديد و كسروا الواو فقالوا أو من كذا بلا مد و قد يقولون آوه بالمد و التشديد و فتح الألف و سكون الهاء لتطويل الصوت بالشكاية و ربما أدخلوا فيه الياء تارة يمدونه و تارة لا يمدونه فيقولون أوياه و آوياه و قد أوه الرجل تأويها و تأوه تأوها إذا قال أوه و الاسم منه الآهة بالمد قال المثقب العبدي
إذا ما قمت أرحلها بليل تأوه آهة الرجل الحزين
شرح نهج البلاغة ج : 10 ص : 111قوله ع و وثقوا بالقائد فاتبعوه يعني نفسه أي وثقوا بأني على الحق و تيقنوا ذلك فاتبعوني في حرب من حاربت و سلم من سالمت. قوله الجهاد الجهاد منصوب بفعل مقدر. و إني معسكر في يومي أي خارج بالعسكر إلى منزل يكون لهم معسكراذكر سعد بن عبادة و نسبه
و قيس بن سعد بن عبادة بن دليم الخزرجي صحابي يكنى أبا عبد الملك روى عن رسول الله ص أحاديث و كان طوالا جدا سبطا شجاعا جوادا و أبوه سعد رئيس الخزرج و هو الذي حاولت الأنصار إقامته في الخلافة بعد رسول الله ص و لم يبايع أبا بكر حين بويع و خرج إلى حوران فمات بها قيل قتلته الجن لأنه بال قائما في الصحراء ليلا و رووا بيتين من شعر قيل إنهما سمعا ليلة قتله و لم ير قائلهما
نحن قتلنا سيد الخزرج سعد بن عبادةو رميناه بسهمين فلم نخطئ فؤاده
و يقول قوم إن أمير الشام يومئذ كمن له من رماه ليلا و هو خارج إلى الصحراء بسهمين فقتله لخروجه عن طاعة الإمام و قد قال بعض المتأخرين في ذلك
يقولون سعد شكت الجن قلبه ألا ربما صححت دينك بالغدرو ما ذنب سعد أنه بال قائما و لكن سعدا لم يبايع أبا بكرو قد صبرت من لذة العيش أنفس و ما صبرت عن لذة النهي و الأمر

(11/94)


شرح نهج البلاغة ج : 10 ص : 112و كان قيس بن سعد من كبار شيعة أمير المؤمنين ع و قائل بمحبته و ولائه و شهد معه حروبه كلها و كان مع الحسن ع و نقم عليه صلحه معاوية و كان طالبي الرأي مخلصا في اعتقاده و وده و أكد ذلك عنده فوات الأمر أباه و ما نيل يوم السقيفة وعده منه فوجد من ذلك في نفسه و أضمره حتى تمكن من إظهاره في خلافة أمير المؤمنين و كما قيل عدو عدوك صديق لك
ذكر أبي أيوب الأنصاري و نسبه
و أما أبو أيوب الأنصاري فهو خالد بن يزيد بن كعب بن ثعلبة الخزرجي من بني النجار شهد العقبة و بدرا و سائر المشاهد و عليه نزل رسول الله ص لما خرج عن بني عمرو بن عوف حين قدم المدينة مهاجرا من مكة فلم يزل عنده حتى بنى مسجده و مساكنه ثم انتقل إليها و يوم المؤاخاة آخى رسول الله ص بينه و بين مصعب بن عمير. و قال أبو عمر في كتاب الإستيعاب إن أبا أيوب شهد مع علي ع مشاهده كلها و روي ذلك عن الكلبي و ابن إسحاق قالا شهد معه يوم الجمل و صفين و كان مقدمته يوم النهروان

(11/95)


قوله تختطفها الذئاب الاختطاف أخذك الشي ء بسرعة و يروى تتخطفها قال تعالى تَخافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ. و يقال إن هذه الخطبة آخر خطبة أمير المؤمنين ع قائما شرح نهج البلاغة ج : 10 ص : 184113- من خطبة له عالْحَمْدُ لِلَّهِ الْمَعْرُوفِ مِنْ غَيْرِ رُؤْيَةٍ الْخَالِقِ مِنْ غَيْرِ مَنْصَبَةٍ خَلَقَ الْخَلَائِقَ بِقُدْرَتِهِ وَ اسْتَعْبَدَ الْأَرْبَابَ بِعِزَّتِهِ وَ سَادَ الْعُظَمَاءَ بِجُودِهِ وَ هُوَ الَّذِي أَسْكَنَ الدُّنْيَا خَلْقَهُ وَ بَعَثَ إِلَى الْجِنِّ وَ الْإِنْسِ رُسُلَهُ لِيَكْشِفُوا لَهُمْ عَنْ غِطَائِهَا وَ لِيُحَذِّرُوهُمْ مِنْ ضَرَّائِهَا وَ لْيَضْرِبُوا لَهُمْ أَمْثَالَهَا وَ لِيُبَصِّرُوهُمْ عُيُوبَهَا وَ لِيَهْجُمُوا عَلَيْهِمْ بِمُعْتَبَرٍ مِنْ تَصَرُّفِ مَصَاحِّهَا وَ أَسْقَامِهَا وَ حَلَالِهَا وَ حَرَامِهَا وَ مَا أَعَدَّ اللَّهُ سُبْحَانَهُ لِلْمُطِيعِينَ مِنْهُمْ وَ الْعُصَاةِ مِنْ جَنَّةٍ وَ نَارٍ وَ كَرَامَةٍ وَ هَوَانٍ أَحْمَدُهُ إِلَى نَفْسِهِ كَمَا اسْتَحْمَدَ إِلَى خَلْقِهِ جَعَلَ لِكُلِّ شَيْ ءٍ قَدْراً وَ لِكُلِّ قَدْرٍ أَجَلً وَ لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَاباً
المنصبة بالفتح و النصب التعب و الماضي نصب بالكسرة و هم ناصب في قول النابغة
كليني لهم يا أميمة ناصب

(11/96)


ذو نصب مثل رجل تامر و لابن و يقال هو فاعل بمعنى مفعول فيه لأنه ينصب شرح نهج البلاغة ج : 10 ص : 114فيه و يتعب كقولهم ليل نائم أي ينام فيه و يوم عاصف أي تعصف فيه الريح و استعبدت فلانا اتخذته عبدا و الضراء الشدة. و معتبر مصدر بمعنى الاعتبار و مصاحها جمع مصحمفعلة من الصحة كمضار جمع مضرة وصفه سبحانه بأنه معروف بالأدلة لا من طريق الرؤية كما تعرف المرئيات و بأنه يخلق الأشياء و لا يتعب كما يتعب الواحد منا فيما يزاوله و يباشر من أفعاله خلق الخلائق بقدرته على خلقهم لا بحركة و اعتماد و أسبغ النعمة عليهم أوسعها و استعبد الذين يدعون في الدنيا أربابا بعزه و قهره. و ساد كل عظيم بسعة جوده و أسكن الدنيا خلقه كما ورد في الكتاب العزيز إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً. و بعث رسله إلى الجن و الإنس كما ورد في الكتاب العزيز يا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَ الْإِنْسِ أَ لَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آياتِي وَ يُنْذِرُونَكُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا. قال ليكشفوا لهم عن غطاء الدنيا أي عن عوراتها و عيوبها المستورة و ليخوفوهم من مضرتها و غرورها المفضي إلى عذاب الأبد. و ليضربوا لهم أمثالها كالأمثال الواردة في الكتاب العزيز نحو قوله تعالى إِنَّما مَثَلُ الْحَياةِ الدُّنْيا كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ الْأَرْضِ... الآية. قوله و ليهجموا عليهم هجمت على الرجل دخلت عليه بغتة يقول ليدخلوا عليهم بما في تصاريف الدنيا من الصحة و السقم و ما أحل و ما حرم على طريق الابتلاء. شرح نهج البلاغة ج : 10 ص : 115ثم قال و ما أعد الله سبحانه للمطيعين منهم و العصاة يجوز أن تكون ما معطوفة على عيوبها فيكون موضعها نصبا و يجوز أن يكون موضعها جرا و يكون من تتمة أقسام ما يعتبر به و الأول أحسن. ثم قال ع إني أحمد الله ك استحمد إلى خلقه استحمد إليهم فعل ما يوجب عليهم حمده. ثم قال إنه

(11/97)


سبحانه جعل لكل شي ء من أفعاله قدرا أي فعله مقدرا محدود الغرض اقتضى ذلك القدر و تلك الكيفية كما قال سبحانه وَ كُلُّ شَيْ ءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدارٍ. و جعل لكل شي ء مقدر وقتا ينتهي إليه و ينقطع ه و هو الأجل. و لكل أجل كتابا أي رقوما تعرفها الملائكة فتعلم انقضاء عمر من ينقضي عمره و عدم ما ألطافهم في معرفة عدمه
مِنْهَا فِي ذِكْرِ الْقُرْآنِ فَالْقُرْآنُ آمِرٌ زَاجِرٌ وَ صَامِتٌ نَاطِقٌ حُجَّةُ اللَّهِ عَلَى خَلْقِهِ أَخَذَ عَلَيْهِ مِيثَاقَهُمْ وَ ارْتَهَنَ عَلَيْهِمْ أَنْفُسَهُمْ أَتَمَّ نُورَهُ وَ أَكْرَمَ بِهِ دِينَهُ وَ قَبَضَ نَبِيَّهُ ص وَ قَدْ فَرَغَ إِلَى الْخَلْقِ مِنْ أَحْكَامِ الْهُدَى بِهِ فَعَظِّمُوا مِنْهُ سُبْحَانَهُ مَا عَظَّمَ مِنْ نَفْسِهِ فَإِنَّهُ لَمْ يُخْفِ عَنْكُمْ شَيْئاً مِنْ دِينِهِ وَ لَمْ يَتْرُكْ شَيْئاً رَضِيَهُ أَوْ كَرِهَهُ إِلَّا وَ جَعَلَ لَهُ عَلَماً بَادِياً وَ آيَةً مُحْكَمَةً تَزْجُرُ عَنْهُ أَوْ تَدْعُو إِلَيْهِ فَرِضَاهُ فِيمَا بَقِيَ وَاحِدٌ وَ سَخَطُهُ فِيمَا بَقِيَ وَاحِدٌ شرح نهج البلاغة ج : 10 ص : 116وَ اعْلَمُوا أَنَّهُ لَنْ يَرْضَى عَنْكُمْ بِشَيْ ءٍ سَخِطَهُ عَلَى مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ وَ لَنْ يَسْخَطَ عَلَيْكُمْ بيْ ءٍ رَضِيَهُ مِمَّنْ كَانَ قَبْلَكُمْ وَ إِنَّمَا تَسِيرُونَ فِي أَثَرٍ بَيِّنٍ وَ تَتَكَلِّمُونَ بِرَجْعِ قَوْلٍ قَدْ قَالَهُ الرِّجَالُ مِنْ قَبْلِكُمْ قَدْ كَفَاكُمْ مَئُونَةَ دُنْيَاكُمْ وَ حَثَّكُمْ عَلَى الشُّكْرِ وَ افْتَرَضَ مِنْ أَلْسِنَتِكُمُ لذِّكْرَ وَ أَوْصَاكُمْ بِالتَّقْوَى وَ جَعَلَهَا مُنْتَهَى رِضَاهُ وَ حَاجَتَهُ مِنْ خَلْقِهِ فَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِعَيْنِهِ وَ نَوَاصِيكُمْ بِيَدِهِ وَ تَقَلُّبُكُمْ فِي قَبْضَتِهِ إِنْ أَسْرَرْتُمْ عَلِمَهُ وَ إِنْ أَعْلَنْتُمْ كَتَبَهُ قَدْ وَكَّلَ

(11/98)


بِذَلِكَ حَفَظَةً كِرَاماً لَا يُسْقِطُونَ حَقّاً وَ لَا يُثْبِتُونَ بَاطِلًا وَ اعْلَمُوا أَنَّهُ مَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً مِنَ الْفِتَنِ وَ نُوراً مِنَ الظُّلَمِ وَ يُخَلِّدْهُ فِيمَا اشْتَهَتْ نَفْسُهُ وَ يُنْزِلْهُ مَنْزِلَ الْكَرَامَةِ عِنْدَهُ فِي دَارٍ اصْطَنَعَهَا لِنَفْسِهِ ظِلُّهَا عَرْشُهُ وَ نُورُهَا بَهْجَتُهُ وَ زُوَّارُهَا مَلَائِكَتُهُ وَ رُفَقَاؤُهَا رُسُلُهُ فَبَادِرُوا الْمَعَادَ وَ سَابِقُوا الآْجَالَ فَإِنَّ النَّاسَ يُوشِكُ أَنْ يَنْقَطِعَ بِهِمُ الْأَمَلُ وَ يَرْهَقَهُمُ الْأَجَلُ وَ يُسَدَّ عَنْهُمْ بَابُ التَّوْبَةِ فَقَدْ أَصْبَحْتُمْ فِي مِثْلِ مَا سَأَلَ إِلَيْهِ الرَّجْعَةَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ وَ أَنْتُمْ بَنُو سَبِيلٍ عَلَى سَفَرٍ مِنْ دَارٍ لَيْسَتْ بِدَارِكُمْ وَ قَدْ أُوذِنْتُمْ مِنْهَا بِالِارْتِحَالِ وَ أُمِرْتُمْ فِيهَا بِالزَّادِ

(11/99)


جعل القرآن آمرا و زاجر لما كان خالقه و هو الله سبحانه آمرا زاجرا به فأسند الأمر و الزجر إليه كما تقول سيف قاتل و إنما القاتل الضارب به و جعله صامتا ناطقا لأنه من حيث هو حروف و أصوات صامت إذ كان العرض يستحيل أن يكون ناطقا شرح نهج البلاغة ج : 10 ص : 117لأنلنطق حركة الأداة بالكلام و الكلام يستحيل أن يكون ذا أداة ينطق بالكلام بها و هو من حيث يتضمن الإخبار و الأمر و النهي و النداء و غير ذلك من أقسام الكلام كالناطق لأن الفهم يقع عنده و هذا من باب المجاز كما تقول هذه الربوع الناطقة و أخبرتني الديار بعد رحيلهم بكذا. ثم وصفه بأنه حجة الله على خلقه لأنه المعجزة الأصلية. أخذ سبحانه على الخلائق ميثاقه و ارتهن عليه أنفسهم لما كان سبحانه قد قرر في عقول المكلفين أدلة التوحيد و العدل و من جملة مسائل العدل النبوة و يثبت نبوة محمد ص عقلا كان سبحانه بذلك كالآخذ ميثاق المكلفين بتصديق دعوته و قبول القرآن الذي جاء و جعل به نفسهم رهنا على الوفاء بذلك فمن خالف خسر نفسه و هلك هلاك الأبد. هذا تفسير المحققين و من الناس من يقول المراد بذلك قصة الذرية قبل خلق آدم ع كما ورد في الأخبار و كما فسر قوم عليه الآية. ثم ذكر ع أن الله تعالى قبض رسوله ص و قد فرغ إلى الخلق بالقرآن من الإكمال و الإتمام كقوله تعالى الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَ أَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي و إذا كان قد أكمله لم يبق فيه نقص ينتظر إتمامه. قال فعظموا من الله ما عظم من نفسه لأنه سبحانه وصف نفسه بالعظمة و الجلال في أكثر القرآن فالواجب علينا أن نعظمه على حسب ما عظم نفسه سبحانه. ثم علل وجوب تعظيمه و حسن أمره لنا بتعظيمه سبحانه بكونه لم يخف عنا شيئا من أمر ديننا و ذلك لأن الشرعيات مصالح المكلفين و إذا فعل الحكيم سبحانه بنا شرح نهج البلاغة ج : 10 ص : 118ما فيهلاحنا فقد أحسن إلينا و من جملة صلاحنا تعريفنا من الشرعيات ما فعله

(11/100)


لطف و مفض بنا إلى الثواب و هذا أبلغ ما يكون من الإحسان و المحسن يجب تعظيمه و شكره. قال لم يترك شيئا إلا و جعل له نصا ظاهرا يدل عليه أو علما يستدل به عليه أي إما منصوص عليه صريحا أو يمكن أن يستنبط حكمه من القرآن إما بذكره أو بتركه فيبقى على البراءة الأصلية و حكم العقل. قوله فرضاه فيما بقي واحد معناه أن ما لم ينص عليه صريحا بل هو في محل النظر ليس يجوز للعلماء أن يجتهدوا فيه فيحله بعضهم و يحرمه بعضهم بل رضا الله سبحانه أمر واحد و كذلك سخطه فليس يجوز أن يكون شي ء من الأشياء يفتي فيه قوم بالحل و قوم بالحرمة و هذا قول منه ع بتحريم الاجتهاد و قد سبق منه ع مثل هذا الكلام مرارا. قوله و اعلموا أنه ليس يرضى عنكم الكلام إلى منتهاه معناه أنه ليس يرضى عنكم بالاختلاف في الفتاوي و الأحكام كما اختلف الأمم من بلكم فسخط اختلافهم قال سبحانه إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَ كانُوا شِيَعاً لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْ ءٍ. و كذلك ليس يسخط عليكم بالاتفاق و الاجتماع الذي رضيه ممن كان قبلكم من القرون. و يجوز أن يفسر هذا الكلام بأنه لا يرضى عنكم بما سخطه على الذين منقبلكم من الاعتقادات الفاسدة في التوحيد و العدل و لا يسخط عليكم بما تعتقدونه من الاعتقادات الصحيحة التي رضيها ممن كان قبلكم في التوحيد و العدل فيكون الكلام مصروفا إلى الأصول لا إلى الفروع.

(11/101)


شرح نهج البلاغة ج : 10 ص : 119قال و إنما تسيرون في أثر بين أي إن الأدلة واضحة و ليس مراده الأمر بالتقليد و كذلك قوله و تتكلمون برجع قول قد قاله الرجال من قبلكم يعني كلمة التوحيد لا إله إلا الله قد قالها الموحدون من قبل هذه الملة لا تقليدا بل بالنظر و اليل فقولوها أنتم كذلك. ثم ذكر أنه سبحانه قد كفى الخلق مئونة دنياهم قال الحسن البصري إن الله تعالى كفانا مئونة دنيانا و حثنا على القيام بوظائف ديننا فليته كفانا مئونة ديننا و حثنا على القيام بوظائف دنيانا. قوله و افترض من ألسنتكم الذكر افترض عليكم أن تذكروه و تشكروه بألسنتكم و من متعلقة بمحذوف دل عليه المصدر المتأخر تقديره و افترض عليكم الذكر من ألسنتكم الذكر. ثم ذكر أن التقوى المفترضة هي رضا الله و حاجته من خلقه لفظة حاجته مجاز لأن الله تعالى غني غير محتاج و لكنه لما بالغ في الحث و الحض عليها و توعد على تركها جعله كالمحتاج إلى الشي ء و وجه المشاركة أن المحتاج يحث و يحض على حاجته و كذلك الآمر المكلف إذا أكد الأمر. قوله أنتم بعينه أي يعلم أحوالكم و نواصيكم بيده الناصية مقدم شعر الرأس أي هو قادر عليكم قاهر لكم متمكن من التصرف فيكم كالإنسان القابض على ناصية غيره و تقلبكم في قبضته أي تصرفكم تحت حكمه لو شاء أن يمنعكم منعكم فهو كالشي ء في قبضة الإنسان إن شاء استدام القبض عليه و إن شاء تركه. ثم قال إن أسررتم أمرا علمه و إن أظهرتموه كتبه ليس على أن الكتابة غير العلم بل هما شي ء واحد و لكن اللفظ مختلف. شرح نهج البلج : 10 ص : 120ثم ذكر أن الملائكة موكلة بالمكلف و هذا هو نص الكتاب العزيز و قد تقدم القول في ذلك. ثم انتقل إلى ذكر الجنة و الكلام يدل على أنها في السماء و أن العرش فوقها. و معنى قوله اصطنعها لنفسه إعظامها و إجلالها كما قال لموسى وَ اصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي و لأنه لما تعارف الناس في تعظيم ما يصنعونه أن يقول الواحد منهم لصاحبه

(11/102)


قد وهبتك هذه الدار التي اصطنعتها لنفسي أي أحكمتها و لم أكن في بنائها متكلفا بأن أبنيها لغيري صح و حسن من البليغ الفصيح أن يستعير مثل ذلك فيما لم يصطنعه في الحقيقة لنفسه و إنما هو عظيم جليل عنده. قوله و نورها بهجته هذا أيضا مستعار كأنه لما كان إشراق نورها عظيما جدا نسبه إلى بهجة البارئ و ليس هناك بهجة على الحقيقة لأن البهجة حسن الخلقة قال تعالى وَ أَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ أي من كل صنف حسن. قوله و زوارها ملائكته قد ورد في هذا من الأخبار كثير جدا و رفقاؤها رسله من قوله تعالى وَ حَسُنَ أُولئِكَ رَفِيقاً. و يوشك بكسر الشين فعل مستقبل ماضيه أوشك أي أسرع. و رهقه الأمر بالكسر فاجأه. و يسد عنهم باب التوبة لأنه لا تقبل عند نزول الموت بالإنسان من حيث كان يفعلها خوفا فقط لا لقبح القبيح قال تعالى وَ لَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ حَتَّى إِذا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ. شرح نهج البلاغة ج : 10 ص : 121و إنما قال في مثل ما سأل إليه الرجعة من كان قبلكم كقوله سبحانه حَتَّى إِذا جاءَ أَحَدُمُ الْمَوْتُ قالَ رَبِّ ارْجِعُونِ لَعَلِّي أَعْمَلُ صالِحاً فِيما تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّها كَلِمَةٌ هُوَ قائِلُها وَ مِنْ وَرائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ. و بنو سبيل أرباب طريق مسافرون. و أوذن فلان بكذا أعلم و آذنته أعلمته. و قد تقدم لنا كلام بالغ في التقوى و ماهيتها و تأكيد وصاة الخالق سبحانه و الرسول ع بها
نبذ و أقاويل في التقوى

(11/103)


روى المبرد في الكامل أن رجلا قال لعمر بن الخطاب اتق الله يا أمير المؤمنين فقال له رجل أ تألت على أمير المؤمنين أي أ تنتقصه فقال عمر دعه فلا خير فيهم إذا لم يقولوها و لا خير فينا إذا لم تقل لنا. و كتب أبو العتاهية إلى سهل بن صالح و كان مقيما بمكة أما بعد فأنا أوصيك بتقوى الله الذي لا غناء بك عن تقاته و أتقدم إليك عن الله و نذكرك مكر الله فيما دبت به إليك ساعات الليل و النهار فلا تخدعن عن دينك فإن ساعاتك أوقاتك إن ظفرت بذلك منك وجدت الله فيك أسرع مكرا و أنفذ فيك أمرا و وجدت ما مكرت به في غير ذات الله غير راد عنك يد الله و لا مانع لك من أمر الله و لعمري لقد ملأت عينك الفكر و اضطربت في سمعك أصوات العبر و رأيت آثار نعم الله نسختها آثار نقمه حين استهزئ بأمره و جوهر بمعاندته ألا إن في حكم الله شرح نهج البلاغة ج : 10 ص : 122أنه من أكرمه الله فاستهان بأمره أهانه ال السعيد من وعظ بغيره لا وعظك الله في نفسك و جعل عظتك في غيرك و لا جعل الدنيا عليك حسرة و ندامة برحمته. و
من كلام رسول الله ص لا كرم كالتقوى و لا مال أعود من العقل و لا وحدة أوحش من العجب و لا عقل كالتدبير و لا قرين كحسن الخلق و لا ميراث كالأدب و لا فائدة كالتوفيق و لا تجارة كالعمل الصالح و لا ربح كثواب الله و لا ورع كالوقوف عند الشبهة و لا زهد كالزهد في الحرام و لا علم كالتفكر و لا عبادة كأداء الفرائض و لا إيمان كالحياء و الصبر و لا حسب كالتواضع و لا شرف كالعلم و لا مظاهرة أوفق من المشورة فاحفظ الرأس و ما حوى و البطن و ما وعى و اذكر الموت و طول البلى

(11/104)


وَ اعْلَمُوا أَنَّهُ لَيْسَ لِهَذَا الْجِلْدِ الرَّقِيقِ صَبْرٌ عَلَى النَّارِ فَارْحَمُوا نُفُوسَكُمْ فَإِنَّكُمْ قَدْ جَرَّبْتُمُوهَا فِي مَصَائِبِ الدُّنْيَا فَرَأَيْتُمْ جَزَعَ أَحَدِكُمْ مِنَ الشَّوْكَةِ تُصِيبُهُ وَ الْعَثْرَةِ تُدْمِيهِ وَ الرَّمْضَاءِ تُحْرِقُهُ فَكَيْفَ إِذَا كَانَ بَيْنَ طَابَقَيْنِ مِنْ نَارٍ ضَجِيعَ حَجَرٍ وَ قَرِينَ شَيْطَانٍ أَ عَلِمْتُمْ أَنَّ مَالِكاً إِذَا غَضِبَ عَلَى النَّارِ حَطَمَ بَعْضُهَا بَعْضاً لِغَضَبِهِ وَ إِذَا زَجَرَهَا تَوَثَّبَتْ بَيْنَ أَبْوَابِهَا جَزَعاً مِنْ زَجْرَتِهِ أَيُّهَا الْيَفَنُ الْكَبِيرُ الَّذِي قَدْ لَهَزَهُ الْقَتِيرُ كَيْفَ أَنْتَ إِذَا الْتَحَمَتْ أَطْوَاقُ النَّارِ بِعِظَامِ الْأَعْنَاقِ وَ نَشِبَتِ الْجَوَامِعُ حَتَّى أَكَلَتْ لُحُومَ السَّوَاعِدِ فَاللَّهَ اللَّهَ مَعْشَرَ الْعِبَادِ وَ أَنْتُمْ سَالِمُونَ فِي الصِّحَّةِ قَبْلَ السُّقْمِ وَ فِي الْفُسْحَةِ قَبْلَ الضِّيقِ فَاسْعَوْا فِي فَكَاكِ رِقَابِكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُغْلَقَ رَهَائِنُهَا شرح نهج البلاغة ج : 10 ص : 123أَسْهِرُوا عُيُونَكُمْ وَ أَضْمِرُوا بُطُونَكُمْ وَ اسْتَعْمِلُواَقْدَامَكُمْ وَ أَنْفِقُوا أَمْوَالَكُمْ وَ خُذُوا مِنْ أَجْسَادِكُمْ فَجُودُوا بِهَا عَلَى أَنْفُسِكُمْ وَ لَا تَبْخَلُوا بِهَا عَنْهَا فَقَدْ قَالَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَ يُثَبِّتْ أَقْدامَكُمْ وَ قَالَ تَعَالَى مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضاعِفَهُ لَهُ وَ لَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ فَلَمْ يَسْتَنْصِرْكُمْ مِنْ ذُلٍّ وَ لَمْ يَسْتَقْرِضْكُمْ مِنْ قُلٍّ اسْتَنْصَرَكُمْ وَ لَهُ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَ الْأَرْضِ وَ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ وَ اسْتَقْرَضَكُمْ وَ لَهُ خَزَائِنُ السَّمَاوَاتِ وَ الْأَرْضِ وَ هُوَ

(11/105)


الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ وَ إِنَّمَا أَرَادَ أَنْ يَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا فَبَادِرُوا بِأَعْمَالِكُمْ تَكُونُوا مَعَ جِيرَانِ اللَّهِ فِي دَارِهِ رَافَقَ بِهِمْ رُسُلَهُ وَ أَزَارَهُمْ مَلَائِكَتَهُ وَ أَكْرَمَ أَسْمَاعَهُمْ أَنْ تَسْمَعَ حَسِيسَ نَارٍ أَبَداً وَ صَانَ أَجْسَادَهُمْ أَنْ تَلْقَى لُغُوباً وَ نَصَباً ذلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَ اللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ أَقُولُ مَا تَسْمَعُونَ وَ اللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى نَفْسِي وَ أَنْفُسِكُمْ وَ هُوَ حَسْبُنَا وَ نِعْمَ الْوَكِيلُ

(11/106)


الرمضاء الأرض الشديدة الحرارة و الرمض بالتحريك شدة وقع الشمس على الرمل و غيره و قد رمض يومنا بالكسر يرمض رمضا اشتد حره و أرض رمضة الحجارة و رمضت قدمه من الرمضاء احترقت. شرح نهج البلاغة ج : 10 ص : 124و الطابق بالفتح الآجرة الكبيرة و هو فارسي معرب. و ضجيع ر يومئ فيه إلى قوله تعالى وَقُودُهَا النَّاسُ وَ الْحِجارَةُ قيل إنها حجارة الكبريت. و قرين شيطان يومئ فيه إلى قوله تعالى قالَ قَرِينُهُ رَبَّنا ما أَطْغَيْتُهُ. و حطم بعضها بعضا كسره أو أكله و الحطمة من أسماء النار لأنها تحطم ما تلقى و منه سمي الرجل الكثير الأكل حطمة. و اليفن الشيخ الكبير و لهزه خالطه و يقال له حينئذ ملهوز ثم أشمط ثم أشيب و لهزت القوم خالطتهم و دخلت بينهم. و القتير الشيب و أصله رءوس المسامير في الدروع تسمى قتيرا. و التحمت أطواق النار بالعظام التفت عليها و انضمت إليها و التصقت بها. و الجوامع جمع جامعة و هي الغل لأنها تجمع اليدين إلى العنق. و نشبت علقت و السواعد جمع ساعد و هو الذراع. و في من قوله في الصحة قبل السقم متعلقة بالمحذوف الناصب لله و هو اتقوا أي اتقوه سبحانه في زمان صحتكم قبل أن ينزل بكم السقم و في فسحة أعماركم قبل أن تبدل بالضيق. و فكاك الرقاب بفتح الفاء عتقها قبل أن تغلق رهائنها يقال غلق الرهن بالكسر إذا استحقه المرتهن بألا يفكه الراهن في الوقت المشروط و كان ذلك من شرع الجاهلية فنهى عنه النبي ص و قال لا يغلق الرهن. شرح نهج البلاغة ج : 10 ص : 125و خذوا من أجسادكم أي أتعبوها بالعبا حتى تنحل. و القل القلة و الذل الذلة. و حسيس النار صوتها و اللغوب النصب
طرف و أخبار

(11/107)


و نظير قوله ع استقرضكم و له خزائن السماوات و الأرض ما رواه المبرد في الكامل عن أبي عثمان المازني عن أبي زيد الأنصاري قال وقف علينا أعرابي في حلقة يونس النحوي فقال الحمد لله كما هو أهله و أعوذ بالله أن أذكر به و أنساه خرجنا من المدينة مدينة الرسول ص ثلاثين رجلا ممن أخرجته الحاجة و حمل على المكروه و لا يمرضون مرضاهم و لا يدفنون ميتهم و لا ينتقلون من منزل إلى منزل و إن كرهوه و الله يا قوم لقد جعت حتى أكلت النوى المحرق و لقد مشيت حتى انتعلت الدم و حتى خرج من قدمي بخص و لحم كثير أ فلا رجل يرحم ابن سبيل و فل طريق و نضو سفر فإنه لا قليل من الأجر و لا غنى عن ثواب الله و لا عمل بعد الموت و هو سبحانه يقول مَنْ ذَا الَّذِي شرح نهج البلاغة ج : 10 ص : 126يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً ملي وفي ماجد واجد جواد لا يستقرض من عوز و لكنه يبلو الأخيار. قال المازني فبلغني أنهم يبرح حتى أخذ ستين دينارا. و من كلام علي بن عبيدة الريحاني الأيام مستودعات الأعمال و نعم الأرضون هي لمن بذر فيها الخير و العمل الصالح. و خطب الحجاج فقال أيها الناس إنكم أغراض حمام و فرص هلكة قد أنذركم القرآن و نادى برحيلكم الجديدان ها إن لكم موعدا لا تؤخر ساعته و لا تدفع هجمته و كان قد دلفت إليكم نازلته فتعلق بكم ريب المنون و علقت بكم أم اللهيم الحيزبون فما ذا هيأتم للرحيل و ما ذا أعددتم للنزيل من لم يأخذ أهبة الحذر نزل به مرهوب القدر
خطبة لأبي الشخباء العسقلاني

(11/108)


قلت و قد شغف الناس في المواعظ بكلام كاتب محدث يعرف بابن أبي الشخباء شرح نهج البلاغة ج : 10 ص : 127العسقلاني و أنا أورد هاهنا خطبة من مواعظه هي أحسن ما وجدته له ليعلم الفرق بين الكلام الأصيل و المولد. أيها الناس فكوا أنفسكم من حلقات الآمال المتعبة و خففواهوركم من الآصار المستحقبة و لا تسيموا أطماعكم في رياض الأماني المتشعبة و لا تميلوا صغواكم إلى زبارج الدنيا المحببة فتظل أجسامكم في هشائمها عاملة نصبة أ ما علمتم أن طباعها على الغدر مركبة و أنها لأعمار أهلها منتهبة و لما ساءهم منتظرة مرتقبة في هبتها راجعة متعقبة فانضوا رحمكم الله ركائب الاعتبار مشرقة و مغربة و أجروا خيول التفكر مصعدة و مصوبة هل تجدون إلا قصورا على عروشها خربة و ديارا معطشة من أهلها مجدبة أين الأمم السالفة المتشعبة و الجبابرة الماضية المتغلبة و الملوك المعظمة المرجبة أولو الحفدة و الحجبة و الزخارف المعجبة و الجيوش الحرارة اللجبة و الخيام الفضفاضة المطنبة و الجياد الأعوجية المجنبة و المصاعب الشدقمية المصحبة و اللدان المثقفة المدربة و الماذية الحصينة المنتخبة طرقت و الله خيامهم غير منتهبة و أزارتهم من الأسقام سيوفا معطبة و سيرت إليهم الأيام من نوبها كتائب مكتبة فأصبحت أظفار المنية من مهجهم قانية مختضبة و غدت أصوات النادبات عليهم مجلبة و أكلت لحومهم هوام الأرض السغبة ثم إنهم مجموعون ليوم لا يقبل فيه عذر و لا معتبة و تجازى كل نفس بما كانت مكتسبة فسعيدة مقربة تجري من تحتها الأنهار مثوبة و شقية معذبة في النار مكبكبة. هذه أحسن خطبة خطبها هذا الكاتب و هي كما تراها ظاهرة التكلف بينة التوليد تخطب على نفسها و إنما ذكرت هذا لأن كثيرا من أرباب الهوى يقولون إن كثيرا من نهج البلاغة كلام محدث صنعه قوم من فصحاء الشيعة و ربما عزوا بعضه إلى الرضي أبي الحسن و غيره و هؤلاء قوم أعمت العصبية أعينهم فضلوا عن النهج الواضح

(11/109)


شرح نهج البلاغة ج : 10 ص : 128و ركبوا بنيات الطريق ضلالا و قلة معرفة بأساليب الكلام و أنا أوضح لك بكلام مختصر ما في هذا الخاطر من الغلط فأقولرأي للمؤلف في كتاب نهج البلاغة
لا يخلو إما أن يكون كل نهج البلاغة مصنوعا منحولا أو بعضه و الأول باطل بالضرورة لأنا نعلم بالتواتر صحة إسناد بعضه إلى أمير المؤمنين ع و قد نقل المحدثون كلهم أو جلهم و المؤرخون كثيرا منه و ليسوا من الشيعة لينسبوا إلى غرض في ذلك و الثاني يدل على ما قلناه لأن من قد أنس بالكلام و الخطابة و شدا طرفا من علم البيان و صار له ذوق في هذا الباب لا بد أن يفرق بين الكلام الركيك و الفصيح و بين الفصيح و الأفصح و بين الأصيل و المولد و إذا وقف على كراس واحد يتضمن كلاما لجماعة من الخطباء أو لاثنين منهم فقط فلا بد أن يفرق بين الكلامين و يميز بين الطريقتين أ لا ترى أنا مع معرفتنا بالشعر و نقده لو تصفحنا ديوان أبي تمام فوجدناه قد كتب في أثنائه قصائد أو قصيدة واحدة لغيره لعرفنا بالذوق مباينتها لشعر أبي تمام و نفسه و طريقته و مذهبه في القريض أ لا ترى أن العلماء بهذا الشأن حذفوا من شعره قصائد كثيرة منحولة إليه لمباينتها لمذهبه في الشعر و كذلك حذفوا من شعر أبي نواس شيئا كثيرا لما ظهر لهم أنه ليس من ألفاظه و لا من شعره و كذلك غيرهما من الشعراء و لم يعتمدوا في ذلك إلا على الذوق خاصة. و أنت إذا تأملت نهج البلاغة وجدته كله ماء واحدا و نفسا واحدا و أسلوبا واحدا كالجسم البسيط الذي ليس بعض من أبعاضه مخالفا لباقي الأبعاض في الماهية و كالقرآن العزيز أوله كأوسطه و أوسطه كآخره و كل سورة منه و كل آية مماثلة في شرح نهج البلاغة ج : 10 ص : 129المأخذ و المذهب و الفن و الطريق و النظم لباقي الآيات و اور و لو كان بعض نهج البلاغة منحولا و بعضه صحيحا لم يكن ذلك كذلك فقد ظهر لك بهذا البرهان الواضح ضلال من زعم أن هذا الكتاب أو بعضه منحول إلى أمير

(11/110)


المؤمنين ع. و اعلم أن قائل هذا القول يطرق على نفسه ما لا قبل له به لأنا متى فتحنا هذا الباب و سلطنا الشكوك على أنفسنا في هذا النحو لم نثق بصحة كلام منقول عن رسول الله ص أبدا و ساغ لطاعن أن يطعن و يقول هذا الخبر منحول و هذا الكلام مصنوع و كذلك ما نقل عن أبي بكر و عمر من الكلام و الخطب و المواعظ و الأدب و غير ذلك و كل أمر جعله هذا الطاعن مستندا له فيما يرويه عن النبي ص و الأئمة الراشدين و الصحابة و التابعين و الشعراء و المترسلين و الخطباء فلناصري أمير المؤمنين ع أن يستندوا إلى مثله فيما يروونه عنه من نهج البلاغة و غيره و هذا واضح شرح نهج البلاغة ج : 10 ص : 185130- و من كلام له ع قاله للبرج بن مسهر الطائيو قد قال له بحيث يسمعه لا حكم إلا الله و كان من الخوارج
اسْكُتْ قَبَحَكَ اللَّهُ يَا أَثْرَمُ فَوَاللَّهِ لَقَدْ ظَهَرَ الْحَقُّ فَكُنْتَ فِيهِ ضَئِيلًا شَخْصُكَ خَفِيّاً صَوْتُكَ حَتَّى إِذَا نَعَرَ الْبَاطِلُ نَجَمْتَ نُجُومَ قَرْنِ الْمَاعِزِ

(11/111)


البرج بن مسهر بضم الميم و كسر الهاء بن الجلاس بن وهب بن قيس بن عبيد بن طريف بن مالك بن جدعاء بن ذهل بن رومان بن جندب بن خارجة بن سعد بن قطرة بن طي بن داود بن زيد بن يشجب بن عريب بن زيد بن كهلان بن سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان شاعر مشهور من شعراء الخوارج نادى بشعارهم بحيث يسمعه أمير المؤمنين ع فزجره. و قبحك الله لفظة معناها كسرك يقال قبحت الجوزة أي كسرتها و قيل قبحه نحاه عن الخير و كان البرج ساقط الثنية فأهانه بأن دعاه به كما يهان الأعور بأن يقال له يا أعور. و الضئيل الدقيق الخفي ضؤل الرجل بالضم ضآلة نحف و ضؤل رأيه صغر و رجل متضائل أي شخت و كذلك ضؤلة. شرح نهج البلاغة ج : 10 ص : 131و نعر الباطل صاح و المراد أهل الباطل و نعر فلان في الفتنة نهض فيها. و نجم طلع أي طلع بلا شرف و لا شجاعة و لا قدم بل على غفلة كما ينبت قرن الماعز و هذا من باب البديع و هو أن يشبه امر يراد إهانته بالمهين و يشبه الأمر يراد إعظامه بالعظيم و لو كان قد تكلم في شأن ناجم يريد تعظيمه لقال نجم نجوم الكوكب من تحت الغمام نجوم نور الربيع من الأكمام و نحو ذلك

(11/112)


شرح نهج البلاغة ج : 10 ص : 186132- و من خطبة له عرُوِيَ أَنَّ صَاحِباً لِأَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ ع يُقَالُ لَهُ هَمَّامٌ كَانَ رَجُلًا عَابِداً فَقَالَ لَهُ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ صِفْ لِيَ الْمُتَّقِينَ حَتَّى كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَيْهِمْ فَتَثَاقَلَ ع عَنْ جَوَابِهِ ثُمَّ قَالَ يَا هَمَّامُ اتَّقِ اللَّهَ وَ أَحْسِنْ فَ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَ الَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ فَلَمْ يَقْنَعْ هَمَّامٌ بِهَذَا الْقَوْلِ حَتَّى عَزَمَ عَلَيْهِ فَحَمِدَ اللَّهَ وَ أَثْنَى عَلَيْهِ وَ صَلَّى عَلَى النَّبِيِّ ص ثُمَّ قَالَ ع أَمَّا بَعْدُ فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَ تَعَالَى خَلَقَ الْخَلْقَ حَيْثُ خَلَقَهُمْ غَنِيّاً عَنْ طَاعَتِهِمْ آمِناً مِنْ مَعْصِيَتِهِمْ لِأَنَّهُ لَا تَضُرُّهُ مَعْصِيَةُ مَنْ عَصَاهُ وَ لَا تَنْفَعُهُ طَاعَةُ مَنْ أَطَاعَهُ فَقَسَمَ بَيْنَهُمْ مَعَايِشَهُمْ وَ وَضَعَهُمْ مِنَ الدُّنْيَا مَوَاضِعَهُمْ فَالْمُتَّقُونَ فِيهَا هُمْ أَهْلُ الْفَضَائِلِ مَنْطِقُهُمُ الصَّوَابُ وَ مَلْبَسُهُمُ الِاقْتِصَادُ وَ مَشْيُهُمُ التَّوَاضُعُ غَضُّوا أَبْصَارَهُمْ عَمَّا حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَ وَقَفُوا أَسْمَاعَهُمْ عَلَى الْعِلْمِ النَّافِعِ لَهُمْ نُزِّلَتْ أَنْفُسُهُمْ مِنْهُمْ فِي الْبَلَاءِ كَالَّذِي نُزِّلَتْ فِي الرَّخَاءِ لَوْ لَا الْأَجَلُ الَّذِي كَتَبَ اللَّهُ لَهُمْ لَمْ تَسْتَقِرَّ أَرْوَاحُهُمْ فِي أَجْسَادِهِمْ طَرْفَةَ عَيْنٍ شَوْقاً إِلَى الثَّوَابِ وَ خَوْفاً مِنَ الْعِقَابِ شرح نهج البلاغة ج : 10 ص : 133عَظُمَ الْخَالِقُ فِي أَنْفُسِهِمْ فَصَغُرَ مَا دُونَهُ فِي أَعْيُنِهِمْ فَهُمْ وَ الْجَنَّةُ كَمَنْ قَدْ رَآهَا فَهُمْ فِيهَا مُنَعَّمُونَ وَ هُمْ وَ النَّارُ كَمَنْ قَدْ رَآهَا فَهُمْ فِيهَا مُعَذَّبُونَ قُلبُهُمْ

(11/113)


مَحْزُونَةٌ وَ شُرُورُهُمْ مَأْمُونَةٌ وَ أَجْسَادُهُمْ نَحِيفَةٌ وَ حَاجَاتُهُمْ خَفِيفَةٌ وَ أَنْفُسُهُمْ عَفِيفَةٌ صَبَرُوا أَيَّاماً قَصِيرَةً أَعْقَبَتْهُمْ رَاحَةً طَوِيلَةً تِجَارَةٌ مُرْبِحَةٌ يَسَّرَهَا لَهُمْ رَبُّهُمْ أَرَادَتْهُمُ الدُّنْيَا فَلَمْ يُرِيدُوهَا وَ أَسَرَتْهُمْ فَفَدَوْا أَنْفُسَهُمْ مِنْهَا أَمَّا اللَّيْلَ فَصَافُّونَ أَقْدَامَهُمْ تَالِينَ لِأَجْزَاءِ الْقُرْآنِ يُرَتِّلُونَهَا تَرْتِيلًا يُحَزِّنُونَ بِهِ أَنْفُسَهُمْ وَ يَسْتَثِيرُونَ بِهِ دَوَاءَ دَائِهِمْ فَإِذَا مَرُّوا بِآيَةٍ فِيهَا تَشْوِيقٌ رَكَنُوا إِلَيْهَا طَمَعاً وَ تَطَلَّعَتْ نُفُوسُهُمْ إِلَيْهَا شَوْقاً وَ ظَنُّوا أَنَّهَا نُصْبَ أَعْيُنِهِمْ وَ إِذَا مَرُّوا بِآيَةٍ فِيهَا تَخْوِيفٌ أَصْغَوْا إِلَيْهَا مَسَامِعَ قُلُوبِهِمْ وَ ظَنُّوا أَنَّ زَفِيرَ جَهَنَّمَ وَ شَهِيقَهَا فِي أُصُولِ آذَانِهِمْ فَهُمْ حَانُونَ عَلَى أَوْسَاطِهِمْ مُفْتَرِشُونَ لِجَبَاهِهِمْ وَ أَكُفِّهِمْ وَ رُكَبِهِمْ وَ أَطْرَافِ أَقْدَامِهِمْ يَطْلُبُونَ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى فِي فَكَاكِ رِقَابِهِمْ وَ أَمَّا النَّهَارَ فَحُلَمَاءُ عُلَمَاءُ أَبْرَارٌ أَتْقِيَاءُ قَدْ بَرَاهُمُ الْخَوْفُ بَرْيَ الْقِدَاحِ يَنْظُرُ إِلَيْهِمُ النَّاظِرُ فَيَحْسَبُهُمْ مَرْضَى وَ مَا بِالْقَوْمِ مِنْ مَرَضٍ وَ يَقُولُ لَقَدْ خُولِطُوا وَ لَقَدْ خَالَطَهُمْ أَمْرٌ عَظِيمٌ لَا يَرْضَوْنَ مِنْ أَعْمَالِهِمُ الْقَلِيلَ وَ لَا يَسْتَكْثِرُونَ الْكَثِيرَ فَهُمْ لِأَنْفُسِهِمْ مُتَّهِمُونَ وَ مِنْ أَعْمَالِهِمْ مُشْفِقُونَ إِذَا زُكِّيَ أَحَدٌ مِنْهُمْ خَافَ مِمَّا يُقَالُ لَهُ فَيَقُولُ أَنَا أَعْلَمُ بِنَفْسِي مِنْ غَيْرِي وَ رَبِّي أَعْلَمُ بِي مِنِّي بِنَفْسِي اللَّهُمَّ لَا تُؤَاخِذْنِي بِمَا يَقُولُونَ وَ اجْعَلْنِي أَفْضَلَ

(11/114)


مِمَّا يَظُنُّونَ وَ اغْفِرْ لِي مَا لَا يَعْلَمُونَ
شرح نهج البلاغة ج : 10 ص : 134همام المذكور في هذه الخطبة هو همام بن شريح بن يزيد بن مرة بن عمرو بن جابر بن يحيى بن الأصهب بن كعب بن الحارث بن سعد بن عمرو بن ذهل بن مران بن صيفي بن سعد العشيرة. و كان همام هذا من شيعة أمير المؤمنين ع و أوليائه و كان ناسكاابدا قال له يا أمير المؤمنين صف لي المتقين حتى أصير بوصفك إياهم كالناظر إليهم. فتثاقل عن جوابه أي أبطأ. فعزم عليه أي أقسم عليه و تقول لمن يكرر عليك الطلب و السؤال قد عزم علي أي أصر و قطع و كذلك تقول في الأمر تريد فعله و تقطع عليه عزمت عزما و عزمانا و عزيمة و عزيما. فإن قلت كيف جاز له ع أن يتثاقل عن جواب المسترشد. قلت يجوز أن يكون تثاقل عن جوابه لأنه علم أن المصلحة في تأخير الجواب و لعله كان حضر المجلس من لا يحب أن يجيب و هو حاضر فلما انصرف أجاب و لعله رأى أن تثاقله عن الجواب يشد تشوق همام إلى سماعه فيكون أنجع في موعظته و لعله كان من باب تأخير البيان إلى وقت الحاجة لا من باب تأخير البيان عن وقت الحاجة و لعله تثاقل عن الجواب ليرتب المعاني التي خطرت له في ألفاظ مناسبة لها ثم ينطق بها كما يفعله المتروي في الخطبة و القريض. فإن قلت فما معنى إجابته له أولا بقوله يا همام اتق الله و أحسن ف إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَ الَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ و أي جواب في هذا عن سؤال همام. شرح نهج البلاغة ج : 10 ص : 135قلت كأنه لم ير في بادئ الحال شرح صفات المتقين على التفصيل فقال لهمام ماهية التقوى معلومة في الجملة فق الله و أحسن فإن الله قد وعد في كتابه أن يكون وليا و ناصرا لأهل التقوى و الإحسان و هذا كما يقول لك قائل ما صفات الله الذي أعبده أنا و الناس فتقول له لا عليك ألا تعرف صفاته مفصلة بعد أن تعلم أنه خالق العالم و أنه واحد لا شريك له فلما أبى همام إلا الخوض فيما سأله على

(11/115)


وجه التفصيل قال له إن الله تعالى خلق الخلق حين خلقهم و يروى حيث خلقهم و هو غني عن طاعتهم لأنه ليس بجسم فيستضر بأمر أو ينتفع به. و قسم بين الخلق معايشهم كما قال سبحانه نَحْنُ قَسَمْنا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا. و في قوله وضعهم مواضعهم معنى قوله وَ رَفَعْنا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً سُخْرِيًّا فكأنه ع أخذ الألفاظ فألغاها و أتى بمعناها. فلما فرغ من هذه المقدمة شرع في ذكر صفات المتقين فقال إنهم أهل الفضائل ثم بين ما هذه الفضائل فقال منطقهم الصواب. فإن قلت أي فائدة في تقديم تلك المقدمة و هي كون البارئ سبحانه غنيا لا تضره المعصية و لا تنفعه الطاعة. قلت لأنه لما تضمنت الخطبة مدح الله تعالى للمتقين و ما أعده لهم من الثواب و ذمه للعاصين و ما أعده لهم من العقاب العظيم فربما يتوهم متوهم أن الله تعالى ما رغب في الطاعة
شرح نهج البلاغة ج : 10 ص : 136هذا الترغيب البالغ و خوف من المعصية هذا التخويف البالغ إلا و هو منتفع بالأولى مستضر بالثانية فقدم ع تلك المقدمة نفيا لهذا الوهمفصل في فضل الصمت و الاقتصاد في المنطق
و اعلم أن القول في خطر الكلام و فضل الصمت و فضل الاقتصار في المنطق وسيع جدا و قد ذكرنا منه طرفا فيما تقدم و نذكر الآن منه طرفا آخر.
قال النبي ص من صمت نجا
و قال أيضا الصمت حكم و قليل فاعله
وقال له ص بعض أصحابه أخبرني عن الإسلام بأمر لا أسأل عنه أحدا بعدك فقال قل آمنت بالله ثم استقم قال فما أتقي فأومأ بيده إلى لسانه
وقال له ع عقبة بن عامر يا رسول الله ما النجاة قال املك عليك لسانك و ابك على خطيئتك و ليسعك بيتك
و روى سهل بن سعد الساعدي عنه ص من يتوكل لي بما بين لحييه و رجليه أتوكل له بالجنة
و قال من وقي شر قبقبه و ذبذبه و لقلقه فقد وقي

(11/116)


و روى سعيد بن جبير مرفوعا إذا أصبح ابن آدم أصبحت الأعضاء كلها تشكو شرح نهج البلاغة ج : 10 ص : 137اللسان تقول أي بني آدم اتق الله فينا فإنك إن استقمت استقمنا و إن اعوججت اعوججناو قد روي أن عمر رأى أبا بكر و هو يمد لسانه فقال ما تصنع قال هذا الذي أوردني الموارد
إن رسول الله ص قال ليس شي ء في الجسد إلا يشكو إلى الله تعالى اللسان على حدته و سمع ابن مسعود يلبي على الصفا و يقول يا لسان قل خيرا تغنم أو اصمت تسلم من قبل أن تندم فقيل له يا أبا عبد الرحمن أ هذا شي ء سمعته أم تقوله من تلقاء نفسك قال بل سمعت رسول الله ص يقول أكثر خطايا ابن آدم من لسانه
و روى الحسن مرفوعا رحم الله عبدا تكلم فغنم أو سكت فسلم
وقالت التلامذة لعيسى ع دلنا على عمل ندخل به الجنة قال لا تنطقوا أبدا قالوا لا نستطيع ذلك قال فلا تنطقوا إلا بخير
و قال النبي ص إن الله عند لسان كل قائل فاتقى الله امرؤ علم ما يقول
و كان يقول لا شي ء أحق بطول سجن من لسان و كان يقال لسانك سبع إن أطلقته أكلك
في حكمة آل داود حقيق على العاقل أن يكون عارفا بزمانه حافظا للسانه مقبلا على شانه. و كان يقال من علم أن كلامه من عمله أقل كلامه فيما لا ينفعه. و قال محمد بن واسع حفظ اللسان أشد على الناس من حفظ الدينار و الدرهم. شرح نهج البلاغة ج : 10 ص : 138اجتمع أربعة حاء من الروم و الفرس و الهند و الصين فقال أحدهم أنا أندم على ما قلت و لا أندم على ما لم أقل و قال الآخر إذا تكلمت بالكلمة ملكتني و لم أملكها و إذا لم أتكلم ملكتها و لم تملكني و قال الآخر عجبت للمتكلم إن رجعت عليه كلمته ضرته و إن لم ترجع لم تنفعه و قال الرابع أنا على رد ما لم أقل أقدر مني على رد ما قلت.
ذكر الآثار الواردة في آفات اللسان
و اعلم أن آفات اللسان كثيرة فمنها الكلام فيما لا يعنيك و هو أهون آفات اللسان و مع ذلك فهو عيب

(11/117)


قال النبي ص من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه
و روي أنه ع مر بشهيد يوم أحد فقال أصحابه هنيئا له الجنة قال و ما يدريكم لعله كان يتكلم فيما لا يعنيه
و قال ابن عباس خمس هي أحسن و أنفع من حمر النعم لا تتكلم فيما لا يعنيك فإنه فضل لا آمن عليه الوزر و لا تتكلم فيما يعنيك حتى تجد له موضعا فرب متكلم في أمر يعنيه قد وضعه في غير موضعه فأساء و لا تمار حليما و لا سفيها فإن الحليم يقليك و السفيه يؤذيك و اذكر أخاك إذا تغيب عنك بما تحب أن يذكرك به و أعفه عما تحب أن يعفيك عنه و اعمل عمل رجل يرى أنه مجازى بالإحسان مأخوذ بالجرائم
و منها فضول الكلام و كثرته و ترك الاقتصار و كان يقال فضول المنطق و زيادته نقص في العقل و هما ضدان متنافيان كلما زاد أحدهما نقص الآخر. شرح نهج البلاغة ج : 10 ص : 139و قال عبد الله بن مسعود إياكم و فضول الكلام حسب امرئ ما بلغ به حاجته
و كان يقال من كثر كلامه كثر سقطه. و قال الحسن فضول الكلام كفضول المال كلاهما مهلك. و منها الخوض في الباطل و الحديث فيما لا يحل كحديث النساء و مجالس الخمر و مقامات الفساق و إليه الإشارة بقوله تعالى وَ كُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخائِضِينَ. و منها المراء و الجدال
قال ع دع المراء و إن كنت محقا
و قال مالك بن أنس المراء يقسي القلب و يورث الضغائن
و قال سفيان الثوري لو خالفت أخي في رمانة فقال حلوة و قلت حامضة لسعي بي إلى السلطان. و كان يقال صاف من شئت ثم أغضبه بالجدال و المراء فليرمينك بداهية تمنعك العيش. و قيل لميمون بن مهران ما لك لا تفارق أخا لك عن قلى قال لأني لا أشاريه و لا أماريه. و منها التقعر في الكلام بالتشدد و التكلف في الألفاظ
قال النبي ص شرح نهج البلاغة ج : 10 ص : 140أبغضكم إلي و أبعدكم مني مجالس يوم القيامة الثرثارون المتفيهقون المتشدقونو قال ع هلك المتنطعون... ثلاث مرات

(11/118)


و التنطع هو التعمق و الاستقصاء و قال عمر إن شقاشق الكلام من شقاشق الشيطان. و منها الفحش و السب و البذاء
قال النبي ص إياكم و الفحش فإن الله لا يحب الفحش و لا يرضى الفحش
و قال ع ليس المؤمن بالطعان و لا باللعان و لا بالسباب و لا البذي ء و قال ع لو كان الفحش رجلا لكان رجل سوء
و منها المزاح الخارج عن قانون الشريعة و كان يقال من مزح استخف به و كان يقال المزاح فحل لا ينتج إلا الشر. و منها الوعد الكاذب و
قد قال النبي ص العدة دين و قد أثنى الله سبحانه على إسماعيل فقال إِنَّهُ كانَ صادِقَ الْوَعْدِ و قال سبحانه يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ

(11/119)


شرح نهج البلاغة ج : 10 ص : 141و منها الكذب في القول و اليمين و الأمر فيهما مشهور. و منها الغيبة و قد تقدم القول فيها.قوله ع و ملبسهم الاقتصاد أي ليس بالثمين جدا و لا بالحقير جدا كالخرق التي تؤخذ من على المزابل و لكنه أمر بين أمرين و كان ع يلبس الكرابيس و هو الخام الغليظ و كذلك كان عمر رضي الله عنه و كان رسول الله ص يلبس اللين تارة و الخشن أخرى. قوله ع و مشيهم التواضع تقديره و صفة مشيهم التواضع فحذف المضاف و هذا مأخوذ من قوله تعالى وَ اقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَ اغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ. رأى محمد بن واسع ابنا له يمشي و هو يتبختر و يميس في مشيته فصاح به فأقبل فقال له ويلك لو عرفت نفسك لقصدت في مشيك أما أمك فأمة ابتعتها بمائة درهم و أما أبوك فلا أكثر الله في الناس من أمثاله. و الأصل في هذا الباب قوله تعالى وَ لا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَ لَنْ تَبْلُغَ الْجِبالَ طُولًا. و قوله غضوا أبصارهم أي خفضوها و غمضوها و غضضت طرفي عن كذا احتملت مكروهه. و قوله وقفوا أسماعهم على العلم النافع لهم أي لم يشغلوا سمعهم بشي ء غير العلوم النافعة أي لم يشتغلوا بسماع شعر و لا غناء و لا أحاديث أهل الدنيا. شرح نهج البلاغة ج : 10 ص : 142قوله نزلت أنفسهم منهم في البلاء كالذي نزلت في الرخاء يعني أنهم قد طابوا نفسا في الب و الشدة كطيب أنفسهم بأحوالهم في الرخاء و النعمة و ذلك لقلة مبالاتهم بشدائد الدنيا و مصائبها و تقدير الكلام من جهة الإعراب نزلت أنفسهم منهم في حال البلاء نزولا كالنزول الذي نزلته منهم في حال الرخاء فموضع كالذي نصب لأنه صفة مصدر محذوف و الموصول قد حذف العائد إليه و هو الهاء في نزلته كقولك ضربت الذي ضربت أي ضربت الذي ضربته. ثم قال ع إنهم من شدة شوقهم إلى الجنة و من شدة خوفهم من النار تكاد أرواحهم أن تفارق أجسادهم لو لا أن الله تعالى ضرب لهم آجالا ينتهون

(11/120)


إليها. ثم ذكر أن الخالق لما عظم في أعينهم استصغروا كل شي ء دونه و صاروا لشدة يقينهم و مكاشفتهم كمن رأى الجنة فهو يتنعم فيها و كمن رأى النار و هو يعذب فيها و لا ريب أن من يشاهد هاتين الحالتين يكون على قدم عظيمة من العبادة و الخوف و الرجاء و هذا مقام جليل و مثله قوله ع في حق نفسه لو كشف الغطاء ما ازددت يقينا
و الواو في و الجنة واو مع و قد روي بالعطف بالرفع على أنه معطوف على هم و الأول أحسن. ثم وصفهم بحزن القلوب و نحافة الأجسام و عفة الأنفس و خفة الحوائج و أن شرورهم مأمونة على الناس و أنهم صبروا صبرا يسيرا أعقبهم نعيما طويلا. ثم ابتدأهم فقال تجارة مربحة أي تجارتهم تجارة مربحة فحذف المبتدأ و روي تجارة مربحة بالنصب على أنه مصدر محذوف الفعل. قوله أما الليل بالنصب على الظرفية و روي أما الليل على الابتداء. قوله تالين منصوب على أنه حال إما من الضمير المرفوع بالفاعلية في صافون أو من الضمير المجرور بالإضافة في أقدامهم. شرح نهج البلاغة ج : 10 ص : 143و الترتيل التبيين و الإيضاح و هو ضد الإسراع و العجل و يروى يرتلونه على أن الضمير يعود إلى القرآن و الرواية الأولى يعود الضمير فيها إلى أجزاء القرآن. قوله يحزنون به أنفسهم أي يستجلبون لها الحزن به و يستثيرون به دواء دائهم إشا إلى البكاء فإنه دواء داء الحزين قال الشاعر
فقلت لها إن البكاء لراحة به يشتفي من ظن أن لا تلاقيا
و قال آخر

(11/121)


شجاك من ليلتك الطول فالدمع من عينيك مسدول و هو إذا أنت تأملته حزن على الخدين محلولثم ذكر أنهم إذا مروا بآية فيها ذكر الثواب مالوا إليها و اطمأنوا بها طمعا في نيله و تطلعت أنفسهم إليها شوقا أي اشرأبت. و نصب أعينهم منصوب على الظرفية و روي بالرفع على أنه خبر أن و الظن هاهنا يمكن أن يكون على حقيقته و يمكن أن يكون بمعنى العلم كقوله تعالى أَ لا يَظُنُّ أُولئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ و أصغى إلى الكلام مال إليه بسمعه و زفير النار صوتها. و قد جاء في فضل قراءة القرآن شي ء كثير روي عن النبي ص أنه قال من قرأ القرآن ثم رأى أن أحدا أوتي أفضل مما أوتي فقد استصغر ما عظمه الله
و قال ص لو كان القرآن في إهاب ما مسته النار
و قال أفضل عبادة أمتي قراءة القرآن
شرح نهج البلاغة ج : 10 ص : 144و قال أهل القرآن أهل الله و خاصتهو قال إن هذه القلوب تصدأ كما يصدأ الحديد قيل فما جلاؤها قال تلاوة القرآن و ذكر الموت
و قال ع إن الله سبحانه لأشد أذنا إلى قارئ القرآن من صاحب القينة إلى قينته
و قال الحسن رحمه الله ما دون القرآن من غنى و لا بعد القرآن من فاقة

(11/122)


ثم ذكر ع صورة صلاتهم و ركوعهم فقال حانون على أوساطهم حنيت العود عطفته يصف هيئة ركوعهم و انحنائهم في الصلاة. مفترشون لجباههم باسطون لها على الأرض. ثم ذكر الأعضاء السبعة التي مباشرتها بالأرض فروض في الصلاة و هي الجبهة و الكفان و الركبتان و القدمان. قوله ع يطلبون إلى الله أي يسألونه يقال طلبت إليك في كذا أي سألتك و الكلام على الحقيقة مقدر فيه حال محذوفة يتعلق بها حرف الجر أي يطلبون سائلين إلى الله في فكاك رقابهم لأن طلب لا يتعدى بحرف الجر. ثم لما فرغ من ذكر الليل قال و أما النهار فحلماء علماء أبرار أتقياء هذه الصفات هي التي يطلع عليها الناظرون لهم نهارا و تلك الصفات المتقدمة من وظائف الليل. ثم ذكر ما هم عليه من الخوف فقال ع إن خوفهم قد براهم بري شرح نهج البلاغة ج : 10 ص : 145القداح و هي السهام واحدها قدح فينظر إليهم الناظر فيحسبهم مرضى و ما بهم من مرض نظير هذقول الشاعر
و مخرق عنه القميص تخاله بين البيوت من الحياء سقيماحتى إذا رفع اللواء رأيته تحت اللواء على الخميس زعيما
و يقال للمتقين لشدة خوفهم كأنهم مرضى و لا مرض بهم و تقول العرب للكرام من الناس القليلي المأكل و المشرب رافضي اللباس الرفيع ذوي الأجسام النحيفة مراض من غير مرض و يقولون أيضا للمرأة ذات الطرف الغضيض الفاتر ذات الكسل مريضة من غير مرض قال الشاعر
ضعيفة كر الطرف تحسب أنها حديثة عهد بالإفاقة من سقم
شرح نهج البلاغة ج : 10 ص : 146ذكر الخوف و ما ورد فيه من الآثارو اعلم أن الخوف مقام جليل من مقامات العارفين و هو أحد الأركان التي هي أصول هذا الفن و هو التقوى التي حث الله تعالى عليها و قال إن أكرم الناس عنده أشدهم خوفا له و في هذه الآية وحدها كفاية و إذا نظرت القرآن العزيز وجدت أكثره ذكر المتقين و هم الخائفون و

(11/123)


قال النبي ص من خاف الله خافه كل شي ء و من خاف غير الله خوفه الله من كل شي ءو قال ع أتمكم عقلا أشدكم لله خوفا و أحسنكم فيما أمر به و نهى عنه نظرا
و قال يحيى بن معاذ مسكين ابن آدم لو خاف النار كما يخاف الفقر دخل الجنة. و قال ذو النون المصري ينبغي أن يكون الخوف أغلب من الرجاء فإن الرجاء إذا غلب تشوش القلب. و قيل لبعض الصالحين من آمن الخلق غدا قال أشدهم خوفا اليوم. و قيل للحسن يا أبا سعيد كيف نصنع بمجالسة أقوام من أصحابك يخوفوننا حتى تكاد قلوبنا تطير فقال إنك و الله لأن تصحب قوما يخوفونك حتى تدرك الأمن خير لك من أن تصحب قوما يؤمنونك حتى يدركك الخوف.
و قيل للنبي ص في قوله تعالى وَ الَّذِينَ يُؤْتُونَ ما آتَوْا وَ قُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ هم الذين يعصون و يخافون المعصية قال لا بل الرجل يصوم و يتصدق و يخاف ألا يقبل منه
شرح نهج البلاغة ج : 10 ص : 147و قال ص ما من قطرة أحب إلى الله تعالى من قطرة دمع من خشية الله أو قطرة دم أريقت في سبيل اللهو قال ع سبعة يظلهم الله بظله يوم لا ظل إلا ظله و ذكر منهم رجلا ذكر الله في خلوة ففاضت عيناه
قوله ع و يقول قد خولطوا أي أصابتهم جنة. ثم قال و لقد خالطهم أمر عظيم أي مازجهم خوف عظيم تولهوا لأجله فصاروا كالمجانين. ثم ذكر أنهم لا يستكثرون في كثير من أعمالهم و لا يرضيهم اجتهادهم و أنهم يتهمون أنفسهم و ينسبونها إلى التقصير في العبادة و إلى هذا نظر المتنبي فقال
يستصغر الخطر الكبير لنفسه و يظن دجلة ليس تكفي شاربا
قال و من أعمالهم مشفقون أي مشفقون من عباداتهم ألا تقبل و إلى هذا نظر أبو تمام فقال
يتجنب الآثام ثم يخافها فكأنما حسناته آثام

(11/124)


و مثل قوله أنا أعلم بنفسي من غيري قوله ع لمن زكاه نفاقا أنا دون ما تقول و فوق ما في نفسك. و قوله اللهم لا تؤاخذني بما يقولون إلى آخر الكلام مفرد مستقل بنفسه منقول عنه ع أنه قال لقوم مر عليهم و هم مختلفون في أمره فمنهم الحامد له و منهم الذام فقال اللهم لا تؤاخذني الكلمات إلى آخرها و معناه اللهم شرح نهج البلاغة ج : 10 ص : 148إن كان ما ينسبه الذامون إلي من الأفعال الموجبة الذم حقا فلا تؤاخذني بذلك و اغفر لي ما لا يعلمونه من أفعالي و إن كان ما يقوله الحامدون حقا فاجعلني أفضل مما يظنونه فيفَمِنْ عَلَامَةِ أَحَدِهِمْ أَنَّكَ تَرَى لَهُ قُوَّةً فِي دِينٍ وَ حَزْماً فِي لِينٍ وَ إِيمَاناً فِي يَقِينٍ وَ حِرْصاً فِي عِلْمٍ وَ عِلْماً فِي حِلْمٍ وَ قَصْداً فِي غِنًى وَ خُشُوعاً فِي عِبَادَةٍ وَ تَجَمُّلًا فِي فَاقَةٍ وَ صَبْراً فِي شِدَّةٍ وَ طَلَباً فِي حَلَالٍ وَ نَشَاطاً فِي هُدًى وَ تَحَرُّجاً عَنْ طَمَعٍ يَعْمَلُ الْأَعْمَالَ الصَّالِحَةَ وَ هُوَ عَلَى وَجَلٍ يُمْسِي وَ هَمُّهُ الشُّكْرُ وَ يُصْبِحُ وَ هَمُّهُ الذِّكْرُ يَبِيتُ حَذِراً وَ يُصْبِحُ فَرِحاً حَذِراً لَمَّا حُذِّرَ مِنَ الْغَفْلَةِ وَ فَرِحاً بِمَا أَصَابَ مِنَ الْفَضْلِ وَ الرَّحْمَةِ إِنِ اسْتَصْعَبَتْ عَلَيْهِ نَفْسُهُ فِيمَا تَكْرَهُ لَمْ يُعْطِهَا سُؤْلَهَا فِيمَا تُحِبُّ قُرَّةُ عَيْنِهِ فِيمَا لَا يَزُولُ وَ زَهَادَتُهُ فِيمَا لَا يَبْقَى يَمْزُجُ الْحِلْمَ بِالْعِلْمِ وَ الْقَوْلَ بِالْعَمَلِ تَرَاهُ قَرِيباً أَمَلُهُ قَلِيلًا زَلَلُهُ خَاشِعاً قَلْبُهُ قَانِعَةً نَفْسُهُ مَنْزُوراً أَكْلُهُ سَهْلًا أَمْرُهُ حَرِيزاً دِينُهُ مَيِّتَةً شَهْوَتُهُ مَكْظُوماً غَيْظُهُ الْخَيْرُ مِنْهُ مَأْمُولٌ وَ الشَّرُّ مِنْهُ مَأْمُونٌ إِنْ كَانَ فِي الْغَافِلِينَ كُتِبَ فِي الذَّاكِرِينَ وَ إِنْ كَانَ فِي الذَّاكِرِينَ

(11/125)


لَمْ يُكْتَبْ مِنَ الْغَافِلِينَ شرح نهج البلاغة ج : 10 ص : 149يَعْفُو عَمَّنْ ظَلَمَهُ وَ يُعْطِي مَنْ حَرَمَهُ وَ يَصِلُ مَنْ قَطَعَهُ بَعِيداً فُحْشُهُ لَيِّناً قَوْلُ غَائِباً مُنْكَرُهُ حَاضِراً مَعْرُوفُهُ مُقْبِلًا خَيْرُهُ مُدْبِراً شَرُّهُ فِي الزَّلَازِلِ وَقُورٌ وَ فِي الْمَكَارِهِ صَبُورٌ وَ فِي الرَّخَاءِ شَكُورٌ لَا يَحِيفُ عَلَى مَنْ يُبْغِضُ وَ لَا يَأْثَمُ فِيمَنْ يُحِبُّ يَعْتَرِفُ بِالْحَقِّ قَبْلَ أَنْ يُشْهَدَ عَلَيْهِ لَا يُضِيعُ مَا اسْتُحْفِظَ وَ لَا يَنْسَى مَا ذُكِّرَ وَ لَا يُنَابِزُ بِالْأَلْقَابِ وَ لَا يُضَارُّ بِالْجَارِ وَ لَا يَشْمَتُ بِالْمَصَائِبِ وَ لَا يَدْخُلُ فِي الْبَاطِلِ وَ لَا يَخْرُجُ مِنَ الْحَقِّ إِنْ صَمَتَ لَمْ يَغُمَّهُ صَمْتُهُ وَ إِنْ ضَحِكَ لَمْ يَعْلُ صَوْتُهُ وَ إِنْ بُغِيَ عَلَيْهِ صَبَرَ حَتَّى يَكُونَ اللَّهُ هُوَ الَّذِي يَنْتَقِمُ لَهُ نَفْسُهُ مِنْهُ فِي عَنَاءٍ وَ النَّاسُ مِنْهُ فِي رَاحَةٍ أَتْعَبَ نَفْسَهُ لآِخِرَتِهِ وَ أَرَاحَ النَّاسَ مِنْ نَفْسِهِ بُعْدُهُ عَمَّنْ تَبَاعَدَ عَنْهُ زُهْدٌ وَ نَزَاهَةٌ وَ دُنُوُّهُ مِمَّنْ دَنَا مِنْهُ لِينٌ وَ رَحْمَةٌ لَيْسَ تَبَاعُدُهُ بِكِبْرٍ وَ عَظَمَةٍ وَ لَا دُنُوُّهُ بِمَكْرٍ وَ خَدِيعَةٍ قَالَ فَصَعِقَ هَمَّامٌ صَعْقَةً كَانَتْ نَفْسُهُ فِيهَا فَقَالَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ ع أَمَا وَ اللَّهِ لَقَدْ كُنْتُ أَخَافُهَا عَلَيْهِ ثُمَّ قَالَ هَكَذَا تَصْنَعُ الْمَوَاعِظُ الْبَالِغَةُ بِأَهْلِهَا فَقَالَ لَهُ قَائِلٌ فَمَا بَالُكَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ فَقَالَ ع وَيْحَكَ إِنَّ لِكُلِّ أَجَلٍ وَقْتاً لَا يَعْدُوهُ وَ سَبَباً لَا يَتَجَاوَزُهُ فَمَهْلًا لَا تَعُدْ لِمِثْلِهَا فَإِنَّمَا نَفَثَ الشَّيْطَانُ عَلَى لِسَانِكَ

(11/126)


شرح نهج البلاغة ج : 10 ص : 150هذه الألفاظ التي أولها قوة في دين بعضها يتعلق حرف الجر فيه بالظاهر فيكون موضعه نصبا بالمفعولية و بعضها يتعلق بمحذوف فيكون موضعه نصبا أيضا على الصفة و نحن نفصلها. فقوله قوة في دين حرف الجر هاهنا متعلق بالظاهر و هو قوة تقول فن قوي في كذا و على كذا كما تقول مررت بكذا و بلغت إلى كذا. و و حزما في لين هاهنا لا يتعلق حرف الجر بالظاهر لأنه لا معنى له أ لا ترى أنك لا تقول فلان حازم في اللين لأن اللين ليس أمرا يحزم الإنسان فيه و ليس كما تقول فلان حازم في رأيه أو في تدبيره فوجب أن يكون حرف الجر متعلقا بمحذوف تقديره و حزما كائنا في لين. و كذلك قوله و إيمانا في يقين حرف الجر متعلق بمحذوف أي كائنا في يقين أي مع يقين. فإن قلت الإيمان هو اليقين فكيف قال و إيمانا في يقين قلت الإيمان هو الاعتقاد مضافا إلى العمل و اليقين هو سكون القلب فقط فأحدهما غير الآخر. قوله و حرصا في علم حرف الجر هاهنا يتعلق بالظاهر و في بمعنى على كقوله تعالى لَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ. قوله و قصدا في غنى حرف الجر متعلق بمحذوف أي هو مقتصد مع كونه غنيا و ليس يجوز أن يكون متعلقا بالظاهر لأنه لا معنى لقولك اقتصد في الغنى إنما يقال اقتصد في النفقة و ذلك الاقتصاد موصوف بأنه مقارن للغنى و مجامع له. شرح نهج البلاغة ج : 10 ص : 151قوله و خشوعا في عبادة حرف الجر هاهنا يحتمل الأمرين معا. قوله و تجملا في فاقة حرف الجر هاهنا متعلق بمحذوف و لا يصح تعلقه بالظاهر لأنه إنما يل فلان يتجمل في لباسه و مروءته مع كونه ذا فاقة و لا يقال يتجمل في الفاقة على أن يكون التجمل متعديا إلى الفاقة. قوله و صبرا في شدة حرف الجر هاهنا يحتمل الأمرين. قوله و طلبا في حلال حرف الجر هاهنا يتعلق بالظاهر و في بمعنى اللام. قوله و نشاطا في هدى حرف الجر هاهنا يحتمل الأمرين. قوله و تحرجا عن طمع حرف الجر هاهنا يتعلق

(11/127)


بالظاهر لا غير. قوله يعمل الأعمال الصالحة و هو على وجل قد تقدم مثله. قوله يمسي و همه الشكر هذه درجة عظيمة من درجات العارفين و قد أثنى الله تعالى على الشكر و الشاكرين في كتابه في مواضع كثيرة نحو قوله فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَ اشْكُرُوا لِي وَ لا تَكْفُرُونِ فقرن الشكر بالذكر. و قال تعالى ما يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَ آمَنْتُمْ. و قال تعالى وَ سَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ. و لعلو مرتبة الشكر طعن إبليس في بني آدم فقال وَ لا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شاكِرِينَ و قد صدقه الله تعالى في هذا القول فقال وَ قَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ. شرح نهج البلاغة ج : 10 ص : 152و قال بعض أصحاب المعاني قد قطع الله تعالى بالمزيد مع الشكر و لم يستثن فقال لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ. و اثنى في خمسة أمور و هي الإغناء و الإجابة و الرزق و المغفرة و التوبة. فقال فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شاءَ. و قال بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ ما تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شاءَ. و قال يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ. و قال وَ يَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ. و قال وَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلى مَنْ يَشاءُ. و قال بعضهم كيف لا يكون الشكر مقاما جليلا و هو خلق من أخلاق الربوبية قال تعالى في صفة نفسه وَ اللَّهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ. و قد جعل الله تعالى مفتاح كلام أهل الجنة فقال وَ قالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنا وَعْدَهُ و جعله خاتمة كلامهم أيضا فقال وَ آخِرُ دَعْواهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ.
و قيل للنبي ص قد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك و ما تأخر فلم تقوم الليل و تتعب نفسك قال أ فلا أكون عبدا شكورا

(11/128)


شرح نهج البلاغة ج : 10 ص : 153قوله ع و يصبح و همه الذكر هذه أيضا درجة كبيرة عظيمة من درجات العارفين قال تعالى فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ قال بعض العارفين لأصحابه أنا أعلم متى يذكرني ربي ففزعوا منه فقال إذا ذكرته ذكرني و تلا الآية فسكتوا. و قال يا أَيُّه الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْراً كَثِيراً. و قال فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرامِ. و قال فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آباءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً. و قال فَإِذا قَضَيْتُمُ الصَّلاةَ فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِياماً وَ قُعُوداً وَ عَلى جُنُوبِكُمْ. و قال الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِياماً وَ قُعُوداً وَ عَلى جُنُوبِهِمْ. و قال في ذم المنافقين وَ لا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا. و قال وَ اذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَ خِيفَةً. و قال وَ لَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ. و
قال النبي ص ذاكر الله في الغافلين كالشجرة الخضراء في وسط الهشيم
و قال ص من أحب أن يرتع في رياض الجنة فليكثر من ذكر الله
شرح نهج البلاغة ج : 10 ص : 154وسئل ع أي الأعمال أفضل قال أن تموت و لسانك رطب بذكر اللهو قال ص حكاية عن الله تعالى إذا ذكرني عبدي في نفسه ذكرته في نفسي و إذا ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير من ملئه و إذا تقرب مني شبرا تقربت منه ذراعا و إذا تقرب مني ذراعا تقربت منه باعا و إذا مشى إلي هرولت إليه
و قال ص ما جلس قوم مجلسا يذكرون الله تعالى إلا حفت بهم الملائكة و غشيتهم الرحمة و ذكرهم الله فيمن عنده

(11/129)


قوله ع يبيت حذرا و يصبح فرحا حذرا لما حذر من الغفلة و فرحا بما أصاب من الفضل و الرحمة. و قد تقدم ذكر الخوف. و قد عرض ع هاهنا بالرجاء المقابل للخوف فإن فرح العارف بما أصاب من الفضل و الرحمة يمكن أن يحمل على أنه فرح بمجرد ما أصاب من فضل الله و رحمته. و يمكن أن يحمل على أنه فرح بما يرجوه من ثواب الله و نعيمه لذا استدل على وصوله إليه و قوي ظنه بظفره به بما عجل الله تعالى له من الفضل و الرحمة في الدنيا و مقام الرجاء للعارفين مقام شريف و هو في مقابلة مقام الخوف و هو المقام الذي يوجد العارف فيه فرحا قال الله تعالى إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتابَ اللَّهِ وَ أَقامُوا الصَّلاةَ وَ أَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ سِرًّا وَ عَلانِيَةً يَرْجُونَ تِجارَةً لَنْ تَبُورَ شرح نهج البلاغة ج : 10 ص : 155. و قال النبي ص حكاية عن الله تعالى أنا عند ظن عبدي بي فليظن بي ما شاء
دخل ص على رجل من أصحابه و هو يجود بنفسه فقال كيف تجدك قال أجدني أخاف ذنوبي و أرجو رحمة ربي فقال ص ما اجتمعا في قلب عبد في هذا الموطن إلا أعطاه الله ما رجاه و أمنه مما خافه

(11/130)


قوله ع إن استصعبت عليه نفسه أي صارت صعبة غير منقادة يقول إذا لم تطاوعه نفسه إلى ما هي كارهة له لم يعطها مرادها فيما تحبه. قوله ع قرة عينه فيما لا يزول و زهادته فيما لا يبقى يقال للفرح المسرور إنه لقرير العين و قرت عينه تقر و المراد بردها لأن دمعة السرور باردة و دمعة الحزن حارة. و هذا الكلام يحتمل أمرين أحدهما أن يعني بما لا يزول البارئ سبحانه و هذا مقام شريف جدا أعظم من سائر المقامات و هو حب العارف لله سبحانه و قد أنكره قوم فقالوا لا معنى لمحبة البارئ إلا المواظبة على طاعته و نحوه قول أصحابنا المتكلمين إن محبة الله تعالى للعبد هي إرادته لثوابه و محبة العبد للبارئ هي إرادته لطاعته فليست المحبة عندهم شيئا زائدا على الإرادة و لا يجوز أن تتعلق بذات الله سبحانه لأن الإرادة لا تتعلق إلا بالحدوث و خالفهم شيخنا أبو الحسن فقال إن الإرادة يمكن أن تتعلق بالباقي ذكر ذلك في الكلام في الأكوان في أول التصفح فأما إثبات الحب في الجملة فقد نطق به القرآن قال سبحانه يُحِبُّهُمْ شرح نهج البلاغة ج : 10 ص : 156وَ يُحِبُّونَهُ و قال أيضا وَ الَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ و قال إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُوي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ و
في الحديث أن النبي ص نظر إلى مصعب بن عمير مقبلا و عليه إهاب كبش قد تمنطق به فقال انظروا إلى الرجل الذي قد نور الله قلبه لقد رأيته بين أبوين يغذوانه بأطيب الطعام و الشراب فدعاه حب الله و رسوله إلى ما ترون

(11/131)


و يقال إن عيسى ع مر بثلاثة نفر قد نحلت أبدانهم و تغيرت ألوانهم فقال ما الذي بلغ بكم ما أرى قالوا الخوف من النار قال حق على الله أن يؤمن من يخافه ثم جاوزهم إلى ثلاثة آخرين فإذا هم أشد نحولا و تغيرا فقال ما الذي بلغ بكم ما أرى قالوا الشوق إلى الجنة فقال حق على الله أن يعطي من رجاه ثم مر إلى ثلاثة آخرين فإذا هم أشد نحولا و على وجوههم مثل المرائي من النور فقال ما الذي بلغ بكم ما أرى قالوا حب الله عز و جل فقال أنتم المقربون ثلاثا
و قال بعض العارفين
أحبك حبين حب الهوى و حبا لأنك أهل لذاكافأما الذي هو حب الهوى فشغلي بذكرك عمن سواكاو أما الذي أنت أهل له فكشفك لي الحجب حتى أراكافلا الحمد من ذا و لا ذاك لي و لكن لك الحمد في ذا و ذاكا
شرح نهج البلاغة ج : 10 ص : 157ليس يريد بكشف الحجب و الرؤية ما يظنه الظاهريون من أنها الإبصار بالعين بل المعرفة التامة و ذلك لأن المعارف النظرية يصح أن تصير ضرورية عند جمهور أصحابنا فهذا أحد محملي الكلام. و ثانيهما أن يريد بما لا يزول نعيم الجنة و هذا أد المقامين لأن الخلص من العارفين يحبونه و يعشقونه سبحانه لذاته لا خوفا من النار و لا شوقا إلى الجنة و قد قال بعضهم لست أرضى لنفسي أن أكون كأجير السوء إن دفعت إليه الأجرة رضي و فرح و إن منعها سخط و حزن إنما أحبه لذاته. و قال بعض شعرائهم شعرا من جملته
فهجره أعظم من ناره و وصله أطيب من جنته
و قد جاء في كلام أمير المؤمنين ع من هذا الكثير نحو
قوله لم أعبده خوفا و لا طمعا لكني وجدته أهلا للعبادة فعبدته
قوله ع يمزج الحلم بالعلم أي لا يحلم إلا عن علم بفضل الحلم ليس كما يحلم الجاهلون. قوله و القول بالعمل أي لا يقتصر على القول و مثل هذا قول الأحوص
و أراك تفعل ما تقول و بعضهم مذق اللسان يقول ما لا يفعل

