الكتاب : شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد

و اعلم أن الناس قد اختلفوا في أحكام النجوم فأنكرها جمهور المسلمين و المحققون من الحكماء و نحن نتكلم هاهنا في ذلك و نبحث فيه بحثين بحثا كلاميا و بحثا حكميا. أما البحث الكلامي هو أن يقال أما أن يذهب المنجمون إلى أن النجوم مؤثرة أو أمارات. و الوجه الأول ينقسم قسمين أحدهما أن يقال إنها تفعل بالاختيار و الثاني أن تفعل بالإيجاب. و القول بأنها تفعل بالاختيار باطل لأن المختار لا بد أن يكون قادرا حيا و الإجماع من المسلمين حاصل على أن الكواكب ليست حية و لا قادرة و الإجماع حجة و قد بين المتكلمون أيضا أن من شرط الحياة الرطوبة و أن تكون الحرارة على قدر مخصوص متى أفرط امتنع حلول الحياة في ذلك الجسم فإن النار على صرافتها يستحيل أن تكون حية و أن تحلها الحياة لعدم الرطوبة و إفراط الحرارة فيها و اليبس و الشمس أشد حرارة من النار لأنها على بعدها تؤثره النار على قربها و ذلك دليل على أن حرارتها أضعاف حرارة النار و بينوا أيضا أنها لو كانت حية قادرة لم يجز أن تفعل في غيرها ابتداء لأن القادر بقدرة لا يصح منه الاختراع و إنما يفعل في غيره على سبيل التوليد و لا بد من وصلة بين الفاعل و المفعول فيه و الكواكب غير مماسة لنا فلا وصلة بينها و بيننا فيستحيل أن تكون فاعلة فينا. شرح نهج البلاغة ج : 6 ص : 201فإن ادعى مدع أن الوصلة هي الهواء فعن ذلك أجوبة أحدها أن الهواء لا يجوز أن يكون وصلة و آلة في الحركات الشديدة و حمل الأثقال لا سيما إذا لم يتموج. و الثاني أنه كان يجب أن نحس بذلك و نعلم أن الاء يحركنا و يصرفنا كما نعلم في الجسم إذا حركنا و صرفنا بآلة موضع تحريكه لنا بتلك الآلة. و الثالث أن في الأفعال الحادثة فينا ما لا يجوز أن يفعل بآلة و لا يتولد عن سبب كالإرادات و الاعتقادات و نحوها. و قد دلل أصحابنا أيضا على إبطال كون الكواكب فاعلة للأفعال فينا بأن ذلك يقتضي سقوط الأمر و النهي و المدح و الذم و يلزمهم ما

(7/173)


يلزم المجبرة و هذا الوجه يبطل كون الكواكب فاعلة فينا بالإيجاب كما يبطل كونها فاعلة بالاختيار. و أما القول بأنها أمارات على ما يحدث و يتجدد فيمكن أن ينصر بأن يقال لم لا يجوز أن يكون الله تعالى أجرى العادة بأن يفعل أفعالا مخصوصة عند طلوع كوكب أو غروبه أو اتصاله بكوكب آخر. و الكلام على ذلك بأن يقال هذا غير ممتنع لو ثبت سمع مقطوع به يقتضي ذلك فإن هذا مما لا يعلم بالعقل. فإن قالوا نعلم بالتجربة. قيل لهم التجربة إنما تكون حجة إذا استمرت و اطردت و أنتم خطؤكم فيما تحكمون به أكثر من صوابكم فهلا نسبتم الصواب الذي يقع منكم إلى الاتفاق و التخمين فقد رأينا من أصحاب الزرق و التخمين من يصيب أكثر مما يصيب المنجم و هو من غير أصل صحيح و لا قاعدة معتمدة و متى قلتم إنما أخطأ المنجم لغلطه في تسيير الكواكب

(7/174)


شرح نهج البلاغة ج : 6 ص : 202قيل لكم و لم لا يكون سبب الإصابة اتفاقا و إنما يصح لكم هذا التأويل و التخريج لو كان على صحة أحكام النجوم دليل قاطع هو غير إصابة المنجم. فأما إذا كان دليل صحة الأحكام الإصابة فهلا كان دليل فسادها الخطاء فما أحدهما إلا في مقاب صاحبه. و مما قيل على أصحاب الأحكام إن قيل لهم في شي ء بعينه خذوا الطالع و احكموا أ يؤخذ أم يترك فإن حكموا بأحدهما خولفوا و فعل خلاف ما أخبروا به و هذه المسألة قد أعضل عليهم جوابها. و قال بعض المتكلمين لبعض المنجمين أخبرني لو فرضنا جادة مسلوكة و طريقا يمش فيها الناس نهارا و ليلا و في تلك المحجة آبار متقاربة و بين بعضها و بعض طريق يحتاج سالكه إلى تأمل و توقف حتى يتخلص من السقوط في بعض تلك الآبار هل يجوز أن تكون سلامة من يمشي بهذا الطريق من العميان كسلامة من يمشي فيه من البصراء و المفروض أن الطريق لا يخلو طرفة عين من مشاة فيها عميان و مبصرون و هل يجوز أن يكون عطب البصراء مقاربا لعطب العميان. فقال المنجم هذا مما لا يجوز بل الواجب أن تكون سلامة البصراء أكثر من سلامة العميان. فقال المتكلم فقد بطل قولكم لأن مسألتنا نظير هذه الصورة فإن مثال البصراء هم الذين يعرفون أحكام النجوم و يميزون مساعدها من مناحسها و يتوقون بهذه المعرفة مضار الوقت و الحركات و يتخطونها و يعتمدون منافعها و يقصدونها و مثال العميان كل من لا يحسن علم النجوم و لا يقولون به من أهل العلم و العامة و هم أضعاف أضعاف عدد المنجمين. شرح نهج البلاغة ج : 6 : 203و مثال الطريق الذي فيه الآبار الزمان الذي مضى و مر على الخلق أجمعين و مثال آباره مصائبه و محنه. و قد كان يجب لو صح علم أحكام النجوم أن سلامة المنجمين أكثر و مصائبهم أقل لأنهم يتوقون المحن و يتخطونها لعلمهم بها قبل كونها و أن تكون محن المعرضين عن علم أحكام النجوم على كثرتهم أوفر و أظهر حتى تكون سلامة كل واحد منهم هي

(7/175)


الطريقة الغريبة و المعلوم خلاف ذلك فإن السلامة و المحن في الجميع متقاربة متناسبة غير متفاوتة. و أما البحث الحكمي في هذا الموضع فهو أن الحادث في عالم العناصر عند حلول الكوكب المخصوص في البرج المخصوص إما أن يكون المقتضي له مجرد ذلك الكوكب أو مجرد ذلك البرج أو حلول ذلك الكوكب في ذلك البرج فالأولان باطلان و إلا لوجب أن يحدث ذلك الأمر قبل أن يحدث و الثالث باطل أيضا لأنه إما أن يكون ذلك البرج مساويا لغيره من البروج في الماهية أو مخالفا و الأول يقتضي حدوث ذلك الحادث حال ما كان ذلك الكوكب حالا في غيره من البروج لأن حكم الشي ء حكم مثله و الثاني يقتضي كون كرة البروج متخالفة الأجزاء في أنفسها و يلزم في ذلك كونها مركبة و قد قامت الدلالة على أنه لا شي ء من الأفلاك بمركب. و قد اعترض على هذا الدليل بوجهينحدهما أنه لم لا يجوز أن تختلف أفعال الكواكب المتحيرة عند حلولها في البروج لا لاختلاف البروج في نفسها بل لاختلاف ما في تلك البروج من الكواكب الثابتة المختلفة الطبائع. الوجه الثاني لم لا يجوز أن يقال الفلك التاسع مكوكب بكواكب صغار لا نراها

(7/176)


شرح نهج البلاغة ج : 6 ص : 204لغاية بعدها عنا فإذا تحركت في كرات تداويرها سامتت مواضع مخصوصة من كرة الكواكب الثابتة و هي فلك البروج فاختلفت آثار الكواكب المتحيرة عند حلولها في البروج باعتبار اختلاف تلك الكواكب الصغيرة و لم لا يجوز إثبات كرة بين الكرة الثنة و بين الفلك الأطلس المدبر لجميع الأفلاك من المشرق إلى المغرب و تكون تلك الكرة المتوسطة بينهما بطيئة الحركة بحيث لا تفي أعمارنا بالوقوف على حركتها و هي مكوكبة بتلك الكواكب الصغار المختلفة الطبائع. و أجيب عن الأول بأنه لو كان الأمر كما ذكر لوجب أن تختلف بيوت الكواكب و أشرافها و حدودها عند حركة الثوابت بحركة فلكها حتى أنها تتقدم على مواضعها في كل مائة سنة على رأي المتقدمين أو في كل ست و ستين سنة على رأي المتأخرين درجة واحدة لكن ليس الأمر كذلك فإن شرف القمر كما أنه في زماننا في درجة الثالثة من الثور فكذلك كان عند الذين كانوا قبلنا بألف سنة و بألفي سنة. و أما الوجه الثاني فلا جواب عنه. و اعلم أن الفلاسفة قد عولت في إبطال القول بأحكام النجوم على وجه واحد و هو أن مبنى هذا العلم على التجربة و لم توجد التجربة فيما يدعيه أرباب علم النجوم فإن هاهنا أمورا لا تتكرر إلا في الأعمار المتطاولة مثل الأدوار و الألوف التي زعم أبو معشر أنها هي الأصل في هذا العلم و مثل مماسة جرم زحل للكرة المكوكبة و مثل انطباق معدل النهار على دائرة فلك البروج فإنهم يزعمون أن ذلك يقتضي حدوث طوفان الماء و إحاطته بالأرض من جميع الجوانب مع أن هذه الأمور لا توجد إلا في ألوف الألوف من السنين فكيف تصح أمثال هذه الأمور بالتجربة. و أيضا فإنا إذا رأينا حادثا حدث عند حلول كوكب مخصوص في برج مخصوص شرح نهج البلاغة ج : 6 ص : 205فكيف نعلم استناد حدوثه إلى ذلك الحلول فإن في الفلك كواكب لا تحصى فما الذي خصص حدوث ذلك الحدوث بحلول ذلك الكوكب في ذلك البرج لا غيره و بتقدير أن

(7/177)


يكون لحلوله تأثير في ذلك فلا يمكن الجزم قبل حلوله بأنه إذا حل في البرج المذكور لبد أن يحدث ذلك الحادث لجواز أن يوجد ما يبطل تأثيره نحو أن يحل كوكب آخر في برج آخر فيدفع تأثيره و يبطل عمله أو لعل المادة الأرضية لا تكون مستعدة لقبول تلك الصورة و حدوث الحادث كما يتوقف على حصول الفاعل يتوقف على حصول القابل و إذا وقع الشك في هذه الأمور بطل القول بالجزم بعلم أحكام النجوم و هذه الحجة جيدة إن كان المنجمون يطلبون القطع في علمهم. فإما أن كانوا يطلبون الظن فإن هذه الحجة لا تفسد قولهم. فأما أبو البركات بن ملكا البغدادي صاحب كتاب المعتبر فإنه أبطل أحكام النجوم من وجه و أثبته من وجه. قال أما من يريد تطبيق علم أحكام النجوم على قاعدة العلم الطبيعي فإنه لا سبيل له إلى ذلك فإنا لا نتعلق من أقوالهم إلا بأحكام يحكمون بها من غير دليل نحو القول بحر الكواكب و بردها أو رطوبتها و يبوستها و اعتدالها كقولهم إن زحل بارد يابس و المشتري معتدل و الاعتدال خير و الإفراط شر و ينتجون من ذلك أن الخير يوجب سعادة و الشر يوجب منحسة و ما جانس ذلك مما لم يقل به علماء الطبيعيين و لم تنتجه مقدماتهم في أنظارهم و إنما الذي أنتجته هو أن الأجرام السماوية فعالة فيما تحويه و تشتمل عليه و تتحرك حوله فعلا على الإطلاق غير محدود بوقت و لا مقدر بتقدير و القائلون بالأحكام ادعوا حصول علمهم بذلك من توقيف و تجربة لا يطابق نظر الطبيعي. و إذا قلت بقول الطبيعي بحسب أنظاره أن المشتري سعد و المريخ نحس أو أن زحل

(7/178)


شرح نهج البلاغة ج : 6 ص : 206بارد يابس و المريخ حار يابس و الحار و البارد من الملموسات و ما دل على هذا المس و ما استدل عليه بلمس كتأثيره فيما يلمسه فإن ذلك لم يظهر للحس في غير الشمس حيث تسخن الأرض بشعاعها و لو كان في السمائيات شي ء من طبائع الأضداد لكالأولى أن تكون كلها حارة لأن كواكبها كلها منيرة. و متى يقول الطبيعي بتقطيع الفلك و تقسيمه إلى أجزاء كما قسمه المنجمون قسمة وهمية إلى بروج و درج و دقائق و ذلك جائز للمتوهم كجواز غيره و ليس بواجب في الوجود و لا حاصل فنقلوا ذلك التوهم الجائز إلى الوجود الواجب في أحكامهم و كان الأصل فيه على زعمهم حركة الشمس و الأيام و الشهور فحصلوا منها قسمة وهمية و جعلوها كالحاصلة الوجودية المثمرة بحدود و خطوط كان الشمس بحركتها من وقت إلى مثله خطت في السماء خطوطا و أقامت فيها جدرا أو حدودا أو غيرت في أجزائها طباعا تغييرا يبقى فيتقى به القسمة إلى تلك الدرج و الدقائق مع جواز الشمس عنها و ليس في جوهر الفلك اختلاف يتميز به موضع عن موضع سوى الكواكب و الكواكب تتحرك عن أمكنتها فبقيت الأمكنة على التشابه فبما ذا تتميز بروجه و درجه و يبقى اختلافها بعد حركة المتحرك في سمتها و كيف يقيس الطبيعي على هذه الأصول و ينتج منها نتائج و يحكم بحسبها أحكاما و كيف له أن يقول بالحدود و يجعل خمس درجات من برج الكوكب و ستا لآخر و أربعا لآخر و يختلف فيها البابليون و المصريون و جعلوا أرباب البيوت كأنها ملاك و البيوت كأنها أملاك تثبت لأربابها بصكوك و أحكام الأسد للشمس و السرطان للقمر و إذا نظر الناظر وجد الأسد أسدا من جهة كواكب شكلوها بشكل الأسد ثم انقلبت عن مواضعها و بقي الموضع أسدا و جعلوا الأسد للشمس و قد ذهبت منه الكواكب التي كان بها أسدا كان ذلك الملك بيت للشمس مع انتقال الساكن و كذلك السرطان للقمر. شرح نج البلاغة ج : 6 ص : 207و من الدقائق في العلم النجومي الدرجات

(7/179)


المدارة و الغربية و المظلمة و النيرة و الزائدة في السعادة و درجات الآثار من جهة أنها أجزاء الفلك إن قطعوها و ما انقطعت و مع انتقال ما ينتقل من الكواكب إليها و عنها ثم أنتجوا من ذلك نتائج أنظارهممن أعداد الدرج و أقسام الفلك فقالوا إن الكوكب ينظر إلى الكواكب من ستين درجة نظر تسديس لأنه سدس من الفلك و لا ينظر إليه من خمسين و لا من سبعين و قد كان قبل الستين بعشر درج و هو أقرب من ستين و بعدها بعشر درج و هو أبعد من ستين لا ينظر. فليت شعري ما هذا النظر أ ترى الكواكب تظهر للكوكب ثم تحتجب عنه ثم شعاعه يختلط بشعاعه عند حد لا يختلط به قبله و لا بعده. و كذلك التربيع من الربع الذي هو تسعون درجة و التثليث من الثلث الذي هو مائة و عشرون درجة فلم لا يكون التخميس و التسبيع و التعشير على هذا القياس ثم يقولون الحمل حار يابس ناري و الثور بارد يابس أرضي و الجوزاء حار رطب هوائي و السرطان بارد رطب مائي ما قال الطبيعي هذا قط و لا يقول به. و إذا احتجوا و قاسوا كانت مبادئ قياساتهم الحمل برج ينقلب لأن الشمس إذا نزلت فيه ينقلب الزمان من الشتاء إلى الربيع و الثور برج ثابت لأن الشمس إذا نزلت فيه ثبت الربيع على ربيعيته. و الحق أنه لا ينقلب الحمل و لا يثبت الثور بل هما على حالهما في كل وقت ثم كيف يبقى دهره منقلبا مع خروج الشمس منه و حلولها فيه أ تراها تخلف فيه أثرا أو تحيل منه طباعا و تبقى تلك الاستحالة إلى أن تعود فتجددها و لم لا يقول قائل إن السرطان حار يابس لأن الشمس إذا نزلت فيه يشتد حر الزمان و ما يجانس هذا مما لا يلزم لا هو و لا ضده فليس في الفلك اختلاف يعرفه الطبيعي إلا بما فيه من الكواكب و هو في نفسه

(7/180)


شرح نهج البلاغة ج : 6 ص : 208واحد متشابه الجوهر و الطبع و لكنها أقوال قال بها قائل فقبلها قائل و نقلها ناقل فحسن فيها ظن السامع و اغتر بها من لا خبرة له و لا قدرة له على النظر. ثم حكم بها الحاكمون بجيد و ردي ء و سلب و إيجاب و بت و تجوز فصادف بعضه موافقلوجود فصدق فيعتبر به المعتبرون و لم يلتفتوا إلى ما كذب منه فيكذبوه بل عذروا و قالوا إنما هو منجم و ليس بنبي حتى يصدق في كل ما يقول و اعتذروا له بأن العلم أوسع من أن يحيط به أحد و لو أحاط به أحد لصدق في كل شي ء و لعمر الله إنه لو أحاط به علما صادقا لصدق و لشأن في أن يحيط به على الحقيقة لا أن يفرض فرضا و يتوهم وهما فينقله إلى الوجود و ينسب إليه و يقيس عليه. قال و الذي يصح من هذا العلم و يلتفت إليه العقلاء هي أشياء غير هذه الخرافات التي لا أصل لها فما حصل توقيف أو تجربة حقيقة كالقرانات و المقابلة فإنها أيضا من جملة الاتصالات كالمقارنة من جهة أن تلك غاية القرب و هذه غاية البعد و نحو ممر كوكب من المتحيرة تحت كوكب من الثابتة و نحوه ما يعرض للمتحيرة من رجوع و استقامة و ارتفاع في شمال و انخفاض في جنوب و أمثال ذلك. فهذا كلام ابن ملكا كما تراه يبطل هذا الفن من وجه و يقول به من وجه. و قد وقفت لأبي جعفر محمد بن الحسين الصنعاني المعروف بالخازن صاحب كتاب زيج الصفائح على كلام في هذا الباب مختصر له سماه كتاب العالمين أنا ذاكره في هذا الموضع على وجهه لأنه كلام لا بأس به قال إن بعض المصدقين بأحكام النجوم و كل المكذبين بها قد زاغوا عن طريق الحق و الصواب فيها فإن الكثير من المصدقين بها قد أدخلوا فيها ما ليس منها و ادعوا ما لم يمكن إدراكه بها حتى كثر فيها خطؤهم و ظهر كذبهم و صار ذلك سببا لتكذيب أكثر الناس بهذا العلم. شرح نهج البلاغة ج : 6 ص : 209فأما المكذبون به فقد بلغوا من إنر صحيحه و رد ظاهره إلى أن قالوا إنه لا يصح منه شي ء أصلا و نسبوا أهله

(7/181)


إلى الرزق و الاحتيال و الخداع و التمويه فلذلك رأينا أن نبتدئ بتبيين صحة هذه الصناعة ليظهر فساد قول المكذبين لها بأسرها ثم نبين ما يمكن إدراكه بها ليبطل دعوى المدعين فيها ما يمتنع وجوده ها. أما الوجوه التي بها تصح صناعة الأحكام فهي كثيرة منها ما يظهر لجميع الناس من قبل الشمس فإن حدوث الصيف و الشتاء و ما يعرض فيهما من الحر و البرد و الأمطار و الرياح و نبات الأرض و خروج وقت الأشجار و حملها الثمار و حركة الحيوان إلى النسل و التوالد و غير ذلك مما يشاكله من الأحوال إنما يكون أكثر ذلك بحسب دنو الشمس من سمت الرءوس في ناحية الشمال و تباعدها منه إلى ناحية الجنوب و بفضل قوة الشمس على قوة القمر و قوى سائر الكواكب ظهر ما قلنا لجميع الناس. و قد ظهر لهم أيضا من قبل الشمس في تغيير الهواء كل يوم عند طلوعها و عند توسطها السماء و عند غروبها ما لا خفاء به من الآثار. و من هذه الوجوه ما يظهر للفلاحين و الملاحين بأدنى تفقد للأشياء التي تحدث فإنهم يعلمون أشياء كثيرة من الآثار التي يؤثرها القمر و أنوار الكواكب الثابتة كالمد و الجزر و حركات الرياح و الأمطار و أوقاتها عند الحدوث و ما يوافق من أوقات الزراعات و ما لا يوافق و أوقات اللقاح و النتاج. و قد يظهر من آثار القمر في الحيوان الذي يتوالد في الماء و الرطوبات ما هو مشهور لا ينكر. و منها جهات أخرى يعرفها المنجمون فقط على حسب فضل علمهم و دقة نظرهم في هذا

(7/182)


شرح نهج البلاغة ج : 6 ص : 210العلم و إذ قد وصفنا على سبيل الإجمال ما يوجب حقيقة هذا العلم فإنا نصف ما يمكن إدراكه به أو لا يمكن فنقول لما كانت تغيرات الهواء إنما تحدث بحسب أحوال الشمس و القمر و الكواكب المتحيرة و الثابتة صارت معرفة هذه التغيرات قد تدرك النجوم مع سائر ما يتبعها من الرياح و السحاب و الأمطار و الثلج و البرد و الرعد و البرق لأن الأشياء التي تلي الأرض و تصل إليها هذه الآثار من الهواء المحيط بها كانت الأعراض العامية التي تعرض في هذه الأشياء تابعة لتلك الآثار مثل كثرة مياه الأنهار و قلتها و كثرة الثمار و قلتها و كثرة خصب الحيوان و قلته و الجدوبة و القحط و الوباء و الأمراض التي تحدث في الأجناس و الأنواع أو في جنس دون جنس أو في نوع دون نوع و سائر ما يشاكل ذلك من الأحداث. و لما كانت أخلاق النفس تابعة لمزاج البدن و كانت الأحداث التي ذكرناها مغيرة لمزاج البدن صارت أيضا مغيرة للأخلاق و لأن المزاج الأول الأصلي هو الغالب على الإنسان في الأمر الأكثر و كان المزاج الأصلي هو الذي طبع عليه الإنسان في وقت كونه في الرحم و في وقت مولده و خروجه إلى جو العالم صار وقت الكون و وقت المولد أدل الأشياء على مزاج الإنسان و على أحواله التابعة للمزاج مثل خلقة البدن و خلق النفس و المرض و الصحة و سائر ما يتبع ذلك فهذه الأشياء و ما يشبهها من الأمور التي لا تشارك شيئا من الأفعال الإرادية فيه مما يمكن معرفته بالنجوم و أما الأشياء التي تشارك الأمور الإرادية بعض المشاركة فقد يمكن أن يصدق فيها هذا العلم على الأمر الأكثر و إذا لم يستعمل فيه الإرادة جرى على ما تقود إليه الطبيعة. على أنه قد يعرض الخطاء و الغلط لأصحاب هذه الصناعة من أسباب كثيرة بعضها يختص بهذه الصناعة دون غيرها و بعضها يعمها و غيرها من الصنائع. شرح نهج البلاغة ج : 6 : 211فأما ما يعم فهو من قصور طبيعة الناس في معرفة الصنائع أيا كانت

(7/183)


عن بلوغ الغاية فيها حتى لا يبقى وراءها غاية أخرى فكثرة الخطإ و قلته على حسب تقصير واحد واحد من الناس. و أما ما يخص هذه الصناعة فهو كثير ما يحتاج صاحبها إلى معرفته مما لا يمكنه أن يعلم كثيرا منه إلا بالحدس و التخمين فضلا عن لطف الاستنباط و حسن القياس و مما يحتاج إلى معرفة علم أحوال الفلك و مما يحدث في كل واحد من تلك الأحوال فإن كل واحد منها له فعل خاص ثم يؤلف تلك الأحوال بعضها مع بعض على كثرة فنونها و اختلافاتها ليحصل من جميع ذلك قوة واحدة و فعل واحد يكون عنه الحادث في هذا العالم و ذلك أمر عسير فمتى أغفل من ذلك شي ء كان الخطأ الواقع بحسب الشي ء الذي سها عنه و ترك استعماله. ثم من بعد تحصيل ما وصفناه ينبغي أن يعلم الحال التي عليها يوافي في تلك القوة الواحدة الأشياء التي تعرض فيها تلك الأحداث كه مثلا إذا دل ما في الفلك على حدوث حر و كانت الأشياء التي يعرض فيها ما يعرض قد مر بها قبل ذلك حر فحميت و سخنت أثر ذلك فيها أثرا قويا فإن كان قد مر بها برد قبل ذلك أثر ذلك فيها أثرا ضعيفا و هذا شي ء يحتاج إليه في جميع الأحداث التي تعمل في غيرها مما يناسب هه المعرفة. و أما الأحداث التي تخص ناحية ناحية أو قوما قوما أو جنسا جنسا أو مولودا واحدا من الناس فيحتاج مع معرفتها إلى أن يعلم أيضا أحوال البلاد و العادات و الأغذية و الأوباء و سائر ما يشبه ذلك مما له فيه أثر و شركة مثل ما يفعل الطبيب في المعالجة و في تقدمه المعرفة ثم من بعد تحصيل هذه الأشياء كلها ينبغي أن ينظر في الأمر الذي قد استدل على حدوثه هل هو مما يمكن أن يرد أو يتلافى بما يبطله أو بغيره من جهة

(7/184)


شرح نهج البلاغة ج : 6 ص : 212الطب و الحيل أم لا كأنه مثلا استدل على أنه يصيب هذا الإنسان حرارة يحم منها فينبغي أن يحكم بأنه يحم أن لم يتلاف تلك الحرارة بالتبريد فإنه إذا فعل ذلك أنزل الأمور منازلها و أجراها مجاريها. ثم إن كان الحادث قويا لا يمكن دفعه بب ما ذكرنا فليس يلزم الحاجة إلى ما قلنا فإن الأمر يحدث لا محالة و ما قوي و شمل الناس فإنه لا يمكن دفعه و لا فسخه و إن أمكن فإنما يمكن في بعض الناس دون بعض. و أما أكثرهم فإنه يجري أمره على ما قد شمل و عم فقد يعم الناس حر الصيف و إن كان بعضهم يحتال في صرفه بالأشياء التي تبرد و تنفى الحر. فهذه جملة ما ينبغي أن يعلم و يعمل عليه أمور هذه الصناعة. قلت هذا اعتراف بأن جميع الأحداث المتعلقة باختيار الإنسان و غيره من الحيوان لا مدخل لعلم أحكام النجوم فيه فعلى هذا لا يصح قول من يقول منهم لزيد مثلا إنك تتزوج أو تشتري فرسا أو تقتل عدوا أو تسافر إلى بلد و نحو ذلك و هو أكثر ما يقولونه و يحكمون به. و أما الأمور الكلية الحادثة لا بإرادة الحيوان و اختياره فقد يكون لكلامهم فيه وجه من الطريق التي ذكرها و هي تعلق كثير من الأحداث بحركة الشمس و القمر إلا أن المعلوم ضرورة من دين رسول الله ص إبطال حكم النجوم و تحريم الاعتقاد بها و النهي و الزجر عن تصديق المنجمين و هذا معنى قول أمير المؤمنين في هذا الفصل فمن صدقك بهذا فقد كذب القرآن و استغنى عن الاستعانة بالله ثم أردف شرح نهج البلاغة ج : 6 ص : 213ذلك و أكده بقوله كان يجب أن يحمد المن دون الباري تعالى لأن المنجم هو الذي هدى الإنسان إلى الساعة التي ينجح فيها و صده عن الساعة إلى يخفق و يكدي فيها فهو المحسن إليه إذا و المحسن يستحق الحمد و الشكر و ليس للبارئ سبحانه إلى الإنسان في هذا الإحسان المخصوص فوجب ألا يستحق الحمد على ظفر الإنسان بطلبه لكن القول بذلك و التزامه كفر محض

(7/185)


شرح نهج البلاغة ج : 6 ص : 79214- و من كلام له ع بعد فراغه من حرب الجمل في ذم النساءمَعَاشِرَ النَّاسِ إِنَّ النِّسَاءَ نَوَاقِصُ الْإِيمَانِ نَوَاقِصُ الْحُظُوظِ نَوَاقِصُ الْعُقُولِ فَأَمَّا نُقْصَانُ إِيمَانِهِنَّ فَقُعُودُهُنَّ عَنِ الصَّلَاةِ وَ الصِّيَامِ فِي أَيَّامِ حَيْضِهِنَّ وَ أَمَّا نُقْصَانُ عُقُولِهِنَّ فَشَهَادَةُ امْرَأَتَيْنِ مِنْهُنَّ كَشَهَادَةِ الرَّجُلِ الْوَاحِدِ وَ أَمَّا نُقْصَانُ حُظُوظِهِنَّ فَمَوَارِيثُهُنَّ عَلَى الْأَنْصَافِ مِنْ مَوَارِيثِ الرِّجَالِ فَاتَّقُوا شِرَارَ النِّسَاءِ وَ كُونُوا مِنْ خِيَارِهِنَّ عَلَى حَذَرٍ وَ لَا تُطِيعُوهُنَّ فِي الْمَعْرُوفِ حَتَّى لَا يَطْمَعْنَ فِي الْمُنْكَرِ

(7/186)


جعل ع نقصان الصلاة نقصانا في الإيمان و هذا هو قول أصحابنا إن الأعمال من الإيمان و إن المقر بالتوحيد و النبوة و هو تارك للعمل ليس بمؤمن. و قوله ع و لا تطيعوهن في المعروف ليس بنهي عن فعل المعروف و إنما هو نهي عن طاعتهن أي لا تفعلوه لأجل أمرهن لكم به بل افعلوه لأنه معروف و الكلام ينحو نحو المثل المشهور لا تعط العبد كراعا فيأخذ ذراعا. و هذا الفصل كله رمز إلى عائشة و لا يختلف أصحابنا في أنها أخطأت فيما فعلت ثم تابت و ماتت تائبة و إنها من أهل الجنة. شرح نهج البلاغة ج : 6 ص : 215قال كل من صنف في السير و الأخبار عائشة كانت من أشد الناس على عثمان حتى إنها أخرجت ثوبا من ثياب رسول الله ص فنصبته في منزلها و كانت تقول للداخلين إليها هذا ثوب رسول الله ص لم يبل و عثمان قد أبلى سنته. قالوا أول من سمى عثمان نعثلا عائشة و النعثل الكثير شعر اللحية و الجسد و كانت تقول اقتلوا نعثلا قتل الله نعثلا. و روى المدائني في كتاب الجمل قال لما قتل عثمان كانت عائشة بمكة و بلغ قتله إليها و هي بشراف فلم تشك في أن طلحة هو صاحب الأمر و قالت بعدا لنعثل و سحقا إيه ذا الإصبع إيه أبا شبل إيه يا ابن عم لكأني أنظر إلى إصبعه و هو يبايع له حثوا الإبل و دعدعوها. قال و قد كان طلحة حين قتل عثمان أخذ مفاتيح بيت المال و أخذ نجائب كانت لعثمان في داره ثم فسد أمره فدفعها إلى علي بن أبي طالب ع
أخبار عائشة في خروجها من مكة إلى البصرة بعد مقتل عثمان

(7/187)


و قال أبو مخنف لوط بن يحيى الأزدي في كتابه أن عائشة لما بلغها قتل عثمان و هي بمكة أقبلت مسرعة و هي تقول إيه ذا الإصبع لله أبوك أما إنهم وجدوا طلحة لها كفوا فلما انتهت إلى شراف استقبلها عبيد بن أبي سلمة الليثي فقالت له ما عندك قال قتل عثمان قالت ثم ما ذا قال ثم حارت بهم الأمور إلى خير محار بايعوا عليا فقالت لوددت أن السماء انطبقت على الأرض إن تم هذا ويحك انظر ما تقول قال هو ما قلت لك يا أم المؤمنين فولولت فقال لها ما شأنك يا أم المؤمنين شرح نهج البلاغة ج : 6 ص : 216و الله ما أعرف بين لابتيها أحدا أولى بها ه و لا أحق و لا أرى له نظيرا في جميع حالاته فلما ذا تكرهين ولايته قال فما ردت عليه جوابا. قال و قد روي من طرق مختلفة أن عائشة لما بلغها قتل عثمان و هي بمكة قالت أبعده الله ذلك بما قدمت يداه و ما الله بظلام للعبيد. قال و قد روى قيس بن أبي حازم أنه حج في العام الذي قتل فيه عثمان و كان مع عائشة لما بلغها قتله فتحمل إلى المدينة قال فسمعها تقول في بعض الطريق إيه ذا الإصبع و إذا ذكرت عثمان قالت أبعده الله حتى أتاها خبر بيعة علي فقالت لوددت أن هذه وقعت على هذه ثم أمرت برد ركائبها إلى مكة فردت معها و رأيتها في سيرها إلى مكة تخاطب نفسها كأنها تخاطب أحدا قتلوا ابن عفان مظلوما فقلت لها يا أم المؤمنين أ لم أسمعك آنفا تقولين أبعده الله و قد رأيتك قبل أشد الناس عليه و أقبحهم فيه قولا فقالت لقد كان ذلك و لكني نظرت في أمره فرأيتهم استتابوه حتى إذا تركوه كالفضة البيضاء أتوه صائما محرما في شهر حرام فقتلوه. قال و روي من طرق أخرى أنها قالت لما بلغها قتله أبعده الله قتله ذنبه و أقاده الله بعمله يا معشر قريش لا يسومنكم قتل عثمان كما سام أحمر ثمود قومه أن أحق الناس بهذا الأمر ذو الإصبع فلما جاءت الأخبار ببيعة علي ع قالت تعسوا تعسوا لا يردون الأمر في تيم أبدا. كتب طلحة و الزبير إلى عائشة و هي

(7/188)


بمكة كتابا أن خذلي الناس عن بيعة علي و أظهري الطلب بدم عثمان و حملا الكتاب مع ابن أختها عبد الله بن الزبير فلما قرأت الكتاب كاشفت و أظهرت الطلب بدم عثمان و كانت أم سلمة رضي الله عنها بمكة في ذلك العام فلما رأت صنع عائشة قابلتها بنقيض ذلك و أظهرت موالاة علي ع و نصرته على مقتضي العداوة المركوزة في طباع الصرتين. شرح نهج البلاغة ج : 6 ص : 217قال أبو مخنف جاءت عائشة إلى أم سلمة تخادعها على الخروج للطلب بدم عثمان فقالت لها يا بنت أبي أمية أنت أول مهاة من أزواج رسول الله ص و أنت كبيرة أمهات المؤمنين و كان رسول الله ص يقسم لنا من بيتك و كان جبريل أكثر ما يكون في منزلك فقالت أم سلمة لأمر ما قلت هذه المقالة فقالت عائشة إن عبد الله أخبرني أن القوم استتابوا عثمان فلما تاب قتلوه صائما في شهر حرام و قد عزمت على الخروج إلى البصرة و معي الزبير و طلحة فاخرجي معنا لعل الله أن يصلح هذا الأمر على أيدينا بنا فقالت أم سلمة إنك كنت بالأمس تحرضين على عثمان و تقولين فيه أخبث القول و ما كان اسمه عندك إلا نعثلا و إنك لتعرفين منزلة علي بن أبي طالب عند رسول الله ص أ فأذكرك قالت نعم

(7/189)


قالت أ تذكرين يوم أقبل ع و نحن معه حتى إذا هبط من قديد ذات الشمال خلا بعلي يناجيه فأطال فأردت أن تهجمي عليهما فنهيتك فعصيتني فهجمت عليهما فما لبثت أن رجعت باكية فقلت ما شأنك فقلت إني هجمت عليهما و هما يتناجيان فقلت لعلي ليس لي من رسول الله إلا يوم من تسعة أيام أ فما تدعني يا ابن أبي طالب و يومي فأقبل رسول الله ص علي و هو غضبان محمر الوجه فقال ارجعي وراءك و الله لا يبغضه أحد من أهل بيتي و لا من غيرهم من الناس إلا و هو خارج من الإيمان فرجعت نادمة ساقطة قالت عائشة نعم أذكر ذلك قالت و أذكرك أيضا كنت أنا و أنت مع رسول الله ص و أنت تغسلين رأسه و أنا أحيس له حيسا و كان الحيس يعجبه فرفع رأسه و قال يا ليت شعري أيتكن صاحبة الجمل الأذنب تنبحها كلاب الحوأب فتكون ناكبة شرح نهج البلاغة ج : 6 ص : 218عن الصراط فرفعت يدي من الحيس فقلت أعوذ بالله و برسوله من ذلك ثم ضرب علىهرك و قال إياك أن تكونيها ثم قال يا بنت أبي أمية إياك أن تكونيها يا حميراء أما أنا فقد أنذرتك قالت عائشة نعم أذكر هذا قالت و أذكرك أيضا كنت أنا و أنت مع رسول الله ص في سفر له و كان علي يتعاهد نعلي رسول الله ص فيخصفها و يتعاهد أثوابه فيغسلها فنقبت له نعل فأخذها يومئذ يخصفها و قعد في ظل سمرة و جاء أبوك و معه عمر فاستأذنا عليه فقمنا إلى الحجاب و دخلا يحادثانه فيما أراد ثم قالا يا رسول الله إنا لا ندري قدر ما تصحبنا فلو أعلمتنا من يستخلف علينا ليكون لنا بعدك مفزعا فقال لهما أما إني قد أرى مكانه و لو فعلت لتفرقتم عنه كما تفرقت بنو إسرائيل عن هارون بن عمران فسكتا ثم خرجا فلما خرجنا إلى رسول الله ص قلت له و كنت أجرأ عليه منا من كنت يا رسول الله مستخلفا عليهم فقال خاصف النعل فنظرنا فلم نر أحدا إلا عليا فقلت يا رسول الله ما أرى إلا عليا فقال هو ذاك فقالت عائشة نعم أذكر ذلك فقالت فأي خروج تخرجين بعد هذا فقالت إنما أخرج للإصلاح بين

(7/190)


الناس و أرجو فيه الأجر إن شاء الله فقالت أنت و رأيك فانصرفت عائشة عنها و كتبت أم سلمة بما قالت و قيل لها إلى علي ع
فإن قلت فهذا نص صريح في إمامة علي ع فما تصنع أنت و أصحابك المعتزلة به قلت كلا إنه ليس بنص كما ظننت لأنه ص لم يقل قد استخلفته و إنما قال لو قد استخلفت أحدا لاستخلفته و ذلك لا يقتضي حصول الاستخلاف شرح نهج البلاغة ج : 6 ص : 219و يجوز أن تكون مصلحة المكلفين علقة بالنص عليه لو كان النبي ص مأمورا بأن ينص على إمام بعينه من بعده و أن يكون من مصلحتهم أن يختاروا لأنفسهم من شاءوا إذا تركهم النبي ص و آراءهم و لم يعين أحدا. و روى هشام بن محمد الكلبي في كتاب الجمل أن أم سلمة كتبت إلى علي ع من مكة أما بعد فإن طلحة و الزبير و أشياعهم أشياع الضلالة يريدون أن يخرجوا بعائشة إلى البصرة و معهم عبد الله بن عامر بن كريز و يذكرون أن عثمان قتل مظلوما و أنهم يطلبون بدمه و الله كافيهم بحوله و قوته و لو لا ما نهانا الله عنه من الخروج و أمرنا به من لزوم البيت لم أدع الخروج إليك و النصرة لك و لكني باعثة نحوك ابني عدل نفسي عمر بن أبي سلمة فاستوص به يا أمير المؤمنين خيرا. قال فلما قدم عمر على علي ع أكرمه و لم يزل مقيما معه حتى شهد مشاهده كلها و وجهه أميرا على البحرين و قال لابن عم له بلغني أن عمر يقول الشعر فابعث إلي من شعره فبعث إليه بأبيات له أولها
جزتك أمير المؤمنين قرابة رفعت بها ذكري جزاء موفرا

(7/191)


فعجب علي ع من شعره و استحسنه. و من الكلام المشهور الذي قيل إن أم سلمة رحمها الله كتبت به إلى عائشة إنك جنة بين رسول الله ص و بين أمته و إن الحجاب دونك لمضروب على حرمته و قد جمع القرآن ذيلك فلا تندحيه و سكن عقيراك فلا تصحريها لو أذكرتك قوله من رسول الله ص تعرفينها لنهشت بها نهش الرقشاء المطرقة ما كنت شرح نهج البلاغة ج : 6 ص : 220قائلة لرسول الله ص لو لقيك ناصة قلوص قعودك من منهل إلى منهل قد تركت عهيداه و هتكت ستره إن عمود الدين لا يقوم بالنساء و صدعه لا يرأب بهن حماديات النساء خفض الأصوات و خفر الأعراض اجع قاعدة البيت قبرك حتى تلقينه و أنت على ذلك. فقالت عائشة ما أعرفني بنصحك و أقبلني لوعظك و ليس الأمر حيث تذهبين ما أنا بعمية عن رأيك فإن أقم ففي غير حرج و إن أخرج ففي إصلاح بين فئتين من المسلمين. و قد ذكر هذا الحديث أبو محمد عبد الله بن مسلم بن قتيبة في كتابه المصنف في غريب الحديث في باب أم سلمة على ما أورده عليك قال لما أرادت عائشة الخروج إلى البصرة أتتها أم سلمة فقالت لها إنك سدة بين محمد رسول الله ص و بين أمته و حجابك مضروب على حرمته قد جمع القرآن ذيلك فلا تندحيه و سكن عقيراك فلا تصحريها الله من وراء هذه الأمة لو أراد رسول الله ص أن يعهد إليك عهدا علت علت بل قد نهاك عن الفرطة في البلاد إن عمود الإسلام لا يثأب بالنساء إن مال و لا يرأب بهن إن صدع حماديات النساء غض الأطراف و خفر الأعراض و قصر الوهازة ما كنت قائلة لو أن رسول الله ص عارضك بعد الفلوات ناصة قلوصا من منهل إلى آخر إن بعين الله مهواك و على رسوله تردين و قد وجهت سدافته و يروى سجافته و تركت عهيداه لو سرت مسيرك هذا ثم قيل لي ادخلي الفردوس لاستحييت أن ألقى محمدا ص هاتكة حجابا و قد ضربه علي اجعلي حصنك بيتك و وقاعة الستر قبرك حتى تلقينه و أنت على تلك أطوع ما تكونين لله

(7/192)


شرح نهج البلاغة ج : 6 ص : 221بالرقبة و أنصر ما تكون للدين ما حلت عنه لو ذكرتك قولا تعرفينه لنهشت به نهش الرقشاء المطرقة. فقالت عائشة ما أقبلني لوعظك و ليس الأمر كما تظنين و لنعم المسير مسير فزعت فيه إلى فئتان متناجزتان أو قالت متناحرتان إن أقعد ففي غير ج و إن أخرج فإلى ما لا بد لي من الازدياد منه. تفسير غريب هذا الخبر السدة الباب
و منه حديث رسول الله ص أنه ذكر أول من يرد عليه الحوض فقال الشعث رءوسا الدنس ثيابا الذين لا تفتح لهم السدد و لا ينكحون المتنعمات

(7/193)


و أرادت أم سلمة أنك باب بين النبي ص و بين الناس فمتى أصيب ذلك الباب بشي ء فقد دخل على رسول الله ص في حرمه و حوزته و استبيح ما حماه تقول فلا تكوني أنت سبب ذلك بالخروج الذي لا يجب عليك فتحوجي الناس إلى أن يفعلوا ذلك و هذا مثل قول نعمان بن مقرن للمسلمين في غاة نهاوند ألا و إنكم باب بين المسلمين و المشركين إن كسر ذلك الباب دخل عليهم منه. و قولها قد جمع القرآن ذيلك فلا تندحيه أي لا تفتحيه و لا توسعيه بالحركة و الخروج يقال ندحت الشي ء إذا وسعته و منه يقال فلان في مندوحة عن كذا أي في سعة تريد قول الله تعالى وَ قرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ و من روى تبدحيه بالباء فإنه من البداح و هو المتسع من الأرض و هو معنى الأول. و سكن عقيراك من عقر الدار و هو أصلها أهل الحجاز يضمون العين و أهل نجد يفتحونها و عقير اسم مبني من ذلك على صيغة التصغير و مثله مما جاء مصغرا الثريا و الحميا و هو سورة الشراب قال ابن قتيبة و لم أسمع بعقيرا إلا في هذا الحديث. شرح نهج البلاغة ج : 6 ص : 222قولها فلا تصحريها أي لا تبرزيها و تجعليها بالصحراء يقال أصحر كما يقال أنجد و أسهل و أحزن. و قولها الله من وراء هذه الأمة أي محيط بهم و حافظ لهم و عالم بأحوالهم وله تعالى وَ اللَّهُ مِنْ وَرائِهِمْ مُحِيطٌ قولها لو أراد رسول الله ص الجواب محذوف أي لفعل و لعهد و هذا كقوله تعالى وَ لَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أي لكان هذا القرآن. قولها علت علت أي جرت في هذا الخروج و عدلت عن الجواب و العول الميل و الجور قال تعالى ذلِكَ أَدْنى أَلَّا تَعُولُوا و من الناس من يرويه علت علت بكسر العين أي ذهبت في البلاد و أبعدت السير يقال عال فلان في البلاد أي ذهب و أبعد و منه قيل للذئب عيال. قولها عن الفرطة في البلاد أي عن السفر و الشخوص من الفرط و هو السبق و التقدم و رجل فارط أتى الماء أي سابق. قولها لا يثأب

(7/194)


بالنساء أي لا يرد بهن إن مال إلى استوائه من قولك ثأب فلان إلى كذا أي عاد إليه. قولها و لا يرأب بهن إن صدع أي لا يسد بهن و لا يجمع و الصدع الشق و يروى إن صدع بفتح الصاد و الدال أجروه مجرى قولهم جبرت العظم فجبر. قولها حماديات النساء يقال حماداك أن تفعل كذا مثل قصاراك أن تفعل كذا أي جهدك و غايتك. شرح نهج البلاغة ج : 6 ص : 223و غض الأطراف جمعها و خفر الأعراض الخفر الحياء و الأعراض جمع عرض و هو الجسد يقال فلان طيب العرض أي طيب ريح البدن و من ره الأعراض بكسر الهمزة جعله مصدرا من أعرض عن كذا. قولها و قصر الوهازة قال ابن قتيبة سألت عن هذا فقال لي من سألته سألت عنه أعرابيا فصيحا فقال الوهازة الخطوة يقال للرجل إنه لمتوهز و متوهر إذا وطئ وطئا ثقيلا. قولها ناصة قلوصا أي رافعة لها في السير و النص الرفع و منه يقال حديث منصوص أي مرفوع و القلوص من النوق الشابة و هي بمنزلة الفتاة من النساء. و المنهل الماء ترده الإبل. قولها إن بعين الله مهواك أي إن الله يرى سيرك و حركتك و الهوى الانحدار في السير من النجد إلى الغور. قولها و على رسوله تردين أي تقدمين في القيامة. قولها و قد وجهت سدافته السدافة الحجاب و الستر هي من أسدف الليل إذا ستر بظلمته كأنه أرخى ستورا من الظلام و يروى بفتح السين و كذلك القول في سجافته إنه يروى بكسر السين و فتحها و السدافة و السجافة بمعنى. و وجهت أي نظمتها بالخرز و الوجيهة خرزة معروفة و عادة العرب أن تنظم على المحمل خرزات إذا كان للنساء. قولها و تركت عهيداه لفظة مصغرة مأخوذة من العهد مشابهة لما سلف من قولها عقيراك و حماديات النساء. قولها و وقاعة الستر أي موقعه على الأرض إذا أرسلته و هي الموقعة أيضا و موقعة الطائر. شرح نهج البلاغة ج : 6 ص : 2قولها حتى تلقينه و أنت على تلك أي على تلك الحال فحذف. قولها أطوع ما تكونين لله إذا لزمته أطوع مبتدأ و إذا لزمته خبر المبتدأ و الضمير في

(7/195)


لزمته راجع إلى العهد و الأمر الذي أمرت به. قولها لنهشت به نهش الرقشاء المطرقة أي لعضك و نهشك ما أذكره لك و أذكرك به كما تنهشك أفعى رقشاء و الرقش في ظهرها هو النقط و الجرادة أيضا رقشاء قال النابغة
فبت كأني ساورتني ضئيلة من الرقش في أنيابها السم ناقع
و الأفعى يوصف بالإطراق و كذلك الأسد و النمر و الرجل الشجاع و كان معاوية يقول في علي ع الشجاع المطرق و قال الشاعر و ذكر أفعى
أصم أعمى ما يجيب الرقى من طول إطراق و إسبات

(7/196)


قولها فئتان متناجزتان أي تسرع كل واحدة منهما إلى نفوس الأخرى و من رواه متناحرتان أراد الحرب و طعن النحور بالأسنة و رشقها بالسهام. و فزعت إلى فلان في كذا أي لذت به و التجأت إليه. و قولها إن أقعد ففي غير حرج أي في غير إثم و قولها فإن أخرج فإلى ما لا بد لي من الازدياد منه كلام من يعتقد الفضيلة في الخروج أو يعرف موقع الخطإ و يصر عليه. لما عزمت عائشة على الخروج إلى البصرة طلبوا لها بعيرا أيدا يحمل هودجها فجاءهم يعلى بن أمية ببعيره المسمى عسكرا و كان عظيم الخلق شديدا فلما رأته أعجبها و أنشأ الجمال يحدثها بقوته و شدته و يقول في أثناء كلامه عسكر فلما سمعت هذه اللفظة استرجعت و قالت ردوه لا حاجة لي فيه و ذكرت حيث سئلت أن رسول الله شرح نهج البلاغة ج : 6 ص : 225ص ذكر لها هذا الاسم و نهاها عن ركوبه و أمرت أن يطلب لها غيره فلم يوجد لها ما يشبهه فغير لها بجلال غير جلاله قيل لها قد أصبنا لك أعظم منه خلقا و أشد قوة و أتيت به فرضيت. قال أبو مخنف و أرسلت إلى حفصة تسألها الخروج و المسير معها فبلغ ذلك عبد الله بن عمر فأتى أخته فعزم عليها فأقامت و حطت الرحال بعد ما همت. كتب الأشتر من المدينة إلى عائشة و هي بمكة أما بعد فإنك ظعينة رسول الله ص و قد أمرك أن تقري في بيتك فإن فعلت فهو خير لك فإن أبيت إلا أن تأخذي منسأتك و تلقي جلبابك و تبدي للناس شعيراتك قاتلتك حتى أردك إلى بيتك و الموضع الذي يرضاه لك ربك. فكتبت إليه في الجواب أما بعد فإنك أول العرب شب الفتنة و دعا إلى الفرقة و خالف الأئمة و سعى في قتل الخليفة و قد علمت أنك لن تعجز الله حتى يصيبك منه بنقمة ينتصر بها منك للخليفة المظلوم و قد جاءني كتابك و فهمت ما فيه و سيكفينيك الله و كل من أصبح مماثلا لك في ضلالك و غيك إن شاء الله. و قال أبو مخنف لما انتهت عائشة في مسيرها إلى الحوأب و هو ماء لبني عامر بن صعصعة نبحتها الكلاب حتى نفرت صعاب إبلها فقال

(7/197)


قائل من أصحابها أ لا ترون ما أكثر كلاب الحوأب و ما أشد نباحها فأمسكت زمام بعيرها و قالت و إنها لكلاب الحوأب ردوني ردوني فإني سمعت رسول الله ص يقول و ذكرت الخبر فقال لها قائل مهلا يرحمك الله فقد جزنا ماء الحوأب فقالت فهل من شاهد فلفقوا لها خمسين أعرابيا جعلوا لهم جعلا فحلفوا لها أن هذا ليس بماء الحوأب فسارت لوجهها. لما انتهت عائشة و طلحة و الزبير إلى حفر أبي موسى قريبا من البصرة أرسل
شرح نهج البلاغة ج : 6 ص : 226عثمان بن حنيف و هو يومئذ عامل علي ع على البصرة إلى القوم أبا الأسود الدؤلي يعلم له علمهم فجاء حتى دخل على عائشة فسألها عن مسيرها فقالت أطلب بدم عثمان قال إنه ليس بالبصرة من قتلة عثمان أحد قالت صدقت و لكنهم مع علي بن أبي طالبالمدينة و جئت أستنهض أهل البصرة لقتاله أ نغضب لكم من سوط عثمان و لا نغضب لعثمان من سيوفكم فقال لها ما أنت من السوط و السيف إنما أنت حبيس رسول الله ص أمرك أن تقري في بيتك و تتلي كتاب ربك و ليس على النساء قتال و لا لهن الطلب بالدماء و إن عليا لأولى بعثمان منك و أمس رحما فإنهما ابنا عبد مناف فقالت لست بمنصرفة حتى أمضي لما قدمت له أ فتظن يا أبا الأسود أن أحدا يقدم على قتالي قال أما و الله لتقاتلن قتالا أهونه الشديد. ثم قام فأتى الزبير فقال يا أبا عبد الله عهد الناس بك و أنت يوم بويع أبو بكر آخذ بقائم سيفك تقول لا أحد أولى بهذا الأمر من ابن أبي طالب و أين هذا المقام من ذاك فذكر له دم عثمان قال أنت و صاحبك وليتماه فيما بلغنا قال فانطلق إلى طلحة فاسمع ما يقول فذهب إلى طلحة فوجده سادرا في غيه مصرا على الحرب و الفتنة فرجع إلى عثمان بن حنيف فقال إنها الحرب فتأهب لها. لما نزل علي ع بالبصرة كتبت عائشة إلى زيد بن صوحان العبدي من عائشة بنت أبي بكر الصديق زوج النبي ص إلى ابنها الخالص زيد بن صوحان أما بعد فأقم في بيتك و خذل الناس عن علي و ليبلغني عنك ما أحب

(7/198)


فإنك أوثق أهلي عندي و السلام. فكتب إليها من زيد بن صوحان إلى عائشة بنت أبي بكر أما بعد فإن الله أمرك بأمر و أمرنا بأمر أمرك أن تقري في بيتك و أمرنا أن نجاهد و قد أتاني كتابك شرح نهج البلاغة ج : 6 ص : 227فأمرتني أن أصنع خلاف ما أمرني الله فأكون قد صنعت ما أمرك الله به و صنعت ما أمرني الله به فأمرك عندي غير مطاع و كتابك غيمجاب و السلام. روى هذين الكتابين شيخنا أبو عثمان عمرو بن بحر عن شيخنا أبي سعيد الحسن البصري. و ركبت عائشة يوم الحرب الجمل المسمى عسكرا في هودج قد ألبس الرفرف ثم ألبس جلود النمر ثم ألبس فوق ذلك دروع الحديد. الشعبي عن مسلم بن أبي بكرة عن أبيه أبي بكرة قال لما قدم طلحة و الزبير البصرة تقلدت سيفي و أنا أريد نصرهما فدخلت على عائشة و إذا هي تأمر و تنهى و إذا الأمر أمرها فذكرت حديثا كنت سمعته
عن رسول الله ص لن يفلح قوم تدبر أمرهم امرأة
فانصرفت و اعتزلتهم. و قد روي هذا الخبر على صورة أخرى أن قوما يخرجون بعدي في فئة رأسها امرأة لا يفلحون أبدا

(7/199)


كان الجمل لواء عسكر البصرة لم يكن لواء غيره. خطبت عائشة و الناس قد أخذوا مصافهم للحرب فقالت أما بعد فإنا كنا نقمنا على عثمان ضرب السوط و إمرة الفتيان و مرتع السحابة المحمية ألا و إنكم استعتبتموه فأعتبكم فلما مصتموه كما يماص الثوب الرحيض عدوتم عليه فارتكبتم منه دما حراما و ايم الله إن كان لأحصنكم فرجا و أتقاكم لله. شرح نهج البلاغة ج : 6 ص : 22 خطب علي ع لما تواقف الجمعان فقال لا تقاتلوا القوم حتى يبدءوكم فإنكم بحمد الله على حجة و كفكم عنهم حتى يبدءوكم حجة أخرى و إذا قاتلتموهم فلا تجهزوا على جريح و إذا هزمتموهم فلا تتبعوا مدبرا و لا تكشفوا عورة و لا تمثلوا بقتيل و إذا وصلتم إلى رحال القوم فلا تهتكوا سترا و لا تدخلوا دارا و لا تأخذوا من أموالهم شيئا و لا تهيجوا امرأة بأذى و إن شتمن أعراضكم و سببن أمراءكم و صلحاءكم فإنهن ضعاف القوى و الأنفس و العقول لقد كنا نؤمر بالكف عنهن و إنهن لمشركات و إن كان الرجل ليتناول المرأة بالهراوة و الجريدة فيعير بها و عقبه من بعده
قتل بنو ضبة حول الجمل فلم يبق فيهم إلا من لا نفع عنده و أخذت الأزد بخطامه فقالت عائشة من أنتم قالوا الأزد قالت صبرا فإنما يصبر الأحرار ما زلت أرى النصر مع بني ضبة فلما فقدتهم أنكرته فحرضت الأزد بذلك فقاتلوا قتالا شديدا و رمي الجمل بالنبل حتى صارت القبة عليه كهيئة القنفذ.

(7/200)


قال علي ع لما فني الناس على خطام الجمل و قطعت الأيدي و سالت النفوس ادعوا لي الأشتر و عمارا فجاءا فقال اذهبا فاعقرا هذا الجمل فإن الحرب لا يبوخ ضرامها ما دام حيا إنهم قد اتخذوه قبلة فذهبا و معهما فتيان من مراد يعرف أحدهما بعمر بن عبد الله فما زالا يضربان الناس حتى خلصا إليه فضربه المرادي على عرقوبيه فأقعى و له رغاء ثم وقع لجنبه و فر الناس من حوله فنادى علي ع اقطعوا شرح نهج البلاغة ج : 6 ص : 229أنساع الهودج ثم قال لمحمد بن أبي بكر اكفني أختك فحملها محمد حتى أنزلها دار عبد الله بن خلف الخزاعيبعث علي عبد الله بن عباس إلى عائشة يأمرها بالرحيل إلى المدينة قال فأتيتها فدخلت عليها فلم يوضع لي شي ء أجلس عليه فتناولت وسادة كانت في رحلها فقعدت عليها فقالت يا ابن عباس أخطأت السنة قعدت على وسادتنا في بيتنا بغير إذننا فقلت ليس هذا بيتك الذي أمرك الله أنتقري فيه و لو كان بيتك ما قعدت على وسادتك إلا بإذنك ثم قلت إن أمير المؤمنين أرسلني إليك يأمرك بالرحيل إلى المدينة فقالت و أين أمير المؤمنين ذاك عمر فقلت عمر و علي قالت أبيت قلت أما و الله ما كان أبوك إلا قصير المدة عظيم المشقة قليل المنفعة ظاهر الشؤم بين النكد و ما عسى أن يكون أبوك و الله ما كان أمرك إلا كحلب شاة حتى صرت لا تأمرين و لا تنهين و لا تأخذين و لا تعطين و ما كنت إلا كما قال أخو بني أسد

(7/201)


ما زال إهداء الصغائر بيننا نث الحديث و كثرة الألقاب حتى نزلت كأن صوتك بينهم في كل نائبة طنين ذبابقال فبكت حتى سمع نحيبها من وراء الحجاب ثم قالت إني معجلة الرحيل إلى بلادي إن شاء الله تعالى و الله ما من بلد أبغض إلي من بلد أنتم فيه قلت و لم ذاك فو الله لقد جعلناك للمؤمنين أما و جعلنا أباك صديقا قالت يا ابن عباس أ تمن علي برسول الله قلت ما لي لا أمن عليك بمن لو كان منك لمننت به علي. ثم أتيت عليا ع فأخبرته بقولها و قولي فسر بذلك و قال لي ذرية بعضها من بعض و الله سميع عليم و في رواية أنا كنت أعلم بك حيث بعثتك
شرح نهج البلاغة ج : 6 ص : 80230- و من كلام له عأَيُّهَا النَّاسُ الزَّهَادَةُ قِصَرُ الْأَمَلِ وَ الشُّكْرُ عِنْدَ النِّعَمِ وَ التَّوَرُّعُ عِنْدَ الْمَحَارِمِ فَإِنْ عَزَبَ ذَلِكَ عَنْكُمْ فَلَا يَغْلِبِ الْحَرَامُ صَبْرَكُمْ وَ لَا تَنْسَوْا عِنْدَ النِّعَمِ شُكْرَكُمْ فَقَدْ أَعْذَرَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ بِحُجَجٍ مُسْفِرَةٍ ظَاهِرَةٍ وَ كُتُبٍ بَارِزَةِ الْعُذْرِ وَاضِحَةٍ

(7/202)


فسر ع لفظ الزهادة و هي الزهد بثلاثة أمور و هي قصر الأمل و شكر النعمة و الورع عن المحارم فقال لا يسمى الزاهد زاهدا حتى يستكمل هذه الأمور الثلاثة ثم قال فإن عزب ذلك عنكم أي بعد فأمران من الثلاثة لا بد منهما و هما الورع و شكر النعم جعلهما آكد و أهم من قصر الأمل. و اعلم أن الزهد في العرف المشهور هو الإعراض عن متاع الدنيا و طيباتها لكنه لما كانت الأمور الثلاثة طريقا موطئة إلى ذلك أطلق ع لفظ الزهد عليها على وجه المجاز. و قوله فقد أعذر الله إليكم أي بالغ يقال أعذر فلان في الأمر أي بالغ فيه و يقال ضرب فلان فأعذر أي أشرف على الهلاك و أصل اللفظة من العذر يريد أنه شرح نهج البلاغة ج : 6 ص : 231قد أوضح لكم بالحجج النيرة المشرقة ما يجب اجتنابه و ما يجب فعله فإن خالفتم استوجبتم العقوبة فكان له في تعذيبكم العذرالآثار و الأخبار الواردة في الزهد
و الآثار الواردة في الزهد كثيرة
قال رسول الله ص أفلح الزاهد في الدنيا حظي بعز العاجلة و بثواب الآخرة
و قال ص من أصبحت الدنيا همه و سدمه نزع الله الغنى من قلبه و صير الفقر بين عينيه و لم يأته من الدنيا إلا ما كتب له و من أصبحت الآخرة همه و سدمه نزع الله الفقر عن قلبه و صير الغنى بين عينيه و أتته الدنيا و هي راغمة
و قال ع للضحاك بن سفيان ما طعامك قال اللحم و اللبن قال ثم يصير إلى ما ذا قال إلى ما علمت قال فإن الله ضرب ما يخرج من ابن آدم مثلا للدنيا
و كان الفضيل بن عياض يقول لأصحابه إذا فرغ من حديثه انطلقوا حتى أريكم الدنيا فيجي ء بهم إلى المزبلة فيقول انظروا إلى عنبهم و سمنهم و دجاجهم و بطهم صار إلى ما ترون. و من الكلام المنسوب إلى المسيح ع الدنيا قنطرة فاعبروها و لا تعمروها

(7/203)


سئل رسول الله ص عن قوله سبحانه فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ شرح نهج البلاغة ج : 6 ص : 232يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ فقال إذا دخل النور القلب انفسح فذلك شرح الصدر فقيل أ فلذلك علامة يعرف بها قال نعم الإنابة إلى دار الخلود و التجافي عن دار الغر و الاستعداد للموت قبل نزوله
قالوا أوحى الله تعالى إلى نبي من الأنبياء اتخذ الدنيا ظئرا و اتخذ الآخرة أما
الشعبي ما أعلم لنا و للدنيا مثلا إلا قول كثير
أسيئي بنا أو أحسني لا ملومة لدينا و لا مقلية إن تقلت
بعض الصالحين المستغني عن الدنيا بالدنيا كالمطفئ النار بالتبن. و في بعض الكتب القديمة الإلهية قال الله للدنيا من خدمني فاخدميه و من خدمك فاستخدميه. دخل محمد بن واسع على قتيبة بن مسلم و عليه مدرعة من صوف فقال ما هذه فسكت فأعاد عليه السؤال فقال أكره أن أقول زهدا فأزكي نفسي أو فقرا فأشكو ربي. قيل في صفة الدنيا و الآخرة هما كضرتين إن أرضيت إحداهما أسخطت الأخرى. قيل لمحمد بن واسع إنك لترضى بالدون قال إنما رضي بالدون من رضي بالدنيا. خطب أعرابي كان عاملا لجعفر بن سليمان على ضرية يوم جمعة خطبة لم يسمع أوجز منها و لا أفصح فقال إن الدنيا دار بلاغ و إن الآخرة دار قرار فخذوا من ممركم لمستقركم و لا تهتكوا أستاركم عند من لا تخفى عليه أسراركم و أخرجوا من الدنيا قلوبكم قبل أن تخرج منها أبدانكم ففيها جئتم و لغيرها خلقتم إن المرء إذا هلك قال الناس ما ترك و قالت الملائكة ما قدم فلله آثاركم قدموا بعضا يكن لكم شرح نهج البلاغة ج : 6 ص : 233و لا تؤخروا كلا فيكون عليكم أقول قولي هذا و أستغفر الله و المدعو له الخليفة ثم الأمير جعفر و نزل. أبو حازم الأعرج الدنيا كلها غموم فما كان فيها سرورا فهو ربح. محمد بن الحنفية من عزت عليه نفسه هانت عليه الدنيا.قيل لعلي بن الحسين ع من أعظم الناس خطرا قال من لم ير الدنيا لنفسه خطرا

(7/204)


قال المسيح ع لأصحابه حب الدنيا رأس كل خطيئة و اقتناء المال فيها داء عظيم قالوا له كيف ذلك قال لا يسلم صاحبه من البغي و الكبر قيل فإن سلم منهما قال يشغله إصلاحه عن ذكر الله
أشرف أبو الدرداء على أهل دمشق فقال يا أهل دمشق تبنون ما لا تسكنون و تجمعون ما لا تأكلون و تأملون ما لا تدركون أين من كان قبلكم بنوا شديدا و أملوا بعيدا و جمعوا كثيرا فأصبحت مساكنهم قبورا و جمعهم بورا و أملهم غرورا. قال المأمون لو سئلت الدنيا عن نفسها لم تسطع أن تصف نفسها بأحسن من قول الشاعر
إذا امتحن الدنيا لبيب تكشفت له عن عدو في ثياب صديق
و قال رجل يا رسول الله كيف لي أن أعلم أمري قال إذا أردت شيئا من أمور الدنيا فعسر عليك فاعلم أنك بخير و إذا أردت شيئا من أمر الدنيا فيسر لك فاعلم أنه شر لك

(7/205)


قال رجل ليونس بن عبيد إن فلانا يعمل بعمل الحسن البصري فقال و الله ما أعرف أحدا يقول بقوله فكيف يعمل بعمله قيل فصفه لنا قال كان إذا أقبل شرح نهج البلاغة ج : 6 ص : 234فكأنه أقبل من دفن حبيب و إذا جلس فكأنه أسير أجلس لضرب عنقه و إذا ذكرت النار فكأنها لم تخلإلا له. و قال بعض الصالحين لرجل يا فلان هل أنت على حال أنت فيها مستعد للموت قال لا قال فهل أنت عالم بأنك تنتقل إلى حال ترضى به قال لا قال أ فتعلم بعد الموت دارا فيها مستعتب قال لا قال أ فتأمن الموت أن يأتيك صباحا أو مساء قال لا قال أ فيرضى بهذه الحال عاقل و قال أبو الدرداء أضحكتني ثلاث و أبكتني ثلاث أضحكني مؤمل الدنيا و الموت يطلبه و غافل و ليس بمغفول عنه و ضاحك مل ء فيه لا يدرى أ راض عنه الله أم ساخط و أبكاني فراق محمد و حزبه و أبكاني هول الموت و أبكاني هول الموقف يوم تبدو السرائر حين لا أدري أ يؤخذ بي إل جنة أم إلى نار. و كان عبد الله بن صغير يقول أ تضحك و لعل أكفانك قد خرجت من عند القصار و كان يقال من أتى الذنب ضاحكا دخل النار باكيا. و كان مالك بن دينار يقول وددت أن رزقي في حصاة أمصها حتى أبول فلقد اختلفت إلى الخلاء حتى استحييت من ربي.
و قال رسول الله ص لا يبلغ العبد أن يكون من المتقين حتى يدع ما ليس به بأس حذرا عما به البأس
و قال المسيح ع بحق أقول لكم إن من طلب الفردوس فخبز الشعير و النوم على المزابل مع الكلاب له كثير
و أوصى ابن محرز رجلا فقال إن استطعت أن تعرف و لا تعرف و تسأل و لا تسأل و تمشي و لا يمشى إليك فافعل. شرح نهج البلاغة ج : 6 ص : 23 و قال علي ع طوبى لمن عرف الناس و لم يعرفوه تعجلت له منيته و قل تراثه و فقد باكياته

(7/206)


و كان يقال في الجوع ثلاث خصال حياة للقلب و مذلة للنفس و يورث العقل الدقيق من المعاني. و قال رجل لإبراهيم بن أدهم أريد أن تقبل مني دراهم قال إن كنت غنيا قبلتها منك و إن كنت فقيرا لم أقبلها قال فإني غني قال كم تملك قال ألفي درهم قال أ فيسرك أن تكون أربعة آلاف قال نعم قال لست بغني و دراهمك لا أقبلها. و كان أبو حازم الأعرج إذا نظر إلى الفاكهة في السوق قال موعدك الجنة إن شاء الله تعالى. و مر أبو حازم بالقصابين فقال له رجل منهم يا أبا حازم هذا سمين فاشتر منه قال ليس عندي دراهم قال أنا أنظرك قال فأفكر ساعة ثم قال أنا أنظر نفسي. نزل الحجاج في يوم حار على بعض المياه و دعا بالغداء و قال لحاجبه انظر من يتغدى معي و اجهد ألا يكون من أهل الدنيا فرأى الحاجب أعرابيا نائما عليه شملة من شعر فضربه برجله و قال أجب الأمير فأتاه فدعاه الحجاج إلى الأكل فقال دعاني من هو خير من الأمير فأجبته قال من هو قال الله دعاني إلى الصوم فصمت قال أ في هذا اليوم الحار قال نار جهنم أشد حرا قال أفطر و تصوم غدا قال إن ضمنت لي البقاء إلى غد قال ليس ذلك إلي قال فكيف أدع عاجلا لآجل لا تقدر عليه قال إنه طعام طيب قال إنك لم تطيبه و لا الخباز و لكن العافية طيبته لك. و قال شبيب كنا سنة في طريق مكة فجاء أعرابي في يوم صائف شديد الحر شرح نهج البلاغة ج : 6 ص : 236و معه جارية سوداء و صحيفة فقال أ فيكم كاتب قلنا نعم و حضر غداؤنا فقلنا له لو دخلت فأصبت من طعامنا قال إني صائم قلنا الحر و شدته و جفاء البادية فقال الدنيا كانت و لم أكن فيها و ستكون و لا أكون فيها و ما أحب أن أغبن أمامي ثم نبذ إلينا الصحيفة فقال للكاتب اكتب و لا تزد على ما أمليه عليك هذا ما أعتق عبد الله بن عقيل الكلبي أعتق جارية له سوداء اسمها لؤلؤة ابتغاء وجه الله و جواز العقبة و إنه لا سبيل له عليها إلا سبيل الولاء و المنة لله علينا و عليها واحدة. قال الأصمعي

(7/207)


فحدث بذلك الرشيد فأمر أن يعتق عنه ألف نسمة و يكتب لهم هذا الكتاب. و قال خالد بن صفوان بت ليلتي هذه أتمنى فكبست البحر الأخضر بالذهب الأحمر فإذا الذي يلقاني من ذلك رغيفان و كوزان و طمران. و رأى رجل رجلا من ولد معاوية يعمل على بعير له فقال هذا بعد ما كنتم فيه من الدنيا قال رحمك الله يا ابن أخي ما فقدنا إلا الفضول. و قال الحسن يا ابن آدم إنما أنت أيام مجموعة كلما ذهب يوم ذهب بعضك. قال يونس الكاتب لو قيل بيت دريد في زاهد كان به جديرا
قليل التشكي للمصيبات ذاكر من اليوم أعقاب الأحاديث في غد
و قال الحسن ما أطال عبد الأمل إلا أساء العمل. و قال رجل للفضيل بن عياض ما أعجب الأشياء قال قلب عرف الله ثم عصاه. قال وكيع ما أحسنت قط إلى أحد و لا أسأت إليه قيل كيف قال لأن الله تعالى قال إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَ إِنْ أَسَأْتُمْ فَلَها شرح نهج البلاغة ج : 6 ص : 237و قال الحسن لرجل إن استطعت ألا تسي ء إلى أحد ممن تحبه فافعل قال الرجل يا أبا سعيد أ و يسي ء المرء إلى من يحبه قال نعم نفسك أحب النفوس إليك فإذا عصيت الله فقد أسأت إليها. و كان مالك بن دينار إذا منع نفسه شيئا من الشهوات اصبري فو الله ما منعك إلا لكرامتك علي.
قام رسول الله ص الليل حتى تورمت قدماه فقيل له يا رسول الله أ تفعل هذا و قد غفر الله ما تقدم من ذنبك و ما تأخر قال أ فلا أكون عبدا شكورا
و قال عبد الله بن مسعود لا يكونن أحدكم جيفة ليله قطرب نهاره. و كان يقال من كثرت صلاته بالليل حسن وجهه بالنهار. و كان مالك بن دينار يقول في قصصه ما أشد فطام الكبر و ينشد
أ تروض عرسك بعد ما هرمت و من العناء رياضة الهرم
و قال آخر
إن كنت تؤمن بالقيامة و اجترأت على الخطيئةفلقد هلكت و إن جحدت فذاك أعظم للبلية

(7/208)


شرح نهج البلاغة ج : 6 ص : 81238- و من كلام له ع في صفة الدنيامَا أَصِفُ مِنْ دَارٍ أَوَّلُهَا عَنَاءٌ وَ آخِرُهَا فَنَاءٌ فِي حَلَالِهَا حِسَابٌ وَ فِي حَرَامِهَا عِقَابٌ مَنِ اسْتَغْنَى فِيهَا فُتِنَ وَ مَنِ افْتَقَرَ فِيهَا حَزِنَ وَ مَنْ سَاعَاهَا فَاتَتْهُ وَ مَنْ قَعَدَ عَنْهَا وَاتَتْهُ وَ مَنْ أَبْصَرَ بِهَا بَصَّرَتْهُ وَ مَنْ أَبْصَرَ إِلَيْهَا أَعْمَتْهُ
قال الرضي رحمه الله أقول و إذا تأمل المتأمل قوله ع و من أبصر بها بصرته وجد تحته من المعنى العجيب و الغرض البعيد ما لا يبلغ غايته و لا يدرك غوره لا سيما إذا قرن إليه قوله و من أبصر إليها أعمته فإنه يجد الفرق بين أبصر بها و أبصر إليها واضحا نيرا و عجيبا باهرا
العناء التعب و ساعاها جاراها سعيا و واتته طاوعته. و نظر الرضي إلى قوله أولها عناء و آخرها فناء فقال
و أولنا العناء إذا طلعنا إلى الدنيا و آخرنا الذهاب
شرح نهج البلاغة ج : 6 ص : 239و نظر إلى قوله ع في حلالها حساب و في حرامها عقاب بعض الشعراء فقالالدهر يومان فيوم مضى عنك بما فيه و يوم جديدحلال يوميك حساب و في حرام يوميك عذاب شديدتجمع ما يأكله وارث و أنت في القبر وحيد فريدإني لغيري واعظ تارك نفسي و قولي من فعالي بعيدحلاوة الدنيا و لذاتها تكلف العاقل ما لا يريد
و من المعنى أيضا قول بعضهم
حلالها حسرة تفضي إلى ندم و في المحارم منها الغنم منزور

(7/209)


و نظر الحسن البصري إلى قوله ع من استغنى فيها فتن و من افتقر فيها حزن فقال و قد جاءه إنسان يبشره بمولود له ذكر ليهنك الفارس يا أبا سعيد فقال بل الراجل ثم قال لا مرحبا بمن إن كان غنيا فتنني و إن كان فقيرا أحزنني و إن عاش كدني و إن مات هدني ثم لا أرضى بسعيي له سعيا و لا بكدحي له كدحا حتى أهتم بما يصيبه بعد موتي و أنا في حال لا ينالني بمساءته حزن و لا بسروره جذل. و نظر ابن المعتز إلى قوله ع من ساعاها فاتته و من قعد عنها واتته فقال الدنيا كظلك كلما طلبته زاد منك بعدا. و نظرت إلى قوله ع و من أبصر بها بصرته و من أبصر إليها أعمته فقلت
دنياك مثل الشمس تدني إليك الضوء لكن دعوة المهلك إن أنت أبصرت إلى نورها تعش و إن تبصر به تدرك شرح نهج البلاغة ج : 6 ص : 240فإن قلت المسموع أبصرت زيدا و لم يسمع أبصرت إلى زيد قلت يجوز أن يكون قوله ع و من أبصر إليها أي و من أبصر متوجها إليها كقوله فِي تِسْعِ آياتٍ إِلى فِرْعَوْنَ و لم يقل مرسلا و يجوز أن يكون أقام ذلك مقام قوله نظر إليها لما كان مه كما قالوا في دخلت البيت و دخلت إلى البيت أجروه مجرى ولجت إلى البيت لما كان نظيره
شرح نهج البلاغة ج : 6 ص : 82241- و من خطبة له ع و تسمى بالغراءو هي من الخطب العجيبة
الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي عَلَا بِحَوْلِهِ وَ دَنَا بِطَوْلِهِ مَانِحِ كُلِّ غَنِيمَةٍ وَ فَضْلٍ وَ كَاشِفِ كُلِّ عَظِيمَةٍ وَ أَزْلٍ أَحْمَدُهُ عَلَى عَوَاطِفِ كَرَمِهِ وَ سَوَابِغِ نِعَمِهِ وَ أُومِنُ بِهِ أَوَّلًا بَادِياً وَ أَسْتَهْدِيهِ قَرِيباً هَادِياً وَ أَسْتَعِينُهُ قَاهِراً قَادِراً وَ أَتَوَكَّلُ عَلَيْهِ كَافِياً نَاصِراً وَ أَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّداً عَبْدُهُ وَ رَسُولُهُ أَرْسَلَهُ لِإِنْفَاذِ أَمْرِهِ وَ إِنْهَاءِ عُذْرِهِ وَ تَقْدِيمِ نُذُرِهِ

(7/210)


الحول القوة و الطول الإفضال و المانح المعطي و الأزل بفتح الهمزة الضيق و الحبس و العواطف جمع عاطفة و هي ما يعطفك على الغير و يدنيه من معروفك و السوابغ التوام الكوامل سبغ الظل إذا عم و شمل. و أولا هاهنا منصوب على الظرفية كأنه قال قبل كل شي ء و الأول نقيض الخر أصله أوءل على أفعل مهموز الوسط قلبت الهمزة واوا و أدغم يدل على ذلك قولهم هذا أول منك و الإتيان بحرف الجر دليل على أنه أفعل كقولهم هذا أفضل منك و جمعه على أوائل و أوال أيضا على القلب و قال قوم أصله وول على فوعل فقلبت الواو الأولى همزة و إنما لم يجمع على ووال لاستثقالهم اجتماع الواوين و بينهما ألف الجمع. شرح نهج البلاغة ج : 6 ص : 242و إذا جعلت الأول صفة لم تصرفه تقول لقيته عاما أول لاجتماع وزن الفعل و تقول ما رأيته مذ عام أول كلاهما بغير تنوين فمن رفع جعله صفة لعام كأنه قال أول من عامنا و من نصب جعله كالف كأنه قال مذ عام قبل عامنا فإن قلت ابدأ بهذا أول ضممته على الغاية. و الإنهاء الإبلاغ أنهيت إليه الخبر فانتهى أي بلغ و المعنى أن الله تعالى أعذر إلى خلقه و أنذرهم فإعذاره إليهم أن عرفهم بالحجج العقلية و السمعية أنهم إن عصوه استحقوا العقاب فأوضح عذره لهم في عقوبته إياهم على عصيانه و إنذاره لهم تخويفه إياهم من عقابه و قد نظر البحتري إلى معنى قوله ع علا بحوله و دنا بطوله فقال

(7/211)


دنوت تواضعا و علوت قدرا فشأناك انخفاض و ارتفاع كذاك الشمس تبعد أن تسامى و يدنو النور منها و الشعاعو في هذا الفصل ضروب من البديع فمنها أن دنا في مقابلة علا لفظا و معنى و كذلك حوله و طوله. فإن قلت لا ريب في تقابل دنا و علا من حيث المعنى و اللفظ و أما حوله و طوله فإنهما يتناسبان لفظا و ليسا متقابلين معنى لأنهما ليسا ضدين كما في العلو و الدنو. قلت بل فيهما معنى التضاد لأن الحول هو القوة و هي مشعرة بالسطوة و القهر و منه منشأ الانتقام و الطول الإفضال و التكرم و هو نقيض الانتقام و البطش. فإن قلت أنت و أصحابك لا تقولون إن الله تعالى قادر بقدرة و هو عندكم قادر شرح نهج البلاغة ج : 6 ص : 243لذاته فكيف تتأولون قو ع الذي علا بحوله أ ليس في هذا إثبات قدرة له زائدة على ذاته و هذا يخالف مذهبكم. قلت إن أصحابنا لا يمتنعون من إطلاق قولهم إن لله قوة و قدرة و حولا و حاش لله أن يذهب ذاهب منهم إلى منع ذلك و لكنهم يطلقونه و يعنون به حقيقته العرفية و هي كون الله تعالى قويا قادرا كما نقول نحن و المخالف إن لله وجودا و بقاء و قدما و لا نعني بذلك أن وجوده أو بقاءه أو قدمه معان زائدة على نفسه لكنا نعني كلنا بإطلاق هذه الألفاظ عليه كونه موجودا أو باقيا أو قديما و هذا هو العرف المستعمل في قول الناس لا قوة لي على ذلك و لا قدرة لي على فلان لا يعنون نفي المعنى بل يعنون كون الإنسان قادرا قويا على ذلك. و منها أن مانحا في وزن كاشف و غنيمة بإزاء عظيمة في اللفظ و ضدها في المعنى و كذلك فضل و أزل. و منها أن عواطف بإزاء سوابغ و نعمه بإزاء كرمه. و منها و هو ألطف ما يستعمله أرباب هذا الصناعة أنه جعل قريبا هاديا مع قوله أستهديه لأن الدليل القريب منك أجدر بأن يهديك من البعيد النازح و لم يجعله مع قوله و أستعينه و جعل مع الاستعانة قاهرا قادرا لأن القادر القاهر يليق أن يستعان و يستنجد به و لم يجعله قادرا قاهرا مع التوكل

(7/212)


عليه و جعل مع التوكل كافيا ناصرا لأن الكافي الناصر أهل لأن يتوكل عليه. و هذه اللطائف و الدقائق من معجزاته ع التي فات بها البلغاء و أخرس الفصحاء شرح نهج البلاغة ج : 6 ص : 24أُوصِيكُمْ عِبَادَ اللَّهِ بِتَقْوَى اللَّهِ الَّذِي ضَرَبَ لَكُمُ الْأَمْثَالَ وَ وَقَّتَ لَكُمُ الآْجَالَ وَ أَلْبَسَكُمُ الرِّيَاشَ وَ أَرْفَغَ لَكُمُ الْمَعَاشَ وَ أَحَاطَ بِكُمُ الْإِحْصَاءَ وَ أَرْصَدَ لَكُمُ الْجَزَاءَ وَ آثَرَكُمْ بِالنِّعَمِ السَّوَابِغِ وَ الرِّفَدِ الرَّوَافِغِ وَ أَنْذَرَكُمْ بِالْحُجَجِ الْبَوَالِغِ فَأَحْصَاكُمْ عَدَداً وَ وَظَّفَ لَكُمْ مُدَداً فِي قَرَارِ خِبْرَةٍ وَ دَارِ عِبْرَةٍ أَنْتُمْ مُخْتَبَرُونَ فِيهَا وَ مُحَاسَبُونَ عَلَيْهَا

(7/213)


وقت و أقت بمعنى أي جعل الآجال لوقت مقدر. و الرياش و الريش واحد و هو اللباس قال تعالى يُوارِي سَوْآتِكُمْ وَ رِيشاً. و قرئ و رياشا و يقال الرياش الخصب و الغنى و منه ارتاش فلان حسنت حاله و يكون لفظ ألبسكم مجازا إن فسر بذلك. و أرفغ لكم المعاش أي جعله رفيغا أي واسعا مخصبا يقال رفغ بالضم عيشه رفاغة اتسع فهو رافغ و رفيغ و ترفغ الرجل و هو في رفاغية من العيش مخففا مثل رفاهية و ثمانية. و قوله و أحاط بكم الإحصاء يمكن أن ينصب الإحصاء على أنه مصدر فيه اللام و العامل فيه غير لفظه كقوله يعجبه السخون ثم قال حبا و ليس شرحنهج البلاغة ج : 6 ص : 245دخول اللام بمانع من ذلك تقول ضربته الضربة كما تقول ضربته ضربا و يجوز أن ينصب بأنه مفعول به و يكون ذلك على وجهين. أحدهما أن يكون من حاط ثلاثيا تقول حاط فلان كرمه أي جعل عليه حائطا فكأنه جعل الإحصاء و العد كالحائط المدار عليهم لأنهملا يبعدون منه و لا يخرجون عنه. و الثاني أن يكون من حاط الحمار عانته يحوطها بالواو أي جمعها فأدخل الهمزة كأنه جعل الإحصاء يحوطهم و يجمعهم تقول ضربت زيدا و أضربته أي جعلته ذا ضرب فلذلك كأنه جعل ع الإحصاء ذا تحويط عليهم بالاعتبار الأول أو جعله ذا جمع لهم بالاعتبار الثاني. و يمكن فيه وجه آخر و هو أن يكون الإحصاء مفعولا له و يكون في الكلام محذوف تقديره و أحاط بكم حفظته و ملائكته للإحصاء و دخول اللام في المفعول له كثير كقوله
و الهول من تهول الهبور

(7/214)


قوله و أرصد يعني أعد و في الحديث إلا أن أرصده لدين علي. و آثركم من الإيثار و أصله أن تقدم غيرك على نفسك في منفعة أنت قادر على الاختصاص بها و هو في هذا الموضع مجاز مستحسن. و الرفد جمع رفدة مثل كسرة و كسر و فدرة و فدر و الرفدة و الرفد واحد و هي العطية و الصلة و رفدت فلانا رفدا بالفتح و المضارع أرفده بكسر الفاء و يجوز أرفدته بالهمزة. و الروافغ الواسعة و الحجج البوالغ الظاهرة المبينة قال سبحانه فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبالِغَةُ. شرح نهج البلاغة ج : 6 ص : 246و وظف لكم مددا أي قدر و منه وظيفة الطعام. و قرار خبرةكسر الخاء أي دار بلاء و اختبار تقول خبرت زيدا أخبره خبرة بالضم فيهما و خبرة بالكسر إذا بلوته و اختبرته و منه قولهم صغر الخبر الخبر. و دار عبرة أي دار اعتبار و اتعاظ و الضمير في فيها و عليها ليس واحدا فإنه في فيها يرجع إلى الدار و في عليها يرجع إلى النعم و الرفد و يجوز أن يكون الضمير في عليها عائدا إلى الدار على حذف المضاف أي على سكانها
فَإِنَّ الدُّنْيَا رَنِقٌ مَشْرَبُهَا رَدِغٌ مَشْرَعُهَا يُونِقُ مَنْظَرُهَا وَ يُوبِقُ مَخْبَرُهَا غُرُورٌ حَائِلٌ وَ ضَوْءٌ آفِلٌ وَ ظِلٌّ زَائِلٌ وَ سِنَادٌ مَائِلٌ حَتَّى إِذَا أَنِسَ نَافِرُهَا وَ اطْمَأَنَّ نَاكِرُهَا قَمَصَتْ بِأَرْجُلِهَا وَ قَنَصَتْ بِأَحْبُلِهَا وَ أَقْصَدَتْ بِأَسْهُمِهَا وَ أَعْلَقَتِ الْمَرْءَ أَوْهَاقَ الْمَنِيَّةِ قَائِدَةً لَهُ إِلَى ضَنْكِ الْمَضْجَعِ وَ وَحْشَةِ الْمَرْجِعِ وَ مُعَايَنَةِ الْمَحَلِّ وَ ثَوَابِ الْعَمَلِ. وَ كَذَلِكَ الْخَلَفُ بِعَقْبِ السَّلَفِ لَا تُقْلِعُ الْمَنِيَّةُ اخْتِرَاماً وَ لَا يَرْعَوِي الْبَاقُونَ اجْتِرَاماً يَحْتَذُونَ مِثَالًا وَ يَمْضُونَ أَرْسَالًا إِلَى غَايَةِ الِانْتِهَاءِ وَ صَيُّورِ الْفَنَاءِ

(7/215)


يقال عيش رنق بكسر النون أي كدر و ماء رنق بالتسكين أي كدر و الرنق بفتح النون مصدر قولك رنق الماء بالكسر و رنقته أنا ترنيقا أي كدرته و الرواية شرح نهج البلاغة ج : 6 ص : 247المشهورة في هذا الفصل رنق مشربها بالكسر أقامه مقام قولهم عيش رنق و من رواه رنق مشربهبالسكون و هم الأقلون أجرى اللفظ على حقيقته. و يقال مشرع ردغ ذو طين و وحل روي الردغة بالتحريك و يجوز تسكين الدال و الجمع رداغ و ردغ. و يونق منظرها يعجب الناظر آنقني الشي ء أعجبني و يوبق مخبرها يهلك وبق الرجل يبق وبوقا هلك و الموبق مفعل منه كالموعد مفعل من عد يعد و منه قوله سبحانه وَ جَعَلْنا بَيْنَهُمْ مَوْبِقاً و قد جاء وبق يبق بالكسر فيهما و هو نادر كورث يرث و جاء أيضا وبق يوبق وبقا. و الغرور بضم الغين ما يغتر به من متاع الدنيا و الغرور بالفتح الشيطان و الحائل الزائل و الآفل الغائب أفل غاب يأفل و يأفل أفولا. و السناد دعامة يسند بها السقف و ناكرها فاعل من نكرت كذا أي أنكرته. و قمصت بأرجلها قمص الفرس و غيره يقمص و يقمص قمصا و قماصا أي استن و هو أن يرفع يديه و يطرحهما معا و يعجن برجليه و في المثل المضروب لمن ذل بعد عزة ما لعير من قماص. و جمع فقال بأرجلها و إنما للدابة رجلان إما لأن المثنى قد يطلق عليه صيغة الجمع كما في قولهم امرأة ذات أوراك و مآكم و هما وركان و إما لأنه أجرى اليدين و الرجلين مجرى واحد فسماها كلها أرجلا و من رواه بالحاء فهو جمع رحل الناقة. و أقصدت قتلت مكانها من غير تأخير. شرح نهج البلاغة ج : ص : 248و الأوهاق جمع وهق بالتحريك و هو الحبل و قد يسكن مثل نهر و نهر و أعلقت المرء الأوهاق جعلت الأوهاق عالقة به و الضنك الضيق. و المضجع المصدر أو المكان و الفعل ضجع الرجل جنبه بالأرض بالفتح يضجع ضجوعا و ضجعا فهو ضاجع و مثله أضجع. و المرجع مصدر رجع و منه قوله تعالى ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ و هو شاذ لأن المصادر من

(7/216)


فعل يفعل بكسر العين إنما يكون بالفتح. قوله و معاينة المحل أي الموضع الذي يحل به المكلف بعد الموت و لا بد لكل مكلف أن يعلم عقيب الموت مصيره أما إلى جنة و أما إلى نار. و قوله ثواب العمل يريد جزاء العمل و مراده الجزاء الأعم الشامل للسعادة و الشقاوة لا الجزاء الأخص الذي هو جزاء الطاعة و سمى الأعم ثوابا على أصل الحقيقة اللغوية لأن الثواب في اللغة الجزاء يقال قد أثاب فلان الشاعر لقصيدة كذا أي جازاه. و قوله و كذلك الخلف بعقب السلف الخلف المتأخرون و السلف المتقدمون و عقب هاهنا بالتسكين و هو بمعنى بعد جئت بعقب فلان أي بعده و أصله جري الفرس بعد جريه يقال لهذا الفرس عقب حسن و قال ابن السكيت يقال جئت في عقب شهر كذا بالضم إذا جئت بعد ما يمضي كله و جئت في عقب بكسر القاف إذا جئت و قد بقيت منه بقية و قد روي يعقب السلف أي يتبع. و قوله لا تقلع المنية أي لا تكف و الاخترام إذهاب الأنفس و استئصالها.
شرح نهج البلاغة ج : 6 ص : 249و ارعوى كف عن الأمر و أمسك و أصل فعله الماضي رعى يرعو أي كف عن الأمر و فلان حسن الرعوة و الرعوة و الرعوة و الرعوى و الارعواء و الاجترام افتعال من الجرم و هو الذنب و مثله الجريمة يقال جرم و أجرم بمعنى. قوله يحتذون مثالا أي يقون و أصله من حذوت النعل بالنعل حذوا إذا قدرت كل واحدة على صاحبها. قوله و يمضون أرسالا بفتح الهمزة جمع رسل بفتح السين و هو القطيع من الإبل أو الغنم يقال جاءت الخيل أرسالا أي قطيعا قطيعا. و صيور الأمر آخره و ما يئول إليه

(7/217)


حَتَّى إِذَا تَصَرَّمَتِ الْأُمُورُ وَ تَقَضَّتِ الدُّهُورُ وَ أَزِفَ النُّشُورُ أَخْرَجَهُمْ مِنْ ضَرَائِحِ الْقُبُورِ وَ أَوْكَارِ الطُّيُورِ وَ أَوْجِرَةِ السِّبَاعِ وَ مَطَارِحِ الْمَهَالِكِ سِرَاعاً إِلَى أَمْرِهِ مُهْطِعِينَ إِلَى مَعَادِهِ رَعِيلًا صُمُوتاً قِيَاماً صُفُوفاً يَنْفُذُهُمُ الْبَصَرُ وَ يُسْمِعُهُمُ الدَّاعِي عَلَيْهِمْ لَبُوسُ الِاسْتِكَانَةِ وَ ضَرَعُ الِاسْتِسْلَامِ وَ الذِّلَّةِ قَدْ ضَلَّتِ الْحِيَلُ وَ انْقَطَعَ الْأَمَلُ وَ هَوَتِ الْأَفْئِدَةُ كَاظِمَةً وَ خَشَعَتِ الْأَصْوَاتُ مُهَيْنِمَةً وَ أَلْجَمَ الْعَرَقُ وَ عَظُمَ الشَّفَقُ وَ أُرْعِدَتِ الْأَسْمَاعُ لِزَبْرَةِ الدَّاعِي إِلَى فَصْلِ الْخِطَابِ وَ مُقَايَضَةِ الْجَزَاءِ وَ نَكَالِ الْعِقَابِ وَ نَوَالِ الثَّوَابَ
شرح نهج البلاغة ج : 6 ص : 250تصرمت الأمور تقطعت و مثله تقضت الدهور و أزف قرب و دنا يأزف أزفا و منه قوله تعالى أَزِفَتِ الْآزِفَةُ أي القيامة الفاعل آزف. و الضرائح جمع ضريح و هو الشق في وسط القبر و اللحد ما كان في جانب القبر و ضرحت ضرحا إذا حفرت الضريح. الأوكار جمع وكر يفتح الواو و هو عش الطائر و جمع الكثرة وكور وكر الطائر يكر وكرا أي دخل وكره و الوكن بالفتح مثل الوكر أي العش. و أوجرة السباع جمع وجار بكسر الواو و يجوز فتحها و هو بيت السبع و الضبع و نحوهما. مهطعين مسرعين و الرعيل القطعة من الخيل. قوله ع ينفذهم البصر و يسمعهم الداعي أي هم مع كثرتهم لا يخفى منهم أحد عن إدراك البارئ سبحانه و هم مع هذه الكثرة أيضا لا يبقى منهم أحد إلا إذا دعا داعي الموت سمع دعاءه و نداءه. و اللبوس بفتح اللام ما يلبس قال
البس لكل حالة لبوسها إما نعيمها و إما بوسها

(7/218)


و منه قوله تعالى وَ عَلَّمْناهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ يعني الدروع. و الاستكانة الخضوع و الضرع الخشوع و الضعف ضرع الرجل يضرع و أضرعه غيره. و كاظمته ساكته كظم يكظم كظوما أي سكت و قوم كظم أي ساكتون. شرح نهج البلاغة ج : 6 ص : 251و مهينمة ذات هينمة و هي الص الخفي و ألجم العرق صار لجاما
و في الحديث إن العرق ليجري منهم حتى إن منهم من يبلغ ركبتيه و منهم من يبلغ صدره و منهم من يبلغ عنقه و منهم من يلجمه و هم أعظمهم مشقة
و قال لي قائل ما أرى
لقوله ع المؤذنون أطول الناس أعناقا يوم القيامة
كثير فائدة لأن طول العنق جدا ليس مما يرغب في مثله فذكرت له الخبر الوارد في العرق و قلت إذا كان الإنسان شديد طول العنق كان عن إلجام العرق أبعد فظهرت فائدة الخبر. و يروى و أنجم العرق أي كثر و دام. و الشفق و الشفقة بمعنى و هو الاسم من الإشفاق و هو الخوف و الحذر قال الشاعر
تهوى حياتي و أهوى موتها شفقا و الموت أكرم نزال على الحرم

(7/219)


و أرعدت الأسماع عرتها الرعدة و زبرة الداعي صدته و لا يقال الصوت زبرة إلا إذا خالطه زجر و انتهار زبرته أزبره بالضم. و قوله إلى فصل الخطاب إلى هاهنا يتعلق بالداعي و فصل الخطاب بت الحكومة التي بين الله و بين عباده في الموقف رزقنا الله المسامحة فيها بمنه و إنما خص الأسماع بالرعدة لأنها تحدث من صوت الملك الذي يدعو الناس إلى محاسبته. و المقايضة المعاوضة قايضت زيدا بالمتاع و هما قيضان كما قالوا بيعان. فإن قلت كيف يصح ما ذكره المسلمون من حشر الأجساد و كيف يمكن ما أشار إليه ع من جمع الأجزاء البدنية من أوكار الطيور و أوجرة السباع و معلوم أنه قد يأكل الإنسان سبع و يأكل ذلك السبع إنسان آخر و يأكل هذا الإنسان طائر ثم يأكل الطائر إنسان آخر و المأكول يصير أجزاء من أجزاء بدن الآكل فإذا حشرت شرح نهج البلاغة ج : 6 ص : 252الحيوانات كلها على ما تزعم المعتزلة فتلك الأجزاء المفضة إما أن تحشر أجزاء من بنية الإنسان أو بنية السبع أو منهما معا فإن كان الأول وجب إلا يحشر السبع و إن كان الثاني وجب ألا يحشر الإنسان و الثالث محال عقلا لأن الجزء الواحد لا يكون في موضعين. قلت إن في بدن كل إنسان و كل حيوان أجزاء أصلية و أجزاء زائدة فالأجزاء الزائدة يمكن أن تصير أجزاء بدن حيوان إذا اغتذى بها و الأجزاء الأصلية لا يمكن ذلك فيها بل يحرسها الله تعالى من الاستحالة و التغيير و إذا كان كذلك أمكن الحشر بأن تعاد الأجزاء الأصلية إلى موضعها الأول و لا فساد في استحالة الأجزاء الزائدة لأنه لا يجب حشرها لأنها ليست أصل بنية المكلف فاندفع الأشكال و أما من يقول بالنفس الناطقة من أهل الملة فلا يلزمه الجواب عن السؤال لأنه يقول إن الأنفس إذا أزف يوم القيامة خلقت لها أبدان غير الأبدان الأولى لأن المكلف المطيع و العاصي المستحق للثواب و العقاب عندهم هو النفس و أما البدن فآلة لها نستعمله استعمال الكاتب للقلم و النجار للفأس

(7/220)


عِبَادٌ مَخْلُوقُونَ اقْتِدَاراً وَ مَرْبُوبُونَ اقْتِسَاراً وَ مَقْبُوضُونَ احْتِضَاراً وَ مُضَمِّنُونَ أَجْدَاثاً وَ كَائِنُونَ رُفَاتاً وَ مَبْعُوثُونَ أَفْرَاداً وَ مَدِينُونَ جَزَاءً وَ مُمَيَّزُونَ حِسَاباً قَدْ أُمْهِلُوا فِي طَلَبِ الْمَخْرَجِ وَ هُدُوا سَبِيلَ الْمَنْهَجِ وَ عُمِّرُوا مَهَلَ الْمُسْتَعْتَبِ وَ كُشِفَتْ عَنْهُمْ سُدَفُ الرِّيَبِ وَ خُلُّوا لِمِضْمَارِ الْجِيَادِ وَ رَوِيَّةِ الِارْتِيَادِ وَ أَنَاةِ الْمُقْتَبِسِ الْمُرْتَادِ فِي مُدَّةِ الْأَجَلِ وَ مُضْطَرَبِ الْمَهَلِ

(7/221)


شرح نهج البلاغة ج : 6 ص : 253مربوبون مملوكون و الاقتسار الغلبة و القهر. و الاحتضار حضور الملائكة عند الميت و هو حينئذ محتضر و كانت العرب تقول لبن محتضر أي فاسد ذو آفة يعنون أن الجن حضرته يقال اللبن محتضر فغط إناءك. و الأجداث جمع جدث و هو القبر و اجتدث اجل اتخذ جدثا و يقال جدف بالفاء. و الرفات الحطام تقول منه رفت الشي ء فهو مرفوت. و مدينون أي مجزيون و الدين الجزاء و منه مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ. و مميزون حسابا من قوله تعالى وَ امْتازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ و من قوله تعالى وَ كُنْتُمْ أَزْواجا ثَلاثَةً كما أن قوله و مبعوثون أفرادا مأخوذ من قوله تعالى وَ لَقَدْ جِئْتُمُونا فُرادى و أصل التمييز على الفصل و التبيين. قوله قد أمهلوا في طلب المخرج أي انظروا ليفيئوا إلى الطاعة و يخلصوا التوبة لأن إخلاص التوبة هو المخرج الذي من سلكه خرج من ربقة المعصية و مثله قوله و هدوا سبيل المنهج و المنهج الطريق الواضح. و المستعتب المسترضى استعتبت زيدا إذا استرضيته عني فأنا مستعتب له و هو مستعتب و أعتبني أي أرضاني و إنما ضرب المثل بمهل المستعتب لأن من يطلب رضاه في مجرى العادة لا يرهق بالتماس الرضا منه و إنما يمهل ليرضى بقلبه لا بلسانه. و السدف جمع سدفة هي القطعة من الليل المظلم هذا في لغة أهل نجد و أما غيرهم شرح نهج البلاغة ج : 6 ص : 254فيجعل السدفة الضوء و هذا اللفظ من الأضداد و كذلك السدف بفتح السين و الدال. و قد قيل السدفة اختلاط الضوء و الظلمة كوقت ما بين طلوع اجر إلى الإسفار و السدف الصبح و إقباله و أسدف الليل أظلم و أسدف الصبح أضاء يقال أسدف الباب أي افتحه حتى يضي ء البيت و في لغة هوازن أسدفوا أي أسرجوا من السراج و الريب الشبهة جمع ريبة. و المضمار الموضع الذي تضمر فيه الخيل و المضمار أيضا المدة التي تضمر فيها.و التضمير أن تعلف الفرس حتى يسمن ثم ترده إلى قوته الأولى و ذلك في

(7/222)


أربعين يوما و قد يطلق التضمير على نقيض ذلك و هو التجويع حتى يهزل و يخف لحمه ضمر الفرس بالفتح يضمر بالضم ضمورا و جاء ضمر الفرس بالضم و أضمرته أنا و ضمرته فاضطمر هو و لؤلؤ مضطمر في وسطه بعض الانضمام رجل لطيف الجسم ضمير البطن و ناقة ضامر و ضامرة أيضا يقول مكنهم الحكيم سبحانه و خلاهم و أعمالهم كما تمكن الخيل التي تستبق في المضمار ليعلم أيها أسبق. و الروية الفكرة و الارتياد الطلب ارتاد فلان الكلأ يرتاده ارتيادا طلبه و مثله راد الكلأ يروده رودا و ريادا
و في الحديث إذا بال أحدكم فليرتد لبوله
أي فليطلب مكانا لينا أو منحدرا و الرائد الذي يرسله القوم في طلب الكلإ و في المثل الرائد لا يكذب أهله و الأناة التؤدة و الانتظار مثل القناة. و تأنى في الأمر ترفق و استأنى فلان بفلان أي انتظر به و جاء الأناء بالفتح و المد على فعال قال الحطيئة
و أكريت العشاء إلى سهيل أو الشعرى فطال بي الأناء
و المقتبس متعلم العلم هاهنا و لا بد له من أناة و مهل ليبلغ حاجته فضرب مثلا و جاء شرح نهج البلاغة ج : 6 ص : 255في بعض الروايات و مقبوضون اختضارا بالخاء المعجمة و هو موت الشاب غضا أخضر أي مات شابا و كان فتيان يقولون لشيخ أ جززت يا أبا فلان فيقول أي بني و تضرون أجز الحشيش آن أن يجز و منه قيل للشيخ كاد يموت قد أجز و الرواية الأولى أحسن لأنها أعم. و في رواية لمضمار الخيار أي للمضمار الذي يستبق فيه الأبرار الأتقياء إلى رضوان الله سبحانه

(7/223)


فَيَا لَهَا أَمْثَالًا صَائِبَةً وَ مَوَاعِظَ شَافِيَةً لَوْ صَادَفَتْ قُلُوباً زَاكِيَةً وَ أَسْمَاعاً وَاعِيَةً وَ آرَاءً عَازِمَةً وَ أَلْبَاباً حَازِمَةً فَاتَّقُوا اللَّهَ تَقِيَّةَ مَنْ سَمِعَ فَخَشَعَ وَ اقْتَرَفَ فَاعْتَرَفَ وَ وَجِلَ فَعَمِلَ وَ حَاذَرَ فَبَادَرَ وَ أَيْقَنَ فَأَحْسَنَ وَ عُبِّرَ فَاعْتَبَرَ وَ حُذِّرَ فَحَذِرَ وَ زُجِرَ فَازْدَجَرَ وَ أَجَابَ فَأَنَابَ وَ رَاجَعَ فَتَابَ وَ اقْتَدَى فَاحْتَذَى وَ أُرِيَ فَرَأَى فَأَسْرَعَ طَالِباً وَ نَجَا هَارِباً فَأَفَادَ ذَخِيرَةً وَ أَطَابَ سَرِيرَةً وَ عَمَّرَ مَعَاداً وَ اسْتَظْهَرَ زَاداً لِيَوْمِ رَحِيلِهِ وَ وَجْهِ سَبِيلِهِ وَ حَالِ حَاجَتِهِ وَ مَوْطِنِ فَاقَتِهِ وَ قَدَّمَ أَمَامَهُ لِدَارِ مُقَامِهِ فَاتَّقُوا اللَّهَ عِبَادَ اللَّهِ جِهَةَ مَا خَلَقَكُمْ لَهُ وَ احْذَرُوا مِنْهُ كُنْهَ مَا حَذَّرَكُمُ مِنْ نَفْسِهِ وَ اسْتَحِقُّوا مِنْهُ مَا أَعَدَّ لَكُمْ بِالتَّنَجُّزِ لِصِدْقِ مِيعَادِهِ وَ الْحَذَرِ مِنْ هَوْلِ مَعَادِهِ

(7/224)


صائبة غير عادلة عن الصواب صاب السهم يصوب صوبة أي قصد و لم يجر شرح نهج البلاغة ج : 6 ص : 256و صاب السهم القرطاس يصيبه صبيا لغة في أصابه و في المثل مع الخواطئ سهم صائب. و شافية تبرئ من مرض الجهل و الهوى و القلوب الزاكية الطاهرة و الأسماع الواعية الحافظة و آراء العازمة ذات العزم و الألباب العقول و الحازمة ذات الحزم و الحزم ضبط الرجل أمره. و خشع الرجل أي خضع و اقترف اكتسب و مثله قرف يقرف بالكسر يقال هو يقرف لعياله أي يكسب. و وجل الرجل خاف وجلا بفتح الجيم و مستقبلة يوجل و يأجل و ييجل و ييجل بكسر الياء المضارعة. و بادر سارع و عبر أي أري العبر مرارا كثيرة لأن التشديد هاهنا دليل التكثير. فاعتبر أي فاتعظ و الزجر النهي و المنع زجر أي منع و ازدجر مطاوع ازدجر اللفظ فيهما واحد تقول ازدجرت زيدا عن كذا فازدجر هو و هذا غريب و إنما جاء مطاوع ازدجر في زجر لأنهما كالشي ء الاحد و في بعض الروايات ازدجر فازدجر فلا يحتاج مع هذه الرواية إلى تأويل. و أناب الرجل إلى الله أي أقبل و تاب و اقتدى بزيد فعل مثل فعله و احتذى مثله. قوله ع فأفاد ذخيرة أي فاستفاد و هو من الأضداد أفدت المال زيدا أعطيته إياه و أفدت أنا مالا أي استفدته و اكتسبته. قوله ع فاتقوا الله عباد الله جهة ما خلقكم له نصب جهة بفعل مقدر تقديره و اقصدوا جهة ما خلقكم له يعني العبادة لأنه تعالى قال وَ ما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَ الْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ فحذف الفعل و استغنى عنه بقوله فَاتَّقُوا اللَّهَ لأن التقوى شرح نهج الاغة ج : 6 ص : 257ملازمة لقصد المكلف العبادة فدلت عليه و استغنى بها عن إظهاره. و الكنه الغاية و النهاية تقول أعرفه كنه المعرفة أي نهايتها. ثم قال ع و استحقوا منه ما أعد لكم أي اجعلوا أنفسكم مستحقين لثوابه الذي أعده لكم إن أطعتم. و الباء في بالتنجز متعلق باستحقوا و يقال فلان يتنجز الحاجة أي يستنجحها و يطلب تعجلها و الناجز

(7/225)


العاجل يقال ناجزا بناجز كقولك يدا بيد أي تعجيلا بتعجيل و التنجز من المكلفين بصدق ميعاد القديم سبحانه و هو مواظبتهم على فعل الواجب و تجنب القبيح و و الحذر مجرور بالعطف على التنجز لا على الصدق لأنه لا معنى له
وَ مِنْهَا جَعَلَ لَكُمْ أَسْمَاعاً لِتَعِيَ مَا عَنَاهَا وَ أَبْصَاراً لِتَجْلُوَ عَنْ عَشَاهَا وَ أَشْلَاءً جَامِعَةً لِأَعْضَائِهَا مُلَائِمَةً لِأَحْنَائِهَا فِي تَرْكِيبِ صُوَرِهَا وَ مُدَدِ عُمُرِهَا بِأَبْدَانٍ قَائِمَةٍ بِأَرْفَاقِهَا وَ قُلُوبٍ رَائِدَةٍ لِأَرْزَاقِهَا فِي مُجَلِّلَاتِ نِعَمِهِ وَ مُوجِبَاتِ مِنَنِهِ وَ حَوَاجِزِ عَافِيَتِهِ وَ قَدَّرَ لَكُمْ أَعْمَاراً سَتَرَهَا عَنْكُمْ وَ خَلَّفَ لَكُمْ عِبَراً مِنْ آثَارِ الْمَاضِينَ قَبْلَكُمْ مِنْ مُسْتَمْتَعِ خَلَاقِهِمْ وَ مُسْتَفْسَحِ خَنَاقِهِمْ أَرْهَقَتْهُمُ الْمَنَايَا دُونَ الآْمَالِ وَ شَذَّبَهُمْ عَنْهَا تَخَرُّمُ الآْجَالِ لَمْ يَمْهَدُوا فِي سَلَامَةِ الْأَبْدَانِ وَ لَمْ يَعْتَبِرُوا فِي أُنُفِ الْأَوَانِ
شرح نهج البلاغة ج : 6 ص : 258قوله لتعي ما عناها أي لتحفظ و تفهم ما أهمها و منه الأثر المرفوع من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه
و لتجلو أي لتكشف. و عن هاهنا زائدة و يجوز أن تكون بمعنى بعد كما قال
لقحت حرب وائل عن حيال

(7/226)


أي بعد حيال فيكون قد حذف المفعول و حذفه جائز لأنه فضله و يكون التقدير لتجلو الأذى بعد عشاها و العشى مقصور مصدر عشي بكسر الشين يعشى فهو عش إذا أبصر نهارا و لم يبصر ليلا. و الأشلاء جمع شلو و هو العضو. فإن قلت فأي معنى في قوله أعضاء تجمع أعضاء تجمع أعضاءها و كيف يجمع الشي ء نفسه قلت أراد ع بالأشلاء هاهنا الأعضاء الظاهرة و بالأعضاء الجوارح الباطنة و لا ريب أن الأعضاء الظاهرة تجمع الأعضاء الباطنة و تضمها و الملاءمة الموافقة و الأحناء الجوانب و الجهات و وجه الموافقة و الملاءمة أن كون اليد في الجانب أولى من كونهافي الرأس أو في أسفل القدم لأنها إذا كانت في الجانب كان البطش و تناول ما يراد و دفع ما يؤذى أسهل و كذلك القول في جعل العين في الموضع الذي جعلت به لأنها كديدبان السفينة البحرية و لو جعلت في أم الرأس لم ينتفع بها هذا الحد من الانتفاع الآن و إذا تأملت سائر أدوات الجسد و أعضائه وجدتها كذلك. شرح نهج البلاغة ج : 6 ص : 259ثم قال في تركيب صورها كأنه قال مركبة أو مصورة فأتى بلفظه في كما تقول ركب بسلاحه و في سلاحه أي متسلحا. و قوله بأرفاقها أي بمنافعها جمع رفق بكسر الراء مثل حمل و أحمال و أرفقت فلانا أي نفعته و المر من الأمر ما ارتفقت به و انتفعت و يروى بأرماقها و الرمق بقية الروح. و رائدة طالبة و مجللات النعم تجلل الناس أي تعمهم من قولهم سحاب مجلل أي يطبق الأرض و هذا من باب إضافة الصفة إلى الموصوف كقولك أنا في سابغ ظلك و عميم فضلك كأنه قال في نعمه المجللة و كذلك القول في موجبات مننه أي في مننه التي توجب الشكر. و في هاهنا متعلقة بمحذوف و الموضع نصب على الحال. ثم قال و حواجز عافيته الحواجز الموانع أي في عافية تحجز و تمنع عنكم المضار. و يروى و حواجز بليته و قد فسر قوله حواجز عافيته على أن يراد به ما يحجز العافية و يمنعها عن الزوال و العدم. قوله ع من مستمتع خلاقهم الخلاق النصيب قال

(7/227)


تعالى وَ ما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ و قال تعالى فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلاقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِخَلاقِهِمْ و تقدير الكلام خلف لكم عبرا من القرون السالفة منها تمتعهم بنصيبهم من الدنيا ثم فناؤهم و منها فسحة خناقهم و طول إمهالهم ثم كانت عاقبتهم الهلكة. و أرهقتهم المنايا أدركتهم مسرعة.
شرح نهج البلاغة ج : 6 ص : 260و المرهق الذي أدرك ليقتل و شذبهم عنها قطعهم و فرقهم من تشذيب الشجرة و هو تقشيرها. و تخرمت زيدا المنية استأصلته و اقتطعته. ثم قال لم يمهدوا في سلامة الأبدان أي لم يمهدوا لأنفسهم من تمهيد الأمور و هو تسويتها و إصلاحها. و أنف اوان أوله يقال روضة أنف لم ترع قبل و كأس أنف لم يشرب بها قبل
فَهَلْ يَنْتَظِرُ أَهْلُ بَضَاضَةِ الشَّبَابِ إِلَّا حَوَانِيَ الْهَرَمِ وَ أَهْلُ غَضَارَةِ الصِّحَّةِ إِلَّا نَوَازِلَ السَّقَمِ وَ أَهْلُ مُدَّةِ الْبَقَاءِ إِلَّا آوِنَةَ الْفَنَاءِ مَعَ قُرْبِ الزِّيَالِ وَ أُزُوفِ الِانْتِقَالِ وَ عَلَزِ الْقَلَقِ وَ أَلَمِ الْمَضَضِ وَ غُصَصِ الْجَرَضِ وَ تَلَفُّتِ الِاسْتِغَاثَةِ بِنُصْرَةِ الْحَفَدَةِ وَ الْأَقْرِبَاءِ وَ الْأَعِزَّةِ وَ الْقُرَنَاءِ فَهَلْ دَفَعَتِ الْأَقَارِبُ أَوْ نَفَعَتِ النَّوَاحِبُ وَ قَدْ غُودِرَ فِي مَحَلَّةِ الْأَمْوَاتِ رَهِيناً وَ فِي ضِيقِ الْمَضْجَعِ وَحِيداً قَدْ هَتَكَتِ الْهَوَامُّ جِلْدَتَهُ وَ أَبْلَتِ النَّوَاهِكُ جِدَّتَهُ وَ عَفَتِ الْعَوَاصِفُ آثَارَهُ وَ مَحَا الْحَدَثَانُ مَعَالِمَهُ وَ صَارَتِ الْأَجْسَادُ شَحِبَةً بَعْدَ بَضَّتِهَا وَ الْعِظَامُ نَخِرَةً بَعْدَ قُوَّتِهَا وَ الْأَرْوَاحُ مُرْتَهَنَةً بِثِقَلِ أَعْبَائِهَا مُوقِنَةً بِغَيْبِ أَنْبَائِهَا لَا تُسْتَزَادُ مِنْ صَالِحِ عَمَلِهَا وَ لَا تُسْتَعْتَبُ مِنْ سَيِّئِ زَلَلِهَا

(7/228)


شرح نهج البلاغة ج : 6 ص : 261البضاضة مصدر من بضضت يا رجل بضضت بالفتح و الكسر بضاضة و بضوضة و رجل بض أي ممتلئ البدن رقيق الجلد و امرأة بضة. و حواني الهرم جمع حانية و هي العلة التي تحني شطاط الجسد و تميله عن الاستقامة. و الهرم الكبر و الغضارة طيب العيش و ه المثل أباد الله غضراءهم أي خيرهم و خصبهم. و آونة الفناء جمع أوان و هو الحين كزمان و أزمنة و فلان يصنع ذلك الأمر آونة كقولك تارات أي يصنعه مرارا و يدعه مرارا. و الزيال مصدر زايله مزايلة و زيالا أي فارقه. و الأزوف مصدر أزف أي دنا. و العلز قلق و خفة و هلع يصيب الإنسان و قد علز بالكسر و بات علزا أي وجعا قلقا و المضض الوجع أمضني الجرح و مضني لغتان و قد مضضت يا رجل بالكسر. و الغصص جمع غصة و هي الشجا و الغصص بالفتح مصدر قولك غصصت يا رجل تغص بالطعام فأنت غاص و غصان و أغصصته أنا. و الجريض الريق يغص به جرض بريقه بالفتح يجرض بالكسر مثل كسر يكسر و هو أن يبلع ريقه على هم و حزن بالجهد و الجريض الغصة و في المثل حال شرح نهج البلاغة ج : 6 ص : 262الجريض دون القريض و فلان يجرض بنفسه إذا كان يموت و أجرضه الله بريقه أغصه. و الحفدة الأعوان و الخدم و قيل ولد الولد واحدهم حافد الباء في بنصرة الحفدة متعلق بالاستعانة يقول إن الميت عند نزول الأمر به يتلفت مستغيثا بنصرة أهله و ولده أي يستنصر يستصرخ بهم. و النواحب جمع ناحبة و هي الرافعة صوتها بالبكاء و يروى النوادب. و الهوام جمع هامة و هي ما يخاف ضرره من الأحناش كالعقارب و العناكب و نحوها و النواهك جمع ناهكة و هي ما ينهك البدن أي يبليه. و عفت درست و يروى بالتشديد و شحبة هالكة و الشحب الهلاك شحب الرجل بالكسر يشحب و جاء شحب بالفتح يشحب بالضم أي هلك و شحبة الله يشحبه يتعدى و لا يتعدى. و نخرة بالية و الأعباء الأثقال واحدها عب ء. و قال مونة بغيب أنبائها لأن الميت يعلم بعد موته ما يصير إليه حاله من جنة أو

(7/229)


نار. ثم قال إنها لا تكلف بعد ذلك زيادة في العمل الصالح و لا يطلب منها التوبة من العمل القبيح لأن التكليف قد بطل
أَ وَ لَسْتُمْ أَبْنَاءَ الْقَوْمِ وَ الآْبَاءَ وَ إِخْوَانَهُمْ وَ الْأَقْرِبَاءَ تَحْتَذُونَ أَمْثِلَتَهُمْ وَ تَرْكَبُونَ قِدَّتَهُمْ وَ تَطَئُونَ جَادَّتَهُمْ فَالْقُلُوبُ قَاسِيَةٌ عَنْ حَظِّهَا لَاهِيَةٌ عَنْ رُشْدِهَا شرح نهج البلاغة ج : 6 ص : 263الِكَةٌ فِي غَيْرِ مِضْمَارِهَا كَأَنَّ الْمَعْنِيَّ سِوَاهَا وَ كَأَنَّ الرُّشْدَ فِي إِحْرَازِ دُنْيَاهَا
القدة بالدال المهملة و بكسر القاف الطريقة و يقال لكل فرقة من الناس إذا كانت ذات هوى على حدة قدة و منه قوله تعالى كُنَّا طَرائِقَ قِدَداً و من رواه و يركبون قذتهم بالذال المعجمة و ضم القاف أراد الواحدة من قذذ السهم و هي ريشة يقال حذو القذة بالقذة و يكون معنى و تركبون قذتهم تقتفون آثارهم و تشابهون بهم في أفعالهم. ثم قال و تطئون جادتهم و هذه لفظة فصيحة جدا. ثم ذكر قساوة القلوب و ضلالها عن رشدها و قال كأن المعني سواها
هذا مثل قول النبي ص كأن الموت فيها على غيرنا كتب و كأن الحق فيها على غيرنا وجب

(7/230)


وَ اعْلَمُوا أَنَّ مَجَازَكُمْ عَلَى الصِّرَاطِ وَ مَزَالِقِ دَحْضِهِ وَ أَهَاوِيلِ زَلَلِهِ وَ تَارَاتِ أَهْوَالِهِ فَاتَّقُوا اللَّهَ عِبَادَ اللَّهِ تَقِيَّةَ ذِي لُبٍّ شَغَلَ التَّفَكُّرُ قَلْبَهُ وَ أَنْصَبَ الْخَوْفُ بَدَنَهُ وَ أَسْهَرَ التَّهَجُّدُ غِرَارَ نَوْمِهِ وَ أَظْمَأَ الرَّجَاءُ هَوَاجِرَ يَوْمِهِ وَ ظَلَفَ الزُّهْدُ شَهَوَاتِهِ شرح نهج البلاغة ج : 6 ص : 264وَ أَوْجَفَ الذِّكْرُ بِلِسَانِهِ وَ قَدَّمَ الْخَوْفَ لِأَمَانِهِ وَ تَنَكَّبَ الْمَخَالِجَ عَنْ وَضَحِ السَّبِيلِ وَ سَلَكَ أَقْصَدالْمَسَالِكِ إِلَى النَّهْجِ الْمَطْلُوبِ وَ لَمْ تَفْتِلْهُ فَاتِلَاتُ الْغُرُورِ وَ لَمْ تَعْمَ عَلَيْهِ مُشْتَبِهَاتُ الْأُمُورِ ظَافِراً بِفَرْحَةِ الْبُشْرَى وَ رَاحَةِ النُّعْمَى فِي أَنْعَمِ نَوْمِهِ وَ آمَنِ يَوْمِهِ قَدْ عَبَرَ مَعْبَرَ الْعَاجِلَةِ حَمِيداً وَ قَدَّمَ زَادَ الآْجِلَةِ سَعِيداً وَ بَادَرَ عَنْ وَجَلٍ وَ أَكْمَشَ فِي مَهَلٍ وَ رَغِبَ فِي طَلَبٍ وَ ذَهَبَ عَنْ هَرَبٍ وَ رَاقَبَ فِي يَوْمِهِ غَدَهُ وَ رُبَّمَا نَظَرَ قُدُماً أَمَامَهُ فَكَفَى بِالْجَنَّةِ ثَوَاباً وَ نَوَالًا وَ كَفَى بِالنَّارِ عِقَاباً وَ وَبَالًا وَ كَفَى بِاللَّهِ مُنْتَقِماً وَ نَصِيراً وَ كَفَى بِالْكِتَابِ حَجِيجاً وَ خَصِيماً

(7/231)


و قال أصحابنا رحمهم الله تعالى الصراط الوارد ذكره في الكتاب العزيز هو الطريق لأهل الجنة إلى الجنة و لأهل النار إلى النار بعد المحاسبة قالوا لأن أهل الجنة ممرهم على باب النار فمن كان من أهل النار عدل به إليها و قذف فيها و من كان من أهل الجنة مر بالنار مرورا نجا منها إلى الجنة و هو معنى قوله تعالى وَ إِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها لأن ورودها هو القرب منها و الدنو إليها و قد دل القرآن على سور مضروب بين مكان النار و بين الموضع الذي يجتازون منه إلى الجنة في قوله فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بابٌ باطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَ ظاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذابُ. شرح نهج البلاغة ج : 6 ص : 265قالوا و لا يصح ما روي في بعض الأخبار أن الصراط أدق من الشعر و أحد من السيف و أن المؤمن يقطعه كمرور البرق الخاطف و الكافر يمشي عليه حبوا و أنه ينتفض بالذين عليه حتى تتزايل مفاهم قالوا لأن مثل ذلك لا يكون طريقا للماشي و لا يتمكن من المشي عليه و لو أمكن لم يصح التكليف في الآخرة ليؤمر العقلاء بالمرور عليه على وجه التعبد. ثم سأل أصحابنا أنفسهم فقالوا أي فائدة في عمل هذا السور و أي فائدة في كون الطريق الذي هو الصراط منتهيا إلى باب النار منفرجا منها إلى الجنة أ لستم تعللون أفعال البارئ تعالى بالمصالح و الآخرة ليست دار تكليف ليفعل فيها هذه الأفعال للمصالح. و أجابوا بأن شعور المكلفين في الدنيا بهذه الأشياء مصالح لهم و ألطاف في الواجبات العقلية فإذا أعلم المكلفون بها وجب إيقاعها على حسب ما وعدوا و أخبروا به لأن الله صادق لا خلف في إخباره. و عندي أنه لا يمتنع أن يكون الصراط على ما وردت به الأخبار و لا مانع من ذلك قولهم لا يكون طريقا للماشي و لا يتمكن من المشي عليه مسلم و لكن لم لا يجوز أن يكون في جعله على هذا الوجه و الإخبار عن كيفيته هذه مصلحة للمكلفين في الدنيا و ليس عدم تمكن الإنسان من المشي عليه

(7/232)


بمانع من إيقاعه على هذا الوجه لأن المراد من هذا و أمثاله هو التخويف و الزجر. و أما قولهم الآخرة ليست دار تكليف فلقائل أن يقول لهم لم قلتم إنه تكليف و لم لا يجوز أن يكون المكلفون مضطرين إلى سلوكه اضطرارا فالمؤمن يخلق الله فيه الثبات و السكينة و الحركة السريعة فينجو و يسلم و الكافر يخلق فيه ضد ذلك فيهوي و يعطب و لا مانع من ذلك. شرح نهج البلاغة ج : 6 ص : 266يقال مكان دحض و دحض بالتحريك أي زلق و أدحضته أنا أزلقته فدحض هو. و الأهاويل الأمور المفزعة تارات أهواله كقوله دفعات أهواله و إنما جعل أهواله تارات لأن الأمور الهائلة إذا استمرت لم تكن في الإزعاج و الترويع كما تكون إذا طرأت تارة و سكنت تارة. و انصب الخوف بدنه أتعب و النصب التعب و التهجد هنا صلاة الليل و أصله السهر و قد جاء التهجد بمعنى النوم أيضا و هو من الأضداد. الغرار قلة النوم و أصله قلة لبن الناقة و يقال غارت الناقة تغار غرارا قل لبنها. فإن قلت كيف توصف قلة النوم بالسهر و إنما يوصف بالسهر الإنسان نفسه قلت هذا من مجازات كلامهم كقولهم ليل ساهر و ليل نائم. و الهواجر جمع هاجرة و هي نصف النهار عند اشتداد الحر يقال قد هجر النهار و أتينا أهلنا مهجرين أي سائرين في الهاجرة. و ظلف منع و ظلفت نفس فلان بالكسر عن كذا أي كفت. و أوجف أسرع كأنه جعل الذكر لشدة تحريكه اللسان موجفا به كما توجف الناقة براكبها و الوجيف ضرب من السير. ثم قال و قدم الخوف لأمانه اللام هاهنا لام التعليل أي قدم خوفه ليأمن و المخالج الأمور المختلجة أي الجاذبة خلجه و اختلجه أي جذبه. و أقصد المسالك أقومها و طريق قاصد أي مستقيم. و فتله عن كذا أي رده و صرفه و هو قلب لفت. و يروى قد عبر معبر العاجلة حميدا و قدم زاد الآجلة سعيدا. شرح نهج البلاغج : 6 ص : 267و أكمش أسرع و مثله انكمش و رجل كمش أي سريع و قد كمش بالضم كماشة فهو كمش و كميش و كمشته تكميشا أعجلته. قوله و رغب في

(7/233)


طلب و ذهب عن هرب أي و رغب فيما يطلب مثله و فر عما يهرب من مثله فأقام المصدر مقام ذي المصدر. و نظر قدما أمامه أي و نظر ما بين يديه مقدما لم ينثن و لم يعرج و الدال مضمومة هاهنا. قال الشاعر يذم امرأة
تمضي إذا زجرت عن سوأة قدما كأنها هدم في الجفر منقاض
و من رواه بالتسكين جاز أن يعنى به هذا و يكون قد خفف كما قالوا حلم و حلم. و جاز أن يجعله مصدرا من قدم الرجل بالفتح يقدم قدما أي تقدم قال الله تعالى يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ أي يتقدمهم إلى ورودها كأنه قال و نظر بين يديه متقدما لغيره و سابقا إياه إلى ذلك و الباء في بالجنة و بالنار و بالله و بالكتاب زائدة و التقدير كفى الله و كفى الكتاب شرح نهج البلاغة ج : 6 ص : 26أُوصِيكُمْ بِتَقْوَى اللَّهِ الَّذِي أَعْذَرَ بِمَا أَنْذَرَ وَ احْتَجَّ بِمَا نَهَجَ وَ حَذَّرَكُمْ عَدُوّاً نَفَذَ فِي الصُّدُورِ خَفِيّاً وَ نَفَثَ فِي الآْذَانِ نَجِيّاً فَأَضَلَّ وَ أَرْدَى وَ وَعَدَ فَمَنَّى وَ زَيَّنَ سَيِّئَاتِ الْجَرَائِمِ وَ هَوَّنَ مُوبِقَاتِ الْعَظَائِمِ حَتَّى إِذَا اسْتَدْرَجَ قَرِينَتَهُ وَ اسْتَغْلَقَ رَهِينَتَهُ أَنْكَرَ مَا زَيَّنَ وَ اسْتَعْظَمَ مَا هَوَّنَ وَ حَذَّرَ مَا أَمَّنَ
أعذر بما أنذر ما هاهنا مصدرية أي أعذر بإنذاره و يجوز أن تكون بمعنى الذي. و العدو المذكور الشيطان. و قوله نفذ في الصدور و نفث في الآذان كلام صحيح بديع و في قوله نفذ في الصدور مناسبة
لقوله ص الشيطان يجري من بني آدم مجرى الدم
و النجي الذي يساره و الجمع الأنجية قال
إني إذا ما القوم كانوا أنجيه

(7/234)


و قد يكون النجي جماعة مثل الصديق قال الله تعالى خَلَصُوا نَجِيًّا أي متناجين. القرينة هاهنا الإنسان الذي قارنه الشيطان و لفظه لفظ التأنيث و هو مذكر أراد القرين قال تعالى فَبِئْسَ الْقَرِينُ و يجوز أن يكون أراد بالقرينة النفس و يكون شرح نهج البلاغة ج : 6 : 269الضمير عائدا إلى غير مذكور لفظا لما دل المعنى عليه لأن قوله فأضل و أردى و وعد فمنى معناه أضل الإنسان و أردى و وعده فمنى فالمفعول محذوف لفظا و إليه رجع الضمير على هذا الوجه و يقال غلق الرهن إذا لم يفتكه الراهن في الوقت المشروط فاستحقه المرتهن. و هذا الكلام مأخوذ من قوله تعالى وَ قالَ الشَّيْطانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَ وَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَ ما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلا تَلُومُونِي وَ لُومُوا أَنْفُسَكُمْ ما أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَ ما أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ الآية

(7/235)


وَ مِنْهَا فِي صِفَةِ خَلْقِ الْإِنْسَانِ أَمْ هَذَا الَّذِي أَنْشَأَهُ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْحَامِ وَ شُغُفِ الْأَسْتَارِ نُطْفَةً دِهَاقاً وَ عَلَقَةً مِحَاقاً وَ جَنِيناً وَ رَاضِعاً وَ وَلِيداً وَ يَافِعاً ثُمَّ مَنَحَهُ قَلْباً حَافِظاً وَ لِسَاناً لَافِظاً وَ بَصَراً لَاحِظاً لِيَفْهَمَ مُعْتَبِراً وَ يُقَصِّرَ مُزْدَجِراً حَتَّى إِذَا قَامَ اعْتِدَالُهُ وَ اسْتَوَى مِثَالُهُ نَفَرَ مُسْتَكْبِراً وَ خَبَطَ سَادِراً مَاتِحاً فِي غَرْبِ هَوَاهُ كَادِحاً سَعْياً لِدُنْيَاهُ فِي لَذَّاتِ طَرَبِهِ وَ بَدَوَاتِ أَرَبِهِ ثُمَّ لَا يَحْتَسِبُ رَزِيَّةً وَ لَا يَخْشَعُ تَقِيَّةً فَمَاتَ فِي فِتْنَتِهِ غَرِيراً وَ عَاشَ فِي هَفْوَتِهِ يَسِيراً لَمْ يُفِدْ عِوَضاً وَ لَمْ يَقْضِ مُفْتَرَضاً دَهِمَتْهُ فَجَعَاتُ الْمَنِيَّةِ فِي غُبَّرِ جِمَاحِهِ وَ سَنَنِ مِرَاحِهِ فَظَلَّ سَادِراً وَ بَاتَ سَاهِراً فِي غَمَرَاتِ الآْلَامِ وَ طَوَارِقِ الْأَوْجَاعِ وَ الْأَسْقَامِ بَيْنَ أَخٍ شَقِيقٍ وَ وَالِدٍ شَفِيقٍ لا و تاركا لما وعظهم به بل أتلو عليكم نبأ هذا الإنسان الذي حاله كذا. الشغف بالغين المعجمة جمع شغاف بفتح الشين و أصله غلاف القلب يقال شغفه الحب أي بلغ شغافه و قرئ قَدْ شَغَفَها حُبًّا. و الدهاق المملوءة و يروى دفاقا من دفقت الماء أي صببته. قال و علقة محاقا المحاق ثلاث ليال من آخر الشهر و سميت محاقا لأن القمر يمتحق فيهن أي يخفى و تبطل صورته و إنما جعل العلقة محاقا هاهنا لأنها لم تحصل لها الصورة الإنسانية بعد فكانت ممحوة ممحوة ممحوقة. شرح نهج البلاغة ج : 6 ص : 271و اليافع الغلام المرتفع أيفع و هو يافع و هذا من النوادر و غلام يفع و يفعة و غلمان أيفاع و يفعة أيضا. قوله و خبط سادرا خبط البعير إذا ضرب بيديه إلى الأرض و مشى لا يتوقى شيئا. و السادر المتحير و السادر أيضا الذي لا يهتم و لا

(7/236)


يبالي ما صنع و الموضع يحتمل كلا التفسيرين. و الماتح الذي يستقي الماء من البئر و هو على رأسها و المائح الذي نزل البئر إذا قل ماؤها فيملأ الدلاء و سئل بعض أئمة اللغة عن الفرق بين الماتح و المائح فقال اعتبر نقطتي الإعجام فالأعلى للأعلى و الأدنى للأدنى و الغرب الدلو العظيمة و الكدح شدة السعي و الحركة قال تعالى يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ إِنَّكَ كادِحٌ إِلى رَبِّكَ كَدْحاً. قوله و بدوات أي ما يخطر له من آرائه التي تختلف فيها دواعيه فتقدم و تحجم و مات غريرا أي شابا و يمكن أن يراد به أنه غير مجرب للأمور. و الهفوة الزلة هفا يهفو لم يفد عوضا أي لم يكتسب. و غبر جماحة بقاياه قال أبو كبير الهذلي
و مبرإ من كل غبر حيضة و فساد مرضعة و داء مغيل

(7/237)


و الجماح الشرة و ارتكاب الهوى و سنن مراحه السنن الطريقة و المراح شدة الفرج و النشاط. قوله فظل سادرا السادر هاهنا غير السادر الأول لأنه هاهنا المغمى عليه كأنه شرح نهج البلاغة ج : 6 ص : 272سكران و أصله من سدر البعير من شدة الحر و كثرة الطلاء بالقطران فيكون كالنائم لا يحس و مراده ع هاهنا أنه بدأ به المرض و لادمة للصدر ضاربة له و التدام النساء ضربهن الصدور عند النياحة سكرة ملهثة تجعل الإنسان لاهثا لشدتها لهث يلهث لهثانا و لهاثا و يروى ملهية بالياء أي تلهي الإنسان و تشغله. و الكارثة فاعلة من كرثه الغم يكرثه بالضم أي اشتد عليه و بلغ منه غاية المشقة. الجذبة جذب الملك الروح من الجسد أو جذب الإنسان إذا احتضر ليسجى. و السوقة من سياق الروح عند الموت و المبلس الذي ييئس من رحمة الله و منه سمي إبليس و الإبلاس أيضا الانكسار و الحزن و السلس السهل المقادة و الأعواد خشب الجنازة و رجيع وصب الرجيع المعنى الكال و الوصب الوجع وصب الرجل يوصب فهو واصب و أوصبه الله فهو موصب و الموصب بالتشديد الكثير الأوجاع و النضو الهزيل و حشدة الإخوان جمع حاشد و هو المتأهب المستعد و دار غربته قبره و كذلك منقطع زورته لأن الزيارة تنقطع عنده. و مفرد وحشته نحو ذلك لانفراده بعمله و استيحاش الناس منه حتى إذا انصرف المشيع و هو الخارج مع جنازته أقعد في حفرته هذا تصريح بعذاب القبر و سنذكر ما يصلح ذكره في هذا الموضع. و النجي المناجي و نزول الحميم و تصلية الجحيم من الألفاظ الشريفة القرآنية. ثم نفى ع أن يكون في العذاب فتور يجد الإنسان معه راحة أو سكون يزيح عنه الألم أي يزيله أو أن الإنسان يجد في نفسه قوة تحجز بينه و بين الألم أي تمنع و يموت موتا ناجزا معجلا فيستريح أو ينام فيسلو وقت نومه عما أصابه من الألم في اليقظة كما في دار الدنيا. شرح نهج البلاغة ج : 6 ص : 273ثم قال بين أطوار الموتات و هذا في ظاهره متناقض لأنه نفى الموت

(7/238)


مطلقا ثم قال بين أطوار الموتات و الجواب أنه أراد بالموتات الآلام العظيمة فسماها موتات لأن العرب تسمي المشقة العظيمة موتا كما قال
إنما الميت ميت الأحياء
و يقولون الفقر الموت الأحمر و استعمالهم مثل ذلك كثير جدا. ثم قال إنا بالله عائذون عذت بفلان و استعذت به أي التجأت إليه
فصل في ذكر القبر و سؤال منكر و نكير
و اعلم أن لقاضي القضاة في كتاب طبقات المعتزلة في باب القبر و سؤال منكر و نكير كلاما أنا أورد هاهنا بعضه قال رحمه الله تعالى إن عذاب القبر إنما أنكره ضرار بن عمرو و لما كان ضرار من أصحاب واصل بن عطاء ظن كثير من الناس أن ذلك مما أنكرته المعتزلة و ليس الأمر كذلك بل المعتزلة رجلان أحدهما يجوز عذاب القبر و لا يقطع به و هم الأقلون و الآخر يقطع على ذلك و هم أكثر أصحابنا لظهور الأخبار الواردة فيه و إنما تنكر المعتزلة قول طائفة من الجهلة إنهم يعذبون و هم موتى لأن العقل يمنع من ذلك و إذا كان الإنسان مع قرب العهد بموته و لما يدفن يعلمون أنه لا يسمع و لا يبصر و لا يدرك و لا يألم و لا يلتذ فكيف يجوز عليه ذلك و هو ميت في قبره و ما روي من أن الموتى يسمعون لا يصح إلا أن يراد به أن الله تعالى أحياهم و قوى حاسة سمعهم فسمعوا و هم أحياء. شرح نهج البلاغة ج : 6 ص : 274قال رحمه الله تعالى و أنكر أيضا مشايخنا أن يكون عذاب القبر دائما في كل حال لأن الأخبار إنما وردت بذلك في الجملة فالذي يقال به هو قدر ما تقتضيه الأخبار دون ما زاد عليه مما لا دليل عليه و لذلك لسنا نوقت في التعذيب وقتا و إن كان الأقرب في الأخبار أنها الأوقات المقارنة للدفن و إن كان لا نعنيها بأعيانها. هكذا قال قاضي القضاة و الذي أعرفه أنا من مذهب كثير من شيوخنا قبل قاضي القضاة أن الأغلب أن يكون عذاب القبر بين النفختين. ثم إن قاضي القضاة سأل نفسه فقال إذا كانت الآخرة هي وقت المجازاة فكيف يعذب في القبر في أيام الدنيا. و أجاب بأن

(7/239)


القليل من العقاب المستحق قد يجوز أن يجعله الله في الدنيا لبعض المصالح كما فعل في تعجيل إقامة الحدود على من يستحقها فلا يمنع منه تعالى أن يفعل ذلك بالإنسان إذا كان من أهل النار. ثم سأل نفسه فقال إذا كان بالموت قد زال عنه التكليف فكيف يقولون يكون ذلك من مصالحه. و أجاب بأنا لم نقل إن ذلك من مصالحه و هو ميت و إنما نقول إنه مصلحة أن نعلم في الدنيا ذلك من حال الموتى لأنه إذا تصور أنه مات عوجل بضرب من العقاب في القبر كان أقرب إلى أن ينصرف عن كثير من المعاصي و قد يجوز أن يكون ذلك لطفا للملائكة الذين يتولون هذا التعذيب. فأما القول في منكر و نكير فإنه سأل نفسه رحمه الله تعالى و قال كيف يجوز أن يسموا بأسماء الذم و عندكم أن الملائكة أفضل من الأنبياء. شرح نهج البلاغة ج : 6 ص : 275و أجاب فقال إن التسمية إذا كانت لقبا لم يقع بها ذم لأن الذم إنما يقع لفائدة الاسم و الألقاب كالإشارات لا فائدة تحتها و لذا يلقب الرجل المسلم بظالم و كلب و نحو ذلك فيجوز أن يكون هذان الاسمان من باب الألقاب و يجوز أن يسميا بذلك من حيث يهجمان على الإنسان عند إكمال الله تعالى عقله على وجه ينكره و يرتاع منه فسميا منكرا و نكيرا. قال و قد روي في المساءلة في القبر أخبار كثيرة و كل ذلك مما لا قبح فيه بل يجوز أن يكون من مصالح المكلفين فلا يصح المنع عنه. و جملة الأمر أن كل ما ثبت من ذلك بالتواتر و الإجماع و ليس بمستحيل في القدرة و لا قبيح في الحكمة يجب القول به و ما عداه مما وردت به آثار و أخبار آحاد يجب أن يجوز و يقال إنه مظنون ليس بمعلوم إذا لم يمنع منه الدليل

(7/240)


عِبَادَ اللَّهِ أَيْنَ الَّذِينَ عُمِّرُوا فَنَعِمُوا وَ عُلِّمُوا فَفَهِمُوا وَ أُنْظِرُوا فَلَهَوْا وَ سُلِّمُوا فَنَسُوا أُمْهِلُوا طَوِيلًا وَ مُنِحُوا جَمِيلًا وَ حُذِّرُوا أَلِيماً وَ وُعِدُوا جَسِيماً احْذَرُوا الذُّنُوبَ الْمُوَرِّطَةَ وَ الْعُيُوبَ الْمُسْخِطَةَ أُولِي الْأَبْصَارِ وَ الْأَسْمَاعِ وَ الْعَافِيَةِ وَ الْمَتَاعِ هَلْ مِنْ مَنَاصٍ أَوْ خَلَاصٍ أَوْ مَعَاذٍ أَوْ مَلَاذٍ أَوْ فِرَارٍ أَوْ مَحَارٍ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ أَمْ أَيْنَ تُصْرَفُونَ أَمْ بِمَا ذَا تَغْتَرُّونَ وَ إِنَّمَا حَظُّ أَحَدِكُمْ مِنَ الْأَرْضِ ذَاتِ الطُّوْلِ وَ الْعَرْضِ قِيدُ قَدِّهِ مُنْعَفِراً عَلَى خَدِّهِ الآْنَ عِبَادَ اللَّهِ وَ الْخِنَاقُ مُهْمَلٌ وَ الرُّوحُ مُرْسَلٌ فِي فَيْنَةِ الْإِرْشَادِ وَ رَاحَةِ شرح نهج البلاغة ج : 6 ص : 276الْأَجْسَادِ وَ بَاحَةِ الِاحْتِشَادِ وَ مَهَلِ الْبَقِيَّةِ وَ أَنْفِ الْمَشِيَّةِ وَ إِنْظَارَ التَّوْبَةِ وَ انْفِسَاحِ الْحَوْبَةِ قَبْلَ الضَّنْكِ وَ الْمَضِيقِ وَ الرَّوْعِ وَ الزُّهُوقِ وَ قَبْلَ قُدُومِ الْغَائِبِ الْمُنْتَظَرِ وَ أَخْذَةِ الْعَزِيزِ الْمُقْتَدِرِ
قال الرضي رحمه الله و في الخبر أنه ع لما خطب بهذه الخطبة اقشعرت لها الجلود و بكت العيون و رجفت القلوب و من الناس من يسمي هذه الخطبة الغراء
نعم الرجل ينعم ضد قولك بئس و جاء شاذا نعم ينعم بالكسر و أنظروا أمهلوا و الذنوب المورطة التي تلقي أصحابها في الورطة و هي الهلاك قال رؤبة
فأصبحوا في ورطة الأوراط

(7/241)


و أصله أرض مطمئنة لا طريق فيها و قد أورطت زيدا و ورطته توريطا فتورط ثم قال ع أولي الأبصار و الأسماع ناداهم نداء ثانيا بعد النداء الذي في أول الفصل و هو قوله عباد الله فقال يا من منحهم الله أبصارا و أسماعا و أعطاهم عافية و متعهم متاعا هل من مناص و هو الملجأ و المفر يقال ناص عن قرنه مناصا أي فر و راوغ قال سبحانه وَ لاتَ حِينَ مَناصٍ. شرح نهج البلاغة ج : 6 ص : 277و المحار المرجع من حار يحور أي رجع قال تعالى إِنَّهُ ظَنَّ أَنْ لَنْ يَحُورَ. و يؤفكون يقلبون أفكه يأفكه عن كذا قلبه عنه إلى غيره و مثله يصرفون. و قيد قده مقدار قده يقال قرب منه قيد رمح و قاد رمح و المراد هاهنا هو القبر لأنه بمقدار قامة الإنسان. و المنعفر الذي قد لامس العفر و هو التراب. ثم قال ع الآن و الخناق مهمل تقديره اعملوا الآن و أنتم مخلون متمكنون لم يعقد الحبل في أعناقكم و لم تقبض أرواحكم. و الروح يذكر و يؤنث و الفينة الوقت و يروى و فينة الارتياد و هو الطلب. و أنف المشية أول أوقات الإرادة و الاختيار. قوله و انفساح الحوبة أي سعة وقت الحاجة و الحوبة الحاجة و الأرب قال الفرزدق
فهب لي خنيسا و اتخذ فيه منة لحوبة أم ما يسوغ شرابها
و الغائب المنتظر هو الموت. قال شيخنا أبو عثمان رحمه الله تعالى حدثني ثمامة قال سمعت جعفر بن يحيى و كان من أبلغ الناس و أفصحهم يقول الكتابة ضم اللفظة إلى أختها أ لم تسمعوا قول شاعر لشاعر و قد تفاخرا أنا أشعر منك لأني أقول البيت و أخاه و أنت تقول البيت و ابن عمه ثم قال و ناهيك حسنا بقول علي بن أبي طالب ع هل من مناص أو خلاص أو معاذ أو ملاذ أو فرار أو محار. شرح نهج البلاغة ج : 6 ص : 278
قال أبو عثمان و كان جعفر يعجب أيضا بقول علي ع أين من جد و اجتهد و جمع و احتشد و بنى فشيد و فرش فمهد و زخرف فنجد

(7/242)


قال أ لا ترى أن كل لفظة منها آخذة بعنق قرينتها جاذبة إياها إلى نفسها دالة عليها بذاتها قال أبو عثمان فكان جعفر يسميه فصيح قريش. و اعلم أننا لا يتخالجنا الشك في أنه ع أفصح من كل ناطق بلغة العرب من الأولين و الآخرين إلا من كلام الله سبحانه و كلام رسول الله ص و ذلك لأن فضيلة الخطيب و الكاتب في خطابته و كتابته تعتمد على أمرين هما مفردات الألفاظ و مركباتها. أما المفردات فأن تكون سهلة سلسة غير وحشية و لا معقدة و ألفاظه ع كلها كذلك فأما المركبات فحسن المعنى و سرعة وصوله إلى الأفهام و اشتماله على الصفات التي باعتبارها فضل بعض الكلام على بعض و تلك الصفات هي الصناعة التي سماها المتأخرون البديع من المقابلة و المطابقة و حسن التقسيم و رد آخر الكلام على صدره و الترصيع و التسهيم و التوشيح و المماثلة و الاستعارة و لطافة استعمال المجاز و الموازنة و التكافؤ و التسميط و المشاكلة. و لا شبهة أن هذه الصفات كلها موجودة في خطبه و كتبه مبثوثة متفرقة في فرش كلامه ع و ليس يوجد هذان الأمران في كلام أحد غيره فإن كان قد تعملها و أفكر فيها و أعمل رويته في رصفها و نثرها فلقد أتى بالعجب العجاب و وجب شرح نهج البلاغة ج : 6 ص : 279أن يكون إمام الناس كلهم في ذلك لأنه ابتكره و لم يعرف من قبله و إن كان اقتضبها ابتداء و فاضت على لسانه مرتجلة و جاش بها طبعه بديهة من غير روية و لا اعتمال فأعجب و أعجب. و على كلا الأمرين فلقد جاء مجليا و الفصحاء تنقطع أنفاسهم على أثره و بحق ما قال معاوية لمحقن الضبي لما قال له جئتك من عند أعيا الناس يا ابن اللخناء أ لعلي تقول هذا و هل سن الفصاحة لقريش غيره. و اعلم أن تكلف الاستدلال على أن الشمس مضيئة يتعب و صاحبه منسوب إلى السفه و ليس جاحد الأمور المعلومة علما ضروريا بأشد سفها ممن رام الاستدلال بالأدلة النظرية عليها

(7/243)


شرح نهج البلاغة ج : 6 ص : 83280- و من كلام له ع في ذكر عمرو بن العاص
عَجَباً لِابْنِ النَّابِغَةِ يَزْعُمُ لِأَهْلِ الشَّامِ أَنَّ فِيَّ دُعَابَةٌ وَ أَنِّي امْرُؤٌ تِلْعَابَةٌ أُعَافِسُ وَ أُمَارِسُ لَقَدْ قَالَ بَاطِلًا وَ نَطَقَ آثِماً أَمَا وَ شَرُّ الْقَوْلِ الْكَذِبُ إِنَّهُ لَيَقُولُ فَيِكْذِبُ وَ يَعِدُ فَيُخْلِفُ وَ يُسْأَلُ فَيَبْخَلُ وَ يَسْأَلُ فَيُلْحِفُ وَ يَخُونُ الْعَهْدَ وَ يَقْطَعُ الْإِلَّ فَإِذَا كَانَ عِنْدَ الْحَرْبِ فَأَيُّ زَاجِرٍ وَ آمِرٍ هُوَ مَا لَمْ تَأْخُذِ السُّيُوفُ مَآخِذَهَا فَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَانَ أَكْبَرُ ]أَكْبَرَ[ مَكِيدَتِهِ أَنْ يَمْنَحَ الْقَوْمَ سَبَّتَهُ أَمَا وَ اللَّهِ إِنِّي لَيَمْنَعُنِي مِنَ اللَّعِبِ ذِكْرُ الْمَوْتِ وَ إِنَّهُ لَيَمْنَعُهُ مِنْ قَوْلِ الْحَقِّ نِسْيَانُ الآْخِرَةِ وَ إِنَّهُ لَمْ يُبَايِعْ مُعَاوِيَةَ حَتَّى شَرَطَ لَهُ أَنْ يُؤْتِيَهُ أَتِيَّةً وَ يَرْضَخَ لَهُ عَلَى تَرْكِ الدِّينِ رَضِيخَةً

(7/244)


الدعابة المزاح دعب الرجل بالفتح و رجل تلعابة بكسر التاء كثير اللعب و التلعاب بالفتح مصدر لعب. و المعافسة المعالجة و المصارعة و منه الحديث عافسنا النساء و الممارسة نحوه. يقول ع إن عمرا يقدح في عند أهل الشام بالدعابة و اللعب و أني كثير شرح نهج البلاغة ج : 6 ص : 281الممازحة حتى أني ألاعب النساء و أغازلهن فعل المترف الفارغ القلب الذي تتقضى أوقاته بملاذ نفسه. و يلحف يلح في السؤال قال تعالى لا يَسْئَلُونَ النَّاسَ إِلْحافاً و منه المثل ليس للملحف مثل الرد. و الإل العهد و لما اختلف اللفظان حسن التقسيم بهما و إن كان المعنى واحدا. و معنى قوله ما لم تأخذ السيوف مآخذها أي ما لم تبلغ الحرب إلى أن تخالط الرءوس أي هو ملي ء بالتحريض و الإغراء قبل أن تلتحم الحرب فإذا التحمت و اشتدت فلا يمكث و فعل فعلته التي فعل. و السبة الاست و سبه يسبه طعنه في السبة. و يجوز رفع أكبر و نصبه فإن رفعت فهو الاسم و إن نصبت فهو الخبر. و الأتية العطية و الإيتاء الإعطاء و رضخ له رضخا أعطاه عطاء بالكثير و هي الرضيخة لما يعطى
نسب عمرو بن العاص و طرف من أخباره

(7/245)


و نحن نذكر طرفا من نسب عمرو بن العاص و أخباره إلى حين وفاته إن شاء الله. هو عمرو بن العاص بن وائل بن هاشم بن سعيد بن سهم بن عمرو بن هصيص بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر بن مالك بن النضر يكنى أبا عبد الله و يقال أبو محمد. شرح نهج البلاغة ج : 6 ص : 282أبوه العاص بن وائل أحد المستهزءين برسول الله ص و المكاشفين له بالعداوة و الأذى و فيه و في أصحابه أنزل قوله تعالى إِنَّا كَفَيْناكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ. و يلقب العاص بن وائل في الإسلام بالأبتر لأنه قال لقريش سيموت هذا الأبتر غدا فينقطع ذكره يعني رسول الله ص لأنه لم يكن له ص ولد ذكر يعقب منه فأنزل الله سبحانه إِنَّ شانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ. و كان عمرو أحد من يؤذي رسول الله ص بمكة و يشتمه و يضع في طريقه الحجارة لأنه كان ص يخرج من منزله ليلا فيطوف بالكعبة و كان عمرو يجعل له الحجارة في مسلكه ليعثر بها و هو أحد القوم الذين خرجوا إلى زينب ابنة رسول الله ص لما خرجت مهاجرة من مكة إلى المدينة فروعوها و قرعوا هودجها بكعوب الرماح حتى أجهضت جنينا ميتا من أبي العاص بن الربيع بعلها فلما بلغ ذلك رسول الله ص نال منه و شق عليه مشقة شديدة و لعنهم روى ذلك الواقدي. و روى الواقدي أيضا و غيره من أهل الحديث أن عمرو بن العاص هجا رسول الله ص هجاء كثيرا كان يعلمه صبيان مكة فينشدونه و يصيحون برسول الله إذا مر بهم رافعين أصواتهم بذلك الهجاء
فقال رسول الله ص و هو يصلي بالحجر اللهم إن عمرو بن العاص هجاني و لست بشاعر فالعنه بعدد ما هجاني

(7/246)


و روى أهل الحديث أن النضر بن الحارث و عقبة بن أبي معيط و عمرو بن العاص عهدوا إلى سلي جمل فرفعوه بينهم و وضعوه على رأس رسول الله ص و هو ساجد بفناء الكعبة فسال عليه فصبر و لم يرفع رأسه و بكى في سجوده و دعا عليهم شرح نهج البلاغة ج : 6 ص : 283فجاءت ابنته فاطمة ع و هي باكية فاحتضنت ذلك السلا فرفعته عنه فألقته و قامت على رأسه تبكي فرفع رأسه ص
و قال اللهم عليك بقريش قالها ثلاثا ثم قال رافعا صوته إني مظلوم فانتصر قالها ثلاثا
ثم قام فدخل منزله و ذلك بعد وفاة عمه أبي طالب بشهرين. و لشدة عداوة عمرو بن العاص لرسول الله ص أرسله أهل مكة إلى النجاشي ليزهده في الدين و ليطرد عن بلاده مهاجرة الحبشة و ليقتل جعفر بن أبي طالب عنده إن أمكنه قتله فكان منه في أمر جعفر هناك ما هو مذكور مشهور في السير و سنذكر بعضه. فأما النابغة فقد ذكر الزمخشري في كتاب ربيع الأبرار قال كانت النابغة أم عمرو بن العاص أمة لرجل من عنزة فسبيت فاشتراها عبد الله بن جدعان التيمي بمكة فكانت بغيا ثم أعتقها فوقع عليها أبو لهب بن عبد المطلب و أمية بن خلف الجمحي و هشام بن المغيرة المخزومي و أبو سفيان بن حرب و العاص بن وائل السهمي في طهر واحد فولدت عمرا فادعاه كلهم فحكمت أمه فيه فقالت هو من العاص بن وائل و ذاك لأن العاص بن وائل كان ينفق عليها كثيرا قالوا و كان أشبه بأبي سفيان و في ذلك يقول أبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب في عمرو بن العاص
أبوك أبو سفيان لا شك قد بدت لنا فيك منه بينات الشمائل

(7/247)


و قال أبو عمر بن عبد البر صاحب كتاب الإستيعاب كان اسمها سلمى و تلقبت بالنابغة بنت حرملة من بني جلان بن عنزة بن أسد بن ربيعة بن نزار شرح نهج البلاغة ج : 6 ص : 284أصابها سباء فصارت إلى العاص بن وائل بعد جماعة من قريش فأولدها عمرا. قال أبو عمر يقال إنه جعل لرجل ألف درهم على أن يسأل عمرا و هو على المنبر من أمه فسأله فقال أمي سلمى بنت حرملة تلقب بالنابغة من بني عنزة ثم أحد بني جلان و أصابتها راح العرب فبيعت بعكاظ فاشتراها الفاكه بن المغيرة ثم اشتراها منه عبد الله بن جدعان ثم صارت إلى العاص بن وائل فولدت فأنجبت فإن كان جعل لك شي ء فخذ. و قال المبرد في كتاب الكامل اسمها ليلى و ذكر هذا الخبر و قال إنها لم تكن في موضع مرضي قال المبرد و قال المنذر بن الجارود مرة لعمرو بن العاص أي رجل أنت لو لا أن أمك أمك فقال إني أحمد الله إليك لقد فكرت البارحة فيها فأقبلت أنقلها في قبائل العرب ممن أحب أن تكون منها فما خطرت لي عبد القيس على بال. و قال المبرد و دخل عمرو بن العاص مكة فرأى قوما من قريش قد جلسوا حلقة فلما رأوه رمقوه بأبصارهم فعدل إليهم فقال أحسبكم كنتم في شي ء من ذكري قالوا أجل كنا نمثل بينك و بين أخيك هشام بن العاص أيكما أفضل فقال عمرو إن لهشام علي أربعة أمه بنت هشام بن المغيرة و أمي من قد عرفتم و كان أحب إلى أبيه مني و قد علمتم معرفة الوالد بولده و أسلم قبلي و استشهد و بقيت. و روى أبو عبيدة معمر بن المثنى في كتاب الأنساب أن عمرا اختصم فيه يوم شرح نهج البلاغة ج : 6 ص : 285ولادته رجلان أبو سفيان بن حرب و العاص بن وائل فقيل لتحكم أمه فقالت أمه إنه من العاص بن وائل فقال أبو سفيان أما إني لا أشك أني وضعته في رحم أمه فأبت إلا العاص. فقيل لها أبو سفيان أشرف نسبا فقالت إن العاص بن وائل كثير النفقة علي و أبو سفيان شحيح. ففي ذلك يقول حسان بن ثابت لعمرو بن العاص حيث هجاه مكافئا له عن هجاء رسول

(7/248)


الله ص
أبوك أبو سفيان لا شك قد بدت لنا فيك منه بينات الدلائل ففاخر به إما فخرت و لا تكن تفاخر بالعاص الهجين بن وائل و إن التي في ذاك يا عمرو حكمت فقالت رجاء عند ذاك لنائل من العاص عمرو تخبر الناس كلما تجمعت الأقوام عند المحافل
مفاخرة بين الحسن بن علي و رجالات من قريش
و روى الزبير بن بكار في كتاب المفاخرات قال اجتمع عند معاوية عمرو بن العاص و الوليد بن عقبة بن أبي معيط و عتبة بن أبي سفيان بن حرب و المغيرة بن شعبة و قد كان بلغهم عن الحسن بن علي ع قوارص و بلغه عنهم مثل ذلك فقالوا يا أمير المؤمنين إن الحسن قد أحيا أباه و ذكره و قال فصدق و أمر فأطيع و خفقت له النعال و إن ذلك لرافعه إلى ما هو أعظم منه و لا يزال يبلغنا عنه ما يسوءنا. قال معاوية فما تريدون قالوا ابعث عليه فليحضر لنسبه و نسب أباه و نعيره و نوبخه و نخبره أن أباه قتل عثمان و نقرره بذلك و لا يستطيع أن يغير علينا شيئا من ذلك. شرح نهج البلاغة ج : 6 ص : 286قال معاوية إني لا أرى ذلك و لا أفعله قالوا عزمنا عليك يا أمير المؤمنين لتفعلن فقال ويحكم لا تفعلوا فو الله ما رأيته قط جالسا عندي إلا خفت مقامه و عيبه لي قالوا ابعث إليه على كل حال قال إن بعثت إليه لأنصفنه منكم. فقال عمرو بن العاص أ تخشى أن يأتي باطله على حقنا أو يربي قوله على قولنا قال معاوية أما إني إن بعثت إليه لآمرنه أن يتكلم بلسانه كله قالوا مره بذلك. قال أما إذ عصيتموني و بعثتم إليه و أبيتم إلا ذلك فلا تمرضوا له في القول و اعلموا أنهم أهل بيت لا يعيبهم العائب و لا يلصق بهم العار و لكن اقذفوه بحجره تقولون له إن أباك قتل عثمان و كره خلافة الخلفاء من قبله. فبعث إليه معاوية فجاءه رسوله فقال إن أمير المؤمنين يدعوك. قال من عنده فسماهم له فقال الحسن ع ما لهم خر عليهم السقف من فوقهم و أتاهم العذاب من حيث لا يشعرون ثم قال يا جارية ابغيني ثيابي اللهم إني أعوذ بك من

(7/249)


شرورهم و أدرأ بك في نحورهم و أستعين بك عليهم فاكفنيهم كيف شئت و أنى شئت بحول منك و قوة يا أرحم الراحمين ثم قام فلما دخل على معاوية أعظمه و أكرمه و أجلسه إلى جانبه و قد ارتاد القوم و خطروا خطران الفحول بغيا في أنفسهم و علوا ثم قال يا أبا محمد إن هؤلاء بعثوا إليك و عصوني.
فقال الحسن ع سبحان الله الدار دارك و الإذن فيها إليك و الله إن كنت أجبتهم إلى ما أرادوا و ما في أنفسهم إني لأستحيي لك من الفحش و إن كانوا غلبوك على رأيك إني لأستحيي لك من الضعف فأيهما تقرر و أيهما تنكر أما إني شرح نهج البلاغة ج : 6 ص : 287لو علمت بمكانهم جئت معي بمثلهم من بني عبد المطلب و ما لي أن أكون مستوحشا منك و لا منهم إن وليي الله و هو يتولى الصالحين

(7/250)


فقال معاوية يا هذا إني كرهت أن أدعوك و لكن هؤلاء حملوني على ذلك مع كراهتي له و إن لك منهم النصف و مني و إنما دعوناك لنقررك أن عثمان قتل مظلوما و أن أباك قتله فاستمع منهم ثم أجبهم و لا تمنعك وحدتك و اجتماعهم أن تتكلم بكل لسانك. فتكلم عمرو بن العاص فحمد الله و صلى على رسوله ثم ذكر عليا ع فلم يترك شيئا يعيبه به إلا قاله و قال إنه شتم أبا بكر و كره خلافته و امتنع من بيعته ثم بايعه مكرها و شرك في دم عمر و قتل عثمان ظلما و ادعى من الخلافة ما ليس له. ثم ذكر الفتنة يعيره بها و أضاف إليه مساوئ و قال إنكم يا بني عبد المطلب لم يكن الله ليعطيكم الملك على قتلكم الخلفاء و استحلالكم ما حرم الله من الدماء و حرصكم على الملك و إتيانكم ما لا يحل ثم إنك يا حسن تحدث نفسك أن الخلافة صائرة إليك و ليس عندك عقل ذلك و لا لبه كيف ترى الله سبحانه سلبك عقلك و تركك أحمق قريش يسخر منك و يهزأ بك و ذلك لسوء عمل أبيك و إنما دعوناك لنسبك و أباك فأما أبوك فقد تفرد الله به و كفانا أمره و أما أنت فإنك في أيدينا نختار فيك الخصال و لو قتلناك ما كان علينا إثم من الله و لا عيب من الناس فهل تستطيع أن ترد علينا و تكذبنا فإن كنت ترى أنا كذبنا في شي ء فاردده علينا فيما قلنا و إلا فاعلم أنك و أباك ظالمان ثم تكلم الوليد بن عقبة بن أبي معيط فقال يا بني هاشم إنكم كنتم أخوال عثمان فنعم الولد كان لكن فعرف حقكم و كنتم أصهاره فنعم الصهر كان لكم يكرمكم فكنتم شرح نهج البلاغة ج : 6 ص : 288أول من حسده فقتله أبوك ظلما لا عذر له و لا حجة فكيف ترون الله طلب بدمه و أنزلكم منزلتكم و الله إن بني أمية خير لبني هاشم من بني هاشم لبني أمية و إن معاوية خير لك من نفسك. ثم تكلم عتبة بن أبي سفيان فقال يا حسن كان أبوك شر قريش لقريش أسفكها لدمائها و أقطعها لأرحامها طويل السيف و اللسان يقتل الحي و يعيب الميت و إنك ممن قتل عثمان و نحن قاتلوك به و

(7/251)


أما رجاؤك الخلافة فلست في زندها قادحا و لا في ميزانها راجحا و إنكم يا بني هاشم قتلتم عثمان و إن في الحق أن نقتلك و أخاك به فأما أبوك فقد كفانا الله أمره و أقاد منه و أما أنت فو الله ما علينا لو قتلناك بعثمان إثم و لا عدوان. ثم تكلم المغيرة بن شعبة فشتم عليا و قال و الله ما أعيبه في قضية يخون و لا في حكم يميل و لكنه قتل عثمان ثم سكتوا.
فتكلم الحسن بن علي ع فحمد الله و أثنى عليه و صلى على رسوله ص ثم قال أما بعد يا معاوية فما هؤلاء شتموني و لكنك شتمتني فحشا ألفته و سوء رأي عرفت به و خلقا سيئا ثبت عليه و بغيا علينا عداوة منك لمحمد و أهله و لكن اسمع يا معاوية و اسمعوا فلأقولن فيك و فيهم ما هو دون ما فيكم أنشدكم الله أيها الرهط أ تعلمون أن الذي شتمتموه منذ اليوم صلى القبلتين كلتيهما و أنت يا معاوية بهما كافر تراها ضلالة و تعبد اللات و العزى غواية و أنشدكم الله هل تعلمون أنه بايع البيعتين كلتيهما بيعة الفتح و بيعة الرضوان و أنت يا معاوية بإحداهما كافر و بالأخرى ناكث و أنشدكم الله هل تعلمون أنه أول الناس إيمانا و أنك يا معاوية و أباك شرح نهج البلاغة ج : 6 ص : 289من المؤلفة قلوبهم تسرون الكفر و تظهرون الإسلام و تستمالون بالأموال و أنشدكم الله أ لستم تعلمون أنه كان صاحب راية رسول الله ص يوم بدر و أن راية المشركين كانت مع معاوية و مع أبيه ثم لقيكم يوم أحد و يوم الأحزاب و معه راية رسول الله ص و معك و مع أبيك راية الشرك و في كل ذلك يفتح الله له و يفلج حجته و ينصر دعوته و يصدق حديثه و رسول الله ص في تلك المواطن كلها عنه راض و عليك و على أبيك ساخط و أنشدك الله يا معاوية أ تذكر يوما جاء أبوك على جمل أحمر و أنت تسوقه و أخوك عتبة هذا يقوده فرآكم رسول الله ص فقال اللهم العن الراكب و القائد و السائق أ تنسى يا معاوية الشعر الذي كتبته إلى أبيك لما هم أن يسلم تنهاه عن ذلك

(7/252)


يا صخر لا تسلمن يوما فتفضحنا بعد الذين ببدر أصبحوا فرقاخالي و عمي و عم الأم ثالثهم و حنظل الخير قد أهدى لنا الأرقالا تركنن إلى أمر تكلفنا و الراقصات به في مكة الخرقافالموت أهون من قول العداة لقد حاد ابن حرب عن العزى إذا فرقا
و الله لما أخفيت من أمرك أكبر مما أبديت و أنشدكم الله أيها الرهط أ تعلمون أن عليا حرم الشهوات على نفسه بين أصحاب رسول الله ص فأنزل فيه يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ و أن رسول الله ص بعث أكابر أصحابه إلى بني قريظة فنزلوا من حصنهم فهزموا فبعث عليا بالراية فاستنزلهم على حكم الله و حكم رسوله و فعل في خيبر مثلها شرح نهج البلاغة ج : 6 ص : 290ثم قال يا معاوية أظنك لا تعلم أني أعلم ما دعا به عليك رسول الله ص لما أراد أن يكتب كتابا إلى بني خزيمة فبعث إليك ابن عباس فوجدك تأكل ثم بعثه إليك مرة أخرى فوجدك تأكل فدعا عليك الرسول بجوعك و نهمك إلى أن تموت و أنتم أيها الرهط نشدتكم الله أ لا تعلمون أن رسول الله ص لعن أبا سفيان في سبعة مواطن لا تستطيعون ردها أولها يوم لقي رسول الله ص خارجا من مكة إلى الطائف يدعو ثقيفا إلى الدين فوقع به و سبه و سفهه و شتمه و كذبه و توعده و هم أن يبطش به فلعنه الله و رسوله و صرف عنه و الثانية يوم العير إذ عرض لها رسول الله ص و هي جائية من الشام فطردها أبو سفيان و ساحل بها فلم يظفر المسلمون بها و لعنه رسول الله ص و دعا عليه فكانت وقعة بدر لأجلها و الثالثة يوم أحد حيث وقف تحت الجبل و رسول الله ص في أعلاه و هو ينادي أعل هبل مرارا فلعنه رسول الله ص عشر مرات و لعنه المسلمون و الرابعة يوم جاء بالأحزاب و غطفان و اليهود فلعنه رسول الله و ابتهل و الخامسة يوم جاء أبو سفيان في قريش فصدوا رسول الله ص عن المسجد الحرام و الهدي معكوفا أن يبلغ محله ذلك يوم الحديبية فلعن رسول الله ص أبا سفيان و لعن القادة

(7/253)


و الأتباع و قال ملعونون كلهم و ليس فيهم من يؤمن فقيل يا رسول الله أ فما يرجى الإسلام لأحد منهم فكيف باللعنة فقال لا تصيب اللعنة أحدا من الأتباع و أما القادة فلا يفلح منهم أحد
شرح نهج البلاغة ج : 6 ص : 291و السادسة يوم الجمل الأحمر و السابعة يوم وقفوا لرسول الله ص في العقبة ليستنفروا ناقته و كانوا اثني عشر رجلا منهم أبو سفيان فهذا لك يا معاوية و أما أنت يا ابن العاص فإن أمرك مشترك وضعتك أمك مجهولا من عهر و سفاح فيك أربعة من قريش فغلب عليك جزارها ألأمهم حسبا و أخبثهم منصبا ثم قام أبوك فقال أنا شانئ محمد الأبتر فأنزل الله فيه ما أنزل و قاتلت رسول الله ص في جميع المشاهد و هجوته و آذيته بمكة و كدته كيدك كله و كنت من أشد الناس له تكذيبا و عداوة ثم خرجت تريد النجاشي مع أصحاب السفينة لتأتي بجعفر و أصحابه إلى أهل مكة فلما أخطأك ما رجوت و رجعك الله خائبا و أكذبك واشيا جعلت حدك على صاحبك عمارة بن الوليد فوشيت به إلى النجاشي حسدا لما ارتكب مع حليلتك ففضحك الله و فضح صاحبك فأنت عدو بني هاشم في الجاهلية و الإسلام ثم إنك تعلم و كل هؤلاء الرهط يعلمون أنك هجوت رسول الله ص بسبعين بيتا من الشعر فقال رسول الله ص اللهم إني لا أقول الشعر و لا ينبغي لي اللهم العنه بكل حرف ألف لعنة فعليك إذا من الله ما لا يحصى من اللعن و أما ذكرت من أمر عثمان فأنت سعرت عليه الدنيا نارا ثم حلقت بفلسطين فلما أتاك قتله قلت أنا أبو عبد الله إذا نكأت قرحة أدميتها ثم حبست نفسك إلى معاوية و بعت دينك بدنياه فلسنا نلومك على بغض و لا نعاتبك على ود و بالله شرح نهج البلاغة ج : 6 ص : 292ما نصرت عثمان حيا و لا غضبت له مقتولا ويحك يا ابن العاص أ لست القائل في بني هاشم لما خرجت من مكة إلى النجاشي

(7/254)


تقول ابنتي أين هذا الرحيل و ما السير مني بمستنكرفقلت ذريني فإني امرؤ أريد النجاشي في جعفرلأكويه عنده كية أقيم بها نخوة الأصعرو شانئ أحمد من بينهم و أقولهم فيه بالمنكرو أجري إلى عتبة جاهدا و لو كان كالذهب الأحمرو لا أنثني عن بني هاشم و ما اسطعت في الغيب و المحضرفإن قبل العتب مني له و إلا لويت له مشفري
فهذا جوابك هل سمعته و أما أنت يا وليد فو الله ما ألومك على بغض علي و قد جلدك ثمانين في الخمر و قتل أباك بين يدي رسول الله صبرا و أنت الذي سماه الله الفاسق و سمى عليا المؤمن حيث تفاخرتما فقلت له اسكت يا علي فأنا أشجع منك جنانا و أطول منك لسانا فقال لك علي اسكت يا وليد فأنا مؤمن و أنت فاسق فأنزل الله تعالى في موافقة قوله أَ فَمَنْ كانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كانَ فاسِقاً لا يَسْتَوُونَ ثم أنزل فيك على موافقة قوله أيضا إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا ويحك يا وليد مهما نسيت فلا تنس قول الشاعر فيك و فيه
أنزل الله و الكتاب عزيز في علي و في الوليد قرآنا
شرح نهج البلاغة ج : 6 ص : 293فتبوأ الوليد إذ ذاك فسقا و علي مبوأ إيماناليس من كان مؤمنا عمرك الله كمن كان فاسقا خواناسوف يدعى الوليد بعد قليل و علي إلى الحساب عيانافعلي يجزى بذاك جنانا و وليد يجزى بذاك هوانارب جد لعقبة بن أبان لابس في بلادنا تبانا
و ما أنت و قريش إنما أنت علج من أهل صفورية و أقسم بالله لأنت أكبر في الميلاد و أسن ممن تدعى إليه و أما أنت يا عتبة فو الله ما أنت بحصيف فأجيبك و لا عاقل فأحاورك و أعاتبك و ما عندك خير يرجى و لا شر يتقى و ما عقلك و عقل أمتك إلا سواء و ما يضر عليا لو سببته على رءوس الأشهاد و أما وعيدك إياي بالقتل فهلا قتلت اللحياني إذا وجدته على فراشك أما تستحيي من قول نصر بن حجاج فيك
يا للرجال و حادث الأزمان و لسبة تخزي أبا سفيان نبئت عتبة خانه في عرسه جبس لئيم الأصل من لحيان

(7/255)


و بعد هذا ما أربأ بنفسي عن ذكره لفحشه فكيف يخاف أحد سيفك و لم تقتل فاضحك و كيف ألومك على بغض علي و قد قتل خالك الوليد مبارزة يوم بدر و شرك حمزة في قتل جدك عتبة و أوحدك من أخيك حنظلة في مقام واحد و أما أنت يا مغيرة فلم تكن بخليق أن تقع في هذا و شبهه و إنما مثلك مثل البعوضة إذ قالت للنخلة استمسكي فإني طائرة عنك فقالت النخلة و هل علمت بك واقعة علي فأعلم بك طائرة عني شرح نهج البلاغة ج : 6 ص : 294و الله ما نشعر بعداوتك إيانا و لا اغتممنا إذ علمنا بها و لا يشق علينا كلامك و إن حد الله في الزنا لثابت عليك و لقد درأ عمر عنك حقا الله سائلة عنه و لقد سألت رسول الله ص هل ينظر الرجل إلى المرأة يريد أن يتزوجها فقال لا بأس بذلك يا مغيرة ما لم ينو الزنا لعلمه بأنك زان و أما فخركم علينا بالإمارة فإن الله تعالى يقول وَ إِذا أَرَدْنا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنا مُتْرَفِيها فَفَسَقُوا فِيها فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْناها تَدْمِيراً. ثم قام الحسن فنفض ثوبه و انصرف
فتعلق عمرو بن العاص بثوبه و قال يا أمير المؤمنين قد شهدت قوله في و قذفه أمي بالزنا و أنا مطالب له بحد القذف فقال معاوية خل عنه لا جزاك الله خيرا فتركه فقال معاوية قد أنبأتكم أنه ممن لا تطاق عارضته و نهيتكم أن تسبوه فعصيتموني و الله ما قام حتى أظلم على البيت قوموا عني فلقد فضحكم الله و أخزاكم بترككم الحزم و عدولكم عن رأي الناصح المشفق و الله المستعان
عمرو بن العاص و معاوية

(7/256)


و روى الشعبي قال دخل عمرو بن العاص على معاوية يسأله حاجة و قد كان بلغ معاوية عنه ما كرهه فكره قضاءها و تشاغل فقال عمرو يا معاوية إن السخاء فطنة و اللؤم تغافل و الجفاء ليس من أخلاق المؤمنين فقال معاوية يا عمرو بما ذا تستحق منا قضاء الحوائج العظام فغضب عمرو و قال بأعظم حق و أوجبه إذ كنت في بحر عجاج فلو لا عمرو لغرقت في أقل مائه و أرقه و لكني دفعتك فيه دفعة فصرت في وسطه ثم دفعتك فيه أخرى فصرت في أعلى المواضع منه فمضى حكمك و نفذ أمرك و انطلق شرح نهج البلاغة ج : 6 ص : 295لسانك بعد تلجلجه و أضاء وجهك بعد ظلمته و طمست لك الشمس بالعهن المنفوش و أظلمت لك القمر بالليلة المدلهمة. فتناوم معاوية و أطبق جفنيه مليا فخرج عمرو فاستوى معاوية جالسا و قال لجلسائه أ رأيتم ما خرج من فم ذلك الرجل ما عليه لو عرض ففي التعريض ما يكفي و لكنه جبهني بكلامه و رماني بسموم سهامه. فقال بعض جلسائه يا أمير المؤمنين إن الحوائج لتقضى على ثلاث خصال إما أن يكون السائل لقضاء الحاجة مستحقا فتقضى له بحقه و إما أن يكون السائل لئيما فيصون الشريف نفسه عن لسانه فيقضي حاجته و إما أن يكون المسئول كريما فيقضيها لكرمه صغرت أو كبرت. فقال معاوية لله أبوك ما أحسن ما نطقت و بعث إلى عمرو فأخبره و قضى حاجته و وصله بصلة جليلة فلما أخذها ولى منصرفا فقال معاوية فَإِنْ أُعْطُوا مِنْها رَضُوا وَ إِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْها إِذا هُمْ يَسْخَطُونَ فسمعها عمرو فالتفت إليه مغضبا و قال و الله يا معاوية لا أزال آخذ منك قهرا و لا أطيع لك أمرا و أحفر لك بئرا عميقا إذا وقعت فيه لم تدرك إلا رميما فضحك معاوية فقال ما أريدك يا أبا عبد الله بالكلمة و إنما كانت آية تلوتها من كتاب الله عرضت بقلبي فاصنع ما شئت
عبد الله بن جعفر و عمرو بن العاص في مجلس معاوية

(7/257)


و روى المدائني قال بينا معاوية يوما جالسا عنده عمرو بن العاص إذ قال الآذن قد جاء عبد الله بن جعفر بن أبي طالب فقال عمرو و الله لأسوءنه اليوم فقال معاوية لا تفعل يا أبا عبد الله فإنك لا تنصف منه و لعلك أن تظهر لنا من منقبته ما هو خفي عنا و ما لا نحب أن نعلمه منه. شرح نهج البلاغة ج : 6 ص : 296و غشيهم عبد الله بن جعفر فأدناه معاوية و قربه فمال عمرو إلى بعض جلساء معاوية فنال من علي ع جهارا غير ساتر له و ثلبه ثلبا قبيحا. فالتمع لون عبد الله بن جعفر و اعتراه أفكل حتى أرعدت خصائله ثم نزل عن السرير كالفنيق فقال عمرو مه يا أبا جعفر فقال له عبد الله مه لا أم لك ثم قال
أظن الحلم دل علي قومي و قد يستجهل الرجل الحليم

(7/258)


ثم حسر عن ذراعيه و قال يا معاوية حتام نتجرع غيظك و إلى كم الصبر على مكروه قولك و سيئ أدبك و ذميم أخلاقك هبلتك الهبول أ ما يزجرك ذمام المجالسة عن القذع لجليسك إذا لم تكن لك حرمة من دينك تنهاك عما لا يجوز لك أما و الله لو عطفتك أواصر الأرحام أو حاميت على سهمك من الإسلام ما أرعيت بني الإماء المتك و العبيد الصك أعراض قومك. و ما يجهل موضع الصفوة إلا أهل الجفوة و إنك لتعرف وشائظ قريش و صبوة غرائزها فلا يدعونك تصويب ما فرط من خطئك في سفك دماء المسلمين و محاربة أمير المؤمنين إلى التمادي فيما قد وضح لك الصواب في خلافه فاقصد لمنهج الحق فقد طال عمهك عن سبيل الرشد و خبطك في بحور ظلمة الغي. شرح نهج البلاغة ج : 6 ص : 297فإن أبيت إلا تتابعنا في قبح اختيارك لنفسك فأعفنا من سوء القالة فينا إذا ضمنا و إياك الندي و شأنك و ما تريد إذا خلوت و الله حسيبك فو الله لو لا ما جعل الله لنا في يديك لما أتيناك. ثم قال إنك إن كلفتني ما لم أطق ساءك ما سرك مني من خلق. فقال معاوية يا أبا جعفر أقسمت عليك لتجلسن لعن الله من أخرج ضب صدرك من وجاره محمول لك ما قلت و لك عندنا ما أملت فلو لم يكن محمدك و منصبك لكان خلقك و خلقك شافعين لك إلينا و أنت ابن ذي الجناحين و سيد بني هاشم. فقال عبد الله كلا بل سيد بني هاشم حسن و حسين لا ينازعهما في ذلك أحد. فقال أبا جعفر أقسمت عليك لما ذكرت حاجة لك إلا قضيتها كائنة ما كانت و لو ذهبت بجميع ما أملك فقال أما في هذا المجلس فلا ثم انصرف. فأتبعه معاوية بصره و قال و الله لكأنه رسول الله ص مشيه و خلقه و خلقه و إنه لمن مشكاته و لوددت أنه أخي بنفيس ما أملك. ثم التفت إلى عمرو فقال أبا عبد الله ما تراه منعه من الكلام معك قال ما لا خفاء به عنك قال أظنك تقول إنه هاب جوابك لا و الله و لكنه ازدراك و استحقرك و لم يرك للكلام أهلا أ ما رأيت إقباله علي دونك ذاهبا بنفسه عنك. فقال عمرو فهل لك أن

(7/259)


تسمع ما أعددته لجوابه قال معاوية اذهب إليك أبا عبد الله فلاة حين جواب سائر اليوم. و نهض معاوية و تفرق الناس
شرح نهج البلاغة ج : 6 ص : 298عبد الله بن العباس و رجالات قريش في مجلس معاوية
و روى المدائني أيضا قال وفد عبد الله بن عباس على معاوية مرة فقال معاوية لابنه يزيد و لزياد ابن سمية و عتبة بن أبي سفيان و مروان بن الحكم و عمرو بن العاص و المغيرة بن شعبة و سعيد بن العاص و عبد الرحمن ابن أم الحكم إنه قد طال العهد بعبد الله بن عباس و ما كان شجر بيننا و بينه و بين ابن عمه و لقد كان نصبه للتحكيم فدفع عنه فحركوه على الكلام لنبلغ حقيقة صفته و نقف على كنه معرفته و نعرف ما صرف عنا من شبا حده و زوي عنا من دهاء رأيه فربما وصف المرء بغير ما هو فيه و أعطي من النعت و الاسم ما لا يستحقه. ثم أرسل إلى عبد الله بن عباس فلما دخل و استقر به المجلس ابتدأه ابن أبي سفيان فقال يا ابن عباس ما منع عليا أن يوجه بك حكما فقال أما و الله لو فعل لقرن عمرا بصعبة من الإبل يوجع كفه مراسها و لأذهلت عقله و أجرضته بريقه و قدحت في سويداء قلبه فلم يبرم أمرا و لم ينفض ترابا إلا كنت منه بمرأى و مسمع فإن أنكأه أدميت قواه و إن أدمه فصمت عراه بغرب مقول لا يقل حده و أصالة رأي كمتاح الأجل لا وزر منه أصدع به أديمه و أفل به شبا حده و أشحذ به عزائم المتقين و أزيح به شبه الشاكين. فقال عمرو بن العاص هذا و الله يا أمير المؤمنين نجوم أول الشر و أفول آخر الخير و في حسمه قطع مادته فبادره بالحملة و انتهز منه الفرصة و اردع بالتنكيل به غيره و شرد به من خلفه. فقال ابن عباس يا ابن النابغة ضل و الله عقلك و سفه حلمك و نطق الشيطان على لسانك هلا توليت ذلك بنفسك يوم صفين حين دعيت نزال و تكافح الأبطال شرح نهج البلاغة ج : 6 ص : 299و كثرت الجراح و تقصفت الرماح و برزت إلى أمير المؤمنين مصلولا فانكفأ نحوك بالسيف حاملا فلما رأيت الكواشر من

(7/260)


الموت أعددت حيلة السلامة قبل لقائه و الانكفاء عنه بعد إجابة دعائه فمنحته رجاء النجاة عورتك و كشفت له خوف بأسه سوأتك حذرا أن يصطلمك بسطوته و يلتهمك بحملته ثم أشرت على معاوية كالناصح له بمبارزته و حسنت له التعرض لمكافحته رجاء أن تكتفي مئونته و تعدم صورته فعلم غل صدرك و ما انحنت عليه من النفاق أضلعك و عرف مقر سهمك في غرضك. فاكفف غرب لسانك و اقمع عوراء لفظك فإنك لمن أسد خادر و بحر زاخر إن تبرزت للأسد افترسك و إن عمت في البحر قمسك. فقال مروان بن الحكم يا ابن عباس إنك لتصرف أنيابك و توري نارك كأنك ترجو الغلبة و تؤمل العافية و لو لا حلم أمير المؤمنين عنكم لتناولكم بأقصر أنامله فأوردكم منهلا بعيدا صدره و لعمري لئن سطا بكم ليأخذن بعض حقه منكم و لئن عفا عن جرائركم فقديما ما نسب إلى ذلك. فقال ابن عباس و إنك لتقول ذلك يا عدو الله و طريد رسول الله و المباح دمه و الداخل بين عثمان و رعيته بما حملهم على قطع أوداجه و ركوب أثباجه أما و الله لو طلب معاوية ثأره لأخذك به و لو نظر في أمر عثمان لوجدك أوله و آخره. و أما قولك لي إنك لتصرف أنيابك و توري نارك فسل معاوية و عمرا يخبراك ليلة الهرير كيف ثباتنا للمثلات و استخفافنا بالمعضلات و صدق جلادنا عند المصاولة و صبرنا

(7/261)


لا و تاركا لما وعظهم به بل أتلو عليكم نبأ هذا الإنسان الذي حاله كذا. الشغف بالغين المعجمة جمع شغاف بفتح الشين و أصله غلاف القلب يقال شغفه الحب أي بلغ شغافه و قرئ قَدْ شَغَفَها حُبًّا. و الدهاق المملوءة و يروى دفاقا من دفقت الماء أي صببته. قال و علقة محاقا المحاق ثلاث ليال من آخر الشهر و سميت محاقا لأن القمر يمتحق فيهن أي يخفى و تبطل صورته و إنما جعل العلقة محاقا هاهنا لأنها لم تحصل لها الصورة الإنسانية بعد فكانت ممحوة ممحوة ممحوقة. شرح نهج البلاغة ج : 6 ص : 271و اليافع الغلام المرتفع أيفع و هو يافع و هذا من النوادر و غلام يفع و يفعة و غلمان أيفاع و يفعة أيضا. قوله و خبط سادرا خبط البعير إذا ضرب بيديه إلى الأرض و مشى لا يتوقى شيئا. و السادر المتحير و السادر أيضا الذي لا يهتم و لا يبالي ما صنع و الموضع يحتمل كلا التفسيرين. و الماتح الذي يستقي الماء من البئر و هو على رأسها و المائح الذي نزل البئر إذا قل ماؤها فيملأ الدلاء و سئل بعض أئمة اللغة عن الفرق بين الماتح و المائح فقال اعتبر نقطتي الإعجام فالأعلى للأعلى و الأدنى للأدنى و الغرب الدلو العظيمة و الكدح شدة السعي و الحركة قال تعالى يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ إِنَّكَ كادِحٌ إِلى رَبِّكَ كَدْحاً. قوله و بدوات أي ما يخطر له من آرائه التي تختلف فيها دواعيه فتقدم و تحجم و مات غريرا أي شابا و يمكن أن يراد به أنه غير مجرب للأمور. و الهفوة الزلة هفا يهفو لم يفد عوضا أي لم يكتسب. و غبر جماحة بقاياه قال أبو كبير الهذلي
و مبرإ من كل غبر حيضة و فساد مرضعة و داء مغيل

(7/262)


و الجماح الشرة و ارتكاب الهوى و سنن مراحه السنن الطريقة و المراح شدة الفرج و النشاط. قوله فظل سادرا السادر هاهنا غير السادر الأول لأنه هاهنا المغمى عليه كأنه شرح نهج البلاغة ج : 6 ص : 272سكران و أصله من سدر البعير من شدة الحر و كثرة الطلاء بالقطران فيكون كالنائم لا يحس و مراده ع هاهنا أنه بدأ به المرض و لادمة للصدر ضاربة له و التدام النساء ضربهن الصدور عند النياحة سكرة ملهثة تجعل الإنسان لاهثا لشدتها لهث يلهث لهثانا و لهاثا و يروى ملهية بالياء أي تلهي الإنسان و تشغله. و الكارثة فاعلة من كرثه الغم يكرثه بالضم أي اشتد عليه و بلغ منه غاية المشقة. الجذبة جذب الملك الروح من الجسد أو جذب الإنسان إذا احتضر ليسجى. و السوقة من سياق الروح عند الموت و المبلس الذي ييئس من رحمة الله و منه سمي إبليس و الإبلاس أيضا الانكسار و الحزن و السلس السهل المقادة و الأعواد خشب الجنازة و رجيع وصب الرجيع المعنى الكال و الوصب الوجع وصب الرجل يوصب فهو واصب و أوصبه الله فهو موصب و الموصب بالتشديد الكثير الأوجاع و النضو الهزيل و حشدة الإخوان جمع حاشد و هو المتأهب المستعد و دار غربته قبره و كذلك منقطع زورته لأن الزيارة تنقطع عنده. و مفرد وحشته نحو ذلك لانفراده بعمله و استيحاش الناس منه حتى إذا انصرف المشيع و هو الخارج مع جنازته أقعد في حفرته هذا تصريح بعذاب القبر و سنذكر ما يصلح ذكره في هذا الموضع. و النجي المناجي و نزول الحميم و تصلية الجحيم من الألفاظ الشريفة القرآنية. ثم نفى ع أن يكون في العذاب فتور يجد الإنسان معه راحة أو سكون يزيح عنه الألم أي يزيله أو أن الإنسان يجد في نفسه قوة تحجز بينه و بين الألم أي تمنع و يموت موتا ناجزا معجلا فيستريح أو ينام فيسلو وقت نومه عما أصابه من الألم في اليقظة كما في دار الدنيا. شرح نهج البلاغة ج : 6 ص : 273ثم قال بين أطوار الموتات و هذا في ظاهره متناقض لأنه نفى الموت

(7/263)


مطلقا ثم قال بين أطوار الموتات و الجواب أنه أراد بالموتات الآلام العظيمة فسماها موتات لأن العرب تسمي المشقة العظيمة موتا كما قال
إنما الميت ميت الأحياء
و يقولون الفقر الموت الأحمر و استعمالهم مثل ذلك كثير جدا. ثم قال إنا بالله عائذون عذت بفلان و استعذت به أي التجأت إليه
فصل في ذكر القبر و سؤال منكر و نكير
و اعلم أن لقاضي القضاة في كتاب طبقات المعتزلة في باب القبر و سؤال منكر و نكير كلاما أنا أورد هاهنا بعضه قال رحمه الله تعالى إن عذاب القبر إنما أنكره ضرار بن عمرو و لما كان ضرار من أصحاب واصل بن عطاء ظن كثير من الناس أن ذلك مما أنكرته المعتزلة و ليس الأمر كذلك بل المعتزلة رجلان أحدهما يجوز عذاب القبر و لا يقطع به و هم الأقلون و الآخر يقطع على ذلك و هم أكثر أصحابنا لظهور الأخبار الواردة فيه و إنما تنكر المعتزلة قول طائفة من الجهلة إنهم يعذبون و هم موتى لأن العقل يمنع من ذلك و إذا كان الإنسان مع قرب العهد بموته و لما يدفن يعلمون أنه لا يسمع و لا يبصر و لا يدرك و لا يألم و لا يلتذ فكيف يجوز عليه ذلك و هو ميت في قبره و ما روي من أن الموتى يسمعون لا يصح إلا أن يراد به أن الله تعالى أحياهم و قوى حاسة سمعهم فسمعوا و هم أحياء. شرح نهج البلاغة ج : 6 ص : 274قال رحمه الله تعالى و أنكر أيضا مشايخنا أن يكون عذاب القبر دائما في كل حال لأن الأخبار إنما وردت بذلك في الجملة فالذي يقال به هو قدر ما تقتضيه الأخبار دون ما زاد عليه مما لا دليل عليه و لذلك لسنا نوقت في التعذيب وقتا و إن كان الأقرب في الأخبار أنها الأوقات المقارنة للدفن و إن كان لا نعنيها بأعيانها. هكذا قال قاضي القضاة و الذي أعرفه أنا من مذهب كثير من شيوخنا قبل قاضي القضاة أن الأغلب أن يكون عذاب القبر بين النفختين. ثم إن قاضي القضاة سأل نفسه فقال إذا كانت الآخرة هي وقت المجازاة فكيف يعذب في القبر في أيام الدنيا. و أجاب بأن

(7/264)


القليل من العقاب المستحق قد يجوز أن يجعله الله في الدنيا لبعض المصالح كما فعل في تعجيل إقامة الحدود على من يستحقها فلا يمنع منه تعالى أن يفعل ذلك بالإنسان إذا كان من أهل النار. ثم سأل نفسه فقال إذا كان بالموت قد زال عنه التكليف فكيف يقولون يكون ذلك من مصالحه. و أجاب بأنا لم نقل إن ذلك من مصالحه و هو ميت و إنما نقول إنه مصلحة أن نعلم في الدنيا ذلك من حال الموتى لأنه إذا تصور أنه مات عوجل بضرب من العقاب في القبر كان أقرب إلى أن ينصرف عن كثير من المعاصي و قد يجوز أن يكون ذلك لطفا للملائكة الذين يتولون هذا التعذيب. فأما القول في منكر و نكير فإنه سأل نفسه رحمه الله تعالى و قال كيف يجوز أن يسموا بأسماء الذم و عندكم أن الملائكة أفضل من الأنبياء. شرح نهج البلاغة ج : 6 ص : 275و أجاب فقال إن التسمية إذا كانت لقبا لم يقع بها ذم لأن الذم إنما يقع لفائدة الاسم و الألقاب كالإشارات لا فائدة تحتها و لذا يلقب الرجل المسلم بظالم و كلب و نحو ذلك فيجوز أن يكون هذان الاسمان من باب الألقاب و يجوز أن يسميا بذلك من حيث يهجمان على الإنسان عند إكمال الله تعالى عقله على وجه ينكره و يرتاع منه فسميا منكرا و نكيرا. قال و قد روي في المساءلة في القبر أخبار كثيرة و كل ذلك مما لا قبح فيه بل يجوز أن يكون من مصالح المكلفين فلا يصح المنع عنه. و جملة الأمر أن كل ما ثبت من ذلك بالتواتر و الإجماع و ليس بمستحيل في القدرة و لا قبيح في الحكمة يجب القول به و ما عداه مما وردت به آثار و أخبار آحاد يجب أن يجوز و يقال إنه مظنون ليس بمعلوم إذا لم يمنع منه الدليل

(7/265)


عِبَادَ اللَّهِ أَيْنَ الَّذِينَ عُمِّرُوا فَنَعِمُوا وَ عُلِّمُوا فَفَهِمُوا وَ أُنْظِرُوا فَلَهَوْا وَ سُلِّمُوا فَنَسُوا أُمْهِلُوا طَوِيلًا وَ مُنِحُوا جَمِيلًا وَ حُذِّرُوا أَلِيماً وَ وُعِدُوا جَسِيماً احْذَرُوا الذُّنُوبَ الْمُوَرِّطَةَ وَ الْعُيُوبَ الْمُسْخِطَةَ أُولِي الْأَبْصَارِ وَ الْأَسْمَاعِ وَ الْعَافِيَةِ وَ الْمَتَاعِ هَلْ مِنْ مَنَاصٍ أَوْ خَلَاصٍ أَوْ مَعَاذٍ أَوْ مَلَاذٍ أَوْ فِرَارٍ أَوْ مَحَارٍ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ أَمْ أَيْنَ تُصْرَفُونَ أَمْ بِمَا ذَا تَغْتَرُّونَ وَ إِنَّمَا حَظُّ أَحَدِكُمْ مِنَ الْأَرْضِ ذَاتِ الطُّوْلِ وَ الْعَرْضِ قِيدُ قَدِّهِ مُنْعَفِراً عَلَى خَدِّهِ الآْنَ عِبَادَ اللَّهِ وَ الْخِنَاقُ مُهْمَلٌ وَ الرُّوحُ مُرْسَلٌ فِي فَيْنَةِ الْإِرْشَادِ وَ رَاحَةِ شرح نهج البلاغة ج : 6 ص : 276الْأَجْسَادِ وَ بَاحَةِ الِاحْتِشَادِ وَ مَهَلِ الْبَقِيَّةِ وَ أَنْفِ الْمَشِيَّةِ وَ إِنْظَارَ التَّوْبَةِ وَ انْفِسَاحِ الْحَوْبَةِ قَبْلَ الضَّنْكِ وَ الْمَضِيقِ وَ الرَّوْعِ وَ الزُّهُوقِ وَ قَبْلَ قُدُومِ الْغَائِبِ الْمُنْتَظَرِ وَ أَخْذَةِ الْعَزِيزِ الْمُقْتَدِرِ
قال الرضي رحمه الله و في الخبر أنه ع لما خطب بهذه الخطبة اقشعرت لها الجلود و بكت العيون و رجفت القلوب و من الناس من يسمي هذه الخطبة الغراء
نعم الرجل ينعم ضد قولك بئس و جاء شاذا نعم ينعم بالكسر و أنظروا أمهلوا و الذنوب المورطة التي تلقي أصحابها في الورطة و هي الهلاك قال رؤبة
فأصبحوا في ورطة الأوراط