(11/132)


قوله ع تراه قريبا أمله أي ليست نفسه متعلقة بما عظم من آمال الدنيا و إنما قصارى أمره أن يؤمل القوت و الملبس قليلا زلله أي خطؤه. قوله منزورا أكله أي قليلا و يحمد من الإنسان الأكل النزر قال أعشى باهلة شرح نهج البلاغة ج : 10 ص : 15تكفيه حزة فلذ إن ألم بها من الشواء و يكفي شربه الغمر
و قال متمم بن نويرة
لقد كفن المنهال تحت ردائه فتى غير مبطان العشيات أروعا
قوله ع مكظوما غيظه كظم الغيظ من الأخلاق الشريفة
قال زيد بن علي ع ما سرني بجرعة غيظ أتجرعها و أصبر عليها حمر النعم
و جاء رجل إلى الربيع بن زياد الحارثي فقال يا أبا عبد الرحمن إن فلانا يغتابك و ينال منك فقال و الله لأغيظن من أمره بذلك قال الرجل و من أمره قال الشيطان عدو الله استغواه ليؤثمه و أراد أن يغضبني عليه فأكافئه و الله لا أعطيه ما أحب من ذلك غفر الله لنا و له. و جهل إنسان على عمر بن عبد العزيز فقال أظنك أردت أن يستفزني الشيطان بعز السلطان فأنال منك اليوم ما تناله مني غدا انصرف عافاك الله. و
قال النبي ص الغضب يفسد الإيمان كما يفسد الصبر العسل
وقال إنسان لرسول الله ص أوصني فقال لا تغضب فأعاد عليه السؤال فقال لا تغضب فقال زدني فقال لا أجد مزيدا
و من كلام بعض الحكماء لا يفي عز الغضب بذلة الاعتذار. شرح نهج البلاغة ج : 10 ص : 159قوله إن كان في الغافلين معناه أنه لا يزال ذاكر الله تعالى سواء كان جالسا مع الغافلين أو مع الذاكرين أما إذا كان مع الغافلين فإنه يذكر الله بقلبه و أما إذا كان مع الذاكرين نه يذكر بقلبه و لسانه. قوله ع يعفو عمن ظلمه و يعطي من حرمه و يصل من قطعه من
كلام المسيح ع في الإنجيل أحبوا أعداءكم و صلوا قاطعيكم و اعفوا عن ظالميكم و باركوا على لاعنيكم لكي تكونوا أبناء أبيكم الذي في السماء الذي تشرق شمسه على الصالحين و الفجرة و ينزل مطره على المطيعين و الأثمة

(11/133)


قوله ع بعيدا فحشه ليس يعني به أنه قد يفحش تارة و يترك الفحش تارات بل لا فحش له أصلا فكنى عن العدم بالبعد لأنه قريب منه. قوله لينا قوله العارف بسام طلق الوجه لين القول و في صفات النبي ص ليس بفظ و لا صخاب. قوله في الزلازل وقور أي لا تحركه الخطوب الطارقة و يقال إن علي بن الحسين ع كان يصلي فوقعت عليه حية فلم يتحرك لها ثم انسابت بين قدميه فما حرك إحداهما عن مكانه و لا تغير لونه. قوله لا يحيف على من يبغض هذا من الأخلاق الشريفة النبوية و في كلام أبي بكر في صفات من يصلح للإمامة إن رضي لم يدخله رضاه في باطل و إن غضب لم يخرجه غضبه عن الحق. قوله يعترف بالحق قبل أن يشهد عليه لأنه إن أنكر ثم شهد عليه فقد ثبت كذبه و إن سكت ثم شهد عليه فقد أقام نفسه في مقام الريبة. شرح نهج البلاغة ج : 10 ص : 160قوله و لا ينابز بالألقاب هذا من قوله تعالى وَ لا تَنابَزُوا بِالْأَلْقابِ. قو و لا يضار بالجار
في الحديث المرفوع أوصاني ربي بالجار حتى ظننت أن يورثه
قوله و لا يشمت بالمصائب نظير قول الشاعر
فلست تراه شامتا بمصيبة و لا جزعا من طارق الحدثان
قوله إن صمت لم يغمه صمته أي لا يحزن لفوات الكلام لأنه يرى الصمت مغنما لا مغرما. قوله و إن ضحك لم يعل صوته هكذا كان ضحك رسول الله ص أكثره التبسم و قد يفر أحيانا و لم يكن من أهل القهقهة و الكركرة. قوله و إن بغي عليه صبر هذا من قول الله تعالى ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنْصُرَنَّهُ اللَّهُ. قوله نفسه منه في عناء لأنه يتعبها بالعبادة و الناس لا يلقون منه عنتا و لا أذى فحالهم بالنسبة إليه خلاف حال نفسه بالنسبة إليه. قوله فصعق همام أغمي عليه و مات قال الله تعالى فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَ مَنْ فِي الْأَرْضِ شرح نهج البلاغة ج : 10 ص : 16ذكر بعض أحوال العارفين

(11/134)


و اعلم أن الوجد أمر شريف قد اختلف الناس فيه فقالت الحكماء فيه أقوالا و قالت الصوفية فيه أقوالا أما الحكماء فقالوا الوجد هو حالة تحدث للنفس عند انقطاع علائقها عن المحسوسات بغتة إذا كان قد ورد عليها وارد مشوق و قال بعضهم الوجد هو اتصال النفس بمبادئها المجردة عند سماع ما يقتضي ذلك الاتصال. و أما الصوفية فقد قال بعضهم الوجد رفع الحجاب و مشاهدة المحبوب و حضور الفهم و ملاحظة الغيب و محادثة السر و هو فناؤك من حيث أنت أنت و قال بعضهم الوجد سر الله عند العارفين و مكاشفة من الحق توجب الفناء عن الحق. و الأقوال فيه متقاربة في المعنى و إن اختلفت العبارة و قد مات كثير من الناس بالوجد عند سماع وعظ أو صفقة مطرب و الأخبار في هذا الباب كثيرة جدا و قد رأينا نحن في زماننا من مات بذلك فجأة.
قوله كانت نفسه فيها أي مات و نفث الشيطان على لسانك أي تكلم بلسانك و أصله النفخ بالفم و هو أقل من التفل و إنما نهى أمير المؤمنين القائل فهلا أنت يا أمير المؤمنين لأنه اعترض في غير موضع الاعتراض و ذلك أنه لا يلزم من موت العامي عند وعظ العارف أن يموت العارف عند وعظ نفسه لأن انفعال العامي ذي الاستعداد التام للموت عند سماع المواعظ البالغة أتم من استعداد العارف عند سماع كلام شرح نهج البلاغة ج : 10 ص : 162نفسه أو الفكر في كلام نفسه لأن نفس العارف قوية جدا و الآلة التي يحفر بها الطين قد لا يحفر بها الحجر. فإن قلتإن جواب أمير المؤمنين ع للسائل غير هذا الجواب قلت صدقت إنما أجابه من حيث يعلم هو و السامعون و تصل أفهامهم إليه فخرج معه إلى حديث الآجال و أنها أوقات مقدرة لا تتعداها و ما كان يمكنه ع أن يذكر الفرق بين نفسه و نفوسهم و لا كانت الحال تقتضيه فأجابه بجواب مسكت و هو مع إسكاته الخصم حق و عدل عن جواب يحصل منه اضطراب و يقع فيه تشويش و هذا نهاية السداد و صحة القول

(11/135)


شرح نهج البلاغة ج : 10 ص : 187163- و من خطبة له ع يصف فيها المنافقيننَحْمَدُهُ عَلَى مَا وَفَّقَ لَهُ مِنَ الطَّاعَةِ وَ ذَادَ عَنْهُ مِنَ الْمَعْصِيَةِ وَ نَسْأَلُهُ لِمِنَّتِهِ تَمَاماً وَ لِحَبْلِهِ اعْتِصَاماً وَ نَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّداً عَبْدُهُ وَ رَسُولُهُ خَاضَ إِلَى رِضْوَانِ اللَّهِ كُلَّ غَمْرَةٍ وَ تَجَرَّعَ فِيهِ كُلَّ غُصَّةٍ وَ قَدْ تَلَوَّنَ لَهُ الْأَدْنَوْنَ وَ تَأَلَّبَ عَلَيْهِ الْأَقْصَوْنَ وَ خَلَعَتْ عَلَيْهِ الْعَرَبُ أَعِنَّتَهَا وَ ضَرَبَتْ إِلَى مُحَارَبَتِهِ بُطُونَ رَوَاحِلِهَا حَتَّى أَنْزَلَتْ بِسَاحَتِهِ عَدَاوَتَهَا مِنْ أَبْعَدِ الدَّارِ وَ أَسْحَقِ الْمَزَارِ أُوصِيكُمْ عِبَادَ اللَّهِ بِتَقْوَى اللَّهِ وَ أُحَذِّرُكُمْ أَهْلَ النِّفَاقِ فَإِنَّهُمُ الضَّالُّونَ الْمُضِلُّونَ وَ الزَّالُّونَ الْمُزِلُّونَ يَتَلَوَّنُونَ أَلْوَاناً وَ يَفْتَنُّونَ افْتِنَاناً وَ يَعْمِدُونَكُمْ بِكُلِّ عِمَادٍ وَ يَرْصُدُونَكُمْ بِكُلِّ مِرْصَادٍ قُلُوبُهُمْ دَوِيَّةٌ وَ صِفَاحُهُمْ نَقِيَّةٌ يَمْشُونَ الْخَفَاءَ وَ يَدِبُّونَ الضَّراءَ وَصْفُهُمْ دَوَاءٌ وَ قَوْلُهُمْ شِفَاءٌ وَ فِعْلُهُمُ الدَّاءُ الْعَيَاءُ حَسَدَةُ الرَّخَاءِ وَ مُؤَكِّدُو الْبَلَاءِ وَ مُقْنِطُو الرَّجَاءِ لَهُمْ بِكُلِّ طَرِيقٍ صَرِيعٌ وَ إِلَى كُلِّ قَلْبٍ شَفِيعٌ وَ لِكُلِّ شَجْوٍ دُمُوعٌ يَتَقَارَضُونَ الثَّنَاءَ وَ يَتَرَاقَبُونَ الْجَزَاءَ إِنْ سَأَلُوا أَلْحَفُوا وَ إِنْ عَذَلُوا كَشَفُوا وَ إِنْ حَكَمُوا أَسْرَفُوا شرح نهج البلة ج : 10 ص : 164قَدْ أَعَدُّوا لِكُلِّ حَقٍّ بَاطِلًا وَ لِكُلِّ قَائِمٍ مَائِلًا وَ لِكُلِّ حَيٍّ قَاتِلًا وَ لِكُلِّ بَابٍ مِفْتَاحاً وَ لِكُلِّ لَيْلٍ مِصْبَاحاً يَتَوَصَّلُونَ إِلَى الطَّمَعِ بِالْيَأْسِ لِيُقِيمُوا بِهِ أَسْوَاقَهُمْ وَ

(11/136)


يُنْفِقُوا بِهِ أَعْلَاقَهُمْ يَقُولُونَ فَيُشَبِّهُونَ وَ يَصِفُونَ فَيُمَوِّهُونَ قَدْ هَوَّنُوا الطَّرِيقَ وَ أَضْلَعُوا الْمَضِيقَ فَهُمْ لُمَةُ الشَّيْطَانِ وَ حُمَةُ النِّيرَانِ أُولئِكَ حِزْبُ الشَّيْطانِ أَلا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطانِ هُمُ الْخاسِرُونَ
الضمير في له و هو الهاء راجع إلى ما التي بمعنى الذي و قيل بل هو راجع إلى الله سبحانه كأنه قال نحمده على ما وفق من طاعته و الصحيح هو الأول لأن له في الفقرة الأولى بإزاء عنه في الفقرة الثانية و الهاء في عنه ليست عائدة إلى الله و ذاد طرد و المصدر الذياد. و خاض كل غمرة مثل قولك ارتكب كل مهلكة و تقحم كل هول و الغمرة ما ازدحم و كثر من الماء و كذلك من الناس و الجمع غمار. و الغصة الشجا و الجمع غصص. و تلون له الأدنون تغير عليه أقاربه ألوانا. و تألب عليه الأقصون تجمع عليه الأبعدون عنه نسبا. و خلعت إليه العرب أعنتها مثل معناه أوجفوا إليه مسرعين لمحاربته لأن الخيل إذا خلعت أعنتها كان أسرع لجريها. و ضربت إلى محاربته بطون رواحلها كناية عن إسراع العرب نحوه للحرب شرح نهج البلاغة ج : 10 ص : 165لأن الرواحل إذا ضربت بطونها لتساق كان أوحى لها و مراده أنهم كانوا فرسانا و ركبان قوله حتى أنزلت بساحته عداوتها أي حربها فعبر عنها بالعداوة لأن العداوة سبب الحرب فعبر بالسبب عن المسبب ما زلنا نطأ السماء حتى أتيناك يعنون الماء لما كان اعتقادهم أن السماء سبب الماء. و أسحق المزار أبعده مكان سحيق أي بعيد و السحق بضم السين البعد يقال سحقا له و يجوز ضم الحاء كما قالوا عسر و عسر و سحق الشي ء بالضم أي بعد و أسحقه الله أبعده و المزار المكان الذي يزار منه أو المكان الذي يزار فيه و المراد هاهنا هو الأول و من قرأ كتب السيرة علم ما لاقى رسول الله ص في ذات الله سبحانه من المشقة و استهزاء قريش به في ول الدعوة و رميهم إياه بالحجارة حتى أدموا عقبيه و صياح

(11/137)


الصبيان به و فرث الكرش على رأسه و فتل الثوب في عنقه و حصره و حصر أهله في شعب بني هاشم سنين عدة محرمة معاملتهم و مبايعتهم و مناكحتهم و كلامهم حتى كادوا يموتون جوعا لو لا أن بعض من كان يحنو لرحم أو لسبب غيره فهو يسرق الشي ء القليل من الدقيق أو التمر فيلقيه إليهم ليلا ثم ضربهم أصحابه و تعذيبهم بالجوع و الوثاق في الشمس و طردهم إياهم عن شعاب مكة حتى خرج من خرج منهم إلى الحبشة و خرج ع مستجيرا منهم تارة بثقيف و تارة ببني عامر و تارة بربيعة الفرس و بغيرهم ثم أمعوا على قتله و الفتك به ليلا حتى هرب منهم لائذا بالأوس و الخزرج تاركا أهله و أولاده و ما حوته يده ناجيا بحشاشة نفسه حتى وصل إلى المدينة فناصبوه الحرب و رموه بالمناسر و الكتائب و ضربوا إليه آباط الإبل شرح نهج البلاغة ج : 10 ص : 166و لم يزل منهم في عناء شد و حروب متصلة حتى أكرمه الله تعالى و نصره و أيد دينه و أظهره و من له أنس بالتواريخ يعلم من تفاصيل هذه الأحوال ما يطول شرحه. سمي النفاق نفاقا من النافقاء و هي بيت اليربوع له بابان يدخل من أحدهما و يخرج من الآخر و كذلك الذي يظهر دينا و يبطن غيره. و الضالون المضلون الذين يضلون أنفسهم و يضلون غيرهم و كذلك الزالون المزلون زل فلان عن الأمر أي أخطأ و أزله غيره. قوله يفتنون يتشعبون فنونا أي ضروبا. و يعمدونكم أي يهدونكم و يفدحونكم يقال عمده المرض يعمده أي هده و منه قولهم للعاشق عميد القلب. قوله بعماد أي بأمر فادح و خطب مؤلم و أصل العمد انشداخ سنام البعير و ماضيه عمد السنام بالكسر عمدا فهو عمد. و يرصدونكم يعدون المكايد لكم أرصدت أعددت و منه
في الحديث إلا أن أرصده لدين علي

(11/138)


و قلب دو بالتخفيف أي فاسد من داء أصابه و امرأة دوية فإذا قلت رجل دوي بالفتح استوى فيه المذكر و المؤنث و الجماعة لأنه مصدر في الأصل و من روى دوية بالتشديد على بعده فإنما شدده ليقابل نقية. و الصفاح جمع صفحة الوجه و هي ظاهره يقول باطنهم عليل و ظاهرهم صحيح يمشون الخفاء أي في الخفاء ثم حذف الجار فنصب و كذلك يدبون الضراء شرح نهج البلاغة ج : 10 ص : 167و الضراء شجر الوادي الملتف و هذا مثل يضرب لمن يختل صاحبه يقال هو يدب له الضراء و يمشي له الخمر و هو جرف الوادي ثم قال وصفهم داء و قولهم شفاء و فعلهم الداء العياء أأقوالهم أقوال الزاهدين العابدين و أفعالهم أفعال الفاسقين الفاجرين و الداء العياء الذي يعيي الأساة. ثم قال حسدة الرخاء يحسدون على النعم و مؤكدو البلاء إذا وقع واحد من الناس في بلاء أكدوه عليه بالسعايات و النمائم و إغراء السلطان به و لقد أحسن أبو الطيب في قوله يذم البشر
و كأنا لم يرض فينا بريب الدهر حتى أعانه من أعاناكلما أنبت الزمان قناة ركب المرء في القناة سنانا

(11/139)


و مقنطو الرجاء أي أهل الرجاء أي يبدلون بشرورهم و أذاهم رجاء الراجي قنوطا. قوله و إلى كل قلب شفيع يصف خلابة ألسنتهم و شدة ملقهم فقد استحوذوا على قلوب الناس بالرياء و التصنع. قوله و لكل شجو دموع الشجو الحزن أي يبكون تباكيا و تعملا لا حقا عند أهل كل حزن و مصاب. يتقارضون الثناء أي يثني زيد على عمرو ليثني عمرو عليه في ذلك المجلس أو يبلغه فيثني عليه في مجلس آخر مأخوذ من القرض. و يتراقبون الجزاء يرتقب كل واحد منهم على ثنائه و مدحه لصاحبه جزاء منه شرح نهج البلاغة ج : 10 ص : 168إما بالمال أو بأمر آخر نحو ثناء يثنيليه أو شفاعة يشفع له أو نحو ذلك. و الإلحاف في السؤال الاستقصاء فيه و هو مذموم قال الله تعالى لا يَسْئَلُونَ النَّاسَ إِلْحافاً. قوله و إن عذلوا كشفوا أي إذا عذلك أحدهم كشف عيوبك في ذلك اللوم و العذل و جبهك بها و ربما لا يستحي أن يذكرها لك بمحضر ممن لا تحب ذكرها بحضرته و ليسوا كالناصحين على الحقيقة الذين يعرضون عند العتاب بالذنب تعريضا لطيفا ليقلع الإنسان عنه. و إن حكموا أسرفوا إذا سألك أحدهم ففوضته في مالك أسرف و لم يقنع بشي ء و أحب الاستئصال. قد أعدوا لكل حق باطلا يقيمون الباطل في معارضة الحق و الشبهة في صادمة الحجة و لكل دليل قائم و قول صحيح ثابت احتجاجا مائلا مضادا لذلك الدليل و كلاما مضطربا لذلك القول. و لكل باب مفتاحا أي ألسنتهم ذلقة قادرة على فتح المغلقات للطف توصلهم و ظرف منطقهم. و لكل ليل مصباحا أي كل أمر مظلم فقد أعدوا له كلاما ينيره و يضيئه و يجعله كالمصباح الطارد لليل. و يتوصلون إلى مطامعهم بإظهار اليأس عما في أيدي الناس و بالزهد في الدنيا و في الأثر شركم من أخذ الدنيا بالدين. ثم قال إنما فعلوا ذلك ليقيموا به أسواقهم أي لتنفق سلعتهم. شرح نهج البلاغة ج : 10 ص : 169و الأعلاق جمع علق و هو السلعة الينة. يقولون فيشبهون يوقعون الشبه في القلوب. و يصفون فيموهون التمويه

(11/140)


التزيين و أصله أن تطلي الحديدة بذهب يحسنها. قد هيئوا الطريق أي الطريق الباطل قد هيئوها لتسلك بتمويهاتهم. و أضلعوا المضيق أمالوه و جعلوه ضلعا أي معوجا أي جعلوا المسلك الضيق معوجا بكلامهم و تلبيسهم فإذا أسلكوه إنسانا اعوج لاعوجاجه. و اللمة بالتخفيف الجماعة و الحمة بالتخفيف أيضا السم و كنى عن إحراق النار بالحمة للمشابهة في المضرة شرح نهج البلاغة ج : 10 ص : 188170- و من خطبة له عالْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَظْهَرَ مِنْ آثَارِ سُلْطَانِهِ وَ جَلَالِ كِبْرِيَائِهِ مَا حَيَّرَ مُقَلَ الْعُقُولِ مِنْ عَجَائِبِ قُدْرَتِهِ وَ رَدَعَ خَطَرَاتِ هَمَاهِمِ النُّفُوسِ عَنْ عِرْفَانَ كُنْهِ صِفَتِهِ وَ أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ شَهَادَةَ إِيمَانٍ وَ إِيقَانٍ وَ إِخْلَاصٍ وَ إِذْعَانٍ وَ أَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّداً عَبْدُهُ وَ رَسُولُهُ أَرْسَلَهُ وَ أَعْلَامُ الْهُدَى دَارِسَةٌ وَ مَنَاهِجُ الدِّينِ طَامِسَةٌ فَصَدَعَ بِالْحَقِّ وَ نَصَحَ لِلْخَلْقِ وَ هَدَى إِلَى الرُّشْدِ وَ أَمَرَ بِالْقَصْدِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ وَ اعْلَمُوا عِبَادَ اللَّهِ أَنَّهُ لَمْ يَخْلُقْكُمْ عَبَثاً وَ لَمْ يُرْسِلْكُمْ هَمَلًا عَلِمَ مَبْلَغَ نِعَمِهِ عَلَيْكُمْ وَ أَحْصَى إِحْسَانَهُ إِلَيْكُمْ فَاسْتَفْتِحُوهُ وَ اسْتَنْجِحُوهُ وَ اطْلُبُوا إِلَيْهِ وَ اسْتَمْنِحُوهُ فَمَا قَطَعَكُمْ عَنْهُ حِجَابٌ وَ لَا أُغْلِقَ عَنْكُمْ دُونَهُ بَابٌ وَ إِنَّهُ لَبِكُلِّ مَكَانٍ وَ فِي كُلِّ حِينٍ وَ أَوَانٍ وَ مَعَ كُلِّ إِنْسٍ وَ جَانٍّ لَا يَثْلِمُهُ الْعَطَاءُ وَ لَا يَنْقُصُهُ الْحِبَاءُ وَ لَا يَسْتَنْفِدُهُ سَائِلٌ وَ لَا يَسْتَقْصِيهِ نَائِلٌ وَ لَا يَلْوِيهِ شَخْصٌ عَنْ شَخْصٍ وَ لَا يُلْهِيهِ صَوْتٌ عَنْ صَوْتٍ وَ لَا تَحْجُزُهُ هِبَةٌ عَنْ سَلْبٍ وَ لَا يَشْغَلُهُ غَضَبٌ عَنْ

(11/141)


رَحْمَةٍ وَ لَا تُولِهُهُ رَحْمَةٌ عَنْ عِقَابٍ وَ لَا يُجِنُّهُ الْبُطُونُ عَنِ الظُّهُورِ وَ لَا يَقْطَعُهُ الظُّهُورُ عَنِ الْبُطُونِ قَرُبَ فَنَأَى وَ عَلَا فَدَنَا وَ ظَهَرَ فَبَطَنَ وَ بَطَنَ فَعَلَنَ وَ دَانَ وَ لَمْ يُدَنْ لَمْ يَذْرَإِ الْخَلْقَ بِاحْتِيَالٍ وَ لَا اسْتَعَانَ بِهِمْ لِكَلَالٍ شرح نهج الاغة ج : 10 ص : 171أُوصِيكُمْ عِبَادَ اللَّهِ بِتَقْوَى اللَّهِ فَإِنَّهَا الزِّمَامُ وَ الْقِوَامُ فَتَمَسَّكُوا بِوَثَائِقِهَا وَ اعْتَصِمُوا بِحَقَائِقِهَا تَؤُلْ بِكُمْ إِلَى أَكْنَانِ الدَّعَةِ وَ أَوْطَانِ السَّعَةِ وَ مَعَاقِلِ الْحِرْزِ وَ مَنَازِلِ الْعِزِّ فِي يَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ وَ تُظْلِمُ لَهُ الْأَقْطَارُ وَ تُعَطَّلُ فِيهِ صُرُومُ الْعِشَارِ وَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَتَزْهَقُ كُلُّ مُهْجَةٍ وَ تَبْكُمُ كُلُّ لَهْجَةٍ وَ تَذِلُّ الشُّمُّ الشَّوَامِخُ وَ الصُّمُّ الرَّوَاسِخُ فَيَصِيرُ صَلْدُهَا سَرَاباً رَقْرَاقاً وَ مَعْهَدُهَا قَاعاً سَمْلَقاً فَلَا شَفِيعٌ يَشْفَعُ وَ لَا حَمِيمٌ يَنْفَعُ وَ لَا مَعْذِرَةٌ تَدْفَعُ

(11/142)


أظهر سبحانه من آثار سلطانه نحو خلق الأفلاك و دخول بعضها في بعض كالمميل الذي يشتمل على المائل و فلك التدوير و غيرهما و نحو خلق الإنسان و ما تدل كتب التشريح من عجيب الحكمة فيه و نحو خلق النبات و المعادن و ترتيب العناصر و علاماتها و الآثار العلوية المتجددة حسب تجدد أسبابها ما حير عقول هؤلاء و أشعر بأنها إذا لم يحط بتفاصيل تلك الحكم مع أنها مصنوعة فالأولى ألا تحيط بالصانع الذي هو بري ء عن المادة و علائق الحس. و المقل جمع مقلة و هي شحمة العين التي تجمع السواد و البياض و مقلت الشي ء نظرت إليه بمقلتي و أضاف المقإلى العقول مجازا و مراده البصائر. و ردع زجر و دفع و هماهم النفوس أفكارها و ما يهمهم به عند التمثيل و الروية في الأمر و أصل الهمهمة صويت يسمع لا يفهم محصوله. شرح نهج البلاغة ج : 10 ص : 172و العرفان المعرفة و كنه الشي ء نهايته و أقصاه و الإيقان العلم القطو الإذعان الانقياد و الأعلام المنار و الجبال يستدل بها في الطرقات. و المناهج السبل الواضحة و الطامسة كالدارسة و صدع بالحق بين و أصله الشق يظهر ما تحته و يقال نصحت لزيد و هو أفصح من قولك نصحت زيدا. و القصد العدل. و العبث ما لا غرض فيه أو ما ليس فيه غرض مثله و الهمل الإبل بلا راع و قد أهملت الإبل أرسلتها سدى. قوله علم مبلغ نعمه عليكم و أحصى إحسانه إليكم أي هو عالم بكمية إنعامه عليكم علما مفصلا و كل من علم قدر نعمته على غيره كان أحرى أن تشتد نقمته عليه عند عصيانه له و جرأته عليه بخلاف من يجهل قدر نعمته على الغير فإنه لا يشد غضبه لأنه لا يعلم قدر نعمته المكفورة. قوله فاستفتحوه أي اطلبوا منه الفتح عليكم و النصر لكم. و استنجحوه اطلبوا منه النجاح و الظفر. و اطلبوا إليه أي اسألوه يقال طلبت إلى زيد كذا و في كذا. و استمنحوه بكسر النون اطلبوا منه المنحة و هي العطية و يروى و استميحوه بالياء استمحت الرجل طلبت عطاءه و محت بالرجل أعطيته.

(11/143)


ثم ذكر ع أنه لا حجاب يمنع عنه و لا دونه باب يغلق و أنه بكل مكان موجود و في كل حين و أوان و المراد بوجوده في كل مكان إحاطة علمه و هو معنى قوله شرح نهج البلاغة ج : 10 ص : 173تعالى ما يَكُونمِنْ نَجْوى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رابِعُهُمْ و قوله سبحانه وَ هُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ. قوله لا يثلمه العطاء بالكسر لا ينقص قدرته. و الحباء النوال و لا يستنفده أي لا يفنيه. و لا يستقصيه لا يبلغ الجود أقصى مقدوره و إن عظم الجود لأنه قادر على ما لا نهاية له. و لا يلويه شخص عن شخص لا يوجب ما يفعله لشخص أو مع شخص إعراضا و ذهولا عن شخص آخر بل هو عالم بالجميع لا يشغله شأن عن شأن لوى الرجل وجهه أي أعرض و انحرف و مثل هذا أراد بقوله و لا يلهيه صوت عن صوت ألهاه كذا أي شغله. و لا تحجزه بالضم هبة عن سلب أي لا تمنعه أي ليس كالقادرين بالقدرة مثلنا فإن الواحد منا يصرفه اهتمامه بعطية زيد عن سلب مال عمرو حالما يكون مهتما بتلك العطية لأن اشتغال القلب بأحد الأمرين يشغله عن الآخر. و مثل هذا قوله و لا يشغله غضب عن رحمة و لا تولهه رحمة عن عقاب أي لا تحدث الرحمة لمستحقها عنده ولها و هو التحير و التردد و تصرفه عن عقاب المستحق و ذلك لأن الواحد منا إذا رحم إنسانا حدث عنده رقة خصوصا إذا توالت منه الرحمة لقوم متعددين فإنه تصير الرحمة كالملكة عنده فلا يطيق مع تلك الحال أن ينتقم و البارئ تعالى بخلاف ذلك لأنه ليس بذي مزاج سبحانه. و لا يجنه البطون عن الظهور و لا يقطعه الظهور عن البطون هذه كلها مصادر بطن

(11/144)


شرح نهج البلاغة ج : 10 ص : 174بطونا أي خفي و ظهر ظهورا أي تجلى يقول لا يمنعه خفاؤه عن العقول أن تدركه عند ظهوره بأفعاله و إن لم يكن ظاهرا بذاته و كذلك لا يقطعه ظهوره بأفعاله عن أن يخفى كنهه عن إبصار العقول و إدراكها له و يقال اجتننت كذا أي سترته و منه انين و الجنة للترس و سمي الجن جنا لاستتارهم. ثم زاد المعنى تأكيدا فقال قرب فنأى أي قرب فعلا فنأى ذاتا أي أفعاله قد تعلم و لكن ذاته لا تعلم. ثم قال و علا فدنا أي لما علا عن أن تحيط به العقول عرفته العقول لا أنها عرفت ذاته لكن عرفت أنه شي ء لا يصح أن يعرف و لك خاصته سبحانه فإن ماهيته يستحيل أن تتصور للعقل لا في الدنيا و لا في الآخرة بخلاف غيره من الممكنات. ثم أكد المعنى بعبارة أخرى قال و ظهر فبطن و بطن فعلن و هذا مثل الأول و دان غلب و قهر و لم يدن لم يقهر و لم يغلب. ثم قال لم يذرأ الخلق باحتيال أي لم يخلقهم بحيلة توصل بها إلى إيجادهم بل أوجدهم على حسب علمه بالمصلحة خلقا مخترعا من غير سبب و لا واسطة. قال و لا استعان بهم لكلال أي لإعياء أي لم يأمر المكلفين بالجهاد لحاجته في قهر أعدائه و جاحدي نعمته إليهم و ليس بكال و لا عاجز عن إهلاكهم و لكن الحكمة اقتضت ذلك قال سبحانه وَ لَوْ لا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ أي لبطل التكليف. ثم ذكر أن التقوى قوام الطاعات التي تقوم بها و زمام العبادات لأنها تمسك و تحصن كزمام الناقة المانع لها من الخبط. شرح نهج البلاغة ج : 10 ص : 175و الوثائق ج وثيقة و هي ما يوثق به و حقائقها جمع حقيقة و هي الراية يقال فلان حامي الحقيقة. قوله تؤل بالجزم لأنه جواب الأمر أي ترجع. و الأكنان جمع كن و هو الستر و الدعة الراحة السعة الجدة و المعاقل جمع معقل و هو الملجأ و الحرز الحفظ و تشخص الأبصار تبقى مفتوحة لا تطرف. و الأقطار الجوانب و الصروم جمع صرم و صرمة و هي القطعة من الإبل نحو

(11/145)


الثلاثين. و العشار النوق أتى عليها من يوم أرسل الفحل فيها عشرة أشهر فزال عنها اسم المخاض و لا يزال ذلك اسمها حتى تضع و الواحدة عشراء و هذا من قوله تعالى وَ إِذَا الْعِشارُ عُطِّلَتْ أي تركت مسيبة مهملة لا يلتفت إليها أربابها و لا يحلبونها لاشتغالهم بأنفسهم. و تزهق كل مهجة تهلك و تبكم كل لهجة أي تخرس رجل أبكم و بكيم و الماضي بكم بالكسر. و الشم الشوامخ الجبال العالية و ذلها تدكدكها و هي أيضا الصم الرواسخ. فيصير صلدها و هو الصلب الشديد انصلابه سرابا و هو ما يتراءى في النهار فيظن ماء. و الرقراق الخفيف و معهدها ما جعل منها منزلا للناس قاعا أرضا خالية و السملق الصفصف المستوي ليس بعضه أرفع و بعضه أخفض
شرح نهج البلاغة ج : 10 ص : 189176- و من خطبة له عبَعَثَهُ حِينَ لَا عَلَمٌ قَائِمٌ وَ لَا مَنَارٌ سَاطِعٌ وَ لَا مَنْهَجٌ وَاضِحٌ أُوصِيكُمْ عِبَادَ اللَّهِ بِتَقْوَى اللَّهِ وَ أُحَذِّرُكُمُ الدُّنْيَا فَإِنَّهَا دَارُ شُخُوصٍ وَ مَحَلَّةُ تَنْغِيصٍ سَاكِنُهَا ظَاعِنٌ وَ قَاطِنُهَا بَائِنٌ تَمِيدُ بِأَهْلِهَا مَيَدَانَ السَّفِينَةِ تَقْصِفُهَا الْعَوَاصِفُ فِي لُجَجِ الْبِحَارِ فَمِنْهُمُ الْغَرِقُ الْوَبِقُ وَ مِنْهُمُ النَّاجِي عَلَى بُطُونِ الْأَمْوَاجِ تَحْفِزُهُ الرِّيَاحُ بِأَذْيَالِهَا وَ تَحْمِلُهُ عَلَى أَهْوَالِهَا فَمَا غَرِقَ مِنْهَا فَلَيْسَ بِمُسْتَدْرَكٍ وَ مَا نَجَا مِنْهَا فَإِلَى مَهْلَكٍ عِبَادَ اللَّهِ الآْنَ فَاعْلَمُوا وَ الْأَلْسُنُ مُطْلَقَةٌ وَ الْأَبْدَانُ صَحِيحَةٌ وَ الْأَعْضَاءُ لَدْنَةٌ وَ الْمُنْقَلَبُ فَسِيحٌ وَ الْمَجَالُ عَرِيضٌ قَبْلَ إِرْهَاقِ الْفَوْتِ وَ حُلُولِ الْمَوْتِ فَحَقِّقُوا عَلَيْكُمْ نُزُولَهُ وَ لَا تَنْتَظِرُوا قُدُومَهُ

(11/146)


يقول بعث الله سبحانه محمدا ص لما لم يبق علم يهتدي به المكلفون لأنه كان زمان الفترة و تبدل المصلحة و اقتضاء وجوب اللطف عليه سبحانه تجديدا لبعثته ليعرف المبعوث المكلفين الأفعال التي تقربهم من فعل الواجبات العقلية و تبعدهم عن المقبحات الفعلية. شرح نهج البلا ج : 10 ص : 177و المنار الساطع المرتفع سطع الصبح سطوعا ارتفع. و دار شخوص دار رحلة شخص عن البلد رحل عنه. و الظاعن المسافر و القاطن المقيم و البائن البعيد يقول ساكن الدنيا ليس بساكن على الحقيقة بل هو ظاعن في المعنى و إن كان في الصورة ساكنا و المقيم بها مفارق و إن ظن أنه مقيم. و تميد بأهلها تتحرك و تميل و الميدان حركة و اضطراب. و تصفقها العواصف تضربها بشدة ضربا بعد ضرب و العواصف الرياح القوية اللجج جمع لجة و هي معظم البحر. الوبق الهالك وبق الرجل بالفتح يبق وبوقا هلك و الموبق منه كالموعد مفعل من وعد يعد و منه قوله تعالى وَ جَعَلْنا بَيْنَهُمْ مَوْبِقاً و فيه لغة أخرى وبق الرجل يوبق وبقا و فيه لغة ثالثة وبق الرجل بالكسر يبق بالكسر أيضا و أوبقه الله أي أهلكه. و تحفزه الرياح تدفعه ضرب ع لأهل الدنيا مثلا براكبي السفينة في البحر و قد مادت بهم فمنهم الهالك على الفور و منهم من لا يتعجل هلاكه و تحمله الرياح ساعة أو ساعات ثم مآله إلى الهلاك أيضا. ثم أمر ع بالعمل وقت الإمكان قبل ألا يمكن العمل فكنى عن ذلك بقوله و الألسن منطلقة لأن المحتضر يعتقل لسانه و الأبدان صحيحة لأن المحتضر سقيم البدن و الأعضاء لدنة أي لينة أي قبل الشيخوخة و الهرم و يبس شرح نهج البلاغة ج : 10 ص : 178الأعضاء و الأعصاب و المنقلب فسيح و المجال عريض أي أيام الشبيبة و في الوقت و الأجل مهلة قبل أن يضيق الوقت عليكم. قبل إرهاق الفوت أي قبل أن يجعلكم الفوت و هو فوات الأمر و تعذر استدراكه عليكم مرهقين و المرهق ذي أدرك ليقتل قال الكميت تندى أكفهم و في أبياتهم ثقة المجاور و

(11/147)


المضاف المرهق
قوله فحققوا عليكم نزوله و لا تنتظروا قدومه أي اعملوا عمل من يشاهد الموت حقيقة لا عمل من ينتظره انتظارا و يطاول الأوقات مطاولة فإن التسويف داعية التقصير
شرح نهج البلاغة ج : 10 ص : 190179- و من خطبة له عوَ لَقَدْ عَلِمَ الْمُسْتَحْفِظُونَ مِنْ أَصْحَابِ مُحَمَّدٍ ص أَنِّي لَمْ أَرُدَّ عَلَى اللَّهِ وَ لَا عَلَى رَسُولِهِ سَاعَةً قَطُّ وَ لَقَدْ وَاسَيْتُهُ بِنَفْسِي فِي الْمَوَاطِنِ الَّتِي تَنْكُصُ فِيهَا الْأَبْطَالُ وَ تَتَأَخَّرُ الْأَقْدَامُ نَجْدَةً أَكْرَمَنِيَ اللَّهُ بِهَا وَ لَقَدْ قُبِضَ رَسُولُ اللَّهِ ص وَ إِنَّ رَأْسَهُ لَعَلَى صَدْرِي وَ لَقَدْ سَالَتْ نَفْسُهُ فِي كَفِّي فَأَمْرَرْتُهَا عَلَى وَجْهِي وَ لَقَدْ وُلِّيتُ غُسْلَهُ ص وَ الْمَلَائِكَةُ أَعْوَانِي فَضَجَّتِ الدَّارُ وَ الْأَفْنِيَةُ مَلٌا يَهْبِطُ وَ مَلٌا يَعْرُجُ وَ مَا فَارَقَتْ سَمْعِي هَيْنَمَةٌ مِنْهُمْ يُصَلُّونَ عَلَيْهِ حَتَّى وَارَيْنَاهُ فِي ضَرِيحِهِ فَمَنْ ذَا أَحَقُّ بِهِ مِنِّي حَيّاً وَ مَيِّتاً فَانْفُذُوا عَلَى بَصَائِرِكُمْ وَ لْتَصْدُقْ نِيَّاتُكُمْ فِي جِهَادِ عَدُوِّكُمْ فَوَالَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ إِنِّي لَعَلَى جَادَّةِ الْحَقِّ وَ إِنَّهُمْ لَعَلَى مَزَلَّةِ الْبَاطِلِ أَقُولُ مَا تَسْمَعُونَ وَ أَسْتَغْفِرُ اللَّهَ لِي وَ لَكُمْ
يمكن أن يعني بالمستحفظين الخلفاء الذين تقدموا لأنهم الذين استحفظوا الإسلام أي جعلوا حافظين له و حارسين لشريعته و لحوزته و يجوز أن يعني به العلماء و الفضلاء من الصحابة لأنهم استحفظوا الكتاب أي كلفوا حفظه و حراسته. شرح نهج البلاغة ج : 10 ص : 180و الظاهر أنيرمز في قوله ع لم أرد على الله و لا على رسوله ساعة قط إلى أمور وقعت من غيره

(11/148)


كما جرى يوم الحديبية عند سطر كتاب الصلح فإن بعض الصحابة أنكر ذلك و قال يا رسول الله أ لسنا المسلمين قال بلى قال أ و ليسوا الكافرين قال بلى قال فكيف نعطي الدنية في ديننا فقال ص إنما أعمل بما أومر به
فقال قوم من الصحابة أ لم يكن قد وعدنا بدخول مكة و ها نحن قد صددنا عنها ثم ننصرف بعد أن أعطينا الدنية في ديننا و الله لو أجد أعوانا لم أعط الدنية أبدا فقال أبو بكر لهذا القائل ويحك الزم غرزه فو الله إنه لرسول الله ص و إن الله لا يضيعه. ثم قال له أ قال لك إنه سيدخلها هذا العام قال لا قال فسيدخلها فلما فتح النبي ص مكة و أخذ مفاتيح الكعبة دعاه فقال هذا الذي وعدتم به. و اعلم أن هذا الخبر صحيح لا ريب فيه و الناس كلهم رووه و ليس عندي بقبيح و لا مستهجن أن يكون سؤال هذا الشخص لرسول الله ص عما سأله عنه على سبيل الاسترشاد و التماسا لطمأنينة النفس فقد قال الله تعالى لخليله إبراهيم أَ وَ لَمْ تُؤْمِنْ قالَ بَلى وَ لكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي و قد كانت الصحابة تراجع رسول الله ص في الأمور و تسأله عما يستبهم عليها و تقول له أ هذا منك أم من الله و قال له السعدان رحمهما الله يوم الخندق و قد عزم على مصالحة الأحزاب ببعض تمر المدينة أ هذا من الله أم رأي رأيته من نفسك قال بل من نفسي قالا لا و الله لا نعطيهم منها تمرة واحدة و أيدينا في مقابض سيوفنا. شرح نهج البلاغة ج : 10 ص : 181و قالت الأنصار له يوم بدر و قد نزل بمنزل لم يستصلحوأ نزلت هذا المنزل عن رأي رأيت أم بوحي أوحي إليك قال بل عن رأي رأيته قالوا إنه ليس لنا بمنزل ارحل عنه فانزل بموضع كذا. و أما قول أبي بكر له الزم غرزه فو الله إنه لرسول الله ص فإنما هو تأكيد و تثبيت على عقيدته التي في قلبه و لا يدل ذلك على الشك فقد قال الله تعالى لنبيه وَ لَوْ لا أَنْ ثَبَّتْناكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلًا و كل أحد لا يستغني عن زيادة

(11/149)


اليقين و الطمأنينة و قد كانت وقعت من هذا القائل أمور دون هذه القصة كقوله دعني أضرب عنق أبي سفيان و قوله دعني أضرب عنق عبد الله بن أبي و قوله دعني أضرب عنق حاطب بن أبي بلتعة و نهي النبي ص له عن التسرع إلى ذلك و جذبه ثوب رسول الله ص حين قام على جنازة ابن سلول يصلي و قوله كيف تستغفر لرأس المنافقين و ليس في ذلك جميعه ما يدل على وقوع القبيح منه و إنما الرجل كان مطبوعا على الشدة و الشراسة و الخشونة و كان يقول ما يقول على مقتضى السجية التي طبع عليها و على أي حال كان فلقد نال الإسلام بولايته و خلافته خيرا كثيرا. قوله ع و لقد واسيته بنفسي يقال واسيته و آسيته و بالهمزة أفصح و هذا مما اختص ع بفضيلته غير مدافع ثبت معه يوم أحد و فر الناس و ثبت معه يوم حنين و فر الناس و ثبت تحت رايته يوم خيبر حتى فتحها و فر من كان بعث بها من قبله. شرح نهج البلاغة ج : 10 ص : 182و روى المحدثون أن رسول الله ص لما ارتث يوم أحد قال الناس قتل محمد رأته كتيبة من المشركين و هو صريع بين القتلى إلا أنه حي فصمدت له فقال لعلي ع اكفنهذه فحمل عليها ع و قتل رئيسها ثم صمدت له كتيبة أخرى فقال يا علي اكفني هذه فحمل عليها فهزمها و قتل رئيسها ثم صمدت له كتيبة ثالثة فكذلك
فكان رسول الله ص بعد ذلك يقول قال لي جبريل يا محمد إن هذه للمواساة فقلت و ما يمنعه و هو مني و أنا منه فقال جبريل و أنا منكما
و روى المحدثون أيضا أن المسلمين سمعوا ذلك اليوم صائحا من جهة السماء ينادي لا سيف إلا ذو الفقار و لا فتى إلا علي فقال رسول الله ص لمن حضره أ لا تسمعون هذا صوت جبريل

(11/150)


و أما يوم حنين فثبت معه في نفر يسير من بني هاشم بعد أن ولى المسلمون الأدبار و حامى عنه و قتل قوما من هوازن بين يديه حتى ثابت إليه الأنصار و انهزمت هوازن و غنمت أموالها. و أما يوم خيبر فقصته مشهورة. قوله ع نجدة أكرمني الله سبحانه بها النجدة الشجاعة و انتصابها هاهنا على أنها مصدر و العامل فيه محذوف. ثم ذكر ع وفاة رسول الله ص فقال لقد قبض و إن رأسه لعلى صدري و لقد سالت نفسه في كفي فأمررتها على وجهي يقال إن رسول الله شرح نهج البلاغة ج : 10 ص : 183ص قاء دما يسيرا وقت موته و إن عليا ع مسح بذلك الدم وجهه. و قد ر أن أبا طيبة الحجام شرب دمه ع و هو حي فقال له إذن لا يجع بطنك. قوله ع فضجت الدار و الأفنية أي النازلون في الدار من الملائكة أي ارتفع ضجيجهم و لجبهم يعني أني سمعت ذلك و لم يسمعه غيري من أهل الدار. و الملأ الجماعة يهبط قوم من الملائكة و يصعد قوم و العروج الصعود و الهينمة الصوت الخفي و الضريح الشق في القبر
ذكر خبر موت الرسول ع

(11/151)


و قد روي من قصة وفاة رسول الله ص أنه عرضت له الشكاة التي عرضت في أواخر صفر من سنة إحدى عشرة للهجرة فجهز جيش أسامة بن زيد فأمرهم بالمسير إلى البلقاء حيث أصيب زيد و جعفر ع من الروم و خرج في تلك الليلة إلى البقيع و قال إني قد أمرت بالاستغفار عليهم فقال ع السلام عليكم يا أهل القبور ليهنكم ما أصبحتم فيه مما أصبح الناس فيه أقبلت الفتن كقطع الليل المظلم يتبع أولها آخرها ثم استغفر لأهل البقيع طويلا ثم قال لأصحابه إن جبريل كان يعارضني القرآن في كل عام مرة و قد عارضني به العام مرتين فلا أراه إلا لحضور أجلي ثم انصرف إلى بيته فخطب الناس في غده فقال معاشر الناس قد حان مني خفوق من بين أظهركم فمن كان له عندي عدة فليأتني أعطه إياها و من كان علي دين فليأتني أقضه أيها الناس إنه ليس بين الله و بين أحد نسب و لا أمر يؤتيه به خيرا شرح نهج البلاغة ج : 10 ص : 184أو يصرف عنه شرا إ العمل ألا لا يدعين مدع و لا يتمنين متمن و الذي بعثني بالحق لا ينجي إلا عمل مع رحمة و لو عصيت لهويت اللهم قد بلغت

(11/152)


ثم نزل فصلى بالناس صلاة خفيفة ثم دخل بيت أم سلمة ثم انتقل إلى بيت عائشة يعلله النساء و الرجال أما النساء فأزواجه و بنته ع و أما الرجال فعلي ع و العباس و الحسن و الحسين ع و كانا غلامين يومئذ و كان الفضل بن العباس يدخل أحيانا إليهم ثم حدث الاختلاف بين المسلمين أيام مرضه فأول ذلك التنازع الواقع يوم قال ص ائتوني بدواة و قرطاس و تلا ذلك حديث التخلف عن جيش أسامة و قول عياش بن أبي ربيعة أ يولى هذا الغلام على جلة المهاجرين و الأنصار. ثم اشتد به المرض و كان عند خفة مرضه يصلي بالناس بنفسه فلما اشتد به المرض أمر أبا بكر أن يصلي بالناس. و قد اختلف في صلاته بهم فالشيعة تزعم أنه لم يصل بهم إلا صلاة واحدة و هي الصلاة التي خرج رسول الله ص فيها يتهادى بين علي ع و الفضل فقام في المحراب مقامه و تأخر أبو بكر. و الصحيح عندي و هو الأكثر الأشهر أنها لم تكن آخر صلاة في حياته ص بالناس جماعة و أن أبا بكر صلى بالناس بعد ذلك يومين ثم مات ص فمن قائل يقول إنه توفي لليلتين بقيتا من صفر و هو القول الذي تقوله الشيعة و الأكثرون أنه توفي في شهر ربيع الأول بعد مضي أيام منه. و قد اختلفت الرواية في موته فأنكر عمر ذلك و قال إنه لم يمت و إنه غاب و سيعود فثناه أبو بكر عن هذا القول و تلا عليه الآيات المتضمنة أنه سيموت فرجع إلى قوله. شرح نهج البلاغة ج : 10 ص : 185ثم اختلفوا في موضع دفنه فرأى قوم أن يدفنوه بمكة لأنها مسقط رأسه و قال من قال بل بالمدينة ندفنه بالبقيع عند شهداء أحد ثم اتفقوا على دفنه في بيت الذي قبض فيه و صلوا عليه إرسالا لا يؤمهم أحد. و قيل إن عليا ع أشار بذلك فقبلوه. و أنا أعجب من ذلك لأن الصلاة عليه كانت بعد بيعة أبي بكر فما الذي منع من أن يتقدم أبو بكر فيصلي عليه إماما. و تنازعوا في تلحيده و تضريحه فأرسل العباس عمه إلى أبي عبيدة بن الجراح و كان يحفر لأهل مكة و يضرح على عادتهم رجلا و أرسل علي رجلا

(11/153)


إلى أبي طلحة الأنصاري و كان يلحد لأهل المدينة على عادتهم و قال اللهم اختر لنبيك فجاء أبو طلحة فلحد له و أدخل في اللحد. و تنازعوا فيمن ينزل معه القبر فمنع علي ع الناس أن ينزلوا معه و قال لا ينزل قبره غيري و غير العباس ثم أذن في نزول الفضل و أسامة بن زيد مولاهم ثم ضجت الأنصار و سألت أن ينزل منها رجل في قبره فأنزلوا أوس بن خولي و كان بدريا. فأما الغسل فإن عليا ع تولاه بيده و كان الفضل بن العباس يصب عليه الماء. و
روى المحدثون عن علي ع أنه قال ما قلبت منه عضوا إلا و انقلب لا أجد له ثقلا كان معي من يساعدني عليه و ما ذلك إلا الملائكة

(11/154)


و أما حديث الهينمة و سماع الصوت فقد رواه خلق كثير من المحدثين عن علي شرح نهج البلاغة ج : 10 ص : 186ع و تروي الشيعة أن عليا ع عصب عيني الفضل بن العباس حين صب عليه الماء و أن رسول الله ص أوصاه بذلك و قال إنه لا يبصر عورتي أحد غيرك إلا عمي.قوله ع فمن ذا أحق به مني حيا و ميتا انتصابهما على الحال من الضمير المجرور في به أي أي شخص أحق برسول الله ص حال حياته و حال وفاته مني و مراده من هذا الكلام أنه أحق بالخلافة بعده و أحق الناس بالمنزلة منه حيث كان بتلك المنزلة منه في الدنيا و ليس يجوز أن يكونا حالين من الضمير المجرور في مني لأنه لا يحسن أن يقول أنا أحق به إذا كنت حيا من كل أحد و أحق به إذا كنت ميتا من كل أحد لأن الميت لا يوصف بمثل ذلك و لأنه لا حال ثبتت له من الأحقية إذا كان حيا إلا و هي ثابتة له إذا كان ميتا و إن كان الميت يوصف بالأحقية فلا فائدة في قوله و ميتا على هذا الفرض و لا يبقى في تقسيم الكلام إلى قسمين فائدة و أما إذا كان حالا من الضمير في به فإنه لا يلزم من كونه أحق بالمنزلة الرفيعة من رسول الله ص و هو حي أن يكون أحق بالخلافة بعد وفاته أي ليس أحدهما يلزم الآخر فاحتاج إلى أن يبين أنه أحق برسول الله ص من كل أحد إن كان الرسول حيا و إن كان ميتا و لم يستهجن أن يقسم الكلام إلى القسمين المذكورين. قوله ع فانفذوا إلى بصائركم أي أسرعوا إلى الجهاد على عقائدكم التي أنتم عليها و لا يدخلن الشك و الريب في قلوبكم. قوله ع إني لعلى جادة الحق و إنهم لعلى مزلة الباطل كلام عجيب شرح نهج البلاغة ج : 10 ص : 187على قاعدة الصناعة المعنوية لأنه لا يحسن أن يقول و إنهم لعلى جادة الباطل لأن الباطل لا يوصف بالجادة و لهذا يقال لمن ضل وقع في بنيات الطريق فتعوض عنها بلفظ المزلة و هي الموضع الذي يزل فيه الإنسان كالمزلقةوضع الزلق و المغرقة موضع الغرق و المهلكة موضع الهلاك

(11/155)


شرح نهج البلاغة ج : 10 ص : 191188- و من خطبة له عيَعْلَمُ عَجِيجَ الْوُحُوشِ فِي الْفَلَوَاتِ وَ مَعَاصِيَ الْعِبَادِ فِي الْخَلَوَاتِ وَ اخْتِلَافِ النِّينَانِ فِي الْبِحَارِ الْغَامِرَاتِ وَ تَلَاطُمَ الْمَاءِ بِالرِّيَاحِ الْعَاصِفَاتِ وَ أَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّداً نَجِيبُ اللَّهِ وَ سَفِيرُ وَحْيِهِ وَ رَسُولُ رَحْمَتِهِ أَمَّا بَعْدُ فَإِنِّي أُوصِيكُمْ بِتَقْوَى اللَّهِ الَّذِي ابْتَدَأَ خَلْقَكُمْ وَ إِلَيْهِ يَكُونُ مَعَادُكُمْ وَ بِهِ نَجَاحُ طَلِبَتِكُمْ وَ إِلَيْهِ مُنْتَهَى رَغْبَتِكُمْ وَ نَحْوَهُ قَصْدُ سَبِيلِكُمْ وَ إِلَيْهِ مَرَامِي مَفْزَعِكُمْ فَإِنَّ تَقْوَى اللَّهِ دَوَاءُ دَاءِ قُلُوبِكُمْ وَ بَصَرُ عَمَى أَفْئِدَتِكُمْ وَ شِفَاءُ مَرَضِ أَجْسَادِكُمْ وَ صَلَاحُ فَسَادِ صُدُورِكُمْ وَ طُهُورُ دَنَسِ أَنْفُسِكُمْ وَ جِلَاءُ غِشَاءِ أَبْصَارِكُمْ وَ أَمْنُ فَزَعِ جَأْشِكُمْ وَ ضِيَاءُ سَوَادِ ظُلْمَتِكُمْ
العجيج رفع الصوت و كذلك العج و
في الحديث أفضل الحج العج و الثج
أي التلبية و إراقة الدم و عجيج أي صوت و مضاعفة اللفظ دليل على تكرير التصويت. و النينان جمع نون و هو الحوت و اختلافها هاهنا هو إصعادها و انحدارها. و نجيب الله منتجبه و مختاره. و سفير وحيه رسول وحيه و الجمع سفراء مثل فقيه و فقهاء. شرح نهج البلاغة ج : 10 ص 189و إليه مرامي مفزعكم إليه تفزعون و تلجئون و يقال فلان مرمى قصدي أي هو الموضع الذي أنحوه و أقصده. و يروى و جلاء عشى أبصاركم بالعين المهملة و الألف المقصورة و الجأش القلب و تقدير الكلام و ضياء سواد ظلمة عقائدكم و لكنه حذف المضاف للعلم به

(11/156)


فَاجْعَلُوا طَاعَةَ اللَّهِ شِعَاراً دُونَ دِثَارِكُمْ وَ دَخِيلًا دُونَ شِعَارِكُمْ وَ لَطِيفاً بَيْنَ أَضْلَاعِكُمْ وَ أَمِيراً فَوْقَ أُمُورِكُمْ وَ مَنْهَلًا لِحِينِ وُرُودِكُمْ وَ شَفِيعاً لِدَرَكِ طَلِبَتِكُمْ وَ جُنَّةً لِيَوْمِ فَزَعِكُمْ وَ مَصَابِيحَ لِبُطُونِ قُبُورِكُمْ وَ سَكَناً لِطُولِ وَحْشَتِكُمْ وَ نَفَساً لِكَرْبِ مَوَاطِنِكُمْ فَإِنَّ طَاعَةَ اللَّهِ حِرْزٌ مِنْ مَتَالِفَ مُكْتَنِفَةٍ وَ مَخَاوِفَ مُتَوَقَّعَةٍ وَ أُوَارِ نِيرَانٍ مُوقَدَةٍ فَمَنْ أَخَذَ بِالتَّقْوَى عَزَبَتْ عَنْهُ الشَّدَائِدُ بَعْدَ دُنُوِّهَا وَ احْلَوْلَتْ لَهُ الْأُمُورُ بَعْدَ مَرَارَتِهَا وَ انْفَرَجَتْ عَنْهُ الْأَمْوَاجُ بَعْدَ تَرَاكُمِهَا وَ أَسْهَلَتْ لَهُ الصِّعَابُ بَعْدَ إِنْصَابِهَا وَ هَطَلَتْ عَلَيْهِ الْكَرَامَةُ بَعْدَ قُحُوطِهَا. وَ تَحَدَّبَتْ عَلَيْهِ الرَّحْمَةُ بَعْدَ نُفُورِهَا وَ تَفَجَّرَتْ عَلَيْهِ النِّعَمُ بَعْدَ نُضُوبِهَا وَ وَبَلَتْ عَلَيْهِ الْبَرَكَةُ بَعْدَ إِرْذَاذِهَا فَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي نَفَعَكُمْ بِمَوْعِظَتِهِ وَ وَعَظَكُمْ بِرِسَالَتِهِ وَ امْتَنَّ عَلَيْكُمْ بِنِعْمَتِهِ فَعَبِّدُوا أَنْفُسَكُمْ لِعِبَادَتِهِ وَ اخْرُجُوا إِلَيْهِ مِنْ حَقِّ طَاعَتِهِ

(11/157)


شرح نهج البلاغة ج : 10 ص : 190الشعار أقرب إلى الجسد من الدثار و الدخيل ما خالط باطن الجسد و هو أقرب من الشعار. ثم لم يقتصر على ذلك حتى أمر بأن يجعل التقوى لطيفا بين الأضلاع أي في القلب و ذلك أمس بالإنسان من الدخيل فقد يكون الدخيل في الجسد و إن لم يخامر قلب. ثم قال و أميرا فوق أموركم أي يحكم على أموركم كما يحكم الأمير في رعيته. و المنهل الماء يرده الوارد من الناس و غيرهم. و قوله لحين ورودكم أي لوقت ورودكم. و الطلبة بكسر اللام ما طلبته من شي ء. قوله و مصابيح لبطون قبوركم جاء في الخبر أن العمل الصالح يضي ء قبر صاحبه كما يضي ء المصباح الظلمةو السكن ما يسكن إليه. قوله و نفسا لكرب مواطنكم أي سعة و روحا. و مكتنفة محيطة و الأوار حر النار و الشمس. و عزبت بعدت و احلولت صارت حلوة و تراكمها اجتماعها و تكاثفها. و أسهلت صارت سهلة بعد إنصابها أي بعد إتعابها لكم أنصبته أتعبته. و هطلت سالت و قحوطها قلتها و وتاحتها. و تحدبت عليه عطفت و حنت. نضوبها انقطاعها كنضوب الماء ذهابه. شرح نهج البلاغة ج : 10 ص : 191و وبل المطر صار وابلا و هو أشد المطر و أكثره و إرذاذها إتيانها بالرذاذ و هو ضعيف المطر. قوله فعبدوا أنفسكم أي ذللوها و منه طريق معبد. و اخرجوا إليه من حقاعته أي أدوا المفترض عليكم من العبادة يقال خرجت إلى فلان من دينه أي قضيته إياه

(11/158)


ثُمَّ إِنَّ هَذَا الْإِسْلَامَ دِينُ اللَّهِ الَّذِي اصْطَفَاهُ لِنَفْسِهِ وَ اصْطَنَعَهُ عَلَى عَيْنِهِ وَ أَصْفَاهُ خِيَرَةَ خَلْقِهِ وَ أَقَامَ دَعَائِمَهُ عَلَى مَحَبَّتِهِ أَذَلَّ الْأَدْيَانَ بِعِزَّتِهِ وَ وَضَعَ الْمِلَلَ بِرَفْعِهِ وَ أَهَانَ أَعْدَاءَهُ بِكَرَامَتِهِ وَ خَذَلَ مُحَادِّيهِ بِنَصْرِهِ وَ هَدَمَ أَرْكَانَ الضَّلَالَةِ بِرُكْنِهِ وَ سَقَى مَنْ عَطِشَ مِنْ حِيَاضِهِ وَ أَتْأَقَ الْحِيَاضَ بِمَوَاتِحِهِ ثُمَّ جَعَلَهُ لَا انْفِصَامَ لِعُرْوَتِهِ وَ لَا فَكَّ لِحَلْقَتِهِ وَ لَا انْهِدَامَ لِأَسَاسِهِ وَ لَا زَوَالَ لِدَعَائِمِهِ وَ لَا انْقِلَاعَ لِشَجَرَتِهِ وَ لَا انْقِطَاعَ لِمُدَّتِهِ وَ لَا عَفَاءَ لِشَرَائِعِهِ وَ لَا جَذَّ لِفُرُوعِهِ وَ لَا ضَنْكَ لِطُرُقِهِ وَ لَا وُعُوثَةَ لِسُهُولَتِهِ وَ لَا سَوَادَ لِوَضَحِهِ وَ لَا عِوَجَ لِانْتِصَابِهِ وَ لَا عَصَلَ فِي عُودِهِ وَ لَا وَعَثَ لِفَجِّهِ وَ لَا انْطِفَاءَ لِمَصَابِيحِهِ وَ لَا مَرَارَةَ لِحَلَاوَتِهِ فَهُوَ دَعَائِمُ أَسَاخَ فِي الْحَقِّ أَسْنَاخَهَا وَ ثَبَّتَ لَهَا آسَاسَهَا وَ يَنَابِيعُ غَزُرَتْ عُيُونُهَا وَ مَصَابِيحُ شَبَّتْ نِيرَانُهَا وَ مَنَارٌ اقْتَدَى بِهَا سُفَّارُهَا وَ أَعْلَامٌ قُصِدَ بِهَا فِجَاجُهَا وَ مَنَاهِلُ رَوِيَ بِهَا وُرَّادُهَا. شرح نهج البلاغة ج : 10 ص : 192جَعَلَ اللَّهُ فِيهِ مُنْتَهَى رِضْوَانِهِ وَ ذِرْوَةَ دَعَائِمِهِ وَ سَنَامَ طَاعَتِهِ فَهُ عِنْدَ اللَّهِ وَثِيقُ الْأَرْكَانِ رَفِيعُ الْبُنْيَانِ مُنِيرُ الْبُرْهَانِ مُضِي ءُ النِّيرَانِ عَزِيزُ السُّلْطَانِ مُشْرِفُ الْمَنَارِ مُعْوِذُ الْمَثَارِ فَشَرِّفُوهُ وَ اتَّبِعُوهُ وَ أَدُّوا إِلَيْهِ حَقَّهُ وَ ضَعُوهُ مَوَاضِعَهُ اصطنعه على عينه كلمة تقال لما يشتد الاهتمام به تقول للصانع اصنع لي كذا على عيني

(11/159)


أي اصنعه صنعة كاملة كالصنعة التي تصنعها و أنا حاضر أشاهدها بعيني قال تعالى وَ لِتُصْنَعَ عَلى عَيْنِي. و أصفاه خيرة خلقه أي آثر به خيرة خلقه و هم المسلمون و ياء خيرة مفتوحة. قال و أقام الله دعائم الإسلام على حب الله و طاعته. و المحاد المخالف قال تعالى مَنْ يُحادِدِ اللَّهَ أي من يعاد الله كأنه يكون في حد و جهة و ذلك الإنسان في حد آخر و جهة أخرى و كذلك المشاق يكون في شق و الآخر في شق آخر. و أتأق الحياض ملأها و تئق السقاء نفسه يتأق تأقا و كذلك الرجل إذا امتلأ غضبا. قوله بمواتحه و هي الدلاء يمتح بها أي يسقى بها. و الانفصام الانكسار و العفاء الدروس. و الجذ القطع و يروى بالدال المهملة و هو القطع أيضا. و الضنك الضيق. شرح نهج البلاغة ج : 10 ص : 193و الوعوثة كثرة في السهولة توجب صعوبة مشي لأن الأقدام تعيث في الأرض. و الوضح البياض. و العوج بفتح العين فيما ينتصب كالنخلة و الرمح و العوج بكسرها فيما لا ينتصب كالأرض و الرأي و الدين. و العصل الالتواء و الاعوجاج ناب أعصل و شجرة عصلة و سهام عصل. و الفج الطريق الواسع بين الجبلين يقول لا وعث فيه أي ليس طريق الإسلام بوعث و قد ذكرنا أن الوعوثة ما هي. قوله فهو دعائم أساخ في الحق أسناخها الأسناخ جمع سنخ و هو الأصل و أساخها في الأرض أدخلها فيها و ساخت قوائم فرسه في الأرض تسوخ و تسيخ دخلت و غابت. و الآساس بالمد جمع أسس مثل سبب و أسباب و الأسس و الأس و الأساس واحد و هو أصل البناء. و غزرت عيونها بضم الزاي كثرت و شبت نيرانها بضم الشين أوقدت و المنار الأعلام في الفلاة. قوله قصد بها فجاجها أي قصد بنصب تلك الأعلام اهتداء المسافرين في تلك الفجاج فأضاف القصد إلى الفجاج. و روي روادها جمع رائد و هو الذي يسبق القوم فيرتاد لهم الكلأ و الماء. و الذروة أعلى السنام و الرأس و غيرهما. قوله معوذ المثار أي يعجز الناس إثارته و إزعاجه لقوته و متانته

(11/160)


شرح نهج البلاغة ج : 10 ص : 194ثُمَّ إِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ بَعَثَ مُحَمَّداً ص بِالْحَقِّ حِينَ دَنَا مِنَ الدُّنْيَا الِانْقِطَاعُ وَ أَقْبَلَ مِنَ الآْخِرَةِ الِاطِّلَاعُ وَ أَظْلَمَتْ بَهْجَتُهَا بَعْدَ إِشْرَاقٍ وَ قَامَتْ بِأَهْلِهَا عَلَى سَاقٍَ خَشُنَ مِنْهَا مِهَادٌ وَ أَزِفَ مِنْهَا قِيَادٌ فِي انْقِطَاعٍ مِنْ مُدَّتِهَا وَ اقْتِرَابٍ مِنْ أَشْرَاطِهَا وَ تَصَرُّمٍ مِنْ أَهْلِهَا وَ انْفِصَامٍ مِنْ حَلْقَتِهَا وَ انْتِشَارٍ مِنْ سَبَبِهَا وَ عَفَاءٍ مِنْ أَعْلَامِهَا وَ تَكَشُّفٍ مِنْ عَوْرَاتِهَا وَ قِصَرٍ مِنْ طُولِهَا جَعَلَهُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ بَلَاغاً لِرِسَالَتِهِ وَ كَرَامَةً لِأُمَّتِهِ وَ رَبِيعاً لِأَهْلِ زَمَانِهِ وَ رِفْعَةً لِأَعْوَانِهِ وَ شَرَفاً لِأَنْصَارِهِ ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْهِ الْكِتَابَ نُوراً لَا تُطْفَأُ مَصَابِيحُهُ وَ سِرَاجاً لَا يَخْبُو تَوَقُّدُهُ وَ بَحْراً لَا يُدْرَكُ قَعْرُهُ وَ مِنْهَاجاً لَا يُضِلُّ نَهْجُهُ وَ شُعَاعاً لَا يُظْلِمُ ضَوْءُهُ وَ فُرْقَاناً لَا يُخْمَدُ بُرْهَانُهُ وَ تِبْيَاناً لَا تُهْدَمُ أَرْكَانُهُ وَ شِفَاءً لَا تُخْشَى أَسْقَامُهُ وَ عِزّاً لَا تُهْزَمُ أَنْصَارُهُ وَ حَقّاً لَا تُخْذَلُ أَعْوَانُهُ فَهُوَ مَعْدِنُ الْإِيمَانِ وَ بُحْبُوحَتُهُ وَ يَنَابِيعُ الْعِلْمِ وَ بُحُورُهُ وَ رِيَاضُ الْعَدْلِ وَ غُدْرَانُهُ وَ أَثَافِيُّ الْإِسْلَامِ وَ بُنْيَانُهُ وَ أَوْدِيَةُ الْحَقِّ وَ غِيطَانُهُ وَ بَحْرٌ لَا يَنْزِفُهُ الْمُسْتَنْزِفُونَ وَ عُيُونٌ لَا يُنْضِبُهَا الْمَاتِحُونَ وَ مَنَاهِلُ لَا يَغِيضُهَا الْوَارِدُونَ وَ مَنَازِلُ لَا يَضِلُّ نَهْجَهَا الْمُسَافِرُونَ وَ أَعْلَامٌ لَا يَعْمَى عَنْهَا السَّائِرُونَ وَ إِكَامٌ لَا يَجُوزُ عَنْهَا الْقَاصِدُونَ

(11/161)


شرح نهج البلاغة ج : 10 ص : 195اختلاف الأقوال في عمر الدنياقوله ع حين دنا من الدنيا الانقطاع أي أزفت الآخرة و قرب وقتها و قد اختلف الناس في ذلك اختلافا شديدا فذهب قوم إلى أن عمر الدنيا خمسون ألف سنة قد ذهب بعضها و بقي بعضها. و اختلفوا في مقدار الذاهب و الباقي و احتجوا لقولهم بقوله تعالى تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَ الرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ قالوا اليوم هو إشارة إلى الدنيا و فيها يكون عروج الملائكة و الروح إليه و اختلافهم بالأمر من عنده إلى خلقه و إلى رسله قالوا و ليس قول بعض المفسرين أنه عنى يوم القيامة بمستحسن لأن يوم القيامة لا يكون للملائكة و الروح عروج إليه سبحانه لانقطاع التكليف و لأن المؤمنين إما أن يطول عليهم ذلك اليوم بمقدار خمسين ألف سنة أو يكون هذا مختصا بالكافرين فقط و يكون قصيرا على المؤمنين و الأول باطل لأنه أشد من عذاب جهنم و لا يجوز أن يلقى المؤمن هذه المشقة و الثاني باطل لأنه لا يجوز أن يكون الزمان الواحد طويلا قصيرا بالنسبة إلى شخصين اللهم إلا أن يكون أحدهما نائما أو ممنوا بعلة تجري مجرى النوم فلا يحس بالحركة و معلوم أن حال المؤمنين بعد بعثهم ليست هذه الحال. قالوا و ليست هذه الآية مناقضة للآية الأخرى و هي قوله تعالى يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّماءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ و ذلك لأن سياق الكلام يدل على أنه أراد به الدنيا و ذلك لأنه قد ورد في الخبر أن شرح نهج البلاغة ج : 10 ص : 196بين ارض و السماء مسيرة خمسمائة عام فإذا نزل الملك إلى الأرض ثم عاد إلى السماء فقد قطع في ذلك اليوم مسيرة ألف عام أ لا ترى إلى قوله يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّماءِ إِلَى الْأَرْضِ أي ينزل الملك بالوحي و الأمر و الحكم من السماء إلى الأرض ثم يعود راجعا إليه و عارجا

(11/162)


صاعدا إلى السماء فيجتمع من نزوله و صعوده مقدار مسير ألف سنة. و ذكر حمزة بن الحسن الأصفهاني في كتابه المسمى تواريخ الأمم أن اليهود تذهب إلى أن عدد السنين من ابتداء التناسل إلى سنة الهجرة لمحمد ص أربعة آلاف و اثنتان و أربعون سنة و ثلاثة أشهر. و النصارى تذهب إلى أن عدد ذلك خمسة آلاف و تسعمائة و تسعون سنة و ثلاثة أشهر. و أن الفرس تذهب إلى أن من عهد كيومرث والد البشر عندهم إلى هلاك يزدجرد بن شهريار الملك أربعة آلاف و مائة و اثنتين و ثمانين سنة و عشرة أشهر و تسعة عشر يوما و يسندون ذلك إلى كتابهم الذي جاء به زردشت و هو الكتاب المعروف بأبستا. فأما اليهود و النصارى فيسندون ذلك إلى التوراة و يختلفون في كيفية استنباط المدة. و تزعم النصارى و اليهود أن مدة الدنيا كلها سبعة آلاف سنة قد ذهب منها ما ذهب و بقي ما بقي. و قيل إن اليهود إنما قصرت المدة لأنهم يزعمون أن شيخهم الذي هو منتظرهم يخرج في أول الألف السابع فلو لا تنقيصهم المدة و تقصيرهم أيامها لتعجل افتضاحهم و لكن سيفتضحون فيما بعد عند من يأتي بعدنا من البشر.