(7/266)


و أصله أرض مطمئنة لا طريق فيها و قد أورطت زيدا و ورطته توريطا فتورط ثم قال ع أولي الأبصار و الأسماع ناداهم نداء ثانيا بعد النداء الذي في أول الفصل و هو قوله عباد الله فقال يا من منحهم الله أبصارا و أسماعا و أعطاهم عافية و متعهم متاعا هل من مناص و هو الملجأ و المفر يقال ناص عن قرنه مناصا أي فر و راوغ قال سبحانه وَ لاتَ حِينَ مَناصٍ. شرح نهج البلاغة ج : 6 ص : 277و المحار المرجع من حار يحور أي رجع قال تعالى إِنَّهُ ظَنَّ أَنْ لَنْ يَحُورَ. و يؤفكون يقلبون أفكه يأفكه عن كذا قلبه عنه إلى غيره و مثله يصرفون. و قيد قده مقدار قده يقال قرب منه قيد رمح و قاد رمح و المراد هاهنا هو القبر لأنه بمقدار قامة الإنسان. و المنعفر الذي قد لامس العفر و هو التراب. ثم قال ع الآن و الخناق مهمل تقديره اعملوا الآن و أنتم مخلون متمكنون لم يعقد الحبل في أعناقكم و لم تقبض أرواحكم. و الروح يذكر و يؤنث و الفينة الوقت و يروى و فينة الارتياد و هو الطلب. و أنف المشية أول أوقات الإرادة و الاختيار. قوله و انفساح الحوبة أي سعة وقت الحاجة و الحوبة الحاجة و الأرب قال الفرزدق
فهب لي خنيسا و اتخذ فيه منة لحوبة أم ما يسوغ شرابها
و الغائب المنتظر هو الموت. قال شيخنا أبو عثمان رحمه الله تعالى حدثني ثمامة قال سمعت جعفر بن يحيى و كان من أبلغ الناس و أفصحهم يقول الكتابة ضم اللفظة إلى أختها أ لم تسمعوا قول شاعر لشاعر و قد تفاخرا أنا أشعر منك لأني أقول البيت و أخاه و أنت تقول البيت و ابن عمه ثم قال و ناهيك حسنا بقول علي بن أبي طالب ع هل من مناص أو خلاص أو معاذ أو ملاذ أو فرار أو محار. شرح نهج البلاغة ج : 6 ص : 278
قال أبو عثمان و كان جعفر يعجب أيضا بقول علي ع أين من جد و اجتهد و جمع و احتشد و بنى فشيد و فرش فمهد و زخرف فنجد

(7/267)


قال أ لا ترى أن كل لفظة منها آخذة بعنق قرينتها جاذبة إياها إلى نفسها دالة عليها بذاتها قال أبو عثمان فكان جعفر يسميه فصيح قريش. و اعلم أننا لا يتخالجنا الشك في أنه ع أفصح من كل ناطق بلغة العرب من الأولين و الآخرين إلا من كلام الله سبحانه و كلام رسول الله ص و ذلك لأن فضيلة الخطيب و الكاتب في خطابته و كتابته تعتمد على أمرين هما مفردات الألفاظ و مركباتها. أما المفردات فأن تكون سهلة سلسة غير وحشية و لا معقدة و ألفاظه ع كلها كذلك فأما المركبات فحسن المعنى و سرعة وصوله إلى الأفهام و اشتماله على الصفات التي باعتبارها فضل بعض الكلام على بعض و تلك الصفات هي الصناعة التي سماها المتأخرون البديع من المقابلة و المطابقة و حسن التقسيم و رد آخر الكلام على صدره و الترصيع و التسهيم و التوشيح و المماثلة و الاستعارة و لطافة استعمال المجاز و الموازنة و التكافؤ و التسميط و المشاكلة. و لا شبهة أن هذه الصفات كلها موجودة في خطبه و كتبه مبثوثة متفرقة في فرش كلامه ع و ليس يوجد هذان الأمران في كلام أحد غيره فإن كان قد تعملها و أفكر فيها و أعمل رويته في رصفها و نثرها فلقد أتى بالعجب العجاب و وجب شرح نهج البلاغة ج : 6 ص : 279أن يكون إمام الناس كلهم في ذلك لأنه ابتكره و لم يعرف من قبله و إن كان اقتضبها ابتداء و فاضت على لسانه مرتجلة و جاش بها طبعه بديهة من غير روية و لا اعتمال فأعجب و أعجب. و على كلا الأمرين فلقد جاء مجليا و الفصحاء تنقطع أنفاسهم على أثره و بحق ما قال معاوية لمحقن الضبي لما قال له جئتك من عند أعيا الناس يا ابن اللخناء أ لعلي تقول هذا و هل سن الفصاحة لقريش غيره. و اعلم أن تكلف الاستدلال على أن الشمس مضيئة يتعب و صاحبه منسوب إلى السفه و ليس جاحد الأمور المعلومة علما ضروريا بأشد سفها ممن رام الاستدلال بالأدلة النظرية عليها

(7/268)


شرح نهج البلاغة ج : 6 ص : 83280- و من كلام له ع في ذكر عمرو بن العاص
عَجَباً لِابْنِ النَّابِغَةِ يَزْعُمُ لِأَهْلِ الشَّامِ أَنَّ فِيَّ دُعَابَةٌ وَ أَنِّي امْرُؤٌ تِلْعَابَةٌ أُعَافِسُ وَ أُمَارِسُ لَقَدْ قَالَ بَاطِلًا وَ نَطَقَ آثِماً أَمَا وَ شَرُّ الْقَوْلِ الْكَذِبُ إِنَّهُ لَيَقُولُ فَيِكْذِبُ وَ يَعِدُ فَيُخْلِفُ وَ يُسْأَلُ فَيَبْخَلُ وَ يَسْأَلُ فَيُلْحِفُ وَ يَخُونُ الْعَهْدَ وَ يَقْطَعُ الْإِلَّ فَإِذَا كَانَ عِنْدَ الْحَرْبِ فَأَيُّ زَاجِرٍ وَ آمِرٍ هُوَ مَا لَمْ تَأْخُذِ السُّيُوفُ مَآخِذَهَا فَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَانَ أَكْبَرُ ]أَكْبَرَ[ مَكِيدَتِهِ أَنْ يَمْنَحَ الْقَوْمَ سَبَّتَهُ أَمَا وَ اللَّهِ إِنِّي لَيَمْنَعُنِي مِنَ اللَّعِبِ ذِكْرُ الْمَوْتِ وَ إِنَّهُ لَيَمْنَعُهُ مِنْ قَوْلِ الْحَقِّ نِسْيَانُ الآْخِرَةِ وَ إِنَّهُ لَمْ يُبَايِعْ مُعَاوِيَةَ حَتَّى شَرَطَ لَهُ أَنْ يُؤْتِيَهُ أَتِيَّةً وَ يَرْضَخَ لَهُ عَلَى تَرْكِ الدِّينِ رَضِيخَةً

(7/269)


الدعابة المزاح دعب الرجل بالفتح و رجل تلعابة بكسر التاء كثير اللعب و التلعاب بالفتح مصدر لعب. و المعافسة المعالجة و المصارعة و منه الحديث عافسنا النساء و الممارسة نحوه. يقول ع إن عمرا يقدح في عند أهل الشام بالدعابة و اللعب و أني كثير شرح نهج البلاغة ج : 6 ص : 281الممازحة حتى أني ألاعب النساء و أغازلهن فعل المترف الفارغ القلب الذي تتقضى أوقاته بملاذ نفسه. و يلحف يلح في السؤال قال تعالى لا يَسْئَلُونَ النَّاسَ إِلْحافاً و منه المثل ليس للملحف مثل الرد. و الإل العهد و لما اختلف اللفظان حسن التقسيم بهما و إن كان المعنى واحدا. و معنى قوله ما لم تأخذ السيوف مآخذها أي ما لم تبلغ الحرب إلى أن تخالط الرءوس أي هو ملي ء بالتحريض و الإغراء قبل أن تلتحم الحرب فإذا التحمت و اشتدت فلا يمكث و فعل فعلته التي فعل. و السبة الاست و سبه يسبه طعنه في السبة. و يجوز رفع أكبر و نصبه فإن رفعت فهو الاسم و إن نصبت فهو الخبر. و الأتية العطية و الإيتاء الإعطاء و رضخ له رضخا أعطاه عطاء بالكثير و هي الرضيخة لما يعطى
نسب عمرو بن العاص و طرف من أخباره

(7/270)


و نحن نذكر طرفا من نسب عمرو بن العاص و أخباره إلى حين وفاته إن شاء الله. هو عمرو بن العاص بن وائل بن هاشم بن سعيد بن سهم بن عمرو بن هصيص بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر بن مالك بن النضر يكنى أبا عبد الله و يقال أبو محمد. شرح نهج البلاغة ج : 6 ص : 282أبوه العاص بن وائل أحد المستهزءين برسول الله ص و المكاشفين له بالعداوة و الأذى و فيه و في أصحابه أنزل قوله تعالى إِنَّا كَفَيْناكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ. و يلقب العاص بن وائل في الإسلام بالأبتر لأنه قال لقريش سيموت هذا الأبتر غدا فينقطع ذكره يعني رسول الله ص لأنه لم يكن له ص ولد ذكر يعقب منه فأنزل الله سبحانه إِنَّ شانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ. و كان عمرو أحد من يؤذي رسول الله ص بمكة و يشتمه و يضع في طريقه الحجارة لأنه كان ص يخرج من منزله ليلا فيطوف بالكعبة و كان عمرو يجعل له الحجارة في مسلكه ليعثر بها و هو أحد القوم الذين خرجوا إلى زينب ابنة رسول الله ص لما خرجت مهاجرة من مكة إلى المدينة فروعوها و قرعوا هودجها بكعوب الرماح حتى أجهضت جنينا ميتا من أبي العاص بن الربيع بعلها فلما بلغ ذلك رسول الله ص نال منه و شق عليه مشقة شديدة و لعنهم روى ذلك الواقدي. و روى الواقدي أيضا و غيره من أهل الحديث أن عمرو بن العاص هجا رسول الله ص هجاء كثيرا كان يعلمه صبيان مكة فينشدونه و يصيحون برسول الله إذا مر بهم رافعين أصواتهم بذلك الهجاء
فقال رسول الله ص و هو يصلي بالحجر اللهم إن عمرو بن العاص هجاني و لست بشاعر فالعنه بعدد ما هجاني

(7/271)


و روى أهل الحديث أن النضر بن الحارث و عقبة بن أبي معيط و عمرو بن العاص عهدوا إلى سلي جمل فرفعوه بينهم و وضعوه على رأس رسول الله ص و هو ساجد بفناء الكعبة فسال عليه فصبر و لم يرفع رأسه و بكى في سجوده و دعا عليهم شرح نهج البلاغة ج : 6 ص : 283فجاءت ابنته فاطمة ع و هي باكية فاحتضنت ذلك السلا فرفعته عنه فألقته و قامت على رأسه تبكي فرفع رأسه ص
و قال اللهم عليك بقريش قالها ثلاثا ثم قال رافعا صوته إني مظلوم فانتصر قالها ثلاثا
ثم قام فدخل منزله و ذلك بعد وفاة عمه أبي طالب بشهرين. و لشدة عداوة عمرو بن العاص لرسول الله ص أرسله أهل مكة إلى النجاشي ليزهده في الدين و ليطرد عن بلاده مهاجرة الحبشة و ليقتل جعفر بن أبي طالب عنده إن أمكنه قتله فكان منه في أمر جعفر هناك ما هو مذكور مشهور في السير و سنذكر بعضه. فأما النابغة فقد ذكر الزمخشري في كتاب ربيع الأبرار قال كانت النابغة أم عمرو بن العاص أمة لرجل من عنزة فسبيت فاشتراها عبد الله بن جدعان التيمي بمكة فكانت بغيا ثم أعتقها فوقع عليها أبو لهب بن عبد المطلب و أمية بن خلف الجمحي و هشام بن المغيرة المخزومي و أبو سفيان بن حرب و العاص بن وائل السهمي في طهر واحد فولدت عمرا فادعاه كلهم فحكمت أمه فيه فقالت هو من العاص بن وائل و ذاك لأن العاص بن وائل كان ينفق عليها كثيرا قالوا و كان أشبه بأبي سفيان و في ذلك يقول أبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب في عمرو بن العاص
أبوك أبو سفيان لا شك قد بدت لنا فيك منه بينات الشمائل

(7/272)


و قال أبو عمر بن عبد البر صاحب كتاب الإستيعاب كان اسمها سلمى و تلقبت بالنابغة بنت حرملة من بني جلان بن عنزة بن أسد بن ربيعة بن نزار شرح نهج البلاغة ج : 6 ص : 284أصابها سباء فصارت إلى العاص بن وائل بعد جماعة من قريش فأولدها عمرا. قال أبو عمر يقال إنه جعل لرجل ألف درهم على أن يسأل عمرا و هو على المنبر من أمه فسأله فقال أمي سلمى بنت حرملة تلقب بالنابغة من بني عنزة ثم أحد بني جلان و أصابتها راح العرب فبيعت بعكاظ فاشتراها الفاكه بن المغيرة ثم اشتراها منه عبد الله بن جدعان ثم صارت إلى العاص بن وائل فولدت فأنجبت فإن كان جعل لك شي ء فخذ. و قال المبرد في كتاب الكامل اسمها ليلى و ذكر هذا الخبر و قال إنها لم تكن في موضع مرضي قال المبرد و قال المنذر بن الجارود مرة لعمرو بن العاص أي رجل أنت لو لا أن أمك أمك فقال إني أحمد الله إليك لقد فكرت البارحة فيها فأقبلت أنقلها في قبائل العرب ممن أحب أن تكون منها فما خطرت لي عبد القيس على بال. و قال المبرد و دخل عمرو بن العاص مكة فرأى قوما من قريش قد جلسوا حلقة فلما رأوه رمقوه بأبصارهم فعدل إليهم فقال أحسبكم كنتم في شي ء من ذكري قالوا أجل كنا نمثل بينك و بين أخيك هشام بن العاص أيكما أفضل فقال عمرو إن لهشام علي أربعة أمه بنت هشام بن المغيرة و أمي من قد عرفتم و كان أحب إلى أبيه مني و قد علمتم معرفة الوالد بولده و أسلم قبلي و استشهد و بقيت. و روى أبو عبيدة معمر بن المثنى في كتاب الأنساب أن عمرا اختصم فيه يوم شرح نهج البلاغة ج : 6 ص : 285ولادته رجلان أبو سفيان بن حرب و العاص بن وائل فقيل لتحكم أمه فقالت أمه إنه من العاص بن وائل فقال أبو سفيان أما إني لا أشك أني وضعته في رحم أمه فأبت إلا العاص. فقيل لها أبو سفيان أشرف نسبا فقالت إن العاص بن وائل كثير النفقة علي و أبو سفيان شحيح. ففي ذلك يقول حسان بن ثابت لعمرو بن العاص حيث هجاه مكافئا له عن هجاء رسول

(7/273)


الله ص
أبوك أبو سفيان لا شك قد بدت لنا فيك منه بينات الدلائل ففاخر به إما فخرت و لا تكن تفاخر بالعاص الهجين بن وائل و إن التي في ذاك يا عمرو حكمت فقالت رجاء عند ذاك لنائل من العاص عمرو تخبر الناس كلما تجمعت الأقوام عند المحافل
مفاخرة بين الحسن بن علي و رجالات من قريش
و روى الزبير بن بكار في كتاب المفاخرات قال اجتمع عند معاوية عمرو بن العاص و الوليد بن عقبة بن أبي معيط و عتبة بن أبي سفيان بن حرب و المغيرة بن شعبة و قد كان بلغهم عن الحسن بن علي ع قوارص و بلغه عنهم مثل ذلك فقالوا يا أمير المؤمنين إن الحسن قد أحيا أباه و ذكره و قال فصدق و أمر فأطيع و خفقت له النعال و إن ذلك لرافعه إلى ما هو أعظم منه و لا يزال يبلغنا عنه ما يسوءنا. قال معاوية فما تريدون قالوا ابعث عليه فليحضر لنسبه و نسب أباه و نعيره و نوبخه و نخبره أن أباه قتل عثمان و نقرره بذلك و لا يستطيع أن يغير علينا شيئا من ذلك. شرح نهج البلاغة ج : 6 ص : 286قال معاوية إني لا أرى ذلك و لا أفعله قالوا عزمنا عليك يا أمير المؤمنين لتفعلن فقال ويحكم لا تفعلوا فو الله ما رأيته قط جالسا عندي إلا خفت مقامه و عيبه لي قالوا ابعث إليه على كل حال قال إن بعثت إليه لأنصفنه منكم. فقال عمرو بن العاص أ تخشى أن يأتي باطله على حقنا أو يربي قوله على قولنا قال معاوية أما إني إن بعثت إليه لآمرنه أن يتكلم بلسانه كله قالوا مره بذلك. قال أما إذ عصيتموني و بعثتم إليه و أبيتم إلا ذلك فلا تمرضوا له في القول و اعلموا أنهم أهل بيت لا يعيبهم العائب و لا يلصق بهم العار و لكن اقذفوه بحجره تقولون له إن أباك قتل عثمان و كره خلافة الخلفاء من قبله. فبعث إليه معاوية فجاءه رسوله فقال إن أمير المؤمنين يدعوك. قال من عنده فسماهم له فقال الحسن ع ما لهم خر عليهم السقف من فوقهم و أتاهم العذاب من حيث لا يشعرون ثم قال يا جارية ابغيني ثيابي اللهم إني أعوذ بك من

(7/274)


شرورهم و أدرأ بك في نحورهم و أستعين بك عليهم فاكفنيهم كيف شئت و أنى شئت بحول منك و قوة يا أرحم الراحمين ثم قام فلما دخل على معاوية أعظمه و أكرمه و أجلسه إلى جانبه و قد ارتاد القوم و خطروا خطران الفحول بغيا في أنفسهم و علوا ثم قال يا أبا محمد إن هؤلاء بعثوا إليك و عصوني.
فقال الحسن ع سبحان الله الدار دارك و الإذن فيها إليك و الله إن كنت أجبتهم إلى ما أرادوا و ما في أنفسهم إني لأستحيي لك من الفحش و إن كانوا غلبوك على رأيك إني لأستحيي لك من الضعف فأيهما تقرر و أيهما تنكر أما إني شرح نهج البلاغة ج : 6 ص : 287لو علمت بمكانهم جئت معي بمثلهم من بني عبد المطلب و ما لي أن أكون مستوحشا منك و لا منهم إن وليي الله و هو يتولى الصالحين

(7/275)


فقال معاوية يا هذا إني كرهت أن أدعوك و لكن هؤلاء حملوني على ذلك مع كراهتي له و إن لك منهم النصف و مني و إنما دعوناك لنقررك أن عثمان قتل مظلوما و أن أباك قتله فاستمع منهم ثم أجبهم و لا تمنعك وحدتك و اجتماعهم أن تتكلم بكل لسانك. فتكلم عمرو بن العاص فحمد الله و صلى على رسوله ثم ذكر عليا ع فلم يترك شيئا يعيبه به إلا قاله و قال إنه شتم أبا بكر و كره خلافته و امتنع من بيعته ثم بايعه مكرها و شرك في دم عمر و قتل عثمان ظلما و ادعى من الخلافة ما ليس له. ثم ذكر الفتنة يعيره بها و أضاف إليه مساوئ و قال إنكم يا بني عبد المطلب لم يكن الله ليعطيكم الملك على قتلكم الخلفاء و استحلالكم ما حرم الله من الدماء و حرصكم على الملك و إتيانكم ما لا يحل ثم إنك يا حسن تحدث نفسك أن الخلافة صائرة إليك و ليس عندك عقل ذلك و لا لبه كيف ترى الله سبحانه سلبك عقلك و تركك أحمق قريش يسخر منك و يهزأ بك و ذلك لسوء عمل أبيك و إنما دعوناك لنسبك و أباك فأما أبوك فقد تفرد الله به و كفانا أمره و أما أنت فإنك في أيدينا نختار فيك الخصال و لو قتلناك ما كان علينا إثم من الله و لا عيب من الناس فهل تستطيع أن ترد علينا و تكذبنا فإن كنت ترى أنا كذبنا في شي ء فاردده علينا فيما قلنا و إلا فاعلم أنك و أباك ظالمان ثم تكلم الوليد بن عقبة بن أبي معيط فقال يا بني هاشم إنكم كنتم أخوال عثمان فنعم الولد كان لكن فعرف حقكم و كنتم أصهاره فنعم الصهر كان لكم يكرمكم فكنتم شرح نهج البلاغة ج : 6 ص : 288أول من حسده فقتله أبوك ظلما لا عذر له و لا حجة فكيف ترون الله طلب بدمه و أنزلكم منزلتكم و الله إن بني أمية خير لبني هاشم من بني هاشم لبني أمية و إن معاوية خير لك من نفسك. ثم تكلم عتبة بن أبي سفيان فقال يا حسن كان أبوك شر قريش لقريش أسفكها لدمائها و أقطعها لأرحامها طويل السيف و اللسان يقتل الحي و يعيب الميت و إنك ممن قتل عثمان و نحن قاتلوك به و

(7/276)


أما رجاؤك الخلافة فلست في زندها قادحا و لا في ميزانها راجحا و إنكم يا بني هاشم قتلتم عثمان و إن في الحق أن نقتلك و أخاك به فأما أبوك فقد كفانا الله أمره و أقاد منه و أما أنت فو الله ما علينا لو قتلناك بعثمان إثم و لا عدوان. ثم تكلم المغيرة بن شعبة فشتم عليا و قال و الله ما أعيبه في قضية يخون و لا في حكم يميل و لكنه قتل عثمان ثم سكتوا.
فتكلم الحسن بن علي ع فحمد الله و أثنى عليه و صلى على رسوله ص ثم قال أما بعد يا معاوية فما هؤلاء شتموني و لكنك شتمتني فحشا ألفته و سوء رأي عرفت به و خلقا سيئا ثبت عليه و بغيا علينا عداوة منك لمحمد و أهله و لكن اسمع يا معاوية و اسمعوا فلأقولن فيك و فيهم ما هو دون ما فيكم أنشدكم الله أيها الرهط أ تعلمون أن الذي شتمتموه منذ اليوم صلى القبلتين كلتيهما و أنت يا معاوية بهما كافر تراها ضلالة و تعبد اللات و العزى غواية و أنشدكم الله هل تعلمون أنه بايع البيعتين كلتيهما بيعة الفتح و بيعة الرضوان و أنت يا معاوية بإحداهما كافر و بالأخرى ناكث و أنشدكم الله هل تعلمون أنه أول الناس إيمانا و أنك يا معاوية و أباك شرح نهج البلاغة ج : 6 ص : 289من المؤلفة قلوبهم تسرون الكفر و تظهرون الإسلام و تستمالون بالأموال و أنشدكم الله أ لستم تعلمون أنه كان صاحب راية رسول الله ص يوم بدر و أن راية المشركين كانت مع معاوية و مع أبيه ثم لقيكم يوم أحد و يوم الأحزاب و معه راية رسول الله ص و معك و مع أبيك راية الشرك و في كل ذلك يفتح الله له و يفلج حجته و ينصر دعوته و يصدق حديثه و رسول الله ص في تلك المواطن كلها عنه راض و عليك و على أبيك ساخط و أنشدك الله يا معاوية أ تذكر يوما جاء أبوك على جمل أحمر و أنت تسوقه و أخوك عتبة هذا يقوده فرآكم رسول الله ص فقال اللهم العن الراكب و القائد و السائق أ تنسى يا معاوية الشعر الذي كتبته إلى أبيك لما هم أن يسلم تنهاه عن ذلك

(7/277)


يا صخر لا تسلمن يوما فتفضحنا بعد الذين ببدر أصبحوا فرقاخالي و عمي و عم الأم ثالثهم و حنظل الخير قد أهدى لنا الأرقالا تركنن إلى أمر تكلفنا و الراقصات به في مكة الخرقافالموت أهون من قول العداة لقد حاد ابن حرب عن العزى إذا فرقا
و الله لما أخفيت من أمرك أكبر مما أبديت و أنشدكم الله أيها الرهط أ تعلمون أن عليا حرم الشهوات على نفسه بين أصحاب رسول الله ص فأنزل فيه يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ و أن رسول الله ص بعث أكابر أصحابه إلى بني قريظة فنزلوا من حصنهم فهزموا فبعث عليا بالراية فاستنزلهم على حكم الله و حكم رسوله و فعل في خيبر مثلها شرح نهج البلاغة ج : 6 ص : 290ثم قال يا معاوية أظنك لا تعلم أني أعلم ما دعا به عليك رسول الله ص لما أراد أن يكتب كتابا إلى بني خزيمة فبعث إليك ابن عباس فوجدك تأكل ثم بعثه إليك مرة أخرى فوجدك تأكل فدعا عليك الرسول بجوعك و نهمك إلى أن تموت و أنتم أيها الرهط نشدتكم الله أ لا تعلمون أن رسول الله ص لعن أبا سفيان في سبعة مواطن لا تستطيعون ردها أولها يوم لقي رسول الله ص خارجا من مكة إلى الطائف يدعو ثقيفا إلى الدين فوقع به و سبه و سفهه و شتمه و كذبه و توعده و هم أن يبطش به فلعنه الله و رسوله و صرف عنه و الثانية يوم العير إذ عرض لها رسول الله ص و هي جائية من الشام فطردها أبو سفيان و ساحل بها فلم يظفر المسلمون بها و لعنه رسول الله ص و دعا عليه فكانت وقعة بدر لأجلها و الثالثة يوم أحد حيث وقف تحت الجبل و رسول الله ص في أعلاه و هو ينادي أعل هبل مرارا فلعنه رسول الله ص عشر مرات و لعنه المسلمون و الرابعة يوم جاء بالأحزاب و غطفان و اليهود فلعنه رسول الله و ابتهل و الخامسة يوم جاء أبو سفيان في قريش فصدوا رسول الله ص عن المسجد الحرام و الهدي معكوفا أن يبلغ محله ذلك يوم الحديبية فلعن رسول الله ص أبا سفيان و لعن القادة

(7/278)


و الأتباع و قال ملعونون كلهم و ليس فيهم من يؤمن فقيل يا رسول الله أ فما يرجى الإسلام لأحد منهم فكيف باللعنة فقال لا تصيب اللعنة أحدا من الأتباع و أما القادة فلا يفلح منهم أحد
شرح نهج البلاغة ج : 6 ص : 291و السادسة يوم الجمل الأحمر و السابعة يوم وقفوا لرسول الله ص في العقبة ليستنفروا ناقته و كانوا اثني عشر رجلا منهم أبو سفيان فهذا لك يا معاوية و أما أنت يا ابن العاص فإن أمرك مشترك وضعتك أمك مجهولا من عهر و سفاح فيك أربعة من قريش فغلب عليك جزارها ألأمهم حسبا و أخبثهم منصبا ثم قام أبوك فقال أنا شانئ محمد الأبتر فأنزل الله فيه ما أنزل و قاتلت رسول الله ص في جميع المشاهد و هجوته و آذيته بمكة و كدته كيدك كله و كنت من أشد الناس له تكذيبا و عداوة ثم خرجت تريد النجاشي مع أصحاب السفينة لتأتي بجعفر و أصحابه إلى أهل مكة فلما أخطأك ما رجوت و رجعك الله خائبا و أكذبك واشيا جعلت حدك على صاحبك عمارة بن الوليد فوشيت به إلى النجاشي حسدا لما ارتكب مع حليلتك ففضحك الله و فضح صاحبك فأنت عدو بني هاشم في الجاهلية و الإسلام ثم إنك تعلم و كل هؤلاء الرهط يعلمون أنك هجوت رسول الله ص بسبعين بيتا من الشعر فقال رسول الله ص اللهم إني لا أقول الشعر و لا ينبغي لي اللهم العنه بكل حرف ألف لعنة فعليك إذا من الله ما لا يحصى من اللعن و أما ذكرت من أمر عثمان فأنت سعرت عليه الدنيا نارا ثم حلقت بفلسطين فلما أتاك قتله قلت أنا أبو عبد الله إذا نكأت قرحة أدميتها ثم حبست نفسك إلى معاوية و بعت دينك بدنياه فلسنا نلومك على بغض و لا نعاتبك على ود و بالله شرح نهج البلاغة ج : 6 ص : 292ما نصرت عثمان حيا و لا غضبت له مقتولا ويحك يا ابن العاص أ لست القائل في بني هاشم لما خرجت من مكة إلى النجاشي

(7/279)


تقول ابنتي أين هذا الرحيل و ما السير مني بمستنكرفقلت ذريني فإني امرؤ أريد النجاشي في جعفرلأكويه عنده كية أقيم بها نخوة الأصعرو شانئ أحمد من بينهم و أقولهم فيه بالمنكرو أجري إلى عتبة جاهدا و لو كان كالذهب الأحمرو لا أنثني عن بني هاشم و ما اسطعت في الغيب و المحضرفإن قبل العتب مني له و إلا لويت له مشفري
فهذا جوابك هل سمعته و أما أنت يا وليد فو الله ما ألومك على بغض علي و قد جلدك ثمانين في الخمر و قتل أباك بين يدي رسول الله صبرا و أنت الذي سماه الله الفاسق و سمى عليا المؤمن حيث تفاخرتما فقلت له اسكت يا علي فأنا أشجع منك جنانا و أطول منك لسانا فقال لك علي اسكت يا وليد فأنا مؤمن و أنت فاسق فأنزل الله تعالى في موافقة قوله أَ فَمَنْ كانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كانَ فاسِقاً لا يَسْتَوُونَ ثم أنزل فيك على موافقة قوله أيضا إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا ويحك يا وليد مهما نسيت فلا تنس قول الشاعر فيك و فيه
أنزل الله و الكتاب عزيز في علي و في الوليد قرآنا
شرح نهج البلاغة ج : 6 ص : 293فتبوأ الوليد إذ ذاك فسقا و علي مبوأ إيماناليس من كان مؤمنا عمرك الله كمن كان فاسقا خواناسوف يدعى الوليد بعد قليل و علي إلى الحساب عيانافعلي يجزى بذاك جنانا و وليد يجزى بذاك هوانارب جد لعقبة بن أبان لابس في بلادنا تبانا
و ما أنت و قريش إنما أنت علج من أهل صفورية و أقسم بالله لأنت أكبر في الميلاد و أسن ممن تدعى إليه و أما أنت يا عتبة فو الله ما أنت بحصيف فأجيبك و لا عاقل فأحاورك و أعاتبك و ما عندك خير يرجى و لا شر يتقى و ما عقلك و عقل أمتك إلا سواء و ما يضر عليا لو سببته على رءوس الأشهاد و أما وعيدك إياي بالقتل فهلا قتلت اللحياني إذا وجدته على فراشك أما تستحيي من قول نصر بن حجاج فيك
يا للرجال و حادث الأزمان و لسبة تخزي أبا سفيان نبئت عتبة خانه في عرسه جبس لئيم الأصل من لحيان

(7/280)


و بعد هذا ما أربأ بنفسي عن ذكره لفحشه فكيف يخاف أحد سيفك و لم تقتل فاضحك و كيف ألومك على بغض علي و قد قتل خالك الوليد مبارزة يوم بدر و شرك حمزة في قتل جدك عتبة و أوحدك من أخيك حنظلة في مقام واحد و أما أنت يا مغيرة فلم تكن بخليق أن تقع في هذا و شبهه و إنما مثلك مثل البعوضة إذ قالت للنخلة استمسكي فإني طائرة عنك فقالت النخلة و هل علمت بك واقعة علي فأعلم بك طائرة عني شرح نهج البلاغة ج : 6 ص : 294و الله ما نشعر بعداوتك إيانا و لا اغتممنا إذ علمنا بها و لا يشق علينا كلامك و إن حد الله في الزنا لثابت عليك و لقد درأ عمر عنك حقا الله سائلة عنه و لقد سألت رسول الله ص هل ينظر الرجل إلى المرأة يريد أن يتزوجها فقال لا بأس بذلك يا مغيرة ما لم ينو الزنا لعلمه بأنك زان و أما فخركم علينا بالإمارة فإن الله تعالى يقول وَ إِذا أَرَدْنا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنا مُتْرَفِيها فَفَسَقُوا فِيها فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْناها تَدْمِيراً. ثم قام الحسن فنفض ثوبه و انصرف
فتعلق عمرو بن العاص بثوبه و قال يا أمير المؤمنين قد شهدت قوله في و قذفه أمي بالزنا و أنا مطالب له بحد القذف فقال معاوية خل عنه لا جزاك الله خيرا فتركه فقال معاوية قد أنبأتكم أنه ممن لا تطاق عارضته و نهيتكم أن تسبوه فعصيتموني و الله ما قام حتى أظلم على البيت قوموا عني فلقد فضحكم الله و أخزاكم بترككم الحزم و عدولكم عن رأي الناصح المشفق و الله المستعان
عمرو بن العاص و معاوية

(7/281)


و روى الشعبي قال دخل عمرو بن العاص على معاوية يسأله حاجة و قد كان بلغ معاوية عنه ما كرهه فكره قضاءها و تشاغل فقال عمرو يا معاوية إن السخاء فطنة و اللؤم تغافل و الجفاء ليس من أخلاق المؤمنين فقال معاوية يا عمرو بما ذا تستحق منا قضاء الحوائج العظام فغضب عمرو و قال بأعظم حق و أوجبه إذ كنت في بحر عجاج فلو لا عمرو لغرقت في أقل مائه و أرقه و لكني دفعتك فيه دفعة فصرت في وسطه ثم دفعتك فيه أخرى فصرت في أعلى المواضع منه فمضى حكمك و نفذ أمرك و انطلق شرح نهج البلاغة ج : 6 ص : 295لسانك بعد تلجلجه و أضاء وجهك بعد ظلمته و طمست لك الشمس بالعهن المنفوش و أظلمت لك القمر بالليلة المدلهمة. فتناوم معاوية و أطبق جفنيه مليا فخرج عمرو فاستوى معاوية جالسا و قال لجلسائه أ رأيتم ما خرج من فم ذلك الرجل ما عليه لو عرض ففي التعريض ما يكفي و لكنه جبهني بكلامه و رماني بسموم سهامه. فقال بعض جلسائه يا أمير المؤمنين إن الحوائج لتقضى على ثلاث خصال إما أن يكون السائل لقضاء الحاجة مستحقا فتقضى له بحقه و إما أن يكون السائل لئيما فيصون الشريف نفسه عن لسانه فيقضي حاجته و إما أن يكون المسئول كريما فيقضيها لكرمه صغرت أو كبرت. فقال معاوية لله أبوك ما أحسن ما نطقت و بعث إلى عمرو فأخبره و قضى حاجته و وصله بصلة جليلة فلما أخذها ولى منصرفا فقال معاوية فَإِنْ أُعْطُوا مِنْها رَضُوا وَ إِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْها إِذا هُمْ يَسْخَطُونَ فسمعها عمرو فالتفت إليه مغضبا و قال و الله يا معاوية لا أزال آخذ منك قهرا و لا أطيع لك أمرا و أحفر لك بئرا عميقا إذا وقعت فيه لم تدرك إلا رميما فضحك معاوية فقال ما أريدك يا أبا عبد الله بالكلمة و إنما كانت آية تلوتها من كتاب الله عرضت بقلبي فاصنع ما شئت
عبد الله بن جعفر و عمرو بن العاص في مجلس معاوية

(7/282)


و روى المدائني قال بينا معاوية يوما جالسا عنده عمرو بن العاص إذ قال الآذن قد جاء عبد الله بن جعفر بن أبي طالب فقال عمرو و الله لأسوءنه اليوم فقال معاوية لا تفعل يا أبا عبد الله فإنك لا تنصف منه و لعلك أن تظهر لنا من منقبته ما هو خفي عنا و ما لا نحب أن نعلمه منه. شرح نهج البلاغة ج : 6 ص : 296و غشيهم عبد الله بن جعفر فأدناه معاوية و قربه فمال عمرو إلى بعض جلساء معاوية فنال من علي ع جهارا غير ساتر له و ثلبه ثلبا قبيحا. فالتمع لون عبد الله بن جعفر و اعتراه أفكل حتى أرعدت خصائله ثم نزل عن السرير كالفنيق فقال عمرو مه يا أبا جعفر فقال له عبد الله مه لا أم لك ثم قال
أظن الحلم دل علي قومي و قد يستجهل الرجل الحليم

(7/283)


ثم حسر عن ذراعيه و قال يا معاوية حتام نتجرع غيظك و إلى كم الصبر على مكروه قولك و سيئ أدبك و ذميم أخلاقك هبلتك الهبول أ ما يزجرك ذمام المجالسة عن القذع لجليسك إذا لم تكن لك حرمة من دينك تنهاك عما لا يجوز لك أما و الله لو عطفتك أواصر الأرحام أو حاميت على سهمك من الإسلام ما أرعيت بني الإماء المتك و العبيد الصك أعراض قومك. و ما يجهل موضع الصفوة إلا أهل الجفوة و إنك لتعرف وشائظ قريش و صبوة غرائزها فلا يدعونك تصويب ما فرط من خطئك في سفك دماء المسلمين و محاربة أمير المؤمنين إلى التمادي فيما قد وضح لك الصواب في خلافه فاقصد لمنهج الحق فقد طال عمهك عن سبيل الرشد و خبطك في بحور ظلمة الغي. شرح نهج البلاغة ج : 6 ص : 297فإن أبيت إلا تتابعنا في قبح اختيارك لنفسك فأعفنا من سوء القالة فينا إذا ضمنا و إياك الندي و شأنك و ما تريد إذا خلوت و الله حسيبك فو الله لو لا ما جعل الله لنا في يديك لما أتيناك. ثم قال إنك إن كلفتني ما لم أطق ساءك ما سرك مني من خلق. فقال معاوية يا أبا جعفر أقسمت عليك لتجلسن لعن الله من أخرج ضب صدرك من وجاره محمول لك ما قلت و لك عندنا ما أملت فلو لم يكن محمدك و منصبك لكان خلقك و خلقك شافعين لك إلينا و أنت ابن ذي الجناحين و سيد بني هاشم. فقال عبد الله كلا بل سيد بني هاشم حسن و حسين لا ينازعهما في ذلك أحد. فقال أبا جعفر أقسمت عليك لما ذكرت حاجة لك إلا قضيتها كائنة ما كانت و لو ذهبت بجميع ما أملك فقال أما في هذا المجلس فلا ثم انصرف. فأتبعه معاوية بصره و قال و الله لكأنه رسول الله ص مشيه و خلقه و خلقه و إنه لمن مشكاته و لوددت أنه أخي بنفيس ما أملك. ثم التفت إلى عمرو فقال أبا عبد الله ما تراه منعه من الكلام معك قال ما لا خفاء به عنك قال أظنك تقول إنه هاب جوابك لا و الله و لكنه ازدراك و استحقرك و لم يرك للكلام أهلا أ ما رأيت إقباله علي دونك ذاهبا بنفسه عنك. فقال عمرو فهل لك أن

(7/284)


تسمع ما أعددته لجوابه قال معاوية اذهب إليك أبا عبد الله فلاة حين جواب سائر اليوم. و نهض معاوية و تفرق الناس
شرح نهج البلاغة ج : 6 ص : 298عبد الله بن العباس و رجالات قريش في مجلس معاوية
و روى المدائني أيضا قال وفد عبد الله بن عباس على معاوية مرة فقال معاوية لابنه يزيد و لزياد ابن سمية و عتبة بن أبي سفيان و مروان بن الحكم و عمرو بن العاص و المغيرة بن شعبة و سعيد بن العاص و عبد الرحمن ابن أم الحكم إنه قد طال العهد بعبد الله بن عباس و ما كان شجر بيننا و بينه و بين ابن عمه و لقد كان نصبه للتحكيم فدفع عنه فحركوه على الكلام لنبلغ حقيقة صفته و نقف على كنه معرفته و نعرف ما صرف عنا من شبا حده و زوي عنا من دهاء رأيه فربما وصف المرء بغير ما هو فيه و أعطي من النعت و الاسم ما لا يستحقه. ثم أرسل إلى عبد الله بن عباس فلما دخل و استقر به المجلس ابتدأه ابن أبي سفيان فقال يا ابن عباس ما منع عليا أن يوجه بك حكما فقال أما و الله لو فعل لقرن عمرا بصعبة من الإبل يوجع كفه مراسها و لأذهلت عقله و أجرضته بريقه و قدحت في سويداء قلبه فلم يبرم أمرا و لم ينفض ترابا إلا كنت منه بمرأى و مسمع فإن أنكأه أدميت قواه و إن أدمه فصمت عراه بغرب مقول لا يقل حده و أصالة رأي كمتاح الأجل لا وزر منه أصدع به أديمه و أفل به شبا حده و أشحذ به عزائم المتقين و أزيح به شبه الشاكين. فقال عمرو بن العاص هذا و الله يا أمير المؤمنين نجوم أول الشر و أفول آخر الخير و في حسمه قطع مادته فبادره بالحملة و انتهز منه الفرصة و اردع بالتنكيل به غيره و شرد به من خلفه. فقال ابن عباس يا ابن النابغة ضل و الله عقلك و سفه حلمك و نطق الشيطان على لسانك هلا توليت ذلك بنفسك يوم صفين حين دعيت نزال و تكافح الأبطال شرح نهج البلاغة ج : 6 ص : 299و كثرت الجراح و تقصفت الرماح و برزت إلى أمير المؤمنين مصلولا فانكفأ نحوك بالسيف حاملا فلما رأيت الكواشر من

(7/285)


الموت أعددت حيلة السلامة قبل لقائه و الانكفاء عنه بعد إجابة دعائه فمنحته رجاء النجاة عورتك و كشفت له خوف بأسه سوأتك حذرا أن يصطلمك بسطوته و يلتهمك بحملته ثم أشرت على معاوية كالناصح له بمبارزته و حسنت له التعرض لمكافحته رجاء أن تكتفي مئونته و تعدم صورته فعلم غل صدرك و ما انحنت عليه من النفاق أضلعك و عرف مقر سهمك في غرضك. فاكفف غرب لسانك و اقمع عوراء لفظك فإنك لمن أسد خادر و بحر زاخر إن تبرزت للأسد افترسك و إن عمت في البحر قمسك. فقال مروان بن الحكم يا ابن عباس إنك لتصرف أنيابك و توري نارك كأنك ترجو الغلبة و تؤمل العافية و لو لا حلم أمير المؤمنين عنكم لتناولكم بأقصر أنامله فأوردكم منهلا بعيدا صدره و لعمري لئن سطا بكم ليأخذن بعض حقه منكم و لئن عفا عن جرائركم فقديما ما نسب إلى ذلك. فقال ابن عباس و إنك لتقول ذلك يا عدو الله و طريد رسول الله و المباح دمه و الداخل بين عثمان و رعيته بما حملهم على قطع أوداجه و ركوب أثباجه أما و الله لو طلب معاوية ثأره لأخذك به و لو نظر في أمر عثمان لوجدك أوله و آخره. و أما قولك لي إنك لتصرف أنيابك و توري نارك فسل معاوية و عمرا يخبراك ليلة الهرير كيف ثباتنا للمثلات و استخفافنا بالمعضلات و صدق جلادنا عند المصاولة و صبرنا

(7/286)


شرح نهج البلاغة ج : 6 ص : 300على اللأواء و المطاولة و مصافحتنا بجباهنا السيوف المرهفة و مباشرتنا بنحورنا حد الأسنة هل خمنا عن كرائم تلك المواقف أم لم نبذل مهجنا للمتالف و ليس لك إذ ذاك فيها مقام محمود و لا يوم مشهود و لا أثر معدود و إنهما شهدا ما لو شهدلأقلقك فأربع على ظلعك و لا تتعرض لما ليس لك فإنك كالمغروز في صفد لا يهبط برجل و لا يرقى بيد. فقال زياد يا ابن عباس إني لأعلم ما منع حسنا و حسينا من الوفود معك على أمير المؤمنين إلا ما سولت لهما أنفسهما و غرهما به من هو عند البأساء سلمهما و ايم الله لو وليتهما لأدأبا في الرحلة إلى أمير المؤمنين أنفسهما و لقل بمكانهما لبثهما. فقال ابن عباس إذن و الله يقصر دونهما باعك و يضيق بهما ذراعك و لو رمت ذلك لوجدت من دونهما فئة صدقا صبرا على البلاء لا يخيمون عن اللقاء فلعركوك بكلاكلهم و وطئوك بمناسمهم و أوجروك مشق رماحهم و شفار سيوفهم و و خز أسنتهم حتى تشهد بسوء ما أتيت و تتبين ضياع الحزم فيما جنيت فحذار حذار من سوء النية فتكافأ برد الأمنية و تكون سببا لفساد هذين الحيين بعد صلاحهما و سعيا في اختلافهما بعد ائتلافهما حيث لا يضرهما إبساسك و لا يغني عنهما إيناسك. فقال عبد الرحمن ابن أم الحكم لله در ابن ملجم فقد بلغ الأمل و أمن الوجل و أحد الشفرة و الآن المهرة و أدرك الثأر و نفى العار و فاز بالمنزلة العليا و رقي الدرجة القصوى. فقال ابن عباس أما و الله لقد كرع كأس حتفه بيده و عجل الله إلى النار بروحه شرح نهج البلاغة ج : 6 ص :01و لو أبدى لأمير المؤمنين صفحته لخالطه الفحل القطم و السيف الخذم و لألعقه صابا و سقاه سما و ألحقه بالوليد و عتبة و حنظلة فكلهم كان أشد منه شكيمة و أمضى عزيمة ففرى بالسيف هامهم و رملهم بدمائهم و قرى الذئاب أشلاءهم و فرق بينهم و بين أحبائهم أولئك حصب جهنم هم لها واردون و هل تحس منهم من أحد أو تسمع لهم ركزا و لا غرو إن ختل و

(7/287)


لا وصمة إن قتل فإنا لكما قال دريد بن الصمة
فإنا للحم السيف غير مكره و نلحمه طورا و ليس بذي نكريغار علينا واترين فيشتفى بنا إن أصبنا أو نغير على وتر
فقال المغيرة بن شعبة أما و الله لقد أشرت على علي بالنصيحة فآثر رأيه و مضى على غلوائه فكانت العاقبة عليه لا له و إني لأحسب أن خلقه يقتدون بمنهجه. فقال ابن عباس كان و الله أمير المؤمنين ع أعلم بوجوه الرأي و معاقد الحزم و تصريف الأمور من أن يقبل مشورتك فيما نهى الله عنه و عنف عليه قال سبحانه لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ يُوادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَ رَسُولَهُ و لقد وقفك على ذكر مبين و آية متلوة قوله تعالى وَ ما كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ شرح نهج البلاغة ج : 6 ص : 302عُداً و هل كان يسوغ له أن يحكم في دماء المسلمين و في ء المؤمنين من ليس بمأمون عنده و لا موثوق به في نفسه هيهات هيهات هو أعلم بفرض الله و سنة رسوله أن يبطن خلاف ما يظهر إلا للتقية و لات حين تقية مع وضوح الحق و ثبوت الجنان و كثرة الأنصار يمضي كالسيف المصلت ف أمر الله مؤثرا لطاعة ربه و التقوى على آراء أهل الدنيا. فقال يزيد بن معاوية يا ابن عباس إنك لتنطق بلسان طلق ينبئ عن مكنون قلب حرق فاطو ما أنت عليه كشحا فقد محا ضوء حقنا ظلمة باطلكم. فقال ابن عباس مهلا يزيد فو الله ما صفت القلوب لكم منذ تكدرت بالعداوة عليكم و لا دنت بالمحبة إليكم مذ نأت بالبغضاء عنكم لا رضيت اليوم منكم ما سخطت بالأمس من أفعالكم و إن تدل الأيام نستقض ما سد عنا و نسترجع ما ابتز منا كيلا بكيل و وزنا بوزن و إن تكن الأخرى فكفى بالله وليا لنا و وكيلا على المعتدين علينا. فقال معاوية إن في نفسي منكم لحزازات يا بني هاشم و إني لخليق أن أدرك فيكم الثأر و أنفي العار فإن دماءنا قبلكم و ظلامتنا فيكم. فقال ابن عباس و الله إن رمت ذلك يا معاوية لتثيرن عليك أسدا مخدرة و أفاعي

(7/288)


مطرقة لا يفثؤها كثرة السلاح و لا يعضها نكاية الجراح يضعون أسيافهم على عواتقهم يضربون قدما قدما من ناوأهم يهون عليهم نباح الكلاب و عواء الذئاب شرح نهج البلاغة ج : 6 ص : 303لا يفاتون بوتر و لا يسبقون إلى كريم ذكر قد وطنوا على الموت أنفسهم و سمت بهم إلى العلياء هممهم كما قالت الأزديةقوم إذا شهدوا الهياج فلا ضرب ينهنههم و لا زجرو كأنهم آساد غينة قد غرثت و بل متونها القطر
فلتكونن منهم بحيث أعددت ليلة الهرير للهرب فرسك و كان أكبر همك سلامة حشاشة نفسك و لو لا طغام من أهل الشام وقوك بأنفسهم و بذلوا دونك مهجهم حتى إذا ذاقوا وخز الشفار و أيقنوا بحلول الدمار رفعوا المصاحف مستجيرين بها و عائذين بعصمتها لكنت شلوا مطروحا بالعراء تسفي عليك رياحها و يعتورك ذبابها. و ما أقول هذا أريد صرفك عن عزيمتك و لا إزالتك عن معقود نيتك لكن الرحم التي تعطف عليك و الأوامر التي توجب صرف النصيحة إليك. فقال معاوية لله درك يا ابن عباس ما تكشف الأيام منك إلا عن سيف صقيل و رأي أصيل و بالله لو لم يلد هاشم غيرك لما نقص عددهم و لو لم يكن لأهلك سواك لكان الله قد كثرهم. ثم نهض فقام ابن عباس و انصرف. و روى أبو العباس أحمد بن يحيى ثعلب في أماليه أن عمرو بن العاص قال لعتبة بن أبي سفيان يوم الحكمين أ ما ترى ابن عباس قد فتح عينيه و نشر أذنيه و لو قدر أن يتكلم بهما فعل و إن غفلة أصحابه لمجبورة بفطنته و هي ساعتنا الطولى فاكفنيه. قال عتبة بجهدي. شرح نهج البلاغة ج : 6 ص : 304قال فقمت فقعدت إلى جانبه فلما أخذ القوم في الكلام أقبلت عليه بالحديث فقرع يدي و قال ليست ساعة حديث قال فأظهرت غضبا و قلت يا ابن عباس إن ثقتك بأحلام أسرعت بك إلى أعراضنا و قد و الله تقدم من قبل العذر و كثر منا الصبر ثم أقذعته فجاش لي مرجله و ارتفعت أصواتنا فجاء القوم فأخذوا بأيدينا فنحوه عني و نحوني عنه فجئت فقربت من عمرو بن العاص فرماني بمؤخر عينيه و

(7/289)


قال ما صنعت فقلت كفيتك التقوالة فحمحم كما يحمحم الفرس للشعير قال و فات ابن عباس أول الكلام فكره أن يتكلم في آخره. و قد ذكرنا نحن هذا الخبر فيما تقدم في أخبار صفين على وجه آخر غير هذا الوجه
عمارة بن الوليد و عمرو بن العاص في الحبشة
فأما خبر عمارة بن الوليد بن المغيرة المخزومي أخي خالد بن الوليد مع عمرو بن العاص فقد ذكره ابن إسحاق في كتاب المغازي قال كان عمارة بن الوليد بن المغيرة و عمرو بن العاص بن وائل بعد مبعث رسول الله ص خرجا إلى أرض الحبشة على شركهما و كلاهما كان شاعرا عارما فاتكا. و كان عمارة بن الوليد رجلا جميلا وسيما تهواه النساء صاحب محادثة لهن فركبا البحر و مع عمرو بن العاص امرأته حتى إذا صاروا في البحر ليالي أصابا من خمر معهما فلما انتشى عمارة قال لامرأة عمرو بن العاص قبليني فقال لها عمرو قبلي ابن عمك فقبلته فهويها عمارة و جعل يراودها عن نفسها فامتنعت منه ثم إن عمرا جلس على منجاف شرح نهج البلاغة ج : 6 ص : 305السفينة يبول فدفعه عمارة في البحر فلما وقع عمرو سبح حتى أخذ بمنجاف السفينة فقال له عمارة أما و الله لو علمت أنك سابح ما طرحتك و لكنني كنت أظن أنك لا تحسن السباحة فضغن عو عليه في نفسه و علم أنه كان أراد قتله و مضيا على وجههما ذلك حتى قدما أرض الحبشة فلما نزلاها كتب عمرو إلى أبيه العاص بن وائل أن اخلعني و تبرأ من جريرتي إلى بني المغيرة و سائر بني مخزوم و خشي على أبيه أن يتبغ بجريرته فلما قدم الكتاب على العاص بن وائل مشى إلى رجال بني المغيرة و بني مخزوم فقال إن هذين الرجلين قد خرجا حيث علمتم و كلاهما فاتك صاحب شر غير مأمونين على أنفسهما و لا أدري ما يكون منهما و إني أبرأ إليكم من عمرو و جريرته فقد خلعته فقال عند ذلك بنو المغيرة و بنو مخزوم و أنت تخاف عمرا على عمارة و نحن فقد خلعنا عمارة و تبرأنا إليك من جريرته فحل بين الرجلين قال قد فعلت فخلعوهما و برئ كل قوم

(7/290)


من صاحبهم و ما يجري منه. قال فلما اطمأنا بأرض الحبشة لم يلبث عمارة بن الوليد أن دب لامرأة النجاشي و كان جميلا صبيحا وسيما فأدخلته فاختلف إليها و جعل إذا رجع من مدخله ذلك يخبر عمرا بما كان من أمره فيقول عمرو لا أصدقك أنك قدرت على هذا إن شأن هذه المرأة أرفع من ذلك فلما أكثر عليه عمارة بما كان يخبره و كان عمرو قد علم صدقه و عرف أنه دخل عليها و رأى من حاله و هيئته و ما تصنع المرأة به إذا كان معها و بيتوتته عندها حتى يأتي إليه مع السحر ما عرف به ذلك و كانا في منزل واحد و لكنه كان يريد أن يأتيه بشي ء لا يستطاع دفعه إن هو رفع شأنه إلى النجاشي فقال له في بعض شرح نهج البلاغة ج : 6 ص : 306ما يتذاكران من أمرها إن كنت صادقا فقل لها فلتدهنك بدهن النجاشي الذي لا يدهن به غيره فإني أعرفه و ائتني بشي ء منه حتى أصدقك قال أفعل. فجاء في بعض ما يدخل إليها فسألها ذلك فدهنته منه و أعطته شيئا في قارورة فلما شمه عمرو عرفه ل أشهد أنك قد صدقت لقد أصبت شيئا ما أصاب أحد من العرب مثله قط و نلت من امرأة الملك شيئا ما سمعنا بمثل هذا و كانوا أهل جاهلية و شبانا و ذلك في أنفسهم فضل لمن أصابه و قدر عليه. ثم سكت عنه حتى اطمأن و دخل على النجاشي فقال أيها الملك إن معي سفيها من سفهاء قريش و قد خشيت أن يعرني عندك أمره و أردت أن أعلمك بشأنه و ألا أرفع ذلك إليك حتى استثبت أنه قد دخل على بعض نسائك فأكثر و هذا دهنك قد أعطته و ادهن به. فلما شم النجاشي الدهن قال صدقت هذا دهني الذي لا يكون إلا عند نسائي فلما أثبت أمره دعا بعمارة و دعا نسوة أخر فجردوه من ثيابه ثم أمرهن أن ينفخن في إحليله ثم خلى سبيله. فخرج هاربا في الوحش فلم يزل في أرض الحبشة حتى كانت خلافة عمر بن الخطاب فخرج إليه رجال من بني المغيرة منهم عبد الله بن أبي ربيعة بن المغيرة و كان اسم عبد الله قبل أن يسلم بجيرا فلما أسلم سماه رسول الله ص عبد الله فرصدوه على

(7/291)


ماء بأرض الحبشة كان يرده مع الوحش فزعموا أنه أقبل في حمر من حمر الوحش ليرد معها فلما وجد ريح الإنس هرب منه حتى إذا أجهده العطش ورد فشرب حتى تملأ و خرجوا في طلبه. شرح نهج البلاغة ج : 6 ص : 307قال عبد الله بن أبي ربيعة فسبقت إليه فالتته فجعل يقول أرسلني أني أموت إن أمسكتني قال عبد الله فضبطته فمات في يدي مكانه فواروه ثم انصرفوا. و كان شعره فيما يزعمون قد غطى كل شي ء منه فقال عمرو بن العاص يذكر ما كان صنع به و ما أراد من امرأته تعلم عمار أن من شر سنة على المرء أن يدعى ابن عم له ابنماأ أن كنت ذا بردين أحوى مرجلا فلست براع لابن عمك محرماإذا المرء لم يترك طعاما يحبه و لم ينه قلبا غاويا حيث يمماقضى وطرا منه يسيرا و أصبحت إذا ذكرت أمثالها تملأ الفما
أمر عمرو بن العاص مع جعفر بن أبي طالب في الحبشة

(7/292)


و أما خبر عمرو بن العاص في شخوصه إلى الحبشة ليكيد جعفر بن أبي طالب و المهاجرين من المؤمنين عند النجاشي فقد رواه كل من صنف في السيرة قال محمد بن إسحاق في كتاب المغازي قال حدثني محمد بن مسلم بن عبد الله بن شهاب الزهري عن أبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام المخزومي عن أم سلمة بنت أبي أمية بن المغيرة المخزومية زوجة رسول الله ص قالت لما نزلنا بأرض الحبشة جاورنا بها خير جار النجاشي أمنا على ديننا و عبدنا الله لا نؤذى كما كنا نؤذى بمكة و لا نسمع شيئا نكرهه فلما بلغ ذلك قريشا ائتمروا شرح نهج البلاغة ج : 6 ص 308بينهم أن يبعثوا إلى النجاشي في أمرنا رجلين منهم جلدين و أن يهدوا للنجاشي هدايا مما يستطرف من متاع مكة و كان من أعجب ما يأتيه منه الأدم فجمعوا أدما كثيرا و لم يتركوا من بطارقته بطريقا إلا أهدوا إليه هدية ثم بعثوا بذلك مع عبد الله بن أبي ربيعة بن المغيرة المخزومي و عمرو بن العاص بن وائل السهمي و أمروهما أمرهم و قالوا لهما ادفعا إلى كل بطريق هديته قبل أن تكلما النجاشي فيهم. ثم قدما إلى النجاشي و نحن عنده في خير دار عند خير جار فلم يبق من بطارقته بطريق إلا دفعا إليه هديته قبل أن يكلما النجاشي ثم قالا للبطارقة أنه قد فر إلى بلد الملك منا غلمان سفهاء فارقوا دين قومهم و لم يدخلوا في دينكم و جاءوا بدين مبتدع لا نعرفه نحن و لا أنتم و قد بعثنا إلى الملك أشراف قومهم لنردهم إليهم فإذا كلمنا الملك فيهم فأشيروا عليه أن يسلمهم إلينا و لا يكلمهم فإن قومهم أعلى بهم عينا و أعلم بما عابوا عليهم فقالوا لهما نعم. ثم إنهما قربا هدايا الملك إليه فقبلها منهم ثم كلماه فقالا له أيها الملك قد فر إلى بلادك منا غلمان سفهاء فارقوا دين قومهم و لم يدخلوا في دينك جاءوا بدين ابتدعوه لا نعرفه نحن و لا أنت و قد بعثنا فيهم إليك أشراف قومنا من آبائهم و أعمامهم و عشائرهم لتردهم عليهم فهم أعلى بهم عينا و أعلم

(7/293)


بما عابوا عليهم و عاينوه منهم. قالت أم سلمة و لم يكن شي ء أبغض إلى عبد الله بن أبي ربيعة و عمرو بن العاص من أن يسمع النجاشي كلامهم. فقالت بطارقة الملك و خواصه حوله صدقا أيها الملك قومهم أعل بهم عينا و أعلم شرح نهج البلاغة ج : 6 ص : 309بما عابوا عليهم فليسلمهم الملك إليهما ليرادهم إلى بلادهم و قومهم. فغضب الملك و قال لا ها الله إذا لا أسلمهم إليهما و لا أخفر قوما جاوروني و نزلوا بلادي و اختاروني على سواي حتى أدعوهم و أسألهم عما يقول هذان فيمرهم فإن كانوا كما يقولون أسلمتهم إليهما و رددتهم إلى قومهم و إن كانوا على غير ذلك منعتهم منهم و أحسنت جوارهم ما جاوروني. قالت ثم أرسل إلى أصحاب رسول الله ص فدعاهم فلما جاءهم رسوله اجتمعوا ثم قال بعضهم لبعض ما تقولون للرجل إذا جئتموه قالوا نقول و الله ما علمناه و ما أمرنا به نبينا ص كائنا في ذلك ما هو كائن فلما جاءوه و قد دعا النجاشي أساقفته فنشروا مصاحفهم حوله سألهم فقال لهم ما هذا الدين الذي فارقتم فيه قومكم و لم تدخلوا في ديني و لا في دين أحد من هذه الملل قالت أم سلمة و كان الذي كلمه جعفر بن أبي طالب فقال له أيها الملك إنا كنا قوما في جاهلية نعبد الأصنام و نأكل الميتة و نأتي الفواحش و نقطع الأرحام و نسي ء الجوار و يأكل القوي منا الضعيف فكنا على ذلك حتى بعث الله عز و جل علينا رسولا منا نعرف نسبه و صدقه و أمانته و عفافه فدعانا إلى الله لنوحده و نعبده و نخل ما كنا عليه نحن و آباؤنا من دونه من الحجارة و الأوثان و أمرنا بصدق الحديث و أداء الأمانة و صلة الرحم و حسن التجاور و الكف عن المحارم و الدماء و نهانا عن سائر الفواحش و قول الزور و أكل مال اليتيم و قذف المحصنة و أمرنا أن نعبد الله لا نشرك به شيئا و بالصلاة و بالزكاة و الصيام.

(7/294)


شرح نهج البلاغة ج : 6 ص : 310قالت فعدد عليه أمور الإسلام كلها فصدقناه و آمنا به و اتبعناه على ما جاء به من الله فعبدنا الله وحده فلم نشرك به شيئا و حرمنا ما حرم علينا و أحللنا ما أحل لنا فعدا علينا قومنا فعذبونا و فتنونا عن ديننا ليردونا إلى عبادة الأصن و الأوثان عن عبادة الله و أن نستحل ما كنا نستحل من الخبائث فلما قهرونا و ظلمونا و ضيقوا علينا و حالوا بيننا و بين ديننا خرجنا إلى بلدك و اخترناك على من سواك و رغبنا في جوارك و رجونا ألا نظلم عندك أيها الملك. فقال النجاشي فهل معك مما جاء به صاحبكم عن الله شي ء فقال جعفر نعم فقال اقرأه علي فقرأ عليه صدرا من كهيعص فبكى حتى اخضلت لحيته و بكت أساقفته حتى أخضلوا لحاهم ثم قال النجاشي و الله إن هذا و الذي جاء به عيسى ليخرج من مشكاة واحدة و الله لا أسلمكم إليهم. قالت أم سلمة فلما خرج القوم من عنده قال عمرو بن العا و الله لأعيبهم غدا عنده بما يستأصل به خضراءهم فقال له عبد الله بن أبي ربيعة و كان أتقى الرجلين لا تفعل فإن لهم أرحاما و إن كانوا قد خالفوا قال و الله لأخبرنه غدا أنهم يقولون في عيسى ابن مريم أنه عبد ثم غدا عليه من الغد فقال أيها الملك إن هؤلاء يقولون في عيسى ابن مريم قولا عظيما فأرسل إليهم فسلهم عما يقولون فيه فأرسل إليهم. قالت أم سلمة فما نزل بنا مثلها و اجتمع المسلمون و قال بعضهم لبعض ما تقولون في عيسى إذا سألكم عنه فقال جعفر بن أبي طالب نقول فيه و الله ما قال عز و جل و ما جاء به نبينا ع كائنا في ذلك ما هو كائن. فلما دخلوا عليه قال لهم ما تقولون في عيسى ابن مريم فقال جعفر نقول إنه عبد الله شرح نهج البلاغة ج : 6 ص : 311و رسوله و روحه و كلمته ألقاها إلى مريم العذراء البتول. قالت فضرب النجاشي يديه على الأرض و أخذ منها عودا و قال ما عدا عيسى ابن مريم ما قالذا العود. قالت فقد كانت بطارقته تناخرت حوله حين قال جعفر ما قال فقال

(7/295)


لهم النجاشي و إن تناخرتم. ثم قال للمسلمين اذهبوا فأنتم سيوم بأرضي أي آمنون من سبكم غرم ثم من سبكم غرم ثم من سبكم غرم ما أحب أن لي دبرا ذهبا و أني آذيت رجلا منكم و الدبر بلسان الحبشة الجبل ردوا عليهما هداياهما فلا حاجة لي فيها فو الله ما أخذ الله مني الرشوة حتى ردني إلى ملكي فآخذ الرشوة فيه و ما أطاع الناس في أ فأطيعهم فيه. قالت فخرج الرجلان من عنده مقبوحين مردودا عليهما ما جاءا به و أقمنا عنده في خير دار مع خير جار فو الله إنا لعلى ذلك إذ نزل به رجل من الحبشة ينازعه في ملكه. قالت أم سلمة فو الله ما أصابنا خوف و حزن قط كان أشد من خوف و حزن نزل بنا أن يظهر ذلك الرجل على النجاشي فيأتي رجل لا يعرف من حقنا ما كان يعرف منه. قالت و سار إليه النجاشي و بينهما عرض النيل فقال أصحاب رسول الله ص من رجل يخرج حتى يحضر وقعة القوم ثم يأتينا بالخبر فقال الزبير بن العوام أنا و كان من أحدث المسلمين سنا فنفخوا له قربة فجعلناها تحت صدره ثم سبح

(7/296)


شرح نهج البلاغة ج : 6 ص : 312عليها حتى خرج إلى ناحية النيل التي بها يلتقي القوم ثم انطلق حتى حضرهم قالت و دعونا الله للنجاشي بالظهور على عدوه و التمكين له في بلاده فو الله إنا لعلى ذلك متوقعون لما هو كائن إذ طلع الزبير يسعى و يلوح بثوبه و يقول ألا أبشروفقد ظهر النجاشي و أهلك الله عدوه. قالت فو الله ما أعلمنا فرحنا فرحة مثلها قط و رجع النجاشي و قد أهلك الله عدوه و تمكن و مكن له في بلاده و استوثق له أمر الحبشة فكنا عنده في خير منزل و دار إلى أن رجعنا إلى رسول الله ص بمكة. و روي عن عبد الله بن جعفر بن محمد ع أنه قال لقد كاد عمرو بن العاص عمنا جعفرا بأرض الحبشة عند النجاشي و عند كثير من رعيته بأنواع الكيد ردها الله تعالى عنه بلطفه رماه بالقتل و السرق و الزنا فلم يلصق به شي ء من تلك العيوب لما شاهده القوم من طهارته و عبادته و نسكه و سيما النبوة عليه فلما نبا عوله عن صفاته هيأ له سما قذفه إليه في طعام فأرسل الله هرا كفأ تلك الصحفة و قد مد يده نحو ثم مات لوقته و قد أكل منها فتبين لجعفر كيده و غائلته فلم يأكل بعدها عنده و ما زال ابن الجزار عدوا لنا أهل البيت
أمر عمرو بن العاص في صفين
و أما خبر عمرو في صفين و اتقائه حملة علي ع بطرحه نفسه على الأرض و إبداء سوأته فقد ذكره كل من صنف في السير كتابا و خصوصا الكتب الموضوعة لصفين. شرح نهج البلاغة ج : 6 ص : 313قال نصر بن مزاحم في كتاب صفين قال حدثنا محمد بن إسحاق عن عبد الله بن أبي عمرو و عن د الرحمن بن حاطب قال كان عمرو بن العاص عدوا للحارث بن نضر الخثعمي و كان من أصحاب علي ع و كان علي ع قد تهيبته فرسان الشام و ملأ قلوبهم بشجاعته و امتنع كل منهم من الإقدام عليه و كان عمرو قلما جلس مجلسا إلا ذكر فيه الحارث بن نضر الخثعمي و عابه فقال الحارث

(7/297)


ليس عمرو بتارك ذكره الحارث بالسوء أو يلاقي علياواضع السيف فوق منكبه الأيمن لا يحسب الفوارس شياليت عمرا يلقاه في حومة النقع و قد أمست السيوف عصياحيث يدعو للحرب حامية القوم إذا كان بالبراز مليافالقه إن أردت مكرمة الدهر أو الموت كل ذاك عليا
فشاعت هذه الأبيات حتى بلغت عمرا فأقسم بالله ليلقين عليا و لو مات ألف موتة فلما اختلطت الصفوف لقيه فحمل عليه برمحه فتقدم علي ع و هو مخترط سيفا شرح نهج البلاغة ج : 6 ص : 314معتقل رمحا فلما رهقه همز فرسه ليعلو عليه فألقى عمرو نفسه عن فرسه إلى الأرض شاغرا بريه كاشفا عورته فانصرف عنه لافتا وجهه مستدبرا له فعد الناس ذلك من مكارمه و سؤدده و ضرب بها المثل. قال نصر و حدثني محمد بن إسحاق قال اجتمع عند معاوية في بعض ليالي صفين عمرو بن العاص و عتبة بن أبي سفيان و الوليد بن عقبة و مروان بن الحكم و عبد الله بن عامر و ابن طلحة الطلحات الخزاعي فقال عتبة إن أمرنا و أمر علي بن أبي طالب لعجب ما فينا إلا موتور مجتاح. أما أنا فقتل جدي عتبة بن ربيعة و أخي حنظلة و شرك في دم عمي شيبة يوم بدر. و أما أنت يا وليد فقتل أباك صبرا و أما أنت يا ابن عامر فصرع أباك و سلب عمك. و أما أنت يا ابن طلحة فقتل أباك يوم الجمل و أيتم إخوتك و أما أنت يا مروان فكما قال الشاعر
و أفلتهن علباء جريضا و لو أدركنه صفر الوطاب
فقال معاوية هذا الإقرار فأين الغير قال مروان و أي غير تريد قال أريد أن تشجروه بالرماح قال و الله يا معاوية ما أراك إلا هاذيا أو هازئا و ما أرانا إلا ثقلنا عليك فقال ابن عقبة

(7/298)


يقول لنا معاوية بن حرب أ ما فيكم لواتركم طلوب يشد على أبي حسن علي بأسمر لا تهجنه الكعوب شرح نهج البلاغة ج : 6 ص : 315فيهتك مجمع اللبات منه و نقع الحرب مطرد يئوب فقلت له أ تلعب يا ابن هند كأنك بيننا رجل غريب أ تغرينا بحية بطن واد إذا نهشت فليس لها طبيب و ما ضبع يدب ببطن واد أتيح له به أسد مهيب بأضعف حيلة منا إذا ما لقيناه و لقياه عجيب و وقته خصيتاه و كان لقلبه منه وجيب كان القوم لما عاينوه خلال النقع ليس لهم قلوب لعمر أبي معاوية بن حرب و ما ظني ستلحقه العيوب لقد ناداه في الهيجا علي فأسمعه و لكن لا يجفغضب عمرو و قال إن كان الوليد صادقا فليلق عليا أو فليقف حيث يسمع صوته. و قال عمرو
يذكرني الوليد دعا علي و نطق المرء يملؤه الوعيدمتى تذكر مشاهده قريش يطر من خوفه القلب الشديدفأما في اللقاء فأين منه معاوية بن حرب و الوليدو عيرني الوليد لقاء ليث إذا ما شد هابته الأسودلقيت و لست أجهله عليا و قد بلت من العلق اللبودفأطعنه و يطعني خلاسا و ما ذا بعد طعنته أريدفرمها منه يا ابن أبي معيط و أنت الفارس البطل النجيدو أقسم لو سمعت ندا علي لطار القلب و انتفخ الوريد

(7/299)


شرح نهج البلاغة ج : 6 ص : 316و لو لاقيته شقت جيوب عليك و لطمت فيك الخدوو ذكر أبو عمر بن عبد البر في كتاب الإستيعاب في باب بسر بن أرطاة قال كان بسر من الأبطال الطغاة و كان مع معاوية بصفين فأمره أن يلقى عليا ع في القتال و قال له إني سمعتك تتمنى لقاءه فلو أظفرك الله به و صرعته حصلت على الدنيا و الآخرة و لم يزل يشجعه و يمنيه حتى رأى عليا في الحرب فقصده و التقيا فصرعه علي ع و عرض له معه مثل ما عرض له مع عمرو بن العاص في كشف السوأة. قال أبو عمر و ذكر ابن الكلبي في كتابه في أخبار صفين أن بسر بن أرطاة بارز عليا يوم صفين فطعنه علي ع فصرعه فانكشف له فكف عنه كما عرض له مثل ذلك مع عمرو بن العاص. قال و للشعراء فيهما أشعار مذكورة في موضعها من ذلك الكتاب منها فيما ذكر ابن الكلبي و المدائني قول الحارث بن نضر الخثعمي و كان عدوا لعمرو بن العاص و بسر بن أرطاة

(7/300)


أ في كل يوم فارس لك ينتهي و عورته وسط العجاحة باديه يكف لها عنه علي سنانه و يضحك منها في الخلاء معاوية شرح نهج البلاغة ج : 6 ص : 317بدت أمس من عمرو فقنع رأسه و عورة بسر مثلها حذو حاذيه فقولا لعمرو ثم بسر ألا انظرا لنفسكما لا تلقيا الليث ثانيه و لا تحمدا إلا الحيا و خصاكما هما كانتا و الله للنفس واقيه و لولاهما لم تنجوا من سنانه و تلك بما فيها إلى العويه متى تلقيا الخيل المغيرة صبحة و فيها علي فاتركا الخيل ناحيه و كونا بعيدا حيث لا يبلغ القنا نحوركما إن التجارب كافيو روى الواقدي قال قال معاوية يوما بعد استقرار الخلافة له لعمرو بن العاص يا أبا عبد الله لا أراك إلا و يغلبني الضحك قال بما ذا قال أذكر يوم حمل عليك أبو تراب في صفين فأزريت نفسك فرقا من شبا سنانه و كشفت سوأتك له فقال عمرو أنا منك أشد ضحكا إني لأذكر يوم دعاك إلى البراز فانتفخ سحرك و ربا لسانك في فمك و غصصت بريقك و ارتعدت فرائصك و بدا منك ما أكره ذكره لك فقال معاوية لم يكن هذا كله و كيف يكون و دوني عك و الأشعريون قال إنك لتعلم أن الذي وصفت دون ما أصابك و قد نزل ذلك بك و دونك عك و الأشعريون فكيف كانت حالك لو جمعكما مأقط الحرب فقال يا أبا عبد الله خض بنا الهزل إلى الجد إن الجبن و الفرار من علي لا عار على أحد فيهما

(7/301)


شرح نهج البلاغة ج : 6 ص : 318خبر إسلام عمرو بن العاصفأما القول في إسلام عمرو بن العاص فقد ذكره محمد بن إسحاق في كتاب المغازي قال حدثني زيد بن أبي حبيب عن راشد مولى حبيب بن أبي أوس الثقفي عن حبيب بن أبي أوس قال حدثني عمرو بن العاص من فيه قال لما انصرفنا مع الأحزاب من الخندق جمعت رجالا من قريش كانوا يرون رأيي و يسمعون مني فقلت لهم و الله إني لأرى أمر محمد يعلو الأمور علوا منكرا و إني قد رأيت رأيا فما ترون فيه فقالوا ما رأيت فقلت أرى أن نلحق بالنجاشي فنكون عنده فإن ظهر محمد على قومه أقمنا عند النجاشي فأن نكون تحت يديه أحب إلينا من أن نكون تحت يدي محمد فإن ظهر قومنا فنحن من قد عرفوا فلن يأتنا منهم إلا خير قالوا إن هذا الرأي فقلت فاجمعوا ما نهدي له و كان أحب ما يأتيه من أرضنا الأدم فجمعنا له أدما كثيرا ثم خرجنا حتى قدمنا عليه فو الله إنا لعنده إذ قدم عمرو بن أمية الضمري و كان رسول الله ص بعثه إليه في شأن جعفر بن أبي طالب و أصحابه. قال فدخل عليه ثم خرج من عنده فقلت لأصحابي هذا عمرو بن أمية لو قد دخلت على النجاشي فسألته إياه فأعطانيه فضربت عنقه فإذا فعلت ذلك رأت قريش أني قد أجزأت عنها حين قتلت رسول محمد قال فدخلت عليه فسجدت له فقال مرحبا بصديقي شرح نهج البلاغة ج : ص : 319أهديت إلي من بلادك شيئا قلت نعم أيها الملك قد أهديت لك أدما كثيرا ثم قربته إليه فأعجبه و اشتهاه ثم قلت له أيها الملك إني قد رأيت رجلا خرج من عندك و هو رسول رجل عدو لنا فأعطنيه لأقتله فإنه قد أصاب من أشرافنا و خيارنا. فغضب الملك ثم مد يده فضرب بها أنفه ضربة ظننت أنه قد كسره فلو انشقت لي الأرض لدخلت فيها فرقا منه ثم قلت أيها الملك و الله لو ظننت أنك تكره هذا ما سألتكه فقال أ تسألني أن أعطيك رسول رجل يأتيه الناموس الأكبر الذي كان يأتي موسى لتقتله فقلت أيها الملك أ كذلك هو فقال إي و الله أطعني ويحك و اتبعه فإنه و

(7/302)


الله لعلى حق و ليظهرن على من خالفه كما ظهر موسى على فرعون و جنوده قلت فبايعني له على الإسلام فبسط يده فبايعته على الإسلام و خرجت عامدا لرسول الله ص فلما قدمت المدينة جئت إلى رسول الله ص و قد أسلم خالد بن الوليد و قد كان صحبني في الطريق إليه فقلت يا رسول الله أبايعك على أن تغفر لي ما تقدم من ذنبي و لم أذكر ما تأخر
فقال بايع يا عمرو فإن الإسلام يجب ما قبله و إن الهجرة تجب ما قبلها
فبايعته و أسلمت. و ذكر أبو عمر في الإستيعاب أن إسلامه كان سنة ثمان و أنه قدم و خالد بن الوليد و عثمان بن طلحة المدينة فلما رآهم رسول الله قال رمتكم مكة بأفلاذ كبدها. قال و قد قيل إنه أسلم بين الحديبية و خيبر و القول الأول أصح
بعث رسول الله عمرا إلى ذات السلاسل
قال أبو عمر و بعث رسول الله عمرا إلى ذات السلاسل من بلاد قضاعة في ثلاثمائة و كانت أم العاص بن وائل من بلي فبعث رسول الله ص عمرا إلى أرض بلي شرح نهج البلاغة ج : 6 ص : 320و عذرة يتألفهم بذلك و يدعوهم إلى الإسلام فسار حتى إذا كان على ماء أرض جذام يقال له الاسل و قد سميت تلك الغزاة ذات السلاسل خاف فكتب إلى رسول الله ص يستنجد فأمده بجيش فيه مائتا فارس فيه أهل الشرف و السوابق من المهاجرين و الأنصار فيهم أبو بكر و عمر و أمر عليهم أبا عبيدة بن الجراح فلما قدموا على عمرو قال عمرو أنا أميركم و إنما أنتم مددي فقال أبو عبيدة بل أنا أمير من معي و أنت أمير من معك فأبى عمرو ذلك فقال أبو عبيدة إن رسول الله ص عهد إلي فقال إذا قدمت إلى عمرو فتطاوعا و لا تختلفا فإن خالفتني أطعتك قال عمرو فإني أخالفك فسلم إليه أبو عبيدة و صلى خلفه في الجيش كله و كان أميرا عليهم و كانوا خمسمائة
ولايات عمرو في عهد الرسول و الخلفاء

(7/303)


قال أبو عمر ثم ولاه رسول الله ص عمان فلم يزل عليها حتى قبض رسول الله ص و عمل لعمر و عثمان و معاوية و كان عمر بن الخطاب ولاه بعد موت يزيد بن أبي سفيان فلسطين و الأردن و ولى معاوية دمشق و بعلبك و البلقاء و ولى سعيد بن عامر بن خذيم حمص ثم جمع الشام كلها لمعاوية و كتب إلى عمرو بن العاص أن يسير إلى مصر فسار إليها فافتتحها فلم يزل عليها واليا حتى مات عمر فأمره عثمان عليها أربع سنين و نحوها ثم عزله عنها و ولاها عبد الله بن سعد العامري. قال أبو عمر ثم إن عمرو بن العاص ادعى على أهل الإسكندرية أنهم قد نقضوا العهد الذي كان عاهدهم فعمد إليها فحارب أهلها و افتتحها و قتل المقاتلة و سبى الذرية فنقم ذلك عليه عثمان و لم يصح عنده نقضهم العهد فأمر برد السبي الذي سبوا من القرى إلى مواضعهم و عزل عمرا عن مصر و ولى عبد الله بن سعد بن أبي سرح العامري شرح نهج البلاغة ج : 6 ص : 321ر بدله فكان ذلك بدو الشر بين عمرو بن العاص و عثمان بن عفان فلما بدا بينهما من الشر ما بدا اعتزل عمرو في ناحية فلسطين بأهله و كان يأتي المدينة أحيانا فلما استقر الأمر لمعاوية بالشام بعثه إلى مصر بعد تحكيم الحكمين فافتتحها فلم يزل بها إلى أن مات أميرا عليها في سنة ثلاث و أربعين و قيل سنة اثنتين و أربعين و قيل سنة ثمان و أربعين و قيل سنة إحدى و خمسين. قال أبو عمر و الصحيح أنه مات في سنة ثلاث و أربعين و مات يوم عيد الفطر من هذه السنة و عمره تسعون سنة و دفن بالمقطم من ناحية السفح و صلى عليه ابنه عبد الله ثم رجع فصلى بالناس صلاة العيد فولاه معاوية مكانه ثم عزله و ولى مكانه أخاه عتبة بن أبي سفيان. قال أبو عمر و كان عمرو بن العاص من فرسان قريش و أبطالهم في الجاهلية مذكورا فيهم بذلك و كان شاعرا حسن الشعر و أحد الدهاة المتقدمين في الرأي و الذكاء و كان عمر بن الخطاب إذا استضعف رجلا في رأيه و عقله قال أشهد أن خالقك و خالق عمرو واحد

(7/304)


يريد خالق الأضداد
نبذ من كلام عمرو بن العاص
و نقلت أنا من كتب متفرقة كلمات حكمية تنسب إلى عمرو بن العاص استحسنتها و أوردتها لأني لا أجحد لفاضل فضله و إن كان دينه عندي غير مرضي. فمن كلامه ثلاث لا أملهن جليسي ما فهم عني و ثوبي ما سترني و دابتي ما حملت رحلي. شرح نهج البلاغة ج : 6 ص : 322و قال لعبد ال بن عباس بصفين إن هذا الأمر الذي نحن و أنتم فيه ليس بأول أمر قاده البلاء و قد بلغ الأمر منا و منكم ما ترى و ما أبقت لنا هذه الحرب حياة و لا صبرا و لسنا نقول ليت الحرب عادت و لكنا نقول ليتها لم تكن كانت فافعل فيما بقي بغير ما مضى فإنك رأس هذا الأمر بعد علي و إنما هو آمر مطاع و مأمور مطيع و مبارز مأمون و أنت هو. و لما نصب معاوية قميص عثمان على المنبر و بكى أهل الشام حوله قال قد هممت أن أدعه على المنبر فقال له عمرو إنه ليس بقميص يوسف أنه إن طال نظرهم إليه و بحثوا عن السبب وقفوا على ما لا تحب أن يقفوا عليه و لكن لذعهم بالنظر إليه في الأوقات. و قال ما وضعت سري عند أحد فأفشاه فلمته لأني أحق باللوم منه إذ كنت أضيق به صدرا منه. و قال ليس العاقل الذي يعرف الخير من الشر لكن العاقل من يعرف خير الشرين. و قال عمر بن الخطاب لجلسائه يوما و عمرو فيهم ما أحسن الأشياء فقال كل منهم ما عنده فقال ما تقول أنت يا عمرو فقال
الغمرات ثم ينجلينا

(7/305)


و قال لعائشة لوددت أنك قتلت يوم الجمل قالت و لم لا أبا لك قال كنت تموتين بأجلك و تدخلين الجنة و نجعلك أكبر التشنيع على علي بن أبي طالب ع. و قال لبنيه يا بني اطلبوا العلم فإن استغنيتم كان جمالا و إن افتقرتم كان مالا. و من كلامه أمير عادل خير من مطر وابل و أسد حطوم خير من سلطان ظلوم و سلطان ظلوم خير من فتنة تدوم و زلة الرجل عظم يجبر و زلة اللسان لا تبقى و لا تذر و استراح من لا عقل له. شرح نهج البلاغة ج : 6 ص : 323و كتب إليه عمر يسأله عن البحر فكتب إليه خلق عظيم يركبه خلق ضعيف. دود على عود بين غرق و نزق. و ق لعثمان و هو يخطب على المنبر يا عثمان إنك قد ركبت بهذه الأمة نهاية من الأمر و زغت فزاغوا فاعتدل أو اعتزل. و من كلامه استوحش من الكريم الجائع و من اللئيم الشبعان فإن الكريم يصول إذا جاع و اللئيم يصول إذا شبع. و قال جمع العجز إلى التواني فنتج بينهما الندامة و جمع الجبن إلى الكسل فنتج بينهما الحرمان. و روى عبد الله بن عباس قال دخلت على عمرو بن العاص و قد احتضر فقلت يا أبا عبد الله كنت تقول أشتهي أني أرى عاقلا يموت حتى أسأله كيف تجد فما ذا تجد قال أجد السماء كأنها مطبقة على الأرض و أنا بينهما و أراني كأنما أتنفس من خرق إبرة ثم قال اللهم خذ مني حتى ترضى ثم رفع يده فقال اللهم أمرت فعصينا و نهيت فركبنا فلا برئ فأعتذر و لا قوي فأنتصر و لكن لا إله إلا الله فجعل يرددها حتى فاض. و قد روى أبو عمر بن عبد البر هذا الخبر في كتاب الإستيعاب قال لما حضرت عمرو بن العاص الوفاة قال اللهم أمرتني فلم آتمر و زجرتني فلم أنزجر و وضع يده في موضع الغل ثم قال اللهم لا قوي فأنتصر و لا برئ فأعتذر و لا مستكبر بل مستغفر لا إله إلا أنت فلم يزل يرددها حتى مات. قال أبو عمر و حدثني خلف بن قاسم قال حدثني الحسن بن رشيق قال حدثنا الطحاوي قال حدثنا المزني قال سمعت الشافعي يقول دخل ابن عباس على عمرو بن العاص في

(7/306)


مرضه فسلم عليه فقال كيف أصبحت يا أبا عبد الله قال أصبحت و قد أصلحت من دنياي قليلا و أفسدت من ديني كثيرا فلو كان الذي أصلحت هو الذي شرح نهج البلاغة ج : 6 ص : 324أفسدت و الذي أفسدت هو الذي أصلحلفزت و لو كان ينفعني أن أطلب طلبت و لو كان ينجيني أن أهرب هربت فقد صرت كالمنخنق بين السماء و الأرض لا أرقى بيدين و لا أهبط برجلين فعظني بعظة أنتفع بها يا ابن أخي فقال ابن عباس هيهات أبا عبد الله صار ابن أخيك أخاك و لا تشاء أن تبلى إلا بليت كيف يؤمر برحيل من هو مقيم فقال عمرو على حينها من حين ابن بضع و ثمانين تقنطني من رحمة ربي اللهم إن ابن عباس يقنطني من رحمتك فخذ مني حتى ترضى فقال ابن عباس هيهات أبا عبد الله أخذت جديدا و تعطى خلقا قال عمرو ما لي و لك يا ابن عباس ما أرسل كلمة إلا أرسلت نقيضها. و روى أبو عمر في كتاب الإستيعاب أيضا عن رجال قد ذكرهم و عددهم أن عمرا لما حضرته الوفاة قال له ابنه عبد الله و قد رآه يبكي لم تبكي أ جزعا من الموت قال لا و الله و لكن لما بعده فقال له لقد كنت على خير فجعل يذكره صحبة رسول الله ص و فتوحه بالشام فقال له عمرو تركت أفضل من ذلك شهادة أن لا إله إلا الله إني كنت على ثلاثة أطباق ليس منها طبق إلا عرفت نفسي فيه كنت أول أمري كافرا فكنت أشد الناس على رسول الله ص فلو مت حينئذ وجبت لي النار فلما بايعت رسول الله ص كنت أشد الناس حياء منه فما ملأت منه عيني قط فلو مت يومئذ قال الناس هنيئا لعمرو أسلم و كان على خير و مات على خير أحواله فسرحوا له بالجنة ثم تلبثت بعد ذلك بالسلطان و بأشياء فلا أدري

(7/307)


شرح نهج البلاغة ج : 6 ص : 325أ علي أم لي فإذا مت فلا تبكين علي باكية و لا يتبعني نائح و لا تقربوا من قبري نارا و شدوا علي إزاري فإني مخاصم و شنوا علي التراب شنا فإن جنبي الأيمن ليس بأحق من جنبي الأيسر و لا تجعلوا في قبري خشبة و لا حجرا و إذا واريتموني فعدوا عندي قدر نحر جزور و تقطيعها أستأنس بكم. فإن قلت فما الذي يقوله أصحابك المعتزلة في عمرو بن العاص قلت إنهم يحكمون على كل من شهد صفين بما يحكم به على الباغي الخارج على الإمام العادل و مذهبهم في صاحب الكبيرة إذا لم يتب معلوم. فإن قلت أ ليس في هذه الأخبار ما يدل على توبته نحو قوله و لا مستكبر بل مستغفر و قوله اللهم خذ مني حتى ترضى و قوله أمرت فعصيت و نهيت فركبت. و هذا اعتراف و ندم و هو معنى التوبة قلت إن قوله تعالى وَ لَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ حَتَّى إِذا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ يمنع من كون هذا توبة و شروط التوبة و أركانها معلومة و ليس هذا الاعتراف و التأسف منها في شي ء. و قال شيخنا أبو عبد الله أول من قال بالإرجاء المحض معاوية و عمرو بن العاص كانا يزعمان أنه لا يضر مع الإيمان معصية و لذلك قال معاية لمن قال له حاربت من تعلم و ارتكبت ما تعلم فقال وثقت بقوله تعالى إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً شرح نهج البلاغة ج : 6 ص : 326و إلى هذا المعنى أشار عمرو بقوله لابنه تركت أفضل من ذلك شهادة أن لا إله إلا اللهفصل في شرح ما نسب إلى علي من الدعابة

(7/308)


فأما ما كان يقوله عمرو بن العاص في علي ع لأهل الشام إن فيه دعابة يروم أن يعيبه بذلك عندهم فأصل ذلك كلمة قالها عمر فتلقفها حتى جعلها أعداؤه عيبا له و طعنا عليه. قال أبو العباس أحمد بن يحيى ثعلب في كتاب الأمالي كان عبد الله بن عباس عند عمر فتنفس عمر نفسا عاليا قال ابن عباس حتى ظننت أن أضلاعه قد انفرجت فقلت له ما أخرج هذا النفس منك يا أمير المؤمنين إلا هم شديد. قال إي و الله يا ابن عباس إني فكرت فلم أدر فيمن أجعل هذا الأمر بعدي ثم قال لعلك ترى صاحبك لها أهلا قلت و ما يمنعه من ذلك مع جهاده و سابقته و قرابته و علمه قال صدقت و لكنه امرؤ فيه دعابة قلت فأين أنت من طلحة قال هو ذو البأو بإصبعه المقطوعة قلت فعبد الرحمن قال رجل ضعيف لو صار الأمر إليه لوضع خاتمه في يد امرأته قلت فالزبير قال شكس لقس يلاطم في البقيع في صاع من بر قلت فسعد بن أبي وقاص قال صاحب مقنب و سلاح قلت فعثمان قال أوه أوه مرارا ثم قال و الله لئن وليها ليحملن بني أبي معيط على رقاب الناس ثم لتنهضن إليه العرب فتقتله ثم قال يا ابن عباس إنه لا يصلح لهذا الأمر إلا حصيف العقدة قليل الغرة لا تأخذه في الله لومة لائم يكون شديدا من غير عنف لينا من شرح نهج البلاغج : 6 ص : 327غير ضعف جوادا من غير سرف ممسكا من غير وكف قال ابن عباس و كانت هذه صفات عمر ثم أقبل علي فقال إن أحراهم أن يحملهم على كتاب ربهم و سنة نبيهم لصاحبك و الله لئن وليها ليحملنهم على المحجة البيضاء و الصراط المستقيم. و اعلم أن الرجل ذا الخلق المخصوص لا يرى الفضيلة إلا في ذلك الخلق أ لا ترى أن الرجل يبخل فيعتقد أن الفضيلة في الإمساك و البخيل يعيب أهل السماح و الجود و ينسبهم إلى التبذير و إضاعة الحزم و كذلك الرجل الجواد يعيب البخلاء و ينسبهم إلى ضيق النفس و سوء الظن و حب المال و الجبان يعتقد أن الفضيلة في الجبن و يعيب الشجاعة و يعتقد كونها خرقا و تغريرا بالنفس كما قال

(7/309)


المتنبي
يرى الجبناء أن الجبن حزم
و الشجاع يعيب الجبان و ينسبه إلى الضعف و يعتقد أن الجبن ذل و مهانة و هكذا القول في جميع الأخلاق و السجايا المقتسمة بين نوع الإنسان و لما كان عمر شديد الغلظة وعر الجانب خشن الملمس دائم العبوس كان يعتقد أن ذلك هو الفضيلة و أن خلافه نقص و لو كان سهلا طلقا مطبوعا على البشاشة و سماحة الخلق لكان يعتقد أن ذاك هو الفضيلة و أن خلافه نقص حتى لو قدرنا أن خلقه حاصل لعلي ع و خلق علي حاصل له لقال في علي لو لا شراسة فيه. فهو غير ملوم عندي فيما قاله و لا منسوب إلى أنه أراد الغض من علي و القدح شرح نهج البلاغة ج : 6 ص : 32يه و لكنه أخبر عن خلقه ظانا أن الخلافة لا تصلح إلا لشديد الشكيمة العظيم الوعورة و بمقتضى ما كان يظنه من هذا المعنى تمم خلافة أبي بكر بمشاركته إياه في جميع تدابيراته و سياسته و سائر أحواله لرفق و سهولة كانت في أخلاق أبي بكر و بمقتضى هذا الخلق المتمكن عنده كان يشير على رسول الله ص في مقامات كثيرة و خطوب متعدة بقتل قوم كان يرى قتلهم و كان النبي ص يرى استبقاءهم و استصلاحهم فلم يقبل ع مشورته على هذا الخلق. و أما إشارته عليه يوم بدر بقتل الأسرى حيث أشار أبو بكر بالفداء فكان الصواب مع عمر و نزل القرآن بموافقته فلما كان في اليوم الثاني و هو يوم الحديبية أشار بالحرب و كره الصلح فنزل القرآن بضد ذلك فليس كل وقت يصلح تجريد السيف و لا كل وقت يصلح إغماده و السياسة لا تجري على منهاج واحد و لا تلزم نظاما واحدا. و جملة الأمر أنه رضي الله عنه لم يقصد عيب علي ع و لا كان عنده معيبا و لا منقوصا أ لا ترى أنه قال في آخر الخبر أن أحراهم أن وليها أن يحملهم على كتاب الله و سنة رسوله لصاحبك ثم أكد ذلك بأن قال إن وليهم ليحملنهم على المحجة البيضاء و الصراط المستقيم فلو كان أطلق تلك اللفظة و عنى بها ما حملها عليه الخصوم لم يقل في خاتمة كلامه ما قاله. و أنت إذا تأملت

(7/310)


حال علي ع في أيام رسول الله ص وجدته بعيدا عن أن ينسب إلى الدعابة و المزاح لأنه لم ينقل عنه شي ء من ذلك أصلا لا في كتب الشيعة و لا في كتب المحدثين و كذلك إذا تأملت حاله في أيام الخليفتين أبي بكر و عمر لم تجد في كتب السيرة حديثاواحدا يمكن أن يتعلق به متعلق في دعابته و مزاحه فكيف يظن شرح نهج البلاغة ج : 6 ص : 329بعمر أنه نسبه إلى أمر لم ينقله عنه ناقل و لا ندد به صديق و عدو و إنما أراد سهولة خلقه لا غير و ظن أن ذلك مما يفضي به إلى ضعف إن ولي أمر الأمة لاعتقاده أن قوام هذا الأمر ما هو بالوعورة بناء على ما قد ألفته نفسه و طبعت عليه سجيته و الحال في أيام عثمان و أيام ولايته ع الأمر كالحال فيما تقدم في أنه لم يظهر منه دعابة و لا مزاح يسمى الإنسان لأجله ذا دعابة و لعب و من تأمل كتب السير عرف صدق هذا القول و عرف أن عمرو بن العاص أخذ كلمة عمر إذ لم يقصد بها العيب فجعلها عيبا و زاد عليها أنه كثير اللعب يعافس النساء و يمارسهن و أنه صاحب هزل. و لعمر الله لقد كان أبعد الناس من ذلك و أي وقت كان يتسع لعلي ع حتى يكون فيه على هذه الصفات فإن أزمانه كلها في العبادة و الصلاة و الذكر و الفتاوي و العلم و اختلاف الناس إليه في الأحكام و تفسير القرآن و نهاره كله أو معظمه مشغول بالصوم و ليله كله أو معظمه مشغول بالصلاة هذا في أيام سلمه فأما أيام حربه فبالسيف الشهير و السنان الطرير و ركوب الخيل و قود الجيش و مباشرة الحروب. و لقد صدق ع في قوله
إنني ليمنعني من اللعب ذكر الموت

(7/311)


و لكن الرجل الشريف النبيل الذي لا يستطيع أعداؤه أن يذكروا له عيبا أو يعدوا عليه وصمة لا بد أن يحتالوا و يبذلوا جهدهم في تحصيل أمر ما و إن ضعف يجعلونه عذرا لأنفسهم في ذمه و يتوسلون به إلى أتباعهم في تحسينهم لهم مفارقته و الانحراف عنه و ما زال المشركون و المنافقون يصنعون لرسول الله ص الموضوعات ينسبون إليه ما قد برأه الله عنه من العيوب و المطاعن في حياته و بعد وفاته إلى زماننا هذا و ما يزيده الله سبحانه إلا رفعة و علوا فغير منكر أن يعيب عليا ع عمرو بن العاص و أمثاله من أعدائه بما إذا تأمله المتأمل علم أنهم باعتمادهم عليه و تعلقهم به قد اجتهدوا شرح نهج البلاغة ج : 6 ص : 330في مدحه و الثناء عليه لأنهم لو وجدوا عيبا غير ذلك لذكروه و لو بالغ أمير المؤمنين و بذل جهده في أن يثنى أعداؤه و شانئوه عليه من حيث لا يعلمون لم يستطع إلى أن يجد إلى ذلك طريقا ألطف من هذه الطق التي أسلكهم الله تعالى فيها و هداهم إلى منهاجها فظنوا أنهم يغضون منه و إنما أعلوا شأنه و يضعون من قدره و إنما رفعوا منزلته و مكانه
أقوال و حكايات في المزاح
و نحن نذكر من بعد ما جاء في الأحاديث الصحاح و الآثار المستفيضة المتفق على نقلها مزاح رسول الله ص و مزاح الأشراف و الأفاضل و الأكابر من أصحابه و التابعين له ليعلم أن المزاح إذا لم يخرج عن القاعدة الشرعية لم يكن قبيحا.
فأول ذلك ما رواه الناس قاطبة أن رسول الله ص قال إني أمزح و لا أقول إلا حقا
و قيل لسفيان الثوري المزاح هجنة فقال بل هو سنة
لقول رسول الله ص إني أمزح و لا أقول إلا الحق
و جاء في الخبر أن رسول الله ص قال لامرأة من الأنصار الحقي زوجك فإن في عينه بياضا فسعت نحوه مرعوبة فقال لها ما دهاك فأخبرته فقال نعم إن في عيني بياضا لا لسوء فخفضي عليك فهذا من مزاح رسول الله ص

(7/312)


و أتت عجوز من الأنصار إليه ع فسألته أن يدعو الله تعالى لها بالجنة فقال إن الجنة لا تدخلها العجز فصاحت فتبسم ع فقال إنا أنشأناهن إنشاء فجعلناهن أبكارا
شرح نهج البلاغة ج : 6 ص : 331 و في الخبر أيضا أن امرأة استحملته فقال إنا حاملوك إن شاء الله تعالى على ولد الناقة فجعلت تقول يا رسول الله و ما أصنع بولد الناقة و هل يستطيع أن يحملني و هو يبتسم و يقول لا أحملك إلا عليه حتى قال لها أخيرا و هل يلد الإبل إلالنوق
و في الخبر أنه ع مر ببلال و هو نائم فضربه برجله و قال أ نائمة أم عمرو فقال بلال مرعوبا فضرب بيده إلى مذاكيره فقال له ما بالك قال ظننت أني تحولت امرأة قيل فلم يمزح رسول الله بعد هذه
و في الخبر أيضا أن نغرا كان لصبي من صبيان الأنصار فطار من يده فبكى الغلام فكان رسول الله ص يمر به فيقول يا أبا عمير ما فعل النغير و الغلام يبكي
و كان يمازح ابني بنته مزاحا مشهورا و كان يأخذ الحسين ع فيجعله على بطنه و هو ع نائم على ظهره
و يقول له حزقة حزقة ترق عين بقة
و في الحديث الصحيح المتفق عليه أنه مر على أصحاب الدركلة و هم يلعبون و يرقصون فقال جدوا يا بني أرفده حتى يعلم اليهود و النصارى أن في ديننا فسحة
قال أهل اللغة الدركلة بكسر الدال و الكاف لعبة للحبش فيها ترقص و بنو أرفدة جنس من الحبش يرقصون.
و جاء في الخبر أنه سابق عائشة فسبقته ثم سابقها فسبقها فقال هذه بتلك
و في الخبر أيضا أن أصحاب الزفافة و هم الراقصون كانوا يقمعون باب حجرة عائشة فتخرج إليهم مستمعة و مبصرة فيخرج هو ع من ورائها مستترا بها

(7/313)


و كان نعيمان و هو من أهل بدر أولع الناس بالمزاح عند رسول الله ص شرح نهج البلاغة ج : 6 ص : 332و كان يكثر الضحك فقال رسول الله ص يدخل الجنة و هو يضحكو خرج نعيمان هو و سويبط بن عبد العزى و أبو بكر الصديق في تجارة قبل وفاة رسول الله ص بعامين و كان سويبط على الزاد فكان نعيمان يستطعمه فيقول حتى يجي ء أبو بكر فمر بركب من نجران فباعه نعيمان منهم على أنه عبد له بعشر قلائص و قال لهم إنه ذو لسان و لهجة و عساه قول لكم أنا حر فقالوا لا عليك. و جاءوا إليه فوضعوا عمامته في عنقه و ذهبوا به فلما جاء أبو بكر أخبر بذلك فرده و أعاد القلائص إليهم فضحك رسول الله ص و أصحابه من ذلك سنة. و روي أن أعرابيا باع نعيمان عكة عسل فاشتراها منه فجاء بها إلى بيت عائشة في يومها و قال خذوها فظن رسول الله ص أنه أهداها إليه و مضى نعيمان فنزل الأعرابي على الباب فلما طال قعوده نادى يا هؤلاء إما أن تعطونا ثمن العسل أو تردوه علينا فعلم رسول الله ص بالقصة و أعطى الأعرابي الثمن و قال لنعيمان ما حملك على ما فعلت قال رأيتك يا رسول الله تحب العسل و رأيت العكة مع الأعرابي فضحك رسول الله ص و لم ينكر عليه. و سئل النخعي هل كان أصحاب رسول الله يضحكون و يمزحون فقال نعم و الإيمان في قلوبهم مثل الجبال الرواسي.

(7/314)


و جاء في الخبر أن يحيى ع لقي عيسى ع و عيسى متبسم فقال يحيى ع ما لي أراك لاهيا كأنك آمن فقال ع ما لي أراك عابسا شرح نهج البلاغة ج : 6 ص : 333كأنك آيس فقالا لا نبرح حتى ينزل علينا الوحي فأوحى الله إليهما أحبكما إلي الطلق البسام أحسنكما ظنا بيو روي عن كبراء الصحابة رضي الله تعالى عنهم أنهم كانوا يتمازحون و يتناشدون الأشعار فإذا خاضوا في الدين انقلبت حماليقهم و صاروا في صور أخرى. و روي أن عبد الله بن عمر قال لجاريته خلقني خالق الخير و خلقك خالق الشر فبكت فقال لا عليك فإن الله تعالى هو خالق الخير و هو خالق الشر. قلت يعني بالشر المرض و الغلاء و نحوهما. و كان ابن سيرين ينشد
نبئت أن فتاة كنت أخطبها عرقوبها مثل شهر الصوم في الطول
ثم يضحك حتى يسيل لعابه. و جاء عبد الرحمن بن عوف إلى باب عمر بن الخطاب فوجده مستلقيا على مرفقة له رافعا إحدى رجليه على الأخرى منشدا بصوت عال
و كيف ثوائي بالمدينة بعد ما قضى وطرا منها جميل بن معمر
فلما دخل عبد الرحمن و جلس قال يا أبا محمد إنا إذا خلونا قلنا كما يقول الناس. و كان سعيد بن المسيب ينشد
لقد أصبحت عرس الفرزدق جامحا و لو رضيت رمح استه لاستقرت

(7/315)


و يضحك حتى يستغرق. و كان يقال لا بأس بقليل المزاح يخرج منه الرجل عن حد العبوس. شرح نهج البلاغة ج : 6 ص : 334و من كلام بعض الأدباء و نحن نحمد الله إليك فإن عقدة الإسلام في قلوبنا صحيحة و أواخيه عندنا ثابتة و قد اجتهد قوم أن يدخلوا قلوبنا من مرض قلوبهم و أيشوبوا يقيننا بشكهم فعصم الله منهم و حال توفيقه دونهم و لنا بعد مذهب في الدعابة جميل لا يشوبه أذى و لا قذى يخرج بنا إلى الأنس من العبوس و إلى الاسترسال من القطوب و يلحقنا بأحرار الناس الذين ارتفعوا عن لبسة الرياء و أنفوا من التشوف بالتصنع. و قال ابن جريج سألت عطاء عن القراءة على ألحان الغناء و الحداء فقال لي لا بأس بذلك حدثني عبيد الله بن عمر الليثي أنه كان لداود النبي ع معزفة قد يضرب بها إذا قرأ الزبور فتجمع إليه الطير و الوحش فيبكي و يبكي من حوله. و قال جابر بن عبد الله الجعفي رأيت الشعبي يقول لخياط يمازحه عندنا حب مكسور و أحب أن تخيطه فقال الخياط أحضر لي خيوطا من ريح لأخيطه لك. و سئل الشعبي هل يجوز أن يؤكل الجني لو ظفر به فقال ليتنا نخرج منه كفافا لا لنا و لا علينا. و سأل إنسان محمد بن سيرين عن هشام بن حسان فقال توفي البارحة أ ما شعرت فخرج يسترجع فلما رأى ابن سيرين جزعه قرأ اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها. و كان زيد بن ثابت من أفكه الناس في بيته و أرفثهم و قد أباح الله تعالى الرفث إلى النساء فقال أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيامِ الرَّفَثُ إِلى نِسائِكُمْ هُنَّ لِباسٌ لَكُمْ شرح نهج البلاغة : 6 ص : 335وَ أَنْتُمْ لِباسٌ لَهُنَّ و قال أهل اللغة الرفث القول الفاحش تخاطب به المرأة حال الجماع. و مر بالشعبي حمال على ظهره دن خل فوضع الدن و قال له ما كان اسم امرأة إبليس فقال الشعبي ذلك نكاح ما شهدناه. و قال عكرمة ختن ابن عباس بنيه فأرسلني فدعوت اللعابين فلعبوا فأعطاهم أربعة دراهم. و تقدم رجلان إلى شريح في خصومة

(7/316)


فأقر أحدهما بما ادعي عليه و هو لا يدري فقضى شريح عليه فقال أصلحك الله أ تقضي علي بغير بينة قال بلى شهد عندي ثقة قال و من هو قال ابن أخت خالتك.
و جاء في الخبر أن النبي ص مر بصهيب و هو أرمد يأكل تمرا فنهاه فقال إنما آكله عن جانب العين الصحيحة يا رسول الله فضحك منه و لم ينكر عليه
و في الخبر أنه ص مر بحسان بن ثابت و قد رش أطماره و عنده جارية تغنيه
هل على ويحكما إن لغوت من حرج
فقال ص لا حرج إن شاء الله
و قيل إن عبد الله بن جعفر قال لحسان بن ثابت في أيام معاوية لو غنتك فلانة جاريتي صوت كذا لم تدرك ركابك فقال يا أبا جعفر فكلوا منها و أطعموا البائس الفقير. شرح نهج البلاغة ج : 6 ص : 336و قال أسلم مولى عمر بن الخطاب مر بي عمر و أنا و عاصم نغني غناء النصب فو و قال أعيدا علي فأعدنا عليه و قلنا أينا أحسن صنعة يا أمير المؤمنين فقال مثلكما كحماري العبادي قيل له أي حماريك شر فقال هذا ثم هذا فقلت يا أمير المؤمنين أنا الأول من الحمارين فقال أنت الثاني منهما. و مر نعيمان و هو بدري بمخرمة بن نوفل في خلافة عثمان و قد كف بصره فقال أ لا يقودني رجل حتى أبول فأخذ نعيمان بيده حتى صار به إلى مؤخر المسجد و قال هاهنا فبل فبال فصاح به الناس فقال من قادني قيل نعيمان قال لله علي أن أضربه بعصاي هذه فبلغ نعيمان فأتاه فقال بلغني أنك أقسمت لتضربن نعيمان فهل لك فيه قال نعم قال قم فقام معه حتى وافى به عثمان بن عفان و هو يصلي فقال دونك الرجل فجمع محرمة يديه في العصا و ضربه بها فصاح الناس ويلك أمير المؤمنين قال من قادني قالوا نعيمان قال و ما لي و لنعيمان لا أعرض له أبدا. و كان طويس يتغنى في عرس فدخل النعمان بن بشير الأنصاري العرس و طويس يغنيهم
أ جد بعمرة هجرانها و تسخط أم شاننا شانها
فأشاروا إليه بالسكوت فقال النعمان دعوه إنه لم يقل بأسا إنما قال
و عمرة من سروات النساء تنفح بالمسك أردانها

(7/317)


و عمرة هذه أم النعمان و فيها قيل هذا النسيب. و قد روي عن جماعة من الصحابة و التابعين اللعب بالنرد و الشطرنج و منهم من روي عنهم شرب النبيذ و سماع الغناء المطرب. شرح نهج البلاغة ج : 6 ص : 337فأما أمير المؤمنين علي ع فإذا نظرت إلى كتب الحديث و السير لم تجد دا من خلق الله عدوا و لا صديقا روى عنه شيئا من هذا الفن لا قولا و لا فعلا و لم يكن جد أعظم من جده و لا وقار أتم من وقاره و ما هزل قط و لا لعب و لا فارق الحق و الناموس الديني سرا و لا جهرا و كيف يكون هازلا
و من كلامه المشهور عنه ما مزح امرؤ مزحة إلا و مج معها من عقله مجة
و لكنه خلق على سجية لطيفة و أخلاق سهلة و وجه طلق و قول حسن و بشر ظاهر و ذلك من فضائله ع و خصائصه التي منحه الله بشرفها و اختصه بمزيتها و إنما كانت غلظته و فظاظته فعلا لا قولا و ضربا بالسيف لا جبها بالقول و طعنا بالسنان لا عضها باللسان كما قال الشاعر
و تسفه أيدينا و يحلم رأينا و نشتم بالأفعال لا بالتكلم
نبذ و أقول في حسن الخلق و مدحه
فأما سوء الخلق فلم يكن من سجاياه
فقد قال النبي ص خصلتان لا يجتمعان في مؤمن البخل و سوء الخلق
و قال الله تعالى لنبيه ص وَ إِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ و قال أيضا وَ لَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ.
و قيل لرسول الله ص ما الشؤم فقال سوء الخلق
و صحب جابر رجلا في طريق مكة فآذاه سوء خلقه فقال جابر إني لأرحمه نحن نفارقه و يبقى معه سوء خلقه. شرح نهج البلاغة ج : 6 ص : 338و قيل لعبد الله بن جعفر كيف تجاور بني زهرة و في أخلاقهم زعارة قال لا يكون لي قبلهم شي ء إلا تركته و لا يطلبون مني شيئا إلا أعطيت
و في الحديث المرفوع أنه ص قال أ لا أنبئكم بشر الناس قالوا بلى يا رسول الله قال من نزل وحده و منع رفده و ضرب عبده ثم قال أ لا أنبئكم بشر من ذلك قالوا بلى قال من لم يقل عثرة و لا يقبل معذرة

(7/318)


و قال إبراهيم بن عباس الصولي لو وزنت كلمة رسول الله ص بمحاسن الخلق كلها لرجحت
قوله إنكم لن تسعوا الناس بأموالكم فسعوهم بأخلاقكم
و في الخبر المرفوع حسن الخلق زمام من رحمة الله في أنف صاحبه و الزمام بيد الملك و الملك يجره إلى الخير و الخير يجره إلى الجنة و سوء الخلق زمام من عذاب الله في أنف صاحبه و الزمام بيد الشيطان و الشيطان يجره إلى الشر و الشر يجره إلى النار
و روى الحسن بن علي ع عن النبي ص أن الرجل يدرك بحسن خلقه درجة الصائم القائم و إنه ليكتب جبارا و لا يملك إلا أهله
و روى أبو موسى الأشعري قال بينا رسول الله ص يمشي و امرأة بين يديه فقلت الطريق لرسول الله ص فقالت الطريق معرض إن شاء أخذ يمينا و إن شاء أخذ شمالا فقال ص دعوها فإنها جبارة
و قال بعض السلف الحسن الخلق ذو قرابة عند الأجانب و السيئ الخلق أجنبي عند أهله. و من كلام الأحنف أ لا أخبركم بالمحمدة بلا مذمة الخلق السجيح و الكف عن القبيح أ لا أخبركم بأدوأ الداء الخلق الدني ء و اللسان البذي ء. شرح نهج البلاغة ج : 6 ص : و في الحديث المرفوع أول ما يوضع في الميزان الخلق الحسن
و جاء مرفوعا أيضا المؤمن هين لين كالجمل الأنف إن قيد انقاد و إن أنيخ على صخرة استناخ
و جاء مرفوعا أيضا أ لا أخبركم بأحبكم إلي و أقربكم مني مجالس يوم القيامة أحاسنكم أخلاقا الموطئون أكنافا الذين يألفون و يؤلفون أ لا أخبركم بأبغضكم إلي و أبعدكم مني مجالس يوم القيامة الثرثارون المتفيهقون
أبو رجاء العطاردي من سره أن يكون مؤمنا حقا فليكن أذل من قعود كل من مر به ادعاه. فضيل بن عياض لأن يصحبني فاجر حسن الخلق أحب إلي من أن يصحبني عابد سيئ الخلق لأن الفاسق إذا حسن خلقه خف على الناس و أحبوه و العابد إذا ساء خلقه ثقل على الناس و مقتوه.

(7/319)


دخل فرقد و محمد بن واسع على رجل يعودانه فجرى ذكر العنف و الرفق فروى فرقد عن رسول الله ص أنه قيل له على من حرمت النار يا رسول الله قال على الهين اللين السهل القريب فلم يجد محمد بن واسع بياضا يكتب ذلك فيه فكتبه على ساقه
عبد الله بن الداراني ما ضرب عبد بعقوبة أعظم من قسوة القلب.
عائشة قال رسول الله ص إذا أراد الله بأهل بيت خيرا أدخل عليهم باب رفق
و عنها عنه ص من أعطي حظه من الرفق أعطي حظه من خير الدنيا و الآخرة
شرح نهج البلاغة ج : 6 ص : 340 جرير بن عبد الله البحلي رفعه أن الله ليعطي على الرفق ما لا يعطي على الخرق فإذا أحب الله عبدا أعطاه الرفقو كان يقال ما دخل الرفق في شي ء إلا زانه. أبو عون الأنصاري ما تكلم الإنسان بكلمة عنيفة إلا و إلى جانبها كلمة ألين منها تجري مجراها. سئلت عائشة عن خلق رسول الله ص فقالت كان خلقه القرآن خُذِ الْعَفْوَ وَ أْمُرْ بِالْعُرْفِ وَ أَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ
و سئل ابن المبارك عن حسن الخلق فقال بسط الوجه و كف الأذى و بذل الندى.
ابن عباس أن الخلق الحسن يذيب الخطايا كما تذيب الشمس الجليد و أن الخلق السيئ يفسد العمل كما يفسد الخل العسل
علي ع ما من شي ء في الميزان أثقل من خلق حسن و عنه ع عنوان صحيفة المؤمن حسن خلقه
و عنه ع مرفوعا عليكم بحسن الخلق فإنه في الجنة و إياكم و سوء الخلق فإنه في النار
قال المنصور لأخيه أبي العباس في بني حسن لما أزمعوا الخروج عليه آنسهم يا أمير المؤمنين بالإحسان فإن استوحشوا فالشر يصلح ما يعجز عنه الخير و لا تدع محمدا يمرح في أعنة العقوق فقال أبو العباس يا أبا جعفر إنه من شدد نفر و من لان ألف و التغافل من سجايا الكرام
فصل في ذكر أسباب الغلظة و الفظاظة

(7/320)


و نحن نذكر بعد كلاما كليا في سبب الغلظة و الفظاظة و هو الخلق المنافي للخلق الذي كان عليه أمير المؤمنين فنقول شرح نهج البلاغة ج : 6 ص : 341إنه قد يكون لأمر عائد إلى المزاج الجسماني و قد يكون لأمر راجع إلى النفس فأما الأول فإنما يكون من غلبة الأخلاط السوداة و ترمدها و عدم صفاء الدم و كثرة كدرته و عكره فإذا غلظ الدم و ثخن غلظ الروح النفساني و ثخن أيضا لأنه متولد من الدم فيحدث منه نوع مما يحدث لأصحاب الفطرة من الاستيحاش و النبوة عن الناس و عدم الاستئناس و البشاشة و صار صاحبه ذا جفاء و أخلاق غليظة و يشبه أن يكون هذا سببا ماديا فإن الذي يقوى في نفسي أن النفوس إن صحت و ثبتت مختلفة بالذات. و أما الراجع إلى النفس فأن يجتمع عندها أسقاط و أنصباء من قوى مختلفة مذمومة نحو أن تكون القوة الغضبية عندها متوافرة و ينضاف إليها تصور الكمال في ذاتها و توهم النقصان في غيرها فيعتقد أن حركات غيره واقعة على غير الصواب و أن الصواب ما توهمه. و ينضاف إلى ذلك قلة أدب النفس و عدم الضبط لها و استحقارها للغير و يقل التوقير له و ينضاف إلى ذلك لجاج و ضيق في النفس و حدة و استشاطة و قلة صبر عليه فيتولد من مجموع هذه الأمور خلق دني و هو الغلظة و الفظاظة و الوعورة و البادرة المكروهة و عدم حبه الناس و لقاؤهم بالأذى و قلة المراقبة لهم و استعمال القهر في جميع الأمور و تناول الأمر من السماء و هو قادر على أن يتناوله من الأرض. و هذا الخلق خارج عن الاعتدال و داخل في حيز الجور و لا ينبغي أن يسمى بأسماء المدح و أعني بذلك أن قوما يسمون هذا النوع من العنف و الخلق الوعر رجولية و شدة و شكيمة و يذهبون به مذهب قوة النفس و شجاعتها الذي هو بالحقيقة مدح و شتان بين الخلقين فإن صاحب هذا الخلق الذي ذممناه تصدر عنه أفعال كثيرة يجور فيها على نفسه ثم على إخوانه على الأقرب فالأقرب من معامليه حتى ينتهي إلى عبيده و حرمه فيكون عليهم سوط

(7/321)


عذاب لا يقيلهم عثرة و لا يرحم لهم عبرة و إن كانوا برآء الذنوب غير مجرمين و لا مكتسبي سوء بل يتجرم عليهم و يهيج من أدنى سبب يجد به طريقا إليهم شرح نهج البلاغة ج : 6 ص : 342حتى يبسط يده و لسانو هم لا يمتنعون منه و لا يتجاسرون على رده عن أنفسهم بل يذعنون له و يقرون بذنوب لم يقترفوها استكفافا لعاديته و تسكينا لغضبه و هو في ذلك يستمر على طريقته لا يكف يدا و لا لسانا. و أصل هذا الخلق الذي ذكرناه أنه مركب من قوى مختلفة من شدة القوة الغضبية فهي الحاملة لصاحب هذا الخلق على ما يصدر عنه من البادرة المكروهة و الجبة و القحة و قد رأينا و شاهدنا من تشتد القوة الغضبية فيه فيتجاوز الغضب على نوع الإنسان إلى البهائم التي لا تعقل و إلى الأواني التي لا تحس و ربما قام إلى الحمار و إلى البرذون فضربهما و لكمهما و ربما كسر الآنية لشدة غضبه و ربما عض القفل إذا تعسر عليه و ربما كسر القلم إذا تعلقت به شعره من الدواة و اجتهد في إزالتها فلم تزل. و يحكى عن بعض ملوك اليونان المتقدمين أنه كان يغضب على البحر إذا هاج و اضطرب و تأخرت سفنه عن النفوذ فيه فيقسم بمعبوده ليطمنه و ليطرحن الجبال فيه حتى يصير أرضا و يقف بنفسه على البحر و يهدده بذلك و يزجره زجرا عنيفا حتى تدر أوداجه و يشتد احمرار وجهه و منهم من لا يسكن غضبه حتى يصب عليه ماء بارد أو حتى يبول و لهذا ورد في الشريعة الأمر لمن اشتد غضبه أن يتوضأ للصلاة و يصلي. و كان عمر بن الخطاب إذا غضب على واحد من أهله لا يسكن غضبه حتى يعض يده عضا شديدا حتى يدميها. و ذكر الزبير بن بكار في الموفقيات أن سرية جاءت لعبد الرحمن أو لعبيد الله

(7/322)


شرح نهج البلاغة ج : 6 ص : 343بن عمر بن الخطاب إليه تشكوه فقالت يا أمير المؤمنين أ لا تعذرني من أبي عيسى قال و من أبو عيسى قالت ابنك عبيد الله قال ويحك و قد تكني بأبي عيسى ثم دعاه فقال أيها اكتنيت بأبي عيسى فحذر و فزع و أخذ يده فعضها ثم ضربه و قال ويلك ول لعيسى أب أ تدري ما كنى العرب أبو سلمة أبو حنظلة أبو عرفطة أبو مرة. قال الزبير و كان عمر إذا غضب على بعض أهله لم يسكن غضبه حتى يعض يده عضا شديدا و كان عبد الله بن الزبير كذلك و لقوة هذا الخلق عنده أضمر عبد الله بن عباس في خلافته إبطال القول بالعول و أظهره بعده فقيل له هلا قلت هذا في أيام عمر فقال هبته و كان أميرا مهيبا. و لذلك قال أيضا أبو سفيان في استلحاق زياد أخاف من هذا العير الجالس أن يخرق علي إهابي فإذا هابه أبو سفيان و هو من بني عبد مناف في المنزلة التي تعلم و حوله بنو عبد شمس و هم جمرة قريش فما ظنك بمن هو دونه. و قد علمت حال جبلة بن الأيهم و ارتداده عن الإسلام لتهدده له و وعيده إياه أن يضربه بالدرة و فساد الحال بينه و بين خالد بن الوليد بعد أن كان وليا مصافيا و منحرفا عن غيره قاليا و الشأن الذي كان بينه و بين طلحة حتى هم أن يوقع به و حتى هم طلحة أن يجاهره و طلحة هو الذي قال لأبي بكر عند موته ما ذا تقول لربك و قد وليت فينا فظا غليظا و هو القائل له يا خليفة رسول الله إنا كنا لا نحتمل شراسته و أنت حي تأخذ على يديه فكيف يكون حالنا معه و أنت ميت و هو الخليفة. و اعلم أنا لا نريد بهذا القول ذمه رضي الله عنه و كيف نذمه و هو أولى الناس بالمدح شرح نهج البلاغة ج : 6 ص : 344و التعظيم ليمن نقيبته و بركة خلافته و كثرة الفتوح في أيامه و انتظام أمور الإسلام على يده و لكنا أردنا أن نشرح حال العنف و الرفق و حال سعة الخلق و ضيقه و حال البشاشة و العبوس و حال الطلاقة و اعورة فنذكر كل واحد منها ذكرا كليا لا نخص به إنسانا بعينه فأما عمر

(7/323)


فإنه و إن كان وعرا شديدا خشنا فقد رزق من التوفيق و العناية الإلهية و نجح المساعي و طاعة الرعية و نفوذ الحكم و قوة الدين و حسن النية و صحة الرأي ما يربي محاسنه و محامده على ما في ذلك الخلق من نقص و ليس الكامل المطلق إلا الله تعالى وحده. فأما حديث الرضيخة و ما جعل معاوية لعمرو بن العاص من جعالة على مبايعته و نصرته فقد تقدم ذكره في أخبار صفين المشروحة في هذا الكتاب من قبل
شرح نهج البلاغة ج : 6 ص : 84345- و من خطبة له عوَ أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ الْأَوَّلُ لَا شَيْ ءَ قَبْلَهُ وَ الآْخِرُ لَا غَايَةَ لَهُ لَا تَقَعُ الْأَوْهَامُ لَهُ عَلَى صِفَةٍ وَ لَا تُعْقَدُ الْقُلُوبُ مِنْهُ عَلَى كَيْفِيَّةٍ وَ لَا تَنَالُهُ التَّجْزِئَةُ َ التَّبْعِيضُ وَ لَا تُحِيطُ بِهِ الْأَبْصَارُ وَ الْقُلُوبُ

(7/324)


في هذا الفصل على قصره ثماني مسائل من مسائل التوحيد. الأولى أنه لا ثاني له سبحانه في الإلهية. و الثانية أنه قديم لا أول له فإن قلت ليس يدل كلامه على القدم لأنه قال الأول لا شي ء قبله فيوهم كونه غير قديم بأن يكون محدثا و ليس قبله شي ء لأنه محدث عن عدم و الم ليس بشي ء قلت إذا كان محدثا كان له محدث فكان ذلك المحدث قبله فثبت أنه متى صدق أنه ليس شي ء قبله صدق كونه قديما. و الثالثة أنه أبدي لا انتهاء و لا انقضاء لذاته. و الرابعة نفي الصفات عنه أعني المعاني. و الخامسة نفي كونه مكيفا لأن كيف إنما يسأل بها عن ذويلهيئات و الأشكال و هو منزه عنها. و السادسة أنه غير متبعض لأنه ليس بجسم و لا عرض. شرح نهج البلاغة ج : 6 ص : 346و السابعة أنه لا يرى و لا يدرك. و الثامنة أن ماهيته غير معلومة و هو مذهب الحكماء و كثير من المتكلمين من أصحابنا و غيرهم. و أدلة هذه المسائل مشرو في كتبنا الكلامية. و اعلم أن التوحيد و العدل و المباحث الشريفة الإلهية ما عرفت إلا من كلام هذا الرجل و أن كلام غيره من أكابر الصحابة لم يتضمن شيئا من ذلك أصلا و لا كانوا يتصورونه و لو تصوروه لذكروه و هذه الفضيلة عندي أعظم فضائله ع
وَ مِنْهَا فَاتَّعِظُوا عِبَادَ اللَّهِ بِالْعِبَرِ النَّوَافِعِ وَ اعْتَبِرُوا بِالآْيِ السَّوَاطِعِ وَ ازْدَجِرُوا بِالنُّذُرِ الْبَوَالِغِ وَ انْتَفِعُوا بِالذِّكْرِ وَ الْمَوَاعِظِ فَكَأَنْ قَدْ عَلِقَتْكُمْ مَخَالِبُ الْمَنِيَّةِ وَ انْقَطَعَتْ مِنْكُمْ عَلَائِقُ الْأُمْنِيَّةِ وَ دَهِمَتْكُمْ مُفْظِعَاتُ الْأُمُورِ وَ السِّيَاقَةُ إِلَى الْوِرْدِ الْمَوْرُودِ فَكُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وَ شَهِيدٌ سَائِقٌ يَسُوقُهَا إِلَى مَحْشَرِهَا وَ شَاهِدٌ يَشْهَدُ عَلَيْهَا بِعَمَلِهَا

(7/325)


العبر جمع عبرة و هي ما يعتبر به أي يتعظ و الآي جمع آية و يجوز أن يريد شرح نهج البلاغة ج : 6 ص : 347بها آي القرآن و يجوز أن يريد بها آيات الله في خلقه و في غرائب الحوادث في العالم. و السواطع المشرقة المنيرة. و النذر جمع نذير و هو المخوف و الأحسن أن يكون اذر هاهنا هي الإنذارات نفسها لأنه قد وصف ذلك بالبوالغ و فواعل لا تكون في الأكثر إلا صفة المؤنث. و مفظعات الأمور شدائدها الشنيعة أفظع الأمر فهو مفظع و يجوز فظع الأمر بالضم فظاعة فهو فظيع و أفظع الرجل على ما لم يسم فاعله أي نزل به ذلك. و قوله و السياقة إلى الورد المورود يعني الموت و قوله سائق و شهيد و قد فسر ع ذلك و قال سائق يسوقها إلى محشرها و شاهد يشهد عليها بعملها و قد قال بعض المفسرين إن الآية لا تقتضي كونهما اثنين بل من الجائز أن يكون ملكا واحدا جامعا بين الأمرين كأنه قال و جاءت كل نفس معها ملك يسوقها و يشهد عليها و كلام أمير المؤمنين يحتمل ذلك أيضا لأنه لم يقل أحدهما لكن الأظهر في الأخبار و الآثار أنهما ملكان. فإن قلت إذا كان تعالى عالما بكل شي ء فأي حاجة إلى الملائكة التي تكتب الأعمال كما قال سبحانه بَلى وَ رُسُلُنا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ و إذا كان تعال أعدل العادلين فأي حاجة إلى ملك يشهد على المكلف يوم القيامة و إذا كان قادرا لذاته فأي حاجة إلى ملك يسوق المكلف إلى المحشر قلت يجوز أن يكون في تقرير مثل ذلك في أنفس المكلفين في الدنيا ألطاف و مصالح لهم في أديانهم فيخاطبهم الله تعالى به شرح نهج البلاغة ج : ص : 348لوجوب اللطف في حكمته و إذا خاطبهم به وجب فعله في الآخرة لأن خبره سبحانه لا يجوز الخلف عليه
وَ مِنْهَا فِي صِفَةِ الْجَنَّةِ دَرَجَاتٌ مُتَفَاضِلَاتٌ وَ مَنَازِلُ مُتَفَاوِتَاتٌ لَا يَنْقَطِعُ نَعِيمُهَا وَ لَا يَظْعَنُ مُقِيمُهَا وَ لَا يَهْرَمُ خَالِدُهَا وَ لَا يَبْأَسُ سَاكِنُهَا

(7/326)


الدرجات جمع درجة و هي الطبقات و المراتب و يقال لها درجات في الجنة و دركات في النار و إنما تفاضلت و تفاوتت بحسب الأعمال و لا يجوز أن يقع ذلك تفضلا لأن التفضل بالثواب قبيح. فإن قلت فما قولك في الحور و الولدان و الأطفال و المجانين قلت يكون الواصل إليهم نعيما و لذة لا شبهة في ذلك و لكن لا ثواب لهم و لا ينالونه و الثواب أمر أخص من المنافع و النعيم لأنه منافع يقترن بها التعظيم و التبجيل و هذا الأمر الأخص لا يحسن إيصاله إلا إلى أرباب العمل. و قوله لا ينقطع نعيمها و لا يظعن مقيمها قول متفق عليه بين أهل الملة إلا ما يحكى عن أبي الهذيل أن حركات أهل الجنة تنتهي إلى سكون دائم و قد نزهه قوم من أصحابنا عن هذا القول و أكذبوا رواته و من أثبته منهم عنه زعم أنه لم يقل بانقطاع النعيم لكن بانقطاع الحركة مع دوام النعيم و إنما حمله على ذلك أنه لما استدل على أن شرح نهج البلاغة ج 6 ص : 349الحركة الماضية يستحيل ألا يكون لها أول عورض بالحركات المستقبلة لأهل الجنة و النار فالتزم أنها متناهية و إنما استبعد هذا عنه لأنه كان أجل قدرا من أن يذهب عليه الفرق بين الصورتين. و يبأس مضارع بئس و جاء فيه يبئس بالكسر و هو شاذ كشذوذ يحسب و ينعم و معنى يبأس يصيبه البؤس و هو الشقاء

(7/327)


شرح نهج البلاغة ج : 6 ص : 85350- و من خطبة له عقَدْ عَلِمَ السَّرَائِرَ وَ خَبَرَ الضَّمَائِرَ لَهُ الْإِحَاطَةُ بِكُلِّ شَيْ ءٍ وَ الْغَلَبَةُ لِكُلِّ شَيْ ءٍ وَ الْقُوَّةُ عَلَى كُلِّ شَيْ ءٍ فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُ مِنْكُمْ فِي أَيَّامِ مَهَلِهِ قَبْلَ إِرْهَاقِ أَجَلِهِ وَ فِي فَرَاغِهِ قَبْلَ أانِ شُغُلِهِ وَ فِي مُتَنَفَّسِهِ قَبْلَ أَنْ يُؤْخَذَ بِكَظَمِهِ وَ لْيُمَهِّدْ لِنَفْسِهِ وَ قَدَمِهِ وَ لْيَتَزَوَّدْ مِنْ دَارِ ظَعْنِهِ لِدَارِ إِقَامَتِهِ فَاللَّهَ اللَّهَ أَيُّهَا النَّاسُ فِيمَا اسْتَحْفَظَكُمْ مِنْ كِتَابِهِ وَ اسْتَوْدَعَكُمْ مِنْ حُقُوقِهِ فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ لَمْ يَخْلُقْكُمْ عَبَثاً وَ لَمْ يَتْرُكْكُمْ سُدًى وَ لَمْ يَدَعْكُمْ فِي جَهَالَةٍ وَ لَا عَمًي قَدْ سَمَّى آثَارَكُمْ وَ عَلِمَ أَعْمَالَكُمْ وَ كَتَبَ آجَالَكُمْ وَ أَنْزَلَ عَلَيْكُمُ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِكُلِّ شَيْ ءٍ وَ عَمَّرَ فِيكُمْ نَبِيِّهُ أَزْمَاناَ حَتَّى أَكْمَلَ لَهُ وَ لَكُمْ فِيمَا أَنْزَلَ مِنْ كِتَابِهِ دِينَهُ الَّذِي رَضِيَ لِنَفْسِهِ وَ أَنْهَى إِلَيْكُمْ عَلَى لِسَانِهِ مَحَابَّهُ مِنَ الْأَعْمَالِ وَ مَكَارِهَهُ وَ نَوَاهِيَهُ وَ أَوَامرَهُ وَ أَلْقَى إِلَيْكُمُ الْمَعْذِرَةَ وَ اتَّخَذَ عَلَيْكُمُ الْحُجَّةَ وَ قَدَّمَ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ وَ أَنْذَرَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ

(7/328)


السرائر جمع سريرة و هو ما يكتم من السر. و خبر الضمائر بفتح الباء امتحنها و ابتلاها و من رواه بكسر الباء أراد علم و الاسم شرح نهج البلاغة ج : 6 ص : 351الخبر بضم الخاء و هو العلم و الضمائر جمع ضمير و هو ما تضمره و تكنه في نفسك. و في قوله له الإحاطة بكل شيو قد بينها ثلاث مسائل في التوحيد إحداهن أنه تعالى عالم بكل المعلومات. و الثانية أنه لا شريك له و إذا ثبت كونه عالما بكل شي ء كان في ضمن ذلك نفي الشريك لأن الشريك لا يكون مغلوبا. و الثالثة أنه قادر على كل ما يصح تعلق قادريته تعالى به. و أدلة هذه المسائل مذورة في الكتب الكلامية. و قوله فليعمل العامل منكم إلى قوله و ليتزود من دار ظعنه لدار إقامته مأخوذ من قول رسول الله ص في خطبته المشهورة
و هي أيها الناس إن لكم معالم فانتهوا إلى معالمكم و إن لكم غاية فانتهوا إلى غايتكم إن المؤمن بين مخافتين بين أجل قد مضى لا يدري ما الله صانع به و أجل قد بقي لا يدري ما الله قاض فيه فليأخذ العبد من نفسه لنفسه و من دنياه لآخرته و من الشبيبة قبل الهرم و من الحياة قبل الموت فو الذي نفس محمد بيده ما بعد الموت من مستعتب و ما بعد الدنيا من دار إلا الجنة أو النار
و المهل المهلة و التؤدة و الإرهاق مصدر أرهق تقول أرهقه قرنه في الحرب إرهاقا إذا غشيه ليقتله و زيد مرهق قال الشاعر
تندى أكفهم و في أبياتهم ثقة المجاور و المضاف المرهق

(7/329)


و في متنفسه أي في سعة وقته يقال أنت في نفس من أمرك أي في سعة. شرح نهج البلاغة ج : 6 ص : 352و الكظم بفتحهما مخرج النفس و الجمع أكظام و يجوز ظعنه و ظعنه بتحريك العين و تسكينها و قرئ بهما يَوْمَ ظَعْنِكُمْ و ظعنكم و نصب الله الله على الإغراء و هو أن تقدر فعلا ينصب المفعول به أي اتقوا الله و جعل تكرير اللفظ نائبا عن اعل المقدر و دليلا عليه. استحفظكم من كتابه جعلكم حفظة له جمع حافظ. السدى المهمل و يجوز سدى بالفتح أسديت الإبل أهملتها و قوله قد سمى آثاركم يفسر بتفسيرين أحدهما قد بين لكم أعمالكم خيرها و شرها كقوله تعالى وَ هَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ و الثاني قد أعلى مآثركم أي رفع منازلكم إن أطعتم و يكون سمى بمعنى أسمى كما كان في الوجه الأول بمعنى أبان و أوضح. و التبيان بكسر التاء مصدر و هو شاذ لأن المصادر إنما تجي ء على التفعال بفتحها مثل التذكار و التكرار و لم يأت بالكسر إلا حرفان و هما التبيان و التلقاء. و قوله حتى أكمل لهو لكم دينه من قوله تعالى الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَ أَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي. و قوله الذي رضي لنفسه من قوله تعالى وَ لَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضى لَهُمْ لأنه إذا ارتضى لهم فقد ارتضاه لنفسه أي ارتضى أن ينسب إليه فيقال هذا دين الحق و أنهى إليكم عرفكم و أعلمكم. و محابه جمع محبة و مكارهه جمع مكرهة و هي ما تكره و في هذا دلالة أن الله تعالى يحب الطاعة و يكره المعصية و هو خلاف قول المجبرة. شرح نهج البلاغة ج : 6 ص : 353و الأوامر جمع آمر و أنكره قوم و قالوا هاهنا جمع أمر كالاوص جمع أحوص و الأحامر جمع أحمر يعني الكلام الآمر لهم بالطاعات و هو القرآن. و النواهي جمع ناهية كالسواري جمع سارية و الغوادي جمع غادية يعني الآيات الناهية لهم عن المعاصي و يضعف أن يكون الأوامر و النواهي جمع أمر و نهي لأن فعلا لا يجمع على أفاعل و فواعل و إن كان

(7/330)


قال ذلك بعض الشواذ من أهل الأدب. و قوله و ألقى إليكم المعذرة كلام فصيح و هو من قوله تعالى أَلْقى إِلَيْكُمُ السَّلامَ. و قدم إليكم بالوعيد و أنذركم بين يدي عذاب شديد أي أمامه و قبله مأخوذ أيضا من القرآن و معنى قوله بين يدي عذاب شديد أي أمامه و قبله لأن ما بين يديك متقدم لك
فَاسْتَدْرِكُوا بَقِيَّةَ أَيَّامِكُمْ وَ اصْبِرُوا لَهَا أَنْفُسَكُمْ فَإِنَّهَا قَلِيلٌ فِي كَثِيرِ الْأَيَّامِ الَّتِي تَكُونُ مِنْكُمْ فِيهَا الْغَفْلَةُ وَ التَّشَاغُلُ عَنِ الْمَوْعِظَةِ وَ لَا تُرَخِّصُوا لِأَنْفُسِكُمْ فَتَذْهَبَ بِكُمُ الرُّخَصُ مَذَاهِبَ الظَّلَمَةِ وَ لَا تُدَاهِنُوا فَيَهْجُمَ بِكُمُ الْإِدْهَانُ عَلَى الْمَعْصِيَةِ عِبَادَ اللَّهِ إِنَّ أَنْصَحَ النَّاسِ لِنَفْسِهِ أَطْوَعُهُمْ لِرَبِّهِ وَ إِنَّ أَغَشَّهُمْ لِنَفْسِهِ أَعْصَاهُمْ لِرَبِّهِ وَ الْمَغْبُونُ مَنْ غَبَنَ نَفْسَهُ وَ الْمَغْبُوطُ مَنْ سَلِمَ لَهُ دِينُهُ وَ السَّعِيدُ مَنْ وُعِظَ بِغَيْرِهِ وَ الشَّقِيُّ مَنِ انْخَدَعَ لِهَوَاهُ وَ غُرُورِهِ شرح نهج البلاغة ج : 6 ص : 354وَ اعْلَمُوا أَنَّ يَسِيرَ الرِّيَاءِ شِرْكٌ وَ مُجَالَسَةَ أَهْلِ الْهَوَى مَنْسَاةٌ لِلْإِيمَِ وَ مَحْضَرَةٌ لِلشَّيْطَانِ جَانِبُوا الْكَذِبَ فَإِنَّهُ مُجَانِبٌ لِلْإِيمَانِ الصَّادِقُ عَلَى شَفَا مَنْجَاةٍ وَ كَرَامَةٍ وَ الْكَاذِبُ عَلَى شَرَفِ مَهْوَاةٍ وَ مَهَانَةٍ وَ لَا تَحَاسَدُوا فَإِنَّ الْحَسَدَ يَأْكُلُ الْإِيمَانَ كَمَا تَأْكُلُ النَّارُ الْحَطَبَ وَ لَا تَبَاغَضُوا فَإِنَّهَا الْحَالِقَةُ وَ اعْلَمُوا أَنَّ الْأَمَلَ يُسْهِي الْعَقْلَ وَ يُنْسِي الذِّكْرَ فَأَكْذِبُوا الْأَمَلَ فَإِنَّهُ غَرُورٌ وَ صَاحِبُهُ مَغْرُورٌ

(7/331)


قوله فاستدركوا بقية أيامكم يقال استدركت ما فات و تداركت ما فات بمعنى و اصبروا لها أنفسكم مأخوذ من قوله تعالى وَ اصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَ الْعَشِيِّ يقال صبر فلان نفسه على كذا أي حبسها عليه يتعدى فينصب قال عنترة
فصبرت عارفة لذلك حرة ترسو إذا نفس الجبان تطلع
أي حبست نفسا عارفة و في الحديث النبوي في رجل أمسك رجلا و قتله الآخر فقال ع اقتلوا القاتل و اصبروا الصابر

(7/332)


أي احبسوا الذي أمسكه حتى يموت. و الضمير في فإنها قليل عائد إلى الأيام التي أمرهم باستدراكها يقول إن هذه الأيام التي قد بقيت من أعماركم قليلة بالنسبة و الإضافة إلى الأيام التي تغفلون فيها عن الموعظة. شرح نهج البلاغة ج : 6 ص : 355و قوله فإنها قليل فأخبر عنلمؤنث بصيغة المذكر إنما معناه فإنها شي ء قليل بحذف الموصوف كقوله وَ حَسُنَ أُولئِكَ رَفِيقاً أي قبيلا رفيقا. ثم قال و لا ترخصوا نهى عن الأخذ برخص المذاهب و ذلك لأنه لا يجوز للواحد من العامة أن يقلد كلا من أئمة الاجتهاد فيما خف و سهل من الأحكام الشرعية أو ا تساهلوا أنفسكم في ترك تشديد المعصية و لا تسامحوها و ترخصوا إليها في ارتكاب الصغائر و المحقرات من الذنوب فتهجم بكم على الكبائر لأن من مرن على أمر تدرج من صغيره إلى كبيره. و المداهنة النفاق و المصانعة و الادهان مثله قال تعالى وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ. قوله إن أنصح الناس لنفسه أطوعهم لربه لأنه قد صانها عن العقاب و أوجب لها الثواب و ذلك غاية ما يمكن من نصيحتها و نفعها. قوله و إن أغش الناس لنفسه أعصاهم لربه لأنه ألقاها في الهلاك الدائم و ذلك أقصى ما يمكن من غشها و الإضرار بها. ثم قال و المغبون من غبن نفسه أي أحق الناس أن يسمى مغبونا من غبن نفسه يقال غبنته في البيع غبنا بالتسكين أي خدعته و قد غبن فهو مغبون و غبن الرجل رأيه بالكسر غبنا بالتحريك فهو غبين أي ضعيف الرأي و فيه غبانة و لفظ الغبن يدل على أنه من باب غبن البيع و الشراء لأنه قال و المغبون و لم يقل و الغبين. و المغبوط الذي يتمنى مثل حاله و الذي يتمنى زوال حاله و انتقالها هو الحاسد شرح نهج البلاغة ج : 6 ص : 356و الحسد مذموم و الغبطة غير مذمومة يقال غبطته بما نال أغبطه غبطا و غبطة فاغتبط هو كقولك منعته فامتنع و حبسته فاحتبس قال الشاعرو بينما المرء في الأحياء مغتبط إذ صار في الرمس تعفوه الأعاصير

(7/333)


هكذا أنشدوه بكسر الباء و قالوا فيه مغتبط أي مغبوط. قوله و السعيد من وعظ بغيره مثل من الأمثال النبوية. و قد ذكرنا فيما تقدم ما جاء في ذم الرياء و تفسير كونه شركا. و قوله ع منسأة للإيمان أي داعية إلى نسيان الإيمان و إهماله و الإيمان الاعتقاد و العمل. و محضرة للشيطان موضع حضوره كقولك مسبعة أي موضع السباع و مفعاة أي موضع الأفاعي. ثم نهى عن الكذب و قال إنه مجانب للإيمان و كذا ورد في الخبر المرفوع. و شفا منجاة أي حرف نجاة و خلاص و شفا الشي ء حرفه قال تعالى وَ كُنْتُمْ عَلى شَفا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ و أشفى على لشي ء و أشرف عليه بمعنى و أكثر ما يقال ذلك في المكروه يقال أشفى المريض على الموت و قد استعمله هاهنا في غير المكروه. و الشرف المكان العالي بفتح الشين و أشرفت عليه أي اطلعت من فوق. و المهواة موضع السقوط و المهانة الحقارة. ثم نهى عن الحسد و قال إنه يأكل الإيان كما تأكل النار الحطب و قد ورد هذا الكلام في الأخبار المرفوعة و قد تقدم منا كلام في الحسد و ذكرنا كثيرا مما جاء فيه. شرح نهج البلاغة ج : 6 ص : 357ثم نهى عن المباغضة و قال إنها الحالقة أي المستأصلة التي تأتي على القوم كالحلق للشعر. ثم نهى عن الأمل و طولو قال إنه يورث العقل سهوا و ينسي الذكر ثم أمر بإكذاب الأمل و نهى عن الاعتماد عليه و السكون إليه فإنه من باب الغرور. و قد ذكرنا في الأمل و طوله نكتا نافعة فيما تقدم و يجب أن نذكر ما جاء في النهي عن الكذب
فصل في ذم الكذب و حقارة الكذابين
جاء في الخبر عن رسول الله ص إذا كذب العبد كذبة تباعد الملك منه مسيرة ميل من نتن ما جاء به
و عنه ع إياكم و الكذب فإن الكذب يهدي إلى الفجور و الفجور يهدي إلى النار و إن الرجل ليكذب و يتحرى الكذب فيكتب عند الله كاذبا و عليكم بالصدق فإن الصدق يهدي إلى البر و إن البر ليهدي إلى الجنة و إن الرجل ليصدق و يتحرى الصدق فيكتب عند الله صادقا

(7/334)


و روي أن رجلا قال للنبي ص أنا يا رسول الله أستسر بخلال أربع الزنا و شرب الخمر و السرق و الكذب فأيتهن شئت تركتها لك قال دع الكذب فلما ولى هم بالزنا فقال يسألني فإن جحدت نقضت ما جعلت له و إن أقررت حددت ثم هم بالسرق ثم بشرب الخمر ففكر في مثل ذلك فرجع إليه فقال قد أخذت على السبيل كله فقد تركتهن أجمع
قال العباس بن عبد المطلب لابنه عبد الله يا بني أنت أفقه مني و أنا أعقل منك شرح نهج البلاغة ج : 6 ص : 358و إن هذا الرجل يدنيك يعني عمر بن الخطاب فاحفظ عني ثلاثا لا تفشين له سرا و لا تغتابن عنده أحدا و لا يطلعن منك على كذبة قال عبد الله فكانت هذه الثلاث أ إلي من ثلاث بدرات ياقوتا

(7/335)


قال الواثق لأحمد بن أبي داود رحمه الله تعالى كان ابن الزيات عندي فذكرك بكل قبيح قال الحمد لله الذي أحوجه إلى الكذب علي و نزهني عن الصدق في أمره. و كان يقال أمران لا يكاد أحدهما ينفك من الكذب كثرة المواعيد و شدة الاعتذار. و من الحكم القديمة إنما فضل الناطق على الأخرس بالنطق و زين المنطق الصدق فالكاذب شر من الأخرس. قال الرشيد للفضل بن الربيع في كلام جرى بينهما كذبت فقال يا أمير المؤمنين وجه الكذوب لا يقابلك و لسانه لا يحاورك. قيل في تفسير قوله تعالى وَ لَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ هي في الكذابين فالويل لكل كاذب إلى يوم القيامة. و من كلام بعض الصالحين لو لم أترك الكذب تأثما لتركته تكرما. أبو حيان الكذب شعار خلق و مورد رنق و أدب سيئ و عادة فاحشة و قل من استرسل معه إلا ألفه و قل من ألفه إلا أتلفه و الصدق ملبس بهي و منهل غذي و شعاع منبث و قل من اعتاده و مرن عليه إلا صحبته السكينة و أيده التوفيق و خدمته القلوب بالمحبة و لحظته العيون بالمهابة. شرح نهج البلاغة ج : 6 ص : 359ابن السماك لا أدري أوجر على ترك الكذب أم لا لأني أتركه أنفة. يحيى بن خالد رأيت شريب خمر نزع و لصا أقلع و صاحب فواحش ارتدع و لم أر كاذبا رجع.الوا في تفسير هذا إن المولع بالكذب لا يكاد يصبر عنه فقد عوتب إنسان عليه فقال لمعاتبه يا ابن أخي لو تغرغرت به لما صبرت عنه. و قيل لكاذب معروف بالكذب أ صدقت قط قال لو لا أني أخاف أن أصدق لقلت لا.
و جاء في بعض الأخبار المرفوعة قيل له يا رسول الله أ يكون المؤمن جبانا قال نعم قيل أ فيكون بخيلا قال نعم قيل أ فيكون كاذبا قال لا
و قال ابن عباس الحدث حدثان حدث من فيك و حدث من فرجك
و قال بعضهم من أسرع إلى الناس بما يكرهون قالوا فيه ما لا يعلمون أخذه شاعر فقال
و من دعا الناس إلى ذمه ذموه بالحق و بالباطل

(7/336)


و كان يقال خذوا عن أهل الشرف فإنهم قلما يكذبون. و قال بعض الصالحين لو صحبني رجل فقال لي اشترط علي خصلة واحدة لا تزيد عليها لقلت لا تكذب. و كان يقال خصلتان لا يجتمعان الكذب و المروءة. كان يقال من شرف الصدق أن صاحبه يصدق على عدوه و من دناءة الكذب أن صاحبه يكذب و إن كان صادقا. شرح نهج البلاغة ج : 6 ص : 360و مثل هذا قولهم من عرف بالصدق جاز كذبه و من عرف بالكذب لم يجز صدقه. و جاء في الخبر المرفوع أن في المعاريض لمندوحة عن الكذب
و قال ابن سيرين الكلام أوسع من أن يكذب ظريف. و قالوا في قوله تعالى لا تُؤاخِذْنِي بِما نَسِيتُ لم ينس و لكنه من معاريض الكلام و كذلك قالوا في قول إبراهيم إِنِّي سَقِيمٌ. و قال العتبي إني لأصدق في صغار ما يضرني فكيف لا أصدق في كبار ما ينفعني و قال بعض الشعراء
لا يكذب المرء إلا من مهانته أو عادة السوء أو من قلة الأدب لعض جيفة كلب خير رائحة من كذبة المرء في جد و في لعبشهد أعرابي عند معاوية بشهادة فقال له كذبت فقال الكاذب و الله المتزمل في ثيابك فقال معاوية هذا جزاء من عجل. و قال معاوية يوما للأحنف و حدثه حديثا أ تكذب فقال له الأحنف و الله ما كذبت منذ علمت أن الكذب يشين أهله. و دخل عبد الله بن الزبير يوما على معاوية فقال له اسمع أبياتا قلتها و كان واجدا على معاوية فقال هات فأنشده
إذا أنت لم تنصف أخاك وجدته على طرف الهجران إن كان يعقل و يركب حد السيف من أن تضيمه إذا لم يكن عن شفرة السيف مزحلفقال معاوية لقد شعرت بعدنا يا أبا بكر ثم لم يلبث معاوية أن دخل عليه معن شرح نهج البلاغة ج : 6 ص : 361بن أوس المزني فقال أ قلت بعدنا شيئا قال نعم و أنشدهلعمرك لا أدري و إني لأوجل على أينا تعدو المنية أول

(7/337)


حتى صار إلى الأبيات التي أنشدها ابن الزبير فقال معاوية يا أبا بكر أ ما ذكرت آنفا أن هذا الشعر لك فقال أنا أصلحت المعاني و هو ألف الشعر و بعد فهو ظئري و ما قال من شي ء فهو لي. و كان عبد الله بن الزبير مسترضعا في مزينة. و روى أبو العباس المبرد في الكامل أن مر بن عبد العزيز كتب في إشخاص إياس بن معاوية المزني و عدي بن أرطاة الفزاري أمير البصرة و قاضيها إليه فصار عدي إلى إياس و قدر أنه يمزنه عند عمر بن عبد العزيز و يثني عليه فقال له يا أبا وائلة إن لنا حقا و رحما فقال إياس أ على الكذب تريدني و الله ما يسرني أن كذبت كذبة يغفرها الله لي و لا يطلع عليها هذا و أومأ إلى ابنه و لي ما طلعت عليه الشمس. و روى أبو العباس أيضا أن عمرو بن معديكرب الزبيدي كان معروفا بالكذب. و قيل لخلف الأحمر و كان مولى لهم و شديد التعصب لليمن أ كان عمرو بن معديكرب يكذب قال يكذب في المقال و يصدق في الفعال. شرح نهج البلاغة ج : 6 ص : 362قال أبو العباس فروي لنا أن أهل الكوفة الأشراف كانوا يظهرون بالكناسة فيركبون على دوابهم حتى تطردهم الشمس فوقف عمرو بن معديكرب الزبيدي و خالد بن الصقعب النهدي و عمرو لا يعرفه إنما يسمع باسمه فأقبل عمرو يحدثه فقالغرنا مرة على بني نهد فخرجوا مسترعفين بخالد بن الصقعب فحملت عليه فطعنته فأذريته ثم ملت عليه بالصمصامة فأخذت رأسه فقال خالد بن الصقعب حلا أبا ثور إن قتيلك هو المحدث فقال عمرو يا هذا إذا حدثت فاستمع فإنما نتحدث بمثل ما تستمع لنرهب به هذه المعدية. قوله مسترعفين أي مقدمين له و قوله حلا أبا ثور أي استثن يقال حلف و لم يتحلل أي لم يستثن و المعدية مضر و ربيعة و أياد بنو معد بن عدنان و هم أعداء اليمن في المفاخرة و التكاثر

(7/338)


شرح نهج البلاغة ج : 6 ص : 86363- و من خطبة له ععِبَادَ اللَّهِ إِنَّ مِنْ أَحَبِّ عِبَادِ اللَّهِ إِلَيْهِ عَبْداً أَعَانَهُ اللَّهُ عَلَى نَفْسِهِ فَاسْتَشْعَرَ الْحُزْنَ وَ تَجَلْبَبَ الْخَوْفَ فَزَهَر مِصْبَاحُ الْهُدَى فِي قَلْبِهِ وَ أَعَدَّ الْقِرَى لِيَوْمِهِ النَّازِلِ بِهِ فَقَرَّبَ عَلَى نَفْسِهِ الْبَعِيدَ وَ هَوَّنَ الشَّدِيدَ نَظَرَ فَأَبْصَرَ وَ ذَكَرَ فَاسْتَكْثَرَ وَ ارْتَوَى مِنْ عَذْبٍ فُرَاتٍ سُهِّلَتْ لَهُ مَوَارِدُهُ فَشَرِبَ نَهَلًا وَ سَلَكَ سَبِيلًا جَدَداً قَدْ خَلَعَ سَرَابِيلَ الشَّهَوَاتِ وَ تَخَلَّى عَنِ الْهُمُومِ إِلَّا هَمّاً وَاحِداً انْفَرَدَ بِهِ فَخَرَجَ مِنْ صِفَةِ الْعَمَى وَ مُشَارَكَةِ أَهْلِ الْهَوَى وَ صَارَ مِنْ مَفَاتِيحِ أَبْوَابِ الْهُدَى وَ مَغَالِيقِ أَبْوَابِ الرَّدَى قَدْ أَبْصَرَ طَرِيقَهُ وَ سَلَكَ سَبِيلَهُ وَ عَرَفَ مَنَارَهُ وَ قَطَعَ غِمَارَهُ وَ اسْتَمْسَكَ مِنَ الْعُرَى بِأَوْثَقِهَا وَ مِنَ الْحِبَالِ بِأَمْتَنِهَا فَهُوَ مِنَ الْيَقِينِ عَلَى مِثْلِ ضَوْءِ الشَّمْسِ قَدْ نَصَبَ نَفْسَهُ لِلَّهِ سُبْحَانَهُ فِي أَرْفَعِ الْأُمُورِ مِنْ إِصْدَارِ كُلِّ وَارِدٍ عَلَيْهِ وَ تَصْيِيرِ كُلِّ فَرْعٍ إِلَى أَصْلِهِ مِصْبَاحُ ظُلُمَاتٍ كَشَّافُ عَشَوَاتٍ مِفْتَاحُ مُبْهَمَاتٍ دَفَّاعِ مُعْضِلَاتٍ دَلِيلُ فَلَوَاتٍ يَقُولُ فَيُفْهِمُ وَ يَسْكُتُ فَيَسْلَمُ قَدْ أَخْلَصَ لِلَّهِ فَاسْتَخْلَصَهُ فَهُوَ مِنْ مَعَادِنِ دِينِهِ وَ أَوْتَادِ أَرْضِهِ قَدْ أَلْزَمَ شرح نهج البلاغة ج : 6 ص : 364نَفْسَهُ الْعَدْلَ فَكَانَ أَوَّلُ عَدْلِهِ نَفْيُ الْهَوَى عَنْ نَفْسِهِ يَصِفُ الْحَقَّ وَ يَعْمَلُ بِهِ لَا يَدَعُ لِلْخَيْرِ غَايَةً إِلَّا أَمَّهَا وَ لَا مَظِنَّةً إِلَّا قَصَدَهَا قَدْ أَمْكَنَ الْكِتَابَ مِنْ زِمَامِ فَهُوَ

(7/339)


قَائِدُهُ وَ إِمَامُهُ يَحُلُّ حَيْثُ حَلَّ ثَقَلُهُ وَ يَنْزِلُ حَيْثُ كَانَ مَنْزِلُهُ
استشعر الحزن جعله كالشعار و هو ما يلي الجسد من الثياب و تجلبب الخوف جعله جلبابا أي ثوبا. زهر مصباح الهدى أضاء و أعد القرى ليومه أي أعد ما قدمه من الطاعات قرى لضيف الموت النازل به و الفرات العذب. و قوله فشرب نهلا يجوز أن يكون أراد بقوله نهلا المصدر من نهل ينهل نهلا أي شرب حتى روي و يجوز أن يريد بالنهل الشرب الأول خاصة و يريد أنه اكتفى بما شربه أولا فلم يحتج إلى العلل. و طريق جدد لا عثار فيه لقوة أرضه و قطع غماره يقال بحر غمر أي كثير الماء و بحار غمار و استمسك من العرى بأوثقها أي من العقود الوثيقة قال تعالى فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى. و نصب نفسه لله أي أقامها. كشاف عشوات جمع عشوة و عشوة و عشوة بالحركات الثلاث و هي الأمر الملتبس يقال أوطأني عشوة. شرح نهج البلاغة ج : 6 ص : 365و المعضلات جمع معضلة و هي الشدائد و الأمور التي لا يهتدي لوجهها. دليللوات أي يهتدى به كما يهتدي الركب في الفلاة بدليلهم. أمها قصدها و مظنة الشي ء حيث يظن وجوده و الثقل متاع المسافر و حشمه فصل في العباد و الزهاد و العارفين و أحوالهم

(7/340)


و اعلم أن هذا الكلام منه أخذ أصحاب علم الطريقة و الحقيقة علمهم و هو تصريح بحال العارف و مكانته من الله تعالى. و العرفان درجة حال رفيعة شريفة جدا مناسبة للنبوة و يختص الله تعالى بها من يقربه إليه من خلقه. و الأولياء على طبقات ثلاث الطبقة الأولى حال العابد و هو صاحب الصلاة الكثيرة و الصوم الدائم و الحج و الصدقة. و الطبقة الثانية حال الزاهد و هو المعرض عن ملاذ الدنيا و طيباتها تقنعه الكسرة و تستره الخرقة لا مال و لا زوجة و لا ولد. و الطبقة الثالثة حال العارف و هو الواصل إلى الله سبحانه بنفسه لا ببدنه و البارئ سبحانه متمثل في نفسه تمثل المعشوق في ذات العاشق و هو أرفع الطبقات و بعده الزاهد. و أما العابد فهو أدونها و ذلك لأن العابد معامل كالتاجر يعبد ليثاب و يتعب نفسه ليرتاح فهو يعطي من نفسه شيئا و يطلب ثمنه و عوضه و قد يكون العابد غنيا موسرا كثير المال و الولد فليست حاله من أحوال الكمال. و أما الزاهد فإنه احتقر الدنيا و عروضها و قيناتها فخلصت نفسه من دناءة المطامع شرح نهج البلاغة ج : 6 ص : 366و صار عزيزا ملكا لا سلطان عليه لنفسه و لا لغيره فاستراح من الذل و الهوان و لم يبق لنفسه شي ء تشتاق إليه بعد الموت فكان أ إلى السلامة و النجاة من العابد الغني الموسر. و أما العارف فإنه بالحال التي وصفناها و يستلزم مع وجودها أن يكون زاهدا لأنه لا يتصور العرفان مع تعلق النفس بملاذ الدنيا و شهواتها نعم قد يحصل بعض العرفان لبعض العلماء الفضلاء مع تعلقهم بشهوات الدنيا و لكنهم لا يكونون كاملين في أحوالهم و إنما تحصل الحالة الكاملة لمن رفض الدنيا و تخلى عنها و تستلزم الحالة المذكورة أيضا أن يكون عابدا عبادة ما و ليس يشترط في حصول حال العرفان أن يكون على قدم عظيمة من العبادة بل الإكثار من العبادة حجاب كما قيل و لكن لا بد من القيام بالفرائض و شي ء يسير من النوافل. و اعلم أن العارف هو العارف بالله

(7/341)


تعالى و صفاته و ملائكته و رسله و كتبه و بالحكمة المودعة في نظام العالم لا سيما الأفلاك و الكواكب و تركيب طبقات العناصر و الأحكام و في تركيب الأبدان الإنسانية. فمن حصل له ذلك فهو العارف و إن ل يحصل له ذلك فهو ناقص العرفان و إن انضم إلى ذلك استشعاره جلال الله تعالى و عظمته و رياضة النفس و المجاهدة و الصبر و الرضا و التوكل فقد ارتفع طبقة أخرى فإن حصل له بعد ذلك الحب و الوجد فقد ارتفع طبقة أخرى فإن حصل له بعد ذلك الإعراض عن كل شي ء سوى الله و أن صير مسلوبا عن الموجودات كلها فلا يشعر إلا بنفسه و بالله تعالى فقد ارتفع طبقة أخرى و هي أرفع طبقات. شرح نهج البلاغة ج : 6 ص : 367و هناك طبقة أخرى يذكرونها و هي أن يسلب عن نفسه أيضا فلا يكون له شعور بها أصلا و إنما يكون شاعرا بالقيوم الأول سبحانه لا غير و ه درجة الاتحاد بأن تصير الذاتان ذاتا واحدة. و هذا قول قوم من الأوائل و من المتأخرين أيضا و هو مقام صعب لا تثبت العقول لتصوره و اكتناهه. و اعلم أن هذه الصفات و الشروط و النعوت التي ذكرها في شرح حال العارف إنما يعني بها نفسه ع و هو من الكلام الذي له ظاهر و باطن فظاهره أن يشرح حال العارف المطلق و باطنه أن يشرح حال عارف معين و هو نفسه ع و سيأتي في آخر الخطبة ما يدل على ذلك. و نحن نذكر الصفات التي أشار ع إليها واحدة واحدة فأولها أن يكون عبدا أعانه الله على نفسه و معنى ذلك أن يخصه بألطاف يختار عندها الحسن و يتجنب القبيح فكأنه أقام النفس في مقام العدو و أقام الألطاف مقام المعونة التي يمده الله سبحانه بها فيكسر عادية العدو المذكور و بهذا الاعتبار سمي قوم من المتكلمين اللطف عونا. و ثانيها أن يستشعر الحزن أي يحزن على الأيام الماضية إن لم يكن اكتسب فيها من موجبات الاختصاص أضعاف ما اكتسبه. و ثالثها أن يتجلبب الخوف أي يخاف من الإعراض عنه بأن يصدر عنه ما يمحوه من جريدة المخلصين. و رابعها أن يعد القرى

(7/342)


لضعيف المنية و ذلك بإقامة وظائف العبادة.
شرح نهج البلاغة ج : 6 ص : 368و خامسها أن يقرب على نفسه البعيد و ذلك بأن يمثل الموت بين عينيه صباحا و مساء و ألا يطيل الأمل. و سادسها أن يهون عليه الشدائد و ذلك باحتمال كلف المجاهدة و رياضة النفس على عمل المشاق. و سابعها أن يكون قد نظر فأبصر و ذلك بترتيبلمقدمات المطابقة لمتعلقاتها ترتيبا صحيحا لتنتج العلم اليقيني. و ثامنها أن يذكر الله تعالى فيستكثر من ذكره لأن ذكره سبحانه و الإكثار منه يقتضي سكون النفس و طمأنينتها كما قال تعالى أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ. و تاسعها أن يرتوي من حب الله تعالى و هو العذب الفرات الذي سهل موارده على من انتخبه الله و جعله أهلا للوصول إليه فشرب منه و نهل و سلك طريقا لا عثار فيه و لا وعث. و عاشرها أن يخلع سرابيل الشهوات لأن الشهوات تصدئ مرآة العقل فلا تنطبع المعقولات فيها كما ينبغي و كذلك الغضب. و حادي عشرها أن يتخلى من الهموم كلها لأنها تزيدات و قواطع عن المطلوب إلا هما واحدا و هو همه بمولاه الذي لذته و سروره الاهتمام به و التفرد بمناجاته و مطالعة أنوار عزته فحينئذ يخرج عن صفة أهل العمى و من مشاركة أهل الهوى لأنه قد امتاز عنهم بهذه المرتبة و الخاصية التي حصلت له فصار مفتاحا لباب الهدى و مغلاقا لباب الضلال و الردى قد أبصر طريق الهدى و سلك سبيله و عرف مناره و قطع غماره. شرح نهج البلاغة ج : 6 ص : 369و ثاني عشرها أن ينصب نفسه لله في أرفع الأمور و هو الخلوة به و مقابلة أنوار جلاله بمرآة فكره حتى تتكيف نفسه بتلك الكيف العظيمة الإشراق فهذا أرفع الأمور و أجلها و أعظمها و قد رمز في هذا الفصل و مزجه بكلام خرج به إلى أمر آخر و هو فقه النفس في الدين و الأمور الشرعية النافعة للناس في دنياهم و أخراهم أما في دنياهم فلردع المفسد و كف الظالم و أما في أخراهم فللفوز بالسعادة باعتبار امتثال الأوامر الإلهية

(7/343)


فقال في إصدار كل وارد عليه أي في فتيا كل مستفت له و هداية كل مسترشد له في الدين ثم قال و تصيير كل فرع إلى أصله و يمكن أن يحتج بهذا من قال بالقياس و يمكن أن يقال إنه لم يرد ذلك بل أراد تخريج الفروع العقلية و ردها إلى أصولها كما يتكلف أصحابنا القول في بيان حكمة القديم تعالى في الآلام و ذبح الحيوانات ردا له إلى أصل العدل و هو كونه تعالى لا يفعل القبيح. و ثالث عشرها أن يكون مصباحا لظلمات الضلال كشافا لعشوات الشبه مفتاحا لمبهمات الشكوك المستغلقة دفاعا لمعضلات الاحتجاجات العقلية الدقيقة الغامضة دليلا في فلوات الأنظار الصعبة المشتبهة و لم يكن في أصحاب محمد ص أحد بهذه الصفة إلا هو. و رابع عشرها أن يقول مخاطبا لغيره فيفهمه ما خاطبه به و أن يسكت فيسلم و ذلك لأنه ليس كل قائل مفهما و لا كل ساكت سالما. و خامش عشرها أن يكون قد أخلص لله فاستخلصه الله و الإخلاص لله مقام عظيم جدا و هو ينزه الأفعال عن الرياء و ألا يمازج العبادة أمر لا يكون لله سبحانه و لهذا كان بعض الصالحين يصبح من طول العبادة نصبا قشفا فيكتحل و يدهن ليذهب بذلك أثر العبادة عنه.

(7/344)


شرح نهج البلاغة ج : 6 ص : 370و قوله فهو من معادن دينه و أوتاد أرضه معادن دينه الذين يقتبس الدين منهم كمعادن الذهب و الفضة و هي الأرضون التي يلتقط ذلك منها و أوتاد أرضه هم الذين لولاهم لمادت الأرض و ارتجت بأهلها و هذا من باب الاستعارة الفصيحة و أهل هذا الم يقولون أوتاد الأرض جماعة من الصالحين و لهم في الأوتاد و الأبدال و الأقطاب كلام مشهور في كتبهم. و سادس عشرها أن يكون قد ألزم نفسه العدل و العدالة ملكه تصدر بها عن النفس الأفعال الفاضلة خلقا لا تخلقا. و أقسام العدالة ثلاثة هي الأصول و ما عداها من الفضائل فروع عليها الأولى الشجاعة و يدخل فيها السخاء لأنه شجاعة و تهوين للمال كما أن الشجاعة الأصلية تهوين للنفس فالشجاع في الحرب جواد بنفسه و الجواد بالمال شجاع في إنفاقه و لهذا قال الطائي
أيقنت أن من السماح شجاعة تدمي و أن من الشجاعة جودا

(7/345)


و الثانية الفقه و يدخل فيها القناعة و الزهد و العزلة. و الثالثة الحكمة و هي أشرفها. و لم تحصل العدالة الكاملة لأحد من البشر بعد رسول الله ص إلا لهذا الرجل و من أنصف علم صحة ذلك فإن شجاعته و جوده و عفته و قناعته و زهده يضرب بها الأمثال. و أما الحكمة و البحث في الأمور الإلهية فلم يكن من فن أحد من العرب و لا نقل في جهاد أكابرهم و أصاغرهم شي ء من ذلك أصلا و هذا فن كانت اليونان و أوائل الحكماء و أساطين الحكمة ينفردون به و أول من خاض فيه من العرب علي ع و لهذا شرح نهج البلاغة ج : 6 ص : 371تجد المباحث الدقيقة فيتوحيد و العدل مبثوثة عنه في فرش كلامه و خطبه و لا تجد في كلام أحد من الصحابة و التابعين كلمة واحدة من ذلك و لا يتصورونه و لو فهموه لم يفهموه و أنى للعرب ذلك. و لهذا انتسب المتكلمون الذين لججوا في بحار المعقولات إليه خاصة دون غيره و سموه أستاذهم و رئيسهم و اجتذبته كل فرقة من الفرق إلى نفسها أ لا ترى أن أصحابنا ينتمون إلى واصل بن عطاء و واصل تلميذ أبي هاشم بن محمد بن الحنفية و أبو هاشم تلميذ أبيه محمد و محمد تلميذ أبيه علي ع. فأما الشيعة من الإمامية و الزيدية و الكيسانية فانتماؤهم إليه ظاهر. و أما الأشعرية فإنهم بأخرة ينتمون إليه أيضا لأن أبا الحسن الأشعري تلميذ شيخنا أبي علي رحمه الله تعالى و أبو علي تلميذ أبي يعقوب الشحام و أبو يعقوب تلميذ أبي الهذيل و أبو الهذيل تلميذ أبي عثمان الطويل و أبو عثمان الطويل تلميذ واصل بن عطاء فعاد الأمر إلى انتهاء الأشعرية إلى علي ع. و أما الكرامية فإن ابن الهيصم ذكر في كتاب المقالات أن أصل مقالتهم و عقيدتهم تنتهي إلى علي ع من طريقين أحدهما بأنهم يسندون اعتقادهم عن شيخ بعد شيخ إلى أن ينتهي إلى سفيان الثوري ثم قال و سفيان الثوري من الزيدية ثم سأل نفسه فقال إذا كان شيخكم الأكبر الذي تنتمون إليه كان زيديا فما بالكم لا تكونون زيدية و أجاب بأن

(7/346)


سفيان الثوري رحمه الله تعالى و أن أشهر عنه الزيدية إلا أن تزيده إنما كان عبارة عن موالاة أهل البيت و إنكار ما كان بنو أمية عليه من الظلم و إجلال زيد بن علي و تعظيمه و تصوينه في أحكامه و أحواله و لم ينقل عن سفيان الثوري أنه طعن في أحد من الصحابة. شرح نهج البلاغة ج : 6 ص : 372الطريق الثاني أنه عد مشايخهم واحدا فواحدا حتى انتهى إلى علماء الكوفة من أصحاب علي كسلمة بن كهيل و حبة العرني و سالم بن الجعد و الفضل بن دكين و شعبة و الأعمش و علقمة و هبيرة ن مريم و أبي إسحاق الشعبي و غيرهم ثم قال و هؤلاء أخذوا العلم من علي بن أبي طالب ع فهو رئيس الجماعة يعنى أصحابه و أقوالهم منقولة عنه و مأخوذة منه. و أما الخوارج فانتماؤهم إليه ظاهر أيضا مع طعنهم فيه لأنهم كانوا أصحابه و عنه مرقوا بعد أن تعلموا عنه و اقتبسوا منه و هم شيعته و أنصاره بالجمل و صفين و لكن الشيطان ران على قلوبهم و أعمى بصائرهم. ثم إنه ع ذكر حال هذا العارف العادل فقال أول عدله نفي الهوى عن نفسه و ذلك لأن من يأمر و لا يأتمر و ينهى و لا ينتهي لا تؤثر عظته و لا ينفع إرشاده ثم شرح ذلك فقال يصف الحق و يعمل به ثم قال لا يدع للخير غاية إلا أمها و لا مظنة إلا قصدها و ذلك لأن الخير لذته و سروره و راحته فمتى وجد إليه طريقا سلكها ثم قال قد أمكن الكتاب يعني القرآن من زمامه أي قد أطاع الأوامر الإلهية فالقرآن قائده و إمامه يحل حيث حل و ينزل حيث نزل

(7/347)


وَ آخَرُ قَدْ تَسَمَّى عَالِماً وَ لَيْسَ بِهِ فَاقْتَبَسَ جَهَائِلَ مِنْ جُهَّالٍ وَ أَضَالِيلَ مِنْ ضُلَّالٍ وَ نَصَبَ لِلنَّاسِ أَشْرَاكاً مِنْ حَبَائِلِ غُرُورٍ وَ قَوْلِ زُورٍ قَدْ حَمَلَ الْكِتَابَ عَلَى آرَائِهِ وَ عَطَفَ الْحَقَّ عَلَى أَهْوَائِهِ يُؤَمِّنُ النَّاسَ مِنَ الْعَظَائِمِ وَ يُهَوِّنُ كَبِيرَ الْجَرَائِمِ يَقُولُ أَقِفُ عِنْدَ الشُّبُهَاتِ وَ فِيهَا وَقَعَ وَ يَقُولُ أَعْتَزِلُ الْبِدَعَ وَ بَيْنَهَا اضْطَجَعَ فَالصُّورَةُ شرح نهج البلاغة ج : 6 ص : 373صُورَةُ إِنْسَانٍ وَ الْقَلْبُ قَلُ حَيَوَانٍ لَا يَعْرِفُ بَابَ الْهُدَى فَيَتَّبِعَهُ وَ لَا بَابَ الْعَمَى فَيَصُدَّ عَنْهُ وَ ذَلِكَ مَيِّتُ الْأَحْيَاءِ فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ وَ أَنَّى تُؤْفَكُونَ وَ الْأَعْلَامُ قَائِمَةٌ وَ الآْيَاتُ وَاضِحَةٌ وَ الْمَنَارُ مَنْصُوبَةٌ فَأَيْنَ يُتَاهُ بِكُمْ وَ كَيْفَ تَعْمَهُونَ وَ بَيْنَكُمْ عِتْرَةُ نَبِيِّكُمْ وَ هُمْ أَزِمَّةُ الْحَقِّ وَ أَعْلَامُ الدِّينِ وَ أَلْسِنَةُ الصِّدْقِ فَأَنْزِلُوهُمْ بِأَحْسَنِ مَنَازِلِ الْقُرْآنِ وَ رِدُوهُمْ وُرُودَ الْهِيمِ الْعِطَاشِ أَيُّهَا النَّاسُ خُذُوهَا عَنْ خَاتَمِ النَّبِيِّينَ ص إِنَّهُ يَمُوتُ مِنْ مَاتَ مِنَّا وَ لَيْسَ بِمَيِّتٍ وَ يَبْلَى مَنْ بَلِيَ مِنَّا وَ لَيْسَ بِبَالٍ فَلَا تَقُولُوا بِمَا لَا تَعْرِفُونَ فَإِنَّ أَكْثَرَ الْحَقِّ فِيمَا تُنْكِرُونَ وَ أَعْذِرُوا مَنْ لَا حُجَّةَ لَكُمْ عَلَيْهِ وَ هُوَ أَنَا أَ لَمْ أَعْمَلْ فِيكُمْ بِالثَّقَلِ الْأَكْبَرِ وَ أَتْرُكْ فِيكُمُ الثَّقَلَ الْأَصْغَرَ قَدْ رَكَزْتُ فِيكُمْ رَايَةَ الْإِيمَانِ وَ وَقَفْتُكُمْ عَلَى حُدُودِ الْحَلَالِ وَ الْحَرَامِ وَ أَلْبَسْتُكُمُ الْعَافِيَةَ مِنْ عَدْلِي وَ فَرَشْتُكُمُ الْمَعْرُوفَ مِنْ قَوْلِي وَ فِعْلِي وَ أَرَيْتُكُمْ

(7/348)


كَرَائِمَ الْأَخْلَاقِ مِنْ نَفْسِي فَلَا تَسْتَعْمِلُوا الرَّأْيَ فِيمَا لَا يُدْرِكُ قَعْرَهُ الْبَصَرُ وَ لَا تَتَغَلْغَلُ إِلَيْهِ الْفِكَرُ
الجهائل جمع جهالة كما قالوا علاقة و علائق و الأضاليل الضلال جمع لا واحد له من لفظه. و قوله و قد حمل الكتاب على آرائه يعني قد فسر الكتاب و تأوله على مقتضى هواه و قد أوضح ذلك بقوله و عطف الحق على أهوائه. شرح نهج البلاغة ج : 6 ص : 374و قوله يؤمن الناس من الائم فيه تأكيد لمذهب أصحابنا في الوعيد و تضعيف لمذهب المرجئة الذين يؤمنون الناس من عظائم الذنوب و يمنونهم العفو مع الإصرار و ترك التوبة
و جاء في الخبر المرفوع المشهور الكيس من دان نفسه و عمل لما بعد الموت و الأحمق من أتبع نفسه هواها و تمنى على الله
و قوله يقول أقف عند الشبهات يعني أن هذا المدعي للعلم يقول لنفسه و للناس أنا واقف عند أدنى شبهة تحرجا و تورعا
كما قال ص دع ما يريبك إلى ما لا يريبك
ثم قال و في الشبهات وقع أي بجهله لأن من لا يعلم الشبهة ما هي كيف يقف عندها و يتخرج من الورطة فيها و هو لا يأمن من كونها غير شبهة على الحقيقة. و قوله أعتزل البدع و بينها اضطجع إشارة إلى تضعيف مذاهب العامة و الحشوية الذين رفضوا النظر العقلي و قالوا نعتزل البدع. و قوله فالصورة صورة إنسان و ما بعده فمراده بالحيوان هاهنا الحيوان الأخرس كالحمار و الثور و ليس يريد العموم لأن الإنسان داخل في الحيوان و هذا مثل قوله تعالى إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا. و قال الشاعر
و كائن ترى من صامت لك معجب زيادته أو نقصه في التكلم لسان الفتى نصف و نصف فؤاده فلم يبق إلا صورة اللحم و الدم شرح نهج البلاغة ج : 6 ص : 375قوله و ذلك ميت الأحياء كلمة فصيحة و قد أخذها شاعر فقالليس من مات فاستراح بميت إنما الميت ميت الأحياء

(7/349)


إلا أن أمير المؤمنين ع أراد لجهله و الشاعر أراد لبؤسه. و تؤفكون تقلبون و تصرفون. و الأعلام المعجزات هاهنا جمع علم و أصله الجبل أو الراية و المنارة تنصب في الفلاة ليهتدى بها. و قوله فأين يتاه بكم أي أين يذهب بكم في التيه و يقال أرض تيهاء يتحير سالكها و تعمهون تتحيرون و تضلون. و عترة رسول الله ص أهله الأدنون و نسله و ليس بصحيح قول من قال إنهم رهطه و إن بعدوا و إنما قال أبو بكر يوم السقيفة أو بعده نحن عترة رسول الله ص و بيضته التي فقئت عنه على طريق المجاز لأنهم بالنسبة إلى الأمصار عترة له لا في الحقيقة أ لا ترى أن العدناني يفاخر القحطاني فيقول له أنا ابن عم رسول الله ص ليس يعني أنه ابن عمه على الحقيقة بل هو بالإضافة إلى القحطاني كأنه ابن عمه و إنما استعمل ذلك و نطق به مجازا فإن قدر مقدر أنه على طريق حذف المضافات أي ابن ابن عم أب الأب إلى عدد كثير في البنين و الآباء فكذلك أراد أبو بكر أنهم عترة أجداده على طريق حذف المضاف و قد بين رسول الله ص عترته من هي
لما قال إني تارك فيكم الثقلين
فقال عترتي أهل بيتي و بين في مقام آخر من أهل بيته حيث طرح عليهم كساء و قال حين نزلت إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ شرح نهج البلاغة ج : 6 ص : 376لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِاللهم هؤلاء أهل بيتي فأذهب الرجس عنهم
فإن قلت فمن هي العترة التي عناها أمير المؤمنين ع بهذا الكلام. قلت نفسه و ولداه و الأصل في الحقيقة نفسه لأن ولديه تابعان له و نسبتهما إليه مع وجوده كنسبة الكواكب المضيئة مع طلوع الشمس المشرقة و قد نبه النبي ص على ذلك
بقوله و أبوكما خير منكما
و قوله و هم أزمة الحق جمع زمام كأنه جعل الحق دائرا معهم حيثما داروا و ذاهبا معهم حيثما ذهبوا كما أن الناقة طوع زمامها و قد نبه الرسول ص على صدق هذه القضية
بقوله و أدر الحق معه حيث دار

(7/350)


و قوله و ألسنة الصدق من الألفاظ الشريفة القرآنية قال الله تعالى وَ اجْعَلْ لِي لِسانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ لما كان يصدر عنهم حكم و لا قول إلا و هو موافق للحق و الصواب جعلهم كأنهم ألسنة صدق لا يصدر عنها قول كاذب أصلا بل هي كالمطبوعة على الصدق. و قوله فأنزلوهم منازل القرآن تحته سر عظيم و ذلك أنه أمر المكلفين بأن يجروا العترة في إجلالها و إعظامها و الانقياد لها و الطاعة لأوامرها مجرى القرآن. فإن قلت فهذا القول منه يشعر بأن العترة معصومة فما قول أصحابكم في ذلك. قلت نص أبو محمد بن متويه رحمه الله تعالى في كتاب الكفاية على أن عليا ع معصوم و إن لم يكن واجب العصمة و لا العصمة شرط في الإمامة لكن أدلة النصوص قد دلت على عصمته و القطع على باطنه و مغيبه و أن ذلك أمر اختص شرح نهج البلاغة ج : 6 ص : 377هو به دون غيره من الصحابة و الفرق ظاهر بين قولنا زيد معصوم و بين قول زيد واجب العصمة لأنه إمام و من شرط الإمام أن يكون معصوما فالاعتبار الأول مذهبنا و الاعتبار الثاني مذهب الإمامية. ثم قال وردوهم ورود الهيم العطاش أي كونوا ذوي حرص و انكماش على أخذ العلم و الدين منهم كحرص الهيم الظماء على ورود الماء. ثم قال أيها الناس خذوها عن خاتم النبيين إلى قوله و ليس ببال هذا الموضع يحتاج إلى تلطف في الشرح لأن لقائل أن يقول ظاهر هذا الكلام متناقض لأنه قال يموت من مات منا و ليس بميت و هذا كما تقول يتحرك المتحرك و ليس بمتحرك و كذلك قوله و يبلى من بلي منا و ليس ببال أ لا ترى أنه سلب و إيجاب لشي ء واحد فإن قلتم أراد بقاء النفس بعد موت الجسد كما قاله الأوائل و قوم من المتكلمين قيل لكم فلا اختصاص للنبي و لا لعلي بذلك بل هذه قضية عامة في جميع البشر و الكلام خرج مخرج التمدح و الفخر. فنقول في الجواب إن هذا يمكن أن يحمل على وجهين أحدهما أن يكون البي ص و علي و من يتلوهما من أطائب العترة أحياء بأبدانهم التي كانت

(7/351)


في الدنيا بأعيانها قد رفعهم الله تعالى إلى ملكوت سماواته و على هذا لو قدرنا أن محتفرا احتفر تلك الأجداث الطاهرة عقب دفنهم لم يجد الأبدان في الأرض
و قد روي في الخبر النبوي ص مثل ذلك و هو قوله إن الأرض لم تسلط علي و إنها لا تأكل لي لحما و لا تشرب لي دما
نعم يبقى الأشكال في قوله و يبلى من بلي منا و ليس ببال فإنه إن صح هذا التفسير في الكلام الأول و هو قوله يموت شرح نهج البلاغة ج : 6 ص : 378من مات منا و ليس بميت فليس يصح في القضية الثانية و هي حديث البلاء لأنها تقتضي أن الأبدان تبلى و ذاك الإنسان لم يبل فأج هذا الأشكال إلى تقدير فاعل محذوف فيكون تقدير الكلام يموت من مات حال موته و ليس بميت فيما بعد ذلك من الأحوال و الأوقات و يبلى كفن من بلي منا و ليس هو ببال فحذف المضاف كقوله وَ إِلى مَدْيَنَ أي و إلى أهل مدين و لما كان الكفن كالجزء من الميت لاشتماله عليه عبر بأحدهما عن الآخر للمجاورة و الاشتمال كما عبروا عن المطر بالسماء و عن الخارج المخصوص بالغائط و عن الخمر بالكأس و يجوز أن يحذف الفاعل كقوله تعالى حَتَّى تَوارَتْ بِالْحِجابِ و فَلَوْ لا إِذا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ و قول حاتم إذا حشرجت و حذف الفاعل كثير. و الوجه الثاني أن أكثر المتكلمين ذهبوا إلى أن للإنسان الحي الفعال أجزاء أصلية في هذه البنية المشاهدة و هي أقل ما يمكن أن تأتلف منه البنية التي معها يصح كون الحي حيا و جعلوا الخطاب متوجها نحوها و التكليف واردا عليها و ما عداها من الأجزاء فهي فاضلة ليست داخلة في حقيقة الإنسان و إذا صح ذلك جاز أن ينتزع الله تلك الأجزاء الأصلية من أبدان الأنبياء و الأوصياء فيرفعها إليه بعد أن يخلق لها من الأجزاء الفاضلة عنها نظير ما كان لها في الدار الأولى كما قاله من ذهب إلى قيامة الأنفس و الأبدان معا فتنعم عنده و تلتذ بضروب اللذات الجسمانية و يكون هذا مخصوصا بهذه الشجرة شرح نهج البلاغة ج : 6

(7/352)


ص : 379المباركة دون غيرها و لا عجب فقد ورد في حق الشهداء نحو ذلك في قوله تعالى وَ لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْواتاً بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَو على الوجه الأول لو أن محتفرا احتفر أجداثهم لوجد الأبدان فيها و إن لم يعلم أن أصول تلك البنى قد انتزعت منها و نقلت إلى الرفيق الأعلى و هذا الوجه لا يحتاج إلى تقدير ما قدرناه أولا من الحذف لأن الجسد يبلى في القبر إلا قدر ما انتزع منه و نقل إلى محل القدس و كذلك أيضا يصدق على الجسد أنه ميت و إن كان أصل بنيته لم يمت
و قد ورد في الخبر الصحيح أن أرواح الشهداء من المؤمنين في حواصل طيور خضر تدور في أفناء الجنان و تأكل من ثمارها و تأوي إلى قناديل من ذهب معلقة في ظل العرش

(7/353)


فإذا جاء هذا في الشهداء فما ظنك بموالي الشهداء و ساداتهم. فإن قلت فهل يجوز أن يتأول كلامه فيقال لعله أراد بقاء الذكر و الصيت. قلت إنه لبعيد لأن غيرهم يشركهم في ذلك و لأنه أخرج الكلام مخرج المستغرب المستعظم له. فإن قلت فهل يمكن أن يقال إن الضمير يعود إلى النبي ص لأنه قد ذكره في قوله خاتم النبيين فيكون التقدير أنه يموت من مات منا و النبي ص ليس بميت و يبلى من بلي منا و النبي ليس ببال. قلت هذا أبعد من الأول لأنه لو أراد ذلك لقال إن رسول الله ص لا تبليه الأرض و أنه الآن حي و لم يأت بهذا الكلام الموهم و لأنه في سياق تعظيم العترة و تبجيل أمرها و فخره بنفسه و تمدحه بخصائصه و مزاياه فلا يجوز أن يدخل في غضون ذلك ما ليس منه. شرح نهج البلاغة ج : 6 ص : 380فإن قلت فهل هذا الكلام منه أم قاله مرفوعا قلت بل ذكره مرفوعا أ لا تراه قال خذوها عن خاتم النبيين ثم نعود إلى التفسيفنقول إنه لما قال لهم ذلك علم أنه قال قولا عجيبا و ذكر أمرا غريبا و علم أنهم ينكرون ذلك و يعجبون منه فقال لهم فلا تقولوا ما لا تعرفون أي لا تكذبوا إخباري و لا تكذبوا إخبار رسول الله لكم بهذا فتقولون ما لا تعلمون صحته ثم قال فإن أكثر الحق في الأمور العجيبة التي تنكرونها كإحياء الموتى في القيامة و كالصراط و الميزان و النار و الجنة و سائر أحوال الآخرة هذا إن كان خاطب من لا يعتقد الإسلام فإن كان الخطاب لمن يعتقد الإسلام فإنه يعني بذلك أن أكثرهم كانوا مرجئة و مشبهة و مجبرة و من يعتقد أفضلية غيره عليه و من يعتقد أنه شرك في دم عثمان و من يعتقد أن معاوية صاحب حجة في حربه أو شبهة يمكن أن يتعلق بها متعلق و من يعتقد أنه أخطأ في التحكيم إلى غير ذلك من ضروب الخطإ التي كان أكثرهم عليها. ثم قال و أعذروا من لا حجة لكم عليه و هو أنا يقول قد عدلت فيكم و أحسنت السيرة و أقمتكم على المحجة البيضاء حتى لم يبق لأحد منكم حجة يحتج بها علي ثم شرح

(7/354)


ذلك فقال عملت فيكم بالثقل الأكبر يعني الكتاب و خلفت فيكم الأصغر يعني ولديه لأنهما بقية الثقل الأصغر فجاز أن يطلق عليهما بعد ذهاب من ذهب منه أنهما الثقل الأصغر و إنما سمى النبي ص الكتاب و العترة الثقلين لأن الثقل في اللغة متاع المسافر و حشمه فكأنه ص لما شارف الانتقال إلى جوار ربه تعالى جعل نفسه كالمسافر الذي ينتقل من منزل إلى منزل و جعل الكتاب و العترة كمتاعه و حشمه لأنهما أخص الأشياء به. قوله و ركزت فيكم راية الإيمان أي غرزتها و أثبتها و هذا من باب الاستعارة. شرح نهج البلاغة ج : 6 ص : 381و كذلك قوله و وقفتكم على حدود الحلال و الحرام من باب الاستعارة أيضا مأخوذ من حدود الدار و هي الجهات الفاصلة بينها و بين غيرها. قوله و ألبستكم العافية من عدلي استعارة فصيحة و أفصح منها قوله و فرشتكم المعروف من لي و فعلي أي جعلته لكم فراشا و فرش هاهنا متعد إلى مفعولين يقال فرشته كذا أي أوسعته إياه. ثم نهاهم أن يستعملوا الرأي فيما ذكره لهم من خصائص العترة و عجائب ما منحها الله تعالى
فقال إن أمرنا أمر صعب لا تهتدي إليه العقول و لا تدرك الأبصار قعره و لا تتغلغل الأفكار إليه
و التغلغل الدخول من تغلغل الماء بين الشجر إذا تخللها و دخل بين أصولها
وَ مِنْهَا حَتَّى يَظُنَّ الظَّانُّ أَنَّ الدُّنْيَا مَعْقُولَةٌ عَلَى بَنِي أُمَيَّةَ تَمْنَحُهُمْ دَرَّهَا وَ تُورِدُهُمْ صَفْوَهَا وَ لَا يُرْفَعُ عَنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ سَوْطُهَا وَ لَا سَيْفُهَا وَ كَذَبَ الظَّانُّ لِذَلِكَ بَلْ هِيَ مَجَّةٌ مِنْ لَذِيذِ الْعَيْشِ يَتَطَعَّمُونَهَا بُرْهَةً ثُمَّ يَلْفِظُونَهَا جُمْلَةً

(7/355)


معقولة محبوسة بعقال كما تعقل الناقة و تمنحهم تعطيهم و المنح العطاء منح يمنح بالفتح و الاسم المنحة بالكسر و استمنحت زيدا طلبت منحته. و الدر في الأصل اللبن جعل الدنيا كناقة معقولة عليهم تمنحهم لبنها ثم استعمل شرح نهج البلاغة ج : 6 ص : 382الدر في كل خير و ن فقيل لا در درة أي لا كثر خيره و يقال في المدح لله درة أي عمله. و مجة من لذيذ العيش مصدر مج الشراب من فيه أي رمى به و قذفه و يقال انمجت نقطة من القلم أي ترششت و شيخ ماج أي كبير يمج الريق و لا يستطيع حبسه لكبره. و يتطعمونها أي يذوقونها و برهة أي مدة من الزمان فيها طول و لفظت الشي ء من فمي ألفظه لفظا رميته و ذلك الشي ء اللفاظة و اللفاظ أي يلفظونها كلها لا يبقى منها شي ء معهم. و هذه الخطبة طويلة و قد حذف الرضي رحمه الله تعالى منها كثيرا و من جملتهأما و الذي فلق الحبة و برأ النسمة لا يرون الذي ينتظرون حتى يهلك المتمنون و يضمحل المحلون و يتثبت المؤمنون و قليل ما يكون و الله و الله لا ترون الذي تنتظرون حتى لا تدعون الله إلا إشارة بأيديكم و إيماضا بحواجبكم و حتى لا تملكون من الأرض إلا مواضع أقدامكم و حتى يكون موضع سلاحكم على ظهوركم فيومئذ لا ينصرني إلا الله بملائكته و من كتب على قلبه الإيمان و الذي نفس علي بيده لا تقوم عصابة تطلب لي أو لغيري حقا أو تدفع عنا ضيما إلا صرعتهم البلية حتى تقوم عصابة شهدت مع محمد ص بدرا لا يودى قتيلهم و لا يداوى جريحهم و لا ينعش صريعهم

(7/356)


قال المفسرون هم الملائكة. و منها لقد دعوتكم إلى الحق و توليتم و ضربتكم بالدرة فما استقمتم و ستليكم شرح نهج البلاغة ج : 6 ص : 383بعدي ولاة يعذبونكم بالسياط و الحديد و سيأتيكم غلاما ثقيف أخفش و جعبوب يقتلان و يظلمان و قليل ما يمكنانقلت الأخفش الضعيف البصر خلقة و الجعبوب القصير الذميم و هما الحجاج و يوسف بن عمر و في كتاب عبد الملك إلى الحجاج قاتلك الله أخيفش العينين أصك الجاعرنين. و من كلام الحسن البصري رحمه الله تعالى يذكر فيه الحجاج أتانا أعيمش أخيمش يمد بيد قصيرة البنان ما عرق فيها عنان في سبيل الله. و كان المثل يضرب بقصر يوسف بن عمر و كان يغضب إذا قيل له قصير فصل له الخياط ثوبا فأبقى منه فضلة كثيرة فقال له ما هذه قال فضلت من قميص الأمير فضربه مائة سوط فكان الخياطون بعد ذلك يفصلون له اليسير من الثوب و يأخذون الباقي لأنفسهم

(7/357)


شرح نهج البلاغة ج : 6 ص : 87384- و من خطبة له عأَمَّا بَعْدُ فَإِنَّ لَمْ يَقْصِمْ جَبَّارِي دَهْرٍ قَطُّ إِلَّا بَعْدَ تَمْهِيلٍ وَ رَخَاءٍ وَ لَمْ يَجْبُرْ عَظْمَ أَحَدٍ مِنَ الْأُمَمِ إِلَّا بَعْدَ أَزْلٍ وَ بَلَاءٍ وَ فِي دُونِ مَا اسْتَقْبَلْتُمْ مِنْ عَتْبٍ وَ مَا اسْتَدْبَرْتُمْ مِنْ خَطْبٍ مُعْتَبَرٌ وَ مَا كُلُّ ذِي قَلْبٍ بِلَبِيبٍ وَ لَا كُلُّ ذِي سَمْعٍ بِسَمِيعٍ وَ لَا كُلُّ ذِي نَاظِرٍ بِبَصِيرٍ فَيَا عَجَباً وَ مَا لِيَ لَا أَعْجَبُ مِنْ خَطَإِ هَذِهِ الْفِرَقِ عَلَى اخْتِلَافِ حُجَجِهَا فِي دِينِهَا لَا يَقْتَصُّونَ أَثَرَ نَبِيٍّ وَ لَا يَقْتَدُونَ بِعَمَلِ وَصِيٍّ وَ لَا يُؤْمِنُونَ بِغَيْبٍ وَ لَا يَعِفُّونَ عَنْ عَيْبٍ يَعْمَلُونَ فِي الشُّبُهَاتِ وَ يَسِيرُونَ فِي الشَّهَوَاتِ الْمَعْرُوفُ فِيهِمْ مَا عَرَفُوا وَ الْمُنْكَرُ عِنْدَهُمْ مَا أَنْكَرُوا مَفْزَعُهُمْ فِي الْمُعْضِلَاتِ إِلَى أَنْفُسِهِمْ وَ تَعْوِيلُهُمْ فِي الْمُهِمَّاتِ عَلَى آرَائِهِمْ كَأَنَّ كُلَّ امْرِئٍ مِنْهُمْ إِمَامُ نَفْسِهِ قَدْ أَخَذَ مِنْهَا فِيمَا يَرَى بِعُرًى ثِقَاتٍ وَ أَسْبَابٍ مُحْكَمَاتٍ

(7/358)


القصم بالقاف و الصاد المهملة الكسر قصمته فانقصم و قصمته فتقصم و رجل أقصم الثنية أي مكسورها بين القصم بفتح الصاد. و التمهيل التأخير و يروى رجاء و هو التأخير أيضا و الرواية المشهورة و رخاء أي بعد إعطائهم من سعة العيش و خصب الحال ما اقتضته المصلحة. شرح نهج بلاغة ج : 6 ص : 385و الأزل بفتح الهمزة الضيق و يقتصون يتبعون قال سبحانه و تعالى وَ قالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ. و يعفون بكسر العين عففت عن كذا أعف عفا و عفة و عفافة أي كففت فأنا عف و عفيف و امرأة عفة و عفيفة و قد أعفه الله و استعف عن المسألة أي عف. و تعفف الرجل أي تكلف العفة و يروى و لا يعفون عن عيب أي لا يصفحون. و مفزعهم ملجؤهم و فيما يرى أي فيما يظن و يرى بفتح الياء أي فيما يراه هو و روي بعرا وثيقات. يقول إن عادة الله تعالى ألا يقصم الجبابرة إلا بعد الإمهال و الاستدراج بإضافة النعم عليهم و ألا يجير أولياءه و ينصرهم إلا بعد بؤس و بلاء يمتحنهم به ثم قال لأصحابه إن في دون ما استقبلتم من عتب لمعتبر أي من مشقة يعني بما استقبلوه ما لاقوه في مستقبل زمانهم من الشيب و ولاة السوء و تنكر الوقت و سمى المشقة عتبا لأن العتب مصدر عتب عليه أي وجد عليه فجعل الزمان كالواجد عليهم القائم في إنزال مشاقه بهم مقام الإنسان ذي الموجدة يعتب على صاحبه و روي من عتب بفتح التاء جمع عتبة يقال لقد حمل فلان على عتبة أي أمر كريه من البلاء و في المثل ما في هذا الأمر رتب و لا عتب أي شدة و روي أيضا من عنت و هو الأمر الشاق و ما استدبروه من خطب يعني به ما تصرم عنهم من الحروب و الوقائع التي قضوها و نضوها و استدبروها و يروى و استدبرتم من خصب و هو رخاء العيش و هذا يقتضي المعنى الأول أي و ما خلفتم وراءكم من الشباب و الصحة و صفو العيشة. ثم قال ما كل ذي قلب بلبيب الكلام إلى آخره و هو مأخوذ من قول الله

(7/359)


شرح نهج البلاغة ج : 6 ص : 386تعالى لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِها وَ لَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِها وَ لَهُمْ آذانٌ لا يَسْمَعُونَ بِها. ثم تعجب من اختلاف حجج الفرق في الدين و خطئهم و كونهم لا يتبعون أقوال الأنبياء و لا أقوال الأوصياء ثم نعى علم أحوالهم القبيحة فقال إنهم لا يؤمنون بالغيب أي لا يصدقون بما لم يشاهدوه و لا يكفون عن الأمور القبيحة لكنهم يعملون في الشبهات أي يعملون أعمالا داخلة في الشبهات متوسطة لها و يسيرون في الشهوات جعل الشهوات كالطريق التي يسير فيها الإنسان. ثم قال المعروف فيهم ما عرفوه أي ليس المعروف عندهم ما دل الدليل على كونه معروفا و صوابا و حقا بل المعروف عندهم ما ذهبوا إلى أنه حق سواء كان حقا في نفس الأمر أو لم يكن و المنكر عندهم ما أنكروه كما شرحناه في المعروف. ثم قال إنهم لا يستشيرون بعالم و لا يستفتون فقيها فاضلا بل مفزعهم في الأمور المشكلة إلى أنفسهم و آرائهم و لقد صدق ع فإن هذه صفات من يدعي العلم و الفضل في زماننا و قبله بدهر طويل و ذلك أنهم يأنفون من التعلم و الاسترشاد فالبادئ منهم يعتقد في نفسه أنه أفضل من البارع المنتهي و متى ظفر الواحد منهم بمبادئ علم و حمله شرع في التدريس و التصنيف فمنعه التزامه بذلك من التردد إلى أبواب العلماء و أنف من سؤالهم عن الأمور المشكلة فدام جهله إلى أن يموت. ثم قال كان كل واحد منهم إمام نفسه و يروى بحذف كان و إسقاطها و هو أحسن

(7/360)


شرح نهج البلاغة ج : 6 ص : 88387- و من خطبة له عأَرْسَلَهُ عَلَى حِينِ فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ وَ طُولِ هَجْعَةٍ مِنَ الْأُمَمِ وَ اعْتِزَامٍ مِنَ الْفِتَنِ وَ انْتِشَارٍ مِنَ الْأُمُورِ وَ تَلَظٍّ مِنَ الْحُرُوبِ وَ الدُّنْيَا كَاسِفَةُ النُّورِ ظَاهِرَةُ الْغُرُورِ عَلَى حِينِ اصْفِرَارٍ مِنْ وَرَقِهَا وَ إِيَاسٍ مِنْ ثَمَرِهَا وَ إِعْوَارٍ مِنْ مَائِهَا قَدْ دَرَسَتْ مَنَارُ الْهُدَى وَ ظَهَرَتْ أَعْلَامُ الرَّدَى فَهِيَ مُتَجَهِّمَةٌ لِأَهْلِهَا عَابِسَةٌ فِي وَجْهِ طَالِبِهَا ثَمَرُهَا الْفِتْنَةُ وَ طَعَامُهَا الْجِيفَةُ وَ شِعَارُهَا الْخَوْفُ وَ دِثَارُهَا السَّيْفُ. فَاعْتَبِرُوا عِبَادَ اللَّهِ وَ اذْكُرُوا تِيكَ الَّتِي آبَاؤُكُمْ وَ إِخْوَانُكُمْ بِهَا مُرْتَهَنُونَ وَ عَلَيْهَا مُحَاسَبُونَ وَ لَعَمْرِي مَا تَقَادَمَتْ بِكُمْ وَ لَا بِهِمُ الْعُهُودُ وَ لَا خَلَتْ فِيمَا بَيْنَكُمْ وَ بَيْنَهُمُ الْأَحْقَابُ وَ الْقُرُونُ وَ مَا أَنْتُمُ الْيَوْمَ مِنْ يَوْمَ كُنْتُمْ فِي أَصْلَابِهِمْ بِبَعِيدٍ. وَ اللَّهِ مَا أَسْمَعَكُمُ الرَّسُولُ شَيْئاً إِلَّا وَ هَا أَنَا ذَا الْيَوْمَ مُسْمِعُكُمُوهُ وَ مَا أَسْمَاعُكُمْ الْيَوْمَ بِدُونِ أَسْمَاعِكُمْ بِالْأَمْسِ وَ لَا شُقَّتْ لَهُمُ الْأَبْصَارُ وَ لَا جُعِلَتْ لَهُمُ الْأَفْئِدَةُ فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ إِلَّا وَ قَدْ أُعْطِيتُمْ مِثْلَهَا فِي هَذَا الزَّمَانِ وَ وَ اللَّهِ مَا بُصِّرْتُمْ بَعْدَهُمْ شَيْئاً جَهِلُوهُ وَ لَا أُصْفِيتُمْ بِهِ وَ حُرِمُوهُ وَ لَقَدْ نَزَلَتْ بِكُمُ الْبَلِيَّةُ جَائِلًا خِطَامُهَا رِخْواً بِطَانُهَا فَلَا يَغُرَّنَّكُمْ مَا أَصْبَحَ فِيهِ أَهْلُ الْغُرُورِ فَإِنَّمَا هُوَ ظِلٌّ مَمْدُودٌ إِلَى أَجَلٍ مَعْدُودٍ

(7/361)


شرح نهج البلاغة ج : 6 ص : 388الفترة بين الرسل انقطاع الرسالة و الوحي و كذلك كان إرسال محمد ص لأن بين محمد و بين عهد المسيح ع عهدا طويلا أكثر الناس على أنه ستمائة سنة و لم يرسل في تلك المدة رسول اللهم إلا ما يقال عن خالد بن سنان العبسي و لم يكن نبيا و لاشهورا. و الهجعة النومة ليلا و الهجوع مثله و كذلك التهجاع بفتح التاء فأما الهجعة بكسر الهاء فهي الهيئة كالجلسة من الجلوس. قوله و اعتزام من الفتن كأنه جعل الفتن معتزمة أي مريدة مصممة للشغب و الهرج و يروى و اعتراض و يروى و اعترام بالراء المهملة من العرام و هي الشرة و التلظي التلهب. و كاسفة النور قد ذهب ضوءها كما تكسف الشمس ثم وصفها بالتغير و ذبول الحال فجعلها كالشجرة التي اصفر ورقها و يبس ثمرها و أعور ماؤها و الإعوار ذهاب الماء فلاة عوراء لا ماء بها و من رواه و إغوار من مائها بالغين المعجمة جعله من غار الماء أي ذهب و منه قوله تعالى أَ رَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ ماؤُكُمْ غَوْراً. و متجهمة لأهلها كالحة في وجوههم. ثم قال ثمرها الفتنة أي نتيجتها و ما يتولد عنها و طعامها الجيفة يعني أكل الجاهلية الميتة أو يكون على وجه الاستعارة أي أكلها خبيث و يروى الخيفة أي الخوف ثم جعل الخوف و السيف شعارها و دثارها فالشعار ما يلي الجسد و الدثار فوق شرح نهج البلاغة ج : 6 ص : 389الشعار و هذا من بديع الكلام و من جيد الصناعة لأنه لما كان الخوف يتقدم السيف و السيف يتلوه جعل الخوف شعارا لأنه الأقرب إلى الجسد و جعل الدثار تاليا له. ثم قال اذكروا تيك كلمة إشارة إلى المؤنثة الغائبة فيمكن أن يعنى بها الدنيا التي تقدم ذكرها و قد جعل آباءهم و إخوانهم مرتهنين بها و محاسبين عليها و الارتهان الاحتباس و يمكن أن يعنى بها الأمانة التي عرضت على الإنسان فحملها و المراد بالأمانة الطاعة و العبادة و فعل الواجب و تجنب القبيح و قال تيك و لم يجر ذكرها كما قال تعالى الم

(7/362)


ذلِكَ الْكِتابُ و لم يجر ذكره لأن الإشارة إلى مثل هذا أعظم و أهيب و أشد روعة في صدر المخاطب من التصريح. قوله و لا خلت فيما بينكم و بينهم الأحقاب أي لم يطل العهد و الأحقاب المدد المتطاولة و القرون الأمم من الناس. و قوله من يوم كنتم يروى بفتح الميم من يوم على أنه مبني إذ هو مضاف إليه الفعل المبني و يروى بجرها بالإضافة على اختلاف القولين في علم العربية. ثم اختلفت الرواية في قوله و الله ما أسمعكم فروي بالكاف و روي أسمعهم و كذلك اختلفت الرواية في قوله و ما أسماعكم اليوم بدون أسماعكم بالأمس فروي هكذا و روي بدون أسماعهم فمن رواه بهاء الغيبة في الموضعين فالكلام منتظم لا يحتاج إلى تأويل و من رواه بكاف الخطاب قال إنه خاطب به من صحب النبي ص و شاهده و سمع خطابه لأن أصحاب علي ع كانوا فريقين صحابة و تابعين و يعضد الرواية الأولى سياق الكلام. و قوله و لا شقت لهم الأبصار إلا و قد أعطيتم مثلها.