(11/163)


شرح نهج البلاغة ج : 10 ص : 197قال حمزة و أما المنجمون فقد أتوا بما يغمز هذا كله فزعموا أنه قد مضى من الدنيا منذ أول يوم سارت فيه الكواكب من رأس الحمل إلى اليوم الذي خرج فيه المتوكل بن معتصم بن الرشيد من سامراء إلى دمشق ليجعلها دار الملك و هو أول يوم من محرم سنة أربع و أربعين و مائتين للهجرة المحمدية أربعة آلاف ألف ألف ألف ثلاث لفظات و ثلاثمائة ألف و عشرون ألف سنة بسني الشمس. قالوا و الذي مضى من الطوفان إلى صبيحة اليوم الذي خرج فيه المتوكل إلى دمشق ثلاث آلاف و سبعمائة و خمس و ثلاثون سنة و عشرة أشهر و اثنان و عشرون يوما. و ذكر أبو الريحان البيروني في كتاب الآثار الباقية عن القرون الخالية أن الفرس و المجوس يزعمون أن عمر الدنيا اثنا عشر ألف سنة على عدد البروج و عدد الشهور و أن الماضي منها إلى وقت ظهور زردشت صاحب شريعتهم ثلاثة آلاف سنة و بين ابتداء ظهور زردشت و بين أول تاريخ الإسكندر مائتان و ثمان و خمسون سنة و بين تاريخ الإسكندر و بين سنته التي كتبنا فيها شرح هذا الفصل و هي سنة سبع و أربعين و ستمائة للهجرة النبوية ألف و خمسمائة و سبعون سنة فعلى هذا يكون الماضي إلى يومنا هذا من أصل اثني عشر ألف سنة أربعة آلاف و ثمانمائة و ثماني عشرة سنة فيكون الباقي من الدنيا على قولهم أكثر من الماضي. و حكى أبو الريحان عن الهند في بعض كتبه أن مدة عمر الدنيا مقدار تضعيف الواحد من أول بيت في رقعة الشطرنج إلى آخر البيوت. فأما الأخباريون من المسلمين فأكثرهم يقولون إن عمر الدنيا سبعة آلاف سنة شرح نهج البلاغة ج : 10 ص : 198و يقولون إننا في السابع و الحق أنه لا يعلم أحد هذا إلا الله تعالى وحده كما قال سبحانه يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْساها فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْراها إِلى رَبِّكَ مُنْتَهاها و قال لا يُجَلِّيها لِوَقْتِهإِلَّا هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ لا تَأْتِيكُمْ

(11/164)


إِلَّا بَغْتَةً يَسْئَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْها قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ اللَّهِ. و نقول مع ذلك كما ورد به الكتاب العزيز اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ و اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسابُهُمْ و أَتى أَمْرُ اللَّهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ. و لا نعلم كمية الماضي و لا كمية الباقي و لكنا نقول كما أمرنا و نسمع و نطيع كما أدبنا و من الممكن أن يكون ما بقي قريبا عند الله و غير قريب عندنا كما قال سبحانه إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيداً وَ نَراهُ قَرِيباً. و بالجملة هذا موضع غامض يجب السكوت عنه.
قوله ع و قامت بأهلها على ساق الضمير للدنيا و الساق الشدة أي انكشفت عن شدة عظيمة. و قوله تعالى وَ الْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ أي التفت آخر شدة الدنيا بأول شدة الآخرة. و المهاد الفراش و أزف منها قياد أي قرب انقيادها إلى التقضي و الزوال. و أشراط الساعة علاماتها و إضافتها إلى الدنيا لأنها في الدنيا تحدث و إن كانت علامات للأخرى و العفاء الدروس. شرح نهج البلاغة ج : 10 ص : 199و روي من طولها و الطول الحبل. ثم عاد إلى ذكر النبي ص فقال جعله الله سبحانه بلاغا لرسالته أي ذا بلاغ و البلاغ التبليغ فحذف المضاف. و لا بو لا تنطفئ و الفرقان ما يفرق به بين الحق و الباطل. و أثافي الإسلام جمع أثفية و هي الأحجار توضع عليها القدر شكل مثلث. و الغيطان جمع غائط و هو المطمئن من الأرض. و لا يغيضها بفتح حرف المضارعة غاض الماء و غضته أنا يتعدى و لا يتعدى و روي لا يغيضها بالضم على قول من قال أغضت الماء و هي لغة ليست بالمشهورة. و الآكام جمع أكم مثل جبال جمع جبل و الأكم جمع أكمة مثل عنب جمع عنبة و الأكمة ما علا من الأرض و هي دون الكثيب

(11/165)


جَعَلَهُ اللَّهُ رِيّاً لِعَطَشِ الْعُلَمَاءِ وَ رَبِيعاً لِقُلُوبِ الْفُقَهَاءِ وَ مَحَاجَّ لِطُرُقِ الصُّلَحَاءِ وَ دَوَاءً لَيْسَ بَعْدَهُ دَاءٌ وَ نُوراً لَيْسَ مَعَهُ ظُلْمَةٌ وَ حَبْلًا وَثِيقاً عُرْوَتُهُ وَ مَعْقِلًا مَنِيعاً ذِرْوَتُهُ وَ عِزّاً لِمَنْ تَوَلَّاهُ وَ سِلْماً لِمَنْ دَخَلَهُ وَ هُدًى لِمَنِ ائْتَمَّ بِهِ وَ عُذْراً لِمَنِ انْتَحَلَهُ وَ بُرْهَاناً لِمَنْ تَكَلَّمَ بِهِ وَ شَاهِداً لِمَنْ خَاصَمَ بِهِ وَ فَلْجاً لِمَنْ حَاجَّ بِهِ وَ حَامِلًا لِمَنْ حَمَلَهُ وَ مَطِيَّةً لِمَنْ أَعْمَلَهُ وَ آيَةً لِمَنْ تَوَسَّمَ وَ جُنَّةً لِمَنِ اسْتَلْأَمَ وَ عِلْماً لِمَنْ وَعَى وَ حَدِيثاً لِمَنْ رَوَى وَ حُكْماً لِمَنْ قَضَى

(11/166)


شرح نهج البلاغة ج : 10 ص : 200الضمير يرجع إلى القرآن جعله الله ريا لعطش العلماء إذا ضل العلماء في أمر و التبس عليهم رجعوا إليه فسقاهم كما يسقي الماء العطش و كذا القول في ربيعا لقلوب الفقهاء و الربيع هاهنا الجدول و يجوز أن يريد المطر في الربيع يقال ربعت أرض فهي مربوعة. و المحاج جمع محجة و هي جادة الطريق و المعقل الملجأ. و سلما لمن دخله أي مأمنا و انتحله دان به و جعله نحلته. و البرهان الحجة و الفلج الظفر و الفوز و حاج به خاصم. قوله ع و حاملا لمن حمله أي أن القرآن ينجي يوم القيامة من كان حافظا له في الدنيا بشرط أن يعمل به. قوله ع و مطية لمن أعمله استعارة يقول كما أن المطية تنجي صاحبها إذا أعملها و بعثها على النجاء فكذلك القرآن إذا أعمله صاحبه أنجاه و معنى إعماله اتباع قوانينه و الوقوف عند حدوده. قوله و آية لمن توسم أي لمن تفرس قال تعالى إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ. و الجنة ما يستتر به و استلأم لبس لأمة الحرب و هي الدرع. و وعى حفظ. قوله و حديثا لمن روى قد سماه الله تعالى حديثا فقال اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ شرح نهج البلاغة ج : 10 ص : 201الْحَدِيثِ كِتاباً مُتَشابِهاً و أصحابنا يحتجون بهذه اللفظعلى أن القرآن ليس بقديم لأن الحديث ضد القديم. و ليس للمخالف أن يقول ليس المراد بقوله أَحْسَنَ الْحَدِيثِ ما ذكرتم بل المراد أحسن القول و أحسن الكلام لأن العرب تسمي الكلام و القول حديثا لأنا نقول لعمري إنه هكذا و لكن العرب ما سمت القول و الكلام حديثا إلا أنه مستحدث متجدد حالا فحالا أ لا ترى إلى قول عمرو لمعاوية قد مللت كل شي ء إلا الحديث فقال إنما يمل العتيق فدل ذلك على أنه فهم معنى تسميتهم الكلام و القول حديثا و فطن لمغزاهم و مقصدهم في هذه التسمية و إذا كنا قد كلفنا أن نجري على ذاته و صفاته و أفعاله ما أجره سبحانه في كتابه و نطلق ما أطلقه على سبيل الوضع و الكيفية التي

(11/167)


أطلقها و كان قد وصف كلامه بأنه حديث و كان القرآن في عرف اللغة إنما سمي حديثا لحدوثه و تجدده فقد ساغ لنا أن نطلق على كلامه أنه محدث و متجدد و هذا هو المقصود
شرح نهج البلاغة ج : 10 ص : 192202- و من كلام له ع كان يوصي به أصحابهتَعَاهَدُوا أَمْرَ الصَّلَاةِ وَ حَافِظُوا عَلَيْهَا وَ اسْتَكْثِرُوا مِنْهَا وَ تَقَرَّبُوا بِهَا فَإِنَّهَا كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَاباً مَوْقُوتاً أَ لَا تَسْمَعُونَ إِلَى جَوَابِ أَهْلِ النَّارِ حِينَ سُئِلُوا ما سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ قالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ وَ إِنَّهَا لَتَحُتُّ الذُّنُوبَ حَتَّ الْوَرَقِ وَ تُطْلِقُهَا إِطْلَاقَ الرِّبَقِ وَ شَبَّهَهَا رَسُولُ اللَّهِ ص بِالْحَمَّةِ تَكُونُ عَلَى بَابِ الرَّجُلِ فَهُوَ يَغْتَسِلُ مِنْهَا فِي الْيَوْمِ وَ اللَّيْلَةِ خَمْسَ مَرَّاتٍ فَمَا عَسَى أَنْ يَبْقَى عَلَيْهِ مِنَ الدَّرَنِ وَ قَدْ عَرَفَ حَقَّهَا رِجَالٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ لَا تَشْغَلُهُمْ عَنْهَا زِينَةُ مَتَاعٍ وَ لَا قُرَّةُ عَيْنٍ مِنْ وَلَدٍ وَ لَا مَالٍ يَقُولُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ رِجالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجارَةٌ وَ لا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَ إِقامِ الصَّلاةِ وَ إِيتاءِ الزَّكاةِ وَ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ ص نَصِباً بِالصَّلَاةِ بَعْدَ التَّبْشِيرِ لَهُ بِالْجَنَّةِ لِقَوْلِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَ أْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَ اصْطَبِرْ عَلَيْها فَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ وَ يُصْبِرُ نَفْسَهُ شرح نهج البلاغة ج : 10 ص : 203ثُمَّ إِنَّ الزَّكَاةَ جُعِلَتْ مَعَ الصَّلَاةِ قُرْبَاناً لِأَهْلِ الْإِسْلَامِ فَمَنْ أَعْطَاهَا طَيِّبَ النَّفْسِ بِهَا فَإِنَّهَا تُجْعَلُ لَهُ كَفَّارَةً وَ مِنَ النَّارِ حِجَازاً وَِقَايَةً فَلَا يُتْبِعَنَّهَا أَحَدٌ نَفْسَهُ وَ لَا يُكْثِرَنَّ عَلَيْهَا لَهَفَهُ فَإِنَّ

(11/168)


مَنْ أَعْطَاهَا غَيْرَ طَيِّبِ النَّفْسِ بِهَا يَرْجُو بِهَا مَا هُوَ أَفْضَلُ مِنْهَا فَهُوَ جَاهِلٌ بِالسُّنَّةِ مَغْبُونُ الْأَجْرِ ضَالُّ الْعَمَلِ طَوِيلُ النَّدَمِ ثُمَّ أَدَاءَ الْأَمَانَةِ فَقَدْ خَابَ مَنْ لَيْسَ مِنْ أَهْلِهَا إِنَّهَا عُرِضَتْ عَلَى السَّمَاوَاتِ الْمَبْنِيَّةِ وَ الْأَرَضِينَ الْمَدْحُوَّةِ وَ الْجِبَالِ ذَاتِ الطُّولِ الْمَنْصُوبَةِ فَلَا أَطْوَلَ وَ لَا أَعْرَضَ وَ لَا أَعْلَى وَ لَا أَعْظَمَ مِنْهَا وَ لَوِ امْتَنَعَ شَيْ ءٌ بِطُولٍ أَوْ عَرْضٍ أَوْ قُوَّةٍ أَوْ عِزٍّ لَامْتَنَعْنَ وَ لَكِنْ أَشْفَقْنَ مِنَ الْعُقُوبَةِ وَ عَقَلْنَ مَا جَهِلَ مَنْ هُوَ أَضْعَفُ مِنْهُنَّ وَ هُوَ الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كانَ ظَلُوماً جَهُولًا إِنَّ اللَّهَسُبْحَانَهُ وَ تَعَالَى لَا يَخْفَى عَلَيْهِ مَا الْعِبَادُ مُقْتَرِفُونَ فِي لَيْلِهِمْ وَ نَهَارِهِمْ لَطُفَ بِهِ خُبْراً وَ أَحَاطَ بِهِ عِلْماً أَعْضَاؤُكُمْ شُهُودُهُ وَ جَوَارِحُكُمْ جُنُودُهُ وَ ضَمَائِرُكُمْ عُيُونُهُ وَ خَلَوَاتُكُمْ عِيَانُهُ

(11/169)


هذه الآية يستدل بها الأصوليون من أصحابنا على أن الكفار يعاقبون في الآخرة على ترك الواجبات الشرعية و على فعل القبائح لأنها في الكفار وردت أ لا ترى إلى قوله فِي جَنَّاتٍ يَتَساءَلُونَ عَنِ الْمُجْرِمِينَ ما سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ فليس يجوز أن يعني بالمجرمين هاهنا الفاسقين من أهل القبلة لأنه قال قالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ شرح نهج البلاغة ج : 10 ص : 204وَ لَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ وَ كُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخائِضِينَ وَ كُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ. قالوا و ليس لقائل أن يقول معنى قوله لَمْ كُ مِنَ الْمُصَلِّينَ لم نكن من القائلين بوجوب الصلاة لأنه قد أغنى عن هذا التعليل قوله وَ كُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ لأن أحد الأمرين هو الآخر و حمل الكلام على ما يفيد فائدة جديدة أولى من حمله على التكرار و الإعادة فقد ثبت بهذا التقرير صحة احتجاج أمير المؤمنين ع على تأكيد أمر الصلاة و أنها من العبادات المهمة في نظر الشارع. قوله ع و إنها لتحت الذنوب الحت نثر الورق من الغصن و انحات أي تناثر و قد جاء هذا اللفظ في الخبر النبوي بعينه. و الربق جمع ربقة و هي الحبل أي تطلق الصلاة الذنوب كما تطلق الحبال المعقدة أي تحل ما انعقد على المكلف من ذنوبه و هذا من باب الاستعارة. و يروى تعهدوا أمر الصلاة بالتضعيف و هو لغة يقال تعاهدت ضيعتي و تعهدتها و هو القيام عليها و أصله من تجديد العهد بالشي ء و المراد المحافظة عليه و قوله تعالى إِنَّ الصَّلاةَ كانَتْ عَلَى الْمُؤْمنِينَ كِتاباً مَوْقُوتاً أي واجبا و قيل موقوتا أي منجما كل وقت لصلاة معينة و تؤدى هذه الصلاة في نجومها. و قوله كتابا أي فرضا واجبا كقوله تعالى كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أي أوجب. و الحمة الحفيرة فيها الحميم و هو الماء الحار و هذا الخبر من الأحاديث الصحاح

(11/170)


قال ص أ يسر أحدكم أن تكون على بابه حمة يغتسل منها كل يوم خمس شرح نهج البلاغة ج : 10 ص : 205مرات فلا يبقى عليه من درنه شي ء قالوا نعم قال فإنها الصلوات الخمو الدرن الوسخ. و التجارة في الآية إما أن يراد بها لا يشغلهم نوع من هذه الصناعة عن ذكر الله ثم أفرد البيع بالذكر و خصه و عطفه على التجارة العامة لأنه أدخل في الإلهاء لأن الربح في البيع بالكسب معلوم و الربح في الشراء مظنون و إما أن يريد بالتجارة الشراء خاصة إطلاقا لاسم الجنس الأعم على النوع الأخص كما تقول رزق فلان تجارة رابحة إذا اتجه له شراء صالح فأما إقام الصلاة فإن التاء في إقامة عوض من العين الساقطة للإعلال فإن أصله إقوام مصدر أقام كقولك أعرض إعراضا فلما أضيفت أقيمت الإضافة مقام حرف التعويض فأسقطت التاء. قوله ع و كان رسول الله ص نصبا بالصلاة أي تعبا قال تعالى ما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقى. و
روي أنه ع قام حتى تورمت قدماه مع التبشير له بالجنة
و روي أنه قيل له في ذلك فقال أ فلا أكون عبدا شكورا
و يصبر نفسه من الصبر و يروى و يصبر عليها نفسه أي يحبس قال سبحانه وَ اصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ و قال عنترة يذكر حربا كان فيها
فصبرت عارفة لذلك حرة ترسو إذا نفس الجبان تطلع
فصل في ذكر الآثار الواردة في الصلاة و فضلها
و اعلم أن الصلاة قد جاء في فضلها الكثير الذي يعجزنا حصره و لو لم يكن شرح نهج البلاغة ج : 10 ص : 206إلا ما ورد في الكتاب العزيز من تكرار ذكرها و تأكيد الوصاة بها و المحافظة عليها لكان بعضه كافيا. و قال النبي ص الصلاة عمود الدين فمن تركها فقد هدم الدين
و قال أيضا ع علم الإيمان الصلاة فمن فرغ لها قلبه و قام بحدودها فهو المؤمن
و قالت أم سلمة كان رسول الله ص يحدثنا و نحدثه فإذا حضرت الصلاة فكأنه لم يعرفنا و لم نعرفه

(11/171)


وقيل للحسن رحمه الله ما بال المتهجدين من أحسن الناس وجوها قال لأنهم خلوا بالرحمن فألبسهم نورا من نوره
و قال عمر إن الرجل ليشيب عارضاه في الإسلام ما أكمل الله له صلاة قيل له و كيف ذلك قال لا يتم خشوعها و تواضعها و إقباله على ربه فيها
و قال بعض الصالحين إن العبد ليسجد السجدة عنده أنه متقرب بها إلى الله و لو قسم ذنبه في تلك السجدة على أهل مدينة لهلكوا قيل و كيف ذلك قال يكون ساجدا و قلبه عند غير الله إنما هو مصغ إلى هوى أو دنيا. صلى أعرابي في المسجد صلاة خفيفة و عمر بن الخطاب يراه فلما قضاها قال اللهم زوجني الحور العين فقال عمر يا هذا لقد أسأت النقد و أعظمت الخطبة. و
قال علي ع لا يزال الشيطان ذعرا من المؤمن ما حافظ على الخمس فإذا ضيعهن تجرأ عليه و أوقعه في العظائم
و روي عن النبي ص أنه قال الصلاة إلى الصلاة كفارة لما بينهما ما اجتنبت الكبائر
شرح نهج البلاغة ج : 10 ص : 207و جاء في الخبر أن رسول الله ص كان إذا حزبه أمر فزع إلى الصلاةو قال هشام بن عروة كان أبي يطيل المكتوبة و يقول هي رأس المال. قال يونس بن عبيد ما استخف أحد بالنوافل إلا استخف بالفرائض. يقال إن محمد بن المنكدر جزأ الليل عليه و على أمه و أخته أثلاثا فماتت أخته فجزأه عليه و على أمه نصفين فماتت أمه فقام الليل كله. كان مسلم بن يسار لا يسمع الحديث إذا قام يصلي و لا يفهمه و كان إذا دخل بيته سكت أهله فلا يسمع لهم كلام حتى يقوم إلى الصلاة فيتحدثون و يلغطون فهو لا يشعر بهم. و وقع حريق إلى جنبه و هو في الصلاة فلم يشعر به حتى حرق. كان خلف بن أيوب لا يطرد الذباب إذا وقع على وجهه و هو في الصلاة في بلاد كثيرة الذبان فقيل له كيف تصبر فقال بلغني أن الشطار يصبرون تحت السياط ليقال فلان صبور أ فلا أصبر و أنا بين يدي ربي على أذى ذباب يقع علي.
قال ابن مسعود الصلاة مكيال فمن وفى وفي له و من طفف ف وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ

(11/172)


قال رجل لرسول الله ص يا رسول الله ادع لي أن يرزقني الله مرافقتك في الجنة فقال أعني على إجابة الدعوة بكثرة السجود
قوله ع قربانا لأهل الإسلام القربان اسم لما يتقرب به من نسيكة أو صدقة. و روي و من النار حجازا بالزاي أي مانعا و اللهف الحسرة ينهى ع شرح نهج البلاغة ج : 10 ص : 208عن إخراج الزكاة مع التسخط لإخراجها و التلهف و التحسر على دفعها إلى أربابها و يقول إن من يفعل ك يرجو بها نيل الثواب ضال مضيع لماله غير ظافر بما رجاه من المثوبة
ذكر الآثار الواردة في فضل الزكاة و التصدق
و قد جاء في فضل الزكاة الواجبة و فضل صدقة التطوع الكثير جدا و لو لم يكن إلا أن الله تعالى قرنها بالصلاة في أكثر المواضع التي ذكر فيها الصلاة لكفى. و
روى بريدة الأسلمي أن رسول الله ص قال ما حبس قوم الزكاة إلا حبس الله عنهم القطر
و جاء في الذين يكنزون الذهب و الفضة و لا ينفقونهما في سبيل الله ما جاء في الذكر الحكيم و هو قوله تعالى يَوْمَ يُحْمى عَلَيْها فِي نارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوى بِها جِباهُهُمْ الآية قال المفسرون إنفاقها في سبيل الله إخراج الزكاة منها. و روى الأحنف قال قدمت المدينة فبينا أنا في حلقة فيها ملأ من قريش إذ جاء رجل خشن الجسد خشن الثياب فقام عليهم فقال بشر الكانزين برضف يحمى عليها في نار جهنم فتوضع على حلمة ثدي الرجل حتى تخرج من نغض كتفه ثم توضع على نغض كتفه حتى تخرج من حلمة ثديه فسألت عنه فقيل هذا أبو ذر الغفاري و كان يذكره و يرفعه.
ابن عباس يرفعه من كان عنده ما يزكي فلم يزك و كان عنده ما يحج فلم يحج سأل الرجعة

(11/173)


يعني قوله رَبِّ ارْجِعُونِ. شرح نهج البلاغة ج : 10 ص : 209 أبو هريرة سئل رسول الله ص أي الصدقة أفضل فقال أن تعطي و أنت صحيح شحيح تأمل البقاء و تخشى الفقر و لا تمهل حتى إذا بلغت الحلقوم قلت لفلان كذا و لفلان كذاو قيل للشبلي ما يجب في مائتي درهم قال أما من جهة الشرع فخمسه و أما من جهة الإخلاص فالكل.
أمر رسول الله ص بعض نسائه أن تقسم شاة على الفقراء فقالت يا رسول الله لم يبق منها غير عنقها فقال ع كلها بقي غير عنقها
أخذ شاعر هذا المعنى فقال
يبكي على الذاهب من ماله و إنما يبقى الذي يذهب
السائب كان الرجل من السلف يضع الصدقة و يمثل قائما بين يدي السائل الفقير و يسأله قبولها حتى يصير هو في صورة السائل. و كان بعضهم يبسط كفه و يجعلها تحت يد الفقير لتكون يد الفقير العليا. و
عن النبي ص ما أحسن عبد الصدقة إلا أحسن الله إليه في مخلفيه
و عنه ص الصدقة تسد سبعين بابا من الشر
و عنه ص أذهبوا مذمة السائل و لو بمثل رأس الطائر من الطعام
كان النبي ص لا يكل خصلتين إلى غيره لا يوضئه أحد و لا يعطي السائل إلا بيده. بعض الصالحين الصلاة تبلغك نصف الطريق و الصوم يبلغك باب الملك و الصدقة تدخلك عليه بغير إذن. الشعبي من لم ير نفسه أحوج إلى ثواب الصدقة من الفقير إلى صدقته فقد أبطل صدقته و ضرب بها وجهه. شرح نهج البلاغة ج : 10 ص : 210كان الحسن بن صالح إذا جاءه سائل فإن كان عنده ذهب أو فضة أو طعام أعطاه فإن لم يكن أعطاه زيتا أو سمنا أو نحوهما مما ينتفع به فإن لم يكن أعطاه كحلا أو خرج بإبرة و خاط بها ثوب السائل أو بخرقة يرقع بها ما تخرق من ثوبه. و وقف م على بابه سائل ليلا و لم يكن عنده ما يدفعه إليه فخرج إليه بقصبة في رأسها شعلة و قال خذ هذه و تبلغ بها إلى أبواب ناس لعلهم يعطونك.

(11/174)


قوله ع ثم أداء الأمانة هي العقد الذي يلزم الوفاء به و أصح ما قيل في تفسير الآية أن الأمانة ثقيلة المحمل لأن حاملها معرض لخطر عظيم فهي بالغة من الثقل و صعوبة المحمل ما لو أنها عرضت على السماوات و الأرض و الجبال لامتنعت من حملها. فأما الإنسان فإنه حملها و ألزم القيام بها و ليس المراد بقولنا إنها عرضت على السماوات و الأرض أي لو عرضت عليها و هي جمادات بل المراد تعظيم شأن الأمانة كما تقول هذا الكلام لا يحمله الجبال و قوله
امتلأ الحوض و قال قطني
و قوله تعالى قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ و مذهب العرب في هذا الباب و توسعها و مجازاتها مشهور شائع شرح نهج البلاغة ج : 10 ص : 193211- و من كلام له عوَ اللَّهِ مَا مُعَاوِيَةُ بِأَدْهَى مِنِّي وَ لَكِنَّهُ يَغْدِرُ وَ يَفْجُرُ وَ لَوْ لَا كَرَاهِيَةُ الْغَدْرِ لَكُنْتُ مِنْ أَدْهَى النَّاسِ وَ لَكِنْ كُلُّ غُدَرَةٍ فُجَرَةٌ وَ كُلُّ فُجَرَةٍ كُفَرَةٌ وَ لِكُلِّ غَادِرٍ لِوَاءٌ يُعْرَفُ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَ اللَّهِ مَا أُسْتَغْفَلُ بِالْمَكِيدَةِ وَ لَا أُسْتَغْمَزُ بِالشَّدِيدَةِ
الغدرة على فعلة الكثير الغدر و الفجرة و الكفرة الكثير الفجور و الكفر و كل ما كان على هذا البناء فهو للفاعل فإن سكنت العين فهو للمفعول تقول رجل ضحكة أي يضحك و ضحكة يضحك منه و سخرة يسخر و سخرة يسخر به يقول ع كل غادر فاجر و كل فاجر كافر و يروى و لكن كل غدرة فجرة و كل فجرة كفرة على فعلة للمرة الواحدة. و
قوله لكل غادر لواء يعرف به يوم القيامة
حديث صحيح مروي عن النبي ص. ثم أقسم ع أنه لا يستغفل بالمكيدة أي لا تجوز المكيدة علي كما تجوز على ذوي الغفلة و أنه لا يستغمز بالشديدة أي لا أهين و ألين للخطب الشديد شرح نهج البلاغة ج : 10 ص : 21سياسة علي و جريها على سياسة الرسول ع

(11/175)


و اعلم أن قوما ممن لم يعرف حقيقة فضل أمير المؤمنين ع زعموا أن عمر كان أسوس منه و إن كان هو أعلم من عمر و صرح الرئيس أبو علي بن سينا بذلك في الشفاء في الحكمة و كان شيخنا أبو الحسين يميل إلى هذا و قد عرض به في كتاب الغرر ثم زعم أعداؤه و مباغضوه أن معاوية كان أسوس منه و أصح تدبيرا و قد سبق لنا بحث قديم في هذا الكتاب في بيان حسن سياسة أمير المؤمنين ع و صحة تدبيره و نحن نذكر هاهنا ما لم نذكره هناك مما يليق بهذا الفصل الذي نحن في شرحه. اعلم أن السائس لا يتمكن من السياسة البالغة إلا إذا كان يعمل برأيه و بما يرى فيه صلاح ملكه و تمهيد أمره و توطيد قاعدته سواء وافق الشريعة أو لم يوافقها و متى لم يعمل في السياسة و التدبير بموجب ما قلناه فبعيد أن ينتظم أمره أو يستوثق حاله و أمير المؤمنين كان مقيدا بقيود الشريعة مدفوعا إلى اتباعها و رفض ما يصلح اعتماده من آراء الحرب و الكيد و التدبير إذا لم يكن للشرع موافقا فلم تكن قاعدته في خلافته قاعدة غيره ممن لم يلتزم بذلك و لسنا بهذا القول زارين على عمر بن الخطاب و لا ناسبين إليه ما هو منزه عنه و لكنه كان مجتهدا يعمل بالقياس و الاستحسان و المصالح المرسلة و يرى تخصيص عمومات النص بالآراء و بالاستنباط من أصول تقتضي خلاف ما يقتضيه عموم النصوص و يكيد خصمه و يأمر أمراءه بالكيد و الحيلة و يؤدب بالدرة و السوط من شرح نهج البلاغة ج : 10 ص : 213يتغلب على ظنه أنه يستوجب ذلك و يصفح عن آخرين قد اجترموا ما يستحقون به التأديب كل ذلك بقوة اجتهاده و يؤديه إليه نظره و لم يكن أمير المؤمنين ع يرى ذلك و كان يقف مع النصوص و الظواهر و لا يتعداها إلى الاجتهاد و الأقيسة و يطبق أمور الدنيا على أمور الدين و يسوق الكل مساقا واحدا و لا يضيع و لا يرفع إلا بالكتاب و النص فاختلفت طريقتاهما في الخلافة و السياسة و كان عمر مع ذلك شديد الغلظة و السياسة و كان علي ع كثير الحلم و الصفح

(11/176)


و التجاوز فازدادت خلافة ذاك قوة و خلافة هذا لينا و لم يمن عمر بما مني به علي ع من فتنة عثمان التي أحوجته إلى مداراة أصحابه و جنده و مقاربتهم للاضطراب الواقع بطريق تلك الفتنة ثم تلا ذلك فتنة الجمل و فتنة صفين ثم فتنة النهروان و كل هذه الأمور مؤثرة في اضطراب أمر الوالي و انحلال معاقد ملكه و لم يتفق لعمر شي ء من ذلك فشتان بين الخلافتين فيما يعود إلى انتظام المملكة و صحة تدبير الخلافة. فإن قلت فما قولك في سياسة رسول الله ص و تدبيره أ ليس كان منتما سديدا مع أنه كان لا يعمل إلا بالنصوص و التوقيف من الوحي فهلا كان تدبير علي ع و سياسته كذلك إذا قلتم إنه كان لا يعمل إلا بالنص قلت أما سياسة رسول الله ص و تدبيره فخارج عما نحن فيه لأنه معصوم لا تتطرق الغفلة إلى أفعاله و لا واحد من هذين الرجلين بواجب العصمة عندنا و أيضا فإن كثيرا من الناس ذهبوا إلى أن الله تعالى أذن لرسول الله ص أن يحكم في الشرعيات و غيرها برأيه و قال له احكم بما تراه فإنك لا تحكم إلا بالحق و هذا مذهب يونس بن عمران و على هذا فقد سقط السؤال لأنه ص يعمل بما يراه من المصلحة و لا ينتظر الوحي. و أيضا فبتقدير فساد هذا المذهب أ ليس قد ذهب خلق كثير من علماء أصول الفقه إلى أن رسول الله ص كان يجوز له أن يجتهد في الأحكام و التدبير كما يجتهد

(11/177)


شرح نهج البلاغة ج : 10 ص : 214الواحد من العلماء و إليه ذهب القاضي أبو يوسف رحمه الله و احتج بقوله تعالى لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِما أَراكَ اللَّهُ. و السؤال أيضا ساقط على هذا المذهب لأن اجتهاد علي ع لا يساوي اجتهاد النبي ص و بين الاجتهادين كما بين انزلتين. و كان أبو جعفر بن أبي زيد الحسني نقيب البصرة رحمه الله إذا حدثناه في هذا يقول إنه لا فرق عند من قرأ السيرتين سيرة النبي ص و سياسة أصحابه أيام حياته و بين سيرة أمير المؤمنين ع و سياسة أصحابه أيام حياته فكما أن عليا ع لم يزل أمره مضطربا معهم بالمخالفة و العصيان و الهرب إلى أعدائه و كثرة الفتن و الحروب فكذلك كان النبي ص لم يزل ممنوا بنفاق المنافقين و أذاهم و خلاف أصحابه عليه و هرب بعضهم إلى أعدائه و كثرة الحروب و الفتن. و كان يقول أ لست ترى القرآن العزيز مملوءا بذكر المنافقين و الشكوى منهم و التألم من أذاهم له كما أن كلام علي ع مملوء بالشكوى من منافقي أصحابه و التألم من أذاهم له و التوائهم عليه و ذلك نحو قوله تعالى أَ لَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوى ثُمَّ يَعُودُونَ لِما نُهُوا عَنْهُ وَ يَتَناجَوْنَ بِالْإِثْمِ وَ الْعُدْوانِ وَ مَعْصِيَةِ الرَّسُولِ وَ إِذا جاؤُكَ حَيَّوْكَ بِما لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ وَ يَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ لَوْ لا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِما نَقُولُ حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَها فَبِئْسَ الْمَصِيرُ. و قوله إِنَّمَا النَّجْوى مِنَ الشَّيْطانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا الآية. و قوله تعالى إِذا جاءَكَ الْمُنافِقُونَ قالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَ اللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ شرح نهج البلاغة ج : 10 ص : 215لَرَسُولُهُ وَ اللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنافِقِينَ لَكاذِبُونَ اتَّخَذُوا أَيْمانَهُمْ جَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّهُمْ ساءَ ما كانُوا

(11/178)


يَعْمَلُونَ السورة بأجمعها. و قوله تعالى وَ مِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ ما ذا قالَ آنِفاً أُولئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَ اتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ. و قوله تعالى رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَأَوْلى لَهُمْ طاعَةٌ وَ قَوْلٌ مَعْرُوفٌ فَإِذا عَزَمَ الْأَمْرُ فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ. و قوله تعالى أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَنْ لَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ أَضْغانَهُمْ وَ لَوْ نَشاءُ لَأَرَيْناكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيماهُمْ وَ لَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ وَ اللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمالَكُمْ. و قوله تعالى سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الْأَعْرابِ شَغَلَتْنا أَمْوالُنا وَ أَهْلُونا فَاسْتَغْفِرْ لَنا يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ ما لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً إِنْ أَرادَ بِكُمْ ضَرًّا أَوْ أَرادَ بِكُمْ نَفْعاً بَلْ كانَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَ الْمُؤْمِنُونَ إِلى أَهْلِيهِمْ أَبَداً وَ زُيِّنَ ذلِكَ فِي قُلُوبِكُمْ وَ ظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ وَ كُنْتُمْ قَوْماً بُوراً. و قوله تعالى سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انْطَلَقْتُمْ إِلى مَغانِمَ لِتَأْخُذُوها ذَرُونا نَتَّبِعْكُمْ يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اللَّهِ قُلْ لَنْ تَتَّبِعُونا كَذلِكُمْ قالَ اللَّهُ مِنْ قَبْلُ شرح نهج البلاغة ج : 10 ص : 216فَسَيَقُولُونَ بَلْ تْسُدُونَنا بَلْ كانُوا لا يَفْقَهُونَ إِلَّا قَلِيلًا. و قوله إِنَّ الَّذِينَ يُنادُونَكَ مِنْ وَراءِ الْحُجُراتِ أَكْثَرُهُمْ

(11/179)


لا يَعْقِلُونَ وَ لَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ وَ اللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ. قال و أصحابه هم الذين نازعوا في الأنفال و طلبوها لأنفسهم حتى أنزل الله تعالى قُلِ الْأَنْفالُ لِلَّهِ وَ الرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَ أَصْلِحُوا ذاتَ بَيْنِكُمْ وَ أَطِيعُوا اللَّهَ وَ رَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ. و هم الذين التووا عليه في الحرب يوم بدر و كرهوا لقاء العدو حتى خيف خذلانهم و ذلك قبل أن تتراءى الفئتان و أنزل فيهم يُجادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَ ما تَبَيَّنَ كَأَنَّما يُساقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَ هُمْ يَنْظُرُونَ. و هم الذين كانوا يتمنون لقاء العير دون لقاء العدو حتى إنهم ظفروا برجلين في الطريق فسألوهما عن العير فقالا لا علم لنا بها و إنما رأينا جيش قريش من وراء ذلك الكثيب فضربوهما و رسول الله ص قائم يصلي فلما ذاقا مس الضرب قالا بل العير أمامكم فاطلبوها فلما رفعوا الضرب عنهما قالا و الله ما رأينا العير و لا رأينا إلا الخيل و السلاح و الجيش فأعادوا الضرب عليهما مرة ثانية فقالا و هما يضربان العير أمامكم فخلوا عنا فانصرف رسول الله ص من الصلاة و قال إذا صدقاكم ضربتموهما و إذا كذباكم خليتم عنهما دعوهما فما رأيا إلا جيش أهل مكة و أنزل قوله تعالى وَ إِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّها لَكُمْ وَ تَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَ يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ وَ يَقْطَعَ شرح نهج البلاغة ج : 10 ص : 217دابِرَ الْكافِرِينَقال المفسرون الطائفتان العير ذات اللطيمة الواصلة إلى مكة من الشام صحبة أبي سفيان بن حرب و إليها كان خروج المسلمين و الأخرى الجيش ذو الشوكة و كان ع قد وعدهم بإحدى الطائفتين فكرهوا الحرب و أحبوا الغنيمة. قال و هم الذين فروا عنه ص يوم أحد و أسلموه و أصعدوا في

(11/180)


الجبل و تركوه حتى شج الأعداء وجهه و كسروا ثنيته و ضربوه على بيضته حتى دخل جماجمه و وقع من فرسه إلى الأرض بين القتلى و هو يستصرخ بهم و يدعوهم فلا يجيبه أحد منهم إلا من كان جاريا مجرى نفسه و شديد الاختصاص به و ذلك قوله تعالى إِذْ تُصْعِدُونَ وَ لا تَلْوُونَ عَلى أَحَدٍ وَ الرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْراكُمْ أي ينادي فيسمع نداءه آخر الهاربين لا أولهم لأن أولهم أوغلوا في الفرار و بعدوا عن أن يسمعوا صوته و كان قصارى الأمر أن يبلغ صوته و استصراخه من كان على ساقة الهاربين منهم. قال و منهم الذين عصوا أمره في ذلك اليوم حيث أقامهم على الشعب في الجبل و هو الموضع الذي خاف أن تكر عليه منه خيل العدو من ورائه و هم أصحاب عبد الله بن جبير فإنهم خالفوا أمره و عصوه فيما تقدم به إليهم و رغبوا في الغنيمة ففارقوا مركزهم حتى دخل الوهن على الإسلام بطريقهم لأن خالد بن الوليد كر في عصابة من الخيل فدخل من الشعب الذي كانوا يحرسونه فما أحس المسلمون بهم إلا و قد غشوهم بالسيوف من خلفهم فكانت الهزيمة و ذلك قوله تعالى حَتَّى إِذا فَشِلْتُمْ شرح نهج البلاغة ج : 10 ص : 218وَ تَنازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَ عَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ما أَراكُمْا تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيا وَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ. قال و هم الذين عصوا أمره في غزاة تبوك بعد أن أكد عليهم الأوامر و خذلوه و تركوه و لم يشخصوا معه فأنزل فيهم يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ما لَكُمْ إِذا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَ رَضِيتُمْ بِالْحَياةِ الدُّنْيا مِنَ الْآخِرَةِ فَما مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ إِلَّا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذاباً أَلِيماً وَ يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ وَ لا تَضُرُّوهُ شَيْئاً وَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ و هذه الآية

(11/181)


خطاب مع المؤمنين لا مع المنافقين و فيها أوضح دليل على أن أصحابه و أولياءه المصدقين لدعوته كانوا يعصونه و يخالفون أمره و أكد عتابهم و تقريعهم و توبيخهم بقوله تعالى لَوْ كانَ عَرَضاً قَرِيباًوَ سَفَراً قاصِداً لَاتَّبَعُوكَ وَ لكِنْ بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ وَ سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَوِ اسْتَطَعْنا لَخَرَجْنا مَعَكُمْ يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ وَ اللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ. ثم عاتب رسول الله ص على كونه أذن لهم في التخلف و إنما أذن لهم لعلمه أنهم لا يجيبونه في الخروج فرأى أن يجعل المنة له عليهم في الإذن لهم و إلا قعدوا عنه و لم تصل له المنة فقال له عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَ تَعْلَمَ الْكاذِبِينَ أي هلا أمسكت عن الإذن لهم حتى يتبين لك قعود من يقعد و خروج من يخرج صادقهم من كاذبهم لأنهم كانوا قد وعدوه بالخروج معه كلهم و كان بعضهم ينوي الغدر و بعضهم يعزم على أن يخيس بذلك الوعد فلو لم يأذن لهم لعلم من يتخلف و من لا يتخلف فعرف الصادق منهم و الكاذب. شرح نهج البلاغة ج : 10 : 219ثم بين سبحانه و تعالى أن الذين يستأذنونه في التخلف خارجون من الإيمان فقال له لا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ يُجاهِدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَ أَنْفُسِهِمْ وَ اللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ إِنَّما يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ وَ ارْتابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ. و لا حاجة إلى التطويل بذكر الآيات المفصلة فيما يناسب هذا المعنى فمن تأمل الكتاب العزيز علم حاله ص مع أصحابه كيف كانت و لم ينقله الله تعالى إلى جواره إلا و هو مع المنافقين له و المظهرين خلاف ما يضمرون من تصديقه في جهاد شديد حتى لقد كاشفوه مرارا فقال لهم يوم

(11/182)


الحديبية احلقوا و انحروا مرارا فلم يحلقوا و لم ينحروا و لم يتحرك أحد منهم عند قوله و قال له بعضهم و هو يقسم الغنائم اعدل يا محمد فإنك لم تعدل. و قالت الأنصار له مواجهة يوم حنين أ تأخذ ما أفاء الله علينا بسيوفنا فتدفعه إلى أقاربك من أهل مكة حتى أفضى الأمر إلى أن
قال لهم في مرض موته ائتوني بدواة و كتف أكتب لكم ما لا تضلون بعده
فعصوه و لم يأتوه بذلك و ليتهم اقتصروا على عصيانه و لم يقولوا له ما قالوا و هو يسمع. و كان أبو جعفر رحمه الله يقول من هذا ما يطول شرحه و القليل منه ينبئ عن الكثير و كان يقول إن الإسلام ما حلا عندهم و لا ثبت في قلوبهم إلا بعد موته حين فتحت عليهم الفتوح و جاءتهم الغنائم و الأموال و كثرت عليهم المكاسب و ذاقوا طعم الحياة و عرفوا لذة الدنيا و لبسوا الناعم و أكلوا الطيب و تمتعوا بنساء الروم و ملكوا خزائن كسرى و تبدلوا بذلك القشف و الشظف و العيش الخشن و أكل شرح نهج البلاغة ج : 10 ص : 220الضباب و القنافذ و اليرابيو لبس الصوف و الكرابيس و أكل اللوزينجات و الفالوذجات و لبس الحرير و الديباج فاستدلوا بما فتحه الله عليهم و أتاحه لهم على صحة الدعوة و صدق الرسالة و قد كان ص وعدهم بأنه سيفتح عليهم كنوز كسرى و قيصر فلما وجدوا الأمر قد وقع بموجب ما قاله عظموه و بجلوه و انقلبت تلك الشكوك و ذاك النفاق و ذلك الاستهزاء إيمانا و يقينا و إخلاصا و طاب لهم العيش و تمسكوا بالدين لأنه زادهم طريقا إلى نيل الدنيا فعظموا ناموسه و بالغوا في إجلاله و إجلال الرسول الذي جاء به ثم انقرض الأسلاف و جاء الأخلاف على عقيدة ممهدة و أمر أخذوه تقليدا من أسلافهم الذين ربوا في حجورهم ثم انقرض ذلك القرن و جاء من بعدهم كذلك و هلم جرا. قال و لو لا الفتوح و النصر و الظفر الذي منحهم الله تعالى إياه و الدولة التي ساقها إليهم لانقرض دين الإسلام بعد وفاة رسول الله ص و كان يذكر في التواريخ كما تذكر الآن

(11/183)


نبوة خالد بن سنان العبسي حيث ظهر و دعا إلى الدين و كان الناس يعجبون من ذلك و يتذاكرونه كما يعجبون و يتذاكرون أخبار من نبغ من الرؤساء و الملوك و الدعاة الذين انقرض أمرهم و بقيت أخبارهم. و كان يقول من تأمل حال الرجلين وجدهما متشابهتين في جميع أمورهما أو في أكثرها و ذلك لأن حرب رسول الله ص مع المشركين كانت سجالا انتصر يوم بدر و انتصر المشركون عليه يوم أحد و كان يوم الخندق كفافا خرج هو و هم سواء لا عليه و لا له لأنهم قتلوا رئيس الأوس و هو سعد بن معاذ و قتل منهم فارس قريش و هو عمرو بن عبد ود و انصرفوا عنه بغير حرب بعد تلك الساعة التي كانت ثم حارب بعدها قريشا يوم الفتح فكان الظفر له. و هكذا كانت حروب علي ع انتصر يوم الجمل و خرج الأمر بينه و بين

(11/184)


شرح نهج البلاغة ج : 10 ص : 221معاوية على سواء قتل من أصحابه رؤساء و من أصحاب معاوية رؤساء و انصرف كل واحد من الفريقين عن صاحبه بعد الحرب على مكانه ثم حارب بعد صفين أهل النهروان فكان الظفر له. قال و من العجب أن أول حروب رسول الله ص كانت بدرا و كان هو المور فيها و أول حروب علي ع الجمل و كان هو المنصور فيها ثم كان من صحيفة الصلح و الحكومة يوم صفين نظير ما كان من صحيفة الصلح و الهدنة يوم الحديبية ثم دعا معاوية في آخر أيام علي ع إلى نفسه و تسمى بالخلافة كما أن مسيلمة و الأسود العنسي دعوا إلى أنفسهما في آخر أيام رسول الله ص و تسميا بالنبوة و اشتد على علي ع ذلك كما اشتد على رسول الله ص أمر الأسود و مسيلمة و أبطل الله أمرهما بعد وفاة النبي ص و كذلك أبطل أمر معاوية و بني أمية بعد وفاة علي ع و لم يحارب رسول الله ص أحد من العرب إلا قريش ما عدا يوم حنين و لم يحارب عليا ع من العرب أحد إلا قريش ما عدا يوم النهروان و مات علي ع شهيدا بالسيف و مات رسول الله ص شهيدا بالسم و هذا لم يتزوج على خديجة أم أولاده حتى ماتت و هذا لم يتزوج على فاطمة أم أشرف أولاده حتى ماتت و مات رسول الله ص عن ثلاث و ستين سنة و مات علي ع عن مثلها. و كان يقول انظروا إلى أخلاقهما و خصائصهما هذا شجاع و هذا شجاع و هذا فصيح و هذا فصيح و هذا سخي جواد و هذا سخي جواد و هذا عالم بالشرائع و الأمور الإلهية و هذا عالم بالفقه و الشريعة و الأمور الإلهية الدقيقة الغامضة و هذا زاهد في الدنيا غير نهم و لا مستكثر منها و هذا زاهد في الدنيا تارك لها غير متمتع بلذاتها و هذا مذيب نفسه في الصلاة و العبادة و هذا مثله و هذا غير محبب إليه شي ء من الأمور العاجلة شرح نهج البلاغة ج : 10 ص : 222إلا النساء و هذا مثله و هذا ابن عبد المطلب بن هاشم و هذا في قعدده و أبواهما أخوان لأبأم دون غيرهما من بني عبد المطلب و ربي محمد ص في حجر والد هذا و هذا

(11/185)


أبو طالب فكان جاريا عنده مجرى أحد أولاده ثم لما شب ص و كبر استخلصه من بني أبي طالب و هو غلام فرباه في حجره مكافأة لصنيع أبي طالب به فامتزج الخلقان و تماثلت السجيتان و إذا كان القرين مقتديا بالقرين فما ظنك بالتربية و التثقيف الدهر الطويل فواجب أن تكون أخلاق محمد ص كأخلاق أبي طالب و تكون أخلاق علي ع كأخلاق أبي طالب أبيه و محمد ع مربيه و أن يكون الكل شيمة واحدة و سوسا واحدا و طينة مشتركة و نفسا غير منقسمة و لا متجزئة و ألا يكون بين بعض هؤلاء و بعض فرق و لا فضل لو لا أن الله تعالى اختص محمدا ص برسالته و اصطفاه لوحيه لما يعلمه من مصالح البرية في ذلك و من أن اللطف به أكمل و النفع بمكانه أتم و أعم فامتاز رسول الله ص بذلك عمن سواه و بقي ما عدا الرسالة على أمر الاتحاد و إلى هذا المعنى
أشار ص بقوله أخصمك بالنبوة فلا نبوة بعدي و تخصم الناس بسبع
و قال له أيضا أنت مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي
فأبان نفسه منه بالنبوة و أثبت له ما عداها من جميع الفضائل و الخصائص مشتركا بينهما. و كان النقيب أبو جعفر رحمه الله غزير العلم صحيح العقل منصفا في الجدال غير متعصب للمذهب و إن كان علويا و كان يعترف بفضائل الصحابة و يثني على الشيخين. و يقول إنهما مهدا دين الإسلام و أرسيا قواعده و لقد كان شديد الاضطراب في حياة رسول الله ص و إنما مهداه بما تيسر للعرب من الفتوح و الغنائم في دولتهما. و كان يقول في عثمان إن الدولة في أيامه كانت على إقبالها و علو جدها بل كانت الفتوح في أيامه أكثر و الغنائم أعظم لو لا أنه لم يراع ناموس الشيخين و لم يستطع أن يسلك شرح نهج البلاغة ج : 10 ص : 223مسلكهما و كان مضعفا في أصل القاعدة مغلوبا عليه و كثير الحب لأهله و أتيح له من مروان وزير سوء أفسد القلوب عليه و حمل الناس على خلعه و قتلهكلام أبي جعفر الحسني في الأسباب التي أوجبت محبة الناس لعلي

(11/186)


و كان أبو جعفر رحمه الله لا يجحد الفاضل فضله و الحديث شجون. قلت له مرة ما سبب حب الناس لعلي بن أبي طالب ع و عشقهم له و تهالكهم في هواه و دعني في الجواب من حديث الشجاعة و العلم و الفصاحة و غير ذلك من الخصائص التي رزقه الله سبحانه الكثير الطيب منها. فضحك و قال لي كم تجمع جراميزك علي. ثم قال هاهنا مقدمة ينبغي أن تعلم و هي أن أكثر الناس موتورون من الدنيا أما المستحقون فلا ريب في أن أكثرهم محرومون نحو عالم يرى أنه لا حظ له في الدنيا و يرى جاهلا غيره مرزوقا و موسعا عليه و شجاع قد أبلى في الحرب و انتفع بموضعه ليس له عطاء يكفيه و يقوم بضروراته و يرى غيره و هو جبان فشل يفرق من ظله مالكا لقطر عظيم من الدنيا و قطعة وافرة من المال و الرزق و عاقل سديد التدبير صحيح العقل قد قدر عليه رزقه و هو يرى غيره أحمق مائقا تدر عليه الخيرات و تتحلب عليه أخلاف الرزق و ذي دين قويم و عبادة حسنة و إخلاص و توحيد و هو محروم ضيق الرزق و يرى غيره يهوديا أو نصرانيا أو زنديقا كثير المال حسن الحال حتى إن هذه الطبقات المستحقة يحتاجون في أكثر الوقت إلى الطبقات التي لا استحقاق شرح نهج البلاغة ج : 10 ص : 224لها و تدعوهم الضرورة إلى الذل لهم و الخض بين أيديهم إما لدفع ضرر أو لاستجلاب نفع و دون هذه الطبقات من ذوي الاستحقاق أيضا ما نشاهده عيانا من نجار حاذق أو بناء عالم أو نقاش بارع أو مصور لطيف على غاية ما يكون من ضيق رزقهم و قعود الوقت بهم و قلة الحيلة لهم و يرى غيرهم ممن ليس يجري مجراهم و لا يلحق طبقتهم مرزوقا مرغوبا فيه كثير المكسب طيب العيش واسع الرزق فهذا حال ذوي الاستحقاق و الاستعداد و أما الذين ليسوا من أهل الفضائل كحشو العامة فإنهم أيضا لا يخلون من الحقد على الدنيا و الذم لها و الحنق و الغيظ منها لما يلحقهم من حسد أمثالهم و جيرانهم و لا يرى أحد منهم قانعا بعيشه و لا راضيا بحاله بل يستزيد و يطلب حالا فوق

(11/187)


حاله. قال فإذا عرفت هذه المقدمة فمعلوم أن عليا ع كان مستحقا محروما بل هو أمير المستحقين المحرومين و سيدهم و كبيرهم و معلوم أن الذين ينالهم الضيم و تلحقهم المذلة و الهضيمة يتعصب بعضهم لبعض و يكونون إلبا و يدا واحدة على المرزوقين الذين ظفروا بالدنيا و نالوا مآربهم منها لاشتراكهم في الأمر الذي آلمهم و ساءهم و عضهم و مضهم و اشتراكهم في الأنفة و الحمية و الغضب و المنافسة لمن علا عليهم و قهرهم و بلغ من الدنيا ما لم يبلغوه فإذا كان هؤلاء أعني المحرومين متساوين في المنزلة و المرتبة و تعصب بعضهم لبعض فما ظنك بما إذا كان منهم رجل عظيم القدر جليل الخطر كامل الشرف جامع للفضائل محتو على الخصائص و المناقب و هو مع ذلك محروم محدود و قد جرعته الدنيا علاقمها و علته عللا بعد نهل من صابها و صبرها و لقي منها برحا بارحا و جهدا جهيدا و علا عليه من هو دونه و حكم فيه و في بنيه و أهله و رهطه من لم يكن ما ناله من الإمرة و السلطان في حسابه و لا دائرا في خلده و لا خاطرا بباله و لا كان أحد من الناس يرتقب ذلك له و لا يراه له ثم كان في آخر الأمر أن قتل هذا الرجل الجليل في

(11/188)


شرح نهج البلاغة ج : 10 ص : 225محرابه و قتل بنوه بعده و سبي حريمه و نساؤه و تتبع أهله و بنو عمه بالقتل و الطرد و التشريد و السجون مع فضلهم و زهدهم و عبادتهم و سخائهم و انتفاع الخلق بهم فهل يمكن ألا يتعصب البشر كلهم مع هذا الشخص و هل تستطيع القلوب ألا تحبو تهواه و تذوب فيه و تفنى في عشقه انتصارا له و حمية من أجله و أنفة مما ناله و امتعاضا مما جرى عليه و هذا أمر مركوز في الطبائع و مخلوق في الغرائز كما يشاهد الناس على الجرف إنسانا قد وقع في الماء العميق و هو لا يحسن السباحة فإنهم بالطبع البشري يرقون عليه رقة شديدة و قد يلقي قوم منهم أنفسهم في الماء نحوه يطلبون تخليصه لا يتوقعون على ذلك مجازاة منه بمال أو شكر و لا ثوابا في الآخرة فقد يكون منهم من لا يعتقد أمر الآخرة و لكنها رقة بشرية و كان الواحد منهم يتخيل في نفسه أنه ذلك الغريق فكما يطلب خلاص نفسه لو كان هذا الغريق كذلك يطلب تخليص من هو في تلك الحال الصعبة للمشاركة الجنسية و كذلك لو أن ملكا ظلم أهل بلد من بلاده ظلما عنيفا لكان أهل ذلك البلد يتعصب بعضهم لبعض في الانتصار من ذلك الملك و الاستعداء عليه فلو كان من جملتهم رجل عظيم القدر جليل الشأن قد ظلمه الملك أكثر من ظلمه إياهم و أخذ أمواله و ضياعه و قتل أولاده و أهله كان لياذهم به و انضواؤهم إليه و اجتماعهم و التفافهم به أعظم و أعظم لأن الطبيعة البشرية تدعو إلى ذلك على سبيل الإيجاب الاضطراري و لا يستطيع الإنسان منه امتناعا. و هذا محصول قول النقيب أبي جعفر رحمه الله قد حكيته و الألفاظ لي و المعنى له لأني لا أحفظ الآن ألفاظه بعينها إلا أن هذا هو كان معنى قوله و فحواه رحمه الله و كان لا يعتقد في الصحابة ما يعتقده أكثر الإمامية فيهم و يسفه رأي من يذهب فيهم إلى النفاق و التكفير و كان يقول حكمهم حكم مسلم مؤمن عصى في بعض الأفعال و خالف الأمر فحكمه إلى الله إن شاء آخذه و إن شاء غفر له.

(11/189)


شرح نهج البلاغة ج : 10 ص : 226قلت له مرة أ فتقول أنهما من أهل الجنة فقال إي و الله أعتقد ذلك لأنهما إما أن يعفو الله تعالى عنهما ابتداء أو بشفاعة الرسول ص أو بشفاعة علي ع أو يؤاخذهما بعقابو عتاب ثم ينقلهما إلى الجنة لا أستريب في ذلك أصلا و لا أشك في إيمانهما برسول الله ص و صحة عقيدتهما. فقلت له فعثمان قال و كذلك عثمان ثم قال رحم الله عثمان و هل كان إلا واحدا منا و غصنا من شجرة عبد مناف و لكن أهله كدروه علينا و أوقعوا العداوة و البغضاء بينه و بيننا. قلت له فيلزمك على ما تراه في أمر هؤلاء أن تجوز دخول معاوية الجنة لأنه لم تكن منه إلا المخالفة و ترك امتثال أمر النبوي. فقال كلا إن معاوية من أهل النار لا لمخالفته عليا و لا بمحاربته إياه و لكن عقيدته لم تكن صحيحة و لا إيمانه حقا و كان من رءوس المنافقين هو و أبوه و لم يسلم قلبه قط و إنما أسلم لسانه و كان يذكر من حديث معاوية و من فلتات قوله و ما حفظ عنه من كلام يقتضي فساد العقيدة شيئا كثيرا ليس هذا موضعه فأذكره. و قال لي مرة حاش لله أن يثبت معاوية في جريدة الشيخين الفاضلين أبي بكر و عمر و الله ما هما إلا كالذهب الإبريز و لا معاوية إلا كالدرهم الزائف أو قال كالدرهم القسي ثم قال لي فما يقول أصحابكم فيهما قلت أما الذي استقر عليه رأي المعتزلة بعد اختلاف كثير بين قدمائهم في التفضيل و غيره أن عليا ع أفضل الجماعة و أنهم تركوا الأفضل لمصلحة رأوها و أنه لم يكن هناك نص يقطع العذر و إنما كانت إشارة و إيماء لا يتضمن شي ء منها صريح النص و إن عليا ع نازع ثم بايع شرح نهج البلاغة ج : 10 ص : 227و جمح ثم استجاب و لو أقام على الامتناع لم نقل بصحة البيعة و لا بلزومها و لو جرد السيف كما جرده في آخر الأمر لقلنا بفسق كل من خالفه على الإطلاق كائنا من كان و لكنه رضي بالبيعة أخيرا و دخل في الطاعة. و بالجملة أصحابنا يقولون الأمر كان له و كان هو المستحق و

(11/190)


المتعين فإن شاء أخذه لنفسه و إن شاء ولاه غيره فلما رأيناه قد وافق على ولاية غيره اتبعناه و رضينا بما رضي فقال قد بقي بيني و بينكم قليل أنا أذهب إلى النص و أنتم لا تذهبون إليه. فقلت له إنه لم يثبت النص عندنا بطريق يوجب العلم و ما تذكرونه أنتم صريحا فأنتم تنفردون بنقله و ما عدا ذلك من الأخبار التي نشارككم فيها فلها تأويلات معلومة. فقال لي و هو ضجر يا فلان لو فتحنا باب التأويلات لجاز أن يتناول قولنا لا إله إلا الله محمد رسول الله دعني من التأويلات الباردة التي تعلم القلوب و النفوس أنها غير مرادة و أن المتكلمين تكلفوها و تعسفوها فإنما أنا و أنت في الدار و لا ثالث لنا فيستحيي أحدنا من صاحبه أو يخافه. فلما بلغنا إلى هذا الموضع دخل قوم ممن كان يخشاه فتركنا ذلك الأسلوب من الحديث و خضنا في غيره
سياسة علي و معاوية و إيراد كلام للجاحظ في ذلك

(11/191)


فأما القول في سياسة معاوية و أن شنأة علي ع و مبغضيه زعموا أنها خير من سياسة أمير المؤمنين فيكفينا في الكلام على ذلك ما قاله شيخنا أبو عثمان و نحن نحكيه بألفاظه. شرح نهج البلاغة ج : 10 ص : 228قال أبو عثمان و ربما رأيت بعض من يظن بنفسه العقل و التحصيل و الم و التمييز و هو من العامة و يظن أنه من الخاصة يزعم أن معاوية كان أبعد غورا و أصح فكرا و أجود روية و أبعد غاية و أدق مسلكا و ليس الأمر كذلك و سأرمي إليك بجملة تعرف بها موضع غلطه و المكان الذي دخل عليه الخطأ من قبله. كان علي ع لا يستعمل في حربه إلا ما وافق الكتاب و السنة و كان معاوية يستعمل خلاف الكتاب و السنة كما يستعمل الكتاب و السنة و يستعمل جميع المكايد حلالها و حرامها و يسير في الحرب بسيرة ملك الهند إذا لاقى كسرى و خاقان إذا لاقى رتبيل و علي ع يقول لا تبدءوهم بالقتال حتى يبدءوكم و لا تتبعوا مدبرا و لا تجهزوا على جريح و لا تفتحوا بابا مغلقا هذه سيرته في ذي الكلاع و في أبي الأعور السلمي و في عمرو بن العاص و حبيب بن مسلمة و في جميع الرؤساء كسيرته في الحاشية و الحشو و الأتباع و السفلة و أصحاب الحروب إن قدروا على البيات بيتوا و إن قدروا على رضخ الجميع بالجندل و هم نيام فعلوا و إن أمكن ذلك في طرفة عين لم يؤخروه إلى ساعة و إن كان الحرق أعجل من الغرق لم يقتصروا على الغرق و لم يؤخروا الحرق إلى وقت الغرق و إن أمكن الهدم لم يتكلفوا الحصار و لم يدعوا أن ينصبوا المجانيق و العرادات و النقب و التسريب و الدبابات و الكمين و لم يدعوا دس السموم و لا التضريب بين الناس بالكذب و طرح شرح نهج البلاغة ج : 10 ص : 229الكتب في عساكرهم بالسعايات و توهيم الأمور و إيحاش بعض من بعض و قتلهم بكل آلة و حيلة كيف وقع القتل و كيف دارت بهم الحال فمن اقتصر حفظك الله من التدبير على ما في الكتاب السنة كان قد منع نفسه الطويل العريض من التدبير و ما لا يتناهى من

(11/192)


المكايد و الكذب حفظك الله أكثر من الصدق و الحرام أكثر عددا من الحلال و لو سمى إنسان إنسانا باسمه لكان قد صدق و ليس له اسم غيره و لو قال هو شيطان أو كلب أو حمار أو شاة أو بعير أو كل ما خطر على البال لكان كاذبا في ذلك و كذلك الإيمان و الكفر و كذلك الطاعة و المعصية و كذلك الحق و الباطل و كذلك السقم و الصحة و كذلك الخطأ و الصواب فعلي ع كان ملجما بالورع عن جميع القول إلا ما هو لله عز و جل رضا و ممنوع اليدين من كل بطش إلا ما هو لله رضا و لا يرى الرضا إلا فيما يرضاه الله و يحبه و لا يرى الرضا إلا فيما دل عليه الكتاب و السنة دون ما يعول عليه أصحاب الدهاء و النكراء و المكايد و الآراء فلما أبصرت العوام كثرة نوادر معاوية في المكايد و كثرة غرائبه في الخداع و ما اتفق له و تهيأ على يده و لم يرو ذلك من علي ع ظنوا بقصر عقولهم و قلة علومهم أن ذاك من رجحان عند معاوية و نقصان عند علي ع فانظر بعد هذا كله هل يعد له من الخدع إلا رفع المصاحف ثم انظر هل خدع بها إلا من عصى رأي علي ع و خالف أمره. فإن زعمت أنه قال ما أراد من الاختلاف فقد صدقت و ليس في هذا اختلفنا و لا عن غرارة أصحاب علي ع و عجلتهم و تسرعهم و تنازعهم دفعنا و إنما كان قولنا في التميز بينهما في الدهاء و النكراء و صحة العقل و الرأي و البزلاء على أنا لا نصف الصالحين

(11/193)


شرح نهج البلاغة ج : 10 ص : 230بالدهاء و النكراء لا نقول ما كان أنكر أبا بكر بن أبي قحافة و ما كان أنكر عمر بن الخطاب و لا يقول أحد عنده شي ء من الخير كان رسول الله ص أدهى العرب و العجم و أنكر قريش و أمكر كنانة لأن هذه الكلمة إنما وضعت في مديح أصحاب الأو من يتعمق في الرأي في توكيد الدنيا و زبرجها و تشديد أركانها فأما أصحاب الآخرة الذين يرون الناس لا يصلحون على تدبير البشر و إنما يصلحون على تدبير خالق البشر فإن هؤلاء لا يمدحون بالدهاء و النكراء و لم يمنعوا هذا إلا ليعطوا أفضل منه أ لا ترى أن المغيرة بن شعبة و كان أحد الدهاة حين رد على عمرو بن العاص قوله في عمر بن الخطاب و عمرو بن العاص أحد الدهاة أيضا أ أنت كنت تفعل أو توهم عمر شيئا فيلقنه عنك ما رأيت عمر مستخليا بأحد إلا رحمته كائنا من كان ذلك الرجل كان عمر و الله أعقل من أن يخدع و أفضل من أن يخدع و لم يذكره بالدهاء و النكراء هذا مع عجبه بإضافة الناس ذلك إليه و لكنه قد علم أنه إذا أطلق على الأئمة الألفاظ التي لا تصلح في أهل الطهارة كان ذلك غير مقبول منه فهذا هذا. و كذلك كان حكم قول معاوية للجميع أخرجوا إلينا قتلة عثمان و نحن لكم سلم فاجهد كل جهدك و استعن بمن شايعك إلى أن تتخلص إلى صواب رأي في ذلك الوقت أضله علي حتى تعلم أن معاوية خادع و أن عليا ع كان المخدوع. فإن قلت فقد بلغ ما أراد و نال ما أحب فهل رأيت كتابنا وضع إلا على أن عليا كان قد امتحن في أصحابه و في دهره بما لم يمتحن إمام قبله من الاختلاف و المنازعة و التشاح من الرئاسة و التسرع و العجلة و هل أتي ع إلا من هذا المكان أ و لسنا قد فرغنا من هذا الأمر و قد علمنا أن ثلاثة نفر تواطئوا على قتل ثلاثة نفر فانفرد ابن ملجم شرح نهج البلاغة ج : 10 ص : 231بالتماس ذلك من علي ع و انفرد البرك الصريمي بالتماس ذلك من رو بن العاص و انفرد الآخر و هو عمرو بن بكر التميمي بالتماس ذلك من

(11/194)


معاوية فكان من الاتفاق أو من الامتحان أن كان علي من بينهم هو المقتول. و في قياس مذهبكم أن تزعموا أن سلامة عمرو و معاوية إنما كانت بحزم منهما و أن قتل علي ع إنما هو من تضييع منه فإذ قد تبين لكم أنه من الابتلاء و الامتحان في نفسه بخلاف الذي قد شاهدتموه في عدوه فكل شي ء سوى ذلك فإنما هو تبع للنفس. هذا آخر كلام أبي عثمان في هذا الموضع و من تأمله بعين الإنصاف و لم يتبع الهوى علم صحة جميع ما ذكره و أن أمير المؤمنين دفع من اختلاف أصحابه و سوء طاعته له و لزومه سنن الشريعة و منهج العدل و خروج معاوية و عمرو بن العاص عن قاعدة الشرع في استمالة الناس إليهم بالرغبة و الرهبة إلى ما لم يدفع إليه غيره فلو لا أنه ع كان عارفا بوجوه السياسة و تدبير أمر السلطان و الخلافة حاذقا في ذلك لم يجتمع عليه إلا القليل من الناس و هم أهل الآخرة خاصة الذين لا ميل لهم إلى الدنيا فلما وجدناه دبر الأمر حين وليه و اجتمع عليه من العساكر و الأتباع ما يتجاوز العد و الحصر و قاتل بهم أعداءه الذين حالهم حالهم فظفر في أكثر حروبه و وقف الأمر بينه و بين معاوية على سواء و كان هو الأظهر و الأقرب إلى الانتصار علمنا أنه من معرفة تدبير الدول و السلطان بمكان مكين

(11/195)


شرح نهج البلاغة ج : 10 ص : 232ذكر أقوال من طعن في سياسة علي و الرد عليهاو قد تعلق من طعن في سياسته بأمور منها قولهم لو كان حين بويع له بالخلافة في المدينة أقر معاوية على الشام إلى أن يستقر الأمر له و يتوطد و يبايعه معاوية و أهل الشام ثم يعزله بعد ذلك لكان قد كفي ما جرى بينهما من الحرب. و الجواب أن قرائن الأحوال حينئذ قد كان علم أمير المؤمنين ع منها أن معاوية لا يبايع له و إن أقره على ولاية الشام بل كان إقراره له على إمرة الشام أقوى لحال معاوية و آكد في الامتناع من البيعة لأنه لا يخلو صاحب السؤال إما أن يقول كان ينبغي أن يطالبه بالبيعة و يقرن إلى ذلك تقليده بالشام فيكون الأمران معا أو يتقدم منه ع المطالبة بالبيعة أو يتقدم منه إقراره على الشام و تتأخر المطالبة بالبيعة إلى وقت ثان فإن كان الأول فمن الممكن أن يقرأ معاوية على أهل الشام تقليده بالإمرة فيؤكد حاله عندهم و يقرر في أنفسهم لو لا أنه أهل لذلك لما اعتمده علي ع معه ثم يماطله بالبيعة و يحاجزه عنها و إن كان الثاني فهو الذي فعله أمير المؤمنين ع و إن كان الثالث فهو كالقسم الأول بل هو آكد فيما يريده معاوية من الخلاف و العصيان و كيف يتوهم من يعرف السير أن معاوية كان يبايع له لو أقره على الشام و بينه و بينه ما لا تبرك الإبل عليه من الترات القديمة و الأحقاد و هو الذي قتل حنظلة أخاه و الوليد خاله و عتبة جده في مقام واحد ثم ما جرى بينهما في أيام عثمان حتى أغلظ كل واحد منهما لصاحبه و حتى تهدده معاوية و قال له إني شاخص إلى الشام و تارك عندك هذا الشيخ يعني عثمان و الله لئن شرح نهج البلاغة : 10 ص : 233انحصت منه شعرة واحدة لأضربنك بمائة ألف سيف و قد ذكرنا شيئا مما جرى بينهما فيما تقدم. و أما قول ابن عباس له ع وله شهرا و اعزله دهرا و ما أشار به المغيرة بن شعبة فإنهما ما توهماه و ما غلب على ظنونهما و خطر بقلوبهما و علي ع كان أعلم بحاله

(11/196)


مع معاوية و أنها لا تقبل العلاج و التدبير و كيف يخطر ببال عارف بحال معاوية و نكره و دهائه و ما كان في نفسه من علي ع من قتل عثمان و من قبل قتل عثمان أنه يقبل إقرار علي ع له على الشام و ينخدع بذلك و يبايع و يعطي صفقة يمينه إن معاوية لأدهى من أن يكاد بذلك و إن عليا ع لأعرف بمعاوية ممن ظن أنه لو استماله بإقراره لبايع له و لم يكن عند علي ع دواء لهذا المرض إلا السيف لأن الحال إليه كانت تئول لا محالة فجعل الآخر أولا. و أنا أذكر في هذا الموضع خبرا رواه الزبير بن بكار في الموفقيات ليعلم من يقف عليه أن معاوية لم يكن لينجذب إلى طاعة علي ع أبدا و لا يعطيه البيعة و أن مضادته له و مباينته إياه كمضادة السواد للبياض لا يجتمعان أبدا و كمباينة السلب للإيجاب فإنها مباينة لا يمكن زوالها أصلا قال الزبير حدثني محمد بن زكريا بن بسطام قال حدثني محمد بن يعقوب بن أبي الليث قال حدثني أحمد بن محمد بن الفضل بن يحيى المكي عن أبيه عن جده الفضل بن يحيى عن الحسن بن عبد الصمد عن قيس بن عرفجة قال لما حصر عثمان أبرد مروان بن الحكم بخبره بريدين أحدهما إلى الشام و الآخر إلى اليمن و بها يومئذ يعلى بن منية و مع كل واحد منهما كتاب فيه أن بني أمية في الناس كالشامة شرح نهج البلاغة ج : 10 ص : 234الحمراء و أن الناس قد قعدوا لهم برأس كل محجة و على كل طريق فجعلوهم مرمى العر و العضيهة و مقذف القشب و الأفيكة و قد علمتم أنها لم تأت عثمان إلا كرها تجبذ من ورائها و إني خائف إن قتل أن تكون من بني أمية بمناط الثريا إنم نصر كرصيف الأساس المحكم و لئن وهى عمود البيت لتتداعين جدرانه و الذي عيب عليه إطعامكما الشام و اليمن و لا شك أنكما تابعاه إن لم تحذرا و أما أنا فمساعف كل مستشير و معين كل مستصرخ و مجيب كل داع أتوقع الفرصة فأثب وثبة الفهد أبصر غفلة مقتنصة و لو لا مخافة عطب البريد و ضياع الكتب لشرحت لكما من الأمر ما لا تفزعان معه

(11/197)


إلى أن يحدث الأمر فجدا في طلب ما أنتما ولياه و على ذلك فليكن العمل إن شاء الله و كتب في آخره
و ما بلغت عثمان حتى تخطمت رجال و دانت للصغار رجال لقد رجعت عودا على بدء كونها و إن لم تجدا فالمصير زوال سيبدي مكنون الضمائر قولهم و يظهر منهم بعد ذاك فعال فإن تقعدا لا تطلبا ما ورثتما فليس لنا طول الحياة مقال نعيش بدار الذل في كل بلدة و تظهر منا كأبة ول
فلما ورد الكتاب على معاوية أذن في الناس الصلاة جامعة ثم خطبهم خطبة المستنصر المستصرخ. و في أثناء ذلك ورد عليه قبل أن يكتب الجواب كتاب مروان بقتل عثمان و كانت نسخته وهب الله لك أبا عبد الرحمن قوة العزم و صلاح النية و من عليك بمعرفة الحق و اتباعه فإني كتبت إليك هذا الكتاب بعد قتل عثمان أمير المؤمنين شرح نهج البلاغة ج : 10 ص : 235و أي قتلة قتل نحر كما ينحر البعير الكبير عند اليأس من أن ينوء بالحمل بعد أن نقبت صفحته بطي المراحل و سير الهجير و إني معلمك من خبره غير مقصر و لا مطيل إن القوم استطالوا مدته و استقلوا ناصره و استضعفوه في بدنه و أملوا بقتله ب أيديهم فيما كان قبضه عنهم و اعصوصبوا عليه فظل محاصرا قد منع من صلاة الجماعة و رد المظالم و النظر في أمور الرعية حتى كأنه هو فاعل لما فعلوه فلما دام ذلك أشرف عليهم فخوفهم الله و ناشدهم و ذكرهم مواعيد رسول الله ص له و قوله فيه فلم يجحدوا فضله و لم ينكروه ثم رموه بأباطيل اختلقوها ليجعلوا ذلك ذريعة إلى قتله فوعدهم التوبة مما كرهوا و وعدهم الرجعة إلى ما أحبوا فلم يقبلوا ذلك و نهبوا داره و انتهكوا حرمته و وثبوا عليه فسفكوا دمه و انقشعوا عنه انقشاع سحابة قد أفرغت ماءها منكفئين قبل ابن أبي طالب انكفاء الجراد إذا أبصر المرعى فأخلق ببني أمية أن يكونوا من هذا الأمر بمجرى العيوق إن لم يثأره ثائر فإن شئت أبا عبد الرحمن أن تكونه فكنه و السلام. فلما ورد الكتاب على معاوية أمر بجمع الناس ثم خطبهم خطبة

(11/198)


أبكى منها العيون و قلقل القلوب حتى علت الرنة و ارتفع الضجيج و هم النساء أن يتسلحن ثم كتب إلى طلحة بن عبيد الله و الزبير بن العوام و سعيد بن العاص و عبد الله بن عامر بن كريز و الوليد بن عقبة و يعلى بن منية و هو اسم أمه و إنما اسم أبيه أمية. فكان كتاب طلحة أما بعد فإنك أقل قريش في قريش وترا مع صباحة وجهك و سماحة كفك و فصاحة لسانك فأنت بإزاء من تقدمك في السابقة و خامس المبشرين بالجنة و لك يوم أحد و شرفه و فضله فسارع رحمك الله إلى ما تقلدك الرعية من أمرها مما لا يسعك التخلف عنه و لا يرضى الله منك إلا بالقيام به فقد أحكمت لك الأمر شرح نهج البلاغة ج : 10 ص : 236قبلي و الزبير فغير متم عليك بفضل و أيكما قدم صاحبه فالمقدم الإمام و الأمر من بعده للمقدم له سلك الله بك قصد المهتدين و وهب لك رشد الموفقين و السلام. و كتب إلى الزبير أما بعد فإنك الزبير بن العوام بن أبي خديجة و ابن عمة رسول الله ص و حواريه و سلفه و صهر أبي بكر و فارس المسلمين و أنت الباذل في الله مهجته بمكة عند صيحة الشيطان بعثك المنبعث فخرجت كالثعبان المنسلخ بالسيف المنصلت تخبط خبط الجمل الرديع كل ذلك قوة إيمان و صدق يقين و سبقت لك من رسول الله ص البشارة بالجنة و جعلك عمر أحد المستخلفين على الأمة و اعلم يا أبا عبد الله أن الرعية أصبحت كالغنم المتفرقة لغيبة الراعي فسارع رحمك الله إلى حقن الدماء و لم الشعث و جمع الكلمة و صلاح ذات البين قبل تفاقم الأمر و انتشار الأمة فقد أصبح الناس على شفا جرف هار عما قليل ينهار إن لم يرأب فشمر لتأليف الأمة و ابتغ إلى ربك سبيلا فقد أحكمت الأمر على من قبلي لك و لصاحبك على أن الأمر للمقدم ثم لصاحبه من بعده و جعلك الله من أئمة الهدى و بغاة الخير و التقوى و السلام. و كتب إلى مروان بن الحكم أما بعد فقد وصل إلي كتابك بشرح خبر أمير المؤمنين و ما ركبوه به و نالوه منه جهلا بالله و جراءة عليه و

(11/199)


استخفافا بحقه و لأماني لوح الشيطان بها في شرك الباطل ليدهدههم في أهويات الفتن و وهدات الضلال و لعمري لقد صدق عليهم ظنه و لقد اقتنصهم بأنشوطة فخه فعلى رسلك أبا عبد الله يمشى الهوينى و يكون أولا فإذا قرأت كتابي هذا فكن كالفهد لا يصطاد إلا غيلة و لا يتشازر إلا عن حيلة
شرح نهج البلاغة ج : 10 ص : 237و كالثعلب لا يفلت إلا روغانا و أخف نفسك منهم إخفاء القنفذ رأسه عند لمس الأكف و امتهن نفسك امتهان من ييأس القوم من نصره و انتصاره و ابحث عن أمورهم بحث الدجاجة عن حب الدخن عند فقاسها و أنغل الحجاز فإني منغل الشام و السلام. و ب إلى سعيد بن العاص أما بعد فإن كتاب مروان ورد علي من ساعة وقعت النازلة تقبل به البرد بسير المطي الوجيف تتوجس توجس الحية الذكر خوف ضربة الفأس و قبضة الحاوي و مروان الرائد لا يكذب أهله فعلام الإفكاك يا ابن العاص و لات حين مناص ذلك أنكم يا بني أمية عما قليل تسألون أدنى العيش من أبعد المسافة فينكركم من كان منكم عارفا و يصد عنكم من كان لكم واصلا متفرقين في الشعاب تتمنون لمظة المعاش إن أمير المؤمنين عتب عليه فيكم و قتل في سبيلكم ففيم القعود عن نصرته و الطلب بدمه و أنتم بنو أبيه ذوو رحمه و أقربوه و طلاب ثأره أصبحتم متمسكين بشظف معاش زهيد عما قليل ينزع منكم عند التخاذل و ضعف القوى فإذا قرأت كتابي هذا فدب دبيب البرء في الجسد النحيف و سر سير النجوم تحت الغمام و احشد حشد الذرة في الصيف لانجحارها في الصرد فقد أيدتكم بأسد و تيم و كتب في الكتاب
تالله لا يذهب شيخي باطلا حتى أبير مالكا و كاهلا

(11/200)


شرح نهج البلاغة ج : 10 ص : 238القاتلين الملك الحلاحلا خير معد حسبا و نائلو كتب إلى عبد الله بن عامر أما بعد فإن المنبر مركب ذلول سهل الرياضة لا ينازعك اللجام و هيهات ذلك إلا بعد ركوب أثباج المهالك و اقتحام أمواج المعاطب و كأني بكم يا بني أمية شعارير كالأوارك تقودها الحداة أو كرخم الخندمة تذرق خوف العقاب فثب الآن رحمك الله قبل أن يستشري الفساد و ندب السوط جديد و الجرح لما يندمل و من قبل استضراء الأسد و التقاء لحييه على فريسته و ساور الأمر مساورة الذئب الأطلس كسيرة القطيع و نازل الرأي و انصب الشرك و ارم عن تمكن و ضع الهناء مواضع النقب و اجعل أكبر عدتك الحذر و أحد سلاحك التحريض و اغض عن العوراء و سامح اللجوج و استعطف الشارد و لاين الأشوس و قو عزم المريد و بادر العقبة و ازحف زحف الحية و اسبق قبل أن تسبق و قم قبل أن يقام لك و اعلم أنك غير متروك و لا مهمل فإني لكم ناصح أمين و السلام. و كتب في أسفل الكتاب شرح نهج البلاغة ج : 10 ص : 23
عليك سلام الله قيس بن عاصم و رحمته ما شاء أن يترحماتحية من أهدى السلام لأهله إذا شط دارا عن مزارك سلمافما كان قيس هلكه هلك واحد و لكنه بنيان قوم تهدما
و كتب إلى الوليد بن عقبة يا ابن عقبة كن الجيش و طيب العيش أطيب من سفع سموم الجوزاء عند اعتدال الشمس في أفقها إن عثمان أخاك أصبح بعيدا منك فاطلب لنفسك ظلا تستكن به إني أراك على التراب رقودا و كيف بالرقاد بك لا رقاد لك فلو قد استتب هذا الأمر لمريده ألفيت كشريد النعام يفزع من ظل الطائر و عن قليل تشرب الرنق و تستشعر الخوف أراك فسيح الصدر مسترخي اللبب رخو الحزام قليل الاكتراث و عن قليل يجتث أصلك و السلام. و كتب في آخر الكتاب

(11/201)


اخترت نومك أن هبت شآمية عند الهجير و شربا بالعشيات على طلابك ثأرا من بني حكم هيهات من راقد طلاب ثاراتو كتب إلى يعلى بن أمية حاطك الله بكلاءته و أيدك بتوفيقه كتبت إليك صبيحة ورد علي كتاب مروان بخبر قتل أمير المؤمنين و شرح الحال فيه و إن أمير المؤمنين طال به العمر حتى نقصت قواه و ثقلت نهضته و ظهرت الرعشة في أعضائه فلما رأى ذلك أقوام لم يكونوا عنده موضعا للإمامة و الأمانة و تقليد الولاية وثبوا به و ألبوا عليه فكان أعظم ما نقموا عليه و عابوه به ولايتك اليمن و طول مدتك عليها ثم ترامى بهم الأمر حالا بعد حال شرح نهج البلاغة ج : 10 ص : 240حتى ذبحوه ذبح النطيحة مبادرا بها الفوت و هو مع ذلك صائم معانق المصحف يتلو اب الله فيه عظمت مصيبة الإسلام بصهر الرسول و الإمام المقتول على غير جرم سفكوا دمه و انتهكوا حرمته و أنت تعلم أن بيعته في أعناقنا و طلب ثأره لازم لنا فلا خير في دنيا تعدل بنا عن الحق و لا في إمرة توردنا النار و إن الله جل ثناؤه لا يرضى بالتعذير في دينه فشمر لدخول العراق. فأما الشام فقد كفيتك أهلها و أحكمت أمرها و قد كتبت إلى طلحة بن عبيد الله أن يلقاك بمكة حتى يجتمع رأيكما على إظهار الدعوة و الطلب بدم عثمان أمير المؤمنين المظلوم و كتبت إلى عبد الله بن عامر يمهد لكم العراق و يسهل لكم حزونة عقابها. و اعلم يا ابن أمية أن القوم قاصدوك بادئ بدء لاستنطاف ما حوته يداك من المال فاعلم ذلك و اعمل على حسبه إن شاء الله. و كتب في أسفل الكتاب
ظل الخليفة محصورا يناشدهم بالله طورا و بالقرآن أحياناو قد تألف أقوام على حنق عن غير جرم و قالوا فيه بهتانافقام يذكرهم وعد الرسول له و قوله فيه إسرارا و إعلانافقال كفوا فإني معتب لكم و صارف عنكم يعلى و مروانافكذبوا ذاك منه ثم ساوره من حاض لبته ظلما و عدوانا

(11/202)


قال فكتب إليه مروان جوابا عن كتابه أما بعد فقد وصل كتابك فنعم كتاب زعيم العشيرة و حامي الذمار و أخبرك شرح نهج البلاغة ج : 10 ص : 241أن القوم على سنن استقامة إلا شظايا شعب شتت بينهم مقولي على غير مجابهة حسب ما تقدم من أمرك و إنما كان ذلك رسيس العصاة و رميخدر من أغصان الدوحة و لقد طويت أديمهم على نغل يحلم منه الجلد كذبت نفس الظان بنا ترك المظلمة و حب الهجوع إلا تهويمة الراكب العجل حتى تجذ جماجم و جماجم جذ العراجين المهدلة حين إيناعها و أنا على صحة نيتي و قوة عزيمتي و تحريك الرحم لي و غليان الدم مني غير سابقك بقول و لا متقدمك بفعل و أنت ابن حرب طلاب الترات و آبي الضيم. و كتابي إليك و أنا كحرباء السبسب في الهجير ترقب عين الغزالة و كالسبع المفلت من الشرك يفرق من صوت نفسه منتظرا لما تصح به عزيمتك و يرد به أمرك فيكون العمل به و المحتذى عليه. و كتب في أسفل الكتاب
أ يقتل عثمان و ترقا دموعنا و نرقد هذا الليل لا نتفزع و نشرب برد الماء ريا و قد مضى على ظمأ يتلو القرآن و يركع فإني و من حج الملبون بيته و طافوا به سعيا و ذو العرش يسمع سأمنع نفسي كل ما فيه لذة من العيش حتى لا يرى فيه مطمع و أقتل بالمظلوم من كان ظالما و حكم الله ما عنه مدفع

(11/203)


و كتب إليه عبد الله بن عامر شرح نهج البلاغة ج : 10 ص : 242أما بعد فإن أمير المؤمنين كان لنا الجناح الحاضنة تأوي إليها فراخها تحتها فلما أقصده السهم صرنا كالنعام الشارد و لقد كنت مشترك الفكر ضال الفهم ألتمس دريئة أستجن بها من خطأ الحوادث حتى وقع إلي كتابكانتبهت من غفلة طال فيها رقادي فأنا كواجد المحجة كان إلى جانبها حائرا و كأني أعاين ما وصفت من تصرف الأحوال. و الذي أخبرك به أن الناس في هذا الأمر تسعة لك و واحد عليك و و الله للموت في طلب العز أحسن من الحياة في الذلة و أنت ابن حرب فتى الحروب و نضار بني عبد شمس و الهمم بك منوطة و أنت منهضها فإذا نهضت فليس حين قعود و أنا اليوم على خلاف ما كانت عليه عزيمتي من طلب العافية و حب السلامة قبل قرعك سويداء القلب بسوط الملام و لنعم مؤدب العشيرة أنت و إنا لنرجوك بعد عثمان و ها أنا متوقع ما يكون منك لأمتثله و أعمل عليه إن شاء الله. و كتب في أسفل الكتاب
لا خير في العيش في ذل و منقصة و الموت أحسن من ضيم و من عارإنا بنو عبد شمس معشر أنف غر جحاجحة طلاب أوتارو الله لو كان ذميا مجاورنا ليطلب العز لم نقعد عن الجارفكيف عثمان لم يدفن بمزبلة على القمامة مطروحا بها عارفازحف إلي فإني زاحف لهم بكل أبيض ماضي الحد بتار

(11/204)


و كتب إليه الوليد بن عقبة أما بعد فإنك أسد قريش عقلا و أحسنهم فهما و أصوبهم رأيا معك حسن شرح نهج البلاغة ج : 10 ص : 243السياسة و أنت موضع الرئاسة تورد بمعرفة و تصدر عن منهل روي مناوئك كالمنقلب من العيوق يهوي به عاصف الشمال إلى لجة البحر. كتبت إلي تذكر طيالخيش و لين العيش فمل ء بطني علي حرام إلا مسكة الرمق حتى أفري أوداج قتلة عثمان فري الأهب بشباة الشفار و أما اللين فهيهات إلا خيفة المرتقب يرتقب غفلة الطالب إنا على مداجاة و لما تبد صفحاتنا بعد و ليس دون الدم بالدم مزحل إن العار منقصة و الضعف ذل أ يخبط قتل عثمان زهرة الحياة الدنيا و يسقون برد المعين و لما يمتطوا الخوف و يستحلسوا الحذر بعد مسافة الطرد و امتطاء العقبة الكئود في الرحلة لا دعيت لعقبة إن كان ذلك حتى أنصب لهم حربا تضع الحوامل لها أطفالها قد ألوت بنا المسافة و وردنا حياض المنايا و قد عقلت نفسي على الموت عقل البعير و احتسبت أني ثاني عثمان أو أقتل قاتله فعجل علي ما يكون من رأيك فإنا منوطون بك متبعون عقبك و لم أحسب الحال تتراخى بك إلى هذه الغاية لما أخافه من إحكام القوم أمرهم و كتب في أسفل الكتاب

(11/205)


نومي علي محرم إن لم أقم بدم ابن أمي من بني العلات قامت علي إذا قعدت و لم أقم بطلاب ذاك مناحة الأموات عذبت حياض الموت عندي بعد ما كانت كريهة مورد النهلاو كتب إليه يعلى بن أمية شرح نهج البلاغة ج : 10 ص : 244إنا و أنتم يا بني أمية كالحجر لا يبنى بغير مدر و كالسيف لا يقطع إلا بضاربه. وصل كتابك بخبر القوم و حالهم فلئن كانوا ذبحوه ذبح النطيحة بودر بها الموت لينحرن ذابحه نحر البدنة وافى بها الهدي الأجل ثكلتنين أنا ابنها إن نمت عن طلب وتر عثمان أو يقال لم يبق فيه رمق إني أرى العيش بعد قتل عثمان مرا إن أدلج القوم فإني مدلج و أما قصدهم ما حوته يدي من المال فالمال أيسر مفقود إن دفعوا إلينا قتلة عثمان و إن أبوا ذلك أنفقنا المال على قتالهم و إن لنا و لهم لمعركة نتناحر فيها نحر القدار النقائع عن قليل تصل لحومها. و كتب في أسفل الكتاب
لمثل هذا اليوم أوصى الناس لا تعط ضيما أو يخر الراس

(11/206)


قال فكل هؤلاء كتبوا إلى معاوية يحرضونه و يغرونه و يحركونه و يهيجونه إلا سعيد بن العاص فإنه كتب بخلاف ما كتب به هؤلاء كان كتابه أما بعد فإن الحزم في التثبت و الخطأ في العجلة و الشؤم في البدار و السهم سهمك ما لم ينبض به الوتر و لن يرد الحالب في الضرع اللبن ذكرت حق أمير المؤمنين علينا و قرابتنا منه و أنه قتل فينا فخصلتان ذكرهما نقص و الثالثة تكذب و أمرتنا بطلب دم عثمان فأي جهة تسلك فيها أبا عبد الرحمن ردمت الفجاج و أحكم الأمر عليك و ولي زمامه غيرك فدع مناوأة من لو كان افترش فراشه صدر الأمر لم يعدل به غيره و قلت كأنا عن قليل لا نتعارف فهل نحن إلا حي من قريش إن لم تنلنا الولاية لم يضق عنا الحق إنها خلافة منافية و بالله أقسم قسما مبرورا لئن صحت عزيمتك على شرح نهج البلاغة ج : 10 ص : 245ما ورد به كتابك لألفينك بين الحالين طليحا و هبني إخالك بعد خوض الدماء تنال الظ هل في ذلك عوض من ركوب المأثم و نقص الدين. أما أنا فلا على بني أمية و لا لهم أجعل الحزم داري و البيت سجني و أتوسد الإسلام و أستشعر العافية فاعدل أبا عبد الرحمن زمام راحلتك إلى محجة الحق و استوهب العافية لأهلك و استعطف الناس على قومك و هيهات من قبولك ما أقول حتى يفجر مروان ينابيع الفتن تأجج في البلاد و كأني بكما عند ملاقاة الأبطال تعتذران بالقدر و لبئس العاقبة الندامة و عما قليل يضح لك الأمر و السلام. هذا آخر ما تكاتب القوم به و من وقف عليه علم أن الحال لم يكن حالا يقبل العلاج و التدبير و أنه لم يكن بد من السيف و أن عليا ع كان أعرف بما عمل. و قد أجاب ابن سنان في كتابه الذي سماه العادل عن هذا السؤال فقال قد علم الناس كافة أنه ع في قصة الشورى عرض عليه عبد الرحمن بن عوف أن يعقد له الخلافة على أن يعمل بكتاب الله و سنة رسوله و سيرة أبي بكر و عمر فلم يستجب إلى ذلك و قال بل على أن أعمل بكتاب الله و سنة رسوله و أجتهد رأيي. و قد

(11/207)


اختلف الناس في ذلك فقالت الشيعة إنما لم يدخل تحت الشرط لأنه لم يستصوب سيرتهما و قال غيرهم إنما امتنع لأنه مجتهد و المجتهد لا يقلد المجتهد فأيهما أقرب على القولين جميعا إثما و أيسر وزرا أن يقر معاوية على ولاية الشام مدة إلى أن تتوطد خلافته مع ما ظهر من جور معاوية و عداوته و مد يده إلى الأموال و الدماء أيام سلطانه أو أن يعاهد عبد الرحمن على العمل بسيرة أبي بكر و عمر ثم يخالف بعض أحكامها إذا استقر الأمر له و وقع العقد و لا ريب أن أحدا لا يخفى عليه فضل ما بين

(11/208)


شرح نهج البلاغة ج : 10 ص : 246الموضعين و فضل ما بين الإثمين فمن لا يجيب إلى الخلافة و الاستيلاء على جميع بلاد الإسلام إذا تسمح بلفظة يتلفظ بها يجوز أن يتأولها أو يوري فيها كيف يستجيب إلى إقرار الجائر و تقوية يده مع تمكينه في سلطانه لتحصل له طاعة أهل الش و استضافة طرف من الأطراف و كأن معنى قول القائل هلا أقر معاوية على الشام هو هلا كان ع متهاونا بأمر الدين راغبا في تشديد أمر الدنيا. و الجواب عن هذا ظاهر و جهل السائل عنه واضح. و اعلم أن حقيقة الجواب هو أن عليا ع كان لا يرى مخالفة الشرع لأجل السياسة سواء أ كانت تلك السياسة دينية أو دنيوية أما الدنيوية فنحو أن يتوهم الإمام في إنسان أنه يروم فساد خلافته من غير أن يثبت ذلك عليه يقينا فإن عليا ع لم يكن يستحل قتله و لا حبسه و لا يعمل بالتوهم و بالقول غير المحقق و أما الدينية فنحو ضرب المتهم بالسرقة فإنه أيضا لم يكن يعمل به بل يقول إن يثبت عليه بإقرار أو بينة أقمت عليه الحد و إلا لم أعترضه و غير علي ع قد كان منهم من يرى خلاف هذا الرأي و مذهب مالك بن أنس العمل على المصالح المرسلة و أنه يجوز للإمام أن يقتل ثلث الأمة لإصلاح الثلثين و مذهب أكثر الناس أنه يجوز العمل بالرأي و بغالب الظن و إذا كان مذهبه ع ما قلناه و كان معاوية عنده فاسقا و قد سبق عنده مقدمة أخرى يقينية هي أن استعمال الفاسق لا يجوز و لم يكن ممن يرى تمهيد قاعدة الخلافة بمخالفة الشريعة فقد تعين مجاهرته بالعزل و إن أفضى ذلك إلى الحرب. فهذا هو الجواب الحقيقي و لو لم يكن هذا هو الجواب الحقيقي لكان لقائل أن شرح نهج البلاغة ج : 10 ص : 247يقول لابن سنان القول في عدوله عن الدخول تحت شرط عبد الرحمن كالقول في عدوله عن إقرار معاوية على الشام فإن من ذهب إلى تغليطه في أحد الموضعين له أن يذهب إلى تغليطه في الموضع الآخر. ل ابن سنان و جواب آخر و هو أنا قد علمنا أن أحد الأحداث التي نقمت

(11/209)


على عثمان و أفضت بالمسلمين إلى حصاره و قتله تولية معاوية الشام مع ما ظهر من جوره و عدوانه و مخالفة أحكام الدين في سلطانه و قد خوطب عثمان في ذلك فاعتذر بأن عمر ولاه قبله فلم يقبل المسلمون عذره و لا قنعوا منه إلا بعزله حتى أفضى الأمر إلى ما أفضى و كان علي ع من أكثر المسلمين لذلك كراهية و أعرفهم بما فيه من الفساد في الدين. فلو أنه ع افتتح عقد الخلافة له بتوليته معاوية الشام و إقراره فيه أ ليس كان يبتدئ في أول أمره بما انتهى إليه عثمان في آخره فأفضى إلى خلعه و قتله و لو كان ذلك في حكم الشريعة سائغا و الوزر فيه مأمونا لكان غلطا قبيحا في السياسة و سببا قويا للعصيان و المخالفة و لم يكن يمكنه ع أن يقول للمسلمين إن حقيقة رأيي عزل معاوية عند استقرار الأمر و طاعة الجمهور لي و إن قصدي بإقراره على الولاية مخادعته و تعجيل طاعته و مبايعة الأجناد الذين قبله ثم أستأنف بعد ذلك فيه ما يستحقه من العزل و أعمل فيه بموجب العدل لأن إظهاره ع لهذا العزم كان يتصل خبره بمعاوية فيفسد التدبير الذي شرع فيه و ينتقض الرأي الذي عول عليه. و منها قولهم إنه ترك طلحة و الزبير حتى خرجا إلى مكة و أذن لهما في العمرة و ذهب عنه الرأي في ارتباطهما قبله و منعهما من البعد عنه.