(7/363)


شرح نهج البلاغة ج : 6 ص : 390و أصفيتم به منحتموه من الصفا و هو ما يصطفيه الرئيس من المغنم لنفسه قبل القسمة يقال صفي و صفية. و خلاصة هذا الكلام أن جميع ما كان رسول الله ص قاله لأصحابه قد قلت مثله لكم فأطاع أولئك و عصيتم أنتم و حالكم مساوية لحالهم. قلت لون مجيبا منهم يجيبه لأمكن أن يقول له المخاطبون و إن كانوا نوعا واحدا متساويا إلا أن المخاطب مختلف الحال و ذلك لأنك و إن كنت ابن عمه في النسب و أخاه و لحمه و دمه و فضائلك مشتقة من فضائله و أنت قبس من نوره و ثانيه على الحقيقة و لا ثالث لكما إلا أنك لم ترزق القبول الذي رزقه و لا انفعلت نفوس الناس لك حسب انفعالها له و تلك خاصية النبوة التي امتاز بها عنك فإنه كان لا يسمع أحد كلامه إلا أحبه و مال إليه و لذلك كانت قريش تسمي المسلمين قبل الهجرة الصباة و يقولون نخاف أن يصبو الوليد بن المغيرة إلى دين محمد ص و لئن صبا الوليد و هو ريحانة قريش لتصبون قريش بأجمعها و قالوا فيه ما كلامه إلا السحر و إنه ليفعل بالألباب فوق ما تفعل الخمر و نهوا صبيانهم عن الجلوس إليه لئلا يستميلهم بكلامه و شمائله و كان إذا صلى في الحجر و جهر يجعلون أصابعهم في آذانهم خوفا أن يسحرهم و يستميلهم بقراءته و بوعظه و تذكيره هذا هو معنى قوله تعالى جَعَلُوا أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ وَ اسْتَغْشَوْا ثِيابَهُمْ. و معنى قوله وَ إِذا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلى أَدْبارِهِمْ نُفُوراً لأنهم كانوا يهربون إذا سمعوه يتلو القرآن خوفا أن يغير عقائدهم في أصنامهم و لهذا شرح نهج البلاغة ج : 6 ص : 391أسلم أكثر الناس بمجرد سماع كلامه و رؤيته و مشاهدة روائه و منظره و ما ذاقوه من حلاوة لفظه و سري كلامه في آذانهم و ملك قلوبهم و عقولهم حتى بذلوا المهج في نصرته و هذا من أعظم معجزاته ع و هو القبول ذي منحه الله تعالى و الطاعة التي جعلها في قلوب الناس له و ذلك على

(7/364)


الحقيقة سر النبوة الذي تفرد به ص فكيف يروم أمير المؤمنين من الناس أن يكونوا معه كما كان آباؤهم و إخوانهم مع النبي ص مع اختلاف حال الرئيسين و تساوي الأثرين كما يعتبر في تحققه تساوي حال المحلين يعتبر في حقيقته أيضا تساوي حال العلتين. ثم نعود إلى التفسير قال و لقد نزلت بكم البلية أي المحنة العظيمة يعني فتنة معاوية و بني أمية. و قال جائلا خطامها لأن الناقة إذا اضطرب زمامها استصعبت على راكبها و يسمى الزمام خطاما لكونه في مقدم الأنف و الخطم من كل دابة مقدم أنفها و فمها و إنما جعلها رخوا بطانها لتكون أصعب على راكبها لأنه إذا استرخى البطان كان الراكب في معرض السقوط عنها و بطان القتب هو الحزام الذي يجعل تحت بطن البعير. ثم نهاهم عن الاغترار بالدنيا و متاعها و قال إنها ظل ممدود إلى أجل معدود و إنما جعلها كالظل لأنه ساكن في رأي العين و هو متحرك في الحقيقة لا يزال يتقلص كما قال تعالى ثُمَّ قَبَضْناهُ إِلَيْنا قَبْضاً يَسِيراً و هو أشبه شي ء بأحوال الدنيا. و قال بعض الحكماء أهل الدنيا كركب سير بهم و هم نيام شرح نهج البلاغة ج : 6 ص : 89392- و من خطبة له عالْحَمْدُ لِلَّهِ الْمَعْرُوفِ مِنْ غَيْرِ رُؤْيَةٍ وَ الْخَالِقِ مِنْ غَيْرِ رَوِيَّةٍ الَّذِي لَمْ يَزَلْ قَائِماً دَائِماً إِذْ لَا سَمَاءٌ ذَاتُ أَبْرَاجٍ وَ لَا حُجُبٌ ذَاتُ إِرْتَاجٍ وَ لَا لَيْلٌ دَاجٍ وَ لَا بَحْرٌ سَاجٍ وَ لَا جَبَلٌ ذُو فِجَاجٍ وَ لَا فَجٌّ ذُو اعْوِجَاجٍ وَ لَا أَرْضٌ ذَاتُ مِهَادٍ وَ لَا خَلْقٌ ذُو اعْتِمَادٍ وَ ذَلِكَ مُبْتَدِعُ الْخَلْقِ وَ وَارِثُهُ وَ إِلَهُ الْخَلْقِ وَ رَازِقُهُ وَ الشَّمْسُ وَ الْقَمَرُ دَائِبَانِ فِي مَرْضَاتِهِ يُبْلِيَانِ كُلَّ جَدِيدٍ وَ يُقَرِّبَانِ كُلَّ بَعِيدٍ

(7/365)


الروية الفكرة و أصلها الهمز روأت في الأمر و قد جاء مثلها كلمات يسيرة شاذة نحو البرية من برأ أي خلق و الذرية من ذرأ أي خلق أيضا و الدرية و هي ما يستتر به الصائد أصله من درأت أي دفعت و فلان بري أصله بري ء وصف الله تعالى بأنه يعرف من غير أن تتعلق الأبصار بذاه و يخلق من غير تفكر و ترو فيما يخلقه. لم يزل قائما القائم و القيوم بمعنى و هو الثابت الذي لا يزول و يعبر عنه في الاصطلاح النظري بالواجب الوجود و قد يفسر القائم على معنى قولهم فلان قائم بأمر كذا أي وال و ممسك له أن يضطرب. ثم قال هو موصوف بأنه قائم دائم من قبل أن يخلق العالم و هذا يؤكد التفسير شرح نهج البلاغة ج : 6 ص : 393الأول لأنه إذا لم يكن العالم مخلوقا بعد لم يصدق عليه أنه قائم بأمره إلا بالقوة لا بالفعل كما يصدق عليه أنه سميع بصير في الأزل أي إذا وجدت المسموعات و المبصرات سمعها و أبصرها و لو سمي قبل ق الكلام متكلما على هذا التفسير لم أستبعده و إن كان أصحابنا يأبونه. و الأبراج الأركان في اللغة العربية. فإن قلت فهل يطابق هذا التفسير ما يعتقده أصحاب الهيئة و كثير من الحكماء و المتكلمين أن السماء كرة لا زاوية فيها و لا ضلع. قلت نعم لا منافاة بين القولين لأن الفلك و إن كان كرة لكن فيه من المتممات ما يجري مجرى أركان الحصن أو السور فصح إطلاق لفظه الأبراج عليه و المتممات أجسام في حشو الفلك تخف في موضع و الناس كلهم أثبتوها. فإن قلت فهل يجوز أن يحمل لفظ الأبراج على ما يعتقده المنجمون و أهل الهيئة و كثير من الحكماء و المتكلمين من كون الفلك مقسوما باثني عشر قسما كل قسم منها يسمى برجا. قلت لا مانع من ذلك لأن هذا المسمى كان معلوما متصورا قبل نزول القرآن و كان أهل الاصطلاح قد وضعوا هذا اللفظ بإزائه فجاز أن ينزل القرآن بموجبه قال تعالى وَ السَّماءِ ذاتِ الْبُرُوجِ و أخذها علي ع منه فقال إذ لا سماء ذات أبراج و ارتفع سماء لأنه مبتدأ و

(7/366)


خبره محذوف و تقديره في الوجود. ثم قال و لا حجب ذات إرتاج و الإرتاج مصدر أرتج أي أغلق أي ذات إغلاق و من رواه ذات رتاج على فعال فالرتاج الباب المغلق و يبعد رواية من رواه شرح نهج البلاغة ج : ص : 394ذات أرتاج لأن فعالا قل أن يجمع على أفعال و يعني بالحجب ذات الإرتاج حجب النور المضروبة بين عرشه العظيم و بين ملائكته و يجوز أن يريد بالحجب السموات أنفسها لأنها حجبت الشياطين عن أن تعلم ما الملائكة فيه. و الليل الداجي المظلم و البحر الساجي الساكن و الفجاج جمع فج و هو الطريق الواسع بين جبلين و المهاد الفراش. قوله و لا خلق ذو اعتماد أي و لا مخلوق يسعى برجلين فيعتمد عليهما أو يطير بجناحيه فيعتمد عليهما و يجوز أن يريد بالاعتماد هنا البطش و التصرف مبتدع الخلق مخرجه من العدم المحض كقوله تعالى بَدِيعُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ و دائبان تثنية دائب و هو الجاد المجتهد المتعب دأب في عمله أي جد و تعب دأبا و دءوبا فهو دءيب و دأبته أنا و سمى الشمس و القمر دائبين لتعاقبهما على حال واحدة دائما لا يفتران و لا يسكنان و روي دائبين بالنصب على الحال و يكون خبر المبتدأ يبليان و هذه من الألفاظ القرآنية
قَسَمَ أَرْزَاقَهُمْ وَ أَحْصَى آثَارَهُمْ وَ أَعْمَالَهُمْ وَ عَدَدَ أَنْفُسِهِمْ وَ خَائِنَةَ أَعْيُنِهِمْ وَ مَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ مِنَ الضَّمِيرِ وَ مُسْتَقَرَّهُمْ وَ مُسْتَوْدَعَهُمْ مِنَ الْأَرْحَامِ وَ الظُّهُورِ إِلَى أَنْ تَتَنَاهَى بِهِمُ الْغَايَاتُ

(7/367)


آثارهم يمكن أن يعنى به آثار وطئهم في الأرض إيذانا بأنه تعالى عالم بكل معلوم شرح نهج البلاغة ج : 6 ص : 395كما آذن قوله سبحانه وَ ما تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُها بذلك و يمكن أن يعنى به حركاتهم و تصرفاتهم. و روي و عدد أنفاسهم على الإضافة. و خائنالأعين ما يومئ به مسارقة و خفية و مستقرهم أي في الأرحام و مستودعهم أي في الأصلاب و قد فسر ذلك فتكون من متعلقة بمستودعهم و مستقرهم على إرادة تكررها و يمكن أن يقال أراد مستقرهم و مأواهم على ظهر الأرض و مستودعهم في بطنها بعد الموت و تكون من هاهنا بمعنى مذ أي مذ زمان كونهم في الأرحام و الظهور إلى أن تتناهى بهم الغايات أي إلى أن يحشروا في القيامة و على التأويل الأول يكون تناهي الغايات بهم عبارة عن كونهم أحياء في الدنيا
هُوَ الَّذِي اشْتَدَّتْ نِقْمَتُهُ عَلَى أَعْدَائِهِ فِي سَعَةِ رَحْمَتِهِ وَ اتَّسَعَتْ رَحْمَتُهُ لِأَوْلِيَائِهِ فِي شِدَّةِ نِقْمَتِهِ قَاهِرُ مَنْ عَازَّهُ وَ مُدَمِّرُ مَنْ شَاقَّهُ وَ مُذِلُّ مَنْ نَاوَاهُ وَ غَالِبُ مَنْ عَادَاهُ مَنْ تَوَكَّلَ عَلَيْهِ كَفَاهُ وَ مَنْ سَأَلَهُ أَعْطَاهُ وَ مَنْ أَقْرَضَهُ قَضَاهُ وَ مَنْ شَكَرَهُ جَزَاهُ عِبَادَ اللَّهِ زِنُوا أَنْفُسَكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُوزَنُوا وَ حَاسِبُوهَا مِنْ قَبْلِ أَنْ تُحَاسَبُوا وَ تَنَفَّسُوا قَبْلَ ضِيقِ الْخِنَاقِ وَ انْقَادُوا قَبْلَ عُنْفِ السِّيَاقِ وَ اعْلَمُوا أَنَّهُ مَنْ لَمْ يُعَنْ عَلَى نَفْسِهِ حَتَّى يَكُونَ لَهُ مِنْهَا وَاعِظٌ وَ زَاجِرٌ لَمْ يَكُنْ لَهُ مِنْ غَيْرِهَا لَا زَاجِرٌ وَ لَا وَاعِظٌ

(7/368)


شرح نهج البلاغة ج : 6 ص : 396يجوز نقمة و نقمة مثل كلمة و كلمة و لبنة و لبنة و معنى الكلام أنه مع كونه واسع الرحمة في نفس الأمر و أنه أرحم الراحمين فإنه شديد النقمة على أعدائه و مع كونه عظيم النقمة في نفس الأمر و كونه شديد العقاب فإنه واسع الرحمة لأوليائو عازه أي غالبه و عزه أي غلبه و منه وَ عَزَّنِي فِي الْخِطابِ و في المثل من عز بز أي من غلب سلب و المدمر المهلك دمره و دمر عليه بمعنى أي أهلكه و شاقه عاداه قيل إن أصله من الشق و هو النصف لأن المعادي يأخذ في شق و المعادي في شق يقابله و ناواه أي عاداه و اللفظة مهموزة و إنما لينها لأجل القرينة السجعية و أصلها ناوأت الرجل مناوأة و نواء و يقال في المثل إذا ناوأت الرجل فاصبر. قوله زنوا أنفسكم قبل أن توزنوا من الكلام الفصيح النادر اللطيف يقول اعتبروا أعمالكم و أنتم مختارون قادرون على استدراك الفارط قبل أن يكون هذا الاعتبار فعل غيركم و أنتم لا تقتدرون على استدراك الفارط و مثله قوله و حاسبوها من قبل أن تحاسبوا. ثم قال و تنفسوا قبل ضيق الخناق أي انتهزوا الفرصة و اعملوا قبل أن يفوتكم الأمر و يجد بكم الرحيل و يقع الندم قال الشاعر
اختم و طينك رطب إن قدرت فكم قد أمكن الختم أقواما فما ختموا
ثم قال و انقادوا قبل عنف السياق هو العنف بالضم و هو ضد الرفق يقال عنف عليه و عنف به أيضا و العنيف الذي لا رفق له بركوب الخيل و الجمع عنف و اعتنفت الأمر أي أخذته بعنف يقول انقادوا أنتم من أنفسكم قبل أن تقادوا و تساقوا شرح نهج البلاغة ج : 6 ص : 397بغير اختركم سوقا عنيفا ثم قال من لم يعنه الله على نفسه حتى يجعل له منها واعظا و زاجرا لم ينفعه الزجر و الوعظ من غيرها أخذ هذا المعنى شاعر فقال
و أقصرت عما تعهدين و زاجر من النفس خير من عتاب العواذل

(7/369)


فإن قلت أ ليس في هذا الكلام إشعار ما بالجبر. قلت إنه لا خلاف بين أصحابنا في أن لله تعالى ألطافا يفعلها بعباده فيقربهم من الواجب و يبعدهم من القبيح و من يعلم الله تعالى من حاله أنه لا لطف له لأن كل ما يعرض لطفا له فإنه لا يؤثر في حاله و لا يزداد به إلا إصرارا على القبيح و الباطل فهو الذي عناه أمير المؤمنين ع بقوله من لم يعن على نفسه لأنه ما قبل المعونة و لا انقاد إلى مقتضاها و قد روي و اعلموا أنه من لم يعن على نفسه بكسر العين أي من لم يعن الواعظين له و المنذرين على نفسه و لم يكن معهم إلبا عليها و قاهرا لها لم ينتفع بالوعظ و الزجر لأن هوى نفسه يغلب وعظ كل واعظ و زجر كل زاجر

(7/370)


شرح نهج البلاغة ج : 6 ص : 90398- و من خطبة له ع تعرف بخطبة الأشباح و هي من جلائل خطبة عرَوَى مَسْعَدَةُ بْنُ صَدَقَةَ عَنِ الصَّادِقِ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ ع أَنَّهُ قَالَ خَطَبَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ بِهَذِهِ الْخُطْبَةِ عَلَى مِنْبَرِ الْكُوفَةِ وَ ذَلِكَ أَنَّ رَجُلًا أَتَاهُ فَقَالَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ صِفْ لَنَا رَبَّنَا مِثْلَ مَا نَرَاهُ عِيَاناً لِنَزْدَادَ لَهُ حُبّاً وَ بِهِ مَعْرِفَةً فَغَضِبَ وَ نَادَى الصَّلَاةَ جَامِعَةً فَاجْتَمَعَ إِلَيْهِ النَّاسُ حَتَّى غَصَّ الْمَسْجِدُ بِأَهْلِهِ فَصَعِدَ الْمِنْبَرَ وَ هُوَ مُغْضَبٌ مُتَغَيِّرُ اللَّوْنِ فَحَمِدَ اللَّهَ وَ أَثْنَى عَلَيْهِ وَ صَلَّى عَلَى النَّبِيِّ ص ثُمَّ قَالَ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَا يَفِرُهُ الْمَنْعُ وَ الْجُمُودُ وَ لَا يُكْدِيهِ الْإِعْطَاءُ وَ الْجُودُ إِذْ كُلُّ مُعْطٍ مُنْتَقِصٌ سِوَاهُ وَ كُلُّ مَانِعٍ مَذْمُومٌ مَا خَلَاهُ وَ هُوَ الْمَنَّانُ بِفَوَائِدِ النِّعَمِ وَ عَوَائِدِ الْمَزِيدِ وَ الْقِسَمِ عِيَالُهُ الْخَلَائِقُ ضَمِنَ أَرْزَاقَهُمْ وَ قَدَّرَ أَقْوَاتَهُمْ وَ نَهَجَ سَبِيلَ الرَّاغِبِينَ إِلَيْهِ وَ الطَّالِبِينَ مَا لَدَيْهِ وَ لَيْسَ بِمَا سُئِلَ بِأَجْوَدَ مِنْهُ بِمَا لَمْ يُسْأَلْ الْأَوَّلُ الَّذِي لَمْ يَكُنْ لَهُ قَبْلٌ فَيَكُونَ شَيْ ءٌ قَبْلَهُ وَ الآْخِرُ الَّذِي لَمْ يَكُنْ لَهُ بَعْدٌ فَيَكُونَ شَيْ ءٌ بَعْدَهُ وَ الرَّادِعُ أَنَاسِيَّ الْأَبْصَارِ عَنْ أَنْ تَنَالَهُ أَوْ تُدْرِكَهُ مَا اخْتَلَفَ عَلَيْهِ دَهْرٌ فَيَخْلِفَ مِنْهُ الْحَالُ وَ لَا كَانَ فِي مَكَانٍ فَيَجُوزَ عَلَيْهِ الِانْتِقَالُ

(7/371)


الأشباح الأشخاص و المراد بهم هاهنا الملائكة لأن الخطبة تتضمن ذكر الملائكة. شرح نهج البلاغة ج : 6 ص : 399و قوله الصلاة جامعة منصوب بفعل مقدر أي احضروا الصلاة و أقيموا الصلاة و جامعة منصوب على الحال من الصلاة. و غص المسجد بفتح الغين أي امتلأ و المسجد غاص بله و يقال رجل مغضب بفتح الضاد أي قد أغضب أي فعل به ما يوجب غضبه. و يفره المنع يزيد في ماله و الموفور التام وفرت الشي ء وفرا و وفر الشي ء نفسه وفورا يتعدى و لا يتعدى و في أمثالهم يوفر و يحمد هو من قولك وفرته عرضه و وفرته ماله. و قوله و لا يكديه الإعطاء أيا يفقره و لا ينفد خزائنه يقال كدت الأرض تكد و فهي كادية إذا أبطأ نباتها و قل خيرها فهذا لازم فإذا عديته أتيت بالهمزة فقلت أكديت الأرض أي جعلتها كادية و تقول أكدى الرجل إذا قل خيره و قوله تعالى وَ أَعْطى قَلِيلًا وَ أَكْدى أي قطع القليل يقول إنه سبحانه قادر على المقدورات و ليس كالملوك من البشر الذين إذا أعطوا نقصت خزائنهم و إن منعوا زادت و قد شرح ذلك و قال إذ كل معط منتقص أي منقوص و يجي ء انتقص لازما و متعديا تقول انتقص الشي ء نفسه و انتقصت الشي ء أي نقصته و كذلك نقص يجي ء لازما و متعديا. ثم قال و كل مانموم غيره و ذلك لأنه تعالى إنما يمنع من تقتضي الحكمة و المصلحة منعه و ليس كما يمنع البشر و سأل رجل علي بن موسى الرضا عن الجواد فقال إن لكلامك وجهين فإن كنت تسأل عن المخلوق فإن الجواد هو الذي يؤدي ما افترض الله عليه و البخيل هو الذي يبخل بما افترض الله عليه و إن كنت تعني الخالق شرح نهج البلاغة ج : 6 ص : 400فهو الجواد إن أعطى و هو الجواد إن منع لأنه إن أعطى عبدا أعطاه ما ليس له و إن منعه منعه ما ليس له. قوله و ليس بما سئل بأجود منه بما لم يسأل فيه معنى لطيف و ذاك لأن هذا المعنى مما يختص بالبشر لأنهم يتحركون بالسؤال و تهزهم الطلبات فيكونون بما سألهم السائل أجود منهم بما لم يسألهم

(7/372)


إياه و أما البارئ سبحانه فإن جوده ليس على هذا المنهاج لأن جوده عام في جميع الأحوال. ثم ذكر أن وجوده تعالى ليس بزماني فلا يطلق عليه البعدية و القبلية كما يطلق على الزمانيات و إنما لم يكن وجوده زمانيا لأنه لا يقبل الحركة و الزمان من لواحق الحركة و إنما لم تطلق عليه البعدية و القبلية إذ لم يكن زمانيا لأن قولنا في الشي ء إنه بعد الشي ء الفلاني أي الموجود في زمان حضر بعد تقضي زمان ذلك الشي ء الفلاني و قولنا في الشي ء إنه قبل الشي ء الفلاني أي إنه موجود في زمان حضر و لم يحضر زمان ذلك الشي ء الفلاني بعد فما ليس في الزمان ليس يصدق عليه القبل و البعد الزمانيان فيكون تقدير الكلام على هذا الأول الذي لا يصدق عليه القبلية الزمانية ليمكن أن يكون شي ء ما قبله و الآخر الذي لا يصدق عليه البعدية الزمانية ليمكن أن يكون شي ء ما بعده. و قد يحمل الكلام على وجه آخر أقرب متناولا من هذا الوجه و هو أن يكون أراد الذي لم يكن محدثا أي موجودا قد سبقه عدم فيقال إنه مسبوق بشي ء من الأشياء إما المؤثر فيه أو الزمان المقدم عليه و أنه ليس بذات يمكن فناؤها و عدمها فيما لا يزال فيقال إنه ينقضي و ينصرم و يكون بعده شي ء من الأشياء إما الزمان أو غيره و الوجه الأول أدق و ألطف و يؤكد كونه مرادا قوله عقيبه ما اختلف عليه دهر فيختلف منه الحال و ذلك لأن واجب الوجود أعلى من الدهر و الزمان فنسبة ذاته إلى الدهر و الزمان بجملته و تفصيل أجزائه نسبة متحدة.

(7/373)


شرح نهج البلاغة ج : 6 ص : 401فإن قلت إذا لم يكن قبل الأشياء بالزمان و لا بعدها بالزمان فهو معها بالزمان لأنه لا يبقى بعد نفي القبلية و البعدية إلا المعية. قلت إنما يلزم ذلك فيما وجوده زماني و أما ما ليس زمانيا لا يلزم من نفي القبلية و البعدية إثبات المعية كما أنه ما لم يكن وجوده مكانيا لم يلزم من نفي كونه فوق العالم أو تحت العالم بالمكان أن يكون مع العالم بالمكان. ثم قال الرادع أناسي الأبصار عن أن تناله أو تدركه الأناسي جمع إنسان و هو المثال الذي يرى في السواد و هذا اللفظ بظاهره يشعر بمذهب الأشعرية و هو قولهم إن الله تعالى خلق في الأبصار مانعا عن إدراكه إلا أن الأدلة العقلية من جانبنا اقتضت تأويل هذا اللفظ كما تأول شيوخنا قوله تعالى وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ فقالوا إلى جنة ربها فنقول تقديره الرادع أناسي الأبصار أن تنال أنوار جلالته. فإن قلت أ تثبتون له تعالى أنوارا يمكن أن تدركها الأبصار و هل هذا إلا قول بالتجسيم. قلت كلا لا تجسيم في ذلك فكما أن له عرشا و كرسيا و ليس بجسم فكذلك أنوار عظيمة فوق العرش و ليس بجسم فكيف تنكر الأنوار و قد نطق الكتاب العزيز بها في غير موضع كقوله وَ أَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّها و كقوله مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكاةٍ فِيها مِصْباحٌ شرح نهج البلاغة ج : 6 ص : 402
وَ لَوْ وَهَبَ مَا تَنَفَّسَتْ عَنْهُ مَعَادِنُ الْجِبَالِ وَ ضَحِكْتَ عَنْهُ أَصْدَافُ الْبِحَارِ مِنْ فِلِزِّ اللُّجَيْنِ وَ الْعِقْيَانِ وَ نُثَارَةِ الدُّرِّ وَ حَصِيدِ الْمَرْجَانِ مَا أَثَّرَ ذَلِكَ فِي جُودِهِ وَ لَا أَنْفَدَ سَعَةَ مَا عِنْدَهُ وَ لَكَانَ عِنْدَهُ مِنْ ذَخَائِرِ الْأَنْعَامِ مَا لَا تُنْفِدُهُ مَطَالِبُ الْأَنَامِ لِأَنَّهُ الْجَوَادُ الَّذِي لَا يَغِيضُهُ سُؤَالَ السَّائِلِينَ وَ لَا يُبَخِّلُهُ إِلْحَاحُ الْمُلِحِّينَ

(7/374)


هذا الكلام من تتمة الكلام الأول و هو قوله لا يفره المنع و لا يكديه الإعطاء و الجود و تنفست عنه المعادن استعارة كأنها لما أخرجته و ولدته كانت كالحيوان يتنفس فيخرج من صدره و رئته الهواء. و ضحكت عنه الأصداف أي تفتحت عنه و انشقت يقال للطلع حين ينشق الضحك بفتح الضاد و إنما سمي الضاحك ضاحكا لأنه يفتح فاه و الفلز اسم الأجسام الذائبة كالذهب و الفضة و الرصاص و نحوها و اللجين اسم الفضة جاء مصغرا كالكميت و الثريا و العقيان الذهب الخالص و يقال هو ما ينبت نباتا و ليس مما يحصل من الحجارة و نثارة الدر ما تناثر منه كالسقاطة و النخالة و تأتي فعالة تارة للجيد المختار و تارة للساقط المتروك فالأول نحو الخلاصة و الثاني نحو القلامة. و حصيد المرجان كأنه أراد المتبدد منه كما يتبدد الحب المحصود و يجوز أن يعنى به الصلب المحكم من قولهم شي ء مستحصد أي مستحصف مستحكم يعنى أنه ليس برخو و لا هش و يروى و حصباء المرجان و الحصباء الحصى و أرض حصبة و محصبة شرح نهج البلاغة ج : 6 ص : 403بالفتح ذات حصباء و المرجان صغار اللؤلؤ و قد قيل إنه هذا الحجر و استعمله بعض المتأخرين فقال
أدمى لها المرجان صفحة خده و بكى عليها اللؤلؤ المكنون
و تنفده تفنيه نفد الشي ء أي فني و أنفدته أنا و مطالب الأنام جمع مطلب و هو المصدر من طلبت الشي ء طلبا و مطلبا. و يغيضه بفتح حرف المضارعة ينقصه و يقال غاض الماء فهذا لازم و غاض الله الماء فهذا متعد و جاء أغاض الله الماء. و الإلحاح مصدر ألح على الأمر أي أقام عليه دائما من ألح السحاب إذا دام مطره و ألح البعير حرن كما تقول خلأت الناقة و روي و لا يبخله بالتخفيف تقول أبخلت زيدا أي صادفته بخيلا و أجبنته وجدته جبانا. و في هذا الفصل من حسن الاستعارة و بديع الصنعة ما لا خفاء به

(7/375)


فَانْظُرْ أَيُّهَا السَّائِلُ فَمَا دَلَّكَ الْقُرْآنُ عَلَيْهِ مِنْ صِفَتِهِ فَائْتَمَّ بِهِ وَ اسْتَضِئْ بِنُورِ هِدَايَتِهِ وَ مَا كَلَّفَكَ الشَّيْطَانُ عِلْمَهُ مِمَّا لَيْسَ فِي الْكِتَابِ عَلَيْكَ فَرْضُهُ وَ لَا فِي سُنَّةِ النَّبِيِّ ص وَ أَئِمَّةِ الْهُدَى أَثَرُهُ فَكِلْ عِلْمَهُ إِلَى اللَّهِ سُبْحَانَهُ فَإِنَّ ذَلِكَ مُنْتَهَى حَقِّ اللَّهِ عَلَيْكَ وَ اعْلَمْ أَنَّ الرَّاسِخِينَ فِي الْعِلْمِ هُمُ الَّذِينَ أَغْنَاهُمْ عَنِ اقْتِحَامِ السُّدَدِ الْمَضْرُوبَةِ دُونَ الْغُيُوبِ الْإِقْرَارُ بِجُمْلَةِ مَا جَهِلُوا تَفْسِيرَهُ مِنَ الْغَيْبِ الْمَحْجُوبِ فَمَدَحَ اللَّهُ شرح نهج البلاغة ج : 6 ص : 404اعْتِرَافَهُمْ بِالْعَجْزِ عَنْ تَنَاوُلِ مَا لَمْ يُحِيطُوا بِهِ عِلْماً وَ سَمَّى تَرْكَهُمُ التَّعَمُّقَ فِيمَا لَمْ يُكَلِّفْهُمُ الْبَحْثَ عَنْ كُنْهِهِ رُسُوخاً فَاقْتَصِرْ عَلَى ذَلِكَ وَ لَا تُقَدِّرْ عَظَمَةَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ عَلَى قَدْرِ عَقْلِكَ فَتَكُونَ مِنَ الْهَالِكِينَ

(7/376)


تقول ائتم فلان بفلان أي جعله إماما و اقتدى به فكل علمه من وكله إلى كذا وكلا و وكولا و هذا الأمر موكول إلى رأيك و الاقتحام الهجوم و الدخول مغالبة و السدد المضروبة جمع سدة و هي الرتاج. و اعلم أن هذا الفصل يمكن أن تتعلق به الحشوية المانعون من تأويل الآيات الواردة في الصفات القائلين بالجمود على الظواهر و يمكن أيضا أن يتعلق به من نفى النظر و حرمه أصلا و نحن قبل أن نحققه و نتكلم فيه نبدأ بتفسير قوله تعالى وَ ما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ فنقول إن من الناس من وقف على قوله إِلَّا اللَّهُ و منهم من لم يقف على ذلك و هذا القول أقوى من الأول لأنه إذا كان لا يعلم تأويل المتشابه إلا الله لم يكن في إنزاله و مخاطبة المكلفين به فائدة بل يكون كخطاب العربي بالزنجية و معلوم أن ذلك عيب قبيح. فإن قلت فما الذي يكون موضع يَقُولُونَ من الإعراب. قلت يمكن أن يكون نصبا على أنه حال من الراسخين و يمكن أن يكون كلاما مستأنفا أي هؤلاء العالمون بالتأويل يقولون آمنا به. شرح نهج البلاغة ج : 6 ص : 405و قد روي عن ابن عباس أنه تأول آية فقال قائل من الصحابة وَ ما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ فقال ابن عباس وَ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ و أنا من جملة الراسخين. ثم نعود إلى تفسير كلام أمير المؤمنين ع فنقول إنه غضب و تغير وجهه لقول السائل صف لنا ربنا مثل ما نراه عيانا و إذا هذا المعنى ينصرف وصية له بما أوصاه به من اتباع ما جاء في القرآن و السنة و ذلك لأن العلم الحاصل من رؤية الشي ء عيانا علم لا يمكن أن يتعلق مثله بالله سبحانه لأن ذاته تعالى لا يمكن أن تعلم من حيث هي هي كما تعلم المحسوسات أ لا ترى أنا إذا علمنا أنه صانع العالم و أنه قادر عالم حي سميع بصير مريد و أنه ليس بجسم و لا جوهر و لا عرض و علمنا جميع الأمور السلبية و الإيجابية المتعلقة به فإنما علمنا سلوبا و إضافات

(7/377)


و لا شك أن ماهية الموصوف مغايرة لماهية الصفات و الذوات المحسوسة بخلاف ذلك لأنا إذا رأينا السواد فقد علمنا نفس حقيقة السواد لا صفة من صفات السواد و أيضا فإنا لو قدرنا أن العلم بوجوده و صفاته السلبية و الإيجابية يستلزم العلم بذاته من حيث هي هي لم يكن عالما بذاته علما جزئيا لأنه يمكن أن يصدق هذا العلم على كثيرين على سبيل البدل و إذا ثبت أنه يستحيل أن يصدق على كثيرين على سبيل البدل ثبت أنه يستحيل أن يصدق على كثيرين على سبيل الجمع و العلم بالمحسوس يستحيل أن يصدق على كثيرين لا على سبيل الجمع و لا على سبيل البدل فقد بان أنه يستحيل أن يعلم الله تعالى كما يعلم الشي ء المرئي عيانا فأمير المؤمنين ع أنكر هذا السؤال كما أنكره الله تعالى على بني إسرائيل لما طلبوا الرؤية قال تعالى وَ إِذْ قُلْتُمْ يا مُوسى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ.

(7/378)


شرح نهج البلاغة ج : 6 ص : 406ثم قال للسائل بعد غضبه و استحالة لونه و ظهور أثر الإنكار عليه ما دلك القرآن عليه من صفته فخذ به فإن لم تجده في الكتاب فأطلبه من السنة و من مذاهب أئمة الحق فإن لم تجد ذلك فاعلم أن الشيطان حينئذ قد كلفك علم ما لم يكلفك الله علمه و هذا حق لأن الكتاب و السنة قد نطقا بصفات الله من كونه عالما قادرا حيا مريدا سميعا بصيرا و نطقا أيضا بتنزيهه عن سمات الحدوث كالجسمية و الحلول و الجهة و ما استلزم الجهة كالرؤية فلا إنكار على من طلب في مدارك العقول وجوها تعضد ما جاء به القرآن و السنة و توفق بين بعض الآيات و بعض و تحمل أحد اللفظين على الآخر إذا تناقضا في الظاهر صيانة لكلام الحكيم عن التهافت و التعارض و أما ما لم يأت الكتاب و السنة فيه بشي ء فهو الذي حرم و حظر على المكلفين الفكر فيه كالكلام في الماهية التي يذهب ضرار المتكلم إليها و كإثبات صفات زائدة على الصفات المعقولة لذات البارئ سبحانه و هي على قسمين أحدهما ما لم يرد فيه نص كإثبات طائفة تعرف بالماتريدية صفة سموها التكوين زائدة على القدرة و الإرادة. و الثاني ما ورد فيه لفظ فأخطأ بعض أهل النظر فأثبت لأجل ذلك اللفظة صفة غير معقولة للبارئ سبحانه نحو قول الأشعريين إن اليدين صفة من صفات الله و الاستواء على العرش صفة من صفات الله و إن وجه الله صفة من صفاته أيضا ثم قال إن الراسخين في العلم الذين غنوا بالإقرار بما عرفوه عن الولوج و التقحم فيما لم يعرفوه و هؤلاء هم أصحابنا المعتزلة لا شبهة في ذلك أ لا ترى أنهم يعللون أفعال الله تعالى بالحكم و المصالح فإذا ضاق عليهم الأمر في تفصيل بعض المصالح في بعض المواضع قالوا نعلم على الجملة أن لهذا وجه حكمة و مصلحة و إن كنا لا نعرف تفصيل تلك المصلحة كما يقولون في تكليف من يعلم الله تعالى منه أنه يكفر و كما يقولون في اختصاص الحال التي حدث فيها العالم بحدوثه دون ما قبلها و ما

(7/379)


بعدها. شرح نهج البلاغة ج : 6 ص : 407و قد تأول القطب الراوندي كلام أمير المؤمنين في هذا الفصل فقال إنما أنكر على من يقول لم تعبد الله المكلفين بإقامة خمس صلوات و هلا كانت ستا أو أربعا و لم جعل الظهر أربع ركعات و الصبح ركعتين و هلا عكس الحال و هذا التأويل غير صحيح لأنه ع إنما أخرج هذا الكلام مخرج المنكر على من سأله أن يصف له البارئ سبحانه و لم يكن السائل قد سأل عن العلة في أعداد الصلاة و كمية أجزاء العبادات. ثم إنه ع قد صرح في غضون الكلام بذلك فقال فانظر أيها السائل فما دلك القرآن عليه من صفته فائتم به و ما لم يدلك عليه فليس عليك أن تخوض فيه و هذا الكلام تصريح بأن البحث إنما هو في النظر العقلي في فن الكلام فلا يجوز أن يحمل على ما هو بمعزل عنه. و اعلم أننا نتساهل في ألفاظ المتكلمين فنوردها بعباراتهم كقولهم في المحسوسات و الصواب المحسات لأنه لفظ المفعول من أحس الرباعي لكنا لما رأينا العدول عن ألفاظهم إذا خضنا في مباحثهم مستهجنا عبرنا بعبارتهم على علم منا أن العربية لا تسوغها
هُوَ الْقَادِرُ الَّذِي إِذَا ارْتَمَتِ الْأَوْهَامُ لِتُدْرِكَ مُنْقَطَعَ قُدْرَتِهِ وَ حَاوَلَ الْفِكْرُ الْمُبَرَّأُ مِنْ خَطْرِ الْوَسَاوِسِ أَنْ يَقَعَ عَلَيْهِ فِي عَمِيقَاتِ غُيُوبِ مَلَكُوتِهِ وَ تَوَلَّهَتِ الْقُلُوبُ إِلَيْهِ لِتَجْرِيَ فِي كَيْفِيَّةِ صِفَاتِهِ وَ غَمَضَتْ مَدَاخِلُ الْعُقُولِ فِي حَيْثُ لَا تَبْلُغُهُ الصِّفَاتُ لِتَنَاوُلِ عِلْمِ ذَاتِهِ رَدَعَهَا وَ هِيَ تَجُوبُ مَهَاوِيَ سُدَفِ الْغُيُوبِ مُتَخَلِّصَةً إِلَيْهِ سُبْحَانَهُ فَرَجَعَتْ إِذْ جُبِهَتْ مُعْتَرِفَةً بِأَنَّهُ لَا يُنَالُ بِجَوْرِ الِاعْتِسَافِ كُنْهُ مَعْرِفَتِهِ وَ لَا تَخْطُرُ بِبَالِ أُولِي الرَّوِيَّاتِ خَاطِرَةٌ مِنْ تَقْدِيرِ جَلَالِ عِزَّتِهِ

(7/380)


شرح نهج البلاغة ج : 6 ص : 408ارتمت الأوهام أي ترامت يقال ارتمى القوم بالنبل أي تراموا فشبه جولان الأوهام و الأفكار و تعارضها بالترامي. و خطر الوساوس بتسكين الطاء مصدر خطر له خاطر أي عرض في قلبه و روي من خطرات الوساوس. و تولهت القلوب إليه اشتد عشقها حتى أصابها الوله و هو الحيرة. و قوله لتجري في كيفية صفاته أي لتصادف مجرى و مسلكا في ذلك و غمضت مداخل العقول أي غمض دخولها و دق في الأنظار العميقة التي لا تبلغ الصفات كنهها لدقتها و غموضها طالبة أن تنال معرفته تعالى. و لفظة ذات لفظة قد طال فيها كلام كثير من أهل العربية فأنكر قوم إطلاقها على الله تعالى و إضافتها إليه أما إطلاقها فلأنها لفظة تأنيث و البارئ سبحانه منزه عن الأسماء و الصفات المؤنثة و أما إضافتها فلأنها عين الشي ء و الشي ء لا يضاف إلى نفسه و أجاز آخرون إطلاقها في البارئ تعالى و إضافتها إليه أما استعمالها فلوجهين أحدهما أنها قد جاءت في الشعر القديم قال خبيب الصحابي عند صلبه
و ذلك في ذات الإله و إن يشأ يبارك على أوصال شلو موزع
و يروى ممزع و قال النابغة
محلتهم ذات الإله و دينهم قديم فما يخشون غير العواقب

(7/381)


و الوجه الثاني أنها لفظة اصطلاحية فجاز استعمالها لا على أنها مؤنث ذو بل تستعمل شرح نهج البلاغة ج : 6 ص : 409ارتجالا في مسماها الذي عبر عنه بها أرباب النظر الإلهي كما استعملوا لفظ الجوهر و العرض و غيرهما في غير ما كان أهل العربية و اللغة يستعملونها فيه. و أما منعهم إضافتها إليه تعالى و أنه لا يقال ذاته لأن الشي ء لا يضاف إلى نفسه فباطل بقولهم أخذته نفسه و أخذته عينه فإنه بالاتفاق جائز و فيه إضافة الشي ء إلى نفسه. ثم نعود إلى التفسير قوله ع ردعها أي كفها و تجوب أي تقطع و المهاوي المهالك الواحدة مهواه بالفتح و هي ما بين جبلين أو حائطين و نحو ذلك و السدف جمع سدفة و هي القطعة من الليل المظلم و جبهت أي ردت و أصله من جبهته أي صككت جبهته و الجور العدول عن الطريق و الاعتساف قطع المسافة على غير جادة معلومة. و خلاصة هذا الفصل أن العقول إذا حاولت أن تدرك متى ينقطع اقتداره على المقدرات نكصت عن ذلك لأنه قادر أبدا دائما على ما لا يتناهى و إذا حاول الفكر الذي قد صفا و خلا عن الوساوس و العوائق أن يدرك مغيبات علمه تعالى كل و حسر و رجع ناقصا أيضا و إذا اشتد عشق النفوس له و تولهت نحوه لتسلك مسلكا تقف منه على كيفية صفاته عجزت عن ذلك و إذا تغلغلت العقول و غمضت مداخلها في دقائق العلوم النظرية الإلهية التي لا توصف لدقتها طالبة أن تعلم حقيقة ذاته تعالى انقطعت و أعيت و ردها سبحانه و تعالى و هي تجول و تقطع ظلمات الغيب لتخلص إليه فارتدت حيث جبهها و ردعها مقرة معترفة بأن إدراكه و معرفته لا تنال باعتساف المسافات التي بينها و بينه و إن أرباب الأفكار و الرويات يتعذر عليهم أن يخطر لهم خاطر يطابق ما في الخارج من تقدير جلال عزته و لا بد من أخذ هذا القيد في الكلام لأن أرباب الأنظار شرح نهج البلاغة ج : 6 ص : 410لا بد أن تخطر لهم الخواطر في تقدير جلال عزته و لكن تلك الخواطر لا تكون مطابقة لها في الخارج لأنها

(7/382)


خواطر مستندها الوهم لا العقل الصريح و ذلك لأن الوهم قد ألف الحسيات و المحسوسات فهو يعقل خواطر بحسب ما ألفه من ذلك و جلال واجب الوجود أعلى و أعظم من أن يتطرق الوهم نحوه لأنه بري ء من المحسوسات سبحانه و أما العقل الصريح فلا يدرك خصوصية ذاته لما تقدم. و اعلم أن قوله تعالى فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرى مِنْ فُطُورٍ ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خاسِئاً وَ هُوَ حَسِيرٌ فيه إشارة إلى هذا المعنى و كذلك قوله يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَ ما خَلْفَهُمْ وَ لا يُحِيطُونَ بِشَيْ ءٍ مِنْ عِلْمِهِ
الَّذِي ابْتَدَعَ الْخَلْقَ عَلَى غَيْرِ مِثَالٍ امْتَثَلَهُ وَ لَا مِقْدَارٍ احْتَذَى عَلَيْهِ مِنْ خَالِقٍ مَعْبُودٍ كَانَ قَبْلَهُ وَ أَرَانَا مِنْ مَلَكُوتِ قُدْرَتِهِ وَ عَجَائِبِ مَا نَطَقَتْ بِهِ آثَارُ حِكْمَتِهِ وَ اعْتِرَافِ الْحَاجَةِ مِنَ الْخَلْقِ إِلَى أَنْ يُقِيمَهَا بِمِسَاكِ قُوَّتِهِ مَا دَلَّنَا بِاضْطِرَارِ قِيَامِ الْحُجَّةِ لَهُ عَلَى مَعْرِفَتِهِ فَظَهَرَتْ فِي الْبَدَائِعِ الَّتِي أَحْدَثَهَا آثَارُ صَنَعْتِهِ وَ أَعْلَامُ حِكْمَتِهِ فَصَارَ كُلُّ مَا خَلَقَ حُجَّةً لَهُ وَ دَلِيلًا عَلَيْهِ وَ إِنْ كَانَ خَلْقاً صَامِتاً فَحُجَّتُهُ بِالتَّدْبِيرِ نَاطِقَةٌ وَ دَلَالَتُهُ عَلَى الْمُبْدِعِ قَائِمَةٌ

(7/383)


شرح نهج البلاغة ج : 6 ص : 411المساك بكسر الميم ما يمسك و يعصم به. و قوله ابتدع الخلق على غير مثال امتثله يحتمل وجهين أحدهما أن يريد بامتثله مثله كما تقول صنعت و اصطنعت بمعنى فيكون التقدير أنه لم يمثل لنفسه مثالا قبل شروعه في خلق العالم ثم احتذى ذلك المثال و ركب العالم على حسب ترتيبه كالصانع الذي يصوغ حلقة من رصاص مثالا ثم يصوغ حلقة من ذهب عليها و كالبناء يقدر و يفرض رسوما و تقديرات في الأرض و خطوطا ثم يبنى بحسبها. و الوجه الثاني أنه يريد بامتثله احتذاه و تقبله و اتبعه و الأصل فيه امتثال الأمر في القول فنقل إلى احتذاء الترتيب العقلي فيكون التقدير أنه لم يمثل له فاعل آخر قبله مثالا اتبعه و احتذاه و فعل نظيره كما يفعل التلميذ في الصباغة و النجارة شيئا قد مثل له أستاذه صورته و هيئته. و اعلم أن هذا أحد الأسئلة التي يذكرها أصحابنا في باب كونه عالما لأنهم لما استدلوا على كونه تعالى عالما بطريق إحكام العلم و إتقانه سألوا أنفسهم فقالوا لم لا يجوز أن يكون القديم سبحانه أحدث العالم محتذيا لمثال مثله و هيئة اقتضاها و المحتذي لا يجب كونه عالما بما يفعله أ لا ترى أن من لا يحسن الكتابة قد يحتذي خطا مخصوصا فيكتب قريبا منه و كذلك من يطبع الشمع بالخاتم ثم يطبع فيه مثال الخاتم فهو فعل الطابع و لا يجب كونه عالما. و أجاب أصحابنا عن ذلك فقالوا إن أول فعل محكم وقع منه ثم احتذى عليه يكفي في ثبوت كونه عالما و أيضا فإن المحتذي ليست العالمية بمسلوبة عنه بل موصوف بها شرح نهج البلاغة ج : 6 ص : 412أ لا ترى أنه متصور صورة ما يحتذيه ثم يوقع الفعل مشابها له فالمحتذي عالم في الجملة و لكن علمه يحدث شيئا فشيئا. فأما معنى الفصل فظاهر يقول ع إنه ابتدع الخلق على غير مثال قدمه لنفسه و لا قدم له غيره ليحتذى عليه و أرانا من عجائب صنعته و من اعتراف الموجودات كلها بأنها فقيرة محتاجة إلى أن يمسكها بقوته ما دلنا على

(7/384)


معرفته ضرورة و في هذا إشارة إلى أن كل ممكن مفتقر إلى المؤثر و لما كانت الموجودات كلها غيره سبحانه ممكنة لم تكن غنية عنه سبحانه بل كانت فقيرة إليه لأنها لولاه ما بقيت فهو سبحانه غني عن كل شي ء و لا شي ء من الأشياء مطلقا بغني عنه سبحانه و هذه من خصوصية الإلهية و أجل ما تدركه العقول من الأنظار المتعلقة بها. فإن قلت في هذا الكلام إشعار بمذهب شيخكم أبي عثمان في أن معرفته تعالى ضرورية. قلت يكاد أن يكون الكلام مشعرا بذلك إلا أنه غير دال عليه لأنه لم يقل ما دلنا على معرفته باضطرار و لكن قال ما دلنا باضطرار قيام الحجة له على معرفته فالاضطرار راجع إلى قيام الحجة لا إلى المعرفة. ثم قال ع و ظهرت آثار صنعته و دلائل حكمته في مخلوقاته فكانت و هي صامتة في الصورة ناطقة في المعنى بوجوده و ربوبيته سبحانه و إلى هذا المعنى نظر الشاعر فقال
فو عجبا كيف يعصى الإله أم كيف يجحده الجاحدو في كل شي ء له آية تدل على أنه واحد
شرح نهج البلاغة ج : 6 ص : 413و قال في تفسير قوله تعالى وَ إِنْ مِنْ شَيْ ءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَ لكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إنه عبارة عن هذا المعنى

(7/385)


فَأَشْهَدُ أَنَّ مَنْ شَبَّهَكَ بِتَبَايُنِ أَعْضَاءِ خَلْقِكَ وَ تَلَاحُمِ حِقَاقِ مَفَاصِلِهِمُ الْمُحْتَجِبَةِ لِتَدْبِيرِ حِكْمَتِكَ لَمْ يَعْقِدْ غَيْبَ ضَمِيرِهِ عَلَى مَعْرِفَتِكَ وَ لَمْ يُبَاشِرْ قَلْبَهُ الْيَقِينُ بِأَنَّهُ لَا نِدَّ لَكَ وَ كَأَنَّهُ لَمْ يَسْمَعْ تَبَرُّؤُ التَّابِعِينَ عَنِ الْمَتْبُوعِينَ إِذْ يَقُولُونَ تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعالَمِينَ كَذَبَ الْعَادِلُونَ بِكَ إِذْ شَبَّهُوكَ بِأَصْنَامِهِمْ وَ نَحَلُوكَ حِلْيَةَ الْمَخْلُوقِينَ بِأَوْهَامِهِمْ وَ جَزَّءُوكَ تَجْزِئَةَ الْمُجَسَّمَاتِ بِخَوَاطِرِهِمْ وَ قَدَّرُوكَ عَلَى الْخِلْقَةِ الْمُخْتَلِفَةِ الْقُوَى بِقَرَائِحِ عُقُولِهِمْ وَ أَشْهَدُ أَنَّ مَنْ ساَوَاكَ بِشَيْ ءٍ مِنْ خَلْقِكَ فَقَدْ عَدَلَ بِكَ وَ الْعَادِلُ بِكَ كَافِرٌ بِمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ مُحْكَمَاتُ آيَاتِكَ وَ نَطَقَتْ عَنْهُ شَوَاهِدُ حُجَجِ بَيِّنَاتِكَ وَ أَنْتَ اللَّهُ الَّذِي لَمْ تَتَنَاهَ فِي الْعُقُولِ فَتَكُونَ فِي مَهَبِّ فِكْرِهَا مُكَيَّفاً وَ لَا فِي رَوِيَّاتِ خَوَاطِرِهَا مَحْدُوداً مُصَرَّفاً

(7/386)


حقاق المفاصل جمع حقة و جاء في جمعها حقاق و حقق و حق و لما قال بتباين أعضاء خلقك و تلاحم حقاق مفاصلهم فأوقع التلاحم في مقابلة التباين صناعة و بديعا و روي شرح نهج البلاغة ج : 6 ص : 414المحتجة فمن قال المحتجة أراد أنها بما فيها من لطيف الصنعة كالمحتجة المستدلة على التدبير الحكمي من لدنه سبحانه و من قال المحتجبة أراد المستترة لأن تركيبها الباطن خفي محجوب. و الند المثل و العادلون بك الذين جعلوا لك عديلا و نظيرا و نحلوك أعطوك و هي النحلة و روي لم يعقد على ما لم يسم فاعله. و غيب ضميره بالرفع و القرائح جمع قريحة و هي القوة التي تستنبط بها المعقولات و أصله من قريحة البئر و هو أول مائها. و معنى هذا الفصل أنه ع شهد بأن المجسم كافر و أنه لا يعرف الله و أن من شبه الله بالمخلوقين ذوي الأعضاء المتباينة و المفاصل المتلاحمة لم يعرفه و لم يباشر قلبه اليقين فإنه لا ند له و لا مثل ثم أكد ذلك بآيات من كتاب الله تعالى و هي قوله تعالى فَكُبْكِبُوا فِيها هُمْ وَ الْغاوُونَ وَ جُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ قالُوا وَ هُمْ فِيها يَخْتَصِمُونَ تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعالَمِينَ حكى سبحانه حكاية قول الكفار في النار و هم التابعون للذين أغووهم من الشياطين و هم المتبوعون لقد كنا ضالين إذ سويناكم بالله تعالى و جعلناكم مثله و وجه الحجة أنه تعالى حكى ذلك حكاية منكر على من زعم أن شيئا من الأشياء يجوز تسويته بالباري سبحانه فلو كان الباري سبحانه جسما مصورا لكان مشابها لسائر الأجسام المصورة فلم يكن لإنكاره على من سواه بالمخلوقات معنى. ثم زاد ع في تأكيد هذا المعنى فقال كذب العادلون بك المثبتون لك نظيرا و شبيها يعنى المشبهة و المجسمة إذ قالوا إنك على صورة آدم فشبهوك بالأصنام التي شرح نهج البلاغة ج : 6 ص : 415كانت الجاهلية تعبدها و أعطوك حلية المخلوقين لما اقتضت

(7/387)


أوهامهم ذلك من حيث لم يألفوا أن يكون القادر الفاعل العالم إلا جسما و جعلوك مركبا و متجزئا كما تتجزأ الأجسام و قدروك على هذه الخلقة يعني خلقة البشر المختلفة القوى لأنها مركبة من عناصر مختلفة الطبائع ثم كرر الشهادة فقال أشهد أن من ساواك بغيرك و أثبت أنك جوهر أو جسم فهو عادل بك كافر و قالت تلك الخارجية للحجاج أشهد أنك قاسط عادل فلم يفهم أهل الشام حوله ما قالت حتى فسره لهم قال ع فمن يذهب إلى هذا المذهب فهو كافر بالكتاب و بما دلت عليه حجج العقول ثم قال و إنك أنت الله أي و أشهد أنك أنت الله الذي لم تحط العقول بك كإحاطتها بالأشياء المتناهية فتكون ذا كيفية. و قوله في مهب فكرها استعارة حسنة ثم قال و لا في رويات خواطرها أي في أفكارها محدودا ذا حد مصرفا أي قابلا للحركة و التغير. و قد استدل بعض المتكلمين على نفي كون البارئ سبحانه جسما بما هو مأخوذ من هذا الكلام فقال لو جاز أن يكون البارئ جسما لجاز أن يكون القمر هو إله للعالم لكن لا يجوز أن يكون القمر إله العالم فلا يجوز أن يكون البارئ جسما بيان الملازمة أنه لو جاز أن يكون البارئ سبحانه جسما لما كان بين الإلهية و بين الجسمية منافاة عقلية و إذا لم يكن بينهما منافاة عقلية أمكن اجتماعهما و إذا أمكن اجتماعهما جاز أن يكون القمر هو إله العالم لأنه لا مانع من كونه إله العالم إلا كونه جسما يجوز عليه الحركة و الأفول و نقصان ضوئه تارة و امتلاؤه أخرى فإذا لم يكن ذلك منافيا للإلهية جاز أن يكون القمر إله العالم و بيان الثاني إجماع المسلمين على كفر من أجاز كون القمر إله العالم و إذا ثبتت الملازمة و ثبتت المقدمة الثانية فقد تمت الدلالة

(7/388)


شرح نهج البلاغة ج : 6 ص : 416وَ مِنْهَا قَدَّرَ مَا خَلَقَ فَأَحْكَمَ تَقْدِيرَهُ وَ دَبَّرَهُ فَأَلْطَفَ تَدْبِيرَهُ وَ وَجَّهَهُ لِوِجْهَتِهِ فَلَمْ يَتَعَدَّ حُدُودَ مَنْزِلَتِهِ وَ لَمْ يَقْصُرْ دُونَ الِانْتِهَاءِ إِلَى غَايَتِهِ وَ لَمْ يَسْتَصْعِبْ إِذْ أُمِرَ بِالْمُضِيِّ عَلَى إِرَادَتِهِ فَكَيْفَ وَ إِنَّمَا صَدَرَتِ الْأُمُورُ عَنْ مَشِيئَتِهِ الْمُنْشِئُ أَصْنَافَ الْأَشْيَاءِ بِلَا رَوِيَّةِ فِكْرٍ آلَ إِلَيْهَا وَ لَا قَرِيحَةِ غَرِيزَةٍ أَضْمَرَ عَلَيْهَا وَ لَا تَجْرِبَةٍ أَفَادَهَا مِنْ حَوَادِثِ الدُّهُورِ وَ لَا شَرِيكٍ أَعَانَهُ عَلَى ابْتِدَاعِ عَجَائِبِ الْأُمُورِ فَتَمَّ خَلْقَهُ بِأَمْرِهِ وَ أَذْعَنَ لِطَاعَتِهِ وَ أَجَابَ إِلَى دَعْوَتِهِ لَمْ يَعْتَرِضْ دُونَهُ رَيْثُ الْمُبْطِئِ وَ لَا أَنَاةُ الْمُتَلَكِّئِ فَأَقَامَ مِنَ الْأَشْيَاءِ أَوَدَهَا وَ نَهَجَ حُدُودَهَا وَ لَاءَمَ بِقُدْرَتِهِ بَيْنَ مُتَضَادِّهَا وَ وَصَلَ أَسْبَابَ قَرَائِنِهَا وَ فَرَّقَهَا أَجْنَاساً مُخْتَلِفَاتٍ فِي الْحُدُودِ وَ الْأَقْدَارِ وَ الْغَرَائِزِ وَ الْهَيْئَاتِ بَدَايَا خَلَائِقَ أَحْكَمَ صُنْعَهَا وَ فَطَرَهَا عَلَى مَا أَرَادَ وَ ابْتَدَعَهَا

(7/389)


الوجهة بالكسر الجهة التي يتوجه نحوها قال تعالى وَ لِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيها. و الريث البطء و المتلكئ المتأخر و الأود الاعوجاج و لاءم بين كذا و كذا أي جمع و القرائن هنا الأنفس واحدتها قرونة و قرينة يقال سمحت قرينته و قرونته أي أطاعته نفسه و ذلت و تابعته على الأمر و بدايا هاهنا جمع بدية شرح نهج البلاغة ج : 6 ص : 417و هي الحالة العجيبة أبدأ الرجل إذا جاء بالأمر البدي ء أي المعجب و البدية أيضا الحالة المبتدأة المبتكرة و منه قولهم فعله بادئ ذي بدي ء على وزن فعيل أي أول كل شي ء و يمكن أن يحمل كلامه أيضا على هذا الوجه. و أما خلائق فيجوز أن يكون أضاف بدايا إليها و يجوز إلا يكون أضافه إليها بل جعلها بدلا من أجناسا و يروى برايا جمع برية يقول ع إنه تعالى قدر الأشياء التي خلقها فخلقها محكمة على حسب ما قدر و ألطف تدبيرها أي جعله لطيفا و أمضى الأمور إلى غاياتها و حدودها المقدرة لها فهيأ الصقرة للاصطياد و الخيل للركوب و الطراد و السيف للقطع و القلم للكتابة و الفلك للدوران و نحو ذلك و في هذا إشارة إلى
قول النبي ص كل ميسر لما خلق له

(7/390)


فلم تتعد هذه المخلوقات حدود منزلتها التي جعلت غايتها و لا قصرت دون الانتهاء إليها يقول لم تقف على الغاية و لا تجاوزتها ثم قال و لا استصعبت و امتنعت إذا أمرها بالمضي إلى تلك الغاية بمقتضى الإرادة الإلهية و هذا كله من باب المجاز كقوله تعالى فَقالَ لَها وَ لِلْأَرْضِ ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ. و خلاصة ذلك الإبانة عن نفوذ إرادته و مشيئته. ثم علل نفي الاستصعاب فقال و كيف يستصعب و إنما صدرت عن مشيئته يقول إذا كانت مشيئته هي المقتضية لوجود هذه المخلوقات فكيف يستصعب عليه بلوغها إلى غاياتها التي جعلت لأجلها و أصل وجودها إنما هو مشيئته فإذا كان أصل وجودها بمشيئته فكيف يستصعب عليه توجيهها لوجهتها و هو فرع من فروع وجودها و تابع له. شرح نهج البلاغة ج : 6 ص : 418ثم أعاد معاني القول الأول فقال إنه أنشأ الأشياء بغير روية و لا فكرة و لا غريزة أضمر عليها خلق ما خلق عليها و لا تجربة أفادها أي استفادها من حوادث مرت عليه من قبل كما تكسب التجارب علوما لم تكن و لا بمساعدة شريك أعانه عليها فتم خلقه بأمره إشارة إلى قوله و لم يستصعب إذ أمر بالمضي فلما أثبت هناك كونها أمرت أعاد لفظ الأمر هاهنا و الكل مجاز و معناه نفوذ إرادته و أنه إذا شاء أمرا استحال ألا يقع و هذا المجاز هو المجاز المستعمل في قوله تعالى إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ تعبيرا بهذا اللفظ عن سرعة مواتاة الأمور له و انقيادها تحت قدرته. ثم قال ليس كالواحد منا يعترض دون مراده ريث و بطء و تأخير و التواء ثم قال و أقام العوج و أوضح الطريق و جمع بين الأمور المتضادة أ لا ترى أنه جمع في بدن الحيوانات و النبات بين الكيفيات المتباينة المتنافرة من الحرارة و البرودة و الرطوبة و اليبوسة و وصل أسباب أنفسها بتعديل أمزجتها لأن اعتدال المزاج أو القرب من الاعتدال سبب بقاء الروح و فرقها

(7/391)


أجناسا مختلفات الحدود و الأقدار و الخلق و الأخلاق و الأشكال أمور عجيبة بديعة مبتكرة الصنعة غير محتذ بها حذو صانع سابق بل مخلوقة على غير مثال قد أحكم سبحانه صنعها و خلقها على موجب ما أراد و أخرجها من العدم المحض إلى الوجود و هو معنى الابتداع فإن الخلق في الاصطلاح النظري على قسمين أحدهما صورة تخلق في مادة و الثاني ما لا مادة له بل يكون وجود الثاني من الأول فقط من غير توسط المادة فالأول يسمى التكوين و الثاني يسمى الإبداع و مرتبة الإبداع أعلى من مرتبة التكوين

(7/392)


شرح نهج البلاغة ج : 6 ص : 419وَ مِنْهَا فِي صِفَةِ السَّمَاءِ وَ نَظَمَ بِلَا تَعْلِيقٍ رَهَوَاتِ فُرَجِهَا وَ لَاحَمَ صُدُوعَ انْفِرَاجِهَا وَ وَشَّجَ بَيْنَهَا وَ بَيْنَ أَزْوَاجِهَا وَ ذَلَّلَ لِلْهَابِطِينَ بِأَمْرِهِ وَ الصَّاعِدِينَ بِأَعْمَالِ خَلْقِهِ حُزُونَةَ مِعْرَاجِهَا وَ نَادَاهَا بَعْدَ إِذْ هِيَ دُخَانٌ فَالْتَحَمَتْ عُرَى أَشْرَاجِهَا وَ فَتَقَ بَعْدَ الِارْتِتَاقِ صَوَامِتَ أَبْوَابِهَا وَ أَقَامَ رَصَداً مِنَ الشُّهُبِ الثَّوَاقِبِ عَلَى نِقَابِهَا وَ أَمْسَكَهَا مِنْ أَنْ تُمُورَ فِي خَرْقِ الْهَوَاءِ بِأَيْدِهِ وَ أَمْرَهَا أَنْ تَقِفَ مُسْتَسْلِمَةً لِأَمْرِهِ وَ جَعَلَ شَمْسَهَا آيَةً مُبْصِرَةً لِنَهَارِهَا وَ قَمَرَهَا آيَةً مَمْحُوَّةً مِنْ لَيْلِهَا وَ أَجْرَاهُمَا فِي مَنَاقِلِ مَجْرَاهُمَا وَ قَدَّرَ سَيْرَهُمَا فِي مَدَارِجِ دَرَجِهِمَا لِيُمَيِّزَ بَيْنَ اللَّيْلِ وَ النَّهَارِ بِهِمَا وَ لِيُعْلَمَ عَدَدُ السِّنِينَ وَ الْحِسَابِ بِمَقَادِيرِهِمَا ثُمَّ عَلَّقَ فِي جَوِّهَا فَلَكَهَا وَ نَاطَ بِهَا زِينَتَهَا مِنْ خَفِيَّاتِ دَرَارِيِّهَا وَ مَصَابِيحِ كَوَاكِبِهَا وَ رَمَى مُسْتَرِقِي السَّمْعِ بِثَوَاقِبِ شُهُبِهَا وَ أَجْرَاهَا عَلَى أَذْلَالِ تَسْخِيرِهَا مِنْ ثَبَاتِ ثَابِتِهَا وَ مَسِيرِ سَائِرِهَا وَ هُبُوطِهَا وَ صُعُودِهَا وَ نُحُوسِهَا وَ سُعُودِهَا

(7/393)


الرهوات جمع رهوة و هي المكان المرتفع و المنخفض أيضا يجتمع فيه ماء المطر و هو من الأضداد و الفرج جمع فرجة و هي المكان الخالي و لاحم ألصق و الصدع الشق و وشج بالتشديد أي شبك و وشجت العروق و الأغصان بالتخفيف اشتبكت و بيننا رحم واشجة أي مشتبكة. و أزواجها أقرانها و أشباهها قال تعالى وَ كُنْتُمْ أَزْواجاً ثَلاثَةً أي أصنافا ثلاثة. شرح نهج البلاغة ج : 6 ص : 420و الحزونة ضد السهولة و أشراجها جمع شرج و هو عرا العيبة و أشرجت العيبة أي أقفلت أشراجها و تسمى مجرة السماء شرجا تشبيها بشرج العيبة و أشراج الوادي ما انفسح منه و اتسع. و الارتتاق الارتتاج و النقاب جمع نقب و هو الطريق في الجبل و تمور تتحرك و تذهب و تجي ء قال تعالى يَوْمَ تَمُورُ السَّماءُ مَوْراً و الأيد القوة و ناط بها علق و الدراري الكواكب المضيئة نسبت إلى الدر لبياضها واحدها دري و يجوز كسر الدال مثل بحر لجي و لجي. و الثواقب المضيئات و تقول افعل ما أمرتك على أذلاله أي على وجهه و دعه في أذلاله أي على حاله و أمور الله جارية على أذلالها أي على مجاريها و طرقها. يقول ع كانت السماء أول ما خلقت غير منتظمة الأجزاء بل بعضها أرفع و بعضها أخفض فنظمها سبحانه فجعلها بسيطا واحدا نظما اقتضته القدرة الإلهية من غير تعليق أي لا كما ينظم الإنسان ثوبا مع ثوب أو عقدا مع عقد بالتعليق و الخياطة و ألصق تلك الفروج و الشقوق فجعلها جسما متصلا و سطحا أملس لا نتوات فيه و لا فرج و لا صدوع بل جعل كل جزء منها ملتصقا بمثله و ذلل للملائكة الهابطين بأمره و الصاعدين بأعمال خلقه لأنهم الكتبة الحافظون لها حزونة العروج إليها و هو الصعود. ثم قال و ناداها بعد إذ هي روي بإضافة بعد إلى إذ و روي بضم بعد أي و ناداها بعد ذلك إذ هي دخان و الأول أحسن و أصوب لأنها على الضم تكون دخانا بعد نظمه رهوات فروجها و ملاحمة صدوعها و الحال تقتضي أن دخانها قبل ذلك لا بعده.

(7/394)


شرح نهج البلاغة ج : 6 ص : 421فإن قلت ما هذا النداء قلت هو قوله ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً فهو أمر في اللفظ و نداء في المعنى و هو على الحقيقة كناية عن سرعة الإبداع ثم قال و فتق بعد الارتتاق صوامت أبوابها هذا صريح في أن للسماء أبوابا و كذلك قوله على نقابها و هو مطابق لقوله سبحانه و تعالى لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوابُ السَّماءِ و القرآن العظيم و كلام هذا الإمام المعظم أولى بالاتباع من كلام الفلاسفة الذين أحالوا الخرق على الفلك و أما إقامة الرصد من الشهب الثواقب فهو نص القرآن العزيز وَ أَنَّا لَمَسْنَا السَّماءَ فَوَجَدْناها مُلِئَتْ حَرَساً شَدِيداً وَ شُهُباً وَ أَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْها مَقاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهاباً رَصَداً و القول بإحراق الشهب للشياطين اتباعا لنص الكتاب أولى من قول الفلاسفة الذين أحالوا الانقضاض على الكواكب. ثم قال و أمسكها على الحركة بقوته و أمرها بالوقوف فاستمسكت و وقفت ثم ذكره الشمس و القمر تذكرة مأخوذ من قول الله تعالى وَ جَعَلْنَا اللَّيْلَ وَ النَّهارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنا آيَةَ اللَّيْلِ وَ جَعَلْنا آيَةَ النَّهارِ مُبْصِرَةً. ثم ذكر الحكم في جريان الشمس و القمر في مجراهما تذكرة مأخوذ من قوله تعالى وَ الشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَها و قوله وَ الْقَمَرَ قَدَّرْناهُ مَنازِلَ و قوله وَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَ الْحِسابَ.

(7/395)


شرح نهج البلاغة ج : 6 ص : 422ثم قال ثم علق في جوها فلكها و هذا يقتضي أن الفلك غير السماء و هو خلاف قول الجمهور و قد قال به قائلون و يمكن أن نفسر ذلك إذا أردنا موافقة قول الجمهور بأنه أراد بالفلك دائرة معدل النهار فإنها الدائرة العظمى في الفلك الأعظم و هي في الاصطلاح النظري تسمى فلكا. ثم ذكر أنه زين السماء الدنيا بالكواكب و أنها رجوم لمسترقي السمع و هو مأخوذ من قوله تعالى إِنَّا زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِزِينَةٍ الْكَواكِبِ وَ حِفْظاً مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ مارِدٍ لا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلى وَ يُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جانِبٍ دُحُوراً وَ لَهُمْ عَذابٌ واصِبٌ. ثم شرح حال الدنيا فقال من ثبات ثابتها يعني الكواكب التي في كرة البروج و مسير سائرها يعني الخمسة و النيرين لأنها سائرة دائما. ثم قال و صعودها و هبوطها و ذلك أن للكواكب السيارة صعودا في الأوج و هبوطا في الحضيض فالأول هو البعد الأبعد عن المركز و الثاني البعد الأقرب. فإن قلت ما باله ع قال و نحوسها و سعودها و هو القائل لمن أشار عليه ألا يحارب في يوم مخصوص المنجم كالكاهن و الكاهن كالساحر و الساحر كالكافر و الكافر في النار. قلت إنه ع إنما أنكر في ذلك القول على من يزعم أن النجوم مؤثرة في الأمور الجزئية كالذين يحكمون لأرباب المواليد و عليهم و كمن يحكم في حرب أو سلم أو سفر أو مقام بأنه للسعد أو النحس و أنه لم ينكر على من قال إن النجوم تؤثر سعودا و نحوسا في الأمور الكلية نحو أن تقتضي حرا أو بردا أو تدل على مرض عام شرح نهج البلاغة ج : 6 ص : 423أو قحط عام أو مطر دائم و نحو ذلك من الأمور التي لا تخص إنسانا بعينه و قد قدمنا في ذلك الفصل ما يدل على تصويب هذا الرأي و إفساد ما عداه

(7/396)


وَ مِنْهَا فِي صِفَةِ الْمَلَائِكَةِ ثُمَّ خَلَقَ سُبْحَانَهُ لِإِسْكَانِ سَمَاوَاتِهِ وَ عِمَارَةِ الصَّفِيحِ الْأَعْلَى مِنْ مَلَكُوتِهِ خَلْقاً بَدِيعاً مِنْ مَلَائِكَتِهِ وَ مَلَأَ بِهِمْ فُرُوجَ فِجَاجِهَا وَ حَشَى بِهِمْ فُتُوقَ أَجْوَائِهَا وَ بَيْنَ فَجَوَاتِ تِلْكَ الْفُرُوجِ زَجَلُ الْمُسَبِّحِينَ مِنْهُمْ فِي حَظَائِرِ الْقُدُسِ وَ سُتُرَاتِ الْحُجُبِ وَ سُرَادِقَاتِ الْمَجْدِ وَ وَرَاءَ ذَلِكَ الرَّجِيجِ الَّذِي تَسْتَكُّ مِنْهُ الْأَسْمَاعُ سُبُحَاتُ نُورٍ تَرْدَعُ الْأَبْصَارَ عَنْ بُلُوغِهَا فَتَقِفُ خَاسِئَةً عَلَى حُدُودِهَا. وَ أَنْشَأَهُمْ عَلَى صُوَرٍ مُخْتَلِفَاتٍ وَ أَقْدَارٍ مُتَفَاوِتَاتٍ أُولِي أَجْنِحَةٍ تُسَبِّحُ جَلَالَ عِزَّتِهِ لَا يَنْتَحِلُونَ مَا ظَهَرَ فِي الْخَلْقِ مِنْ صُنْعِهِ وَ لَا يَدَّعُونَ أَنَّهُمْ يَخْلُقُونَ شَيْئاً مَعَهُ مِمَّا انْفَرَدَ بِهِ بَلْ عِبادٌ مُكْرَمُونَ لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَ هُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ جَعَلَهُمُ اللَّهُ فِيمَا هُنَالِكَ أَهْلَ الْأَمَانَةِ عَلَى وَحْيِهِ وَ حَمَّلَهُمْ إِلَى الْمُرْسَلِينَ وَدَائِعَ أَمْرِهِ وَ نَهْيِهِ وَ عَصَمَهُمْ مِنْ رَيْبِ الشُّبُهَاتِ فَمَا مِنْهُمْ زَائِغٌ عَنْ سَبِيلِ مَرْضَاتِهِ وَ أَمَدَّهُمْ بِفَوَائِدِ الْمَعُونَةِ وَ أَشْعَرَ قُلُوبَهُمْ تَوَاضُعَ إِخْبَاتِ السَّكِينَةِ وَ فَتَحَ لَهُمْ أَبْوَاباً ذُلُلًا إِلَى تَمَاجِيدِهِ وَ نَصَبَ لَهُمْ مَنَاراً وَاضِحَةً عَلَى أَعْلَامِ تَوْحِيدِهِ لَمْ تُثْقِلْهُمْ مُؤْصِرَاتُ الآْثَامِ وَ لَمْ تَرْتَحِلْهُمْ عُقَبُ اللَّيَالِي وَ الْأَيَّامِ وَ لَمْ تَرْمِ الشُّكُوكُ بِنَوَازِعِهَا عَزِيمَةَ إِيمَانِهِمْ وَ لَمْ تَعْتَرِكِ الظُّنُونُ عَلَى مَعَاقِدِ يَقِينِهِمْ وَ لَا قَدَحَتْ قَادِحَةُ الْإِحَنِ فِيمَا بَيْنَهُمْ

(7/397)


وَ لَا سَلَبَتْهُمُ الْحَيْرَةُ مَا لَاقَ مِنْ مَعْرِفَتِهِ بِضَمَائِرِهِمْ وَ مَا سَكَنَ مِنْ عَظَمَتِهِ شرح نهج البلاغة ج : 6 ص : 424وَ هَيْبَةِ جَلَالِهِ فِي أَثْنَاءِ صُدُورِهِمْ وَ لَمْ تَطْمَعْ فِيهِمُ الْوَسَاوِسُ فَتَقْتَرِعَ بِرَيْنِهَا عَلَى فِكْرِهِمْ وَ مِنْهُمْ مَنْ هُوَ فِي خَلْقِ الْغَمَامِ الدُّلَّحِ وَ فِي عِظَمِ الْجِبَالِ الشُّمَّخِ وَ فِي قَتْرَةِ الظَّلَامِ الْأَيْهَمِ وَ مِنْهُمْ مَنْ قَدْ خَرَقَتْ أَقْدَامُهُمْ تُخُومَ الْأَرْضِ السُّفْلَى فَهِيَ كَرَايَاتٍ بِيضٍ قَدْ نَفَذَتْ فِي مَخَارِقِ الْهَوَاءِ وَ تَحْتَهَا رِيحٌ هَفَّافَةٌ تَحْبِسُهَا عَلَى حَيْثُ انْتَهَتْ مِنَ الْحُدُودِ الْمُتَنَاهِيَةِ قَدِ اسْتَفْرَغَتْهُمْ أَشْغَالُ عِبَادَتِهِ وَ وَصَّلَتْ حَقَائِقُ الْإِيمَانِ بَيْنَهُمْ وَ بَيْنَ مَعْرِفَتِهِ وَ قَطَعَهُمُ الْإِيقَانُ بِهِ إِلَى الْوَلَهِ إِلَيْهِ وَ لَمْ تُجَاوِزْ رَغَبَاتُهُمْ مَا عِنْدَهُ إِلَى مَا عِنْدَ غَيْرِهِ قَدْ ذَاقُوا حَلَاوَةَ مَعْرِفَتِهِ وَ شَرِبُوا بِالْكَأْسِ الرَّوِيَّةِ مِنْ مَحَبَّتِهِ وَ تَمَكَّنَتْ مِنْ سُوَيْدَاوَاتِ قُلُوبِهِمْ وَشِيجَةُ خِيفَتِهِ فَحَنَوْا بِطُولِ الطَّاعَةِ اعْتِدَالَ ظُهُورِهِمْ وَ لَمْ يُنْفِدْ طُولُ الرَّغْبَةِ إِلَيْهِ مَادَّةَ تَضَرُّعِهِمْ وَ لَا أَطْلَقَ عَنْهُمْ عَظِيمُ الزُّلْفَةِ رِبَقَ خُشُوعِهِمْ وَ لَمْ يَتَوَلَّهُمُ الْإِعْجَابُ فَيَسْتَكْثِرُوا مَا سَلَفَ مِنْهُمْ وَ لَا تَرَكَتْ لَهُمُ اسْتِكَانَةُ الْإِجْلَالِ نَصِيباً فِي تَعْظِيمِ حَسَنَاتِهِمْ وَ لَمْ تَجْرِ الْفَتَرَاتُ فِيهِمْ عَلَى طُولِ دُءُوبِهِمْ وَ لَمْ تَغِضْ رَغَبَاتُهُمْ فَيُخَالِفُوا عَنْ رَجَاءِ رَبِّهِمْ وَ لَمْ تَجِفَّ لِطُولِ الْمُنَاجَاةِ أَسَلَاتُ أَلْسِنَتِهِمْ وَ لَا مَلَكَتْهُمُ الْأَشْغَالُ

(7/398)


فَتَنْقَطِعَ بِهَمْسِ الْجُؤَارِ إِلَيْهِ أَصْوَاتُهُمْ وَ لَمْ تَخْتَلِفْ فِي مَقَاوِمِ الطَّاعَةِ مَنَاكِبُهُمْ وَ لَمْ يَثْنُوا إِلَى رَاحَةِ التَّقْصِيرِ فِي أَمْرِهِ رِقَابَهِمْ. وَ لَا تَعْدُو عَلَى عَزِيمَةِ جِدِّهِمْ بَلَادَةُ الْغَفَلَاتِ وَ لَا تَنْتَضِلُ فِي هِمَمِهِمْ خَدَائِعُ الشَّهَوَاتِ قَدِ اتَّخَذُوا ذَا الْعَرْشِ ذَخِيرَةً لِيَوْمِ فَاقَتِهِمْ وَ يَمَّمُوهُ عِنْدَ انْقِطَاعِ الْخَلْقِ إِلَى الْمَخْلُوقِينَ بِرَغْبَتِهِمْ لَا يَقْطَعُونَ أَمَدَ غَايَةِ عِبَادَتِهِ وَ لَا يَرْجِعُ بِهِمُ الِاسْتِهْتَارُ شرح نهج البلاغة ج : 6 ص : 425بِلُزُومِ طَاعَتِهِ إِلَّا إِلَى مَوَادَّ مِنْ قُلُوبِهِمْ غَيْرِ مُنْقَطِعَةٍ مِنْ رَجَائِهِ وَ مَخَافَتِهِ لَمْ تَنْقَطِعْ أَسْبَابُ الشَّفَقَةِ مِنْهُمْ فَيَنُوا فِي جِدِّهِمْ وَ لَمْ تَأْسِرْهُمُ الْأَطْمَاعُ فَيُؤْثِرُوا وَشِيكَ السَّعْيِ عَلَى اجْتِهَادِهِمْ لَمْ يَسْتَعْظِمُوا مَا مَضَى مِنْ أَعْمَالِهِمْ وَ لَوِ اسْتَعْظَمُوا ذَلِكَ لَنَسَخَ الرَّجَاءُ مِنْهُمْ شَفَقَاتِ وَجَلِهِمْ وَ لَمْ يَخْتَلِفُوا فِي رَبِّهِمْ بِاسْتِحْوَاذِ الشَّيْطَانِ عَلَيْهِمْ وَ لَمْ يُفَرِّقْهُمْ سُوءُ التَّقَاطُعِ وَ لَا تَوَلَّاهُمْ غِلُّ التَّحَاسُدِ وَ لَا تَشَعَّبَتْهُمْ مَصَارِفُ الرَّيْبِ وَ لَا اقْتَسَمَتْهُمْ أَخْيَافُ الْهِمَمِ فَهُمْ أُسَرَاءُ إِيمَانٍ لَمْ يَفُكَّهُمْ مِنْ رِبْقَتِهِ زَيْغٌ وَ لَا عُدُولٌ وَ لَا وَنًى وَ لَا فُتُورٌ وَ لَيْسَ فِي أَطْبَاقِ السَّمَاءِ مَوْضِعُ إِهَابٍ إِلَّا وَ عَلَيْهِ مَلَكٌ سَاجِدٌ أَوْ سَاعٍ حَافِدٌ يَزْدَادُونَ عَلَى طُولِ الطَّاعَةِ بِرَبِّهِمْ عِلْماً وَ تَزْدَادُ عِزَّةُ رَبِّهِمْ فِي قُلُوبِهِمْ عِظَماً

(7/399)


هذا موضع المثل إذا جاء نهر الله بطل نهر معقل إذا جاء هذا الكلام الرباني و اللفظ القدسي بطلت فصاحة العرب و كانت نسبة الفصيح من كلامها إليه نسبة التراب إلى النضار الخالص و لو فرضنا أن العرب تقدر على الألفاظ الفصيحة المناسبة أو المقاربة لهذه الألفاظ من أين لهم المادة التي عبرت هذه الألفاظ عنها و من أين تعرف الجاهلية بل الصحابة المعاصرون لرسول الله ص هذه المعاني الغامضة السمائية ليتهيأ لها التعبير عنها أما الجاهلية فإنهم إنما كانت تظهر فصاحتهم في صفة بعير أو فرس أو حمار وحش أو ثور فلاة أو صفة جبال أو فلوات و نحو ذلك و أما الصحابة شرح نهج البلاغة ج : 6 ص : 426فالمذكورون منهم بفصاحة إنما كان منتهى فصاحة أحدهم كلمات لا تتجاوز السطرين أو الثلاثة أما في موعظة تتضمن ذكر الموت أو ذم الدنيا أو يتعلق بحرب و قتال من ترغيب أو ترهيب فأما الكلام في الملائكة و صفاتها و صورها و عباداتها و تسبيحها و معرفتها بخالقها و حبها له و ولهها إليه و ما جرى مجرى ذلك مما تضمنه هذا الفصل على طوله فإنه لم يكن معروفا عندهم على هذا التفصيل نعم ربما علموه جملة غير مقسمة هذا التقسيم و لا مرتبة هذا الترتيب بما سمعوه من ذكر الملائكة في القرآن العظيم و أما من عنده علم من هذه المادة كعبد الله بن سلام و أمية بن أبي الصلت و غيرهم فلم تكن لهم هذه العبارة و لا قدروا على هذه الفصاحة فثبت أن هذه الأمور الدقيقة في مثل هذه العبارة الفصيحة لم تحصل إلا لعلي وحده و أقسم أن هذا الكلام إذا تأمله اللبيب اقشعر جلده و رجف قلبه و استشعر عظمة الله العظيم في روعه و خلده و هام نحوه و غلب الوجد عليه و كاد أن يخرج من مسكه شوقا و أن يفارق هيكله صبابة و وجدا. ثم نعود إلى التفسير فنقول الصفيح الأعلى سطح الفلك الأعظم و يقال لوجه كل شي ء عريض صفيح و صفحة. و الفروج الأماكن الخالية و الفجاج جمع فج و الفج الطريق الواسع بين جبلين أو حائطين و

(7/400)


أجوائها جمع جو و هو ما اتسع من الأودية و يقال لما بين السماء و الأرض جو و يروى أجوابها جمع جوبة و هي الفرجة في السحاب و غيره و يروى أجوازها جمع جوز و هو وسط الشي ء و الفجوات جمع فجوة و هي الفرجة بين الشيئين تقول منه تفاجى الشي ء إذا صار له فجوة و منه الفجاء و هو تباعد ما بين عرقوبي البعير. و الزجل الصوت و حظائر القدس لفظة وردت في كلام رسول الله ص و أصل الحظيرة ما يعمل شبه البيت للإبل من الشجر ليقيها البرد فسمى شرح نهج البلاغة ج : 6 ص : 427ع تلك المواطن الشريفة المقدسة العالية التي فوق الفلك حظائر القدس و القدس بتسكين الدال و ضمها الطهر و التقديس التطهير و تقدس تطهر و الأرض المقدسة المطهرة و بيت المقدس أيضا و النسبة إليه قدسي و مقدسي و السترات جمع سترة و الرجيج الزلزلة و الاضطراب و منه ارتج البحر و تستك الأسماع تنسد قال النابغة
و نبئت خير الناس أنك لمتني و تلك التي تستك منها المسامع

(7/401)


سبحات النور بضم السين و الباء عبارة عن جلالة الله تعالى و عظمته و تردع الأبصار تكفها و خاسئة أي سادرة و منه يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خاسِئاً وَ هُوَ حَسِيرٌ و خسا بصره خسا و خسوءا أي سدر. و قوله على حدودها أي تقف حيث تنتهي قوتها لأن قوتها متناهية فإذا بلغت حدها وقفت و قوله أولي أجنحة من الألفاظ القرآنية. و قوله لا ينتحلون ما ظهر في الخلق من صنعه أي لا يدعون الإلهية لأنفسهم و إن كان قوم من البشر يدعونها لهم و قوله لا يدعون أنهم يخلقون شيئا معه مما انفرد به فيه إشارة إلى مذهب أصحابنا في أن أفعال العباد مخلوقة لهم لأن فائدة هذا القيد و هو قوله انفرد به إنما تظهر بذلك. و أما الآيات المقدسة فالرواية المشهورة مُكْرَمُونَ و قرئ مكرمون بالتشديد و قرئ لا يسبقونه بالضم و المشهور القراءة بالكسر و المعنى أنهم يتبعون قوله و لا يقولون شيئا حتى يقوله فلا يسبق قولهم قوله و أراد أن يقول لا يسبقونه بقولهم فحذف الضمير المضاف إليه و أناب اللام منابه. شرح نهج البلاغة ج : 6 ص : 428ثم قال و هم بأمره يعملون أي كما أن قولهم تابع لقوله فعملهم أيضا كذلك فرع على أمره لا يعملون عملا ما لم يؤمروا به
و جاء في الخبر المرفوع عن رسول الله ص أنه رأى جبرائيل ليلة المعراج ساقطا كالحلس من خشية الله

(7/402)


و الحلس الكساء الخفيف. و الزائغ العادل عن الطريق و الإخبات التذلل و الاستكانة و أبوابا ذللا أي سهلة وطيئة و منه دابة ذلول و تماجيده الثناء عليه بالمجد و المؤصرات المثقلات و الإصر الثقل. و تقول ارتحلت البعير أي ركبته و العقبة النوبة و الجمع عقب و معنى قوله و لم ترتحلهم عقب الليالي و الأيام أي لم تؤثر فيهم نوبات الليالي و الأيام و كرورها كما يؤثر ارتحال الإنسان البعير في ظهره و نوازعها شهواتها النازعة المحركة و روي نوازغها بالغين المعجمة من نزع بينهم أي أفسد. و لم تعترك الظنون أي لم تزدحم الظنون على يقينهم الذي عقدوه. و الإحن جمع إحنة و هي الحقد يقول لم تقدح قوادح الحقد في ضمائرهم. و ما لاق أي ما التصق و أثناء صدورهم جمع ثني و هي التضاعيف و الرين الدنس و الغلبة قال تعالى كَلَّا بَلْ رانَ عَلى قُلُوبِهِمْ. و تقترع من الاقتراع بالسهام بأن يتناوب كل من الوساوس عليها و يروى فيفترع بالفاء أي تعلو برينها فرعه أي علاه. و الغمام جمع غمامة و هي السحابة و الدلح الثقال جاء يدلح بجملة أي جاء مثقلا به و الجبال الشمخ العالية الشاهقة. و قوله في قترة الظلام أي سواده و الأيهم لا يهتدى فيه و منه شرح نهج البلاغة ج : 6 ص : 429فلاة يهماء و التخوم بضم التاء جمع تخم و هو منتهى الأرض أو القرية مثل فلس و فلوس و يروى تخوم بفتح التاء على أنها واحد و الجمع تخم مثل صبور و صبر. و ريح هفافة أي ساكنة طيبة يقول كان أقدامهم التي خرقت الهواء إلى حضيض الأرض رايات بيض تحتها ريح ساكنة ليست مضطربة فتموج تلك الرايات بل هي ساكنة تحبسها حيث انتهت
و جاء في الخبر أن لإسرافيل جناحين أحدهما في أقصى المشرق و الآخر في أقصى المغرب و أن العرش على كاهله و أنه ليتضاءل أحيانا لعظمة الله حتى يعود مثل الوضع و هو العصفور

(7/403)


ثم قال قد استفرغتهم أشغال عبادته تعالى أي جعلتهم فارغين إلا منها و يروى و وسلت حقائق الإيمان بالسين المشددة يقال وسل فلان إلى ربه وسيلة و الوسيلة ما يتقرب به و الجمع وسيل و وسائل و يقال وسلت إليه و توسلت إليه بمعنى. و سويداوات القلوب جمع سويداء و هي حبة القلب و الوشيجة في الأصل عرق الشجرة و هي هنا استعارة و حنيت ضلعي أي عوجتها و الربق جمع ربقة و هي الحبل. قوله و لم يتولهم الإعجاب أي لم يستول عليهم و الدءوب الجد و الاجتهاد و الأسلات جمع أسلة و هي طرف اللسان و مستدقه و الجؤار الصوت المرتفع و الهمس الصوت الخفي يقول ليست لهم أشغال خارجة عن العبادة فيكون لأجلها أصواتهم المرتفعة خافية ساكنة لا تعدو من عدا عليه إذا قهره و ظلمه و هو هاهنا استعارة. و لا تنتضل الخدائع في هممهم استعارة أيضا من النضال و هو المراماة بالسهام و ذو العرش هو الله تعالى و هذه لفظة قرآنية قال سبحانه إِذاً لَابْتَغَوْا إِلى ذِي الْعَرْشِ شرح نهج البلاغة ج : 6 ص : 430سَبِيلًا يعني لابتغوا إلى الله تعالى سبيلا و قال تعالى ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ و الاستهتار مصدر استهتر فلان بكذا أي لازمه و أولع به. و قوله فينوا أي فيضعفوا وني يني و الجد الاجتهاد و الانكماش. ثم قال إنهم لا يستعظمون عبادتهم و لو أن أحدا منهم استعظم عبادته لأذهب خوفه رجاءه الذي يتولد من استعظام تلك العبادة يصفهم بعظم التقوى. و الاستحواذ الغلبة و الغل الحقد و تشعبتهم تقسمتهم و فرقتهم و منه قيل للمنية شعوب أي مفرقة و أخياف الهمم أي الهمم المختلفة و أصله من الخيف و هو كحل إحدى العينين دون الأخرى و منه المثل الناس أخياف أي مختلفون و الإهاب الجلد و الحافد المسرع و منه الدعاء اللهم إليك نسعى و نحفد. و اعلم أنه ع إنما كرر و أكد صفاتهم بما وصفهم به ليكون ذلك مثالا يحتذي عليه أهل العرفان من البشر فإن أعلى درجات البشر أن يتشبه بالملك

(7/404)


و خلاصة ذلك أمور. منها العبادة القائمة. و منها ألا يدعى أحد لنفسه الحول و القوة بل لا حول و لا قوة. و منها أن يكون متواضعا ذا سكينة و وقار. و منها أن يكون ذا يقين لا تقدح فيه الشكوك و الشبهات. و منها ألا يكون في صدره إحنة على أحد من الناس. و منها شدة التعظيم و الهيبة لخالق الخلق تبارك اسمه. و منها أن تستفرغه أشغال العبادة له عن غيرها من الأشغال. شرح نهج البلاغة ج : 6 ص : 431و منها أنه لا تتجاوز رغباته مما عند الله تعالى إلى ما عند غيره سبحانه. و منها أن يعقد ضميره و قلبه على محبة الله تعالى و يشرب بالكأس الروية من حبه. و منها عظم التقوى بحيث يأمن كل شي ء عدا الله و لا يهاب أحدا إلا الله. و منها الخشوع و الخضوع و الإخبت و الذل لجلال عزته سبحانه. و منها ألا يستكثر الطاعة و العمل و إن جل و عظم. و منها عظم الرجاء الواقع في مقابلة عظم الخوف فإن الله تعالى يحب أن يرجى كما يحب أن يخاف
أبحاث تتعلق بالملائكة

(7/405)


و اعلم أنه يجب أن تعلم أبحاث متعددة تتعلق بالملائكة و يقصد فيها قصد حكاية المذهب خاصة و نكل الاحتجاج و النظر إلى ما هو مذكور في كتبنا الكلامية. البحث الأول في وجود الملائكة قال قوم من الباطنية السبيل إلى إثبات الملائكة هو الحس و المشاهدة و ذلك أن الملائكة عندهم أهل الباطن. و قالت الفلاسفة هي العقول المفارقة و هي جواهر مجردة عن المادة لا تعلق لها بالأجسام تدبيرا و احترزوا بذلك عن النفوس لأنها جواهر مفارقة إلا أنها تدبر الأبدان و زعموا أنهم أثبتوها نظرا. و قال أصحابنا المتكلمون الطريق إلى إثبات الملائكة الخبر الصادق المدلول على صدقه و في المتكلمين من زعم أنه أثبت الملائكة بطريق نظري و هو أنه لما وجد خلقا من طين وجب في العقل أن يكون في المخلوقات خلق من الهواء و خلق من النار فالمخلوق من الهواء هو الملك و المخلوق من النار الشيطان. شرح نهج البلاغة ج : 6 ص : 432البحث الثاني في بنية الملائكة و هيئة تركيبهم قال أصحابنا المتكلمون أن الملائكة أجسام لطاف و ليسوا من لحم و دم و عظام كما خلق البشر من هذه الأشياء و قال أبو حفص المعود القرينسي من أصحابنا إن الملائكة من أجسام من لحم و عظم إنه لا فرق بينهم و بين البشر و إنما لم يروا لبعد المسافة بيننا و بينهم. و قد تبعه على هذا القول جماعة من معتزلة ما وراء النهر و هي مقالة ضعيفة لأن القرآن يشهد بخلافه في قوله وَ رُسُلُنا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ و قوله إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيانِ عَنِ الْيَمِينِ وَ عَنِ الشِّمالِ قَعِيدٌ فلو كانوا أجساما كثيفة كأجسامنا لرأيناهم. البحث الثالث في تكليف الملائكة حكى عن قوم من الحشوية أنهم يقولون إن الملائكة مضطرون الله جميع أفعالهم و ليسوا مكلفين. و قال جمهور أهل النظر إنهم مكلفون. و حكى عن أبي إسحاق النظام إنه قال إن قوما من المعتزلة قالوا إنهم جبلوا على الطاعة لمخالفة خلقهم خلقة المكلفين و أنهم قالوا لو

(7/406)


كانوا مكلفين لم يؤمن أن يعصوا فيما أمروا به و قد قال تعالى لا يَعْصُونَ اللَّهَ ما أَمَرَهُمْ وَ يَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ. و قال قوم إن أكثر الملائكة مكلفون و إن فيهم من ليس بمكلف بل هو مسخر للملائكة المكلفين كما أن الحيوانات ما هو غير مكلف بل هو مسخر للبشر و مخلوق لمصالحهم. قالوا و لا ننكر أن يكون الملائكة الذين ذكر منهم أنهم غلظ الأجسام و عظم الخلق و التركيب بحيث تبلغ أقدامهم إلى قرار الأرض قد جعلوا عمدا للسموات و الأرض فهم شرح نهج البلاغة ج : 6 ص : 433يحملونها بمنزلة الأساطين التي تحمل السقوف العالية و لم يرشحوا لأمر من الأمور سوى ذلك. البحث الرابع فيما يجوز من الملائكة و ما لا يجوز قال شيخنا أبو القاسم حكى أبو الحسن الخياط عن قدماء المعتزلة أنه لا يجوز أن يعصي أحد من الملائكة و لم يذكر عنهم علة في ذلك. و قال قوم إنهم لا يعصون و لا يجوز أن يعصوا لأنهم غير مطيقين الشهوة و الغضب فلا داعي لهم إلى المعصية و الفاعل لا يفعل إلا بداع إلى الفعل. و قال قوم إنهم لا يعصون لأنهم يشاهدون من عجائب صنع الله و آثار هيبته ما يبهرهم عن فعل المعصية و القصد إليها و كذلك قال تعالى وَ هُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ. و قال قوم إنما لم يجز أن يعصوا لأن الله تعالى أخبر عنهم أنهم لا يعصون و لا ينكر مع ذلك أن يكون منهم من يتغير حاله و يتبدل بها حالة أخرى و يعصي على ما ورد من خبر الملكين ببابل و خبر إبليس و إنما يسلب عنهم المعصية ما داموا على حالهم التي هي عليها. و قال شيوخنا أصحاب أبي هاشم رحمه الله تعالى إن المعصية تجوز عليهم كما تجوز علينا إلا أن الله تعالى علم أن لهم ألطافا يمتنعون معها من القبيح لفعلها فامتنعوا من فعل القبيح اختيارا فكانت حالهم كحال الأنبياء من البشر يقدرون على المعصية و لا يفعلونها

(7/407)


شرح نهج البلاغة ج : 6 ص : 434اختيارا من أنفسهم باعتبار الألطاف المفعولة لهم و لو كان لإبليس أو فرعون أو نمرود ألطاف يعلم الله تعالى إذا فعلها فعلوا الواجب و امتنعوا من فعل القبيح لفعلها بهم و لكانوا معصومين كالأنبياء و الملائكة لكنه تعالى علم أنهم لا يؤمنون و لو فعل مهما فعل فلا لطف في المعلوم و هذا عندهم حكم عام لجميع المكلفين من الإنس و الجن و الملائكة. البحث الخامس في أن أي القبيلين أفضل الملائكة أو الأنبياء قال أصحابنا نوع الملائكة أفضل من نوع البشر و الملائكة المقربون أفضل من نوع الأنبياء و ليس كل ملك عند الإطلاق أفضل من محمد ص بل بعض المقربين أفضل منه و هو ع أفضل من ملائكة أخرى غير الأولين و المراد بالأفضل الأكثر ثوابا و كذلك القول في موسى و عيسى و غيرهما من الأنبياء و الذي يحكيه قوم من أرباب المقالات أن المعتزلة قالوا إن أدنى ملك في السماء أفضل من محمد ص ليس بصحيح عنهم. و قال أهل الحديث و الأشعرية أن الأنبياء أفضل من الملائكة. و قال الشيعة الأنبياء أفضل من الملائكة و الأئمة أفضل من الملائكة. و قال قوم منهم و من الحشوية إن المؤمنين أفضل من الملائكة. البحث السادس في قدم الملائكة و حدوثهم أما الفلاسفة القائلون بأنهم العقول المفارقة فإنهم يذهبون إلى قدم الملائكة. و قال غيرهم من أهل الملل إنهم محدثون. و قال قوم من متأخري الحكماء إن نفوس البشر إذا فارقت الأبدان بالموت بقيت قائمة بأنفسها غير مدبرة لشي ء من الأبدان فإن كانت خيرة صالحة فهي الملائكة شرح نهج البلاغة ج : 6 ص : 435و إن كانت شريرة رديئة الجوهر فهي الشياطين فالملائكة عند هؤلاء محدثون و عندهم أن هذه النفوس تساعد نفوسا أخرى متعلقة بتدبير الأبدان أما على الخير أو على الشر فما ينسب في الكتب الإلهية إلى إغواء الشياطين للناس و إضلالهم فالمراد به تلك النفوس الشريرة و ما ينسب فيها إلى إعانة الملائكة لهم على الخير و

(7/408)


الصلاح فالمراد به تلك النفوس الخيرة. البحث السابع في إبليس أ هو من الملائكة أو ليس منها قال شيخنا أبو عثمان و جماعة من أصحابنا إنه من الملائكة و لذلك استثناه الله تعالى فقال فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ إِلَّا إِبْلِيسَ. و قال قوم إنه كان من الملائكة بدلالة هذه الآية لكن الله مسخه حيث خالف الأمر فهو بعد المسخ خارج عن الملائكة و قد كان قبل ذلك ملكا قالوا و معنى قوله كانَ مِنَ الْجِنِّ أي من خزان الجنة و روي ذلك عن ابن عباس قالوا و يحمل على معناه أنه صار من الجن فيكون كان بمعنى صار كقوله تعالى كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا أي من صار لأنها لو كانت كان على حقيقتها لوجب إلا يكلم بعضهم بعضا لأنهم كانوا صبيانا في المهود. قالوا و معنى صيرورته من الجن صيرورته ضالا كما أن الجن ضالون لأن الكفار بعضهم من بعض كما قال تعالى الْمُنافِقُونَ وَ الْمُنافِقاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ.

(7/409)


شرح نهج البلاغة ج : 6 ص : 436و قال معظم أصحابنا إن إبليس ليس من الملائكة و لا كان منها و إنما استثناه الله تعالى منهم لأنه كان مأمورا بالسجود معهم فهو مستثنى من عموم المأمورين بالسجود لا من خصوص الملائكة. البحث الثامن في هاروت و ماروت هل هما من الملائكة أم لا قال جمهور أصحابنا إنهما من الملائكة و إن القرآن العظيم قد صرح بذلك في قوله وَ ما أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبابِلَ هارُوتَ وَ مارُوتَ و إن الذي أنزل عليهما هو علم السحر ابتلاء من الله تعالى للناس فمن تعلمه منهم و عمل به كان كافرا و من تجنبه أو تعلمه لا ليعمل به و لكن ليتوقاه كان مؤمنا قالوا و ما كان هذان الملكان يعلمان أحدا حتى ينبهاه و ينهياه و ينصحاه و يقولا له إِنَّما نَحْنُ فِتْنَةٌ أي ابتلاء و اختبار من الله فَلا تَكْفُرْ و لا تتعلمه معتقدا أنه حق. و حكى عن الحسن البصري أن هاروت و ماروت علجان أقلفان من أهل بابل كانا يعلمان الناس السحر و قرأ الحسن على الملكين ببابل بكسر اللام. و قال قوم كانا من الملائكة فعصيا الله تعالى بالحيف في الحكومة و قد كان استقضاهما في الأرض و ركب فيهما الشهوة و الغضب على نحو ما ركب في البشر امتحانا لهما لأنهما قد كانا عيرا البشر بالمعصية فلما عصيا حبسهما الله تعالى و عاقبهما بعذاب معجل و ألهمهما كلاما إذا تكلما به سكن بعض ما بهما من الألم و إن السحرة يستمعون ذلك الكلام فيحفظونه و يفرقون به بين المرء و زوجه فإنهما يتقدمان إلى من يحضرهما عند ما يتكلمان بالزجر عن العمل بذلك الكلام و يقولان إِنَّما نَحْنُ شرح نهج البلاغة ج : 6 ص : 437فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ و هما لم يكفرا و لا دعوا إلى السحر و إن عذابهما سيقطع و قد جاء في الأخبار ما يوافق هذا. و قال قوم من الحشوية إنهما شربا الخمر و قتلا النفس و زنيا بامرأة اسمها باهيد فمسخت و هي الزهرة التي في السماء

(7/410)


وَ مِنْهَا فِي صِفَةِ الْأَرْضِ وَ دَحْوِهَا عَلَى الْمَاءِ كَبَسَ الْأَرْضَ عَلَى مَوْرِ أَمْوَاجٍ مُسْتَفْحِلَةٍ وَ لُجَجِ بِحَارِ زَاخِرَةٍ تَلْتَطِمُ أَوَاذِيُّ أَمْوَاجِهَا وَ تَصْطَفِقُ مُتَقَاذِفَاتُ أَثْبَاجِهَا وَ تَرْغُو زَبَدًا كَالْفُحُولِ عِنْدَ هِيَاجِهَا فَخَضَعَ جِمَاحُ الْمَاءِ الْمُتَلَاطِمِ لِثِقَلِ حَمْلِهَا وَ سَكَنَ هَيْجُ ارْتِمَائِهِ إِذْ وَطِئَتْهُ بِكَلْكَلِهَا وَ ذَلَّ مُسْتَخْذِياً إِذْ تَمَعَّكَتْ عَلَيْهِ بِكَوَاهِلِهَا فَأَصْبَحَ بَعْدَ اصْطِخَابِ أَمْوَاجِهِ سَاجِياً مَقْهُوراً وَ فِي حَكَمَةِ الذُّلِّ مُنْقَاداً أَسِيراً وَ سَكَنَتِ الْأَرْضُ مَدْحُوَّةً فِي لُجَّةِ تَيَّارِهِ وَ رَدَّتْ مِنْ نَخْوَةِ بَأْوِهِ وَ اعْتِلَائِهِ وَ شُمُوخِ أَنْفِهِ وَ سُمُوِّ غُلَوَائِهِ وَ كَعَمَتْهُ عَلَى كِظَّةِ جَرْيَتِهِ فَهَمَدَ بَعْدَ نَزَقَاتِهِ وَ لَبَدَ بَعْدَ زَيَفَانِ وَثَبَاتِهِ فَلَمَّا سَكَنَ هَيْجُ الْمَاءِ مِنْ تَحْتِ أَكْنَافِهَا وَ حَمَلَ شَوَاهِقَ الْجِبَالِ الشُّمَّخِ الْبُذَّخِ عَلَى أَكْتَافِهَا فَجَّرَ يَنَابِيعَ الْعُيُونِ مِنْ عَرَانِينِ أُنُوفِهَا وَ فَرَّقَهَا فِي سُهُوبِ بِيدِهَا وَ أَخَادِيدِهَا وَ عَدَّلَ حَرَكَاتِهَا بِالرَّاسِيَاتِ مِنْ جَلَامِيدِهَا وَ ذَوَاتِ الشَّنَاخِيبِ الشُّمِّ مِنْ صَيَاخِيدِهَا فَسَكَنَتْ مِنَ الْمَيَدَانِ لِرُسُوبِ الْجِبَالِ فِي قِطَعِ أَدِيمِهَا وَ تَغَلْغُلِهَا مُتَسَرِّبَةً فِي جَوْبَاتِ خَيَاشِيمِهَا وَ رُكُوبِهَا أَعْنَاقَ سُهُولِ الْأَرَضِينَ وَ جَرَاثِيمِهَا وَ فَسَحَ شرح نهج البلاغة ج : 6 ص : 438بَيْنَ الْجَوِّ وَ بَيْنَهَا وَ أَعَدَّ الْهَوَاءَ مُتَنَسَّماً لِسَاكِنِهَا وَ أَخْرَجَ إِلَيْهَا أَهْلَهَا عَلَى تَمَامِ مَرَافِقِهَا ثُمَّ لَمْ يَدَعْ جُرُزَ الْأَرْضِ الَّتِي تَقْصُرُ مِيَاهُ

(7/411)


الْعُيُونِ عَنْ رَوَابِيهَا وَ لَا تَجِدُ جَدَاوِلُ الْأَنْهَارِ ذَرِيعَةً إِلَى بُلُوغِهَا حَتَّى أَنْشَأَ لَهَا نَاشِئَةَ سَحَابٍ تُحْيِي مَوَاتَهَا وَ تَسْتَخْرِجُ نَبَاتَهَا أَلَّفَ غَمَامَهَا بَعْدَ افْتِرَاقِ لُمَعِهِ وَ تَبَايُنِ قَزَعِهِ حَتَّى إِذَا تَمَخَّضَتْ لُجَّةُ الْمُزْنِ فِيهِ وَ الْتَمَعَ بَرْقُهُ فِي كُفَفِهِ وَ لَمْ يَنَمْ وَمِيضُهُ فِي كَنَهْوَرِ رَبَابِهِ وَ مُتَرَاكِمِ سَحَابِهِ أَرْسَلَهُ سَحّاً مُتَدَارِكاً قَدْ أَسَفَّ هَيْدَبُهُ يَمْرِي الْجَنُوبُ دِرَرَ أَهَاضِيبِهِ وَ دُفَعَ شآبِيبِهِ. فَلَمَّا أَلْقَتِ السَّحَابُ بَرْكَ بِوَانَيْهَا وَ بَعَاعَ مَا اسْتَقَلَّتْ بِهِ مِنَ الْعِبْ ءِ الْمَحْمُولِ عَلَيْهَا أَخْرَجَ بِهِ مِنْ هَوَامِدِ الْأَرْضِ النَّبَاتَ وَ مِنْ زُعْرِ الْجِبَالِ الْأَعْشَابَ فَهِيَ تَبْهَجُ بِزِينَةِ رِيَاضِهَا وَ تَزْدَهِي بِمَا أُلْبِسَتْهُ مِنْ رَيْطِ أَزَاهِيرِهَا وَ حِلْيَةِ مَا سُمِطَتْ بِهِ مِنْ نَاضِرِ أَنْوَارِهَا وَ جَعَلَ ذَلِكَ بَلَاغاً لِلْأَنَامِ وَ رِزْقاً لِلْأَنْعَامِ وَ خَرَقَ الْفِجَاجَ فِي آفَاقِهَا وَ أَقَامَ الْمَنَارَ لِلسَّالِكِينَ عَلَى جَوَادِّ طُرُقِهَا

(7/412)


كبس الأرض أي أدخلها في الماء بقوة و اعتماد شديد و يقال لضرب من التمر الكبيس لأنه يكبس حتى يتراص و المور مصدر مار أي ذهب و جاء و مستفحلة هائجة هيجان الفحول و استفحل الأمر تفاقم و اشتد و زاخرة زخر الماء أي امتد جدا و ارتفع. و الأواذي جمع آذي و هو الموج و تصطفق يضرب بعضها بعضا و الأثباج هاهنا شرح نهج البلاغة ج : 6 ص : 439أعالي الأمواج و أصل الثبج ما بين الكاهل إلى الظهر فنقل إلى هذا الموضع استعارة. و ترغو تصوت صوت البعير و الرغاء صوت ذات الخف و في المثل كفى برغائها مناديا أي أن رغاء بعير المضيف يقوم مقام ندائه للضيافة و القرى و زبدا على هذا منصوب بفعل مقدر تقديره و ترغو قاذفة زبدا و الزبد ما يظهر فوق السيل يقال قد أزبد البحر و السيل و بحر مزبد أي مالح يقذف بالزبد و الفحول عند هياجها فحول الإبل إذا هاجت للضراب. و جماح الماء صعوده و غليانه و أصله من جماح الفرس و هو أن يعز فارسه و يغلبه و الجموح من الرجال الذي يركب هواه فلا يمكن رده و خضع ذل و هيج الماء اضطرابه هاج هيجا و هياجا و هيجانا و اهتاج و تهيج كله بمعنى أي ثار و هاجه غيره يتعدى و لا يتعدى و هيج ارتمائه يعنى تقاذفه و تلاطمه يقال ارتمى القوم بالسهام و بالحجارة ارتماء و كلكلها صدرها و جاء كلكل و كلكال و ربما جاء في ضرورة الشعر مشددا قال
كأن مهواها على الكلكل موضع كفي راهب مصلى

(7/413)


و المستخذي الخاضع و قد يهمز و قيل لأعرابي في مجلس أبي زيد كيف تقول استخذأت ليتعرف منه الهمزة فقال العرب لا تستخذئ و همزه و أكثر ما يستعمل ملينا و أصله من خذا الشي ء يخذو و خذوا أي استرخى و يجوز خذي بكسر الذال و أذن خذواء بينة الخذاء أي مسترخية. و تمعكت تمرغت مستعار من تمعك الدابة في الأرض و قالوا معكت الأديم أي دلكته و كواهلها جمع كاهل و هو ما بين الكتفين و يسمى الحارك. شرح نهج البلاغة ج : 6 ص : 440و اصطخاب أمواجه افتعال من الصخب و هو الصياح و الجلبة يقال صخب الرجل فهو صخبان و اصطخب افتعل منه قال
إن الضفادع في الغدران تصطخب
و الساجي الساكن و الحكمة ما أحاط من اللجام بحنك الدابة و كانت العرب تتخذها من القد و الأبق لأن الزينة لم تكن قصدهم قال زهير
القائد الخيل منكوبا دوابرها قد أحكمت حكمات القد و الأبقا
و استعار الحكمة هاهنا فجعل للذل حكمة ينقاد الماء بها و يذل إليها. و مدحوة مبسوطة قال تعالى وَ الْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ دَحاها و يجوز أن تكون مدحوة هاهنا بمعنى مقذوفة مرمية يقال دحوت الحصاة أي قذفتها و يقال للاعب الجوز ادح و أبعد المدى و التيار أعظم الموج و لجته أعمقه و البأو الكبر و الفخر تقول بأوت على القوم أبأى بأوا قال حاتم
فما زادنا بأوا على ذي قرابة غنانا و لا أزرى بأحسابنا الفقر

(7/414)


و هذا الكلام استعارة يقال كسرت الأرض سورة الماء الجامح كما تكسر سورة بأو الرجل المتكبر المفتخر و الاعتلاء التيه و التكبر و الشموخ العلو مصدر شمخ بأنفه أي تكبر و الجبال الشوامخ الشاهقة و السمو العلو و سمو علوائه أي غلوه و تجاوزه الحد. شرح نهج البلاغة ج : 6 ص : 441و كعمته أي شددت فمه لما هاج من الكعام و هو شي ء يجعل في فم البعير و بعير مكعوم. و الكظة الجهد و الثقل الذي يعتري الإنسان عند الامتلاء من الطعام يقول كعمت الأرض الماء حال كونه مكظوظا لشدة امتلائه و كثرته و ازدحام أمواجه فهمد أي سكن همدت النار تهمد بالضم همودا أي طفئت و ذهبت البتة و الخمود دون الهمود و النزقات الخفة و الطيش نزق الرجل بالكسر ينزق نزقا و النزقات الدفعات من ذلك. و لبد الشي ء بالأرض يلبد بالضم لبودا أي لصق بها ساكنا و الزيفان التبختر في المشي زاف البعير يزيف و الزيافة من النوق المختالة و يروى و لبد بعد زفيان وثباته و الزفيان شدة هبوب الريح يقال زفته الريح زفيانا أي طردته و ناقة زفيان سريعة و قوس زفيان سريعة الإرسال للسهم و أكنافها جوانبها و كنفا الطائر جناحاه و يقال صلاء مكنف أي أحيط به من جوانبه و تكنفه القوم و اكتنفوه أحاطوا به. و الجبال الشواهق العالية و مثله البذخ و العرنين أول الأنف تحت مجتمع الحاجبين و الينابيع جمع ينبوع و هو ما انفجر من الأرض عن الماء و السهوب جمع سهب و هو الفلاة و البيد جمع بيداء و هي الفلاة أيضا. و الأخاديد جمع أخدود و هو الشق في الأرض قال تعالى قُتِلَ أَصْحابُ الْأُخْدُودِ و الراسيات الثقال و الشناخيب رءوس الجبال و الشم العالية و الجلاميد الصخور واحدها جلمود و الصياخيد جمع صيخود و هي الصخرة الصلبة. شرح نهج البلاغة ج : 6 ص : 442و الميدان التحرك و الاضطراب و ماد الرجل يميد أي تبختر و رسوب الجبال نزولها رسب الشي ء في الماء أي سفل فيه و سيف رسوب ينزل في العظام. و قوله في قطع أديمها

(7/415)


جمع قطعة يريد في أجزائها و أبعاضها و يروى في قطع أديمها بضم القاف و فتح الطاء جمع قطعة و هي القطعة مفروزة من الأرض و حكي أن أعرابيا قال ورثت من أبي قطعة و يروى في قطع أديمها بسكون الطاء و القطع طنفسة الرحل فنقل ذلك إلى هذا الموضع استعارة كأنه جعل الأرض ناقة و جعل لها قطعا و جعل الجبال ثابتة في ذلك القطع. و أديم الأرض وجهها و ظاهرها و تغلغل الماء في الشجر دخوله و تخلله في أصوله. و عروقه متسربة أي داخلة تسرب الثعلب أي دخل السرب و جوبات جمع جوبة و هي الفرجة في جبل أو غيره و خياشيمها جمع خيشوم و هو أقصى الأنف و تقول خشمت الرجل خشما أي كسرت خيشومه و جراثيمها جمع جرثومة و هي أصل الشجر. و فسح أوسع و متنسما يعني موضع النسيم و الأرض الجرز التي لا نبات فيها لانقطاع المطر عنها و هذه من الألفاظ القرآنية و الروابي التلاع و ما علا من الأرض و الجداول الأنهار الصغار جمع جدول و الذريعة الوصلة. و ناشئة سحاب ما يبتدئ ظهوره و الموات بفتح الميم القفر من الأرض و اللمع جمع لمعة و هي القطعة من السحاب أو غيره و تباين قزعه القزع قطع من السحاب رقيقة واحدها قزعة قال الشاعر شرح نهج البلاغة ج : 6 ص : 443
كأن رعاله قزع الجهام

(7/416)


و في الحديث كأنهم قزع الخريف و تباينها افتراقها و تمخضت تحركت بقوة يقال تمخض اللبن إذا تحرك في الممخضة و تمخض الولد تحرك في بطن الحامل و الهاء في فيه ترجع إلى المزن أي تحركت لجة المزن في المزن نفسه أي تحرك من السحاب وسطه و ثبجه. و التمع البرق و لمع أي أضاء و كففه جمع كفة و الكفة كالدارة تكون في السحاب. و كان الأصمعي يقول كل ما استطال فهو كفة بالضم نحو كفة الثوب و هي حاشيته و كفة الرمل و الجمع كفاف و كل ما استدار فهو كفة بالكسر نحو كفة الميزان و كفة الصائد و هي حبالته و الجمع كفف و يقال أيضا كفة الميزان بالفتح و الوميض الضياء و اللمعان. و قوله لم ينم أي لم يفتر و لم ينقطع فاستعار له لفظة النوم و الكنهور العظيم من السحاب و الرباب الغمام الأبيض و يقال إنه السحاب الذي تراه كأنه دون السحاب و قد يكون أبيض و قد يكون أسود و هو جمع و الواحدة ربابة و به سميت المرأة الرباب. و المتراكم الذي قد ركب بعضه بعضا و الميم بدل من الباء و سحا صبا و سحابة سحوح و تسحسح الماء سال و مطر سحساح أي يسح شديدا و متداركا يلحق بعضه بعضا من غير انقطاع و أسف دنا من الأرض و هيدبه ما تهدب منه أي تدلى كما يتدلى هدب العين على أشفارها و يمري الجنوب و هو بمعنى يحلب و يستدر و يروى تمريه الجنوب. على أن يعدى الفعل إلى المفعولين كما تقول حلبت الناقة لبنا و يروى تمتري الجنوب و هو بمعنى تمري من مريت الفرس و امتريته إذا استخرجت بالسوط ما عنده من الجري و إنما شرح نهج البلاغة ج : 6 ص : 444خص الجنوب بذلك لأنها الريح التي يكون عليها المطر و الدرر جمع درة و هي كثرة اللبن و سيلانه و صبه و الأهاضيب جمع هضاب و الهضاب جمع هضب و هي حلبات القطر بعد القطر و الدفع جمع دفعة بالضم و هي كالدفقة من المطر بالضم أيضا و الشآبيب جمع شؤبوب و هي رشة قوية من المطر تنزل دفعة بشدة و البرك الصدر و بوانيها تثنية بوان على فعال بكسر الفاء و هو عمود

(7/417)


الخيمة و الجمع بون بالضم قال الشاعر
أصبر من ذي ضاغط عركرك ألقى بواني زوره للمبرك
و من روى بوانيها أراد لواصقها من قولك قوص بانية إذا التصقت بالوتر. و الرواية الأولى أصح و بعاع السحاب ثقله بالمطر قال إمرؤ القيس
و ألقى بصحراء الغبيط بعاعه نزول اليماني بالعياب المثقل
و العب ء الثقل و استقلت ارتفعت و نهضت و هوامد الأرض هي الأرضون التي لا نبات بها و زعر الجبال جمع أزعر و المراد به قلة العشب و الخلى و أصله من الزعر و هو قلة الشعر في الرأس قال
من يك ذا لمة يرجلها فإنني غير ضائري زعري
و قد زعر الرجل يزعر قل شعره و تبهج تسر و تفرح تقول بهجني أمر كذا بالفتح و أبهجني معا أي سرني و من رواه بضم الهاء أراد يحسن و يملح من البهجة و هي الحسن يقال بهج الرجل بالضم بهاجة فهو بهيج أي حسن قال الله تعالى مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ و تقول قد أبهجت الأرض بالهمزة أي بهج نباتها و حسن. شرح نهج البلاغة ج : 6 ص : 445و تزدهي أي تتكبر و هي اللغة التي حكاها ابن دريد قال تقول زها الرجل يزهو زهوا أي تكبر و على هذه اللغة تقول ازدهى الرجل يزدهي كما تقول من علا اعتلى يعتلي و من رمى ارتمى يرتمي و أما من رواها و تزدهى بما ألبسته على ما لم يسم فاعله فهي اللغة المشهورة تقول زهي فلان علينا و للعرب أحرف تتكلم بها على سبيل المفعول به و إن كانت بمعنى الفاعل كقولهم عني بالأمر و نتجت الناقة فتقول على هذه اللغة فلان يزدهى بكذا. و الريط جمع ريطة و هي الملاءة غير ذات لفقين و الأزاهير النور ذو الألوان. و سمطت به علق عليها السموط جمع سمط و هو العقد و من رواه شمطت بالشين المعجمة أراد ما خالط سواد الرياض من النور الأبيض كالأقحوان و نحوه فصارت الرياض كالشعر الأشمط و الناضر ذو النضارة و هي الحسن و الطراوة. و بلاغا للأنام أي كفاية و الآفاق النواحي و المنار الأعلام
فصول متنوعة تتعلق بالخطبة

(7/418)


و ينبغي أن نتكلم في هذا الموضع في فصول. الفصل الأول في كيفية ابتداء خلق الأرض. ظاهر كلام أمير المؤمنين ع أن الماء خلق قبل الأرض و قد ذكرنا فيما تقدم أنه قول لبعض الحكماء و أنه موافق لما في التوراة إلا أن في كلامه ع في هذا الموضع إشكالا و ذلك أن لقائل أن يقول كلامه يشعر بأن هيجان الماء و غليانه و موجه شرح نهج البلاغة ج : 6 ص : 446سكن بوضع الأرض عليه و هذا خلاف ما يشاهد و خلاف ما يقتضيه العقل لأن الماء الساكن إذا جعل فيه جسم ثقيل اضطرب و تموج و صعد علوا فكيف الماء المتموج يسكن بطرح الجسم الثقيل فيه. و الجواب أن الماء إذا كان تموجه من قبل ريح هائجة جاز أن يسكن هيجانه بجسم يحول بينه و بين تلك الريح و لذلك إذا جعلنا في الإناء ماء و روحناه بمروحة تموجه فإنه يتحرك فإن جعلنا على سطح الماء جسما يملأ حافات الإناء و روحنا بالمروحة فإن الماء لا يتحرك لأن ذلك الجسم قد حال بين الهواء المجتلب بالمروحة و بين سطح الماء فمن الجائز أن يكون الماء الأول هائجا لأجل ريح محركة له فإذا وضعت الأرض عليه حال بين سطح الماء و بين تلك الريح و قد مر في كلام أمير المؤمنين في الخطبة الأولى ذكر هذه الريح فقال ريح اعتقم مهبها و أدام مربها و أعصف مجراها و أبعد منشأها فأمرها بتصفيق الماء الزخار و إثارة موج البحار فمخضت مخض السقاء و عصفت به عصفها بالفضاء. الفصل الثاني في بيان قوله ع فلما سكن هيج الماء من تحت أكنافها و حمل شواهق الجبال البذخ على أكتافها فجر ينابيع العيون فيها و عدل حركاتها بالراسيات من جلاميدها. و ذلك لأن العامل في لما يجب أن يكون أمرا مباينا لما أضيفت إليه مثاله لما قام زيد قام عمرو فقام الثانية هي العاملة في لما فيجوز أن تكون أمرا مباينا لما أضيف لما إليه و هو قيام زيد و هاهنا قد قال ع لما حمل الله تعالى شواهق الجبال على الأرض عدل حركات الأرض بالجبال و معلوم أن أحد الأمرين هو الآخر. و الجواب

(7/419)


أنه ليس أحد الأمرين هو الآخر بعينه بل الثاني معلول الأول و موجب شرح نهج البلاغة ج : 6 ص : 447عنه لأن الأول هو حمل الجبال عليها و الثاني تعديل حركاتها بالجبال المحمول عليها فكأنه قال حمل عليها الجبال فاقتضى ذلك الحمل تعديل حركاتها و معلوم أن هذا الكلام منتظم. الفصل الثالث في قوله إن الجبال هي المسكنة للأرض. فنقول إن هذا القول يخالف قول الحكماء لأن سكون الأرض عند الحكماء لم يكن لذلك بل لأنها تطلب المركز و هي حاصلة في حيزها الطبيعي لكنا و إن كان مخالفا لقول الحكماء فإنا نعتقده دينا و مذهبا و نعدل عن قول الحكماء لأن اتباع قوله ع أولى من اتباع أقوالهم. الفصل الرابع في ذكر نظائر لما وصف به المطر و السحاب. فمن ذلك ما رواه عبد الرحمن ابن أخي الأصمعي عن عمه قال سئل أعرابي عن مطر فقال استقل سد مع انتشار الطفل فشصا و احزأل ثم اكفهرت أرجاؤه و احمومت ارحاؤه و انزعرت فوارقه و تضاحكت بوارقه و استطار وادقه و أرسعت جوبه و ارتعن هيدبه و حسكت أخلافه و استقلت أردافه و انتشرت أكنافه فالرعد يرتجس و البرق يختلس و الماء ينبجس فأترع الغدر و أنبت الوجر و خلط الأوعال بالآجال و قرن الصيران بالرئال فللأودية هدير و للشراج خرير و للتلاع زفير و حط النبع و العنم من القلل الشم إلى القيعان الصحم فلم يبق في القلل إلا معصم

(7/420)


شرح نهج البلاغة ج : 6 ص : 448مجرنثم أو داحض محرجم و ذلك من فضل رب العالمين على عباده المذنبين. قلت السد السحاب الذي يسد الأفق و أصل الجبل و الطفل اختلاط الظلام و انتشاره حال غروب الشمس و شصا ارتفع و علا و احزأل انتصب و اكفهرت أرجاؤه غلظت نواحيه و جوانبه و تراكمت و احمومت اسودت مع مخالطة حمرة و أرجاؤه أوساطه و انزعرت تفرقت و الفوارق قطع من السحاب تتفرق عنه مثل فرق الإبل و هي النوق إذا أرادت الولادة فارقت الإبل و بعدت عنها حيث لا ترى و تضاحكت بوارقه لمعت و استطار انتشر و الوادق ذو الودق و هو مطر كبار و أرسعت جوبه أي تلاءمت فرجه و التحمت و ارتعن استرخى و هيدبه ما تدلى منه و حسكت أخلافه امتلأت ضروعه و أرادفه مآخره و أكنافه نواحيه و يرتجس يصوت و الرجس الصوت و يختلس يستلب البصر و ينبجس ينصب فأترع الغدر ملأها جمع غدير و أنبت الوجر حفرها جمع وجار و هو بيت الضبع و الآجال جمع إجل و هو قطيع البقر و الصيران مثله جمع صوار و الرئال جمع رأل و هو فرخ النعام و الهدير الصوت و الشراج جمع شرج و هو مسيل الماء إلى الحرة و خرير الماء صوته و زفير التلاع أن تزفر بالماء لفرط امتلائها و النبع شجر و العنم شجر آخر و كلاهما لا ينبت إلا في رءوس الجبال و الشم العالية و الصحم السود التي تضرب إلى الصفرة و المعصم المعتصم الملتجئ و المجرنثم المتقبض و الداحض الزالق الواقع و المحرجم المصروع. و من ذلك ما رواه أبو حاتم عن الأصمعي قال سألت أعرابيا من بني عامر بن صعصعة عن مطر أصاب بلادهم فقال نشأ عارضا فطلع ناهضا ثم ابتسم وامضا فاعتن في الأقطار فأشجاها و امتد في شرح نهج البلاغة ج : 6 ص : 449الآفاق فغطاها ثم ارتجس فهمهم ثم دوي فأظلم فأرك و دث و بغش و طش ثم قطقط فأفرط ثم ديم فأغمط ثم ركد فأثجم ثم وبل فسجم و جاد فأنعم فقمس الربا و أفرط الزبى سيعا تباعا يريد انقشاعا حتى إذا ارتوت الحزون و تضحضحت المتون ساقه ربك إلى

(7/421)


حيث يشاء كما جلبه من حيث شاء. قلت العارض سحاب يعترض في الأفق و اعتن اعترض و أشجاها ملأها فكان كالشجى في حلقها و ارتجس صوت و الهمهمة صوت الرعد و دوي أحدث دويا فأظلم أعدم الضوء من الأرض بتكاثفه فأرك أي مطر ركا و الرك المطر الضعيف و كذلك الدث و البغش و الطش و فوق ذلك القطقط و ديم صار ديمة و هي المطر أياما لا يقلع و أغمط أي دام و أثجم أقام و وبل جاء بالوابل و هو المطر العظيم و سجم صب و أنعم بالغ و قمس غوص في الماء و أفرط الزبى ملأها جمع زبية و هي حفيرة تحفر للوحوش في مكان مرتفع و الحزون جمع حزن و هو ما غلظ من الأرض و المتون جمع متن و هو الصلب من الأرض و تضحضحت صار فوقها ضحضاح من الماء و هو الرقيق. و من ذلك ما رواه أبو حاتم أيضا عن الأصمعي قال سألت أعرابيا عن مطر أصابهم بعد جدب فقال ارتاح لنا ربك بعد ما استولى اليأس على الظنون و خامر القلوب القنوط فأنشأ بنوء الجبهة قزعة كالقرص من قبل العين فاحزألت عند ترجل النهار لأدهم السرار حتى إذا نهضت في الأفق طالعة أمر مسخرها الجنوب فتبسمت لها فانتثرت أحضانها و احمومت أركانها و بسق عنانها و اكفهرت رحاها و انبعجت كلاها و ذمرت

(7/422)


شرح نهج البلاغة ج : 6 ص : 450أخراها أولاها ثم استطارت عقائقها و ارتعجت بوارقها و تعقعقت صواعقها ثم ارتعبت جوانبها و تداعت سواكبها و درت حوالبها فكانت للأرض طبقا شج فهضب و عم فأحسب فعل القيعان و ضحضح الغيطان و صوح الأضواج و أترع الشراج فالحمد لله الذي جعل كفاء إساءتنا إحسانا و جزاء ظلمنا غفرانا. قلت نوء الجبهة محمود عندهم للمطر و القزعة القطعة الصغيرة من السحاب و القرص الترس و العين ما عن يمين قبلة العراق و ترجل النهار انبساط الشمس و الأدهم أحد ليالي السرار و الأحضان النواحي و احمومت اسودت و بسق علا و العنان ما يعترض من السحاب في الأفق و انبعجت انفتقت و ذمرت حضت و العقائق البروق و ارتعجت اهتزت و ارتعدت و طبقا أي غطت الأرض و هضب جاء بالمطر دفعة فدفعة و أحسب كفى و عل القيعان سقاها مرة بعد أخرى و الغيطان جمع غائط و هو ما سفل من الأرض و صوح الأضواج هدم الأجواف و أترع الشراج ملأ المسيلات. و من ذلك ما رواه ابن دريد عن عبد الرحمن عن عمه الأصمعي قال سمعت أعرابيا من بني عامر يصف مطرا قال نشأ عند القصر بنوء الغفر حيا عارضا ضاحكا وامضا فكلا و لا ما كان حتى شجيت به أقطار الهواء و احتجبت به السماء ثم أطرق فاكفهر و تراكم فادلهم و بسق فازلأم ثم حدت به الريح فخر و البرق مرتعج و الرعد مبتوج و الحدج مبتعج فأثجم ثلاثا متحيرا هثهاثا أخلافه حاشكة و دفعه متواشكة و سوامه متعاركة ثم ودع منجما و أقلع متهما محمود البلاء مترع النهاء مشكور النعماء بطول ذي الكبرياء. قلت القصر العشي و الغفر من نجوم الأسد و الحيا الداني من الأرض. و قوله كلا و لا أي في زمان قصير جدا و شجيت به الأقطار صار كالشجى لها شرح نهج البلاغة ج : 6 ص : 451و ازلأم انتصب و المرتعج المتدارك و المبتوج العالي الصوت و الحدج السحاب أول ما ينشأ و يتبعج يشقق و أثجم دام متحيرا أي كأنه قد تحير لا وجه له يقصده و الهثهاث المداخل و أخلافه حاشكة

(7/423)


أي ضروعة ممتلئة و دفعه متواشكة أي مسرعة و سوامه متعاركة شبه قطع السحاب بسوام الإبل و منجما مقلعا و متهما يسير نحو تهامة
الفصل الخامس في بيان أنه ع إمام أرباب صناعة البديع
و ذلك لأن هذا الفن لا يوجد منه في كلام غيره ممن تقدمه إلا ألفاظ يسيرة غير مقصودة و لكنها واقعة بالاتفاق كما وقع التجنيس في القرآن العزيز اتفاقا غير مقصود و ذلك نحو قوله يا أَسَفى عَلى يُوسُفَ و كما وقعت المقابلة أيضا غير مقصودة في قوله وَ السَّماءَ رَفَعَها وَ وَضَعَ الْمِيزانَ على أنها ليست مقابلة في المعنى بل من اللفظ خاصة و لما تأمل العلماء شعر إمرئ القيس و وجدوا فيه من الاستعارة بيتا أو بيتين نحو قوله يصف الليل
فقلت له لما تمطى بصلبه و أردف أعجازا و ناء بكلكل
و قوله
و إن يك قد ساءتك مني خليقة فسلي ثيابي من ثيابك تنسل

(7/424)


و لم ينشدوا مثل ذلك في أشعار الجاهلية حكموا له بأنه إمام الشعراء و رئيسهم. و هذا الفصل من كلام أمير المؤمنين ع قد اشتمل من الاستعارة العجيبة و غيرها من أبواب البديع على ما لو كان موجودا في ديوان شاعر مكثر أو مترسل مكثر شرح نهج البلاغة ج : 6 ص : 452لكان مستحق التقديم بذلك أ لا تراه كيف وصف الأمواج بأنها مستفحلة و أنها ترغو رغاء فحول الإبل ثم جعل الماء جماحا ثم وصفه بالخضوع و جعل للأرض كلكلا و جعلها واطئة للماء به و وصف الماء بالذل و الاستخذاء لما جعل الأرض متمعكة عليه كما يتمعك الحمار أو الفرس و جعل لها كواهل و جعل للذل حكمة و جعل الماء في حكمة الذل منقادا أسيرا و ساجيا مقهورا و جعل الماء قد كان ذا نخوة و بأو و اعتلاء فردته الأرض خاضعا مسكينا و طأطأت من شموخ أنفه و سمو غلوائه و جعلها كاعمة له و جعل الماء ذا كظة بامتلائه كما تعتري الكظة المستكثر من الأكل ثم جعله هامدا بعد أن كانت له نزقات و لابدا بعد أن كانت له وثبات ثم جعل للأرض أكتافا و عرانين و أنوفا و خياشيم ثم نفى النوم عن وميض البرق و جعل الجنوب مارية درر السحاب ثم جعل للسحاب صدرا و بوانا ثم جعل الأرض مبتهجة مسرورة مزدهاة و جعل لها ريطا من لباس الزهور و سموطا تحلى بها فيا لله و للعجب من قوم زعموا أن الكلام إنما يفضل بعضه بعضا لاشتماله على أمثال هذه الصنعة فإذا وجدوا في مائه ورقة كلمتين أو ثلاثا منها أقاموا القيامة و نفخوا في الصور و ملئوا الصحف بالاستحسان لذلك و الاستظراف ثم يمرون على هذا الكلام المشحون كله بهذه الصنعة على ألطف وجه و أرصع وجه و أرشق عبارة و أدق معنى و أحسن مقصد ثم يحملهم الهوى و العصبية على السكوت عن تفضيله إذا أجملوا و أحسنوا و لم يتعصبوا لتفضيل غيره عليه على أنه لا عجب فإنه كلام علي ع و حظ الكلام حظ المتكلم و أشبه امرأ بعض بزه

(7/425)


شرح نهج البلاغة ج : 7 ص : 3الجزء السابعتتمة الخطب و الأوامر
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله الواحد العدل
تتمة خطبة 90
فَلَمَّا مَهَدَ أَرْضَهُ وَ أَنْفَذَ أَمْرَهُ اخْتَارَ آدَمَ ع خِيَرَةً مِنْ خَلْقِهِ وَ جَعَلَهُ أَوَّلَ جِبِلَّتِهِ وَ أَسْكَنَهُ جَنَّتَهُ وَ أَرْغَدَ فِيهَا أُكُلَهُ وَ أَوْعَزَ إِلَيْهِ فِيمَا نَهَاهُ عَنْهُ وَ أَعْلَمَهُ أَنَّ فِي الْإِقْدَامِ عَلَيْهِ التَّعَرُّضَ لِمَعْصِيَتِهِ وَ الْمُخَاطَرَةَ بِمَنْزِلَتِهِ فَأَقْدَمَ عَلَى مَا نَهَاهُ عَنْهُ مُوَافَاةً لِسَابِقِ عِلْمِهِ فَأَهْبَطَهُ بَعْدَ التَّوْبَةِ لِيَعْمُرَ أَرْضَهُ بِنَسْلِهِ وَ لِيُقِيمَ الْحُجَّةَ بِهِ عَلَى عِبَادِهِ وَ لَمْ يُخْلِهِمْ بَعْدَ أَنْ قَبَضَهُ مِمَّا يُؤَكِّدُ عَلَيْهِمْ حُجَّةَ رُبُوبِيَّتِهِ وَ يَصِلُ بَيْنَهُمْ وَ بَيْنَ مَعْرِفَتِهِ بَلْ تَعَاهَدَهُمْ بِالْحُجَجِ عَلَى أَلْسُنِ الْخِيَرَةِ مِنْ أَنْبِيَائِهِ وَ مُتَحَمِّلِي وَدَائِعِ رِسَالَاتِهِ قَرْناً فَقَرْناً حَتَّى تَمَّتْ بِنَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ ص حُجَّتُهُ وَ بَلَغَ الْمَقْطَعَ عُذُرُهُ وَ نُذُرُهُ

(8/1)


مهد أرضه سواها و أصلحها و منه المهاد و هو الفراش و مهدت الفراش بالتخفيف مهدا أي بسطته و وطأته و قوله خيرة من خلقه على فعلة مثل عنبة الاسم شرح نهج البلاغة ج : 7 ص : 4من قولك اختاره الله يقال محمد خيرة الله من خلقه و يجوز خيرة الله بالتسكين و الاختيار الاصاء. و الجبلة الخلق و منه قوله تعالى وَ اتَّقُوا الَّذِي خَلَقَكُمْ وَ الْجِبِلَّةَ الْأَوَّلِينَ و يجوز الجبلة بالضم و قرأ بها الحسن البصري و قرئ قوله سبحانه وَ لَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلًّا كَثِيراً على وجوه فقرأ أهل المدينة بالكسر و التشديد و قرأ أبو عمرو جبلا كثيرا مثل قفل و قرأ الكسائي جبلا كثيرا بضم الباء مثل حلم و قرأ عيسى بن عمر جبلا بكسر الجيم و قرأ الحسن و ابن أبي إسحاق جبلا بالضم و التشديد. قوله و أرغد فيها أكله أي جعل أكله و هو المأكول رغدا أي واسعا طيبا قال سبحانه وَ كُلا مِنْها رَغَداً حَيْثُ شِئْتُما و تقرأ رغدا و رغدا بكسر الغين و ضمها و أرغد القوم أخصبوا و صاروا في رغد من العيش. قوله و أوعز إليه فيما نهاه عنه أي تقدم إليه بالإنذار و يجوز و وعز إليه بالتشديد توعيزا و يجوز التخفيف أيضا وعز إليه وعزا. و الواو في و أعلمه عاطفة على و أوعز لا على نهاه. قوله موافاة لسابق علمه لا يجوز أن ينتصب لأنه مفعول له و ذلك لأن المفعول له يكون عذرا و علة للفعل و لا يجوز أن يكون إقدام آدم على الشجرة لأجل الموافاة للعلم الإلهي السابق و لا يستمر ذلك على مذاهبنا بل يجب أن ينصب موافاة على شرح نهج البلاغة ج : 7 ص 5المصدرية المحضة كأنه قال فوافى بالمعصية موافاة و طابق بها سابق العلم مطابقة. قوله فأهبطه بعد التوبة قد اختلف الناس في ذلك فقال قوم بل أهبطه قبل التوبة ثم تاب عليه و هو في الأرض و قال قوم تاب قبل الهبوط و هو قول أمير المؤمنين ع و يدل عليه قوله تعالى فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِماتٍ فَتابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ

(8/2)


التَّوَّابُ الرَّحِيمُ قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْها جَمِيعاً فأخبر عن أنه أهبطهم بعد تلقي الكلمات و التوبة و قال تعالى في موضع آخر وَ طَفِقا يَخْصِفانِ عَلَيْهِما مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَ ناداهُما رَبُّهُما أَ لَمْ أَنْهَكُما عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَ أَقُلْ لَكُما إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُما عَدُوٌّ مُبِينٌ قالا رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا وَ إِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنا وَ تَرْحَمْنا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ قالَ اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَ لَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَ مَتاعٌ إِلى حِينٍ. فبين أن اعترافهما بالمعصية و استغفارهما كانا قبل أمرهما بالهبوط و قال في موضع آخر وَ عَصى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوى ثُمَّ اجْتَباهُ رَبُّهُ فَتابَ عَلَيْهِ وَ هَدى قالَ اهْبِطا مِنْها جَمِيعاً فجعل الإهباط بعد الاجتباء و التوبة و احتج الأولون بقوله تعالى وَ لا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونا مِنَ الظَّالِمِينَ فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطانُ عَنْها فَأَخْرَجَهُما مِمَّا كانا فِيهِ وَ قُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَ لَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَ مَتاعٌ إِلى حِينٍ فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِماتٍ فَتابَ عَلَيْهِ قالوا فأخبر سبحانه عن أمره لهم بالهبوط عقيب إزلال الشيطان لهما ثم عقب الهبوط بفاء التعقيب في قوله فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِماتٍ فدل على أن التوبة بعد الهبوط. شرح نهج البلاغة ج : 7 ص : 6و يمكن أن يجاب عن هذا فيقال إنه تعالى لم يقل فقلنا اهبطوا بالفاء بل قال وَ قُلْنَا اهْبِطُوا بالواو و الواو لا تقتضي الترتيب و لو كان عوضها فاء لكانت صريحة في أن الإهباط كان عقيب الزلة فأما الواو فلا تدل على ذلك بل يجوز أن ون التوبة قبل الإهباط و يخبر عن الإهباط بالواو قبل أن يخبر عن التوبة. قوله ع و ليقيم الحجة على عباده أي إذا كان أبوهم أخرج من

(8/3)


الجنة بخطيئة واحدة فأخلق بها ألا يدخلها ذو خطايا جمة و هذا يؤكد مذهب أصحابنا في الوعيد. ثم أخبر ع أن البارئ سبحانه ما أخلى عباده بعد قبض آدم و توفيه مما يؤكد عليهم حجج الربوبية بل أرسل إليهم الرسل قرنا فقرنا بفتح القاف و هو أهل الزمان الواحد قال الشاعر
إذا ما مضى القرن الذي أنت فيهم و خلفت في قرن فأنت غريب
و تعاهدهم بالحجج أي جدد العهد عندهم بها و يروى بل تعهدهم بالتشديد و التعهد التحفظ بالشي ء تعهدت فلانا و تعهدت ضيعتي و هو أفصح من تعاهدت لأن التفاعل إنما يكون من شيئين و تقول فلان يتعهده صرع. قوله و بلغ المقطع عذره و نذره مقطع الشي ء حيث ينقطع و لا يبقى خه شي ء منه أي لم يزل يبعث الأنبياء واحدا بعد واحد حتى بعث محمدا ص فتمت به حجته على الخلق أجمعين و بلغ الأمر مقطعه أي لم يبق بعده رسول ينتظر شرح نهج البلاغة ج : 7 ص : 7و انتهت عذر الله تعالى و نذره فعذره ما بين للمكلفين من الإعذار في عقوبته لهم إن عصوه وره ما أنذرهم به من الحوادث و من أنذرهم على لسانه من الرسل
القول في عصمة الأنبياء

(8/4)


و اعلم أن المتكلمين اختلفوا في عصمة الأنبياء و نحن نذكر هاهنا طرفا من حكاية المذاهب في هذه المسألة على سبيل الاقتصاص و نقل الآراء لا على سبيل الحجاج و نخص قصة آدم ع و الشجرة بنوع من النظر إذ كانت هذه القصة مذكورة في كلام أمير المؤمنين ع في هذا الفصل فنقول اختلف الناس في المعصوم ما هو فقال قوم المعصوم هو الذي لا يمكنه الإتيان بالمعاصي و هؤلاء هم الأقلون أهل النظر و اختلفوا في عدم التمكن كيف هو فقال قوم منهم المعصوم هو المختص في نفسه أو بدنه أو فيهما بخاصية تقضي امتناع إقدامه على المعاصي. و قال قوم منهم بل المعصوم مساو في الخواص النفسية و البدنية لغير المعصوم و إنما العصمة هي القدرة على الطاعة أو عدم القدرة على المعصية و هذا قول الأشعري نفسه و إن كان كثير من أصحابه قد خالفه فيه. و قال الأكثرون من أهل النظر بل المعصوم مختار متمكن من المعصية و الطاعة. و فسروا العصمة بتفسيرين أحدهما أنها أمور يفعلها الله تعالى بالمكلف فتقتضي ألا يفعل المعصية اقتضاء شرح نهج البلاغة ج : 7 ص : 8غير بالغ إلى حد الإيجاب و فسروا هذه الأمور فقالوا إنها أربعة أشياء أولها أن يكون لنفس الإنسان ملكة مانعة من الفجور داعية إلى العفة و ثانيهالعلم بمثالب المعصية و مناقب الطاعة و ثالثها تأكيد ذلك العلم بالوحي و البيان من الله تعالى و رابعها أنه متى صدر عنه خطأ من باب النسيان و السهو لم يترك مهملا بل يعاقب و ينبه و يضيق عليه العذر قالوا فإذا اجتمعت هذه الأمور الأربعة كان الشخص معصوما عن المعاصي لا محالة لأن العفة إذا انضاف إليها العلم بما في الطاعة من السعادة و ما في المعصية من الشقاوة ثم أكد ذلك تتابع الوحي إليه و ترادفه و تظاهر البيان عنده و تمم ذلك خوفه من العتاب على القدر القليل حصل من اجتماع هذه الأمور حقيقة العصمة. و قال أصحابنا العصمة لطف يمتنع المكلف عند فعله من القبيح اختيارا و قد يكون ذلك اللطف خارجا

(8/5)


عن الأمور الأربعة المعدودة مثل أن يعلم الله تعالى أنه إن أنشأ سحابا أو أهب ريحا أو حرك جسما فإن زيدا يمتنع عن قبيح مخصوص اختيارا فإنه تعالى يجب عليه فعل ذلك و يكون هذا اللطف عصمة لزيد و إن كان الإطلاق المشتهر في العصمة إنما هو لمجموع ألطاف يمتنع المكلف بها عن القبيح مدة زمان تكليفه. و ينبغي أن يقع الكلام بعد هذه المقدمة في ثلاثة فصول
الفصل الأول في حال الأنبياء قبل البعثة و من الذي يجوز أن يرسله الله تعالى إلى العباد

(8/6)


فالذي عليه أصحابنا المعتزلة رحمهم الله أنه يجب أن ينزه النبي قبل البعثة عما كان فيه تنفير عن الحق الذي يدعو إليه و عما فيه غضاضة و عيب. شرح نهج البلاغة ج : 7 ص : 9فالأول نحو أن يكون كافرا أو فاسقا و ذلك لأنا نجد التائب العائد إلى الصلاح بعد أن عهد الناس ه السخف و المجون و الفسق لا يقع أمره بالمعروف و نهيه عن المنكر عند الناس موقعهما ممن لم يعهدوه إلا على السداد و الصلاح. و الثاني نحو أن يكون حجاما أو حائكا أو محترفا بحرفه يقذرها الناس و يستخفون بصاحبها إلا أن يكون المبعوث إليهم على خلاف ما هو المعهود الآن بألا يكون من تعاطى ذلك مستهانا به عندهم. و وافق أصحابنا في هذا القوم جمهور المتكلمين. و قال قوم من الخوارج يجوز أن يبعث الله تعالى من كان كافرا قبل الرسالة و هو قول ابن فورك من الأشعرية لكنه زعم أن هذا الجائز لم يقع. و قال قوم من الحشوية قد كان محمد ص كافرا قبل البعثة و احتجوا بقوله تعالى وَ وَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدى و قال برغوث المتكلم و هو أحد النجارية لم يكن النبي ص مؤمنا بالله قبل أن يبعثه لأنه تعالى قال له ما كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَ لَا الْإِيمانُ. و روي عن السدي في قوله تعالى وَ وَضَعْنا عَنْكَ وِزْرَكَ الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ قال وزره الشرك فإنه كان على دين قومه أربعين سنة. و قال بعض الكرامية في قوله تعالى حكاية عن إبراهيم ص شرح نهج البلاغة ج : 7 ص : 10 قالَ أَسْلَمْتُ إنه أسلم يومئذ و لم يكن من قبل ذلك مسلما و مثل ذلك قال اليمان بن رباب متم الخوارج. و حكى كثير من أرباب المقالات عن شيخنا أبي الهذيل و أبي علي جواز أن يبعث الله تعالى من قد ارتكب كبيرة قبل البعثة و لم أجد في كتب أصحابنا حكاية هذا المذهب عن الشيخ أبي الهذيل و وجدته عن أبي علي ذكره أبو محمد بن متويه في كتاب الكفاية فقال منع أهل العدل كلهم من تجويز بعثة من كان فاسقا قبل النبوة إلا ما جرى في كلام

(8/7)


الشيخ أبي علي رحمه الله تعالى من ثبوت فصل بين البعثة و قبلها فأجاز أن يكون قبل البعثة مرتكبا لكبيرة ثم يتوب فيبعثه الله تعالى حينئذ و هو مذهب محكي عن عبد الله بن العباس الرامهرمزي ثم قال الشيخ أبو محمد رحمه الله تعالى و الصحيح من قول أبي علي رحمه الله تعالى مثل ما نختاره من التسوية بين حال البعثة و قبلها في المنع من جواز ذلك. و قال قوم من الأشعرية و من أهل الظاهر و أرباب الحديث إن ذلك جائز واقع و استدلوا بأحوال إخوة يوسف و منع المانعون من ذلك من ثبوت نبوة إخوة يوسف ثم هؤلاء المجوزون منهم من جوز عليهم فعل الكبائر مطلقا و منهم من جوز ذلك على سبيل الندرة ثم يتوبون عنه و يشتهر حالهم بين الخلق بالصلاح فأما لو فرضنا إصرارهم على الكبائر بحيث يصيرون مشهورين بالفسق و المعاصي فإن ذلك لا يجوز لأنه يفوت الغرض من إرسالهم و نبوتهم على هذا التقدير. و قالت الإمامية لا يجوز أن يبعث الله تعالى نبيا قد وقع منه قبيح قبل النبوة شرح نهج البلاغة ج : 7 ص : 11لا صغيرا و لا كبيرا لا عمدا و لا خطأ و لا على سبيل التأويل و الشبهة و هذا المذهب مما تفردوا به فإن أصحابنا ويرهم من المانعين للكبائر قبل النبوة لم يمنعوا وقوع الصغائر منهم إذا لم تكن مسخفة منفرة. اطردت الإمامية هذا القول في الأئمة فجعلت حكمهم في ذلك حكم الأنبياء في وجوب العصمة المطلقة لهم قبل النبوة و بعدها
الفصل الثاني في عصمة الأنبياء في زمن النبوة عن الذنوب في أفعالهم و تروكهم عدا ما يتعلق بتبليغ الوحي و الفتوى في الأحكام

(8/8)


جوز قوم من الحشوية عليهم هذه الكبائر و هم أنبياء كالزنا و اللواط و غيرهما و فيهم من جوز ذلك بشرط الاستسرار دون الإعلان و فيهم من جوز ذلك على الأحوال كلها. و منع أصحابنا المعتزلة من وقوع الكبائر منهم ع أصلا و منعوا أيضا من وقوع الصغائر المسخفة منهم و جوزوا وقوع الصغائر التي ليست بمسخفه منهم ثم اختلفوا فمنهم من جوز على النبي الإقدام على المعصية الصغيرة غير المسخفة عمدا و هو قول شيخنا أبي هاشم رحمه الله تعالى فإنه أجاز ذلك و قال إنه لا يقدم ع على ذلك إلا على خوف و وجل و لا يتجرأ على الله سبحانه. و منهم من منع من تعمد إتيان الصغيرة و قال إنهم لا يقدمون على الذنوب التي يعلمونها ذنوبا بل على سبيل التأويل و دخول الشبهة و هذا قول أبي علي رحمه الله تعالى. شرح نهج البلاغة ج : 7 ص : 12و حكى عن أبي إسحاق النظام و جعفر بن مبشر أن ذنوبهم لا تكون إلا على سبيل السهو و النان و أنهم مؤاخذون بذلك و إن كان موضوعا عن أمتهم لأن معرفتهم أقوى و دلائلهم أكثر و أخطارهم أعظم و يتهيأ لهم من التحفظ ما لا يتهيأ لغيرهم. و قالت الإمامية لا تجوز عليهم الكبائر و لا الصغائر لا عمدا و لا خطأ و لا سهوا و لا على سبيل التأويل و الشبهة و كذلك قولهم في الأئمة و الخلاف بيننا و بينهم في الأنبياء يكاد يكون ساقطا لأن أصحابنا إنما يجوزون عليهم الصغائر لأنه لا عقاب عليها و إنما تقتضي نقصان الثواب المستحق على قاعدتهم في مسألة الإحباط فقد اعترف إذا أصحابنا بأنه لا يقع من الأنبياء ما يستحقون به ذما و لا عقابا و الإمامية إنما تنفي عن الأنبياء الصغائر و الكبائر من حيث كان كل شي ء منها يستحق فاعله به الذم و العقاب لأن الإحباط باطل عندهم فإذا كان استحقاق الذم و العقاب يجب أن ينفى عن الأنبياء وجب أن ينفى عنهم سائر الذنوب فقد صار الخلاف إذا متعلقا بمسألة الإحباط صارت هذه المسألة فرعا من فروعها. و اعلم أن القول بجواز الصغائر

(8/9)


على الأنبياء بالتأويل و الشبهة على ما ذهب إليه شيخنا أبو علي رحمه الله تعالى إنما اقتضاه تفسيره لآيه آدم و الشجرة و تكلفه إخراجها عن تعمد آدم للعصيان فقال إن آدم نهي عن نوع تلك الشجرة لا عن عينها بقوله تعالى وَ لا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ و أراد سبحانه نوعها المطلق فظن آدم أنه أراد خصوصية تلك الشجرة بعينها و قد كان أشير إليها فلم يأكل منها بعينها و لكنه أكل من شجرة أخرى من نوعها فأخطأ في التأويل و أصحاب شيخنا أبي هاشم لا يرضون هذا المذهب و يقولون إن الإشكال باق بحاله لأن آدم أخل بالنظر على

(8/10)


شرح نهج البلاغة ج : 7 ص : 13هذا القول في أن المنهي عنه هل هو عين الشجرة أو نوعها مع أنه قد كان مدلولا على ذلك لأنه لو لم يكن مدلولا على ذلك لكان تكليف الامتناع عن التناول تكليف ما لا يطاق و إذا دل على ذلك وجب عليه النظر و لا وجه يجب النظر لأجله إلا الخومن تركه و إذا لم يكن بد من كونه خائفا فهو عالم إذا بوجوب هذا التأمل و النظر فإذا أخل به فقد وقعت منه المعصية مع علمه. و كما لا يرضى أصحاب شيخنا أبي هاشم هذا المذهب فكذلك لا يرتضون مذهب النظام و جعفر بن مبشر و ذلك لأن القول بأن الأنبياء يؤاخذون على ما يفعلونه سهوا متناقض لأن السهو يزيل التكليف و يخرج الفعل من كونه ذنبا مؤاخذا به و لهذا لا يصح مؤاخذة المجنون و النائم و السهو في كونه مؤثرا في رفع التكليف جار مجرى فقد القدر و الآلات و الأدلة فلو جاز أن يخالف حال الأنبياء حال غيرهم في صحة تكليفهم مع السهو جاز أن يخالف حالهم حال غيرهم في صحة التكليف مع فقد القدر و الآلات و ذلك باطل. و اعلم أن الشريف المرتضى رحمه الله تعالى قد تكلم في كتابه المسمى بتنزيه الأنبياء و الأئمة على هذه الآية و انتصر لمذهب الإمامية فيها و حاول صرفها عن ظاهرها و تأول اللفظ بتأويل مستكره غير صحيح و أنا أحكي كلامه هاهنا و أتكلم عليه نصرة لأصحابنا و نصرة أيضا لأمير المؤمنين ع فإنه قد صرح في هذا الفصل بوقوع الذنب من آدم ع أ لا ترى إلى قوله و المخاطرة بمنزلته و هل تكون هذه اللفظة إلا في الذنب و كذلك سياقة الفصل من أوله إلى آخره إذا تأمله المنصف و اطرح الهوى و التعصب ثم إنا نذكر كلام السيد الشريف المرتضى رحمه الله تعالى قال رحمه الله تعالى شرح نهج البلاغة ج : 7 ص : 14أما قوله تعالى وَ عَصى آدَمُ رَبَّهُ فإن المعصية مخالفة للأمر و الأمر من الحكيم تعالى قد يكون بالواجب و بالندب معا فلا يمتنع على ه أن يكون آدم مندوبا إلى ترك التناول من الشجرة فيكون بمواقعتها تاركا

(8/11)


فرضا و نفلا و غير فاعل قبيحا و ليس يمتنع أن يسمى تارك النفل عاصيا كما يسمى بذلك تارك الواجب فإن تسمية من خالف ما أمر به سواء كان واجبا أو نفلا بأنه عاص ظاهر و لهذا يقولون أمرت فلانا بكذا و كذا من الخير فعصاني و خالفني و إن لم يكن ما أمر به واجبا. يقال له الكلام على هذا التأويل من وجوه أولها أن ألفاظ الشرع يجب أن تحمل على حقائقها اللغوية ما لم يكن لها حقائق شرعية فإذا كان لها حقائق شرعية وجب أن تحمل على عرف الشرع و اصطلاحه كالصلاة و الحج و النفاق و الكفر و نحو ذلك من الألفاظ الشرعية و هكذا قال السيد المرتضى رحمه الله تعالى في كتابه في أصول الفقه المعروف بالذريعة في باب كون الأمر للوجوب و هو الحق الذي لا مندوحة عنه و إذا كان لفظ العصيان في الاصطلاح الشرعي موضوعا لمخالفة الأمر الإيجابي لم يجز العدول عنه و حمله على مخالفة الندب. و معلوم أن لفظ العصيان في العرف الشرعي لا يطلق إلا على مخالفة الأمر المقتضي للوجوب فالقول بجواز حملها على مخالفة الأمر الندبي قول تبطله و تدفعه تلك القاعدة المقررة التي ثبتت بالاتفاق و بالدليل على أننا قبل أن نجيب بهذا الوجه نمنع أصلا أنه يجوز أن يقال لتارك النفل إنه عاص لا في أصل اللغة و لا في العرف و لا في الشرع و ذلك لأن حقيقة النفل هو ما يقال فيه للمكلف الأولى أن تفعل هذا و لك ألا تفعله و معلوم أن

(8/12)


شرح نهج البلاغة ج : 7 ص : 15تارك مثل ذلك لا يطلق عليه أنه عاص و يبين ذلك أن لفظ العصيان في اللغة موضوع للامتناع و لذلك سميت العصا عصا لأنه يمتنع بها و منه قولهم قد شق العصا أي خرج عن الربقة المانعة من الاختلاف و التفرق و تارك الندب لا يمتنع من أمر لأن امر الندبي لا يقتضي شيئا اقتضاء اللزوم بل معناه إن فعلت فهو أولى و يجوز ألا تفعل فأي امتناع حدث إذا خولف أمر الندب سمي المخالف له عاصيا و يبين ذلك أيضا أن لفظ عاص اسم ذم فلا يجوز إطلاقه على تارك الندب كما لا يسمى فاسقا و إن كان الفسق في أصل اللغة للخروج. ثم يسأل المرتضى رحمه الله تعالى عما سأل عنه نفسه فيقال له كيف يجوز أن يكون ترك الندب معصية أ و ليس هذا يوجب أن يوصف الأنبياء بأنهم عصاة في كل حال و أنهم لا ينفكون عن المعصية لأنهم لا يكادون ينفكون من ترك الندب. و قد أجاب رحمه الله تعالى عن هذا فقال وصف تارك الندب بأنه عاص توسع و تجوز و المجاز لا يقاس عليه و لا يعدي عن موضعه و لو قيل إنه حقيقة في فاعل القبيح و تارك الأولى و الأفضل لم يجز إطلاقه في الأنبياء إلا مع التقييد لأن استعماله قد كثر في فاعل القبائح فإطلاقه عن التقييد موهم. لكنا نقول إن أردت بوصفهم بأنهم عصاة أنهم فعلوا القبيح فلا يجوز ذلك و إن أردت أنهم تركوا ما لو فعلوه لاستحقوا الثواب و لكان أولى فهم كذلك. كذلك يقال له ليس هذا من باب القياس على المجاز الذي اختلف فيه أرباب أصول الفقه لأن من قال إذا ترك زيد الندب فإنه يسمى عاصيا يلزمه أن يقول إن عمرا إذا ترك الندب يسمى عاصيا و ليس هذا قياسا كما أن من قال لزيد البليد هذا شرح نهج البلاغة ج : 7 ص : 16حمار قال لعمرو البليد هذا حمار و القياس على المجاز الذي اختلف الأصوليون في جوازه خارج عن هذا الموضع. و مثال المسألة الأصولية المختلف فيها وَ اخْفِضْ لَهُما جاحَ الذُّلِّ هل يجوز أن يقال طأطئ لهما عنق الذل. و أما قوله لو

(8/13)


سلمنا أنه حقيقة في تارك الندب لم يجز إطلاقه في حق الأنبياء لأنه يوهم العصيان بل يجب أن يقيد. فيقال له لكن البارئ سبحانه أطلقه و لم يقيده في قوله وَ عَصى آدَمُ فيلزمك أن يكون تعالى موهما و فاعلا للقبيح لأن إيهام القبيح قبيح. فإن قال الدلالة العقلية على استحالة المعاصي على الأنبياء تؤمن من الإيهام. قيل له و تلك الدلالة بعينها تؤمن من الإيهام في قول القائل الأنبياء عصاة فهلا أجزت إطلاق ذلك. و ثانيها أنه تعالى قال فَغَوى و الغي الضلال. قال المرتضى رحمه الله تعالى معنى غوى هاهنا خاب لأنه نعلم أنه لو فعل ما ندب إليه من ترك التناول من الشجرة لاستحق الثواب العظيم فإذا خالف الأمر و لم يصر إلى ما ندب إليه فقد خاب لا محالة من حيث لم يصر إلى الثواب الذي كان يستحقه بالامتناع و لا شبهه في أن لفظ غوى يحتمل الخيبة قال الشاعر
فمن يلق خيرا يحمد الناس أمره و من يغو لا يعدم على الغي لائما

(8/14)


شرح نهج البلاغة ج : 7 ص : 17يقال له أ لست القائل في مصنفاتك الكلامية إن المندوبات إنما ندب إليها لأنها كالمسهلات و الميسرات لفعل الواجبات العقلية و أنها ليست ألطافا في واجب عقلي و أن ثوابها يسير جدا بالإضافة إلى ثواب الواجب فإذا كان آدم ع ما أخل بشي ء الواجبات و لا فعل شيئا من المقبحات فقد استحق من الثواب العظيم ما يستحقر ثواب المندوب بالإضافة إليه و مثل هذا لا يقال فيه لمن ترك المندوب إنه قد خاب أ لا ترى أن من اكتسب مائة ألف قنطار من المال و ترك بعد ذلك درهما واحدا كان يمكنه اكتسابه فلم يكتسبه لا يقال إنه خاب. و ثالثها أن ظاهر القرآن يخالف ما ذكره لأنه تعالى أخبر أن آدم منهي عن أكل الشجرة بقوله وَ لا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونا مِنَ الظَّالِمِينَ و قوله أَ لَمْ أَنْهَكُما عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ و هذا يوجب أنه قد عصى بأن فعل منهيا عنه و الشريف المرتضى رحمه الله تعالى يقول إنه عصى بأن ترك مأمورا به. قال المرتضى رحمه الله تعالى مجيبا عن هذا إن الأمر و النهي ليسا يختصان عندنا بصيغة ليس فيها احتمال و اشتراك و قد يؤمر عندنا بلفظ النهي و ينهى بلفظ الأمر و إنما يكون النهي نهيا بكراهة المنهي عنه فإذا قال تعالى لا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ و لم يكره قربهما لم يكن في الحقيقة ناهيا كما أنه تعالى لما قال اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ وَ إِذا حَلَلْتُمْ فَاصْطادُوا و لم يرد ذلك لم يكن أمرا به و إذا كان قد صحب قوله لا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ إرادة ترك التناول وجب أن يكون هذا القول أمرا و إنما سماه منهيا و سمى شرح نهج البلاغة ج : 7 ص : 18أمره له بأنه نهي من حيث كان فيه معنى النهي لأن في النهي ترغيبا في الامتناع من الفعل و تزهيدا في الفعل نفسه و لما كان الأمر ترغيبا من فعل المأمور و تزهيدا في تركه جاز أن يسمى نه. و قد يتداخل هذان الوضعان في الشاهد فيقول أحدنا قد أمرت فلانا بألا

(8/15)


يلقى الأمير و إنما يريد أنه نهاه عن لقائه و يقول نهيتك عن هجر زيد و إنما معناه أمرتك بمواصلته. يقال له هذا خلاف الظاهر فلا يجوز المصير إليه إلا بدلالة قاطعة تصرف اللفظ عن ظاهره و يكفي أصحاب أبي هاشم في نصرة قولهم التمسك بالظاهر. و اعلم أن بعض أصحابنا تأول هذه الآية و قال إن ذلك وقع من آدم ع قبل نبوته لأنه لو كان نبيا قبل إخراجه من الجنة لكان إما أن يكون مرسلا إلى نفسه و هو باطل أو إلى حواء و قد كان الخطاب يأتيها بغير واسطة لقوله تعالى وَ لا تَقْرَبا أو إلى الملائكة و هذا باطل لأن الملائكة رسل الله بدليل قوله جاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلًا و الرسول لا يحتاج إلى رسول آخر أو يكون رسولا و ليس هناك من يرسل إليه و هذا محال فثبت أن هذه الواقعة وقعت له ع قبل نبوته و إرساله
الفصل الثالث في خطئهم في التبليغ و الفتاوي
قال أصحابنا إن الأنبياء معصومون من كل خطإ يتعلق بالأداء و التبليغ فلا يجوز شرح نهج البلاغة ج : 7 ص : 19عليهم الكذب و لا التغيير و لا التبديل و لا الكتمان و لا تأخر البيان عن وقت الحاجة و لا الغلط فيما يؤدونه عن الله تعالى و لا السهو فيه و لا الإلغاز و لالتعمية لأن كل ذلك إما أن ينقض دلالة المعجز على صدقه أو يؤدى إلى تكليف ما لا يطاق. و قال قوم من الكرامية و الحشوية يجوز عليهم الخطأ في أقوالهم كما جاز في أفعالهم قالوا و قد أخطأ رسول الله ص في التبليغ حيث قال
تلك الغرانيق العلا و إن شفاعتهن لترتجى

(8/16)


و قال قوم منهم يجوز الغلط على الأنبياء فيما لم تكن الحجة فيه مجرد خبرهم لأنه لا يكون في ذلك إبطال حجة الله على خلقه كما وقع من النبي ص في هذه الصورة فإن قوله ذلك ليس بمبطل لحجة العقل في أن الأصنام لا يجوز تعظيمها و لا ترجى شفاعتها فأما ما كان السبيل إليه مجرد السمع فلو أمكن الغلط فيه لبطلت الحجة بإخبارهم. و قال قوم منهم إن الأنبياء يجوز أن يخطئوا في أقوالهم و أفعالهم إذا لم تجر تلك الأفعال مجرى بيان الوحي كبيانه ع لنا الشريعة و لا يجوز عليه الخطأ في حال البيان و إن كان يجوز عليه ذلك في غير حال البيان كما روي من خبر ذي اليدين حين سها النبي ص في الصلاة و كذلك ما يكون منه من تبليغ وحي فإنه لا يجوز عليه أن يخطئ فيه لأنه حجة الله على عباده فأما في أقواله الخارجة عن التبليغ فيجوز شرح نهج البلاغة ج : 7 ص : 20أن يخطئ كما روي عنه ص في نهيه لأهل المدينة عن تأبير الن. فأما أصحابنا المعتزلة فإنهم اختلفوا في الخبر المروي عنه ع في سورة النجم فمنهم من دفع الخبر أصلا و لم يقبله و طعن في رواته و منهم من اعترف بكونه قرآنا منزلا و هم فريقان أحدهما القائلون بأنه كان وصفا للملائكة فلما ظن المشركون أنه وصف آلهتهم رفع و نهي عن تلاوته و ثانيهما القائلون إنه خارج على وجه الاستفهام بمعنى الإنكار فتوهم سامعوه أنه بمعنى التحقيق فنسخه الله تعالى و نهى عن تلاوته. و منهم من قال ليس بقرآن منزل بل هو كلام تكلم به رسول الله ص من قبل نفسه على طريق الإنكار و الهزء بقريش فظنوا أنه يريد التحقيق فنسخه الله بأن بين خطأ ظنهم و هذا معنى قوله وَ ما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَ لا نَبِيٍّ إِلَّا إِذا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آياتِهِ قالوا فإلقاء الشيطان هاهنا هو إلقاء الشبهة في قلوب المشركين و إنما أضافه إلى أمنيته و

(8/17)


هي تلاوته القرآن لأن بغرور الشيطان و وسوسته أضاف المشركون إلى تلاوته ع ما لم يرده بها. و أنكر أصحابنا الأخبار الواردة التي تقتضي الطعن علي الرسول ص قالوا و كيف يجوز أن تصدق هذه الأخبار الآحاد على من قد قال الله تعالى له كَذلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ و قال له سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى و قال عنه وَ لَوْ تَقَوَّلَ شرح نهج البلاغة ج : 7 ص : 21عَلَيْنا بَعْضَ الْأَقاوِيلِ لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ ثُمَّ لَقَطَعْنا مِنْهُ الْوَتِينَ و أما خ ذي اليدين و خبر تأبير النخل فقد تكلمنا عليهما في كتبنا المصنفة في أصول الفقه
وَ قَدَّرَ الْأَرْزَاقَ فَكَثَّرَهَا وَ قَلَّلَهَا وَ قَسَّمَهَا عَلَى الضِّيقِ وَ السَّعَةِ فَعَدَّلَ فِيهَا لِيَبْتَلِيَ مَنْ أَرَادَ بِمَيْسُورِهَا وَ مَعْسُورِهَا وَ لِيَخْتَبِرَ بِذَلِكَ الشُّكْرَ وَ الصَّبْرَ مِنْ غَنِيِّهَا وَ فَقِيرِهَا ثُمَّ قَرَنَ بِسَعَتِهَا عَقَابِيلَ فَاقَتِهَا وَ بِسَلَامَتِهَا طَوَارِقَ آفَاتِهَا وَ بِفُرَجِ أَفْرَاحِهَا غُصَصَ أَتْرَاحِهَا وَ خَلَقَ الآْجَالَ فَأَطَالَهَا وَ قَصَّرَهَا وَ قَدَّمَهَا وَ أَخَّرَهَا وَ وَصَلَ بِالْمَوْتِ أَسْبَابَهَا وَ جَعَلَهُ خَالِجاً لِأَشْطَانِهَا وَ قَاطِعاً لِمَرَائِرِ أَقْرَانِهَا
الضيق و الضيق لغتان فأما المصدر من ضاق فالضيق بالكسر لا غير و عدل فيها من التعديل و هو التقويم و روي فعدل بالتخفيف من العدل نقيض الظلم. و الميسور و المعسور مصدران و قال سيبويه هما صفتان و لا يجي ء عنده المصدر على وزن مفعول البتة و يتأول قولهم دعه إلى ميسوه و يقول كأنه قال دعه إلى أمر يوسر فيه و كذلك يتأول المعقول أيضا فيقول كأنه عقل له شي ء أي حبس و أيد و سدد. و معنى قوله ع ليبتلي من أراد بميسورها و معسورها هو معنى قول النبي ص إن إعطاء هذا المال فتنة و إمساكه فتنة

(8/18)


شرح نهج البلاغة ج : 7 ص : 22و العقابيل في الأصل الحلأ و هو قروح صغار تخرج بالشفة من بقايا المرض و الفاقة الفقر. و طوارق الآفات متجددات المصائب و أصل الطروق ما يأتي ليلا. و الأتراح الغموم الواحد ترح و ترحه تتريحا أي حزنه. و خالجا جاذبا و الخلج الجذب خلجهخلجه بالكسر و اختلجه و منه الخليج الحبل لأنه يجتذب به و سمى خليج البحر خليجا لأنه يجذب من معظم البحر. و الأشطان الجبال واحدها شطن و شطنت الفرس أشطنه إذا شددته بالشطن. و القرائن الحبال جمع قرن و هو من شواذ الجموع قال الشاعر
أبلغ خليفتنا إن كنت لاقيه أن لدى الباب كالمشدود في قرن
و مرائر القرائن جمع مرير و هو ما لطف و طال منها و اشتد فتله و هذا الكلام من باب الاستعارة

(8/19)


عَالِمُ السِّرِّ مِنْ ضَمَائِرِ الْمُضْمِرِينَ وَ نَجْوَى الْمُتَخَافِتِينَ وَ خَوَاطِرِ رَجْمِ الظُّنُونِ وَ عُقَدِ عَزِيمَاتِ الْيَقِينِ وَ مَسَارِقِ إِيمَاضِ الْجُفُونِ وَ مَا ضَمِنَتْهُ أَكْنَانُ الْقُلُوبِ وَ غَيَابَاتُ الْغُيُوبِ وَ مَا أَصْغَتْ لاسْتِرَاقِهِ مَصَائِخُ الْأَسْمَاعِ وَ مَصَايِفِ الذَّرِّ وَ مَشَاتِي الْهَوَامِّ وَ رَجْعِ الْحَنِينِ مِنَ الْمُولَهَاتِ وَ هَمْسِ الْأَقْدَامِ وَ مُنْفَسَحِ الثَّمَرَةِ مِنْ وَلَائِجِ غُلُفِ الْأَكْمَامِ وَ مُنْقَمَعِ الْوُحُوشِ مِنْ غِيرَانِ الْجِبَالِ وَ أَوْدِيَتِهَا وَ مُخْتَبَإِ الْبَعُوضِ بَيْنَ سُوقِ شرح نهج البلاغة ج : 7 ص : 23الْأَشْجَارِ وَ أَلْحِيَتِهَا وَ مَغْرِزِ الْأَوْرَاقِ مِنَ الْأَفْنَانِ وَ مَحَطِّ الْأَمْشَاجِ مِنْ مَسَارِبِ الْأَصْلَابِ وَ نَاشِئَةِ الْغُيُومِ وَ مُتَلَاحِمِهَا وَ دُرُِ قَطْرِ السَّحَابِ فِي مُتَرَاكِمِهَا وَ مَا تَسْفِي الْأَعَاصِيرُ بِذُيُولِهَا وَ تَعْفُو الْأَمْطَارُ بِسُيُولِهَا وَ عَوْمِ بَنَاتِ الْأَرْضِ فِي كُثْبَانِ الرِّمَالِ وَ مُسْتَقَرِّ ذَوَاتِ الْأَجْنِحَةِ بِذُرَا شَنَاخِيبِ الْجِبَالِ وَ تَغْرِيدِ ذَوَاتِ الْمَنْطِقِ فِي دَيَاجِيرِ الْأَوْكَارِ وَ مَا أَوْعَبَتْهُ الْأَصْدَافُ وَ حَضَنَتْ عَلَيْهِ أَمْوَاجُ الْبِحَارِ وَ مَا غَشِيَتْهُ سُدْفَةُ لَيْلٍ أَوْ ذَرَّ عَلَيْهِ شَارِقُ نَهَارٍ وَ مَا اعْتَقَبَتْ عَلَيْهِ أَطْبَاقُ الدَّيَاجِيرِ وَ سُبُحَاتُ النُّورِ وَ أَثَرِ كُلِّ خَطْوَةٍ وَ حِسِّ كُلِّ حَرَكَةٍ وَ رَجْعِ كُلِّ كَلِمَةٍ وَ تَحْرِيكِ كُلِّ شَفَةٍ وَ مُسْتَقَرِّ كُلِّ نَسَمَةٍ وَ مِثْقَالِ كُلِّ ذَرَّةٍ وَ هَمَاهِمِ كُلِّ نَفْسٍ هَامَّةٍ وَ مَا عَلَيْهَا مِنْ ثَمَرِ شَجَرَةٍ أَوْ سَاقِطِ وَرَقَةٍ أَوْ قَرَارَةِ نُطْفَةٍ أَوْ نُقَاعَةِ دَمٍ وَ مُضْغَةٍ أَوْ

(8/20)


نَاشِئَةِ خَلْقٍ وَ سُلَالَةٍ لَمْ يَلْحَقْهُ فِي ذَلِكَ كُلْفَةٌ وَ لَا اعْتَرَضَتْهُ فِي حِفْظِ مَا ابْتَدَعَ مِنْ خَلْقِهِ عَارِضَةٌ وَ لَا اعْتَوَرَتْهُ فِي تَنْفِيذِ الْأُمُورِ وَ تَدَابِيرِ الْمَخْلُوقِينَ مَلَالَةٌ وَ لَا فَتْرَةٌ بَلْ نَفَذَهُمْ عِلْمُهُ وَ أَحْصَاهُمْ عَدَدُهُ وَ وَسِعَهُمْ عَدْلُهُ وَ غَمَرَهُمْ فَضْلُهُ مَعَ تَقْصِيرِهِمْ عَنْ كُنْهِ مَا هُوَ أَهْلُهُ
لو سمع النضر بن كنانة هذا الكلام لقال لقائله ما قاله علي بن العباس بن جريج لإسماعيل بن بلبل
قالوا أبو الصقر من شيبان قلت لهم كلا و لكن لعمري منه شيبان و كم أب قد علا بابن ذرا شرف كما علا برسول الله عدنانإذ كان يفخر به على عدنان و قحطان بل كان يقر به عين أبيه إبراهيم خليل الرحمن شرح نهج البلاغة ج : 7 ص : 24و يقول له إنه لم يعف ما شيدت من معالم التوحيد بل أخرج الله تعالى لك من ظهري ولدا ابتدع من علوم التوحيد في جاهلية العرب ما لم تبتدعه أنت في جاهلية النببل لو سمع هذا الكلام أرسطوطاليس القائل بأنه تعالى لا يعلم الجزئيات لخشع قلبه و قف شعره و اضطرب فكره أ لا ترى ما عليه من الرواء و المهابة و العظمة و الفخامة و المتانة و الجزالة مع ما قد أشرب من الحلاوة و الطلاوة و اللطف و السلاسة لا أرى كلاما يشبه هذا إلا أن يكون كلام الخالق سبحانه فإن هذا الكلام نبعة من تلك الشجرة و جدول من ذلك البحر و جذوة من تلك النار و كأنه شرح قوله تعالى وَ عِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُها إِلَّا هُوَ وَ يَعْلَمُ ما فِي الْبَرِّ وَ الْبَحْرِ وَ ما تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُها وَ لا حَبَّةٍ فِي ظُلُماتِ الْأَرْضِ وَ لا رَطْبٍ وَ لا يابِسٍ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ. ثم نعود إلى التفسير فنقول النجوى المسارة تقول انتجى القوم و تناجوا أي تساروا و انتجيت زيدا إذا خصصته بمناجاتك

(8/21)


و منه الحديث أنه ص أطال النجوى مع علي ع فقال قوم لقد أطال اليوم نجوى ابن عمه فبلغه ذلك فقال إني ما انتجيته و لكن الله انتجاه
و يقال للسر نفسه النجو يقال نجوته نجوا أي ساررته و كذلك ناجيته مناجاة و سمي ذلك الأمر المخصوص نجوى لأنه يستسر به فأما قوله تعالى وَ إِذْ هُمْ نَجْوى فجعلهم هم النجوى و إنما النجوى فعلهم فإنما هو كقولك قوم رضا و إنما الرضا فعلهم و يقال للذي تساره النجي على فعيل و جمعه أنجيه قال الشاعر شرح نهج البلاغة ج : 7 ص : 2إني إذا ما القوم كانوا أنجيه
و قد يكون النجي جماعة مثل الصديق قال الله تعالى خَلَصُوا نَجِيًّا و قال الفراء قد يكون النجي و النجوى اسما و مصدرا. و المتخافتين الذين يسرون المنطق و هي المخافتة و التخافت و الخفت قال الشاعر
أخاطب جهرا إذ لهن تخافت و شتان بين الجهر و المنطق الخفت
و رجم الظنون القول بالظن قال سبحانه رَجْماً بِالْغَيْبِ و منه الحديث المرجم بالتشديد و هو الذي لا يدرى أ حق هو أم باطل و يقال صار رجما أي لا يوقف على حقيقة أمره. و عقد عزيمات اليقين العزائم التي يعقد القلب عليها و تطمئن النفس إليها. و مسارق إيماض الجفون ما تسترقه الأبصار حين تومض يقال أومض البصر و البرق إيماضا إذا لمع لمعا خفيفا و يجوز ومض بغير همز يمض ومضا و وميضا و ومضانا و أكنان القلوب غلفها و الكن الستر و الجمع أكنان قال تعالى جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبالِ أَكْناناً و يروى أكنة القلوب و هي الأغطية أيضا قال تعالى وَ جَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً و الواحد كنان قال عمر بن أبي ربيعة شرح نهج البلاغة ج : 7 ص : 2تحت عين كناننا ظل برد مرحل

(8/22)


و يعني بالذي ضمنته أكنان القلوب الضمائر. و غيابات الغيوب جمع غيابة و هي قعر البئر في الأصل ثم نقلت إلى كل غامض خفي مثل غيابة و قد روي غبابات بالباء. و أصغت تسمعت و مالت نحوه و لاستراقه لاستماعه في خفيه قال تعالى إِلَّا مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ. و مصائخ الأسماع خروقها التي يصيخ بها أي يتسمع. و مصايف الذر المواضع التي يصيف الذر فيها أي يقيم الصيف يقال صاف بالمكان و اصطاف بمعنى و الموضع مصيف و مصطاف. و الذر جمع ذرة و هي أصغر النمل. و مشاتي الهوام المواضع التي تشتو الهوام بها يقال شتوت بموضع كذا و تشتيت أي أقمت به الشتاء. و الهوام جمع هامة و لا يقع هذا الاسم إلا على المخوف من الأحناش. شرح نهج البلاغة ج : 7 ص : 27و رجع الحنين ترجيعه و ترديده و المولهات النوق و النساء اللواتي حيل بينهن و بين أولادهن. و همس الأقدام صوت وطئها خفيا جدا قال تعالى فَلا تَسْمَعُ إِلَّهَمْساً و منه قول الراجز.
فهن يمشين بنا هميسا

(8/23)


و الأسد الهموس الخفي الوطء. و منفسح الثمرة أي موضع سعتها من الأكمام و قد روي متفسخ بالخاء المعجمة و تشديد السين و بتاء بعد الميم مصدرا من تفسخت الثمرة إذا انقطعت. و الولائج المواضع الساترة و الواحدة وليجة و هو كالكهف يستتر فيه المارة من مطر أو غيره و يقال أيضا في جمعه ولج و أولاج. و متقمع الوحوش موضع تقمعها و استتارها و سمي قمعة بن إلياس بن مضر بذلك لأنه انقمع في بيته كما زعموا. و غيران الجبال جمع غار و هو كالكهف في الجبل و المغار مثل الغار و المغارة مثله. و مختبأ البعوض موضع اختبائها و استتارها و سوق الأشجار جمع ساق و ألحيتها جمع لحاء و هو القشر. و مغرز الأوراق موضع غرزها فيها. شرح نهج البلاغة ج : 7 ص : 28و الأفنان جمع فنن و هو الغصن و الأمشاج ماء الرجل يختلط بماء المرأة و دمها جمع مشيج كيتيم و أيتام و محطها إما مصدر أو مكان. و مسارب الأصلاب المواضع التي سرب المني فيها من الصلب أي يسيل. و ناشئة الغيوم أول ما ينشأ منها و هو النشي ء أيضا و ناشئة الليل في قوله تعالى إِنَّ ناشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئاً أول ساعاته و يقال هي ما ينشأ في الليل من الطاعات و متلاحمها ما يلتصق منها بعضها ببعض و يلتحم. و درر قطر السحائب مصدر من در يدر أي سال و ناقة درور أي كثيرة اللبن و سحاب درور أي كثير المطر و يقال إن لهذا السحاب لدرة أي صبا و الجمع درور و متراكمها المجتمع المتكاثف منها ركمت الشي ء أركمه بالضم جمعته و ألقيت بعضه على بعض و رمل ركام و سحاب ركام أي مجتمع. و لأعاصير جمع إعصار و هي ريح تثير الغبار فيرتفع إلى السماء كالعمود و قال تعالى فَأَصابَها إِعْصارٌ فِيهِ نارٌ. و تسفي من سفت الريح التراب سفيا إذا أذرته فهو سفي و ذيولها هاهنا يريد به أطرافها و ما لاحف الأرض منها. و ما تعفو الأمطار أي ما تدرس عفت الريح المنزل أي درسته و عفا المنزل نفسه يعفو درس يتعدى و لا يتعدى. و بنات

(8/24)


الأرض الهوام و الحشرات التي تكون في الرمال و عومها فيها سباحتها و يقال لسير السفينة و سير الإبل أيضا عوم عمت في الماء بضم أوله أعوم. شرح نهج البلاغة ج : 7 ص : 29و كثبان الرمال جمع كثيب و هو مانصب من الرمل و اجتمع في مكان واحد فصار تلا و كثبت الشي ء أكثبه كثبا إذا جمعته و انكثب الرمل اجتمع. و شناخيب الجبال رءوسها واحدها شنخوب و ذراها أعاليها جمع ذروة و ذروة بالكسر و الضم. و التغريد التطريب بالغناء و التغرد مثله و كذلك الغرد بفتحهما و يقال غرد لطائر فهو غرد إذا طرب بصوته. و ذوات المنطق هاهنا الأطيار و سمي صوتها منطقا و إن كان لا يطلق إلا على ألفاظ البشر مجازا. و دياجير جمع ديجور و هو الظلام و الأوكار جمع وكر و هو عش الطائر و يجمع أيضا على وكور و وكر الطائر يكر وكرا أي دخل وكره. و قوله و ما أوعبته الأصداف أي من اللؤلؤ و حضنت عليه أمواج البحار أي ما ضمته كما تحضن الأنثى من الطير بيضها و هو ما يكون في لجة إما من سمك أو خشب أو ما يحمله البحر من العنبر كالجماجم بين الأمواج و غير ذلك. و سدفة الليل ظلمته و جاء بالفتح و قيل السدفة اختلاط الضوء و الظلمة معا كوقت ما بين طلوع الفجر إلى الإسفار. و غشيته غطته و ذر عليه شارق نهار أي ما طلعت عليه الشمس و ذرت الشمس تذر بالضم ذرورا طلعت و ذر البقل إذا طلع من الأرض. و شرقت الشمس طلعت و أشرقت بالهمزة إذا أضاءت و صفت. و اعتقبت تعاقبت و أطباق الدياجير أطباق الظلم و أطباقها جمع طبقة أي

(8/25)


شرح نهج البلاغة ج : 7 ص : 30أغطيتها أطبقت الشي ء أي غطيته و جعلته مطبقا و قد تطبق هو و منه قولهم لو تطبقت السماء على الأرض لما فعلت كذا و سبحات النور عطف على أطباق الدياجير أي يعلم سبحانه ما تعاقب عليه الظلام و الضياء و سبحات هاهنا ليس يعني به ما يعنى له سبحان وجه ربنا لأنه هناك بمعنى ما يسبح عليه النور أي يجرى من سبح الفرس و هو جريه و يقال فرس سابح. و الخطوة ما بين القدمين بالضم و خطوت خطوة بالفتح لأنه المصدر. و رجع كل كلمة ما ترجع به من الكلام إلى نفسك و تردده في فكرك. و النسمة الإنسان نفسه و جمعها نسم و مثقال كل ذرة أي وزن كل ذرة و مما يخطئ فيه العامة قولهم للدينار مثقال و إنما المثقال وزن كل شي ء قال تعالى إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقالَ ذَرَّةٍ. و هماهم كل نفس هامة الهماهم جمع همهمة و هي ترديد الصوت في الصدر و حمار همهيم يهمهم في صوته و همهمت الرأة في رأس الصبي و ذلك إذا نومته بصوت ترققه له و النفس الهامة ذات الهمة التي تعزم على الأمر. قوله و ما عليها أي ما على الأرض فجاء بالضمير و لم يسبق ذكر صاحبه اعتمادا على فهم المخاطب كما قال تعالى كُلُّ مَنْ عَلَيْها فانٍ. و قرارة النطفة ما يستقر فيه الماء من الأماكن قال الشاعر
و أنتم قرارة كل معدن سوءة و لكل سائلة تسيل قرار
و النطفة الماء نفسه و منه قوله ع في الخوارج إن مصارعهم النطفة

(8/26)


أي لا يعبرون النهر و يجوز أن يريد بالنطفة المني و يقويه ما ذكره بعده من المضغة. شرح نهج البلاغة ج : 7 ص : 31و النقاعة نقرة يجتمع فيها الدم و مثله أنقوعة و يقال لوقبة الثريد أنقوعة. و المضغة قطعة اللحم و السلالة في الأصل ما استل من الشي ء و سميت النطفة سة الإنسان لأنها استلت منه و كذلك الولد. و الكلفة المشقة و اعتورته مثل عرته و نفذهم علمه تشبيه بنفوذ السهم و عدي الفعل بنفسه و إن كان معدى في الأصل بحرف الجر كقولك اخترت الرجال زيدا أي من الرجال كأنه جعل علمه تعالى خارقا لهم و نافذا فيهم و يروى و أحصاهم عده بالتضعيف

(8/27)


اللَّهُمَّ أَنْتَ أَهْلُ الْوَصْفِ الْجَمِيلِ وَ التَّعْدَادِ الْكَثِيرِ إِنْ تُؤَمَّلْ فَخَيْرُ مَأْمُولٍ وَ إِنْ تُرْجَ فَخَيْرُ مَرْجُوٍّ اللَّهُمَّ فَقَدْ بَسَطْتَ لِي فِيمَا لَا أَمْدَحُ بِهِ غَيْرَكَ وَ لَا أُثْنِي بِهِ عَلَى أَحَدٍ سِوَاكَ وَ لَا أُوَجِّهُهُ إِلَى مَعَادِنِ الْخَيْبَةِ وَ مَوَاضِعِ الرِّيبَةِ وَ عَدَلْتَ بِلِسَانِي عَنْ مَدَائِحِ الآْدَمِيِّينَ وَ الثَّنَاءِ عَلَى الْمَرْبُوبِينَ الْمَخْلُوقِينَ اللَّهُمَّ وَ لِكُلِّ مُثْنٍ عَلَى مَنْ أَثْنَى عَلَيْهِ مَثُوبَةٌ مِنْ جَزَاءٍ أَوْ عَارِفَةٌ مِنْ عَطَاءٍ وَ قَدْ رَجَوْتُكَ دَلِيلًا عَلَى ذَخَائِرِ الرَّحْمَةِ وَ كُنُوزِ الْمَغْفِرَةِ اللَّهُمَّ وَ هَذَا مَقَامُ مَنْ أَفْرَدَكَ بِالتَّوْحِيدِ الَّذِي هُوَ لَكَ وَ لَمْ يَرَ مُسْتَحِقّاً لِهَذِهِ الْمَحَامِدِ وَ الْمَمَادِحِ غَيْرَكَ وَ بِي فَاقَةٌ إِلَيْكَ لَا يَجْبُرُ مَسْكَنَتَهَا إِلَّا فَضْلُكَ وَ لَا يَنْعَشُ مِنْ خَلَّتِهَا إِلَّا مَنُّكَ وَ جُودُكَ فَهَبْ لَنَا فِي هَذَا الْمَقَامِ رِضَاكَ وَ أَغْنِنَا عَنْ مَدِّ الْأَيْدِي إِلَى سِوَاكَ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ شرح نهج البلاغة ج : 7 ص : 32التعداد مصدر و خير خبر مبتدإ محذوف تقديره فأنت خير مأمول. و معنى قوله قد بسطت لي أي قد آتيتني لسنا و فصاحة و سعة منطق فلا أمدح غيرك و لا أحمد سواك. و يعني بمعادن الخيبة البشر لأن مادحهم و مؤملهم يخيب في الأكثر و جعلهم مواضع ايبة لأنهم لا يوثق بهم في حال. و معنى قوله ع و قد رجوتك دليلا على ذخائر الرحمة و كنوز المغفرة أنه راج منه أن يدله على الأعمال التي ترضيه سبحانه و يستوجب بها منه الرحمة و المغفرة و كأنه جعل تلك الأعمال التي يرجو أن يدل عليها ذخائر للرحمة و كنوزا. و الفاقة الفقر و كذلك المسكنة. و ينعش بالفتح يرفع و الماضي نعش و منه النعش لارتفاعه و

(8/28)


المن العطاء و النعمة و المنان من أسماء الله سبحانه
شرح نهج البلاغة ج : 7 ص : 9133- و من كلام له ع لما أراده الناس على البيعة بعد قتل عثمان رضي الله عنهدَعُونِي وَ الْتَمِسُوا غَيْرِي فَإِنَّا مُسْتَقْبِلُونَ أَمْراً لَهُ وُجُوهٌ وَ أَلْوَانٌ لَا تَقُومُ لَهُ الْقُلُوبُ وَ لَا تَثْبُتُ عَلَيْهِ الْعُقُولُ وَ إِنَّ الآْفَاقَ قَدْ أَغَامَتْ وَ الْمَحَجَّةَ قَدْ تَنَكَّرَتْ. وَ اعْلَمُوا أَنِّي إِنْ أَجَبْتُكُمْ رَكِبْتُ بِكُمْ مَا أَعْلَمُ وَ لَمْ أُصْغِ إِلَى قَوْلِ الْقَائِلِ وَ عَتْبِ الْعَاتِبِ وَ إِنْ تَرَكْتُمُونِي فَأَنَا كَأَحَدِكُمْ وَ لَعَلِّي أَسْمَعُكُمْ وَ أَطْوَعُكُمْ لِمَنْ وَلَّيْتُمُوهُ أَمْرَكُمْ وَ أَنَا لَكُمْ وَزِيراً خَيْرٌ لَكُمْ مِنِّي أَمِيراً

(8/29)


في أكثر النسخ لما اراده الناس على البيعة و وجدت في بعضها أداره الناس على البيعة فمن روى الأول جعل على متعلقة بمحذوف و تقديره موافقا و من روى الثاني جعلها متعلقة بالفعل الظاهر نفسه و هو أداره تقول أدرت فلانا على كذا و داورت فلانا على كذا أي عالجته. و لا تقوم له القلوب أي لا تصبر و أغامت الآفاق غطاها الغيم أغامت و غامت و أغيمت و تغيمت كله بمعنى و المحجة الطريق و تنكرت جهلت فلم تعرف و وزيرا و أميرا منصوبان على الحال. و هذا الكلام يحمله أصحابنا على ظاهره و يقولون إنه ع لم يكن منصوصا شرح نهج البلاغة ج : 7 ص : عليه بالإمامة من جهة الرسول ص و إن كان أولى الناس بها و أحقهم بمنزلتها لأنه لو كان منصوصا عليه بالإمامة من جهة الرسول ع لما جاز له أن يقول دعوني و التمسوا غيري و لا أن يقول و لعلي أسمعكم و أطوعكم لمن وليتموه أمركم و لا أن يقول و أنا لكم وزيرا خير مني لكم أميرا و تحمله الإمامية على وجه آخر فيقولون إن الذين أرادوه على البيعة هم كانوا العاقدين بيعة الخلفاء من قبل و قد كان عثمان منعهم أو منع كثيرا منهم عن حقه من العطاء لأن بني أمية استأصلوا الأموال في أيام عثمان فلما قتل قالوا لعلي ع نبايعك على أن تسير فينا سيرة أبي بكر و عمر لأنهما كانا لا يستأثران بالمال لأنفسهما و لا لأهلهما فطلبوا من علي ع البيعة على أن يقسم عليهم بيوت الأموال قسمة أبي بكر و عمر فاستعفاهم و سألهم أن يطلبوا غيره ممن يسير بسيرتهما و قال لهم كلاما تحته رمز و هو قوله إنا مستقبلون أمرا له وجوه و ألوان لا تقوم له القلوب و لا تثبت عليه العقول و إن الآفاق قد أغامت و المحجة قد تنكرت. قالوا و هذا كلام له باطن و غور عميق معناه الإخبار عن غيب يعلمه هو و يجهلونه هم و هو الإنذار بحرب المسلمين بعضهم لبعض و اختلاف الكلمة و ظهور الفتنة. و معنى قوله له وجوه و ألوان أنه موضع شبهة و تأويل فمن قائل يقول أصاب علي و من قائل يقول

(8/30)


أخطأ و كذلك القول في تصويب محاربيه من أهل الجمل و صفين و النهروان و تخطئتهم فإن المذاهب فيه و فيهم تشعبت و تفرقت جدا. و معنى قوله الآفاق قد أغامت و المحجة قد تنكرت أن الشبهة قد استولت على العقول و القلوب و جهل أكثر الناس محجة الحق أين هي فأنا لكم وزيرا عن رسول الله ص أفتي فيكم بشريعته و أحكامه خير لكم مني أميرا محجورا عليه شرح نهج البلاغة ج : 7 ص : 35مدبرا بتدبيركم فإني أعلم أنه لا قدرة لي أن أسير فيكم بسيرة رسول الله ص في أصحابه مستقلا بالبير لفساد أحوالكم و تعذر صلاحكم. و قد حمل بعضهم كلامه على محمل آخر فقال هذا كلام مستزيد شاك من أصحابه يقول لهم دعوني و التمسوا غيري على طريق الضجر منهم و التبرم بهم و التسخط لأفعالهم لأنهم كانوا عدلوا عنه من قبل و اختاروا عليه فلما طلبوه بعد أجابهم جواب المتسخط العاتب. و حمل قوم منهم الكلام على وجه آخر فقالوا إنه أخرجه مخرج التهكم و السخرية أي أنا لكم وزيرا خير مني لكم أميرا فيما تعتقدونه كما قال سبحانه ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ أي تزعم لنفسك ذلك و تعتقده. و اعلم أن ما ذكروه ليس ببعيد أن يحمل الكلام عليه لو كان الدليل قد دل على ذلك فأما إذا لم يدل عليه دليل فلا يجوز صرف اللفظ عن ظاهره و نحن نتمسك بالظاهر إلا أن تقوم دلالة على مذهبهم تصدنا عن حمل اللفظ عن ظاهره و لو جاز أن تصرف الألفاظ عن ظواهرها لغير دليل قاهر يصدف و يصد عنها لم يبق وثوق بكلام الله عز و جل و بكلام رسوله ع و قد ذكرنا فيما تقدم كيفية الحال التي كانت بعد قتل عثمان و البيعة العلوية كيف وقعت
فصل فيما كان من أمر طلحة و الزبير عند قسم المال

(8/31)


و نحن نذكر هاهنا في هذه القصة ما ذكره شيخنا أبو جعفر الإسكافي في كتابه شرح نهج البلاغة ج : 7 ص : 36الذي نقض فيه كتاب العثمانية لشيخنا أبي عثمان فإن الذي ذكره لم نورده نحن فيما تقدم. قال أبو جعفر لما اجتمعت الصحابة في مسجد رسول الله ص بعد قتل عثمان للنظر أمر الإمامة أشار أبو الهيثم بن التيهان و رفاعة بن رافع و مالك بن العجلان و أبو أيوب الأنصاري و عمار بن ياسر بعلي ع و ذكروا فضله و سابقته و جهاده و قرابته فأجابهم الناس إليه فقام كل واحد منهم خطيبا يذكر فضل علي ع فمنهم من فضله على أهل عصره خاصة و منهم من فضله على المسلمين كلهم كافة ثم بويع و صعد المنبر في اليوم الثاني من يوم البيعة و هو يوم السبت لإحدى عشرة ليلة بقين من ذي الحجة فحمد الله و أثنى عليه و ذكر محمدا فصلى عليه ثم ذكر نعمة الله على أهل الإسلام ثم ذكر الدنيا فزهدهم فيها و ذكر الآخرة فرغبهم إليها

(8/32)


ثم قال أما بعد فإنه لما قبض رسول الله ص استخلف الناس أبا بكر ثم استخلف أبو بكر عمر فعمل بطريقه ثم جعلها شورى بين ستة فأفضي الأمر منهم إلى عثمان فعمل ما أنكرتم و عرفتم ثم حصر و قتل ثم جئتموني طائعين فطلبتم إلي و إنما أنا رجل منكم لي ما لكم و علي ما عليكم و قد فتح الله الباب بينكم و بين أهل القبلة و أقبلت الفتن كقطع الليل المظلم و لا يحمل هذا الأمر إلا أهل الصبر و البصر و العلم بمواقع الأمر و إني حاملكم على منهج نبيكم ص و منفذ فيكم ما أمرت به إن استقمتم لي و بالله المستعان ألا إن موضعي من رسول الله ص بعد وفاته كموضعي منه أيام حياته فامضوا لما تؤمرون به و قفوا عند ما تنهون عنه و لا تعجلوا في أمر حتى نبينه لكم فإن لنا عن كل أمر تنكرونه عذرا ألا و إن الله عالم من فوق سمائه و عرشه أني كنت كارها للولاية على أمة محمد حتى اجتمع رأيكم على ذلك لأني سمعت رسول الله ص يقول أيما وال ولي الأمر من بعدي أقيم على حد الصراط شرح نهج البلاغة ج : 7 ص : 37و نشرت الملائكة صحيفته فإن كان عادلا أنجاه الله بعدله و إن كان جائرا انتفض به الصراط حتى تتزايل مفاصله ثم يهوى إلى النار فيكون أول ما يتقيها به أنفه و حر وجهه و لكني لما اجتمع ركم لم يسعني ترككم ثم التفت ع يمينا و شمالا فقال ألا لا يقولن رجال منكم غدا قد غمرتهم الدنيا فاتخذوا العقار و فجروا الأنهار و ركبوا الخيول الفارهة و اتخذوا الوصائف الروقة فصار ذلك عليهم عارا و شنارا إذا ما منعتهم ما كانوا يخوضون فيه و أصرتهم إلى حقوقهم التي يعلمون فينقمون ذلك و يستنكرون و يقولون حرمنا ابن أبي طالب حقوقنا ألا و أيما رجل من المهاجرين و الأنصار من أصحاب رسول الله ص يرى أن الفضل له على من سواه لصحبته فإن الفضل النير غدا عند الله و ثوابه و أجره على الله و أيما رجل استجاب لله و للرسول فصدق ملتنا و دخل في ديننا و استقبل قبلتنا فقد استوجب حقوق الإسلام و حدوده

(8/33)


فأنتم عباد الله و المال مال الله يقسم بينكم بالسوية لا فضل فيه لأحد على أحد و للمتقين عند الله غدا أحسن الجزاء و أفضل الثواب لم يجعل الله الدنيا للمتقين أجرا و لا ثوابا و ما عند الله خير للأبرار و إذا كان غدا إن شاء الله فاغدوا علينا فإن عندنا مالا نقسمه فيكم و لا يتخلفن أحد منكم عربي و لا عجمي كان من أهل العطاء أو لم يكن إلا حضر إذا كان مسلما حرا أقول قولي هذا و أستغفر الله لي و لكم ثم نزل
قال شيخنا أبو جعفر و كان هذا أول ما أنكروه من كلامه ع و أورثهم الضغن عليه و كرهوا إعطاءه و قسمه بالسوية فلما كان من الغد غدا و غدا الناس لقبض المال فقال لعبيد الله بن أبي رافع كاتبه ابدأ بالمهاجرين فنادهم و أعط كل شرح نهج البلاغة ج : 7 ص : 38رجل ممن حضر اثة دنانير ثم ثن بالأنصار فافعل معهم مثل ذلك و من يحضر من الناس كلهم الأحمر و الأسود فاصنع به مثل ذلك. فقال سهل بن حنيف يا أمير المؤمنين هذا غلامي بالأمس و قد أعتقته اليوم فقال نعطيه كما نعطيك فأعطى كل واحد منهما ثلاثة دنانير و لم يفضل أحدا على أحد و تخلف عن هذا القسم يومئذ طلحة و الزبير و عبد الله بن عمر و سعيد بن العاص و مروان بن الحكم و رجال من قريش و غيرها. قال و سمع عبيد الله بن أبي رافع عبد الله بن الزبير يقول لأبيه و طلحة و مروان و سعيد ما خفي علينا أمس من كلام علي ما يريد فقال سعيد بن العاص و التفت إلى زيد بن ثابت إياك أعني و اسمعي يا جارة فقال عبيد الله بن أبي رافع لسعيد و عبد الله بن الزبير إن الله يقول في كتابه وَ لكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كارِهُونَ. ثم إن عبيد الله بن أبي رافع أخبر عليا ع بذلك فقال و الله إن بقيت و سلمت لهم لأقيمنهم على المحجة البيضاء و الطريق الواضح قاتل الله ابن العاص لقد عرف من كلامي و نظري إليه أمس أني أريده و أصحابه ممن هلك فيمن هلك. قال فبينا الناس في المسجد بعد الصبح إذ طلع الزبير و طلحة فجلسا

(8/34)


ناحية عن علي ع ثم طلع مروان و سعيد و عبد الله بن الزبير فجلسوا إليهما ثم جاء قوم من قريش فانضموا إليهم فتحدثوا نجيا ساعة ثم قام الوليد بن عقبة بن أبي معيط فجاء إلى علي ع فقال يا أبا الحسن إنك قد وترتنا جميعا أما أنا فقتلت أبي يوم بدر صبرا و خذلت أخي يوم الدار بالأمس و أما سعيد فقتلت أباه يوم بدر في الحرب و كان ثور قريش و أما مروان فسخفت أباه عند عثمان إذ ضمه إليه و نحن إخوتك شرح نهج البلاغة ج : 7 ص : 39و نظراؤك من بني عبد مناف و نحن نبايعك اليوم على أن تضع عنا ما أصبناه من المال في أيام عثمان و أن تقتل قتلته و إنا إن خفناك تركناك فالتحقنا بالشام. فقال أما ما ذكرتم من وتري إياكم فالحق وتركم و أما وضعي عنكم ما أصبتم فليس لي أن أضع حق الله عنكم و لا عن غيركم و أما قتلي قتلة عثمان فلو لزمني قتلهم اليوم لقتلتهم أمس و لكن لكم علي إن خفتموني أن أؤمنكم و إن خفتكم أن أسيركم
فقام الوليد إلى أصحابه فحدثهم و افترقوا على إظهار العداوة و إشاعة الخلاف فلما ظهر ذلك من أمرهم قال عمار بن ياسر لأصحابه قوموا بنا إلى هؤلاء النفر من إخوانكم فإنه قد بلغنا عنهم و رأينا منهم ما نكره من الخلاف و الطعن على إمامهم و قد دخل أهل الجفاء بينهم و بين الزبير و الأعسر العاق يعني طلحة. فقام أبو الهيثم و عمار و أبو أيوب و سهل بن حنيف و جماعة معهم فدخلوا على علي ع فقالوا يا أمير المؤمنين انظر في أمرك و عاتب قومك هذا الحي من قريش فإنهم قد نقضوا عهدك و أخلفوا وعدك و قد دعونا في السر إلى رفضك هداك الله لرشدك و ذاك لأنهم كرهوا الأسوة و فقدوا الأثرة و لما آسيت بينهم و بين الأعاجم أنكروا و استشاروا عدوك و عظموه و أظهروا الطلب بدم عثمان فرقة للجماعة و تألفا لأهل الضلالة فرأيك. فخرج علي ع فدخل المسجد و صعد المنبر مرتديا بطاق مؤتزرا ببرد قطري متقلدا سيفا متوكئا على قوس

(8/35)


فقال أما بعد فإنا نحمد الله ربنا و إلهنا و ولينا و ولي النعم علينا الذي أصبحت نعمه علينا ظاهرة و باطنة امتنانا منه بغير حول منا و لا قوة ليبلونا أ نشكر أم نكفر فمن شكر زاده و من كفر عذبه فأفضل الناس عند الله منزلة و أقربهم من الله وسيلة أطوعهم لأمره
شرح نهج البلاغة ج : 7 ص : 40و أعملهم بطاعته و أتبعهم لسنة رسوله و أحياهم لكتابه ليس لأحد عندنا فضل إلا بطاعة الله و طاعة الرسول هذا كتاب الله بين أظهرنا و عهد رسول الله و سيرته فينا لا يجهل ذلك إلا جاهل عاند عن الحق منكر قال الله تعالى يا أَيُّهَا النَُّ إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَ أُنْثى وَ جَعَلْناكُمْ شُعُوباً وَ قَبائِلَ لِتَعارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقاكُمْ ثم صاح بأعلى صوته أَطِيعُوا اللَّهَ وَ أطيعوا الرَّسُولَ فإن توليتم فَإِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْكافِرِينَ ثم قال يا معشر المهاجرين و الأنصار أ تمنون على الله و رسوله بإسلامكم بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَداكُمْ لِلْإِيمانِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ ثم قال أنا أبو الحسن و كان يقولها إذا غضب ثم قال ألا إن هذه الدنيا التي أصبحتم تمنونها و ترغبون فيها و أصبحت تغضبكم و ترضيكم ليست بداركم و لا منزلكم الذي خلقتم له فلا تغرنكم فقد حذرتكموها و استتموا نعم الله عليكم بالصبر لأنفسكم على طاعة الله و الذل لحكمه جل ثناؤه فأما هذا الفي ء فليس لأحد على أحد فيه أثرة و قد فرغ الله من قسمته فهو مال الله و أنتم عباد الله المسلمون هذا كتاب الله به أقررنا و له أسلمنا و عهد نبينا بين أظهرنا فمن لم يرض به فليتول كيف شاء فإن العامل بطاعة الله و الحاكم بحكم الله لا وحشة عليه ثم نزل عن المنبر فصلى ركعتين ثم بعث بعمار بن ياسر و عبد الرحمن بن حنبل القرشي إلى طلحة و الزبير و هما في ناحية المسجد فأتياهما فدعواهما فقاما حتى جلسا إليه ع فقال لهما نشدتكما الله هل

(8/36)


جئتماني طائعين للبيعة و دعوتماني إليها و أنا كاره لها قالا نعم فقال غير مجبرين و لا مقسورين فأسلمتما لي بيعتكما و أعطيتماني عهدكما شرح نهج البلاغة ج : 7 ص : 41قالا نعم قال فما دعاكما د إلى ما أرى قالا أعطيناك بيعتنا على ألا تقضي الأمور و لا تقطعها دوننا و أن تستشيرنا في كل أمر و لا تستبد بذلك علينا و لنا من الفضل على غيرنا ما قد علمت فأنت تقسم القسم و تقطع الأمر و تمضي الحكم بغير مشاورتنا و لا علمنا فقال لقد نقمتما يسيرا و أرجأتما كثيرا فاستغفرا الله يغفر لكما أ لا تخبرانني أدفعتكما عن حق وجب لكما فظلمتكما إياه قالا معاذ الله قال فهل استأثرت من هذا المال لنفسي بشي ء قالا معاذ الله قال أ فوقع حكم أو حق لأحد من المسلمين فجهلته أو ضعفت عنه قالا معاذ الله قال فما الذي كرهتما من أمري حتى رأتما خلافي قالا خلافك عمر بن الخطاب في القسم أنك جعلت حقنا في القسم كحق غيرنا و سويت بيننا و بين من لا يماثلنا فيما أفاء الله تعالى علينا بأسيافنا و رماحنا و أوجفنا عليه بخيلنا و رجلنا و ظهرت عليه دعوتنا و أخذناه قسرا قهرا ممن لا يرى الإسلام إلا كرها فقال فأما ما ذكرتماه من الاستشارة بكما فو الله ما كانت لي في الولاية رغبة و لكنكم دعوتموني إليها و جعلتموني عليها فخفت أن أردكم فتختلف الأمة فلما أفضت إلي نظرت في كتاب الله و سنة رسوله فأمضيت ما دلاني عليه و اتبعته و لم أحتج إلى آرائكما فيه و لا رأي غيركما و لو وقع حكم ليس في كتاب الله بيانه و لا في السنة برهانه و احتيج إلى المشاورة فيه لشاورتكما فيه و أما القسم و الأسوة فإن ذلك أمر لم أحكم فيه بادئ بدء قد وجدت أنا و أنتما رسول الله ص يحكم بذلك و كتاب الله ناطق به و هو الكتاب الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه و لا من خلفه تنزيل من حكيم حميد و أما قولكما جعلت فيئنا و ما أفاءته سيوفنا و رماحنا سواء بيننا و بين غيرنا فقديما سبق إلى الإسلام قوم و نصروه

(8/37)


بسيوفهم و رماحهم فلم يفضلهم رسول الله ص في القسم و لا آثرهم بالسبق و الله
شرح نهج البلاغة ج : 7 ص : 42سبحانه موف السابق و المجاهد يوم القيامة أعمالهم و ليس لكما و الله عندي و لا لغيركما إلا هذا أخذ الله بقلوبنا و قلوبكم إلى الحق و ألهمنا و إياكم الصبر ثم قال رحم الله امرأ رأى حقا فأعان عليه و رأى جورا فرده و كان عونا للحق علىن خالفه
قال شيخنا أبو جعفر و قد روي أنهما قالا له وقت البيعة نبايعك على أنا شركاؤك في هذا الأمر فقال لهما لا و لكنكما شريكاي في الفي ء لا أستأثر عليكما و لا على عبد حبشي مجدع بدرهم فما دونه لا أنا و لا ولداي هذان فإن أبيتما إلا لفظ الشركة فإنما عونان لي عند العج و الفاقة لا عند القوة و الاستقامة

(8/38)


قال أبو جعفر فاشترطا ما لا يجوز في عقد الأمانة و شرط ع لهما ما يجب في الدين و الشريعة. قال رحمه الله تعالى و قد روي أيضا أن الزبير قال في ملإ من الناس هذا جزاؤنا من علي قمنا له في أمر عثمان حتى قتل فلما بلغ بنا ما أراد جعل فوقنا من كنا فوقه. و قال طلحة ما اللوم إلا علينا كنا معه أهل الشورى ثلاثة فكرهه أحدنا يعني سعدا و بايعناه فأعطيناه ما في أيدينا و منعنا ما في يده فأصبحنا قد أخطأنا اليوم ما رجوناه أمس و لا نرجو غدا ما أخطأنا اليوم. فإن قلت فإن أبا بكر قسم بالسواء كما قسمه أمير المؤمنين ع و لم ينكروا ذلك كما أنكروه أيام أمير المؤمنين ع فما الفرق بين الحالتين. قلت إن أبا بكر قسم محتذيا لقسم رسول الله ص فلما ولي عمر الخلافة و فضل قوما على قوم ألفوا ذلك و نسوا تلك القسمة الأولى و طالت أيام عمر شرح نهج البلاغة ج : 7 ص : 43و أشربت قلوبهم حب المال و كثرة العطاء أما الذين اهتضموا فقنعوا و مرنوا على القناعة و لم يخطر لأحد من الفريقين له أن هذه الحال تنتقض أو تتغير بوجه ما فلما ولي عثمان أجرى الأمر على ما كان عمر يجريه فازداد وثوق القوم بذلك و من ألف أمرا أشق عليه فراقه و تغيير العادة فيه فلما ولي أمير المؤمنين ع أراد أن يرد الأمر إلى ما كان في أيام رسول الله ص و أبي بكر و قد نسي ذلك و رفض و تخلل بين الزمانين اثنتان و عشرون سنة فشق ذلك عليهم و أنكروه و أكبروه حتى حدث ما حدث من نقض البيعة و مفارقة الطاعة و لله أمر هو بالغه

(8/39)


شرح نهج البلاغة ج : 7 ص : 9244- و من خطبة له عأَمَّا بَعْدَ حَمْدِ اللَّهِ وَ الثَّنَاءِ عَلَيْهِ أَيُّهَا النَّاسُ فَإِنِّي فَقَأْتُ عَيْنَ الْفِتْنَةِ وَ لَمْ يَكُنْ لِيَجْتَرِئَ عَلَيْهَا أَحَدٌ غَيْرِي بَعْدَ أَنْ مَاجَ غَيْهَبُهَا وَ اشْتَدَّ كَلَبُهَا فَاسْأَلُونِي قَبْلَ أَنْ تَفْقِدُونِي فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَا تَسْأَلُونَنِي عَنْ شَيْ ءٍ فِيمَا بَيْنَكُمْ وَ بَيْنَ السَّاعَةِ وَ لَا عَنْ فِئَةٍ تَهْدِي مِائَةً وَ تُضِلُّ مِائَةً إِلَّا أَنْبَأْتُكُمْ بِنَاعِقِهَا وَ قَائِدِهَا وَ سَائِقِهَا وَ مُنَاخِ رِكَابِهَا وَ مَحَطِّ رِحَالِهَاوَ مَنْ يُقْتَلُ مِنْ أَهْلِهَا قَتْلًا وَ مَنْ يَمُوتُ مِنْهُمْ مَوْتاً وَ لَوْ قَدْ فَقَدْتُمُونِي وَ نَزَلَتْ بِكُمْ كَرَائِهُ الْأُمُورِ وَ حَوَازِبُ الْخُطُوبِ لَأَطْرَقَ كَثِيرٌ مِنَ السَّائِلِينَ وَ فَشِلَ كَثِيرٌ مِنَ الْمَسْئُولِينَ وَ ذَلِكَ إِذَا قَلَّصَتْ حَرْبُكُمْ وَ شَمَّرَتْ عَنْ سَاقٍ وَ كَانَتِ الدُّنْيَا عَلَيْكُمْ ضِيقاً تَسْتَطِيلُونَ أَيَّامَ الْبَلَاءِ عَلَيْكُمْ حَتَّى يَفْتَحَ اللَّهُ لِبَقِيَّةِ الْأَبْرَارِ مِنْكُمْ إِنَّ الْفِتَنَ إِذَا أَقْبَلَتْ شَبَّهَتْ وَ إِذَا أَدْبَرَتْ نَبَّهَتْ يُنْكَرْنَ مُقْبِلَاتٍ وَ يُعْرَفْنَ مُدْبِرَاتٍ يَحُمْنَ حَوْمَ الرِّيَاحِ يُصِبْنَ بَلَداً وَ يُخْطِئْنَ بَلَداً أَلَا وَ إِنَّ أَخْوَفَ الْفِتَنِ عِنْدِي عَلَيْكُمْ فِتْنَةُ بَنِي أُمَيَّةَ فَإِنَّهَا فِتْنَةٌ عَمْيَاءُ مُظْلِمَةٌ عَمَّتْ خُطَّتُهَا وَ خَصَّتْ بَلِيَّتُهَا وَ أَصَابَ الْبَلَاءُ مَنْ أَبْصَرَ فِيهَا وَ أَخْطَأَ الْبَلَاءُ مَنْ عَمِيَ عَنْهَا وَ ايْمُ اللَّهِ لَتَجِدُنَّ بَنِي أُمَيَّةَ لَكُمْ أَرْبَابَ سُوءٍ بَعْدِي كَالنَّابِ الضَّرُوسِ تَعْذِمُ شرح نهج البلاغة ج : 7 ص : 45بِفَِا وَ تَخْبِطُ

(8/40)


بِيَدِهَا وَ تَزْبِنُ بِرِجْلِهَا وَ تَمْنَعُ دَرَّهَا لَا يَزَالُونَ بِكُمْ حَتَّى لَا يَتْرُكُوا مِنْكُمْ إِلَّا نَافِعاً لَهُمْ أَوْ غَيْرَ ضَائِرٍ بِهِمْ وَ لَا يَزَالُ بَلَاؤُهُمْ عَنْكُمْ حَتَّى لَا يَكُونَ انْتِصَارُ أَحَدِكُمْ مِنْهُمْ إِلَّا مِثْلَ انْتِصَارِ الْعَبْدِ مِنْ رَبِّهِ وَ الصَّاحِبِ مِنْ مُسْتَصْحِبِهِ تَرِدُ عَلَيْكُمْ فِتْنَتُهُمْ شَوْهاً مَخْشِيَّةً وَ قِطَعاً جَاهِلِيَّةً لَيْسَ فِيهَا مَنَارُ هُدًى وَ لَا عَلَمٌ يُرَى نَحْنُ أَهْلَ الْبَيْتِ مِنْهَا بِنَجَاةٍ وَ لَسْنَا فِيهَا بِدُعَاةٍ ثُمَّ يُفَرِّجُهَا اللَّهُ عَنْكُمْ كَتَفْرِيجِ الْأَدِيمِ بِمَنْ يَسُومُهُمْ خَسْفاً وَ يَسُوقُهُمْ عُنْفاً وَ يَسْقِيهِمْ بِكَأْسٍ مُصَبَّرَةٍ لَا يُعْطِيهِمْ إِلَّا السَّيْفَ وَ لَا يُحْلِسُهُمْ إِلَّا الْخَوْفَ فَعِنْدَ ذَلِكَ تَوَدُّ قُرَيْشٌ بِالدُّنْيَا وَ مَا فِيهَا لَوْ يَرَوْنَنِي مَقَاماً وَاحِداً وَ لَوْ قَدْرَ جَزْرِ جَزُورٍ لِأَقْبَلَ مِنْهُمْ مَا أَطْلُبُ الْيَوْمَ بَعْضَهُ فَلَا يُعْطُونَنِيهِ

(8/41)


فقأت عينه أي بخقتها و تفقأت السحابة عن مائها تشققت و تفقأ الدمل و القرح و معنى فقئه ع عين الفتنة إقدامه عليها حتى أطفأ نارها كأنه جعل للفتنة عينا محدقة يهابها الناس فأقدم هو عليها ففقأ عينها فسكنت بعد حركتها و هيجانها و هذا من باب الاستعارة و إنما قال و لم يكن ليجترئ عليها أحد غيري لأن الناس كلهم كانوا يهابون قتال أهل القبلة و لا يعلمون كيف يقاتلونهم هل يتبعون موليهم أم لا و هل يجهزون على جريحهم أم لا و هل يقسمون فيئهم أم لا و كانوا يستعظمون قتال من يؤذن كأذاننا و يصلي كصلاتنا و استعظموا أيضا حرب عائشة و حرب طلحة و الزبير لمكانهم في الإسلام و توقف جماعتهم عن الدخول في تلك الحرب كالأحنف بن قيس و غيره فلو لا أن عليا اجترأ على سل السيف فيها ما أقدم أحد عليها حتى شرح نهج البلاغة ج : 7 ص : 46الحسن ع ابنه أشار عليه ألا يبرح عرصة المدينة و نهاه عن المسير إلى البص حتى قال له منكرا عليه إنكاره و لا تزال تخن خنين الأمة و قد روى ابن هلال صاحب كتاب الغارات أنه كلم أباه في قتال أهل البصرة بكلام أغضبه فرماه ببيضة حديد عقرت ساقه فعولج منها شهرين. و الغيهب الظلمة و الجمع غياهب و إنما قال بعد ما ماج غيهبها لأنه أراد بعد ما عم ضلالها فشمل فكنى عن الضلال بالغيهب و كنى عن العموم و الشمول بالتموج لأن الظلمة إذا تموجت شملت أماكن كثيرة غير الأماكن التي تشملها لو كانت ساكنة و اشتد كلبها أي شرها و أذاها و يقال للقحط الشديد كلب و كذلك للقر الشديد.
ثم قال ع سلوني قبل أن تفقدوني

(8/42)


روى صاحب كتاب الإستيعاب و هو أبو عمر محمد بن عبد البر عن جماعة من الرواة و المحدثين قالوا لم يقل أحد من الصحابة رضي الله عنهم سلوني إلا علي بن أبي طالب و روى شيخنا أبو جعفر الإسكافي في كتاب نقض العثمانية عن علي بن الجعد عن ابن شبرمة قال ليس لأحد من الناس أن يقول على المنبر سلوني إلا علي بن أبي طالب ع. و الفئة الطائفة و الهاء عوض من الياء التي نقصت من وسطه و أصله في ء مثال فيع لأنه من فاء و يجمع على فئات مثل شيات و هبات و لدات. و ناعقها الداعي إليها من نعيق الراعي بغنمه و هو صوته نعق ينعق بالكسر نعيقا و نعاا أي صاح بها و زجرها قال الأخطل
فانعق بضأنك يا جرير فإنما منتك نفسك في الخلاء ضلالا
شرح نهج البلاغة ج : 7 ص : 47فأما الغراب فيقال نغق بالغين المعجمة ينغق بالكسر أيضا و حكى ابن كيسان نعق الغراب أيضا بعين غير معجمه. و الركاب الإبل واحدتها راحلة و لا واحد لها من لفظها و جمعها ركب مثل كتاب و كتب و يقال زيت ركابي لأنه يحمل من الشام عليها. ولمناخ بضم الميم و محط بفتحها يجوز أن يكونا مصدرين و أن يكونا مكانين أما كون المناخ مصدرا فلأنه كالمقام الذي بمعنى الإقامة و أما كون المحط مصدرا فلأنه كالمرد في قوله سبحانه وَ أَنَّ مَرَدَّنا إِلَى اللَّهِ و أما كونهما موضعين فلأن المناخ من أنخت الجمل لا من ناخ الجمل لأنه لم يأت و الفعل إذا جاوز الثلاثة فالموضع منه يأتي مضموم الميم لأنه مشبه ببنات الأربعة نحو دحرج و هذا مدحرجنا و من قال هذا مقام بني فلان أي موضع مقامهم جعله كما جعلناه نحن من أقام يقيم لا من قام يقوم و أما المحط فإنه كالمقتل موضع القتل يقال مقتل الرجل بين فكيه و يقال للأعضاء التي إذا أصيب الإنسان فيها هلك مقاتل و وجه المماثلة كونهما مضمومي العين
فصل في ذكر أمور غيبية أخبر بها الإمام ثم تحققت

(8/43)


و اعلم أنه ع قد أقسم في هذا الفصل بالله الذي نفسه بيده أنهم لا يسألونه عن أمر يحدث بينهم و بين القيامة إلا أخبرهم به و أنه ما صح من طائفة من الناس يهتدي بها مائة و تضل بها مائة إلا و هو مخبر لهم إن سألوه برعاتها و قائدها و سائقها و مواضع نزول ركابها و خيولها و من يقتل منها قتلا و من يموت منها موتا و هذه الدعوى ليست منه عليه ع ادعاء الربوبية و لا ادعاء النبوة و لكنه كان يقول إن رسول الله ص شرح نهج البلاغة ج : 7 ص : 48أخبره بذلك و لقد امتحنا إخباره فوجدناه موافقا فاستدللنا بذلك على صدق الدعوى المذكورة كإخبا عن الضربة يضرب بها في رأسه فتخضب لحيته و إخباره عن قتل الحسين ابنه ع و ما قاله في كربلاء حيث مر بها و إخباره بملك معاوية الأمر من بعده و إخباره عن الحجاج و عن يوسف بن عمر و ما أخبر به من أمر الخوارج بالنهروان و ما قدمه إلى أصحابه من إخباره بقتل من يقتل منهم و صلب من يصلب و إخباره بقتال الناكثين و القاسطين و المارقين و إخباره بعدة الجيش الوارد إليه من الكوفة لما شخص ع إلى البصرة لحرب أهلها و إخباره عن عبد الله بن الزبير و قوله فيه خب ضب يروم أمرا و لا يدركه ينصب حبالة الدين لاصطياد الدنيا و هو بعد مصلوب قريش و كإخباره عن هلاك البصرة بالغرق و هلاكها تارة أخرى بالزنج و هو الذي صحفه قوم فقالوا بالريح و كإخباره عن ظهور الرايات السود من خراسان و تنصيصه على قوم من أهلها يعرفون ببني رزيق بتقديم المهملة و هم آل مصعب الذين منهم طاهر بن الحسين و ولده و إسحاق بن إبراهيم و كانوا هم و سلفهم دعاة الدولة العباسية و كإخباره عن الأئمة الذين ظهروا من ولده بطبرستان كالناصر و الداعي و غيرهما
في قوله ع و إن لآل محمد بالطالقان لكنزا سيظهره الله إذا شاء دعاؤه حتى يقوم بإذن الله فيدعو إلى دين الله

(8/44)


و كإخباره عن مقتل النفس الزكية بالمدينة و قوله إنه يقتل عند أحجار الزيت و كقوله عن أخيه إبراهيم المقتول بباب حمزة يقتل بعد أن يظهر و يقهر بعد أن يقهر و قوله فيه أيضا يأتيه سهم غرب يكون فيه منيته فيا بؤسا للرامي شلت يده و وهن عضده و كإخباره عن قتلى وج و قوله فيهم هم خير أهل الأرض و كإخباره عن المملكة العلوية بالغرب و تصريحه بذكر كتامة و هم الذين نصروا أبا عبد الله الداعي المعلم و كقوله و هو يشير إلى أبي عبد الله المهدي و هو أولهم ثم يظهر شرح نهج البلاغة ج : 7 ص : 49صاحب القيروان الغض البض ذو النسب المحض التجب من سلالة ذي البداء المسجى بالرداء و كان عبيد الله المهدي أبيض مترفا مشربا بحمرة رخص البدن تار الأطراف و ذو البداء إسماعيل بن جعفر بن محمد ع و هو المسجى بالرداء لأن أباه أبا عبد الله جعفرا سجاه بردائه لما مات و أدخل إليه وجوه الشيعة يشاهدونه ليعلموا موته و تزول عنهم الشبهة في أمره. و كإخباره عن بني بويه و قوله فيهم و يخرج من ديلمان بنو الصياد إشارة إليهم و كان أبوهم صياد السمك يصيد منه بيده ما يتقوت هو و عياله بثمنه فأخرج الله تعالى من ولده لصلبه ملوكا ثلاثة و نشر ذريتهم حتى ضربت الأمثال بملكهم
و كقوله ع فيهم ثم يستشري أمرهم حتى يملكوا الزوراء و يخلعوا الخلفاء فقال له قائل فكم مدتهم يا أمير المؤمنين فقال مائة أو تزيد قليلا

(8/45)


و كقوله فيهم و المترف ابن الأجذم يقتله ابن عمه على دجلة و هو إشارة إلى عز الدولة بختيار بن معز الدولة أبي الحسين و كان معز الدولة أقطع اليد قطعت يده للنكوص في الحرب و كان ابنه عز الدول بختيار مترفا صاحب لهو و شرب و قتله عضد الدولة فناخسرو ابن عمه بقصر الجص على دجلة في الحرب و سلبه ملكه فأما خلعهم للخلفاء فإن معز الدولة خلع المستكفي و رتب عوضه المطيع و بهاء الدولة أبا نصر بن عضد الدولة خلع الطائع و رتب عوضه القادر و كانت مدة ملكهم كما أخبر به ع. و كإخباره ع لعبد الله بن العباس رحمه الله تعالى عن انتقال الأمر إلى أولاده فإن علي بن عبد الله لما ولد أخرجه أبوه عبد الله إلى علي ع فأخذه و تفل في فيه شرح نهج البلاغة ج : 7 ص : 50و حنكه بتمرة قد لاكها و دفعه إليه و قال خذ إليك أبا الأملاك هكذا الرواية الصحيحة و هي التي ذكرها أبو العباس المبرد في كتاب الكامل و ليست رواية التي يذكر فيها العدد بصحيحة و لا منقولة من كتاب معتمد عليه. و كم له من الأخبار عن الغيوب الجارية هذا المجرى مما لو أردنا استقصاءه لكسرنا له كراريس كثيرة و كتب السير تشتمل عليها مشروحة. فإن قلت لما ذا غلا الناس في أمير المؤمنين ع فادعوا فيه الإلهية لإخباره عن الغيوب التي شاهدوا صدقها عيانا و لم يغلوا في رسول الله ص فيدعوا له الإلهية و أخباره عن الغيوب الصادقة قد سمعوها و علموها يقينا و هو كان أولى بذلك لأنه الأصل المتبوع و معجزاته أعظم و أخباره عن الغيوب أكثر قلت إن الذين صحبوا رسول الله ص و شاهدوا معجزاته و سمعوا أخباره عن الغيوب الصادقة عيانا كانوا أشد آراء و أعظم أحلاما و أوفر عقولا من تلك الطائفة الضعيفة العقول السخيفة الأحلام الذين رأوا أمير المؤمنين ع في آخر أيامه كعبد الله بن سبإ و أصحابه فإنهم كانوا من ركاكة البصائر و ضعفها على حال مشهورة فلا عجب عن مثلهم أن تستخفهم المعجزات فيعتقدوا في صاحبها أن الجوهر

(8/46)


الإلهي قد حله لاعتقادهم أنه لا يصح من البشر هذا إلا بالحلول و قد قيل إن جماعة من هؤلاء كانوا من نسل النصارى و اليهود و قد كانوا سمعوا من آبائهم و سلفهم القول بالحلول في أنبيائهم و رؤسائهم فاعتقدوا فيه ع مثل ذلك و يجوز أن يكون أصل هذه المقالة من قوم ملحدين أرادوا إدخال الإلحاد في دين الإسلام فذهبوا إلى ذلك و لو كانوا في أيام رسول الله ص لقالوا فيه مثل هذه المقالة إضلالا لأهل شرح نهج البلاغة ج : 7 ص : 51الإسلام و قصدا لإيقاع الشبهة في قلوبهم و لم ي في الصحابة مثل هؤلاء و لكن قد كان فيهم منافقون و زنادقة و لم يهتدوا إلى هذه الفتنة و لا خطر لهم مثل هذه المكيدة. و مما ينقدح لي من الفرق بين هؤلاء القوم و بين العرب الذين عاصروا رسول الله ص أن هؤلاء من العراق و ساكني الكوفة و طينة العراق ما زالت تنبت أرباب الأهواء و أصحاب النحل العجيبة و المذاهب البديعة و أهل هذا الإقليم أهل بصر و تدقيق و نظر و بحث عن الآراء و العقائد و شبه معترضة في المذاهب و قد كان منهم في أيام الأكاسرة مثل ماني و ديصان و مزدك و غيرهم و ليست طينة الحجاز هذه الطينة و لا أذهان أهل الحجاز هذه الأذهان و الغالب على أهل الحجاز الجفاء و العجرفية و خشونة الطبع و من سكن المدن منهم كأهل مكة و المدينة و الطائف فطباعهم قريبة من طباع أهل البادية بالمجاورة و لم يكن فيهم من قبل حكيم و لا فيلسوف و لا صاحب نظر و جدل و لا موقع شبهة و لا مبتدع نحلة و لهذا نجد مقالة الغلاة طارئة و ناشئة من حيث سكن علي ع بالعراق و الكوفة لا في أيام مقامه بالمدينة و هي أكثر عمره. فهذا ما لاح لي من الفرق بين الرجلين في المعنى المقدم ذكره

(8/47)


فإن قلت لما ذا قال عن فئة تهدى مائة و ما فائدة التقييد بهذا العدد قلت لأن ما دون المائة حقير تافه لا يعتد به ليذكر و يخبر عنه فكأنه قال مائة فصاعدا. قوله ع كرائه الأمور جمع كريهة و هي الشدة في الحرب و حوازب الخطوب جمع حازب و حزبه الأمر أي دهمه. شرح نهج الاغة ج : 7 ص : 52و فشل جبن فإن قلت أما فشل المسئول فمعلوم فما الوجه في إطراق السائل قلت لشدة الأمر و صعوبته حتى أن السائل ليبهت و يدهش فيطرق و لا يستطيع السؤال. قوله ع إذا قلصت حربكم يروى بالتشديد و بالتخفيف و يروى عن حربكم فمن رواه مشددا أراد انضمت و اجتمعت و ذلك لأنه يكون أشد لها و أصعب من أن تتفرق في مواطن متباعدة أ لا ترى أن الجيوش إذا اجتمعت كلها و اصطدم الفيلقان كان الأمر أصعب و أفظع من أن تكون كل كتيبة من تلك الجيوش تحارب كتيبة أخرى في بلاد متفرقة متباعدة و ذلك لأن اصطدام الفيلقين بأجمعهما هو الاستئصال الذي لا شوى له و لا بقيا بعده و من رواها بالتخفيف أراد كثرت و تزايدت من قولهم قلصت البئر أي ارتفع ماؤها إلى رأسها أو دونه و هو ماء قالص و قليص و من روى إذا قلصت عن حربكم أراد إذا قلصت كرائه الأمور و حوازب الخطوب عن حربكم أي انكشفت عنها و المضارع من قلص يقلص بالكسر. قوله و شمرت عن ساق استعارة و كناية يقال للجاد في أمره قد شمر عن ساق و ذلك لأن سبوغ الذيل معثرة و يمكن أن يجري اللفظ على حقيقته و ذلك أن قوله تعالى يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ ساقٍ فسروه فقالوا الساق الشدة فيكون قد أراد بقوله و شمرت عن ساق أي كشفت عن شدة و مشقة. ثم قال تستطيلون أيام البلاء و ذلك لأن أيام البؤس طويلة قال الشاعر شرح نهج البلاغة ج : 7 ص : 5فأيام الهموم مقصصات و أيام السرور تطير طيرا
و قال أبو تمام
ثم انبرت أيام هجر أردفت بجوى أسى فكأنها أعوام

(8/48)


قوله ع إن الفتن إذا أقبلت شبهت معناه أن الفتن عند إقبالها و ابتداء حدوثها يلتبس أمرها و لا يعلم الحق منها من الباطل إلى أن تنقضي و تدبر فحينئذ ينكشف حالها و يعلم ما كان مشتبها منها ثم أكد ع هذا المعنى بقوله ينكرن مقبلات و يعرفن مدبرات و مثال ذلك فتنة الجمل و فتنة الخوارج كان كثير من الناس فيها في مبدإ الأمر متوقفين و اشتبه عليهم الحال و لم يعلموا موضع الحق إلى أن انقضت الفتنة و وضعت الحرب أوزارها و بان لهم صاحب الضلالة من صاحب الهداية. ثم وصف الفتن فقال إنها تحوم حوم الرياح يصبن بلدا و يخطئن بلدا حام الطائر و غيره حول الشي ء يحوم حوما و حومانا أي دار. ثم ذكر أن أخوف ما يخاف عليهم فتنة بني أمية و معنى قوله عمت خطتها و خصت بليتها أنها عمت الناس كافة من حيث كانت رئاسة شاملة لكل أحد و لكن حظ أهل البيت ع و شيعتهم من بليتها أعظم و نصيبهم فيها أوفر. و معنى قوله و صاب البلاء من أبصر فيها و أخطأ البلاء من عمي عنها أن العالم بارتكابهم المنكر مأثوم إذ لم ينكر و الجاهل بذلك لا إثم عليه إذا لم ينههم عن المنكر لأن من لا يعلم المنكر منكرا لا يلزمه إنكاره و لا يعني بالمنكر هاهنا شرح نهج البلاغة ج : 7 ص : 54ما كان منكرا منلاعتقادات و لا ما يتعلق بالأمانة بل الزنى و شرب الخمر و نحوهما من الأفعال القبيحة. فإن قلت أي فرق بين الأمرين قلت لأن تلك يلحق الإثم من لا يعلمها إذا كان متمكنا من العلم بها و هذه لا يجب إنكارها إلا مع العلم بها و من لا يعلمها لا يلحقه الإثم إذا كان متمكنا من العلم بها فافترق الموضوعان. ثم أقسم ع فقال و ايم الله و أصله و ايمن الله و اختلف النحويون في هذه الكلمة فعند الأكثرين منهم أن ألفها ألف وصل و أن أيمن اسم وضع للقسم هكذا بألف وصل و بضم الميم و النون قالوا و لم يأت في الأسماء ألف وصل مفتوحة غيرها و تدخل عليها اللام لتأكيد الابتداء فتقول ليمن الله فتذهب الألف قال الشاعر

(8/49)


فقال فريق القوم لما نشدتهم نعم و فريق ليمن الله ما ندري
و هذا الاسم مرفوع بالابتداء و خبره محذوف و التقدير ليمن الله قسمي فإذا خاطبت قلت ليمنك و في حديث عروة بن الزبير ليمنك لئن كنت ابتليت لقد عافيت و لئن كنت أخذت لقد أبقيت و تحذف نونه فيصير ايم الله بألف وصل مفتوحة و قد تكسر و ربما حذفوا الياء فقالوا ام الله و ربما أبقوا الميم وحدها مضمومة فقالوا م الله و قد يكسرونها لما صارت حرفا شبهوها بالباء و ربما قالوا من الله بضم الميم و النون و من الله بكسرهما و من الله بفتحهما و ذهب أبو عبيد و ابن كيسان و ابن درستويه إلى أن أيمن جمع يمين و الألف همزة قطع و إنما خففت شرح نهج البلاغة ج : 7 ص : 55و طرحت في الوصل لكثرة الاستعمال قالوا و كانت العرب تحلف باليمين فتقول يمين الله لا أفعل قال إمرؤ القيسفقلت يمين الله أبرح قاعدا و لو قطعوا رأسي لديك و أوصالي
قالوا و اليمين تجمع على أيمن قال زهير
فتجمع أيمن منا و منكم بمقسمة تمور بها الدماء

(8/50)


ثم حلفوا به فقالوا أيمن الله ثم كثر في كلامهم و خف على ألسنتهم حتى حذفوا منه النون كما حذفوا في قوله لم يكن فقالوا لم يك فأقسم ع لأصحابه أنهم سيجدون بني أمية بعده لهم أرباب سوء و صدق ص فيما قال فإنهم ساموهم سوء العذاب قتلا و صلبا و حبسا و تشريدا في البلاد. ثم شبه بني أمية بالناب الضروس و الناب الناقة المسنة و الجمع نيب تقول لا أفعله ما حنت النيب و الضروس السيئة الخلق تعض حالبها. و تعذم بفيها تكدم و العذم الأكل بجفاء و فرس عذوم يعض بأسنانه. و الزبن الدفع زبنت الناقة تزبن إذا ضربت بثفناتها عند الحلب تدفع الحالب عنها و الدر اللبن و في المثل لا در دره الأصل لبنه ثم قيل لكل خير و ناقة درور أي كثيرة اللبن. ثم قال لا يزالون بكم قتلا و إفناء لكم حتى لا يتركوا منكم إلا من ينفعهم إبقاؤه أو لا يضرهم و لا ينفعهم قال حتى يكون انتصار أحدكم منهم كانتصار العبد من مولاه أي لا انتصار لكم منهم لأن العبد لا ينتصر من مولاه أبدا و قد جاء في كلامه شرح نهج البلاغة ج : 7 ص : 56ع في غير هذا الموضع تتمة هذا المعنى إن حضر أطاعه و إن غاب سبعه أي ثلبه و شتمه و هذه أمارة الذل كما قال أبو الطيبأبدو فيسجد من بالسوء يذكرني و لا أعاتبه صفحا و إهواناو هكذا كنت في أهلي و في وطني إن النفيس نفيس أينما كانا

(8/51)


قال ع و الصاحب من مستصحبه أي و التابع من متبوعه. و الشوه جمع شوهاء و هي القبيحة الوجه شاهت الوجوه تشوه شوها قبحت و شوهه الله فهو مشوه و هي شوهاء و لا يقال للذكر أشوه و مخشية مخوفة. و قطعا جاهلية شبهها بقطع السحاب لتراكمها على الناس و جعلها جاهلية لأنها كأفعال الجاهلية الذين لم يكن لهم دين يردعهم و يروى شوهاء و قطعاء أي نكراء كالمقطوعة اليد. قوله نحن أهل البيت منها بمنجاة أي بمعزل و النجاة و النجوة المكان المرتفع الذي تظن أنه نجاك و لا يعلوه السيل و لسنا فيها بدعاة أي لسنا من أنصار تلك الدعوة و أهل البيت منصوب على الاختصاص كقولهم نحن معشر العرب نفعل كذا و نحن آل فلان كرماء. قوله كتفريج الأديم الأديم الجلد و جمعه أدم مثل أفيق و أفق و يجمع أيضا على آدمة كرغيف و أرغفة و وجه التشبيه أن الجلد ينكشف عما تحته فوعدهم ع بأن الله تعالى يكشف تلك الغماء كانكشاف الجلد عن اللحم بمن يسومهم خسفا و يوليهم ذلا. شرح نهج البلاغة ج : 7 ص : 57و العنف بالضم ضد الرفق و كأس مصبرة ممزوجة بالصبر لهذا المر و يجوز أن يكون مصبرة مملوءة إلى أصبارها و هي جوانبها و في المثل أخذها بأصبارها أي تامة الواحد صبر بالضم. و يحلسهم يلبسهم أحلست البع ألبسته الحلس و هو كساء رقيق يكون تحت البرذعة يقال له حلس و حلس مثل شبه و شبه. و الجزور من الإبل يقع على الذكر و الأنثى و جزرها ذبحها. و هذا الكلام إخبار عن ظهور المسودة و انقراض ملك بني أمية و وقع الأمر بموجب إخباره ص حتى لقد صدق قوله لقد تود قريش الكلام إلى آخره فإن أرباب السير كلهم نقلوا أن مروان بن محمد قال يوم الزاب لما شاهد عبد الله بن علي بن عبد الله بن العباس بإزائه في صف خراسان لوددت أن علي بن أبي طالب تحت هذه الراية بدلا من هذا الفتى و القصة طويلة و هي مشهورة. و هذه الخطبة ذكرها جماعة من أصحاب السير و هي متداولة منقولة مستفيضة خطب بها علي ع بعد انقضاء أمر

(8/52)


النهروان و فيها ألفاظ لم يوردها الرضي رحمه الله من ذلك
قوله ع و لم يكن ليجترئ عليها غيري و لو لم أك فيكم ما قوتل أصحاب الجمل و النهروان و ايم الله لو لا أن تتكلوا فتدعوا العمل لحدثتكم بما قضى الله عز و جل على لسان نبيكم ص لمن قاتلهم مبصرا لضلالتهم عارفا للهدى الذي نحن عليه سلوني قبل أن تفقدوني فإني ميت عن قريب أو مقتول بل قتلا ما ينتظر أشقاها أن يخضب هذه بدم و ضرب بيده إلى لحيته
شرح نهج البلاغة ج : 7 ص : 58 و منها في ذكر بني أمية يظهر أهل باطلها على أهل حقها حتى تملأ الأرض عدوانا و ظلما و بدعا إلى أن يضع الله عز و جل جبروتها و يكسر عمدها و ينزع أوتادها ألا و إنكم مدركوها فانصروا قوما كانوا أصحاب رايات بدر و حنين تؤجروا و لا تماوا عليهم عدوهم فتصرعكم البلية و تحل بكم النقمة
و منها إلا مثل انتصار العبد من مولاه إذا رآه أطاعه و إن توارى عنه شتمه و ايم الله لو فرقوكم تحت كل حجر لجمعكم الله لشر يوم لهم
و منها فانظروا أهل بيت نبيكم فإن لبدوا فالبدوا و إن استنصروكم فانصروهم فليفرجن الله الفتنة برجل منا أهل البيت بأبي ابن خيرة الإماء لا يعطيهم إلا السيف هرجا هرجا موضوعا على عاتقه ثمانية أشهر حتى تقول قريش لو كان هذا من ولد فاطمة لرحمنا يغريه الله ببني أمية حتى يجعلهم حطاما و رفاتا مَلْعُونِينَ أَيْنَما ثُقِفُوا أُخِذُوا وَ قُتِّلُوا تَقْتِيلًا سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَ لَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا

(8/53)


فإن قيل لما ذا قال و لو لم أك فيكم لما قوتل أهل الجمل و أهل النهروان و لم يذكر صفين قيل لأن الشبهة كانت في أهل الجمل و أهل النهروان ظاهرة الالتباس لأن الزبير و طلحة موعودان بالجنة و عائشة موعودة أن تكون زوجة رسول الله ص في الآخرة كما هي زوجته في الدنيا و حال طلحة و الزبير في السبق و الجهاد و الهجرة معلومة و حال عائشة في محبة الرسول ص لها و ثنائه عليها و نزول القرآن فيها معلومة و أما أهل النهروان فكانوا أهل قرآن و عبادة و اجتهاد و عزوف عن الدنيا و إقبال على أمور الآخرة و هم كانوا قراء أهل العراق و زهادهم و أما معاوية فكان فاسقا مشهورا بقلة الدين و الانحراف عن الإسلام و كذلك ناصره و مظاهره على أمره عمرو بن العاص و من اتبعهما من طغام أهل الشام و أجلافهم و جهال الأعراب فلم يكن أمرهم خافيا في جواز محاربتهم و استحلال قتالهم بخلاف حال من تقدم ذكره. شرح نهج البلاغج : 7 ص : 59فإن قيل و من هذا الرجل الموعود به الذي قال ع عنه بأبي ابن خيرة الإماء قيل أما الإمامية فيزعمون أنه إمامهم الثاني عشر و أنه ابن أمة اسمها نرجس و أما أصحابنا فيزعمون أنه فاطمي يولد في مستقبل الزمان لأم ولد و ليس بموجود الآن. فإن قيل فمن يكون من بني أمية في ذلك الوقت موجودا حتى يقول ع في أمرهم ما قال من انتقام هذا الرجل منهم حتى يودوا لو أن عليا ع كان المتولي لأمرهم عوضا عنه. قيل أما الإمامية فيقولون بالرجعة و يزعمون أنه سيعاد قوم بأعيانهم من بني أمية و غيرهم إذا ظهر إمامهم المنتظر و أنه يقطع أيدي أقوام و أرجلهم و يسمل عيون بعضهم و يصلب قوما آخرين و ينتقم من أعداء آل محمد ع المتقدمين و المتأخرين و أما أصحابنا فيزعمون أنه سيخلق الله تعالى في آخر الزمان رجلا من ولد فاطمة ع ليس موجود الآن و أنه يملأ الأرض عدلا كما ملئت جورا و ظلما و ينتقم من الظالمين و ينكل بهم أشد النكال و أنه لأم ولد كما قد ورد في هذا الأثر و في

(8/54)


غيره من الآثار و أن اسمه محمد كاسم رسول الله ص و أنه إنما يظهر بعد أن يستولي على كثير من الإسلام ملك من أعقاب بني أمية و هو السفياني الموعود به في الخبر الصحيح من ولد أبي سفيان بن حرب بن أمية و أن الإمام الفاطمي يقتله و يقتل أشياعه من بني أمية و غيرهم و حينئذ ينزل المسيح ع من السماء و تبدو أشراط الساعة و تظهر دابة الأرض و يبطل التكليف و يتحقق قيام الأجساد عند نفخ الصور كما نطق به الكتاب العزيز. شرح نهج البلاغة ج : 7 ص : 60فإن قيل فإنكم قلتم فا تقدم أن الوعد إنما هو بالسفاح و بعمه عبد الله بن علي و المسودة و ما قلتموه الآن مخالف لذلك. قيل إن ذلك التفسير هو تفسير ما ذكره الرضي رحمه الله تعالى من كلام أمير المؤمنين ع في نهج البلاغة و هذا التفسير هو تفسير الزيادة التي لم يذكرها الرضي و هي قوله بأبي ابن خيرة الإماء و قوله لو كان هذا من ولد فاطمة لرحمنا فلا مناقضة بين التفسيرين
شرح نهج البلاغة ج : 7 ص : 9361- و من خطبة له عفَتَبَارَكَ اللَّهُ الَّذِي لَا يَبْلُغُهُ بُعْدُ الْهِمَمِ وَ لَا يَنَالُهُ حَدْسُ الْفِطَنِ الْأَوَّلُ الَّذِي لَا غَايَةَ لَهُ فَيَنْتَهِي وَ لَا آخِرَ لَهُ فَيَنْقَضِي

(8/55)


البركة كثرة الخير و زيادته و تبارك الله منه و بركت أي دعوت بالبركة و طعام بريك أي مبارك و يقال بارك الله لزيد و في زيد و على زيد و بارك الله زيدا يتعدى بنفسه و منه قوله تعالى أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ و يحتمل تبارك الله معنيين أحدهما أن يراد تبارك خيره و زادت نعمته و إحسانه و هذا دعاء و ثانيهما أن يراد به تزايد و تعال في ذاته و صفاته عن أن يقاس به غيره و هذا تمجيد. قوله ع لا يبلغه بعد الهمم أي بعد الأفكار و الأنظار عبر عنها بالهمم لمشابهتها إياها و حدس الفطن ظنها و تخمينها حدست أحدس بالكسر. و يسأل عن قوله لا غاية له فينتهي و لا آخر له فينقضي فيقال إنما تدخل الفاء فيما إذا كان الثاني غير الأول و كقولهم ما تأتينا فتحدثنا و ليس الثاني هاهنا غير الأول لأن الانقضاء هو الآخرية بعينها فكأنه قال لا آخر له فيكون له آخر و هذا لغو و كذلك القول اللفظة في الأولى. و ينبغي أن يقال في الجواب إن المراد لا آخر له بالإمكان و القوة فينقضي بالفعل فيما شرح نهج البلاغة ج : 7 ص : 62لا يزال و لا هو أيضا ممكن الوجود فيما مضى فيلزم أن يكون وجوده مسبوقا بالعدم و هو معنى قوله فينتهي بل هو واجب الوجود في حالين فيما مضى و في المستقبو هذان مفهومان متغايران و هما العدم و إمكان العدم فاندفع الإشكال

(8/56)


فَاسْتَوْدَعَهُمْ فِي أَفْضَلِ مُسْتَوْدَعٍ وَ أَقَرَّهُمْ فِي خَيْرِ مُسْتَقَرٍّ تَنَاسَخَتْهُمْ كَرَائِمُ الْأَصْلَابِ إِلَى مُطَهَّرَاتِ الْأَرْحَامِ كُلَّمَا مَضَى مِنْهُمْ سَلَفٌ قَامَ مِنْهُمْ بِدِينِ اللَّهِ خَلَفٌ حَتَّى أَفْضَتْ كَرَامَةُ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَ تَعَالَى إِلَى مُحَمَّدٍ ص فَأَخْرَجَهُ مِنْ أَفْضَلِ الْمَعَادِنِ مَنْبِتاً وَ أَعَزِّ الْأَرُومَاتِ مَغْرِساً مِنَ الشَّجَرَةِ الَّتِي صَدَعَ مِنْهَا أَنْبِيَاءَهُ وَ انْتَجَبَ مِنْهَا أُمَنَاءَهُ عِتْرَتُهُ خَيْرُ الْعِتَرِ وَ أُسْرَتُهُ خَيْرُ الْأُسَرِ وَ شَجَرَتُهُ خَيْرُ الشَّجَرِ نَبَتَتْ فِي حَرَمٍ وَ بَسَقَتْ فِي كَرَمٍ لَهَا فُرُوعٌ طِوَالٌ وَ ثَمَرٌ لَا يُنَالُ فَهُوَ إِمَامُ مَنِ اتَّقَى وَ بَصِيرَةُ مَنِ اهْتَدَى سِرَاجٌ لَمَعَ ضَوْؤُهُ وَ شِهَابٌ سَطَعَ نُورُهُ وَ زَنْدٌ بَرَقَ لَمْعُهُ سِيرَتُهُ الْقَصْدُ وَ سُنَّتُهُ الرُّشْدُ وَ كَلَامُهُ الْفَصْلُ وَ حُكْمُهُ الْعَدْلُ أَرْسَلَهُ عَلَى حِينِ فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ وَ هَفْوَةٍ عَنِ الْعَمَلِ وَ غَبَاوَةٍ مِنَ الْأُمَمِ

(8/57)


تناسختهم أي تناقلتهم و التناسخ في الميراث أن يموت ورثة بعد ورثة و أصل الميراث شرح نهج البلاغة ج : 7 ص : 63قائم لم يقسم كأن ذلك تناقل من واحد إلى آخر و منه نسخت الكتاب و انتسخته و استنسخته أي نقلت ما فيه و يروى تناسلتهم. و السلف المتقدمون و الخلف الباقون يقال خلف صدق بالتحريك و خلف سوء بالتسكين. و أفضت كرامة الله إلى محمد ص أي انتهت و الأرومات جمع أرومة و هي الأصل و يقال أروم بغير هاء و صدع شق و انتجب اصطفى و الأسرة رهط الرجل. و قوله نبتت في حرم يجوز أن يعني به مكة و يجوز أن يعني به المنعة و العز. و بسقت طالت و معنى قوله و ثمر لا ينال ليس على أن يريد به أن ثمرها لا ينتفع به لأن ذلك ليس بمدح بل يريد به أن ثمرها لا ينال قهرا و لا يجنى غصبا و يجوز أن يريد بثمرها نفسه ع و من يجري مجراه من أهل البيت ع لأنهم ثمرة تلك الشجرة. و لا ينال أي لا ينال مساعيهم و مآثرهم و لا يباريهم أحد و قد روي في الحديث عن النبي ص في فضل قريش و بني هاشم الكثير المستفيض نحو
قوله ع قدموا قريشا و لا تقدموها
و قوله الأئمة من قريش
و قوله إن الله اصطفى من العرب معدا و اصطفى من معد بني النضر بن كنانة و اصطفى هاشما من بني النضر و اصطفاني من بني هاشم
و قوله إن جبرائيل ع قال لي يا محمد قد طفت الأرض شرقا و غربا فلم أجد فيها أكرم منك و لا بيتا أكرم من بني هاشم
و قوله نقلنا من الأصلاب الطاهرة إلى الأرحام الزكية
و قوله ع إن الله تعالى لم يمسسني بسفاح في أرومتي منذ إسماعيل بن إبراهيم إلى عبد الله شرح نهج البلاغة ج : 7 ص : 64بن عبد المطلبو قوله ص سادة أهل محشر سادة أهل الدنيا أنا و علي و حسن و حسين و حمزة و جعفر
و قوله و قد سمع رجلا ينشد
يا أيها الرجل المحول رحله هلا نزلت بآل عبد الدار
أ هكذا قال يا أبا بكر منكرا لما سمع فقال أبو بكر لا يا رسول الله إنه لم يقل هكذا و لكنه قال

(8/58)


يا أيها الرجل المحول رحله هلا نزلت بآل عبد مناف عمرو العلا هشم الثريد لقومه و رجال مكة مسنتون عجاففسر ص بذلك و قوله أذل الله من أذل قريشا قالها ثلاثا
و كقوله
أنا النبي لا كذب أنا ابن عبد المطلب
و كقوله الناس تبع لقريش برهم لبرهم و فاجرهم لفاجرهم
و كقوله أنا ابن الأكرمين
و قوله لبني هاشم و الله لا يبغضكم أحد إلا أكبه الله على منخريه في النار
و قوله ما بال رجال يزعمون أن قرابتي غير نافعة بلى إنها لنافعة و إنه لا يبغض أحد أهلي إلا حرمه الله الجنة
و الأخبار الواردة في فضائل قريش و بني هاشم و شرفهم كثيرة جدا و لا نرى الإطالة هاهنا باستقصائها. و سطع الصبح يسطع سطوعا أي ارتفع و السطيع الصبح و الزند العود تقدح به النار و هو الأعلى و الزندة السفلى فيها ثقب و هي الأنثى فإذا اجتمعا قيل زندان و لم يقل زندتان تغليبا للتذكير و الجمع زناد و أزند و أزناد. و القصد الاعتدال و كلامه الفصل أي الفاصل و الفارق بين الحق و الباطل و هو مصدر بمعنى الفاعل كقولك رجل عدل أي عادل. و الهفوة الزلة هفا يهفو و الغباوة الجهل و قلة الفطنة يقال غبيت عن الشي ء و غبيت شرح نهج البلاج : 7 ص : 65الشي ء أيضا أغبى غباوة إذا لم يفطن له و غبي علي الشي ء كذلك إذا لم تعرفه و فلان غبي على فعيل أي قليل الفطنةاعْمَلُوا رَحِمَكُمُ اللَّهُ عَلَى أَعْلَامٍ بَيِّنَةٍ فَالطَّرِيقُ نَهْجٌ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلَامِ وَ أَنْتُمْ فِي دَارِ مُسْتَعْتَبٍ عَلَى مَهَلٍ وَ فَرَاغٍ وَ الصُّحُفُ مَنْشُورَةٌ وَ الْأَقْلَامُ جَارِيَةٌ وَ الْأَبْدَانُ صَحِيحَةٌ وَ الْأَلْسُنُ مُطْلَقَةٌ وَ التَّوْبَةُ مَسْمُوعَةٌ وَ الْأَعْمَالُ مَقْبُولَةٌ

(8/59)


الطريق يذكر و يؤنث يقال هذا الطريق الأعظم و هذه الطريق العظمى و الجمع أطرقة و طرق. و أعلام بينة أي منار واضح و نهج أي واضح و دار السلام الجنة و يروى و الطريق نهج بالواو واو الحال. و أنتم في دار مستعتب أي في دار يمكنكم فيها استرضاء الخالق سبحانه و استعتابه. ثم شرح ذلك فقال أنتم ممهلون متفرغون و صحف أعمالكم لم تطو بعد و أقلام الحفظة عليكم لم تجف بعد و أبدانكم صحيحة و ألسنتكم ما اعتقلت كما تعتقل ألسنة المحتضرين عند الموت و توبتكم مسموعة و أعمالكم مقبولة لأنكم في دار التكليف لم تخرجوا منها
شرح نهج البلاغة ج : 7 ص : 9466- و من خطبة له عبَعَثَهُ وَ النَّاسُ ضُلَّالٌ فِي حَيْرَةٍ وَ حَاطِبُونَ فِي فِتْنَةٍ قَدِ اسْتَهْوَتْهُمُ الْأَهْوَاءُ وَ اسْتَزَلَّتْهُمُ الْكِبْرِيَاءُ وَ اسْتَخَفَّتْهُمُ الْجَاهِلِيَّةُ الْجَهْلَاءُ حَيَارَى فِي زَلْزَالٍ مِنَ الْأَمْرِ وَ بَلَاءٍ مِنَ الْجَهْلِ فَبَالَغَ ص فِي النَّصِيحَةِ وَ مَضَى عَلَى الطَّرِيقَةِ وَ دَعَا إِلَى الْحِكْمَةِ وَ الْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ
حاطبون في فتنة جمع حاطب و هو الذي يجمع الحطب و يقال لمن يجمع بين الصواب و الخطإ أو يتكلم بالغث و السمين حاطب ليل لأنه لا يبصر ما يجمع في حبله. و يروى خابطون. و استهوتهم الأهواء دعتهم إلى نفسها. و استزلتهم الكبرياء جعلتهم ذوي زلل و خطإ و استخفتهم الجاهلية جعلتهم ذوي خفة و طيش و خرق. و الزلزال بالفتح الاسم بالكسر المصدر و الزلازل الشدائد و مثله في الكسر عند الاسمية و الفتح عند المصدر القلقال

(8/60)


شرح نهج البلاغة ج : 7 ص : 9567- و من خطبة له عالْحَمْدُ لِلَّهِ الْأَوَّلِ فَلَا شَيْ ءَ قَبْلَهُ وَ الآْخِرِ فَلَا شَيْ ءَ بَعْدَهُ وَ الظَّاهِرِ فَلَا شَيْ ءَ فَوْقَهُ وَ الْبَاطِنِ فَلَا شَيْ ءَ دُونَتقدير الكلام و الظاهر فلا شي ء أجلى منه و الباطن فلا شي ء أخفى منه فلما كان الجلاء يستلزم العلو و الفوقية و الخفاء يستلزم الانخفاض و التحتية عبر عنهما بما يلازمهما و قد تقدم الكلام في معنى الأول و الآخر و الظاهر و الباطن. و ذهب أكثر المتكلمين إلى أن اللهعالى يعدم أجزاء العالم ثم يعيدها و ذهب قوم منهم إلى أن الإعادة إنما هي جمع الأجزاء بعد تفريقها لا غير. و احتج الأولون بقوله تعالى هُوَ الْأَوَّلُ وَ الْآخِرُ قالوا لما كان أولا بمعنى أنه الموجود و لا موجود معه وجب أن يكون آخرا بمعنى أنه سيئول الأمر إلى عدم كل شي ء إلا ذاته تعالى كما كان أولا و البحث المستقصى في هذا الباب مشروح في كتبنا الكلامية شرح نهج البلاغة ج : 7 ص : وَ مِنْهَا فِي ذِكْرِ الرَّسُولِ ص مُسْتَقَرُّهُ خَيْرُ مُسْتَقَرٍّ وَ مَنْبِتُهُ أَشْرَفُ مَنْبِتٍ فِي مَعَادِنِ الْكَرَامَةِ وَ مَمَاهِدِ السَّلَامَةِ قَدْ صُرِفَتْ نَحْوَهُ أَفْئِدَةُ الْأَبْرَارِ وَ ثُنِيَتْ إِلَيْهِ أَزِمَّةُ الْأَبْصَارِ دَفَنَ اللَّهُ بِهِ الضَّغَائِنَ وَ أَطْفَأَ بِهِ النَّوَائِرَ أَلَّفَ بِهِ إِخْوَاناً وَ فَرَّقَ بِهِ أَقْرَاناً وَ أَعَزَّ بِهِ الذِّلَّةَ وَ أَذَلَّ بِهِ الْعِزَّةَ كَلَامُهُ بَيَانٌ وَ صَمْتُهُ لِسَانٌ

(8/61)


المهاد الفراش و لما قال في معادن و هي جمع معدن قال بحكم القرينة و الازدواج و مماهد و إن لم يكن الواحد منها ممهدا كما قالوا الغدايا و العشايا و مأجورات و مأزوات و نحو ذلك و يعني بالسلامة هاهنا البراءة من العيوب أي في نسب طاهر غير مأفون و لا معيب. ثم قال قد صرفت نحوه أي نحو الرسول ص و لم يقل من صرفها بل جعله فعلا لم يسم فاعله فإن شئت قلت الصارف لها هو الله تعالى لا بالجبر كما يقوله الأشعرية بل بالتوفيق و اللطف كما يقوله أصحابنا و إن شئت قلت صرفها أربابها. و الضغائن جمع ضغينة و هي الحقد ضغنت على فلان بالكسر ضغنا و الضغن الاسم كالضغينة و قد تضاغنوا و اضطغنوا انطووا على الأحقاد و دفنها أكمنها و أخفاها و ألف به إخوانا لأن الإسلام قد ألف بين المتباعدين و فرق بين المتقاربين و قال شرح نهج البلاغة ج : 7 ص : 69تعالى فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْواناً قطع ما بين حم و أبي لهب مع تقاربهما و ألف بين علي ع و عمار مع تباعدهما. قوله ع و صمته لسان لا يعني باللسان هاهنا الجارحة نفسها بل الكلام الصادر عنها كقول الأعشى
إني أتتني لسان لا أسر بها
قالوا في تفسيره أراد الكلمة و جمعه على هذا ألسن لأنه مؤنث كقولك ذراع و أذرع فأما جمع لسان للجارحة فألسنة لأنه مذكر كقولك حمار و أحمرة يقول ع إن كلام الرسول ص بيان و البيان إخراج الشي ء من حيز الخفاء إلى حيز الوضوح و صمته ص كلام و قول مفيد أي أن صمته لا يخو من فائدة فكأنه كلام و هذا من باب التشبيه المحذوف الأداة كقولهم يده بحر و وجهه بدر

(8/62)


شرح نهج البلاغة ج : 7 ص : 9670- و من كلام له عوَ لَئِنْ أَمْهَلَ اللَّهُ الظَّالِمَ فَلَنْ يَفُوتَ أَخْذُهُ وَ هُوَ لَهُ بِالْمِرْصَادِ عَلَى مَجَازِ طَرِيقِهِ وَ بِمَوْضِعِ الشَّجَا مِنْ مَسَاغِ رِيقِهِ أَمَا وَ الَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَيَظْهَرَنَّ هَؤُلَاءِ الْقَوْمُ عَلَيْكُمْ لَيْسَ لِأَنَّهُمْ أَوْلَى بِالْحَقِّ مِنْكُمْ وَ لَكِنْ لِإِسْرَاعِهِمْ إِلَى بَاطِلِهِمْ وَ إِبْطَائِكُمْ عَنْ حَقِّي وَ لَقَدْ أَصْبَحَتِ الْأُمَمُ تَخَافُ ظُلْمَ رُعَاتِهَا وَ أَصْبَحْتُ أَخَافُ ظُلْمَ رَعِيَّتِي اسْتَنْفَرْتُكُمْ لِلْجِهَادِ فَلَمْ تَنْفِرُوا وَ أَسْمَعْتُكُمْ فَلَمْ تَسْمَعُوا وَ دَعَوْتُكُمْ سِرّاً وَ جَهْراً فَلَمْ تَسْتَجِيبُوا وَ نَصَحْتُ لَكُمْ فَلَمْ تَقْبَلُوا شُهُودٌ كَغُيَّابٍ وَ عَبِيدٌ كَأَرْبَابٍ أَتْلُو عَلَيْكُمْ الْحِكَمَ فَتَنْفِرُونَ مِنْهَا وَ أَعِظُكُمْ بِالْمَوْعِظَةِ الْبَالِغَةِ فَتَتَفَرَّقُونَ عَنْهَا وَ أَحُثُّكُمْ عَلَى جِهَادِ أَهْلِ الْبَغْيِ فَمَا آتِي عَلَى آخِرِ قَوْلِي حَتَّى أَرَاكُمْ مُتَفَرِّقِينَ أَيَادِيَ سَبَا تَرْجِعُونَ إِلَى مَجَالِسِكُمْ وَ تَتَخَادَعُونَ عَنْ مَوَاعِظِكُمْ أُقَوِّمُكُمْ غُدْوَةً وَ تَرْجِعُونَ إِلَيَّ عَشِيَّةً كَظَهْرِ الْحَنِيَّةِ عَجَزَ الْمُقَوِّمُ وَ أَعْضَلَ الْمُقَوَّمُ أَيُّهَا الْقَوْمُ الشَّاهِدَةُ أَبْدَانُهُمْ الْغَائِبَةُ عَنْهُمْ عُقُولُهُمْ الْمُخْتَلِفَةُ أَهْوَاؤُهُمْ الْمُبْتَلَى بِهِمْ أُمَرَاؤُهُمْ صَاحِبُكُمْ يُطِيعُ اللَّهَ وَ أَنْتُمْ تَعْصُونَهُ وَ صَاحِبُ أَهْلِ الشَّامِ يَعْصِي اللَّهَ وَ هُمْ يُطِيعُونَهُ لَوَدِدْتُ وَ اللَّهِ أَنَّ مُعَاوِيَةَ صَارَفَنِي بِكُمْ صَرْفَ الدِّينَارِ بِالدِّرْهَمِ فَأَخَذَ مِنِّي عَشَرَةَ مِنْكُمْ وَ أَعْطَانِي رَجُلًا مِنْهُمْ شرح نهج الاغة ج : 7 ص :

(8/63)


71يَا أَهْلَ الْكُوفَةِ مُنِيتُ مِنْكُمْ بِثَلَاثٍ وَ اثْنَتَيْنِ صُمٌّ ذَوُو أَسْمَاعٍ وَ بُكْمٌ ذَوُو كَلَامٍ وَ عُمْيٌ ذَوُو أَبْصَارٍ لَا أَحْرَارُ صِدْقٍ عِنْدَ اللِّقَاءِ وَ لَا إِخْوَانُ ثِقَةٍ عِنْدَ الْبَلَاءِ تَرِبَتْ أَيْدِيكُمْ يَا أَشْبَاهَ الْإِبِلِ غَابَ عَنْهَا رُعَاتُهَا كُلَّمَا جُمِعَتْ مِنْ جَانِبٍ تَفَرَّقَتْ مِنْ آخَرَ وَ اللَّهِ لَكَأَنِّي بِكُمْ فِيمَا إِخَالُكُمْ أَنْ لَوْ حَمِسَ الْوَغَى وَ حَمِيَ الضِّرَابُ قَدِ انْفَرَجْتُمْ عَنِ ابْنِ أَبِي طَالِبٍ انْفِرَاجَ الْمَرْأَةِ عَنْ قُبُلِهَا وَ إِنِّي لَعَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَ مِنْهَاجٍ مِنْ نَبِيِّي وَ إِنِّي لَعَلَى الطَّرِيقِ الْوَاضِحِ أَلْقُطُهُ لَقْطاً

(8/64)


أمهله أخره و أخذه فاعل و المفعول محذوف تقديره فلن يفوته و المرصاد الطريق و هي من ألفاظ الكتاب العزيز. و مجاز طريقه مسلكه و موضع جوازه و الشجا ما ينشب في الحلق من عظم أو غيره و موضع الشجا هو الحلق نفسه و مساغ ريقه موضع الإساغة أسغت الشراب أوصلته إلى المعدة و يجوز سغت الشراب أسوغه و أسيغه و ساغ الشراب نفسه يسوغ سوغا أي سهل مدخله في الحلق يتعدى و لا يتعدى و هذا الكلام من باب التوسع و المجاز لأن الله تعالى لا يجوز عليه الحصول في الجهات و لكنه كقوله تعالى وَ هُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ و قوله وَ نَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ. شرح نهج البلاغة ج : 7 ص : 72ثم أقسم ع أن أهل الشام لا بد أن يظهروا على أهل العراق و أن ذلك ليس لأنهم على الحق و أهل العراق على الباطل بل لأنهم أطوع لأميرهم و مدار النصرة في الحرب إنما هو على طاعة الجيش و انتظام أمره على اعتقاد الحق فإنه ليس يغني في الحرب أن يكون الجيش محقا في العقيدة إذا كان مختلف الآراء غير مطيع لأمر المدبر له و لهذا تجد أهل الشرك كثيرا ما ينتصرون على أهل التوحيد. ثم ذكر ع نكتة لطيفة في هذا المعنى فقال العادة أن الرعية تخاف ظلم الوالي و أنا أخاف ظلم رعيتي و من تأمل أحواله ع في خلافته علم أنه كان كالمحجور عليه لا يتمكن من بلوغ ما في نفسه و ذلك لأن العارفين بحقيقة حاله كانوا قليلين و كان السواد الأعظم لا يعتقدون فيه الأمر الذي يجب اعتقاده فيه و يرون تفضيل من تقدمه من الخلفاء عليه و يظنون أن الأفضلية إنما هي الخلافة و يقلد أخلافهم أسلافهم و يقولون لو لا أن الأوائل علموا فضل المتقدمين عليه لما قدموهم و لا يرونه إلا بعين التبعية لمن سبقه و أنه كان رعية لهم و أكثرهم إنما يحارب معه بالحمية و بنخوة العربية لا بالدين و العقيدة و كان ع مدفوعا إلى مداراتهم و مقاربتهم و لم يكن قادرا على إظهار ما عنده أ لا ترى إلى كتابه إلى

(8/65)


قضاته في الأمصار. و
قوله فاقضوا كما كنتم تقضون حتى تكون للناس جماعة و أموت كما مات أصحابي
و هذا الكلام لا يحتاج إلى تفسير و معناه واضح و هو أنه قال لهم اتبعوا عادتكم الآن بعاجل الحال في الأحكام و القضايا التي كنتم تقضون بها إلى أن يكون للناس جماعة أي إلى أن تسفر هذه الأمور و الخطوب عن الاجتماع و زوال الفرقة و سكون الفتنة و حينئذ أعرفكم ما عندي في هذه القضايا و الأحكام التي قد استمررتم عليها. ثم قال أو أموت كما مات أصحابي فمن قائل يقول عنى بأصحابه الخلفاء المتقدمين شرح نهج البلاغة ج : 7 ص : 73و من قائل يقول عنى بأصحابه شيعته كسلمان و أبي ذر و المقداد و عمار و نحوهم أ لا ترى إلى قوله على المنبر في أمهات الأولاد كان رأيي و رأي عمر ألا يبعن و أنا أرى الآن بيعهن

(8/66)


فقام عليه عبيدة السلماني فقال له رأيك مع الجماعة أحب إلينا من رأيك وحدك فما أعاد عليه حرفا فهل يدل هذا على القوة و القهر أم على الضعف في السلطان و الرخاوة و هل كانت المصلحة و الحكمة تقتضي في ذلك الوقت غير السكوت و الإمساك أ لا ترى أنه كان يقرأ في صلاة الصبح و خلفه جماعة من أصحابه فقرأ واحد منهم رافعا صوته معارضا قراءة أمير المؤمنين ع إن الحكم إلا لله يقضي بالحق و هو خير الفاصلين فلم يضطرب ع و لم يقطع صلاته و لم يلتفت وراءه و لكنه قرأ معارضا له على البديهة فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَ لا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لا يُوقِنُونَ و هذا صبر عظيم و أناة عجيبة و توفيق بين و بهذا و نحوه استدل أصحابنا المتكلمون على حسن سياسته و صحة تدبيره لأن من مني بهذه الرعية المختلفة الأهواء و هذا الجيش العاصي له المتمرد عليه ثم كسر بهم الأعداء و قتل بهم الرؤساء فليس يبلغ أحد في حسن السياسة و صحة التدبير مبلغه و لا يقدر أحد قدره و قد قال بعض المتكلمين من أصحابنا إن سياسة علي ع إذا تأملها المنصف متدبرا لها بالإضافة إلى أحواله التي دفع إليها مع أصحابه جرت مجرى المعجزات لصعوبة الأمر و تعذره فإن أصحابه كانوا فرقتين إحداهما تذهب إلى أن عثمان قتل مظلوما و تتولاه و تبرأ من أعدائه و الأخرى و هم جمهور أصحاب الحرب و أهل الغناء و البأس يعتقدون أن عثمان قتل لأحداث أوجبت عليه القتل و قد كان منهم من يصرح بتكفيره و كل من هاتين الفرقتين يزعم أن عليا ع موافق لها على رأيها و تطالبه في كل وقت بأن يبدي مذهبه في عثمان و تسأله أن يجيب بجواب واضح في أمره و كان ع شرح نهج البلاغة ج : 7 ص : 74يعلم أنه متى وافق إحدى الطائفتين باينته الأخرى و أسلمته و تولت عنه و خذلته فأخذ ع يعتمد في جوابه و يستعمل في كلامه ما تظن به كل واحدة من الفرقتين أنه يوافقأيها و يماثل اعتقادها فتارة يقول الله قتله و أنا معه و تذهب

(8/67)


الطائفة الموالية لعثمان إلى أنه أراد أن الله أماته و سيميتني كما أماته و تذهب الطائفة الأخرى إلى أنه أراد أنه قتل عثمان مع قتل الله له أيضا و كذلك قوله تارة أخرى ما أمرت به و لا نهيت عنه و قوله لو أمرت به لكنت قاتلا و لو نهيت عنه لكنت ناصرا و أشياء من هذا الجنس مذكورة مروية عنه فلم يزل على هذه الوتيرة حتى قبض ع و كل من الطائفتين موالية له معتقدة أن رأيه في عثمان كرأيها فلو لم يكن له من السياسة إلا هذا القدر مع كثرة خوض الناس حينئذ في أمر عثمان و الحاجة إلى ذكره في كل مقام لكفاه في الدلالة على أنه أعرف الناس بها و أحذقهم فيها و أعلمهم بوجوه مخارج الكلام و تدبير أحوال الرجال. ثم نعود إلى الشرح قوله ع و نصحت لكم هو الأفصح و عليه ورد لفظ القرآن و قول العامة نصحتك ليس بالأفصح. قوله و عبيد كأرباب يصفهم بالكبر و التيه. فإن قلت كيف قال عنهم إنهم عبيد و كانوا عربا صلبية قلت يريد أن أخلاقهم كأخلاق العبيد من الغدر و الخلاف و دناءة الأنفس و فيهم مع ذلك كبر السادات و الأرباب و تيههم فقد جمعوا خصال السوء كلها. و أيادي سبأ مثل يضرب للمتفرقين و أصله قوله تعالى عن أهل سبإ وَ مَزَّقْناهُمْ شرح نهج البلاغة ج : 7 ص : 75كُلَّ مُمَزَّقٍو سبأ مهموز و هو سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان و يقال ذهبوا أيدي سبأ و أيادي سبأ الياء ساكنة و كذلك الألف و هكذا نقل المثل أي ذهبوا متفرقين و هما اسمان جعلا واحدا مثل معديكرب. قوله تتخادعون عن مواعظكم أن تمسكون عن الاتعاظ و الانزجار و تقلعون عن ذلك من قولهم كان فلان يعطي ثم خدع أي أمسك و أقلع و يجوز أن يريد تتلونون و تختلفون في قبول الموعظة من قولهم خلق فلان خلق خادع أي متلون و سوق خادعة أي مختلفة متلونة و لا يجوز أن يريد باللفظة المعنى المشهور منها لأنه إنما يقال فلان يتخادع لفلان إذا كان يريه أنه منخدع له و ليس بمنخدع في الحقيقة و هذا لا يطابق معنى الكلام. و

(8/68)


الحنية القوس و قوله كظهر الحنية يريد اعوجاجهم كما أن ظهر القوس معوج و أعظل المقوم أي أعضل داؤه أي أعيا و يروى أيها الشاهدة أبدانهم بحذف الموصوف. ثم أقسم أنه يود أن معاوية صارفه بهم فأعطاه من أهل الشام واحدا و أخذ منه عشرة صرف الدينار بالدراهم أخذ هذا اللفظ عبد الله بن الزبير لما وفد إليه أهل البصرة و فيهم الأحنف فتكلم منهم أبو حاضر الأسدي و كان خطيبا جميلا فقال له عبد الله بن الزبير اسكت فو الله لوددت أن لي بكل عشرة من أهل العراق واحدا من أهل الشام صرف الدينار بالدراهم فقال يا أمير المؤمنين إن لنا و لك مثلا أ فتأذن في ذكره قال نعم قال مثلنا و مثلك و مثل أهل الشام قول الأعشى
علقتها عرضا و علقت رجلا غيري و علق أخرى غيرها الرجل

(8/69)


شرح نهج البلاغة ج : 7 ص : 76أحبك أهل العراق و أحببت أهل الشام و أحب أهل الشام عبد الملك فما تصنع ثم ذكر ع أنه مني أي بلي منهم بثلاث و اثنتين إنما لم يقل بخمس لأن الثلاث إيجابية و الاثنتين سلبية فأحب أن يفرق بين الإثبات و النفي. و يروى لا أحرار صدق عند اقاء جمع صادق و لا إخوان ثقة عند البلاء أي موثوق بهم. تربت أيديكم كلمة يدعى على الإنسان بها أي لا أصبتم خيرا و أصل ترب أصابه التراب فكأنه يدعو عليه بأن يفتقر حتى يلتصق بالتراب. قوله فما إخالكم أي فما أظنكم و الأفصح كسر الألف و هو السماع و بنو أسد يفتحونها و هو القياس. قوله ألو أصله أن لو ثم أدغمت النون في الألف فصارت كلمة واحدة. و حمس الوغى بكسر الميم اشتد و عظم فهو حمس و أحمس بين الحمس و الحماسة. و الوغى في الأصل الأصوات و الجلبة و سميت الحرب نفسها وغى لما فيها من ذلك. و قوله انفراج المرأة عن قبلها أي وقت الولادة. قوله ألقطه لقطا يريد أن الضلال غالب على الهدى فأنا ألتقط طريق الهدى من بين طريق الضلال لقطا من هاهنا و هاهنا كما يسلك الإنسان طريقا دقيقة قد اكتنفها الشوك و العوسج من جانبيهما كليهما فهو يلتقط النهج التقاطا

(8/70)


انْظُرُوا أَهْلَ بَيْتِ نَبِيِّكُمْ فَالْزَمُوا سَمْتَهُمْ وَ اتَّبِعُوا أَثَرَهُمْ فَلَنْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ هُدًى وَ لَنْ يُعِيدُوكُمْ فِي رَدًى فَإِنْ لَبَدُوا فَالْبُدُوا وَ إِنْ نَهَضُوا فَانْهَضُوا وَ لَا تَسْبِقُوهُمْ فَتَضِلُّوا وَ لَا تَتَأَخَّرُوا عَنْهُمْ فَتَهْلِكُوا شرح نهج البلاغة ج : 7 ص : 77لَقَدْ رَأَيْتُ أَصْحَابَ مُحَمَّدٍ ص فَمَا أَرَى أَحَداً يُشْبِهُهُمْ مِنْكُمْ لَقَدْ كَانُوا يُصْبِحُونَ شُعْثاً غُبْراً وَ قَدْ بَاتُوا سُجَّداً وَ قِيَاماً يُرَاوِحُونَ بَيْنَ جِبَاهِهِمْ وَ خُدُودِمْ وَ يَقِفُونَ عَلَى مِثْلِ الْجَمْرِ مِنْ ذِكْرِ مَعَادِهِمْ كَأَنَّ بَيْنَ أَعْيُنِهِمْ رُكَبَ الْمِعْزَى مِنْ طُولِ سُجُودِهِمْ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ هَمَلَتْ أَعْيُنُهُمْ حَتَّى تَبُلَّ جُيُوبَهُمْ وَ مَادُوا كَمَا يَمِيدُ الشَّجَرُ يَوْمَ الرِّيحِ الْعَاصِفِ خَوْفاً مِنَ الْعِقَابِ وَ رَجَاءً لِلثَّوَابِ
السمت الطريق و لبد الشي ء بالأرض يلبد بالضم لبودا التصق بها و يصبحون شعثا غبرا من قشف العبادة و قيام الليل و صوم النهار و هجر الملاذ فيراوحون بين جباههم و خدودهم تارة يسجدون على الجباه و تارة يضعون خدودهم على الأرض بعد الصلاة تذللا و خضوعا و المراوحة بين لعمل أن يعمل هذا مرة و هذا مرة و يراوح بين رجليه إذا قام على هذه تارة و على هذه أخرى. و يقال معزى لهذا الجنس من الغنم و معز و معيز و أمعوز و معز بالتسكين و واحد المعز ماعز كصحب و صاحب و الأنثى ماعزة و الجمع مواعز. و هملت أعينهم سالت تهمل و تهمل. و يروى حتى تبل جباههم أي يبل موضع السجود فتبتل الجبهة بملاقاته و مادوا تحركوا و اضطربوا إما خوفا من العقاب كما يتحرك الرجل و يضطرب أو رجاء للثواب كما يتحرك النشوان من الطرب و كما يتحرك الجذل المسرور من الفرح

(8/71)


شرح نهج البلاغة ج : 7 ص : 9778- و من كلام له عوَ اللَّهِ لَا يَزَالُونَ حَتَّى لَا يَدَعُوا لِلَّهِ مُحَرَّماً إِلَّا اسْتَحَلُّوهُ وَ لَا عَقْداً إِلَّا حَلُّوهُ وَ حَتَّى لَا يَبْقَى بَيْتُ مَدَرٍ وَ لَا وَبَرٍ إِلَّا دَخَلَهُ ظُلْمُهُمْ وَ نَبَا بِهِ سُوءُ رِعَتِهِمْ وَ حَتَّى يَقُومَ الْبَاكِيَانِ يَبْكِيَانِ بَاكٍ يَبْكِي لِدِينِهِ وَ بَاكٍ يَبْكِي لِدُنْيَاهُ وَ حَتَّى تَكُونَ نُصْرَةُ أَحَدِكُمْ مِنْ أَحَدِهِمْ كَنُصْرَةِ الْعَبْدِ مِنْ سَيِّدِهِ إِذَا شَهِدَ أَطَاعَهُ وَ إِذَا غَابَ اغْتَابَهُ وَ حَتَّى يَكُونَ أَعْظَمَكُمْ فِيهَا غَنَاءً أَحْسَنُكُمْ بِاللَّهِ ظَنّاً فَإِنْ أَتَاكُمُ اللَّهُ بِعَافِيَةٍ فَاقْبَلُوا وَ إِنِ ابْتُلِيتُمْ فَاصْبِرُوا فَإِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ

(8/72)


تقدير الكلام لا يزالون ظالمين فحذف الخبر و هو مراد و سدت حتى و ما بعدها مسد الخبر و لا يصح ما ذهب إليه بعض المفسرين من أن زال بمعنى تحرك و انتقل فلا تكون محتاجة إلى خبر بل تكون تامة في نفسها لأن تلك مستقبلها يزول بالواو و هاهنا بالألف لا يزالون فهي الناقصة التي لم تأت تامة قط و مثلها في أنها لا تزال ناقصة ظل و ما فتى و ليس. و المحرم ما لا يحل انتهاكه و كذلك المحرمة بفتح الراء و ضمها. و بيوت المدر هي البيوت المبنية في القرى و بيوت الوبر ما يتخذ في البادية من وبر الإبل و الوبر لها كالصوف للضأن و كالشعر للمعز. شرح نهج البلاغة ج : 7 ص : 79و قد وبر البعير بالكسر فهو وبر و أوبر إذا كثر وبره و نبا به منزله إذا ضره و لم يوافقه و كذلك نبا به فراشه فالفعل لازم فإذا أردت تعديته بالهمزة قلت قد أنبى فلان على منزلي أي جعله نابيا و إن عديته بحرف الجر قلت قد نبا بمنزلي فل أي أنباه علي و هو في هذا الموضع معدى بحرف الجر. و سوء رعتهم أي سوء ورعهم أي تقواهم و الورع بكسر الراء الرجل التقي ورع يرع بالكسر فيهما ورعا و رعة و يروى سوء رعيهم أي سوء سياستهم و إمرتهم و نصرة أحدكم من أحدهم أي انتصاره منه و انتقامه فهو مصدر مضاف إلى الفاعل و قد تقدم شرح هذا المعنى و قد حمل قوم هذا المصدر على الإضافة إلى المفعول و كذلك نصرة العبد و تقدير الكلام حتى يكون نصرة أحد هؤلاء الولاة لأحدكم كنصرة سيد العبد السيئ الطريقة إياه و من في الموضعين مضافة إلى محذوف تقديره من جانب أحدهم و من جانب سيده و هذا ضعيف لما فيه من الفصل بين العبد و بين قوله إذا شهد أطاعه و هو الكلام الذي إذا استمر المعنى جعل حالا من العبد بقوله من سيده و الضمير في قوله فيها يرجع إلى غير مذكور لفظا و لكنه كالمذكور يعني الفتنة أي حتى يكون أعظمكم في الفتنة غناء. و يروى برفع أعظمكم و نصب أحسنكم و الأول أليق و هذا الكلام كله إشارة إلى بني أمية

(8/73)


شرح نهج البلاغة ج : 7 ص : 9880- و من خطبة له عنَحْمَدُهُ عَلَى مَا كَانَ وَ نَسْتَعِينُهُ مِنْ أَمْرِنَا عَلَى مَا يَكُونُ وَ نَسْأَلُهُ الْمُعَافَاةَ فِي الْأَدْيَانِ كَمَا نَسْأَلُهُ الْمُعَافَاةَ فِي الْأَبْدَانِ أُوصِيكُمْ بِالرَّفْضِ لِهَذِهِ الدُّنْيَا التَّارِكَةِ لَكُمْ وَ إِنْ لَمْ تُحِبُّوا تَرْكَهَا وَ الْمُبْلِيَةِ لِأَجْسَامِكُمْ وَ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ تَجْدِيدَهَا فَإِنَّمَا مَثَلُكُمْ وَ مَثَلُهَا كَسَفْرٍ سَلَكُوا سَبِيلًا فَكَأَنَّهُمْ قَدْ قَطَعُوهُ وَ أَمُّوا عَلَماً فَكَأَنَّهُمْ قَدْ بَلَغُوهُ وَ كَمْ عَسَى الْمُجْرِي إِلَى الْغَايَةِ أَنْ يَجْرِيَ إِلَيْهَا حَتَّى يَبْلُغَهَا وَ مَا عَسَى أَنْ يَكُونَ بَقَاءُ مَنْ لَهُ يَوْمٌ لَا يَعْدُوهُ وَ طَالِبٌ حَثِيثٌ مِنَ الْمَوْتِ يَحْدُوهُ وَ مُزْعِجٌ فِي الدُّنْيَا عَنِ الدُّنْيَا حَتَّى يُفَارِقَهَا رَغْماً فَلَا تَنَافَسُوا فِي عِزِّ الدُّنْيَا وَ فَخْرِهَا وَ لَا تَعْجَبُوا بِزِينَتِهَا وَ نَعِيمِهَا وَ لَا تَجْزَعُوا مِنْ ضَرَّائِهَا وَ بُؤْسِهَا فَإِنَّ عِزَّهَا وَ فَخْرَهَا إِلَى انْقِطَاعٍ وَ زِينَتَهَا وَ نَعِيمَهَا إِلَى زَوَالٍ وَ ضَرَّاءَهَا وَ بُؤْسَهَا إِلَى نَفَادٍ وَ كُلُّ مُدَّةٍ فِيهَا إِلَى انْتِهَاءٍ وَ كُلُّ حَيٍّ فِيهَا إِلَى فَنَاءٍ أَ وَ لَيْسَ لَكُمْ فِي آثَارِ الْأَوَّلِينَ مُزْدَجَرٌ وَ فِي آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ تَبْصِرَةٌ وَ مُعْتَبَرٌ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ أَ وَ لَمْ تَرَوْا إِلَى الْمَاضِينَ مِنْكُمْ لَا يَرْجِعُونَ وَ إِلَى الْخَلَفِ الْبَاقِينَ لَا يَبْقَوْنَ أَ وَ لَسْتُمْ تَرَوْنَ أَهْلَ الدُّنْيَا يُمْسُونَ وَ يُصْبِحُونَ عَلَى أَحْوَالٍ شَتَّى فَمَيْتٌ يُبْكَى وَ آخَرُ يُعَزَّى وَ صَرِيعٌ مُبْتَلًى وَ عَائِدٌ يَعُودُ وَ آخَرُ بِنَفْسِهِ يَجُودُ وَ طَالِبٌ

(8/74)


لِلدُّنْيَا شرح نهج البلاغة ج : 7 ص : 81وَ الْمَوْتُ يَطْلُبُهُ وَ غَافِلٌ وَ لَيْسَ بِمَغْفُولٍ عَنْهُ وَ عَلَى أَثَرِ الْمَاضِي مَا يَمْضِي الْبَاقِي أَلَا فَاذْكُرُوا هَاذِمَ اللَّذَّاتِ وَ مُنَغِّصَ الشَّهَوَاتِ وَ قَاطِعَ الْأُمْنِيَّاتِِنْدَ الْمُسَاوَرَةِ لِلْأَعْمَالِ الْقَبِيحَةِ وَ اسْتَعِينُوا اللَّهَ عَلَى أَدَاءِ وَاجِبِ حَقِّهِ وَ مَا لَا يُحْصَى مِنْ أَعْدَادِ نِعَمِهِ وَ إِحْسَانِهِ
لما كان الماضي معلوما جعل الحمد بإزائه لأن المجهول لا يحمد عليه و لما كان المستقبل غير معلوم جعل الاستعانة بإزائه لأن الماضي لا يستعان عليه و لقد ظرف و أبدع ع في قوله و نسأله المعافاة في الأديان كما نسأله المعافاة في الأبدان و ذلك أن للأديان سقما و طبا و شفاء كما أن للأبدان سقما و طبا و شفاء قال محمود الوراق
و إذا مرضت من الذنوب فداوها بالذكر إن الذكر خير دواءو السقم في الأبدان ليس بضائر و السقم في الأديان شر بلاء
و قيل لأعرابي ما تشتكي قال ذنوبي قيل فما تشتهي قال الجنة قيل أ فلا ندعو لك طبيبا قال الطبيب أمرضني. سمعت عفيرة بنت الوليد البصرية العابدة رجلا يقول ما أشد العمى على من كان بصيرا فقالت عبد الله غفلت عن مرض الذنوب و اهتممت بمرض الأجساد عمى القلوب عن الله أشد من عمى العين عن الدنيا وددت أن الله وهب لي كنه محبته و لم يبق مني جارحة إلا تبلها. قيل لحسان بن أبي سنان في مرضه ما مرضك قال مرض لا يفهمه الأطباء قيل شرح نهج البلاغة ج : 7 ص : 82و ما هو قال مرض الذنوب فقيل كيف تجدك الآن قال بخير إن نجوت من النار قيل فماشتهي قال ليلة طويلة بعيدة ما بين الطرفين أحييها بذكر الله. ابن شبرمة عجبت ممن يحتمي من الطعام مخافة الداء كيف لا يحتمي من الذنوب مخافة النار قوله ع الدنيا التاركة لكم و إن لم تحبوا تركها معنى حسن و منه قول أبي الطيب
كل دمع يسيل منها عليها و بفك اليدين عنها تخلى

(8/75)


و الرفض الترك و إبل رفض متروكة ترعى حيث شاءت و قوم سفر أي مسافرون و أموا قصدوا و العلم الجبل أو المنار في الطريق يهتدى به. و كأن في هذه المواضع كهي في قوله كأنك بالدنيا لم تكن و كأنك بالآخرة لم تزل ما أقرب ذلك و أسرعه و تقدير الكلام هاهنا كأنهم في حال كونهم غير قاطعين له قاطعون له و كأنهم في حال كونهم غير بالغين له بالغون له لأنه لما قرب زمان إحدى الحالتين من زمان الأخرى شبهوا و هم في الحال الأولى بهم أنفسهم و هم على الحال الثانية. قوله ع و كم عسى المجري أجرى فلان فرسه إلى الغاية إذا أرسلها ثم نقل ذلك إلى كل من يقصد بكلامه معنى أو بفعله غرضا فقيل فلان يجري بقوله إلى كذا أو يجري بحركته الفلانية إلى كذا أي يقصد و ينتهي بإرادته و أغراضه و لا يعدوه و لا يتجاوزه. و الحثيث السريع و يحدوه يسوقه و المنافسة المحاسدة و نفست عليه بكذا أي ضننت و البؤس الشدة و النفاد الفناء. شرح نهج البلاغة ج : 7 ص : 83و ما في قوله على أثر الماضي ما يمضي الباقي إما زائدة أو مصدرية و قد أخذ هذا اللفظ الوليد بن يزيد بن عبد الملك يوم مات مسلمة بن عبد الملك قيل لما مات مسلمة بن عبد الملك و اجتمع بنو أمية و رؤساء العرب ينظرون جنازته خرج الول بن يزيد على الناس و هو نشوان ثمل يجر مطرف خز و هو يندب مسلمة و مواليه حوله فوقف على هشام فقال يا أمير المؤمنين إن عقبى من بقي لحوق من مضى و قد أقفر بعد مسلمة الصيد لمن رمى و اختل الثغر فوهى و ارتج الطود فهوى و على أثر من سلف ما يمضي من خلف فتزودوا فإن خير الزاد التقوى. قوله ع عند مساورة الأعمال القبيحة العامل في عند قوله اذكروا أي ليكن ذكركم الموت وقت مساورتكم و المساورة المواثبة و سار إليه يسور سورا وثب قال الأخطل يصف خمرا له
لما أتوها بمصباح و مبزلهم سارت إليهم سئور الأبجل الضاري

(8/76)


أي كوثوب العرق الذي قد فصد أو قطع فلا يكاد ينقطع دمه و يقال إن لغضبه لسورة و هو سوار أي وثاب معربد
شرح نهج البلاغة ج : 7 ص : 9984- و من خطبة له عالْحَمْدُ لِلَّهِ النَّاشِرِ فِي الْخَلْقِ فَضْلَهُ وَ الْبَاسِطِ فِيهِمْ بِالْجُودِ يَدَهُ نَحْمَدُهُ فِي جَمِيعِ أُمُورِهِ وَ نَسْتَعِينُهُ عَلَى رِعَايَةِ حُقُوقِهِ وَ نَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ غَيْرُهُ وَ أَنَّ مُحَمَّداً عَبْدُهُ وَ رَسُولُهُ أَرْسَلَهُ بِأَمْرِهِ صَادِعاً وَ بِذِكْرِهِ نَاطِقاً فَأَدَّى أَمِيناً وَ مَضَى رَشِيداً وَ خَلَّفَ فِينَا رَايَةَ الْحَقِّ مَنْ تَقَدَّمَهَا مَرَقَ وَ مَنْ تَخَلَّفَ عَنْهَا زَهَقَ وَ مَنْ لَزِمَهَا لَحِقَ دَلِيلُهَا مَكِيثُ الْكَلَامِ بَطِي ءُ الْقِيَامِ سَرِيع إِذَا قَامَ فَإِذَا أَنْتُمْ أَلَنْتُمْ لَهُ رِقَابَكُمْ وَ أَشَرْتُمْ إِلَيْهِ بِأَصَابِعِكُمْ جَاءَهُ الْمَوْتُ فَذَهَبَ بِهِ فَلَبِثْتُمْ بَعْدَهُ مَا شَاءَ اللَّهُ حَتَّى يُطْلِعَ اللَّهُ لَكُمْ مَنْ يَجْمَعُكُمْ وَ يَضُمُّ نَشْرَكُمْ فَلَا تَطْمَعُوا فِي غَيْرِ مُقْبِلٍ وَ لَا تَيْأَسُوا مِنْ مُدْبِرٍ فَإِنَّ الْمُدْبِرَ عَسَى أَنْ تَزِلَّ بِهِ إِحْدَى قَائِمَتَيْهِ وَ تَثْبُتَ الْأُخْرَى فَتَرْجِعَا حَتَّى تَثْبُتَا جَمِيعاً أَلَا إِنَّ مَثَلَ آلِ مُحَمَّدٍ ص كَمَثَلِ نُجُومِ السَّمَاءِ إِذَا خَوَى نَجْمٌ طَلَعَ نَجْمٌ فَكَأَنَّكُمْ قَدْ تَكَامَلَتْ مِنَ اللَّهِ فِيكُمُ الصَّنَائِعُ وَ أَرَاكُمْ مَا كُنْتُمْ تَأْمُلُونَ
يده هاهنا نعمته يقال لفلان عندي يد أي نعمة و إحسان قال الشاعر
فإن ترجع الأيام بيني و بينها فإن لها عندي يدا لا أضيعها

(8/77)


شرح نهج البلاغة ج : 7 ص : 85و صادعا أي مظهرا و مجاهرا للمشركين قال تعالى فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ و راية الحق الثقلان المخلفان بعد رسول الله ص و هما الكتاب و العترة. و مرق خرج أي فارق الحق و مزق السهم عن الرمية خرج من جانبها الآخر و به سميت الخوارق مارقةو زهقت نفسه بالفتح زهوقا أي خرجت قال تعالى وَ تَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَ هُمْ كافِرُونَ و زهقت الناقة إذا سبقت و تقدمت أمام الركاب و زهق الباطل اضمحل يقول ع من خالفها متقدما لها أو متأخرا عنها فقد خرج عن الحق و من لازمها فقد أصاب الحق. ثم قال دليلها مكيث الكلام يعني نفسه ع لأنه المشار إليه من العترة و أعلم الناس بالكتاب و مكيث الكلام بطيئه و رجل مكيث أي رزين و المكث اللبث و الانتظار مكث و مكث بالفتح و الضم و الاسم المكث و المكثة بالضم و كسرها يعني أنه ذو أناة و تؤدة ثم أكد ذلك بقوله بطي ء القيام ثم قال سريع ذا قام أي هو متأن متثبت في أحواله فإذا نهض جد و بالغ و هذا المعنى كثير جدا قال أبو الطيب
و ما قلت للبدر أنت اللجين و لا قلت للشمس أنت الذهب فيقلق منه البعيد الأناة و يغضب منه البطي ء الغضيعني سيف الدولة شرح نهج البلاغة ج : 7 ص : 8أقوال مأثورة في مدح الأناة و ذم العجلة
و من أمثالهم يريك الهوينى و الأمور تطير يضرب لمن ظاهره الأناة و باطنه إبرام الأمور و تنفيذها و الحاضرون لا يشعرون و يقولون لمن هو كذلك وَ تَرَى الْجِبالَ تَحْسَبُها جامِدَةً وَ هِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحابِ. و وقع ذو الرئاستين إلى عامل له أن أسرع النار التهابا أسرعها خمودا فتأن في أمرك
و يقال إن آدم ع أوصى ولده عند موته فقال كل عمل تريدون أن تعملوه فتوقفوا فيه ساعة فإني لو توقفت لم يصبني ما أصابني
بعض الأعراب يوصي ولده إياكم و العجلة فإن أبي كان يكنيها أم الندم. و كان يقال من ورد عجلا صدر خجلا. و قال ابن هاني المغربي

(8/78)


و كل أناة في المواطن سؤدد و لا كأناة من قدير محكم و من يتبين أن للصفح موضعا من السيف يصفح عن كثير و يحلم و ما الرأي إلا بعد طول تثبت و لا الحزم إلا بعد طول تلوو قوله ع بطي ء القيام سريع إذا قام فيه شبه من قول الشنفري مسبل في الحي أحوى رفل و إذا يغزو فسمع أزل
و من أمثالهم في مدح الأناة و ذم العجلة أخطأ مستعجل أو كاد و أصاب متثبت أو كاد. شرح نهج البلاغة ج : 7 ص : 87و منهاو قد يكون مع المستعجل الزلل
و منها رب عجلة تهب ريثا و قال البحتري
حليم إذا القوم استخفت حلومهم وقور إذا ما حادث الدهر أجلبا
قال الأحنف لرجل سبه فأفرط يا هذا إنك منذ اليوم تحدو بجمل ثقال. و قال الشاعر
أحلامنا تزن الجبال رجاحة و تخالنا جنا إذا ما نجهل
فصل في مدح قلة الكلام و ذم كثرته
فأما قوله ع مكيث الكلام فإن قلة الكلام من صفات المدح و كثرته من صفات الذم قالت جارية ابن السماك له ما أحسن كلامك لو لا أنك تكثر ترداده فقال أردده حتى يفهمه من لم يفهمه قالت فإلى أن يفهمه من لم يفهمه قد مله من فهمه. بعث عبد العزيز بن مروان بن الحكم إلى ابن أخيه الوليد بن عبد الملك قطيفة حمراء و كتب إليه أما بعد فقد بعثت إليك بقطيفة حمراء حمراء حمراء فكتب إليه الوليد أما بعد فقد وصلت القطيفة و أنت يا عم أحمق أحمق أحمق. شرح نهج البلاغة ج : 7 ص : 88و قال المعتضد لأحمد بن الطيب السرخسي طول لسانك دليل على قصر عك. قيل للعتابي ما البلاغة قال كل من أفهمك حاجته من غير إعادة و لا خلسة و لا استعانة فهو بليغ قيل له ما الاستعانة قال أ لا ترى الرجل إذا حدث قال يا هناه و استمع إلي و افهم و أ لست تفهم هذا كله عي و فساد. دخل على المأمون جماعة من بني العباس فاستنطقهم فوجدهم لكنا مع يسار و هيئة و من تكلم منهم أكثر و هذر فكانت حاله أفحش من حال الساكتين فقال ما أبين الخلة في هؤلاء لا خلة الأيدي بل خلة الألسنة و الأحلام.

(8/79)


و سئل علي ع عن اللسان فقال معيار أطاشه الجهل و أرجحه العقل
سمع خالد بن صفوان مكثارا يتكلم فقال له يا هذا ليست البلاغة بخفة اللسان و لا بكثرة الهذيان و لكنها إصابة المعنى و القصد إلى الحجة. قال أبو سفيان بن حرب لعبد الله بن الزبعري ما لك لا تسهب في شعرك قال حسبك من الشعر غرة لائحة أو وصمة فاضحة. و في خطبة كتاب البيان و التبيين لشيخنا أبي عثمان و نعوذ بك من شر السلاطة و الهذر كما نعوذ بك من العي و الحصر قال أحيحة بن الجلاح
و الصمت أجمل بالفتى ما لم يكن عي يشينه و القول ذو خطل إذا ما لم يكن لب يعينهو قال الشاعر يرثي رجلا
لقد وارى المقابر من شريك كثير تحلم و قليل عاب
شرح نهج البلاغة ج : 7 ص : 89صموتا في المجالس غير عي جديرا حين ينطق بالصواو كان رسول الله ص يكره التشادق و الإطالة و الهذر و قال إياك و التشادق
و قال ص أبغضكم إلي الثرثارون المتفيهقون
و روى عمرو بن عبيد رحمه الله تعالى عن النبي ص أنا معاشر الأنبياء بكاءون قليلو الكلام

(8/80)


رجل بكي ء على فعيل. قال و كانوا يكرهون أن يزيد منطق الرجل على عقله. و قيل للخليل و قد اجتمع بابن المقفع كيف رأيته فقال لسانه أرجح من عقله و قيل لابن المقفع كيف رأيت الخليل قال عقله أرجح من لسانه فكان عاقبتهما أن عاش الخليل مصونا مكرما و قتل ابن المقفع تلكالقتلة. و سأل حفص بن سالم عمرو بن عبيد عن البلاغة فقال ما بلغك الجنة و باعدك عن النار و بصرك مواقع رشدك و عواقب غيك قال ليس عن هذا أسأل فقال كانوا يخافون من فتنة القول و من سقطات الكلام و لا يخافون من فتنة السكوت و سقطات الصمت. قال أبو عثمان الجاحظ و كان عمرو بن عبيد رحمه الله تعالى لا يكاد يتكلم فإن تكلم لم يكد يطيل و كان يقول لا خير في المتكلم إذا كان كلامه لمن شهده دون نفسه و إذا أطال المتكلم الكلام عرضت له أسباب التكلف و لا خير في شي ء يأتيك بالتكلف. و قال بعض الشعراء و إذا خطبت على الرجال فلا تكن خطل الكلام تقوله مختالا
شرح نهج البلاغة ج : 7 ص : 90و اعلم بأن من السكوت إبانة و من التكلف ما يكون خبالو كان يقال لسان العاقل من وراء قلبه فإذا أراد الكلام تفكر فإن كان له قال و إن كان عليه سكت و قلب الجاهل من وراء لسانه فإن هم بالكلام تكلم به. و قال سعد بن أبي وقاص لعمرو ابنه حين نطق مع القوم فبذهم و قد كان غضب عليه فكلموه في الرضا عنه هذا الذي أغضبني عليه
سمعت رسول الله ص يقول يكون قوم يأكلون الدنيا بألسنتهم كما تلحس الأرض البقر بألسنتها

(8/81)


و قال معاوية لعمرو بن العاص في أبي موسى قد ضم إليك رجل طويل اللسان قصير الرأي فأجد الحز و طبق المفصل و لا تلقه برأيك كله. و كان يقال لو كان الكلام من فضة لكان السكوت من ذهب. و كان يقال مقتل الرجل بين فكيه و قيل بين لحييه. و كان يقال ما شي ء بأحق بسجن من لان. و قالوا اللسان سبع عقور. و أخذ أبو بكر بطرف لسانه و قال هذا الذي أوردني الموارد. لما أنكح ضرار بن عمرو ابنته من معبد بن زرارة أوصاها حين أخرجها إليه فقال أمسكي عليك الفضلين قالت و ما هما قال فضل الغلمة و فضل الكلام. و سئل أعرابي كان يجالس الشعبي عن طول صمته فقال أسمع فأعلم و أسكت فأسلم. و
قال النبي ص و هل يكب الناس في النار على مناخرهم إلا حصائد ألسنتهم
شرح نهج البلاغة ج : 7 ص : 91تكلم رجل في مجلس النبي ص فخطل في كلامه فقال ع ما أعطي العبد شرا من ذلاقة لسانقال عمر بن عبد العزيز يوم بويع بالخلافة خالد بن عبد الله القسري و قد أنشده متمثلا
و إذا الدر زان حسن نحور كان للدر حسن نحرك زينا
إن صاحبكم أعطي مقولا و حرم معقولا. و قيل لإياس بن عمر ادع لنا فقال اللهم ارحمنا و عافنا و ارزقنا فقالوا زدنا يا أبا الرحمن فقال أعوذ بالله من الإسهاب. و كان القباع و هو الحارث بن عبد الله بن أبي ربيعة بن المغيرة المخزومي مسهابا سريع الحديث كثيره فقال فيه أبو الأسود الدؤلي
أمير المؤمنين جزيت خيرا أرحنا من قباع بني المغيرةبلوناه و لمناه فأعيا علينا ما يمر لنا مريره على أن الفتى نكح أكول و مسهاب مذاهبه كثيرهو قال أبو العتاهية
كل امرئ في نفسه أعلى و أشرف من قرينه و الصمت أجمل بالفتى من منطق في غير حينهو قال الشاعر
و إياك إياك المراء فإنه إلى الشر دعاء و للشر جالب

(8/82)


و كان يقال العجلة قيد الكلام. شرح نهج البلاغة ج : 7 ص : 92أطال خطيب بين يدي الإسكندر فزبره قال ليس حسن الخطبة على حسب طاقة الخاطب و لكن على حسب طاقة السامع. محمد الباقر ع إني لأكره أن يكون مقدار لسان الرجل فاضلا على مقدار علمه كما أكره أن يكون مقدار علمه فاضلا على مقدار عقله
أطال ربيعة الرأي الكلام و عنده أعرابي فلما فرغ من كلامه قال للأعرابي ما تعدون العي و الفهاهة فيكم قال ما كنت فيه أصلحك الله منذ اليوم و
من كلام أمير المؤمنين ع إذا تم العقل نقص الكلام
واصل بن عطاء لأن يقول الله لي يوم القيامة هلا قلت أحب إلي من أن يقول لي لم قلت لأني إذا قلت طالبني بالبرهان و إذا سكت لم يطالبني بشي ء. نزل النعمان بن المنذر برابية فقال له رجل من أصحابه أبيت اللعن لو ذبح رجل على رأس هذه الرابية إلى أين كان يبلغ دمه فقال لنعمان المذبوح و الله أنت و لأنظرن إلى أين يبلغ دمك فذبحه فقال رجل رب كلمة تقول دعني. أعرابي رب منطق صدع جمعا و رب سكوت شعب صدعا. قالت امرأة لبعلها ما لك إذا خرجت تطلقت و تحدثت و إذا دخلت قعدت و سكت قال لأني أدق عن جليلك و تجلين عن دقيقي. النخعي كانوا يتعلمون السكوت كما يتعلمون الكلام. علي بن هشام
لعمرك إن الحلم زين لأهله و ما الحلم إلا عادة و تحلم إذا لم يكن صمت الفتى من بلادة و عي فإن الصمت أهدى و أسلموهيب بن الورد إن الحكمة عشرة أجزاء تسعة منها في الصمت و العاشرة العزلة عن الناس. شرح نهج البلاغة ج : 7 ص : 93مكث الربيع بن خثيم عشرين سنة لا يتكلم إلى أن قتل الحسين ع فسمعت منه كلمة واحدة قال لما بلغه ذلك أ و قد فعلوها ثم قال اللهم فاطر السماوات و الأرض لم الغيب و الشهادة أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون ثم عاد إلى السكوت حتى مات. الفضل بن العباس بن عتبة بن أبي لهب

(8/83)


زعم ابن سلمى أن حلمي ضرني ما ضر قبلي أهله الحلم إنا أناس من سجيتهم صدق الحديث و رأيهم حتم لبسوا الحياء فإن نظرت حسبتهم سقموا و لم يمسسهم سقم إني وجدت العدم أكبره عدم العقول و ذلك العدم و المرء أكثر عيبه ضررا خطل اللسان و صمته جاء في الحديث المرفوع عن النبي ص إذا رأيتم المؤمن صموتا فادنوا منه فإنه يلقى الحكمة
سفيان بن عيينة من حرم العلم فليصمت فإن حرمها فالموت خير له. و كان يقال إذا طلبت صلاح قلبك فاستعن عليه بحفظ لسانك

(8/84)


و اعلم أن هذه الخطبة خطب بها أمير المؤمنين ع في الجمعة الثالثة من خلافته و كنى فيها عن حال نفسه و أعلمهم فيها أنهم سيفارقونه و يفقدونه بعد اجتماعهم عليه و طاعتهم له و هكذا وقع الأمر فإنه نقل أن أهل العراق لم يكونوا أشد اجتماعا عليه من الشهر الذي قتل فيه ع. و جاء في الأخبار أنه عقد للحسن ابنه ع على عشرة آلاف و لأبي أيوب شرح نهج البلاغة ج : 7 ص : 94الأنصاري على عشرة آلاف و لفلان و فلان حتى اجتمع له مائة ألف سيف و أخرج مقدمته أمامه يريد الشام فضربه اللعين ابن ملجم و كان من أمره ما كان و انفضت تلك الجموع و كا كالغنم فقد راعيها. و معنى قوله ألنتم له رقابكم أطعتموه و معنى أشرتم إليه بأصابعكم أعظمتموه و أجللتموه كالملك الذي يشار إليه بالإصبع و لا يخاطب باللسان ثم أخبرهم أنهم يلبثون بعده ما شاء الله و لم يحدد ذلك بوقت معين ثم يطلع الله لهم من يجمعهم و يضمهم يعني من أهل البيت ع و هذا إشارة إلى المهدي الذي يظهر في آخر الوقت و عند أصحابنا أنه غير موجود الآن و سيوجد و عند الإمامية أنه موجود الآن. قوله ع فلا تطمعوا في غير مقبل و لا تيأسوا من مدبر ظاهر هذا الكلام متناقض و تأويله أنه نهاهم عن أن يطمعوا في صلاح أمورهم على يد رئيس غير مستأنف الرئاسة و هو معنى مقبل أي قادم تقول سوف أفعل كذا في الشهر المقبل و في السنة المقبلة أي القادمة يقول كل الرئاسات التي تشاهدونها فلا تطمعوا في صلاح أموركم بشي ء منها و لأن تنصلح أموركم على يد رئيس يقدم عليكم مستأنف الرئاسة خامل الذكر ليس بوه بخليفة و لا كان هو و لا أبوه مشهورين بينكم برئاسة بل يتبع و يعلو أمره و لم يكن قبل معروفا هو و لا أهله الأدنون و هذه صفة المهدي الموعود به. و معنى قوله و لا تيأسوا من مدبر أي و إذا مات هذا المهدي و خلفه بنوه بعده فاضطرب أمر أحدهم فلا تيأسوا و تتشككوا و تقولوا لعلنا أخطأنا في اتباع هؤلاء فإن المضطرب الأمر منا ستثبت

(8/85)


دعائمه و تنتظم أموره و إذا زلت إحدى رجليه ثبتت شرح نهج البلاغة ج : 7 ص : 95الأخرى فثبتت الأولى أيضا و يروى فلا تطعنوا في عين مقبل أي لا تحاربوا أحدا منا و لا تيأسوا من إقبال من يدبر أمره مناثم ذكر ع أنهم كنجوم السماء كلما خوى نجم طلع نجم خوى مال للمغيب. ثم وعدهم بقرب الفرج فقال إن تكامل صنائع الله عندكم و رؤية ما تأملونه أمر قد قرب وقته و كأنكم به و قد حضر و كان و هذا على نمط المواعيد الإلهية بقيام الساعة فإن الكتب المنزلة كلها صرحت بقربها و إن كانت بعيدة عندنا لأن البعيد في معلوم الله قريب و قد قال سبحانه إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيداً وَ نَراهُ قَرِيباً
شرح نهج البلاغة ج : 7 ص : 10096- و من خطبة له ع و هي من الخطب التي تشتمل على ذكر الملاحمالْحَمْدُ لِلَّهِ الْأَوَّلِ قَبْلَ كُلِّ أَوَّلٍ وَ الآْخِرِ بَعْدَ كُلِّ آخِرٍ وَ بِأَوَّلِيَّتِهِ وَجَبَ أَنْ لَا أَوَّلَ لَهُ وَ بِآخِرِيَّتِهِ وَجَبَ أَنْ لَا آخِرَ لَهُ

(8/86)


يقول البارئ تعالى موجود قبل كل شي ء يشير العقل إليه و يفرضه أول الموجودات و كذلك هو موجود بعد كل شي ء يشير العقل إليه و يفرضه آخر ما يبقى من جميع الموجودات فإن البارئ سبحانه بالاعتبار الأول يكون أولا قبل كل ما يفرض أولا و بالاعتبار الثاني يكون آخرا بعد كما يفرض آخرا. فأما قوله بأوليته وجب أن لا أول له إلى آخر الكلام فيمكن أن يفسر على وجهين أحدهما أنه تعالى لما فرضناه أولا مطلقا تبع هذا الفرض أن يكون قديما أزليا و هو المعني بقوله وجب أن لا أول و إنما تبعه ذلك لأنه لو لم يكن أزليا لكان محدثا فكان له محدث و المحدث متقدم على المحدث لكنا فرضناه أولا مطلقا أي لا يتقدم عليه شي ء فيلزم المحال و الخلف و هكذا القول في آخريته لأنا إذا فرضناه آخرا مطلقا تبع هذا الفرض أن يكون مستحيل العدم و هو المعني بقوله وجب أن لا آخر له شرح نهج البلاغة ج : 7 ص : 97و إنما تبعه ذلكنه لو لم يستحل عدمه لصح عدمه لكن كل صحيح و ممكن فليفرض وقوعه لأنه لا يلزم من فرض وقوعه محال مع فرضنا إياه صحيحا و ممكنا لكن فرض تحقق عدمه محال لأنه لو عدم لما عدم بعد استمرار الوجودية إلا بضد لكن الضد المعدم يبقى بعد تحقق عدم الضد المعدوم لاستحالة أن يعدمه و يعدم معه في وقت واحد لأنه لو كان وقت عدم الطارئ هو وقت عدم الضد المطروء عليه لامتنع عدم الضد المطروء عليه لأن حال عدمه الذي هو الأثر المتجدد تكون العلة الموجبة للأثر معدومة و المعدوم يستحيل أن يكون مؤثرا البتة فثبت أن الضد الطارئ لا بد أن يبقى بعد عدم المطروء عليه و لو وقتا واحدا لكن بقاءه بعده و لو وقتا واحدا يناقض فرضنا كون المطروء عليه آخرا مطلقا لأن الضد الطارئ قد بقي بعده فيلزم من الخلف و المحال ما لزم في المسألة الأولى. و التفسير الثاني ألا تكون الضمائر الأربعة راجعة إلى البارئ سبحانه بل يكون منها ضميران راجعين إلى غيره و يكون تقدير الكلام بأولية الأول الذي فرضنا

(8/87)


كون البارئ سابقا عليه علمنا أن البارئ لا أول له و بآخرية الآخر الذي فرضنا أن البارئ متأخر عنه علمنا أن البارئ لا آخر له و إنما علمنا ذلك لأنه لو كان سبحانه أولا لأول الموجودات و له مع ذلك أول لزم التسلسل و إثبات محدثين و محدثين إلى غير نهاية و هذا محال. و لو كان سبحانه آخرا لآخر الموجودات و له مع ذلك آخر لزم التسلسل و إثبات أضداد تعدم و يعدمها غيرها إلى غير نهاية و هذا أيضا محال
وَ أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ شَهَادَةً يُوَافِقُ فِيهَا السِّرُّ الْإِعْلَانَ وَ الْقَلْبُ اللِّسَانَ شرح نهج البلاغة ج : 7 ص : 98أَيُّهَا النَّاسُ لَا يَجْرِمَنَّكُمْ شِقَاقِي وَ لَا يَسْتَهْوِيَنَّكُمْ عِصْيَانِي وَ لَا تَتَرَامَوْا بِالْبْصَارِ عِنْدَ مَا تَسْمَعُونَهُ مِنِّي فَوَالَّذِي فَلَقَ الْحَبَّةَ وَ بَرَأَ النَّسَمَةَ إِنَّ الَّذِي أُنَبِّئُكُمْ بِهِ عَنِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ ص وَ اللَّهِ مَا كَذَبَ الْمُبَلِّغُ وَ لَا جَهِلَ السَّامِعُ لَكَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى ضِلِّيلٍ قَدْ نَعَقَ بِالشَّامِ وَ فَحَصَ بِرَايَاتِهِ فِي ضَوَاحِي كُوفَانَ فَإِذَا فَغَرَتْ فَاغِرَتُهُ وَ اشْتَدَّتْ شَكِيمَتُهُ وَ ثَقُلَتْ فِي الْأَرْضِ وَطْأَتُهُ عَضَّتِ الْفِتْنَةُ أَبْنَاءَهَا بِأَنْيَابِهَا وَ مَاجَتِ الْحَرْبُ بِأَمْوَاجِهَا وَ بَدَا مِنَ الْأَيَّامِ كُلُوحُهَا وَ مِنَ اللَّيَالِي كُدُوحُهَا فَإِذَا أَيْنَعَ زَرْعُهُ وَ قَامَ عَلَى يَنْعِهِ وَ هَدَرَتْ شَقَاشِقُهُ وَ بَرَقَتْ بَوَارِقُهُ عُقِدَتْ رَايَاتُ الْفِتَنِ الْمُعْضِلَةِ وَ أَقْبَلْنَ كَاللَّيْلِ الْمُظْلِمِ وَ الْبَحْرِ الْمُلْتَطِمِ هَذَا وَ كَمْ يَخْرِقُ الْكُوفَةَ مِنْ قَاصِفٍ وَ يَمُرُّ عَلَيْهَا مِنْ عَاصِفٍ وَ عَنْ قَلِيلٍ تَلْتَفُّ الْقُرُونُ بِالْقُرُونِ وَ يُحْصَدُ الْقَائِمُ وَ يُحْطَمُ الْمَحْصُودُ

(8/88)


في الكلام محذوف و تقديره لا يجرمنكم شقاقي على أن تكذبوني و المفعول فضلة و حذفه كثير نحو قوله تعالى اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَ يَقْدِرُ فحذف العائد إلى الموصول و منها قوله سبحانه لا عاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ أي من رحمه و لا بد من تقدير العائد إلى الموصول و قد قرئ قوله وَ ما عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ و ما عملت أيديهم بحذف المفعول. لا يجرمنكم لا يحملنكم و قيل لا يكسبنكم و هو من الألفاظ القرآنية. شرح نهج البلاغة ج : 7 ص : 99و لا يستهوينكم أي لا يستهيمنكم يجعلكم هائم. و لا تتراموا بالأبصار أي لا يلحظ بعضكم بعضا فعل المنكر المكذب. ثم أقسم بالذي فلق الحبة و برأ النسمة فلق الحبة من البر أي شقها و أخرج منها الورق الأخضر قال تعالى إِنَّ اللَّهَ فالِقُ الْحَبِّ وَ النَّوى. و برأ النسمة أي خلق الإنسان و هذا القسم لا يزال أمير المؤمنين يقسم به و هو من مبتكراته و مبتدعاته. و المبلغ و السامع هو نفسه ع يقول
ما كذبت على الرسول تعمدا و لا جهلت ما قاله فأنقل عنه غلطا

(8/89)


و الضليل الكثير الضلال كالشريب و الفسيق و نحوهما. و هذا كناية عن عبد الملك بن مروان لأن هذه الصفات و الأمارات فيه أتم منها في غيره لأنه قام بالشام حين دعا إلى نفسه و هو معنى نعيقه و فحصت راياته بالكوفة تارة حين شخص بنفسه إلى العراق و قتل مصعبا و تارة لما استخلف الأمراء على الكوفة كبشر بن مروان أخيه و غيره حتى انتهى الأمر إلى الحجاج و هو زمان اشتداد شكيمة عبد الملك و ثقل وطأته و حينئذ صعب الأمر جدا و تفاقمت الفتن مع الخوارج و عبد الرحمن بن الأشعث فلما كمل أمر عبد الملك و هو معنى أينع زرعه هلك و عقدت رايات الفتن المعضلة من بعده كحروب أولاده مع بني المهلب و كحروبهم مع زيد بن علي ع و كالفتن الكائنة بالكوفة أيام يوسف بن عمر و خالد القسري و عمر بن هبيرة و غيرهم و ما جرى فيها من الظلم و استئصال الأموال و ذهاب النفوس. شرح نهج البلاغة ج : 7 ص : 100و قد قيل إنه كنى معاوية و ما حدث في أيامه من الفتن و ما حدث بعده من فتنة يزيد و عبيد الله بن زياد و واقعة الحسين ع و الأول أرجح لأن معاوية في أيام أمير المؤمنين ع كان قد نعق بالشام و دعاهم إلى نفسه و الكلام يدل على إنسان ينعق فيما بعد أ لا تراه يقول لكأني أنظر إلى ضليل قد نعق بالشام ثم نعود إلى تفسير الألفاظ و الغريب. النعيق صوت الراعي بغنمه و فحص براياته من قولهم ما له مفحص قطاة أي مجثمها كأنهم جعلوا ضواحي الكوفة مفحصا و مجثما لراياتهم. و كوفان اسم الكوفة و الكوفة في الأصل اسم الرملة الحمراء و بها سميت الكوفة و ضواحيها نواحيها القريبة منها البارزة عنها يريد رستاقها. و فغرت فاغرته فتح فاه و هذا من باب الاستعارة أي إذا فتك فتح فاه و قتل كما يفتح الأسد فاه عند الافتراس و التأنيف للفتنة. و الشكيمة في الأصل حديدة معترضة في اللجام في فم الدابة ثم قالوا فلان شديد الشكيمة إذا كان شديد المراس شديد النفس عسر الانقياد. و ثقلت وطأته عظم جوره و ظلمه

(8/90)


و كلوح الأيام عبوسها و الكدوح الآثار من الجراحات. و القروح الواحد الكدح أي الخدش. و المراد من قوله من الأيام ثم قال و من الليالي أن هذه الفتنة مستمرة الزمان كله لأن الزمان ليس إلا النهار و الليل. و أينع الزرع أدرك و نضج و هو الينع و الينع بالفتح و الضم مثل النضج و النضج
شرح نهج البلاغة ج : 7 ص : 101و يجوز ينع الزرع بغير همز ينع ينوعا و لم تسقط الياء في المضارع لأنها تقوت بأختها و زرع ينيع و يانع مثل نضيج و ناضج و قد روي أيضا هذا الموضع بحذف الهمز. و قوله ع و قام على ينعه الأحسن أن يكون ينع هاهنا جمع يانع كصاحب و صحب ذكذلك ابن كيسان و يجوز أن يكون أراد المصدر أي و قام على صفة و حالة هي نضجه و إدراكه. و هدرت شقاشقه قد مر تفسيره في الشقشقية و برقت بوارقه سيوفه و رماحه و المعضلة العسرة العلاج داء معضل. و يخرق الكوفة يقطعها و القاصف الريح القوية تكسر كل ما تمر عليه و تقصفه. ثم وعد ع بظهور دولة أخرى فقال و عن قليل تلتف القرون بالقرون و هذا كناية عن الدولة العباسية التي ظهرت على دولة بني أمية و القرون الأجيال من الناس واحدها قرن بالفتح. و يحصد القائم و يحطم المحصود كناية عن قتل الأمراء من بني أمية في الحرب ثم قتل المأسورين منهم صبرا فحصد القائم قتل المحاربة و حطم الحصيد القتل صبرا و هكذا وقعت الحال مع عبد الله بن علي و أبي العباس السفاح
شرح نهج البلاغة ج : 7 ص : 101102- و من خطبة له ع تجري هذا المجرىوَ ذَلِكَ يَوْمٌ يَجْمَعُ اللَّهُ فِيهِ الْأَوَّلِينَ وَ الآْخِرِينَ لِنِقَاشِ الْحِسَابِ وَ جَزَاءِ الْأَعْمَالِ خُضُوعاً قِيَاماً قَدْ أَلْجَمَهُمُ الْعَرَقُ وَ رَجَفَتْ بِهِمُ الْأَرْضُ فَأَحْسَنُهُمُ حَالًا مَنْ وَجَدَ لِقَدَمَيْهِ مَوْضِعاً وَ لِنَفْسِهِ مُتَّسَعاً
هذا شرح حال يوم القيامة و النقاش مصدر ناقش أي استقصى في الحساب
و في الحديث من نوقش الحساب عذب

(8/91)


و ألجمهم العرق سال منهم حتى بلغ إلى موضع اللجام من الدابة و هو الفم. و رجفت بهم تحركت و اضطربت رجف يرجف بالضم و الرجفة الزلزلة و الرجاف من أسماء البحر سمي بذلك لاضطرابه. ثم وصف الزحام الشديد الذي يكون هناك فقال أحسن الناس حالا هناك من وجد لقدميه موضعا و من وجد مكانا يسعه
وَ مِنْهَا فِتَنٌ كَقِطَعِ اللَّيْلِ الْمُظْلِمِ لَا تَقُومُ لَهَا قَائِمَةٌ وَ لَا تُرَدُّ لَهَا رَايَةٌ تَأْتِيكُمْ مَزْمُومَةً مَرْحُولَةً يَحْفِزُهَا قَائِدُهَا وَ يَجْهَدُهَا رَاكِبُهَا أَهْلُهَا قَوْمٌ شَدِيدٌ كَلَبُهُمْ قَلِيلٌ شرح نهج البلاغة ج : ص : 103سَلَبُهُمْ يُجَاهِدُهُمْ فِي اللَّهِ قَوْمٌ أَذِلَّةٌ عِنْدَ الْمُتَكَبِّرِينَ فِي الْأَرْضِ مَجْهُولُونَ وَ فِي السَّمَاءِ مَعْرُوفُونَ فَوَيْلٌ لَكِ يَا بَصْرَةُ عِنْدَ ذَلِكِ مِنْ جَيْشٍ مِنْ نِقَمِ اللَّهِ لَا رَهَجَ لَهُ وَ لَا حِسَّ وَ سَيُبْتَلَى أَهْلُكِ بِالْمَوْتِ الْأَحْمَرِ وَ الْجُوعِ الْأَغْبَرِ

(8/92)


قطع الليل جمع قطع و هو الظلمة قال تعالى فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ. قوله لا تقوم لها قائمة أي لا تنهض بحربها فئة ناهضة أو لا تقوم لتلك الفتن قائمة من قوائم الخيل يعني لا سبيل إلى قتال أهلها و لا يقوم لها قلعة قائمة أو بنية قائمة بل تنهدم. قوله و لا يرد لها راية أي لا تنهزم و لا تفر لأنها إذا فرت فقد ردت على أعقابها. قوله مزمومة مرحولة أي تامة الأدوات كاملة الآلات كالناقة التي عليها رحلها و زمامها قد استعدت لأن تركب. يحفزها يدفعها و يجهدها يحمل عليها في السير فوق طاقتها جهدت دابتي بالفتح و يجوز أجهدت و المراد أن أرباب تلك الفتن يجتهدون و يجدون في إضرام نارها رجلا و فرسانا فالرجل كنى عنهم بالقائد و الفرسان كنى عنهم بالراكب. و الكلب الشدة من البرد و غيره و مثله الكلبة و قد كلب الشتاء و كلب القحط و كلب العدو و الكلب أيضا الشر دفعت عنك كلب فلان أي شره و أذاه. شرح نهج البلاغة ج : 7 ص : 104و قوله قليل سلبهم أي همهم القتل لا السلب كما قال أبو تمامإن الأسود أسود الغاب همتها يوم الكريهة في المسلوب لا السلب

(8/93)


ثم ذكر ع أن هؤلاء أرباب الفتن يجاهدهم قوم أذلة كما قال الله تعالى أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكافِرِينَ و ذلك من صفات المؤمنين. ثم قال هم مجهولون عند أهل الأرض لخمولهم قبل هذا الجهاد و لكنهم معروفون عند أهل السماء و هذا إنذار بملحمة تجري في آخر الزمان و قد أخبر النبي ص بنحو ذلك و قد فسر هذا الفصل قوم و قالوا إنه أشار به إلى الملائكة لأنهم مجهولون في الأرض معروفون في السماء و اعتذروا عن لفظة قوم فقالوا يجوز أن يقال في الملائكة قوم كما قيل في الجن قوم قال سبحانه فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ إلا أن لفظ أذلة عند المتكبرين يبعد هذا التفسير. ثم أخبر بهلاك البصرة بجيش من نقم الله لا رهج له و لا حس الرهج الغبار و كنى بهذا الجيش عن جدب و طاعون يصيب أهلها حتى يبيدهم و الموت الأحمر كناية عن الوباء و الجوع. الأغبر كناية عن المحل و سمي الموت الأحمر لشدته و منه
الحديث كنا إذا احمر البأس اتقينا برسول الله
و وصف الجوع بأنه أغبر لأن الجائع يرى الآفاق كأن عليها غبرة و ظلاما و فسر قوم هذا الكلام بوقعة صاحب الزنج و هو بعيد لأن جيشه كان ذا حس و رهج و لأنه أنذر البصرة بهذا الجيش عند حدوث تلك الفتن أ لا تراه قال فويل لك يا بصرة عند ذلك و لم يكن قبل خروج صاحب الزنج فتن شديدة على الصفات التي ذكرها أمير المؤمنين ع

(8/94)


شرح نهج البلاغة ج : 7 ص : 102105- و من خطبة له عانْظُرُوا إِلَى الدُّنْيَا نَظَرَ الزَّاهِدِينَ فِيهَا الصَّادِفِينَ عَنْهَا فَإِنَّهَا وَ اللَّهِ عَمَّا قَلِيلٍ تُزِيلُ الثَّاوِيَ السَّاكِنَ وَ تَفْجَعُ الْمُتْرَفَ الآْمِنَ لَا يَرْجِعُ مَا تَوَلَّى مِنْهَا فَأَدْبَرَ وَ لَا يُدْرَى مَا هُوَ آتٍ مِنْهَا فَيُنْتَظَرُ سُرُورُهَا مَشُوبٌ بِالْحُزْنِ وَ جَلَدُ الرِّجَالِ فِيهَا إِلَى الضَّعْفِ وَ الْوَهْنِ فَلَا يَغُرَّنَّكُمْ كَثْرَةُ مَا يُعْجِبُكُمْ فِيهَا لِقِلَّةِ مَا يَصْحَبُكُمْ مِنْهَا رَحِمَ اللَّهُ امْرَأً تَفَكَّرَ فَاعْتَبَرَ وَ اعْتَبَرَ فَأَبْصَرَ فَكَأَنَّ مَا هُوَ كَائِنٌ مِنَ الدُّنْيَا عَنْ قَلِيلٍ لَمْ يَكُنْ وَ كَأَنَّ مَا هُوَ كَائِنٌ مِنَ الآْخِرَةِ عَمَّا قَلِيلٍ لَمْ يَزَلْ وَ كُلُّ مَعْدُودٍ مُنْقَضٍ وَ كُلُّ مُتَوَقَّعٍ آتٍ وَ كُلُّ آتٍ قَرِيبٌ دَانٍ
الصادفين عنها أي المعرضين و امرأة صدوف التي تعرض وجهها عليك ثم تصدف عنك. و عما قليل عن قليل و ما زائدة. و الثاوي المقيم ثوى يثوي ثواء و ثويا مثل مضى يمضي مضاء و مضيا و يجوز ثويت بالبصرة و ثويت البصرة و جاء أثويت بالمكان لغة في ثويت قال الأعشى شرح نهج البغة ج : 7 ص : 106
أثوى و قصر ليله ليزودا فمضت و أخلف من قتيلة موعدا
و المترف الذي قد أترفته النعمة أي أطغته يقول ع لا يعود على الناس ما أدبر و تولى عنهم من أحوالهم الماضية كالشباب و القوة و لا يعلم حال المستقبل من صحة أو مرض أو حياة أو موت لينتظر و ينظر إلى هذا المعنى قول الشاعر
و أضيع العمر لا الماضي انتفعت به و لا حصلت على علم من الباقي
و مشوب مخلوط شبته أشوبه فهو مشوب و جاء مشيب في قول الشاعر
و ماء قدور في القصاع مشيب

(8/95)


فبناه على شيب لم يسم فاعله و في المثل هو يشوب و يروب يضرب لمن يخلط في القول أو العمل. و الجلد الصلابة و القوة و الوهن الضعف نفسه و إنما عطف للتأكيد كقوله تعالى لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَ مِنْهاجاً و قوله لا يَمَسُّنا فِيها نَصَبٌ وَ لا يَمَسُّنا فِيها لُغُوبٌ. ثم نهى عن الاغترار بكثرة العجب من الدنيا و علل حسن هذا النهي و قبح الاغترار بما نشاهده عيانا من قلة ما يصحب مفارقيها منها و قال الشاعر
فما تزود مما كان يجمعه إلا حنوطا غداة البين في خرق و غير نفحة أعواد شببن له و قل ذلك من زاد لمنطلقثم جعل التفكر علة الاعتبار و جعل الاعتبار علة الأبصار و هذا حق لأن الفكر يوجب الاتعاظ و الاتعاظ يوجب الكشف و المشاهدة بالبصيرة التي نورها الاتعاظ. شرح نهج البلاغة ج : 7 ص : 107ثم ذكر أن ما هو كائن و موجود من الدنيا سيصير عن قليل أي بعد زمان قصير معدوما ولزمان القصير هاهنا انقضاء الأجل و حضور الموت. ثم قال إن الذي هو كائن و موجود من الآخرة سيصير عن قليل أي بعد زمان قصير أيضا كأنه لم يزل و الزمان القصير هاهنا هو حضور القيامة و هي و إن كانت تأتي بعد زمان طويل إلا أن الميت لا يحس بطوله و لا فرق بين ألف ألف سنة عنده إذا عاد حيا و بين يوم واحد لأن الشعور بالبطء في الزمان مشروط بالعلم بالحركة و يدل على ذلك حال النائم ثم قال كل معدود منقض و هذا تنبيه بطريق الاستدلال النظري على أن الدنيا زائلة و منصرفة و قد استدل المتكلمون بهذا على أن حركات الفلك يستحيل ألا يكون لها أول فقالوا لأنها داخلة تحت العدد و كل معدود يستحيل أن يكون غير متناه و الكلام في هذا مذكور في كتبنا العقلية.
ثم ذكر أن كل ما يتوقع لا بد أن يأتي و كل ما سيأتي فهو قريب و كأنه قد أتى

(8/96)


و هذا مثل قول قس بن ساعدة الإيادي ما لي أرى الناس يذهبون ثم لا يرجعون أ رضوا بالمقام فأقاموا أم تركوا هناك فناموا أقسم قس قسما إن في السماء لخبرا و إن في الأرض لعبرا سقف مرفوع و مهاد موضوع و نجوم تمور و بحار لا تغور اسمعوا أيها الناس و عوا من عاش مات و من مات فات و كل ما هو آت آت
وَ مِنْهَا الْعَالِمُ مَنْ عَرَفَ قَدْرَهُ وَ كَفَى بِالْمَرْءِ جَهْلًا أَلَّا يَعْرِفَ قَدْرَهُ وَ إِنَّ مِنْ أَبْغَضِ الرِّجَالِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى لَعَبْداً وَكَلَهُ اللَّهُ إِلَى نَفْسِهِ جَائِراً عَنْ قَصْدِ السَّبِيلِ سَائِراً بِغَيْرِ شرح نهج بلاغة ج : 7 ص : 108دَلِيلٍ إِنْ دُعِيَ إِلَى حَرْثِ الدُّنْيَا عَمِلَ وَ إِنْ دُعِيَ إِلَى حَرْثِ الآْخِرَةِ كَسِلَ كَأَنَّ مَا عَمِلَ لَهُ وَاجِبٌ عَلَيْهِ وَ كَأَنَّ مَا وَنَى فِيهِ سَاقِطٌ عَنْهُ
قوله ع العالم من عرف قدره من الأمثال المشهورة عنه ع و قد قال الناس بعده في ذلك فأكثروا نحو قولهم إذا جهلت قدر نفسك فأنت لقدر غيرك أجهل و نحو قولهم من لم يعرف قدر نفسه فالناس أعذر منه إذا لم يعرفوه و نحو قول الشاعر أبي الطيب
و من جهلت نفسه قدره رأى غيره منه ما لا يرى
ثم عبر عن هذا المعنى بعبارة أخرى فصارت مثلا أيضا و هي قوله كفى بالمرء جهلا ألا يعرف قدره و من الكلام
المروي عن أبي عبد الله الصادق ع مرفوعا ما هلك امرؤ عرف قدره
رواه أبو العباس المبرد عنه في الكامل
قال ثم قال أبو عبد الله ع و ما إخال رجلا يرفع نفسه فوق قدرها إلا من خلل في عقله
و روى صاحب الكامل أيضا عن أبي جعفر الباقر ع قال لما حضرت الوفاة علي بن الحسين ع أبي ضمني إلى صدره ثم قال يا بني أوصيك بما أوصاني به أبي يوم قتل و بما ذكر لي أن أباه عليا ع أوصاه به يا بني عليك ببذل نفسك فإنه لا يسر أباك بذل نفسه حمر النعم

(8/97)


و كان يقال من عرف قدره استراح. شرح نهج البلاغة ج : 7 ص : 109و في الحديث المرفوع ما رفع امرؤ نفسه في الدنيا درجة إلا حطه الله تعالى في الآخرة درجات
و كان يقال من رضي عن نفسه كثر الساخطون عليه ثم ذكر ع أن من أبغض البشر إلى الله عبدا وكله الله إلى نفسه أي لم يمده بمعونته و ألطافه لعلمه أنه لا ينجع ذلك فيه و أنه لا ينجذب إلى الخير و الطاعة و لا يؤثر شي ء ما في تحريك دواعيه إليها فيكله الله حينئذ إلى نفس. و الجائر العادل عن السمت و لما كان هذا الشقي خابطا فيما يعتقده و يذهب إليه مستندا إلى الجهل و فساد النظر جعله كالسائر بغير دليل. و الحرث هاهنا كل ما يفعل ليثمر فائدة فحرث الدنيا كالتجارة و الزراعة و حرث الآخرة فعل الطاعات و اجتناب المقبحات و المعاصي و سمي حرثا على جهة المجاز تشبيها بحرث الأرض و هو من الألفاظ القرآنية. و كسل الرجل بكسر السين يكسل أي يتثاقل عن الأمور فهو كسلان و قوم كسالى و كسالى بالفتح و الضم. قال ع حتى كان ما عمله من أمور الدنيا هو الواجب عليه لحرصه و جده فيه و كان ما ونى عنه أي فتر فيه من أمور الآخرة ساقط عنه و غير واجب عليه لإهماله و تقصيره فيه

(8/98)


وَ مِنْهَا وَ ذَلِكَ زَمَانٌ لَا يَنْجُو فِيهِ إِلَّا كُلُّ مُؤْمِنٍ نُوَمَةٍ إِنْ شَهِدَ لَمْ يُعْرَفْ وَ إِنْ غَابَ شرح نهج البلاغة ج : 7 ص : 110لَمْ يُفْتَقَدْ أُولَئِكَ مَصَابِيحُ الْهُدَى وَ أَعْلَامُ السُّرَى لَيْسُوا بِالْمَسَايِيحِ وَ لَا الْمَذَِيعِ الْبُذُرِ أُولَئِكَ يَفْتَحُ اللَّهُ لَهُمْ أَبْوَابَ رَحْمَتِهِ وَ يَكْشِفُ عَنْهُمْ ضَرَّاءَ نِقْمَتِهِ أَيُّهَا النَّاسُ سَيَأْتِي عَلَيْكُمْ زَمَانٌ يُكْفَأُ فِيهِ الْإِسْلَامُ كَمَا يُكْفَأُ الْإِنَاءُ بِمَا فِيهِ أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ اللَّهَ قَدْ أَعَاذَكُمْ مِنْ أَنْ يَجُورَ عَلَيْكُمْ وَ لَمْ يُعِذْكُمْ مِنْ أَنْ يَبْتَلِيَكُمْ وَ قَدْ قَالَ جَلَّ مِنْ قَائِلٍ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ وَ إِنْ كُنَّا لَمُبْتَلِينَ
قال الرضي رحمه الله تعالى أما قوله ع كل مؤمن نومة فإنما أراد به الخامل الذكر القليل الشر و المساييح جمع مسياح و هو الذي يسيح بين الناس بالفساد و النمائم و المذاييع جمع مذياع و هو الذي إذا سمع لغيره بفاحشة أذاعها و نوه بها و البذر جمع بذور و هو الذي يكثر سفهه و يلغو منطقه
شهد حضر و كفأت الإناء أي قلبته و كببته و قال ابن الأعرابي يجوز أكفأته أيضا و البذر جمع بذور مثل صبور و صبر و هو الذي يذيع الأسرار و ليس كما قال الرضي رحمه الله تعالى فقد يكون الإنسان بذورا و إن لم يكثر سفهه و لم يلغ منطقه بأن يكون علنة مذياعا من غير سفه و لا لغو و الضراء الشدة و مثلها البأساء و هما اسمان مؤنثان من غير تذكير و أجاز الفراء أن يجمع على آضر و أبؤس كما يجمع النعماء على أنعم. شرح نهج البلاغة ج : 7 ص : 111و اعلم أنه قد جاء في التواضع و هضم النفس شي ء كثير و من ذل الحديث المرفوع من تواضع لله رفعه الله و من تكبر على الله وضعه
و يقال إن الله تعالى قال لموسى إنما كلمتك لأن في أخلاقك خلقا أحبه الله و هو التواضع

(8/99)


و رأى محمد بن واسع ابنه يمشي الخيلاء فناداه فقال ويلك أ تمشي هذه المشية و أبوك أبوك و أمك أمك أما أمك فأمة ابتعتها بمائتي درهم و أما أبوك فلا كثر الله في الناس مثله. و مثل
قوله ع كل مؤمن نومة إن شهد لم يعرف و إن غاب لم يفتقد
قول رسول الله ص رب أشعث أغبر ذي طمرين لا يؤبه له لو أقسم على الله لأبر قسمه
و قال عمر لابنه عبد الله التمس الرفعة بالتواضع و الشرف بالدين و العفو من الله بالعفو عن الناس و إياك و الخيلاء فتضع من نفسك و لا تحقرن أحدا فإنك لا تدري لعل من تزدريه عيناك أقرب إلى الله وسيلة منك. و قال الأحنف عجبت لمن جرى في مجرى البول مرتين من فرجين كيف يتكبر و قد جاء في كلام رسول الله ص ما يناسب كلام أمير المؤمنين ع هذا
إن الله يحب الأخفياء الأتقياء الأبرياء الذين إذا غابوا لم يفتقدوا و إذا حضروا لم يعرفوا قلوبهم مصابيح الهدى يخرجون من كل غبراء مظلمة
و أما إفشاء السر و أذاعته فقد ورد فيه أيضا ما يكثر و لو لم يرد فيه إلا قوله سبحانه وَ لا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ لكفى. شرح نهج البلاغة ج : 7 ص : 112و في الحديث المرفوع من أكل بأخيه أكلة أطعمه الله مثلها من نار جهنم

(8/100)


قيل في تفسيره هو أن يسعى بأخيه و يجر نفعا بسعايته. الجنيد ستر ما عاينت أحسن من إشاعة ما ظننت. عبد الرحمن بن عوف من سمع بفاحشة فأفشاها فهو كالذي أتاها. قال رجل لعمرو بن عبيد إن عليا الأسواري لم يزل منذ اليوم يذكرك بسوء و يقول الضال فقال عمرو يا هذا ما رعيت حق مجالسة الرجل حين نقلت إلينا حديثه و لا وفيتني حقي حين أبلغتني عن أخي ما أكرهه اعلم أن الموت يعمنا و البعث يحشرنا و القيامة تجمعنا و الله يحكم بيننا. و كان يقال من نم إليك نم عليك. و قالوا في السعاة يكفيك أن الصدق محمود إلا منهم و إن أصدقهم أخبثهم. وشي واش برجل إلى الإسكندر فقال له أ تحب أن أقبل منك ما قلت فيه على أن أقبل منه ما قال فيك قال لا قال فكف عن الشر يكف عنك. قال رجل لفيلسوف عابك فلان بكذا قال لقيتني لقحتك بما لم يلقني به لحيائه. عاب مصعب بن الزبير الأحنف عن شي ء بلغه عنه فأنكره فقال أخبرني بذلكالثقة فقال كلا أيها الأمير إن الثقة لا ينم. عرض بعض عمال الفضل بن سهل عليه رقعة ساع في طي كتاب كتبه إليه فوقع الفضل قبول السعاية شر من السعاية لأن السعاية دلالة و القبول إجازة و ليس من دل على قبيح كمن أجازه و عمل به فاطرد هذا الساعي عن عملك و أقصه عن بابك فإنه لو لم يكن في سعايته كاذبا لكان في صدقه لئيما إذ لم يرع الحرمة و لم يستر العورة و السلام. شرح نهج البلاغة ج : 7 ص : 113صالح بن عبد القدوسمن يخبرك بشتم عن أخ فهو الشاتم لا من شتمك ذاك شي ء لم يواجهك به إنما اللوم على من أعلمك كيف لم ينصرك إن كان أخا ذا حفاظ عند من قد ظلطريح بن إسماعيل الثقفي
إن يعلموا الخير يخفوه و إن علموا شرا أذاعوا و إن لم يعلموا كذبوا

(8/101)


و معنى قوله ع و إن غاب لم يفتقد أي لا يقال ما صنع فلان و لا أين هو أي هو خامل لا يعرف. و قوله أولئك يفتح الله بهم أبواب الرحمة و يكشف بهم ضراء النقمة و روي أولئك يفتح الله بهم أبواب رحمته و يكشف بهم ضراء نقمته أي ببركاتهم يكون الخير و يندفع الشر. ثم ذكر ع أنه سيأتي على الناس زمان تنقلب فيه الأمور الدينية إلى أضدادها و نقائضها و قد شهدنا ذلك عيانا. ثم أخبر ع أن الله لا يجور على العباد لأنه تعالى عادل و لا يظلم و لكنه يبتلي عباده أي يختبرهم ثم تلا قوله تعالى إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ وَ إِنْ كُنَّا لَمُبْتَلِينَ و المراد أنه تعالى إذا فسد الناس لا يلجئهم إلى الصلاح لكن يتركهم و اختيارهم امتحانا لهم فمن أحسن أثيب و من أساء عوقب
شرح نهج البلاغة ج : 7 ص : 103114- و من خطبة له عأَمَّا بَعْدُ فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَ تَعَالَى بَعَثَ مُحَمَّداً ص وَ لَيْسَ أَحَدٌ مِنَ الْعَرَبِ يَقْرَأُ كِتَاباً وَ لَا يَدَّعِي نُبُوَّةً وَ لَا وَحْياً فَقَاتَلَ بِمَنْ أَطَاعَهُ مَنْ عَصَاهُ يَسُوقُهُمْ إِلَى مَنْجَاتِهِمْ وَ يُبَادِرُ بِهِمُ السَّاعَةَ أَنْ تَنْزِلَ بِهِمْ يَحْسِرُ الْحَسِيرُ وَ يَقِفُ الْكَسِيرُ فَيُقِيمُ عَلَيْهِ حَتَّى يُلْحِقَهُ غَايَتَهُ إِلَّا هَالِكاً لَا خَيْرَ فِيهِ حَتَّى أَرَاهُمْ مَنْجَاتَهُمْ وَ بَوَّأَهُمْ مَحَلَّتَهُمْ فَاسْتَدَارَتْ رَحَاهُمْ وَ اسْتَقَامَتْ قَنَاتُهُمْ وَ ايْمُ اللَّهِ لَقَدْ كُنْتُ مِنْ سَاقَتِهَا حَتَّى تَوَلَّتْ بِحَذَافِيرِهَا وَ اسْتَوْسَقَتْ فِي قِيَادِهَا مَا ضَعُفْتُ وَ لَا جَبُنْتُ وَ لَا خُنْتُ وَ لَا وَهَنْتُ وَ ايْمُ اللَّهِ لَأَبْقُرَنَّ الْبَاطِلَ حَتَّى أُخْرِجَ الْحَقَّ مِنْ خَاصِرَتِهِ

(8/102)


قال الرضي رحمه الله تعالى و قد تقدم مختار هذه الخطبة إلا أنني وجدتها في هذه الرواية على خلاف ما سبق من زيادة و نقصان فأوجبت الحال إثباتها ثانية
لقائل أن يقول أ لم يكن في العرب نبي قبل محمد و هو خالد بن سنان العبسي و أيضا فقد كان فيها هود و صالح و شعيب. شرح نهج البلاغة ج : 7 ص : 115و نجيب هذا القائل بأن مراده ع أنه لم يكن في زمان محمد ص و ما قاربه من ادعى النبوة فأما هود و صالح و شعيب فكانوا في د قديم جدا و أما خالد بن سنان فلم يقرأ كتابا و لا يدعي شريعة و إنما كانت نبوة مشابهة لنبوة جماعة من أنبياء بني إسرائيل الذين لم يكن لهم كتب و لا شرائع و إنما ينهون عن الشرك و يأمرون بالتوحيد. و منجاتهم نجاتهم نجوت من كذا نجاء ممدود و نجا مقصور و منجاة على مفعله و منه قولهم الصدق منجاة. قوله ع و يبادر بهم الساعة كأنه كان يخاف أن تسبقه القيامة فهو يبادرها بهدايتهم و إرشادهم قبل أن تقوم و هم على ضلالهم. و الحسير المعيا حسر البعير بالفتح يحسر بالكسر حسورا و استحسر مثله و حسرته أنا يتعدى و لا يتعدى حسرا فهو حسير و يجوز أحسرته بالهمزة و الجمع حسرى مثل قتيل و قتلى و منه حسر البصر أي كل يحسر قال تعالى يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خاسِئاً وَ هُوَ حَسِيرٌ و هذا الكلام من باب الاستعارة و المجاز يقول ع كان النبي ص لحرصه على الإسلام و إشفاقه على المسلمين و رأفته بهم يلاحظ حال من تزلزل اعتقاده أو عرضت له شبهة أو حدث عنده ريب و لا يزال يوضح له و يرشده حتى يزيل ما خامر سره من وساوس الشيطان و يلحقه بالمخلصين من المؤمنين و لم يكن ليقصر في مراعاة أحد من المكلفين في هذا المعنى إلا من كان يعلم أنه لا خير فيه أصلا لعناده و إصراره على الباطل و مكابرته للحق. و معنى قوله حتى يلحقه غايته حتى يوصله إلى الغاية التي هي الغرض بالتكليف يعني اعتقاد الحق و سكون النفس إلى الإسلام و هو أيضا معنى قوله و بوأهم

(8/103)


محلتهم.
شرح نهج البلاغة ج : 7 ص : 116و معنى قوله فاستدارت رحاهم انتظم أمرهم لأن الرحى إنما تدور إذا تكاملت أدواتها و آلاتها كلها و هو أيضا معنى قوله و استقامت قناتهم و كل هذا من باب الاستعارة. ثم أقسم أنه ع كان من ساقتها الساقة جمع سائق كقادة جمع قائد و حاكة جمحائك و هذا الضمير المؤنث يرجع إلى غير مذكور لفظا و المراد الجاهلية كأنه جعلها مثل كتيبة مصادمة لكتيبة الإسلام و جعل نفسه من الحاملين عليها بسيفه حتى فرت و أدبرت و أتبعها يسوقها سوقا و هي مولية بين يديه. حتى أدبرت بحذافيرها أي كلها عن آخرها. ثم أتى بضمير آخر إلى غير مذكور لفظا و هو قوله و استوسقت في قيادها يعني الملة الإسلامية أو الدعوة أو ما يجري هذا المجرى و استوسقت اجتمعت يقول لما ولت تلك الدعوة الجاهلية استوسقت هذه في قيادها كما تستوسق الإبل المقودة إلى أعطانها و يجوز أن يعود هذا الضمير الثاني إلى المذكور الأول و هو الجاهلية أي ولت بحذافيرها و اجتمعت كلها تحت ذل المقادة. ثم أقسم أنه ما ضعف يومئذ و لا وهن و لا جبن و لا خان و ليبقرن الباطل الآن حتى يخرج الحق من خاصرته كأنه جعل الباطل كالشي ء المشتمل على الحق غالبا عليه و محيطا به فإذا بقر ظهر الحق الكامن فه و قد تقدم منا شرح ذلك

(8/104)


شرح نهج البلاغة ج : 7 ص : 104117- و من خطبة له عحَتَّى بَعَثَ اللَّهُ مُحَمَّداً ص شَهِيداً وَ بَشِيراً وَ نَذِيراً خَيْرَ الْبَرِيَّةِ طِفْلًا وَ أَنْجَبَهَا كَهْلًا وَ أَطْهَرَ الْمُطَهَّرِينَ شِيمَةً وَ أَجْوَدَ الْمُسْتَمْطَرِينَ دِيمَةً فَمَا احْلَوْلَتْ لَكُمُ الدُّنْيَا فِي لَذَّتِهَا وَ لَا تَمَكَّنْتُمْ مِنْ رَضَاعِ أَخْلَافِهَا إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ صَادَفْتُمُوهَا جَائِلًا خِطَامُهَا قَلِقاً وَضِينُهَا قَدْ صَارَ حَرَامُهَا عِنْدَ أَقْوَامٍ بِمَنْزِلَةِ السِّدْرِ الْمَخْضُودِ وَ حَلَالُهَا بَعِيداً غَيْرَ مَوْجُودٍ وَ صَادَفْتُمُوهَا وَ اللَّهِ ظِلًّا مَمْدُوداً إِلَى أَجْلٍ مَعْدُودٍ فَالْأَرْضُ لَكُمْ شَاغِرَةٌ وَ أَيْدِيكُمْ فِيهَا مَبْسُوطَةٌ وَ أَيْدِي الْقَادَةِ عَنْكُمْ مَكْفُوفَةٌ وَ سُيُوفُكُمْ عَلَيْهِمْ مُسَلَّطَةٌ وَ سُيُوفُهُمْ عَنْكُمْ مَقْبُوضَةٌ أَلَا وَ إِنَّ لِكُلِّ دَمٍ ثَائِراً وَ لِكُلِّ حَقٍّ طَالِباً وَ إِنَّ الثَّائِرَ فِي دِمَائِنَا كَالْحَاكِمِ فِي حَقِّ نَفْسِهِ وَ هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا يُعْجِزُهُ مَنْ طَلَبَ وَ لَا يَفُوتُهُ مَنْ هَرَبَ فَأُقْسِمُ بِاللَّهِ يَا بَنِي أُمَيَّةَ عَمَّا قَلِيلٍ لَتَعْرِفُنَّهَا فِي أَيْدِي غَيْرِكُمْ وَ فِي دَارِ عَدُوِّكُمْ
معنى كون النبي ص شهيدا أنه يشهد على الأمة بما فعلته من طاعة و عصيان أنجبها أكرمها و رجل نجيب أي كريم بين النجابة و النجبة مثل الهمزة. شرح نهج البلاغة ج : 7 ص : 118و يقال هو نجبة القوم أي النجيب منهم و أنجب الرجل أي ولد ولدا نجيبا و امرأة منجبة و منجاب تلالنجباء و نسوة مناجيب. و الشيمة الخلق و الديمة مطر يدوم و المستمطرون المستجدون و المستماحون و احلولت حلت و قد عداه حميد بن ثور في قوله
فلما أتى عامان بعد انفصاله عن الضرع و احلولى دماثا يرودها

(8/105)


و لم يجئ افعوعل متعديا إلا هذا الحرف و حرف آخر و هو اعروريت الفرس و هو الرضاع بفتح الراء رضع الصبي أمه بكسر الضاد يرضعها رضاعا مثل سمع يسمع سماعا و أهل نجد يقولون رضع بالفتح يرضع بالكسر مثل ضرب يضرب ضربا و قال الأصمعي أخبرني عيسى بن عمر أنه سمع العرب تنشد هذا البيت
و ذموا لنا الدنيا و هم يرضعونها أفاويق حتى ما يدر لها ثعل
بكسر الضاد و الأخلاف للناقة بمنزلة الأطباء للكلبة واحدها خلف بالكسر و هو حلمة الضرع و الخطام زمام الناقة خطمت البعير زممته و ناقة مخطومة و نوق مخطمة. و الوضين للهودج بمنزلة البطان للقتب و التصدير للرحل و الحزام للسرج و هو سيور تنسج مضاعفة بعضها على بعض يشد بها الهودج منه إلى بطن البعير و الجمع وضن. و المخضود الذي خضد شوكة أي قطع. و شاغرة خالية شغر المكان أي خلا و بلدة شاغرة إذا لم تمتنع من غارة أحد و الثائر طالب الثأر لا يبقى على شي ء حتى يدرك ثأره. شرح نهج البلاغة ج : 7 ص : 119يقول ع مخاطبا لمن في عصره بقايا الصحابة و لغيرهم من التابعين الذين لم يدركوا عصر رسول الله ص إن الله بعث محمدا و هو أكرم الناس شيمة و أنداهم يدا و خيرهم طفلا و أنجبهم كهلا فصانه الله تعالى في أيام حياته عن أن يفتح عليه الدنيا و أكرمه عن ذلك فلم تفتح عليكم البلاد و لا درت عليكم الأموال و لا أقبلت الدنيا نحوكم و ما دالت الدولة لكم إلا بعده فتمكنتم من أكلها و التمتع بها كما يتمكن الحالب من احتلاب الناقة فيحلبها و حلت لذاتها لكم و استطبتم العيشة و وجدتموها حلوة خضرة. ثم ذكر أنهم صادفوها يعني الدنيا و قد صعبت على من يليها ولاية حق كما تستصعب الناقة على راكبها إذا كانت جائلة الخطام ليس زمامها بممكن راكبها من نفسه قلقة الوضين لا يثبت هودجها تحت الراكب حرامها سهل التناول على من يريده كالسدر الذي خضد عنه شوكه فصار ناعما أملس و حلالها غير موجود لغلبة الحرام عليه و كونه صار مغمورا مستهلكا

(8/106)


بالنسبة إليه و هذا إشارة إلى ما كان يقوله دائما من استبداد الخلفاء قبله دونه بالأمر و أنه كان الأولى و الأحق. فإن قلت إذا كانت الدنيا قلقة الوضين جائلة الخطام فهي صعبة الركوب و هذا ضد قوله حرامها بمنزلة السدر المخضود لأنه من الأمثال المضروبة للسهولة قلت فحوى كلامه أن الدنيا جمحت به ع فألقته عن ظهرها بعد أن كان راكبا لها أو كالراكب لها لاستحقاقه ركوبها و أنها صارت بعده كالناقة التي خلعت زمامها أو أجالته فلا يتمكن راكبها من قبضه و استرخى وضينها لشدة ما كان صدر عنها من النفار و التقحم حتى أذرت راكبها فصارت على حال لا يركبها إلا من هو موصوف بركوب غير طبيعي لأنه ركب ما لا ينبغي أن يركب فالذين ولوا أمرها ولوه شرح نهج البلاغة ج : 7 ص : 120على غير الوجه كما أن راكب هذه الناقة يركبها على غير الوجه و لهذا لم يقل فصار حرامها بمنزلة السدر المخضود بل قال عند أقوام فخصص. و ه الكلام كله محمول عند أصحابنا على التألم من كون المتقدمين تركوا الأفضل كما قدمناه في أول الكتاب. ثم ذكر ع أن الدنيا فانية و أنها ظل ممدود إلى أجل معدود ثم ذكر أن الأرض بهؤلاء السكان فيها صورة خالية من معنى كما قال الشاعر
ما أكثر الناس لا بل ما أقلهم الله يعلم أني لم أقل فنداإني لأفتح عيني ثم أغمضها على كثير و لكن لا أرى أحدا

(8/107)


ثم أعاد الشكوى و التألم فقال أيديكم في الدنيا مبسوطة و أيدي مستحقي الرئاسة و مستوجبي الأمر مكفوفة و سيوفكم مسلطة علي أهل البيت الذين هم القادة و الرؤساء و سيوفهم مقبوضة عنكم و كأنه كان يرمز إلى ما سيقع من قتل الحسين ع و أهله و كأنه يشاهد ذلك عيانا و يخطب عليه و يتكلم على الخاطر الذي سنح له و الأمر الذي كان أخبر به ثم قال إن لكل دم ثائرا يطلب القود و الثائر بدمائنا ليس إلا الله وحده الذي لا يعجزه مطلوب و لا يفوته هارب. و معنى قوله ع كالحاكم في حق نفسه أنه تعالى لا يقصر في طلب دمائنا كالحاكم الذي يحكم لنفسه فيكون هو القاضي و هو الخصم فإنه إذا كان كذلك يكون مبالغا جدا في استيفاء حقوقه. ثم أقسم و خاطب بني أمية و صرح بذكرهم أنهم ليعرفن الدنيا عن قليل في أيدي غيرهم و في دورهم و أن الملك سينتزعه منهم أعداؤهم و وقع الأمر بموجب إخباره ع شرح نهج البلاغة ج : 7 ص : 12إن الأمر بقي في أيدي بني أمية قريبا من تسعين سنة ثم عاد إلى البيت الهاشمي و انتقم الله تعالى منهم على أيدي أشد الناس عداوة لهم
هزيمة مروان بن محمد في موقعة الزاب ثم مقتله بعد ذلك

(8/108)


سار عبد الله بن علي بن عبد الله بن العباس في جمع عظيم للقاء مروان بن محمد بن مروان و هو آخر خلفاء الأمويين فالتقيا بالزاب من أرض الموصل و مروان في جموع عظيمة و أعداد كثيرة فهزم مروان و استولى عبد الله بن علي على عسكره و قتل من أصحابه خلقا عظيما و فر مروان هاربا حتى أتى الشام و عبد الله يتبعه فصار إلى مصر فاتبعه عبد الله بجنوده فقتله ببوصير الأشمونين من صعيد مصر و قتل خواصه و بطانته كلها و قد كان عبد الله قتل من بني أمية على نهر أبي فطرس من بلاد فلسطين قريبا من ثمانين رجلا قتلهم مثلة و احتذى أخوه داود بن علي بالحجاز فعله فقتل منهم قريبا من هذه العدة بأنواع المثل. و كان مع مروان حين قتل ابناه عبد الله و عبيد الله و كانا وليي عهده فهربا في خواصهما إلى أسوان من صعيد مصر ثم صارا إلى بلاد النوبة و نالهم جهد شديد و ضر عظيم فهلك عبد الله بن مروان في جماعة ممن كان معه قتلا و عطشا و ضرا و شاهد من بقي منهم أنواع الشدائد و ضروب المكاره و وقع عبيد الله في عدة ممن نجا معه في أرض البجه و قطعوا البحر إلى ساحل جدة و تنقل فيمن نجا معه من أهله و مواليه في البلاد مستترين راضين أن يعيشوا سوقة بعد أن كانوا ملوكا فظفر بعبد الله أيام السفاح فحبس شرح نهج البلاغة ج : 7 ص : 122فلم يزل في السجن بقية أيام السفاح و أيام المنصور و أيام المهدي و أيام الهادي و بعض أيام الرشيد و أخرجه الرشيد و هو شيخ ضرير فسأله عن خبره فقال يا أمير المؤمنين حبست غلاما بصيرا و أخرجت شيخا ضريرا فقيل إنه هلك فييام الرشيد و قيل عاش إلى أن أدرك خلافة الأمين. شهد يوم الزاب مع مروان في إحدى الروايتين إبراهيم بن الوليد بن عبد الملك المخلوع الذي خطب له بالخلافة بعد أخيه يزيد بن الوليد بن عبد الملك فقتل فيمن قتل و في الرواية الثانية أن إبراهيم قتله مروان الحمار قبل ذلك. لما انهزم مروان يوم الزاب مضى نحو الموصل فمنعه أهلها من الدخول

(8/109)


فأتى حران و كانت داره و مقامه و كان أهل حران حين أزيل لعن أمير المؤمنين عن المنابر في أيام الجمع امتنعوا من إزالته و قالوا لا صلاة إلا بلعن أبي تراب فاتبعه عبد الله بن علي بجنوده فلما شارفه خرج مروان عن حران هاربا بين يديه و عبر الفرات و نزل عبد الله بن علي على حران فهدم قصر مروان بها و كان قد أنفق على بنائه عشرة آلاف ألف درهم و احتوى على خزائن مروان و أمواله فسار مروان بأهله و عترته من بني أمية و خواصه حتى نزل بنهر أبي فطرس و سار عبد الله بن علي حتى نزل دمشق فحاصرها و عليها من قبل مروان الوليد بن معاوية بن عبد الملك بن مروان في خمسين ألف مقاتل فألقى الله تعالى بينهم العصبية في فضل نزار على اليمن و فضل اليمن على نزار فقتل الوليد و قيل بل قتل في حرب عبد الله بن علي و ملك عبد الله دمشق فأتى يزيد بن معاوية بن عبد الملك بن مروان و عبد الجبار بن يزيد بن عبد الملك بن مروان فحملهما مأسورين إلى أبي العباس السفاح فقتلهما و صلبهما بالحيرة و قتل عبد الله بن علي بدمشق خلقا كثيرا من أصحاب مروان و موالي بني أمية و أتباعهم و نزل عبد الله على نهر
شرح نهج البلاغة ج : 7 ص : 123أبي فطرس فقتل من بني أمية هناك بضعا و ثمانين رجلا و ذلك في ذي القعدة من سنة ثنتين و ثلاثين و مائةشعر عبد الله بن عمرو العبلي في رثاء قومه
و في قتلى نهر أبي فطرس و قتلى الزاب يقول أبو عدي عبد الله بن عمرو العبلي و كان أموي الرأي

(8/110)


تقول أمامة لما رأت نشوزي عن المضجع الأملس و قلة نومي على مضجعي لدى هجعة الأعين النعس أبي ما عراك فقلت الهموم عرين أباك فلا تبلسي عرين أباك فحبسنه من الذل في شر ما محبس لفقد الأحبة إذ نالها سهام من الحدث المبئس رمتها المنون بلا نكل و لا طائشات و لا نكمها المتلفات النفوس متى ما تصب مهجة تخلس فصر عنهم بنواحي البلاد فملقى بأرض و لم يرمس نقى أصيب و أثوابه من العيب و العار لم تدنس و آخر قد رس في حفرة و آخر طار فلم يحسس أفاض المدامع قتلى كدى و قتلى بكثوة لم ترمس و قتلى بوج و باللابتين من يثرب خير ما شرح نهج البلاغة ج : 7 ص : 124و بالزابيين نفوس ثوت و قتلى بنهر أبي فطرس أولئك قومي أناخت بهم نوائب من زمن متعس إذا ركبوا زينوا الموكبين و إن جلسوا زينة المجلس و إن عن ذكرهم لم ينم أبوك و أوحش في المأنس فذاك الذي غالني فاعلمي و لا تسألي بامرئ متعس همي لريب الزمان و هم ألصقوا الخد بالمعطس
أنفة بن مسلمة بن عبد الملك
و روى أبو الفرج الأصفهاني في كتاب الأغاني قال نظر عبد الله بن علي في الحرب إلى فتى عليه أبهة الشرف و هو يحارب مستقتلا فناداه يا فتى لك الأمان و لو كنت مروان بن محمد قال إلا أكنه فلست بدونه فقال و لك الأمان و لو كنت من كنت فأطرق ثم أنشد
لذل الحياة و كره الممات و كلا أراه طعاما وبيلاو إن لم يكن غير إحداهما فسيرا إلى الموت سيرا جميلا
ثم قاتل حتى قتل فإذا هو ابن مسلمة بن عبد الملك

(8/111)


شرح نهج البلاغة ج : 7 ص : 125مما قيل من الشعر في التحريض على قتل بني أميةو روى أبو الفرج أيضا عن محمد بن خلف وكيع قال دخل سديف مولى آل أبي لهب على أبي العباس بالحيرة و أبو العباس جالس على سريره و بنو هاشم دونه على الكراسي و بنو أمية حوله على وسائد قد ثنيت لهم و كانوا في أيام دولتهم يجلسونهم و الخليفة منهم على الأسرة و يجلس بنو هاشم على الكراسي فدخل الحاجب فقال يا أمير المؤمنين بالباب رجل حجازي أسود راكب على نجيب متلثم يستأذن و لا يخبر باسمه و يحلف لا يحسر اللثام عن وجهه حتى يرى أمير المؤمنين فقال هذا سديف مولانا أدخله فدخل فلما نظر إلى أبي العباس و بنو أمية حوله حسر اللثام عن وجهه ثم أنشد

(8/112)


أصبح الملك ثابت الأساس بالبهاليل من بني العباس بالصدور المقدمين قديما و البحور القماقم الرؤاس يا إمام المطهرين من الذم و يا رأس منتهى كل رأس أنت مهدي هاشم و فتاها كم أناس رجوك بعد أناس لا تقيلن عبد شمس عثارا و اقطعن كل رقلة و غ شرح نهج البلاغة ج : 7 ص : 126أنزلوها بحيث أنزلها الله بدار الهوان و الإنعاس خوفها أظهر التودد منها و بها منكم كحز المواسي أقصهم أيها الخليفة و احسم عنك بالسيف شأفة الأرجاس و اذكرن مصرع الحسين و زيد و قتيلا بجانب المهراس و القتيل الذي بحران أمسى ثاويغربة و تناس فلقد ساءني و ساء سوائي قربهم من نمارق و كراسي نعم كلب الهراش مولاك شبل لو نجا من حبائل الإفلاقال فتغير لون أبي العباس و أخذه زمع و رعدة فالتفت بعض ولد سليمان بن عبد الملك إلى آخر فيهم كان إلى جانبه فقال قتلنا و الله العبد فأقبل أبو العباس عليهم فقال يا بني الزواني لا أرى قتلاكم من أهلي قد سلفوا و أنتم أحياء تتلذذون في الدنيا خذوهم فأخذتهم الخراسانية بالكافر كوبات فأهمدوا إلا ما كان من عبد العزيز بن عمر بن عبد العزيز فإنه استجار بداود بن علي و قال إن أبي لم يكن كآبائهم شرح نهج البلاغة ج : 7 ص : 127و قد علمت صنيعته إليكم فأجاره و استوهبه من السفاح و قال له قد علمت صنيع أبيه إلينا فوهبه له و قال لا يني وجهه و ليكن بحيث نأمنه و كتب إلى عماله في الآفاق بقتل بني أمية. فأما أبو العباس المبرد فإنه روى في الكامل هذا الشعر على غير هذا الوجه و لم ينسبه إلى سديف بل إلى شبل مولى بني هاشم. قال أبو العباس دخل شبل بن عبد الله مولى بني هاشم على عبد الله بن علي و قد أجلس ثمانين من بني أمية على سمط الطعام فأنشده

(8/113)


أصبح الملك ثابت الأساس بالبهاليل من بني العباس طلبوا وتر هاشم و شفوها بعد ميل من الزمان و يأس لا تقيلن عبد شمس عثارا و اقطعن كل رقلة و أواسي ذلها أظهر التودد منها و بها منكم كحز المواسي و لقد غاظني و غاظ سوائي قربها من نمارق و كراسي أنزلوها بحيث أنزلهه بدار الهوان و الإنعاس و اذكرا مصرع الحسين و زيد و قتلا بجانب المهراس و القتيل الذي بحران أضحى ثاويا بين غربة و تناس نعم شبل الهراش مولاك شبل لو نجا من حبائل الإفلفأمر بهم عبد الله فشدخوا بالعمد و بسطت البسط عليهم و جلس عليها و دعا شرح نهج البلاغة ج : 7 ص : 128بالطعام و إنه ليسمع أنين بعضهم حتى ماتوا جميعا و قال لشبل لو لا أنك خلطت شعرك بالمسألة لأغنمتك أموالهم و لعقدت لك على جميع موالي بني هاشم. قال أبو العباس اللة النخلة الطويلة و الأواسي جمع آسية و هي أصل البناء كالأساس و قتيل المهراس حمزة ع و المهراس ماء بأحد و قتيل حران إبراهيم الإمام. قال أبو العباس فأما سديف فإنه لم يقم هذا المقام و إنما قام مقاما آخر دخل على أبي العباس السفاح و عنده سليمان بن هشام بن عبد الملك و قد أعطاه يده فقبلها و أدناه فأقبل على السفاح و قال له
لا يغرنك ما ترى من رجال إن تحت الضلوع داء دويافضع السيف و ارفع السوط حتى لا ترى فوق ظهرها أمويا
فقال سليمان ما لي و لك أيها الشيخ قتلتني قتلك الله فقام أبو العباس فدخل و إذا المنديل قد ألقي في عنق سليمان ثم جر فقتل. فأما سليمان بن يزيد بن عبد الملك بن مروان فقتل بالبلقاء و حمل رأسه إلى عبد الله بن علي
أخبار متفرقة في انتقال الملك من بني أمية إلى بني العباس

(8/114)


و ذكر صاحب مروج الذهب أنه أرسل عبد الله أخاه صالح بن علي و معه عامر بن إسماعيل أحد الشيعة الخراسانية إلى مصر فلحقوا مروان ببوصير فقتلوه و قتلوا كل من كان معه من أهله و بطانته و هجموا على الكنيسة التي فيها بناته و نساؤه فوجدوا خادما بيده سيف مشهور يسابقهم على الدخول فأخذوه و سألوه عن أمره فقال إن شرح نهج البلاغة ج : 7 ص : 129أمير المؤمنين أمرني إن هو قتل أن أقتل بناته و نساءه كلهن قبل أن تصلوا إليهن فأرادوا قتله فقال لا تقتلوني فإنكم إن قتلتموني فقدتم ميراث رسول الله ص فقالوا و ما هو فأخرجهم من القرية إلى بان من الرمل فقال اكشفوا هاهنا فإذا البردة و القضيب و قعب مخضب قد دفنها مروان ضنا بها أن تصير إلى بني هاشم فوجه به عامر بن إسماعيل إلى صالح بن علي فوجه به صالح إلى أخيه عبد الله فوجه به عبد الله إلى أبي العباس و تداوله خلفاء بني العباس من بعد. و أدخل بنات مروان و حرمه و نساؤه على صالح بن علي فتكلمت ابنة مروان الكبرى فقالت يا عم أمير المؤمنين حفظ الله لك من أمرك ما تحب حفظه و أسعدك في أحوالك كلها و عمك بخواص نعمه و شملك بالعافية في الدنيا و الآخرة نحن بناتك و بنات أخيك و ابن عمك فليسعنا من عدلكم ما وسعنا من جوركم قال إذا لا نستبقي منكم أحدا لأنكم قد قتلتم إبراهيم الإمام و زيد بن علي و يحيى بن زيد و مسلم بن عقيل و قتلتم خير أهل الأرض حسينا و إخوته و بنيه و أهل بيته و سقتم نساءه سبايا كما يساق ذراري الروم على الأقتاب إلى الشام فقال يا عم أمير المؤمنين فليسعنا عفوكم إذا قال أما هذا فنعم و إن أحببت زوجتك من ابني الفضل بن صالح قالت يا عم أمير المؤمنين و أي ساعة عرس ترى بل تلحقنا بحران فحملهن إلى حران. كان عبد الرحمن بن حبيب بن مسلمة الفهري عامل إفريقية لمروان فلما حدثت الحادثة هرب عبد الله و العاص ابنا الوليد بن يزيد بن عبد الملك إليه فاعتصما به فخاف شرح نهج البلاغة ج : 7 ص :

(8/115)


130على نفسه منهما و رأى ميل الناس إليهما فقتلهما و كان عبد الرحمن بن معاوية بن هشام بن عبد الملك يريد أن يقصده و يلتجئ إليه فلما علم ما جرى لابني الوليد بن يزيد خاف منه فقطع المجاز بين إفريقيو الأندلس و ركب البحر حتى حصل بالأندلس فالأمراء الذين ولوها كانوا من ولده. ثم زال أمرهم و دولتهم على أيدي بني هاشم أيضا و هم بنو حمود الحسنيون من ولد إدريس بن الحسن ع. لما قتل عامر بن إسماعيل مروان ببوصير و احتوى على عسكره دخل إلى الكنيسة التي كان فيها فقعد على فراشه و أكل من طعامه فقالت له ابنة مروان الكبرى و تعرف بأم مروان يا عامر إن دهرا أنزل مروان عن فرشه حتى أقعدك عليها تأكل من طعامه ليلة قتله محتويا على أمره حاكما في ملكه و حرمه و أهله لقادر أن يغير ذلك فأنهي هذا الكلام إلى أبي العباس السفاح فاستهجن ما فعله عامر بن إسماعيل و كتب إليه أ ما كان لك في أدب الله ما يزجرك أن تقعد في مثل تلك الساعة على مهاد مروان و تأكل من طعامه أما و الله لو لا أن أمير المؤمنين أنزل ما فعلته على غير اعتقاد منك لذلك و لا نهم على طعام لمسك من غضبه و أليم أدبه ما يكون لك زاجرا و لغيرك واعظا فإذا أتاك كتاب أمير المؤمنين فتقرب إلى الله بصدقة تطفئ بها غضبه و صلاة تظهر فيها الخشوع و الاستكانة له و صم ثلاثة أيام و تب إلى الله من جميع ما يسخطه و يغضبه و مر جميع أصحابك أن يصوموا مثل صيامك. و لما أتي أبو العباس برأس مروان سجد فأطال ثم رفع رأسه و قال الحمد لله الذي شرح نهج البلاغة ج : 7 ص : 131لم يبق ثأرنا قبلك و قبل رهطك الحمد لله الذي أظفرنا بك و أظهرنا عليك ما أبالي متى طرقني الموت و قد قتلت بالحسين ع ألفا من بني أمية و أحرقت شلو هشام بابن عمي زيد بن علي كما أحرقوا شلوه و تمثللو يشربون دمي لم يرو شاربهم و لا دماؤهم جمعا ترويني
ثم حول وجهه إلى القبلة فسجد ثانية ثم جلس فتمثل

(8/116)


أبى قومنا أن ينصفونا فأنصفت قواطع في أيماننا تقطر الدماإذا خالطت هام الرجال تركتها كبيض نعام في الثرى قد تحطما
ثم قال أما مروان فقتلناه بأخي إبراهيم و قتلنا سائر بني أمية بحسين و من قتل معه و بعده من بني عمنا أبي طالب. و روى المسعودي في كتاب مروج الذهب عن الهيثم بن عدي قال حدثني عمرو بن هانئ الطائي قال خرجت مع عبد الله بن علي لنبش قبور بني أمية في أيام أبي العباس السفاح فانتهينا إلى قبر هشام بن عبد الملك فاستخرجناه صحيحا ما فقدنا منه إلا عرنين أنفه فضربه عبد الله بن علي ثمانين سوطا ثم أحرقه و استخرجنا سليمان بن عبد الملك من أرض دابق فلم نجد منه شيئا إلا صلبه و رأسه و أضلاعه فأحرقناه و فعلنا مثل ذلك بغيرهما من بني أمية و كانت قبورهم بقنسرين ثم انتهينا إلى دمشق فاستخرجنا الوليد بن عبد الملك فما وجدنا في قبره قليلا و لا كثيرا و احتفرنا عن عبد الملك فما وجدنا إلا شئون رأسه ثم احتفرنا عن يزيد بن معاوية فلم نجد منه إلا عظما واحدا و وجدنا شرح نهج البلاغة ج : 7 ص : 132من مع نحره إلى قدمه خطا واحدا أسود كأنما خط بالرماد في طول لحده و تتبعنا قبورهم في جميع البلدان فأحرقنا ما وجدنا فيها منهم. قلت قرأت هذا الخبر على النقيب أبي جعفر يحيى بن أبي زيد العلوي بن عبد الله في سنة خمس و ستمائة و قلت له أما إحراق هشام بإحراق زيد فمفهوم فما معنى جلده ثمانين سوطا فقال رحمه الله تعالى أظن عبد الله بن علي ذهب في ذلك إلى حد القذف لأنه يقال إنه قال لزيد يا ابن الزانية لما سب أخاه محمدا الباقر ع فسبه زيد و قال له سماه رسول الله ص الباقر و تسميه أنت البقرة لشد ما اختلفتما و لتخالفنه في الآخرة كما خالفته في الدنيا فيرد الجنة و ترد النار. و هذا استنباط لطيف. قال مروان لكاتبه عبد الحميد بن يحيى حين أيقن بزوال ملكه قد احتجت إلى أن تصير مع عدوي و تظهر الغدر بي فإن إعجابهم ببلاغتك و حاجتهم إلى كتابتك تدعوهم

(8/117)


إلى اصطناعك و تقريبك فإن استطعت أن تسعى لتنفعني في حياتي و إلا فلن تعجز عن حفظ حرمي بعد وفاتي فقال عبد الحميد إن الذي أشرت به هو أنفع الأمرين لي و أقبحهما بي و ما عندي إلا الصبر معك حتى يفتح الله لك أو أقتل بين يديك ثم أنشد
أسر وفاء ثم أظهر غدرة فمن لي بعذر يوسع الناس ظاهره
فثبت على حاله و لم يصر إلى بني هاشم حتى قتل مروان ثم قتل هو بعده صبرا. شرح نهج البلاغة ج : 7 ص : 133و قال إسماعيل بن عبد الله القسري دعاني مروان و قد انتهت به الهزيمة إلى حران فقال يا أبا هاشم و ما كان يكنيني قبلها قد ترى ما جاء من الأمر و أنت الموثوق به لا عطر بعد عروس ما الرأي عندك فقلت يا أمير المؤمنين علام أجمعت قال ارتحل بموالي و من تبعني حتى آتي الدرب و أميل إلى بعض مدن الروم فأنزلها و أكاتب ملك الروم و أستوثق منه فقد فعل ذلك جماعة من ملوك الأعاجم و ليس هذا عارا على الملوك فلا يزال يأتيني من الأصحاب الخائف و الهارب و الطامع فيكثر من معي و لا أزال على ذلك حتى يكشف الله أمري و ينصرني على عدوي فلما رأيت ما أجمع عليه من ذلك و كان الرأي و رأيت آثاره في قومه من نزار و عصبيته على قومي من قحطان غششته فقلت أعيذك بالله يا أمير المؤمنين من هذا الرأي أن تحكم أهل الشرك في بناتك و حرمك و هم الروم لا وفاء لهم و لا يدرى ما تأتي به الأيام و إن حدث عليك حدث من أرض النصرانية و لا يحدثن الله عليك إلا خيرا ضاع من بعدك و لكن اقطع الفرات و استنفر الشام جندا جندا فإنك في كنف و عدة و لك في كل جند صنائع و أصحاب إلى أن تأتي مصر فهي أكثر أرض الله مالا و خيلا و رجالا و الشام أمامك و إفريقية خلفك فإن رأيت ما تحب انصرفت إلى الشام و إن كانت الأخرى مضيت إلى إفريقية فقال صدقت و أستخير الله فقطع الفرات و الله ما قطعه معه من قيس إلا رجلان ابن حديد السلمي و كان أخاه من الرضاعة و الكوثر بن الأسود الغنوي و غدر به سائر النزارية مع

(8/118)


تعصبه لهم فلما اجتاز ببلاد قنسرين و خناصرة أوقعوا بساقته و وثب به أهل حمص و صار إلى دمشق فوثب به الحارث بن عبد الرحمن الحرشي ثم العقيلي ثم أتى الأردن فوثب به هاشم بن عمرو التميمي ثم مر بفلسطين فوثب به أهلها و علم مروان أن إسماعيل بن عبد الله قد غشه في الرأي و لم يمحضه النصيحة و أنه فرط في مشورته إياه شرح نهج البلاغة ج : 7 ص : 134إذ شاور رجلا من قحطان موتورا شانئا له و إن الرأي كان أول الذي هم به من قطع الدرب و النزول ببعض مدن الروم و مكاتبته ملكها و لله أمر هو بالغ لما نزل مروان بالزاب جرد من رجاله ممن اختاره من أهل الشام و الجزيرة و غيرها مائة ألف فارس على مائة ألف قارح ثم نظر إليهم و قال إنها لعدة و لا تنفع العدة إذا انقضت المدة. لما أشرف عبد الله بن علي يوم الزاب في المسودة و في أوائلهم البنود السود تحملها الرجال على الجمال البخت و قد جعل لها بدلا من القنا خشب الصفصاف و الغرب قال مروان لمن قرب منه أ ما ترون رماحهم كأنها النخل غلظا أ ما ترون أعلامهم فوق هذه الإبل كأنها قطع الغمام السود فبينما هو ينظرها و يعجب إذ طارت قطعة عظيمة من الغربان السود فنزلت على أول عسكر عبد الله بن علي و اتصل سوادها بسواد تلك الرايات و البنود و مروان ينظر فازداد تعجبه و قال أ ما ترون إلى السواد قد اتصل بالسواد حتى صار الكل كالسحب السود المتكاثفة ثم أقبل على رجل إلى جنبه فقال أ لا تعرفني من صاحب جيشهم فقال عبد الله بن علي بن عبد الله بن العباس بن عبد المطلب قال ويحك أ من ولد العباس هو قال نعم قال و الله لوددت أن علي بن أبي طالب ع مكانه في هذا الصف قال يا أمير المؤمنين أ تقول هذا لعلي مع شجاعته التي ملأ الدنيا ذكرها قال ويحك إن عليا مع شجاعته صاحب دين و إن الدين غير الملك و إنا نروي عن قديمنا أنه لا شي ء لعلي و لا لولده في هذا ثم قال من هو من ولد العباس شرح نهج البلاغة ج : 7 ص : 135فإني لا أثبت

(8/119)


شخصه قال هو الرجل الذي كان يخاصم بين يديك عبد الله بن معاوية بن عبد الله بن جعفر فقال أذكرني صورته و حليته قال هو الرجل الأقنى الحديد العضل المعروق الوجه الخفيف اللحية الفصيح اللسان الذي قلت لما سمعت كلامه يومئذرزق الله البيان من يشاء فقال و إنه لهو قال نعم فقال إنا لله و إنا إليه راجعون أ تعلم لم صيرت الأمر بعدي لولدي عبد الله و ابني محمد أكبر سنا منه قال لا قال إن آباءنا أخبرونا أن الأمر صائر بعدي إلى رجل اسمه عبد الله فوليته دونه. ثم بعث مروان بعد أن حدث صاحبه بهذا الحديث إلى عبد الله بن علي سرا فقال يا ابن عم إن هذا الأمر صائر إليك فاتق الله و احفظني في حرمي فبعث إليه عبد الله أن الحق لنا في دمك و أن الحق علينا في حرمك. قلت إن مروان ظن أن الخلافة تكون لعبد الله بن علي لأن اسمه عبد الله و لم يعلم أنها تكون لآخر اسمه عبد الله و هو أبو العباس السفاح. كان العلاء بن رافع سبط ذي الكلاع الحميري مؤنسا لسليمان بن هشام بن عبد الملك لا يكاد يفارقه و كان أمر المسودة بخراسان قد ظهر و دنوا من العراق و اشتد إرجاف الناس و نطق العدو بما أحب في بني أمية و أوليائهم. قال العلاء فإني لمع سليمان و هو يشرب تجاه رصافة أبيه و ذلك في آخر أيام يزيد الناقص و عنده الحكم الوادي و هو يغنيه بشعر العرجي
إن الحبيب تروحت أجماله أصلا فدمعك دائم إسباله فاقن الحياء فقد بكيت بعولة لو كان ينفع باكيا إعواله شرح نهج البلاغة ج : 7 ص : 136يا حبذا تلك الحمول و حبذا شخص هناك و حبذا أمثالفأجاد ما شاء و شرب سليمان بن هشام بالرطل و شربنا معه حتى توسدنا أيدينا فلم أنتبه إلا بتحريك سليمان إياي فقمت مسرعا و قلت ما شأن الأمير فقال على رسلك رأيت كأني في مسجد دمشق و كأن رجلا على يده حجر و على رأسه تاج أرى بصيص ما فيه من الجوهر و هو رافع صوته بهذا الشعر

(8/120)


أ بني أمية قد دنا تشتيتكم و ذهاب ملككم و ليس براجع و ينال صفوته عدو ظالم كأسا لكم بسمام موت ناقعفقلت أعيذ الأمير بالله وساوس الشيطان الرجيم هذا من أضغاث الأحلام و مما يقتضيه و يجلبه الفكر و سماع الأراجيف فقال الأمر كما قلت لك ثم وجم ساعة و قال يا حميري بعيد ما يأتي به الزمان قريب قال العلاء فو الله ما اجتمعنا على شراب بعد ذلك اليوم. سئل بعض شيوخ بني أمية عقيب زوال الملك عنهم ما كان سبب زوال ملككم فقال جار عمالنا على رعيتنا فتمنوا الراحة منا و تحومل على أهل خراجنا فجلوا عنا و خربت ضياعنا فخلت بيوت أموالنا و وثقنا بوزرائنا فآثروا مرافقهم على منافعنا و أمضوا أمورا دوننا أخفوا علمها عنا و تأخر عطاء جندنا فزالت طاعتهم لنا و استدعاهم عدونا فظافروه على حربنا و طلبنا أعداءنا فعجزنا عنهم لقلة أنصارنا و كان استتار الأخبار عنا من أوكد أسباب زوال ملكنا. كان سعيد بن عمر بن جعدة بن هبيرة المخزومي أحد وزراء مروان و سماره فلما ظهر شرح نهج البلاغة ج : 7 ص : 137أمر أبالعباس السفاح انحاز إلى بني هاشم و مت إليهم بأم هانئ بنت أبي طالب و كانت تحت هبيرة بن أبي وهب فأتت منه بجعدة فصار من خواص السفاح و بطانته فجلس السفاح يوما و أمر بإحضار رأس مروان و هو بالحيرة يومئذ ثم قال للحاضرين أيكم يعرف هذا فقال سعيد أنا أعرفه هذا رأس أبي عبد الملك مروان بن محمد بن مروان خليفتنا بالأمس رحمه الله تعالى قال سعيد فحدقت إلي الشيعة و رمتني بأبصارها فقال لي أبو العباس في أي سنة كان مولده قلت سنة ست و سبعين فقام و قد تغير لونه غضبا علي و تفرق الناس من المجلس و تحدثوا به فقلت زلة و الله لا تستقال و لا ينساها القوم أبدا فأتيت منزلي فلم أزل باقي يومي أعهد و أوصي فلما كان الليل اغتسلت و تهيأت للصلاة و كان أبو العباس إذا هم بأمر بعث فيه ليلا فلم أزل ساهرا حتى أصبحت و ركبت بغلتي و أفكرت فيمن أقصد في أمري فلم أجد أحدا

(8/121)


أولى من سليمان بن مجالد مولى بني زهرة و كانت له من أبي العباس منزلة عظيمة و كان من شيعة القوم فأتيته فقلت له أ ذكرني أمير المؤمنين البارحة قال نعم جرى ذكرك فقال هو ابن أختنا وفي لصاحبه و نحن لو أوليناه خيرا لكان لنا أشكر فشكرت لسليمان بن مجالد ما أخبرني به و جزيته خيرا و انصرفت فلم أزل من أبي العباس على ما كنت عليه لا أرى منه إلا خيرا. و إنما ذلك المجلس إلى عبد الله بن علي و إلى أبي جعفر المنصور فأما عبد الله بن علي فكتب إلى أبي العباس يغريه بي و يعاتبه على الإمساك عني و يقول له إنه ليس مثل هذا مما يحتمل و كتب إليه أبو جعفر يعذر لي و ضرب الدهر ضربه فأتى ذات يوم عند أبي العباس فنهض و نهضت فقال لي على رسلك يا ابن هبيرة فجلست فرفع الستر و دخل و ثبت في مجلسه قليلا ثم خرج في ثوبي وشي و رداء و جبة فما رأيت و الله أحسن منه و لا مما عليه قط فقال لي يا ابن هبيرة إني ذاكر لك أمرا فلا

(8/122)


شرح نهج البلاغة ج : 7 ص : 138يخرجن من رأسك إلى أحد من الناس قلت نعم قال قد علمت ما جعلنا من هذا الأمر و ولاية العهد لمن قتل مروان و إنما قتله عمي عبد الله بجيشه و أصحابه و نفسه و تدبيره و أنا شديد الفكر في أمر أخي أبي جعفر في فضله و علمه و سنه و إيثاره ذا الأمر كيف أخرجه عنه فقلت أصلح الله أمير المؤمنين إني أحدثك حديثا تعتبر به و تستغني بسماعه عن مشاورتي قال هاته فقلت كنا مع مسلمة بن عبد الملك عام الخليج بالقسطنطينية إذ ورد علينا كتاب عمر بن عبد العزيز ينعى سليمان و مصير الأمر إليه فدخلت إليه فرمى الكتاب إلي فقرأته و استرجعت و اندفع يبكي و أطال فقلت أصلح الله الأمير و أطال بقاءه إن البكاء على الأمر الفائت عجز و الموت منهل لا بد من ورده فقال ويحك إني لست أبكي على أخي لكني أبكي لخروج الأمر عن ولد أبي إلى ولد عمي فقال أبو العباس حسبك فقد فهمت عنك ثم قال إذا شئت فانهض فلما نهضت لم أمض بعيدا حتى قال لي يا ابن هبيرة فالتفت إليه فقال أما إنك قد كافأت أحدهما و أخذت بثأرك من الآخر قال سعيد فو الله ما أدري من أي الأمرين أعجب من فطنته أم من ذكره. لما ساير عبد الله بن علي في آخر أيام بني أمية عبد الله بن حسن بن حسن و معهما داود بن علي فقال داود لعبد الله بن الحسن لم لا تأمر ابنيك بالظهور فقال عبد الله بن حسن لم يأن لهما بعد فالتفت إليه عبد الله بن علي فقال أظنك ترى أن ابنيك قاتلا مروان فقال عبد الله بن حسن إنه ذلك قال هيهات ثم تمثل شرح نهج البلاغة ج : 7 ص : 13سيكفيك الجعالة مستميت خفيف الحاذ من فتيان جرم

(8/123)


أنا و الله أقتل مروان و أسلبه ملكه لا أنت و لا ولداك. و قد روى أبو الفرج الأصفهاني في كتاب الأغاني رواية أخرى في سبب قتل السفاح لمن كان أمنه من بني أمية قال حدث الزبير بن بكار عن عمه أن السفاح أنشد يوما قصيدة مدح بها و عنده قوم من بني أمية كان آمنهم على أنفسهم فأقبل على بعضهم فقال أين هذا مما مدحتم به فقال هيهات لا يقول و الله أحد فيكم مثل قول ابن قيس الرقيات فينا
ما نقموا من بني أمية إلا أنهم يحلمون إن غضبواو أنهم معدن الملوك فما تصلح إلا عليهم العرب
فقال له يا ماص كذا من أمه و إن الخلافة لفي نفسك بعد خذوهم فأخذوا و قتلوا. و روى أبو الفرج أيضا أن أبا العباس دعا بالغداء حين قتلوا و أمر ببساط فبسط عليهم و جلس فوقه يأكل و هم يضطربون تحته فلما فرغ قال ما أعلم أني أكلت أكلة قط كانت أطيب و لا أهنأ في نفسي من هذه فلما فرغ من الأكل قال جروهم بأرجلهم و ألقوهم في الطريق ليلعنهم الناس أمواتا كما لعنوهم أحياء. شرح نهج البلاغة ج : 7 ص : 140قال فلقد رأينا الكلاب تجرهم بأرجلهم و عليهم سراويلات الوشي حتى أنتنوا ثم حفرت لهم بئر فألقوا فيها. قال أبو الفرج و روى عمر بن ة قال حدثني محمد بن معن الغفاري عن معبد الأنباري عن أبيه قال لما أقبل داود بن علي من مكة أقبل معه بنو حسن جميعا و فيهم عبد الله بن حسن بن حسن و أخوه حسن بن الحسن و معهم محمد بن عبد الله بن عمرو بن عثمان بن عفان و هو أخو عبد الله بن الحسن لأمه فعمل داود مجلسا ببعض الطريق جلس فيه هو و الهاشميون كلهم و جلس الأمويون تحتهم فجاء ابن هرمة فأنشده قصيدة يقول فيها

(8/124)


فلا عفا الله عن مروان مظلمة و لا أمية بئس المجلس النادي كانوا كعاد فأمسى الله أهلكهم بمثل ما أهلك الغاوين من عادفلن يكذبني من هاشم أحد فيما أقول و لو أكثرت تعداديقال فنبذ داود نحو عبد الرحمن بن عنبسة بن سعيد بن العاص ضحكة كالكشرة فلما قاموا قال عبد الله بن الحسن لأخيه الحسن بن الحسن أ ما رأيت ضحك داود إلى ابن عنبسة الحمد لله الذي صرفها عن أخي يعني العثماني قال فما هو إلا أن قدم المدينة حتى قتل ابن عنبسة. قال أبو الفرج و حدثني محمد بن معن قال حدثني محمد بن عبد الله بن عمرو شرح نهج البلاغة ج : 7 ص : 141بن عثمان قال استحلف أخي عبد الله بن الحسن داود بن علي و قد حج معه سنة اثنتين و ثلاثين و مائة بطلاق امرأته مليكة بنت داود بن الحسن ألا يقتل أخويه محمدا و القاسم ابني ع الله بن عمرو بن عثمان قال فكنت أختلف إليه آمنا و هو يقتل بني أمية و كان يكره أن يراني أهل خراسان و لا يستطيع إلي سبيلا ليمينه فاستدناني يوما فدنوت منه فقال ما أكثر الغفلة و أقل الحزمة فأخبرت بها أخي عبد الله بن الحسن فقال يا ابن أم تغيب عن الرجل و أقل عنه فتغيب حتى مات. قلت إلا أن ذلك الدين الذي لم يقضه داود قضاه أبو جعفر المنصور. و روى أبو الفرج في الكتاب المذكور أن سديفا أنشد أبا العباس و عنده رجال من بني أمية فقال
يا ابن عم النبي أنت ضياء استبنا بك اليقين الجليا
فلما بلغ قوله
جرد السيف و ارفع العفو حتى لا ترى فوق ظهرها أموياقطن البغض في القديم و أضحى ثابتا في قلوبهم مطويا
و هي طويلة فقال أبو العباس يا سديف خلق الإنسان من عجل ثم أنشد أبو العباس متمثلا
أحيا الضغائن آباء لنا سلفوا فلن تبيد و للآباء أبناء

(8/125)


شرح نهج البلاغة ج : 7 ص : 142ثم أمر بمن عنده فقتلوا. و روى أبو الفرج أيضا عن علي بن محمد بن سليمان النوفلي عن أبيه عن عمومته أنهم حضروا سليمان بن علي بالبصرة و قد حضر جماعة من بني أمية عنده عليهم الثياب الموشاة المرتفعة قال أحد الرواة المذكورين فكأني أن إلى أحدهم و قد أسود شيب في عارضيه من الغالية فأمر بهم فقتلوا و جروا بأرجلهم فألقوا على الطريق و إن عليهم لسراويلات الوشي و الكلاب تجرهم بأرجلهم. و روى أبو الفرج أيضا عن طارق بن المبارك عن أبيه قال جاءني رسول عمرو بن معاوية بن عمرو بن عتبة بن أبي سفيان قال يقول لك عمرو قد جاءت هذه الدولة و أنا حديث السن كثير العيال منتشر الأموال فما أكون في قبيلة إلا شهر أمري و عرفت و قد عزمت على أن أخرج من الاستتار و أفدي حرمي بنفسي و أنا صائر إلى باب الأمير سليمان بن علي فصر إلي فوافيته فإذا عليه طيلسان أبيض مطبق و سراويل وشي مسدول فقلت يا سبحان الله ما تصنع الحداثة بأهلها أ بهذا اللباس تلقى هؤلاء القوم لما تريد لقاءهم فيه فقال لا و الله و لكن ليس عندي ثوب إلا أشهر مما ترى فأعطيته طيلساني و أخذت طيلسانه و لويت سراويله إلى ركبتيه فدخل إلي سليمان ثم خرج مسرورا فقلت له حدثني ما جرى بينك و بين الأمير قال دخلت عليه و لم يرني قط فقلت أصلح الله الأمير لفظتني البلاد إليك و دلني فضلك شرح نهج البلاغة ج : 7 ص : 143عليك إما قتلتني غانما و إما أمنتني سالما فقال و من أنت حتى أعرفك فانتسبت له فقال مرحبا بك اقعد فتكلم سالما آمنا ثم أقبل ي فقال حاجتك يا ابن أخي فقلت إن الحرم اللواتي أنت أقرب الناس إليهن معنا و أولى الناس بهن بعدنا قد خفن لخوفنا و من خاف خيف عليه فو الله ما أجابني إلا بدموعه على خديه ثم قال يا ابن أخي يحقن الله دمك و يحفظك في حرمك و يوفر عليك مالك فو الله لو أمكنني ذلك في جميع قومك لفعلت فكن متواريا كظاهر و آمنا كخائف و لتأتني رقاعك قال فو

(8/126)


الله لقد كنت أكتب إليه كما يكتب الرجل إلى أبيه و عمه قال فلما فرغ من الحديث رددت عليه طيلسانه فقال مهلا فإن ثيابنا إذا فارقتنا لم ترجع إلينا. و روى أبو الفرج الأصفهاني قال أخبرني أحمد بن عبد العزيز الجوهري عن عمر بن شبة قال قال سديف لأبي العباس يحضه على بني أمية و يذكر من قتل مروان و بنو أمية من أهله
كيف بالعفو عنهم و قديما قتلوكم و هتكوا الحرمات أين زيد و أين يحيى بن زيد يا لها من مصيبة وترات و الإمام الذي أصيب بحران إمام الهدى و رأس الثقات قتلوا آل أحمد لا عفا الذنب لمروان غافر السيئقال أبو الفرج و أخبرني علي بن سليمان الأخفش قال أنشدني محمد بن يزيد المبرد لرجل من شيعة بني العباس يحضهم على بني أمية شرح نهج البلاغة ج : 7 ص : 14إياكم أن تلينوا لاعتذارهم فليس ذلك إلا الخوف و الطمع لو أنهم أمنوا أبدوا عداوتهم لكنهم قمعوا بالذل فانقمعواأ ليس في ألف شهر قد مضت لهم سقيتم جرعا من بعدها جرع حتى إذا ما انقضت أيام مدتهم متوا إليكم بالأرحام التي قطعواهيهات لا بد أن يسقوا بكأسهم ريا و أن صدوا الزرع الذي زرعواإنا و إخواننا الأنصار شيعتكم إذا تفرقت الأهواء و الشيع

(8/127)


قال أبو الفرج و روى ابن المعتز في قصة سديف مثل ما ذكرناه من قبل إلا أنه قال فيها فلما أنشده ذلك التفت إليه أبو الغمر سليمان بن هشام فقال يا ماص بظر أمه أ تجبهنا بمثل هذا و نحن سروات الناس فغضب أبو العباس و كان سليمان بن هشام صديقه قديما و حديثا يقضي حوائجه في أيامهم و يبره فلم يلتفت إلى ذلك و صاح بالخراسانية خذوهم فقتلوهم جميعا إلا سليمان بن هشام فأقبل عليه أبو العباس فقال يا أبا الغمر ما أرى لك في الحياة بعد هؤلاء خيرا قال لا و الله قال فاقتلوه و كان إلى جنبه فقتل و صلبوا في بستانه حتى تأذى جلساؤه بريحهم فكلموه في ذلك فقال و الله إن ريحهم عندي لألذ و أطيب من ريح المسك و العنبر غيظا عليهم و حنقا. قال أبو الفرج و كان أبو سعيد مولى فائد من مواليهم يعد في موالي عثمان بن عفان و اسم أبي سعيد إبراهيم و هو من شعرائهم الذين رثوهم و بكوا على دولتهم و أيامهم فمن شعره بعد زوال أمرهم شرح نهج البلاغة ج : 7 ص : 14بكيت و ما ذا يرد البكاء و قل البكاء لقتلى كداءأصيبوا معا فتولوا معا كذلك كانوا معا في رخاءبكت لهم الأرض من بعدهم و ناحت عليهم نجوم السماءو كانوا ضياء فلما انقضى الزمان بقومي تولى الضياء
و من شعره فيهم
أثر الدهر في رجالي فقلوا بعد جمع فراح عظمي مهيضاما تذكرتهم فتملك عيني فيض دمع و حق لي أن تفيضا
و من شعره فيهم
أولئك قومي بعد عز و ثروة تداعوا فإلا تذرف العين أكمدكأنهم لأناس للموت غيرهم و إن كان فيهم منصفا غير معتد
و قال أبو الفرج ركب المأمون بدمشق يتصيد حتى بلغ جبل الثلج فوقف في بعض الطريق على بركة عظيمة في جوانبها أربع سروات لم ير أحسن منها فنزل هناك و جعل ينظر إلى آثار بني أمية و يعجب منها و يذكرهم ثم دعا بطبق عليه طعام فأكل و أمر علوية فغنى
أولئك قومي بعد عز و منعة تفانوا فإلا تذرف العين أكمد

(8/128)


و كان علوية من موالي بني أمية فغضب المأمون و قال يا ابن الفاعلة أ لم يكن لك وقت تبكي فيه على قومك إلا هذا الوقت قال كيف لا أبكي عليهم و مولاكم زرياب كان في أيام دولتهم يركب معهم في مائة غلام و أنا مولاهم معكم أموت جوعا فقام المأمون شرح نهج البلاغة ج : 7 : 146فركب و انصرف الناس و غضب على علوية عشرين يوما و كلم فيه فرضي عنه و وصله بعشرين ألف درهم. لما ضرب عبد الله بن علي أعناق بني أمية قال له قائل من أصحابه هذا و الله جهد البلاء فقال عبد الله كلا ما هذا و شرطة حجام إلا سواء إنما جهد البلاء فقر مدقع بعد غنى موسع. خطب سليمان بن علي لما قتل بني أمية بالبصرة فقال وَ لَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ الصَّالِحُونَ قضاء فصل و قول مبرم فالحمد لله الذي صدق عبده و أنجز وعده و بعدا للقوم الظالمين الذين اتخذوا الكعبة غرضا و الدين هزوا و الفي ء إرثا و القرآن عضين لقد حاق بهم ما كانوا به يستهزئون و كأين ترى لهم من بئر معطلة و قصر مشيد ذلك بما قدمت أيديهم و ما ربك بظلام للعبيد أمهلهم حتى اضطهدوا العترة و نبذوا السنة و استفتحوا و خاب كل جبار عنيد ثم أخذهم فهل تحس منهم منأحد أو تسمع لهم ركزا. ضرب الوليد بن عبد الملك علي بن عبد الله بن العباس بالسياط و شهره بين الناس يدار به على بعير و وجهه مما يلي ذنب البعير و صائح يصيح أمامه هذا علي بن عبد الله الكذاب فقال له قائل و هو على تلك الحال ما الذي نسبوك إليه من الكذب يا أبا محمد قال بلغهم قولي إن هذا الأمر سيكون في ولدي و الله ليكونن فيهم شرح نهج البلاغة ج : 7 ص : 147حتى يملكه عبيدهم الصغار العيون العراض الوجوه الذين كان وجوههم المجان المطرقة. و روي أن علي بن عبد الله دخل على هشام و معه ابنا ابنه الخليفتان أبو العباس و أبو جعفركلمه فيما أراد ثم ولى فقال هشام إن هذا الشيخ قد خرف و أهتر يقول إن

(8/129)


هذا الأمر سينتقل إلى ولده فسمع علي بن عبد الله كلامه فالتفت إليه و قال إي و الله ليكونن ذلك و ليملكن هذان. و قد روى أبو العباس المبرد في كتاب الكامل هذا الحديث فقال دخل علي بن عبد الله بن العباس على سليمان بن عبد الملك فيما رواه محمد بن شجاع البلخي و معه ابنا ابنه الخليفتان بعد أبو العباس و أبو جعفر فأوسع له على سريره و بره و سأله عن حاجته فقال ثلاثون ألف درهم علي دين فأمر بقضائها قال و استوص بابني هذين خيرا ففعل فشكره علي بن عبد الله و قال وصلتك رحم فلما ولى قال سليمان لأصحابه إن هذا الشيخ قد اختل و أسن و خلط و صار يقول إن هذا الأمر سينتقل إلى ولده فسمع ذلك علي بن عبد الله فالتفت إليه و قال إي و الله ليكونن ذلك و ليملكن هذان. قال أبو العباس المبرد و في هذه الرواية غلط لأن الخليفة في ذلك الوقت لم يكن سليمان و إنما ينبغي أن يكون دخل على هشام لأن محمد بن علي بن عبد الله بن العباس كان يحاول التزويج في بني الحارث بن كعب و لم يكن سليمان بن عبد الملك يأذن له فلما قام عمر بن عبد العزيز جاء فقال إني أردت أن أتزوج ابنة خالي من بني الحارث شرح نهج البلة ج : 7 ص : 148بن كعب فتأذن لي فقال عمر بن عبد العزيز تزوج يرحمك الله من أحببت فتزوجها فأولدها أبا العباس السفاح و عمر بن عبد العزيز بعد سليمان و أبو العباس ينبغي ألا يكون تهيأ لمثله أن يدخل على خليفة حتى يترعرع و لا يتم مثل هذا إلا في أيام هشام بن عبد الملك.