(11/210)


شرح نهج البلاغة ج : 10 ص : 248و الجواب عنه أنه قد اختلف الرواة في خروج طلحة و الزبير من المدينة هل كان بإذن علي ع أم لا فمن قال إنهما خرجا عن غير إذنه و لا علمه فسؤاله ساقط و من قال إنهما استأذناه في العمرة و أذن لهما فقد روي أنه قال و الله ما تريدان الرة و إنما تريدان الغدرة و خوفهما بالله من التسرع إلى الفتنة و ما كان يجوز له في الشرع أن يحبسهما و لا في السياسة أما في الشرع فلأنه محظور أن يعاقب الإنسان بما لم يفعل و على ما يظن منه و يجوز ألا يقع و أما في السياسة فلأنه لو أظهر التهمة لهما و هما من أفاضل السابقين و جلة المهاجرين لكان في ذلك من التنفير عنه ما لا يخفى و من الطعن عليه ما هو معلوم بأن يقال إنه ليس من إمامته على ثقة فلذلك يتهم الرؤساء و لا يأمن الفضلاء لا سيما و طلحة كان أول من بايعه و الزبير لم يزل مشتهرا بنصرته فلو حبسهما و أظهر الشك فيهما لم يسكن أحد إلى جهته و لنفر الناس كلهم عن طاعته. فإن قالوا فهلا استصلحهما و ولاهما و ارتبطهما بالإجابة إلى أغراضهما. قيل لهم فحوى هذا أنكم تطلبون من أمير المؤمنين ع أن يكون في الإمامة مغلوبا على رأيه مفتاتا عليه في تدبيره فيقر معاوية على ولاية الشام غصبا و يولي طلحة و الزبير مصر و العراق كرها و هذا شي ء ما دخل تحته أحد ممن قبله و لا رضوا أن يكون لهم من الإمامة الاسم و من الخلافة اللفظ و لقد حورب عثمان و حصر على أن يعزل بعض ولاته فلم يجب إلى ذلك فكيف تسومون عليا ع أن يفتتح أمره بهذه الدنية و يرضى بالدخول تحتهذه الخطة و هذا ظاهر. و منها تعلقهم بتولية أمير المؤمنين ع محمد بن أبي بكر مصر و عزله قيس بن سعد عنها حتى قتل محمد بها و استولى معاوية عليها. شرح نهج البلاغة ج : 10 ص : 249و الجواب أنه ليس يمكن أن يقال إن محمدا رحمه الله لم يكن بأهل لولاية مصر لأنه كان شعا زاهدا فاضلا صحيح العقل و الرأي و كان مع ذلك من المخلصين في محبة

(11/211)


أمير المؤمنين ع و المجتهدين في طاعته و ممن لا يتهم عليه و لا يرتاب بنصحه و هو ربيبه و خريجه و يجري مجرى أحد أولاده ع لتربيته له و إشفاقه عليه. ثم كان المصريون على غاية المحبة له و الإيثار لولايته و لما حاصروا عثمان و طالبوه بعزل عبد الله بن سعد بن أبي سرح عنهم اقترحوا تأمير محمد بن أبي بكر عليهم فكتب له عثمان بالعهد على مصر و صار مع المصريين حتى تعقبه كتاب عثمان إلى عبد الله بن سعد في أمره و أمر المصريين بما هو معروف فعادوا جميعا و كان من قتل عثمان ما كان فلم يكن ظاهر الرأي و وجه التدبير إلا تولية محمد بن أبي بكر على مصر لما ظهر من ميل المصريين إليه و إيثارهم له و استحقاقه لذلك بتكامل خصال الفضل فيه فكان الظن قويا باتفاق الرعية على طاعته و انقيادهم إلى نصرته و اجتماعهم على محبته فكان من فساد الأمر و اضطرابه عليه حتى كان ما كان و ليس ذلك يعيب على أمير المؤمنين ع فإن الأمور إنما يعتمدها الإمام على حسب ما يظن فيها من المصلحة و لا يعلم الغيب إلا الله تعالى. و قد ولى رسول الله ص في مؤتة جعفرا فقتل و ولى زيدا فقتل و ولى عبد الله بن رواحة فقتل و هزم الجيش و عاد من عاد منهم إلى المدينة بأسوإ حال فهل لأحد أن يعيب رسول الله ص بهذا و يطعن في تدبيره. و منها قولهم إن جماعة من أصحابه ع فارقوه و صاروا إلى معاوية كعقيل بن أبي طالب أخيه و النجاشي شاعره و رقبة بن مصقلة أحد الوجوه من أصحابه و لو لا أنه

(11/212)


شرح نهج البلاغة ج : 10 ص : 250كان يوحشهم و لا يستميلهم لم يفارقوه و يصيروا إلى عدوه و هذا يخالف حكم السياسة و ما يجب من تألف قلوب الأصحاب و الرعية. و الجواب أنا أولا لا ننكر أن يكون كل من رغب في حطام الدنيا و زخرفها و أحب العاجل من ملاذها و زينتها يميل ى معاوية الذي يبذل منها كل مطلوب و يسمح بكل مأمول و يطعم خراج مصر عمرو بن العاص و يضمن لذي الكلاع و حبيب بن مسلمة ما يوفي على الرجاء و الاقتراح و علي ع لا يعدل فيما هو أمين عليه من مال المسلمين عن قضية الشريعة و حكم الملة حتى يقول خالد بن معمر السدوسي لعلباء بن الهيثم و هو يحمله على مفارقة علي ع و اللحاق بمعاوية اتق الله يا علباء في عشيرتك و انظر لنفسك و لرحمك ما ذا تؤمل عند رجل أردته على أن يزيد في عطاء الحسن و الحسين دريهمات يسيرة ريثما يرأبان بها ظلف عيشهما فأبى و غضب فلم يفعل. فأما عقيل فالصحيح الذي اجتمع ثقات الرواة عليه أنه لم يجتمع مع معاوية إلا بعد وفاة أمير المؤمنين ع و لكنه لازم المدينة و لم يحضر حرب الجمل و صفين و كان ذلك بإذن أمير المؤمنين ع و قد كتب عقيل إليه بعد الحكمين يستأذنه في القدوم عليه الكوفة بولده و بقية أهله فأمره ع بالمقام و قد روي في خبر مشهور أن معاوية وبخ سعيد بن العاص على تأخيره عنه في صفين فقال سعيد لو دعوتني لوجدتني قريبا و لكني جلست مجلس عقيل و غيره من بني هاشم و لو أوعبنا لأوعبوا. و أما النجاشي فإنه شرب الخمر في شهر رمضان فأقام علي ع الحد عليه شرح نهج البلاغة ج : 10 ص : 251و ده عشرين جلدة فقال النجاشي ما هذه العلاوة قال لجرأتك على الله في شهر رمضان فهرب النجاشي إلى معاوية. و أما رقبة بن مصقلة فإنه ابتاع سبي بني ناجية و أعتقهم و ألط بالمال و هرب إلى معاوية فقال ع فعل فعل السادة و أبق إباق العبيد و ليس تعطيل الحدود و إباحة حكم الدين و إضاعة مال المسلمين من التألف و السياسة لمن يريد وجه الله

(11/213)


تعالى و التلزم بالدين و لا يظن بعلي ع التساهل و التسامح في صغير من ذلك و لا كبير. و منها شبهة الخوارج و هي التحكيم و قد يحتج به على أنه اعتمد ما لا يجوز في الشرع و قد يحتج به على أنه اعتمد ما ليس بصواب في تدبير الأمر أما الأول فقولهم إنه حكم الرجال في دين الله و الله سبحانه يقول إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ و أما الثاني فقولهم إنه كان قد لاح له النصر و ظهرت أمارات الظفر بمعاوية و لم يبق إلا أن يأخذ برقبته فترك التصميم على ذلك و أخلد إلى التحكيم و ربما قالوا إن تحكيمه يدل على شك منه في أمره و ربما قالوا كيف رضي بحكومة أبي موسى و هو فاسق عنده بتثبيطه أهل الكوفة عنه في حرب البصرة و كيف رضي بتحكيم عمرو بن العاص و هو أفسق الفاسقين. و الجواب أما تحكيم الرجال في الدين فليس بمحظور فقد أمر الله تعالى بالتحكيم بين المرأة و زوجها فقال وَ إِنْ خِفْتُمْ شِقاقَ بَيْنِهِما فَابْعَثُوا حَكَماً مِنْ أَهْلِهِ وَ حَكَماً شرح نهج البلاغة ج : 10 ص : 252مِنْ أَهْلِهاو قال في جزاء الصيد يَحْكُمُ بِهِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ. و أما قولهم كيف ترك التصميم بعد ظهور أمارات النصر فقد تواتر الخبر بأن أصحابه لما رفع أهل الشام المصاحف عند ظهور أهل العراق عليهم و مشارفة هلاك معاوية و أصحابه انخدعوا برفع المصاحف و قالوا لا يحل لنا التصميم على حربهم و لا يجوز لنا إلا وضع السلاح و رفع الحرب و الرجوع إلى المصاحف و حكمها فقال لهم إنها خديعة و إنها كلمة حق يراد بها باطل و أمرهم بالصبر و لو ساعة واحدة فأبوا ذلك و قالوا أرسل إلى الأشتر فليعد فأرسل إليه فقال كيف أعود و قد لاحت أمارات النصر و الظفر فقالوا له ابعث إليه مرة أخرى فبعث إليه فأعاد الجواب بنحو قوله الأول و سأل أن يمهل ساعة من النهار فقالوا إن بينك و بينه وصية ألا يقبل فإن لم تبعث إليه من يعيده و إلا قتلناك بسيوفنا كما قتلنا عثمان أو قبضنا عليك و أسلمناك

(11/214)


إلى معاوية فعاد الرسول إلى الأشتر فقال أ تحب أن تظفر أنت هاهنا و تكسر جنود الشام و يقتل أمير المؤمنين ع في مضربه قال أ و قد فعلوها لا بارك الله فيهم أ بعد أن أخذت بمخنق معاوية و رأى الموت عيانا أرجع ثم عاد فشتم أهل العراق و سبهم و قال لهم و قالوا له ما هو منقول مشهور و قد ذكرنا الكثير منه فيما تقدم. فإذا كانت الحال وقعت هكذا فأي تقصير وقع من أمير المؤمنين ع و هل ينسب المغلوب على أمره المقهور على رأيه إلى تقصير أو فساد تدبير. و بهذا نجيب عن قولهم إن التحكيم يدل على الشك في أمره لأنه إنما يدل على ذلك لو ابتدأ هو به فأما إذا دعاه إلى ذلك غيره و استجاب إليه أصحابه فمنعهم و أمرهم شرح نهج البلاغة ج : 10 ص : 253أن يمروا على وتيرتهم و شأنهم فلم يفعلوا و بين لهم أنها مكيدة فلم يتبينوا و خاف أن يقتل أو يسلم إلى عدوه فإنه لا يدل تحكيمه على شكه بل يدل على أنه قد دفع بذلك ضررا عظيما عن نفسه و رجا يحكم الحكمان بالكتاب فتزول الشبهة عمن طلب التحكيم من أصحابه. و أما تحكيمه عمرا مع ظهور فسقه فإنه لم يرض به و إنما رضي به مخالفه و كرهه هو فلم يقبل منه و قد قيل إنه أجاب ابن عباس رحمه الله عن هذا فقال للخوارج أ ليس قد قال الله تعالى فَابْعَثُوا حَكَماً مِنْ أَهْلِهِ وَ حَكَماً مِنْ أَهْلِها أ رأيتم لو كانت المرأة يهودية فبعثت حكما من أهلها أ كنا نسخط ذلك. و أما أبو موسى فقد كرهه أمير المؤمنين ع و أراد أن يجعل بدله عبد الله بن عباس فقال أصحابه لا يكون الحكمان من مضر فقال فالأشتر فقالوا و هل أضرم النار إلا الأشتر و هل جر ما ترى إلا حكومة الأشتر و لكن أبا موسى فأباه فلم يقبلوا منه و أثنوا عليه و قالوا لا نرضى إلا به فحكمه على مضض. و منها قولهم ترك الرأي لما دعاه العباس وقت وفاة الرسول ص إلى البيعة و قال له امدد يدك أبايعك فيقول الناس عم رسول الله ص بايع ابن عمه فلا يختلف عليك اثنان فلم يفعل و قال

(11/215)


و هل يطمع فيها طامع غيري فما راعه إلا الضوضاء و اللغط في باب الدار يقولون قد بويع أبو بكر بن أبي قحافة. الجواب أن صواب الرأي و فساده فيما يرجع إلى مثل هذه الواقعة يستندان إلى
شرح نهج البلاغة ج : 10 ص : 254ما قد كان غلب على الظن و لا ريب أنه ع لم يغلب على ظنه أن أحدا يستأثر عليه بالخلافة لأحوال قد كان مهدها له رسول الله ص و ما توهم إلا أنه ينتظر و يرتقب خروجه من البيت و حضوره و لعله قد كان يخطر له أنه إما أن يكون هو الخليفة أيشاور في الخلافة إلى من يفوض و ما كان يتوهم أنه يجري الأمر على ما جرى من الفلتة عند ثوران تلك الفتنة و لا يشاور هو و لا العباس و لا أحد من بني هاشم و إنما كان يكون تدبيره فاسدا لو كان يحاذر خروج الأمر عنه و يتوهم ذلك و يغلب على ظنه إن لم يبادر تحصيله بالبيعة المعجلة في الدار من وراء الأبواب و الأغلاق و إلا فاته ثم يهمل ذلك و لا يفعله و قد صرح هو بما عنده فقال و هل يطمع فيها طامع غيري ثم قال إني أكره البيعة هاهنا و أحب أن أصحر بها فبين أنه يستهجن أن يبايع سرا خلف الحجب و الجدران و يحب أن يبايع جهرة بمحضر من الناس كما قال حيث طلبوا منه بعد قتل عثمان أن يبايعهم في داره فقال لا بل في المسجد و لا يعلم و لا خطر له ما في ضمير الأيام و ما يحدث الوقت من وقوع ما لا يتوهم العقلاء و أرباب الأفكار وقوعه. و منها قولهم إنه قصر في طلب الخلافة عند بيعة أبي بكر و قد كان اجتمع له من بني هاشم و بني أمية و غيرهم من أفناء الناس من يتمكن بهم من المنازعة و طلب الخلافة فقصر عن ذلك لا جبنا لأنه كان أشجع البشر و لكن قصور تدبير و ضعف رأي و لهذا أكفرته الكاملية و أكفرت الصحابة فقالوا كفرت الصحابة لتركهم بيعته و كفر هو بترك المنازعة لهم. شرح نهج البلاغة ج : 10 ص : 255و الجواب أما على مذهبنا فإنه لم يكن ع منصوصا عليه و إنما كان يدعيها بالأفضلية و القرابة و السابقة و الجهاد و نحو

(11/216)


ذلك من الخصائص فلما وقعت بيعة أبي بكر رأى هو علي ع أن الأصلح للإسلام ترك النزاع و أنه يخاف من النزاع حدوث فتنة ل معاقد الملة و تزعزع أركانها فحضر و بايع طوعا و وجب علينا بعد مبايعته و رضاه أن نرضى بمن رضي هو ع و نطيع من أطاعه لأنه القدوة و أفضل من تركه ص بعده. و أما الإمامية فلهم عن ذلك جواب آخر معروف من قواعدهم. و منها قولهم إنه قصر في الرأي حيث دخل في الشورى لأنه جعل نفسه بدخوله فيها نظيرا لعثمان و غيره من الخمسة و قد كان الله تعالى رفعه عنهم و على من كان قبلهم فوهن بذلك قدره و طأطأ من جلالته أ لا ترى أنه يستهجن و يقبح من أبي حنيفة و الشافعي رحمهما الله أن يجعلا أنفسهما نظراء لبعض من بدأ طرفا من الفقه و يستهجن و يقبح من سيبويه و الأخفش أن يوازيا أنفسهما بمن يعلم أبوابا يسيرة من النحو. الجواب أنه ع و إن كان أفضل من أصحاب الشورى فإنه كان يظن أن ولي الأمر أحدهم بعد عمر لا يسير سيرة صالحة و أن تضطرب بعض أمور الإسلام و قد كان يثني على سيرة عمر و يحمدها فواجب عليه بمقتضى ظنه أن يدخل معهم فيما أدخله عمر فيه توقعا لأن يفضي الأمر إليه فيعمل بالكتاب و السنة و يحيي معالم رسول الله ص و ليس اعتماد ما يقتضيه الشرع مما يوجب نقصا في الرأي فلا تدبير أصح و لا أسد من تدبير الشرع.

(11/217)


شرح نهج البلاغة ج : 10 ص : 256و منها قولهم إنه ما أصاب حيث أقام بالمدينة و عثمان محصور و قد كان يجب في الرأي أن يخرج عنها بحيث لا تنوط بنو أمية به دم عثمان فإنه لو كان بعيدا عن المدينة لكان من قذفهم إياه بذلك أبعد و عنه أنزه. و الجواب أنه لم يكن يخطر لهع براءته من دم عثمان أن أهل الفساد من بني أمية يرمونه بأمره و الغيب لا يعلمه إلا الله و كان يرى مقامه بالمدينة أدعى إلى انتصار عثمان على المحاصرين له فقد حضر هو بنفسه مرارا و طرد الناس عنه و أنفذ إليه ولديه و ابن أخيه عبد الله و لو لا حضور علي ع بالمدينة لقتل عثمان قبل أن يقتل بمدة و ما تراخي أمره و تأخر قتله إلا لمراقبة الناس له حيث شاهدوه ينتصر له و يحامي عنه. و منها قولهم كان يجب في مقتضى الرأي حيث قتل عثمان أن يغلق بابه و يمنع الناس من الدخول إليه فإن العرب كانت تضطرب اضطرابة ثم تئول إليه لأنه تعين للأمر بحكم الحال الحاضرة فلم يفعل و فتح بابه و ترشح للأمر و بسط له يده فلذلك انتقضت عليه العرب من أقطارها. و الجواب أنه ع كان يرى أن القيام بالأمر يومئذ فرض عليه لا يجوز له الإخلال به لعدم من يصلح في ظنه للخلافة فما كان يجوز له أن يغلق بابه و يمتنع و ما الذي كان يومئذ أن يبايع الناس طلحة أو الزبير أو غيرهما ممن لا يراه أهلا للأمر فقد كان عبد الله بن الزبير يومئذ يزعم أن عثمان عهد إليه بالخلافة و هو محصور و كان مروان يطمع أن ينحاز إلى طرف من الأطراف فيخطب لنفسه بالخلافة و له من بني أمية شيعة و أصحاب بشبهة أنه ابن عم عثمان و أنه كان يدبر أمر الخلافة على عهده و كان معاوية يرجو أن ينال الخلافة لأنه من بني أمية و ابن عم عثمان و أمير الشام عشرين سنة و قد كان قوم من بني أمية يتعصبون لأولاد عثمان المقتول و يرومون إعادة الخلافة فيهم شرح نهج البلاغة ج : 10 ص : 257و ما كان يسوغ لعلي ع في الدين إذا طلبه المسلمون للخلافة أن يمتنع عنها و

(11/218)


يعلم أنها ستصير إذا امتنع إلى هؤلاء فلذلك فتح بابه و امتنع امتناع من يحاول أن يعلم ما في قلوب الناس هل لرغبتهم إليه حقيقة أم لا فلما رأى منهم التصميم وق لوجوب الموافقة عليه و
قد قال في خطبته لو لا حضور الحاضر و وجوب الحجة بوجود الناصر... لألقيت حبلها على غاربها و لسقيت آخرها بكأس أولها
و هذا تصريح بما قلناه. و منها قولهم هلا إذ ملك شريعة الفرات على معاوية بعد أن كان معاوية ملكها عليه و منعه و أهل العراق منها منع معاوية و أهل الشام منها فكان يأخذهم قبضا بالأيدي فإنه لم يصبر على منعهم عن الماء بل فسح لهم في الورود و هذا يخالف ما يقتضيه تدبير الحرب. الجواب أنه ع لم يكن يستحل ما استحله معاوية من تعذيب البشر بالعطش فإن الله تعالى ما أمر في أحد من العصاة الذين أباح دماءهم بذلك و لا فسح فيه في نحو القصاص أو حد الزاني المحصن أو قتل قاطع الطريق أو قتال البغاة و الخوارج و ما كان أمير المؤمنين ممن يترك حكم الله و شريعته و يعتمد ما هو محرم فيها لأجل الغلبة و القهر و الظفر بالعدو و لذلك لم يكن يستحل البيات و لا الغدر و لا النكث و أيضا فمن الجائز أن يكون ع غلب على ظنه أن أهل الشام إن منعوا من الماء كان ذلك أدعى لهم إلى الحملات الشديدة المنكرة على عسكره و أن يضعوا فيهم السيوف فيأتوا عليهم و يكسروهم بشدة حنقهم و قوة داعيهم إلى ورود الماء فإن ذلك من أشد الدواعي إلى أن يستميت القوم و يستقتلوا و من الذي يقف بين يدي جيش عظيم عرمرم قد اشتد بهم العطش و هم يرون الماء كبطون الحيات لا يحول بينهم و بينه شرح نهج الاغة ج : 10 ص : 258إلا قوم مثلهم بل أقل منهم عدة و أضعف عدة و لذلك لما حال معاوية بين أهل العراق و بين الماء و قال لأمنعنهم وروده فأقتلهم بشفار الظمأ قال له عمرو بن العاص خل بين القوم و بين الماء فليسوا ممن يرى الماء و يصبر عنه فقال لا و الله لا أخلي لهم عنه فسفه رأيه و قال أ تظن أن ابن

(11/219)


أبي طالب و أهل العراق يموتون بإزائك عطشا و الماء بمقعد الأزر و سيوفهم في أيديهم فلج معاوية و قال لا أسقيهم قطرة كما قتلوا عثمان عطشا فلما مس أهل العراق العطش أشار علي ع إلى الأشعث أن احمل و إلى الأشتر أن احمل فحملا بمن معهما فضربا أهل الشام ضربا أشاب الوليد و فر معاوية و من رأى رأيه و تابعه على قوله عن الماء كما تفر الغنم خالطتها السباع و كان قصارى أمره و منتهى همته أن يحفظ رأسه و ينجو بنفسه و ملك أهل العراق عليهم الماء و دفعوهم عنه فصاروا في البر القفر و صار علي ع و أصحابه على شريعة الفرات مالكين لها فما الذي كان يؤمن عليا ع لو أعطش القوم أن يذوق هو و أصحابه منهم مثل ما أذاقهم و هل بعد الموت بالعطش أمر يخافه الإنسان و هل يبقى له ملجأ إلا السيف يحمل به فيضرب خصمه إلى أن يقتل أحدهما. و منها قولهم أخطأ حيث محا اسمه بالخلافة من صحيفة الحكومة فإن ذلك مما وهنه عند أهل العراق و قوى الشبهة في نفوس أهل الشام. و الجواب أنه ع احتذى في ذلك لما دعي إليه و اقترحه الخصم عليه فعل رسول الله ص في صحيفة الحديبية حيث محا اسمه من النبوة لما قال له سهيل بن عمرو لو علمنا أنك رسول الله لما حاربناك و لا منعناك عن البيت و قد قال له ص و هو يومئذ كاتب تلك الصحيفة ستدعى إلى مثلها فتجيب و هذا من أعلام نبوته ص و من دلائل صدقه و مثله جرى له حذو القذة بالقذة.

(11/220)


شرح نهج البلاغة ج : 10 ص : 259و منها قولهم إنه كان غير مصيب في ترك الاحتراس فقد كان يعلم كثرة أعدائه و لم يكن يحترس منهم و كان يخرج ليلا في قميص و رداء وحده حتى كمن له ابن ملجم في المسجد فقتله و لو كان احترس و حفظ نفسه و لم يخرج إلا في جماعة و لو خرج لي كانت معه أضواء و شرطة لم يوصل إليه. و الجواب أن هذا إن كان قادحا في السياسة و التدبير فليكن قادحا في تدبير عمر و سياسته و هو عند الناس في الطبقة العليا في السياسة و صحة التدبير و ليكن قادحا في تدبير معاوية فقد ضربه الخارجي بالسيف ليلة ضرب أمير المؤمنين ع فجرحه و لم يأت على نفسه و معاوية عند هؤلاء سديد التدبير و ليكن قادحا في صحة تدبير رسول الله ص فقد كان يخرج وحده في المدينة ليلا و نهارا مع كثرة أعدائه و قد كان يأكل ما دعي إليه و لا يحترس حتى أكل من يهودية شاة مشوية قد سمته فيها فمرض و خيف عليه التلف و لما برأ لم تزل تنتقض عليه حتى مات منها و
قال عند موته إني ميت من تلك الأكلة

(11/221)


و لم تكن العرب في ذلك الزمان تحترس و لا تعرف الغيلة و الفتك و كان ذلك عندهم قبيحا يعير به فاعله لأن الشجاعة غير ذلك و الغيلة فعل العجزة من الرجال و لأن عليا ع كانت هيبته قد تمكنت في صدور الناس فلم يكن يظن أن أحدا يقدم عليه غيلة أو مبارزة في حرب فقد كان بلغ من الذكر بالشجاعة مبلغا عظيما لم يبلغه أحد من الناس لا من تقدم و لا من تأخر حتى كانت أبطال العرب تفزع باسمه أ لا ترى إلى عمرو بن معديكرب و هو شجاع العرب الذي تضرب به الأمثال كتب إليه عمر بن الخطاب في أمر أنكره عليه و غدر تخوفه منه أما و الله لئن أقمت على ما أنت عليه لأبعثن إليك رجلا تستصغر معه نفسك يضع سيفه على هامتك فيخرجه من بين فخذيك فقال عمرو لما وقف على الكتاب هددني بعلي و الله و لهذا قال شبيب بن بجرة لابن ملجم لما رآه يشد الحرير على بطنه و صدره ويلك ما تريد شرح نهج البلاغة ج : 10 ص : 260أن تصنع قالقتل عليا قال هبلتك الهبول لقد جئت شيئا إدا كيف تقدر على ذلك فاستبعد أن يتم لابن ملجم ما عزم عليه و رآه مراما وعرا و الأمر في هذا و أمثاله مسند إلى غلبات الظنون فمن غلبت على ظنه السلامة مع الاسترسال لم يجب عليه الاحتراس و إنما يجب الاحتراس على من يغلب على ظنه العطب إن لم يحترس. فقد بان بما أوضحناه فساد قول من قال إن تدبيره ع و سياسته لم تكن صالحة و بان أنه أصح الناس تدبيرا و أحسنهم سياسة و إنما الهوى و العصبية لا حيلة فيهما

(11/222)


شرح نهج البلاغة ج : 10 ص : 194261- و من كلام له عأَيُّهَا النَّاسُ لَا تَسْتَوْحِشُوا فِي طَرِيقِ الْهُدَى لِقِلَّةِ أَهْلِهِ فَإِنَّ النَّاسَ اجْتَمَعُوا عَلَى مَائِدَةٍ شِبَعُهَا قَصِيرٌ وَ جُوعُهَا طَوِيلٌ أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا يَجْمَعُ النَّاسَ الرِّضَا وَ السُّخْطُ وَ إِنَّمَا عَقَرَ نَاقَةَ ثَمُودَ رَجُلٌ وَاحِدٌ فَعَمَّهُمُ اللَّهُ بِالْعَذَابِ لَمَّا عَمُّوهُ بِالرِّضَا فَقَالَ سُبْحَانَهُ فَعَقَرُوها فَأَصْبَحُوا نادِمِينَ فَمَا كَانَ إِلَّا أَنْ خَارَتْ أَرْضُهُمْ بِالْخَسْفَةِ خُوَارَ السِّكَّةِ الْمُحْمَاةِ فِي الْأَرْضِ الْخَوَّارَةِ أَيُّهَا النَّاسُ مَنْ سَلَكَ الطَّرِيقَ الْوَاضِحَ وَرَدَ الْمَاءَ وَ مَنْ خَالَفَ وَقَعَ فِي التِّيهِ
الاستيحاش ضد الاستئناس و كثيرا ما يحدثه التوحد و عدم الرفيق فنهى ع عن الاستيحاش في طريق الهدى لأجل قلة أهله فإن المهتدي ينبغي أن يأنس بالهداية فلا وحشة مع الحق. و عنى بالمائدة الدنيا لذتها قليلة و نغصتها كثيرة و الوجود فيها زمان قصير جدا و العدم عنها زمان طويل جدا. ثم قال ليست العقوبة لمن اجترم ذلك الجرم بعينه بل لمن اجترمه و من رضي به و إن لم يباشره بنفسه فإن عاقر ناقة صالح إنما كان إنسانا واحدا فعم الله ثمود بالسخط شرح نهج البلاغة ج : 10 ص : 262لما كانوا راضين بذلك الفعل كلهم و اسم كان مضمر فيها أي ما ك الانتقام منهم إلا كذا. و خارت أرضهم بالخسفة صوتت كما يخور الثور و شبه ع ذلك بصوت السكة المحماة في الأرض الخوارة و هي اللينة و إنما جعلها محماة لتكون أبلغ في ذهابها في الأرض و
من كلامه ع يوم خيبر يقوله لرسول الله ص و قد بعثه بالراية أكون في أمرك كالسكة المحماة في الأرض أم الشاهد يرى ما لا يرى الغائب فقال له بل يرى الشاهد ما لا يرى الغائب

(11/223)


و قال له أيضا هذه اللفظة لما بعثه في شأن مارية القبطية و ما كانت اتهمت به من أمر الأسود القبطي و لهذا علة في العلم الطبيعي و ذلك أن السكة المحماة تخرق الأرض بشيئين أحدهما تحدد رأسها و الثاني حرارته فإن الجسم المحدد الحار إذا اعتمد عليه في الأرض اقتضت الحرارة إعانة ذلك الطرف المحدد على النفوذ بتحليلها ما تلاقي من صلابة الأرض لأن شأن الحرارة التحليل فيكون غوص ذلك الجسم المحدد في الأرض أوحى و أسهل. و التيه المفازة يتحير سالكها
قصة صالح و ثمود

(11/224)


قال المفسرون إن عادا لما أهلكت عمرت ثمود بلادها و خلفوهم في الأرض و كثروا و عمروا أعمارا طوالا حتى إن الرجل كان يبني المسكن المحكم فينهدم في حياته فنحتوا البيوت في الجبال و كانوا في سعة و رخاء من العيش فعتوا على الله و أفسدوا في الأرض و عبدوا الأوثان فبعث الله إليهم صالحا و كانوا قوما عربا و صالح من أوسطهم شرح نهج البلاغة ج : 10 ص : 263نسبا فما آمن به إلا قليل منهم مستضعفون فحذرهم و أنذرهم فسألوه آية فقال أية آية تريدون قالوا تخرج معنا إلى عيدنا في يوم معلوم لهم من السنة فتدعو إلهك و ندعو إلهنا فإن استجيبك اتبعناك و إن استجيب لنا اتبعتنا. قال نعم فخرج معهم و دعوا أوثانهم و سألوها الاستجابة فلم تجب فقال سيدهم جندع بن عمرو و أشار إلى صخرة منفردة في ناحية الجبل يسمونها الكاثبة أخرج لنا في هذه الصخرة ناقة مخترجة جوفاء وبراء و المخترجة التي شاكلت البخت فإن فعلت صدقناك و أجبناك. فأخذ عليهم المواثيق لئن فعلت ذلك لتؤمنن و لتصدقن قالوا نعم فصلى و دعا ربه فتمخضت الصخرة تمخض النتوج بولدها فانصدعت عن ناقة عشراء جوفاء وبراء كما وصفوا لا يعلم ما بين جنبيها إلا الله و عظماؤهم ينظرون ثم نتجت ولدا مثلها في العظم فآمن به جندع و رهط من قومه و منع أعقابهم ناس من رءوسهم أن يؤمنوا فمكثت الناقة مع ولدها ترعى الشجر و تشرب الماء و كانت ترد غبا فإذا كان يومها وضعت رأسها في البئر فما ترفعه حتى تشرب كل ماء فيها ثم تتفجح فيحتلبون ما شاءوا حتى تمتلئ أوانيهم فيشربون و يدخرون فإذا وقع الحر تصيفت بظهر الوادي فتهرب منها أنعامهم فتهبط إلى بطنه و إذا وقع البرد تشتت ببطن الوادي فتهرب مواشيهم إلى ظهره فشق ذلك عليهم و زينت عقرها لهم امرأتان عنيزة أم غنم و صدفة بنت المختار لما أضرت به من مواشيهما و كانتا كثيرتي المواشي فعقروها عقرها قدار الأحمر و اقتسموا لحمها و طبخوه. شرح نهج البلاغة ج : 10 ص : 264فانطلق سقبها

(11/225)


حتى رقي جبلا اسمه قارة فرغا ثلاثا و كان صالح قال لهم أدركوا الفصيل عسى أن يرفع عنكم العذاب فلم يقدروا عليه و انفجت الصخرة بعد رغائه فدخلها فقال لهم صالح تصبحون غدا و وجوهكم مصفرة و بعد غد وهكم محمرة و اليوم الثالث وجوهكم مسودة ثم يغشاكم العذاب. فلما رأوا العلامات طلبوا أن يقتلوه فأنجاه الله سبحانه إلى أرض فلسطين فلما كان اليوم الرابع و ارتفعت الضحوة تحنطوا بالصبر و تكفنوا بالأنطاع فأتتهم صيحة من السماء و خسف شديد و زلزال فتقطعت قلوبهم فهلكوا. و
قد جاء في الحديث أن رسول الله ص مر بالحجر في غزوة تبوك فقال لأصحابه لا يدخلن أحد منكم القرية و لا تشربوا من مائها و لا تدخلوا على هؤلاء المعذبين إلا أن تمروا باكين أن يصيبكم مثل ما أصابهم
و روى المحدثون أن النبي ص قال لعلي ع أ تدري من أشقى الأولين قال نعم عاقر ناقة صالح قال أ فتدري من أشقى الآخرين قال الله و رسوله أعلم قال من يضربك على هذه حتى تخضب هذه

(11/226)


شرح نهج البلاغة ج : 10 ص : 195265- و من كلام له عروي عنه أَنَّهُ قَالَهُ عِنْدَ دَفْنِ سَيِّدَةِ النِّسَاءِ فَاطِمَةَ ع كَالْمُنَاجِي بِهِ رَسُولَ اللَّهِ ص عِنْدَ قَبْرِهِ السَّلَامُ عَلَيْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ عَنِّي وَ عَنِ ابْنَتِكَ النَّازِلَةِ فِي جِوَارِكَ وَ السَّرِيعَةِ اللَّحَاقِ بِكَ قَلَّ يا رَسُولَ اللَّهِ عَنْ صَفِيَّتِكَ صَبْرِي وَ رَقَّ عَنْهَا تَجَلُّدِي إِلَّا أَنَّ فِي التَّأَسِّي لِي بِعَظِيمِ فُرْقَتِكَ وَ فَادِحِ مُصِيبَتِكَ مَوْضِعَ تَعَزٍّ فَلَقَدْ وَسَّدْتُكَ فِي مَلْحُودَةِ قَبْرِكَ وَ فَاضَتْ بَيْنَ نَحْرِي وَ صَدْرِي نَفْسُكَ فَإِنَّا لِلَّهِ وَ إِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ فَلَقَدِ اسْتُرْجِعَتِ الْوَدِيعَةُ وَ أُخِذَتِ الرَّهِينَةُ أَمَّا حُزْنِي فَسَرْمَدٌ وَ أَمَّا لَيْلِي فَمُسَهَّدٌ إِلَى أَنْ يَخْتَارَ اللَّهُ لِي دَارَكَ الَّتِي أَنْتَ بِهَا مُقِيمٌ وَ سَتُنَبِّئُكَ ابْنَتُكَ بِتَضَافُرِ أُمَّتِكَ عَلَى هَضْمِهَا فَأَحْفِهَا السُّؤَالَ وَ اسْتَخْبِرْهَا الْحَالَ هَذَا وَ لَمْ يَطُلِ الْعَهْدُ وَ لَمْ يَخْلُ مِنْكَ الذِّكْرُ وَ السَّلَامُ عَلَيْكُمَا سَلَامَ مُوَدِّعٍ لَا قَالٍ وَ لَا سَئِمٍ فَإِنْ أَنْصَرِفْ فَلَا عَنْ مَلَالَةٍ وَ إِنْ أُقِمْ فَلَا عَنْ سُوءِ ظَنٍّ بِمَا وَعَدَ اللَّهُ الصَّابِرِينَ
أما قول الرضي رحمه الله عند دفن سيدة النساء فلأنه
قد تواتر الخبر عنه ص أنه قال فاطمة سيدة نساء العالمين
إما هذا اللفظ بعينه أو لفظ يؤدي هذا شرح نهج البلاغة ج : 10 ص : 266المعنى روي أنه قال و قد رآها تبكي عند موته أ لا ترضين أن تكوني سيدة نساء هذه الأمة
و روي أنه قال سادات نساء العالمين أربع خديجة بنت خويلد و فاطمة بنت محمد و آسية بنت مزاحم و مريم بنت عمران
قوله ع و سريعة اللحاق بك

(11/227)


جاء في الحديث أنه رآها تبكي عند موته فأسر إليها أنت أسرع أهلي لحوقا بي فضحكت
قوله عن صفيتك أجله ص عن أن يقول عن ابنتك فقال صفيتك و هذا من لطيف عبارته و محاسن كنايته يقول ع ضعف جلدي و صبري عن فراقها لكني أتأسى بفراقي لك فأقول كل عظيم بعد فراقك جلل و كل خطب بعد موتك يسير. ثم ذكر حاله معه وقت انتقاله ص إلى جوار ربه فقال لقد وسدتك في ملحودة قبرك أي في الجهة المشقوقة من قبرك و اللحد الشق في جانب القبر و جاء بضم اللام في لغة غير مشهورة. قال و فاضت بين نحري و صدري نفسك يروى أنه ص قذف دما يسيرا وقت موته و من قال بهذا القول زعم أن مرضه كان ذات الجنب و أن القرحة التي كانت في الغشاء المستبطن للأضلاع انفجرت في تلك الحال و كانت فيها نفسه ص و ذهب قوم إلى أن مرضه إنما كان الحمى و السرسام الحار و أن أهل داره ظنوا أن به ذات الجنب فلدوه و هو مغمى عليه و كانت العرب تداوي باللدود من به ذات الجنب فلما أفاق علم أنهم قد لدوه فقال لم يكن الله ليسلطها علي لدوا كل من في الدار فجعل بعضهم يلد بعضا. شرح نهج البلاغة ج : 10 ص : 267و احتج الذاهبون إلى أن مرضه كان ذات الجنب بما روي من انتصابه و تعذر الاضطجاع و النوم عليه قال سلمان الفارسي دخلت عليه صبيحة يوم قبل اليوم الذي مات فيه فقال لي يا سلمان أ لا تسأل عما كابدته الليلة من الألم و السهر أنا و علي فقلت يا رسول الله أ لا أسهر الليلة معك بدله فقال لا هو أحق بذلك منك
و زعم آخرون أن مرضه كان أثرا لأكلة السم التي أكلها ع و احتجوا
بقوله ص ما زالت أكلة خيبر تعاودني فهذا أوان قطعت أبهري

(11/228)


و من لم يذهب إلى ذات الجنب فأولوا قول علي ع فاضت بين نحري و صدري نفسك فقالوا أراد بذلك آخر الأنفاس التي يخرجها الميت و لا يستطيع إدخال الهواء إلى الرئة عوضا عنها و لا بد لكل ميت من نفخة تكون آخر حركاته. و يقول قوم إنها الروح و عبر علي ع عنها بالنفس لما كانت العرب لا ترى بين الروح و النفس فرقا. و اعلم أن الأخبار مختلفة في هذا المعنى فقد
روى كثير من المحدثين عن عائشة أنها قالت توفي رسول الله ص بين سحري و نحري
و روى كثير منهم هذا اللفظ عن علي ع أنه قال عن نفسه و
قال في رواية أخرى ففاضت نفسه في يدي فأمررتها على وجهي

(11/229)


شرح نهج البلاغة ج : 10 ص : 268و الله أعلم بحقيقة هذه الحال و لا يبعد عندي أن يصدق الخبران معا بأن يكون رسول الله ص وقت الوفاة مستندا إلى علي و عائشة جميعا فقد وقع الاتفاق على أنه مات و هو حاضر لموته و هو الذي كان يقلبه بعد موته و هو الذي كان يعلله لياليرضه فيجوز أن يكون مستندا إلى زوجته و ابن عمه و مثل هذا لا يبعد وقوعه في زماننا هذا فكيف في ذلك الزمان الذي كان النساء فيه و الرجال مختلطين لا يستتر البعض عن البعض. فإن قلت فكيف تعمل بآية الحجاب و ما صح من استتار أزواج رسول الله ص عن الناس بعد نزولها. قلت قد وقع اتفاق المحدثين كلهم على أن العباس كان ملازما للرسول ص أيام مرضه في بيت عائشة و هذا لا ينكره أحد فعلى القاعدة التي كان العباس ملازمه ص كان علي ع ملازمه و ذلك يكون بأحد الأمرين إما بأن نساءه لا يستترن من العباس و علي لكونهما أهل الرجل و جزءا منه أو لعل النساء كن يختمرن بأخمرتهن و يخالطن الرجال فلا يرون وجوههن و ما كانت عائشة وحدها في البيت عند موته بل كان نساؤه كلهن في البيت و كانت ابنته فاطمة عند رأسه ص. فأما حديث مرضه ص و وفاته فقد ذكرناه فيما تقدم. قوله إنا لله إلى آخره أي عبيده كما تقول هذا الشي ء زيد أي يملكه. ثم عقب الاعتراف بالملكية بالإقرار بالرجعة و البعث و هذه الكلمة تقال عند المصيبة كما أدب الله تعالى خلقه و عباده. و الوديعة و الرهينة عبارة عن فاطمة و من هذا الموضع أخذ ابن ثوابة الكاتب قوله عن قطر الندى بنت خمارويه بن أحمد بن طولون لما حملت من مصر إلى المعتضد أحمد بن شرح نهج البلاغة ج : 10 ص : 269طلحة بن المتوكل و قد وصلت الوديعة سالمة و الله المحمود و كيف يوصي الناظر بنوره أم كيف يحض القلب على حفظ سروره. و أخذ الصابي هذه اللفظة أيضا فكتب عن عز الدولة بختيار بن بويه إلى عدة الدولة أبي تغلب بحمدان و قد نقل إليه ابنته قد وجهت الوديعة يا سيدي و إنما تقلب من وطن

(11/230)


إلى سكن و من مغرس إلى مغرس و من مأوى بر و انعطاف إلى مثوى كرامة و ألطاف. فأما الرهينة فهي المرتهنة يقال للمذكر هذا رهين عندي على كذا و للأنثى هذه رهينة عندي على كذا كأنها ع كانت عنده عوضا من رؤية رسول الله ص كما تكون الرهينة عوضا عن الأمر الذي أخذت رهينة عليه. ثم ذكر ع أن حزنه دائم و أنه يسهر ليله و لا ينام إلى أن يلتحق برسول الله ص و يجاوره في الدار الآخرة و هذا من باب المبالغة كما يبالغ الخطباء و الكتاب و الشعراء في المعاني لأنه ع ما سهر منذ ماتت فاطمة و دام سهره إلى أن قتل ع و إنما سهر ليلة أو شهرا أو سنة ثم استمر مريره و ارعوى رسنه فأما الحزن فإنه لم يزل حزينا إذا ذكرت فاطمة هكذا وردت الرواية عنه. قوله ع و ستنبئك ابنتك أي ستعلمك. فأحفها السؤال أي استقص في مسألتها و استخبرها الحال أحفيت إحفاء في السؤال استقصيت و كذلك في الحجاج و المنازعة قال الحارث بن حلزة
إن إخواننا الأراقم يغلون علينا في قيلهم إحفاء
و رجل حفي أي مستقص في السؤال. شرح نهج البلاغة ج : 10 ص : 270و استخبرها الحال أي عن الحال فحذف الجار كقولك اخترت الرجال زيدا أي من الرجال أي سلها عما جرى بعدك من الاستبداد بعقد الأمر دون مشاورتنا و لا يدل هذا على وجود النص لأنه يجوز أن تكون الشكوى و التألمن إطراحهم و ترك إدخالهم في المشاورة فإن ذلك مما تكرهه النفوس و تتألم منه و هجا الشاعر قوما فقال
و يقضى الأمر حين تغيب تيم و لا يستأذنون و هم شهود
قوله هذا و لم يطل العهد و لم يخلق الذكر أي لم ينس. فإن قلت فما هذا الأمر الذي لم ينس و لم يخلق إن لم يكن هناك نص. قلت
قوله ص إني مخلف فيكم الثقلين
و قوله اللهم أدر الحق معه حيث دار

(11/231)


و أمثال ذلك من النصوص الدالة على تعظيمه و تبجيله و منزلته في الإسلام فهو ع كان يريد أن يؤخر عقد البيعة إلى أن يحضر و يستشار و يقع الوفاق بينه و بينهم على أن يكون العقد لواحد من المسلمين بموجبه إما له أو لأبي بكر أو لغيرهما و لم يكن ليليق أن يبرم الأمر و هو غير حاضر له مع جلالته في الإسلام و عظيم أثره و ما ورد في حقه من وجوب موالاته و الرجوع إلى قوله و فعله فهذا هو الذي كان ينقم ع و منه كان يتألم و يطيل الشكوى و كان ذلك في موضعه و ما أنكر إلا منكرا فأما النص فإنه لم يذكره ع و لا احتج به و لما طال الزمان صفح عن ذلك الاستبداد الذي وقع منهم و حضر عندهم فبايعهم و زال ما كان في نفسه. شرح نهج البلاغة ج : 10 ص : 271فإن قلت فهل كان يسوغ لأبي بكر و قد رأى وثوب الأنصار على الأمر أن يؤخره إلى أن يخرج ع و يحضر المشورة. قلت إنه لم يلم أبا بكر بعينه و إنما تألم من استبداالصحابة بالأمر دون حضوره و مشاورته و يجوز أن يكون أكثر تألمه و عتابه مصروفا إلى الأنصار الذين فتحوا باب الاستبداد و التغلب
ما رواه أبو حيان في حديث السقيفة

(11/232)


و روى القاضي أبو حامد أحمد بن بشير المروروذي العامري فيما حكاه عنه أبو حيان التوحيدي قال أبو حيان سمرنا عند القاضي أبي حامد ليلة ببغداد بدار ابن جيشان في شارع الماذيان فتصرف الحديث بنا كل متصرف و كان و الله معنا مزيلا مخلطا عزيز الرواية لطيف الدراية له في كل جو متنفس و في كل نار مقتبس فجرى حديث السقيفة و تنازع القوم الخلافة فركب كل منا فنا و قال قولا و عرض بشي ء و نزع إلى مذهب فقال أبو حامد هل فيكم من يحفظ رسالة أبي بكر إلى علي و جواب علي له و مبايعته إياه عقيب تلك الرسالة فقالت الجماعة لا و الله فقال هي والله من درر الحقاق المصونة و مخبئات الصناديق في الخزائن المحوطة و منذ حفظتها ما رويتها إلا للمهلبي في وزارته فكتبها عني في خلوة بيده و قال لا أعرف في الأرض رسالة شرح نهج البلاغة ج : 10 ص : 272أعقل منها و لا أبين و إنها لتدل على علم و حكم و فصاحة و فقاهة دين و دهاء و بعد غور و شدة غوص. فقال له واحد من القوم أيها القاضي فلو أتممت المنة علينا بروايتها سمعناها و رويناه عنك فنحن أوعى لها من المهلبي و أوجب ذماما عليك. فقال هذه الرسالة رواها عيسى بن دأب عن صالح بن كيسان عن هشام بن عروة عن أبيه عروة بن الزبير عن أبي عبيدة بن الجراح. قال أبو عبيدة لما استقامت الخلافة لأبي بكر بين المهاجرين و الأنصار و لحظ بعين الوقار و الهيبة بعد هنة كاد الشيطان بها يسر فدفع الله شرها و أدحض عسرها فركد كيدها و تيسر خيرها و قصم ظهر النفاق و الفسق بين أهلها بلغ أبا بكر عن علي ع تلكؤ و شماس و تهمهم و نفاس فكره أن يتمادى الحال و تبدو له العورة و تنفرج ذات البين و يصير ذلك دريئة لجاهل مغرور أو عاقل ذي دهاء أو صاحب سلامة ضعيف القلب خوار العنان دعاني في خلوة فحضرته و عنده عمر وحده و كان عمر قبسا له و ظهيرا معه يستضي ء بناره و يستملي من لانه فقال لي يا أبا عبيدة ما أيمن ناصيتك و أبين الخير بين عارضيك لقد

(11/233)


كنت مع رسول الله ص بالمكان المحوط و المحل المغبوط و
لقد قال فيك في يوم مشهود أبو عبيدة أمين هذه الأمة
و طالما أعز الله الإسلام بك و أصلح ثلمة على يديك و لم تزل للدين ناصرا و للمؤمنين روحا و لأهلك ركنا و لإخوانك مردا قد أردتك شرح نهج البلاغة ج : 10 ص : 273لأمر له ما بعده خطره مخوف و صلاحه معروف و لئن لم يندمل جرحه بمسبارك و رفقك و لم تجب حيته برقيتك لقد و اليأس و أعضل البأس و احتيج بعدك إلى ما هو أمر من ذلك و أعلق و أعسر منه و أغلق و الله أسأل تمامه بك و نظامه على يدك فتأت له يا أبا عبيدة و تلطف فيه و انصح لله و لرسوله و لهذه العصابة غير آل جهدا و لا قال حمدا و الله كالئك و ناصرك و هاديك و مبصرك. امض إلى علي و اخفض جناحك له و اغضض من صوتك عنده و اعلم أنه سلالة أبي طالب و مكانه ممن فقدناه بالأمس مكانه و قل له البحر مغرقة و البر مفرقة و الجو أكلف و الليل أغلف و السماء جلواء و الأرض صلعاء و الصعود متعذر و الهبوط متعسر و الحق عطوف رءوف و الباطل نسوف عصوف و العجب مقدحة الشر و الضغن رائد البوار و التعريض شجار الفتنة و القحة مفتاح العداوة و الشيطان متكئ على شماله باسط ليمينه نافج حضنيه لأهله ينتظر الشتات و الفرقة و يدب بين الأمة بالشحناء و العداوة عنادا لله و لرسوله و لدينه يوسوس بالفجور و يدلي بالغرور و يمني أهل الشرور و يوحي إلى أوليائه بالباطل دأبا له منذ كان على عهد أبينا شرح نهج البلاغة ج : 10 ص : 274آدم و عادة منه منذ أهانه الله في سالف الدهر لا ينجى منه إلا بعض الناجذ على الحق و غض الطرف عن الباطل و وطء هامة عدو الله و الدين بالأشد فالأشد و الأجد فالأجد و إام النفس لله فيما حاز رضاه و جنب سخطه. و لا بد من قول ينفع إذ قد أضر السكوت و خيف غبه و لقد أرشدك من أفاء ضالتك و صافاك من أحيا مودته لك بعتابك و أراد الخير بك من آثر البقيا معك. ما هذا الذي تسول لك نفسك و يدوى به قلبك

(11/234)


و يلتوي عليه رأيك و يتخاوص دونه طرفك و يستشري به ضغنك و يتراد معه نفسك و تكثر لأجله صعداؤك و لا يفيض به لسانك أ عجمة بعد إفصاح أ لبسا بعد إيضاح أ دينا غير دين الله أ خلقا غير خلق القرآن أ هديا غير هدي محمد أ مثلي يمشى له الضراء و يدب له الخمر أم مثلك يغص عليه الفضاء و يكسف في عينه القمر ما هذه القعقعة بالشنان و الوعوعة باللسان إنك لجد عارف باستجابتنا لله و لرسوله و خروجنا من أوطاننا و أولادنا و أحبتنا هجرة إلى الله و نصرة لدينه في زمان أنت منه في كن الصبا و خدر الغرارة غافل تشبب و تربب لا تعي ما يشاد و يراد و لا تحصل ما يساق و يقاد سوى ما أنت جار عليه من أخلاق الصبيان أمثالك و سجايا الفتيان أشكالك حتى بلغت إلى غايتك هذه التي إليها أجريت و عندها حط رحلك غير مجهول القدر شرح نهج البلاغة ج : 10 ص : 275و لا مجحود الفضل و نحن في أثناء ذلك نعاني أحوالا تزيل الرواسي و نقاسي أهوالا تشيب النواصي خائضينمارها راكبين تيارها نتجرع صلبها و نشرج عيابها و نحكم آساسها و نبرم أمراسها و العيون تحدج بالحسد و الأنوف تعطس بالكبر و الصدور تستعر بالغيظ و الأعناق تتطاول بالفخر و الأسنة تشحذ بالمكر و الأرض تميد بالخوف لا ننتظر عند المساء صباحا و لا عند الصباح مساء و لا ندفع في نحر أمر إلا بعد أن نحسو الموت دونه و لا نبلغ إلى شي ء إلا بعد تجرع العذاب قبله و لا نقوم منآدا إلا بعد اليأس من الحياة عنده فأدين في كل ذلك رسول الله ص بالأب و الأم و الخال و العم و المال و النشب و السبد و اللبد و الهلة و البلة بطيب أنفس و قرة أعي و رحب أعطان و ثبات عزائم و صحة عقول و طلاقة أوجه و ذلاقة ألسن هذا إلى خبيئات أسرار و مكنونات أخبار كنت عنها غافلا و لو لا سنك لم تك عن شي ء منها ناكلا كيف و فؤادك مشهوم و عودك معجوم و غيبك مخبور و الخير منك كثير فالآن قد بلغ الله بك و أرهص الخير لك و جعلمرادك بين يديك فاسمع ما أقول

(11/235)


لك و اقبل ما يعود قبوله عليك و دع التحبس و التعبس
شرح نهج البلاغة ج : 10 ص : 276لمن لا يضلع لك إذا خطا و لا يتزحزح عنك إذا عطا فالأمر غض و في النفوس مض و أنت أديم هذه الأمة فلا تحلم لجاجا و سيفها العضب فلا تنب اعوجاجا و ماؤها العذب فلا تحل أجاجا و الله لقد سألت رسول الله ص عن هذا لمن هو فقال هو لمن يرغعنه لا لمن يجاحش عليه و لمن يتضاءل له لا لمن يشمخ إليه و هو لمن يقال له هو لك لا لمن يقول هو لي. و لقد شاورني رسول الله ص في الصهر فذكر فتيانا من قريش فقلت له أين أنت من علي فقال إني لأكره لفاطمة ميعة شبابه و حدة سنه فقلت متى كنفته يدك و رعته عينك حفت بهما البركة و أسبغت عليهما النعمة مع كلام كثير خطبت به رغبته فيك و ما كنت عرفت منك في ذلك حوجاء و لا لوجاء و لكني قلت ما قلت و أنا أرى مكان غيرك و أجد رائحة سواك و كنت لك إذ ذاك خيرا منك الآن لي و لئن كان عرض بك رسول الله ص في هذا الأمر فقد كنى عن غيرك و إن قال فيك فما سكت عن سواك و إن اختلج في نفسك شي ء فهلم فالحكم مرضي و الصواب مسموع و الحق مطاع. و لقد نقل رسول الله ص إلى ما عند الله و هو عن هذه العصابة راض و عليها حدب يسره ما سرها و يكيده ما كادها و يرضيه ما أرضاها و يسخطه شرح نهج البلاغة ج : 10 ص : 277ماخطها أ لم تعلم أنه لم يدع أحدا من أصحابه و خلطائه و أقاربه و سجرائه إلا أبانه بفضيلة و خصه بمزية و أفرده بحالة لو أصفقت الأمة عليه لأجلها لكان عنده إيالتها و كفالتها. أ تظن أنه ع ترك الأمة سدى بددا عدا مباهل عباهل طلاحى مفتونة بالباطل ملوية عن الحق لا ذائد و لا رائد و لا ضابط و لا خابط و لا رابط و لا سافي و لا واقي و لا حادي و لا هادي كلا و الله ما اشتاق إلى ربه و لا سأله المصير إلى رضوانه إلا بعد أن أقام الصوى و أوضح الهدى و أمن المهالك و حمى المطارح و المبارك و إلا بعد أن شدخ يافوخ الشرك بإذن الله و شرم وجه النفاق لوجه

(11/236)


الله و جدع أنف الفتنة في دين الله و تفل في عين الشيطان بعون الله و صدع بمل ء فيه و يده بأمر الله. و بعد فهؤلاء المهاجرون و الأنصار عندك و معك في بقعة جامعة و دار واحدة إن استقادوا لك و أشاروا بك فأنا واضع يدي في يدك و صائر إلى رأيهم فيك و إ تكن الأخرى فادخل في صالح ما دخل فيه المسلمون و كن العون على مصالحهم و الفاتح لمغالقهم و المرشد لضالهم و الرادع لغاويهم فقد أمر الله بالتعاون على البر و أهاب إلى التناصر على الحق و دعنا نقض هذه الحياة الدنيا بصدور بريئة من الغل و نلقى الله بقلوب سليمة من الضغن. شرح نهج البلاغة ج : 10 ص : 278و إنما الناس ثمامة فارفق بهم و احن عليهم و لن لهم و لا تسول لك نفسك فرقتهم و اختلاف كلمتهم و اترك ناجم الشر حصيدا و طائر الحقد واقعا و باب الفتنة مغلقا لا قال و لا قيل و لا لوم و لا تعنيف و لا عتاب و لا تثريب و الله علما أقول وكيل و بما نحن عليه بصير. قال أبو عبيدة فلما تهيأت للنهوض قال لي عمر كن على الباب هنيهة فلي معك ذرو من الكلام فوقفت و ما أدري ما كان بعدي إلا أنه لحقني بوجه يندى تهللا و قال لي قل لعلي الرقاد محلمة و اللجاج ملحمة و الهوى مقحمة و ما منا أحد إلا له مقام معلوم و حق مشاع أو مقسوم و بناء ظاهر أو مكتوم و إن أكيس الكيسى من منح الشارد تألفا و قارب البعيد تلطفا و وزن كل أمر بميزانه و لم يجعل خبره كعيانه و لا قاس فتره بشبره دينا كان أو دنيا و ضلالا كان أو هدى و لا خير في علم معتمل في جهل و لا في معرفة مشوبة بنكر
و لسنا كجلدة رفغ البعير بين العجان و بين الذنب

(11/237)


و كل صال فبناره يصلى و كل سيل فإلى قراره يجرى و ما كان سكوت هذه العصابة إلى هذه الغاية لعي و حصر و لا كلامها اليوم لفرق أو حذر فقد جدع الله بمحمد ع أنف كل متكبر و قصم به ظهر كل جبار و سل لسان كل كذوب فما ذا بعد الحق إلا الضلال. ما هذه الخنزوانة التي في فراش رأسك و ما هذا الشجا المعترض في مدارج أنفاسك و ما هذه الوحرة التي أكلت شراسيفك و القذاة التي أعشت ناظرك و ما هذا الدحس شرح نهج البلاغة ج : 10 ص : 279و الدس اللذان يدلان على ضيق الباع و خور الطباع و ما هذا الذي لبست بسببه جلد النمر و اشتملت عليه بالشحناء النكر لشد ما استسعيت لها و سريت سرى ابن أنقد إليها إن العوان لا تعلم الخمرة ما أحوج الفرعاء إلى فالية و ما أفقر الصلعاء إلى حالية و لقد قبض رسول الله ص و الأمر معبد مخيس ليس لأحد فيه ملمس لم يسير فيك قولا و لم يستنزل لك قرآنا و لم يجزم في شأنك حكما لسنا في كسروية كسرى و لا قيصرية قيصر تأمل إخوان فارس و أبناء الأصفر قد جعلهم الله جزرا لسيوفنا و دريئة لرماحنا و مرمى لطعاننا بل نحن في نور نبوة و ضياء رسالة و ثمرة حكمة و أثر رحمة و عنوان نعمة و ظل عصمة بين أمة مهدية بالحق و الصدق مأمونة على الرتق و الفتق لها من الله تعالى قلب أبي و ساعد قوي و يد ناصرة و عين ناظرة. أ تظن ظنا أن أبا بكر وثب على هذا الأمر مفتاتا على الأمة خادعا لها و متسلطا عليها أ تراه امتلخ أحلامها و أزاغ أبصارها و حل عقودها و أحال عقولها و استل من صدورها حميتها و انتكث رشاءها و انتضب ماءها و أضلها عن هداها و ساقها إلى رداها و جعل نهارها ليلا و وزنها كيلا و يقظتها رقادا و صلاحها فسادا إن كان هكذا إن سحره لمبين و إن كيده لمتين كلا و الله بأي خيل و رجل و بأي سنان و نصل و بأي منة و قوة و بأي مال و عدة و بأي أيد و شدة و بأي عشيرة و أسرة و بأي قدرة و مكنة و بأي تدرع و بسطة لقد أصبح بما وسمته منيع الرقبة رفيع العتبة

(11/238)


لا و الله لكن سلا عنها فولهت نحوه و تطامن لها فالتفت به و مال عنها فمالت إليه و اشمأز دونها فاشتملت عليه حبوة حباه الله بها و غاية بلغه الله إليها و نعمة سربله جمالها و يد لله أوجب عليه شكرها و أمة نظر الله به
شرح نهج البلاغة ج : 10 ص : 280لها و طالما حلقت فوقه في أيام النبي ص و هو لا يلتفت لفتها و لا يرتصد وقتها و الله أعلم بخلقه و أرأف بعباده يختار ما كان لهم الخيرة و إنك بحيث لا يجهل موضعك من بيت النبوة و معدن الرسالة و كهف الحكمة و لا يجحد حقك فيما آتاك ر من العلم و منحك من الفقه في الدين هذا إلى مزايا خصصت بها و فضائل اشتملت عليها و لكن لك من يزاحمك بمنكب أضخم من منكبك و قربى أمس من قرباك و سن أعلى من سنك و شيبة أروع من شيبتك و سيادة معروفة في الإسلام و الجاهلية و مواقف ليس لك فيها جمل و لا ناقة و لا تذكر فيها في مقدمة و لا ساقة و لا تضرب فيها بذراع و لا إصبع و لا تعد منها ببازل و لا هبع. إن أبا بكر كان حبة قلب رسول الله ص و علاقة همه و عيبة سره و مثوى حزنه و راحة باله و مرمق طرفه شهرته مغنية عن الدلالة عليه. و لعمري إنك لأقرب منه إلى رسول الله ص قرابة و لكنه أقرب منك قربة و القرابة لحم و دم و القربة روح و نفس و هذا فرق يعرفه المؤمنون و لذلك صاروا إليه أجمعون. و مهما شككت فلا تشك في أن يد الله مع الجماعة و رضوانه لأهل الطاعة فادخل فيما هو خير لك اليوم و أنفع غدا و الفظ من فيك ما هو متعلق بلهاتك و انفث شرح هج البلاغة ج : 10 ص : 281سخيمة صدرك فإن يكن في الأمد طول و في الأجل فسحة فستأكله مريئا أو غير مري ء و ستشربه هنيئا أو غير هني ء حين لا راد لقولك إلا من كان آيسا منك و لا تابع لك إلا من كان طامعا فيك حين يمض إهابك و يفري أديمك و يزري على هديك هناك تقرع ا من ندم و تشرب الماء ممزوجا بدم حين تأسى على ما مضى من عمرك و انقضى و انقرض من دارج قومك و تود أن لو سقيت بالكأس

(11/239)


التي سقيتها غيرك و رددت إلى الحال التي كنت تكرهها في أمسك و لله فينا و فيك أمر هو بالغه و عاقبة هو المرجو لسرائها و ضرائها و هو الولي الحميد الغفور الودود. قال أبو عبيدة فمشيت إلى علي مثبطا متباطئا كأنما أخطو على أم رأسي فرقا من الفتنة و إشفاقا على الأمة و حذرا من الفرقة حتى وصلت إليه في خلاء فأبثثته بثي كله و برئت إليه منه و دفعته له فلما سمعها و وعاها و سرت في أوصاله حمياها قال حلت معلوطة و ولت مخروطة ثم قال.
إحدى لياليك فهيسي هيسي لا تنعمي الليلة بالتعريس

(11/240)


يا أبا عبيدة أ هذا كله في أنفس القوم يستنبطونه و يضطغنون عليه فقلت لا جواب عندي إنما جئتك قاضيا حق الدين و راتقا فتق الإسلام و سادا ثلمة الأمة يعلم الله ذلك من جلجلان قلبي و قرارة نفسي. شرح نهج البلاغة ج : 10 ص : 282فقال ما كان قعودي في كسر هذا البيت قصدلخلاف و لا إنكارا لمعروف و لا زراية على مسلم بل لما وقذني به رسول الله ص من فراقه و أودعني من الحزن لفقده فإني لم أشهد بعده مشهدا إلا جدد علي حزنا و ذكرني شجنا و إن الشوق إلى اللحاق به كاف عن الطمع في غيره و قد عكفت على عهد الله أنظر فيه و أجمع ما تفرق منه رجاء ثواب معد لمن أخلص لله عمله و سلم لعلمه و مشيئته أمره على أني أعلم أن التظاهر علي واقع و لي عن الحق الذي سيق إلي دافع و إذ قد أفعم الوادي لي و حشد النادي علي فلا مرحبا بما ساء أحدا من المسلمين و في النفس كلام لو لا سابق قول و سالف عهد لشفيت غيظي بخنصري و بنصري و خضت لجته بأخمصي و مفرقي و لكني ملجم إلى أن ألقى الله تعالى عنده أحتسب ما نزل بي و أنا غاد إن شاء الله إلى جماعتكم و مبايع لصاحبكم و صابر على ما ساءني و سركم ليقضي الله أمرا كان مفعولا و كان الله على كل شي ء شهيدا. قال أبو عبيدة فعدت إلى أبي بك و عمر فقصصت القول على غره و لم أترك شيئا من حلوه و مره ذكرت غدوة إلى المسجد فلما كان صباح يومئذ وافى علي فخرق الجماعة إلى أبي بكر و بايعه و قال خيرا و وصف جميلا و جلس زمينا و استأذن للقيام و نهض فتبعه عمر إكراما له و إجلالا لموضعه و استنباطا لما في نفسه و قام أبو بكر إليه فأخذ بيده و قال إن عصابة أنت منها يا أبا الحسن لمعصومة و إن أمة أنت فيها لمرحومة و لقد أصبحت عزيزا علينا كريما لدينا نخاف الله إن سخطت و نرجوه إذا رضيت و لو لا أني شدهت لما أجبت إلى ما دعيت إليه و لكني خفت شرح نهج البلاغة ج : 10 ص : 283فرقة و استئثار الأنصار بالأمر على قريش و أعجلت عن حضورك و مشاورتك و

(11/241)


لو كنت حاضرا لبايعتك و لم أعدل بك و لقد حط الله عن ظهرك ما أثقل كاهلي به و ما أسعد من ينظر الله إليه بالكفاية و إنا إليك لمحتاجون و بفضلك عالمون و إلى رأيك و هديك في جميع الأحوال راغبون و على حمايتك و حفيظتك معولون ثم انصرف و تركه مع عمر.
فالتفت علي إلى عمر فقال يا أبا حفص و الله ما قعدت عن صاحبك جزعا على ما صار إليه و لا أتيته خائفا منه و لا أقول ما أقول بعلة و إني لأعرف مسمى طرفي و مخطي قدمي و منزع قوسي و موقع سهمي و لكني تخلفت إعذارا إلى الله و إلى من يعلم الأمر الذي جعله لي رسول الله و أتيت فبايعت حفظا للدين و خوفا من انتشار أمر الله

(11/242)


فقال له عمر يا أبا الحسن كفكف من غربك و نهنه من شرتك و دع العصا بلحائها و الدلو برشائها فإنا من خلفها و ورائها إن قدحنا أورينا و إن متحنا أروينا و إن قرحنا أدمينا و قد سمعت أمثالك التي ألغزت بها صادرة عن صدر دو و قلب جو زعمت أنك قعدت في كسر بيتك لما وقذك به فراق رسول الله أ فراق رسول الله ص وقذك وحدك و لم يقذ سواك إن مصابه لأعز و أعظم من ذاك و إن من حق مصابه ألا تصدع شمل الجماعة بكلمة لا عصام لها فإنك لترى الأعراب حول المدينة لو تداعت علينا في صبح يوم لم نلتق في ممساه و زعمت أن الشوق إلى اللحاق به كاف عن الطمع في غيره فمن الشوق إليه نصرة دينه و موازرة المسلمين عليه و معاونتهم فيه. شرح نهج البلاغة ج : 10 ص : 284و زعمت أنك مكب على عهد الله تجمع ما تفرق منه فمن العكوف على عهده النصيحة لعباده و الرأفة على خلقه و أن تبذل من نفسك ما يصلحون به و يجتمعون عليه و زع أن التظاهر عليك واقع أي تظاهر وقع عليك و أي حق استؤثر به دونك لقد علمت ما قالت الأنصار أمس سرا و جهرا و ما تقلبت عليه ظهرا و بطنا فهل ذكرتك أو أشارت بك أو طلبت رضاها من عندك و هؤلاء المهاجرون من الذي قال منهم إنك صاحب هذا الأمر أو أومأ إليك أو همهم بك في نفسه أ تظن أن الناس ضنوا من أجلك أو عادوا كفارا زهدا فيك أو باعوا الله تعالى بهواهم بغضا لك و لقد جاءني قوم من الأنصار فقالوا إن عليا ينتظر الإمامة و يزعم أنه أولى بها من أبي بكر فأنكرت عليهم و رددت القول في نحورهم حتى قالوا إنه ينتظر الوحي و يتوكف مناجاة الملك فقلت ذاك أمر طواه الله بعد محمد ع. و من أعجب شأنك قولك لو لا سابق قول لشفيت غيظي بخنصري و بنصري و هل ترك الدين لأحد أن يشفي غيظه بيده أو لسانه تلك جاهلية استأصل الله شأفتها و اقتلع جرثومتها و نور ليلها و غور سيلها و أبدل منها الروح و الريحان و الهدى و البرهان. و زعمت أنك ملجم فلعمري إن من اتقى الله و آثر رضاه و

(11/243)


طلب ما عنده أمسك لسانه و أطبق فاه و غلب عقله و دينه على هواه. و أما قولك إني لأعرف منزع قوسي فإذا عرفت منزع قوسك عرفك غيرك مضرب سيفه و مطعن رمحه و أما ما تزعمه من الأمر الذي جعله رسول الله ص لك فتخلفت إعذارا إلى الله و إلى العارفة به من المسلمين فلو عرفه المسلمون شرح نهج البلاغة ج : 10 ص : 285لجنحوا إليه و أصفقوا عليه و ما كان الله ليجمعهم على العمى و لا ليضربهم بالصبا بعد الهدى و لو كان لرسول الله ص فيك رأي و عليك عزم ثم بعثه الله فرأى اجتماعمته على أبي بكر لما سفه آراءهم و لا ضلل أحلامهم و لا آثرك عليهم و لا أرضاك بسخطهم و لأمرك باتباعهم و الدخول معهم فيما ارتضوه لدينهم.
فقال علي مهلا أبا حفص أرشدك الله خفض عليك ما بذلت ما بذلت و أنا أريد عنه حولا و إن أخسر الناس صفقة عند الله من استبطن النفاق و احتضن الشقاق و في الله خلف عن كل فائت و عوض من كل ذاهب و سلوة عن كل حادث و عليه التوكل في جميع الحوادث ارجع أبا حفص إلى مجلسك ناقع القلب مبرود الغليل فصيح اللسان رحب الصدر متهلل الوجه فليس وراء ما سمعته مني إلا ما يشد الأزر و يحبط الوزر و يضع الإصر و يجمع الألفة و يرفع الكلفة إن شاء الله فانصرف عمر إلى مجلسه

(11/244)


قال أبو عبيدة فلم أسمع و لم أر كلاما و لا مجلسا كان أصعب من ذلك الكلام و المجلس. قلت الذي يغلب على ظني أن هذه المراسلات و المحاورات و الكلام كله مصنوع موضوع و أنه من كلام أبي حيان التوحيدي لأنه بكلامه و مذهبه في الخطابة و البلاغة أشبه و قد حفظنا كلام عمر و رسائله و كلام أبي بكر و خطبه فلم نجدهما يذهبان هذا المذهب و لا يسلكان هذا السبيل في كلامهما و هذا كلام عليه أثر التوليد ليس يخفى و أين أبو بكر و عمر من البديع و صناعة المحدثين و من تأمل كلام أبي حيان عرف أن شرح نهج البلاغة ج : 10 ص : 286هذا الكلام من ذلالمعدن خرج و يدل عليه أنه أسنده إلى القاضي أبي حامد المروروذي و هذه عادته في كتاب البصائر يسند إلى القاضي أبي حامد كل ما يريد أن يقوله هو من تلقاء نفسه إذا كان كارها لأن ينسب إليه و إنما ذكرناه نحن في هذا الكتاب لأنه و إن كان عندنا موضوعا منحولا فإنه صورة ما جرت عليه حال القوم فهم و إن لم ينطقوا به بلسان المقال فقد نطقوا به بلسان الحال. و مما يوضح لك أنه مصنوع أن المتكلمين على اختلاف مقالاتهم من المعتزلة و الشيعة و الأشعرية و أصحاب الحديث و كل من صنف في علم الكلام و الإمامة لم يذكر أحد منهم كلمة واحدة من هذه الحكاية و لقد كان المرتضى رحمه الله يلتقط من كلام أمير المؤمنين ع اللفظة الشاذة و الكلمة المفردة الصادرة عنه ع في معرض التألم و التظلم فيحتج بها و يعتمد عليها نحو
قوله ما زلت مظلوما مذ قبض رسول الله حتى يوم الناس هذا
و قوله لقد ظلمت عدد الحجر و المدر
و قوله إن لنا حقا إن نعطه نأخذه و إن نمنعه نركب أعجاز الإبل و إن طال السرى
و قوله فصبرت و في الحلق شجا و في العين قذى
و قوله اللهم إني أستعديك على قريش فإنهم ظلموني حقي و غصبوني إرثي

(11/245)


و كان المرتضى إذا ظفر بكلمة من هذه فكأنما ظفر بملك الدنيا و يودعها كتبه و تصانيفه فأين كان المرتضى عن هذا الحديث و هلا ذكر في كتاب الشافي في الإمامة شرح نهج البلاغة ج : 10 ص : 287كلام أمير المؤمنين ع هذا و كذلك من قبله من الإمامية كابن النعمان و بني نوبخو بني بابويه و غيرهم و كذلك من جاء بعده من متأخري متكلمي الشيعة و أصحاب الأخبار و الحديث منهم إلى وقتنا هذا و أين كان أصحابنا عن كلام أبي بكر و عمر له ع و هلا ذكره قاضي القضاة في المغني مع احتوائه على كل ما جرى بينهم حتى أنه يمكن أن يجمع منه تاريخ كبير مفرد في أخبار السقيفة و هلا ذكره من كان قبل قاضي القضاة من مشايخنا و أصحابنا و من جاء بعده من متكلمينا و رجالنا و كذلك القول في متكلمي الأشعرية و أصحاب الحديث كابن الباقلاني و غيره و كان ابن الباقلاني شديدا على الشيعة عظيم العصبية على أمير المؤمنين ع فلو ظفر بكلمة من كلام أبي بكر و عمر في هذا الحديث لملأ الكتب و التصانيف بها و جعلها هجيراه و دأبه. و الأمر فيما ذكرناه من وضع هذه القصة ظاهر لمن عنده أدنى ذوق من علم البيان و معرفة كلام الرجال و لمن عنده أدنى معرفة بعلم السير و أقل أنس بالتواريخ.

(11/246)


قوله ع مودع لا قال و لا مبغض و لا سئم أي لا ملول سئمت من الشي ء أسأم سأما و سآما و سآمة سئمته إذا مللته و رجل سئوم. ثم أكد ع هذا المعنى فقال إن انصرفت فلا عن ملالة و إن أقمت فلا عن سوء ظن بما وعد الله الصابرين أي ليست إقامتي على قبرك و جزعي عليك إنكارا من لفضيلة الصبر و التجلد و التعزي و التأسي و ما وعد الله به الصابرين من الثواب بل أنا عالم بذلك و لكن يغلبني بالطبع البشري. و روي أن فاطمة بنت الحسين ع ضربت فسطاطا على قبر بعلها الحسن شرح نهج البلاغة ج : 10 ص : 288بن الحسن ع سنة فلما انقضت السنة قوضت الفسط راجعة إلى بيتها فسمعت هاتفا يقول هل بلغوا ما طلبوا فأجابه هاتف آخر بل يئسوا فانصرفوا. و
ذكر أبو العباس محمد بن يزيد المبرد في كتابه الكامل أنه ع تمثل عند قبر فاطمة
ذكرت أبا أروى فبت كأنني برد الهموم الماضيات وكيل لكل اجتماع من خليلين فرقة و كل الذي دون الفراق قليل و إن افتقادي واحدا بعد واحد دليل على ألا يدوم خليو الناس يرونه
و إن افتقادي فاطما بعد أحمد

(11/247)


شرح نهج البلاغة ج : 11 ص : 3الجزء الحادي عشرتتمة باب الخطب و الأوامر
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله الواحد العدل
196- و من كلام له ع
أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا الدُّنْيَا دَارُ مَجَازٍ وَ الآْخِرَةُ دَارُ قَرَارٍ فَخُذُوا مِنْ مَمَرِّكُمْ لِمَقَرِّكُمْ وَ لَا تَهْتِكُوا أَسْتَارَكُمْ عِنْدَ مَنْ يَعْلَمُ أَسْرَارَكُمْ وَ أَخْرِجُوا مِنَ الدُّنْيَا قُلُوبَكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَخْرُجَ مِنْهَا أَبْدَانُكُمْ فَفِيهَا اخْتُبِرْتُمْ وَ لِغَيْرِهَا خُلِقْتُمْ إِنَّ الْمَرْءَ إِذَا هَلَكَ قَالَ النَّاسُ مَا تَرَكَ وَ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ مَا قَدَّمَ لِلَّهِ آبَاؤُكُمْ فَقَدِّمُوا بَعْضاً يَكُنْ لَكُمْ وَ لَا تُخْلِفُوا كُلًّا فَيَكُونَ فَرْضاً عَلَيْكُمْ

(12/1)


ذكر أبو العباس محمد بن يزيد المبرد في الكامل عن الأصمعي قال خطبنا أعرابي بالبادية فحمد الله و استغفره و وحده و صلى على نبيه ص فأبلغ في إيجاز ثم قال أيها الناس إن الدنيا دار بلاغ و الآخرة دار قرار فخذوا لمقركم من ممركم و لا تهتكوا أستاركم عند من لا تخفى عليه أسراركم في الدنيا أنتم شرح نهج البلاغة ج : 11 ص : 4و لغيرها خلقتم أقول قولي هذا و أستغفر الله لي و لكم و المصلى عليه رسول الله و المدعو له الخليفة و الأمير جعفر بن سليمان. و ذكر غيره الزيادة التي في كلام أمير المؤمنين ع و هي أن المرء إذا هلك إلى آخر الام. و أكثر الناس على أن هذا الكلام لأمير المؤمنين ع. و يجوز أن يكون الأعرابي حفظه فأورده كما يورد الناس كلام غيرهم. قوله ع دار مجاز أي يجاز فيها إلى الآخرة و منه سمي المجاز في الكلام مجازا لأن المتكلم قد عبر الحقيقة إلى غيرها كما يعبر الإنسان من موضع إلى موضع. و دار القرار دار الاستقرار الذي لا آخر له. فخذوا من ممركم أي من الدنيا لمقركم و هو الآخرة. قوله ع قال الناس ما ترك يريد أن بني آدم مشغولون بالعاجلة لا يفكرون في غيرها و لا يتساءلون إلا عنها فإذا هلك أحدكم فإنما قولهم بعضهم لبعض ما الذي ترك فلان من المال ما الذي خلف من الولد و أما الملائكة فإنهم يعرفون الآخرة و لا تستهويهم شهوات الدنيا و إنما هم مشغولون بالذكر و التسبيح فإذا هلك الإنسان قالوا ما قدم أي أي شي ء قدم من الأعمال. ثم أمرهم ع بأن يقدموا من أموالهم بعضها صدقة فإنها تبقى لهم و نهاهم أن يخلفوا موالهم كلها بعد موتهم فتكون وبالا عليهم في الآخرة

(12/2)


شرح نهج البلاغة ج : 11 ص : 1975- و من كلام له ع كان كثيرا ما ينادي به أصحابهتَجَهَّزُوا رَحِمَكُمُ اللَّهُ فَقَدْ نُودِيَ فِيكُمْ بِالرَّحِيلِ وَ أَقِلُّوا الْعَرْجَةَ عَلَى الدُّنْيَا وَ انْقَلِبُوا بِصَالِحِ مَا بِحَضْرَتِكُمْ مِنَ الزَّادِ فَإِنَّ أَمَامَكُمْ عَقَبَةً كَئُوداً وَ مَنَازِلَ مَخُوفَةً مَهُولَةً لَا بُدَّ مِنَ الْوُرُودِ عَلَيْهَا وَ الْوُقُوفِ عِنْدَهَا. وَ اعْلَمُوا أَنَّ مَلَاحِظَ الْمَنِيَّةِ نَحْوَكُمْ دَائِبَةٌ وَ كَأَنَّكُمْ بِمَخَالِبِهَا وَ قَدْ نَشِبَتْ فِيكُمْ وَ قَدْ دَهَمَتْكُمْ مِنْهَا مُفْظِعَاتُ الْأُمُورِ وَ مُضْلِعَاتُ الْمَحْذُورِ. فَقَطِّعُوا عَلَائِقَ الدُّنْيَا وَ اسْتَظْهِرُوا بِزَادِ التَّقْوَى
و قد مضى شي ء من هذا الكلام فيما تقدم يخالف هذه الرواية تجهزوا لكذا أي تهيئوا له. و العرجة التعريج و هو الإقامة تقول ما لي على ربعك عرجة أي إقامة و عرج فلان على المنزل إذا حبس عليه مطيته. شرح نهج البلاغة ج : 11 ص : 6و العقبة الكئود الشاقة المصعد و دائبة جادة و المخلب للسبع بمنزلة الظفر للإنسان. و أفظع الأمر ف مفظع إذا جاوز المقدار شدة. و مضلعات المحذور الخطوب التي تضلع أي تجعل الإنسان ضليعا أي معوجا و الماضي ضلع بالكسر يضلع ضلعا. و من رواها بالظاء أراد الخطوب التي تجعل الإنسان ظالعا أي يغمز في مشيه لثقلها عليه و الماضي ظلع بالفتح يظلع ظلعها فهو ظالع
شرح نهج البلاغة ج : 11 ص : 1987- و من كلام له ع كلم به طلحة و الزبير بعد بيعته بالخلافةو قد عتبا عليه من ترك مشورتهما و الاستعانة في الأمور بهما

(12/3)


لَقَدْ نَقَمْتُمَا يَسِيراً وَ أَرْجَأْتُمَا كَثِيراً أَ لَا تُخْبِرَانِي أَيُّ شَيْ ءٍ كَانَ لَكُمَا فِيهِ حَقٌّ دَفَعْتُكُمَا عَنْهُ أَمْ أَيُّ قَسْمٍ اسْتَأْثَرْتُ عَلَيْكُمَا بِهِ أَوْ أَيُّ حَقٍّ رَفَعَهُ إِلَيَّ أَحَدٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ ضَعُفْتُ عنْهُ أَمْ جَهِلْتُهُ أَمْ أَخْطَأْتُ بَابَهُ. وَ اللَّهِ مَا كَانَتْ لِي فِي الْخِلَافَةِ رَغْبَةٌ وَ لَا فِي الْوَلَايَةِ إِرْبَةٌ وَ لَكِنَّكُمْ دَعَوْتُمُونِي إِلَيْهَا وَ حَمَلْتُمُونِي عَلَيْهَا فَلَمَّا أَفْضَتْ إِلَيَّ نَظَرْتُ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ وَ مَا وَضَعَ لَنَا وَ أَمَرَنَا بِالْحُكْمِ بِهِ فَاتَّبَعْتُهُ وَ مَا اسْتَنَّ النَّبِيُّ ص فَاقْتَدَيْتُهُ فَلَمْ أَحْتَجْ إِلَى رَأْيِكُمَا وَ لَا رَأْيِ غَيْرِكُمَا وَ لَا وَقَعَ حُكْمٌ جَهِلْتُهُ فَأَسْتَشِيرَكُمَا وَ إِخْوَانِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَ لَوْ كَانَ ذَلِكَ لَمْ أَرْغَبْ عَنْكُمَا وَ لَا عَنْ غَيْرِكُمَا. وَ أَمَّا مَا ذَكَرْتُمَا مِنْ أَمْرِ الْأُسْوَةِ فَإِنَّ ذَلِكَ أَمْرٌ لَمْ أَحْكُمْ أَنَا فِيهِ بِرَأْيِي وَ لَا وَلِيتُهُ هَوًى مِنِّي بَلْ وَجَدْتُ أَنَا وَ أَنْتُمَا مَا جَاءَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ ص قَدْ فُرِغَ مِنْهُ فَلَمْ أَحْتَجْ إِلَيْكُمَا فِيمَا قَدْ فَرَغَ اللَّهُ مِنْ قَسْمِهِ وَ أَمْضَى فِيهِ حُكْمَهُ فَلَيْسَ لَكُمَا وَ اللَّهِ عِنْدِي وَ لَا لِغَيْرِكُمَا فِي هَذَا عُتْبَى. أَخَذَ اللَّهُ بِقُلُوبِنَا وَ قُلُوبِكُمْ إِلَى الْحَقِّ وَ أَلْهَمَنَا وَ إِيَّاكُمُ الصَّبْرَ. شرح نهج البلاغة ج : 11 ص : 8ثُمَّ قَالَ ع رَحِمَ اللَّهُ رَجُلًا رَأَى حَقّاً فَأَعَانَ عَلَيْهِ أَوْ رَأَى جَوْراً فَرَدَّهُ وَ كَانَ عَوْناً بِالْحَقِّ عَلَى صَاحِبِهِنقمت عليه بالفتح أنقم هذه اللغة الفصيحة و جاء نقمت بالكسر أنقم. و أرجأتما أخرتما أي نقمتما من أحوالي

(12/4)


اليسير و تركتما الكثير الذي ليس لكما و لا لغيركما فيه مطعن فلم تذكراه فهلا اغتفرتما اليسير للكثير. و ليس هذا اعترافا بأن ما نقماه موضع الطعن و العيب و لكنه على جهة الجدل و الاحتجاج كما تقول لمن يطعن في بيت من شعر شاعر مشهور لقد ظلمته إذ تتعلق عليه بهذا البيت و تنسى ما له من المحاسن الكثيرة في غيره. ثم ذكر وجوه العتاب و الاسترادة و هي أقسام إما أن يكون لهما حق يدفعهما عنه أو استأثر عليهما في قسم أو ضعف عن السياسة أو جهل حكما من أحكام الشريعة أو أخطأ بابه. فإن قلت أي فرق بين الأول و الثاني قلت أما دفعهما عن حقهما فمنعهما عنه سواء صار إليه ع أو إلى غيره أو لم يصر إلى أحد بل بقي بحاله في بيت المال. شرح نهج البلاغة ج : 11 ص : 9و أما القسم الثاني فهو أن يأخذ حقهملنفسه و بين القسمين فرق ظاهر و الثاني أفحش من الأول. فإن قلت فأي فرق بين قوله أم جهلته أو أخطأت بابه. قلت جهل الحكم أن يكون الله تعالى قد حكم بحرمة شي ء فأحله الإمام أو المفتي و كونه يخطئ بابه هو أن يصيب في الحكم و يخطئ في الاستدلال عليه. ثم أقسم أنه لم ين له في الخلافة رغبة و لا إربة بكسر الهمزة و هي الحاجة و صدق ع فهكذا نقل أصحاب التواريخ و أرباب علم السير كلهم و

(12/5)


روى الطبري في التاريخ و رواه غيره أيضا إن الناس غشوه و تكاثروا عليه يطلبون مبايعته و هو يأبى ذلك و يقول دعوني و التمسوا غيري فإنا مستقبلون أمرا له وجوه و ألوان لا تثبت عليه العقول و لا تقوم له القلوب قالوا ننشدك الله أ لا ترى الفتنة أ لا ترى إلى ما حدث في الإسلام أ لا تخاف الله فقال قد أجبتكم لما أرى منكم و اعلموا أني إن أجبتكم ركبت بكم ما أعلم و إن تركتموني فإنما أنا كأحدكم بل أنا أسمعكم و أطوعكم لمن وليتموه أمركم إليه فقالوا ما نحن بمفارقيك حتى نبايعك قال إن كان لا بد من ذلك ففي المسجد فإن بيعتي لا تكون خفيا و لا تكون إلا عن رضا المسلمين و في ملإ و جماعة فقام و الناس حوله فدخل المسجد و انثال عليه المسلمون فبايعوه و فيهم طلحة و الزبير
قلت قوله إن بيعتي لا تكون خفيا و لا تكون إلا في المسجد بمحضر من جمهور الناس يشابه قوله بعد وفاة رسول الله ص للعباس لما سامه مد يده للبيعة إني أحب أن أصحر بها و أكره أن أبايع من وراء رتاج. شرح نهج البلاغة ج : 11 ص : 10ثم ذكر ع أنه لما بويع عمل بكتاب الله سنة رسوله و لم يحتج إلى رأيهما و لا رأي غيرهما و لم يقع حكم يجهله فيستشيرهما و لو وقع ذلك لاستشارهما و غيرهما و لم يأنف من ذلك. ثم تكلم في معنى التنفيل في العطاء فقال إني عملت بسنة رسول الله ص في ذلك و صدق ع فإن رسول الله ص سوى في العطاء بين الناس و هو مذهب أبي بكر. و العتبى الرضا أي لست أرضيكما بارتكاب ما لا يحل لي في الشرع ارتكابه و الضمير في صاحبه و هو الهاء المجرورة يرجع إلى الجور أي و كان عونا بالعمل على صاحب الجور
من أخبار طلحة و الزبير

(12/6)


قد تقدم منا ذكر ما عتب به طلحة و الزبير على أمير المؤمنين ع و أنهما قالا ما نراه يستشيرنا في أمر و لا يفاوضنا في رأي و يقطع الأمر دوننا و يستبد بالحكم عنا و كانا يرجوان غير ذلك و أراد طلحة أن يوليه البصرة و أراد الزبير أن يوليه الكوفة فلما شاهدا صلابته في الدين و قوته في العزم و هجره الادهان و المراقبة و رفضه المدالسة و المواربة و سلوكه في جميع مسالكه منهج الكتاب و السنة و قد كانا يعلمان ذلك قديما من طبعه و سجيته و كان عمر قال لهما و لغيرهما إن الأجلح إن وليها ليحملنكم على المحجة البيضاء و الصراط المستقيم و

(12/7)


كان رسول الله ص شرح نهج البلاغة ج : 11 ص : 11من قبل قال و إن تولوها عليا تجدوه هاديا مهدياإلا أنه ليس الخبر كالعيان و لا القول كالفعل و لا الوعد كالإنجاز و حالا عنه و تنكرا له و وقعا فيه و عاباه و غمصاه و تطلبا له العلل و التأويلات و تنقما عليه الاستبداد و ترك المشاورة و انتقلا من ذلك إلى الوقيعة فيه بمساواة الناس في قسمة المال و أثنيا على عمر و حمدا سيرته و صوبا رأيه و قالا إنه كان يفضل أهل السوابق و ضللا عليا ع فيما رآه و قالا إنه أخطأ و إنه خالف سيرة عمر و هي السيرة المحمودة التي لم تفضحها النبوة مع قرب عهدنا منها و اتصالها بها و استنجدا عليه بالرؤساء من المسلمين كان عمر يفضلهم و ينفلهم في القسم على غيرهم و الناس أبناء الدنيا و يحبون المال حبا جما فتنكرت على أمير المؤمنين ع بتنكرهما قلوب كثيرة و نغلت عليه نيات كانت من قبل سليمة و لقد كان عمر موفقا حيث منع قريشا و المهاجرين و ذوي السوابق من الخروج من المدينة و نهاهم عن مخالطة الناس و نهى الناس عن مخالطتهم و رأى أن ذلك أس الفساد في الأرض و أن الفتوح و الغنائم قد أبطرت المسلمين و متى بعد الرءوس و الكبراء منهم عن دار الهجرة و انفردوا بأنفسهم و خالطهم الناس في البلاد البعيدة لم يأمن أن يحسنوا لهم الوثوب و طلب الإمرة و مفارقة الجماعة و حل نظام الألفة و لكنه رضي الله عنه نقض هذا الرأي السديد بما فعله بعد طعن أبي لؤلؤة له من أمر الشورى فإن ذلك كان سبب كل فتنة وقعت و تقع إلى أن تنقضي الدنيا و قد قدمنا ذكر ذلك و شرحنا ما أدى إليه أمر الشورى من الفساد بما حصل في نفس كل من الستة من ترشيحه للخلافة. شرح نهجلبلاغة ج : 11 ص : 12و روى أبو جعفر الطبري في تاريخه قال كان عمر قد حجر على أعلام قريش من المهاجرين الخروج في البلدان إلا بإذن و أجل فشكوه فبلغه فقام فخطب فقال ألا إني قد سننت الإسلام سن البعير يبدأ فيكون جذعا ثم ثنيا ثم يكون

(12/8)


رباعيا ثم سديسا ثم بازلا ألا فهل ينتظر بالبازل إلا النقصان ألا و إن الإسلام قد صار بازلا و إن قريشا يريدون أن يتخذوا مال الله معونات على ما في أنفسهم ألا إن في قريش من يضمر الفرقة و يروم خلع الربقة أما و ابن الخطاب حي فلا إني قائم دون شعب الحرة آخذ بحلاقيم قريش و حجزها أن يتهافتوا في النار. و قال أبو جعفر الطبري في التاريخ أيضا فلما ولي عثمان لم يأخذهم بالذي كان عمر يأخذهم به فخرجوا إلى البلاد فلما نزلوها و رأوا الدنيا و رآهم الناس خمل من لم يكن له طول و لا قدم في الإسلام و نبه أصحاب السوابق و الفضل فانقطع إليهم الناس و صاروا أوزاعا معهم و أملوهم و تقربوا إليهم و قالوا يملكون فيكون لنا في ملكهم حظوة فكان ذلك أول وهن على الإسلام و أول فتنة كانت في العامة. و روى أبو جعفر الطبري عن الشعبي قال لم يمت عمر حتى ملته قريش و قد كان حصرهم بالمدينة و سألوه أن يأذن لهم في الخروج إلى البلاد فامتنع عليهم و قال إن أخوف ما أخاف على هذه الأمة انتشاركم في البلاد حتى أن الرجل كان يستأذنه في غزو الروم أو الفرس و هو ممن حبسه بالمدينة من قريش و لا سيما من المهاجرين فيقول له إن لك في غزوك مع رسول الله ص ما يكفيك و يبلغك و يحسبك و هو خير لك من الغزو اليوم و إن خيرا لك ألا ترى الدنيا و لا تراك.

(12/9)


شرح نهج البلاغة ج : 11 ص : 13فلما مات عمر و ولي عثمان خلى عنهم فانتشروا في البلاد و اضطربوا و انقطع إليهم الناس و خالطوهم فلذلك كان عثمان أحب إلى قريش من عمر. فقد بان لك حسن رأي عمر في منع المهاجرين و أهل السابقة من قريش من مخالطة الناس و الخروج من المدة و بان لك أن عثمان أرخى لهم في الطول فخالطهم الناس و أفسدوهم و حببوا إليهم الملك و الإمرة و الرئاسة لا سيما مع الثروة العظيمة التي حصلت لهم و الثراء مفسدة و أي مفسدة و حصل لطلحة و الزبير من ذلك ما لم يحصل لغيرهما ثروة و يسارا و قدما في الإسلام و صار لهما لفيف عظيم من المسلمين يمنونهما الخلافة و يحسنون لهما طلب الإمرة لا سيما و قد رشحهما عمر لها و أقامهما مقام نفسه في تحملها و أي امرئ منى بها قط نفسه ففارقها حتى يغيب في اللحد و لا سيما طلحة قد كان يحدث بها نفسه و أبو بكر حي و يروم أن يجعلها فيه بشبهة أنه ابن عمه و سخط خلافة عمر و قال لأبي بكر ما تقول لربك و قد وليت علينا فظا غليظا و كان له في أيام عمر قوم يجلسون إليه و يحادثونه سرا في معنى الخلافة و يقولون له لو مات عمر لبايعناك بغتة جلب الدهر علينا ما جلب و بلغ ذلك عمر فخطب الناس بالكلام المشهور أن قوما يقولون إن بيعة أبي بكر كانت فلتة و إنه لو مات عمر لفعلنا و فعلنا أما إن بيعة أبي بكر كانت فلتة إلا أن الله وقى شرها و ليس فيكم من تقطع إليه الرقاب كأبي بكر فأي امرئ بايع امرأ من غير مشورة من المسلمين فإنهما بغرة أن يقتلا فلما صارت إلى عثمان سخطها طلحة بعد أن كان رضيها و أظهر ما في نفسه و ألب عليه حتى قتل و لم يشك أن الأمر له فلما صارت إلى علي ع حدث منه ما حدث و آخر الدواء الكي. و أما الزبير فلم يكن إلا علوي الرأي شديد الولاء جاريا من الرجل مجرى نفسه. شرح نهج البلاغة ج : 11 ص : 14و يقال إنه ع لما استنجد بالمسين عقيب يوم السقيفة و ما جرى فيه و كان يحمل فاطمة ع ليلا على حمار و

(12/10)


ابناها بين يدي الحمار و هو ع يسوقه فيطرق بيوت الأنصار و غيرهم و يسألهم النصرة و المعونة أجابه أربعون رجلا فبايعهم على الموت و أمرهم أن يصبحوا بكرة محلقي رءوسهم و معهم سلاحهم فأصبح لم يوافه منهم إلا أربعة الزبير و المقداد و أبو ذر و سلمان ثم أتاهم من الليل فناشدهم فقالوا نصبحك غدوة فما جاءه منهم إلا أربعة و كذلك في الليلة الثالثة و كان الزبير أشدهم له نصرة و أنفذهم في طاعته بصيرة حلق رأسه و جاء مرارا و في عنقه سيفه و كذلك الثلاثة الباقون إلا أن الزبير هو كان الرأس فيهم و قد نقل الناس خبر الزبير لما هجم عليه ببيت فاطمة ع و كسر سيفه في صخرة ضربت به و نقلوا اختصاصه بعلي ع و خلواته به و لم يزل مواليا له متمسكا بحبه و مودته حتى نشأ ابنه عبد الله و شب فنزع به عرق من الأم و مال إلى تلك الجهة و انحرف عن هذه و محبة الوالد للولد معروفة فانحرف الزبير لانحرافه على أنه قد كانت جرت بين علي ع و الزبير هنات في أيام عمر كدرت القلوب بعض التكدير و كان سببها قصة موالي صفية و منازعة علي للزبير في الميراث فقضى عمر للزبير فأذعن علي ع لقضائه بحكم سلطانه لا رجوعا عما كان يذهب إليه من حكم الشرع في هذه المسألة و بقيت في نفس الزبير على أن شيخنا أبا جعفر الإسكافي رحمه الله ذكر في كتاب نقض العثمانية عن الزبير كلاما إن صح فإنه يدل على انحراف شديد و رجوع عن موالاة أمير المؤمنين ع. قال تفاخر علي ع و الزبير فقال الزبير أسلمت بالغا و أسلمت طفلا و كنت أول من سل سيفا في سبيل الله بمكة و أنت مستخف في الشعب يكفلك الرجال

(12/11)


شرح نهج البلاغة ج : 11 ص : 15و يمونك الأقارب من بني هاشم و كنت فارسا و كنت راجلا و في هيأتي نزلت الملائكة و أنا حواري رسول الله ص. قال شيخنا أبو جعفر و هذا الخبر مفتعل مكذوب و لم يجر بين علي و الزبير شي ء من هذا الكلام و لكنه من وضع العثمانية و لم يسمع في أحاديث الحشوية و لا في كتب أصحاب السيرة. و لعلي ع أن يقول طفل مسلم خير من بالغ كافر و أما سل السيف بمكة فلم يكن في موضعه و في ذلك قال الله تعالى أَ لَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ الآية و أنا على منهاج الرسول في الكف و الإقدام و ليس كفالة الرجال و الأقارب بالشعب عارا علي فقد كان رسول الله ص في الشعب يكفله الرجال و الأقارب و أما حربك فارسا و حربي راجلا فهلا أغنت فروسيتك يوم عمرو بن عبد ود في الخندق و هلا أغنت فروسيتك يوم طلحة بن أبي طلحة في أحد و هلا أغنت فروسيتك يوم مرحب بخيبر ما كانت فرسك التي تحارب عليها في هذه الأيام إلا أذل من العنز الجرباء و من سلمت عليه الملائكة أفضل ممن نزلت في هيأته و قد نزلت الملائكة في صورة دحية الكلبي أ فيجب من ذلك أن يكون دحية أفضل مني و أما كونك حواري رسول الله ص فلو عددت خصائصي في مقابلة هذه اللفظة الواحدة لك لاستغرقت الوقت و أفنيت الزمان و رب صمت أبلغ من نطق. ثم نرجع إلى الحديث الأول فتقول إن طلحة و الزبير لما أيسا من جهة علي ع شرح نهج البلاغة ج : 11 ص : 16و من حصول الدنيا من قبله قلبا له ظهر المجن فكاشفاه و عاتباه قبل المفارقة عتابا لاذعا روى خنا أبو عثمان قال أرسل طلحة و الزبير إلى علي ع قبل خروجهما إلى مكة مع محمد بن طلحة و قالا لا تقل له يا أمير المؤمنين و لكن قل له يا أبا الحسن لقد فال فيك رأينا و خاب ظننا أصلحنا لك الأمر و وطدنا لك الإمرة و أجلبنا على عثمان حتى قتل فلما طلبك الناس لأمرهم أسرعنا إليك و بايعناك و قدنا إليك أعناق العرب و وطئ المهاجرون و

(12/12)


الأنصار أعقابنا في بيعتك حتى إذا ملكت عنانك استبددت برأيك عنا و رفضتنا رفض التريكة و أذلتنا إذالة الإماء و ملكت أمرك الأشتر و حكيم بن جبلة و غيرهما من الأعراب و نزاع الأمصار فكنا فيما رجوناه منك و أملناه من ناحيتك كما قال الأول
فكنت كمهريق الذي في سقائه لرقراق آل فوق رابية صلد
فلما جاء محمد بن طلحة أبلغه ذاك فقال اذهب إليهما فقل لهما فما الذي يرضيكما فذهب و جاءه فقال إنهما يقولان ول أحدنا البصرة و الآخر الكوفة فقال لاها الله إذن يحلم الأديم و يستشرى الفساد و تنتقض على البلاد من أقطارها و الله إني لا آمنهما و هما عندي بالمدينة فكيف آمنهما و قد وليتهما العراقين اذهب إليهما فقل أيها الشيخان احذرا من سطوة الله و نقمته و لا تبغيا للمسلمين غائلة و كيدا و قد سمعتما قول الله تعالى تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُها لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَ لا فَساداً وَ الْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ فقام محمد بن طلحة فأتاهما و لم يعد إليه و تأخرا عنه أياما ثم جاءاه فاستأذناه في الخروج إلى مكة للعمرة فأذن لهما بعد أن أحلفهما شرح نهج البلاغة ج : 11 ص : 17ألا ينقضا بيعته و لا يغدرا به و لا يشقا عصا المسلمين و لا يوقعا الفرقة بينهم أن يعودا بعد العمرة إلى بيوتهما بالمدينة فحلفا على ذلك كله ثم خرجا ففعلا ما فعلا. و روى شيخنا أبو عثمان قال لما خرج طلحة و الزبير إلى مكة و أوهما الناس أنهما خرجا للعمرة قال علي ع لأصحابه و الله ما يريدان العمرة و إنما يريدان الغدرة فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّما يَنْكُثُ عَلى نَفْسِهِ وَ مَنْ أَوْفى بِما عاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً. و روى الطبري في التاريخ قال لما بايع طلحة و الزبير عليا ع سألاه أن يؤمرهما على الكوفة و البصرة فقال بل تكونان عندي أتجمل بكما فإنني أستوحش لفراقكما. قال الطبري و قد كان قال لهما قبل بيعتهما له إن

(12/13)


أحببتما أن تبايعاني و إن أحببتما بايعتكما فقالا لا بل نبايعك ثم قالا بعد ذلك إنما بايعناه خشية على أنفسنا و قد عرفنا أنه لم يكن ليبايعنا ثم ظهرا إلى مكة و ذلك بعد قتل عثمان بأربعة أشهر. و روى الطبري أيضا في التاريخ قال لما بايع الناس عليا و تم له الأمر قال طلحة للزبير ما أرى أن لنا من هذا الأمر إلا كحسة أنف الكلب. و روى الطبري أيضا في التاريخ قال لما بايع الناس عليا ع بعد قتل عثمان جاء علي إلى الزبير فاستأذن عليه قال أبو حبيبه مولى الزبير فأعلمته به فسل السيف و وضعه تحت فراشه و قال ائذن له فأذنت له فدخل فسلم على الزبير و هو واقف ثم خرج فقال الزبير لقد دخل لأمر ما قضاه قم مقامه و انظر هل ترى من
شرح نهج البلاغة ج : 11 ص : 18السيف شيئا فقمت في مقامه فرأيت ذباب السيف فأخبرته و قلت إن ذباب السيف ليظهر لمن قام في هذا الموضع فقال ذاك أعجل الرجل و روى شيخنا أبو عثمان قال كتب مصعب بن الزبير إلى عبد الملك من مصعب بن الزبير إلى عبد الملك بن مروان سلام عك فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو أما بعد
ستعلم يا فتى الزرقاء أني سأهتك عن حلائلك الحجاباو أترك بلدة أصبحت فيها تهور من جوانبها خرابا
أما إن لله على الوفاء بذلك إلا أن تتراجع أو تتوب و لعمري ما أنت كعبد الله بن الزبير و لا مروان كالزبير بن العوام حواري رسول الله ص و ابن عمته فسلم الأمر إلى أهله فإن نجاتك بنفسك أعظم الغنيمتين و السلام. فكتب إليه عبد الملك من عبد الله عبد الملك أمير المؤمنين إلى الذلول الذي أخطأ من سماه المصعب سلام عليك فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو أما بعد
أ توعدني و لم أر مثل يومي خشاش الطير يوعدن العقابامتى تلق العقاب خشاش طير يهتك عن مقاتلها الحجاباأ توعد بالذئاب أسود غاب و أسد الغاب تلتهم الذئابا

(12/14)


أما ما ذكرت من وفائك فلعمري لقد وفى أبوك لتيم و عدي بعداء قريش و زعانفها حتى إذا صارت الأمور إلى صاحبها عثمان الشريف النسب الكريم الحسب بغاة الغوائل و أعد له المخاتل حتى نال منه حاجته ثم دعا الناس إلى علي و بايعه فلما شرح نهج البلاغة ج : 11 ص : 19دانت لهمور الأمة و أجمعت له الكلمة و أدركه الحسد القديم لبني عبد مناف فنقض عهده و نكث بيعته بعد توكيدها ف فَكَّرَ وَ قَدَّرَ فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ و تمزقت لحمه الضباع بوادي السباع و لعمري إنك تعلم يا أخا بني عبد العزى بن قصي أنا بنو عبد مناف لم نزل سادتكم و قادتكم في الجاهلية و الإسلام و لكن الحسد دعاك إلى ما ذكرت و لم ترث ذلك عن كلالة بل عن أبيك و لا أظن حسدك و حسد أخيك يئول بكما إلا إلى ما آل إليه حسد أبيكما من قبل وَ لا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ وَ سَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ. و روى أبو عثمان أيضا قال دخل الحسن بن علي ع على معاوية و عنده عبد الله بن الزبير و كان معاوية يحب أن يغري بين قريش فقال يا أبا محمد أيهما كان أكبر سنا علي أم الزبير فقال الحسن ما أقرب ما بينهما و علي أسن من الزبير رحم الله عليا فقال ابن الزبير رحم الله الزبير و هناك أبو سعيد بن عقيل بن أبي طالب فقال يا عبد الله و ما يهيجك من أن يترحم الرجل على أبيه قال و أنا أيضا ترحمت على أبي قال أ تظنه ندا له و كفؤا قال و ما يعدل به عن ذلك كلاهما من قريش و كلاهما دعا إلى نفسه و لم يتم له قال دع ذاك عنك يا عبد الله إن عليا من قريش و من الرسول ص حيث تعلم و لما دعا إلى نفسه أتبع فيه و كان رأسا و دعا الزبير إلى أمر و كان الرأس فيه امرأة و لما تراءت الفئتان نكص على عقبيه و ولى مدبرا قبل أن يظهر الحق فيأخذه أو يدحض الباطل فيتركه فأدركه رجل لو قيس ببعض أعضائه لكان أصغر فضرب عنقه و أخذ سلبه و جاء برأسه و مضى علي قدما

(12/15)


كعادته مع ابن عمه رحم الله عليا شرح نهج البلاغة ج : 11 ص : 20فقال ابن الزبير أما لو أن غيرك تكلم بهذا يا أبا سعيد لعلم فقال إن الذي تعرض به يرغب عنك و كفه معاوية فسكتوا. و أخبرت عائشة بمقالتهم ور أبو سعيد بفنائها فنادته يا أبا سعيد أنت القائل لابن أختي كذا فالتفت أبو سعيد فلم ير شيئا فقال إن الشيطان يرانا و لا نراه فضحكت عائشة و قالت لله أبوك ما أذلق لسانك
شرح نهج البلاغة ج : 11 ص : 19921- و من كلام له ع و قد سمع قوما من أصحابه يسبون أهل الشام أيام حربهم بصفينإِنِّي أَكْرَهُ لَكُمْ أَنْ تَكُونُوا سَبَّابِينَ وَ لَكِنَّكُمْ لَوْ وَصَفْتُمْ أَعْمَالَهُمْ وَ ذَكَرْتُمْ حَالَهُمْ كَانَ أَصْوَبَ فِي الْقَوْلِ وَ أَبْلَغَ فِي الْعُذْرِ وَ قُلْتُمْ مَكَانَ سَبِّكُمْ إِيَّاهُمْ اللَّهُمَّ احْقِنْ دِمَاءَنَا وَ دِمَاءَهُمْ وَ أَصْلِحْ ذَاتَ بَيْنِنَا وَ بَيْنِهِمْ وَ اهْدِهِمْ مِنْ ضَلَالَتِهِمْ حَتَّى يَعْرِفَ الْحَقَّ مَنْ جَهِلَهُ وَ يَرْعَوِيَ عَنِ الْغَيِّ وَ الْعُدْوَانِ مَنْ لَهِجَ بِهِ
السب الشتم سبه يسبه بالضم و التساب التشاتم و رجل مسب بكسر الميم كثير السباب و رجل سبه أي يسبه الناس و رجل سببه أي يسب الناس و رجل سب كثير السباب و سبك الذي يسابك قال
لا تسبنني فلست بسبي إن سبي من الرجال الكريم

(12/16)


و الذي كرهه ع منهم أنهم كانوا يشتمون أهل الشام و لم يكن يكره منهم لعنهم إياهم و البذاءة منهم لا كما يتوهمه قوم من الحشوية فيقولون لا يجوز شرح نهج البلاغة ج : 11 ص : 22لعن أحد ممن عليه اسم الإسلام و ينكرون على من يلعن و منهم من يغالي في ذلك فيقول لا ألعن كافر و ألعن إبليس و إن الله تعالى لا يقول لأحد يوم القيامة لم لم تلعن و إنما يقول لم لعنت. و اعلم أن هذا خلاف نص الكتاب لأنه تعالى قال إِنَّ اللَّهَ لَعَنَ الْكافِرِينَ وَ أَعَدَّ لَهُمْ سَعِيراً. و قال أُولئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَ يَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ. و قال في إبليس وَ إِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلى يَوْمِ الدِّينِ. و قال مَلْعُونِينَ أَيْنَما ثُقِفُوا. و في الكتاب العزيز من ذلك الكثير الواسع. و كيف يجوز للمسلم أن ينكر التبرؤ ممن يجب التبرؤ منه أ لم يسمع هؤلاء قول الله تعالى قَدْ كانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْراهِيمَ وَ الَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآؤُا مِنْكُمْ وَ مِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنا بِكُمْ وَ بَدا بَيْنَنا وَ بَيْنَكُمُ الْعَداوَةُ وَ الْبَغْضاءُ أَبَداً و إنما يجب النظر فيمن قد اشتبهت حاله فإن كان قد قارف كبيرة من الذنوب يستحق بها اللعن و البراءة فلا ضير على من يلعنه و يبرأ منه و إن لم يكن قد قارف كبيرة لم يجز لعنه و لا البراءة منه. و مما يدل على أن من عليه اسم الإسلام إذا ارتكب الكبيرة يجوز لعنه بل يجب في وقت قول الله تعالى في قصة اللعان فَشَهادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهاداتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ شرح نهج البلاغة ج : 11 ص : 23لَمِنَ الصَّادِقِينَ وَ الْخامِسَةُ أَنَّ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كانَ مِنَ الْكاذِبِينَ. و قال تعالى في القاذف إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ الْغِلاتِ الْمُؤْمِناتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيا وَ الْآخِرَةِ وَ لَهُمْ

(12/17)


عَذابٌ عَظِيمٌ. فهاتان الآيتان في المكلفين من أهل القبلة و الآيات قبلهما في الكافرين و المنافقين و لهذا قنت أمير المؤمنين ع على معاوية و جماعة من أصحابه و لعنهم في أدبار الصلوات. فإن قلت فما صوره السب الذي نهى أمير المؤمنين ع عنه. قلت كانوا يشتمونهم بالآباء و الأمهات و منهم من يطعن في نسب قوم منهم و منهم من يذكرهم باللؤم و منهم من يعيرهم بالجبن و البخل و بأنواع الأهاجي التي يتهاجى بها الشعراء و أساليبها معلومة فنهاهم ع عن ذلك و قال إني أكره لكن أن تكونوا سبابين و لكن الأصوب أن تصفوا لهم أعمالهم و تذكروا حالهم أي أن تقولوا إنهم فساق و إنهم أهل ضلال و باطل. ثم قال اجعلوا عوض سبهم أن تقولوا اللهم احقن دماءنا و دماءهم. حقنت الدم أحقنه بالضم منعت أن يسفك أي ألهمهم الإنابة إلى الحق و العدول عن الباطل فإن ذلك إذا تم حقنت دماء الفريقين. فإن قلت كيف يجوز أن يدعو الله تعالى بما لا يفعله أ ليس من أصولكم أن الله تعالى لا يضطر المكلف إلى اعتقاد الحق و إنما يكله إلى نظره. قلت الأمر و إن كان كذلك إلا أن المكلفين قد تعبدوا بأن يدعوا الله تعالى شرح نهج البلا ج : 11 ص : 24بذلك لأن في دعائهم إياه بذلك لطفا لهم و مصالح في أديانهم كالدعاء بزيادة الرزق و تأخير الأجل. قوله و أصلح ذات بيننا و بينهم يعني أحوالنا و أحوالهم و لما كانت الأحوال ملابسة للبين قيل لها ذات البين كما أنه لما كانت الضمائر ملابسة للصدور قيل ذات الصدور و كذلك قولهم اسقني ذا إنائك لما كان ما فيه من الشراب ملابسا له و يقولون للمتبرز قد وضع ذا بطنه و للحبلى تضع ألقت ذا بطنها. و ارعوى عن الغي رجع و كف. لهج به بالكسر يلهج أغرى به و ثابر عليه

(12/18)


شرح نهج البلاغة ج : 11 ص : 20025- و من كلام له ع في بعض أيام صفين و قد رأى الحسن ابنه ع يتسرع إلى الحربامْلِكُوا عَنِّي هَذَا الْغُلَامَ لَا يَهُدَّنِي فَإِنَّنِي أَنْفَسُ بِهَذَيْنِ يَعْنِي الْحَسَنَ وَ الْحُسَيْنَ ع عَلَى الْمَوْتِ لِئَلَّا يَنْقَطِعَ بِهِمَا نَسْلُ رَسُولِ اللَّهِ ص
قال الرضي أبو الحسن رحمه الله قوله ع املكوا عني هذا الغلام من أعلى الكلام و أفصحه
الألف في املكوا ألف وصل لأن الماضي ثلاثي من ملكت الفرس و العبد و الدار أملك بالكسر أي احجروا عليه كما يحجر المالك على مملوكه. و عن متعلقة بمحذوف تقديره استولوا عليه و أبعدوه عني و لما كان الملك سبب الحجر على المملوك عبر بالسبب عن المسبب كما عبر بالنكاح عن العقد و هو في الحقيقة اسم الوطء لما كان العقد طريقا إلى الوطء و سببا له. و وجه علو هذا الكلام و فصاحته أنه لما كان في املكوا معنى البعد أعقبه شرح نهج البلاغة ج : 11 ص : 26بعن و ذلك أنهم لا يملكونه دون أمير المؤمنين ع إلا و قد أبعدوه عنه أ لا ترى أنك إذا رت على زيد دون عمرو فقد باعدت زيدا عن عمرو فلذلك قال املكوا عني هذا الغلام و استفصح الشارحون قول أبي الطيب
إذا كان شم الروح أدنى إليكم فلا برحتني روضة و قبول
قالوا و لما كان في فلا برحتني معنى فارقتني عدي اللفظة و إن كانت لازمة نظرا إلى المعنى. قوله لا يهدني أي لئلا يهدني فحذف كما حذف طرفه في قوله
ألا أي هذا الزاجري أحضر الوغى

(12/19)


أي لأن أحضر. و أنفس أبخل نفست عليه بكذا بالكسر. فإن قلت أ يجوز أن يقال للحسن و الحسين و ولدهما أبناء رسول الله و ولد رسول الله و ذرية رسول الله و نسل رسول الله. قلت نعم لأن الله تعالى سماهم أبناءه في قوله تعالى نَدْعُ أَبْناءَنا وَ أَبْناءَكُمْ و إنما عنى الحسن و الحسين و لو أوصى لولد فلان بمال دخل فيه أولاد البنات و سمى الله تعالى عيسى ذرية إبراهيم في قوله وَ مِنْ ذُرِّيَّتِهِ داوُدَ وَ سُلَيْمانَ إلى أن قال وَ يَحْيى وَ عِيسى و لم يختلف أهل اللغة في أن ولد البنات من نسل الرجل. شرح نهج البلاغة ج : 11 ص :7فإن قلت فما تصنع بقوله تعالى ما كانَ مُحَمَّدٌ أَبا أَحَدٍ مِنْ رِجالِكُمْ قلت أسألك عن أبوته لإبراهيم بن مارية فكما تجيب به عن ذلك فهو جوابي عن الحسن و الحسين ع. و الجواب الشامل للجميع أنه عنى زيد بن حارثة لأن العرب كانت تقول زيد بن محمد على عادتهم في تبني العبيد فأبطل الله تعالى ذلك و نهى عن سنة الجاهلية و قال إن محمدا ع ليس أبا لواحد من الرجال البالغين المعروفين بينكم ليعتزي إليه بالنبوة و ذلك لا ينفي كونه أبا لأطفال لم تطلق عليهم لفظة الرجال كإبراهيم و حسن و حسين ع. فإن قلت أ تقول إن ابن البنت ابن على الحقيقة الأصلية أم على سبيل المجاز. قلت لذاهب أن يذهب إلى أنه حقيقة أصلية لأن أصل الإطلاق الحقيقة و قد يكون اللفظ مشتركا بين مفهومين و هو في أحدهما أشهر و لا يلزم من كونه أشهر في أحدهما ألا يكون حقيقة في الآخر. و لذاهب أن يذهب إلى أنه حقيقة عرفية و هي التي كثر استعمالها و هي في الأكثر مجاز حتى صارت حقيقة في العرف كالراوية للمزادة و السماء للمطر. و لذاهب أن يذهب إلى كونه مجازا قد استعمله الشارع فجاز إطلاقه في كل حال و استعماله كسائر المجازات المستعملة. و مما يدل على اختصاص ولد فاطمة دون بني هاشم كافة بالنبي ع أنه ما كان يحل له ع أن ينكح بنات الحسن و الحسين ع و لا بنات

(12/20)


ذريتهما و إن بعدن و طال الزمان و يحل له نكاح بنات غيرهم من بني هاشم من الطالبيين و غيرهم و هذا يدل على مزيد الأقربية و هي كونهم أولاده لأنه ليس هناك من القربى غير شرح نهج البلاغة ج : 11 ص : 28ا الوجه لأنهم ليسوا أولاد أخيه و لا أولاد أخته و لا هناك وجه يقتضي حرمتهم عليه إلا كونه والدا لهم و كونهم أولادا له فإن قلت قد قال الشاعر
بنونا بنو أبنائنا و بناتنا بنوهن أبناء الرجال الأباعد
و قال حكيم العرب أكثم بن صيفي في البنات يذمهن إنهن يلدن الأعداء و يورثن البعداء. قلت إنما قال الشاعر ما قاله على المفهوم الأشهر و ليس في قول أكثم ما يدل على نفي بنوتهم و إنما ذكر أنهن يلدن الأعداء و قد يكون ولد الرجل لصلبه عدوا قال الله تعالى إِنَّ مِنْ أَزْواجِكُمْ وَ أَوْلادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ و لا ينفي كونه عدوا كونه ابنا. قيل لمحمد بن الحنفية ع لم يغرر بك أبوك في الحرب و لم لا يغرر بالحسن و الحسين فقال لأنهما عيناه و أنا يمينه فهو يذب عن عينيه بيمينه
شرح نهج البلاغة ج : 11 ص : 20129- و من كلام له ع قاله لما اضطرب عليه أصحابه في أمر الحكومةيَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّهُ لَمْ يَزَلْ أَمْرِي مَعَكُمْ عَلَى مَا أُحِبُّ حَتَّى نَهِكَتْكُمُ الْحَرْبُ وَ قَدْ وَ اللَّهِ أَخَذَتْ مِنْكُمْ وَ تَرَكَتْ وَ هِيَ لِعَدُوِّكُمْ أَنْهَكُ. لَقَدْ كُنْتُ أَمْسِ أَمِيراً فَأَصْبَحْتُ الْيَوْمَ مَأْمُوراً وَ كُنْتُ أَمْسِ نَاهِياً فَأَصْبَحْتُ الْيَوْمَ مَنْهِيّاً وَ قَدْ أَحْبَبْتُمُ الْبَقَاءَ وَ لَيْسَ لِي أَنْ أَحْمِلَكُمْ عَلَى مَا تَكْرَهُونَ

(12/21)


نهكتكم بكسر الهاء أدنفتكم و أذابتكم و يجوز فتح الهاء و قد نهك الرجل أي دنف و ضني فهو منهوك و عليه نهكه المرض أي أثرة الحرب مؤنثة. و قد أخذت منكم و تركت أي لم تستأصلكم بل فيكم بعد بقية و هي لعدوكم أنهك لأن القتل في أهل الشام كان أشد استحرارا و الوهن فيهم أظهر و لو لا فساد أهل العراق برفع المصاحف لاستؤصل الشام و خلص الأشتر إلى معاوية فأخذه بعنقه و لم يكن قد بقي من قوة الشام إلا كحركة ذنب الوزغة عند قتلها يضطرب يمينا و شمالا و لكن الأمور السماوية لا تغالب. فأما قوله كنت أمس أميرا فأصبحت اليوم مأمورا فقد قدمنا شرح حالهم من قبل و أن أهل العراق لما رفع عمرو بن العاص و من معه المصاحف على وجه المكيدة شرح نهج البلاغة ج : 11 ص : 30حين أحس بالعطب و علو كلمة أهل الحق ألزموا أمير المؤمنين ع بوضع أوزار الحرب و كف الأيدي عن القتال و كانوا في ذلك على أقسام فمنهم من دخلت عه الشبهة برفع المصاحف و غلب على ظنه أن أهل الشام لم يفعلوا ذلك خدعة و حيلة بل حقا و دعاء إلى الدين و موجب الكتاب فرأى أن الاستسلام للحجة أولى من الإصرار على الحرب. و منهم من كان قد مل الحرب و آثر السلم فلما رأى شبهة ما يسوغ التعلق بها في رفض المحاربة و حب العافية أخلد إليهم. و منهم من كان يبغض عليا ع بباطنه و يطيعه بظاهره كما يطيع كثير من الناس السلطان في الظاهر و يبغضه بقلبه فلما وجدوا طريقا إلى خذلانه و ترك نصرته أسرعوا نحوها فاجتمع جمهور عسكره عليه و طالبوه بالكف و ترك القتال فامتنع امتناع عالم بالمكيدة و قال لهم إنها حيلة و خديعة و إني أعرف بالقوم منكم إنهم ليسوا بأصحاب قرآن و لا دين قد صحبتهم و عرفتهم صغيرا و كبيرا فعرفت منهم الإعراض عن الدين و الركون إلى الدنيا فلا تراعوا برفع المصاحف و صمموا على الحرب و قد ملكتموهم فلم يبق منهم إلا حشاشة ضعيفة و ذماء قليل فأبوا عليه و ألحوا و أصروا على القعود و الخذلان و أمروه

(12/22)


بالإنفاذ إلى المحاربين من أصحابه و عليهم الأشتر أن يأمرهم بالرجوع و تهددوه إن لم يفعل بإسلامه إلى معاوية فأرسل إلى الأشتر يأمره بالرجوع و ترك الحرب فأبى عليه فقال كيف أرجع و قد لاحت أمارات الظفر فقولوا له ليمهلني ساعة واحدة و لم يكن علم صورة الحال كيف قد وقعت فلما عاد إليه الرسول بذلك غضبوا و نفروا و شغبوا و قالوا أنفذت إلى الأشتر سرا و باطنا تأمره بالتصميم و تنهاه عن الكف و إن لم تعده الساعة و إلا قتلناك كما قتلنا عثمان فرجعت الرسل إلى الأشتر فقالوا له أ تحب أن تظفر بمكانك و أمير المؤمنين قد سل عليه شرح نهج البلاغة ج : 11 ص : 31خمسون ألف سيف فقال ما الخبر قال إن الجيش بأسره قد أحدق به و هو قاعد بينهم على الأرض تحته نطع و هو مطرق و البارقة تلمع على رأسه يقولون لئن لم تعد الأشتر قتلناك قال ويحكم ف سبب ذلك قالوا رفع المصاحف قال و الله لقد ظننت حين رأيتها رفعت أنها ستوقع فرقة و فتنة. ثم كر راجعا على عقبيه فوجد أمير المؤمنين ع تحت الخطر قد ردده أصحابه بين أمرين إما أن يسلموه إلى معاوية أو يقتلوه و لا ناصر له منهم إلا ولداه و ابن عمه و نفر قليل لا يبلغون عشرة فلما رآهم الأشتر سبهم و شتمهم و قال ويحكم أ بعد الظفر و النصر صب عليكم الخذلان و الفرقة يا ضعاف الأحلام يا أشباه النساء يا سفهاء العقول فشتموه و سبوه و قهروه و قالوا المصاحف المصاحف و الرجوع إليها لا نرى غير ذلك فأجاب أمير المؤمنين ع إلى التحكيم دفعا للمحذور الأعظم بارتكاب المحظور الأضعف فلذلك قال كنت أميرا فأصبحت مأمورا و كنت ناهيا فصرت منهيا و قد سبق من شرح حال التحكيم و ما جرى فيه ما يغني عن إعادته
شرح نهج البلاغة ج : 11 ص : 20232- و من كلام له ع بالبصرة و قد دخل على العلاء بن زياد الحارثيو هو من أصحابه يعوده فلما رأى سعة داره قال

(12/23)


مَا كُنْتَ تَصْنَعُ بِسَعَةِ هَذِهِ الدَّارِ فِي الدُّنْيَا أَمَا أَنْتَ إِلَيْهَا فِي الآْخِرَةِ كُنْتَ أَحْوَجَ وَ بَلَى إِنْ شِئْتَ بَلَغْتَ بِهَا الآْخِرَةَ تَقْرِي فِيهَا الضَّيْفَ وَ تَصِلُ فِيهَا الرَّحِمَ وَ تُطْلِعُ مِنْهَا الْحُقُوقَ مَطَالِعَهَا فَإِذاً أَنْتَ قَدْ بَلَغْتَ بِهَا الآْخِرَةَ فَقَالَ لَهُ الْعَلَاءُ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ أَشْكُو إِلَيْكَ أَخِي عَاصِمَ بْنَ زِيَادٍ قَالَ وَ مَا لَهُ قَالَ لَبِسَ الْعَبَاءَ وَ تَخَلَّى مِنَ الدُّنْيَا قَالَ عَلَيَّ بِهِ فَلَمَّا جَاءَ قَالَ يَا عُدَيَّ نَفْسِهِ لَقَدِ اسْتَهَامَ بِكَ الْخَبِيثُ أَ مَا رَحِمْتَ أَهْلَكَ وَ وَلَدَكَ أَ تَرَى اللَّهَ أَحَلَّ لَكَ الطَّيِّبَاتِ وَ هُوَ يَكْرَهُ أَنْ تَأْخُذَهَا أَنْتَ أَهْوَنُ عَلَى اللَّهِ مِنْ ذَلِكَ قَالَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ هَذَا أَنْتَ فِي خُشُونَةِ مَلْبَسِكَ وَ جُشُوبَةِ مَأْكَلِكَ قَالَ وَيْحَكَ إِنِّي لَسْتُ كَأَنْتَ إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى فَرَضَ عَلَى أَئِمَّةِ الْحَقِّ أَنْ يُقَدِّرُوا أَنْفُسَهُمْ بِضَعَفَةِ النَّاسِ كَيْلَا يَتَبَيَّغَ بِالْفَقِيرِ فَقْرُهُ

(12/24)


شرح نهج البلاغة ج : 11 ص : 33كنت هاهنا زائدة مثل قوله تعالى كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا. و قوله و بلى إن شئت بلغت بها الآخرة لفظ فصيح كأنه استدرك و قال و بلى على أنك قد تحتاج إليها في الدنيا لتجعلها وصلة إلى نبل الآخرة بأن تقري فيهالضيف و الضيف لفظ يقع على الواحد و الجمع و قد يجمع فيقال ضيوف و أضياف و الرحم القرابة. و تطلع منها الحقوق مطالعها توقعها في مظان استحقاقها. و العباء جمع عباءة و هي الكساء و قد تلين كما قالوا عظاءة و عظاية و صلاءة و صلاية. و تقول علي بفلان أي أحضره و الأصل أعجل به علي فحذف فعل الأمر و دل الباقي عليه. و يا عدي نفسه تصغير عدو و قد يمكن أن يراد به التحقير المحض هاهنا. و يمكن أن يراد به الاستعظام لعداوته لها و يمكن أن يخرج مخرج التحنن و الشفقة كقولك يا بني. و استهام بك الخبيث يعني الشيطان أي جعلك هائما ضالا و الباء زائدة. فإن قيل ما معنى قوله ع أنت أهون على الله من ذلك. قلت لأن في المشاهد قد يحل الواحد منا لصاحبه فعلا مخصوصا محاباة و مراقبة له شرح نهج البلاغة ج : 11 ص : 34و هو يكره أن يفعله و البشر أهون على الله تعالى من أن يحل لهم أمرا مجاملة و استصلاحا للحال هم و هو يكره منهم فعله. و قوله هذا أنت أي فما بالنا نراك خشن الملبس و التقدير فها أنت تفعل كذا فكيف تنهى عنه. و طعام جشب أي غليظ و كذلك مجشوب و قيل إنه الذي لا أدم معه. قوله ع أن يقدروا أنفسهم بضعفة الناس أي يشبهوا و يمثلوا. و تبيغ الدم بصاحبه و تبوغ به أي هاج به و
في الحديث عليكم بالحجامة لا يتبيغ بأحدكم الدم فيقتله
و قيل أصل يتبيغ يتبغى فقلب جذب و جبذ أي يجب على الإمام العادل أن يشبه نفسه في لباسه و طعامه بضعفة الناس جمع ضعيف لكيلا يهلك الفقراء من الناس فإنهم إذا رأوا إمامهم بتلك الهيئة و بذلك المطعم كان أدعى لهم إلى سلوان لذات الدنيا و الصبر عن شهوات النفوس

(12/25)


ذكر بعض مقامات العارفين و الزهاد
و روي أن قوما من المتصوفة دخلوا خراسان على علي بن موسى الرضا فقالوا له إن أمير المؤمنين فكر فيما ولاه الله من الأمور فرآكم أهل البيت أولى الناس أن تؤموا الناس و نظر فيك من أهل البيت فرآك أولى الناس بالناس فرأى أن يرد هذا الأمر إليك و الإمامة تحتاج إلى من يأكل الجشب و يلبس الخشن و يركب الحمار و يعود المريض فقال لهم إن يوسف كان نبيا يلبس أقبية الديباج المزررة بالذهب و يجلس على متكآت آل فرعون ويحكم إنما يراد من الإمام قسطه و عدله إذا قال صدق شرح نهج البلاغة ج : 11 ص : 35و إذا حكم عدل و إذا وعد أنجز إن الله ليحرم لبوسا و لا مطعما ثم قرأ قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ وَ الطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ الآية. و هذا القول مخالف للقانون الذي أشار أمير المؤمنين إليه و للفلاسفة في هذا الباب كلام لا بأس به و قد أشار إليه أبو علي بن سينا في كتاب الإشارات و عليه يتخرج قولا أمير المؤمنين و علي بن موسى الرضا ع قال أبو علي في مقامات العارفين العارفون قد يختلفون في الهمم بحسب ما يختلف فيهم من الخواطر على حسب ما يختلف عندهم من دواعي العبر فربما استوى عند العارف القشف و الترف بل ربما آثر القشف و كذلك ربما سوى عنده التفل و العطر بل ربما آثر التفل و ذلك عند ما يكون الهاجس بباله استحقار ما عدا الحق و ربما صغا إلى الزينة و أحب من كل شي ء عقيلته و كره الخداج و السقط و ذلك عند ما يعتبر عادته من صحبته الأحوال الظاهرة فهو يرتاد إليها في كل شي ء لأنه مزية وة من العناية الأولى و أقرب أن يكون من قبيل ما عكف عليه بهواه و قد يختلف هذا في عارفين و قد يختلف في عارف بحسب وقتين. و اعلم أن الذي رويته عن الشيوخ و رأيته بخط عبد الله بن أحمد بن الخشاب رحمه الله أن الربيع بن زياد الحارثي أصابته نشابة في جبينه فكانت تنتقض عليه في كل عام فأتاه علي ع

(12/26)


عائدا فقال كيف تجدك أبا عبد الرحمن قال أجدني يا أمير المؤمنين لو كان لا يذهب ما بي إلا بذهاب بصري لتمنيت ذهابه قال و ما قيمة بصرك عندك قال لو كانت لي الدنيا لفديته بها قال لا جرم ليعطينك الله على قدر ذلك إن الله تعالى يعطي على قدر الألم و المصيبة و عنده تضعيف كثير قال الربيع
شرح نهج البلاغة ج : 11 ص : 36يا أمير المؤمنين أ لا أشكو إليك عاصم بن زياد أخي قال ما له قال لبس العباء و ترك الملاء و غم أهله و حزن ولده فقال علي ادعوا لي عاصما فلما أتاه عبس في وجهه و قال ويحك يا عاصم أ ترى الله أباح لك اللذات و هو يكره ما أخذت منها لأ أهون على الله من ذلك أ و ما سمعته يقول مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيانِ ثم يقول يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَ الْمَرْجانُ و قال وَ مِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْماً طَرِيًّا وَ تَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَها أما و الله إن ابتذال نعم الله بالفعال أحب إليه من ابتذالها بالمقال و قد سمعتم الله يقول وَ أَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ و قوله مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ وَ الطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ إن الله خاطب المؤمنين بما خاطب به المرسلين فقال يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ و قال يا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّباتِ وَ اعْمَلُوا صالِحاً و
قال رسول الله ص لبعض نسائه ما لي أراك شعثاء مرهاء سلتاء

(12/27)


قال عاصم فلم اقتصرت يا أمير المؤمنين على لبس الخشن و أكل الجشب قال إن الله تعالى افترض على أئمة العدل أن يقدروا لأنفسهم بالقوام كيلا يتبيغ بالفقير فقره فما قام علي ع حتى نزع عاصم العباء و لبس ملاءة. و الربيع بن زياد هو الذي افتتح بعض خراسان و فيه قال عمر دلوني على رجل إذا كان شرح نهج البلاغة ج : 11 ص : 37في القوم أميرا فكأنه ليس بأمير و إذا كان في القوم ليس بأمير فكأنه الأمير بعينه و كان خيرا متواضعا و هو صاحب الوقعة مع عمر لما أحضر العمال فتوحش له الربيع و تقشف و أكل معه الجشب من الطعام فأقره على عمله و ف الباقين و قد ذكرنا هذه الحكاية فيما تقدم. و كتب زياد ابن أبيه إلى الربيع بن زياد و هو على قطعة من خراسان أن أمير المؤمنين معاوية كتب إلي يأمرك أن تحرز الصفراء و البيضاء و تقسم الخرثي و ما أشبهه على أهل الحرب فقال له الربيع إني وجدت كتاب الله قبل كتاب أمير المؤمنين ثم نادى في الناس أن اغدوا علي غنائمكم فأخذ الخمس و قسم الباقي على المسلمين ثم دعا الله أن يميته فما جمع حتى مات. و هو الربيع بن زياد بن أنس بن ديان بن قطر بن زياد بن الحارث بن مالك بن ربيعة بن كعب بن مالك بن كعب بن الحارث بن عمرو بن وعلة بن خالد بن مالك بن أدد. و أما العلاء بن زياد الذي ذكره الرضي رحمه الله فلا أعرفه لعل غيري يعرفه

(12/28)


شرح نهج البلاغة ج : 11 ص : 20338- و من كلام له ع و قد سأله سائل عن أحاديث البدع و عما في أيدي الناس من اختلاف الخبرفقال ع إِنَّ فِي أَيْدِي النَّاسِ حَقّاً وَ بَاطِلًا وَ صِدْقاً وَ كَذِباً وَ نَاسِخاً وَ مَنْسُوخاً وَ عَامّاً وَ خَاصّاً وَ مُحْكَماً وَ مُتَشَابِهاً وَ حِفْظاً وَ وَهَماً وَ قَدْ كُذِبَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ ص عَلَى عَهْدِهِ حَتَّى قَامَ خَطِيباً فَقَاَ مَنْ كَذَبَ عَلَيَّ مُتَعَمِّداً فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ وَ إِنَّمَا أَتَاكَ بِالْحَدِيثِ أَرْبَعَةُ رِجَالٍ لَيْسَ لَهُمْ خَامِسٌ رَجُلٌ مُنَافِقٌ مُظْهِرٌ لِلْإِيمَانِ مُتَصَنِّعٌ بِالْإِسْلَامِ لَا يَتَأَثَّمُ وَ لَا يَتَحَرَّجُ يَكْذِبُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ ص مُتَعَمِّداً فَلَوْ عَلِمَ النَّاسُ أَنَّهُ مُنَافِقٌ كَاذِبٌ لَمْ يَقْبَلُوا مِنْهُ وَ لَمْ يُصَدِّقُوا قَوْلَهُ وَ لَكِنَّهُمْ قَالُوا صَاحِبُ رَسُولِ اللَّهِ ص رَآهُ وَ سَمِعَ مِنْهُ وَ لَقِفَ عَنْهُ فَيَأْخُذُونَ بِقَوْلِهِ وَ قَدْ أَخْبَرَكَ اللَّهُ عَنِ الْمُنَافِقِينَ بِمَا أَخْبَرَكَ وَ وَصَفَهُمْ بِمَا وَصَفَهُمْ بِهِ لَكَ ثُمَّ بَقُوا بَعْدَهُ فَتَقَرَّبُوا إِلَى أَئِمَّةِ الضَّلَالَةِ وَ الدُّعَاةِ إِلَى النَّارِ بِالزُّورِ وَ الْبُهْتَانِ فَوَلَّوْهُمُ الْأَعْمَالَ وَ جَعَلُوهُمْ حُكَّاماً عَلَى رِقَابِ النَّاسِ فَأَكَلُوا بِهِمُ الدُّنْيَا وَ إِنَّمَا النَّاسُ مَعَ الْمُلُوكِ وَ الدُّنْيَا إِلَّا مَنْ عَصَمَ اللَّهُ فَهَذَا أَحَدُ الْأَرْبَعَةِ وَ رَجُلٌ سَمِعَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ شَيْئاً لَمْ يَحْفَظْهُ عَلَى وَجْهِهِ فَوَهِمَ فِيهِ وَ لَمْ يَتَعَمَّدْ شرح نهج البلاغة ج : 11 ص : 39كَذِباً فَهُوَ فِي يَدَيْهِ وَ يَرْوِيهِ وَ يَعْمَلُ بِهِ وَ يَقُولُ أَنَا سَمِعْتُهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ ص فَلَوْ عَلِمَ

(12/29)


الْمُسْلِمُونَ أَنَّهُ وَهِمَ فِيهِ لَمْ يَقْبَلُوهُ مِنْهُ وَ لْ عَلِمَ هُوَ أَنَّهُ كَذَلِكَ لَرَفَضَهُ وَ رَجُلٌ ثَالِثٌ سَمِعَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ ص شَيْئاً يَأْمُرُ بِهِ ثُمَّ إِنَّهُ نَهَى عَنْهُ وَ هُوَ لَا يَعْلَمُ أَوْ سَمِعَهُ يَنْهَى عَنْ شَيْ ءٍ ثُمَّ أَمَرَ بِهِ وَ هُوَ لَا يَعْلَمُ فَحَفِظَ الْمَنْسُوخَوَ لَمْ يَحْفَظِ النَّاسِخَ فَلَوْ عَلِمَ أَنَّهُ مَنْسُوخٌ لَرَفَضَهُ وَ لَوْ عَلِمَ الْمُسْلِمُونَ إِذْ سَمِعُوهُ مِنْهُ أَنَّهُ مَنْسُوخٌ لَرَفَضُوهُ وَ آخَرُ رَابِعٌ لَمْ يَكْذِبْ عَلَى اللَّهِ وَ لَا عَلَى رَسُولِهِ مُبْغِضٌ لِلْكَذِبِ خَوْفاً مِنَ اللَّهِ وَ تَعْظِيماً لِرَسُولِ اللَّهِ ص وَ لَمْ يَهِمْ بَلْ حَفِظَ مَا سَمِعَ عَلَى وَجْهِهِ فَجَاءَ بِهِ عَلَى سَمْعِهِ لَمْ يَزِدْ فِيهِ وَ لَمْ يَنْقُصْ مِنْهُ فَهُوَ حَفِظَ النَّاسِخَ فَعَمِلَ بِهِ وَ حَفِظَ الْمَنْسُوخَ فَجَنَّبَ عَنْهُ وَ عَرَفَ الْخَاصَّ وَ الْعَامَّ وَ الْمُحْكَمَ وَ الْمُتَشَابِهَ فَوَضَعَ كُلَّ شَيْ ءٍ مَوْضِعَهُ وَ قَدْ كَانَ يَكُونُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ ص الْكَلَامُ لَهُ وَجْهَانِ فَكَلَامٌ خَاصٌّ وَ كَلَامٌ عَامٌّ فَيَسْمَعُهُ مَنْ لَا يَعْرِفُ مَا عَنَى اللَّهُ سُبْحَانَهُ بِِ وَ لَا مَا عَنَى رَسُولُ اللَّهِ ص فَيَحْمِلُهُ السَّامِعُ وَ يُوَجِّهُهُ عَلَى غَيْرِ مَعْرِفَةٍ بِمَعْنَاهُ وَ مَا قَصَدَ بِهِ وَ مَا خَرَجَ مِنْ أَجْلِهِ وَ لَيْسَ كُلُّ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ ص مَنْ كَانَ يَسْأَلُهُ وَ يَسْتَفْهِمُهُ حَتَّى إِنْ كَانُوا لَيُحِبُّونَ أَنْ يَجِي ءَ الْأَعْرَابِيُّ وَ الطَّارِئُ فَيَسْأَلَهُ ع حَتَّى يَسْمَعُوا وَ كَانَ لَا يَمُرُّ بِي مِنْ ذَلِكَ شَيْ ءٌ إِلَّا سَأَلْتُهُ عَنْهُ وَ حَفِظْتُهُ فَهَذِهِ وُجُوهُ مَا عَلَيْهِ النَّاسُ فِي اخْتِلَافِهِمْ وَ عِلَلِهِمْ ف

(12/30)


رِوَايَاتِهِمْ
شرح نهج البلاغة ج : 11 ص : 40الكلام في تفسير الألفاظ الأصولية و هي العام و الخاص و الناسخ و المنسوخ و الصدق و الكذب و المحكم و المتشابه موكول إلى فن أصول الفقه و قد ذكرناه فيما أمليناه من الكتب الأصولية و الإطالة بشرح ذلك في هذا الموضع مستهجنة. قوله ع وفظا و وهما الهاء مفتوحة و هي مصدر وهمت بالكسر أوهم أي غلطت و سهوت و قد روي وهما بالتسكين و هو مصدر وهمت بالفتح أوهم إذا ذهب وهمك إلى شي ء و أنت تريد غيره و المعنى متقارب. و قول النبي ص فليتبوأ مقعده من النار
كلام صيغته الأمر و معناه الخبر كقوله تعالى قُلْ مَنْ كانَ فِي الضَّلالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمنُ مَدًّا و تبوأت المنزل نزلته و بوأته منزلا أنزلته فيه. و التأثم الكف عن موجب الإثم و التحرج مثله و أصله الضيق كأنه يضيق على نفسه. و لقف عنه تناول عنه. و جنب عنه أخذ عنه جانبا. و إن في قوله حتى إن كانوا ليحبون مخففة من الثقيلة و لذلك جاءت اللام في الخبر. و الطارئ بالهمز الطالع عليهم طرأ أي طلع و قد روي عللهم بالرفع عطفا على وجوه و روي بالجر عطفا على اختلافهم شرح نهج البلاغة ج : 11 ص : 4ذكر بعض أحوال المنافقين بعد وفاة محمد ع

(12/31)


و اعلم أن هذا التقسيم صحيح و قد كان في أيام الرسول ص منافقون و بقوا بعده و ليس يمكن أن يقال إن النفاق مات بموته و السبب في استتار حالهم بعده أنه ص كان لا يزال بذكرهم بما ينزل عليه من القرآن فإنه مشحون بذكرهم أ لا ترى أن أكثر ما نزل بالمدينة من القرآن مملوء بذكر المنافقين فكان السبب في انتشار ذكرهم و أحوالهم و حركاتهم هو القرآن فلما انقطع الوحي بموته ص لم يبق من ينعى عليهم سقطاتهم و يوبخهم على أعمالهم و يأمر بالحذر منهم و يجاهرهم تارة و يجاملهم تارة و صار المتولي للأمر بعده يحمل الناس كلهم على كاهل المجاملة و يعاملهم بالظاهر و هو الواجب في حكم الشرع و السياسة الدنيوية بخلاف حال الرسول ص فإنه كان تكليفه معهم غير هذا التكليف أ لا ترى أنه قيل له وَ لا تُصَلِّ عَلى أَحَدٍ مِنْهُمْ ماتَ أَبَداً فهذا يدل على أنه كان يعرفهم بأعيانهم و إلا كان النهي له عن الصلاة عليهم تكليف ما لا يطاق و الوالي بعده لا يعرفهم بأعيانهم فليس مخاطبا بما خوطب به ص في أمرهم و لسكوت الخلفاء عنهم بعده خمل ذكرهم فكان قصارى أمر المنافق أن يسر ما في قلبه و يعامل المسلمين بظاهره و يعاملونه بحسب ذلك ثم فتحت عليهم البلاد و كثرت الغنائم فاشتغلوا بها عن الحركات التي كانوا يعتمدونها أيام رسول الله و بعثهم الخلفاء مع الأمراء إلى بلاد فارس و الروم فألهتهم الدنيا عن الأمور التي كانت تنقم منهم في حياة رسول الله ص و منهم من استقام اعتقاده و خلصت نيته لما رأوا الفتوح و إلقاء الدنيا أفلاذ كبدها من الأموال العظيمة و الكنوز الجليلة إليهم فقالوا لو لم يكن هذا الدين شرح نهج البلاغة ج : 11 ص : 42حقا لما وصلنا إلى ما وصلنا إليه و بالجملة لما تركوا تركوا و حيث سكت عنهم سكتوا عن الإسلام و أهله إلا في دسيسة خفية يعملونها نحو الكذب الذي أشار إليه أمير المؤمنين ع فإنه لط الحديث كذب كثير صدر عن قوم غير صحيحي العقيدة قصدوا به الإضلال

(12/32)


و تخبيط القلوب و العقائد و قصد به بعضهم التنويه بذكر قوم كان لهم في التنويه بذكرهم غرض دنيوي و قد قيل إنه افتعل في أيام معاوية خاصة حديث كثير على هذا الوجه و لم يسكت المحدثون الراسخون في علم الحديث عن هذا بل ذكروا كثيرا من هذه الأحاديث الموضوعة و بينوا وضعها و أن رواتها غير موثوق بهم إلا أن المحدثين إنما يطعنون فيما دون طبقة الصحابة و لا يتجاسرون في الطعن على أحد من الصحابة لأن عليه لفظ الصحبة على أنهم قد طعنوا في قوم لهم صحبة كبسر بن أرطاة و غيره. فإن قلت من هم أئمة الضلالة الذين يتقرب إليهم المنافقون الذين رأوا رسول الله ص و صحبوه للزور و البهتان و هل هذا إلا تصريح بما تذكره الإمامية و تعتقده. قلت ليس الأمر كما ظننت و ظنوا و إنما يعني معاوية و عمرو بن العاص و من شايعهما على الضلال كالخبر الذي رواه من في حق معاوية اللهم قه العذاب و الحساب و علمه الكتاب و كرواية عمرو بن العاص تقربا إلى قلب معاوية إن آل أبي طالب ليسوا لي بأولياء إنما وليي الله و صالح المؤمنين و كرواية قوم في أيام معاوية أخبارا كثيرة من فضائل عثمان تقربا إلى معاوية بها و لسنا نجحد فضل عثمان و سابقته و لكنا نعلم أن بعض الأخبار الواردة فيه موضوع كخبر عمرو بن مرة فيه و هو مشهور و عمر بن مرة ممن له صحبة و هو شامي
شرح نهج البلاغة ج : 11 ص : 43ذكر بعض ما مني به آل البيت من الأذى و الاضطهادو ليس يجب من قولنا إن بعض الأخبار الواردة في حق شخص فاضل مفتعلة أن تكون قادحة في فضل ذلك الفاضل فإنا مع اعتقادنا أن عليا أفضل الناس نعتقد أن بعض الأخبار الواردة في فضائله مفتعل و مختلق. و قد روي

(12/33)


أن أبا جعفر محمد بن علي الباقر ع قال لبعض أصحابه يا فلان ما لقينا من ظلم قريش إيانا و تظاهرهم علينا و ما لقي شيعتنا و محبونا من الناس إن رسول الله ص قبض و قد أخبر أنا أولى الناس بالناس فتمالأت علينا قريش حتى أخرجت الأمر عن معدنه و احتجت على الأنصار بحقنا و حجتنا ثم تداولتها قريش واحد بعد واحد حتى رجعت إلينا فنكثت بيعتنا و نصبت الحرب لنا و لم يزل صاحب الأمر في صعود كئود حتى قتل فبويع الحسن ابنه و عوهد ثم غدر به و أسلم و وثب عليه أهل العراق حتى طعن بخنجر في جنبه و نهبت عسكره و عولجت خلاليل أمهات أولاده فوادع معاوية و حقن دمه و دماء أهل بيته و هم قليل حق قليل ثم بايع الحسين ع من أهل العراق عشرون ألفا ثم غدروا به و خرجوا عليه و بيعته في أعناقهم و قتلوه ثم لم نزل أهل البيت نستذل و نستضام و نقصى و نمتهن و نحرم و نقتل و نخاف و لا نأمن على دمائنا و دماء أوليائنا و وجد الكاذبون الجاحدون لكذبهم و جحودهم موضعا يتقربون به إلى أوليائهم و قضاة السوء و عمال السوء في كل بلدة فحدثوهم بالأحاديث الموضوعة المكذوبة و رووا عنا ما لم نقله و ما لم نفعله ليبغضونا إلى الناس و كان عظم ذلك و كبره زمن معاوية بعد موت الحسن ع فقتلت شيعتنا بكل بلدة و قطعت الأيدي و الأرجل على الظنة و كان من يذكر بحبنا و الانقطاع إلينا سجن أو نهب ماله أو هدمت داره ثم لم يزل البلاء يشتد و يزداد شرح نهج البلاغة ج : 11 ص : 44إلى زمان عبيد الله بن زياد قاتل الحسين ع ثم جاء الحجاج فقتلهم كل قتلة و أخذهم بكل ظنة تهمة حتى أن الرجل ليقال له زنديق أو كافر أحب إليه من أن يقال شيعة علي و حتى صار الرجل الذي يذكر بالخير و لعله يكون ورعا صدوقا يحدث بأحاديث عظيمة عجيبة من تفضيل بعض من قد سلف من الولاة و لم يخلق الله تعالى شيئا منها و لا كانت و لا وقعت و هو يحسب أنها حق لكثرة من قد رواها ممن لم يعرف بكذب و لا بقلة ورع

(12/34)


و روى أبو الحسن علي بن محمد بن أبي سيف المدائني في كتاب الأحداث قال كتب معاوية نسخة واحدة إلى عماله بعد عام الجماعة أن برئت الذمة ممن روى شيئا من فضل أبي تراب و أهل بيته فقامت الخطباء في كل كورة و على كل منبر يلعنون عليا و يبرءون منه و يقعون فيه و في أهل بيته و كان أشد الناس بلاء حينئذ أهل الكوفة لكثرة من بها من شيعة علي ع فاستعمل عليهم زياد ابن سمية و ضم إليه البصرة فكان يتتبع الشيعة و هو بهم عارف لأنه كان منهم أيام علي ع فقتلهم تحت كل حجر و مدر و أخافهم و قطع الأيدي و الأرجل و سمل العيون و صلبهم على جذوع النخل و طرفهم و شردهم عن العراق فلم يبق بها معروف منهم و كتب معاوية إلى عماله في جميع الآفاق ألا يجيزوا لأحد من شيعة علي و أهل بيته شهادة و كتب إليهم أن انظروا من قبلكم من شيعة عثمان و محبيه و أهل ولايته و الذين يروون فضائله و مناقبه فادنوا مجالسهم و قربوهم و أكرموهم و اكتبوا لي بكل ما يروي كل رجل منهم و اسمه و اسم أبيه و عشيرته. ففعلوا ذلك حتى أكثروا في فضائل عثمان و مناقبه لما كان يبعثه إليهم معاوية من الصلات و الكساء و الحباء و القطائع و يفيضه في العرب منهم و الموالي فكثر ذلك في كل مصر و تنافسوا في المنازل و الدنيا فليس يجي ء أحد مردود من الناس عاملا من شرح نهج البلاغة ج : 11 ص : 45عمال معاوية فيروي في عثمان فضيلة أو منقبة إلا كتب اسمه و قربه و شفعه فلبثوا بذلك حينا. ثم كتب إلى عماله أن الحديث في عثمان قد كثر و فشا في كل مصر و في كل وجه و ناحية فإذا جا كتابي هذا فادعوا الناس إلى الرواية في فضائل الصحابة و الخلفاء الأولين و لا تتركوا خبرا يرويه أحد من المسلمين في أبي تراب إلا و تأتوني بمناقض له في الصحابة فإن هذا أحب إلى و أقر لعيني و أدحض لحجة أبي تراب و شيعته و أشد عليهم من مناقب عثمان و فضله. فقرئت كتبه على الناس فرويت أخبار كثيرة في مناقب الصحابة مفتعلة لا حقيقة

(12/35)


لها وجد الناس في رواية ما يجري هذا المجرى حتى أشادوا بذكر ذلك على المنابر و ألقي إلى معلمي الكتاتيب فعلموا صبيانهم و غلمانهم من ذلك الكثير الواسع حتى رووه و تعلموه كما يتعلمون القرآن و حتى علموه بناتهم و نساءهم و خدمهم و حشمهم فلبثوا بذلك ما شاء الله. ثم كتب إلى عماله نسخة واحدة إلى جميع البلدان انظروا من قامت عليه البينة أنه يحب عليا و أهل بيته فامحوه من الديوان و أسقطوا عطاءه و رزقه و شفع ذلك بنسخة أخرى من اتهمتموه بمولاه هؤلاء القوم فنكلوا به و أهدموا داره فلم يكن البلاء أشد و لا أكثر منه بالعراق و لا سيما بالكوفة حتى أن الرجل من شيعة علي ع ليأتيه من يثق به فيدخل بيته فيلقي إليه سره و يخاف من خادمه و مملوكه و لا يحدثه حتى يأخذ عليه الأيمان الغليظة ليكتمن عليه فظهر حديث كثير موضوع و بهتان منتشر و مضى على ذلك الفقهاء و القضاة و الولاة و كان أعظم الناس في ذلك بلية القراء المراءون و المستضعفون الذين يظهرون الخشوع و النسك فيفتعلون الأحاديث ليحظوا بذلك عند ولاتهم و يقربوا مجالسهم و يصيبوا به الأموال و الضياع

(12/36)


شرح نهج البلاغة ج : 11 ص : 46و المنازل حتى انتقلت تلك الأخبار و الأحاديث إلى أيدي الديانين الذين لا يستحلون الكذب و البهتان فقبلوها و رووها و هم يظنون أنها حق و لو علموا أنها باطلة لما رووها و لا تدينوا بها. فلم يزل الأمر كذلك حتى مات الحسن بن علي ع فازد البلاء و الفتنة فلم يبق أحد من هذا القبيل إلا و هو خائف على دمه أو طريد في الأرض. ثم تفاقم الأمر بعد قتل الحسين ع و ولي عبد الملك بن مروان فاشتد على الشيعة و ولى عليهم الحجاج بن يوسف فتقرب إليه أهل النسك و الصلاح و الدين ببغض علي و موالاة أعدائه و موالاة من يدعي من الناس أنهم أيضا أعداؤه فأكثروا في الرواية في فضلهم و سوابقهم و مناقبهم و أكثروا من الغض من علي ع و عيبه و الطعن فيه و الشنئان له حتى أن إنسانا وقف للحجاج و يقال إنه جد الأصمعي عبد الملك بن قريب فصاح به أيها الأمير إن أهلي عقوني فسموني عليا و إني فقير بائس و أنا إلى صلة الأمير محتاج فتضاحك له الحجاج و قال للطف ما توسلت به قد وليتك موضع كذا. و قد روى ابن عرفة المعروف بنفطويه و هو من أكابر المحدثين و أعلامهم في تاريخه ما يناسب هذا الخبر و قال إن أكثر الأحاديث الموضوعة في فضائل الصحابة افتعلت في أيام بني أمية تقربا إليهم بما يظنون أنهم يرغمون به أنوف بني هاشم. قلت و لا يلزم من هذا أن يكون علي ع يسوءه أن يذكر الصحابة و المتقدمون عليه بالخير و الفضل إلا أن معاوية و بني أمية كانوا يبنون الأمر من هذا على ما يظنونه في علي ع من أنه عدو من تقدم عليه و لم يكن الأمر في الحقيقة كما شرح نهج البلاغة ج : 11 ص : 47يظنونه و لكنه كان يرى أنه أفضل منهم و أنهم استأثروا عليه بالخلافة من غير تفسيق منه لهم و لا براءة منهم.فأما قوله ع و رجل سمع من رسول الله شيئا و لم يحفظه على وجهه فوهم فيه فقد وقع ذلك و قال أصحابنا في الخبر الذي رواه عبد الله بن عمر أن الميت ليعذب ببكاء أهله عليه إن

(12/37)


ابن عباس لما روي له هذا الخبر قال ذهل ابن عمر إنما مر رسول الله ص على قبر يهودي فقال إن أهله ليبكون عليه و إنه ليعذب. و قالوا أيضا إن عائشة أنكرت ذلك و قالت ذهل أبو عبد الرحمن كما ذهل في خبر قليب بدر
إنما قال ع إنهم ليبكون عليه و إنه ليعذب بجرمه
قالوا و موضع غلطه في خبر القليب أنه
روى أن النبي ص وقف على قليب بدر فقال هل وجدتم ما وعدكم ربكم حقا ثم قال إنهم يسمعون ما أقول لهم
فأنكرت عائشة ذلك و قالت إنما
قال إنهم يعلمون أن الذي كنت أقوله لهم هو الحق

(12/38)


و استشهد بقوله تعالى إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتى. فأما الرجل الثالث و هو الذي يسمع المنسوخ و لم يسمع الناسخ فقد وقع كثيرا و كتب الحديث و الفقه مشحونة بذلك كالذين أباحوا لحوم الحمر الأهلية لخبر رووه في ذلك و لم يرووا الخبر الناسخ. و أما الرجل الرابع فهم العلماء الراسخون في العلم. و أما قوله ع و قد كان يكون من رسول الله ص الكلام له شرح نهج البلاغة ج : 11 ص : 48وجهان فهذا داخل في القسم الثاني و غير خارج عنه و لكنه كالنوع من الجنس لأن الوهم و الغلط جنس تحته أنواع. و اعلم أن أمير المؤمنين ع كان مخصوصا من دونلصحابة رضوان الله عليهم بخلوات كان يخلو بها مع رسول الله ص لا يطلع أحد من الناس على ما يدور بينهما و كان كثير السؤال للنبي ص عن معاني القرآن و عن معاني كلامه ص و إذا لم يسأل ابتدأه النبي ص بالتعليم و التثقيف و لم يكن أحد من أصحاب النبي ص كذلك بل كانوا أقساما فمنهم من يهابه أن يسأله و هم الذين يحبون أن يجي ء الأعرابي أو الطارئ فيسأله و هم يسمعون و منهم من كان بليدا بعيد الفهم قليل الهمة في النظر و البحث و منهم من كان مشغولا عن طلب العلم و فهم المعاني إما بعبادة أو دنيا و منهم المقلد يرى أن فرضه السكوت و تركالسؤال و منهم المبغض الشانئ الذي ليس للدين عنده من الموقع ما يضيع وقته و زمانه بالسؤال عن دقائقه و غوامضه و انضاف إلى الأمر الخاص بعلي ع ذكاؤه و فطنته و طهارة طينته و إشراق نفسه و ضوءها و إذا كان المحل قابلا متهيئا كان الفاعل المؤثر موجودا و الموانع مرتفعة حصل الأثر على أتم ما يمكن فلذلك كان علي ع كما قال الحسن البصري رباني هذه الأمة و ذا فضلها و لذا تسميه الفلاسفة إمام الأئمة و حكيم العرب
فصل فيما وضع الشيعة و البكرية من الأحاديث

(12/39)


و اعلم أن أصل الأكاذيب في أحاديث الفضائل كان من جهة الشيعة فإنهم وضعوا شرح نهج البلاغة ج : 11 ص : 49في مبدأ الأمر أحاديث مختلفة في صاحبهم حملهم على وضعها عداوة خصومهم نحو حديث السطل و حديث الرمانة و حديث غزوة البئر التي كان فيها الشياطين و تعرف كما زعمواذات العلم و حديث غسل سلمان الفارسي و طي الأرض و حديث الجمجمة و نحو ذلك فلما رأت البكرية ما صنعت الشيعة وضعت لصاحبها أحاديث في مقابلة هذه الأحاديث نحو لو كنت متخذا خليلا فإنهم وضعوه في مقابلة حديث الإخاء و نحو سد الأبواب فإنه كان لعلي ع فقلبته البكرية إلى أبي بكر و نحو ايتوني بدواة و بياض أكتب فيه لأبي بكر كتابا لا يختلف عليه اثنان ثم قال يأبى الله تعالى و المسلمون إلا أبا بكر فإنهم وضعوه في مقابلة
الحديث المروي عنه في مرضه ايتوني بدواة و بياض أكتب لكم ما لا تضلون بعده أبدا

(12/40)


فاختلفوا عنده و قال قوم منهم لقد غلبه الوجع حسبنا كتاب الله و نحو حديث أنا راض عنك فهل أنت عني راض و نحو ذلك فلما رأت الشيعة ما قد وضعت البكرية أوسعوا في وضع الأحاديث فوضعوا حديث الطوق الحديد الذي زعموا أنه فتله في عنق خالد و حديث اللوح الذي زعموا أنه كان في غدائر الحنفية أم محمد و حديث لا يفعلن خالد ما آمر به و حديث الصحيفة التي علقت عام الفتح بالكعبة و حديث الشيخ الذي صعد المنبر يوم بويع أبو بكر فسبق الناس إلى بيعته و أحاديث مكذوبة كثيرة تقتضي نفاق قوم من أكابر الصحابة و التابعين الأولين و كفرهم و علي أدون الطبقات فيهم فقابلتهم البكرية بمطاعن كثيرة في علي و في ولديه و نسبوه تارة إلى ضعف العقل و تارة إلى ضعف السياسة و تارة إلى حب الدنيا و الحرص عليها و لقد كان الفريقان في غنية عما اكتسباه و اجترحاه و لقد كان في فضائل علي ع الثابتة الصحيحة و فضائل أبي بكر المحققة شرح نهج البلاغة ج : 11 ص : 50المعلومة ما يغني عن تكلف العصبية لهما فإن العصبية لهما أخرجت الفريقين من ذكر الفضائل إلى ذكر الرذائل و من تعديد المحاسن إلى تعديد المساوئ و المقابح و نسأل الله تعالى أن يعصمنا من الميل إلى الهوى و حب العصبية و أن يجرينا على عودنا من حب الحق أين وجد و حيث كان سخط ذلك من سخط و رضي به من رضي بمنه و لطفه

(12/41)


شرح نهج البلاغة ج : 11 ص : 20451- و من خطبة له عوَ كَانَ مِنِ اقْتِدَارِ جَبَرُوتِهِ وَ بَدِيعِ لَطَائِفِ صَنْعَتِهِ أَنْ جَعَلَ مِنْ مَاءِ الْبَحْرِ الزَّاخِرِ الْمُتَرَاكِمِ الْمُتَقَاصِفِ يَبَساً جَامِداً ثُمَّ فَطَرَ مِنْهُ أَطْبَاقاً فَفَتَقَهَا سَبْعَ سَمَوَاتٍ بَعْدَ ارْتِتَاقِهَا فَاسْتَمْسَكَتْ بِأَمْرِهِ وَ قَامَتْ عَلَى حَدِّهِ يَحْمِلُهَا الْأَخْضَرُ الْمُثْعَنْجِرُ وَ الْقَمْقَامُ الْمُسَخَّرُ قَدْ ذَلَّ لِأَمْرِهِ وَ أَذْعَنَ لِهَيْبَتِهِ وَ وَقَفَ الْجَارِي مِنْهُ لِخَشْيَتِهِ وَ جَبَلَ جَلَامِيدَهَا وَ نُشُوزَ مُتُونِهَا وَ أَطْوَادَهَا فَأَرْسَاهَا فِي مَرَاسِيهَا وَ أَلْزَمَهَا قَرَارَتَهَا فَمَضَتْ رُءُوسُهَا فِي الْهَوَاءِ وَ رَسَتْ أُصُولُهَا فِي الْمَاءِ فَأَنْهَدَ جِبَالَهَا عَنْ سُهُولِهَا وَ أَسَاخَ قَوَاعِدَهَا فِي مُتُونِ أَقْطَارِهَا وَ مَوَاضِعِ أَنْصَابِهَا فَأَشْهَقَ قِلَالَهَا وَ أَطَالَ أَنْشَازَهَا وَ جَعَلَهَا لِلْأَرْضِ عِمَاداً وَ أَرَّزَهَا فِيهَا أَوْتَاداً فَسَكَنَتْ عَلَى حَرَكَتِهَا مِنْ أَنْ تَمِيدَ بِأَهْلِهَا أَوْ تَسِيخَ بِحِمْلِهَا أَوْ تَزُولَ عَنْ مَوَاضِعِهَا فَسُبْحَانَ مَنْ أَمْسَكَهَا بَعْدَ مَوَجَانِ مِيَاهِهَا وَ أَجْمَدَهَا بَعْدَ رُطُوبَةِ أَكْنَافِهَا فَجَعَلَهَا لِخَلْقِهِ مِهَاداً وَ بَسَطَهَا لَهُمْ فِرَاشاً فَوْقَ بَحْرٍ لُجِّيٍّ رَاكِدٍ لَا يَجْرِي وَ قَائِمٍ لَا يَسْرِي تُكَرْكِرُهُ الرِّيَاحُ الْعَوَاصِفُ وَ تَمْخُضُهُ الْغَمَامُ الذَّوَارِفُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشَى

(12/42)


شرح نهج البلاغة ج : 11 ص : 52أراد أن يقول و كان من اقتداره فقال و كان من اقتدار جبروته تعظيما و تفخيما كما يقال للملك أمرت الحضرة الشريفة بكذا و البحر الزاخر الذي قد امتد جدا و ارتفع و المتراكم المجتمع بعضه على بعض و المتقاصف الشديد الصوت قصف الرعد و غي قصيفا. و اليبس بالتحريك المكان يكون رطبا ثم ييبس و منه قوله تعالى فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقاً فِي الْبَحْرِ يَبَساً و اليبس بالسكون اليابس خلقة حطب يبس هكذا يقوله أهل اللغة و فيه كلام لأن الحطب ليس يابسا خلقة بل كان رطبا من قبل فالأصوب أن يقال لا تكون هذه اللفظة محركة إلا في المكان خاصة و فطر خلق و المضارع يفطر بالضم فطرا. و الأطباق جمع طبق و هو أجزاء مجتمعة من جراد أو غيم أو ناس أو غير ذلك من حيوان أو جماد يقول خلق منه أجساما مجتمعة مرتتقة ثم فتقها سبع سموات و روي ثم فطر منه طباقا أي أجساما منفصلة في الحقيقة متصلة في الصورة بعضها فوق بعض و هي من ألفاظ القرآن المجيد و الضمير في منه يرجع إلى ماء البحر في أظهر النظر و قد يمكن أن يرجع إلى اليبس. و اعلم أنه قد تكرر في كلام أمير المؤمنين ما يماثل هذا القول و يناسبه و هو مذهب شرح نهج البلاغة ج : 11 ص : 53كثير من حكماء الذين قالوا بحدوث السماء منهم ثاليس الملطي قالوا أصل الأجسام الماء و خلقت الأرض من زبده و السماء من بخاره و قد جاء القرآن العزيز بنحو هذا قال سبحانه الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَ كانَ عَرْشُهُ عَلَى الْماءِ. قال شيخنا أبو علي و أبو القاسم رحمهما الله في تفسيريهما هذه الآية دالة على أن الماء و العرش كانا قبل خلق السموات و الأرض قالا و كان الماء على الهواء قالا و هذا يدل أيضا علي أن الملائكة كانوا موجودين قبل خلق السموات و الأرض لأن الحكيم سبحانه لا يجوز أن يقدم خلق الجماد على خلق المكلفين لأنه يكون عبثا. و قال علي بن عيسى الرماني من

(12/43)


مشايخنا أنه غير ممتنع أن يخلق الجماد قبل الحيوان إذا علم أن في إخبار المكلفين بذلك لطفا لهم و لا يصح أن يخبرهم إلا و هو صادق فيما أخبر به و إنما يكون صادقا إذا كان المخبر خبره على ما أخبر عنه و في ذلك حسن تقديم خلق الجماد على خلق الحيوان و كلام أمير المؤمنين ع يدل على أنه كان يذهب إلى أن الأرض موضوعة على ماء البحر و أن البحر حامل لها بقدرة الله تعالى و هو معنى قوله يحملها الأخضر المثعنجر و القمقام المسخر و أن البحر الحامل لها قد كان جاريا فوقف تحتها و أنه تعالى خلق الجبال في الأرض فجعل أصولها راسخة في ماء البحر الحامل للأرض و أعاليها شامخة في الهواء و أنه سبحانه جعل هذه الجبال عمادا للأرض و أوتادا تمنعها من الحركة و الاضطراب و لولاها لماجت و اضطربت و أن هذا البحر الحامل للأرض تصعد فيه الرياح الشديدة فتحركه حركة عنيفة و تموج السحب التي تغترف الماء منه لتمطر الأرض به و هذا كله مطابق لما في الكتاب العزيز و السنة النبوية و النظر الحكمي أ لا ترى إلى قوله تعالى أَ وَ لَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ شرح نهج البلاغة ج : 11 : 54كانَتا رَتْقاً فَفَتَقْناهُما

(12/44)


و هذا هو صريح قوله ع ففتقها سبع سموات بعد ارتتاقها و إلى قوله تعالى وَ جَعَلْنا فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ و إلى ما ورد في الخبر من أن الأرض مدحوة على الماء و أن الرياح تسوق السحب إلى الماء نازلة ثم تسوقها عنه صاعدة بعد امتلائها ثم تمطر. و أما النظر الحكمي فمطابق لكلامه إذا تأمله المتأمل و حمله على المحمل العقلي و ذلك لأن الأرض هي آخر طبقات العناصر و قبلها عنصر الماء و هو محيط بالأرض كلها إلا ما برز منها و هو مقدار الربع من كرة الأرض على ما ذكره علماء هذا الفن و برهنوا عليه فهذا تفسير قوله ع يحملها الأخضر المثعنجر. و أما قوله و وقف الجاري منه لخشيته فلا يدل دلالة قاطعة على أنه كان جاريا و وقف و لكن ذلك كلام خرج مخرج التعظيم و التبجيل و معناه أن الماء طبعه الجريان و السيلان فهو جار بالقوة و إن لم يكن جاريا بالفعل و إنما وقف و لم يجر بالفعل بقدرة الله تعالى المانعة له من السيلان و ليس قوله و رست أصولها في الماء مما ينافي النظر العقلي لأنه لم يقل و رست أصولها في ماء البحر و لكنه قال في الماء و لا شبهة في أن أصول الجبال راسية في الماء المتخلخل بين أجزاء الأرض فإن الأرض كلها يتخلخل الماء بين أجزائها على طريق استحالة البخار من الصورة الهوائية إلى الصورة المائية. و ليس ذكره للجبال و كونها مانعة للأرض من الحركة بمناف أيضا للنظر الحكمي لأن الجبال في الحقيقة قد تمنع من الزلزلة إذا وجدت أسبابها الفاعلة فيكون ثقلها مانعا من الهدة و الرجفة. شرح نهج البلاغج : 11 ص : 55ليس قوله تكركره الرياح منافيا للنظر الحكمي أيضا لأن كرة الهواء محيطة بكرة و قد تعصف الرياح في كرة الهواء للأسباب المذكورة في موضعها من هذا العلم فيتموج كثير من الكرة المائية لعصف الرياح. و ليس قوله ع و تمخضه الغمام الذوارف صريحا في أن السحب تنزل في البحر فتغترف منه كما قد يعتقد في المشهور العامي نحو قول

(12/45)


الشاعر
كالبحر تمطره السحاب و ما لها فضل عليه لأنها من مائه
بل يجوز أن تكون الغمام الذراف تمخضه و تحركه بما ترسل عليه من الأمطار السائلة منها فقد ثبت أن كلام أمير المؤمنين ع موجه إن شئت فسرته بما يقوله أهل الظاهر و إن شئت فسرته بما يعتقده الحكماء. فإن قلت فكيف قال الله تعالى أَ وَ لَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ كانَتا رَتْقاً فَفَتَقْناهُما و هل كان الذين كفروا راءين لذلك حتى يقول لهم أَ وَ لَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا. قلت هذا في قوله اعلموا أن السموات و الأرض كانتا رتقا ففتقناهما كما يقول الإنسان لصاحبه أ لم تعلم أن الأمير صرف حاجبه الليلة عن بابه أي اعلم ذلك إن كنت غير عالم و الرؤية هنا بمعنى العلم. و اعلم أنه قد ذهب قوم من قدماء الحكماء و يقال أنه مذهب سقراط إلى تفسير القيامة و جهنم بما يبتني على وضع الأرض على الماء فقالوا الأرض موضوعة على الماء و الماء على الهواء و الهواء على النار و النار في حشو الأفلاك و لما كان العنصران الخفيفان و هما الهواء و النار يقتضيان صعود ما يحيطان به و العنصران الثقيلان اللذان في وسطهما و هما شرح نهج البلاغة ج : 11 ص : 56الماء و الأرض يقتضيان النزول و الهبوط وقعت الممانعة و المدافعة فلزم من ذلك وقوف الماء الأرض في الوسط. قالوا ثم إن النار لا تزال يتزايد تأثيرها في إسخان الماء و ينضاف إلى ذلك حر الشمس و الكواكب إلى أن تبلغ البحار و العنصر المائي غايتهما في الغليان و الفوران فيتصاعد بخار عظيم إلى الأفلاك شديد السخونة و ينضاف إلى ذلك حر فلك الأثير الملاصق للأفلاك فتذوب الأفلاك كما يذوب الرصاص و تتهافت و تتساقط و تصير كالمهل الشديد الحرارة و نفوس البشر على قسمين أحدهما ما تجوهر و صار مجردا بطريق العلوم و المعارف و قطع العلائق الجسمانية حيث كان مدبرا للبدن و الآخر ما بقي على جسمانيته بطريق خلوه من العلوم و المعارف و

(12/46)


انغماسه في اللذات و الشهوات الجسمانية فأما الأول فإنه يلتحق بالنفس الكلية المجردة و يخلص من دائرة هذا العالم بالكلية و أما الثاني فإنه تنصب عليه تلك الأجسام الفلكية الذائبة فيحترق بالكلية و يتعذب و يلقي آلاما شديدة. قالوا هذا هو باطن ما وردت به الرواية من العذاب عليها و خراب العالم و الأفلاك و انهدامها. ثم نعود إلى شرح الألفاظ قوله ع فاستمسكت أي وقفت و ثبتت. و الهاء في حده تعود إلى أمره أي قامت على حد ما أمرت به أي لم تتجاوزه و لا تعدته. و الأخضر البحر و يسمى أيضا خضارة معرفة غير مصروف و العرب تسميه بذلك إما لأنه يصف لون السماء فيرى أخضر أو لأنه يرى أسود لصفائه فيطلقون عليه لفظ شرح نهج البلاغة ج : 11 ص : 57الأخضر كما سموا الأخضر أسود نحو قوله مُدْهامَّتانِ و نحو تسميتهم قرى العراق سوادا لخضرتها و كثرة شجرها و نحو قولهم للديزج من الدواب أخضر. المثعنجر سائل ثعجرت الدم و غيره فاثعنجر أي صببته فانصب و تصغير المثعنجر مثيعج و مثيعيج. و القمقام بالفتح من أسماء البحر و يقال لمن وقع في أمر عظيم وقع في قمقام من الأمر تشبيها بالبحر. قوله ع و جبل جلاميدها أي و خلق صخورها جمع جلمود. و النشوز جمع نشز و هو المرتفع من الأرض و يجوز فتح الشين. و متونها جوانبها و أطوادها جبالها و يروى و أطوادها بالجر عطفا على متونها. فأرساها في مراسيها أثبتها في مواضعها رسا الشي ء يرسو ثبت و رست أقدامهم في الحرب ثبتت و رست السفينة ترسو رسوا و رسوا أي وقفت في البحر و قوله تعالى بِسْمِ اللَهِ مَجْراها وَ مُرْساها بالضم من أجريت و أرسيت و من قرأ بالفتح فهو من رست هي و جرت هي. و ألزمها قرارتها أمسكها حيث استقرت. قوله فأنهد جبالها أي أعلاها نهد ثدي الجارية ينهد بالضم إذا أشرف و كعب فهي ناهد و ناهدة. و سهولها ما تطامن منها عن الجبال. و أساخ قواعدها أي غيب قواعد الجبال في جوانب أقطار الأرض ساخت قوائم

(12/47)


شرح نهج البلاغة ج : 11 ص : 58الفرس في الأرض تسوخ و تسيخ أي دخلت فيها و غابت مثل ثاخت و أسختها أنا مثل أثختها و الأنصاب الأجسام المنصوبة الواحد نصب بضم النون و الصاد و منه سميت الأصنام نصبا في قوله تعالى وَ ما ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ لأنها نصبت فعبدت من د الله قال الأعشى
و ذا المنصوب لا تنسكنه لعاقبة و الله ربك فاعبدا
أي و أساخ قواعد الجبال في متون أقطار الأرض و في المواضع الصالحة لأن تكون فيها الأنصاب المماثلة و هي الجبال أنفسها. قوله فأشهق قلالها جمع قلة و هي ما علا من رأس الجبل أشهقها جعلها شاهقة أي عالية. و أرزها أثبتها فيها رزت الجرادة ترز رزا و هو أن تدخل ذنبها في الأرض فتلقى بيضها و أرزها الله أثبت ذلك منها في الأرض و يجوز أرزت لازما غير متعد مثل رزت و ارتز السهم في القرطاس ثبت فيه و روي و آرزها بالمد من قولهم شجرة آرزة أي ثابتة في الأرض أرزت بالفتح تأرز بالكسر أي ثبتت و آرزها بالمد غيرها أي أثبتها. و تميد تتحرك و تسيخ تنزل و تهوي. فإن قلت ما الفرق بين الثلاثة تميد بأهلها أو تسيخ بحملها أو تزول عن مواضعها. قلت لأنها لو تحركت لكانت إما أن تتحرك على مركزها أو لا على مركزها شرح نهج البلاغة ج : 11 ص : 59و الأول هو المراد بقوله تميد بأهلها و الثاني تنقسم إلى أن تنزل إ تحت أو لا تنزل إلى تحت فالنزول إلى تحت هو المراد بقوله أو تسيخ بحملها و القسم الثاني هو المراد بقوله أو تزول عن مواضعها. فإن قلت ما المراد ب على في قوله فسكنت على حركتها. قلت هي لهيئة الحال كما تقول عفوت عنه على سوء أدبه و دخلت إليه على شربه أي سكنت على أن من شأنها الحركة لأنها محمولة على سائل متموج. قوله موجان مياهها بناء فعلان لما فيه اضطراب و حركة كالغليان و النزوان و الخفقان و نحو ذلك. و أجمدها أي أجعلها جامدة و أكنافها جوانبها و المهاد الفراش. فوق بحر لجي كثير الماء منسوب إلى اللجة و هي معظم البحر.

(12/48)


قوله يكركره الرياح الكركرة تصريف الريح السحاب إذا جمعته بعد تفريق و أصله يكرر من التكرير فأعادوا الكاف كركرت الفارس عني أي دفعته و رددته. و الرياح العواصف الشديدة الهبوب و تمخضه يجوز فتح الخاء و ضمها و كسرها و الفتح أفصح لمكان حرف الحلق من مخضت اللبن إذا حركته لتأخذ زبده. و الغمام جمع و الواحدة غمامة و لذلك قال الذوارف لأن فواعل أكثر ما يكون لجمع المؤنث ذرفت عينه أي دمعت أي السحب المواطر و المضارع من ذرفت عينه تذرف بالكسر ذرفا و ذرفا و المذارف المدامع
شرح نهج البلاغة ج : 11 ص : 20560- و من خطبة له عاللَّهُمَّ أَيُّمَا عَبْدٍ مِنْ عِبَادِكَ سَمِعَ مَقَالَتَنَا الْعَادِلَةَ غَيْرَ الْجَائِرَةِ وَ الْمُصْلِحَةَ فِي الدِّينِ وَ الدُّنْيَا غَيْرَ الْمُفْسِدَةِ فَأَبَى بَعْدَ سَمْعِهِ لَهَا إِلَّا النُّكُوصَ عَنْ نُصْرَتِكَ وَ الْإِبْطَاءَ عَنْ إِعْزَازِ دِينِكَ فَإِنَّا نَسْتَشْهِدُكَ عَلَيْهِ يَا أَكْبَرَ الشَّاهِدِينَ شَهَادَةً وَ نَسْتَشْهِدُ عَلَيْهِ جَمِيعَ مَا أَسْكَنْتَهُ أَرْضَكَ وَ سمَاوَاتِكَ ثُمَّ أَنْتَ بَعْدَهُ الْمُغْنِي عَنْ نَصْرِهِ وَ الآْخِذُ لَهُ بِذَنْبِهِ

(12/49)


ما في أيما زائدة مؤكدة و معنى الفصل وعيد من استنصره فقعد عن نصره. و وصف المقالة بأنها عادلة إما تأكيد كما قالوا شعر شاعر و إما ذات عدل كما قالوا رجل تأمر و لابن أي ذو تمر و لبن و يجوز أيضا أن يريد بالعادلة المستقيمة التي ليست كاذبة و لا محرفة عن جهتها و الجائرة نقيضها و هي المنحرفة جار فلان عن الطريق أي انحرف و عدل. و النكوص التأخر. قوله ع نستشهدك عليه أي نسألك أن تشهد عليه و وصفه تعالى شرح نهج البلاغة ج : 11 ص : 61بأنه أكبر الشاهدين شهادة لقوله تعالى قُلْ أَيُّ شَيْ ءٍ أَكْبَرُ شَهادَةً قُلِ اللَّهُ يقوللهم إنا نستشهدك على خذلان من استنصرناه و استنفرناه إلى نصرتك و الجهاد عن دينك فأبى النهوض و نكث عن القيام بواجب الجهاد و نستشهد عبادك من البشر في أرضك و عبادك من الملائكة في سمواتك عليه أيضا ثم أنت بعد ذلك المغني لنا عن نصرته و نهضته بما تتيحه لنا من النصر و تؤيدنا به من الإعزاز و القوة و الأخذ له بذنبه في القعود و التخلف. و هذا قريب من قوله تعالى وَ إِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثالَكُمْ
شرح نهج البلاغة ج : 11 ص : 20662- و من خطبة له عالْحَمْدُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ عَنْ شَبَهِ الْمَخْلُوقِينَ الْغَالِبِ لِمَقَالِ الْوَاصِفِينَ الظَّاهِرِ بِعَجَائِبِ تَدْبِيرِهِ لِلنَّاظِرِينَ وَ الْبَاطِنِ بِجَلَالِ عِزَّتِهِ عَنْ فِكْرِ الْمُتَوَهِّمِينَ الْعَالِمِ بِلَا اكْتِسَابٍ وَ لَا ازْدِيَادٍ وَ لَا عِلْمٍ مُسْتَفَادٍ الْمُقَدِّرِ لِجَمِيعِ الْأُمُورِ بِلَا رَوِيَّةٍ وَ لَا ضَمِيرٍ الَّذِي لَا تَغْشَاهُ الظُّلَمُ وَ لَا يَسْتَضِي ءُ بِالْأَنْوَارِ وَ لَا يَرْهَقُهُ لَيْلٌ وَ لَا يَجْرِي عَلَيْهِ نَهَارٌ لَيْسَ إِدْرَاكُهُ بِالْإِبْصَارِ وَ لَا عِلمُهُ بِالْإِخْبَارِ

(12/50)


يجوز شبه و شبه و الرواية هاهنا بالفتح و تعاليه سبحانه عن شبه المخلوقين كونه قديما واجب الوجود و كل مخلوق محدث ممكن الوجود. قوله الغالب لمقال الواصفين أي إن كنه جلاله و عظمته لا يستطيع الواصفون وصفه و إن أطنبوا و أسهبوا فهو كالغالب لأقوالهم لعجزها عن إيضاحه و بلوغ منتهاه و الظاهر بأفعاله و الباطن بذاته لأنه إنما يعلم منه أفعاله و أما ذاته فغير معلومة. ثم وصف علمه تعالى فقال إنه غير مكتسب كما يكتسب الواحد منا علومه بالاستدلال و النظر و لا هو علم يزداد إلى علومه الأولى كما تزيد علوم الواحد منا و معارفه و تكثر لكثرة الطرق التي يتطرق بها إليها. شرح نهج البلاغة ج : 11 ص : 63ثم قال و لا علم مستفاد أي ليس يعلم الأشياء بعلم محدث مجدد كما يذهب إليه جهم و أتباعه و هشام بن الحكم و من قال بقوله. ثم ذكر أنه تعالى قدر الأمور كلها بغير روية أي بغير فكر و لا ضمير و هو ما ييه الإنسان من الرأي و الاعتقاد و العزم في قلبه. ثم وصفه تعالى بأنه لا يغشاه ظلام لأنه ليس بجسم و لا يستضي ء بالأنوار كالأجسام ذوات البصر و لا يرهقه ليل أي لا يغشاه و لا يجري عليه نهار لأنه ليس بزماني و لا قابل للحركة ليس إدراكه بالأبصار لأن ذلك يستدعي المابلة و لا علمه بالإخبار مصدر أخبر أي ليس علمه مقصورا على أن تخبره الملائكة بأحوال المكلفين بل هو يعلم كل شي ء لأن ذاته ذات واجب لها أن تعلم كل شي ء لمجرد ذاتها المخصوصة من غير زيادة أمر على ذاتهامِنْهَا فِي ذِكْرِ النَّبِيِّ ص أَرْسَلَهُ بِالضِّيَاءِ وَ قَدَّمَهُ فِي الِاصْطِفَاءِ فَرَتَقَ بِهِ الْمَفَاتِقَ وَ سَاوَرَ بِهِ الْمُغَالِبَ وَ ذَلَّلَ بِهِ الصُّعُوبَةَ وَ سَهَّلَ بِهِ الْحُزُونَةَ حَتَّى سَرَّحَ الضَّلَالَ عَنْ يَمِينٍ وَ شِمَالٍ

(12/51)


أرسله بالضياء أي بالحق و سمى الحق ضياء لأنه يهتدى به أو أرسله بالضياء أي بالقرآن. شرح نهج البلاغة ج : 11 ص : 64و قدمه في الاصطفاء أي قدمه في الاصطفاء على غيره من العرب و العجم قالت قريش لَوْ لا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ أي ى رجل من رجلين من القريتين عَظِيمٍ أي إما على الوليد بن المغيرة من مكة أو على عروة بن مسعود الثقفي من الطائف. ثم قال تعالى أَ هُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ أي هو سبحانه العالم بالمصلحة في إرسال الرسل و تقديم من يرى في الاصطفاء على غيره. فرتق به المفاتق أي أصلح به المفاسد و الرتق ضد الفتق و المفاتق جمع مفتق و هو مصدر كالمضرب و المقتل. و ساور به المغالب ساورت زيدا أي واثبته و رجل سوار أي وثاب و سورة الخمر وثوبها في الرأس. و الحزونة ضد السهولة و الحزن ما غلظ من الأرض و السهل ما لان منها و استعير لغير الأرض كالأخلاق و نحوها. قوله حتى سرح الضلال أي طرده و أسرع به ذهابا. عن يمين و شمال من قولهم ناقة سرح و منسرحة أي سريعة و منه تسريح المرأة أي تطليقها

(12/52)


شرح نهج البلاغة ج : 11 ص : 20765- و من خطبة له عوَ أَشْهَدُ أَنَّهُ عَدْلٌ عَدَلَ وَ حَكَمٌ فَصَلَ وَ أَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّداً عَبْدُهُ وَ رَسُولُهُ وَ سَيِّدُ عِبَادِهِ كُلَّمَا نَسَخَ اللَّهُ الْخَلْقَ فِرْقَتَيْنِ جَعَلَهُ فِي خَيْرِهِمَا لَمْ يُسْهِمْ فِيهِ عَاهِرٌ وَ لَا ضَرَبَ فِيهِ فَاجِرٌ أَلَا وَ إِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ قَدْ جَعَلَ لِلْخَيْرِ أَهْلًا وَ لِلْحَقِّ دَعَائِمَ وَ لِلطَّاعَةِ عِصَماً وَ إِنَّ لَكُمْ عِنْدَ كُلِّ طَاعَةٍ عَوْناً مِنَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ يَقُولُ عَلَى الْأَلْسِنَةِ وَ يُثَبِّتُ بِهِ الْأَفْئِدَةَ فِيهِ كِفَاءٌ لِمُكْتَفٍ وَ شِفَاءٌ لِمُشْتَفٍ وَ اعْلَمُوا أَنَّ عِبَادَ اللَّهِ الْمُسْتَحْفَظِينَ عِلْمَهُ يَصُونُونَ مَصُونَهُ وَ يُفَجِّرُونَ عُيُونَهُ يَتَوَاصَلُونَ بِالْوِلَايَةِ وَ يَتَلَاقَوْنَ بِالْمَحَبَّةِ وَ يَتَسَاقَوْنَ بِكَأْسٍ رَوِيَّةٍ وَ يَصْدُرُونَ بِرِيَّةٍ لَا تَشُوبُهُمُ الرِّيبَةُ وَ لَا تُسْرِعُ فِيهِمُ الْغِيبَةُ عَلَى ذَلِكَ عَقَدَ خَلْقَهُمْ وَ أَخْلَاقَهُمْ فَعَلَيْهِ يَتَحَابُّونَ وَ بِهِ يَتَوَاصَلُونَ فَكَانُوا كَتَفَاضُلِ الْبَذْرِ يُنْتَقَى فَيُؤْخَذُ مِنْهُ وَ يُلْقَى قَدْ مَيَّزَهُ التَّخْلِيصُ وَ هَذَّبَهُ التَّمْحِيصُ فَلْيَقْبَلِ امْرُؤٌ كَرَامَةً بِقَبُولِهَا وَ لْيَحْذَرْ قَارِعَةً قَبْلَ حُلُولِهَا وَ لْيَنْظُرِ امْرُؤٌ فِي قَصِيرِ أَيَّامِهِ وَ قَلِيلِ مُقَامِهِ فِي مَنْزِلٍ حَتَّى يَسْتَبْدِلَ بِهِ مَنْزِلًا فَلْيَصْنَعْ لِمُتَحَوَّلِهِ وَ مَعَارِفِ مُنْتَقَلِهِ فَطُوبَى لِذِي قَلْبٍ سَلِيمٍ أَطَاعَ مَنْ يَهْدِيهِ وَ تَجَنَّبَ مَنْ يُرْدِيهِ وَ أَصَابَ سَبِيلَ السَّلَامَةِ بِبَصَرِ مَنْ بَصَّرَهُ وَ طَاعَةِ هَادٍ أَمَرَهُ وَ بَادَرَ الْهُدَى قَبْلَ أَنْ تُغْلَقَ أَبْوَابُهُ شرح نهجلبلاغة ج : 11 ص

(12/53)


: 66وَ تُقْطَعَ أَسْبَابُهُ وَ اسْتَفْتَحَ التَّوْبَةَ وَ أَمَاطَ الْحَوْبَةَ فَقَدْ أُقِيمَ عَلَى الطَّرِيقِ وَ هُدِيَ نَهْجَ السَّبِيلِ
الضمير في أنه يرجع إلى القضاء و القدر المذكور في صدر هذه الخطبة و لم يذكره الرضي رحمه الله يقول أشهد أن قضاءه تعالى عدل عدل و حكم بالحق فإنه حكم فصل بين العباد بالإنصاف و نسب العدل و الفصل إلى القضاء على طريق المجاز و هو بالحقيقة منسوب إلى ذي القضاء و القاضي به هو الله تعالى. قوله و سيد عباده هذا كالمجمع عليه بين المسلمين و إن كان قد خالف فيه شذوذ منهم و احتج الجمهور
بقوله أنا سيد ولد آدم و لا فخر
و بقوله ادعوا لي سيد العرب عليا فقالت عائشة أ لست سيد العرب فقال أنا سيد البشر و علي سيد العرب
و بقوله آدم و من دونه تحت لوائي
و احتج المخالف بقوله ع لا تفضلوني على أخي يونس بن متى
و أجاب الأولون تارة بالطعن في إسناد الخبر و تارة بأنه حكاية كلام حكاه ص عن عيسى ابن مريم و تارة بأن النهي إنما كان عن الغلو فيه كما غلت الأمم في أنبيائها فهو كما ينهى الطبيب المريض فيقول لا تأكل من الخبز و لا درهما و ليس مراده تحريم أكل الدرهم و الدرهمين بل تحريم ما يستضر بأكله منه. قوله ع كلما نسخ الله الخلق فرقتين جعله في خيرهما النسخ النقل و منه نسخ الكتاب و منه نسخت الريح آثار القوم و نسخت الشمس الظل يقول شرح نهج البلاغة ج : 11 ص : 67كلما قسم الله تعالى الأب الواحد إلى ابنين جعل خيرهما و أفضلهما لولادمحمد ع و سمى ذلك نسخا لأن البطن الأول يزول و يخلفه البطن الثاني و منه مسائل المناسخات في الفرائض. و هذا المعنى قد ورد مرفوعا في عدة أحاديث نحو
قوله ص ما افترقت فرقتان منذ نسل آدم ولده إلا كنت في خيرهما

(12/54)


و نحو قوله إن الله اصطفى من ولد إبراهيم إسماعيل و اصطفى من ولد إسماعيل مضر و اصطفى من مضر كنانة و اصطفى من كنانة قريشا و اصطفى من قريش هاشما و اصطفاني من بني هاشم قوله لم يسهم فيه عاهر و لا ضرب فيه فاجر
لم يسهم لم يضرب فيه عاهر بسهم أي بنصيب و جمعه سهمان و العاهر ذو العهر بالتحريك و هو الفجور و الزناء و يجوز تسكين الهاء مثل نهر و نهر و هذا هو المصدر و الماضي عهر بالفتح و الاسم العهر بكسر العين و سكون الهاء و المرأة عاهرة و معاهرة و عيهرة و تعيهر الرجل إذا زنى و الفاجر كالعاهر هاهنا و أصل الفجور الميل قال لبيد
فإن تتقدم تغش منها مقدما غليظا و إن أخرت فالكفل فاجر
يقول مقعد الرديف مائل
ذكر بعض المطاعن في النسب و كلام للجاحظ في ذلك
و في الكلام رمز إلى جماعة من الصحابة في أنسابهم طعن كما يقال إن آل سعد بن أبي وقاص ليسوا من بني زهرة بن كلاب و إنهم من بني عذرة من قحطان شرح نهج البلاغة ج : 11 ص : 68و كما قالوا إن آل الزبير بن العوام من أرض مصر من القبط و ليسوا من بني أسد بن عبد العزى ق الهيثم بن عدي في كتاب مثالب العرب إن خويلد بن أسد بن عبد العزى كان أتى مصر ثم انصرف منها بالعوام فتبناه فقال حسان بن ثابت يهجو آل العوام بن خويلد
بني أسد ما بال آل خويلد يحنون شوقا كل يوم إلى القبطمتى يذكروا قهقى يحنوا لذكرها و للرمث المقرون و السمك الرقطعيون كأمثال الزجاج وضيعة تخالف كعبا في لحى كثة ثطيرى ذاك في الشبان و الشيب منهم مبينا و في الأطفال و الجلة الشمطلعمر أبي العوام إن خويلدا غداة تبناه ليوثق في الشرط

(12/55)


و كما يقال في قوم آخرين نرفع هذا الكتاب عن ذكر ما يطعن به في أنسابهم كي لا يظن بنا أنا نحب المقالة في الناس. قال شيخنا أبو عثمان في كتاب مفاخرات قريش لا خير في ذكر العيوب إلا من ضرورة و لا نجد كتاب مثالب قط إلا لدعي أو شعوبي و لست واجده لصحيح النسب و لا لقليل الحسد و ربما كانت حكاية الفحش أفحش من الفحش و نقل الكذب أقبح من الكذب و
قال النبي ص اعف عن ذي قبر
و قال لا تؤذوا الأحياء بسب الأموات
و قيل في المثل يكفيك من شر سماعه و قالوا أسمعك من أبلغك و قالوا من طلب عيبا وجده و قال النابغة
و لست بمستبق أخا لا تلمه على شعث أي الرجال المهذب

(12/56)


شرح نهج البلاغة ج : 11 ص : 69قال أبو عثمان و بلغ عمر بن الخطاب أن أناسا من رواة الأشعار و حملة الآثار يعيبون الناس و يثلبونهم في أسلافهم فقام على المنبر و قال إياكم و ذكر العيوب و البحث عن الأصول فلو قلت لا يخرج اليوم من هذا الأبواب إلا من لا وصمة فيه ليخرج منكم أحد فقام رجل من قريش نكره أن نذكره فقال إذا كنت أنا و أنت يا أمير المؤمنين نخرج فقال كذبت بل كان يقال لك يا قين بن قين اقعد. قلت الرجل الذي قام هو المهاجر بن خالد بن الوليد بن المغيرة المخزومي كان عمر يبغضه لبغضه أباه خالدا و لأن المهاجر كان علوي الرأي جدا و كان أخوه عبد الرحمن بخلافه شهد المهاجر صفين مع علي ع و شهدها عبد الرحمن مع معاوية و كان المهاجر مع علي ع في يوم الجمل و فقئت ذلك اليوم عينه و لأن الكلام الذي بلغ عمر بلغه عن المهاجر و كان الوليد بن المغيرة مع جلالته في قريش و كونه يسمى ريحانة قريش و يسمى العدل و يسمى الوحيد حداد يصنع الدروع و غيرها بيده ذكر ذلك عنه عبد الله بن قتيبة في كتاب المعارف. و روى أبو الحسن المدائني هذا الخبر في كتاب أمهات الخلفاء و قال إنه روى عند جعفر بن محمد ع بالمدينة فقال لا تلمه يا ابن أخي إنه أشفق أن يحدج بقضية نفيل بن عبد العزى و صهاك أمة الزبير بن عبد المطلب ثم قال رحم الله عمر فإنه لم يعد السنة و تلا إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ. أما قول ابن جرير الآملي الطبرستاني في كتاب المسترشد إن عثمان والد شرح نهج البلاغة ج : 11 ص : 70أبي بكر الصديق كان ناكحا أم الخير ابنة أخته فليس بصحيح و لكنها ابنة عمه لأنها ابنة صخر بن عامر و عثمان هو ابن عمرو بن عامر و العجب لمن اتبعه من فضلاء الإمامية على هذه المقالة من غير تحقيق لها من كتب الأنساب و كيف تتصور هذه القعة في قريش و لم يكن أحد منهم مجوسيا و لا يهوديا و لا كان من مذهبهم

(12/57)


حل نكاح بنات الأخ و لا بنات الأخت. ثم نعود لإتمام حكاية كلام شيخنا أبي عثمان قال و متى يقدر الناس حفظك الله على رجل مسلم من كل ابنة و مبرأ من كل آفة في جميع آبائه و أمهاته و أسلافه و أصهاره حتى تسلم له أخواله و أعمامه و خالاته و عماته و أخواته و بناته و أمهات نسائه و جميع من يناسبه من قبل جداته و أجداده و أصهاره و أختانه و لو كان ذلك موجودا لما كان لنسب رسول الله ص فضيلة في النقاء و التهذيب و في التصفية و التنقيح
قال رسول الله ص ما مسني عرق سفاح قط و ما زلت أنقل من الأصلاب السليمة من الوصوم و الأرحام البريئة من العيوب
فلسنا نقضي لأحد بالنقاء من جميع الوجوه إلا لنسب من صدقه القرآن و اختاره الله على جميع الأنام و إلا فلا بد من شي ء يكون في نفس الرجل أو في طرفيه أو في بعض أسلافه أو في بعض أصهاره و لكنه يكون مغطى بالصلاح و محجوبا بالفضائل و مغمورا بالمناقب. و لو تأملت أحوا الناس لوجدت أكثرهم عيوبا أشدهم تعييبا قال الزبرقان من بدر ما استب رجلان إلا غلب ألأمهما و قال خصلتان كثيرتان في امرئ السوء شرح نهج البلاغة ج : 11 ص : 71كثرة اللطام و شدة السباب و لو كان ما يقوله أصحاب المثالب حقا لما كان على ظهرها عربي كما قال عبد الملكن صالح الهاشمي إن كان ما يقول بعض في بعض حقا فما فيهم صحيح و إن كان ما يقول بعض المتكلمين في بعض حقا فما فيهم مسلم.

(12/58)


قوله ع ألا و إن الله قد جعل للخير أهلا و للحق دعائم و للطاعة عصما الدعائم ما يدعم بها البيت لئلا يسقط و العصم جمع عصمة و هو ما يحفظ به الشي ء و يمنع فأهل الخير هم المتقون و دعائم الحق الأدلة الموصلة إليه المثبتة له في القلوب و عصم الطاعة هي الإدمان على فعها و التمرن على الإتيان بها لأن المرون على الفعل يكسب الفاعل ملكة تقتضي سهولته عليه و العون هاهنا هو اللطف المقرب من الطاعة المبعد من القبيح. ثم قال ع إنه يقول على الألسنة و يثبت الأفئدة و هذا من باب التوسع و المجاز لأنه لما كان مستهلا للقول أطلق عليه إنه يقول على الألسنة و لما كان الله تعالى هو الذي يثبت الأفئدة كما قال يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ نسب التثبيت إلى اللطف لأنه من فعل الله تعالى كما ينسب الإنبات إلى المطر و إنما المنبت للزرع هو الله تعالى و المطر فعله. ثم قال ع فيه كفاء لمكتف و شفاء لمشتف و الوجه فيه كفاية فإن الهمز لا وجه له هاهنا لأنه من باب آخر و لكنه أتى بالهمزة للازدواج بين كفاء شرح نهج البلاغة ج : 11 ص : 72و شفاء كما قالوا الغدايا و العشايا و كما قال ع مأزورات غير مأجورات فأتى بالهمز و الوجه الواو للازدواج
ذكر بعض أحوال العارفين و الأولياء

(12/59)


ثم ذكر العارفين فقال و اعلموا أن عباد الله المستحفظين علمه إلى قوله و هذبه التمحيص. و اعلم أن الكلام في العرفان لم يأخذه أهل الملة الإسلامية إلا عن هذا الرجل و لعمري لقد بلغ منه إلى أقصى الغايات و أبعد النهايات و العارفون هم القوم الذين اصطفاهم الله تعالى و انتخبهم لنفسه و اختصهم بأنسه أحبوه فأحبهم و قربوا منه فقرب منهم قد تكلم أرباب هذا الشأن في المعرفة و العرفان فكل نطق بما وقع له و أشار إلى ما وجده في وقته. و كان أبو علي الدقاق يقول من أمارات المعرفة حصول الهيبة من الله فمن ازدادت معرفته ازدادت هيبته. و كان يقول المعرفة توجب السكينة في القلب كما أن العلم يوجب السكون فمن ازدادت معرفته ازدادت سكينته. و سئل الشبلي عن علامات العارف فقال ليس لعارف علامة و لا لمحب سكون و لا لخائف قرار. و سئل مرة أخرى عن المعرفة فقال أولها الله و آخرها ما لا نهاية له. و قال أبو حفص الحداد منذ عرفت الله ما دخل قلبي حق و لا باطل و قد أشكل هذا الكلام على أرباب هذا الشأن و تأوله بعضهم فقال عند القوم إن المعرفة توجب شرح نهج البلاغة ج : 11 ص : 73غيبة العبد عن نفسه لاستيلاء ذكر الحق عليه فلا يشهد غير الله و لا يرجع إلا إليه و كما إن ااقل يرجع إلى قلبه و تفكره و تذكره فيما يسنح له من أمر أو يستقبله من حال فالعارف رجوعه إلى ربه لا إلى قلبه و كيف يدخل المعنى قلب من لا قلب له. و سئل أبو يزيد البسطامي عن العرفان فقال إِنَّ الْمُلُوكَ إِذا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوها وَ جَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِها أَذِلَّةً و هذا معنى ما أشار إليه أبو حفص الحداد. و قال أبو يزيد أيضا للخلق أحوال و لا حال للعارف لأنه محيت رسومه و فنى هو و صارت هويته هوية غيره و غيبت آثاره في آثار غيره. قلت و هذا هو القول بالاتحاد الذي يبحث فيه أهل النظر. و قال الواسطي لا تصح المعرفة و في العبد استغناء بالله أو افتقار إليه و فسر بعضهم هذا

(12/60)


الكلام فقال إن الافتقار و الاستغناء من أمارات صحو العبد و بقاء رسومه على ما كانت عليه و العارف لا يصح ذلك عليه لأنه لاستهلاكه في وجوده أو لاستغراقه في شهوده إن لم يبلغ درجة الاستهلاك في الوجود مختطف عن إحساسه بالغنى و الفقر و غيرهما من الصفات و لهذا قال الواسطي من عرف الله انقطع و خرس و انقمع
قال ص لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك
و قال الحسين بن منصور الحلاج علامة العارف أن يكون فارغا من الدنيا و الآخرة. و قال سهل بن عبد الله التستري غاية العرفان شيئان الدهش و الحيرة. و قال ذو النون أعرف الناس بالله أشدهم تحيرا فيه. و قيل لأبي يزيد بما ذا وصلت إلى المعرفة قال ببدن عار و بطن جائع. شرح نهج البلاغة ج : 11 ص : 74و قيل لأبي يعقوب السوسي هل يتأسف العارف على شي ء غير الله فقال و هل يرى شيئا غيره ليتأسف عليه. و قال أبو يزيد العارف طيار و الزاهد سيار. و قال الجنيد لا يكون العارف عارفا حتى يكون كالأرض يطؤها البر و الفاجر و كالسحاب يظل كل و كالمطر يسقى ما ينبت و ما لا ينبت. و قال يحيى بن معاذ يخرج العارف من الدنيا و لا يقضى وطره من شيئين بكائه على نفسه و حبه لربه. و كان ابن عطاء يقول أركان المعرفة ثلاثة الهيبة و الحياء و الأنس و قال بعضهم العارف أنس بالله فأوحشه من خلقه و افتقر إلى الله فأغناه عن خلقه و ذل لله فأعزه في خلقه. و قال بعضهم العارف فوق ما يقول و العالم دون ما يقول. و قال أبو سليمان الداراني إن الله يفتح للعارف على فراشه ما لا يفتح للعابد و هو قائم يصلي. و كان رويم يقول رياء العارفين أفضل من إخلاص العابدين. و سئل أبو تراب النخشبي عن العارف فقال هو الذي لا يكدره شي ء و يصفو به كل شي ء. و قال بعضهم المعرفة أمواج ترفع و تحط. و سئل يحيى بن معاذ عن العارف فقال الكائن البائن. و قيل ليس بعارف من وصف المعرفة عند أبناء الآخرة فكيف عند أبناء الدنيا. و قال محمد بن الفضل

(12/61)


المعرفة حياة القلب الله. و سئل أبو سعيد الخراز هل يصير العارف إلى حال يجفو عليه البكاء قال شرح نهج البلاغة ج : 11 ص : 75نعم إنما البكاء في أوقات سيرهم إلى الله فإذا صاروا إلى حقائق القرب و ذاقوا طعم الوصول زال عنهم ذلك. و اعلم أن إطلاق أمير المؤمنين ع عليهم لفظة الولاية فقوله يتواصلون بالولاية و يتلاقون بالمحبة يستدعي الخوض في مقامين جليلين من مقامات العارفين المقام الأول الولاية و هو مقام جليل قال الله تعالى أَلا إِنَّ أَوْلِياءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَ لا هُمْ يَحْزَنُونَ و
جاء في الخبر الصحيح عن النبي ص يقول الله تعالى من آذى لي وليا فقد استحل محارمي و ما تقرب إلي العبد بمثل أداء ما فرضت عليه و لا يزال العبد يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه و لا ترددت في شي ء أنا فاعله كترددي في قبض نفس عبدي المؤمن يكره الموت و أكره مساءته و لابد له منه

(12/62)


و اعلم أن الولي له معنيان أحدهما فعيل بمعنى مفعول كقتيل و جريح و هو من يتولى الله أمره كما قال الله تعالى إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتابَ وَ هُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ فلا يكله إلى نفسه لحظة عين بل يتولى رعايته. و ثانيهما فعيل بمعنى فاعل كنذير و عليم و هو الذي يتولى طاعة الله و عبادته فلا يعصيه. و من شرط كون الولي وليا ألا يعصي مولاه و سيده كما أن من شرط كون النبي شرح نهج البلاغة ج : 11 ص : 76نبيا العصمة فمن ظن فيه أنه من الأولياء و يصدر عنه ما للشرع فيه اعتراض فليس بولي عند أصحاب هذالعلم بل هو مغرور مخادع. و يقال إن أبا يزيد البسطامي قصد بعض من يوصف بالولاية فلما وافى مسجده قعد ينتظر خروجه فخرج الرجل و تنخم في المسجد فانصرف أبو يزيد و لم يسلم عليه و قال هذا رجل غير مأمون على أدب من آداب الشريعة كيف يكون أمينا على أسرار الحق. و قال إبراهيم بن أدهم لرجل أ تحب أن تكون لله وليا قال نعم قال لا ترغب في شي ء من الدنيا و لا من الآخرة و فرغ نفسك لله و أقبل بوجهك عليه ليقبل عليك و يواليك. و قال يحيى بن معاذ في صفة الأولياء هم عباد تسربلوا بالأنس بعد المكابدة و ادرعوا بالروح بعد المجاهدة بوصولهمإلى مقام الولاية. و كان أبو يزيد يقول أولياء الله عرائس الله و لا يرى العرائس إلا المحارم فهم مخدرون عنده في حجاب الأنس لا يراهم أحد في الدنيا و لا في الآخرة. و قال أبو بكر الصيدلاني كنت أصلح لقبر أبي بكر الطمستاني لوحا أنقر فيه اسمه فيسرق ذلك اللوح فأنقر له لوحا آخر و أنصبه على قبره فيسرق و تكرر ذلك كثيرا دون غيره من ألواح القبور فكنت أتعجب منه فسألت أبا علي الدقاق عن ذلك فقال إن ذلك الشيخ آثر الخفاء في الدنيا و أنت تريد أن تشهره باللوح الذي تنصبه على قبره فالله سبحانه يأبى إلا إخفاء قبره كما هو ستر نفسه. و قال بعضهم إنما سمي الولي وليا لأنه توالت أفعاله على الموافقة.

(12/63)


شرح نهج البلاغة ج : 11 ص : 77و قال يحيى بن معاذ الولي لا يرائي و لا ينافق و ما أقل صديق من يكون هذا خلقه. المقام الثاني المحبة قال الله سبحانه مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَ يُحِبُّونَهُ و المحبة عند أرباب هذا الشأن حالة شريفة. قال أبو يزيد البسطامي المحبة استقلال الكثير من نفسك و استكثار القليل من حبيبك. و قال أبو عبد الله القرشي المحبة أن تهب كلك لمن أحببت فلا يبقى لك منك شي ء و أكثرهم عى نفي صفة العشق لأن العشق مجاوزة الحد في المحبة و البارئ سبحانه أجل من أن يوصف بأنه قد تجاوز أحد الحد في محبته. سئل الشبلي عن المحبة فقال هي أن تغار على المحبوب أن يحبه أحد غيرك. و قال سمنون ذهب المحبون بشرف الدنيا و الآخرة
لأن النبي ص قال المرء مع من أحب
فهم مع الله تعالى. و قال يحيى بن معاذ حقيقة المحبة ما لا ينقص بالجفاء و لا يزيد بالبر. و قال ليس بصادق من ادعى محبته و لم يحفظ حدوده. و قال الجنيد إذا صحت المحبة سقطت شروط الأدب. و أنشد في معناه
إذا صفت المودة بين قوم و دام ودادهم سمج الثناء
و كان أبو علي الدقاق يقول أ لست ترى الأب الشفيق لا يبجل ولده في الخطاب و الناس يتكلفون في مخاطبته و الأب يقول له يا فلان باسمه. شرح نهج البلاغة ج : 11 ص : 78و قال أبو يعقوب السوسي حقيقة المحبة أن ينسى العبد حظه من الله و ينسى حوائجه إليه. قيل للنصرآباذي ولون إنه ليس لك من المحبة شي ء قال صدقوا و لكن لي حسراتهم فهو ذو احتراق فيه. و قال النصرآباذي أيضا المحبة مجانبة السلو على كل حال ثم أنشد و من كان في طول الهوى ذاق سلوة فإني من ليلى لها غير ذائق و أكثر شي ء نلته في وصالها أماني لم تصدق كلمحة بارو كان يقال الحب أوله خبل و آخره قتل. و قال أبو علي الدقاق في معنى

(12/64)


قول النبي ص حبك الشي ء يعمي و يصم قال يعمي و يصم عن الغير إعراضا و عن المحبوب هيبة ثم أنشد
إذا ما بدا لي تعاظمته فأصدر في حال من لم يره
و قال الجنيد سمعت الحارث المحاسبي يقول المحبة إقبالك على المحبوب بكليتك ثم إيثارك له على نفسك و مالك و ولدك ثم موافقتك له في جميع الأمور سرا و جهرا ثم اعتقادك بعد ذلك أنك مقصر في محبته. و قال الجنيد سمعت السري يقول لا تصلح المحبة بين اثنين حتى يقول الواحد للآخر يا أنا. و قال الشبلي المحب إذا سكت هلك و العارف إذا لم يسكت هلك. و قيل المحبة نار في القلب تحرق ما سوى ود المحبوب. و قيل المحبة بذل الجهد و الحبيب يفعل ما يشاء. و قال الثوري المحبة هتك الأستار و كشف الأسرار. شرح نهج البلاغة ج : 11 ص : 79حبس الشبلي المارستان بين المجانين فدخل عليه جماعة فقال من أنتم قالوا محبوك أيها الشيخ فأقبل يرميهم بالحجارة ففروا فقال إذا ادعيتم محبتي فاصبروا على بلائي. كتب يحيى بن معاذ إلى أبي يزيد البسطامي قد سكرت من كثرة ما شربت من كأس محبته فكتب إليه أبو يزيد غيرك شرب بحور السموات و الأرض و ما روي بعد و لسانه خارج و يقول هل من مزيد. و من شعرهم في هذا المعنى
عجبت لمن يقول ذكرت ربي و هل أنسى فأذكر ما نسيت شربت الحب كأسا بعد كأس فما نفد الشراب و لا رويتو يقال إن الله تعالى أوحى إلى بعض الأنبياء إذا اطلعت على قلب عبد فلم أجد فيه حب الدنيا و الآخرة ملأته من حبي
و قال أبو علي الدقاق إن في بعض الكتب المنزلة عبدي أنا و حقك لك محب فبحقي عليك كن لي محبا
و قال عبد الله بن المبارك من أعطي قسطا من المحبة و لم يعط مثله من الخشية فهو مخدوع. و قيل المحبة ما تمحو أثرك و تسلبك عن وجودك. و قيل المحبة سكر لا يصحوا صاحبه إلا بمشاهدة محبوبه ثم إن السكر الذي يحصل عند المشاهدة لا يوصف و أنشد
فأكسر القوم دور كأس و كان سكرى من المدير

(12/65)


و كان أبو علي الدقاق ينشد كثيرا شرح نهج البلاغة ج : 11 ص : 8لي سكرتان و للندمان واحدة شي ء خصصت به من بينهم وحديو كان يحيى بن معاذ يقول مثقال خردلة من الحب أحب إلي من عبادة سبعين سنة بلا حب. و قال بعضهم من أراد أن يكون محبا فليكن كما حكي عن بعض الهند أنه أحب جارية فرحلت عن ذلك البلد فخرج الفتى في وداعها فدمعت إحدى عينيه دون الأخرى فغمض التي لم تدمع أربعا و ثمانين سنة و لم يفتحها عقوبة لأنها لم تبك على فراق حبيبته. و أنشدوا في هذا المعنى
بكت عيني غداة البين دمعا و أخرى بالبكاء بخلت علينافعاقبت التي بخلت علينا بأن غمضتها يوم التقيا
و قيل إن الله تعالى أوحى إلى داود ع إني حرمت على القلوب أن يدخلها حبي و حب غيري
و قيل المحبة إيثار المحبوب على النفس كامرأة العزيز لما أفرط بها الحب قالت أَنَا راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ و في الابتداء قالت ما جَزاءُ مَنْ أَرادَ بِأَهْلِكَ سُوءاً إِلَّا أَنْ يُسْجَنَ فوركت الذنب في الابتداء عليه و نادت في الانتهاء على نفسها بالخيانة و قال أبو سعيد الخراز رأيت النبي ص في المنام فقلت يا رسول الله اعذرني فإن محبة الله شغلتني عن حبك فقال يا مبارك من أحب الله فقد أحبني.

(12/66)


شرح نهج البلاغة ج : 11 ص : 81ثم نعود إلى تفسير ألفاظ الفصل قوله ع يصونون مصونه أي يكتمون من العلم الذي استحفظوه ما يجب أن يكتم و يفجرون عيونه يظهرون منه ما ينبغي إظهاره و ذلك أنه ليس ينبغي إظهار كل ما استودع العارف من الأسرار و أهل هذا الفن يزعمون أن قو منهم عجزوا عن أن يحملوا بما حملوه فباحوا به فهلكوا منهم الحسين بن منصور الحلاج و لأبي الفتوح الجارودي المتأخر أتباع يعتقدون فيه مثل ذلك. و الولاية بفتح الواو المحبة و النصرة و معنى يتواصلون بالولاية يتواصلون و هم أولياء و مثله و يتلاقون بالمحبة كما تقول خرجت بسلاحي أي خرجت و أنا متسلح فيكون موضع الجار و المجرور نصبا بالحال أو يكون المعنى أدق و ألطف من هذا و هو أن يتواصلوا بالولاية أي بالقلوب لا بالأجسام كما تقول أنا أراك بقلبي و أزورك بخاطري و أواصلك بضميري. قوله و يتساقون بكأس روية أي بكأس المعرفة و الأنس بالله يأخذ بعضهم عن بعض العلوم و الأسرار فكأنهم شرب يتساقون بكأس من الخمر. قال و يصدرون برية يقال من أين ريتكم مفتوحة الراء أي من أين ترتوون الماء. قال لا تشوبهم الريبة أي لا تخالطهم الظنة و التهمة و لا تسرع فيهم الغيبة لأن أسرارهم مشغولة بالحق عن الخلق. قال على ذلك عقد خلقهم و أخلاقهم الضمير في عقد يرجع إلى الله تعالى أي على هذه الصفات و الطبائع عقد الخالق تعالى خلقتهم و خلقهم أي هم متهيئون لما صاروا إليه
كما قال ع إذا أرادك لأمر هيأك له
شرح نهج البلاغة ج : 11 ص : 82و قال ع كل ميسر لما خلق لهقال فعليه يتحابون و به يتواصلون أي ليس حبهم بعضهم بعضا إلا في الله و ليست مواصلتهم بعضهم بعضا إلا لله لا للهوى و لا لغرض من أغراض الدنيا أنشد منشد عند عمر قول طرفة

(12/67)


فلو لا ثلاث هن من عيشة الفتى و جدك لم أحفل متى قام عودي فمنهن سبقي العاذلات بشربة كميت متى ما تعل بالماء تزبدو كري إذا نادى المضاف محنبا كسيد الغضا نبهته المتوردو تقصير يوم الدجن و الدجن معجب ببهكنة تحت الطراف المعمدفقال عمر و أنا لو لا ثلاث هن من عيشة الفتى لم أحفل متى قام عودي حبي في الله و بغضي في الله و جهادي في سبيل الله. قوله ع فكانوا كتفاضل البذر أي مثلهم مثل الحب الذي ينتفي للبذر يستصلح بعضه و يسقط بعضه. قد ميزه التخليص قد فرق الانتقاء بين جيدة و رديئة و هذبه التمحيص
قال النبي ص إن المرض ليمحص الخطايا كما تمحص النار الذهب
أي كما تخلص النار الذهب مما يشوبه. ثم أمر ع المكلفين بقبول كرامة الله و نصحه و وعظه و تذكيره و بالحذر شرح نهج البلاغة ج : 11 ص : 83من نزول القارعة بهم و هي هاهنا الموت و سميت الداهية قارعة لأنها تقرع أي تصيب بشدة. قوله فليصنع لمتحوله أي فليعد ما يجب إعدا للموضع الذي يتحول إليه تقول اصنع لنفسك أي اعمل لها. قوله و معارف منتقله معارف الدار ما يعرفها المتوسم بها واحدها معرف مثل معاهد الدار و معالم الدار و منه معارف المرأة و هو ما يظهر منها كالوجه و اليدين و المنتقل بالفتح موضع الانتقال. قوله فطوبى هي فعلى من الطيب قلبوا الياء واوا للضمة قبلها و يقال طوبى لك و طوباك بالإضافة. و قول العامة طوبيك بالياء غير جائز. قوله لذي قلب سليم هو من ألفاظ الكتاب العزيز أي سليم من الغل و الشك. قوله أطاع من يهديه أي قبل مشورة الناصح الآمر له بالمعروف و الناهي له عن المنكر. و تجنب من يرديه أي يهلكه بإغوائه و تحسين القبيح له. و الباء في قوله ببصر من بصره متعلقة بأصاب. قوله قبل أن تغلق أبوابه أي قبل أن يحضره الموت فلا تقبل توبته. و الحوبة الإثم و إماطته إزالته و يجوز أمطت الأذى عنه و مطت الأذى عنه أي نحيته و منع الأصمعي منه إلا بالهمزة

(12/68)


شرح نهج البلاغة ج : 11 ص : 20884- و من دعاء كان يدعو به ع كثيراالْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يُصْبِحْ بِي مَيِّتاً وَ لَا سَقِيماً وَ لَا مَضْرُوباً عَلَى عُرُوقِي بِسُوءٍ وَ لَا مَأْخُوذاً بِأَسْوَإِ عَمَلِي وَ لَا مَقْطُوعاً دَابِرِي وَ لَا مُرْتَدّاً عَنْ دِينِي وَ لَا مُنْكِراً لِرَبِّي وَ لَا مُسْتَوْحِشاً مِنْ إِيمَانِي وَ لَا مُلْتَبِساً عَقْلِي وَ لَا مُعَذَّباً بِعَذَابِ الْأُمَمِ مِنْ قَبْلِي أَصْبَحْتُ عَبْداً مَمْلُوكاً ظَالِماً لِنَفْسِي لَكَ الْحُجَّةُ عَلَيَّ وَ لَا حُجَّةَ لِي وَ لَا أَسْتَطِيعُ أَنْ آخُذَ إِلَّا مَا أَعْطَيْتَنِي وَ لَا أَتَّقِيَ إِلَّا مَا وَقَيْتَنِي اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَفْتَقِرَ فِي غِنَاكَ أَوْ أَضِلَّ فِي هُدَاكَ أَوْ أُضَامَ فِي سُلْطَانِكَ أَوْ أُضْطَهَدَ وَ الْأَمْرُ لَكَ اللَّهُمَّ اجْعَلْ نَفْسِي أَوَّلَ كَرِيمَةٍ تَنْتَزِعُهَا مِنْ كَرَائِمِي وَ أَوَّلَ وَدِيعَةٍ تَرْتَجِعُهَا مِنْ وَدَائِعِ نِعَمِكَ عِنْدِي اللَّهُمَّ إِنَّا نَعُوذُ بِكَ أَنْ نَذْهَبَ عَنْ قَوْلِكَ أَوْ أَنْ نُفْتَتَنَ عَنْ دِينِكَ أَوْ تَتَتَابَعَ بِنَا أَهْوَاؤُنَا دُونَ الْهُدَى الَّذِي جَاءَ مِنْ عِنْدِكَ

(12/69)


شرح نهج البلاغة ج : 11 ص : 85قوله كثيرا منصوب بأنه صفة مصدر محذوف أي دعاء كثيرا و ميتا منصوب على الحال أي لم يفلق الصباح على ميتا و لا يجوز أن تكون يصبح ناقصة و يكون ميتا خبرها كما قال الراوندي لأن خبر كان و أخواتها يجب أن يكون هو الاسم أ لا ترى أنهما مدأ و خبر في الأصل و اسم يصبح ضمير الله تعالى و ميتا ليس هو الله سبحانه. قوله و لا مضروبا على عروقي بسوء أي و لا أبرص و العرب تكني عن البرص بالسوء و من أمثالهم ما أنكرك من سوء أي ليس إنكاري لك عن برص حدث بك فغير صورتك. و أراد بعروقه أعضاءه و يجوز أن يريد و لا مطعونا في نسبي و التفسير الأول أظهر. و لا مأخوذا بأسوإ عملي أي و لا معاقبا بأفحش ذنوبي. و لا مقطوعا دابري أي عقبي و نسلي و الدابر في الأصل التابع لأنه يأتي دبرا و يقال للهالك قد قطع الله دابره كأنه يراد أنه عفا أثره و محا اسمه قال سبحانه أَنَّ دابِرَ هؤُلاءِ مَقْطُوعٌ مُصْبِحِينَ. و لا مستوحشا أي و لا شاكا في الإيمان لأن من شك في عقيدة استوحش منها. و لا متلبسا عقلي أي و لا مختلطا عقلي لبست عليهم الأمر بالفتح أي خلطته و عذاب الأمم من قبل المسخ و الزلزلة و الظلمة و نحو ذلك. شرح نهج البلاغة ج : 11 ص : 86قه لك الحجة علي و لا حجة لي لأن الله سبحانه قد كلفه بعد تمكينه و إقداره و إعلامه قبح القبيح و وجوب الواجب و ترديد دواعيه إلى الفعل و تركه و هذه حجة الله تعالى على عباده و لا حجة للعباد عليه لأنه ما كلفهم إلا بما يطيقونه و لا كان لهم لطف في أمر إلا و فعله. قوله لا أستطيع أن آخذ إلا ما أعطيتني و لا أتقي إلا ما وقيتني أي لا أستطيع أن أرزق نفسي أمرا و لكنك الرزاق و لا أدفع عن نفسي محذورا من المرض و الموت إلا ما دفعته أنت عني. و قال الشاعر

(12/70)


لعمرك ما يدرى الفتى كيف يتقي نوائب هذا الدهر أم كيف يحذريرى الشي ء مما يتقى فيخافه و ما لا يرى مما يقي الله أكثرو قال عبد الله بن سليمان بن وهب
كفاية الله أجدى من توقينا و عادة الله في الأعداء تكفيناكاد الأعادي فما أبقوا و لا تركوا عيبا و طعنا و تقبيحا و تهجيناو لم نزد نحن في سر و في علن على مقالتنا الله يكفيناو كان ذاك و رد الله حاسدنا بغيظه لم ينل مأموله فينا
قوله ع أن أفتقر في غناك موضع الجار و المجرور نصب على الحال و في متعلقة بمحذوف و المعنى أن أفتقر و أنت الموصوف بالغنى الفائض على الخلق. و كذلك قوله أو أضل في هداك معناه أو أضل و أنت ذو الهداية العامة للبشر كافة و كذلك أو أضام في سلطانك كما يقول المستغيث إلى السلطان كيف أظلم في عدلك. شرح نهج البلاغة ج : 11 ص : 87و كذلك قوله أو أضطهد و الأمر لك أي و أنت الحاكم صاحب الأمر و الطاء في أضطهد هي تاء الافتعال و أصل الفعل ضهدت فلانا فهو مضهود أي قهرته و فلان ضهده لكل أحد أي كل من شاء أن يقهره فعل. قوله اللهم اجعل ني هذه الدعوة مثل دعوة رسول الله ص و هي
قوله اللهم متعنا بأسماعنا و أبصارنا و اجعله الوارث منا
أي لا تجعل موتنا متأخرا عن ذهاب حواسنا و
كان علي بن الحسين يقول في دعائه اللهم احفظ علي سمعي و بصري إلى انتهاء أجلي

(12/71)


و فسروا قوله ع و اجعله الوارث منا فقالوا الضمير في و اجعله يرجع إلى الإمتاع. فإن قلت كيف يتقى الإمتاع بالسمع و البصر بعد خروج الروح. قلت هذا توسع في الكلام و المراد لا تبلنا بالعمى و لا الصمم فنكون أحياء في الصورة و لسنا بأحياء في المعنى لأن من فقدهما لا خير له في الحياة فحملته المبالغة على أن طلب بقاءهما بعد ذهاب النفس إيذانا و إشعارا بحبه ألا يبلى بفقدهما. و نفتتن على ما لم يسم فاعله نصاب بفتنة تضلنا عن الدين و روي نفتتن بفتح حرف المضارعة على نفتعل افتتن الرجل أي فتن و لا يجوز أن يكون الافتتان متعديا كما ذكره الراوندي و لكنه قرأ في الصحاح للجوهري و الفتون الافتتان يتعدى و لا يتعدى فظن أن ذلك للافتتان و ليس كما ظن و إنما ذلك راجع إلى الفتون. و التتابع التهافت في اللجاج و الشر و لا يكون إلا في مثل ذلك و روي أو تتابع بطرح إحدى التاءات
شرح نهج البلاغة ج : 11 ص : 20988- و من خطبة له ع خطبها بصفينأَمَّا بَعْدُ فَقَدْ جَعَلَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ لِي عَلَيْكُمْ حَقّاً بِوِلَايَةِ أَمْرِكُمْ وَ لَكُمْ عَلَيَّ مِنَ الْحَقِّ مِثْلُ الَّذِي لِي عَلَيْكُمْ وَ الْحَقُّ أَوْسَعُ الْأَشْيَاءِ فِي التَّوَاصُفِ وَ أَضْيَقُهَا فِي التَّنَاصُفِ لَا يَجْرِي لِأَحَدٍ إِلَّا جَرَى عَلَيْهِ وَ لَا يَجْرِي عَلَيْهِ إِلَّا جَرَى لَهُ وَ لَوْ كَانَ لِأَحَدٍ أَنْ يَجْرِيَ لَهُ وَ لَا يَجْرِيَ عَلَيْهِ لَكَانَ ذَلِكَ خَالِصاً لِلَّهِ سُبْحَانَهُ دُونَ خَلْقِهِ لِقُدْرَتِهِ عَلَى عِبَادِهِ وَ لِعَدْلِهِ فِي كُلِّ مَا جَرَتْ عَلَيْهِ صُرُوفُ قَضَائِهِ وَ لَكِنَّهُ سُبْحَانَهُ جَعَلَ حَقَّهُ عَلَى الْعِبَادِ أَنْ يُطِيعُوهُ وَ جَعَلَ جَزَاءَهُمْ عَلَيْهِ مُضَاعَفَةَ الثَّوَابِ تَفَضُّلًا مِنْهُ وَ تَوَسُّعاً بِمَا هُوَ مِنَ الْمَزِيدِ أَهْلُهُ

(12/72)


الذي له عليهم من الحق هو وجوب طاعته و الذي لهم عليه من الحق هو وجوب معدلته فيهم و الحق أوسع الأشياء في التواصف و أضيقها في التناصف معناه أن كل أحد يصف الحق و العدل و يذكر حسنه و وجوبه و يقول لو وليت لعدلت فهو بالوصف باللسان وسيع و بالفعل ضيق لأن ذلك العالم العظيم الذين كانوا يتواصفون حسنه و يعدون أن لو ولوا باعتماده و فعله لا تجد في الألف منهم واحدا لو ولي لعدل و لكنه قول بغير عمل. شرح نهج البلاغة ج : 11 ص : 89ثم عاد إلى تقرير الكلام الأول و هو وجوب الحق له و عليه فقال إنه لا يجري لأحد إلا و جرى عليه و كذ لا يجري عليه إلا و جرى له أي ليس و لا واحد من الموجودين بمرتفع عن أن يجري الحق عليه و لو كان أحد من الموجودين كذلك لكان أحقهم بذلك البارئ سبحانه لأنه غاية الشرف بل هو فوق الشرف و فوق الكمال و التمام و هو مالك الكل و سيد الكل فلو كان لجواز هذه القضية وجه و لصحتها مساغ لكان البارئ تعالى أولى بها و هي ألا يستحق عليه شي ء و تقدير الكلام لكنه يستحق عليه أمور فهو في هذا الباب كالواحد منا يستحق و يستحق عليه و لكنه ع حذف هذا الكلام المقدر أدبا و إجلالا لله تعالى أن يقول إنه يستحق عليه شي ء. فإن قلت فما بال المتكين لا يتأدبون بأدبه ع و كيف يطلقون عليه تعالى الوجوب و الاستحقاق. قلت ليست وظيفة المتكلمين وظيفة أمير المؤمنين ع في عباراتهم هؤلاء أرباب صناعة و علم يحتاج إلى ألفاظ و اصطلاح لا بد لهم من استعماله للإفهام و الجدل بينهم و أمير المؤمنين إمام يخطب على منبره يخاطب عربا و رعية ليسوا من أهل النظر و لا مخاطبته لهم لتعليم هذا العلم بل لاستنفارهم إلى حرب عدوه فوجب عليه بمقتضى الأدب أن يتوقى كل لفظة توهم ما يستهجنه السامع في الأمور الإلهية و في غيرها. فإن قلت فما هذه الأمور التي زعمت أنها تستحق على البارئ سبحانه و أن أمير المؤمنين ع حذفها من اللفظ و اللفظ يقتضيها. قلت الثواب و العوض

(12/73)


و قبول التوبة و اللطف و الوفاء بالوعد و الوعيد و غير ذلك مما يذكره أهل العدل. شرح نهج البلاغة ج : 11 ص : 90فإن قلت فما معنى قوله لكان ذلك خالصا لله سبحانه دون خلقه لقدرته على عباده و لعدلفي كل ما جرت عليه صروف قضائه و هب أن تعليل عدم استحقاق شي ء على الله تعالى بقدرته على عباده صحيح كيف يصح تعليل ذلك بعدله في كل ما جرت عليه صروف قضائه أ لا ترى أنه ليس بمستقيم أن تقول لا يستحق على البارئ شي ء لأنه عادل و إنما المستقيم أن تقول لا يستحق عليشي ء لأنه مالك و لذلك عللت الأشعرية هذا الحكم بأنه مالك الكل و الاستحقاق إنما يكون على من دونه. قلت التعليل صحيح و هو أيضا مما عللت به الأشعرية مذهبها و ذلك لأنه إنما يتصور الاستحقاق على الفاعل المختار إذا كان ممن يتوقع منه أو يصح منه أن يظلم فيمكن حينئذ ن يقال قد وجب عليه كذا و استحق عليه كذا فأما من لا يمكن أن يظلم و لا يتصور وقوع الظلم منه و لا الكذب و لا خلف الوعد و الوعيد فلا معنى لإطلاق الوجوب و الاستحقاق عليه كما لا يقال كذا الداعي الخالص يستحق عليه أن يفعل ما دعاه إليه الداعي و يجب عليه أن يفعل ما دعاه إليه الداعي مثل الهارب من الأسد و الشديد العطش إذا وجد الماء و نحو ذلك. فإن قلت أ ليس يشعر قوله ع و جعل جزاءهم عليه مضاعفة الثواب تفضلا منه بمذهب البغداديين من أصحابكم و هو قولهم إن الثواب تفضل من الله سبحانه و ليس بواجب. قلت لا و ذلك لأنه جعل المتفضل به هو مضاعفة الثواب لا أصل الثواب و ليس ذلك بمستنكر عندنا. فإن قلت أ يجوز عندكم أن يستحق المكلف عشرة أجزاء من الثواب فيعطى عشرين جزءا منه أ ليس من مذهبكم أن التعظيم و التبجيل لا يجوز من البارئ سبحانه أن يفعلهما

(12/74)


شرح نهج البلاغة ج : 11 ص : 91في الجنة إلا على قدر الاستحقاق و الثواب عندكم هو النفع المقارن للتعظيم و التبجيل فيكف قلت إن مضاعفة الثواب عندنا جائزة. قلت مراده ع بمضاعفة الثواب هنا زيادة غير مستحقة من النعيم و اللذة الجسمانية خاصة في الجنة فسمى تلك اللذةلجسمانية ثوابا لأنها جزء من الثواب فأما اللذة العقلية فلا يجوز مضاعفتها. قوله ع بما هو من المزيد أهله أي بما هو أهله من المزيد فقدم الجار و المجرور و موضعه نصب على الحال و فيه دلالة على أن حال المجرور تتقدم عليه كما قال الشاعر
لئن كان برد الماء حران صاديا إلي حبيبا إنها لحبيب

(12/75)


ثُمَّ جَعَلَ سُبْحَانَهُ مِنْ حُقُوقِهِ حُقُوقاً افْتَرَضَهَا لِبَعْضِ النَّاسِ عَلَى بَعْضٍ فَجَعَلَهَا تَتَكَافَأُ فِي وُجُوهِهَا وَ يُوجِبُ بَعْضُهَا بَعْضاً وَ لَا يُسْتَوْجَبُ بَعْضُهَا إِلَّا بِبَعْضٍ. وَ أَعْظَمُ مَا افْتَرَضَ سُبْحَانَهُ مِنْ تِلْكَ الْحُقُوقِ حَقُّ الْوَالِي عَلَى الرَّعِيَّةِ وَ حَقُّ الرَّعِيَّةِ عَلَى الْوَالِي فَرِيضَةٌ فَرَضَهَا اللَّهُ سُبْحَانَهُ لِكُلٍّ عَلَى كُلٍّ فَجَعَلَهَا نِظَاماً لِأُلْفَتِهِمْ وَ عِزّاً لِدِينِهِمْ فَلَيْسَتْ تَصْلُحُ الرَّعِيَّةُ إِلَّا بِصَلَاحِ الْوُلَاةِ وَ لَا تَصْلُحُ الْوُلَاةُ إِلَّا بِاسْتِقَامَةِ الرَّعِيَّةِ فَإِذَا أَدَّتْ الرَّعِيَّةُ إِلَى الْوَالِي حَقَّهُ وَ أَدَّى الْوَالِي إِلَيْهَا حَقَّهَا عَزَّ الْحَقُّ بَيْنَهُمْ وَ قَامَتْ مَنَاهِجُ الدِّينِ وَ اعْتَدَلَتْ مَعَالِمُ الْعَدْلِ وَ جَرَتْ عَلَى أَذْلَالِهَا السُّنَنُ فَصَلَحَ بِذَلِكَ الزَّمَانُ وَ طُمِعَ فِي بَقَاءِ الدَّوْلَةِ وَ يَئِسَتْ مَطَامِعُ الْأَعْدَاءِ. شرح نهج البلاغة ج : 11 ص : 92وَ إِذَا غَلَبَتِ الرَّعِيَّةُ وَالِيَهَا أَوْ أَجْحَفَ الْوَالِي بِرَعِيَّتِهِ اخْتَلَفَ هُنَالِكَ الْكَلِمَةُ وَ ظَهَرَتْ مَعَالِمُ الْجَوْرِ وَ كَثُرَ الْإِدْغَالُ فِي الدِّينِ وَ تَرَكَتْ مَحَاجُّ السُّنَنِ فَعُمِلَ بِالْهَوَى وَ عُطِّلَتِ الْأَحْكَامُ وَ كَثُرَتْ عِلَلُ النُّفُوسِ فَلَا يُسْتَوْحَشُ لِعَظِيمِ حَقٍّ عُطِّلَ وَ لَا لِعَظِيمِ بَاطِلٍ فُعِلَ فَهُنَالِكَ تَذِلُّ الْأَبْرَارُ وَ تَعِزُّ الْأَشْرَارُ وَ تَعْظُمُ تَبِعَاتُ اللَّهِ سُبْحَانَهُ عِنْدَ الْعِبَادِ. فَعَلَيْكُمْ بِالتَّنَاصُحِ فِي ذَلِكَ وَ حُسْنِ التَّعَاوُنِ عَلَيْهِ فَلَيْسَ أَحَدٌ وَ إِنِ اشْتَدَّ عَلَى رِضَا اللَّهِ حِرْصُهُ وَ طَالَ فِي الْعَمَلِ اجْتِهَادُهُ بِبَالِغٍ

(12/76)


حَقِيقَةَ مَا اللَّهُ سُبْحَانَهُ أَهْلُهُ مِنَ الطَّاعَةِ لَهُ وَ لَكِنْ مِنْ وَاجِبِ حُقُوقِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ عَلَى عِبَادِهِ النَّصِيحَةُ بِمَبْلَغِ جُهْدِهِمْ وَ التَّعَاوُنُ عَلَى إِقَامَةِ الْحَقِّ بَيْنَهُمْ وَ لَيْسَ امْرُؤٌ وَ إِنْ عَظُمَتْ فِي الْحَقِّ مَنْزِلَتُهُ وَ تَقَدَّمَتْ فِي الدِّينِ فَضِيلَتُهُ بِفَوْقِ أَنْ يُعَانَ عَلَى مَا حَمَّلَهُ مِنْ حَقِّهِ وَ لَا امْرُؤٌ وَ إِنْ صَغَّرَتْهُ النُّفُوسُ وَ اقْتَحَمَتْهُ الْعُيُونُ بِدُونِ أَنْ يُعِينَ عَلَى ذَلِكَ أَوْ يُعَانَ عَلَيْهِ
تتكافأ في وجوهها تتساوى و هي حق الوالي على الرعية و حق الرعية على الوالي. و فريضة قد روي بالنصب و بالرفع فمن رفع فخبر مبتدإ محذوف و من نصب فبإضمار فعل أو على الحال. و جرت على أذلالها السنن بفتح الهمزة أي على مجاريها و طرقها. و أجحف الوالي برعيته ظلمهم. و الإدغال في الدين الفساد. شرح نهج البلاغة ج : 11 ص : 93و محاج السنن جمع محجة و هي جادة الطريق. قوله و كثرت علل النفوس أي تعللها بالباطل و من كلام الحجاج إياكم و علل النفوس فإنها أدوى لكم من علل الأجساد. و اقتحمته العيون احتقرته و ازدرته قال ابن دريدو منه ما تقتحم العين فإن ذقت جناه ساغ عذبا في اللها
و مثل قوله ع و ليس امرؤ و إن عظمت في الحق منزلته قول زيد بن علي ع لهشام بن عبد الملك إنه ليس أحد و إن عظمت منزلته بفوق أن يذكر بالله و يحذر من سطوته و ليس أحد و إن صغر بدون أن يذكر بالله و يخوف من نقمته. و مثل قوله ع و إذا غلبت الرعية واليها قول الحكماء إذا علا صوت بعض الرعية على الملك فالملك مخلوع فإن قال نعم فقال أحد من الرعية لا فالملك مقتول
فصل فيما ورد من الآثار فيما يصلح الملك
و قد جاء في وجوب الطاعة لأولي الأمر الكثير الواسع قال الله سبحانه أَطِيعُوا اللَّهَ وَ أَطِيعُوا الرَّسُولَ وَ أُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ و

(12/77)


روى عبد الله بن عمر عن رسول الله ص السمع و الطاعة على المرء شرح نهج البلاغة ج : 11 ص : 94المسلم فيما أحب و كره ما لم يؤمر بمعصية فإذا أمر بها فلا سمع و لا طاعةو عنه ص إن أمر عليكم عبد أسود مجدع فاسمعوا له و أطيعوا
و من كلام علي ع إن الله جعل الطاعة غنيمة الأكياس عند تفريط الفجرة
بعث سعد بن أبي وقاص جرير بن عبد الله البجلي من العراق إلى عمر بن الخطاب بالمدينة فقال له عمر كيف تركت الناس قال تركتهم كقداح الجعبة منها الأعصل الطائش و منها القائم الرائش قال فكيف سعد لهم قال هو ثقافها الذي يقيم أودها و يغمز عصلها قال فكيف طاعتهم قال يصلون الصلاة لأوقاتها و يؤدون الطاعة إلى ولاتها قال الله أكبر إذا أقيمت الصلاة أديت الزكاة و إذا كانت الطاعة كانت الجماعة. و من كلام أبرويز الملك أطع من فوقك يطعك من دونك. و من كلام الحكماء قلوب الرعية خزائن واليها فما أودعه فيها وجده. و كان يقال صنفان متباغضان متنافيان السلطان و الرعية و هما مع ذلك متلازمان إن أصلح أحدهما صلح الآخر و إن فسد فسد الآخر. و كان يقال محل الملك من رعيته محل الروح من الجسد و محل الرعية منه محل الجسد من الروح فالروح تألم بألم كل عضو من أعضاء البدن و ليس كل واحد من الأعضاء يألم بألم غيره و فساد الروح فساد جميع البدن و قد يفسد بعض البدن و غيره من سائر البدن صحيح. شرح نهج البلاغة ج : 11 ص : 95و كان يقال ظلم الرعية استجلاب البلية. و كان يقال العجب ممن استفسد رعيته و هو يعلم أن عزه بطاعتهم. و كان يقال موت الملك الجائر خصب شامل. و كان يقالا قحط أشد من جور السلطان. و كان يقال قد تعامل الرعية المشمئزة بالرفق فتزول أحقادها و يذل قيادها و قد تعامل بالخرق فتكاشف بما غيبت و تقدم على ما عيبت حتى يعود نفاقها شقاقا و رذاذها سيلا بعاقا ثم إن غلبت و قهرت فهو الدمار و إن غلبت و قهرت لم يكن يغلبها افتخار و لم يدرك بقهرها ثأر و كان يقال

(12/78)


الرعية و إن كانت ثمارا مجتناه و ذخائر مقتناه و سيوفا منتضاه و أحراسا مرتضاه فإن لها نفارا كنفار الوحوش و طغيانا كطغيان السيول و متى قدرت أن تقول قدرت على أن تصول. و كان يقال أيدي الرعية تبع ألسنتها فلن يملك الملك ألسنتها حتى يملك جسومها و لن يملك جسومها حتى يملك قلوبها فتحبه و لن تحبه حتى يعدل عليها في أحكامه عدلا يتساوى فيه الخاصة و العامة و حتى يخفف عنها المؤن و الكلف و حتى يعفيها من رفع أوضاعها و أراذلها عليها و هذه الثالثة تحقد على الملك العلية من الرعية و تطمع السفلة في الرتب السنية. و كان يقال الرعية ثلاثة أصناف صنف فضلاء مرتاضون بحكم الرئاسة و السياسة يعلمون فضيلة الملك و عظيم غنائه و يرثون له من ثقل أعبائه فهؤلاء يحصل الملك موداتهم بالبشر عند اللقاء و يلقى أحاديثهم بحسن الإصغاء و صنف فيهم خير و شر ظاهران فصلاحهم يكتسب من معاملتهم بالترغيب و الترهيب و صنف من السفلة الرعاع أتباع لكل داع لا يمتحنون في أقوالهم و أعمالهم بنقد و لا يرجعون في الموالاة إلى عقد. و كان يقال ترك المعاقبة للسفلة على صغار الجرائم تدعوهم إلى ارتكاب الكبائر العظائم أ لا ترى أول نشور المرأة كلمة سومحت بها و أول حران الدابة حيدة سدت عليها. و يقال إن عثمان قال يوما لجلسائه و هو محصور في الفتنة وددت أن رجلا صدوقا أخبرني عن نفسي و عن هؤلاء فقام إليه فتى فقال إني أخبرك تطأطأت لهم فركبوك و ما جراهم على ظلمك إلا إفراط حلمك قال صدقت فهل تعلم ما يشب نيران الفتن قال نعم سألت عن ذلك شيخا من تنوخ كان باقعة قد نقب في الأرض و علم علما جما فقال الفتنة يثيرها أمران أثرة تضغن على الملك الخاصة و حلم يجزئ عليه العامة قال فهل سألته عما يخمدها قال نعم زعم أن الذي يخمدها في ابتدائها استقالة العثرة و تعميم الخاصة بالأثرة فإذا استحكمت الفتنة أخمدها الصبر قال عثمان صدقت و إني لصابر حتى يحكم الله بيننا و هو خير الحاكمين و

(12/79)


يقال إن يزدجرد بن بهرام سأل حكيما ما صلاح الملك قال الرفق بالرعية و أخذ الحق منها بغير عنف و التودد إليها بالعدل و أمن السبل و إنصاف المظلوم قال فما صلاح الملك قال وزراؤه إذا صلحوا صلح قال فما الذي يثير الفتن قال ضغائن يظهرها جرأة عامه و استخفاف خاصة و انبساط الألسن بضمائر القلوب و إشفاق موسر و أمن معسر و غفلة مرزوق و يقظة محروم قال و ما يسكنها قال أخذ العدة لما يخاف و إيثار الجد حين يلتذ الهزل و العمل بالحزم و ادراع الصبر و الرضا بالقضاء. و كان يقال خير الملوك من أشرب قلوب رعيته محبته كما أشعرها هيبته و لن ينال ذلك منها حتى تظفر منه بخمسه أشياء إكرام شريفها و رحمة ضعيفها و إغاثة لهيفها شرح نهج البلاغة ج : 11 ص : 97و كف عدوان عدوها و تأمين سبل رواحها و غدوها فمتى أعدمها شيئا من ذلك فقد أحقد بقدر ما أفقدها. و كان يقال الأسباب التي تجر الهلك إلى الملك ثلاثة أحدها من جهة الملك و هو أن تتأمر شهواته على عقله فتستهويه نشوات الشهوات فلا تسنح له لذة إلا اقتنصها و لا راحة إلا افترصها. و الثاني من جهة الوزراء و هو تحاسدهم المقتضي تعارض الآراء فلا يسبق أحدهم إلى حق إلا كويد و عورض و عوند. و الثالث من جهة الجند المؤهلين لحراسة الملك و الدين و توهين المعاندين و هو نكولهم عن الجلاد و تضجيعهم في المناصحة و الجهاد و هم صنفان صنف وسع الملك عليهم فأبطرهم الإتراف و ضنوا بنفوسهم عن التعريض للإتلاف و صنف قدر عليهم الأرزاق فاضطغنوا الأحقاد و استشعروا النفاق
الآثار الواردة في العدل و الإنصاف
قوله ع أو أجحف الوالي برعيته قد جاء من نظائره الكثير جدا و قد ذكرنا فيما تقدم نكتا حسنة في مدح العدل و الإنصاف و ذم الظلم و الإجحاف و
قال النبي ص زين الله السماء بثلاثة الشمس و القمر و الكواكب و زين الأرض بثلاثة العلماء و المطر و السلطان العادل