(8/130)


قال أبو العباس المبرد و قد جاءت الرواية أن أمير المؤمنين عليا ع لما ولد لعبد الله بن العباس مولود فقده وقت صلاة الظهر فقال ما بال ابن العباس لم يحضر قالوا ولد له ولد ذكر يا أمير المؤمنين قال فامضوا بنا إليه فأتاه فقال له شكرت الواهب و بورك لك في الموهوب ما سميته فقال يا أمير المؤمنين أ و يجوز لي أن أسميه حتى تسميه فقال أخرجه إلي فأخرجه فأخذه فحنكه و دعا له ثم رده إليه و قال خذ إليك أبا الأملاك قد سميته عليا و كنيته أبا الحسن
قال فلما قدم معاوية خليفة قال لعبد الله بن العباس لا أجمع لك بين الاسم و الكنية قد كنيته أبا محمد فجرت عليه. قلت سألت النقيب أبا جعفر يحيى بن محمد بن أبي زيد رحمه الله تعالى فقلت له من أي طريق عرف بنو أمية أن الأمر سينتقل عنهم و أنه سيليه بنو هاشم و أول من يلي منهم يكون اسمه عبد الله و لم منعوهم عن مناكحة بني الحارث بن كعب لعلمهم أن أول من يلي الأمر من بني هاشم تكون أمه حارثية و بأي طريق عرف بنو هاشم أن الأمر سيصير إليهم و يملكه عبيد أولادهم حتى عرفوا صاحب الأمر بعينه كما قد جاء في هذا الخبر شرح نهج البلا ج : 7 ص : 149فقال أصل هذا كله محمد بن الحنفية ثم ابنه عبد الله المكنى أبا هاشم. قلت له أ فكان محمد بن الحنفية مخصوصا من أمير المؤمنين ع بعلم يستأثر به على أخويه حسن و حسين ع قال لا و لكنهما كتما و أذاع ثم قال قد صحت الرواية عندنا عن أسلافنا و عن غيرهم من أرباب الحديث أن عليا ع لما قبض أتى محمد ابنه أخويه حسنا و حسينا ع فقال لهما أعطياني ميراثي من أبي فقالا له قد علمت أن أباك لم يترك صفراء و لا بيضاء فقال قد علمت ذلك و ليس ميراث المال أطلب إنما أطلب ميراث العلم.
قال أبو جعفر رحمه الله تعالى فروى أبان بن عثمان عمن يروي له ذلك عن جعفر بن محمد ع قال فدفعا إليه صحيفة لو أطلعاه على أكثر منها لهلك فيها ذكر دولة بني العباس

(8/131)


قال أبو جعفر و قد روى أبو الحسن علي بن محمد النوفلي قال حدثني عيسى بن علي بن عبد الله بن العباس قال لما أردنا الهرب من مروان بن محمد لما قبض على إبراهيم الإمام جعلنا نسخة الصحيفة التي دفعها أبو هاشم بن محمد بن الحنفية إلى محمد بن علي بن عبد الله بن العباس و هي التي كان آباؤنا يسمونها صحيفة الدولة في صندوق من نحاس صغير ثم دفناه تحت زيتونات بالشراة لم يكن بالشراة من الزيتون غيرهن فلما أفضى السلطان إلينا و ملكنا الأمر أرسلنا إلى ذلك الموضع فبحث و حفر فلم يوجد فيه شي ء فأمرنا بحفر جريب من الأرض في ذلك الموضع حى بلغ الحفر الماء و لم نجد شيئا. قال أبو جعفر و قد كان محمد بن الحنفية صرح بالأمر لعبد الله بن العباس و عرفه تفصيله و لم يكن أمير المؤمنين ع قد فصل لعبد الله بن العباس الأمر و إنما أخبره به شرح نهج البلاغة ج : 7 ص : 150مجملا كقوله في هذا الخبر خذ إليك أبا الأملاك و نحو ذلك مما كان يعرض له به و لكن الذي كشف القناع و أبرز المستور عليه هو محمد بن الحنفية. و كذلك أيضا ما وصل إلى بني أمية من علم هذا الأمر فإنه وصل من جهة محمد بن الحنفية و أطلعهملى السر الذي علمه و لكن لم يكشف لهم كشفه لبني العباس فإن كشفه الأمر لبني العباس كان أكمل. قال أبو جعفر فأما أبو هاشم فإنه قد كان أفضى بالأمر إلى محمد بن علي بن عبد الله بن العباس و أطلعه عليه و أوضحه له فلما حضرته الوفاة عقيب انصرافه من عند الوليد بن عبد الملك مر بالشراة و هو مريض و محمد بن علي بها فدفع إليه كتبه و جعله وصيه و أمر الشيعة بالاختلاف إليه. قال أبو جعفر و حضر وفاة أبي هاشم ثلاثة نفر من بني هاشم محمد بن علي هذا و معاوية بن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب و عبد الله بن الحارث بن نوفل بن الحارث بن عبد المطلب فلما مات خرج محمد بن معاوية بن عبد الله بن جعفر من عنده و كل واحد منهما يدعي وصايته فأما عبد الله بن الحارث فلم يقل شيئا.

(8/132)


قال أبو جعفر رحمه الله تعالى و صدق محمد بن علي أنه إليه أوصى أبو هاشم و إليه دفع كتاب الدولة و كذب معاوية بن عبد الله بن جعفر لكنه قرأ الكتاب فوجد لهم فيه ذكرا يسيرا فادعى الوصية بذلك فمات و خرج ابنه عبد الله بن معاوية يدعي وصاية أبيه و يدعي لأبيه وصاية أبي هاشم و يظهر الإنكار على بني أمية و كان له في ذلك شيعة يقولون بإمامته سرا حتى قتل. دخلت إحدى نساء بني أمية على سليمان بن علي و هو يقتل بني أمية بالبصرة شرح نهج البلاغة ج : 7 ص : 151فقالت أيها الأمير إن العدل ليمل من الإكثار منه و الإسراف فيه فكيف لا تمل أنت من الجور و قطيعة الرحم فأطرق ثم قال لهاسننتم علينا القتل لا تنكرونه فذوقوا كما ذقنا على سالف الدهر
ثم قال يا أمة الله
و أول راض سنة من يسيرها

(8/133)


أ لم تحاربوا عليا و تدفعوا حقه أ لم تسموا حسنا و تنقضوا شرطه أ لم تقتلوا حسينا و تسيروا رأسه أ لم تقتلوا زيدا و تصلبوا جسده أ لم تقتلوا يحيى و تمثلوا به أ لم تلعنوا عليا على منابركم أ لم تضربوا أبانا علي بن عبد الله بسياطكم أ لم تخنقوا الإمام بجراب النورة في حبسكم ثم قال أ لك حاجة قالت قبض عمالك أموالي فأمر برد أموالها عليها. لما سار مروان إلى الزاب حفر خندقا فسار إليه أبو عون عبد الله بن يزيد الأزدي و كان قحطبة بن شبيب قد وجهه و أمد أبو سلمة الخلال بأمداد كثيرة فكان بإزاء مروان ثم إن أبا العباس السفاح قال لأهله و هو بالكوفة حينئذ من يسير إلى مروان من أهل بيتي و له ولاية العهد إن قتله فقال عبد الله عمه أنا قال سر على بركة الله فسار فقدم على أبي عون فتحول له أبو عون عن سرادقه و خلاه له بما فيه ثم سأل عبد الله عن مخاضة في الزاب فدل عليها فأمر قائدا من قواده فعبرها في خمسة آلاف فانتهى إلى عسكر مروان فقاتلهم حتى أمسوا و تحاجزوا و رجع القائد بأصحابه فعبر المخاضة إلى عسكر عبد الله بن علي و أصبح مروان فعقد جسرا و عبر بالجيش كله إلى شرح نهج البلاغة ج : 7 ص : 152عبد الله بن علي فكان ابنه عبد الله بن مروان في مقدمته على الميمنة الوليد بن معاوية بن عبد الملك بن مروان و على الميسرة عبد العزيز بن عمر بن عبد العزيز بن مروان و عبأ عبد الله بن علي جيشه و تراءى الجمعان فقال مروان لعبد العزيز بن عمر انظر فإن زالت الشمس اليوم و لم يقاتلونا كنا نحن الذين ندفعها إلى عيسى ابن مريم و إن قاتلونا قبل الزوال فإنا لله و إنا إليه راجعون ثم أرسل إلى عبد الله بن علي يسأله الكف عن القتال نهار ذلك اليوم فقال عبد الله كذب ابن زربي إنما يريد المدافعة إلى الزوال لا و الله لا تزول الشمس حتى أوطئه الخيل إن شاء الله ثم حرك أصحابه للقتال فنادى مروان في أهل الشام لا تبدءوهم بالحرب فلم يسمع الوليد بن معاوية منه و

(8/134)


حمل على ميسرة عبد الله بن علي فغضب مروان و شتمه فلم يسمع له و اضطرمت الحرب فأمر عبد الله الرماة أن ينزلوا و نادى الأرض الأرض فنزل الناس و رمت الرماة و أشرعت الرماح و جثوا على الركب فاشتد القتال فقال مروان لقضاعة انزلوا قالوا حتى تنزل كندة فقال لكندة انزلوا فقالوا حتى تنزل السكاسك فقال لبني سليم انزلوا فقالوا حتى تنزل عامر فقال لتميم احملوا فقالوا حتى تحمل بنو أسد فقال لهوازن احملوا قالوا حتى تحمل غطفان فقال لصاحب شرطته احمل ويلك قال ما كنت لأجعل نفسي غرضا قال أما و الله لأسوأنك قال وددت أن أمير المؤمنين يقدر على ذلك فانهزم عسكر مروان و انهزم مروان معهم و قطع الجسر فكان من هلك غرقا أكثر ممن هلك تحت السيف و احتوى عبد الله بن علي على عسكر مروان بما فيه و كتب إلى أبي العباس يخبره الواقعة. كان مروان سديد الرأي ميمون النقيبة حازما فلما ظهرت المسودة و لقيهم كان

(8/135)


شرح نهج البلاغة ج : 7 ص : 153ما يدبر أمرا إلا كان فيه خلل و لقد وقف يوم الزاب و أمر بالأموال فأخرجت و قال للناس اصبروا و قاتلوا و هذه الأموال لكم فجعل ناس يصيبون من ذلك المال و يشتغلون به عن الحرب فقال لابنه عبد الله سر في أصحابك فامنع من يتعرض لأخذ الم فمال عبد الله برايته و معه أصحابه فتنادي الناس الهزيمة الهزيمة فانهزموا و ركب أصحاب عبد الله بن علي أكتافهم. لما قتل مروان ببوصير قال الحسن بن قحطبة أخرجوا إلى إحدى بنات مروان فأخرجوها إليه و هي ترعد قال لا بأس عليك قالت و أي بأس أعظم من إخراجك إياي حاسرة و لم أر رجلا قبلك قط فأجلسها و وضع رأس مروان في حجرها فصرخت و اضطربت فقيل له ما أردت بهذا قال فعلت بهم فعلهم بزيد بن علي لما قتلوه جعلوا رأسه في حجر زينب بنت علي بن الحسين ع. دخلت زوجة مروان بن محمد و هي عجوز كبيرة على الخيزران في خلافة المهدي و عندها زينب بنت سليمان بن علي فقالت لها زينب الحمد لله الذي أزال نعمتك و صيرك عبرة أ تذكرين يا عدوة الله حين أتاك نساؤنا يسألنك أن تكلمي صاحبك في أمر إبراهيم بن محمد فلقيتهن ذلك اللقاء و أخرجتهن ذلك الإخراج فضحكت و قالت أي بنت عمي و أي شي ء أعجبك من حسن صنيع الله ب عقيب ذلك حتى أردت أن تتأسى بي فيه ثم ولت خارجة. بويع أبو العباس السفاح بالخلافة يوم الجمعة لثلاث عشرة ليلة خلون من شهر ربيع شرح نهج البلاغة ج : 7 ص : 154الأول سنة اثنتين و ثلاثين و مائة فصعد المنبر بالكوفة فخطب فقال الحمد لله الذي اصطفى الإسلام لنفسه و مه و شرفه و عظمه و اختاره لنا و أيده بنا و جعلنا أهله و كهفه و حصنه و القوام به و الذابين عنه و الناصرين له و خصنا برحم رسول الله ص و أنبتنا من شجرته و اشتقنا من نبعته و أنزل بذلك كتابا يتلى فقال سبحانه قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى فلما قبض رسول الله ص قام بالأمر أصحابه وَ

(8/136)


أَمْرُهُمْ شُورى بَيْنَهُمْ فعدلوا و خرجوا خماصا ثم وثب بنو حرب و بنو مروان فابتزوها و تداولوها و استأثروا بها و ظلموا أهلها فأملى الله لهم حينا فلما آسفوه انتقم منهم بأيدينا و رد علينا حقنا فأنا السفاح المبيح و الثائر المبير. و كان موعوكا فاشتدت عليه الوعكة فجلس على المنبر و لم يستطع الكلام فقام عمه داود بن علي و كان بين يديه فقال يا أهل العراق إنا و الله ما خرجنا لنحفر نهرا و لا لنكنز لجينا و لا عقيانا و إنما أخرجتنا الأنفة من ابتزاز الظالمين حقنا و لقد كانت أموركم تتصل بنا فترمضنا و نحن على فرشنا لكم ذمة الله و ذمة رسوله و ذمة العباس أن نحكم فيكم بما أنزل الله و نعمل فيكم بكتاب الله و نسير فيكم بسنة رسول الله ص و اعلموا أن هذا الأمر ليس بخارج عنا حتى نسلمه إلى عيسى ابن مريم.

(8/137)


شرح نهج البلاغة ج : 7 ص : 155يا أهل الكوفة إنه لم يخطب على منبركم هذا خليفة حق إلا علي بن أبي طالب و أمير المؤمنين هذا فأحمد الله الذي رد إليكم أموركم ثم نزل. و قد روي حديث خطبة داود بن علي برواية أخرى و هي الأشهر قالوا لما صعد أبو العباس منبر الكوفة حصفلم يتكلم فقام داود بن علي و كان تحت منبره حتى قام بين يديه تحته بمرقاة فاستقبل الناس و قال أيها الناس إن أمير المؤمنين يكره أن يتقدم قوله فعله و لأثر الفعال أجدى عليكم من تشقيق المقال و حسبكم كتاب الله تمثلا فيكم و ابن عم رسول الله ص خليفة عليكم أقسم بالله قسما برا ما قام هذا المقام أحد بعد رسول الله ص أحق به من علي بن أبي طالب و أمير المؤمنين هذا فليهمس هامسكم و لينطق ناطقكم ثم نزل. و من خطب داود التي خطب بها بعد قتل مروان شكرا شكرا أ ظن عدو الله أن لن يظفر به أرخي له في زمامه حتى عثر في فضل خطامه فالآن عاد الحق إلى نصابه و طلعت الشمس من مطلعها و أخذ القوس باريها و صار الأمر إلى النزعة و رجع الحق إلى مستقره أهل بيت نبيكم أهل الرأفة و الرحمة. و خطب عيسى بن علي بن عبد الله بن العباس لما قتل مروان فقال الحمد لله الذي لا يفوته من طلب و لا يعجزه من هرب خدعت و الله الأشقر نفسه إذ ظن أن الله ممهله و يأبى الله إلا أن يتم نوره و لو كره الكافرون فحتى متى و إلى متى شرح نهج البلاغة ج : 7 ص : 156أما و الله لقد كرهتهم العيدان التي افترعوها و أمسكت السماء درها و الأرض ريعها و قحل الضرع و جفز الفنيق و أسمل جلباب الدين و طلت الحدود و أهدرت الدماء و كان ربك بالمرصاد فدمدم عليهم ربهم بذنبهم فسواها و لا يخاف عقباها و ملكنا الله أمركم عباد الله لينظر كيف تعملون فالشكر الشكر فإنه من دواعي المزيد أعاذنا الله و إياكم من مضلات الأهواء و بغتات الفتن فإنما نحن به و له. لما أمعن داود بن علي في قتل بني أمية بالحجاز قال له عبد الله بن الحسن ع يا ابن

(8/138)


عمي إذا أفرطت في قتل أكفائك فمن تباهي بسلطانك و ما يكفيك منهم أن يروك غاديا و رائحا فيما يسرك و يسوءهم كان داود بن علي يمثل ببني أمية يسمل العيون و يبقر البطون و يجدع الأنوف و يصطلم الآذان كان عبد الله بن علي بنهر أبي فطرس يصلبهم منكسين و يسقيهم النورة و الصبر و الرماد و الخل و يقطع الأيدي و الأرجل و كان سليمان بن علي بالبصرة يضرب الأعناق. خطب السفاح في الجمعة الثانية بالكوفة فقال
شرح نهج البلاغة ج : 7 ص : 157يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود و الله لا أعدكم شيئا و لا أتوعدكم إلا وفيت بالوعد و الوعيد و لأعملن اللين حتى لا تنفع إلا الشدة و لأغمدن السيف إلا في إقامة حد أو بلوغ حق و لأعطينكم حتى أرى العطية ضياعا إن أهل بيت اللعنة و شجرة الملعونة في القرآن كانوا لكم أعداء لا يرجعون معكم من حالة إلا إلى ما هو أشد منها و لا يلي عليكم منهم وال إلا تمنيتم من كان قبله و إن كان لا خير في جميعهم منعوكم الصلاة في أوقاتها و طالبوكم بأدائها في غير وقتها و أخذوا المدبر بالمقبل و الجار بالجار و سلطوا شراركم على خياركم فقد محق الله جورهم و أزهق باطلهم بأهل بيت نبيكم فما نؤخر لكم عطاء و لا نضيع لأحد منكم حقا و لا نجهزكم في بعث و لا نخاطر بكم في قتال و لا نبذلكم دون أنفسنا و الله على ما نقول وكيل بالوفاء و الاجتهاد و عليكم بالسمع و الطاعة. ثم نزل. كان يقال لو ذهبت دولة بني أمية على يد غير مروان بن محمد لقيل لو كان لها مروان لما ذهبت. كان يقال إن دولة بني أمية آخرها خليفة أمه أمة فلذلك كانوا لا يعهدون إلى بني الإماء منهم و لو عهدوا إلى ابن أمة لكان مسلمة بن عبد الملك أولاهم بها و كان انقراض أمرهم على يد مروان و أمه أمة كانت لمصعب بن الزبير وهبها من إبراهيم بن الأشتر فأصابها محمد بن مروان يوم قتل ابن الأشتر فأخذها من ثقله فقيل إنها كانت حاملا بمروان فولدته على فراش محمد بن مروان و لذلك كان

(8/139)


أهل خراسان ينادونه في الحرب يا ابن الأشتر. قيل أيضا إنها كانت حاملا به من مصعب بن الزبير و إنه لم تطل مدتها عند شرح نهج البلاغة ج : 7 ص : 158إبراهيم بن الأشتر حتى قتل فوضعت حملها على فراش محمد بن مروان و لذلك كانت المسودة تصيح به في الحرب يا ابن مصعب ثم يقولون يا ابن الأشتر فيقول ما أبالي أي الفحلين غلب علي لما بويع أ العباس جاءه ابن عياش المنتوف فقبل يده و بايعه و قال الحمد لله الذي أبدلنا بحمار الجزيرة و ابن أمة النخع ابن عم رسول الله ص و ابن عبد المطلب. لما صعد السفاح منبر الكوفة يوم بيعته و خطب الناس قام إليه السيد الحميري فأنشده
دونكموها يا بني هاشم فجددوا من آيها الطامسادونكموها لا علا كعب من أمسى عليكم ملكها نافسادونكموها فالبسوا تاجها لا تعدموا منكم له لابساخلافة الله و سلطانه و عنصر كان لكم دارساقد ساسها من قبلكم ساسة لم يتركوا رطبا و لا يابسالو خير المنبر فرسانه ما اختار إلا منكم فارساو الملك لو شوور في سائس لما ارتضى غيركم سائسالم يبق عبد الله بالشام من آل أبي العاص امرأ عاطسافلست من أن تملكوها إلى هبوط عيسى منكم آيسا

(8/140)


قال داود بن علي لإسماعيل بن عمرو بن سعيد بن العاص بعد قتله من قتل من بني شرح نهج البلاغة ج : 7 ص : 159أمية هل علمت ما فعلت بأصحابك قال نعم كانوا يدا فقطعتها و عضدا ففتت فيها و مرة فنقضتها و جناحا فحصصتها قال إني لخليق أن ألحقك فيهم قال إني إذا لسعيد. لماستوثق الأمر لأبي العباس السفاح وفد إليه عشرة من أمراء الشام فحلفوا له بالله و بطلاق نسائهم و بأيمان البيعة بأنهم لا يعلمون إلى أن قتل مروان أن لرسول الله ص أهلا و لا قرابة إلا بني أمية. و روى أبو الحسن المدائني قال حدثني رجل قال كنت بالشام فجعلت لا أسمع أحدا يسمي أحدا أو يناديه يا علي أو يا حسن أو يا حسين و إنما أسمع معاوية و الوليد و يزيد حتى مررت برجل فاستسقيته ماء فجعل ينادي يا علي يا حسن يا حسين فقلت يا هذا إن أهل الشام لا يسمون بهذه الأسماء قال صدقت إنهم يسمون أبناءهم بأسماء الخلفاء فإذا لعن أحدهم ولده أو شتمه فقد لعن اسم بعد الخلفاء و أنا سميت أولادي بأسماء أعداء الله فإذا شتمت أحدهم أو لعنته فإنما ألعن أعداء الله. كانت أم إبراهيم بن موسى بن عيسى بن موسى بن محمد بن علي بن عبد الله بن العباس أموية من ولد عثمان بن عفان. قال إبراهيم فدخلت على جدي عيسى بن موسى مع أبي موسى فقال لي جدي أ تحب بني أمية فقال له موسى أبي نعم إنهم أخواله فقال و الله لو رأيت جدك شرح نهج البلاغة ج : 7 ص : 160علي بن عبد الله بن العباس يضرب بالسياط ما أحببتهم و لو رأيت إبراهيم بن محمد يكره على إدخال رأسه في جراب النورة لما أحببتهم وأحدثك حديثا إن شاء الله أن ينفعك به نفعك لما وجه سليمان بن عبد الملك ابنه أيوب بن سليمان إلى الطائف وجه معه جماعة فكنت أنا و محمد بن علي بن عبد الله جدي معهم و أنا حينئذ حديث السن و كان مع أيوب مؤدب له يؤدبه فدخلنا عليه يوما أنا و جدي و ذلك المؤدب يضربه فلما رآنا الغلام أقبل على مؤدبه فضربه فنظر بعضنا إلى بعض و قلنا ما له

(8/141)


قاتله الله حين رآنا كره أن نشمت به ثم التفت أيوب إلينا فقال أ لا أخبركم يا بني هاشم بأعقلكم و أعقلنا أعقلنا من نشأ منا يبغضكم و أعقلكم من نشأ منكم يبغضنا و علامة ذلك أنكم لم تسموا بمروان و لا الوليد و لا عبد الملك و لم نسم نحن بعلي و لا بحسن و لا بحسين. لما انتهى عامر بن إسماعيل و كان صالح بن علي قد أنفذه لطلب مروان إلى بوصير مصر هرب مروان بين يديه في نفر يسير من أهله و أصحابه و لم يكن قد تخلف معه كثير عدد فانتهوا في غبش الصبح إلى قنطرة هناك على نهر عميق ليس للخيل عبور إلا على تلك القنطرة و عامر بن إسماعيل من ورائهم فصادف مروان على تلك القنطرة بغالا قد استقبلته تعبر القنطرة و عليها زقاق عسل فحبسته عن العبور حتى أدركه عامر بن إسماعيل و رهقه فلوى مروان دابته إليهم و حارب فقتل فلما بلغ صالح بن علي ذلك قال إن لله جنودا من عسل. لما نقف رأس مروان و نفض مخه قطع لسانه و ألقى مع لحم عنقه فجاء كلب فأخذ اللسان فقال قائل

(8/142)


شرح نهج البلاغة ج : 7 ص : 161إن من عبر الدنيا أن رأينا لسان مروان في فم كلب. خطب أبو مسلم بالمدينة في السنة التي حج فيها في خلافة السفاح فقال الحمد لله الذي حمد نفسه و اختار الإسلام دينا لعباده ثم أوحى إلى محمد رسول الله ص من ذلك ما أوحى و اختاره من خلقنفسه من أنفسهم و بيته من بيوتهم ثم أنزل عليه في كتابه الناطق الذي حفظه بعلمه و أشهد ملائكته على حقه قوله إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَ يُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً ثم جعل الحق بعد محمد ع في أهل بيته فصبر من صبر منهم بعد وفاة رسول الله ص على اللأواء و الشدة و أغضى على الاستبداد و الأثرة ثم إن قوما من أهل بيت الرسول ص جاهدوا على ملة نبيه و سنته بعد عصر من الزمان من عمل بطاعة الشيطان و عداوة الرحمن بين ظهراني قوم آثروا العاجل على الآجل و الفاني على الباقي إن رتق جور فتقوه أو فتق حق رتقوه أهل خمور و ماخور و طنابير و مزامير إن ذكروا لم يذكروا أو قدموا إلى الحق أدبروا و جعلوا الصدقات في الشبهات و المغانم في المحارم و الفي ء في الغي هكذا كان زمانهم و به كان يعمل سلطانهم و زعموا أن غير آل محمد أولى بالأمر منهم فلم و بم أيها اناس أ لكم الفضل بالصحابة دون ذوي القرابة الشركاء في النسب و الورثة في السلب مع ضربهم على الدين جاهلكم و إطعامهم في الجدب جائعكم و الله ما اخترتم من حيث اختار الله لنفسه ساعة قط و ما زلتم بعد نبيه تختارون تيميا مرة و عدويا مرة و أمويا مرة و أسديا مرة و سفيانيا مرة و مروانيا مرة شرح نهج البلاغة ج : 7 ص : 162حتى جاءكم من لا تعرفون اسمه و لا بيته يضربكم بسيفه فأعطيتموها عنوة و أنتم صاغرون ألا إن آل محمد أئمة الهدى و منار سبيل التقى القادة الذادة السادة بنو عم رسول الله و منزل جبريل بالتنزيل كم قصم الله بهم منبار طاغ و فاسق باغ شيد الله بهم الهدى و جلا بهم العمى لم يسمع بمثل

(8/143)


العباس و كيف لا تخضع له الأمم لواجب حق الحرمة أبو رسول الله بعد أبيه و إحدى يديه و جلده بين عينيه أمينه يوم العقبة و ناصره بمكة و رسوله إلى أهلها و حاميه يوم حنين عند ملتقى الفئتين لا يخالف له رسما و لا يعصي له حكما الشافع يوم نيق العقاب إلى رسول الله في الأحزاب ها إن في هذا أيها الناس لعبرة لأولي الأبصار. قلت الأسدي عبد الله بن الزبير و من لا يعرفون اسمه و لا بيته يعني نفسه لأنه لم يكن معلوم النسب و قد اختلف فيه هل هو مولى أم عربي. و يوم العقبة يوم مبايعة الأنصار السبعين لرسول الله ص بمكة و يوم نيق العقاب يوم فتح مكة شفع العباس ذلك اليوم في أبي سفيان و في أهل مكة فعفا النبي ص عنهم. اجتمع عند المنصور أيام خلافته جماعة من ولد أبيه منهم عيسى بن موسى و العباس بن محمد و غيرهما فتذاكروا خلفاء بني أمية و السبب الذي به سلبوا عزهم فقال المنصور كان عبد الملك جبارا لا يبالي ما صنع و كان الوليد لحانا مجنونا و كان سليمان همته بطنه و فرجه و كان عمر أعور بين عميان و كان هشام رجل القوم و لم يزل بنو أمية ضابطين لما مهد لهم من السلطان يحوطونه و يصونونه و يحفظونه و يحرسون ما وهب الله لهم منه مع تسنمهم معالي الأمور و رفضهم أدانيها حتى أفضى أمرهم إلى أحداث مترفين من أبنائهم فغمطوا النعمة و لم يشكروا العافية و أساءوا الرعاية فابتدأت النقمة منهم

(8/144)


شرح نهج البلاغة ج : 7 ص : 163باستدراج الله إياهم آمنين مكره مطرحين صيانة الخلافة مستخفين بحق الرئاسة ضعيفين عن رسوم السياسة فسلبهم الله العزة و ألبسهم الذلة و أزال عنهم النعمة. سأل المنصور ليلة عن عبد الله بن مروان بن محمد فقال له الربيع إنه في سجن أميرلمؤمنين حيا فقال المنصور قد كان بلغني كلام خاطبه به ملك النوبة لما قدم دياره و أنا أحب أن أسمعه من فيه فليؤمر بإحضاره فأحضر فلما دخل خاطب المنصور بالخلافة فأمره المنصور بالجلوس فجلس و للقيد في رجليه خشخشة قال أحب أن تسمعني كلاما قاله لك ملك النوبة حيث غشيت بلاده قال نعم قدمت إلى بلد النوبة فأقمت أياما فاتصل خبرنا بالملك فأرسل إلينا فرشا و بسطا و طعاما كثيرا و أفرد لنا منازل واسعة ثم جاءني و معه خمسون من أصحابه بأيديهم الحراب فقمت إليه فاستقبلته و تنحيت له عن صدر المجلس فلم يجلس فيه و قعد على الأرض فقلت له ما منعك من القعود على الفرش قال إني ملك و حق الملك أن يتواضع لله و لعظمته إذا رأى نعمه متجددة عنده و لما رأيت تجدد نعمة الله عندي بقصدكم بلادي و استجارتكم بي بعد عزكم و ملككم قابلت هذه النعمة بما ترى من الخضوع و التواضع ثم سكت و سكت فلبثنا ما شاء الله لا يتكلم و لا أتكلم و أصحابه قيام بالحراب على رأسه ثم قال لي لما ذا شربتم الخمر و هي محرمة عليكم في كتابكم فقلت اجترأ على ذلك عبيدنا بجهلهم قال فلم وطئتم الزروع بدوابكم و الفساد محرم عليكم في كتابكم و دينكم قلت فعل ذلك أتباعنا و عمالنا جهلا منهم قال فلم لبستم الحرير و الديباج و الذهب و هو محرم عليكم في كتابكم و دينكم قلت استعنا في أعمالنا بقوم من شرح نهج البلاغة ج : 7 ص : 164أبناء العجم كتاب دخلوا في ديننا فلبسوا ذلك اتباعا لسنة سلفهم على كره منا فأطرق مليا إلى الأرض يقلب يده و ينكت الأرض ثم قال عبيدنا و أتباع و عمالنا و كتابنا ما الأمر كما ذكرت و لكنكم قوم استحللتم ما حرم

(8/145)


الله عليكم و ركبتم ما عنه نهيتم و ظلمتم فيما ملكتم فسلبكم الله العز و ألبسكم الذل و إن له سبحانه فيكم لنقمة لم تبلغ غايتها بعد و أنا خائف أن يحل بكم العذاب و أنتم بأرضي فينالني معكم و الضيافة ثلاث فاطلبوا ما احتجتم إليه و ارتحلوا عن أرضي. فأخذنا منه ما تزودنا به و ارتحلنا عن بلده فعجب المنصور لذلك و أمر بإعادته إلى الحبس. و قد جاءنا في بعض الروايات أن السفاح لما أراد أن يقتل القوم الذين انضموا إليه من بني أمية جلس يوما على سرير بهاشمية الكوفة و جاء بنو أمية و غيرهم من بني هاشم و القواد و الكتاب فأجلسهم في دار تتصل بداره و بينه و بينهم ستر مسدول ثم أخرج إليهم أبا الجهم بن عطية و بيده كتاب ملصق فنادى بحيث يسمعون أين رسول الحسين بن علي بن أبي طالب ع فلم يتكلم أحد فدخل ثم خرج ثانية فنادى أين رسول زيد بن علي بن الحسين فلم يجبه أحد فدخل ثم خرج ثالثة فنادى أين رسول يحيى بن زيد بن علي فلم يرد أحد عليه فدخل ثم خرج رابعة فنادى أين رسول إبراهيم بن محمد الإمام و القوم ينظر بعضهم إلى بعض و قد أيقنوا بالشر ثم دخل و خرج فقال لهم إن أمير المؤمنين يقول لكم هؤلاء أهلي و لحمي فما ذا صنعتم بهم ردوهم إلي أو فأقيدوني من أنفسكم فلم ينطقوا بحرف و خرجت الخراسانية بالأعمدة فشدخوهم عن آخرهم. شرح نهج البلاغة ج : 7 ص : 165قلت و هذا المعنى مأخوذ من قول الفضل بن عبد الرحمن بن العباس بن ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب لما قتل ز بن علي ع في سنة اثنتين و عشرين و مائة في خلافة هشام بن عبد الملك و ذلك أن هشاما كتب إلى عامله بالبصرة و هو القاسم بن محمد الثقفي أن يشخص كل من بالعراق من بني هاشم إلى المدينة خوفا من خروجهم و كتب إلى عامل المدينة أن يحبس قوما منهم و أن يعرضهم في كل أسبوع مرة و يقيم لهم الكفلاء على ألا يخرجوا منها فقال الفضل بن عبد الرحمن من قصيدة له طويلة

(8/146)


كلما حدثوا بأرض نقيقا ضمنونا السجون أو سيروناأشخصونا إلى المدينة أسرى لا كفاهم ربي الذي يحذروناخلفوا أحمد المطهر فينا بالذي لا يحب و استضعفوناقتلونا بغير ذنب إليهم قاتل الله أمة قتلوناما رعوا حقنا و لا حفظوا فينا وصاة الإله بالأقربيناجعلونا أدنى عدو إليهم فهم في دمائنا يسبحوناأنكروا حقنا و جاروا علينا و على غير إحنة أبغضوناغير أن النبي منا و أنا لم نزل في صلاتهم راغبيناإن دعونا إلى الهدى لم يجيبونا و كانوا عن الهدى ناكبيناأو أمرنا بالعرف لم يسمعوا منا و ردوا نصيحة الناصحيناو لقدما ما رد نصح ذوي الرأي فلم يتبعهم الجاهلونافعسى الله أن يديل أناسا من أناس فيصبحوا ظاهرينافتقر العيون من قوم سوء قد أخافوا و قتلوا المؤمنينا
شرح نهج البلاغة ج : 7 ص : 166ليت شعري هل توجفن بي الخيل عليها الكمأة مستلئمينامن بني هاشم و من كل حي ينصرون الإسلام مستنصرينافي أناس آباؤهم نصروا الدين و كانوا لربهم ناصريناتحكم المرهفات في الهام منهم بأكف المعاشر الثائريناأين قتلى منا بغيتم عليهم ثم قتموهم ظالميناارجعوا هاشما و ردوا أبا اليقظان و ابن البديل في آخريناو ارجعوا ذا الشهادتين و قتلى أنتم في قتالهم فاجروناثم ردوا حجرا و أصحاب حجر يوم أنتم في قتلهم معتدوناثم ردوا أبا عمير و ردوا لي رشيدا و ميثما و الذيناقتلوا بالطفوف يوم حسين من بني هاشم و ردوا حسيناأين عمرو و أين بشر و قتلى معهم بالعراء ما يدفنوناارجعوا عامرا و ردوا زهيرا ثم عثمان فارجعوا عازميناو ارجعوا الحر و ابن قين و قوما قتلوا حين جاوزوا صفيناو ارجعوا هانئا و ردوا إلينا مسلما و الرواع في آخريناثم ردوا زيدا إلينا و ردوا كل من قد قتلتم أجمعينالن تردوهم إلينا و لسنا منكم غير ذلكم قابلينا

(8/147)


شرح نهج البلاغة ج : 7 ص : 167أَلَا إِنَّ أَبْصَرَ الْأَبْصَارِ مَا نَفَذَ فِي الْخَيْرِ طَرْفُهُ أَلَا إِنَّ أَسْمَعَ الْأَسْمَاعِ مَا وَعَى التَّذْكِيرَ وَ قَبِلَهُ أَيُّهَا النَّاسُ اسْتَصْبِحُوا مِنْ شُعْلَةِ مِصْبَاحٍ وَاعِظٍ مُتَّعِظٍ وَ امْتَاحُواِنْ صَفِيِّ عَيْنٍ قَدْ رُوِّقَتْ مِنَ الْكَدَرِ عِبَادَ اللَّهِ لَا تَرْكَنُوا إِلَى جَهَالَتِكُمْ وَ لَا تَنْقَادُوا إِلَى أَهْوَائِكُمْ فَإِنَّ النَّازِلَ بِهَذَا الْمَنْزِلِ نَازِلٌ بِشَفَا جُرُفٍ هَارٍ يَنْقُلُ الرَّدَى عَلَى ظَهْرِهِ مِنْ مَوْضِعٍ إِلَى مَوْضِعٍ لِرَأْيٍ يُحْدِثُهُ بَعْدَ رَأْيٍ يُرِيدُ أَنْ يُلْصِقَ مَا لَا يَلْتَصِقُ وَ يُقَرِّبَ مَا لَا يَتَقَارَبُ فَاللَّهَ اللَّهَ أَنْ تَشْكُوا إِلَى مَنْ لَا يُشْكِي شَجْوَكُمْ وَ لَا يَنْقُضُ بِرَأْيِهِ مَا قَدْ أَبْرَمَ لَكُمْ إِنَّهُ لَيْسَ عَلَى الْإِمَامِ إِلَّا مَا حُمِّلَ مِنْ أَمْرِ رَبِّهِ الْإِبْلَاغُ فِي الْمَوْعِظَةِ وَ الِاجْتِهَادُ فِي النَّصِيحَةِ وَ الْإِحْيَاءُ لِلسُّنَّةِ وَ إِقَامَةُ الْحُدُودِ عَلَى مُسْتَحِقِّيهَا وَ إِصْدَارُ السُّهْمَانِ عَلَى أَهْلِهَا فَبَادِرُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِ تَصْوِيحِ نَبْتِهِ وَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُشْغَلُوا بِأَنْفُسِكُمْ عَنْ مُسْتَثَارِ الْعِلْمِ مِنْ عِنْدِ أَهْلِهِ وَ انْهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَ تَنَاهَوْا عَنْهُ فَإِنَّمَا أُمِرْتُمْ بِالنَّهْيِ بَعْدَ التَّنَاهِي
هار الجرف يهور هورا و هئورا فهو هائر و قالوا هار خفضوه في موضع الرفع كقاض و أرادوا هائر و هو مقلوب من الثلاثي إلى الرباعي كما قلبوا شائك السلاح إلى شاكي السلاح و هورته فتهور و انهار أي انهدم. شرح نهج البلاغة ج : 7 ص : 168و أشكيت زيدا أزلت شكايته و الشجو هم و الحزن. و صوح النبت أي جف أعلاه قال
و لكن البلاد إذا اقشعرت و صوح نبتها رعي الهشيم

(8/148)


يقول ع أشد العيون إدراكا ما نفذ طرفها في الخير و أشد الأسماع إدراكا ما حفظ الموعظة و قبلها. ثم أمر الناس أن يستصبحوا أي يسرجوا مصابيحهم من شعلة سراج متعظ في نفسه واعظ لغيره و روي بالإضافة من شعلة مصباح واعظ بإضافة مصباح إلى واعظ و إنما جعله متعظا واعظا لأن من لم يتعظ في نفسه فبعيد أن يتعظ به غيره و ذلك لأن القبول لا يحصل منه و الأنفس تكون نافرة عنه و يكون داخلا في حيز قوله تعالى أَ تَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَ تَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ و في قول الشاعر
لا تنه عن خلق و تأتي مثله

(8/149)


و عني بهذا المصباح نفسه ع. ثم أمرهم أن يمتاحوا من عين صافية قد انتفى عنها الكدر كما يروق الشراب بالراووق فيزول عنه كدرة و الامتياح نزول البئر و مل ء الدلاء منها و يكني بهذا أيضا عن نفسه ع. شرح نهج البلاغة ج : 7 ص : 169ثم نهاهم عن الانقياد لأهوائهم و المإلى جهالتهم و قال إن من يكون كذلك فإنه على جانب جرف متهدم و لفظة هار من الألفاظ القرآنية. ثم قال و من يكون كذلك فهو أيضا ينقل الهلاك على ظهره من موضع إلى موضع ليحدث رأيا فاسدا بعد رأي فاسد أي هو ساع في ضلال يروم أن يحتج لما لا سبيل إلى إثباته و ينصر مذهبا لا انتصار له. ثم نهاهم و حذرهم أن يشكوا إلى من لا يزيل شكايتهم و من لا رأي له في الدين و لا بصيرة لينقض ما قد أبرمه الشيطان في صدورهم لإغوائهم و يروى إلى من لا يشكي شجوكم و من ينقض برأيه ما قد أبرم لكم و هذه الرواية أليق أي لا تشكوا إلى من لا يدفع عنكم ما تشكون منه و إنما ينقض برأيه الفاسد ما قد أبرمه الحق و الشرع لكم. ثم ذكر أنه ليس على الإمام إلا ما قد أوضحه من الأمور الخمسة. ثم أمرهم بمبادرة أخذ العلم من أهله يعني نفسه ع قبل أن يموت فيذهب العلم و تصويح النبت كناية عن ذلك. ثم قال و قبل أن تشغلوا بالفتن و ما يحدث عليكم من خطوب الدنيا عن استثارة العلم من معدنه و استنباطه من قرارته. ثم أمرهم بالنهي عن المنكر و أن يتناهوا عنه قبل أن ينهوا عنه و قال إنما النهي بعد التناهي. شرح نهج البلاغة ج : 7 ص : 170و في هذا الموضع إشكال و ذلك أن لقائل أن يقول النهي عن المن واجب على العدل و الفاسق فكيف قال إنما أمرتم بالنهي بعد التناهي و قد روي أن الحسن البصري قال للشعبي هلا نهيت عن كذا فقال يا أبا سعيد إني أكره أن أقول ما لا أفعل قال الحسن غفر الله لك و أينا يقول ما يفعل ود الشيطان لو ظفر منكم بهذه فلم يأمر أحد بمعروف و لم ينه عن منكر. و الجواب أنه ع لم يرد أن وجود النهي عن المنكر مشروط

(8/150)


بانتهاء ذلك الناهي عن المنكر و إنما أراد أني لم آمركم بالنهي عن المنكر إلا بعد أن أمرتكم بالانتهاء عن المنكر فالترتيب إنما هو في أمره ع لهم بالحالتين المذكورتين لا في نهيهم و تناهيهم. فإن قلت فلما ذا قدم أمرهم بالانتهاء على أمرهم بالنهي قلت لأن إصلاح المرء نفسه أهم من الاعتناء بإصلاحه لغيره
شرح نهج البلاغة ج : 7 ص : 105171- و من خطبة له عالْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي شَرَعَ الْإِسْلَامَ فَسَهَّلَ شَرَائِعَهُ لِمَنْ وَرَدَهُ وَ أَعَزَّ أَرْكَانَهُ عَلَى مَنْ غَالَبَهُ فَجَعَلَهُ أَمْناً لِمَنْ عَلِقَهُ وَ سِلْماً لِمَنْ دَخَلَهُ وَ بُرْهَاناً لِمَنْ تَكَلَّمَ بِهِ وَ شَاهِداً لِمَنْ خَاصَمَ عَنْهُ وَ نُوراً لِمَنِ اسْتَضَاءَ بِهِ وَ فَهْماً لِمَنْ عَقَلَ وَ لُبّاً لِمَنْ تَدَبَّرَ وَ آيَةً لِمَنْ تَوَسَّمَ وَ تَبْصِرَةً لِمَنْ عَزَمَ وَ عِبْرَةً لِمَنِ اتَّعَظَ وَ نَجَاةً لِمَنْ صَدَّقَ وَ ثِقَةً لِمَنْ تَوَكَّلَ وَ رَاحَةً لِمَنْ فَوَّضَ وَ جُنَّةً لِمَنْ صَبَرَ فَهُوَ أَبْلَجُ الْمَنَاهِجِ وَ أَوْضَحُ الْوَلَائِجِ مُشْرِفُ الْمَنَارِ مُشْرِقُ الْجَوَادِّ مُضِي ءُ الْمَصَابِيحِ كَرِيمُ الْمِضْمَارِ رَفِيعُ الْغَايَةِ جَامِعُ الْحَلْبَةِ مُتَنَافِسُ السُّبْقَةِ شَرِيفُ الْفُرْسَانِ التَّصْدِيقُ ِنْهَاجُهُ وَ الصَّالِحَاتُ مَنَارُهُ وَ الْمَوْتُ غَايَتُهُ وَ الدُّنْيَا مِضْمَارُهُ وَ الْقِيَامَةُ حَلْبَتُهُ وَ الْجَنَّةُ سُبْقَتُهُ

(8/151)


هذا باب من الخطابة شريف و ذلك لأنه ناط بكل واحدة من اللفظات لفظة تناسبها و تلائمها لو نيطت بغيرها لما انطبقت عليها و لا استقرت في قرارها أ لا تراه قال أمنا لمن علقه فالأمن مرتب على الاعتلاق و كذلك في سائر الفقر كالسلم المرتب على الدخول و البرهان المرتب على الكلام و الشاهد المرتب على الخصام و النور المرتب شرح نهج البلاغة ج : 7 ص : 172على الاستضاءة إلى آخرها أ لا ترى أنه لو قال و برهانا لمن دخله و نورا لمن خاصم عنه و شاهدا لمن استضاء به لكان قد قرن باللفظة ما لا يناسبها فكان قد خرج عن قانون الخطابة و دخل فييب ظاهر و توسم تفرس و الولائج جمع وليجة و هو المدخل إلى الوادي و غيره. و الجنة الترس و أبلج المناهج معروف الطريق. و الحلبة الخيل المجموعة للمسابقة. و المضمار موضع تضمير الخيل و زمان تضميرها و الغاية الراية المنصوبة و هو هاهنا خرقة تجعل على قصبة و تنصب في آخر المدى الذي تنتهي إليه المسابقة كأنه ع جعل الإسلام كخيل السباق التي مضمارها كريم و غايتها رفيعة عالية و حلبتها جامعة حاوية و سبقتها متنافس فيها و فرسانها أشراف. ثم وصفه بصفات أخرى فقال التصديق طريقه و الصالحات أعلامه و الموت غايته أي إن الدنيا سجن المؤمن و بالموت يخلص من ذلك السجن و يحظى بالسعادة الأبدية. قال و الدنيا مضماره كأن الإنسان يجري إلى غاية هي الموت و إنما جعلها مضمار الإسلام لأن المسلم يقطع دنياه لا لدنياه بل لآخرته فالدنيا له كالمضمار للفرس إلى الغاية المعينة. قال و القيامة حلبته أي ذات حلبته فحذف المضاف كقوله تعالى هُمْ دَرَجاتٌ عِنْدَ اللَّهِ أي ذوو درجات. ثم قال و الجنة سبقته أي جزاء سبقته فحذف أيضا شرح نهج البلاغة ج : 7 ص : 17مِنْهَا فِي ذِكْرِ النَّبِيِّ ص حَتَّى أَوْرَى قَبَساً لقَابِسٍ وَ أَنَارَ عَلَماً لِحَابِسٍ فَهُوَ أَمِينُكَ الْمَأْمُونُ وَ شَهِيدُكَ يَوْمَ الدِّينِ وَ بَعِيثُكَ نِعْمَةً وَ

(8/152)


رَسُولُكَ بِالْحَقِّ رَحْمَةً اللَّهُمَّ اقْسِمْ لَهُ مَقْسَماً مِنْ عَدْلِكَ وَ اجْزِهِ مُضَعَّفَاتِ الْخَيْرِ مِنْ فَضْلِكَ اللَّهُمَّ وَ أَعْلِ عَلَى بِنَاءِ الْبَانِينَ بِنَاءَهُ وَ أَكْرِمْ لَدَيْكَ نُزُلَهُ وَ شَرِّفْ عِنْدَكَ مَنْزِلَهُ وَ آتِهِ الْوَسِيلَةَ وَ أَعْطِهِ السَّنَاءَ وَ الْفَضِيلَةَ وَ احْشُرْنَا فِي زُمْرَتِهِ غَيْرَ خَزَايَا وَ لَا نَادِمِينَ وَ لَا نَاكِبِينَ وَ لَا نَاكِثينَ وَ لَا ضَالِّينَ وَ لَا مُضِلِّينَ وَ لَا مَفْتُونِينَ
قال الرضي رحمه الله تعالى و قد مضى هذا الكلام فيما تقدم إلا أننا كررناه هاهنا لما في الروايتين من الاختلاف

(8/153)


قبسا منصوب بالمفعولية أي أورى رسول الله ص قبسا و القبس شعلة من النار و القابس طالب الاستصباح منها و الكلام مجاز و المراد الهداية في الدين. و علما منصوب أيضا بالمفعولية أي و أنا رسول الله ص علما. لحابس أي نصب لمن قد حبس ناقته ضلالا فهو يخبط لا يدري كيف يهتدي إلى المنهج علما يهتدي به. شرح نهج البلاغة ج : 7 ص : 174فإن قلت فهل يجوز أن ينصب قبسا و علما على أن يكون كل واحد منهما حالا أي حتى أورى رسول الله في حال كونه قبسا و أنار في حال كونه علما قلت لم أسمع أورى الزند و إنما المسموع ورى و ورى و لم يجئ أورى إلا عديا أورى زيد زنده فإن حمل هاهنا على المتعدي احتيج إلى حذف المفعول و يصير تقديره حتى أورى رسول الله الزند حال كونه قبسا فيكون فيه نوع تكلف و استهجان. و البعيث المبعوث و مقسما نصيبا و إن جعلته مصدرا جاز. و النزول طعام الضيف و الوسيلة ما يتقرب به و قد فسر قولهم في دعاء الأذان اللهم آته الوسيلة بأنها درجة رفيعة في الجنة و السناء بالمد الشرف و زمرته جماعته. و خزايا جمع خزيان و هو الخجل المستحيي مثل سكران و سكارى و حيران و حيارى و غيران و غيارى. و ناكبين أي عادلين عن الطريق و ناكثين أي ناقضين للعهد. قلت سألت النقيب أبا جعفر رحمه الله و كان منصفا بعيدا عن الهوى و العصبية عن هذا الموضع فقلت له قد وقفت على كلام الصحابة و خطبهم فلم أر فيها من يعظم رسول الله ص تعظيم هذا الرجل و لا يدعو كدعائه فإنا قد وقفنا من نهج البلاغة و من غيره على فصول كثيرة مناسبة لهذا الفصل تدل على إجلال عظيم و تبجيل شديد منه لرسول الله ص فقال و من أين لغيره من الصحابة كلام مدون يتعلم منه كيفية ذكرهم للنبي ص و هل وجد لهم إلا كلمات مبتدرة لا طائل تحتها ثم قال إن عليا ع كان قوي الإيمان برسول الله ص و التصديق له ثابت اليقين قاطعا بالأمر متحققا له و كان شرح نهج البلاغة ج : 7 ص : 175مع ذلك يحب رسول الله ص لنسبته

(8/154)


منه و تربيته له و اختصاصه به من دون أصحابه و بعد فشرفه له لأنهما نفس واحدة في جسمين الأب واحد و الدار واحدة و الأخلاق متناسبة فإذا عظمه فقد عظم نفسه و إذا دعا إليه فقد دعا إلى نفسه و لقد كان د أن تطبق دعوة الإسلام مشارق الأرض و مغاربها لأن جمال ذلك لاحق به و عائد عليه فكيف لا يعظمه و يبجله و يجتهد في إعلاء كلمته. فقلت له قد كنت اليوم أنا و جعفر بن مكي الشاعر نتجاذب هذا الحديث فقال جعفر لم ينصر رسول الله ص أحد نصرة أبي طالب و بنيه له أما أبو طالب فكفله و رباه ثم حماه من قريش عند إظهار الدعوة بعد إصفاقهم و إطباقهم على قتله و أما ابنه جعفر فهاجر بجماعة من المسلمين إلى أرض الحبشة فنشر دعوته بها و أما علي فإنه أقام عماد الملة بالمدينة ثم لم يمن أحد من القتل و الهوان و التشريد بما مني به بنو أبي طالب أما جعفر فقتل يوم مؤتة و أما علي فقتل بالكوفة بعد أن شرب نقيع الحنظل و تمنى الموت و لو تأخر قتل ابن ملجم لمات أسفا و كمدا ثم قتل ابناه بالسم و السيف و قتل بنوه الباقون مع أخيهم بالطف و حملت نساؤهم على الأقتاب سبايا إلى الشام و لقيت ذريتهم و أخلافهم بعد ذلك من القتل و الصلب و التشريد في البلاد و الهوان و الحبس و الضرب ما لا يحيط الوصف بكنهه فأي خير أصاب هذا البيت من نصرته و محبته و تعظيمه بالقول و الفعل فقال رحمه الله و أصاب فيما قال فهلا قلت يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَداكُمْ لِلْإِيمانِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ. ثم قال و هلا قلت له فقد نصرته الأنصار و بذلت مهجها دونه و قتلت بين يديه في شرح نهج البلاغة ج : 7 ص : 176مواطن كثيرة و خصوصا يوم أحد ثم اهتضموا بعده و استؤثر عليهم و لقوا من المشاق و الشدائد ما يطول شرحه و لو لم يكن إلا يوم الحرة فإنه اليوم الذي لم يكن في العرب مثله و لا أصيب قوم قط بمثل ما

(8/155)


أصيب به الأنصار ذلك اليوم ثم قال إن ال تعالى زوى الدنيا عن صالحي عباده و أهل الإخلاص له لأنه لم يرها ثمنا لعبادتهم و لا كفؤا لإخلاصهم و أرجأ جزاءهم إلى دار أخرى غير هذه الدار في مثلها يتنافس المتنافسون
مِنْهَا فِي خِطَابِ أَصْحَابِهِ وَ قَدْ بَلَغْتُمْ مِنْ كَرَامَةِ اللَّهِ تَعَالَى لَكُمْ مَنْزِلَةً تُكْرَمُ بِهَا إِمَاؤُكُمْ وَ تُوصَلُ بِهَا جِيرَانُكُمْ وَ يُعَظِّمُكُمْ مَنْ لَا فَضْلَ لَكُمْ عَلَيْهِ وَ لَا يَدَ لَكُمْ عِنْدَهُ وَ يَهَابُكُمْ مَنْ لَا يَخَافُ لَكُمْ سَطْوَةً وَ لَا لَكُمْ عَلَيْهِ إِمْرَةٌ وَ قَدْ تَرَوْنَ عُهُودَ اللَّهِ مَنْقُوضَةً فَلَا تَغْضَبُونَ وَ أَنْتُمْ لِنَقْضِ ذِمَمِ آبَائِكُمْ تَأْنَفُونَ وَ كَانَتْ أُمُورُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ تَرِدُ وَ عَنْكُمْ تَصْدُرُ وَ إِلَيْكُمْ تَرْجِعُ فَمَكَّنْتُمُ الظَّلَمَةَ مِنْ مَنْزِلَتِكُمْ وَ أَلْقَيْتُمْ إِلَيْهِمْ أَزِمَّتَكُمْ وَ أَسْلَمْتُمْ أُمُورَ اللَّهِ فِي أَيْدِيهِمْ يَعْمَلُونَ بِالشُّبُهَاتِ وَ يَسِيرُونَ فِي الشَّهَوَاتِ وَ ايْمُ اللَّهِ لَوْ فَرَّقُوكُمْ تَحْتَ كُلِّ كَوْكَبٍ لَجَمَعَكُمُ اللَّهُ لِشَرِّ يَوْمٍ لَهُمْ

(8/156)


هذا خطاب لأصحابه الذين أسلموا مدنهم و نواحيهم إلى جيوش معاوية التي كان شرح نهج البلاغة ج : 7 ص : 177يغير بها على أطراف أعمال علي ع كالأنبار و غيرها مما تقدم ذكرنا له قال لهم إن الله أكرمكم بالإسلام بعد أن كنتم مجوسا أو عباد أصنام و بلغتم من كرامته إياكم لإسلام منزلة عظيمة أكرم بها إماؤكم و عبيدكم و من كان مظنة المهنة و المذلة. و وصل بها جيرانكم أي من التجأ إليكم من معاهد أو ذمي فإن الله تعالى حفظ لهم ذمام المجاورة لكم حتى عصم دماءهم و أموالهم و صرتم إلى حال يعظمكم بها من لا فضل لكم عليه و لا نعمة لكم عنده كالروم و الحبشة فإنهم عظموا مسلمي العرب لتقمصهم لباس الإسلام و الدين و لزومهم ناموسه و إظهارهم شعاره. و يهابكم من لا يخاف لكم سطوة و لا لكم عليه إمرة كالملوك الذين في أقاصي البلاد نحو الهند و الصين و أمثالها و ذلك لأنهم هابوا دولة الإسلام و إن لم يخافوا سطوة سيفها لأنه شاع و ذاع أنهم قوم صالحون إذا دعوا الله استجاب لهم و أنهم يقهرون الأمم بالنصر السماوي و بالملائكة لا بسيوفهم و لا بأيديهم قيل إن العرب لما عبرت دجلة إلى القصر الأبيض الشرقي بالمدائن عبرتها في أيام مدها و هي كالبحر الزاخر على خيولها و بأيديها رماحها و لا دروع عليها و لا بيض فهربت الفرس بعد رمي شديد منها للعرب بالسهام و هم يقدمون و يحملون و لا تهولهم السهام فقال فلاح نبطي بيده مسحاته و هو يفتح الماء إلى زرعه لأسوار من الأساورة معروف بالبأس و جودة الرماية ويلكم أ مثلكم في سلاحكم يهرب من هؤلاء القوم الحاسرين و لذعه باللوم و التعنيف فقال له أقم مسحاتك فأقامها فرماها فخرق الحديد حتى عبر النصل إلى جانبها الآخر ثم قال انظر الآن ثم رمى بعض العرب المارين عليه عشرين سهما لم يصبه و لا فرسه منها بسهم واحد و إنه لقريب منه غير بعيد و لقد كان بعض السهام يسقط بين يدي الأسوار فقال له بالفارسية أ علمت أن القوم مصنوع لهم قال

(8/157)


نعم. شرح نهج البلاغة ج : 7 ص : 178ثم قال ع ما لكم لا تغضبون و أنتم ترون عهود الله منقوضة و إن من العجب أن يغضب الإنسان و يأنف من نقض عهد أبيه و لا يغضب و لا يأنف لنقض عهود إلهه و خالقه. ثم ق لهم كانت الأحكام الشرعية إليكم ترد مني و من تعليمي إياكم و تثقيفي لكم ثم تصدر عنكم إلى من تعلمونه إياها من أتباعكم و تلامذتكم ثم يرجع إليكم بأن يتعلمها بنوكم و إخوتكم من هؤلاء الأتباع و التلامذة ففررتم من الزحف لما أغارت جيوش الشام عليكم و أسلمتم منازلكم و بيوتكم و بلادكم إلى أعدائكم و مكنتم الظلمة من منزلتكم حتى حكموا في دين الله بأهوائهم و عملوا بالشبهة لا بالحجة و اتسعوا في شهواتهم و مآرب أنفسهم. ثم أقسم بالله إن أهل الشام لو فرقوكم تحت كل كوكب ليجمعنكم الله ليوم و هو شر يوم لهم و كنى بذلك عن ظهور المسودة و انتقامها من أهل الشام و بني أمية و كانت المسودة المنتقمة منهم عراقية و خراسانية
شرح نهج البلاغة ج : 7 ص : 106179- و من كلام له ع في بعض أيام صفينوَ قَدْ رَأَيْتُ جَوْلَتَكُمْ وَ انْحِيَازَكُمْ عَنْ صُفُوفِكُمْ تَحُوزُكُمُ الْجُفَاةُ الطَّغَامُ وَ أَعْرَابُ أَهْلِ الشَّامِ وَ أَنْتُمْ لَهَامِيمُ الْعَرَبِ وَ يَآفِيخُ الشَّرَفِ وَ الْأَنْفُ الْمُقَدَّمُ وَ السَّنَامُ الْأَعْظَمُ وَ لَقَدْ شَفَى وَحَاوِحَ صَدْرِي أَنْ رَأَيْتُكُمْ بِأَخَرَةٍ تَحُوزُونَهُمْ كَمَا حَازُوكُمْ وَ تُزِيلُونَهُمْ عَنْ مَوَاقِفِهِمْ كَمَا أَزَالُوكُمْ حَسّاً بِالنِّصَالِ وَ شَجْراً بِالرِّمَاحِ تَرْكَبُ أُوْلَاهُمْ أُخْرَاهُمْ كَالْإِبِلِ الْهِيمِ الْمَطْرُودَةِ تُرْمَى عَنْ حِيَاضِهَا وَ تُذَادُ عَنْ مَوَارِدِهَا

(8/158)


جولتكم هزيمتكم فأجمل في اللفظ و كنى عن اللفظ المنفر عادلا عنه إلى لفظ لا تنفير فيه كما قال تعالى كانا يَأْكُلانِ الطَّعامَ قالوا هو كناية عن إتيان الغائط و إجمال في اللفظ. و كذلك قوله و انحيازكم عن صفوفكم كناية عن الهرب أيضا و هو من قوله تعالى إِلَّا مُتَحَرِّفاً لِقِتالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلى فِئَةٍ. شرح نهج البلاغة ج : 7 ص : 180و هذا باب من أبواب البيان لطيف و هو حسن التوصل بإيراد كلام غير مزعج عوضا عن لفظ يتضمن جبها و تقريعا. و تحوزكم تعدل بكم عن مراكزكم و الجفاة جمع جاف و هو الفدم الغليظ و الطغام الأاد و اللهاميم جمع لهموم و هو الجواد من الناس و الخيل قال الشاعر
لا تحسبن بياضا في منقصة إن اللهاميم في أقرابها بلق
و اليآفيخ جمع يافوخ و هو معظم الشي ء تقول قد ذهب يافوخ الليل أي أكثره و يجوز أن يريد به اليافوخ و هو أعلى الرأس و جمعه يآفيخ أيضا و أفخت الرجل ضربت يافوخه و هذا أليق لأنه ذكر بعده الأنف و السنام فحمل اليافوخ على العضو إذا أشبه. و الوحاوح الحرق و الحزازات لقيته بأخرة على فعلة أي أخيرا. و الحس القتل قال الله تعالى إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ. و شجرت زيدا بالرمح طعنته و التأنيث في أولاهم و أخراهم للكتائب. و الهيم العطاش و تذاد تصد و تمنع و قد روي الطغاة عوض الطغام. و روي حشأ بالهمز من حشأت الرجل أي أصبت حشاه. و روي بالنضال بالضاد المعجمة و هو المناضلة و المراماة. و قد ذكرنا نحن هذا الكلام فيما اقتصصناه من أخبار صفين فيما تقدم من هذا الكتاب

(8/159)


شرح نهج البلاغة ج : 7 ص : 107181- و من خطبة له ع و هي من خطب الملاحمالْحَمْدُ لِلَّهِ الْمُتَجَلِّي لِخَلْقِهِ بِخَلْقِهِ وَ الظَّاهِرِ لِقُلُوبِهِمْ بِحُجَّتِهِ خَلَقَ الْخَلْقَ مِنْ غَيْرِ رَوِيَّةٍ إِذْ كَانَتِ الرَّوِيَّاتُ لَا تَلِيقُ إِلَّا بِذَوِي الضَّمَائِرِ وَ لَيْسَ بِذِي ضَمِيرٍ فِي نَفْسِهِ خَرَقَ عِلْمُهُ بَاطِنَ غَيْبِ السُّتُرَاتِ وَ أَحَاطَ بِغُمُوضِ عَقَائِدِ السَّرِيرَاتِ
الملاحم جمع ملحمة و هي الوقعة العظيمة في الحرب و لما كانت دلائل إثبات الصانع ظاهرة ظهور الشمس وصفه ع بكونه ظهر و تجلى لخلقه و دلهم عليه بخلقه إياهم و إيجاده لهم. ثم أكد ذلك بقوله و الظاهر لقلوبهم بحجته و لم يقل لعيونهم لأنه غير مرئي و لكنه ظاهر للقلوب بما أودعها من الحجج الدالة عليه. ثم نفى عنه الروية و الفكر و التمثيل بين خاطرين ليعمل على أحدهما لأن ذلك إنما يكون لأرباب الضمائر و القلوب أولي النوازع المختلفة و البواعث المتضادة. ثم وصفه بأن علمه محيط بالظاهر و الباطن و الماضي و المستقبل فقال إن علمه خرق باطن الغيوب المستورة و أحاط بالغامض من عقائد السرائر شرح نهج البلاغة ج : 7 ص : 18مِنْهَا فِي ذِكْرِ النَّبِيِّ ص اخْتَارَهُ مِنْ شَجَرَةِ الْأَنْبِيَاءِ وَ مِشْكَاةِ الضِّيَاءِ وَ ذُؤَابَةِ الْعَلْيَاءِ وَ سُرَّةِ الْبَطْحَاءِ وَ مَصَابِيحِ الظُّلْمَةِ وَ يَنَابِيعِ الْحِكْمَةِ
شجرة الأنبياء أولاد إبراهيم ع لأن أكثر الأنبياء منهم و المشكاة كوة غير نافذة يجعل فيها المصباح و الذؤابة طائفة من شعر الرأس و سرة البطحاء وسطها و بنو كعب بن لؤي يفخرون على بني عامر بن لؤي بأنهم سكنوا البطاح و سكنت عامر بالجبال المحيطة بمكة و سكن معها بنو فهر بن مالك رهط أبي عبيدة بن الجراح و غيره قال الشاعر
فحللت منها بالبطاح و حل غيرك بالظواهر
و قال طريح بن إسماعيل

(8/160)


أنت ابن مسلنطح البطاح و لم تطرق عليك الحني و الولج
و قال بعض الطالبيين
و أنا ابن معتلج البطاح إذا غدا غيري و راح على متون ظواهر
شرح نهج البلاغة ج : 7 ص : 183يفتر عني ركنها و حطيمها كالجفن يفتح عن سواد الناظركجبالها شرفي و مثل سهولها خلقي و مثل ظبائهن مجاوروَ مِنْهَا طَبِيبٌ دَوَّارٌ بِطِبِّهِ قَدْ أَحْكَمَ مَرَاهِمَهُ وَ أَحْمَى مَوَاسِمَهُ يَضَعُ ذَلِكَ حَيْثُ الْحَاجَةُ إِلَيْهِ مِنْ قُلُوبٍ عُمْيٍ وَ آذَانٍ صُمٍّ وَ أَلْسِنَةٍ بُكْمٍ مُتَتَبِّعٌ بِدَوَائِهِ مَوَاضِعَ الْغَفْلَةِ وَ مَوَاطِنَ الْحَيْرَةِ
إنما قال دوار بطبه لأن الطبيب الدوار أكثر تجربة أو يكون عنى به أنه يدور على من يعالجه لأن الصالحين يدورون على مرضى القلوب فيعالجونهم و يقال إن المسيح رئي خارجا من بيت مومسة فقيل له يا سيدنا أ مثلك يكون هاهنا فقال إنما يأتي الطبيب المرضي. و المراهم الأدوية المركبة للجراحات و القروح و المواسم حدائد يوسم بها الخيل و غيرها. ثم ذكر أنه إنما يعالج بذلك من يحتاج إليه و هم أولو القلوب العمي و الآذان الصم و الألسنة البكم أي الخرس و هذا تقسيم صحيح حاصر لأن الضلال و مخالفة شرح نهج البلاغة ج : 7 ص : 184الحق يكون بثلا أمور إما بجهل القلب أو بعدم سماع المواعظ و الحجج أو بالإمساك عن شهادة التوحيد و تلاوة الذكر فهذه أصول الضلال و أما أفعال المعاصي ففروع عليها
فصل في التقسيم و ما ورد فيه من الكلام

(8/161)


و صحة التقسيم باب من أبواب علم البيان و منه قوله سبحانه ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ وَ مِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَ مِنْهُمْ سابِقٌ بِالْخَيْراتِ. و هذه قسمة صحيحة لأن المكلفين إما كافر أو مؤمن أو ذو المنزلة بين المنزلتين هكذا قسم أصحابنا الآية على مذهبهم في الوعيد. و غيرهم يقول العباد إما عاص ظالم لنفسه أو مطيع مبادر إلى الخير أو مقتصد بينهما. و من التقسيم أيضا قوله وَ كُنْتُمْ أَزْواجاً ثَلاثَةً فَأَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ ما أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ وَ أَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ ما أَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ وَ السَّابِقُونَ السَّابِقُونَ و مثل ذلك. و قوله تعالى هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَ طَمَعاً لأن الناس عند رؤية البرق بين خائف و طامع. و وقف سائل على مجلس الحسن البصري فقال رحم الله عبدا أعطى من سعة أو واسى من كفاف أو آثر من قلة فقال الحسن لم تترك لأحد عذرا. شرح نهج البلاغة ج : 7 ص : 185و من التقسيمات الفاسدة في الشعر قول البحتريذاك وادي الأراك فاحبس قليلا مقصرا في ملامة أو مطيلاقف مشوقا أو مسعدا أو حزينا أو معينا أو عاذرا أو عذولا
فالتقسيم في البيت الأول صحيح و في الثاني غير صحيح لأن المشوق يكون حزينا و المسعد يكون معينا فكذلك يكون عاذرا و يكون مشوقا و يكون حزينا. و قد وقع المتنبي في مثل ذلك فقال
فافخر فإن الناس فيك ثلاثة مستعظم أو حاسد أو جاهل
فإن المستعظم يكون حاسدا و الحاسد يكون مستعظما. و من الأبيات التي ليس تقسيمها بصحيح ما ورد في شعر الحماسة

(8/162)


و أنت امرؤ إما ائتمنتك خاليا فخنت و إما قلت قولا بلا علم فأنت من الأمر الذي قد أتيته بمنزلة بين الخيانة و الإثمو ذلك لأن الخيانة أخص من الإثم و الإثم شامل لها لأنه أعم منها فقد دخل أحد القسمين في الآخر و يمكن أن يعتذر له فيقال عنى بالإثم الكذب نفسه و كذلك هو المعني أيضا بقوله قولا بلا علم كأنه قال له إما أن أكون أفشيت سري إليك فخنتني أو لم أفش فكذبت علي فأنت فيما أتيت بين أن تكون خائنا أو كاذبا. و مما جاء من ذلك في النثر قول بعضهم من جريح مضرج بدمائه أو هارب لا يلتفت إلى ورائه و ذلك أن الجريح قد يكون هاربا و الهارب قد يكون جريحا. و قد أجاد البحتري لما قسم هذا المعنى و قال شرح نهج البلاغة ج : 7 ص : 18غادرتهم أيدي المنية صبحا للقنا بين ركع و سجودفهم فرقتان بين قتيل قبضت نفسه بحد الحديدأو أسير غدا له السجن لحدا فهو حي في حالة الملحودفرقة للسيوف ينفذ فيها الحكم قسرا و فرقة للقيود
و من ذلك قول بعض الأعراب النعم ثلاث نعمة في حال كونها و نعمة ترجى مستقبلة و نعمة تأتي غير محتسبة فأبقى الله عليك ما أنت فيه و حقق ظنك فيما ترتجيه و تفضل عليك بما لم تحتسبه و ذلك أنه أغفل النعمة الماضية و أيضا فإن النعمة التي تأتي غير محتسبة داخلة في قسم النعمة المستقبلة. و قد صحح القسمة أبو تمام فقال
جمعت لنا فرق الأماني منكم بأبر من روح الحياة و أوصل كالمزن من ماضي الرباب و مقبل متنظر و مخيم متهلل فصنيعة في يومها و صنيعة قد أحولت و صنيعة لم تحوفإن قلت فإن ما عنيت به فساد التقسيم على البحتري و المتنبي يلزمك مثله فيما شرحته لأن الأعمى القلب قد يكون أبكم اللسان أصم السمع. قلت إن الشاعرين ذكرا التقسيم بأو و أمير المؤمنين ع قسم بالواو و الواو للجمع فغير منكر أن تجتمع الأقسام الوحد أو أن تعطي معنى الانفراد فقط فافترق الموضعان

(8/163)


شرح نهج البلاغة ج : 7 ص : 187لَمْ يَسْتَضِيئُوا بِأَضْوَاءِ الْحِكْمَةِ وَ لَمْ يَقْدَحُوا بِزِنَادِ الْعُلُومِ الثَّاقِبَةِ فَهُمْ فِي ذَلِكَ كَالْأَنْعَامِ السَّائِمَةِ وَ الصُّخُورِ الْقَاسِيَةِ قَدِ انْجَابَتِ السَّرَائِرُ لِأَهْلِ الْبَصَائِرِ وَ وَحَتْ مَحَجَّةُ الْحَقِّ لِخَابِطِهَا وَ أَسْفَرَتِ السَّاعَةُ عَنْ وَجْهِهَا وَ ظَهَرَتِ الْعَلَامَةُ لِمُتَوَسِّمِهَا مَا لِي أَرَاكُمْ أَشْبَاحاً بِلَا أَرْوَاحٍ وَ أَرْوَاحاً بِلَا أَشْبَاحٍ وَ نُسَّاكاً بِلَا صَلَاحٍ وَ تُجَّاراً بِلَا أَرْبَاحٍ وَ أَيْقَاظاً نُوَّماً وَ شُهُوداً غُيَّباً وَ نَاظِرَةً عَمْيَاءَ وَ سَامِعَةً صَمَّاءَ وَ نَاطِقَةً بَكْمَاءَ

(8/164)


انجابت انكشفت و المحجة الطريق و الخابط السائر على غير سبيل واضحة و أسفرت الساعة أضاءت و أشرقت و عن متعلقة بمحذوف و تقديره كاشفة عن وجهها. و المتوسم المتفرس أشباها بلا أرواح أي أشخاصا لا أرواح لها و لا عقول و أرواحا بلا أشباح يمكن أن يريد به الخفة و الطيش تشبيها بروح بلا جسد و يمكن أن يعني به نقصهم لأن الروح غير ذات الجسد ناقصة عن الاعتمال و التحريك اللذين كانا من فعلها حيث كانت تدير الجسد. و نساكا بلا صلاح نسبهم إلى النفاق و تجارا بلا أرباح نسبهم إلى الرياء و إيقاع الأعمال على غير وجهها. ثم وصفهم بالأمور المتضادة ظاهرا و هي مجتمعة في الحقيقة فقال أيقاظا نوما شرح نهج البلاغة ج : 7 ص : 188لأنهم أولو يقظة و هم غفول عن الحق كالنيام و كذلك باقيها قال تعالى فَإِنَّها لا تَعْمَى الْأَبْصارُ وَ لكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِرَايَةُ ضَلَالٍ قَدْ قَامَتْ عَلَى قُطْبِهَا وَ تَفَرَّقَتْ بِشُعَبِهَا تَكِيلُكُمْ بِصَاعِهَا وَ تَخْبِطُكُمْ بِبَاعِهَا قَائِدُهَا خَارِجٌ مِنَ الْمِلَّةِ قَائِمٌ عَلَى الضَّلَّةِ فَلَا يَبْقَى يَوْمَئِذٍ مِنْكُمْ إِلَّا ثُفَالَةٌ كَثُفَالَةِ الْقِدْرِ أَوْ نُفَاضَةٌ كَنُفَاضَةِ الْعِكْمِ تَعْرُكُكُمْ عَرْكَ الْأَدِيمِ وَ تَدُوسُكُمْ دَوْسَ الْحَصِيدِ وَ تَسْتَخْلِصُ الْمُؤْمِنَ مِنْ بَيْنِكُمُ اسْتِخْلَاصَ الطَّيْرِ الْحَبَّةَ الْبَطِينَةَ مِنْ بَيْنِ هَزِيلِ الْحَبِّ

(8/165)


هذا كلام منقطع عما قبله لأن الشريف الرضي رحمه الله كان يلتقط الفصول التي في الطبقة العليا من الفصاحة من كلام أمير المؤمنين ع فيذكرها و يتخطى ما قبلها و ما بعدها و هو ع يذكر هاهنا ما يحدث في آخر الزمان من الفتن كظهور السفياني و غيره. و القطب في قوله ع قامت على قطبها الرئيس الذي عليه يدور أمر الجيش و الشعب القبيلة العظيمة و ليس التفرق للراية نفسها بل لنصارها و أصحابها فحذف المضاف و معنى تفرقهم أنهم يدعون إلى تلك الدعوة المخصوصة في بلاد متفرقة أي تفرق ذلك الجمع العظيم في الأقطار داعين إلى أمر واحد و يروى بشعبها جمع شعبة شرح نهج البلاغة ج : 7 ص : 189و تقدير تكيلكم بصاعها تكيل لكم فحذف اللام كما في قوله تعالى وَ إِذا كالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ أي كالوا لهم أو وزنوا لهم و المعنى تحملكم على دينها و دعوتها و تعاملكم بما يعامل به من استجاب لها و يجوز أن يريد بقوله يلكم بصاعها يقهركم أربابها على الدخول في أمرهم و يتلاعبون بكم و يرفعونكم و يضعونكم كما يفعل كيال البر به إذا كاله بصاعه. و تخبطكم بباعها تظلمكم و تعسفكم قائدها ليس على ملة الإسلام بل مقيم على الضلالة يقال ضلة لك و إنه ليلومني ضلة إذا لم يوفق للرشاد في عذله. و الثفالة ما ثفل في القدر من الطبيخ و النفاضة ما سقط من الشي ء المنفوض. و العكم العدل و العكم أيضا نمط تجعل فيه المرأة ذخيرتها. و عركت الشي ء دلكته بقوة و الحصيد الزرع المحصود. و معنى استخلاص الفتنة المؤمن أنها تخصه بنكايتها و أذاها كما قيل المؤمن ملقى الكافر موقى
و في الخبر المرفوع آفات الدنيا أسرع إلى المؤمن من النار في يبيس العرفج

(8/166)


أَيْنَ تَذْهَبُ بِكُمُ الْمَذَاهِبُ وَ تَتِيهُ بِكُمُ الْغَيَاهِبُ وَ تَخْدَعُكُمُ الْكَوَاذِبُ وَ مِنْ أَيْنَ تُؤْتَوْنَ وَ أَنَّى تُؤْفَكُونَ فَلِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ وَ لِكُلِّ غَيْبَةٍ إِيَابٌ فَاسْتَمِعُوا مِنْ رَبَّانِيِّكُمْ وَ أَحْضِرُوهُ قُلُوبَكُمْ وَ اسْتَيْقِظُوا إِنْ هَتَفَ بِكُمْ شرح نهج البلاغة ج : 7 ص : 190وَ لْيَصْدُقْ رَائِدٌ أَهْلَهُ وَ لْيَجْمَعْ شَمْلَهُ وَ لْيُحْضِرْ ذِهْنَهُ فَلَقَدْ فَلَقَ لَكُمُ الْأَمْرَ فَلْقَ الْخَرَزَةِ وَ قَرَفَهُ قَرْفَ الصَّمْغَةِالغياهب الظلمات الواحد غيهب و تتيه بكم تجعلكم تائهين عدي الفعل اللازم بحرف الجر كما تقول في ذهب ذهبت به و التائه المتحير. و الكواذب هاهنا الأماني فحذف الموصوف و أبقى الصفة كقوله
إلا بكفي كان من أرمى البشر
أي بكفي غلام هذه صفته. و قوله و لكل أجل كتاب أظنه منقطعا أيضا عن الأول مثل الفصل الذي تقدم و قد كان قبله ما ينطبق عليه و يلتئم معه لا محالة و يمكن على بعد أن يكون متصلا بما هو مذكور هاهنا. و قوله و لكل غيبة إياب قد قاله عبيد بن الأبرص و استثنى من العموم الموت فقال
و كل ذي غيبة يئوب و غائب الموت لا يئوب

(8/167)


و هو رأي زنادقة العرب فأما أمير المؤمنين و هو ثاني صاحب الشريعة التي جاءت بعود الموتى فإنه لا يستثني و يحمق عبيدا في استثنائه. و الرباني الذي أمرهم بالاستماع منه إنما يعني به نفسه ع و يقال رجل شرح نهج البلاغة ج : 7 ص : 191رباني أي متأله عارف بالرب سبحانه في وصف الحسن لأمير المؤمنين ع كان و الله رباني هذه الأمة و ذا فضلها و ذا قرابتها و ذا سابقتها. ثم قال و أحضروه قلوبكم أي اجعلوا قلوبكم حاضرة عنده أي لا تقنعوا لأنفسكم بحضور الأجساد و غيبة القلوب فإنكم لا تنتفعون بذلك و هتف بكم صاح و الرائد الذي يتقدم المنتجعين لينظر لهم الماء و الكلأ و في المثل الرائد لا يكذب أهله. و قوله و ليجمع شمله أي و ليجمع عزائمه و أفكاره لينظر فقد فلق هذا الرباني لكم الأمر أي شق ما كان مبهما و فتح ما كان مغلقا كما تفلق الخرزة فيعرف باطنها. و قرفه أي قشره كما تقشر الصمغة عن عود الشجرة و تقلع
فَعِنْدَ ذَلِكَ أَخَذَ الْبَاطِلُ مَآخِذَهُ وَ رَكِبَ الْجَهْلُ مَرَاكِبَهُ وَ عَظُمَتِ الطَّاغِيَةُ وَ قَلَّتِ الدَّاعِيَةُ وَ صَالَ الدَّهْرُ صِيَالَ السَّبُعِ الْعَقُورِ وَ هَدَرَ فَنِيقُ الْبَاطِلِ بَعْدَ كُظُومٍ وَ تَوَاخَى النَّاسُ عَلَى الْفُجُورِ وَ تَهَاجَرُوا عَلَى الدِّينِ وَ تَحَابُّوا عَلَى الْكَذِبِ وَ تَبَاغَضُوا عَلَى الصِّدْقِ فَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَانَ الْوَلَدُ غَيْظاً وَ الْمَطَرُ قَيْظاً وَ تَفِيضُ اللِّئَامُ فَيْضاً وَ تَغِيضُ الْكِرَامُ غَيْضاً وَ كَانَ أَهْلُ ذَلِكَ الزَّمَانِ ذِئَاباً وَ سَلَاطِينُهُ سِبَاعاً وَ أَوْسَاطُهُ أَكَالًا وَ فُقَرَاؤُهُ أَمْوَاتاً وَ غَارَ الصِّدْقُ وَ فَاضَ الْكَذِبُ وَ اسْتُعْمِلَتِ الْمَوَدَّةُ بِاللِّسَانِ وَ تَشَاجَرَ النَّاسُ بِالْقُلُوبِ وَ صَارَ الْفُسُوقُ نَسَباً وَ الْعَفَافُ عَجَباً وَ لُبِسَ الْإِسْلَامُ لُبْسَ الْفَرْوِ مَقْلُوباً

(8/168)


شرح نهج البلاغة ج : 7 ص : 192تقول أخذ الباطل مأخذه كما تقول عمل عمله أي قوي سلطانه و قهر و مثله ركب الجهل مراكبه. و عظمت الطاغية أي الطغيان فاعلة بمعنى المصدر كقوله تعالى لَيْسَ لِوَقْعَتِها كاذِبَةٌ أي تكذيب و يجوز أن تكون الطاغية هاهنا صفة فاعل محذوف عظمت الفئة الطاغية و قلت الداعية مثله أي الفرقة الداعية. و صال حمل و وثب صولا و صولة يقال رب قول أشد من صول و الصيال و المصاولة هي المواثبة صايله صيالا و صيالة و الفحلان يتصاولان أي يتواثبان. و الفنيق فحل الإبل و هدر ردد صوته في حنجرته و إبل هوادر و كذلك هدر بالتشديد تهديرا و في المثل هو كالمهدر في العنة يضرب للرجل يصيح و يجلب و ليس وراء ذلك شي ء كالبعير الذي يحبس في العنة و هي الحظيرة و يمنع من الضراب و هو يهدر و قال الوليد بن عقبة لمعاوية قطعت الدهر كالسدم المعنى تهدر في دمشق و لا تريم

(8/169)


و الكظوم الإمساك و السكوت كظم البعير يكظم كظوما إذا أمسك الجرة و هو كاظم و إبل كظوم لا تجتر و قوم كظم ساكتون. و تواخى الناس صاروا إخوة و الأصل تآخى الناس فأبدلت الهمزة واوا كآزرته أي أعنته و وازرته. يقول اصطلحوا على الفجور و تهاجروا على الدين أي تعادوا و تقاطعوا. فإن قلت فإن من شعار الصالحين أن يهجروا في الدين و يعادوا فيه شرح نهج البلاغة ج : 7 ص : 193قلت لم يذهب أمير المؤمنين حيث ظننت و إنما أراد أن صاحب الدين مهجور عندهم لأن صاحب الدين مهجور و صاحب الفجور جار عندهم مجرى الأخ في الحنو عليه و الحب له لأنهاحب فجور. ثم قال كان الولد غيظا أي لكثرة عقوق الأبناء للآباء و صار المطر قيظا يقال إنه من علامات الساعة و أشراطها. و أوساطه أكالا أي طعاما يقال ما ذقت أكالا و في هذا الموضع إشكال لأنه لم ينقل هذا الحرف إلا في الجحد خاصة كقولهم ما بها صافر فالأجود الرواية الأخرى و هي آكالا بمد الهمزة على أفعال جمع أكل و هو ما أكل كقفل و أقفال و قد روي أكالا بضم الهمزة على فعال و قالوا إنه جمع أكل للمأكول كعرق و عراق و ظئر و ظؤار إلا أنه شاذ عن القياس و وزن واحدهما مخالف لوزن واحد أكال لو كان جمعا يقول صار أوساط الناس طعمة للولاة و أصحاب السلاطين و كالفريسة للأسد. و غار الماء سفل لنقصه و فاض سال. و تشاجر الناس تنازعوا و هي المشاجرة و شجر بين القوم إذا اختلف الأمر بينهم و اشتجروا مثل تشاجروا. و صار الفسوق نسبا يصير الفاسق صديق الفاسق حتى يكون ذلك كالنسب بينهم و حتى يعجب الناس من العفاف لقلته و عدمه. و لبس الإسلام لبس الفرو و للعرب عادة بذلك و هي أن تجعل الخمل إلى الجسد و تظهر الجلد و المراد انعكاس الأحكام الإسلامية في ذلك الزمان

(8/170)


شرح نهج البلاغة ج : 7 ص : 108194- و من خطبة له عكُلُّ شَيْ ءٍ خَاشِعٌ لَهُ وَ كُلُّ شَيْ ءٍ قَائِمٌ بِهِ غِنَى كُلِّ فَقِيرٍ وَ عِزُّ كُلِّ ذَلِيلٍ وَ قُوَّةُ كُلِّ ضَعِيفٍ وَ مَفْزَعُ كُلِّ مَلْهُوفٍ مَنْ تَكَلَّمَ سَمِعَ نُطْقَهُ وَ مَنْ سَكَتَ عَلِمَ سِرَّهُ وَ مَنْ عَاشَ فَعَلَيْهِ رِزْقُهُ وَ مَنمَاتَ فَإِلَيْهِ مُنْقَلَبُهُ لَمْ تَرَكَ الْعُيُونُ فَتُخْبِرَ عَنْكَ بَلْ كُنْتَ قَبْلَ الْوَاصِفِينَ مِنْ خَلْقِكَ لَمْ تَخْلُقِ الْخَلْقَ لِوَحْشَةٍ وَ لَا اسْتَعْمَلْتَهُمْ لِمَنْفَعَةٍ وَ لَا يَسْبِقُكَ مَنْ طَلَبْتَ وَ لَا يُفْلِتُكَ مَنْ أَخَذْتَ وَ لَا يَنْقُصُ سُلْطَانَكَ مَنْ عَصَاكَ وَ لَا يَزِيدُ فِي مُلْكِكَ مَنْ أَطَاعَكَ وَ لَا يَرُدُّ أَمْرَكَ مَنْ سَخِطَ قَضَاءَكَ وَ لَا يَسْتَغْنِي عَنْكَ مَنْ تَوَلَّى عَنْ أَمْرِكَ كُلُّ سِرٍّ عِنْدَكَ عَلَانِيَةٌ وَ كُلُّ غَيْبٍ عِنْدَكَ شَهَادَةٌ أَنْتَ الْأَبَدُ فَلَا أَمَدَ لَكَ وَ أَنْتَ الْمُنْتَهَى فَلَا مَحِيصَ عَنْكَ وَ أَنْتَ الْمَوْعِدُ فَلَا مُنْجِيَ مِنْكَ إِلَّا إِلَيْكَ بِيَدِكَ نَاصِيَةُ كُلِّ دَابَّةٍ وَ إِلَيْكَ مَصِيرُ كُلِّ نَسَمَةٍ سُبْحَانَكَ مَا أَعْظَمَ شَأْنَكَ سُبْحَانَكَ مَا أَعْظَمَ مَا نَرَى مِنْ خَلْقِكَ وَ مَا أَصْغَرَ عَظِيمَةٍ فِي جَنْبِ قُدْرَتِكَ وَ مَا أَهْوَلَ مَا نَرَى مِنْ مَلَكُوتِكَ وَ مَا أَحْقَرَ ذَلِكَ فِيمَا غَابَ عَنَّا مِنْ سُلْطَانِكَ وَ مَا أَسْبَغَ نِعَمَكَ فِي الدُّنْيَا وَ مَا أَصْغَرَهَا فِي نِعَمِ الآْخِرَةِ

(8/171)


شرح نهج البلاغة ج : 7 ص : 195قال كل شي ء خاضع لعظمة الله سبحانه و كل شي ء قائم به و هذه هي صفته الخاصة أعني كونه غنيا عن كل شي ء و لا شي ء من الأشياء يغني عنه أصلا. ثم قال غنى كل فقير و عز كل ذليل و قوة كل ضعيف و مفزع كل مل جاء في الأثر من اعتز بغير الله ذل و من تكثر بغير الله قل
و كان يقال ليس فقيرا من استغنى بالله و قال الحسن وا عجبا للوط نبي الله قال لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلى رُكْنٍ شَدِيدٍ أ تراه أراد ركنا أشد و أقوى من الله. و استدل العلماء على ثبوت الصانع سبحانه بما دل عليه فحوى قوله ع و مفزع كل ملهوف و ذلك أن النفوس ببدائها تفزع عند الشدائد و الخطوب الطارقة إلى الالتجاء إلى خالقها و بارئها أ لا ترى راكبي السفينة عند تلاطم الأمواج كيف يجأرون إليه سبحانه اضطرارا لا اختيارا فدل ذلك على أن العلم به مركوز في النفس قال سبحانه وَ إِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ. ثم قال ع من تكلم سمع نطقه و من سكت علم سره يعني أنه يعلم ما ظهر و ما بطن. ثم قال و من عاش فعليه رزقه و من مات فإليه منقلبه أي هو مدبر الدنيا و الآخرة و الحاكم فيهما. ثم انتقل عن الغيبة إلى الخطاب فقال لم ترك العيون شرح نهج البلاغة ج : 7 ص : 19فصل في الكلام على الالتفات

(8/172)


و اعلم أن باب الانتقال من الغيبة إلى الخطاب و من الخطاب إلى الغيبة باب كبير من أبواب علم البيان و أكثر ما يقع ذلك إذا اشتدت عناية المتكلم بذلك المعنى المنتقل إليه كقوله سبحانه الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ فأخبر عن غائب ثم انتقل إلى خطاب الحاضر فقال إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَ إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ قالوا لأن منزلة الحمد دون منزلة العبادة فإنك تحمد نظيرك و لا تعبده فجعل الحمد للغائب و جعل العبادة لحاضر يخاطب بالكاف لأن كاف الخطاب أشد تصريحا به سبحانه من الأخبار بلفظ الغيبة قالوا و لما انتهى إلى آخر السورة قال صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ فأسند النعمة إلى مخاطب حاضر و قال في الغضب غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ فأسنده إلى فاعل غير مسمى و لا معين و هو أحسن من أن يكون قال لم تغضب عليهم و في النعمة الذين أنعم عليهم. و من هذا الباب قوله تعالى وَ قالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً فأخبر بقالوا عن غائبين ثم قال لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدًّا فأتى بلفظ الخطاب استعظاما للأمر كالمنكر على قوم حاضرين عنده. و من الانتقال عن الخطاب إلى الغيبة قوله تعالى هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَ الْبَحْرِ حَتَّى إِذا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَ جَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَ فَرِحُوا بِها جاءَتْها رِيحٌ عاصِفٌ... الآية. شرح نهج البلاغة ج : 7 ص : 197و فائدة ذلك أنه صرف الكلام من خطاب الحاضرين إلى أخبار قوم آخرين بحال كأنه يعدد على أولئك ذنوبهم و يشرح لهؤلاء بغيهم و عنادهم الحق و يقبح عندهم ما فعلوه و يقول أ لا تعجبون من حالهم كيف دعونا فلما رحمناهم و استجبنا دعاءهم عادوا إلى بغيهم و هذه الفائدة لو كانت الآية كلها على صيغة خطاب الحاضر مفقودة

(8/173)


قال ع ما رأتك العيون فتخبر عنك كما يخبر الإنسان عما شاهده بل أنت أزلي قديم موجود قبل الواصفين لك. فإن قلت فأي منافاة بين هذين الأمرين أ ليس من الممكن أن يكون سبحانه قبل الواصفين له و مع ذلك يدرك بالأبصار إذا خلق خلقه ثم يصفونه رأي عين قلت بل هاهنا منافاة ظاهرة و ذلك لأنه إذا كان قديما لم يكن جسما و لا عرضا و ما ليس بجسم و لا عرض تستحيل رؤيته فيستحيل أن يخبر عنه على سبيل المشاهدة. ثم ذكر ع أنه لم يخلق الخلق لاستيحاشه و تفرده و لا استعملهم بالعبادة لنفعه و قد تقدم شرح هذا. ثم قال لا تطلب أحدا فيسبقك أي يفوتك و لا يفلتك من أخذته. فإن قلت أي فائدة في قوله و لا يفلتك من أخذته لأن عدم الإفلات هو الأخذ فكأنه قال لا يفلتك من لم يفلتك قلت المراد أن من أخذت لا يستطيع أن يفلت كما يستطيع المأخوذون مع ملوك الدنيا أن يفلتوا بحيلة من الحيل. فإن قلت أفلت فعل لازم فما باله عداه. قلت تقدير الكلام لا يفلت منك فحذف حرف الجر كما قالوا استجبتك أي استجبت لك قال شرح نهج البلاغة ج : 7 ص : 19فلم يستجبه عند ذاك مجيب
و قالوا استغفرت الله الذنوب أي من الذنوب و قال الشاعر
أستغفر الله ذنبا لست محصيه رب العباد إليه الوجه و العمل

(8/174)


قوله ع و لا يرد أمرك من سخط قضاءك و لا يستغني عنك من تولى عن أمرك تحته سر عظيم و هو قول أصحابنا في جواب قول المجبرة لو وقع منا ما لا يريده لاقتضى ذلك نقصه إنه لا نقص في ذلك لأنه لا يريد الطاعات منا إرادة قهر و إلجاء و لو أرادها إرادة قهر لوقعت و غلبت إرادته إرادتنا و لكنه تعالى أراد منا أن نفعل نحن الطاعة اختيارا فلا يدل عدم وقوعها منا على نقصه و ضعفه كما لا يدل بالاتفاق بيننا و بينكم عدم وقوع ما أمر به على ضعفه و نقصه. ثم قال ع كل سر عندك علانية أي لا يختلف الحال عليه في الإحاطة بالجهر و السر لأنه عالم لذاته و نسبة ذاته إلى كل الأمور واحدة. ثم قال أنت الأبد فلا أمد لك هذا كلام علوي شريف لا يفهمه إلا الراسخون في العلم و فيه سمة من
قول النبي ص لا تسبوا الدهر فإن الدهر هو الله
و في مناجاة الحكماء لمحة منه أيضا و هو قولهم أنت الأزل السرمد و أنت الأبد الذي لا ينفد بل قولهم أنت الأبد الذي لا ينفد هو قوله أنت الأبد فلا أمد لك بعينه و نحن نشرحه هاهنا على موضوع هذا الكتاب فإنه كتاب أدب لا كتاب نظر فنقول إن له في العربية محملين أحدهما أن المراد به أنت ذو الأبد كما قالوا رجل خال أي ذو خال و الخال الخيلاء و رجل داء أي به داء و رجل شرح نهج البلاغة ج : 7 ص : 199مال أي ذو مال و المحمل الثاني أنه لما كان الأزل و الأبد لا ينفكان عن وجوده سبحانه جعله ع كأنه أحدهما بعينه كقولهم أنت الطلاق لما اد المبالغة في البينونة جعلها كأنها الطلاق نفسه و مثله قول الشاعر
فإن المندى رحلة فركوب

(8/175)


و قال أبو الفتح في الدمشقيات استدل أبو علي على صرف منى للموضع المخصوص بأنه مصدر منى يمني قال فقلت له أ تستدل بهذا على أنه مذكر لأن المصدر إلى التذكير فقال نعم فقلت فما تنكر ألا يكون فيه دلالة عليه لأنه لا ينكر أن يكون مذكر سمي به البقعة المؤنثة فلا ينصرف كامرأة سميتها بحجر و جبل و شبع و معي فقال إنما ذهبت إلى ذلك لأنه جعل كأنه المصدر بعينه لكثرة ما يعاني فيه ذلك فقلت الآن نعم. و من هذا الباب قوله
فإنما هي إقبال و إدبار
و قوله
و هن من الإخلاف قبلك و المطل
و قوله فلا منجى منك إلا إليك قد أخذه الفرزدق فقال لمعاوية
إليك فررت منك و من زياد و لم أحسب دمي لكما حلالا
ثم استعظم و استهول خلقه الذي يراه و ملكوته الذي يشاهده و استصغر و استحقر شرح نهج البلاغة ج : 7 ص : 200ذلك بالإضافة إلى قدرته تعالى و إلى ما غاب عنا من سلطانه ثم تعجب من سبوغ نعمه تعالى في الدنيا و استصغر ذلك بالنسبة إلى نعم الآخرة و هذا حق لأنه لا نسبة لتناهي إلى غير المتناهي

(8/176)


مِنْهَا مِنْ مَلَائِكَةٍ أَسْكَنْتَهُمْ سَمَاوَاتِكَ وَ رَفَعْتَهُمْ عَنْ أَرْضِكَ هُمْ أَعْلَمُ خَلْقِكَ بِكَ وَ أَخْوَفُهُمْ لَكَ وَ أَقْرَبُهُمْ مِنْكَ لَمْ يَسْكُنُوا الْأَصْلَابَ وَ لَمْ يُضَمَّنُوا الْأَرْحَامَ وَ لَمْ يُخْلَقُوا مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ وَ لَمْ يَتَشَعَّبْهُمْ رَيْبُ الْمَنُونِ وَ إِنَّهُمْ عَلَى مَكَانِهِمْ مِنْكَ وَ مَنْزِلَتِهِمْ عِنْدَكَ وَ اسْتِجْمَاعِ أَهْوَائِهِمْ فِيكَ وَ كَثْرَةِ طَاعَتِهِمْ لَكَ وَ قِلَّةِ غَفْلَتِهِمْ عَنْ أَمْرِكَ لَوْ عَايَنُوا كُنْهَ مَا خَفِيَ عَلَيْهِمْ مِنْكَ لَحَقَّرُوا أَعْمَالَهُمْ وَ لَزَرَوْا عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَ لَعَرَفُوا أَنَّهُمْ لَمْ يَعْبُدُوكَ حَقَّ عِبَادَتِكَ وَ لَمْ يُطِيعُوكَ حَقَّ طَاعَتِكَ سُبْحَانَكَ خَالِقاً وَ مَعْبُوداً بِحُسْنِ بَلَائِكَ عِنْدَ خَلْقِكَ خَلَقْتَ دَاراً وَ جَعَلْتَ فِيهَا مَأْدُبَةً مَشْرَباً وَ مَطْعَماً وَ أَزْوَاجاً وَ خَدَماً وَ قُصُوراً وَ أَنْهَاراً وَ زُرُوعاً وَ ثِمَاراً ثُمَّ أَرْسَلْتَ دَاعِياً يَدْعُو إِلَيْهَا فَلَا الدَّاعِيَ أَجَابُوا وَ لَا فِيمَا رَغَّبْتَ رَغِبُوا وَ لَا إِلَى مَا شَوَّقْتَ إِلَيْهِ اشْتَاقُوا أَقْبَلُوا عَلَى جِيفَةٍ قَدِ افْتَضَحُوا بِأَكْلِهَا وَ اصْطَلَحُوا عَلَى حُبِّهَا وَ مَنْ عَشِقَ شَيْئاً أَعْشَى بَصَرَهُ وَ أَمْرَضَ قَلْبَهُ فَهُوَ يَنْظُرُ بِعَيْنٍ غَيْرِ صَحِيحَةٍ وَ يَسْمَعُ بِأُذُنٍ غَيْرِ سَمِيعَةٍ قَدْ خَرَقَتِ الشَّهَوَاتُ عَقْلَهُ وَ أَمَاتَتِ الدُّنْيَا قَلْبَهُ وَ وَلِهَتْ عَلَيْهَا نَفْسُهُ فَهُوَ عَبْدٌ لَهَا وَ لِمَنْ فِي يَدَيْهِ شَيْ ءٌ مِنْهَا حَيْثُمَا زَالَتْ زَالَ إِلَيْهَا وَ حَيْثُمَا أَقْبَلَتْ أَقْبَلَ عَلَيْهَا لَا يَنْزَجِرُ مِنَ اللَّهِ بِزَاجِرٍ وَ َا يَتَّعِظُ مِنْهُ بِوَاعِظٍ وَ هُوَ يَرَى الْمَأْخُوذِينَ

(8/177)


شرح نهج البلاغة ج : 7 ص : 201عَلَى الْغِرَّةِ حَيْثُ لَا إِقَالَةَ لَهُمْ وَ لَا رَجْعَةَ كَيْفَ نَزَلَ بِهِمْ مَا كَانُوا يَجْهَلُونَ وَ جَاءَهُمْ مِنْ فِرَاقِ الدُّنْيَا مَا كَانُوا يَأْمَنُونوَ قَدِمُوا مِنَ الآْخِرَةِ عَلَى مَا كَانُوا يُوعَدُونَ فَغَيْرُ مَوْصُوفٍ مَا نَزَلَ بِهِمْ اجْتَمَعَتْ عَلَيْهِمْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ وَ حَسْرَةُ الْفَوْتِ فَفَتَرَتْ لَهَا أَطْرَافُهُمْ وَ تَغَيَّرَتْ لَهَا أَلْوَانُهُمْ ثُمَّ ازْدَادَ الْمَوْتُ فِيهِمْ وُلُوجاً فَحِيلَ بَيْنَ أَحَدِهِمْ وَ بَيْنَ مَنْطِقِهِ وَ إِنَّهُ لَبَيْنَ أَهْلِهِ يَنْظُرُ بِبَصَرِهِ وَ يَسْمَعُ بِأُذُنِهِ عَلَى صِحَّةٍ مِنْ عَقْلِهِ وَ بَقَاءٍ مِنْ لُبِّهِ يُفَكِّرُ فِيمَ أَفْنَى عُمْرَهُ وَ فِيمَ أَذْهَبَ دَهْرَهُ وَ يَتَذَكَّرُ أَمْوَالًا جَمَعَهَا أَغْمَضَ فِي مَطَالِبِهَا وَ أَخَذَهَا مِنْ مُصَرَّحَاتِهَا وَ مُشْتَبِهَاتِهَا قَدْ لَزِمَتْهُ تَبِعَاتُ جَمْعِهَا وَ أَشْرَفَ عَلَى فِرَاقِهَا تَبْقَى لِمَنْ وَرَاءَهُ يُنَعَّمُونَ فِيهَا وَ يَتَمَتَّعُونَ بِهَا فَيَكُونُ الْمَهْنَأُ لِغَيْرِهِ وَ الْعِبْ ءُ عَلَى ظَهْرِهِ وَ الْمَرْءُ قَدْ غَلِقَتْ رُهُونُهُ بِهَا فَهُوَ يَعَضُّ يَدَهُ نَدَامَةً عَلَى مَا أَصْحَرَ لَهُ عِنْدَ الْمَوْتِ مِنْ أَمْرِهِ وَ يَزْهَدُ فِيمَا كَانَ يَرْغَبُ فِيهِ أَيَّامَ عُمْرِهِ وَ يَتَمَنَّى أَنَّ الَّذِ كَانَ يَغْبِطُهُ بِهَا وَ يَحْسُدُهُ عَلَيْهَا قَدْ حَازَهَا دُونَهُ فَلَمْ يَزَلِ الْمَوْتُ يُبَالِغُ فِي جَسَدِهِ حَتَّى خَالَطَ سَمْعَهُ فَصَارَ بَيْنَ أَهْلِهِ لَا يَنْطِقُ بِلِسَانِهِ وَ لَا يَسْمَعُ بِسَمْعِهِ يُرَدِّدُ طَرْفَهُ بِالنَّظَرِ فِي وُجُوهِهِمْ يَرَى حَرَكَاتِ أَلْسِنَتِهِمْ وَ لَا يَسْمَعُ رَجْعَ كَلَامِهِمْ ثُمَّ ازْدَادَ الْمَوْتُ الْتِيَاطاً بِهِ فَقَبَضَ

(8/178)


بَصَرَهُ كَمَا قَبَضَ سَمْعَهُ وَ خَرَجَتِ الرُّوحُ مِنْ جَسَدِهِ فَصَارَ جِيفَةً بَيْنَ أَهْلِهِ قَدْ أُوحِشُوا مِنْ جَانِبِهِ وَ تَبَاعَدُوا مِنْ قُرْبِهِ لَا يُسْعِدُ بَاكِياً وَ لَا يُجِيبُ دَاعِياً ثُمَّ حَمَلُوهُ إِلَى مَخَطٍّ فِي الْأَرْضِ فَأَسْلَمُوهُ فِيهِ إِلَى عَمَلِهِ وَ انْقَطَعُوا عَنْ زَوْرَتِهِ حَتَّى إِذَا بَلَغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ وَ الْأَمْرُ مَقَادِيرَهُ وَ أُلْحِقَ آخِرُ الْخَلْقِ بِأَوَّلِهِ وَ جَاءَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ مَا يُرِيدُهُ مِنْ تَجْدِيدِ خَلْقِهِ أَمَادَ السَّمَاءَ وَ فَطَرَهَا وَ أَرَجَّ الْأَرْضَ وَ أَرْجَفَهَا وَ قَلَعَ جِبَالَهَا وَ نَسَفَهَا وَ دَكَّ بَعْضُهَا بَعْضاً مِنْ هَيْبَةِ جَلَالَتِهِ وَ مَخُوفِ سَطْوَتِهِ وَ أَخْرَجَ مَنْ فِيهَا فَجَدَّدَهُمْ بَعْدَ إِخْلَاقِهِمْ وَ جَمَعَهُمْ بَعْدَ تَفَرُّقِهِمْ ثُمَّ مَيَّزَهُمْ لِمَا يُرِيدُهُ مِنْ شرح نهج البلاغة ج : 7 ص : 202مَسْأَلَتِهِمْ عَنْ خَفَايَا الْأَعْمَالِ وَ خَبَايَا الْأَفْعَالِ وَ جَعَلَهُمْ فَرِيقَيْنِ أَنْعَمَ عَلَى هَؤُلَاءِ وَ انْتَقَمَ مِنْ هَؤُلَاءِ فَأَمَّا أَهْلُ الطَّاعَةِ فَأَثَابَهُمْ بِجِوَارِهِ وَ خَلَّدَهُمْ فِي دَارِهَِيْثُ لَا يَظْعَنُ النُّزَّالُ وَ لَا تَتَغَيَّرُ بِهِمُ الْحَالُ وَ لَا تَنُوبُهُمُ الْأَفْزَاعُ وَ لَا تَنَالُهُمُ الْأَسْقَامُ وَ لَا تَعْرِضُ لَهُمُ الْأَخْطَارُ وَ لَا تُشْخِصُهُمُ الْأَسْفَارُ وَ أَمَّا أَهْلُ الْمَعْصِيَةِ فَأَنْزَلَهُمْ شَرَّ دَارٍ وَ غَلَّ الْأَيْدِيَ إِلَى الْأَعْنَاقِ وَ قَرَنَ النَّوَاصِيَ بِالْأَقْدَامِ وَ أَلْبَسَهُمْ سَرَابِيلَ الْقَطِرَانِ وَ مُقَطَّعَاتِ النِّيرَانِ فِي عَذَابٍ قَدِ اشْتَدَّ حَرُّهُ وَ بَابٍ قَدْ أُطْبِقَ عَلَى أَهْلِهِ فِي نَارٍ لَهَا كَلَبٌ وَ لَجَبٌ وَ لَهَبٌ سَاطِعٌ وَ قَصِيفٌ هَائِلٌ لَا

(8/179)


يَظْعَنُ مُقِيمُهَا وَ لَا يُفَادَى أَسِيرُهَا وَ لَا تُفْصَمُ كُبُولُهَا لَا مُدَّةَ لِلدَّارِ فَتَفْنَى وَ لَا أَجَلَ لِلْقَوْمِ فَيُقْضَى
هذا موضع المثل في كل شجرة نار و استمجد المرخ و العفار الخطب الوعظية الحسان كثيرة و لكن هذا حديث يأكل الأحاديث
محاسن أصناف المغنين جمة و ما قصبات السبق إلا لمعبد
من أراد أن يتعلم الفصاحة و البلاغة و يعرف فضل الكلام بعضه على بعض فليتأمل هذه الخطبة فإن نسبتها إلى كل فصيح من الكلام عدا كلام الله و رسوله نسبة الكواكب المنيرة الفلكية إلى الحجارة المظلمة الأرضية ثم لينظر الناظر إلى ما عليها من البهاء و الجلالة و الرواء و الديباجة و ما تحدثه من الروعة و الرهبة و المخافة و الخشية حتى لو تليت على زنديق ملحد مصمم على اعتقاد نفي البعث و النشور لهدت قواه و أرعبت قلبه و أضعفت على نفسه و زلزلت اعتقاده فجزى الله قائلها عن الإسلام أفضل شرح نهج البلاغة ج : 7 ص : 203ما جزى به وليا أوليائه فما أبلغ نصرته له تارة بيده و سيفه و تارة بلسانه و نطقه و تارة بقلبه و فكره إن قيل جهاد و حرب فهو سيد المجاهدين و المحاربين و إن قيل وعظ و تذكير فهو أبلغ الواعظين و المذكرين و إن قيل فقه و تفسير فهو رئيس الفقهاء و المفسرين و إن قيل عدل و توحيد فهو إمام أهل العدل و الموحدين
ليس على الله بمستنكر أن يجمع العالم في واحد

(8/180)


ثم نعود إلى الشرح فنقول قوله ع أسكنتهم سماواتك لا يقتضي أن جميع الملائكة في السماوات فإنه قد ثبت أن الكرام الكاتبين في الأرض و إنما لم يقتض ذلك لأن قوله من ملائكة ليس من صيغ العموم فإنه نكرة في سياق الإثبات و قد قيل أيضا إن ملائكة الأرض تعرج إلى السماء و مسكنها بها و يتناوبون على أهل الأرض. قوله هم أعلم خلقك بك ليس يعني به أنهم يعلمون من ماهيته تعالى ما لا يعلمه البشر أما على قول المتكلمين فلأن ذاته تعالى معلومة للبشر و العلم لا يقبل الأشد و الأضعف و أما على قول الحكماء فلأن ذاته تعالى غير معلومة للبشر و لا للملائكة و يستحيل أن تكون معلومة لأحد منهم فلم يبق وجه يحمل عليه قوله ع هم أعلم خلقك بك إلا أنهم يعلمون من تفاصيل مخلوقاته و تدبيراته ما لا يعلمه غيرهم كما يقال وزير الملك أعلم بالملك من الرعية ليس المراد أنه أعلم بذاته و ماهيته بل بأفعاله و تدبيره و مراده و غرضه. قوله و أخوفهم لك لأن قوتي الشهوة و الغضب مرفوعتان عنهم و هما منبع شرح نهج البلاغة ج : 7 ص : 204الشر و بهما يقع الطمع و الإقدام على المعاصي و أيضا فإن منهم من يشاهد الجنة و النار عيانا فيكون أخوف لأنه ليس الخبر كالعيان. قوله و أقربهم منك لا يريدلقرب المكاني لأنه تعالى منزه عن المكان و الجهة بل المراد كثرة الثواب و زيادة التعظيم و التبجيل و هذا يدل على صحة مذهب أصحابنا في أن الملائكة أفضل من الأنبياء. ثم نبه على مزية لهم تقتضي أفضلية جنسهم على جنس البشر بمعنى الأشرفية لا بمعنى زيادة الثواب و هو قوله لم يسكنوا الأصلاب و لم يضمنوا الأرحام و لم يخلقوا من ماء مهين و لم يتشعبهم ريب المنون و هذه خصائص أربع فالأولى أنهم لم يسكنوا الأصلاب و البشر سكنوا الأصلاب و لا شبهة أن ما ارتفع عن مخالطة الصورة اللحمية و الدموية أشرف مما خالطها و مازجها. و الثانية أنهم لم يضمنوا الأرحام و لا شبهة أن من لم يخرج من ذلك الموضع المستقذر

(8/181)


أشرف ممن خرج منه و كان أحمد بن سهل بن هاشم بن الوليد بن كامكاو بن يزدجرد بن شهريار يفخر على أبناء الملوك بأنه لم يخرج من بضع امرأة لأن أمه ماتت و هي حامل به فشق بطنها عنه و أخرج قال أبو الريحان البيروني في كتاب الآثار الباقية عن القرون الخالية عن هذا الرجل أنه كان يتيه على الناس و إذا شتم أحدا قال ابن البضع قال أبو الريحان و أول من اتفق له ذلك الملك المعروف بأغسطس ملك الروم و هو أول من سمي فيهم قيصر لأن تفسير قيصر بلغتهم شق عنه و أيامه تاريخ كما أن أيام الإسكندر تاريخ لعظمه و جلالته عندهم. و الثالثة أنهم لم يخلقوا من ماء مهين و قد نص القرآن العزيز على أنه مهين و كفى ذلك في تحقيره و ضعته فهم لا محالة أشرف ممن خلق منه لا سيما و قد ذهب كثير من العلماء إلى نجاسته. شرح نهج البلاغة ج : 7 ص : 205و رابعة أنهم لا يتشعبهم المنية و لا ريب أن من لا تتطرق إليه الأسقام و الأمراض و لا يموت أشرف ممن هو في كل ساعة و لحظة بعرض سقام و بصدد موت و حمام. و اعلم أن مسألة تفضيل الملائكة على الأنبياء لها صورتان إحداهما أن أفضل بمعنى كونهم أكثر ثوابا و الأخرى كونهم أفضل بمعنى أشرف كما تقول إن الفلك أفضل من الأرض أي إن الجوهر الذي منه جسمية الفلك أشرف من الجوهر الذي منه جسمية الأرض. و هذه المزايا الأربع دالة على تفضيل الملائكة بهذا الاعتبار الثاني. قوله ع يتشعبهم ريب المنون أي يتقسمهم و الشعب التفريق و منه قيل للمنية شعوب لأنها تفرق الجماعات و ريب المنون حوادث الدهر و أصل الريب ما راب الإنسان أي جاءه بما يكره و المنون الدهر نفسه و المنون أيضا المنية لأنها تمن المدة أي تقطعها و المن القطع و منه قوله تعالى لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ. و قال لبيد
غبس كواسب لا يمن طعامها

(8/182)


ثم ذكر أنهم كثرة عبادتهم و إخلاصهم لو عاينوا كنه ما خفي عليهم من البارئ تعالى لحقروا أعمالهم و زروا على أنفسهم أي عابوها تقول زريت على فلان أي عبته و أزريت بفلان أي قصرت به. شرح نهج البلاغة ج : 7 ص : 206فإن قلت ما هذا الكنه الذي خفي عن الملائكة حتى قال لعاينوه لحقروا عبادتهم و لعلموا أنهم قد قصروا فيها قلت إن علوم الملائكة بالبارئ تعالى نظرية كعلوم البشر و العلوم النظرية دون العلوم الضرورية في الجلاء و الوضوح فأمير المؤمنين ع يقول لو كانت علومهم بك و بصفاتك إثباتية و السلبية و الإضافية ضرورية عوض علومهم هذه المتحققة الآن التي هي نظرية و لا نكشف لهم ما ليس الآن على حد ذلك الكشف و الوضوح و لا شبهة أن العبادة و الخدمة على قدر المعرفة بالمعبود فكلما كان العابد به أعرف كانت عبادته له أعظم و لا شبهة أن العظيم عند الأعظم حقير. فإن قلت فما معنى قوله و استجماع أهوائهم فيك و هل للملائكة هوى و هل تستعمل الأهواء إلا في الباطل قلت الهوى الحب و ميل النفس و قد يكون في باطل و حق و إنما يحمل على أحدهما بالقرينة و الأهواء تستعمل فيهما و معنى استجماع أهوائهم فيه أن دواعيهم إلى طاعته و خدمته لا تنازعها الصوارف و كانت مجتمعة مائلة إلى شق واحد. فإن قلت الباء في قوله بحسن بلائك بما ذا تتعلق قلت الباء هاهنا للتعليل بمعنى اللام كقوله تعالى ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ أي لأنهم فتكون متعلقة بما في سبحانك من معنى الفعل أي أسبحك لحسن بلائك و يجوز أن تتعلق بمعبود أي يعبد لذلك. ثم قال خلقت دارا يعني الجنة و المأدبة و المأدبة بفتح الدال و ضمها الطعام الذي يدعى الإنسان إليه أدب زيد القوم يأدبهم بالكسر أي دعاهم إلى طعامه و الآدب الداعي إلى طعامه قال طرفة شرح نهج البلاغة ج : 7 ص : 20نحن في المشتاة ندعو الجفلى لا ترى الآدب فينا ينتقر

(8/183)


و في هذا الكلام دلالة على أن الجنة الآن مخلوقة و هو مذهب أكثر أصحابنا. و معنى قوله و زروعا أي و غروسا من الشجر يقال زرعت الشجر كما يقال زرعت البر و الشعير و يجوز أن يقال الزروع جمع زرع و هو الإنبات يقال زرعه الله أي أنبته و منه قوله تعالى أَ فَرَأَيْتُمْ ما تَحْرُثُونَ أَ أَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ و لو قال قائل إن في الجنة زروعا من البر و القطنية لم يبعد. قوله ثم أرسلت داعيا يعني الأنبياء و أقبلوا على جيفة يعني الدنيا و من كلام الحسن رضي الله عنه إنما يتهارشون على جيفة. و إلى قوله و من عشق شيئا أعشى بصره نظر الشاعر فقال
و عين الرضا عن كل عيب كليلة كما أن عين السخط تبدي المساويا
و قيل لحكيم ما بال الناس لا يرون عيب أنفسهم كما يرون عيب غيرهم قال إن الإنسان عاشق لنفسه و العاشق لا يرى عيوب المعشوق. قد خرقت الشهوات عقله أي أفسدته كما تخرق الثوب فيفسد. و إلى قوله فهو عبد لها و لمن في يديه شي ء منها نظر ابن دريد فقال عبيد ذي المال و إن لم يطمعوا من ماله في نغبة تشفي الصدى و هم لمن أملق أعداء و إن شاركهم فيما أفاد و حوى شرح نهج البلاغة ج : 7 ص : 208و إلى قوله حيثما زالت زال إليها و حيثما أقبلت أقبل عليها نظر الشاعر فقالما الناس إلا مع الدنيا و صاحبها فكيفما انقلبت يوما به انقلبوايعظمون أخا الدنيا فإن وثبت يوما عليه بما لا يشتهي وثبوا

(8/184)


و الغرة الاغترار و الغفلة و الغار الغافل و قد اغتررت بالرجل و اغتره زيد أي أتاه على غرة منه و يجوز أن يعني بقوله المأخوذين على الغرة الحداثة و الشبيبة يقول كان ذلك في غرارتي و غرتي أي في حداثتي و صباي. قوله سكرة الموت و حسرة الفوت أي الحسرة على ما فاتهم من الدنيا و لذتها و الحسرة على ما فاتهم من التوبة و الندم و استدراك فارط المعاصي. و الولوج الدخول ولج يلج. قوله و بقاء من لبه أي لبه باق لم يعدم و يروى و نقاء بالنون و النقاء النظافة أي لبه غير مغمور. أغمض في مطالبها أي تساهل في دينه في اكتسابه إياها أي كان يفنى نفسه بتأويلات ضعيفة في استحلال تلك المطالب و المكاسب فذاك هو الإغماض قال تعالى وَ لَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ و يمكن أن يحمل على وجه آخر و هو أنه قد كان يحتال بحيل غامضة دقيقة في تلك المطالب حتى حصلها و اكتسبها. قوله ع و أخذها من مصرحاتها و مشتبهاتها أي من وجوه مباحة و ذوات شبهة و هذا يؤكد المحمل الأول في أغمض. و التبعات الآثام الواحدة تبعة و مثلها التباعة قال شرح نهج البلاغة ج : 7 ص : 20لم يحذروا من ربهم سوء العواقب و التباعة
و المهنأ المصدر من هنئ الطعام و هنؤ بالكسر و الضم مثل فقه و فقه فإن كسرت قلت يهنأ و إن ضممت قلت يهنؤ و المصدر هناءة و مهنأ أي صار هنيئا و هنأني الطعام يهنؤني و يهنئني و لا نظير له في المهموز هنأ و هناء و هنئت الطعام أي تهنأت به و منه قوله تعالى فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَرِيئاً. و العب ء الحمل و الجمع أعباء. و غلق الرهن أي استحقه المرتهن و ذلك إذا لم يفتكك في الوقت المشروط قال زهير و فارقتك برهن لا فكاك له يوم الوداع فأمسى الرهن قد غلقا

(8/185)


فإن قلت فما معنى قوله ع قد غلقت رهونه بها في هذا الموضع قلت لما كان قد شارف الرحيل و أشفى على الفراق و صارت تلك الأموال التي جمعها مستحقة لغيره و لم يبق له فيها تصرف أشبهت الرهن الذي غلق على صاحبه فخرج عن كونه مستحقا له و صار مستحقا لغيره و هو المرتهن. و أصحر انكشف و أصله الخروج إلى الصحراء و البروز من المكمن. رجع كلامهم ما يتراجعونه بينهم من الكلام ازداد الموت التياطا به أي التصاقا قد أوحشوا أي جعلوا مستوحشين و المستوحش المهموم الفزع و يروى أوحشوا من جانبه أي خلوا منه و أقفروا تقول قد أوحش المنزل من أهله أي أقفر. و خلا إلى مخط في الأرض أي إلى خط سماه مخطا أو خطا لدقته يعني اللحد شرح نهج البلاغة ج : 7 ص : 210و يروى إلى محط بالحاء المهملة و هو المنزل و حط القوم أي نزلوا. و ألحق آخر الخلق بأوله أي تساوى الكل في شمول الموت و الفناء لهم فالتحق الآخر بالأول. أم السماء حركها و يروى أمار و الموران الحركة و فطرها شقها و أرج الأرض زلزلها تقول رجت الأرض و أرجها الله و يجوز رجها و قد روي رج الأرض بغير همزة و هو الأصح و عليه ورد القرآن إِذا رُجَّتِ الْأَرْضُ رَجًّا. أرجفها جعلها راجفة أي مرتعدة متزلزلة رجفت الأرض ترجف و الرجفان الاضطراب الشديد و سمي البحر رجافا لاضطرابه قال الشاعر
حتى تغيب الشمس في الرجاف

(8/186)


و نسفها قلعها من أصولها و دك بعضها بعضا صدمه و دقه حتى يكسره و يسويه بالأرض و منه قوله سبحانه وَ حُمِلَتِ الْأَرْضُ وَ الْجِبالُ فَدُكَّتا دَكَّةً واحِدَةً. ميزهم أي فصل بينهم فجعلهم فريقين سعداء و أشقياء و منه قوله تعالى وَ امْتازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ أي انفصلوا من أهل الطاعة. يظعن يرحل تنوبهم الأفزاع تعاودهم و تعرض لهم الأخطار جمع خطر و هو ما يشرف به على الهلكة. شرح نهج البلاغة ج : 7 ص : 211و تشخصهم الأسفار تخرجهم من منزل إلى منزل شخص الرجل و أشخصه غيره و غل الأيدي جعلها في الأغلال جمع غبالضم و هو القيد و القطران الهناء قطرت البعير أي طليته بالقطران قال
كما قطر المهنوءة الرجل الطالي
و بعير مقطور و هذا من الألفاظ القرآنية قال تعالى سَرابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرانٍ وَ تَغْشى وُجُوهَهُمُ النَّارُ و المعنى أن النار إلى القطران سريعة جدا. و مقطعات النيران أي ثياب من النيران قد قطعت و فصلت لهم و قيل المقطعات قصار الثياب و الكلب الشدة و الجلب و اللجب الصوت و القصيف الصوت الشديد. لا يقصم كبولها لا يكسر قيودها الواحد كبل. ثم ذكر أن عذابهم سرمدي و أنه لا نهاية له نعوذ بالله من عذاب ساعة واحدة فكيف من العذاب الأبدي
موازنة بين كلام الإمام علي و خطب ابن نباتة

(8/187)


و نحن نذكر في هذا الموضع فصولا من خطب الخطيب الفاضل عبد الرحيم بن نباتة رحمه الله و هو الفائز بقصبات السبق من الخطباء و للناس غرام عظيم بخطبه و كلامه ليتأمل الناظر كلام أمير المؤمنين ع في خطبه و مواعظه و كلام هذا الخطيب المتأخر شرح نهج البلاغة ج : 7 ص : 2الذي قد وقع الإجماع على خطابته و حسنها و أن مواعظه هي الغاية التي ليس بعدها غاية فمن ذلك قوله أيها الناس تجهزوا فقد ضرب فيكم بوق الرحيل و ابرزوا فقد قربت لكم نوق التحويل و دعوا التمسك بخدع الأباطيل و الركون إلى التسويف و التعليل فقد سمعتم ما كرر الله عليكم من قصص أبناء القرى و ما وعظكم به من مصارع من سلف من الورى مما لا يعترض لذوي البصائر فيه شك و لا مرا و أنتم معرضون عنه إعراضكم عما يختلق و يفترى حتى كان ما تعلمون منه أضغاث أحلام الكرى و أيدي المنايا قد فصمت من أعماركم أوثق العرى و هجمت بكم على هول مطلع كريه القرى فالقهقرى رحمكم الله عن حبائل العطب القهقرى و اقطعوا مفاوز الهلكات بمواصلة السرى و قفوا على أحداث المنزلين من شناخيب الذرى المنجلين بوازع أم حبوكرى المشغولين بما عليهم من الموت جرى و اكشفوا عن الوجوه المنعمة أطباق الثرى تجدوا ما بقي منها عبرة لمن يرى فرحم الله امرأ رحم نفسه فبكاها و جعل منها إليها مشتكاها قبل أن تعلق به خطاطيف المنون و تصدق فيه أراجيف الظنون و تشرق عليه بمائها مقل العيون و يلحق بمن دثر من القرون قبل أن يبدوا على المناكب محمولا و يغدو إلى محل المصائب منقولا و يكون عن الواجب مسئولا و بالقدوم على الطالب الغالب مشغولا هناك يرفع الحجاب و يوضع الكتاب و تقطع الأسباب و تذهب الأحساب و يمنع الإعتاب و يجمع من حق عليه العقاب و من وجب له الثواب فيضرب بينهم بسور له باب باطنه فيه الرحمة و ظاهره من قبله العذاب. فلينظر المنصف هذا الكلام و ما عليه من أثر التوليد أولا بالنسبة إلى ذلك الكلام العربي المحض ثم لينظر

(8/188)


فيما عليه من الكسل و الرخاوة و الفتور و البلادة حتى كأن ذلك شرح نهج البلاغة ج : 7 ص : 213الكلام لعامر بن الطفيل مستلئما شكته راكبا جواده و هذا الكلام للدلال المديني المخنث آخذا زمارته متأبطا ه. و المح ما في بوق الرحيل من السفسفة و اللفظ العامي الغث و اعلم أنهم كلهم عابوا على أبي الطيب قوله
فإن كان بعض الناس سيفا لدولة ففي الناس بوقات لها و طبول
و قالوا لا تدخل لفظة بوق في كلام يفلح أبدا. و المح ما على قوله القهقرى القهقرى متكررة من الهجنة و أهجن منها أم حبوكرى و أين هذا اللفظ الحوشي الذي تفوح منه روائح الشيح و القيصوم و كأنه من أعرابي قح قد قدم من نجد لا يفهم محاورة أهل الحضر و لا أهل الحضر يفهمون حواره من هذه الخطبة اللينة الألفاظ التي تكاد أن تتثنى من لينها و تتساقط من ضعفها ثم المح هذه الفقر و السجعات التي أولها القرى ثم المر ثم يفترى ثم الكرى إلى قوله عبرة لمن يرى هل ترى تحت هذا الكلام معنى لطيفا أو مقصدا رشيقا أو هل تجد اللفظ نفسه لفظا جزلا فصيحا أو عذبا معسولا و إنما هي ألفاظ قد ضم بعضها إلى بعض و الطائل تحتها قليل جدا و تأمل لفظة مرا فإنها ممدودة في اللغة فإن كان قصرها فقد ركب ضرورة مستهجنة و إن أراد جمع مرية فقد خرج شرح نهج البلاغة ج : 7 ص : 214عن الصناعة لأنه يكون قد عطف الجمع المفرد فيص مثل قول القائل ما أخذت منه دينارا و لا دراهم في أنه ليس بالمستحسن في فن البيان. و من ذلك قوله أيها الناس حصحص الحق فما من الحق مناص و أشخص الخلق فما لأحد من الخلق خلاص و أنتم على ما يباعدكم من الله حراص و لكم على موارد الهلكة اغتصاص و فيكم عن مقاصد البركة انتكاص كأن ليس أمامكم جزاء و لا قصاص و لجوارح الموت في وحش نفوسكم اقتناص ليس بها عليها تأب و لا اعتياص. فليتأمل أهل المعرفة بعلم الفصاحة و البيان هذا الكلام بعين الإنصاف يعلموا أن سطرا واحدا من كلام نهج البلاغة يساوى ألف سطر منه

(8/189)


بل يزيد و يربي على ذلك فإن هذا الكلام ملزق عليه آثار كلفة و هجنة ظاهرة يعرفها العامي فضلا عن العالم. و من هذه الخطبة فاهجروا رحمكم الله وثير المراقد و ادخروا طيب المكتسب تخلصوا من انتقاد الناقد و اغتنموا فسحة المهل قبل انسداد المقاصد و اقتحموا سبل الآخرة على قلة المرافق و المساعد. فهل يجد متصفح الكلام لهذا الفصل عذوبة أو معنى يمدح الكلام لأجله و هل هو إلا ألفاظ مضموم بعضها إلى بعض ليس لها حاصل كما قيل في شعر ذي الرمة
بعر ظباء و نقط عروس
و من ذلك قوله فيا له من واقع في كرب الحشارج مصارع لسكرات الموت معالج حتى درج على تلك المدارج و قدم بصحيفته على ذي المعارج. شرح نهج البلاغة ج : 7 ص : 215و غير خاف ما في هذا الكلام من التكلف. و من ذلك قوله فكأنكم بمنادي الرحيل قد نادى في أهل الإقامة فاقتحم بالصغار محجة القيامة يتلو الأوائل منهم الأواخر و يتبع الأكابر منهم الأصاغر و يلتحق الغوامر من ديارهم بالغوامر حتى تبتلع جميعهم الحفر و المقابر. فإن هذا الكلام ركيك جدا لو قاله خطيب من خطباء قرى السواد لم يستحسن منه بل ترك و استرذل. و لعل عائبا يعيب علينا فيقول شرعتم في المقايسة و الموازنة بين كلام أمير المؤمنين ع و بين كلام ابن نباتة و هل هذا إلا بمنزلة قول من يقول السيف أمضى من العصا و في هذه غضاضة على السيف فنقول إنه قد اشتملت كتب المتكلمين على المقايسة بين كلام الله تعالى و بين كلام البشر ليبينوا فضل القرآن و زيادة فصاحته على فصاحة كلام العرب نحو مقايستهم بين قوله تعالى وَ لَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ و بين قول القائل القتل أنفى للقتل و نحو مقايستهم بين قوله تعالى خُذِ الْعَفْوَ وَ أْمُرْ بِالْعُرْفِ وَ أَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ و بين قول الشاعر
فإن عرضوا بالشر فاصفح تكرما و إن كتموا عنك الحديث فلا تسل

(8/190)


و نحو إيرادهم كلام مسيلمة و أحمد بن سليمان المعري و عبد الله بن المقفع فصلا فصلا و الموازنة و المقايسة بين ذلك و بين القرآن المجيد و إيضاح أنه لا يبلغ ذلك إلى درجة شرح نهج البلاغة ج : 7 ص : 216القرآن العزيز و لا يقاربها فليس بمستنكر منا أن نذكر كلام ابن اتة في معرض إيرادنا كلام أمير المؤمنين ع لتظهر فضيلة كلامه ع بالنسبة إلى هذا الخطيب الفاضل الذي قد اتفق الناس على أنه أوحد عصره في فنه. و اعلم أنا لا ننكر فضل ابن نباتة و حسن أكثر خطبه و لكن قوما من أهل العصبية و العناد يزعمون أن كلامه يساوى كلام أمير المؤمنين ع و يماثله و قد ناظر بعضهم في ذلك فأحببت أن أبين للناس في هذا الكتاب أنه لا نسبة لكلامه إلى كلام أمير المؤمنين ع و أنه بمنزلة شعر الأبله و ابن المعلم بالإضافة إلى زهير و النابغة. و اعلم أن معرفة الفصيح و الأفصح و الرشيق و الأرشق و الحلو و الأحلى و العالي و الأعلى من الكلام أمر لا يدرك إلا بالذوق و لا يمكن إقامة الدلالة المنطقية عليه و هو بمنزلة جاريتين إحداهما بيضاء مشربة حمرة دقيقة الشفتين نقية الثغر كحلاء العينين أسيلة الخد دقيقة الأنف معتدلة القامة و الأخرى دونها في هذه الصفات و المحاسن لكنها أحلى في العيون و القلوب منها و أليق و أصلح و لا يدرى لأي سبب كان ذلك و لكنه بالذوق و المشاهدة يعرف و لا يمكن تعليله و هكذا الكلام نعم يبقى الفرق بين الموضعين أن حسن الوجوه و ملاحتها و تفضيل بعضها على بعض يدركه كل من له عين صحيحة و أما الكلام فلا يعرفه إلا أهل الذوق و ليس كل من اشتغل بالنحو و اللغة أو بالفقه كان من أهل الذوق و ممن يصلح لانتقاد الكلام و إنما أهل الذوق هم الذين اشتغلوا بعلم البيان و راضوا أنفسهم بالرسائل و الخطب و الكتابة و الشعر و صارت لهم شرح نهج البلاغة ج : 7 ص : 217بذلك دربة و ملكة تامة فإلى أئك ينبغي أن ترجع في معرفة الكلام و فضل بعضه على بعض إن كنت عادما

(8/191)


لذلك من نفسك
مِنْهَا فِي ذِكْرِ النَّبِيِّ ص قَدْ حَقَّرَ الدُّنْيَا وَ صَغَّرَهَا وَ أَهْوَنَ بِهَا وَ هَوَّنَهَا وَ عَلِمَ أَنَّ اللَّهَ زَوَاهَا عَنْهُ اخْتِيَاراً وَ بَسَطَهَا لِغَيْرِهِ احْتِقَاراً فَأَعْرَضَ عَنِ الدُّنْيَا بِقَلْبِهِ وَ أَمَاتَ ذِكْرَهَا مِنْ نَفْسِهِ وَ أَحَبَّ أَنْ تَغِيبَ زِينَتُهَا عَنْ عَيْنِهِ لِكَيْلَا يَتَّخِذَ مِنْهَا رِيَاشاً أَوْ يَرْجُوَ فِيهَا مَقَاماً بَلَّغَ عَنْ رَبِّهِ مُعْذِراً وَ نَصَحَ لِأُمَّتِهِ مُنْذِراً وَ دَعَا إِلَى الْجَنَّةِ مُبَشِّراً وَ خَوَّفَ مِنَ النَّارِ مُحَذِّراً
فعل مشدد للتكثير قتلت أكثر من قتلت فيقتضي قوله ع قد حقر الدنيا زيادة تحقير النبي ص لها و ذلك أبلغ في الثناء عليه و تقريظه. قوله و صغرها أي و صغرها عند غيره ليكون قوله و أهون بها و هونها مطابقا له أي أهون هو بها و هونها عند غيره. و زواها قبضها
قال ع زويت لي الأرض فرأيت مشارقها و مغاربها
و قوله اختيارا أي قبض الدنيا عنه باختيار و رضا من النبي ص بذلك و علم بما فيه من رفعة قدره و منزلته في الآخرة. شرح نهج البلاغة ج : 7 ص : 218و الرياش و الريش بمعنى و هو اللباس الفاخر كالحرم و الحرام و اللبس و اللباس و قرئ و رياشا و لباس التقوى ذلك خير و يق الريش و الرياش المال و الخصب و المعاش و ارتاش فلان حسنت حاله و معذرا أي مبالغا أعذر فلان في الأمر أي بالغ فيه
نَحْنُ شَجَرَةُ النُّبُوَّةِ وَ مَحَطُّ الرِّسَالَةِ وَ مُخْتَلَفُ الْمَلَائِكَةِ وَ مَعَادِنُ الْعِلْمِ وَ يَنَابِيعُ الْحُكْمِ نَاصِرُنَا وَ مُحِبُّنَا يَنْتَظِرُ الرَّحْمَةَ وَ عَدُوُّنَا وَ مُبْغِضُنَا يَنْتَظِرُ السَّطْوَةَ

(8/192)


هذا الكلام غير ملتصق بالأول كل الالتصاق و هو من النمط الذي ذكرناه مرارا لأن الرضي رحمه الله يقتضب فصولا من خطبة طويلة فيوردها إيرادا واحدا و بعضها منقطع عن البعض. قوله ع نحن شجرة النبوة كأنه جعل النبوة كثمرة أخرجتها شجرة بني هاشم و محط الرسالة منزلها و مختلف الملائكة موضع اختلافها في صعودها و نزولها و إلى هذا المعنى نظر بعض الطالبيين فقال يفتخر على بني عم له ليسوا بفاطميين
هل كان يقتعد البراق أبوكم أم كان جبريل عليه ينزل أم هل يقول له الإله مشافها بالوحي قم يا أيها المزمل شرح نهج البلاغة ج : 7 ص : 219و قال آخر يمدح قوما فاطميينو يطرقه الوحي وهنا و أنتم ضجيعان بين يدي جبرئيلا
يعني حسنا ع و حسينا ع. و اعلم أنه إن أراد بقوله نحن مختلف الملائكة جماعة من جملتها رسول الله ص فلا ريب في صحة القضية و صدقها و إن أراد بها نفسه و ابنيه فهي أيضا صحيحة و لكن مدلوله مستنبط
فقد جاء في الأخبار الصحيحة أنه قال يا جبريل إنه مني و أنا منه فقال جبريل و أنا منكما
و روى أبو أيوب الأنصاري مرفوعا لقد صلت الملائكة علي و على علي سبع سنين لم تصل على ثالث لنا
و ذلك قبل أن يظهر أمر الإسلام و يتسامع الناس به. و
في خطبة الحسن بن علي ع لما قبض أبوه لقد فارقكم في هذه الليلة رجل لم يسبقه الأولون و لا يدركه الآخرون كان يبعثه رسول الله ص للحرب و جبريل عن يمينه و ميكائيل عن يساره
و جاء في الحديث أنه سمع يوم أحد صوت من الهواء من جهة السماء يقول لا سيف إلا ذو الفقار و لا فتى إلا علي و أن رسول الله ص قال هذا صوت جبريل
فأما قوله و معادن العلم و ينابيع الحكم يعني الحكمة أو الحكم الشرعي فإنه و إن عنى بها نفسه و ذريته فإن الأمر فيها ظاهر جدا
قال رسول الله ص أنا مدينة العلم و علي بابها فمن أراد المدينة فليأت الباب
و قال أقضاكم علي و القضاء أمر يستلزم علوما كثيرة. و

(8/193)


جاء في الخبر أنه بعثه إلى اليمن قاضيا فقال يا رسول الله إنهم كهول و ذوو أسنان شرح نهج البلاغة ج : 7 ص : 220و أنا فتى و ربما لم أصب فيما أحكم به بينهم فقال له اذهب فإن الله سيثبت قلبك و يهدي لسانكو جاء في تفسير قوله تعالى وَ تَعِيَها أُذُنٌ واعِيَةٌ سألت الله أن يجعلها أذنك ففعل و جاء في تفسير قوله تعالى أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلى ما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ أنها أنزلت في علي ع و ما خص به من العلم و جاء في تفسير قوله تعالى أَ فَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَ يَتْلُوهُ شاهِدٌ مِنْهُ أن الشاهد علي ع. و
روى المحدثون أنه قال لفاطمة زوجتك أقدمهم سلما و أعظمهم حلما و أعلمهم علما
و روى المحدثون أيضا عنه ع أنه قال من أراد أن ينظر إلى نوح في عزمه و موسى في علمه و عيسى في ورعه فلينظر إلى علي بن أبي طالب
و بالجملة فحاله في العلم حال رفيعة جدا لم يلحقه أحد فيها و لا قاربه و حق له أن يصف نفسه بأنه معادن العلم و ينابيع الحكم فلا أحد أحق بها منه بعد رسول الله ص. فإن قلت كيف قال عدونا و مبغضنا ينتظر السطوة و نحن نشاهد أعداءه و مبغضيه لا ينتظرونها قلت لما كانت منتظرة لهم و معلوما بيقين حلولها بهم صاروا كالمنتظرين لها و أيضا فإنهم ينتظرون الموت لا محالة الذي كل إنسان ينتظره و لما كان الموت مقدمة العقاب و طريقا إليه جعل انتظاره انتظار ما يكون بعده

(8/194)


شرح نهج البلاغة ج : 7 ص : 108221- و من خطبة له عإِنَّ أَفْضَلَ مَا تَوَسَّلَ بِهِ الْمُتَوَسِّلُونَ إِلَى اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَ تَعَالَى الْإِيمَانُ بِهِ وَ بِرَسُولِهِ وَ الْجِهَادُ فِي سَبِيلِهِ فَإِنَّهُ ذِرْوَةُ الْإِسْلَامِ وَ كَلِمَةُ الْإِخْلَاصِ فَإِنَّهَا الْفِطْرَةُ وَ إِقَامُ الصَّلَاةِ فَإِنَّهَا الْمِلَّةُ وَ إِيتَاءُ الزَّكَاةِ فَإِنَّهَا فَرِيضَةٌ وَاجِبَةٌ وَ صَوْمُ شَهْرِ رَمَضَانَ فَإِنَّهُ جُنَّةٌ مِنَ الْعِقَابِ وَ حَجُّ الْبَيْتِ وَ اعْتِمَارُهُ فَإِنَّهُمَا يَنْفِيَانِ الْفَقْرَ وَ يَرْحَضَانِ الذَّنْبَ وَ صِلَةُ الرَّحِمِ فَإِنَّهَا مَثْرَاةٌ فِي الْمَالِ وَ مَنْسَأَةٌ فِي الْأَجَلِ وَ صَدَقَةُ السِّرِّ فَإِنَّهَا تُكَفِّرُ الْخَطِيئَةَ وَ صَدَقَةُ الْعَلَانِيَةِ فَإِنَّهَا تَدْفَعُ مِيتَةَ السُّوءِ وَ صَنَائِعُ الْمَعْرُوفِ فَإِنَّهَا تَقِي مَصَارِعَ الْهَوَانِ أَفِيضُوا فِي ذِكْرِ اللَّهِ فَإِنَّهُ أَحْسَنُ الذِّكْرِ وَ ارْغَبُوا فِيمَا وَعَدَ الْمُتَّقِينَ فَإِنَّ وَعْدَهُ أَصْدَقُ الْوَعْدِ وَ اقْتَدُوا بِهَدْيِ نَبِيِّكُمْ فَإِنَّهُ أَفْضَلُ الْهَدْيِ وَ اسْتَنُّوا بِسُنَّتِهِ فَإِنَّهَا أَهْدَى السُّنَنِ وَ تَعَلَّمُوا الْقُرْآنَ فَإِنَّهُ أَحْسَنُ الْحَدِيثِ وَ تَفَقَّهُوا فِيهِ فَإِنَّهُ رَبِيعُ الْقُلُوبِ وَ اسْتَشْفُوا بِنُورِهِ فَإِنَّهُ شِفَاءُ الصُّدُورِ وَ أَحْسِنُوا تِلَاوَتَهُ فَإِنَّهُ أَنْفَعُ الْقَصَصِ وَ إِنَّ الْعَالِمَ الْعَامِلَ بِغَيْرِ عِلْمِهِ كَالْجَاهِلِ الْحَائِرِ الَّذِي لَا يَسْتَفِيقُ مِنْ جَهْلِهِ بَلِ الْحُجَّةُ عَلَيْهِ أَعْظَمُ وَ الْحَسْرَةُ لَهُ أَلْزَمُ وَ هُوَ عِنْدَ اللَّهِ أَلْوَمُ

(8/195)


ذكر ع ثمانية أشياء كل منها واجب. شرح نهج البلاغة ج : 7 ص : 222أولها الإيمان بالله و برسوله و يعني بالإيمان هاهنا مجرد التصديق بالقلب مع قطع النظر عما عدا ذلك من التلفظ بالشهادة و من الأعمال الواجبة و ترك القبائح و قد ذهب إلى أن ماهية الإيمان هو مجرد التصق القلبي جماعة من المتكلمين و هو و إن لم يكن مذهب أصحابنا فإن لهم أن يقولوا إن أمير المؤمنين ع جاء بهذا اللفظ على أصل الوضع اللغوي لأن الإيمان في أصل اللغة هو التصديق قال سبحانه و تعالى وَ ما أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنا وَ لَوْ كُنَّا صادِقِينَ أي لست بمصدق لنا لا إن كنا صادقين و لا إن كنا كاذبين و مجيئه ع به على أصل الوضع اللغوي لا يبطل مذهبنا في مسمى الإيمان لأنا نذهب إلى أن الشرع استجد لهذه اللفظة مسمى ثانيا كما نذهب إليه في الصلاة و الزكاة و غيرهما فلا منافاة إذا بين مذهبنا و بين ما أطلقه ع. و ثانيها الجهاد في سبيل الله و إنما قدمه على التلفظ بكلمتي الشهادة لأنه من باب دفع الضرر عن النفس و دفع الضرر عن النفس مقدم على سائر الأعمال المتعلقة بالجوارح و التلفظ بكلمتي الشهادة من أعمال الجوارح و إنما أخره عن الإيمان لأن الإيمان من أفعال القلوب فهو خارج عما يتقدم عليه و دفع الضرر من الأفعال المختصة بالجوارح و أيضا فإن الإيمان أصل الجهاد لأنه ما لم يعلم الإنسان على ما ذا يجاهد لا يجاهد و إنما جعله ذروة الإسلام أي أعلاه لأنه ما لم تتحصن دار الإسلام بالجهاد لا يتمكن المسلمون من القيام بوظائف الإسلام فكان إذا من الإسلام بمنزلة الرأس من البدن. و ثالثها كلمة الإخلاص يعني شهادة أن لا إله إلا الله و شهادة أن محمدا رسول الله قال فإنها الفطرة يعني هي التي فطر الناس عليها و الأصل الكلمة الأولى لأنها التوحيد و عليها فطر البشر كلهم و الكلمة الثانية تبع لها فأجريت مجراها و إنما أخرت شرح نهج البلاغة ج : 7 ص : 223هذه الخصلة عن الجهاد لأن الجهاد

(8/196)


كان هو السبب في إظهار الناس لها و نطقهم بها فصار كالأصل بالنسبة إليها. و رابعها إقام الصلاة أي إدامتها و الأصل أقام إقواما فحذفوا عين الفعل و تارة يعوضون عن العين المفتوحة هاء فيقولون إقامة ق فإنها الملة و هذا مثل
قول النبي ص الصلاة عماد الدين فمن تركها فقد هدم الدين
و خامسها إيتاء الزكاة و إنما أخرها عن الصلاة لأن الصلاة آكد افتراضا منها و إنما قال في الزكاة فإنها فريضة واجبة لأن الفريضة لفظ يطلق على الجزء المعين المقدر في السائمة باعتبار غير الاعتبار الذي يطلق به على صلاة الظهر لفظ الفريضة و الاعتبار الأول من القطع و الثاني من الوجوب و قال فإنها فريضة واجبة مثل أن يقول فإنها شي ء مقتطع من المال موصوف بالوجوب. و سادسها صوم شهر رمضان و هو أضعف وجوبا من الزكاة و جعله جنة من العقاب أي سترة. و سابعها الحج و العمرة و هما دون فريضة الصوم و قال إنهما ينفيان الفقر و يرحضان النب أي يغسلانه رحضت الثوب و ثوب رحيض و هذا الكلام يدل على وجوب العمرة و قد ذهب إليه كثير من الفقهاء العلماء. و ثامنها صلة الرحم و هي واجبة و قطيعة الرحم محرمة قال فإنها مثراة في المال أي تثريه و تكثره. و منسأة في الأجل أي تنسؤه و تؤخره و يقال نسأ الله في أجلك و يجوز أنسأه بالهمزة. فإن قلت فما الحجة على تقديم وجوب الصلاة ثم الزكاة ثم الصوم ثم الحج شرح نهج البلاغة ج : 7 ص : 224قلت أما الصلاة فلأن تاركها يقتل و إن لم يجحد وجوبها و غيرها ليس كذلك و إنما قدمت الزكاة على الصوم لأن الله تعالى قرنها بالصلاة في كثيمن الكتاب العزيز و لم يذكر صوم شهر رمضان إلا في موضع واحد و كثرة تأكيد الشي ء و ذكره دليل على أنه أهم و إنما قدم الصوم على الحج لأنه يتكرر وجوبه و الحج لا يجب في العمر إلا مرة واحدة فدل على أنه أهم عند الشارع من الحج. ثم قال ع و صدقة السر فخرج من الواجباتإلى النوافل قال فإنها تكفر الخطيئة و التكفير هو

(8/197)


إسقاط عقاب مستحق بثواب أزيد منه أو توبة و أصله في اللغة الستر و التغطية و منه الكافر لأنه يغطي الحق و سمي البحر كافرا لتغطيته ما تحته و سمي الفلاح كافرا لأنه يغطي الحب في الأرض المحروثة. ثم قال و صدقة العلانية فإنها تدفع ميتة السوء كالغرق و الهدم و غيرها. قال و صنائع المعروف فإنها تقي مصارع الهوان كأسر الروم للمسلم أو كأخذ الظلمة لغير المستحق للأخذ. ثم شرع في وصايا أخر عددها و الهدي السيرة و
في الحديث و اهدوا هدي عمار
يقال هدى فلان هدي فلان أي سار سيرته. و سمي القرآن حديثا اتباعا لقول الله تعالى نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتاباً مُتَشابِهاً و استدل أصحابنا بالآية على أنه محدث لأنه لا فرق بين حديث و محدث في اللغة فإن قالوا إنما أراد أحسن الكلام قلنا لعمري إنه كذلك و لكنه لا يطلق على الكلام القديم لفظة حديث لأنه إنما سمي الكلام و المحاورة و المخاطبة حديثا لأنه أمر يتجدد حالا فحالا و القديم ليس كذلك. شرح نهج البلاغة ج : 7 ص : 225ثم قال تفقهوا فيه فإنه ربيع القلوب من هذا أخذ ابن عباس قوله إذا قرأت ألم حم وقعت في روضات دمت. ثم قال فإنه شفاء الصدور و هذا من الألفاظ القرآنية. ثم سماه قصصا اتباعا لما ورد في القرآن من قوله نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ. ثم ذكر أن العالم الذي لا يعمل بعلمه كالجاهل الحائر الذي لا يستفيق من جهله. ثم قال بل الحجة عليه أعظم لأنه يعلم الحق و لا يعمل به فالحجة عليه أعظم من الحجة على الجاهل و إن كانا جميعا محجوجين أما أحدهما فبعلمه و أما الآخر فبتمكنه من أن يعلم. ثم قال و الحسرة له ألزم لأنه عند الموت يتأسف ألا يكون عمل بما علم و الجاهل لا يأسف ذلك الأسف. ثم قال و هو عند الله ألوم أي أحق أن يلام لأن المتمكن عالم بالقوة و هذا عالم بالفعل فاستحقاقه اللوم و العقاب أشد

(8/198)


شرح نهج البلاغة ج : 7 ص : 110226- و من خطبة له عأَمَّا بَعْدُ فَإِنِّي أُحَذِّرُكُمُ الدُّنْيَا فَإِنَّهَا حُلْوَةٌ خَضِرَةٌ حُفَّتْ بِالشَّهَوَاتِ وَ تَحَبَّبَتْ بِالْعَاجِلَةِ وَ رَاقَتْ بِالْقَلِيلِ وَ تَحَلَّتْ بِالآْمَالِ وَ تَزَيَّنَتْ بِالْغُرُورِ لَا تَدُومُ حَبْرَتُهَا وَ لَا تُؤْمَنُ فَجْعَتُهَا غَرَّارَةٌ ضَرَّارَةٌ حَائِلَةٌ زَائِلَةٌ نَافِدَةٌ بَائِدَةٌ أَكَّالَةٌ غَوَّالَةٌ لَا تَعْدُو إِذَا تَنَاهَتْ إِلَى أُمْنِيَّةِ أَهْلِ الرَّغْبَةِ فِيهَا وَ الرِّضَاءِ بِهَا أَنْ تَكُونَ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيماً تَذْرُوهُ الرِّياحُ وَ كانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ مُقْتَدِراً لَمْ يَكُنِ امْرُؤٌ مِنْهَا فِي حَبْرَةٍ إِلَّا أَعْقَبَتْهُ بَعْدَهَا عَبْرَةً وَ لَمْ يَلْقَ مِنْ سَرَّائِهَا بَطْناً إِلَّا مَنَحَتهُ مِنْ ضَرَّائِهَا ظَهْراً وَ لَمْ تَطُلَّهُ فِيهَا دِيمَةُ رَخَاءٍ إِلَّا هَتَنَتْ عَلَيْهِ مُزْنَةُ بَلَاءٍ وَ حَرِيٌّ إِذَا أَصْبَحَتْ لَهُ مُنْتَصِرَةً أَنْ تُمْسِيَ لَهُ مُتَنَكِّرَةً وَ إِنْ جَانِبٌ مِنْهَا اعْذَوْذَبَ وَ احْلَوْلَى أَمَرَّ مِنْهَا جَانِبٌ فَأَوْبَى لَا يَنَالُ امْرُؤٌ مِنْ غَضَارَتِهَا رَغَباً إِلَّا أَرْهَقَتْهُ مِنْ نَوَائِبِهَا تَعَباً وَ لَا يُمْسِي مِنْهَا فِي جَنَاحِ أَمْنٍ إِلَّا أَصْبَحَ عَلَى قَوَادِمِ خَوْفٍ غَرَّارَةٌ غُرُورٌ مَا فِيهَا فَانِيَةٌ فَانٍ مَنْ عَلَيْهَا لَا خَيْرَ فِي شَيْ ءٍ مِنْ أَزْوَادِهَا إِلَّا التَّقْوَى شرح نهج البلاغة ج : 7 ص : 227مَنْ أَقَلَّ مِنْهَا اسْتَكْثَرَ مِمَّا يُؤْمِنُهُ وَ مَنِ اسْتَكْثَرَ مِنْهَا اسْتَكْثَرَ مِمَّا يُوبِقُهُ وَ زَالَ عَمَّا قَلِيلٍ عَنْهُ كَمْ مِنْ وَاثِقٍ بِهَا قَدْ فعَتْهُ وَ ذِي

(8/199)


طُمَأْنِينَةٍ قَدْ صَرَعَتْهُ وَ ذِي أُبَّهَةٍ قَدْ جَعَلَتْهُ حَقِيراً وَ ذِي نَخْوَةٍ قَدْ رَدَّتْهُ ذَلِيلًا سُلْطَانُهَا دُوَلٌ وَ عَيْشُهَا رَنَقٌ وَ عَذْبُهَا أُجَاجٌ وَ حُلْوُهَا صَبِرٌ وَ غِذَاؤُهَا سِمَامٌ وَ أَسْبَابُهَا رِمَامٌ حَيُّهَا بِعَرَضِ مَوْتٍ وَ صَحِيحُهَا بِعَرَضِ سُقْمٍ مُلْكُهَا مَسْلُوبٌ وَ عَزِيزُهَا مَغْلُوبٌ وَ مَوْفُورُهَا مَنْكُوبٌ وَ جَارُهَا مَحْرُوبٌ أَ لَسْتُمْ فِي مَسَاكِنِ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ أَطْوَلَ أَعْمَاراً وَ أَبْقَى آثَاراً وَ أَبْعَدَ آمَالًا وَ أَعَدَّ عَدِيداً وَ أَكْثَفَ جُنُوداً تَعَبَّدُوا لِلدُّنْيَا أَيَّ تَعَبُّدٍ وَ آثَرُوهَا أَيَّ إِيْثَارٍ ثُمَّ ظَعَنُوا عَنْهَا بِغَيْرِ زَادٍ مُبَلِّغٍ وَ لَا ظَهْرٍ قَاطِعٍ فَهَلْ بَلَغَكُمْ أَنَّ الدُّنْيَا سَخَتْ لَهُمْ نَفْساً بِفِدْيَةٍ أَوْ أَعَانَتْهُمْ بِمَعُونَةٍ أَوْ أَحْسَنَتْ لَهُمْ صُحْبَةً بَلْ أَرْهَقَتْهُمْ بِالْفَوَادِحِ وَ أَوْهَقَتْهُمْ بِالْقَوَارِعِ وَ ضَعْضَعَتْهُمْ بِالنَّوَائِبِ وَ عَفَّرَتْهُمْ لِلْمَنَاخِرِ وَ وَطِئَتْهُمْ بِالْمَنَاسِمِ وَ أَعَانَتْ عَلَيْهِمْ رَيْبَ الْمَنُونِ فَقَدْ رَأَيْتُمْ تَنَكُّرَهَا لِمَنْ دَانَ لَهَا وَ آثَرَهَا وَ أَخْلَدَ إِلَيْهَا حِينَ ظَعَنُوا عَنْهَا لِفِرَاقِ الْأَبَدِ وَ هَلْ زَوَّدَتْهُمْ إِلَّا السَّغَبَ أَوْ أَحَلَّتْهُمْ إِلَّا الضَّنْكَ أَوْ نَوَّرَتْ لَهُمْ إِلَّا الظُّلْمَةَ أَوْ أَعْقَبَتْهُمْ إِلَّا النَّدَامَةَ أَ فَهَذِهِ تُؤْثِرُونَ أَمْ إِلَيْهَا تَطْمَئِنُّونَ أَمْ عَلَيْهَا تَحْرِصُونَ فَبِئْسَتِ الدَّارُ لِمَنْ لَمْ يَتَّهِمْهَا وَ لَمْ يَكُنْ فِيهَا عَلَى وَجَلٍ مِنْهَا فَاعْلَمُوا وَ أَنْتُمْ تَعْلَمُونَ بِأَنَّكُمْ تَارِكُوهَا وَ ظَاعِنُونَ عَنْهَا وَ اتَّعِظُوا فِيهَا بِالَّذِينَ قَالُوا مَنْ أَشَدُّ

(8/200)


مِنَّا قُوَّةً حُمِلُوا إِلَى قُبُورِهِمْ فَلَا يُدْعَوْنَ رُكْبَاناً وَ أُنْزِلُوا شرح نهج البلاغة ج : 7 ص : 228الْأَجْدَاثَ فَلَا يُدْعَوْنَ ضِيفَاناً وَ جُعِلَ لَهُمْ مِنَ الصِّيحِ أَجْنَانٌ وَ مِنَ التُّرَابِ أَكْفَانٌ وَ مِنَ الرُّفَاتِ جِيرَانٌ فَهُمْ جِيرَةٌ لَا يُجِيبُونَ دَاعِياً وَ لَا يَمْنَعُونَ ضَيْماً وَ لَا يُبَالُونَ مَنْدَبَةً إِنْ جِيدُوا لَمْ يَفْرَحُوا وَ إِنْ قُحِطُوا لَمْ يَقْنَطُوا جَمِيعٌ وَ هُمْ آحَادٌ وَ جِيرَةٌ وَ هُمْ أَبْعَادٌ مُتَدَانُونَ لَا يَتَزَاوَرُونَ وَ قَرِيبُونَ لَا يَتَقَارَبُونَ حُلَمَاءُ قَدْ ذَهَبَتْ أَضْغَانُهُمْ وَ جُهَلَاءُ قَدْ مَاتَتْ أَحْقَادُهُمْ لَا يُخْشَى فَجْعُهُمْ وَ لَا يُرْجَى دَفْعُهُمْ اسْتَبْدَلُوا بِظَهْرِ الْأَرْضِ بَطْناً وَ بِالسَّعَةِ ضِيقاً وَ بِالْأَهْلِ غُرْبَةً وَ بِالنُّورِ ظُلْمَةً فَجَاءُوهَا كَمَا فَارَقُوهَا حُفَاةً عُرَاةً قَدْ ظَعَنُوا عَنْهَا بِأَعْمَالِهِمْ إِلَى الْحَيَاةِ الدَّائِمَةِ وَ الدَّارِ الْبَاقِيَةِ كَمَا قَالَ سُبْحَانَهُ وَ تَعَالَى كَما بَدَأْنا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْداً عَلَيْنا إِنَّا كُنَّا فاعِلِينَ
خضرة أي ناضرة و هذه اللفظة من الألفاظ النبوية
قال النبي ص إن الدنيا حلوة خضرة و إن الله مستخلفكم فيها فناظر كيف تعملون

(8/201)


و حفت بالشهوات كان الشهوات مستديرة حولها كما يحف الهودج بالثياب و حفوا حوله يحفون حفا أطافوا به قال الله تعالى وَ تَرَى الْمَلائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ. قوله و تحببت بالعاجلة أي تحببت إلى الناس بكونها لذة عاجلة و النفوس مغرمة مولعة بحب العاجل فحذف الجار و المجرور القائم مقام المفعول. قوله و راقت بالقليل أي أعجبت أهلها و إنما أعجبتهم بأمر قليل ليس بدائم شرح نهج البلاغة ج : 7 ص : 229قوله و تحلت بالآمال من الحلية أي تزينت عند أهلها بما يؤملون منها. قوله و تزينت بالغرور أي تزينت عند الناس بغرور لا حقيقة له. و الحبرة السرور و حائلة متغيرة و نافدة فانية و بائدة منقضية و أكالة قتالة و غوالة مهلكة و الغول ما غ أي أهلك و منه المثل الغضب غول الحلم. ثم قال إنها إذا تناهت إلى أمنية ذوي الرغبات فيها لا تتجاوز أن تكون كما وصفها الله تعالى به و هو قوله وَ اضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَياةِ الدُّنْيا كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيماً تَذْرُوهُ الرِّياحُ وَ كانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ مُقْتَدِراً. فاختلط أي فالتف بنبات الأرض و تكاثف به أي بسبب ذلك الماء و بنزوله عليه و يجوز أن يكون تقديره فاختلط بنبات الأرض لأنه لما غذاه و أنماه فقد صار مختلطا به و لما كان كل واحد ن المختلطين مشاركا لصاحبه في مسمى الاختلاط جاز فاختلط به نبات الأرض كما يجوز فاختلط هو بنبات الأرض. و الهشيم ما تهشم و تحطم الواحدة هشيمة و تذروه الرياح تطيره و كان الله على ما يشاء من الإنشاء و الإفناء مقتدرا. قوله من يلق من سرائها بطنا إنما خص السراء بالبطن و الضراء بالظهر لأن الملاقي لك بالبطن ملاق بالوجه فهو مقبل عليك و المعطيك ظهره مدبر عنك. و قيل لأن الترس بطنه إليك و ظهره إلى عدوك و قيل لأن المشي في بطون الأودية أسهل من السير على الظراب و الآكام. و طله

(8/202)


السحاب يطله إذا أمطره مطرا قليلا يقول إذا أعطت قليلا من الخير أعقبت ذلك بكثير من الشر لأن التهتان الكثير المطر هتن يهتن بالكسر هتنا و هتونا و تهتانا. شرح نهج البلاغة ج : 7 ص : 230قوله و حري أي جدير و خليق يقال بالحري أن يكون هذا الأمر كذا و هذا الأمر محراة لذلك أي مقمنة مثل محجاة و ما أحراه مثل ما أحج و أحر به مثل أحج به و تقول هو حري أن يفعل ذلك بالفتح أي جدير و قمين لا يثنى و لا يجمع قال الشاعر
و هن حري ألا يثبنك نقرة و أنت حري بالنار حين تثيب
فإذا قلت هو حر بكسر الراء و حري بتشديدها على فعيل ثنيت و جمعت فقلت هما حريان و حريان و حرون مثل عمون و أحراء أيضا و في المشدد حريون و أحرياء و هي حرية و حرية و هن حريات و حريات و حرايا. فإن قلت فهلا قال و حرية إذا أصبحت لأنه يخبر عن الدنيا قلت أراد شأنها فذكر أي و شأنها خليق أن يفعل كذا. و اعذوذب صار عذبا و احلولى صار حلوا و من هاهنا أخذ الشاعر قوله
ألا إنما الدنيا غضارة أيكة إذا اخضر منها جانب جف جانب فلا تكتحل عيناك منها بعبرة على ذاهب منها فإنك ذاهبو ارتفع جانب المذكور بعد إن لأنه فاعل فعل مقدر يفسره الظاهر أي و إن اعذوذب جانب منها لأن إن تقتضي الفعل و تطلبه فهي كإذا في قوله تعالى إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ. و أمر الشي ء أي صار مرا و أوبى صار وبيا و لين الهمز لأجل السجع. و الرغب مصدر رغبت في الأمر ربة و رغبا أي أردته. يقول لا ينال الإنسان منها إرادته إلا أرهقته تعبا يقال أرهقه إثما أي حمله و كلفه. شرح نهج البلاغة ج : 7 ص : 231فإن قلت لم خص الأمن بالجناح و الخوف بالقودام قلت لأن القوادم مقاديم الريش و الراكب عليها بعرض خطر عظيم و سقوط قريب و الجناح تر و يقي البرد و الأذى قال أبو نواس

(8/203)


تغطيت من دهري بظل جناحه فصرت أرى دهري و ليس يراني فلو تسأل الأيام ما اسمي لما درت و أين مكاني ما عرفن مكانو الهاء في جناحه ترجع إلى الممدوح بهذا الشعر. و توبقه تهلكه و الأبهة الكبر و الرنق بفتح النون مصدر رنق الماء أي تكدر و بالكسر الكدر و قد روي هاهنا بالفتح و الكسر فالكسر ظاهر و الفتح على تقدير حذف المضاف أي ذو رنق. و ماء أجاج قد جمع المرارة و الملوحة أج الماء يؤج أجاجا و الصبر بكسر الباء هذا النبات المر نفسه ثم سمي كل مر صبرا و السمام جمع سم لهذا القاتل يقال سم و سم بالفتح و الضم و الجمع سمام و سموم. و رمام بالية و أسبابها حبالها و موفورها و ذو الوفر و الثروة منها و المحروب المسلوب أي لا تحمى جارا و لا تمنعه. ثم أخذ قوله تعالى وَ سَكَنْتُمْ فِي مَساكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ وَ تَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنا بِهِمْ وَ ضَرَبْنا لَكُمُ الْأَمْثالَ فقال أ لستم في مساكن من كان قبلكم أطول أعمارا نصب أطول بأنه خبر كان و قد دلنا الكتاب الصادق على أنهم كانوا أطول شرح نهج البلاغة ج : 7 ص : 232أعمارا بقوله فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عاماً و ثبت بالعيان أنهم أبقى آثارا فإن من آثارهم الأهرام و الإيوان و منارة الإسكندرية و غير ذلك و أما بعد الآمال فمرتب على طول الأعمار فكلما كانت أطول كانالآمال أبعد و إن عنى به علو الهمم فلا ريب أنهم كانوا أعلى همما من أهل هذا الزمان و قد كان فيهم من ملك معمورة الأرض كلها و كذلك القول في أعد عديدا و أكثف جنودا و العديد العدو الكثير و أعد منهم أي أكثر. قوله و لا ظهر قاطع أي قاطع لمسافة الطريق. و الفوادح المثقلات فدحه الدين أثقله و يروى بالقوادح بالقاف و هي آفة تظهر في الشجر و صدوع تظهر في الأسنان. و أوهقتهم جعلتهم في الوهق بفتح الهاء و هو حبل كالطول و يجوز التسكين مثل نهر و نهر. و القوارع المحن و الدواهي و سميت

(8/204)


القيامة قارعة في الكتاب العزيز من هذا المعنى و ضعضعتهم أذلتهم قال أبو ذؤيب
أنى لريب الدهر لا أتضعضع
و ضعضعت البناء أهدمته. و عفرتهم للمناخر ألصقت أنوفهم بالعفر و هو التراب و المناسم جمع منسم بكسر السين و هو خف البعير. شرح نهج البلاغة ج : 7 ص : 233و دان لها أطاعها و دان لها أيضا ذل و أخلد إليها مال قال تعالى وَ لكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ. و السغبلجوع يقول إنما زودتهم الجوع و هذا مثل كما قال
و مدحته فأجازني الحرمانا
و معنى قوله أو نورت لهم إلا الظلمة أي بالظلمة و هذا كقوله هل زودتهم إلا السغب و هو من باب إقامة الضد مقام الضد أي لم تسمح لهم بالنور بل بالظلمة و الضنك الضيق. ثم قال فبئست الدار و حذف الضمير العائد إليها و تقديره هي كما قال تعالى نِعْمَ الْعَبْدُ و تقديره هو. و من لم يتهمها من لم يسؤ ظنا بها و الصفيح الحجارة و الأجنان القبور الواحد جنن و المجنون المقبور و منه قول الأعرابية لله درك من مجنون في جنن و الأكنان جمع كن و هو الستر قال تعالى وَ جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبالِ أَكْناناً. و الرفات العظام البالية و المندبة الندب على الميت لا يبالون بذلك لا يكترثون به و جيدوا مطروا و قحطوا انقطع المطر عنهم فأصابهم القحط و هو الجدب و إلى معنى قوله ع فهم جيرة لا يجيبون داعيا و لا يمنعون ضيما جميع و هم آحاد و جيرة و هم أبعاد متدانون لا يتزاورون و قريبون لا يتقاربون نظر البحتري فقال شرح نهج البلاغة ج : 7 ص : 23بنا أنت من مجفوة لم تؤنب و مهجورة في هجرها لم تعتب و نازحة و الدار منها قريبة و ما قرب ثاو في التراب مغيبو قد قال الشعراء و الخطباء في هذا المعنى كثيرا فمن ذلك قول الرضي أبي الحسن رحمه الله في مرثية لأبي إسحاق الصابي

(8/205)


أعزز علي بأن نزلت بمنزل متشابه الأمجاد بالأوغادفي عصبة جنبوا إلى آجالهم و الدهر يعجلهم عن الإروادضربوا بمدرجة الفناء قبابهم من غير أطناب و لا أوتادركب أناخوا لا يرجى منهم قصد لإتهام و لا إنجادكرهوا النزول فأنزلتهم وقعة للدهر نازلة بكل مقادفتهافتوا عن رحل كل مذلل و تطاوحوا عن سرج كل جوادبادون في صور الجميع و إنهم متفردون تفرد الآحاد
فقوله بادون في صور الجمع... البيت هو قوله ع جمع و هم آحاد بعينه و قال الرضي رحمه الله تعالى أيضا
متوسدين على الخدود كأنما كرعوا على ظمإ من الصهباءصور ضننت على العيون بحسنها أمسيت أوقرها من البوغاءو نواظر كحل التراب جفونها قد كنت أحرسها من الأقذاءقربت ضرائحهم على زوارها و نأوا عن الطلاب أي تناء
شرح نهج البلاغة ج : 7 ص : 235قوله قربت ضرائحهم... البيت هو معنى قوله ع و جيرة و هم أبعاد بعينه. و من هذا المعنى قول بعض الأعرابلكل أناس مقبر في ديارهم فهم ينقصون و القبور تزيدفكائن ترى من دار حي قد أخرجت و قبر بأكناف التراب جديدهم جيرة الأحياء أما مزارهم فدان و أما الملتقى فبعيد

(8/206)


و من كلام ابن نباتة وحيدا على كثرة الجيران بعيدا على قرب المكان. و منه قوله أسير وحشة الانفراد فقير إلى اليسير من الزاد جار من لا يجير و ضيف من لا يمير حملوا و لا يرون ركبانا و انزلوا و لا يدعون ضيفانا و اجتمعوا و لا يسمون جيرانا و احتشدوا و لا يعدون أعوانا و هذا كلام أمير المؤمنين ع بعينه المذكور في هذه الخطبة و قد أخذه مصالتة. و منه قوله طحنتهم طحن الحصيد و غيبتهم تحت الصعيد فبطون الأرض لهم أوطان و هم في خرابها قطان عمروا فأخربوا و اقتربوا فاغتربوا و اصطحبوا و ما اصطحبوا. و منه قوله غيبا كأشهاد عصبا كآحاد همودا في ظلم الإلحاد إلى يوم التناد. شرح نهج البلاغة ج : 7 ص : 236و اعلم أن هذه الخطبة ذكرها شيخنا أبو عثمان الجاحظ في كتاب البيان و التبيين و رواها لقطري بن الفجاءة و الناس يروونها لأمير المؤمنين ع و قد رأيتها في كتاب المونق لأبي عبيد الله المرزباني مرة لأمير المؤمنين ع و هي بكلام أمير المؤمنين أشبه و ليس يبعد عندي أن يكون قطري قد خطب بها بعد أن أخذها عن بعض أصحاب أمير المؤمنين ع فإن الخوارج كانوا أصحابه و أنصاره و قد لقي قطري أكثرهم
شرح نهج البلاغة ج : 7 ص : 111237- و من خطبة له ع يذكر فيها ملك الموت و توفيه الأنفسهَلْ يُحَسُّ بِهِ إِذَا دَخَلَ مَنْزِلًا أَمْ هَلْ تَرَاهُ إِذَا تَوَفَّى أَحَداً بَلْ كَيْفَ يَتَوَفَّى الْجَنِينَ فِي بَطْنِ أُمِّهِ أَ يَلِجُ عَلَيْهِ مِنْ بَعْضِ جَوَارِحِهَا أَمْ الرُّوحُ أَجَابَتْهُ بِإِذْنِ رَبِّهَا أَمْ هُوَ سَاكِنٌ مَعَهُ فِي أَحْشَائِهَا كَيْفَ يَصِفُ إِلَهَهُ مَنْ يَعْجَزُ عَنْ صِفَةِ مَخْلُوقٍ مِثْلِهِ