(12/80)


و كان يقال إذا لم يعمر الملك ملكه بإنصاف الرعية خرب ملكه بعصيان الرعية. و قيل لأنوشروان أي الجنن أوقى قال الدين قيل فأي العدد أقوى قال العدل. شرح نهج البلاغة ج : 11 ص : 98وقع جعفر بن يحيى إلى عامل من عماله كثر شاكوك و قل حامدوك فإما عدلت و إما اعتزلت. وجفي خزانة بعض الأكاسرة سفط ففتح فوجد فيه حب الرمان كل حبة كالنواة الكبيرة من نوى المشمش و في السفط رقعة فيها هذا حب رمان عملنا في خراجه بالعدل. جاء رجل من مصر إلى عمر بن الخطاب متظلما فقال يا أمير المؤمنين هذا مكان العائذ بك قال له عذت بمعاذ ما شأنك قال سابقت ولد عمرو بن العاص بمصر فسبقته فجعل يعنفني بسوطه و يقول أنا ابن الأكرمين و بلغ أباه ذلك فحبسني خشية أن أقدم عليك فكتب إلى عمرو إذا أتاك كتابي هذا فاشهد الموسم أنت و ابنك فلما قدم عمرو و ابنه دفع الدرة إلى المصري و قال اضربه كما ضربك فجعل يضربه و عمر يقول اضرب ابن الأمير اضرب ابن الأمير يرددها حتى قال يا أمير المؤمنين قد استقدت منه فقال و أشار إلى عمرو ضعها على صلعته فقال المصري يا أمير المؤمنين إنما أضرب من ضربني فقال إنما ضربك بقوة أبيه و سلطانه فاضربه إن شئت فو الله لو فعلت لما منعك أحد منه حتى تكون أنت الذي تتبرع بالكف عنه ثم قال يا ابن العاص متى تعبدتم الناس و قد ولدتهم أمهاتهم أحرار. خطب الإسكندر جنده فقال لهم بالرومية كلاما تفسيره يا عباد الله إنما إلهكم الله الذي في السماء الذي نصرنا بعد حين الذي يسقيكم الغيث عند الحاجة و إليه مفزعكم عند الكرب و الله لا يبلغني إن الله أحب شيئا إلا أحببته و عملت به إلى يوم أجلي و لا يبلغني أنه أبغض شيئا إلا أبغضته و هجرته إلى يوم أجلي و قد أنبئت أن الله يحب العدل في عباده و يبغض الجور فويل للظالم من سوطي و سيفي و من ظهر منه شرح نهج البلاغة ج : 11 ص : 99العدل من عمالفليتكئ في مجلسي كيف شاء و ليتمن على ما شاء فلن تخطئه أمنيته و الله

(12/81)


المجازي كلا بعمله. قال رجل لسليمان بن عبد الملك و هو جالس للمظالم يا أمير المؤمنين أ لم تسمع قول الله تعالى فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَنْ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ قال ما خطبك قال وكيلك اغتصبني ضيعتي و ضمها إلى ضيعتك الفلانية قال فإن ضيعتي لك و ضيعتك مردودة إليك ثم كتب إلى الوكيل بذلك و بصرفه عن عمله. و رقى إلى كسرى قباذ أن في بطانة الملك قوما قد فسدت نياتهم و خبثت ضمائرهم لأن أحكام الملك جرت على بعضهم لبعضهم فوقع في الجواب أنا أملك الأجساد لا النيات و أحكم بالعدل لا بالهوى و أفحص عن الأعمال لا عن السرائر. و تظلم أهل الكوفة إلى المأمون من واليهم فقال ما علمت في عمالي أعدل و لا أقوم بأمر الرعية و لا أعود بالرفق منه فقال له منهم واحد فلا أحد أولى منك يا أمير المؤمنين بالعدل و الإنصاف و إذا كان بهذه الصفة فمن عدل أمير المؤمنين أن يوليه بلدا بلدا حتى يلحق أهل كل بلد من عدله مثل ما لحقنا منه و يأخذوا بقسطهم منه كما أخذ منه سواهم و إذا فعل أمير المؤمنين ذلك لم يصب الكوفة منه أكثر من ثلاث سنين فضحك و عزله. كتب عدي بن أرطاة إلى عمر بن عبد العزيز أما بعد فإن قبلنا قوما لا يؤدون الخراج إلا أن يمسهم نصب من العذاب فاكتب إلى أمير المؤمنين برأيك فكتب أما بعد فالعجب لك كل العجب تكتب إلي تستأذنني في عذاب البشر كأن إذني لك جنة من عذاب الله أو كان رضاي ينجيك من سخط الله فمن أعطاك ما عليه عفوا

(12/82)


شرح نهج البلاغة ج : 11 ص : 100فخذ منه و من أبى فاستحلفه و كله إلى الله فلأن يلقوا الله بجرائمهم أحب إلي من أن ألقاه بعذابهم. فضيل بن عياض ما ينبغي أن تتكلم بفيك كله أ تدري من كان يتكلم بفيه كله عمر بن الخطاب كان يعدل في رعيته و يجور على نفسه و يطعمهم الب و يأكل الغليظ و يكسوهم اللين و يلبس الخشن و يعطيهم الحق و يزيدهم و يمنع ولده و أهله أعطى رجلا عطاءه أربعة آلاف درهم ثم زاده ألفا فقيل له أ لا تزيد ابنك عبد الله كما تزيد هذا فقال إن هذا ثبت أبوه يوم أحد و إن عبد الله فر أبوه و لم يثبت. و كان يقال لا يكون العمران إلا حيث يعدل السلطان. و كان يقال العدل حصن وثيق في رأس نيق لا يحطمه سيل و لا يهدمه منجنيق. وقع المأمون إلى عامل كثر التظلم منه أنصف من وليت أمرهم و إلا أنصفهم منك من ولي أمرك. بعض السلف العدل ميزان الله و الجور مكيال الشيطان

(12/83)


شرح نهج البلاغة ج : 11 ص : 210101فَأَجَابَهُ ع رَجُلٌ مِنْ أَصْحَابِهِ بِكَلَامٍ طَوِيلٍ يَكْثُرُ فِيهِ الثَّنَاءُ عَلَيْهِ وَ يَذْكُرُ سَمْعَهُ وَ طَاعَتَهُ لَهُ فَقَالَ ع إِنَّ مِنْ حَقِّ مَنْ عَظُمَ جَلَالُ اللَّهِ سُبْحَانَهُ فِي نَفْسِهِ وَ جَلَّ مْضِعُهُ مِنْ قَلْبِهِ أَنْ يَصْغُرَ عِنْدَهُ لِعِظَمِ ذَلِكَ كُلُّ مَا سِوَاهُ وَ إِنَّ أَحَقَّ مَنْ كَانَ كَذَلِكَ لَمَنْ عَظُمَتْ نِعْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَ لَطُفَ إِحْسَانُهُ إِلَيْهِ فَإِنَّهُ لَمْ تَعْظُمْ نِعْمَةُ اللَّهِ عَلَى أَحَدٍ إِلَّا ازْدَادَ حَقُّ اللَّهِ عَلَيْهِ عِظَماً وَ إِنَّ مِنْ أَسْخَفِ حَالَاتِ الْوُلَاةِ عِنْدَ صَالِحِ النَّاسِ أَنْ يُظَنَّ بِهِمْ حُبُّ الْفَخْرِ وَ يُوضَعَ أَمْرُهُمْ عَلَى الْكِبْرِ وَ قَدْ كَرِهْتُ أَنْ يَكُونَ جَالَ فِي ظَنِّكُمْ أَنِّي أُحِبُّ الْإِطْرَاءَ وَ اسْتِمَاعَ الثَّنَاءِ وَ لَسْتُ بِحَمْدِ اللَّهِ كَذَلِكَ وَ لَوْ كُنْتُ أُحِبُّ أَنْ يُقَالَ ذَلِكَ لَتَرَكْتُهُ انْحِطَاطاً لِلَّهِ سُبْحَانَهُ عَنْ تَنَاوُلِ مَا هُوَ أَحَقُّ بِهِ مِنَ الْعَظَمَةِ وَ الْكِبْرِيَاءِ وَ رُبَّمَا اسْتَحْلَى النَّاسُ الثَّنَاءَ بَعْدَ الْبَلَاءِ فَلَا تُثْنُوا عَلَيَّ بِجَمِيلِ ثَنَاءٍ لِإِخْرَاجِي نَفْسِي إِلَى اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَ إِلَيْكُمْ مِنَ الْبَقِيَّةِ فِي حُقُوقٍ لَمْ أَفْرُغْ مِنْ أَدَائِهَا وَ فَرَائِضَ لَا بُدَّ مِنْ إِمْضَائِهَا فَلَا تُكَلِّمُونِي بِمَا تُكَلَّمُ بِهِ الْجَبَابِرَةُ وَ لَا تَتَحَفَّظُوا بِمَا يُتَحَفَّظُ بِهِ عِنْدَ أَهْلِ الْبَادِرَةِ وَ لَا تُخَالِطُونِي بِالْمُصَانَعَةِ وَ لَا تَظُنُّوا بِي اسْتِثْقَالًا فِي حَقٍّ قِيلَ لِي وَ لَا الْتِمَاسَ إِعْظَامٍ لِنَفْسِي فَإِنَّهُ مَنِ اسْتَثْقَلَ الْحَقَّ أَنْ يُقَالَ لَهُ أَوِ الْعَدْلَ أَنْ يُعْرَضَ عَلَيْهِ

(12/84)


كَانَ الْعَمَلُ بِهِمَا أَثْقَلَ عَلَيْهِ شرح نهج البلاغة ج : 11 ص : 102فَلَا تَكُفُّوا عَنْ مَقَالَةٍ بِحَقٍّ أَوْ مَشُورَةٍ بِعَدْلٍ فَإِنِّي لَسْتُ فِي نَفْسِي بِفَوْقِ أَنْ أُخْطِئَ وَ ل آمَنُ ذَلِكَ مِنْ فِعْلِي إِلَّا أَنْ يَكْفِيَ اللَّهُ مِنْ نَفْسِي مَا هُوَ أَمْلَكُ بِهِ مِنِّي فَإِنَّمَا أَنَا وَ أَنْتُمْ عَبِيدٌ مَمْلُوكُونَ لِرَبٍّ لَا رَبَّ غَيْرُهُ يَمْلِكُ مِنَّا مَا لَا نَمْلِكُ مِنْ أَنْفُسِنَا وَ أَخْرَجَنَا مِمَّا كُنَّا فِيهِ إِلَى مَا صَلَحْنَا عَلَيْهِ فَأَبْدَلَنَا بَعْدَ الضَّلَالَةِ بِالْهُدَى وَ أَعْطَانَا الْبَصِيرَةَ بَعْدَ الْعَمَى
هذا الفصل و إن لم يكن فيه ألفاظ غريبة سبيلها أن تشرح ففيه معان مختلفة سبيلها أن تذكر و توضح و تذكر نظائرها و ما يناسبها. فمنها قوله ع إن من حق من عظمت نعمة الله عليه أن تعظم عليه حقوق الله تعالى و أن يعظم جلال الله تعالى في نفسه و من حق من كان كذلك أن يصغر عنده كل ما سوى الله. و هذا مقام جليل من مقامات العارفين و هو استحقار كل ما سوى الله تعالى و ذلك أن من عرف الله تعالى فقد عرف ما هو أعظم من كل عظيم بل لا نسبة لشي ء من الأشياء أصلا إليه سبحانه فلا يظهر عند العارف عظمة غيره البتة كما أن من شاهد الشمس المنية يستحقر ضوء القمر و السراج الموضوع في ضوء الشمس حال مشاهدته جرم الشمس بل لا تظهر له في تلك الحال صنوبرة السراج و لا تنطبع صورتها في بصره. و منها قوله ع من أسخف حالات الولاة أن يظن بهم حب الفخر و يوضع شرح نهج البلاغة ج : 11 ص : 103أمرهم على الكبر قال النبي ص لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال حبة من كبر
و قال ص لو لا ثلاث مهلكات لصلح الناس شح مطاع و هوى متبع و إعجاب المرء بنفسه

(12/85)


و كان يقال ليس لمعجب رأي و لا لمتكبر صديق. و كان أبو مسلم صاحب الدولة يقول ما تاه إلا وضيع و لا فاخر إلا لقيط و لا تعصب إلا دخيل. و قال عمر لبعض ولده التمس الرفعة بالتواضع و الشرف بالدين و العفو من الله بالعفو عن الناس و إياك و الخيلاء فتضع من نفسك و لا تحقرن أحدا لأنك لا تدري لعل من تزدريه عيناك أقرب إلى الله وسيلة منك. و منها قوله ع قد كرهت أن تظنوا بي حب الإطراء و استماع الثناء قد
روي عن النبي ص أنه قال احثوا في وجوه المداحين التراب

(12/86)


و قال عمر المدح هو الذبح. و كان يقال إذا سمعت الرجل يقول فيك من الخير ما ليس فيك فلا تأمن أن يقول فيك من الشر ما ليس فيك. و يقال إن في بعض الكتب المنزلة القديمة عجبا لمن قيل فيه الخير و ليس فيه كيف يفرح و لمن قيل فيه الشر و ليس فيه كيف يغضب و أعجب من ذلك من أحب نفسه على اليقين و أبغض الناس على الظن. و كان يقال لا يغلبن جهل غيرك بك علمك بنفسك. و قال رجل لعبد الملك إني أريد أن أسر إليك يا أمير المؤمنين شيئا فقال لمن حوله شرح نهج البلاغة ج : 11 ص : 104إذا شئتم فانهضوا فتقدم الرجل يريد الكلام فقال له عبد الملقف لا تمدحني فإني أعلم بنفسي منك و لا تكذبني فإنه لا رأي لمكذوب و لا تغتب عندي أحدا فإني أكره الغيبة قال أ فيأذن أمير المؤمنين في الانصراف قال إذا شئت. و ناظر المأمون محمد بن القاسم النوشجاني في مسألة كلامية فجعل النوشجاني يخضع في الكلام و يستخذي له فقال يا محمد أراك تنقاد إلى ما أقوله قبل وجوب الحجة لي عليك و قد ساءني منك ذلك و لو شئت أن أفسر الأمور بعزة الخلافة و هيبة الرئاسة لصدقت و إن كنت كاذبا و عدلت و إن كنت جائرا و صوبت و إن كنت مخطئا و لكني لا أقنع إلا بإقامة الحجة و إزالة الشبهة و إن أنقص الملوك عقلا و أسخفهم رأيا من رضي بقولهم صدق الأمير. و قال عبد الله بن المقفع في اليتيمة إياك إذا كنت واليا أن يكون من شأنك حب المدح و التزكية و أن يعرف الناس ذلك منك فتكون ثلمة من الثلم يقتحمون عليك منها و بابا يفتتحونك منه و غيبة يغتابونك بها و يسخرون منك لها و اعلم أن قابل المدح كمادح نفسه و أن المرء جدير أن يكون حبه المدح هو الذي يحمله على رده فإن الراد له ممدوح و القابل له معيب. و قال معاوية لرجل من سيد قومك قال أنا قال لو كنت كذلك لم تقله. و قال الحسن ذم الرجل نفسه في العلانية مدح لها في السر. كان يقال من أظهر عيب نفسه فقد زكاها. و منها قوله ع لو كنت كذلك لتركته انحطاطا لله

(12/87)


تعالى عن تناول ما هو أحق به من الكبرياء
في الحديث المرفوع من تواضع لله رفعه الله و من تكبر خفضه الله
شرح نهج البلاغة ج : 11 ص : 105و فيه أيضا العظمة إزاري و الكبرياء ردائي فمن نازعني فيهما قصمته. و منها قوله ع فلا تكلموني بما تكلم به الجبابرة و لا تتحفظوا مني بما يتحفظ به عند أهل البادرة. أحسن ما سمعته في سلطان لا تخاف الرعية بادرته و لا يتلجلج المتحاكن عنده مع سطوته و قوته لإيثاره العدل قول أبي تمام في محمد بن عبد الملك
وزير حق و والي شرطة و رحى ديوان ملك و شيعي و محتسب كالأرحبي المذكي سيره المرطى و الوخد و الملع و التقريب و الخبب عود تساجله أيامه فبها من مسه و به من مسها جلب ثبت الخطاب إذا اصطكت بمظلمة في رحله ألسن الأقوام و الر شرح نهج البلاغة ج : 11 ص : 106لا المنطق اللغو يزكو في مقاومه يوما و لا حجة الملهوف تستلب كأنما هو في نادي قبيلته لا القلب يهفو و لا الأحشاء تضطو من هذا المعنى قول أبي الجهم العدوي في معاوية
نقلبه لنخبر حالتيه فنخبر منهما كرما و لينانميل على جوانبه كأنا إذا ملنا نميل على أبينا

(12/88)


و منها قوله ع لا تظنوا بي استثقال رفع الحق إلي فإنه من استثقل الحق أن يقال له كان العمل به عليه أثقل. هذا معنى لطيف و لم أسمع منه شيئا منثورا و لا منظوما. و منها قوله ع و لا تكفوا عن قول بحق أو مشورة بعدل. قد ورد في المشورة شي ء كثير قال الله تعالى وَ شاورْهُمْ فِي الْأَمْرِ. و كان يقال إذا استشرت إنسانا صار عقله لك. و قال أعرابي ما غبنت قط حتى يغبن قومي قيل و كيف ذاك قال لا أفعل شيئا حتى أشاورهم. و كان يقال من أعطي الاستشارة لم يمنع الصواب و من أعطي الاستخارة لم يمنع الخيرة و من أعطي التوبة لم يمنع القبول و من أعطي الشكر لم يمنع المزيد. و في آداب ابن المقفع لا يقذفن في روعك أنك إذا استشرت الرجال ظهر منك للناس حاجتك إلى رأي غيرك فيقطعك ذلك عن المشاورة فإنك لا تريد الرأي للفخر شرح نهج البلاغة ج : 11 ص : 107و لكن للانتفاع به و لو أنك أردته للذكر لكان أحسن اكر عند العقلاء أن يقال إنه لا ينفرد برأيه دون ذوي الرأي من إخوانه. و منها أن يقال ما معنى قوله ع و ربما استحلى الناس الثناء بعد البلاء إلى قوله لا بد من إمضائها فنقول إن معناه أن بعض من يكره الإطراء و الثناء قد يحب ذلك بعد البلاء و الاختبار كما قال مرداس بن أدية لزياد إنما الثناء بعد البلاء و إنما نثني بعد أن نبتلي فقال لو فرضنا أن ذلك سائغ و جائز و غير قبيح لم يجز لكم أن تثنوا علي في وجهي و لا جاز لي أن أسمعه منكم لأنه قد بقيت علي بقية لم أفرغ من أدائها و فرائض لم أمضها بعد و لا بد لي من إمضائها و إذا لم يتم البلاء الذي قد فرضنا أن الثناء يحسن بعده لم يحسن الثناء. و معنى قوله لإخراجي نفسي إلى الله و إليكم أي لاعترافي بين يدي الله و بمحضر منكم أن علي حقوقا في إيالتكم و رئاستي عليكم لم أقم بها بعد و أرجو من الله القيام بها. و منها أن يقال ما معنى قوله فلا تخالطوني بالمصانعة فنقول إن معناه لا تصانعوني بالمدح و الإطراء عن عمل

(12/89)


الحق كما يصانع به كثير من الولاة الذين يستفزهم المدح و يستخفهم الإطراء و الثناء فيغمضون عن اعتماد كثير من الحق مكافأة لما صونعوا به من التقريظ و التزكية و النفاق. و منها قوله ع فإني لست بفوق أن أخطئ هذا اعتراف منه ع بعدم العصمة فإما أن يكون الكلام على ظاهره أو يكون قاله على سبيل هضم شرح نهج البلاغة ج : 11 ص : 108النفس كما قال رسول الله ص و لا أنا إلا أن يتداركني الله برحمته
و منها قوله ع أخرجنا مما كنا فيه فأبدلنا بعد الضلالة بالهدى و أعطانا البصيرة بعد العمى ليس هذا إشارة إلى خاص نفسه ع لأنه لم يكن كافرا فأسلم و لكنه كلام يقوله و يشير به إلى القوم الذين يخاطبهم من أفناء الناس فيأتي بصيغة الجمع الداخلة فيها نفسه توسعا و يجوز أن يكون معناه لو لا ألطاف الله تعالى ببعثة محمد ص لكنت أنا و غيري على أصل مذهب الأسلاف من عبادة الأصنام كما قال تعالى لنبيه وَ وَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدى ليس معناه أنه كان كافرا بل معناه لو لا اصطفاه الله تعالى لك لكنت كواحد من قومك و معنى وَ وَجَدَكَ ضَالًّا أي و وجدك بعرضة للضلال فكأنه ضال بالقوة لا بالفعل

(12/90)


شرح نهج البلاغة ج : 11 ص : 211109- و من كلام له عاللَّهُمَّ إِنِّي أَسْتَعْدِيكَ عَلَى قُرَيْشٍ وَ مَنْ أَعَانَهُمْ فَإِنَّهُمْ قَدْ قَطَعُوا رَحِمِي وَ أَكْفَئُوا إِنَائِي وَ أَجْمَعُوا عَلَى مُنَازَعَتِي حَقّاً كُنْتُ أَوْلَى بِهِ مِنْ غَيْرِي وَ قَالُوا أَلَا إِنَّ فِي الْحَقِّ أَنْ تَأْخُذَهُ وَ فِي الْحَقِّ أَنْ تَمْنَعَهُ فَاصْبِرْ مَغْمُوماً أَوْ مُتْ مُتَأَسِّفاً فَنَظَرْتُ فَإِذَا لَيْسَ لِي رَافِدٌ وَ لَا ذَابٌّ وَ لَا مُسَاعِدٌ إِلَّا أَهْلَ بَيْتِي فَضَنَنْتُ بِهِمْ عَنِ الْمَنِيَّةِ فَأَغْضَيْتُ عَلَى الْقَذَى وَ جَرِعْتُ رِيقِي عَلَى الشَّجَا وَ صَبَرْتُ مِنْ كَظْمِ الْغَيْظِ عَلَى أَمَرَّ مِنَ الْعَلْقَمِ وَ آلَمَ لِلْقَلْبِ مِنْ وَخْزِ الشِّفَارِ
قال الرضي رحمه الله و قد مضى هذا الكلام في أثناء خطبة متقدمة إلا أني ذكرته هاهنا لاختلاف الروايتين

(12/91)


العدوى طلبك إلى وال ليعديك على من ظلمك أي ينتقم لك منه يقال استعديت الأمير على فلان فأعداني أي استعنت به عليه فأعانني. و قطعوا رحمي و قطعوا قرابتي أي أجروني مجرى الأجانب و يجوز أن يريد أنهم عدوني كالأجنبي من رسول الله ص و يجوز أن يريد أنهم جعلوني كالأجنبي شرح نهج البلاغة ج : 11 ص : 110منهم لا ينصرونه و لا يقومون بأمره. و أكفئوا إنائي قلبوه و كبوه و حذف الهمزة من أول الكلمة أفصح و أكثر و قد روي كذلك و يقال لمن قد أضيعت حقوقه قد أكفأ إناءه تشبيها بإضاعة اللبن من الإناء. و قد اختلفت الرواية في قوله إلا أن فيلحق أن تأخذه فرواها قوم بالنون و قوم بالتاء و قال الراوندي إنها في خط الرضي بالتاء و معنى ذلك أنك إن وليت أنت كانت ولايتك حقا و إن ولي غيرك كانت ولايته حقا على مذهب أهل الاجتهاد و من رواها بالنون فالمعنى ظاهر. و الرافد المعين و الذاب الناصر. و ضننت بهم بخلت بهم و أغضيت على كذا صبرت. و جرعت بالكسر و الشجا ما يعترض في الحلق. و الوخز الطعن الخفيف و روي من خز الشفار و الخز القطع و الشفار جمع شفرة و هي حد السيف و السكين و اعلم أن هذا الكلام قد نقل عن أمير المؤمنين ع ما يناسبه و يجري مجراه و لم يؤرخ الوقت الذي قاله فيه و لا الحال التي عناها به و أصحابنا يحملون ذلك على أنه ع قاله عقيب الشورى و بيعة عثمان فإنه ليس يرتاب أحد من أصحابنا على أنه تظلم و تألم حينئذ. و يكره أكثر أصحابنا حمل أمثال هذا الكلام على التألم من يوم السقيفة. و لقائل أن يقول لهم أ تقولون إن بيعة عثمان لم تكن صحيحة فيقولون لا فيقال شرح نهج البلاغة ج : 11 ص : 111لهم فعلى ما ذا تحملون كلامه ع مع تعظيمكم له و تصديقكم لأقواله فيقولون نحمل ذلك على تألمه و تظلمه منهم إذا تركوا الأولى و الأفضل فيقال لهم فلا تكرهوا قول من يقول من الشيعة و غيرهم إن هذا الكم و أمثاله صدر عنه عقيب السقيفة و حملوه على أنه تألم و تظلم من

(12/92)


كونهم تركوا الأولى و الأفضل فإنكم لستم تنكرون أنه كان الأفضل و الأحق بالأمر بل تعترفون بذلك و تقولون ساغت إمامة غيره و صحت لمانع كان فيه ع و هو ما غلب على ظنون العاقدين للأمر من أن العرب لا تطيعه فإنه يخاف من فتنة عظيمة تحدث إن ولي الخلافة لأسباب يذكرونها و يعدونها و قد روى كثير من المحدثين أنه عقيب يوم السقيفة تألم و تظلم و استنجد و استصرخ حيث ساموه الحضور و البيعة و أنه قال و هو يشير إلى القبر يا ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَ كادُوا يَقْتُلُونَنِي و أنه قال وا جعفراه و لا جعفر لي اليوم وا حمزتاه و لا حمزة لي اليوم. و قد ذكرنا من هذا المعنى جملة صالحة فيما تقدم و كل ذلك محمول عندنا على أنه طلب الأمر من جهة الفضل و القرابة و ليس بدال عندنا على وجود النص لأنه لو كان هناك نص لكان أقل كلفة و أسهل طريقا و أيسر لما يريد تناولا أن يقول يا هؤلاء إن العهد لم يطل و إن رسول الله ص أمركم بطاعتي و استخلفني عليكم بعده و لم يقع منه ع بعد ما علمتموه و نص ينسخ ذلك و لا يرفعه فما الموجب لتركي و العدول عني. فإن قالت الإمامية كان يخاف القتل لو ذكر ذلك فقيل لهم فهلا يخاف القتل و هو يعتل و يدفع ليبايع و هو يمتنع و يستصرخ تارة بقبر رسول الله ص

(12/93)


شرح نهج البلاغة ج : 11 ص : 112و تارة بعمه حمزة و أخيه جعفر و هما ميتان و تارة بالأنصار و تارة ببني عبد مناف و يجمع الجموع في داره و يبث الرسل و الدعاة ليلا و نهارا إلى الناس يذكرهم فضله و قرابته و يقول للمهاجرين خصمتم الأنصار بكونكم أقرب إلى رسول الله ص أنا أخصمكم بما خصمتم به الأنصار لأن القرابة إن كانت هي المعتبرة فأنا أقرب منكم. و هلا خاف من هذا الامتناع و من هذا الاحتجاج و من الخلوة في داره بأصحابه و من تنفير الناس عن البيعة التي عقدت حينئذ لمن عقدت له. و كل هذا إذا تأمله المنصف علم أن الشيعة أصابت في أمر و أخطأت في أمر أما الأمر الذي أصابت فيه فقولها إنه امتنع و تلكأ و أراد الأمر لنفسه و أما الأمر الذي أخطأت فيه فقولها إنه كان منصوصا عليه نصا جليا بالخلافة تعلمه الصحابة كلها أو أكثرها و أن ذلك النص خولف طلبا للرئاسة الدنيوية و إيثارا للعاجلة و أن حال المخالفين للنص لا تعدو أحد أمرين إما الكفر أو الفسق فإن قرائن الأحوال و أماراتها لا تدل على ذلك و إنما تدل و تشهد بخلافه و هذا يقتضي أن أمير المؤمنين ع كان في مبدإ الأمر يظن أن العقد لغيره كان عن غير نظر في المصلحة و أنه لم يقصد به إلا صرف الأمر عنه و الاستئثار عليه فظهر منه ما ظهر من الامتناع و العقود في بيته إلى أن صح عنده و ثبت في نفسه أنهم أصابوا فيما فعلوه و أنهم لم يميلوا إلى هوى و لا أرادوا الدنيا و إنما فعلوا الأصلح في ظنونهم لأنه رأى من بغض الناس له و انحرافهم عنه و ميلهم عليه و ثوران الأحقاد التي كانت في أنفسهم و احتدام النيران التي كانت في قلوبهم و تذكروا التراث التي وتراهم فيما قبل بها و الدماء التي سفكها منهم و أراقها. شرح نهج البلاغة ج : 11 ص : 113و تعلل طائفة أخرى منهم للعدول عنه بصغر سنه و استهجانهم تقديم الشباب على الكهول و الشيوخ. و تعللائفة أخرى منهم بكراهية الجمع بين النبوة و الخلافة في بيت واحد

(12/94)


فيجفخون على الناس كما قاله من قاله و استصعاب قوم منهم شكيمته و خوفهم تعديه و شدته و علمهم بأنه لا يداجي و لا يحابي و لا يراقب و لا يجامل في الدين و أن الخلافة تحتاج إلى من يجتهد برأيه و يعمل بموجب استصلاحه و انحراف قوم آخرين عنه للحسد الذي كان عندهم له في حياة رسول الله ص لشدة اختصاصه له و تعظيمه إياه و ما قال فيه فأكثر من النصوص الدالة على رفعة شأنه و علو مكانه و ما اختص به من مصاهرته و أخوته و نحو ذلك من أحواله معه و تنكر قوم آخرين له لنسبتهم إليه العجب و التيه كما زعموا و احتقاره العرب و استصغاره الناس كما عددوه عليه و إن كانوا عندنا كاذبين و لكنه قول قيل و أمر ذكر و حال نسبت إليه و أعانهم عليها ما كان يصدر عنه من أقوال توهم مثل هذا نحو قوله فإنا صنائع ربنا و الناس بعد صنائع لنا و ما صح به عنده أن الأمر لم يكن ليستقيم له يوما واحدا و لا ينتظم و لا يستمر و أنه لو ولي الأمر لفتقت العرب عليه فتقا يكون فيه استئصال شأفة الإسلام و هدم أركانه فأذعن بالبيعة و جنح إلى الطاعة و أمسك عن طلب الإمرة و إن كان على مضض و رمض. و قد روي عنه ع أن فاطمة ع حرضته يوما على النهوض و الوثوب فسمع صوت المؤذن أشهد أن محمدا رسول الله فقال لها أ يسرك زوال هذا النداء من الأرض قالت لا قال فإنه ما أقول لك.

(12/95)


شرح نهج البلاغة ج : 11 ص : 114و هذا المذهب هو أقصد المذاهب و أصحها و إليه يذهب أصحابنا المتأخرون من البغداديين و به يقول. و اعلم أن حال علي ع في هذا المعنى أشهر من أن يحتاج في الدلالة عليها إلى الإسهاب و الإطناب فقد رأيت انتقاض العرب عليه من أقطارها حينويع بالخلافة بعد وفاة رسول الله ص بخمس و عشرين سنة و في دون هذه المدة تنسى الأحقاد و تموت التراث و تبرد الأكباد الحامية و تسلو القلوب الواجدة و يعدم قرن من الناس و يوجد قرن و لا يبقى من أرباب تلك الشحناء و البغضاء إلا الأقل فكانت حاله بعد هذه المدة الطويلة مع قريش كأنها حاله لو أفضت الخلافة إليه يوم وفاة ابن عمه ص من إظهار ما في النفوس و هيجان ما في القلوب حتى أن الأخلاف من قريش و الأحداث و الفتيان الذين لم يشهدوا وقائعه و فتكاته في أسلافهم و آبائهم فعلوا به ما لو كانت الأسلاف أحياء لقصرت عن فعله و تقاعست عن بلوغ شأوه فكيف كانت تكون حاله لو جلس على منبر الخلافة و سيفه بعد يقطر دما من مهج العرب لا سيما قريش الذين بهم كان ينبغي لو دهمه خطب أن يعتضد و عليهم كان يجب أن يعتمد إذن كانت تدرس أعلام الملة و تنعفي رسوم الشريعة و تعود الجاهلية الجهلاء على حالها و يفسد ما أصلحه رسول الله ص في ثلاث و عشرين سنة في شهر واحد فكان من عناية الله تعالى بهذا الدين أن ألهم الصحابة ما فعلوه و الله متم نوره و لو كره المشركون شرح نهج البلاغة ج : 11 ص : 11فصل في أن جعفرا و حمزة لو كان حيين لبايعا عليا

(12/96)


و سألت النقيب أبا جعفر يحيى بن محمد بن أبي يزيد رحمه الله قلت له أ تقول إن حمزة و جعفرا لو كانا حيين يوم مات رسول الله ص أ كانا يبايعانه بالخلافة فقال نعم كانا أسرع إلى بيعة من النار في يبس العرفج فقلت له أظن أن جعفرا كان يبايعه و يتابعه و ما أظن حمزة كذلك و أراه جبارا قوي النفس شديد الشكيمة ذاهبا بنفسه شجاعا بهمه و هو العم و الأعلى سنا و آثاره في الجهاد معروفة و أظنه كان يطلب الخلافة لنفسه. فقال الأمر في أخلاقه و سجاياه كما ذكرت و لكنه كان صاحب دين متين و تصديق خالص لرسول الله ص و لو عاش لرأى من أحوال علي ع مع رسول الله ص ما يوجب أن يكسر له نخوته و أن يقيم له صعره و أن يقدمه على نفسه و أن يتوخى رضا الله و رضا رسوله فيه و إن كان بخلاف إيثاره. ثم قال أين خلق حمزة السبعي من خلق علي الروحاني اللطيف الذي جمع بينه و بين خلق حمزة فاتصفت بهما نفس واحدة و أين هيولانية نفس حمزة و خلوها من العلوم من نفس علي القدسية التي أدركت بالفطرة لا بالقوة التعليمية ما لم تدركه نفوس مدققي الفلاسفة الإلهيين لو أن حمزة حيي حتى رأى من علي ما رآه غيره لكان أتبع له من ظله و أطوع له من أبي ذر و المقداد أما قولك هو و العم و الأعلى سنا فقد كان العباس العم و الأعلى سنا و قد عرفت ما بذله له و ندبه إليه و كان أبو سفيان كالعم و كان أعلى سنا و قد عرفت ما عرضه عليه ثم قال ما زالت الأعمام تخدم أبناء الإخوة و تكون أتباعا لهم أ لست ترى داود بن شرح نهج البلاغة ج : 11 ص : 116علي و عبد الله بن علي و لح بن علي و سليمان بن علي و عيسى بن علي و إسماعيل ابن علي و عبد الصمد بن علي خدموا ابن أخيهم و هو عبد الله السفاح بن محمد بن علي و بايعوه و تابعوه و كانوا أمراء جيوشه و أنصاره و أعوانه أ لست ترى حمزة و العباس اتبعا ابن أخيهما صلوات الله عليه و أطاعاه و رضيا برياسته و صدقا دعوته أ لست تعلم أن أبا طالب كان رئيس بني هاشم و

(12/97)


شيخهم و المطاع فيهم و كان محمد رسول الله ص يتيمه و مكفوله و جاريا مجرى أحد أولاده عنده ثم خضع له و اعترف بصدقه و دان لأمره حتى مدحه بالشعر كما يمدح الأدنى الأعلى فقال فيه
و أبيض يستسقى الغمام بوجهه ثمال اليتامى عصمة للأرامل يطيف به الهلاك من آل هاشم فهم عنده في نعمة و فواضلو إن سرا اختص به محمد ص حتى أقام أبا طالب و حاله معه حاله مقام المادح له لسر عظيم و خاصية شريفة و إن في هذا لمعتبر عبرة أن يكون هذا الإنسان الفقير الذي لا أنصار له و لا أعوان معه و لا يستطيع الدفاع عن نفسه فضلا عن أن يقهر غيره تعمل دعوته و أقواله في الأنفس ما تعمله الخمر في الأبدان المعتدلة المزاج حتى تطيعه أعمامه و يعظمه مربيه و كافله و من هو إلى آخر عمره القيم بنفقته و غذاء بدنه و كسوة جسده حتى يمدحه بالشعر كما يمدح الشعراء الملوك و الرؤساء و هذا في باب المعجزات عند المنصف أعظم من انشقاق القمر و انقلاب العصا و من أبناء القوم بما يأكلون و ما يدخرون في بيوتهم. ثم قال رحمه الله كيف قلت أظن أن جعفرا كان يبايعه و يتابعه و لا أظن في حمزة ذلك إن كنت قلت ذلك لأنه أخوه فإنه أعلى منه سنا هو أكبر من علي بعشر شرح نهج البلاغة ج : 11 ص : 117سنين و قد كانت له خصائص و مقب كثيرة و قال فيه النبي ص قولا شريفا اتفق عليه المحدثون قال له لما افتخر هو و علي و زيد بن حارثة و تحاكموا إلى رسول الله ص أشبهت خلقي و خلقي فخجل فرحا ثم قال لزيد أنت مولانا و صاحبنا فخجل أيضا ثم قال لعلي أنت أخي و خالصتي قالوا فلم يخجل قالوا كان ترادف التعظيم له و تكرره عليه لم يجعل عنده للقول ذلك الموضع و كان غيره إذا عظم عظم نادرا فيحسن موقعه عنده و اختلف الناس في أي المدحتين أعظم. فقلت له قد وقفت لأبي حيان التوحيدي في كتاب البصائر على فصل عجيب يمازج ما نحن فيه قال في الجزء الخامس من هذا الكتاب سمعت قاضي القضاة أبا سعد بشر بن الحسين و ما رأيت رجلا

(12/98)


أقوى منه في الجدل في مناظرة جرت بينه و بين أبي عبد الله الطبري و قد جرى حديث جعفر بن أبي طالب و حديث إسلامه و التفاضل بينه و بين أخيه علي فقال القاضي أبو سعد إذا أنعم النظر علم أن إسلام جعفر كان بعد بلوغ و إسلام البالغ لا يكون إلا بعد استبصار و تبين و معرفة بقبح ما يخرج منه و حسن ما يدخل فيه و أن إسلام علي مختلف في حاله و ذلك أنه قد ظن أنه كان عن تلقين لا تبيين إلى حين بلوغه و أوان تعقبه و نظره و قد علم أيضا أنهما قتلا و أن قتلة جعفر شهادة بالإجمال و قتلة علي فيها أشد الاختلاف ثم خص الله جعفرا بأن قبضه إلى الجنة قبل ظهور التباين و اضطراب الحبل و كثرة الهرج و على أنه لو انعقد الإجماع و تظاهر جميع الناس على أن القتلتين شهادة لكانت الحال في الذي رفع إليها جعفر أغلظ و أعظم و ذلك أنه قتل مقبلا غير مدبر و أما علي فإنه اغتيل اغتيالا و قصد من حيث لا يعلم و شتان ما بين من فوجئ بالموت و بين من عاين مخايل الموت

(12/99)


شرح نهج البلاغة ج : 11 ص : 118و تلقاه بالنحر و الصدر و عجل إلى الله بالإيمان و الصدق أ لا تعلم أن جعفرا قطعت يمناه فأمسك اللواء بيسراه و قطعت يسراه فضم اللواء إلى حشاه ثم قاتله ظاهر الشرك بالله و قاتل علي ممن صلى إلى القبلة و شهد الشهادة و أقدم عليه بتأل و قاتل جعفر كافر بالنص الذي لا خلاف فيه أ ما تعلم أن جعفرا ذو الجناحين و ذو الهجرتين إلى الحبشة و المدينة. قال النقيب رحمه الله اعلم فداك شيخك أن أبا حيان رجل ملحد زنديق يحب التلاعب بالدين و يخرج ما في نفسه فيعزوه إلى قوم لم يقولوه و أقسم بالله إن القاضي أبا سعد لم يقل من هذا الكلام لفظة واحدة و لكنها من موضوعات أبي حيان و أكاذيبه و ترهاته كما يسند إلى القاضي أبي حامد المروروذي كل منكر و يروى عنه كل فاقرة. ثم قال يا أبا حيان مقصودك أن تجعلها مسألة خلاف تثير بها فتنة بين الطالبيين لتجعل بأسهم بينهم و كيف تقلبت الأحوال فالفخر لهم لم يخرج عنهم. ثم ضحك رحمه الله حتى استلقى و مد رجليه و قال هذا كلام يستغنى عن الإطالة في إبطاله بإجماع المسلمين فإنه لا خلاف بين المسلمين في أن عليا أفضل من جعفر و إنما سرق أبو حيان هذا المعنى الذي أشار إليه من رسالة المنصور أبي جعفر إلى محمد بن عبد الله النفس الزكية قال له و كانت بنو أمية يلعنون أباك في أدبار الصلوات المكتوبات كما تلعن الكفرة فعنفناهم و كفرناهم و بينا فضله و أشدنا بذكره فاتخذت ذلك علينا حجة و ظننت أنه لما ذكرناه من فضله أنا قدمناه على حمزة و العباس و جعفر أولئك مضوا سالمين مسلمين منهم و ابتلي أبوك بالدماء. فقلت له رحمه الله و إذا لا إجماع في المسألة لأن المنصور لم يقل بتفضيله عليهم شرح نهج البلاغة ج : 11 ص : 119و أنت ادعيت الإجماع فقال إن الإجماع قد سبق هذا القائل و كل قول قد سبقه الإجماع لا يعتد به. فلما خرجت من ع النقيب أبي جعفر بحثت في ذلك اليوم في هذا الموضوع مع أحمد بن جعفر

(12/100)


الواسطي رحمه الله و كان ذا فضل و عقل و كان إمامي المذهب فقال لي صدق النقيب فيما قال أ لست تعلم أن أصحابكم المعتزلة على قولين أحدهما أن أكثر المسلمين ثوابا أبو بكر و الآخر أن أكثرهم ثوابا علي و أصحابنا يقولون إن أكثر المسلمين ثوابا علي و كذلك الزيدية و أما الأشعرية و الكرامية و أهل الحديث فيقولون أكثر المسلمين ثوابا أبو بكر فقد خلص من مجموع هذه الأقوال أن ثواب حمزة و جعفر دون ثواب علي ع أما على قول الإمامية و الزيدية و البغداديين كافة و كثير من البصريين من المعتزلة فالأمر ظاهر و أما الباقون فعندهم أن أكثر المسلمين ثوابا أبو بكر ثم عمر ثم عثمان ثم علي و لم يذهب ذاهب إلى أن ثواب حمزة و جعفر أكثر من ثواب علي من جميع الفرق فقد ثبت الإجماع الذي ذكره النقيب إذا فسرنا الأفضلية بالأكثرية ثوابا و هو التفسير الذي يقع الحجاج و الجدال في إثباته لأحد الرجلين و أما إذا فسرنا الأفضلية بزيادة المناقب و الخصائص و كثرة النصوص الدالة على التعظيم فمعلوم أن أحدا من الناس لا يقارب عليا ع في ذلك لا جعفر و لا حمزة و لا غيرهما. ثم وقع بيدي بعد ذلك كتاب لشيخنا أبي جعفر الإسكافي ذكر فيه أن مذهب بشر بن المعتمر و أبي موسى و جعفر بن مبشر و سائر قدماء البغداديين أن أفضل المسلمين علي بن أبي طالب ثم ابنه الحسن ثم ابنه الحسين ثم حمزة بن عبد المطلب ثم جعفر بن أبي طالب ثم أبو بكر بن أبي قحافة ثم عمر بن الخطاب ثم عثمان بن عفان شرح هج البلاغة ج : 11 ص : 120قال و المراد بالأفضل أكرمهم عند الله أكثرهم ثوابا و أرفعهم في دار الجزاء منزلة. ثم وقفت بعد ذلك على كتاب لشيخنا أبي عبد الله البصري يذكر فيه هذه المقالة و ينسبها إلى البغداديين و قال إن الشيخ أبا القاسم البلخي كان يقول بها و قبله لشيخ أبو الحسين الخياط و هو شيخ المتأخرين من البغداديين قالوا كلهم بها فأجبني هذا المذهب و سررت بأن ذهب الكثير من شيوخنا إليه و

(12/101)


نظمته في الأرجوزة التي شرحت فيها عقيدة المعتزلة فقلت
و خير خلق الله بعد المصطفى أعظمهم يوم الفخار شرفاالسيد المعظم الوصي بعل البتول المرتضى علي و ابناه ثم حمزة و جعفر ثم عتيق بعدهم لا ينكرالمخلص الصديق ثم عمر فاروق دين الله ذاك القسورو بعده عثمان ذو النورين هذا هو الحق بغير مين شرح نهج البلاغة ج : 11 ص : 212121- و من كلام له ع في ذكر السائرين إلى البصرة لحربه عفَقَدِمُوا عَلَى عُمَّالِي وَ خُزَّانِ بَيْتِ مَالِ الْمُسْلِمِينَ الَّذِي فِي يَدَيَّ وَ عَلَى أَهْلِ مِصْرٍ كُلُّهُمْ فِي طَاعَتِي وَ عَلَى بَيْعَتِي فَشَتَّتُوا كَلِمَتَهُمْ وَ أَفْسَدُوا عَلَيَّ جَمَاعَتَهُمْ وَ وَثَبُوا عَلَى شِيعَتِي فَقَتَلُوا طَاِئفَةً منْهُمْ غَدْراً وَ طَاِئفَةً عَضُّوا عَلَى أَسْيَافِهِمْ فَضَارَبُوا بِهَا حَتَّى لَقُوا اللَّهَ صَادِقِينَ

(12/102)


عضوا على أسيافهم كناية عن الصبر في الحرب و ترك الاستسلام و هي كناية فصيحة شبه قبضهم على السيوف بالعض و قد قدمنا ذكر ما جرى و أن عسكر الجمل قتلوا طائفة من شيعة أمير المؤمنين ع بالبصرة بعد أن أمنوهم غدرا و أن بعض الشيعة صبر في الحرب و لم يستسلم و قاتل حتى قتل مثل حكيم بن جبلة العبدي و غيره و روي و طائفة عضوا على أسيافهم بالرفع تقديره و منهم طائفة. قرأت في كتاب غريب الحديث لأبي محمد عبد الله بن قتيبة في حديث حذيفة بن اليمان أنه ذكر خروج عائشة فقال تقاتل معها مضر مضرها الله في النار شرح نهج البلاغة ج : 11 ص :22و أزد عمان سلت الله أقدامها و أن قيسا لن تنفك تبغي دين الله شرا حتى يركبها الله بالملائكة فلا يمنعوا ذنب تلعة. قلت هذا الحديث من أعلام نبوة سيدنا محمد ص لأنه إخبار عن غيب تلقاه حذيفة عن النبي ص و حذيفة أجمع أهل السيرة على أنه مات في الأيام التي قتل عثمان فيها أتاه نعيه و هو مريض فمات و علي ع لم يتكامل بيعة الناس و لم يدرك الجمل. و هذا الحديث يؤكد مذهب أصحابنا في فسق أصحاب الجمل إلا من ثبتت توبته منهم و هم الثلاثة
شرح نهج البلاغة ج : 11 ص : 213123- و من كلام له ع لما مر بطلحة بن عبيد الله و عبد الرحمن بن عتاب بن أسيد و هما قتيلان يوم الجمللَقَدْ أَصْبَحَ أَبُو مُحَمَّدٍ بِهَذَا الْمَكَانِ غَرِيباً أَمَا وَ اللَّهِ لَقَدْ كُنْتُ أَكْرَهُ أَنْ تَكُونَ قُرَيْشٌ قَتْلَى تَحْتَ بُطُونِ الْكَوَاكِبِ أَدْرَكْتُ وَتْرِي مِنْ بَنِي عَبْدِ مَنَافٍ وَ أَفْلَتَنِي أَعْيَارُ بَنِي جُمَحٍ لَقَدْ أَتْلَعُوا أَعْنَاقَهُمْ إِلَى أَمْرٍ لَمْ يَكُونُوا أَهْلَهُ فَوُقِصُوا دُونَهُ
عبد الرحمن بن عتاب بن أسيد

(12/103)


هو عبد الرحمن بن عتاب بن أسيد بن أبي العيص بن أمية بن عبد شمس ليس بصحابي و لكنه من التابعين و أبوه عتاب بن أسيد بن أبي العيص بن أمية بن عبد شمس من مسلمة الفتح و لما خرج رسول الله ص من مكة إلى حنين استعمله عليها فلم يزل أميرها حتى قبض رسول الله ص و بقي على حاله خلافة أبي بكر الصديق و مات هو و أبو بكر في يوم واحد لم يعلم أحدهما بموت الآخر و عبد الرحمن هذا هو الذي قال أمير المؤمنين فيه و قد مر به قتيلا يوم الجمل لهفي عليك يعسوب قريش هذا فتى الفتيان هذا اللباب المحض من بني عبد مناف شفيت نفسي و قتلت معشري إلى الله أشكو عجري و بجري فقال له قائل لشد ما أطريت شرح نهج البلاغة ج : 11 ص : 124الفتى يا أمير المؤمنين منذ اليوم قال إنه قام عني و عنه نسوة لم يقمن عنك و عبد الرحمن هذا هو الذي احتملت العقاب كفه يوم الجمل و فيها خاتمه فألقتها باليمامة فعرفت بخاتمه و علم أهل يمامة بالوقعة.

(12/104)


و رأيت في شرح نهج البلاغة للقطب الراوندي في هذا الفصل عجائب و طرائف فأحببت أن أوردها هاهنا منها أنه قال في تفسير قوله ع أدركت و ترى من بني عبد مناف قال يعني طلحة و الزبير كانا من بني عبد مناف و هذا غلط قبيح لأن طلحة من تيم بن مرة و الزبير من أسد بن عبد العزى بن قصي و ليس أحد منهما من بني عبد مناف و ولد عبد مناف أربعة هاشم و عبد شمس و نوفل و عبد المطلب فكل من لم يكن من ولد هؤلاء الأربعة فليس من ولد عبد مناف. و منها أنه قال إن مروان بن الحكم من بني جمح و لقد كان هذا الفقيه رحمه الله بعيدا عن معرفة الأنساب مروان من بني أمية بن عبد شمس و بنو جمح من بني هصيص بن كعب بن لؤي بن غالب و اسم جمح تيم بن عمرو بن هصيص و أخوه سهم بن عمرو بن هصيص رهط عمرو بن العاص فأين هؤلاء و أين مروان بن الحكم. و منها أنه قال و أفلتتني أغيار بني جمح بالغين المعجمة قال هو جمع غير الذي بمعنى سوى و هذا لم يرو و لا مثله مما يتكلم به أمير المؤمنين لركته و بعده عن طريقته فإنه يكون قد عدل عن أن يقول و لم يفلتني إلا بنو جمح إلى مثل هذه العبارة الركيكة المتعسفة شرح نهج البلاغة ج : 11 ص : 12بنو جمح

(12/105)


و اعلم أنه ع أخرج هذا الكلام مخرج الذم لمن حضر الجمل مع عائشة زوجة النبي ص من بني جمح فقال و أفلتتني أعيار بني جمح جمع عير و هو الحمار و قد كان معها منهم يوم الجمل جماعة هربوا و لم يقتل منهم إلا اثنان فممن هرب و نجا بنفسه عبد الله الطويل بن صفوان بن أمية بن خلف بن وهب بن حذافة بن جمح و كان شريفا و ابن شريف و عاش حتى قتل مع ابن الزبير بمكة. و منهم يحيى بن حكيم بن صفوان بن أمية بن خلف عاش حتى استعمله عمرو بن سعيد الأشدق على مكة لما جمع له بين مكة و المدينة فأقام عمرو بالمدينة و يحيى بمكة. و منهم عامر بن مسعود بن أمية بن خلف كان يسمى دحروجة الجعل لقصره و سواده و عاش حتى ولاه زياد صدقات بكر بن وائل و ولاه عبد الله بن الزبير بن العوام الكوفة. و منهم أيوب بن حبيب بن علقمة بن ربيعة بن الأعور بن أهيب بن حذافة بن جمح عاش حتى قتل بقديد قتلته الخوارج. فهؤلاء الذين أعرف حضورهم الجمل مع عائشة من بني جمح و قتل من بني جمح مع عائشة عبد الرحمن بن وهب بن أسيد بن خلف بن وهب بن حذافة بن جمح و عبد الله بن ربيعة بن دراج العنبس بن وهبان بن وهب بن حذافة بن جمح لا أعرف أنه قتل من بني جمح ذلك اليوم غيرهما فإن صحت الرواية و أفلتني أعيان بني جمح بالنون فالمراد رؤساؤهم و ساداتهم.
و أتلعوا أعناقهم رفعوها و رجل أتلع بين التلع أي طويل العنق و جيد تليع أي طويل قال الأعشى شرح نهج البلاغة ج : 11 ص : 12يوم تبدي لنا قتيله عن جيد تليع تزينه الأطواق

(12/106)


و وقص الرجل إذا اندقت عنقه فهو موقوص و وقصت عنق الرجل أقصها وقصا أي كسرتها و لا يجوز وقصت العنق نفسها. و الضمير في قوله ع لقد أتلعوا يرجع إلى قريش أي راموا الخلافة فقتلوا دونها. فإن قلت أ تقول إن طلحة و الزبير لم يكونا من أهل الخلافة إن قلت ذلك تركت مذهب أصحابك و إن لم تقله خالفت قول أمير المؤمنين لم يكونوا أهله. قلت هما أهل للخلافة ما لم يطلبها أمير المؤمنين فإذا طلبها لم يكونا أهلا لها لا هما و لا غيرهما و لو لا طاعته لمن تقدم و ما ظهر من رضاه به لم نحكم بصحة خلافته
شرح نهج البلاغة ج : 11 ص : 214127- و من كلام له عقَدْ أَحْيَا عَقْلَهُ وَ أَمَاتَ نَفْسَهُ حَتَّى دَقَّ جَلِيلُهُ وَ لَطُفَ غَلِيظُهُ وَ بَرَقَ لَهُ لَامِعٌ كَثِيرُ الْبَرْقِ فَأَبَانَ لَهُ الطَّرِيقَ وَ سَلَكَ بِهِ السَّبِيلَ وَ تَدَافَعَتْهُ الْأَبْوَابُ إِلَى بَابِ السَّلَامَةِ وَ دَارِ الْإِقَامَةِ وَ ثَبَتَتْ رِجْلَاهُ بِطُمَأْنِينَةِ بَدَنِهِ فِي قَرَارِ الْأَمْنِ وَ الرَّاحَةِ بِمَا اسْتَعْمَلَ قَلْبَهُ وَ أَرْضَى رَبَّهُ
يصف العارف يقول قد أحيا قلبه بمعرفة الحق سبحانه و أمات نفسه بالمجاهدة و رياضة القوة البدنية بالجوع و العطش و السهر و الصبر على مشاق السفر و السياحة. حتى دق جليله أي حتى نحل بدنه الكثيف. و لطف غليظه تلطفت أخلاقه و صفت نفسه فإن كدر النفس في الأكثر إنما يكون من كدر الجسد و البطنة كما قيل تذهب الفطنة
فصل في مجاهدة النفوس و ما ورد في ذلك من الآثار

(12/107)


و تقول أرباب هذه الطريقة من لم يكن في بدايته صاحب مجاهدة لم يجد من هذه الطريقة شمة. شرح نهج البلاغة ج : 11 ص : 128و قال عثمان المغربي الصوفي من ظن أنه يفتح عليه شي ء من هذه الطريقة أو يكشف له عن سر من أسرارها من غير لزوم المجاهدة فهو غالط. و قال أبو عليدقاق من لم يكن في بدايته قومة لم يكن في نهايته جلسة. و من كلامهم الحركة بركة حركات الظواهر توجب بركات السرائر. و من كلامهم من زين ظاهره بالمجاهدة حسن الله سرائره بالمشاهدة. و قال الحسن الفرازيني هذا الأمر على ثلاثة أشياء ألا تأكل إلا عند الفاقة و لا تنام إلا عند الغلبة و لا تتكلم إلا عند الضرورة. و قال إبراهيم بن أدهم لن ينال الرجل درجة الصالحين حتى يغلق عن نفسه باب النعمة و يفتح عليها باب الشدة. و من كلامهم من كرمت عليه نفسه هان عليه دينه. و قال أبو علي الروذباري إذا قال الصوفي بعد خمسة أيام أنا جائع فألزموه السوق و مروه بالكسب. و قال حبيب بن أوس أبو تمام و هو يقصد غير ما نحن فيه و لكنه يصلح أن يستعمل فيما نحن فيه
خذي عبرات عينك عن زماعي و صوني ما أزلت من القناع أقلي قد أضاق بكاك ذرعي و ما ضاقت بنازله ذراعي أ آلفة النحيب كم افتراق أظل فكان داعية اجتما شرح نهج البلاغة ج : 11 ص : 129فليست فرحة الأوبات إلا لموقوف على ترح الوداع تعجب أن رأت جسمي نحيلا كان المجد يدرك بالصراع أخو النكبات من يأوي إذا ما أطفن به إلى خلق وساع يثير عجاجة في كل فج يهيم به عدي بن الرقاع أبن مع السباع الماء حتى لخالته السباع باعو قال أيضا
فاطلب هدوءا بالتقلقل و استثر بالعيس من تحت السهاد هجوداما أن ترى الأحساب بيضا وضحا إلا بحيث ترى المنايا سودا
و جاء في الحديث أن فاطمة جاءت إلى رسول الله ص بكسرة خبز فقال ما هذه قالت قرص خبزته فلم تطب نفسي حتى أتيتك منه بهذه الكسرة فأكلها و قال أما إنها لأول طعام دخل فم أبيك منذ ثلاث

(12/108)


و كان يقال ينابيع الحكمة من الجوع و كسر عادية النفس بالمجاهدة. شرح نهج البلاغة ج : 11 ص : 130و قال يحيى بن معاذ لو أن الجوع يباع في السوق لما كان ينبغي لطلاب الآخرة إذا دخلوا السوق أن يشتروا غيره. و قال سهل بن عبد الله لما خلق الله الدنيا جعل في الشبع الصية و الجهل و جعل في الجوع الطاعة و الحكمة. و قال يحيى بن معاذ الجوع للمريدين رياضة و للتائبين تجربة و للزهاد سياسة و للعارفين تكرمة. و قال أبو سلمان الداراني مفتاح الدنيا الشبع و مفتاح الآخرة الجوع. و قال بعضهم أدب الجوع ألا ينقص من عادتك إلا مثل أذن السنور هكذا على التدريج حتى تصل إلى ما تريد. و يقال إن أبا تراب النخشبي خرج من البصرة إلى مكة فوصل إليها على أكلتين أكلة بالنباج و أكلة بذات عرق. قالوا و كان سهل بن عبد الله التستري إذا جاع قوي و إذا أكل ضعف. و كان منهم من يأكل كل أربعين يوما أكلة واحدة و منهم من يأكل كل ثمانين يوما أكلة واحدة. قالوا و اشتهى أبو الخير العسقلاني السمك سنين كثيرة ثم تهيأ له أكله من وجه حلال فلما مد يده ليأكل أصابت إصبعه شوكة من شوك السمك فقام و ترك الأكل و قال يا رب هذا لمن مد يده بشهوة إلى الحلال فكيف بمن مد يده بشهوة إلى الحرام. و في الكتاب العزيز وَ أَمَّا مَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ وَ نَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوى فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوى فالجملة الأولى هي التقوى و الثانية هي المجاهدة. شرح نهج البلاغة ج : 11 ص : 131و قال النبي ص أخوف ما أخاف على أمتي اتباع الهوى و طول الأمل أما اتباع الهوى فيصد عن الحق و أما طول الأمل فينسي الآخرة

(12/109)


و سئل بعض الصوفية عن المجاهدة فقال ذبح النفس بسيوف المخالفة. و قال من نجمت طوارق نفسه أفلت شوارق أنسه. و قال إبراهيم بن شيبان ما بت تحت سقف و لا في موضع عليه غلق أربعين سنة و كنت أشتهي في أوقات أن أتناول شبعة عدس فلم يتفق ثم جملت إلي و أنا بالشام غضارة فيها عدسية فتناولت منها و خرجت فرأيت قوارير معلقة فيها شبه أنموذجات فظننتها خلا فقال بعض الناس أ تنظر إلى هذه و تظنها خلا و إنما هي خمر و هي أنموذجات هذه الدنان لدنان هناك فقلت قد لزمني فرض الإنكار فدخلت حانوت ذلك الخمار لأكسر الدنان و الجرار فحملت إلى ابن طولون فأمر بضربي مائتي خشبة و طرحي في السجن فبقيت مدة حتى دخل أبو عبد الله الوباني المغربي أستاذ ذلك البلد فعلم أني محبوس فشفع في فأخرجت إليه فلما وقع بصره علي قال أي شي ء فعلت فقلت شبعة عدس و مائتي خشبة فقال لقد نجوت مجانا. و قال إبراهيم الخواص كنت في جبل رأيت رمانا فاشتهيته فدنوت فأخذت منه واحدة فشققتها فوجدتها حامضة فمضيت و تركت الرمان فرأيت رجلا مطروحا قد اجتمع عليه الزنابير فسلمت عليه فرد علي باسمي فقلت كيف عرفتني قال من عرف الله لم يخف عليه شي ء فقلت له أرى لك حالا مع الله فلو سألته أن يحميك و يقيك منأذى هذه الزنابير فقال و أرى لك حالا مع الله فلو سألته أن يقيك من شهوة الرمان فإن لذع الرمان يجد الإنسان ألمه في الآخرة و لذع الزنابير شرح نهج البلاغة ج : 11 ص : 132يجد الإنسان ألمه في الدنيا فتركته و مضيت على وجهي. و قال يوسف بن أسباط لا يمحو الشهوات من قلب إلا خوف مزعج أو شوق مقلق. و قال الخواص من ترك شهوة فلم يجد عوضها في قلبه فهو كاذب في تركها. و قال أبو علي الرباطي صحت عبد الله المروزي و كان يدخل البادية قبل أن أصحبه بلا زاد فلما صحبته قال لي أيما أحب إليك تكون أنت الأمير أم أنا قلت بل أنت فقال و عليك الطاعة قلت نعم فأخذ مخلاة و وضع فيها زادا و حملها على ظهره فكنت

(12/110)


إذا قلت له أعطني حتى أحملها قال الأمير أنا و عليك الطاعة قال فأخذنا المطر ليلة فوقف إلى الصباح على رأسي و عليه كساء يمنع عني المطر فكنت أقول في نفسي يا ليتني مت و لم أقل له أنت الأمير ثم قال لي إذا صحبت إنسانا فاصحبه كما رأيتني صحبتك. أبو الطيب المتنبي
ذريني أنل ما لا ينال من العلافصعب العلا في الصعب و السهل في السهل تريدين إدراك المعالي رخيصةو لا بد دون الشهد من إبر النحلو له أيضا
و إذا كانت النفوس كبارا تعبت في مرادها الأجسام

(12/111)


و من أمثال العامة من لم يغل دماغه في الصيف لم تغل قدره في الشتاء. من لم يركب الأخطار لم ينل الأوطار. شرح نهج البلاغة ج : 11 ص : 133إدراك السول و بلوغ المأمول بالصبر على الجوع و فقد الهجوع و سيلان الدموع و اعلم أن تقليل المأكول لا ريب في أنه نافع للنفس و أخلاق و التجربة قد دلت عليه لأنا نرى المكثر من الأكل يغلبه النوم و الكسل و بلادة الحواس و تتبخر المأكولات الكثيرة أبخرة كثيرة فتتصاعد إلى الدماغ فتفسد القوى النفسانية و أيضا فإن كثرة المأكل تزيل الرقة و تورث القساوة و السبعية و القياس أيضا يقتضي ذلك و لأن كثرة المزاولات سبب لحصول الملكات فالنفس إذا توفرت على تدبير الغذاء و تصريفه كان ذلك شغلا شاغلا لها و عائقا عظيما عن انصبابها إلى الجهة الروحانية العالية و لكن ينبغي أن يكون تقليل الغذاء إلى حد يوجب جوعا قليلا فإن الجوع المفرط يورث ضعف الأعضاء الرئيسة و اضطرابها و اختلال قواها و ذلك يقتضي تشويش النفس و اضطراب الفكر و اختلال العقل و لذلك تعرض الأخلاط السوداوية لمن أفرط عليه الجوع فإذن لا بد من إصلاح أمر الغذاء بأن يكون قليل الكمية كثير الكيفية فتؤثر قلة كميته في أنه لا يشغل النفس بتدبير الهضم عن التوجه إلى الجهة العالية الروحانية و تؤثر كثرة كيفيته في تدارك الخلل الحاصل له من قلة الكمية و يجب أن يكون الغذاء شديد الإمداد للأعضاء الرئيسة لأنها هي المهمة من أعضاء البدن و ما دامت باقية على كمال حالها لا يظهر كثير خلل من ضعف غيرها من الأعضاء

(12/112)


شرح نهج البلاغة ج : 11 ص : 134فصل في الرياضة النفسية و أقسامهاو اعلم أن الرياضة و الجوع هي أمر يحتاج إليه المريد الذي هو بعد في طريق السلوك إلى الله. و ينقسم طالبوا هذا الأمر الجليل الشاق إلى أقسام أربعة أحدها الذين مارسوا العلوم الإلهية و أجهدوا أنفسهم في طلبها و الوصول إلى كنهها بالنظر الدقيق في الزمان الطويل فهو لا يحصل لهم شوق شديد و ميل عظيم إلى الجهة العالية الشريفة فيحملهم حب الكمال على الرياضة. و ثانيها الأنفس التي هي بأصل الفطرة و الجوهر مائلة إلى الروحانية من غير ممارسة علم و لا دربة بنظر و بحث و قد رأينا مثلهم كثيرا و شاهدنا قوما من العامة متى سنح لهم سانح مشوق مثل صوت مطرب أو إنشاد بيت يقع في النفس أو سماع كلمة توافق أمرا في بواطنهم فإنه يستولي عليهم الوجد و يشتد الحنين و تغشاهم غواش لطيفة روحانية يغيبون بها عن المحسوسات و الجسمانيات. و ثالثها نفوس حصل لها الأمران معا الاستعداد الأصلي و الاشتغال بالعلوم النظرية الإلهية. و رابعها النفوس التي لا استعداد لها في الأصل و لا ارتاضت بالعلوم الإلهية و لكنهم قوم سمعوا كمال هذه الطريقة و أن السعادة الإنسانية ليست إلا بالوصول إليها فمالت نحوها و حصل لها اعتقاد فيها. فهذه أقسام المريدين و الرياضة التي تليق بكل واحد من هذه الأقسام غير الرياضة اللائقة بالقسم الآخر. شرح نهج البلاغة ج : 11 ص : 135و نحتاج قبل الخوض في ذلك إلى تقديم أمرين أحدهما أن النفحات الإلهية دائمة مستمرة و أنه كل من توصل إليها وصل قال سبحانه و تعالى وَ الَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنو
قال النبي ص إن لربكم في أيام عصركم نفحات ألا فتعرضوا لنفحاته

(12/113)


و ثانيهما أن النفوس البشرية في الأكثر مختلفة بالنوع فقد تكون بعض النفوس مستعدة غاية الاستعداد لهذا المطلب و ربما لم تكن البتة مستعدة له و بين هذين الطرفين أوساط مختلفة بالضعف و القوة. و إذا تقرر ذلك فاعلم أن القسمين الأولين لما اختلفا فيما ذكرناه لا جرم اختلفا في الكسب و المكتسب. أما الكسب فإن صاحب العلم الأولى به في الأكثر العزلة و الانقطاع عن الخلق لأنه قد حصلت له الهداية و الرشاد فلا حاجة له إلى مخالطة أحد يستعين به على حصول ما هو حاصل و أما صاحب الفطرة الأصلية من غير علم فإنه لا يليق به العزلة لأنه يحتاج إلى المعلم و المرشد فإنه ليس يكفي الفطرة الأصلية في الوصول إلى المعالم الإلهية و الحقائق الربانية و لا بد من موقف و مرشد في مبدإ الحال هذا هو القول في الكسب بالنظر إليها. و أما المكتسب فإن صاحب العلم إذا اشتغل بالرياضة كانت مشاهداته و مكاشفاته أكثر كمية و أقل كيفية مما لصاحب الفطرة المجردة أما كثرة الكمية فلأن قوته النظرية تعينه على ذلك و أما قلة الكيفية فلأن القوة النفسانية تتوزع على تلك الكثرة و كلما كانت الكثرة أكثر كان توزع القوة إلى أقسام أكثر و كان كل واحد منها شرح نهج البلاغة ج : 11 ص : 136أضعف م لو كانت الأقسام أقل عددا و إذا عرفت ذلك عرفت أن الأمر في جانب صاحب الفطرة الأصلية بالعكس من ذلك و هو أن مشاهداته و مكاشفاته تكون أقل كمية و أكثر كيفية. و أما الاستعداد الثالث و هو النفس التي قد جمعت الفطرة الأصلية و العلوم الإلهية النظرية بالنظر فهي النفس الشريفة الجليلة الكاملة. و هذه الأقسام الثلاثة مشتركة في أن رياضتها القلبية يجب أن تكون زائدة في الكم و الكيف على رياضتها البدنية لأن الغرض الأصلي هو رياضة القلب و طهارة النفس و إنما شرعت الرياضات البدنية و العبادات الجسمانية لتكون طريقا إلى تلك الرياضة الباطنة فإذا حصلت كان الاشتغال بالرياضة البدنية عبثا لأن الوسيلة

(12/114)


بعد حصول المتوسل إليه فضلة مستغنى عنها بل ربما كانت عائقة عن المقصود نعم لا بد من المحافظة على الفرائض خاصة لئلا تعتاد النفس الكسل و ربما أفضى ذلك إلى خلل في الرياضة النفسانية و لهذا حكي عن كثير من كبراء القوم قلة الاشتغال بنوافل العبادات. و أما القسم الرابع و هو النفس التي خلت عن الوصفين معا فهذه النفس يجب ألا تكون رياضتها في مبدإ الحال إلا بتهذيب الأخلاق بما هو مذكور في كتب الحكمة الخلقية فإذا لانت و مرنت و استعدت للنفحات الإلهية حصل لها ذوق ما فأوجب ذلك الذوق شوقا فأقبلت بكليتها على مطلوبها
شرح نهج البلاغة ج : 11 ص : 137فصل في أن الجوع يؤثر في صفاء النفسو اعلم أن السبب الطبيعي في كون الجوع مؤثرا في صفاء النفس أن البلغم الغالب على مزاج البدن يوجب بطبعه البلادة و إبطاء الفهم لكثرة الأرضية فيه و ثقل جوهرة و كثرة ما يتولد عنه من البخارات التي تسد المجاري و تمنع نفوذ الأرواح و لا ريب أن الجوع يقتضي تقليل البلغم لأن القوة الهاضمة إذا لم تجد غذاء تهضمه عملت في الرطوبة الغريبة الكائنة في الجسد فكلما انقطع الغذاء استمر عملها في البلغم الموجود في البدن فلا تزال تعمل فيه و تذيبه الحرارة الكائنة في البدن حتى يفنى كل ما في البدن من الرطوبات الغريبة و لا يبقى إلا الرطوبات الأصلية فإن استمر انقطاع الغذاء أخذت الحرارة و القوة الهاضمة في تنقيص الرطوبات الأصلية من جوهر البدن فإن كان ذلك يسيرا و إلى حد ليس بمفرط لم يضر ذلك بالبدن كل الإضرار و كان ذلك هو غاية الرياضة التي أشار أمير المؤمنين ع إليها بقوله حتى دق جليله و لطف غليظه و إن أفرط وقع الحيف و الإجحاف على الرطوبة الأصلية و عطب البدن و وقع صاحبه في الدق و الذبول و ذلك منهي عنه لأنه قتل للنفس فهو كمن يقتل نفسه بالسيف أو بالسكين
كلام للفلاسفة و الحكماء في المكاشفات الناشئة عن الرياضة

(12/115)


و اعلم أن قوله ع و برق له لامع كثير البرق هو حقيقة مذهب الحكماء و حقيقة قول الصوفية أصحاب الطريقة و الحقيقة و قد صرح به الرئيس أبو علي بن سينا في كتاب الإشارات فقال في ذكر السالك إلى مرتبة العرفان ثم إنه شرح نهج البلاغة ج : 11 ص : 138إذا بلغت به الإرادة الرياضة حدا ما عنت له خلسات من اطلاع نور الحق إليه لذيذة كأنها بروق تومض إليه ثم تخمد عنه و هي التي تسمى عندهم أوقاتا و كل وقت يكتنفه وجد إليه و وجد عليه ثم إنه لتكثر عليه هذه الغواشي إذا أمعن في الارتياض ثم إنه ليتوغل في ذلك حتى يغشاه في غير الارتياض فكلما لمح شيئا عاج منه إلى جانب القدس فتذكر من أمره أمرا فغشيه غاش فيكاد يرى الحق في كل شي ء و لعله إلى هذا الحد تستولي عليه غواشيه و يزول هو عن سكينته و يتنبه جليسه لاستنفاره عن قراره فإذا طالت عليه الرياضة لم تستنفره غاشية و هدي للتأنس بما هو فيه ثم إنه لتبغ به الرياضة مبلغا ينقلب له وقته سكينة فيصير المخطوب مألوفا و الوميض شهابا بينا و يحصل له معارف مستقرة كأنها صحبة مستمرة و يستمتع فيها ببهجته فإذا انقلب عنها انقلب حيران آسفا. فهذه ألفاظ الحكيم أبي علي بن سينا في الإشارات و هي كما نراها مصرح فيها بذكر البروق اللامعة للعارف. و قال القشيري في الرسالة لما ذكر الحال و الأمور الواردة على العارفين قال هي بروق تلمع ثم تخمد و أنوار تبدو ثم تخفى ما أحلاها لو بقيت مع صاحبها ثم تمثل بقول البحتري

(12/116)


خطرت في النوم منها خطرة خطرة البرق بدا ثم اضمحل أي زور لك لو قصدا سرى و ملم بك لو حقا فعلفهو كما تراه يذكر البروق اللامعة حسبما ذكره الحكيم و كلاهما يتبع ألفاظ أمير المؤمنين ع لأنه حكيم الحكماء و عارف العارفين و معلم الصوفية و لو لا أخلاقه شرح نهج البلاغة ج : 11 ص : 139و كلامه و تعليمه للناس هذا الفن تارة بقوله و تارة بفعله لما اهتدى أحد من ه الطائفة و لا علم كيف يورد و لا كيف يصدر. و قال القشيري أيضا في الرسالة المحاضرة قبل المكاشفة فإذا حصلت المكاشفة فبعدها المشاهدة. و قال و هي أرفع الدرجات قال فالمحاضرة حضور القلب و قد تكون بتواتر البرهان و الإنسان بعد وراء الستر و إن كان حاضرا باستيلاء سلطان الذكر. و أما المكاشفة فهي حضور البين غير مفتقر إلى تأمل الدليل و تطلب السبيل ثم المشاهدة و هي وجود الحق من غير بقاء تهمة. و أحسن ما ذكر في المشاهد قول الجنيد هي وجود الحق مع فقدانك. و قال عمرو بن عثمان المكي المشاهدة أن تتوالى أنوار التجلي على القلب من غير أن يتخللها ستر و لا انقطاع كما لو قدر اتصال البروق في الليلة المظلمة فكما أنها تصير من ذلك بضوء النهار فكذلك القلب إذا دام له التجلي مع النهار فلا ليل. و أنشدوا شعرا
ليلي بوجهك مشرق و ظلامه في الناس سارفالناس في سدف الظلام و نحن في ضوء النهار
و قال الثوري لا تصح للعبد المشاهدة و قد بقي له عرق قائم. و قالوا إذا طلع الصباح استغني عن المصباح. و أنشدوا أيضا
فلما استنار الصبح طوح ضوءه بأنواره أنوار ضوء الكواكب
شرح نهج البلاغة ج : 11 ص : 140فجرعهم كأسا لو ابتليت لظى بتجريعه طارت كأسرع ذاهكأس و أي كأس تصطلمهم عنهم و تفنيهم و تخطفهم منهم و لا تبقيهم كأس لا تبقى و لا تذر تمحو بالكلية و لا تبقى شظية من آثار البشرية كما قال قائلهم
ساروا فلم يبق لا عين و لا أثر

(12/117)


و قال القشيري أيضا هي ثلاث مراتب اللوائح ثم اللوامع ثم الطوالع فاللوائح كالبروق ما ظهرت حتى استترت كما قال القائل
فافترقنا حولا فلما التقينا كان تسليمه علي وداعا
و أنشدوا
يا ذا الذي زار و ما زارا كأنه مقتبس نارامر بباب الدار مستعجلا ما ضره لو دخل الدارا
ثم اللوامع و هي أظهر من اللوائح و ليس زوالها بتلك السرعة فقد تبقى وقتين و ثلاثة و لكن كما قيل
العين باكية لم تشبع النظرا
أو كما قالوا
و بلائي من مشهد و مغيب و حبيب مني بعيد قريب لم ترد ماء وجهه العين حتى شرقت قبل ريها برقيبفأصحاب هذا المقام بين روح و فوح لأنهم بين كشف و ستر يلمع ثم يقطع لا يستقر لهم نور النهار حتى تكر عليه عساكر الليل فهم كما قيل
و الليل يشملنا بفاضل برده و الصبح يلحفنا رداء مذهبا
ثم الطوالع و هي أبقى وقتا و أقوى سلطانا و أدوم مكثا و أذهب للظلمة و أنفي للمهمة. شرح نهج البلاغة ج : 11 ص : 141أ فلا ترى كلام القوم كله مشحون بالبروق و اللمعان. و كان مما نقم حامد بن العباس وزير المقتدر و علي بن عيسى الجراح وزيره أيضا على الحلاج أنهما وج في كتبه لفظ النور الشعشعاني و ذلك لجهالتهما مراد القوم و اصطلاحهم و من جهل أمرا عاداه.
ثم قال ع و تدافعته الأبواب إلى باب السلامة و دار الإقامة أي لم يزل ينتقل من مقام من مقامات القوم إلى مقام فوقه حتى وصل و تلك المقامات معروفة عند أهلها و من له أنس بها و سنذكرها فيما بعد. ثم قال و ثبتت رجلاه بطمأنينة بدنه في قرار الأمن و الراحة بما استعمل قلبه و أرضى ربه أي كانت الراحة الكلية و السعادة الأبدية مستثمره من ذلك التعب الذي تحمله لما استعمل قلبه و راض جوارحه و نفسه حتى وصل كما قيل
عند الصباح يحمد القوم السرى و تنجلي عنا غيابات الكرى
و قال الشاعر
تقول سليمى لو أقمت بأرضنا و لم تدر أني للمقام أطوف
و قال آخر
ما ابيض وجه المرء في طلب العلا حتى يسود وجهه في البيد
و قال

(12/118)


فاطلب هدوءا بالتقلقل و استثر بالعيس من تحت السهاد هجوداما إن ترى الأحساب بيضا وضحا إلا بحيث ترى المنايا سودا
شرح نهج البلاغة ج : 11 ص : 215142- و من كلام له ع يحث فيه أصحابه على الجهادوَ اللَّهُ مُسْتَأْدِيكُمْ شُكْرَهُ وَ مُوَرِّثُكُمْ أَمْرَهُ وَ مُمْهِلُكُمْ فِي مِضْمَارٍ مَمْدُودٍ لِتَتَنَازَعُوا سَبَقَهُ فَشُدُّوا عُقَدَ الْمَآزِرِ وَ اطْوُوا فُضُولَ الْخَوَاصِرِ لَا تَجْتَمِعُ عَزِيمَةٌ وَ وَلِيمَةٌ مَا أَنْقَضَ النَّوْمَ لِعَزَائِمِ الْيَوْمِ وَ أَمْحَى الظُّلَمَ لِتَذَاكِيرِ الْهِمَمِ
مستأديكم شكره أي طالب منكم أداء ذلك و القيام به استأديت ديني عند فلان أي طلبته. و قوله و مورثكم أمره أي سيرجع أمر الدولة إليكم و يزول أمر بني أمية. ثم شبه الآجال التي ضربت للمكلفين ليقوموا فيها بالواجبات و يتسابقوا فيها إلى الخيرات بالمضمار الممدود لخيل تتنازع فيه السبق. ثم قال فشدوا عقد المآزر أي شمروا عن ساق الاجتهاد و يقال لمن يوصى بالجد و التشمير اشدد عقدة إزارك لأنه إذا شدها كان أبعد عن العثار و أسرع للمشي. قوله و اطووا فضول الخواصر نهى عن كثرة الأكل لأن الكثير الأكل لا يطوي فضول خواصره لامتلائها و القليل الأكل يأكل في بعضها و يطوي بعضها قال الشاعر شرح نهج البلاغة ج : 11 ص : 14كلوا في بعض بطنكم و عفوا فإن زمانكم زمن خميص
و قال أعشى باهلة
طاوي المصير على العزاء منصلت بالقوم ليلة لا ماء و لا شجر
و قال الشنفري
و أطوي على الخمص الحوايا كما انطوت خيوطة ماري تغار و تفتلثم أتى ع بثلاثة أمثال مخترعة له لم يسبق بها و إن كان قد سبق بمعناها و هي قوله لا تجتمع عزيمة و وليمة و قوله ما أنقض النوم لعزائم اليوم و قوله و أمحى الظلم لتذاكير الهمم. فمما جاء للمحدثين من ذلك ما كتبه بعض الكتاب إلى ولده
خدمة السلطان والكا سات في أيدي الملاح ليس يلتامان فاطلب رفعة أو شرب راحو مثله قول آخر لولده

(12/119)


ما للمطيع هواه من الملام ملاذفاختر لنفسك هذا مجد و هذا التذاذ
و قال آخر
و ليس فتى الفتيان من راح و اغتدى لشرب صبوح أو لشرب غبوق و لكن فتى الفتيان من راح و اغتدى لضر عدو أو لنفع صديق شرح نهج البلاغة ج : 11 ص : 144و هذا كثير جدا يناسب قوله لا تجتمع عزيمة و وليمة و مثل قوله ما أنقض النوم لعزائم اليوم قول الشاعرفتى لا ينام على عزمه و من صمم العزم لم يرقد
و قوله و أمحى الظلم لتذاكير الهمم أي الظلم التي ينام فيها لا كل الظلم أ لا ترى أنه إذا لم ينم في الظلمة بل كان عنده من شدة العزم و قوة التصميم ما لا ينام معه فإن الظلمة لا تمحو تذاكير هممه و التذاكير جمع تذكار. و المثلان الأولان أحسن من الثالث و كان الثالث من تتمة الثاني و قد قالت العرب في الجاهلية هذا المعنى و جاء في القرآن العزيز أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَ لَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْساءُ وَ الضَّرَّاءُ وَ زُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ. و هذا مثل قوله لا تجتمع عزيمة و وليمة أي لا يجتمع لكم دخول الجنة و الدعة و القعود عن مشقة الحرب
شرح نهج البلاغة ج : 11 ص : 216145- و من كلام له ع قاله بعد تلاوته أَلْهاكُمُ التَّكاثُرُ حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقابِرَ يَا لَهُ مَرَاماً مَا أَبْعَدَهُ وَ زَوْراً مَا أَغْفَلَهُ وَ خَطَراً مَا أَفْظَعَهُ لَقَدِ اسْتَخْلَوْا مِنْهُمْ أَيَّ مُدَّكِرٍ وَ تَنَاوَشُوهُمْ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ أَ فَبِمَصَارِعِ آبَائِهِمْ يَفْخَرُونَ أَمْ بِعَدِيدِ الْهَلْكَى يَتَكَاثَرُونَ

(12/120)


قد اختلف المفسرون في تأويل هاتين الآيتين فقال قوم المعنى أنكم قطعتم أيام عمركم في التكاثر بالأموال و الأولاد حتى أتاكم الموت فكني عن حلول الموت بهم بزيارة المقابر. و قال قوم بل كانوا يتفاخرون بأنفسهم و تعدى ذلك إلى أن تفاخروا بأسلافهم الأموات فقالوا منا فلان و فلان لقوم كانوا و انقرضوا. و هذا هو التفسير الذي يدل عليه كلام أمير المؤمنين ع قال يا له مراما منصوب على التمييز. ما أبعده أي لا فخر في ذلك و طلب الفخر من هذا الباب بعيد و إنما الفخر بتقوى الله و طاعته. شرح نهج البلاغة ج : 11 ص : 146و زورا ما أغفله ارة إلى القوم الذين افتخروا جعلهم بتذكر الأموات السالفين كالزائرين لقبورهم و الزور اسم للواحد و الجمع كالخصم و الضيف قال ما أغفلهم عما يراد منهم لأنهم تركوا العبادة و الطاعة و صرموا الأوقات بالمفاخرة بالموتى. ثم قال و خطرا ما أفظعه إشارة إلى الموت أي ما أشده فظع الشي ء بالضم فهو فظيع أي شديد شنيع مجاوز للمقدار. قوله لقد استخلوا منهم أي مدكر قال الراوندي أي وجدوا موضع التذكر خاليا من الفائدة و هذا غير صحيح و كيف يقول ذلك و قد قال و خطرا ما أفظعه و هل يكون أمر أعظم تذكيرا من الاعتبار بالموتى و الصحيح أنه أرا باستخلوا ذكر من خلا من آبائهم أي من مضى يقال هذا الأمر من الأمور الخالية و هذا القرن من القرون الخالية أي الماضية. و استخلى فلان في حديثه أي حدث عن أمور خالية و المعنى أنه استعظم ما يوجبه حديثهم عما خلا و عمن خلا من أسلافهم و آثار أسلافهم من التذكير فقال أي مدكر و واعظ في ذلك و روي أي مذكر بمعنى المصدر كالمعتقد بمعنى الاعتقاد و المعتبر بمعنى الاعتبار. و تناوشوهم من مكان بعيد أي تناولوهم و المراد ذكروهم و تحدثوا عنهم فكأنهم تناولوهم و هذه اللفظة من ألفاظ القرآن العزيز وَ قالُوا آمَنَّا بِهِ وَ أَنَّى لَهُمُ التَّناوُشُ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ و أنى لهم تناول الإيمان حينئذ بعد

(12/121)


فوات الأمر شرح نهج البلاغة ج : 11 ص : 14يَرْتَجِعُونَ مِنْهُمْ أَجْسَاداً خَوَتْ وَ حَرَكَاتٍ سَكَنَتْ وَ لَأَنْ يَكُونُوا عِبَراً أَحَقُّ مِنْ أَنْ يَكُونُوا مُفْتَخَراً وَ لَأَنْ يَهْبِطُوا بِهِمْ جَنَابَ ذِلَّةٍ أَحْجَى مِنْ أَنْ يَقُومُوا بِهِمْ مَقَامَ عِزَّةٍ لَقَدْ نَظَرُوا إِلَيْهِمْ بِأَبْصَارِ الْعَشْوَةِ وَ ضَرَبُوا مِنْهُمْ فِي غَمْرَةِ جَهَالَةٍ وَ لَوِ اسْتَنْطَقُوا عَنْهُمْ عَرَصَاتِ تِلْكَ الدِّيَارِ الْخَاوِيَةِ وَ الرُّبُوعِ الْخَالِيَةِ لَقَالَتْ ذَهَبُوا فِي الْأَرْضِ ضُلَّالًا وَ ذَهَبْتُمْ فِي أَعْقَابِهِمْ جُهَّالًا تَطَئُونَ فِي هَامِهِمْ وَ تَسْتَنْبِتُونَ فِي أَجْسَادِهِمْ وَ تَرْتَعُونَ فِيمَا لَفَظُوا وَ تَسْكُنُونَ فِيمَا خَرَّبُوا وَ إِنَّمَا الْأَيَّامُ بَيْنَكُمْ وَ بَيْنَهُمْ بَوَاكٍ وَ نَوَائِحُ عَلَيْكُمْ أُولَئِكُمْ سَلَفُ غَايَتِكُمْ وَ فُرَّاطُ مَنَاهِلِكُمْ الَّذِينَ كَانَتْ لَهُمْ مَقَاوِمُ الْعِزِّ وَ حَلَبَاتُ الْفَخْرِ مُلُوكاً وَ سُوَقاً

(12/122)


يرتجعون منهم أجسادا أي يذكرون آباءهم فكأنهم ردوهم إلى الدنيا و ارتجعوهم من القبور و خوت خلت. قال و هؤلاء الموتى أحق بأن يكونوا عبرة و عظة من أن يكونوا فخرا و شرفا و المفتخرون بهم أولى بالهبوط إلى جانب الذلة منهم بالقيام مقام العز. و تقول هذا أحجى من فلان أي أولى و أجدر و الجناب الفناء. شرح نهج البلاغة ج : 11 ص : 148ثم قال لقد نظروا إليهم بأبصار العشوة أي لم ينظروا النظر المفضي إلى الرؤية لأن أبصارهم ذات عشوة و هو مرض في العين ينقص به الأبصار و في عين فلان عشاء و عشوة بمعنى و منه قيل لكل أمر ملتبس يركبه الكب على غير بيان أمر عشوة و منه أوطأتني عشوة و يجوز بالضم و الفتح. قال و ضربوا بهم في غمرة جهالة أي و ضربوا من ذكر هؤلاء الموتى في بحر جهل و الضرب ها هنا استعارة أو يكون من الضرب بمعنى السير كقوله تعالى وَ إِذا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ أي خاضوا و سبحوا من ذكرهم في غمرة جهالة و كل هذا يرجع إلى معنى واحد و هو تسفيه رأي المفتخرين بالموتى و القاطعين الوقت بالتكاثر بهم إعراضا عما يجب إنفاقه من العمر في الطاعة و العبادة. ثم قال لو سألوا عنهم ديارهم التي خلت منهم و يمكن أن يريد بالديار و الربوع القبور لقالت ذهبوا في الأرض ضلالا أي هالكين و منه قوله تعالى وَ قالُوا أَ إِذا ضَلَلْنا فِي الْأَرْضِ أَ إِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ. و ذهبتم في أعقابهم أي بعدهم جهالا لغفلتكم و غروركم. قوله ع تطئون في هامهم أخذ هذا المعنى أبو العلاء المعري فقال
خفف الوطء ما أظن أديم الأرض إلا من هذه الأجسادرب لحد قد صار لحدا مرارا ضاحك من تزاحم الأضداد

(12/123)


شرح نهج البلاغة ج : 11 ص : 149و دفين على بقايا دفين من عهود الآباء و الأجدادصاح هذي قبورنا تملأ الأرض فأين القبور من عهد عادسر إن اسطعت في الهواء رويدا لا اختيالا على رفات العباقوله و تستنبتون في أجسادهم أي تزرعون النبات في أجسادهم و ذلك لأن أديم الأرض الظاهر إذا كان من أبدان الموتى فالزرع لا محالة يكون نابتا في الأجزاء الترابية التي هي أبدان الحيوانات و روي و تستثبتون بالثاء أي و تنصبون الأشياء الثابتة كالعمد و الأساطين للأوطان في أجساد الموتى. ثم قال و ترتعون فيما لفظوا لفظت الشي ء بالفتح رميته من فمي ألفظه بالكسر و يجوز أن يريد بذلك أنكم تأكلون ما خلفوه و تركوه و يجوز أن يريد أنكم تأكلون الفواكه التي تنبت في أجزاء ترابية خالطها الصديد الجاري من أفواههم ثم قال و تسكنون فيما خربا أي تسكنون في المساكن التي لم يعمروها بالذكر و العبادة فكأنهم أخربوها في المعنى ثم سكنتم أنتم فيها بعدهم و يجوز أن يريد أن كل دار عامرة قد كانت من قبل خربة و إنما أخربها قوم بادوا و ماتوا فإذن لا ساكن منا في عمارة إلا و يصدق عليه أنه ساكن فيما قد كان خرابا من قبل و الذين أخربوه الآن موتى و يجوز أن يريد بقوله و تسكنون فيما خربوا و تسكنون في دور فارقوها و أخلوها فأطلق على الخلو و الفراغ لفظ الخراب مجازا. قوله و إنما الأيام بينكم و بينهم بواك و نوائح عليكم يريد أن الأيام و الليالي تشيع رائحا إلى المقابر و تبكي و تنوح على الباقين الذين سيلتحقون به عن قريب. شرح نهج البلاغة ج : 11 ص : 150قوله أولئكم سلف غايتكم السلف المتقدمون و الغاية الحد الذي ينتهي إليه إما حسيا أو معنويا و المراد هاهنا الموت. و الفرط القوم يسبقون الحي إلى المنهل. و مقاوم العز دعائمه جمع مقوم و أصلها الخشبة التي يمسكها الحراث و حلبات الفخجمع حلبة و هي الخيل تجمع للسباق. و السوق بفتح الواو جمع سوقة و هو من دون الملك

(12/124)


سَلَكُوا فِي بُطُونِ الْبَرْزَخِ سَبِيلًا سُلِّطَتِ الْأَرْضُ عَلَيْهِمْ فِيهِ فَأَكَلَتْ مِنْ لُحُومِهِمْ وَ شَرِبَتْ مِنْ دِمَائِهِمْ فَأَصْبَحُوا فِي فَجَوَاتِ قُبُورِهِمْ جَمَاداً لَا يَنْمُونَ وَ ضِمَاراً لَا يُوجَدُونَ لَا يُفْزِعُهُمْ وُرُودُ الْأَهْوَالِ وَ لَا يَحْزُنُهُمْ تَنَكُّرُ الْأَحْوَالِ وَ لَا يَحْفِلُونَ بِالرَّوَاجِفِ وَ لَا يَأْذَنُونَ لِلْقَوَاصِفِ غُيَّباً لَا يُنْتَظَرُونَ وَ شُهُوداً لَا يَحْضُرُونَ وَ إِنَّمَا كَانُوا جَمِيعاً فَتَشَتَّتُوا وَ أُلَّافاً فَافْتَرَقُوا وَ مَا عَنْ طُولِ عَهْدِهِمْ وَ لَا بُعْدِ مَحَلِّهِمْ عَمِيَتْ أَخْبَارُهُمْ وَ صَمَّتْ دِيَارُهُمْ وَ لَكِنَّهُمْ سُقُوا كَأْساً بَدَّلَتْهُمْ بِالنُّطْقِ خَرَساً وَ بِالسَّمْعِ صَمَماً وَ بِالْحَرَكَاتِ سُكُوناً فَكَأَنَّهُمْ فِي ارْتِجَالِ الصِّفَةِ صَرْعَى سُبَاتٍ جِيرَانٌ لَا يَتَأَنَّسُونَ وَ أَحِبَّاءُ لَا يَتَزَاوَرُونَ بَلِيَتْ بَيْنَهُمْ عُرَا التَّعَارُفِ وَ انْقَطَعَتْ مِنْهُمْ أَسْبَابُ الْإِخَاءِ فَكُلُّهُمْ وَحِيدٌ وَ هُمْ جَمِيعٌ وَ بِجَانِبِ الْهَجْرِ وَ هُمْ أَخِلَّاءُ لَا يَتَعَارَفُونَ لِلَيْلٍ صَبَاحاً وَ لَا لِنَهَارٍ مَسَاءً أَيُّ الْجَدِيدَيْنِ ظَعَنُوا فِيهِ كَانَ شرح نهج البلاغة ج : 11 ص : 151عَلَيْهِمْ سَرْمَداً شَاهَدُوا مِنْ أَخْطَارِ دَارِهِمْ أَفْظَعَ مِمَّا خَافُوا وَ رَأَوْا مِنْ آيَاتِهَا أَعْظَمَ مِمَّا قَدَّرُوا فَكِلَا الْغَايَتَيْنمُدَّتْ لَهُمْ إِلَى مَبَاءَةٍ فَاتَتْ مَبَالِغَ الْخَوْفِ وَ الرَّجَاءِ فَلَوْ كَانُوا يَنْطِقُونَ بِهَا لَعَيُّوا بِصِفَةِ مَا شَاهَدُوا وَ مَا عَايَنُوا وَ لَئِنْ عَمِيَتْ آثَارُهُمْ وَ انْقَطَعَتْ أَخْبَارُهُمْ لَقَدْ رَجَعَتْ فِيهِمْ أَبْصَارُ الْعِبَرِ وَ سَمِعَتْ عَنْهُمْ آذَانُ الْعُقُولِ وَ تَكَلَّمُوا مِنْ

(12/125)


غَيْرِ جِهَاتِ النُّطْقِ فَقَالُوا كَلَحَتِ الْوُجُوهُ النَّوَاضِرُ وَ خَوَتِ الْأَجْسَامُ النَّوَاعِمُ وَ لَبِسْنَا أَهْدَامَ الْبِلَى وَ تَكَاءَدَنَا ضِيقُ الْمَضْجَعِ وَ تَوَارَثْنَا الْوَحْشَةَ وَ تَهَدَّمَتْ عَلَيْنَا الرُّبُوعُ الصُّمُوتُ فَانْمَحَتْ مَحَاسِنُ أَجْسَادِنَا وَ تَنَكَّرَتْ مَعَارِفُ صُوَرِنَا وَ طَالَتْ فِي مَسَاكِنِ الْوَحْشَةِ إِقَامَتُنَا وَ لَمْ نَجِدْ مِنْ كَرْبٍ فَرَجاً وَ لَا مِنْ ضِيقٍ مُتَّسَعاً فَلَوْ مَثَّلْتَهُمْ بِعَقْلِكَ أَوْ كُشِفَ عَنْهُمْ مَحْجُوبُ الْغِطَاءِ لَكَ وَ قَدِ ارْتَسَخَتْ أَسْمَاعُهُمْ بِالْهَوَامِّ فَاسْتَكَّتْ وَ اكْتَحَلَتْ أَبْصَارُهُمْ بِالتُّرَابِ فَخَسَفَتْ وَ تَقَطَّعَتِ الْأَلْسِنَةُ فِي أَفْوَاهِهِمْ بَعْدَ ذَلَاقَتِهَا وَ هَمَدَتِ الْقُلُوبُ فِي صُدُورِهِمْ بَعْدَ يَقَظَتِهَا وَ عَاثَ فِي كُلِّ جَارِحَةٍ مِنْهُمْ جَدِيدُ بِلًى سَمَّجَهَا وَ سَهَّلَ طُرُقَ الآْفَةِ إِلَيْهَا مُسْتَسْلِمَاتٍ فَلَا أَيْدٍ تَدْفَعُ وَ لَا قُلُوبٌ تَجْزَعُ لَرَأَيْتَ أَشْجَانَ قُلُوبٍ وَ أَقْذَاءَ عُيُونٍ لَهُمْ فِي كُلِّ فَظَاعَةٍ صِفَةُ حَالٍ لَا تَنْتَقِلُ وَ غَمْرَةٌ لَا تَنْجَلِي فَكَمْ أَكَلَتِ الْأَرْضُ مِنْ عَزِيزِ جَسَدٍ وَ أَنِيقِ لَوْنٍ كَانَ فِي الدُّنْيَا غَذِيَّ تَرَفٍ وَ رَبِيبَ شَرَفٍ يَتَعَلَّلُ بِالسُّرُورِ فِي سَاعَةِ حُزْنِهِ وَ يَفْزَعُ إِلَى السَّلْوَةِ إِنْ مُصِيبَةٌ نَزَلَتْ بِهِ ضَنّاً بِغَضَارَةِ عَيْشِهِ وَ شَحَاحَةً بِلَهْوِهِ وَ لَعِبِهِ فَبَيْنَا هُوَ يَضْحَكُ إِلَى الدُّنْيَا وَ تَضْحَكُ إِلَيْهِ فِي ظِلِّ عَيْشٍ غَفُولٍ إِذْ وَطِئَ الدَّهْرُ بِهِ حَسَكَهُ وَ نَقَضَتِ الْأَيَّامُ قُوَاهُ وَ نَظَرَتْ إِلَيْهِ الْحُتُوفُ مِنْ كَثَبٍ فَخَالَطَهُ بَثٌّ لَا يَعْرِفُهُ وَ نَجِيُّ هَمٍّ شرح نهج البلاغة ج : 11

(12/126)


ص : 152مَا كَانَ يَجِدُهُ وَ تَوَلَّدَتْ فِيهِ فَتَرَاتُ عِلَلٍ آنَسَ مَا كَانَ بِصِحَّتِهِ فَفَزِعَ إِلَى مَا كَانَ عَوَّدَهُ الَطِبَّاءُ مِنْ تَسْكِينِ الْحَارِّ بِالْقَارِّ وَ تَحْرِيكِ الْبَارِدِ بِالْحَارِّ فَلَمْ يُطْفِئُ بِبَارِدٍ إِلَّا ثَوَّرَ حَرَارَةً وَ لَا حَرَّكَ بِحَارٍّ إِلَّا هَيَّجَ بُرُودَةً وَ لَا اعْتَدَلَ بِمُمَازِجٍ لِتِلْكَ الطَّبَائِعِ إِلَّا أَمَدَّ مِنْهَا كُلَّ ذَاتِ دَاءٍ حَتَّى فَتَرَ مُعَلِّلُهُ وَ ذَهَلَ مُمَرِّضُهُ وَ تَعَايَا أَهْلُهُ بِصِفَةِ دَائِهِ وَ خَرِسُوا عَنْ جَوَابِ السَّاِئِلينَ عَنْهُ وَ تَنَازَعُوا دُونَهُ شَجِيَّ خَبَرٍ يَكْتُمُونَهُ فَقَائِلٌ هُوَ لِمَا بِهِ وَ مُمَنٍّ لَهُمْ إِيَابَ عَافِيَتِهِ وَ مُصَبِّرٌ لَهُمْ عَلَى فَقْدِهِ يُذَكِّرُهُمْ أَسَى الْمَاضِينَ مِنْ قَبْلِهِ فَبَيْنَا هُوَ كَذَلِكَ عَلَى جَنَاحٍ مِنْ فِرَاقِ الدُّنْيَا وَ تَرْكِ الْأَحِبَّةِ إِذْ عَرَضَ لَهُ عَارِضٌ مِنْ غُصَصِهِ فَتَحَيَّرَتْ نَوَافِذُ فِطْنَتِهِ وَ يَبِسَتْ رُطُوبَةُ لِسَانِهِ فَكَمْ مِنْ مُهِمٍّ مِنْ جَوَابِهِ عَرَفَهُ فَعَيَّ عَنْ رَدِّهِ وَ دُعَاءٍ مُؤْلِمٍ بِقَلْبِهِ سَمِعَهُ فَتَصَامَّ عَنْهُ مِنْ كَبِيرٍ كَانَ يُعَظِّمُهُ أَوْ صَغِيرٍ كَانَ يَرْحَمُهُ وَ إِنَّ لِلْمَوْتِ لَغَمَرَاتٍ هِيَ أَفْظَعُ مِنْ أَنْ تُسْتَغْرَقَ بِصِفَةٍ أَوْ تَعْتَدِلَ عَلَى عُقُولِ أَهْلِ الدُّنْيَا

(12/127)


هذا موضع المثل ملعا يا ظليم و إلا فالتخوية من أراد أن يعظ و يخوف و يقرع صفاة القلب و يعرف الناس قدر الدنيا و تصرفها بأهلها فليأت بمثل هذه الموعظة في مثل هذا الكلام الفصيح و إلا فليمسك فإن السكوت أستر و العي خير من منطق يفضح صاحبه و من تأمل هذا الفصل علم صدق معاوية في قوله فيه و الله ما سن شرح نهج البلاغة ج : 11 ص : 153الفصاحة لقريش غيره و ينبغي لو اجتمع فصحاء العرب قاطبة في مجلس و تلى عليهم أن يسجدوا له كما سجد الشعراء لقول عدي بن الرقاعقلم أصاب من الدواة مدادها

(12/128)


فلما قيل لهم في ذلك قالوا إنا نعرف مواضع السجود في الشعر كما تعرفون مواضع السجود في القرآن. و إني لأطيل التعجب من رجل يخطب في الحرب بكلام يدل على أن طبعه مناسب لطباع الأسود و النمور و أمثالهما من السباع الضارية ثم يخطب في ذلك الموقف بعينه إذا أراد الموعظة بكلام يدل على أن طبعه مشاكل لطباع الرهبان لابسي المسوح الذين لم يأكلوا لحما و لم يريقوا دما فتارة يكون في صورة بسطام بن قيس الشيباني و عتيبة بن الحارث اليربوعي و عامر بن الطفيل العامري و تارة يكون في صورة سقراط الحبر اليوناني و يوحنا المعمدان الإسرائيلي و المسيح ابن مريم الإلهي. و أقسم بمن تقسم الأمم كلها به لقد قرأت هذه الخطبة منذ خمسين سنة و إلى الآن أكثر من ألف مرة ما قرأتها قط إلا و أحدثت عندي روعة و خوفا و عظة و أثرت في قلبي وجيبا و في أعضائي رعدة و لا تأملتها إلا و ذكرت الموتى من أهلي و أقاربي و أرباب ودي و خيلت في نفسي أني أنا ذلك الشخص الذي وصف ع حاله و كم قد قال الواعظون و الخطباء و الفصحاء في هذا المعنى و كم وقفت على ما قالوه و تكرر وقوفي عليه فلم أجد لشي ء منه مثل تأثير هذا الكلام في نفسي فإما أن يكون ذلك لعقيدتي في قائله أو كانت نية القائل صالحةو يقينه كان ثابتا و إخلاصه كان محضا شرح نهج البلاغة ج : 11 ص : 154خالصا فكان تأثير قوله في النفوس أعظم و سريان موعظته في القلوب أبلغ ثم نعود إلى تفسير الفصل فالبرزخ الحاجز بين الشيئين و البرزخ ما بين الدنيا و الآخرة من وقت الموت إلى البعث فيجوز أن يكون ارزخ في هذا الموضع القبر لأنه حاجز بين الميت و بين أهل الدنيا كالحائط المبني بين اثنين فإنه برزخ بينهما و يجوز أن يريد به الوقت الذي بين حال الموت إلى حال النشور و الأول أقرب إلى مراده ع لأنه قال في بطون البرزخ و لفظة البطون تدل على التفسير الأول و لفظتا أكلت الأرض من لحومهم و شربت من دمائهم مستعارتان. و الفجوات جمع فجوة

(12/129)


و هي الفرجة المتسعة بين الشيئين قال سبحانه وَ هُمْ فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ و قد تفاجى الشي ء إذا صارت له فجوة. و جمادا لا ينمون أي خرجوا عن صورة الحيوانية إلى صورة الجماد الذي لا ينمي و لا يزيدو يروى لا ينمون بتشديد الميم من النميمة و هي الهمس و الحركة و منه قولهم أسكت الله نامته في قول من شدد و لم يهمز. و ضمارا يقال لكل ما لا يرجى من الدين و الوعد و كل ما لا تكون منه على ثقة ضمار. ثم ذكر أن الأهوال الحادثة في الدنيا لا تفزعهم و أن تنكر الأحوال بهم و بأهل الدنيا لا يحزنهم و يروى تحزنهم على أن الماضي رباعي. و مثله قوله لا يحفلون بالرواجف أي لا يكترثون بالزلازل. شرح نهج البلاغة ج : 11 ص : 155قوله و لا يأذنون للقواصف أي لا يسمعون الأصوات الشديدة أذنت لكذا أي سمعته. و جمع الغائب غيب و غيب و كلاهما وي هاهنا و أراد أنهم شهود في الصورة و غير حاضرين في المعنى. و ألاف على فعال جمع آلف كالطراق جمع طارق و السمار جمع سامر و الكفار جمع كافر. ثم ذكر أنه لم تعم أخبارهم أي لم تستبهم أخبارهم و تنقطع عن بعد عهد بهم و لا عن بعد منزل لهم و إنما سقوا كأس المنون التي أخرستهم بعد النطق و أصمتهم بعد السمع و أسكنتهم بعد الحركة. و قوله و بالسمع صمما أي لم يسمعوا فيها نداء المنادي و لا نوح النائح أو لم يسمع في قبورهم صوت منهم. قوله فكأنهم في ارتجال الصفة أي إذا وصفهم الواصف مرتجلا غير مترو في الصفة و لا متهيئ للقول. قال كأنهم صرعى سبات و هو نوم لأنه لا فرق في الصورة بين الميت حال موته و النائم المسبوت. ثم وصفهم بأنهم جيران إلا أنهم لا مؤانسة بينهم كجيران الدنيا و أنهم أحباء إلا أنهم لا يتزاورون كالأحباب من أهل الدنيا. و قوله أحباء جمع حبيب كخليل و أخلاء و صديق و أصدقاء. ثم ذكر أن عرا التعارف قد بليت منهم و انقطعت بينهم أسباب الإخاء و هذه كلها استعارات لطيفة مستحسنة.

(12/130)


شرح نهج البلاغة ج : 11 ص : 156ثم وصفهم بصفة أخرى فقال كل واحد منهم موصوف بالوحدة و هم مع ذلك مجتمعون بخلاف الأحياء الذين إذا انضم بعضهم إلى بعض انتفى عنه وصف الوحدة. ثم قال و بجانب الهجر و هم أخلاء أي و كل منهم في جانب الهجر و هم مع ذلك أهل خلة و مودة أكانوا كذلك و هذا كله من باب الصناعة المعنوية و المجاز الرشيق. ثم قال إنهم لا يعرفون للنهار ليلا و لا لليل نهارا و ذلك لأن الواحد من البشر إذا مات نهارا لم يعرف لذلك النهار ليلا أبدا و إن مات ليلا لم يعرف لذلك الليل صباحا أبدا و قال الشاعر
لا بد من يوم بلا ليلة أو ليلة تأتي بلا يوم
و ليس المراد بقوله أي الجديدين ظعنوا فيه كان عليهم سرمدا أنهم و هم موتى يشعرون بالوقت الذي ماتوا فيه و لا يشعرون بما يتعقبه من الأوقات بل المراد أن صورة ذلك الوقت لو بقيت عندهم لبقيت أبدا من غير أن يزيلها وقت آخر يطرأ عليها و يجوز أن يفسر على مذهب من قال ببقاء الأنفس فيقال إن النفس التي تفارق ليلا تبقى الصورة الليلية و الظلمة حاصلة عندها أبدا لا تزول بطرآن نهار عليها لأنها قد فارقت الحواس فلا سبيل لها إلى أن يرتسم فيها شي ء من المحسوسات بعد المفارقة و إنما حصل ما حصل من غير زيادة عليه و كذلك الأنفس التي تفرق نهارا
بعض الأشعار و الحكايات في وصف القبور و الموتى
و اعلم أن الناس قد قالوا في حال الموتى فأكثروا فمن ذلك قول الرضي أبي الحسن رحمه الله تعالى شرح نهج البلاغة ج : 11 ص : 15أعزز علي بأن نزلت بمنزل متشابه الأمجاد بالأوغادفي عصبة جنبوا إلى آجالهم و الدهر يعجلهم عن الإروادضربوا بمدرجة الفناء قبابهم من غير أطناب و لا أعمادركب أناخوا لا يرجى منهم قصد لإتهام و لا إنجادكرهوا النزول فأنزلتهم وقعة للدهر باركة بكل مفادفتهافتوا عن رحل كل مذلل و تطاوحوا عن سرج كل جوادبادون في صور الجميع و إنهم متفردون تفرد الآحاد

(12/131)


قوله بادون في صور الجميع مأخوذ من قول أمير المؤمنين ع فكلهم وحيد و هم جميع. و قال أيضا
و لقد حفظت له فأين حفاظه و لقد وفيت له فأين وفاؤه أوعى الدعاء فلم يجبه قطيعة أم ضل عنه من البعاد دعاؤه هيهات أصبح سمعه و عيانه في الترب قد حجبتها أقذاؤه يمسي و لين مهاده حصباؤه فيه و مؤنس ليله ظلماؤه قد قلبت أعيانه و تنكرت أعلامه و تكسفت أضو شرح نهج البلاغة ج : 11 ص : 158مغف و ليس للذة إغفاؤه مغض و ليس لفكرة إغضاؤه وجه كلمع البرق غاض و ميضه قلب كصدر العضب فل مضاؤه حكم البلى فيه فلو تلقى به أعداءه لرتى له أعدو قال أبو العلاء
أستغفر الله ما عندي لكم خبر و ما خطابي إلا معشرا قبرواأصبحتم في البلى غبرا ملابسكم من الهباء فأين البرد و القطركنتم على كل خطب فادح صبرا فهل شعرتم و قد جادتكم الصبرو ما درى يوم أحد بالذين ثووا فيه و لا يوم بدر أنهم نصروا
و قال أبو عارم الكلابي
أ جازعة ردينة أن أتاها نعيي أم يكون لها اصطبارإذا ما أهل قبري و دعوني و راحوا و الأكف بها غبارو غودر أعظمي في لحد قبر تراوحه الجنائب و القطارتهب الريح فوق محط قبري و يرعى حوله اللهق النوارمقيم لا يكلمه صديق بقبر لا أزور و لا أزارفذاك النأي لا الهجران حولا و حولا ثم تجتمع الديار
مر الإسكندر بمدينة قد ملكها سبعة أملاك من بيت واحد و بادوا فسأل هل بقي من نسلهم أحد قالوا بقي واحد و هو يلزم المقابر فدعا به فسأله لم تلزم المقابر قال أردت أن أميز عظام الملوك من عظام عبيدهم فوجدتها سواء قال هل لك أن تلزمني حتى أنيلك بغيتك قال لو علمت أنك تقدر على ذلك للزمتك قال و ما بغيتك شرح نهج البلاغة ج : 11 ص : 159قال حياة لا موت معها قال لن أقدر على ذلك قال فدعني أطلبه ممن يقدر عليه. قال النبي ص ما رأيت منظرا إلا و القبر أفظع منه
و قال ص القبر أول منزل من منازل الآخرة فمن نجا منه فما بعده أيسر و من لم ينج فما بعده شر له

(12/132)


مر عبد الله بن عمر رضي الله عنه بمقبرة فصلى فيها ركعتين و قال ذكرت أهل القبور و أنه حيل بينهم و بين هذا فأحببت أن أتقرب بهما إلى الله
فإن قلت ما معنى قوله ع و بجانب الهجر و أي فائدة في لفظة جانب في هذا الموضع. قلت لأنهم يقولون فلان في جانب الهجر و في جانب القطيعة و لا يقولون في جانب الوصل و في جانب المصافاة و ذلك أن لفظة جنب في الأصل موضوعة للمباعدة و منه قولهم الجار الجنب و هو جارك من قوم غرباء يقال جنبت الرجل و أجنبته و تجنبته و تجانبته كله بمعنى و رجل أجنبي و أجنب و جنب و جانب كله بمعنى. قوله ع شاهدوا من أخطار دارهم المعنى أنه شاهد المتقون من آثار الرحمة و أماراتها و شاهد المجرمون من آثار النقمة و أماراتها عند الموت و الحصول في القبر أعظم مما كانوا يسمعون و يظنون أيام كونهم في الدنيا. ثم قال فكلا الغايتين مدت لهم المعنى مدت الغايتان غاية الشقي منهم و غاية السعيد. شرح نهج البلاغة ج : 11 ص : 160إلى مباءة أي إلى منزل يعظم حاله عن أن يبلغه خوف خائف أو رجاء راج و تلك المباءة هي النار أو الة و تقول قد استباء الرجل أي اتخذ مباءة و أبأت الإبل رددتها إلى مباءتها و هي معاطنها. ثم قال فلو كانوا ينطقون بها لعيوا بتشديد الياء قال الشاعر
عيوا بأمرهم كما عيت ببيضتها الحمامةجعلت لها عودين من نشم و آخر من ثمامة
و روي لعيوا بالتخفيف كما تقول حيوا قالوا ذهبت الياء الثانية لالتقاء الساكنين لأن الواو ساكنة و ضمت الياء الأولى لأجل الواو قال الشاعر
و كنا حسبناهم فوارس كهمس حيوا بعد ما ماتوا من الدهر أعصرا

(12/133)


قوله لقد رجعت فيهم يقال رجع البصر نفسه و رجع زيد بصره يتعدى و لا يتعدى يقول تكلموا معنى لا صورة فأدركت حالهم بالأبصار و الأسماع العقلية لا الحسية و كلحت الوجوه كلوحا و كلاحا و هو تكشر في عبوس. و النواضر النواعم و النضرة الحسن و الرونق. و خوت الأجساد النواعم خلت من دمها و رطوبتها و حشوتها و يجوز أن يكون خوت أي سقطت قال تعالى فَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها و الأهدام جمع هدم و هو الثوب البالي قال أوس
و ذات هدم عار نواشرها تصمت بالماء تولبا جذعا

(12/134)


شرح نهج البلاغة ج : 11 ص : 161و تكاءدنا شق علينا و منه عقبة كئود و يجوز تكأدنا جاءت هذه الكلمة في أخوات لها تفعل و تفاعل بمعنى و مثله تعهد الضيعة و تعاهدها. و يقال قوله و توارثنا الوحشة كأنه لما مات الأب فاستوحش أهله منه ثم مات الابن فاستوحش منه أهله أي صار كان الابن ورث تلك الوحشة من أبيه كما تورث الأموال و هذا من باب الاستعارة. قوله و تهدمت علينا الربوع يقال تهدم فلان على فلان غضبا إذا اشتد غضبه و يجوز أن يكون تهدمت أي تساقطت و روي و تهكمت بالكاف و هو كقولك تهدمت بالتفسيرين جميعا و يعني بالربوع الصموت القبور و جعلها صموتا لأنه لا نطق فيها كما تقول ليل قائم و نهار صائم أي يقام و يصام فيهما و هذا كله على طريق الهز و التحريك و إخراج الكلام في معرض غير المعرض المعهود جعلهم لو كانوا ناطقين مخبرين عن أنفسهم لأتوا بما وصفه من أحوالهم و ورد في الحديث أن عمر حضر جنازة رجل فلما دفن قال لأصحابه قفوا ثم ضرب فأمعن في القبور و استبطأه الناس جدا ثم رجع و قد احمرت عيناه و انتفخت أوداجه فقيل أبطأت يا أمير المؤمنين فما الذي حبسك قال أتيت قبور الأحبة فسلمت فلم يردوا علي السلام فلما ذهبت أقفي ناداني التراب فقال أ لا تسألني يا عمر ما فعلت باليدين قلت ما فعلت بهما قال قطعت الكفين من الرسغين و قطعت الرسغين من الذراعين و قطعت الذراعين من المرفقين و قطعت المرفقين من العضدين و قطعت العضدين من المنكبين و قطعت المنكبين من الكتفين فلما ذهبت أقفي ناداني التراب فقال أ لا تسألني يا عمر ما فعلت بالأبدان و الرجلين قلت ما فعلت قال قطعت الكتفين من الجنبين و قطعت الجنبين من الصلب و قطعت الصلب من الوركين و قطعت الوركين من الفخذين و قطعت الفخذين من الركبتين شرح نهج البلاغة ج : 11 ص : 162و قطعت الركبتين من الساقين و قطعت الساقين من القدمين فلمذهبت أقفي ناداني التراب فقال يا عمر عليك بأكفان لا تبلى فقلت و ما

(12/135)


أكفان لا تبلى قال تقوى الله و العمل بطاعته و هذا من الباب الذي نحن بصدده نسب الأقوال المذكورة إلى التراب و هو جماد و لم يكن ذلك و لكنه اعتبر فانقدحت في نفسه هذه المواعظ الحكمية فأفرغها في قالب الحكاية و رتبها على قانون المسألة و الإجابة و أضافها إلى جماد موات لأنه أهز لسامعها إلى تدبرها و لو قال نظرت فاعتبرت في حال الموتى فوجدت التراب قد قطع كذا من كذا لم تبلغ عظته المبلغ الذي بلغته حيث أودعها في الصورة التي اخترعها. قوله ع فلو مثلتهم بعقلك أو كشف عنهم محجوب الغطاء لك إلى آخر جواب لو هذا الكلام أخذه ابن نباته بعينه فقال فلو كشفتم عنهم أغطية الأجداث بعد ليلتين أو ثلاث لوجدتم الأحداق على الخدود سائلة و الألوان من ضيق اللحود حائلة و هوام الأرض في نواعم الأبدان جائلة و الرءوس الموسدة على الأيمان زائلة ينكرها من كان لها عارفا و يفر عنها من لم يزل لها آنفا. قوله ع ارتسخت أسماعهم ليس معناه ثبتت كما زعمه الراوندي لأنها لم تثبت و إنما ثبتت الهوام فيها بل الصحيح أنه من رسخ الغدير إذا نش ماؤه و نضب و يقال قد ارتسخت الأرض بالمطر إذا ابتلعته حتى يلتقي الثريان. و استكت أي ضاقت و انسدت قال النابغة
و نبئت خير الناس أنك لمتني و تلك التي تستك منها المسامع
شرح نهج البلاغة ج : 11 ص : 163قوله و اكتحلت أبصارهم بالتراب فخسفت أي غارت و ذهبت في الرأس و أخذ المتنبي قوله و اكتحلت أبصارهم بالتراب فقاليدفن بعضنا بعضا و يمشي أواخرنا على هام الأوالي و كم عين مقبلة النواحي كحيل بالجنادل و الرمال و مغض كان لا يغضي لخطب و بال كان يفكر في الهزاو ذلاقة الألسن حدتها ذلق اللسان و السنان يذلق ذلقا أي ذرب فهو ذلق و أذلق. و همدت بالفتح سكنت و خمدت و عاث أفسد و قوله جديد بلى من فن البديع لأن الجدة ضد البلى و قد أخذ الشاعر هذه اللفظة فقال
يا دار غادرني جديد بلاك رث الجديد فهل رثيث لذاك

(12/136)


و سمجها قبح صورتها و قد سمج الشي ء بالضم فهو سمج بالسكون ثم ضخم فهو ضخم و يجوز فهو سمج بالكسر مثل خشن فهو خشن. قوله و سهل طرق الآفة إليها و ذلك أنه إذا استولى العنصر الترابي على الأعضاء قوي استعدادها للاستحالة من صورتها الأولى إلى غيرها. و مستسلمات أي منقدة طائعة غير عاصية فليس لها أيد تدفع عنها و لا لها قلوب تجزع و تحزن لما نزل بها. و الأشجان جمع شجن و هو الحزن. و الأقذاء جمع قذى و هو ما يسقط في العين فيؤذيها. شرح نهج البلاغة ج : 11 ص : 164قوله صفة حال لا تنتقل أي لا تنتقل إلى حسن و صلاح و ليس يريد لا تقل مطلقا لأنها تنتقل إلى فساد و اضمحلال. و رجل عزيز أي حدث و عزيز الجسد أي طري و أنيق اللون معجب اللون و غذي ترف قذ غذي بالترف و هو التنعم المطغي. و ربيب شرف أي قد ربي في الشرف و العز و يقال رب فلان ولده يربه ربا و رباه يربيه تربية. و يتعلل بالسرور يتلهى به عن غيره و يفزع إلى السلوة يلتجئ إليها و ضنا أي بخلا و غضارة العيش نعيمه و لينه. و شحاحة أي بخلا شححت بالكسر أشح و شححت أيضا بالفتح أشح و أشح بالضم و الكسر شحا و شحاحة و رجل شحيح و شحاح بالفتح و قوم شحاح و أشحة. و يضحك إلى الدنيا و تضحك إليه كناية عن الفرح بالعمر و العيشة و كذا كل واحد منهما يضحك إلى صاحبه لشدة الصفاء كأن الدنيا تحبه و هو يحبها. و عيش غفول قد غفل عن صاحبه فهو مستغرق في العيش لم ينتبه له الدهر فيكدر عليه وقته قال الشاعر
و كان المرء في غفلات عيش كأن الدهر عنها في وثاق
و قال الآخر
ألا إن أحلى العيش ما سمحت به صروف الليالي و الحوادث نوم

(12/137)


قوله إذ وطئ الدهر به حسكة أي إذ أوطأه الدهر حسكة و الهاء في حسكة ترجع إلى الدهر عدي الفعل بحرف الجر كما تقول قام زيد بعمرو أي أقامه. شرح نهج البلاغة ج : 11 ص : 165و قواه جمع قوة و هي المرة من مرائر الحبل و هذا الكلام استعارة. و من كثب من قرب و البث الحزن البث أيضا الأمر الباطن الدخيل. و نجي الهم ما يناجيك و يسارك و الفترات أوائل المرض. و آنس ما كان بصحته منصوب على الحال و قال الراوندي في الشرح هذا من باب أخطب ما يكون الأمير قائما ثم ذكر أن العامل في الحال فترات قال تقديره فترات آنس ما كان و ما ذكره الراوندي فاسد فإنه ليس هذا من باب أخطب ما يكون الأمير قائما لأن ذلك حال سد مسد خبر المبتدإ و ليس هاهنا مبتدأ و أيضا فليس العامل في الحال فترات و لا فتر بل العامل تولدت و القار البارد. فإن قلت لم قال تسكين الحار بالقار و تحريك البارد بالحار و لأي معنى جعل الأول التسكين و الثاني التحريك قلت لأن من شأن الحرارة التهييج و التثوير فاستعمل في قهرها بالبارد لفظة التسكين و من شأن البرودة التخدير و التجميد فاستعمل في قهرها بالحار لفظة التحريك. قوله و لا اعتدل بممازج لتلك الطبائع إلا أمد منها كل ذات داء أي و لا استعمل دواء مفردا معتدل المزاج أو مركبا كذلك إلا و أمد كل طبيعة منها ذات مرض بمرض زائد على الأول. و ينبغي أن يكون قوله و لا اعتدل بممازج أي و لا رام الاعتدال لممتزج لأنه لو حصل له الاعتدال لكان قد برئ من مرضه فسمي محاولة الاعتدال اعتدالا لأنه بالاستدلال المعتدلات قد تهيأ للاعتدال فكان قد اعتدل بالقوة. و ينبغي أيضا أن يكون قد حذف مفعول أمد و تقديره بمرض كما قدرناه نحن و حذف المفعولات كثير واسع. شرح نهج البلاغة ج : 11 ص : 166قوله حتى فتر معلله لأن معللي المرض في أوائل المرض يكون عندهم نشاط لأنهم يرجون البرء فإذا رأوا أرات الهلاك فترت همتهم. قوله و ذهل ممرضه ذهل بالفتح و هذا كالأول لأن

(12/138)


الممرض إذا أعيا عليه المرض و انسدت عليه أبواب التدبير يذهل. قوله و تعايا أهله بصفة دائه أي تعاطوا العي و تساكتوا إذا سئلوا عنه و هذه عادة أهل المريض المثقل يجمجمون إذا سئلوا عن حاله. قوله و تنازعوا دونه شجى خبر يكتمونه أي تخاصموا في خبر ذي شجى أي خبر ذي غصة يتنازعونه و هم حول المريض سترا دونه و هو لا يعلم بنجواهم و بما يفيضون فيه من أمره. فقائل منهم هو لمآبه أي قد أشفى على الموت و آخر يمنيهم إياب عافيته أي عودها آب فلان إلى أهله أي عاد. و آخر يقول قد رأينا مثل هذا و من بلغ إلى أعظم من هذا ثم عوفي فيمني أهله عود عافيته. و آخر يصبر أهله على فقده و يذكر فضيلة الصبر و ينهاهم عن الجزع و يروي لهم أخبار الماضين. و أسى أهليهم و الأسى جمع أسوة و هو ما يتأسى به الإنسان قالت الخنساء
و ما يبكون مثل أخي و لكن أسلي النفس عنه بالتأسي

(12/139)


قوله على جناح من فراق الدنيا أي سرعان ما يفارقها لأن من كان على جناح طائر فأوشك به أن يسقط. شرح نهج البلاغة ج : 11 ص : 167قوله إذ عرض له عارض يعني الموت و من غصصه جمع غصة و هو ما يعترض مجرى الأنفاس و يقال إن كل ميت من الحيوان لا يموت إلا خنقا و ذلك لأنه النفس يدخل فلا يخرج عوضه أو يخرج فلا يدخل عوضه و يلزم من ذلك الاختناق لأن الرئة لا تبقى حينئذ مروحة للقلب و إذا لم تروحه اختنق. قوله فتحيرت نوافذ فطنته أي تلك الفطنة النافذة الثاقبة تحيرت عند الموت و تبلدت. قوله و يبست رطوبة لسانه لأن الرطوبة اللعابية التي بها يكون الذوق تنشف حينئذ و يبطل الإحساس باللسان تبعا لسقوط القوة. قوله فكم من مهم من جوابه عرفه فعي عن رده نحو أن يكون له مال مدفون يسأل عنه حال ما يكون محتضرا فيحاول أن يعرف أهله به فلا يستطيع و يعجز عن رد جوابهم و قد رأينا من عجز عن الكلام فأشار إشارة فهموا معناها و هي الدواة و الكاغذ فلما حضر ذلك أخذ القلم و كتب في الكاغذ ما لم يفهم و يده ترعد ثم مات قوله و دعاء مؤلم لقلبه سمعه فتصام عنه أظهر الصمم لأنه لا حيلة له. ثم وصف ذلك الدعاء فقال من كبير كان يعظمه نحو صراخ الوالد على الولد و الولد يسمع و لا يستطيع الكلام و صغير كان يرحمه نحو صراخ الولد على الوالد و هو يسمع و لا قدرة له على جوابه. ثم ذكر غمرات الدنيا فقال إنها أفظع من أن تحيط الصفات بها و تستغرقها أي تأتي على كنهها و تعبر عن حقائقها. قوله أو تعتدل على عقول أهل الدنيا هذا كلام لطيف فصيح غامض و معناه شرح نهج البلاغة ج : 11 ص : 168أن غمرات الموت و أهواله عظيمة جدا لا تستقيم على العقول و لا تقبلها إذا شرحت لها و وصفت كما هي على الحقيقة بل تنبو عنها و لا نصدق بما يقال فيها فعبر عن عدم استقامتها على العقول بقوله أو يعتدل كأنه جعلها كالشي ء المعوج عنلعقل فهو غير مصدق به

(12/140)


إيراد أشعار و حكايات في وصف الموت و أحوال الموتى
و مما يناسب ما ذكر من حال الإنسان قول الشاعر
بينا الفتى مرح الخطا فرحا بما يسعى له إذ قيل قد مرض الفتى إذ قيل بات بليلة ما نامها إذ قيل أصبح مثقلا ما يرتجى إذ قيل أمسى شاخصا و موجها إذ قيل فارقهم و حل به الردو قال أبو النجم العجلي
و المرء كالحالم في المنام يقول إني مدرك أمامي في قابل ما فاتني في العام و المرء يدنيه إلى الحمام مر الليالي السود و الأيام إن الفتى يصبح للأسقام كالغرض المنصوب للسهام أخطأ رام و أصاب رو قال عمران بن حطان
أ في كل عام مرضة ثم نقهة و ينعى و لا ينعى متى ذا إلى متى
شرح نهج البلاغة ج : 11 ص : 169و لا بد من يوم يجي ء و ليلة يسوقان حتفا راح نحوك أو غو جاء في الحديث أن رسول الله ص مر بمقبرة فنادى يا أهل القبور الموحشة و الربوع المعطلة أ لا أخبركم بما حدث بعدكم تزوج نساؤكم و تبوئت مساكنكم و قسمت أموالكم هل أنتم مخبرون بما عاينتم ثم قال ألا إنهم لو أذن لهم في الجواب لقالوا وجدنا خير الزاد التقوى
و نظر الحسن إلى رجل يجود بنفسه فقال إن أمرا هذا آخره لجدير أن يزهد في أوله و إن أمرا هذا أوله لجدير أن يخاف آخره. و قال عبده بن الطبيب و يعجبني قوله على الحال التي كان عليها فإنه كان أسود لصا من لصوص بني سعد بن زيد مناه بن تميم.
و لقد علمت بأن قصري حفرة غبراء يحملني إليها شرجع فبكى بناتي شجوهن و زوجتي و الأقربون إلي ثم تصدعواو تركت في غبراء يكره وردها تسفي على الريح ثم أودع أن الحوادث يخترمن و إنما عمر الفتى في أهله مستودو نظير هذه الأبيات في رويها و عروضها قول متمم بن نويرة اليربوعي

(12/141)


و لقد علمت و لا محالة أنني للحادثات فهل تريني أجزع أهلكن عادا ثم آل محرق فتركنهم بلدا و ما قد جمعوا شرح نهج البلاغة ج : 11 ص : 170و لهن كان الحارثان كلاهما و لهن كان أخو المصانع تبع فعددت آبائي إلى عرق الثرى فدعوتهم فعلمت أن لم يسمعواذهبوا فلم أدركهم ودعتهم غول أتوها و الطريق المهيع لا بد من تلف مصيب فانتظر أ بأرض قومك أم بأخرى تصرع و ليأتين عليك ية يبكى عليك مقنعا لا تسمع
لما فتح خالد بن الوليد عين التمر سال عن الحرقة بنت النعمان بن المنذر فدل عليها فأتاها و كانت عمياء فسألها عن حالها فقالت لقد طلعت علينا الشمس ما شي ء يدب تحت الخورنق إلا تحت أيدينا ثم غربت و قد رحمنا كل من يدور به و ما بيت دخلته حبرة إلا دخلته عبرة ثم قال
و بينا نسوس الناس و الأمر أمرنا إذا نحن فيه سوقة نتنصف فأف لدنيا لا يدوم نعيمها تقلب تارات بنا و تصرففقال قائل ممن كان حول خالد قاتل الله عدي بن زيد لكأنه ينظر إليها حين يقول
إن للدهر صرعة فاحذرنها لا تبيتن قد أمنت الدهوراقد يبيت الفتى معافى فيردى و لقد كان آمنا مسرورا
دخل عبد الله بن العباس على عبد الملك بن مروان يوم قر و هو على فرش شرح نهج البلاغة ج : 11 ص : 171يكاد يغيب فيها فقال يا ابن عباس إني لأحسب اليوم باردا قال أجل و إن ابن هند عاش في مثل ما ترى عشرين أميرا و عشرين خليفة ثم هو ذاك على قبره ثمامة تهتز. فيقال إنبد الملك أرسل إلى قبر معاوية فوجد عليه ثمامة نابتة. كان محمد بن عبد الله بن طاهر في قصره ببغداد على دجلة فإذا بحشيش على وجه الماء في وسطه قصبة على رأسها رقعة فأمر بها فوجد هذا
تاه الأعيرج و استولى به البطر فقل له خير ما استعملته الحذرأحسنت ظنك بالأيام إذ حسنت و لم تخف سوء ما يأتي به القدرو سالمتك الليالي فاغتررت بها و عند صفو الليالي يحدث الكدر
فلم ينتفع بنفسه أياما. عدي بن زيد

(12/142)


أيها الشامت المعير بالدهر أ أنت المبرأ الموفورأم لديك العهد الوثيق من الأيام بل أنت جاهل مغرورمن رأيت المنون خلدن أم من ذا عليه من أن يضام خفيرأين كسرى كسرى الملوك أنو شروان أم أين قبله سابورو بنو الأصفر الكرام ملوك الروم و لم يبق منهم مذكور
شرح نهج البلاغة ج : 11 ص : 172و أخو الحضر إذ بناه و إذ دجلة تجبى إليه و الخابورلم يهبه ريب المنون فباد الملك عنه فبابه مهجورشاده مرمرا و جلله كلسا فللطير في ذراه وكورو تبين رب الخورنق إذ أشرف يوما و للهدى تفكيرسره حاله و كثرة ما يملك و البحر معرضا و السرفارعوى قلبه و قال فما غبطة حي إلى الممات يصيرثم بعد الفلاح و الملك و الأمة وارتهم هناك القبورثم أضحوا كأنهم ورق جف فألوت به الصبا و الدبور
قد اتفق الناس على أن هذه الأبيات أحسن ما قيل من القريض في هذا المعنى و أن الشعراء كلهم أخذوا منها و احتذوا في هذا المعنى حذوها. و قال الرضي أبو الحسن رضي الله عنه

(12/143)


انظر إلى هذا الأنام بعبرة لا يعجنك خلقه و رواؤه فتراه كالورق النضير تقصفت أغصانه و تسلبت شجراؤه أني تحاماه المنون و إنما خلقت مراعي للردى خضراؤه أم كيف تأمل فلتة أجساده من ذا الزمان و حشوها أدوا شرح نهج البلاغة ج : 11 ص : 173لا تعجبن فما العجيب فناؤه بيد المنون بل العجيب بقاؤه إنا لنعجب كيف حم حمامه عن صحة و يغيب عنا داؤه من طاح في سبل الردى آباؤه فليسلكن طريقهم أبناؤه و مؤمر نزلوا به في سوقة لا شكله فيهم و لا نظراؤه قد كان يفرق ظله أقرانه دون جلاله أكفاؤه و محجب ضربت عليه مهابة يعشي العيون بهاؤه و ضياؤه نادته من خلف الحجاب منية أمم فكان جوابها حوباؤه شقت إليه سيوفه و رماحه و أميط عنه عبيده و إماؤه لم يغنه من كان ود لو أنه قبل المنون من المنون فداؤه حرم عليه الذل إلا أنه أبدا ليشهد بالجناؤه متخشع بعد الأنيس جنابه متضائل بعد القطين فناؤه عريان تطرد كل ريح تربه و يطيع أول أمرها حصباؤه و لقد مررت ببرزخ فسألته أين الألى ضمتهم أرجاؤه مثل المطي بواركا أجداثه تسفي على جنباتها بوغاؤه ناديته فخفى علي جوابه بالقول إلا ما زقت أص شرح نهج البلاغة ج : 11 ص : 174من ناظر مطروفه ألحاظه أو خاطر مظلولة سوداؤه أو واجد مكظومة زفراته أو حاقد منسية شحناؤه و مسندين على الجنوب كأنهم شرب تخاذل بالطلا أعضاؤه تحت الصعيد لغير إشفاق إلى يوم المعاد يضمهم أحشاؤه أكلتهم الأرض التي ولدتهم أكل الضت له أكلاؤه
و قال أيضا
و تفرق البعداء بعد تجمع صعب فكيف تفرق القرباءو خلائق الدنيا خلائق مومس للمنع آونة و للإعطاءطورا تبادلك الصفاء و تارة تلقاك تنكرها من البغضاءو تداول الأيام يبلينا كما يبلي الرشاء تطاوح الأرجاءو كان طول العمر روحة راكب قضى اللغوب و جد في الإسراءلهفي على القوم الأولى غادرتهم و عليهم طبق من البيداء

(12/144)


شرح نهج البلاغة ج : 11 ص : 175متوسدين على الخدود كأنما كرعوا على ظمإ من الصهباءصور ضننت على العيون بلحظها أمسيت أوقرها من البوغاءو نواظر كحل التراب جفونها قد كنت أحرسها من الأقذاءقربت ضرائحهم على زوارها و نأوا عن الطلاب أي تناءو لبئس ما يلقى بعقر ديارهمذن المصيخ بها و عين الرائي
شرح نهج البلاغة ج : 11 ص : 217176- و من كلام له ع قاله عند تلاوته يُسَبِّحُ لَهُ فِيها بِالْغُدُوِّ وَ الْآصالِ رِجالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجارَةٌ وَ لا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَ تَعَالَى جَعَلَ الذِّكْرَ جَلاءً لِلْقُلُوبِ تَسْمَعُ بِهِ بَعْدَ الْوَقْرَةِ وَ تُبْصِرُ بِهِ بَعْدَ الْعَشْوَةِ وَ تَنْقَادُ بِهِ بَعْدَ الْمُعَانَدَةِ وَ مَا بَرِحَ لِلَّهِ عَزَّتْ آلَاؤُهُ فِي الْبُرْهَةِ بَعْدَ الْبُرْهَةِ وَ فِي أَزْمَانِ الْفَتَرَاتِ عِبَادٌ نَاجَاهُمْ فِي فِكْرِهِمْ وَ كَلَّمَهُمْ فِي ذَاتِ عُقُولِهِمْ فَاسْتَصْبَحُوا بِنُورِ يَقَظَةٍ فِي الْأَسْمَاعِ وَ الْأَبْصَارِ وَ الْأَفْئِدَةِ يُذَكِّرُونَ بِأَيَّامِ اللَّهِ وَ يُخَوِّفُونَ مَقَامَهُ بِمَنْزِلَةِ الْأَدِلَّةِ فِي الْفَلَوَاتِ مَنْ أَخَذَ الْقَصْدَ حَمِدُوا إِلَيْهِ طَرِيقَهُ وَ بَشَّرُوهُ بِالنَّجَاةِ وَ مَنْ أَخَذَ يَمِيناً وَ شِمَالًا ذَمُّوا إِلَيْهِ الطَّرِيقَ وَ حَذَّرُوهُ مِنَ الْهَلَكَةِ وَ كَانُوا كَذَلِكَ مَصَابِيحَ تِلْكَ الظُّلُمَاتِ وَ أَدِلَّةَ تِلْكَ الشُّبُهَاتِ وَ إِنَّ لِلذِّكْرِ لَأَهْلًا أَخَذُوهُ مِنَ الدُّنْيَا بَدَلًا فَلَمْ تَشْغَلْهُمْ تِجَارَةٌ وَ لَا بَيْعٌ عَنْهُ يَقْطَعُونَ بِهِ أَيَّامَ الْحَيَاةِ وَ يَهْتِفُونَ بِالزَّوَاجِرِ عَنْ مَحَارِمِ اللَّهِ فِي أَسْمَاعِ الْغَافِلِينَ وَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ وَ يَأْتَمِرُونَ بِهِ وَ يَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَ يَتَنَاهَوْنَ عَنْهُ

(12/145)


فَكَأَنَّهُمْ قَطَعُوا الدُّنْيَا إِلَى الآْخِرَةِ وَ هُمْ فِيهَا فَشَاهَدُوا مَا وَرَاءَ ذَلِكَ فَكَأَنَّمَا شرح نهج البلاغة ج : 11 ص : 177اطَّلَعُوا غُيُوبَ أَهْلِ الْبَرْزَخِ فِي طُولِ الْإِقَامَةِ فِيهِ وَ حَقَّقَتِ الْقِيَامَةُ عَلَيْهِمْ عِدَاتِهَا فَكَشَفُوا غِطَاءَ ذَلِكَ لِأَهْلالدُّنْيَا حَتَّى كَأَنَّهُمْ يَرَوْنَ مَا لَا يَرَى النَّاسُ وَ يَسْمَعُونَ مَا لَا يَسْمَعُونَ فَلَوْ مَثَّلْتَهُمْ لِعَقْلِكَ فِي مَقَاوِمِهِمُ الْمَحْمُودَةِ وَ مَجَالِسِهِمُ الْمَشْهُودَةِ وَ قَدْ نَشَرُوا دَوَاوِينَ أَعْمَالِهِمْ وَ فَرَغُوا لِمُحَاسَبَةِ أَنْفُسِهِمْ عَلَى كُلِّ صَغِيرَةٍ وَ كَبِيرَةٍ أُمِرُوا بِهَا فَقَصَّرُوا عَنْهَا أَوْ نُهُوا عَنْهَا فَفَرَّطُوا فيهَا وَ حَمَّلُوا ثقَلَ أَوْزَاِرِهمْ ظُهُورَهُمْ فَضَعُفُوا عَنِ الِاسْتِقْلَالِ بِهَا فَنَشَجُوا نَشِيجاً وَ تَجَاوَبُوا نَحِيباً يَعِجُّونَ إِلَى رَبِّهِمْ مِنْ مَقَامِ نَدَمٍ وَ اعْتِرَافٍ لَرَأَيْتَ أَعْلَامَ هُدًى وَ مَصَابِيحَ دُجًى قَدْ حَفَّتْ بِهِمُ الْمَلَائِكَةُ وَ تَنَزَّلَتْ عَلَيْهِمُ السَّكِينَةُ وَ فُتِحَتْ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَ أُعِدَّتْ لَهُمْ مَقَاعِدُ الْكَرَامَاتِ فِي مَقْعَدٍ اطَّلَعَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ فِيهِ فَرَضِيَ سَعْيَهُمْ وَ حَمِدَ مَقَامَهُمْ يَتَنَسَّمُونَ بِدُعَائِهِ رَوْحَ التَّجَاوُزِ رَهَائِنُ فَاقَةٍ إِلَى فَضْلِهِ وَ أُسَارَى ذِلَّةٍ لِعَظَمَتِهِ جَرَحَ طُولُ الْأَسَى قُلُوبَهُمْ وَ طُولُ الْبُكَاءِ عُيُونَهُمْ لِكُلِّ بَابِ رَغْبَةٍ إِلَى اللَّهِ مِنْهُمْ يَدٌ قَارِعَةٌ يَسْأَلُونَ مَنْ لَا تَضِيقُ لَدَيْهِ الْمَنَادِحُ وَ لَا يَخِيبُ عَلَيْهِ الرَّاغِبُونَ فَحَاسِبْ نَفْسَكَ لِنَفْسِكَ فَإِنَّ غَيْرَهَا مِنَ الْأَنْفُسِ لَهَا حَسِيبٌ غَيْرُكَ

(12/146)


من قرأ يسبح له فيها بفتح الباء ارتفع رجال عنده بوجهين شرح نهج البلاغة ج : 11 ص : 178أحدهما أن يضمر له فعل يكون هو فاعله تقديره يسبحه رجال و دل على يسبحه يسبح كما قال الشاعرليبك يزيد ضارع لخصومة و مختبط مما تطيح الطوائح
أي يبكيه ضارع و دل على يبكيه ليبك. و الثاني أن يكون خبر مبتدإ محذوف تقديره المسبحون رجال و من قرأ يُسَبِّحُ لَهُ فِيها بكسر الباء فرجال فاعل و أوقع لفظ التجارة في مقابلة لفظ البيع إما لأنه أراد بالتجارة هاهنا الشراء خاصة أو لأنه عمم بالتجارة المشتملة على البيع و الشراء ثم خص البيع لأنه أدخل في باب الإلهاء لأن البيع يحصل ربحه بيقين و ليس كذلك الشراء و الذكر يكون تارة باللسان و تارة بالقلب فالذي باللسان نحو التسبيح و التكبير و التهليل و التحميد و الدعاء و الذي بالقلب فهو التعظيم و التبجيل و الاعتراف و الطاعة. و جلوت السيف و القلب جلاء بالكسر و جلوت اليهود عن المدينة جلاء بالفتح. و الوقرة الثقل في الأذن و العشوة بالفتح فعله من العشا في العين و آلاؤه نعمه. فإن قلت أي معنى تحت قوله عزت آلاؤه و عزت بمعنى قلت و هل يجوز مثل ذلك في تعظيم الله. قلت عزت هاهنا ليس بمعنى قلت و لكن بمعنى كرمت و عظمت تقول منه عززت على فلان بالفتح أي كرمت عليه و عظمت عنده و فلان عزيز علينا أي كريم معظم. شرح نهج البلاغة ج : 11 ص : 179و البرهة من الدهر المدة الطويلة و يجوز فتح الباء. و أزمان الفترات ما يكون منها بين النوبتين. و ناجاهم في فكر ألهمهم بخلاف مناجاة الرسل ببعث الملائكة إليهم و كذلك و كلمهم في ذات عقولهم فاستصبحوا بنور يقظة صار ذلك النور مصباحا لهم يستضيئون به. قوله من أخذ القصد حمدوا إليهم طريقه إلى هاهنا هي التي في قولهم أحمد الله إليك أي منهيا ذلك إليك أو مفضيا به إليك و نحو ذلك و طريقة العرب في الحذف في مثل هذا معلومة قال سبحانه وَ لَوْ نَشاءُ لَجَعَلْنا مِنْكُمْ مَلائِكَةً أي

(12/147)


لجعلنا بدلا منكم ملائكة و قال الشاعر
فليس لنا من ماء زمزم شربة مبردة بانت على طهيان
أي عوضا من ماء زمزم. قوله و من أخذ يمينا و شمالا أي ضل عن الجادة. و إلى في قوله ذموا إليه الطريق مثل إلى الأولى. و يهتفون بالزواجر يصوتون بها هتفت الحمامة تهتف هتفا و هتف زيد بالغنم هتافا بالكسر و قوس هتافة و هتفى أي ذات صوت. و القسط العدل و يأتمرون به يمتثلون الأمر. و قوله فكأنما قطعوا الدنيا إلى الآخرة إلى قوله و يسمعون ما لا يسمعون هو شرح
قوله عن نفسه ع لو كشف الغطاء ما ازددت يقينا

(12/148)


و الأوزار الذنوب و النشيج صوت البكاء و المقعد موضع القعود. شرح نهج البلاغة ج : 11 ص : 180و يد قارعة تطرق باب الرحمة و هذا الكلام مجاز. و المنادح المواضع الواسعة. و على في قوله و لا يخيب عليه الراغبون متعلقة بمحذوف مثل إلى المتقدم ذكرها و التقدير نادمين عه. و الحسيب المحاسب. و اعلم أن هذا الكلام في الظاهر صفة حال القصاص و المتصدين لإنكار المنكرات أ لا تراه يقول يذكرون بأيام الله أي بالأيام التي كانت فيها النقمة بالعصاة و يخوفون مقامه من قوله تعالى وَ لِمَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ جَنَّتانِ ثم قال فمن سلك القصد حمدوه و من عدل عن الطريق ذموا طريقه و خوفوه الهلاك ثم قال يهتفون بالزواجر عن المحارم في أسماع الغافلين و يأمرون بالقسط و ينهون عن المنكر. و هذا كله إيضاح لما قلناه أولا إن ظاهر الكلام شرح حال القصاص و أرباب المواعظ في المجامع و الطرقات و المتصدين لإنكار القبائح و باطن الكلام شرح حال العارفين الذين هم صفوة الله تعالى من خلقه و هو ع دائما يكني عنهم و يرمز إليهم على أنه في هذا الموضع قد صرح بهم في قوله حتى كأنهم يرون ما لا يرى الناس و يسمعون ما لا يسمعون. و قد ذكر من مقامات العارفين في هذا الفصل الذكر و محاسبة النفس و البكاء و النحيب و الندم و التوبة و الدعاء و الفاقة و الذلة و الحزن و هو الأسى الذي ذكر أنه جرح قلوبهم بطوله شرح نهج البلاغة ج : 11 ص : 18بيان أحوال العارفين
و قد كنا وعدنا بذكر مقامات العارفين فيما تقدم و هذا موضعه فنقول إن أول مقام من مقامات العارفين و أول منزل من منازل السالكين التوبة قال الله تعالى وَ تُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ و
قال النبي ص التائب من الذنب كمن لا ذنب له

(12/149)


و قال علي ع ما من شي ء أحب إلى الله من شاب تائب و التوبة في عرف أرباب هذه الطريقة الندم على ما عمل من المخالفة و ترك الزلة في الحال و العزم على ألا يعود إلى ارتكاب معصية و ليس الندم وحده عند هؤلاء توبة و إن جاء
في الخبر الندم توبة لأنه على وزان قوله ع الحج عرفة ليس على معنى أن غيرها ليس من الأركان بل المراد أنه أكبر الأركان و أهمها و منهم من قال يكفي الندم وحده لأنه يستتبع الركنين الآخرين لاستحالة كونه نادما على ما هو مصر على مثله أو ما هو عازم على الإتيان بمثله. قالوا و للتوبة شروط و ترتيبات فأول ذلك انتباه القلب من رقد الغفلة و رؤية العبد ما هو عليه من سوء الحالة و إنما يصل إلى هذه الجملة بالتوفيق للإصغاء إلى ما يخطر بباله من زواجر الحق سبحانه يسمع قلبه فإن
في الخبر النبوي عنه ص واعظ كل حال الله في قلب كل امرئ مسلم
و في الخبر أن في بدن المرء لمضغة إذا صلحت صلح جميع البدن ألا و هي القلب و إذا فسدت فسد جميع البدن ألا و هي القلب

(12/150)


شرح نهج البلاغة ج : 11 ص : 182و إذا فكر العبد بقلبه في سوء صنيعه و أبصر ما هو عليه من ذميم الأفعال سنحت في قلبه إرادة التوبة و الإقلاع عن قبيح المعاملة فيمده الحق سبحانه بتصحيح العزيمة و الأخذ في طرق الرجوع و التأهب لأسباب التوبة. و أول ذلك هجران إخوان سوء فإنهم الذين يحملونه على رد هذا القصد و عكس هذا العزم و يشوشون عليه صحة هذه الإرادة و لا يتم ذلك له إلا بالمواظبة على المشاهد و المجالس التي تزيده رغبة في التوبة و توفر دواعيه إلى إتمام ما عزم عليه مما يقوي خوفه و رجاءه فعند ذلك تنحل عن قلبه عقدة الإصرار على ما هو عليه من قبيح الفعال فيقف عن تعاطي المحظورات و يكبح نفسه بلجام الخوف عن متابعة الشهوات فيفارق الزلة في الحال و يلزم العزيمة على ألا يعود إلى مثلها في الاستقبال فإن مضى على موجب قصده و نفذ على مقتضى عزمه فهو الموفق حقا و إن نقض التوبة مرة أو مرات ثم حملته إرادته على تجديدها فقد يكون مثل هذا كثيرا فلا ينبغي قطع الرجاء عن توبة أمثال هؤلاء فإن لكل أجل كتابا و قد حكي عن أبي سليمان الداراني أنه قال اختلفت إلى مجلس قاص فأثر كلامه في قلبي فلما قمت لم يبق في قلبي شي ء فعدت ثانيا فسمعت كلامه فبقي من كلامهفي قلبي أثر في الطريق ثم زال ثم عدت ثالثا فوقر كلامه في قلبي و ثبت حتى رجعت إلى منزلي و كسرت آلات المخالفة و لزمت الطريق. و حكيت هذه الحكاية ليحيي بن معاذ فقال عصفور اصطاد كركيا يعني بالعصفور القاص و بالكركي أبا سليمان. و يحكي أن أبا حفص الحداد ذكر بدايته فقال تركت ذلك العمل يعني المعصية كذا و كذا مرة ثم عدت إليها ثم تركني العمل فلم أعد إليه. شرح نهج البلاغة ج : 11 ص : 183و قيل إن بعض المريدين تاب ثم وقعت له فترة و كان يفكر و يقول أ ترى لو عدت إلى التوبة كيف كان يكون حكمي فهتف به هاتف يا فلان أطعتنا فشكرن ثم تركتنا فأمهلناك و إن عدت إلينا قبلناك فعاد الفتى إلى الإرادة. و

(12/151)


قال أبو علي الدقاق التوبة على ثلاثة أقسام فأولها التوبة و أوسطها الإنابة و آخرها الأوبة فجعل التوبة بداية و الأوبة نهاية و الإنابة واسطة بينهما و المعنى أن من تاب خوفا من العقاب فهو صاحب التوبة و من تاب طمعا في الثواب فهو صاحب الإنابة و من تاب مراعاة للأمر فقط فهو صاحب الأوبة. و قال بو علي أيضا التوبة صفة المؤمنين قال سبحانه وَ تُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ و الإنابة صفة الأولياء قال سبحانه وَ جاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ و الأوبة صفة الأنبياء قال سبحانه نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ. و قال الجنيد دخلت على السري يوما فوجدته متغيرا فسألته فقال دخل علي شاب فسألني عن التوبة فقلت ألا تنسى ذنبك فقال بل التوبة ألا تذكر ذنبك قال الجنيد فقلت له إن الأمر عندي ما قاله الشاب قال كيف قلت لأني إذا كنت في حال الجفاء فنقلني إلى حال الصفاء فذكر الجفاء في حال الصفاء جفاء فسكت السري. و قال ذو النون المصري الاستغفار من غير إقلاع توبة الكذابين. و سئل البوشنجي عن التوبة فقال إذا ذكرت الذنب ثم لا تجد حلاوته عند ذكره فذاك حقيقة التوبة.

(12/152)


شرح نهج البلاغة ج : 11 ص : 184و قال ذو النون حقيقة التوبة أن تضيق عليك الأرض بما رحبت حتى لا يكون لك قرار ثم تضيق عليك نفسك كما أخبر الله تعالى في كتابه بقوله حَتَّى إِذا ضاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ وَ ضاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَ ظَنوا أَنْ لا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ. و قيل لأبي حفص الحداد لم تبغض الدنيا فقال لأني باشرت فيها الذنوب قيل فهلا أحببتها لأنك وفقت فيها للتوبة فقال أنا من الذنب على يقين و من هذه التوبة على ظن. و قال رجل لرابعة العدوية إني قد أكثرت من الذنوب و المعاصي فهل يتوب علي أن تبت قالت لا بل لو تاب عليك لتبت. قالوا و لما كان الله تعالى يقول في كتابه العزيز إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ دلنا ذلك على محبته لمن صحت له حقيقة التوبة و لا شبهة أن من قارف الزلة فهو من خطئه على يقين فإذا تاب فإنه من القبول على شك لا سيما إذا كان من شرط القبول محبة الحق سبحانه له و إلى أن يبلغ العاصي محلا يجد في أوصافه أمارة محبة الله تعالى إياه مسافة بعيدة فالواجب إذا على العبد إذا علم أنه ارتكب ما يجب عنه التوبة دوام الانكسار و ملازمة التنصل و الاستغفار كما قيل استشعار الوجل إلى الأجل.
و كان من سنته ع دوام الاستغفار و قال إنه ليغان على قلبي فاستغفر الله في اليوم سبعين مرة

(12/153)


شرح نهج البلاغة ج : 11 ص : 185و قال يحيى بن معاذ زلة واحدة بعد التوبة أقبح من سبعين قبلها. و يحكي أن علي بن عيسى الوزير ركب في موكب عظيم فجعل الغرباء يقولون من هذا من هذا فقالت امرأة قائمة على السطح إلى متى تقولون من هذا من هذا هذا عبد سقط من عين الله فتلاه بما ترون فسمع علي بن عيسى كلامها فرجع إلى منزله و لم يزل يتوصل في الاستعفاء من الوزارة حتى أعفي و ذهب إلى مكة فجاور بها. و منها المجاهد و قد قلنا فيها ما يكفي فيما تقدم. و منها العزلة و الخلوة و قد ذكرنا في جزء قبل هذا الجزء مما جاء في ذلك طرفا صالحا و منها التقوى و هي الخوف من معصية الله و من مظالم العباد قال سبحانه إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقاكُمْ و
قيل إن رجلا جاء إلى رسول الله ص فقال يا رسول الله أوصني فقال عليك بتقوى الله فإنه جماع كل خير و عليك بالجهاد فإنه رهبانية المسلم و عليك بذكر الله فإنه نور لك

(12/154)


و قيل في تفسير قوله تعالى اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقاتِهِ أن يطاع فلا يعصى و يذكر فلا ينسى و يشكر فلا يكفر. شرح نهج البلاغة ج : 11 ص : 186و قال النصرآباذي من لزم التقوى بادر إلى مفارقة الدنيا لأن الله تعالى يقول وَ لَدارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ اتَّوْا. و قيل يستدل على تقوى الرجل بثلاث التوكل فيما لم ينل و الرضا بما قد نال و حسن الصبر على ما فات. و كان يقال من كان رأس ماله التقوى كلت الألسن عن وصف ربحه. و قد حكوا من حكايات المتقين شيئا كثيرا مثل ما يحكى عن ابن سيرين أنه اشترى أربعين حبا سمنا فأخرج غلامه فأرة من حب فسأله من أي حب أخرجها قال لا أدري فصبها كلها. و حكي أن أبا يزيد البسطامي غسل ثوبه في الصحراء و معه مصاحب له فقال صاحبه نضرب هذا الوتد في جدار هذا البستان و نبسط الثوب عليه فقال لا يجوز ضرب الوتد في جدار الناس قال فنعلقه على شجرة حتى يجف قال يكسر الأغصان فقال نبسطه على الإذخر قال إنه علف الدواب لا يجوز أن نستره منها فولى ظهره قبل الشمس و جعل القميص على ظهره حتى جف أحد جانبيه ثم قلبه حتى جف الجانب الآخر. و منها الورع و هو اجتناب الشبهات و
قال ص لأبي هريرة كن ورعا تكن أعبد الناس

(12/155)


و قال بو بكر كنا ندع سبعين بابا من الحلال مخافة أن نقع في باب واحد من الحرام. شرح نهج البلاغة ج : 11 ص : 187و كان يقال الورع في المنطق أشد منه في الذهب و الفضة و الزهد في الرئاسة أشد منه في الذهب و الفضة لأنك تبذلهما في طلب الرئاسة. و قال أبو عبد الله الاء أعرف من أقام بمكة ثلاثين سنة لم يشرب من ماء زمزم إلا ما استقاه بركوته و رشائه. و قال بشر بن الحارث أشد الأعمال ثلاثة الجود في القلة و الورع في الخلوة و كلمة الحق عند من يخاف و يرجى. و يقال إن أخت بشر بن الحارث جاءت إلى أحمد بن حنبل فقالت إنا نغزل على سطوحنا فتمر بنا مشاعل الطاهرية فيقع شعاعها علينا أ فيجوز لنا الغزل في ضوئها فقال أحمد من أنت يا أمة الله قالت أخت بشر الحافي فبكى أحمد و قال من بيتكم خرج الورع لا تغزلي في ضوء مشاعلهم. و حكى بعضهم قال مررت بالبصرة في بعض الشوارع فإذا بمشايخ قعود و صبيان يلعبون فقلت أ ما تستحيون من هؤلاء المشايخ فقال غلام من بينهم هؤلاء المشايخ قل ورعهم فقلت هيبتهم. و يقال إن مالك بن دينار مكث بالبصرة أربعين سنة ما صح له أن يأكل من تمر البصرة و لا من رطبها حتى مات و لم يذقه و كان إذا انقضى أوان الرطب يقول يا أهل البصرة هذا بطني ما نقص منه شي ء سواء علي أكلت من رطبكم أو لم آكل. و قال الحسن مثقال ذرة من الورع خير من ألف مثقال من الصوم و الصلاة. و دخل الحسن مكة فرأى غلاما من ولد علي بن أبي طالب قد أسند ظهره إلى شرح نهج البلاغة ج : 11 ص : 188الكعبة و هو يعظ الناس فقال له الحسن ملاك الدين قال الورع قال فما آفته قال الطمع فجعل الحسن يتعجب منه. و قال سهل بن عبد الله من لم يصحبه الورع أكل رأس الفيل و لم يشبع. و حمل إلى عمر بن عبد العزيز مسك من الغنائم فقبض على مشمه و قال إنما ينتفع من هذا بريحه و أنا أكره أن أجد ريحه دون المسلمين. و سئل أبو عثمان الحريري عن الورع فقال كان أبو صالح بن حمدون عند صديق

(12/156)


له و هو في النزع فمات الرجل فنفث أبو صالح في السراج فأطفأه فقيل له في ذلك فقال إلى الآن كان الدهن الذي في المسرجة له فلما مات صار إلى الورثة. و منها الزهد و قد تكلموا في حقيقته فقال سفيان الثوري الزهد في الدنيا قصر الأمل. و قال الخواص الزهد أن تترك الدنيا فلا تبالي من أخذها. و قال أبو سليمان الداراني الزهد ترك كل ما يشغل عن الله. و قيل الزهد تحت كلمتين من القرآن العزيز لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلى ما فاتَكُمْ وَ لا تَفْرَحُوا بِما آتاكُمْ. و كان يقال من صدق في زهده أتته الدنيا و هي راغمة و لهذا قيل لو سقطت قلنسوة من السماء لما وقعت إلا على رأس من لا يريدها. و قال يحيى بن معاذ الزهد يسعطك الخل و الخردل و العرفان يشمك المسك و العنبر. شرح نهج البلاغة ج : 11 ص : 189و قيل لبعضهم ما الزهد في الدنيا قاترك ما فيها على من فيها. و قال رجل لذي النون المصري متى تراني أزهد في الدنيا قال إذا زهدت في نفسك. و قال رجل ليحيي بن معاذ متى تراني أدخل حانوت التوكل و ألبس رداء الزهد و أقعد بين الزاهدين فقال إذا صرت من رياضتك لنفسك في السر إلى حد لو قطع الله عنك القوت ثلاثة أيام لم تضعف في نفسك و لا في يقينك فأما ما لم تبلغ إلى هذه الدرجة فقعودك على بساط الزاهدين جهل ثم لا آمن أن تفتضح. و قال أحمد بن حنبل الزهد على ثلاثة أوجه ترك الحرام و هو زهد العوام و ترك الفضول من الحلال و هو زهد الخواص و ترك كل ما يشغلك عن الله و هو زهد العارفين. و قال يحيى بن معاذ الدنيا كالعروس فطالبها كماشطتها تحسن وجهها و تعطر ثوبها و الزاهد فيها كضرتها تسخم وجهها و تنتف شعرها و تحرق ثوبها و العارف مشتغل بالله لا يلتفت إليها و لا يشعر بها. و كان النصرآباذي يقول في مناجاته يا من حقن دماء الزاهدين و سفك دماء العارفين. و كان يقال إن الله تعالى جعل الخير كله في بيت و جعل مفتاحه الزهد و جعل الشر كله في بيت و جعل مفتاحه حب الدنيا.

(12/157)


و منها الصمت و قدمنا فيما سبق من الأجزاء نكتا نافعة في هذا المعنى و نذكر الآن شيئا آخر
قال رسول الله ص من كان يؤمن بالله و اليوم الآخر فلا يؤذين جاره و من كان يؤمن بالله و اليوم الآخر فليكرم ضيفه و من كان يؤمن بالله و اليوم الآخر فليقل خيرا أو فليصمت
شرح نهج البلاغة ج : 11 ص : 190و قال أصحاب هذا العلم الصمت من آداب الحضرة قال الله تعالى وَ إِذا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَ أَنْصِتُوا. و قال مخبرا عن الجن فَلَمَّا حَضَرُوهُ قالُوا أَنْصِتُوا. و قال الله تعالى مخبرا عن يوم القيامة وَ خَشَعَ الْأَصْواتُ لِلرَّحْمنِ فَلا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْساً. و قالوا كم بين عبد سكت تصونا عن الكذب و الغيبة و عبد سكت لاستيلاء سلطان الهيبة. و أنشدوا
أرتب ما أقول إذا افترقنا و أحكم دائما حجج المقال فأنساها إذا نحن التقينا و أنطق حين أنطق بالمحالو أنشدوا
فيا ليل كم من حاجة لي مهمة إذا جئتكم لم أدر بالليل ماهيا

(12/158)


قالوا و ربما كان سبب الصمت و السكوت حيرة البديهة فإنه إذا ورد كشف بغتة خرست العبارات عند ذلك فلا بيان و لا نطق و طمست الشواهد فلا علم و لا حس قال الله تعالى يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ ما ذا أُجِبْتُمْ قالُوا لا عِلْمَ لَنا إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ فأما إيثار أرباب المجاهدة الصمت فلما علموا في الكلام من الآفات ثم ما فيه من حط النفس و إظهار صفات المدح و الميل إلى أن يتميز من بين أشكاله بحسن النطق و غير ذلك من ضروب آفات الكلام و هذا نعت أرباب شرح نهج البلاغة ج : 11 ص : 191الرياضة وو أحد أركانهم في حكم مجاهدة النفس و منازلتها و تهذيب الأخلاق. و يقال إن داود الطائي لما أراد أن يقعد في بيته اعتقد أن يحضر مجلس أبي حنيفة لأنه كان تلميذا له و يقعد بين أضرابه من العلماء و لا يتكلم في مسألة على سبيل رياضته نفسه فلما قويت نفسه على ممارسة هذه الخصلة سنة كاملة قعد في بيته عند ذلك و آثر العزلة. و يقال إن عمر بن عبد العزيز كان إذا كتب كتابا فاستحسن لفظه مزق الكتاب و غيره. و قال بشر بن الحارث إذا أعجبك الكلام فاصمت فإذا أعجبك الصمت فتكلم و قال سهل بن عبد الله لا يصح لأحد الصمت حتى يلزم نفسه الخلوة و لا يصح لأحد التوبة حتى يلزم نفسه الصمت. و منها الخوف قال الله تعالى يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَ طَمَعاً. و قال تعالى وَ إِيَّايَ فَارْهَبُونِ. و قال يَخافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ. أبو علي الدقاق الخوف على مراتب خوف و خشية و هيبة. فالخوف من شروط الإيمان و قضاياه قال الله تعالى فَلا تَخافُوهُمْ وَ خافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ. و الخشية من شروط العلم قال الله تعالى إِنَّما يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ. شرح نهج البلاغة ج : 11 ص : 192و الهيبة من شروط المعرفة قال سبحانه وَ يُحَذِّرُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ. و قال أبو عمر الدمشقي الخائف من يخاف من نفسه

(12/159)


أكثر مما يخاف من الشيطان. و قال بعضهم من خاف من شي ء هرب منه و من خاف الله هرب إليه. و قال أبو سليمان الداراني ما فارق الخوف قلبا إلا خرب و منها الرجاء و قد قدمنا فيما قبل من ذكر الخوف و ارجاء طرفا صالحا قال سبحانه مَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآتٍ. و الفرق بين الرجاء و التمني و كون أحدهما محمودا و الآخر مذموما أن التمني ألا يسلك طريق الاجتهاد و الجد و الرجاء بخلاف ذلك فلهذا كان التمني يورث صاحبه الكسل. و قال أبو علي الروذباري الرجاء و الخوف كجناحي الطائر إذا استويا استوى الطائر و تم طيرانه و إذا نقص أحدهما وقع فيه النقص و إذا ذهبا صار الطائر في حد الموت. و قال أبو عثمان المغربي من حمل نفسه على الرجاء تعطل و من حمل نفسه على الخوف قنط و لكن من هذا مرة و من هذا مرة. و
من كلام يحيى بن معاذ و يروى عن علي بن الحسين ع يكاد رجائي لك مع الذنوب يغلب رجائي لك مع الأعمال لأني أجدني أعتمد في الأعمال على شرح نهج البلاغة ج : 11 ص : 193الإخلاص و كيف أحرزها و أنا بالآفة معروف و أجدني في الذنوب أعتمد على عفوك و كيف لا تغفرها و أنت لجود موصوف
و منها الحزن و هو من أوصاف أهل السلوك. و قال أبو علي الدقاق صاحب الحزن يقطع من طريق الله في شهر ما لا يقطعه من فقد الحزن في سنتين. في الخبر النبوي ص إن الله يحب كل قلب حزين

(12/160)