(8/207)


أما مذهب جمهور أصحابنا و هم النافون للنفس الناطقة فعندهم أن الروح جسم لطيف بخاري يتكون من ألطف أجزاء الأغذية ينفذ في العروق الضوارب و الحياة عرض قائم بالروح و حال فيها فللدماغ روح دماغية و حياة حالة فيها و كذلك للقلب و كذلك للكبد و عندهم أن لملك الموت أعوانا تقبض الأرواح بحكم النيابة عنه لو لا ذلك لتعذر عليه و هو جسم أن يقبض روحين في وقت واحد في المشرق و المغرب لأن الجسم الواحد لا يكون في مكانين في وقت واحد قال أصحابنا و لا يبعد أن يكون الحفظة الكاتبون هم القابضين للأرواح عند انقضاء الأجل قالوا و كيفية القبض ولوج الملك من الفم إلى القلب لأنه جسم لطيف هوائي لا يتعذر عليه النفوذ في المخارق الضيقة فيخالط الروح شرح نهج البلاغة ج : 7 ص : 238التي هي كالشبيهة به لأنها جسم لطيف بخاري ثم يخرج من حيث دخل و هي معه و إنما يكون ذلك في الوقت الذي يأذن الله تعالى له فيه هو حضور الأجل فألزموا على ذلك أن يغوص الملك في الماء مع الغريق ليقبض روحه تحت الماء فالتزموا ذلك و قالوا ليس بمستحيل أن يتخلل الملك الماء في مسام الماء فإن فيه مسام و منافذ و في كل جسم على قاعدتهم في إثبات الماء في الأجسام. قالوا و لو فرضنا أنه لا مسام فيه لم يبعد أن يلجه الملك فيوسع لنفسه مكانا كما يلجه الحجر و السمك و غيرهما و كالريح الشديدة التي تقرع ظاهر البحر فتقعره و تحفره و قوة الملك أشد من قوة الريح. ثم نعود إلى الشرح فنقول الملك أصله مألك بالهمز و وزنه مفعل و الميم زائدة لأنه من الألوكة و الألوك و هي الرسالة ثم قلبت الكلمة و قدمت اللام فقيل ملأك قال الشاعر
فلست لإنسي و لكن لملأك تنزل من جو السماء يصوب
ثم تركت همزته لكثرة الاستعمال فقيل ملك فلما جمع ردت الهمزة إليه فقالوا ملائكة و ملائك قال أمية بن أبي الصلت
و كأن برقع و الملائك حولها سدر تواكله القوائم أجرد

(8/208)


و التوفي الإماتة و قبض الأرواح قال الله تعالى اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها. و التقسيم الذي قسمه في وفاة الجنين حاصر لأنه مع فرضنا إياه جسما يقبض الأرواح التي في الأجسام إما أن يكون مع الجنين في جوف أمه فيقبض روحه عند حضور أجله شرح نهج الاغة ج : 7 ص : 239أو خارجا عنها و القسم الثاني ينقسم قسمين أحدهما أن يلج جوف أمه لقبض روحه فيقبضها و الثاني أن يقبضها من غير حاجة إلى الولوج إلى جوفها و ذلك بأن تطيعه الروح و تكون مسخرة إذا أراد قبضها امتدت إليه فقبضها و هذه القسمة لا يمكن الزيادة عليها و لو قسمها واضع المنطق لما زاد. ثم خرج إلى أمر آخر أعظم و أشرف مما ابتدأ به فقال كيف يصف إلهه من يعجز عن وصف مخلوق مثله و إلى هذا الغرض كان يترامى و إياه كان يقصد و إنما مهد حديث الملك و الجنين توطئة لهذا المعنى الشريف و السر الدقيق
فصل في التخلص و سياق كلام للشعراء فيه
و هذا الفن يسميه أرباب علم البيان التخلص و أكثر ما يقع في الشعر كقول أبي نواس
تقول التي من بيتها خف مركبي عزيز علينا أن نراك تسيرأ ما دون مصر للغني متطلب بلى إن أسباب الغنى لكثيرفقلت لها و استعجلتها بوادر جرت فجرى في جريهن عبيرذريني أكثر حاسديك برحلة إلى بلد فيه الخصيب أمير
و من ذلك قول أبي تمام
يقول في قومس صحبي و قد أخذت منا السرى و خطا المهرية القودأ مطلع الشمس تبغي أن تؤم بنا فقلت كلا و لكن مطلع الجود
شرح نهج البلاغة ج : 7 ص : 240و منه قول البحتريهل الشباب ملم بي فراجعة أيامه لي في أعقاب أيامي لو أنه نائل غمر يجاد به إذن تطلبته عند ابن بسطامو منه قول المتنبي و هو يتغزل بأعرابية و يصف بخلها و جبنها و قلة مطعمها و هذه كلها من الصفات الممدوحة في النساء خاصة

(8/209)


في مقلتي رشأ تديرهما بدوية فتنت بها الحلل تشكو المطاعم طول هجرتها و صدودها و من الذي تصل ما أسأرت في القعب من لبن تركته و هو المسك و العسل قالت إلا تصحو فقلت لها أعلمتني أن الهوى ثمل لو أن فناخسر صبحكم و برزت وحدك عاقه الغزل و تفرقت عنكم كتائبه إن الموادع قتل ما كنت فاعلة و ضيفكم ملك الملوك و شأنك البخل أ تمنعين قرى فتفتضحي أم تبذلين له الذي يسل بل لا يحل بحيث حل به بخل و لا جور و لا وو هذا من لطيف التخلص و رشيقه و التخلص مذهب الشعراء و المتأخرون يستعملونه كثيرا و يتفاخرون فيه و يتناضلون فأما التخلص في الكلام المنثور فلا يكاد يظهر لمتصفح الرسالة أو الخطبة إلا بعد تأمل شديد و قد وردت منه مواضع في القرآن العزيز فمن شرح نهج البلاغة ج : 7 : 241أبينها و أظهرها أنه تعالى ذكر في سورة الأعراف الأمم الخالية و الأنبياء الماضين من لدن آدم ع إلى أن انتهى إلى قصة موسى فقال في آخرها بعد أن شرحها و أوضحها وَ اخْتارَ مُوسى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلًا لِمِيقاتِنا فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ قالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَ إِيَّايَ أَ تُهْلِكُنا بِما فَعَلَ السُّفَهاءُ مِنَّا إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِها مَنْ تَشاءُ وَ تَهْدِي مَنْ تَشاءُ أَنْتَ وَلِيُّنا فَاغْفِرْ لَنا وَ ارْحَمْنا وَ أَنْتَ خَيْرُ الْغافِرِينَ وَ اكْتُبْ لَنا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةً وَ فِي الْآخِرَةِ إِنَّا هُدْنا إِلَيْكَ قالَ عَذابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشاءُ وَ رَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْ ءٍ فَسَأَكْتُبُها لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَ يُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَ الَّذِينَ هُمْ بِآياتِنا يُؤْمِنُونَالَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ وَ الْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَ يَنْهاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ

(8/210)


وَ يُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّباتِ وَ يُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبائِثَ وَ يَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَ الْأَغْلالَ الَّتِي كانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَ عَزَّرُوهُ وَ نَصَرُوهُ وَ اتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ. و هذا من التخلصات اللطيفة المستحسنة
فصل في الاستطراد و إيراد شواهد للشعراء فيه
و اعلم أن من أنواع علم البيان نوعا يسمى الاستطراد و قد يسمى الالتفات و هو من جنس التخلص و شبيه به إلا أن الاستطراد هو أن تخرج بعد أن تمهد ما تريد أن تمهده إلى الأمر الذي تروم ذكره فتذكره و كأنك غير قاصد لذكره بالذات بل قد حصل و وقع ذكره بالعرض عن غير قصد ثم تدعه و تتركه و تعود إلى الأمر الذي كنت في تمهيده كالمقبل عليه و كالملغى عما استطردت بذكره فمن ذلك قول البحتري و هو يصف فرسا شرح نهج البلاغة ج : 7 ص : 24و أغر في الزمن البهيم محجل قد رحت منه على أغر محجل كالهيكل المبني إلا أنه في الحسن جاء كصورة في هيكل وافي الضلوع يشد عقد حزامه يوم اللقاء على معم مخول أخواله للرستمين بفارس و جدوده للتبعين بموكل يهوى كما هوت العقاب و قد رأت صيدا و ينتصب انتصاب الأجدل برقيقتين كأنما تريان من ورق عليه مكلل ما إن يعاف قذى و لو أوردته يوما خلائق حمدويه الأحول ذنب كما سحب الرشاء يذب عن عرف و عرف كالقناع المسبل جذلان ينفض عذرة في غرة يقق تسيل حجولها في جندل كالرائح النشوان أكثر مشيه عرضا على السنن البعيد الأطول ذهب الأحيث تذهب مقلة فيه بناظرها حديد الأسفل هزج الصهيل كأن في نغماته نبرات معبد في الثقيل الأول ملك القلوب فإن بدا أعطينه نظر المحب إلى الحبيب المقبأ لا تراه كيف استطرد بذكر حمدويه الأحول الكاتب و كأنه لم يقصد ذلك و لا أراده و إنما جرته القافية ثم ترك ذكره و عاد إلى وصف الفرس و لو أقسم إنسان أنه ما بنى القصيدة منذ افتتحها إلا على ذكره و لذلك

(8/211)


أتى بها على روي اللام لكان صادقا فهذا هو الاستطراد. و من الفرق بينه و بين التخلص أنك في التخلص متى شرعت في ذكر الممدوح شرح نهج البلاغة ج : 7 ص : 243أو المهجو تركت ما كنت فيه من قبل بالكلية و أقبلت على ما تخلصت إليه من المديح و الهجاء بيتا بعد بيت حتى تنقضي القصيدة و في الاستطراد تمر على ذكر الأمر الذي استطردت به ورا كالبرق الخاطف ثم تتركه و تنساه و تعود إلى ما كنت فيه كأنك لم تقصد قصد ذاك و إنما عرض عروضا و إذا فهمت الفرق فاعلم أن الآيات التي تلوناها إذا حققت و أمعنت النظر من باب الاستطراد لا من باب التخلص و ذلك لأنه تعالى قال بعد قوله وَ اتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ يُحيِي وَ يُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَ رَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَ كَلِماتِهِ وَ اتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ وَ مِنْ قَوْمِ مُوسى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَ بِهِ يَعْدِلُونَ وَ قَطَّعْناهُمُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْباطاً أُمَماً وَ أَوْحَيْنا إِلى مُوسى إِذِ اسْتَسْقاهُ قَوْمُهُ أَنِ اضْرِبْ بِعَصاكَ الْحَجَرَ فَانْبَجَسَتْ مِنْهُ اثْنَتا عَشْرَةَ عَيْناً قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُناسٍ مَشْرَبَهُمْ وَ ظَلَّلْنا عَلَيْهِمُ الْغَمامَ وَ أَنْزَلْنا عَلَيْهِمُ الْمَنَّ وَ السَّلْوى كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ وَ ما ظَلَمُونا وَ لكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ فعاد إلى ما كان فيه أولا ثم مر في هذه القصة و في أحوال موسى و بني إسرائيل حتى قارب الفراغ من السورة. و من لطيف التخلص الذي يكاد يكون استطرادا لو لا أنه أفسده بالخروج إلى المدح قول أبي تمام في قصيدته التي يمدح بها محمد بن

(8/212)


الهيثم التي أولها
أسقى طلولهم أجش هزيم و غدت عليهم نضرة و نعيم ظلمتك ظالمة البري ء ظلوم و الظلم من ذي قدرة مذموم زعمت هواك عفا الغداة كما عفت منها طلول باللوى و رس شرح نهج البلاغة ج : 7 ص : 244لا و الذي هو عالم إن النوى صبر و إن أبا الحسين كريم ما حلت عما تعهدين و لا غدت نفسي على إلف سواك تحفلو أتم متغزلا لكان مستطردا لا محالة و لكنه نقض الاستطراد و غمس يده في المدح فقال بعد هذا البيت
لمحمد بن الهيثم بن شبانة مجد إلى جنب السماك مقيم ملك إذا نسب الندى من ملتقى طرفيه فهو أخ له و حميمو مضى على ذلك إلى آخرها. و من الاستطراد أن يحتال الشاعر لذكر ما يروم ذكره بوصف أمر ليس من غرضه و يدمج الغرض الأصلي في ضمن ذلك و في غضونه و أحسن ما يكون ذلك إذا صرح بأنه قد استطرد و نص في شعره على ذلك كما قال أبو إسحاق الصابي في أبيات كتبها إلى أبي القاسم عبد العزيز بن يوسف كاتب عضد الدولة كتبها إليه إلى شيراز و أبو إسحاق في بغداد و كانت أخبار فتوح عضد الدولة بفارس و كرمان و ما والاها متواصلة مترادفة إلى العراق و كتب عبد العزيز واصلة بها إلى عز الدولة بختيار و الصابي يجيب عنها
يا راكب الجسرة العيرانة الأجد يطوي المهامة من سهل إلى جلدأبلغ أبا القاسم نفسي الفداء له مقالة من أخ للحق معتمدفي كل يوم لكم فتح يشاد به بين الأنام بذكر السيد العضدو ما لنا مثله لكننا أبدا نجيبكم بجواب الحاسد الكمدفأنت أكتب مني في الفتوح و ما تجري مجيبا إلى شاوي و لا أمدي

(8/213)


شرح نهج البلاغة ج : 7 ص : 245و ما ذممت ابتدائي في مكاتبة و لا جوابكم في القرب و البعدلكنني رمت أن أثني على ملك مستطرد بمديح فيه مطرو لقد ظرف و ملح أبو إسحاق في هذه الأبيات و متى خلا أو عرى عن الظرف و الملاحة و لقد كان ظرفا و لباقة كله. و ليس من الاستطراد ما زعم ابن الأثير الموصلي في كتابه المسمى بالمثل السائر أنه استطراد و هو قول بعض شعراء الموصل يمدح قرواش بن المقلد و قد أمره أن يعبث بهجاء وزيره سليمان بن فهد و حاجبه أبي جابر و مغنية المعروف بالبرقعيدي في ليلة من ليالي الشتاء و أراد بذلك الدعابة و الولع بهم و هم في مجلس في شراب و أنس فقال و أحسن فيما قال
و ليل كوجه البرقعيدي ظلمة و برد أغانيه و طول قرونه سريت و نومي فيه نوم مشرد كعقل سليمان بن فهد و دينه على أولق فيه التفات كأنه أبو جابر في خطبة و جنونه إلى أن بدا ضوء الصباح كأنه سنا وجه قرواش و ضوء جبيو ذلك لأن الشاعر قصد إلى هجاء كل واحد منهم و وضع الأبيات لذلك و أمره قرواش رئيسهم و أميرهم بذلك فهجاهم و مدحه و لم يستطرد و هذه الأبيات تشبيهات كلها مقصود بها الهجاء لم يأت بالعرض في الشعر كما يأتي الاستطراد. و هذا غلط من مصنف الكتاب

(8/214)


شرح نهج البلاغة ج : 7 ص : 112246- و من خطبة له عوَ أُحَذِّرُكُمُ الدُّنْيَا فَإِنَّهَا مَنْزِلُ قُلْعَةٍ وَ لَيْسَتْ بِدَارِ نُجْعَةٍ قَدْ تَزَيَّنَتْ بِغُرُورِهَا وَ غَرَّتْ بِزِينَتِهَا دَارٌ هَانَتْ عَلَى رَبِّهَا فَخَلَطَ حَلَالَهَا بِحَرَامِهَا وَ خَيْرَهَا بِشَرِّهَا وَ حَيَاتَهَا بِمَوْتِهَا وَ حُلْوَهَا بِمُرِّهَا لَمْ يُصْفِهَا اللَّهُ تَعَالَى لِأَوْلِيَائِهِ وَ لَمْ يَضِنَّ بِهَا عَنْ أَعْدَائِهِ خَيْرُهَا زَهِيدٌ وَ شَرُّهَا عَتِيدٌ وَ جَمْعُهَا يَنْفَدُ وَ مُلْكُهَا يُسْلَبُ وَ عَامِرُهَا يَخْرَبُ فَمَا خَيْرُ دَارٍ تُنْقَضُ نَقْضَ الْبِنَاءِ وَ عُمُرٍ يَفْنَى فِيهَا فَنَاءَ الزَّادِ وَ مُدَّةٍ تَنْقَطِعُ انْقِطَاعَ السَّيْرِ اجْعَلُوا مَا افْتَرَضَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ مِنْ طَلِبَتِكُمْ وَ اسْأَلُوهُ مِنْ أَدَاءِ حَقِّهِ كَمَا سَأَلَكُمْ وَ أَسْمِعُوا دَعْوَةَ الْمَوْتِ آذَانَكُمْ قَبْلَ أَنْ يُدْعَى بِكُمْ إِنَّ الزَّاهِدِينَ فِي الدُّنْيَا تَبْكِي قُلُوبُهُمْ وَ إِنْ ضَحِكُوا وَ يَشْتَدُّ حُزْنُهُمْ وَ إِنْ فَرِحُوا وَ يَكْثُرُ مَقْتُهُمْ أَنْفُسَهُمْ وَ إِنِ اغْتَبَطُوا بِمَا رُزِقُوا قَدْ غَابَ عَنْ قُلُوبِكُمْ ذِكْرُ الآْجَالِ وَ حَضَرَتْكُمْ كَوَاذِبُ الآْمَالِ فَصَارَتِ الدُّنْيَا أَمْلَكَ بِكُمْ مِنَ الآْخِرَةِ وَ الْعَاجِلَةُ أَذْهَبَ بِكُمْ مِنَ الآْجِلَةِ وَ إِنَّمَا أَنْتُمْ إِخْوَانٌ عَلَى دِينِ اللَّهِ مَا فَرَّقَ بَيْنَكُمْ إِلَّا خُبْثُ السَّرَائِرِ وَ سُوءُ الضَّمَائِرِ فَلَا تَوَازَرُونَ وَ لَا تَنَاصَحُونَ وَ لَا تَبَاذَلُونَ وَ لَا تَوَادُّونَ مَا بَالُكُمْ تَفْرَحُونَ بِالْيَسِيرِ مِنَ الدُّنْيَا تُدْرِكُونَهُ وَ لَا يَحْزُنُكُمُ الْكَثِيرُ مِنَ الآْخِرَةِ تُحْرَمُونَهُ وَ يُقْلِقُكُمُ الْيَسِيرُ مِنَ الدُّنْيَا يَفُوتُكُمْ حَتَّى

(8/215)


يَتَبَيَّنَ ذَلِكَ فِي شرح نهج البلاغة ج : 7 ص : 247وُجُوهِكُمْ وَ قِلَّةِ صَبْرِكُمْ عَمَّا زُوِيَ مِنْهَا عَنْكُمْ كَأَنَّهَا دَارُ مُقَامِكُمْ وَ كَأَنَّ مَتَاعَهَا بَاقٍ عَلَيْكُمْ وَ مَا يَمْنَعُ أَحَدَكُمْ أَنْ يَسْتَقْبِلَ أَخَاهُ بِمَا يَخَُ مِنْ عَيْبِهِ إِلَّا مَخَافَةُ أَنْ يَسْتَقْبِلَهُ بِمِثْلِهِ قَدْ تَصَافَيْتُمْ عَلَى رَفْضِ الآْجِلِ وَ حُبِّ الْعَاجِلِ وَ صَارَ دِينُ أَحَدِكُمْ لُعْقَةً عَلَى لِسَانِهِ صَنِيعَ مَنْ فَرَغَ مِنْ عَمَلِهِ وَ أَحْرَزَ رِضَا سَيِّدِهِ
قوله ع فإنها منزل قلعة بضم القاف و سكون اللام أي ليست بمستوطنة و يقال هذا مجلس قلعة إذا كان صاحبه يحتاج إلى أن يقوم مرة بعد مرة و يقال هم على قلعة أي على رحلة و من هذا الباب قولهم فلان قلعة إذا كان ينقلع عن سرجه و لا يثبت في البطش و الصراع و القلعة أيضا المال العارية و
في الحديث بئس المال القلعة
و النجعة طلب الكلأ في موضعه و فلان ينتجع الكلأ و منه انتجعت فلانا إذا أتيته تطلب معروفه. ثم وصف هوان الدنيا على الله تعالى فقال من هوانها أنه خلط حلالها بحرامها... الكلام مراده تفضيل الدار الآتية على هذه الحاضرة فإن تلك صفو كلها و خير كلها و هذه مشوبة و الكدر و الشر فيها أغلب من الصفو و الخير و من كلام بعض الصالحين من هوان الدنيا على الله أنه لا يعصى إلا فيها و لا ينال ما عنده إلا بتركها و يروى و لم يضن بها على أعدائه و الرواية المشهورة عن أعدائه و كلاهما مستعمل. شرح نهج البلاغة ج : 7 ص : 248و الزهيد القل و العتيد الحاضر و السير سير المسافر. ثم أمرهم بأن يجعلوا الفرائض الواجبة عليهم من جملة مطلوباتهم و أن يسألوا الله من الإعانة و التوفيق على القيام بحقوقه الواجبة كما سألهم أي كما ألزمهم و افترض عليهم فسمى ذلك سؤالا لأجل المقابلة بين اللفظين كما قال سبحانه وَ جَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها و كما

(8/216)


قال النبي ص فإن الله لا يمل حتى تملوا
و كما قال الشاعر
ألا لا يجهلن أحد علينا فنجهل فوق جهل الجاهلينا
ثم أمرهم أن يسمعوا أنفسهم دعوة الموت قبل أن يحضر الموت فيحل بهم و مثل قوله تبكي قلوبهم و إن ضحكوا قول الشاعر و إن لم يكن هذا المقصد بعينه قصد
كم فاقة مستورة بمروءة و ضرورة قد غطيت بتجمل و من ابتسام تحته قلب شج قد خامرته لوعة ما تنجليو المقت البغض و اغتبطوا فرحوا. و قوله أملك بكم مثل أولى بكم و قوله و العاجلة أذهب بكم من الآجلة أي ذهبت العاجلة بكم و استولت عليكم أكثر مما ذهبت بكم الآخرة و استولت عليكم. ثم ذكر أن الناس كلهم مخلوقون على فطرة واحدة و هي دين الله و توحيده و إنما اختلفوا و تفرقوا باعتبار أمر خارجي عن ذلك و هو خبث سرائرهم و سوء ضمائرهم فصاروا إلى حال لا يتوازرون أي لا يتعاونون و الأصل الهمز آزرته ثم تقلب الهمزة واوا و أصل قوله فلا توازرون فلا تتوازرون فحذفت إحدى التاءين كقوله تعالى ما لَكُمْ لا تَناصَرُونَ أي لا تتناصرون و التبادل أن يجود بعضهم على بعض بماله و يبذله له. شرح نهج البلاغة ج : 7 ص : 249و مثل قوله ع ما بالكم تفرحون بكذا و لا تحزنون لكذا و يقلقكم اليسير من الدنيا يفوتكم من هذا قول الرضي رحمه اللهنقص الجديدين من عمري يزيد على ما ينقصان على الأيام من مالي دهر تؤثر في جسمي نوائبه فما اهتمامي أن أودي بسرباليو الضمير في يخاف راجع إلى الأخ لا إلى المستقبل له أي ما يخافه الأخ من مواجهته بعينه. قوله و صار دين أحدكم لعقة على لسانه أخذه الفرزدق فقال للحسين بن علي ع و قد لقيه قادما إلى العراق و سأله عن الناس أما قلوبهم فمعك و أما سيوفهم فعليك و الدين لعقة على ألسنتهم فإذا امتحصوا قل الديانون و اللفظة مجاز و أصل اللعقة شي ء قليل يؤخذ بالملعقة من الإناء يصف دينهم بالنزارة و القلة كتلك اللعقة و لم يقنع بأن جعله لعقة حتى جعله على ألسنتهم فقط أي ليس في قلوبهم

(8/217)


شرح نهج البلاغة ج : 7 ص : 113250- و من خطبة له عالْحَمْدُ لِلَّهِ الْوَاصِلِ الْحَمْدَ بِالنِّعَمِ وَ النِّعَمَ بِالشُّكْرِ نَحْمَدُهُ عَلَى آلَائِهِ كَمَا نَحْمَدُهُ عَلَى بَلَائِهِ وَ نَسْتَعِينُهُ عَلَى هَذِهِ النُّفُوسِ الْبِطَاءِ عَمَّا أُمِرَتْ بِهِ السِّرَاعِ إِلَى مَا نُهِيَتْ عَنْهُ وَ نَسْتَغْفِرُهُ مِمَّا أَحَاطَ بِهِ عِلْمُهُ وَ أَحْصَاهُ كِتَابُهُ عِلْمٌ غَيْرُ قَاصِرٍ وَ كِتَابٌ غَيْرُ مُغَادِرٍ وَ نُؤْمِنُ بِهِ إِيمَانَ مَنْ عَايَنَ الْغُيُوبَ وَ وَقَفَ عَلَى الْمَوْعُودِ إِيمَاناً نَفَى إِخْلَاصُهُ الشِّرْكَ وَ يَقِينُهُ الشَّكَّ وَ نَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ وَ أَنَّ مُحَمَّداً ص عَبْدُهُ وَ رَسُولُهُ شَهَادَتَيْنِ تُصْعِدَانِ الْقَوْلَ وَ تَرْفَعَانِ الْعَمَلَ لَا يَخِفُّ مِيزَانٌ تُوضَعَانِ فِيهِ وَ لَا يَثْقُلُ مِيزَانٌ تُرْفَعَانِ مِنْهُ أُوصِيكُمْ عِبَادَ اللَّهِ بِتَقْوَى اللَّهِ الَّتِي هِيَ الزَّادُ وَ بِهَا الْمَعَاذُ زَادٌ مُبْلِغٌ وَ مَعَاذٌ مُنْجِحٌ دَعَا إِلَيْهَا أَسْمَعُ دَاعٍ وَ وَعَاهَا خَيْرُ وَاعٍ فَأَسْمَعَ دَاعِيهَا وَ فَازَ وَاعِيهَا عِبَادَ اللَّهِ إِنَّ تَقْوَى اللَّهِ حَمَتْ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ مَحَارِمَهُ وَ أَلْزَمَتْ قُلُوبَهُمْ مَخَافَتَهُ حَتَّى أَسْهَرَتْ لَيَالِيَهُمْ وَ أَظْمَأَتْ هَوَاجِرَهُمْ فَأَخَذُوا الرَّاحَةَ بِالنَّصَبِ وَ الرِّيَّ بِالظَّمَإِ وَ اسْتَقْرَبُوا الْأَجَلَ فَبَادَرُوا الْعَمَلَ وَ كَذَّبُوا الْأَمَلَ فَلَاحَظُوا الْأَجَلَ ثُمَّ إِنَّ الدُّنْيَا دَارُ فَنَاءٍ وَ عَنَاءٍ وَ غِيَرٍ وَ عِبَرٍ فَمِنَ الْفَنَاءِ أَنَّ الدَّهْرَ مُوتِرٌ قَوْسَهُ لَا تُخْطِئُ سِهَامُهُ وَ لَا تُؤْسَى جِرَاحُهُ يَرْمِي الْحَيَّ بِالْمَوْتِ وَ الصَّحِيحَ بِالسَّقَمِ وَ النَّاجِيَ

(8/218)


بِالْعَطَبِ آكِلٌ لَا يَشْبَعُ وَ شَارِبٌ لَا يَنْقَعُ وَ مِنَ الْعَنَاءِ أَنَّ الْمَرْءَ يَجْمَعُ شرح نهج البلاغة ج : 7 ص : 251مَا لَا يَأْكُلُ وَ يَبْنِي مَا لَا يَسْكُنُ ثُمَّ يَخْرُجُ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى لَا مَالًا حَمَلَ وَ لَا بِنَاءً نَقَلَ وَ مِنْ غِيَرِهَا أَنَّكَ تَرَى الْمَرْحُومَ مَغْبُوطاً وَ الْمَغْبُوطَ مَرْحُوماً لَيْسَ ذَلِكَ إِلّ نَعِيماً زَلَّ وَ بُؤْساً نَزَلَ وَ مِنْ عِبَرِهَا أَنَّ الْمَرْءَ يُشْرِفُ عَلَى أَمَلِهِ فَيَقْتَطِعُهُ حُضُورُ أَجَلِهِ فَلَا أَمَلٌ يُدْرَكُ وَ لَا مُؤَمَّلٌ يُتْرَكُ فَسُبْحَانَ اللَّهِ مَا أَعَزَّ سُرُورَهَا وَ أَظْمَأَ رِيَّهَا وَ أَضْحَى فَيْئَهَا لَا جَاءٍ يُرَدُّ وَ لَا مَاضٍ يَرْتَدُّ فَسُبْحَانَ اللَّهِ مَا أَقْرَبَ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ لِلَحَاقِهِ بِهِ وَ أَبْعَدَ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ لِانْقِطَاعِهِ عَنْهُ إِنَّهُ لَيْسَ شَيْ ءٌ بِشَرٍّ مِنَ الشَّرِّ إِلَّا عِقَابُهُ وَ لَيْسَ شَيْ ءبِخَيْرٍ مِنَ الْخَيْرِ إِلَّا ثَوَابُهُ وَ كُلُّ شَيْ ءٍ مِنَ الدُّنْيَا سَمَاعُهُ أَعْظَمُ مِنْ عِيَانِهِ وَ كُلُّ شَيْ ءٍ مِنَ الآْخِرَةِ عِيَانُهُ أَعْظَمُ مِنْ سَمَاعِهِ فَلْيَكْفِكُمْ مِنَ الْعِيَانِ السَّمَاعُ وَ مِنَ الْغَيْبِ الْخَبَرُ وَ اعْلَما أَنَّ مَا نَقَصَ مِنَ الدُّنْيَا وَ زَادَ فِي الآْخِرَةِ خَيْرٌ مِمَّا نَقَصَ مِنَ الآْخِرَةِ وَ زَادَ فِي الدُّنْيَا فَكَمْ مِنْ مَنْقُوصٍ رَابِحٍ وَ مَزِيدٍ خَاسِرٍ إِنَّ الَّذِي أُمِرْتُمْ بِهِ أَوْسَعُ مِنَ الَّذِي نُهِيتُمْ عَنْهُ وَ مَا أُحِلَّ لَكُمْ أَكْثَرُ مِمَّا حُرِّمَ عَلَيْكُمْ فَذَرُوا مَا قَلَّ لِمَا كَثُرَ وَ مَا ضَاقَ لِمَا اتَّسَعَ قَدْ تَكَفَّلَ لَكُمْ بِالرِّزْقِ وَ أُمِرْتُمْ بِالْعَمَلِ فَلَا يَكُونَنَّ الْمَضْمُونُ لَكُمْ طَلَبُهُ أَوْلَى بِكُمْ مِنَ

(8/219)


الْمَفْرُوضِ عَلَيْكُمْ عَمَلُهُ مَعَ أَنَّهُ وَ اللَّهِ لَقَدِ اعْتَرَضَ الشَّكُّ وَ دَخَلَ الْيَقِينُ حَتَّى كَأَنَّ الَّذِي ضُمِنَ لَكُمْ قَدْ فُرِضَ عَلَيْكُمْ وَ كَأَنَّ الَّذِي فُرِضَ عَلَيْكُمْ قَدْ وَضِعَ عَنْكُمْ فَبَادِرُوا الْعَمَلَ وَ خَافُوا بَغْتَةَ الْأَجَلِ فَإِنَّهُ لَا يُرْجَى مِنْ رَجْعَةِ الْعُمُرِ مَا يُرْجَى مِنْ رَجْعَةِ الرِّزْقِ مَا فَاتَ الْيَوْمَ مِنَ الرِّزْقِ رُجِيَ غَداً زِيَادَتُهُ وَ مَا فَاتَ أَمْسِ مِنَ الْعُمُرِ لَمْ يُرْجَ الْيَوْمَ

(8/220)


شرح نهج البلاغة ج : 7 ص : 252رَجْعَتُهُ الرَّجَاءُ مَعَ الْجَائِي وَ الْيَأْسُ مَعَ الْمَاضِي فَاتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَ لَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَلقائل أن يقول أما كونه واصل الحمد له من عباده بالنعم منه عليهم فمعلوم فكيف قال إنه يصل النعم المذكورة بالشكر و الشكر من أفعال العباد و ليس من أفعاله ليكون واصلا للنعم به و جواب هذا القائل هو أنه لما وفق العباد للشكر بعد أن جعل وجوبه في عقولهم مقررا و بعد أن أقدرهم عليه صار كأنه الفاعل له فأضافه إلى نفسه توسعا كما يقال أقام الأمير الحد و قتل الوالي اللص فأما حمده سبحانه على البلاء كحمده على الآلاء فقد تقدم القول فيه و من الكلام المشهور سبحان من لا يحمد على المكروه سواه و السر فيه أنه تعالى إنما يفعل المكروه بنا لمصالحنا فإذا حمدناه عليه فإنما حمدناه على نعمه أنعم بها و إن كانت في الظاهر بلية و ألما. فإن قلت فقد كان الأحسن في البيان أن يقول نحمده على بلائه كما نحمده على آلائه قلت إنما عكس لأنه جاء باللفظين في معرض ذكر النعم و الشكر عليها فاستهجن أن يلقبها بلفظة الحمد على البلاء للمنافرة التي تكون بينهما فقال نحمده على هذه الآلاء التي أشرنا إليها التي هي آلاء في الحقيقة و هذا ترتيب صحيح منتظم. ثم سأل الله أن يعينه على النفس البطيئة عن المأمور به السريعة إلى المنهي عنه و من دعاء بعض الصالحين اللهم إني أشكو إليك عدوا بين جنبي قد غلب علي. و فسر قوم من أهل الطريقة و الحقيقة قوله تعالى يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قاتِلُوا شرح نهج البلاغة ج : 7 ص : 253الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَ لْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً قالوا أراد مجاهدة النفوس و من كلام رسول الله ص أبت الأنفس إلا حب المال و الشرف و إن حبهما لأذهب بدين أحدكم من ذئبين ضاريين باتا في زريبة غنم إلى الصباح فما ذا يبقيان منها

(8/221)


ثم شرع في استغفار الله سبحانه من كل ذنب و عبر عن ذلك بقوله مما أحاط به علمه و أحصاه كتابه لأنه تعالى عالم بكل شي ء و محيط بكل شي ء و قد أوضح ذلك بقوله علم غير قاصر و كتاب غير مغادر أي غير مبق شيئا لا يحصيه قال تعالى ما لِهذَا الْكِتابِ لا يُغادِرُ صَغِيرً وَ لا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصاها. ثم قال و نؤمن به إيمان من عاين و شاهد لأن إيمان العيان أخلص و أوثق من إيمان الخبر فإنه ليس الخبر كالعيان و هذا إشارة إلى إيمان العارفين الذين هو ع سيدهم و رئيسهم و لذلك
قال لو كشف الغطاء ما ازددت يقينا

(8/222)


و قوله تصعدان القول إشارة إلى قوله تعالى إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَ الْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ و روي تسعدان القول بالسين أي هما شهادتان بالقلب يعاضدان الشهادة باللسان و يسعدانها. ثم ذكر أنهما شهادتان لا يخف ميزان هما فيه و لا يثقل ميزان رفعا عنه. أما أنه لا يثقل ميزان رفعا عنه فهذا لا كلام فيه و إنما الشأن في القضية الأولى لأن ظاهر هذا القول يشعر بمذهب المرجئة الخلص و هم أصحاب مقاتل بن سليمان القائلون إنه لا يضر مع الشهادتين معصية أصلا و إنه لا يدخل النار من في قلبه ذرة من الإيمان شرح نج البلاغة ج : 7 ص : 254و لهم على ذلك احتجاج قد ذكرناه في كتبنا الكلامية فنقول في تأويل ذلك إنه لم يحكم بهذا على مجرد الشهادتين و إنما حكم بهذا على شهادتين مقيدتين قد وصفهما بأنهما يصعدان القول و يرفعان العمل و تانك الشهادتان المقيدتان بذلك القيد إنما هو اشهادتان اللتان يقارنهما فعل الواجب و تجنب القبيح لأنه إن لم يقارنهما ذلك لم يرفعا العمل و إذا كان حكمه ع بعد خفة ميزان هما فيه إنما هو على شهادتين مقيدتين لا مطلقتين فقد بطل قول من يجعل هذا الكلام حجة للمرجئة. ثم أخذ في الوصاة بالتقوى و قال إنما الزاد في الدنيا الذي يزود منه لسفر الآخرة و بها المعاذ مصدر من عذت بكذا أي لجأت إليه و اعتصمت به. ثم وصفهما أعني الزاد و المعاذ فقال زاد مبلغ أي يبلغك المقصد و الغاية التي تسافر إليها و معاذ منجح أي يصادف عنده النجاح. دعا إليها أسمع داع يعني البارئ سبحانه لأنه أشد الأحياء أسماعا لما يدعوهم إليه و بناء أفعل هاهنا من الرباعي كما جاء ما أعطاه للمال و ما أولاه للمعروف و أنت أكرم لي من زيد أي أشد إكراما و هذا المكان أقفر من غيره أي أشد إقفارا و في المثل أفلس من ابن المذلق و روي دعا إليها أحسن داع أي أحسن داع دعا و لا بد من تقرير هذا المميز لأنه تعالى لا توصف ذاته بالحسن و إنما يوصف

(8/223)


بالحسن أفعاله. و وعاها خير واع أي من وعاها عنه تعالى و عقلها و أجاب تلك الدعوة فهو خير واع. و قيل عنى بقوله أسمع داع رسول الله ص و عنى بقوله خير واع نفسه لأنه أنزل فيه وَ تَعِيَها أُذُنٌ واعِيَةٌ و الأول أظهر. شرح نهج البلاغة ج : 7 ص : 255ثم قال فأسمع داعيها أي لم يبق أحدا من المكلفين إلا و قد أسمعه تلك الدعوة و فازوا عليها أفلح من فهمها و أجاب إليها لا بد من تقدير هذا و إلا فأي فوز يحصل لمن فهم و لم يجب و التقوى خشية الله سبحانه و مراقبته في ار و العلن و الخشية أصل الطاعات و إليها وقعت الإشارة بقوله تعالى إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقاكُمْ و قوله سبحانه وَ مَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً وَ يَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ. قوله حتى أسهرت لياليهم و أظمأت هواجرهم من قول العرب نهاره صائم و ليله قائم نقلوا الفعل إلى الظرف و هو من باب الاتساع الذي يجرون فيه الظروف مجرى المفعول به فيقولون الذي سرته يوم الجمعة أي سرت فيه و قال
و يوم شهدناه سليما و عامرا
أي شهدنا فيه سليما و قد اتسعوا فأضافوا إلى الظروف فقالوا
يا سارق الليلة أهل الدار
و قال تعالى بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَ النَّهارِ فأخرجوهما بالإضافة عن الظرفية. قوله ع فأخذوا الراحة النصب يروى فاستبدلوا الراحة و النصب التعب و استقربوا الأجل رأوه قريبا. فإن قلت لما ذا كرر لفظة الأجل و في تكرارها مخالفة لفن البيان قلت إنه استعملها في الموضعين بمعنيين مختلفين فقوله استقربوا الأجل يعني المدة و قوله فلاحظوا الأجل يعني الموت نفسه. شرح نهج البلاغة ج : 7 ص : 256و يروى موتر و موتر بالتشديد و لا تؤسى جراحه لا تطب و لا تصلح أسوت الجرح أي أصلحته و لا ينقع لا يروى شرب حتى نقع أي شف عليله و ماء ناقع هو كالناجع و ما رأيت شربه انقع منها. و إلى قوله ع يجمع ما لا يأكل و يبني ما لا يسكن نظر الشاعر فقال

(8/224)


أموالنا لذوي الميراث نجمعها و دورنا لخراب الدهر نبنيها
و قال آخر
أ لم تر حوشبا أمسى يبني بناء نفعه لبني بقيلةيؤمل أن يعمر عمر نوح و أمر الله يطرق كل ليلة
قوله و من غيرها أنك ترى المرحوم مغبوطا و المغبوط مرحوما أي يصير الفقير غنيا و الغني فقيرا و قد فسره قوم فقالوا أراد أنك ترى من هو في باطن الأمر مرحوم مغبوطا و ترى من هو في باطن الأمر مغبوط مرحوما أي تحسب ذاك و تتخيله و هذا التأويل غير صحيح لأن قوله بعده ليس ذلك إلا نعيما زل و بؤسا نزل و يكذبه و يصدق التفسير الأول. و أضحى فيئها من أضحى الرجل إذا برز للشمس ثم قال لا جاء يرد و لا ماض يرتد أي يسترد و يسترجع أخذه أبو العتاهية فقال
فلا أنا راجع ما قد مضى لي و لا أنا دافع ما سوف يأتي
و إلى قوله ما أقرب الحي من الميت للحاقه به و ما أبعد الميت من الحي لانقطاعه عنه نظر الشاعر فقال
يا بعيدا عني و ليس بعيدا من لحاقي به سميع قريب

(8/225)


شرح نهج البلاغة ج : 7 ص : 257صرت بين الورى غريبا كما أنك تحت الثرى وحيد غريب فإن قلت ما وجه تقسيمه ع الأمور التي عددها إلى الفناء و العناء و الغير و العبر قلت لقد أصاب الثغرة و طبق المفصل أ لا تراه ذكر في الفناء رمي الدهر الإنسان عن قوس الردى و في العناجمع ما لا يأكل و بناء ما لا يسكن و في الغير الفقر بعد الغنى و الغنى بعد الفقر و في العبر اقتطاع الأجل الأمل فقد ناط بكل لفظة ما يناسبها. و قد نظر بعض الشعراء إلى قوله ع ليس شي ء بشر من الشر إلا عقابه و ليس شي ء بخير من الخير إلا ثوابه فقالخير البضائع للإنسان مكرمة تنمي و تزكو إذا بارت بضائعه فالخير خير و خير منه فاعله و الشر شر و شر منه صانعهإلا أن أمير المؤمنين ع استثنى العقاب و الثواب و الشاعر جعل مكانهما فاعل الخير و الشر. ثم ذكر أن كل شي ء من أمور الدنيا المرغبة و المرهبة سماعه أعظم من عيانه و الآخرة بالعكس و هذا حق أما القضية الأولى فظاهرة و قد قال القائل اهتز عند تمني وصلها طربا و رب أمنية أحلى من الظفر
و لهذا يحرص الواحد منا على الأمر فإذا بلغه برد و فتر و لم يجده كما كان يظن في اللذة و يوصف لنا البلد البعيد عنا بالخصب و الأمن و العدل و سماح أهله و حسن نسائه و ظرف رجاله فإذا سافرنا إليه لم نجده كما وصف بل ربما وجدنا القليل من ذلك و يوصف لنا الإنسان الفاضل بالعلم بفنون من الآداب و الحكم و يبالغ الواصفون في ذلك فإذا اختبرناه وجدناه دون ما وصف و كذلك قد يخاف الإنسان حبسا أو ضربا أو نحوهما فإذا شرح نهج البلاغة ج : 7 ص : 258وقع فيهما هان ما كان يتخوفه و وجد الأمر دون ذلك و كذلك القتل و الموت فإن ما يستعظمه ااس منهما دون أمرهما في الحقيقة و قد قال أبو الطيب و هو حكيم الشعراء
كل ما لم يكن من الصعب في الأنفس سهل فيها إذا هو كانا

(8/226)


و يقال في المثل لج الخوف تأمن و أما أحوال الآخرة فلا ريب أن الأمر فيها بالضد من ذلك لأن الذي يتصوره الناس من الجنة أنها أشجار و أنهار و مأكول و مشروب و جماع و أمرها في الحقيقة أعظم من هذا و أشرف لأن ملاذها الروحانية المقارنة لهذه الملاذ المضادة لها أعظم من هذه الملاذ بطبقات عظيمة و كذلك أكثر الناس يتوهمون أن عذاب النار يكون أياما و ينقضي كما يذهب إليه المرجئة أو أنه لا عذاب بالنار لمسلم أصلا كما هو قول الخلص من المرجئة و أن أهل النار يألفون عذابها فلا يستضرون به إذا تطاول الأمد عليهم و أمر العذاب أصعب مما يظنون خصوصا على مذهبنا في الوعيد و لو لم يكن إلا آلام النفوس باستشعارها سخط الله تعالى عليها فإن ذلك أعظم من ملاقاة جرم النار لبدن الحي. و في هذا الموضع أبحاث شريفة دقيقة ليس هذا الكتاب موضوعا لها. ثم أمرهم بأن يكتفوا من عيان الآخرة و غيبها بالسماع و الخبر لأنه لا سبيل و نحن في هذه الدار إلى أكثر من ذلك. و إلى قوله ما نقص من الدنيا و زاد في الآخرة خير مما نقص من الآخرة و زاد في الدنيا نظر أبو الطيب فقال إلا أنه أخرجه في مخرج آخر
بلاد ما اشتهيت رأيت فيها فليس يفوتها إلا كرام

(8/227)


شرح نهج البلاغة ج : 7 ص : 259فهلا كان نقص الأهل فيها و كان لأهلها منها التماثم قال فكم من منقوص في دنياه و هو رابح في آخرته و كم من مزيد في دنياه و هو خاسر في آخرته ثم قال إن الذي أمرتم به أوسع من الذي نهيتم عنه و ما أحل لكم أكثر مما حرم عليكم الجملة الأولى هي الجملة الثانية بعينها و إنما أتى بالثانية تأكيدا للأولى و إيضاحا لها و لأن فن الخطابة و الكتابة هكذا هو و ينتظم كلتا الجملتين معنى واحد و هو أن فيما أحل الله غنى عما حرم بل الحلال أوسع أ لا ترى أن المباح من المآكل و المشارب أكثر عددا و أجناسا من المحرمات فإن المحرم ليس إلا الكلب و الخنزير و أشياء قليلة غيرهما و المحرم من المشروب الخمر و نحوها من المسكر و ما عدا ذلك حلال أكله و شربه و كذلك القول في النكاح و التسري فإنهما طريقان مهيعان إلى قضاء الوطر و السفاح طريق واحد و الطريقان أكثر من الطريق الواحد. فإن قلت فكيف قال إن الذي أمرتم به فسمى المباح مأمورا به قلت سمى كثير من الأصوليين المباح مأمورا به و ذلك لاشتراكه مع المأمور به في أنه لا حرج في فعله فأطلق عليه اسمه و أيضا فإنه لما كان كثير من الأمور التي عددناها مندوبا أطلق عليه لفظ الأمر لأن المندوب مأمور به و ذلك كالنكاح و التسري و أكل اللحوم التي هي سبب قوة البدن و شرب ما يصلح المزاج من الأشربة التي لا حرج في استعمالها و قال بعض العقلاء لبنيه يا بني إنه ليس كل شي ء من اللذة ناله أهل الخسارة بخسارتهم إلا ناله أهل المروءة و الصيانة بمروءتهم و صيانتهم فاستتروا بستر الله و دخل إنسان على علي بن موسى الرضا ع و عليه ثياب مرتفعة القيمة فقال يا ابن رسول الله أ تلبس مثل هذا فقال له مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ وَ الطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ

(8/228)


شرح نهج البلاغة ج : 7 ص : 260ثم أمر بالعمل و العبادة و نهى عن الحرص على طلب الرزق فقال إنكم أمرتم بالأول و ضمن لكم الثاني فلا تجعلوا المضمون حصوله لكم هو المخصوص بالحرص و الاجتهاد بل ينبغي أن يكون الحرص و الاجتهاد فيما أمرتم بعمله و هو العبادة و قد يتوهقوم أنه ارتفع طلبه بالمضنون كقولك المضروب أخوه و هذا غلط لأنه لم يضمن طلبه و إنما ضمن حصوله و لكنه ارتفع لأنه مبتدأ و خبره أولى و هذا المبتدأ و الخبر في موضع نصب لأنه خبر يكونن أو ارتفع لأنه بدل من المضنون و هذا أحسن و أولى من الوجه الأول و هو بدل الاشتمال. ثم ذكر أن رجعة العمر غير مرجوة و رجعة الرزق مرجوة أوضح ذلك بأن الإنسان قد يذهب منه اليوم درهم فيستعيضه أي يكتسب عوضه في الغد دينارا و أما أمس نفسه فمستحيل أن يعود و لا مثله لأن الغد و بعد الغد محسوب من عمره و ليس عوضا من الأمس الذاهب و هذا الكلام يقتضي أن العمر مقدور و أن المكاسب و الأرزاق إنما هي بالاجتهاد و ليست محصورة مقدرة و هذا يناقض في الظاهر ما تقدم من قوله إن الرزق مضمون فلا تحرصوا عليه فاحتاج الكلام إلى تأويل و هو أن العمر هو الظرف الذي يوقع المكلف فيه الأعمال الموجبة له السعادة العظمى المخلصة له من الشقاوة العظمى و ليس له ظرف يوقعها فيه إلا هو خاصة فكل جزء منه إذا فات من غير عمل لما بعد الموت فقد فات على الإنسان بفواته ما لا سبيل له إلى استدراكه بعينه و لا اغترام مثله لأن المثل الذي له إنما هو زمان آخر و ليس ذلك في مقدور الإنسان و الزمان المستقبل الذي يعيش فيه الإنسان لم يكتسبه هو لينسب إليه فيقال إنه حصله عوضا مما انقضى و ذهب من عمره و إنما هو فعل غيره و مع ذلك فهو معد و مهيأ لأفعال من العبادة توقع فيه كما كان الجزء الماضي معدا لأفعال شرح نهج البلاغة ج : 7 ص : 261توقع فيه فليس أحدهما عوضا عن الر و لا قائما مقامه و أما المنافع الدنيوية كالمآكل و المشارب و

(8/229)


الأموال فإن الإنسان إذا فاته شي ء منها قدر على ارتجاعه بعينه إن كانت عينه باقية و ما لا تبقى عينه يقدر على اكتساب مثله و الرزق و إن كان مضمونا من الله إلا أن للحركة فيه نصيبا إما أن يكون شرطا أ أن يكون هو بذاته من أثر قدرة الإنسان كحركته و اعتماده و سائر أفعاله و يكون الأمر بالتوكل و النهي عن الاجتهاد في طلب الرزق على هذا القول إنما هو نهي عن الحرص و الجشع و التهالك في الطلب فإن ذلك قبيح يدل على دناءة الهمة و سقوطها. ثم هذه الأغراض الدنيوية إذا حصلت أمثالها بعد ذهابها قامت مقام الذاهب لأن الأمر الذي يراد الذاهب له يمكن حصوله بهذا المكتسب و ليس كذلك الزمان الذاهب من العمر لأن العبادات و الأعمال التي كان أمس متعينا لها لا يمكن حصولها اليوم على حد حصولها أمس فافترق البابان باب الأعمال و باب الأرزاق. و قوله الرجاء مع الجائي و اليأس مع الماضي كلام يجري مجرى المثل و هو تأكيد للمعنى الأول و جعل الجائي مرجوا لأنه لا يعلم غيبه قال الشاعر
ما مضى فات و المقدر غيب و لك الساعة التي أنت فيها
و قوله حق تقاته أي حق تقيته أي خوفه اتقى يتقي تقية و تقاة و وزنها فعلة و أصلها الياء و مثلها اتخم تخمة و اتهم تهمة

(8/230)


شرح نهج البلاغة ج : 7 ص : 114262- و من خطبة له ع في الاستسقاءاللَّهُمَّ قَدِ انْصَاحَتْ جِبَالُنَا وَ اغْبَرَّتْ أَرْضُنَا وَ هَامَتْ دَوَابُّنَا وَ تَحَيَّرَتْ فِي مَرَابِضِهَا وَ عَجَّتْ عَجِيجَ الثَّكَالَى عَلَى أَوْلَادِهَا وَ مَلَّتِ التَّرَدُّدَ فِي مَرَاتِعِهَا وَ الْحَنِينَ إِلَى مَوَارِدِهَا اللَّهُمَّ فَارْحَمْ أَنِينَ الآْنَّةِ وَ حَنِينَ الْحَانَّةِ اللَّهُمَّ فَارْحَمْ حَيْرَتَهَا فِي مَذَاهِبِهَا وَ أَنِينَهَا فِي مَوَالِجِهَا اللَّهُمَّ خَرَجْنَا إِلَيْكَ حِينَ اعْتَكَرَتْ عَلَيْنَا حَدَابِيرُ السِّنِينَ وَ أَخْلَفَتْنَا مَخَايِلُ الْجُودِ فَكُنْتَ الرَّجَاءَ لِلْمُبْتَئِسِ وَ الْبَلَاغَ لِلْمُلْتَمِسِ نَدْعُوكَ حِينَ قَنَطَ الْأَنَامُ وَ مُنِعَ الْغَمَامُ وَ هَلَكَ السَّوَامُ أَلَّا تُؤَاخِذَنَا بِأَعْمَالِنَا وَ لَا تَأْخُذَنَا بِذُنُوبِنَا وَ انْشُرْ عَلَيْنَا رَحْمَتَكَ بِالسَّحَابِ الْمُنْبَعِقِ وَ الرَّبِيعِ الْمُغْدِقِ وَ النَّبَاتِ الْمُونِقِ سَحّاً وَابِلًا تُحْيِي بِهِ مَا قَدْ مَاتَ وَ تَرُدُّ بِهِ مَا قَدْ فَاتَ اللَّهُمَّ سُقْيَا مِنْكَ مُحْيِيَةً مُرْوِيَةً تَامَّةً عَامَّةً طَيِّبَةً مُبَارَكَةً هَنِيئَةً مَريِئَةً مَرِيعَةً زَاكِياً نَبْتُهَا ثَامِراً فَرْعُهَا نَاضِراً وَرَقُهَا تُنْعِشُ بِهَا الضَّعِيفَ مِنْ عِبَادِكَ وَ تُحْيِي بِهَا الْمَيِّتَ مِنْ بِلَادِكَ اللَّهُمَّ سُقْيَا مِنْكَ تُعْشِبُ بِهَا نِجَادُنَا وَ تَجْرِي بِهَا وِهَادُنَا وَ يُخْصِبُ بِهَا جَنَابُنَا وَ تُقْبِلُ بِهَا ثِمَارُنَا وَ تَعِيشُ بِهَا مَوَاشِينَا وَ تَنْدَى بِهَا أَقَاصِينَا وَ تَسْتَعِينُ بِهَا ضَوَاحِينَا مِنْ بَرَكَاتِكَ الْوَاسِعَةِ وَ عَطَايَاكَ الْجَزِيلَةِ عَلَى بَرِيَّتِكَ الْمُرْمِلَةِ وَ وَحْشِكَ الْمُهْمَلَةِ وَ أَنْزِلْ عَلَيْنَا سَمَاءً مُخْضِلَةً

(8/231)


مِدْرَاراً هَاطِلَةً يُدَافِعُ الْوَدْقُ مِنْهَا الْوَدْقَ وَ يَحْفِزُ الْقَطْرُ مِنْهَا شرح نهج البلاغة ج : 7 ص : 263الْقَطْرَ غَيْرَ خُلَّبٍ بَرْقُهَا وَ لَا جَهَامٍ عَارِضُهَا وَ لَا قَزَعٍ رَبَابُهَا وَ لَا شَفَّانٍ ذِهَابُهَا حَتَّى يُخْصِبَ لِإِمْرعِهَا الْمُجْدِبُونَ وَ يَحْيَا بِبَرَكَتِهَا الْمُسْنِتُونَ فَإِنَّكَ تُنْزِلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَ تَنْشُرُ رَحْمَتَكَ وَ أَنْتَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ
قال الشريف الرضي رحمه الله تعالى قوله ع انصاحت جبالنا أي تشققت من المحول يقال انصاح الثوب إذا انشق و يقال أيضا انصاح النبت و صاح و صوح إذا جف و يبس كله بمعنى. و قوله و هامت دوابنا أي عطشت و الهيام العطش. و قوله حدابير السنين جمع حدبار و هي الناقة التي أنضاها السير فشبه بها السنة التي فشا فيها الجدب قال ذو الرمة
حدابير ما تنفك إلا مناخة على الخسف أو نرمي بها بلدا قفرا
و قوله و لا قزع ربابها القزع القطع الصغار المتفرقة من السحاب. و قوله و لا شفان ذهابها فإن تقديره و لا ذات شفان ذهابها و الشفان الريح الباردة و الذهاب الأمطار اللينة فحذف ذات لعلم السامع به

(8/232)


شرح نهج البلاغة ج : 7 ص : 264يجوز أن يريد بقوله و هامت دوابنا معنى غير ما فسره الشريف الرضي رحمه الله به و هو ندودها و ذهابها على وجوهها لشدة المحل يقول هام على وجهه يهيم هيما و هيمانا. و المرابض مبارك الغنم و هي لها كالمواطن للإبل واحدها مربض بكسر البامثل مجلس و عجت صرخت و يحتمل الضمير في أولادها أن يرجع إلى الثكالى أي كعجيج الثكالى على أولادهن و يحتمل أن يرجع إلى الدواب أي و عجت على أولادها كعجيج الثكالى و إنما وصفها بالتحير في مرابضها لأنها لشدة المحل تتحير في مباركها و لا تدري ما ذا تصنع إن نهضت لترعى لم تجد رعيا و إن أقامت كانت إلى انقطاع المادة أقرب قوله و ملت التردد في مراتعها و الحنين إلى مواردها و ذلك لأنها أكثرت من التردد في الأماكن التي كانت تعهد مراتعها فيها فلم تجد مرتعا فملت الترداد إليها و كذلك ملت الحنين إلى الغدران و الموارد التي كانت تعتادها للشرب فإنها حنت إليها لما فقدتها حتى ضجرت و يئست فملت مما لا فائدة لها فيه. و الآنة و الحانة الشاة و الناقة و يقال ما له حانة و لا آنة و أصل الأنين صوت المريض و شكواه من الوصب يقال أن يئن أنينا و أنانا و تأنانا. و الموالج المداخل و إنما ابتدأ ع بذكر الأنعام و ما أصابها من الجدب اقتفاء بسنة رسول الله ص و لعادة العرب أما سنة رسول الله ص

(8/233)


فإنه قال لو لا البهائم الرتع و الصبيان الرضع و الشيوخ الركع لصب شرح نهج البلاغة ج : 7 ص : 265عليكم العذاب صباو قد ذهب كثير من الفقهاء إلى استحباب إخراج البهائم في صلاة الاستسقاء و تقدير دعائه ع اللهم إن كنت حرمتنا الغيث لسوء أعمالنا فارحم هذه الحيوانات التي لا ذنب لها و لا تؤاخذها بذنوبنا و أما عادة العرب فإنهم كانوا إذا أصابهم المحل استسقوا بالبهائم و دعوا الله بها و استرحموه لها و منهم من كان يجعل في أذناب البقر السلع و العشر و يصعد بها في الجبال و التلاع العالية و كانوا يسقون بذلك و قال الشاعر
أ جاعل أنت بيقورا مسلعة ذريعة لك بين الله و المطر
فاعتكرت ردف بعضها بعضا و أصل عكر عطف و العكرة الكرة و
في الحديث قال له قوم يا رسول الله نحن الفرارون فقال بل أنتم العكارون إن شاء الله

(8/234)


و البيت الذي ذكره الرضي رحمه الله لذي الرمة لا أعرفه إلا حراجيج و هكذا رأيته بخط ابن الخشاب رحمه الله و الحرجوج الناقة الضامرة في طول. و فيه مسألة نحوية و هي أنه كيف نقض النفي من ما تنفك و هو غير جائز كما لا يجوز ما زال زيد إلا قائما و جوابها أن تنفك هاهنا تامة أي ما تنفصل و مناخة منصوب على الحال. قوله و أخلفتنا مخايل الجود أي كلما شمنا برقا و اختلنا سحابا أخلفنا و لم يمطر. و الجود المطر الغزير و يروى مخايل الجود بالضم. شرح نهج البلاغة ج : 7 ص : 266و المبتئس ذو البؤس و البلاغ للملتمس أي الكفاية للطالب. و ول قنط فلان بالفتح يقنط و يقنط بالكسر و الضم فهو قانط و فيه لغة أخرى قنط بالكسر يقنط قنطا مثل تعب يتعب تعبا و قناطة أيضا فهو قنط و قرئ فَلا تَكُنْ مِنَ الْقانِطِينَ. و إنما قال و منع الغمام فبنى الفعل للمفعول به لأنه كره أن يضيف المنع إلى الله تعالى و هو منبع النعم فاقتضى حسن الأدب أنه لم يسم الفاعل و روي منع الغمام أي و منع الغمام القطر فحذف المفعول و السوام المال الراعي. فإن قلت ما الفرق بين تؤاخذنا و بين تأخذنا. قلت المؤاخذة دون الأخذ لأن الأخذ الاستئصال و المؤاخذة عقوبة و إن قلت. و السحاب المنبعق المتبعج بالمطر و مثله المتبعق و مثله البعاق و الربيع المغدق الكثير و النبات المونق المعجب. و انتصب سحا على المصدر و الوابل المطر الشديد. ثم قال تحيي به ما قد مات أي يكاد يتلف بها من الزرع و ترد به ما قد فات أي يستدرك به الناس ما فاتهم من الزرع و الحرث. و السقيا مؤنثة و هي الاسم من سقى و المريعة الخصيبة. و ثامرا فرعها ذو ثمر كما قالوا لابن و تامر ذو لبن و تمر. و تنعش ترفع و النجاد جمع نجد و هو ما ارتفع من الأرض و الوهاد جمع وهد و هو المطمئن منها و روي نجادنا بالنصب على أنه مفعول. شرح نهج البلاغة ج : 7 ص : 267قولو تندى بها أقاصينا أي الأباعد منا و يندى بها ينتفع نديت بكذا أي

(8/235)


انتفعت. و الضواحي النواحي القريبة من المدينة العظمى و المرملة الفقيرة أرمل افتقر و نفد زاده و وحشك المهملة التي لا راعي لها و لا صاحب و لا مشفق. و سماء مخضلة تخضل النبت أي تبله و روي مخضلة أي ذات نبات و زروع مخضلة يقال اخضل النبت اخضلالا أي ابتل و إنما أنث السماء و هو المطر و هو مذكر لأنه أراد الأمطار و الودق المطر و يحفز يدفع بشدة و إذا دفع القطر القطر كان أعظم و أغزر له. و برق خلب لا مطر معه و سحاب جهام لا ماء فيه و المجدبون أهل الجدب و المسنتون الذين أصابتهم السنة و هي المحل و القحط الشديد
صلاة الاستسقاء و آدابها
و اعلم أن صلاة الاستسقاء عند أكثر الفقهاء سنة. و قال أبو حنيفة لا صلاة للاستسقاء قال أصحابه يعني ليست سنة في جماعة و إنما يجوز أن يصلي الناس وحدانا قالوا و إنما الاستسقاء هو الدعاء و الاستغفار. و قال باقي الفقهاء كالشافعي و أبي يوسف و محمد و غيرهم بخلاف ذلك قالوا و
قد روي أن رسول الله ص صلى بالناس جماعة في الاستسقاء فصلى ركعتين جهر بالقراءة فيهما و حول رداءه و رفع يديه و استسقى
قالوا و السنة أن يكون في المصلى و إذا أراد الإمام الخروج لذلك وعظ الناس و أمرهم بالخروج من المظالم و التوبة من المعاصي لأن ذلك يمنع القطر. شرح نهج البلاغة ج : 7 ص : 268قالوا و قد روي عن عبد الله بن مسعود أنه قال إذا بخس المكيال حبس القطر

(8/236)


و قال مجاهد في قوله تعالى وَ يَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ قال دواب الأرض تلعنهم يقولون منعنا القطر بخطاياهم. قالوا و يأمر الإمام الناس بصوم ثلاثة أيام قبل الخروج ثم يخرج في اليوم الرابع و هم صيام و يأمرهم بالصدقة و يستسقي بالصالحين من أهل بيت رسول الله ص كما فعل عمر و يحضر معه أهل الصلاح و الخير و يستسقي بالشيوخ و الصبيان. و اختلفوا في إخراج البهائم فمنهم من استحب ذلك و منهم من كرهه و يكره إخراج أهل الذمة فإن حضروا من عند أنفسهم لم يمنعوا و الغسل و السواك في صلاة الاستسقاء عندهم مسنونان و لا يستحب فيهما التطيب لأن الحال لا يقتضيه. و ينبغي أن يكون الخروج بتواضع و خشوع و إخبات كما خرج رسول الله ص للاستسقاء. قالوا و لا يؤذن لهذه الصلاة و لا يقام و إنما ينادي لها الصلاة جامعة و هي ركعتان كصلاة العيد يكبر في الأولى سبع تكبيرات و في الثانية خمس تكبيرات. قالوا و يخطب بعد الصلاة خطبتين و يكون دعاء الاستسقاء في الخطبة الأولى. قالوا فيقول اللهم اسقنا غيثا مغيثا هنيئا مريئا مريعا غدقا مجللا طبقا سحا دائما اللهم اسقنا الغيث و لا تجعلنا من القانطين اللهم إن بالعباد و البلاد من اللأواء و الضنك و الجهد ما لا نشكوه إلا إليك اللهم أنبت لنا الزرع و أدر لنا الضرع و اسقنا من بركات السماء اللهم اكشف عنا الجهد و الجوع و العري و اكشف عنا ما لا يكشفه غيرك اللهم إنا نستغفرك إنك كنت غفارا فأرسل السماء علينا مدرارا. شرح نهج البلاغة ج : 7 ص : 269قالوا و يستحب أن يستقبل القبلة في أثناء البة الثانية و يحول رداءه فيجعل ما على الأيمن على الأيسر و ما على الأيسر على الأيمن تفاؤلا بتحول الحال و كذا روي أن رسول الله ص فعل و يستحب للناس أن يحولوا أرديتهم مثله و يتركوها كما هي و لا يعيدوها إلى حالها الأولى إلا إذا رجعوا إلى منازلهم. و يستحب أن يدعو في الخطبة الثانية سرا فيجمع بين الجهر و السر كما قال سبحانه و

(8/237)


تعالى إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَ أَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْراراً و كقوله تعالى وَ اذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَ خِيفَةً وَ دُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ قالوا و يستحب رفع اليد في هذا الدعاء و أن يكثروا من الاستغفار لقوله تعالى اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كانَ غَفَّاراً يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً فإن صلوا و استسقوا فلم يسقوا عادوا من الغد و صلوا و استسقوا و إن سقوا قبل الصلاة صلوا شكرا و طلبا للزيادة. قالوا و يستحب أن يقفوا تحت المطر حتى يصيبهم و أن يحسروا له عن رءوسهم و
قد روي أن رسول الله ص حسر عن رأسه حتى أصابه مطر الاستسقاء
و يستحب إذا سال الوادي أن يغتسلوا فيه و يتوضئوا منه. و قد استحب قوم من الفقهاء أن يخرج الناس للاستسقاء حفاة حاسرين و الأكثرون على خلاف ذلك. فأما مذهب الشيعة في هذه المسألة فأن يستقبل الإمام القبلة بعد صلاة الركعتين فيكبر الله مائة تكبيرة و يرفع بها صوته و يكبر من حضر معه ثم يلتفت عن يمينه فيسبح الله مائة تسبيحة يرفع بها صوته و يسبح معه من حضر ثم يلتفت عن يساره فيهلل الله شرح نهج البلاغة ج : 7 ص : 270مائة مرة يرفع بها صوته و يقول من حضر مثل ذلك ثم يستقبل الناس بوجهه فيحمد الله مائة مرة يرفع بها صوته و يقولعه من حضر مثل ذلك ثم يخطب بهذه الخطبة المروية عن أمير المؤمنين ع في الاستسقاء فإن لم يتمكن منها اقتصر على الدعاء
أخبار و أحاديث في الاستسقاء

(8/238)


و جاء في الأخبار الصحيحة رؤيا رقيقة في الجاهلية و هي رقيقة بنت أبي صيفي بن هاشم بن عبد مناف قالت رقيقة تتابعت على قريش سنون أقحلت الضرع و أرقت العظم فبينا أنا راقدة اللهم أو مهومة و معي صنوي إذا أنا بهاتف صيت يصرخ بصوت صحل يا معشر قريش إن هذا النبي المبعوث فيكم قد أظلتكم أيامه و هذا إبان نجومه فحيهلا بالخصب و الحيا ألا فانظروا رجلا منكم عظاما جساما أبيض بضا أوطف الأهداب شرح نهج البلاغة ج : 7 ص : 271سهل الخدين أشم العرنين له سنة تهدى إليه ألا فليخلص هو و ولده و ليدلف إليه من كل بطن رجل ألا فليشنوا عليهم منلماء و ليمسوا من الطيب و ليطوفوا بالبيت سبعا و ليكن فيهم الطيب الطاهر لداته فليستق الرجل و ليؤمن القوم ألا فغثتم إذا ما شئتم. قالت فأصبحت علم الله مذعورة قد قف جلدي و وله عقلي فاقتصصت رؤياي على الناس فذهبت في شعاب مكة فو الحرمة و الحرم إن بقي أبطحي إلا و قال هذا شيبة الحمد. فتتامت رجال قريش و انقض إليه من كل بطن رجل فشنوا عليهم ماء و مسوا طيبا و استلموا و اطوفوا ثم ارتقوا أبا قبيس و طفق القوم يدفون حول عبد المطلب ما إن يدرك سعيهم مهلة حتى استقروا بذروة الجبل و استكفوا جانبيه. فقام فاعتضد ابن ابنه محمدا ص فرفعه على عاتقه و هو يومئذ غلام شرح نهج البلاغة ج : 7 ص : 272قد أيفع أو كرب ثم قال اللهم ساد الخلة و كاشف الكربة أنت عالم غير معلم و مسئول غير مبخل و هذه عبداؤك و إماؤك بعذارات حرمك يشكون إليك سنتهم التي أذهبت الخف و الظلف فاسمعن اللهم و أمطرن علينا غيثا مقا مريعا سحا طبقا دراكا. قالت فو رب الكعبة ما راموا حتى انفجرت السماء بمائها و اكتظ الوادي بثجيجه و انصرف الناس يقولون لعبد المطلب هنيئا لك سيد البطحاء و في رواية أبي عبيدة معمر بن المثنى قال فسمعنا شيخان قريش و جلتها عبد الله بن جدعان و حرب بن أمية و هشام بن المغيرة يقولون لعبد المطلب هنيئا لك أبا البطحاء و في ذلك قال

(8/239)


شاعر من قريش و قد روي هذا الشعر لرقيقة
بشيبة الحمد أسقى الله بلدتنا و قد فقدنا الحيا و اجلوذ المطرفجاد بالماء و سمي له سبل سحا فعاشت به الأنعام و الشجر
و في الحديث من رواية أنس بن مالك أصاب أهل المدينة قحط على عهد رسول الله ص فقام إليه رجل و هو يخطب يوم جمعة فقال يا رسول الله هلك الشاء هلك الزرع ادع الله لنا أن يسقينا فمد ع يده و دعا و استسقى شرح نهج البلاغة ج : 7 ص : 273و إن السماء كمثل الزجاجة فهاجت ر ثم أنشأت سحابا ثم اجتمع ثم أرسلت عزاليها فخرجنا نخوض الماء حتى أتينا منازلنا و دام القطر فقام إليه الرجل في اليوم الثالث فقال يا رسول الله تهدمت البيوت ادع الله أن يحبسه عنا فتبسم رسول الله ص ثم رفع يده و قال اللهم حوالينا و لا علينا قال أنس فو الذي بعث محمدا بالحق لقد نظرت إلى السحاب و إنه لقد انجاب حول المدينة كالإكليل

(8/240)


و في حديث عائشة أنه ع استسقى حين بدا قرن الشمس فقعد على المنبر و حمد الله و كبره ثم قال إنكم شكوتم جدب دياركم و قد أمركم الله أن تدعوه و وعدكم أن يستجيب لكم فادعوه ثم رفع صوته فقال اللهم إنك أنت الغني و نحن الفقراء فأنزل علينا الغيث و لا تجعلنا من القانطين اللهم اجعل ما تنزله علينا قوة لنا و بلاغا إلى حين برحمتك يا أرحم الراحمين فأنشأ الله سحابا فرعدت و برقت ثم أمطرت فلم يأت ع منزله حتى سالت السيول فلما رأى سرعتهم إلى الكن ضحك حتى بدت نواجذه و قال أشهد أني عبد الله و رسوله و أن الله على كل شي ء قدير و من دعائه ع في الاستسقاء و قد رواه الفقهاء و غيرهم اللهم اسقنا و أغثنا اللهم اسقنا غيثا مغيثا وحيا ربيعا وجدا طبقا غدقا مغدقا مونقا عاما شرح نهج البلاغة ج : 7 ص : 274هنيئا مريئا مريعا مربعا مرتعا وابلا سابلا مسيلا مجللا درا نافعا غير ضار عاجلا غير رائث ثا اللهم تحيي به العباد و تغيث به البلاد و تجعله بلاغا للحاضر منا و الباد اللهم أنزل علينا في أرضنا زينتها و أنزل علينا في أرضنا سكنها اللهم أنزل علينا ماء طهورا فأحي به بلدة ميتا و اسقه مما خلقت لنا أنعاما و أناسي كثيرا

(8/241)


و روى عبد الله بن مسعود أن عمر بن الخطاب خرج يستسقي بالعباس فقال اللهم إنا نتقرب إليك بعم نبيك و قفية آبائه و كبر رجاله فإنك قلت و قولك الحق وَ أَمَّا الْجِدارُ فَكانَ لِغُلامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ الآية فحفظتهما لصلاح أبيهما فاحفظ اللهم نبيك في عمه فقد دلونا به إليك مستشفعين و مستغفرين ثم أقبل على الناس فقال استغفروا ربكم إنه كان غفارا. قال ابن مسعود رأيت العباس يومئذ و قد طال عمر و عيناه تنضحان و سبائبة تجول على صدره و هو يقول اللهم أنت الراعي فلا تهمل الضالة و لا تدع الكسير بدار مضيعة فقد ضرع الصغير و رق الكبير و ارتفعت الشكوى و أنت تعلم السر و أخفى اللهم أغثهم بغياثك من قبل أن يقنطوا فيهلكوا إنه لا ييأس من رحمة الله إلا القوم الكافرون. شرح نهج البلاغة ج : 7 ص : 275قال فنشأت طريرة من سحاب و قال الناس ترون ترون ثم تلاءمت و استتمت و مشت فيها ر ثم هدت و درت فو الله ما برحوا حتى اعتلقوا الأحذية و قلصوا المآزر و طفق الناس يلوذون بالعباس يمسحون أركانه و يقولون هنيئا لك ساقي الحرمين شرح نهج البلاغة ج : 7 ص : 115276- و من خطبة له عأَرْسَلَهُ دَاعِياً إِلَى الْحَقِّ وَ شَاهِداً عَلَى الْخَلْقِ فَبَلَّغَ رِسَالَاتِ رَبِّهِ غَيْرَ وَانٍ وَ لَا مُقَصِّرٍ وَ جَاهَدَ فِي اللَّهِ أَعْدَاءَهُ غَيْرَ وَاهِنٍ وَ لَا مُعَذِّرٍ إِمَامُ مَنِ اتَّقَى وَ بَصَرُ مَنِ اهْتَدَى

(8/242)


قوله و شاهدا على الخلق أي يشهد على القوم الذين بعث إليهم و شهد لهم فيشهد على العاصي بالعصيان و الخلاف و يشهد للمطيع بالإطاعة و الإسلام و هذا من قوله سبحانه و تعالى فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَ جِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً و من قوله تعالى وَ كُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً ما دُمْتُ فِيهِمْ. فإن قلت إذا كان الله تعالى عالما بكل شي ء و مالكا لكل أحد فأي حاجة إلى الشهادة قلت ليس بمنكر أن يكون في ذلك مصلحة للمكلفين في أديانهم من حيث إنه قد تقرر في عقول الناس أن من يقوم عليه شاهد بأمر منر قد فعله فإنه يخزى شرح نهج البلاغة ج : 7 ص : 277و يخجل و تنقطع حجته فإذا طرق أسماعهم أن الأنبياء تشهد عليهم و الملائكة الحافظين تكتب أعمالهم كانوا عن مواقعة القبيح أبعد. و الواني الفاتر الكال و الواهن الضعيف. و المعذر الذي يعتذر عن تقصيره بغير عذر قال تلى وَ جاءَ الْمُعَذِّرُونَ مِنَ الْأَعْرابِ

(8/243)


مِنْهَا وَ لَوْ تَعْلَمُونَ مَا أَعْلَمُ مِمَّا طُوِيَ عَنْكُمْ غَيْبُهُ إِذاً لَخَرَجْتُمْ إِلَى الصُّعُدَاتِ تَبْكُونَ عَلَى أَعْمَالِكُمْ وَ تَلْتَدِمُونَ عَلَى أَنْفُسِكُمْ وَ لَتَرَكْتُمْ أَمْوَالَكُمْ لَا حَارِسَ لَهَا وَ لَا خَالِفَ عَلَيْهَا وَ لَهَمَّتْ كُلَّ امْرِئٍ مِنْكُمْ نَفْسُهُ لَا يَلْتَفِتُ إِلَى غَيْرِهَا وَ لَكِنَّكُمْ نَسِيتُمْ مَا ذُكِّرْتُمْ وَ أَمِنْتُمْ مَا حُذِّرْتُمْ فَتَاهَ عَنْكُمْ رَأْيُكُمْ وَ تَشَتَّتَ عَلَيْكُمْ أَمْرُكُمْ وَ لَوَدِدْتُ أَنَّ اللَّهَ فَرَّقَ بَيْنِي وَ بَيْنَكُمْ وَ أَلْحَقَنِي بِمَنْ هُوَ أَحَقُّ بِي مِنْكُمْ قَوْمٌ وَ اللَّهِ مَيَامِينُ الرَّأْيِ مَرَاجِيحُ الْحِلْمِ مَقَاوِيلُ بِالْحَقِّ مَتَارِيكُ لِلْبَغْيِ مَضَوْا قُدُماً عَلَى الطَّرِيقَةِ وَ أَوْجَفُوا عَلَى الْمَحَجَّةِ فَظَفِرُوا بِالْعُقْبَى الدَّائِمَةِ وَ الْكَرَامَةِ الْبَارِدَةِ أَمَا وَ اللَّهِ لَيُسَلَّطَنَّ عَلَيْكُمْ غُلَامُ ثَقِيفٍ الذَّيَّالُ الْمَيَّالُ يَأْكُلُ خَضِرَتَكُمْ وَ يُذِيبُ شَحْمَتَكُمْ إِيهٍ أَبَا وَذَحَةَ

(8/244)


شرح نهج البلاغة ج : 7 ص : 278 قال الرضي رحمه الله تعالى الوذحة الخنفساء و هذا القول يومئ به إلى الحجاج و له مع الوذحة حديث ليس هذا موضع ذكرهالصعيد التراب و يقال وجه الأرض و الجمع صعد و صعدات كطريق و طرق و طرقات و الالتدام ضرب النساء صدورهن في النياحة و لا خالف عليها لا مستخلف. قوله و لهمت كل امرئ منكم نفسه أي أذابته و أنحلته هممت الشحم أي أذبته و يروى و لأهمت كل امرئ و هو أصح من الرواية الأولى أهمني الأمر أي أحزنني. و تاه عن فلان رأيه أي عزب و ضل. ثم ذكر أنه يود و يتمنى أن يفرق الله بينه و بينهم و يلحقه بالنبي ص و بالصالحين من أصحابه كحمزة و جعفر ع و أمثالهما ممن كان أمير المؤمنين يثني عليه و يحمد طريقته من الصحابة فمضوا قدما أي متقدمين غير معرجين و لا معردين. و أوجفوا أسرعوا و يقال غنيمة باردة و كرامة باردة أي لم تؤخذ بحرب و لا عسف و ذلك لأن المكتسب بالحرب جار في المعنى لما يلاقي و يعاني في حصوله من المشقة. و غلام ثقيف المشار إليه هو الحجاج بن يوسف و الذيال التائه و أصله من ذال أي تبختر و جر ذيله على الأرض و الميال الظالم. و يأكل خضرتكم يستأصل أموالكم و يذيب شحمتكم مثله و كلتا اللفظتين استعارة. شرح نهج البلاغة ج : 7 ص : 279ثم قال له كالمخاطب لإنسان حاضر بين يديه إيه أبا وذحة إيه كلمه يستزاد بها من الفعل تقديره زد و هات أيضا ما عندك و ضدها إيهاي كف و أمسك. قال الرضي رحمه الله و الوذحة الخنفساء و لم أسمع هذا من شيخ من أهل الأدب و لا وجدته في كتاب من كتب اللغة و لا أدري من أين نقل الرضي رحمه الله ذلك ثم إن المفسرين بعد الرضي رحمه الله قالوا في قصة هذه الخنفساء وجوها منها أن الحجاج رأى خنفساء تدب إلى مصلاه فطردها فعادت ثم طردها فعادت فأخذها بيده و حذف بها فقرصته قرصا ورمت يده منها ورما كان فيه حتفه قالوا و ذلك لأن الله تعالى قتله بأهون مخلوقاته كما قتل نمرود بن كنعان بالبقة

(8/245)


التي دخلت في أنفه فكان فيها هلاكه. و منها أن الحجاج كان إذا رأى خنفساء تدب قريبة منه يأمر غلمانه بإبعادها و يقول هذه وذحة من وذح الشيطان تشبيها لها بالبعرة قالوا و كان مغرى بهذا القول و الوذح ما يتعلق بأذناب الشاة من أبعارها فيجف. و منها أن الحجاج قال و قد رأى خنفساوات مجتمعات وا عجبا لمن يقول إن الله خلق هذه قيل فمن خلقها أيها الأمير قال الشيطان إن ربكم لأعظم شأنا أن يخلق هذه الوذح قالوا فجمعها على فعل كبدنة و بدن فنقل قوله هذا إلى الفقهاء في عصره فأكفروه. و منها أن الحجاج كان مثفارا و كان يمسك الخنفساء حية ليشفى بحركتها في الموضع حكاكه قالوا و لا يكون صاحب هذا الداء إلا شائنا مبغضا لأهل البيت قالوا و لسنا نقول كل مبغض فيه هذا الداء و إنما قلنا كل من فيه هذا الداء فهو مبغض. قالوا و قد روى أبو عمر الزاهد و لم يكن من رجال الشيعة في أماليه و أحاديثه عن السياري شرح نهج البلاغة ج : 7 ص : 280عن أبي خزيمة الكاتب قال ما فتشنا أحدا فيه هذالداء إلا وجدناه ناصبيا. قال أبو عمر و أخبرني العطافي عن رجاله قالوا سئل جعفر بن محمد ع عن هذا الصنف من الناس فقال رحم منكوسة يؤتى و لا يأتي و ما كانت هذه الخصلة في ولي لله تعالى قط و لا تكون أبدا و إنما تكون في الكفار و الفساق و الناصب للطاهرين. و كان أبو جهل عمرو بن هشام المخزومي من القوم و كان أشد الناس عداوة لرسول الله ص قالوا و لذلك قال له عتبة بن ربيعة يوم بدر يا مصفر استه. فهذا مجموع ما ذكره المفسرون و ما سمعته من أفواه الناس في هذا الموضع و يغلب على ظني أنه أراد معنى آخر و ذلك أن عادة العرب أن تكني الإنسان إذا أرادت تعظيمه بما هو مظنة التعظيم كقولهم أبو الهول و أبو المقدام و أبو المغوار فإذا أرادت تحقيره و الغض منه كنته بما يستحقر و يستهان به كقولهم في كنية يزيد بن معاوية أبو زنة يعنون القرد و كقولهم في كنية سعيد بن حفص البخاري المحدث أبو

(8/246)


الفأر و كقولهم للطفيلي أبو لقمة و كقولهم لعبد الملك أبو الذبان لبخره و كقول ابن بسام لبعض الرؤساء
فأنت لعمري أبو جعفر و لكننا نحذف الفاء منه
و قال أيضا
لئيم درن الثوب نظيف القعب و القدرأبو النتن أبو الدفر أبو البعر أبو الجعر
فلما كان أمير المؤمنين ع يعلم من حال الحجاج نجاسته بالمعاصي و الذنوب شرح نهج البلاغة ج : 7 ص : 281التي لو شوهدت بالبصر لكانت بمنزلة البعر الملتصق بشعر الشاء كناه أبو وذحة و يمكن أيضا أن يكنيه بذلك لدمامته في نفسه و حقارة منظره و تشويه خلقته فإنه كان قصيردميما نحيفا أخفش العينين معوج الساقين قصير الساعدين مجدور الوجه أصلع الرأس فكناه بأحقر الأشياء و هو البعرة. و قد روى قوم هذه اللفظة بصيغة أخرى فقالوا إيه أبا ودجة قالوا واحدة الأوداج كناه بذلك لأنه كان قتالا يقطع الأوداج بالسيف و رواه قوم أبا وحرة و هي دويبة تشبه الحرباء قصيرة الظهر شبهه بها. و هذا و ما قبله ضعيف و ما ذكرناه نحن أقرب الصواب
شرح نهج البلاغة ج : 7 ص : 116282- و من كلام له عفَلَا أَمْوَالَ بَذَلْتُمُوهَا لِلَّذِي رَزَقَهَا وَ لَا أَنْفُسَ خَاطَرْتُمْ بِهَا لِلَّذِي خَلَقَهَا تَكْرُمُونَ بِاللَّهِ عَلَى عِبَادِهِ وَ لَا تُكْرِمُونَ اللَّهَ فِي عِبَادِهِ فَاعْتَبِرُوا بِنُزُولِكُمْ مَنَازِلَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ وَ انْقِطَاعِكُمْ عَنْ أَوْصَلِ إِخْوَانِكُمْ

(8/247)


انتصاب الأموال بفعل مقدر دل عليه بذلتموها و كذلك أنفس يقول لم تبذلوا أموالكم في رضا من رزقكم إياها و لم تخاطروا بأنفسكم في رضا الخالق لها و الأولى بكم أن تبذلوا المال في رضا رازقه و النفس في رضا خالقها لأنه ليس أحد أحق منه بالمال و النفس و بذلهما في رضاه. ثم قال من العجب أنكم تطلبون من عباد الله أن يكرموكم و يطيعوكم لأجل الله و انتمائكم إلى طاعته ثم إنكم لا تكرمون الله و لا تطيعونه في نفع عباده و الإحسان إليهم. و محصول هذا القول كيف تسيمون الناس أن يطيعوكم لأجل الله ثم إنكم أنتم لا تطيعون الله الذي تكلفون الناس أن يطيعوكم لأجله ثم أمرهم باعتبارهم بنزولهم منازل من كان قبلهم و هذا مأخوذ من قوله شرح نهج البلاغة ج : 7 ص : 283تعالى وَ سَكَنْتُمْ فِي مَساكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ وَ تَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنا بِهِمْ وَ ضَرَبْنا لَكُمُ الْأَمْثال و روي عن أصل إخوانكم و ذلك بموت الأب فإنه ينقطع أصل الأخ الواشج بينه و بين أخيه و الرواية الأولى أظهر
شرح نهج البلاغة ج : 7 ص : 117284- و من كلام له عأَنْتُمُ الْأَنْصَارُ عَلَى الْحَقِّ وَ الْإِخْوَانُ فِي الدِّينِ وَ الْجُنَنُ يَوْمَ الْبَأْسِ وَ الْبِطَانَةُ دُونَ النَّاسِ بِكُمْ أَضْرِبُ الْمُدْبِرَ وَ أَرْجُو طَاعَةَ الْمُقْبِلِ فَأَعِينُونِي بِمُنَاصَحَةٍ خَلِيَّةٍ مِنَ الْغِشِّ سَلِيمَةٍ مِنَ الرَّيْبِ فَوَاللَّهِ إِنِّي لَأَوْلَى النَّاسِ بِالنَّاسِ

(8/248)


الجنن جمع جنة و هي ما يستر به و بطانة الرجل خواصه و خالصته الذين لا يطوي عنهم سره. فإن قلت أما ضربه بهم المدبر فمعلوم يعني الحرب فما معنى قوله ع و أرجو طاعة المقبل قلت لأن من ينضوي إليه من المخالفين إذا رأى ما عليه شيعته و بطانته من الأخلاق الحميدة و السيرة الحسنة أطاعه بقلبه باطنا بعد أن كان انضوى إليه ظاهرا. و اعلم أن هذا الكلام قاله أمير المؤمنين ع للأنصار بعد فراغه من حرب الجمل و قد ذكره المدائني و الواقدي في كتابيهما

(8/249)


شرح نهج البلاغة ج : 7 ص : 118285- و من كلام له ع و قد جمع الناس و حضهم على الجهاد فسكتوا مليافقال ع مَا بَالُكُمْ أَ مُخْرَسُونَ أَنْتُمْ فَقَالَ قَوْمٌ مِنْهُمْ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ إِنْ سِرْتَ سِرْنَا مَعَكَ فَقَالَ ع مَا بَالُكُمْ لَا سُدِّدْتُمْ لِرُشْدٍ وَ لَا هُدِيتُمْ لِقَصْدٍ أَ فِي مِثْلِ هَذَا يَنْبَغِي لِي أَنْ أَخْرُجَ وَ إِنَّما يَخْرُجُ فِي مِثْلِ هَذَا رَجُلٌ مِمَّنْ أَرْضَاهُ مِنْ شُجْعَانِكُمْ وَ ذَوِي بَأْسِكُمْ وَ لَا يَنْبَغِي لِي أَنْ أَدَعَ الْجُنْدَ وَ الْمِصْرَ وَ بَيْتَ الْمَالِ وَ جِبَايَةَ الْأَرْضِ وَ الْقَضَاءَ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ وَ النَّظَرَ فِي حُقُوقِ الْمُطَالِبِينَ ثُمَّ أَخْرُجَ فِي كَتِيبَةٍ أَتْبَعُ أُخْرَى أَتَقَلْقَلُ تَقَلْقُلَ الْقِدْحِ فِي الْجَفِيرِ الْفَارِغِ وَ إِنَّمَا أَنَا قُطْبُ الرَّحَى تَدُورُ عَلَيَّ وَ أَنَا بِمَكَانِي فَإِذَا فَارَقْتُهُ اسْتَحَارَ مَدَارُهَا وَ اضْطَرَبَ ثِفَالُهَا هَذَا لَعَمْرُ اللَّهِ الرَّأْيُ السُّوءُ وَ اللَّهِ لَوْ لَا رَجَائِي الشَّهَادَةَ عِنْدَ لِقَائِي الْعَدُوَّ وَ لَوْ قَدْ حُمَّ لِي لِقَاؤُهُ لَقَرَّبْتُ رِكَابِي ثُمَّ شَخَصْتُ عَنْكُمْ فَلَا أَطْلُبُكُمْ مَا اخْتَلَفَ جَنُوبٌ وَ شَمَالٌ طَعَّانِينَ عَيَّابِينَ حَيَّادِينَ رَوَّاغِينَ إِنَّهُ لَا غَنَاءَ فِي كَثْرَةِ عَدَدِكُمْ مَعَ قِلَّةِ اجْتِمَاعِ قُلُوبِكُمْ لَقَدْ حَمَلْتُكُمْ عَلَى الطَّرِيقِ الْوَاضِحِ الَّتِي لَا يَهْلِكُ عَلَيْهَا إِلَّا هَالِكٌ مَنِ اسْتَقَامَ فَإِلَى الْجَنَّةِ وَ مَنْ زَلَّ فَإِلَى النَّارِ

(8/250)


شرح نهج البلاغة ج : 7 ص : 286سكتوا مليا أي ساعة طويلة و مضى ملي من النار كذلك قال الله تعالى وَ اهْجُرْنِي مَلِيًّا و أقمت عند فلان ملاوة و ملاوة و ملاوة من الدهر بالحركات الثلاث أي حينا و برهة و كذلك أقمت ملوة و ملوة و ملوة بالحركات الثلاث. و قوله أ مخون أنتم اسم المفعول من أخرسه الله و خرس الرجل و الخرس المصدر. و الكتيبة قطعة من الجيش و التقلقل الحركة في اضطراب و القدح السهم و الجفير الكنانة و قيل وعاء للسهام أوسع من الكنانة. و استحار مدارها اضطرب و المدار هاهنا مصدر و الثقال بكسر الثاء جلد يبسط و توضع الرحى فوقه فتطحن باليد ليسقط عليه الدقيق. و حم أي قدر و الركاب الإبل و شخصت عنكم خرجت ثم وصفهم بعيب الناس و الطعن فيهم و أنهم يحيدون عن الحق و عن الحرب أي ينحرفون و يروغون كما يروغ الثعلب. ثم قال إنه لا غناء عندكم و إن اجتمعتم بالأبدان مع تفرقي القلوب و الغناء بالفتح و المد النفع. و انتصب طعانين على الحال من الضمير المنصوب في أطلبكم. شرح نهج البلاغة ج : 7 ص : 287و هذا كلام قاله أمير المؤمنين ع في بعض غارات أهل الشام على أطراف أعماله بالعراق بعد انقضاء أمر صفين و النهروان و قد ذكرنا سببه و وقعته فيما تقدمفإن قلت كيف قال الطريق الواضح فذكره ثم قال لا يهلك فيها فأنثه قلت لأن الطريق يذكر و يؤنث تقول الطريق الأعظم و الطريق العظمى فاستعمل اللغتين معا

(8/251)


شرح نهج البلاغة ج : 7 ص : 119288- و من كلام له عتَاللَّهِ لَقَدْ عُلِّمْتُ تَبْلِيغَ الرِّسَالَاتِ وَ إِتْمَامَ الْعِدَاتِ وَ تَمَامَ الْكَلِمَاتِ وَ عِنْدَنَا أَهْلَ الْبَيْتِ أَبْوَابُ الْحُكْمِ وَ ضِيَاءُ الْأَمْرِ أَلَا وَ إِنَّ شَرَائِعَ الدِّينِ وَاحِدَةٌ وَ سُبُلَهُ قَاصِدَةٌ مَنْ أَخَذَ بِهَا لَحِقَ وَ غَنِمَ وَ مَنْ وَقَفَ عَنْهَا ضَلَّ وَ نَدِمَ اعْمَلُوا لِيَوْمٍ تُذْخَرُ لَهُ الذَّخَائِرُ وَ تُبْلَى فِيهِ السَّرَائِرُ وَ مَنْ لَا يَنْفَعُهُ حَاضِرُ لُبِّهِ فَعَازِبُهُ عَنْهُ أَعْجَزُ وَ غَائِبُهُ أَعْوَزُ وَ اتَّقُوا نَاراً حَرُّهَا شَدِيدٌ وَ قَعْرُهَا بَعِيدٌ وَ حِلْيَتُهَا حَدِيدٌ وَ شَرَابُهَا صَدِيدٌ. أَلَا وَ إِنَّ اللِّسَانَ الصَّالِحَ يَجْعَلُهُ اللَّهُ تَعَالَى لِلْمَرْءِ فِي النَّاسِ خَيْرٌ لَهُ مِنَ الْمَالِ يُورِثُهُ مَنْ لَا يَحْمَدُهُ
رواها قوم لقد علمت بالتخفيف و فتح العين و الرواية الأولى أحسن فتبليغ الرسالات تبليغ الشرائع بعد وفاة الرسول ص إلى المكلفين و فيه إشارة إلى قوله تعالى يُبَلِّغُونَ رِسالاتِ اللَّهِ وَ يَخْشَوْنَهُ وَ لا يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلَّا اللَّهَ و إلى
قول النبي ص في قصة براءة لا يؤدي عني إلا أنا و رجل مني
شرح نهج البلاغة ج : 7 ص : 289و إتمام العدات إنجازها و فيه إشارة إلى قوله تعالى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ و إلى قول النبي ص في حقه ع قاضي ديني و منجز موعدي
و تمام الكلمات تأويل القرآن و فيه إشارة إلى قوله تعالى وَ تَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقاً وَ عَدْلًا و إلى
قول النبي في حقه ع اللهم اهد قلبه و ثبت لسانه

(8/252)


و خلاصة هذا أنه أقسم بالله أنه قد علم أو علم على اختلاف الروايتين أداء الشرائع إلى المكلفين و الحكم بينهم بما أنزله الله و علم مواعيد رسول الله التي وعد بها فمنها ما هو وعد لواحد من الناس بأمر نحو أن يقول له سأعطيك كذا و منها ما هو وعد بأمر يحدث كأخبار الملاحم و الأمور المتجددة و علم تمام كلمات الله تعالى أي تأويلها و بيانها الذي يتم به لأن في كلامه تعالى المجمل الذي لا يستغني عن متمم و مبين يوضحه. ثم كشف الغطاء و أوضح المراد فقال و عندنا أهل البيت أبواب الحكم يعني الشرعيات و الفتاوي و ضياء الأمر يعني العقليات و العقائد و هذا مقام عظيم لا يجسر أحد من المخلوقين أن يدعيه سواه ع و لو أقدم أحد على ادعائه غيره لكذب و كذبه الناس. و أهل البيت منصوب على الاختصاص. و سبله قاصدة أي قريبة سهلة و يقال بيننا و بين الماء ليلة قاصدة و رافهة أي هينة المسير لا تعب و لا بطء. و تبلى فيه السرائر أي تختبر. ثم قال من لا ينفعه لبه الحاضر و عقله الموجود فهو بعدم الانتفاع بما هو غير حاضر شرح نهج البلاغة ج : 7 ص : 290و لا موجود من العقل عنده أولى و أحرى أي من لم يكن له من نفسه و من ذاته وازع و زاجر عن القبيح فبعيد أن ينزجر و أن يرتدععقل غيره و موعظة غيره له كما قيل
و زاجر من النفس خير من عتاب العواذل
ثم ذكر النار فحذر منها. و قوله حليتها حديد يعني القيود و الأغلال. ثم ذكر أن الذكر الطيب يخلفه الإنسان بين الناس خير له من مال يجمعه و يورثه من لا يحمده و
جاء في الأثر أن أمير المؤمنين جاءه مخبر فأخبره أن مالا له قد انفجرت فيه عين خرارة يبشره بذلك فقال بشر الوارث بشر الوارث يكررها ثم وقف ذلك المال على الفقراء و كتب به كتابا في تلك الساعة

(8/253)


شرح نهج البلاغة ج : 7 ص : 120291- و من كلام له عوَ قَدْ قَامَ إِلَيْهِ رَجُلٌ مِنْ أَصْحَابِهِ فَقَالَ نَهَيْتَنَا عَنِ الْحُكُومَةِ ثُمَّ أَمَرْتَنَا بِهَا فَمَا نَدْرِي أَيُّ الْأَمْرَيْنِ أَرْشَدُ فَصَفَّقَ ع إِحْدَى يَدَيْهِ عَلَى الْأُخْرَى ثُمَّ قَالَ هَذَا جَزَاءُ مَنْ تَرَكَ الْعُقْدَةَ أَمَا وَ اللَّهِ لَوْ أَنِّي حِينَ أَمَرْتُكُمْ بِمَا أَمَرْتُكُمْ بِهِ حَمَلْتُكُمْ عَلَى الْمَكْرُوهِ الَّذِي يَجْعَلُ اللَّهُ فِيهِ خَيْراً فَإِنِ اسْتَقَمْتُمْ هَدَيْتُكُمْ وَ إِنِ اعْوَجَجْتُمْ قَوَّمْتُكُمْ وَ إِنْ أَبَيْتُمْ تَدَارَكْتُكُمْ لَكَانَتِ الْوُثْقَى وَ لَكِنْ بِمَنْ وَ إِلَى مَنْ أُرِيدُ أَنْ أُدَاوِيَ بِكُمْ وَ أَنْتُمْ دَائِي كَنَاقِشِ الشَّوْكَةِ بِالشَّوْكَةِ وَ هُوَ يَعْلَمُ أَنَّ ضَلْعَهَا مَعَهَا اللَّهُمَّ قَدْ مَلَّتْ أَطِبَّاءُ هَذَا الدَّاءِ الدَّوِيِّ وَ كَلَّتِ النَّزَعَةُ بِأَشْطَانِ الرَّكِيِّ أَيْنَ الْقَوْمُ الَّذِينَ دُعُوا إِلَى الْإِسْلَامِ فَقَبِلُوهُ وَ قَرَءُوا الْقُرْآنَ فَأَحْكَمُوهُ وَ هِيجُوا إِلَى الْجِهَادِ فَوَلِهُوا وَلَهَ اللِّقَاحِ إِلَى أَوْلَادِهَا وَ سَلَبُوا السُّيُوفَ أَغْمَادَهَا وَ أَخَذُوا بِأَطْرَافِ الْأَرْضِ زَحْفاً زَحْفاً وَ صَفّاً صَفّاً بَعْضٌ هَلَكَ وَ بَعْضٌ نَجَا لَا يُبَشَّرُونَ بِالْأَحْيَاءِ وَ لَا يُعَزَّوْنَ عَنِ الْمَوْتَى مُرْهُ الْعُيُونِ مِنَ الْبُكَاءِ خُمْصُ الْبُطُونِ مِنَ الصِّيَامِ ذُبُلُ الشِّفَاهِ مِنَ الدُّعَاءِ صُفْرُ الْأَلْوَانِ مِنَ السَّهَرِ عَلَى وُجُوهِهِمْ غَبَرَةُ الْخَاشِعِينَ أُولَئِكَ إِخْوَانِي الذَّاهِبُونَ فَحَقَّ لَنَا أَنْ نَظْمَأَ إِلَيْهِمْ وَ نَعَضَّ الْأَيْدِي عَلَى فِرَاقِهِمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ يُسَنِّي لَكُمْ طُرُقَهُ وَ يُرِيدُ أَنْ يَحُلَّ دِينَكُمْ عُقْدَةً عُقْدَةً وَ

(8/254)


يُعْطِيَكُمْ شرح نهج البلاغة ج : 7 ص : 292بِالْجَمَاعَةِ الْفُرْقَةَ وَ بِالْفُرْقَةِ الْفِتْنَةَ فَاصْدِفُوا عَنْ نَزَغَاتِهِ وَ نَفَثَاتِهِ وَ اقْبَلُوا النَّصِيحَةَ مِمَّنْ أَهْدَاهَا إِلَيْكُمْ وَ اعْقِلُوهَا عَلَى أَنْفُسِكُمْهذه شبهة من شبهات الخوارج و معناها أنك نهيت عن الحكومة أولا ثم أمرت بها ثانيا فإن كانت قبيحة كنت بنهيك عنها مصيبا و بأمرك بها مخطئا و إن كانت حسنة كنت بنهيك عنها مخطئا و بأمرك بها مصيبا فلا بد من خطئك على كل حال. و جوابها أن للإمام أن يعمل بموجب ما يغلب على ظنه من المصلحة فهو ع لما نهاهم عنها كان نهيه عنها مصلحة حينئذ و لما أمرهم بها كانت المصلحة في ظنه قد تغيرت فأمرهم على حسب ما تبدل و تغير في ظنه كالطبيب الذي ينهى المريض اليوم عن أمر و يأمره بمثله غدا. و قوله هذا جزاء من ترك العقدة يعني الرأي الوثيق و في هذا الكلام اعتراف بأنه بان له و ظهر فيما بعد أن الرأي الأصلح كان الإصرار و الثبات على الحرب و أن ذلك و إن كان مكروها فإن الله تعالى كان يجعل الخيرة فيه كما قال سبحانه فَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَ يَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً ثم قال كنت أحملكم على الحرب و ترك الالتفات إلى مكيدة معاوية و عمرو من رفع المصاحف فإن استقمتم لي اهتديتم بي و إن لم تستقيموا فذلك ينقسم إلى قسمين أحدهما أن تعوجوا أي يقع منكم بعض الالتواء و يسير من العصيان كفتور الهمة و قلة الجد في الحرب و الثاني التأني و الامتناع المطلق من الحرب فإن كان الأول قومتكم شرح نهج البلاغة ج : 7 ص : 293بالتأديب و الإرشاد و إرهاق الهمم و العزائم بالتبصير و الوعظ و التحريض و التشجيع و إن كان الثاني تداركت الأمر معكم إما بالاستنجاد بغيركم من قبائل العرب و أهل خراسان و الحجاز فكلهم كانوا شيعته و قلين بإمامته أو بما أراه في ذلك الوقت من المصلحة التي تحكم بها الحال الحاضرة. قال لو فعلت

(8/255)


ذلك لكانت هي العقدة الوثقى أي الرأي الأصوب الأحزم. فإن قلت أ فتقولون إنه أخطأ في العدول عن هذا الرأي قلت لا نقول إنه أخطأ بمعنى الإثم لأنه إنما فعل ما تغلب على ظنه أنه المصلحة و ليس الواجب عليه إلا ذلك و لكنه ترك الرأي الأصوب كما قال الحسن هلا مضيت قدما لا أبا لك و لا يلحق الإثم من غلب على ظنه في حكم السياسة أمر فاعتمده ثم بان له أن الأصوب كان خلافه و قد قيل إن قوله
لقد عثرت عثرة لا تنجبر سوف أكيس بعدها و أستمرو أجمع الرأي الشتيت المنتشر

(8/256)


إشارة إلى هذا المعنى و قيل فيه غير ذلك مما قدمنا ذكره قبل. و قال شيخنا أبو عثمان الجاحظ رضي الله عنه من عرفه عرف أنه غير ملوم في الانقياد معهم إلى التحكيم فإنه مل من القتل و تجريد السيف ليلا و نهارا حتى ملت الدماء من إراقته لها و ملت الخيل من تقحمه الأهوال بها و ضجر من دوام تلك الخطوب الجليلة و الأرزاء العظيمة و استلاب الأنفس و تطاير الأيدي و الأرجل بين يديه و أكلت الحرب أصحابه و أعداءه و عطلت السواعد و خدرت الأيدي التي سلمت من وقائع السيوف بها و لو أن أهل الشام لم يستعفوا من الحرب و يستقيلوا من شرح نهج الاغة ج : 7 ص : 294المقارعة و المصادمة لأدت الحال إلى قعود الفيلقين معا و لزومهم الأرض و إلقائهم السلاح فإن الحال أفضت بعظمها و هو لها إلى ما يعجز اللسان عن وصفه. و اعلم أنه ع قال هذا القول و استدرك بكلام آخر حذرا أن يثبت على نفسه الخطأ في الرأي فقال لقد كان هذا رأيا لو كان لي من يطيعني فيه و يعمل بموجبة و أستعين به على فعله و لكن بمن كنت أعمل ذلك و إلى من أخلد في فعله أما الحاضرون لنصري فأنتم و حالكم معلومة في الخلاف و الشقاق و العصيان و أما الغائبون من شيعتي كأهل البلاد النائية فإلى أن يصلوا يكون قد بلغ العدو غرضه مني و لم يبق من أخلد إليه في إصلاح الأمر و إبرام هذا الرأي الذي كان صوابا لو اعتمد إلا أن أستعين ببعضكم على بعض فأكون كناقش الشوكة بالشوكة و هذا مثل مشهور لا تنقش الشوكة بالشوكة فإن ضلعها لها و الضلع الميل يقول لا تستخرج الشوكة الناشبة في رجلك بشوكة مثلها فإن إحداهما في القوة و الضعف كالأخرى فكما أن الأولى انكسرت لما وطئتها فدخلت في لحمك فالثانية إذا حاولت استخراج الأولى بها تنكسر و تلج في لحمك. ثم قال اللهم إن هذا الداء الدوي قد ملت أطباؤه و الدوي الشديد كما تقول ليل أليل. و كلت النزعة جمع نازع و هو الذي يستقي الماء و الأشطان جمع شطن و هو الحبل و الركي الآبار

(8/257)


جمع ركية و تجمع أيضا على ركايا. ثم قال أين القوم هذا كلام متأسف على أولئك متحسر على فقدهم. و الوله شدة الحب حتى يذهب العقل وله الرجل. و اللقاح بكسر اللام الإبل و الواحدة لقوح و هي الحلوب مثل قلاص و قلوص. شرح نهج البلاغة ج : 7 ص : 295قوله و أخذوا بأطراف الأرض أي أخذوا على الناس بأطراف الأرض أي حصروهم يقال لمن استولى على غيره و ضيق عليه قد أخذ عليه بأطراف الأرض قال الفرزدقأخذنا بأطراف السماء عليكم لنا قمراها و النجوم الطوالع
و زحفا زحفا منصوب على المصدر المحذوف الفعل أي يزحفون زحفا و الكلمة الثانية تأكيد للأولى و كذلك قوله و صفا صفا. ثم ذكر أن بعض هؤلاء المتأسف عليهم هلك و بعض نجا و هذا ينجي قوله تعالى فَمِنْهُمْ مَنْ قَضى نَحْبَهُ وَ مِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ. ثم ذكر أن هؤلاء قوم و قذتهم العبادة و انقطعوا عن الناس و تجردوا عن العلائق الدنيوية فإذا ولد لأحدهم مولود لم يبشر به و إذا مات له ميت لم يعز عنه. و مرهت عين فلان بكسر الراء إذا فسدت لترك الكحل لكن أمير المؤمنين ع جعل مره عيون هؤلاء من البكاء من خوف خالقهم سبحانه و ذكر أن بطونهم من خماص الصوم و شفاههم ذابلة من الدعاء و وجوههم مصفرة من السهر لأنهم يقومون الليل و على وجوههم غبرة الخشوع. ثم قال أولئك إخواني الذاهبون فإن قلت من هؤلاء الذين يشير ع إليهم قلت هم قوم كانوا في نأنأة الإسلام و في زمان ضعفه و خموله أرباب زهد و عبادة و جهاد شديد في سبيل الله كمصعب بن عمير من بني عبد الدار و كسعد بن معاذ من الأوس و كجعفر بن أبي طالب و عبد الله بن رواحة و غيرهم ممن استشهد من الصالحين شرح نهج البلاغة ج : 7 ص : 296أرباب الدين و العبادة و الشجاعة في يوم أحد و في غيره من الأيام في حياة رسوللله ص و كعمار و أبي ذر و المقداد و سلمان و خباب و جماعة من أصحاب الصفة و فقراء المسلمين أرباب العبادة الذين قد جمعوا بين الزهد و الشجاعة و

(8/258)


قد جاء في الأخبار الصحيحة أن رسول الله ص قال إن الجنة لتشتاق إلى أربعة علي و عمار و أبي ذر و المقداد
و جاء في الأخبار الصحيحة أيضا أن جماعة من أصحاب الصفة مر بهم أبو سفيان بن حرب بعد إسلامه فعضوا أيديهم عليه و قالوا وا أسفاه كيف لم تأخذ السيوف مأخذها من عنق عدو الله و كان معه أبو بكر فقال لهم أ تقولون هذا لسيد البطحاء فرفع قوله إلى رسول الله ص فأنكره و قال لأبي بكر انظر لا تكون أغضبتهم فتكون قد أغضبت ربك فجاء أبو بكر إليهم و ترضاهم و سألهم أن يستغفروا له فقالوا غفر الله لك
قوله فحق لنا يقال حق له أن يفعل كذا و هو حقيق به و هو محقوق به أي خليق له و الجمع أحقاء و محقوقون. و يسني يسهل و صدف عن الأمر يصدف أي انصرف عنه و نزغات الشيطان ما ينزغ به بالفتح أي يفسد و يغرى و نفثاته ما ينفث به و ينفث بالضم و الكسر أي يخيل و يسحر. و اعقلوها على أنفسكم أي اربطوها و الزموها

(8/259)


شرح نهج البلاغة ج : 7 ص : 121297- و من كلام له ع قاله للخوارجوَ قَدْ خَرَجَ إِلَى مُعَسْكَرِهِمْ وَ هُمْ مُقِيمُونَ عَلَى إِنْكَارِ الْحُكُومَةِ فَقَالَ ع أَ كُلُّكُمْ شَهِدَ مَعَنَا صِفِّينَ فَقَالُوا مِنَّا مَنْ شَهِدَ وَ مِنَّا مَنْ لَمْ يَشْهَدْ قَالَ فَامْتَازُوا فِرْقَتَيْنِ فَلْيَكُنْ مَنْ شَهِدَ صِفِّينَ فِرْقَةً وَ مَنْ لَمْ يَشْهَدْهَا فِرْقَةً حَتَّى أُكَلِّمَ كُلًّا مِنْكُمْ بِكَلَامِهِ وَ نَادَى النَّاسَ فَقَالَ أَمْسِكُوا عَنِ الْكَلَامِ وَ أَنْصِتُوا لِقَوْلِي وَ أَقْبِلُوا بِأَفْئِدَتِكُمْ إِلَيَّ فَمَنْ نَشَدْنَاهُ شَهَادَةً فَلْيَقُلْ بِعِلْمِهِ فِيهَا ثُمَّ كَلَّمَهُمْ ع بِكَلَامٍ طَوِيلٍ مِنْ جُمْلَتِهِ أَنْ قَالَ ع أَ لَمْ تَقُولُوا عِنْدَ رَفْعِهِمُ الْمَصَاحِفَ حِيلَةً وَ غِيلَةً وَ مَكْراً وَ خَدِيعَةً إِخْوَانُنَا وَ أَهْلُ دَعْوَتِنَا اسْتَقَالُونَا وَ اسْتَرَاحُوا إِلَى كِتَابِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ فَالرَّأْيُ الْقَبُولُ مِنْهُمْ وَ التَّنْفِيسُ عَنْهُمْ فَقُلْتُ لَكُمْ هَذَا أَمْرٌ ظَاهِرُهُ إِيمَانٌ وَ بَاطِنُهُ عُدْوَانٌ وَ أَوَّلُهُ رَحْمَةٌ وَ آخِرُهُ نَدَامَةٌ فَأَقِيمُوا عَلَى شَأْنِكُمْ وَ الْزَمُوا طَرِيقَتَكُمْ وَ عَضُّوا عَلَى الْجِهَادِ بَنَوَاجِذِكُمْ وَ لَا تَلْتَفِتُوا إِلَى نَاعِقٍ نَعَقَ إِنْ أُجِيبَ أَضَلَّ وَ إِنْ تُرِكَ ذَلَّ فَلَقَدْ كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ ص وَ إِنَّ الْقَتْلَ لَيَدُورُ عَلَى الآْبَاءِ وَ الْأَبْنَاءِ شرح نهج البلاغة ج : 7 ص : 298وَ الْإِخْوَانِ وَ اقَرَابَاتِ فَمَا نَزْدَادُ عَلَى كُلِّ مُصِيبَةٍ وَ شِدَّةٍ إِلَّا إِيمَاناً وَ مُضِيّاً عَلَى الْحَقِّ وَ تَسْلِيماً لِلْأَمْرِ وَ صَبْراً عَلَى مَضَضِ الْجِرَاحِ وَ لَكِنَّا إِنَّمَا أَصْبَحْنَا نُقَاتِلُ إِخْوَانَنَا فِي الْإِسْلَامِ عَلَى مَا دَخَلَ

(8/260)


فِيهِ مِنَ الزَّيْغِ وَ الِاعْوِجَاجِ وَ الشُّبْهَةِ وَ التَّأْوِيلِ فَإِذَا طَمِعْنَا فِي خَصْلَةٍ يَلُمُّ اللَّهُ بِهَا شَعَثَنَا وَ نَتَدَانَى بِهَا إِلَى الْبَقِيَّةِ فِيمَا بَيْنَنَا رَغِبْنَا فِيهَا وَ أَمْسَكْنَا عَمَّا سِوَاهَا
هذا الكلام يتلو بعضه بعضا و لكنه ثلاثة فصول لا يلتصق أحدها بالآخر و هذه عادة الرضي تراه ينتخب من جملة الخطبة الطويلة كلمات فصيحة يوردها على سبيل التتالي و ليست متتالية حين تكلم بها صاحبها و سنقطع كل فصل منها عن صاحبه إذا مررنا على متنها. قوله إلى معسكرهم الكاف مفتوحة و لا يجوز كسرها و هو موضع العسكر و محطه. و شهد صفين حضرها قال تعالى فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ. قوله فامتازوا أي انفردوا قال تعالى وَ امْتازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ. قوله حتى أكلم كلا منكم بكلامه أي بالكلام الذي يليق به و الغيلة الخداع و الناعق المصوت. قوله إن أجيب ضل و إن ترك ذل... هو آخر الفصل الأول و قوله ضل أي ازداد ضلالا لأنه قد ضل قبل أن يجاب. شرح نهج البلاغة ج : 7 ص : 299فأما قوله فلقد كنا مع رسول الله ص فهو من كلام آخر و هو قائم بنفسه إلى قوله و صبرا على مضض الجراح فا آخر الفصل الثاني. فأما قوله لكنا إنما أصبحنا فهو كلام ثالث غير منوط بالأولين و لا ملتصق بهما و هو في الظاهر مخالف و مناقض للفصل الأول لأن الفصل الأول فيه إنكار الإجابة إلى التحكيم و هذا يتضمن تصويبها و ظاهر الحال أنه بعد كلام طويل و قد قال الرضي رحمه الله في أول الفصل أنه من جملة كلام طويل و أنه لما ذكر التحكيم قال ما كان يقوله دائما و هو أني إنما حكمت على أن نعمل في هذه الواقعة بحكم الكتاب و إن كنت أحارب قوما ما أدخلوا في الإسلام زيغا و أحدثوا به اعوجاجا فلما دعوني إلى تحكيم الكتاب أمسكت عن قتلهم و أبقيت عليهم لأني طمعت في أمر يلم الله به شعث المسلمين و يتقاربون بطريقه إلى البقية و هي

(8/261)


الإبقاء و الكف. فإن قلت إنه قد قال نقاتل إخواننا من المسلمين و أنتم لا تطلقون على أهل الشام المحاربين له لفظة المسلمين قلت إنا و إن كنا نذهب إلى أن صاحب الكبيرة لا يسمى مؤمنا و لا مسلما فإنا نجيز أن يطلق عليه هذا اللفظ إذا قصد به تمييزه عن أهل الذمة و عابدي الأصنام فيطلق مع قرينة حال أو لفظ يخرجه عن أن يكون مقصودا به التعظيم و الثناء و المدح فإن لفظة مسلم و مؤمن تستعمل في أكثر الأحوال كذلك و أمير المؤمنين ع لم يقصد بذلك إلا تمييزهم من كفار العرب و غيرهم من أهل الشرك و لم يقصد مدحهم بذلك فلم ينكر مع هذا القصد إطلاق لفظ المسلمين عليهم
شرح نهج البلاغة ج : 7 ص : 122300- و من كلام له ع قاله لأصحابه في ساعة الحربوَ أَيُّ امْرِئٍ مِنْكُمْ أَحَسَّ مِنْ نَفْسِهِ رِبَاطَةَ جَأْشٍ عِنْدَ اللِّقَاءِ وَ رَأَى مِنْ أَحَدٍ مِنْ إِخْوَانِهِ فَشَلًا فَلْيَذُبَّ عَنْ أَخِيهِ بِفَضْلِ نَجْدَتِهِ الَّتِي فُضِّلَ بِهَا عَلَيْهِ كَمَا يَذُبُّ عَنْ نَفْسِهِ فَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَهُ مِثْلَهُ إِنَّ الْمَوْتَ طَالِبٌ حَثِيثٌ لَا يَفُوتُهُ الْمُقِيمُ وَ لَا يُعْجِزُهُ الْهَارِبُ إِنَّ أَكْرَمَ الْمَوْتِ الْقَتْلُ وَ الَّذِي نَفْسُ ابْنِ أَبِي طَالِبٍ بِيَدِهِ لَأَلْفُ ضَرْبَةٍ بِالسَّيْفِ أَهْوَنُ عَلَيَّ مِنْ مِيتَةٍ عَلَى الْفِرَاشِ فِي غَيْرِ طَاعَةِ اللَّهِ

(8/262)


أحسن علم و وجد و رباطة جأش أي شدة قلب و الماضي ربط كأنه يربط نفسه عن الفرار و المروي رباطة بالكسر و لا أعرفه نقلا و إنما القياس لا يأباه مثل عمر عمارة و خلب خلابة. و الفشل الجبن و ذب الرجل عن صاحبه أي أكثر الذب و هو الدفع و المنع. و النجدة الشجاعة و الحثيث السريع و في بعض الروايات فليذب عن صاحبه بالإدغام و في بعضها فليذبب بفك الإدغام و الميتة بالكسر هيئة الميت كالجلسة و الركبة هيئة الجالس و الراكب يقال مات فلان ميتة حسنة و المروي في نهج شرح نهج البلاغة ج : 7 ص : 301البلاغة بالكسر في أكثر الروايات و قد روين موتة و هو الأليق يعني المرة الواحدة ليقع في مقابلة الألف. و اعلم أنه ع أقسم أن القتل أهون من الموت حتف الأنف و ذلك على مقتضى ما منحه الله تعالى من الشجاعة الخارقة لعادة البشر و هو ع يحاول أن يحض أصحابه و يحرضهم ليجعل طباعهم مناسبة لطباعه و إقدامهم على الحرب مماثلا لإقدامه على عادة الأمراء في تحريض جندهم و عسكرهم و هيهات إنما هو كما قال أبو الطيب
يكلف سيف الدولة الجيش همه و قد عجزت عنه الجيوش الخضارم و يطلب عند الناس ما عند نفسه و ذلك ما لا تدعيه الضراغمليست النفوس كلها من جوهر واحد و لا الطباع و الأمزجة كلها من نوع واحد و هذه خاصية توجد لمن يصطفيه الله تعالى من عباده في الأوقات المتطاولة و الدهور المتباعدة و ما اتصل بنا نحن من بعد الطوفان فإن التواريخ من قبل الطوفان مجهولة عندنا أن أحدا أعطي من الشجاعة و الإقدام ما أعطيه هذا الرجل من جميع فرق العالم على اختلافها من الترك و الفرس و العرب و الروم و غيرهم و المعلوم من حاله أنه كان يؤثر الحرب على السلم و الموت على الحياة و الموت الذي كان يطلبه و يؤثره إنما هو القتل بالسيف لا الموت على الفراش كما قال الشاعر
لو لم يمت بين أطراف الرماح إذا لمات إذ لم يمت من شدة الحزن

(8/263)


شرح نهج البلاغة ج : 7 ص : 302و كما قال الآخريستعذبون مناياهم كأنهم لا ييأسون من الدنيا إذا قتلوا
فإن قلت فما قولك فيما أقسم عليه هل ألف ضربة بالسيف أهون ألما على المقتول من موتة واحدة على الفراش بالحقيقة أم هذا قول قاله على سبيل المبالغة و التجوز ترغيبا لأصحابه في الجهاد قلت الحالف يحلف على أحد أمرين أحدهما أن يحلف على ظنه و اعتقاده نحو أن يحلف أن زيدا في الدار أي أنا حالف و مقسم على أني أظن أن زيدا في الدار أو أني أعتقد كون زيد في الدار و الثاني أن يحلف لا على ظنه بل يحلف على نفس الأمر في الخارج فإن حملنا قسم أمير المؤمنين ع على المحمل الأول فقد اندفع السؤال لأنه ع قد كان يعتقد ذلك فحلف أنه يعتقد و أنه يظن ذلك و هذا لا كلام فيه و إن حملناه على الثاني فالأمر في الحقيقة يختلف لأن المقتول بسيف صارم معجل للزهوق لا يجد من الألم وقت الضربة ما يجده الميت دون النزع من المد و الكف نعم قد يجد المقتول قبل الضربة ألم التوقع لها و ليس كلامنا في ذلك بل في ألم الضربة نفسها و ألف سيف صارم مثل سيف واحد إذا فرضنا سرعة الزهوق و أما في غير هذه الصورة نحو أن يكون السيف كالا و تتكرر الضربات به و الحياة باقية بعد و قايسنا بينه و بين ميت يموت حتف أنفه موتا سريعا إما بوقوف القوة الغاذية كما يموت الشيوخ أو بإسهال ذريع تسقط معه القوة و يبقى العقل و الذهن إلى وقت الموت فإن الموت هاهنا أهون و أقل ألما فالواجب أن يحمل كلام أمير المؤمنين ع إما على جهة التحريض فيكون قد بالغ كعادة العرب و الخطباء في المبالغات المجازية و إما أن يكون أقسم على أنه يعتقد ذلك و هو صادق فيما أقسم لأنه هكذا كان يعتقد بناء على شرح نهج البلاغة ج : 7 ص : 303ما هو مركوز في طبعه من محبة القتال و كراهية الموت على الفراش و قد روي أنه قيل لأبي مسلم الخراساني إن في بعض الكتب المنزلة من قتل بالسيف فبالسيف يقتل فقال القتل أحب إلي من

(8/264)


اختلاف الأطباء و النظر في الماء و مقاة الدواء و الداء فذكر ذلك للمنصور بعد قتل أبي مسلم فقال قد أبلغناه محبته
شرح نهج البلاغة ج : 7 ص : 123304- و من كلام له عوَ كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَيْكُمْ تَكِشُّونَ كَشِيشَ الضِّبَابِ لَا تَأْخُذُونَ حَقّاً وَ لَا تَمْنَعُونَ ضَيْماً قَدْ خُلِّيتُمْ وَ الطَّرِيقَ فَالنَّجَاةُ لِلْمُقْتَحِمِ وَ الْهَلَكَةُ لِلْمُتَلَوِّمِ
الكشيش الصوت يشوبه خور مثل الخشخشة و كشيش الأفعى صوتها من جلدها لا من فمها و قد كشت تكش قال الراجز
كشيش أفعى أجمعت لعض و هي تحك بعضها ببعض
يقرع ع أصحابه بالجبن و الفشل و يقول لهم لكأني أنظر إليكم و أصواتكم غمغمة بينكم من الهلع الذي قد اعتراكم فهي أشبه شي ء بأصوات الضباب المجتمعة. ثم أكد وصف جبنهم حقا و خوفهم فقال لا تأخذون حقا و لا تمنعون ضيما و هذه غاية ما يكون من الذل. ثم ترك هذا الكلام و بتدأ فقال قد خليتم و طريق النجاة عند الحرب و دللتم عليها شرح نهج البلاغة ج : 7 ص : 305و هي أن تقتحموا و تلحجوا و لا تهنوا فإنكم متى فعلتم ذلك نجوتم و متى تلومتم و تثبطتم و أحجمتم هلكتم و من هذا المعنى قول الشاعرتأخرت أستبقي الحياة فلم أجد لنفسي حياة مثل أن أتقدما
و قال قطري بن الفجاءة
لا يركنن أحد إلى الإحجام يوم الوغى متخوفا لحمام فلقد أراني للرماح دريئة من عن يميني تارة و أمامي حتى خضبت بما تحدر من دمي أكناف سرجي أو عنان لجامي ثم انصرفت و قد أصبت و لم أصب جذع البصيرة قارح الإقدو كتب أبو بكر إلى خالد بن الوليد و اعلم أن عليك عيونا من الله ترعاك و تراك فإذا لقيت العدو فاحرص على الموت توهب لك الحياة و لا تغسل الشهداء من دمائهم فإن دم الشهيد نور له يوم القيامة و قال أبو الطيب
يقتل العاجز الجبان و قد يعجز عن قطع بخنق المولودو يوقى الفتى المخش و قد خوض في ماء لبة الصنديد

(8/265)


شرح نهج البلاغة ج : 7 ص : 306و لهذا المعنى الذي أشار إليه ع سبب معقول و هو أن المقدم على خصمه يرتاع له خصمه و تنخذل عنه نفسه فتكون النجاة و الظفر للمقدم و أما المتلوم عن خصمه المحجم المتهيب له فإن نفس خصمه تقوى عليه و يزداد طمعه فيه فيكون الظفر له و يكوالعطب و الهلاك للمتلوم الهائب
تم الجزء السابع من شرح نهج البلاغة و يليه الجزء الثامن

(8/266)


شرح نهج البلاغة ج : 8 ص : 3الجزء الثامنتتمة الخطب و الأوامر
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله الواحد العدل
124- و من كلام له ع في حث أصحابه على القتال
فَقَدِّمُوا الدَّارِعَ وَ أَخِّرُوا الْحَاسِرَ وَ عَضُّوا عَلَى الْأَضْرَاسِ فَإِنَّهُ أَنْبَى لِلسُّيُوفِ عَنِ الْهَامِ وَ الْتَوُوا فِي أَطْرَافِ الرِّمَاحِ فَإِنَّهُ أَمْوَرُ لِلْأَسِنَّةِ وَ غُضُّوا الْأَبْصَارَ فَإِنَّهُ أَرْبَطُ لِلْجَأْشِ وَ أَسْكَنُ لِلْقُلُوبِ وَ أَمِيتُوا الْأَصْوَاتَ فَإِنَّهُ أَطْرَدُ لِلْفَشَلِ وَ رَايَتَكُمْ فَلَا تُمِيلُوهَا وَ لَا تُخِلُّوهَا وَ لَا تَجْعَلُوهَا إِلَّا بِأَيْدِي شُجْعَانِكُمْ وَ الْمَانِعِينَ الذِّمَارَ مِنْكُمْ فَإِنَّ الصَّابِرِينَ عَلَى نُزُولِ الْحَقَائِقِ هُمُ الَّذِينَ يَحُفُّونَ بِرَايَاتِهِمْ وَ يَكْتَنِفُونَهَا حِفَافَيْهَا وَ وَرَاءَهَا وَ أَمَامَهَا لَا يَتَأَخَّرُونَ عَنْهَا فَيُسْلِمُوهَا وَ لَا يَتَقَدَّمُونَ عَلَيْهَا فَيُفْرِدُوهَا

(9/1)


الدارع لابس الدرع و الحاسر الذي لا درع عليه و لا مغفر أمرهم ع بتقديم المستلئم على غير المستلئم لأن سورة الحرب و شدتها تلقي و تصادف الأول فالأول فواجب أن يكون أول القوم مستلئما و أن يعضوا على الأضراس و قد تقدم شرح هذا و قلنا إنه يجوز أن يبدءوهم بالحنق و الجد و يجوز أن يريد أن العض على الأضراس يشد شئون الدماغ و رباطاته فلا يبلغ السيف منه مبلغه لو صادفه رخوا و أمرهم بأن يلتووا إذا طعنوا شرح نهج البلاغة ج : 8 ص : 4لأنهم إذا فعلوا ذلك فبالحري أن يمور السنان أي يتحرك عن موضع الطعنة فيخرج زالفا و إذا لم يلتووا ليمر السنان و لم يتحرك عن موضعه فيخرق و ينفذ فيقتل. و أمرهم بغض الأبصار في الحرب فإنه أربط للجأش أي أثبت للقلب لأن الغاض بصره في الحرب أحرى ألا يدهش و لا يرتاع لهول ما ينظر. و أمرهم بإماتة الأصوات و إخفائها فإنه أطرد للفشل و هو الجبن و الخوف و ذلك لأن الجبان يرعد و يبرق و الشجاع صامت. و أمرهم بحفظ رايتهم ألا يميلوها فإنها إذا مالت انكسر العسكر لأنهم إنما ينظرون إليها و إلا يخلوها من محام عنها و إلا يجعلوها بأيدي الجبناء و ذوي الهلع منهم كي لا يخيموا و يجبنوا عن إمساكها. و الذمار ما وراء الرجل مما يحق عليه أن يحميه و سمي ذمارا لأنه يجب على أهله التذمر له أي الغضب. و الحقائق جمع حاقة و هي الأمر الصعب الشديد و منه قول الله تعالى الْحَاقَّةُ مَا الْحَاقَّةُ يعني الساعة. و يكتنفونها يحيطون بها و حفافاها جانباها و منه قول طرفة
كان جناحي مضرحي تكنفا حفافيه شكا في العسيب بمسرد

(9/2)


أَجْزَأَ امْرُؤٌ قِرْنَهُ وَ آسَى أَخَاهُ بِنَفْسِهِ وَ لَمْ يَكِلْ قِرْنَهُ إِلَى أَخِيهِ فَيَجْتَمِعَ شرح نهج البلاغة ج : 8 ص : 5عَلَيْهِ قِرْنُهُ وَ قِرْنُ أَخِيهِ وَ ايْمُ اللَّهِ لَئِنْ فَرَرْتُمْ مِنْ سَيْفِ الْعَاجِلَةِ لَا تَسْلَمُونَ مِنْ سَيْفِلآْخِرَةِ وَ أَنْتُمْ لَهَامِيمُ الْعَرَبِ وَ السَّنَامُ الْأَعْظَمُ إِنَّ فِي الْفِرَارِ مَوْجِدَةَ اللَّهِ وَ الذُّلَّ اللَّازِمَ وَ الْعَارَ الْبَاقِيَ وَ إِنَّ الْفَارَّ لَغَيْرُ مَزِيدٍ فِي عُمُرِهِ وَ لَا مَحْجُوزٍ بَيْنَهُ وَ بَيْنَ يَوْمِهِ مَنْ رَائِحٌ إِلَى اللَّهِ كَالظَّمْآنِ يَرِدُ الْمَاءَ الْجَنَّةُ تَحْتَ أَطْرَافِ الْعَوَالِي الْيَوْمَ تُبْلَى الْأَخْبَارُ وَ اللَّهِ لَأَنَا أَشْوَقُ إِلَى لِقَائِهِمْ مِنْهُمْ إِلَى دِيَارِهِمْ اللَّهُمَّ فَإِنْ رَدُّوا الْحَقَّ فَافْضُضْ جَمَاعَتَهُمْ وَ شَتِّتْ كَلِمَتَهُمْ وَ أَبْسِلْهُمْ بِخَطَايَاهُمْ

(9/3)


من الناس من يجعل هذه الصيغة و هي صيغة الإخبار بالفعل الماضي في قوله أجزأ امرؤ قرنه في معنى الأمر كأنه قال ليجزئ كل امرئ قرنه لأنه إذا جاز الأمر بصيغة الإخبار في المستقبل جاز الأمر بصيغة الماضي و قد جاز الأول نحو قوله تعالى وَ الْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ فوجب أن يجوز الثاني و من الناس من قال معنى ذلك هلا أجزأ امرؤ قرنه فيكون تحضيضا محذوف الصيغة للعلم بها و أجزأ بالهمزة أي كفى و قرنك مقارنك في القتال أو نحوه. و آسى أخاه بنفسه مؤاساة بالهمز أي جعله أسوة نفسه و يجوز واسيت زيدا بالواو و هي لغة ضعيفة. و لم يكل قرنه إلى أخيه أي لم يدع قرنه ينضم إلى قرن أخيه فيصيرا معا في شرح نهج البلاغة ج : 8 ص : 6مقاومة الأخ المذكور و ذلك قبيح محرم مثاله زيد و عمرو مسلمان و لهما قرنان كافران في الحرب لا يجوز لزيد أن ينكل عن قرنه فيجتمع قرنه و قرن عمرو على عمرو. ثم أقسم أنهم إن سلموا من الألم النازل بهم لو قتلوا بالسيف في الدنيا فإنهم لم يسلموا من عقاب الله تعالى في الآخرة على فرارهم و تخاذلهم و سمى ذلك سيفا على وجه الاستعارة و صناعة الكلام لأنه قد ذكر سيف الدنيا فجعل ذلك في مقابلته. و اللهاميم السادات الأجواد من الناس و الجياد من الخيل الواحد لهموم و السنام الأعظم يريد شرفهم و علو أنسابهم لأن السنام أعلى أعضاء البعير. و موجدة الله غضبه و سخطه. و يروى و الذل اللاذم بالذال المعجمة و هو بمعنى اللازم أيضا لذمت المكان بالكسر أي لزمته. ثم ذكر أن الفرار لا يزيد في العمر و قال الراجز
قد علمت حسناء دعجاء المقل أن الفرار لا يزيد في الأجل
ثم قال لهم أيكم يروح إلى الله فيكون كالظمآن يرد الماء. ثم قال الجنة تحت أطراف العوالي و هذا من
قول رسول الله ص الجنة تحت ظلال السيوف
و سمع بعض الأنصار رسول الله ص يقول يوم أحد الجنة تحت ظلال السيوف

(9/4)


و في يده تميرات يلوكها فقال بخ بخ ليس بيني و بين الجنة إلا هذه التميرات ثم قذفها من يده و كسر جفن سيفه و حمل على قريش فقاتل حتى قتل. ثم قال اليوم تبلى الأخبار هذا من قول الله تعالى وَ نَبْلُوَا أَخْبارَكُمْ أي نختبر أفعالكم. شرح نهج البلاغة ج : 8 ص : 7ثمعا على أهل الشام إن ردوا الحق بأن يفض الله جماعتهم أي يهزمهم و يشتت أي يفرق كلمتهم و أن يبسلهم بخطاياهم أي يسلمهم لأجل خطاياهم التي اقترفوها و لا ينصرهم أبسلت فلانا إذا أسلمته إلى الهلكة فهو مبسل قال تعالى أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ أي تسلم و قال أُولئِكَ الَّذِينَ أُبْسِلُوا بِما كَسَبُوا أي أسلموا للهلاك لأجل ما اكتسبوه من الإثم و هذه الألفاظ كلها لا يتلو بعضها بعضا و إنما هي منتزعة من كلام طويل انتزعها الرضي رحمه الله و اطرح ما عداها
إِنَّهُمْ لَنْ يَزُولُوا عَنْ مَوَاقِفِهِمْ دُونَ طَعْنٍ دِرَاكٍ يَخْرُجُ مِنْهُ النَّسِيمُ وَ ضَرْبٍ يَفْلِقُ الْهَامَ وَ يُطِيحُ الْعِظَامَ وَ يُنْدِرُ السَّوَاعِدَ وَ الْأَقْدَامَ وَ حَتَّى يُرْمَوْا بِالْمَنَاسِرِ تَتْبَعُهَا الْمَنَاسِرُ وَ يُرْجَمُوا بِالْكَتَائِبِ تَقْفُوهَا الْحَلَائِبُ وَ حَتَّى يُجَرَّ بِبِلَادِهِمُ الْخَمِيسُ يَتْلُوهُ الْخَمِيسُ وَ حَتَّى تَدْعَقَ الْخُيُولُ فِي نَوَاحِرِ أَرْضِهِمْ وَ بِأَعْنَانِ مَسَارِبِهِمْ وَ مَسَارِحِهِمْ
قال الشريف الرضي رحمه الله تعالى الدعق الدق أي تدق الخيول بحوافرها أرضهم و نواحر أرضهم متقابلاتها و يقال منازل بني فلان تتناحر أي تتقابل
طعن دراك أي متتابع يتلو بعضه بعضا و يخرج منه النسيم أي لسعته و من هذا النحو قول الشاعر شرح نهج البلاغة ج : 8 ص : طعنت ابن عبد القيس طعنة ثائر لها نفذ لو لا الشعاع أضاءهاملكت بها كفي فأنهرت فتقها يرى قائم من دونها ما وراءها

(9/5)


فهذا وصف الطعنة بأنها لاتساعها يرى الإنسان المقابل لها ببصره ما وراءها و أنه لو لا شعاع الدم و هو ما تفرق منه لبان منها الضوء و أمير المؤمنين ع أراد من أصحابه طعنات يخرج النسيم و هو الريح اللينة منهن. و فلقت الشي ء أفلقه بكسر اللام فلقا أي شققته و يطيح الظام يسقطها طاح الشي ء أي سقط أو هلك أو تاه في الأرض و أطاحه غيره و طوحه. و يندر السواعد يسقطها أيضا ندر الشي ء يندر ندرا أي سقط و منه النوادر و أندره غيره و الساعد من الكوع إلى المرفق و هو الذراع. و المناسر جمع منسر و هو قطعة من الجيش تكون أمام الجيش الأم بكسر السين و فتح الميم و يجوز منسر بكسر الميم و فتح السين و قيل إنها اللغة الفصحى. و يرجموا أي يغزوا بالكتائب جمع كتيبة و هي طائفة من الجيش. تقفوها الحلائب أي تتبعها طوائف لنصرها و المحاماة عنها يقال قد أحلبوا إذا جاءوا من كل أوب للنصرة و رجل محلب أي ناصر و حالبت الرجل إذا نصرته و أعنته و قال الشاعر
أ لهفا بقرى سحبل حين أحلبت علينا الولايا و العدو المباسل
شرح نهج البلاغة ج : 8 ص : 9أي أعانت و نصرت و الخميس الجيش و الدعق قد فسره الرضي رحمه الله و يجوز أن يفسر بأمر آخر و هو الهيج و التنفير دعق القوم يدعقهم دعقا أي هاج منهم و نفرهم. و نواحر أرضهم قد فسره رحمه الله أيضا و يمكن أن يفسر بأمر آخر و هو أن يراد بأقصى أرضهم و آخرها من قولهم لآخر ليلة في الشهر ناحرة. و أعنان مساربهم و مسارحهم جوانبها و المسارب ما يسرب فيه المال الراعي و المسارح ما يسرح فيه و الفرق بين سرح و سرب أن السروح إنما يكون في أول النهار و ليس ذلك بشرط في السروب
عود إلى أخبار صفين

(9/6)


و اعلم أن هذا الكلام قاله أمير المؤمنين ع لأصحابه في صفين يحرضهم به و قد ذكرنا من حديث صفين فيما تقدم أكثره و نحن نذكر هاهنا تتمة القصة ليكون من وقف على ما تقدم و على هذا المذكور آنفا هنا قد وقف على قصة صفين بأسرها. اتفق الناس كلهم أن عمارا رضي الله عنه أصيب مع علي ع بصفين و قال كثير منهم بل الأكثر أن أويسا القرني أصيب أيضا مع علي ع بصفين. و ذكر ذلك نصر بن مزاحم في كتاب صفين رواه عن حفص بن عمران البرجمي عن عطاء بن السائب عن أبي البختري و قد قال رسول الله ص في أويس ما قال و قال الناس كلهم
إن رسول الله ص قال إن الجنة لتشتاق إلى شرح نهج البلاغة ج : 8 ص : 10عمارو رووا عنه ص أن عمارا جاء يستأذن عليه فقال ائذنوا له مرحبا بالطيب المطيب
و روى سلمة بن كهيل عن مجاهد أن النبي ص رأى عمارا و هو يحمل أحجار المسجد فقال ما لهم و لعمار يدعوهم إلى الجنة و يدعونه إلى النار
و روى الناس كافة أن رسول الله ص قال له تقتلك الفئة الباغية

(9/7)


و روى نصر بن مزاحم في كتاب صفين عن عمرو بن شمر عن مالك بن أعين عن زيد بن وهب الجهني أن عمار بن ياسر نادى في صفين يوما قبل مقتله بيوم أو يومين أين من يبغي رضوان الله عز و جل و لا يئوب إلى مال و لا ولد فأتته عصابة من الناس فقال أيها الناس اقصدوا بنا قصد هؤلاء القوم الذين يتبعون دم عثمان و يزعمون أنه قتل مظلوما و الله إن كان إلا ظالما لنفسه الحاكم بغير ما أنزل الله و دفع علي ع الراية إلى هاشم بن عتبة بن أبي وقاص و كان عليه ذلك اليوم درعان فقال له علي ع كهيئة المازح أيا هاشم أ ما تخشى على نفسك أن تكون أعور جبانا قال ستعلم يا أمير المؤمنين و الله لألفن بين جماجم العرب لف رجل ينوي الآخرة فأخذ رمحا فهزه فانكسر ثم أخذ آخر فوجده جاسيا فألقاه ثم دعا برمح لين فشد به اللواء. قال نصر و حدثنا عمرو قال لما دفع علي ع الراية إلى هاشم بن عتبة قال شرح نهج البلاغة ج : 8 ص : 1ه رجل من أصحابه من بكر بن وائل أقدم هاشم يكررها ثم قال ما لك يا هاشم قد انتفخ سحرك أعورا و جبنا قال من هذا قالوا فلان قال أهلها و خير منها إذا رأيتني قد صرعت فخذها ثم قال لأصحابه شدوا شسوع نعالكم و شدوا أزركم فإذا رأيتموني قد هززت الراية ثلاثا فاعلموا أن أحدا منكم لا يسبقني إلى الحملة ثم نظر إلى عسكر معاوية فرأى جمعا عظيما فقال من أولئك قيل أصحاب ذي الكلاع ثم نظر فرأى جندا فقال من أولئك قيل قريش و قوم من أهل المدينة فقال قومي لا حاجة لي في قتالهم من عند هذه القبة البيضاء قيل معاوية و جنده قال فإني أرى دونهم أسودة قيل ذاك عمرو بن العاص و ابناه و مواليه فأخذ الراية فهزها فقال رجل من أصحابه البث قليلا و لا تعجل فقال هاشم
قد أكثرا لومي و ما أقلا إني شريت النفس لن أعتلاأعور يبغي أهله محلا قد عالج الحياة حتى ملالا بد أن يفل أو يفلا أشلهم بذي الكعوب شلا

(9/8)


شرح نهج البلاغة ج : 8 ص : 12مع ابن عم أحمد المعلى أول من صدقه و صلقال نصر و حدثنا عبد العزيز بن سياه عن حبيب بن أبي ثابت قال لما تناول هاشم الراية جعل عمار بن ياسر يحرضه على الحرب و يقرعه بالرمح و يقول أقدم يا أعور
لا خير في أعور لا يأتي الفزع
فيستحيي من عمار و يتقدم و يركز الراية فإذا ركزها عاوده عمار بالقول فيتقدم أيضا فقال عمرو بن العاص إني لأرى لصاحب الراية السوداء عملا لئن دام على هذا لتفنين العرب اليوم فاقتتلوا قتالا شديدا و عمار ينادي صبرا و الله إن الجنة تحت ظلال البيض فكان بإزاء هاشم و عمار أبو الأعور السلمي و لم يزل عمار بهاشم ينخسه و هو يزحف بالراية حتى اشتد القتال و عظم و التقى الزحفان و اقتتلا قتالا لم يسمع السامعون بمثله و كثرت القتلى في الفريقين جميعا. و روى نصر عن عمرو بن شمر قال حدثني من أثق به من أهل العراق شرح نهج البلاغة ج : ص : 13قال لما التقينا بالقوم في ذلك اليوم وجدناهم خمسة صفوف قد قيدوا أنفسهم بالعمائم فقتلنا صفا ثم صفا ثم خلصنا إلى الرابع ما على الأرض شامي و لا عراقي يولي دبره و أبو الأعور يقول
إذا ما فررنا كان أسوأ فرارنا صدود الخدود و ازورار المناكب صدود الخدود و القنا متشاجر و لا تبرح الأقدام عند التضاربقال نصر و التقت في هذا اليوم همدان العراق بعك الشام فقال قائلهم
همدان همدان و عك عك ستعلم اليوم من الأرك

(9/9)


و كانت على عك الدروع و ليس عليهم رايات فقالت همدان خدموا القوم أي اضربوا سوقهم فقالت عك ابركوا برك الكمل فبركوا كما يبرك الجمل ثم رموا الحجر و قالوا لا نفر حتى يفر الحكر. قال نصر و اقتتل الناس من لدن اعتدال النهار إلى صلاة المغرب ما كان صلاة القوم إلا التكبير عند مواقيت الصلاة. ثم إن أهل العراق كشفوا ميمنة أهل الشام فطاروا في سواد الليل و كشف أهل الشام ميسرة أهل العراق فاختلطوا في سواد الليل و تبدلت الرايات بعضها ببعض فلما أصبح الناس وجد أهل الشام لواءهم و ليس حوله إلا ألف رجل فاقتلعوه و ركزوه من شرح نهج بلاغة ج : 8 ص : 14وراء موضعه الأول و أحاطوا به و وجد أهل العراق لواءهم مركوزا و ليس حوله إلا ربيعة و علي ع بينها و هم محيطون به و هو لا يعلم من هم و يظنهم غيرهم فلما أذن مؤذن علي ع الفجر قال علي ع
يا مرحبا بالقائلين عدلا و بالصلاة مرحبا و أهلا
ثم وقف و صلى الفجر فلما انفتل أبصر وجوها ليست بوجوه أصحابه بالأمس و إذا مكانه الذي هو فيه ما بين الميسرة إلى القلب فقال من القوم قالوا ربيعة و إنك يا أمير المؤمنين لعندنا منذ الليلة فقال
فخر طويل لك يا ربيعة

(9/10)


ثم قال لهاشم بن عتبة خذ اللواء فو الله ما رأيت مثل هذه الليلة فخرج هاشم باللواء حتى ركزه في القلب. قال نصر حدثنا عمرو بن شمر عن الشعبي قال عبى معاوية تلك الليلة أربعة آلاف و ثلاثمائة من فارس و راجل معلمين بالخضرة و أمرهم أن يأتوا عليا ع من ورائه ففطنت لهم همدان فواجهوهم و صمدوا إليهم فباتوا تلك الليلة يتحارسون و علي ع قد أفضى به ذهابه و مجيئه إلى رايات ربيعة فوقف بينها و هو لا يعلم و يظن أنه في العسكر الأشعث فلما أصبح لم ير الأشعث و لا أصحابه و رأى سعيد بن قيس الهمداني على مركزه فجاء إلى سعيد رجل من ربيعة يقال له زفر فقال له أ لست القائل بالأمس لئن لم تنته ربيعة لتكونن ربيعة ربيعة و همدان همدان فما أغنت همدان شرح نهج البلاغة ج : 8 ص : 15البارحة فنظر إليه علي ع نظر منكر و نادى منادي علي ع أن اتعدوا للقتال و اغدوا عليه و انهدوا إلى عدوكم فكلهم تحرك إلا ربيعةم تتحرك فبعث إليهم علي ع أن انهدوا إلى عدوكم فبعث إليهم أبا ثروان فقال إن أمير المؤمنين ع يقرئكم السلام و يقول لكم يا معشر ربيعة ما لكم لا تنهدون إلى عدوكم و قد نهد الناس قالوا كيف ننهد و هذه الخيل من وراء ظهرنا قل لأمير المؤمنين فليأمر همدان أو غيرها بمناجزتهم لننهد فرجع أبو ثروان إلى علي ع فأخبره فبعث إليهم الأشتر فقال يا معشر ربيعة ما منعكم أن تنهدوا و قد نهد الناس و كان جهير الصوت و أنتم أصحاب كذا و أصحاب كذا فجعل يعدد أيامهم فقالوا لسنا نفعل حتى ننظر ما تصنع هذه الخيل التي خلف ظهورنا و هي أربعة آلاف قل لأمير المؤمنين فليبعث إليهم من يكفيه أمرهم. و راية ربيعة يومئذ مع الحضين بن المنذر فقال لهم الأشتر فإن أمير المؤمنين يقول لكم اكفونيها إنكم لو بعثتم إليهم طائفة منكم لتركوكم في هذه الفلاة و فروا كاليعافير فوجهت حينئذ ربيعة إليهم تيم الله و النمر بن قاسط و عنزة قالوا فمشينا إليهم مستلئمين مقنعين في الحديد و كان عامة

(9/11)


قتال صفين مشيا قال فلما أتيناهم هربوا و انتشروا انتشار الجراد فذكرت قوله و فروا كاليعافير ثم رجعنا إلى أصحابنا و قد نشب القتال بينهم و بين أهل الشام و قد اقتطع أهل الشام طائفة من أهل العراق بعضها من ربيعة فأحاطوا بها فلم نصل إليها حتى حملنا على أهل الشام فعلوناهم بالأسياف حتى انفرجوا لنا فأفضينا إلى أصحابنا فاستنقذناهم و عرفناهم تحت النقع بسيماهم و علامتهم و كانت علامة أهل العراق بصفين الصوف الأبيض قد جعلوه في رءوسهم و على شرح نهج البلاغة ج : 8 : 16أكتافهم و شعارهم يا الله يا الله يا أحد يا صمد يا رب محمد يا رحمان يا رحيم و كانت علامة أهل الشام خرقا صفرا قد جعلوها على رءوسهم و أكتافهم و شعارهم
نحن عباد الله حقا حقا

(9/12)


يا لثارات عثمان قال نصر فاجتلدوا بالسيوف و عمد الحديد فلم يتحاجزوا حتى حجز بينهم الليل و ما يرى رجل من هؤلاء و من هؤلاء موليا. قال نصر حدثنا عمر بن سعد قال كانوا عربا يعرف بعضهم بعضا في الجاهلية و إنهم لحديثو عهد بها فالتقوا في الإسلام و فيهم بقايا تلك الحمية و عند بعضهم بصيرة الدين و الإسلام فتضاربوا و استحيوا من الفرار حتى كادت الحرب تبيدهم و كانوا إذا تحاجزوا دخل هؤلاء عسكر هؤلاء فيستخرجون قتلاهم فيدفنونهم. قال نصر فحدثنا عمر بن سعد قال فبينا علي ع واقفا بين جماعة من همدان و حمير و غيرهم من أفناء قحطان إذ نادى رجل من أهل الشام من دل على أبي نوح الحميري فقيل له قد وجدته فما ذا تريد قال فحسر عن لثامة فإذا هو ذو الكلاع الحميري و معه جماعة من أهله و رهطه فقال لأبي نوح سر معي قال إلى أين قال إلى أن نخرج عن الصف قال و ما شأنك قال إن لي إليك لحاجة فقال أبو نوح معاذ الله أن أسير إليك إلا في كتيبة قال ذو الكلاع بلى فسر فلك ذمة الله و ذمة رسوله شرح نهج البلاغة ج : 8 ص : 17و ذمة ذي الكلاع حتى ترجع إلى خيلك فإنما أريد أن أسألك عن أمر فيكم تمارينا فيه فسار أبو نوح و سار ذو الكلاع فقال له إنما دعوتك أحدثك حديثا حدثناهمرو بن العاص قديما في خلافة عمر بن الخطاب ثم أذكرناه الآن به فأعاده أنه يزعم أنه سمع رسول الله ص قال يلتقي أهل الشام و أهل العراق و في إحدى الكتيبتين الحق و إمام الهدى و معه عمار بن ياسر فقال أبو نوح نعم و الله إنه لفينا قال نشدتك الله أ جاد هو على قتالنا قال أبو نوح نعم و رب الكعبة لهو أشد على قتالكم مني و لوددت أنكم خلق واحد فذبحته و بدأت بك قبلهم و أنت ابن عمي قال ذو الكلاع ويلك علام تمنى ذلك منا فو الله ما قطعتك فيما بيني و بينك قط و إن رحمك لقريبة و ما يسرني أن أقتلك قال أبو نوح إن الله قطع بالإسلام أرحاما قريبة و وصل به أرحاما متباعدة و إني قاتلك و أصحابك لأنا على

(9/13)


الحق و أنتم على الباطل قال ذو الكلاع فهل تستطيع أن تأتي معي صف أهل الشام فأنا لك جار منهم حتى تلقى عمرو بن العاص فتخبره بحال عمار و جده في قتالنا لعله أن يكون صلح بين هذين الجندين. قلت وا عجباه من قوم يعتريهم الشك في أمرهم لمكان عمار و لا يعتريهم الشك لمكان علي ع و يستدلون على أن الحق مع أهل العراق بكون عمار بين أظهرهم و لا يعبئون بمكان علي ع و يحذرون من
قول النبي ص تقتلك الفئة الباغية
و يرتاعون لذلك و لا يرتاعون
لقوله ص في علي ع اللهم وال من والاه و عاد من عاداه

(9/14)


و لا لقوله لا يحبك إلا مؤمن شرح نهج البلاغة ج : 8 ص : 18و لا يبغضك إلا منافقو هذا يدلك على أن عليا ع اجتهدت قريش كلها من مبدإ الأمر في إخمال ذكره و ستر فضائله و تغطية خصائصه حتى محي فضله و مرتبته من صدور الناس كافة إلا قليلا منهم. قال نصر فقال له أبو نوح إنك رجل غادر و أنت في قوم غدر و إن لم يرد الغدر أغدروك و إني أن أموت أحب إلى من أن أدخل مع معاوية فقال ذو الكلاع أنا جار لك من ذلك ألا تقتل و لا تسلب و لا تكره على بيعة و لا تحبس عن جندك و إنما هي كلمة تبلغها عمرو بن العاص لعل الله أن يصلح بذلك بين هذين الجندين و يضع عنهم الحرب فقال أبو نوح إني أخاف غدراتك و غدرات أصحابك قال ذو الكلاع أنا لك بما قلت زعيم قال أبو نوح اللهم إنك ترى ما أعطاني ذو الكلاع و أنت تعلم ما في نفسي فاعصمني و اختر لي و انصرني و ادفع عني ثم سار مع ذي الكلاع حتى أتى عمرو بن العاص و هو عند معاوية و حوله الناس و عبد الله بن عمر يحرض الناس على الحرب فلما وقفا على القوم قال ذو الكلاع لعمرو يا أبا عبد الله هل لك في رجل ناصح لبيب مشفق يخبرك عن عمار بن ياسر فلا يكذبك قال و من هو قال هو ابن عمي هذا و هو من أهل الكوفة فقال عمرو أرى عليك سيما أبي تراب فقال أبو نوح على سيما محمد و أصحابه و عليك سيما أبي جهل و سيما فرعون فقام أبو الأعور فسل سيفه و قال لا أرى هذا الكذاب اللئيم يسبنا بين أظهرنا و عليه سيما أبي تراب فقال ذو الكلاع أقسم بالله لئن بسطت يدك إليه لأحطمن أنفك بالسيف ابن عمي و جاري عقدت له ذمتي و جئت به إليكم ليخبركم عما تماريتم فيه فقال له عمرو بن العاص يا أبا نوح أذكرك بالله إلا ما صدقتنا و لم تكذبنا أ فيكم عمار بن ياسر قال أبو نوح ما أنا بمخبرك حتى تخبر لم تسأل عنه و معنا من أصحاب محمد ص عدة غيره و كلهم جاد على قتالكم

(9/15)


فقال عمرو سمعت رسول الله ص يقول إن شرح نهج البلاغة ج : 8 ص : 19عمارا تقتله الفئة الباغية و إنه ليس لعمار أن يفارق الحق و لن تأكل النار من عمار شيئافقال أبو نوح لا إله إلا الله و الله أكبر و الله إنه لفينا جاد على قتالكم فقال عمرو الله الذي لا إله إلا هو إنه لجاد على قتالنا قال نعم و الله الذي لا إله إلا هو و لقد حدثني يوم الجمل أنا سنظهر على أهل البصرة و لقد قال لي أمس إنكم لو ضربتمونا حتى تبلغوا بنا سعفات هجر لعلمنا أنا على الحق و أنكم على باطل و لكانت قتلانا في الجنة و قتلاكم في النار قال عمرو فهل تستطيع أن تجمع بيني و بينه قال نعم فركب عمرو بن العاص و ابناه و عتبة بن أبي سفيان و ذو الكلاع و أبو الأعور السلمي و حوشب و الوليد بن عقبة و انطلقوا و سار أبو نوح و معه شرحبيل بن ذي الكلاع يحميه حتى انتهى إلى أصحابه فذهب أبو نوح إلى عمار فوجده قاعدا مع أصحاب له منهم الأشتر و هاشم و ابنا بديل و خالد بن معمر و عبد الله بن حجل و عبد الله بن العباس. فقال لهم أبو نوح إنه دعاني ذو الكلاع و هو ذو رحم فقال أخبرني عن عمار بن ياسر أ فيكم هو فقلت لم تسأل
فقال أخبرني عمرو بن العاص في إمرة عمر بن الخطاب أنه سمع رسول الله ص يقول يلتقي أهل الشام و أهل العراق و عمار مع أهل الحق و تقتله الفئة الباغية
فقلت نعم إن عمارا فينا فسألني أ جاد هو على قتالنا فقلت نعم و الله إنه لأجد مني في ذلك و لوددت أنكم خلق واحد فذبحته و بدأت بك يا ذا الكلاع فضحك عمار و قال أ يسرك ذلك قال نعم
ثم قال أبو نوح أخبرني الساعة عمرو بن العاص أنه سمع رسول الله ص يقول تقتل عمارا الفئة الباغية

(9/16)


قال عمار أ قررته بذلك قال نعم لقد قررته بذلك فأقر شرح نهج البلاغة ج : 8 ص : 20فقال عمار صدق و ليضرنه ما سمع و لا ينفعه قال أبو نوح فإنه يريد أن يلقاك فقال عمار لأصحابه اركبوا فركبوا و ساروا قال فبعثنا إليهم فارسا من عبد القيس يسمى عوف بن بشر فذهب حتى إذاان قريبا منهم نادى أين عمرو بن العاص قالوا هاهنا فأخبره بمكان عمار و خيله قال عمرو قل له فليسر إلينا قال عوف إنه يخاف غدارتك و فجراتك قال عمرو ما أجرأك علي و أنت على هذه الحال قال عوف جرأني عليك بصري فيك و في أصحابك و إن شئت نابذتك الآن على سواء و إن شئت التقيت أنت و خصماؤك و أنت كنت غادرا فقال عمرو إنك لسفيه و إني باعث إليك رجلا من أصحابي يواقفك قال ابعث من شئت فلست بالمستوحش و إنك لا تبعث إلا شقيا فرجع عمرو و أنفذ إليه أبا الأعور فلما تواقفا تعارفا فقال عوف إني لأعرف الجسد و أنكر القلب و إني لا أراك مؤمنا و لا أراك إلا من أهل النار قال أبو الأعور يا هذا لقد أعطيت لسانا يكبك الله به على وجهك في النار قال عوف كلا و الله إني لأتكلم بالحق و تتكلم بالباطل و إني أدعوك إلى الهدى و أقاتلك على الضلال و أفر من النار و أنت بنعمة الله ضال تنطق بالكذب و تقاتل على ضلالة و تشتري العقاب بالمغفرة و الضلالة بالهدى انظر إلى وجوهنا و وجوهكم و سيمانا و سيماكم و اسمع دعوتنا و دعوتكم فليس أحد منا إلا و هو أولى بالحق و بمحمد و أقرب إليه منكم فقال أبو الأعور لقد أكثرت الكلام و ذهب النهار ويحك ادع أصحابك و أدعو أصحابي و ليأت أصحابك في قلة إن شاءوا أو كثرة فإني أجي ء من أصحابي بعدتهم فإن شاء أصحابك فليقلوا شرح نهج البلاغة ج : 8 ص : 21و إن شاءوا فليكثروا فسار عمار في اثني عشر فارسا حتى إذا كانوا بالمنصف سار عمرو بن العاص في اثني عشر فارسا حتى اختلفت أعناق الخيل خيل عمار و خيل عمرو ول القوم و احتبوا بحمائل سيوفهم فتشهد عمرو بن العاص فقال له عمار اسكت

(9/17)


فلقد تركتها و أنا أحق بها منك فإن شئت كانت خصومة فيدفع حقنا باطلك و إن شئت كانت خطبة فنحن أعلم بفصل الخطاب منك و إن شئت أخبرتك بكلمة تفصل بيننا و بينك و تكفرك قبل القيام و تشهد بها على نفسك و لا تستطيع أن تكذبني فيها فقال عمرو يا أبا اليقظان ليس لهذا جئت إنما جئت لأني رأيتك أطوع أهل هذا العسكر فيهم أذكرك الله إلا كففت سلاحهم و حقنت دماءهم و حرصت على ذلك فعلام تقاتلوننا أ و لسنا نعبد إلها واحدا و نصلي إلى قبلتكم و ندعو دعوتكم و نقرأ كتابكم و نؤمن بنبيكم فقال عمار الحمد لله الذي أخرجها من فيك أنها لي و لأصحابي القبلة و الدين و عبادة الرحمن و النبي و الكتاب من دونك و دون أصحابك الحمد لله الذي قررك لنا بذلك و جعلك ضالا مضلا أعمى و سأخبرك على ما أقاتلك عليه و أصحابك إن رسول الله ص أمرني أن أقاتل الناكثين فقد فعلت و أمرني أن أقاتل القاسطين و أنتم هم و أما المارقون فلا أدري أدركهم أو لا أيها الأبتر أ لست تعلم
أن رسول الله ص قال من كنت مولاه فعلي مولاه اللهم وال من والاه و عاد من عاداه

(9/18)


فأنا مولى الله و رسوله و علي مولاي بعدهما قال عمرو لم تشتمني يا أبا اليقظان و لست أشتمك قال عمار و بم تشتمني أ تستطيع أن تقول أني عصيت الله و رسوله يوما قط قال عمرو إن فيك لمساب سوى ذلك قال عمار إن الكريم من أكرمه شرح نهج البلاغة ج : 8 ص : 22الله كنت وضي فرفعني الله و مملوكا فأعتقني الله و ضعيفا فقواني الله و فقيرا فأغناني الله قال عمرو فما ترى في قتل عثمان قال فتح لكم باب كل سوء قال عمرو فعلي قتله قال عمار بل الله رب علي قتله و علي معه قال عمرو فكنت فيمن قتله قال كنت مع من قتله و أنا اليوم أقاتل معهم قال عمرو فلم قتلتموه قال عمار إنه أراد أن يغير ديننا فقتلناه فقال عمرو أ لا تسمعون قد اعترف بقتل إمامكم فقال عمار قد قالها فرعون قبلك لقومه أَ لا تَسْتَمِعُونَ فقام أهل الشام و لهم زجل فركبوا خيولهم و رجعوا و قام عمار و أصحابه فركبوا خيولهم و رجعوا و بلغ معاوية ما كان بينهم فقال هلكت العرب أن حركتهم خفة العبد الأسود يعني عمارا. قال نصر فحدثنا عمرو بن شمر قال فخرجت الخيول إلى القتال و اصطفت بعضها لبعض و تزاحف الناس و على عمار درع بيضاء و هو يقول أيها الناس الرواح إلى الجنة. فقاتل القوم قتالا شديدا لم يسمع السامعون بمثله و كثرت القتلى حتى أن كان الرجل ليشد طنب فسطاطه بيد الرجل أو برجله و حكى الأشعث بعد ذلك قال لقد رأيت أخبية صفين و أروقتها و ما فيها خباء و لا رواق و لا فسطاط إلا مربوطا بيد إنسان أو برجله. قال نصر و جعل أبو السماك الأسدي يأخذ إداوة من ماء و شفرة حديدة فيطوف في القتلى فإذا رأى رجلا جريحا و به رمق أقعده فيقول له من أمير المؤمنين فإذا قال شرح نهج البلاغة ج : 8 ص : 23علي غسل الدم عنه و سقاه من الماء و إن سكت وجأه بالسكين حتى يموت و لا يسقيه. قال نصر و حدثنا عمرو بن شمر عن جابر قال سمعت الشعبي يقول قاالأحنف بن قيس و الله إني إلى جانب عمار بن ياسر بيني و بينه رجل من

(9/19)


بني الشعيراء. فتقدمنا حتى دنونا من هاشم بن عتبة فقال له عمار احمل فداك أبي و أمي فقال له هاشم يرحمك الله يا أبا اليقظان إنك رجل تأخذك خفة في الحرب و إني إنما أزحف باللواء زحفا أرجو أن أنال بذلك حاجتي و إن خففت لم آمن الهلكة و قد كان قال معاوية لعمرو ويحك إن اللواء اليوم مع هاشم بن عتبة و قد كان من قبل يرقل به إرقالا و إن زحف به اليوم زحفا إنه لليوم الأطول على أهل الشام فإن زحف في عنق من أصحابه إني لأطمع أن تقتطع فلم يزل به عمار حتى حمل فبصر به معاوية فوجه إليه حماة أصحابه و من يزن بالبأس و النجدة منهم في ناحية و كان في ذلك الجمع عبد الله بن عمرو بن العاص و معه يومئذ سيفان قد تقلد بأحدهما و هو يضرب بالآخر فأطافت به خيول علي ع و جعل عمرو يقول يا الله يا رحمان ابني ابني فيقول معاوية اصبر فلا بأس عليه فقال عمرو لو كان يزيد بن معاوية أ صبرت فلم يزل حماة أهل الشام تذب عن عبد الله حتى نجا هاربا على فرسه و من معه و أصيب هاشم في المعركة. شرح نهج البلاغة ج : 8 ص : 24قال نصر و حدثنا عمر بن سعد قال و في هذا اليوم قتل عمار بن ياسر رضي الله عنه أصيب في المكة و قد كان قال حين نظر إلى راية عمرو بن العاص و الله إنها لراية قد قاتلتها ثلاث عركات و ما هذه بأرشدهن ثم قال
نحن ضربناكم على تأويله كما ضربناكم على تنزيله ضربا يزيل الهام عن مقيله و يذهل الخليل عن خليله أو يرجع الحق إلى سبيلثم استسقى و قد اشتد عطشه فأتته امرأة طويلة اليدين ما أدري أ عس معها أم إداوة فيها ضياح من لبن فقال حين شرب الجنة تحت الأسنة اليوم ألقي الأحبة محمدا و حزبه و الله لو ضربونا حتى يبلغونا سعفات هجر لعلمنا أنا على الحق و أنهم على الباطل ثم حمل و حمل عليه ابن حوى السكسكي و أبو العادية فأما أبو العادية فطعنه و أما ابن حوى فاحتز رأسه

(9/20)


و قد كان ذو الكلاع يسمع عمرو بن العاص يقول إن النبي ص يقول لعمار تقتلك الفئة الباغية و آخر شربك ضياح من لبن
فقال ذو الكلاع لعمرو ويحك ما هذا قال عمرو إنه سيرجع إلينا و يفارق أبا تراب و ذلك قبل أن يصاب عمار فلما أصيب عمار في هذا اليوم أصيب ذو الكلاع فقال عمرو لمعاوية و الله ما أدري بقتل أيهما أنا أشد فرحا و الله لو بقي ذو الكلاع حتى يقتل عمار لمال بعامة قومه إلى علي و لأفسد علينا أمرنا. قال نصر و حدثنا عمر بن سعد قال كان لا يزال رجل يجي ء فيقول لمعاوية و عمرو أنا قتلت عمارا فيقول له عمرو فما سمعته يقول فيخلط حتى أقبل ابن حوى شرح نهج البلاغة ج : 8 ص : 25فقال أنا قتلته فقال عمرو فما كان آخر منطقه قال سمعته يقول ام ألقى الأحبة محمدا و حزبه فقال صدقت أنت صاحبه أما و الله ما ظفرت يداك و لقد أسخطت ربك. قال نصر حدثنا عمرو بن شمر قال حدثني إسماعيل السدي عن عبد خير الهمداني قال نظرت إلى عمار بن ياسر يوما من أيام صفين قد رمي رمية فأغمي عليه فلم يصل الظهر و لا العصر و لا المغرب و لا العشاء و لا الفجر ثم أفاق فقضاهن جميعا يبدأ بأول شي ء فاته ثم بالتي تليها. قال نصر و حدثنا عمرو بن شمر عن السدي عن أبي حريث قال أقبل غلام لعمار بن ياسر اسمه راشد يحمل إليه يوم قتل بشربة من لبن فقال عمار أما إني سمعت خليلي رسول الله ص يقول إن آخر زادك من الدنيا شربة لبن
قال نصر و روى عمرو بن شمر عن السدي أن رجلين بصفين اختصما في سلب عمار و في قتله فأتيا عبد الله بن عمرو بن العاص فقال ويحكما اخرجا عني
فإن رسول الله ص قال ما لقريش و لعمار يدعوهم إلى الجنة و يدعونه إلى النار قاتله و سالبه في النار

(9/21)


شرح نهج البلاغة ج : 8 ص : 26قال السدي فبلغني أن معاوية قال لما سمع ذلك إنما قتله من أخرجه يخدع بذلك طغام أهل الشام. قال نصر و حدثنا عمرو عن جابر عن أبي الزبير قال أتى حذيفة بن اليمان رهط من جهينة فقالوا له يا أبا عبد الله إن رسول الله ص استجار من أن تصط أمته فأجير من ذلك و استجار من أن يذيق أمته بعضها بأس بعض فمنع من ذلك
فقال حذيفة إني سمعت رسول الله ص يقول إن ابن سمية لم يخير بين أمرين قط إلا اختار أشدهما يعني عمارا فالزموا سمته
قال نصر و حدثنا عمرو بن شمر قال حمل عمار ذلك اليوم على صف أهل الشام و هو يرتجز
كلا و رب البيت لا أبرح أجي حتى أموت أو أرى ما أشتهي لا أفتأ الدهر أحامي عن علي صهر الرسول ذي الأمانات الوفي ينصرنا رب السماوات العلي و يقطع الهام بحد المشرفي يمنحنا النصر على من يبتغي ظلما علينا جاهدا ما يأتقال فضرب أهل الشام حتى اضطرهم إلى الفرار. شرح نهج البلاغة ج : 8 ص : 27قال نصر و قد كان عبد الله بن سويد الحميري من آل ذي الكلاع قال لذي الكلاع ما حديث سمعته من ابن العاص في عمار فأخبره فلما قتل عمار خرج عبد الله ليلا يمشي فأصبح في عسكر علي ع و كان عبد ال من عباد الله زمانه و كاد أهل الشام أن يضطربوا لو لا أن معاوية قال لهم إن عليا قتل عمارا لأنه أخرجه إلى الفتنة ثم أرسل معاوية إلى عمرو لقد أفسدت على أهل الشام أ كل ما سمعت من رسول الله ص تقوله فقال عمرو قلتها و لست أعلم الغيب و لا أدري أن صفين تكون قلتها و عمار يومئذ لك ولي و قد رويت أنت فيه مثل ما رويت فغضب معاوية و تنمر لعمرو و عزم على منعه خيره فقال عمرو لابنه و أصحابه لا خير في جوار معاوية إن تجلت هذه الحرب عنه لأفارقنه و كان عمرو حمي الأنف قال

(9/22)


تعاتبني أن قلت شيئا سمعته و قد قلت لو أنصفتني مثله قبلي أ نعلك فيما قلت نعل ثبيته و تزلق بي في مثل ما قلته نعلي و ما كان لي علم بصفين أنها تكون و عمار يحث على قتلي و لو كان لي بالغيب علم كتمتها و كايدت أقواما مراجلهم تغلي أبى الله إلا أن صدرك واغر علي ذنب جنيت و لا ذحل سوى أنني و الراقصات عشية بنصرك مدخول الهوى ذاهل العقل فلا وضعت عني حصان قناعها و لا حملت وجناء ذعلبة رحلي و لا زلت أدعى في لؤي بن غالب قليلا غنائي لا أمر و لا أحلى إن الله أرخى من خناقك مرة و نلت الذي رجيت إن لم أزرأهلي شرح نهج البلاغة ج : 8 ص : 28و أترك لك الشام التي ضاق رحبها عليك و لم يهنك بها العيش من أجلفأجابه معاوية
أ الآن لما ألقت الحرب بركها و قام بنا الأمر الجليل على رجل غمزت قناتي بعد ستين حجة تباعا كأني لا أمر و لا أحلى أتيت بأمر فيه للشام فتنة و في دون ما أظهرته زلة النعل فقلت لك القول الذي ليس ضائرا و لو ضر لم يضررك حملك لي ثقلي تعاتبني في كل يوم و ليلة كأني أبليك ليس كما أبلي فيا قبح الله العتاب و أهله أ لم تر ما أصبحت فيه من الشغل فدع ذا و لكن هل لك اليوم حيلة ترد بها قوما مراجلهم تغلي دعاهم علي فاستجابوا لدعوة أحب إليهم من ثرى المال و الأهل إذا قلت هابوا حومة الموت أرقلوا إلى الموت إرقال الهلوك إلى ال
قال فلما أتى عمرا شعر معاوية أتاه فأعتبه و صار أمرهما واحدا. قال نصر ثم إن عليا ع دعا في هذا اليوم هاشم بن عتبة و معه لواؤه و كان أعور فقال له يا هاشم حتى متى فقال هاشم لأجهدن ألا أرجع إليك أبدا فقال علي ع إن بإزائك ذا الكلاع و عنده الموت الأحمر فتقدم هاشم شرح نهج البلاغة ج : 8 ص : 29فلما أقبل قال معاوية من هذا المقبل فقيل هاشم المرقال فقال أعور بني زهرة قاتله الله فأقبل هاشم و هو يقولأعور يبغي نفسه خلاصا مثل الفنيق لابسا دلاصالا دية يخشى و لا قصاصا كل امرئ و إن كبا و حاصاليس يرى من يومه مناصا

(9/23)


فحمل صاحب لواء ذي الكلاع و هو رجل من عذرة فقال
يا أعور العين و ما بي من عور اثبت فإني لست من فرعي مضرنحن اليمانون و ما فينا خور كيف ترى وقع غلام من عذرينعى ابن عفان و يلحى من عذر سيان عندي من سعى و من أمر
فاختلفا طعنتين فطعنه هاشم فقتله و كثرت القتلى حول هاشم و حمل ذو الكلاع و اختلط الناس و اجتلدوا فقتل هاشم و ذو الكلاع جميعا و أخذ عبد الله بن هاشم اللواء و ارتجز فقال
يا هاشم بن عتبة بن مالك أعزز بشيخ من قريش هالك تحيطه الخيلان بالسنابك في أسود من نقعهن حالك أبشر بحور العين في الأرائك و الروح و الريحان عند ذلقال نصر و حدثنا عمر بن سعد عن الشعبي قال أخذ عبد الله بن هاشم بن عتبة راية أبيه ثم قال أيها الناس إن هاشما كان عبدا من عباد الله الذي قدر أرزاقهم شرح نهج البلاغة ج : 8 ص : 30و كتب آثارهم و أحصى أعمالهم و قضى آجالهم فدعاه الله ربه فاستجاب لأمره و سلم لأمرو جاهد في طاعة ابن عم رسوله أول من آمن به و أفقههم في دين الله الشديد على أعداء الله المستحلين حرم الله الذين عملوا في البلاد بالجور و الفساد و استحوذ عليهم الشيطان فأنساهم ذكر الله و زين لهم الإثم و العدوان فحق عليكم جهاد من خالف الله و عطل حدوده و نابذ أولياءه جودوا بمهجكم في طاعة الله في هذه الدنيا تصيبوا الآخرة و المنزل الأعلى و الأبد الذي لا يفنى فو الله لو لم يكن ثواب و لا عقاب و لا جنة و لا نار لكان القتال مع علي أفضل من القتال مع معاوية فكيف و أنتم ترجون ما ترجون قال نصر و حدثنا عمرو بن شمر قال لما انقضى أمر صفين و سلم الحسن ع الأمر إلى معاوية و وفدت عليه الوفود أشخص عبد الله بن هاشم إليه أسيرا فلما مثل بين يديه و عنده عمرو بن العاص قال يا أمير المؤمنين هذا المختال ابن المرقال فدونك الضب المضب المعر المفتون فاقتله فإن العصا من العصية و إنما تلد الحية حيية و جزاء السيئة سيئة مثلها. فقال عبد الله إن تقتلني فما

(9/24)


أنا بأول رجل خذله قومه و أسلمه يومه فقال عمرو يا أمير المؤمنين أمكني منه أشخب أوداجه على أثباجه فقال عبد الله فهلا كانت هذه الشجاعة منك يا ابن العاص في أيام صفين و نحن ندعوك إلى النزال و قد ابتلت أقدام الرجال من نقيع الجريال و قد تضايقت بك المسالك و أشرفت منها على المهالك و ايم الله لو لا مكانك منه لرميتك بأحد من وقع الأشافي فإنك لا تزال تكثر في شرح نهج البلاغة ج : 8 ص : 31هوسك و تخبط في دهسك و تنشب في مرسك تخبط العشواء في الليلة الحندس الظلماء فر معاوية به إلى الحبس فكتب عمرو إلى معاوية
أمرتك أمرا حازما فعصيتني و كان من التوفيق قتل ابن هاشم و كان أبوه يا معاوية الذي رماك على حرب بحز الغلاصم فقتلنا حتى جرت من دمائنا بصفين أمثال البحور الخضارم و هذا ابنه و المرء يشبه أصله ستقرع إن أبقيته سن نافبعث معاوية بالشعر إلى عبد الله بن هاشم فكتب في جوابه من السجن

(9/25)


معاوي إن المرء عمرا أبت له ضغينة صدر ودها غير سالم يرى لك قتلي يا ابن حرب و إنما يرى ما يرى عمرو ملوك الأعاجم على أنهم لا يقتلون أسيرهم إذا كان فيه منعة للمسالم و قد كان منا يوم صفين نفرة عليك جناها هاشم و ابن هاشم قضى الله فيها ما قضى ثمت انقضى و ما مى إلا كأضغاث حالم فإن تعف عني تعف عن ذي قرابة و إن تر قتلي تستحل محارميهذه رواية نصر بن مزاحم. شرح نهج البلاغة ج : 8 ص : 32و روى أبو عبيد الله محمد بن عمران بن موسى بن عبيد الله المرزباني أن معاوية لما تم له الأمر بعد وفاة علي ع بعث زيادا على البصرة و ناد منادي معاوية أمن الأسود و الأحمر بأمان الله إلا عبد الله بن هاشم بن عة فمكث معاوية يطلبه أشد الطلب و لا يعرف له خبرا حتى قدم عليه رجل من أهل البصرة فقال له أنا أدلك على عبد الله بن هاشم بن عتبة اكتب إلى زياد فإنه عند فلانة المخزومية فدعا كاتبه فكتب من معاوية بن أبي سفيان أمير المؤمنين إلى زياد بن أبي سفيان أما بعد فإذا أتاك كتابي هذا فاعمد إلى حي بني مخزوم ففتشه دارا دارا حتى تأتي إلى دار فلانة المخزومية فاستخرج عبد الله بن هاشم المرقال منها فاحلق رأسه و ألبسه جبة شعر و قيده و غل يده إلى عنقه و احمله على قتب بعير بغير وطاء و لا غذاء و أنفذ به إلي. قال المرزباني فأما الزبير بن بكار فإنه قال إن معاوية قال لزياد لما بعثه إلى البصرة إن عبد الله بن المرقال في بني ناجية بالبصرة عند امرأة منهم يقال لها فلانة و أنا أعزم عليك إلا حططت رحلك ببابها ثم اقتحمت الدار و استخرجته منها و حملته إلي. فلما دخل زياد إلى البصرة سأل عن بني ناجية و عن منزل المرأة فاقتحم الدار و استخرج عبد الله منها فأنفذه إلى معاوية فوصل إليه يوم الجمعة و قد لاقى نصبا كثيرا و من الهجير ما غير جسمه و كان معاوية يأمر بطعام فيتخذ في كل جمعة لأشراف قريش و لأشراف الشام و وفود العراق فلم يشعر معاوية إلا و عبد الله بين

(9/26)


يديه و قد ذبل و سهم وجهه فعرفه و لم يعرفه عمرو بن العاص فقال معاوية يا أبا عبد الله أ تعرف هذا الفتى قال لا قال هذا ابن الذي كان يقول في صفين
أعور يبغي أهله محلا قد عالج الحياة حتى ملالا بد أن يفل أو يفلا
قال عمرو و إنه لهو دونك الضب المضب فاشخب أوداجه و لا ترجعه إلى أهل شرح نهج البلاغة ج : 8 ص : 33العراق فإنهم أهل فتنة و نفاق و له مع ذلك هوى يرديه و بطانة تغويه فو الذي نفسي بيده لئن أفلت من حبائلك ليجهزن إليك جيشا تكثر صواهله لشر يوم لك. فقال عبد الله و في القيد يا ابن الأبتر هلا كانت هذه الحماسة عندك يوم صفين و نحن ندعوك إلى البراز و تلوذ بشمائل الخيل كالأمة السوداء و النعجة القوداء أما إنه إن قتلني قتل رجلا كريم المخبرة حميد المقدرة ليس بالجبس المنكوس و لا الثلب المركوس فقال عمرو دع كيت و كيت فقد وقعت بين لحيي لهزم فروس للأعداء يسعطك إسعاط الكودن الملجم قال عبد الله أكثر إكثارك فإني أعلمك بطرا في الرخاء جبانا في اللقاء هيابة عند كفاح الأعداء ترى أن تقي مهجتك بأن تبدي سوءتك أ نسيت يوم صفين و أنت تدعى إلى النزال فتحيد عن القتال خوفا أن يغمرك رجال لهم أبدان شداد و أسنة حداد ينهبون السرح و يذلون العزيز. قال عمر لقد علم معاوية أني شهدت تلك المواطن فكنت فيها كمدرة الشوك و لقد رأيت أباك في بعض تلك المواطن تخفق أحشاؤه و تنق أمعاؤه قال أما و الله لو لقيك أبي في ذلك المقام لارتعدت منه فرائصك و لم تسلم منه مهجتك و لكنه قاتل غيرك فقتل دونك. فقال معاوية أ لا تسكت لا أم لك فقال يا ابن هند أ تقول لي هذا و الله لئن شئت لأعرقن جبينك و لأقيمنك و بين عينيك وسم يلين له أخدعاك أ بأكثر من الموت تخوفني فقال معاوية أو تكف يا ابن أخي و أمر به إلى السجن. فقال عمرو و ذكر الأبيات فقال عبد الله و ذكر الأبيات أيضا و زاد فأطرق معاوية طويلا حتى ظن أنه لن يتكلم ثم قال شرح نهج البلاغة ج : 8 ص : 3أرى

(9/27)


العفو عن عليا قريش وسيلة إلى الله في اليوم العبوس القماطرو لست أرى قتلي فتى ذا قرابة له نسب في حي كعب و عامربل العفو عنه بعد ما خاب قدحه و زلت به إحدى الجدود العواثرو كان أبوه يوم صفين محنقا علينا فأردته رماح يحابر
ثم قال له أ تراك فاعلا ما قال عمرو من الخروج علينا قال لا تسل عن عقيدات الضمائر لا سيما إذا أرادت جهادا في طاعة الله قال إذن يقتلك الله كما قتل أباك قال و من لي بالشهادة قال فأحسن معاوية جائزته و أخذ عليه موثقا ألا يساكنه بالشام فيفسد عليه أهله. قال نصر و حدثنا عمرو بن شمر عن السدي عن عبد خير الهمداني قال قال هاشم بن عتبة يوم مقتله أيها الناس إني رجل ضخم فلا يهولنكم مسقطي إذا سقطت فإنه لا يفرغ مني أقل من نحر جزور حتى يفرغ الجزار من جزرها ثم حمل فصرع فمر عليه رجل و هو صريع بين القتلى فناداه اقرأ على أمير المؤمنين السلام و قل له بركات الله و رحمته عليك يا أمير المؤمنين أنشدك الله إلا أصبحت و قد ربطت مقاود خيلك بأرجل القتلى فإن الدبرة تصبح غدا لمن غلب على القتلى فأخبر الرجل عليا ع بما قاله فسار في الليل بكتائبه حتى جعل القتلى خلف ظهره فأصبح و الدبرة له على أهل الشام. قال نصر و حدثنا عمرو بن شمر عن السدي عن عبد خير قال قاتل هاشم الحارث بن المنذر التنوخي حمل عليه بعد أن أعيا و كل و قتل بيده فطعنه بالرمح فشق بطنه فسقط و بعث إليه علي ع و هو لا يعلم أقدم بلوائك فقال للرسول انظر شرح نهج البلاغة ج : 8 ص : 35إلى بطني ذا هو قد انشق فجاء علي ع حتى وقف عليه و حوله عصابة من أسلم قد صرعوا معه و قوم من القراء فجزع عليه و قال

(9/28)


جزى الله خيرا عصبة أسلمية صباح الوجوه صرعوا حول هاشم يزيد و سعدان و بشر و معبد و سفيان و ابنا معبد ذي المكارم و عروة لا يبعد نثاه و ذكره إذا اخترطت يوما خفاف الصوارقال نصر و حدثنا عمر بن سعد عن الشعبي عن أبي سلمة أن هاشم بن عتبة استصرخ الناس عند المساء ألا من كان له إلى الله حاجة و من كان يريد الآخرة فليقبل فأقبل إليه ناس كثير شد بهم على أهل الشام مرارا ليس من وجه يحمل عليه إلا صبروا له فقاتل قتالا شديدا ثم قال لأصحابه لا يهولنكم ما ترون من صبرهم فو الله ما ترون منهم إلا حمية العرب و صبرها تحت راياتها و عند مراكزها و إنهم لعلى الضلال و إنكم لعلى الحق يا قوم اصبروا و صابروا و اجتمعوا و امشوا بنا إلى عدونا على تؤدة رويدا و اذكروا الله و لا يسلمن رجل أخاه و لا تكثروا الالتفات و اصمدوا صمدهم و جالدوهم محتسبين حتى يحكم الله بيننا و بينهم و هو خير الحاكمين. قال أبو سلمة فبينا هو و عصابة من القراء يجالدون أهل الشام إذ طلع عليهم فتى شاب و هو يقول
أنا ابن أرباب ملوك غسان و الدائن اليوم بدين عثمان

(9/29)


شرح نهج البلاغة ج : 8 ص : 36أنبأنا قراؤنا بما كان أن عليا قتل ابن عفاثم شد لا ينثني حتى يضرب بسيفه ثم جعل يلعن عليا و يشتمه و يسهب في ذمه فقال له هاشم بن عتبة يا هذا إن الكلام بعده الخصام و إن لعنك سيد الأبرار بعده عقاب النار فاتق الله فإنك راجع إلى ربك فيسألك عن هذا الموقف و عن هذا المقال. قال الفتى إذا سألني ربي قلت قاتلت أهل العراق لأن صاحبهم لا يصلي كما ذكر لي و إنهم لا يصلون و صاحبهم قتل خليفتنا و هم آزروه على قتله فقال له هاشم يا بني و ما أنت و عثمان إنما قتله أصحاب محمد الذين هم أولى بالنظر في أمور المسلمين و إن صاحبنا كان أبعد القوم عن دمه و أما قولك إنه لا يصلي فهو أول من صلى مع رسول الله و أول من آمن به و أما قولك إن أصحابه لا يصلون فكل من ترى معه قراء الكتاب لا ينامون الليل تهجدا فاتق الله و اخش عقابه و لا يغررك من نفسك الأشقياء الضالون. فقال الفتى يا عبد الله لقد دخل قلبي وجل من كلامك و إني لأظنك صادقا صالحا و أظنني مخطئا آثما فهل لي من توبة قال نعم ارجع إلى ربك و تب إليه فإنه يقبل التوبة و يعفو عن السيئات و يحب التوابين و يحب المتطهرين فرجع الفتى إلى صفه منكسرا نادما فقال له قوم من أهل الشام خدعك العراقي قال لا و لكن نصحني العراقي. قال نصر و في قتل هاشم و عمار تقول امرأة من أهل الشام
لا تعدموا قوما أذاقوا ابن ياسر شعوبا و لم يعطوكم بالخزائم
شرح نهج البلاغة ج : 8 ص : 37فنحن قتلنا اليثربي ابن محصن خطيبكم و ابني بديل و هاشقال نصر أما اليثربي فهو عمرو بن محصن الأنصاري و قد رثاه النجاشي شاعر أهل العراق فقال

(9/30)


لنعم فتى الحيين عمرو بن محصن إذا صارخ الحي المصبح ثوباإذا الخيل جالت بينها قصد القنا يثرن عجاجا ساطعا متنصبالقد فجع الأنصار طرا بسيد أخي ثقة في الصالحات مجربافيا رب خير قد أفدت و جفنة ملأت و قرن قد تركت مسلباو يا رب خصم قد رددت بغيظه فآب ذليلا بعد أن كان مغضباو راية مجد قد حملت و غزوة شهدت إذ النكس الجبان تهيباحويطا على جل العشيرة ماجدا و ما كنت في الأنصار نكسا مؤنباطويل عماد المجد رحبا فناؤه خصيبا إذا ما رائد الحي أجدباعظيم رماد النار لم يك فاحشا و لا فشلا يوم النزال مغلباو كنت ربيعا ينفع الناس سيبه و سيفا جرازا باتك الحد مقضبافمن يك مسرورا بقتل ابن محصن فعاش شقيا ثم مات معذباو غودر منكبا لفيه و وجهه يعالج رمحا ذا سنان و ثعلبافإن يقتلوا الحر الكريم ابن محصن فنحن قتلنا ذا الكلاع و حوشبا
شرح نهج البلاغة ج : 8 ص : 38و إن يقتلوا ابني بديل و هاشما فنحن تركنا منكم القرن أعضباو نحن تركنا حميرا في صفوفكم لدى الحرب صرعى كالنخيل مشذباو أفلتنا تحت الأسنة مرثد و كان قديما في الفرار مدرباو نحن تركنا عند مختلف القنا أخاكم عبيد الله لحما ملحبابصفين ا ارفض عنه رجالكم و وجه ابن عتاب تركناه ملغباو طلحة من بعد الزبير و لم ندع لضبة في الهيجا عريفا و منكباو نحن أحطنا بالبعير و أهله و نحن سقيناكم سماما مقشبا
قال نصر و كان ابن محصن من أعلام أصحاب علي ع قتل في المعركة و جزع علي ع لقتله. قال و في قتل هاشم بن عتبة يقول أبو الطفيل عامر بن واثلة الكناني و هو من الصحابة و قيل إنه آخر من بقي من صحب رسول الله ص و شهد مع علي صفين و كان من مخلصي الشيعة

(9/31)


يا هاشم الخير جزيت الجنه قاتلت في الله عدو السنه و التاركي الحق و أهل الظنه أعظم بما فزت به من منه صيرني الدهر كأني شنه و سوف تعلو حول قبري رنه من زوجة و حوبة و ك شرح نهج البلاغة ج : 8 ص : 39قال نصر و الحوبة القرابة يقال لي في بني فلان حوبة أي قربى. قال نصر و قال رجل من عذرة من أهل الشاملقد رأيت أمورا كلها عجب و ما رأيت كأيام بصفينالما غدوا و غدونا كلنا حنق كما رأيت الجمال الجلة الجوناخيل تجول و أخرى في أعنتها و آخرون على غيظ يراموناثم ابتذلنا سيوفا في جماجمهم و ما نساقيهم من ذاك يجزوناكأنها في أكف القوم لامعة سلاسل البرق يجدعن العرانيناثم انصرفنا كأشلاء مقطعة و كلهم عند قتلاهم يصلونا
قال نصر و قال رجل لعدي بن حاتم الطائي و كان من جملة أصحاب علي ع يا أبا طريف أ لم أسمعك تقول يوم الدار و الله لا تحبق فيها عناق حولية و قد رأيت ما كان فيها و قد كان فقئت عين عدي و قتل بنوه فقال أما و الله لقد حبقت في قتله العناق و التيس الأعظم. قال نصر و حدثنا عمرو بن شمر قال بعث علي ع خيلا ليحبسوا عن معاوية مادته فبعث معاوية الضحاك بن قيس الفهري في خيل إلى تلك الخيل فأزالوها شرح نهج البلاغة ج : 8 ص : 40و جاءت عيون علي ع فأخبروه بما كان فقال لأصحابه ما ترون فيما هاهنا فقال بعضهم نرى كذا و قال بعضهم نرى كذالما زاد الاختلاف قال علي ع اغدوا إلى القتال فغاداهم إلى القتال فانهزمت صفوف الشام من بين يديه ذلك اليوم حتى فر عتبة بن أبي سفيان عشرين فرسخا عن موضع المعركة فقال النجاشي فيه من قصيدة أولها
لقد أمعنت يا عتب الفرارا و أورثك الوغى خزيا و عارافلا يحمد خصاك سوى طمر إذا أجريته انهمر انهمارا
و قال كعب بن جعيل و هو شاعر أهل الشام بعد رفع المصاحف يذكر أيام صفين و يحرض معاوية

(9/32)


معاوي لا تنهض بغير وثيقة فإنك بعد اليوم بالذل عارف تركتم عبيد الله بالقاع مسندا يمج نجيعا و العروق نوازف ألا إنما تبكي العيون لفارس بصفين أجلت خيله و هو واقف ينوء و تعلوه شآبيب من دم كما لاح في جيب القميص اللفائف تبدل من أسماء أسياف وائل و أي فتى لو أخ المتالف ألا إن شر الناس في الناس كلهم بنو أسد إني بما قلت عارف و فرت تميم سعدها و ربابها و خالفت الجعراء فيمن يخالف و قد صبرت حول ابن عم محمد على الموت شهباء المناكب شارف فما برحوا حتى رأى الله صبرهم و حتى أتيحت بالأكف المص شرح نهج البلاغة ج : 8 ص : 41و قد تقدم ذكر هذه الأبيات بزيادة على ما ذكرناه الآن. قال نصر و هجا كعب بن جعيل عتبة بن أبي سفيان و عيره بالفرار و كان كعب من شيعة معاوية لكنه هجا عتبة تحريضا له فهجاه عتبة جوابا فقال لهو سميت كعبا بشر العظام و كان أبوك يسمى الجعل و إن مكانك من وائل مكان القراد من است الجملقال نصر ثم كانت بين الفريقين الوقعة المعروفة بوقعة الخميس حدثنا بها عمر بن سعد عن سليمان الأعمش عن إبراهيم النخعي قال حدثنا القعقاع بن الأبرد الطهوي قال و الله إني لواقف قريبا من علي ع بصفين يوم وقعة الخميس و قد التقت مذحج و كانوا في ميمنة علي ع و عك لخم و جذام و الأشعريون و كانوا مستبصرين في قتال علي ع فلقد و الله رأيت ذلك اليوم من قتالهم و سمعت من وقع السيوف على الرءوس و خبط الخيول بحوافرها في الأرض و في القتلى ما الجبال تهد و لا الصواعق تصعق بأعظم من هؤلاء في الصدور من تلك الأصوات و نظرت إلى علي ع و هو قائم فدنوت منه فأسمعه يقول لا حول و لا قوة إلا بالله اللهم إليك الشكوى و أنت المستعان ثم نهض حين قام قائم الظهبرة و هو يقول ربنا افتح بيننا و بين قومنا بالحق و أنت خير الفاتحين و حمل على الناس بنفسه و سيفه مجرد بيده فلا و الله ما حجز بين الناس ذلك اليوم إلا الله رب العالمين في قريب من ثلث الليل

(9/33)


شرح نهج البلاغة ج : 8 ص : 42الأول و قتلت يومئذ أعلام العرب و كان في رأس علي ع ثلاث ضربات و في وجهه ضربتان. قال نصر و قد قيل إن عليا ع لم يخرج قط و قتل في هذا اليوم خزيمة بن ثابت ذو الشهادتين و قتل من أهل الشام عبد اه بن ذي الكلاع الحميري فقال معقل بن نهيك بن يساف الأنصاري
يا لهف نفسي و من يشفي حزازتها إذ أفلت الفاسق الضليل منطلقاو أفلت الخيل عمرو و هي شاحبة تحت العجاج تحث الركض و العنقاوافت منية عبد الله إذ لحقت قب الخيول به أعجز بمن لحقاو أنساب مروان في الظلماء مستترا تحت الدجى كلما خاف الردى أرقا
و قال مالك الأشتر
نحن قتلنا حوشبا لما غدا قد أعلماو ذا الكلاع قبله و معبدا إذ أقدماأن تقتلوا منا أبا اليقظان شيخا مسلمافقد قتلنا منكم سبعين كهلا مجرماأضحوا بصفين و قد لاقوا نكالا مؤثما
و قالت ضبيعة بنت خزيمة بن ثابت ذي الشهادتين ترثي أباها رحمه الله

(9/34)


عين جودي على خزيمة بالدمع قتيل الأحزاب يوم الفرات قتلوا ذا الشهادتين عتوا أدرك الله منهم بالترات قتلوه في فتية غير عزل يسرعون الركوب في الدعوات نصروا السيد الموفق ذا العدل و دانوا بذاك حتى المم شرح نهج البلاغة ج : 8 ص : 43لعن الله معشرا قتلوه و رماهم بالخزي و الآفاقال نصر و حدثنا عمر بن سعد عن الأعمش قال كتب معاوية إلى أبي أيوب خالد بن زيد الأنصاري صاحب منزل رسول الله ص و كان سيدا معظما من سادات الأنصار و كان من شيعة علي ع كتابا و كتب إلى زياد ابن سمية و كان عاملا لعلي ع على بعض فارس كتابا ثانيا فأما كتابه إلى أبي أيوب فكان سطرا واحدا حاجيتك لا تنسى الشيباء أبا عذرها و لا قاتل بكرها فلم يدر أبو أيوب ما هو قال فأتى به عليا ع فقال يا أمير المؤمنين إن معاوية كهف المنافقين كتب إلي بكتاب لا أدري ما هو قال علي ع فأين الكتاب فدفعه إليه فقرأه و قال نعم هذا مثل ضربه لك يقول لا تنسى الشيباء أبا عذرها و الشيباء المرأة البكر ليلة افتضاضها لا تنسى بعلها الذي افترعها أبدا و لا تنسى قاتل بكرها و هو أول ولدها كذلك لا أنسى أنا قتل عثمان. و أما الكتاب الذي كتبه إلى زياد فإنه كان وعيدا و تهددا فقال زياد ويلي على معاوية كهف المنافقين و بقية الأحزاب يتهددني و يتوعدني و بيني و بينه ابن عم محمد معه سبعون ألفا سيوفهم على عواتقهم يطيعونه في جميع ما يأمرهم به لا يلتفت رجل منهم وراءه حتى يموت أما و الله لو ظفر ثم خلص إلي ليجدنني أحمر ضرابا بالسيف. قال نصر أحمر أي مولى فلما ادعاه معاوية عاد عربيا منافيا. شرح نهج البلاغة ج : 8 ص : 44قال نصر و روى عمرو بن شمر أن معاوية كتب في أسفل كتابه إلى أبي أيوبأبلغ لديك أبا أيوب مألكة أنا و قومك مثل الذئب و النقدإما قتلتم أمير المؤمنين فلا ترجوا الهوادة منا آخر الأبدإن الذي نلتموه ظالمين له أبقت حزازته صدعا على كبدي إني حلفت يمينا غير كاذبة لقد قتلتم إماما غير ذي

(9/35)


أودلا تحسبوا إنني أنسى مصيبته و في البلاد من الأصار من أحدقد أبدل الله منكم خير ذي كلع و اليحصبيين أهل الخوف و الجندإن العراق لنا فقع بقرقرة أو شحمة بزها شاو و لم يكدو الشام ينزلها الأبرار بلدتها أمن و بيضتها عريسة الأسد
فلما قرئ الكتاب على علي ع قال لشد ما شحذكم معاوية يا معشر الأنصار أجيبوا الرجل فقال أبو أيوب يا أمير المؤمنين إني ما أشاء أن أقول شيئا من الشعر يعيا به الرجال إلا قلته فقال فأنت إذا أنت. فكتب أبو أيوب إلى معاوية أما بعد فإنك كتبت لا تنسى الشيباء أبا عذرها و لا قاتل بكرها فضربتها مثلا بقتل عثمان و ما نحن و قتل عثمان إن الذي تربص بعثمان شرح نهج البلاغة ج : 8 ص : 45و ثبط يزيد بن أسد و أهل الشام عن نصرته لأنت و إن الذين قتلوه لغير الأنصار و كتب في آخر كتابهلا توعدنا ابن حرب إننا نفر لا نبتغي ود ذي البغضاء من أحدو اسعوا جميعا بني الأحزاب كلكم لسنا نريد رضاكم آخر الأبدنحن الذين ضربنا الناس كلهم حتى استقاموا و كانوا عرضة الأودو العام قصرك منا أن ثبت لنا ضرب يزيل بين الروح و الجسدأما علي فأنا لا نفارقه ما رفرف الآل في الدوية الجردإما تبدلت منا بعد نصرتنا دين الرسول أناسا ساكني الجندلا يعرفون أضل الله سعيهم إلا اتباعكم يا راعي النقدفقد بغى الحق هضما شر ذي كلع و اليحصبيون طرا بيضة البلد

(9/36)


قال فلما أتى معاوية كتاب أبي أيوب كسره. قال نصر و حدثنا عمرو بن شمر قال حدثني مجالد عن الشعبي عن زياد بن النضر الحارثي قال شهدت مع علي ع صفين فاقتتلنا مرة ثلاثة أيام و ثلاث ليال حتى تكسرت الرماح و نفدت السهام ثم صرنا إلى المسايفة فاجتلدنا بها إلى نصف الليل حتى صرنا نحن و أهل الشام في اليوم الثالث يعانق بعضنا بعضا و لقد قاتلت ليلتئذ بجميع السلاح فلم يبق شي ء من السلاح إلا قاتلت به حتى تحاثينا شرح نهج البلاغة ج : 8 ص : 46بالتراب و تكادمنا بالأفواه حتى صرنا قياما ينظر بعضنا إلى بعض ما يستطيع أحد من الفريقين ينهض إلى صاحبه و لا يقاتل فلما كان نصف الليل من الليلة الثالثة انحاز معاوية و خيله من الصف و غلب علي ع على القتلى فلما أصبح أقبل على أصحابه يدفهم و قد قتل كثير منهم و قتل من أصحاب معاوية أكثر و قتل فيهم تلك الليلة شمر بن أبرهة. قال نصر و حدثنا عمرو عن جابن عن تميم قال و الله إني لمع علي ع إذ أتاه علقمة بن زهير الأنصاري فقال يا أمير المؤمنين إن عمرو بن العاص يرتجز في الصف بشعر أ فأسمعكه قال نعم قال إنه يقول
إذا تخازرت و ما بي من خزر ثم كسرت العين من غير عورألفيتني ألوى بعيد المستمر ذا صولة في المصمئلات الكبرأحمل ما حملت من خير و شر كالحية الصماء في أصل الحجر
فقال علي اللهم العنه فإن رسولك لعنه قال علقمة و إنه يا أمير المؤمنين يرتجز برجز آخر فأنشدك قال قل فقال
أنا الغلام القرشي المؤتمن الماجد الأبلج ليث كالشطن ترضى بي الشام إلى أرض عدن يا قادة الكوفة يا أهل الفتن شرح نهج البلاغة ج : 8 ص : 47أضربكم و لا أرى أبا حسن كفى بهذا حزنا من الحزفضحك علي ع و قال إنه لكاذب و إنه بمكاني لعالم كما قال العربي غير الوهي ترقعين و أنت مبصرة ويحكم أروني مكانه لله أبوكم و خلاكم ذم و قال محمد بن عمرو بن العاص

(9/37)


لو شهدت جمل مقامي و مشهدي بصفين يوما شاب منها الذوائب غداة غدا أهلي العراق كأنهم من البحر موج لجه متراكب و جئناهم نمشي صفوفا كأننا سحاب خريف صففته الجنائب فطارت إلينا بالرماح كماتهم و طرنا إليهم و السيوف 10- قواضب فدارت رحانا و استدارت رحاهم سراة نهارتولى المناكب إذا قلت يوما قد ونوا برزت لنا كتائب منهم و احجنت كتائب و قالوا نرى من رأينا أن تبايعوا عليا فقلنا بل نرى أن نضاربافأبنا و قد أردوا سراة رجالنا و ليس لما لاقوا سوى الله حاسب فلم أر يوما كان أكثر باكيا و لا عارضا منهم كميا يكالب كأن تلألؤ الفينا و فيهم تلألؤ برق في تهامة ثاقب
شرح نهج البلاغة ج : 8 ص : 48و قال النجاشي يذكر عليا ع و جده في الأمرإني إخال عليا غير مرتدع حتى تقام حقوق الله و الحرم أ ما ترى النقع معصوبا بلمته كأنه الصقر في عرنينه شمم غضبان يحرق نابيه على حنق كما يغط الفنيق المصعب القطم حتى يزيل ابن حرب عن إمارته كما تنكب تيس الحبلة الحقال نصر و حدثنا عمر بن سعد عن الشعبي قال بلغ النجاشي أن معاوية تهدده فقال
يا أيها الرجل المبدي عداوته روئ لنفسك أي الأمر تأتمرلا تحسبني كأقوام ملكتهم طوع الأعنه لما ترشح الغدرو ما علمت بما أضمرت من حنق حتى أتتني به الركبان و النذرإذا نفست على الأنجاد مجدهم فابسط يديك فإن الخير مبتدرو اعلم بأن على الخير من نفر شم العرانين لا يعلوهم بشرلا يجحد الحاسد الغضبان فضلهم ما دام بالحزن من صمائها حجرنعم الفتى أنت إلا أن بينكما كما تفاضل ضوء الشمس و القمر
شرح نهج البلاغة ج : 8 ص : 49و لا إخالك إلا لست منتهيا حتى يمسك من أظفاره ظفرلا تحمدن امرأ حتى تجربه و لا تذمن من لم يبله الخبرإني امرؤ قلما أثني على أحد حتى أرى بعض ما يأتي و ما يذرو إن طوى معشر عني عداوتهم في الصدر أو كان في أبصارهم خزرأجمعت عزما جرامي بقافية لا يبرح الدهر منها فيهم أثر

(9/38)


قال فلما بلغ معاوية هذا الشعر قال ما أراه إلا قد قارب. قال نصر و حدثنا عمر بن سعد عن محمد بن إسحاق أن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب كان يحمل على الخيل يوما فجاءه رجل فقال هل من فرس يا ابن ذي الجناحين قال تلك الخيل فخذ أيتها شئت فلما ولي قال ابن جعفر إن تصب أفضل الخيل تقتل فما عتم أن أخذ أفضل الخيل فركبه ثم حمل على فارس قد كان دعاه إلى البراز فقتله الشامي و حمل غلامان آخران من أهل العراق حتى انتهيا إلى سرادق معاوية فقتلا عنده و أقبلت الكتائب بعضها نحو بعض فاقتتلت قياما في الركب لا يسمع السامع إلا وقع السيوف على البيض و الدرق. و قال عمرو بن العاص
أ جئتم إلينا تسفكون دماءنا و ما رمتم وعر من الأمر أعسرلعمري لما فيه يكون حجاجنا إلى الله أدهى لو عقلتم و أنكرتعاورتم ضربا بكل مهند إذا شد وردان تقدم قنبركتائبكم طورا تشد و تارة كتائبنا فيها القنا و السنور
شرح نهج البلاغة ج : 8 ص : 50إذا ما التقوا يوما تدارك بينهم طعان و موت في المعارك أحمو قال رجل من كلب مع معاوية يهجو أهل العراق و يوبخهم
لقد ضلت معاشر من نزار إذا انقادوا لمثل أبي تراب و إنهم و بيعتهم عليا كواشمة التغضن بالخضاب تزين من سفاهتها يديها و تحسر باليدين عن النقاب فإياكم و داهية نئودا تسير إليكم تحت العقاب إذا ساروا سمعت لحافتيهم دويا مثل تصفيق السحاب يجيبون الصريخ إذا دعاهم طعن الفوارس بالحراب عليهم كل سابغة دلاص و أبيض صارم مثل الشهابو قال أبو حية بن غزية الأنصاري و هو الذي عقر الجمل يوم البصرة و اسمه عمرو

(9/39)


سائل حليلة معبد عن بعلها و حليلة اللخمي و ابن كلاع و اسأل عبيد الله عن فرساننا لما ثوى متجدلا بالقاع و اسأل معاوية المولى هاربا و الخليل تمعج و هي جد سراع ما ذا يخبرك المخبر منهم عنهم و عنا عند كل وقاع إن يصدقوك يخبروك بأننا أهل الندى قدما مجيبو الد شرح نهج البلاغة ج : 8 ص : 51إن يصدقوك يخبروك بأننا نحمي الحقيقة كل يوم مصاع ندعو إلى التقوى و نرعى أهلها برعاية المأمون لا المضياع و نسن للأعداء كل مثقف لدن و كل مشطب قو قال عدي بن حاتم الطائي
أقول لما أن رأيت المعمعه و اجتمع الجندان وسط البلقعه هذا علي و الهدى حقا معه يا رب فاحفظه و لا تضيعه فإنه يخشاك رب فارفعه و من أراد عيبه فضعضعه أو كاده بالبغي منك فاقمو قال النعمان بن جعلان الأنصاري
سائل بصفين عنا عند غدوتنا أم كيف كنا إلى العلياء نبتدرو سل غداة لفينا الأزد قاطبة يوم البصيرة لما استجمعت مضرلو لا الإله و عفو من أبي حسن عنهم و ما زال منه العفو ينتظرلما تداعت لهم بالمصر داعية إلا الكلاب و إلا الشاء و الحمركم مقعص قد تركناه بمقفرة تعوي السباع عليه و هو منعفرما إن يئوب و لا ترجوه أسرته إلى القيامة حتى ينفخ الصور
قال عمرو بن الحمق الخزاعي شرح نهج البلاغة ج : 8 ص : 5تقول عرسي لما أن رأت أرقي ما ذا يهيجك من أصحاب صفيناأ لست في عصبة يهدي الإله بهم لا يظلمون و لا بغيا يريدونافقلت إني على ما كان من رشد أخشى عواقب أمر سوف يأتيناإدالة القوم في أمر يراد بنا فأقني حياء و كفى ما تقولينا
و قال حجر بن عدي الكندي
يا ربنا سلم لنا عليا سلم لنا المهذب التقياالمؤمن المسترشد الرضيا و اجعله هادي أمة مهدياو احفظه رب حفظك النبيا لا خطل الرأي و لا غبيافإنه كان لنا وليا ثم ارتضيه بعده وصيا

(9/40)


قال نصر و حدثنا عمر بن سعد عن الشعبي قال قال الأحنف بن قيس في صفين لأصحابه هلكت العرب قالوا له و إن غلبنا يا أبا بحر قال نعم قالوا و إن غلبنا قال نعم قالوا و الله ما جعلت لنا مخرجا فقال الأحنف إنا إن غلبناهم لم نترك بالشام رئيسا إلا ضربنا عنقه و إن غلبونا لم يعرج بعدها رئيس عن معصية الله أبدا. قال نصر و حدثنا عمر بن سعد عن الشعبي قال ذكر معاوية يوما صفين بعد عام الجماعة و تسليم الحسن ع الأمر إليه فقال للوليد بن عقبة أي بني عمك شرح نهج البلاغة ج : 8 ص : 53كان أفضل يوم صفين يا وليد عند وقدان الحرب و استشاطةظاها حين قاتلت الرجال على الأحساب قال كلهم قد وصل كنفيها عند انتشار وقعتها حتى ابتلت أثباج الرجال من الجريال بكل لدن عسال و بكل عضب قصال فقال عبد الرحمن بن خالد بن الوليد أما و الله لقد رأيتنا يوما من الأيام و قد غشينا ثعبان في مثل الطود الأرعن قد أثار قسطلا حال بيننا و بين الأفق و هو على أدهم شائل الغرة يعني عليا ع يضربهم بسيفه ضرب غرائب الإبل كاشرا عن نابه كشر المخدر الحرب فقال معاوية نعم إنه كان يقاتل عن ترة له و عليه. قال نصر و حدثنا عمر بن سعد عن الشعبي قال أرسل علي ع إلى معاوية أن ابرز إلي و اعف الفريقين من القتال فأينا قتل صاحبه كان الأمر له فقال عمرو لقد أنصفك الرجل فقال معاوية أنا أبارز الشجاع الأخرق أظنك يا عمرو طمعت فيها فلما لم يجب قال علي ع وا نفساه أ يطاع معاوية و أعصى ما قاتلت أمة قط أهل بيت نبيها و هي مقرة بنبيها غير هذه الأمة ثم إن عليا ع أمر الناس أن يحملوا على أهل الشام فحملوا فنقضوا صفوف الشام فقال عمرو على من هذا الرهج الساطع قالوا على ابنيك عبد الله و محمد فقال عمرو يا وردان قدم لوائي فأرسل إليه معاوية أنه ليس على ابنيك بأس فلا تنقض الصف و الزم موقفك فقال عمرو هيهات هيهات.
الليث يحمي شبليه ما خيره بعد ابنيه

(9/41)


ثم تقدم باللواء فأدركه رسول معاوية فقال إنه ليس على ابنيك بأس فلا تحملن شرح نهج البلاغة ج : 8 ص : 54فقال قل له إنك لم تلدهما و إني أنا ولدتهما و بلغ مقدم الصفوف فقال له الناس مكانك إنه لا بأس على ابنيك إنهما في مكان حريز فقال أسمعوني أصواتهما حتى أعلم أ ان هما أم قتيلان و نادى يا وردان قدم لواءك قيد قوس فقدم لواءه فأرسل علي ع إلى أهل الكوفة أن احملوا و إلى أهل البصرة أن احملوا فحمل الناس من كل جانب فاقتتلوا قتالا شديدا و خرج رجل من أهل الشام فقال من يبارز فبرز إليه رجل من أهل العراق فاقتتلا ساعة و ضرب العراقي الشامي على رجله فاسقط قدمه فقاتل و لم يسقط إلى الأرض فضربه العراقي أخرى فاسقط يده فرمى الشامي سيفه إلى أهل الشام و قال دونكم سيفي هذا فاستعينوا به على قتال عدوكم فاشتراه معاوية من أوليائه بعشرة آلاف درهم. قال نصر و حدثنا مالك الجهني عن زيد بن وهب أن عليا ع مر على جماعة من أهل الشام بصفين منهم الوليد بن عقبة و هم يشتمونه و يقصبونه فأخبر بذلك فوقف على ناس من أصحابه و قال انهدوا إليهم و عليكم السكينة و الوقار و سيما الصالحين أقرب بقوم من الجهل قائدهم و مؤدبهم معاوية و ابن النابغة و أبو الأعور السلمي و ابن أبي معيط شارب الحرام و المحدود في الإسلام و هم أولاء يقصبونني و يشتمونني و قبل اليوم ما قاتلوني و شتموني و أنا إذ ذاك ادعوهم إلى الإسلام و هم يدعونني إلى عبادة الأصنام فالحمد لله و لا إله إلا الله لقديما ما عاداني الفاسقون إن هذا لهو الخطب الجلل إن فساقا كانوا عندنا غير مرضيين و على الإسلام شرح نهج البلاغة ج : 8 ص : 55و أهله متخوفين أصبحوا و قد خدعوا شطر هذه الأمة و أشربوا في قلوبهم حب الفتنة و استمالوا أهواءهم بالإفك و البهتان و نصبوا لنا الحرب و جدوا في إطفاء نور الله و الله متم نوره و لو كره الكافرون لهم فإنهم قد ردوا الحق فافضض جمعهم و شتت كلمتهم و أبلسهم بخطاياهم

(9/42)


فإنه لا يذل من واليت و لا يعز من عاديت. قال نصر و كان علي ع إذا أراد الحملة هلل و كبر ثم قال
من أي يومي من الموت أفر أ يوم لم يقدر أو يوم قدر
فجعل معاوية لواءه الأعظم مع عبد الرحمن بن خالد بن الوليد فأمر علي ع جارية بن قدامة السعدي أن يلقاه بأصحابه و أقبل عمرو بن العاص بعده في خيل و معه لواء ثان فتقدم حتى خالط صفوف العراق فقال علي ع لابنه محمد امش نحو هذا اللواء رويدا حتى إذا أشرعت الرماح في صدورهم فأمسك يدك حتى يأتيك أمري ففعل و قد كان أعد علي ع مثلهم مع الأشتر فلما أشرع محمد الرماح في صدور القوم أمر علي ع الأشتر أن يحمل فحمل فأزالهم عن مواقفهم و أصاب منهم رجالا و اقتتل الناس قتالا شديدا فما صلى من أراد الصلاة إلا إيماء فقال النجاشي في ذلك اليوم يذكر الأشتر
و لما رأينا اللواء العقاب يقحمه الشانئ الأخزركليث العرين خلال العجاج و أقبل في خيله الأبتردعونا لها الكبش كبش العراق و قد أضمر الفشل العسكرفرد اللواء على عقبه و فاز بحظوتها الأشتر

(9/43)


شرح نهج البلاغة ج : 8 ص : 56كما كان يفعل في مثلها إذا ناب معصوصب منكرفإن يدفع الله عن نفسه فحظ العراق به الأوفرإذا الأشتر الخير خلى العراق فقد ذهب العرف و المنكرو تلك العراق و من عرفت كفقع تضمنه القرققال نصر و حدثنا محمد بن عتبة الكندي قال حدثني شيخ من حضرموت شهد مع علي ع صفين قال كان منا رجل يعرف بهانئ بن فهد و كان شجاعا فخرج رجل من أهل الشام يدعو إلى البراز فلم يخرج إليه أحد فقال هانئ سبحان الله ما يمنعكم أن يخرج منكم رجل إلى هذا فو الله لو لا أني موعوك و أني أجد ضعفا شديدا لخرجت إليه فما رد أحد عليه فقام و شد عليه سلاحه ليخرج فقال له أصحابه يا سبحان الله أنت موعوك وعكة شديدة فكيف تخرج قال و الله لأخرجن و لو قتلني فخرج فلما رآه عرفه و إذا الرجل من قومه من حضرموت يقال له يعمر بن أسد الحضرمي فقال يا هانئ ارجع فإنه إن يخرج إلى رجل غيرك أحب إلي فإني لا أحب قتلك قال هانئ سبحان الله ارجع و قد خرجت لا و الله لأقاتلن اليوم حتى أقتل و لا أبالي قتلتني أنت أو غيرك ثم مشى نحوه و قال اللهم في سبيلك و نصرا لابن عم رسولك و اختلفا ضربتين فقتله هانئ و شد أصحاب يعمر بن أسد على هانئ فشد أصحاب هانئ عليهم فاقتتلوا و انفرجوا عن اثنين و ثلاثين قتيلا ثم إن عليا ع أرسل إلى جميع العسكر أن احملوا فحمل الناس كلهم على راياتهم كل منهم شرح نهج البلاغة ج : 8 ص : 57يحمل على من بإزائه فتجالدوا بالسيوف و عمد الحديد لا يسمع إلا صوت ضرب الهامات كوقع المطارق على السنادين و مرت الصلوات كلها فلم يصل أحد إلا تكبيرا عند مواقيت الصلاة حتى تفانوا و رق الناس و خرج رجل من بين الصفين لا يعلم من هو فق أيها الناس أ خرج فيكم المحلقون فقيل لا فقال إنهم سيخرجون ألسنتهم أحلى من العسل و قلوبهم أمر من الصبر لهم حمة كحمة الحيات ثم غاب الرجل فلم يعلم من هو قال نصر و حدثنا عمرو بن شمر عن السدي قال اختلط أمر الناس تلك الليلة و

(9/44)


زال أهل الرايات عن مراكزهم و تفرق أصحاب علي ع عنه فأتى ربيعة ليلا فكان فيهم و تعاظم الأمر جدا و أقبل عدي بن حاتم يطلب عليا ع في موضعه الذي تركه فيه فلم يجده فطاف يطلبه فأصابه بين رماح ربيعة فقال يا أمير المؤمنين أما إذ كنت حيا فالأمر أمم ما مشيت إليك إلا على قتيل و ما أبقت هذه الوقعة لهم عميدا فقاتل حتى يفتح الله عليك فإن في الناس بقية بعد و أقبل الأشعث يلهث جزعا فلما رأى عليا ع هلل فكبر و قال يا أمير المؤمنين خيل كخيل و رجال كرجال و لنا الفضل عليهم إلى ساعتنا هذه فعد إلى مكانك الذي كنت فيه فإن الناس إنما يظنونك حيث تركوك و أرسل سعيد بن قيس الهمداني إلى علي ع إنا مشتغلون بأمرنا مع القوم و فينا فضل فإن أردت أن نمد أحدا أمددناه فأقبل علي ع على ربيعة فقال أنتم درعي و رمحي قال فربيعة تفخر بهذا الكلام إلى اليوم فقال عدي بن حاتم يا أمير المؤمنين إن قوما أنست بهم و كنت في هذه الجولة شرح نهج البلاغة : 8 ص : 58فيهم لعظيم حقهم و الله إنهم لصبر عند الموت أشداء عند القتال فدعا علي ع بفرس رسول الله ص الذي كان يقال له المرتجز فركبه ثم تقدم أمام الصفوف ثم قال بل البغلة بل البغلة فقدمت له بغلة رسول الله ص و كانت الشهباء فركبها ثم تعصب بعمامة رسول الله ص و كانت سوداء ثم نادى أيها الناس من يشر نفسه الله يربح إن هذا ليوم له ما بعده إن عدوكم قد مسه القرح كما مسكم فانتدبوا لنصرة دين الله فانتدب له ما بين عشرة آلاف إلى اثني عشر ألفا قد وضعوا سيوفهم على عواتقهم فشد بهم على أهل الشام و هو يقول
دبوا دبيب النمل لا تفوتوا و أصبحوا في حربكم و بيتواحتى تنالوا الثأر أو تموتوا أو لا فإني طالما عصيت قد قلتموا لو جئتنا فجيت ليس لكم ما شئتم و شيت بل ما يريد المحيي المميو تبعه عدي بن حاتم بلوائه و هو يقول

(9/45)


أ بعد عمار و بعد هاشم و ابن بديل فارس الملاحم نرجو البقاء ضل حلم الحالم لقد عضضنا أمس بالأباهم فاليوم لا نقرع سن نادم ليس امرؤ من حتفه بسالو حمل و حمل الأشتر بعدهما في أهل العراق كافة فلم يبق لأهل الشام صف إلا انتقض و أهمد أهل العراق ما أتوا عليه حتى أفضى الأمر إلى مضرب معاوية و علي ع يضرب الناس بسيفه قدما قدما و يقول شرح نهج البلاغة ج : 8 ص : 5أضربهم و لا أرى معاوية الأخزر العين العظيم الحاويةهوت به النار أم هاوية
فدعا معاوية بفرسه لينجو عليه فلما وضع رجله في الركاب توقف و تلوم قليلا ثم أنشد قول عمرو بن الأطنابة
أبت لي عفتي و أبى بلائي و أخذ الحمد بالثمن الربيح و إقدامي على المكروه نفسي و ضربي هامة البطل المشيح و قولي كلما جشأت و جاشت مكانك تحمدي أو تستريحي لأدفع عن مآثر صالحات و أحمي بعد عن عرض صحيح بذي شطب كلون الملح صاف و نفس ما تقر على القثم قال يا عمرو بن العاص اليوم صبر و غدا فخر قال صدقت إنك و ما أنت فيه كقول القائل

(9/46)


ما علتي و أنا جلد نابل و القوس فيها وتر عنابل تزل عن صفحتها المعابل الموت حق و الحياة باطلفثنى معاوية رجله من الركاب و نزل و استصرخ بعك و الأشعريين فوقفوا دونه و جالدوا عنه حتى كره كل من الفريقين صاحبه و تحاجز الناس. شرح نهج البلاغة ج : 8 ص : 60قال نصر جاء رجل إلى معاوية بعد انقضاء صفين و خلوص الأمر له فقال يا أمير المؤمنين إن لي عليك حقا قال ما هو قال حق عظيم قال ويحك ما هو قال أ تذكر يوما قدمت فرسك لتفر و قد غشيك أبو تراب و الأشتر فلما أردت أن تستوثبه و أنت على ظهره أمسكت بعنانك و قلت لك أين تذهب أنه للؤم بك أن تسمح العرب بنفوسها لك شهرين و لا تسمح لها بنفسك ساعة و أنت ابن ستين و كم عسى أن تعيش في الدنيا بعد هذه السن إذا نجوت فتلومت في نفسك ساعة ثم أنشدت شعرا لا أحفظه ثم نزلت فقال ويحك فإنك لأنت هو و الله ما أحلني هذا المحل إلا أنت و أمر له بثلاثين ألف درهم. قال نصر و حدثنا عمرو بن شمر عن النخعي عن ابن عباس قال تعرض عمرو بن العاص لعلي ع يوما من أيام صفين و ظن أنه يطمع منه في غرة فيصيبه فحمل عليه علي ع فلما كاد أن يخالطه أذرى نفسه عن فرسه و رفع ثوبه و شغر برجله فبدت عورته فصرف ع وجهه عنه و ارتث و قام معفرا بالتراب هاربا على رجليه معتصما بصفوفه فقال أهل العراق يا أمير المؤمنين أفلت الرجل فقال أ تدرون من هو قالوا لا قال فإنه عمرو بن العاص تلقاني بسوءته فصرفت وجهي عنه و رجع عمرو إلى معاوية فقال ما صنعت يا أبا عبد الله فقال لقيني علي فصرعني قال احمد الله و عورتك و الله إني لأظنك لو عرفته لما أقحمت عليه و قال معاوية في ذلك
ألا لله من هفوات عمرو يعاتبني على تركي برازي

(9/47)


شرح نهج البلاغة ج : 8 ص : 61فقد لاقى أبا حسن عليا فآب الوائلي مآب خازي فلو لم يبد عورته لطارت بمهجته قوادم أي بازي فإن تكن المنية أخطأته فقد غنى بها أهل الحفغضب عمرو و قال ما أشد تعظيمك عليا أبا تراب في أمري هل أنا إلا رجل لقيه ابن عمه فصرعه أ فترى السماء لذلك دما قال لا و لكنها معقبة لك خزيا. قال نصر و حدثنا عمر بن سعد قال لما اشتد الأمر و عظم على أهل الشام قال معاوية لأخيه عتبة بن أبي سفيان الق الأشعث فإنه إن رضي رضيت العامة و كان عتبة فصيحا فخرج فنادى الأشعث فقال الأشعث سلوا من هو المنادي قالوا عتبة بن أبي سفيان قال غلام مترف و لا بد من لقائه فخرج إليه فقال ما عندك يا عتبة فقال أيها الرجل إن معاوية لو كان لاقيا رجلا غير علي للقيك إنك رأس أهل العراق و سيد أهل اليمن و قد سلف من عثمان إليك ما سلف من الصهر و العمل و لست كأصحابك أما الأشتر فقتل عثمان و أما عدي فحرض عليه و أما سعيد بن قيس فقلد عليا ديته و أما شريح و زحر بن قيس فلا يعرفان غير الهوى و إنك حاميت عن أهل العراق تكرما و حاربت أهل الشام حمية و قد بلغنا منك و بلغت منا ما أردت و إنا لا ندعوك إلى ترك علي و نصرة معاوية و لكنا ندعوك إلى البقية التي فيها صلاحك و صلاحنا فتكلم الأشعث فقال يا عتبة أما قولك إن معاوية لا يلقى إلا عليا شرح نهج البلاغة ج : 8 ص : 62فلو لقيني و الله لما عظم عني و لا صغرت عنه و إن أحب أجمع بينه و بين علي فعلت و أما قولك إني رأس أهل العراق و سيد أهل اليمن فإن الرأس المتبع و السيد المطاع هو علي بن أبي طالب و أما ما سلف من عثمان إلي فو الله ما زادني صهره شرفا و لا عمله عزا و أما عيبك أصحابي فإنه لا يقربك مني و لا يباعدني عنهم و أما محاماتي عن أهل العراق فمن نزل بيتا حماه و أما البقية فلستم بأحوج إليها منا و سترى رأينا فيها. فلما عاد عتبة إلى معاوية و أبلغه قوله قال له لا تلقه بعدها فإن الرجل عظيم

(9/48)


عند نفسه و إن كان قد جنح للسلم و شاع في أهل العراق ما قاله عتبة للأشعث و ما رده الأشعث عليه فقال النجاشي يمدحه
يا ابن قيس و حارث و يزيد أنت و الله رأس أهل العراق أنت و الله حية تنفث السم قليل منها غناء الراقي أنت كالشمس و الرجال نجوم لا يرى ضوءها مع الإشراق قد حميت العراق بالأسل السمر و بالبيض كالبروق الرقاق و سعرت القتال في الشام بالبيض المواضي و بالرماح الدق ترى غير أذرع و أكف و رءوس بهامها أفلاق كلما قلت قد تصرمت الهيجا سقيتهم بكأس دهاق قد قضيت الذي عليك من الحق و سارت به القلاس المناقي أنت حلو لمن تقرب بالود و للشانئين مر المذاق بئسما ظنه ابن هند و من مثلك في الناس عند ضيق الخ شرح نهج البلاغة ج : 8 ص : 63قال نصر فقال معاوية لما يئس من جهة الأشعث لعمرو بن العاص إن رأس الناس بعد علي هو عبد الله بن العباس فلو كتبت إليه كتابا لعلك ترققه و لعله لو قال شيئا لم يخرج علي منه و قد أكلتنا الحرب و لا أرانا نصل إلى العراق إلا بهلاك أهل اام فقال عمرو إن ابن عباس لا يخدع و لو طمعت فيه لطمعت في علي قال معاوية على ذلك فاكتب فكتب عمرو إليه أما بعد فإن الذي نحن فيه و أنتم ليس بأول أمر قاده البلاء و أنت رأس هذا الجمع بعد علي فانظر فيما بقي و دع ما مضى فو الله ما أبقت هذه الحرب لنا و لا لكم حياة و لا صبرا فاعلم أن الشام لا تهلك إلا بهلاك العراق و أن العراق لا تهلك إلا بهلاك الشام فما خيرنا بعد هلاك أعدادنا منكم و ما خيركم بعد هلاك أعدادكم منا و لسنا نقول ليت الحرب عادت و لكنا نقول ليتها لم تكن و إن فينا من يكره اللقاء كما أن فيكم من يكرهه و إنما هو أمير مطاع و مأمور مطيع أو مؤتمن مشاور و هو أنت فأما الأشتر الغليظ الطبع القاسي القلب فليس بأهل أن يدعى في الشورى و لا في خواص أهل النجوى و كتب في أسفل الكتاب

(9/49)


طال البلاء و ما يرجى له آسي بعد الإله سوى رفق ابن عباس قولا له قول من يرجو مودته لا تنس حظك إن الخاسر الناسي انظر فدى لك نفسي قبل قاصمة للظهر ليس لها راق و لا آس إن العراق و أهل الشام لن يجدوا طعم الحياة مع المستغلق القاسي يا ابن الذي زمزم سقيا الحجيج عظم بذلك من فخر على الناس إني أرى الخير في سلم الشام لكم و الله يعلم ما بالسلم من بأس فيها التقى و أمور ليس يجهلها إلا الجهول و ما نوكى كأكيا شرح نهج البلاغة ج : 8 ص : 64فلما وصل الكتاب إلى ابن عباس عرضه على أمير المؤمنين ع فضحك و قال قاتل الله ابن العاص ما أغراه بك يا عبد الله أجبه و ليرد إليه شعره الفضل بن العباس فإنه شاعر فكتب ابن عباس إلى عمرو أما بعد فإني لا أعلم أحدا من العرب أقل حياء م إنه مال بك معاوية إلى الهوى فبعته دينك بالثمن اليسير ثم خبطت الناس في عشوة طمعا في الدنيا فأعظمتها إعظام أهل الدنيا ثم تزعم أنك تتنزه عنها تنزه أهل الورع فإن كنت صادقا فارجع إلى بيتك و دع الطمع في مصر و الركون إلى الدنيا الفانية و اعلم أن هذه الحرب ما معاوية فيها كعلي بدأها علي بالحق و انتهى فيها إلى العذر و بدأها معاوية بالبغي و انتهى فيها إلى السرف و ليس أهل العراق فيها كأهل الشام بايع أهل العراق عليا و هو خير منهم و بايع أهل الشام معاوية و هم خير منه و لست أنا و أنت فيها سواء أردت الله و أردت مصر و قد عرفت الشي ء الذي باعدك مني و لا أعرف الشي ء الذي قربك من معاوية فإن ترد شرا لا نسبقك به و إن ترد خيرا لا تسبقنا إليه و السلام. ثم دعا أخاه الفضل فقال يا ابن أم أجب عمرا فقال الفضليا عمرو حسبك من مكر و وسواس فاذهب فليس لداء الجهل من آس إلا تواتر طعن في نحوركم يشجي النفوس و يشفي نخوة الرأس أما علي فإن الله فضله بفضل ذي شرف عال على الناس إن تعقلوا الحرب نعقلها مخيسة أو تبعثوها فإنا غير إنك شرح نهج البلاغة ج : 8 ص : 65قتلى العراق بقتلى الشام

(9/50)


ذاهبة هذا بهذا و ما بالحق من بأثم عرض الشعر و الكتاب على علي ع فقال لا أراه يجيبك بعدها أبدا بشي ء إن كان يعقل و إن عاد عدت عليه فلما انتهى الكتاب إلى عمرو بن العاص عرضه على معاوية فقال إن قلب ابن عباس و قلب علي قلب واحد و كلاهما ولد عبد المطلب و إن كان قد خشن فلقد لان و إن كان قد تعظمأو عظم صاحبه فلقد قارب و جنح إلى السلم. قال نصر و قال معاوية لأكتبن إلى ابن عباس كتابا أستعرض فيه عقله و أنظر ما في نفسه فكتب إليه أما بعد فإنكم معشر بني هاشم لستم إلى أحد أسرع بالمساءة منكم إلى أنصار ابن عفان حتى أنكم قتلتم طلحة و الزبير لطلبهما دمه و استعظامهما ما نيل منه فإن كان ذلك منافسة لبني أمية في السلطان فقد وليها عدي و تيم فلم تنافسوهم و أظهرتم لهم الطاعة و قد وقع من الأمر ما ترى و أكلت هذه الحروب بعضها بعضا حتى استوينا فيها فما يطمعكم فينا يطمعنا فيكم و ما يؤيسنا منكم يؤيسكم منا و لقد رجونا غير ما كان و خشينا دون ما وقع و لست ملاقينا اليوم بأحد من حد أمس و لا غدا بأحد من حد اليوم و قد قنعنا بما في أيدينا من ملك الشام فاقنعوا بما في أيديكم من ملك العراق و أبقوا على قريش فإنما بقي من رجالها ستة رجلان بالشام و رجلان بالعراق و رجلان بالحجاز فأما اللذان بالشام فأنا و عمرو و أما اللذان بالعراق فأنت شرح نهج البلاغة ج : 8 ص : 66و علي و أما اللذان بالحجاز فسعد و ابن عمر فاثنان من الستة ناصبان لك و اثنان واقفان فيك و أنت رأس هذا الجمع و لو بايع لك الناس بعد عثمان كنا إليك أسرع منا إلى علي. فلما وصل الكتاب ى ابن عباس أسخطه و قال حتى متى يخطب ابن هند إلى عقلي و حتى متى أجمجم على ما في نفسي و كتب إليه أما بعد فقد أتاني كتابك و قرأته فأما ما ذكرت من سرعتنا إليك بالمساءة إلى أنصار ابن عفان و كراهتنا لسلطان بني أمية فلعمري لقد أدركت في عثمان حاجتك حين استنصرك فلم تنصره حتى صرت إلى ما صرت إليه و

(9/51)


بيني و بينك في ذلك ابن عمك و أخو عثمان و هو الوليد بن عقبة و أما طلحة و الزبير فإنهما أجلبا عليه و ضيقا خناقه ثم خرجا ينقضان البيعة و يطلبان الملك فقاتلناهما على النكث كما قاتلناك على البغي و أما قولك إنه لم يبق من قريش غير ستة فما أكثر رجالها و أحسن بقيتها و قد قاتلك من خيارها من قاتلك و لم يخذلنا إلا من خذلك و أما إغراؤك إيانا بعدي و تيم فإن أبا بكر و عمر خير من عثمان كما أن عثمان خير منك و قد بقي لك منا ما ينسيك ما قبله و تخاف ما بعده و أما قولك لو بايع الناس لي لاستقاموا فقد بايع الناس عليا و هو خير مني فلم يستقيموا له و ما أنت و الخلافة يا معاوية و إنما أنت طليق و ابن طليق و الخلافة للمهاجرين الأولين و ليس الطلقاء منها في شي ء و السلام. فلما وصل الكتاب إلى معاوية قال هذا عملي بنفسي لا أكتب و الله إليه كتابا سنة كاملة و ال شرح نهج البلاغة ج : 8 ص : 6دعوت ابن عباس إلى جل حظه و كان امرأ أهدي إليه رسائلي فأخلف ظني و الحوادث جمة و ما زاد أن أغلى عليه مراجلي فقل لابن عباس أراك مخوفا بجهلك حلمي إنني غير غافل فأبرق و أرعد ما استطعت فإنني إليك بما يشجيك سبط الأناقال نصر و حدثنا عمر بن سعد قال عقد معاوية يوما من أيام صفين الرئاسة على اليمن من قريش قصد بذلك إكرامهم و رفع منازلهم منهم عبيد الله بن عمر بن الخطاب و محمد و عتبة ابنا أبي سفيان و بسر بن أبي أرطاة و عبد الرحمن بن خالد بن الوليد و ذلك في الوقعات الأولى من صفين فغم ذلك أهل اليمن و أرادوا ألا يتأمر عليهم أحد إلا منهم فقام إليه رجل من كندة يقال له عبد الله بن الحارث السكوني فقال أيها الأمير إني قد قلت شيئا فاسمعه و ضعه مني على النصيحة قال هات فأنشده

(9/52)


معاوي أحييت فينا الإحن و أحدثت بالشام ما لم يكن عقدت لبسر و أصحابه و ما الناس حولك إلا اليمن فلا تخلطن بنا غيرنا كما شيب بالماء صفو اللبن و إلا فدعنا على حالنا فإنا و إنا إذا لم نهن ستعلم أن جاش بحر العراق و أبدى نواجذه في الفتن و شد علي بأصحابه و نفسذاك عند الذقن
شرح نهج البلاغة ج : 8 ص : 68بأنا شعارك دون الدثار و أنا الرماح و أنا الجنن و أنا السيوف و أنا الحتوف و أنا الدروع و أنا المقال فبكى لها معاوية و نظر إلى وجوه أهل اليمن فقال أ عن رضاكم يقول ما قال قالوا لا مرحبا بما قال إنما الأمر إليك فاصنع ما أحببت فقال معاوية إنما خلطت بكم أهل ثقتي و من كان لي فهو لكم و من كان لكم فهو لي فرضي القوم و سكتوا فلما بلغ أهل الكوفة مقال عبد الله بن الحارث لمعاوية فيمن عقد له من رءوس أهل الشام قام الأعور الشني إلى علي ع فقال يا أمير المؤمنين إنا لا نقول لك كما قال صاحب أهل الشام لمعاوية و لكن نقول زاد الله في سرورك و هداك نظرت بنور الله فقدمت رجالا و أخرت رجالا عليك أن تقول و علينا أن نفعل أنت الإمام فإن هلكت فهذان من بعدك يعني حسنا و حسينا ع و قد قلت شيئا فاسمعه قال هات فأنشده
أبا حسن أنت شمس النهار و هذان في الحادثات القمرو أنت و هذان حتى الممات بمنزلة السمع بعد البصرو أنتم أناس لكم سورة تقصر عنها أكف البشريخبرنا الناس عن فضلكم و فضلكم اليوم فوق الخبرعقدت لقوم أولي نجدة من أهل الحياء و أهل الخطرمساميح بالموت عند اللقاء منا و إخواننا من مضرو من حي ذي يمن جلة يقيمون في النائبات الصعرفكل يسرك في قومه و من قال لا فبفيه الحجر

(9/53)


شرح نهج البلاغة ج : 8 ص : 69و نحن الفوارس يوم الزبير و طلحة إذ قيل أودى غدرضربناهم قبل نصف النهار إلى الليل حتى قضينا الوطرو لم يأخذ الضرب إلا الرءوس و لم يأخذ الطعن إلا الثغرفنحن أولئك في أمسنا و نحن كذلك فيما غبقال فلم يبق أحد من الرؤساء إلا و أهدى إلى الشني أو أتحفه. قال نصر و حدثنا عمر بن سعد قال لما تعاظمت الأمور على معاوية قبل قتل عبيد الله بن عمر بن الخطاب دعا عمرو بن العاص و بسر بن أبي أرطاة و عبيد الله بن عمر بن الخطاب و عبد الرحمن بن خالد بن الوليد فقال لهم إنه قد غمني مقام رجال من أصحاب علي منهم سعيد بن قيس الهمداني في قومه و الأشتر في قومه و المرقال و عدي بن حاتم و قيس بن سعد في الأنصار و قد علمتم أن يمانيتكم وقتكم بأنفسها أياما كثيرة حتى لقد استحييت لكم و أنتم عدتهم من قريش و أنا أحب أن يعلم الناس أنكم أهل غناء و قد عبأت لكل رجل منهم رجلا منكم فاجعلوا ذلك إلي قالوا ذاك إليك قال فأنا أكفيكم غدا سعيد بن قيس و قومه و أنت يا عمرو للمرقال أعور بني زهرة و أنت يا بسر لقيس بن سعيد و أنت يا عبيد الله للأشتر و أنت يا عبد الرحمن لأعور طي ء يعني عدي بن حاتم و قد جعتها نوبا في خمسة أيام لكل رجل منكم يوم فكونوا على أعنة الخيل قالوا نعم فأصبح معاوية في غده فلم يدع فارسا إلا حشده ثم قصد لهمدان بنفسه و ارتجز فقال
لن تمنع الحرمة بعد العام بين قتيل و جريح دام سأملك العراق بالشآم أنعى ابن عفان مدى الأيام شرح نهج البلاغة ج : 8 ص : 70فطعن في أعرض الخيل مليا ثم إن همدان تنادت بشعارها و أقحم سعيد بن قيس فرسه على معاوية و اشتد القتال حتى حجز بينهم الليل فهمدان تذكر أن سعيدا كاد يقتنصه إلا أنه فاته ركضا و قال سعيد في ذلكيا لهف نفسي فاتني معاوية فوق طمر كالعقاب هاويةو الراقصات لا يعود ثانية

(9/54)


قال نصر و انصرف معاوية ذلك اليوم و لم يصنع شيئا و غدا عمرو بن العاص في اليوم الثاني في حماة الخيل فقصد المرقال و مع المرقال لواء علي ع الأعظم في حماة الناس و كان عمرو من فرسان قريش فارتجز عمرو فقال
لا عيش إن لم ألق يوما هاشما ذاك الذي جشمني المجاشماذاك الذي يشتم عرضي ظالما ذاك الذي إن ينج مني سالمايكن شجى حتى الممات لازما
فطعن في أعراض الخيل مزبدا و حمل المرقال عليه و ارتجز فقال
لا عيش إن لم ألق يوما عمرا ذاك الذي أحدث فينا الغدراأو يبدل الله بأمر أمرا لا تجزعي يا نفس صبرا صبراضربا هذا ذيك و طعنا شزرا يا ليت ما تجني يكون القبرا
شرح نهج البلاغة ج : 8 ص : 71فطاعن عمرا حتى رجع و انصرف الفريقان بعد شدة القتال و لم يسر معاوية ذلك و غدا بسر بن أبي أرطاة في اليوم الثالث في حماة الخيل فلقي قيس بن سعد بن عبادة في كمأة الأنصار فاشتدت الحرب بينهما و برز قيس كأنه فنيق مقرم و هو يقولأنا ابن سعد زانه عباده و الخزرجيون كمأة ساده ليس فراري في الوغى بعاده إن الفرار للفتى قلاده يا رب أنت لقني الشهاده فالقتل خير من عناق غاده حتى متى تثنى لي الوساو طاعن خيل بسر و برز بسر فارتجز و قال
أنا ابن أرطاة العظيم القدر مردد في غالب و فهرليس الفرار من طباع بسر إن أرجع اليوم بغير وترو قد قضيت في العدو نذري يا ليت شعري كم بقي من عمري
و يطعن بسر قيسا و يضربه قيس بالسيف فرده على عقبيه و رجع القوم جميعا و لقيس الفضل و تقدم عبيد الله بن عمر بن الخطاب في اليوم الرابع لم يترك فارسا مذكورا إلا جمعه و استكثر ما استطاع فقال له معاوية إنك اليوم تلقى أفعى أهل العراق فارفق و اتئد فلقيه الأشتر أمام الخيل مزبدا و كان الأشتر إذا أراد القتال أزبد و هو يقول

(9/55)


يا رب قيض لي سيوف الكفره و اجعل وفاتي بأكف الفجره فالقتل خير من ثياب الحبره لا تعدل الدنيا جميعا وبره و لا بعوضا في ثواب البرر شرح نهج البلاغة ج : 8 ص : 72و شد على الخيل خيل الشام فردها فاستحيا عبيد الله و برز أمام الخيل و كان فارسا شجاعا و قالأنعى ابن عفان و أرجو ربي ذاك الذي يخرجني من ذنبي ذاك الذي يكشف عني كربي أن ابن عفان عظيم الخطب يأبى له حبي بكل قلبي إلا طعاني دونه و ضربي حسبي الذي أنويه حسبي حسفحمل عليه الأشتر و طعنه و اشتد الأمر و انصرف القوم و للأشتر الفضل فغم ذلك معاوية و غدا عبد الرحمن بن خالد في اليوم الخامس و كان رجاء معاوية أن ينال حاجته فقواه بالخيل و السلاح و كان معاوية يعده ولدا فلقيه عدي بن حاتم في كمأة مذحج و قضاعة فبرز عبد الرحمن أمام الخيل و قال
قل لعدي ذهب الوعيد أنا ابن سيف الله لا مزيدو خالد يزينه الوليد ذاك الذي قيل له الوحيد
ثم حمل فطعن الناس فقصده عدي بن حاتم و سدد إليه الرمح و قال

(9/56)


أرجو إلهي و أخاف ذنبي و لست أرجو غير عفو ربي يا ابن الوليد بغضكم في قلبي كالهضب بل فوق قنان الهضبفلما كاد أن يخالطه بالرمح توارى عبد الرحمن في العجاج و استتر بأسنة أصحابه و اختلط القوم ثم تحاجزوا و رجع عبد الرحمن مقهورا و انكسر معاوية و بلغ أيمن بن خزيم ما لقي معاوية و أصحابه فشمت بهم و كان ناسكا من أنسك أهل الشام و كان معتزلا للحرب في ناحية عنها فقال شرح نهج البلاغة ج : 8 ص : 7معاوي إن الأمر لله وحده و إنك لا تسطيع ضرا و لا نفعاعبأت رجالا من قريش لعصبة يمانية لا تستطيع لها دفعافكيف رأيت الأمر إذ جد جده لقد زادك الأمر الذي جئته جدعاتعبي لقيس أو عدي بن حاتم و الأشتر يا للناس أغمارك الجدعاو تجعل للمرقال عمرا و إنه لليث لقي من دون غايته ضبعاو إن سعيدا إذ برزت لرمحه لفارس همدان الذي يشعب الصدعاملي بضرب الدارعين بسيفه إذا الخيل أبدت من سنابكها نقعارجعت فلم تظفر بشي ء تريده سوى فرس أعيت و أبت بها ظلعافدعهم فلا و الله لا تستطيعهم مجاهرة فاعمل لقهرهم خدعاقال و إن معاوية أظهر لعمرو شماتة و جعل يقرعه و يوبخه و قال لقد أنصفتكم إذ لقيت سعيد بن قيس في همدان و فررتم و إنك لجبان يا عمرو فغضب عمرو و قال فهلا برزت إلى علي إذ دعاك إن كنت شجاعا كما تزعم و قال
تسير إلى ابن ذي يزن سعيد و تترك في العجاجة من دعاكافهل لك في أبي حسن علي لعل الله يمكن من قفاكادعاك إلى البراز فلم تجبه و لو نازلته تربت يداكاو كنت أصم إذ ناداك عنها و كان سكوته عنها مناكافآب الكبش قد طحنت رحاه بنجدته و ما طحنت رحاكافما أنصفت صحبك يا ابن هند أ تفرقه و تغضب من كفاكافلا و الله ما أضمرت خيرا و لا أظهرت لي إلا هواكا

(9/57)


شرح نهج البلاغة ج : 8 ص : 74قال و إن القرشيين استحيوا ما صنعوا و شمت بهم اليمانية من أهل الشام فقال معاوية يا معشر قريش و الله لقد قربكم لقاء القوم إلى الفتح و لكن لا مرد لأمر الله و مم تستحيون إنما لقيتم كباش العراق فقتلتم منهم و قتلوا منكم و ما لكم علمن حجة لقد عبأت نفسي لسيدهم و شجاعهم سعيد بن قيس فانقطعوا عن معاوية أياما فقال معاوية في ذلك
لعمري لقد أنصفت و النصف عادتي و عاين طعنا في العجاج المعاين و لو لا رجائي أن تئوبوا بنهزة و أن تغسلوا عارا وعته الكنائن لناديت للهيجا رجالا سواكم و لكنما تحمى الملوك البطائن أ تدرون من لاقيتم فل جيشكم لقيتم ليوثا أصحرتها العرائن لقيتم صناديد العراق و مم إذا جاشت الهيجاء تحمى الظعائن و ما كان منكم فارس دون فارس و لكنه ما قدر الله كائنفلما سمع القوم ما قاله معاوية أتوه فاعتذروا إليه و استقاموا إليه على ما يحب. قال نصر و حدثنا عمرو بن شمر قال لما اشتد القتال و عظم الخطب أرسل معاوية إلى عمرو بن العاص إن قدم عكا و الأشعريين إلى من بإزائهم فبعث عمرو إليه أن بإزاء عك همدان فبعث إليه معاوية أن قدم عكا فأتاهم عمرو فقال يا معشر عك إن عليا قد عرف أنكم حي أهل الشام فعبأ لكم حي أهل العراق همدان شرح نهج البلاغة ج : 8 ص : 75فاصبروا و هبوا إلي جماجمكم ساعة من النهار فقد بلغ الحق مقطعه فقال ابن مسروق العكي أمهلني حتى آتي معاوية فأتاه فقال يا معاوية ال لنا فريضة ألفي رجل في ألفين ألفين و من هلك فابن عمه مكانه لنقر اليوم عينك فقال لك ذلك فرجع ابن مسروق إلى أصحابه فأخبرهم الخبر فقالت عك نحن لهمدان ثم تقدمت عك و نادى سعيد بن قيس يا همدان إن تقدموا فشدت همدان على عك رجالة فأخذت السيوف أرجل عك فنادى ابن مسروق
يا لعك بركا كبرك الكمل
فبركوا تحت الحجف فشجرتهم همدان بالرماح و تقدم شيخ من همدان و هو يقول

(9/58)


يا لبكيل لخمها و حاشد نفسي فداكم طاعنوا و جالدواحتى تخر منكم القماحد و أرجل يتبعها سواعدبذاك أوصى جدكم و الوالد
و قام رجل من عك فارتجز فقال
تدعون همدان و ندعو عكا بكوا الرجال يا لعك بكاإن خدم القوم فبركا بركا لا تدخلوا اليوم عليكم شكاقد محك القوم فزيدوا محكا شرح نهج البلاغة ج : 8 ص : 76قال فالتقى القوم جميعا بالرماح و صاروا إلى السيوف و تجالدوا حتى أدركهم الليل فقالت همدان يا معشر عك نحن نقسم بالله أننا لا ننصرف حتى تنصرفوا و قالت عك مثل ذلك فأرسل معاوية إلى عك أن أبروا قسم إخوتكم و هلموا فانصرفت عك فلما انفت انصرفت همدان فقال عمرو يا معاوية و الله لقد لقيت أسد أسدا لم أر و الله كهذا اليوم قط لو أن معك حيا كعك أو مع علي حي كهمدان لكان الفناء و قال عمرو في ذلك
إن عكا و حاشدا و بكيلا كأسود الضراء لاقت أسوداو جثا القوم بالقنا و تساقوا بظباة السيوف موتا عتيداازورار المناكب الغلب بالشم و ضرب المسومين الخدوداليس يدرون ما الفرار و لو كان فرارا لكان ذاك سديدايعلم الله ما رأيت من القوم ازورارا و لا رأيت صدوداغير ضرب فوق الطلى و على الهام و قرع الحديد يعلو الحديداو لقد قال قائل خدموا السوق فخرت هناك عك قعوداكبروك الجمال أثقلها الحمل فما تستقل إلا وئيدا

(9/59)


قال و لما اشترطت علك و الأشعريون على معاوية ما اشترطوا من الفريضة و العطاء فأعطاهم لم يبق من أهل العراق أحد في قلبه مرض إلا طمع في معاوية و شخص ببصره إليه حتى فشا ذلك في الناس و بلغ عليا ع فساءه. شرح نهج البلاغة ج : 8 ص : 77قال نصر و جاء عدي بن حاتم يلتمعليا ع ما يطأ إلا على قتيل أو قدم أو ساعد فوجده تحت رايات بكر بن وائل فقال يا أمير المؤمنين أ لا تقوم حتى نقاتل إلى أن نموت فقال له علي ع ادن فدنا حتى وضع أذنه عند أنفه فقال ويحك إن عامة من معي اليوم يعصيني و إن معاوية فيمن يطيعه و لا يعصيه قال نصر و جاء المنذر بن أبي حميصة الوادعي و كان شاعر همدان و فارسها عليا ع فقال يا أمير المؤمنين إن عكا و الأشعريين طلبوا إلى معاوية الفرائض و العطاء فأعطاهم فباعوا الدين بالدنيا و إنا قد رضينا بالآخرة من الدنيا و بالعراق من الشام و بك من معاوية و الله لآخرتنا خير من دنياهم و لعراقنا خير من شامهم و لإمامنا أهدى من إمامهم فاستفتحنا بالحرب و ثق منا بالنصر و احملنا على الموت و أنشده

(9/60)


إن عكا سألوا الفرائض و الأشعر سألوا جوائزا بثنيه تركوا الدين للعطاء و للفرض فكانوا بذاك شر البريه و سألنا حسن الثواب من الله و صبرا على الجهاد و نيه فلكل ما سأله و نواه كلنا يحسب الخلاف خطيه و لأهل العراق أحسن في الحرب إذا ما تدانت السمهريه و لأهل العحمل للثقل إذا عمت البلاد بليه ليس منا من لم يكن في الله وليا يا ذا الولاء و الوصيةفقال علي ع حسبك الله يرحمك الله و أثنى عليه و على قومه خيرا و انتهى شعره إلى معاوية فقال و الله لأستميلن بالدنيا ثقات علي و لأقسمن فيهم الأموال حتى تغلب دنياي آخرته. قال نصر فلما أصبح الناس غدوا على مصافهم و أصبح معاوية يدور في أحياء اليمن و قال عبوا إلى كل فارس مذكور فيكم أتقوى به على هذا الحي من همدان شرح نهج البلاغة ج : 8 ص : 78فخرجت خيل عظيمة فلما رآها علي ع و عرف أنها عيون الرجال فنادى يا لهمدان فأجابه سعيد بن قيس فقال له علي ع احمل فحمل حتى خالط الخيل بالخيل و اشتد القتال و حطمتهم همدان حتى ألحقتهم عاوية فقال معاوية ما لقيت من همدان و جزع جزعا شديدا و أسرع القتل في فرسان الشام و جمع علي ع همدان فقال لهم يا معشر همدان أنتم درعي و رمحي و مجني يا همدان ما نصرتم إلا الله و لا أجبتم غيره فقال سعيد بن قيس أجبنا الله و أجبناك و نصرنا رسول الله في قبره و قاتلنا معك من ليس مثلك فارمنا حيث شئت.
قال نصر و في هذا اليوم قال علي ع
و لو كنت بوابا على باب جنة لقلت لهمدان ادخلي بسلام
فقال علي ع لصاحب لواء همدان اكفني أهل حمص فإني لم ألق من أحد ما لقيت منهم
فتقدم و تقدمت همدان و شدوا شدة واحدة على أهل حمص فضربوهم ضربا شديدا متداركا بالسيوف و عمد الحديد حتى ألجئوهم إلى قبة معاوية و ارتجز من همدان رجل عداده في أرحب فقال

(9/61)


قد قتل الله رجال حمص غروا بقول كذب و خرص حرصا على المال و أي حرص قد نكص القوم و أي نكص عن طاعة الله و فحوى النقال نصر فحدثنا عمر بن سعد قال لما ردت خيول معاوية أسف فجرد سيفه و حمل في كماة أصحابه فحملت عليه فوارس همدان ففاز منها ركضا و انكسرت كماته و رجعت همدان إلى مراكزها فقال حجر بن قحطان الهمداني يخاطب سعيد بن قيس شرح نهج البلاغة ج : 8 ص : 7ألا ابن قيس قرت العين إذا رأت فوارس همدان بن زيد بن مالك على عارفات للقاء عوابس طوال الهوادي مشرفات الحوارك معودة للطعن في ثغراتها يجلن فيحطمن الحصى بالسنابك عباها علي لابن هند و خيله فلو لم يفتها كان أول هالك و كانت له في يومه عند ظنه و في كل يوم كاسفمس حالك و كانت بحمد الله في كل كربة حصونا و عزا للرجال الصعالك فقل لأمير المؤمنين أن ادعنا متى شئت إنا عرضة للمهالك و نحن حطمنا السمر في حي حمير و كندة و الحي الخفاف السكاسك و عك و لخم شائلين سياطهم حذار العوالي كالإماء العوقال نصر و حدثنا عمر بن سعد عن رجاله أن معاوية دعا يوما بصفين مروان بن الحكم فقال له إن الأشتر قد غمني و أقلقني فاخرج بهذه الخيل في يحصب و الكلاعيين فالقه فقال مروان ادعا لهما عمرا فإنه شعارك دون دثارك قال فأنت نفسي دون وريدي قال لو كنت كذلك ألحقتني به في العطاء و ألحقته بي في الحرمان و لكنك أعطيته ما في يدك و منيته ما في يد غيرك فإن غلبت طاب له المقام و إن غلبت خف عليه الهرب فقال معاوية سيغني الله عنك قال أما إلى اليوم فلم يغن فدعا معاوية عمرا فأمره بالخروج إلى الأشتر فقال أما إني لا أقول لك ما قال مروان قال و كيف نقوله و قد قدمتك و أخرته و أدخلتك و أخرجته قال أما و الله إن كنت فعلت لقد قدمتني كافيا و أدخلتني ناصحا و قد أكثر القوم عليك في أمر مصر و إن كان لا يرضيهم شرح نهج البلاغة ج : 8 ص : 80إلا رجوعك فيما وثقت لي به منها فارجع فيه ثم قام فخرج في تلك الخيفلقيه الأشتر

(9/62)


أمام القوم و قد علم أنه سيلقاه و هو يرتجز و يقول
يا ليت شعري كيف لي بعمرو ذاك الذي أوجبت فيه نذري ذاك الذي أطلبه بوتري ذاك الذي فيه شفاء صدري من بائعي يوما بكل عمري يعلي به عند اللقاء قدري أجعله فيه طعام النسر أو لا فربي عاذري بعذفلما سمع عمرو هذا الرجز فشل و جبن و استحيا أن يرجع و أقبل نحو الصوت و قال
يا ليت شعري كيف لي بمالك كم كاهل جببته و حارك و فارس قتلته و فاتك و مقدم آب بوجه حالك ما زلت دهري عرضة المهالفغشيه الأشتر بالرمح فراغ عمرو عنه فلم يصنع الرمح شيئا و لوى عمرو عنان فرسه و جعل يده على وجهه و جعل يرجع راكضا نحو عسكره فنادى غلام من يحصب يا عمرو عليك العفاء ما هبت الصبا يا آل حمير إنا لكم ما كان معكم هاتوا اللواء فأخذه و تقدم و كان غلاما حدثا فقال شرحنهج البلاغة ج : 8 ص : 81إن يك عمرو قد علاه الأشتر بأسمر فيه سنان أزهرفذاك و الله لعمري مفخر يا عمرو تكفيك الطعان حميرو اليحصبي بالطعان أمهر دون اللواء اليوم موت أحمر
فنادى الأشتر ابنه إبراهيم خذ اللواء فغلام لغلام و تقدم فأخذ إبراهيم اللواء و قال
يا أيها السائل عني لا ترع أقدم فإني من عرانين النخع كيف ترى طعن العراقي الجذع أطير في يوم الوغى و لا أفع ما ساءكم سر و ما ضر نفع أعددت ذا اليوم لهول المطلو يحمل على الحميري فالتقاه الحميري بلوائه و رمحه فلم يبرحا يطعن كل واحد منهما صاحبه حتى سقط الحميري قتيلا و شمت مروان بعمرو و غضب القحطانيون على معاوية و قالوا تولى علينا من لا يقاتل معنا ول رجلا منا و إلا فلا حاجة لنا فيك و قال شاعرهم
معاوي إما تدعنا لعظيمة يلبس من نكرائها الغرض بالحقب فول علينا من يحوط ذمارنا من الحميريين الملوك على العرب و لا تأمرنا بالتي لا نريدها و لا تجعلنا بالهوى موضع الذنب و لا تغضبنا و الحوادث جمة عليك فيفشو اليوم في يحصب الغضب فإن لنا حقا عظيما و طاعة و حبالا في المشاش و في العصب

(9/63)


فقال لهم معاوية و الله لا أولى عليكم بعد هذا اليوم إلا رجلا منكم شرح نهج البلاغة ج : 8 ص : 82قال نصر و حدثنا عمر بن سعد قال لما أسرع أهل العراق في أهل الشام قال لهم معاوية هذا يوم تمحيص و إن لهذا اليوم ما بعده و قد أسرعتم في القوم كما أسرعوا فيكم فاصبروا موتوا كراما و حرض علي ع أصحابه فقام إليه الأصبغ بن نباتة و قال يا أمير المؤمنين قدمني في البقية من الناس فإنك لا تفقد لي اليوم صبرا و لا نصرا أما أهل الشام فقد أصبنا و أما نحن ففينا بعض البقية ائذن لي فأتقدم فقال له تقدم على اسم الله و البركة فتقدم و أخذ الراية و مضى بها و هو يقول

(9/64)


إن الرجاء بالقنوط يدمغ حتى متى يرجو البقاء الأصبغ أ ما ترى أحداث دهر تنبغ فادبغ هواك و الأديم يدبغ و الرفق فيما قد تريد أبلغ اليوم شغل و غدا لا تفرفما رجع إلى علي ع حتى خضب سيفه دما و رمحه و كان شيخا ناسكا عابدا و كان إذا لقي القوم بعضهم بعضا يغمد سيفه و كان من ذخائر علي ع ممن قد بايعه على الموت و كان علي ع يضن به عن الحرب و القتال. قال نصر و حدثنا عمرو بن شمر عن جابر قال نادى الأشتر يوما أصحابه فقال أ ما من رجل يشري نفسه لله فخرج أثال بن حجل بن عامر المذحجي فنادى بين العسكرين هل من مبارز فدعا معاوية و هو لا يعرفه أباه حجل بن عامر المذحجي فقال دونك الرجل قال و كان مستبصرين في رأيهما فبرز كل واحد منهما إلى صاحبه فبدره بطعنة و طعنه الغلام و انتسبا فإذا هو ابنه فنزلا فاعتنق كل شرح نهج البلاغة ج : 8 ص : 83واحد منهما صاحبه و بكيا فقال له الأب يا بني هلم إلى الدنيا فقال له الغلام يا أبي هلم إلى الآخرة ثم قال يا أبت و الله لو كان من رأيي الانصراف إلى أهل الشام لوجب عليك أن يكون من رأيك لي أن تنهاني وا سوأتافما ذا أقول لعلي و للمؤمنين الصالحين كن على ما أنت عليه و أنا على ما أنا عليه فانصرف حجل إلى صف الشام و انصرف ابنه أثال إلى أهل العراق فخبر كل واحد منهما أصحابه و قال في ذلك حجل
إن حجل بن عامر و أثالا أصبحا يضربان في الأمثال أقبل الفارس المدجج في النقع أثال يدعو يريد نزالي دون أهل العراق يخطر كالفحل على ظهر هيكل ذيال فدعاني له ابن هند و ما زال قليلا في صحبة أمثالي فتناولته ببادرة الرمح و أهوى بأسمر عسال فأطعنا و ذاك من حدث الظيم فتى لشيخ بجال شاجرا بالقناة صدر أبيه و عزيز علي طعن أثال لا أبالي حين اعترضت أثالا و أثال كذاك ليس يبالي فافترقنا على السلامة و النفس يقيها مؤخر الآجال لا يراني على الهدى و أراه من هداي على سبيل ضفلما انتهى شعره إلى أهل العراق قال أثال ابنه مجيبا له

(9/65)


إن طعني وسط العجاجة حجلا لم يكن في الذي نويت عقوقاكنت أرجو به الثواب من الله و كوني مع النبي رفيقا
شرح نهج البلاغة ج : 8 ص : 84لم أزل أنصر العراق على الشام أراني بفعل ذاك حقيقاقال أهل العراق إذ عظم الخطب و نق المبارزون نقيقامن فتى يسلك الطريق إلى الله فكنت الذي سلكت الطريقاحاسر الرأس لا أريد سوى الموت أرى الأعظم الجليل دقيقافإذا فارس تقحم في الروع خد مثل السحوق عتيقافبداني حجل ببادرة الطعن و ما كنت قبلها مسبوقافتلقيته بعالية الرمح كلانا يطاول العيوقاأحمد الله ذا الجلالة و القدرة حمدا يزيدني توفيقاإذ كففت السنان عنه و لم أدن قتيلا منه و لا ثغروقاقلت للشيخ لست أكفر نعماك لطيف الغذاء و التفنيقاغير أني أخاف أن تدخل النار فلا تعصني و كن لي رفيقاو كذا قال لي فغرب تغريبا و شرقت راجعا تشريقا

(9/66)


قال نصر و حدثنا عمرو بن شمر بالإسناد المذكور أن معاوية دعا النعمان بن بشير بن سعد الأنصاري و مسلمة بن مخلد الأنصاري و لم يكن معه من الأنصار غيرهما فقال يا هذان لقد غمني ما لقيت من الأوس و الخزرج واضعي سيوفهم على عواتقهم يدعون إلى النزال حتى لقد جبنوا أصحابي الشجاع منهم و الجبان و حتى و الله ما أسأل عن شرح نهج البلاغة ج : 8 ص : 85فارس من أهل الشام إلا قيل قتله الأنصار أما و الله لألقينهم بحدي و حديدي و لأعبين لكل فارس منهم فارسا ينشب في حلقه و لأرمينهم بأعدادهم من قريش رجال لم يغذهم التمر و الطفيشل يقولون ن الأنصار قد و الله آووا و نصروا و لكن أفسدوا حقهم بباطلهم فغضب النعمان و قال يا معاوية لا تلومن الأنصار في حب الحرب و السرعة نحوها فإنهم كذلك كانوا في الجاهلية و أما دعاؤهم إلى النزال فقد رأيتهم مع رسول الله ص يفعلون ذلك كثيرا و أما لقاؤك إياهم في أعدادهم من قريش فقد علمت ما لقيت قريش منهم قديما فإن أحببت أن ترى فيهم مثل ذلك آنفا فافعل و أما التمر و الطفيشل فإن التمر كان لنا فلما ذقتموه شاركتمونا فيه و أما الطفيشل فكان لليهود فلما أكلناه غلبناهم عليه كما غلبت قريش على السخينة. ثم تكلم مسلمة بن مخلد فقال يا معاوية إن الأنصار لا تعاب أحسابها و لا نجداتها و أما غمهم إياك فقد و الله غمونا و لو رضينا ما فارقونا و لا فارقنا جماعتهم و إن في ذلك ما فيه من مباينة العشيرة و لكنا حملنا ذلك لك و رجونا منك عوضه و أما التمر و الطفيشل فإنهما يجران عليك السخينة و الخرنوب. قال و انتهى هذا الكلام إلى الأنصار فجمع قيس بن سعد الأنصار ثم قام فيهم خطيبا فقال إن معاوية قال ما بلغكم و أجابه عنكم صاحباكم و لعمري إن غظتم شرح نهج البلاغة ج : 8 ص : 86معاوية اليوم لقد غظتموه أمس و إن وترتموه في الإسلام فلقد وترتموه في الشرك و ما لكم إه من ذنب أعظم من نصر هذا الدين فجدوا اليوم جدا تنسونه به ما كان أمس

(9/67)


و جدوا غدا جدا تنسونه به ما كان اليوم فأنتم مع هذا اللواء الذي كان يقاتل عن يمينه جبريل و عن يساره ميكائيل و القوم مع لواء أبي جهل و الأحزاب فأما التمر فإنا لم نغرسه و لكن غلبنا عليه من غرسه و أما الطفيشل فلو كان طعامنا لسمينا به كما سميت قريش بسخينة ثم قال سعد في ذلك
يا ابن هند دع التوثب في الحرب إذا نحن بالجياد سرينانحن من قد علمت فادن إذا شئت بمن شئت في العجاج إليناإن تشأ فارس له فارس منا و إن شئت باللفيف التقيناأي هذين ما أردت فخذه ليس منا و ليس منك الهوينى ثم لا نسلخ العجاجة حتى تنجلي حربنا لنا أو عليناليت ما تطلبالغداة أتانا أنعم الله بالشهادة عينا

(9/68)


فلما أتى شعره و كلامه معاوية دعا عمرو بن العاص فقال ما ترى في شتم الأنصار قال أرى أن توعدهم و لا تشتمهم ما عسى أن تقول لهم إذا أردت ذمهم فذم أبدانهم و لا تذم أحسابهم فقال إن قيس بن سعد يقوم كل يوم خطيبا و أظنه و الله يفنينا غدا إن لم يحبسه عنا حابس الفيل فما الرأي قال الصبر و التوكل و أرسل شرح نهج البلاغة ج : 8 ص : 87إلى رءوس الأنصار مع علي فعاتبهم و أمرهم أن يعاتبوه فأرسل معاوية إلى أبي مسعود و البراء بن عازب و خزيمة بن ثابت و الحجاج بن غزية و أبي أيوب فعاتبهم فمشوا إلى قيس بن سعد و قالوا له إن معاوية لاحب الشتم فكف عن شتمه فقال إن مثلي لا يشتم و لكني لا أكف عن حربه حتى ألقى الله قال و تحركت الخيل غدوة فظن قيس أن فيها معاوية فحمل على رجل يشبهه فضربه بالسيف فإذا هو ليس به ثم حمل على آخر يشبهه أيضا فقنعه بالسيف. فلما تحاجز الفريقان شتمه معاوية شتما قبيحا و شتم الأنصار فغضب النعمان و مسلمة فأرضاهما بعد أن هما أن ينصرفا إلى قومهما. ثم إن معاوية سأل النعمان أن يخرج إلى قيس فيعاتبه و يسأله السلم فخرج النعمان فوقف بين الصفين و نادى يا قيس بن سعد أنا النعمان بن بشير فخرج إليه و قال هيه يا نعمان ما حاجتك قال يا قيس إنه قد أنصفكم من دعاكم إلى ما رضي لنفسه يا معشر الأنصار إنكم أخطأتم في خذل عثمان يوم الدار و قتلتم أنصاره يوم الجمل و أقحمتم خيولكم على أهل الشام بصفين فلو كنتم إذ خذلتم عثمان خذلتم عليا لكانت واحدة بواحدة و لكنكم لم ترضوا أن تكونوا كالناس حتى أعلمتم في الحرب و دعوتم شرح نهج البلاغة ج : 8 ص : 88إلى البراز ثم لم ينزل بعلي حطب قط إلا هونتم عليه المصيبة و وعدتموه الظفر و قد أخذت الحرب منا و منكم ما قد رأيتم فاتقوا الله في البقية. فضحك قيس و قال ما كنت أظنك يا نعمان محتويا على هذه المقالة إنه لا ينصح أخاه منش نفسه و أنت الغاش الضال المضل أما ذكرك عثمان فإن كانت الأخبار

(9/69)


تكفيك فخذ مني واحدة قتل عثمان من لست خيرا منه و خذله من هو خير منك و أما أصحاب الجمل فقاتلناهم على النكث و أما معاوية فو الله لو اجتمعت عليه العرب قاطبة لقاتلته الأنصار و أما قولك إنا لسنا كالناس فنحن في هذه الحرب كما كنا مع رسول الله نتقي السيوف بوجوهنا و الرماح بنحورنا حتى جاء الحق و ظهر أمر الله و هم كارهون و لكن انظر يا نعمان هل ترى مع معاوية إلا طليقا أو أعرابيا أو يمانيا مستدرجا بغرور انظر أين المهاجرون و الأنصار و التابعون لهم بإحسان الذين رضي الله عنهم و رضوا عنه ثم انظر هل ترى مع معاوية أنصاريا غيرك و غير صويحبك و لستما و الله ببدريين و لا عقبيين و لا أحديين و لا لكما سابقة في الإسلام و لا آية في القرآن و لعمري لئن شغبت علينا لقد شغب علينا أبوك. قال نصر و حدثنا عمر بن سعد عن مالك بن أعين عن زيد بن وهب قال كان فارس أهل الشام الذي لا ينازع عوف بن مجزأة المرادي المكنى أبا أحمر و كان فارس أهل الكوفة العكبر بن جدير الأسدي فقام العكبر إلى علي ع و كان شرح نهج البلاغة ج : 8 ص : 89منطيقا فقال يا أمير المؤمنين إن في أيدينا عهدا من الله لا نحتاج ف إلى الناس قد ظننا بأهل الشام الصبر و ظنوا بنا فصبرنا و صبروا و قد عجبت من صبر أهل الدنيا لأهل الآخرة و صبر أهل الحق على أهل الباطل و رغبة أهل الدنيا ثم قرأت آية من كتاب الله فعلمت أنهم مفتونون الم أَ حَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَ هُمْ لا يُفْتَنُونَ وَ لَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَ لَيَعْلَمَنَّ الْكاذِبِينَ فقال له ع خيرا و خرج الناس إلى مصافهم و خرج عوف بن مجزأة المرادي نادرا من الناس و كذا كان يصنع و قد كان قتل نفرا من أهل العراق مبارزة فنادى يا أهل العراق هل من رجل عصاه سيفه يبارزني و لا أغركم من نفسي أنا عوف بن مجزأة فنادى الناس بالعكبر فخرج

(9/70)


إليه منقطعا عن أصحابه ليبارزه فقال عوف
بالشام أمن ليس فيه خوف بالشام عدل ليس فيه حيف بالشام جود ليس فيه سوف أنا ابن مجزاة و اسمي عوف هل من عراقي عصاه سيف يبرز لي و كيف لي و كيفقال له العكبر
الشام محل و العراق ممطر بها إمام طاهر مطهرو الشام فيها أعور و معور أنا العراقي و اسمي عكبر
شرح نهج البلاغة ج : 8 ص : 90ابن جدير و أبوه المنذر ادن فإني في البراز قسوفاطعنا فصرعه العكبر و قتله و معاوية على التل في وجوه قريش و نفر قليل من الناس فوجه العكبر فرسه يملأ فروجه ركضا و يضربه بالسوط مسرعا نحو التل فنظر معاوية إليه فقال هذا الرجل مغلوب على عقله أو مستأمن فاسألوه فأتاه رجل و هو في حمو فرسه فناداه فلم يجبه و مضى مبادرا حتى انتهى إلى معاوية فجعل يطعن في أعراض الخيل و رجا أن ينفرد بمعاوية فيقتله فاستقبله رجال قتل منهم قوما و حال الباقون بينه و بين معاوية بسيوفهم و رماحهم فلما لم يصل إليه قال أولى لك يا ابن هند أنا الغلام الأسدي و رجع إلى صف العراق و لم يكلم فقال له علي ع ما دعاك إلى ما صنعت لا تلق نفسك إلى التهلكة قال يا أمير المؤمنين أردت غرة ابن هند فحيل بيني و بينه و كان العكبر شاعرا فقال

(9/71)


قتلت المرادي الذي كان باغيا ينادي و قد ثار العجاج نزال يقول أنا عوف بن مجزاة و المنى لقاء ابن مجزاة بيوم قتال فقلت له لما علا القوم صوته منيت بمشبوح اليدين طوال فأوجرته في ملتقى الحرب صعدة ملأت بها رعبا صدور رج شرح نهج البلاغة ج : 8 ص : 91فغادرته يكبو صريعا لوجهه ينوء مرارا في مكر مجال و قدمت مهري راكضا نحو صفهم أصرفه في جريه بشمالي أريد به التل الذي فوق رأسه معاوية الجاني لكل خبال فقام رجال دونه بسيوفهم و قام رجال دونه بعوالي فلو نلته نلت التي ليس بعدها وذكر صالح و فعال و لو مت في نيل المنى ألف موتة لقلت إذا ما مت لست أباليقال فانكسر أهل الشام لقتل عوف المرادي و هدر معاوية دم العكبر فقال العكبر يد الله فوق يده فأين الله جل جلاله و دفاعه عن المؤمنين. قال نصر و روى عمر بن سعد عن الحارث بن حصين عن أبي الكنود قال جزع أهل الشام على قتلاهم جزعا شديدا و قال معاوية بن خديج قبح الله ملكا يملكه المرء بعد حوشب و ذي الكلاع و الله لو ظفرنا بأهل الدنيا بعد قتلهما بغير مئونة ما كان ظفرا و قال يزيد بن أسد لمعاوية لا خير في أمر لا يشبه آخره أوله لا يدمى جريح و لا يبكى قتيل حتى تنجلي هذه الفتنة فإن يكن الأمر لك أدميت شرح نهج البلاغة ج : 8 ص 92و بكيت على قرار و إن يكن لغيرك فما أصبت به أعظم فقال معاوية يا أهل الشام ما جعلكم أحق بالجزع على قتلاكم من أهل العراق على قتلاهم و الله ما ذو الكلاع فيكم بأعظم من عمار بن ياسر فيهم و لا حوشب فيكم بأعظم من هاشم فيهم و ما عبيد الله بن عمر فيكم بأعظم من ابن بديل فيهم و ما الرجال إلا أشباه و ما التمحيص إلا من عند الله فأبشروا فإن الله قد قتل من القوم ثلاثة قتل عمارا و كان فتاهم و قتل هاشما و كان حمزتهم و قتل ابن بديل و هو الذي فعل الأفاعيل و بقي الأشتر و الأشعث و عدي بن حاتم فأما الأشعث فإنما حمى عنه مصره و أما الأشتر و عدي فغضبا و الله للفتنة أقاتلهما

(9/72)


غدا إن شاء الله تعالى فقال معاوية بن خديج إن يكن الرجال عندك أشباها فليست عندنا كذلك و غضب و قال شاعر اليمن يرثي ذا الكلاع و حوشبا
معاوي قد نلنا و نيلت سراتنا و جدع أحياء الكلاع و يحصب فذو كلع لا يبعد الله داره و كل يمان قد أصيب بحوشب هما ما هما كانا معاوي عصمة متى قلت كانا عصمة لا أكذب و لو قبلت في هالك بذل فدية فديتهما بالنفس و الأم و الو روى نصر عن عمر بن سعد عن عبيد الرحمن بن كعب قال لما قتل عبد الله بن بديل يوم صفين مر به الأسود بن طهمان الخزاعي و هو بآخر رمق فقال له عز علي و الله مصرعك أما و الله لو شهدتك لآسيتك و لدافعت عنك و لو رأيت الذي أشعرك شرح نهج البلاغة ج : 8 ص : 93لأحببت ألأزايله و لا يزايلني حتى أقتله أو يلحقني بك ثم نزل إليه فقال رحمك الله يا عبد الله و الله إن كان جارك ليأمن بوائقك و إن كنت لمن الذاكرين الله كثيرا أوصني رحمك الله قال أوصيك بتقوى الله و أن تناصح أمير المؤمنين و تقاتل معه حتى يظهر الحق أو تلحق بالله و أبلغ أمير المؤمنين عني السلام و قل له قاتل على المعركة حتى تجعلها خلف ظهرك فإنه من أصبح و المعركة خلف ظهره كان الغالب. ثم لم يلبث أن مات فأقبل أبو الأسود إلى علي ع فأخبره فقال رحمه الله جاهد معنا عدونا في الحياة و نصح لنا في الوفاة. قال نصر و قد روي نحو هذا عن عبد الرحمن بن كلدة حدثني محمد بن إسحاق عن عبد الله بن أبي بحر عن عبد الرحمن بن حاطب قال خرجت التمس أخي سويدا في قتلى صفين فإذا رجل صريع في القتلى قد أخذ بثوبي فالتفت فإذا هو عبد الرحمن بن كلدة فقلت إنا لله و إنا إليه راجعون هل لك في الماء و معي إداوة فقال لا حاجة لي فيه قد أنفذ في السلاح و خرقني فلست أقدر على الشراب هل أنت مبلغ عني أمير المؤمنين رسالة أرسلك بها قلت نعم قال إذا رأيته فاقرأ عليه السلام و قل له يا أمير المؤمنين احمل جرحاك إلى عسكرك حتى تجعلهم من وراء ظهرك فإن الغلبة لمن

(9/73)


فعل ذلك ثم لم أبرح حتى مات فخرجت حتى أتيت أمير المؤمنين ع فقلت له إن عبد الرحمن بن كلدة يقرأ عليك السلام قال و أين هو قلت وجدته و قد أنفذه السلاح و خرقه فلم يستطع شرب الماء و لم أبرح حتى مات فاسترجع ع فقلت قد أرسلني إليك برسالة قال و ما هي قلت إنه يقول احمل جرحاك
شرح نهج البلاغة ج : 8 ص : 94إلى عسكرك و اجعلهم وراء ظهرك فإن الغلبة لمن فعل ذلك فقال صدق فنادى مناديه في العسكر أن احملوا جرحاكم من بين القتلى إلى معسكركم ففعلوا. قال نصر و حدثني عمرو بن شمر عن جابر عن عامر عن صعصعة بن صوحان أن أبرهة بن الصباح الحميري ق بصفين فقال ويحكم يا معشر أهل اليمن إني لأظن الله قد أذن بفنائكم ويحكم خلوا بين الرجلين فليقتتلا فأيهما قتل صاحبه ملنا معه جميعا و كان أبرهة من رؤساء أصحاب معاوية فبلغ قوله عليا ع فقال صدق أبرهة و الله ما سمعت بخطبة منذ وردت الشام أنا بها أشد سرورا مني بهذه الخطبة قال و بلغ معاوية كلام أبرهة فتأخر آخر الصفوف و قال لمن حوله إني لأظن أبرهة مصابا في عقله فأقبل أهل الشام يقولون و الله إن أبرهة لأكملنا دينا و عقلا و رأيا و بأسا و لكن الأمير كره مبارزة علي و سمع ما دار من الكلام أبو داود عروة بن داود العامري و كان من فرسان معاوية فقال إن كان معاوية كره مبارزة أبي حسن فأنا أبارزه ثم خرج بين الصفين فنادى أنا أبو داود فابرز إلي يا أبا حسن فتقدم علي ع نحوه فناداه الناس ارجع يا أمير المؤمنين عن هذا الكلب فليس لك بخطر فقال و الله ما معاوية اليوم بأغيظ لي منه دعوني و إياه ثم حمل عليه فضربه فقطعه قطعتين سقطت إحداهما يمنية و الأخرى شامية فارتج العسكران لهول الضربة و صرخ ابن عم لأبي داود وا سوء صباحاه و قبح الله البقاء بعد أبي داود و حمل على علي ع فطعنه فضرب الرمح فبرأه ثم قنعه ضربة فألحقه بأبي داود و معاوية شرح نهج البلاغج : 8 ص : 95واقف على التل يبصر و يشاهد فقال تبا لهذه

(9/74)


الرجال و قبحا أ ما فيهم من يقتل هذا مبارزة أو غيلة أو في اختلاط الفيلق و ثوران النقع فقال الوليد بن عقبة ابرز إليه أنت فإنك أولى الناس بمبارزته فقال و الله لقد دعاني إلى البراز حتى لقد استحييت من قريش و إني و الله لا أبرز إليه ما جعل العسكر بين يدي الرئيس إلا وقاية له فقال عتبة بن أبي سفيان الهوا عن هذا كأنكم لم تسمعوا نداءه فقد علمتم أنه قتل حريثا و فضح عمرا و لا أرى أحدا يتحكك به إلا قتله فقال معاوية لبسر بن أرطاة أ تقوم لمبارزته فقال ما أحد أحق بها منك أما إذ بيتموه فأنا له قال معاوية إنك ستلقاه غدا في أول الخيل و كان عند بسر ابن عم له قدم من الحجاز يخطب ابنته فأتى بسرا فقال له إني سمعت أنك وعدت من نفسك أن تبارز عليا أ ما تعلم أن الوالي من بعد معاوية عتبة ثم بعده محمد أخوه و كل من هؤلاء قرن علي فما يدعوك إلى ما أرى قال الحياء خرج مني كلام فأنا أستحيي أن أرجع عنه فضحك الغلام و قال

(9/75)


تنازله يا بسر إن كنت مثله و إلا فإن الليث للشاء آكل كأنك يا بسر بن أرطاة جاهل بآثاره في الحرب أو متجاهل معاوية الوالي و صنواه بعده و ليس سواء مستعار و ثاكل أولئك هم أولى به منك إنه علي فلا تقربه أمك هابل متى تلقه فالموت في رأس رمحه و في سيفه شغل لنفسك و ما بعده في آخر الخيل عاطف و لا قبله في أول الخيل حاملفقال بسر هل هو إلا الموت لا بد من لقاء الله فغدا علي ع منقطعا من خيله و يده في يد الأشتر و هما يتسايران رويدا يطلبان التل ليقفا عليه إذ برز له بسر مقنعا في الحديد لا يعرف فناداه أبرز إلي أبا حسن فانحدر إليه على تؤدة غير مكترث به شرح نهج البلاغة ج : 8 ص :6حتى إذا قاربه طعنه و هو دارع فألقاه إلى الأرض و منع الدرع السنان أن يصل إليه فاتقاه بسر بعورته و قصد أن يكشفها يستدفع بأسه فانصرف عنه ع مستدبرا له فعرفه الأشتر حين سقط فقال يا أمير المؤمنين هذا بسر بن أرطاة هذا عدو الله و عدوك فقال دعه عليه لعنة الله أ بعد أن فعلها فحمل ابن عم بسر من أهل الشام شاب على علي ع و قال
أرديت بسرا و الغلام ثائره أرديت شيخا غاب عنه ناصره و كلنا حام لبسر واترهفلم يلتفت إليه علي ع و تلقاه الأشتر فقال له
في كل يوم رجل شيخ شاغره و عورة وسط العجاج ظاهره تبرزها طعنة كف واتره عمرو و بسر منيا بالفاقرهفطعنه الأشتر فكسر صلبه و قام بسر من طعنة علي ع موليا و فرت خيله و ناداه علي ع يا بسر معاوية كان أحق بها منك فرجع بسر إلى معاوية فقال له معاوية ارفع طرفك فقد أدال الله عمرا منك قال الشاعر في ذلك

(9/76)


أ في كل يوم فارس تندبونه له عورة تحت العجاجة باديه يكف بها عنه علي سنانه و يضحك منها في الخلاء معاويه بدت أمس من عمرو فقنع رأسه و عورة بسر مثلها حذو حاذيه فقولا لعمرو و ابن أرطاة أبصرا سبيليكما لا تلقيا الليث ثانيه و لا تحمدا إلا الحيا و خصاكما هما كانلنفس و الله واقيه فلولاهما لم تنجوا من سنانه و تلك بما فيها عن العود ناهيه شرح نهج البلاغة ج : 8 ص : 97متى تلقيا الخيل المغيرة صبحة و فيها علي فاتركا الخيل ناحيه و كونا بعيدا حيث لا تبلغ القنا و نار الوغى إن التجارب كافيه و إن كان منه بعد للنفس حاجة فعودا إلى ما شئتما هي ما قال فكان بسر بعد ذلك اليوم إذا لقي الخيل التي فيها علي ينتحي ناحية و تحامى فرسان الشام بعدها عليا ع. قال نصر و حدثنا عمر بن سعد عن الأجلح بن عبد الله الكندي عن أبي جحيفة قال جمع معاوية كل قرشي بالشام و قال لهم العجب يا معشر قريش أنه ليس لأحد منكم في هذه الحرب فعال يطول بها لسانه غدا ما عدا عمرا فما بالكم أين حمية قريش فغضب الوليد بن عقبه و قال أي فعال تريد و الله ما نعرف في أكفائنا من قريش العراق من يغني غناءنا باللسان و لا باليد فقال معاوية بلى إن أولئك وقوا عليا بأنفسهم قال الوليد كلا بل وقاهم علي بنفسه قال ويحكم أ ما فيكم من يقوم لقرنه منهم مبارزة و مفاخرة فقال مروان أما البراز فإن عليا لا يأذن لحسن و لا لحسين و لا لمحمد بنيه فيه و لا لابن عباس و إخوته و يصلى بالحرب دونهم فلأيهم نبارز و أما المفاخرة فبما ذا نفاخرهم بالإسلام أم بالجاهلية فإن كان بالإسلام فالفخر لهم بالنبوة و إن كان بالجاهلية فالملك فيه لليمن فإن قلنا قريش قالوا لنا عبد المطلب. شرح نهج البلاغة ج : 8 ص : 98فقال عتبة بن أبي سفيان الهوا عن هذا فإني لاق بالغداة جعدة بن هبيرة فقال معاوية بخ بخ قومه بنو مخزوم و أمه أم هانئ بنت أبي طالب كف ء كري كثر العتاب و الخصام بين القوم حتى أغلظوا لمروان و

(9/77)


أغلظ لهم فقال مروان أما و الله لو لا ما كان مني إلى علي ع في أيام عثمان و مشهدي بالبصرة لكان لي في علي رأي يكفي امرأ ذا حسب و دين و لكن و لعل و نابذ معاوية الوليد بن عقبة دون القوم فأغلظ له الوليد فقال معاوية إنك إنما تجترئ علي بنسبك من عثمان و لقد ضربك الحد و عزلك عن الكوفة. ثم إنهم ما أمسوا حتى اصطلحوا و أرضاهم معاوية من نفسه و وصلهم بأموال جليلة و بعث معاوية إلى عتبة فقال ما أنت صانع في جعدة قال ألقاه اليوم و أقاتله غدا و كان لجعدة في قريش شرف عظيم و كان له لسان و كان من أحب الناس إلى علي ع فغدا عليه عتبة فنادى أبا جعدة أبا جعدة فاستأذن عليا ع في الخروج إليه فأذن له و اجتمع الناس فقال عتبة يا جعدة و الله ما أخرجك علينا إلا حب خالك و عمك عامل البحرين و إنا و الله ما نزعم أن معاوية أحق بالخلافة من علي لو لا أمره في عثمان و لكن معاوية أحق بالشام لرضا أهلها به فاعفوا لنا عنها فو الله ما بالشام رجل به طرق إلا و هو أجد من معاوية في القتال و ليس بالعراق رجل له مثل جد علي في الحرب و نحن أطوع لصاحبنا منكم لصاحبكم و ما أقبح بعلي أن يكون في قلوب المسلمين أولى الناس بالناس حتى إذا أصاب سلطانا أفنى العرب فقال جعدة أما حبي لخالي فلو كان لك خال مثله لنسيت أباك و أما ابن أبي سلمة فلم يصب أعظم من قدره و الجهاد أحب إلي من العمل و أما فضل علي على معاوية شرح نهج البلاغة ج : 8 ص : 99فهذا ما لا يختلف فيه اثنان و أما رضاكم اليوبالشام فقد رضيتم بها أمس فلم نقبل و أما قولك ليس بالشام أحد إلا و هو أجد من معاوية و ليس بالعراق رجل مثل جد علي فهكذا ينبغي أن يكون مضى بعلي يقينه و قصر بمعاوية شكه و قصد أهل الحق خير من جهد أهل الباطل و أما قولك نحن أطوع لمعاوية منكم لعلي فو الله ما نسأله إن سكت و لا نرد عليه إن قال و أما قتل العرب فإن الله كتب القتل و القتال فمن قتله الحق فإلى الله. فغضب عتبة و فحش

(9/78)


على جعدة فلم يجبه و أعرض عنه فلما انصرف عنه جمع خيله فلم يستبق منها شيئا و جل أصحابه السكون و الأزد و الصدف و تهيأ جعدة بما استطاع و التقوا فصبر القوم جميعا و باشر جعدة يومئذ القتال بنفسه و جزع عتبة فأسلم خيله و أسرع هاربا إلى معاوية فقال له فضحك جعدة و هزمتك لا تغسل رأسك منها أبدا فقال و الله لقد أعذرت و لكن أبى الله أن يديلنا منهم فما أصنع و حظي جعدة بعدها عند علي ع و قال النجاشي فيما كان من فحش عتبة على جعدة
إن شتم الكريم يا عتب خطب فاعلمنه من الخطوب عظيم أمه أم هانئ و أبوه من معد و من لؤي صميم ذاك منها هبيرة بن أبي وهب أقرت بفضا مخزوم كان في حربكم يعد بألف حين يلقى بها القروم القروم و ابنه جعدة الخليفة منه هكذا تنبت الفروع الأروم شرح نهج البلاغة ج : 8 ص : 100كل شي ء تريده فهو فيه حسب ثاقب و دين قويم و خطيب إذا تمعرت الأوجه يشجى به الألد الخصيم و حليم إذا الحبي حلها الجهل و خفت من الرجال الحلوم و شكيم الحروب قد علم الناس إذا حل في الحروب الشكيم و صحيح الأديم من نغل العيب إذا يصح الأديم حامل للعظيم في طلب الحمد إذا عظم الصغير اللئيم ما عسى أن تقول للذهب الأحمر عيبا هيهات منك النجوم كل هذا بحمد ربك فيه و سوى ذاك كان و هو فطو قال الأعور الشني في ذلك يخاطب عتبة بن أبي سفيان
ما زلت تظهر في عطفيك أبهة لا يرفع الطرف منك التيه و الصلف لا تحسب القوم إلا فقع قرقرة أو شحمة بزها شاو لها نطف حتى لقيت ابن مخزوم و أي فتى أحيا مآثر آباء له سلفواإن كان رهط أبي وهب جحاجحة في الأولين فهذا منهم خلف أشجاك جعدة إذ نادى فوارسه حاموا عن الدينالدنيا فما وقفواهلا عطفت على قوم بمصرعة فيها السكون و فيها الأزد و الصدف

(9/79)


قال نصر و حدثنا عمر بن سعد عن الشعبي قال كان رجل من أهل الشام شرح نهج البلاغة ج : 8 ص : 101يقال له الأصبغ بن ضرار الأزدي من مسالح معاوية و طلائعه فندب له علي ع الأشتر فأخذه أسيرا من غير قتال فجاء به ليلا فشده وثاقا و ألقاه عند أصحابه ينتظر به الصباح و كاالأصبغ شاعرا مفوها فأيقن بالقتل و نام أصحابه فرفع صوته فأسمع الأشتر و قال
ألا ليت هذا الليل أصبح سرمدا على الناس لا يأتيهم بنهاريكون كذا حتى القيامة إنني أحاذر في الإصباح يوم بواري فيا ليل أطبق إن في الليل راحة و في الصبح قتلي أو فكاك إساري و لو كنت تحت الأرض ستين واديا لما رد عني ما أخاف حذاري فيا نفس مهلا إن للموت غاية فصبرلى ما ناب يا ابن ضرارأ أخشى و لي في القوم رحم قريبة أبى الله أن أخشى و مالك جاري و لو أنه كان الأسير ببلدة أطاع بها شمرت ذيل إزاري و لو كنت جار الأشعث الخير فكني و قل من الأمر المخوف فراري و جار سعيد أو عدي بن حاتم و جار شريح الخير قر قراري و جار المرالكريم و هانئ و زحر بن قيس ما كرهت نهاري و لو أنني كنت الأسير لبعضهم دعوت فتى منهم ففك إساري أولئك قومي لا عدمت حياتهم و عفوهم عني و ستر عوار شرح نهج البلاغة ج : 8 ص : 102قال فغدا به الأشتر إلى علي ع فقال يا أمير المؤمنين إن هذا رجل من مسالح معاوية أصبته أمس و بات عندنا الليل فحركنا بشعره و له رحم فإن كان فيه القتل فاقتله و إن ساغ لك العفو عنه فهبه لنا فقال هو لك يا مالك و إذا أصبت منهم أسيرالا تقتله فإن أسير أهل القبلة لا يقتل. فرجع به الأشتر إلى منزله و خلى سبيله

(9/80)


شرح نهج البلاغة ج : 8 ص : 125103- و من كلام له ع في الخوارج لما أنكروا تحكيم الرجال و يذم فيه أصحابه في التحكيمإِنَّا لَمْ نُحَكِّمِ الرِّجَالَ وَ إِنَّمَا حَكَّمْنَا الْقُرْآنَ هَذَا الْقُرْآنُ إِنَّمَا هُوَ خَطٌّ مَسْطُورٌ بَيْنَ الدَّفَّتَيْنِ لَا يَنْطِقُ بِلِسَانٍ وَ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ تَرْجُمَانٍ وَ إِنَّمَا يَنْطِقُ عَنْهُ الرِّجَالُ وَ لَمَّا دَعَانَا الْقَوْمُ إلَى أَنْ نُحَكِّمَ بَيْنَنَا الْقُرْآنَ لَمْ نَكُنِ الْفَرِيقَ الْمُتَوَلِّيَ عَنْ كِتَابِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَ تَعَالَى وَ قَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى عَزَّ مِنْ قَائِلٍ فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْ ءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَ الرَّسُولِ فَرَُّهُ إِلَى اللَّهِ أَنْ نَحْكُمَ بِكِتَابِهِ وَ رَدُّهُ إِلَى الرَّسُولِ أَنْ نَأْخُذَ بِسُنَّتِهِ فَإِذَا حُكِمَ بِالصِّدْقِ فِي كِتَابِ اللَّهِ فَنَحْنُ أَحَقُّ النَّاسِ بِهِ وَ إِنْ حُكِمَ بِسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ ص فَنَحْنُ أَحَقُّ النَّاسِ وَ أَوْلَاهُمْ بِهَا وَ أَمَّا قَوْلُكُمْ لِمَ جَعَلْتَ بَيْنَكَ وَ بَيْنَهُمْ أَجَلًا فِي التَّحْكِيمِ فَإِنَّمَا فَعَلْتُ ذَلِكَ لِيَتَبَيَّنَ الْجَاهِلُ وَ يَتَثَبَّتَ الْعَالِمُ وَ لَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يُصْلِحَ فِي هَذِهِ الْهُدْنَةِ أَمْرَ هَذِهِ الْأُمَّةِ وَ لَا تُؤْخَذَ بِأَكْظَامِهَا فَتَعْجَلَ عَنْ تَبَيُّنِ الْحَقِّ وَ تَنْقَادَ لِأَوَّلِ الْغَيِّ إِنَّ أَفْضَلَ النَّاسِ عِنْدَ اللَّهِ مَنْ كَانَ الْعَمَلُ بِالْحَقِّ أَحَبَّ إِلَيْهِ وَ إِنْ نَقَصَهُ وَ كَرَثَهُ مِنَ الْبَاطِلِ وَ إِنْ جَرَّ إِلَيْهِ وَ زَادَهُ فَأَيْنَ يُتَاهُ بِكُمْ وَ مِنْ أَيْنَ أُتِيتُمْ شرح نهج البلاغة ج : 8 ص : 104اسْتَعِدُّوا لِلْمَسِيرِ إِلَى قَوْمٍ حَيَارَى عَنِ الْحَقِّ لَا يُبْصِرُونَهُ وَ مُوزَعِينَ بِالْجَوْرِ لَا يَعْدِلُونَ

(9/81)


عَنْهُ جُفَاةٍ عَنِ الْكِتَابِ نُكُبٍ عَنِ الطَّرقِ مَا أَنْتُمْ بِوَثِيقَةٍ يُعْلَقُ بِهَا وَ لَا زَوَافِرَ عِزٍّ يُعْتَصَمُ إِلَيْهَا لَبِئْسَ حُشَاشُ نَارِ الْحَرْبِ أَنْتُمْ أُفٍّ لَكُمْ لَقَدْ لَقِيتُ مِنْكُمْ بَرْحاً يَوْماً أُنَادِيكُمْ وَ يَوْماً أُنَاجِيكُمْ فَلَا أَحْرَارُ صِدْقٍ عِنْدَ النِّدَاءِ وَ لَا إِخْوَانُ ثِقَةٍ عِنْدَ النَّجَاءِ
دفتا المصحف جانباه اللذان يكنفانه و كان الناس يعملونهما قديما من خشب و يعملونهما الآن من جلد يقول ع لا اعتراض علي في التحكيم و قول الخوارج حكمت الرجال دعوى غير صحيحة و إنما حكمت القرآن و لكن القرآن لا ينطق بنفسه و لا بد له ممن يترجم عنه و الترجمان بفتح التاء و ضم الجيم هو مفسر اللغة بلسان آخر و يجوز ضم التاء لضمة الجيم قال الراجز
كالترجمان لقي الأنباطا

(9/82)


ثم قال لما دعينا إلى تحكيم الكتاب لم نكن القوم الذين قال الله تعالى في حقهم وَ إِذا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَ رَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ بل أجبنا إلى ذلك و عملنا بقول الله تعالى فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْ ءٍ فَرُدُّوُ إِلَى اللَّهِ وَ الرَّسُولِ و قال معنى ذلك أن نحكم بالكتاب و السنة فإذا عمل الناس بالحق في هذه الواقعة و اطرحوا الهوى و العصبية كنا أحق بتدبير الأمة و بولاية الخلافة من المنازع لنا عليها شرح نهج البلاغة ج : 8 ص : 105فإن قلت إنه ع لم يقل هكذا و إنما قالذا حكم بالصدق في كتاب الله فنحن أولى به و إذا حكم بالسنة فنحن أحق بها. قلت إنه رفع نفسه ع أن يصرح بذكر الخلافة فكني عنها و قال نحن إذا حكم بالكتاب و السنة أولى بالكتاب و السنة و يلزم من كونه أولى بالكتاب و السنة من جميع الناس أن يكون أولى بالخلافة من جميع الناس فدل على ما كنى عنه بالأمر المستلزم له. فإن قلت إذا كان الرجال الذين يترجمون القرآن و يفسرونه و قد كلفوا أن يحكموا في واقعة أهل العراق و أهل الشام بما يدلهم القرآن عليه يجوز أن يختلفوا في تفسير القرآن و تأويله فيدعي صاحب أهل العراق من تفسيره ما يستدل به على مراده و يدعي وكيل أهل الشام ما يقابل ذلك و يناقضه بطريق الشبهة التي تمسكوا بها من دم عثمان و من كون الإجماع لم يحصل على بيعة أمير المؤمنين ع احتاج الحكمان حينئذ إلى أن يحكم بينهما حكمان آخران و القول فيهما كالقول في الأول إلى ما لا نهاية له و إنما كان يكون التحكيم قاطعا للشغب لو كان القرآن ينص بالصريح الذي لا تأويل فيه إما على أمير المؤمنين ع و إما على معاوية و لا نص صريح فيه بل الذي فيه يحتمل التأويل و التجاذب فما الذي يفيد التحكيم و الحال تعود لا محالة جذعة قلت لو تأمل الحكمان الكتاب حق التأمل لوجدا فيه النص الصريح على صحة خلافة أمير المؤمنين ع لأن فيه النص

(9/83)


الصريح على أن الإجماع حجة و معاوية لم يكن مخالفا في هذه المقدمة و لا أهل الشام و إذا كان الإجماع حجة فقد وقع الإجماع لما توفي رسول الله ص على أن اختيار خمسة من صلحاء المسلمين لواحد منهم و بيعته توجب لزوم طاعته و صحة خلافته و قد بايع أمير المؤمنين ع شرح نهج البلاغة ج : 8 ص : 106خمسة من صلحاء الصحابة بل خمسون فوجب أن تصح خلافته و إذا صحت خلافته نفذت أحكامه و لم يجب عليه أن يقيد بعثمان إلا أن حضر أولياؤه عنده طائعين له مبايعين ملتزمين لأحكامه ثم بعذلك يطلبون القصاص من أقوام بأعيانهم يدعون عليهم دم المقتول فقد ثبت أن الكتاب لو تؤمل حق التأمل لكان الحق مع أهل العراق و لم يكن لأهل الشام من الشبهة ما يقدح في استنباطهم المذكور. ثم قال ع فأما ضربي للأجل في التحكيم فإنما فعلته لأن الأناة و التثبت من الأمور المحمودة أما الجاهل فيعلم فيه ما جهله و أما العالم فيثبت فيه على ما علمه فرجوت أن يصلح الله في ذلك الأجل أمر هذه الأمة المفتونة. و لا تؤخذ بأكظامها جمع كظم و هو مخرج النفس يقول كرهت أن أعجل القوم عن التبين و الاهتداء فيكون إرهاقي لهم و تركي للتنفيس عن خناقهم و عدولي عن ضرب الأجل بيني و بينهم أدعى إلى استفسادهم و أحرى أن يركبوا غيهم و ضلالهم و لا يقلعوا عن القبيح الصادر عنهم. ثم قال أفضل الناس من آثر الحق و إن كرثه أي اشتد عليه و بلغ منه المشقة. و يجوز أكرثه بالألف على الباطل و إن انتفع به و أورثه زيادة. ثم قال فأين يتاه بكم أي أين تذهبون في التيه يعني في الحيرة و روي فأنى يتاه بكم. و من أين أتيتم أي كيف دخل عليكم الشيطان أو الشبهة و من أي المداخل دخل اللبس عليكم. ثم أمرهم بالاستعداد للمسير إلى حرب أهل الشام و ذكر أنهم موزعون بالجور

(9/84)


شرح نهج البلاغة ج : 8 ص : 107أي ملهمون قال تعالى رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ أي ألهمني أوزعته بكذا و هو موزع به و الاسم و المصدر جميعا الوزع بالفتح و استوزعت إليه تعالى شكره فأوزعني أي استلهمته فألهمني. و لا يعدلون عنه لا يتركونه إلى غيره روي لا يعدلون به أي لا يعدلون بالجور شيئا آخر أي لا يرضون إلا بالظلم و الجور و لا يختارون عليهما غيرهما. قوله جفاة عن الكتاب جمع جاف و هو النابي عن الشي ء أي قد نبوا عن الكتاب لا يلائمهم و لا يناسبونه تقول جفا السرج عن ظهر الفرس إذا نبا و ارتفع و أجفيته نا و يجوز أن يريد أنهم أعراب جفاة أي أجلاف لا أفهام لهم. قوله نكب عن الطريق أي عادلون جمع ناكب نكب ينكب عن السبيل بضم الكاف نكوبا. قوله و ما أنتم بوثيقة أي بذي وثيقة فحذف المضاف و الوثيقة الثقة يقال قد أخذت في أمر فلان بالوثيقة أي بالثقة و الثقة مصدر. و الزوافر العشيرة و الأنصار و يقال هم زافرتهم عند السلطان للذين يقومون بأمره عنده. و قوله يعتصم إليها أي بها فأناب إلى مناب الباء كقول طرفة
و إن يلتق الحي الجميع تلاقني إلى ذروة البيت الرفيع المصمد
و حشاش النار ما تحش به أي توقد قال الشاعر
أ في أن أحش الحرب فيمن يحشها ألام و في ألا أقر المخازيا
شرح نهج البلاغة ج : 8 ص : 108و روي حشاش بالفتح كالشياع و هو الحطب الذي يلقى في النار قبل الجزل و روي حشاش بضم الحاء و تشديد الشين جمع حاش و هو الموقد للنار. قوله أف لكم من الألفاظ القرآنية و فيها لغات أف بالكسر و بالضم و بالفتح و أف منونا بالثلاث أيضا وقال أفا و تفا و هو إتباع له و أفة و تفة و المعنى استقذار المعني بالتأفيف. قوله لقد لقيت منكم برحا أي شدة يقال لقيت منهم برحا بارحا أي شدة و أذى قال الشاعر
أ جدك هذا عمرك الله كلما دعاك الهوى برح لعينك بارح

(9/85)


و يروى ترحا أي حزنا. ثم ذكر أنه يناديهم جهارا طورا و يناجيهم سرا طورا فلا يجدهم أحرارا عند ندائه أي لا ينصرون و لا يجيبون و لا يجدهم ثقاتا و ذوي أمانة عند المناجاة أي لا يكتمون السر. و النجاء المناجاة مصدر ناجيته نجاء مثل ضاربته ضرابا و صارعته صراعا
شرح نهج البلاغة ج : 8 ص : 126109- و من كلام له ع لما عوقب على التسوية في العطاء و تصييره الناس أسوة في العطاء من غير تفضيل أولي السابقات و الشرفأَ تَأْمُرُونِّي أَنْ أَطْلُبَ النَّصْرَ بِالْجَوْرِ فِيمَنْ وُلِّيتُ عَلَيْهِ وَ اللَّهِ لَا أَطُورُ بِهِ مَا سَمَرَ سَمِيرٌ وَ مَا أَمَّ نَجْمٌ فِي السَّمَاءِ نَجْماً وَ لَوْ كَانَ الْمَالُ لِي لَسَوَّيْتُ بَيْنَهُمْ فَكَيْفَ وَ إِنَّمَا الْمَالُ مَالُ اللَّهِ ثُمَّ قَالَ ع أَلَا وَ إِنَّ إِعْطَاءَ الْمَالِ فِي غَيْرِ حَقِّهِ تَبْذِيرٌ وَ إِسْرَافٌ وَ هُوَ يَرْفَعُ صَاحِبَهُ فِي الدُّنْيَا وَ يَضَعُهُ فِي الآْخِرَةِ وَ يُكْرِمُهُ فِي النَّاسِ وَ يُهِينُهُ عِنْدَ اللَّهِ وَ لَمْ يَضَعِ امْرُؤٌ مَالَهُ فِي غَيْرِ حَقِّهِ وَ عِنْدَ غَيْرِ أَهْلِهِ إِلَّا حَرَمَهُ اللَّهُ شُكْرَهُمْ وَ كَانَ لِغَيْرِهِ وُدُّهُمْ فَإِنْ زَلَّتْ بِهِ النَّعْلُ يَوْماً فَاحْتَاجَ إِلَى مَعُونَتِهِمْ فَشَرُّ خَلِيلٍ وَ أَلْأَمُ خَدِينٍ

(9/86)


أصل تأمروني تأمرونني بنونين فأسكن الأولى و أدغم قال تعالى أَ فَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجاهِلُونَ. شرح نهج البلاغة ج : 8 ص : 110و لا أطور به لا أقربه و لا تطر حولنا أي لا تقرب ما حولنا و أصله من طوار الدار و هو ما كان ممتدا معها الفناء. و قوله ما سمر سمير يعني الدهر أي ما أقام الدهر و ما بقي و الأشهر في المثل ما سمر ابنا سمير قالوا السمير الدهر و ابناه الليل و النهار و قيل ابنا سمير الليل و النهار لأنه يسمر فيهما و يقولون لا أفعله السمر و القمر أي ما دام الناس يسمرون في ليلة قمراء و لا أفعله سمير الليالي أي أبدا قال الشنفري
هنالك لا أرجو حياة تسرني سمير الليالي مبسلا بالجرائر

(9/87)


قوله و ما أم نجم في السماء نجما أي قصد و تقدم لأن النجوم تتبع بعضها بعضا فلا بد من تقدم و تأخر فلا يزال النجم يقصد نجما غيره و لا يزال النجم يتقدم نجما غيره. و الخدين الصديق يقول ع كيف تأمرونني أن أطلب النصر من الله بأن أجور على قوم وليت عليهم يعني الذين لا سوابق لهم و لا شرف و كان عمر ينقصهم في العطاء عن غيرهم. ثم قال ع لو كان المال لي و أنا أفرقه بينهم لسويت فكيف و إنما هو مال الله و فيئه ثم ذكر أن إعطاء المال في غير حقه تبذير و إسراف و قد نهى الله عنه و أنه يرفع صاحبه عند الناس و يضعه عند الله و أنه لم يسلك أحد هذه المسلك إلا حرمه الله ود الذين يتحبب إليهم بالمال و لو احتاج إليهم يوما عند عثرة يعثرها لم يجدهم. شرح نهج البلاغة ج : 8 ص : 111و اعلم أن هذه مسألة فقهية و رأي علي ع و أبي بكر فيها واحد و هو التسوية بين المسلمين في قسمة الفي ء و الصدقات و إلى ذهب الشافعي رحمه الله و أما عمر فإنه لما ولي الخلافة فضل بعض الناس على بعض ففضل السابقين على غيرهم و فضل المهاجرين من قريش على غيرهم من المهاجرين و فضل المهاجرين كافة على الأنصار كافة و فضل العرب على العجم و فضل الصريح على المولى و قد كان أشار على أبي بكر أيام خلافته بذلك فلم يقبل و قال إن لم يفضل أحدا على أحد و لكنه قال إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ وَ الْمَساكِينِ و لم يخص قوما دون قوم فلما أفضت إليه الخلافة عمل بما كان أشار به أولا و قد ذهب كثير من فقهاء المسلمين إلى قوله و المسألة محل اجتهاد و للإمام أن يعمل بما يؤديه إليه اجتهاده و إن كان اتباع علي ع عندنا أولى لا سيما إذا عضده موافقة أبي بكر على المسألة و إن صح الخبر أن رسول الله ص سوى فقد صارت المسألة منصوصا عليها لأن فعله ع كقوله

(9/88)


شرح نهج البلاغة ج : 8 ص : 127112- و من كلام له ع قاله للخوارج أيضافَإِنْ أَبَيْتُمْ إِلَّا أَنْ تَزْعُمُوا أَنِّي أَخْطَأْتُ وَ ضَلَلْتُ فَلِمَ تُضَلِّلُونَ عَامَّةَ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ ص بِضَلَالِي وَ تَأْخُذُونَهُمْ بِخَطَئِي وَ تُكَفِّرُونَهُمْ بِذُنُوبِي سُيُوفُكُمْ عَلَى عَوَاتِقِكُمْ تَضَعُونَهَا مَوَاضِعَ الْبُرْءِ وَ السُّقْمِ وَ تَخْلِطُونَ مَنْ أَذْنَبَ بِمَنْ لَمْ يُذْنِبْ وَ قَدْ عَلِمْتُمْ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ص رَجَمَ الزَّانِيَ الْمُحْصَنَ ثُمَّ صَلَّى عَلَيْهِ ثُمَّ وَرَّثَهُ أَهْلَهُ وَ قَتَلَ الْقَاتِلَ وَ وَرَّثَ مِيرَاثَهُ أَهْلَهُ وَ قَطَعَ يَدَ السَّارِقِ وَ جَلَدَ الزَّانِيَ غَيْرَ الْمُحْصَنِ ثُمَّ قَسَمَ عَلَيْهِمَا مِنَ الْفَيْ ءِ وَ نَكَحَا الْمُسْلِمَاتِ فَأَخَذَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ ص بِذُنُوبِهِمْ وَ أَقَامَ حَقَّ اللَّهِ فِيهِمْ وَ لَمْ يَمْنَعْهُمْ سَهْمَهُمْ مِنَ الْإِسْلَامِ وَ لَمْ يُخْرِج أَسْمَاءَهُمْ مِنْ بَيْنِ أَهْلِهِ ثُمَّ أَنْتُمْ شِرَارُ النَّاسِ وَ مَنْ رَمَى بِهِ الشَّيْطَانُ مَرَامِيَهُ وَ ضَرَبَ بِهِ تِيهَهُ وَ سَيَهْلِكُ فِيَّ صِنْفَانِ مُحِبٌّ مُفْرِطٌ يَذْهَبُ بِهِ الْحُبُّ إِلَى غَيْرِ الْحَقِّ وَ مُبْغِضٌ مُفْرِطٌ يَذْهَبُ بِهِ الْبُغْضُ إِلَى غَيْرِ الْحَقِّ وَ خَيْرُ النَّاسِ فِيَّ حَالًا النَّمَطُ الْأَوْسَطُ فَالْزَمُوهُ وَ الْزَمُوا السَّوَادَ الْأَعْظَمَ فَإِنَّ يَدَ اللَّهِ عَلَى الْجَمَاعَةِ وَ إِيَّاكُمْ وَ الْفُرْقَةَ فَإِنَّ الشَّاذَّ مِنَ النَّاسِ لِلشَّيْطَانِ كَمَا أَنَّ الشَّاذَّ مِنَ الْغَنَمِ لِلذِّئْبِ أَلَا مَنْ دَعَا إِلَى هَذَا الشِّعَارِ فَاقْتُلُوهُ وَ لَوْ كَانَ تَحْتَ عِمَامَتِي هَذِهِ فَإِنَّمَا حُكِّمَ شرح نهج البلاغة ج : 8 ص : 113الْحَكَمَانِ لِيُحْيِيَا مَا أَحْيَا الْقُرْآنُ وَ يُمِيتَا مَا

(9/89)


أَاتَ الْقُرْآنُ وَ إِحْيَاؤُهُ الِاجْتِمَاعُ عَلَيْهِ وَ إِمَاتَتُهُ الِافْتِرَاقُ عَنْهُ فَإِنْ جَرَّنَا الْقُرْآنُ إِلَيْهِمْ اتَّبَعْنَاهُمْ وَ إِنْ جَرَّهُمْ إِلَيْنَا اتَّبَعُونَا فَلَمْ آتِ لَا أَبَا لَكُمْ بُجْراً وَ لَا خَتَلْتُكُمْ عَنْ أَمْرِكُمْ وَ لَا لَبَّسْتُهُ عَلَيْكُمْ إِنَّمَا اجْتَمَعَ رَأْيُ مَلَئِكُمْ عَلَى اخْتِيَارِ رَجُلَيْنِ أَخَذْنَا عَلَيْهِمَا أَلَّا يَتَعَدَّيَا الْقُرْآنَ فَتَاهَا عَنْهُ وَ تَرَكَا الْحَقَّ وَ هُمَا يُبْصِرَانِهِ وَ كَانَ الْجَوْرُ هَوَاهُمَا فَمَضَيَا عَلَيْهِ وَ قَدْ سَبَقَ اسْتِثْنَاؤُنَا عَلَيْهِمَا فِي الْحُكُومَةِ بِالْعَدْلِ وَ الصَّمْدِ لِلْحَقِّ سُوءَ رَأْيِهِمَا وَ جَوْرَ حُكْمِهِمَا
ليس لقائل أن يقول له ع معتذرا عن الخوارج إنهم إنما ضللوا عامة أمة محمد ص و حكموا بخطئهم و كفرهم و قتلهم بالسيف خبطا لأنهم وافقوك في تصويب التحكيم و هو عندهم كفر فلم يؤاخذوهم بذنبك كما قلت لهم و ذلك لأن أمير المؤمنين ع ما قال هذه المقالة إلا لمن رأى منهم استعراض العامة و قتل الأطفال حتى البهائم فقد كان منهم قوم فعلوا ذلك و قد سبق منا شرح أفعالهم و وقائعهم بالناس و قالوا إن الدار دار كفر لا يجوز الكف عن أحد من أهلها فهؤلاء هم الذين وجه أمير المؤمنين ع إليهم خطابه و إنكاره دون غيرهم من فرق الخوارج
مذهب الخوارج في تكفير أهل الكبائر

(9/90)


و اعلم أن الخوارج كلها تذهب إلى تكفير أهل الكبائر و لذلك كفروا عليا ع و من اتبعه على تصويب التحكيم و هذا الاحتجاج الذي احتج به عليهم شرح نهج البلاغة ج : 8 ص : 114لازم و صحيح لأنه لو كان صاحب الكبيرة كافرا لما صلى عليه رسول الله ص و لا ورثه من المسلم و لاكنه من نكاح المسلمات و لا قسم عليه من الفي ء و لأخرجه عن لفظ الإسلام. و قد احتجت الخوارج لمذهبها بوجوه منها قوله تعالى وَ لِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَ مَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ قالو فجعل تارك الحج كافرا. و الجواب أن هذه الآية مجملة لأنه تعالى لم يبين وَ مَنْ كَفَرَ بما ذا فيحتمل أن يريد تارك الحج و يحتمل أن يريد تارك اعتقاد وجوبه على من استطاع إليه سبيلا فلا بد من الرجوع إلى دلالة و الظاهر أنه أراد لزوم الكفر لمن كفر باعتقاد كون الحج غير واجب أ لا تراه في أول الآية قال وَ لِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ فأنبأ عن اللزوم ثم قال وَ مَنْ كَفَرَ بلزوم ذلك و نحن نقول إن من لم يقل لله على الناس حج البيت فهو كافر. و منها قوله تعالى إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكافِرُونَ قالوا و الفاسق لفسقه و إصراره عليه آيس من روح الله فكان كافرا. و الجواب أنا لا نسلم أن الفاسق آيس من روح الله مع تجويزه تلافي أمره بالتوبة و الإقلاع و إنما يكون اليأس مع القطع و ليس هذه صفة الفاسق فأما الكافر الذي يجحد الثواب و العقاب فإنه آيس من روح الله لأنه لا تخطر له التوبة و الإقلاع و يقطع على حسن معتقده. و منها قوله تعالى وَ مَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ و كل مرتكب للذنوب فقد حكم بغير ما أنزل الله و لم يحكم بما أنزل الله. شرح نهج البلاغة ج : 8 : 115و الجواب أن هذا مقصور على اليهود لأن ذكرهم هو المقدم في الآية

(9/91)


قال سبحانه و تعالى سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ ثم قال عقيب قوله هُمُ الْكافِرُونَ وَ قَفَّيْنا عَلى آثارِهِمْ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ فدل على أنها مقصورة على اليهود. و منها قوله تعالى فَأَنْذَرْتُكُمْ ناراً تَلَظَّى لا يَصْلاها إِلَّا الْأَشْقَى الَّذِي كَذَّبَ وَ تَوَلَّى قالوا و قد اتفقنا مع المعتزلة على أن الفاسق يصلى النار فوجب أن يسمى كافرا. و الجواب أن قوله تعالى ناراً نكرة في سياق الإثبات فلا تعم و إنما تعم النكرة في سياق النفي نحو قولك ما في الدار من رجل و غير ممتنع أن يكون في الآخرة نار مخصوصة لا يصلاها إلا الذين كذبوا و تولوا و يكون للفساق نار أخرى غيرها. و منها قوله تعالى وَ إِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكافِرِينَ قالوا و الفاسق تحيط به جهنم فوجب أن يكون كافرا. و الجواب أنه لم يقل سبحانه و إن جهنم لا تحيط إلا بالكافرين و ليس يلزم من كونها محيطة بقوم ألا تحيط بقوم سواهم. و منها قوله سبحانه يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَ تَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ قالوا شرح نهج البلاغة ج : 8 ص : 116و الفاسق لا يجوز أن يكون ممن ابيضت وجوههم فوجب أن يكون ممن اسودت و وجب أن يسمى كافرا لقوله بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ. و الجواب أن هذه القسمة ليست متقابلة فيجوز أن يكون المكلفون اثة أقسام بيض الوجوه و سود الوجوه و صنف آخر ثالث بين اللونين و هم الفساق. و منها قوله تعالى وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ ضاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ وَ وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْها غَبَرَةٌ تَرْهَقُها قَتَرَةٌ أُولئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ قالوا و الفاسق على وجهه غبرة فوجب أن يكون من الكفرة و الفجرة. و الجواب أنه يجوز أن يكون الفساق قسما ثالثا لا غبرة على وجوههم و لا هي مسفرة ضاحكة

(9/92)


بل على ما كانت عليه في دار الدنيا. و منها قوله تعالى ذلِكَ جَزَيْناهُمْ بِما كَفَرُوا وَ هَلْ نُجازِي إِلَّا الْكَفُورَ قالوا و الفاسق لا بد أن يجازى فوجب أن يكون كفورا. و الجواب أن المراد بذلك و هل نجازي بعقاب الاستئصال إلا الكفور لأن الآية وردت في قصة أهل سبإ لكونهم استؤصلوا بالعقوبة. و منها أنه تعالى قال إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغاوِينَ و قال في آية أخرى إِنَّما سُلْطانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَ الَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ فجعل الغاوي الذي يتبعه مشركا. و الجواب أنا لا نسلم أن لفظة إنما تفيد الحصر و أيضا فإنه عطف قوله

(9/93)


شرح نهج البلاغة ج : 8 ص : 117 وَ الَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ على قوله الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ فوجب أن يثبت التغاير بين الفريقين و هذا مذهبنا لأن الذين يتولونه هم الفساق و الذين هم به مشركون هم الكفار. و منها قوله تعالى وَ أَمَّا الَّذِينَ فَسَقُواَمَأْواهُمُ النَّارُ إلى قوله تعالى وَ قِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ فجعل الفاسق مكذبا. و الجواب أن المراد به الذين فسقوا عن الدين أي خرجوا عنه بكفرهم و لا شبهة أن من كان فسقه من هذا الوجه فهو كافر مكذب و لا يلزم منه أن كل فاسق على الإطلاق فهو مكذب و كافر. و منها قوله تعالى وَ لكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآياتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ قالوا فأثبت الظالم جاحدا و هذه صفة الكفار. و الجواب أن المكلف قد يكون ظالما بالسرقة و الزنا و إن كان عارفا بالله تعالى و إذا جاز إثبات ظالم ليس بكافر و لا جاحد بآيات الله تعالى جاز إثبات فاسق ليس بكافر. و منها قوله تعالى وَ مَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ. و الجواب أن هذه الآية تدل على أن الكافر فاسق و لا تدل على أن الفاسق كافر. و منها قوله تعالى فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ وَ مَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خالِدُونَ تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَ هُمْ فِيها كالِحُونَ أَ لَمْ تَكُنْ آياتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ. شرح نج البلاغة ج : 8 ص : 118فنص سبحانه على أن من تخف موازينه يكون مكذبا و الفاسق تخف موازينه فكان مكذبا و كل مكذب كافر. الجواب أن ذلك لا يمنع من قسم ثالث و هم الذين لا تخف موازينهم و لا تثقل و هم الفساق و لا يلزم من كون كل من خفت موازينه يدخل النار ألا يدخل الار إلا من خفت موازينه. و منها قوله تعالى هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ

(9/94)


فَمِنْكُمْ كافِرٌ وَ مِنْكُمْ مُؤْمِنٌ و هذا يقتضي أن من لا يكون مؤمنا فهو كافر و الفاسق ليس بمؤمن فوجب أن يكون كافرا. و الجواب أن من هاهنا للتبعيض و ليس في ذكر التبعيض نفي الثالث كما أن قوله وَ مِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى رِجْلَيْنِ وَ مِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى أَرْبَعٍ لا ينفي وجود دابة تمشي على أكثر من أربع كبعض الحشرات
ثم نعود إلى الشرح قوله ع و من رمى به الشيطان مراميه أي أضله كأنه رمى به مرمى بعيدا فضل عن الطريق و لم يهتد إليها. قوله و ضرب به تيهه أي حيره و جعله تائها. ثم قال ع يهلك في رجلان فأحدهما من أفرط حبه له و اعتقاده فيه حتى ادعى له الحلول كما ادعت النصارى ذلك في المسيح ع و الثاني من أفرط بغضه له حتى حاربه أو لعنه أو برئ منه أو أبغضه هذه المراتب الأربع و البغض أدناها و هو شرح نهج البلاغة ج : 8 ص : 119موبق مهلك و في الخبر الصحيح المتفق عليه أنه لا يحبه إلا مؤمن و لا يبغضه إلا منافق و حسبك بهذا الخبر ففيه وحده كفة
فصل في ذكر الغلاة من الشيعة و النصيرية و غيرهم
فأما الغلاة فيه فهالكون كما هلك الغلاة في عيسى ع و
قد روى المحدثون أن رسول الله ص قال له ع فيك مثل من عيسى ابن مريم أبغضته اليهود فبهتت أمه و أحبته النصارى فرفعته فوق قدره
و قد كان أمير المؤمنين عثر على قوم من أصحابه خرجوا من حد محبته باستحواذ الشيطان عليهم أن كفروا بربهم و جحدوا ما جاء به نبيهم فاتخذوه ربا و ادعوه إلها و قالوا له أنت خالقنا و رازقنا فاستتابهم و استأنى و توعدهم فأقاموا على قولهم فحفر لهم حفرا دخن عليهم فيها طمعا في رجوعهم فأبوا فحرقهم و قال
أ لا تروني قد حفرت حفرا أني إذا رأيت أمرا منكراأوقدت ناري و دعوت قنبرا

(9/95)


و روى أبو العباس أحمد بن عبيد الله بن عمار الثقفي عن محمد بن سليمان بن حبيب المصيصي المعروف بنوين و روي أيضا عن علي بن محمد النوفلي عن مشيخته أن عليا ع مر بقوم و هم يأكلون في شهر رمضان نهارا فقال أ سفر أم مرضى قالوا لا و لا واحدة منهما قال فمن أهل الكتاب أنتم فتعصمكم الذمة و الجزية قالوا لا قال فما بال الأكل في نهار رمضان فقاموا إليه فقالوا أنت أنت يؤمون إلى ربوبيته فنزل ع عن فرسه فألصق خده بالأرض و قال ويلكم إنما أنا عبد من عبيد الله فاتقوا الله و ارجعوا إلى الإسلام فأبوا فدعاهم مرارا فأقاموا على كفرهم فنهض إليهم و قال شدوهم وثاقا و علي بالفعلة و النار و الحطب ثم أمر شرح نهج البلاغة ج : 8 ص : 120بحفر بئرين فحفرتا إحداهما سربا و الأخرى مكشوفة و ألقى الحطب في المكشوفة و فتح بينهما فتحا و ألقى النار في الحطب فدخن عليهم و جعل يهتف بهم و يناشدهم ليرجعوا إلى اللام فأبوا فأمر بالحطب و النار فألقى عليهم فأحرقوا
فقال الشاعر

(9/96)


لترم بي المنية حيث شاءت إذا لم ترمني في الحفرتين إذا ما حشتا حطبا بنار فذاك الموت نقدا غير دينقال فلم يبرح ع حتى صاروا حمما. ثم استترت هذه المقالة سنة أو نحوها ثم ظهر عبد الله بن سبإ و كان يهوديا يتستر بالإسلام بعد وفاة أمير المؤمنين ع فأظهرها و اتبعه قوم فسموا السبئية و قالوا إن عليا ع لم يمت و إنه في السماء و الرعد صوته و البرق صوته و إذا سمعوا صوت الرعد قالوا السلام عليك يا أمير المؤمنين و قالوا في رسول الله ص أغلظ قول و افتروا عليه أعظم فرية فقالوا كتم تسعة أعشار الوحي فنعى عليهم قولهم الحسن بن علي بن محمد بن الحنفية رضي الله عنه في رسالته التي يذكر فيها الإرجاء رواها عنه سليمان بن أبي شيخ عن الهيثم بن معاوية عن عبد العزيز بن أبان عن عبد الواحد بن أيمن المكي قال شهدت الحسن بن علي بن محمد بن الحنفية يملي هذه الرسالة فذكرها و قال فيها و من قول هذه السبئية هدينا لوحي ضل عنه الناس و علم خفي عنهم و زعموا أن رسول الله ص كتم تسعة أعشار الوحي و لو كتم ص شيئا مما أنزل الله عليه لكتم شأن امرأة زيد و قوله تعالى تَبْتَغِي مَرْضاتَ أَزْواجِكَ. شرح نهج البلاغة ج : 8 ص : 121ثم ظهر المغيرة بن سعيد مولى بجيلة فأراد أن يحدث لنفسه مقالة يستهوي بها قوما و ينال بها ما يريد الظفر به من الدنيا فغلا في علي ع و قال لو ش علي لأحيا عادا و ثمود و قرونا بين ذلك كثيرا. و روى علي بن محمد النوفلي قال جاء المغيرة بن سعيد فاستأذن على أبي جعفر محمد بن علي بن الحسين و قال له أخبر الناس أني أعلم الغيب و أنا أطعمك العراق فزجره أبو جعفر زجرا شديدا و أسمعه ما كره فانصرف عنه فأتى أبا هاشم عبد الله بن محمد بن الحنفية رحمه الله فقال له مثل ذلك و كان أبو هاشم أيدا فوثب عليه فضربه ضربا شديدا أشفى به على الموت فتعالج حتى برئ ثم أتى محمد بن عبد الله بن الحسن بن الحسن رحمه الله و كان محمد سكيتا فقال له كما قال

(9/97)


للرجلين فسكت محمد فلم يجبه فخرج و قد طمع فيه بسكوته و قال أشهد أن هذا هو المهدي الذي بشر به رسول الله ص و أنه قائم أهل البيت و ادعى أن علي بن الحسين ع أوصى إلى محمد بن عبد الله بن الحسن ثم قدم المغيرة الكوفة و كان مشعبذا فدعا الناس إلى قوله و استهواهم و استغواهم فاتبعه خلق كثير و ادعى على محمد بن عبد الله أنه أذن له في خنق الناس و إسقائهم السموم و بث أصحابه في الأسفار يفعلون ذلك بالناس فقال له بعض أصحابه إنا نخنق من لا نعرف فقال لا عليكم إن كان من أصحابكم عجلتموه إلى الجنة و إن كان من عدوكم عجلتموه إلى النار و لهذا السبب كان المنصور يسمي محمد بن عبد الله الخناق و ينحله ما ادعاه عليه المغيرة. ثم تفاقم أمر الغلاة بعد المغيرة و أمعنوا في الغلو فادعوا حلول الذات الإلهية

(9/98)


شرح نهج البلاغة ج : 8 ص : 122المقدسة في قوم من سلالة أمير المؤمنين ع و قالوا بالتناسخ و جحدوا البعث و النشور و أسقطوا الثواب و العقاب و قال قوم منهم إن الثواب و العقاب إنما هو ملاذ هذه الدنيا و مشاقها و تولدت من هذه المذاهب القديمة التي قال بها سلفهم مذب أفحش منها قال بها خلفهم حتى صاروا إلى المقالة المعروفة بالنصيرية و هي التي أحدثها محمد بن نصير النميري و كان من أصحاب الحسن العسكري ع و المقالة المعروفة بالإسحاقية و هي التي أحدثها إسحاق بن زيد بن الحارث و كان من أصحاب عبد الله بن معاوية بن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب كان يقول بالإباحة و إسقاط التكاليف و يثبت لعلي ع شركة مع رسول الله ص في النبوة على وجه غير هذا الظاهر الذي يعرفه الناس و كان محمد بن نصير من أصحاب الحسن بن علي بن محمد بن الرضا فلما مات ادعى وكالة لابن الحسن الذي تقول الإمامية بإمامته ففضحه الله تعالى بما أظهره من الإلحاد و الغلو و القول بتناسخ الأرواح ثم ادعى أنه رسول الله و نبي من قبل الله تعالى و أنه أرسله علي بن محمد بن الرضا و جحد إمامة الحسن العسكري و إمامة ابنه و ادعى بعد ذلك الربوبية و قال بإباحة المحارم. و للغلاة أقوال كثيرة طويلة عريضة و قد رأيت أنا جماعة منهم و سمعت أقوالهم و لم أر فيهم محصلا و لا من يستحق أن يخاطب و سوف أستقصي ذكر فرق الغلاة و أقوالهم في الكتاب الذي كنت متشاغلا بجمعه و قطعني عنه اهتمامي بهذا الشرح و هو الكتاب المسمى بمقالات الشيعة إن شاء الله تعالى
قوله ع و الزموا السواد الأعظم و هو الجماعة و
قد جاء في الخبر عن شرح نهج البلاغة ج : 8 ص : 123رسول الله ص هذه اللفظة التي ذكرها ع و هي يد الله على الجماعة و لا يبالي بشذوذ من شذو جاء في معناها كثير نحو
قوله ع الشيطان مع الواحد و هو من الاثنين أبعد
و قوله لا تجتمع أمتي على خطإ
و قوله سألت الله ألا تجتمع أمتي على خطإ فأعطانيها

(9/99)


و قوله ما رآه المسلمون حسنا فهو عند الله حسن
و قوله لا تجتمع أمتي على ضلالة و سألت ربي ألا تجتمع أمتي على ضلالة فأعطانيها و لم يكن الله ليجمع أمتي على ضلال و لا خطإ
و قوله ع عليكم بالسواد الأعظم
و قوله من خرج من الجماعة قيد شبر فقد خلع ربقة الإسلام عن عنقه
و قوله من فارق الجماعة مات ميتة جاهلية
و قوله من سره بحبوحة الجنة فيلزم الجماعة
و الأخبار في هذا المعنى كثيرة جدا. ثم قال ع من دعا إلى هذا الشعار فاقتلوه يعني الخوارج و كان شعارهم أنهم يحلقون وسط رءوسهم و يبقى الشعر مستديرا حوله كالإكليل. قال و لو كان تحت عمامتي هذه أي لو اعتصم و احتمى بأعظم الأشياء حرمة فلا تكفوا عن قتله. ثم ذكر أنه إنما حكم الحكمان ليحييا ما أحياه القرآن أي ليجتمعا على ما شهد القرآن باستصوابه و استصلاحه و يميتا ما أماته القرآن أي ليفترقا و يصدا و ينكلا عما كرهه القرآن و شهد بضلاله. و البجر بضم الباء الشر العظيم قال الراجز
أرمي عليها و هي شي ء بجر شرح نهج البلاغة ج : 8 ص : 124أي داهية. و لا ختلتكم أي خدعتكم ختله و خاتله أي خدعه و التخاتل التخادع و لا لبسته عليكم أي جعلته مشتبها ملتبسا ألبست عليهم الأمر ألبسه بالكسر. و الملأ الجماعة من الناس و الصمد القصد. قال سبق شرطنا سوء رأيهما لأنا اشترطنا عليا في كتاب الحكومة ما لا مضرة علينا مع تأمله فيما فعلاه من اتباع الهوى و ترك النصيحة للمسلمين
شرح نهج البلاغة ج : 8 ص : 128125- و من كلام له ع فيما يخبر به عن الملاحم بالبصرةيَا أَحْنَفُ كَأَنِّي بِهِ وَ قَدْ سَارَ بِالْجَيْشِ الَّذِي لَا يَكُونُ لَهُ غُبَارٌ وَ لَا لَجَبٌ وَ لَا قَعْقَعَةُ لُجُمٍ وَ لَا حَمْحَمَةُ خَيْلٍ يُثِيرُونَ الْأَرْضَ بِأَقْدَامِهِمْ كَأَنَّهَا أَقْدَامُ النَّعَامِ
قال الشريف الرضي أبو الحسن رحمه الله تعالى يومئ بذلك إلى صاحب الزنج

(9/100)


ثُمَّ قَالَ ع وَيْلٌ لِسِكَكِكُمُ الْعَامِرَةِ وَ الدُّورِ الْمُزَخْرَفَةِ الَّتِي لَهَا أَجْنِحَةٌ كَأَجْنِحَةِ النُّسُورِ وَ خَرَاطِيمُ كَخَرَاطِيمِ الْفِيَلَةِ مِنْ أُولَئِكَ الَّذِينَ لَا يُنْدَبُ قَتِيلُهُمْ وَ لَا يُفْقَدُ غَائِبُهُمْ أَنَا كَابُّ الدُّنْيَا لِوَجْهِهَا وَ قَادِرُهَا بِقَدْرِهَا وَ نَاظِرُهَا بِعَيْنِهَا
اللجب الصوت و الدور المزخرفة المزينة المموهة بالزخرف و هو الذهب. و أجنحة الدور التي شبهها بأجنحة النسور رواشينها و الخراطيم ميازيبها. شرح نهج البلاغة ج : 8 ص : 126و قوله لا يندب قتيلهم ليس يريد به من يقتلونه بل القتيل منهم و ذلك لأن أكثر الزنج الذين أشار إليهم كانوا عبيدا لدهاقين البصرة و بناتها و لم يكونوا ذوي زوجات و أولاد بل كانوا على هيئة الشطار عزابا فلا نادبة لهم. و قوله و لا يف غائبهم يريد به كثرتهم و أنهم كلما قتل منهم قتيل سد مسده غيره فلا يظهر أثر فقده. و قوله أنا كأب الدنيا لوجهها مثل الكلمات المحكية
عن عيسى ع أنا الذي كببت الدنيا على وجهها ليس لي زوجة تموت و لا بيت يخرب وسادي الحجر و فراشي المدر و سراجي القمر
أخبار صاحب الزنج و فتنته و ما انتحله من عقائد

(9/101)


فأما صاحب الزنج هذا فإنه ظهر في فرات البصرة في سنة خمس و خمسين و مائتين رجل زعم أنه علي بن محمد بن أحمد بن عيسى بن زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب ع فتبعه الزنج الذين كانوا يكسحون السباخ في البصرة. و أكثر الناس يقدحون في نسبه و خصوصا الطالبيين و جمهور النسابين اتفقوا على شرح نهج البلاغة ج : 8 ص : 127أنه من عبد القيس و أنه علي بن محمد بن عبد الرحيم و أمه أسدية من أسد بن خزيمة جدها محمد بن حكيم الأسدي من أهل الكوفة أحد الخارجين مع زيد بن علي بن الحسين ع على هشام بن عبد الملك فلما قتل زيد هرب فلحق باي و جاء إلى القرية التي يقال لها ورزنين فأقام بها مدة و بهذه القرية ولد علي بن محمد صاحب الزنج و بها منشؤه و كان أبو أبيه المسمى عبد الرحيم رجلا من عبد القيس كان مولده بالطالقان فقدم العراق و اشترى جارية سندية فأولدها محمدا أباه. و كان علي هذا متصلا بجماعة من حاشية السلطان و خول بني العباس منهم غانم الشطرنجي و سعيد الصغير و بشير خادم المنتصر و كان منهم معاشه و من قوم من كتاب الدولة يمدحهم و يستمنحهم بشعره و يعلم الصبيان الخط و النحو و النجوم و كان حسن الشعر مطبوعا عليه فصيح اللهجة بعيد الهمة تسمو نفسه إلى معالي الأمور و لا يجد إليها سبيلا و من شعره القصيدة المشهورة التي أولها شرح نهج البلاغة ج : 8 ص : 12رأيت المقام على الاقتصاد قنوعا به ذلة في العباد
و من جملتها
إذا النار ضاق بها زندها ففسحتها في فراق الزنادإذا صارم قر في غمده حوى غيره السبق يوم الجلاد
و من الشعر المنسوب إليه
و أنا لتصبح أسيافنا إذا ما انتضين ليوم سفوك منابرهن بطون الأكف و أغمادهن رءوس الملوكو من شعره في الغزل
و لما تبينت المنازل بالحمى و لم أقض منها حاجة المتوردزفرت إليها زفرة لو حشوتها سرابيل أبدان الحديد المسردلرقت حواشيها و ظلت متونها تلين كما لانت لداود في اليد
و من شعره أيضا

(9/102)


و إذا تنازعني أقول لها قري موت يريحك أو صعود المنبرما قد قضى سيكون فاصطبري له و لك الأمان من الذي لم يقدر
و قد ذكر المسعودي في كتابه المسمى مروج الذهب أن أفعال علي بن محمد صاحب الزنج تدل على أنه لم يكن طالبيا و تصدق ما رمي به من دعوته في النسب لأن ظاهر حاله كان ذهابه إلى مذهب الأزارقة في قتل النساء و الأطفال و الشيخ الفاني و المريض شرح نهج البلاغة ج : 8 ص : 9و قد روي أنه خطب مرة فقال في أول خطبته لا إله إلا الله و الله أكبر الله أكبر لا حكم إلا لله و كان يرى الذنوب كلها شركا. و من الناس من يطعن في دينه و يرميه بالزندقة و الإلحاد و هذا هو الظاهر من أمره لأنه كان متشاغلا في بدايته بالتنجيم و السحر و الأصطرلابات. و ذكر أبو جعفر محمد بن جرير الطبري أن علي بن محمد شخص من سامراء و كان يعلم الصبيان بها و يمدح الكتاب و يستميح الناس في سنة تسع و أربعين و مائتين إلى البحرين فادعى بها أنه علي بن محمد بن الفضل بن الحسن بن عبيد الله بن العباس بن علي بن أبي طالب ع و دعا الناس بهجر إلى طاعته فاتبعه جماعة كثيرة من أهلها و اتبعه جماعة أخرى فكانت بسببه بين الذين اتبعوه و الذين أبوه عصبية قتل فيها بينهم جماعة فانتقل عنهم لما حدث ذلك إلى الأحساء و ضوى إلى حي من بني تميم ثم من بني سعد يقال لهم بنو الشماس فكان بينهم مقامه و قد كان أهل البحرين أحلوه من أنفسهم محل النبي ص فيما ذكر حتى جبي له الخراج هنالك و نفذ حكمه فيهم و قاتلوا أسباب السلطان لأجله و وتر منهم جماعة كثيرة فتنكروا له فتحول عنهم إلى البادية و لما انتقل إلى البادية صحبه جماعة من أهل البحرين منهم رجل كيال من أهل الأحساء يقال له يحيى بن محمد الأزرق مولى بني دارم و يحيى بن أبي شرح نهج البلاغة ج : 8 ص : 130ثعلب و كان تاجرا من أهل هجر و بعض موالي بني حنظلة أسود يقال له سليمان بن جامع و كان قائد جيشه حيث كان بالبحرين. ثم تنقل في البادية من

(9/103)


حي إلى حي فذكر عنه أنه كان يقول أوتيت تلك الأيام آيات من آيات إمامتي منها أني لقيت سورا من القرآن لم أكن أحفظها فجرى بها لساني في ساعة واحدة منها سبحان و الكهف و صاد و منها أني ألقيت نفسي على فراشي و جعلت أفكر في الموضع الذي أقصد له و أجعل مقامي به إذا نبت البادية بي و ضقت ذرعا بسوء طاعة أهلها فأظلتني سحابه فبرقت و رعدت و اتصل صوت الرعد منها بسمعي فخوطبت فقيل لي اقصد البصرة فقلت لأصحابي و هم يكتنفونني إني أمرت بصوت من هذا الرعد بالمصير إلى البصرة. و ذكر عنه أنه عند مصيره إلى البادية أوهم أهلها أنه يحيى بن عمر أبو الحسين المقتول بناحية الكوفة في أيام المستعين فاختدع بذلك قوما منهم حتى اجتمع عليه منهم جماعة فزحف بهم إلى موضع من البحرين يقال له الردم فكانت بينه و بين أهله وقعة عظيمة كانت الدبرة فيها عليه و على أصحابه قتلوا فيها قتلا ذريعا فتفرقت عنه العرب و كرهته و تجنبت صحبته. فلما تفرقت العرب عنه و نبت به البادية شخص عنها إلى البصرة فنزل بها في بني ضبيعة فاتبعه بها جماعة منهم علي بن أبان المعروف بالمهلبي من ولد المهلب بن أبي صفرة و أخواه محمد و الخليل و غيرهم و كان قدومه البصرة في سنة أربع و خمسين و مائتين

(9/104)


شرح نهج البلاغة ج : 8 ص : 131و عامل السلطان بها يومئذ محمد بن رجاء و وافق ذلك فتنة أهل البصرة بالبلالية و السعدية فطمع في أحد الفريقين أن يميل إليه فأرسل أربعة من أصحابه يدعون إليه و هم محمد بن سلم القصاب الهجري و بريش القريعي و علي الضراب و الحسين الصياني و هم الذين كانوا صحبوه بالبحرين فلم يستجب لهم أحد من أهل البلد و ثار عليهم الجند فتفرقوا و خرج علي بن محمد من البصرة هاربا و طلبه ابن رجاء فلم يقدر عليه و أخبر ابن رجاء بميل جماعة من أهل البصرة إليه فأخذهم فحبسهم و حبس معهم زوجة علي بن محمد و ابنه الأكبر و جارية له كانت حاملا و مضى علي بن محمد لوجهه يريد بغداد و معه قوم من خاصته منهم محمد بن سلم و يحيى بن محمد و سليمان بن جامع و بريش القريعي فلما صاروا بالبطيحة نذر بهم بعض موالي الباهليين كان يلي أمر البطيحة فأخذهم و حملهم إلى محمد بن أبي عون و هو عامل السلطان بواسط فاحتال لابن أبي عون حتى تخلص هو و أصحابه من يده ثم صار إلى بغداد فأقام بها سنة و انتسب في هذه السنة إلى محمد بن أحمد بن عيسى بن زيد و كان يزعم أنه ظهر له أيام مقامه ببغداد في هذه السنة آيات و عرف ما في ضمائر أصحابه و ما يفعله كل واحد منهم و أنه سأل ربه أن يعلمه حقيقة أمور كانت في نفسه فرأى كتابا يكتب له على حائط و لا يرى شخص كاتبه. قال أبو جعفر و استمال ببغداد جماعة منهم جعفر بن محمد الصوحاني من ولد زيد بن صوحان العبدي و محمد بن القاسم و غلامان لبني خاقان و هما مشرق و رفيق فسمى مشرقا حمزة و كناه أبا أحمد و سمى رفيقا جعفرا و كناه أبا الفضل فلما انقضى عامه ذلك ببغداد عزل محمد بن رجاء عن البصرة فوثبت رؤساء الفتنة بها من البلالية و السعدية

(9/105)


شرح نهج البلاغة ج : 8 ص : 132ففتحوا المحابس و أطلقوا من كان فيها فتخلص أهله و ولده فيمن تخلص فلما بلغه ذلك شخص عن بغداد فكان رجوعه إلى البصرة في شهر رمضان من سنة خمس و خمسين و مائتين و معه علي بن أبان المهلبي و قد كان لحق به و هو بمدينة السلام مشرق و رف و أربعة أخر من خواصه و هم يحيى بن محمد و محمد بن سلم و سليمان بن جامع و أبو يعقوب المعروف بجربان فساروا جميعا حتى نزلوا بالموضع المعروف ببرنخل من أرض البصرة في قصر هناك يعرف بقصر القرشي على نهر يعرف بعمود بن المنجم كان بنو موسى بن المنجم احتفروه و أظهر أنه وكيل لولد الواثق في بيع ما يملكونه هناك من السباخ. قال أبو جعفر فذكر عن ريحان بن صالح أحد غلمان الشورجيين الزنوج و هو أول من صحبه منهم قال كنت موكلا بغلمان مولاي أنقل الدقيق إليهم فمررت به و هو مقيم بقصر القرشي يظهر الوكالة لأولاد الواثق فأخذني أصحابه و صاروا بي إليه و أمروني بالتسليم عليه بالإمرة ففعلت ذلك فسألني عن الموضع الذي جئت منه فأخبرته أني أقبلت من البصرة فقال هل سمعت لنا بالبصرة خبرا قلت لا قال فخبر البلالية و السعدية قلت لم أسمع لهم خبرا فسألني عن غلمان الشورجيين و ما يجري لكل جماعة منهم من الدقيق و السويق و التمر و عمن يعمل في الشورج من الأحرار و العبيد فأعلمته ذلك فدعاني إلى ما هو عليه فأجبته فقال لي احتل فيمن قدرت عليه من الغلمان فأقبل بهم إلي و وعدني أن يقودني على من آتيه به منهم و أن يحسن إلي و استحلفني ألا أعلم أحدا بموضعه و أن أرجع إليه فخلى سبيلي فأتيت بالدقيق الذي معي إلى غلمان مولاي و أخبرتهم خبره و أخذت له البيعة عليهم و وعدتهم عنه بالإحسان و الغنى و رجعت إليه من غد ذلك اليوم و قد وافاه رفيق غلام الخاقانية شرح نهج البلاغة ج : 8 ص : 133و قد كان وجهه إلى البصرة يدعو إليه غلمان الشورج وافى إليه صاحب له آخر يعرف بشبل بن سالم قد كان دعا إليه قوما منهم

(9/106)


أيضا و أحضر معه حريرة كان أمره بابتياعها ليتخذها لواء فكتب فيها بالحمرة إِنَّ اللَّهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَ أَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الآية و كتب اسمه و اسم أبيه عليها و علقها في رأس مردي و خرج وقت السحر من ليلة السبت لليلتين بقيتا من شهر رمضان فلما صار إلى مؤخر القصر الذي كان فيه لقيه غلمان رجل من الشورجيين يعرف بالعطار متوجهين إلى أعمالهم فأمر بأخذ وكيلهم فأخذ و كتف و استضم غلمانه إلى غلمانه و كانوا خمسين غلاما ثم صار إلى الموضع المعروف بالسنائي فاتبعه الغلمان الذين كانوا فيه و هم خمسمائة غلام فيهم الغلام المعروف بأبي حديد و أمر بأخذ وكيلهم و كتفه ثم مضى إلى الموضع المعروف بالسيرافي فاتبعه من كان فيه من غلمان و هم مائة و خمسون غلاما منهم زريق و أبو الخنجر ثم صار إلى الموضع المعروف بسبخة ابن عطاء فأخذ طريفا و صبيحا الأعسر و راشد المغربي و راشد القرمطي و كل هؤلاء من وجوه الزنج و أعيانهم الذين صاروا قوادا و أمراء في جيوشهم و أخذ معهم ثمانين غلاما. ثم أتى إلى الموضع المعروف بغلام سهل الطحان فاستضاف من كان به من الغلمان ثم لم يزل يفعل مثل ذلك في يومه حتى اجتمع إليه بشر كثير من الزنج ثم قام فيهم

(9/107)


شرح نهج البلاغة ج : 8 ص : 134آخر الليل خطيبا فمناهم و وعدهم أن يقودهم و يرئسهم و يملكهم الأموال و الضياع و حلف لهم بالأيمان الغليظة ألا يغدر بهم و لا يخذلهم و لا يدع شيئا من الإحسان إلا أتى إليهم. ثم دعا وكلاءهم فقال قد أردت ضرب أعناقكم لما كنتم تأتون إ هؤلاء الغلمان الذين استضعفتموهم و قهرتموهم و فعلتم بهم ما حرم الله عليكم أن تفعلوه بهم و كلفتموهم ما لا يطيقونه فكلمني أصحابي فيكم فرأيت إطلاقكم. فقالوا له أصلحك الله إن هؤلاء الغلمان أباق و إنهم سيهربون منك فلا يبقون عليك و لا علينا فخذ من مواليهم مالا و أطلقهم. فأمر الغلمان فأحضروا شطوبا ثم بطح كل قوم وكيلهم فضرب كل رجل منهم خمسمائة شطبة و أحلفهم بطلاق نسائهم ألا يعلموا أحدا بموضعه ثم أطلقهم فمضوا نحو البصرة و مضى رجل منهم حتى عبر دجيل الأهواز فأنذر الشورجيين ليحفظوا غلمانهم و كان هناك خمسة عشر ألف غلام زنجي ثم سار و عبر دجيلا و سار إلى نهر ميمون بأصحابه و اجتمع إليه السودان من كل جهة. فلما كان يوم الفطر جمعهم و خطب خطبة ذكر فيها ما كانوا عليه من سوء الحال و أن الله تعالى قد استنقذهم من ذلك و أنه يريد أن يرفع أقدارهم و يملكهم العبيد و الأموال و المنازل و يبلغ بهم أعلى الأمور ثم حلف لهم على ذلك فلما فرغ من خطبته شرح نهج البلاغة ج : 8 ص : 135أمر الذين فهموا عنه قوله أن يفهموه من لا فهم له من عجمهم لتطيب بذلك أنفسهم ففعلوا ذلك. قال أبو جعفر فلما كان في اليوم الثالث من شوال وافاه الحميري أحد عمال السلطان بتلالنواحي في عدد كثير فخرج إليه صاحب الزنج في أصحابه فطرده و هزم أصحابه حتى صاروا في بطن دجلة و استأمن إلى صاحب الزنج رجل من رؤساء السودان يعرف بأبي صالح القصير في ثلاثمائة من الزنج فلما كثر من اجتمع إليه من الزنج قود قواده و قال لهم من أتى منكم برجل من السودان فهو مضموم إليه. قال أبو جعفر و انتهى إليه أن قوما من أعوان

(9/108)


السلطان هناك منهم خليفة بن أبي عون علي الأبلة و منهم الحميري قد أقبلوا نحوه فأمر أصحابه بالاستعداد لهم فاجتمعوا للحرب و ليس في عسكره يومئذ إلا ثلاثة أسياف سيفه و سيف علي بن أبان و سيف محمد بن سلم و لحقه القوم و نادى الزنج فبدر مفرج النوبي و المكنى بأبي صالح و ريحان بن صالح و فتح الحجام و قد كان فتح حينئذ يأكل و بين يديه طبق فلما نهض تناول ذلك الطبق و تقدم أمام أصحابه فلقيه رجل من عسكر أصحاب السلطان فلما رآه فتح حمل عليه و حذفه بالطبق الذي كان في يده فرمى الرجل سلاحه و ولى هاربا و انهزم القوم كلهم و كانوا أربعة آلاف فذهبوا على وجوههم و قتل من قتل منهم و مات بعضهم عطشا و أسر كثير منهم فأتى بهم صاحب الزنج فأمر بضرب أعناقهم فضربت و حملت الرءوس على بغال كان أخذها من الشورجيين كانت تنقل الشورج. شرح نه البلاغة ج : 8 ص : 136قال أبو جعفر و مر في طريقه بالقرية المعروفة بالمحمدية فخرج منها رجل من موالي الهاشميين فحمل على بعض السودان فقتله و دخل القرية فقال له أصحابه ائذن لنا في انتهاب القرية و طلب قاتل صاحبنا فقال لا سبيل إلى ذلك دون أن نعرف ما عند أهلها وهل فعل القاتل ما فعل عن رأيهم و نسائلهم أن يدفعوه إلينا فإن فعلوا و إلا حل لنا قتالهم و عجل المسير من القرية فتركها و سار. قال أبو جعفر ثم مر على القرية المعروفة بالكرخ فأتاه كبراؤها و أقاموا له الأنزال و بات ليلته تلك عندهم فلما أصبح أهدى له رجل من أهل القرية المسماة جبى فرسا كميتا فلم يجد سرجا و لا لجاما فركبه بحبل و سنفه بحبل ليف. قلت هذا تصديق قول أمير المؤمنين ع كأنه به قد سار في الجيش الذي ليس له غبار و لا لجب و لا قعقعة لجم و لا حمحمة خيل يثيرون الأرض بأقدامهم كأنها أقدام النعام. قال أبو جعفر و أول مال صار إليه مائتا دينار و ألف درهم لما نزل القرية المعروفة بالجعفرية أحضر بعض رؤسائها و سأله عن المال فجحد فأمر بضرب عنقه فلما

(9/109)


خاف
شرح نهج البلاغة ج : 8 ص : 137أحضر له هذا القدر و أحضر له ثلاثة برازين كميتا و أشقر و أشهب فدفع أحدها إلى محمد بن سلم و الآخر إلى يحيى بن محمد و الآخر إلى مشرق غلام الخاقانية و وجدوا في دار لبعض الهاشميين سلاحا فانتهبوه فصار ذلك اليوم بأيدي بعض الزنج سيوو آلات و أتراس. قال أبو جعفر ثم كانت بينه و بين من يليه من أعوان السلطان كالحميري و رميس و عقيل و غيرهم وقعات كان الظفر فيها كلها له و كان يأمر بقتل الأسرى و يجمع الرءوس معه و ينقلها من منزل إلى منزل و ينصبها أمامه إذا نزل و أوقع الهيبة و الرهبة في صدور الناس بكثرة القتلى و قلة العفو و على الخصوص المأسورين فإنه كان يضرب أعناقهم و لا يستبقي منهم أحدا. قال أبو جعفر ثم كان له مع أهل البصرة وقعة بعد ذلك سار يريدها في ستة آلاف زنجي فاتبعه أهل الناحية المعروفة بالجعفرية ليحاربوه فعسكر عليهم فقتل منهم مقتلة عظيمة أكثر من خمسمائة رجل فلما فرغ منهم صمد نحو البصرة و اجتمع أهلها و من بها من الجند و حاربوه حربا شديدا فكانت الدائرة عليه و انهزم أصحابه و وقع كثير منهم في النهرين المعروفين بنهر كثير و نهر شيطان و جعل يهتف بهم و يردهم و لا يرجعون و غرق من أعيان جنده و قواده جماعة منهم أبو الجون و مبارك البحراني و عطاء البربري و سلام الشامي فلحقه قوم من جند البصرة و هو على قنطرة نهر كثير فرجع إليهم بنفسه و سيفه في يده فرجعوا عنه حتى صاروا إلى الأرض و هو يومئذ في دراعة و عمامة و نعل و سيف و في يده اليسرى ترس و نزل عن القنطرة فصعدها البصريون يطلبونه فرجع إليهم فقتل منهم رجلا بيده على خمس مراق من القنطرة و جعل يهتف بأصحابه و يعرفهم مكانه و لم يكن بقي معه في ذلك الموضع من أصحابه شرح نهج البلاغة ج : 8 ص : 138إلا أبو الشوك و مصلح و رفيق و مشرق غلاما الخاقانية و ضل أصحابه عنه و انح عمامته فبقي على رأسه كور منها أو كوران فجعل يسحبها من ورائه و

(9/110)


يعجله المشي عن رفعها و أسرع غلاما الخاقانية في الانصراف و قصر عنهما فغابا عنه فاتبعه رجلان من أهل البصرة بسيفيهما فرجع إليهما فانصرفا عنه و خرج إلى الموضع الذي فيه مجمع أصحابه و قد كانوا تحيروا فلما رأوه سكنوا. قال أبو جعفر ثم سأل عن رجاله و إذا قد هرب كثير منهم و نظر فإذا هو من جميع أصحابه في مقدار خمسمائة رجل فأمر بالنفخ في البوق الذي كانوا يجتمعون لصوته فنفخ فيه فلم يرجع إليه أحد. قال و انتهب أهل البصرة سفنا كانت معه و ظفروا بمتاع من متاعه و كتب من كتبه و أصطرلابات كان معه ثم تلاحق به جماعة ممن كان هرب فأصبح و إذا معه ألف رجل فأرسل محمد بن سلم و سليمان بن جامع و يحيى بن محمد إلى أهل البصرة يعظهم و يعلمهم أنه لم يخرج إلا غضبا لله و للدين و نهيا عن المنكر فعبر محمد بن سلم حتى توسط أهل البصرة و جعل يكلمهم و يخاطبهم فرأوا منه غرة فوثبوا عليه فقتلوه و رجع سليمان و يحيى إلى صاحب الزنج فأخبراه فأمرهما بطي ذلك عن أصحابه حتى يكون هو الذي يخبرهم. فلما صلى بهم العصر نعى إليهم محمد بن سلم و قال لهم إنكم تقتلون به في غد عشرة آلاف من أهل البصرة. قال أبو جعفر و كان الوقعة التي كانت الدبرة عليه فيها يوم الأحد لثلاث عشرة

(9/111)


شرح نهج البلاغة ج : 8 ص : 139ليلة خلون من ذي القعدة سنة خمس و خمسين و مائتين فلما كان يوم الإثنين جمع له أهل البصرة و حشدوا لما رأوا من ظهورهم عليه يوم الأحد و انتدب لذلك رجل من أهل البصرة يعرف بحماد الساجي و كان من غزاة البحر في الشذا و له علم بركوبها الحرب فيها فجمع المطوعة و رماه الأهداف و أهل المسجد الجامع و من خف معه من حزبي البلالية و السعدية و من غير هذه الأصناف من الهاشميين و القرشيين و من يحب النظر و مشاهدة الحرب من سائر أصناف الناس و شحن ثلاثة مراكب من الشذا بالرماة و جعل الناس يزدحمون في الشذا حرصا على حضور ذلك المشهد و مضى جمهور الناس رجالة منهم من معه سلاح و منهم من لا سلاح معه بل نظارة فدخلت السفن النهر المعروف بأم حبيب بعد زوال الشمس من ذلك اليوم في المد و مرت الرجالة و النظارة على شاطئ النهر قد سدوا ما ينفذ فيه البصر كثرة و تكاثفا فوجه صاحب الزنج صاحبه زريقا و أبا الليث الأصبهاني فجعلهم كمينا من الجانب الشرقي من نهر شيطان و كان مقيما بموضع منه و وجه صاحبيه شبلا و حسينا الحمامي فجعلهما كمينا في غربيه و مع كل من الكمينين جماعة و أمر علي بن أبان المهلبي أن يتلقى القوم فيمن بقي معه من جمعه و أمره أن يستتر هو و أصحابه بتراسهم و لا يثور إليهم منه ثائر حتى يوافيهم القوم و يخالطوهم بأسيافهم فإذا فعلوا ذلك ثاروا إليهم و تقدم إلى الكمينين إذا جاوزهما الجمع و أحسا بثورة أصحابهم إليهم أن يخرجا من جنبي النهر و يصيحا بالناس. و كان يقول لأصحابه بعد ذلك لما أقبل إلى جمع البصرة و عاينته رأيت أمرا هائلا راعني و ملأ صدري رهبة و جزعا ففزعت إلى الدعاء و ليس معي من أصحابي إلا نفر يسير منهم مصلح و ليس منا أحد إلا و قد خيل إليه مصرعه فجعل مصلح يعجبني من شرح نهج البلاغة ج : 8 ص : 140كثرة ذلك الجمع و جعلت أومئ إليه اسكت فلما قرب القوم مني قلت اللهم إن هذه ساعة العسرة فأعني فرأيت

(9/112)


طيورا بيضا أقبلت فتلقت ذلك الجمع فلم أستتم دعائي حتى بصرت بسميرية من سفنهم قد انقلبت بمن فيها فغرقوا ثم تلتها الشذا فغرقت واحدة بعد واحدة و ثار أصحابي إلى القوم و خرج الكمينان من جنبي النهر و صاحوا و خبطوا الناس فغرقت طائفة و قتلت طائفة و هربت طائفة نحو الشط طمعا فأدركها السيف فمن ثبت قتل و من رجع إلى الماء غرق حتى أبيد أكثر ذلك الجمع و لم ينج منهم إلا الشريد و كثر المفقودون بالبصرة و علا العويل من نسائهم. قال أبو جعفر و هذا يوم الشذا الذي ذكره الناس في أشعارهم و عظموا ما فيه من القتل فكان ممن قتل من بني هاشم جماعة من ولد جعفر بن سليمان و انصرف صاحب الزنج و جمع الرءوس و ملأ بها سفنا و أخرجها من النهر المعروف بأم حبيب في الجزر و أطلقها فوافت البصرة فوقفت في مشرعة تعرف بمشرعة القيار فجعل الناس يأتون تلك الرءوس فيأخذ رأس كل رجل أولياؤه و قوي صاحب الزنج بعد هذا اليوم و سكن الرعب قلوب أهل البصرة منه و أمسكوا عن حربه و كتب إلى السلطان بخبره فوجه جعلان التركي مددا لأهل البصرة في جيش ذوي عدة و أسلحة.

(9/113)


شرح نهج البلاغة ج : 8 ص : 141قال أبو جعفر و قال أصحاب علي بن محمد له أنا قد قتلنا مقاتلة أهل البصرة و لم يبق فيها إلا ضعفاؤهم و من لا حراك به فأذن لنا في تقحمها فنهاهم و هجن آراءهم و قال بل نبعد عنها فقد رعبناهم و أخفناهم و لنقتحمها وقتا آخر و انصرف بأصبه إلى سبخة في آخر أنهار البصرة تعرف بسبخة أبي قرة قريبة من النهر المعروف بالحاجر فأقام هناك و أمر أصحابه باتخاذ الأكواخ و هذه السبخة متوسطة النخل و القرى و العمارات و بث أصحابه يمينا و شمالا يعيثون و يغيرون على القرى و يقتلون الأكرة و ينهبون أموالهم و يسرقون مواشيهم. و جاءه شخص من أهل الكتاب من اليهود يعرف بمارويه فقبل يده و سجد له و سأله عن مسائل كثيرة فأجابه عنها فزعم اليهودي أنه يجد صفته في التوراة و أنه يرى القتال معه و سأله عن علامات في يده و جسده ذكر أنها مذكورة في الكتب فأقام معه. قال أبو جعفر و لما صار جعلان التركي إلى البصرة بعسكره أقام ستة أشهر يحارب صاحب الزنج فإذا التقوا لم يكن بينهم إلا الرمي بالحجارة و النشاب و لم يجد جعلان إلى لقائه سبيلا لضيق الموضع بما فيه من النخل و الدغل عن مجال الخيل شرح نهج البلاغة ج : 8 ص : 142و لأن صاحب الزنج قد كانندق على نفسه و أصحابه. ثم إن صاحب الزنج بيت جعلان فقتل جماعة من أصحابه و روع الباقون روعا شديدا فانصرف جعلان إلى البصرة و وجه إليه مقاتلة السعدية و البلالية في جمع كثيف فواقعهم صاحب الزنج فقهرهم و قتل منهم مقتلة عظيمة و انصرفوا مفلولين و رجع جعلان بأصحابه إلى البصرة فأقام بها معتصما بجدرانها و ظهر عجزه للسلطان فصرفه عن حرب الزنج و أمر سعيد الحاجب بالشخوص إلى البصرة لحربهم. قال أبو جعفر و اتفق لصاحب الزنج من السعادة أن أربعا و عشرين مركبا من مراكب البحر كانت اجتمعت تريد البصرة و انتهى إلى أصحابها خبر الزنج و قطعهم السبل و فيها أموال عظيمة للتجار فاجتمعت آراؤهم على أن شدوا

(9/114)


المراكب بعضها إلى بعض حتى صارت كالجزيرة يتصل أولها بآخرها و سارت في دجلة فكان صاحب الزنج يقول نهضت ليلة إلى الصلاة و أخذت في الدعاء و التضرع فخوطبت بأن قيل لي قد أظلك فتح عظيم فالتفت فلم ألبث أن طلعت المراكب فنهض أصحابي إليها في شذاتها فلم يلبثوا أن حووها و قتلوا مقاتلتها و سبوا ما فيها من الرقيق و غنموا منها أموالا لا تحصى و لا يعرف قدرها فأنهبت ذلك أصحابي ثلاثة أيام و أمرت بما بقي منها فحيز لي. قال أبو جعفر ثم دخل الزنج الأبلة في شهر رجب من سنة ست و خمسين و مائتين و ذلك أن جعلان لما تنحى إلى البصرة ألح صاحب الزنج بالسرايا على أهل الأبلة فجعل يحاربهم من ناحية شط عثمان بالرجالة و بما خف له من السفن من ناحية دجلة و جعلت سراياه تضرب إلى ناحية نهر معقل. شرح نهج البلاغة ج : 8 ص : 143فذكر عن صاحبلزنج أنه قال ميلت بين عبادان و الأبلة فملت إلى التوجه إلى عبادان فندبت الرجال إلى ذلك فخوطبت و قيل لي إن أقرب عدو دارا و أولاه ألا يتشاغل عنه بغيره أهل الأبلة فرددت بالجيش الذي كنت سيرته نحو عبادان إلى الأبلة و لم يزالوا يحاربون أهلها إلى أن اقتحموها و أضرموها نارا و كانت مبنية بالساج بناء متكاثفا فأسرعت فيها النار و نشأت ريح عاصف فأطارت شرر ذلك الحريق إلى أن انتهى إلى شط عثمان و قتل بالأبلة خلق كثير و حويت الأسلاب و الأموال على أن الذي أحرق منها كان أكثر مما انتهب و استسلم أهل عبادان بعدها لصاحب الزنج فإن قلوبهم ضعفت و خافوه على أنفسهم و حرمهم فأعطوا بأيديهم و سلموا إليه بلدهم فدخلها أصحابه فأخذوا من كان فيها من العبيد و حملوا ما كان فيها من السلاح ففرقه على أصحابه و صانعه أهلها بمال كف به عنهم. قال أبو جعفر ثم دخل الزنج بعد عبادان إلى الأهواز و لم يثبت لهم أهلها فأحرقوا ما فيها و قتلوا و نهبوا و أخربوا فكان بالأهواز إبراهيم بن محمد المدبر الكاتب و إليه خراجها و ضياعها فأسروه بعد أن

(9/115)


ضربوه ضربة على وجهه و حووا كل ما كان يملكه من مال و أثاث و رقيق و كراع و اشتد خوف أهل البصرة و انتقل كثير من أهلها عنها و تفرقوا في بلاد شتى و كثرت الأراجيف من عوامها.
شرح نهج البلاغة ج : 8 ص : 144قال أبو جعفر فلما دخلت سنة سبع و خمسين أنفذ السلطان بغراج التركي على حرب البصرة و سعيد بن صالح الحاجب للقاء صاحب الزنج و أمر بغراج بإمداده بالرجال فلما صار سعيد إلى نهر معقل وجد هناك جيشا لصاحب الزنج في النهر المعروف بالمرغافأوقع بهم سعيد فهزمهم و استنقذ ما في أيديهم من النساء و النهب و أصابت سعيدا في تلك الوقعة جراحات منها جراحة في فيه. ثم بلغه أن جيشا لصاحب الزنج في الموضع المعروف بالفرات فتوجه إليه فهزمه و استأمن إليه بعض قواد صاحب الزنج حتى لقد كان المرأة من سكان ذلك الموضع تجد الزنجي مستترا بتلك الأدغال فتقبض عليه حتى تأتي به عسكر سعيد ما به عنها امتناع ثم قصد سعيد حرب صاحب الزنج فعبر إليه إلى غربي دجلة فأوقع به وقعات متتالية كلها يكون الظفر فيها لسعيد إلى أن تهيأ لصاحب الزنج عليه أن وجه إلى يحيى بن محمد البحراني صاحبه و هو إذ ذاك مقيم بنهر معقل في جيش من الزنج فأمره بتوجيه ألف رجل من أصحابه عليهم سليمان بن جامع و أبو الليث القائدان و يأمرهما بقصد عسكر سعيد ليلا حتى يوقعا به وقت طلوع الفجر من ليلة عينها لهم ففعلا ذلك و صارا إلى عسكر سعيد في ذلك الوقت فصادفا منه غرة و غفلة فأوقعا به و بأصحابه وقت طلوع الفجر فقتل منهم مقتلة عظيمة و أصبح سعيد و قد ضعف أمره و اتصل بالسلطان خبره فأمره بالانصراف إلى باب السلطان و تسليم الجيش الذي معه إلى منصور بن جعفر الخياط و كان إليه يومئذ حرب الأهواز و كوتب بحرب صاحب الزنج و أن يصمد له فكانت بينهم وقعة كان الظفر فيها للزنج فقتل من أصحاب منصور خلق كثير عظيم و حمل من الرءوس خمسمائة رأس إلى عسكر يحيى بن محمد البحراني القائد فنصبت على نهر معقل.

(9/116)


شرح نهج البلاغة ج : 8 ص : 145قال أبو جعفر ثم كانت بين الزنج و بين أصحاب السلطان بالأهواز وقعات كثيرة توها علي بن أبان المهلبي فقتل شاهين بن بسطام و كان من أكابر أصحاب السلطان و هزم إبراهيم بن سيما و كان أيضا من الأمراء المشهورين و استولى الزنج على عسكره. قال أبو جعفر ثم كانت الواقعة العظمى بالبصرة في هذه السنة و ذلك أن صاحب الزنج قطع الميرة عنهم فأضر ذلك بهم و ألح بجيوشه و زنوجه عليهم بالحرب صباحا و مساء فلما كان في شوال من هذه السنة أزمع على جمع أصحابه للهجوم على البصرة و الجد في خراجها و ذلك لعلمه بضعف أهلها و تفرقهم و إضرار الحصار بهم و خراب ما حولها من القرى و كان قد نظر في حساب النجوم و وقف على انكساف القمر الليلة الرابعة عشرة من هذا الشهر فذكر محمد بن الحسن بن سهل أنه قال سمعته يقول اجتهدت في الدعاء على أهل البصرة و ابتهلت إلى الله تعالى في تعجيل خرابها فخوطبت و قيل لي إنما البصرة خبزة لك تأكلها من جوانبها فإذا انكسر نصف الرغيف خربت البصرة فأولت انكسار نصف الرغيف بانكساف نصف القمر المتوقع في هذه الليالي و ما أخلق أمر أهل البصرة أن يكون بعده قال فكان يحدث بهذا حتى أفاض فيه أصحابه و كثر تردده في أسماعهم و إجالتهم إياه بينهم. ثم ندب محمد بن يزيد الدارمي و هو أحد من كان صحبه بالبحرين للخروج إلى

(9/117)


شرح نهج البلاغة ج : 8 ص : 146الأعراب و استنفار من قدر عليه منهم فأتاه منهم بخلق كثير و وجه إلى البصرة سليمان بن موسى الشعراني فأمره بتطرق البصرة و الإيقاع بأهلها و تقدم إلى سليمان بن موسى بتمرين الأعراب على ذلك فلما وقع الكسوف أنهض إليها علي بن أبان و ضإليه جيشا من الزنج و طائفة من الأعراب و أمره بإتيان البصرة مما يلي بني سعد و كتب إلى يحيى بن محمد البحراني في إتيانها مما يلي نهر عدي و ضم باقي الأعراب إليه فكان أول من واقع أهل البصرة علي بن أبان و بغراج التركي يومئذ بالبصرة في جماعة من الجند فأقام يقاتلهم يومين و أقبل يحيى بن محمد مما يلي قصر أنس قاصدا نحو الجسر فدخل علي بن أبان البلد وقت صلاة الجمعة لثلاث عشرة بقين من شوال فأقبل يقتل الناس و يحرق المنازل و الأسواق بالنار فتلقاه بغراج و إبراهيم بن محمد بن إسماعيل بن جعفر بن سليمان الهاشمي المعروف ببريه و كان وجيها مقدما مطاعا في جمع عظيم فرداه فرجع فأقام ليلته تلك ثم غاداهم و قد تفرق جند البصرة فلم يكن في وجهه أحد يدافعه و انحاز بغراج بمن معه و هرب إبراهيم بن محمد الهاشمي المعروف ببريه فوضع علي بن أبان السيف في الناس و جاء إليه إبراهيم بن محمد المهلبي و هو ابن عمه فاستأمنه لأهل البصرة فحضر أهل البصرة قاطبة فأمنهم و نادى مناديه من أراد الأمان فليحضر دار إبراهيم بن محمد المهلبي فحضر أهل البصرة قاطبة حتى ملئوا الأزقة فلما رأى اجتماعهم انتهز الفرصة فأمر بأخذ السكك و الطرق عليهم و غدر بهم و أمر الزنوج بوضع السيف فيهم فقتل كل من شهد ذلك المشهد. شرح نهج البلاغة ج : 8 ص : 147ثم انصرف آخر نهار يومه ذلك فأقام بقصر عيسى بن جعفر بالخربية. و روى أبو جعفر قال حدثني محمد بن الحسن بن سهل قال حدثني محمد بن سمعان قال كنت يومئذ بالبصرة فمضيت مبادرا إلى منزلي لأتحصن به و هو فسكة المربد فلقيت أهل البصرة هاربين يدعون بالويل و الثبور و في آخرهم

(9/118)


القاسم بن جعفر بن سليمان الهاشمي على بغل متقلدا سيفا يصيح بالناس ويحكم تسلمون بلدكم و حرمكم هذا عدوكم قد دخل البلد فلم يلووا عليه و لم يسمعوا منه فمضى هاربا و دخلت أنا منزلي و أغلقت بابي و أشرفت فمر بي الأعراب و رجالة الزنج يقدمهم رجل على حصان كميت بيده رمح و عليه عذبة صفراء فسألت بعد ذلك عنه فقيل لي إنه علي بن أبان. قال و نادى منادي علي بن أبان من كان من آل المهلب فليدخل دار إبراهيم بن يحيى المهلبي فدخلت جماعة قليلة و أغلق الباب دونهم ثم قيل للزنج دونكم الناس فاقتلوهم و لا تبقوا منهم أحدا و خرج إليهم أبو الليث الأصفهاني أحد قود الزنج فقال للزنج كيلوا و هي العلامة التي كانوا يعرفونها فيمن يؤمرون بقتله فأخذ الناس السيف قال فو الله إني لأسمع تشهدهم و ضجيجهم و هم يقتلون و قد ارتفعت أصواتهم بالتشهد حتى سمعت بالطفاوة و هو على بعد من الموضع الذي كانوا فيه. قال ثم انتشر الزنج في سكك البصرة و شوارعها يقتلون من وجدوا و دخل علي بن أبان يومئذ المسجد فأحرقه و بلغ إلى الكلاء فأحرقه إلى الجسر و أخذت النار كل ما مرت به من إنسان و بهيمة و أثاث و متاع ثم ألحوا بالغدو و الرواح على من وجدوه و يسوقونهم إلى يحيى بن محمد البحراني و هو نازل ببعض سكك البصرة فمن كان ذا مال قرره حتى يستخرج ماله ثم يقتله و من كان مختلا قتله معجلا.

(9/119)


شرح نهج البلاغة ج : 8 ص : 148قال أبو جعفر و قد كان علي بن أبان كف بعض الكف عن العيث بناحية بني سعد و راقب قوما من المهلبيين و أتباعهم فانتهى ذلك إلى علي بن محمد صاحب الزنج فصرفه عن البصرة و أقر يحيى بن محمد البحراني بها لموافقته على رأيه في الإثخان في اتل و وقوع ذلك بمحبته و كتب إلى يحيى بن محمد يأمره بإظهار الكف ليسكن الناس و يظهر المستخفي و من قد عرف باليسار و الثروة فإذا ظهر فليؤخذوا بالدلالة على ما دفعوه و أخفوه من أموالهم ففعل يحيى بن محمد ذلك و كان لا يخلو في اليوم من الأيام من جماعة يؤتى بهم فمن عرف منهم باليسار استنزف ما عنده ثم قتله و من ظهرت له خلته عاجله بالقتل حتى لم يدع أحدا ظهر له إلا قتله. قال أبو جعفر و حدثني محمد بن الحسن قال لما انتهى إلى علي بن محمد عظيم ما فعل أصحابه بالبصرة سمعته يقول دعوت على أهل البصرة في غداة اليوم الذي دخل فيه أصحابي إليها و اجتهدت في الدعاء و سجدت و جعلت أدعو في سجودي فرفعت إلى البصرة فرأيتها و رأيت أصحابي يقاتلون فيها و رأيت بين السماء و الأرض رجلا واقفا في صورة جعفر المعلوف المتولي كان للاستخراج في ديوان الخراج بسامراء و هو قائم قد خفض يده اليسرى و رفع يده اليمنى يريد قلب البصرة فعلمت أن الملائكة تولت إخرابها دون أصحابي و لو كان أصحابي تولوا ذلك ما بلغوا هذا الأمر العظيم الذي يحكى عنها و لكن الله تعالى نصرني بالملائكة و أيدني في حروبي و ثبت بهم من ضعف قلبه من أصحابي قال أبو جعفر و انتسب صاحب الزنج في هذه الأيام إلى محمد بن محمد بن زيد بن علي بن الحسين بعد انتسابه الذي كان إلى أحمد بن عيسى بن زيد و ذلك لأنه بعد شرح نهج البلاغة ج : 8 ص : 149إخرابه البصرة جاء إليه جماعة من العلوية الذين كانوا بالبصرة و أتاه فيمن أتاه منهم قوم من ولد أحمد بن عيسى بن زيد في جماعة من ائهم و حرمهم فلما خافهم ترك الانتساب إلى أحمد بن عيسى و انتسب إلى

(9/120)


محمد بن محمد بن زيد. قال أبو جعفر فحدثني محمد بن الحسن بن سهل قال كنت حاضرا عنده و قد حضر جماعة من النوفليين فقال له القاسم بن إسحاق النوفلي أنه انتهى إلينا أن الأمير من ولد أحمد بن عيسى بن زيد فقال لست من ولد عيسى أنا من ولد يحيى بن زيد. قال محمد بن الحسن فانتقل من أحمد بن عيسى بن زيد إلى محمد بن محمد بن زيد ثم انتقل من محمد إلى يحيى بن زيد و هو كاذب لأن الإجماع واقع على أن يحيى بن زيد مات و لم يعقب و لم يولد له إلا بنت واحدة ماتت و هي ترضع. فهذا ما ذكره أبو جعفر الطبري في التاريخ الكبير. و ذكر علي بن الحسن المسعودي في مروج الذهب أن هذه الواقعة بالبصرة هلك فيها من أهلها ثلاثمائة ألف إنسان و أن علي بن أبان المهلبي بعد فراغه من الواقعة نصب منبرا في الموضع المعروف ببني يشكر صلى فيه يوم الجمعة و خطب لعلي بن محمد صاحب الزنج و ترحم بعد ذلك على أبي بكر و عمر و لم يذكر عثمان و لا عليا ع في خطبته و لعن أبا موسى الأشعري و عمرو بن العاص و معاوية بن أبي سفيان قال

(9/121)


شرح نهج البلاغة ج : 8 ص : 150و هذا يؤكد ما ذكرناه و حكيناه من رأيه و أنه كان يذهب إلى قول الأزارقة. قال و استخفى من سلم من أهل البصرة في آبار الدور فكانوا يظهرون ليلا فيطلبون الكلاب فيذبحونها و يأكلونها و الفأر و السنانير فأفنوها حتى لم يقدروا على شي ءها فصاروا إذا مات الواحد منهم أكلوه فكان يراعي بعضهم موت بعض و من قدر على صاحبه قتله و أكله و عدموا مع ذلك الماء و ذكر عن امرأة منهم أنها حضرت امرأة قد احتضرت و عندها أختها و قد احتوشوها ينتظرون أن تموت فيأكلوا لحمها قالت المرأة فما ماتت حسناء حتى ابتدرناها فقطعنا لحمها فأكلناه و لقد حضرت أختها و نحن على شريعة عيسى بن حرب و هي تبكي و معها رأس الميت فقال لها قائل ويحك ما لك تبكين فقالت اجتمع هؤلاء على أختي فما تركوها تموت حسناء حتى قطعوها و ظلموني فلم يعطوني من لحمها شيئا إلا الرأس و إذا هي تبكي شاكية من ظلمهم لها في أختها. قال و كان مثل هذا و أكثر منه و أضعافه و بلغ من أمر عسكره أنه ينادى فيه على المرأة من ولد الحسن و الحسين و العباس و غيرهم من أشراف قريش فكانت الجارية تباع منهم بدرهمين و بثلاثة دراهم و ينادى عليها بنسبها هذه ابنة فلان بن فلان و أخذ كل زنجي منهم العشرين و الثلاثين يطؤهن الزنج و يخدمن النساء الزنجيات كما تخدم الوصائف و لقد استغاثت إلى صاحب الزنج امرأة من ولد الحسن بن علي ع و كانت عند بعض الزنج و سألته أن يعتقها مما هي فيه أو ينقلها من عنده إلى غيره فقال لها هو مولاك و هو أولى بك. قال أبو جعفر و أشخص السلطان لحرب صاحب الزنج محمدا المعروف بالمولد في جيش شرح نهج البلاغة ج : 8 ص : 151كثيف فجاء حتى نزل الأبلة و كتب صاحب الزنج إلى يحيى بن محمد البحراني يأمره بالمصير إليه فصار إليه بزنوجه و أقام على محاربته عشرة أيام ثم فتر المولد عن الحرب و كتب علي بن محمد إلى يحيى يأمره أن يبيته فبيته فهزمه و دخل الزنج عسه فغنموا

(9/122)


ما فيه و كتب يحيى إلى صاحب الزنج يخبره فأمره باتباعه فاتبعه إلى الحوانيت ثم انصرف عنه فمر بالجامدة و أوقع بأهلها و انتهب كل ما كان في تلك القرى و سفك ما قدر على سفكه من الدماء ثم عاد إلى نهر معقل. قال أبو جعفر و اتصلت الأخبار بسامراء و بغداد و بالقواد و الموالي و أهل الحضرة بما جرى على أهل البصرة فقامت عليهم القيامة و علم المعتمد أنه لا يرتق هذا الفتق إلا بأخيه أبي أحمد طلحة بن المتوكل و كان منصورا مؤيدا عارفا بالحرب و قيادة الجيوش و هو الذي أخذ بغداد للمعتز و كسر جيوش المستعين و خلعه من الخلافة و لم يكن لبني العباس في هذا الباب مثله و مثل ابنه أبي العباس فعقد له المعتمد على ديار مضر و قنسرين و العواصم و جلس له مستهل شهر ربيع الآخر من سنة سبع و خمسين فخلع عليه و على مفلح و شخصا نحو البصرة لحرب علي بن محمد و إصلاح ما أفسده من الأعمال و ركب المعتمد ركوبا ظاهرا يشيع أخاه أبا أحمد إلى القرية المعروفة ببركوارا و عاد. قال أبو جعفر و أما صاحب الزنج فإنه بعد هزيمة محمد المولد أنفذ علي بن أبان المهلبي إلى حرب منصور بن جعفر و إلى الأهواز فكانت بينهما حروب كثيرة في أيام متفرقة حتى كان آخرها اليوم الذي انهزم فيه أصحاب منصور و تفرقوا عنه و أدركت منصورا طائفة من الزنج فلم يزل يكر عليهم حتى انقصف رمحه و نفدت سهامه و لم يبق معه سلاح

(9/123)


شرح نهج البلاغة ج : 8 ص : 152و انتهى إلى نهر يعرف بنهر ابن مروان فصاح بحصان كان تحته ليعبر فوثب فقصر فانغمس في الماء. و قيل إن الحصان لم يقصر في الوثبة و لكن رجلا من الزنج سبقه إلى النهر فألقى نفسه فيه لعلمه أنه لا محيص لمنصور عن النهر فلما وثب الفرس تله الأسود فنكس فغاص الفرس و منصور ثم أطلع منصور رأسه فنزل إليه غلام من السودان من عرفاء مصلح يقال له أبرون فاحتز رأسه و أخذ سلبه فولى يارجوخ التركي صاحب حرب خوزستان ما كان مع منصور من العمل أصغجون التركي. و قال أبو جعفر و أما أبو أحمد فإنه شخص عن سامراء في جيش لم يسمع السامعون بمثله كثرة و عدة قال و قد عاينت أنا ذلك الجيش و أنا يومئذ ببغداد بباب الطاق فسمعت جماعة من مشايخ أهل بغداد يقولون قد رأينا جيوشا كثيرة للخلفاء فما رأينا مثل هذا الجيش أحسن عدة و أكمل عتادا و سلاحا و أكثر عددا و جمعا و اتبع ذلك الجيش من متسوقة أهل بغداد خلق كثير. قال أبو جعفر فحدثني محمد بن الحسن بن سهل أن يحيى بن محمد البحراني كان مقيما بنهر معقل قبل موافاة أبي أحمد فاستأذن صاحب الزنج في المصير إلى نهر العباس فكره ذلك و خاف أن يوافيه جيش من قبل السلطان و أصحابه متفرقون فألح عليه يحيى حتى أذن له فخرج و اتبعه أكثر أهل عسكر صاحب الزنج و كان علي بن أبان شرح نهج البلاغة ج : 8 ص : 153مقيما بجبى في جمع كثير من الزنج و البصرة قد صارت مغنما لأهل عسكر صاحب الزنج يغادونها و يراوحونها لنقل ما نالته أيديهم منها إلى منازلهم فليس بمعسكر علي بن محمد يئذ من أصحابه إلا القليل فهو على ذلك من حاله حتى وافى أبو أحمد في الجيش و معه مفلح فورد جيش عظيم لم يرد على الزنج مثله فلما وصل إلى نهر معقل انصرف من كان هناك من الزنج فالتحقوا بصاحبهم مرعوبين فراعه ذلك و دعا برئيسين منهما فسألهما عن السبب الذي له تركا موضعهما فأخبراه بما عاينا من عظم أمر الجيش الوارد و كثرة عدد أهله و

(9/124)


أحكام عدتهم و إن الذي عايناه من ذلك لم يكن في قوتهما الوقوف له في العدة التي كانا فيها فسألهما هل علما من يقود هذا الجيش فقالا قد اجتهدنا في علم ذلك فلم نجد من يصدقنا عنه. فوجه صاحب الزنج طلائعه في سميريات ليعرف الخبر فرجعت طلائعه إليه بتعظيم أمر الجيش و تفخيمه و لم يقف أحد منهم على من يقوده فزاد ذلك في جزعه و ارتياعه فأمر بالإرسال إلى علي بن أبان يعلمه خبر الجيش الوارد و يأمره بالمصير إليه فيمن معه و وافى جيش أبي أحمد فأناخ بإزاء صاحب الزنج فلما كان اليوم الذي كانت فيه الواقعة خرج علي بن محمد يطوف في عسكره ماشيا و يتأمل الحال فيمن هو من حزبه و من هو مقيم بإزائه على حزبه و قد كانت السماء مطرت ذلك اليوم مطرا خفيفا و الأرض ثرية تزل عنها الأقدام فطوف ساعة من أول النهار و رجع فدعا بدواة و قرطاس ليكتب كتابا إلى علي بن أبان ليعلمه ما قد أظله من الجيش و يأمره بتقديم من قدر على تقديمه من الرجال فإنه لفي ذلك إذ أتاه أبو دلف القائد أحد قواد الزنج فقال له إن

(9/125)


شرح نهج البلاغة ج : 8 ص : 154القوم قد غشوك و رهقوك و انهزم الزنج من بين أيديهم و ليس في وجوههم من يردهم فانظر لنفسك فإنهم قد انتهوا إليك فصاح به و انتهره و قال اغرب عني فإنك كاذب فيما حكيت إنما ذلك جزع داخل قلبك لكثرة من رأيت من الجمع فانخلع قلبك فلست تي ما تقول فخرج أبو دلف من بين يديه و أقبل يكتب و قال لجعفر بن إبراهيم السجان ناد في الزنج و حركهم للخروج إلى موضع الحرب فقال له إنهم قد خرجوا و قد ظفروا بسميريتين من سفن أصحاب السلطان فأمره بالرجوع لتحريك الرجالة و كان من القضاء و القدر أن أصيب مفلح و هو القائد الجليل المرشح لقيادة الجيش بعد أبي أحمد بسهم غرب لا يدرى من رماه فمات لوقته و وقعت الهزيمة على أصحاب أبي أحمد و قوي الزنج على حربهم فقتلوا منهم جمعا كثيرا و وافى علي بن محمد زنجه بالرءوس قابضين عليها بأسنانهم حتى ألقوها بين يديه فكثرت الرءوس يومئذ حتى ملأت الفضاء و جعل الزنج يقتسمون لحوم القتلى و يتهادونها بينهم و أتي بأسير من الجيش فسأله عن رأس العسكر فذكر أبا أحمد و مفلحا فارتاع لذكر أبي أحمد و كان إذا راعه أمر كذب به و قال ليس في الجيش إلا مفلح لأني لست أسمع الذكر إلا له و لو كان في الجيش من ذكر هذا الأسير لكان صوته أبعد و لما كان مفلح إلا تابعا له و مضافا إليه. قال أبو جعفر و قد كان قبل أن يصيب السهم مفلحا انهزم الزنج لما خرج عليهم شرح نهج البلاغة ج : 8 ص : 155جيش أبي أحمد و جزعوا جزعا شديدا و لجئوا إلى النهر المعروف بنهر أبي الخصيب و لا جسر يومئعليه فغرق منهم خلق كثير و لم يلبث صاحب الزنج إلا يسيرا حتى وافاه علي بن أبان في أصحابه فوافاه و قد استغنى عنه بهزيمة الجيش السلطاني و تحيز أبو أحمد بالجيش إلى الأبلة ليجمع ما فرقت الهزيمة منه و يجدد الاستعداد للحرب ثم صار إلى نهر أبي الأسد فأقام به. قال أبو جعفر فحدثني محمد بن الحسن قال فكان صاحب الزنج لا يدري كيف قتل

(9/126)


مفلح فلما لم ير أحدا ينتحل رميه ادعى أنه كان الرامي له قال فسمعته يقول سقط بين يدي سهم من السماء فأتاني به واح خادمي فدفعه إلي فرميت به فأصاب مفلحا فقتله قال محمد و كذب في ذلك لأني كنت حاضرا معه ذلك المشهد ما زال عن فرسه حتى أتاه خبر الهزيمة. قال أبو جعفر ثم إن الله تعالى أصاب صاحب الزنج بمصيبة تعادل فرحه و سروره بقتل مفلح عقيب قتل مفلح و ذلك أن قائده الجليل يحيى بن محمد البحراني أسر و قتل و صورة ذلك أن صاحب الزنج كان قد كتب إلى يحيى بن محمد يعلمه ورود هذا الجيش عليه و يأمره بالقدوم و التحرر في منصرفه من أن يلقاه أحد منهم و قد كان يحيى غنم سفنا فيها متاع و أموال لتجار الأهواز جليلة و حامى عنها أصحاب أصغجون التركي فلم يغن و هزمهم يحيى و مضى الزنج بالسفن المذكورة يمدونها متوجهين نحو معسكر صاحب الزنج على سمت البطيحة المعروفة ببطيحة الصحناة و هي طريقة متعسقة وعرة

(9/127)


شرح نهج البلاغة ج : 8 ص : 156فيها مشاق متعبة و إنما سلكها يحيى و أصحابه و تركوا الطريق الواضح للتحاسد الذي كان بين يحيى بن محمد و علي بن أبان فإن أصحاب يحيى أشاروا عليه ألا يسلك الطريق التي يمر فيها على أصحاب علي بن أبان فأصغى إلى مشورتهم فشرعوا له الطر المؤدي إلى البطيحة المذكورة فسلكها و هذه البطيحة ينتهي السائر فيها إلى نهر أبي الأسد و قد كان أبو أحمد انحاز إليه لأن أهل القرى و السواد كاتبوه يعرفونه خبر يحيى بن محمد البحراني و شدة بأسه و كثرة جمعه و أنه ربما خرج من البطيحة إلى نهر أبي الأسد فعسكر به و منع أبا أحمد الميرة و حال بينه و بين من يأتيه من الأعراب و غيرهم فسبقه أبو أحمد إلى نهر أبي الأسد و سار يحيى حتى إذا قرب من نهر أبي الأسد وافته طلائعه فأخبرته بالجيش و عظمت أمره و خوفته منه فرجع من الطريق الذي كان سلكه بمشقة شديدة نالته و نالت أصحابه و أصابهم مرض لترددهم في تلك البطيحة و جعل يحيى على مقدمته سليمان بن جامع و سار حتى وقف على قنطرة فورج نهر العباس في موضع ضيق تشتد فيه جرية الماء و هو مشرف ينظر أصحابه الزنج كيف يجرون تلك السفن التي فيها الغنائم فمنها ما يغرق و ما يسلم. قال أبو جعفر فحدثني محمد بن سمعان قال كنت في تلك الحال واقفا مع يحيى على القنطرة و قد أقبل علي متعجبا من شدة جرية الماء و شدة ما يلقى أصحابه من تلقيه بالسفن فقال أ رأيت لو هجم علينا عدو في هذه الحال من كان يكون أسوأ حالا منا فو الله ما انقضى كلامه حتى وافى كاشهم التركي في جيش قد أنفذه معه أبو أحمد عند رجوعه من الأبلة إلى نهر أبي الأسد يتلقى به يحيى فوقعت الصيحة و اضطربت الزنج فنهضت متشوفا للنظر فإذا الأعلام الحمر قد أقبلت في الجانب الغربي من نهر العباس و يحيى به فلما رآها الزنج ألقوا أنفسهم جملة في الماء فعبروا إلى الجانب الشرقي

(9/128)


شرح نهج البلاغة ج : 8 ص : 157و خلا الموضع الذي فيه يحيى فلم يبق معه إلا بضعة عشر رجلا منهم فنهض عند ذلك فأخذ درقته و سيفه و احتزم بمنديل ثم تلقى القوم في النفر الذين تخلفوا معه فرشقهم أصحاب كاشهم التركي بالسهام حتى كثر فيهم الجراح و جرح يحيى بأسهم ثلاثةي عضده اليمنى و ساقه اليسرى فلما رآه أصحابه جريحا تفرقوا عنه و لم يعرف فيقصد له فرجع حتى دخل بعض تلك السفن و عبر به إلى الجانب الشرقي من النهر و ذلك وقت الضحى و أثقلته الجراحات التي أصابته فلما رأت الزنج شدة ما نزل به اشتد جزعهم و ضعفت قلوبهم فتركوا القتال و كانت همتهم النجاة بأنفسهم و حاز أصحاب السلطان تلك الغنائم التي كانت في السفن في الجانب الغربي من النهر و انفض الزنج بالجانب الشرقي عن يحيى فجعلوا يتسللون بقية نهارهم بعد قتل ذريع فيهم و أسر كثير فلما أمسوا و أسدف الليل طاروا على وجوههم فلما رأى يحيى تفرق أصحابه ركب سميرية كانت هناك و أقعد معه فيها متطببا يقال له عباد و طمع في الخلاص إلى عسكر صاحب الزنج فسار حتى قرب من فوهة النهر فأبصر سميريات و شذايات لأصحاب السلطان في فوهة النهر فخاف أن تعترض سميريته و جزع من المرور بها فعبر به الملاح إلى الجانب الغربي من النهر فألقاه و طبيبه على الأرض في زرع هناك فخرج يمشي و هو مثقل حتى ألقى نفسه في بعض تلك المواضع فأقام هناك ليلته تلك فلما أصبح نزفه الدم و نهض عباد الطبيب فجعل يمشي متشوفا أن يرى إنسانا فرأى بعض أصحاب السلطان فأشار لهم إلى موضع يحيى فجاءوا حتى وقفوا عليه فأخذوه و انتهى خبره إلى الخبيث صاحب الزنج فجزع عليه جزعا شديدا و عظم عليه توجعه. شرح نهج البلاغة ج : 8 ص : 158ثم حمل يحيى إلى أبي أحمد فحمله أبو أحمد إلى المعتمد فأدخل إلى سامراء راكب جمل و الناس مجتمعون ينظرونه ثم أمر المعتمد ببناء دكة عالية بحضرة مجرالحلية فبنيت و رفع للناس عليها حتى أبصره الخلائق كافة ثم ضرب بين

(9/129)


يدي المعتمد و قد جلس له مائتي سوط بثمارها ثم قطعت يداه و رجلاه من خلاف ثم خبط بالسيوف ثم ذبح و أحرق. قال أبو جعفر فحدثني محمد بن الحسن قال لما قتل يحيى البحراني فانتهى خبره إلى صاحب الزنج قال لأصحابه لما عظم علي قتله و اشتد اهتمامي به خوطبت فقيل لي قتله خير لك إنه كان شرها ثم أقبل على جماعة أنا فيهم فقال من شرهه أنا غنمنا غنيمة من بعض ما كنا نغنمه و كان فيها عقدان فوقعا في يد يحيى فأخفى عني أعظمهما خطرا و عرض علي أخسهما ثم استوهبه فوهبته له فرفع إلي العقد الذي أخفاه حتى رأيته فدعوته فقلت أحضر لي العقد الذي أخفيته فأتاني بالعقد الذي وهبته له و جحد أن يكون أخذ غيره فرفع إلي العقد ثانية فجعلت أصفه له و أنا أراه و هو لا يراه فبهت و ذهب فأتاني ثم استوهبنيه فوهبته له و أمرته بالاستغفار. قال أبو جعفر و ذكر محمد بن الحسن أن محمد بن سمعان حدثه أن صاحب الزنج قال في بعض أيامه لقد عرضت علي النبوة فأبيتها فقيل له و لم ذاك قال إن لها أعباء خفت ألا أطيق حملها.

(9/130)


شرح نهج البلاغة ج : 8 ص : 159قال أبو جعفر فأما الأمير أبو أحمد فإنه لما صار إلى نهر أبي الأسد و أقام به كثرت العلل في من معه من جنده و غيرهم و فشا فيهم الموت فلم يزل مقيما هنالك حتى أبل من نجا منهم من علته ثم انصرف راجعا إلى باذاورد فعسكر به و أمر بتجديالآلات و إصلاح الشذوات و السميريات و إعطاء الجند أرزاقهم و شحن السفن بقواده و مواليه و غلمانه و نهض نحو عسكر الناجم و أمر جماعة من قواده بقصد مواضع سماها لهم من نهر أبي الخصيب و غيره و أمر الباقين بملازمته و المحاربة معه في الموضع الذي يكون فيه و هم الأقلون و عرف الزنج تفرق أصحاب أبي أحمد عنه فكثروا في جهته و استعرت الحرب بينه و بينهم و كثرت القتلى و الجراح بين الفريقين و أحرق أصحاب أبي أحمد قصورا و منازل كان الزنج ابتنوها و استنقذوا من نساء أهل البصرة جمعا كثيرا ثم صرف الزنج سورتهم و شدة حملتهم إلى الموضع الذي به أبو أحمد فجاءه منهم جمع لا يقاوم بمثل العدة اليسيرة التي كان فيها فرأى أن الحزم في محاجزتهم فأمر أصحابه بالرجوع إلى سفنهم على تؤدة و تمهل ففعلوا و بقيت طائفة من جنده و لجوا تلك الأدغال و المضايق فخرج عليهم كمين للزنج فأوقعوا بهم فحاموا عن أنفسهم و قتلوا عددا كثيرا من الزنج إلى أن قتلوا بأجمعهم و حملت رءوسهم إلى الناجم فزاد ذلك في قوته و عتوه و عجبه بنفسه و انصرف أبو أحمد بالجيش إلى باذاورد و أقام يعبئ أصحابه للرجوع إلى الزنج فوقعت نار في طرف من أطراف عسكره و ذلك في أيام عصوف الرياح فاحترق العسكر و رحل أبو أحمد منصرفا و ذلك في شعبان من هذه السنة إلى واسط. فأقام بها إلى ربيع الأول ثم انصرف عنها إلى سامراء و ذلك أن المعتمد كاتبه و استقدمه شرح نهج البلاغة ج : 8 ص : 160لحرب يعقوب بن الليث الصفار أمير خراسان فاستخلف على حرب الناجم محمد المولد و أما الناجفإنه لم يعلم خبر الحريق الذي وقع في عسكر أبي أحمد حتى ورد عليه

(9/131)


رجلان من أهل عبادان فأخبراه فأظهر أن ذلك من صنع الله تعالى له و نصره على أعدائه و أنه دعا الله على أبي أحمد و جيشه فنزلت نار من السماء فأحرقتهم. و عاد إلى العبث و اشتد طغيانه و عتوه و أنهض علي بن أبان المهلبي و ضم إليه أكثر الجيش و جعل على مقدمته سليمان بن جامع و أضاف إليه الجيش الذي كان مع يحيى بن محمد البحراني و سليمان بن موسى الشعراني و أمرهم بأن يقصدوا الأهواز و بها حينئذ أصغجون التركي و معه نيزك القائد فالتقى العسكران بصحراء تعرف بدشت ميسان و اقتتلوا فظهرت الزنج و قتل نيزك في كثير من أصحابه و غرق أصغجون التركي و أسر كثير من قواد السلطان منهم الحسن بن هرثمة المعروف بالشاري و الحسن بن جعفر و كتب علي بن أبان بالخبر إلى الناجم و حمل إليه أعلاما و رءوسا كثيرة و أسرى و دخل علي بن أبان الأهواز و أقام بها بزنوجه يعيث و ينهب القرى و السواد إلى أن ندب المعتمد على الله موسى بن بغا لحربه فشخص عن سامراء في ذي القعدة من هذه السنة و شيعه المعتمد بنفسه إلى خلف الحائطين و خلع عليه هنالك فقدم أمامه عبد الرحمن بن مفلح إلى الأهواز و إسحاق بن كنداخ إلى البصرة و إبراهيم بن سيما إلى الباذاورد. قال أبو جعفر فلما ورد عبد الرحمن بن مفلح على الأهواز أناخ بقنطرة أريق عشرة أيام ثم مضى إلى علي بن أبان المهلبي فواقعه فهزمه علي بن أبان فانصرف فاستعد

(9/132)


شرح نهج البلاغة ج : 8 ص : 161ثم عاد لمحاربته فأوقع به وقعة عظيمة و قتل من الزنج قتلا ذريعا و أسر أسرى كثيرة و انهزم علي بن أبان و من معه من الزنج حتى أتوا الموضع المعروف ببيان فأراد الناجم ردهم فلم يرجعوا للذعر الذي خالط قلوبهم فلما رأى ذلك أذن لهم في دل عسكره فدخلوا جميعا فأقاموا معه بالمدينة التي كان بناها و وافى عبد الرحمن بن مفلح حصن مهدي ليعسكر به فوجه إليه الناجم علي بن أبان فواقعه فلم يقدر عليه و مضى علي بن أبان إلى قريب من الباذاورد و هناك إبراهيم بن سيما فواقعه إبراهيم فهزم علي بن أبان فعاوده فهزمه إبراهيم فمضى في الليل و سلك الأدغال و الآجام حتى وافى نهر يحيى فانتهى خبره إلى عبد الرحمن بن مفلح فوجه إليه طاشتمر التركي في جمع من الموالي فلم يصل إلى علي بن أبان و من معه لوعورة الموضع الذي كانوا فيه و امتناعه بالقصب و الحلافي فأضرمه عليهم نارا فخرجوا منه هاربين و أسر منهم أسرى و انصرف إلى عبد الرحمن بن مفلح بالأسرى و الظفر و مضى علي بن أبان فأقام بأصحابه في الموضع المسمى بنسوخا و انتهى الخبر بذلك إلى عبد الرحمن بن مفلح فصار إلى العمود فأقام به و صار علي بن أبان إلى نهر السدرة و كتب إلى الناجم يستمده و يسأله التوجيه إليه بالشذا فوجه إليه ثلاث عشرة شذاة فيها جمع كثير من أصحابه فسار علي بن أبان و من معه في الشذا و وافى عبد الرحمن بمن معه فلم يكن بينهما قتال و تواقف الجيشان يومهما ذلك. فلما كان الليل انتخب علي بن أبان من أصحابه جماعة يثق بجلدهم و صبرهم و مضى و معه سليمان بن موسى المعروف بالشعراني و ترك سائر عسكره مكانه ليخفى أمره فصار من وراء عبد الرحمن ثم بيته و عسكره فنال منه و من أصحابه نيلا ما و انحاز شرح نهج البلاغة ج : 8 ص : 162عبد الرحمن عنه و ترك أربع شذوات من شذواته فغنمها علي بن أبان و انصرف و ى عبد الرحمن لوجهه حتى وافى دولاب فأقام بها و أعد رجالا من رجاله و

(9/133)


ولى عليهم طاشتمر التركي و أنفذهم إلى علي بن أبان فوافوه و هو في الموضع المعروف بباب آزر فأوقعوا به وقعة انهزم منها إلى نهر السدرة و كتب طاشتمر إلى عبد الرحمن بانهزامه عنه فأقبل عبد الرحمن بجيشه حتى وافى العمود فأقام به و استعد أصحابه للحرب و هيأ شذواته و ولى عليها طاشتمر و سار إلى فوهة نهر السدرة فواقع علي بن أبان وقعة عظيمة انهزم منها علي بن أبان و أخذ منه عشر شذوات و رجع علي بن أبان إلى الناجم مفلولا مهزوما و سار عبد الرحمن من فوره فعسكر ببيان فكان عبد الرحمن بن مفلح و إبراهيم بن سيما يتناوبان المصير إلى عسكر الناجم فيوقعان به و يخيفان من فيه و إسحاق بن كنداجيق يومئذ بالبصرة و قد قطع الميرة عن عسكر الناجم فكان الناجم يجمع أصحابه في اليوم الذي يخاف فيه موافاة عبد الرحمن بن مفلح و إبراهيم بن سيما حتى ينقضي الحرب ثم يصرف فريقا منهم إلى ناحية البصرة فيواقع بهم إسحاق بن كنداجيق فأقاموا على هذه الحال بضعة عشر شهرا إلى أن صرف موسى بن بغا عن حرب الزنج. قال أبو جعفر و سبب ذلك أن المعتمد رد أمر فارس و الأهواز و البصرة و غيرها من

(9/134)


شرح نهج البلاغة ج : 8 ص : 163النواحي و الأقطار إلى أخيه أبي أحمد بعد فراغه من حرب يعقوب بن الليث الصفار و هزيمته له فاستخلف أبو أحمد على حرب صاحب الزنج مسرورا البلخي و صرف موسى بن بغا عن ذلك و اتفق أن ابن واصل حارب عبد الرحمن بن مفلح فأسره و قتله و قتل شتمر التركي أيضا و ذلك بناحية رامهرمز فاستخلف مسرور البلخي على الحرب أبا الساج و ولي الأهواز فكانت بينه و بين علي بن أبان المهلبي وقعة بناحية دولاب قتل فيها عبد الرحمن صهر أبي الساج و انحاز أبو الساج إلى عسكر مكرم و دخل الزنج الأهواز فقتلوا أهلها و سبوا و أحرقوا دورها. قال أبو جعفر ثم وجه صاحب الزنج جيوشه بعد هزيمة أبي الساج إلى ناحية البطيحة و الحوانيت و دستميسان قال و ذلك لأن واسطا خلت من أكثر الجند في وقعة أبي أحمد و يعقوب بن الليث التي كانت عند دير العاقول فطمع الزنج فيها فتوجه إليها سليمان بن جامع في عسكر من الزنج و أردفه الناجم بجيش آخر مع أحمد بن مهدي في سميريات فيها رماة من أصحابه أنفذه إلى نهر المرأة و أنفذ عسكرا آخر فيه سليمان بن موسى فأمره أن يعسكر بالنهر المعروف باليهودي فكانت بين هؤلاء و بين من تخلف بهذه الأعمال من عساكر السلطان حروب شديدة و كانت سجالا لهم و عليهم حتى ملكوا البطيحة و الحوانيت و شارفوا واسطا و بها يومئذ محمد المولد من قبل السلطان فكانت بينه و بين سليمان بن جامع حروب كثيرة يطول شرحها و تعداده و أمده الناجم بالخليل بن أبان أخي علي بن أبان المهلبي في ألف و خمسمائة فارس و معه أبو عبد الله الزنجي المعروف بالمذوب أحد قوادهم المشهورين فقوى سليمان بهم و أوقع بمحمد المولد فهزمه و دخل واسطا في ذي الحجة سنة أربع و ستين و مائتين بزنوجه و قواده فقتل منها خلقا كثيرا و نهبها و أحرق دورها و أسواقها و أخرب كثيرا من منازل أهلها شرح نهج البلاغة ج : ص : 164و ثبت للمحاماة عنها قائد كان بها من جانب محمد بن المولد

(9/135)


يقال له كنجور البخاري فحامى يومه ذلك إلى العصر ثم قتل و كان الذي يقود الخيل يومئذ في عسكر سليمان بن جامع الخليل بن أبان و عبد الله المعروف بالمذوب و كان أحمد بن مهدي الجبائي في السميريات و كان مهربان الزنجي في الشذوات و كان سليمان بن موسى الشعراني و أخوه في ميمنته و ميسرته و كان سليمان بن جامع و هو الأمير على الجماعة في قواده السودان و رجالته منهم و كان الجميع يدا واحدة فلما قضوا وطرهم من نهب واسط و قتل أهلها خرجوا بأجمعهم عنها فمضوا إلى جنبلاء و أقاموا هناك يعيثون و يخربون. و في أوائل سنة خمس و ستين دخلوا إلى النعمانية و جرجرايا و جبل فنهبوا و أخربوا و قتلوا و أحرقوا و هرب منهم أهل السواد فدخلوا إلى بغداد. قال أبو جعفر فأما علي بن أبان المهلبي فإنه استولى على معظم أعمال الأهواز و عاث هناك و أخرب و أحرق و كانت بينه و بين عمال السلطان و قواده مثل أحمد بن ليثويه و محمد بن عبد الله الكردي و تكين البخاري و مطر بن جامع و أغرتمش التركي و غيرهم و بينه و بين عمال يعقوب بن الليث الصفار مثل خضر بن العنبر و غيره حروب عظيمة و وقعات كثيرة و كانت سجالا تارة له و تارة عليه و هو في أكثرها المستظهر عليهم و كثرت أموال الزنج و الغنائم التي حووها من البلاد و النواحي و عظم أمرهم و أهم الناس شأنهم و عظم على المعتمد و أخيه أبي أحمد خطبهم و اقتسموا الدنيا فكان علي بن محمد الناجم صاحب الزنج و إمامهم مقيما بنهر أبي الخصيب قد بنى مدينة عظيمة سماها المختارة و حصنها بالخنادق و اجتمع إليه فيها من الناس ما لا ينتهي العد و الحصر إليه رغبة و رهبة و صارت مدينة تضاهي سامراء و بغداد و تزيد عليهما و أمراؤه و قواده

(9/136)


شرح نهج البلاغة ج : 8 ص : 165بالبصرة و أعمالها يجبون الخراج على عادة السلطان لما كانت البصرة في يده و كان علي بن أبان المهلبي و هو أكبر أمرائه و قواده قد استولى على الأهواز و أعمالها و دوخ بلادها كرامهرمز و تستر و غيرهما و دان له الناس و جبا الخراج و ملأموالا لا تحصى. و كان سليمان بن جامع و سليمان بن موسى الشعراني و معهما أحمد بن مهدي الجبائي في الأعمال الواسطية قد ملكوها و بنوا بها المدن الحصينة و فازوا بأموالها و ارتفاعها و جبوا خراجها و رتبوا عمالهم و قوادهم فيها إلى أن دخلت سنة سبع و ستين و مائتين و قد عظم الخطب و جل و خيف على ملك بني العباس أن يذهب و ينقرض فلم يجد أبو أحمد الموفق و هو طلحة بن المتوكل على الله بدا من التوجه بنفسه و مباشرته هذا الأمر الجليل برأيه و تدبيره و حضوره معارك الحرب فندب أمامه ابنه أبا العباس و ركب أبو أحمد إلى بستان الهادي ببغداد و عرض أصحاب أبي العباس و ذلك في شهر ربيع الآخر من هذه السنة فكانوا عشرة آلاف فرسانا و رجالة في أحسن زي و أجمل هيئة و أكمل عدة و معهم الشذوات و السميريات و المعابر برسم الرجالة كل ذلك قد أحكمت صنعته فركب أبو العباس من بستان الهادي و ركب أبو أحمد مشيعا له حتى نزل القرية المعروفة بالفرك ثم عاد و أقام أبو العباس بالفرك أياما حتى تكامل عدده و تلاحق به أصحابه. ثم رحل إلى المدائن فأقام بها أياما ثم رحل إلى دير العاقول فورد عليه كتاب نصير المعروف بأبي حمزة و هو من جلة أصحابه و كان صاحب الشذا و السميريات و قد كان قدمه على مقدمته بدجلة يعلمه فيه أن سليمان بن جامع قد وافى لما علم بشخوص أبي العباس و الجبائي يقدمه في خيلهما و رجالهما و سفنهما حتى نزلا الجزيرة التي بحضرة شرح نهج البلاغة ج : 8 ص : 166بردودا فوق واسط بأربعة فراسخ و أن سليمان بن موسى الشعراني قد وافى ر أبان بعسكره عسكر البر و عسكر الماء فرحل أبو العباس لما قرأ هذا

(9/137)


الكتاب حتى وافى جرجرايا ثم منها إلى فم الصلح ثم ركب الظهر و سار حتى وافى الصلح و وجه طلائعه ليتعرف الخبر فأتاه منهم من أخبره بموافاة القوم و أن أولهم قريب من الصلح و آخرهم ببستان موسى بن بغا أسفل واسط فلما عرف ذلك عدل عن سنن الطريق و لقي أصحابه أوائل القوم فتطاردوا لهم عن وصية أوصاهم أبو العباس بها حتى طمع الزنج فيهم و اغتروا و أمعنوا في اتباعهم و جعلوا يصيحون بهم اطلبوا أميرا للحرب فإن أميركم مشغول بالصيد فلما قربوا من أبي العباس بالصلح خرج إليهم فيمن معه من الخيل و الرجل و أمر فصيح بأبي حمزة يا نصير إلى أين تتأخر عن هؤلاء الكلاب ارجع إليهم فرجع نصير بشذواته و سميرياته و فيها الرجال و ركب أبو العباس في سميرية و معه محمد بن شعيب و حف أصحابه بالزنج من جميع جهاتهم فانهزموا و منح الله أبا العباس و أصحابه أكتافهم يقتلونهم و يطردونهم إلى أن وافوا قرية عبد الله و هي على ستة فراسخ من الموضع الذي لقوهم فيه و أخذوا منهم خمس شذوات و عشر سميريات و استأمن منهم قوم و أسر منهم أسرى و غرق من سفنهم كثير فكان هذا اليوم أول الفتح على أبي العباس. قال أبو جعفر فلما انقضى هذا اليوم أشار على أبي العباس قواده و أولياؤه أن يجعل معسكره بالموضع الذي كان انتهى إليه إشفاقا عليه من مقاربة القوم فأبى إلا نزول واسط بنفسه و لما انهزم سليمان بن جامع و من معه و ضرب الله وجوههم انهزم سليمان بن

(9/138)


شرح نهج البلاغة ج : 8 ص : 167موسى الشعراني عن نهر أبان حتى وافى سوق الخميس و لحق سليمان بن جامع بنهر الأمير و قد كان القوم حين لقوا أبا العباس أجالوا الرأي بينهم فقالوا هذا فتى حدث لم تطل ممارسته الحرب و تدربه بها و الرأي أن نرميه بحدنا كله و نجتهد في أ لقية نلقاه في إزالته فلعل ذلك أن يروعه فيكون سببا لانصرافه عنا ففعلوا ذلك و حشدوا و اجتهدوا فأوقع الله تعالى بهم بأسه و نقمته و لم يتم لهم ما قدروه و ركب أبو العباس من غد يوم الوقعة حتى دخل واسطا في أحسن زي و كان ذلك يوم جمعة فأقام حتى صلى بها صلاة الجمعة و استأمن إليه خلق كثير من أتباع الزنج و أصحابهم ثم انحدر إلى العمر و هو على فرسخ واحد من واسط فاتخذه معسكرا و قد كان أبو حمزة نصير و غيره أشاروا عليه أن يجعل معسكره فوق واسط حذرا عليه من الزنج فامتنع و قال لست نازلا إلا العمر و أمر أبا حمزة أن ينزل فوهة بردودا فوق واسط و أعرض أبو العباس عن مشاورة أصحابه و استماع شي ء من آرائهم و استبد برأي نفسه فنزل العمر و أخذ في بناء الشذوات و السميريات و جعل يراوح الزنج القتال و يغاديهم و قد رتب خاصة غلمانه و مواليه في سميريات فجعل في كل سميرية أميرا منهم. ثم إن سليماناستعد و حشد و فرق أصحابه فجعلهم في ثلاثة أوجه فرقة أتت من نهر أبان و فرقة من بر تمرتا و فرقة من بردودا فلقيهم أبو العباس فلم يلبثوا أن انهزموا فلحقت طائفة منهم بسوق الخميس و طائفة بمازروان و طائفة ببر تمرتا و سلك آخرون نهر الماذيان و اعتصم قوم منهم ببردودا و تبعهم أصحاب أبي العباس و جعل أبو العباس قصده القوم الذين سلكوا نهر الماذيان فلم يرجع عنهم حتى وافى بهم برمساور ثم انصرف فجعل يقف على القرى و المسالك و يسأل عنها و يتعرفها و معه الأدلاء و أرباب الخبرة حتى عرف جميع تلك الأرض و منافذها و ما ينتهي إليه من شرح نهج البلاغة ج : 8 ص : 168البطائح و الآجام و غيرها و عاد إلى

(9/139)


معسكره بالعمر فأقام به أياما مريحا نفسه و أصحابه. ثم أتاه مخبر فأخبره أن الزنج قد اجتمعوا و استعدوا لكبس عسكره و أنهم على إتيانه من ثلاثة أوجه و أنهم قالوا إن أبا العباس غلام يغرر بنفسه و أجمرأيهم على تكمين الكمناء و المصير إليه من الجهات الثلاث فحذر أبو العباس من ذلك و استعد له و أقبلوا إليه و قد كمنوا زهاء عشرة آلاف في بر تمرتا و نحوا من العدة في قس هثا و تقدم منها عشرون سميرية إلى عسكر أبي العباس على أن يخرج إليهم فيهربوا بعد مناوشة يسيرة فيجيزوا أبا العباس و أصحابه إلى أن يجاوزوا الكمناء ثم يخرج الكمين عليهم من ورائهم. فمنع أبو العباس أصحابه من اتباعهم لما واقعوهم و أظهروا الكسرة و العود فعلموا أن كيدهم لم ينفذ فيه و خرج حينئذ سليمان و الجبائي في الشذا و السميريات العظيمة و قد كان أبو العباس أحسن تعبئة أصحابه فأمر أبا حمزة نصيرا أن يخرج إليهم في الشذا و السميريات المرتبة فخرج إليهم و نزل أبو العباس في شذاة من شذوات قد كان سماها الغزال و اختار لها جدافين و أخذ معه محمد بن شعيب الاشتيام و اختار من خاصة أصحابه و غلمانه جماعة دفع إليهم الرماح و أمر الخيالة بالمسير بإزائه على شاطئ النهر و قال لهم لا تدعوا المسير ما أمكنكم إلى أن تقطعكم الأنهار و نشبت الحرب بين الفريقين فكانت معركة القتال من حد قرية الرمل إلى الرصافة حتى أذن الله في هزيمة الزنج فانهزموا و حاز أصحاب أبي العباس منهم أربع عشرة شذاة و أفلت سليمان و الجبائي في ذلك اليوم بعد أن أشفيا على الهلاك راجلين و أخذت دوابهما و مضى جيش الزنج بأجمعه لا ينثني أحد منهم حتى وافوا طهيثا و أسلموا ما كان معهم من أثاث و آلة و رجع

(9/140)


شرح نهج البلاغة ج : 8 ص : 169أبو العباس فأقام بمعسكره بالعمر و أصلح ما كان أخذ منهم من الشذا و السفن و رتب الرجال فيها و أقام الزنج بعد ذلك عشرين يوما لا يظهر منهم أحد. قال أبو جعفر ثم إن الجبائي صار بعد ذلك يجي ء في الطلائع كل ثلاثة أيام و ينصرف و حفر طريق عسكر أبي العباس آبارا و صير فيها سفافيد حديد و غشاها بالبواري و أخفى مواضعها و جعلها على سنن مسير الخيل ليتهور فيها المجتازون بها و جعل بواقي طرف العسكر متعرضا به لتخرج الخيل طالبة له فجاء يوما و طلبته الخيل كما كانت تطلبه فقطر فرس رجل من قواد الفراعنة في بعض تلك الآبار فوقف أصحاب أبي العباس بما ناله من ذلك على ما كان دبره الجبائي فحذروا ذلك و تنكبوا سلوك تلك الطريق. قال أبو جعفر و ألح الزنج في مغاداة العسكر في كل يوم بالحرب و عسكروا بنهر الأمير في جمع كثير و كتب سليمان إلى الناجم يسأله إمداده بسميريات لكل واحدة منهن أربعون مجدافا فوافاه من ذلك في مقدار عشرين يوما أربعون سميرية فيها الرجال و السيوف و التراس و الرماح فكانت لأبي العباس معهم وقعات عظيمة و في أكثرها الظفر لأصحابه و الخذلان على الزنج و لج أبو العباس في دخول الأنهار و المضايق حتى انتهى إلى مدينة سليمان بن موسى الشعراني بنهر الخميس التي بناها و سماها المنيعة و خاطر أبو العباس بنفسه مرارا و سلم بعد أن شارف العطب و استأمن إليه جماعة من قواد الزنج فأمنهم و خلع عليهم و ضمهم إلى عسكره و قتل من قواد شرح نهج البلاغة ج : 8 ص : 170الزنج جماعة و تمادتلأيام بينه و بينهم و اتصل بأبي أحمد الموفق أن سليمان بن موسى الشعراني و الجبائي و من بالأعمال الواسطية من قواد صاحب الزنج كاتبوا صاحبهم و سألوه إمدادهم بعلي بن أبان المهلبي و هو المقيم حينئذ بأعمال الأهواز و المستولي عليها و كان علي بن أبان قائد القواد و أمير الأمراء فيهم فكتب الناجم إلى علي بن أبان يأمره بالمصير بجميع من

(9/141)


معه إلى ناحية سليمان بن جامع ليجتمعا على حرب أبي العباس. فصح عزم أبي أحمد على الشخوص إلى واسط و حضور الحرب بنفسه فخرج عن بغداد في صفر من هذه السنة و عسكر بالفرك و أقام بها أياما حتى تلاحق به عسكره و من أراد المسير معه و قد أعد آلة الماء و رحل من الفرك إلى المدائن ثم إلى دير العاقول ثم إلى جرجرايا ثم قنى ثم جبل ثم نزل الصلح ثم نزل على فرسخ من واسط. و تلقاه ابنه أبو العباس في جريدة خيل فيها وجوه قواده فسأله أبوه عن خبرهم فوصف له بلاءهم و نصحهم فخلع أبو أحمد على أبي العباس ثم على القواد الذين كانوا معه و انصرف أبو العباس إلى معسكره بالعمر فبات به فلما كان صبيحة الغد رجل أبو أحمد منحدرا في الماء و تلقاه ابنه أبو العباس في آلات الماء بجميع العسكر في هيئة الحرب على الوضع الذي كانوا يحاربون الزنج عليه فاستحسن أبو أحمد هيئتهم و سر بذلك و سار أبو أحمد حتى نزل بإزاء القرية المعروفة بقرية عبد الله و وضع العطاء فأعطى الجيش كله أرزاقهم و قدم ابنه أبا العباس أمامه في السفن و سار وراءه فتلقاه

(9/142)


شرح نهج البلاغة ج : 8 ص : 171أبو العباس برءوس و أسرى من أصحاب الشعراني و كان لقيهم فأمر أبو أحمد بالأسرى فضربت أعناقهم و رحل يريد المدينة التي بناها الشعراني بسوق الخميس و سماها المنيعة. و إنما بدأ أبو أحمد بحرب الشعراني قبل حرب سليمان بن جامع لأن الشعري كان وراءه فخاف إن بدأ بابن جامع أن يأتيه الشعراني من ورائه فيشغله عمن هو أمامه فلما قرب من المدينة خرج إليه الزنج فحاربوه حربا ضعيفة و انهزموا فعلا أصحاب أبي العباس السور و وضعوا السيف فيمن لقيهم و تفرق الزنج و دخل أبو العباس المدينة فقتلوا و أسروا و حووا ما كان فيها و أفلت الشعراني هاربا و معه خواصه فأتبعهم أصحاب أبي العباس حتى وافوا بهم البطائح فغرق منهم خلق كثير و لجأ الباقون إلى الآجام و انصرف الناس و قد استنقذ من المسلمات اللواتي كن بأيدي الزنج في هذه المدينة خاصة خمسة آلاف امرأة سوى من ظفر به من الزنجيات. فأمر أبو أحمد بحمل النساء اللواتي سباهن الزنج إلى واسط و أن يدفعن إلى أوليائهن و بات أبو أحمد بحيال المدينة ثم باكرها و أذن للناس في نهب ما فيها من أمتعة الزنج فدخلت و نهب كل ما كان بها و أمر بهدم سورها و طم خندقها و إحراق ما كان بقي منها و ظفر في تلك القرى التي كانت في يد الشعراني بما لا يحصى من الأرز و الحنطة و الشعير و قد كان الشعراني استولى على ذلك كله و قتل أصحابه فأمر أبو أحمد ببيعه و صرف ثمنه في أعطيات مواليه و غلمانه و جنده. شرح نهج البلاغة ج : 8 ص : 172و أما الشعراني فإنه التحق هو و أخوه بمذار و كتب إلى الناجم يعرفه ذلك و أنه معتصم بالمذار. قال أبو جعفر فحدثني محمد بن الحسن بن سهل قال حدثني محمد بن هشام الكرنبائي المعروف بأبي واثلة قال كنت بين يدي الناجم ذلك اليوم و هو يتحدث إذ ورد عليه كتاب سليمان بخبر الواقعة و ما نزل به و انهزامه إلى المذار فما كان إلا أن فض الكتاب و وقعت عينه على ذكر الهزيمة حتى انحل

(9/143)


وكاء بطنه فنهض لحاجته ثم عاد. فلما استوى به مجلسه أخذ الكتاب و تأمله فوقعت عينه على الموضع الذي أنهضه أولا فنهض لحاجته حتى فعل ذلك مرارا فلم أشك في عظم المصيبة و كرهت أن أسأله فلما طال الأمر تجاسرت فقلت أ ليس هذا كتاب سليمان بن موسى قال بلى ورد بقاصمة الظهر ذكر أن الذين أناخوا عليه أوقعوا به وقعة لم تبق منه و لم تذر فكتب كتابه هذا و هو بالمذار و لم يسلم بشي ء غير نفسه قال فأكبرت ذلك و الله يعلم ما أخفي من السرور الذي وصل إلى قلبي قال و صبر عي بن محمد على مكروه ما وصل إليه و جعل يظهر الجلد و كتب إلى سليمان بن جامع يحذره مثل الذي نزل بالشعراني و يأمره بالتيقظ في أمره و حفظ ما قبله. قال أبو جعفر ثم لم يكن لأبي أحمد بعد ذلك هم إلا في طلب سليمان بن جامع فأتته طلائعه فأخبرته أنه بالحوانيت فقدم أمامه ابنه أبا العباس في عشرة آلاف فانتهى إلى الحوانيت فلم يجد سليمان بن جامع بها و ألفى هناك من قواد السودان المشتهرين بالبأس و النجدة القائدين المعروف أحدهما بشبل و الآخر بأبي الندى و هما من قدماء

(9/144)


شرح نهج البلاغة ج : 8 ص : 173أصحاب الناجم الذين كان قودهم في بدء مخرجه و كان سليمان قد خلف هذين القائدين بالحوانيت لحفظ غلات كثيرة كانوا قد أخذوها فحاربهما أبو العباس فقتل من رجالهما و جرح بالسهام خلقا كثيرا و كانوا أجلد رجال سليمان بن جامع و نخبتهم الذ يعتمد عليهم و دامت الحرب بين أبي العباس و بينهم ذلك اليوم إلى أن حجز الليل بين الفريقين و رمى أبو العباس في ذلك اليوم كركيا طائرا فوقع بين الزنج و السهم فيه فقالوا هذا سهم أبي العباس و أصابهم منه ذعر و استأمن في هذا اليوم بعضهم إلى أبي العباس فسأله عن الموضع الذي فيه سليمان بن جامع فأخبره أنه مقيم بمدينته التي بناها بطهيثا فانصرف أبو العباس حينئذ إلى أبيه بحقيقة مقام سليمان و أن معه هنالك جميع أصحابه إلا شبلا و أبا الندى فإنهما بالحوانيت لحفظ الغلات التي حووها فأمر حينئذ أبو أحمد أصحابه بالتوجه إلى طهيثا و وضع العطاء فأعطى عسكره و شخص مصاعدا إلى بردودا ليخرج منها إلى طهيثا إذ كان لا سبيل له إليها إلا بذلك فظن عسكره أنه هارب و كادوا ينفضون لو لا أنهم عرفوا حقيقة الحال فانتهى إلى القرية بالحوذية و عقد جسرا على النهر المعروف بمهروذ و عبر عليه الخيل و سار إلى أن صار بينه و بين مدينة سليمان التي سماها المنصورة بطهيثا ميلان فأقام هناك بعسكره و مطرت السماء مطرا جودا و اشتد البرد أيام مقامه هنالك فشغل بالمطر و البرد عن الحرب فلم يحارب فلما فتر ركب في نفر من قواده و مواليه لارتياد موضع لمجال الخيل فانتهى إلى قريب من سور تلك المدينة فتلقاه منهم خلق كثير و خرج عليه كمناء من مواضع شتى و نشبت الحرب و اشتدت فترجل جماعة من الفرسان و دافعوا حتى خرجوا عن المضايق التي كانوا أوغلوها و أسر من غلمان أبي أحمد غلام يقال له وصيف العلمدار و عدة من قواد زيرك و قتل في هذا اليوم أحمد بن مهدي الجبائي أحد القواد العظماء من الزنج رماه أبو العباس بسهم

(9/145)


فأصاب أحد منخريه حتى خالط دماغه فخر صريعا و حمل من المعركة و هو حي فسأل أن يحمل شرح نهج البلاغة ج : 8 ص : 174إلى الناجم فحمل من هناك إلى نهر أبي الخصيب إلى مدينة الناجم التي سماها المختارة فو بين يديه و هو على ما به فعظمت المصيبة عليه به إذ كان من أعظم أصحابه غناء و أشدهم تصبرا لإطاعته فمكث الجبائي يعالج هنالك أياما ثم هلك فاشتد جزع الناجم عليه و صار إليه فولي غسله و تكفينه و الصلاة عليه و الوقوف على قبره إلى أن دفن ثم أقبل على أصحابه فوعظهم و ذكر موت الجبائي و كانت وفاته في ليلة ذات رعود و بروق. فقال فيما ذكر عنه لقد سمعت وقت قبض روحه زجل الملائكة بالدعاء له و الترحم عليه و انصرف من دفنه منكسرا عليه الكآبة. قال أبو جعفر فلما انصرف أبو أحمد ذلك اليوم من الوقعة غاداهم بكرة الغد و عبأ أصحابه كتائب فرسانا و رجالة و أمر بالشذا و السميريات أن يسار بها معه في النهر الذي يشق مدينة طهيثا و هو النهر المعروف بنهر المنذر و سار نحو الزنج حتى انتهى إلى سور المدينة قريب قواد غلمانه في المواضع التي يخاف خروج الزنج عليه منها و قدم الرجالة أمام الفرسان و نزل فصلى أربع ركعات و ابتهل إلى الله تعالى في النصر و الدعاء للمسلمين ثم دعا بسلاحه فلبسه و أمر ابنه أبا العباس أن يتقدم إلى السور و يحض الغلمان على الحرب ففعل و قد كان سليمان بن جامع أعد أمام سور المدينة التي سماها المنصورة خندقا فلما انتهى الغلمان إليه تهيبوا عبوره و أحجموا عنه فحرضهم قوادهم و ترجلوا معهم فاقتحموه متجاسرين عليه فعبروه و انتهوا إلى الزنج و هم مشرفون من سور مدينتهم فوضعوا السلاح فيهم و عبرت شرذمة من الفرسان الخندق خوضا فلما رأى الزنج خبر هؤلاء الذين لقوهم و جرأتهم عليهم ولوا منهزمين و اتبعهم أصحاب أبي أحمد و دخلوا

(9/146)


شرح نهج البلاغة ج : 8 ص : 175المدينة من جوانبها و كان الزنج قد حصنوها بخمسة خنادق و جعلوا أمام كل خندق منها سورا يمتنعون به فجعلوا يقفون عند كل سور و خندق انتهوا إليه و أصحاب أبي أحمد يكشفونهم في كل موقف وقفوه و دخلت الشذا و السميريات مدينتهم مشحونة بالمان المقاتلة من النهر الذي يشقها بعد انهزامهم فأغرقت كل ما مرت به لهم من شذاة أو سميرية و اتبعوا من تجافى النهر منهم يقتلون و يأشرون حتى أجلوهم عن المدينة و عما يتصل بها و كان ذلك زهاء فرسخ فحوى أبو أحمد ذلك كله و أفلت سليمان بن جامع في نفر من أصحابه و استحر القتل فيهم و الأسر و استنقذ من نساء أهل واسط و صبيانهم و ما اتصل بذلك من القرى و نواحي الكوفة زهاء عشرة آلاف فأمر أبو أحمد بحياطتهم و الإنفاق عليهم و حملوا إلى واسط فدفعوا إلى أهليهم و احتوى أبو أحمد على كل ما كان في تلك المدينة من الذخائر و الأموال و الأطعمة و المواشي فكان شيئا جليل القدر فأمر ببيع الغلات و غيرها من العروض و صرفه في أعطيات عسكره و مواليه و أسر من نساء سليمان و أولاده عدة و استنقذ يومئذ وصيف العلمدار و من كان أسره الزنج معه فأخرجوا من الحبس قد كان الزنج أعجلهم الأمر عن قتله و قتلهم و أقام أبو أحمد بطهيثا سبعة عشر يوما و أمر بهدم سور المدينة و طم خنادقها ففعل ذلك و أمر بتتبع من لجأ منهم إلى الآجام و جعل لكل من أتاه برجل منهم جعلا فسارع الناس إلى طلبهم فكان إذا أتي بالواحد منهم خلع عليه و أحسن إليه و ضمه إلى قواد غلمانه لما دبر من استمالتهم و صرفهم عن طاعة صاحبهم و ندب نصيرا صاحب الماء في شذا و سميريات لطلب سليمان بن جامع و الهاربين معه من الزنج و غيرهم و أمره بالجد في اتباعهم حتى يجاوز البطائح و حتى يلح دجلة المعروفة بالعوراء و تقدم إليه في فتح السكور التي كان سليمان أحدثها ليقطع بها الشذا عن دجلة فيما بينه و بين النهر المعروف بأبي الخصيب و تقدم إلى

(9/147)


شرح نهج البلاغة ج : 8 ص : 176زيرك في المقام بطهيثا في جمع كثير من العسكر ليتراجع إليها الذين كان سليمان أجلاهم عنها من أهلها فلما أحكم ما أراد إحكامه تراجع بعسكره مزمعا على التوجه إلى الأهواز ليصلحها و قد كان قدم أمامه ابنه أبا العباس و قد تقدم ذكر علي أبان المهلبي و كونه استولى على معظم كور الأهواز و دوخ جيوش السلطان هناك و أوقع بهم و غلب على معظم تلك النواحي و الأعمال. فلما تراجع أبو أحمد وافى بردودا فأقام بها أياما و أمر بإعداد ما يحتاج إليه للمسير على الظهر إلى الأهواز و قدم أمامه من يصلح الطرق و المنازل و يعد فيها الميرة للجيوش التي معه و وافاه قبل أن يرحل عن واسط زيرك منصرفا عن طهيثا بعد أن تراجع إلى النواحي التي كان بها الزنج أهلها و خلفهم آمنين فأمره أبو أحمد بالاستعداد و الانحدار في الشذا و السميريات في نخبة عسكره و أنجادهم فيصير بهم إلى دجلة العوراء فتجتمع يده و يد نصير صاحب الماء على نقض دجلة و اتباع المنهزمين من الزنج و الإيقاع بكل من لقوا من أصحاب سليمان إلى أن ينتهي بهم المسير إلى مدينة الناجم بنهر أبي الخصيب فإن رأوا موضع حرب حاربوه في مدينة و كتبوا بما يكون منهم إلى أبي أحمد ليرد عليهم من أمره ما يعملون بحسبه. و استخلف أبو أحمد على من خلفه من عسكره بواسط ابنه هارون و أزمع على الشخوص في خف من رجاله و أصحابه ففعل ذلك بعد أن تقدم إلى ابنه هارون في أن يحذر الجيش الذي خلفه معه في السفن إلى مستقره بدجلة إذا وافاه كتابه بذلك و ارتحل شاخصا من واسط الأهواز و كورها فنزل باذبين إلى الطيب إلى قرقوب إلى وادي السوس و قد كان عقد له عليه جسر فأقام به من أول النهار إلى وقت الظهر حتى عبر عسكره أجمع ثم سار حتى وافى السوس فنزلها و قد كان أمر مسرورا البلخي و هو عامله على الأهواز بالقدوم عليه فوافاهم في جيشه و قواده من غد اليوم الذي نزل فيه السوس

(9/148)


شرح نهج البلاغة ج : 8 ص : 177فخلع عليه و عليهم و أقام بالسوس ثلاثا و كان ممن أسر من الزنج بطهيثا أحمد بن موسى بن سعيد البصري المعروف بالقلوص و كان قائدا جليلا عندهم و أحد عدد الناجم و من قدماء أصحابه أسر بعد أن أثخن جراحات كانت فيها منيته فأمر أبو أحمد حتزاز رأسه و نصبه على جسر واسط. قال أبو جعفر و اتصل بالناجم خبر هذه الوقعة بطهيثا و علم ما نيل من أصحابه فانتقض عليه تدبيره و ضلت حيلته فحمله الهلع إلى أن كتب إلى علي بن أبان المهلبي و هو يومئذ مقيم بالأهواز في زهاء ثلاثين ألفا يأمره بترك كل ما كان قبله من الميرة و الأثاث و الإقبال إليه بجميع جيوشه فوصل الكتاب إلى المهلبي و قد أتاه الخبر بإقدام أبي أحمد إلى الأهواز و كورها فهو لذلك طائر العقل فقرأ الكتاب و هو يحفزه فيه حفزا بالمصير إليه فترك جميع ما كان قبله و استخلف عليه محمد بن يحيى بن سعيد الكرنبائي فلما شخص المهلبي عنه لم يثبت و لم يقم لما عنده من الوجل و ترادف الأخبار بوصول أبي أحمد إليه فأخلى ما استخلف عليه و تبع المهلبي و بالأهواز يومئذ و نواحيها من أصناف الحبوب و التمر و المواشي شي ء عظيم فخرجوا عن ذلك كله و كتب الناجم أيضا إلى بهبوذ بن عبد الوهاب اقائد و إليه يومئذ الأعمال التي بين الأهواز و فارس يأمره بالقدوم عليه بعسكره فترك بهبوذ ما كان قبله من الطعام و التمر و المواشي فكان ذلك شيئا عظيما فحوى جمع ذلك أبو أحمد فكان قوة له على الناجم و ضعفا للناجم. و لما رحل المهلبي عن الأهواز بث أصحابه في القرى التي بينه و بين مدينة الناجم فانتهبوها و أجلوا عنها أهلها و كانوا في سلمهم و تخلف خلق كثير ممن كان مع المهلبي من الفرسان و الرجالة عن اللحاق به و أقاموا بنواحي الأهواز و كتبوا يسألون أبا أحمد شرح نهج البلاغة ج : 8 ص : 178الأمان لما انتهى عنه إليهم من عفوهمن ظفر به من أصحاب الناجم و كان الذي دعا الناجم إلى أمر المهلبي و

(9/149)


بهبوذ بسرعة المصير إليه خوفه موافاة أبي أحمد بجيوشه إليه على الحالة التي كان الزنج عليها من الوجل و شدة الرعب مع انقطاع المهلبي و بهبوذ فيمن كان معهما عنه و لم يكن الأمر كما قدر فإن أبا أحمد إنما كان قاصدا إلى الأهواز فلو أقام المهلبي بالأهواز و بهبوذ بمكانه في جيوشهما لكان أقرب إلى دفاع جيش أبي أحمد عن الأهواز و أحفظ للأموال و الغلات التي تركت بعد أن كانت اليد قابضة عليها. قال أبو جعفر و أقام أبو أحمد حتى أحرز الأموال التي كان المهلبي و بهبوذ و خلفاؤهما تركوها و فتحت السكور التي كان الناجم أحدثها في دجلة و أصلحت له طرقه و مسالكه و رحل أبو أحمد عن السوس إلى جنديسابور فأقام بها ثلاثا و قد كانت الأعلاف ضاقت على أهل العسكر فوجه في طلبها و حملها و رحل عن جنديسابور إلى تستر فأقام بها لجباية الأموال من كور الأهواز و أنفذ إلى كل كورة قائدا ليروج بذلك حمل المال و وجه أحمد بن أبي الأصبغ إلى محمد بن عبد الله الكردي صاحب رامهرمز و ما يليها من القلاع و الأعمال و قد كان مالأ المهلبي و حمل إلى الناجم أموالا كثيرة و أمره بإيناسه و إعلامه ما عليه رأيه في العفو عنه و التغمد لزلته و أن يتقدم إليه في حمل الأموال و المسير إلى سوق الأهواز بجميع من معه من الموالي و الغلمان و الجند ليعرضهم و يأمر بإعطائهم الأرزاق و ينهضهم معه لحرب الناجم ففعل و أحضرهم و عرضوا رجلا رجلا و أعطوا ثم رحل إلى عسكر مكرم فجعله منزله أياما ثم رحل منه فوافى الأهواز و هو يرى أنه قد تقدمه إليها من الميرة ما يحمل عساكره فلم يكن كذلك و غلظ الأمر في ذلك اليوم و اضطرب الناس اضطرابا شديدا فأقام ثلاثة أيام ينتظر ورود الميرة فلم ترد فساءت أحوال الناس و كاد ذلك يفرق جماعتهم فبحث عن السبب المؤخر لورودها

(9/150)


شرح نهج البلاغة ج : 8 ص : 179فوجد الزنج قد كانوا قطعوا قنطرة قديمة أعجمية كانت بين سوق الأهواز و رامهرمز يقال لها قنطرة أربق فامتنع التجار و من كان يحمل الميرة من الورود لقطع تلك القنطرة فركب أبو أحمد إليها و هي على فرسخين من سوق الأهواز فجمع من كان في عسكر من السودان و أخذهم بنقل الصخر و الحجارة لإصلاح هذه القنطرة و بذل لهم من أموال الرعية فلم يرم حتى أصلحت في يومه ذلك و ردت إلى ما كانت عليه فسلكها الناس و وافت القوافل بالميرة فحيي أهل العسكر و حسنت أحوالهم و أمر بجمع السفن لعقد الجسر على دجيل الأهواز فجمعت من جميع الكور و أقام بالأهواز أياما حتى أصلح أصحابه أمورهم و ما احتاجوا إليه من آلاتهم و حسنت أحوال دوابهم و ذهب عنها ما كان بها من الضر بتأخر الأعلاف و وافت كتب القوم الذين تخلفوا عن المهلبي و أقاموا بعده بسوق الأهواز يسألون أبا أحمد الأمان فأمنهم فأتاه منهم نحو ألف رجل فأحسن إليهم و ضمهم إلى قواد غلمانه و أجرى لهم الأرزاق و عقد الجسر على دجيل الأهواز و رحل بعد أن قدم جيوشه أمامه و عبر دجيلا فأقام بالموضع المعروف بقصر المأمون ثلاثا و قد كان قدم ابنه أبا العباس إلى نهر المبارك من فرات البصرة و كتب إلى ابنه هارون بالانحدار إليه ليجتمع العساكر هناك و رحل أبو أحمد عن قصر المأمون إلى قورج العباس و وافاه أحمد بن أبي الأصبغ هنالك بهدايا محمد بن عبد الله الكردي صاحب رامهرمز من دواب و مال ثم رحل عن القورج فنزل الجعفرية و لم يكن بها ماء و قد كان أنفذ إليها و هو بعد في القورج من حفر آبارها فأقام بها يوما و ليلة و ألفى بها ميرا مجموعة فاتسع الجند بها و تزودوا منها ثم رحل إلى المنزل المعروف بالبشير فألفى فيه غديرا من ماء المطر فأقام به يوما و ليلة و رحل إلى المبارك و كان منزلا بعيد المسافة شرح نهج البلاغة ج : 8 ص 180فتلقاه ابناه أبو العباس و هارون في طريقه و سلما عليه و سارا

(9/151)


بسيره حتى ورد بهم المبارك و ذلك يوم السبت للنصف من رجب سنة سبع و ستين. قال أبو جعفر فأما نصير و لزيرك فقد كانا اجتمعا بدجلة العوراء و انحدرا حتى وافيا الأبلة بسفنهما و شذاهما فاستأمن إليهما رجل من أصحاب الناجم فأعلمهما أنه قد أنفذ عددا كثيرا من السميريات و الزواريق مشحونة بالزنج يرأسهم قائد من قواده يقال له محمد بن إبراهيم و يكنى أبا عيسى. قال أبو جعفر و محمد بن إبراهيم هذا رجل من أهل البصرة جاء به إلى الناجم صاحب شرطته المعروف بيسار و استصلحه لكتابته فكان يكتب له حتى مات و قد كانت ارتفعت حال أحمد بن مهدي الجبائي عند الناجم و ولاة أكثر أعماله فضم محمد بن إبراهيم هذا إليه فكان كاتبه فلما قتل الجبائي في وقعة سليمان الشعرائي طمع محمد بن إبراهيم هذا في مرتبته و أن يحله الناجم محله فنبذ القلم و الدواة و لبس آلة الحرب و تجرد للقتال فأنهضه الناجم في هذا الجيش و أمره بالاعتراض في دجلة لمدافعة من يردها من الجيوش فكان يدخله أحيانا و أحيانا يأتي بالجمع الذي معه إلى النهر المعروف بنهر يزيد و كان معه في ذلك الجيش من قواد الزنج شبل بن سالم و عمرو المعروف بغلام بوذي و أخلاط من السودان و غيرهم فاستأمن رجل منهم كان في ذلك الجيش إلى لزيرك و نصير و أخبرهما خبره و أعلمهما أنه على القصد لسواد عسكر نصير و كان نصير يومئذ معسكرا بنهر المرأة و إنهم على أن يسلكوا الأنهار المعترضة على نهر معقل و بثق

(9/152)


شرح نهج البلاغة ج : 8 ص : 181شيرين حتى يوافوا الشرطة و يخرجوا من وراء العسكر فيكبوا على من فيه فرجع نصير عند وصول هذا الخبر إليه من الأبلة مبارزا إلى عسكره و سار لزيرك قاصدا بثق شيرين معارضا لمحمد بن إبراهيم فلقيه في الطريق فوهب الله له العلو عليه بعد ص من الزنج له و مجاهدة شديدة فانهزموا و لجئوا إلى النهر الذي فيه كمينهم و هو نهر يزيد فدل لزيرك عليهم فتوغلت إليهم سميرياته فقتل منهم طائفة و أسر طائفة فكان محمد بن إبراهيم فيمن أسر و عمرو غلام بوذي و أخذ ما كان معهم من السميريات و هي نحو ثلاثين سميرية و أفلت شبل بن سالم في الذين نجوا معه فلحق بعسكر الناجم و خرج لزيرك في بثق شيرين سالما ظافرا و معه الأسارى و رءوس القتلى مع ما حوى من السميريات و السفن و انصرف من دجلة العوراء إلى واسط و كتب إلى أبي أحمد بالفتح و عظم الجزع على كل من كان بدجلة و كورها من اتباع الناجم فاستأمن إلى نصير صاحب الماء و هو مقيم حينئذ بنهر المرأة زهاء ألفي رجل من الزنج و أتباعهم. فكتب إلى أبي أحمد بخبرهم فأمره بقبولهم و إقرارهم على الأمان و إجراء الأرزاق عليهم و خلطهم بأصحابه و مناهضة العدو بهم ثم كتب إلى نصير يأمره بالإقبال إليه إلى نهر المبارك فوافاه هنالك. و قد كان أبو العباس عند منصرفه إلى نهر المبارك انحدر إلى عسكر الناجم في الشذا فأوقع بهم في مدينته بنهر أبي الخصيب فكانت الحرب بينهما من أول النهار إلى آخر وقت الظهر. و استأمن إليه قائد جليل من قواد الناجم من المضمومين كانوا إلى سليمان بن جامع يقال له منتاب و معه جماعة من أصحابه فكان ذلك مما كسر من الناجم و انصرف أبو العباس بالظفر و خلع على منتاب الزنجي و وصله و حمله فلما لقي أباه أخبره خبره و ذكر شرح نهج البلاغة ج : 8 ص : 182إليه خروجه إليه في الأمان فأمر أبو أحمد له بخلع و صلة و حمن و كان منتاب أول من استأمن من جملة قواد الناجم. قال أبو جعفر و لما

(9/153)


نزل أبو أحمد نهر المبارك كان أول ما عمل به في أمر الناجم أن كتب إليه كتابا يدعوه فيه إلى التوبة و الإنابة إلى الله تعالى مما ارتكب من سفك الدماء و انتهاك المحارم و إخراب البلدان و الأمصار و استحلال الفروج و الأموال و انتحال ما لم يجعله الله له أهلا من النبوة و الإمامة و يعلمه أن التوبة له مبسوطة و الأمان له موجود فإن نزع عما هو عليه من الأمور التي يسخطها الله تعالى و دخل في جماعة المسلمين محا ذلك ما سلف من عظيم جرائمه و كان له به الحظ الجزيل في دنياه و آخرته و أنفذ ذلك إليه مع رسول فالتمس الرسول إيصاله إليه فامتنع الزنج من قبول الكتاب و من إيصاله إلى صاحبهم فألقى الرسول الكتاب إليهم إلقاء فأخذوه و أتوا به صاحبهم فقرأه و لم يجب عنه بشي ء و رجع الرسول إلى أبي أحمد فأخبره فأقام خمسة أيام متشاغا بعرض السفن و ترتيب القواد و الموالي و الغلمان فيها و تخير الرماة و انتخابهم للمسير بها. ثم سار في اليوم السادس في أصحابه و معه ابنه أبو العباس إلى مدينة الناجم التي سماها المختارة من نهر أبي الخصيب فأشرف عليها و تأملها فرأى منعتها و حصانتها بالسور و الخنادق المحيطة بها و غور الطريق المؤدي إليها و ما قد أعد من المجانيق

(9/154)


شرح نهج البلاغة ج : 8 ص : 183و العرادات و القسي الناوكية و سائر الآلات على سورها فرأى ما لم ير مثله ممن تقدم من منازعي السلطان و رأى من كثرة عدد مقاتلتهم و اجتماعهم ما استغلظ أمره. و لما عاين الزنج أبا أحمد و أصحابه ارتفعت أصواتهم بما ارتجت له الأرض فأمأبو أحمد عند ذلك ابنه أبا العباس بالتقدم إلى سور المدينة و رشق من عليه بالسهام ففعل و دنا حتى ألصق شذواته بمسناة قصر الناجم و انحاز الزنج بأسرهم إلى المواضع الذي دنت منه الشذا و تحاشدوا و تتابعت سهامهم و حجارة منجنيقاتهم و عراداتهم و مقاليعهم و رمى عوامهم بالحجارة عن أيديهم حتى ما يقع طرف ناظر على موضع إلا رأى فيه سهما أو حجرا. و ثبت أبو العباس فرأى الناجم و أشياعه من جهدهم و اجتهادهم و صبرهم ما لا عهد لهم بمثله من أحد ممن حاربهم و حينئذ أمر أبو أحمد ابنه أبا العباس بالرجوع بمن معه إلى مواقفهم ليروحوا عن أنفسهم و يداووا جروحهم ففعلوا ذلك و استأمن في هذه الحال إلى أبي أحمد مقاتلان من مقاتلة السميريات من الزنج فأتياه بسميرياتهما و ما فيها من الملاحين و الآلات فأمر لها بخلع ديباج و مناطق محلاة بالذهب و وصلهما بمال و أمر للملاحين بخلع من الحرير الأحمر و الأخضر الذي حسن موقعه منهم و عمهم جميعا بصلاته و أمر بإدنائهم من الموضع الذي يراهم فيه نظراؤهم فكان ذلك من أنجع المكايد التي كيد بها صاحب الزنج فلما رأى الباقون ما صار إليه أصحابهم من العفو عنهم و الإحسان إليهم رغبوا في الأمان و تنافسوا فيه فابتدر منهم جمع كثير مسرعين نحوه راغبين فيما شرع لهم منه فأمر أبو أحمد لهم بمثل ما أمر به لأصحابه فلما رأى الناجم ركون أصحاب السميريات إلى الأمان و رغبتهم فيه أمر برد من كان منهم في دجلة إلى نهر أبي شرح نهج البلاغة ج : 8 ص : 184الخصيب و وكل بفوهة النهر من يمنعهم الخروج و أمر بهار شذاوته الخاصة و ندب لهم بهبوذ بن عبد الوهاب و هو من أشد كماته

(9/155)


بأسا و أكثرهم عددا و عدة فانتدب بهبود لذلك و خرج في جمع كثيف من الزنج فكانت بينه و بين أبي حمزة نصير صاحب الماء و بين أبي العباس بن أبي أحمد وقعات شديدة في كلها يظهر عليه أصحاب السلطان ثم يعود فيرتاش و يحتشد فيخرج فيواقعهم حتى صدقوه الحرب و هزموه و ألجئوه إلى فناء قصر الناجم و أصابته طعنتان و جرح بالسهام و أوهنت أعضاءه الحجارة و أولجوه نهر أبي الخصيب و قد أشفى على الموت و قتل قائد جليل معه من قواد الزنج ذو بأس و نجدة و تقدم في الحرب يقال له عميرة. و استأمن إلى أبي أحمد جماعة أخرى فوصلهم و حباهم و خلع عليهم و ركب أبو أحمد في جميع جيشه و هو يومئذ في خمسين ألف رجل و الناجم في ثلاثمائة ألف رجل كلهم يقاتل و يدافع فمن ضارب بسيف و طاعن برمح و رام بقوس و قاذف بمقلاع و رام بعرادة و منجنيق و أضعفهم أمر الرماة بالحجارة عن أيديهم و هم النظارة المكثرون للسواد و المعينون بالنعير و الصياح و النساء يشركنهم في ذلك أيضا فأقام أبو أحمد بإزاء عسكر الناجم إلى أن أضحى و أمر فنودي الأمان مبسوط للناس أسودهم و أحمرهم إلا لعدو الله الداعي علي بن محمد و أمر بسهام فعلقت فيها رقاع مكتوب فيها من الأمان مثل الذي نودي به و وعد الناس فيها الإحسان و رمى بها إلى عسكر الناجم فمالت إليه قلوب خلق كثير من أولئك ممن لم يكن له بصيرة في اتباع الناجم فأتاه في ذلك اليوم جمع كثير يحملهم الشذا و السميريات فوصلهم و حباهم و قدم عليه قائدان من قواده و كلاهما من مواليه ببغداد أحدهما بكتمر و الآخر بغرا في جمع

(9/156)


شرح نهج البلاغة ج : 8 ص : 185من أصحابهما فكان ورودهما زيادة في قوته ثم رحل في غد هذا اليوم بجميع جيشه فنزل متاخما لمدينة الناجم في موضع كان تخيره للنزول فأوطن هذا الموضع و جعله معسكرا له و أقام به و رتب قواده و رؤساء أصحابه مراتبهم فجعل نصيرا صاحب الماءي أول العسكر و جعل زيرك التركي في موضع آخر و علي بن جهشار حاجبه في موضع آخر و راشدا مولاه في مواليه و غلمانه الأتراك و الخزر و الروم و الديالمة و الطبرية و المغاربة و الزنج و الفراعنة و العجم و الأكراد محيطا هو و أصحابه بمضارب أبي أحمد و فساطيطه و سرادقاته و جعل صاعد بن مخلد وزيره و كاتبه في جيش آخر من الموالي و الغلمان فوق عسكر راشد و أنزل مسرورا البلخي القائد صاحب الأهواز في جيش آخر على جانب من جوانب عسكره و أنزل الفضل و محمدا ابني موسى بن بغا في جانب آخر بجيش آخر و تلاهما القائد المعروف بموسى و لجوا في جيشه و أصحابه و جعل بغراج التركي على ساقته في جيش كثيف بعدة عظيمة و عدد جم و رأى أبو أحمد من حال الناجم و حصانة موضعه و كثرة جمعه ما علم معه أنه لا بد له من الصبر عليه و طول الأيام في محاصرته و تفريق جموعه و بذل الأمان لهم و الإحسان إلى من أناب منهم و الغلظة على من أقام على غيه منهم و احتاج إلى الاستكثار من الشذا و ما يحارب به في الماء و شرع في بناء مدينة مماثلة لمدينة الناجم و أمر بإنفاذ الرسل في حمل الآلات و الصناع من البر و البحر و إنفاذ المير و الأزواد و الأقوات و إيرادها إلى عسكره بالمدينة التي شرع فيها و سماها الموفقية و كتب إلى عماله بالنواحي في حمل الأموال إلى بيت ماله في هذه المدينة و ألا يحمل إلى بيت المال بالحضرة درهم واحد و أنفذ رسلا إلى سيراف و جنابة في بناء الشذا شرح نهج البلاغة ج : 8 ص : 186و الاستكثار منها لحاجته إلى أن يبثها و يفرقها في المضع التي يقطع بها الميرة عن الناجم و أصحابه و أمر بالكتاب إلى عماله

(9/157)


في إنفاذ كل من يصلح للإثبات و العرض في الدواوين من الجند و المقاتلة و أقام ينتظر ذلك شهرا أو نحوه فوردت المير متتابعة يتلو بعضها بعضا و وردت الآلات و الصناع و بنيت المدينة و جهز التجار صنوف التجارات في الأمتعة و حملوها إليها و اتخذت بها الأسواق و كثر بها التجار و المجهزون من كل بلد و وردت إليها مراكب من البحر و قد كانت انقطعت لقطع الناجم و أصحابه سبلها قبل ذلك بأكثر من عشر سنين و بنى أبو أحمد في هذه المدينة المسجد الجامع و صلى بالناس فيه و اتخذ دور الضرب فضرب بها الدنانير و الدراهم فجمعت هذه المدينة جميع المرافق و سيق إليها صنوف المنافع حتى كان ساكنوها لا يفقدون فيها شيئا مما يوجد في الأمصار العظيمة القديمة و حملت الأموال و أدر العطاء على الناس في أوقاته فاتسعوا و حسنت أحوالهم و رغب الناس جميعا في المصير إلى هذه و المقام بها. قال أبو جعفر و أمر الناجم بهبوذ بن عبد الوهاب فعبر و الناس غارون في سميريات إلى طرف عسكر أبي حمزة صاحب الماء فأوقع به و قتل جماعة من أصحابه و أسر جماعة و أحرق أكواخا كانت لهم و أرسل إبراهيم بن جعفر الهمداني و هو من جملة قواد الناجم في أربعة آلاف زنجي و محمد بن أبان المكنى أبا الحسين أخا علي بن أبان المهلبي في ثلاثة آلاف و القائد المعروف بالدور في ألف و خمسمائة ليغيروا على أطراف عسكر أبي أحمد و يوقعوا بهم فنذر بهم أبو العباس فنهد إليهم في جمع كثيف من أصحابه و كانت بينه و بينهم حروب كان الاستظهار فيها كلها له و استأمن إليه جماعة منهم فخلع عليهم و أمر أن يوقفوا بإزاء مدينة الناجم ليعاينهم أصحابه و أقام أبو أحمد يكايد الناجم و يبذل

(9/158)


شرح نهج البلاغة ج : 8 ص : 187الأموال لأصحابه تارة و يواقعهم و يحاربهم تارة و يقطع الميرة عنهم فسرى بهبوذ الزنجي في الأجلاد المنتخبين من رجاله ليلة من الليالي و قد تأدى إليه خبر قيروان ورد للتجار فيه صنوف التجارات و الأمتعة و المير فكمن في النخل فلما وردلقيروان خرج إلى أهله و هم غارون فقتل منهم و أسر و أخذ ما شاء أن يأخذ من الأموال. و قد كان أبو أحمد علم بورود ذلك القيروان و أنفذ قائدا من قواده لبذرقته في جمع خفيف فلم يكن لذلك القائد ببهبوذ طاقة فانصرف عنه منهزما. فلما انتهى إلى أبي أحمد ذلك غلظ عليه ما نال الناس في أموالهم و تجاراتهم فأمر بتعويضهم و أخلف عليهم مثل الذي ذهب منهم و رتب على فوهة النهر المعروف بنهر بيان و هو الذي دخل القيروان فيه جيشا قويا لحراسته. قال أبو جعفر ثم أنفذ الناجم جيشا عليه القائد المعروف بصندل الزنجي و كان صندل هذا فيما ذكر يكشف وجوه الحرائر المسلمات و رءوسهن و يقلبهن تقليب الإماء فإن امتنعت منهن امرأة لطم وجهها و دفعها إلى بعض علوج الزنج يواقعها ثم يخرجها بعد ذلك إلى سوق الرقيق فيبيعها بأوكس الثمن فيسر الله تعالى قتله في وقعة جرت بينه و بين أبي العباس أسر و أحضر بين يدي أبي أحمد فشده كتافا و رماه بالسهام حتى هلك. قال أبو جعفر ثم ندب الناجم جيشا آخر و أمره أن يغير على طرف من أطراف عسكر أبي أحمد و هم غارون فاستأمن من ذلك الجيش زنجي مذكور يقال له مهذب شرح نهج البلاغة ج : 8 ص : 188كان من فرسان الزنج و شجعانهم فأتي به إلى أبي أحمد وقإفطاره فأعلمه أنه جاء راغبا في الطاعة و الأمان و أن الزنج على العبور في ساعتهم تلك إلى عسكره للبيات و أن المندوبين لذلك أنجادهم و أبطالهم فأمر أبو أحمد أبا العباس ابنه أن ينهض إليهم في قواد عينهم له فنهضوا فلما أحس ذلك الجيش بأنهم قد نذروا بهم و عرفوا استئمان صاحبهم رجعوا إلى مدينتهم. قال أبو جعفر ثم إن الناجم ندب أجل

(9/159)


قواده و أكبرهم قدرا عنده و هو علي بن أبان المهلبي و انتخب له أهل البأس و الجلد و أمره أن يبيت عسكر أبي أحمد فعبر في زهاء خمسة آلاف رجل أكثرهم الزنج و فيهم نحو مائتي قائد من مذكوريهم و عظمائهم فعبر ليلا إلى شرقي دجلة و عزموا على أن يفترقوا قسمين أحدهما خلف عسكر أبي أحمد و الثاني أمامه و يغير الذين أمامه على أصحاب أبي أحمد فإذا ثاروا إليهم و استعرت الحرب أكب أولئك الذين من وراء العسكر على من يليهم و هم مشاغيل بحرب من بإزائهم و قدر الناجم و علي بن أبان أن يتهيأ لهما من ذلك ما أحبا فاستأمن منهم إلى أبي أحمد غلام كان معهم من الملاحين ليلا فأخبره خبرهم و ما اجتمعت عليه آراؤهم فأمر ابنه أبا العباس و الغلمان و القواد بالحذر و الاحتياط و الجد و فرقهم في الجهتين المذكورتين فلما رأى الزنج أن تدبيرهم قد انتقض و أنه قد فطن لهم و نذر بهم كروا راجعين في الطريق الذي أقبلوا فيه طالبين التخلص فسبقهم أبو العباس و لزيرك إلى فوهة النهر ليمنعوهم من عبوره و أرسل أبو أحمد غلامه الأسود الزنجي الذي يقال له ثابت و كان له قيادة على السودان الذين بعسكر الموفق فأمره أن يعترضهم و يقف لهم في طريقهم

(9/160)


شرح نهج البلاغة ج : 8 ص : 189بأصحابه فأدركهم و هو في خمسمائة رجل فواقعهم و شد عضده أبو العباس و لزيرك بمن معهما فقتل من الزنج أصحاب الناجم خلق كثير و أسر منهم كثير و أفلت الباقون فلحقوا بمدينتهم و انصرف أبو العباس بالفتح و قد علق رءوس الزنج في الشذا و ص الأسارى أحياء فيها فاعترضوا بهم مدينتهم ليرهبوا أصحابهم فلما رأوهم رعبوا و انكسروا و اتصل بأبي أحمد أن الناجم موه على أصحابه و أوهم أن الرءوس المرفوعة مثل مثلها لهم أبو أحمد ليراعوا و أن الأسارى من المستأمنة فأمر أبو أحمد عند ذلك بجميع الرءوس و المسير بها إلى إزاء قصر الناجم و القذف بها في منجنيق منصوب في سفينة إلى عسكره ففعل ذلك فلما سقطت الرءوس في مدينتهم عرف أولياء القتلى رءوس أصحابهم فظهر بكاؤهم و صراخهم. قال أبو جعفر و كانت لهم وقعات كثيرة بعد هذه في أكثرها ينهزم الزنج و يظفر بهم و طلب وجوههم الأمان فكان ممن استأمن محمد بن الحارث القائد و إليه كان حفظ النهر المعروف بمنكى و السور الذي يلي عسكر أبي أحمد كان خروجه ليلا مع عدة من أصحابه فوصله أبو أحمد بصلات كثيرة و خلع عليه و حمله على عدة دواب بحليتها و آلاتها و أسنى له الرزق. و كان محمد هذا حاول إخراج زوجته معه و هي إحدى بنات عمه فعجزت المرأة عن اللحاق به فأخذها الزنج فردوها إلى الناجم فحبسها مدة ثم أمر بإخراجها و النداء عليها في السوق فبيعت. و ممن استأمن القائد المعروف بأحمد البرذعي كان من أشجع رجالهم و كان يكون أبدا مع المهلبي. شرح نهج البلاغة ج : 8 ص 190و كان ممن استأمن مربدا القائد و برنكوبة و بيلويه فخلعت عليهم الخلع و وصلوا بالصلات الكثيرة و حملوا على الخيول المحلاة و أحسن إلى كل من جاء معهم من أصحابهم. قال أبو جعفر فضاقت المير على الناجم و أصحابه فندب شبلا القائد و أبا الندى و هما من رؤساء قواده و قدماء أصحابه الذين يعتمد عليهم و يثق بمناصحتهم و أمرهما بالخروج في

(9/161)


عشرة آلاف من الزنج و غيرهم و القصد إلى نهر الدير و نهر المرأة و نهر أبي الأسد و الخروج من هذه الأنهار إلى البطيحة و الغارة على المسلمين و أهل القرى و قطع الطرقات و أخذ جميع ما يقدرون عليه من الطعام و الميرة و حمله إلى مدينته و قطعه عن الوصول إلى عسكر أبي أحمد فندب أبو أحمد لقصدهم مولاه لزيرك في جيش كثيف بعضه في الماء و بعضه على الظهر فواقعهم في الموضع المعروف بنهر عمر فكانت بينه و بينهم حرب شديدة أسفرت عن انكسارهم و خذلان الله لهم فأخذ منهم أربعمائة سفينة و أسرى كثيرين و أقبل بها و بهم و بالرءوس إلى عسكر أبي أحمد. قال أبو جعفر و ندب أبو أحمد ابنه أبا العباس لقصد مدينة الناجم و العلو عليها فقصدها من النهر المعروف بالغربي و قد أعد الناجم به علي بن أبان المهلبي فاستعرت الحرب بين الفريقين فأمد الناجم عليا بسليمان بن جامع في جمع كثير من قواد الزنج و اتصلت الحرب و استأمن كثير من قواد الزنج إلى أبي العباس و امتدت الحرب إلى بعد العصر ثم انصرف أبو العباس فاجتاز في منصرفه بمدينة الناجم و قد انتهى إلى الموضع المعروف

(9/162)


شرح نهج البلاغة ج : 8 ص : 191بنهر الأتراك فرأى في ذلك النهر قلة من الزنج الذين يحرسونه فطمع فيهم فقصد نحوهم و صعد جماعة من أصحابه سور المدينة و عليه فريق من الزنج فقتلوا من أصابوا هناك و نذر الناجم بهم فأنجدهم بقواد من قواده فأرسل أبو العباس إلى أبيه يسده فوافى من عسكر أبي أحمد من خف من الغلمان فقوى بهم عسكر أبي العباس. و قد كان سليمان بن جامع لما رأى أن أبا العباس قد أوغل في نهر الأتراك صعد في جمع كثير من الزنج ثم استدبر أصحاب أبي العباس و هم متشاغلون بحرب من بإزائهم على سور المدينة فخرج عليهم من ورائهم و خفقت طبولهم فانكشف أصحاب أبي العباس و حملت الزنج عليهم من أمامهم فأصيب في هذه الوقعة جماعة من غلمان أبي أحمد و قواده و صار في أيدي الزنج عدة أعلام و مطارد و حامى أبو العباس عن نفسه حتى انصرف سالما فأطمعت هذه الوقعة الزنج و أتباعهم و شدت قلوبهم فأجمع أبو أحمد على العبور بجيشه أجمع و أمر بالاستعداد و التأهب فلما تهيأ له ذلك عبر في آخر ذي الحجة من سنة سبع و ستين في أكثف جمع و أكمل عدة و فرق قواده على أقطار مدينة الناجم و قصد هو بنفسه ركنا من أركانها و قد كان الناجم حصنه بابنه الذي يقال له أنكلاني و كنفه بعلي بن أبان و سليمان بن جامع و إبراهيم بن جعفر الهمداني و حفه بالمجانيق و العرادات و القسي الناوكية و أعد فيه الناشبة جمع فيه أكثر جيشه فلما التقى الجمعان أمر أبو أحمد غلمانه الناشبة و الرامحة و السودان بالدنو من هذا شرح نهج البلاغة ج : 8 ص : 192الركن و بي و بينهم النهر المعروف بنهر الأتراك و هو نهر عريض غزير الماء فلما انتهوا إليه أحجموا عنه فصيح بهم و حرضوا على العبور فعبروه سباحة و الزنج ترميهم بالمجانيق و العرادات و المقاليع و الحجارة عن الأيدي و السهام عن قسي اليد و قسي الرجل و صنوف الآلات التي يرمى عنها فصبروا على جميع ذلك حتى جاوزوا النهر و انتهوا إلى السور و لم يكن

(9/163)


لحقهم من الفعلة من كان أعده لهدمه فتولى الغلمان تشعيث السور بما كان معهم من السلاح و يسر الله تعالى ذلك و سهلوا لأنفسهم السبيل إلى علوه و حضرهم بعض السلاليم التي كانت اتخذت لذلك فعلوا الركن و نصبوا عليه علما عليه مكتوب الموفق بالله و أكبت عليهم الزنج فحاربوا أشد حرب و قتل من قواد أبي أحمد القائد المعروف بثابت الأسود رمي بسهم في بطنه فمات و كان من جلة القواد و أحرق أصحاب الموفق ما على ذلك الركن من المنجنيقات و العرادات. و قصد أبو العباس بأصحابه جهة أخرى من جهات المدينة ليدخلها من النهر المعروف بمنكى فعارضه علي بن أبان في جمع من الزنج فظهر أبو العباس عليه و هزمه و قتل قوما من أصحابه و أفلت علي بن أبان المهلبي راجعا و انتهى أبو العباس إلى نهر منكى و هو يرى أن المدخل من ذلك الموضع سهل فوصل إلى الخندق فوجده عريضا منيعا فحمل أصحابه أن يعبروه فعبروه و عبرته الرجالة سباحة و وافوا السور فثلموا منه ثلمة و اتسع لهم دخولها فدخلوا فلقي أولهم سليمان بن جامع و قد أقبل للمدافعة عن تلك الناحية فحاربوه و كشفوه و انتهوا إلى النهر المعروف بابن سمعان و هو نهر سيق بالمدينة و صارت الدار المعروفة بدار ابن سمعان في أيديهم فأحرقوا ما كان فيها و هدموها. فوقفت الزنج على نهر ابن سمعان وقوفا طويلا و دافعوا مدافعة شديدة و شد بعض موالي الموفق على علي بن أبان فأدبر عنه هاربا فقبض على مئزره فحل على المئزر و نبذه إلى الغلام و نجا بعد أن أشرف على الهلكة و حمل أصحاب أبي أحمد على الزنج فكشفوهم

(9/164)


شرح نهج البلاغة ج : 8 ص : 193عن نهر ابن سمعان حتى وافوا بهم طرف المدينة و ركب الناجم بنفسه في جمع من خواصه فتلقاه أصحاب الموفق فعرفوه و حملوا عليه و كشفوا من كان معه حتى أفرد و قرب منه بعض الرجالة حتى ضرب وجه فرسه بترسه و كان ذلك وقت غروب الشمس و حجز الل بينهم و بينه و أظلم و هبت ريح شمال عاصف و قوي الجزر فلصق أكثر سفن الموفق بالطين و حرض الناجم أصحابه فثاب منهم جمع كثير فشدوا على سفن الموفق فنالوا منها نيلا و قتلوا نفرا و صمد بهبوذ الزنجي لمسرور البلخي بنهر الغربي فأوقع به و قتل جماعة من أصحابه و أسر أسرى و صار في يده دواب من دوابهم فكسر ذلك من نشاط أصحاب الموفق و قد كان هرب في هذا اليوم كثير من قواد صاحب الزنج و تفرقوا على وجوههم نحو نهر الأمير و عبادان و غيرهما و كان ممن هرب ذلك اليوم منهم أخو سليمان بن موسى الشعراني و محمد و عيسى فمضيا يؤمان البادية حتى انتهى إليهما رجوع أصحاب الموفق و ما نيل منهم فرجعا و هرب جماعة من العرب الذين كانوا في عسكر الناجم و صاروا إلى البصرة و بعثوا يطلبون الأمان من أبي أحمد فأمنهم و وجه إليهم السفن و حملهم إلى الموفقية و خلع عليهم و أجرى لهم الأرزاق و الأنزال. و كان ممن رغب في الأمان من قواد الناجم القائد المعروف بريحان بن صالح المغربي و كانت له رئاسة و قيادة و كان يتولى حجبة أنكلاني بن الناجم فكتب ريحان يطلب الأمان لنفسه و لجماعة من أصحابه فأجيب إلى ذلك و أنفذ إليه عدد كثير من الشذا و السميريات و المعابر مع لزيرك القائد صاحب مقدمة أبي العباس فسلك نهر اليهودي إلى آخره فألفى به ريحان القائد و من كان معه من أصحابه و قد كان الموعد تقدم منه في موافاة ذلك الموضع فسار لزيرك به و بهم إلى دار الموفق فأمر لريحان بخلع جليلة شرح نهج البلاغة ج : 8 ص : 194و حمل على عدة أفراس بآلتها و حلها و أجيز بجائزة سنية و خلع على أصحابه و أجيزوا على أقدارهم و

(9/165)


مراتبهم و ضم ريحان إلى أبي العباس و أمر بحمله و حمل أصحابه و المصير بهم إلى إزاء دار الناجم فوقفوا هنالك في الشذا عليهم الخلع الملونة بصنوف الألوان و الذهب حتى عاينوهم مشاهدة فاستأمن في هذا اليوم من أصحاب ريحان الذين كانوا تخلفوا عنه و من غيرهم جماعة فألحقوا في البر و الإحسان بأصحابهم. ثم استأمن جعفر بن إبراهيم المعروف بالسجان في أول يوم من سنة ثمان و ستين و مائتين و كان أحد ثقات الناجم ففعل به من الخلع و الإحسان ما فعل بريحان و حمل في سميرية حتى وقف بإزاء قصر الناجم حتى يراه أصحابه و كلمهم و أخبرهم أنهم في غرور من صاحبهم و أعلمهم ما وقف عليه من كذبه و فجوره فاستأمن في هذا اليوم خلق كثير من قواد الزنج و غيرهم و تتابع الناس في طلب الأمان و أقام أبو أحمد يجم أصحابه و يداوي جراحهم و لا يحارب و لا يعبر إلى الزنج إلى شهر ربيع الآخر. ثم عبر جيشه في هذا الشهر المذكور مرتبا على ما استصلحه من تفريقه في جهات مختلفة و أمرهم بهدم سور المدينة و تقدم إليهم أن يقتصروا على الهدم و لا يدخلوا المدينة و وكل بكل ناحية من النواحي التي وجه إليها قواده سفنا فيها الرماة و أمرهم أن يحموا بالسهام من يهدم السور من الفعلة فثلمت في هذا اليوم من السور ثلم كثيرة و اقتحم أصحاب أبي أحمد المدينة من جميع تلك الثلم و هزموا من كان عليها من الزنج و أوغلوا في طلبهم و اختلف بهم طرق المدينة و تفرقت بهم السكك و الفجاج

(9/166)


شرح نهج البلاغة ج : 8 ص : 195و انتهوا إلى أبعد من المواضع التي كانوا وصلوا إليها في المرة التي قبلها فتراجعت إليهم الزنج و خرج عليهم كمناؤهم من نواح يهتدون إليها و لا يعرفها جيش أبي أحمد فتحير جيش أبي أحمد فقتل منهم خلق كثير و أصاب الزنج منهم أسلحة و أسبا و أقام ثلاثون ديلميا من أصحاب أبي أحمد يدافعون عن الناس و يحمونهم حتى خلص إلى السفن من خلص و قتلت الديالمة عن آخرها و عظم على الناس ما أصابهم في هذا اليوم و انصرف أبو أحمد إلى مدينته الموفقية فجمع قواده و عذلهم على ما كان منهم من مخالفة أمره و الإفساد عليه في رأيه و تدبيره و توعدهم بأغلظ العقوبة إن عادوا لمثل ذلك و أمر بإحصاء المقتولين من أصحابه فأتي بأسمائهم فأقر ما كان جاريا لهم على أولادهم و أهاليهم فحسن موقع ذلك و زاد في صحة نيات أصحابه لما رأوا من خياطته خلف من أصيب في طاعته. قال أبو جعفر و شرع أبو أحمد في قطع الميرة عن مدينة الناجم من جميع الجهات و قد كان يجلب إليهم من السمك الشي ء العظيم من مواضع كثيرة فمنع ذلك عنهم و قتل القوم الذين كانوا يجلبونه و أخذت عليهم الطرق و انسد عليهم كل مسلك كان لهم و أضر بهم الحصار و أضعف أبدانهم و طالت المدة فكان الأير منهم يؤسر و المستأمن يستأمن فيسأل عن عهده بالخبز فيقول مذ سنة أو سنتين و احتاج من كان منهم مقيما في مدينة الناجم إلى الحيلة لقوته فتفرقوا في الأنهار النائية عن عسكرهم طلبا للقوت و كثرت الأسارى منهم في عسكر أبي أحمد لأنه كان يلتقطهم بأصحابه يوما فيوما فأمر باعتراضهم لما رأى كثرتهم فمن كان منهم ذا قوة و جلد و نهوض بالسلاح من عليه و أحسن إليه و خلطه بغلمانه السودان و عرفهم ما لهم عنده من البر و الإحسان و من كان منهم ضعيفا لا حراك به أو شيخا فانيا لا يطيق حمل السلاح أو مجروحا جراحة قد أزمنته أمر بأن يكسى ثوبين و يوصل بدارهم و يزود و يحمل إلى عسكر شرح نهج البلاغة ج : 8 ص :

(9/167)


196الناجم فيلقى هناك بعد أن يوصى بوصف ما عاين من إحسان أبي أحمد إلى كل من يصير إليه و أن ذلك رأيه في جميع من يأتيه مستأمنا أو يأسره فتهيأ له بذلك ما أراد من استمالة الزنج حتى استشعروا الميإلى ناحيته و الدخول في سلمه و طاعته. قال أبو جعفر ثم كانت الوقعة التي قتل فيها بهبوذ الزنجي القائد و جرح أبو العباس و ذلك أن بهبوذ كان أكثر أصحاب الناجم غارات و أشدهم تعرضا لقطع السبل و أخذ الأموال و كان قد جمع من ذلك لنفسه مالا جليلا و كان كثير الخروج في السميريات الخفاف فيخترق بها الأنهار المؤدية إلى دجلة فإذا صادف سفينة لأصحاب أبي أحمد أخذها و استولى على أهلها و أدخلها النهر الذي خرج منه فإن تبعه تابع حتى توغل في طلبه خرج عليه من ذلك النهر قوم من أصحابه قد أعدهم لذلك فأقطعوه و أوقعوا به فوقع التحرز حينئذ منه و الاستعداد لغاراته فركب شذاة و شبهها بشذوات أبي أحمد و نصب عليها علما مثل أعلامه و سار بها و معه كثير من الزنج فأوقع بكثير من أصحاب أبي أحمد و قتل و أسر فندب له أبو أحمد ابنه أبا العباس في جمع كثيف فكانت بينهما وقعة شديدة و رمي فيها أبو العباس بسهم فأصابه و أصابت بهبوذ طعنة في بطنه من يد غلام من بعض سميريات أبي العباس فهوى إلى الماء فابتدره أصحابه فحملوه و رجعوا به إلى عسكر الناجم فلم يصلوا به إلا و هو ميت فعظمت الفجيعة به على الناجم و أوليائه و اشتد عليه جزعهم و خفي موته على أبي أحمد حتى استأمن إليه رجل من الملاحين فأخبره بذلك فسر و أمر بإحضار الغلام الذي طعنه فوصله و كساه و طوقه و زاد في رزقه و أمر لجميع من كان في تلك السميرية بصلات و خلع و عولج أبو العباس من جرحه مدة حتى برأ و أقام أبو أحمد في مدينته الموفقية ممسكا عن حرب الزنج محاصرا لهم

(9/168)


شرح نهج البلاغة ج : 8 ص : 197بسد الأنهار و سكرها و اعترض من يخرج منهم لجلب الميرة و منتظرا برء ولده حتى كمل بعد شهور كثيرة و انقضت سنة ثمان و ستين. و نقل إسحاق بن كنداجيق عن البصرة و أعمالها فولي الموصل و الجزيرة و ديار ربيعة و ديار مضر. و دخلت سنة تسع ستين و أبو أحمد مقيم على الحصار فلما أمن على أبي العباس و ركب على عادته عاود النهوض إلى حرب الناجم. قال أبو جعفر و قد كان بهبوذ لما هلك طمع الناجم في أمواله لكثرتها و وفورها و صح عنده أنه ترك مائتي ألف دينار عينا و من الجواهر و غيرها بمثل ذلك فطلب المال المذكور بكل حيلة و حبس أولياء بهبوذ و قرابته و أصحابه و ضربهم بالسياط و أثار دورا من دوره و هدم أبنية من أبنيته طمعا في أن يجد في شي ء منها دفينا فلم يجد من ذلك شيئا فكان فعله هذا أحد ما أفسد قلوب أصحابه عليه و دعاهم إلى الهرب منه و الزهد في صحبته فاستأمن مهم إلى أبي أحمد خلق كثير فوصلهم و خلع عليهم و رأى أن يعبر دجلة من الجانب الشرقي إلى الجانب الغربي فيجعل لنفسه هناك معسكرا و يبني به مدينة أخرى و يضيق خناق الناجم و يتمكن من مغاداته و مراوحته بالحرب فقد كانت الريح العاصف تحول بينه و بين عبور دجلة في كثير من الأيام بالجيش فأمر بقطع النخل المقارب لمدينة الناجم لذلك و إصلاح موضع يتخذه معسكرا و أن يحف بالخنادق و يحصر بالسور ليأمن بيات الزنج و جعل على قواده نوانب لذلك و معهم الفعلة و الرجال فقابل الناجم ذلك بأن جعل علي بن أبان المهلبي و سليمان بن جامع و إبراهيم بن جعفر الهمداني نوبا للحرب و المدافعة عن ذلك و كان أنكلاني بن الناجم ربما حضر في نوبة أيضا و ضم شرح نهج البلاغة ج : 8 ص : 198إليه سليمان بن موسى بن الشعراني و قد كان صار إليه من المذار بعد الوقعة التي انهزم فيها و علم الناجم أن أبا أحمد إذا جاوره صعب أمرو قرب على من يريد اللحاق به من الزنج المسافة مع ما يدخل قلوب أصحابه

(9/169)


بمجاورته من الرعب و الرهبة و في ذلك انتقاض تدبيره و فساد جميع أموره فكانت الحرب بين قواد أبي أحمد و قواد الناجم متصلة على إصلاح هذا الموضع و مدافعة الزنج عنه. و اتفق أن عصفت الرياح يوما و جماعة من قواد أبي أحمد بالجانب الغربي للعمل الذي يريدونه فانتهز الناجم الفرصة في امتناع العبور بدجلة لعصف الريح فرماهم بجميع جيشه و كاثرهم برجله فلم تجد الشذوات التي مع قواد أبي أحمد سبيلا إلى الوقوف بحيث كانت واقفة به لحمل الرياح إياها على الحجارة و خوف أصحابها عليها من التكسر و لم يجدوا سبيلا إلى العبور في دجلة لشدة الريح و اضطراب الأمواج فأوقعت الزنج بهم فقتلوهم عن آخرهم و أفلت منهم نفر فعبروا إلى الموفقية فاشتد جزع أبي أحمد و أصحابه لما نالهم. و لما تهيأ للزنج عليهم و عظم بذلك اهتمامهم و تعقب أبو أحمد الرأي فرأى أن نزوله و مقامه بالجانب الغربي مجاور مدينة الناجم خطأ و أنه لا يؤمن منه حيلة و انتهاز فرصة فيوقع بالعسكر بياتا أو يجد مساغا إلى ما يكون له قوة لكثرة الأدغال في ذلك الموضع و صعوبة المسالك و أن الزنج على التوغل في تلك المواضع الوعرة الموحشة أقدر و هو عليهم أسهل من أصحابه فانصرف عن رأيه في نزول الجانب الغربي و صرف همه و قصده

(9/170)


شرح نهج البلاغة ج : 8 ص : 199إلى هدم سور مدينة الناجم و توسعة الطريق و المسالك لأصحابه في دخولها فندب القواد لذلك و ندب الناجم قواده للمدافعة عنها و طال الأمد و تمادت الأيام. فلما رأى أبو أحمد تحاشد الزنج و تعاونهم على المنع من هدم السور أزمع على مباشرةلك بنفسه و حضوره إياه ليستدعي بذلك جد أصحابه و اجتهادهم و يزيد في عنايتهم و هممهم فحضر بنفسه و اتصلت الحرب و غلظت على الفريقين و كثر القتل و الجراح في الحزبين و أقام أبو أحمد أياما كثيرة يغاديهم الحرب و يراوحهم فكانوا لا يفترون يوما من الأيام و صعب على أصحاب أبي أحمد ما كانوا يرومونه و اشتدت حماية الزنج عن مدينتهم و باشر الناجم الحرب بنفسه و معه نخبة أصحابه و أبطالهم و المؤمنون أنفسهم على الصبر معه فحاموا جهدهم حتى لقد كانوا يقفون الموقف فيصيب أحدا منهم السهم أو الطعنة أو الضربة فيسقط فيجذبه الذي إلى جانبه فينحيه و يقف موقفه إشفاقا من أن يخلو موقف رجل منهم فيدخل الخلل عليهم. و اتفق في بعض الأيام شدة ضباب ستر بعض الناس عن بعض فما يكاد الرجل يبصر صاحبه و ظهر أصحاب أبي أحمد و لاحت تباشير الفتح و دخل الجند إلى المدينة و ولجوها و ملكوا مواضع منها و إنهم لعلى ذلك حتى وصل سهم من سهام الزنج إلى أبي أحمد رماه به رومي كان مع الناجم يقال له قرطاس فأصابه في صدره و ذلك لخمس بقين من جمادى الأولى سنة تسع و ستين و مائتين فستر أبو أحمد و خواصه ما ناله من ذلك عن الناس و انصرف إلى الموفقية آخر نهار يومه هذا فعولج في ليلته تلك و شدت الجراحة و غدا على الحرب على ما ناله من ألمها ليشد بذلك قلوب أصحابه من أن يدخلها وهن أو ضعف فزاد في قوة علته بما حمل على نفسه من الحركة فغلظت و عظم أمرها حتى خيف عليه العطب و احتاج إلى علاج نفسه بأعظم ما يعالج به الجراح و اضطرب لذلك شرح نهج البلاغة ج : 8 ص : 200العسكر و الجند و الرعية و خافوا قوة الزنج عليهم حتى

(9/171)


خرج عن الموفقية جماعة من التجار كانوا مقيمين بها لما وصل إلى قلوبهم من الرهبة. قال أبو جعفر و حدثت على أبي أحمد في حال صعوبة علته حادثة في سلطانه و أمور متعلقة بما بينه و بيأخيه المعتمد فأشار عليه مشيرون من أصحابه و ثقاته بالرحلة عن معسكره إلى بغداد و أن يخلف من يقوم مقامه فأتى ذلك و حاذر أن يكون فيه تلافى ما قد فرق من شمل صاحب الزنج فأقام على صعوبة علته و غلظ الأمر الحادث في سلطانه و صبر إلى أن عوفي فظهر لقواده و خاصته و قد كان أطال الاحتجاب عنهم فقويت برؤيته منتهم و أقام متماثلا مودعا نفسه إلى شعبان من هذه السنة فلما أبل و قوي على الركوب و النهوض نهض و عاود ما كان مواظبا عليه من الحرب و جعل الناجم لما صح عنده الخبر بما أصاب أبا أحمد يعد أصحابه العدات و يمنيهم الأماني و اشتدت شوكتهم و قويت آمالهم فلما اتصل به ظهور أبي أحمد جعل يحلف للزنج على منبره أن ذلك باطل لا أصل له و أن الذي رأوه في الشذا مثال موه و شبه عليهم. قلت الحادث الذي حدث على أبي أحمد من جهة سلطانه أن أخاه المعتمد و هو الخليفة يومئذ فارق دار ملكه و مستقر خلافته مغاضبا له متجنيا عليه زاعما أنه مستبد بأموال المملكة و جبايتها مضطهدا له مستأثرا عليه فكاتب ابن طولون صاحب مصر و سأله أن يأذن له في اللحاق به فأجابه ابن طولون إلى ذلك فخرج من سامراء في جماعة من قواده و مواليه قاصدا مصر و كان أبو أحمد هو الخليفة في المعنى و إنما المعتمد صورة شرح نهج البلاغة ج : 8 ص : 201خالية من معاني الخلافة لا أمر له و لا نهي و لا حل و لا عقد و أبو أحمد هو الذي يرتب الوزراء و الكتاب و يقود القواد و يقطع الأقطاع و لا يراجع المعتمد في شي ء من الأمور أصلا فاتصل به خبر المعتمد في شخوصه عن سامرو قصده ابن طولون فكاتب إسحاق بن كنداحيق و هو يومئذ على الموصل و الجزيرة فأمره أن يعترض المعتمد و يقبض عليه و على القواد و الموالي الذين معه و يعيدهم

(9/172)


إلى سامراء و كتب لإسحاق بإقطاعه ضياع أولئك القواد و الموالي بأجمعهم فاعترضهم إسحاق و قد قربوا من الرقة فأخذهم و قبض عليهم و قيدهم بالقيود الثقيلة و دخل على المعتمد فعنفه و هجنه و عذله في شخوصه عن دار ملكه و ملك آبائه و مفارقة أخيه على الحال التي هو بها و حرب من يحاول قتله و قتل أهل بيته و زوال ملكهم. ثم حملهم في قيودهم حتى وافى بهم سامراء فأقر المعتمد على خلافته و منعه عن الخروج و أرسل أبو أحمد ابنه هارون و كاتبه صاعد بن مخلد من الموفقية إلى سامراء فخلعا على ابن كنداحيق خلعا جليلة و قلد بسيفين من ذهب و لقب ذا السيفين و هو أول من قلد بسيفين ثم خلع عليه بعد ذلك بيوم قباء ديباج أسود و وشاحين مرصعين بالجوهر الثمين و توج بتاج من ذهب مرصع بنفيس الجوهر و قلد سيفا من ذهب مرصع بالجواهر العظيمة و شيعه إلى منزله هارون و صاعد و قعدا على طعامه كل ذلك مكافأة له عن صنيعه في أمر المعتمد فليعجب المتعجب من همة الموفق أبي أحمد و قوة نفسه و شدة شكيمته أن يكون بإزاء ذلك العدو و يقتل من أصحابه كل وقت من يقتل ثم يصاب ولده بسهم و يصاب هو بسهم آخر في صدره يشارف منه على الموت و يحدث من أخيه و هو الخليفة ما يحدث و لا تنكسر نفسه و لا يهي عزمه و لا تضعف قوته و بحق

(9/173)


شرح نهج البلاغة ج : 8 ص : 202ما سمي المنصور الثاني و لو لا قيامه في حرب الزنج لانقرض ملك أهل بيته و لكن الله تعالى ثبته لما يريده من بقاء هذه الدولة. قال أبو جعفر ثم جد الموفق في تخريب السور و إحراق المدينة و جد الناجم في إعداد المقاتلة و المحاطة عن سورو مدينته فكانت بين الفريقين حروب عظيمة تجل عن الوصف و رمى الناجم سفن الموفق المقاربة لسور مدينته بالرصاص المذاب و المجانيق و العرادات و أمر أبو أحمد بإعداد ظلة من خشب للشذا و إلباسها جلود الجواميس و تغطية ذلك بالخيوش المطلية بصنوف العقاقير و الأدوية التي تمنع النار من الإحراق ففعل ذلك و حورب صاحب الزنج من تحتها فلم تعمل ناره و رصاصه المذاب فيها شيئا و استأمن إلى أبي أحمد محمد بن سمعان كاتب الناجم و وزيره في شعبان من هذه السنة فهد باستئمانه أركان الناجم و أضعف قوته و انتدب أبو العباس لقصد دار محمد بن يحيى الكرنبائي و كانت بإزاء دار الناجم و شرع في الحيلة في إحراقها و أحرق الموفق كثيرا من الرواشين المظلة على سور المدينة و شعثها و علا غلمان أبي أحمد على دار الناجم و ولجوها و انتهبوها و أضرموا النار فيها و فعل أبو العباس بدار الكرنبائي مثل ذلك و جرح أنكلاني بن الناجم في بطنه جراحة شديدة أشفى منها على التلف و اتفق مع هذا الظفر العظيم أن غرق أبو حمزة نصير صاحب جيش الماء عند ازدحام الشذوات و إكباب الزنج على الحرب فصعب ذلك على أبي أحمد و قوي بغرقه أمر الزنج و انصرف أبو أحمد شرح نهج البلاغة ج : 8 ص : 203آخر نهار هذاليوم و عرضت له علة أقام فيها بقية شعبان و شهر رمضان و أياما من شوال ممسكا عن حرب الزنج إلى أن استبل من علته. قال أبو جعفر فلما أحرقت دار الناجم و دور أصحابه و شارف أن يؤخذ و عرضت لأبي أحمد هذه العلة فأمسك فيها عن الحرب انتقل الناجم من مدينته التي بناها بغربي نهر أبي الخصيب إلى شرقيه إلى منزل وعر لا يخلص إليه أحد لاشتباك

(9/174)


القصب و الأدغال و الأحطاب فيه و عليه خنادق من أنهار قاطعة معترضة فقطن هناك في خواصه و من تخلف معه من جلة أصحابه و ثقاته و من بقي في نصرته من الزنج و هم حدود عشرين ألف مقاتل و انقطعت الميرة عنهم و بان للناس ضعف أمرهم فتأخر الجلب الذي كان يصل إليهم فبلغ الرطل من خبز البر عندهم عشرة دراهم فأكلوا الشعير ثم أكلوا أصناف الحبوب ثم لم يزل الأمر كذلك إلى أن كانوا يتبعون الناس فإذا خلا أحد منهم بصبي أو امرأة أو رجل ذبحوه و أكلوه ثم صار قوي الزنج يعدو على ضعيفهم فإذا خلا به ذبحه و أكل لحمه ثم ذبحوا أولادهم فأكلوا لحومهم و كان الناجم لا يعاقب أحدا ممن فعل شيئا من ذلك إلا بالحبس و إذا تطاول حبسه أطلقه. و لما أبل الموفق من علته و علم انتقال الناجم إلى شرقي نهر أبي الخصيب و اعتصامه به أعمل فكره في تخريب الجانب الشرقي عليه كما فعل بالجانب الغربي ليتمكن من قتله أو أسره فكانت له آثار عظيمة من قطع الأدغال و الدحال و سد الأنهار و طم الخنادق و توسيع المسالك و إحراق الأسوار المبنية و إدخال الشذا و فيها المقاتلة إلى حريم الناجم و في كل ذلك يدافع الزنج عن أنفسهم بحرب شديدة و قتال عظيم تذهب فيها النفوس و تراق فيها الدماء و كان الظفر في ذلك كله لأبي أحمد و أمر الزنج يزداد ضعفا

(9/175)


شرح نهج البلاغة ج : 8 ص : 204و طالت الأيام على ذلك إلى أن استأمن سليمان بن موسى الشعراني و هو من عظمائهم و قد تقدم ذكره فوجه يطلب الأمان من أبي أحمد فمنعه ذلك لما كان سلف منه من العيث و سفك الدماء بنواحي واسط. ثم اتصل بأبي أحمد أن جماعة من رؤساء الزنج قاستوحشوا لمنعه الشعراني من الأمان فأجاب إلى إعطائه الأمان استصلاحا بذلك غيره من رؤساء الزنج و أمر بتوجيه الشذا إلى موضع وقع الميعاد عليه فخرج سليمان الشعراني و أخوه و جماعة من قواده فنزلوا الشذا فصاروا إلى أبي العباس فحملهم إلى أبي أحمد فخلع على سليمان و من معه و حمله على عدة أفراس بسروجها و آلتها و أنزل له و لأصحابه إنزالا سنية و وصله بمال جليل و وصل أصحابه و ضمه و ضمهم إلى أبي العباس و أمر بإظهاره و إظهارهم في الشذا لأصحاب الناجم ليزدادوا ثقة بأمانته فلم تبرح الشذا ذلك اليوم من موضعها حتى استأمن جمع كثير من قواد الزنج فوصلوا و ألحقوا بإخوانهم في الحباء و البر و الخلع و الجوائز فلما استأمن الشعراني اختل ما كان الناجم قد ضبطه به من مؤخر عسكره و قد كان جعله على مؤخر نهر أبي الخصيب فوهى أمره و ضعف و قلد ما كان سليمان يتولاه القائد المعروف بشبل بن سالم و هو من قوادهم المشهورين فلم يمس أبو أحمد حتى وافاه رسول شبل بن سالم يطلب الأمان و يسأل أن يوقف له شذوات عند دار ابن سمعان ليكون قصده في الليل إليها و معه من يثق به من أصحابه فأجيب إلى سؤاله و وافى آخر الليل و معه عياله و ولده و جماعة من قواده فصاروا إلى أبي أحمد فوصله بصلة جليلة و خلع عليه خلعا كثيرة و حمله على عدة أفراس بسروجها و آلتها و وصل أصحابه و خلع عليهم و أحسن إليهم و أرسله في الشذوات فوقفوا بحيث يراهم الناجم و أصحابه نهارا فعظم ذلك عليه و على أوليائه و أخلص شبل في مناصحة أبي أحمد فسأل أن يضم إليه عسكر يبيت به عسكر الناجم و يسلك إليه من مسالك يعرفها هو و لا يعرفها أصحاب

(9/176)


أبي أحمد ففعل شرح نهج البلاغة ج : 8 ص : 205و كبس عسكر الناجم سحرا فأوقع بهم و هم غارون فقتل منهم مقتلة عظيمة و أسر جمعا من قواد الزنج و انصرف بهم إلى الموفق و ذعر الزنج من شبل و ما فعله فانعوا من النوم و خافوا خوفا شديدا فكانوا يتحارسون بعد ذلك في كل ليلة و لا تزال النفرة تقع في عسكرهم لما استشعروا من الخوف و وصل إلى قلوبهم من الوحشة حتى لقد كان ضجيجهم و تحارسهم يسمع بالموفقية. و صح عزم الموفق على العبور لمحاربة الناجم في الجانب الشرقي من نهر أبي الخصيب فجلس مجلسا عاما و أمر بإحضار قواد المستأمنة و وجوه فرسانهم و رجالتهم من الزنج و البيضان فأدخلوا إليه فخطبهم و عرفهم ما كانوا عليه من الضلالة و الجهل و انتهاك المحارم و ما كان صاحبهم زينه لهم من معاصي الله سبحانه و أن ذلك قد كان أحل له دماءهم و أنه قد غفر الزلة و عفا عن العقوبة و بذل الأمان و عاد على من لجأ إليه بالفضل و الإحسان فأجزل الصلات و أسنى الأرزاق و ألحقهم بالأولياء و أهل الطاعة و أن ما كان منه من ذلك يوجب عليهم حقه و طاعته و أنهم لن يأتوا بشي ء يتعرضون به لطاعة ربهم و الاستدعاء لرضا لطانهم أولى بهم من الجد في مجاهدة الناجم و أصحابه و أنهم من الخبرة بمسالك عسكر الناجم و مضايق طرق مدينته و المعاقل التي أعدها للحرب على ما ليس عليه من غيرهم فهم أحرى أن يمحضوه نصحهم و يجهدوا على الولوج إلى الناجم و التوغل إليه في حصونه حتى يمكنهم الله منه و من أشياعه فإذا فعلوا ذلك فلهم الإحسان و المزيد و من قصر منهم استدعى من سلطانه إسقاط حاله و تصغير منزلته و وضع مرتبته. فارتفعت أصواتهم جميعا بالدعاء للموفق و الإقرار بإحسانه و بما هم عليه من صحة الضمائر من السمع و الطاعة و الجد في مجاهدة عدوه و بذل دمائهم و مهجهم في كل ما يقربهم منه و أن ما دعاهم إليه قد قوى مننهم و دلهم على ثقته بهم و إحلاله إياهم

(9/177)


شرح نهج البلاغة ج : 8 ص : 206محل أوليائه و سألوه أن يفردهم ناحية و لا يخلطهم بعسكره ليظهر من حسن جهادهم بين يديه و خلوص نياتهم في الحرب و نكايتهم في العدو و ما يعرف به طاعتهم و إقلاعهم عما كانوا عليه من جهلهم. فأجابهم إلى ذلك و عرفهم حسن ما ظهر له من طاهم فخرجوا من عنده مبتهجين بما أجيبوا به من حسن القول و جميل الوعد. قال أبو جعفر ثم استعد أبو أحمد و رتب جيشه و دخل إلى عسكر الناجم بشرقي نهر أبي الخصيب في خمسين ألف مقاتل من البر و البحر فرسانا و رجالة يكبرون و يهللون و يقرءون القرآن و لهم ضجيج و أصوات هائلة فرأى الناجم منهم ما هاله و تلقاهم بنفسه و جيشه و ذلك في ذي القعدة سنة تسع و ستين و مائتين. و اشتبكت الحرب و كثر القتل و الجراح و حامى الزنج عن صاحبهم و أنفسهم أشد محاماة و استماتوا و صبر أصحاب أبي أحمد و صدقوا القتال فمن الله عليهم بالنصر و انهزم الزنج و قتل منهم خلق عظيم و أسر منهم أسرى كثيرة فضرب أبو أحمد أعناق الأسارى في المعركة و قصد بنفسه دار الناجم فوافاها و قد لجأ الناجم إليها و معه أنجاد أصحابه للمدافعة عنه. فلما لم يغنوا شيئا أسلموها و تفرقوا عنها و دخلها غلمان الموفق و بها بقايا ما كان سلم له من مال و أثاث فأخذوه و انتهبوه و أخذوا حرمه و ولده الذكور و الإناث و تخلص الناجم بنفسه و مضى هاربا نحو دار علي بن أبان المهلبي لا يلوي على أهل و لا ولد و لا مال و أحرقت داره و حمل أولاده و نساؤه إلى الموفقية في التوكيل و قصد أصاب أبي أحمد دار المهلبي و قد لجأ إليها الناجم و أكثر الزنج و تشاغل أصحاب أبي أحمد بنهب شرح نهج البلاغة ج : 8 ص : 207الأموال من دور الزنج فاغتنم الناجم تشاغلهم بالنهب فأمر قواده بانتهاز الفرصة و الإكباب عليهم فخرجوا عليهم من عدة مواضع و خرج عليهم كمناء أيضا قد كانوا كمنوهم لهم فكشفوهم اتبعوهم حتى وافوا بهم نهر أبي الخصيب فقتلوا من فرسانهم و رجالتهم

(9/178)


جماعة و ارتجعوا بعض ما كانوا أخذوه من المال و المتاع. ثم تراجع الناس و دامت الحرب إلى وقت العصر فرأى أبو أحمد عند ذلك أن يصرف أصحابه فأمرهم بالرجوع فرجعوا على هدوء و سكون كي لا تكون هزيمة حتى دخلوا سفنهم و أحجم الزنج عن أتباعهم و عاد أبو أحمد بالجيش إلى مراكزهم. قال أبو جعفر و وافى إلى أبي أحمد في هذا الشهر كاتبه صاعد بن مخلد من سامراء في عشرة آلاف و وافى إليه لؤلؤ صاحب ابن طولون و كان إليه أمر الرقة و ديار مضر في عشرة آلاف من نخبة الفرسان و أنجادهم فأمر أبو أحمد لؤلؤا أن يخرج في عسكره فيحارب الزنج فخرج بهم و معه من أصحاب أبي أحمد من يدله على الطرق و المضايق فكانت بين لؤلؤ و بين الزنج حرب شديدة في ذي الحجة من هذه السنة استظهر فيها لؤلؤ عليهم و بان من نجدته و شجاعته و إقدام أصحابه و صبرهم على ألم الجراح و ثبات قلوبهم ما سر أبا أحمد و ملأ قلبه. قال أبو جعفر فلما دخلت سنة سبعين و مائتين تتابعت الأمداد إلى أبي أحمد من سائر الجهات فوصل إليه أحمد بن دينار في جمع عظيم من المطوعة من كور الأهواز و نواحيها و قدم بعده من أهل البحرين جمع كثير من المطوعة زهاء ألفي رجل يقودهم رجل من عبد القيس و ورد بعد ذلك زهاء ألف رجل من فارس و رئيسهم شيخ من المطوعة يكنى أبا سلمة و كان أبو أحمد يجلس لكل من يرد و يخلع عليه و يقيم لأصحابه الأنزال الكثيرة و يصلهم بالصلات فعظم جيشه جدا و امتلأت بهم الأرض و صح

(9/179)


شرح نهج البلاغة ج : 8 ص : 208عزمه على لقاء الناجم بجميع عسكره فرتب جيوشه و قسمهم على القواد و أمر كل واحد من القواد أن يقصد جهة من جهات معسكر الناجم عينها له و ركب بنفسه و ركب جيشه و توغلوا في مسالك شرقي نهر أبي الخصيب و لقيهم الزنج و قد حشدوا و استقبلوفكانت بينهم وقعة شديدة منحهم الله تعالى فيها أكتاف الزنج فولوا منهزمين فاتبعهم أصحاب أبي أحمد يقتلون و يأسرون فقتل منهم كثير و غرق كثير و حوى أصحاب أبي أحمد معسكر الناجم و مدينته و ظفروا بعيال علي بن أبان المهلبي و داره و أمواله فاحتووا عليها و عبر أهله و أولاده إلى الموفقية مع كلابهم و مضى الناجم و معه المهلبي و ابنه أنكلاني و سليمان بن جامع و الهمداني و جماعة من أكابر القواد عامدين إلى موضع كان الناجم قد أعده لنفسه ملجأ إذا غلب على مدينته و داره في النهر المعروف بالسفياني فتقدم أبو أحمد و معه لؤلؤ قاصدين هذا النهر لأن أبا أحمد دل عليه فأوغل في الدخول و فقده أصحابه فظنوا أنه رجع فرجعوا كلهم و عبروا دجلة في الشذا ظانين أنه عبر راجعا و انتهى أبو أحمد و معه لؤلؤ قاصدين هذا النهر فاقتحمه لؤلؤ بفرسه و عبر أصحاب لؤلؤ خلفه. و وقف أبو أحمد في جماعة من أصحابه عند النهر و مضى الناجم هاربا و لؤلؤ يتبعه في أصحابه حتى انتهى إلى النهر المعروف بالقربري فوصل إليه لؤلؤ و أصحابه فأوقعوا به و بمن معه فكشفوهم فولوا هاربين حتى عبروا النهر المذكور و لؤلؤ و أصحابه يطردونهم من ورائهم حتى ألجئوهم إلى نهر آخر فعبروه و اعتصموا بدحال وراءه فولجوها و أشرف لؤلؤ و أصحابه عليها فأرسل إليه الموفق ينهاه عن اقتحامها و يشكر سعيه و يأمره بالانصراف فانفرد لؤلؤ هذا اليوم و أصحابه بهذا الفعل دون أصحاب الموفق فانصرف لؤلؤ محمود الفعل فحمله الموفق معه في شذاته و جدد له من البر و الكرامة و رفع المنزلة لما كان منه في أمر الناجم حسبما كان مستحقا له و لهذا نادى

(9/180)


شرح نهج البلاغة ج : 8 ص : 209أهل بغداد لما أدخل إليهم رأس الناجم بين يدي أبي العباس ما شئتم قولوا كان الفتح للؤلؤ. قال أبو جعفر فجمع الموفق في غد هذا اليوم قواده و هو حنق عليهم لانصرافهم عنه و إفرهم إياه و كان لؤلؤ و أصحابه تولوا طلب الناجم دونهم فعنقهم و عذلهم و وبخهم على ما كان منهم و عجزهم و أغلظ لهم فاعتذروا إليه بما توهموه من انصرافه و أنهم لم يعلموا أنه قد لجج و أوغل في طلب الناجم و أنهم لو علموا ذلك لأسرعوا نحوه. ثم تحالفوا بين يديه و تعاقدوا ألا يبرحوا في غد موضعهم إذا توجهوا نحو الزنج حتى يظفرهم الله تعالى به فإن أعياهم ذلك أقاموا حيث انتهى بهم النهار في أي موضع كان حتى يحكم الله بينهم و بينه و سألوا الموفق أن يرد السفن إلى الموفقية بحيث لا يطمع طامع من العسكر في الالتجاء إليها و العبور فيها. فقبل أبو أحمد عذرهم و جزاهم الخير عن تنصلهم و وعدهم بالإحسان و أمرهم بالتأهب للعبور ثم عبر بهم على ترتيب و نظام قد أحكمه و قرره و ذلك في يوم السبت لليلتين خلتا من صفر من سنة سبعين و مائتين و قد كان الناجم عاد من تلك الأنهار إلى معسكره بعد انصراف الجيش عنه فأقام به و أمل أن تتطاول به و بهم الأيام و تندفع عنه المناجزة فلقيه في هذا اليوم سرعان العسكر و هم مغيظون محنقون من التقريع و التوبيخ اللاحقين بهم بالأمس فأوقعوا به و بأصحابه وقعة شديدة أزالوهم عن مواقفهم فتفرقوا لا يلوي بعضهم على بعض و اتبعهم الجيش يقتلون و يأسرون من لحقوا منهم و انقطع

(9/181)


شرح نهج البلاغة ج : 8 ص : 210الناجم في جماعة من كماته من قواد الزنج منهم المهلبي و فارقه ابنه أنكلاني و سليمان بن جامع فكانا في أول الأمر مجتمعين ثم افترقا في الهزيمة فصادف سليمان بن جامع قوم من قواد الموفق فحاربوه و هو في جمع كثيف من الزنج فقتل جماعة مكماته و ظفر به فأسر و حمل إلى الموفق بغير عهد و لا عقد فاستبشر الناس بأسر سليمان و كثر التكبير و الضجيج و أيقنوا بالفتح إذ كان أكثر أصحابه غناء و أسر بعده إبراهيم بن جعفر الهمداني و كان من عظماء قواده و أكابر أمراء جيوشه و أسر نادر الأسود المعروف بالحفار و هو من قدماء قواد الناجم فأمر الموفق بتقييدهم بالحديد و تصييرهم في شذاة لأبي العباس و معهم الرجال بالسلاح و جد الموفق في طلب الناجم و أمعن في نهر أبي الخصيب حتى انتهى إلى آخره. فبينا هو كذلك أتاه البشير بقتل الناجم فلم يصدق فوافاه بشير آخر و معه كف زعم أنها كفه فقوي الخبر عنده بعض القوة فلم يلبث أن أتاه غلام من غلمان لؤلؤ يركض و معه رأس الناجم فوضعه بين يديه فعرضه الموفق على من كان حاضرا تلك الحال معه من قواد المستأمنة فعرفوه و شهدوا أنه رأس صاحبه فخر ساجدا و سجد ابنه أبو العباس و سجد القواد كلهم شكرا لله تعالى و رفعوا أصواتهم بالتهليل و التكبير و أمر برفع الرأس على قناة و نصبه بين يديه فرآه الناس و ارتفعت الأصوات و الضجيج. قال أبو جعفر و قد قيل إنه لما أحيط بالناجم لم يبق معه من رؤساء أصحابه إلا المهلبي فلما علما أنهما مقتولان افترقا فوقف الناجم حتى وصل إليه هذا الغلام و معه جماعة من غلمان لؤلؤ فمانع عن نفسه بسيفه حتى عجز عن الممانعة فأحاطوا به و ضربوه بسيوفهم حتى سقط و نزل هذا الغلام فاحتز رأسه و أما المهلبي فإنه قصد النهر المعروف شرح نهج البلاغة ج : 8 ص : 211بنهر الأمير فقذف بنفسه يروم النجاة و قبل ذلك ك ابن الناجم و هو المعروف بأنكلاني فارق أباه و مضى يؤم النهر المعروف

(9/182)


بالديناري متحصنا فيه بالأدغال و الآجام فلم يظفر بهما ذلك اليوم و دل الموفق عليهما بعد ذلك. و قيل له إن معهما جمعا من الزنج و جماعة من جلة قوادهم فأرسل غلمانه في طلبهما و أمرهم بالتضييق عليهما فلما أحاطت الغلمان بهم أيقنوا أن لا ملجأ لهم و أعطوا بأيديهم فظفر بهم الغلمان و حملوهم إلى الموفق فقتل منهم جماعة و أمر بالاستيثاق من المهلبي و أنكلاني بالحديد و الرجال الموكلين بهما. قال أبو جعفر و انصرف في هذا اليوم و هو يوم السبت لليلتين خلتا من صفر أبو أحمد من نهر أبي الخصيب و رأس الناجم منصوب بين يديه على قناة في شذاة يخترق به في النهر و الناس من جانبي النهر ينظرون إليه حتى وافى دجلة فخرج إليها و الرأس بين يديه و سليمان بن جامع و الهمداني مصلوبان أحياء في شذاتين عن جانبيه حتى وافى قصره بالموفقية هذه رواية أبي جعفر و أكثر الناس عليهما. و ذكر المسعودي في كتاب مروج الذهب أن الناجم ارتث و حمل إلى أبي أحمد و هو حي فسلمه إلى ابنه أبي العباس و أمر بتعذيبه فجعله كردناجا على النار و جلده ينتفخ و يتفرقع حتى هلك. و الرواية الأولى هي الصحيحة و الذي جعل كردناجا هو قرطاس الذي رمى أبا أحمد

(9/183)


شرح نهج البلاغة ج : 8 ص : 212بالسهم ذكر ذلك التنوخي في نشوار المحاضرة قال كان الزنج يصيحون لما رمى أبو أحمد بالسهم و تأخر لعلاج جراحته عن الحرب ملحوه ملحوه أي قد مات و أنتم تكتمون موته فاجعلوه كاللحم المكسود. قال و كان قرطاس الرامي لأبي أحمد يصيح بأبي اباس في الحرب إذا أخذتني فاجعلني كردناجا يهزأ به. قال فلما ظفر به أدخل في دبره سيخا من حديد فأخرجه من فيه و جعله على النار كردناجا. قال أبو جعفر ثم تتابع مجي ء الزنج إلى أبي أحمد في الأمان فحضر منهم في ثلاثة أيام نحو سبعة آلاف زنجي لما عرفوا قتل صاحبهم و رى أبو أحمد بذل الأمان لهم كي لا يبقى منهم بقية يخاف معرتها في الإسلام و أهله و انقطعت منهم قطعة نحو ألف زنجي مالت نحو البر فمات أكثرها عطشا و ظفر الأعراب بمن سلم منهم فاسترقوهم و أقام الموفق بالموفقية بعد قتل الناجم مدة ليزداد الناس بمقامه أنسا و أمانا و يتراجع أهل البلاد إليها فقد كان الناجم أجلاهم عنها و قدم ابنه أبو العباس إلى بغداد و معه رأس الناجم فدخلها يوم السبت لاثنتي عشرة ليلة بقين من جمادى الأولى من هذه السنة و رأس الناجم بين يديه على قناة و الناس مجتمعون يشاهدونه. و قد روى غير أبي جعفر و ذكره الآبي في مجموعة المسمى نثر الدرر عن العلاء بن صاعد بن مخلد قال لما حمل رأس صاحب الزنج و دخل به المعتضد إلى بغداد دخل في جيش شرح نهج البلاغة ج : 8 ص : 213لم ير مثله و اشتق أسواق بغداد و الرأس بين يديه فلما صرنا بباب الطاق صاح قوم من درب من تلك الدروب رحم اللمعاوية و زاد حتى علت أصوات العامة بذلك فتغير وجه المعتضد و قال أ لا تسمع يا أبا عيسى ما أعجب هذا و ما الذي اقتضى ذكر معاوية في هذا الوقت و الله لقد بلغ أبي إلى الموت و ما أفلت أنا إلا بعد مشارفته و لقينا كل جهد و بلاء حتى أنجينا هؤلاء الكلاب من عدوهم و حصنا حرمهم و أولادهم فتركوا أن يترحموا على العباس و عبد الله ابنه و من

(9/184)


ولد من الخلفاء و تركوا الترحم على علي بن أبي طالب و حمزة و جعفر و الحسن و الحسين و الله لا برحت أو أؤثر في تأديب هؤلاء أثرا لا يعاودون بعد هذا الفعل مثله ثم أمر بجمع النفاطين ليحرق الناحية فقلت له أيها الأمير أطال الله بقاءك إن هذا اليوم من أشرف أيام الإسلام فلا تفسده بجهل عامة لا أخلاق لهم و لم أزل أداريه و أرفق به حتى سار. فأما الذي يرويه الناس من أن صاحب الزنج ملك سواد بغداد و نزل بالمدائن و أن الموفق أرسل إليه من بغداد عسكرا و أصحبهم دنان النبيذ و أمرهم أن ينهزموا من بين يدي الزنج عند اللقاء و يتركوا خيامهم و أثقالهم لينتهبها الزنج و أنهم فعلوا ذلك فظفر الزنج فيما ظفروا به من أمتعتهم بتلك الدنان و كانت كثيرة جدا فشربوا تلك الليلة و سكروا و باتوا على غرة فكبسهم الموفق و بيتهم ليلا و هم سكارى فأصاب منهم ما أراد فباطل موضوع لا أصل له و الذي بيتهم و هم سكارى فنال منهم نيلا تكين البخاري و كان على الأهواز بيت أصحاب علي بن أبان في سنة خمس و ستين و مائتين و قد أتاه الخبر بأنهم تلك الليلة قد عمل النبيذ فيهم و الصحيح أنه لم يتجاوز نهبهم و دخولهم البلاد النعمانية هكذا رواه الناس كلهم. قال أبو جعفر فأما علي بن أبان و أنكلاني بن الناجم و من أسر معهما فإنهم

(9/185)


شرح نهج البلاغة ج : 8 ص : 214حملوا إلى بغداد في الحديد و القد فجعلوا بيد محمد بن عبد الله بن طاهر و معهم غلام للموفق يقال له فتح السعيدي فكانوا كذلك إلى شوال من سنة اثنتين و سبعين و مائتين فكانت للزنج حركة بواسط و صاحوا أنكلاني يا منصور و كان الموفق يوم بواسط فكتب إلى محمد بن عبد الله و إلى فتح السعيدي يأمرهما بتوجيه رءوس الزنج الذين في الأسر إليه فدخل فتح السعيدي إليهم فجعل يخرج الأول فالأول فيذبحه على البالوعة كما تذبح الشاة و كانوا خمسة أنكلاني بن الناجم و علي بن أبان المهلبي و سليمان بن جامع و إبراهيم بن جعفر الهمداني و نادر الأسود و قلع رأس البالوعة و طرحت فيها أبدانهم و سد رأسها و وجه برءوسهم إلى الموفق فنصبها بواسط و انقطعت حركه الزنج و يئس منهم. ثم كتب الموفق إلى محمد بن عبد الله بن طاهر في جثث هؤلاء الخمسة فأمر بصلبهم بحضرة الجسر فأخرجوا من البالوعة و قد انتفخوا و تغيرت روائحهم و تقشرت جلودهم فصلب اثنان منهم على جانب الجسر الشرقي و ثلاثة على الجانب الغربي و ذاك لسبع بقين من شوال من هذه السنة و ركب محمد بن عبد الله بن طاهر و هو أمير بغداد يومئذ بنفسه حتى صلبوا بحضرته و قد قال الشعراء في وقائع الزنج فأكثروا كالبحتري و ابن الرومي و غيرهما فمن أراد ذلك فليأخذه من مظانه

(9/186)


شرح نهج البلاغة ج : 8 ص : 215مِنْهَا فِي وَصْفِ الْأَتْرَاكِ كَأَنِّي أَرَاهُمْ قَوْماً كَأَنَّ وُجُوهَهُمُ الْمَجَانُّ الْمُطْرَقَةُ يَلْبَسُونَ السَّرَقَ وَ الدِّيبَاجَ وَ يَعْتَقِبُونَ الْخَيْلَ الْعِتَاقَ وَ يَكُونُ هُنَاكَ اسْتِحْرَارُ قَتْلٍ حَتَّيَمْشِيَ الْمَجْرُوحُ عَلَى الْمَقْتُولِ وَ يَكُونَ الْمُفْلِتُ أَقَلَّ مِنَ الْمَأْسُورِ فَقَالَ لَهُ بَعْضُ أَصْحَابِهِ لَقَدْ أُعْطِيتَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ عِلْمَ الْغَيْبِ فَضَحِكَ ع وَ قَالَ لِلرَّجُلِ وَ كَانَ كَلْبِيّاً يَا أَخَا كَلْبٍ لَيْسَ هُوَ بِعِلْمِ غَيْبٍ وَ إِنَّمَا هُوَ تَعَلُّمٌ مِنْ ذِي عِلْمٍ وَ إِنَّمَا عِلْمُ الْغَيْبِ عِلْمُ السَّاعَةِ وَ مَا عَدَّدَهُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ بِقَوْلِهِ إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَ يُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَ يَعْلَمُ ما فِي الْأَرْحامِ وَ ما تَدْرِي نَفْسٌ ما ذا تَكْسِبُ غَداً وَ ما تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ الآْيَةَ فَيَعْلَمُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ مَا فِي الْأَرْحَامِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَ قَبِيحٍ أَوْ جَمِيلٍ وَ سَخِيٍّ أَوْ بَخِيلٍ وَ شَقِيٍّ أَوْ سَعِيدٍ وَ مَنْ يَكُونُ لِلنَّارِ حَطَباً أَوْ فِي الْجِنَانِ لِلنَّبِيِّينَ مُرَافِقاً فَهَذَا عِلْمُ الْغَيْبِ الَّذِي لَا يَعْلَمُهُ أَحَدٌ إِلَّا اللَّهُ وَ مَا سِوَى ذَلِكَ فَعِلْمٌ عَلَّمَهُ اللَّهُ نَبِيَّهُ ص فَعَلَّمَنِيهِ وَ دَعَا لِي بِأَنْ يَعِيَهُ صَدْرِي وَ تَضْطَمَّ عَلَيْهِ جَوَانِحِي

(9/187)


شرح نهج البلاغة ج : 8 ص : 216المجان جمع مجن بكسر الميم و هو الترس و إنما سمي مجنا لأنه يستتر به و الجنة السترة و الجمع جنن يقال استجن بجنة أي استتر بسترة. و المطرقة بسكون الطاء التي قد أطرق بعضها إلى بعض أي ضمت طبقاتها فجعل بعضها يتلو بعضا يقال جاءت الإ مطاريق أي يتلو بعضها بعضا و النعل المطرقة المخصوفة و أطرقت بالجلد و العصب أي ألبست و ترس مطرق و طراق النعل ما أطرقت و خرزت به و ريش طراق إذا كان بعضه فوق بعض و طارق الرجل بين الثوبين إذا لبس أحدهما علي الآخر و كل هذا يرجع إلى مفهوم واحد و هو مظاهرة الشي بعضه بعضا و يروى المجان المطرقة بتشديد الراء أي كالترسة المتخذة من حديد مطرق بالمطرقة. و السرق شقق الحرير و قيل لا تسمى سرقا إلا إذا كانت بيضا الواحدة سرقة. و يعتقبون الخيل أي يجنبونها لينتقلوا من غيرها إليها و استحرار القتل شدته استحر و حر بمعنى قال ابن الزبعري
حيث ألقت بقباء بركها و استحر القتل في عبد الأشل
و المفلت الهارب. يقول ع إن الأمور المستقبلة على قسمين أحدهما ما تفرد الله تعالى بعلمه و لم يطلع عليه أحدا من خلقه و هي الأمور الخمسة المعدودة في الآية المذكورة إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَ يُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَ يَعْلَمُ ما فِي الْأَرْحامِ وَ ما تَدْرِي نَفْسٌ ما ذا تَكْسِبُ غَداً وَ ما تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ شرح نهج البلاغة ج : 8 ص : 217و القسم الثاني ما يعلمه بعض البشر بإعلام الله تعالى إياه و هو ما عدا هذه الخمسة و الإخبار بملحمة الأتراك من جملة ذلك. و تضطم عليه جوانحي تفت من الضم و هو الجمع أي يجتمع عليه جوانح صدري و يروى جوارحي و

(9/188)


قد روي أن إنسانا قال لموسى بن جعفر ع إني رأيت الليلة في منامي أني سألتك كم بقي من عمري فرفعت يدك اليمنى و فتحت أصابعها في وجهي مشيرا إلي فلم أعلم خمس سنين أم خمسة أشهر أم خمسة أيام فقال و لا واحدة منهن بل ذاك إشارة إلى الغيوب الخمسة التي استأثر الله تعالى بها في قوله إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ الآية
فإن قلت لم ضحك ع لما قال له الرجل لقد أوتيت علم الغيب و هل هذا إلا زهو في النفس و عجب بالحال قلت قد روي أن رسول الله ص ضحك في مناسب هذه الحال لما استسقى فسقي و أشرف درور المطر فقام إليه الناس فسألوه أن يسأل الله تعالى أن يحبسه عنهم فدعا و أشار بيده إلى السحاب فانجاب حول المدينة كالإكليل و هو ع يخطب على المنبر فضحك حتى بدت نواجده و قال أشهد أني رسول الله و سر هذا الأمر أن النبي أو الولي إذا تحدث عنده نعمة الله سبحانه أو عرف الناس وجاهته عند الله فلا بد أن يسر بذلك و قد يحدث الضحك من السرور و ليس ذلك بمذموم إذا خلا من التيه و العجب و كان محض السرور و الابتهاج و قد قال تعالى في صفة أوليائه فَرِحِينَ بِما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ. فإن قلت فإن من جمله الخمسة وَ ما تَدْرِي نَفْسٌ ما ذا تَكْسِبُ غَداً و قد أعلم شرح نهج البلاغة ج : 8 ص : 218الله تعالى نبيه بأر يكسبها في غده نحو قوله ستفتح مكة و أعلم نبيه وصيه ع بما يكسبه في غده نحو قوله له ستقاتل بعدي الناكثين الخبر. قلت المراد بالآية أنه لا تدري نفس جميع ما تكسبه في مستقبل زمانها و ذلك لا ينفي جواز أن يعلم الإنسان بعض ما يكسبه في مستقبل زمانه
فصل في ذكر جنكزخان و فتنة التتر

(9/189)


و اعلم أن هذا الغيب الذي أخبر ع عنه قد رأيناه نحن عيانا و وقع في زماننا و كان الناس ينتظرونه من أول الإسلام حتى ساقه القضاء و القدر إلى عصرنا و هم التتار الذين خرجوا من أقاصي المشرق حتى وردت خيلهم العراق و الشام و فعلوا بملوك الخطا و قفجاق و ببلاد ما وراء النهر و بخراسان و ما والاها من بلاد العجم ما لم تحتو التواريخ منذ خلق الله آدم إلى عصرنا هذا على مثله فإن بابك الخرمي لم تكن نكايته و إن طالت مدته نحو عشرين سنة إلا في إقليم واحد و هو أذربيجان و هؤلاء دوخوا المشرق كله و تعدت نكايتهم إلى بلاد أرمينية و إلى الشام و وردت خيلهم إلى العراق و بخت نصر الذي قتل اليهود إنما أخرب بيت المقدس و قتل من كان بالشام من بني إسرائيل و أي نسبة بين من كان بالبيت المقدس من بني إسرائيل إلى البلاد و الأمصار التي أخربها هؤلاء و إلى الناس الذين قتلوهم من المسلمين و غيرهم شرح نهجبلاغة ج : 8 ص : 219و نحن نذكر طرفا من أخبارهم و ابتداء ظهورهم على سبيل الاختصار فنقول إنا على كثرة اشتغالنا بالتواريخ و بالكتب المتضمنة أصناف الأمم لم نجد ذكر هذه الأمة أصلا و لكنا وجدنا ذكر أصناف الترك من القفجاق و اليمك و البرلو و التفريه و اليتبه و الروس و الخطا و القرغز و التركمان و لم يمر بنا في كتاب ذكر هذه الأمة سوى كتاب واحد و هو كتاب مروج الذهب للمسعودي فإنه ذكرهم هكذا بهذا اللفظ التتر و الناس اليوم يقولون التتار بألف و هذه الأمة كانت في أقاصي بلاد المشرق في جبال طمغاج من حدود الصين و بينهم و بين بلاد الإسلام التي ما وراء النهر ما يزيد على مسير ستة أشهر و قد كان خوارزمشاه و هو محمد بن تكش استولى على بلاد ما وراء النهر و قتل ملوكها من الخطا الذين كانوا ببخارى و سمرقند و بلاد تركستان نحو كاشغر و بلاساغون و أفناهم و كانوا حجابا بينه و بين هذه الأمة و شحن هذه البلاد بقواده و جنوده و كان في ذلك غالطا لأن ملوك الخطا

(9/190)


كانوا وقاية له و مجنا من هؤلاء فلما أفناهم صار هو المتولي لحرب هؤلاء أو سلمهم فأساء قواده و أمراؤه الذين بتركستان السيرة معهم و سدوا طرق التجارة عنهم فانتدبت منهم طائفة نحو عشرين ألفا مجتمعة كل بيت منها له رئيس مفرد فهم متساندون و خرجوا إلى بلاد تركستان فأوقعوا بقواد خوارزمشاه و عماله هناك و ملكوا البلاد و تراجع من بقي من عسكر خوارزمشاه و سلم من سيف التتار إلى خوارزمشاه فأغضى على ذلك و رأى أن سعة ملكه تمنعه عن مباشرة حربهم بنفسه و أن غيره من قواده لا يقوم مقامه في ذلك و ترك بلاد تركستان لهم و استقر الأمر على أن تركستان لهم و ما عداها من بلاد ما وراء النهر كسمرقند و بخارى و غيرهما لخوارزمشاه فمكثوا كذلك نحو أربع سنين.

(9/191)


شرح نهج البلاغة ج : 8 ص : 220ثم إن المعروف بجنكزخان و الناس يلفظونه بالراء و ذكر لي جماعة من أهل المعرفة بأحوال التتر أنه جنكز بالزاي المعجمة عن له رأي في النهوض إلى بلاد تركستان و ذلك أن جنكزخان هذا هو رئيس التتار الأقصين في المشرق و ابن رئيسهم و ما زاسلفه رؤساء تلك الجهة و كان شجاعا عاقلا موفقا منصورا في الحرب و إنما عن له هذا الرأي لأنه رأى أن طائفة من التتار لا ملك لهم و إنما يقوم بكل فرقة منهم مدبر لها من أنفسها قد نهضت فملكت بلاد تركستان على جلالتها غار من ذلك و أراد الرئاسة العامة لنفسه و أحب الملك و طمع في البلاد فنهض بمن معه من أقاصي الصين حتى صار إلى حدود أعمال تركستان فحاربه التتار الذين هناك و منعوه عن تطرق البلاد فلم يكن لهم به طاقة و هزمهم و قتل كثيرا منهم و ملك بلاد تركستان بأجمعها و صار كالمجاور لبلاد خوارزمشاه و إن كان بينهما مسافة بعيدة و صار بينه و بين خوارزمشاه سلم و مهادنة إلا أنها هدنة على دخن. فمكثت الحال على ذلك يسيرا ثم فسدت بما كان يصل إلى خوارزمشاه على ألسنة التجار من الأخبار و أن جنكزخان على عزم النهوض إلى سمرقند و ما يليها و أنه في التأهب و الاستعداد فلو داراه لكان أولى له لكنه شرع فسد طرق التجار القاصدين إليهم فتعذرت عليهم الكسوات و منع عنهم الميرة و الأقوات التي تجلب و تحمل من أعمال ما وراء النهر إلى تركستان فلو اقتنع بذلك لكان قريبا لكنه أنهى إليه نائبة بالمدينة المعروفة بأوتران و هي آخر ولايته بما وراء النهر أن جنكزخان قد سير جماعة من تجار التتار و معهم شي ء عظيم من الفضة إلى سمرقند ليشتروا له و لأهله و بني عمه كسوة و ثيابا و غير ذلك. شرح نهج البلاغة ج : 8 ص : 221فبعث إليه خوارزمشاه يأمره بقتل أولئك التجار و أخذ ما معهم من الفضة و إنفاذها إليه فقتلهم و سير إليه الفضة و كانك شيئا كثيرا جدا ففرقه خوارزمشاه على تجار سمرقند و بخارى و أخذ ثمنه

(9/192)


منهم لنفسه ثم علم أنه قد أخطأ فأرسل إلى نائبه بأوتران يأمره أن ينفذ جواسيس من عنده إليهم ليخبروه بعدتهم فمضت الجواسيس و سلكت مفاوز و جبالا كثيرة و عادوا إليه بعد مدة فأخبروه بكثرة عددهم و أنهم لا يبلغهم الإحصاء و لا يدركهم و أنهم من أصبر الناس على القتال لا يعرفون الفرار و يعملون ما يحتاجون إليه من السلاح بأيديهم و أن خيلهم لا تحتاج إلى الشعير بل تأكل نبات الأرض و عروق المراعي و أن عندهم من الخيل و البقر ما لا يحصى و أنهم يأكلون الميتة و الكلاب و الخنازير و هم أصبر خلق الله على الجوع و العطش و الشقاء و ثيابهم من أخشن الثياب مسا و منهم من يلبس جلود الكلاب و الدواب الميتة و أنهم أشبه شي ء بالوحش و السباع. فأنهي ذلك كله إلى خوارزمشاه فندم على قتل أصحابهم و على خرق الحجاب بينه و بينهم و أخذ أمولهم و غلب عليه الفكر و الوجل فأحضر الشهاب الخيوفي و هو فقيه فاضل كبير المحل عنده لا يخالف ما يشير به فقال له قد حدث أمر عظيم لا بد من الفكر فيه و إجالة الرأي فيما نفعل و ذلك أنه قد تحرك إلينا خصم من الترك في عدد لا يحصى فقال له عساكرك كثيرة و تكاتب الأطراف و تجمع الجنود و يكون من ذلك نفير عام فإنه يجب على المسلمين كافة مساعدتك بالأموال و الرجال ثم تذهب بجميع العساكر إلى جانب سيحون و هو نهر كبير يفصل بين بلاد الترك و بين بلاد خوارزمشاه فتكون هناك فإذا جاء العدو و قد سار مسافة بعيدة لقيناه و نحن جامون مستريحون و قد مسه و عساكره النصب و اللغوب.

(9/193)


شرح نهج البلاغة ج : 8 ص : 222فجمع خوارزمشاه أمراءه و من عنده من أرباب المشورة فاستشارهم فقالوا لا بل الرأي أن نتركهم ليعبروا سيحون إلينا و يسلكوا هذه الجبال و المضايق فإنهم جاهلون بطرقها و نحن عارفون بها فنظهر عليهم و نهلكهم عن آخرهم. فكانوا على ذلك حتىصل رسول من جنكزخان و معه جماعة يتهدد خوارزمشاه و يقول تقتل أصحابي و تجاري و تأخذ مالي منهم استعد للحرب فإني واصل إليك بجمع لا قبل لك به. فلما أدى هذه الرسالة إلى خوارزمشاه أمر بقتل الرسول فقتل و حلق لحى الجماعة الذين كانوا معه و أعادهم إلى صاحبهم جنكزخان ليخبروه بما فعل بالرسول و يقولوا له إن خوارزمشاه يقول لك إني سائر إليك فلا حاجة لك أن تسير إلي فلو كنت في آخر الدنيا لطلبتك حتى أقتلك و أفعل بك و بأصحابك ما فعلت برسلك. و تجهز خوارزمشاه و سار بعد نفوذ الرسول مبادرا لسبق خبره و يكبس التتار على غرة فقطع مسيرة أربعة أشهر في شهر واحد و وصل إلى بيوتهم و خركاواتهم فلم ير فيها إلا النساء و الصبيان و الأثقال فأوقع بهم و غنم الجميع و سبى النساء و الذرية. و كان سبب غيبوبة التتار عن بيوتهم أنهم ساروا إلى محاربة ملك من ملوك الترك يقال له كشلوخان فقاتلوه فهزموه و غنموا أمواله و عادوا فلقيهم الخبر في طريقهم بما فعل خوارزمشاه بمخلفيهم فأغذوا السير فأدركوه و هو على الخروج من بيوتهم شرح نهج البلاغة ج : 8 ص : 223بعد فراغه من الغنيمة فواقعوه و تصافوا للحرب ثلاثة أيام بلياليها لا يفترون نهارا و لا ليلا فقتل من الفريقين ما لا ي و لم ينهزم منهم أحد. أما المسلمون فصبروا حمية للدين و علموا أنهم إن انهزموا لم يبق للإسلام باقية ثم إنهم لا ينجون بل يؤخذون و يؤسرون لبعدهم عن بلاد يمتنعون بها و أما التتار فصبروا لاستنقاذ أموالهم و أهلهم و اشتد الخطب بين الطائفتين حتى أن أحدهم كان ينزل عن فرسه و يقاتل قرنه راجلا مضاربة بالسكاكين و جرى الدم على الأرض حتى

(9/194)


كانت الخيل تزلق فيه لكثرته و لم يحضر جنكزخان بنفسه هذه الوقعة و إنما كان فيها قاآن ولده فأحصي من قتل من المسلمين فكانوا عشرين ألفا و لم يحص عدة من قتل من التتار. فلما جاءت الليلة الرابعة افترقوا فنزل بعضهم مقابل بعض فلما أظلم الليل أوقد التتار نيرانهم و تركوها بحالها و ساروا راجعين إلى جنكزخان ملكهم و أما المسلمون فرجعوا و معهم محمد خوارزمشاه فلم يزالوا سائرين حتى وافوا بخارى و علم خوارزمشاه أنه لا طاقة له بجنكزخان لأن طائفة من عسكره لم يلقوا خوارزمشاه بجميع عساكره بهم فكيف إذا حشدوا و جاءوا على بكرة أبيهم و ملكهم جنكزخان بينهم. فاستعد للحصار و أرسل إلى سمرقند يأمر قواده المقيمين بها بالاستعداد للحصار و جمع الذخائر للامتناع و المقام من وراء الأسوار و جعل في بخارى عشرين ألف فارس يحمونها و في سمرقند خمسين ألفا و تقدم إليهم بحفظ البلاد حتى يعبر هو إلى خوارزم و خراسان فيجمع العساكر و يستنجد بالمسلمين و الغزاة المطوعة و يعود إليهم.

(9/195)


شرح نهج البلاغة ج : 8 ص : 224ثم رحل إلى خراسان فعبر جيحون و كانت هذه الوقعة في سنة ست عشرة و ستمائة فنزل بالقرب من بلخ فعسكر هناك و استنفر الناس. و أما التتار فإنهم رحلوا بعد أن استعدوا يطلبون بلاد ما وراء النهر فوصلوا إلى بخارى بعد خمسة أشهر من رحيل خوزمشاه عنها و حصروها فقاتلوا العسكر المرابط بها ثلاثة أيام قتالا متتابعا فلم يكن للعسكر الخوارزمي بهم قوة ففتحوا أبواب المدينة ليلا و خرجوا بأجمعهم عائدين إلى خراسان فأصبح أهل بخارى و ليس عندهم من العسكر أحد أصلا فضعفت نفوسهم فأرسلوا قاضي بخارى ليطلب الأمان للرعية فأعطاه التتار الأمان و قد كان بقي في قلعة بخارى خاصة طائفة من عسكر خوارزمشاه معتصمون بها. فلما رأى أهل بخارى بذلهم للأمان فتحوا أبواب المدينة و ذلك في رابع ذي الحجة من سنة ست عشرة و ستمائة فدخل التتار بخارى و لم يتعرضوا لأحد من الرعية بل قالوا لهم كل ما لخوارزمشاه عندكم من وديعة أو ذخيرة أخرجوه إلينا و ساعدونا على قتال من بالقلعة و لا بأس عليكم و أظهروا فيهم العدل و حسن السيرة و دخل جنكزخان بنفسه إلى البلد و أحاط بالقلعة و نادى مناديه في البلدان لا يتخلف أحد و من تخلف قتل فحضر الناس بأسرهم فأمرهم بطم الخندق فطموه بالأخشاب و الأحطاب و التراب ثم زحفوا نحو القلعة و كان عدة من بها من الجند الخوارزمية أربعمائة إنسان فبذلوا جهدهم و منعوا القلعة عشرة أيام إلى أن وصل النقابون إلى سور القلعة فنقبوه و دخلوا القلعة فقتلوا كل من بها من الجند و غيرهم. شرح نهج الاغة ج : 8 ص : 225فلما فرغوا منها أمر جنكزخان أن يكتب له وجوه البلد و رؤساؤهم ففعل ذلك فلما عرضوا عليه أمر بإحضارهم فأحضروا فقال لهم أريد منكم الفضة النقرة التي باعها إياكم خوارزمشاه فإنها لي و من أصحابي أخذت فكان كل من عنده شي ء منها يحضره فلما فرغ من ذل أمرهم بالخروج عن البلد بأنفسهم خاصة فخرجوا مجردين عن أموالهم ليس مع

(9/196)


كل واحد منهم إلا ثيابه التي على جسده فأمر بقتلهم فقتلوا عن آخرهم و أمر حينئذ بنهب البلد فنهب كل ما فيه و سبيت النساء و الأطفال و عذبوا الناس بأنواع العذاب في طلب المال ثم رحلوا عنه نحو سمرقند و قد تحققوا عجز خوارزمشاه عنهم و استصحبوا معهم من سلم من أهل بخارى أسارى مشاة على أقبح صورة و كل من أعيا و عجز عن المشي قتلوه. فلما قاربوا سمرقند قدموا الخيالة و تركوا الرجالة و الأسارى و الأثقال وراءهم حتى يلتحقوا بهم شيئا فشيئا ليرعبوا قلوب أهل البلد فلما رأى أهل سمرقند سوادهم استعظموهم فلما كان اليوم الثاني وصل الأسارى و الرجالة و الأثقال و مع كل عشرة من الأسارى علم فظن أهل البلد أن الجميع عسكر مقاتلة فأحاطوا بسمرقند و فيها خمسون ألفا من الخوارزمية و ما لا يحصى كثرة من عوام البلد فأحجم العسكر الخوارزمي عن الخروج إليهم و خرجت العامة بالسلاح فأطمعهم التتار في أنفسهم و قهقروا عنهم و قد كمنوا لهم كمناء فلما جاوزوا الكمين خرج عليهم من ورائهم و شد عليهم من ورائهم جمهور التتار فقتلوهم عن آخرهم. فلما رأى من تخلف بالبلد ذلك ضعفت قلوبهم و خيلت للجند الخوارزمي أنفسهم

(9/197)


شرح نهج البلاغة ج : 8 ص : 226أنهم إن استأمنوا إلى التتار أبقوا عليهم للمشاركة في جنسية التركية فخرجوا بأموالهم و أهليهم إليهم مستأمنين فأخذوا سلاحهم و خيلهم ثم وضعوا السيف فيهم فقتلوهم كلهم ثم نادوا في البلد برئت الذمة ممن لم يخرج و من خرج فهو آمن فخرج ناس إليهم بأجمعهم فاختلطوا عليهم و وضعوا فيهم السيف و عذبوا الأغنياء منهم و استصفوا أموالهم و دخلوا سمرقند فأخربوها و نقضوا دورها و كانت هذه الوقعة في المحرم سنة سبع عشرة و ستمائة. و كان خوارزمشاه مقيما بمنزله الأول كلما اجتمع له جيش سيره إلى سمرقند فيرجع و لا يقدم على الوصول إليها فلما قضوا وطرا من سمرقند سير جنكزخان عشرين ألف فارس و قال لهم اطلبوا خوارزمشاه أين كان و لو تعلق بالسماء حتى تدركوه و تأخذوه و هذه الطائفة تسميها التتار المغربة لأنها سارت نحو غرب خراسان و هم الذين أوغلوا في البلاد و مقدمهم جرماغون نسيب جنكزخان. و حكي أن جنكزخان كان قد أمر على هذا الجيش ابن عم له شديد الاختصاص به يقال له متكلى نويرة و أمره بالجد و سرعة المسير فلما ودعه عطف متكلى نويرة هذا فدخل إلى خركاه فيها امرأة له كان يهواها ليودعها فاتصل ذلك بجنكزخان فصرفه في تلك الساعة عن إرة الجيش و قال من يثني عزمه امرأة لا يصلح لقيادة الجيوش و رتب مكانه جرماغون فساروا و قصدوا من جيحون موضعا يسمى بنج آب أي خمسة مياه و هو يمنع العبور فلم يجدوا به سفنا فعملوا من الخشب مثل الأحواض الكبار و لبسوه جلود البقر و وضعوا فيه أسلحتهم و أقحموا خيولهمالماء و أمسكوا بأذنابها شرح نهج البلاغة ج : 8 ص : 227و تلك الأحواض مشدودة إليها فكان الفرس يجذب الرجل و الرجل يجذب الحوض فعبروا كلهم ذلك الماء دفعة واحدة فلم يشعر خوارزمشاه بهم إلا و هم معه على أرض واحدة و كان جيشه قد ملئ رعبا منهم فلم يقدروا على الثبات فرقوا أيدي سبأ و طلب كل فريق منهم جهة و رحل خوارزمشاه في نفر من خواصه

(9/198)


لا يلوي على شي ء و قصد نيسابور فلما دخلها اجتمع عليه بعض عسكره فلم يستقر حتى وصل جرماغون إليه و كان لا يتعرض في مسيره بنهب و لا قتل بل يطوي المنازل طيا يطلب خوارزمشاه و لا يمهله ليجمع عكرا فلما عرف قرب التتار منه هرب من نيسابور إلى مازندران فدخلها و رحل جرماغون خلفه و لم يعرج على نيسابور بل قصد مازندران فخرج خوارزمشاه عنها فكان كلما رحل عن منزل نزله التتار حتى وصل إلى بحر طبرستان فنزل هو و أصحابه في سفن و وصل التتار فلما عرفوا نزوله البحر رجعوا و أيسوا منه. و هؤلاء الذين ملكوا عراق العجم و أذربيجان فأقاموا بناحية تبريز إلى يومنا هذا. ثم اختلف في أمر خوارزمشاه فقوم يحكون أنه أقام بقلعة له في بحر طبرستان منيعة فتوفي بها و قوم يحكون أنه غرق في البحر و قوم يحكون أنه غرق و نجا عريانا فصعد إلى قرية من قرى طبرستان فعرفه أهلها فجاءوا و قبلوا الأرض بين يديه و أعلموا عاملهم به فجاء إليه و خدمه فقال له خوارزمشاه احملني في مركب إلى الهند فحمله إلى شمس الدين أنليمش ملك الهند و هو نسيبه من جهة زوجته والدة منكبوني بن خوارزمشاه الملك جلال الدين فإنها هندية من أهل بيت الملك فيقال إنه وصل إلى أنليمش و قد تغير

(9/199)


شرح نهج البلاغة ج : 8 ص : 228عقله مما اعتراه من خوف التتار أو لأمر سلطه الله تعالى عليه فكان يهذي بالتتار بكرة و عشية و كل وقت و كل ساعة و يقول هو ذا هم قد خرجوا من هذا الباب قد هجموا من هذه الدرجة و يرعد و يحول لونه و يختل كلامه و حركاته. و حكى لي فقيهراساني وصل إلى بغداد يعرف بالبرهان قال كان أخي معه و كان ممن يثق خوارزمشاه به و يختصه قال لهج خوارزمشاه لما تغير عقله بكلمة كان يقولها قرا تتر كلدي يكررها و تفسيرها التتر السود قد جاءوا و في التتر صنف سود يشبهون الزنج لهم سيوف عريضة جدا على غير صورة هذه السيوف يأكلون لحوم الناس فكان خوارزمشاه قد أهتر و أغري بذكرهم. و حدثني البرهان قال رقي به شمس الدين أنليمش إلى قلعة من قلاع الهند حصينة عالية شاهقة لا يعلوها الغيم أبدا و إنما تمطر السحب من تحتها و قال له هذه القلعة لك و ذخائرها أموالك فكن فيها وادعا آمنا إلى أن يستقيم طالعك فالملوك ما زالوا هكذا يدبر طالعهم ثم يقبل فقال له لا أقدر على الثبات فيها و المقام بها لأن التتر سوف يطلبونني و يقدمون إلى هاهنا و لو شاءوا لوضعوا سروج خيلهم واحدا على واحد تحت القلعة فبلغت إلى ذروتها و صعدوا عليها فأخذوني قبضا باليد فعلم أنليمش أن عقله قد تغير و أن الله تعالى قد بدل ما به من نعمة فقال فما الذي تريد قال أريد أن تحملني في البحر المعروف ببحر المعبر إلى كرمان فحمله في نفر يسير من مماليكه إلى كرمان ثم خرج منها إلى أطراف بلاد فارس فمات هناك في قرية من قرى فارس و أخفي موته لئلا يقصده التتر و تطلب جثته. شرح نهج البلاغة ج : 8 ص : 229و جملة الأمر أن حاله مشتبهة ملتبسة لم يتحقق على يقين و بقي الناس بعد هلاكه نحو سبع سنين ينتظرونه. و يذهب كثير منهم إلى أنه حي مستتر إلى أن ثبت عند الناس كافة أنه هلك. فأما جرماغون فإنه لما يئس من الظفبخوارزمشاه عاد من ساحل البحر إلى مازندران فملكها في أسرع وقت مع

(9/200)


حصانتها و صعوبة الدخول إليها و امتناع قلاعها فإنها لم تزل ممتنعة على قديم الوقت حتى أن المسلمين لما ملكوا بلاد الأكاسرة من العراق إلى أقصى خراسان بقيت أعمال مازندران بحالها تؤدي الخراج و لا يقدر المسلمون على دخولها إلى أيام سليمان بن عبد الملك. و لما ملكت التتار مازندران قتلوا فيها و نهبوا و سلبوا ثم سلكوا نحو الري فصادفوا في الطريق والدة خوارزمشاه و نساءه و معهن أموال بيت خوارزمشاه و ذخائرهم التي ما لا يسمع بمثلها من الأعلاق النفيسة و هن قاصدات نحو الري ليعتصمن ببعض القلاع المنيعة فاستولى التتار عليهن و على ما معهن بأسره و سيروه كله إلى جنكزخان بسمرقند و صمدوا صمد الري و قد كان اتصل بهم أن محمدا خوارزمشاه قصدها كما يتسامع الناس بالأراجيف الصحيحة و الباطلة فوصلوها على حين غفلة من أهلها فلم يشعر بهم عسكر الري إلا و قد ملكوها و نهبوها و سبوا الحرم و استرقوا الغلمان و فعلوا كل قبيح منكر فيها و لم يقيموا بها و مضوا مسرعين في طلب خوارزمشاه فنهبوا في طريقهم ما مروا به من المدن و القرى و أحرقوا و خربوا و قتلوا الذكران و الإناث و لم يبقوا على شي ء و قصدا نحو همذان فخرج إليهم رئيسها و معه أموال جليلة قد جمعها من أهل همذان عينا و عروضا و خيلا و طلب منهم الأمان لأهل البلد فأمنوهم و لم يعرضوا لهم شرح نهج البلاغة ج : 8 ص : 230و ساروا إلى زنجان و استباحوها و إلى قزوين فاعتصم أهلها منهم بقصبة مدينتهم فدخلوها بالسيف عنوة و قاتلهم أهلها قتالا شديدا بالسكاكين و هم معتادون بقتال السكين من حروبهم مع الإسماعيلية فقتل من الفريقين ما لا يحصى و يقال إن القتلبلغت أربعين ألفا من أهل قزوين خاصة. ثم هجم على التتار البرد الشديد و الثلج المتراكم فساروا إلى أذربيجان فنهبوا القرى و قتلوا من وقف بين أيديهم و أخربوا و أحرقوا حتى وصلوا إلى تبريز و بها صاحب أذربيجان أزبك بن البهلوان بن أيلدكر فلم يخرج إليهم

(9/201)


و لا حدث نفسه بقتالهم لاشتغاله بما كان عليه من اللهو و إدمان الشرب ليلا و نهارا فأرسل إليهم و صالح لهم على مال و ثياب و دواب و حمل الجميع إليهم فساروا من عنده يطلبون ساحل البحر لأنه مشتى صالح لهم و المراعي به كثيرة فوصلوا إلى موقان و هي المنزل الذي نزلته الخرمية في أيام المعتصم و قد ذكره الطائيان في أشعارهما في غير موضع و الناس اليوم يقولون بالغين المعجمة عوض القاف و قد كانوا تطرقوا في طريقهم بعض أعمال الكرج فخرج إليهم منهم عشرة آلاف مقاتل فحاربوهم و هزموهم و قتلوا أكثرهم. فلما استقروا بموقان راسلت الكرج أزبك بن البهلوان في الاتفاق على حربهم و راسلوا موسى بن أيوب المعروف بالأشرف و كان صاحب خلاط و إرمينية بمثل ذلك و ظنوا أنهم يصبرون إلى أيام الربيع و انحسار الثلوج فلم يصبروا و صاروا من موقان في صميم الشتاء نحو بلاد الكرج فخرجت إليهم الكرج و اقتتلوا قتالا شديدا فلم يثبتوا للتتار و انهزموا أقبح هزيمة و قتل منهم من لا يحصى فكانت هذه الوقعة في ذي الحجة من سنة سبع عشرة و ستمائة. شرح نهج البلاغة ج : 8 ص : 231ثم توجهوا إلى المراغة في أول سنة ثماني عشرة فملكوها في صفر و كانت لامرأة من بقايا ملوك المراغة تدبرها هي و وزراؤها فنصبوعليها المجانيق و قدموا أسارى المسلمين بين أيديهم و هذه عادتهم يتترسون بهم في الحروب فيصيبهم حدها و يسلمون هم من مضرتها فملكوها عنوة و وضعوا السيف في أهلها و نهبوا ما يصلح لهم و أحرقوا ما لا يصلح لهم و خذل الناس عنهم حتى كان الواحد منهم يقتل بيده مائة إنسان و السيوف في أيديهم لا يقدر أحد منهم أن يحرك يده بسيفه نحو ذلك التتري خذلان صب على الناس و أمر سمائي اقتضاه. ثم عادوا إلى همذان فطالبوا أهلها بمثل المال الذي بذلوه لهم في الدفعة الأولى فلم يكن في الناس فضل لذلك لأنه كان عظيما جدا فقام إلى رئيس همذان جماعة من أهلها و أسمعوه كلاما غليظا فقالوا أفقرتنا أولا و

(9/202)


تريد أن تستصفينا دفعة ثانية ثم لا بد للتتار أن يقتلونا فدعنا نجاهدهم بالسيف و نموت كراما ثم وثبوا على شحنة كان للتتار بهمذان فقتلوه و اعتصموا بالبلد فحصرهم التتار فيه فقلت عليهم الميرة و عدمت الأقوات و أضر ذلك بأهل همذان و لم ينل التتار مضرة من عدم القوت لأنهم لا يأكلون إلا اللحم و الخيل معهم كثيرة و معهم غنم عظيمة يسوقونها حيث شاءوا و خيلهم لا تأكل الشعير و لا تأكل إلا نبات الأرض تحفر بحوافرها الأرض عن العروق فتأكلها. فاضطر رئيس همذان و أهلها إلى الخروج إليهم فخرجوا و التحمت الحرب بينهم أياما و فقد رئيس همذان هرب في سرب قد كان أعده إلى موضع اعتصم به ظاهر البلد و لم يعلم حقيقة حاله فتحير أهل همذان بعد فقده و دخلوا المدينة و اجتمعت كلمتهم على القتال في قصبة البلد إلى أن يموتوا و كان التتار قد عزموا على الرحيل عنهم لكثرة من قتل منهم فلما لم يروا أحدا يخرج إليهم من البلد طمعوا و استدلوا على ضعف أهله فقصدوهم و قاتلوهم

(9/203)


شرح نهج البلاغة ج : 8 ص : 232و ذلك في شهر رجب من سنة ثماني عشرة و ستمائة و دخلوا المدينة بالسيف و قاتلهم الناس في الدروب و بطل السلاح للازدحام و اقتتلوا بالسكاكين فقتل من الفريقين ما لا يحصى و ظهر التتار على المسلمين فأفنوهم قتلا و لم يسلم منهم إلا من ك له نفق في الأرض يستخفي فيه ثم ألقوا النار في البلد فأحرقوها و رحلوا إلى مدينة أردبيل و أعمال أذربيجان فملكوا أردبيل و قتلوا فيها فأكثروا. ثم ساروا إلى تبريز و كان بها شمس الدين عثمان الطغرائي قد جمع كلمة أهلها بعد مفارقة صاحب أذربيجان أزبك بن البهلوان للبلاد خوفا من التتار و مقامه بنقجوان فقوى الطغرائي نفوس الناس على الامتناع و حذرهم عاقبة التخاذل و حصن البلد فلما وصل التتار و رأوا اجتماع كلمة المسلمين و حصانة البلد طلبوا منهم مالا و ثيابا فاستقر الأمر بينهم على شي ء معلوم فسيروه إليهم فلما أخذوه رحلوا إل بيلقان فقاتلهم أهلها فملكها التتار في شهر رمضان من هذه السنة و وضعوا فيهم السيف حتى أفنوهم أجمعين ثم ساروا إلى مدينة كنجة و هي أم بلاد أران و أهلها ذوو شجاعة و بأس و جلد لمقاومتهم الكرج و تدربهم بالحرب فلم يقدر التتار عليهم و أرسلوا إليهم يطلبون مالا و ثيابا فأرسلوه إليهم فساروا عنهم فقصدوا الكرج و قد أعدوا لهم فلما صافوهم هرب الكرج و أخذهم السيف فلم يسلم إلا الشريد و نهبت بلادهم و أخربت و لم يوغل التتار في بلاد الكرج لكثرة مضايقها و دربنداتها فقصدوا دربند شروان فحصروا مدينة شماخي و صعدوا سورها في السلاليم و ملكوا البلد بعد حرب شديدة و قتلوا فيه فأكثروا. شرح نهج البلاغة ج : 8 ص : 233فلما فرغوا أرادوا عبور الدربند فلم يقدموا عليه فأرسلوا إلى شروانشاه ملك الدربند فطالبوه بإنفاذ رسول يسعى بينه و بينهم في الصلح فأرسل إليهم عشرة من ثقاته فلما وصلوا إليهم جمعوهثم قتلوا واحدا منهم بحضور الباقين و قالوا للتسعة إن أنتم عرفتمونا

(9/204)


طريقا نعبر فيه فلكم الأمان و إلا قتلناكم كما قتلنا صاحبكم فقالوا لهم لا طريق في هذا الدربند و لكن نعرفكم موضعا هو أسهل المواضع لعبور الخيل. و ساروا بين أيديهم إليه فعبروا الدربند و تركوه وراء ظهورهم و ساروا في تلك البلاد و هي مملوءة من طرائق مختلفة منهم اللان و اللكر و أصناف من الترك فنهبوها و قتلوا الكثير من ساكنيها و رحلوا إلى اللان و هم أمم كثيرة و قد وصلهم خبرهم و جمعوا و حذروا و انضاف إليهم جموع من قفجاق فقاتلوهم فلم يظفر أحد العسكرين بالآخر فأرسل التتار إلى قفجاق أنتم إخواننا و جنسنا واحد و اللان ليسوا من جنسكم لتنصروهم و لا دينهم دينكم و نحن نعاهدكم ألا نعرض لكم و نحمل إليكم من المال و الثياب ما يستقر بيننا و بينكم على أن تنصرفوا إلى بلادكم. فاستقر الأمر بينهم على مال و ثياب حملها التتار إليهم و فارقت قفجاق اللان فأوقع التتار باللان فقتلوهم و نهبوا أموالهم و سبوا نساءهم فلما فرغوا منهم ساروا إلى بلاد قفجاق و هم آمنون متفرقون لما استقر بينهم و بين التتار من الصلح فلم يشعروا بهم إلا و قد طرقوهم و دخلوا بلادهم فأوقعوا بهم الأول فالأول و أخذوا منهم أضعاف ما حملوا إليهم و سمع ما كان بعيد الدار من قفجاق بما جرى. ففروا عن غير قتال فأبعدوا فبعضهم بالغياض و بعضهم بالجبال و بعضهم لحقوا ببلاد الروس و أقام التتار في بلاد قفجاق و هي أرض كثيرة المراعي في الشتاء و فيها أيضا أماكن باردة في الصيف كثيرة المراعي و هي غياض على ساحل البحر.

(9/205)


شرح نهج البلاغة ج : 8 ص : 234ثم سارت طائفة منهم إلى بلاد الروس و هي بلاد كثيرة عظيمة و أهلها نصارى و ذلك في سنة عشرين و ستمائة فاجتمع الروس و قفجاق عن منعهم عن البلاد فلما قاربهم التتار و عرفوا اجتماعهم رجعوا القهقرى إيهاما للروس أن ذلك عن خوف و حذر فجد في اتباعهم و لم يزل التتار راجعين و أولئك يقفون آثارهم اثني عشر يوما. ثم رجعت التتار على الروس و قفجاق فأثخنوا فيهم قتلا و أسرا و لم يسلم منهم إلا القليل و من سلم نزل في المراكب و خرج في البحر إلى الساحل الشامي و غرق بعض المراكب. و هذه الوقائع كلها تولاها التتر المغربة الذين قادهم جرماغون فأما ملكهم الأكبر جنكزخان فإنه كان في هذه المدة بسمرقند ما وراء النهر فقسم أصحابه أقساما فبعث قسما منهم إلى فرغانة و أعمالها فملكوها و بعث قسما آخر إلى ترمذ و ما يليها فملكوها و بعث قسما آخر إلى بلخ و ما يليها من أعمال خراسان فأما بلخ فإنهم أمنوا أهلها و لم يتعرضوا لها بنهب و لا قتل و جعلوا فيها شحنة و كذلك فارياب و كثير من المدن إلا أنهم أخذوا أهلها يقاتلون بهم من يمتنع عليهم حتى وصلوا إلى الطالقان و هي عدة بلاد و فيها قلعة حصينة و بها رجال أنجاد فأقاموا على حصارها شهورا فلم يفتحوها فأرسلوا إلى جنكزخان يعرفونه عجزهم عنها فسار بنفسه و عبر جيحون و معه من الخلائق ما لا يحصى فنزل على هذه القلعة و بنى حولها شبه قلعة أخرى من طين و تراب و خشب و حطب و نصب عليها المنجنيقات و رمى القلعة بها فلما رأى أهلها ذلك فتحوها و خرجوا و حملوا حملة واحدة فقتل منهم من قتل و سلم من سلم و خرج السالمون فسلكوا تلك الجبال و الشعاب ناجين بأنفسهم و دخل التتار القلعة فنهبوا الأموال و الأمتعة و سبوا النساء و الأطفال. شرح نهج البلاغة ج : 8 ص : 235ثم سير جنكزخان جيشا عظيما مع أحد أولاده إلى مدينة مرو و بهمائتا ألف من المسلمين فكانت بين التتار و بينهم حروب عظيمة شديدة صبر

(9/206)


فيها المسلمون ثم انهزموا و دخلوا البلد و أغلقوا أبوابه فحاصره التتار حصارا طويلا ثم أمنوا متقدم البلد فلما خرج إليهم في الأمان خلع عليه ابن جنكزخان و أكرمه و عاهده ألا يتعرض لأحد من أهل مرو ففتح الناس الأبواب فلما تمكنوا منهم استعرضوهم بالسيف عن آخرهم فلم يبقوا منهم باقية بعد أن استصفوا أرباب الأموال عقيب عذاب شديد عذبوهم به. ثم ساروا إلى نيسابور ففعلوا به ما فعلوا بمرو من القتل و الاستئصال ثم عمدوا إلى طوس فنهبوها و قتلوا أهلها و أخرجوا المشهد الذي به علي بن موسى الرضا ع و الرشيد هارون بن المهدي و ساروا إلى هراة فحصروها ثم أمنوا أهلها فلما فتحوها قتلوا بعضهم و جعلوا على الباقين شحنة فلما بعدوا وثب أهل هراة على الشحنة فقتلوه فعاد عليهم عسكر من التتار فاستعرضوهم بالسيف فقتلوهم عن آخرهم. ثم عادوا إلى طالقان و بها ملكهم الأكبر جنكزخان فسير طائفة منهم إلى خوارزم و جعل فيها مقدم أصحابه و كبراءهم لأن خوارزم حينئذ كانت مدينة الملك و بها عسكر كثير من الخوارزمية و عوام البلد معروفون بالبأس و الشجاعة فساروا و وصلوا إليها فالتقى الفئتان و اقتتلوا أشد قتال سمع به و دخل المسلمون البلد و حصرتهم التتار خمسة أشهر و أرسل التتار إلى جنكزخان يطلبون المدد فأمدهم بجيش من جيوشه فلما وصل قويت منتهم به و زحفوا إلى البلد زحفا متتابعا فملكوا طرفا منه و ولجوا المدينة فقاتلهم المسلمون داخل البلد فلم يكن لهم به طاقة فملكوه و قتلوا كل من فيه فلما فرغوا منه و قضوا وطرهم من القتل و النهب فتحوا السكر الذي يمنع

(9/207)


شرح نهج البلاغة ج : 8 ص : 236ماء جيحون عن خوارزم فدخل الماء البلد فغرق كله و انهدمت الأبنية فبقي بحرا و لم يسلم من أهل خوارزم أحد البتة فإن غيره من البلاد كان يسلم نفر يسير من أهلها و أما خوارزم فمن وقف للسيف قتل و من استخفى غرقه الماء أو أهلكه الهدم فأحت خوارزم يبابا. فلما فرغ التتر من هذه البلاد سيروا جيشا إلى غزنة و بها حينئذ جلال الدين منكبري بن محمد خوارزمشاه مالكها و قد اجتمع إليه من سلم من عسكر أبيه و غيرهم فكانوا نحو ستين ألفا و كان الجيش الذي سار إليهم التتار اثني عشر ألفا فالتقوا في حدود غزنة و اقتتلوا قتالا شديدا ثلاثة أيام ثم أنزل الله النصر على المسلمين فانهزم التتر و قتلهم المسلمون كيف شاءوا و تحيز الناجون منهم إلى الطالقان و بها جنكزخان و أرسل جلال الدين إليه رسولا يطلب منه أن يعين موضعا للحرب فاتفقوا على أن يكون الحرب بكابل فأرسل جنكزخان إليها جيشا و سار جلال الدين إليها بنفسه و تصافوا هناك فكان الظفر للمسلمين و هرب التتار فالتجئوا إلى الطالقان و جنكزخان مقيم بها أيضا و غنم المسلمون منهم غنائم عظيمة فجرت بينهم فتنة عظيمة في الغنائم و ذلك لأن أميرا من أمرائهم اسمه بغراق كان قد أبلي في حرب التتر هذه جرت بينه و بين أمير يعرف بملك خان نسيب خوارزمشاه مقاولة أفضت إلى أن قتل أخ لبغراق فغضب و فارق جلال الدين في ثلاثين ألفا فتبعه جلال الدين و استرضاه و استعطفه فلم يرجع فضعف جانب جلال الدين بذلك فبينا هو كذلك وصله الخبر أن جنكزخان قد سار إليه من الطالقان بنفسه و جيوشه فعجز عن مقاومته و علم أنه لا طاقة له به فسار نحو بلاد الهند و عبر نهر السند و ترك غزنة شاغرة كالفريسة للأسد فوصل إليها شرح نهج البلاغة ج : 8 ص : 237جنكزخان فملكها و قتل أهلها و سبى نساءها و أخرب القصور و تركها كأمس الغابر. ثم كانت لهم ب ملك غزنة و استباحتها وقائع كثيرة مع ملوك الروم بني قلج أرسلان لم

(9/208)


يوغلوا فيها في البلاد و إنما كانوا يتطرقونها و ينهبون ما تاخمهم منها و أذعن لهم ملوك فارس و كرمان و التيز و مكران بالطاعة و حملوا إليهم الإتاوة و لم يبق في البلاد الناطقة باللسان الأعجمي بل إلا حكم فيه سيفهم أو كتابهم فأكثر البلاد قتلوا أهلها و سبق السيف فيهم العذل و الباقي أدى الإتاوة إليهم رغما و أعطى الطاعة صاغرا و رجع جنكزخان إلى ما وراء النهر و توفي هناك. و قام بعده ابنه قاآن مقامه و ثبت جرماغون في مكانه بأذربيجان و لم يبق لهم إلا أصبهان فإنهم نزلوا عليها مرارا في سنة سبع و عشرين و ستمائة و حاربهم أهلها و قتل من الفريقين مقتلة عظيمة و لم يبلغوا منها غرضا حتى اختلف أهل أصبهان في سنة ثلاث و ثلاثين و ستمائة و هم طائفتان حنفية و شافعية و بينهم حروب متصلة و عصبية ظاهرة فخرج قوم من أصحاب الشافعي إلى من يجاورهم و يتاخمهم من ممالك التتار فقالوا لهم اقصدوا البلد حتى نسلمه إليكم فنقل ذلك إلى قاآن بن جنكزخان بعد وفاة أبيه و الملك يومئذ منوط بتدبيره فأرسل جيوشا من المدينة المستجدة التي بنوها و سموها قراحرم فعبرت جيحون مغربة و انضم إليها قوم ممن أرسله جرماغون على هيئة المدد لهم فنزلوا على أصفهان في سنة ثلاث و ثلاثين المذكورة و حصروها فاختلف سيفا الشافعية و الحنفية في المدينة حتى قتل كثير منهم و فتحت أبواب المدينة و فتحها الشافعية على عهد بينهم و بين التتار أن يقتلوا الحنفية و يعفوا عن الشافعية فلما دخلوا البلد بدءوا بالشافعية فقتلوهم قتلا ذريعا و لم يقفوا مع العهد الذي عهدوه لهم ثم قتلوا الحنفية ثم قتلوا سائر الناس

(9/209)


شرح نهج البلاغة ج : 8 ص : 238و سبوا النساء و شقوا بطون الحبالى و نهبوا الأموال و صادروا الأغنياء ثم أضرموا النار فأحرقوا أصبهان حتى صارت تلولا من الرماد. فلما لم يبق لهم بلد من بلاد العجم إلا و قد دوخوه صمدوا نحو إربل في سنة أربع و ثلاثين و ستمائة و قد نوا طرقوها مرارا و تحيفوا بعض نواحيها فلم يوغلوا فيها و الأمير المرتب بها يومئذ باتكين الرومي فنزل عليها في ذي القعدة من هذه السنة منهم نحو ثلاثين ألف فارس أرسلهم جرماغون و عليهم مقدم كبير من رؤسائهم يعرف بجكتاي فغاداها القتال و رواحها و بها عسكر جم من عساكر الإسلام فقتل من الفريقين خلق كثير و استظهر التتار و دخلوا المدينة و هرب الناس إلى القلعة فاعتصموا بها و حصرهم التتار و طال الحصار حتى هلك الناس في القلعة عطشا و طلب باتكين منهم أن يصالحوه عن المسلمين بمال يؤديه إليهم فأظهروا الإجابة فلما أرسل إليهم ما تقرر بينهم و بينه أخذوا المال و غدروا به و حملوا على القلعة بعد ذلك حملات عظيمة و زحفوا إليها زحفا متتابعا و علقوا عليها المنجنيقات الكثيرة و سير المستنصر بالله الخليفة جيوشه مع مملوكه و خادم حضرته و أخص مماليكه به شرف الدين إقبال الشرامي فساروا إلى تكريت فلما عرف التتر شخوصهم رحلوا عن إربل بعد أن قتلوا منها ما لا يحصى و أخربوها و تركوها كجوف حمار و عادوا إلى تبريز و بها مقام جرماغون و قد جعلها دار ملكه. فلما رحلوا عن إربل عاد العسكر البغدادي إلى بغداد و كانت للتتار بعد ذلك نهضات و سرايا كثيرة إلى بلاد الشام قتلوا و نهبوا و سبوا فيها حتى انتهت خيولهم إلى حلب فأوقعوا بها و صانعهم عنها أهلها و سلطانها ثم عمدوا إلى بلاد كيخسرو صاحب الروم و ذلك بعد أن هلك جرماغون و قام عوضه المعروف ببابايسيجو و كان شرح نهج البلاغة ج : 8 ص : 239قد جمع لهم ملك الروم قضه و قضيضه ويشه و لفيفه و استكثر من الأكراد العتمرية و من عساكر الشام و جند حلب

(9/210)


فيقال إنه جمع مائة ألف فارس و راجل فلقيه التتار في عشرين ألفا فجرت بينه و بينهم حروب شديدة قتلوا فيها مقدمته و كانت المقدمة كلها أو أكثرها من رجال حلب و هم أنجاد أبطال فقتلوا عن آخرهم و انكسر العسكر الرومي و هرب صاحب الروم حتى انتهى إلى قلعة له على البحر تعرف بأنطاكية فاعتصم بها و تمزقت جموعه و قتل منهم عدد لا يحصى و دخلت التتار إلى المدينة المعروفة بقيسارية ففعلوا فيها أفاعيل منكرة من القتل و النهب و التحريق و كذلك بالمدينة المعروفة بسيواس و غيرها من كبار المدن الرومية و بخع لهم صاحب الروم بالطاعة و أرسل إليهم يسألهم قبول المال و المصانعة فضربوا عليه ضريبة يؤديها إليهم كل سنة و رجعوا عن بلاده. و أقاموا على جملة السكون و الموادعة للبلاد الإسلامية كلها إلى أن دخلت سنة ثلاث و أربعين و ستمائة فاتفق أن بعض أمراء بغداد و هو سليمان بن برجم و هو مقدم الطائفة المعروفة بالإيواء و هي من التركمان قتل شحنة من شحنهم في بعض قلاع الجبل يعرف بخليل بن بدر فأثار قتله أن سار من تبريز عشرة آلاف غلام منهم يطوون المنازل و يسبقون خبرهم و مقدمهم المعروف بجكتاي الصغير فلم يشعر الناس ببغداد إلا و هم على البلد و ذلك في شهر ربيع الآخر من هذه السنة في فصل الخريف و قد كان الخليفة المستعصم بالله أخرج عسكره إلى ظاهر سور بغداد على سبيل الاحتياط و كان التتر قد بلغهم ذلك إلا أن جواسيسهم غرتهم و أوقعت في أذهانهم أنه ليس خارج السور إلا خيام مضروبة و فساطيط مضروبة لا رجال تحتها و أنكم متى أشرفتم عليهم ملكتم سوادهم و ثقلهم و يكون قصارى أمر قوم قليلين تحتها أن ينهزموا إلى البلد و يعتصموا بجدرانه فأقبلت

(9/211)


شرح نهج البلاغة ج : 8 ص : 240التتر على هذا الظن و سارت على هذا الوهم فلما قربوا من بغداد و شارفوا الوصول إلى المعسكر أخرج المستعصم بالله الخليفة مملوكه و قائد جيوشه شرف الدين إقبالا الشرابي إلى ظاهر السور و كان خروجه في ذلك اليوم من لطف الله تعالى بالمسين فإن التتار لو وصلوا و هو بعد لم يخرج لاضطرب العسكر لأنهم كانوا يكونون بغير قائد و لا زعيم بل كل واحد منهم أمير نفسه و آراؤهم مختلفة لا يجمعهم رأي واحد و لا يحكم عليها حاكم واحد فكانوا في مظنة الاختلاف و التفرق و الاضطراب و التشتت فكان خروج شرف الدين إقبال الشرابي في اليوم السادس عشر من هذا الشهر المذكور و وصلت التتر إلى سور البلد في اليوم السابع عشر فوقفوا بإزاء عساكر بغداد صفا واحدا و ترتب العسكر البغدادي ترتيبا منتظما و رأى التتر من كثرتهم و جودة سلاحهم و عددهم و خيولهم ما لم يكونوا يظنونه و لا يحسبونه و انكشف ذلك الوهم الذي أوهمهم جواسيسهم عن الفساد و البطلان. و كان مدبر أمر الدولة و الوزارة في هذا الوقت هو الوزير مؤيد الدين محمد بن أحمد بن العلقمي و لم يحضر الحرب بل كان ملازما ديوان الخلافة بالحضرة لكنه كان يمد العسكر الإسلامي من آرائه و تدبيراته بما ينتهون إليه و يقفون عنده فحملت التتار على عسكر بغداد حملات متتابعة ظنوا أن واحدة منها تهزمهم لأنهم قد اعتادوا أنه لا يقف عسكر من العساكر بين أيديهم و أن الرعب و الخوف منهم يكفي و يغني عن مباشرتهم الحرب بأنفسهم فثبت لهم عسكر بغداد أحسن ثبوت و رشقوهم بالسهام و رشقت التتار أيضا بسهامها و أنزل الله سكينته على عسكر بغداد و أنزل بعد السكينة نصره فما زال العسكر البغدادي تظهر عليه أمارات القوة و تظهر على التتار أمارات الضعف و الخذلان إلى أن حجز الليل بين الفريقين و لم يصطدم الفيلقان و إنما شرح نهج البلاغة ج : 8 ص 241كانت مناوشات و حملات خفيفة لا تقتضي الاتصال و الممازجة و رشق

(9/212)


بالنشاب شديد. فلما أظلم الليل أوقد التتار نيرانا عظيمة و أوهموا أنهم مقيمون عندها و ارتحلوا في الليل راجعين إلى جهة بلادهم فأصبح العسكر البغدادي فلم ير منهم عينا و لا أثرا و ما زالوا يطوون المنازل و يقطعون القرى عائدين حتى دخلوا الدربند و لحقوا ببلادهم. و كان ما جرى من دلائل النبوة لأن الرسول ص وعد هذه الملة بالظهور و البقاء إلى يوم القيامة و لو حدث على بغداد منهم حادثة كما جرى على غيرها من البلاد لانقرضت ملة الإسلام و لم يبق لها باقية. و إلى أن بلغنا من هذا الشرح إلى هذا الموضع لم يذعر العراق منهم ذاعر بعد تلك النوبة التي قدمنا ذكرها. قلت و قد لاح لي من فحوى كلام أمير المؤمنين ع أنه لا بأس على بغداد و العراق منهم و أن الله تعالى يكفي هذه المملكة شرهم و يرد عنها كيدهم و ذلك من قوله ع و يكون هناك استحرار قتل فأتى بالكاف و هي إذا وقعت عقيب الإشارة أفادت البعد تقول للقريب هنا و للبعيد هناك و هذا منصوص عليه في العربية و لو كان لهم استحرار قتل في العراق لما قال هناك بل كان يقول هنا لأنه ع خطب بهذه الخطبة في البصرة و معلوم أن البصرة و بغداد شي ء واحدو بلد واحد لأنهما جميعا من إقليم العراق و ملكهما ملك واحد فيلمح هذا الموضع فإنه لطيف. شرح نهج البلاغة ج : 8 ص : 242و كتبت إلى مؤيد الدين الوزير عقيب هذه الوقعة التي نصر فيها الإسلام و رجع التتر مخذولين ناكصين على أعقابهم أبياتا أنسب إليه الفتح و أشير إلىنه هو الذي قام بذلك و إن لم يكن حاضرا له بنفسه و أعتذر إليه عن الإغباب بمديحه فقد كانت الشواغل و القواطع تصد عن الانتصاب لذلك

(9/213)


أبقى لنا الله الوزير و حاطه بكتائب من نصره و مقانب و امتد وارف ظله لنزيله وصفت متون غديره للشارب يا كالئ الإسلام إذ نزلت به فرغاء تشهق بالنجيع السالب في خطة بهماء ديمومية لا يهدى فيها السليك للاحب لا يمتطي سلساتها مرهوبة الإبساس جلس لا تدر لعاصب فرجت ا بقلب ثابت في حملة ذعرى و رأي ثاقب ما غبت ذاك اليوم عن تدبيرها كم حاضر يعصى بسيف الغائب عمر الذي فتح العراق و إنما سعد حسام في يمين الضارب أثني عليك ثناء غير موارب و أجيد فيك المدح غير مراقب و أنا الذي يهواك حبا صادقا متقادما و لرب حب كاذب حبا ملأت بب جوانحي يفعا و ها أنا ذو عذار شائب
شرح نهج البلاغة ج : 8 ص : 243إن القريض و إن أغب متيم بكم و رب مجانب كمواظب و لقد يخالصك القصي و ربما يمنى بود مماذق متقارب سدت مسالكه هموم جعجعت بالفكر حتى لا يبض لحالب و من العناء مغلب في حظه يبغي مغالبة القضاء الو هي طويلة و إنما ذكرنا منها ما اقتضته الحال

(9/214)


شرح نهج البلاغة ج : 8 ص : 129244- و من خطبة له ع في ذكر المكاييل و الموازينعِبَادَ اللَّهِ إِنَّكُمْ وَ مَا تَأْمُلُونَ مِنْ هَذِهِ الدُّنْيَا أَثْوِيَاءُ مُؤَجَّلُونَ وَ مَدِينُونَ مُقْتَضَوْنَ أَجَلٌ مَنْقُوصٌ وَ عَمَلٌ مَحْفُوظٌ فَرُبَّ دَائِبٍ مُضَيَّعٌ وَ رُبَّ كَادِحٍ خَاسِرٌ وَ قَدْ أَصْبَحْتُمْ فِي زَمَنٍ لَا يَزْدَادُ الْخَيْرُ فِيهِ إِلَّا إِدْبَاراً وَ الشَّرُّ إِلَّا إِقْبَالًا وَ الشَّيْطَانُ فِي هَلَاكِ النَّاسِ إِلَّا طَمَعاً فَهَذَا أَوَانٌ قَوِيَتْ عُدَّتُهُ وَ عَمَّتْ مَكِيدَتُهُ وَ أَمْكَنَتْ فَرِيسَتُهُ اضْرِبْ بِطَرْفِكَ حَيْثُ شِئْتَ مِنَ النَّاسِ فَهَلْ تُبْصِرُ إِلَّا فَقِيراً يُكَابِدُ فَقْراً أَوْ غَنِيّاً بَدَّلَ نِعْمَةَ اللَّهِ كُفْراً أَوْ بَخِيلًا اتَّخَذَ الْبُخْلَ بِحَقِّ اللَّهِ وَفْراً أَوْ مُتَمَرِّداً كَأَنَّ بِأُذُنِهِ عَنْ سَمْعِ الْمَوَاعِظِ وَقْراً أَيْنَ أَخْيَارُكُمْ وَ صُلَحَاؤُكُمْ وَ أَيْنَ أَحْرَارُكُمْ وَ سُمَحَاؤُكُمْ وَ أَيْنَ الْمُتَوَرِّعُونَ فِي مَكَاسِبِهِمْ وَ الْمُتَنَزِّهُونَ فِي مَذَاهِبِهِمْ أَ لَيْسَ قَدْ ظَعَنُوا جَمِيعاً عَنْ هَذِهِ الدُّنْيَا الدَّنِيَّةِ وَ الْعَاجِلَةِ الْمُنَغِّصَةِ وَ هَلْ خُلِّفْتُمْ إِلَّا فِي حُثَالَةٍ لَا تَلْتَقِي بِذَمِّهِمُ الشَّفَتَانِ اسْتِصْغَاراً لِقَدْرِهِمْ وَ ذَهَاباً عَنْ ذِكْرِهِمْ فَإِنَّا لِلَّهِ وَ إِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ ظَهَرَ الْفَسَادُ فَلَا مُنْكِرٌ مُغَيِّرٌ وَ لَا زَاجِرٌ مُزْدَجِرٌ أَ فَبِهَذَا تُرِيدُونَ أَنْ تُجَاوِرُوا اللَّهَ فِي دَارِ قُدْسِهِ وَ تَكُونُوا أَعَزَّ أَوْلِيَائِهِ عِنْدَهُ هَيْهَاتَ لَا يُخْدَعُ اللَّهُ عَنْ جَنَّتِهِ وَ لَا تُنَالُ مَرْضَاتُهُ إِلَّا بِطَاعَتِهِ شرح نهج البلاغة ج : 8 ص : 245لَعَنَ اللَّهُ الآْمِرِينَ بِالْمَعْرُوفِ

(9/215)


التَّارِكِينَ لَهُ النَّاهِينَ عَنِ الْمُنْكَرِ الْعَامِلِينَ بِهِ
أثوياء جمع ثوي و هو الضيف كقوي و أقوياء و مؤجلون مؤخرون إلى أجل أي وقت معلوم. و مدينون مقرضون دنت الرجل أقرضته فهو مدين و مديون و دنت أيضا إذا استقرضت و صارت على دين فأنا دائن و أنشد
ندين و يقضي الله عنا و قد نرى مصارع قوم لا يدينون ضيعا
و مقتضون جمع مقتضى أي مطالب بأداء الدين كمرتضون جمع مرتضى و مصطفون جمع مصطفى. و قوله أجل منقوص أي عمر و قد جاء عنهم أطال الله أجلك أي عمرك و بقاءك و الدائب المجتهد ذو الجد و التعب و الكادح الساعي. و مثل قوله فرب دائب مضيع و رب كادح خاسر قول الشاعر
إذا لم يكن عون من الله للفتى فأكثر ما يجني عليه اجتهاده
و مثله
إذا لم يكن عون من الله للفتى أتته الرزايا من وجوه الفوائد
و هو كثير و الأصل فيه قوله تعالى وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خاشِعَةٌ عامِلَةٌ ناصِبَةٌ تَصْلى ناراً حامِيَةً و يروى فرب دائب مضيع بغير تشديد. شرح نهج البلاغة ج : 8 ص : 246و قوله و أمكنت فريسته أي و أمكنته فحذف المفعول. و قوله فاضرب بطرفك لفظة فصيحة و قد أخذها العر فقال
فاضرب بطرفك حيث شئت فلن ترى إلا بخيلا...

(9/216)


و الوفر المال الكثير أي بخل و لم يؤد حق الله سبحانه فكثر ماله. و الوقر بفتح الواو الثقل في الأذن و روي المنغصة بفتح الغين. الحثالة الساقط الردي ء من كل شي ء. و قوله لا تلتقي بذمهم الشفتان أي يأنف الإنسان أن يذمهم لأنه لا بد في الذم من إطباق أحد الشفتين ع الأخرى و كذلك في كل الكلام. و ذهابا عن ذكرهم أي ترفعا يقال فلان يذهب بنفسه عن كذا أي يرفعها. و لا زاجر مزدجر أي ليس في الناس من يزجر عن القبيح و ينزجر هو عنه. و دار القدس هي الجنة و لا يخدع الله عنها لأنه لا تخفى عليه خافية و لا يجوز عليه النفاق و التمويه ثم لعن الآمر بالمعروف و لا يفعله و الناهي عن المنكر و يرتكبه و هذا من قوله تعالى أَ تَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَ تَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ. و لست أرى في هذه الخطبة ذكرا للموازين و المكاييل التي أشار إليها الرضي رحمه الله اللهم إلا أن يكون قوله ع و أين المتورعون في مكاسبهم أو قوله ظهر الفساد و دلالتهما على الموازين و المكاييل بعيدة
نبذ من أقوال الحكماء و الصالحين
و اعلم أن هذه الخطبة قد اشتملت على كلام فصيح و موعظة بالغة من ذكر الدنيا شرح نهج البلاغة ج : 8 ص : 247و ذكر أهلها و نحن نذكر كلمات وردت عن الحكماء و الصالحين تناسبها على عادتنا في إيراد الأشباه و النظائر. قال بعض الصالحين ما أدري كيف أعجب من الدنيا أ من ن منظرها و قبح مخبرها أم من ذم الناس لها و تناحرهم عليها قيل لبعضهم كيف أصبحت قال آسفا على أمسي كارها ليومي متهما لغدي. قيل لأعرابي كيف ترى الدهر قال خدوعا خلوبا وثوبا غلوبا. قيل لصوفي لم تركت الدنيا قال لأني منعت صفوها و امتنعت من كدرها. و قيل لآخر لم تركت الدنيا قال لأني عدمت الوسيلة إليها إلا بعشقها و أعشق ما أكون لها أغدر ما تكون بي و أنشد لبشر الحافي

(9/217)


قرير العين لا ولد يموت و لا حذر يبادر ما يفوت رخي البال ليس له عيال خلي من حربت و من دهيت قضى وطر الصبا و أفاد علما فعاتبه التفرد و السكوت و أكبر همه مما عليه تذابح من ترى خلق و ققال أبو حيان سمعت ابن القصاب الصوفي يقول اسمع و اسكت و انظر و أعجب قال ابن المعتز
مل سقامي عوده و خان دمعي مسعده و ضاع من ليلي غده طوبى لعين تجده قلت من الدهر يده يفنى و يبقى أبده و الموت ضار أسده و قاتل من يل شرح نهج البلاغة ج : 8 ص : 248و من الشعر القديم المختلف في قائلهقصر الجديد إلى بلى و الوصل في الدنيا انقطاعه أي اجتماع لم يعد بتفرق منها اجتماعه أم أي شعب ذي التئام لم يبدده انصداعه أم أي منتفع بشي ء ثم تم له انتفاعه يا بؤس للدهر الذي ما زال مختلفا طباعه قد قيل في مثل خلا يكفيك من شر قيل لصوفي كيف ترى الدنيا قال و ما الدنيا لا أعرف لها وجودا قيل له فأين قلبك قال عند ربي قيل فأين ربك قال و أين ليس هو قال ابن عائشة كان يقال مجالسة أهل الديانة تجلو عن القلوب صدا الذنوب و مجالسة ذوي المروءات تدل على مكارم الأخلاق و مجالسة العلماء تزكي النفوس. و من كلام بعض الحكماء الفصحاء كن لنفسك نصيحا و استقبل توبة نصوحا و ازهد في دار سمها ناقع و طائرها واقع و ارغب في دار طالبها منجح و صاحبها مفلح و متى حققت و آثرت الصدق بان لك أنهما لا يجتمعان و أنهما كالضدين لا يصطلحان فجرد همك في تحصيل الباقية فإن الأخرى أنت فان عنها و هي فانية عنك و قد عرفت آثارها في أصحابها و رفقائها و صنعها بطلابها و عشقائها معرفة عيان فأي حجة تبقى لك و أي حجة لا تثبت عليك و من كلام هذا الحكيم فإنا قد أصبحنا في دار رابحها خاسر و نائلها قاصر و عزيزها ذليل و صحيحها عليل و الداخل إليها مخرج و المطمئن فيها مزعج و الذائق من شرابها سكران و الواثق بسرابها ظمآن ظاهرها غرور و باطنها شرور و طالبها شرح نهج البلاغة ج : 8 ص : 249مكدود و عاشقها مجهود

(9/218)


و تاركها محمود العاقل من قلاها و سلا عنها و الظريف من عافها و أنف منها و السعيد من غمض بصره عن زهها و صرفه عن نضرتها و ليس لها فضيلة إلا دلالتها على نفسها و إشارتها إلى نقصها و لعمري إنها لفضيلة لو صادفت قلبا عقولا لا لسانا قئولا و عملا مقبولا لا لفظا منقولا فإلى الله الشكوى من هوى مطاع و عمر مضاع فبيده الداء و الدواء و المرض و الشفاء. قال أبو حرة أتينا بكر بن عبد الله المري نعوده فدخلنا عليه و قد قام لحاجته فجلسنا ننتظره فأقبل إلينا يتهادى بين رجلين فلما نظر إلينا سلم علينا ثم قال رحم الله عبدا أعطي قوة فعمل بها في طاعة الله أو قصر به ضعف فكف عن محارم الله. و قال بكر بن عبد الله مثل الرجل في الدنيا مثل رجل له ثلاثة خلان قال له أحدهم أنا خازنك خذ مني ما شئت فاعمل به ما شئت و قال الآخر أنا معك أحملك و أضعك فإذا مت تركتك و قال الآخر أنا أصحبك أبدا حياتك و موتك فأما الأول فماله و أما الثاني فعشيرته و أما الثالث فعمله. قيل للزهري من الزاهد في الدنيا قال من لم يمنع الحلال شكره و من لم يمنع الحرام صبره. و قال سفيان الثوري ما عبد الله بمثل العقل و لا يكون الرجل عاقلا حتى تكون فيه عشر خصال يكون الكبر منه مأمونا و الخير منه مأمولا يقتدي بمن قبله و يكون إماما لمن بعده و حتى يكون الذل في طاعة الله أحب إليه من العز في معصية الله و حتى يكون الفقر في الحلال أحب إليه من الغنى في الحرام و حتى يكون عيشة القوت و حتى يستقل الكثير من عمله و يستكثر القليل من عمل غيره و حتى لا يتبرم بطلب الحوائج

(9/219)


شرح نهج البلاغة ج : 8 ص : 250قبله و العاشرة و ما العاشرة بها شاد مجده و علا ذكره أن يخرج من بيته فلا يستقبله أحد من الناس إلا رأى أنه دونه. قال يونس بن حبيب كان عندنا بالبصرة جندي عابد فأحب الغزو فلما خرج شيعته فقلت أوصني فقال أوصيك بتقوى الله و أوصيك بقرآن فإنه نور الليل المظلم و هدى النهار المشرق فاعمل به على ما كان من جهد و فاقة فإن عرض بلاء فقدم مالك دون نفسك فإن تجاوز البلاء فقدم مالك و نفسك دون دينك و اعلم أن المحروب من حرب دينه و المسلوب من سلب يقينه إنه لا غنى مع النار و لا فقر مع الجنة و إن جهنم لا يفك أسيرها و لا يستغني فقيرها. ابن المبارك كان فيما مضى جبار يقتل الناس على أكل لحوم الخنازير فلم يزل الأمر يترقى حتى بلغ إلى عابد مشهور فأراده على أكلها و هدده بالقتل فشق ذلك على الناس فقال له صاحب شرطته إني ذابح لك غدا جديا فإذا دعاك هذا الجبار لتأكل فكل فإنما هو جدي فلما دعاه ليأكل أبى أن يأكل فقال أخرجوه و اضربوا عنقه فقال له الشرطي ما منعك أن تأكل من لحم جدي قال إني رجل منظور إلي و إني كرهت أن يتأسى بي الناس في معاصي الله فقدمه فقتله. سفيان الثوري كان رجل يبكي كثيرا فقال له أهله لو قتلت قتيلا ثم أتيت وليه فرآك تبكي هذا البكاء لعفا عنك فقال قد قتلت نفسي فلعل وليها يعفو عني. و كان أيوب السختياني كثير البكاء و كان يغالط الناس عن بكائه يبكي مرة فيأخذ أنفه و يقول الزكمة ربما عرضت لي و يبكي مرة فإذا استبان من حوله بكاءه قال إن الشيخ إذا كبر مج. شرح نهج بلاغة ج : 8 ص : 251و من كلام أبي حيان التوحيدي في البصائر ما أقول في عالم الساكن فيه وجل و الصاحي بين أهله ثمل و المقيم على ذنوبه خجل و الراحل عنه مع تماديه عجل و إن دارا هذه من آفاتها و صروفها لمحقوقة بهجرانها و تركها و الصدوف منها خاصة و لا سبيل لساكنها إلى دار القرار إلا بالزهد فيها و الرضا بالطفيف منها كبلغة الثاوي و

(9/220)